الكتاب: تفسير البحر المحيط
المؤلف: أبي حيان الأندلسي
الجزء: ١
الوفاة: ٧٤٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض، شارك في التحقيق ١) د.زكريا عبد المجيد النوقي ٢) د.أحمد النجولي الجمل
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠١م
المطبعة: لبنان/ بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم [مقدمة المؤلف]
قال الشيخ الإمام العالم العلامة. البحر الفهامة. المحقق المدقق. حجة وقدوة النحاة والأدباء. الأستاذ ((أبو عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الجياني)) - رحمه الله تعالى - وأمتع بعلومه المسلمين آمين.
(الحمد لله) مبدئ صور المعارف الربانية في مرايا العقول، ومبرزها من محال الأفكار إلى محال المقول، وحارسها بالقوتين الذاكرة للمنقول، والمفكرة للمعقول، ومفيض الخير عليها من نتيجة مقدمات الوجود، السائر روح قدسه في بطون التهائم وظهور النجود، المبرز في الاتصالات الإلهية والمواهب الربانية على كل موجود، محمد ذي المقام المحمود، والحوض المورود، المبتعث بالحق للأنام داعيا، وبالطريق الأنهج إلى دار الإسلام مناديا، الصادع بالحق، الهادي للخلق، المخصوص بالقرآن المبين، والكتاب المستبين، الذي هو أعظم المعجزات، وأكبر الآيات البينات، السائرة في الآفاق، الباقي بقاء الأطواق في الأعناق، الجديد على تقادم الأعصار، اللذيد على توالي التكرار، الباسق في الإعجاز إلى الذروة العليا، الجامع المصالح الآخرة والدنيا، الجالي بأنواره ظلم الإلحاد، الحالي بجواهر معانيه طلى الأجياد، صلى الله على من أنزل عليه، وأهدى أرج تحية وأزكاها إليه، وعلى آله المختصين بالزلفى لديه، ورضي الله عن صحبه الذين نقلوا عنه كتاب الله أداء عرضا، وتلقوه من فيه جينا وغضا، وأدوه إلينا صريحا مخصا، وبعد فإن المعارف جمة، وهي كلها مهمة، وأهمها ما به الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية، وذلك علم كتاب الله هو المقصود بالذات، وغيره من العلوم كالأدوات، هو العروة الوثقى، والوزر الأقوى الأوقى، والحبل المتين، والصراط المبين، وما زال يختلج في ذكري، ويعتلج في فكري، أني إذا بلغت الأمد الذي يتغضد فيه الأديم، ويتنغص برؤيتي النديم، وهو العقد الذي يحل عرى الشباب، المقول فيه إذا بلغ الرجل الستين.
99

فإياه وإيا الشواب)
ألوذ بجناب الرحمن وأقتصر على النظر في تفسير القرآن، فأتاح الله لي قبل بلوغ ذلك العقد، وبلغني ما كنت أروم من ذلك القصد، وذلك بانتصابي مدرسا في علم التفسير في قبة السلطان الملك المنصور قدس الله مرقده، وبل بمزن الرحمة معهده، وذلك في دولة ولده السلطان القاهر، الملك الناصر، الذي رد الله به الحق إلى أهله، وأسبغ على العالم وارف ظله، واستنقذ به الملك من غصابه، وأقره في منيف محله وشريف نصابه، وكان ذلك في أواخر سنة عشر وسبعمائة، وهي أوائل سنة سبع وخمسين من عمري فعكفت على تصنيف هذا الكتاب، وانتخاب الصفو واللباب، أجيل الفكر فيما وضع الناس في تصانيفهم، وأنعم النظر فيما اقترحوه من تآليفهم، فألخص مطولها، وأحل مشكلها وأقيد مطلقها، وأفتح مغلها، وأجمع مبددها، وأخلص منقدها، وأضيف إلى ذلك ما استخرجته القوة المفكرة من لطائف علم البيان، المطلع على إعجاز القرآن، ومن دقائق علم الإعراب، المغرب في الوجوه أي إغراب، المقتنص في الأعمار الطويلة من لسان العرب، وبيان الأدب، فكم حوى من لطيفة فكري مستخرجها، ومن غريبة ذهني منتجها، تحصلت بالعكوف على علم العربية، والنظر في التراكيب النحوية، والتصرف في أساليب النظم والنثر، والتقلب في أفانين الخطب والشعر، لم يهتد إلى إثارتها ذهن، ولاصاب بريقها مزن، وأني ذلك وهي أزاهر خمائل غفل، ومناظر ما لمستغلق أبوابها من قفل، في إدراك مثلها تتفاوت الأفهام، وتتبارى الأوهام، وليس العلم على زمان مقصورا، ولا في أهل زمان محصورا، بل جعله الله حيث شاء من البلاد، وبثه في التهائم والنجاد، وأبرزه أنوارا تتوسم، وأزهارا تتنسم، وما زال المغربي الأندلسي، على بعده من مهبط الوحي النبوي، علماء بالعلوم الإسلامية وغيرها كملة، وفهماء تلاميذ لهم دراة نقلة، يروون فيروون ويسقون فيرتوون، وينشدون فينشدون، ويهدون فيهدون، هذا وإن اختلفوا في مدارك العلوم، وتباينوا في المفهوم، فكل منهم له مزية لا يجهل قدرها، وفضيلة لا يسر بدرها، ومما برعوا فيه علم الكتاب، انفردوا باقرائه مد أعصار دون غيرهم من ذوي الآداب، أثاروا كنوزه، وفكوا رموزه، وقربوا قاصيه، وراضوا عاصيه وفتحوا مقفله، وأوضحوا مشكلة، وأنهجوا شعابه، وذللوا صعابه، وأبدوا معانيه في صورة التمثيل، وأبدعوه بالتركيب والتحليل، فالكتاب هو
100

المرقاة إلى فهم الكتاب، إذ هو المطلع على علم الأعراب، والمبدي من معالمه ما درس، والمنطق من لسانه ما خرس، والمحيي من رفاته ما رمس، والراد من نظائره ما طمس، فجدير لمن تاقت نفسه إلى علم التفسير، وترقت إلى التحقيق فيه والتحرير، أن يعتكف على كتاب ((سيبويه))، فهو في هذا الفن المعول عليه، والمستند في حل المشكلات إليه، ولم ألق في هذا الفن من يقارب أهل قطرنا الأندلسي فضلا عن المماثلة، ولا من يناضلهم فيداني في المناضلة، وما زلت من لدن ميزت أتلمذ للعلماء، وأنحاز للفهماء، وأرغب في مجالسهم، وأنافس في نفائسهم، وأسلك طريقهم، وأتبع فريقهم، فلا أنتقل إلا من إمام إلى إمام، ولا أتوقل إلا ذروة علام، فكم صدر أودعت علمه صدري، وحبر أفنيت في فوائده حبري، وإمام أكثرت به الإمام الإلمام، وعلام أطلت معه الاستعلام، أشنف المسامع بما تحسد عليه العيون، وأذيل في تطلاب ذلك المال المصون، وأرتع في رياض وارفة الظلال، وأكرع في حياض صافية السلسال، وأقتبس بها من أنوارهم، وأقتطف من أزهارهم، وأبتلج من صحفاتهم، وأتأرج من نفحاتهم، وألقط من نثارهم، وأضبط من فضالة إيثارهم، وأقيد من شورادهم، وأنتقي من فرائدهم، فجعلت العلم والنهار، سحيري، وبالليل سميري، زمان غيري يقصر ساريه على الصبا، ويهب للهو ولا كهبوب الصبا، ويرفل في مطارف اللهو، ويتقمص أردية الزهو، وبؤثر مسراتك الأشباح، على لذات الأرواح، ويقطع نفائس الأوقات، في خسائس الشهوات، من مطعم شهي، ومشرب روي، وملبس بهي، ومركب خطي، ومفرش وطي، ومنصب سني، وأنا أتوسد أبواب العلماء، وأتقصد أماثل الفهماء، وأسهر في حنادس الظلام، وأصبر على شظف الأيام، وأوثر العلم على الأهل والمال والولد، وأرتحل من بلد إلى بلد، حتى ألقيت بمصر عصا التسيار، وقلت: ما بعد عبادان من دار، هذه مشارق الأرض ومغاربها، وبها طوالع شموسها وغواربها، بيضة الإسلام، ومستقر الأعلام، فأقمت بها المعرفة أبديها، وعارفة علم أسديها، وثأي أرأبه، وفاضل أصحبه، وبها صنفت تصانيفي، وألفت تآليفي، ومن بركاتها على تصنيفي لهذا الكتاب، المقرب من رب الأرباب، المر
101

أن يكون نورا يسعى بين يدي، وسترا من النار يضفو علي، فما لمخلوق بتأليفة قصدت، ولا غير وجه الله به أردت، جعلت كتاب الله والتدبير لمعانية أنيسي، إذ هو أفضل مؤانس، وسميري إذا أخلو لكتب ظلم الحنادس:
* نعم السمير كتاب الله إن له
* حلاوة هي أحلى من جنى الضرب
*
* به فنون المعاني قد جمعن فما
* يقتن من عجب إلا إلى عجب
*
* أمر، ونهي، وأمثال، وموعظة
* وحكمة أودعت في أفصح الكتب
*
* لطائف يجتليها كل ذي بصر
* وروضة يجتنيها كل ذي أدب
*
102

[منهجه في تأليف هذا الكتاب] (وترتيبي في هذا الكتاب)
أني أبتدئ أولا بالكلام على مفردات الآية التي أفسرها لفظة فيما يحتاج إليه من اللغة والأحكام النحوية التي لتلك اللفظة قبل التركيب، وإذا كان للكملة معنيان أو معان ذكرت ذلك في أول موضع فيه تلك الكلمة لينظر ما يناسب لها من تلك المعاني في كل موضع تقع فيه فيحمل عليه.
ثم أشرع في تفسير الآية ذاكرا سبب نزولها إذا كان لها سبب، ونسخها، ومناسبتها وارتباطها بما قبلها، حاشدا فيها القراءات شاذها ومستعملها، ذاكرا توجيه ذلك في علم العربية، ناقلا أقاويل السلف الخلف في فهم معانيها، متكلما على جليها وخفيها بحيث إني لا أغادر منها كلمة وإن اشتهرت حتى أتكلم عليها مبديا ما فيها من غوامض الإعراب، ودقائق الآداب من بديع وبيان، مجتهدا أني لا أكرر الكلام في لفظ سبق، ولا في جملة تقدم الكلام عليها، ولا في آية فسرت، بل أذكر في كثير منها الحوالة على الموضع الذي تلكم فيها على تلك اللفظة أو الجملة أو الآية، وإن عرض تكرير فبمزيده فائدة، ناقلا الفقهاء الأربعة وغيرهم في الأحكام الشرعية مما فيه تعلق باللفظ القرآني، محيلا على الدلائل التي في كتب الفقه، وكذلك ما نذكره من القواعد النحوية أحيل في تقررها والاستدلال عليها على كتب النحو، وربما أذكر الدليل إذا كان الحكم غريبا أو خلاف مشهور ما قال معظم الناس، بادئا بمقتضى الدليل وما دل عليه ظاهر اللفظ، مرجحا له لذلك ما لم يصد عن الظاهر ما يجب إخراجه به عنه، منكبا في الأعراب عن الوجوه التي تنزه القرآن عنها، مبينا أنها مما يجب أن يعدل عنه، وأنه ينبغي أن يحمل على أحسن إعراب وأحسن تركيب إذ كلام الله تعالى أفصح الكلام فلا يجوز فيه جميع ما يجوزه النحاة في شعر ((الشماخ)) و ((الطرماح)) وغيرهما من سلوك التقادير البعيدة، والتراكيب القلقة، والمجازات المعقدة، ثم أختتتم الكلام في جملة من الآيات التي فسرتها إفرادا وتركيبا بما ذكروا فيها من علم البيان والبديع ملخصا، ثم أتبع آخر الآيات بكلام منثور، أشرح به مضمون تلك الآيات، على ما أختاره من تلك المعاني جملها في أحسن تلخيص، وقد ينجر معها ذكر معان لم تتقدم في التفسير، وصار ذلك أنموذجا لمن يريد أن يسلك ذلك فيما بقي من سائر القرآن، وستقف على هذا المنهج
103

الذي سلكته إن شاء الله تعالى، وربما ألممت بشيء من كلام الصوفية مما فيه بعض مناسبة لمدلول اللفظ، وتجنبت كثيرا من أقاويلهم ومعانيهم التي يحملونها الألفاظ. وتركت أقوال الملحدين الباطنية المخرجين الألفاظ القريبة عن مدلولاتها في اللغة إلى هذيان افتروه على الله تعالى، وعلى علي كرم الله وجهه، وعلى ذريته، ويسمونه علم التأويل، وقد وقفت على تفسير لبعض رؤوسهم، وهو تفسير عجيب يذكر فيه أقاويل السلف مزدريا عليهم، وذاكرا أنه ما جهل مقالاتهم، ثم يفسر هو الآية على شيء لا يكاد يخطر في ذهن عاقل، ويزعم أن ذلك هو المراد من هذه الآية، وهذه الطائفة لا يلتفت إليها، وقد رد أئمة المسلمين عليهم أقاويلهم وذلك مقرر في علم أصول الدين، نسأل الله السلامة في عقولنا وأدياننا وأبداننا، وكثيرا ما يشحن المفسرون تفاسيرهم من ذلك الإعراب، بعلل النحو، ودلائل أصول الفقه، ودلائل أصول الدين، وكل هذا مقرر في تآليف هذه العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مسلما في علم التفسير دون استدلال عليه، وكذلك أيضا ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول، وأحاديث في الفضائل، وحكايات لا تناسب، وتواريخ إسرائيلية، ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير، ومن أحاط بمعرفة مدلول الكلمة وأحكامها قبل التركيب، وعلم كيفية تركيبها في تلك اللغة، وارتقى إلى تمييز حسن تركيبها وقبحه، فلن يحتاج في فهم ما تركب من تلك الألفاظ إلى مفهم ولا معلم، وإنما تفاوت الناس في إدراك هذا الذي ذكرناه، فلذلك اختلفت أفهامهم، وتباينت أقوالهم، وقد جرينا الكلام يوما مع بعض من عاصرنا، فكان يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تراكبيه، بالإسناد إلى ((مجاهد)) و ((طاوس)) و ((عكرمة)) وأضرابهم، وأن فهم الآيات متوقف على ذلك، والعجب له أنه يرى أقوال هؤلاء كثير ة الاختلاف، متباينة الأوصاف، متعارضة ينقض بعضها بعضا، ونظير ما ذكره هذا المعاصر أنه لو تعلم أحدنا مثلا لغة الترك إفرادا وتركيبا حتى صار يتكلم بتلك اللغة، ويتصرف فيها نثرا
ونظما، ويعرض ما تعلمه على كلامهم فيجده مطابقا للغتهم، قد شارك فيها فصحاءهم، ثم جاءه كتاب بلسان الترك، فيحجم عن تدبره وعن فهم ما تضمنه من المعاني، حتى يسأل عن ذلك ((سنقرأ)) التركي ((أو سنجرا))، ترى مثل هذا يعد من العقلاء، وكان هذا المعاصر يزعم أن كل آية نثل فيها التفسير خلف عن سلف بالسند إلى أن وصل ذلك إلى الصحابة، ومن كلامه أن الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسيرها هذا وهم العرب الفصحاء الذين نزل القرآن بلسانهم، وقد روي: عن ((علي)) كرم الله وجهه))، وقد سئل هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة، أو فهما يؤتاه الرجل في كتابه، وقول هذا المعاصر يخالف قول علي رضي الله عنه، وعلى قول هذا المعاصر يكون ما استخرجه الناس بعد التابعين من علوم التفسير ومعانيه ودقائقة وإظهارا ما احتوى عليه من علم الفصاحة والبيان والإعجاز لا يكون تفسيرا، حتى ينقل بالسند إلى مجاهد ونحوه وهذا كلام ساقط.
104

[العلوم التي يحتاج إليها المفسر]
وإذ قد جر الكلام إلى هذا فلنذكر ما يحتاج إليه علم التفسير من العلوم على الاختصار وننبه على أحسن موضوعات التي في تلك العلوم المحتاج إليها فيه فنقول:
النظر في تفسير كتاب الله تعالى يكون من وجوه:
الوجه الأول: علم اللغة أسما وفعلا وحرفا، الحروف لقلتها تكلم على معانيها النحاة فيؤخذ ذلك من كتبهم، أما الأسماء والأفعال فيؤخذ ذلك من كتب اللغة، وأكثر الموضوعات في علم اللغة كتاب ((ابن سيده))، فإن الحافظ أبا محمد ((علي بن أحمد الفارسي)) ذكر أنه في مائة سفر بدأ فيه بالفك وختم بالذرة، ومن الكتب المطولة فيه كتاب ((الأزهري))، و ((الموعب)) لابن التياني، و (((الصحاح)) للجوهري، و ((البارع)) لأبي على لقالي، و ((مجمع البحرين)) للصاغاني، وقد حفظت في صغرى في علم اللغة كتاب الفصيح لأبي العباس أحمد بن يحيى الشيباني))، و ((اللغات)) المحتوي عليها دواوين مشاهير العرب الستة: ((امرئ القيس))، ((النابغة))، و ((علقمة))، و ((زهير))، و ((طرفة))، و ((عنترة))، وديوان ((الأفوه الأودي))
105

لحفظي عن ظهر قلب لهذه الدواوين، وحفظت كثيرا من اللغات المحتوي عليها نحو الثلث من كتاب الحماسة، واللغات التي تضمنها قصائد مختارة من شعر ((حبيب بن أوس)) لحفظي ذلك، ومن الموضوعات في الأفعال كتاب ابن القوطية، وكتاب ((ابن طريف))، وكتاب ((السرقنطي)) المنبوز بالحمار، ومن أجمعها كتاب ((ابن القطاع)).
الوجه الثاني: معرفة الأحكام التي للكلم العربية من جهة إفرادها ومن جهة تركيبها ويؤخذ ذلك من علم النحو، وأحسن موضوع فيه وأجله كتاب ((أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه)) - رحمه الله تعالى -، وأحسن ما وضعه المتأخرون من المختصرات، وأجمعه للأحكام كتاب ((تسهيل الفوائد)) لأبي عبد الله محمد بن مالك الجياني الطائي مقيم دمشق، وأحسن ما وضع في التصريف كتاب ((الممتع)) لأبي الحسن ((علي بن مؤمن بن عصفور)) الحضرمي الإشبيلي رحمه الله تعالى، وقد أخذت هذا الفن عن أستاذنا الأوحد العلامة أبي جعفر ((أحمد بن
106

إبراهيم بن الزبير الثقفي)) في كتاب ((سيبويه)) وغيره.
الوجه الثالث: كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح، ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع وقد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة، وأجمعها ما جمعه شيخنا الأديب الصالح أبو عبد الله ((محمد بن سليمان النقيب))، وذلك في مجلدين قدمهما أمام كتابه في التفسير، وما وضعه شيخنا الأديب الحافظ المتبحر أبو الحسن ((حازم بن محمد بن حازم الأندلسي الأنصاري القرطاجني)) مقيم تونس المسمى ((منهاج البلغاء وسراج الأدباء))، وقد أخذت جملة من هذا الفن عن أستاذنا أبي جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى:
الوجه الرابع: تعيين مبهم، وتبيين مجمل، وسبب نزول ونسخ، ويؤخذ ذلك من النقل الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك من علم الحديث، وقد تضمنت الكتب والأمهات التي سمعناها ورويناه ذلك ((كالصحيحين))، و ((الجامع للترمذي))، و ((سنن أبي داود))، و ((سنن النسائي))، و ((سنن ابن ماجة))، و ((سنن الشافعي))، و ((مسند الدارمي))، و ((مسند الطيالسي))، و ((مسند الشافعي))، و ((سن الدارقطني))، و ((معجم الطبراني الكبير))، و ((المعجم الصغير له))، و ((مستخرج أبي نعيم)) على مسلم وغير ذلك.
الوجه الخامس: معرفة الإجمال والتبيين، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، ودلالة الأمر والنهي وما أشبه هذا، ويختص أكثر هذا الوجه بجزء الأحكام من القرآن، ويؤخذ هنا
107

من أصول الفقه، ومعظمه هو في الحقيقة راجع لعلم اللغة، إذ هو شيء يتكلم فيه على أوضاع العرب، ولكن تكلم فيه غير اللغويين أو النحويين ومزجوه بأشياء من حجج العقول، ومن أجمع ما في هذا الفن كتاب المحصول لأبي عبد الله محمد بن عمر الرازي، وقد بحثت في هذا الفن في كتاب ((الإشارة)) لأبي الوليد الباجي)) على الشيخ الأصولي الأديب ((أبي الحسن فضل بن إبراهيم المعافري))، الإمام بجامع (غرناطة)) والخطيب به، وعلى الأستاذ العلامة ((أبي جعفر بن الزبير)) في كتاب ((الإشارة)) وفي شرحها له وذلك بالأندلسي، وبحثت أيضا في هذا الفن على الشيخ ((علم الدين عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري المعروف بابن بنت العراقي)) في مختصره الذي اختصره من كتاب المحصول، وعلى الشيخ ((علاء الدين علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خطاب الباجي)) في ((مختصره)) الذي اختصره من كتاب ((محصول))، وعلى الشيخ شمس الدين ((محمد بن محمود الأصبهاني صاحب ((شرح المحصول)) بحثت عليه في كتاب ((القواعد)) من تأليفه رحمه الله تعالى.
الوجه السادس: الكلام فيما يجوز على الله تعالى وما يجب له وما يستحيل عليه، والنظر في النبوة ويختص هذا الوجه بالآيات التي تضمنت النظر في الباري تعالى، وفي الأنبياء، وإعجاز القرآن، ويؤخذ هذا من علم الكلام، وقد صنف علماء الإسلام من سائر الطوائف في هذا كتبا كثيرة، وهو علم إذ المزلة فيه والعياذ بالله مفض إلى الخسران في الدنيا والآخرة، وقد سمعت منه مسائل تبحث على الشيخ شمس الدسن الأصفهاني وغيره.
الوجه السابع: اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص، أو تغيير حركة أو إتيان بلفظ بدل لفظ، وذلك بتواتر وآحاد ويؤخذ هذا الوجه من علم القرآن، وقد صنف علماؤنا في ذلك كتبا لا تكاد تحصى، وأحسن الموضوعات في القراءات السبع: كتاب ((الإقناع)) ((لأبي جعفر بن الباذش))، وفي القراءات العشر كتاب ((المصباح)) لأبي الكرم
108

الشهرزوري))، وقد قرأت القرآن بقراءة السبعة بجزيرة الأندلس على الخطيب أبي جعفر ((أحمد بن علي بن محمد الرعيني)) عرف بابن الطباع بغرناطة، وعلى الخطيب أبي محمد ((وعبد الحق بن علي بن عبد لاله الأنصاري)) الوادي تشبتي ((بمطحشارش))، من حضرة غرناطة وعلى غيرها بالأندلس، وقرأت القرآن بالقراءات الثمان بثغر ((الإسكندرية)) على الشيخ الصالح رشيد الدين أبي محمد عبد النصير بن علي بن يحيى الهمداني عرف بابن المربوطي، وقرأت القرآن بالقراءات السبع بمصر حرسها الله تعالى الشيخ المسند العدل فخر الدين أبي الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي المليجي، وأنشأت في هذا العلم كتاب ((عقد اللآليء)) قصيدا في عروض قصيد ((الشاطبي))، ورويه يشتمل على ألف بيت وأربعة وأربعين بيتا، صرحت فيها بأسامي القراء من غير رمز ولا لغز ولا حوشي لغة، وأنشأته من كتب تسعة كما قلت:
* تنظم هذا العقد من در تسعة
* من الكتب فالتيسير عنوانه انجلى
*
* بكاف لتجريد وهاد لتبصره
* وإقناع تلخيصين مكملا
*
* جنيت له أنسي لفظ لطيفة
* وجانبت وحشيا كثيفا معقلا
*
فهذه سبعة وجوه لا ينبغي أن يقدم على تفسير كتاب الله إلا من أحاط بجملة غالبها من كل وجه منها، ومع ذلك فاعلم أنه لا يرتقي من علم التفسير ذروته، ولا يمتطي منه صهوته، إلا من كان متبحرا في علم اللسان، مترقيا منه إلى رتبة الإحسان، قد جبل طبعه على إنشاء النثر والنظم دون اكتساب، وإبداء ما اخترعته فكرته السليمة في أبدع صورة وأجمل جلبات، واستفرغ في ذلك زمانه النفيس، وهجر الأهل والولد والأنيس، ذلك الذي له في رياضه أصفى مرتع، وفي حياضه أصفى مكرع، يتنسم عرف أزاهر طال ما حجبتها الكمام. ويترشف كؤوس رحيق له المسلك ختام، ويستوضح أنوار بدور سترتها كثائف الغمام، ويستفتح أبواب مواهب الملك العلام، يدرك إعجازك القرآن بالوجدان لا يالتقليد، وينفتح له ما استغلق إذ بيده الإقليد، وأما من اقتصر على غير هذا من العلوم، أو قصر في إنشاء المنثور والمنظوم، فإنه بمعزل عن فهم غوامض الكتاب، وعن إدراك لطائف ما تضمنه من العجب العجاب، وحظه من علم التفسير إنما هو نقل أسطار، وتكرار محفوظ على مر الأعصار، ولبتاين أهل الإسلام في إدراك فصاحة وتوقل في معارف الآداب وقوانينها، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها، ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها، فمارضته عنده غير ممكنة للبشر، ولا داخلة تحت القدر، ومن لم يدرك هذا المدرك، ولا سلك هذا المسلك، رأى أنه من نمط كلام العرب، وإن مثله مقدور لمنشىء الخطب، فإعجازه عنده
109

إنما هو بصرف الله تعالى إياهم عن معارضته ومناضلته، وإن كانوا قادرين على مماثلته، والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء حين رأت زوجها يطأ جارية فعاتبته فأخبر أنه ما وطئها، فقالت له إن كنت صادقا فاقرا شيئا من القرآن، فأنشدها بيت شعر قاله ذكر الله فيه ورسوله فصدقته، فلم تزرق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق.
وحكى لنا أستاذنا العلامة ((أبو جعفر)) - رحمه الله تعالى - عن بعض من كان له معرفة بالعلوم القديمة، ومعرفة بكثير من العلوم الإسلامية، أنه كان يقول له يا أبا جعفر لا أدرك فرقا بين القرآن وبين غيره من الكلام، فهذا الرجل وأمثاله من علماء المسلمين يكون من الطائفة الذين يقولون بأن الإعجاز وقع بالصرفة، وكان بعض شيوخنا من له تحقق بالمعقول، وتصرف في كثير من المنقول، إذا أراد أن يكتب فقرأ فصيحة أتى لبعض تلامذته وكلفة أن ينشئها له، وكان بعض شيوخنا ممن له التبحر في علم لغة العرب إذا أسقط من بيت الشعر كلمة، أو ربع البيت، وكان المعين بدون ما أسقط لا يدرك ما أسقط من ذلك، وأين هذا في الإدراك من آخر إذا حركت له مسكنا أو سكنت له محركا في بيت أدرك ذلك بالطبع، وقال إن هذا البيت مكسور، ويدرك ذلك في أشعار العرب الفصحاء إذا كان فيه زحاف ما، وإن كان جائزا في كلام العرب، لكن يجد مثل هذا طبعه ينبو عنه ويقلق لسماعه هذا وإن كان لا يفهم معنى البيت لكونه حوشء اللغات، أو منطويا على حوشي، فهذه كلها من
مواهب الله تعالى لا تؤخذ باكتساب، لكن الاكتساب يقويها وليس العرب متساوين في الفصاحة، ولا في إدراك المعاني ولا في نظم الشعر، بل فيهم من يكسر الوزن ومن لا ينظم ولا بيتا واحدا، ومن هو مقل من النظم، وطباعهم كطباع سائر الأمم في ذلك، حتى فحول شعرائهم يتفاوتون في الفصاحة، وينفتح الشاعر منهم القصيدة حولا حتى يسمى قصائد الحوليات فهم مختلفون في ذلك، وكذلك كان بعض الكفار حين سمع القرآن أدرك إعجازه للوقت، فوفق وأسلم، وآخر أدرك إعجازه فكفر، ولج في عناده * (بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) * [البقرة: 90]، فنسبه تارة إلى الشعر وتارة إلى الكهانة والسحر، وآخر لم يدرك إعجاز القرى ن كتلك المرأة العربية التي قدمنا ذكرها، وكحال أكثر الناس فإنهم لا يدركون إعجاز القرآن من جهة الفصاحة، ممن أدرك إعجازه فوق وأسلم بأول سماع سمعه ((أبو ذر)) إعجازه وكفر عنادا ((عتبة بن ربيعة))، وكان من عقلاء الكفار حتى كان يتوهم ((أمية بن الصلت)) أنه هو يعني عتبة يكون النبي المنبعث في ((قريش))، فلما بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم حسده عتبة، وأضرابه مع علمهم بصدقة وأن ما جاء به معجز، وكذلك ((الوليد بن المغيرة))، روى عنه أنه قال لبني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما، ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى، ومع هذا الاعتراف غلب عليه الحسد والأشر، حتى قال ما حكى الله عنه * (إن هذا إلا سحر يؤثر عن هذا إلا قول البشر) * [المدثر: 25] وممن
110

لم يدرك إعجازه أو أدرك وعاند وعارض مسيلمة الكذاب، أتى بكلمات زعم أنها أوحيت إليه انتهت في الفهاهة والعي والغثاثة بحيث صارت هزأة للسامع، وكذلك ((أبو الطيب المتنبي)) وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن أبي الطيب الباقلاني في كتاب ((الانتصار في إعجاز القرآن)) شيئا من كلام أبي الطيب مما هو كفر، وذكر لنا قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري أن أبا الطيب أدعى النبوة، واتبعه ناس من عبس وكلب وأنه اختلق شيئا ادعى أنه أوحي إليه به سورا سماها العبر، وإن شعره لا يناسبها لجودة أكثرة ورداءتها كلها أو كلاما هذا معناه، وإنما أتينا بهذه الجملة من الكلام ليعلم أن أذهان الناس مختلفة في الإدراك على ما شاء الله تعالى وأعطى كل أحد.
(ولنبين).
[الشروط الواجب توافرها في المفسر]
إن علم التفسير ليس متوقفا على علم النحو فقط كما يظنه بعض الناس، بل أكثر العربية هم بمعزل عن التصرف في الفصاحة والتفنن في البلاغة، ولذلك قلت تصانيفهم في علم التفسير، وقل أن ترى نحويا بارعا في النظم والنثر، كما قل أن ترى بارعا في الفصاحة يتوغل في علم النحو، وقد رأينا من ينسب للإمامة في علم النحو وهو لا يحسن أن ينطق بأبيات من أشعار العرب فضلا عن أن يعرف مدلولها أو يتكلم على ما انطوت عليه من علم البلاغة والبيان فأنى لمثل هذا أن يتعاطى علم التفسير، ولله در أبي القاسم الزمخشري حيث قال في خطبة كتابه في ((التفسير)) ما نصه.
إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح، عن غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سلكها، علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه، وأجالة النظر فيه، كل ذي علم، كما ذكر الجاحظ في كتاب ((نظم القرآن))، فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله، بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زمانا ورجع إليه، ورد ورد عليه، فارسا في علم الإعراب، مقدما في جملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها، يقظان
111

النفس درا كالمجة وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها، لا كزا جاسيا، ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا درية بأساليب النظم والنثر، مرتاضا غير ريض بتلقيح نبات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف نظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقه، ووقع في مداحضة ومزالقه، انتهى كلام ((الزمخشري)) في وصف متعاطي تفسير القرآن، وأنت ترى هذا الكلام وما احتوى عليه من الترصيف الذي يبهر بجنسه الأدباء، ويقهر بفصاحته البلغاء، وهو شاهد له بأهليته للنظر في تفسير القرآن، واستخراج لطائف الفرقان. [حديثه عن الزمخشري وابن عطية]
وهذا ((أبو القاسم محمود بن عمر المشرقي الخوارزمي الزمخشري))، و ((أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي)) المغربي الغرناطي، أجل من صنف في علم التفسير، وأفضل من تعرض للتنقيح فيه والتحرير، وقد اشتهرا ولا كاشتهار الشمس، وخلدا في الأحياء وإن هدا في الرمس، وكلامهما فيه يدل على تقديمها في علوم، من منثور ومنظوم، ومنقول ومفهوم، وتقلب في فنون الآداب، وتمكن من علمي المعاني والإعراب، وفي خطبتي كتابيهما وفي غضون كتاب ((الزمخشري)) ما يدل على أنهما فارسا ميدان، وممارسا فصاحة وبيان، وللزمخشري تصانيف غير تفسيره، منها ((الفائض)) في لغات الحديث، و ((مختلف الأسماء ومؤتلفها))، و ((ربيع الأبرار))، و ((الرائض في الفرائض))، و ((المفصل)) وغير ذلك، وقد ذكر الوزير أبو نصر الفتح بن خاقان الأشبيلي في كتابه المسمى ((قلائد العقيان ومحاسن الأعيان)) أبا محمد بن عطية فقال فيه: نبعة روح العلا، ومحرز ملابس الثنا، فذ الجلالة، وواحد العصر والأصالة، وقار كما رسا الهضب وأدب كما اطرد السلسل العذب، أثره في كل معرفة علم في رأسه نار، وطوالعه في آفاقها صبح ونهار، وقد أثبت من نظمه ما ينفخ عبيرا،
ويتضح منيرا، وأورد له نثرا كما نظم قلائد، ونظما تزدان بمثله أجياد الولائد، من ألفاظ عذبة تستنزل برقتها العصم ومعان مبتكرة تفحم الألد الخصم، أبقت له ذكرا مخلدا على جبين الدهر، وعرفا أرجا كتضوع الزهر، ولما كان
112

كتاباهما في التفسير قد أنجدا وأغارا، وأشرقا في سماء هذا العلم وأنارا، وتنزلا من الكتب التفسيرية منزلة الإنسانية من العين، والذهب الا بريز من العين، ويتيمة الدر من اللآلي، وليلة القدر من الليالي، فعكف الناس شرقا وغربا عليهما، وثنوا أعنه الاعتناء إليهما، وكان فيهما على جلالتهما مجال لانتقاد ذوي التبريز، ومسرح للتخييل فيهما والتمييز، ثنيت إليهما عنان الانتقاد، وحللت ما تخيل الناس فيهما من الاعتقاد، أنهما في التفسير الغاية التي لا تدرك، والمسلك الوعر الذي لا يكاد يسلك، وعرضتهما على محك النظر، وأرويت فيهما نار الفكر، حتى خلص دسيسهما، وبرز نفيسهما، وسيرى ذلك من هو للنظر أهل، واجتمع فيه إنصاف وعدل، فإنه يتعجب من التولج على الضراغم، والتحرز لأشبالها والأنف راغم، إذ هذان الرجلان هما فارسا علم التفسير، وممارسا تحريره والتحبير، نشراه نشرا، وطار لهما به ذكرا، وكانا متعاصرين في الحياة، متقاربين في الممات (ولد أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشري) ((بزمخشر)) قرية من قرى خوارزم يوم الأربعاء السابع عشر لرجب سنة سبع وستين وأربعمائة (وتوفي بكركانج) قصبة ((خوارزم)) ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة (وولد أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن عبد الرؤوف بن عبد الله بن تمام بن عطية المحاربي من أهل غرناطة) سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وتوفي بلورقة في الخامس والعشرين لرمضان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة هكذا ذكره القاضي ابن أبي جمرة في وفاة ابن عطية وقال الحافظ أبو القاسم بن بشكوال: توفي يعني ((ابن عطية)) سنة اثنين وأربعين وخمسمائة، وكتاب ابن عطية أنقل وأجمع وأخلص، وكتاب الزمخشري ألخص وأغوص، إلا أن الزمخشري قائل بالطفرة، ومقتصر من الذؤابة على الوفرة، فربما سنح له آبي المقادة فأعجزه اعتياصه، ولم يمكنه لتأنيه اقتناصه، فتركه عقلا لمن يصطاده، وغفلا لمن يرتاده، وربما ناقض هذا المنزع فثنى العنان إلى الواضح، والسهل اللائح، وأجال فيه كلاما، ورمى نحو غرضه سهاما، هذا مع ما في كتابه من نصره مذهبه، وتقحم مرتكبه، وتجشم حمل كتاب الله عز وجل عليه، ونسبه ذلك إليه، فمغتفر إساءته لإحسانه، ومصفوح عن سقطه في بعض لإصابته في أكثر تبيانه. فما كان في كتابي هذا من تفسير الزمخشري رحمه الله تعالى فأخبرني به أستاذنا العلامة أبو
113

جعفر ((أحمد بن إبراهيم بن الزبير)) قراءة مني عليه فيه، وإجازة أيام كنت أبحث معه في كتاب سيبويه، عن القاضي ((ابن الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني)) عن ((أبي طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر الخشوعي)) ح وأخبرني به عاليا ((أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي عرف بابن البخاري)) في كتابه إلي من ((دمشق)) عن ((أبي طاهر الخشوعي)) وهو آخر من حدث عنه عن ((الزمخشري))، وما كان في هذا الكتاب من تفسير ((ابن عطية)) فأخبرني به القاضي الإمام ((أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص)) القرشي، قراءة مني عليه لبعضه، ومناولة عن الحافظ ((أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي))، قال أخبرنا أبو ((القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الأنصاري، يعرف بابن حبيش))، قال أخبرنا به مصنفه قراءة عليه لجميعة، وأخبرني به عاليا القاضي الأصولي المتكلم ((أبو الحسن محمد بن القاضي الأصولي المتكلم)) ((أبي عامر يحيى بن عبد الرحمن الأشعري)) نسبا، ومذهبا إجازة كتبها لي بخطه ((بغرناطة)) عن أبي الحسن علي بن أحمد بن علي الغافقي الشقوري بقرطبة، وهو آخر من حدث عن ((ابن عطية)) وهو آخر من روى عنه، واعتمدت في أكثر نقول كتابي هذا على كتاب ((التحرير والتحبير)) لأقوال أئمة التفسير من جمع شيخنا الصالح القدوة الأديب ((جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن حسن بن حسين المقدسي)) عرف ((بابن النقيب)) - رحمه الله تعالى - إذ هو أكبر كتاب رأيناه صنف في علم التفسير، يبلغ في العدد مائة سفر أو يكاد إلا أنه كثير التكرير، قليل التحرير، مفرط الإسهاب لم يعد جامعه من نسخ كتب في كتابه كذلك كان فيه بحال التهذيب ومراد الترتيب، وهذا الكتاب روايتي بالإجازة من
114

جامعه رحمه الله تعالى، وقد شاهدناه غير مرة حين جمعه يقول للناسخ اقرا علي فيقرأ عليه فيقول اكتب من كذا إلى كذا، وينقل ما في كتب التفسير التي اعتمدها، ويعزو أكثر المواضع ما ينقل منها إلى مصنف ذلك الكتاب، وكان فيه فضيلة أدب وله نثر ونظم متوسط رحمه الله تعالى ورضي عنه (وقد تقدم أني قرأت كتاب الله تعالى على جماعة من المقرئين رحمهم الله تعالى) وأنا الآن أسند قراءتي القرآن، من بعض الطرق وأذكر شيئا مما ورد في القرآن وفضائله وتفسيره على سبيل الاختصار فأقول، قرأت القرآن برواية ((ورش)) وهي الرواية التي ننشأ عليها ببلادنا ونتعلمها أولا في المكتب، على المسند المعمر العدل أبي طاهر إسماعيل بن هبة اله بن علي المليجي بمصر، وقرأتها على أبي الجود غياث بن فارس بن مكي المنذري بمصر، وقرأتها على ((أبي الفتوح ناصر بن الحسن بن إسماعيل الزيدي)) ((بمصر))، وقرأتها على ((أبي الحسن يحيى بن علي بن أبي الفرج الخشاب)) ((بمصر))، وقرأتها علي ابن الحسن أحمد بن سعيد بن نفيس بمصر، وقرأتها على ((ابن عدي عبد العزيز بن علي بن محمد عرف بابن الإمام)) ((بمصر))، وقرأتها على ((أبي بكر بن عبد الله بن مالك بن سيف)) ((بمصر))، وقرأتها على ((أبي يعقوب بن يوسف بن عمرو بن سيار)) ويقال يسار الأزرق ((بمصر))، وقرأتها على ((أبي عمر وعثمان بن سعيد بن عدي الملقب)) بورش ((بمصر))، وقرأتها على ((أبي عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم)) يمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ ((نافع)) على ((أبي جعفر يزيد بن القعقاع)) بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ ((يزيد)) على
115

((عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي)) بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ ((عبد الله)) على ((أبي المنذر أبي بن كعب)) بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ ((أبي)) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا إسناد صحيح دائر بين مصري ومدني فمن شيخي إلى ورش مصريون، ومن نافع
إلى من بعده مدنيون، (ومثل هذا الإسناد عزيز الوجود بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشرة رجلا)، وهذا من أعلي الأسانيد التي وقعت لي وقد وقع لي في بعض القراءات أن بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا، وذلك في قراءة ((عاصم)) وهي القراءة التي ينشأ عليها أهل العراق، وهو إسناد أعلى ما وقع لأمثالنا، وقرأت القرآن على ((أبي الطاهر بن المليجي))، قال قرأت على ((أبي الجود))، قال: قرأت على ((أبي الفتوح الزيدي))، قال: قرأت على ((أبي الحسن علي بن أحمد الأبهري))، قال: قرأت على ((أبي محمد يحيى بن محمد بن قيس الأنصاري العليمي)) الكوفي، قال قرأت على ((أبي بكر بن عياش))، قال: قرأت على ((عاصم))، وقرأ ((عاصم)) على ((أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي)) على ((أبي بن كعب)) و ((عثمان بن عفان)) و ((علي بن أبي طالب)) و ((عبد الله بن مسعود)) و ((زيد بن ثابت))، وقرأ هؤلاء الخمسة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
[ذكر فضائل القرآن]
(وأما ما ورد في القرآن وفضائله) فقد صنف الناس في ذلك ((كأبي عبيد القاسم بن سلام)) وغيره.
(ومما روي) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه ستكون فتن كقطع الليل المظلم، قيل: فما النجاة منها يا رسول الله؟
116

قال: كتاب الله تعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بنيكم، وهو فصل ليس بالهزل، من تركه تجبرا قصمه الله تعالى، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله تعالى، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، من علم علمه سبق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن عصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتلوا هذا القرآن، فإن الله تعالى يأجركم بالحرف عشر حسنات، أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن الألف حرف، واللام حرف، والميم حرف.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في آخر خطبة خطبها وهو مريض: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين، إنه لن تعمى أبصاركم، ولن تضل قلوبكم، ولن تزل أقدامكم، ولن تقصر أيديكم، كتاب الله سبب بينكم وبينه، طرفه بيده وطرفه بأيديكم، فاعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، ألا وأهل بيتي وعترتي وهو الثقل الآخر، فلا تسبوهم فتهلكوا.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ القرآن فرأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظم الله.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من شفيع أفضل عند الله من القرآن لا نبي ولا ملك، وعنه صلى الله عليه وسلم أفضل عبادة أمتي القرآن، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أشرف أمتي حملة القرآن.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ مائة آية كتب من الفانتين، ومن قرأ مائتي آية لم يكن من الغافلين، ومن قرأ
117

ثلاثمائة آية لم يحاجه القرآن، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: القرآن شافع مشفع، وما حل مصدق، من شفع له القرآن نجا، ومن محل به القرآن يوم القيامة أكبه الله لوجهه في النار، وأحق من شفع له القرآن أهله وحملته، وأولى من محل به القرآن من عدل عنه وضيعه.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أصغر البيوت بيت صفر من كتاب الله تعالى.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الذي يتعاهد القرآن ويشتد عليه له أجران، والذي يقرأه وهو خفيف عليه مع السفرة الكرام البررة، وعنه صلى الله عليه وسلم أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه، وقال قوم من الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: أم تر يا رسول الله ((ثابت بن قيس)) لم تزل داره البارحة تزهر وحولها أمثال المصابيح، فقال لهم فلعله قرأ سورة البقرة. فسئل ((ثابت بن قيس)) فقال قرأت سورة البقرة، وقد خرج البخاري في تنزيل الملائكة في الظلمة لصوت ((أسيد بن حضير)) بقراءة سورة البقرة، وقال ((عقبة بن عامر)) عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال عليكم بالقرآن.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحسن الناس قراءة أو صوتا بالقرآن، فقال الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله تعالى.
[الترغيب في تفسير القرآن]
(وأما ما ورد في تفسيره) فروى ابن عباس أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: أي علم القرآن أفضل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم عربيته فالتمسوها في الشعر.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه، فإن الله تعالى يحب أن يعرف، وقد فسرت الحكمة من قوله تعالى * (ومن يؤت الحمكة) * [البقرة: 269]، بأنها تفسير القرآن، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة، وقال ((الحسن)): أهلكتم العجمة يقرأ أحدهم الآية فيعيا بوجوهما حتى يفترى
118

على الله بها. وقال ((ابن عباس)): الذي يقرأ ولا يفسر كالأعرابي الذي يهذ الشعر، ووصف علي ((جابر بن عبد الله)) لكونه يعرف تفسير قوله تعالى * (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) * [القصص 85]، ورحل ((مسروق)) إلى ((البصرة)) في تفسير آية فقيل له الذي يفسرها رجع إلى ((الشام)) فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها، وقال ((مجاهد)): أحب الخلق إلى الله تعالى أعلمهم بما أنزل.
(وما روى) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كونه لا يفسر من كتاب الله إلا أبا بعدد، علمه إياهن جبرائيل عليه السلام محمول ذلك على مغيبات القرآن وتفسيره لمجمله ونحوه مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله تعالى.
(وما روى) عنه صلى الله عليه وسلم من قوله (من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) محمول على من تسور على تفسيره برأيه دون النظر في أقوال العلماء، وقوانين العلوم، كالنحو واللغة والأصول وليس من اجتهد ففسر على قوانين العلم والنظر بداخل في ذلك الحديث، ولا هو يفسر برأيه، ولا يوصف بالخطا.
[المفسرون من الصحابة]
والمنقول عنه الكلام في تفسير القرآن من الصحابة جماعة، منهم ((علي بن أبي طالب))، و ((عبد الله بن مسعود))، و ((أبي بن كعب))، و (زيد بن ثابت))، و ((عبد الله بن عمرو بن العاص))، فهؤلاء مشاهير من أخذ عنه التفسير من الصحابة رضي الله عنه تعالى عنهم، وقد نقل عن غير هؤلاء غير ما شيء من التفسير.
[المفسرون من التابعين]
(ومن المتكلمين) في التفسير من التابعين، ((الحسن بن أبي الحسن))، و ((مجاهد بن جبر))،
119

و ((سعيد بن جبير))، و ((علقمة))، و ((الضحاك بن مزاحم))، و ((السدي)) و ((وأبو صالح))، وكان ((الشعبي)) يطعن على ((السدي)) و ((أبي صالح))، لأنه كان يراهما مقصرين في النظر.
[منهج التفسير في العصور المتقدمة له والمتأخرة]
ثم تتابع الناس في التفسير وألفوا فيه التأليف، وكانت تآليف المتقدمين أكثرها إنما هي شرح لغة، ونقل سبب، ونسخ، وقصص، لأنهم كانوا قريبي عهد بالعرب، وبلسان العرب، فلما فسد اللسان وكثرت العجم، ودخل في دين الإسلام أنواع الأمم المختلفو الألسنة، والناقصو الإدراك احتاج المتأخرون إلى إظهار ما انطوى عليه كتاب الله تعالى من غرائب التركيب، وانتزاع المعاني وإبراز النكت البيانية، حتى يدرك ذلك من لم تكن في طبعه، ويكتسها من لم تكن نشأته عليها، ولا عنصره يحركه إليها، بخلاف الصحابة والتابعين من العرب، فإن ذلك كان مركوزا في طباعهم يدركون تلك المعاني كلها من غير موقف ولا معلم، لأن ذلك لسانهم وخطتهم وبيانهم، على أنهم كانوا يتفاوتون أيضا في الفصاحة وفي البيان، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم حين سمع كلام ((عمرو بن الأهتم)) في ((الزبرقان)): إن من البيان لسحرا، وقد أشرنا فيما تقدم إلى تفاوت العرب في الفصاحة.
120

[تعريف علم التفسير لغة واصطلاحا]
وقد أن نشرع فيما قصدنا وننجز ما به وعدنا ونبدأ برسم لعلم التفسير فإني لم أقف لأحد من علماء التفسير على اسم له.
فنقول:
التفسير في اللغة: الاستبانة والكشف، قال: ((ابن دريد)) ومنه يقال للماء الذي ينظر فيه الطبيب تفسرة، وكأنه تسمية بالمصدر، لأن مصدر فعل جاء أيضا على تفعله نحو جرب تجربة وكرم تكرمة، وإن كان القياس في الصحيح من فعل التفعيل، كقوله تعالى (وأحسن تفسيرا)، وينطلق أيضا التفسير على التعرية للانطلاق، قال ((ثعلب)) تقول: فسرت الفرس عريته، لينطلق في حضره، وهو راجع لمعنى الكشف، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري.
وأما الرسم في الاصطلاح: فنقول: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك.
فقولنا: علم هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا: يبحث فيه عن كيفية النظق بألفاظ القرآن هذا هو علم القراءات، وقولنا: ومدلولاتها أي مدلولات تلك الألفاظ وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم، وقولنا: وأحكامها الإفرادية، والتركيبية هذا يشمل علم التصريف وعلم الإعراب وعلم البيان وعلم البديع ومعانيها التي تحمل بها حالة التركيب شمل بقوله التي تحمل عليها ما لا دلالة عليه بالحقيقة وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقضي بظاهره شيئا ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على الظاهر وهو المجاز، وقولنا وتتمات لذلك، هو معرفة النسخ، وسبب النزول وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن ونحو ذلك.
121

توجد صفحة فارغة
122

((سورة الفاتحة) 1 * (بسم الله الرحمن الرحيم *) *)) 2
* (بسم الله الرحمن الرحيم) * باء الجر تأتي لمعان: للإلصاق والاستعانة والقسم والسبب والحال والظرفية والنقل. والإلصاق: حقيقة مسحت برأسي ومجازا مررت بزيد. والاستعانة: ذبحت بالسكين. والسبب: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا النساء) *. والقسم: بالله لقد قام. والحال: جاء زيد بثيابه. والظرفية: زيد بالبصرة. والنقل: قمت بزيد. وتأتي زائدة للتوكيد: شربن بماء البحر. والبدل: فليت لي بهم قوما أي بدلهم. والمقابلة: اشتريت الفرس بألف. والمجاوزة: تشقق السماء بالغمام الفرقان أي عن الغمام. والاستعلاء: من أن تأمنه بقنطار آل عمران. وكنى بعضهم عن الحال بالمصاحبة وزاد فيها كونها للتعليل. وكنى عن الاستعانة بالسبب وعن الحال بمعنى مع بموافقة معنى اللام. ويقال اسم بكسر همزة الوصل وضمها وسمي كهدي والبصري يقول: مادته سين وميم وواو والكوفي يقول: واو وسين وميم والأرجح الأول.
والاستدلال في كتاب النحو: أل للعهد في شخص أو جنس وللحضور وللمح الصفة وللغلبة وموصولة. فللعهد في شخص: جاء الغلام وفي جنس: اسقى الماء وللحضور: خرجت فإذا الأسد وللمح: الحارث وللغلبة: الدبران. وزائدة لازمة وغير لازمة فاللازمة: كالآن وغير اللازمة: باعد أم العمر من
123

أسيرها وهل هي مركبة من حرفين أم هي حرف واحد؟ وإذا كانت من حرفين فهل الهمزة زائدة أم لا؟ مذاهب. والله أعلم لا يطلق إلا على المعبود بحق مرتجل غير مشتق عند الأكثرين وقيل مشتق ومادته قيل: لام وياء وهاء من لاه يليه ارتفع. قيل: ولذلك سميت الشمس إلاهه بكسر الهمزة وفتحها وقيل: لام وواو وهاء من لاه يلوه لوها احتجب أو استنار ووزنه إذ ذاك فعل أو فعل وقيل: الألف زائدة ومادته همزة ولام من أله أي فزع قاله ابن إسحاق أو أله تحير قاله أبو عمر وأله عبد قاله النضر أو أله سكن قاله المبرد. وعلى هذه الأقاويل فحذفت الهمزة اعتباطا كما قيل في ناس أصله أناس أو حذفت للنقل ولزم مع الإدغام وكلا القولين شاذ. وقيل: مادته واو ولام وهاء من وله أي طرب وأبدلت الهمزة فيه من الواو نحو أشاح قاله الخليل و القناد وهو ضعيف للزوم البدل. وقولهم في الجمع آلهة وتكون فعالا بمعنى مفعول كالكتاب يراد به المكتوب. وأل في الله إذا قلنا أصله الإلاه قالوا للغلبة إذ الإله ينطلق على المعبود بحق وباطل والله لا ينطلق إلا على المعبود بالحق فصار كالنجم للثريا. وأورد عليه بأنه ليس كالنجم لأنه بعد الحذف والنقل أو الإدغام لم يطلق على كل إله ثم غلب على المعبود بحق ووزنه على أن أصله فعال فحذفت همزته عال. وإذا قلنا بالأقاويل السابقة فأل فيه زائدة لازمة وشذ حذفها في قولهم لاه أبوك شذوذ حذف الألف في أقبل سيل. أقبل جاء من عند الله. وزعم بعضهم أن أل في الله من نفس الكلمة ووصلت الهمزة لكثرة الاستعمال وهو اختيار أبي بكر بن العربي و السهيلي وهو خطأ لأن وزنه إذ ذاك يكون فعالا وامتناع تنوينه لا موجب له فدل على أن أل حرف داخل على الكلمة سقط لأجلها التنوين. وينفرد هذا الاسم بأحكام ذكرت في علم النحو ومن غريب ما قيل: إن أصله لاها بالسريانية فعرب قال:
124

* كحلفة من أبي رباح
*
يسمعها لاهه الكبار
*
قال أبو يزيد البلخي: هو أعجمي فإن اليهود والنصارى يقولون لاها وأخذت العرب هذه اللفظة وغيروها فقالوا الله. ومن غريب ما قيل في الله أنه صفة وليس اسم ذات لأن اسم الذات يعرف به المسمى والله تعالى لا يدرك حسا ولا بديهة ولا تعرف ذاته باسمه بل إنما يعرف بصفاته فجعله اسما للذات لا فائدة في ذلك. وكان العلم قائما مقام الإشارة وهي ممتنعة في حق الله تعالى وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللاه اسم الفاعل من لها يلهو وقيل طرحت تخفيفا وقيل هي لغة فاستعملت في الخط.
* (الرحمن) *: فعلان من الرحمة وأصل بنائه من اللازم من المبالغة وشذ من المتعدي وأل فيه للغلبة كهي في الصعق فهو وصف لم يستعمل في غير الله كما لم يستعمل اسمه في غيره وسمعنا مناقبه قالوا: رحمن الدنيا والآخرة ووصف غير الله به من تعنت الملحدين وإذا قلت الله رحمن ففي صرفه قولان ليسند أحدهما إلى أصل عام وهو أن أصل الاسم الصرف والآخر إلى أصل خاص وهو أن أصل فعلان المنع لغلبته فيه. ومن غريب ما قيل فيه إنه أعجمي بالخاء المعجمة فعرب بالحاء قاله ثعلب.
* (الرحيم) *: فعيل محول من فاعل للمبالغة وهو أحد الأمثلة الخمسة وهي: فعال وفعول ومفعال وفعيل وفعل وزاد بعضهم فعيلا فيها: نحو سكير ولها باب معقود في النحو وقيل: وجاء رحيم بمعنى مرحوم قال العملس بن عقيل:
* فأما إذا عضت بك الأرض عضة
*
فإنك معطوف عليك رحيم
*
قال علي وابن عباس و علي بن الحسين وقتادة وأبو العالية وعطاء وابن جبير ومحمد بن يحيى بن حبان وجعفر الصادق الفاتحة مكية ويؤيده * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني
125

والقرآن العظيم الحجر) *. والحجر مكية بإجماع. وفي حديث أبي: إنها السبع المثاني والسبع الطوال أنزلت بعد الحجر بمدة ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة وما حفظ أنه كانت في الإسلام صلاة بغير * (الحمد لله رب العالمين الفاتحة) *. وقال أبو هريرة وعطاء بن يسار ومجاهد وسواد بن زياد والزهري وعبد الله بن عبيد بن عمير: هي مدنية وقيل إنها مكية مدنية.
الباء في بسم الله للاستعانة نحو كتبت بالقلم وموضعها نصب أي بدأت وهو قول الكوفيين وكذا كل فاعل بدىء في فعله بالتسمية
126

كان مضمر الأبد أو قدره الزمخشري فعلا غير بدأت وجعله متأخرا قال: تقديره بسم الله أقرأ أو أتلو إذ الذي يجيء بعد التسمية مقروء والتقديم على العامل عنده يوجب الاختصاص وليس كما زعم. قال سيبويه: وقد تكلم على ضربت زيدا ما نصه: وإذا قدمت الاسم فهو عربي جيد كما كان ذلك يعني تأخيره عربيا جيدا وذلك قولك زيدا ضربت. والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير سواء مثله في ضرب زيد عمرا وضرب زيدا عمرو انتهى. وقيل موضع اسم رفع التقدير ابتدائي ثابت أو مستقر
باسم الله وهو قول البصريين وأي التقديرين أرجح يرجح الأول لأن الأصل في العمل للفعل أو الثاني لبقاء أحد جزأي الإسناد.
والاسم هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان إن كان محسوسا وفي الأذهان إن كان معقولا من غير تعرض ببنيته للزمان ومدلوله هو المسمى ولذلك قال سيبويه: (فالكل اسم وفعل وحرف) والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلا على ذلك المعنى فقد اتضحت المباينة بين الاسم والمسمى والتسمية. فإذا أسندت حكما إلى اسم فتارة يكون إسناده إليه حقيقة نحو: زيد اسم ابنك وتارة لا يصح الإسناد إليه مجازا وهو أن تطلق الاسم وتريد به مدلوله وهو المسمى نحو قوله تعالى: * (تبارك اسم ربك الرحمن) * * (وسبح * اسم ربك الأعلى) * * (وما تعبدون من * دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم يوسف) *. والعجب من اختلاف الناس هل الاسم هو عين المسمى أو غيره وقد صنف في ذلك الغزالي وابن السيد والسهيلي وغيرهم وذكروا احتجاج كل من القولين وأطالوا في ذلك. وقد تأول السهيلي رحمه الله قوله تعالى: * (سبح اسم ربك الأعلى) * بأنه أقحم الاسم تنبيها على أن المعنى سبح ربك واذكر ربك بقلبك ولسانك حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان لأن الذكر بالقلب متعلقة المسمى المدلول عليه بالاسم والذكر باللسان متعلقة اللفظ. وقوله تعالى: * (ما تعبدون من دونه إلا أسماء) * بأنها أسماء كاذبة غير واقعة على حقيقة فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها وهذا من المجاز البديع. وحذفت
127

الألف من بسم هنا في الخط تخفيفا لكثرة الاستعمال فلو كتبت باسم القاهر أو باسم القادر. فقال الكسائي والأخفش: تحذف الألف. وقال الفراء: لا تحذف إلا مع * (بسم الله الرحمن الرحيم) * لأن الاستعمال إنما كثر فيه فأما في غيره من أسماء الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف.
والرحمن صفة لله عند الجماعة. وذهب الأعلم وغيره إلى أنه بدل وزعم أن الرحمن علم وإن كان مشتقا من الرحمة لكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم بل هو مثل الدبران وإن كان مشتقا من دبر صيغ للعلمية فجاء على بناء لا يكون في النعوت قال: ويدل على علميته ووروده غير تابع لاسم قبله قال تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * * (طه الرحمن * علم القرآن الرحمن) * وإذا ثبتت العلمية امتنع النعت فتعين البدل. قال أبو زيد السهيلي: البدل فيه عندي ممتنع وكذلك عطف بيان لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين لأنه أعرف الأعلام كلها وأبينها ألا تراهم قالوا: وما الرحمن الفرقان ولم يقولوا: وما الله فهو وصف يراد به الثناء وإن كان يجري مجرى الإعلام.
* (الرحمن الرحيم) * قيل دلالتهما واحدة نحو ندمان ونديم وقيل معناهما مختلف فالرحمن أكثر مبالغة وكان القياس الترقي كما تقول: عالم نحرير وشجاع باسل لكن أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف واختاره الزمخشري. وقيل الرحيم أكثر مبالغة والذي يظهر أن جهة المبالغة مختلفة فلذلك جمع بينهما فلا يكون من باب التوكيد. فمبالغة فعلان مثل غضبان وسكران من حيث الامتلاء والغلبة ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة ولذلك لا يتعدى فعلان ويتعدى فعيل. تقول زيد رحيم المساكين كما تعدى فاعلا قالوا زيد حفيظ علمك وعلم غيرك حكاه ابن سيده عن العرب. ومن رأى أنهما بمعنى واحد ولم يذهب إلى توكيد أحدهما بالآخر احتاج أنه يخص كل واحد بشيء وإن كان أصل الموضوع عنده واحدا ليخرج بذلك عن التأكيد فقال مجاهد: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. وروى ابن مسعود وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة. وإذا صح هذا التفسير وجب المصير إليه. وقال القرطبي: رحمن الآخرة ورحيم الدنيا. وقال الضحاك: لأهل السماء والأرض. وقال عكرمة: برحمة واحدة وبمائة رحمة. وقال المزني: بنعمة الدنيا والدين. وقال العزرمي: الرحمن بجميع خلقه في الأمطار ونعم الحواس والنعم العامة
128

الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم واللطف بهم وقال المحاسبي: برحمة النفوس ورحمة القلوب. وقال يحيى بن معاذ: لمصالح المعاد والمعاش. وقال الصادق: خاص اللفظ بصيغة عامة في الرزق وعام اللفظ بصيغة خاصة في مغفرة المؤمن. وقال ثعلب: الرحمن أمدح والرحيم ألطف وقيل: الرحمن المنعم بما لا يتصور جنسه من العباد والرحيم المنعم بما يتصور جنسه من العباد. وقال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين كما قال تعالى: * (وكان بالمؤمنين رحيما الأحزاب) *. ووصف الله تعالى بالرحمة مجاز عن إنعامة على عباده ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم إحسانه فتكون الرحمة إذ ذاك صفة فعل؟ وقال قوم: هي إرادة الخير لمن أراد الله تعالى به ذلك فتكون على هذا صفة ذات وينبني على هذا الخلاف خلاف أخر وهو أن صفات الله تعالى الذاتية والفعلية أهي قديمة أم صفات الذات قديمة وصفات الفعل محدثة قولان؟ وأما الرحمة التي من العباد فقيل هي رقة تحدث في القلب وقيل هي قصد الخير أو دفع الشر لأن الإنسان قد يدفع الشر عمن لا يرق عليه ويوصل الخير إلى من لا يرق عليه.
وفي البسملة من ضروب البلاغة نوعان:
أحدهما: الحذف وهو ما يتعلق به الباء في بسم وقد مر ذكره والحذف قيل لتخفيف اللفظ كقولهم بالرفاء والبنين باليمن والبركة فقلت إلى الطعام وقوله تعالى في تسع آيات أي أعرست وهلموا واذهب قال أبو القاسم السهيلي: وليس كما زعموا إذ لو كان كذلك كان إظهاره وإضماره في كل ما يحذف تخفيفا ولكن في حذفه فائدة وذلك أنه موطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى فلو ذكر الفعل وهو لا يستغني عن فاعله لم يكن ذكر الله مقدما وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى كما تقول في الصلاة الله أكبر ومعناه من كل شيء ولكن يحذف ليكون اللفظ في اللسان مطابقا لمقصود القلب وهو أن لا يكون في القلب ذكر إلا الله عز وجل. ومن الحذف أيضا حذف الألف في بسم الله وفي الرحمن في الخط وذلك لكثرة الاستعمال.
النوع الثاني: التكرار في الوصف ويكون إما لتعظيم الموصوف أو للتأكيد ليتقرر في النفس. وقد تعرض المفسرون في كتبهم لحكم التسمية في الصلاة وذكروا اختلاف العلماء في ذلك وأطالوا التفاريع في ذلك وكذلك فعلوا في غير ما آية وموضوع هذا كتب الفقه وكذلك تكلم بعضهم على التعوذ وعلى حكمه وليس من القرآن بإجماع.
ونحن في كتابنا هذا لا نتعرض لحكم شرعي إلا إذا كان لفظ القرآن يدل على ذلك الحكم أو يمكن استنباطه منه بوجه من وجوه الاستنباطات. واختلف في وصل الرحيم بالحمد فقرأ قوم من الكوفيين بسكون الميم ويقفون عليها ويبتدئون بهمزة مقطوعة والجمهور على جر الميم ووصل الألف من الحمد. وحكى الكسائي عن بعض العرب
129

أنه يقرأ الرحيم الحمد بفتح الميم وصلة الألف كأنك سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت ولم ترو هذه قراءة عن أحد الحمد لله رب العالمين.
* (الحمد) * الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها باللسان وحده ونقيضه الذم وليس مقلوب مدح خلافا لابن الأنباري إذ هما في التصريفات متساويان وإذ قد يتعلق المدح بالجماد فتمدح جوهرة ولا يقال تحمد والحمد والشكر بمعنى واحد أو الحمد أعم والشكر ثناء على الله تعالى بأفعاله والحمد ثناء بأوصافه ثلاثة أقوال أصحها أنه أعم فالحامد قسمان: شاكر ومثن بالصفات.
* (لله) * اللام: للملك وشبهه وللتمليك وشبهه وللاستحقاق وللنسب وللتعليل وللتبليغ وللتعجب وللتبيين وللصيرورة وللظرفية بمعنى في أو عند أو بعد وللإنتهاء وللإستعلاء مثل: ذلك المال لزيد أدوم لك ما تدوم لي ووهبت لك دينارا * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * الجلباب للجارية لزيد عم * (لتحكم بين الناس النساء) * قلت لك ولله عينا من رأى من تفوق * (هيت لك يوسف) * * (ليكون لهم عدوا وحزنا القصص) * * (القسط ليوم القيامة) * كتب لخمس خلون لدلوك الشمس * (سقناه لبلد ميت) * * (يخرون للأذقان الإسراء) *.
* (رب العالمين) * الرب: السيد والمالك والثابت والمعبود والمصلح وزاد بعضهم بمعنى الصاحب مستدلا بقوله:
* فدنا له رب الكلاب بكفه
*
بيض رهاف ريشهن مقزع
*
وبعضهم بمعنى الخالق العالم لا مفرد له كالأنام واشتقاقه من العلم أو العلامة ومدلوله كل ذي روح قاله ابن عباس أو الناس قاله البجلي أو الإنس والجن والملائكة قاله أيضا ابن عباس أو الإنس والجن والملائكة والشياطين قاله أبو عبيدة والفراء أو الثقلان قاله ابن عطية أو بنو آدم قاله أبو معاذ أو أهل الجنة والنار قاله الصادق أو المرتزقون قاله عبد الرحمن بن زيد أو كل مصنوع قاله الحسن وقتادة أو الروحانيون قاله بعضهم ونقل عن المتقدمين أعداد مختلفة في العالمين وفي مقارها الله أعلم بالصحيح.
130

والجمهور قرأوا بضم دال الحمد وأتبع إبراهيم بن أبي عبلة ميمه لام الجر لضمة الدال كما أتبع الحسن وزيد بن علي كسرة الدال لكسرة اللام وهي أغرب لأن فيه اتباع حركة معرب لحركة غير إعراب والأول بالعكس. وفي قراءة الحسن احتمال أن يكون الاتباع في مرفوع أو منصوب ويكون الإعراب إذ ذاك على التقديرين مقدرا منه من ظهوره شغل الكلمة بحركة الاتباع كما في المحكى والمدغم. وقرأ هارون العتكي ورؤبة وسفيان بن عيينة الحمد بالنصب. والحمد مصدر معرف بأل إما للعهد أي الحمد المعروف بينكم لله أو لتعريف الماهية كالدينار خير من الدرهم أي أي: دينار كان فهو خير من أي درهم كان فيستلزم إذ ذاك الأحمدة كلها أو لتعريف الجنس فيدل على استغراق الأحمدة كلها بالمطابقة. والأصل في الحمد لا يجمع لأنه مصدر. وحكى ابن الأعرابي: جمعه على أحمد كأنه راعى فيه جامعه اختلاف الأنواع قال:
* وأبلج محمود الثناء خصصته
*
بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي
*
وقراءة الرفع أمكن في المعنى ولهذا أجمع عليها السبعة لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى فيكون قد أخبر بأن الحمد مستقر لله تعالى أي حمده وحمد غيره. ومعنى اللام في لله الاستحقاق ومن نصب فلا بد من عامل تقديره أحمد الله أو حمدت الله فيتخصص الحمد بتخصيص فاعله وأشعر بالتجدد والحدوث ويكون في حالة النصب من المصادر التي حذفت أفعالها وأقيمت مقامها وذلك في الأخبار نحو شكرا لا كفرا. وقدر بعضهم العامل للنصب فعلا غيره مشتق من الحمد أي أقول الحمد لله أو الزموا الحمد لله كما حذفوه من نحو اللهم ضبعا وذئبا والأول هو الصحيح لدلالة اللفظ عليه. وفي قراءة النصب اللام للتبيين كما قال أعني لله ولا تكون مقوية للتعدية فيكون لله في موضع نصب بالمصدر لامتناع عمله فيه. قالوا سقيا لزيد ولم يقولوا سقيا زيدا فيعملونه فيه فدل على أنه ليس من معمول المصدر بل صار على عامل آخر.
وقرأ زيد بن علي وطائفة * (رب العالمين) * بالنصب على المدح وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها وضعفت إذ ذاك. على أن الأهوازي حكى في قراءة زيد بن علي علي أنه قرأ * (رب العالمين * الرحمن الرحيم) * بنصب الثلاثة فلا ضعف إذ ذاك وإنما تضعف قراءة نصب رب وخفض الصفات بعدها لأنهم نصوا أنه لا اتباع بعد القطع في النعوت لكن تخريجها على أن يكون الرحمن
131

بدلا ولا سيما على مذهب الأعلم إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة وحسن ذلك على مذهب غيره كونه وصفا خاصا وكون البدل على نية تكرار العامل فكأنه مستأنف من جملة أخرى فحسن النصب. وقول من زعم أنه نصب رب بفعل دل عليه الكلام قبله كأنه قيل نحمد الله رب العالمين ضعيف لأنه مراعاة التوهم وهو من خصائص
العطف ولا ينقاس فيه. ومن زعم أنه نصبه على البدل فضعيف للفصل بقوله الرحمن الرحيم ورب مصدر وصف به على أحد وجوه الوصف بالمصدر أو اسم فاعل حذفت ألفة فأصله راب كما قالوا رجل بار وبر وأطلقوا الرب على الله وحده وفي غيره قيد بالإضافة نحو رب الدار. وأل في العالمين للاستغراق وجمع العالم شاذ لأنه اسم جمع وجمعه بالواو والنون أشذ للإخلال ببعض الشروط التي لهذا الجمع والذي أختاره أنه ينطلق على المكلفين لقوله تعالى: * (إن في ذلك * لآيات * للعالمين الروم) * وقراءة حفص بكسر اللام توضح ذلك.
* (الرحمن الرحيم الرحمن الرحيم) * تقدم الكلام عليهما في البسملة وهما مع قوله * (رب العالمين) * صفات مدح لأن ما قبلهما علم لم يعرض في التسمية به اشتراك فيخصص وبدأ أولا بالوصف بالربوبية فإن كان الرب بمعنى السيد أو بمعنى المالك أو بمعنى المعبود كان صفة فعل للموصوف بها التصريف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من الخير والشر فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية لينبسط أمل العبد في العفو إن زل ويقوى رجاؤه إن هفا ولا يصح أن يكون الرب بمعنى الثابت ولا بمعنى الصاحب لامتناع إضافته إلى العالمين وإن كان بمعنى المصلح كان الوصف بالرحمة مشعرا بقلة الإصلاح لأن الحامل للشخص على إصلاح حال الشخص رحمته له. ومضمون الجملة والوصف إن من كان موصوفا بالربوبية والرحمة للمربوبين كان مستحقا للحمد. وخفض الرحمن الرحيم الجمهور ونصبهما أبو العالية وابن السميفع وعيسى بن عمرو ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجوني فالخفض على النعت وقيل في الخفض إنه بدل أو عطف بيان وتقدم شيء من هذا. والنصب والرفع للقطع. وفي تكرار الرحمن الرحيم أن كانت التسمية آية من الفاتحة تنبيه على عظم قدر هاتين الصفتين وتأكيد أمرهما وجعل مكي تكرارها دليلا على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة قال: إذ لو كانت آية لكنا قد أتينا بآيتين متجاورتين بمعنى واحد وهذا لا يوجد إلا بفواصل تفصل بين الأولى والثانية. قال: والفصل بينهما بالحمد لله رب العالمين كلا فصل قال: لأنه مؤخر يراد به التقديم تقديره الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين وإنما قلنا بالتقديم لأن مجاورة الرحمة بالحمد أولى ومجاورة الملك بالملك أولى. قال:
132

والتقديم والتأخير كثير في القرآن وكلام مكي مدخول من غير وجه ولولا جلالة قائلة نزهت كتابي هذا عن ذكره. والترتيب القرآني جاء في غاية الفصاحة لأنه تعالى وصف نفسه بصفة الربوبية وصفة الرحمة ثم ذكر شيئين أحدهما ملكه يوم الجزاء والثاني العبادة. فناسب الربوبية للملك والرحمة العبادة. فكان الأول للأول والثاني للثاني. وقد ذكر المفسرون في علم التفسير الوقف وقد اختلف في أقسامه فقيل تام وكاف وقبيح وغير ذلك. وقد صنف الناس في ذلك كتبا مرتبة على السور ككتاب أبي عمرو الداني وكتاب الكرماني وغيرهما ومن كان عنده حظ في علم العربية استغنى عن ذلك.
* (مالك) * قرأ مالك على وزن فاعل بالخفض عاصم والكسائي وخلف في اختياره ويعقوب وهي قراءة العشرة إلا طلحة والزبير وقراءة كثير من الصحابة منهم: أبي وابن مسعود ومعاذ وابن عباس والتابعين منهم: قتادة و الأعمش. وقرأ ملك على وزن فعل بالخفض باقي السبعة وزيد وأبو الدرداء وابن عمر والمسور وكثير من الصحابة والتابعين. وقرأ ملك على وزن سهل أبو هريرة وعاصم الحجدري ورواها الجعفي
133

وعبد الوارث عن أبي عمرو وهي لغة بكر بن وائل. وقرأ ملكي بإشباع كسرة الكاف أحمد بن صالح عن ورش عن نافع. وقرأ ملك على وزن عجل أبو عثمان النهدي و الشعبي و عطية ونسبها ابن عطية إلى أبي حياة. وقال صاحب اللوامح: قرأ أنس بن مالك وأبو نوفل عمر بن مسلم بن أبي عدي ملك يوم الدين بنصب الكاف من غير ألف وجاء كذلك عن أبي حياة انتهى. وقرأ كذلك إلا أنه رفع الكاف سعد بن أبي وقاص وعائشة ومورق العجلي. وقرأ ملك فعلا ماضيا أبو حياة وأبو حنيفة وجبير بن مطعم وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي وأبو المحشر عاصم بن ميمون الجحدري فينصبون اليوم. وذكر ابن عطية أن هذه قراءة يحيى بن يعمر والحسن وعلي بن أبي طالب. وقرأ مالك بنصب الكاف الأعمش وابن السميفع و عثمان بن أبي سليمان وعبد الملك قاضي الهند. وذكر ابن عطية أنها قراءة عمر بن عبد العزيز وأبي صالح السمان وأبي عبد الملك الشامي. وروى ابن أبي عاصم عن اليمان ملكا بالنصب والتنوين. وقرأ مالك برفع الكاف والتنوين عون العقيلي ورويت عن خلف بن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم وبنصب اليوم. وقرأ مالك يوم بالرفع والإضافة أبو هريرة وأبو حياة وعمر بن عبد العزيز بخلاف عنه ونسبها صاحب اللوامح إلى أبي روح عون بن أبي شداد
134

العقيلي ساكن البصرة. وقرأ مليك على وزن فعيل أبي وأبو هريرة وأبو رجاء العطاردي. وقرأ مالك بالإمالة البليغة يحيى بن يعمر وأيوب السختياني وبين بين قتيبة بن مهران عن الكسائي. وجهل النقل أعني في قراءة الإمالة أبو علي الفارسي فقال: لم يمل أحد من القراء ألف مالك وذلك جائز إلا أنه لا يقرأ بما يجوز إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض. وذكر أيضا أنه قرىء في الشاذ ملاك بالألف والتشديد للام وكسر الكاف. فهذه ثلاث عشرة قراءة بعضها راجع إلى الملك وبعضها إلى الملك قال اللغويون: وهما راجعان إلى الملك وهو الربط ومنه ملك العجين. وقال قيس بن الخطيم:
* ملكت بها كفى فانهرت فتقها
*
يرى قائما من دونها ما وراءها
*
والأملاك ربط عقد النكاح ومن ملح هذه المادة أن جميع تقاليبها الستة مستعملة في اللسان وكلها راجع إلى معنى القوة والشدة فبينها كلها قدر مشترك وهذا يسمى بالإشتقاق الأكبر ولم يذهب إليه غير أبي الفتح. وكان أبو علي الفارسي يأنس به في بعض المواضع وتلك التقاليب: ملك مكل كمكل لكم كمل كملم. وزعم الفخر الرازي أن
تقليب كمكل مهمل وليس بصحيح بل هو مستعمل بدليل ما أنشد الفراء من قول الشاعر:
135

* فلما رآني قد حممت ارتحاله
*
تملك لو يجدي عليه التلمك
*
والملك هو القهر والتسليط على من تتأتى منه الطاعة ويكون ذلك باستحقاق وبغير استحقاق. والملك هو القهر على من تتأتى منه الطاعة ومن لا تتأتى منه ويكون ذلك منه باستحقاق فبينهما عموم وخصوص من وجه. وقال الأخفش: يقال ملك من الملك بضم الميم ومالك من الملك بكسر الميم وفتحها وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى. وروي عن بعض البغداديين لي في هذا الوادي ملك وملك بمعنى واحد.
* (يوم) * اليوم هو المدة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ويطلق على مطلق الوقت وتركيبه غريب أعني وجود مادة تكون فاء الكلمة فيها ياء وعينها واوا لم يأت من ذلك سوى يوم وتصاريفه ويوح اسم للشمس وبعضهم زعم أنه بوج بالباء والمعجمة بواحدة من أسفل. * (الدين) * الجزاء دناهم كما دانوا قاله قتادة والحساب * (ذلك الدين القيم الروم) * قاله ابن عباس والقضاء * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله النور) * والطاعة في دين عمرو وحالت بيننا وبينك فدك قاله أبو الفضل والعادة كدينك من أم الحويرث قبلها من معلقة امرئ القيس وكنى بها هنا عن العمل قاله الفراء والملة * (ورضيت لكم الإسلام دينا المائدة) * * (إن الدين عند الله الإسلام آل عمران) * والقهر ومنه المدين للعبد والمدينة للأمة قاله يمان بن رئاب. وقال أبو عمرو الزاهد: وإن أطاع وعصى وذل وعز وقهر وجار وملك. وحكى أهل اللغة: دنته بفعله دينا بفتح الدال وكسرها جازيته. وقيل: الدين المصدر والدين بالكسر الاسم والدين السياسة والديان السايس. قال ذو الإصبع عنه: ولا أنت دياني فتخزوني والدين الحال. قال النضر بن شميل: سألت أعرابيا عن شيء فقال: لو لقيتني على دين غير هذا لأخبرتك والدين الداء عن اللحياني وأنشد: يا دين قلبك من سلمى وقد دينا.
ومن قرأ بجر الكاف فعلى معنى الصفة فإن كان بلفظ ملك على فعل بكسر العين أو إسكانها أو مليك بمعناه فظاهر لأنه وصف معرفة بمعرفة وإن كان بلفظ مالك أو ملاك أو مليك محولين من مالك للمبالغة بالمعرفة ويدل عليه قراءة من قرأ ملك يوم الدين فعلا ماضيا وإن كان بمعنى الاستقبال وهو الظاهر لأن اليوم لم يوجد فهو مشكل لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فإنه تكون إضافته غير محضة فلا يتعرف بالإضافة وإن أضيف إلى معرفة فلا يكون إذ ذاك صفة لأن المعرفة لا توصف بالنكرة ولا بدل نكرة من معرفة لأن البدل بالصفات ضعيف.
136

وحل هذا الإشكال هو أن اسم الفاعل إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال جاز فيه وجهان: أحدهما ما قدمناه من أنه لا يتعرف بما أضيف إليه إذ يكون منويا فيه الانفصال من الإضافة ولأنه عمل النصب لفظا. الثاني: أن يتعرف به إذا كان معرفة فيلحظ فيه أن الموصوف صار معروفا بهذا الوصف وكان تقييده بالزمان غير معتبر وهذا الوجه غريب النقل لا يعرفه إلا من له اطلاع على كتاب سيبويه وتنقيب عن لطائفه. قال سيبويه رحمه الله تعالى وزعم يونس والخليل أن الصفات المضافة التي صارت صفة للنكرة قد يجوز فيهن كلهن أن يكن معرفة وذلك معروف في كلام العرب انتهى. واستثنى من ذلك باب الصفة المشبهة فقط فإنه لا يتعرف بالإضافة نحو حسن الوجه. ومن رفع الكاف ونون أو لم ينون فعلى القطع إلى الرفع. ومن نصب فعلى القطع إلى النصب أو على النداء والقطع أغرب لتناسق الصفات إذ لم يخرج بالقطع عنها. ومن قرأ ملك فعلا ماضيا فجملة خبرية لا موضع لها من الإعراب ومن أشبع كسرة الكاف فقد قرأ بنادر أو بما ذكر أنه لا يجوز إلا في الشعر وإضافة الملك أو الملك إلى يوم الدين إنما هو من باب الاتساع إذ متعلقهما غير اليوم. والإضافة على معنى اللام لا على معنى في خلافا لمن أثبت الإضافة بمعنى في ويبحث في تقرير هذا في النحو وإذا كان من الملك كان من باب.
137

طباخ ساعات الكرى زاد الكسل.
وظاهر اللغة تغاير الملك والمالك كما تقدم وقيل هما بمعنى واحد كالفره والفارة فإذا قلنا بالتغاير فقيل مالك أمدح لحسن إضافته إلى من لا تحسن إضافة الملك إليه نحو مالك الجن والإنس والملائكة والطير فهو أوسع لشمول العقلاء وغيرهم قال الشاعر:
* سبحان من عنت الوجوه لوجهه
*
ملك الملوك ومالك العفر
*
قاله الأخفش ولا يقال هنا ملك ولقولهم مالك الشيء لمن يملكه وقد يكون ملكا لا مالكا نحو ملك العرب والعجم قاله أبو حاتم ولزيادته في البناء والعرب تعظم بالزيادة في البناء وللزيادة في أجزاء الثاني لزيادة الحروف ولكثرة من عليها من القراء ولتمكن التصرف ببيع وهبة وتمليك ولإبقاء الملك في يد المالك إذا تصرف بجور أو اعتداء أو سرف ولتعينه في يوم القيامة ولعدم قدرة المملوك على انتزاعه من الملك ولكثرة رجائه في سيده بطلب ما يحتاج إليه ولوجوب خدمته عليه ولأن المالك يطمع فيه والملك يطمع فيك ولأن له رأفة ورحمة والملك له هيبة وسياسة. وقيل ملك أمدح وأليق إن لم يوصف به الله تعالى لإشعاره بالكثرة ولتمدحه بمالك الملك ولم يقل مالك الملك
ولتوافق الابتداء والاختتام في قوله * (ملك الناس) * والاختتام لا يكون إلا بأشرف الأسماء ولدخول المالك تحت حكم الملك ولوصف نفسه بالملك في مواضع ولعموم تصرفه فيمن حوته مملكته وقصر المالك على ملكه قاله أبو عبيدة ولعدم احتياج الملك إلى الإضافة أو مالك لا بد له من الإضافة إلى مملوك ولكنه أعظم الناس فكان أشرف من المالك.
قال أبو علي: حكى ابن السراج عمن اختار قراءة ملك كل شيء بقوله * (رب العالمين) * فقراءة مالك تقرير قال أبو علي ولا حجة في هذا لأن في التنزيل تقدم العام ثم ذكر الخاص منه * (الخالق البارىء المصور الحشر) * فالخالق يعم وذكر المصور لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة ومنه * (وبالأخرة هم يوقنون البقرة) * بعد قوله * (الذين يؤمنون بالغيب البقرة) * وإنما كررها تعظيما لها وتنبيها على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الملحدين ومنه الرحمن الرحيم ذكر الرحمن الذي هو عام وذكر الرحيم بعده لتخصيص الرحمة بالمؤمنين في قوله * (وكان بالمؤمنين
138

رحيما الأحزاب) * انتهى. وقال ابن عطية: وأيضا فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله:
ومن قبل ربيتني فصفت ربوب
وغير ذلك من الشواهد فتنعكس الحجة على من قرأ ملك. والمراد باليوم الذي أضيف إليه مالك أو ملك زمان ممتد إلى أن ينقضي الحساب ويستقر أهل الجنة فيها وأهل النار فيها ومتعلق المضاف إليه في الحقيقة هو الأمر كأنه قال مالك أو ملك الأمر في يوم الدين. لكنه لما كان اليوم ظرفا للأمر جاز أن يتسع فيتسلط عليه الملك أو المالك لأن الاستيلاء على الظرف استيلاء على المظروف. وفائدة تخصيص هذه الإضافة وإن كان الله تعالى مالك الأزمنة كلها والأمكنة ومن حلها والملك فيها التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه من الأمور العظام والأهوال الجسام من قيامهم فيه لله تعالى والاستشفاع لتعجيل الحساب والفصل بين المحسن والمسيء واستقرارهما فيما وعدهما الله تعالى به أو على أنه يوم يرجع فيه إلى الله جميع ما ملكه لعباده وخولهم فيه ويزول فيه ملك كل مالك قال تعالى: * (وكلهم * آتيه * يوم القيامة فردا مريم) * * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة الكهف) *. قال ابن السراج: إن معنى * (مالك يوم الدين) * إنه يملك مجيئه ووقوعه فالإضافة إلى اليوم على قوله إضافة إلى المفعول به على الحقيقة وليس ظرفا اتسع فيه وما فسر به الدين من المعاني يصح إضافة اليوم إليه إلى معنى كل منها إلا الملة قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة وابن جريج وغيرهم: يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال والحساب. قال أبو علي: ويدل على ذلك * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * غافر واليوم تجزون ما كنتم تعملون) *. وقال مجاهد: يوم الدين يوم الحساب مدينين محاسبين وفي قوله: * (مالك يوم الدين) * دلالة على إثبات المعاد والحشر والحساب ولما اتصف تعالى بالرحمة انبسط العبد وغلب عليه الرجاء فنبه بصفة الملك أو المالك ليكون من عمله على وجل وأن لعمله يوما تظهر له فيه ثمرته من خير وشر إياك نعبد وإياك نسعتين.
* (إياك) * إيا تلحقه ياء المتكلم وكاف المخاطب وهاء الغائب وفروعها فيكون ضمير نصب منفصلا لا اسما ظاهرا أضيف خلافا لزاعمه وهل الضمير هو مع لواحقه أو هو وحده؟ واللواحق حروف أو هو واللواحق أسماء أضيف هو إليها أو اللواحق وحدها وإيا زائدة لتتصل بها الضمائر أقوال ذكرت في النحو. وأما لغاته فبكسر الهمزة وتشديد الياء وبها
139

قرأ الجمهور وبفتح الهمزة وتشديد الياء وبها قرأ الفضل الرقاشي وبكسر الهمزة وتخفيف الياء وبها قرأ عمرو بن فائد عن أبي وبإبدال الهمزة المكسورة هاء وبإبدال الهمزة المفتوحة هاء وبذلك قرأ ابن السوار الغنوي وذهاب أبي عبيدة إلى أن إيا مشتق ضعيف وكان أبو عبيدة لا يحسن النحو وإن كان إماما في اللغات وأيام العرب. وإذا قيل بالاشتقاق فاشتقاقه من لفظ أو من قوله:
فإو لذكراها إذلا ما ذكرتها
فتكون من باب قوة أو من الآية فتكون عينها ياء كقوله:
لم يبق هذا الدهر من إيائه
قولان وهل وزنه إفعل وأصله إ أو وأو إ أو ي أو فعيل فأصله إويو أو إويي أو فعول وأصله إووو أو اويي أو فعلى فأصله أووى أواويا أقاويل كلها ضعيفة والكلام على تصاريفها حتى صارت إيا تذكر في علم النحو وإضافة إيا الظاهر نادر نحو: وإيا الشواب أو ضرورة نحو: دعني وإيا خالد واستعماله تحذيرا معروف فيتحمل ضميرا مرفوعا يجوز أن يتبع بالرفع نحو: إياك أنت نفسك.
* (نعبد) * العبادة: التذلل قاله الجمهور أو التجريد قاله ابن السكيت وتعديه بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف نحو: عبدت الرجل ذللته وعبدت الله ذللت له. وقرأ الحسن وأبو مجلز وأبو المتوكل: إياك يعبد بالياء مبنيا للمفعول وعن بعض أهل مكة نعبد بإسكان الدال. وقرأ زيد بن علي ويحيى بن وثاب و عبيد بن عمير الليثي: نعبد بكسر النون.
* (نستعين) * الاستعانة طلب العون والطلب أحد معاني استفعل وهي اثنا عشر معنى وهي: الطلب والاتحاد والتحول وإلقاء الشيء بمعنى ما صيغ منه وعده كذلك ومطاوعة افعل وموافقته وموافقة تفعل وافتعل والفعل المجرد والاغناء عنه وعن فعل مثل ذلك استطعم واستعبده واستنسر واستعظمه واستحسنه وإن لم يكن كذلك واستشلى مطاوع اشلى واستبل موافق مطاوع إبل واستكبر موافق تكبر
140

واستعصم موافق اعتصم واستغنى موافق عني واستنكف واستحيا مغنيان عن المجرد واسترجع واستعان حلق عانته مغنيان عن فعل فاستعان طلب العون كاستغفر واستعظم. وقال صاحب اللوامح: وقد جاء فيه وياك أبدل الهمزة واوا فلا أدري أذلك عن الفراء أم عن العرب وهذا على العكس مما فروا إليه في نحو أشاح فيمن همز لأنهم فروا
من الواو المكسورة إلى الهمزة واستثقالا للكسرة على الواو. وفي وياك فروا من الهمزة إلى الواو وعلى لغة من يستثقل الهمزة جملة لما فيها من شبه التهوع وبكون استفعل أيضا لموافقة تفاعل وفعل. حكى أبو الحسن بن سيده في المحكم: تماسكت بالشيء ومسكت به واستمسك به بمعنى واحد أي احتبست به قال ويقال: مسكت بالشيء وأمسكت وتمسكت احتبست انتهى. فتكون معاني استفعل حينئذ أربعة عشر لزيادة موافقة تفاعل وتفعل. وفتح نون نستعين قرأ بها الجمهور وهي لغة الحجاز وهي الفصحى. وقرأ عبيد بن عمير الليثي وزر بن حبيش ويحيى بن وثاب و النخعي و الأعمش بكسرها وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وكذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه. وقال أبو جعفر الطوسي: هي لغة هذيل وانقلاب الواو ألفا في استعان ومستعان وياء في نستعين ومستعين والحذف في الاستعانة مذكور في علم التصريف ويعدى استعان بنفسه وبالباء. إياك مفعول مقدم و الزمخشري يزعم أنه لا يقدم على العامل إلا للتخصيص فكأنه قال: ما نعبد إلا إياك وقد تقدم الرد عليه في تقديره بسم الله أتلو وذكرنا نص سيبويه هناك. فالتقديم عندنا إنما هو للاعتناء والاهتمام بالمفعول. وسب أعرابي آخر فأعرض عنه وقال: إياك أعني فقال له: وعنك أعرض فقدما الأهم وإياك التفات لأنه انتقال من الغيبة إذ لو جرى على نسق واحد لكان إياه. والانتقال من فنون البلاغة وهو الانتقال من الغيبة للخطاب أو التكلم ومن الخطاب للغيبة أو التكلم ومن التكلم للغيبة أو الخطاب. والغيبة تارة تكون بالظاهر وتارة بالمضمر وشرطه أن يكون المدلول واحدا. ألا ترى أن المخاطب بإياك هو الله تعالى؟ وقالوا فائدة هذا الالتفات إظهار الملكة في الكلام والاقتدار على التصرف فيه. وقد ذكر بعضهم مزيدا على هذا وهو إظهار فائدة تخص كل موضع موضع ونتكلم على ذلك حيث يقع لنا منه شيء وفائدته في إياك نعبد أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية والرحمة والملك والملك لليوم المذكور أقبل الحامد مخبرا بأثر ذكره الحمد المستقر له منه ومن غيره أنه وغيره يعبده ويخضع له. وكذلك أتى بالنون التي تكون له ولغيره فكما أن الحمد يستغرق الحامدين كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره. ونظير هذا أنك تذكر شخصا متصفا بأوصاف جليلة مخبرا عنه أخبار الغائب ويكون ذلك الشخص حاضرا معك فتقول له: إياك أقصد فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ إياه ولأنه ذكر ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا. ومن ذهب إلى أن ملك منادى فلا يكون إياك التفاتا لأنه خطاب بعد خطاب وإن كان يجوز بعد النداء الغيبة كما قال:
* يا دار مية بالعلياء فالسند
*
أقوت وطال عليها سالف الأبد
*
ومن الخطاب بعد النداء:
141

* ألا يا اسلمى يا دار مي على البلى
*
ولا زال منها بجرعائك القطر
*
ودعوى الزمخشري في أبيات امرئ القيس الثلاثة أن فيها ثلاثة التفاتات غير صحيح بل هما التفاتان:
الأول: خروج من الخطاب المفتتح به في قوله:
* تطاول ليلك بالإثمد
*
ونام الخلي ولم ترقد
*
إلى الغيبة في قوله:
* وبات وباتت له ليلة
*
كليلة ذي العائر الأرمد
*
الثاني: خروج من هذه الغيبة إلى المتكلم في قوله: وذلك من نبأ جاءني. وخبرته عن أبي الأسود وتأويل كلامه أنها ثلاث خطأ وتعيين. إن الأول هو الانتقال من الغيبة إلى الحضور أشد خطأ لأن هذا الالتفات هو من عوارض الألفاظ لا من التقادير المعنوية وإضمار قولوا قبل الحمد لله وإضمارها أيضا قبل إياك لا يكون معه التفات وهو قول مرجوح. وقد عقد أرباب علم البديع للالتفات في كلامهم ومن أجلهم كلاما فيه ابن الأثير الجزري رحمه الله تعالى. وقراءة من قرأ إياك يعبد بالياء مبنيا للمفعول مشكلة لأن إياك ضمير نصب ولا ناصب له وتوجيهها إن فيها استعارة والتفاتا فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضمير المرفوع فكأنه قال أنت ثم التفت فأخبر
عنه أخبار الغائب لما كان إياك هو الغائب من حيث المعنى فقال يعبد وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة وهو ينظر إلى قول الشاعر:
* أأنت الهلالي الذي كنت مرة
*
سمعنا به والأرحبي المغلب
*
وإلى قول أبي كثير الهذلي:
* يا لهف نفسي كان جلدة خالد
*
وبياض وجهك للتراب الأعفر
*
وفسرت العبادة في إياك نعبد بأنها التذلل والخضوع وهو أصل موضوع اللغة أو الطاعة كقوله تعالى: * (لا تعبد الشيطان مريم) * أو التقرب بالطاعة أو الدعاء أن الذين يستكبرون عن عبادتي غافر أي عن دعائي أو التوحيد إلا ليعبدون الذاريات أي ليوحدون وكلها متقاربة المعنى. وقرنت الاستعانة بالعبادة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى وبين ما يطلبه من جهته. وقدمت العبادة على الاستعانة لتقديم
142

الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الإجابة ليها وأطلق العبادة والاستعانة ليتناول كل معبود به وكل مستعان عليه. وكرر إياك ليكون كل من العبادة والاستعانة سيقا في جملتين وكل منهما مقصودة وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف لو كان إياك نعبد ونستعين فإنه كان يحتمل أن يكون إخبارا بطلب العون أي وليطلب العون من غير أن يعين ممن يطلب..
ونقل عن المنتمين للصلاح تقييدات مختلفة في العبادة والاستعانة كقول بعضهم: إياك نعبد بالعلم وإياك نستعين عليه بالمعرفة وليس في اللفظ ما يدل على ذلك. وفي قوله: نعبد قالوا رد على الجبرية وفي نستعين رد على القدرية ومقام العبادة شريف وقد جاء الأمر به في مواضع قال تعالى: * (واعبد ربك الحجر) * * (اعبدوا ربكم البقرة) * والكناية به عن أشرف المخلوقين صلى الله عليه وسلم). قال تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده الإسراء) * * (وما أنزلنا على عبدنا الأنفال) * وقال تعالى حكاية عن عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام قال: * (إني عبد الله مريم) * وقال تعالى وتقدس: * (لا إله إلا أنا فاعبدني طه) * فذكر العبادة عقيب التوحيد لأن التوحيد هو الأصل والعبادة فرعه. وقالوا في قوله: إياك. رد على الدهرية والمعطلة والمنكرين لوجود الصانع فإنه خطاب لموجود حاضر اهدنا الصراط المستقيم.
* (اهدنا) * الهداية: الإرشاد والدلالة والتقدم ومنه الهوادي أو التبيين * (وأما ثمود فهديناهم فصلت) * أو الإلهام * (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى طه) * قال المفسرون: معناه ألهم الحيوانات كلها إلى منافقها أو الدعاء ولكل قوم هاد الرعد أي داع والأصل في هدي أن يصل إلى تأتي معمولة باللام * (يهدى للتي هو أقوم الإسراء) * أو إلى * (لتهدى إلى صراط مستقيم) * ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه ومنه * (اهدنا الصراط) * ونا ضمير المتكلم ومعه غيره أو معظم نفسه. ويكون في موضع رفع ونصب وجر.
* (الصراط) * الطريق وأصله بالسين من السرط وهو الفم ومنه سمي الطريق لقما وبالسين على الأصل قرأ قنبل ورويس وإبدال سينه صادا هي الفصحى وهي لغة قريش وبها قرأ الجمهور وبها كتبت في الإمام وزايا لغة رواها الأصمعي عن أبي عمرو وأشمامها زايا لغة قيس وبه قرأ حمزة بخلاف وتفصيل عن رواته وقال أبو يعلى: وروي عن أبي عمرو والسين والصاد والمضارعة بين الزاي والصاد ورواه عنه العريان عن أبي سفيان وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة. قال بعض اللغويين: ما حكاه الأصمعي في هذه القراءة خطأ منه إنما سمع أبا عمرو يقرؤها بالمضارعة فتوهمها زايا ولم يكن الأصمعي نحويا فيؤمن على هذا. وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد وقال أبو جعفر الطوسي في تفسيره وهو إمام من أئمة الإمامية: الصراط
143

بالصاد لغة قريش وهي اللغة الجيدة وعامة العرب يجعلونها سينا والزاي لغة لعذرة وكعب وبني القين. وقال أبو بكر بن مجاهد وهذه القراءة تشير إلى أن قراءة من قرأ بين الزاي والصاد تكلف حرف بين حرفين وذلك صعب على اللسان وليس بحرف ينبني عليه الكلام ولا هو من حروف المعجم. ولست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب إلا أن الصاد أفصح وأوسع ويذكر ويؤنث وتذكيره أكثر. وقال أبو جعفر الطوسي: أهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق وبنو تميم يذكرون هذا كله ويجمع في الكثرة على سرط نحو كتاب وكتب وفي القلة قياسه أسرطه نحو حمار وأحمره هذا إذا كان الصراط مذكرا وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع وشمال وأشمل. وقرأ زيد بن علي و الضحاك و نصر بن علي عن الحسن: اهدنا صراطا مستقيما بالتنوين من غير لام التعريف كقوله: * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم * صراط الله) *. * (المستقيم) * استقام: استفعل بمعنى الفعل المجرد من الزوائد وهذا أحد معاني استفعل وهو أن يكون بمعنى الفعل المجرد وهو قام والقيام هو الانتصاب والاستواء من غير اعوجاج.
* (صراط الذين) * اسم موصول والأفصح كونه بالياء في أحواله الثلاثة وبعض العرب يجعله بالواو في حالة الرفع واستعماله بحذف النون جائز وخص بعضهم ذلك
بالضرورة إلا أن كان لغير تخصيص فيجوز في غيرها وسمع حذف أل منه فقالوا: الذين وفيما تعرف به خلاف ذكر في النحو ويخص العقلاء بخلاف الذي فإنه ينطلق على ذي العلم وغيره.
* (أنعمت) * النعمة: لين العيش وخفضه ولذلك قيل للجنوب النعامي للين هبوبها وسميت النعامة للين سهمها: نعم إذا كان في نعمة وأنعمت عينه أي سررتها وأنعم عليه بالغ في التفضيل عليه أي والهمزة في أنعم بجعل الشيء صاحب ما صيغ منه إلا أنه ضمن معنى التفضل فعدى بعلى وأصله التعدية بنفسه. أنعمته أي جعلته صاحب نعمة وهذا أحد المعاني التي لأفعل وهي أربعة وعشرون معنى هذا أحدها. والتعدية والكثرة والصيرورة والإغاثة والتعريض والسلب وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه وبلوغ عدد أو زمان أو مكان وموافقة ثلاثي وإغناء عنه ومطاوعة فعل وفعل والهجوم ونفي الغريزة والتسمية والدعاء والاستحقاق والوصول والاستقبال والمجيء بالشيء والتفرقة مثل ذلك أدنيته وأعجبني المكان وأغد البعير وأحليت فلانا وأقبلت فلانا واشتكيت الرجل وأحمدت فلانا وأعشرت الدراهم وأصبحنا وأشأم القوم وأحزنه بمعنى حزنه وأرقل وأقشع السحاب مطاوع قشع الريح السحاب وأفطر مطاوع فطرته وأطلعت عليهم وأستريح وأخطيته سميته مخطئا وأسقيته وأحصد الزرع وأغفلته وصلت غفلتي اليه وأففته استقبلته بأف هكذا مثل هذا. وذكر بعضهم أن أفعل فعل ومثل الاستقبال أيضا بقولهم: أسقيته أي استقبلته بقولك سقيا لك وكثرت جئت بالكثير وأشرقت الشمس أضاءت وشرقت طلعت. التاء المتصلة بأنعم ضمير المخاطب المذكر المفرد وهي حرف في أنت والضميران فهو مركب.
* (عليهم) * على:
144

حرف جر عند الأكثرين إلا إذا جرت بمن أو كانت في نحو هون عليك. ومذهب سيبويه أنها إذا جرت اسم ظرف ولذلك لم يعدها في حروف الجر ووافقه جماعة من متأخري أصحابنا ومعناها الاستعلاء حقيقة أو مجازا وزيد أن تكون بمعنى عن وبمعنى الباء وبمعنى في وللمصاحبة وللتعليل وبمعنى من وزائدة مثل ذلك * (كل من عليها فان الرحمن) * * (فضلنا بعضهم على بعض البقرة) * بعد على كذا حقيق علي أن لا أقول على الأعراف على ملك سليمان * (البقرة وأتى المال على حبه البقرة) * * (ولتكبروا الله على ما هداكم البقرة) * * (حافظون * إلا على أزواجهم المعارج) *.
* أبى الله إلا أن سرحة مالك
*
على كل أفنان العضاه تروق
*
أي تروق كل أفنان العضاة. هم ضمير جمع غائب مذكر عاقل ويكون في موضع رفع ونصب وجر. وحكى اللغويون في عليهم عشر لغات ضم الهاء وإسكان الميم وهي قراة حمزة. وكسرها وإسكان الميم وهي قراءة الجمهور. وكسر الهاء والميم وياء بعدها وهي قراءة الحسن. وزاد ابن مجاهد أنها قراءة عمر بن فائد وكذلك بغير ياء وهي قراءة عمرو بن فائد. وكسر الهاء وضم الميم وواو بعدها وهي قراءة ابن كثير و قالون بخلاف عنه. وكسر الهاء وضم الميم بغير واو وضم الهاء والميم وواو بعدها وهي قراءة الأعرج و الخفاف
145

عن أبي عمرو. وكذلك بدون واو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها. كذلك بغير ياء. وقرئ بهما وتوضيح هذه القراءات بالخط والشكل: عليهم عليهم عليهموا عليهم عليهمي عليهم عليهم عليهمي عليهم عليهموا. وملخصها ضم الهاء مع سكون الميم أو ضمها بإشباع أو دونه أو كسرها بإشباع أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم أو كسرها بإشباع أو دونه أو ضمها بإشباع أو دونه وتوجيه هذه القراءات ذكر في النحو. اهدنا صورته صورة الأمر ومعناه الطلب والرغبة وقد ذكر الأصوليون لنحو هذه الصيغة خمسة عشر محملا وأصل هذه الصيغة أن تدل على الطلب لا على فور ولا تكرار ولا تحتم وهل معنى اهدنا ارشدنا أو وفقنا أو قدمنا أو ألهمنا أو بين لنا أو ثبتنا؟ أقوال أكثرها عن ابن عباس وآخرها عن علي وأبي. وقرأ ثابت البناني بصرنا الصراط ومعنى الصراط القرآن قاله علي وابن عباس: وذكر المهدوي أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه فسره بكتاب الله أو الإيمان وتوابعه أو الإسلام وشرائعه أو السبيل المعتدل أو طريق النبي صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر وعمر قاله أبو العالية و الحسن أو طريق الحج قاله فضيل بن عياض أو السنن قاله عثمان أو طريق الجنة قاله سعيد بن جبير أو طريق السنة والجماعة قاله القشيري أو طريق الخوف والرجاء قاله الترمذي أو جسر جهنم قاله عمرو بن عبيد.
وروي عن المتصوفة في قوله تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) * أقوال منها: قول بعضهم: * (اهدنا الصراط المستقيم) * بالغيبوبة عن الصراط لئلا يكون مربوطا بالصراط وقول الجنيد أن سؤال الهداية عند
146

الحيرة من أشهار الصفات الأزلية فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية لئلا يستغرقوا في الصفات الأزلية. وهذه الأقوال ينبو عنها اللفظ ولهم فيما يذكرون ذوق وإدراك لم نصل نحن إليه بعد. وقد شحنت التفاسير بأقوالهم ونحن نلم بشيء منها لئلا يظن أنا إنما تركنا ذكرها لكوننا لم نطلع عليها. وقد رد الفخر الرازي على من قال إن الصراط المستقيم هو القرآن أو الإسلام وشرائعه قال: لأن المراد صراط الذين أنعمت عليهم من المتقدمين ولم يكن لهم القرآن ولا الإسلام يعني بالإسلام هذه الملة الإسلامية المختصة بتكاليف لم تكن تقدمتها وهذه الرد لا يتأتى له إلا إذا صح أن الذين أنعم الله عليهم هم متقدمون وستأتي الأقاويل في تفسير الذين أنعم الله عليهم واتصال نا باهد مناسب لنعبد ونستعين لأنه لما أخبر المتكلم أنه هو ومن معه يعبدون الله ويستعينونه سأل له ولهم الهداية إلى الطريق الواضح لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة. ألا ترى أن من لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصح له بلوغ مقصوده؟ وقرأ الحسن والضحاك: صراطا مستقيما دون تعريف. وقرأ جعفر الصادق: صراط
مستقيم بالإضافة أي الدين المستقيم. فعلى قراءة الحسن و الضحاك يكون صراط الذين بدل معرفة من نكره كقوله تعالى: * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم * صراط الله الشورى) * وعلى قراءة الصادق وقراءآت الجمهور تكون بدل معرفة من معرفة صراط الذين بدل شيء من شيء وهما بعين واحدة وجئ بها للبيان لأنه لما ذكر قبل * (اهدنا الصراط المستقيم) * كان فيه بعض إبهام فعينه بقوله: * (صراط الذين) * ليكون المسؤول الهداية إليه قد جرى ذكره مرتين وصار بذلك البدل فيه حوالة على طريق من أنعم الله عليهم فيكون ذلك أثبت وأوكد وهذه هي فائدة نحو هذا البدل ولأنه على تكرار العامل فيصير في التقدير جملتين ولا يخفى ما في الجملتين من التأكيد فكأنهم كرروا طلب الهداية.
ومن غريب النقول أن الصراط الثاني ليس الأول بل هو غيره وكأنه قرىء فيه حرف العطف وفي تعيين ذلك اختلاف. قيل هو العلم بالله والفهم عنه قاله جعفر بن محمد وقيل التزام الفرائض واتباع السنن وقيل هو موافقه الباطن للظاهر في إسباغ النعمة. قال تعالى: * (وأسبغ عليكم * نعمت * ظاهرة وباطنة لقمان) * وقرأ: صراط من أنعمت عليهم ابن مسعود و عمر و ابن الزبير وزيد بن علي. والمنعم عليهم هنا الأنبياء أو الملائكة أو أمة موسى وعيسى الذين لم يغيروا أو النبي صلى الله عليه وسلم) أو النبيون والصديقون والشهداء والصالحون أو المؤمنون قاله ابن عباس. أو الأنبياء والمؤمنون أو المسلمون قاله وكيع أقوال وعزا كثيرا منها إلى قائلها ابن عطية فقال: قال ابن عباس: والجمهور أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين انتزعوا ذلك من آية النساء. وقال ابن عباس أيضا: هم المؤمنون. وقال الحسن: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم). وقالت فرقة: مؤمنو بني إسرائيل. وقال ابن عباس: أصحاب موسى قبل أن يبدلوا. وقال قتادة: الأنبياء خاصة. وقال أبو العالية: محمد صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمر انتهى. ملخصا ولم يقيد الأنعام ليعم جميع الأنعام أعني عوم البدل. وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة وقيل بأن نجاهم من الهلكة وقيل بالهداية واتباع
147

الرسول وروي عن المتصوفة تقييدات كثيرة غير هذه وليس في اللفظ ما يدل على تعيين قيد. واختلف هل لله نعمة على الكافر؟ فأثبتها المعتزلة ونفاها غيرهم. وموضع عليهم نصب وكذا كل حرف جر تعلق بفعل أو ما جرى مجراه غير مبني للمفعول. وبناء أنعمت للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية وتحصيلها أي طلبنا منك الهداية إذ سبق إنعامك فمن إنعامك إجابة سؤالنا ورغبتنا كمثل أن تسأل من شخص قضاء حاجة وتذكره بأن من عادته الإحسان بقضاء الحوائج فيكون ذلك آكد في اقتضائها وأدعى إلى قضائها. وانقلاب الفاعل مع المضمر هي اللغة الشهري ويجوز إقرارها معه على لغة ومضمون هذه الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم الله عليهم لأن من صدر منه حمد الله وأخبر بأنه يعبده ويستعينه فقد حصلت له الهداية لكن يسأل دوامها واستمرارها.
* (غير) * مفرد مذكر دائما وإذا أريد به المؤنث جاز تذكير الفعل حملا على اللفظ وتأنيثه حملا على المعنى ومدلوله المخالفة بوجه ما وأصله الوصف ويستثنى به ويلزم الإضافة لفظا أو معنى وإدخال أل عليه خطأ ولا يتعرف وإن أضيف إلى معرفة. ومذهب ابن السراج أنه إذا كان المغاير واحدا تعرف بإضافته إليه وتقدم عن سيبويه أن كل ما إضافته غير محضة قد يقصد بها التعريف فتصير محضة فتتعرف إذ ذاك غير بما تضاف إليه إذا كان معرفة وتقرير هذا كله في كتب النحو. وزعم البيانيون أن غير أو مثلا في باب الإسناد إليهما مما يكاد يلزم تقديمه قالوا نحو قولك غيرك يخشى ظلمه ومثلك يكون للمكرمات ونحو ذلك مما لا يقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الصفة كان من مقتضى القياس وموجب العرف أن يفعل ما ذكر وقوله:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
غرضه أنه ليس ممن ينخدع ويغتر وهذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما نحو: يكون للمكرمات مثلك وينخدع بأكثر هذا الناس غيري فأنت ترى الكلام مقلوبا على جهته.
* (المغضوب عليهم) * الغضب: تغير الطبع لمكروه وقد يطلق على الإعراض لأنه من ثمرته. لا حرف يكون للنفي وللطلب وزائدا ولا يكون اسما خلافا للكوفيين. * (ولا الضالين) * والضلال: الهلاك والخفاء ضل اللبن في الماء وقيل أصله الغيبوبة في كتاب لا يضل ربي طه وضللت الشيء جهلت المكان الذي وضعته فيه وأضللت الشيء ضيعته وأضل أعمالهم محمد وضل غفل ونسي وأنا من الضالين الشعراء * (أن تضل إحداهما البقرة) * والضلال سلوك سبيل غير القصد ضل عن الطريق سلك غير جادتها والضلال الحيرة والتردد ومنه قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي ضلضلة وقد فسر الضلال في القرآن بعدم العلم بتفصيل الأمور وبالمحبة وسيأتي ذلك في مواضعه والجر في غير قراءة الجمهور. وروى الخليل عن ابن كثير النصب وهي قراءة عمر وابن مسعود و علي و عبد الله بن الزبير. فالجر على البدل من الذين عن أبي علي أو من الضمير في عليهم وكلاهما ضعيف لأن غير أصل وضعه الوصف والبدل بالوصف ضعيف أو على النعت عن سيبويه ويكون إذ ذاك غير تعرفت بما أضيفت إليه إذ هو معرفة على ما نقله سيبويه في أن كل ما أضافته غير محضة قد تتمحض فيتعرف إلا في الصفة المشبهة أو على ما ذهب إليه ابن السراج إذ وقعت غير على مخصوص لا شائع أو على أن الذين أريد بهم الجنس لا قوم بأعيانهم. قالوا كما وصفوا المعرف بال الجنسية بالجملة
148

وهذا هدم لما اعتزموا عليه من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ولا أختار هذا المذهب وتقرير فساده في النحو والنصب على الحال من الضمير في عليهم وهو الوجه أو من الذين قاله المهدوي وغيره وهو خطأ لأن الحال من المضاف إليه الذي لا موضع له لا يجوز أو على الاستثناء قاله الأخفش و الزجاج وغيرهما وهو استثناء منقطع إذ لم يتناوله اللفظ السابق ومنعه الفراء من أجل لا في قوله * (ولا الضالين) * ولم يسوغ في النصب غير الحال قال لأن لا تزاد إلا إذا تقدم النفي نحو قول الشاعر:
* ما كان يرضى رسول الله فعلهم
*
والطيبان أبو بكر ولا عمر
*
ومن ذهب إلى الاستثناء جعل لا صلة أي زائدة مثلها في قوله تعالى: * (ما منعك أن * لا تسجد الأعراف) * وقول الراجز:
فما ألوم البيض ألا تسخرا
149

وقول الأحوص:
* ويلجئني في اللهو أن لا أحبه
*
واللهو داع دائب غير غافل
*
قال الطبري أي أن تسخر وأن أحبه وقال غيره معناه إرادة أن لا أحبه فلا فيه متمكنة يعني في كونها نافية لا زائدة واستدلوا أيضا على زيادتها ببيت أنشده المفسرون وهو:
* أبى جوده لا البخل واستعجلت به
*
نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
*
وزعموا أن لا زائدة والبخل مفعول بأبي أي أبى جوده البخل ولا دليل في ذلك بل الأظهر أن لا مفعول بأبي وأن لفظة لا لا تتعلق بها وصار إسنادا لفظيا ولذلك قال: واستعجلت به نعم فجعل نعم فاعلة بقوله استعجلت وهو إسناد لفظي والبخل بدل من لا أو مفعول من أجله وقيل انتصب غير بإضمار أعني وعزى إلى الخليل وهذا تقدير سهل وعليهم في موضع رفع بالمغضوب على أنه مفعول لم يسم فاعله وفي إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل إذا حذف خلاف ذكر في النحو. ومن دقائق مسائلة مسألة يغني فيها عن خبر المبتدأ ذكرت في النحو و لا في قوله: * (ولا الضالين) * لتأكيد معنى النفي لأن غير فيه النفي كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين وعين دخولها العطف على قوله المغضوب عليهم لمناسبة غير ولئلا يتوهم بتركها عطف الضالين على الذين. وقرأ عمر وأبي وغير الضالين وروي عنهما في الراء في الحرفين النصب والخفض ويدل على أن المغضوب عليهم هم غير الضالين والتأكيد فيها أبعد والتأكيد في لا أقرب ولتقارب معنى غير من معنى لا أتى الزمخشري بمسألة ليبين بها تقاربهما فقال: وتقول أنا زيدا غير ضارب مع امتناع قولك أنا زيدا مثل ضارب لأنه بمنزلة قولك أنا زيدا لا ضارب يريد أن العامل إذا كان مجرورا بالإضافة فمعموله لا يجوز أن يتقدم عليه ولا على المضاف لكنهم تسمحوا في العامل المضاف إليه غير فأجازوا تقديم معموله على غير إجراء لغير مجرى لا فكما أنه لا يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها فكذلك غير. وأوردها الزمخشري على أنها مسألة مقررة مفروغ منها ليقوي بها التناسب بين غير ولا إذ لم يذكر فيها خلافا. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري مذهب ضعيف جدا بناه على جواز أنا زيدا لا ضارب وفي تقديم معمول ما بعد لا عليها ثلاثة مذاهب ذكرت في النحو وكون اللفظ يقارب اللفظ في المعنى لا يقضى له بأن يجري أحكامه عليه ولا يثبت تركيب إلا بسماع من العرب ولم يسمع أنا زيدا غير ضارب وقد ذكر أصحابنا قول من ذهب إلى جواز ذلك وردوه وقدر بعضهم في غير المغضوب محذوفا قال التقدير غير صراط المغضوب عليهم وأطلق هذا
150

التقدير فلم يقيده بجر غير ولا نصبه، وهذا لا يتأتى إلا بنصب غير، فيكون صفة لقوله الصراط، وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف، والأصل العكس، أو صفة للبدل، وهو صراط الذين، أو بدلا من الصراط، أو من صراط الذين، وفيه تكرار الإبدال، وهي مسألة لم أقف على كلام أحد فيها، إلا أنهم ذكروا ذلك في بدل النداء، أو حالا من الصراط الأول أو الثاني.
وقرأ أيوب السختياني: ولا الضألين، بإبدال الألف همزة فرارا من التقاء الساكنين. وحكى أبو زيد دأبة وشأبة في كتاب الهمز، وجاءت منه ألفاظ، ومع ذلك فلا ينقاس هذا الإبدال لأنه لم يكثر كثرة توجب القياس، نص على أنه لا ينقاس النحويون، قال أبو زيد: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن، فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة. قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كثير:
إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت
وقول الآخر:
* وللأرض إما سودها فتجلت
*
بياضا وإما بيضها فادهأمت
*
وعلى ما قال أبو الفتح إنها لغة، ينبغي أن ينقاس ذلك، وجعل الإنعام في صلة الذين، والغضب في صلة أل، لأن صلة الذين تكون فعلا فيتعين زمانه، وصلة أل تكون اسما فينبهم زمانه، والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله عليه وتحقق ذلك، وكذلك أتى بالفعل ماضيا وأتى بالاسم في صلة أن ليشمل سائر الأزمان، وبناه للمفعول، لأن من طلب منه الهداية ونسب الأنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه، لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام، وليكون المغضوب توطئة لختم السورة بالضالين لعطف موصول على موصول مثله لتوافق آخر الآي. والمراد بالإنعام، الإنعام الديني، والمغضوب عليهم والضالين عام في كل من غضب عليه وضل. وقيل المغضوب عليهم: اليهود، والضالون النصارى، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد. وروي هذا عن عدي بن حاتم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وإذا صح هذا وجب المصير إليه، وقيل اليهود والمشركون، وقيل غير ذلك. وقد روي في كتب التفسير في الغضب والضلال قيود من المتصوفة لا يدل اللفظ عليها، كقول بعضهم غير المغضوب عليهم، بترك حسن الأدب في أوقات القيام بخدمته، ولا الضالين، برؤية ذلك، وقيل
151

غير هذا. والغضب من الله تعالى إرادة الانتقام من العاصي لأنه عالم بالعبد قبل خلقه وقبل صدور المعصية منه، فيكون من صفات الذات أو إحلال العقوبة به، فيكون من صفات الأفعال، وقدم الغضب على الضلال، وإن كان الغضب من نتيجة الضلال ضل عن الحق فغضب عليه لمجاورة الأنعام، ومناسبة ذكره قرينة، لأن الإنعام يقابل بالانتقام، ولا يقابل الضلال الإنعام فالإنعام إيصال الخير إلى المنعم عليه، والانتقام إيصال الشر إلى المغضوب عليه، فبينهما تطابق معنوي، وفيه أيضا تناسب التسجيع، لأن قوله ولا الضالين، تمام السورة، فناسب أواخر الآي، ولو تأخر الغضب، ومتعلقه لما ناسب أواخر الآي. وكان العطف بالواو الجامعة التي لا دلالة فيها على التقديم والتأخير لحصول هذا المعنى من مغايرة جمع الوصفين، الغضب عليه، والضلال لمن أنعم الله عليه، وإن فسر اليهود والنصارى. فالتقديم إما للزمان أو لشدة العداوة، لأن اليهود أقدم وأشد عداوة من النصارى.
وقد أنجر في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب، وكان عالما بافتنان الكلام، قادرا على إنشاء النثار البديع والنظام. وأما من لا اطلاع له على كلام العرب، وجسا طبعه حتى عن الفقرة الواحدة من الأدب، فسمعه عن هذا الفن مسدود، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود. قالوا: وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع:.
النوع الأول: حسن الافتتاح وبراعة المطلع، فإن كان أولها بسم الله الرحمن الرحيم، على قول من عدها منها، فناهيك بذلك حسنا إذ كان مطلعها، مفتتحا باسم الله، وإن كان أولها الحمد لله، فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ووصفه بماله من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام، وقدم بين يدي النثر والنظام، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح، والحسن إلى ظاهر وخفي على ما قسم في علم البديع. النوع الثاني: المبالغة في الثناء، وذلك لعموم أل في الحمد على التفسير الذي مر. النوع الثالث: تلوين الخطاب على قول بعضهم، فإنه ذكر أن الحمد لله صيغته صيغة الخبر، ومعناه الأمر، كقوله: * (لا ريب فيه) * ومعناه النهي. النوع الرابع: الاختصاص باللام التي في لله، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به، إذ هو مستحق لها وبالإضافة في ملك يوم الدين لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم، وتفرده فيه بالملك والملك، قال تعالى: * (لمن الملك اليوم) *، ولأنه لا مجازى في ذلك اليوم على الأعمال سواه. النوع الخامس: الحذف، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر، وتقدم، هل يقدر من لفظ الحمد أو من غير لفظه؟ قال بعضهم؟ ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد، وهو الذي يقدر بكائن أو مستقر، قال: ومنه حذف صراط من قوله غير المغضوب، التقدير غير صراط المغضوب عليهم، وغير صراط الضالين، وحذف سورة إن قدرنا العامل في الحمد إذا نصبناه، إذكروا أو اقرؤا، فتقديره اقرؤوا سورة الحمد، وأما من قيد الرحمن، والرحيم، ونعبد، ونستعين، وأنعمت، والمغضوب عليهم، والضالين، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة.
152

النوع السادس: التقديم والتأخير، وهو في قوله نعبد، ونستعين، والمغضوب عليهم، والضالين، وتقدم الكلام على ذلك. النوع السابع: التفسير، ويسمى التصريح بعد الإبهام، وذلك في بدل صراط الذين من الصراط المستقيم. النوع الثامن: الالتفات، وهو في إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا. النوع التاسع: طلب الشيء، وليس المراد حصوله بل دوامه، وذلك في اهدنا. النوع العاشر: سرد الصفات لبيان خصوصية في الموصوف أو مدح أو ذم. النوع الحادي عشر: التسجيع، وفي هذه السورة من التسجيع المتوازي، وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والروي، قوله تعالى: * (الرحمان الرحيم * اهدنا الصراط المستقيم) *، وقوله تعالى: * (نستعين * ولا الضالين) *، انقضى كلامنا على تفسير الفاتحة.
وكره الحسن أن يقال لها أم الكتاب، وكره ابن سيرين أن يقال لها أم القرآن، وجوزه الجمهور. والإجماع على أنها سبع آيات إلا ما شذ فيه من لا يعتبر خلافه. عند الجمهور المكيون والكوفيون * (بسم الله الرحمان الرحيم) * آية، ولم يعدوا * (أنعمت عليهم) *، وسائر العادين، ومنهم كثير من قراء مكة والكوفة لم يعدوها آية، وعدوا * (صراط الذين أنعمت عليهم) * آية، وشذ عمرو بن عبيد، فجعل آية * (إياك نعبد) *، فهي على عدة ثمان آيات، وشذ حسين الجعفي، فزعم أنها ست آيات. قال ابن عطية: وقول الله تعالى: * (ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني) * هو الفصل في ذلك. ولم يختلفوا في أن البسملة في أول كل سورة ليست آية، وشذ ابن المبارك فقال: إنها آية في كل سورة، ولا أدري ما الملحوظ في مقدار الآية حتى نعرف الآية من غير الآية.
وذكر المفسرون عدد حروف الفاتحة، وذكروا سبب نزولها ما لا يعد سبب نزول. وذكروا أحاديث في فضل بسم الله الرحمن الرحيم، الله أعلم بها، وذكروا للتسمية أيضا نزول ما لا يعد سببا، وذكروا أن الفاتحة تسمى الحمد، وفاتحة الكتاب، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والواقية، والكافية، والشفاء، والشافية، والرقية، والكنز
، والأساس، والنور، وسورة الصلاة، وسورة تعليم المسألة، وسورة المناجاة، وسورة التفويض. وذكروا أن ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة، والكلام على هذا كله من باب التذييلات، لا أن ذلك من علم التفسير إلا ما كان من تعيين مبهم أو سبب نزول أو نسخ بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذلك يضطر إليه علم التفسير. وكذلك تكلموا على آمين ولغاتها، والاختلاف في مدلولها، وحكمها في الصلاة، وليست من القرآن، فلذلك أضربنا عن الكلام عليها صفحا، كما تركنا الكلام على الاستعاذة في أول الكتاب، وقد أطال المفسرون كتبهم بأشياء خارجة عن علم التفسير حذفناها من كتابنا هذا، إذا كان مقصودنا ما أشرنا إليه في الخطبة، والله تعالى أعلم.
153

((سورة البقرة))
2 (* (ألم * ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلواة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون * أولائك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون) *)) 2
* (ألم) * أسماء مدلولها حروف المعجم، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم، وهي موقوفة الآخر، لا يقال إنها معربة لأنها لم يدخل عليها عامل فتعرب ولا يقال إنها مبنية لعدم سبب البناء، لكن أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب، تقول هذه ألف حسنة ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة، أسماء العدد، إذا عدوا يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة. وقد اختل الناس في المراد بها، وسنذكر اختلافهم إن شاء الله تعالى. * (ذالك) *، ذا: اسم إشارة ثنائي الوضع لفظا، ثلاثي الأصل، لا أحادي الوضع، وألفه ليست زائدة، خلافا للكوفيين والسهيلي، بل ألفه منقبلة عن ياء، ولامه خلافا لبعض البصريين في زعمه أنها منقلبة من واو من باب طويت وهو مبني. ويقال فيه: ذا وذائه وهو يدل على القرب، فإذا دخلت الكاف فقلت: ذاك دل على التوسط، فإذا أدخلت اللام فقلت: ذلك دل على البعد، وبعض النحويين رتبة المشار إليه عنده قرب وبعد فمتى كان مجردا من اللام والكاف كان للقرب، ومتى كانتا فيه أو إحداهما كان للبعد، والكاف حرف خطاب تبين أحوال المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث كما تبينها إذا كان ضميرا، وقالوا: ألك في معنى ذلك؟ ولاسم الإشارة أحكام ذكرت في النحو. * (الكتاب) *، يطلق بإزاء معان العقد المعروف بين العبد وسيده على مال مؤجل منجم للعتق * (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم) *، وعلى الفرض * (فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا الله قياما وقعودا) *، كتب عليكم القصاص) * * (*) * * (كتب عليكم الصيام) * وعلى الحكم، قاله الجوهري لأقضين بينكما بكتاب الله كتاب الله أحق وعلى القدر:
* يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني
*
عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا
*
154

أي قدر الله وعلى مصدر كتبت تقول: كتبت كتابا وكتبا، ومنه كتاب الله عليكم، وعلى المكتوب كالحساب بمعنى المحسوب، قال:
* بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة
*
أتتك من الحجاج يتلى كتابها
*
* (لا) * نافية، والنفي أحد أقسامها، وقد تقدمت. * (ريب) *، الريب: الشك بتهمة راب حقق التهمة قال:
* ليس في الحق يا أمية ريب
*
إنما الريب ما يقول الكذوب
*
وحقيقة الريب قلق النفس: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة ومنه: أنه مر بظني خافق فقال لا يربه أحد بشيء، وريب الدهر: صرفه وخطبه. * (فيه) *: في للوعاء حقيقة أو مجاز، أو زيد للمصاحبة، وللتعليل، وللمقايسة، وللوافقة على، والباء مثل ذلك زيد في المسجد * (ولكم في القصاص حيواة) * * (ادخلوا فى أمم) * * (لمسكم فيما * أفضتم) *، * (في الحيواة الدنيا وفى الاخرة) * * (فى جذوع النخل) * * (يذرؤكم فيه) *، أي يكثركم به. الهاء المتصلة بفي من فيه ضمير غائب مذكر مفرد، وقد يوصل بياء، وهي قراءة ابن كثير، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة والإسكان والاختلاس والإشباع في كتب النحو. * (هدى) *، الهدى: مصدر هدي، وتقدم معنى الهداية، والهدي مذكر وبنو أسد يؤنثونه، يقولون: هذه هدي حسنة، قاله الفراء في كتاب المذكر والمؤنث. وقال ابن عطية: الهدي لفظ مؤنث، وقال اللحياني: هو مذكر. انتهى كلامه. قال ابن سيده: والهدي اسم من أسماء النهار، قال ابن مقبل:
* حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة
*
يخضعن في الآل غلفا أو يصلينا
*
وهو على وزن فعلى، كالسرى والبكى. وزعم بعض أكابر نحاتنا أنه لم يجيء من فعلى مصدر سوى هذه الثلاثة، وليس بصحيح، فقد ذكر لي شيخنا اللغوي الإمام في ذلك رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الشاطبي أن العرب قالت: لقيته لقى وأنشدنا لبعض العرب:
155

* وقد زعموا حلما لقاك ولم أزد
*
بحمد الذي أعطاك حلما ولا عقلا
*
وقد ذكر ذلك غيره من اللغويين وفعل يكون جمعا معدولا وغير معدول، ومفردا وعلما معدولا وغير معدول، واسم جنس لشخص ولمعنى وصفة معدولة وغير معدولة، مثل ذلك: جمع وغرف وعمر وأدد ونغر وهدى وفسق وحطم. * (للمتقين) * المتقي اسم فاعل من اتقى، وهو افتعل من وقى بمعنى حفظ وحرس، وافتعل هنا: للاتخاذ أي اتخذ وقاية، وهو أحد المعاني الاثني عشر التي جاءت لها افتعل، وهو: الاتخاذ، والتسبب، وفعل الفاعل بنفسه، والتخير، والخطفة، ومطاوعة أفعل، وفعل، وموافقة تفاعل، وتفعل، واستفعل، والمجرد، والإغناء عنه، مثل ذلك: اطبخ، واعتمل واضطرب، وانتخب، واستلب، وانتصف مطاوع أنصف، واغتم مطاوع غممته، واجتور: وابتسم، واعتصم، واقتدر، واستلم الحجر. وإبدال الواو في اتقى تاء وحذفها مع همزة الوصل قبلها فيبقى تقى مذكور في علم التصريف.
فأما هذه الحروف المقطعة أوائل السور، فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة، وغيرهم يذهب إلى أنها أسماء عبر بها عن حروف المعجم التي ينطق بالألف واللام منها في نحو: قال، والميم في نحو: ملك، وبعضهم يقول: إنها أسماء السور، قاله زيد بن أسلم. وقال قوم: إنها فواتح للتنبيه والاستئناف ليعلم أن الكلام الأول قد انقضى. قال مجاهد: هي في فواتح السور كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد. بل ولا بل نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش. وقال الحسن: هي أسماء السور وفواتحها، وقوم: إنها أسماء الله أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها. وروي عن ابن عباس وقوم: هي حروف متفرقة دلت على معان مختلفة، وهؤلاء اختلفوا في هذه المعاني فقال قوم: يتألف منها اسم الله الأعظم، قاله علي وابن عباس، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها، أو اسم ملك من ملائكته، أو نبي من أنبيائه، لكن جهلنا طريق التأليف. وقال سعيد بن جبير: هي أسماء الله تعالى مقطعة، لو أحسن الناس تأليفها تعلموا اسم الله الأعظم. وقال قتادة: هي أسماء القرآن كالفرقان. وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله تعالى. وقيل: هي حروف تدل على مدة الملة، وهي حساب أبي جاد، كما ورد في حديث حيي بن أخطب. وروى هذا عن أبي العالية وغيره. وقيل: مدة الأمم السالفة وقيل:
156

مدة الدنيا. وقال أبو العالية أيضا: ليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين، وقيل: هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه قال للعرب: إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم. وقال قطرب وغيره: هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول للعرب: إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم فقوله: * (ألم) * بمنزلة: أ ب ت ث، ليدل بها على التسعة وعشرين حرفا. وقال قوم: هي تنبيه كما في النداء. وقال قوم: إن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيستمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقيل: هي أمارة لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد صلى الله عليه وسلم) كتاب في أول سور منه حروف مقطعة، وقيل: حروف تدل على ثناء أثنى الله به على نفسه. وقال ابن عباس: * (ألم) * أنا الله أعلم، والمراد أنا الله أرى. و * (المص) * أنا الله أفصل. وروي عن سعيد بن جبير مثل ذلك. وروي عن ابن عباس الألف: من الله، واللام: من جبريل، والميم: من محمد صلى الله عليه وسلم). وقال الأخفش: هي مبادئ كتب الله المنزلة بالألسن المختلفة ومبان من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وأصول كلام الأمم. وقال الربيع بن أنس: ما منها حرف إلا يتضمن أمورا كثيرة دارت فيها الألسن، وليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في الأبد وللأبد، وليس منها حرف إلا في مدة قوم وآجالهم. وقال قوم: معانيها معلومة عند المتكلم بها لا يعلمها إلا هو، ولهذا قال الصديق رضي الله عنه: في كتاب الله سر، وسر الله في القرآن في الحروف التي في أوائل السور. وبه قال الشعب. وقال سلمة بن القاسم: ما قام الوجود كله إلا بأسماء الله الباطنة والظاهرة، وأسماء الله المعجمة الباطنة أصل لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وهي خزانة سره ومكنون علمه، ومنها تتفرع أسماء الله كلها، وهي التي قضى بها الأمور وأودعها أم الكتاب، وعلى هذا حوم جماعة من القائلين بعلوم الحروف، وممن تكلم في ذلك: أبو الحكم بن برجان، وله تفسير للقرآن، والبوني، وفسر القرآن والطائي بن العربي، والجلالي، وابن حمويه، وغيرهم، وبينهم اختلاف في ذلك. وسئل محمد بن الحنفية عن * (كهيعص) * فقال للسائل: لو أخبرت بتفسيرها لمشيت على الماء لا يواري قدميك. وقال قوم: معانيها معلومة ويأتي بيان كل حرف في موضعه. وقال قوم: اختص الله بعلمها نبيه صلى الله عليه وسلم). وقد أنكر جماعة من المتكلمين أن يكون
157

في القرآن ما لا يفهم معناه، فانظر إلى هذا الاختلاف المنتشر الذي لا يكاد ينضبط في تفسير هذه الحروف والكلام عليها. والذي أذهب إليه: أن هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وسائر كلامه تعالى محكم. وإلى هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد اليزيدي، وهو قول الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين، قالوا: هي سر الله في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن نتكلم فيها، ولكن نؤمن بها وتمر كما جاءت. وقال الجمهور: بل يجب
أن يتكلم فيها وتلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك الاختلاف الذي قدمناه. قال ابن عطية: والصواب ما قال الجمهور، فنفسر هذه الحروف ونلتمس لها التأويل لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظما ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقول الشاعر:
* قلت لها قفي فقالت قاف
*
أراد قالت وقفت
*
وكقول القائل:
* بالخير خيرات وإن شرفا
*
ولا أريد الشر إلا أن تآ
*
أراد وإن شرا فشر، وأراد إلا أن تشاء: والشواهد في هذا كثيرة فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب، أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه، انتهى كلامه.
وفرق بين ما أنشد وبين هذه الحروف، وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان. وقد تكلم المعربون على هذه الحروف فقالوا: لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ، فهي كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها، ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ، والنصب بإضمار فعل، والجر على إضمار حرف القسم، هذا إذا جعلناها اسما للسور، وأما إذا لم تكن إسما للسور فلا محل لها، لأنها إذ ذاك كحروف المعجم أوردت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة كأسماء الأعداد، أو ردتها لمجرد العدد بغير عطف، وقد تكلم النحويون على هذه الحروف على أنها أسماء السور، وتكلموا على ما يمكن إعرابه منها وما لا يمكن، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع الصرف، ومنه ما لا يمنع الصرف، وتفصيل ذلك في علم النحو. وقد نقل خلاف في كون هذه الحروف آية، فقال الكوفيون: * (ألم) * آية، وكذلك هي آية
158

في أول كل سورة ذكرت فيها، وكذلك * (المص) * و * (طسم) * وأخواتها و * (طه) * و * (يس) * و * (حم) * وأخواتها إلا * (حم * عسق) * فإنها آيتان و * (كهيعص) * آية، وأما * (المر) * وأخواتها فليست بآية، وكذلك * (طس) * و * (ص) * و * (ق) * و * (ن) * و * (* القلم) * وق وص حروف دل كل حرف منها على كلمة، وجعلوا الكلمة آية، كما عدوا: * (مقتدر الرحمان) * * (* ومدهامتان) * آيتيين. وقال البصريون وغيرهم: ليس شيء من ذلك آية. وذكر المفسرون الاقتصار على هذه الحروف في أوائل السور، وأن ذلك الاقتصار كان لوجوه ذكروها لا يقوم على شيء منها برهان فتركت ذكرها. وذكروا أن التركيب من هذه الحروف انتهى إلى خمسة، وهو: كهيعص، لأنه أقصى ما يتركب منه الاسم المجرد، وقطع ابن القعقاع ألف لام ميم حرفا حرفا بوقفة وقفة، وكذلك سائر حروف التهجي من الفواتح، وبين النون من طسم ويس وعسق ونون إلا في طس تلك فإنه لم يظهر، وذلك اسم مشار بعيد، ويصح أن يكون في قوله * (ألم ذالك الكتاب) * على بابه فيحمل عليه ولا حاجة إلى إطلاقه بمعنى هذا، كما ذهب إليه بعضهم فيكون للقريب، فإذا حملناه على موضوعه فالمشار إليه ما نزل بمكة من القرآن، قاله ابن كيسان وغيره، أو التوراة والإنجيل، قاله عكرمة، أو ما في اللوح المحفوظ، قاله ابن حبيب، أو ما وعد به نبيه صلى الله عليه وسلم) من أنه ينزل إليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد، قاله ابن عباس، أو الكتاب الذي وعد به يوم الميثاق، قاله عطاء بن السائب، أو الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل، قاله ابن رئاب، أو الذي لم ينزل من القرآن، أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي بين المنزل والمنزل إليه، أو ذلك إشارة إلى حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها.
وسمعت الأستاذ أبا جعفر بن إبراهيم بن الزبير شيخنا يقول: ذلك إشارة إلى الصراط في قوله: * (اهدنا الصراط) *، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب. وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد، وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره، لا إلى شيء لم يجر له ذكر، وقد ركبوا وجوها من الإعراب في قوله: * (ذالك الكتاب لا ريب فيه) *. والذي نختاره منها أن قوله: * (ذالك الكتاب) * جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف، وأسوغها في لسان العرب. ولسنا كمن جعل كلام الله تعالى كشعر امرئ القيس، وشعر الأعشى، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات. فكما أن كلام الله من أفصح كلام، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه، هذا على أنا إنما نذكر كثيرا مما ذكروه لينظر فيه، فربما يظهر لبعض المتأملين ترجيح شيء منه، فقالوا: يجوز أن يكون ذلك خبر المبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب، والكتاب صفة أو بدل أو عطف بيان، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبرا. وفي موضع خبر * (ألم) * * (ولا * ريب) * جملة تحتمل الاستئناف، فلا يكون لها موضع من الإعراب، وأن تكون في موضع خبر لذلك، والكتاب صفة أو بدل أو عطف أو خبر بعد خبر، إذا كان الكتاب خبرا، وقلت بتعدد الأخبار التي ليست في معنى خبر
واحد، وهذا أولى بالبعد لتباين
159

أحد الخبرين، لأن الأول مفرد والثاني جملة، وأن يكون في موضع نصب أي مبرأ من الريب، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل إن، فهو في موضع نصب ولا وهو في موضع رفع بالابتداء، فالمرفوع بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء إلا النصب في الاسم فقط، هذا مذهب سيبويه. وأما الأخفش فذلك المرفوع خبر للا، فعملت عنده النصب والرفع، وتقرير هذا في كتب النحو. وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب، والفتح هو قراءة الجمهور.
وقرأ أبو الشعثاء: * (لا ريب فيه) * بالرفع، وكذا قراءة زيد بن علي حيث رفع، والمراد أيضا هنا الاستغراق، لا من اللفظ بل من دلالة المعنى، لأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه، وصار نظير من قرأ: * (فلا رفث ولا فسوق) * بالبناء والرفع، لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم، والرفع لا يدل لأنه يحتمل العموم، ويحتمل نفي الوحدة، لكن سياق الكلام يبين أن المراد العموم، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه الخبر، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا، أو يكون عملها إعمال ليس، فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل ليس رفعت الاسم ونصبت الخبر، أو على مذهب من ينسب العمل لها في رفع الاسم خاصة، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضع رفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الاسم معها، وذلك في مذهب سيبويه، وسيأتي الكلام مشبعا في ذلك عند قوله تعالى: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) *، وحمل لا في قراءة لا ريب على أنها تعمل عمل ليس ضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس، فلهذا كانت هذه القراءة ضعيفة. وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم بن جندب، وعبيد بن عمير، فيه: بضم الهاء، وكذلك إليه وعليه وبه ونصله ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن أبي إسحاق: فهو بضم الهاء ووصلها بواو، وجوزوا في قوله: أن يكون خبرا للا على مذهب الأخفش، وخبرا لها مع اسمها على مذهب سيبويه، أن يكون صفة والخبر محذوف، وأن يكون من صلة ريب بمعنى أنه يضمر عامل من لفظ ريب فيتعلق به، إلا أنه يكون متعلقا بنفس لا ريب، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه، لأنه يصير اسم لا مطولا بمعموله نحو لا ضاربا زيدا عندنا، والذي نختاره أن الخبر محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علم لم تلفظ به بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، وهو هنا معلوم، فاحمله على أحسن الوجوه في الإعراب، وإدغام الباء من لا ريب في فاء فيه مروي عن أبي عمرو، والمشهور عنه الإظهار، وهي رواية اليزيدي عنه. وقد قرأته بالوجهين على الأستاذ أبي جعفر بن الطباع بالأندلس، ونفي الريب يدل على نفي الماهية، أي ليس مما يحله الريب ولا يكون فيه، ولا يدل ذلك على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس كثيرين. فعلى ما قلناه لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة، كما حمله الزمخشري، ولا يرد علينا قوله تعالى: * (وإن كنتم فى ريب) * لاختلاف الحال والمحل، فالحال هناك المخاطبون، والريب هو المحل، والحال هنا منفي، والمحل الكتاب، فلا تنافي بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفيا عن القرآن.
وقد قيد بعضهم الريب فقال: لا ريب فيه عند المتكلم به، وقيل هو عموم يراد به الخصوص، أي عند المؤمنين، وبعضهم جعله على حذف مضاف، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام معانيه وصدق أخباره. وهذه التقادير لا
160

يحتاج إليها. واختيار الزمخشري أن فيه خبر، وبذلك بني عليه سؤالا وهو أن قال: هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على القول في قوله تعالى: * (لا فيها غول) *؟ وأجاب: بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد، وهو أن كتابا غيره فيه الريب، كما قصد في قوله: * (لا فيها غول) * تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر، ولا نعلم أحدا يفرق بين: ليس في الدار رجل، وليس رجل في الدار، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال، وقد وصفت بذلك العرب خمر الدنيا، قال علقمة بن عبدة:
* تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها
*
ولا يخالطها في الرأس تدويم
*
وأبعد من ذهب إلى أن قوله: لا ريب صيغة خبر ومعناه النهي عن الريب. وجوزوا في قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ، وفيه في موضع الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هو هدى، أو على فيه مضمرة إذا جعلنا فيه من تمام لا ريب، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عن ذلك، وبقوله لا ريب فيه، ثم جاء هذا خبرا ثالثا، أو كان الكتاب تابعا وهدى خبر ثان على ما مر في الإعراب، أو في موضع نصب على الحال، وبولغ بجعل المصدر حالا وصاحب الحال اسم الإشارة، أو الكتاب، والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة أو الضمير في فيه، والعامل ما في الظرف من الاستقرار وهو مشكل لأن الحال تقييد، فيكون انتقال الريب مقيدا بالحال إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة. والأولى: جعل كل جملة مستقلة، فذلك الكتاب جملة، ولا ريب جملة، وفيه هدى للمتقين جملة، ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق. فالأولى أخبرت بأن المشار إليه هو الكتاب الكامل، كما تقول: زيد الرجل، أي الكامل في الأوصاف. والثانية نعت لا يكون شيء ما من ريب. والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين. والمجاز إما فيه هدى، أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون فصار نظير اهدنا الصراط، وإما في المتقين أي المشارفين لاكتساب التقوى، كقوله:
إذا ما مات ميت من تميم
والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك، وهل التقوى تتناول اجتناب الصغائر؟ في ذلك خلاف. وجوز بعضهم أن يكون التقدير هدى للمتقين والكافرين، فحذف لدلالة أحد الفريقين، وخص المتقين بالذكر تشريفا لهم. ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى الله تعالى، هو الكتاب أي الكامل في الكتب، وهو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم) الذي قال فيه * (ما فرطنا فى الكتاب من شىء) *، فإذا كان جميع الأشياء فيه، فلا كتاب أكمل منه، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى. ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزاء حقيقة لا مجاز فيها، وفي الثانية مجازا لحذف لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام، إذ جعل القرآن ظرفا والهدى مظروفا، فألحق المعنى بالعين، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك: زيد في البيت
161

* (الذين يؤمنون بالغيب) *: الإيمان: التصديق، * (وما أنت بمؤمن لنا) *، وأصله من الأمن أو الأمانة، ومعناهما الطمأنينة، منه: صدقة، وأمن به: وثق به، والهمزة في أمن للصيرورة كأعشب، أو لمطاوعة فعل كأكب، وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء، وهو يتعدى بالباء واللام * (فما ءامن لموسى) *، والتعدية باللام في ضمنها تعد بالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين. الغيب: مصدر غاب يغيب إذا توارى، وسمى المطمئن من الأرض غيبا لذلك أو فعيل من غاب فأصله غيب، وخفف نحو لين في لين، والفارسي لا يرى ذلك قياسا في ذوات الياء، فلا يجيز في لين التخفيف ويجيزه في ذوات الواو، ونحو: سيد وميت، وغيره قاسه فيهما. وابن مالك وافق أبا علي في ذوات الياء. وخالف الفارسي في ذوات الواو، فزعم أنه محفوظ لا مقيس، وتقرير هذا في علم التصريف. * (ويقيمون الصلواة) * والإقامة: التقويم، أقام العود قومه، أو الأدامة أقامت الغزالة سوق الضراب، أي أدامتها من قامت السوق، أو التشمر والنهوض من قام بالأمر، والهمزة في أقام للتعدية. الصلاة: فعلة، وأصله الواو لاشتقاقه من الصلى، وهو عرق متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب، ويمتد منه عرقان في كل ورك، عرق يقال لهما الصلوان فإذا ركع المصلي انحنى صلاة وتحرك فسمي بذلك مصليا، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل لأنه يأتي مع صلوى السابق. قال ابن عطية: فاشتقت الصلاة منه إما لأنها جاءت ثانية الإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لأن الراكع والساجد ينثني صلواه، والصلاة حقيقة شرعية تنتظم من أقوال وهيئآت مخصوصة، وصلى فعل الصلاة، وأما صلى دعا فمجاز وعلاقته تشبيه الداعي في التخشع والرغبة بفاعل الصلاة، وجعل ابن عطية الصلاة مما أخذ من صلى بمعنى دعا، كما قال:
* عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
*
نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
*
وقال:
* لها حارس لا يبرح الدهر بيتها
*
وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
*
قال: فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء، وانضاف إليه هيئآت وقراءة، سمى جميع ذلك باسم الدعاء والقول إنها من الدعاء أحسن، انتهى كلامه. وقد ذكر أن ذلك مجاز عندنا، وذكرنا العلاقة بين الداعي وفاعل الصلاة، ومن حرف جر. وزعم الكسائي أن أصلها منا مستدلا بقول بعض قضاعة:
* بذلنا مارن الخطى فيهم
*
وكل مهند ذكر حسام
*
162

* منا أن ذر قرن الشمس حتى
*
أغاب شريدهم قتر الظلام
*
وتأول ابن جني، رحمه الله، على أنه مصدر على فعل من منى بمنى أي قدر. واغتر بعضهم بهذا البيت فقال: وقد يقال منا. وقد تكون لابتداء الغاية وللتبعيض، وزائدة وزيد لبيان الجنس، وللتعليل، وللبدل، وللمجاوزة والاستعلاء، ولانتهاء الغاية، وللفصل، ولموافقة في مثل ذلك: سرت من البصرة إلى الكوفة، أكلت من الرغيف، ما قام من رجل، * (يحلون فيها من أساور من ذهب) *، * (أو كصيب من السماء) *، * (ياأيها الذين ءامنوا ما) *، * (غدوت من أهلك) *،
قربت منه، * (ونصرناه من القوم) *، * (يعلم المفسد من المصلح) * * (ينظرون من طرف خفى) * * (ماذا خلقوا من الارض) *. ما تكون موصولة، واستفهامية، وشرطية، وموصوفة، وصفة، وتامة. مثل ذلك: * (ما عندكم ينفد) * مال هذا الرسول، * (ما يفتح الله للناس من رحمة) *، مررت بما معجب لك، لأمر ما جدع قصير أنفه، ما أحسن زيدا. * (رزقناهم) * الرزق: العطاء، وهو الشيء الذي يرزق كالطحن، والرزق المصدر، وقيل الرزق أيضا مصدر رزقته أعطيته، * (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) *، وقال:
* رزقت مالا ولم ترزق منافعه
*
إن الشقي هو المحروم ما رزقا
*
وقيل: أصل الرزق الحظ، ومعاني فعل كثيرة ذكر منها: الجمع، والتفريق، والإعطاء، والمنع، والامتناع، والإيذاء، والغلبة، والدفع، والتحويل، والتحول، والاستقرار، والسير، والستر، والتجريد، والرمي، والإصلاح، والتصويت. مثل ذلك: حشر، وقسم، ومنح، وغفل، وشمس، ولسع، وقهر، ودرأ، وصرف، وظعن، وسكن، ورمل، وحجب، وسلخ، وقذف، وسبح، وصرخ. وهي هنا للإعطاء نحو: نحل، ووهب، ومنح. * (ينفقون) *، الإنفاق: الإنفاذ، أنفقت الشيء وأنفذته بمعنى واحد، والهمزة للتعدية، يقال نفق الشيء نفذ، وأصل هذه المادة تدل على الخروج والذهاب، ومنه: نافق، والنافقاء، ونفق..
* (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون) *، الذين ذكروا في إعرابه الخفض على النعت للمتقين، أو البدل والنصب على المدح على القطع، أو بإضمار أعني على التفسير قالوا، أو على موضع المتقين، تخيلوا أن له موضعا وأنه نصب، واغتروا بالمصدر فتوهموا أنه معمول له عدي باللام، والمصدر هنا ناب عن اسم الفاعل فلا يعمل، وإن عمل اسم الفاعل وأنه بقي على مصدريته فلا يعمل، لأنه هنا لا ينحل بحرف مصدر وفعل، ولا هو بدل من اللفظ بالفعل بل للمتقين بتعلق بمحذوف صفة لقوله هدى، أي هدى كائن للمتقين، والرفع على القطع أي هم الذين، أو على الابتداء والخبر.
* (أولائك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون) *،
163

أولئك المتقدمة، وأولئك المتأخرة، والواو مقحمة، وهذا الأخير إعراب منكر لا يليق مثله بالقرآن، والمختار في الإعراب الجر على النعت والقطع، إما للنصب، وإما للرفع، وهذه الصفة جاءت للمدح. وقرأ الجمهور: يؤمنون بالهمزة ساكنة بعد الياء، وهي فاء الكلمة، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش وأبو عمر، وإذا أدرج بترك الهمز. وروي هذا عن عاصم، وقرأ رزين بتحريك الهمزة مثل: يؤخركم، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة لسكونها، وأقر همزة أفعل لتحركها وتقدمها واعتلالها في الماضي والأمر، والياء مقوية لوصول الفعل إلى الاسم، كمررت بزيد، فتتعلق بالفعل، أو للحال فتتعلق بمحذوف، أي ملتبسين بالغيب عن المؤمن به، فيتعين في هذا الوجه المصدر، وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل، قالوا: وعلى معنى الغيب أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول نحوه: هذا خلق لله، ودرهم ضرب الأمير، وفيه نظر لأن الغيب مصدر غاب اللازم، أو على التخفيف من غيب كلين، فلا يكون إذ ذاك مصدرا وذلك على مذهب من أجاز التخفيف، وأجاز ذلك في الغيب الزمخشري، ولا يصار إلى ذلك حتى يسمع منقلا من كلام العرب. والغيب هنا القرآن، قاله عاصم بن أبي الجود، أو ما لم ينزل منه، قاله الكلبي، أو كلمة التوحيد وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم)، قاله الضحاك، أو علم الوحي، قاله ابن عباس، وزر بن حبيش، وابن جريج، وابن وافد، أو أمر الآخرة، قاله الحسن، أو ما غاب من علوم القرآن، قاله عبد الله بن هانىء، أو الله عز وجل، قاله عطاء، وابن جبير، أو ما غاب عن الحواس مما يعلم بالدلالة، قاله ابن عيسى، أو القضاء والقدر، أو معنى بالغيب بالقلوب، قاله الحسن؛ أو ما أظهره الله على أوليائه من الآيات والكرامات، أو المهدي المنتظر، قاله بعض الشيعة، أو متعلق بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم) من تفسير الإيمان حين سئل عنه وهو: الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، خيره وشره، وإياه نختار لأنه شرح حال المتقين بأنهم الذين يؤمنون بالغيب.
والإيمان المطلوب شرعا هو ذاك، ثم إن هذا تضمن الاعتقاد القلبي، وهو الإيمان بالغيب، والفعل البدني، وهو الصلاة، وإخراج المال. وهذه الثلاثة هي عمد أفعال المتقي، فناسب أن يشرح الغيب بما ذكرنا، وما فسر به الإقامة قبل يصلح أن يفسر به قوله: * (ويقيمون الصلواة) *، وقالوا: وقد يعبر بالإقامة عن الأداء، وهو فعلها في الوقت المحدود لها، قالوا: لأن القيام بعض أركانها، كما عبر عنه بالقنوت، والقنوت القيام بالركوع والسجود. قالوا: سبح إذا صلى لوجود التسبيح فيها، * (فلولا أنه كان من المسبحين) *، قاله الزمخشري ولا يصح إلا
164

بارتكاب مجاز بعيد، وهو أن يكون الأصل قامت الصلاة بمعنى أنه كان منها قيام ثم دخلت الهمزة للتعدية فقلت: أقمت الصلاة، أي جعلتها تقوم، أي يكون منها القيام، والقيام حقيقة من المصلي لا من الصلاة، فجعل منها على المجاز إذا كان من فاعلها. والصلاة هنا الصلوات الخمس، قاله مقاتل: أو الفرائض والنوافل، قاله الجمهور. والرزق قيل: هو الحلال، قاله أصحابنا، لكن المراد هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي. ومن كتبت متصلة بما محذوفة النون من الخط، وكان حقها أن تكوم منفصلة لأنها موصولة بمعنى الذي، لكنها وصلت لأن الجار والمجرور كشيء واحد، ولأنها قد أخفيت نون من في اللفظ فناسب حذفها في الخطأ، وهنا للتبعيض، إذ المطلوب ليس إخراج جميع ما رزقوا لأنه منهي عن التبذير والإسراف. والنفقة التي في الآية هي الزكاة الواجبة، قاله ابن عباس، أو نفقة العيال، قاله ابن مسعود وابن عباس؛ أو التطوع قبل فرض الزكاة، قاله الضحاك معناه، أو النفقة في الجهاد أو النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، وقالوا إنه كان الفرض على الرجل
أن يمسك مما في يده بمقدار كفايته في يومه وليلته ويفرق باقيه على الفقراء، ورجح كونها الزكاة المفروضة لاقترانها بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن والسنة، ولتشابه أوائل هذه السورة بأول سروة النمل وأول سورة لقمان، ولأن الصلاة طهرة للبدن، والزكاة طهرة للمال والبدن، ولأن الصلاة شكر لنعمة البدن، والزكاة شكر لنعمة المال، ولأن أعظم ما لله على الأبدان من الحقوق الصلاة، وفي الأموال الزكاة، والأحسن أن تكون هذه الأقوال تمثيلا للمتفق لا خلافا فيه. وكثيرا ما نسب الله الرزق لنفسه حين أمر بالإنفاق، أو أخبر به، ولم ينسب ذلك إلى كسب العبد ليعلم أن الذي يخرجه العبد ويعطيه هو بعض ما أخرجه الله له ونحله إياه، وجعل صلات الذين أفعالا مضارعة، ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل، لأنه عندهم مشعر بالثبوت والأمدح في صفة المتقين تجدد الأوصاف، وقدم المنفق منه على الفعل اعتناء بما خول الله به العبد وإشعارا أن المخرج هو بعض ما أعطى العبد، ولتناسب الفواصل وحذف الضمير العائد على الموصول لدلالة المعنى عليه، أي ومما رزقناهموه، واجتمعت فيه شروط جواز الحذف من كونه متعينا للربط معمولا لفعل متصرف تام. وأبعد من جعل ما نكرة موصوفة وقدر، ومن شيء رزقناهموا لضعف المعنى بعد عموم المرزوق الذي ينفق منه فلا يكون فيه ذلك التمدح الذي يحصل ما موصولة لعمومها، ولأن حذف العائد على الموصول أو جعل ما مصدرية، فلا يكون في رزقناهم ضمير محذوف بل ما مع الفعل بتأويل المصدر، فيضطر إلى جعل ذلك المصدر المقدر بمعنى المفعول، لأن نفس المصدر لا ينفق منه إنما ينفق من المرزوق، وترتيب الصلاة على حسب الإلزام. فالإيمان بالغيب لازم للمكلف دائما، والصلاة لازمة في أكثر الأوقات، والنفقة لازمة في بعض الأوقات، وهذا من باب تقديم الأهم فالأهم.
الإنزال: الإيصال والإبلاغ، ولا يشترط أن يكون من أعلا، * (فإذا نزل بساحتهم) * أي وصل وحل، إلى حرف جر معناه انتهاء الغاية وزيد كونها للمصاحبة وللتبيين ولموافقة اللام وفي ومن، وأجاز الفراء زيادتها، مثل ذلك: سرت إلى الكوفة، * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) *، السجن أحب إلي، * (والامر إليك) *، كأنني إلى الناس
165

مطلي، أي في الناس. أيسقي فلا يروي إلى ابن أحمرا، أي متى تهوي إليهم في قراءة من قرأ بفتح الواو، أي تهواهم، وحكمها في ثبوت الفاء، وقلبها حكم على، وقد تقدم. والكاف المتصلة بها ضمير المخاطب المذكر، وتكسر للمؤنث، ويلحقها ما يلحق أنت في التثنية والجمع دلالة عليهما، وربما فتحت للمؤنث، أو اقتصر عليها مكسورة في جمعها نحو:
* ولست بسائل جارات بيتي
*
أغياب رجالك أم شهود
*
قبل وبعد ظرفا زمان وأصلهما الوصف ولهما أحكام تذكر في النحو، ومدلول قبل متقدم، كما أن مدلول بعد متأخر. الآخرة تأنيث الآخر مقابل الأول وأصل الوصف * (تلك الدار الاخرة) *، * (ولدار الاخرة) *، ثم صارت من الصفات الغالبة، والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام. الإيقان: التحقق للشيء لسكونه ووضوحه، يقال يقن الماء سكن وظهر ما تحته، وافعل بمعنى استفعل كابل بمعى استبل. وقرأ الجمهور: * (بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * مبنيا للمفعول، وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنيا للفاعل. وقرئ شاذا بما أنزل إليك بتشديد اللام، ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل كما أسكن
166

وضاح آخر الماضي في قوله:
إنما شعري قيد، قد خلط بخلجان
ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى لام أنزل فالتقى المثلان من كلمتين، والإدغام جائز فأدغم. وقرأ الجمهور: يوقنون بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة من ياء لأنه من أيقن. وقرأ أبو حية النمري بهمزة ساكنة بدل الواو، كما قال الشاعر:
* لحب المؤقذان إلى موسى
*
وجعدة إذ أضاءهما الوقود
*
وذكر أصحابنا أن هذا يكون في الضرورة، ووجهت هذه القراءة بأن هذه الواو لما جاورت المضموم فكان الضمة فيها، وهم يبدلون من الواو المضمومة همزة، قالوا وفي وجوه ووقتت أجوه وأقتت، فأبدلوا من هذه همزة، إذ قدروا الضمة فيها وإعادة الموصول بحرف العطف يحتمل المغايرة في الذات وهو الأصل، فيحتمل أن يراد مؤمنوا أهل الكتاب لإيمانهم بكل وحي، فإن جعلت الموصول معطوفا على الموصول اندرجوا في جملة المتقين، إن لم يرد بالمتقين بوصفه مؤمنوا العرب، وذلك لانقسام المتقين إلى القسمين. وإن جعلته معطوفا على المتقين لم يندرج لأنه إذ ذاك قسيم لمن له الهدى لا قسم من المتقين. ويحتمل المغايرة في الوصف، فتكون الواو للجمع بين الصفات، ولا تغاير في الذواب بالنسبة للعطف وحذف الفاعل في قراءة الجمهور، وبني الفعلان للمفعول للعلم بالفاعل، نحو: أنزل المطر، وبناؤهما للفاعل
في قراءة النخعي، وأبي حيوة، ويزيد بن قطيب، فاعله مضمر، قيل: الله أو جبريل. قالوا: وقوة الكلام تدل على ذلك وهو عندي من الالتفات لأنه تقدم قوله: * (ومما) *، فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، إذ لو جرى على الأول لجاء * (بما * أنزلنا إليك) *، * (وما أنزلنا * من قبلك) *، وجعل صلة ما الأولى ماضية لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة، فأقام الأكثر مقام الجميع، أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يتقتصي الإيمان بالمتأخر، لأن موجب الإيمان واحد. وأما صلة الثانية فمتحققة المضي ولم يعد حرف الجر فيما الثانية ليدل أنه إيمان واحد، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان.
وبالآخرة: تقدم أن المعنى بها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف في بعض الآي، وحمله بعضهم على النشأة الآخرة، إذ قد جاء أيضا مصرحا بهذا الموصوف، وكلاهما يدل على البعث. وأكد أمر الآخرة بتعلق الإيقان بها الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق، وإن كان في الحقيقة لا تفاوت في العلم والتصديق دفعا لمجاز إطلاق العلم، ويراد به الظن، فذكر أن الإيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقانا لا يخالطه شيء من الشك والارتياب. وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة لتكرار، وكان الإيقان هو الذي خص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقات الآخرة، وما أعد فيها من الثواب والعقاب السرمديين، وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب، ونشأة أصحابها على خلاف النشأة الدنيوية ورؤية الله تعالى. فالآخرة أغرب في الإيمان بالغيب من
167

الكتاب المنزل، فلذلك خص بلفظ الإيقان، ولأن المنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) مشاهد أو كالمشاهد، والآخرة غيب صرف، فناسب تعليق اليقين بما كان غيبا صرفا. قالوا: والإيقان هو العلم الحادث سواء كان ضروريا أو استدلاليا، فلذلك لا يوصف به الباري تعالى، ليس من صفاته الموقن وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر. وإيراد هذه الجملة اسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة فعلية آكد في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان، لأن قولك: ريد فعل آكد من فعل زيد لتكرار الاسم في الكلام بكونه مضمرا، وتصديره مبتدأ بشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه، كما أن التقديم للفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به. وذكر لفظة هم في قوله: * (هم يوقنون) *، ولم يذكر لفظة هم في قوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) * لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق، فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان فيه قلق لفظي، إذ كان يكون ومما رزقناهم هم ينفقون. أولئك: اسم إشارة للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث. والمشهور عند أصحابنا أنه للرتبة القصوى كأولالك، وقال بعضهم هو للرتبة الوسطى، قاسه على ذا حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غيرحرف الخطاب، بخلاف أولالك. ويضعف قوله كون هاء التنبيه لا تدخل عليه. وكتبوه بالواو فرقا بينه وبين إليك، وبنى لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به، وحرك لالتقاء الساكنين، وبالكسر على أصل التقائهما. الفلاح: الفوز والظفر بإدراك البغية، أو البقاء، قيل: وأصله الشق والقطع:
إن الحديد بالحديد يفلح
وفي تشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو: فلي وفلق وفلذ، تقدم في إعراب الذين يؤمنون بالغيب، إن من وجهي رفعه كونه مبتدأ، فعلى هذا يكون أولئك مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين، ويجوز أن يكون بدلا وعطف بيان، ويمتنع الوصف لكونه أعرف. ويكون خبر الذين إذ ذاك قوله: * (على هدى) *، وإن كان رفع الذين على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو كان مجرورا أو منصوبا، كان أولئك مبتدأ خبره * (على هدى) *، وقد تقدم أنا لا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به، وأي
168

فائدة للتكلف والتعسف في الاستئناف فيما هو ظاهر التعلق بما قبله والارتباط به. وقد وجه الزمخشري وجه الاستئناف بأنه لما ذكر أن الكتاب اختص المتقون بكونه هدى لهم، اتجه لسائل أن يقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فأجيب بأن الذين جمعوا هذه الأوصاف الجليلة من الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق، والإيمان بالمنزل، والإيقان بالآخرة على هدى في العاجل، وذوو فلاح في الآجل. ثم مثل هذا الذي قرره من الاستئناف بقوله: أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم) الأنصار الذين قارعوا دونه، فكشفوا الكرب عن وجهه، أولئك أهل للمحبة، يعني أنه استأنف فابتدأ بصفة المتقين، كما استأنف بصفة الأنصار.
وعلى ما اخترناه من الاتصال يكون قد وصف المتقين بصفات مدح فضلت جهات التقوى، ثم أشار إليهم وأعلم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى، وهو المفلح والاستعلاء الذي أفادته في قوله: * (على هدى) *، هو مجاز نزل المعنى منزلة العين، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا كأنهم استعلوه كما تقول: فلان على الحق، وإنما حصل لهم هذا الاستقرار على الهدى بما اشتملوا عليه من الأوصاف المذكورة في وصف الهدى بأنه من ربهم، أي كائن من ربهم، تعظيم للهدى الذي هم عليه. ومناسبة ذكر الرب هنا واضحة، أي أنه لكونه ربهم بأي تفاسيره فسرت ناسب أن يهيىء لهم أسباب السعادتين: الدنيوية والأخروية، فجعلهم في الدنيا على هدى، * (وفي الاخرة * هم المفلحون) *. وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوب إلى الله تعالى. ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف، أي من هدى ربهم.
وقرأ ابن هرمز: من ربهم بضم الهاء، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر مبنيا على مبتدأ. وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقة أمر الدنيا، ومنها ما متعلقة أمر الآخرة، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة. ولما اختلف الخبران كما ذكرنا، أتى بحرف العطف في المبتدأ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول، لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (أولئك هم الغافلون) * بعد قوله: * (أولئك كالانعام) * كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين اللذين للمبتدأين في المعنى؟ ويحتمل هم أن يكون فصلا أو بدلا فيكون المفلحون خيرا عن أولئك، أو المبتدأ والمفلحون خبره، والجملة من قوله: هم المفلحون في موضع خبر أولئك، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو.
وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن، لأنه محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه، أو من يتوهم التشريك فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا) *، * (وأنه هو أغنى وأقنى) *، وقوله: * (وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى) *، * (وأنه أهلك عادا الاولى) *، كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا الشركة فيه. وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعي ذلك، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ. وأما قوله تعالى: * (وأنه هو رب الشعرى) *، فدخول هو للإعلام بأن الله هو
169

رب هذا النجم، وإن كان رب كل شيء، لأن هذا النجم عبد من دون الله واتخذ إلها، فأتى به لينبه بأن الله مستبد بكونه ربا لهذا المعبود، ومن دونه لا يشاركه في ذلك أحد. والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو في الذهن، وذلك أنك إذا قلت: زيد المنطلق، فالمخاطب يعرف وجود ذات صدر منها انطلاق، ويعرف زيدا ويجهل نسبة الانطلاق إليه، وأنت تعرف كل ذلك فتقول له: زيد المنطلق، فتفيده معرفة النسبة التي كان يجهلها، ودخلت هو فيه إذا قلت: زيد هو المنطلق، لتأكيد النسبة، وإنما تؤكد النسبة عند توهم أن المخاطب يشك فيها أو ينازع أو يتوهم الشركة.
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات من قوله تعالى: * (ألم) * إلى قوله: * (المفلحون) * أقوالا: أحدها: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب دون غيرهم، وهو قول ابن عباس وجماعة. الثاني: نزلت في جميع المؤمنين، قاله مجاهد.
وذكروا في هذه الآية من ضروب الفصاحة أنواعا: الأول: حسن الافتتاح، وأنه تعالى افتتح بما فيه غموض ودقة لتنبيه السامع على النظر والفكر والاستنباط. الثاني: الإشارة في قوله ذلك أدخل اللام إشارة إلى بعد المنازل. الثالث: معدول الخطاب في قوله تعالى: * (لا ريب فيه) * صيغته خبر ومعناه أمر، وقد مضى الكلام فيه. الرابع: الاختصاص هو في قوله * (هدى للمتقين) *. الخامس: التكرار في قوله تعالى: * (يؤمنون بالغيب) *، * (يؤمنون بما أنزل إليك) *، وفي قوله: * (الذين) *، * (والذين) * إن كان الموصوف واحدا فهو تكرار اللفظ والمعنى، وإن كان مختلفا كان من تكرار اللفظ دون المعنى، ومن التكرار * (أولائك) *، * (وأولئك) *. السادس: تأكيد المظهر بالمضمر في قوله: * (وأولائك هم المفلحون) *، وفي قوله: * (هم يوقنون) *. السابع: الحذف، وهو في مواضع أحدها هذه ألم عند من يقدر ذلك، وهو هدى، وينفقون في الطاعة، وما أنزل إليك من القرآن، ومن قبلك، أي قبل إرسالك، أو قبل الإنزال، وبالآخرة، أي بجزاء الآخرة، ويوقنون بالمصير إليها، وعلى هدى، أي أسباب هدى، أو على نور هدى، والمفلحون، أي الباقون في نعيم الآخرة.
2 (* (إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) *)) 2
* (إن الذين كفروا سواء عليهم) *، إن: حرف توكيد يتشبث بالجملة المتضمنة الإسناد الخبري، فينصب المسند إليه، ويرتفع المسند وجوبا عند الجمهور، ولها ولأخواتها باب معقود في النحو. وتأتي أيضا حرف جواب بمعنى نعم خلافا لمن منع ذلك. الكفر: الستر، ولهذا قيل: كافر للبحر، ومغيب الشمس، والزارع، والدافن، والليل، والمتكفر، والمتسلح. فبينها كلها قدر مشترك وهو الستر، سواء اسم بمعنى استواء مصدر استوى، ووصف به بمعنى مستو، فتحمل الضمير. قالوا: مررت برجل سواء، والعدم قالوا: أصله العدل، قال زهير: يسوي بينها فيها السواء
170

ولإجرائه مجرى المصدر لا يثني، قالوا: هما سواء استغنوا بتثنية سي بمعنى سواء، كقي بمعنى قواء، وقالوا: هما سيان. وحكى أبو زيد تثنيته عن بعض العرب. قالوا: هذان سواآن، ولذلك لا تجمع أيضا، قال:
* وليل يقول الناس من ظلماته
*
سواء صحيحات العيون وعورها
*
وهمزته منقلبة عن ياء، فهو من باب طويت.
وقال صاحب اللوامح: قرأ الجحدري سواء بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز، فيجوز أنه أخلص الواو، ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين، وهو أن يكون بين الهمزة والواو. وفي كلا الوجهين لا بد من دخول النقص فيما قبل الهمزة الملينة من المد، انتهى. فعلى هذا يكون سواء ليس لامه ياء بل واوا، فيكون من باب قواء. وعن الخليل: سوء عليهم بضم السين مع واو بعدها مكان الألف، مثل دائرة السوء على قراءة من ضم السين، وفي ذلك عدول عن معنى المساواة إلى معنى القبح والسب، ولا يكون على هذه القراءة له تعلق إعراب بالجملة بعدها بل يبقى. * (أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم) * إخبار بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك وعدم إنذارك، وأما سواء الواقع في الاستثناء في قولهم قاموا سواك بمعنى قاموا غيرك، فهو موافق لهذا في اللفظ، مخالف في المعنى، فهو من باب المشترك، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء. الهمزة للنداء، وزيد وللاستفهام الصرف، وذلك ممن يجهل النسبة فيسأل عنها، وقد يصحب الهمزة التقرير: * (قلت للناس اتخذونى) *؟ والتحقيق، ألستم خير من ركب المطايا. والتسوية * (سواء عليهم ءأنذرتهم) *، والتوبيخ * (أذهبتم طيباتكم) *، والإنكار أن يدنيه لمن قال جاء زيد، وتعاقب حرف القسم الله لأفعلن. الإنذار: الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف، وإن لم تسع سمي إعلاما وإشعارا أو إخبارا، ويتعدى إلى اثنين: * (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) *، * (فقل أنذرتكم صاعقة) *، والهمزة فيه للتعدية، يقال: نذر القوم إذا علموا بالعدو. وأم حرف عطف، فإذا عادل الهمزة وجاء بعده مفردا أو جملة في معنى
المفرد سميت أم متصلة، وإذا انخرم هذان الشرطان أو أحدهما سميت منفصلة، وتقرير هذا في النحو، ولا تزاد خلافا لأبي زيد. لم حرف نفي معناه النفي وهو مما يختص بالمضارع، اللفظ الماضي
171

معنى، فعمل فيه ما يخصه، وهو الجزم، وله أحكام ذكرت في النحو.
* (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) * الختم: الوسم بطابع أو غيره مما يوسم به. القلب: مصدر قلب، والقلب: اللحمة الصنوبرية المعروفة سميت بالمصدر، وكنى به في القرآن وغيره عن العقل، وأطلق أيضا على لب كل شيء وخالصه. السمع: مصدر سمع سمعا وسماعا وكنى به في بعض المواضع عن الأذن. البصر: نور العين، وهو ما تدرك به المرئيات. الغشاوة: الغطاء، غشاه أي غطاه، وتصحح الواو لأن الكلمة بنيت على تاء التأنيث، كما صححوا اشتقاقه، قال أبو علي الفارسي: لم أسمع من الغشاوة فعلا متصرفا بالواو، وإذا لم يوجد ذلك كان معناها معنى ما اللام منه الياء، غشي يغشى بدلالة قولهم: الغشيان والغشاوة من غشي، كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء إذا لم يصرف منه فعل، كما لم يصرف من الجباوة، انتهى كلامه. العذاب: أصله الاستمرار، ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم، واشتقوا منه فقالوا: عذبته، أي داومت عليه الألم، وقد جعل الناس بينه وبين العذاب: الذي هو الماء الحلو، وبين عذب الفرس: استمر عطشه، قدرا مشتركا وهو الاستمرار، وإن اختلف متعلق الاستمرار. وقال الخليل: أصله المنع، يقال عذب الفرس: امتنع من العلف. عظيم: اسم فاعل من عظم غير مذهوب به مذهب الزمان، وفعيل اسم، وصفة الاسم مفرد نحو: قميص، وجمع نحو: كليب، ومعنى نحو: صهيل، والصفة مفرد فعله كقرى، وفعله كسرى، واسم فاعل من فعل ككريم، وللمبالغة من فاعل كعليم، وبمعنى أفعل
172

كشميط، وبمعنى مفعول كجريح، ومفعل كسميع واليم، وتفعل كوكيد، ومفاعل كجليس، ومفتعل كسعير، ومستفعل كمكين، وفعل كرطيب، وفعل كعجيب، وفعال كصحيح، وبمعنى الفاعل والمفعول كصريح، وبمعنى الواحد والجمع كخليط وجمع فاعل كغريب.
مناسبة اتصال هذه الآية بما قبلها ظاهر، وهو أنه لما ذكر صفة من الكتاب له هدى وهم المتقون الجامعون للأوصاف المؤدية إلى الفور، ذكر صفة ضدهم وهم الكفار المحتوم لهم بالوفاة على الكفر، وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم، ولذلك لم يدخل في قصة المتقين، لأن الحديث إنما جاء فيهم بحكم الانجرار، إذ الحديث إنما هو عن الكتاب ثم أنجز ذكرهم في الإخبار عن الكتاب، وعلى تقدير إعراب الذين يؤمنون، الأول والثاني مبتدأ، فإنما هو في المعنى من تمام صفة المتقين الذين كفروا، يحتمل أن يكون للجنس ملحوظا فيه قيد، وهو أن يقضي عليه بالكفر والوفاة عليه، وأن يكون لمعينين كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما. وسواء وما بعده يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون لا موضع له من الإعراب، ويكون جملة اعتراض من مبتدأ وخبر، بجعل سواء المبتدأ والجملة بعده الخبر أو العكس، والخبر قوله: لا يؤمنون، ويكون قد دخلت جملة الاعتراض تأكيدا لمضمون الجملة، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره. والوجه الثاني: أن يكون له موضع من الإعراب، وهو أن يكون في موضع خبر إن، فيحتمل لا يؤمنون أن يكون له موضع من الإعراب، إما خبر بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون، وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال وهو بعيد، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب فتكون جملة تفسيرية لأن عدم الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه، كقوله تعالى: * (وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة) *، أو يكون جملة دعائية وهو بعيد، وإذا كان لقوله تعالى: * (أم لم تنذرهم لا) * موضع من الإعراب فيحتمل أن يكون سواء خبر إن، والجملة في موضع رفع على الفاعلية، وقد اعتمد بكونه خبر الذين، والمعنى إن الذين كفروا مستو إنذارهم وعدمه. وفي كون الجملة تقع فاعلة خلاف مذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا اسما أو ما هو في تقديره، ومذهب هشام وثعلب وجماعة من الكوفيين جواز كون الجملة تكون فاعلة، وأجازوا تعجبني يقوم زيد، وظهر لي أقام زيد أم عمرو، وأي قيام أحدهما، ومذهب الفراء وجماعة: أنه إن كانت الجملة معمولة لفعل من أفعل القلوب وعلق عنها، جاز أن تقع في موضع الفاعل أو المفعول الذي لم يسم فاعله وإلا فلا، ونسب هذا لسيبويه. قال
173

أصحابنا: والصحيح المنع مطلقا وتقرير هذا في المبسوطات من كتب النحو. ويحتمل أن يكون قوله: * (سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم) * مبتدأ وخبرا على التقديرين اللذين ذكرناهما إذا كانت جملة اعتراض، وتكون في موضع خبر إن، والتقديران المذكوران عن أبي علي الفارسي وغيره. وإذا جعلنا سواء المبتدأ والجملة الخبر، فلا يحتاج إلى رابط لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل، وأكثر ما جاء سواء بعده الجملة المصدرة بالهمزة المعادلة بأم * (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا) *، * (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) *، وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها، * (اصبروا * أو لا تصبروا سواء عليكم) * أي أصبرتم أم لم تصبروا، وتأتي بعده الجملة الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام، نحو: سواء على أي الرجال ضربت، قال زهير:
* سواء عليه أي حين أتيته
*
أساعة نحس تتقي أم بأسعد
*
وقد جاء بعده ما عري عن الاستفهام، وهو الأصل، قال:
سواء صحيحات العيون وعورها
وأخبر عن الجملة بأن جعلت فاعلا بسواء أو مبتدأة، وإن لم تكن مصدره بحرف مصدري حملا على المعنى وكلام العرب منه ما طابق فيه اللفظ المعنى، نحو: قام زيد
، وزيد قائم، وهو أكثر كلام العرب، ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى، نحو: علمت أقام زيد أم قعد، لا يجوز تقديم الجملة على علمت، وإن كان ليس ما بعد علمت استفهاما، بل الهمزة فيه للتسوية. ومنه ما غلب فيه المعنى على اللفظ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية نحو:
على حين عاتبت المشيب على الصبا
إذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه، لكن لوحظ المعنى، وهو المصدر، فصحت الإضافة.
قال ابن عطية: أأنذرتهم أم لم تنذرهم لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبرا سواء على أقمت أم قعدت أم ذهبت؟ وإذا قلت مستفهما أخرج زيد أم قام؟ فقد استوى الأمران عندك، هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عممتهما التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام، وكل استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما، انتهى كلامه. وهو حسن، إلا أن في أوله مناقشة، وهو قوله: * (أم لم تنذرهم لا) * لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وليس
174

كذلك لأن هذا الذي صورته صورة الاستفهام ليس معناه الخبر لأنه مقدر بالمفرد إما مبتدأ وخبره سواء أو العكس، أو فاعل سواء لكون سواء وحده خبرا لأن، وعلى هذه التقادير كلها ليس معناه معنى الخبر وإنما سواء، وما بعده إذا كان خبرا أو مبتدأ معناه الخبر. ولغة تميم تخفيف الهمزتين في نحو أأنذرتهم، وبه قرأ الكوفيون، وابن ذكوان، وهو الأصل. وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلبا للتخفيف، فقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وهشام: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، إلا أن أبا عمرو، وقالون، وإسماعيل بن جعفر، عن نافع، وهشام، يدخلون بينهما ألفا، وابن كثير لا يدخل. وروي تحقيقا عن هشام وإدخال ألف بينهما، وهي قراءة ابن عباس، وابن أبي إسحاق. وروي عن ورش، كابن كثير، وكقالون وإبدال الهمزة الثانية ألفا فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين، وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري، وزعم أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين: أحدهما: الجمع بين ساكنين على غير حده. الثاني: إن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفا، لأن ذلك هو طريق الهمزة الساكنة، وما قاله هو مذهب البصريين، وقد أجاز الكوفيون الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون. وقراءة ورش صحيحة النقل لا تدفع باختيار المذاهب ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة لقرآن.
وقرأ الزهري، وابن محيصن: أنذرتهم بهمزة واحدة، حذف الهمزة الأولى لدلالة المعنى عليها، ولأجل ثبوت ما عادلها وهو أم، وقرأ أبي أيضا بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم، والمفعول الثاني لأنذر محذوف لدلالة المعنى عليه، التقدير أأنذرتهم العذاب على كفرهم أم لم تنذرهموه؟ وفائدة الإنذار مع تساويه مع العدم أنه قاطع لحجتهم، وأنهم قد دعوا فلم يؤمنوا، ولئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت، وأن فيه تكثير الأجر بمعاناة من لا قبول له للإيمان ومقاساته، وإن في ذلك عموم إنذاره لأنه أرسل للخلق كافة. وهل قوله: لا يؤمنون خبر عنهم أو حكم عليهم أو ذم لهم أو دعاء عليهم؟ أقوال، وظاهر قوله تعالى: * (ختم الله) * أنه إخبار من الله تعالى بختمه وحمله بعضهم على أنه دعاء عليهم، وكنى بالختم على القلوب عن كونها لا تقبل شيئا من الحق ولا تعيه لإعراضها عنه، فاستعار الشيء المحسوس والشيء المعقول، أو مثل القلب بالوعاء الذي ختم عليه صونا لما فيه ومنعا لغيره من الدخول إليه. والأول: مجاز الاستعارة، والثاني: مجاز التمثيل. ونقل عمن مضى أن الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه، قال مجاهد: إذا أذنبت ضم من القلب هكذا، وضم مجاهد الخنصر، ثم إذا أذنبت ضم هكذا، وضم البنصر، ثم هكذا إلى الإبهام، وهذا هو الختم والطبع والرين. وقيل: الختم سمة تكون فيهم تعرفهم الملائكة بها من المؤمنين. وقيل: حفظ ما في قلوبهم من الكفر ليجازيهم. وقيل: الشهادة على قلوبهم بما فيها من الكفر ونسبة الختم إلى الله تعالى بأي معنى فسر إسناد صحيح، إذ هو إسناد إلى الفاعل الحقيقي، إذ الله تعالى خالق كل شيء.
وقد تأول الزمخشري وغيره من المعتزلة هذا الإسناد، إذ مذهبهم أن الله تعالى لا يخلق الكفر ولا يمنع من قبول الحق والوصول إليه، إذ ذاك قبيح والله تعالى يتعالى عن فعل القبيح، وذكر أنواعا من التأويل عشرة، ملخصها: الأول: أن الختم كنى به عن الوصف الذي صار كالخلقي وكأنهم جبلوا عليه وصار كان الله هو الذي فعل بهم.
175

الثاني: أنه من باب التمثيل كقولهم: طارت به العنقاء، إذا أطال الغيبة، وكأنهم مثلت حال قلوبهم بحال قلوب ختم الله عليها. الثالث: أنه نسبه إلى السبب لما كان الله هو الذي أقدر الشيطان ومكنه أسند إليه الختم. الرابع: أنهم لما كانوا مقطوعا بهم أنهم لا يؤمنون طوعا ولم يبق طريق إيمانهم إلا بالجاء وقسر وترك القسر عبر عن تركه بالختم. الخامس: أن يكون حكاية لما يقوله الكفار تهكما كقولهم: * (قلوبنا فى أكنة) *. السادس: أن الختم منه على قلوبهم هو الشهادة منه بأنهم لا يؤمنون. السابع: أنها في قوم مخصوصين فعل ذلك بهم في الدنيا عقابا عاجلا، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا. الثامن: أن يكون ذلك فعله بهم من عير أن يحول بينهم وبين الإيمان لضيق صدورهم عقوبة غير مانعة من الإيمان. التاسع: أن يفعل بهم ذلك في الآخرة لقوله تعالى: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) *. العاشر: ما حكى عن الحسن البصري، وهو اختيار أبي علي الجبائي، والقاضي، أن ذلك سمة وعلامة يجعلها الله تعالى في قلب الكافر وسمعه، تستدل بذلك الملائكة على أنهم كفار وأنهم لا يؤمنون. انتهى ما قاله المعتزلة. والمسألة يبحث عنها في أصول الدين. وقد وقع قوله: * (وعلى سمعهم) * بين شيئين: يمكن أن يكون السمع محكوما عليه مع كل واحد منهما، إذ يحتمل أن يكون أشرك في الختم بينه وبين القلوب، ويحتمل أن يكون أشرك في الغشاوة بينه وبين الأبصار. لكن حمله على الأول أولى للتصريح بذلك في قوله: * (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) *. وتكرير حرف الجر يدل على أن الختم ختمان، أو على التوكيد، إن كان الختم واحدا فيكون أدل على شدة الختم.
وقرأ ابن أبي عبلة أسماعهم فطابق في الجمع بين القلوب والأسماع والأبصار. وأما الجمهور فقرؤوا على التوحيد، إما لكونه مصدرا في الأصل فلمح فيه الأصل، وإما اكتفاء بالمفرد عن الجمع لأن ما قبله وما بعده يدل على أنه أريد به الجمع، وإما لكونه مصدرا حقيقة وحذف ما أضيف إليه لدلالة المعنى أي حواس سمعهم. وقد اختلف
الناس في أي الحاستين السمع والبصر أفضل، وهو اختلاف لا يجدي كبير شيء. والإمالة في أبصارهم جائزة، وقد قرىء بها، وقد غلبت الراء المكسورة حرف الاستعلاء، إذ لولاها لما جازت الإمالة، وهذا بتمامه مذكور في النحو. وقرأ الجمهور: غشاوة بكسر الغين ورفع التاء، وكانت هذه الجملة ابتدائية ليشمل الكلام الإسنادين: إسناد الجملة الفعلية وإسناد الجملة الابتدائية، فيكون ذلك آكد لأن الفعلية تدل على التجدد والحدوث، والإسمية تدل على الثبوت. وكان تقديم الفعلية أولى لأن فيها أن ذلك قد وقع وفرغ منه، وتقديم المجرور الذي هو على أبصارهم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، مع أن فيه مطابقة بالجملة قبله لأنه تقدم فيها الجزء المحكوم به. وهذه كذلك الجملتان تؤول دلالتهما إلى معنى واحد، وهو منعهم
176

من الإيمان، ونصب المفضل غشاوة يحتاج إلى إضمار ما أظهر في قوله: * (وجعل على بصره غشاوة) *، أي وجعل على أبصارهم غشاوة، أو إلى عطف أبصارهم على ما قبله ونصبها على حذف حرف الجر، أي بغشاوة، وهو ضعيف. ويحتمل عندي أن تكون اسما وضع موضع مصدر من معنى ختم، لأن معنى ختم غشي وستر، كأنه قيل تغشيه على سبيل التأكيد، وتكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مغشاة. وقال أبو علي: وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن يحمله على ختم الظاهر فيعرض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر، وما أن تحمله على فعل يدل عليه ختم تقديره وجعل على أبصارهم فيجيء الكلام من باب:
متقلدا سيفا ورمحا
وقول الآخر:
علفتها تبنا وماء باردا
ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار، فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. انتهى كلام أبي علي، رحمه الله تعالى. ولا أدري ما معنى قوله: لأن النصب إنما يحمله على ختم الظاهر، وكيف تحمل غشاوة المنصوب على خثم الذي هو فعل؟ هذا ما لا حمل فيه اللهم إلا إن أراد أن يكون قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم) * دعاء عليهم لا خبرا، فإن ذلك يناسب مذهبه لاعتزاله، ويكون غشاة في معنى المصدر المدعو به عليهم القائم مقام الفعل فكأنه قيل: وغشى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفا على ختم عطف المصدر النائب مناب فعله في الدعاء، نحو قولك: رحم الله زيدا وسقيا له، وتكون إذ ذاك قد حلت بين غشاوة المعطوف وبين ختم المعطوف عليه بالجار والمجرور. وأما إن جعلت ذلك خبرا محضا وجعلت غشاوة في موضع المصدر البدل عن الفعل في الخبر فهو ضعيف لا ينقاس ذلك بل يقتصر فيه على مورد السماع، وقرأ الحسن باختلاف عنه وزيد بن علي: غشاوة بضم الغين ورفع التاء، وأصحاب عبد الله بالفتح والنصب وسكون الشين، وعبيد بن عمير كذلك، إلا أنه رفع التاء. وقرأ بعضهم غشوة بالكسر والرفع، وبعضهم غشوة وهي قراءة أبي حيوة، والأعمش قرأ بالفتح والرفع والنصب. وقال الثوري: كان أصحاب عبد الله يقرؤونها غشية بفتح الغين والياء والرفع. اه. وقال يعقوب: غشوة بالضم لغة، ولم يؤثرها عن أحد من القراءة.
قال بعض المفسرين: وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة، والأشياء التي هي أبدا مشتملة، فهذا يجيء وزنها: كالصمامة، والعمامة، والعصابة، والريانة، وغير ذلك. وقرأ بعضهم: غشاوة بالعين المهملة المكسورة والرفع من العشي، وهو شبه العمى في العين. وتقديم القلوب على السمع من باب التقديم بالشرف وتقديم الجملة التي انتظمتها على الجملة التي تضمنت الأبصار من هذا الباب أيضا. وذكر أهل البيان أن التقديم يكون باعتبارات خمسة: تقدم العلة والسبب على المعلوم والمسبب، كتقديم الأموال على الأولاد في قوله تعالى: * (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) *، فإنه إنما يشرع في النكاح عند قدرته على المؤنة، فهي سبب إلى التزوج، والنكاح سبب للتناسل. والعلة: كتقدم المضيء على الضوء، وليس تقدم زمان، لأن جرم الشمس لا ينفك عن الضوء. وتقدم
177

بالذات، كالواحد مع الاثنين، وليس الواحد علة للاثنين بخلاف القسم الأول. وتقدم بالشرف، كتقدم الإمام على المأموم. وتقدم بالزمان، كتقدم الوالد على الولد بالوجود، وزاد بعضهم سادس وهو: التقدم بالوجود حيث لا زمان. ولما ذكر تعالى حال هؤلاء الكفار في الدنيا، أخبر بما يؤول إليه أمرهم في الآخرة من العذاب العظيم. ولما كان قد أعد لهم العذاب صير كأنه ملك لهم لازم، والعظيم هو الكبير. وقيل: العظيم فوق، لأن الكبير يقابله الصغير، والعظيم يقابله الحقير. قيل: والحقير دون الصغير، وأصل العظم في الجثة ثم يستعمل في المعنى، وعظم العذاب بالنسبة لي عذاب دونه يتخلله فتور، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما شبع من الآخر، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد.
وذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى: * (إن الذين كفروا) * إلى قوله: * (عظيم) *، أقوالا: أحدها: أنها نزلت في يهود كانوا حول المدينة، قاله ابن عباس، وكان يسميهم. الثاني: نزلت في قادة الأحزاب من مشركي قريش، قاله أبو العالية. الثالث: في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك. الرابع: في أصحاب القليب: وهم أبو جهل، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة. الخامس: في مشركي العرب قريش وغيرها. السادس: في المنافقين، فإن كانت نزلت في ناس بأعيانهم وافوا على الكفر، فالذين كفروا معهودون، وإن كانت لا في ناس مخصوصين وافوا على الكفر، فيكون عاما مخصوصا. ألا ترى أنه قد أسلم من مشركي قريش وغيرها ومن المنافقين ومن اليهود خلق كثير بعد نزول هاتين الآيتين؟.
وذكروا أيضا أن في هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعا. الأول: الخطاب العام اللفظ الخاص المعنى. الثاني: الاستفهام الذي يراد به تقرير المعنى في النفس، أي يتقرر أن الإنذار وعدمه سواء عندهم. * (عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) *، وحقيقة الختم وضع محسوس على
محسوس يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم، والختم هنا معنوي، فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره استعير له اسم المختوم عليه فبين أنه من مجاز الاستعارة.
178

الرابع: الحذف، وهو في مواضع: منها: أن الذين كفروا، أي أن القوم الذين كفروا بالله وبك وبما جئت به. ومنها: لا يؤمنون بالله وبما أخبرتهم به عنه. ومنها: ختم الله على قلوبهم فلا تعي وعلى أسماعهم فلا تصغي. ومنها: وعلى أبصارهم غشاوة على من نصب، أي وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون سبيل الهداية. ومنها: ولهم عذاب، أي ولهم يوم القيامة عذاب عظيم دائم، ويجوز أن يكون التقدير: ولهم عذاب عظيم في الدنيا بالقتل والسبي أو بالإذلال ووضع الجزية وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم. الخامس: التعميم: وهو في قوله: * (ولهم عذاب عظيم) *، فإنه لو اقتصر على قوله عذاب ولم يقل عظيم لاحتمل القليل والكثير، فلما وصفه بالعظيم تمم المعنى وعلم أن العذاب الذي وعدوا به عظيم، إما في المقدار وإما في الإيلام والدوام. السادس: الإشارة، فإن قوله: * (سواء عليهم) * إشارة إلى أن السواء الذي أضيف إليهم وباله ونكاله عليهم ومستعل فوقهم، لأنه لو أراد بيان أن ذلك من وصفهم فحسب لقال: سواء عندهم، فلما قال: سواء عليهم، نبه على أنه مستعل عليهم، فإن كلمة على للاستعلاء وهو الذي قاله هذا القائل من أن على تشعر بالاستعلاء صحيح، وأما أنها تدل على أن الكلام تضمن معنى الوبال والنكال عليهم فليس بصحيح، بل المعنى في قولك سواء عليك وعندك كذا وكذا واحد، وإن كان أكثر الاستعمال بعلى، قال تعالى: * (سواء علينا أوعظت * أو لم * تكن من الواعظين) *، * (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا) *، سواء عليها رحلتي ومقامي، وكل هذا لا يدل على معنى الوبال والنكاح عليهم. السابع: مجاز التشبيه شبه قلوبهم لتأبيها عن الحق، وأسماعهم لإضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية بالوعاء المختوم عليه المسدود منافذة المغشي بغشاء يمنع أن يصل إليه ما يصلحه، لما كانت مع صحتها وقوة إدراكها ممنوعة عن قبول الخير وسماعه وتلمح نوره، وهذا كله من مجاز التشبيه، إذ الختم والغشاوة لم يوجدا حقيقة، وهو بالاستعارة أولى، إذ من شرط التشبيه أن يذكر المشبه والمشبه به.
2 (* (ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) *)) 2
* (ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) *، الناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومرادفه: أناسي، جمع: إنسان أو إنسي. قد قالت العرب: ناس من الجن، حكاه ابن خالويه، وهو مجاز إذ أصله في بني آدم، ومادته عند سيبويه رحمه الله والفراء: همزة ونون وسين، وحذفت همزته شذوذا، وأصله أناس ونطق بهذا الأصل، قال تعالى: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) *، فمادته ومادة الإنس واحدة. وذهب الكسائي إلى أن مادته نون وواو وسين، ووزنه فعل مشتق من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس نوسا إذا تحرك، والنوس: تذبذب الشيء في الهواء، ومنه نوس القرط في الأذن وذلك لكثرة حركته. وذهب قوم
179

إلى أنه من نسي، وأصله نسي ثم قلب فصار نيس، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فقيل: ناس، ثم دخلت الألف واللام. والكلام على هذا الأقوال مذكور في علم التصريف. من: موصولة، وشرطية، واستفهامية، ونكرة موصوفة، وتقع على ذي العلم، وتقع أيضا على غير ذي العلم إذا عومل معاملة العالم، أو اختلط به فيما وقعت عليه أو فيما فصل بها، ولا تقع على آحاد ما لا يعقل مطلقا خلافا لزاعم ذلك. وأكثر لسان العرب أنها لا تكون نكرة موصوفة إلا في موضع يختص بالنكرة، كقول سويد بن أبي كاهل:
* رب من أنضجت غيظا صدره
*
لو تمنى لي موتا لم يطع
*
ويقل استعمالها في موضع لا يختص بالنكرة، نحو قول الشاعر:
* فكفى بنا فضلا على من غيرنا
*
حب النبي محمد إيانا
*
وزعم الكسائي أن العرب لا تستعمل من نكرة موصوفة إلا بشرط وقوعها في موضع لا يقع فيه إلا النكرة، وزعم هو وأبو الحسن الهنائي أنها تكون زائدة، وقال الجمهور: لا تزاد. وتقع من على العاقل المعدوم الذي لم يسبقه وجود، تتوهمه، موجودا خلافا لبشر المريسي، وفاقا للقراء، وصححه أصحابنا. فأما قول العرب: أصبحت كمن لم يخلق فنزيد: كمن قد مات، وأكثر المعربين للقرآن متى صلح عندهم تقدير ما أو من بشيء جوزوا فيها أن تكون نكرة موصوفة، وإثبات كون ما نكرة موصوفة يحتاج إلى دليل، ولا دليل قاطع في قولهم: مررت بما معجب لك لإمكان الزيادة، فإن اطرد ذلك في الرفع والنصب من كلام العرب، كان سرني ما معجب لك وأحببت ما معجبا لك، كان في ذلك تقوية لما دعى النحويون من ذلك، ولو سمع لأمكنت الزيادة أيضا لأنهم زادوا ما بين الفعل ومرفوعه والفعل ومنصوبه. الزيادة أمر ثابت لما، فإذا أمكن ذلك فيها فينبغي أن يحمل على ذلك ولا يثبت لها معنى إلا بدليل قاطع. وأمعنت الكلام في هذه المسألة بالنسبة إلى ما يقع في هذا الكتاب من علم
النحو لما ينبني على ذلك في فهم القرآن.
القول: هو اللفظ الموضوع لمعنى وينطلق على اللفظ الدال على النسبة الإسنادية، وهو الكلام وعلى الكلام النفساني، ويقولون في أنفسهم: * (لولا يعذبنا الله) *، وتراكيبه الست تدل على معنى الخفة والسرعة، وهو متعد لمفعول واحد، فإن وقعت جملة محكية كانت في موضع المفعول، وللقول فصل معقود في النحو. الخداع: قيل إظهار غير ما في النفس، وأصله الإخفاء، ومنه سمي البيت المفرد في المنزل مخدعا لتستر أهل صاحب المنزل فيه، ومنه الأخدعان: وهما العرقان المستبطنان في العنق، وسمي الدهر خادعا لما يخفي من غوائله، وقيل الخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه، من قولهم: ضب خادع وخدع إذا أمر الحارث، وهو صائد الضب، يده على باب حجره
180

أوهمه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر، وهو راجع إلى معنى القول الأول، وقيل أصله الفساد، من قول الشاعر:
* أبيض اللون لذيذ طعمه
*
طيب الريق إذا الريق خدع
*
أي فسد. إلا: حرف، وهو أصل لذوات الاستثناء، وقد يكون ما بعده وصفا، وشرط الوصف به جواز صلاحية الموضع للاستثناء. وأحكام إلا مستوفاة في علم النحو. النفس: الدم، أو النفس: المودع في الهيكل القائم به الحياة، والنفس، الخاطر، ما يدري أي نفسيه يطيع، وهل النفس الروح أم هي غيره؟ في ذلك خلاف. وفي حقيقة النفس خلاف كثير ومجمع على أنفس ونفوس، وهما قياس فعل الاسم الصحيح العين في جميعه القليل والكثير. الشعور: إدراك الشيء من وجه يدق مشتق من الشعر، والإدراك بالحاسة مشتق من الشعار، وهو ثوب بلى الجسد ومشاعر الإنسان حواسه.
* (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) *، المرض: مصدر مرض، ويطلق في اللغة على الضعف والفتور، ومنه قيل: فلان يمرض الحديث أي يفسده ويضعفه. وقال ابن عرفة: المرض في القلب: الفتور عن الحق، وفي البدن: فتور الأعضاء، وفي العين: فتور النظر، ويطلق ويراد به الظلمة، قال:
* في ليلة مرضت من كل ناحية
*
فما يحس به نجم ولا قمر
*
وقيل: المرض: الفساد، وقال أهل اللغة: المرض والألم والوجع نظائر. الزيادة: فعلها يتعدى إلى اثنين من باب أعطى وكسى، وقد تستعمل لازما نحو: زاد المال. أليم: فعيل من الألم بمعنى مفعل، كالسميع بمعنى المسمع، أو للمبالغة وأصله ألم. كان: فعل يدخل على المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو، فيدل على زمان مضمون الجملة فقط، أو عليه وعلى الصيرورة، وتسمى ناقصة وتكتفي بمرفوع فتارة تكون فعلا لازما وتارة متعديا، بمعنى كفل أو غزل: كنت الصبي كفلت، وكنت الصوف غزلته، وهذا من غريب اللغات، وقد تزاد ولا فاعل لها إذ ذاك خلافا لأبي سعيد، وأحكامها مستوفاة في النحو. التكذيب: مصدر كذب، والتضعيف فيه للرمي به كقولك: شجعته وجبنته، أي رميته بالشجاعة والجبن، وهي أحد المعاني التي جاءت لها فعل وهي أربعة عشرة: الرمي، والتعدية، والتكثير، والجعل على صفة، والتسمية، والدعاء للشيء أو عليه، والقيام على الشيء، والإزالة، والتوجه، واختصار الحكاية، وموافقة تفعل وفعل، والإغناء عنهما، مثل ذلك: جبنته، وفرحته، وكثرته، وفطرته، وفسقته، وسقيته، وعقرته، ومرضته، وقذيت عينه، وشوق، وأمن، قال: آمين، وولى: موافق تولى، وقدر: موافق قدر، وحمر: تكلم بلغة حمير، وعرد في القتال. وأما الكذب فسيأتي الكلام عليه، لما ذكر من الكتاب هدى لهم، وهم المتقون الذين جمعوا أوصاف الإيمان من خلوص الاعتماد وأوصاف الإسلام من الأفعال البدنية والمالية، ولما ذكر ما آل أمرهم إليه في الدنيا من الهدى وفي الآخرة من الفلاح. ثم أعقب ذلك بمقابلهم من الكفار الذين ختم عليهم بعدم الإيمان، وختم لهم بما يؤولون إليه
181

من العذاب في النيران. وبقي قسم ثالث أظهروا الإسلام مقالا وأبطنوا الكفر اعتقادا وهم المنافقون، أخذ يذكر شيئا من أحوالهم.
ومن في قوله: ومن الناس للتبعيض، وأبعد من ذهب إلى أنها لبيان الجنس لأنه لم يتقدم شيء مبهم فيبين جنسه. والألف واللام في الناس للجنس أو للعهد، فكأنه قال: ومن الكفار السابق ذكرهم من يقول ولا يتوهم أنهم غير مختوم على قلوبهم، كما ذهب إليه الزمخشري فقال: فإن قلت كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقين غير مختوم على قلوبهم؟ وأجاب بأن الكفر جمع الفريقين وصيرهم جنسا واحدا، وكون المنافقين نوعا من نوعي هذا الجنس مغايرا للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء لا يخرجهم من أن يكونوا بعضا من الجنس، انتهى. لأن المنافقين داخلون في الأوصاف التي ذكرت للكفار من استواء الإنذار وعدمه، وكونهم لا يؤمنون، وكونهم مختوما على قلوبهم وعلى سمعهم ومجعولا على أبصارهم غشاوة ومخبرا عنهم أنهم لهم عذاب عظيم، فهم قد اندرجوا في عموم الذين كفروا وزادوا أنهم قد ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في دعواهم. وسيأتي شرح ذلك.
وسأل سائل: ما معنى: * (ومن الناس من يقول) *؟ ومعلوم أن الذي يقول هو من الناس، فكيف يصلح لهذا الجار والمجرور وقوعه خبرا للمبتدأ بعده؟ فأجيب بأن هذا تفصيل معنوي لأنه تقدم ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكافرين، ثم أعقب بذكر المنافقين، فصار نظير التفصيل اللفظي في قوله: ومن الناس من يعجبك، ومن الناس من يشري نفسه، فهو في قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق، كما فصلوا إلى من يعجبك قوله، ومن يشري نفسه، ومن: في قوله تعالى: * (من يقول) * نكرة موصوفة مرفوعة بالابتداء، والخبر الجار والمجرور المتقدم الذكر. ويقول: صفة، هذا اختيار أبي البقاء، وجوز الزمخشري هذا الوجه. وكأنه قال: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله: * (من المؤمنين رجال صدقوا) * قال: إن جعلت اللام للجنس يعني في قوله: ومن الناس، قال: وإن جعلها للعهد فموصولة كقوله: * (ومنهم الذين يؤذون النبى) *. واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة بمعنى الذي قال، لأن الذي يتناول قوما بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام والتقدير، ومن الناس فريق يقول: وما ذهب إليه الزمخشري من أن اللام في الناس، إن كانت للجنس كانت من نكرة موصوفة، وإن كانت للعهد كانت موصولة، أمر لا تحقيق له، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس والعهد للعهد، ولا يلزم ذلك، بل يجوز أن تكون اللام للجنس ومن موصولة، ويجوز أن تكون للعهد، ومن نكرة موصوفة فلا تلازم بين ما ذكره.
وأما استضعاف أبي البقاء كون من موصولة وزعمه أن المعنى على الإبهام فغير مسلم، بل المعنى أنها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين، وهم: عبد الله بن أبي بن سلول، وأصحابه، ومن وافقه من غير أصحابه ممن أظهر الإسلام وأبطن الكفر، وقد وصفهم الله تعالى في ثلاث عشرة آية، وذكر عنهم أقاويل معينة قالوها، فلا يكن ذلك صاردا إلا من معين فأخبر عن ذلك المعين. والذي نختار أن تكون من موصولة، وإنما اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى ومن حيث التركيب الفصيح. ألا ترى جعل من نكرة موصوفة إنما يكون ذلك إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وهذا الكلام ليس من المواضع التي تختص بالنكرة، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جدا، حتى أن الكسائي أنكر ذلك وهو إمام نحو وسامع لغة، فلا نحمل كتاب الله ما أثبته بعض النحويين في قليل وأنكر وقوعه أصلا الكسائي، فلذلك اخترنا أن تكون موصولة. ومن: من الأسماء التي لفظها مفرد مذكر دائما، وتنطلق عليه فروع المفرد والمذكر إذا كان معناها كذلك فتارة يراعي اللفظ فيفرد ما يعود على من مذكرا، وتارة يراعي المعنى فيحمل عليه ويطلق المعربون ذلك، وفي ذلك تفصيل كثير ذكر في النحو. قال
182

ابن عطية: من يقول آمنا رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ من ومعناها وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحد، لو قلت: ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجز، انتهى كلامه، وما ذكر من أنه لا يجع من لفظ جمع إلى توحد خطأ، بل نص النحويون على جواز الجملتين، لكن البدء بالحمل على اللفظ ثم على المعنى أولى من الابتداء بالحمل على المعنى، ثم يرجع إلى الحمل على اللفظ، ومما رجع فيه إلى الإفراد بعد الجمع قول الشاعر:
* لست ممن يكع أو يستكينو
*
ن إذا كافحته خيل الأعادي
*
وفي بعض هذه المسائل تفصيل، كما أشرنا إليه. ويقول: أفرد فيه الضمير مذكرا على لفظ من وآمنا: جملة هي المقولة، فهي في موضع المفعول وأتى بلفظ الجمع رعيا للمعنى، إذ لو راعى لفظ من قال آمنت. واقتصروا من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر حيدة منهم عن أن يعترفوا بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم) وبما أنزل إليه وإيهاما أنهم من طائفة المؤمنين، وإن كان هؤلاء، كما زعم الزمخشري، يهودا. فإيمانهم بالله ليس بإيمان، كقولهم: * (عزير ابن الله) * وباليوم الآخر، كذلك لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته، وهم لو قالوا ذلك على أصل عقيدتهم لكان كفرا، فكيف إذا قالوا ذلك على طريقة النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم؟ وفي تكرير الباء دليل على مقصود كل ما دخلت عليه الباء بالإيمان. واليوم الآخر يحتمل أن يراد به: الوقت المحدود من البعث إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعد لهم، ويحتمل أن يراد به: الأبد الدائم الذي لا ينقطع. وسمي آخرا لتأخره، إما عن الأوقات المحدودة باعتبار الاحتمال الأول أو عن الأوقات المحدودة باعتبار الاحتمال الثاني. والباء في بمؤمنين زائدة والموضع نصب لأن ما حجازية وأكثر لسان الحجاز جر الخبر بالباء، وجاء القرآن على الأكثر، وجاء النصب في القرآن في قوله: * (ما هاذا بشرا) * وما هن أمهاتهم. وأما في أشعار العرب فزعموا أنه لم يحفظ منه أيضا إلا قول الشاعر:
* وأنا النذير بحرة مسودة
*
تصل الجيوش إليكم أقوادها
*
* أبناؤها متكفون أباهم
*
حنقوا الصدور وما هم أولادها
*
ولا تختص زيادة الباء باللغة الحجازية، بل تزاد في لغة تميم خلافا لمن منع ذلك، وإنما ادعينا أن قوله: بمؤمنين في موضع نصب لأن القرآن نزل بلغة الحجاز، لأنه حين حذفت الباء من الخبر ظهر النصب فيه، ولها أحكام كثيرة في باب معقود في النحو. وإنما زيدت الباء في الخبر للتأكيد، ولأجل التأكيد في مبالغة نفي إيمانهم، جاءت الجملة المنفية اسمية مصدرة بهم، وتسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مقيدا بزمان ليشمل النفي جميع الأزمان، إذ لو جاء اللفظ منسحبا على اللفظ المحكي الذي هو: آمنا، لكان: وما آمنوا، فكان يكون نفيا للإيمان الماضي، والمقصود أنهم
183

ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت ما من الأوقات، وهذا أحسن من أن يحمل على تقييد الإيمان المنفي، أي وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر، ولم يرد الله تعالى عليهم قولهم: آمنا، إنما رد عليهم متعلق القول وهو الإيمان، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم: إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب. وهم في قوله: * (وما هم بمؤمنين) * عائد على معنى من، إذ أعاد أولا على اللفظ فأفرد الضمير في يقول، ثم أعاد على المعنى فجمع. وهكذا جاء في القرآن أنه إذا اجتمع اللفظ والمعنى بدىء باللفظ ثم أتبع بالحمل على المعنى. قال تعالى: * (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا) *، * (ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن) * الآية، * (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا) *.
وذكر شيخنا الإمام علم الدين أبو محمد عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري الأندلسي الأصل المصري المولد والمنشأ، المعروف بابن بنت العراقي، رحمه الله تعالى، أنه جاء موضع واحد في القرآن بدىء فيه بالحمل على المعنى أولا ثم أتبع بالحمل على اللفظ، وهو قوله تعالى: * (وقالوا ما فى بطون هاذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) *، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأورد بعضهم قراءة من قرأ في الشاذ، * (وإن منكم لمن ليبطئن) * بضم الهمزة متخيلا أنه مما بدىء فيه بالحمل على المعنى، وسيأتي الكلام عليه في موضعه. ولا يجيز الكوفيون الجمع بين الجملتين إلا بفاصل بينهما، ولم يعتبر البصريون الفاصل، قال ابن عصفور، ولم يرد السماع إلا بالفصل، كما ذهب الكوفيون إليه، وليس ما ذكر بصحيح، ألا ترى قوله تعالى: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *؟ فحمل على اللفظ في كان، إذ أفرد الضمير وجاء الخبر على المعنى، إذ جاء جمعا ولا فصل بين الجملتين، وإنما جاء أكثر ذلك بالفصل لما فيه من إزالة قلق التنافر الذي يكون بين الجملتين.
وقراءة الجمهور: يخادعون الله، مضارع خادع. وقرأ عبد الله وأبو حياة يخدعون الله، مضارع خدع لمجرد، ويحتمل قوله: * (يخادعون الله) * أن يكون مستأنفا، كأن قائلا يقول: لم يتظاهرون بالإيمان وليسوا بمؤمنين في الحقيقة؟ فقيل: يخادعون، ويحتمل أن يكون بدلا من قوله: يقول آمنا، ويكون ذلك بيانا، لأن قولهم: آمنا وليسوا بمؤمنين في الحقيقة مخادعة، فيكون بدل فعل من فعل لأنه في معناه، وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب. ويحتمل أن تكون الجملة في موضع الحال، وذو الحال الضمير المستكن في يقول، أي: ومن الناس من يقول آمنا، مخادعين الله والذين آمنوا. وجوز أبو البقاء أن يكون حالا، والعامل فيها اسم الفاعل الذي هو: بمؤمنين، وذو الحال: الضمير المستكن في اسم الفاعل. وهذا إعراب خطأ، وذلك أن ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم، فإذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال، وهو القيد، فنفته، ولذلك طريقان في لسان العرب: أحدهما: وهو الأكثر أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد، فإذا قلت: ما زيد أقبل ضاحكا فمفهومه نفي الضحك ويكون قد أقبل غير ضاحك، وليس معنى الآية على هذا، إذ لا ينفي عنهم الخداع فقط، ويثبت لهم الإيمان بغير خداع، بل المعنى: نفي الإيمان عنهم مطلقا. والطريق الثاني: وهو الأقل، أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه قال في المثال السابق: لم يقبل زيد ولم يضحك: أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا، إذ ليس المراد نفي الإيمان عنهم ونفي الخداع.
والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال: ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين، لأن ذلك يوجب نفي خداعهم، والمعنى على إثبات الخداع، انتهى كلامه. فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة، وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك، بل كل منهما قيد يتسلط النفي عليه، والله تعالى هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء. فمخادعة المنافقين الله هو من حيث الصورة لا من حيث
184

المعنى من جهة تظاهرهم بالإيمان وهم مبطنون للكفر، قاله جماعة، أو من حيث عدم عرفانهم بالله وصفاته فظنوا أنه ممن يصح خداعه. فالتقدير الأول مجاز والثاني حقيقة، أو يكون على حذف مضاف، أي يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم) والذين آمنوا، فتارة يكون المحذوف مرادا وتارة لا يكون مرادا، بل مخادعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمنزلة مخادعة الله، فجاء: يخادعون الله، وهذا الوجه قاله الحسن والزجاج.
وإذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله تعالى بالأوجه التي ذكرناها، كما ذكرناها، فلا ضرورة تدعو إلى أن نذهب إلى أن اسم مقحم، لأن المعنى يخادعون الذين آمنوا، كما ذهب إليه الزمخشري، وقال: يكون من باب: أعجبني زيد وكرمه، المعنى هذا أعجبني كرم زيد، وذكر زيد توطئة لذكر كرمه، والنسبة إلى الإعجاب إلى كرمه هي المقصودة، وجعل من ذلك والله ورسوله أحق أن يرضوه، إن الذين يؤذون الله ورسوله وما ذكره في هذه المثل غير مسلم له. وللآيتين الشريفتين محامل تأتي في مكانها، إن شاء الله تعالى. وأما أعجبني زيد وكرمه، فإن الإعجاب أسند إلى زيد بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزا لصفة الكرم من سائر الصفات التي انطوى عليها لشرف هذه الصفة، فصار من المعنى نظيرا لقوله تعالى: * (وملئكته ورسله وجبريل وميكال) *، فلا يدعي كما ادعى الزمخشري أن الاسم مقحم، وأنه ذكر توطئة لذكر الكرم. وخادع الذي مضارعه يخادع على وزن فاعل، وفاعل يأتي لخمسة معان: لاقتسام الفاعلية، والمفعولية في اللفظ، والاشتراك فيهما من حيث المعنى، ولموافقة أفعل المتعدي، وموافقة المجرد للإغناء عن أفعل وعن المجرد. ومثل ذلك: ضارب زيدا عمر، وباعدته، وواريت الشيء، وقاسيت. وخادع هنا إما
لموافقة الفعل المجرد فيكون بمعنى خدع، وكأنه قال: يخدعون الله، ويبينه قراءة ابن مسعود وأبي حياة، وقد تقدمت. ويحتمل أن يكون خادع من باب المفاعلة، فمخادعتهم تقدم تفسيرها، ومخادعة الله لهم حيث أجرى عليهم أحكام المسلمين واكتفى منهم في الدنيا بإظهار الإسلام، وإن أبطنوا خلافه، ومخادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أحكام المسلمين عليهم.
وفي مخادعتهم هم للمؤمنين فوائد لهم، من تعظيمهم عند المؤمنين، والتطلع على أسرارهم فيغشونها إلى أعدائهم، ورفع حكم الكفار عنهم من القتل وضرب الجزية، وغير ذلك، وما ينالون من الإحسان بالهداية وقسم الغنائم. وقرأ: وما يخادعون، الحرميان، وأبو عمرو. وقرأ باقي السبعة: وما يخدعون. وقرأ الجارود بن أبي سبرة، وأبو طالوت عبد السلام بن شداد: وما يخدعون مبنيا للمفعول. وقرأ بعضهم: وما يخادعون، بفتح الدال مبنيا للمفعول. وقرأ قتادة، ومورق العجلي: وما يخدعون، من خدع المشدد مبنيا للفاعل، وبعضهم يفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة. فهذه ست قراءات توجيه: الأولى: أن المعنى في الخداع إنما هو الوصول إلى المقصود من المخدوع، بأن ينفعل له فيما يختار، وينال منه ما يطلب على غرة من المخدوع وتمكن منه وتفعل له، ووبال ذلك ليس راجعا للمخدوع، إنما وباله راجع إلى المخادع، فكأنه ما خادع ولا كاد إلا نفسه بإيرادها موارد الهلكة، وهو لا يشعر بذلك جهلا منه بقبيح انتحاله وسوء مآله. وعبر عن هذا المعنى بالمخادعة على وجه المقابلة، وتسمية الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له، كما قال:
185

* ألا لا يجهلن أحد علينا
*
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
*
جعل انتصاره جهلا، ويؤيد هذا المنزع هنا أنه قد يجيء من واحد: كعاقبت اللص، وطارقت النعل. ويحتمل أن تكون المخادعة على بابها من اثنين، فهم خادعون أنفسهم حيث منوها الأباطيل، وأنفسهم خادعتهم حيث منتهم أيضا ذلك، فكأنها مجاورة بين اثنين، وقال الشاعر:
* تذكر من أني ومن أين شربه
*
يؤامر نفسيه لذي البهجة الإبل
*
وأنشد ابن الأعرابي:
* لم تدر ما ولست قائلها
*
عمرك ما عشت آخر الأبد
*
* ولم تؤامر نفسيك ممتريا
*
فيها وفي أختها ولم تلد
*
وقال:
* يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة
*
أيستوبع الذوبان أم لا يطورها
*
وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي:
* وكنت كذات الضي لم تدر إذ بغت
*
تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني
*
ففي هذه الأبيات قد جعل للشخص نفسين على معنى الخاطرين، ولها جنسين، أو يكون فاعل بمعنى فعل، فيكون موافقا لقراءة: وما يخدعون. وتقول العرب: خادعت الرجل، أعملت التحيل عليه فخدعته، أي تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد، خدعا، بكسر الخاء في المصدر وخديعة، حكاه أبو زيد. فالمعنى: وما ينفذ السوء إلا على أنفسهم، والمراد بالأنفس هنا: ذواتهم. فالفاعل هو المفعول، وقد ادعى بعضهم أن هذا من المقلوب وأن المعنى: وما يخادعهم إلا أنفسهم قال: لأن الإنسان لا يخدع نفسه، بل نفسه هي التي تخدعه وتسول له وتأمره بالسوء. وأورد أشياء مما قلبته العرب، وللنحويين في القلب مذهبان: أحدهما: أنه يجوز في الكلام والشعر اتساعا واتكالا على فهم المعنى.
186

والثاني: أنه لا يجوز في الكلام ويجوز في الشعر حالة الاضطرار، وهذا هو الذي صححه أصحابنا، وكان هذا الذي ادعى القلب لما رأى قولهم: منتك نفسك، وقوله تعالى: * (بل سولت لكم أنفسكم) * تخيل أن الممني والمسول غير الممني والمسول له، وليس على ما تخيل، بل الفاعل هنا هو المفعول. ألا ترى أنك تقول: أحب زيد نفسه، وعظم زيد نفسه؟ فلا يتخيل هنا تباين الفاعل والمفعول إلا من حيث اللفظ، وأما المدلول فهو واحد. وإذا كان المعنى صحيحا دون قلب، فأي حاجة تدعو إليه هذا؟ مع أن الصحيح أنه لا يجوز إلا في الشعر، فينبغي أن ينزه كتاب الله تعالى منه.
ومن قرأ: وما يخادعون أو يخدعون مبنيا للمفعول، فانتصاب ما بعد إلا على ما انتصب عليه زيد غبن رأيه، إما على التمييز على مذهب الكوفيين، وإما على التشبيه بالمفعول به على ما زعم بعضهم، وإما على إسقاط حرف الجر، أي: في أنفسهم، أو عن أنفسهم، أو ضمن الفعل معنى ينتقضون ويستلبون، فينتصب على أنه مفعول به، كما ضمن الرفث معنى الإفضاء فعدى بإلى في قوله: * (الرفث إلى نسائكم) *، ولا يقال رفث إلى كذا، وكما ضمن * (هل لك إلى أن) *، معنى أجذبك، ولا يقال: إلا هل لك في كذا. وفي قراءة: وما يخدعون، فالتشديد إما للتكثير بالنسبة للفاعلين أو للمبالغة في نفس الفعل، إذ هو مصير إلى عذاب الله وإما لموافقة فعل نحو: قدر الله وقدر، وقد تقدم ذكر معاني فعل. وقراءة من قرأ: وما يخدعون، أصلها يختدعون فأدغم، ويكون افتعل فيه موافقا لفعل نحو: اقتدر على زيد، وقدر عليه، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، وهي اثنا عشر معنى، وقد تقدم ذكرها. * (أنفسهم وما يشعرون) *: جملة معطوفة على: وما يخادعو إلا أنفسهم، فلا موضع لها من الإعراب، ومفعول يشعرون محذوف تقديره اطلاع الله نبيه على خداعهم وكذبهم، روي ذلك عن ابن عباس، أو تقديره هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم، روي ذلك عن زيد. ويحتمل أن يكون وما يشعرون: جملة حالية تقديره وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك، لأنهم لو شعروا أن خداعهم لله وللمؤمنين إنما هو خداع لأنفسهم لما خادعوا الله والمؤمنين. وجاء: يخادعون الله بلفظ المضارع الماضي لأن المضي يشعر بالانقطاع بخلاف المضارع، فإنه يشعر في معرض الذم أو المدح بالديمومة، نحو: زيد يدع اليتيم، وعمرو يقري الضيف.
والقراء على فتح راء مرض في الموضعين إلا الأصمعي، عن أبي عمرو، فإنه قرأ بالسكون فيهما، وهما لغتان كالحلب والحلب، والقياس الفتح، ولهذا قرأ به الجمهور، ويحتمل أن يراد بالمرض الحقيقة، وأن المرض الذي هو الفساد أو الظلمة أو الضعف أو الألم كائن في قلوبهم حقيقة، وسبب إيجاده في قلوبهم هو ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم) وأتباعه، وفشو الإسلام ونصر أهله. ويحتمل أن يراد به المجاز، فيكون قد كنى به عما حل القلب من الشك، قاله ابن عباس، أو عن الحسد والغل، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول، أو عن الضعف والخور لما رأوا من نصر دين الله وإظهاره على سائر الأديان، وحمله على المجاز أولى لأن قلوبهم لو كان فيها مرض لكانت أجسامهم مريضة بمرضها، أو كان الحمام عاجلهم، قال: بعض المفسرين يشهد لهذا الحديث النبوي والقانون الطبي، أما الحديث، فقوله صلى الله عليه وسلم): (إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد جميعه، وإذا فسدت فسد الجسد جميعه، ألا وهي القلب).
187

وأما القانون الطبي، فإن الحكماء وصفو القلب على ما اقتضاه علم التشريح، ثم قالوا: إذا حصلت فيه مادة غليظة، فإن تملكت منه ومن غلافه أو من أحدهما فلا يبقى مع ذلك حياة وعاجلت المنية صاحبه، وربما تأخرت تأخيرا يسيرا، وإن لم تتمكن منه المادة المنصبة إليه ولا من غلافه، أخرت الحياة مدة يسيرة؟ وقالوا: لا سبيل إلى بقاء الحياة مع مرض القلب، وعلى هذا الذي تقرر لا تكون قلوبهم مريضة حقيقة. وقد تلخص في القرآن من المعاني السببية التي تحصل في القلب سبعة وعشرون مرضا، وهي: الرين، والزيع، والطبع، والصرف، والضيق، والحرج، والختم، والإقفال، والإشراب، والرعب، والقساوة، والإصرار، وعدم التطهير، والنفور، والاشمئزاز، والإنكار، والشكوك، والعمى، والإبعاد بصيغة اللعن، والتأبى، والحمية، والبغضاء، والغفلة، والغمزة، واللهو، والارتياب، والنفاق. وظاهر آيات القرآن تدل على أن هذه الأمراض معان تحصل في القلب فتغلب عليه، وللقلب أمراض غير هذه من الغل والحقد والحسد، ذكرها الله تعالى مضافة إلى جملة الكفار. والزيادة تجاوز المقدار المعلوم، وعلم الله محيط بما أضمروه ومن سوء الاعتقاد والبغض والمخادعة، فهو معلوم عنده، كما قال تعالى: * (وكل شىء عنده بمقدار) *، وفي كل وقت يقذف في قلوبهم من ذلك القدر المعلوم شيئا معلوم المقدار عنده، ثم يقذف بعد ذلك شيئا آخر، فيصير الثاني زيادة على الأول، إذا لو لم يكن الأول معلوم المقدار لما تحققت الزيادة، وعلى هذا المعنى يحمل: * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) *. وزيادة المرض إما من حيث أن ظلمات كفرهم تحل في قلوبهم شيئا فشيئا، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: * (ظلمات بعضها فوق بعض) *، أو من حيث أن المرض حصل في قلوبهم بطريق الحسد أو الهم، بما يجدد الله سبحانه لدينه من علو الكلمة ولرسوله وللمؤمنين من النصر ونفاذ الأمر، أو لما يحصل في قلوبهم من الرعب، وإسناد الزيادة إلى الله تعالى إسناد حقيقي بخلاف الإسناد في قوله تعالى: * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم * أيكم زادته هاذه إيمانا) *.
وقالت المعتزلة: لا يجوز أن تكون زيادة المرض من جنس المزيد عليه، إذ المزيد عليه هو الكفر، فتأولوا ذلك على أن يحمل المرض على الغم لأنهم كانوا يغتمون بعلو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو على منع زيادة الألطاف، أو على ألم القلب، أو على فتور النية في المحاربة لأنهم كانت أولا قلوبهم قوية على ذلك، أو
على أن كفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكليف من الله تعالى. وهذه التأويلات كلها إنما تكون إذا كان قوله: * (فزادهم الله مرضا) * خبرا، وإما إذا كان دعاء فلا، بل يحتمل أن يكون الدعاء حقيقة فيكون دعاء بوقوع زيادة المرض، أو مجازا فلا تقصد به الإجابة لكون المدعو به واقعا، بل المراد به السب واللعن والنقص، كقوله تعالى: * (قاتلهم الله أنى يؤفكون) *، * (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) *، وكقوله: لعن الله إبليس وأخزاه ومعلوم أن ذلك قد وقع، وأنه قد باء بخزي ولعن لا مزيد عليه لأنه لا انتهاء له، وتنكير مرض من قوله: * (فى قلوبهم مرض) * لا يدل على أن جميع أجناس المرض في قلوبهم، كما زعم بعض المفسرين، لأن دلالة النكرة على ما وضعت له إنما هي دلالة على طريقة البدل، لأنها دلالة تنتظم كل فرد فرد على جهة العموم، ولم يحتج إلى جمع مرض لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلا، فاكتفى بالمفرد عن الجمع، وتعدية الزيادة إليهم لا إلى القلوب، إذ قال تعالى: * (فزادهم) *، ولم يقل: فزادها، يحتمل وجهين
188

أحدهما: أن يكون على حذف مضاف، أي فزاد الله قلوبهم مرضا، والثاني: أنه زاد ذواتهم مرضا لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد، فصح نسبه الزيادة إلى الذوات، ويكون ذلك تنبيها على أن في ذواتهم مرضا، وإنما أضاف ذلك إلى قلوبهم لأنها محل الإدراك والعقل. وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ألفها منقلبة عن ياء إلا فعلا واحدا ألفه منقلبة عن واو ووزنه فعل بفتح العين، إلا ذلك الفعل فإن وزنه فعل بكسر العين، وقد جمعتها في بيتين في قصيدتي المسماة، بعقد اللآلي في القراءات السبع العوالي، وهما:
* وعشرة أفعال تمال لحمزة
*
فجاء وشاء ضاق ران وكملا
*
بزاد وخاب طاب خاف معا وحاق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا يعني أنه قد استثنى حمزة، * (وإذ زاغت الابصار) *، في سورة الأحزاب، * (وإذ زاغت * عنهم الابصار) *، في سورة ص، فلم يملها. ووافق ابن ذكوان حمزة على إمالة جاء وشاء في جميع القرآن، وعلى زاد في أول البقرة، وعنه خلاف في زاد هذه في سائر القرآن، وبالوجهين قرأته له، والإمالة لتميم، والتفخيم للحجاز. وأليم: تقدم تفسيره. فإذا قلنا إنه للمبالغة فيكون محولا من فعل لها ونسبته إلى العذاب مجاز، لأن العذاب لا يألم، إنما يألم صاحبه، فصار نظير قولهم: شعر شاعر، والشعر لا يشعر إنما الشاعر ناظمه. وإذا قلنا إنه بمعنى: مؤلم، كما قال عمرو بن معدي كرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع، وفعيل: بمعنى مفعل مجاز، لأن قياس أفعل مفعل، فالأول مجاز في التركيب، وهذا مجاز في الإفراد. وقد حصل للمنافقين مجموع العذابين: العذاب العظيم المذكور في الآية، قيل لانخراطهم معهم ولانتظامهم فيهم. ألا ترى أن الله تعالى في تلك الآية قد أخبر أنهم لا يؤمنون في قوله: لا يؤمنون، وأخبر بذلك في هذه الآية بقوله: وما هم بمؤمنين؟ والعذاب الأليم، فصار المنافقون أشد عذابا من غيرهم من الكفار، بالنص على حصول العذابين المذكورين لهم، ولذلك قال تعالى: * (إن المنافقين فى الدرك الاسفل من النار) *، ثم ذكر تعالى أن كينونة العذاب الأليم لهؤلاء سببها كذبهم وتكذيبهم وما منسوية أي بكونهم يكذبون، ولا ضمير يعود عليها لأنها حرف، خلافا لأبي الحسن. ومن زعم أن كان الناقصة لا مصدر لها، فمذهبه مردود، وهو مذهب أبي علي الفارسي. وقد كثر في كتاب سيبويه المجيء بمصدر كان الناقصة، والأصح أنه لا يلفظ به معها، فلا يقال: كان زيد قائما كونا، ومن أجاز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، فالعائد عنده محذوف تقديره يكذبونه أو يكذبونه. وزعم أبو البقاء أن كون ما موصولة أظهر، قال: لأن الهاء المقدرة عائدة إلى الذي دون المصدر، ولا يلزم أن يكون، ثم هاء مقدرة، بل من قرأ: يكذبون، بالتخفيف، وهم
189

الكوفيون، فالفعل غير متعد، ومن قرأ بالتشديد، وهم الحرميان، والعربيان، فالمفعول محذوف لفهم المعنى تقديره فكونهم يكذبون الله في أخباره والرسول فيما جاء به، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف على جهة المبالغة، كما قالوا في: صدق صدق، وفي: بان الشيء بين، وفي: قلص الثوب قلص.
والكذب له محامل في لسان العرب: أحدها: الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، وعمرو بن بحر يزيد في ذلك أن يكون المخبر عالما بالمخالفة، وهي مسألة تكلموا عليها في أصول الفقه. الثاني: الإخبار بالذي يشبه الكذب ولا يقصد به إلا الحق، قالوا: ومنه ما ورد في الحديث عن إبراهيم صلوات الله عليه وعلى نبينا. الثالث: الخطأ، كقول عبادة فيمن زعم: أن الوتر واجب، كذب أبو محمد أي أخطأ. الرابع: البطول، كقولهم: كذب الرجل، أي بطل عليه أمله وما رجا وقدر. الخامس: الإغراء بلزوم المخاطب الشيء المذكور، كقولهم: كذب عليك العسل، أي أكل العسل، والمغرى به مرفوع بكذب، وقالوا: لا يجوز نصبه إلا في حرف شاذ، ورواه القاسم بن سلام عن معمر بن المثنى، والمؤثم هو الأول.
وقد اختلف الناس في الكذب فقال قوم: الكذب كله قبيح لا خير فيه، وقالوا: سئل مالك عن الرجل يكذب لزوجته ولابنه تطييبا للقلب فقال: لا خير فيه. وقال قوم: الكذب محرم ومباح، فالمحرم الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن في مراعاته مصلحة شرعية، والمباح ما كان فيه ذلك، كالكذب لإصلاح ذات البين.
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات خلافا، قال قوم: نزلت في منافقي أهل الكتاب، كعبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس، حين قالوا: تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونتمسك مع ذلك بديننا، فأظهروا الإيمان باللسان واعتقدوا خلافه. ورواه أبو صالح، عن ابن عباس، وقال قوم: نزلت في
منافقي أهل الكتاب وغيرهم، رواه السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال أبو العالية، وقتادة، وابن زيد
2 (* (وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولاكن لا يشعرون * وإذا قيل لهم ءامنوا كمآ ءامن الناس قالوا أنؤمن كمآ آمن السفهآء ألا إنهم هم السفهآء ولاكن لا يعلمون * وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون * الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون * أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) *)) 2
* (وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولاكن لا يشعرون) *، إذا: ظرف زمان، ويغلب كونها شرطا، وتقع للمفاجأة ظرف زمان وفاقا للرياشي، والزجاج، لا ظرف مكان خلافا للمبرد، ولظاهر مذهب سيبويه، ولا حرفا خلافا للكوفيين. وإذا كانت حرفا، فهي لما تيقن أو رجح وجوده، ويجزم بها في الشعر، وأحكامها مستوفاة في علم النحو. الفعل الثلاثي الذي انقلب عين فعله ألفا في الماضي، إذا بني للمفعول، أخلص كسر
190

أوله وسكنت عينه ياء في لغة قريش ومجاوريهم من بني كنانة، وضم أولها عند كثير من قيس وعقيل ومن جاورهم، وعامة بني أسد. وبهذه اللغة قرأ الكسائي وهشام في: قيل، وغيض، وحيل، وسيىء، وسيئت، وجئ، وسيق. وافقه نافع وابن ذكوان في: سيىء، وسيئت. زاد ابن ذكوان: حيل، وساق. وباللغة الأولى قرأ باقي القراءة، وفي ذلك لغة ثالثة، وهي إخلاص ضم فاء الكلمة وسكون عينه واوا، ولم يقرأ بها، وهي لغة لهذيل، وبني دبير. والكلام على توجيه هذه اللغات وتكميل أحكامها مذكور في النحو. الفساد: التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة. قال سهيل في الفصيح: فسد، ونقيضه: الصلاح، وهو اعتدال الحال واستواؤه على الحالة الحسنة.
الأرض: مؤنثة، وتجمع على أرض وأراض، وبالواو والنون رفعا وبالياء والنون نصبا وجرا شذوذا، فتفتح العين، وبالألف والتاء، قالوا: أرضات، والأراضي جمع جمع كأواظب. إنما: ما: صلة لأن وتكفها عن العمل، فإن وليتها جملة فعلية كانت مهيئة، وفي ألفاظ المتأخرين من النحويين وبعض أهل الأصول إنها للحصر، وكونها مركبة من ما النافية، دخل عليها إن التي للإثبات فأفادت الحصر، قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو، والذي نذهب إليه أنها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من أخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعل زيدا قائم، ولعل ما زيد قائم، فكذلك: إن زيدا قائم، وإنما زيد قائم، وإذا فهم حصر، فإنما يفهم من سياق الكلام لا أن إنما دلت عليه، وبهذا الذي قررناه يزول الإشكال الذي أوردوه في نحو قوله تعالى: * (إنما أنت منذر) *، * (قل إنما أنا بشر) *، * (إنما أنت منذر من يخشاها) *. وأعمال إنما قد زعم بعضهم أنه مسموع من لسان العرب، والذي عليه أصحابنا أنه غير مسموع.
نحن: ضمير رفع منفصل لمتكلم معه غيره أو لمعظم نفسه، وفي اعتلال بنائه على الضم أقوال تذكر في النحو. ألا: حرف تنبيه زعموا أنه مركب من همزة الاستفهام ولا النافية للدلالة على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا، كقوله تعالى: * (أليس ذلك بقادر) *، ولكونها من المنصب في هذه لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وقال ذلك الزمخشري. والذي نختاره أن ألا التنبيهية حرف بسيط، لأن دعوى التركيب على خلاف الأصل، ولأن ما زعموا من أن همزة الاستفهام دخلت على لا النافية دلالة على تحقق ما بعدها، إلى آخره خطا، لأن مواقع ألا تدل على أن لا ليست للنفي، فيتم ما ادعوه، ألا ترى أنك تقول: ألا إن زيدا منطلق، ليس أصله لا أن زيدا منطلق، إذ ليس من تراكيب العرب بخلاف ما نظر به من قوله تعالى: * (أليس ذلك بقادر) *، لصحة تركيب، ليس زيد بقادر، ولوجودها قبل رب وقبل ليت وقبل النداء وغيرها مما لا يعقل فيه أن لا نافية، فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت التحقيق، قال امرؤ القيس:
* ألا رب يوم لك منهن صالح
*
ولا سيما يوم بدارة جلجل
*
وقال الآخر:
* ألا ليت شعري كيف حادث وصلها
*
وكيف تراعي وصلة المتغيب
*
191

وقال الآخر:
* ألا يا لقومي للخيال المشوق
*
وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي
*
وقال الآخر:
* ألا يا قيس والضحاك سيرا
*
فقد جاوزتما خمر الطريق
*
إلى غير هذا مما لا يصلح دخول لا فيه. وأما قوله: لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يلتقي به القسم فغير صحيح، ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح، برب، وبليت، وبفعل الأمر، وبالنداء، وبحبذا، في قوله:
ألا حبذا هند وأرض بها هند
ولا يلتقي بشيء من هذا القسم وعلامة ألا هذه التي هي تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها، وتكون أيضا حرف عرض فيليها الفعل، وإن وليها الاسم فعلى إضمار الفعل، وحرف جواب بقول القائل: ألم تقم فتقول: ألا بمعنى بلى؟ نقل ذلك صاحب كتاب (وصف المباني في حروف المعاني) قال: وهو قليل شاذ، وأما ألا التي للتمني في قولهم: إلا ماء، فذكرها النحاة في فصل لا الداخل عليها الهمزة. لكن: حرف استدراك، فلا يجوز أن يكون ما قبلها موافقا لما بعدها، فإن كان نقيضا أو ضدا جاز، أو خلافا ففي الجواز خلاف، وفي التصحيح خلاف. وحكى أبو القاسم بن الرمال جواز أعمالها مخففة عن يونس، وحكى ذلك غيره عن الأخفش، وحكى عن يونس أنها ليست من حروف العطف، ولم تقع في القرآن غالبا إلا وواو العطف قبلها، ومما جاءت فيه من غير واو قوله تعالى: * (لكن الذين اتقوا ربهم * لاكن الله يشهد) *، وفي كلام العرب:
* إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله
*
لكن وقائعه في الحرب تنتظر
*
وبقية أحكام لكن مذكورة في النحو. الكاف: حرف تشبيه تعمل الجر وأسميتها مختصة عندنا بالشعر، وتكون
192

زائدة وموافقة لعلى، ومن ذلك قولهم: كخير في جواب من قال كيف أصبحت، ويحدث فيها معنى التعليل، وأحكامها مذكورة في النحو. * (وإذا قيل لهم ءامنوا كما ءامن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولاكن لا يعلمون) *، السفه: الخفة. ومنه قيل للثوب الخفيف النسج سفيه، وفي الناس خفة الحلم، قاله ابن كيسان، أو البهت والكذب والتعمد خلاف ما يعلم، قاله مؤرج، أو الظلم والجهل، قاله قطرب. والسفهاء جمع سفيه، وهو جمع مطرد في فعيل الصحيح الوصف المذكر العاقل الذي بينه وبين مؤنثه التاء، والفعل منه سفه بكسر العين وضمها، وهو القياس لأجل اسم الفاعل. قالوا: ونقيض السفه: الرشد، وقيل: الحكمة، يقال رجل حكيم، وفي ضده سفيه، ونظير السفه النزق والطيش.
* (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن) *، اللقاء: استقبال الشخص قريبا منه، والفعل منه لقي يلقى، وقد يقال لاقى، وهو فاعل بمعنى الفعل المجرد، وسمع للقى أربعة عشر مصدرا، قالوا: لقى، لقيا، ولقية، ولقاة، ولقاء، ولقاء، ولقى، ولقي، ولقياء، ولقياء، ولقيا، ولقيانا، ولقيانة، وتلقاء. الخلو: الانفراد، خلا به أي انفرد، أو المضي، * (العاملين قد خلت من قبلكم سنن) *. الشيطان، فيعال عند البصريين، فنونه أصلية من شطن، أي بعد، واسم الفاعل شاطن، قال أمية:
* أيما شاطن عصاه عكاه
*
ثم يلقى في السجن والأكبال
*
وقال رؤبة:
* وفي أخاديد السياط المتن
*
شاف لبغي الكلب المشيطن
*
ووزنه فعلان عند الكوفيين، ونونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك، قال الشاعر:
* قد تظفر العير في مكنون قائلة
*
وقد تشطو على أرماحنا البطل
*
والشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب، قاله ابن عباس، وأنثاه شيطانة، قال الشاعر:
193

* هي البازل الكوماء لا شيء غيرها
*
وشيطانة قد جن منها جنونها
*
وشياطين: مع شيطان، نحو غراثين في جمع غرثان، وحكاه الفراء، وهذا على تقدير أن نونه زائدة تكون نحو: غرثان، مع اسم معناه الصحبة اللائقة بالمذكور، وتسكينها قبل حركة لغة ربيعة وغنم، قاله الكسائي. وإذا سكنت فالأصح أنها اسم، وإذا ألقيت ألف اللام أو ألف الوصل، فالفتح لغة عامة العرب، والكسر لغة ربيعة، وتوجيه اللغتين في النحو، ويستعمل ظرف مكان فيقع خبرا عن الجثة والأحداث، وإذا أفرد نون مفتوحا، وهي ثلاثي الأصل من باب المقصور، إذ ذاك لا من باب يد، خلافا ليونس، وأكثر استعمال معا حال، نحو: جميعا، وهي أخص من جميع لأنها تشرك في الزمان نصا، وجميع تحتمله. وقد سأل أحمد بن يحيى أحمد بن قادم عن الفرق بين. قام عبد الله وزيد معا، وقام عبد الله وزيد جميعا، قال: فلم يزل يركض فيها إلى الليل، وفرق ابن يحيى: بأن جيمعا يكون القيام في وقتين وفي وقت واحد، وأما إذا قلت: معا، فيكون في وقت واحد. الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وهو استفعل بمعنى الفعل المجرد، وهو فعل، تقول: هزأت به واستهزأت بمعنى واحد، مثل استعجب: بمعنى عجب، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل.
* (الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * المد: التطويل، مد الشيء: طوله وبسطه، * (ألم تر إلى ربك كيف مد) *، وأصل المد: الزيادة، وكل شيء دخل في شيء فكثره فقد مده، قاله اللحياني. وأمد بمعنى مد، مد الجيش، وأمده: زاده وألحق به ما يقويه من جنسه. وقال بعض أهل العلم: مد زاد من الجنس، وأمد: زاد من غير الجنس. وقال يونس: مد في الخير وأمد في الشر. انتهى قوله. ويقال: مد النهر وأمده نهر آخر، ومادة الشيء ما يمده، الهاء فيه للمبالغة. وقال ابن قتيبة: مددت الدواة وأمددتها بمعنى، ويقال: مددنا القوم: صرنا لهم أنصارا وأمددناهم بغيرنا. وقال اللحياني: أمد الأمير جنده بالخيل، وفي التنزيل: * (عليهم وأمددناكم بأموال وبنين) *. الطغيان: مجاوزة المقدار المعلوم، يقال طغى الماء، وطغت النار. العمة: التردد والتحير، وهو شبيه
194

بالعمى، إلا أن العمى توصف به العين التي ذهب نورها، والرأي الذي غاب عنه الصواب. يقال: عمه، يعمه، عمها، وعمهانا فهو: عمه، وعامه. ويقال: برية عمهاء إذا لم يكن بها علم يستدل به. وقال ابن قتيبة: العمة أن يركب رأسه ولا يبصر ما يأتي. وقيل: العمة: العمى عن الرشد.
* (أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) *، الاشتراء والشراء بمعنى: الاستبدال بالشيء والاعتياض منه، إلا أن الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع، وهو مما جاء فيه افتعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد المعاني التي جاء لها افتعل. الربح: هو ما يحصل من الزيادة على رأس المال. التجارة: هي صناعة التاجر، وهو الذي يتصرف في المال لطلب النمو والزيادة. المهتدي: اسم فاعل من اهتدى وافتعل فيه للمطاوعة، هديته فاهتدى، نحو: سويته فاستوى، وغممته فاغتم. والمطاوعة أحد المعاني التي جاءت لها افعل، ولا تكون افتعل للمطاوعة مبنية إلا من الفعل المتعدي، وقد وهم من زعم أنها تكون من اللازم، وأن ذلك قليل فيها، مستدلا بقول الشاعر:
* حتى إذا اشتال سهيل في السحر
*
كشعلة القابس ترمي بالشرر
*
لأن افتعل في البيت بمعنى، فعل. تقول: شال يشول، واشتال يشتال بمعنى واحد، ولا تتعقل المطاوعة، إلا بأن يكون المطاوع متعديا.
* (وإذا قيل لهم لا تفسدوا) * جملة شرطية، ويحتمل أن تكون من باب عطف الجمل استئنافا ينعي عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم، ويحتمل أن يكون كلاما، وفي الثاني جزء كلام لأنها من تمام الصلة. وأجاز الزمخشري، وأبو البقاء أن تكون معطوفة على يكذبون، فإذ ذاك يكون لها موضع من الإعراب، وهو النصب، لأنها معطوفة على خبر كان، والمعطوف على الخبر خبر، وهي إذ ذاك جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم. وعلى الاحتمالين الأولين لا تكون جزءا من الكلام، وهذا الوجه الذي أجازاه على حد وجهي ما من قوله بما كانوا يكذبون خطأ، وهو أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، وذلك أن المعطوف على الخبر خبر، فيكذبون قد حذف منه العائد على ما، وقوله: وإذا قيل لهم إلى آخر الآية لا ضمير فيه يعود على ما، فبطل أن يكون معطوفا عليه، إذ يصير التقدير: ولهم عذاب أليم بالذي كانوا، * (إذا قيل لهم لا * تفسدوا فى الارض قالوا إنما نحن مصلحون) *، وهذا كلام غير منتظم لعدم العائد. وأما وجهها الآخر، وهو أن تكون ما مصدرية، فعلى مذهب الأخفش يكون هذا الإعراب أيضا خطأ، إذ عنده أن ما المصدرية اسم يعود عليها من صلتها ضمير، والجملة المعطوفة عارية منه. وأما على مذهب الجمهور، فهذا
الإعراب شائع، ولم يذكر الزمخشري، وأبو البقاء إعراب هذا سوى أن يكون معطوفا على يكذبون، أو على يقول، وزعما أن الأول وجه، وقد ذكرنا ما فيه، والذي نختاره الاحتمال الأول، وهو أن تكون الجملة مستأنفة، كما قررناه، إذ هذه الجملة والجملتان بعدها هي من تفاصيل الكذب ونتائج التكذيب. ألا ترى قولهم: * (إنما نحن مصلحون) *، وقولهم: * (أنؤمن كما آمن السفهاء) *، وقولهم عند لقاء المؤمنين * (من) * كذب محض؟ فناسب جعل ذلك جملا
195

مستقلة ذكرت لإظهار كذبهم ونفاقهم ونسبة السفه للمؤمنين واستهزائهم، فكثر بهذه الجمل واستقلالها ذمهم والرد عليهم، وهذا أولى من جعلها سيقت صلة جزء كلام لأنها إذ ذاك لا تكون مقصودة لذاتها، إنما جيء بها معرفة للموصول إن كان اسما، ومتممة لمعناه إن كان حرفا. والجملة بعد إذا في موضع خفض بالإضافة، والعامل فيها عند الجمهور الجواب، فإذا في الآية منصوبة بقوله: * (إنما نحن مصلحون) *. والذي نختاره أن الجملة بعدها تليها هي الناصبة لإذا لأنها شرطية، وأن ما بعدها ليس في موضع خفض بالإضافة، فحكمها حكم الظروف التي يجازى بها وإن قصرت عن عملها الجزم. على أن من النحويين من أجاز الجزم بها حملا على متى منصوبا بفعل الشرط، فكذلك إذا منصوبة بفعل الشرط بعدها، والذي يفسد مذهب الجمهور جوازا إذا قمت فعمر وقائم، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، وجواز وقوع إذا الفجائية جوابا لإذا الشرطية، قال تعالى: * (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) * إذا لهم مكر في آياتنا، وما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها، وحذف فاعل القول هنا للإبهام، فيحتمل أن يكون الله تعالى، أو الرسول صلى الله عليه وسلم)، أو بعض المؤمنين، وكل من هذا قد قيل، والمفعول الذي لم يسم فاعله، فظاهر الكلام أنها الجملة المصدرة بحرف النهي وهي: * (لا تفسدوا في الأرض، إلا أن ذلك لا يجوز إلا على مذهب من أجاز وقوع الفاعل جملة، وليس مذهب جمهور البصريين.
وقد تقدمت المذاهب في ذلك عند الكلام على قوله تعالى: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم، والمفعول الذي لم يسم فاعله في ذلك حكمه حكم الفاعل، وتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو مضمر تقديره هو، يفسره سياق الكلام كما فسر المضمر في قوله تعالى: * (حتى توارت بالحجاب) * سياق الكلام والمعنى، وإذا قيل لهم قول شديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب لأنها مفسرة لذلك المضمر الذي هو القول الشديد، ولا جائز أن يكون لهم في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لأنه لا ينتظم منه مع ما قبله كلام، لأنه يبقي لا تفسدوا لا ارتباط له، إذ لا يكون معمولا للقول مفسرا له.
وزعم الزمخشري أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجملة التي هي: لا تفسدوا، وجعل ذلك من باب الإسناد اللفظي ونظره بقولك ألف حرف من ثلاثة أحرف، ومنه زعموا مطية الكذب، قال: كأنه قيل، وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام، انتهى. فلم يجعله من باب الإسناد إلى معنى الجملة لأن ذلك لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، فعدل إلى الإسناد اللفظي، وهو الذي لا يختص به الاسم بل يوجد في الاسم والفعل والحرف والجملة، وإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى الإسناد اللفظي، وقد أمكن ذلك بالتخريج الذي ذكرناه. واللام في قوله: لهم، للتبليغ، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها للام عند كلامنا على قوله تعالى: * (الحمد لله) *. وإفسادهم في الأرض بالكفر، قاله ابن عباس، أو المعاصي، قاله أبو العالية ومقاتل، أو بهما، قاله السدي عن أشياخه؛ أو بترك امتثال الأمر واجتناب النهي، قاله مجاهد؛ أو بالنفاق الذي ضافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، ذكره علي بن عبيد الله، أو بإعراضهم عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم) والقرآن؛ أو بقصدهم تغيير الملة، قاله الضحاك، أو باتباعهم هواهم وتركهم الحق مع وضوحه، قاله بعضهم.
وقال الزمخشري:
196

الإفساد في الأرض تهييج الحروب والفتن، قال: لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، قال تعالى: * (ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) *، * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) *، ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد، انتهى كلامه. ووجه الفساد بهذه الأقوال التي قيلت أنها كلها كبائر عظيمة ومعاص جسيمة، وزادها تغليظا إصرارهم عليها، والأرض متى كثرت معاصي أهلها وتواترت، قلت خيراتها ونزعت بركاتها ومنع عنها الغيث الذي هو سبب الحياة، فكان فعلهم الموصوف أقوى الأسباب لفساد الأرض وخرابها. كما أن الطاعة والاستغفار سبب لكثرة الخيرات ونزول البركات ونزول الغيث، ألا ترى قوله تعالى: * (فقلت استغفروا ربكم) *، * (وإن لوطا * استقاموا على الطريقة) *، * (ولو أن أهل القرىءامنوا واتقوا) *، * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل) *، الآيات.
وقد قيل في تفسيره ما روي في الحديث من أن الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، إن معاصيه يمنع الله بها الغيث، فيهلك البلاد والعباد لعدم النبات وانقطاع الأقوات. والنهي عن الإفساد في الأرض من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب. فمتعلق النهي حقيقة هو مصافاة الكفار وممالأتهم على المؤمنين بإفشاء السر إليهم وتسليطهم عليهم، لإفضاء ذلك إلى هيج الفتن المؤدي إلى الإفساد في الأرض، فجعل ما رتب على المنهي عنه حقيقة منهيا عنه لفظا. والنهي عن الإفساد في الأرض هنا كالنهي في قوله تعالى: * (ولا تعثوا فى الارض مفسدين) *. وليس ذكر الأرض لمجرد التوكيد بل في ذلك تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه نشأتكم وتصرفكم، ومنه مادة حياتكم، وهو سترة أمواتكم، جدير أن لا يفسد فيه، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (ولا تفسدوا فى الارض بعد إصلاحها) * وقال تعالى: * (هو الذى جعل لكم الارض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه * وقال * تعالى * والارض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولانعامكم * إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا) *، الآية. إلى غير ذلك من الآيات المنبهة على الامتنان علينا بالأرض، وما أودع الله فيها من المنافع التي لا تكاد تحصى.
وقابلوا النهي عن الإفساد بقولهم: * (إنما نحن مصلحون) *، فأخرجوا الجواب جملة اسمية لتدل على ثبوت الوصف لهم، وأكدوها بإنما دلالة على قوة اتصافهم بالإصلاح. وفي المعنى الذي اعتقدوا أنهم مصلحون. أقوال: أحدها: قول ابن عباس: إن ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. والثاني: قول مجاهد وهو: أن تلك الممالأة هدى وصلاح وليست بفساد. والثالث: أن ممالأه النفس والهوى صلاح وهدى. والرابع: أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحا لهم، وليس كذلك لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم، ولذلك قال: * (ألا إنهم هم المفسدون ولاكن لا يشعرون) *.
197

والخامس: أنهم أنكروا أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار، وقالوا: * (إنما نحن مصلحون) * باجتناب ما نهينا عنه.
والذي نختاره أنه لا يتعين شيء من هذه الأقوال، بل يحمل النهي على كل فرد من أنواع الإفساد، وذلك أنهم لما ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في ذلك وأعلم بأن إيمانهم مخادعة، كانوا يكونون بين حالين: إحداهما: أن يكونوا مع عدم إيمانهم موادعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وللمؤمنين، والحالة الأخرى أن يكونوا مع عدم إيمانهم يسعون بالإفساد بالأرض لتفرق كلمة الإسلام وشتات نظام الملة، فنهوا عن ذلك وكأنهم قيل لهم: إن كنتم قد قنع منكم بالإقرار بالإيمان، وإن لم تؤمن قلوبكم فإياكم والإفساد في الأرض، فلم يجيبوا بالامتناع من الإفساد، بل أثبتوا لأنفسهم أنهم مصلحون وأنهم ليسوا محلا للإفساد، فلا يتوجه النهي عن الإفساد نحوهم لاتصافهم بضده وهو الإصلاح. كل ذلك بهت منهم وكذب صرف على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ولما كانوا قد قابلوا النهي عن الإفساد بدعوى الإصلاح الكاذبة أكذبهم الله بقوله: * (ألا إنهم هم المفسدون * لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم * ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون * وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون) *، انتهى كلامه، وهو حسن.
واستفتحت الجملة بألا منبهة على ما يجيء بعدها لتكون الأسماع مصغية لهذا الإخبار الذي جاء في حقهم، ويحتمل هم أن يكون تأكيدا للضمير في أنهم وإن كان فصلا، فعلى هذين الوجهين يكون المفسدون خبرا لأن، وأن يكون مبتدأ ويكون المفسدون خبره. والجملة خبر لأن، وقد تقدم ذكر فائدة الفصل عند الكلام على قوله: * (وأولائك هم المفلحون) *. وتحقيق الاستدراك هنا في قوله: * (ولاكن لا يشعرون) *، هو أن الإخبار عنهم أنهم هم المفسدون يتضمن علم الله ذلك، فكان المعنى أن الله قد علم أنهم هم المفسدون، ولكن لا يعلمون ذلك، فوقعت لكن إذ ذاك بين متنافيين، وجهة الاستدراك أنهم لما نهوا عن إيجاد مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر الله عنهم أنهم هم المفسدون، كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر الله تعالى، وأنهم لا يدعون أنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بذلك. تقول: زيد جاهل ولكن لا يعلم، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل وصار وصفا قائما بزيد، كان ينبغي لزيد أن يكون عالما بهذا الوصف الذي قام به، إذ الإنسان ينبغي أن يعلم ما اشتمل عليه من الأوصاف، فاستدرك عليه بلكن، لأنه مما كثر في القرآن ويغمض في بعض المواضع إدراكه. قالوا: ومفعول يشعرون محذوف لفهم المعنى تقديره أنهم مفسدون، أو أنهم معذبون، أو أنهم ينزل بهم الموت فتنقطع التوبة، والأولى، ويحتمل أن لا ينوي محذوف فيكون قد نفى عنهم الشعور من غير ذكر متعلقه ولا نية، وهو أبلغ في الذم، جعلوا لدعواهم ما هو إفساد إصلاحا ممن انتفى عنه الشعور وكأنهم من البهائم، لأن من كان متمكنا من إدراك شيء فأهمل الفكر والنظر حتى صار يحكم على الأشياء الفاسدة بأنها صالحة، فقد انتظم في سلك من لا شعور له ولا إدراك، أو من كابر وعاند فجعل الحق باطلا، فهو كذلك أيضا. وفي قوله تعالى: * (ولكن لا يشعرون تسلية عن كونهم لا يدركون الحق، إذ من كان من أهل الجهل فينبغي للعالم أن لا يكترث بمخالفته.
والكلام على قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم آمنوا، كالكلام على قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا) * من حيث عطف هذه الجملة على سبيل الاستئناف، أو عطفها على صلة من قوله: من يقول، أو عطفها على
198

يكذبون، ومن حيث العامل في إذا، ومن حيث حكم الجملة بعد إذا، ومن حيث المفعول الذي لم يسم فاعله. واختلف في القائل لهم آمنوا، فقال ابن عباس: الصحابة، ولم يعين أحدا منهم، وقال مقاتل: قوم مخصوصون منهم وهم: سعد بن معاذ، وأبو لبابة، وأسيد بن الحضير. ولما نهاهم تعالى عن الإفساد أمرهم بالإيمان لأن الكمال يحصل بترك مالا ينبغي وبفعل ما ينبغي، وبدىء بالمنهي عنه لأنه الأهم، ولأن المنهيات عنها هي من باب التروك، والتروك أسهل في الامتثال من امتثال المأمورات بها. والكاف من قوله: * (كما ءامن الناس) * في موضع نصب، وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتا لمصدر محذوف التقدير عندهم: آمنوا إيمانا كما آمن الناس، وكذلك يقولون: في سير عليه شديد، أو: سرت حثيثا، إن شديدا وحثيثا نعت لمصدر محذوف التقدير: سير عليه سيرا شديدا، وسرت سيرا حثيثا. ومذهب سيبويه، رحمه الله، أن ذلك ليس بنعت لمصدر محذوف، وإنما هو منصوب على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم المحذوف بعد الإضمار على طريق الاتساع، وإنما لم يجز ذلك لأنه يؤدي إلى حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير المواضع التي ذكروها. وتلك المواضع أن تكون الصفة خاصة بجنس الموصوف، نحو: مررت بكاتب ومهندس، أو واقعة خبرا، نحو: زيد قائم، أو حالا، نحو: مررت بزيد راكبا، أو وصفا لظرف، نحو: جلست قريبا منك، أو مستعملة استعمال الأسماء، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه، نحو: الأبطح والأبرق. وإذا خرجت الصفة عن هذه المواضع لم تكن إلا تابعة للموصوف، ولا يكتفي عن الموصوف، ألا ترى أن سيبويه منع: ألا ماء ولو باردا وأن تقدم ما يدل على حذف الموصوف وأجاز: ولو باردا، لأنه حال، وتقرير هذا في كتب النحو. وما، من: كما آمن الناس، مصدرية التقدير كإيمان الناس، فينسبك من ما، والفعل بعدها مصدر مجرور بكاف التشبيه التي هي نعت لمصدر محذوف، أو حال على القولين السابقين، وإذا كانت ما مصدرية فصلتها جملة فعلية مصدرة بماض متصرف أو مضارع، وشذ وصلها بليس في قول الشاعر:
بما لستما أهل الخيانة والغدر
ولا توصل بالجملة الإسمية خلافا لقوم، منهم: أبو الحجاج الأعلم، مستدلين بقوله:
* وجدنا الحمر من شر المطايا
*
كما الحبطات شر بني تميم
*
وأجاز الزمخشري، وأبو البقاء في ما من قوله: كما آمن، أن تكون كافة للكاف عن العمل مثلها في: ربما قام زيد، وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية، لأن إبقاءها مصدرية مبق للكاف على ما استقر فيها من العمل، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على ما المصدرية، وقد أمكن ذلك في: كما آمن الناس، فلا ينبغي أن تجعل كافة. والألف واللام في الناس يحتمل أن تكون للجنس، فكأنه قال: الكاملون في الإنسانية، أو عبر بالناس عن المؤمنين لأنهم هم الناس في الحقيقة، ومن عداهم صورته صورة الناس،
199

وليس من الناس لعدم تمييزه، كما قال الشاعر:
* ليس من الناس ولكنه
*
يحسبه الناس من الناس
*
ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد، ويعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، قاله ابن عباس، أو عبد الله بن سلام، ونحوه ممن حسن إسلامه من اليهود، قاله مقاتل، أو معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي. والأولى حملها على العهد، وأن يراد به من سبق إيمانه قبل قول ذلك لهم، فيكون حوالة على من سبق إيمانه لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر بالإيمان. والتشبيه في: * (كما ءامن الناس) * إشارة إلى الإخلاص، وإلا فهم ناطقون بكلمتي الشهادة غير معتقديها. أنؤمن: معمول لقالوا، وهو استفهام معناه الإنكار أو الاستهزاء. ولما كان المأمور به مشبها كان جوابهم مشبها في قولهم: * (أنؤمن كما آمن السفهاء) *، والقول في الكاف وما في هذا كالقول فيهما في: * (كما ءامن الناس) *. والألف واللام في السفهاء للعهد، فيعني به الصحابة، قاله ابن عباس؛ أو الصبيان والنساء، قاله الحسن، أو عبد الله بن سلام وأصحابه، قاله مقاتل، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج تحته من فسر به الناس من المعهودين، أو الكاملون في السفه، أو لأنهم انحصر السفه فيهم إذ لا سفيه غيرهم. وأبعد من ذهب إلى أن الألف واللام للصفة الغالبة نحو: العيوق والدبران، لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم، فصاروا إذا قيل: السفهاء، فهم منه ناس مخصوصون، كما يفهم من العيوق نجم مخصوص. ويحتمل قولهم: * (كما آمن السفهاء) * أن يكون ذلك من باب التعنت والتجلد حذرا من الشماتة، وهم عالمون بأنهم ليسوا بسفهاء. ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاعتقاد الجزم عندهم، فيكونوا قد نسبوهم للسفه معتقدين أنهم سفهاء، وذلك لما أخلوا به من النظر والفكر الصحيح المؤدي إلى إدراك الحق، وهم كانوا في رئاسة ويسار، وكان المؤمنون إذ ذاك أكثرهم فقراء وكثير منهم موال، فاعتقدوا أن من كان بهذه المثابة كان من السفهاء لأنهم اشتغلوا ما لا يجدي عندهم وكسلوا عن طلب الرئاسة والغنى وما به السؤدد في الدنيا، وذلك هو غاية السفه عندهم. وفي قوله: * (كما آمن السفهاء) * إثبات منهم في دعواهم بسفه المؤمنين أنهم موصوفون بضد السفه، وهو رزانة الأحلام ورجحان العقول، فرد الله عليهم قولهم وأثبت أنهم هم السفهاء، وصدر الجملة بألا التي للتنبيه لينادي عليهم المخاطبين بأنهم السفهاء، وأكد ذلك بأن وبلفظ هم. وإذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو: * (السفهاء ألا) *، ففي ذلك أوجه.
أحدها: تحقيق الهمزتين، وبذلك قرأ الكوفيون، وابن عامر. والثاني: تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا كحالها إذا كانت مفتوحة قبلها ضمة في كلمة نحو: أواتي مضارع آتى، فاعل من أتيت، وجؤن تقول: أواتي وجون، وبذلك قرأ الحرميان، وأبو عمرو. والثالث: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو، وتحقيق الثانية. والرابع: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واوا. وأجاز قوم وجها. خامسا: وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو
200

وجعل الثانية بين الهمزة والواو، ومنع بعضهم ذلك لأن جعل الثانية بين الهمزة والواو تقريبا لها من الألف، والألف لا تقع بعد الضمة، والأعاريب الثلاثة التي جازت في: هم، في قوله: * (هم المفسدون) *، جائزة في: هم، من قوله: * (هم السفهاء) *.
والاستدراك الذي دلت عليه لكن في قوله: * (ولاكن لا يعلمون) *، مثله في قوله تعالى: * (ولاكن لا يشعرون) *، وإنما قال هناك لا يشعرون وهنا لا يعلمون لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد، وهو مما يدرك بأدنى تأمل، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر، وهي الحواس، مبالغة في تجهيلهم، وهو أن الشعور الذي قد يثبت للبهائم منفي عنهم، والمثبت هنا هو السفه، والمصدر به هو الأمر بالإيمان، وذلك مما يحتاج إلى إمعان فكر واستدلال ونظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالمأمور، قال السموأل:
* نخاف أن تسفه أحلامنا
*
فنجهل الجهل مع الجاهل
*
والعلم نقيض الجهل، فقابله بقوله: لا يعلمون، لأن عدم العلم بالشيء جهل به. قرأ ابن السميفع اليماني، وأبو حنيفة: * (وإذا * يتذكرون * الذين) *، وهي فاعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد معاني فاعل الخمسة، والواو المضمومة في هذه القراءة هي واو الضمير تحركت لسكون ما بعدها، ولم تعد لام الكلمة المحذوفة لعروض التحريك في الواو، واللقاء يكون بموعد وبغير موعد، فإذا كان بغير موعد سمي مفاجأة ومصادفة، وقولهم لمن لقوا من المؤمنين: آمنا، بلفظ مطلق الفعل غير مؤكد بشيء تورية منهم وإيهاما، فيحتمل أن يريدوا به الإيمان بموسى وبما جاء به دون غيره، وذلك من خبثهم وبهتهم، ويحتمل أن يريدوا به الإيمان المقيد في قولهم: * (بالله وباليوم الأخر وما) *، وليسوا بصادقين في ذلك، ويحتمل أن يريدوا بذلك ما أظهروه بألسنتهم من الإيمان، ومن اعترافهم حين اللقاء، وسموا ذلك إيمانا، وقلوبهم عن ذلك صارفة معرضة.
وقرأ الجمهور: خلوا إلى بسكون الواو وتحقيق الهمزة، وقرأ ورش: بإلقاء حركة الهمزة على الواو وحذف الهمزة، ويتعدى خلا بالباء وبإلى، والباء أكثر استعمالا، وعدل إلى إلى لأنها إذا عديت بالباء احتملت معنيين: أحدهما: الانفراد، والثاني: السخرية، إذ يقال في اللغة: خلوت به، أي سخرت منه، وإلى لا يحتمل إلا معنى واحدا، وإلى هنا على معناها من انتهاء الغاية على معنى تضمين الفعل، أي صرفوا خلاهم إلى شياطينهم، قال الأخفش: خلوت إليه، جعلته غاية حاجتي، وهذا شرح معنى، وزعم قوم، منهم النضر بن شميل: إن إلى هنا بمعنى مع أي: وإذا خلوا مع شياطينهم، كما زعموا ذلك في قوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) *، * (ومن * أنصارى إلى الله) *، أي مع أموالكم ومع الله، ومنه قول النابغة:
* فلا تتركني بالوعيد كأنني
*
إلى الناس مطلي به القار أجرب
*
ولا حجة في شيء من ذلك. وقيل: إلى بمعنى الباء، لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وهذا ضعيف، إذ نيابة الحرف عن الحرف لا يقول بها سيبويه، والخليل، وتقرير هذا في النحو. وشياطينهم: هم اليهود الذين كانوا يأمرونهم بالتكذيب، قاله ابن عباس؛ أو رؤساؤهم في الكفر، قاله ابن مسعود. وروي أيضا عن ابن عباس: أو شياطين
201

الجن، قاله الكلبي: أو كهنتهم، قاله الضحاك وجماعة. وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) من الكهنة جماعة منهم: كعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء في الشام، وكانت العرب يعتقدون فيهم الاطلاع على علم الغيب، ويعرفون الأسرار، ويداوون المرضى، وسموا شياطين لتمردهم وعتوهم، أو باسم قرنائهم من الشياطين، إن فسروا بالكهنة، أو لشبههم بالشياطين في وسوستهم، وغرورهم، وتحسينهم للفواحش، وتقبيحهم للحسن.
والجمهور على تحريم العين من معكم، وقرئ في الشاذ: إنا معكم، وهي لغة غنم وربيعة، وقد اختلف القولان منهم، فقالوا للمؤمنين: آمنا، ولشياطينهم إنا معكم. فانظر إلى تفاوت القولين، فحين لقوا المؤمنين قالوا آمنا، أخبروا بالمطلق، كما تقدم، من غير توكيد، لأن مقصودهم الإخبار بحدوث ذلك ونشئه من قبلهم، لا في ادعاء أنهم أوحديون فيه، أو لأنه لا تطوع بذلك ألسنتهم لأنه لا باعث لهم على الإيمان حقيقة، أو لأنه لو أكدوه ما راج ذلك على المؤمنين فاكتفوا بمطلق الإيمان، وذلك خلاف ما أخبر الله عن المؤمنين بقوله: ربنا إننا آمنا، وحين لقوا شياطينهم، أو خلوا إليهم قالوا: إنا معكم، فأخبروا إنهم موافقوهم، وأخرجوا الأخبار في جملة اسمية مؤكدة بأن ليدلوا بذلك على ثباتهم في دينهم، ثم بينوا أن ما أخبروا به الذين آمنوا إنما كان على سبيل الاستهزاء، فلم يكتفوا بالإخبار بالموافقة، بل بينوا أن سبب مقالتهم للمؤمنين إنما هو الاستهزاء والاستخفاف، لا أن ذلك صادر منهم عن صدق، وجد، وأبرزوا هذا في الإخبار في جملة اسمية مؤكدة بإنما مخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الذي يدل على الثبوت، وأن الاستهزاء وصف ثابت لهم، لا أن ذلك تجدد عندهم، بل ذلك من خلقهم وعادتهم مع المؤمنين، وكأن هذه الجملة وقعت جوابا لمنكر عليهم قولهم: إنا معكم، كأنه قال: كيف تدعون أنكم معنا وأنتم مسالمون للمؤمنين، تصدقونهم، وتكثرون سوادهم، وتستقبلون قبلتهم، وتأكلون ذبائحهم؟ فأجابوهم بقولهم: * (إنما نحن) *، أي مستخفون بهم، نصانع بما نظهر من ذلك عن دمائنا وأموالنا وذرياتنا، فنحن نوافقهم ظاهرا ونوافقكم باطنا، والقائل إنا معكم، أما المنافقون لكبارهم، وأما كل المنافقين للكافرين، وقرئ: مستهزؤن، بتحقيق الهمزة، وهو الأصل، وبقلبها ياء مضمومة لانكسار ما قبلها، ومنهم من يحذف الياء تشبيها بالياء الأصلية في نحو: يرمون، فيضم الراء. ومذهب سيبويه، رحمه الله، في تحقيقها: أن تجعل بين بين. ومذهب أبي الحسن: أن تقلب ياء قلبا صحيحا. قال أبو الفتح: حال الياء المضمومة منكر، كحال الهمزة المضمومة. والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة، وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه، انتهى.
وهل الاجتماع والمعية في الدين، أو في النصرة والمعونة على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، أو في اتفاقهم مع الكفار على اطلاعهم على أحوال المؤمنين وإعلامهم بما أجمعوا عليه من الأمر وأخفوه من المكايد، أو في اتفاقهم مع الكفار على أذى المسلمين وتربصهم بهم الدوائر وفرحهم بما يسوء المسلمين وحزنهم بما
يسرهم وقصدهم إخماد كلمة الله؟ أقوال أربعة، والدواعي إلى الاستهزاء: خوف الأذى، واستجلاب النفع، والهزل، واللعب. والله تعالى منزه عن ذلك، فلا يصح إضافة الاستهزاء الذي هذه دواعيه إلى الله تعالى.
فيحتمل أن يكون الاستهزاء المسند إلى الله تعالى كناية عن مجازاته لهم، وأطلق اسم الاستهزاء على المجازاة ليعلم أن ذلك جزاء الاستهزاء، أو عن معاملته لهم بمثل ما عاملوا به المؤمنين، فأجرى عليهم أحكام المؤمنين من حقن الدم، وصون المال، والإشراك في المغنم، مع علمه بكفرهم. وأطلق على الشيء ما أشبهه صورة لا معنى، أو عن التوطئة والتجهيل، لإقامتهم على كفرهم، وسمى التوطئة لهم استهزاء لأنه لم يعجل لهم العقوبة، بل أملى، وأخرهم إلى الآخرة، أو عن فتح باب الجنة فيسرعون إليه فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون، أو عن خمود النار فيمشون فيخسف بهم، أو عن
202

ضرب السور بينهم وبين المؤمنين وهو السور المذكور في الحديد، أو عن قوله تعالى: * (الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم) *، أو عن تجديد الله لهم نعمة كلما أحدثوا ذنبا، فيظنون أن ذلك لمحبة الله لهم، أو عن الحيلولة بين المنافقين وبين النور الذي يعطاه المؤمنون، كما ذكروا أنه روي في الحديث، أو عن طردهم عن الجنة، إذا أمر بناس منهم إلى الجنة ودنوا منها ووجدوا ريحها ونظروا إلى ما أعد الله فيها لأهلها، وهو حديث فيه طول، روي عن عدي بن حاتم، ونحا هذا المنحى ابن عباس، والحسن.
وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدل على عظم شأن المؤمنين وعلو منزلتهم، وليعلم المنافقون أن الله هو الذي يذب عنهم ويحاب من حاربهم. وفي افتتاح الجملة باسم التفخيم العظيم، حيث صدرت الجملة به، وجعل الخبر فعلا مضارعا يدل عندهم على التجددد والتكرر، فهو أبلغ في النسبة من الاستهزاء المخبرية في قولهم، ثم في ذلك التنصيص على الذين يستهزئ الله بهم، إذ عدى الفعل إليهم فقال: يستهزئ بهم وهم لم ينصوا حين نسبوا الاستهزاء إليهم على من تعلق به الاستهزاء، فلم يقولوا: إنما نحن مستهزؤن بهم وذلك لتحرجهم من إبلاغ ذلك للمؤمنين فينقمون ذلك عليهم، فأبقوا اللفظ محتملا أن لو حوققوا على ذلك لكان لهم مجال في الذب عنهم أنهم لم يستهزؤا بالمؤمنين. ألا ترى إلى مداراتهم عن أنفسهم بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وبقولهم: إذا لقوهم قالوا آمنا فهم، عند لقائهم لا يستطيعون إظهار المداراة، ولا مشاركتهم بما يكرهون، بل يظهرون الطواعية والانقياد.
وقرأ ابن محيصن وشبل: يمدهم وتروى عن ابن كثير: ونسبة المد إلى الله حقيقة، إذ هو موجد الأشياء والمنفرد باختراعها. والمعنى: أن الله تعالى يطول لهم في الطغيان. وقد ذهب الزمخشري إلى تأويل المد المنسوب إلى الله تعالى بأنه منع الألطاف وخذلانهم بسبب كفرهم وإصرارهم، بقيت قلوبهم تتزايد الظلمة فيها تزايد النور في قلوب المؤمنين، فسمى ذلك التزايد مدا وأسند إلى الله لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم، أو بأن المد هو على معنى القسر والالجاء. قال: أو على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عبادة، وإنما ذهب إلى التأويل في المد لأن مد الله لهم في الطغيان قبيح، والله منزه عن فعل القبيح. والتأويل الأول الذي ذكره الزمخشري: قول الكعبي، وأبي مسلم. وقال الجبائي: هو المد في العمر، وعندنا نحن أن الله خالق الخير والشر، وهو الهادي والمضل.
وقد تقدم الكلام في نحو من هذا عند قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم) * ومد الله في طغيانهم، التمكين من العصيان، قاله ابن مسعود، أو الإملاء، قاله ابن عباس، أو الزيادة من الطغيان، قاله مجاهد، أو الإمهال، قاله الزجاج وابن كيسان، أو تكثير الأموال، والأولاد، وتطييب الحياة، أو تطويل الأعمار، ومعافاة الأبدان، وصرف الرزايا، وتكثير الأرزاق. وقرأ زيد بن علي: في طغيانهم بكسر الطاء، وهي لغة، يقال: طغيان بالضم والكسر، كما قالوا: القيان، وغينان، بالضم والكسر. وأمال الكسائي في طغيانهم، وأضاف الطغيان إليهم لأنه فعلهم وكسبهم، وكل فعل صدر من العبد صحت
203

إضافته إليه بالمباشرة، وإلى الله بالاختراع. وما فسر به العمة يحتمله قوله تعالى: * (يعمهون) *، فيكون المعنى: يترددون ويتحيرون، أو يعمون عن رشدهم، أو يركبون رؤوسهم ولا يبصرون. قال بعض المفسرين: وهذا التفسير الأخير أقرب إلى الصواب لأنهم لم يكونوا مترددين في كفرهم، بل كانوا مصرين عليه، معتقدين أنه الحق، وما سواه الباطل. يعمهون: جملة في موضع الحال، نصب على الحال، إما من الضمير في يمدهم وإما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل، وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقا بيمدهم، ويحتمل أن يكون متعلقا بيعمهون. ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم، قال: لأن العامل لا يعمل في حالين. انتهى كلامه.
وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد، وهو أن تكون الحالان لذي حال واحدة، فإن كانا لذوي حال جاز، نحو: لقيت زيدا مصعدا منحدرا فأما إذا كانا لذي حال واحد، كما ذكرناه، ففي إجازة ذلك خلاف. ذهب قوم إلى أن لا يجوز كما لم يجز ذلك للعامل أن يقضي مصدرين، ولا ظرفي زمان، ولا ظرفي مكان، فكذلك لا يقضي حالين. وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن لا يكون الثاني على جهة البدل، أو معطوفا، فإنه إذا كانا كذلك جازت المسألة. قال: بعضهم: إلا أفعل التفضيل، فإنها تعمل في ظرفي زمان، وظرفي مكان، وحالين لذي حال، فإن ذلك يجوز، وهذا المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور. وذهب قوم إلى أنه يجوز للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد، وإلى هذا أذهب، لأن الفعل الصادر من فاعل، أو الواقع بمفعول، يستحيل وقوعه في زمانين، وفي مكانين. وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال واحد، إلا إن كانا ضدين، أو نقيضين. فيجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكا راكبا، لأنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين. فعلى هذا الذي قررناه من الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال واحد، والعامل فيهما واحد.
أولئك: اسم أشير به إلى الذين تقدم ذكرهم، الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الإصلاح، وهم المفسدون، ونسبة السفه للمؤمنين، وهم السفهاء، والاستخفاف بالمؤمنين بإظهار الموافقة وهم مع الكفار. وقرأ الجمهور: اشتروا الضلالة، بضم الواو. وقرأ أبو السماك قعنب العدوي: اشتروا الضلالة بالفتح. ولاعتلال ضمة
الواو وجوه أربعة مذكورة في النحو، ووجه الكسر أنه الأصل في التقاء الساكنين، نحو: * (وإن لوطا * استقاموا) *، ووجه الفتح اتباعها لحركة الفتح قبلها. وأمال حمزة والكسائي الهدي، وهي لغة بني تميم، والباقون بالفتح، وهي لغة قريش. والاشتراء هنا مجاز كنى به عن الاختيار، لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر، فكأنه قال: اختاروا الضلالة على الهدى، وجعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشتري، وإنما ذهب في الاشتراء إلى المجاز لعدم المعاوضة، إذ هي استبدال شيء في يدك لشيء في يد غيرك، وهذا مفقود هنا.
وقد ذهب قوم إلى أن الاشتراء هنا حقيقة لا مجاز، والمعاوضة متحققة، ثم راموا يقررون ذلك، ولا يمكن أن يتقرر لأنه على كل تقدير يؤول الشراء فيه إلى المجاز، قالوا: إن كان أراد بالآية المنافقين، كما قال مجاهد، فقد كان لهم هدى ظاهر من التلفظ بالشهادة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والغزو، والقتال. فلما لم تصدق بواطنهم ظواهرهم واختاروا الكفر، استبدلوا بالهدى الضلال، فتحققت المعاوضة، وحصل البيع والشراء حقيقة، وكان من بيوع المعاطاة التي لا تفتقر إلى اللفظ، وقالوا: لما ولدوا على الفطرة واستمر لهم حكمها إلى البلوغ وجد التكليف، استبدلوا عنها بالكفر والنفاق فتحققت
204

المعاوضة، وقالوا: لما كانوا ذوي عقول متمكنين من النظر الصحيح المؤدي إلى معرفة الصواب من الخطأ، استبدلوا بهذا الاستعداد النفيس اتباع الهوى والتقليد للآباء، مع قيام الدليل الواضح، فتحققت المعاوضة. قالوا: وإن كان أراد بالآية أهل الكتاب، كما قال قتادة، فقد كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، ومصدقين ببعث النبي صلى الله عليه وسلم)، ومستفتحين به، ويدعون بحرمته، ويهددون الكفار بخروجه، فكانوا مؤمنين حقا. فلما بعث صلى الله عليه وسلم) وهاجر إلى المدينة، خافوا على رئاستهم ومآكلهم وانصراف الاتباع عنهم، فجحدوا نبوته وقالوا: ليس هذا المذكور عندنا، وغيروا صفته، واستبدلوا بذلك الإيمان الكفر الذي حصل لهم، فتحققت المعاوضة. قالوا: وإن كان أراد سائر الكفار، كما قاله ابن مسعود، وابن عباس، فالمعاوضة أيضا متحققة، إما بالمدة التي كانوا عليها على الفطرة ثم كفروا، أو لأن الكفار كان في محصولهم المدارك الثلاثة: الحسي والنظري والسمعي، وهذه التي تفيد العلم القطعي، فاستبدلوا بها الجري على سنن الآباء في الكفر. وقال ابن كيسان: خلقهم لطاعته، فاستبدلوا عن هذه الخلقة المرضية كفرهم وضعف قوله، لأنه تعالى لو برأهم لطاعته، لما كفر أحد منهم لاستحالة أن يخلق شيئا لشيء ويتخلف عن ذلك الشيء. وسيأتي الكلام على قوله تعالى: * (إلا ليعبدون) *، وعلى ولذلك خلقهم إن شاء الله.
قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي: الضلالة: الكفر، والهدى: الإيمان، وقبل الشك واليقين، وقيل الجهل والعلم، وقيل الفرقة والجماعة، وقيل الدنيا والآخرة، وقيل النار والجنة. وعطف: فما ربحت، بالفاء، يدل على تعقب نقي الربح للشراء، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح. وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله: * (فما ربحت تجارتهم) * دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء والتقديران اشتروا. والذين إذا كان في صلة فعل، كان في معنى الشرط، ومثله * (الذين * ينفقون أموالهم) *، وقع الجواب بالفاء في قوله: * (فلهم أجرهم) *، وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم، انتهى. وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ، فتدخل الفاء في خبره، كما ندخل في جواب الشرط. وأما الذين خبر عن أولئك، وقوله: فما ربحت ليس بخبر، فتدخله الفاء، وإنما هي جملة فعليه معطوفة على صلة الذين، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة صلة، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله: * (فلهم أجرهم) * خطأ، لأنه ليس بجواب، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين اشتروا مبتدأ، وفما ربحت تجارتهم خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه الجملة الواقعة خبرا لأولئك. ولتحقق مضي الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية، معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين بدل منه، وفما ربحت خبر لأن الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول، ولإبدال الذين من أولئك، صار الذين مخصوصا لأنه بدل من مخصوص، وخبر المخصوص لا تدخله الفاء، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ والذين خبرا عنه. ونسبة الريح إلى التجارة من باب المجاز لأن الذي يربح أو يخسر إنما هو التاجر لا التجارة، ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمنا، رشح هذا المجاز البديع بقوله تعالى: * (فما ربحت تجارتهم) *، وهذا من باب ترشيح المجاز، وهو أن يبرز المجاز في صورة الحقيقة، ثم يحكم عليه ببعض أوصاف الحقيقة، فينضاف مجازا إلى مجاز، ومن ذلك قول الشاعر:
* بكى الخز من روح وأنكر جلده
*
وعجت عجيجا من جذام المطارف
*
أقام الخز مقام شخص حين باشر روحا بكى من عدم ملامته، ثم رشحه بقوله: وأنكر جلده، ثم زاد في ترشيح المجاز بقوله: وعجب، أي وصاحت مطارف الخز من قبيل روح هذا، وهي: جذام. ومعنى البيت: أن روحا وقبيلته جذام لا يصلح لهم لباس الخز ومطارقه، لأنهم لا عادة لهم بذلك، فكنى عن التباين بينهما بما كنى فيه في البيت، ومن ذلك قول الشافعي، رضي الله عنه:
205

* أيا بومة قد عششت فوق هامتي
*
على الرغم مني حين طار غرابها
*
لما كنى عن الشيب بالبومة فأقبل عليها وناداها، رشح هذا المجاز بقوله: قد عششت، لأن الطائر من أفعاله اتخاذ العشة، وقد أورد الزمخشري في ترشيح المجاز في كشافه مثلا. وقرأ ابن أبي عبلة: تجاراتهم، على الجمع، ووجهه أن لكل واحد تجارة، ووجه قراءة الجمهور على الأفراد أنه اكتفى به عن الجمع لفهم المعنى، وفي قوله: فما ربحت تجارتهم، إشعار بأن رأس المال لم يذهب بالكلية، لأنه إنما نفى الربح، ونفي الربح لا يدل على انتقاص رأس المال. وأجيب عن هذا بأنه اكتفى بذكر عدم الربح عن ذكر ذهاب المال، لما في الكلام من الدلالة على ذلك، لأن الضلال نقيض الهدى، والنقيضان لا يجتمعان، فاستبدالهم الضلالة بالهدى دل على ذهاب الهدى بالكلية، ويتخرج عندي على أن يكون من باب قوله:
علي لا حب لا يهتدي بمناره
أي لا منار له فيهتدي به، فنفى الهداية، وهو يريد نفي المنار، ويلزم من نفي المنار نفي الهداية به، فكذلك هذه الآية لما ذكر شراء شيء بشيء، توهم أن هذا الذي فعلوه هو من باب التجارة، إذ التجارة ليس نفس الاشتراء فقط، وليس بتاجر، إنما التجارة: التصرف في المال لتحصيل النمو والزيادة فنفى الربح. والمقصود نفي التجارة أي لا يتوهم أن هذا الشراء الذي وقع هو تجارة فليس بتجارة وإذا لم يكن تجارة انتفى الربح فكأنه قال: فلا تجارة لهم ولا ربح. وقال الزمخشري معناه: إن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان: سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا، لأن رأس المال مالهم كان هو الهدى، فلم يبق لهم مع الضلالة، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأعراض الدنيوية، لأن الضلال خاسر دامر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح. انتهى كلامه. ومع ذلك ليس بمخلص في الجواب لأن نفي الربح عن التجارة لا يدل على ذهاب كل المال، ولا على الخسران فيه، لأن الربح هو الفضل على رأس المال، فإذا نفى الفضل لم يدل على ذهاب رأس المال بالكلية، ولا على الانتقاص منه، وهو الخسران. قيل: لما لم يكن قوله تعالى: * (فما ربحت تجارتهم) * مفيدا لذهاب رؤوس أموالهم، أتبعه بقوله: * (وما كانوا مهتدين) *، فكمل المعنى بذلك، وتم به المقصود، وهذا النوع من البيان يقال له: التتميم، ومنه قول امرئ القيس:
* كأن عيون الوحش حول خبائنا
*
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
*
تمم المعنى بقوله: الذي لم يثقب، وكمل الوصف وسمى الله تعالى اعتياضهم الضلالة عن الهدى تجارة، وإن كانت التجارة هي البيع والشراء المتحقق منه الفائدة، أو المترجى ذلك منه. وهذا الاعتياض منفي عنه ذلك، لأن الكفر محبط للأعمال. قال تعالى: * (وقدمنا إلى ما عملوا) * الآية. وفي الحديث، أنه صلى الله عليه وسلم) سئل عن ابن جدعان: وهو ينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين؟ فقال: (لا إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، لأنهم لم يعتاضوا ذلك إلا
206

لما تحققوا وارتجوا من العوائد الدنيوية والأخروية. ألا ترى إلى قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: * (وما نحن بمعذبين) *. وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أياما معدودة، وبعضهم يقول يوما واحدا، وبعضهم عشرا، وكل طائفة من الكفار تزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل. فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة، ونفى الله تعالى عنهم كونهم مهتدين. وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين، أو مهتدين من الضلالة، أو للتجارة الرابحة، أو في اشتراء الضلالة، أو نفي عنهم الهداية والربح، لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى، وعلى استقامة، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية. والذي أختاره أن قوله تعالى: * (وما كانوا مهتدين) * إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله: بالهدى، أنهم كانوا على هدى فيما مضى، فبين قوله: * (وما كانوا مهتدين) * مجاز قوله: بالهدى، ودل على أن الذي اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى، فالمثبت في الاعتياض غير المنفى أخيرا، لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل. وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان، فهو منصوب بها وحدها خلافا لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معا، وخلافا لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال، وهو الفراء، قال: لشغل الاسم برفع كان، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالا خبرا فأتى معرفة، فقيل: كان أخوك زيدا تغليبا للخير، لا للحال.
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أقوالا: أحدها: أنها نزلت في المنافقين. الثاني: في قوم أعلم الله بوصفهم قبل وجودهم، وفيه إعلام بالمغيبات. الثالث: في عبد الله بن أبي وأصحابه نزل: * (وإذا لقوا الذين ءامنوا) * والتي قبلها في جميع المنافقين، وذكروا ما معناه: أنه لقي نفرا من المؤمنين، فقال لأصحابه: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذكر أنه مدح وأثنى على أبي بكر وعمر وعلي، فوبخه علي وقال له: لا تنافق، فقال: ألي تقول هذا، والله إن إيماننا كإيمانكم، ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا. وقد تقدمت أقاويل غير هذه الثلاثة في غضون الكلام قبل هذا.
2 (* (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمى فهم لا يرجعون) *)) 2
* (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) *: المثل في أصل كلام العرب بمعنى المثل والمثيل، كشبه وشبه وشبيه، وهو النظير، ويجمع المثل والمثل على أمثال. قال اليزيدي: الأمثال: الأشباه، وأصل المثل الوصف، هذا مثل كذا، أي وصفه مسا ولو صف الآخر بوجه من الوجوه. والمثل: القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه. وقيل: المثل، ذكر وصف ظاهر محسوس وغير محسوس، يستدل به علي وصف مشابه
له من بعض الوجوه، فيه نوع من الخفاء ليصير في الذهن مساويا للأول في الظهور من وجه دون وجه. والمقصود من ذكر المثل أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، لأن الغرض من ضرب المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته ويصير الحس مطابقا للعقل. والذي: اسم موصول للواحد المذكر، ونقل عن أبي علي أنه مبهم يجري مجرى من في وقوعه على الواحد والجمع. وقال الأخفش: هو مفرد، ويكون في معنى الجمع، وهذا شبيه بقول أبي علي، وقال صاحب التسهيل فيه، وقد ذكر الذين، قال: ويغني عنه الذي في غير تخصيص كثيرا وفيه للضرورة قليلا وأصحابنا يقولون: يجوز أن تحذف النون من الذين فيبقي الذي، وإذا كان الذي لمفرد فسمع تشديد الياء فيه
207

مكسورة أو مضمومة، وحذف الياء وإبقاء الذال مكسورة أو ساكنة، وأكثر أصحابنا على أن تلك لغات في الذي. والاستيقاد: بمعنى الإيقاد واستدعاء ذلك، ووقود النار ارتفاع لهيبها. والنار: جوهر لطيف مضيء حار محرق. لما: حرف نفي يعمل الجزم وبمعنى إلا، وظرفا بمعنى حين عند الفارسي، والجواب عامل فيها إذ الجملة بعدها في موضع جر، وحرف وجوب لوجوب عند سيبويه، وهو الصحيح لتقدمها على ما نفي بما، ولمجيء جوابها مصدرا بإذا الفجائية. الإضاءة: الإشراق، وهو فرط الإنارة. وحوله: ظرف مكان لا يتصرف، ويقال: حوال بمعناه، ويثنيان ويجمع أحوال، وكلها لا تتصرف وتلزم الإضافة. الذهاب: الانطلاق. النور: الضوء من كل نير ونقيضة الظلمة، ويقال نار ينور إذا نفر، وجارية نوار: أي نفور، ومنه اسم امرأة الفرزدق، وسمي نورا لأن فيه اضطرابا وحركة. الترك: التخلية، أترك هذا أي خله ودعه، وفي تضمينه معنى التصيير وتعديته إلى اثنين خلاف، الأصح جواز ذلك. الظلمة: عدم النور، وقيل: هو عرض ينافي النور، وهو الأصح لتعلق الجعل بمعنى الخلق به، والإعدام لا توصف بالخلق، وقد رده بعضهم لمعنى الظلم، وهو المنع، قال: لأن الظلمة تسد البصر وتمنع الرؤية. الإبصار: الرؤية. * (صم بكم عمى فهم لا يرجعون) * جموع كثرة على وزن فعل، وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا، نحو: أحمر وحمراء، أو انفرد المانع في الخلقة، نحو: عذل ورتق. فإن كان الوصف مشتركا لكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء، وذلك نحو: رجل آلي وامرأة عجزاء، لم ينقس فيه فعل بل يحفظ فيه. والصمص: داء، يحصل في الأذن يسد العروق فيمنع من السمع، وأصله من الصلابة، قالوا: قناة صماء، وقيل أصله السد وصممت القارورة: سددتها. والبكم: آفة تحصل في اللسان تمنع من الكلام، قاله أبو حاتم، وقيل: الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم الكلام ولا يهتدي إلى الصواب، فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان. والعمى: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، والفعل منها على فعل بكسر العين، واسم الفاعل على أفعل، وهو قياس الآفات والعاهات. والرجوع، إن لم يتعد، فهو بمعنى: العود، وإن تعدى فبمعنى: الإعادة. وبعض النحويين يقول: إنها تضمن معنى صار فتصير من باب كان، ترفع الاسم وتنصب الخبر.
قال الزمخشري: لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بذكر ضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيانه، ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب بأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامح الآبي، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم) وكلام الأنبياء والحكماء، فقال الله تعالى: * (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) *، ومن سور الإنجيل سور الأمثال، انتهى كلامه.
ومثلهم: مبتدأ والخبر في الجار والمجرور بعده، والتقدير كائن كمثل، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر. وقال ابن عطية: الخبر الكاف، وهي على هذا اسم، كما هي في قول الأعشى:
208

* أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط
*
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
*
انتهى.
وهذا الذي اختاره ونبأ به غير مختار، وهو مذهب أبي الحسن، يجوز أن تكون الكاف اسما في فصيح الكلام، وتقدم أنا لا نجيزه إلا في ضرورة الشعر، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر الوجه الذي اختاره، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في قوله: فصيروا مثل: * (كعصف مأكول) *. وحمله على ذلك، والله أعلم، أنه لما تقرر عنده أن المثل والمثل بمعنى، صار المعنى عنده على الزيادة، إذ المعنى تشبيه المثل بالمثل، لا يمثل المثل والمثل هنا بمعنى القصة والشأن، فشبه شأنهم ووصفهم بوصف المستوقد نارا فعلى هذا لا تكون الكاف زائدة. وفي جهة المماثلة بينهم وبين الذي استوقد نارا وجوه ذكروها: الأول: أن مستوقد النار يدفع بها الأذى، فإذا انطفأت عنه وصل الأذى إليه، كذلك المنافق يحقن دمه بالإسلام ويبيحه بالكفر. الثاني: أنه يهتدي بها، فإذا انطفأت ضل، كذلك المنافق يهتدي بالإسلام، فإذا اطلع على نفاقه ذهب عنه نور الإسلام وعاد إلى ظلمه كفرة. الثالث: أنه إذا لم يمدها بالحطب ذهب ضوؤها، كذلك المنافق، إذا لم يستدم الإيمان ذهب إيمانه. الرابع: أن المستضيء بها نوره من جهة غيره لا من جهة نفسه، فإذا ذهبت النار بقي في ظلمة، كذلك المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد قلبه كان نور إيمانه كالمستعار. الخامس: أن الله شبه إقبالهم على المسلمين بالإضاءة وعلى المشركين الذهاب، قاله مجاهد: السادس: شبه الهدى الذي باعوه بالنور الذي حصل للمستوقد، والضلالة المشتراة بالظلمات. السابع: أنه مثل ضربه الله للمنافق لأنه أظهر الإسلام فحقن به دمه ومشى في حرمته وضيائه ثم سلبه في الآخرة عند حاجته إليه، روي
معناه عن الحسن، وهذه الأقاويل على أن ذلك نزل في المنافقين، وهو مروي عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل.
وروي عن ابن جبير، وعطاء، ومحمد بن كعب، ويمان بن رئاب، أنها في اليهود، فتكون في المماثلة إذ ذاك وجوه ذكروها: الأول: أن مستوقد النار يستضيء بنورها ويتأنس وتذهب عنه وحشة الظلمة، واليهود لما كانوا يبشرون النبي صلى الله عليه وسلم) ويستفتحون به على أعدائهم ويستنصرون به فينصرون، شبه حالهم بحال المستوقد النار، فلما بعث وكفروا به، أذهب الله ذلك النور عنهم
209

الثاني: شبه نار حربهم التي شبوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم) بنار المستوقد، وإطفاءها بذهاب النور الذي للمستوقد. الثالث: شبه ما كانوا يتلونه في التوراة من اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم) وصفته وصفة أمته ودينه وأمرهم باتباعه بالنور الحاصل لمن استوقد نارا، فلما غيروا اسمه وصفته وبدلوا التوراة وجحدوا أذهب الله عنهم نور ذلك الإيمان، وتقدم الكلام على الذي، وتقدم قول الفارسي في أنه يجري مجرى من في الإفراد والجمع، وقول الأخفش أنه مفرد في معنى الجمع، والذي نختاره أنه مفرد لفظا وإن كان في المعنى نعتا لما تحته أفراد، فيكون التقدير كمثل الجمع الذي استوقد نارا كأحد التأويلين في قوله:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
ولا يحمل على المفرد لفظا ومعنى بجمع الضمير في ذهب الله بنورهم، وجمعه في دمائهم. وأما من زعم أن الذي هنا هو الذين وحذفت النون لطول الصلة، فهو خطأ لإفراد الضمير في العلة، ولا يجوز الإفراد للضمير لأن المحذوف كالملفوظ به. ألا ترى جمعه في قوله تعالى: * (وخضتم كالذي خاضوا) * على أحد التأويلين، وجمعه في قول الشاعر:
* يا رب عبس لا تبارك في أحد
*
في قائم منهم ولا فيمن قعدإلا الذي قاموا بأطراف المسد
*
وأما قول الفارسي: إنها مثل من، ليس كذلك لأن الذي صيغة مفرد وثني وجمع بخلاف من، فلفظ من مفرد مذكر أبدا وليس كذلك الذي، وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى: * (وخضتم كالذي خاضوا) *، وأعل لتسويغ ذلك بأمرين، قال: أحدهما: أن الذي لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة واستطالته بصلته حقيق بالتخفيف، ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين، وهذا الذي ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام، وإن كان قد تقدمه إليه بعض النحويين، خطأ، لأنه لو كانت اللام بقية الذي لكان لها موضع من الإعراب، كما كان للذي، ولما تحظى العامل إلى أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها، ويجاز وصلها بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أو حذفت، قال: والثاني: إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهن سواء؟ انتهى. وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون صحيح من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فليس كذلك، بل هو مثله من حيث المعنى، ألا ترى أنه لا يكون واقعا إلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من الذكورية والعقل؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين من جهة أنه لا يكون إلا جمعا لمذكر عاقل، ولكنه لما كان مبنيا التزم فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثر العرب، وهذيل أتت بصيغة الجمع فيه بالواو والنون رفعا والياء والنون نصبا وجرا، وكل العرب التزمت جمع الضمير العائد عليه من صلته كما يعود على الجمع المذكر العاقل، فدل هذا كله على أن ما
210

ذكره ليس بمسوغ لأن يوضع الذي موضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من إرادة الجمع أو النوع، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيرا.
وقرأ ابن السميفع: كمثل الذين، على الجمع، وهي قراءة مشكلة، لأنا قد ذكرنا أن الذي إذا كان أصله الذين فحذفت نونه تخفيفا لا يعود الضمير عليه إلا كما يعود على الجمع، فكيف إذا صرح به؟ وإذا صحت هذه القراءة فتخريجها عندي على وجوه: أحدها: أن يكون إفراد الضمير حملا على التوهم المعهود مثله في لسان العرب، كأنه نطق بمن الذي هو لفظ ومعنى، كما جزم بالذي من توهم أنه نطق بمن الشرطية، وإذا كان التوهم قد وقع بين مختلفي الحد، وهو إجراء الموصول في الجزم مجرى اسم الشرط، فبالحري أن يقع بين متفقي الحد، وهو الذين، ومن الموصولان مثال الجزم بالذي، قول الشاعر، أنشده ابن الأعرابي:
* كذاك الذي يبغي على الناس ظالما
*
تصبه على رغم عواقب ما صنع
*
الثاني: أن يكون إفراد الضمير، وإن كان عائدا على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي بالمفرد الظاهر عن الجمع، وقد جاء مثل ذلك في لسان العرب، أنشد أبو الحسن:
* وبالبدو منا أسرة يحفظوننا
*
سراع إلى الداعي عظام كراكره
*
أي كراكرهم.
والثالث: أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائدا على الذين، وإنما هو عائد على اسم الفاعل المفهوم من استوقد، التقدير استوقد هو، أي المستوقد، فيكون نحو قوله تعالى: * (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات) * أي هو أي البداء المفهوم من بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية، وفي العائد على الذين وجهان على هذا التأويل. أحدهما: أن يكون حذف وأصله لهم، أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد نارا وإن لم تكن فيه شروط الحذف المقيس، فيكون مثل قول الشاعر:
* ولو أن ما عالجت لين فؤادها
*
فقسا استلين به للان الجندل
*
يريد ما عالجت به، فحذف حرف الجر والضمير، وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس، وهي مذكورة في مبسوطات كتب النحو، وضابطها أن يكون الضمير مجرورا بحرف جر ليس في موضع رفع، وأن يكون الموصول، أو الموصوف به الموصول، أو المضاف للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظا ومعنى، وأن يكون الفعل الذي تعلق به الحرف الذي جر الضمير، مثل ذلك الفعل الذي تعلق به الحرف السابق. والوجه الثاني: أن تكون الجملة الأولى الواقعة صلة لا عائد فيها، لكن عطف عليها جملة بالفاء، وهي جملة لما وجوابها، وفي ذلك عائد على الذي، فحصل الربط بذلك العائد المتأخر، فيكون شبيها بما أجازوه من الربط في باب
211

الابتداء من قولهم: زيد جاءت هند فضربتها، ويكون العائد على الذين الضمير الذي في جواب لما، وهو قوله تعالى: * (ذهب الله بنورهم) *، ولم يذكر أحد ممن وقفنا على كلامه تخريج قراءة ابن السميمع.
واستوقد: استفعل، وهي بمعنى افعل. حكى أبو زيد: أوقد واستوقد بمعنى، ومثله أجاب واستجاب، وأخلف لأهله واستخلف أي خلف الماء، أو للطلب، جوز المفسرون فيها هذين الوجهين من غير ترجيح، وكونها بمعنى أوقد، قول الأخفش، وهو أرجح لأن جعلها للطلب يقتضي حذف جملة حتى يصح المعنى، وجعلها بمعنى أوقد لا يقتضيه. ألا ترى أنه يكون المعنى في الطلب استدعوا نارا فأوقدوها، * (فلما أضاءت ما حوله) *، لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب، إنما تتسبب عن الاتقاد، فلذلك كان حملها على غير الطلب أرجح، والتشبيه وقع بين قصة وقصة، فلا يحتاج في نحو هذا التشبيه إلى مقابلة جماعة بجماعة. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) *، وعلى أنه في قوله: * (كمثل الذى استوقد نارا) *، هو من قبيل المقابلة أيضا؟ ألا ترى أن المعنى هو كمثل الجمع؟ أو الفوج الذي استوقد، فهو من المفرد اللفظ المجموع المعنى. على أن من المفسرين من تخيل أنه مفرد ورام مقابلة الجمع بالجمع، فادعى أن ذلك هو على حذف مضاف التقدير، كمثل أصحاب الذي استوقد، ولا حاجة إلى هذا الذي قدره لأنه لو فرضناه مفردا لفظا ومعنى لما احتيج إلى ذلك، لأن التشبيه إنما جرى في قصة بقصة، وإذا كان كذلك فلا تشترط المقابلة، كما قدمنا، ونكر نارا وأفردها، لأن مقابلها من وصف المنافق إنما هو نزر يسير من التقييد بالإسلام، وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق مملوأة به، فشبه حاله بحال من استوقد نارا ما إذ ما إذ لا يدل إلا على المطلق، لا على كثرة ولا على عهد، والفاء في فلما للتعقيب، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة، ومن زعم أنها دخلت لما تضمنته الصلة من الشرط وقدره إن استوقد فهو فاسد من وجوه، وقد تقدم الرد على ما يشبه هذا الزعم في قوله: * (فما ربحت تجارتهم) *، فأغنى عن إعادته هنا.
وأضاءت: قيل متعد وقيل لازم ومتعد، قالوا: وهو أكثر وأشهر، فإذا كان متعديا كانت الهمزة فيه للنقل، إذ يقال: ضاء المكان، كما قال العباس بن عبد المطلب، في النبي عليه الصلاة والسلام: وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق. والفاعل إذ ذاك ضمير النار وما مفعولة وحوله صلة معمولة لفعل محذوف لا نكرة موصوفة وحوله صفة لقلة استعمال ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لنا الكلام في ذلك، أي فلما أضاءت النار المكان الذي حوله، وإذا كان لازما فقالوا: إن الضمير في أضاءت للنار، وما زائدة، وحوله ظرف معمول للفعل، ويجوز أن يكون الفاعل ليس ضمير النار، وإنما هو ما الموصولة وأنث على المعنى، أي: فلما أضاءت الجهة التي حوله، كما أنثوا على المعنى في قولهم: ما جاءت حاجتك. وقد ألم الزمخشري بهذا الوجه، وهذا أولى مما ذكروه لأنه لا يحفظ من كلام العرب: جلست ما مجلسا حسنا، ولاقت ما يوم الجمعة، والحمل على المعنى محفوظ، كما ذكرناه، ولو سمع زيادة في ما نحو هذا، لم يكن ذلك من مواضع اطراد زيادة ما، والأولى في الآية بعد ذلك أن يكون أضاءت متعدية، فلا تحتاج إلى تقدير زيادة، ولا حمل على المعنى.
وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: فلما أضاءت ثلاثيا فيتخرج على زيادة ما وعلى أن تكون هي الفاعلة، إما موصولة وإما موصوفة، كما تقدم، ولما جوابها: * (ذهب الله بنورهم) *، وجمع الضمير في: بنورهم حملا على معنى الذي، إذ قررنا أن المعنى كالجمع الذي استوقد، أو على ذلك المحذوف الذي قدره بعضهم، وهو كمثل أصحاب الذي استوقد،
212

وأجازوا أن يكون جواب لما محذوفا لفهم المعنى، كما حذفوه في قوله: * (فلما ذهبوا به وأجمعوا) *، الآية. قال الزمخشري: وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس الدال عليه، انتهى. وقوله: لاستطالة الكلام غير مسلم لأنه لم يستطل الكلام، لأنه قدره خمدت، وأي استطالة في قوله: * (فلما أضاءت ما حوله) *،
خمدت؟ بل هذا لما وجوابها، فلا استطالة بخلاف قوله: * (فلما ذهبوا به) *، فإن الكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي لما، فلذلك كان الحذف سائغا لاستطالة الكلام. وقوله: مع أمن الإلباس، وهذا أيضا غير مسلم، وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف؟ بل الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون * (ذهب الله بنورهم) * هو الجواب، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة، كان ذلك من باب اللغز، إذ تركت شيئا يبادر إلى الفهم وأضمرت شيئا يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه، إذ لا يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب * (ذهب الله بنورهم) *.
ولم يكتف الزمخشري بأن جوز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى، قال: وكان الحذف أولى من الإثبات، لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ للفظ في أداء المعنى، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت، فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار، انتهى. وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها، لأنه يمكن له ذلك لو لم يكن يلي قوله: * (فلما أضاءت ما حوله) *، قوله: * (ذهب الله بنورهم) *. وأما ما في كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره، فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله، ويقدر تقادير وجملا محذوفة لم يدل عليها الكلام، وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره، ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله، ولا أن يزاد فيه، بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه. ولما جوز واحذف الجواب تكلموا في قوله تعالى: * (ذهب الله بنورهم) *، فخرجوا ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون مستأنفا جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل: ذهب الله بنورهم. والثاني: أن يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان، قالهما الزمخشري، وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف، وقد اخترنا غيره وأنه قوله تعالى: * (ذهب الله بنورهم) * والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما، وهو أن يكون قوله: * (ذهب الله بنورهم) * بدلا من جملة التمثيل، على سبيل البيان، لا يظهر في صحته، لأن جملة التمثيل هي قوله: * (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا * فجعله * ذهب الله بنورهم) * بدلا من هذه الجملة، على سبيل البيان، لا يصح، لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إن كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية، فقد ذكروا جواز ذلك. أما أن تبدل جملة فعلية من جملة اسمية فلا أعلم أحدا أجاز ذلك، والبدل على نية تكرار العامل. والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد، فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل، إذ لا عامل في الأولى فتكرر في الثانية فبطلت جهة البدل فيها، ومن جعل الجواب محذوفا جعل الضمير في
213

بنورهم عائدا على المنافقين. والباء في بنورهم للتعدية، وهي إحدى المعاني الأربعة عشر التي تقدم أن الباء تجيء لها، وهي عند جمهور النحويين ترادف الهمزة. فإذا قلت: خرجت بزيد؛ فمعناه أخرجت زيدا، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت، وذهب أبو العباس إلى أنك إذا قلت: قمت بزيد، دل على أنك قمت وأقمته، وإذا قلت: أقمت زيدا، لم يلزم أنك قمت، ففرق بين الباء والهمزة في التعدية. وإلى نحو من مذهب أبي العباس ذهب السهيلي، قال: تدخل الباء، يعني المعدية، حيث تكون من الفاعل بعض مشاركة للمفعول في ذلك الفعل نحو: أقعدته، وقعدت به، وأدخلته الدار، ودخلت به، ولا يصح هذا في مثل: أمرضته، وأسقمته. فلا بد إذن من مشاركة، ولو باليد، إذا قلت: قعدت به، ودخلت به. ورد على أبي العباس بهذه الآية ونحوها. ألا ترى أن المعنى أذهب الله نورهم؟ ألا ترى أن الله لا يوصف بالذهاب مع النور؟ قال بعض أصحابنا، ولا يلزم ذلك أبا العباس: إذ يجوز أن يكون الله وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به، كما وصف نفسه تعالى بالمجيء في قوله: * (وجاء ربك) *، والذي يفسد مذهب أبي العباس من التفرقة بين الباء والهمزة قول الشاعر:
* ديار التي كانت ونحن على منى
*
تحل بنا لولا نجاء الركائب
*
أي تحلنا ألا ترى أن المعنى تصيرنا حلالا غير محرمين، وليست تدخل معهم في ذلك لأنها لم تكن حراما، فتصير خلالا بعد ذلك؟ ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال: أذهبت بزيد، ولقوله تعالى: * (تنبت بالدهن) *، في قراءة من جعله رباعيا تخريج بذكر في مكانه، إن شاء الله تعالى. ولباء التعدية أحكام غير هذا ذكرت في النحو. وقرأ اليماني: أذهب الله نورهم، وهذا يدل على مرادفة الباء للهمزة، ونسبة الإذهاب إلى الله تعالى حقيقة، إذ هو فاعل الأشياء كلها.
وفي معنى: * (ذهب الله بنورهم) * ثلاثة أقوال: قال ابن عباس: هو مثل ضرب للمنافقين، كانوا يعتزون بالإسلام، فناكحهم المسلمون ووارثوهم وقاسموهم الفيء، فلما ماتوا سبلهم الله العز، كما سلب موقد النار ضوءه، * (وتركهم في ظلمات) *، أي في عذاب. الثاني: إن ذهاب نورهم باطلاع الله المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر من كفرهم. الثالث: أبطل نورهم عنده، إذ قلوبهم على خلاف ما أظهروا، فهم كرجل أوقد نارا ثم طفئت فعاد في ظلمة. وهذه الأقوال إنما تصح إذا كان الضمير في بنورهم عائدا على المنافقين، وإن عاد على المستوقدين، فذهاب
214

النور هو إطفاء النار التي أوقدوها، ويكون بأمر سماوي ليس لهم فيه فعل، فلذلك قال الضحاك: لما أضاءت النار أرسل الله عليها ريحا عاصفا فاطفأها، وهذا التأويل يأتي على قول من قال: إنها نار حقيقة أوقدها أهل الفساد ليتوصلوا بها وبنورها إلى فسادهم وعبثهم، فأخمد الله نارهم وأضل سعيهم، وأما إذا قلنا إن ذكر النار هنا مثل لا حقيقة لها، وإن المراد بها نار العداوة والحقد، فإذهاب الله لها دفع ضررها عن المؤمنين. وإذا كانت النار مجازية، فوصفها بالإضاءة ما حول المستوقد هو من
مجاز الترشيح، وقد تقدم الكلام فيه. وإذهاب النور أبلغ من إذهاب الضوء لاندراج الأخص في نفي الأعم، لا العكس. فلو أتى بضوئهم لم يلزم ذهاب النور. والمقصود إذهاب النور عنهم أصلا، ألا ترى كيف عقبه بقوله: * (وتركهم في ظلمات) *؟ وإضافة النور إليهم من باب الإضافة بأدنى ملابسة، إذ إضافته إلى النار هو الحقيقة، لكن مما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم.
وقرأ الجمهور: في ظلمات بضم اللام، وقرأ الحس، وأبر السماك: بسكون اللام، وقرأ قوم: بفتحها. وهذه اللغى الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين، غير المضعف، ولا المعل اللام بالتاء. فإن اعتلت بالياء نحو: كلية، امتنعت الضمة، أو كان مضعفا نحو: دره، أو معتل العين نحو: سورة، أو وصفا نحو: بهمة امتنعت الفتحة والضمة. وقرأ قوم: إن ظلمات، بفتح اللام جمع ظلم، الذي هو جمع ظلمة. فظلمات على هذا جمع جمع، والعدول إلى الفتح تخفيفا أسهل من ادعاء جمع الجمع، لأن العدول إليه قد جاء في نحو: كسرات جمع كسرة جوار، أو إليه في نحو: جفنة وجوباء. وفعلة وفعلة أخوات، وقد سمع فيها الفتح بالقيود التي تقدمت، وجمع الجمع ليس بقياس، فلا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل قاطع. وقرأ اليماني: في ظلمة، على التوحيد ليطابق بين إفراد النور والظلمة وقراءة الجمع، لأن كل واحد له ظلمة تخصه، فجمعت لذلك. وحيث وقع ذكر النور والظلمة في القرآن جاء على هذا المنزع من إفراد النور وجمع الظلمات. وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله. ونكرت الظلمات ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اكتفاء بما دل عليه المعنى من إضافتها إليهم من جهة المعنى واختصار اللفظ، وإن كان ترك متعديا لواحد فيحتمل أن يكون: في ظلمات، في موضع الحال من المفعول، فيتعلق بمحذوف، ولا يبصرون: في موضع الحال أيضا، إما من الضمير في تركهم وإما من الضمير المستكن في المجرور فيكون حالا متداخلة، وهي في التقديرين حال مؤكدة. ألا ترى أن من ترك في ظلمة لزم من ذلك أنه لا يبصر؟ وإن كان ترك مما يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات في موضع المفعول الثاني، ولا يبصرون جملة حالية؟ ولا يجوز أن يكون في ظلمات في موضع الحل، ولا يبصرون جملة في موضع المفعول الثاني، وإن كان يجوز ظننت زيدا منفردا لا يخاف، وأنت تريد ظننت زيدا في حال انفراده لا يخاف لأن المفعول الثاني أصله خبر لمبتدأ، وإذا كان كذلك فلا يأتي الخبر على جهة التأكيد، إنما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الإخبار. فإذا جعلت في ظلمات في موضع الحال كان قد فهم منها أن من هو في ظلمة لا يبصر، فلا يكون في قوله لا يبصرون من الفائدة إلا التوكيد، وذلك لا يجوز في الإخبار. ألا ترى إلى تخريج النحويين قول امرئ القيس:
* إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
*
بشق وشق عندنا لم يحول
*
على أن وشق مبتدأ وعندنا في موضع الخبر، ولم يحول جملة حالية أفادت التأكيد، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر، لأنه يؤدي إلى مجيء الخبر مؤكدا، لأن نفي التحويل مفهوم من كون الشق عنده، فإذا استقر عنده
215

ثبت أنه لم يحول عنه. قال ابن عباس: والظلمات هنا العذاب، وقال مجاهد: ظلمة الكفر، وقال قتادة: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت، وقال السدي: ظلمة النفاق، ولم يذكر مفعول لا يبصرون، ولا ينبغي أن ينوي، لأن المقصود نفي الإبصار عنهم لا بالنسبة إلى متعلقه.
قرأ الجمهور: * (صم بكم عمى) *، بالرفع وهو على إضمار مبتدأ تقديره هم صم، وهي أخبار متباينة في اللفظ والدلالة الوضعية، لكنها في موضع خبر واحد، إذ يؤول معناها كلها إلى عدم قبولهم الحق وهم سمعاء الآذان، فصح الألسن، بصراء الأعين، لكنهم لم يصيخوا إلى الحق ولا نطقت به ألسنتهم، ولا تلمحوا أنوار الهداية، وصفوا بما وصفوا من الصمم والبكم والعمى، وقد سمع عن العرب لهذا نظائر، أنشد الزمخشري من ذلك أياتا، وأنشد غيره:
* أعمى إذا ما جارتي برزت
*
حتى يواري جارتي الخدر
*
* وأصم عما كان بينهما
*
أذني وما في سمعها وقر
*
وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين، وليس من باب الاستعارة، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون. والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه، صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام، كقول زهير:
* لدي أسد شاكي السلاح مقذف
*
له لبد أظفاره لم تقلم
*
وحذف المبتدأ هناك لذكره، فلا يقال: إنه من باب الاستعارة، إذ هو كقول زهير:
* أسد علي وفي الحروب نعامة
*
فتخاء تنفر من صفير الصافر
*
والإخبار عنهم بالصمم والبكم والعمى هو كما ذكرناه من باب المجاز، وذلك لعدم قبولهم الحق. وقيل: وصفهم الله بذلك لأنهم كانوا يتعاطون التصامم والتباكم والنعامي من غير أن يكونوا متصفين بشيء من ذلك، فنبه على سوء اعتمادهم وفساد اعتقادهم. والعرب إذا سمعت ما لا تحب، أو رأت ما لا يعجب، طرحوا ذلك كأنهم ما سمعوه ولا رأوه. قال تعالى: * (كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا) *، وقالوا: * (قلوبنا فى أكنة) * الآية. قيل: ويجوز أن يكون أريد بذلك المبالغة في ذمهم، وأنهم من الجهل والبلادة أسوأ حالا من البهائم وأشبه حالا من الجمادات التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تبصر. فمن عدم هذه المدارك الثلاثة كان من الذم في الرتبة القصوى، ولذلك لما أراد إبراهيم،
216

على نبينا وعليه السلام، المبالغة في ذم آلهة أبيه قال: * (لابيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) *؟ وهذه الجملة خبرية ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد أنه خبر أريد به الدعاء، وإن كان قد قاله بعض المفسرين. قال: دعاء الله عليهم بالصمم والبكم والعمى جزاء لهم على تعاطيهم ذلك، فحقق الله فيهم ما يتعاطونه من ذلك وكأنه يشير إلى ما يقع في الآخرة من قوله: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) *. وقرأ عبد الله بن مسعود، وحفصة أم المؤمنين: صما بكما عميا، بالنصب، وذكروا في نصبه وجوها: أحدها: أن يكون مفعولا ثانيا لترك، ويكون في ظلمات متعلقا بتركهم، أو في موضع الحال، ولا يبصرون. حال. الثاني: أن يكون منصوبا على الحال من المفعول في تركهم، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين، أو تكون تعدت إليهما وقد أخذتهما. الثالث: أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره أعني. الرابع: أن يكون منصوبا على الحال من الضمير في يبصرون، وفي ذلك نظر. الخامس: أن يكون منصوبا على الذم، صما بكما، فيكون كقول النابغة:
* أقارع عوف لا أحاول غيرها
*
وجوه قرود تبتغي من تجادع
*
وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أن تكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين، إذ هي متعلقة في العمل بما قبلها، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين، إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله: * (فلما أضاءت ما حوله) *، وكان الضمير في نورهم يعود على المنافقين، فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم. وأما في الوجه الخامس فيظهر أنها من أوصاف المنافقين، لأنها حالة الرفع من أوصافهم. ألا ترى أن التقدير هم صم، أي المنافقون؟ فكذلك في النصب. ونص بعض المفسرين على ضعف النصب على الذم، ولم يبين جهة الضعف، ووجهه: أن النصب على الذم إنما يكون حيث يذكر الاسم السابق فتعدل عن المطابقة في الإعراب إلى القطع، وهاهنا لم يتقدم اسم سابق تكون هذه الأوصاف موافقة له في الإعراب فتقطع، فمن أجل هذا ضعف النصب على الذم. فهم لا يرجعون: جملة خبرية معطوفة على جملة خبرية، وهي من حيث المعنى مترتبة على الجملة السابقة ومتعقبتها، لأن من كانت فيه هذه الأوصاف الثلاثة، التي هي كناية عن عدم قبول الحق، جدير أن لا يرجع إلى إيمان. فإن كانت الآية في معنيين، فذلك واضح، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يرجع إلى الإيمان لا يرجع أبدا، وإن كانت في غير معنيين فذلك مقيد بالديمومة على الحالة التي وصفهم الله بها. قال قتادة، ومقاتل: لا يرجعون عن ضلالهم، وقال السدي: لا يرجعون إلى الإسلام، وقيل: لا يرجعون عن الصم والبكم والعمى، وقيل: لا يرجعون إلى ثواب الله، وقيل: عن التمسك بالنفاق، وقيل: إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، وأسند عدم الرجوع إليهم لأنه لما جعل تعالى لهم عقولا للهداية، وبعث إليهم رسلا بالبراهين القاطعة، وعدلوا عن ذلك إلى اتباع أهوائهم، والجري على مألوف آبائهم،
217

كان عدم الرجوع من قبل أنفسهم. وقد قدمنا أن فعل العبد ينسب إلى الله اختراعا وإلى العبد لملابسته له، ولذلك قال في هذه الآية: * (صم بكم عمى فهم لا يرجعون) *، فأضاف هذه الأوصاف الذميمة إلى ملابسها وقال تعالى: * (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) *، فأضاف ذلك إلى الموجد تعالى. وهذه الأقاويل كلها على تقدير أن يكون الرجوع لازما، وإن كان متعديا كان المفعول محذوفا تقديره فهم لا يرجعون جوابا) *.
2 (* (أو كصيب من السمآء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم فىءاذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين) *)) 2
* (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق) * أو، لها خمسة معان: الشك، والإبهام، والتخيير، والإباحة، والتفصيل. وزاد الكوفيون أن تكون بمعنى الواو وبمعنى بل، وكان شيخنا أبو الحسن بن الصائغ يقول: أو لأحد الشيئين أو الأشياء. وقال السهيلي: أو للدلالة على أحد الشيئين من غير تعيين، ولذلك وقعت في الخبر
المشكوك فيه من حيث أن الشك تردد بين أمرين من غير ترجيح، لا أنها وضعت للشك، فقد تكون في الخبر، ولا شك إذا أبهمت على المخاطب. وأما التي للتخيير فعلى أصلها لأن المخير إنما يريد أحد الشيئين، وأما التي زعموا أنها للإباحة فلم تؤخذ الإباحة من لفظ أو ولا من معناها، إنما أخذت من صيغة الأمر مع قرائن الأحوال، وإنما دخلت لغلبة العادة في أن المشتغل بالفعل الواحد لا يشتغل بغيره، ولو جمع بين المباحين لم يعص، علما بأن أو ليست معتمدة هنا. الصيب: المطر، يقال: صاب يصوب فهو صيب إذا نزل والسحاب أيضا، قال الشاعر:
* حتى عفاها صيب ودقه
*
داني النواحي مسبل هاطل
*
وقال الشماخ:
وأشحم دان صادق الرعد صيب
ووزن صيب فيعل عند البصريين، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين، إلا ما شذ في الصحيح من قولهم: صيقل بكسر القاف علم لامرأة، وليس وزنه فعيلا، للفراء. وقد نسب هذا المذهب للكوفيين وهي مسألة يتكلم عليها في علم التصريف. وقد تقدم الكلام على تخفيف مثل هذا السماء: كل ما علاك من سقف ونحوه، والسماء المعروفة ذات البروج، وأصلها الواو لأنها من السمو، ثم قد يكون بينها وبين المفرد تاء تأنيث. قالوا: سماوة، وتصح الواو إذ ذاك لأنها بنيت عليها الكلمة، قال العجاج:
* طي الليالي زلفا فزلفا
*
سماوة الهلال حتى احقوقفا
*
218

والسماء مؤنث، وقد يذكر، قال الشاعر:
* فلو رفع السماء إليه قوما
*
لحقنا بالسماء مع السحاب
*
والجنس الذي ميز واحده بتاء، يؤنثه الحجازيون، ويذكره التميميون وأهل نجد، وجمعهم لها على سماوات، وعلى أسمية، وعلى سماء. قال: فوق سبع سمائنا شاذ لأنه، أولا: اسم جنس فقياسه أن لا يجمع، وثانيا: فجمعه بالألف والتاء ليس فيه شرط ما يجمع بهما قياسا، وجمعه على أفعله ليس مما ينقاس في المؤنث، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال.
الرعد، قال ابن عباس، ومجاهد، وشهر بن حوشب، وعكرمة: الرعد ملك يزجر السحاب بهذا الصوت، وقال بعضهم: كلما خالفت صحابة صاح بها، والرعد اسمه. وقال علي: وعطاء، وطاوس، والخليل: صوت ملك يزجر السحاب. وروي هذا أيضا عن ابن عباس، ومجاهد. وقال مجاهد: أيضا صوت ملك يسبح، وقيل: ريح تختنق بين السماء والأرض. وروي عن ابن عباس: أنه ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت، وقيل: اصطكاك الأجرام السحابية، وهو قول أرباب الهيئة. والمعروف في اللغة: أنه اسم الصوت المسموع، وقاله علي، قال بعضهم: أكثر العلماء على أنه ملك، والمسموع صوته يسبح ويزجر السحاب، وقيل: الرعد صوت تحريك أجنحة الملائكة الموكلين بزجر السحاب. وتلخص من هذه النقول قولان: أحدهما: أن الرعد ملك، الثاني: أنه صوت. قالوا: وسمي هذا الصوت رعدا لأنه يرعد سامعه، ومنه رعدت الفرائص، أي حركت وهزت كما تهزه الرعدة. واتسع فيه فقيل: أرعد، أي هدد وأوعد لأنه ينشأ عن الإبعاد. والتهدد: ارتعاد الموعد والمهدد.
البرق: مخراف حديد بيد الملك يسوق به السحاب، قاله علي، أو أثر ضرب بذلك المخراف. وروي عن علي: أو سوط نور بيد الملك يزجرها به، قاله ابن عباس، أو ضرب ذلك السوط، قاله ابن الأنباري وعزاه إلى ابن عباس. وروي نحوه عن مجاهد: أو ملك يتراءى. وروي عن ابن عباس أو الماء، قاله قوم منهم أبو الجلد جيلان بن فروة
219

البصري، أو تلألؤ الماء، حكاه ابن فارس، أو نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب، قاله بعضهم. والذي يفهم من اللغة: أن الرعد عبارة عن هذا الصوت المزعج المسموع من جهة السماء، وأن البرق هو الجرم اللطيف النوراني الذي يشاهد ولا يثبت.
* (يجعلون أصابعهم فىءاذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين) * جعل: يكون بمعنى خلق أو بمعنى ألقى فيتعدى لواحد، وبمعنى صبر أو سمى
فيتعدى لاثنين، وللشروع في الفعل فتكون من أفعال المقاربة، تدخل على المبتدأ والخبر بالشروط المذكورة في بابها. الأصبع: مدلولها مفهوم، وهي مؤنثة، وذكروا فيها تسع لغات وهي: الفتح للهمزة، وضمها، وكسرها مع كل من ذلك للباء. وحكوا عاشرة وهي: أصبوع، بضمها، وبعد الباء واو. وجميع أسماء الأصابع مؤنثة إلا الإبهام، فإن بعض بني أسد يقولون: هذا إبهام، والتأنيث أجود، وعليه العرب غير من ذكر. الأذن: مدلولها مفهوم، وهي مؤنثة، كذلك تلحقها التاء في التصغير قالوا: أذينة، ولا تلحق في العدد، قالوا: ثلاث آذان، قال أبو ثروان في أحجية له:
* ما ذو ثلاث آذان
*
يسبق الخيل بالرديان
*
يريد السهم وآذانه وقذذه. الصاعقة: الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعة من نار تسقط مع صوت الرعد، قالوا: تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وهي مع حدتها سريعة الخمود، ويهلك الله بها من يشاء. قال لبيد يرثي أخاه أربد، وكان ممن أحرقته الصاعقة:
فجعني البرق والصواعق بالفارس يوم الكريهة النجد
ويشبه بالمقتول بها من مات سريعا، قال علقمة بن عبدة:
* كأنهم صابت عليهم سحابة
*
صواعقها لطيرهن دبيب
*
وروى الخليل عن قوم من العرب: الساعقة بالسين، وقال النقاش: صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد. قال أبو عمرو: الصاقعة لغة بني تميم، قال الشاعر:
* ألم تر أن المجرمين أصابهم
*
صواقع لا بل هن فوق الصواقع
*
وقال أبو النجم:
* يحلون بالمقصورة القواطع
*
تشقق البروق بالصواقع
*
220

فإذا كان ذلك لغة، وقد حكوا تصريف الكلمة عليه، لم يكن من باب المقلوب خلافا لمن ذهب إلى ذلك، ونقل القلب عن جمهور أهل اللغة. ويقال: صعقته وأصعقته الصاعقة، إذا أهلكته، فصعق: أي هلك. والصاعقة أيضا العذاب على أي حال كان، قاله ابن عرفة، والصاعقة والصاقعة: إما أن تكون صفة لصوت الرعد أو للرعد، فتكون التاء للمبالغة نحو: راوية وإما أن تكون مصدرا، كما قالوا في الكاذبة. الحذر، والفزع، والفرق، والجزع، والخوف: نظائر الموت، عرض يعقب الحياة. وقيل: فساد بنية الحيوان، وقيل: زوال الحياة. الإحاطة: حصر الشيء بالمنع له من كل جهة، والثلاثي منه متعد، قالوا: حاطه، يحوطه، حوطا.
أو كصيب: معطوف على قوله: * (كمثل الذى استوقد) *، وحذف مضافان، إذ التقدير: أو: كمثل ذوي صيب، نحو قوله تعالى: * (كالذى يغشى عليه من الموت) *، أي كدوران عين الذي يغشى عليه. وأو هنا للتفصيل، وكان من نظر في حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب، ولا ضرورة تدعو إلى كون أو للتخيير. وأن المعنى أيهما شئت مثلهم به، وإن كان الزجاج وغيره ذهب إليه، ولا إلى أن أو للإباحة، ولا إلى أنها بمعنى الواو، كما ذهب إليه الكوفيون هنا. ولا إلى كون أو للشك بالنسبة للمخاطبين، إذ يستحيل وقوعه من الله تعالى، ولا إلى كونها بمعنى بل، ولا إلى كونها للإبهام، لأن التخيير والإباحة إنما يكونان في الأمر أو ما في معناه. وهذه الجملة خبرية صرف. ولأن أو بمعنى الواو، أو بمعنى بل، لم يثبت عند البصريين، وما استدل به مثبت ذلك مؤول، ولأن الشك بالنسبة إلى المخاطبين، أو الإبهام بالنسبة إليهم لا معنى له هنا، وإنما المعنى الظاهر فيها كونها للتفصيل. وهذا التمثيل الثاني أتى كاشفا لحالهم بعد كشف الأول. وإنما قصد بذلك التفصيل والإسهاب بحال المنافق، وشبهه في التمثيل الأول بمستوقد النار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع جدواه بذهاب النور. وشبه في الثاني دين الإسلام بالصيب وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيبهم من الإفزاع والفتن من جهة المسلمين بالصواعق، وكلا التمثيلين من التمثيلات المفرقة، كما شرحناه.
والأحسن أن يكون من التمثيلات المركبة دون المفرقة، فلا تتكلف مقابلة شيء بشيء، وقد تقدم الإشارة إلى ذلك عند الكلام على التمثيل الأول، فوصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما حبطوا فيه من الحيرة والدهشة بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وبحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق، وإنما قدر كمثل ذوي صيب لعود الضمير في يجعلون. والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر، ولذلك أخر فصار ارتقاء من الأهون إلى الأغلظ. وقد رام بعض المفسرين ترتب أحوال المنافقين وموازنتها في المثل من الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق، فقال: مثل الله القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال، وعما هم بالظلمات والوعيد والزجر بالرعد والنور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم بالبرق وتخوفهم بجعل أصابعهم، وفضح نفاقهم وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوها بالصواعق، وهذا قول من ذهب إلى أنه من التمثيل المفرق الذي يقابل منه شيء شيئا من الممثل، وستأتي بقية الأقوال في ذلك، إن شاء الله تعالى. وقرئ: أو كصايب، وهو اسم فاعل من صاب يصوب وصيب، أبلغ من صايب، والكاف في موضع رفع لأنها
221

معطوفة على ما موضعه رفع. والجملة من قوله: * (ذهب الله بنورهم) * إذا قلنا ليست جواب لما جملة اعتراض فصل بها بين المعطوف والمعطوف عليه، وكذلك أيضا * (صم بكم عمى) * إذا قلنا إن ذلك من أوصاف المنافقين. فعلى هذين القولين تكون الجملتان جملتي اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد منع ذلك أبو علي، ورد عليه بقول الشاعر:
* لعمرك والخطوب مغيرات
*
وفي طول المعاشرة التقالي
*
* لقد باليت مظعن أم أوفى
*
ولكن أم أوفى لا تبالي
*
ففصل بين القسم وجوابه بجملتي الاعتراض. من السماء متعلق بصيب فهو في موضع نصب ومن فيه لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون في موضع الصفة فتعلق بمحذوف، وتكون من إذ ذاك للتبعيض، ويكون على حذف مضاف التقدير، أو كمطر صيب من أمطار السماء، وأتى بالسماء معرفة إشارة إلى أن هذا الصيب نازل من آفاق السماء، فهو مطبق عام. قال الزمخشري: وفيه أن السحاب من السماء ينحدر، ومنها يأخذ ماءه، لا كزعم من زعم أنه يأخذه من البحر، ويؤيده قوله تعالى: * (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) * انتهى كلامه. وليس في الآيتين ما يدل على أنه لا يكون منشأ المطر من البحر، إنما تدل الآيتان على أن المطر ينزل من السماء، ولا يظهر تناف بين أن يكون المطر ينزل من السماء، وأن منشأه من البحر. والعرب تسمي السحاب بنات بحر، يعني أنها تنشأ من البحار، قال طرفة:
* لا تلمني إنها من نسوة
*
رقد الصيف مقاليت نزر
*
* كبنات البحر يمأدن كما
*
أنبت الصيف عساليج الخضر
*
وقد أبدلوا الباء ميما فقالوا: بنات المحر، كما قالوا: رأيته من كثب ومن كثم. وظلمات: مرتفع بالجار والمجرور على الفاعلية، لأنه قد اعتمد إذا وقع صفة، ويجوز أن تكون فيه من موضع الحال من النكرة المخصصة بقوله: * (من السماء) *، إما تخصيص العمل، وإما تخصيص الصفة على ما قدمناه من الوجهين في إعراب من السماء، وأجازوا أن يكون ظلمات مرفوعا بالابتداء، وفيه في موضع الخبر. والجملة في موضع الصفة، ولا حاجة إلى هذا لأنه إذا دار الأمر بين أن تكون الصفة من قبيل المفرد، وبين أن تكون من قبيل الجمل، كان الأولى جعلها من قبيل المفرد وجمع الظلمات، لأنه حصلت أنواع من الظلمة. فإن كان الصيب هو المطر، فظلماته ظلمة تكاتفه وانتساجه وتتابع قطره، وظلمة: ظلال غمامه مع ظلمة الليل. وإن كان الصيب هو السحاب، فظلمة سجمته وظلمة تطبيقه مع ظلمة الليل. والضمير في فيه عائد على الصيب، فإذا فسر بالمطر، فمكان ذلك السحاب، لكنه لما كان الرعد والبرق ملتبسين بالمطر جعلا فيه على طريق التجوز، ولم يجمع الرعد والبرق، وإن كان قد جمعت في لسان العرب، لأن المراد بذلك المصدر كأنه قيل: وإرعاد وإبراق، وإن أريد العينان فلأنهما لما كانا مصدرين في الأصل، إذ يقال: رعدت
222

السماء رعدا وبرقت برقا، روعي حكم أصلهما وإن كان المعنى على الجمع، كما قالوا: رجل خصم، ونكرت ظلمات ورعد وبرق، لأن المقصود ليس العموم، إنما المقصود اشتمال الصيب على ظلمات ورعد وبرق.
والضمير في يجعلون عائد على المضاف المحذوف للعلم به، لأنه إذا حذف، فتارة يلتفت إليه حتى كأنه ملفوظ به فتعود الضمائر عليه كحاله مذكورا، وتارة يطرح فيعود الضمير الذي قام مقامه. فمن الأول هذه الآية وقوله تعالى: * (أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه موج من فوقه) *، التقدير، أو كذي ظلمات، ولذلك عاد الضمير المنصوب عليه في قوله: يغشاه. ومما اجتمع فيه الالتفات والاطراح قوله تعالى: * (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون) * المعنى من أهل قرية فقال: فجاءها، فأطرح المحذوف وقال: أو هم، فالتفت إلى المحذوف. والجملة من قوله: يجعلون لا موضع لها من الإعراب، لأنها جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون، وقيل: الجملة لها موضع من الإعراب وهو الجر لأنها في موضع الصفة لذوي المحذوف، كأنه قيل: جاعلين، وأجاز بعضهم أن تكون في موضع نصب على الحال من الضمير الذي هو الهاء في فيه. والراجع على ذي الحال محذوف ثابت الألف واللام عنه التقدير من صواعقه.
وأراد بالأصابع بعضها، لأن الأصبع كلها لا تجعل في الأذن، إنما تجعل في الأنملة، لكن هذا من الاتساع، وهو إطلاق كل على بعض، ولأن هؤلاء لفرط ما يهولهم من إزعاج الصواعق كأنهم لا يكتفون بالأنملة، بل لو أمكنهم السد بالأصبع كلها لفعلوا، وعدل عن الاسم الخاص لما يوضع في الأذن إلى الاسم العام، وهو الأصبع، لما في ترك لفظ السبابة من حسن أدب القرآن، وكون الكنايات فيه تكون بأحسن لفظ، لذلك ما عدل عن لفظ السبابة إلى المسبحة والمهللة وغيرها من الألفاظ المستحسنة، ولم تأت بلفظ المسبحة ونحوها لأنها ألفاظ مستحدثة، لم يتعارفها الناس في ذلك العهد، وإنما أحدثت بعد.
وقرأ الحسن: من الصواقع، وقد تقدم أنها لغة تميم، وأخبرنا أنها ليست من المقلوب، والجعل هنا بمعنى الإلقاء والوضع كأنه قال: يضعون أصابعهم، ومن تتعلق بقوله يجعلون، وهي سببية، أي من أجل الصواعق وحذر الموت مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلا وزمانا، هكذا أعربوه، وفيه نظر لأن قوله: من الصواعق هو في المعنى مفعول من أجله، ولو كان معطوفا لجاز، كقول الله تعالى: * (ابتغاء مرضات الله) * وتثبيتا من أنفسهم، وقول الراجز:
* يركب كل عاقر جمهور
*
مخافة وزعل المحبور
*
والهول من تهول الهبور
وقالوا أيضا: يجوز أن يكون مصدرا، أي يحذرون حذر الموت، وهو مضاف للمفعول. وقرأ قتادة، والضحاك بن مزاحم، وابن أبي ليلى: حذار الموت، وهو مصدر حاذر، قالوا وانتصابه على أنه مفعول له.
الإحاطة هنا: كناية عن كونه تعالى لا يفوتونه، كما لا يفوت المحاط المحيط به، فقيل: العلم وقيل: بالقدرة، وقيل: بالإهلاك. وهذه الجملة اعتراضية لأنها دخلت بين هاتين الجملتين اللتين هما: يجعلون أصابعهم، * (يريكم البرق) *، وهما من قصة واحدة. وقد تقدم لنا أن هذا التمثيل من التمثيلات المركبة، وهو الذي تشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور، وإن لم يكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى، فيكون المقصود تشبيه
223

حيرة المنافقين في الدين والدنيا بحيرة من انطفأت نارة بعد إيقادها، وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق. وهذا الذي سبق أنه المختار. وقالوا: أيضا: يكون من التشبيه المفرق، وهو أن يكون المثل مركبا من أمور، والممثل يكون مركبا أيضا، وكل واحد من المثل مشبه لكل واحد من الممثل.
وقد تقدم قولان من جعل هذا المثل من التمثيل المفرق. والثالث: أن الصيب مثل للإسلام والظلمات، مثل لما في قلوبهم من النفاق والرعد والبرق، مثلان لما يخوفون به. والرابع: البرق مثل للإسلام والظلمات، مثل للفتنة والبلاء. والخامس: الصيب: الغيث الذي فيه الحياة مثل للإسلام والظلمات، مثل لإسلام المنافقين وما فيه من إبطان الكفر، والرعد مثل لما في الإسلام من حقن الدماء والاختلاط بالمسلمين في المناكحة والموازنة، والبرق وما فيه من الصواعق مثل لما في الإسلام من الزجر بالعقاب في العاجل والآجل، ويروى معنى هذا عن الحسن. والسادس: أن الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق كانت حقيقة أصابت بعض اليهود، فضرب الله مثلا بقصتهم لبقيتهم، وروي في ذلك حديث عن ابن مسعود، وابن عباس. السابع: أنه مثل ضربه الله للخير والشر الذي أصاب المنافقين، فكأنهم كانوا إذا كثرت أموالهم وولدهم الغلمان، أو أصابوا غنيمة أو فتحا قالوا: دين محمد صدق، فاستقاموا عليه، وإذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمد، فارتدوا كفارا. الثامن: أنه مثل الدنيا وما فيها من الشدة والرخاء والنعمة والبلاء بالصيب الذي يجمع نفعا بإحيائه الأرض وإنباته النبات وإحياء كل دابة والانتفاع به للتطهير وغيره من المنافع، وضرا بما يحصل به من الإغراق والإشراق، وما تقدمه من الظلمات والصواعق بالإرعاد والإبراق، وأن المنافق يدفع آجلا بطلب عاجل النفع، فيبيع آخرته وما أعد الله له فيها من النعيم بالدنيا التي صفوها كدر ومآله بعد إلى سفر. التاسع: أنه مثل للقيامة لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم وما فيه من البرق، بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم، ومثل ما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. العاشر: ضرب الصيب
مثل لما أظهر المنافقون من الإيمان والظلمات بضلالهم وكفرهم الذي أبطنوه، وما فيه من البرق بما علاهم من خير الإسلام وعلتهم من بركته، واهتدائهم به إلى منافعهم الدنيوية، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وما فيه من الصواعق، بما اقتضاه نفاقهم وما هم صائرون إليه من الهلاك الدنيوي والأخروي.
وقد ذكروا أيضا أقوالا كلها ترجع إلى التمثيل التركيبي: الأول: شبه حال المنافقين بالذين اجتمعت لهم ظلمة السحاب مع هذه الأمور، فكان ذلك أشد لحيرتهم، إذ لا يرون طريقا، ولا من أضاء له البرق ثم ذهب كانت الظلمة عنده أشد منها لو لم يكن فيها برق.
224

الثاني: أن المطر، وإن كان نافعا إلا أنه لما ظهر في هذه الصورة صار النفع به زائلا، كذلك إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن، وأما مع عدم الموافق فهو ضرر. الثالث: أنه مثل حال المنافقين في ظنهم أن ما أظهروه نافعهم وليس بنافعهم بمن نزلت به هذه الأمور مع الصواعق، فإنه يظن أن المخلص له منها جعل أصابعه في أذانه وهو لا ينجيه ذلك مما يريد الله به من موت أو غيره. الرابع: أنه مثل لتأخر المنافق عن الجهاد فرارا من الموت بمن أراد دفع هذه الأمور بجعل أصابعهم في آذانهم. الخامس: أنه مثل لعدم خلاص المنافق من عذاب الله بالجاعلين أصابعهم في آذانهم، فإنهم وإن تخلصوا من الموت في تلك الساعة، فإن الموت من ورائهم.
2 (* (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلمآ أضآء لهم مشوا فيه وإذآ أظلم عليهم قاموا ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شىء قدير) *)) 2
* (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) *.
يكاد: مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة، ووزنها فعل يفعل، نحو خاف يخاف، منقلبة عن واو، وفيها لغتان: فعل كما ذكرناه، وفعل، ولذلك إذا اتصل بها ضمير الرفع لمتكلم أو مخاطب أو نون إناث ضموا الكاف فقالوا: كدت، وكدت، وكدن، وسمع نقل كسر الواو إلى الكاف، مع ما إسناده لغير ما ذكر قول الشاعر:
* وكيدت ضباع القف يأكلن جثتي
*
وكيد خراش عند ذلك ييتم
*
يريد، وكادت، وكاد، وليس، من أفعال المقاربة ما يستعمل منها مضارع إلا: كاد، وأوشك. وهذه الأفعال هي من باب كان، ترفع الاسم وتنصب الخبر، إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعا، ولها باب معقود في النحو، وهي نحو من ثلاثين فعلا ذكرها أبو إسحاق البهاري في كتابه (شرح جمل الزجاجي). وقال بعض المفسرين: يكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي، وقد أنشدوا في ذلك شعرا يلغز فيه بها، وهذا الذي ذكر هذا المفسر هو مذهب أبي الفتح وغيره، والصحيح عند أصحابنا أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإيجابها إيجاب، والاحتجاج للمذهبين مذكور في كتب النحو. الخطف: أخذ الشيء بسرعة. كل: للعموم، وهو اسم جمع لازم للإضافة، إلا أن ما أضيف إليه يجوز حذفه ويعوض منه التنوين، وقيل: هو تنوين الصرف، وإذا كان المحذوف معرفة بقيت كل على تعريفها بالإضافة، فيجيء منها الحال، ولا تعرف باللام عند الأكثرين، وأجاز ذلك الأخفش، والفارسي، وربما انتصب حالا، والأصل فيها أن تتبع توكيدا كأجمع، وتستعمل مبتدأ، وكونها كذلك أحسن من كونها مفعولا، وليس ذلك بمقصور على السماع ولا مختصا بالشعر خلافا لزاعمه. وإذا أضيفت كل إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العوامل اللفظية، وإذا ابتدىء بها مضافة لفظا إلى نكرة طابقت الأخبار وغيرها ما تضاف إليه وإلى معرفة، فالأفصح إفراد العائد أو معنى لا لفظا، فالأصل، وقد يحسن الإفراد
225

وأحكام كل كثيرة. وقد ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير الذي سميناه بالتذكرة، وسردنا منها جملة لينتفع بها، فإنها تكررت في القرآن كثيرا.
المشي: الحركة المعروفة. لو: عبارة سيبويه، إنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وهو أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع لاطراد تفسير سيبويه، رحمه الله، في كل مكان جاءت فيه لو، وانخرام تفسيرهم في نحو: لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا، إذ على تفسير الإمام يكون المعنى ثبوت الحيوانية على تقدير ثبوت الإنسانية، إذ الأخص مستلزم الأعم، وعلى تفسيرهم ينخرم ذلك، إذ يكون المعنى ممتنع الحيوانية لأجل امتناع الإنسانية، وليس بصحيح، إذ لا يلزم من انتفاء الإنسانية انتفاء الحيوانية، إذ توجد الحيوانية ولا إنسانية. وتكون لو أيضا شرطا في المستقبل بمعنى أن، ولا يجوز الجزم بها خلافا لقوم، قال الشاعر:
* لا يلفك الراجوك إلا مظهرا
*
خلق الكرام ولو تكون عديما
*
وتشرب لو معنى التمني، وسيأتي الكلام على ذلك عند قوله تعالى: * (فلو أن لنا كرة * تطع منهم) *، إن شاء الله تعالى، ولا تكون موصولة بمعنى أن خلافا لزاعم ذلك. شاء: بمعنى أراد، وحذف مفعولها جائز لفهم المعنى، وأكثر ما يحذف مع لو، لدلالة الجواب عليه. قال الزمخشري: ولقد تكاثر هذا الحذف في شاء وأراد، يعني حذف مفعوليهما، قال: لا يكادون يبرزون هذا المفعول إلا في الشيء المستغرب، نحو قوله:
فلو شئت أن أبكي دما لبكيته
وقوله تعالى: * (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه) *، و * (لو * راد * الله أن يتخذ ولدا لاصطفى) *، انتهى كلامه. قال صاحب التبيان، وذلك بعد أن أنشد قوله:
* فلو شئت أن أبكي دما لبكيته
*
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
*
متى كان مفعول المشيئة عظيما أو غريبا، كان الأحسن أن يذكر نحو: لو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته، وسر ذكره أن السامع منكر لذلك، أو كالمنكر، فأنت تقصد إلى إثباته عنده، فإن لم يكن منكرا فالحذف نحو: لو شئت قمت. وفي التنزيل: * (لو نشاء لقلنا مثل هاذا) *، انتهى. وهو موافق لكلام الزمخشري. وليس ذلك عندي على ما ذهبنا إليه من أنه إذا كان في مفعول المشيئة غرابة حسن ذكره، وإنما حسن ذكره في الآية والبيت من حيث عود الضمير، إذ لو لم يذكر لم يكن للضمير ما يعود عليه، فهما تركيبان فصيحان، وإن كان أحدهما أكثر. فأحدهما الحذف ودلالة الجواب على المحذوف، إذ يكون المحذوف مصدرا دل عليه الجواب، وإذا كانوا قد حذفوا أحد جزأي الإسناد، وهو الخبر في نحو: لولا زيد لأكرمتك، للطول بالجواب، وإن كان المحذوف من غير جنس المثبت فلأن يحذف المفعول الذي هو فضلة لدلالة الجواب عليه، إذ هو مقدر من جنس المثبت أولى.
226

والثاني: أن يذكر مفعول المشيئة فيحتاج أن يكون في الجواب ضمير يعود على ما قبله، نحو قوله تعالى: * (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه) *، وقول الشاعر:
فلو شئت أن أبكي دما لبكيته
وأما إذا لم يدل على حذفه دليل فلا يحذف، نحو قوله تعالى: * (لمن شاء منكم أن يستقيم * لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) *. الشيء: ما صح أن يعلم من وجه ويخبر عنه، قال سيبويه، رحمه الله، وإنما يخرج التأنيث من التذكير، ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أو أنثى؟ والشيء مذكر، وهو عندنا مرادف للموجود، وفي إطلاقه على المعدوم بطريق الحقيقة خلاف، ومن أطلق ذلك عليه فهو أنكر النكرات، إذ يطلق على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمستحيل. القدرة: القوة على الشيء والاستطاعة له، والفعل قدر ومصادره كثيرة: قدر، قدرة، وبتثليث القاف، ومقدرة، وبتثليث الدال: وقدر، أو قدر، أو قدر، أو قدار، أو قدار، أو قدرانا، ومقدرا، ومقدرا.
الجملة من قوله: * (يكاد البرق يخطف أبصارهم) * لا موضع لها من الإعراب إذ هي مستأنفة جواب قائل قال: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: * (يكاد البرق يخطف أبصارهم) *، ويحتمل أن تكون في موضع جر صفة لذوي المحذوفة التقدير كائد البرق يخطف أبصارهم، والألف واللام في البرق للعهد، إذ جرى ذكره نكرة في قوله: * (فيه ظلمات ورعد وبرق) *، فصار نظير: لقيت رجلا فضربت الرجل، وقوله تعالى: * (أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) *. وقرأ مجاهد، وعلي بن الحسين، ويحيى بن زيد: يخطف بسكون الخاء وكسر الطاء، قال ابن مجاهد: وأظنه غلطا واستدل على ذلك بأن أحدا لم يقرأ بالفتح إلا من خطف الخطفة. وقال الزمخشري: الفتح، يعني في المضارع أفصح، انتهى. والكسر في طاء الماضي لغة قريش، وهي أفصح، وبعض العرب يقول: خطف بفتح الطاء، يخطف بالكسر. قال ابن عطية، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء، وذلك وهم. وقرأ علي، وابن مسعود: يختطف. وقرأ أبي: يتخطف. وقرأ الحسن أيضا: يخطف، بفتح الياء والخاء والطاء المشددة. وقرأ الحسن أيضا، والجحدري، وابن أبي إسحاق: يخطف، بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة، وأصله يختطف. وقرأ الحسن أيضا، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري، وقتادة: يخطف، بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وقرأ أيضا الحسن، والأعمش: يخطف، بكسر الثلاثة وتشديد الطاء. وقرأ زيد بن علي: يخطف، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة من خطف، وهو تكثير مبالغة لا تعدية. وقرأ بعض أهل المدينة: يخطف، بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة، والتحقيق أنه اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان، لأنه يؤدي إلى التقاء الساكنين على غير حد التقائهما.
فهذا الحرف قرىء عشر قراءات:
227

السبعة يخطف، والشواذ: يخطف يختطف يتخطف يخطف وأصله يتخطف، فحذف التاء مع الياء شذوذا، كما حذفها مع التاء قياسا. يخطف يخطف يخطف يخطف، والأربع الأخر أصلها يختطف فعرض إدغام التاء في الطاء فسكنت التاء للإدغام فلزم تحريك ما قبلها، فإما بحركة التاء، وهي الفتح مبينة أو مختلسة، أو بحركة التقاء الساكنين، وهي الكسر. وكسر الياء اتباع لكسرة الخاء، وهذه مسألة إدغام اختصم به، وهي مسألة تصريفية يختلف فيها اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر، وتبيين ذلك في علم التصريف. ومن فسر البرق بالزجر والوعيد قال: يكاد ذلك يصيبهم. ومن مثله بحجج القرآن وبراهينه الساطعة قال: المعنى يكاد ذلك يبهرهم.
وكل: منصوب على الظرف وسرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية لأنك إذا قلت: ما صحبتني أكرمتك، فالمعنى مدة صحبتك لي أكرمك، وغالب ما توصل به ما هذه بالفعل الماضي، وما الظرفية يراد بها العموم، فإذا قلت: أصحبك ما ذر لله شارق، فإنما تريد العموم. فكل هذه أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية، ولا يراد في لسان العرب مطلق الفعل الواقع صلة لما، فيكتفى فيه بمرة واحدة، ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض العرب. والتكرار الذي يذكره أهل أصول الفقه والفقهاء في كلما، إنما ذلك فيها من العموم، لا إن لفظ كلما وضع للتكرار، كما يدل عليه كلامهم، وإنما جاءت كل توكيدا للعموم المستفاد من ما الظرفية، فإذا قلت: كلما جئتني أكرمتك، فالمعنى أكرمك في كل فرد فرد من جيئاتك إلي. وما أضاء: في موضع خفض بالإضافة، إذ التقدير كل إضاءة، وهو على حذف مضاف أيضا، معناه: كل وقت إضاءة، فقام المصدر مقام الظرف، كما قالوا: جئتك خفوق النجم. والعامل في كلما قوله: مشوا فيه، وأضاء عند المبرد هنا متعد التقدير، كلما أضاء لهم البرق الطريق. فيحتمل على هذا أن يكون الضمير في فيه عائدا على المفعول المحذوف، ويحتمل أن يعود على البرق، أي مشوا في نوره ومطرح لمعانه
، ويتعين عوده على البرق فيمن جعل أضاء لازما، أي: كلما لمع البرق مشوا في نوره، ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة: كلما ضاء ثلاثيا، وقد تقدم أنها لغة. وفي مصحف أبي: مروا فيه، وفي مصحف ابن مسعود: مضوا فيه. وهذه الجملة استئناف ثالث كأنه قيل: فأضاء لهم في حالتي وميض البرق وخفائه، قيل: كلما أضاء لهم إلى آخره.
وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك: وإذا أظلم مبنيا للمفعول، وأصل أظلم أن لا يتعدى، يقال: أظلم الليل. وظاهر كلام الزمخشري أن أظلم يكون متعديا بنفسه لمفعول، فلذلك جاز أن يبنى لما لم يسم فاعله. قال الزمخشري: أظلم على ما لم يسم فاعله، وجاء في شعر حبيب بن أوس الطائي:
* هما أظلما حالي ثمت أجليا
*
ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب
*
وهو أن كان محدثا لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه، انتهى كلامه. فظاهره كما قلنا أنه متعد وبناؤه لما لم يسم فاعله، ولذلك استأنس يقول أبي تمام: هما أظلما حالي، وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري، وهو أن يكون أظلم غير متعد بنفسه لمفعول، ولكنه يتعدى بحرف جر. ألا ترى كيف عدى أظلم إلى المجرور بعلى؟ فعلى هذا يكون الذي قام مقام الفاعل أو حذف
228

هو الجار والمجرور، فيكون في موضع رفع، وكان الأصل: وإذا أظلم الليل عليهم، ثم حذف، فقام الجار والمجرور مقامه، نحو: غضب زيد علي عمرو، ثم تحذف زيدا وتبني الفعل للمفعول فتقول: غضب على عمرو، فليس يكون التقدير إذ ذاك: وإذا أظلم الله الليل، فحذفت الجلالة وأقيم ضمير الليل مقام الفاعل. وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به، وقد نقد على أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب:
* من كان مرعى عزمه وهمومه
*
روض الأماني لم يزل مهزولا
*
وكيف يستشهد بكلام من هو مولد، وقد صنف الناس فيما وقع له من اللحن في شعره؟ ومعنى قاموا: ثبتوا ووقفوا، وصدرت الجملة الأولى بكلما، والثانية بإذا. قال الزمخشري: لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وتأتيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس، انتهى كلامه. ولا فرق في هذه الآية عندي بين كلما وإذا من جهة المعنى، لأنه متى فهم التكرار من: * (كلما أضاء لهم مشوا فيه) * لزم منه أيضا التكرار في أنه إذا أظلم عليهم قاموا، لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام، فمتى وجد هذا فقد هذا، فيلزم من تكرار وجود هذا تكرار عدم هذا، على أن من النحويين من ذهب إلى أن إذا تدل على التكرار ككلما، وأنشد:
* إذا وجدت أوار الحب في كبدي
*
أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
*
قال: فهذا معناه معنى كلما.
وفي تأويل هذه الآية أقوال. قال ابن عباس والسدي: كلما أتاهم القرآن بما يحبونه تابعوه. وقال قتادة: إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته. وقال مقاتل: البرق الإسلام، ومشيهم فيه إهتداؤهم، فإذا تركوا ذلك وقعوا في ضلالهم. وقيل: إضاءته لهم: تركهم بلا ابتلاء، ومشيهم فيه: إقامتهم على المسالمة بإظهار ما يظهرونه، وقيل: كلما سمع المنافقون القرآن وحججه أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل ما يعمون فيه أو يكلفونه قاموا، أي ثبتوا على نفاقهم. وقيل: كلما توالت عليهم النعم قالوا: دين حق، وإذا نزلت بهم مصيبة سخطوا وثبتوا على نفاقهم. وقيل: كلما خفي نفاقهم مشوا، فإذا افتضحوا قاموا، وقيل: كلما أضاء لهم الحق اتبعوه، فإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه.
229

وقيل: ينتفعون بإظهار الإيمان، فإذا وردت محنة أو شدة على المسلمين تحيروا، كما قام أولئك في الظلمات متحيرين. قال الزمخشري: وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون،، إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فحطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، انتهى كلامه.
ومفعول شاء هنا محذوف للدلالة عليه التقدير: ولو شاء الله إذهاب سمعهم وأبصارهم. والكلام في الباء في بسمعهم كالكلام فيها في: * (ذهب الله بنورهم) *،
وتوحيد السمع تقدم الكلام عليه عند الكلام على قوله: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) *. وقرأ ابن أبي عبلة: لأذهب بأسماعهم وأبصارهم، فالباء زائدة التقدير لأذهب أسماعهم، كما قال بعضهم: مسحت برأسه، يريد رأسه، وخشنت بصدره، يريد صدره، وليس من مواضع قياس زيادة الباء، وجمعه الإسماع مطابق لجمع الإبصار. ومعنى الجملة: أن ذهاب الله بسمعهم وأبصارهم كان يقع على تقدير مشيئة الله ذلك. وقيل: المعنى لإهلاكهم، لأن في هلاكهم ذهاب سمعهم وأبصارهم. وقيل: وعيد بإذهاب الأسماع والأبصار من أجسادهم حتى لا يتوصلوا بهما إلى مالهم، كما لم يتوصلوا بهما إلى ما عليهم. وقيل: لأظهر عليهم بنفاقهم فذهب منهم عز الإسلام. وقيل: لأذهب أسماعهم فلا يسمعون الصواعق فيحذرون، ولأذهب أبصارهم فلا يرون الضوء ليمشوا. وقيل، عن ابن عباس: لذهب بسمعهم وأبصارهم لما تركوا من الحق بعد معرفته. وقيل: لعجل لهم العقوبة في الدنيا، فذهب بسمعهم وأبصارهم، فلم ينتفعوا بها في الدنيا، لأنهم لم يستعملوها في الحق فينتفعوا بها في أخراهم. وقيل: لزاد في قصيف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرق فأعماهم. وقيل: لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد. وقيل: لفضحهم عند المؤمنين وسلطهم عليهم. وقال الزمخشري: لذهب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق.
وظاهر الكلام أن هذا كله مما يتعلق بذوي صيب، فصرف ظاهره إلى أنه مما يتعلق بالمنافقين غير ظاهر، وإنما هذا مبالغة في تحير هؤلاء السفر وشدة ما أصابهم من الصيب الذي اشتمل على ظلمات ورعد وبرق، بحيث تكاد الصواعق تصمهم والبرق يعميهم. ثم ذكر أنه لو سبقت المشيئة بذهاب سمعهم وأبصارهم لذهبت، وكما اخترنا في قوله * (ذهب الله بنورهم) * إلى آخره أنه مبالغة في حال المستوقد، كذلك اخترنا هنا أن هذا مبالغة في حالة السفر، وشدة المبالغة في حال المشبه بهما يقتضي شدة المبالغة في حال المشبه، فهو وإن لم تكن هذه الجزئيات التي للمشبه به ثابتة للمشبه بنظائرها ثابتة له، ولا سيما إذا كان التمثيل من قبيل التمثيلات المفردة. وأما على ما اخترناه من أنه من التمثيلات المركبة، فتكون المبالغة في التشبيه بما آل إليه حال المشبه به، وقد تقدم الكلام على ذلك قبل، وخص السمع والأبصار في قوله: * (لذهب بسمعهم وأبصارهم) * لتقدم ذكرهما في قوله: * (أو كصيب) *، وفي قوله: * (يخطف أبصارهم) *. وقال بعضهم: تقدم ذكر الرعد والصواعق، ومدركهما السمع، والظلمات والبرق، ومدركهما: البصر، ثم قال: لو شاء أذهب ذلك من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم، أعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالإخبار عنه تعالى بالقدرة لأن بهما تمام الأفعال، أعني القدرة والإرادة وأتى بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه تعالى. وعلى كل شيء: متعلق بقوله: قدير، وفي لفظ قدير ما يشعر بتخصيص العموم، إذ القدرة لا تتعلق بالمستحيلات.
وقد تقدم لنا بعض كلام على تناسق
230

الآي التي تقدم الكلام عليها، ونحن نلخص ذلك هنا، فنقول: افتتح تعالى هذه السورة بوصف كلامه المبين، ثم بين أنه هدى لمؤمني هذه الأمة ومدحهم، ثم مدح من ساحلهم في الإيمان وتلاهم من مؤمني أهل الكتاب، وذكر ما هم عليه من الهدى في الحال ومن الظفر في المآل، ثم تلاهم بذكر أضدادهم المختوم على قلوبهم وأسماعهم المغطي أبصارهم الميؤوس من إيمانهم، وذكر ما أعد لهم من العذاب العظيم، ثم أتبع هؤلاء بأحوال المنافقين المخادعين المستهزئين وأخر ذكرهم وإن كانوا أسوأ أحوالا من المشركين، لأنهم اتصفوا في الظاهر بصفات المؤمنين وفي الباطن بصفات الكافرين، فقدم الله ذكر المؤمنين، وثنى بذكر أهل الشقاء الكافرين، وثلث بذكر المنافقين الملحدين، وأمعن في ذكر مخازيهم فأنزل فيهم ثلاث عشرة آية، كل ذلك تقبيح لأحوالهم وتنبيه على مخازي أعمالهم، ثم لم يكتف بذكر ذلك حتى أبرز أحوالهم في صورة الأنفال، فكان ذلك أدعى للتنفير عما اجترحوه من قبيح الأفعال. فانظر إلى حسن هذا السباق الذي نوقل في ذروة الإحسان وتمكن في براعة أقسام البديع وبلاغة معاني البيان.
2 (* (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذى جعل لكم الا رض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *)) 2
* (قدير ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذى جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا) *.
يا: حرف نداء، وزعم بعضهم أنها اسم فعل معناها: أنادي، وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلا بها، وهي أعم حروف النداء، إذ ينادي بها القريب والبعيد والمستغاث والمندوب. وأمالها بعضهم، وقد تتجرد للتنبيه فيليها المبتدأ والأمر والتمني والتعليل، والأصح أن لا ينوي بعدها منادي. أي: استفهام وشرط وصفة ووصلة لنداء ما فيه الألف واللام، وموصولة، خلافا لأحمد بن يحيى، إذ أنكر مجيئها موصولة، ولا تكون موصوفة خلافا للأخفش. ها: حرف تنبيه، أكثر استعمالها مع ضمير رفع منفصل مبتدأ مخبر عنه باسم إشارة غالبا، أو مع اسم إشارة لا لبعد، ويفصل بها بين أي في النداء وبين المرفوع بعده، وضمها فيه لغة بني مالك من بني أسد، يقولون: يا أيه الرجل، ويا أيتها المرأة. الخلق: الاختراع بلا مثال، وأصله التقدير، خلقت الأديم قدرته، قال زهير:
ولأنت تفرى ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى قال قطرب: الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب، والخلق والخليقة تنطلق على المخلوق، ومعنى الخلق والإيجاد، والإحداث، والإبداع، والاختراع، والإنشاء، متقارب. قيل: ظرف زمان، ولا يعمل فيها عامل فيخرجها عن الظرفية إلا من، وأصلها وصف ناب عن موصوفه لزوما، فإذا قلت: قمت قبل زيد، فالتقدير قمت زمانا قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله وناب عنه قبل زيد. لعل: حرف ترج في المحبوبات، وتوقع في المحذورات، ولا تستعمل إلا في الممكن، لا يقال: لعل الشباب يعود، ولا تكون بمعنى كي، خلافا لقطرب وابن كيسان، ولا استفهاما خلافا للكوفيين، وفيها لغات لم يأت منها في القرآن إلا الفصحى، ولم يحفظ بعدها نصب الاسمين، وحكى
231

الأخفش أن من العرب من يجزم بلعل، وزعم أبو زيد أن ذلك لغة بني عقيل. الفراش: الوطاء الذي يقعد عليه وينام ويتقلب عليه. البناء: مصدر، وقد يراد به المنقول من بيت أو قبة أو خباء أو طراف وأبنية العرب أخبيتهم. الماء: معروف، وقال بعضهم: هو جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة من واو وهمزته بدل من هاء يدل عليه: مويه، ومياه، وأمواه. الثمرة: ما تخرجه الشجرة من مطعوم أو مشموم. الند: المقاوم المضاهى مثلا كان أو ضدا أو خلافا. وقال أبو عبيدة والمفضل: الند: الضد، قال ابن عطية، وهذا التخصيص تمثيل لا حصر. وقال غيره: الند: الضد المبغض المناوىء من الندود، وقال المهدوي: الند: الكفؤ والمثل، هذا مذهب أهل اللغة سوى أبي عبيدة. فإنه قال: الضد. قال الزمخشري: الند: المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف للمناوىء، قال جرير:
* أتيم تجعلون إلي ندا
*
وما تيم لذي حسب نديد
*
وناددت الرجل: خالفته ونافرته، من ند ندودا إذا نفر. ومعنى قولهم: ليس لله ند ولا ضد، نفى ما يسد مسده ونفي ما ينافيه.
يا أيها الناس: خطاب لجميع من يعقل، قاله ابن عباس، أو اليهود خاصة، قاله الحسن ومجاهد، أو لهم وللمنافقين، قاله مقاتل، أو لكفار مشركي العرب وغيرهم، قاله السدي، والظاهر قول ابن عباس لأن دعوى الخصوص تحتاج إلى دليل. ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤول إليه حال كل منهم، انتقل من الإخبار عنهم إلى خطاب النداء، وهو التفات شبيه بقوله: * (إياك نعبد) *، بعد قوله: * (الحمد لله رب العالمين) *، وهو من أنواع البلاغة كما تقدم، إذ فيه هز للسامع وتحريك له، إذ هو خروج من صنف إلى صنف، وليس هذا انتقالا من الخطاب الخاص إلى الخطاب العام، كما زعم بعض المفسرين، إذ لم يتقدم خطاب خاص إلا إن كان ذلك تجوزا في الخطاب بأن يعني به الكلام، فكأنه قال: انتقل من الكلام الخاص إلى الكلام العام، قال هذا المفسرون، وهذا من أساليب الفصاحة، فإنهم يخصون ثم يعمون. ولهذا لما نزل: * (وأنذر عشيرتك الاقربين) * دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) فخص وعم، فقال: (يا عباس عم محمد لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا). وقال الشاعر:
* يا بني اندبوا ويا أهل بيتي
*
وقبيلي علي عاما فعاما
*
انتهى كلامه.
232

وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهم قالوا: كل شيء نزل فيه: * (يذهبكم أيها الناس) * فهو مكي، و * (ذلك بأن الذين كفروا) * فهو مدني. أما في * (ذلك بأن الذين كفروا) * فصحيح، وأما في * (يذهبكم أيها الناس) * فيحمل على الغالب، لأن هذه السورة مدنية، وقد جاء فيها يا أيها الناس. وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافا للكسائي والرياشي، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادي توصل بنداء أي إلى ندائه، وهي في موضع نصب، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب، فلذلك جاز مراعاة اللفظ، ولا يجوز نصبه على الموضع، خلافا لأبي عثمان. وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيافي النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال: يا أيها الرجل، فتقديره: يا من هو الرجل. والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو.
اعبدوا ربكم: ولما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة، وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى: * (إياك نعبد) *، والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين. لا يقال: المؤمنون عابدون، فيكف يصح الأمر بما هم ملتبسون به؟ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة، فصح مواجهة الكل بالعبادة، وانظر لحسن مجيء الرب هنا، فإنه السيد والمصلح، وجدير بمن كان مالكا أو مصلحا أحوال العبد أن يخص بالعبادة ولا يشرك مع غيره فيها. والخطاب، إن كان عاما، كان قوله: * (الذى خلقكم) * صفة مدح، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين الله تعالى وبين آلهتهم، ونبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره، * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *، أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة، والتمييز عن غيرهم بالعقل، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة، إذ هو جامع لمحبة الاصطناع والاختراع، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب. وقالوا: المحبة ثلاث، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده، وأدغم أبو عمر وخلقكم، وتقدم تفسير الخلق في اللغة، وإذا كان بمعنى الاختراع والإنشاء فلا يتصف به إلا الله تعالى.
وقد أجمع المسلمون على أن لا خالق إلا الله تعالى، وإذا كان بمعنى التقدير، فمقتضى اللغة أنه قد يوصف به غير الله تعالى، كبيت زهير. وقال تعالى: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) *، * (وإذ تخلق من الطين) *. وقال أبو عبد الله البصري، أستاذ القاضي عبد الجبار: إطلاق اسم الخالق على الله تعالى محال، لأن التقدير
والتسوية عبارة عن الفكر والظن والحسبان، وذلك في حق الله تعالى محال. وكأن أبا عبد الله لم يعلم أن الخلق في اللغة يطلق على الإنشاء، وكلام البصري مصادم لقوله تعالى: * (هو الله الخالق) *، إذ زعم أنه لا يطلق اسم الخالق على الله، وفي اللغة والقرآن والإجماع ما يرد عليه. وعطف قوله: * (خلقكم والذين من قبلكم) * على الضمير المنصوب في خلقكم، والمعطوف متقدم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به، وإن كان متأخرا في الزمان، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، إذ أقرب الأشياء إليه نفسه، ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة، فتنبيههم أولا على أحوال
233

أنفسهم آكد وأهم، وبدأ أولا بصفة الخلق، إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها، وهم المخاطبون، والناس تبع لهم، إذ نزل القرآن بلسانهم. وقرأ ابن السميفع: وخلق من قبلكم، جعله من عطف الجمل. وقرأ زيد بن علي: * (والذين من قبلكم) * بفتح ميم من، قال الزمخشري: وهي قراءة مشكلة ووجهها على أشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا، كما أقحم جرير في قوله:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم
تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في لا أبا لك، انتهى كلامه. وهذا التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعض النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة، نحو قوله:
* من النفر اللائي الذين أذاهم
*
يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
*
فإذا وجوابها صلة اللائي، ولا صلة للذين، لأنه إنما أتى به للتأكيد. قال أصحابنا: وهذا الذي ذهب إليه باطل، لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله، وإذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه، ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه. وخرج أصحابنا البيت على أن الصلة للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف، ذلك المبتدأ والموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللاتي هم الذين إذا هم، وجاز حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من، ومن خبر مبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول وهو الذين، التقدير والذين هم من قبلكم. وعلى قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله: * (من قبلكم) *، وفي ذلك إشكال، لأن الذين أعيان، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل، وتأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبرا نحو: نحن في يوم طيب، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل زمانكم. وهذا نظير قوله تعالى: * (كالذين من قبلكم) * وإنما ذكر * (والذين من قبلكم) *، وإن كان خلقهم لا يقتضي العبادة علينا لأنهم كالأصول لهم، فخلق أصولهم يجري مجرى الأنعام على فروعهم، فذكرهم عظيم إنعامه تعالى عليهم وعلى أصولهم بالإيجاد.
وليست لعل هنا بمعنى كي لأنه قول مرغوب عنه ولكنها للترجي والأطماع، وهو بالنسبة إلى المخاطبين، لأن الترجي لا يقع من الله تعالى إذ * (هو عالم الغيب والشهادة) *، وهي متعلقة بقوله: * (اعبدوا ربكم) *، فكأنه قال: إذا عبدتم ربكم رجوتم التقوى، وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة. قال ابن عطية: ويتجه تعلقها بخلقكم لأن كل مولود يوجد على الفطرة فهو بحيث يرجى أن يكون متقيا. ولم يذكر الزمخشري غير تعلقها بخلقكم، قال: لعل واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة، لأن الله تعالى خلق عباده
234

ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم، وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم، وهم مختارون بين الطاعة، والعصيان، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل، انتهى كلامه. وهو مبني على مذهبه الاعتزالي من أن العبد مختار، وأنه لا يريد الله منه إلا فعل الخير، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين. والذي يظهر ترجيحه أن يكون: * (لعلكم تتقون) * متعلقا بقوله: * (اعبدوا ربكم) *. فالذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلق بها ذلك وأتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلقت به العبادة، فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة. وأما صلته فلم يجأ بها لإسناد مقصود لذاته، إنما جيء بها لتتميم ما قبلها. وإذا كان كذلك فكونها لم يجأ بها لإسناد يقتضي أن لا يهتم بها فيتعلق بها ترج أو غيره، بخلاف قوله: اعبدوا، فإنها الجملة المفتتح بها أولا والمطلوبة من المخاطبين. وإذا تعلق بقوله: اعبدوا، كان ذلك موافقا، إذ قوله: اعبدوا خطاب، ولعلكم تتقون خطاب.
ولما اختار الزمخشري تعلقه بالخلق قال: فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون، فكذلك خلق الذين من قبهلم، لذلك قصره عليهم دون من قبلهم، قلت: لم يقصره عليهم ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعا، انتهى كلامه. وقد تقدم ترجيح تعلقه بقوله: اعبدوا، فيسقط هذا السؤال. وقال المهدوي: لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لأن من ذرأه الله عز وجل لجهنم لم يخلقه ليتقي. والمعنى عند سيبويه: افعلوا ذلك على الرجاء والطمع أن تتقوا، انتهى كلامه. ولما جعل الزمخشري لعلكم تتقون متعلقا بالخلق قال: فإن قلت: فهلا قيل: تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا المكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم؟ قلت: ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم، وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده، فإذا قال: * (اعبدوا ربكم الذى خلقكم) * للاستيلاء على أقصى
غايات العبادة كان أبعث على العبادة وأشد إلزاما لها وأثبت لها في النفوس، انتهى كلامه. وهو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى، وقد تقدم ذلك. وأما قوله: ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم لأنه يصير المعنى: اعبدوا ربكم لعلكم تتقون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيد في المعنى، إذ هو مثل: اضرب زيدا لعلك تضربه، واقصد خالدا لعلك تقصده. ولا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ وفساد المعنى، والقرآن متنزه عن ذلك. والذي جاء به القرآن هو في غاية الفصاحة، إذ المعنى أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم، لأن التقوى مصدر اتقى، واتقى معناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة. فعلى هذا، العبادة ليست نفس التقوى، لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار، والعبادة فعل المأمور به، وفعل المأمور به ليس نفس الاحتراز بل يوجب الاحتراز، فكأنه قال: اعبدوه فتحترزوا عن عقابه، فإن أطلق على نفس الفعل اتقاء فهو مجاز، ومفعول يتقون محذوف. قال ابن عباس: الشرك، وقال الضحاك: النار، أو معناه تطيعون، قاله مجاهد:
235

ومن قال المعنى الذي خلقكم راجين للتقوى. قال بعض المفسرين: فيه بعد من حيث إنه لو خلقهم راجين للتقوى كانوا مطيعين مجبولين عليها، والواقع خلاف ذلك، انتهى كلامه. ويعني أنهم لو خلقوا وهم راجون للتقوى لكان ذلك مركوزا في جبلتهم، فكان لا يقع منهم غير التقوى وهم ليسوا كذلك، بل المعاصي هي الواقعة كثيرا، وهذا ليس كما ذكر، وقد يخلق الإنسان راجيا لشيء فلا يقع ما يرجوه، لأن الإنسان في الحقيقة ليس له الخيار فيما يفعله أو يتركه، بل نجد الإنسان يعتقد رجحان الترك في شيء ثم هو يفعله، ولقد صدق الشاعر في قوله:
* علمي بقبح المعاصي حين أركبها
*
يقضي بأني محمول على القدر
*
فلا يلزم من رجاء الإنسان لشيء وقوع ما يرتجي، وإنما امتنع ذلك التقدير، أعني تقدير الحال، من حيث إن لعل للإ نشاء، فهي وما دخلت عليه ليست جملة خبرية فيصح وقوعها حالا.
قال الطبري: هذه الآية، يريد: * (قدير ياأيها الناس اعبدوا) * من أدل دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق بمعونة الله غير جائز، وذلك أن الله عز وجل أمر بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون. والموصول الثاني في قوله: * (الذى جعل * الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذى جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا) *، وهو ضعيف لوجهين: أحدهما: أن صلة الذي وما عطف عليها قد مضيا، فلا ينابسب دخول الفاء في الخبر. الثاني: أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن، لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه، فالذي مبتدأ، و * (فلا تجعلوا لله أندادا) * جملة خبرية، والرابط لفظ الله من لله كأنه قيل: * (فلا تجعلوا لله أندادا) *، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه. ولا نعرف إجازة ذلك إلا عن أبي الحسن. أجاز أن تقول: زيد قام أبو عمرو، وإذا كان أبو عمرو كنية لزيد، ونص سيبويه على منع ذلك. وأما نصبه فيجوز أن يكون على القطع، إذ هو وصف مدح، كما ذكرنا، ويجوز أن يكون وصفا لما كان له وصفا الذي خلقكم، وهو ربكم، قالوا: ويجوز نصبه على أن يكون نعتا لقوله: * (الذى خلقكم) *، فيكون نعتا للنعت ونعت النعت مما يحيل تكرار النعوت. والذي نختاره أن النعت لا ينعت، بل النعوت كلها
236

راجعة إلى منعوت واحد، إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت، فيكون إذ ذاك نعتا للنعت الأول، نحو قولك: يا أيها الفارس ذو الجمة. وأجاز أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني، وما قبله ليس بملتبس، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني، وأجاز أيضا نصبه بتتقون، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله. وإنما أتى بقوله الذي دون واو لتكون هذه الصفة وما قبلها راجعين إلى موصوف واحد، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفا آخر، لأن العطف أصله المغايرة.
وجعل: بمعنى صير، لذلك نصبت الأرض. وفراشا، ولكم متعلق بجعل، وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشا وبناء على الحال، على أن يكون جعل بمعنى خلق، فيتعدى إلى واحد، وغاير اللفظ كما غاير في قوله: * (خلق * السماوات والارض * وجعل الظلمات والنور) *، ولأنه قصد إلى ذكر جملتين، فغاير بين اللفظين لأن التكرار ليس في الفصاحة، كاختلاف اللفظ والمدلول واحد. وأدغم أبو عمرو لام جعل في لام لكم، والألف واللام في الأرض يجوز أن تكون للجنس الخاص، فيكون المراد أرضا مخصوصة، وهي كل ما تمهد واستوى من الأرض وصلح أن يكون فراشا. ويجوز أن تكون لاستغراق الجنس، ويكون المراد بالفراش مكان الاستقرار واللبث لكل حيوان. فالوهد مستقر بني آدم وغيرهم من الحيوانات، والجبال والحزون مستقر لبعض الآدميين بيوتا أو حصونا ومنازل، أو لبعض الحيوانات وحشا وطيرا يفترشون منها أوكارا، ويكون الامتنان على هذا مشتملا على كل من جعل الأرض له قرارا. وغلب خطاب من يعقل على من لا يعقل، أو يكون خطاب الامتنان وقع على من يعقل، لأن ما عداهم من الحيوانات معد لمنافعهم ومصالحهم، فخلقها من جملة المنة على من يعقل. وقرأ يزيد الشامي: بساطا، وطلحة: مهادا. والفراش، والمهاد، والبساط، والقرار، والوطاء نظائر.
وقد استدل بعض المنجمين بقوله: * (جعل لكم الارض فراشا) * على أن الأرض مبسوطة لا كروية، وبأنها لو كانت كروية ما استقر ماء البحار فيها. أما استدلاله بالآية فلا حجة له في ذلك، لأن الآية لا تدل على أن الأرض مسطحة ولا كروية، إنما دلت على أن الناس يفترشونها كما يتقلبون بالمفارش، سواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة، وأمكن الافتراش فيها لتباعد أقطارها واتساع جرمها. قال الزمخشري: وإذا كان يعني الافتراش سهلا في الجبل، وهو وتد من أوتاد
الأرض، فهو أسهل في الأرض ذات الطول والعرض. وأما استدلاله باستقرار ماء البحار فيها فليس بصحيح، قالوا: لأنه يجوز أن تكون كروية ويكون في جزء منها منسطح يصلح للاستقرار، وماء البحر متماسك بأمر الله تعالى لا بمقتضى الهيئة، انتهى قولهم. ويجوز أن يكون بعض الشكل الكروي مقرا للماء إذا كان الشكل ثابتا غير دائر، أما إذا كان دائرا فيستحيل عادة قراره في مكان واحد من ذلك الشكل الكروي. وهذه مسألة يتكلم عليها في علم الهيئة.
وقوله تعالى: * (والسماء بناء * هو * قبل إنهم كانوا قوما فاسقين * والسماء بنيناها بأيد) *، شبهت بالقبة المبنية على الأرض، ويقال لسقف البيت بناء، والسماء للأرض كالسقف، روي هذا عن ابن عباس وجماعة. وقيل: سماها بناء، لأن سماء البيت يجوز أن يكون بناء غير بناء، كالخيام والمضارب
237

والقباب، لكن البناء أبلغ في الإحكام وأتقن في الصنعة وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته، فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته، إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها، والسماء في غاية ما يكون من العظم، وهي سبع طباق بعضها فوق بعض، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصي عددها، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها ولا عمد تقلها ولا أطناب تشدها، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقات وأحكم المبدعات، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية: * (إن الله يمسك * السماوات والارض * أن تزولا) *. وقيل: سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض.
وأنزل من السماء: يجوز أن يراد به السحاب، ويجوز أن يراد به السماء المعروفة. فعلى الأول الجامع بينهما هو القدر المشترك من السمو، ولا يجوز الإضمار لأنه غير الأول، وعلى الثاني فحسن الإظهار دون الإضمار هنا كون السماء الأولى في ضمن جملة، والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لولا عطفها، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء، لأنه لو تأخر لكان نعتا فلما تقدم انتصب على الحال، ومعناها إذ ذاك التبعيض، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر. ماء لأن المنزل لم يكن عاما فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم. فأخرج به: والهاء في به عائدة إلى الماء، والباء معناها السببية. فالماء سبب للخروج، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد، وهذه السببية مجاز، إذ الباري تعالى قادر على أن ينشئ الأجناس، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقي. ولله تعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار، لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيما للباري. من الثمرات: من للتبعيض، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية، نحو: * (كم تركوا من جنات) *، و * (ثلاثة قروء) *، فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري، لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام، فهو وإن كان جمع قلة، فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم، فلا فرق بين الثمرات والثمار، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما، ولذلك رد المحققون على من نقد على حسان قوله:
* لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
*
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
*
بأن هذا جمع قلة، فكان ينبغي على زعمه أن يقول: الجفان وسيوفنا، وهو نقد غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله، وأبعد من جعل من زائدة، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين: أحدهما: زيادة من في الواجب، وقيل معرفة، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش. والثاني: أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمرات التي أخرجها رزقا لنا، وكم من شجرة أثمرت شيئا لا يمكن أن
238

يكون رزقا لنا، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار رزقا لنا وبعضها لا يكون رزقا لنا، وهو الواقع. وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق، إذ المعنى: وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذلك بعض رزقهم، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج، ويكون على هذا رزقا منصوبا على الحال إن أريد به المرزوق كالطحن والرعي، أو مفعولا من أجله إن أريد به المصدر، وشروط المفعول له فيه موجودة، ويحتمل أن يكون متعلقا بأخرج، ويكون رزقا مفعولا بأخرج. وقرأ ابن السميفع: من الثمرة على التوحيد، يريد به الجمع كقولهم: فلان أدركت ثمرة بستانه، يريدون ثماره. وقولهم: للقصيدة كلمة، وللقرية مدرة، لا يريدون بذلك الإفراد. ولكم: إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولا به واللام منوية لتعدي المصدر إليه نحو: ضربت ابني تأديبا له، أي تأديبه، وإن أريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف، أي كائنا لكم، ويحتمل أن تكون لكم متعلقا بأخرج، أي فأخرج لكم به من الثمرات رزقا. وانتهى عند قوله: رزقا لكم ذكر خمسة أنواع من الدلائل: اثنين من الأنفس خلقهم وخلق من قبلهم، وثلاثة من غير الأنفس كون الأرض فراشا وكون السماء بناء، والحاصل من مجموعهما تقدم خلق الإنسان لأنه أقرب إلى معرفته، وثنى بخلق الآباء، وثلث بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء، وقدم السماء على نزول المطر وإخراج الثمرات، لأن هذا كالأمر المتولد بين السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر. وقيل: قدم المكلفين لأن خلقهم أحياء قادرين أصل لجميع النعم. وأما خلق السماء والأرض والماء والثمر، فإنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة والعقل. وقد اختلف أيهما أفضل، ومن قال السماء أفضل قال: لأنها متعبد الملائكة وما فيها من بقعة عصى الله فيه، ولأن آدم لما عصاه قال: لا تسكن جواري،
ولتقديم السماء على الأرض في أكثر الآيات، ولأن فيها العرش والكرسي واللوح المحفوظ والقلم، وأنها قبلة الدعاء. ومن قال الأرض أفضل قال: لأن الله وصف منها بقاعا بالبركة، ولأن الأنبياء مخلوقون منها، ولأنها مسجد وطهور.
* (فلا تجعلوا لله أندادا) * ظاهره أنه نهى عن اتخاذ الأنداد، وسموا أندادا على جهة المجاز من حيث أشركوهم معه تعالى في التسمية بالإلهية، والعبادة صورة لا حقيقة لأنهم لم يكونوا يعبدونهم لذواتهم بل للتقرب إلى الله تعالى، وكانوا يسمون الله إله الآلهة ورب الأرباب، ومن شابه شيئا في وصف ما قيل: هو مثله وشبهه ونده في ذلك الوصف دون بقية أوصافه، والنهي عن اتخاذ الأنداد بصورة الجمع هو على حسب الواقع لأنهم لم يتخذوا له تعالى ندا واحدا، وإنما جعلوا له أندادا كثيرة، فجاء النهي على ما كانوا اتخذوه، ولذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل:
* أربا واحدا أم ألف رب
*
أدين إذا تقسمت الأمور
*
وقرأ زيد بن علي بن محمد بن السميفع: ندا على التوحيد، وهو مفرد في سياق النهي، فالمراد به العموم، إذ ليس المعنى: فلا تجعلوا لله ندا واحدا بل أندادا، وهذا النهي متعلق في بالأمر قوله: * (اعبدوا ربكم) *، أي فوحدوه وأخلصوا
239

له العبادة، لأن أصل العبادة هو التوحيد. قال الزمخشري: متعلق بلعل، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطلع في قوله: * (لعلى أبلغ الاسباب * أسباب * السماوات * فأطلع إلى إلاه موسى) *، في رواية حفص عن عاصم، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، انتهى كلامه. فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية، وتجعلوا منصوب على جواب الترجي، وهو لا يجوز على مذهب البصريين، إنما ذهب إلى جواز ذلك الكوفيون، أجروا لعل مجرى هل. فكما أن الاستفهام ينصب الفعل في جوابه فكذلك الترجي. فهذا التخريج الذي أخرجه الزمخشري لا يجوز على مذهب البصريين، وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم، ألا ترى إلى تقديره أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه؟ فلا تشبهوه بخلقه، وهو جار على ما مر من مذهبه الاعتزالي، ويجوز أن يكون متعلقا بالذي إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تجعلوا له أندادا. والظاهر في هذا القول هو ما قدمناه أولا من تعلقه بقوله: * (اعبدوا ربكم) *.
* (وأنتم تعلمون) *: جملة حالية، وفيها من التحريك إلى ترك الأنداد وإفراد الله بالوحدانية ما لا يخفى، أي أنتم من ذوي العلم والتمييز بين الحقائق والإدراك للطائف الأشياء والاستخراج لغوامض الدلائل، في الرتبة التي لا تليق لمن تحلى بها أن يجعل لله ندا وهو خلقه. إذ ذاك فعل من كان أجهل العالم وأبعدهم عن الفطنة وأكثرهم تجويزا للمستحيلات. ومفعول تعلمون متروك لأن المقصود إثبات أنهم من أهل العلم والمعرفة. والتمييز تخصيص العلم بشيء، قال معناه ابن قتيبة، لأنه فسر تعلمون بمعنى تعقلون، وقيل: هو محذوف اختصارا تقديره: وأنتم تعلمون أنه خلق السماوات وأنزل الماء، وفعل ما شرحه في هذه الآيات. ومعنى هذا مروي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل، أو أنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابيكم التوراة والإنجيل. وروي ذلك أيضا عن ابن عباس، أو أنه لا ند له، قاله مجاهد، أو أنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه، ذكره علي بن عبيد الله، أو وأنتم تعلمون أنها حجارة، قاله أبو محمد بن الخشاب، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت، أو وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله: * (هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء) *؟ قالهما الزمخشري والمخاطب بقوله: فلا تجعلوا ظاهره أنه للناس المأمورين باعبدوا ربكم، وقد تقدمت أقاويل السلف في ذلك.
قال ابن فورك: ويحتمل أن يكون الخطاب للمؤمنين، المعنى: فلا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم أن العلم هو نفي الجهل بأن الله واحد. قال أبو محمد بن عطية، هذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرف من جعل ندا، انتهى. وقول أبي
240

محمد يعطي أن الله أغنى الإنسان، خطأ في التركيب، لأن أعطى لا تنوب أن ومعمولاها مناب مفعوليها، بخلاف ظن، فإنها تنوب مناب مفعوليها، ولذلك ذكر في علم العربية.
قال بعض المفسرين: اختص تعالى بهذه المخلوقات وهي: الخلقة البشرية، والبنيتان الأرضية والسماوية، لأنها محل الاعتبار ومسرح الإبصار ومواطن المنافع الدنيوية والأخروية، وبها يقوم الدليل على وجود الصانع وقدرته وحكمته وحياته وإرادته، وغير ذلك من صفاته الذاتية والفعلية، وانفراده بخلقها وأحكامها، وقدم الخلقة البشرية، وإن كانت للعالم الأصغر، لما فيها من بدائع الصنعة ما لا يعبر عنه وصف لسان ولا يحيط بكنهه فكرجنان، وظهور حسن الصنعة في الأشياء اللطيفة الجرم أعظم منه في الأجرام العظام، ولأن اعتبار الإنسان بنفسه في تقلب أحواله أقرب إلى ذهنه. قال تعالى: * (وفى أنفسكم أفلا تبصرون) *، أو لأن العرب عادتها تقديم الأهم عندها والمعتنى به، قال: وهو تعالى بإصلاح حال البنية البشرية أكثر اهتماما من غيرها من المخلوقات، لأنها أشرف مخلوقاته وأكرمها عليه. قال تعالى: * (ولقد كرمنا بنىءادم) * الآية، ولأنه تعالى خلق هذه الأشياء منافع لبني آدم وأعدها نعما يمتن بها عليهم، وذكر المنعم عليه يتقدم على ذكر النعمة. ثم إنه تعالى لما عرفهم أنه خالقهم أخبرهم أنه جعل لهم مكانا يستقرون عليه، إذ كانت حكمته اقتضت ذلك، فيستقرون فيه جلوسا ونوما وتصرفا في معايشهم، وجعل منه سهلا للقرار
والزرع، ووعرا للاعتصام، وجبالا لسكون الأرض من الاضطراب. ثم لما من عليهم بالمستقر أخبرهم بجعل ما يقيهم ويظلهم، وجعله كالخيمة المضروبة عليهم، وأشهدهم فيها من غرائب الحكمة بأن أمسكها فوقهم بلا عمد ولا طنب لتهتدي عقولهم، أنها ليست مما يدخل تحت مقدور البشر، ثم نبههم على النعمة العظمى، وهي إنزال المطر الذي هو مادة الحياة وسبب اهتزاز الأرض بالنبات، وأجناس الثمرات. وقدم ذكر الأرض على السماء، وإن كانت أعظم في القدرة وأمكن في الحكمة، وأتم في النعمة وأكبر في المقدار، لأن السقف والبنيان، فيما يعهد، لا بد له من أساس وعمد مستقر على الأرض، فبدأ بذكرها، إذ على متنها يوضع الأساس وتستقر القواعد، إذ لا ينبغي ذكر السقف أولا قبل ذكر الأرض التي تستقر عليها قواعده، أو لأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء، فإنه تعالى خلق الأرض ومهد رواسيها قبل خلق السماء. قال تعالى: * (قل * أئنكم * لتكفرون) * إلى آخر الآيات، أو لأن ذلك من باب الترقي بذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى.
وقد تضمنت هاتان الآيتان من بدائع الصنعة، ودقائق الحكمة، وظهور البراهين، ما اقتضى تعالى أنه المنفرد بالإيجاد، المتكفل للعباد، دون غيره من الأنداد، التي لا تخلق ولا ترزق ولا لها نفع ولا ضر، ألا لله الخلق والأمر. قال بعض أصحاب الإشارات: لما امتن تعالى عليهم بأنه خلقهم والذين من قبهلم، ضرب لهم مثلا يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم، وأنهم وإن كانوا متوالدين بين ذكر وأنثى، مخلوقين * (من نطفة إذا تمنى) *، هو تعالى خالقهم على الحقيقة، ومصورهم في الأرحام كيف يشاء، ومخرجهم طفلا، ومربيهم بما يصلحهم من غذاء وشراب ولباس، إلى غير ذلك من المنافع التي تدعو حاجتهم إليها فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الزوج، وهي أيضا تسمى فراشا، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها، وضرب الماء النازل من السماء مثلا للنطفة التي تنزل من صلب الأب، وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات بالولد الذي يخرج من بطن الأم، يؤنس تعالى بذلك عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق، ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه، كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها، ومخرج أشجارها من بطن الأرض، فإذا أوضح ذلك لهم أفردوه بالإلهية، وخصوه بالعبادة، وحصلت لهم الهداية.
241

2 (* (وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدآءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) *)) 2
قوله تعالى: * (وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم) * إن: حرف ثنائي الوضع يكون شرطا، وهو أصل أدواته، وحرف نفي، وفي إعماله إعمال ما الحجازية خلاف، وزائدا مطردا بعد ما النافية، وقبل مدة الإنكار، ولا تكون بمعنى إذ خلافا لزاعمه، ولا يعد من مواضعه المخففة من الثقيلة لأنها ثلاثية الوضع، ولذلك اختلف حكمها في التصغير. العبد: لغة المملوك الذكر من جنس الإنسان، وهو راجع لمعنى العبادة، وتقدم شرحها. الإتيان: المجيء، والأمر منه: ائت، كما جاء في لفظ القرآن، وشذ حذف فائه في الأمر قياسا واستعمالا، قال الشاعر:
* ت لي آل عوف فاندهم لي جماعة
*
وسل آل عوف أي شيء يضيرها
*
وقال آخر:
* فإن نحن لم ننهض لكم فنبركم
*
فتونا قفوا دونا إذن بالجرائم
*
السورة: الدرجة الرفيعة. ألم تر أن الله أعطاك سورة؟ وسميت سورة القرآن بها لأن قارئها يشرف بقراءتها على من لم تكن عنده، كسور البناء. وقيل: لتمامها وكمالها، ومنه قيل للناقة التامة: سورة، أو لأنها قطعة من القرآن، من أسأرت، والسؤر فاصلها الهمز وخففت، قاله أبو عبيدة، والهمز فيها لغة. من مثله: المماثلة تقع بأدنى مشابهة، وقد ذكر سيبويه، رحمه الله، أن: مررت برجل مثلك، يحتمل وجوها ثلاثة، ولفظه مثل لازمة الإضافة لفظا، ولذلك لحن بعض المولدين في قوله:
* ومثلك من يملك الناس طرا
*
على أنه ليس في الناس مثل
*
ولا يكون محلا خلافا للكوفيين. وله في باب الصفة، إذا جرى على مفرد ومثنى ومجموع، حكم ذكر في النحو. الدعاء: الهتف باسم المدعو. الشهداء: جمع شهيد، للمبالغة، كعليم وعلماء، ولا يبعد أن يكون جمع شاهد، كشاعر وشعراء، وليس فعلاء باب فاعل، دون: ظرف مكان ملازم للظرفية الحقيقية أو المجازية، ولا
يتصرف فيه بغير من. قال سيبويه: وأما دونك فلا يرفع أبدا. قال الفراء: وقد ذكر دونك وظروفا نحوها لا تستعمل أسماء مرفوعة
242

على اختيار، وربما رفعوا. وظاهر قول الأخفش: جواز تصرفه، خرج قوله تعالى، ومنادون ذلك على أنه مبتدأ وبني لإضافته إلى المبنى، وقد جاء مرفوعا في الشعر أيضا، قال الشاعر:
* ألم ترني أني حميت حقيبتي
*
وباشرت حد الموت والموت دونها
*
وتجيء دون صفة بمعنى رديء، يقال: ثوب دون، أي رديء، حكاه سيبويه في أحد قوليه، فعلى هذا يعرب بوجوه الإعراب ويكون دون مشتركا. الصدق: يقابله الكذب، وهو مطابقة الخبر للمخبر عنه. لن: حرف نفي ثنائي الوضع بسيط، لا مركب من لا إن خلافا للخليل في أحد قوليه، ولا نونها بدل من ألف، فيكون أصلها لا خلافا للفراء، ولا يقتضي النفي على التأييد خلافا للزمخشري في أحد قوليه، ولن هي أقصر نفيا من لا إذ لن تنفي ما قرب، ولا يمتد معنى النفي فيها كما يمتد في لا خلافا لزاعمه، ولا يكون دعاء خلافا لزاعمه، وعملها النصب، وذكروا أن الجزم بها لغة، وأنشد ابن الطراوة:
* لن يخب الآن من رجائك من
*
حرك دون بابك الحلقة
*
ولها أحكام كثيرة ذكرت في النحو. الوقود: اسم لما يوقد به، وقد سمع مصدرا، وهو أحد المصادر التي جاءت على فعول، وهي قليلة، لم يحفظ منها، فيما ذكر، الأستاذ أبو الحسن بن عصفور سوى هذا، والوضوء والطهور والولوع والقبول، الحجارة: جمع الحجر، والتاء فيها التأكيد تأنيث الجمع كالفحولة. أعدت: هيئت.
* (وإن كنتم فى ريب) * نزلت في جميع الكفار. وقال ابن عباس ومقاتل: نزلت في اليهود، وسبب ذلك أنهم قالوا: هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه، والأظهر القول الأول. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما احتج تعالى عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك، وعرفهم أن من جعل لله شريكا فهو بمعزل من العلم والتمييز، أخذ يحتج على من شك في النبوة بما يزيل شبهته، وهو كون القرآن معجزة، وبين لهم كيف يعلمون أنه من عند الله أم من عنده، بأن يأتوا هم ومن يستعينون به بسورة هذا، وهم الفصحاء البلغاء المجيدون حوك الكلام، من الثار والنظام والمنقلبون في أفانين البيان، والمشهود لهم في ذلك بالإحسان. ولما كانوا في ريب حقيقة، وكانت إن الشرطية إنما تدخل على الممكن أو المحقق المبهم زمان وقوعه، ادعى بعض المفسرين أن إن هنا معناها: إذا، لأن إذا تفيد مضي ما أضيفت إليه، ومذهب المحققين أن إن لا تكون بمعنى إذا. وزعم المبرد ومن وافقه أن لكان الماضية الناقصة معان حكما ليست لغيرها من الأفعال الماضية، فلقوة كان زعم أن إن لا يقلب معناها إلى الاستقبال، بل يكون على معناه من المضي إن دخلت عليه إن، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن كان كغيرها من الأفعال، وتأولوا ما ظاهره ما ذهب إليه المبرد، إما على إضمار يكن بعد إن نحو: * (إن كان قميصه قد) * أي إن يكن كان قميصه، أو على أن المراد به التبيين، أي أن يتبين كون قميصه قد.
فعلى قول أبي العباس يكون كونهم في ريب ماضيا، ويصير نظير ما لو جاء إن كنت أحسنت إلي
243

فقد أحسنت إليك، إذا حمل على ظاهره ولم يتأول. ولهذا قال بعض المفسرين في قوله: * (وإن كنتم فى ريب) *: جرى كلام الله فيه على التحقيق، مثال قول الرجل لعبده: إن كنت عبدي فأطعني لأن الله تعالى عالم بما تكنه القلوب، قال: وبين هذا أن سبب نزول هذه الآية قول اليهود: وإنا لفي شك مما جاء به، وجعلها بمعنى إذا وكان ماضيه اللفظ والمعنى، أو مثل قول القائل: إن كنت عبدي فأطعني، فرارا من جعل ما بعد إن مستقبل المعنى وذلك ممكن، ولا تنافي بين إن كانوا في ريب فيما مضى وإن تعلق على كونهم في ريب في المستقبل، لأن الماضي من الجائز أن يستدام، بأن يظهر لمعتقد الريب فيما مضى خلاف ذلك فيزول عنه الريب، فقيل: وإن كنتم، أي: وإن تكونوا في ريب، باستصحاب الحالة الماضية التي سبقت لكم، فأتوا، وهذا مثل من يقول لولده العاق له: إن كنت تعصيني فارحل عني، فمعناه: إن تكن في المستقبل تعصيني فارحل عني، لا يريد التعليق على الماضي، ولا أن إن بمعنى إذا، إذ لا تنافي بين تقدم العصيان وتعليق الرحيل على وقوعه في المستقبل، ولا حاجة إلى جعل ما يثبت حرفيته بمعنى إذا الظرفية.
وقد تقدم لنا أنه لا تنافي بين قوله تعالى: * (لا ريب فيه) * وبين قوله: * (وإن كنتم فى ريب) * عند الكلام على قوله: * (لا ريب فيه) *. وفي ريب من تنزيل المعاني منزلة الإجرام. ومن تحتمل ابتداء الغاية والسببية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض. وما موصولة، أي من الذي نزلناه، والعائد محذوف، أي نزلناه، وشرط حذفه موجود. وأجاز بعضهم أن تكون ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لنا الكلام على ما النكرة الموصوفة، ونزلنا التضعيف فيه هنا للنقل، وهو المرادف لهمزة النقل. ويدل على مرادفتهما في هذه الآية قراءة يزيد بن قطيب مما أنزلنا بالهمزة، وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما في أوقات مختلفة، خلافا للزمخشري، قال: فإن قلت لم قيل: مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت: لأن المراد النزول على التدريج والتنجمي، وهو من مجازه لمكان التحدي.
وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هنا، هو الذي يعبر عنه بالتكثير، أي يفعل ذلك مرة بعد مرة، فيدل على هذا المعنى بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة. وذهل الزمخشري عن إن ذلك إنما يكون غالبا في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية، نحو: جرحت زيدا، وفتحت الباب، وقطعت، وذبحت، لا يقال: جلس زيد، ولا قعد عمر، ولا صوم جعفر، ونزلنا لم يكن متعديا قبل التضعيف إنما كان لازما، وتعديه إنما يفيده التضعيف أو الهمزة، فإن جاء في لازم فهو قليل. قالوا: مات المال، وموت المال، إذا كثر ذلك فيه، وأيضا، فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل، أما أن يجعل اللازم متعديا فلا، ونزلنا قبل التضعيف كان لازما ولم يكن متعديا، فيكون التعدي المستفاد من التضعيف دليلا على أنه للنقل لا للتكثير، إذ لو كان للتكثير، وقد دخل على اللازم، بقي لازما نحو: مات المال، وموت المال. وأيضا فلو كان التضعيف في نزل مفيدا للتنجمي لاحتاج قوله تعالى: * (لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة) * إلى تأويل، لأن التضعيف دال على التنجمي والتكثير، وقوله: * (جملة واحدة) * ينافي ذلك. وأيضا فالقراءات بالوجهين في كثير مما جاء يدل على أنهما بمعنى واحد. وأيضا مجيء نزل حيث لا يمكن فيه التكثير والتنجيم إلا على تأويل بعيد جدا يدل على ذلك.
قال تعالى: * (وقالوا لولا نزل عليه ءاية) *، وقال تعالى: * (قل لو كان فى الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) *، ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول الآية، ولا أنه علق تكرير نزول ملك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض، وإنما المعنى، والله أعلم، مطلق الإنزال. وفي نزلنا التفات لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، لأن قبله * (اعبدوا ربكم) * و * (فلا
244

تجعلوا لله أندادا) *. فلو جرى الكلام على هذا السياق لكان مما نزل على عبده، لكن في هذا الالتفات من التفخيم للمنزل والمنزل عليه ما لا يؤديه ضمير غائب، لا سيما كونه أتى بنا المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر ونظيره، * (وهو الذى أنزل من السماء ماء فأخرجنا) *، وتعدي نزل بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه، وأنه قد صار كالملابس له، بخلاف إلى فإنها تدل على الانتهاء والوصول.
ولهذا المعنى الذي أفادته على تكرار ذلك في القرآن في آيات، قال تعالى: * (نزل عليك الكتاب بالحق) *، طه * (ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى) *، * (هو الذى أنزل عليك الكتاب) *. وفي إضافة العبد إليه تعالى تنبيه على عظيم قدره، واختصاصه بخالص العبودية، ورفع محله وإضافته إلى نفسه تعالى، واسم العبد عام وخاص، وهذا من الخاص:
* لا تدعني إلا بيا عبدها
*
لأنه أشرف أسمائي
*
ومن قرأ: على عبادنا بالجمع، فقيل: يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأمته، قاله الزمخشري، وصار نظير قوله تعالى: * (ءان * إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) *، لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به من امتثال التكاليف، والموعود على ذلك لا يختص بل يشترك فيه المتبوعون والتباع، فجعل كأنه نزل عليهم. وذلك نوع من المجاز يجعل فيه من لم يباشر الشيء إذا كان مكلفا به منزلة من باشر، ويحتمل أن يريد به النبيين الذين أنزل عليهم الوحي، والكتب والرسول أول مقصود بذلك، وأسبق داخل في العموم، لأنه هو الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، ويكون ذلك خطابا لمنكري النبوات، كما قال تعالى، حكاية عن بعضهم: * (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء) *. ويحتمل أن يراد بالمفرد الجمع. وتبينه هذه القراءة كقوله تعالى: * (واذكر عبدنا * إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الايدى والابصار) *، في قراءة من أفرد، فيكون إذ ذاك للجنس.
فأتوا بسورة: طلب منهم الإتيان بمطلق سورة، وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، فلم يقترح عليهم الإتيان بسورة طويلة فتعنتوا في ذلك، بل سهل عليهم وأراح عليهم بطلب الإتيان بسورة ما، وهذا هو غاية التبكيت والتخجيل لهم. فإذا كنتم لا تقدرون أنتم ولا معاضدوكم بالإتيان بسورة من مثله، فكيف تزعمون أنه من جنس كلامكم؟ وكيف يلحقكم في ذلك ارتياب أنه من عند الله؟
وقد تعرض الزمخشري هنا لذكر فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سورا، وليس ذلك من علم التفسير، وإنما هو من فوائد التفصيل والتسوير. من مثله: الهاء عائدة على ما، أو على عبدنا، والراجح الأول وهو قول أكثر المفسرين ورجحانه من وجوه: أحدها: أن الارتياب أولا إنما جيء به منصبا على المنزل لا على المنزل عليه، وإن كان الريب في المنزل ريبا في المنزل عليه بالالتزام، فكان عود الضمير عليه أولى. الثاني: أنه قد جاء في نظير هذه الآية وهذا السياق قوله: * (فأتوا بسورة من مثله * فأتوا
245

بعشر سور مثله مفتريات) * * (على أن يأتوا بمثل هاذا القرءان لا يأتون بمثله) *. الثالث: اقتضاء ذلك كونهم عاجزين عن الإتيان، سواء اجتمعوا أو انفردوا، وسواء كانوا أميين أم كانوا غير أميين، وعوده على المنزل يقتضي كون آحاد الأدميين عاجزا عنه، لأنه لا يكون مثله إلا الشخص الواحد الأمي. فأما لو اجتمعوا أو كانوا قارئين فلا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى، فإذا جعلنا الضمير عائدا على المنزل، فمن: للتبعيض وهي في موضع الصفة لسورة أي بسورة كائنة من مثله.
ويظهر من كلام الزمخشري تناقض في من هذه قال: من مثله متعلق بسورة صفة لها، أي بسورة كائنة من مثله فقوله متعلق بسورة يقتضي أن يكون معمولا لها، وقوله
صفة لها، أي بسورة كائنة من مثله يقتضي أن لا يكون معمولا لها فتناقض كلامه ودافع آخره أوله، ولكن يحمل على أنه لا يريد التعلق الصناعي كتعلق الباء في نحو: مروري بزيد حسن، لكنه يريد التعلق المعنوي، أي تعلق الصفة بالموصوف، واحترز من القول الآخر أنها تتعلق بقوله: فأتوا، فلا يكون من مثله عائدا على المنزل، على ما سيأتي تبيينه إن شاء الله. وأجاز المهدوي وأبو محمد بن عطية أن تكون لبيان الجنس على تقدير أن يكون الضمير عائدا على المنزل، وتفسر المثلية بنظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي تعرفونها، ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خص به القرآن، أو في غيوبه وصدقه، وأجازا على هذا الوجه أيضا أن تكون زائدة، وستأتي الأقوال في تفسير المثلية على عود الضمير إلى المنزل، إن شاء الله.
وقد اختلف النحويون في إثبات هذا المعنى لمن، والذي عليه أصحابنا أن من لا تكون لبيان الجنس، والفرق بين كونها للتبعيض ولبيان الجنس مذكور في كتب النحو. وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز، على مذهب الكوفيين وجمهور البصريين. وفي المثلية على كون الضمير عائدا على المنزل أقوال: الأول: من مثله في حسن النظم، وبديع الرصف، وعجيب السرد، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه. الثاني: من مثله في غيوبه من إخباره بما كان وبما يكون. الثالث: في احتوائه على الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والقصص، والحكم، والمواعظ، والأمثال. الرابع: من مثله في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف. الخامس: من مثله، أي كلام العرب الذي هو من جنسه. السادس: في أنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تمله الأسماع، ولا يمحوه الماء، ولا تغنى عجائبه، ولا تنتهي غرائبه، ولا تزول طلاوته على تواليه، ولا تذهب حلاوته من لهوات تاليه. السابع: من مثله في دوام آياته وكثرة معجزاته. الثامن: من مثله، أي مثله في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله، تشهد لكم بأن ما جاءكم به ليس هو من عند الله، كما قال تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * وإن جعلنا الضمير عائدا على المنزل عليه، فمن متعلقة بقوله: فأتوا من مثل الرسول بسورة. ومعنى من على هذا الوجه ابتداء الغاية، ويجوز أن
246

تكون في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف. وهي أيضا لابتداء الغاية، أي بسورة كائنة من رجل مثل الرسول، أي ابتداء كينونتها من مثله.
وفي المثلية على كون الضمير عائدا على المنزل على أقوال: الأول: من مثله من أمي لا يحسن الكتابة على الفطرة الأصلية. الثاني: من مثله لم يدارس العلماء، ولم يجالس الحكماء، ولم يؤثر عنه قبل ذلك تعاطي الأخبار، ولم يرحل من بلده إلى غيره من الأمصار. الثالث: من مثله على زعمكم أنه ساحر شاعر مجنون. الرابع: من مثله من أبناء جنسه وأهل مدرته، وذكر المثل في قوله: من مثله هو على سبيل الفرض على أكثر الأقوال التي فسرت بها المماثلة، إذا كان الضمير عائدا على المنزل، وعلى بعضها لا يكون على سبيل الفرض، وهو على قول من فسر أنه أراد بالمثل: كلام العرب الذي هو من جنسه، وأما إذا كان عائدا على المنزل عليه فليس على سبيل الفرض، لوجود أمي لا يحسن الكتابة، ولوجود من لم يدارس العلماء، ولوجود من هو ساحر على زعمهم ذلك في المنزل عليه.
واختار الزمخشري أن لا مثل ولا نظير. قال بعد أن فسر المثل على تقدير عود الضمير على المنزل: فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم، وعلى تقدير عوده على المنزل عليه، أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشرا عربيا أو أميا لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء، قال الزمخشري، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك، ولكنه نحو قول القبعثري للحجاج، وقال له: لأحملنك على الأدهم مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب. أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقوة وبسطة اليد، ولم يقصد أحدا يجعله مثلا للحجاج. انتهى كلام الزمخشري. وعلى ما فسرت به المماثلة إذ جعل الضمير عائدا على المنزل عليه، وقد تقدم بيان وجود المثل، وعلى أنه عائد على المنزل يمكن وجوده في بعض تفاسير المماثلة. فقول الزمخشري: لا مثل ولا نظير مع تفسيره المماثلة في كونه بشرا عربيا أو أميا لم يقرأ الكتب ليس بصحيح، لأن المماثل في هذا الشيء الخاص موجود.
ولما طلب منهم المعارضة بسورة على تقدير حصولهم في ريب من كونه من عند الله، لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم، حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك والتظافر والتعاون والتناصر، فقال: * (وادعوا شهداءكم) *، وفسر هنا ادعوا: باستغيثوا. قال أبو الهيثم: الدعاء طلب الغوث، دعا: استغاث وباستحضر دعا فلان فلانا إلى الحاكم، استحضره، وشهداؤهم: آلهتهم، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم يشهدون لهم عند الله، قاله ابن عباس، والسدي، ومقاتل، والفراء، أو من يشهدهم ويحضرهم من الأعوان والأنصار، قاله ابن قتيبة. وروي عن ابن عباس، أو من يشهد لكم، أن ما تأتون به مثل
247

القرآن، روي عن مجاهد وكونه جمع شهيدا حسن من جمع شاهد لجريانه على قياس جمع فعيل نحو: هذا ولما في فعيل من المبالغة وكأنه أشار إلى أن يأتوا بشهداء بالغين في الشهادة يصلحون أن تقام بهم الحجة. * (من دون الله) *: تتعلق بادعوا، أي وادعوا من دون الله شهداءكم، أي لا تستشهدوا بالله فتقولوا: الله يشهد أن ما ندعيه حق، كما يقول العاجز عن إقامة البيت قبل ادعوا من الناس الشهداء الذين شهادتهم تصحح بها الدعاوى، فكأنه قال: وادعوا من غير الله من يشهد لكم، ويحتمل أن يتعلق من دون الله بشهداءكم. والمعنى: ادعوا من اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، أو أعوانكم من دون الله، أي من دون أولياء الله الذين يستعينون بهم دون الله، أو يكون معنى من دون الله: بين يدي الله، كما قال الأعشى:
تريك القذى من دونها وهي دونه
أي تريك القذى قدامها، وهي قدام القذى لرقتها وصفائها. وأمره تعالى إياهم بالمعارضة وبدعاء الأنصار والأعوان، مع علمه أنهم لا يقدرون على ذلك، أمر تهكم وتعجيز. وقد بين تعالى بعد ذلك أن ذلك لا يقع منهم سيما تفسير الشهداء بآلهتهم لأنها جماد لا تنطق، فالأمر بأن يستعينوا بما لا ينطق في معارضة المعجز غاية التهكم بهم، فظاهر قوله: * (إن كنتم صادقين) * معناه: في كونكم في ريب من المنزل على عبدنا أنه من عندنا، وقيل: فيما تقتدرون عليه من المعارضة. وقد حكى عنهم في آية أخرى: * (لو نشاء لقلنا مثل هاذا) *، لكن لم يجر ذكر المعارضة في هذه الآية، إلا أن كونهم في ريب يقتضي عندهم أنه ليس من عند الله، وما لم يكن من
عند الله فهو عندهم تمكن معارضته، فيحتمل أن يكون المعنى: إن كنتم صادقين في القدرة على المعارضة.
ولما كان أمره تعالى إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تهكم وتعجيز لأنهم غير قادرين على ذلك، انتقل إلى إرشادهم، إذ ليسوا بقادرين على المعارضة، وأمرهم باتقاء النار التي أعدت لمن كذب، وأتى بأن، وإن كان من مواضع إذا تهكما بهم، كما يقول القائل: أن غلبتك لم أبق عليك، وهو يعلم أنه غالب، أو أتى بان على حسب ظنهم، وإن المعجز منهم كان قبل التأمل، كالمشكوك فيه عندهم لاتكالهم على فصاحتهم. ومعنى: * (فإن لم تفعلوا) * فإن لم تأتوا، وعبر عن الإتيان بالفعل، والفعل يجري مجرى الكناية، فيعبر به عن كل فعل، ويغنيك عن طول ما تكنى عنه. قال الزمخشري: لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة من مثله، ولا يلزم ما قال الزمخشري، لأنه لو قيل: فإن لم تأتوا ولن تأتوا، كان المعنى على ما ذكر ويكون قد حذف ذلك اختصارا، كما حذف اختصارا مفعول لم تفعلوا ولن تفعلوا. ألا ترى أن التقدير: فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله ولن تفعلوا لإتيان بسورة من مثله فهما سيان في الحذف؟ وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم، قال: وجزمت لم لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان، فكما تحذف لا تنوين الاسم، كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.
وفي قوله: * (ولن تفعلوا) * إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع، وفي ذلك دليلان على إثبات النبوة. أحدهما: صحة كون المتحدي به معجزا، الثاني: الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى،
248

ويدل على ذلك أنهم لو عارضوه لتوفرت الدواعي على نقله خصوصا من الطاعنين عليه، فإذا لم ينقل دل على أنه إخبار بالغيب وكان ذلك معجزه. وأما ما أتى به مسيلمة الكذاب في هذره، وأبو الطيب المتنبي في عبره ونحوهما، فلم يقصدوا به المعارضة، إنما ادعوا أنه نزل عليهم وحي بذلك، فأتوا من ذلك باللفظ الغث، والمعنى السخيف، واللغة المهجنة، والأسلوب الرذل، والفقرة غير المتمكنة، والمطلع المستقبح، والمقطع المستوهن، بحيث لو قرن ذلك بكلامهم في غير ما ادعوا أنه وحي، كان بينهما من التفاوت في الفصاحة والتباين في البلاغة ما لا يخفى عمن له يسير تمييز في ذلك: فكيف الجهابذة النقاد والبلغاء الفصحاء، فسلبهم الله فصاحتهم بادعائهم وافترائهم على الله الكذب. وقوله: * (ولن تفعلوا) * جملة اعتراض، فلا موضع لها من الإعراب، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى، لأنه لما قال: فإن لم تفعلوا، وكان معناه نفي في المستقبل مخرجا ذلك مخرج الممكن، أخبر أن ذلك لا يقع، وهو إخبار صدق، فكان في ذلك تأكيد أنهم لا يعارضونه. واقتران الفعل بلن مميز لجملة الاعتراض من جملة الحال، لأن جملة الحال لا تدخل عليها لن، وكان النفي بلن في هذه الجملة دون لا، وإن كانتا أختين في نفي المستقبل، لأن في لن توكيدا وتشديدا، تقول لصاحبك: لا أقيم غدا، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غدا، كما تفعل في: أنا مقيم، وإنني مقيم، قاله الزمخشري، وما ذكره هنا مخالف لما حكي عنه أن لن تقتضي النفي على التأبيد. وأما ما ذهب إليه ابن خطيب زملكا من أن لن تنفي ما قرب وأن لا يمتد النفي فيها، فكاد يكون عكس قول الزمخشري.
وهذه الأقوال، أعني التوكيد والتأبيد ونفي ما قرب: أقاويل المتأخرين، وإنما المرجوع في معاني هذه الحروف وتصرفاتها لأئمة العربية المقانع الذين يرجع إلى أقاويلهم. قال سيبويه، رحمه الله: ولن نفي لقوله: سيفعل، وقال: وتكون لا نفيا لقوله: تفعل، ولم تفعل، انتهى كلامه. ويعني بقوله: تفعل، ولم تفعل المستقبل، فهذا نص منه أنهما ينفيان المستقبل إلا أن لن نفي لما دخلت عليه أداة الاستقبال، ولا نفي للمضارع الذي يراد به الاستقبال. فلن أخص، إذ هي داخلة على ما ظهر فيه دليل الاستقبال لفظا. ولذلك وقع الخلاف في لا: هل تختص بنفي المستقبل، أم يجوز أن تنفي بها الحال؟ وظاهر كلام سيبويه، رحمه الله، هنا أنها لا تنفي الحال، إلا أنه قد ذكر في الاستثناء من أدواته لا يكون ولا يمكن حمل النفي فيه على الاستقبال لأنه بمعنى إلا، فهو للإنشاء، وإذا كان للإنشاء فهو حال، فيفيد كلام سيبويه في قوله: وتكون لا نفيا لقوله يفعل، ولم يفعل هذا الذي ذكر في الاستثناء، فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه، كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري: أولا: من أن فيها توكيدا وتشديدا لأنها تنفي ما هو مستقبل بالأداة، بخلاف لا، فإنها تنفي المراد به الاستقبال مما لا أداة فيه تخلصه له، ولأن لا قد ينفى بها الحال قليلا، فلن أخص بالاستقبال وأخص بالمضارع، ولأن ولن تفعلوا أخصر من ولا تفعلون، فلهذا كله ترجيح النفي بلن على النفي بلا.
فاتقوا النار: جواب للشرط، وكنى به عن ترك العناد، لأن من عاند بعد وضوح الحق له استوجب العقاب بالنار. واتقاء النار من نتائج ترك العناد ومن لوازمه. وعرف النار هنا لأنه قد تقدم ذكرها نكرة في سورة التحريم، والتي في سورة التحريم نزلت بمكة، وهذه بالمدينة. وإذا كررت النكرة سابقة ذكرت ثانية بالألف واللام، وصارت معرفة لتقدمها في الذكر ووصفت بالتي وصلتها. والصلة معلومة للسامع لتقدم ذكر قوله: * (نارا وقودها الناس والحجارة) *، أو لسماع ذلك من أهل الكتاب قبل نزول الآية، والجمهور على فتح الواو. وقرأ الحسن باختلاف، ومجاهد وطلحة وأبو حياة وعيسى بن عمر الهمداني بضم الواو. وقرأ عبيد بن عمير وقيدها على وزن فعيل. فعلى قراءة الجمهور وقراءة ابن عمير هو الحطب، وعلى قراءة الضم هو المصدر على حذف مضاف، أي ذو وقودها لأن الناس والحجارة ليسا هما الوقود، أو على أن جعلوا نفس
249

الوقود مبالغة، كما يقول: فلان فخر بلده، وهذه النار ممتازة عن غيرها بأنها تتقد بالناس والحجارة، وهما نفس ما يحرق، وظاهر هذا الوصف أنها نار واحدة ولا يدل على أنها نيران شتى قوله تعالى: * (قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) *، ولا قوله تعالى: * (فأنذرتكم نارا تلظى) *، لأن الوصف قد يكون بالواقع لا للامتياز عن مشترك فيه، والناس يراد به الخصوص ممن شاء الله دخولها، وإن كان لفظه عاما، والحجارة الأصنام، وكانا وقودا للنار مقرونين معا، كما كانا في الدنيا حيث نحتوها وعبدوها آلهة من دون الله. ويوضحه قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) *، أو حجارة الكبريت، روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن جريج. واختصت بذلك لما فيه من سرعة الالتهاب، ونتن الرائحة، وعظم الدخان، وشدة الالتصاق بالبدن، وقوة حرها إذا حميت.
وقيل: هو الكبريت الأسود، أو حجارة مخصوصة أعدت لجهنم، إذا اتقدت لا ينقطع وقودها. وقيل: إن أهل النار إذا عيل صبرهم بكوا وشكوا، فينشىء الله سحابة سوداء مظلمة، فيرجون الفرج، ويرفعون رؤوسهم إليها، فتمطر عليهم حجارة عظاما كحجارة الرحى، فتزداد النار إيقادا والتهابا إذ الحجارة ما اكتنزوه من الذهب والفضة تقذف معهم في النار ويكوون بها. وعلى هذه الأقوال لا تكون الألف واللام في الحجارة للعموم بل لتعريف الجنس. وذهب بعض أهل العلم إلى أنها تجوز أن تكون لاستغراق الجنس، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين، فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق، قال: وإنما ذكر الناس والحجارة تعظيما لشأن جهنم وتنبيها على شدة وقودها، ليقع ذلك من النفوس أعظم موقع، ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره، وليس المراد الحقيقة.
وما ذهب إليه هذا الذاهب من أن هذا الوصف هو بالصلاحية لا بالفعل غير ظاهر، بل الظاهر أن هذا الوصف واقع لا محالة بالفعل، ولذلك تكرر الوصف بذلك، وليس في ذلك أيضا ما يدل على أنها ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها، وقدم الناس على الحجارة لأنهم العقلاء الذين يدركون الآلام والمعذبون، أو لكونهم أكثر إيقادا للنار من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم والعظام والشعور، أو لأن ذلك أعظم في التخويف. فإنك إذا رأيت إنسانا يحرق، أقشعر بدنك وطاش لبك، بخلاف الحجر. قال ابن عطية: وفي قوله تعالى: * (أعدت) * رد على من قال: إن النار لم تخلق حتى الآن، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد، انتهى كلامه. ومعناه أنه زعم أن الإعداد لا يكون إلا للموجود، لأن الإعداد هو التهيئة والإرصاد للشيء، قال الشاعر:
أعددت للحدثان سابغة وعداء علندا
أي هيأت. قالوا: ولا يكون ذلك إلا للموجود. قال بعضهم: أو ما كان في معنى الموجود نحو قوله تعالى: * (أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) *. ومنذر الذي ذكره ابن عطية كان يعرف بالبلوطي، وكان قاضي القضاة بالأندلس، وكان معتزليا في أكثر الأصول ظاهريا في الفروع، وله ذكر ومناقب في التواريخ، وهو أحد رجالات الكمال بالأندلس. وسرى إليه ذلك القول من قول كثير من المعتزلة، وهي مسألة تذكر في أصول الدين وهو: أن مذهب أهل
250

السنة أن الجنة والنار مخلوقتان على الحقيقة. وذهب كثير من المعتزلة والجهمية والنجاومية إلى أنهما لم يخلقا بعد، وأنهما سيخلقان. وقرأ عبد الله اعتدت: من العتاد بمعنى العدة. وقرأ ابن أبي عبلة: أعدها الله للكافرين، ولا يدل إعدادها للكافرين على أنهم مخصوصون بها، كما ذهب إليه بعض المتأولين من أن نار العصاة غير نار الكفار، بل إنما نص على الكافرين لانتظام المخاطبن فيهم، إذ فعلهم كفر. وقد ثبت في الحديث الصحيح إدخال طائفة من أهل الكبائر النار، لكنه اكتفى بذكر الكفار تغليبا للأكثر على الأقل، أو لأن الكافرين لن يشتمل من كفر بالله وكفر بأنعمه، أو لأن من أخرج منها من المؤمنين لم تكن معدة له دائما بخلاف الكفار. والجملة من قوله: أعدت للكافرين في موضع الحال من النار، والعامل فيها: فاتقوا، قاله أبو البقا، وفي ذلك نظر، لأن جعله الجملة حالا يصير المعنى: فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين، وهي معدة للكافرين، اتقوا النار أو لم يتقوها، فتكون إذ ذاك حالا لازمة. والأصل في الحال التي ليست للتأكيد أن تكون منتقلة، والأولى عندي أن تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب، وكأنها سؤال جواب مقدر كأنه لما وصفت بأن وقودها الناس والحجارة قيل: لمن أعدت؟ فقيل: أعدت للكافرين.
2 (* (وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هاذا الذى رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيهآ أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) *)) 2
* (وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا) *. البشارة: أول خبر يرد على الإنسان من خير كان أو شر، وأكثر استعماله في الخبر، وظاهر كلام الزمخشري. أنه لا يكون إلا في الخير، ولذلك قال: تأول * (فبشرهم بعذاب أليم) *، وهو محجوج بالنقل. قيل عن سيبويه: هو خبر يؤثر في البشرة من حزن أو سرور. قال بعضهم: ولذا يقيد في الحزن، والبشارة: الجمال، والبشير: الجميل، قاله ابن دريد، وتباشير الفجر: أوائله. وفي الفعل لغتان: التشديد، وهي اللغة العليا، والتخفيف: وهي لغة أهل تهامة. وقد قرىء باللغتين في المضارع في مواضع من القرآن، ستأتي إن شاء الله. الصلاح: يقابله الفساد. الجنة: البستان الذي سترت أشجاره أرضه، وكل شيء ستر شيئا فقد أجنه، ومن ذلك الجنة والجنة والجن والمجن والجنين. المفضل الجنة: كل بستان فيه ظل، وقيل: كل أرض كان فيها شجر ونخل فهي جنة، فإن كان فيها كرم فهي: فردوس. تحت: ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير من، نص على ذلك أبو الحسن. قال العرب: تقول تحتك رجلاك، لا يختلفون في نصب التحت. النهر: دون البحر وفوق الجدول، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع قولان، وفيه لغتان: فتح الهاء، وهي اللغة العالية، والسكون، وعلى الفتح جاء الجمع أنهارا قياسا مطردا إذ أفعال في فعل الاسم الصحيح العين لا يطرد، وإن كان قد جاءت منه ألفاظ كثيرة، وسمي نهرا لاتساعه، وأنهر: وسع، والنهار لاتساع ضوئه.
التشابه: تفاعل من الشبه والشبه المثل. وتفاعل تأتي لستة معان: الاشتراك في الفاعلية من حيث اللفظ، وفيها وفي المفعولية من حيث المعنى، والإبهام، والروم، ومطاوعة فاعل الموافق أفعل، ولموافقة المجرد وللإغناء عنه. الزوج: الواحد الذي يكون معه آخر، واثنان: زوجان. ويقال للرجل: زوج، ولامرأته أيضا زوج وزوجة أقل. وذكر الفراء أن زوجا المراد به المؤنث فيه لغتان: زوج لغة أهل الحجاز
251

وزوجة لغة تميم وكثير من قيس وأهل نجد، وكل شيء قرن بصاحبه فهو زوج له، والزوج: الصنف ومنه: زوج بهيج، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا. الطهارة: النظافة، والفعل طهر بفتح الهاء وهو الأفصح، وطهر بالضم، واسم الفاعل منهما طاهر. فعلى الفتح قياس وعلى الضم شاذ نحو: حمض فهو حامض، وخثر فهو خاثر. الخلود: المكث في الحياة أو الملك أو المكان مدة طويلة لا انتهاء لها وهل يطلق على المدة الطويلة التي لها انتهاء بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز قولان، وقال زهير:
* فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت
*
ولكن حمد الناس ليس بمخلد
*
ويقال: خلد بالمكان أقام به، وأخلد إلى كذا، سكن إليه، والمخلد: الذي لم يشب، ولهذا المعنى، أعني من السكون والاطمئنان، سمي هذا الحيوان اللطيف الذي يكون في الأرض خلدا. وظاهره هذه الاستعمالات وغيرها يدل على أن الخلد هو المكث الطويل، ولا يدل على المكث الذي لا نهاية له إلا بقرينة. واختار الزمخشري فيه: أنه البقاء اللازم الذي لا ينقطع، تقوية لمذهبه الاعتزالي في أن من دخل النار لم يخرج منها بل يبقى فيها أبدا.
والأحاديث الصحيحة المستفيضة دلت على خروج ناس من المؤمنين الذين دخلوا النار بالشفاعة من النار، ومناسبة قوله تعالى: وبشر لما قبله ظاهره، وذلك أنه لما ذكر ما تضمن ذكر الكفار وما تؤول إليه حالهم في الآخرة، وكان ذلك من أبلغ التخويف والإنذار، أعقب ما تضمن ذكر مقابليهم وأحوالهم وما أعد الله لهم في الآخرة من النعيم السرمدي. وهكذا جرت العادة في القرآن غالبا متى جرى ذكر الكفار وما لهم أعقب بالمؤمنين وما لهم وبالعكس، لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد واللطف والعنف، لأن من الناس من لا يجذبه التخويف ويجذبه اللطف، ومنهم من هو بالعكس. والمأمور بالتبشير قيل: النبي صلى الله عليه وسلم)، وقيل: كل من يصلح للبشارة من غير تعيين. قال الزمخشري: وهذا أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به، انتهى كلامه. والوجه الأول عندي أولى، لأن أمره صلى الله عليه وسلم) لخصوصيته بالبشارة أفخم وأجزل، وكأنه ما اتكل على أن يبشر المؤمنين كل سامع، بل نص على أعظمهم وأصدقهم ليكون ذلك أوثق عندهم وأقطع في الإخبار بهذه البشارة العظيمة، إذ تبشيره صلى الله عليه وسلم) تبشير من الله تعالى. والجملة من قوله: وبشر معطوفة على ما قبلها، وليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي بعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإزهاق، وبشر عمرا بالعفو والإطلاق، قال هذا الزمخشري وتبعه أبو البقاء فقال: الواو في وبشر عطف بها جملة ثواب المؤمنين على جملة عقاب الكافرين، انتهى كلامه.
وتلخص من هذا أن عطف الجمل بعضها على بعض ليس من شرطه أن تتفق معاني الجمل، فعلى هذا يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة غير الخبرية، وهذه المسألة فيها اختلاف. ذهب جماعة من النحويين إلى اشتراط اتفاق المعاني، والصحيح أن ذلك ليس بشرط، وهو مذهب سيبويه. فعلى مذهب سيبويه يتمشى إعراب الزمخشري وأبي
252

البقاء. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون قوله: وبشر معطوفا على قوله: فاتقوا النار، ليكون عطف أمر على أمر. قال الزمخشري: كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنتيم، وبشر يا فلان بني أسد بإحسان إليهم، وهذا الذي ذهبا إليه خطأ لأن قوله: فاتقوا جواب للشرط وموضعه جزم، والمعطوف على الجواب جواب، ولا يمكن في قوله: وبشر أن يكون جوابا لأنه أمر بالبشارة ومطلقا، لا على تقدير إن لم تفعلوا، بل أمر أن يبشر الذين آمنوا أمرا ليس مترتبا على شيء قبله، وليس قوله: وبشر على إعرابه مثل ما مثل به من قوله: يا بني تميم إلخ، لأن قوله: احذروا لا موضع له من الإعراب، بخلاف قوله: فاتقوا. فلذلك أمكن فيما مثل به العطف ولم يمكن في وبشر. وقرأ زيد بن علي: وبشر فعلا ماضيا مبنيا للمفعول. قال الزمخشري: عطفا على أعدت انتهى. وهذا الإعراب لا يتأتى على قول من جعل أعدت جملة في موضع الحال، لأن المعطوف على الحال حال، ولا يتأتى أن يكون وبشر في موضع الحال، فالأصح أن تكون جملة معطوفة على ما قبلها، وإن لم تتفق معاني الجمل، كما ذهب إليه سيبويه وهو الصحيح، وقد استدل لذلك بقول الشاعر:
* تناغي غزالا عند باب ابن عامر
*
وكحل أماقيك الحسان بإثمد
*
وبقول امرئ القيس:
* وإن شفائي عبرة إن سفحتها
*
وهل عند رسم دارس من معول
*
وأجاز سيبويه: جاءني زيد، ومن أخوك العاقلان، على أن يكون العاقلان خبر ابتداء مضر. وقد تقدم لنا أن الزمخشري يخص البشارة بالخبر الذي يظهر سرور المخبر به. وقال ابن عطية: الأغلب استعماله في الخير، وقد يستعمل في الشر مقيدا به منصوصا على الشر للمبشر به، كما قال تعالى: * (فبشرهم بعذاب أليم) *. ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير، انتهى كلامه. وتقدم لنا ما يخالف قوليهما من قول سيبويه وغيره، وأن البشارة أول خبر يرد على الإنسان من خير
كان أو شر، قالوا: وسمي بذلك لتأثيره في البشرة، فإن كان خيرا أثر المسرة والانبساط، وإن كان شرا أثر القبض والانكماش. قال تعالى: * (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان) *، وقال تعالى: * (فبشرهم بعذاب أليم) *، وجعل الزمخشري هذا العكس في الكلام الذي يقصد به استهزاء الزائد في غيظه المستهزأ به وتألمه. وقيل: معناه ضع هذا موضع البشارة منهم، قالوا: والصحيح أن كل خبر غير البشرة خيرا كان أو شرا بشارة، قال الشاعر:
* يبشرني الغراب ببين أهل
*
فقلت له ثكلتك من بشير
*
وقال آخر:
253

* وبشرتني يا سعد أن أحبتي
*
جفوني وأن الود موعده الحشر
*
والتضعيف في بشر من التضعيف الدال على لتكثير فيما قال بعضهم، ولا يتأتى التكثير في بشر إلا بالنسبة إلى المفاعيل، لأن البشارة أول خبر يسر أو يحزن على المختار، ولا يتأتى التكثير فيه بالنسبة إلى المفعول الواحد، فبالنسبة إليه يكون فعل فيه مغنيا عن فعل، لأن الذي ينطق به مشددا غير العرب الذين ينطقون به مخففا، كما بينا قبل. وكون مفعول بشر موصولا بجملة فعلية ماضية ولم يكن اسم فاعل، دلالة على أن مستحق التبشير بفضل الله من وقع منه الإيمان وتحقق به وبالأعمال الصالحة. والصالحات: جمع صالحة، وهي صفة جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل، قال الحطيئة:
* كيف الهجاء وما ينفك صالحة
*
من آل لام بظهر الغيب تأتيني
*
فعلى هذا انتصابها على أنها مفعول بها، والألف واللام في الصالحات للجنس لا للعموم، لأنه لا يكاد يمكن أن يعمل المؤمن جميع الصالحات، لكن يعمل جملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف. والفرق بين لام الجنس إذا دخلت على المفرد، وبينها إذا دخلت على الجمع، أنها في المفرد يحتمل أن يراد بها واحد من الجنس، وفي الجمع لا يحتمله. قال عثمان بن عفان: الصالح ما أخلص لله تعالى، وقال معاذ بن جبل: ما احتوى على أربعة: العلم والنية والصبر والإخلاص، وقال سهل بن عبد الله: ما وافق الكتاب والسنة، وقال علي بن أبي طالب: الصلوات في أوقاتها وتعديل أركانها وهيئاتها، وقيل: الأمانة، وقيل: التوبة والاختيار، قول الجمهور: وهو كل عمل صالح أريد به الله. قال ابن عطية: وفي قوله تعالى: * (وعملوا الصالحات) * رد على من يقول: إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات، لأنه لو كان ذلك ما أعادها، انتهى كلامه. وفي ذلك أيضا دليل على أن الذين أمر الله بأن يبشروا هم من جمعوا بين الإيمان والأعمال الصالحات، وأن من اقتصر على الإيمان فقط دون الأعمال الصالحات لا يكون مبشرا.
من هذه الآية: وبشر يتعدى لمفعولين: أحدهما بنفسه، والآخر بإسقاط حرف الجر. فقوله: * (أن لهم جنات) * هو في موضع هذا المفعول، وجاز حذف حرف الجر مع أن قياسا مطردا، واختلفوا بعد حذف الحرف، هل موضع أن ومعموليها جر أم نصب؟ فمذهب الخليل والكسائي: أن موضعه جر، ومذهب سيبويه والفراء: أن موضعه نصب، والاستدلال في كتب النحو. وجنات: جمع جنة، جمع قلة، فروي عن ابن عباس أنها سبع جنات. وقال قوم: هي ثمان جنات. وزعم بعض المفسرين أن في تضاعيف الكتاب والسنة ما يدل على أنها أكثر من العدد الذي أشار إليه ابن عباس وغيره، قال: فإنه قال: * (إن المتقين فى جنات ونهر) *، * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *، * (ومن دونهما جنتان) *، * (عندها جنة المأوى) *، * (جنات عدن) *. وعن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما، وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) وهذا الذي أورده هذا المفسر لا يدل على أنها أكثر مما روي عن ابن عباس.
وقال الزمخشري: الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة
254

على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان، انتهى كلامه. وقد دس فيه مذهبه الاعتزالي بقوله: على حسب استحقاق العاملين. وقد جاء في القرآن ذكر الجنة مفردة ومجموعة، فإذا كانت مفردة فالمراد الجنس، واللام في لهم للاختصاص، وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود المضير على الذين آمنوا، فهو أسر للسامع، والشائع أنه إذا كان الاسم نكرة تعين تقديمه * (إن لنا لاجرا) *، ولم يذكر في الآية الموافاة على الإيمان فإن الردة تحبطه، وذلك مفهوم من غير هذه الآية. وأما الزمخشري فجرى على مذهبه الاعتزالي من أنه يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل، أن لا يحبطهما
المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر، وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية، وزعم أن اشتراط ذلك كالداخل تحت الذكر.
وقد علم من مذهب أهل السنة أن من وافى على الإيمان فهو من أهل الجنة، سواء كان مرتكبا كبيرة أم غير مرتكب، تائبا أو غير تائب، ومن قال: إن من زائدة والتقدير تجري تحتها، أو بمعنى في، أي في تحتها، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية، بل هي متعلقة بتجري، وهي لابتداء الغاية. وإذا فسرنا الجنات بأنها الأشجار الملتفة ذوات الظل، فلا يحتاج إلى حذف. وإذا فسرناها بالأرض ذات الأشجار، احتاج، إذ يصير التقدير من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها. وقيل: عبر بتحتها عن أسافلها وأصولها. وقيل: المعنى في تجري من تحتها: أي بأمر سكانها واختيارهم، فعبر بتحتها عن قهرهم لها وجريانها على حكمهم، كما قيل فيم قوله تعالى، حكاية عن فرعون: * (وهاذه الانهار تجرى من تحتى) *، أي بأمري وقهري. وهذا المعنى لا يناسب إلا لو كانت التلاوة: أن لهم جنات تجري من تحتهم، فيكون نظير من تحتي إذا جعل على حذف مضاف، أي من تحت أهلها، استقام المعنى الذي ذكر أنه لا يناسب، إذ ليس المعنى بأمر الجنات واختيارها. وقيل: المعنى في من تحتها: من جهتها. وقد روي عن مسروق: أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة. وإذا صح هذا النقل، فهو أبلغ في النزهة، وأحلى في المنظر، وأبهج للنفس. فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره، وأحسن البساتين ما كانت أشجاره ملتفة وظله ضافيا وماؤه صافيا منسابا على وجه أرضه، لا سيما الجنة، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ، فتنكسر تلك المياه على ذلك الحصى، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآلىء له خريرا، قال شيخنا الأديب البارع أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي، رحمه الله تعالى، من كلمة:
* وتحدث الماء الزلال مع الحصى
*
فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
*
خرج الترمذي من حديث حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم): (إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن
255

وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعده). ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى: * (فيها أنهار من ماء غير ءاسن) * الآية. ولما كانت الجنة لا تشوق، والروض لا يروق إلا بالماء الذي يقوم لها مقام الأرواح للأشباح، ما كاد مجيء ذكرها إلا مشفوعا بذكر الأنهار، مقدما هذا الوصف فيها على سائر الأوصاف. قال ابن عطية: نسب الجري إلى النهر، وإنما يجري الماء وحده توسعا وتجوزا، كما قال تعالى: * (واسئل القرية) *، وكما قال الشاعر:
* نبئت أن النار بعدك أوقدت
*
واستب بعدك يا كليب المجلس
*
انتهى كلامه.
وناقض قوله هذا ما شرح به الأنهار قبله بنحو من خمسة أسطر قال: والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة، انتهى كلامه. والألف واللام في الأنهار للجنس، قال الزمخشري: أو يراد أنهارها، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة، كقوله تعالى: * (واشتعل الرأس شيبا) *، وهذا الذي ذكره الزمخشري، وهو أن الألف واللام تكون عوضا من الإضافة، ليس مذهب البصريين، بل شيء ذهب إليه الكوفيون، وعليه خرج بعض الناس قوله تعالى: * (مفتحة لهم الابواب) *، أي أبوابها. وأما البصريون فيتأولون هذا على غير هذا الوجه ويجعلون الضمير محذوفا، أي الأبواب منها، ولو كانت الألف واللام عوضا من الإضافة لما أتى بالضمير مع الألف واللام، وقال الشاعر:
* قطوب رحيب الجيب منها رقيقة
*
بجس الندامى بضة المتجرد
*
ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد الثابت في الذهن من الأنهار الأربعة المذكورة في سورة القتال. وجاء هذا الجمع بصيغة جمع القلة إشارة إلى الأنهار الأربعة، إن قلنا: إن الألف واللام فيها للعهد، أو إشارة إلى أنهار الماء، وهي أربعة أو خمسة، في الصحيح. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ذكر الجنة فقال: (نهران باطنان: الفرات والنيل، ونهران ظاهران: سيحان وجيحان). وفي رواية سيحون وجيحون، وعن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن ماء الكوثر قال: (ذاك نهر أعطانيه الله تعالى، يعني في الجنة، ماؤه وأشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل) الحديث. وإن كانت أنهارا كثيرة فيكون ذلك من إجراء جمع القلة مجرى جمع الكثرة، كما جاء العكس على جهة التوسع والمجاز لاشتراكهما في الجمعية.
* (كلما رزقوا) *، تقدم الكلام على كلما عند قوله تعالى: * (كلما أضاء لهم) *، وبينا كيفية التكرار فيها على خلاف ما يفهم أكثر الناس، والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وأنه لما ذكر أن من آمن وعمل الصالحات
256

لهم جنات صفتها كذا، هجس في النفوس حيث ذكرت الجنة الحديث عن ثمار الجنات، وتشوقت إلى ذكر كيفية أحوالها، فقيل لهم: * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا) *، وأجيز أن تكون الجملة لها موضع من الإعراب: نصب على تقدير كونها صفة للجنات، ورفع: على تقدير خبر مبتدأ محذوف. ويحتمل هذا وجهين: إما أن يكون المبتدأ ضميرا عائدا على الجنات، أي هي * (كلما رزقوا منها) *، أو عائدا على * (الذين كفروا) *، أي هم كلما رزقوا، والأولى الوجه الأول لاستقلال الجملة فيه لأنها في الوجهين السابقين تتقدر بالمفرد، فهي مفتقرة إلى الموصوف، أو إلى المبتدأ المحذوف. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الذين آمنوا تقديره مرزوقين على الدوام، ولا يتم له ذلك إلا على تقدير أن يكون الحال مقدرة، لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين على الدوام. وأجاز أيضا أن تكون حالا من جنات لأنها نكرة قد وصفت بقوله: تجري، فقربت من المعرفة، وتؤول أيضا إلى الحال المقدرة. والأصل في الحال أن تكون مصاحبة، فلذلك اخترنا في إعراب هذه الجملة غير ما ذكره أبو البقاء. ومن: في قوله: منها، هي لابتداء الغاية، وفي: من مثمرة كذلك، لأنه بدل من قوله: منها، أعيد معه حرف كقوله تعالى: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) *، على أحد الاحتمالين، وكلتاهما تتعلق برزقوا على جهة البدل، كما ذكرناه، لأن الفعل لا يقضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف، أو على طريقة البدل، وهذا البدل هو بدل الاشتمال. وقد طول الزمخشري في إعراب قوله: من ثمرة، ولم يفصح بالبدل، لكن تمثيله يدل على أنه مراده، وأجاز أن يكون من ثمرة بيانا على منهاج قولك: رأيت منك أسدا، تريد أنت أسد، انتهى كلامه. وكون من للبيان ليس مذهب المحققين من أهل العربية، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك، ولو فرضنا مجيء من للبيان، لما صح تقديرها للبيان هنا، لأن القائلين بأن من للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدرا لموصول صفة، إن كان قبلها معرفة، نحو: * (فاجتنبوا الرجس من الاوثان) *، أي الرجس الذي هو الأوثان، وإن كان قبلها نكرة، فهو يعود على تلك النكرة نحو: من يضرب من رجل، أي هو رجل، ومن هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بيانا له، لا نكرة ولا معرفة، إلا إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها، وأن التقدير: كلما رزقوا منها رزقا من ثمرة، فتكون من مبينة لرزقا، أي: رزقا هو ثمرة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهذا ينبغي أن ينزه كتاب الله عن مثله. وأما: رأيت منك أسدا، فمن لابتداء الغاية أو للغاية ابتداء وانتهاء، نحو: أحدته منك، ولا يراد بثمرة الشخص الواحد من التفاح أو الرمان أو غير ذلك، بل المراد، والله أعلم، النوع من أنواع الثمار. قال الزمخشري: وعلى هذا، أي على تقدير أن تكون من بيانا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار، والجنات الواحدة، انتهى كلامه. وقد اخترنا أن من لا تكون بيانا فلا نختار ما ابتنى عليه، مع أن قوله: والجنات الواحدة مشكل يحتاج فهمه إلى تأمل، ورزقا هنا هو المرزوق، والمصدر بعيد جدا لقوله: * (هاذا الذى رزقنا من قبل * كتابا متشابها) *، فإن المصدر لا يؤتى به متشابها، إنما هذا من الإخبار عن المرزوق لا عن المصدر.
* (قالوا هاذا الذى رزقنا من قبل) *، قالوا: هو العامل في كلما، وهذا الذي: مبتدأ معمول للقول. فالجملة في موضع مفعول، والمعنى: هذا، مثل: الذي رزقنا، فهو من باب ما الخبر شبه به المبتدأ، وإنما احتيج إلى هذا الإضمار، لأن الحاضر بين أيديهم في ذلك الوقت يستحيل أن يكون عين الذي تقدم إن رزقوه، ثم هذه المثلية المقدرة حذفت لاستحكام الشبه، حتى كأن هذه الذات هي الذات، والعائد على الذي محذوف، أي رزقناه، ومن متعلقة برزقنا، وهي لابتداء الغاية. وقيل: مقطوع عن الإضافة، والمضاف إليه معرفة محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره من قبله: أي من قبل المرزوق. واختلف المفسرون في تفسير ذلك، فقال ابن عباس، والضحاك، ومقاتل: معناه رزق الغداة كرزق العشي. وقال يحيى بن أبي كثير، وأبو عبيد: ثمر الجنة إذا جني خلفه مثله، فإذا رأوا ما خلف المجني
257

اشتبه عليهم. فقالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، وقال مجاهد، وابن زيد: يعني بقوله: من قبل في الدنيا، والمعنى أنه مثله في الصورة، فالقبلية على القولين الأولين تكون في الجنة، وعلى هذا القول تكون في الدنيا. وقال بعض المفسرين: معناه هذا الذي وعدنا في الدنيا أن نرزقه في الآخرة، فعلى هذا القول يكون المبتدأ، هو نفس الخبر، ولا يكون التقدير مثل: وعبر عن الوعد بمتعلقه وهو الرزق، وهو مجاز، فلصدق الوعد به صار كأنهم رزقوه في الدنيا، وكون الخبر يكون غير المبتدأ أيضا مجاز، إلا أن هذا المجاز أكثر وأسوغ. وعلى هذا القول تكون القبلية أيضا في الدنيا، لأن الوعد وقع فيها إلا أن كون القبلية في الدنيا يبعده دخول من على قبل لأنها لابتداء الغاية، فهذا موضع قبل لا موضع من، لأن بين الزمانين تراخيا كثيرا، ومن تشعر بابتداء القبلية فتنافي التراخي والابتداء. وإذا كانت القبلية في الآخرة كان في ذلك إشكال من حيث إن الرزق الأول الذي رزقوه لا يكون له مثل رزقوه قبل لأن الفرض أنه أول، فإذا كان أول لم يكن قبله شيء رزقوه. قال ابن عطية: هذا إشارة إلى الجنس، أي هذا من الجنس الذي رزقناه من قبل، انتهى كلامه. وليس هذا إشارة إلى الجنس، بل هذا إشارة إلى الرزق. وكيف يكون إشارة إلى الجنس وقد فسر قوله بعد من الجنس الذي رزقناه من قبل؟ فكأنه قال: هذا الجنس من الجنس الذي رزقنا من قبل، وأنت ترى هذا التركيب كيف هو. ولعل الناقل صحف مثل بمن، فكان التقدير هذا الجنس مثل الجنس الذي رزقنا من قبل، والأظهر أنه تصحيف، لأن التقدير من الجنس بعيد، وإنما يصح ذلك على ضرب من التجوز من إطلاق كل، ويراد به بعض فتقول: هذا من بني تميم، ثم تتجوز فتقول: هذا بنو تميم، تجعله كل بني تميم مجازا توسعا. ومعمول القول جملة خبرية يخاطب بها بعضهم بعضا، وليس ذلك على معنى التعجب، قاله: جماعة. وقال ابن عباس يقولون ذلك على طريق التعجب. قال الحسن ومجاهد: يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها، والطعم مختلف، فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضا.
قال ابن عباس: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة. وقراءة الجمهور: وأتوا مبنيا للمفعول وحذف الفاعل للعلم به، وهو الحذم والولدان. يبين ذلك قراءة هارون الأعور والعتكي. وأتوا به على الجمع، وهو إضمار لدلالة المعنى عليه. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (يطوف عليهم ولدان مخلدون
* بأكواب وأباريق) * إلى قوله تعالى: * (وفاكهة مما يتخيرون) *؟ فدل ذلك على أن الولدان هم الذين يأتون بالفاكهة، والضمير في قوله تعالى: به، عائد على الرزق، أي: وأتوا بالرزق الذي هو من الثمار، كما أن هذا إشارة إليه. قال الزمخشري: قال قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: وأتوا به؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة، لأن قوله: * (هاذا الذى رزقنا من قبل) * انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين، انتهى كلامه. أي لما كان التقدير هذا مثل الذي رزقناه كان قد انطوى على المرزوقين معا. ألا ترى أنك إذا قيل: زيد مثل حاتم، كان منطويا على ذكر زيد وحاتم؟ وما ذكره الزمخشري غير ظاهر الآية، لأن ظاهر الكلام يقتضي أن يكون الضمير عائدا على مرزوقهم في الآخرة فقط، لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل، مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين أن لا يعود الضمير إلا إلى المرزوق في الجنة، كأنه قال: وأتوا بالمرزوق في الجنة متشابها، ولا سيما إذا أعربت الجملة حالا، إذ يصير التقدير قالوا: هذا مثل الذي رزقنا من قبل. وقد أتوا به
258

متشابها، أي قالوا ذلك في هذه الحال، وكان الحامل على القول المذكور كونه أتوا به متشابها. ومجئ الجملة المصدرة بماض حالا ومعها الواو على إضمار قد جائز في فصيح الكلام.
قال تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * أي وقد كنتم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا، أي وقد قعدوا. وقال الذي نجا منهما: * (وادكر بعد أمة) * أي وقد ادكر إلى غير ذلك مما خرج على أنه حال، وكذلك أيضا لا يستقيم عوده إلى المرزوق في الدارين إذا كانت الجملة معطوفة على قوله تعالى: * (قالوا هاذا الذى رزقنا من قبل) * لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضيا معنى لازما في حيز كلما، والعامل فيها يتعين هنا أن يكون مستقبل المعنى، وإن كان ماضي اللفظ لأنها لا تخلو من معنى الشرط. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة تضمنت الإخبار عن الإتيان بهذا الذي رزقوه متشابها. وقول الزمخشري في عود الضمير إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لا يظهر أيضا، لأن هذه الجمل إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها، وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه، ليس من حديث الجنة إلا بتكلف. فالظاهر ما ذكرناه أولا من عود الضمير إلى الذي أشير إليه بهذا فقط، وانتصب متشابها على الحال من الضمير في به، وهي حال لازمة، لأن التشابه ثابت له، أتوا به أو لم يؤتوا به، والتشابه قيل: في الجودة والخيار، فإن فواكه الجنة ليس فيها رديء، قاله قتادة، وذلك كقوله تعالى: * (كتابا متشابها) *، قال ابن عطية: كأنه يريد متناسبا في أن كل صنف هو أعلى جنسه، فهذا تشابه ما أو في اللون، وهو مختلف في الطعم، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد، أو في الطعم واللذة والشهوة، وإن اختلفت ألوانه، أو متشابه بثمر الدنيا في الاسم مختلف في اللون والرائحة والطعم، أو متشابه بثمر الدنيا في الصورة لا في القدر والطعم، قاله عكرمة وغيره. وروى ابن المبارك حديثا يرفعه. قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم): إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم.
أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله، ذكر الله في الجنة شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة مؤذية تؤذي صاحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (ما هي؟) قال: السدرة، فإن لها شوكا مؤذيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أليس يقول في سدر مخضود، خضد الله، الشوك، فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمرا يفتق من الثمرة منها على اثنين وسبعين لونا طعاما ما فيه لون يشبه الآخر؟) واختار الزمخشري أن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا، وأطلق القول في كونه كان مشابها لثمر الدنيا، ولم يكن أجناسا أخر.
وملخص ما ذكر أن الإنسان يأنس بالمألوف، وإذا رأى غير المألوف نفر عنه طبعه، وإذا ظفر بشيء مما ألفه وظهر له فيه مزية، وتفاوت في الجنس، سر به واغتبط بحصوله. ثم ذكر ما ورد في مقدار الرمانة والنبقة والشجرة وكيفية نخل الجنة والعنقود والأنهار ما يوقف عليه في كتابه. وليس في الآية ما يدل على ما اختاره الزمخشري. والأظهر أن يكون المعنى ثبوت التشابه له، ولم يقيد التشابه بل أطلق، فتقييده يحتاج إلى دليل. ولما كانت مجامع اللذات في المسكن البهي والمطعم الشهي والمنكح الوضي، ذكرها الله تعالى فيما يبشر به المؤمنون. وقد بدأ بالمسكن لأن به الاستقرار في دار المقام، وثنى بالمطعم لأن به قوام الأجسام، ثم ذكر ثالثا الأزواج لأن بها تمام الالتئام، فقال تعالى
259

* (ولهم فيها أزواج) * والأولى أن تكون هذه الجملة مستأنفة. كما اخترنا في قوله: * (كلما رزقوا) * لأن جعلها استئنافا يكون في ذلك اعتناء بالجملة، إذ سيقت كلاما تاما لا يحتاج إلى ارتباط صناعي، ومن جعلها صفة فقد سلك بها مسلك غير ما هو أصل للحمل. وارتفاع أزواج على الابتداء، وكونه لم يشرك في العامل في جنات يدل على ما قلناه من الاستئناف أيضا، وخبر أزواج في المجرور الذي هو لهم وفيها متعلق بالعامل في لهم الذي هو خبر. والأزواج من جموع القلة، لأن زوجا جمع على زوجة نحو: عود وعودة، وهو من جموع الكثرة، لكنه ليس في الكثير من الكلام مستعملا، فلذلك استغنى عنه بجمع القلة توسعا وتجوزا. وقد ورد في الحديث الصحيح ما يدل على كثرة الأزواج من الحور وغيرهم. وأريد هنا بالأزواج: القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره. ومطهرة: صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرأ زيد بن علي: مطهرات، فجمع بالألف والتاء على طهرن. قال الزمخشري: هما لغتان فصيحتان، يقال: النساء فعلن، وهن فاعلات، والنساء فعلت، وهي فاعلة، ومنه بيت الحماسة:
* وإذا العذارى بالدخان تقنت
*
واستعجلت نصب القدور فملت
*
والمعنى: وجماعة أزواج مطهرة، انتهى كلامه.
وفيه تعقب أن اللغة الواحدة أولى من الأخرى، وذلك أن جمع ما لا يعقل، إما أن يكون جمع قلة، أو جمع كثرة إن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات، وإن كان جمع قلة فالعكس، نحو: الأجذاع انكسرن، ويجوز انكسرت، وكذلك إذا كان ضميرا عائدا على جمع العاقلات الأولى فيه النون من التاء، فإذا بلغن أحلهن، والوالدات يرضعن، ولم يفرقوا في ذلك بين جمع القلة والكثرة كما فرقوا في جمع ما لا يعقل. فعلى هذا الذي تقرر تكون قراءة زيد الأولى إذ جاءت في الظاهر على ما هو أولى. ومجئ هذه الصفة مبنية للمفعول، ولم تأت ظاهرة أو ظاهرات، أفخم لأنه أفهم أن لها مطهرا وليس إلا الله تعالى. وقراءة عبيد بن عمير مطهرة، وأصله متطهرة، فأدغم. وفي كلام بعض العرب ما أحوجني إلى بيت الله فأطهر به أطهرة، أي: فأتطهر به تطهرة، وهذه القراءة مناسبة لقراءة الجمهور، لأن الفعل مما يحتمل أن يكون مطاوعا نحو: طهرته فتطهر، أي أن الله تعالى طهرهن فتطهرن. وهذه الأزواج التي وصفها الله بالتطهير إن كن من الحور العين، كما روي عن عبد الله. فمعنى التطهير: خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي وإن كن من بني آدم، كما روي عن الحسن: عن عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب، فقيل: مطهرة من العيوب الذاتية وغير الذاتية، وقيل: مطهرة من الأخلاق السيئة والطبائع الرديئة، كالغضب والحدة والحقد والكيد المكر، وما يجري مجرى ذلك، وقيل: مطهرة من الفواحش والخنا والتطلع إلى غير أزواجهن، وقيل: مطهرة من الأدناس الذاتية، مثل الحيض والنفاس والجنابة والبول والتغوط وغير ذلك من المقادير الحادثة عن الأعراض المنقبلة إلى فساد: كالبخر والذفر والصنان والقيح والصديد، أو إلى غير فساد: كالدمع والعرق والبصاق والنخامة. وقيل: مطهرة من مساوىء
260

الأخلاق، لا طمحات ولا مرجات ولا يغرن ولا يعزن. وقال النخعي: الولد. وقال يمان: من الإثم والأذى، وكل هذه الأقوال لا يدل على تعيينها قوله تعالى: * (مطهرة) * لكن ظاهر اللفظ يقتضي أنهن مطهرات من كل ما يشين، لأن من طهره الله تعالى ووصفه بالتطهير كان في غاية النظافة والوضاءة. ولما ذكر تعالى مسكن المؤمنين ومطعهمهم ومنحكهم، وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع توقع خوف الزوال، ولذلك قيل:
* أشد الغم عندي في سرور
*
تيقن عنه صاحبه ارتحالا
*
أعقب ذلك تعالى بما يزيل تنغيص التنعم بذكر الخلود في دار النعيم، فقال تعالى: * (وهم فيها خالدون) *. وقد تقدم ذكر الخلاف في الخلود، وأن المعتزلة تذهب إلى أنه البقاء الدائم الذي لا ينقطع أبدا، وأن غيرهم يذهب إلى أنه البقاء الطويل، انقطع أو لم ينقطع، وأن كون نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار سرمدي لا ينقطع، ليس مستفادا من لفظ الخلود بل من آيات من القرآن وأحاديث صحاح من السنة، قال تعالى: * (خالدين فيها أبدا) *، وقال تعالى: * (وما هم منها بمخرجين) *. وفي الحديث: (يا أهل الجنة خلود بلا موت). وفي حديث أخرجه مسلم في وصف أهل الجنة: (وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا). إلى غير ذلك من الآي والأحاديث.
2 (* (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهاذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الا رض أولئك هم الخاسرون * كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون * هو الذى خلق لكم ما فى الا رض جميعا ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شىء عليم) *)) 2
* (إن الله لا * يستحى * إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) *، الحياء: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم، ومحله الوجه، ومنبعه من القلب، واشتقاقه من
261

الحياة، وضده: القحة، والحياء، والاستحياء، والانخزال، والانقماع، والانقلاع، متقاربة المعنى، فتنوب كل واحدة منها مناب الأخرى. أن: حرف ثنائي الوضع ينسبك منه مع الفعل الذي يليه مصدر، وعمله في المضارع النصب، إن كان معربا، والجزم بها لغة لبني صباح، وتوصل أيضا بالماضي المتصرف، وذكروا أنها توصل بالأمر، وإذا نصبت المضارع فلا يجوز الفصل بينهما بشيء. وأجاز بعضهم الفصل بالظرف، وأجاز الكوفيون الفصل بينها وبين معمولها بالشرط. وأجازوا أيضا إلغاءها وتسليط الشرط على ما كان يكون معمولا لها لولاه، وأجاز الفراء تقديم معمول معمولها عليها، ومنعه الجمهور. وأحكام أن الموصولة كثيرة، ويكون أيضا حرف تفسير خلافا للكوفيين، إذ زعموا أنها لا تأتي تفسيرا، وسيأتي الكلام على التفسيرية عند قوله تعالى: * (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى) *، إن شاء الله تعالى. وتكون أن أيضا زائدة وتطرد زيادتها بعد لما، ولا تفيد إذ ذاك غير التوكيد، خلافا لمن زاد على ذلك أنها تفيد اتصال الفعل الواقع جوابا بالفعل الذي زيدت قبله، وبعد القسم قبل لو والجواب خلافا لمن زعم أنها إذ ذاك رابطة لجملة القسم بالمقسم عليه إذا كان لو والجواب، ولا تكون أن للمجازاة خلافا للكوفيين، ولا بمعنى إن المكسورة المخففة من الثقيلة خلافا للفارسي، ولا للنفي، ولا بمعنى إذ، ولا بمعنى لئلا خلافا لزاعمي ذلك. وأما أن المخففة من الثقيلة فحرف ثلاثي الوضع، وسيأتي الكلام عليه عند أول ما يذكر، إن شاء الله تعالى. والضرب: إمساس جسم بجسم بعنف ويكنى به عن السفر في الأرض ويكون بمعنى الصنع والاعتمال.
وروى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم) خاتما من ذهب.
والبعوضة: واحد البعوض، وهي طائر صغير جدا معروف، وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع فغلبت، واشتقاقه من البغض بمعنى القطع. أما: حرف، وفيه معنى الشرط، وبعضهم يعبر عنها بحرف تفصيل، وبعضهم بحرف إخبار، وإبدل بنو تميم الميم الأولى ياء فقالوا: أيما. وقال سيبويه في تفسير أما: أن المعنى مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، والذي يليها مبتدأ وخبر وتلزم الفاء فيما ولي الجزاء الذي وليها، إلا إن كانت الجملة دعاء فالفاء فيما يليها ولا يفصل بغيرها من الجمل بينها وبين الفاء، وإذا فصل بها فلا بد من الفصل بينها وبين الجملة بمعمول يلي أما، ولا يجوز أن يفصل بين أما وبين الفاء بمعمول خبر أن وفاقا لسيبويه وأبي عثمان، وخلافا للمبرود وابن درستويه، ولا بمعمول خبر ليت ولعل خلافا للفراء. ومسألة أما علما، فعالم لزم أهل الحجاز فيه النصب وتختاره تميم، وتوجيه هاتين المسألتين مذكور في النحو. الحق: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. حق الأمر ثبت ووجب ومنه: * (حقت كلمة ربك) *، والباطل مقابله، وهو المضمحل الزائل، ماذا: الأصل في ذا أنها اسم إشارة، فمتى أريد موضوعها الأصلي كانت ماذا جملة مستقلة، وتكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء وذا خبره. وقد استعملت العرب ماذا ثلاثة استعمالات غير الذي ذكرناه أولا: أحدها: أن تكون ما استفهاما وذا موصولا بدليل وقوع الاسم جوابا لها مرفوعا في الفصيح، وبدليل رفع البدل قال الشاعر:
* ألا تسألان المرء ماذا يحاول
*
262

أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
*
الثاني: أن تكون ماذا كلها استفهاما، وهذا الوجه هو الذي يقول بعض النحويين فيه: إن ذا لغو ولا يريد بذلك الزيادة بل المعنى أنها ركبت مع ما وصارت كلها استفهاما، ويدل على هذا الوصف وقوع الاسم جوابا لها منصوبا في الفصيح، وقول العرب: عماذا تسأل بإثبات ألف ما، وقول الشاعر:
* يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم
*
لا يستفقن إلى الديرين تحنانا
*
ولا يصح موصولية ذاهنا، الثالث: أن تكونما مع ذا اسما موصولا، وهو قليل، قال الشاعر:
* دعي ماذا علمت سأتقيه
*
ولكن بالمغيب نبئيني
*
فعلى هذا الوجه والأول يكون الفعل بعدها صلة لا موضع له من الإعراب ولا يتسلط على ماذا: وعلى الوجه الثاني يتسلط على ماذا إن كان مما يمكن أن يتسلط. وأجاز الفارسي أن تكون ماذا نكرة موصوفة وجعل منه: دعى ماذا علمت. الإرادة: طلب نفسك الشيء وميل قلبك إليه، وهي نقيض الكرهة، ويأتي الكلام عليها مضافة إلى الله تعالى، إن شاء الله. الفسوق: الخروج، فسقت الرطبة: خرجت، والفاسق شرعا: الخارج عن الحق، ومضارعه جاء على يفعل ويفعل. النقض: فك تركيب الشيء ورده إلى ما كان عليه أولا، فنقض البناء هدمه، ونقض المبرم حله. والعهد: الموثق، وعهد إليه في كذا: أوصاه به ووثقه عليه. والعهد في لسان العرب على ستة محامل: الوصية، والضمان، والأمر، والالتقاء، والرؤية، والمنزل. والميثاق: العهد المؤكد باليمين. والميثاق والتوثقة: كالميعاد بمعنى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة. الخسار: النقصان أو الهلاك، كيف: اسم، ودخول حرف الجر عليها شاذ، وأكثر ما تستعمل استفهاما، والشرط بها قليل، والجزم بها غير مسموع من العرب، فلا نجيزه قياسا، خلافا للكوفيين وقطرب، وقد ذكر خلاف فيها: أهي ظرف أم اسم غير طرف؟ والأول عزوه إلى سيبويه، والثاني إلى الأخفش والسيرافي، والبدل منها والجواب إذا كانت مع فعل مستغن منصوبان، ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ، ومنصوب إن كان ناسخا. أمواتا: جمع ميت، وهو أيضا جمع ميتة، وجمعهما على أفعال شذوذ، والقياس في فيعل إذا كسر فعائل. الاستواء: الاعتدال والاستقامة، استوى العود وغيره: إذا استقام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء، والتسوية: التقويم والتعديل.
* (إن الله لا * خالدون * إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) *، الآيات. قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومقاتل، والفراء: نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت، والذباب، والتراب، والحجارة، وغير ذلك مما يستحقر ويطرح. قالوا: إن الله أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه
263

المحقرات، فرد الله عليهم بهذه الآية. وقال الحسن، ومجاهد، والسدي، وغيرهم: نزلت في المنافقين، قالوا: لما ضرب الله تعالى المثل بالمستوقد والصيب قالوا: الله أعلى وأعظم أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال بها، فرد الله عليهم بهذه الآية، وقيل نزلت في المشركين، والكل محتمل، إذ اشتملت على نقض العهد
، وهو من صفة اليهود، لأن الخطاب بوفاء العهد إنما هو لبني إسرائيل، وعلى الكافرين * (والذين في قلوبهم مرض) *، وهم المشركون والمنافقون، وكلهم كانوا في إيذائه صلى الله عليه وسلم) متوافقين. وقد نص من أول السورة إلى هنا ذكر ثلاث طوائف، وكلهم من الذين كفروا، قاله القفال، قال: ويجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب. وقال الربيع بن أنس: هذا مثل ضربه الله تعالى للدنيا وأهلها، وأن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا شبعت وامتلأت ماتت. كذلك مثل أهل الدنيا إذا امتلؤوا منها كان سببا لهلاكهم، وقيل: ضرب ذلك تعالى مثلا لأعمال العباد أنه لا يمتنع أن يذكر ما قل منها أو كثر ليجازي عليها ثوابا أو عقابا، والأظهر في سبب النزول القولان الأولان. ومناسبة هذه الآية ظاهرة، إذ قد جرى قبل ذكر المثل بالمستوقد والصيب، ونزل التمثيل بالعنكبوت والذباب، فأنكر ذلك الجهلة وأهل العناد، واستغربوا ما ليس بمستغرب ولا منكر، إذ التمثيل يكشف المعنى ويوضح المطلوب. وقد تقدم الكلام في فائدته عند قوله تعالى: * (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا) *، والعاقل إذا سمع التمثيل استبان له به الحق، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور والأجناس والحشرات والهوام، ولسان العرب ملآن من ذلك، ألا ترى إلى قول الشاعر:
* وإني لألقى من ذوي الضغن منهم
*
وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره
كما لقيت ذات الصفا من حليفهاوما انفكت الأمثال في الناس سائره
*
فذكر قصة ذات الصفا، وهي حية كانت قد قتلت قرابة حليفها، فتواثقا بالله على أنها تدي ذلك القتيل ولا تؤذيها، إلى آخر القصة المذكورة في ذلك الشعر. والأمثال مضروبة في الإنجيل بالأشياء الحقيرة كالنخالة والدود والزنابير. وكذلك أيضا قرأت أمثالا في الزبور. فإنكار ضرب الأمثال جهالة مفرطة أو مكابرة واضحة، ومساق هذه الجملة مصدرة بأن يدل على التوكيد.
وقرأ الجمهور: يستحيي بياءين، والماضي: استحيا، وهي لغة أهل الحجاز، واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد: كاستنكف، واستأثر، واستبد، واستعبر، وهو من المعاني التي جاء لها استفعل. وقد تقدم ذكرها عند قوله: * (وإياك نستعين) *، وهذا هنا من الحياء. وفي كلام الزمخشري ما يدل على أن استحيا ليس مغنيا عن المجرد بل هو موافق للمجرد، وهو أحد المعاني أيضا الذي جاء لها استفعل. قال الزمخشري: يقال حيي الرجل كما يقال: نسي وخشي وشظي الفرس، إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعبر به عن الانكسار، والتغير منكسر القوة منتقض الحياة، كما قالوا: فلان هلك حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلال في وجهه من شدة الحياء، وذاب حياء، وجمد في مكانه خجلا، انتهى كلامه. فظاهره أنه يقال: من الحياء حيي الرجل، فيكون استحيا على ذلك موافقا للمجرد، وعلى ما نقلناه قبل يكون مغنيا عن المجرد. وقرأ ابن كثير في رواية شبل، وابن محيصن، ويعقوب: يستحي بياء واحدة، وهي لغة بني تميم، يجرونها مجرى يستبي. قال الشاعر:
264

* ألا تستحي منا ملوك وتتقي
*
محارمنا لا يبوء الدم بالدم
*
والماضي: استحى، قال الشاعر:
* إذا ما استحين الماء يعرض نفسه
*
كرعن بسيت في إناء من الورد
*
واختلف النحاة في المحذوفة، فقيل لام الكلمة، فالوزن يستفع، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين فصارت يستفع. وقيل المحذوف العين، فالوزن يستيفل ثم نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام فصارت يستفل. وأكثر نصوص الأئمة على أن المحذوف هو العين.
وقد تكلمنا على هذه المسألة في (كتاب التكميل لشرح التسهيل) من تأليفنا، وليس هذا الحذف مختصا بالماضي والمضارع، بل يكون أيضا في سائر التصرفات، كاسم الفاعل، واسم المفعول، وغير ذلك. وهذا الفعل مما نقلوا أنه يكون متعديا بنفسه، ويكون متعديا بحرف جر، يقال: استحييته واستحييت منه. فعلى هذا يحتمل * (أن يضرب) * أن يكون مفعولا به على أن يكون الفعل تعدى إليه بنفسه، أو تعدى إليه على إسقاط حرف الجر. وفي ذلك الخلاف الذي ذكرناه في قوله تعالى: * (أن لهم جنات) *، أذلك في موضع نصب بعد حذف حرف الجر أم في موضع جر؟.
واختلف المفسرون في معنى الاستحياء المنسوب إلى الله تعالى نفيه، فقيل: المعنى لا يترك، فعبر بالحياء عن الترك، قاله الزمخشري وغيره، لأن الترك من ثمرات
الحياء، لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء تركه، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب. وقيل: المعنى لا يخشى، وسميت الخشية حياء لأنها من ثمراته، ورجحه الطبري. وقد قيل في قوله تعالى: * (وتخشى الناس) *، أن معناه تستحي من الناس. وقيل: المعنى لا يمتنع. وكل هذه الأقوال متقاربة من حيث المعنى، يجوز أن يوصف الله تعالى بها، وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء التي موضوعها في اللغة لا ينبغي أن يوصف الله تعالى به، وقيل: ينبغي أن تمر على ما جاءت، ونؤمن بها ولا نتأولها ونكل علمها إليه تعالى، لأن صفاته تعالى لا يطلع على ماهيتها الخلق. والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب، وفيه الحقيقة والمجاز، فما صح في العقل نسبته إليه نسبناه إليه، وما استحال أولناه بما يليق به تعالى، كما نؤول فيما ينسب إلى غيره مما لا يصح نسبته إليه، والحياء بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى، فلذلك أوله أهل العلم، وقد جاء منسوبا إلى الله مثبتا فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا)، وأول بأن هذا جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد من عطائه لكرمه بترك من ترك رد المحتاج إليه حياء منه، وقد يجوز أيضا في الاستحياء، فنسب إلى ما لا يصح منه بحال، كالبيت الذي أنشدناه قبل وهو:
265

إذا ما استحين الماء يعرض نفسه
قال أبو التمام:
* هو الليث ليث الغاب بأسا ونجدة
*
وإن كان أحيا منه وجها وأكرما
*
ويجوز أن يكون قوله تعالى: * (لا يستحى) * على سبيل المقابلة، لأنه روي أن الكفار قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ومجئ الشيء على سبيل المقابلة، وإن لم يكن من جنس ما قوبل به، شائع في لسان العرب، ومنه: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *، وجاء ذكر الاستحياء منفيا عن الله تعالى، وإن كان إثباته بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى، فكل أمر مستحيل على الله تعالى إثباته، يصح أن ينفي عن الله تعالى، وبذلك نزل القرآن وجاءت السنة. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) *، * (لم يلد ولم يولد) * * (ما اتخذ الله من ولد) *، * (وهو يطعم ولا يطعم) *؟ ونقول: الله تعالى ليس بجسم. فالإخبار بانتفاء هذه الأشياء هو الصدق المحض، وليس انتفاء الشيء مما يدل على تجويزه على من نفي عنه، ولا صحة نسبته إليه، كما ذهب إليه أبو بكر بن الطيب وغيره. زعم أن ما لا يجوز على الله إثباتا يجب أن لا يطلق على طريق النفي، قال: فيما ورد من ذلك هو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة، وكثرة ذلك، أعني نفي الشيء عما لا يصح إثباته، له كثير في القرآن ولسان العرب، بحيث لا يحصر ما ورد من ذلك. ويضرب: قيل معناه: يبين، وقيل: يذكر، وقيل: يضع، من ضربت عليهم الذلة، وضرب البعث على بني فلان، ويكون يضرب قد تعدى إلى واحد، وقيل يضرب: في معنى يجعل ويصير، كما تقول: ضربت الطين لبنا، وضربت الفضة خاتما. فعلى هذا يتعدى لاثنين، والأصح أن ضرب لا يكون من باب ظن وأخواتها، فيتعدى إلى اثنين، وبطلان هذا المذهب مذكور في كتب النحو. وما: إذا نصبت بعوضة زائدة للتأكيد أو صفة للمثل تزيد النكرة شياعا، كما تقول: ائتني برجل ما، أي: أي رجل كان. وأجاز الفراء، وثعلب، والزجاج: أن تكون ما نكرة، وينتصب بدلا من قوله: مثلا. وقرأ الجمهور: بنصب بعوضة. واختلف في توجيه النصب على وجوه:
أحدها: أن تكون صفة لما، إذا جعلنا ما بدلا من مثل، ومثلا مفعول بيضرب، وتكون ما إذ ذاك قد وصفت باسم الجنس المتنكر لإبهام ما، وهو قول الفراء. الثاني: أن تكون بعوضة عطف بيان، ومثلا مفعول بيضرب. الثالث: أن تكون بدلا من مثل. الرابع: أن يكون مفعولا ليضرب، وانتصب مثلا حالا من النكرة مقدمة عليها. والخامس: أن تكون مفعولا ليضرب ثانيا، والأول هو المثل على أن يضرب يتعدى إلى اثنين. والسادس: أن تكون مفعولا أول ليضرب، ومثلا المفعول الثاني.
266

والسابع: أن تكون منصوبا على تقدير إسقاط الجار، والمعنى * (أن يضرب مثلا) * ما بين * (بعوضة فما فوقها) *، وحكوا له عشرون ما ناقة فجملا، ونسبه ابن عطية لبعض الكوفيين، ونسبه المهدوي للكوفيين، ونسبه غيرهما للكسائي والفراء، ويكون: مثلا مفعولا بيضرب على هذا الوجه، وأنكر هذا النصب، أعني نصب بعوضة على هذا الوجه، أبو العباس. وتحرير نقل هذا المذهب: أن الكوفيين يزعمون أن ما تكون جزاء في الأصل وتحول إلى لفظ الذي، فينتصب ما بعدها، سواء كان نكرة أم غير نكرة، ويعطف عليه بالفاء فقط، وتلزم ولا يصلح مكانها الواو، ولا ثم، ولا أو، ولا لاو، ويجعلون النصب في ذلك الاسم على حذف مضاف، وهو بين. فلما حذف بين، قام هذا مقامه في الإعراب. ويقدرون الفاء بإلى، وقد جاء التصريح بها في بعض المواضع. حكى الكسائي عن العرب: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وما منصوبة بمطرنا. وحكى الكسائي والفراء عن العرب: هي أحسن الناس ما قرنا، وانتصاب ما في هذه المسألة على التفسير، وتقول: هي حسنة ما قرنها إلى قدمها. قال الفراء: أنشدنا أعرابي من بني سليم:
* يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم
*
ولا حبال محب واصل تصل
*
وقال الكسائي: سمعت أعرابيا نظر إلى الهلال فقال: الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك، وحكى الفراء عن العرب: الشنق ما خما فعشرين. والمعنى فيما تقدم ما بين كذا إلى كذا، وما في هذا المعنى لا تسقط، فخطأ أن يقول: مطرنا زبالة فالثعلبية. وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون لا يعرفه البصريون، ورده إلى قواعد البصريين مذكور في غير هذا، والذي نختاره من هذه الأعاريب أن ضرب يتعدى إلى اثنين هو الصحيح، وذلك لواحد هو مثلا لقوله تعالى: ضرب مثل، ولأنه المقدم في التركيب، وصالح لأن ينتصب بيضرب. وما: صفة تزيد النكرة شياعا، لأن زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس. وبعوضة: بدل لأن عطف البيان مذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات، إنما ذهب إلى ذلك الفارسي، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس. وقرأ الضحاك، وإبراهيم بن أبي عبلة، ورؤبة بن العجاج، وقطرب: بعوضة بالرفع، واتفق المعربون على أنه خبر، ولكن اختلفوا فيما يكون عنه خبرا، فقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو بعوضة، وفي هذا وجهان: أحدهما: أن هذه الجملة صلة لما، وما موصولة بمعنى الذي، وحذف هذا العائد وهذا الإعراب لا يصح إلا على مذهب الكوفيين، حيث لم يشترطوا في جواز حذف هذا الضمير طول الصلة. وأما البصريون فإنهم اشترطوا ذلك فير غير أي من الموصولات، وعلى مذهبهم تكون هذه القراءة على هذا التخريج شاذة، ويكون إعراب ما على هذا التخريج بدلا، التقدير: مثلا الذي هو بعوضة. والوجه الثاني: أن تكون ما زائدة أو صفة وهو بعوضة وما بعده جملة، كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق، وقيل: خبر مبتدأ ملفوظ به وهو ما، على أن تكون استفهامية.
قال الزمخشري، لما استنكفوا من تمثيل الله لأصنامهم بالمحقرات قال: إن الله لا يستحي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقرة بله فما فوقها، كما يقال، فلأن لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران، والمختار الوجه الثاني لسهولة تخريجه، لأن الوجه الأول لا يجوز فصيحا على مذهب البصريين، والثاني فيه غرابة واستبعاد عن معنى الاستفهام، وما من قوله: فما معطوفة على قوله بعوضة إن نصبنا لما موصولة وصلتها الظرف،
267

أو موصوفة وصفتها الظرف، والموصوفة أرجح. وإن رفعنا بعوضة، وكانت ما موصولة فعطف ما الثانية عليها أو استفهاما، فذلك من عطف الجمل، أو كانت البعوضة خبرا لهو محذوفة، وما زائدة، أو صفة فعطف على البعوضة، إما موصولة أو موصوفة، وما فوقها الظاهر أنه يعني في الحجم كالذباب والعنكبوت، قاله ابن عباس: ويكون ذكر البعوضة تنبيها على الصغر، وما فوقها تنبيها على الكبر، وبه قال أيضا قتادة، وابن جريج، وقيل: المعنى فما فوقها في الصغر، أي وما يزيد عليها في الصغر، كما تقول: فلان أنذل الناس، فيقال لك: هو فوق ذلك، أي أبلغ وأعرق في النذالة، قاله أبو عبيدة، والكسائي.
وقال ابن قتيبة: فوق من الأضداد ينطلق على الأكثر والأقل، فعلى قول من قال بأن اللفظ المشترك يحمل على معانيه، يكون دلالة على ما هو أصغر من البعوضة وما هو أكبر. وقيل: أراد ما فوقها وما دونها، فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر لدلالة المعنى عليها، كما اكتفى في قوله: * (سرابيل تقيكم الحر) * عن قوله: والبرد، ورجح القول بالفوقية في الصغر بأن المقصود من التمثيل تحقير الأوثان، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود من هذا الباب أكمل، وبأن الغرض هنا أن الله لا يمتنع عن التمثيل بالشيء الحقير، وبأن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب. فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله سبحانه، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالكبير، والذي نختاره القول الأول لجريان فوق على مشهور ما استقر فيها في اللغة، وفي المعنى الذي أسند الله إليه عدم الاستحياء من أجله في ضرب المثل بهذه المصغرات والمستضعفات وجوه: أحدها: أن البعوضة قد أوجدها على الغاية القصوى من الإحكام وحسن التأليف والنظام، وأظهر فيها، مع صغر حجمها، من بدائع الحكمة كمثل ما أظهره في الفيل الذي هو في غاية الكبر وعظم الخلقة. وإذا كل واحد منهما قد استوفى نصاب حسن الصنعة وبدائع التأليف والصنعة، فضرب المثل بالصغير والكبير سيان عنده إذا كانا في توفية الحكمة سواء. الثاني: أن البعوضة لما كانت من أصغر ما خلق الله تعالى خصها بالذكر في القلة، فلا يستحي أن يضرب المثل في الشيء الكبير بالكبير والحقير بالحقير، وله المثل الأعلى في ضرب الأمثال. الثالث: أن في البعوضة، مع صغر حجمها وضعف بنيانها، من حسن التأليف ودقيق الصنع، من اختصار الخصر ودقة الخرطوم ولطيف تكوين الأعضاء ولين البشرة، ما يعجز أن يحاط بوصفه، وهي مع ذلك تبضع بشوكة خرطومها، مع لينها، جلد الجاموس والفيل، وتهتدي إلى مراق البشرة بغير دليل، فلا يستحي الله تعالى أن يضرب بها المثل، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يخلق مثلها ولا أقل منها، كما قال تعالى: * (لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) *. الرابع: أن المثل بالذباب والبعوض والعنكبوت، وما يجري مجراه، أتى به تعالى في غاية ما يكون من التمثيل، وأحسن ما يكون من التشبيه، لأن الذي جعلها مثلا لهم في غاية ما يكون من الحقارة، وضعف القوة، وخسة الذات والفعل، فلو شبههم بغير ذلك ما حسن موقع التشبيه، ولا عذب مذاق التمثيل، إذ الشيء لا يشبه إلا بما يماثله ويشاكله، ومن أتى بالشيء على وجهه فلا يستحيا منه. وتصدير الجملتين بأما التي معناها الشرط مشعر بالتوكيد، إذ هي أبلغ من: فالذين آمنوا يعلمون، والذين كفروا يقولون، إذ قد تقرر أن ما برز في حيز أما من الخبر كان واقعا لا محالة، وما مفيد ذلك ومثيره إلا ترتب الحكم على معنى الشرط، والضمير في أنه عائد على المثل، وقيل: هو عائد على المصدر المفهوم من يضرب كأنه قال: فيعلمون أن ضرب المثل. وقيل: هو عائد على المصدر المفهوم من لا يستحي، أن فيعلمون أن انتفاء الاستحياء من ذكر الحق، والأظهر الأول لدلالة قوله تعالى: * (ماذا أراد الله بهاذا مثلا) * فميز الله تعالى المشار إليه هنا بالمثل. والتقسيم ورد على شيء واحد، فظهر أنه عائد على المثل، وأخبر عن المؤمنين بالعلم لأنه الجزم المطابق
268

لدليل، وأخبر عن الكافرين بالقول، وهو اللفظ الجاري على اللسان، وجعل متعلقه الجملة الاستفهامية الشاملة للاستغراق والاستبعاد والاستهزاء، وهي قوله: * (ماذا أراد الله) *.
وقد تقدم الكلام على أقسام ماذا، وهي ههنا تحتمل وجهين من تلك الأقسام. أحدهما: أن تكون ما استفهاما في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي خبر عن ما.
وأراد صلة لذا الموصولة والعائد محذوف، إذ فيه شروط جواز الحذف، والتقدير ما الذي أراده الله. والثاني: أن تكون ماذا كلها استفهاما، وتركيب ذا مع ما، وتكون مفعولا بإرادة التقدير، أي شيء أراده الله، وهذان الوجهان فصيحان. قال ابن عطية: واختلف النحويون في ماذا فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله، وقيل: ما اسم وذا اسم آخر بمعنى الذي، فما في موضع رفع بالابتداء وذا خبر. انتهى كلام ابن عطية، وظاهره اختلاف النحويين في ماذا هنا وليس كذلك، إذ هما وجهان سائغان فصيحان في لسان العرب وليست مسألة خلاف عند النحويين، بل كل من شدا طرفا من علم النحو يجوز هذين الوجهين في ماذا هنا، وكذا كل من وقفنا على كلامه من المفسرين والمعربين ذكروا الوجهين في ماذا هنا. والإرادة بالتفسير اللغوي، وهي ميل القلب إلى الشيء، يستحيل نسبتها إلى الله تعالى. قال بعض المفسرين: الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته ولذته وألمه. وقال المتكلمون: إنها صفة تقتضي رجحان طرفي الجائز على الآخر في الإيقاع، لا في الوقوع، واحترز بهذا القيد الأخير من القدرة. وأهل السنة يعتقدون أن الله مريد بإرادة واحدة أزلية موجودة بذاته، والقدرية المعتزلة والنجارية والجهمية وبعض الرافضة نفوا الصفات التي أثبتها أهل السنة، والبهشمية والبصريون من المعتزلة يقولون بحدوث إرادة الله تعالى لا في محل، والكرامية تقول بحدوثها فيه تعالى، وإنها إرادات كثيرة، وأكثرهم زعموا مع القول بالحدوث أنه يستحيل فيها العدم، ومنهم من قال يجوز عدمها، وهذه المسألة يبحث فيها في أصول الدين. وانتصاب مثلا على التمييز عند البصريين، أي من مثل، وأجاز بعضهم نصبه على الحال من اسم الإشارة، أي متمثلا به، والعامل فيه اسم الإشارة، وهو كقولك: لمن حمل سلاحا رديئا، ماذا أردت بهذا سلاحا، فنصبه من وجهين: التمييز والحال من اسم الإشارة. وأجاز بعضهم أن يكون حالا من الله تعالى، أي متمثلا. وأجاز الكوفيون أن يكون منصوبا على القطع، ومعنى هذا أنه كان يجوز أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله، فإذا لم تتبعه في الإعراب وقطعته عنه نصب على القطع، وجعلوا من ذلك.
وعالين قنوانا من البسر أحمرا
فأحمر عندهم من صفات البسر، إلا أنه لما قطعته عن إعرابه نصبته على القطع وكان أصله من البسر الأحمر، كذلك قالوا: ما أراد الله بهذا المثل. فلما لم يجر على إعراب هذا، انتصب مثلا على القطع، وإذا قلت: عبد الله في الحمام عريانا، ويجيء زيد راكبا، فهذا ونحوه منصوب على القطع عند الكسائي. وفرق الفراء فزعم أن ما كان فيما قبله دليل عليه فهو المنصوب على القطع، ومالا فمنصوب على الحال، وهذا كله عند البصريين منصوب على الحال، ولم يثبت البصريون النصب على القطع. والاستدلال على بطلان ما ذهب إليه الكوفيون مذكور في مبسوطات النحور، المختار انتصاب مثل على التمييز، وجاء على معنى التوكيد لأنه من حيث أشير إليه علم أنه مثل، فجاء التمييز بعده مؤكدا للاسم الذي أشير إليه.
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) *: جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بإما، ووصف تعالى العالمين بأنه الحق، والسائلين عنه سؤال استهزاء بالكثرة، وإن كان قد قال تعالى: * (*) *: جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بإما، ووصف تعالى العالمين بأنه الحق، والسائلين عنه سؤال استهزاء بالكثرة، وإن كان قد قال تعالى: * (وقليل من عبادى الشكور) *،
269

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * وقليل ما هم، فلا تنافي بينهما لأن الكثرة والقلة أمران نسبيان، فالمهتدون في أنفسهم كثير، وإذا وصفوا بالقلة فبالنسبة إلى أهل الضلال، أو تكون الكثرة بالنسبة إلى الحقيقة، والقلة بالنسبة إلى الأشخاص، فسموا كثيرا ذهابا إلى الحقيقة، كما قال الشاعر:
* إن الكرام كثير في البلاد وإن
*
قلوا كما غيرهم قلوا وإن كثروا
*
واختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى: * (*) * وقليل ما هم، فلا تنافي بينهما لأن الكثرة والقلة أمران نسبيان، فالمهتدون في أنفسهم كثير، وإذا وصفوا بالقلة فبالنسبة إلى أهل الضلال، أو تكون الكثرة بالنسبة إلى الحقيقة، والقلة بالنسبة إلى الأشخاص، فسموا كثيرا ذهابا إلى الحقيقة، كما قال الشاعر:
* إن الكرام كثير في البلاد وإن
*
قلوا كما غيرهم قلوا وإن كثروا
*
واختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) * في موضع الصفة لمثل، وكان المعنى: * (ماذا أراد الله بهاذا مثلا) * يفرق به الناس إلى ضلال وإلى هداية، فعلى هذا يكون من كلام الذين كفروا. وهذا الوجه ليس بظاهر، لأن الذي ذكر أن الله لا يستحي منه هو ضرب مثل ما، أي مثل: كان بعوضة، أو ما فوقها، والذين كفروا إنما سألوا سؤال استهزاء وليسوا معترفين بأن هذا المثل * (يضل الله * به كثيرا ويهدي به كثيرا) *، إلا أن ضمن معنى الكلام أن ذلك على حسب اعتقادكم وزعمكم أيها المؤمنون فيمكن ذلك، ولكن كونه إخبارا من الله تعالى هو الظاهر، وإسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد حقيقي كما أن إسناد الهداية كذلك، فهو خالق الضلال والهداية، وقد تؤول هنا الإضلال بالإضلال عن طريق الجنة، والإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى تقبيح الدين
وتركه، وهو الإضلال المضاف إلى الشيطان، والإضلال بهذا المعنى منتف عن الله بالإجماع. والزمخشري على طريقته الاعتزالية يقول: إسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد إلى السبب، لأنه لما ضرب به المثل فضل به قوم واهتدى به قوم تسبب لضلالهم وهداهم. وقيل: يضل بمعنى يعذب، كقوله تعالى: * (إن المجرمين فى ضلال وسعر) *، قاله بعض المعتزلة، ورد القفال هذا وقال: بل المراد في الشاهد في ضلال عن الحق وجوز ابن عطية أن يكون قوله: * (يضل به كثيرا) * من كلام الكفار، ويكون قوله: * (ويهدي به كثيرا) * إلى آخر الآية، من كلام الله تعالى. وهذا الذي جوزه ليس بظاهر لأنه إلباس في التركيب، لأن الكلام إما أن يجري على أنه من كلام الكفار، أو يجري على أنه من كلام الله. وإما أن يجري بعضه على أنه من كلام الكفار وبعضه من كلام الله تعالى من غير دليل على ذلك فإنه يكون إلباسا في التركيب، وكتاب الله منزه عنه.
وقرأ زيد بن علي: يضل به كثير ويهدي به كثير وما يضل به إلا الفاسقون، في الثلاثة على البناء للمفعول. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة، في الثلاثة على البناء للفاعل الظاهر، مفتوح حرف المضارعة. قال عثمان بن سعيد الصيرفي: هذه قراءة القدرية. وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: يضل بضم الياء في الأول، وما يضل به بفتح الياء، والفاسقون بالواو، وكذا أيضا في القراءتين السابقتين، وهي قراءات متجهة إلى أنها مخالفة للمصحف المجمع عليه. والظاهر أن الضمير في به في الثلاثة عائد على مثلا، وهو على حذف المضاف، أي يضرب المثل. وقيل: الضمير في به من قوله: * (يضل به) *، أي بالتكذيب في به من قوله: * (ويهدي به كثيرا) *، أي بالتصديق. ودل على ذلك قوة الكلام في قوله تعالى: * (فما فوقها فأما الذين) * * (وأما الذين كفروا فيقولون) *.
ومعنى: * (وما يضل به إلا الفاسقين) *، أي: وما يكون ذلك سببا للضلالة إلا عند من خرج عن الحق. وقال بعض أهل العلم: معنى يضل ويهدي: الزيادة في الضلال والهدى، لا أن ضرب المثل سبب للضلالة والهدى، فعلى هذا يكون التقدير: نزيد من لم يصدق به وكفر ضلالا على ضلالة، ومن آمن به وصدق إيمانا على إيمانه. والفاسقين: مفعول يضل لأنه استثناء
270

مفرغ، ومنع أبو البقاء أن يكون منصوبا على الاستثناء. ويكون مفعول يضل محذوفا تقديره: وما يضل به أحدا إلا الفاسقين، وليس بممتنع، وذلك أن الاسم بعد إلا: إما أن يفرغ له العامل، فيكون على حسب العامل نحو: ما قام إلا زيد، وما ضربت إلا زيدا، وما مررت إلا بزيد، إذا جعلت زيدا وبزيد معمولا للعامل قبل لا، أو لا يفرغ. وإذا لم يفرغ، فأما أن يكون العامل طالبا مرفوعا، فلا يجوز إلا ذكره قبل إلا، وإضماره إن كان مما يضمر، أو منصوبا، أو مجرورا، فيجوز حذفه لأنه فضلة وإتيانه. فإن حذفته كان الاسم الذي بعد إلا منصوبا على الاستثناء فتقول: ما ضربت إلا زيدا، تريد ما ضربت أحدا إلا زيدا، وما مررت إلا عمرا، تريد ما ضربت أحدا إلا زيدا، وما مررت إلا عمرا، قال الشاعر:
* نجا سالم والنفس منه بشدقه
*
ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
*
يريد ولم ينج بشيء إلا جفن سيف، وإن أثبته، ولم يحذفه، فله أحكام مذكورة. فعلى هذا الذي قد قعده النحويون يجوز في الفاسقين أن يكون معمولا ليضل، ويكون من الاستثناء المفرغ، ويجوز أن يكون منصوبا على الاستثناء، ويكون معمول يضل قد حذف لفهم المعنى، والفاسق هو الخارج من طاعة الله تعالى. فتارة يكون ذلك بكفر وتارة يكون بعصيان غير الكفر.
قال الزمخشري: الفاسق في الشريعة: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، وهو النازل بين المنزلتين، أي بين منزلة المؤمن والكافر. وقالوا: إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء، رضي الله عنه وعن أشياعه. وكونه بين بين، أي حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح، ويوارث، ويغسل، ويصلي عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، وهو كالكافر في الذم، واللعن، والبراءة منه، واعتقاد عداوته، وأن لا تقبل شهادته. ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزي خلفه، ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى: * (بئس الاسم الفسوق بعد الايمان) *، يريد اللمز والتنابز، * (إن المنافقين هم الفاسقون) *، انتهى كلام الزمخشري. وهو جار على مذهبه الاعتزالي، والذي عليه سلف هذه الأمة: أن من كان مؤمنا وفسق بمعصية دون الكفر، فإنه فاسق بفسقه مؤمن بإيمانه، وأنه لم يخرج بفسقه عن ازيمان، ولا بلغ حد الكفر. وذهبت الخوارج إلى أن من عصى وأذنب ذنبا فقد كفر بعد إيمانه. ومنهم من قال: من أذنب بعد الإيمان فقد أشرك. ومنهم من قال: كل معصية نفاق، وإن حكم القاضي بعد التصديق أنه منافق. وذهبت المعتزلة إلى ما ذكره الزمخشري، وذكر أن لأصل هذه المسألة سموا معتزلة، فإنهم اعتزلوا قول الأمة فيه، فإن الأمة كانوا على قولين، فأحدثوا قولا ثالثا فسموا معتزلة لذلك، وهذه المسألة مقررة في أصول الدين.
* (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) *: يحتمل النصب والرفع. فالنصب من وجهين: إما على الاتباع، وإما على القطع، أي أذم الذين. والرفع من وجهين: إما على القطع، أي هم الذين، وإما على الابتداء، ويكون الخبر الجملة من قوله: * (أولائك هم الخاسرون) *. وعلى هذا الإعراب تكون هذه الجملة كأنها كلام مستأنف، لا تعلق لها بما قبلها إلا على بعد، فالأولى من هذا الإعراب الأعاريب التي ذكرناها وأولاها الاتباع، وتكون هذه الصفة صفة ذم، وهي لازمة، إذ كل فاسق ينقض العهد ويقطع ما أمر الله بوصله. واختلفوا في تفسير العهد على أقوال:
271

أحدها: أنه وصية الله إلى خلقه، وأمره لهم بطاعته، ونهيه لهم عن معصيته في كتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه المرسلة، ونقضهم له تركهم العمل به. الثاني: أنه
العهد الذي أخذه الله عليهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم في قوله: * (وإذ أخذ ربك) * الآية، ونقضهم له كفر، بعضهم بربوبيته، وبعضهم بحقوق نعمته. الثالث: ما أخذه الله عليهم في الكتب المنزلة من الإقرار بتوحيده والاعتراف بنعمه والتصديق لأنبيائه ورسله، وبما جاؤوا به في قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) * الآية، ونقضهم له نبذه وراء ظهورهم، وتبديل ما في كتبهم من وصفه صلى الله عليه وسلم). الرابع: ما أخذه الله تعالى على الأنبياء ومتبعيهم أن لا يكفروا بالله ولا بالنبي صلى الله عليه وسلم)، وأن ينصروه ويعظموه في قوله تعالى: * (وإذا * وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما) * الآية، ونقضهم له إنكارهم لنبوته وتغييرهم لصفته. الخامس: إيمانهم به صلى الله عليه وسلم) ورسالته قبل بعثه ونقضهم له جحدهم لنبوته ولصفته. السادس: ما جعله في عقولهم من الحجة على توحيده وتصديق رسوله، بالنظر في المعجزات الدالة على إعجاز القرآن وصدقه ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم)، ونقضهم هو تركهم النظر في ذلك وتقليدهم لآبائهم. السابع: الأمانة المعروضة على السماوات والأرض التي حملها الإنسان، ونقضهم تركهم القيام بحقوقها. الثامن: ما أخذه عليهم من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، ونقضهم عودهم إلى ما نهوا عنه، وهذا القول يدل على أن المخاطب بذلك بنو إسرائيل. التاسع: هو الإيمان والتزام الشرائع، ونقضه كفره بعد الإيمان.
وهذه الأقوال التسعة منها ما يدل على العموم في كل ناقض للعهد، ومنها ما يدل على أن المخاطب قوم مخصوصون، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف الذي وقع في سبب النزول، والعموم هو الظاهر. فكل من نقض عهد الله من مسلم وكافر ومنافق أو مشرك أو كتابي تناوله هذا الذم، ومن متعلقة بقوله ينقضون، وهي لابتداء الغاية، ويدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل بينهما، وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالعهد، فإثر ما استوثق الله منهم نقضوه. وقيل: من زائدة وهو بعيد، والميثاق مفعول من الوثاقة، وهو الشد في العقد، وقد ذكرنا أنه العهد المؤكد باليمين. وليس المعنى هنا على ذلك، وإنما كنى به عن الالتزام والقبول. قال أبو محمد بن عطية: هو اسم في موضع المصدر، كما قال عمرو بن شييم:
* أكفرا بعد رد الموت عني
*
وبعد عطائك المائة الرتاعا
*
أراد بعد إعطائك، انتهى كلامك. ولا يتعين ما ذكر، بل قد أجاز الزمخشري أن يكون بعد التوثقة، كما أن الميعاد بمعنى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة، وظاهر كلام الزمخشري أن يكون مصدرا، والأصل في مفعال أن يكون وصفا
272

نحو: مطعام ومسقام ومذكار. وقد طالعت كلام أبي العباس بن الحاج، وكلام أبي عبد الله بن مالك، وهما من أوعب الناس لأبنية المصادر، فلم يذكرا مفعالا في أبنية المصادر. والضمير في ميثاقه عائد على العهد لأنه المحدث عنه، وأجيز أن يكون عائدا على الله تعالى، أي من توثيقه عليهم، أو من بعد ما وثق به عهده على اختلاف التأويلين في الميثاق. قال أبو البقاء: أن أعدت الهاء على اسم الله كان المصدر مضافا إلى الفاعل، وإن أعدتها إلى العهد كان مضافا إلى المفعول، وهذا يدل على أن الميثاق عنده مصدر.
* (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) *: وما موصولة بمعنى الذي، وفيه خمسة أقوال: أحدها: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قطعوه بالتكذيب والعصيان، قاله الحسن وفيه ضعف، إذ لو كان كما قال لكان من مكان ما. الثاني: القول: أمر الله أن يوصل بالعمل فقطعوا بينهما، قالوا: ولم يعملوا، يشير إلى أنها نزلت في المنافقين * (يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم) *. الثالث: التصديق بالأنبياء، أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض. الرابع: الرحم والقرابة، قاله قتادة، وهذا يدل على أنه أراد كفار قريش ومن أشبههم. الخامس: أنه على العموم في كل ما أمر الله به أن يوصل، وهذا هو الأوجه، لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم، ولا دليل واضح على الخصوص.
وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة، وقد بينا ضعف القول بأن ما تكون موصوفة خصوصا هنا، إذ يصير المعنى: ويقطعون شيئا أمر الله به أن يوصل، فهو مطلق ولا يقع الذم البليغ والحكم بالفسق والخسران بفعل مطلق ما، والأمر هو استدعاء الأعلى من الفعل من الأدنى، قال الزمخشري: وبعثه عليه، وهي نكتة اعتزالية لطيفة، قال: وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور، لأن الداعي الذي يدعو إليه من لا يتولاه شبه بآمر يأمره به، فقيل له: أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به، كما قيل له: شأن، والشأن الطلب والقصد، يقال شأنت شأنه، أي قصدت قصده، وأمر يتعدى إلى اثنين، والأول محذوف لفهم المعنى، أي ما أمر الله به، وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير في به تقديره به وصله، أي ما أمرهم الله بوصله، نحو قول الشاعر:
* أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص
*
فتقصر عنها حقبة وتبوص
*
أي أمن ذكر سلمى نأيها.
وأجاز المهدوي وابن عطية وأبو البقاء أن تكون أن يوصل في موضع نصب بدلا من
273

ما، أي وصله، والتقدير: ويقطعون وصل ما أمر الله به. وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون في موضع نصب مفعولا من أجله، وقدره المهدوي كراهية أن يوصل، فيكون الحامل على القطع لما أمر الله كراهية أن يوصل. وحكى أبو البقاء وجه المفعول من أجله وقدره لئلا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أن يوصل في موضع رفع، أي هو أن يوصل. وهذه الأعاريب كلها ضعيفة، ولولا شهرة قائلها لضربت عن ذكرها صفحا. والأول الذي اخترناه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الله وسواه من الأعاريب، بعيد عن فصيح الكلام له أفصح الكلام وهو كلام الله.
* (ويفسدون فى الارض) *، فيه أربعة أقوال: أحدها: استدعاؤهم إلى الكفر، والترغيب فيه، وحمل الناس عليه. الثاني: إخافتهم السبيل، وقطعهم الطريق على من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم) وغيرهم. الثالث: نقض العهد. الرابع: كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها. وقال ابن عطية: يعبدون غير الله، ويجوزون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا قريب من القول الرابع. وقد تقدم ما معنى في الأرض، والتنبيه على ذكر الأرض، عند الكلام على قوله: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض) *، فأغنى عن إعادته هنا. وقد تضمنت هذه الآية الكبيرة نوعا من البديع يسميه أرباب البيان: بالطباق. وقد تقدم شيء منه، وهو أن تأتي بالشيء وضده، ووقع هنا في قوله تعالى: * (بعوضة فما فوقها) *، فإنهما دليلان على الحقير والكبير، وفي قوله: * (فأما الذين ءامنوا) *، * (وأما الذين كفروا) *، وفي قوله تعالى: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا * وفى * قوله * ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) *، وفي قوله: * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل. وجاء في هذه الثلاثة الأخيرة مناسبة الطباق، وهو أن كل أول منها كائن بعد مقابله، فالضلال بعد الهداية لقوله: كل مولود يولد على الفطرة، ولدخول أولاد الذين كفروا الجنة إذا ماتوا قبل البلوغ، والنقض بعد التوثقة، والقطع بعد الوصل. فهذه ثلاثة تناسبت في الطباق. وفي وصل الذين بالمضارع وعطف المضارعين عليه دليل على تجدد النقض والقطع والإفساد، وإشعار أيضا بالديمومة، وهو أبلغ في الذم، وبناء يوصل للمفعول هو أبلغ من بنائه للفاعل، لأنه يشمل ما أمر الله بأن يصلوه أو يصله غيرهم.
وترتيب هذه الصلات في غاية من الحسن، لأنه قد بدأ أولا بنقض العهد، وهو أخص هذه الثلاث، ثم ثنى بقطع ما أمر الله بوصله، وهو أعم من نقض العهد وغيره، ثم أتى ثالثا بالإفساد الذي هو أعم من القطع، وكلها ثمرات الفسق، وأتى باسم الفاعل صلة للألف واللام ليدل على ثبوتهم في هذه الصفة، فيكون وصف الفسق لهم ثابتا، وتكون النتائج عنه متجددة متكررة، فيكون الذم لهم أبلغ لجمعهم بين ثبوت الأصل وتجدد فروعه ونتائجه، ولما ذكر أوصاف الفاسقين أشار إليهم بقوله: * (أولئك) *، أي: أولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة من النقض والقطع والإفساد.
* (هم الخاسرون) *: وفسر الخاسرون بالناقصين حظوظهم وشرفهم، وبالهالكين، وسبب خسرانهم استبدالهم النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والإفساد بالإصلاح، وعقابها بالثواب، وقيل: الخاسرون المغبونون بفوت المثوبة ولزوم العقوبة وقيل: خسروا نعيم الآخرة، وقيل: خسروا حسناتهم التي عملوها، أحبطوها بكفرهم. والآية في اليهود، ولهم أعمال في شريعتهم وفي المنافقين، وهم يعملون في الظاهر عمل المخلصين. قال القفال: الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملا يجزى
274

عليه. * (كيف) *: قد تقدم أنه اسم استفهام عن حال، وصحيه معنى التقرير والتوبيخ، فخرج عن حقيقة الاستفهام. وقيل: صحبه الإنكار والتعجب، أي إن من كان بهذه المثابة من القدرة الباهرة والتصرف التام والمرجع إليه آخرا فيثيب ويعاقب، لا يليق أن يكفر به. والإنكار بالهمزة إنكار لذات الفعل، وبكيف إنكار لحاله وإنكار حاله إنكار لذاته، لأن ذاته لا تخلو من حال يقع فيها، فاستلزم إنكار الحال إنكار الذات ضرورة، وهو أبلغ، إذ يصير ذلك من باب الكناية حيث قصد إنكار الحال، والمقصود إنكار وقوع ذات الكفر. قال الزمخشري: وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها، وقد علم أن كل موجود لا ينفك من حال وصفة عند وجوده، ومحال أن يوجد تغير صفة من الصفات، كان إنكارا لوجوده على الطريق البرهاني، انتهى كلامه.
وهذا الخطاب فيه التفات، لأن الكلام قبل كان بصورة الغيبة، ألا ترى إلى قوله: * (وأما الذين كفروا) * إلى آخره؟ وفائدة هذا الالتفات أن الإنكار إذا توجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجهه إلى الغائب لجواز أن لا يصله الإنكار، بخلاف من كان مخاطبا، فإن الإنكار عليه أردع له عن أن يقع فيما أنكر عليه. والناصب ل * (كيف تكفرون) *. وأتى بصيغة تكفرون مضارعا ولم يأت به ماضيا وإن كان الكفر قد وقع منهم، لأن الذي أنكر أو تعجب منه الدوام على ذلك، والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون ذلك توبيخا لمن وقع منه الكفر ثم آمن، إذ لو جاء كيف كفرتم * (بالله) * لاندرج في ذلك من كفرتم آمن كأكثر الصحابة رضي الله عنهم. والواو في قوله: * (وكنتم أمواتا فأحياكم) *: واو الحال، نحو قوله تعالى: * (وقال الذى نجا منهما وادكر بعد * أمه) *، * (ونادى نوح ابنه وكان فى معزل) *. قال الزمخشري: فإن قلت فكيف صح أن يكون حالا، وهو ماض؟ ولا يقال: جئت وقام الأمير، ولكن: وقد قام، إلا أن يضمر قد. قلت: لم تدخل الواو على كنتم أمواتا وحده، ولكن على جملة قوله: كنتم أمواتا إلي ترجعون، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء؟ * (ثم يميتكم) * بعد هذه الحياة؟ * (ثم يحييكم) * بعد الموت ثم يحاسبكم؟ انتهى كلامه. ونحن نقول: إنه على إضمار قد، كما ذهب إليه أكثر الناس، أي وقد كنتم أمواتا فأحياكم. والجملة الحالية عندنا فعلية. وأما أن نتكلف ونجعل تلك الجملة اسمية حتى نفر من إضمار قد، فلا نذهب إلى ذلك، وإنما حمل الزمخشري على ذلك اعتقاده أن جميع الجمل مندرجة في الحال، ولذلك قال: فإن قلت، بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالا؟ قلت: هو العلم بالقصة، كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة، وبأولها وبآخرها؟ انتهى كلامه.
ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجة في الحال، إذ يحتمل أن يكون الحال قوله: وكنتم أمواتا فأحياكم، ويكون المعنى كيف تكفرون بالله وقد خلقكم فعبر عن الخلق
بقوله تعالى: * (وكنتم أمواتا فأحياكم) *، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم): (أن تجعل لله ندا وهو خلقك) أي أن من أوجدك بعد العدم الصرف حر أن لا تكفر به، لأنه لا نعمة أعظم من نعمة الاختراع، ثم نعمة الاصطناع، وقد شمل النعمتين قوله تعالى: * (وكنتم أمواتا فأحياكم * لان * وفى الارض إلاه وهو الحكيم العليم * وتبارك الذى له ملك السماوات والارض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون * ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون * ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) *، كانت حالا تقتضي أن لا تجامع الكفر، فلا يحتاج إلى تكلف. إن الحال هو العلم بهذه الجملة.
وعلى هذا الذي شرحناه يكون قوله تعالى: * (ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * جملا أخبر الله
275

تعالى بها مستأنفة لا داخلة تحت الحال، ولذل كغاير فيها بحرف العطف وبصيغة الفعل عما قبلها من الحرف والصيغة. ومن جعل العلم بمضمون هذه الجمل هو الحال، جعل تمكنهم من العلم بالإحياء الثاني والرجوع لما نصب على ذلك من الدلائل التي توصل إليه بمنزلة حصول العلم. فحصوله بالإماتتين والإحياء الأول، وكثير من الناس علموا ثم عاندوا، وفي ترتيب هاتين الموتتين والحياتين اللاتي ذكر الله تعالى وامتن عليها بها أقوال: الأول: أن الموت الأول: العدم السابق قبل الخلق، والإحياء الأول: الخلق، والموت الثاني: المعهود في دار الدنيا، والحياة الثانية: البعث للقيامة، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد. الثاني: أن الموت الأول: المعهود في الدنيا، والإحياء الأول: هو في القبر للمسألة، والموت الثاني: في القبر بعد المسألة، والإحياء الثاني: البعث، قاله ابن عباس وأبو صالح. الثالث: أن الموت الأول: كونهم في أصلاب آبائهم، والإحياء الأول: الإخراج من بطون الأمهات، والموت الثاني: المعهود، والإحياء الثاني: البعث، قاله قتادة. الرابع: أن الموت الأول: هو الذي اعتقب إخراجهم من صلب آدم نسما كالذر، والإحياء الأول: إخراجهم من بطون أمهاتهم، والموت الثاني: المعهود، والإحياء: البعث، قاله ابن زيد. الخامس: أن الموت الأول: مفارقة نطفة الرجل إلى الرحم فهي ميتة إلى نفخ الروح فيحييها بالنفخ، والموت الثاني: المعهود، والإحياء الثاني: البعث. السادس: أن الموت الأول هو الخمول، والإحياء الأول: الذكر والشرف بهذا الدين والنبي الذي جاءكم، والموت الثاني: المعهود، والإحياء الثاني: البعث، قاله ابن عباس. السابع: أن الموت الأول: كون آدم من طين، والإحياء الأول: نفخ الروح فيه فحييتم بحياته، والموت الثاني: المعهود، والإحياء الثاني: البعث.
واختار ابن عطية القول الأول وقال: هو أولى الأقوال، لأنه لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه، ثم إن قوله: وكنتم أمواتا، وإسناده آخرا الإماتة إليه، مما يقوي ذلك القول، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها، قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها. انتهى كلامه، وهو كلام حسن.
وللمنسوبين إلى علم الحقائق أقوال تخالف ما تقدم:
276

أحدها: أمواتا بالشرك فأحياكم بالتوحيد. الثاني: أمواتا بالجهل فأحياكم بالعلم. الثالث: أمواتا بالاختلاف فأحياكم بالائتلاف. الرابع: أمواتا بحياة نفوسكم وإماتتكم بإماتة نفوسكم وإحياء قلوبكم. الخامس: أمواتا عنه فأحياكم به، قاله الشبلي. السادس: أمواتا بالظواهر فأحياكم بمكاشفة السرائر، قاله ابن عطاء. السابع: أمواتا بشهودكم فأحياكم بمشاهدته ثم يميتكم عن شواهدكم ثم يحييكم بقيام الحق عنه ثم إليه ترجعون من جميع ما لكم، قاله ابن فارس.
واختار الزمخشري: أن الموت الأول كونهم نطفا في أصلاب آبائهم فجعلهم أحياء، ثم يميتهم بعد هذه الحياة، ثم يحييهم بعد الموت، ثم يحاسبهم. وجوز أيضا أن يكون المراد بالإحياء الثاني: الإحياء في القبر، وبالرجوع: النشور، وأن يراد بالإحياء الثاني أيضا النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء. وهذا الذي جوز أن يراد به الإحياء في القبر لا يفهم منه أنه يحيا للمسألة في القبر، ولا لأن ينعم فيه أو يعذب لأنه ليس مذهبه، لأن المعتزلة وأتباعهم أنكروا عذاب القبر، وأهل السنة والكرامية أثبتوه بلا خلاف بينهم، إلا أن أهل السنة يقولون: يحيا الميت الكافر فيعذب في قبره، والفاسق يجوز أن يعذب في قبره، والكرامية تقول: يعذب وهو ميت. والأحاديث الصحيحة قد استفاضت بعذاب القبر، فوجب القول به واعتقاده.
واختار صاحب المنتخب أن المراد بقوله: أمواتا أي ترابا ونطفا، لأن ابتداء خلق آدم من التراب، وخلق سائر المكلفين من أولاده، إلا عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، من النطف. قال: واختلفوا، فالأكثرون على أن إطلاق اسم الميت على الجماد مجاز، لأن الميت من يحله الموت، ولا بد أن يكون بصفة من يجوز أن يكون حيا في العادة، والقول بأنه حقيقة في الجماد مروي عن قتادة، انتهى كلامه. وتفسيره الأموات بالتراب والنطف لا يظهر ذلك في التراب، لأن المخلوق من التراب لم يتصف بالصفة التي أنكرت أو تعجب منها وقتا قط، فكيف يندرج في قوله: * (وكنتم أمواتا) *؟ والذي نختاره أن كونهم أمواتا، ومن وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار من النطفة والعلقة والمضغة واكتساء العظام لحما. والإماتة الثانية هي المعهودة، والإحياء هو البعث بعد الموت. ويكون الإحياء الأول والموت الأول، والإحياء الثاني حقيقة، وأما كونهم أمواتا، فمن ذهب إلى أن الجماد يوصف بالموت حقيقة فيكون إذ ذاك حقيقة، ومن ذهب إلى المجاز فهو مجاز سائغ قريب، لأنه على كل حال موجود، فقرب اتصافه بالموت، بخلاف من زعم أنه أريد به كونه معدوما وكونه في الصلب. أو حين كان آدم طينا، فإن المجاز في ذلك بعيد لأن ذلك عدم صرف، والعدم الذي لم يسبقه وجود يبعد فيه أن يسمى موتا، ألا ترى ما أطلق عليه في اللفظ لفظ الموت مما لا تحله الحياة كيف يكون موجودا لا عدما صرفا؟ * (وءاية لهم الارض الميتة) *، * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) *، * (إن الذى أحياها * فانظر إلى) *، * (وجعلنا من الماء كل شىء حى) *، وتقول العرب: أرض موات. وأما قول من ذهب إلى أن الموت الأول: هو الخمول، والإحياء الأول: هو التنويه والذكر، فمجاز بعيد هنا، لأنه متى أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز الحقيقة أو المجاز الغريب كان أولى.
وقد أمكن ذلك بما ذكرناه، ثم أكثر تلك الأقاويل يبعد فيها
277

التعقيب بالفاء في قوله: فأحياكم، لأن بين ذاك الموت والإحياء مدة طويلة، وعلى ما اخترناه تكون الفاء دالة على معناها من التعقيب. ومن قال: إن الموت الأول: هو المعهود، والإحياء الأول هو للمسألة، فيكون فيه الماضي قد وضع موضع المستقبل مجاز التحقق وقوعه، أي وتكونون أمواتا فيحييكم، كقوله: * (أتى أمر الله) *. وقد استدل بهذه الآية قوم على نفي عذاب القبر، لأنه ذكر تعالى موتتين وحياتين، ولم يذكر حياة بين إحيائهم في الدنيا وإحيائهم في الآخرة. قالوا: ولا يجوز أن يستدل بقوله تعالى: ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) *، لأنه من كلام الكفار، ولأن كثيرا من الناس أثبتوا حياة الذر في صلب آدم. والجواب: أنه لا يلزم من عدم ذكر هذه الحياة للمسألة عدمها قبل وأيضا، فيمكن أن يكون قوله: ثم يحييكم هو للمسألة، ولذلك قال: ثم إليه ترجعون، فعطف بثم التي تقتضي التراخي في الزمان. والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة التي للبعث، فدل ذلك على أن تلك الحياة المذكورة هي للمسألة.
قال الحسن: ذكر الموت مرتين هنا لأكثر الناس، وأما بعضهم فقد أماتهم ثلاث مرات، * (*) *، لأنه من كلام الكفار، ولأن كثيرا من الناس أثبتوا حياة الذر في صلب آدم. والجواب: أنه لا يلزم من عدم ذكر هذه الحياة للمسألة عدمها قبل وأيضا، فيمكن أن يكون قوله: ثم يحييكم هو للمسألة، ولذلك قال: ثم إليه ترجعون، فعطف بثم التي تقتضي التراخي في الزمان. والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة التي للبعث، فدل ذلك على أن تلك الحياة المذكورة هي للمسألة.
قال الحسن: ذكر الموت مرتين هنا لأكثر الناس، وأما بعضهم فقد أماتهم ثلاث مرات، * (أو كالذى مر على قرية) *، * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) *، فخذ أربعة من الطير) *، الآيات. وفي قوله تعالى: * (*) *، الآيات. وفي قوله تعالى: * (فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم * أولائك هم الخاسرون * كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * أن الهاء عائدة على الله سبحانه وتعالى، لأن الضمائر السابقة عائدة عليه تعالى، ويكون ذلك على حذف مضاف، أي إلى جزائه من ثواب أو عقاب. وقيل: عائدة على الجزاء على الأعمال. وقيل: عائدة على الموضع الذي يتولى الله الحكم بينكم فيه. وقيل: عائدة على الإحياء المدلول عليه بقوله: فأحياكم. وشرح هذا أنكم ترجعون بعد الحياة الثانية إلى الحال التي كنتم عليها في ابتداء الحياة الأولى، من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئا. واستدلت المجسمة بقوله: * (ثم إليه ترجعون) *، على أنه تعالى في مكان ولا حجة لهم في ذلك.
وقرأ الجمهور: ترجعون مبنيا للمفعول من رجع المتعدي.
وقرأ مجاهد، ويحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، والفياض بن غزوان، وسلام، ويعقوب: مبنيا للفاعل، حيث وقع في القرآن من رجع اللازم، لأن رجع يكون لازما ومتعديا. وقراءة الجمهور أفصح، لأن الإسناد في الأفعال السابقة هو إلى الله تعالى، * (فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) *، فكان سياق هذا الإسناد أن يكون الفعل في الرجوع مسندا إليه، لكنه كان يفوت تناسب الفواصل والمقاطع، إذ كان يكون الترتيب: * (ثم إليه مرجعكم) *، فحذف الفاعل للعلم به وبنى الفعل للمفعول حتى لا يفوت التناسب اللفظي. وقد حصل التناسب المعنوي بحذف الفاعل، إذ هو وقبل البناء للمفعول مبني للفاعل. وأما قراءة مجاهد، ومن ذكر معه، فإنه يفوت التناسب المعنوي، إذ لا يلزم من رجوع الشخص إلى شيء أن غيره رجعه إليه، إذ قد يرجع بنفسه من غير راد. والمقصود هنا إظهار القدرة والتصرف التام بنسبة الإحياء والإماتة، والإحياء والرجوع إليه تعالى، وإن كنا نعلم أن الله تعالى هو فاعل الأشياء جميعها. وفي قوله تعالى: * (ثم إليه ترجعون) * من الترهيب والترغيب ما يزيد المسئ خشية ويرده عن بعض ما يرتكبه، ويزيد المحسن رغبة في الخير ويدعوه رجاؤه إلى الازدياد من الإحسان، وفيها رد على الدهرية والمعطلة ومنكري البعث، إذ هو بيده الإحياء والإماتة والبعث وإليه يرجع الأمر كله.
* (هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وهو أنه لما ذكر أن من كان منشئا لكم بعد العدم ومفنيا لكم بعد الوجود وموجدا لكم ثانية، إما في جنة، وإما إلى نار، كان جديرا أن يعبد ولا يجحد، ويشكر ولا يكفر. ثم أخذ يذكرهم عظيم إحسانه وجزيل امتنانه من خلق جميع ما في الأرض لهم، وعظيم قدرته وتصرفه في العالم العلوي، وأن العالم العلوي والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء، وأنه عليم بكل شيء. ولفظة هو من
278

المضمرات وضع للمفرد المذكر الغائب، وهو كلي في الوضع كسائر المضمرات، جرى في النسبة المخصوصة حالة الاستعمال، فما من مفرد مذكر غائب إلا ويصح أن يطلق عليه هو، ولكن إذا أسند لهذا الاسم شيء تعين. ومشهور لغات العرب تخفيف الواو مفتوحة، وشددتها همدان، وسكنتها أسد وقيس، وحذف الواو مختص بالشعر. ولهؤلاء المنسوبين إلى علم الحقائق وإلى التصوف كلام غريب بالنسبة لمعقولنا، رأيت أن أذكره هنا ليقع الذكر فيه.
قالوا: أسماء الله تعالى على ثلاثة أقسام: مظهرات، ومضمرات، ومستترات. فالمظهرات: أسماء ذات، وأسماء صفات، وهذه كلها مشتقة، وأسماء الذات مشتقة وهي كثيرة، وغير المشتق واحد وهو الله. وقد قيل: إنه مشتق، والذي ينبغي اعتقاده أنه غير مشتق، بل اسم مرتجل دال على الذات. وأما المضمرات فأربعة: أنا في مثل: * (الله لا إلاه إلا أنا) *، وأنت في مثل: * (لا إلاه إلا أنت سبحانك) *، وهو في مثل: * (هو الذى خلق لكم) *، ونحن في مثل: * (نحن نقص عليك) *. قالوا: فإذا تقرر هذا فالله أعظم أسمائه المظهرات الدالة على الذات، ولفظة هو من أعظم أسمائه المظهرات والمضمرات للدلالة على ذاته، لأن أسماءه المشتقة كلها لفظها متضمن جواز الاشتراك لاجتماعهما في الوصف الخاص، ولا يمنع أن يكون أحد الوصفين حقيقة والآخر مجازا من الاشتراك، وهو اسم من أسماء الله تعالى ينبئ عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة من حيث هو هو. فلفظة هو توصلك إلى الحق وتقطعك عما سواه، فإنك لا بد أن يشرك مع النظر في معرفة ما يدل عليه الاسم المشتق النظر في معرفة المعنى الذي يشتق منه، وهذا الاسم لأجل دلالته على الذات ينقطع معه النظر إلى ما سواه، اختاره الجلة من المقربين مدارا لذكرهم ومنارا لكل أمرهم فقالوا: يا هو، لأن لفظة هو إشارة بعين المشار إليه بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد، والمقربون لا يخطر في عقولهم وأرواحهم موجود آخر سوى الذي دلت عليه إشارته، وهو اسم مركب من حرفين وهما: الهاء والواو، والهاء أصل والواو زائدة بدليل سقوطها في
التثنية، والجمع في هما وهم، والأصل حرف واحد يدل على الواحد الفرد. انتهى ما نقل عن بعض من عاصرناه في هو بالنسبة إلى الله تعالى مقررا لما ذكروه ومعتقدا لما حبروه. ولهم في لفظة أنا وأنت وهو كلام غريب جدا بعيد عما تكلم عليها به أهل اللغة والعربية، وحديث هؤلاء المنتمين إلى هذه العلوم لم يفتح لي فيه ببارقة، ولا ألممت فيه إلى الآن بغادية ولا طارقة، نسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا بأنوار الهداية، وأن يجنبنا مسالك الغواية، وأن يلهمنا إلى طريق الصواب، وأن يرزقنا اتباع الأمرين النيرين: السنة والكتاب.
ولكم: متعلق بخلق، واللام فيه، قيل: للسبب، أي لأجلكم ولانتفاعكم، وقدر بعضهم لاعتباركم. وقيل: للتمليك والإباحة، فيكون التمليك خاصا، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به وتدعو الضرورة إليه. وقيل: للاختصاص، وهو أعم من التمليك، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولا من أجله لأنه بما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي. فالديني: النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرة الصانع وحكمته ومن التذكير بالآخرة والجزاء، وأما الدنيوي: فظاهر، وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهية وغير ذلك. وقد استدل بقوله: * (خلق لكم) *، من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة، فلكل أحد أن ينتفع بها، وإذا احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة، لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه. وقد ذهب قوم إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر، فلا يقدم على شيء إلا بإذن. وذهب قوم إلى أن الوقف لنا تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة، ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف. وحكى أبو بكر بن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: لم يخل العقل قط من السمع، فلا نازلة إلا وفيها سمع، أو لها تعلق به أثر لها حال تستصحب، وإذا جعلنا اللام للسبب، فليس المعنى أن الله فعل شيئا لسبب، لكنه لما فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب أطلق عليه لفظ السبب واندرج تحت قوله: * (ما فى الارض جميعا) *، جميع ما كانت الأرض مستقرا له من الحيوان والنبات والمعدن والجبال، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور المستنبطة. واستدل بعضهم بذلك على تحريم
279

الطين، قال: لأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.
وقد تقدم قبل هذا الامتنان بجعل الأرض لنا فراشا، وهنا امتن بخلق ما فيها لنا وانتصب جميعا على الحال من المخلوق، وهي حال مؤكدة لأن لفظة ما في الأرض عام، ومعنى جميعا العموم. فهو مرادف من حيث المعنى للفظة كل كأنه قيل: ما في الأرض كله، ولا تدل على الاجتماع في الزمان، وهذا هو الفارق بين معا وجميعا. وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على مع، ومن زعم أن المعنى بقوله: ما في الأرض، الأرض وما فيها، فهو بعيد عن مدلول اللفظ، لكنه تفسير معنى من هذا اللفظ، ومن قوله تعالى: * (الذى جعل لكم الارض فراشا) *، فانتظم من هذين الأرض وما فيها خلق الله ذلك لنا. وقال الزمخشري: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء، كما تذكر السماء، ويراد بها الجهات العلوية، جاز ذلك، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. وقال بعض المنسوبين للحقائق: خلق لكم لبعد نعمه عليكم، فتقتضي الشكرمن نفسك لتطلب المزيد منه. وقال أبو عثمان وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فإنه قد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وقبل التوحيد. وقال ابن عطاء: خلق لكم ليكون الكون كله لك وتكون لله فلا تشتغل بما لك عما أنت له. وقال بعض البغداديين: أنعم عليك بها، فإن الخلق عبدة النعم لاستيلاء النعم عليهم، فمن ظهر للحضرة أسقط عنه المنعم رؤية النعم. وقال الثوري: أعلى مقامات أهل الحقائق الانقطاع عن العلائق: والعطف بثم يقتضي التراخي في الزمان، ولا زمان إذ ذاك، فقيل: أشار بثم إلى التفاوت الحاصل بين خلق السماء والأرض في القدر، وقيل: لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف بثم، إذ بين خلق الأرض والاستواء تراخ يدل على ذلك: * (قل * أئنكم * لتكفرون بالذى خلق الارض فى يومين) *، الآية. استوى أهل الحجاز على الفتح، ونجد على الإمالة. وقرئ في السبعة بهما، (وفي الاستواء هنا سبعة أقوال): أحدها: أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، وهو استعارة من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء، قال معناه الفراء، واختاره الزمخشري، وبين ما الذي استعير منه. الثاني: علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد، قاله الربيع بن أنس، والتقدير: علا أمره وسلطانه، واختاره الطبري. الثالث: أن يكون إلى بمعنى على، أي استوى على السماء، أي تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
* فلما علونا واستوينا عليهم
*
تركناهم صرعى لنسر وكاسر
*
ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر:
* قد استوى بشر على العراق
*
من غير سيف ودم مهراق
*
280

الرابع: أن المعنى تحول أمره إلى السماء واستقر فيها، والاستواء هو الاستقرار، فيكون ذلك على حذف مضاف، أي ثم استوى أمره إلى السماء، أي استقر لأن
أوامره وقضاياه تنزل إلى الأرض من السماء، قاله الحسن البصري. والخامس: أن المعنى استوى بخلقه واختراعه إلى السماء، قاله ابن كيسان، ويؤول المعنى إلى القول الأول. السادس: أن المعنى كمل صنعه فيها، كما تقول: استوى الأمر، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه. السابع: أن الضمير في استوى عائد على الدخان، وهذا بعيد جدا يبعده قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء وهى دخان) *، واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور، ولا يفسره سياق الكلام.
وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى، وأن يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش، إن شاء الله تعالى. ومعنى التسوية: تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن وتكميله من قولهم: درهم سواء، أي وازن كامل تام، أو جعلهن سواء من قوله: * (إذ نسويكم برب العالمين) * أو تسوية سطوحها بالإملاس. والضمير في فسواهن عائد على السماء على أنها جمع سماوة، أو على أنه اسم جنس فيصدق إطلاقه على الفرد والجمع، ويكون مرادا به هنا الجمع. قال الزمخشري، والضمير في فسواهن ضمير مبهم. و * (سبع سماوات) * تفسيره كقولهم: ربه رجلا، انتهى كلامه. ومفهومه أن هذا الضمير يعود على ما بعده، وهو مفسر به، فهو عائد على غير متقدم الذكر. وهذا الذي يفسره ما بعده: منه ما يفسر بجملة، وهو ضمير الشأن أو القصة، وشرطها عند البصريين أن يصرح بجزأيها، ومنه ما يفسر بمفرد، أي غير جملة، وهو الضمير المرفوع بنعم وبئس وما جرى مجراهما. والضمير المجرور برب، والضمير المرفوع بأول المتنازعين على مذهب البصريين، والضمير المجعول خبره مفسرا له، والضمير الذي أبدل منه مفسره في إثبات هذا القسم الأخير خلاف، وذلك نحو: ضربتهم قومك، وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحدا من هذه الضمائر التي سردناها، إلا أن تخيل فيه أن يكون سبع سماوات بدلا منه ومفسرا له، وهو الذي يقتضيه تشبيه الزمخشري له بربه رجلا، وأنه ضمير مبهم ليس عائدا على شيء قبله، لكن هذا يضعف بكون هذا التقدير يجعله غير مرتبط بما قبله ارتباطا كليا، إذ يكون الكلام قد تضمن أنه تعالى استوى على السماء، وأنه سوى سبع سماوات عقيب استوائه السماء، فيكون قد أخبر بإخبارين: أحدهما استواؤه إلى السماء والآخر: تسويته سبع سماوات.
وظاهر الكلام أن الذي استوى إليه هو بعينه المستوي سبع سماوات. وقد أعرب بعضهم سبع سماوات بدلا من الضمير على أن الضمير عائد على ما قبله، وهو إعراب صحيح، نحو: أخوك مررت به زيد، وأجازوا في سبع سماوات أن يكون منصوبا على المفعول به، والتقدير: فسوى منهن سبع سماوات، وهذا ليس بجيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى. أما من حيث اللفظ فإن سوى ليس من باب اختار، فيجوز حذف حرف الجر منه في فصيح الكلام، وأما من حيث المعنى فلأنه يدل على أن الموات كثيرة، فسوى منهن سبعا، والأمر ليس كذلك، إذ المعلوم أن السماوات سبع. وأجازوا أيضا أن يكون مفعولا ثانيا لسوى، ويكون معنى سوى: صير، وهذا ليس بجيد، لأن
281

تعدى سوى لواحد هو المعلوم في اللغة، * (فسواك فعدلك) *، * (قادرين على أن نسوى بنانه) *. وأما جعلها بمعنى صير، فغير معروف في اللغة. وأجازوا أيضا النصب على الحال، فتلخص في نصب سماوات أوجه البدل باعتبارين، والمفعول به، ومفعول ثان، وحال، والمختار البدل باعتبار عود الضمير على ما قبله والحال، ويترجح البدل بعدم الاشتقاق.
وقد اختلف أهل العلم في أيهما خلق قبل، فمنهم من قال: السماء خلقت قبل الأرض، ومنهم من قال: الأرض خلقت قبل السماء، وكل تعلق في الاستدلال بظواهر آيات يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعا لا غير، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء، وخلقت السماء بعدها، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء وبهذا يحتمل الجمع بين الآيات. وقال بعضهم: وإنما خلق السماوات سبعا، لأن السبعة والسبعين فيه دلالة على تضاعيف القوة والشدة، كأنه ضوعف سبع مرات. ومن شأن العرب أن يبالغوا بالسبعة والسبعين من العدد، لما في ذكرها من دليل المضاعفة. قال تعالى: * (ذرعها سبعون ذراعا) *، * (إن تستغفر لهم سبعين مرة) *، والسبعة تذكر في جلائل الأمور: الأيام سبعة، والسماوات سبع، والأرضين سبع، والنجوم التي هي أعلام يستدل بها سبعة: زحل، والمشتري، وعطارد، والمريخ، والزهرة، والشمس، والقمر، والبحار سبعة، وأبواب جهنم. وتسكين الهاء في هو وهي بعد الواو والفاء واللام وثم جائز، وقل بعد كاف الجر وهمزة الاستفهام، وندر بعد لكن، في قراءة أبي حمدون، لكن هو الله ربي، وهو تشبيه بتسكين سبع وكرش، شبه الكلمتان بالكلمة. * (وهو بكل شىء عليم) *: وقرأ بتسكين * (وهو) * أبو عمرو والكسائي وقالون، وقرأ الباقون بضم الهاء على الأصل. ووقف يعقوب على وهو بالهاء نحو: وهوه * (بكل) * متعلق بقوله: * (عليم) *، وكان القياس التعدي باللام حالة التقديم، أو بنفسه. وأما حالة التأخير فبنفسه لأنه من فعل متعد، وهو أحد الأمثلة الخمسة التي للمبالغة، وقد حدث فيها بسبب المبالغة من الأحكام في فعلها ولا في اسم الفاعل، وذلك أن هذا المبني للمبالغة المتعدي، إما أن يكون فعله متعديا بنفسه، أو بحرف جر، فإن كان متعديا بحرف جر تعدى المثال بحرف الجر نحو: زيد صبور على الأذى زهيد في الدنيا، لأن صبر يتعدى بعلى، وزهد يتعدى بفي، وإن كان متعديا بنفسه. فإما أن يكون ما يفهم علما وجهلا، أو لا. إن كان مما يفهم علما أو جهلا تعدى المثال بالباء نحو: زيد عليم بكذا، وجهول بكذا، وخبير بذلك، وإن كان لا يفهم علما ولا جهلا فيتعدى باللام نحو قوله تعالى: * (فعال لما يريد) * وفي تعديها لما بعدها بغير الحرف ونصبها له خلاف مذكور في النحو، وإنما خالفت هذه الأمثلة التي للمبالغة أفعالها المتعدية بنفسه، لأنها بما فيها من المبالغة أشبهت أفعل التفضيل، وأفعل التفضيل حكمه هكذا. قال تعالى: * (ربكم أعلم بكم) *، وقال الشاعر:
أعطى لفارهة حلو مراتعها
وقال:
أكر وأحمى للحقيقة منهم
282

فإن جاء بعده ما ظاهره أنه منصوب به نحو: قوله تعالى إن ربك هو أعلم من يضل، وقول الشاعر:
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
أول بأنه معمول لفعل محذوف يدل عليه أفعال التفضيل.
* (شىء) *: قد تقدم اختلاف الناس في مدلول شيء. فمن أطلقه على الموجود والمعدوم كان تعلق العلم بهما من هذه الآية ظاهرا، ومن خصه بالموجود فقط كان تعلق علمه تعالى بالمعدوم مستفادا من دليل آخر غير هذه الآية. * (عليم) *؛ قد ذكرنا أنه من أمثلة المبالغة، وقد وصف تعالى نفسه بعالم وعليم وعلام، وهذان للمبالغة. وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في علامة، ولا يجوز وصفه به تعالى. والمبالغة بأحد أمرين: أما بالنسبة إلى تكرير وقوع الوصف سواء اتحد متعلقه أم تكثر، وأما بالنسبة إلى تكثير المتعلق لا تكثير الوصف. ومن هذا الثاني المبالغة في صفات الله تعالى، لأن علمه تعالى واحد لا تكثير فيه، فلما تعلق علمه تعالى بالجميع كلية وجزئية دقيقة، وجليلة معدومة وموجودة، وصف نفسه تعالى بالصفة التي دلت على المبالغة، وناسب مقطع هذه الآية بالوصف بمبالغة العلم، لأنه تقدم ذكر خلق الأرض والسماء والتصرف في العالم العلوي والسفلي وغير ذلك من الإماتة والإحياء، وكل ذلك يدل على صدور هذه الأشياء عن العلم الكامل التام المحيط بجميع الأشياء. وقال بعض الناس: العليم من كان علمه من ذاته، والعالم من كان علمه متعديا من غيره، وهذا ليس بجيد لأن الله تعالى قد وصف نفسه بالعالم، ولم يكن علمه بتعلم. وفي تعميم قوله تعالى: * (بكل شيء عليم رد على من زعم أن علم الله تعالى متعلق بالكليات لا بالجزئيات، تعالى الله عن ذلك. وقالوا: علم الله تعالى يتميز على علم عباده بكونه واحدا يعلم به جميع المعلومات، وبأنه لا يتغير بتغيرها، وبأنه غير مستفاد من حاسة ولا فكر، وبأنه ضروري لثبوت امتناع زواله، وبأنه تعالى لا يشغله علم عن علم، وبأن معلوماته تعالى غير متناهية. وفي قولهم لا يشغله علم عن علم، يريدون، معلوم عن معلوم، لأنه قد تقدم أن علم الله واحد ولا يشغله تعلق علم شيء عن تعلقه بشيء آخر.
وتضمن قوله تعالى: * (إن الله لا يستحي) * إلى آخر قوله: * (وهو بكل شىء عليم) *: أن ما ضرب به المثل في كتابه: من مستوقد النار، والصيب، والذباب، والعنكبوت، وما يجري مجرى ذلك، فيه عجائب من الحكم الخفية، والجلية، وبدائع الفصاحة العربية، وموافقة المثل لما ضرب به، وأنه لا يحسن في مثله الأمثلة، وأنه تعالى لا يترك ذلك لما فيه من الحكم ومدح من عرف أن ذلك حق، وذم من أنكره وعابه، وأن في ضربه هدى لمن آمن، وضلالا لمن صد عنه، وذم من نقض عهد الله وقطع ما يجب أن يوصل، وأفسد في الأرض، وإعلامه بأن ذلك سبب خسرانه، والإعلام أن ناقضي عهده هو تعالى قادر على إحيائهم بعد الموت، كما كان قادرا على إيجادهم بعد العدم، وأنه جامعهم وباعثهم ومجازيهم بأعمالهم، وفي ذلك أشد التخويف والتهديد. ثم بعد التخويف ذكرهم تعالى بنعمه التي أنعمها عليهم: من خلق الأرض المقلة، والسماء المظلة، والمخلوقات المتعددة التي ينتفعون بها ويعتبرون بها، ليجمع بذلك بين الترهيب والترغيب، وهذه هي الموعظة التي يتعظ بها ذو العقل السليم والذهن المستقيم. ثم ختم ذلك بالفضل الأكبر من إعلامهم بإحاطة علمه بجميع الأشياء من الابتداء إلى الانتهاء.
2 (* (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها
283

ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم ءادم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ إنك أنت العليم الحكيم * قال ياءادم أنبئهم بأسمآئهم فلمآ أنبأهم بأسمآئهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والا رض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) *))
) *
* (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح) *..
إذ: اسم ثنائي الوضع مبني لشبهه بالحرف وضعا أو افتقارا، وهو ظرف زمان للماضي، وما بعده جملة اسمية أو فعلية، وإذا كانت فعلية قبح تقديم الاسم على الفعل وإضافته إلى المصدرة بالمضارع، وعمل المضارع فيه مما يجعل المضارع ماضيا، وهو ملازم للظرفية إلا أن يضاف إليه زمان، ولا يكون مفعولا به، ولا حرفا للتعليل أو المفاجأة، ولا ظرف مكان، ولا زائدة، خلافا لزاعمي ذلك، ولها أحكام غير هذا ذكرت في النحو. الملك: ميمه أصلية وهو فعل من الملك، وهو القوة، ولا حذف فيه، وجمع على فعائله شذوذا، قاله أبو عبيدة، وكأنهم توهموا أنه ملاك على وزن فعال، وقد جمعوا فعالا المذكر، والمؤنث على فعائل قليلا. وقيل وزنه في الأصل فعأل نحو شمأل ثم نقلوا الحركة وحذفوا، وقد جاء فيه ملأك، فيحتمل أن يكون فعأ، وعلى هذا تكون الهمزة زائدة في فاء الكلمة وعينها، فمنهم من قال: الفاء لام، والعين همزة، من لاك إذا أرسل، وهي لغة محكية، فملك أصله ملأك، فخفف بنقل الحركة والحذف إلى فعل، قال الشاعر:
* فلست لإنسى ولكن لملأك
*
تنزل من جو السماء يصوب
*
فجاء به على الأصل، وهذا قول أبي عبيدة، واختاره أبو الفتح، وملائكة على هذا القول مفاعلة. ومنهم من قال الفاء همزة، والعين لام من الألوكة، وهي الرسالة،
فيكون على هذا أصله مألكا، ويكون ملأك مقلوبا، جعلت فاؤه مكان عينه، وعينه مكان فائه، فعلى هذا القول يكون في وزنه معلا. ومنهم من قال: الفاء لام، والعين واو، ومن لاك الشيء: أداره في فيه، وصاحب الرسالة يديرها في فيه، فهو مفعل من ذلك، نحو: معاذ، ثم حذفوا العين تخفيفا. فعلى هذا القول يكون وزنه معلا، وملائكة على القول مفاعلة، والهمزة أبدلت من واو كما أبدلت في مصائب. وقال النضر بن شميل: الملك لا تشتق العرب فعله ولا تصرفه، وهو مما فات علمه، انتهى. والتاء في الملائكة لتأنيث الجمع، وقبل: للمبالغة، وقد ورد بغير تاء، قال الشاعر:
أنا خالد صلت عليك الملائك
خليفة: فعيلة، وفعيلة تأتي بمعنى الفاعل للمبالغة، كالعليم، أو بمعنى المفعول كالنظيحة، والهاء للمبالغة.
284

السفك: الصب والإراقة، لا يستعمل إلا في الدم، ويقال: سفك وسفك وأسفك بمعنى، ومضارع سفك يأتي على بفعل ويفعل. الدماء: جمع دم، ولامه ياء أو واو محذوفة لقولهم: دميان ودموان، وقصره وتضعيفه مسموعان من لسان العرب. والمحذوف اللام، قيل: أصله فعل، وقيل: فعل، التسبيح: تنزيه الله وتبرئته عن السوء، ولا يستعمل إلا لله تعالى، وأصله من السج، وهو الجري. والمسبح جار في تنزيه الله تعالى، التقديس: التطهير، ومنه بيت المقدس والأرض المقدسة، ومنه القدس: السطل الذي يتطهر به، والقداس: الجمان، قال الشاعر:
كنظم قداس سلكه متقطع
وقال الزمخشري: من قدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد. علم: منقول من علم التي تتعدى لواحد، فرقوا بينها وبين علم التي تتعدى لاثنين في النقل، فعدوا تلك بالتضعيف، وهذه بالهمزة، قاله الأستاذ أبو علي الشلوبين، وسيأتي لكلام عليه عند الشرح. آدم: اسم أعجمي كآزر وعابر، ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، ومن زعم أنه أفعل مشتق من الأدمة، وهي كالسمرة، أو من أديم الأرض، وهو وجهها، فغير صواب، لأن الاشتقاق من الألفاظ العربية قد نص التصريفيون على أنه لا يكون في الأسماء الأعجمية، وقيل: هو عبري من الإدام، وهو التراب، ومن زعم أنه فاعل من أديم الأرض فجعلوه ظاهرا لعدم صرفه، وأبعد الطبري في زعمه أنه فعل رباعي سمي به. العرض: إظهار الشيء حتى تعرف جهته. الإنباء: الإخبار، ويتعدى فعله الواحد بنفسه والثاني بحرف جر، ويجوز حذف ذلك الحرف، ويضمن معنى أعلم فيتعدى إلى ثلاثة. هؤلاء: اسم إشارة للقريب، وها: للتنبيه، والاسم أولاء: مبني على الكسر، وقد تبدل همزته هاء فيقال: هلاء، قد يبنى على الضم فيقال: أولاء، وقد تشبع الضمة قبل اللام فيقال: أولاء، قاله قطرب. وقد يقال: هؤلاء بحذف ألف ها وهمزة أولاء وإقرار الواو التي بعد تلك الهمزة، حكاه الأستاذ أبو علي الشلوبين، وأنشد قوله:
* تجلد لا تقل هؤلاء هذا
*
بكى لما بكى أسفا عليكا
*
وذكر الفراء: أن المد في أولاء لغة الحجاز، والغصر لغة تميم، وزاد غيره أنها لغة بعض قيس وأسد، وأنشد للأعشى:
* هؤلاء ثم هؤلاء كلا
*
أعطيت نعالا محذوة بنعال
*
285

والهمزة عند أبي علي لام الفعل، ففاؤه ولامه همزة، وعند أبي العباس بدل من الياء وقعت بعد ألف فقلبت همزة. سبحانك: معناه تنزيهك، وسبحان اسم وضع موضع المصدر، وهو مما ينتصب بإضمار فعل من معناه لا يجوز إظهاره، وهو من الأسماء التي لزمت النصب على المصدرية، ويضاف ويفرد، فإذا أفرد كان منونا، نحو قول الشاعر:
* سبحانه ثم سبحانا نعوذ به
*
وقبلنا سبح الجودي والجمد
*
فقيل: صرفه ضرورة، وقيل: لجعله نكرة غير منون، نحو قول الشاعر:
* أقول لما جاءني فخبره
*
سبحان من علقمة الفاخر
*
جعله علما فمنعه الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. وزعم بعض النحويين أنه إذا أفرد كان مقطوعا عن الإضافة، فعاد إليه التنوين، ومن لم ينونه جعله بمنزلة قبل وبعد، وقد رد هذا القول في كتب النحو. الحكيم: فعيل بمعنى مفعل، من أحكم الشيء: أتقنه ومنعه من الخروج عما يريده. الإبداء: الإظهار، والكتم: الإخفاء.
* (وإذ قال ربك للملائكة) *: لم يرد في سبب نزول هذه الآيات شيء. ومناسبتها لما قبلها أنه لما امتن عليهم بخلق ما في الأرض لهم، وكان قبله إخراجهم من العدم إلى الوجود، أتبع ذلك ببدء خلقهم، وامتن عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه وجعله خليفة وإسكانه دار كرامته، وإسجاد الملائكة تعظيما لشأنه وتنبيها على مكانه واختصاصه بالعلم الذي به كمال الذات وتمام الصفات، ولا شك أن الإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع، وشرف الفرع بشرف الأصل. واختلف المعربون في إذ، فذهب أبو عبيدة وابن قتيبة إلى زيادتها، وهذا ليس بشيء، وكان أبو عبيدة وابن قتيبة ضعيفين في علم النحو. وذهب بعضهم إلى أنها بمعنى قد، التقدير: وقد قال ربك، وهذا ليس بشيء، وذهب بعضهم إلى أنه منصوب نصب المفعول به باذكر، أي واذكر: * (إذ قال ربك) *، وهذا ليس بشيء، لأن فيه إخراجها عن بابها، وهو أنه لا يتصرف فيها بغير الظرفية، أو بإضافة ظرف زمان إليها. وأجاز ذلك الزمخشري وابن عطية وناس قبلهما وبعدهما، وذهب بعضهم إلى أنها ظرف. واختلوا، فقال بعضهم: هي في موضع رفع، التقدير: ابتداء خلقكم. وقال بعضهم في موضع نصب، التقدير: وابتداء خلقكم، إذ قال ربك. وناسب هذا التقدير لما تقدم قوله: * (خلق لكم ما فى الارض جميعا) *، وكلا هذين القولين لا تحرير فيه، لأن ابتداء خلقنا لم يكن وقت قول الله للملائكة:
286

* (إني جاعل فى الارض خليفة) *، لأن الفعل العامل في الظرف لا بد أن يقع فيه، أما أن يسبقه أو يتأخر عنه، فلا لأنه لا يكون له ظرفا. وذهب بعضهم إلى أن إذ منصوب يقال بعدها، وليس بشيء، لأن إذ مضافة إلى الجملة بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وذهب بعضهم إلى أن نصبها بأحياكم، تقديره: * (وهو الذى أحياكم) *، * (إذ قال ربك) *، وهذا ليس بشيء لأنه حذف بغير دليل، وفيه أن الإحياء ليس واقعا في وقت قول الله للملائكة، وحذف الموصول وصلته، وإبقاء معمول الصلة. وذهب بعضهم إلى أنه معمول لخلقكم من قوله تعالى: * (اعبدوا ربكم الذى خلقكم) * * (إذ قال ربك) *، فتكون الواو زائدة، ويكون قد فصل بين العامل والمعمول بهذه الجمل التي كادت أن تكون سورا من القرآن، لاستبداد كل آية منها بما سيقت له، وعدم تعلقها بما قبلها التعلق الإعرابي.
فهذه ثمانية أقوال ينبغي أن ينزل كتاب الله عنها. والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله: * (قالوا أتجعل) *، أي وقت قول الله للملائكة: * (إني جاعل فى الارض) *، * (قالوا أتجعل) *، كما تقول في الكلام: إذ جئتني أكرمتك، أي وقت مجيئك أكرمتك، وإذ قلت لي كذا قلت لك كذا. فانظر إلى حسن هذا الوجه السهل الواضح، وكيف لم يوفق أكثر الناس إلى القول به، وارتبكوا في دهياء وخبطوا خبط عشواء. وإسناد القول إلى الرب في غاية من المناسبة والبيان، لأنه لما ذكر أنه خلق لهم ما في الأرض، كان في ذلك صلاح لأحوالهم ومعايشهم، فناسب ذكر الرب وإضافته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) تنبيه على شرفه واختصاصه بخطابه، وهز لاستماع ما يذكر بعد ذلك من غريب افتتاح هذا الجنس الإنساني، وابتداء أمره ومآله. وهذا تنويع في الخطاب، وخروج من الخطاب العام إلى الخطاب الخاص، وفي ذلك أيضا إشارة لطيفة إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها، إذ هو في الحقيقة أعظم خلفائه، ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه وجعل أفضل أنبيائه أم بهم ليلة إسرائه، وجعل آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم في أرضه وسمائه وفي داري تكليفه وجزائه. واللام في للملائكة: للتبليغ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها اللام، فظاهر لفظ الملائكة العموم. وقال بذلك قوم، وقال قوم هو عام المراد به الخصوص، وهم سكان الأرض من الملائكة بعد الجان. وقيل: هم المحاربون مع إبليس. ومعمول القول إني جاعل، وكان ذلك مصدرا بأن، لأن المقصود تأكيد الجملة المخبر بها، وإن هذا واقع لا محالة وإن تكسر بعد القول، ولفتحها بعده عند أكثر العرب شروط ذكرت في النحو، وبنو سليم يفتحونها بعده من غير شرط، وقال شاعرهم:
* إذا قلت إني آيب أهل بلدة
*
نزعت بها عنها الولية بالهجر
*
جاعل: اسم فاعل بمعنى الاستقبال، ويجوز إضافته للمفعول إلا إذا فصل بينهما كهذا، فلا يجوز، وإذا جاز إعماله، فهو أحسن من الإضافة، نص على ذلك سيبويه، وقال الكسائي: هما سواء، والذي أختاره أن الإضافة أحسن، وقد ذكرنا وجه اختيارنا ذلك في بعض ما كتبناه في العربية. وفي الجعل هنا قولان
287

أحدهما: أنه بمعنى الخلق، فيتعدى إلى واحد، قاله أبو روق، وقريب منه ما روي عن الحسن وقتادة أنه بمعنى فاعل، ولم يذكر ابن عطية غير هذا. والثاني: أنه بمعنى التصيير، فيتعدى إلى اثنين. والثاني هو في الأرض، أي: مصير في الأرض خليفة، قاله الفراء، ولم يذكر الزمخشري غيره. وكلا القولين سائغ، إلا أن الأول عندي أجود، لأنهم قالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) *؟ فظاهر هذا أنه مقابل لقوله: * (جاعل فى الارض خليفة) *. فلو كان الجعل الأول على معنى التصيير لذكره ثانيا، فكان: أتجعل فيها خليفة من يفسد فيها؟ وإذا لم يأت كذلك، كان معنى الخلق أرجح. ولا احتياج إلى تقدير خليفة لدلالة ما قبله عليه، لأنه إضمار، وكلام بغير إضمار أحسن من كلام بإضمار، وجعل الخبر اسم فاعل، لأنه يدل على الثبوت دون التجدد شيئا شيئا.
والجعل: سواء كان بمعنى الخلق أو التصيير، وكان آدم هو الخليفة على أحسن الفهوم، لم يكن إلا مرة واحدة، فلا تكرر فيه، إذ لم يخلقه أو لم يصيره خليفة إلا مرة واحدة. وقوله: في الأرض: ظاهره الأرض كلها، وهو قول الجمهور. وقيل: أرض مكة. وروى ابن سابط هذا التفسير بأنها أرض مكة مرفوعا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم)، فإن صح ذلك لم يعدل عنه، قيل: ولذلك سمي وسطها بكة، لأن الأرض بكت من تحتها، واختصت بالذكر لأنها مقر من هلك قومه من الأنبياء، ودفن بها نوح وهود وصالح بين المقام والركن، وتكون الألف واللام فيها للعهد نحو: * (فلن أبرح الارض) *، * (وكذالك مكنا ليوسف فى الارض) * * (استضعفوا فى الارض) *، وقال الشاعر:
* يقولون لي أرض الحجاز جديبة
*
فقلت وما لي في سوى الأرض مطلب
*
وقرأ الجمهور: خليفة، بالفاء، ويحتمل أن يكون بمعنى الخالف، ويحتمل أن يكون بمعنى المخلوف، وإذا كان بمعنى الفاعل كان معناه: القائم مقام غيره في الأمر الذي جعل إليه. والخليفة، قيل: هو آدم لأنه خليفة عن الملائكة الذين كانوا في الأرض، أو عن الجن بني الجان، أو عن إبليس في ملك الأرض، أو عن الله تعالى، وهو قول ابن مسعود وابن عباس. والأنبياء هم خلائف الله في أرضه، واقتصر على آدم لأنه أبو الخلائف، كما اقتصر على مضر وتميم وقيس، والمراد القبيلة. وقيل: ولد آدم لأنه يخلف بعضهم بعضا: إذا هلكت أمة خلفتها أخرى، قاله الحسن، فيكون مفردا أريد به الجمع، كما جاء: * (وهو الذى جعلكم خلائف الارض) * * (ليستخلفنهم فى الارض كما استخلف الذين من قبلهم) *. وقيل: الخليفة اسم لكل من انتقل إليه تدبير أهل الأرض والنظر في مصالحهم، كما أن كل من ولى الروم: قيصر، والفرس: كسرى، واليمن: تبع. وفي المستخلف فيه آدم قولان
288

أحدهما: الحكم بالحق والعدل. الثاني: عمارة الأرض، يزرع ويحصد ويبني ويجري الأنهار. وقرأ زيد بن علي وأبو البرهسم عمران: خليقة، بالقاف ومعناه واضح.
وخطاب الله الملائكة بقوله: * (إني جاعل فى الارض خليفة) * أن كان للملائكة الذين حاربوا مع إبليس الجن، فيكون ذلك عاما بأنه رافعهم إلى السماء ومستخلف في الأرض آدم وذريته. وروي ما يدل على ذلك عن ابن عباس، وهو ما ملخصه: أن الله أسكن الملائكة السماء، والجن الأرض، فعبدوا دهرا طويلا ثم أفسدوا وحسدوا، فاقتتلوا، فبعث الله إليهم جندا من الملائكة رأسهم إبليس، وكان أشدهم وأعلمهم، فهبطوا الأرض وطردوا الجن إلى شعف الجبال وبطون الأودية وجزائر البحور وسكنوها، وخفف عنهم العبادة، وأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك سماء الدنيا وخزانة الجنة، فكان يعبد تارة في الأرض وتارة في الجنة، فدخله العجب وقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا إلا أني أكرم الملائكة عليه. فقال الله تعالى له ولجنوده: * (إني جاعل فى الارض خليفة) * بدلا منكم ورافعكم إلي، فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة، وقالوا: * (أتجعل) * الآية. وإن كان الملائكة، جميع الملائكة. فسبب القول: إرادة الله أن يطلع الله الملائكة على ما في نفس إبليس من الكبر وأن يظهر ما سبق عليه في علمه.
روي عن ابن عباس، وعن السدي، عن أشياخه: وأن يبلو طاعة الملائكة، قاله الحسن، أو أن يظهر عجزهم عن الإحاطة بعلمه، أو أن يعظم آدم بذكر الخلافة قبل وجوده، ليكونوا مطمئنين له إذا وحدوا، أو أن يعلمهم بخلقه ليسكن الأرض وإن كان ابتداء خلقه في السماء، وأن يعلمنا أن نشاور ذوي الأحلام منا وأرباب المعرفة إذ استشار الملائكة اعتبارا لهم، مع علمه بحقائق الأشياء، أو أن يتجاوز الخطاب بما ذكر فيحصل منهم الاعتراف والرجوع عما كانوا يظنون من كمال العلم، أو أن يظهر علو قدر آدم في العلم بقوله لآدم: * (أنبئهم بأسمائهم) *، أو أن يعلمنا الأدب معه وامتثال الأمر، عقلنا معناه أو لم نعقله، لتحصل بذلك الطاعة المحضة أو أن تطمئن قلوب الملائكة حين خلق الله النار فخافت وسألت: لمن خلقت هذا؟ قال: لمن عصاني. إذ لم يعلموا وجود خلق سواهم، قاله ابن زيد. وقال بعض أهل الإشارة في قوله: * (إني جاعل فى الارض خليفة) *: سابق العناية، لا يؤثر فيه حدوث الجناية، ولا يحط عن رتبة الولاية، وذلك أنه تعالى نصب آدم خليفة عنه في أرضه مع علمه بما يحدث عنه من مخالفة أمره التي أوجبت له الإخراج من دار الكرامة وأهبطه إلى الأرض التي هي محل الأكدار، ومع ذلك لم يسلبه ما ألبسه من خلع كرامته، ولا حطه عن رتبة خلافته، بل أجزل له في العطية فقال: * (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) *، قال الشاعر:
* وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
*
جاءت محاسنه بألف شفيع
*
كان عمر ينقل الطعام إلى الأصنام والله يحبه، قال الشاعر:
* أتظنني من زلة أتعتب
*
قلبي عليك أرق مما تحسب
*
ويقال إن الله سبحانه خلق ما خلق ولم يقل في شيء منها ما قال في حديث آدم، حيث قال: * (إني جاعل فى الارض خليفة) *. فظاهر هذا الخطاب تنبيه لشرف خلق الجنان وما فيها، والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة، ولم يقل: إني خالق عرشا أو جنة أو ملكا، وإنما قال ذلك تشريفا وتخصيصا لآدم. قالوا تقدم أن الاختيار في
289

العالم إذ هو، قالوا: ومعموله الجملة من قوله: أتجعل؟ ولما كانت الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول، لم يكن قولهم: * (أتجعل فيها) * الآية، إلا عن نبأ ومقدمة، فقيل: الهمزة، وإن كان أصلها للاستفهام، فهو قد صحبه معنى التعجب، قاله مكي وغيره، كأنهم تعجبوا من استخلاف الله من يعصيه أو من يعصي من يستخلفه في أرضه. وقيل: هو استفهام على طريق الاستعظام، والإكبار للاستخلاف والعصيان. وقيل: هو استفهام معناه التقرير، قاله أبو عبيدة، قال الشاعر:
* ألستم خير من ركب المطايا
*
وأندى العالمين بطون راح
*
وعلى هذه الأقوال يكون علمهم بذلك قد سبق، إما بإخبار من الله، أو بمشاهدة في اللوح، أو يكون ومخلوق غيرهم وهم معصومون، أو قالوا ذلك بطريق القياس على من سكن الأرض فأفسد قبل سكنى الملائكة، أو استنبطوا ذلك من لفظ خليفة، إذ الخليفة من يكون نائبا في الحكم، وذلك يكون عند التظالم. وقيل: هو استفهام محض، قاله أحمد بن يحيى، وقدره: أتجعل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟ وفسره أبو الفضل التجلي: أي أم تجعل من لا يفسد، وقدره غيرهما، ونحن نسبح بحمدك، أم تتغير؟ فعلى الأقوال الثلاثة الأول لا معادل للاستفهام، لأنه مذهوب به مذهب التعجب أو الاستعظام أو التقرير. وعلى القول الرابع يكون المعادل مفعول أتجعل، وهو من يفسد. وعلى القول الخامس تكون المعادلة من الجملة الحالية التي هي قوله، ونحن نسبح بحمدك. وقرأ الجمهور: ويسفك بكسر الفاء ورفع الكاف. وقرأ أبو حياة وابن أبي عبلة: بضم الفاء. وقرىء: ويسفك من أسفك ويسفك من سفك مشدد الفاء. وقرأ ابن هرمز: ويسفك بنصب الكاف، فمن رفع الكاف عطف على يفسد، ومن نصب فقال المهدوي: هو نصب في جواب الاستفهام، وهو تخريج حسن وذلك أن المنصوب في جواب الاستفهام أو غيره بعد الواو بإضمار أن يكون المعنى على الجمع، ولذلك تقدر الواو بمعنى مع، فإذا قلت: أتأتينا وتحدثنا ونصبت، كان المعنى على الجمع بين أن تأتينا وتحدثنا، أي ويكون منك إتيان مع حديث، وكذلك قوله:
* أتبيت ريان الجفون من الكرى
*
وأبيت منك بليلة الملسوع
*
معناه: أيكون منك مبيت ريان مع مبيتي منك بكذا، وكذلك هذا يكون منك جعل مفسد مع سفك الدماء. وقال أبو محمد بن عطية: النصب بواو الصرف قال: كأنه قال من يجمع أن يفسد وأن يسفك، انتهى كلامه. والنصب بواو الصرف ليس من مذاهب البصريين. ومعي واو الصرف: أن الفعل كان يستحق وجها من الإعراب غير النصب فيصرف بدخول الواو عليه عن ذلك الإعراب إلى النصب كقوله تعالى: * (ويعلم الذين يجادلون) *، في قراءة من نصب، وكذلك: * (ويعلم الصابرين) *. فقياس الأول الرفع، وقياس الثاني الجزم، فصرفت الواو الفعل إلى النصب، فسميت واو الصرف، وهذا عند البصريين منصوب بإضمار أن بعد الواو. والعجب من ابن عطية أنه ذكر هذا الوجه أولا وثنى بقول الهدوي، ثم قال: والأول أحسن. وكيف يكون أحسن وهو شيء لا يقول به البصريون وفساده مذكور في علم النحو؟ ولما كانت الصلة يفسد، وهو فعل في سياق الإثبات، فلا يدل على التعميم في الفساد. نصوا على أعظم الفساد، وهو سفك الدماء، لأنه به تلاشي الهياكل الجسمانية التي خلقها الله، ولو لم ينصوا عليه لجاز أن لا يراد من قولهم: يفسد، وكرر فيها لأن في ذلك تنبيها على أن ما كان محلا للعبادة وطاعة الله
290

كيف يصير محلا للفساد؟ كما مر مثله في قوله: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض) * ولم يحتج إلى تكرير فيها بعد قوله: ويسفك، اكتفاء بما سبق وتنكبا أن يكرروا فيها ثلاث مرات. ألا ترى أنهم نقدوا على أبي الطيب قوله:
* ونهب نفوس أهل النهب أولى
*
بأهل النهب من نهب القماش
*
* (ونحن نسبح) *: جملة حالية، والتسبيح التنزيه، قاله قتادة: أو رفع الصوت بذكر الله تعالى، قاله المفضل: والخضوع والتذلل، قاله ابن الأنباري، أو الصلاة، أي نصلي لك، من المسبحين: أي من المصلين، قاله ابن مسعود وابن عباس، أو التعظيم، أي ونحن نعظمك، قاله مجاهد، أو تسبيح خاص، وهو: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العظمة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت. ويعرف هذا بتسبيح الملائكة، أو بقول: سبحان الله وبحمده.
وفي حديث عن عبادة بن الصامت، عن أبي ذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم) سئل: أي الكلام أفضل قال: (ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده). * (بحمدك) *: في موضع الحال، والباء فيه للحال، أي نسبح ملتبسين بحمدك، كما تقول: جاء زيد بثبابه، وهي حال متداخلة لأنها حال في حال. وقيل: الباء للسبب، أي بسبب حمدك، والحمد هو الثناء، والثناء ناشيء عن التوفيق للخير والإنعام على المثنى، فنزل الناشئ عن السبب منزلة السبب فقال: ونحن نسبح بحمدك، أي بتوفيقك وإنعامك، والحمد مصدر مضاف إلى المفعول نحو قوله: من دعاء الخير، أي بحمدنا إياك. والفاعل عند البصريين محذوف في باب الصمدر، وإن كان من قواعدهم أن الفاعل لا يحذف وليس ممنوع في المصدر، كما ذهب إليه بعضهم، لأن أسماء الأجناس لا يضمر فيها، لأنه لا يضمر إلا فيما جرى مجرى الفعل، إذ الإضمار أصل في الفعل، ولا حاجة تدعو إلى أن في الكلام تقديما وتأخيرا، كما ذهب إليه بعضهم، وأن التقدير: ونحن نسبح ونقدس لك بحمدك، فاعترض بحمدك بين المعطوف والمعطوف عليه لأن التقديم والتأخير مما يختص بالضرورة، فلا يحمل كلام الله عليه، وإنما جاء بحمدك بعد نسبح لاختلاط التسبيح بالحمد. وجاء قوله بعد: * (ونقدس لك) * كالتوكيد، لأن التقديس هو: التطهير، والتسبيح هو: التنزيه والتبرئة من السوء، فهما متقاربان في المعنى. ومعنى التقديس كما ذكرنا التطهير، ومفعوله أنفسنا لك من الأدناس، قاله الضحاك وغيره، أو أفعالنا من المعاصي، قاله أبو مسلم، أو المعنى: نكبرك ونعظمك. قاله مجاهد وأبو صالح، أو نصلي لك، أو نتطهر من أعمالهم يعنون بني آدم. حكى ذلك عن ابن عباس، أو نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك، واللام في لك زائدة، أي نقدسك. وقيل: لام العلة متعلقة بتقدس، قيل: أو بنسج وقيل: معدية للفعل، كهي في
291

سجدت لله، وقيل: اللام للبيان كاللام بعد سقيا لك، فتتعلق إذ ذاك بمحذوف دل عليه ما قبله، أي تقديسنا لك. والأحسن أن تكون معدية للفعل، كهي في قوله: * (يسبح لله) *، * (وسبح * لله) *. وقد أبعد من ذهب إلى أن هذه الجملة من قوله: * (ونحن نسبح) * استفهامية حذف منها أداة الاستفهام وأن التقدير، أو نحن نسبح بحمدك، أم نتغير، بحذف الهمزة من غير دليل، ويحذف معادل الجملة المقدرة دخول الهمزة عليها، وهي قوله: أم نتغير، وليس ذلك مثل قوله:
* لعمرك ما أدري وإن كنت داريا
*
بسبع رمين الجمر أم بثمان
*
يريد: أبسبع، لأن الفعل المعلق قبل بسبع والجزء المعادل بعده يدلان على حذف الهمزة. ولما كان ظاهر قول الملائكة: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) *، مما لا يناسب أن يجاوبوا به الله، إذ قال لهم: * (إني جاعل فى الارض خليفة) *. وكان من القواعد الشرعية والعقائد الإسلامية عصمة الملائكة من المعاصي والاعتراض، لم يخالف في ذلك إلا طائفة من الحشوية. وهي مسألة يتكلم عليها في أصول الدين، ودلائلها مبسوطة هناك، احتاج أهل العلم إلى إخراج الآية السابقة عن ظاهرها وحملها كل قائل ممن تقدم قوله على ما سبح له، وقوي عنده من التأويل الذي هو سائغ في علم اللسان. وقال بعض أهل الإشارات: الملائكة لما توهموا أن الله تعالى أقامهم في مقام المشورة بأن لهم وجه المصلحة في بقاء الخلافة فيمن يسبح ويقدس، وأن لا ينقلها إلى من يفسد فيها ويسفك، فعرضوا ذلك على الله، وكان ذلك من جملة النصح في الاستشارة، والنصح في ذلك واجب على المستشار، ولله تعالى الحكم فيما يمضي من ذلك ويختار.
ومن أندر ما وقع في تأويل الآية ما ذهب إليه صاحب (كتاب فك الأزرار)، وهو الشيخ صفي الدين أبو عبد الله الحسين بن الوزير أبي الحسن علي بن أبي المنصور الخزرجي، قال: في كتاب ظاهر كلام الملائكة يشعر بنوع من الاعتراض، وهم منزهون عن ذلك والبيان، أن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين، وكان إبليس مندرجا في جملتهم، فورد منهم الجواب مجملا. فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه وظهورإبليسيته واستكباره، انفصل الجواب إلى نوعين: فنوع الاعتراض منه كان عن إبليس، وأنواع الطاعة والتسبيح والتقديس كان عن الملائكة. فانقسم الجواب إلى قسمين، كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه والله أعلم. انتهى كلامه. وهو تأويل حسن، وصار شبيها بقوله تعالى: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) *، لأن الجملة كلها مقولة، والقائل نوعان، فرد كل قول لمن ناسبة. وقيل في قوله: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) *، إشارة إلى جواز التمدح إلى من له الحكم في التولية ممن يقصد الولاية، إذا أمن على نفسه الجور والحيف، ورأى في ذلك مصلحة. ولذلك جاز ليوسف، على نبينا وعليه السلام، طلبه الولاية، ومدح نفسه بما فيها فقال: * (اجعلنى على خزائن الارض إنى حفيظ عليم) *، قال: * (إني أعلم) *، مضارع علم وما مفعولة بها موصولة، قيل: أو نكرة موصوفة، وقد تقدم: أنا لا نختار، كونها نكرة موصوفة. وأجاز مكي بن أبي طالب والمهدوي وغيرهما أن تكون أعلم هنا اسما بمعنى فاعل، وإذا كان كذلك جاز في ما أن تكون مجرورة بالإضافة، وأن تكون في موضع نصب،
292

لأن هذا الاسم لا ينصرف، وأجاز بعضهم أن تكون أفعل التفضيل. والتقدير: أعلم منكم، وما منصوبة بفعل محذوف يدل عليه أعلم، أي علمت، وأعلم ما لا تعلمون.
وهذا القول فيه خروج عن الظاهر وادعاء حذفين: أحدهما: حذف المفضل عليه وهو منكم. والثاني: الفعل الناصب للموصول، وأما ما أجازه مكي فهو مبني على أمرين غير صحيحين. أحدهما: ادعاء أن أفعل تأتي بمعنى فاعل، وهذا قال به أبو عبيدة من المتقدمين، وخالفه النحويون وردوا عليه قوله، وقالوا: لا يخلوا أفعل من التفضيل، وإن كان يوجد في كلام بعض المتأخرين أن أفعل قد يخلو من التفضيل، وبنوا على ذلك جواز مسألة يوسف أفضل إخوته، حتى أن بعضهم ذكر في جواز اقتياسه خلافا، تسليما منه أن ذلك مسموع من كلام العرب فقال: واستعماله عاريا دون من مجردا عن معنى التفضيل، مؤولا باسم فاعل أو صفة مشبهة، مطرد عند أبي العباس، والأصح قصره على السماع، انتهى كلامه. والأمر الثاني: أنه إذا سلم وجود أفعل عاريا من معنى التفضيل، فهو يعمل عمل اسم الفاعل أم لا. والقائلون
بوجود ذلك لا يقولون بإعماله عمل اسم الفاعل إلا بعضهم، فأجاز ذلك، والصحيح ما ذهب إليه النحويون المتقدمون من كون أفعل لا يخلو من التفضيل، ولا مبالاة بخلاف أبي عبيدة لأنه كان يضعف في النحو، ولا بخلاف بعض المتأخرين لأنهم مسبوقون بما هو كالإجماع من المتقدمين، ولو سلمنا إسماع ذلك من العرب، فلا نسلم اقتياسه، لأن المواضع التي أوردت دليلا على ذلك في غاية من القلة، مع أنها قد تؤولت. ولو سلمنا اقتباس ذلك، فلا نسلم كونه يعمل عمل اسم الفاعل. وكيف نثبت قانونا كليا ولم نسمع من العرب شيئا من أفراد تركيباته لا يحفظ: هذا رجل أضرب عمرا، بمعنى ضارب عمرا، ولا هذه امرأة أقتل خالدا، بمعنى قاتلة خالدا، ولا مررت برجل أكسى زيدا جبة، بمعنى: كأس زيدا جبة. وهل هذا إلا إحداث تراكيب لم تنطق العرب بشيء من نظيرها؟ فلا يجوز ذلك. وكيف يعدل في كتاب الله عن الشيء الظاهر الواضح من كون أعلم فعلا مضارعا إلى هذا الذي هو؟ كما رأيت في علم النحو، وإنما طولت في هذه المسألة لأنهم يسلكون ذلك في مواضع من القرآن سيأتي بيانها، إن شاء الله تعالى، فينبغي أن يتجنب ذلك. ولأن استعمال أفعل عارية من معنى التفضيل مشهور عند بعض المتأخرين، فنبهت على ما في ذلك، والمسألة مستوفاة الدلائل. نذكر في علم النحو: * (ما لا تعلمون) * الذي مدح الله به نفسه من العلم دونهم علمه ما في نفس إبليس مع البغي والمعصية، قاله ابن عباس ومجاهد والسدي عن أشياخه أو علمه بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، قاله قتادة، أو علمه بمن يملأ جهنم من الجنة والناس، قاله ابن زيد؛ أو علمه بعواقب الأمور فيبتلي من تظنون أنه مطيع فيؤديه الابتلاء إلى المعصية، ومن تظنون أنه عاص فيؤديه الابتلاء إلى الطاعة فيطيع، قاله الزجاج، أو علمه بظواهر الأمور وباطنها، جليها ودقيقها، عاجلها وآجلها، صالحها وفاسدها، على اختلاف الأحوال والأزمان علما حقيقيا، وأنتم لا تعلمون ذلك، أو علمه بغير اكتساب ولا نظر ولا تدبر ولا فكر، وأنتم لا تعلمون المعلومات على هذا النسق. أو علمه بأن معهم إبليس، أو علمه باستعاظمكم أنفكم بالتسبيح والتقديس. والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أنه أخبرهم إذا تكلموا بالجملة السابقة التي هي أتجعل فيها بأنه يعلم ما لا تعلمونه. وأبهم في إخباره الأشياء التي يعلمها دونهم، فإذا كان كذلك، فإخباره بأنه يجعل في الأرض خليفة يقتضي التسليم له والرجوع إليه فيما أراد أن يفعله والرضا بذلك، لأن علمه محيط بما لا يحيط به علم عالم، جل الله وعز. والأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه من قوله، قال: * (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والارض) * الآية.
* (وعلم ءادم الاسماء
293

كلها) *: لما أخبر تعالى الملائكة عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته على سبيل الإجمال، أراد أن يفصل، فبين لهم من فضل آدم ما لم يكن معلوما لهم، وذلك بأن علمه الأسماء ليظهر فضله وقصورهم عنه في العلم، فتأكد الجواب الإجمالي بالتفضيل. ولا بد من تقدير جملة محذوفة قبل هذا، لأنه بها يتم المعنى ويصح هذا العطف، وهي: فجعل في الأرض خليفة. ولما كان لفظ الخليفة محذوفا مع الجملة المقدرة، أبرزه في قوله: * (وعلم ءادم) *، ناصا عليه ومنوها بذكره باسمه. وأبعد من زعم أن: * (وعلم ءادم) * معطوف على قوله، قال من قوله تعالى: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل) *. وهل التعليم بتكليم الله تعالى له في السماء، كما كلم موسى في الأرض، أو بوساطة ملك أو بالإلهام؟ أقوال أظهرها أن الباري تعالى هو المعلم، لا بواسطة ولا إلهام. وقرأ اليماني ويزيد اليزيدي: وعلم آدم مبنيا للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به والتضعيف في علم للتعدية، إذ كان قبل التضعيف يتعدى لواحد، فعدى به إلى اثنين. وليست التعدية بالتضعيف مقيسة، إنما يقتصر فيه على مورد السماع، سواء كان الفعل قبل التضعيف لازما أم كان متعديا، نحو: علم المتعدية إلى واحد. وأما إن كان متعديا إلى اثنين، فلا يحفظ في شيء منه التعدية بالتضعيف إلى ثلاث. وقد وهم القاسم بن علي الحريري في زعمه في شرح الملحة له أن علم تكون منقولة من علم التي تتعدى إلى اثنين فتصير بالتضعيف متعدية إلى ثلاثة، ولا يحفظ ذلك من كلامهم.
وقد ذهب بعض النحويين إلى اقتباس التعدية بالتضعيف. قال الإمام أبو الحسين بن أبي الربيع في (كتاب التلخيص) من تأليفه: الظاهر من مذهب سيبويه أن النقل بالتضعيف سماع في المتعدي واللازم، وفيما علمه أقوال: أسماء جميع المخلوقات، قاله ابن نعباس وابن جبير ومجاهد وقتادة، أو اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعزى إلى ابن عباس، وهو قريب من الأول، أو جميع اللغات، ثم كلم كل واحد من بنيه بلغة فتفرقوا في البلاد، واختص كل فرقة بلغة أو كلمة واحدة تفرع منها جميع اللغات، أو أسماء النجوم فقط، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، أو أسماء الملائكة فقط، قاله الربيع بن خيثم،
294

أو أسماء ذريته، قاله الربيع بن زيد، أو أسماء ذريته والملائكة، قاله الطبري واختاره؛ أو أسماء الأجناس التي خلقها، علما أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية، واختاره الزمخشري، أو أسماء ما خلق في الأرض، قاله ابن قتيبة، أو الأسماء بلغة ثم وقع الاصطلاح من ذريته في سواها، أو علمه كل شيء حتى نحو سيبويه، قاله أبو علي الفارسي، أو أسماء الله عز وجل، قاله الحكيم الترمذي، أو أسماء من أسمائه المخزونة، فعلم بها جميع الأسماء، قاله الجريري، أو التسميات. ومعنى هذا علمه أن يسمي الأشياء، وليس المعنى علمه الأسماء، لأن التسمية غير الاسم، قاله الجمهور، وحالة تعليمه تعالى آدم، هل عرض عليه المسميات أو وصفها له ولم يعرضها عليه قولان: قال بعض من عاصرناه: المختار أسماء ذريته، وعرفه العاصي والمطيع ليعرف الملائكة بأسمائهم وأفعالهم ردا عليهم قولهم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) *، الأسماء كلها يحتمل أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لدلالة الأسماء عليه. قال الزمخشري: وعوض منه اللام كقوله: * (واشتعل الرأس شيبا) *، انتهى.
وقد تقدم لنا أن اللام عوض من الإضافة ليس مذهب البصريين، ويحتمل أن يكون التقدير مسميات، الأسماء، فحذف المضاف وقيم المضاف إليه مقامه، ويترجح الأول، وهو تعليق التعليم بالأسماء تعلق الأنباء به في قوله: * (أنبئونى بأسماء هؤلاء) *، والآية التي بعدها، ولم يقل: أنبئوني بهؤلاء، ولا أنبئهم بهم. ويترجح الثاني بقوله، ثم عرضهم إذا حمل على ظاهره، لأن الأسماء لا تجمع كذلك، فدل على عوده على المسميات نحو قوله تعالى: * (أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه) *،
التقدير: أو كذي ظلمات، فعاد الضمير من يغشاه على ذي المحذوفة، القائم مقامها في الإعراب ظلمات. والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أن الله علم آدم الأسماء ولم يبين لنا أسماء مخصوصة، بل دل قوله تعالى: * (كلها) * على الشمول، والحكمة حاصلة بتعليم الأسماء، وإن لم تعلم مسمياتها. ويحتمل أن يريد بالأسماء المسميات، فيكون من إطلاق اللفظ ويراد به مدلوله.
* (ثم عرضهم) *: ثم: حرف تراخ، ومهلة علم آدم ثم أمهله من ذلك الوقت إلى أن قال: * (أنبئهم بأسمائهم) * ليتقرر ذلك في قلبه ويتحقق المعلوم ثم أخبره عما تحقق به واستيقنه. وأما الملائكة فقال لهم على وجه التعقيب دون مهلة * (أنبئونى) *، فلما لم يتقدم لهم تعريف لم يخبروا، ولما تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر ونطق إظهارا لعنايته السابقة به
295

سبحانه. عرضهم خلقهم وعرضهم عليهم، قاله ابن مسعود، أو صورهم لقلوب الملائكة، أو عرضهم وهم كالذر، أو عرض الأسماء، قاله ابن عباس، وفيه جمعها بلفظة هم. والظاهر أن ضمير النصب في عرضهم يعود على المسميات، وظاهره أنه للعقلاء، فيكون إذ ذاك المعنى بالأسماء أسماء العاقلين، أو يكون فيهم غير العقلاء، وغلب العقلاء. وقرأ أبي ثم عرضها. وقرأ عبد الله ثم عرضهن، والضمير عائد على الأسماء، فتكون هي المعروضة، أو يكون التقدير مسمياتها، فيكون المعروض المسميات لا الأسماء. * (على الملائكة) *: ظاهره العموم، فقيل: هو مراد، وقيل: الملائكة الذين كانوا مع إبليس في الأرض. * (فقال) *: الفاء: للتعقيب، ولم يتخلل بين العرض والأمر مهلة بحيث يقع فيها ترو أو فكر، وذلك أجدر بعدم الإضافة. * (أنبئونى) *: أمر تعجيز لا تكليف. وقرأ الأعمش: أنبوني، بغير همز، وقد استدل بقوله: أنبئوني على جواز تكليف ما لا يطاق، وهو استدلال ضعيف، لأنه على سبيل التبكيت، ويدل عليه: * (إن كنتم صادقين) *. * (بأسماء هؤلاء) *: ظاهره حضور أشخاص حالة العرض على الملائكة، ومن قال: إن المعروض إنما هي أسماء فقط، جعل الإشارة إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة، إذ قد حضر ما هو منها بسبب وذلك أسماؤها وكأنه قال لهم: في كل اسم لأي شخص هذا الاسم، وهذا فيه بعد وتكلف وخروج عن الظاهر بغير داعية إلى ذلك.
* (إن كنتم صادقين) *: شرط جوابه محذوف تقديره فأنبئوني يدل عليه أنبئوني السابق، ولا يكون أنبؤني السابق هو الجواب، هذا مذهب سيبويه وجمهور البصريين، وخالف الكوفيون وأبو زيد وأبو العباس، فزعموا أن جواب الشرط هو المتقدم في نحو هذه المسألة، هذا هو النقل المحقق، وقد وهم المهدوي، وتبعه ابن عطية، فزعما أن جواب الشرط محذوف عند المبرد، التقدير: فأنبئوني، إلا إن كانا اطلعا على نقل آخر غريب عن المبرد يخالف مشهور ما حكاه الناس، فيحتمل. وكذلك وهم ابن عطية وغيره، فزعما أن مذهب سيبويه تقديم الجواب على الشرط، وأن قوله: أنبئوني المتقدم هو الجواب. والصدق هنا هو الصواب، أي إن كنتم مصيبين، كما يطلق الكذب على الخطأ، كذلك يطلق الصدق على الصواب. ومتعلق الصدق فيه أقوال: * (إن كنتم صادقين) *، إني لا أخلق خلقا، لا كنتم أعلم منه، لأنه هجس في أنفسهم أنهم أعلم من غيرهم، أو فيما زعمتم أن خلفائي يفسدون في الأرض، أو فيما وقع في نفوسكم أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أفضل منه، أو بأمور من أستخلفهم بعدكم، أو إني إن استخلفتكم فيها سبحتموني وقدستموني، وإن استخلفت غيركم فيها عصاني، أو في قولكم: إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون له وتقومون به، قاله ابن مسعود وابن عباس، أو في ذلك أنباء، وجواب السؤال بالأسماء، * (* روي) * أن: الملائكة حين خلق الله آدم قالت: يخلق ربنا ما شاء، فلن يخلق خلقا أعلم منا ولا أكرم عليه. فأراد أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا، قالوا: ولقوله إن كنتم صادقين، لم يجز لهم الاجتهاد، إذ لو لم يقيد بالصدق، وهو الإصابة، لجاز الاجتهاد، كما جاز للذي قال له: كم لبثت؟ ولم يشرط عليه الإصابة فلم يصب ولم يعنف. وأبعد من ذهب إلى أن الصدق هنا ضد الكذب المتعارف لعصمة الملائكة، كما أبعد من جعل إن بمعنى إذ، فأخرجها عن الشرطية إلى الظرفية. وإذا التقت همزتان مكسورتان من كلمتين نحو: هؤلاء إن كنتم، فورش وقنبل يبدلان الثانية ياء ممدودة، إلا أن ورشا في: هؤلاء إن كنتم، وعلى البغاء إن أردن، يجعل الياء مكسورة، وقالون والبزي يلينان الأولى ويحققان الثانية، وعنهما في بالسوء إلا وجوه: أحدها: هذا الأصل الذي تقرر لهما.
296

الثاني: إبدال الهمزة الأولى واوا مكسورة وإدغام الواو الساكنة قبلها فيها وتحقيق الثانية. الثالث: إبدال الهمزة الأولى ياء، نحو: بالسوي. الرابع: إبدالها واوا من غير إدغام، نحو: السوو. وقرأ أبو عمرو: بحذف الأولى، وقرأ الكوفيون وابن عامر: بتحقيق الهمزتين.
* (صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا) *: أي تنزيهك عن الادعاء وعن الاعتراض. وقيل: معناه تنزيه لك بعد تنزيه لفظه لفظ تثنية، والمعنى كذلك كما قالوا في لبيك، ومعناه: تلبية بعد تلبية. وهذا قول غريب يلزم عنه أن مفرده يكون سبحا، وأنه لا يكون منصوبا بل مرفوعا، وأنه لم تسقط النون للإضافة، وأنه التزم فتحها. والكاف في سبحانك مفعول به أضيف إليه. وأجاز بعضهم أن يكون فاعلا، لأن المعنى تتزهت. وقد ذكرنا، حين تكملنا على المفردات، أنه منصوب على معنى المصدر بفعل من معناه واجب الحذف. وزعم الكسائي أنه منادي مضاف، ويبطله أنه لا يحفظ دخول حرف النداء عليه، ولو كان منادى لجاز دخول حول حرف النداء عليه، ونقل لنا. ولما سأل تعالى الملائكة، ولم يكن عندهم علم بالجواب، وكانوا قد سبق منهم قولهم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * الآية، أرادوا أن يجيبوا بعدم العلم إلا ما علمهم، فقدموا بين يدي الجواب تنزيه الله اعتذارا وأدبا منهم في الجواب، وإشعارا بأن ما صدر منهم قبل يمحوه هذا التنزيه لله تعالى، فقالوا: سبحانك، ثم أجابوا بنفي العلم بلفظ لا التي بنيت معها النكرة، فاستغرف كل فرد من أنواع العلوم، ثم استثنوا من ذلك ما علمهم هو تعالى، فقالوا: * (إلا ما علمتنا) *، وهذا غاية في ترك الدعوى والاستسلام التام للمعلم الأول لله تعالى.
قال أبو عثمان المغربي: ما بلاء الخلق إلا الدعاوى. ا ترى أن الملائكة لما قالوا: ونحن نسبح بحمدك، كيف ردوا إلى الجهل حتى قالوا: لا علم لنا؟ وروي معنى هذا الكلام عن جعفر الصادق، وخبر: لا علم، في الجار والمجرور. وتقدم لنا الكلام في لا ريب فيه، ولا علم مثله، فأغنى عن إعادته. وما موصولة يحتمل أن
تكون في موضع نصب على الاستثناء، والأولى أن تكون في موضع رفع على البدل. وحكى ابن عطية في عن الزهراوي: أن موضع ما من قولهم: ما علمتنا، نصب بعلمتنا، وهذا غير معقول. ألا ترى أن ما موصولة، وأن الصلة: علمتنا، وأن الصلة لا تعمل في الموصول ولكن يتكلف به وجه وهو أن يكون استثناء منقطعا فيكون معنى إلا: لكن، على التقدير الذي استقر في الاستثناء المنقطع، وتكون ما شرطية منصوبة بعلمتنا، ويكون الجواب محذوفا كأنهم نفوا أولا سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل، أي شيء علمهم علموه، ويكون هذا أبلغ في ترك الدعوى، إذ محوا أنفسهم من سائر العلوم ونفوا جميعها، فلم يستثنوا لهم شيئا سابقا ماضيا تحلوا به، بل صاروا إلى الجهل الصرف والتبري من كل علم. وهذا الوجه ينافي ما روي أنه كان أعلمهم تعالى، أو علموا باطلاع من اللوح بأنه سيكون في الأرض من يفسد ويسفك، فإذا صح هذا كانوا قد بالغوا في نفي كل علم عنهم، وجعلوا هذا العلم الخاص كالمعدوم، ومن اعتقد أن الملائكة غير معصومين جعل قولهم، لا علم لنا توبة، ومن اعتقد بعصمتهم قال: قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم بأنهم لا يعلمون إلا ما علموا، أو قالوا: * (أتجعل فيها) * الآية، لأنه أعلمهم بذلك، وأما الأسماء فكيف يعلمونها وما أعلمهم ذلك؟ ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه من المبالغة فيه، ثم أردفوا الوصف بالعلم، الوصف بالحكمة، لأنه سبق قوله: * (إني جاعل فى الارض خليفة) *. فلما صدر من هذا المجعول خليفة، ما صدر من فضيلة العلم تبين لهم وجه الحكمة في قوله: وجعله خليفة.
فانظر إلى حسن هذا الجواب كيف قدموا بين يديه تنزيه الله، ثم اعترفوا بالجهل، ثم نسبوا إلى الله العلم والحكمة، وناسب تقديم الوصف
297

بالعلم على الوصف بالحكمة، لأنه المتصل به في قوله: * (وعلم) *، * (أنبئونى) *، * (لا علم لنا) *. فالذي ظهرت به المزية لآدم والفضيلة هو، فناسب ذكره متصلا به، ولأن الحكمة إنما هي آثار وناشئة عنه، ولذلك أكثر ما جاء في القرآن تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة. ولأن يكون آخر مقالهم مخالفا لأوله حتى يبين رجوعهم عن قولهم: * (أتجعل فيها) *، وعلى القول بأن الحكيم هو ذو الحكمة، يكون الحكيم صفة ذات، وعلى القول بأنه المحكم لصنعته يكون صفة فعل. وأنت: يحتمل أن يكون توكيدا للضمير، فيكون في موضع نصب، أو مبتدأ فيكون في موضع رفع، والعليم مخبره، أو فضلا فلا يكون له موضع من الإعراب، على رأي البصريين، ويكون له موضع من الإعراب على رأي الكوفيين. فعند الفراء موضعه على حسب الاسم قبله، وعند الكسائي على حسب الاسم بعده، والأحسن أن يحمل العليم الحكيم على العموم، وقد خصه بعضهم فقال: العليم بما أمرت ونهيت، الحكيم فيما قدرت وقضيت. وقال آخر: العليم بالسر والعلانية، والحكيم فيما يفعله وهو قريب من الأول.
* (قال ياءادم * ءادم أنبئهم بأسمائهم) *: نادى آدم باسمه العلم، وهي عادة الله مع أنبيائه، قال تعالى: * (قيل يانوح اهبط بسلام منا) *، * (قال يانوح إنه ليس من أهلك) *، * (أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا) *، * (أن ياموسى إنى أنا الله) *، * (الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك) *، ونادى محمدا نبينا صلى الله عليه وسلم) وعلى سائر الأنبياء بالوصف الشريف من الإرسال والإنباء فقال: * (الله وأطيعوا الرسول) * * (منتظرون ياأيها النبى) *. فانظر تفاوت ما بين هذا النداء وذاك النداء، والضمير في أنبئهم عائد إلى الملائكة، وفي بأسمائهم عائد على المعروضين على الخلاف السابق. قال القشيري: من آثار العناية بآدم عليه السلام لما قال للملائكة: أنبئوني، داخلهم من هيبة الخطاب ما أخذهم عنهم، لا سيما حين طالبهم بإنبائهم إياه ما لم تحط بهم علمومهم. ولما كان حديث آدم رده في الإنباء إليهم فقال: * (أنبئهم بأسمائهم) *، ومخاطبة آدم للملائكة لم توجب الاستغراق في الهيبة. فلما أخبرهم آدم عليه السلام بأسماء ما تقاصرت عنه علومهم، ظهرت فضيلته عليهم فقال: * (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات) *، يعني ما تقاصرت عنه علوم الخلق وأعلم ما تبدون من الطاعات وتكتمون من اعتقاد الخيرية على آدم. انتهى كلام القشيري.
والجملة المفتتحة بالقول إذا كانت مرتبا بعضها على بعض في المعنى، فالأصح في لسان العرب أنها لا يؤتى فيها بحرف ترتب، اكتفاء بالتريب المعنوي، نحو قوله تعالى: * (قالوا أتجعل فيها) *، أتى بعده، * (قال إني أعلم) *، ونحو: * (قالوا سبحانك) *، * (قال ياءادم * ءادم أنبئهم) *، ونحو: * (قال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله) *، * (قال أنى يحى هاذه الله) *، * (قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم) *، * (قال بل لبثت مائة عام) *، * (قال أوحى * لم تؤمنوا * قال بلى ولاكن ليطمئن قلبى) *، * (قال فخذ أربعة من الطير) *. وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك عشرون موضعا في قصة موسى، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، في إرساله إلى فرعون ومحاورته معه، ومحاورة السحرة، إلى آخر القصة، دون ثلاثة، جاء منها اثنان جوابا وواحد كالجواب، ونحو هذا في القرآن كثير. وقرأ الجمهور: أنبئهم بالهمز وضم الهاء، وهذا الأصل كما تقول: أكرمهم. وروي عن ابن عباس: أنبئهم بالهمز وكسر الهاء، ووجهه أنه أتبع حركة الهاء لحركة الباء، ولم يعتد بالهمزة لأنها ساكنة، فهي حاجز غير حصين. وقرئ: أنبيهم، بإبدال الهمزة وكسر الهاء. وقرأ الحسن والأعرج وابن كثير من طريق القواس: أنبهم، على وزن أعطهم، قال ابن جني: هذا على إبدال الهمزة ياء، على أنك تقول: أنبيت، كأعطيت، قال: وهذا ضعيف في اللغة لأنه بدل لا تخفيف. والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. انتهى كلام أبي الفتح. وما ذكر من أنه لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ليس بصحيح.
حكى الأخفش في الأوسط: أن العرب تحول من الهمزة موضع اللام ياء، فيقولون: قريت، وأخطيت، وتوضيت، قال: وربما حولوه إلى الواو، وهو قليل
298

نحو: رفوت، والجيد: رفأت، ولم أسمع: رفيت. انتهى كلام الأخفش. ودل ذلك على أنه ليس من ضرائر الشعر، كما ذكر أبو الفتح، وهو قوله تعالى: * (أنبئهم بأسمائهم) *. وقوله: * (فلما أنبأهم بأسمائهم) *: جملة محذوفة، التقدير: فأنبئهم بها، فلما أنبأهم حذفت لفهم المعنى، وفي قوله: أنبئوني، فلما أنبأهم تنبيه على إعلام الله أنه قد أعلم الله أنه قد أعلم آدم من أحوالهم ما لم يعلمهم من حاله، لأنهم رأوه قبل النفخ مصورا، فلم يعلموا ما هو، وعلى أنه رفع درجة آدم عندهم، لكونه قد علم لآدم ما لم يعلمهم، وعلى إقامته مقام المفيد المعلم، وإقامتهم مقام المستفيدين منه، لأنه أمره أن يعلمهم أسماء الذين عرضهم عليهم وعلى أدبهم على ترك الأدب
من حيث قالوا: * (أتجعل فيها) *، فإن الطواعية المحضة ويكونوا مع عدم العلم بالحكمة فيما أمروا به، وعدم الاطلاع على ذلك الأمر ومصلحته ومفسدته كهم مع العلم والاطلاع. وكان الامتثال والتسليم، بغير تعجب ولا استفهام، أليق بمقامهم لطهارة ذواتهم وكمال صفاتهم.
وفي كتاب بعض من عاصرناه، قالت المعتزلة: ظهر من آدم عليه السلام في علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته في ذلك الوقت، والأقرب أنه كان مبعوثا إلى حواء، ولا يبعد أن يكون أيضا مبعوثا إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة، لأن جميعهم، وإن كانوا رسلا، فقد يجوز الإرسال إلى الرسول، كبعثه إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام، واحتجوا بكونه ناقضا للعادة. ولقائل أن يقول: حصول العلم باللغة لمن علمه الله وعدم حصوله لمن لم يعلم ليس بناقض للعادة. وأيضا، فالملائكة أما إن علموا وضع تلك الأسماء للمسميات فلا مزية أو لا، فكيف علموا إصابته في ذلك؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أنه ربما يكون لكل صنف منهم لغة، ثم حضر جميعهم فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة، إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفتها بأسرها. الثاني: أن الله عرفهم الدليل على صدقه، ولم لا يكون من باب الكرامات أو من باب الإرهاص؟ واحتج من قال: لم يكن نبيا، بوجوه: أحدها: صدور المعصية عنه بعد، وذلك غير جائز على النبي. وثانيها: أنه لو كان مبعوثا لكان إلى أحد، لأن المقصود منه التبليغ، وذلك لا يكون الملائكة، لأنهم أفضل، ولا حواء، لأنها مخاطبة بلا واسطة بقوله: * (ولا تقربا) *، ولا الجن، لأنهم لم يكونوا في السماء. وثالثها: قوله: * (ثم اجتباه) *، وهذا يدل على أن الاجتباء كان بعد الزلة، والنبي لا بد أن يكون مجتبى وقت كونه نبيا.
* (قال ألم أقل لكم) *؛ جواب فلما، وقد تقدم ذكر الخلاف في لما المقتضية للجواب، أي حرف أم ظرف؟ ورجحنا الأول وذكرنا أنه مذهب سيبويه. وألم: أقل تقرير، لأن الهمزة إذا دخلت على النفي كان الكلام في كثير من المواضع تقريرا نحو قوله تعالى: * (ألست بربكم) *؟ * (ألم نشرح لك صدرك) *؟ * (ألم نربك فينا وليدا) *؟ ولذلك جاز العطف على جملة إثباتية نحو: ووضعنا، ولبثت، ولكم فيه، تنبيههم بالخطاب وهزهم لسماع المقول، نحو قوله: * (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا) * نبهه في الثانية بالخطاب. وقد تقدم أن اللام في نحو: قلت لك، أو لزيد، للتبليغ، وهو أحد المعاني التي ذكرناها فيها. * (إني أعلم) *: ياء المتكلم المتحرك ما قبلها، إذا لقيت همزة القطع المفتوحة، جاز فيها وجهان: التحريك والإسكان، وقرئ بالوجهين في السبعة، على اختلاف بينهم في بعض ذلك، وتفصيل ذلك مذكور في كتب القراءات. وسكنوا في السبعة إجماعا تفتني إلا، * (أرنى أنظر) *، * (فاتبعنى أهدك) * * (وترحمنى أكن) *، ولا يظهر بشيء من اختلافهم واتفاقهم علة إلا اتباع الرواية. والخلاف الذي تقدم في أعلم من كونه منصوبا أو مجرورا جاز هنا، وقد تقدم إيضاحه هناك فلا نعيده هنا.
وقد حكى ابن عطية عن المهدوي ما نصه: قال المهدوي: ويجوز أن يكون قوله: أعلم اسما بمعنى التفضيل
299

في العلم، فتكون ما في موضع خفض بالإضافة. قال ابن عطية: وإذا قدر الأول اسما، فلا بد من إضمار فعل ينصب غيب، تقديره: إني أعلم من كل أعلم غيب، وكونها في الموضعين فعلا مضارعا أخصر وأبلغ. انتهى. وما نقله ابن عطية عن المهدوي وهم. والذي ذكر المهدوي في تفسيره ما نصه: * (وأعلم ما تبدون) *، يجوز أن ينتصب ما بأعلم على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم، أو يكون ما جرا بالإضافة، ويجوز أن يقدر التنوين في أعلم إذا قدرته بمعنى عالم وتنصب ما به، فيكون بمعنى حواج بيت الله، انتهى. فأنت ترى أنه لم يذهب إلى أن أفعل للتفضيل وأنه لم يجز الجر في ما والنصب، وتكون أفعل اسما إلا إذا كان بمعنى فاعل لا أفعل تفضيل، ولا يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكون أعلم أفعل بمعنى التفضيل، وخفض ما بالإضافة البتة.
* (غيب السماوات والارض) *: تقدم الكلام على هذه الألفاظ الثلاثة، واختلف في الغيب هنا، فقيل: غيب السماوات: كل آدم وحواء من الشجرة، لأنها أول معصية وقعت في السماء، وغيب الأرض: قتل قابيل هابيل، لأنها أول معصية كانت في الأرض. وقيل: غيب السماوات ما قضاه من أمور خلقه، وغيب الأرض ما فعلوه فيها بعد القضاء. وقيل: غيب السماوات ما غاب عن ملائكته المقربين وحملة عرشه مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى، وغيب الأرض ما أخفاه عن أنبيائه وأصفيائه من أسرار ملكوته الأدنى وأمور الآخرة الأولى.
* (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * قال علي وابن مسعود وابن عباس، رضوان الله عليهم أجمعين: ما تبدون: الضمير للملائكة، وما كنتم تكتمون: يعني إبليس. فيكون من خطاب الجمع، ويراد به الواحد نحو: * (إن الذين ينادونك) *. وروي أن إبليس مر على جسد آدم بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح فقال: لأمر ما خلق هذا، ثم دخل من فيه وخرج من دبره وقال: إنه خلق لا يتمالك لأنه أجوف، ثم قال للملائكة الذين معه: أرأيتم إن فضل هذا عليكم وأمرتم بطاعته ما تصنعون؟ قالوا: نطيع الله، فقال إبليس في نفسه: والله لئن سلطت عليه لأهلكنه، ولئن سلط علي لأعصينه، فهذا قوله تعالى: * (وأعلم ما تبدون) * الآية، يعني: من قول الملائكة وكتم إبليس. وقال الحسن وقتادة: ما أبدوه هو قولهم: * (أتجعل فيها * وما * يفلح الكافرون * وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الرحمين * سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها) *، وما كتموه أضمروه من الطاعة لله والسجود لآدم. وقيل: ما أبدوه هو الإقرار بالعجز، وما كتموه الكراهية لاستخلاف آدم عليه السلام. وقيل: هو عام فيما أبدوه وما كتموه من كل أمورهم، وهذا هو الظاهر. وأبرز الفعل في قوله: * (واعلم) * ليكون متعلقه جملة مقصودة بالعامل، فلا يكون معمولها مندرجا تحت الجملة الأولى، وهو يدل على الاهتمام بالإخبار، إذ جعل مفردا بعامل غير العامل، وعطف قوله * (وما كنتم تكتمون) * هو من باب الترقي في الإخبار، لأن علم الله تعالى واحد لا تفاوت فيه بالنسبة إلى شيء من معلوماته، جهرا كان أو سرا، ووصل ما بكنتم يدل على أن الكتم وقع فيما مضى، وليس المعنى أنهم كتموا عن الله لأن الملائكة أعرف بالله وأعلم، فلا يكتمون الله شيئا، وإنما المعنى أنه هجس في أنفسهم شيء لم يظهره بعضهم لبعض، ولا أطلعه عليه، وإن كان المعنى إبليس، فقد تقدم أنه قال في نفسه: ما حكيناه قيل عنه، فكتم ذلك عن الملائكة. وقد تضمن آخر هذه الآية من علم البديع الطباق وهو قوله: * (ما تبدون وما كنتم تكتمون) *.
2 (* (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) *)) 2
قوله: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) * السجود: التذلل والخضوع، وقال ابن السكيت: هو الميل، وقال بعضهم: سجد وضع جبهته بالأرض، وأسجد: ميل رأسه وانحنى، وقال الشاعر:
ترى ألا كم فيها سجدا للحوافر
يريد أن الحوافر تطأ الأكم، فجعل تأثر الأكم للحوافر سجودا مجازا، وقال آخر:
300

كما سجدت نصرانة لم تحنف
وقال آخر:
سجود النصارى لأحبارها
يريد الإنحناء.
إبليس: اسم أعجمي منع الصرف للعجمة والعلمية، قال الزجاج: ووزنه فعليل، وأبعد أبو عبيدة وغيره في زعمه أنه مشتق من الإبلاس، وهو الإبعاد من الخير، ووزنه على هذا، فعيل، لأنه قد تقرر في علم التصريف أن الاشتقاق العربي لا يدخل في الأسماء الأعجمية، واعتذر من قال بالاشتقاق فيه عن منع الصرف بأنه لا نظير له في الأسماء، ورد بإغريض، وإزميل، وإخريط، وإجفيل، وإعليط، وإصليت، وإحليل، وإكليل، وإحريض. وقد قيل: شبه بالأسماء الأعجمية، فامتنع الصرف للعلمية، وشبه العجمة، وشبه العجمة هو أنه وإن كان مشتقا من الإبلاس فإنه لم يسم به أحد من العرب، فصار خاصا بمن أطلقه الله عليه، فكأنه دليل في لسانهم، وهو علم مرتجل. وقد روي اشتقاقه من الإيلاس عن ابن عباس والسدي، وما إخاله يصح. الإباء: الامتناع، قال الشاعر:
* وأما أن تقولوا قد أبينا
*
فشر مواطن الحسب الإباء
*
والفعل منه: أبي يأبى، ولما جاء مضارعه على يفعل بفتح العين وليس بقياس أمرى، كأنه مضارع فعل بكسر العين، فقالوا فيه: يئبى بكسر حرف المضارعة، وقد سمع فيه أبي بكسر العين فيكون يأبى على هذه اللغة قياسا، ووافق من قال أبي بفتح العين على هذه اللغة. وقد زعم أبو القاسم السعدي أن أبى يأتي بفتح العين لا خلاف فيه، وليس بصحيح، فقد حكى أبى بكسر العين صاحب المحكم. وقد جاء يفعل في أربعة عشر فعلا وماضيها فعل، وليست عينه ولا لامه حرف حلق. وفي بعضها سمع أيضا فعل بكسر العين، وفي بعض مضارعها سمع أيضا يفعل ويفعل بكسر العين وضمها، ذكرها التصريفيون. الاستكبار والتكبر: وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، وهو أحد المعاني الإثنى عشر التي جاءت لها استفعل، وهي مذكورة في شرح نستعين.
* (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) * لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى لما شرف آدم بفضيلة العلم وجعله معلما للملائكة وهم مستفيدون منه مع قولهم السابق: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) *. أراد الله أن يكرم هذا الذي استخلفه بأن يسجد له ملائكته، ليظهر بذلك مزية العلم على مزية العبادة. قال الطبري: قصة إبليس تقريع لمن أشبهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم)، مع علمهم بنبوته، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم. وإذ: ظرف كما سبق فقيل بزيادتها. وقيل: العامل فيها فعل مضمر يشيرون إلى ادكر. وقيل: هي معطوفة على ما قبلها، يعني قوله: * (وإذ قالت * ربك) *، ويضعف الأول بأن الأسماءلا تزاد، والثاني أنها لازم ظرفيتها، والثالث لاختلاف الزمانين فيستحيل وقوع العامل الذي اخترناه في إذ الأولى في إذ هذه. وقيل: العامل فيها أبى، ويحتمل عندي أن يكون العامل في إذ محذوف دل عليه قوله: * (فسجدوا) *، تقديره: انقادوا وأطاعوا، لأن السجود كان ناشئا عن الانقياد للأمر. وفي قوله: * (قلنا
301

التفات، وهو من أنواع البديع، إذ كان ما قبل هذه الآية قد أخبر عن الله بصورة الغائب، ثم انتقل إلى ضمير المتكلم، * (وءاتى * بنا) * التي تدل على التعظيم وعلو القدرة وتنزيله منزلة الجمع، لتعدد صفاته الحميدة ومواهبه الجزيلة.
وحكمة هذا الالتفات وكونه بنون المعظم نفسه أنه صدر منه الأمر للملائكة بالسجود، ووجب عليهم الامتثال، فناسب أن يكون الأمر في غاية من التعظيم، لأنه متى كان كذلك كان أدعى لامتثال المأمور فعل ما أمر به من غير بطء ولا تأول لشغل خاطره بورود ما صدر من المعظم. وقد جاء في القرآن نظائر لهذا، منها: * (وقلنا ياءادم * ءادم * اسكن) *، * (وقلنا اهبطوا) *، * (قلنا ياذا * نار * كونى بردا) *، وقلنا من بعده لبني إسرائيل: * (اسكنوا الارض) *، * (وقلنا لهم ادخلوا الباب) *، * (وقلنا لهم لا تعدوا) *. فأنت ترى هذا الأمر وهذا النهي كيف تقدمهما الفعل المسند إلى المتكلم المعظم نفسه، لأن الآمر اقتضى الاستعلاء على المأمور، فظهر للمأمور بصفة العظمة، ولا أعظم من الله تعالى، والمأمورون بالسجود، قال السدي: عامة الملائكة. وقال ابن عباس: الملائكة الذين يحكمون في الأرض. وقرأ الجمهور: للملائكة بجر التاء. وقرأ أبو جعفر يزيد ابن القعقاع وسليمان بن مهران: بضم التاء، اتباعا لحركة الجيم ونقل أنها لغة أزدشنوءة. قال الزجاج: هذا غلط من أبي جعفر، وقال الفارسي: هذا خطأ، وقال ابن جني: لأن كسرة التاء كسرة إعراب، وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر، إذا كان ما قبل الهمزة ساكنا
صحيحا نحو: * (وقالت اخرج) *. وقال الزمخشري: لا يجوز لاستهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقولهم: * (الحمد لله) *، انتهى كلامه. وإذا كان ذلك في لغة ضعيفة، وقد نقل أنها لغة أزدشنوءة، فلا ينبغي أن يخطأ القارئ بها ولا يغلط، والقارىء بها أبو جعفر، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضا عن عبد الله بن عباس وغيره من الصحابة، وهو شيخ نافع بن أبي نعيم، أحد القراء السبعة، وقد علل ضم التاء لشبهها بألف الوصل، ووجه الشبه أن الهمزة تسقط في الدرج لكونها ليست بأصل، والتاء في الملائكة تسقط أيضا لأنها ليست بأصل. ألا تراهم قالوا: الملائك؟ وقيل: ضمت لأن العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها.
* (واسجدوا) *: أمر، وتقتضي هذه الصيغة طلب إيقاع الفعل في الزمان المطلق استقباله، ولا تدل بالوضع على الفور، وهذا مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر بن الطيب، واختاره الغزالي والرازي خلافا للماليكة من أهل بغداد، وأبي حنيفة ومتبعيه. وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الفقه، وهذ الخلاف إنما هو حيث لا تدل قرينة على فور أو تأخير. وأما هنا فالعطف بالفاء يدل على تعقيب القول بالفعل من غير مهلة، فتكون الملائكة قد فهموا الفور من شيء آخر غير موضوع اللفظ، فلذلك بادروا بالفعل ولم يتأخروا. والسجود المأمور به والمفعول إيماء وخضوع، قاله الجمهور، أو وضع الجبهة على الأرض مع التذلل، أو إقرارهم له بالفضل واعترافهم له بالمزية، وهذا يرجع إلى معنى السجود اللغوي، قال: فإن من أقر لك بالفضل فقد خضع لك. * (لادم) *: من قال بالسجود الشرعي قال: كان السجود تكرمة وتحية له، وهو قول الجمهور: علي وابن مسعود وابن عباس، كسجود أبوي يوسف، لا سجود عبادة، أو لله تعالى، ونصبه الله قبلة لسجودهم كالكعبة، فيكون المعنى إلى آدم، قاله الشعبي، أو لله تعالى، فسجد وسجدوا مؤتمين به، وشرفه بأن جعله إماما يقتدون به. والمعنى في: * (لادم) * أي مع آدم.
302

وقال قوم: إنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه، فالسجود امتثال لأمر الله، والسجود له، قاله مقاتل، والقرآن يرد هذا القول. وقال قوم: كان سجود الملائكة مرتين. قيل: والإجماع يرد هذا القول، والظاهر أن السجود هو بالجبهة لقوله: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين) *. وقيل: لا دليل في ذلك، لأن الجاثي على ركبتيه واقع، وأن السجود كان لآدم على سبيل التكرمة، وقال بعضهم: السجود لله بوضع الجبهة، وللبشر بالانحناء، انتهى. ويجوز أن يكون السجود في ذلك الوقت للبشر غير محرم، وقد نقل أن السجود كان في شريعة من قبلنا هو التحية، ونسخ ذلك في الإسلام. وقيل: كان السجود لغير الله جائزا إلى زمن يعقوب، ثم نسخ، وقال الأكثرون: لم ينسخ إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم). وروي أنه صلى الله عليه وسلم) قال في حديث عرض عليه الصحابة أن يسجدوا له: (لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين)، وأن معاذا سجد للنبي صلى الله عليه وسلم) فنهاه عن ذلك. قال ابن عطاء: لما استعظموا تسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم بذلك استغناءه عنهم وعن عبادتهم.
* (فسجدوا) *، ثم: محذوف تقديره: فسجدوا له، أي لآدم. دل عليه قول: * (اسجدوا لادم) *، واللام في لآدم للتبيين، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها عند شرح * (الحمد لله) *. * (إلا إبليس) *: هو مستنثى من الضمير في فسجدوا، وهو استثناء من موجب في نحو هذه المسألة فيترجح النصب، وهو استثناء متصل عند الجمهور: ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب وقتادة وابن جريج، واختاره الشيخ أبو الحسن والطبري، فعلى هذا يكون ملكا ثم أبلس وغضب عليه ولعن فصار شيطانا. وروى في ذلك آثار عن ابن عباس وقتادة وابن جبير، وقد اختلف في اسمه فقيل: عزازيل، وقيل: الحارث. وقيل: هو استثناء منقطع، وأنه أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر، ولم يكن قط ملكا، قاله ابن زيد والحسن، وروي عن ابن عباس. وروي عن ابن مسعود وشهر بن حوشب: أنه من الجن الذين كانوا في الأض وقاتلتهم الملائكة، فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب معهم، واستدل على أنه ليس من الملائكة بقوله تعالى: * (جاعل الملائكة رسلا) * فعم، فلا يجوز على الملائكة الكفر ولا الفسق، كما لا يجوز على رسله من البشر، وبقوله: * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) *، وبقوله: * (كان من الجن) *، وبأن له نسلا، بخلاف الملائكة، والظاهر أنه استثناء متصل لتوجه الأمر على الملائكة، فلو لم يكن لما توجه الأمر عليه، فلم يقع عليه ذم لتركه فعل ما لم يؤمر به. وأما جاعل الملائكة رسلا، ولا يعصون الله ما أمرهم، فهو عام مخصوص، إذ عصمتهم ليست لذاتهم، إنما هي بجعل الله لهم ذلك، وأما إبليس فسلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية. وأما قوله تعالى: * (كان من الجن) *، فقال قتادة: هم صنف من الملائكة يقال لهم الجنة. وقال ابن جبير: سبط من الملائكة خلقوا من نار، وإبليس منهم، أو أطلق عليه من الجن لأنه لا يرى، كما سمي الملائكة جنة، أو لأنه سمي باسم ما غلب عليه، أو بما كان من فعله، أو لأن الملائكة تسمى جنا. قال الأعشى في ذكر سليمان على نبينا وعليه السلام:
303

* وسخر من جن الملائك تسعة
*
قياما لديه يعملون بلا أجر
*
* (أبى) *: امتنع وأنف من السجود لآدم. * (واستكبر) *: تكبر وتعاظم في نفسه وقدم الإباء على الاستكبار، وإن كان الاستكبار هو الأول، لأنه من أفعال القلوب وهو التعاظم، وينشأ عنه الإباء من السجود اعتبارا بما ظهر عنه أولا، وهو الامتناع من السجود، ولأن المأمور به هو السجود، فلما استثنى إبليس كان محكوما عليه بأنه ترك السجود، أو بأنه مسكوت عنه غير محكوم عليه على الاختلاف الذي نذكره قريبا إن شاء الله. والمقصود: الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة. فناسب أن يبدأ أولا بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء، أو بإنشاء الإخبار عنه بالمخالفة، والذي يؤدي هذا المعنى هو الإباء من السجود. والخلاف الذي أشرنا إليه هو
أنك إذا قلت: قام القوم إلا زيدا، فمذهب الكسائي أن التخريج من الاسم، وأن زيدا غير محكوم عليه أم ولا غيره، فيحتمل أن يكون قد قام، وأن يكون غير قائم. ومذهب الفراء أن الاستثناء من القول، والصحيح مذهبنا، وهو أن الاسم مستثنى من الاسم وأن الفعل مستثنى من الفعل. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو، ومفعول أبي محذوف لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد، قال الشاعر:
* أبى الضيم والنعمان يحرق نابه
*
عليه فأفضى والسيوف معاقله
*
والتقدير: أبى السجود، وأبى من الأفعال الواجبة التي معناها النفي، ولهذا يفرغ ما بعد إلا كما يفرغ لفعل المنفي، قال تعالى: * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) *، ولا يجوز: ضربت إلا زيدا على أن يكون استثناء مفرغا لأن إلا لا تدخل في الواجب، وقال الشاعر:
* أبى الله إلا عدله ووفاءه
*
فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
*
وأبى زيد الظلم: أبلغ من لم يظلم، لأن نفي الشيء عن الشخص قد يكون لعجز أو غيره، فإذا قلت: أبى زيد كذا، دل على نفي ذلك عنه على طريق الامتناع والأنفة منه، فلذلك جاء قوله تعالى: * (أبى) *، لأن استثناء إبليس لا يدل إلا على أنه لم يسجد، فلو اقتصر عليه لجاز أن يكون تخلفه عن السجود لأمر غير الإباء، فنص على سبب كونه لم يسجد وهو الإباء والأنفة.
* (وكان من الكافرين) * قيل: كان بمعنى صار، وقيل: على بابها أي كان في علم الله لأنه لا خلاف أنه كان عالما بالله قبل كفره. فالمعنى: أنه كان في علم الله سيكون من الكافرين. قال أبو العالية: من العاصين، وصلة أل هنا ظاهرها الماضي، فيكون قد سبق إبليس كفار، وهم الجن الذين كانوا في الأرض، أو يكون إبليس أول من كفر مطلقا، إن لم يصح أنه كان كفار قبله، وإن صح، فيفيد أول من كفر بعد إيمانه، أو يراد الكفر الذي هو التغطية للحق، وكفر إبليس قيل: جهل سلبه الله ما كان وهبه من العلم، فخالف الأمر ونزع يده من الطاعة، وقيل: كفر عناد ولم يسلب العلم بل كان الكبر مانعه من السجود. قال ابن عطية: والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء، انتهى كلامه.
وهذا الذي ذكره جوازه واقع بالفعل. هذا فرعون كان عالما بوحدانية الله وربوبيته دون غيره، ومع ذلك حمله حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي من الملك، فادعى الألوهية مع علمه. وأبو جهل، كان يتحقق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم) ويعلم أن ما جاء به حق، ومع ذلك أنكر نبوته، وأقام على الكفر. وكذلك الأخنس، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهما ممن كفر عنادا، مع علمهم بصدق الرسل، وقد قسم العلماء الكفار إلى
304

كافر بقلبه ولسانه، كالدهرية والمنكرين رسالة النبي صلى الله عليه وسلم)، وكافر بقلبه مؤمن بلسانه وهم المنافقون، ومؤمن بقلبه كافر بلسانه، كفرعون ومن ذكر معه فلا ينكر الكفر مع وجود العلم. وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على أن المعصية توجب الكفر، وأجيب بأنه كافر منافق وإن كان مؤمنا فإنما كفر لاستكباره واعتقاد كونه محقا في ذلك التمرد، واستدلاله على ذلك بقوله: * (أنا خير منه) *. قال القشيري: لما كان إبليس مدة في دلال طاعته يختال في مراد موافقته، سلموا له رتبة التقدم واعتقدوا فيه استحقاق التخصص، فصار أمره كما قيل:
* وكان سراج الوصل أزهر بيننا
*
فهبت به ريح من البين فانطفا
*
سئل أبو الفتوح أحمد، أخو أبي حامد الغزالي عن إبليس فقال: لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت وقسي القدر إذا رمت أصمت، ثم أنشد:
* وكنا وليلى في صعود من الهوى
*
فلما توافينا ثبت وزلت
*
(* (وقلنا ياءادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هاذه الشجرة فتكونا من الظالمين) *))
) *
* (وقلنا ياءادم * ءادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هاذه الشجرة فتكونا من الظالمين) * أسكن، أقم، ومصدره السكنى كالرجعي، والمعنى راجع إلى السكون، وهو عدم الحركة. وكان الساكن في المكان للبثه واستقراره فيه غير متحرك بالنسبة إلى غيره من الأماكن. رغدا: أي واسعا كثير الاعناء فيه، قال امرؤ القيس:
* بينما المرء تراه ناعما
*
يأمن الأحداث في عيش رغد
*
وتميم تسكن الغين. وزعم بعض الناس أن كل اسم ثلاثي حلقي العين صحيح اللام يجوز فيه تحريك عينه وتسكينها، مثل: بحر وبحر، ونهر ونهر، فأطلق هذا الإطلاق، وليس كذلك، بل ما وضع من ذلك على فعل بفتح العين لا يجوز فيه التسكين نحو: السحر لا يقال فيه السحر، وإنما الكلام في فعل المفتوح الفاء الساكن العين، وفي ذلك خلاف. ذهب البصريون إلى أن فتح ما ورد من ذلك مقصور على السماع، وهو مع ذلك مما وضع على لغتين، لا أن أحدهما أصل للآخر. وذهب الكوفيون إلى أن بعضه ذو لغتين، وبعضه أصله التسكين ثم فتح. وقد اختار أبو الفتح مذهب الكوفيين، والاستدلال مذكور في كتب النحو. حيث: ظرف مكان مبهم لازم الظرفية، وجاء جره بمن كثيرا وبفي، وإضافة لدى إليه قليلا، ولإضافتها لا ينعقد منها مع ما بعدها كلام، ولا يكون ظرف زمان خلافا للأخفش، ولا ترفع اسمين نائبة عن ظرفين، نحو: زيد حيث عمر، وخلافا للكوفيين، ولا يجزم بها دون ما خلافا للفراء، ولا تضاف إلى
305

المفرد خلافا للكسائي، وما جاء من ذلك حكمنا بشذوذ، وهي مبنية وتعتقب على آخرها الحركات الثلاث، ويجوز: حوث، بالواو وبالحركات الثلاثة. وحكى الكسائي أن إعرابها لغة بني فقعس. القربان: معروف، وهو الدنو من الشيء. هذه: تكسر الهاء باختلاس وأشباع، وتسكن، ويقال: هذي بالياء، والهاء فيما ذكر وأبدل منها، وقالوا: ذ بكسر الذال بغير ياء ولا هاء، وهي تأنيث ذا، وربما ألحقوا التاء لتأنيث ذا فقالوا ذات مبنية على الكسر. الشجرة: بفتح الشين والجيم، وبعض العرب تكسر الشين، وإبدال الجيم ياء مع كسر الشين وفتحها منقول، وخالف أبو الفتح في كون اليد بدلا، وقد أطلنا الكلام على ذلك في تأليفنا (كتاب التكميل لشرح التسهيل). والشجر: ما كان على ساق، والنجم: ما نجم وانبسط على الأرض ليس له ساق. الظلم: أصله وضع الشيء في غير موضعه، ثم يطلق على الشرك، وعلى الجحد، وعلى النقص. والمظلومة: الأرض التي لم تمطر، ومعناه راجع إلى النقص.
* (وقلنا ياءادم * ءادم * اسكن أنت وزوجك الجنة) * الآية: لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي، ومناسبتها لما قبلها: أن الله لما شرف آدم برتبة العلم وبإسجاد الملائكة له، امتن عليه بأن أسكنه الجنة التي هي دار النعيم. أباح له جميع ما فيها إلا الشجرة، على ما سيأتي فيها، إن شاء الله. وقلنا: معطوف على الجملة السابقة التي هي قوله تعالى: * (وإذ قلنا * لا * على * قلنا * وحده * أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد * يأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا ءامين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا) *، * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الارض) *، لأن الاستقرار في المواضع الطيبة لا تدخل تحت التعبد، وقيل: هو أمر وجوب وتكليف، لأنه أمر بسكنى الجنة، وبأن يأكل منها، ونهاه عن شجرة واحدة. والأصح أن الأمر بالسكنى وما بعده مشتمل على ما هو إباحة، وهو الانتفاع بجميع نعيم الجنة، وعلى ما هو تكليف، وهو منعه من تناول ما نهى عنه. وأنت: توكيد للضمير المستكن في أسكن، وهذا أحد المواضع التي يستكن فيها الضمير وجوبا. وزوجك: معطوف على ذلك الضمير المستكن، وحسن العطف عليه تأكيده بأنت، ولا يجوز عند البصريين العطف عليه دون تأكيد أو فصل يقوم مقام التأكيد، أو فصل بلا بين حرف العطف والمعطوف، وما سوى ذلك ضرورة وشاذ. وقد روي: قم وزيد، وأجاز الكوفيون العطف على ذلك الضمير من غير توكيد ولا فصل. وتظافرت نصوص النحويين والمعربين على ما ذكرناه من أن وزوجك معطوف على الضمير المستكن في اسكن، ويكون إذ ذاك من عطف المفردات. وزعم بعض
306

الناس أنه لا يجوز إلا أن يكون من عطف الجمل، التقدير: ولتسكن زوجك، وحذف: ولتسكن، لدلالة اسكن عليه، وأتى بنظائر من هذا الباب نحو: لا نخلفه نحن ولا أنت، ونحو: تقوم أنت وزيد، ونحو: ادخلوا أولكم وآخركم، وقوله:
* نطوف ما نطوف ثم يأوي
*
ذوو الأموال منا والعديم
*
إذا أعربناه بدلا لا توكيدا، هو على إضمار، فتقديره عنده، ولا تخلفه أنت، ويقوم زيد، وليدخل أولكم وآخركم، ويأوي ذوو الأموال. وزعم أنه استخرج ذلك من نص كلام سيبويه، وليس كما زعم بل نص سيبويه على مسألة العطف في كتابه، كما ذهب إليه النحويون. قال سيبويه، رحمه الله: وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو الضمير المرفوع، وذلك فعلت وعبد الله، وأفعل وعبد الله، ثم ذكر تعليل الخليل لقبحه، ثم قال: نعته حسن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيد. وقال الله عز وجل: * (اذهب أنت * وربك فقاتلا) * * (اسكن أنت وزوجك الجنة) *، انتهى.
فهذا نص من سيبويه على أنه من عطف المظهر على المضمر، وقد أجمع النحويون على جواز: تقوم عائشة وزيد، ولا يمكن لزيد أن يباشر العامل، ولا نعلم خلافا أن هذا من عطف المفردات. ولتكميل الكلام على هذه المسألة مكان غير هذا، وتوجه الأمر بالسكنى على زوج آدم دليل على أنها كانت موجودة قبله، وهو قول بعض المفسرين أنها خلقت من وقت علمه الله الأسماء وأنبأهم هو إياها. نام نومة فخلقت من ضلعه الأقصر قبل دخول الجنة. وأكثر أئمة التفسير أنها خلقت بعد دخول آدم الجنة. استوحش بعد لعن إبليس وإخراجه من الجنة فنام، فاستيقظ فوجدها عند رأسه قد خلقها الله من ضلعه الأيسر، فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إلي، فقالت له الملائكة، ينظرون مبلغ علمه: ما اسمها؟ قال: حواء. قالوا: لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي. وفي هذه القصة زيادات ذكرها المفسرون لا نطول بذكرها لأنها ليست مما يتوقف عليها مدلول الآية ولا تفسيرها.
وعلى هذا القول يتوجه الخطاب على المعدوم، لأنه في علم الله موجود، ويكون آدم قد سكن الجنة لما خلقت أمرا معا بالسكنى، لتسكن قلوبهم وتطمئن بالقرار في الجنة. وقد تكلم بعض الناس على أحكام السكنى، والعمرى، والرقبى، وذكر كلام
307

الفقهاء في ذلك، واختلافهم حين فسر قوله تعالى: * (اسكن أنت وزوجك الجنة) *، وليس في الآية ما يدل على شيء مما ذكر.
الجنة: قال أبو القاسم البلخي، وأبو مسلم الأصبهاني: كانت في الأرض، قيل: بأرض عدن. والهبوط: الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله: * (اهبطوا مصرا) *، لأنها لو كانت دار الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله: * (هل أدلك) *، ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله: * (وما هم منها بمخرجين) *، ولأن إبليس ملعون، فلا يصل إلى جنة الخلد، ولأن دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله: * (أكلها دائم) *، ولأنه لا يجوز في حكمته أن يبتدئ الخلق في جنة يخلدهم، ولأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأض، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء. ولو كان نقله إلى السماء لكان أولى بالذكر، لأنه من أعظم النعم. وقال الجبائي: كانت في السماء السابعة لقوله: * (اهبطوا) *، ثم الهبوط الأول كان من تلك السماء إلى السماء الأولى، والهبوط الثاني كان من السماء إلى الأرض. وقالت الجمهور: هي في السماء، وهي دار الثواب، لأن الألف واللام في الجنة لا تفيد العموم، لأن سكنى جميع الجنان محال، فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق، والمعهود دار الثواب، ولأنه ثبت في الصحيح في محاجة آدم موسى فقال له: يا آدم أنت أشقيت بنيك وأخرجتهم من الجنة؟ فلم ينازعه آدم في ذلك. وقيل: هي السماء وليست دار الثواب، بل هي جنة الخلد. وقيل: في السماء جنة غير دار الثواب وغير جنة الخلد. ورد قول من قال: إنها بستان في السماء، فلم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة. ومما استدل به من قال: إنها في الأرض قوله تعالى: * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما) * * (ولا * لغو فيها ولا تأثيم) *، * (وما هم منها بمخرجين) *. وقد لغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحواء، ولأنها لو كانت دار الخلد لما وصل إليها إبليس ووسوس لهما حتى أخرجهما، ولأن جنة الخلد دار نعيم وراحة وليست بدار تكليف. وقد تكلف آدم أن لا يأكل من الشجرة، ولأن إبليس كان من الجن المخلوقين من نار السموم. وقد نقل أنه كان من الجن الكفار الذين طردوا في الأرض، ولو كانت جنة الخلد لما دخلها، ولأنها محل تطهير، فكيف يحسن أن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين؟.
وأجيب عن الآيات أنها محمولة على حالهم بعد دخول الاستقرار والخلود، لا على دخولهم على سبيل المرور والجواز. فقد صح دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم) الجنة في ليلة المعراج وفي غيرها، وأنه رآها في حديث الكسوف. وأما دخول إبليس إليها فدخول تسليط لا تكريم، وذلك إن صح قالوا: والصحيح أنه لم يدخل الجنة وقف على بابها وكلمهما، وأراد الدخول فردته الخزنة، وقيل: دخل في جوف الحية مستترا. وأما كونها ليست دار تكليف، فذلك بعد دخولهم فيها للإقامة المستمرة والجزاء بالأعمال الصالحة. وأما الدخول الذي يعقبه الخروج بسبب المخالفة، فلا ينافي التكليف بل لا يكون خاليا منه.
* (وكلا) *: دليل على أن الخطاب لهما بعد وجود حواء، لأن الأمر بالأكل للمعدوم فيه بعد، إلا على تقدير وجوده، والأصل في: كل أؤكل. الهمزة الأولى هي المجتلبة للوصل، والثانية هي فاء الكلمة، فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ، فوليت همزة الوصل الكاف، وهي متحركة، وإنما اجتلبت للساكن، فلما زال موجب اجتلابها زالت هي. قال ابن عطية وغيره: وحذفت النون من كلا للأمر، انتهى كلامه. وهذا الذي ذكر ليس على طريقة البصريين، فإن فعل الأمر عندهم مبني على السكون، فإذا اتصل به ضمير بارز كانت حركة آخره مناسبة للضمير، فتقول: كلى، وكلا، وكلوا، وفي الإناث يبقى ساكنا نحو: كلن. وللمعتل حكم غير هذا، فإذا كان هكذا فقوله: وكلا، لم تكن فيه نون فتحذف للأمر، وإنما يكون ما ذكره على مذهب الكوفيين، حيث زعموا أن فعل الأمر معرب، وأن أصل: كل التأكل، ثم عرض فيه من الخذف بالتدريج إلى أن صار: كل. فأصل كلا: لتأكلا، وكان قبل دخول لام الأمر عليه فيه نون، إذ كان أصله: تأكلان، فعلى قولهم يتم قول ابن عطية: إن
308

النون من كلا حذفت للأمر.
* (منها) *: الضمير عائد على الجنة، والمعنى على حذف مضاف، أي من مطاعمها، من ثمارها وغيرها، ودل ذلك على إباحة الأكل لهما من الجنة على سبيل التوسعة، إذ لم يحظر عليهما أكل ما، إذ قال: * (رغدا) *، والجمهور على فتح الغين. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: بسكونها، وقد تقدم أنهما لغتان، وانتصاب رغدا، قالوا: على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره أكلا رغدا. وقال ابن كيسان: هو مصدر في موضع الحال، وفي كلا الإعرابين نظر. أما الأول: فإن مذهب سيبويه يخالفه، لأنها لا يرى ذلك، وما جاء من هذا النوع جعله منصوبا على الحال من الضمير العائد على المصدر الدال عليه الفعل. وأما الثاني: فإنه مقصور على السماع، قال الزجاج: الرغد الكثير الذي لا يعنيك، وقال مقاتل: الواسع، وقال مجاهد: الذي لا يحاسب عليه، وقيل: السالم من الإنكار الهني، يقال: رغد
عيش القوم، ورغد، بكسر الغين وضمها، إذا كانوا في رزق واسع كثير، وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد من العيش. وقالوا عيشة رغد بالسكون أيضا.
* (حيث شئتما) *: أباح لهما الأكل حيث شاءا فلم يحظر عليهما مكانا من أماكن الجنة، كما لم يحظر عليهما مأكولا إلا ما وقع النهي عنه. وشاء في وزنه خلاف، فنقل عن سيبويه: أن وزنه فعل بكسر العين فنقلت حركتها إلى الشين فسكنت، واللام ساكنة للضمير، فالتقى ساكنان، فحذفت لالتقاء الساكنين، وكسرت الشين لتدل على أن المحذوف هو ياء، كما صنعت في بعت.
* (ولا تقربا) *: نهاهما عن القربان، وهو أبلغ من أن يقع النهي عن الأكل، لأنه إذا نهى عن القربان، فكيف يكون الأكل منها؟ والمعنى: لا تقرباها بالأكل، لا أن الإباحة وقعت في الأكل. وحكى بعض من عاصرناه عن ابن العربي، يعني القاضي أبا بكر، قال: سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل يقول: إذ قلت: لا تقرب، بفتح الراء معناه: لا تلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن، وقد تقدم أن معنى: لا تقرب زيد: ألا تدن منه. وفي هذه الحكاية عن ابن العربي من التخليط ما يتعجب من حاكيها، وهو قوله: سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل، وبين النضر والشاشي من السنين مئون، إلا إن كان ثم مكان معروف بمجلس النضر بن شميل فيمكن. وقرئ: ولا تقربا بكسر التاء، وهي لغة عن الحجازيين في فعل يفعل، يكسرون حرف المضارعة التاء والهمزة والنون، وأكثرهم لا يكسر الياء، ومنهم من يكسرها، فإن كان من باب: يوحل، وكاسر، وفاتح، مع إقرار الواو وقلبها ألفا. * (هاذه) *: إشارة للحاضر الغريب من المخاطب. وقرأ ابن محيصن: هذي بالياء. وقرأ الجمهور بالهاء.
* (الشجرة) *: نعت لاسم الإشارة، ويحتمل الإشارة أن تكون إلى جنس من الشجر معلوم، ويحتمل أن تكون إلى شجرة واحدة من الجنس المعلوم، وهذا أظهر، لأن الإشارة لشخص ما يشار إليه. قال ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وجعدة بن هبيرة: هي الكرم، ولذلك حرمت علينا الخمر، وقال ابن عباس أيضا، وأبو مالك وقتادة: السنبلة، وكان حبها ككلى البقر أحلى من العسل وألين من الزبد. روي ذلك عن وهب. ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه. قال بعض الصحابة وقتادة: التين، وقال علي: شجرة الكافور. وقال الكلبي: شجرة العلم، عليها من كل لون، ومن أكل منها علم الخير والشر. وقال وهب: شجرة الخلد، تأكل منها الملائكة. وقال أبو العالية: شجرة من أكل منها
309

أحدث. وقال بعض أهل الكتاب: شجرة الحنظل. وقال أبو مالك: النخلة. وقيل: شجرة المحنة. وقيل: شجرة لم يعلمنا الله ما هي، وهذا هو الأظهر، إذ لا يتعلق بعرفانها كبير أمر، وإنما المقصود إعلامنا أن فعل ما نهينا عنه سبب للعقوبة. وقرئ: الشجرة بكسر الشين، حكاها هارون الأعور عن بعض القراء. وقرئ أيضا الشيرة، بكسر الشين والياء المفتوحة بعدها، وكره أبو عمرو هذه القراءة وقال: يقرأ بها برابر مكة وسودانها، وينبغي أن لا يكرهها، لأنها لغة منقولة، فيها قال الرياشي: سمعت أبا زيد يقول: كنا عند المفضل وعنده أعراب، فقلت: إنهم يقولون شيرة، فقالوا: نعم، فقلت له: قل لهم يصغرونها، فقالوا سبيرة، وأنشد الأصمعي:
نحسبه بين الأنام شيره
وفي نهي الله آدم وزوجه عن قربان الشجرة دليل على أن سكناهما في الجنة لا تدوم، لأن المخلد لا يؤمر ولا ينهى ولا يمنع من شيء. فتكونا منصوب جواب النهي، ونصبه عند سيبويه والبصريين بأن مضمرة بعد الفاء، وعند الجرمي بالفاء نفسه، وعند الكوفيين بالخلاف. وتحرير القول في هذه المذاهب يذكر في كتب النحو. وأجازوا أن يكون فتكونا مجزوما عطفا على تقربا، قاله الزجاج وغيره، نحو قوله:
* فقلت له صوب ولا تجهدنه
*
فيذرك من أعلى القطاة فتزلق
*
والأول أظهر لظهور السببية، والعطف لا يدل عليها. * (من الظالمين) *: قيل لأنفسكما بإخراجكما من دار النعيم إلى دار الشقاء، أو بالأكل من الشجرة التي نهيتما عنها، أو بالفضيحة بين الملأ الأعلى، أو بمتابعة إبليس، أو بفعل الكبيرة، قاله الحشوية، أو بفعل الصغيرة، قاله المعتزلة، أو بإلزامها ما يشق عليها من التوبة والتلافي، قاله أبو علي، أو بحط بعض الثواب الحاصل، قاله أبو هاشم، أو بترك الأولى، قال قوم: هما أول من ظلم نفسه من الآدميين، وقال قوم: كان قبلهم ظالمون شبهوا بهم ونسبوا إليهم. وفي قوله: * (فتكونا من الظالمين) * دلالة على أن النهي كان على جهة الوجوب لا على جهة الندب، لأن تاركه لا يسمى ظالما. قال بعض أهل الإشارات: الذي يليق بالخلق عدم السكون إلى الخلق، وما زال آدم وحده بكل خير وبكل عافية، فلما جاءه الشكل والزوج، ظهر إتيان الفتنة وافتتاح باب المحنة، وحين ساكن حواء أطاعها فيما أشارت عليه من الأكل، فوقع فيما وقع. ولقد قيل:
* داء قديم في بني آدم
*
صبوة إنسان بإنسان
*
وقال القشيري: كل ما منع منه توفرت دواعي ابن آدم للاقتراب منه. هذا آدم عليه السلام أبيح له الجنة بجملها، ونهي عن شجرة واحدة، فليس في المنقول أنه مد يده إلى شيء من جملة ما أبيح له، وكأنه عيل صبره حتى ذاق ما نهي عنه، هكذا صفة الخلق. وقال: نبه على عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكابه ما يوجب خروجه منها قوله تعالى: * (إني جاعل فى الارض خليفة) * فإذا أخبر تعالى بجعله خليفة في الأرض، فكيف يمكن بقاؤه في الجنة؟ كان آدم لا أحد يوفيه في الرتبة يتوالى عليه النداء: يا آدم ويا آدم فأمسى وقد نزع عنه لباسه وسلب استئناسه، والقدرة لا تكابر، وحكم الله لا يعارض، وقال الشاعر:
* لله درهم من فتية بكروا
*
مثل الملوك وراحوا كالمساكين
*
310

2 (* (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقىءادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) *)) 2
* (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الارض مستقر ومتاع إلى حين) *.
أزل: من الزلل، وهو عثور القدم. يقال: زلت قدمه، وزلت به النعل. والزلل في الرأي والنظر مجاز، وأزال: من الزوال، وأصله التنحية. والهمزة في كلا الفعلين للتعدية. الهبوط: هو النزول، مصدر هبط، ومضارعه يهبط ويهبط بكسر الباء وضمها، والهبوط بالفتح: موضع النزول. وقال المفضل: الهبوط: الخروج عن البلدة، وهو أيضا الدخول فيها من الأضداد، ويقال في انحطاط المنزلة مجازا، ولهذا قال الفراء: الهبوط: الذل، قال لبيد:
إن يقنطوا يهبطوا يوما وإن أمروا
بعض: أصله مصدر بعض يبعض بعضا، أي قطع، ويطلق على الجزء، ويقابله كل، وهما معرفتان لصدور الحال منهما في فصيح الكلام، قالوا: مررت ببعض قائما، وبكل جالسا، وينوي فيهما الإضافة، فلذلك لا تدخل عليهما الألف واللام، ولذلك خطأوا أبا القاسم الزجاجي في قوله: ويبدل البعض من الكل، ويعود الضمير على بعض، إذا أريد به جمع مفردا ومجموعا. وكذلك الخبر والحال والوصف يجوز إفراده إذ ذاك وجمعه. العدو: من العداوة، وهي مجاوزة الحد، يقال: عدا فلان طوره إذا جاوزه، وقيل: العداوة، التباعد بالقلوب من عدوى الجبل، وهما طرفاه، سميا بذلك لبعد ما بينهما، وقيل: من عدا: أي ظلم، وكلها متقاربة في المعنى. والعدو يكون للواحد والاثنين والجمع، والمذكر والمؤنث، وقد جمع فقيل: أعداء، وقد أنث فقالوا: عدوة، ومنه: أي عدوات أنفسهن. وقال الفراء: قالت العرب للمرأة: عدوة الله، وطرح بعضهم الهاء. المستقر: مستفعل من القرار، وهو اللبث والإقامة، ويكون مصدرا وزمانا ومكانا لأنه من فعل زائد على ثلاثة أحرف، فيكون لما ذكر بصورة المفعول، ولذلك سميت الأرض: القرارة، قال الشاعر:
* جادت عليه كل عين ثرة
*
فتركن كل قرارة كالدرهم
*
واستفعل فيه: بمعنى فعل استقر وقر بمعنى. المتاع: البلغة، وهو مأخوذ من متع النهار إذا ارتفع، فينطلق على ما يتحصل للإنسان من عرض الدنيا، ويطلق على الزاد وعلى الانتفاع بالنساء، ومنه، * (فما استمتعتم به منهن) *، * (* ونكاح المتعة) *، * (وعلى) *، * (فريضة ومتعوهن) *، وعلى التعمير، * (يمتعكم متاعا حسنا) *، قالوا: ومنه أمتع الله بك، أي أطال الله الإيناس بك، وكله راجع لمعنى البلغة، الحين: الوقت والزمان، ولا يتخصص بمدة، بل وضع المطلق منه
311

تلقى: تفعل من اللقاء، نحو تعدى من العدو، قالوا: أو بمعنى استقبل، ومنه: تلقى فلان فلانا استقبله. ويتلقى الوحي: أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه، وخرجنا نتلقى الحجج: نستقبلهم، وقال الشماخ:
* إذا ما راية رفعت لمجد
*
تلقاها عرابة باليمين
*
وقال القفال: التلقي التعرض للقاء، ثم يوضع موضع القبول والأخذ، ومنه وإنك لتلقى القرآن، تلقيت هذه الكلمة من فلان: أخذتها منه. الكلمة: اللفظة الموضوعة المعنى، والكلمة: الكلام، والكلمة: القصيدة سميت بذلك لاشتمالها على الكلمة والكلام، ويجمع بحذف التاء فيكون اسم جنس، نحو: نبقة ونبق. التوبة: الرجوع،
تاب يتوب توبا وتوبة ومتابا، فإذا عدى بعلى ضمن معنى العطف. تبع: بمعنى لحق، وبمعنى تلا، وبمعنى افتدى. والخوف: الفزع، خاف، يخاف خوفا وتخوف تخوفا، فأفزع، ويتعدى بالهمز وبالتضعيف، ويكون للأمر المستقبل. وأصل الحزن: غلظ الهم، مأخوذ من الحزن: وهو ما غلظ من الأرض، يقال: حزن يحزن حزنا وحزنا، ويعدى بالهمزة وبالفتحة، نحو: شترت عين الرجل، وشترها الله، وفي التعدية بالفتحة خلاف، ويكون للأمر الماضي. الآية: العلامة، ويجمع آيا وآيات، قال النابغة:
* توهمت آيات لها فعرفتها
*
لستة أعوام وذا العام سابع
*
ووزنها عند الخليل وسيبويه: فعلة، فأعلت العين وسلمت اللام شذوذا والقياس العكس. وعند الكسائي: فاعلة، حذفت العين لئلا يلزم فيه من الإدغام ما لزم في دابة، فتثقل، وعند الفراء: فعلة، فأبدلت العين ألفا استثقالا للتضعيف، كما أبدلت في قيراط وديوان، وعند بعض الكوفيين: فعلة: استثقل التضعيف فقلبت الفاء الأولى ألفا لانكسارها وتحرك ما قبلها، وهذه مسألة ينهى الكلام عليها في علم التصريف. الصحبة: الاقتران، صحب يصحب، والأصحاب: جمع صاحب، وجمع فاعل: على أفعال شاذ، والصحبة والصحابة: أسماء جموع، وكذا صحب على الأصح خلافا للأخفش، وهي لمطلق الاقتران في زمان ما.
* (فأزلهما الشيطان عنها) *: الهمزة: كما تقدم في أزل للتعدية، والمعنى: جعلهما زلا بإغوائه وحملهما على أن زلا وحصلا في الزلة، هذا أصل همزة التعدية. وقد تأتي بمعنى جعل أسباب الفعل، فلا يقع إذ ذاك الفعل. تقول: أضحكت زيدا فما ضحك وأبكيته فما بكى، أي جعلت له أسباب الضحك وأسباب البكاء فما ترتب على ذلك ضحكه ولا بكاؤه، والأصل هو الأول، وقال الشاعر:
* كميت يزل اللبد عن حال متنه
*
كما زلت الصفواء بالمتنزل
*
معناه: فيما يشرح الشراح، يزل اللبد: يزلقه عن وسط ظهره، وكذلك قوله: يزل الغلام الخف عن صهواته: أي يزلقه. وقيل أزلهما: أبعدهما. تقول: زل عن مرتبته، وزل عني ذاك، وزل من الشهر كذا: أي ذهب وسقط، وهو
312

قريب من المعنى الأول، لأن الزلة هي سقوط في المعنى، إذ فيها خروج فاعلها عن طريق الاستقامة، وبعده عنها. فهذا جاء على الأصل من تعدية الهمزة. وقرأ الحسن وأبو رجاء وحمزة: فأزالهما، ومعنى الإزالة: التنحية. وروي عن حمزة وأبي عبيدة إمالة فأزالهما. والشيطان: هو إبليس بلا خلاف هنا. وحكوا أن عبد الله قرأ، فوسوس لهما الشيطان عنها، وهذه القراءة مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، فينبغي أن يجعل تفسيرا، وكذا ما ورد عنه وعن غيره مما خالف سواد المصحف. وأكثر قراءات عبد الله إنما تنسب للشيعة. وقد قال بعض علمائنا: إنه صح عندنا بالتواتر قراءة عبد الله على غير ما ينقل عنه مما وافق السواد، فتلك إنما هي آحاد، وذلك على تقدير صحتها، فلا تعارض ما ثبت بالتواتر.
وفي كيفية توصل إبليس إلى إغوائهما حتى أكلا من الشجرة أقاويل: قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور: شافههما بدليل، وقاسمهما، قيل: فدخل إبليس الجنة على طريق الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء، وقيل: دخل في جوف الحية. وذكروا كيف كانت خلقة الحية وما صارت إليه، وكيف كانت مكالمة إبليس لآدم. وقد قصها الله تعالى أحسن القصص وأصدقه في سورة الأعراف وغيرها. وقيل: لم يدخل إبليس الجنة، بل كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل: قام عند الباب فنادى. وقيل: لم يدخل الجنة بل كان ذلك بسلطانه الذي ابتلى به آدم وذريته، كقول النبي صلى الله عليه وسلم): (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). وقيل: خاطبه من الأرض ولم يصعد إلى السماء بعد الطرد واللعن، وكان خطابه وسوسة، وقد أكثر المفسرون في نقل قصص كثير في قصة آدم وحواء والحية، والله أعلم بذلك، وتكلموا في كيفية حاله حين أكل من الشجرة، أكان ذلك في حال التعمد، أم في حال غفلة الذهن عن النهي بنسيان، أم بسكر من خمر الجنة، كما ذكروا عن سعيد بن المسيب. وما أظنه يصح عنه، لأن خمر الجنة، كما ذكر الله تعالى، * (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) * إلا إن كانت الجنة في الأرض، على ما فسره بعضهم، فيمكن أن يكون خمرها بسكر. والذين قالوا: بالعمد، قالوا: كان النهي نهي تنزيه، وقيل: كان معه من الفزع عند إقدامه ما صير هذا الفعل صغيرة. وقيل: فعله اجتهادا، وخالف لأنه تقدم الإشارة إلى الشخص لا إلى النوع، فتركها وأكل أخرى. والاجتهاد في الفروع لا يوجب العقاب. وقيل كان الأكل كبيرة، وقيل: أتاهما إبليس في غير صورته التي يعرفانها، فلم يعرفاه، وحلف لهما أنه ناصح. وقيل: نسي عداوة إبليس، وقيل: يجوز أن يتأول آدم * (ولا تقربا) * أنه نهي عن القربان مجتمعين، وأنه يجوز لكل واحد أن يقرب، والذي يسلك فيما اقتضى ظاهره بعض مخالفة تأويله على أحسن محمل، وتنزيه الأنبياء عن النقائص. وسيأتي الكلام على ما يرد من ذلك، وتأويله على الوجه الذي يليق، إن شاء الله.
وفي (المنتخب) للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه: منعت الأمة وقوع
313

الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا الفضيلية من الخوارج، قالوا: وقد وقع منهم ذنوب، والذنب عندهم كفر، وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيل التقية، واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ، فلا يجوز عمدا ولا سهوا، ومن الناس من جوز ذلك سهوا وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمدا واختلفوا في السهو. وأما أفعالهم فقالت الحشوية: يجوز وقوع الكبائر منهم على جهة العمد. وقال أكثر المعتزلة: بجواز الصغائر عمدا إلا في القول، كالكذب. وقال الجبائي: يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل. وقيل: يمتنعان عليهم، إلا على جهة السهو والخطأ، وهم مأخوذون بذلك، وإن كان موضوعا عن أمتهم. وقالت الرافضة: يمتنع ذلك على كل جهة. واختلف في وقت العصمة فقالت الرافضة: من وقت مولدهم، وقال كثير من المعتزلة: من وقت النبوة. والمختار عندنا: أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة، لا الكبيرة ولا الصغيرة، لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة، لعظيم شرفهم، وذلك محال. ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم، ولئلا يقتدى بهم في ذلك، ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب، ولئلا يفعلون ضد ماأمرو به، لأنهم مصطفون، ولأن إبليس استثناهم في الاغواء. انتهى ما لخصناه من المنتخب.
والقول في الدلائل لهذه المذاهب، وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين. عنها: الضمير عائد على الشجرة، وهو الظاهر، لأنه أقرب مذكور. والمعنى: فحملهما الشيطان على الزلة بسببها. وتكون عن إذ ذاك للسبب، أي أصدر الشيطان زلتهما عن الشجرة كقوله تعالى: * (وما فعلته عن أمرى) *، * (وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه) *. وقيل: عائد على الجنة، لأنها أول مذكور، ويؤيده قراءة حمزة وغيره: فأزالهما، إذ يبعد فأزالهما الشيطان عن الشجرة. وقيل: عائد على الطاعة، قالوا بدليل قوله: * (وعصى * ءادم * ربه) *، فيكون إذ ذاك الضمير عائدا على غير مذكور، إلا على ما يفهم من معنى قوله: * (ولا تقربا) * لأن المعنى: أطيعاني بعدم قربان هذه الشجرة. وقيل: عائد على الحالة التي كانوا عليها من التفكه والرفاهية والتبوء من الجنة، حيث شاءا، ومتى شاءا، وكيف شاءا بدليل، * (وكلا منها رغدا) *. وقيل: عائد على السماء وهو بعيد.
* (فأخرجهما مما كانا فيه) * من الطاعة إلى المعصية، أو من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا، أو من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب، أو رضوان الله، أو جواره. وكل هذه الأقوال متقاربة. قال المهدوي: إذا جعل أزلهما من زل عن المكان، فقوله: * (فأخرجهما مما كانا فيه) * توكيد. إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، انتهى. والأولى أن يكون بمعنى كسبهما الزلة لا يكون بإلقاء. قال ابن عطية: وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره: فأكلا من الشجرة، ويعني أن المحذوف يتقدر قبل قوله: * (فأزلهما الشيطان) *، ونسب الإزلال والإزالة والإخراج لإبليس على جهة المجاز، والفاعل للأشياء هو الله تعالى.
* (وقلنا اهبطوا) *: قرأ الجمهور بكسر الباء، وقرأ أبو حياة: اهبطوا بضم الباء، وقد ذكرنا أنهما لغتان. والقول في: * (وقلنا اهبطوا) * مثل القول في: * (وقلنا ياءادم * ءادم * اسكن) *. ولما كان أمرا بالهبوط من الجنة إلى الأرض، وكان في ذلك انحاط رتبة المأمور، لم يؤنسه بالنداء، ولا أقبل عليه بتنويهه بذكر اسمه. والإقبال عليه بالنداء بخلاف قوله: * (وقلنا ياءادم * ءادم * اسكن) *، والمخاطب بالأمر آدم وحواء والحية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، أو هؤلاء
314

وإبليس، قاله السدي عن ابن عباس، أو آدم وإبليس، قاله مجاهد، أو هما وحواء، قاله مقاتل، أو آدم وحواء فحسب. ويكون الخطاب بلفظ الجمع وإن وقع على التثنية نحو: * (وكنا لحكمهم شاهدين) *، ذكره ابن الأنباري، أو آدم وحواء والوسوسة، قاله الحسن، أو آدم وحواء وذريتهما، قاله الفراء، أو آدم وحواء، والمراد هما وذريتهما، ورجحه الزمخشري قال: لأنهما لما كانا أصل الأنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الأنس كلهم. والدليل عليه قوله: * (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) *، ويدل على ذلك قوله: * (من * تبع هداي) * الآية، وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم، انتهى. وفي قول الفراء خطاب من لم يوجد بعد، لأن ذريتهما كانت إذ ذاك غير موجودة. وفي قول من أدخل إبليس معهما في الأمر ضعف، لأنه كان خرج قبلهما، ويجوز على ضرب من التجوز. قال كعب ووهب: أهبطوا جملة ونزلوا في بلاد متفرقة. وقال مقاتل: أهبطوا متفرقين، فهبط إبليس، قيل بالأيلة، وحواء بجدة، وآدم بالهند، وقيل: بسرنديب بجبل يقال له: واسم. وقيل: كان غذاؤه جوز الهند، وكان السحاب يمسح رأسه فأورث ولده الصلع. وهذا لا يصح إذ لو كان كذلك لكان أولاده كلهم صلعا.
وروي عن ابن عباس: أن الحية أهبطت بنصيبين. وروى الثعلبي: بأصبهان، والمسعودي: بسجستان، وهي أكثر بلاد الله حيات. وقيل: بيسان. وقيل: كان هذا الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا. وقيل: لما نزل آدم بسرنديب من الهند ومعه ريح الجنة، علق بشجرها وأوديتها، فامتلأ ما هناك طيبا، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام. وذكر أبو الفرج بن الجوزي في إخراجه كيفية ضربنا صفحا عن ذكرها، قال: وأدخل آدم في الجنة ضحوة، وأخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، والنصف خمسمائة عام، مما يعد أهل الدنيا، والأشبه أن قوله: اهبطوا أمر تكليف، لأن فيه مشقة شديدة بسبب ما كانا فيه من الجنة، إلى مكان لا تحصل فيه المعيشة إلا بالمشقة، وهذا يبطل قول من ظن أن ذلك عقوبة، لأن التشديد في التكليف يكون بسبب الثواب. فكيف يكون عقابا مع ما في هبوطه وسكناه الأرض من ظهور حكمته الأزلية في ذلك، وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في جنة ونار. وكانت تلك الأكلة سبب هبوطه، والله يفعل ما يشاء. وأمره بالهبوط إلى الأرض بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: * (قلنا اهبطوا * بعضكم لبعض عدو) *، إن كان المخاطبون آدم وحواء وذريتهما، كما قال مجاهد، فالمراد ما عليه الناس من التعادي وتضليل بعضهم لبعض، والبعضية موجودة في ذريتهما،
315

لأنه ليس كلهم يعادي كلهم، بل البعض يعادي البعض. وإن كان معهما إبليس أو الحية، كما قاله مقاتل، فليس بعض ذريتهما يعادي ذرية آدم، بل كلهم أعداء لكل بني آدم. ولكن يتحقيق هذا بأن جعل المأمورون بالهبوط شيئا واحدا وجزئوا أجزاء، فكل جزء منها جزء من الذين هبطوا، والجزء يطلق عليه البعض فيكون التقدير: كل جنس منكم معاد للجنس المباين له.
وقال الزجاج: إبليس عدو للمؤمنين وهم أعداؤه. وقيل معناه: عداوة نفس الإنسان له وجوارحه، وهذا فيه بعد، وهذه الجملة في موضع الحال، أي اهبطوا متعادين، والعامل فيها اهبطوا. فصاحب الحال الضمير في اهبطوا، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها، واجتماع الواو والضمير في الجملة الإسمية الواقعة حالا أكثر من انفراد الضمير. وفي كتاب الله تعالى: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) *، وليس مجيئها بالضمير دون الواو شاذا، خلافا للفراء ومن واقفه كالزمخشري. وقد روى سيبويه عن العرب كلمته فوه إلى في، ورجع عوده على بدئه، وخرجه على وجهين: أحدهما: أن عوده مبتدأ وعلى بدئه خبر، والجملة حال، وهو كثير في لسان العرب، نظمها ونثرها، فلا يكون ذلك شاذا. وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملة مستأنفة إخبارا من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدو، فلا يكون في موضع الحال، وكأنه فر من الحال، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأمورا به، أو كالمأمور. ألا ترى أنك إذا قلت قم ضاحكا كان المعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوبا بالحال فيكون مأمورا بها أو كالمأمور، لأنك لم تسوغ له القيام إلا في حال الضحك وما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به مأمور؟ والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك، لأن الفعل إذا كان مأمورا به من يسند إليه في حال من أحواله، لم تكن تلك الحال مأمورا بها، لأن النسبة الحالية هي لنسبة تقييدية لا نسبة إسنادية. فلو كانت مأمورا بها إذا كان العامل فيها امرا، فلا يسوغ ذلك هنا، لأن الفعل المأمور به إذا كان لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد، ولا يمكن خلافه، لم يكن ذلك القيد مأمورا به، لأنه ليس داخلا في حيز التكليف، وهذه الحال من هذا النوع، قل يلزم أن يكون الله أمر بها، وهذه الحال من الأحوال اللازمة. وقوله: لبعض متعلق بقوله عدو، واللام مقوية لوصول عدو إليه، وأفرد عدو على لفظ بعض أو لأنه يصلح للجمع، كما سبق ذكر ذلك عند الكلام على بعض وعلى عدو حالة الإفراد.
* (ولكم فى الارض مستقر) *: مبتدأ وخبر. لكم هو الخبر، وفي الأرض متعلق بالخبر، وحقيقته أنه معمول للعامل في الخبر، والخبر هنا مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، ولا يجوز * (فى الارض) * أن يتعلق بمستقر، سواء كان يراد به مكان استقرار كما قاله أبو العالية وابن زيد، أو المصدر، أي استقرار، كما قاله السدي، لأن اسم المكان لا يعمل، ولأن المصدر الموصول لا يجوز بعضهم تقديم معموله عليه، ولا يجوز في الأرض أن يكون خبرا، ولكم متعلق بمستقر لما ذكرناه، أو في موضع الحال من
316

مستقر، لأن العامل إذ ذاك فيها يكون الخبر، وهو عامل معنوي، والحال متقدمة على جزأي الإسناد، فلا يجوز ذلك، وصار نظير: قائما زيد في الدار، أو قائما في الدار زيد، وهو لا يجوز بإجماع. مستقر: أي مكان استقراركم حالتي الحياة والموت، وقيل: هو القبر، أو استقرار، كما تقدم شرحه.
* (ومتاع) *: المتاع ما استمتع به من المنافع، أو الزاد، أو الزمان الطويل، أو التعمير. * (إلى حين) *: إلى الموت، أو إلى قيام الساعة، أو إلى أجل قد علمه الله، قاله ابن عباس. ويتعلق إلى بمحذوف، أي ومتاع كائن إلى حين، أو بمتاع، أي واستمتاع إلى حين، وهو من باب الأعمال، أعمل فيه الثاني ولم يحتج إلى إضمار في الأول، لأن متعلقه فضلة، فالأولى حذفه، ولا جائز أن يكون من إعمال الأول، لأن الأولى أن لا يحذف من الثاني والأحسن حمل القرآن على الأولى. والأفصح لا يقال إنه لا يجوز أن يكون من باب الإعمال، وإن كان كل من مستقر ومتاع يقتضيه من جهة المعنى بسبب أن الأول لا يجوز أن يتعلق به إلى حين، لأنه يلزم من ذلك الفصل بين المصدر ومعموله بالمعطوف، والمصدر موصول فلا يفصل بينه وبين معموله، لأن المصدر هنا لا يكون موصولا، وذلك أن المصدر منه ما يلحظ فيه الحدوث فيتقدر مصدري مع الفعل، وهذا هو الموصول، وإنما كان موصولا باعتبار تقديره بذلك الحرف الذي هو موصول بالفعل، وإلا فالمصدر من حيث هو مصدر لا يكون موصولا، ومنه ما لا يلحظ فيه الحدوث، نحو وله: لزيد معرفة بالنحو، وبصر بالطب، وله ذكاء ذكاء الحكماء. فمثل هذا لا يتقدر بحرف مصدري والفعل، حتى ذكر النحويون أن هذا المصدر إذا أضيف لم يحكم على الاسم بعده، لا برفع ولا بنصب، قالوا: فإذا قلت: يعجبني قيام زيد، فزيد فاعل القيام تأويله يعجبني أن يقوم زيد، وممكن أن زيدا يعرى منه القيام، ولا يقصد فيه إلى إفادة المخاطب أنه فعل القيام فيما مضى، أو يفعله فيما يستقبل، بل تكون النية في الإخبار كالنية في: يعجبني خاتم زيد المحدود المعروف بصاحبه والمخفوض بالمصدر. على هذه الطريقة لا يقضى عليه برفع، ولا يؤكد، ولا ينعت، ولا يعطف عليه إلا بمثل ما يستعمل مع المخفوضات الصحاح، انتهى.
فأنت ترى تجويزهم أن لا يكون موصولا مع المصدر الذي يمكن أن يكون موصولا، وهو قولهم: يعجبني قيام زيد، فكيف مع ما لا يجوز أن يكون موصولا نحو: ما مثلنا به من قوله: له ذكاء ذكاء الحكماء، وبصر بالطب، ونحو ذلك، فكذلك يكون مستقر ومتاع من قبيل ما لا يكون موصولا. ولا يمتنع أن يعمل في الجار والمجرور، وإن لم يكن موصولا، كما مثلنا في قوله: له معرفة بالنحو، لأن الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما روائح الأفعال، حتى الأسماء الأعلام، نحو قولهم: أنا أبو المنهال بعض الأحيان، وأنا ابن ماوية إذ جد النقر. وأما أن تعمل في الفاعل، أو المفعول به فلا. وأما إذا قلنا بمذهب الكوفيين، وهو أن المصدر إذا نون، أو دخلت عليه الألف واللام، تحققت له الاسمية وزال عنه تقدير الفعل، فانقطع عن أن يحدث إعرابا، وكانت قصته قصة زيد وعمرو والرجل والثوب، فيمكن أيضا أن يخرج عليه قوله تعالى: * (مستقر ومتاع إلى حين) *، ولا يبعد على هذا التقدير تعلق الجار والمجرور بكل منهما، لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ولأن المصدر إذ ذاك لا يكون بأبعد في العمل في الظرف أو المجرور من الاسم العلم. ويمكن أن يفسر قوله: * (مستقر * متاع * إلى حين) * بقوله: * (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون * وفى * قوله * إلى حين) * دليل على عدم البقاء في الأرض، ودليل على المعاد. وفي هذه الآية التحذير عن مخالفة أمر الله بقصد أو تأويل، وأن المخالفة تزيل عن مقام الولاية.
* (فتلقىءادم من ربه كلمات) *، تلقى: تفعل من اللقاء، وهو هنا بمعنى التجرد، أي لقي آدم، نحو قولهم: تعداك هذا الأمر، بمعنى عداك، وهو أحد المعاني التي
جاءت لها تفعل، وهي سبعة عشر معنى مطاوعة فعل، نحو: كسرته فتكسر، والتكلف نحو: تحلم، والتجنب نحو: تجنب، والصيرورة نحو: تألم، والتلبس
317

بالمسمى المشتق منه نحو: تقمص، والعمل فيه نحو: تسحر، والاتخاذ نحو: تبنيت الصبي، ومواصلة العمل في مهلة نحو: تفهم، وموافقة استفعل نحو: تكبر، وموافقة المجرد نحو: تعدى الشيء، أي عداه، والإغناء عنه نحو: تكلم، والإغناء عن فعل نحو: توبل، وموافقة فعل نحو: تولى، أي ولى، والختل، نحو: تعقلته، والتوقع نحو: تخوفه، والطلب نحو: تنجز حوائجه، والتكثير نحو: تعطينا. ومعنى تلقي الكلمات: أخذها وقبولها، أو الفهم، أو الفطانة، أو الإلهام أو التعلم والعمل بها، أو الاستغفار والاستقالة من الذنب. وقول من زعم أن أصله: تلقن، فأبدلت النون ألفا ضعيف، وإن كان المعنى صحيحا، لأن ذلك لا يكون إلا مما كان عينه ولامه من جنس واحد نحو: تظني، وتقضي، وتسري، أصله: تظنن، وتقضض، وتسرر. ولا يقال في تقبل: تقبى. وقرأ الجمهور: برفع آدم ونصب الكلمات، وعكس ابن كثير. ومعنى تلقي الكلمات لآدم: وصولها إليه، لأن من تلقاك فقد تلقيته فكأنه قال: فجاءت آدم من ربه كلمات. وظاهر قوله: كلمات، أنها جملة مشتملة على كلم، أو جمل من الكلام قالها آدم، فلذلك قدروا بعد قوله: كلمات، جملة محذوفة وهي فقالها فتاب عليه. واختلفوا في تعيين تلك الكلمات على أقوال، وقد طولوا بذكرها، ولم يخبرنا الله بها إلا مبهمة، ونحن نذكرها كما ذكرها المفسرون، قال ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وابن كعب وعطاء الخراساني والضحاك وعبيد بن عمير وابن زيد: هي * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا) *، الآية.
وروي عن ابن ابن مسعود، أن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك، لا إلاه إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال: يقول ما قاله أبواه: (ربنا ظلمنا أنفسنا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) وما قاله يونس: (لا إلاه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين). وروي عن ابن عباس ووهب أنها: (سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك خير الغافرين). وقال محمد بن كعب هي: (لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم). وحكى السدي عن ابن عباس أنه قال: (رب ألم تخلقني بيدك؟) قال: بلى، قال: ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: رب إن تبت وأصلحت أراجعي إلى الجنة؟ قال: (نعم). وزاد قتادة في هذا: (وسبقت رحمتك إلي قبل غضبك؟ قيل له بلى، قال: رب هل كتبت هذا علي قبل أن تخلقني؟ يل له: نعم، فقال: رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قيل له: نعم). وقال قتادة هي: (أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت التواب الرحيم). وقال عبيد بن عمير، قال: (يا رب خطيئتي التي أخطأتها أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني؟ أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك، قال: (فكما كتبت علي فاغفر لي). وقيل إنها: (سبحانك اللهم لا إلاه إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور). وقيل: رأى مكتوبا على ساق العرش محمد رسول الله، فتشفع بذلك فهي الكلمات. وقيل: قوله حين عطس: (الحمد لله). وقيل: هي الدعاء والحياء والبكاء. وقيل: الاستغفار والندم والحزن. قال ابن عطية: وسماها كلمات، مجازا لما هي في خلقها صادرة عن كلمات، وهي: كن في كل واحدة منهن)، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود. انتهى كلامه.
* (فتاب عليه) *: أي تفضل عليه بقبول توبته وأفرده بالإخبار عنه بالتوبة عليه، وإن كانت زوجته مشاركة له في الأمر بالسكنى والنهي عن قربان الشجرة وتلقي الكلمات والتوبة، لأنه هو المواجه بالأمر والنهي،
318

وهي تابعة له في ذلك. فكملت القصة بذكره وحده، كما جاء في قصة موسى والخضر، إذ جاء * (حتى إذا ركبا فى) *، فحملاها بغير نول، وكان مع موسى يوشع، لكنه كان تابعا لموسى فلم يذكره ولم يجمع معهما في الضمير، أو اكتفى بذكر أحدهما، إذ كان فعلهما واحدا، نحو قوله تعالى: * (ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه) *، * (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) *، أو طوى ذكرها كما طواه عند ذكر المعصية في قوله: * (وعصى * ءادم * ربه فغوى) *.
وقد جاء طي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة، وقد ذكرها في قوله: * (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) *، وإنما لم يراع هذا الستر في امرأتي نوح ولوط لأنهما كانت كافرتين، وقد ضرب بهما المثل للكفار، لأن ذنوبهما كانت غاية في القبح والفحش. والكافر لا يناسب الستر عليه ولا الإغضاء عن ذنبه، بل ينادي عليه ليكون ذلك أخزى له وأحط لدرجته. وحواء ليست كذلك، ولأن معصيتهما تكررت واستمر منهما الكفر والإصرار على ذلك، والتوبة متعذرة لما سبق في علم الله أنهما لا يتوبان، وليست حواء كذلك لخفة ما وقع منها، أو لرجوعها إلى ربها، ولأن التبكيت للمذنب شرع رجاء الإقلاع، وهذا المعنى معقود فيهما، وذكرهما بالإضافة إلى زوجيهما فيه من الشهرة ما لا يكون في ذكر اسميهما غير مضافين إليهما. وتوبة العبد: رجوعه عن المعصية، وتوبة الله على العبد: رجوعه عليه بالقبول والرحمة. واختلف في التوبة المطلوبة من العبد، فقال قوم: هي الندم، أخذا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم): (الندم توبة) وقال قوم: شروطها ثلاثة: الندم على ما فات، والإقلاع عنه، والعزم على أن لا يعود. وتأولوا: الندم توبة على معظم التوبة نحو: الحج عرفة، وزاد بعضهم في الشروط، برد المظالم إذا قدر على ردها، وزاد بعضهم: المطعم الحلال، وقال القفال: لا بد مع تلك الشروط الثلاثة من الإشفاق فيما بين ذلك، وذلك أنه مأمور بالتوبة، ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بها كما لزمه، فيكون خائفا. ولهذا جاء يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
روي عن ابن عباس أن آدم وحواء بكيا على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة. وقد ذكروا في كثرة دموع آدم وداود شيئا يفوت الحصر كثرة. وقال شهر بن حوشب: بلغني أن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى. وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء. وقرأ الجمهور * (أنه) *: بكسر الهمزة، وقرأ نوفل بن أبي عقرب: أنه بفتح الهمزة، ووجهه أنه فتح على التعليل، التقدير: لأنه، فالمفتوحة مع ما بعدها فضلة، إذ هي في تقدير مفرد
ثابت واقع مفروغ من ثبوته لا يمكن فيه نزاع منازع، وأما الكسر فهي جملة ثابتة تامة أخرجت مخرج الإخبار المستقل الثابت، ومع ذلك فلها ربط معنوي بما قبلها، كما جاءت في: * (وما أبرىء نفسى إن النفس لامارة) *، * (اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم) *، * (وصل عليهم إن) *، حتى لو وضعت الفاء التي تعطي الربط مكانها أغنت عنها، وقالوا: إن أن إنما تجيء لتثبيت ما يتردد المخاطب في ثبوته ونفيه، فإن قطع بأحد الأمرين، فليس من مظانها، فإن وجدت داخلة على ما قطع فيه بأحد الأمرين ظاهرا، فيكون ذلك لتنزيله منزلة المتردد فيه لأمر ما، وسيأتي الكلام على ذلك في نحو: * (ثم إنكم بعد ذالك لميتون) * إن شاء الله.
ولما دخلت للتأكيد في قوله: * (إنه هو التواب
319

الرحيم) *، قوي التأكيد بتأكيد آخر، وهو لفظه: * (هو) *. وقد ذكرنا فائدته في قوله: * (وأولائك هم المفلحون) *. وبولغ أيضا في الصفتين بعده، فجاء التواب: على وزن فعال، والرحيم: على وزن فعيل، وهما من الأمثلة التي صيغت للمبالغة. وهذا كله ترغيب من الله تعالى للعبد في التوبة والرجوع إلى الطاعة، واطماع في عفوه تعالى وإحسانه لمن تاب إليه. والتواب من أسمائه تعالى، وهو الكثير القبول لتوبة العبد، أو الكثير الإعانة عليها. وقد ورد هذا الاسم في كتاب الله معرفا ومنكرا، ووصف به تعالى نفسه، فدل ذلك على أنه مما استأثر به تعالى. وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يوصف به إلا تجوزا، وأجمعوا أنه لا يوصف تعالى بتائب ولا آيب ولا رجاع ولا منيب، وفرق بين إطلاقه على الله تعالى وعلى العبد، وذلك لاختلاف صلتيهما. ألا ترى: فتاب عليه، وتوبوا إلى الله؟ فالتوبة من الله على العبد هي العطف والتفضل عليه، ومن العبد هي الرجوع إلى طاعته تعالى، لطلب ثواب، أو خشية عقاب، أو رفع درجات. وأعقب الصفة الأولى بصفة الرحمة، لأن قبول التوبة سببه رحمة الله لعبده، وتقدم التواب لمناسبة فتاب عليه، ولحسن ختم الفاصلة بقوله: * (الرحيم) *. وقد تقدم الكلام في البسملة على لفظة الرحيم وما يتعلق بها، فأغنى ذلك عن إعادته.
* (قلنا) *، كرر القول، إما على سبيل التأكيد المحض، لأن سبب الهبوط كان أول مخالفة، فكرر تنبيها على ذلك، أو لاختلاف متعلقيهما، لأن الأول علق به العداوة، والثاني علق بإتيان الهدى. وأما لا على سبيل التأكيد، بل هما هبوطان حقيقة، الأول من الجنة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض. وضعف هذا الوجه بقوله في الهبوط الأول: * (عدو ولكم فى الارض مستقر) *، ولم يحصل الاستقرار على هذا التخريج إلا بالهبوط الثاني، فكان ينبغي الاستقرار يذكر فيه وبقوله في الهبوط الثاني منها، وظاهر الضمير أنه يعود إلى الجنة، فاقتضى ذلك أن يكون الهبوط الثاني منهما.
* (جميعا) *: حال من الضمير في اهبطوا، وقد تقدم الكلام في لفظة جميعا وأنها تقتضي التعميم في الحم، لا المقارنة في الزمان عند الكلام على قوله تعالى: * (هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا) *، فهنا يدل على أنهم كلهم خوطبوا بالهبوط، فقد دلا على اتحاد زمان الهبوط. وأبعد ابن عطية في قوله: كأنه قال هبوطا جميعا، أو هابطين جميعا، فجعله نعتا لمصدر محذوف، أو لاسم فاعل محذوف، كل منهما يدل عليه الفعل. قال: لأن جميعا ليس بمصدر ولا اسم فاعل، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره، لأنه قال: أولا وجميعا حال من الضمير في اهبطوا. فإذا كان حالا من الضمير في اهبطوا على ما قرر أولا، فكيف يقدر ثانيا؟ كأنه قال: هبوطا جميعا، أو هابطين جميعا. فكلامه أخيرا يعارض حكمه أولا، ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالا حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره. وأبعد غيره أيضا في زعمه أن التقدير: وقلنا اهبطوا مجتمعين، فهبطوا جميعا، فجعل ثم حالا محذوفة لدلالة جميعا عليها، وعاملا محذوفا لدلالة اهبطوا عليه. ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول: أي فقلنا: إما يأتينكم.
وقد تقدم الكلام في المأمورين بالهبوط، وعلى تقدير أن يكون هبوطا ثانيا، فقيل يخص آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه هدى، وخصا بخطاب الجمع تشريفا لهما. وقيل: يندرج في الخطاب لأن إبليس مخاطب بالإيمان بالإجماع، وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد، والنون في يأتينكم نون التوكيد، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن: * (فإما ترين) *، * (وإما ينزغنك) *، * (فإما نذهبن) *. قال أبو العباس المهدوي: إن: هي، التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل، ولو سقطت، يعني ما لم تدخل النون، فما تؤكد أول الكلام، والنون تؤكد آخره. وتبعه ابن عطية في هذا فقال: فإن هي للشرط، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون، انتهى كلامه. وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت إن بما، هو مذهب المبرد والزجاج، زعما أنها تلزم تشبيها بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو: والله
320

لأخرجن. وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ما بعد إن ضرورة. وذهب سيبويه والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها، وإن كان الإثبات أحسن. وكذلك يجوز حذف ما وإثبات النون، قال سيبويه: في هذه المسألة وإن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجيء بما، انتهى كلامه. وقد كثر السماع بعدم النون بعد إما، قال الشنفري:
* فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا
*
على رقة أحفى ولا أتنعل
*
وقال آخر:
* يا صاح إما تجدني غير ذي جدة
*
فما التخلي عن الإخوان من شيمي
*
وقال آخر:
* زعمت تماضر أنني إما أمت
*
تسدد أبينوها الأصاغر خلتي
*
والقياس يقبله، لأن ما زيدت حيث لا يمكن دخول النون، نحو قول الشاعر:
* إما أقمت وإما كنت مرتحلا
*
فالله يحفظ ما تبقى وما تذر
*
فكما جاءت هنا زائدة بعد إن، فكذلك في نحو: إما تقم يأتينكم، مبني مفتوح الآخر. واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء، أم بني على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين: وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى (بالتكميل لشرح التسهيل). * (مني) *: متعلق بيأتينكم، وهذا شبيه بالالتفات، لأنه انتقل من الضمير الموضوع للجمع، أو المعظم نفسه، إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد. وقد ذكرنا حكمة ذاك الضمير في: قلنا، عند شرح قوله: * (وقلنا ياءادم * ءادم * اسكن) *، وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى، فناسب الضمير الخاص كونه لا هادي إلا هو تعالى، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتمل غيره تعالى. وفي قوله: مني، إشارة إلى أن الخير كله منه، ولذلك جاء: * (قد جاءكم برهان من ربكم * وقد * جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء) *، فأتى بكلمة: من، الدالة على الابتداء في الأشياء، لينبه على أن ذلك صادر منه ومبتدأ من جهته تعالى، وأتى بأداة الشرط في قوله: * (فإما يأتينكم منى هدى) *، وهي تدخل على ما يتردد في وقوعه، والذي أنبهم زمان وقوعه، وإتيان الهدى واقع لا محالة، لأنه أنبهم وقت الإتيان، أو لأنه آذن ذلك بأن توحيد الله تعالى ليس شرطا فيه إتيان رسل منه، ولا إنزال كتب بذلك، بل لو لم يبعث رسلا، ولا أنزل كتبا، لكان الإيمان به واجبا، وذلك لما ركب فيهم من العقل، ونصب لهم من الأدلة، ومكن لهم من الاستدلال، كما قال:
321

* وفي كل شيء له آية
*
تدل على أنه واحد
*
قال معناه الزمخشري غير إنشاد الشعر. هدى: تقدم الكلام على الهدى في قوله: * (هدى للمتقين) *، ونكره لأن المقصود هو المطلق، ولم يسبق عهد فيه فيعرف. والهدى المذكور هنا: الكتب المنزلة، أو الرسل، أوالبيان، أو القدرة على الطاعة، أو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أقوال. فمن تبع: الفاء مع ما دخلت عليه جواب لقوله: * (فإما يأتينكم) *. وقال السجاوندي: الجواب محذوف تقديره فاتبعوه، انتهى. فكأنه على رأيه حذف لدلالة قوله بعده: * (فمن تبع هداي) *. وتظافرت نصوص المفسرين والمعربين على أن: من، في قوله: فمن تبع، شرطية، وأن جواب هذا الشرط هو قوله: * (فلا خوف) *، فتكون الآية فيها شرطان. وحكى عن الكسائي أن قوله: * (فلا خوف) * جواب للشرطين جميعا، وقد أتقنا مسألة اجتماع الشرطين في (كتاب التكميل)، ولا يتعين عندي أن تكون من شرطية، بل يجوز أن تكون موصولة، بل يترجح ذلك لقوله في قسيمه: * (والذين كفروا وكذبوا) *، فأتى به موصولا، ويكون قوله: * (فلا خوف) * جملة في موضع الخبر. وأما دخول الفاء في الجملة الواقعة خبرا، فإن الشروط المسوغة لذلك موجودة هنا.
وفي قوله: * (فمن تبع هداي) *، تنزيل الهدى منزلة الإمام المتبع المقتدى به، فتكون حركات التابع وسكناته موافقة لمتبوعه، وهو الهدى، فحينئذ يذهب عنه الخوف والحزن. وفي إضافة الهدى إليه من تعظيم الهدى ما لا يكون فيه لو كان معزفا بالألف واللام، وإن كان سبيل مثل هذا أن يعود بالألف واللام نحو قوله: * (إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) *، والإضافة تؤدي معنى الألف واللام من التعريف، ويزيد على ذلك بمزية التعظيم والتشريف. وقرأ الأعرج: هداي بسكون الياء، وفيه الجمع بين ساكنين، كقراءة من قرأ: ومحياي، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ عاصم الجحدري وعبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن أبي عمر: هدي، بقلب الألف ياء وإدغمها في ياء المتكلم، إذ لم يمكن كسر ما قبل الياء، لأنه حرف لا يقبل الحركة، وهي لغة هذيل، يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمونها في ياء المتكلم، وقال شاعرهم:
* سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم
*
فتخرموا ولكل قوم مصرع
*
* (فلا خوف عليهم) *: قرأ الجمهور بالرفع والتنوين، وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في جميع القرآن، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في * (ولا هم يحزنون) *، فرفعوا للتعادل. قال ابن عطية: والرفع على إعمالها إعمال ليس، ولا يتعين ما قاله، بل الأولى أن يكون مرفوعا بالابتداء لوجهين: أحدهما: أن إعمال لا عمل ليس قليل جدا، ويمكن النزاع في صحته، وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه. والثاني: حصول التعادل بينهما، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ ولم تعمل فيهما. ووجه قراءة الزهري ومن وافقه أن ذلك نص في العموم، فينفي كل فرد من مدلول الخوف، وأما الرفع فيجوزه وليس نصا، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر. وأما قراءة ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال لا عمل ليس، وأنه حذف التنوين تخفيفا لكثرة الاستعمال. وقد ذكرنا ما في إعمال لا عمل ليس، فالأولى أن يكون مبتدأ، كما ذكرناه
322

إذا كان مرفوعا منونا، وحذف تنوينه كما قال لكثرة الاستعمال، ويجوز أن يكون عري من التنوين لأنه على نية الألف واللام، فيكون التقدير: فلا الخوف عليهم، ويكون مثل ما حكى الأخفش عن العرب: سلام عليكم، بغير تنوين. قالوا: يريدون السلام عليكم، ويكون هذا التخريج أولى، إذ يحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلتا الجملتين، وإذا دخلت على المعارف لم تجر مجرى ليس، وقد سمع من ذلك بيت للنابغة الجعدي، وتأوله النحاة وهو:
* وحلت سواء القلب لا أنا باغيا
*
سواها ولا في حبها متراخيا
*
وقد لحنوا أبا الطيب في قوله:
* فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا وكنى بقوله: * (عليهم) * عن الاستيلاء والإحاطة، ونزل المعنى منزلة الجرم، ونفى كونه معتليا مستوليا عليهم. وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية، ألا ترى إلى انصباب النفي على كينونة الخوف عليهم؟ ولا يلزم من كينونة استعلاء الخوف انتفاء الخوف في كل حال، ولذلك قال بعض المفسرين: ليس في قوله: * (فلا خوف عليهم) * دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها عن المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة، إلا أنها مخففة عن المطيعين. فإذا صاروا إلى رحمته، فكأنهم لم يخافوا، وقدم عدم الخوف على عدم الحزن، لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات، ولذلك أبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي، وأبرزت الثانية مصدرة بالمعرفة في قوله: * (ولا هم يحزنون) *.
*
وفي قوله: * (ولا هم يحزنون) * إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن، وأن غيرهم يحزن، ولو لم يشر إلى هذا المعنى لكان: ولا يحزنون، كافيا. ولذلك أورد نفي الحزن عنهم وإذهابه في قوله: * (إن الذين سبقت لهم) * إلى قوله: * (لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملئكة) *. ومعلوم أن هذين الخبرين وما قبلهما من الخبر مختص بالذين سبقت لهم من الله الحسنى، وفي قوله: * (الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن) *، فدل هذا كله على أن غيرهم يحزنه الفزع، ولا يذهب عنهم الحزن.
وحكى عن المفسرين في تفسير هذه الجملة أقوال: أحدها: لا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ولا يحزنون عند الموت. الثاني: لا يتوقعون مكروها في المستقبل، ولا هم يحزنون لفوات المرغوب في الماضي والحال. الثالث: لا خوف عليهم فيما يستقبلهم، ولا هم يحزنون فيما خلفه. الرابع: لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. الخامس: لا خوف عليهم من عقاب، ولا هم يحزنون على فوات ثواب. السادس: إن الخوف استشعار غم لفقد مطلوب، والحزن استشعار غم لفوات محبوب. السابع: لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الدنيا، ولا هم يحزنون على ما فاتهم منها. الثامن: لا خوف عليهم يوم القيامة، ولا هم يحزنون فيها. التاسع: أنه أشار إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن، لا خوف عليهم فيها ولا حزن.
323

العاشر: ما قاله ابن زيد: لا خوف عليهم أمامهم، فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فأمنهم الله منه، ثم سلاهم عن الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا. الحادي عشر: لا خوف حين أطبقت النار، ولا حزن حين ذبح الموت في صورة كبش على الصراط، فقيل لأهل الجنة والنار: خلود لا موت. الثاني عشر: لا خوف ولا حزن على الدوام.
وهذه الأقوال كلها متقاربة، وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم، لكن يخص بما بعد الدنيا، لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموم لذلك..
* (والذين كفروا) *: قسم لقوله: * (فمن تبع هداي) *، وهو أبلغ من قوله: * (ومن لم * يتبع * هداي) *، وإن كان التقسيم اللفظي اللفظي يقتضيه، لأن نفي
الشيء يكون بوجوه، منها: عدم القابلية بخلقة أو غفلة، ومنها تعمد ترك الشيء، فأبرز القسيم بقوله: * (والذين كفروا) * في صورة ثبوتية ليكون مزيلا للاحتمال الذي يقتضيه النفي، ولما كان الكفر قد يعني كفر النعمة وكفر المعصية بين: أن المراد هنا الشرك بقوله: * (وكذبوا بئاياتنا) *، وبآياتنا متعلق بقوله: * (وكذبوا) *، وهو من إعمال الثاني، إن قلنا: إن كفروا، يطلبه من حيث المعنى، وإن قلنا: لا يطلبه، فلا يكون من الإعمال، ويحتمل الوجهين. والآيات هنا: الكتب المنزلة على جميع الأمم، أو معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو القرآن، أو دلائل الله في مصنوعاته، أقوال. و * (أولائك) *: مبتدأ، * (وأصحاب) *: خبر عنه، والجملة خبر عن قوله: * (والذين كفروا) *، وجوزوا أن يكون أولئك بدلا وعطف بيان، فيكون أصحاب النار، إذ ذاك، خبرا عن الذين كفروا. وفي قوله: * (أولئك أصحاب النار) * دلالة على اختصاص من كفر وكذب بالنار. فيفهم أن من اتبع الهدى هم أصحاب الجنة. وكان التقسيم يقتضي أن من اتبع الهدى لا خوف ولا حزن يلحقه، وهو صاحب الجنة، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن، وهو صاحب النار. فكأنه حذف من الجملة الأولى شيء أثبت نظيره في الجملة الثانية، ومن الثانية شيء أثبت نظيره في الجملة الأولى، فصار نظير قوله الشاعر:
* وإني لتعروني لذكرك فترة
*
كما انتفض العصفور بلله القطر
*
وفي قوله: أولئك، إشارة إلى الذوات المتصفة بالكفر والتكذيب، وكأن فيها تكريرا وتوكيدا لذكر المبتدأ السابق. والصحبة معناها: الاقتران بالشيء، والغالب في العرف أن ينطلق على الملازمة، وإن كان أصلها في اللغة: أن تنطلق على مطلق الاقتران. والمراد بها هنا: الملازمة الدائمة، ولذلك أكده بقوله: * (هم فيها خالدون) *. ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالية، كما جاء في مكان آخر: * (أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها) *، فيكون، إذ ذاك، لها موضع من الإعراب نصب. ويحتمل أن تكون جملة مفسرة لما أنبهم في قوله: * (أولئك أصحاب النار) *، ففسر وبين أن هذه الصحبة لا يراد بها مطلق الاقتران، بل الخلود، فلا يكون لها إذ ذاك موضع من الإعراب. ويحتمل أن يكون خبرا ثانيا للمبتدأ الذي هو: أولئك، فيكون قد أخبر عنه بخبرين: أحدهما مفرد، والآخر جملة، وذلك على مذهب من يرى ذلك، فيكون في موضع رفع. وقد تقدم الكلام على الخلود، وهل هو المكث زمانا لا نهاية له، أو زمانا له نهاية؟
324

2 (* (يابنى إسراءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم وإياى فارهبون * وءامنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياى فاتقون * ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون * وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة واركعوا مع الراكعين) *)) 2
* (خالدون يابنى إسراءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم وإياى فارهبون وءامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياى فاتقون ولا) *..
ابن: محذوف اللام، وقيل: الياء خلاف، وفي وزنه على كلا التقديرين خلاف، فقيل: فعل، وقيل: فعل. فمن زعم أن أصله ياء جعله مشتقا من البناء، وهو وضع الشيء على الشيء. والابن فرع عن الأب، فهو موضوع عليه، وجعل قولهم: البنوة شاذ كالفتوة، ومن زعم أن أصله واو، وإليه ذهب الأخفش، جعل البنوة دليلا على ذلك، ولكون اللام المحذوفة واوا أكثر منها ياء. وجمع ابن جمع تكسير، فقالوا: أبناء، وجمع سلامة، فقالوا: بنون، وهو جمع شاذ، إذ لم يسلم فيه بناء الواحد، فلم يقولوا: ابنون، ولذلك عاملت العرب هذا الجمع في بعض كلامها معاملة جمع التكسير، فألحقت التاء في فعله، كما ألحقت في فعل جمع التكسير، قال النابغة:
* قالت بنو عامر خالو بني أسد
*
يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام
*
وقد سمع الجمع بالواو والنون فيه مصغرا، قال يسدد:
أبينوها الأصاغر خلتي
وهو شاذ أيضا.
إسرائيل: اسم عجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، وقد ذكروا أنه مركب من إسرا: وهو العبد، وإيل: اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه عبد الله، وذلك باللسان العبراني، فيكون مثل: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، قاله ابن عباس. وقيل: معنى إسرا: صفوة، وايل: الله تعالى، فمعناه: صفوة الله. روي ذلك عن ابن عباس وغيره، وقال بعضهم: إسرا مشتق من الأسر، وهو الشد، فكأن إسرائيل معناه: الذي شده الله وأتقن خلقه. وقيل: أسري بالليل مهاجرا إلى الله تعالى فسمي بذلك. وقيل: أسر جنيا كان يطفئ سرج بيت المقدس، وكان اسم الجني: إيل، فسمي إسرائيل، وكان يخدم بيت المقدس، وكان أول من يدخل، وآخر من يخرج، قاله كعب. وقيل: أسرى بالليل هاربا من أخيه عيصو إلى خاله، في حكاية طويلة ذكروها، فأطلق ذلك عليه. وهذه أقاويل ضعاف، وفيه تصرفات للعرب بقوله: إسرائيل بهمزة بعد الألف وياء بعدها، وهي قراءة الجمهور. وإسراييل بياءين بعد الألف، وهي قراءة أبي جعفر والأعشى وعيسى بن عمر. وإسرائل بهمزة
بعد الألف ثم لام، وهو مروي عن ورش. وإسراءل بهمزة مفتوحة بعد الراء ولام، وإسرئل بهمزة مكسورة بعد الراء، وإسرال بألف ممالة بعدها لام خفيفة، واسرال بألف غير ممالة، قال أمية:
* لا أرى من يعيشني في حياتي
*
غير نفسي إلا بني إسرالا
*
325

وهي رواية خارجة عن نافع، وقرأ الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وغيرهم: وإسرائن بنون بدل اللام، قال الشاعر:
* يقول أهل السوء لما جينا
*
هذا ورب البيت إسرائينا
*
كما قالوا: سجيل، وسجين، ورفل، ورفن، وجبريل، وجبرين، أبدلت بالنون كما أبدلت النون بها في أصيلان قالوا: أصيلال، وإذا جمعته جمع تكسير قلت: أساريل، وحكي: أسارلة وأسارل. الذكر: بكسر الذال وضمها لغتان بمعنى واحد، وقال الكسائي: يكون باللسان، والذكر بالقلب فبالكسر ضده: الصمت، وبالضم ضده: النسيان، وهو بمعنى التيقظ والتنبه، ويقال: اجعله منك على ذكر. النعمة: اسم للشيء المنعم به، وكثيرا ما يجيء فعل بمعنى المفعول: كالذبح، والنقص، والرعي، والطحن، ومع ذلك لا ينقاس. أوفى، ووفى، ووفى: لغى ثلاث في معنى واحد، وتأتي أوفى بمعنى: ارتفع، قال:
* ربما أوفيت في علم
*
ترفعن ثوبي شمالات
*
والميفات: مكان مرتفع، وقال الفراء: أهل الحجاز يقولون: أوفيت، وأهل نجد يقولون: وفيت بغير ألف، وقال الزجاج: وفي بالعهد، وأوفى به، قال الشاعر:
* أما ابن طوق فقد أوفى بذمته
*
كما وفى بقلاص النجم حاديها
*
وقال ابن قتيبة: يقال وفيت بالعهد، وأوفيت به، وأوفيت الكيل لا غير. وقال أبو الهيثم: وفي الشيء: تم، ووفى الكيل وأوفيته: أتممته، ووفى ريش الطائر: بلغ التمام، ودرهم واف: أي تام كامل. الرهب، والرهب، والرهب، والرهبة: الخوف، مأخوذ من الرهابة، وهو عظم الصدر يؤثر فيه الخوف. والرهب: النصل، لأنه يرهب منه، والرهبة والخشية والمخافة نظائر. التصديق: اعتقاد حقيقة الشيء ومطابقته للمخبر به، والتكذيب يقابله.
أول: عند سيبويه: أفعل، وفاؤه وعينه واوان، ولم يستعمل منه فعل لاستثقال اجتماع الواوين، فهو مما فاؤه وعينه من جنس واحد، لم يحفظ منه إلا: ددن، وققس، وببن، وبابوس. وقيل: إن بابوسا أعجمي، وعند الكوفيين أفعل من وأل إذا لجأ، فأصله أوأل، ثم خفف بإبدال الهمزة واوا، ثم بالإدغام، وهذا تخفيف غير قياسي، إذ تخفيف مثل هذا إنما هو بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها. وقال بعض الناس: هو أفعل من آل يؤل، فأصله أأول، ثم قلب فصار أوأل أعفل، ثم خفف بإبدال الهمزة واوا، ثم بالإدغام. وهذان القولان ضعيفان، ويستعمل أول استعمالين: أحدهما: أن يجري مجرى الأسماء، فيكون مصروفا، وتليه العوامل نحو: أفكل، وإن كان معناه معنى قديم، وعلى هذا قول العرب: مما تركت له أولا ولا آخرا، أي ما تركت له قديما ولا حديثا. والاستعمال الثاني: أن يجري مجرى أفعل التفضيل، فيستعمل على ثلاثة أنحائه من كونه بمن ملفوظا بها، أو مقدرة، وبالألف واللام، وبالإضافة. وقالت العرب: ابدأ بهذا أول، فهذا مبني على الضم باتفاق، والخلاف في علة بنائه ذلك
326

لقطعه عن الإضافة، والتقدير: أول الأشياء، أم لشبه القطع عن الإضافة، والتقدير: أول من كذا. والأولى أن تكون العلة القطع عن الإضافة، والخلاف إذا بني، أهو ظرف أو اسم غير ظرف؟ وهو خلاف مبني على أن الذي يبنى للقطع شرطه أن يكون ظرفا، أو لا يشترط ذلك فيه، وكل هذا مستوفى في علم النحو. الثمن: العوض المبذول في مقابلة العين المبيعة، وقال:
* إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها
*
فما أصبت بترك الحج من ثمن
*
أي من عوض.
القليل: يقابله الكثير، واتفقا في زنة اسم الفاعل، واختلفا في زنة الفعل، فماضي القليل فعل، وماضي الكثير فعل، وكان القياس أن يكون اسم الفاعل من قل على فاعل نحو: شذ يشذ، فهو شاذ، لكن حمل على مقابلة. ومثل قل فهو قليل، صح فهو صحيح. اللبس: الخلط، تقول العرب: لبست الشيء بالشيء: خلطته، والتبس به: اختلط، وقال العجاج:
لما لبسن الحق بالتجني
وجاء ألبس بمعنى لبس.
وقال آخر:
* وكتيبة ألبستها بكتيبة
*
حتى إذا التبست نفضت لها يدي
*
الكتم، والكتمان: الإخفاء، وضده: الإظهار، ومنه الكتم: ورق يصبغ به الشيب. الركوع: له معنيان في اللغة: أحدهما: التطامن والانحناء، وهذا قول الخليل وأبي زيد، ومنه قول لبيد:
* أخبر أخبار القرون التي مضت
*
أدب كأني كلما قمت راكع
*
والثاني: الذلة والخضوع، وهو قول المفضل والأصمعي، قال الأضبط السعدي:
* لا تهين الضعيف علك أن
*
تركع يوما والدهر قد رفعه
*
* (خالدون يابنى إسراءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم) * هذا افتتاح الكلام مع اليهود والنصارى، ومناسبة الكلام معهم هنا ظاهرة، وذلك أن هذه السورة افتتحت بذكر الكتاب، وأن فيه هدى للمؤمنين، ثم أعقب ذلك بذكر الكفار المختوم عليهم بالشقاوة، ثم بذكر المنافقين، وذكر جمل من أحوالهم، ثم أمر الناس قاطبة بعبادة الله تعالى، ثم ذكر إعجاز القرآن، إلى غير ذلك مما ذكره، ثم نبههم بذكر أصلهم آدم، وما جرى له من أكله من الشجرة بعد النهي عنه، وأن الحامل له على ذلك إبليس. وكانت هاتان الطائفتان: أعني اليهود والنصارى، أهل كتاب، مظهرين اتباع الرسل والاقتداء بما جاء عن الله تعالى. وقد اندرج ذكرهم عموما في قوله: * (قدير ياأيها الناس اعبدوا) *، فجرد ذكرهم هنا خصوصا، إذ قد سبق الكلام مع المشركين والمنافقين، وبقي الكلام مع اليهود والنصارى، فتكلم معهم هنا، وذكروا ما يقتضي لهم الإيمان بهذا الكتاب، كما آمنوا بكتبهم السابقة، إلى آخر الكلام معهم على ما سيأتي جملة مفصلة. وناسب الكلام معهم قصة آدم،
327

على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لأنهم بعدما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح، المذكور ذلك في التوراة والإنجيل، من الإيفاء بالعهد والإيمان بالقرآن، ظهر منهم ضد ذلك بكفرهم بالقرآن ومن جاء به، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد عليهم من الأوامر والنواهي، نحو قوله: * (منهم لاملان جهنم منكم أجمعين ويئادم اسكن) *.
وقد تقدم الإشارة إلى ذلك، وأضافهم إلى لفظ إسرائيل، وهو يعقوب، ولم يقل: يا بني يعقوب، لما في لفظ إسرائيل من أن معناه عبد الله أو صفوة الله، وذلك على أحسن تفاسيره، فهزهم بالإضافة إليه، فكأنه قيل: يا بني عبد الله، أو يا بني صفوة الله، فكان في ذلك تنبيه على أن يكونوا مثل أبيهم في الخير، كما تقول: يا ابن الرجل الصالح أطع الله، فتضيفه إلى ما يحركه لطاعة الله، لأن الإنسان يحب أن يقتفى أثر آبائه، وإن لم يكن بذلك محمودا، فكيف إذا كان محمودا؟ ألا ترى: * (بل قالوا إنا وجدنا ءاباءنا) *، * (بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا) *، وفي قوله: * (معى بنى إسراءيل) * دليل على أن من انتمى إلى شخص، ولو بوسائط كثيرة، يطلق عليه أنه ابنه، وعليه * (تتقون وإذ أخذ) * ويسمى ذلك أبا. قال تعالى: * (ملة أبيكم إبراهيم) *، وفي إضافتهم إلى إسرائيل تشريف لهم بذكر نسبتهم لهذا الأصل الطيب، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. ونقل عن أبي الفرج بن الجوزي: أنه ليس لأحد من الأنبياء غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم)
إسمان إلا يعقوب، فإنه يعقوب، وهو إسرائيل. ونقل الجوهري في صحاحة: أن المسيح اسم علم لعيسى، لا اشتقاق له. وذكر البيهقي عن الخليل بن أحمد خمسة من الأنبياء ذو واسمين: محمد وأحمد نبينا صلى الله عليه وسلم)، وعيسى والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذو النون، وإلياس وذو الكفل.
والمراد بقوله: * (خالدون يابنى إسراءيل اذكروا) * من كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالمدينة، وما والاها من بني إسرائيل، أو من أسلم من اليهود وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم)، أو أسلاف بني إسرائيل وقدماؤهم، أقوال ثلاثة: والأقرب الأول، لأن من مات من أسلافهم لا يقال له: * (وءامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم) *، إلا على ضرب بعيد من التأويل، ولأن من آمن منهم لا يقال له: * (وءامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به) *، إلا بمجاز بعيد. ويحتمل قوله: اذكروا الذكر باللسان والذكر بالقلب: فعلى الأول يكون المعنى: أمروا النعم على ألسنتكم ولا تغفلوا عنها، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب في أن لا تنسى. وعلى الثاني يكون المعنى: تنبهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها. وفي النعمة المأمور بشكرها أو بحفظها أقوال: ما استودعوا من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو ما أنعم به على أسلافهم من إنجائهم من آل فرعون وإهلاك عدوهم وإيتائهم التوراة ونحو ذلك، قاله الحسن والزجاج، أو إدراكهم مدة النبي صلى الله عليه وسلم)، أو علم التوراة، أو جميع النعم على جميع خلقه وعلى سلفهم وخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال. وأظهر هذه الأقوال ما اختص به بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله: * (التى أنعمت عليكم) *، ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة، استنقذهم من بلاء فرعون وقومه، وجعلهم أنبياء وملوكا، وأنزل عليهم الكتب المعظمة، وظلل عليهم في التيه الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى. قال ابن عباس: أعطاهم عمودا من النور ليضء لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لا تتشعث، وثيابهم لا تبلى. وإنما ذكروا بهذه النعم لأن في جملتها ما شهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم)، وهو: التوراة والإنجيل
328

والزبور، ولأن يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان برسول الله والقرآن، ولأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الخالقة، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة. وهذه النعم، وإن كانت على آبائهم، فهي أيضا نعم عليهم، لأن هذه النعم حصل بها النسل، ولأن الانتساب إلى آباء شرفوا بنعم تعظيم في حق الأولاد. قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم) ذكر المنعم فقال: * (فاذكرونى أذكركم) *، فدل ذلك على فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم) على سائر الأمم، وفي قوله: * (نعمتي) *، نوع التفات، لأنه خروج من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله: * (ءاياتنا) * إلى ضمير المتكلم الذي لا يشعر بذلك. وفي إضافة النعمة إليه إشارة إلى عظم قدرها وسعة برها وحسن موقعها، ويجوز في الياء من نعمتي الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح. وأنعمت: صلة التي، والعائد محذوف، التقدير: أنعمتها عليكم.
* (وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم) *. العهد: تقدم تفسيره لغة في قوله: * (الذين ينقضون عهد الله) *، ويحتمل العهد أن يكون مضافا إلى المعاهد وإلى المعاهد. وفي تفسير هذين العهدين أقوال: أحدها: الميثاق الذي أخذه عليهم من الإيمان به والتصديق برسله، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة. الثاني: ما أمرهم به وعهدهم ما وعدهم به، قاله ابن عباس. الثالث: ما ذكر لهم في التوراة من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. الرابع: أداء الفرائض وعهدهم قبولها والمجازاة عليها. الخامس: ترك الكبائر وعهدهم غفران الصغائر. السادس: إصلاح الدين وعهدهم إصلاح آخرتهم. السابع: مجاهدة النفوس وعهدهم المعونة على ذلك. الثامن: إصلاح السرائر وعهدهم إصلاح الظواهر. التاسع: * (خذوا ما ءاتيناكم بقوة) *، قاله الحسن. العاشر: * (وإذا * أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا) *. الحادي عشر: الإخلاص في العبادات وعهدهم إيصالهم إلى منازل الرعايات. الثاني عشر: الإيمان به وطاعته، وعهدهم ما وعدهم عليه من حسن الثواب على الحسنات. الثالث عشر: حفظ آداب الظواهر وعهدهم في السرائر. الرابع عشر: عهد الله على لسان موسى عليه السلام لبني إسرائيل: إني باعث من بني إسرائيل نبيا فمن اتبعه
329

وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين، قاله الكلبي. الخامس عشر: شرط العبودية وعهدهم شرط الربوبية. السادس عشر: أوفوا في دار محنتي على بساط خدمتي بحفظ حرمتي، أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربى ورؤيتي، قاله الثوري. السابع عشر: لا تفروا من الزحف أدخلكم الجنة، قاله إسماعيل بن زياد. الثامن عشر: * (المؤمنون ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسراءيل وبعثنا) * الآية، قاله ابن جريج، وعهدهم إدخالهم الجنة. التاسع عشر: أوامره ونواهيه ووصاياه، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم) الذي في التوراة، قاله الجمهور. العشرون: أوفوا بعهدي في التوكل أوف بعهدكم في كفاية المهمات، قاله أبو عثمان. الحادي والعشرون: أوفوا بعهدي في حفظ حدودي ظاهرا وباطنا أوف بعهدكم بحفظ أسراركم عن مشاهدة غيري. الثاني والعشرون: عهده حفظ المعرفة وعهدنا إيصال المعرفة، قاله القشيري. الثالث والعشرون: أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم أخذ الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق. الرابع والعشرون: أوفوا بعهدي اكتفوا مني بي أوف بعهدكم أرض عنكم بكم. فهذه أقوال السلف في تفسير هذين العهدين.
والذي يظهر، والله أعلم، أن المعنى طلب الإيفاء بما التزموه لله تعالى، وترتيب إنجاز ما وعدهم به عهدا على سبيل المقابلة، أو إبرازا لما تفضل به تعالى في صورة المشروط الملتزم به فتتوفر الدواعي على الإيفاء بعهد الله، كما قال تعالى: * (ومن أوفى بعهده من الله * إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا) *، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (فإن له عهدا عند الله أن يدخله الجنة). وقرأ الزهري: أوف بعهدكم مشددا. ويحتمل أن يراد به التكثير، وأن يكون موافقا للمجرد. فإن أريد به التكثير فيكون في ذلك مبالغة على لفظ أوف، وكأنه قيل: أبالغ في إيفائكم، فضمن تعالى إعطاء الكثير على القليل، كما قال تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) *. وانجزام المضارع بعد الأمر نحو: اضرب زيدا يغضب، يدل على معنى شرط سابق، وإلا فنفس الأمر وهو طلب إيجاد الفعل لا يقتضي شيئا آخر، ولذلك يجوز الاقتصار عليه فتقول: أضرب زيدا، فلا يترتب على الطلب بما هو طلب شيء أصلا، لكن إذا لوحظ معنى شرط سابق ترتب عليه مقتضاه. وقد اختلف
النحويون في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر ضمنت معنى الشرط، فإذا قلت: اضرب زيدا يغضب، ضمن اضرب معنى: أن تضرب، وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن خروف. وذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر نابت مناب الشرط، ومعنى النيابة أنه كان التقدير: اضرب زيدا، إن تضرب زيدا يغضب، ثم حذفت جملة الشرط وأنيبت جملة الأمر منابها. وعلى القول الأول ليس ثم جملة محذوفة، بل عملت الجملة الأولى الجزم لتضمن الشرط، كما عملت من الشرطية الجزم لتضمنها معنى إن. وعلى القول الثاني عملت الجزم لنيابتها مناب الجملة الشرطية، وفي الحقيقة، العمل إنما هو للشرط المقدر، وهو اختيار الفارسي والسيرافي، وهو الذي نص عليه سيبويه
330

عن الخليل. والترجيح بين القولين يذكر في علم النحو.
* (وإياى فارهبون) *. إياي: منصوب بفعل محذوف مقدرا بعده لانفصال الضمير، وإياي ارهبوا، وحذف لدلالة ما بعده عليه وتقديره قبله، وهم من السجاوندي، إذ قدره وارهبوا إياي، وفي مجيئه ضمير نصب مناسبة لما قبله، لأن قبله أمر، ولأن فيه تأكيدا، إذ الكلام مفروغ في قالب جملتين. ولو كان ضمير رفع لجاز، لكن يفوت هذان المعنيان. وحذفت الياء ضمير النصب من فارهبون لأنها فاصلة، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل، قال الزمخشري: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد. ومعنى ذلك أن الكلام جملتان في التقدير، وإياك نعبد، جملة واحدة، والاختصاص مستفاد عنده من تقديم المعمول على العامل. وقد تقدم الكلام معه في ذلك، وأنا لا نذهب إلى ما ذهب إليه من ذلك. والفاء في قوله: فارهبون، دخلت في جواب أمر مقدر، والتقدير: تنبهوا فارهبون. وقد ذكر سيبويه في كتابه ما نصه: تقول: كل رجل يأتيك فاضرب، لأن يأتيك صفة ههنا، كأنك قلت: كل رجل صالح فاضرب، انتهى. قال ابن خروف: قوله كل رجل يأتيك فاضرب، بمنزلة زيدا فاضرب، إلا أن هنا معنى الشرط لأجل النكرة الموصوفة بالفعل، فانتصب كل وهو أحسن من: زيدا فاضرب، انتهى. ولا يظهر لي وجه الأحسنية التي أشار إليها ابن خروف، والذي يدل على أن هذا التركيب، أعني: زيدا فاضرب، تركيب عربي صحيح، قوله تعالى: * (بل الله فاعبد) *، وقال الشاعر:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
قال بعض أصحابنا: الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في: زيدا فاضرب، تنبه: فاضرب زيدا، ثم حذف تنبه فصار: فاضرب زيدا. فلما وقعت الفاء صدرا قدموا الاسم إصلاحا للفظ، وإنما دخلت الفاء هنا لتربط هاتين الجملتين، انتهى ما لخص من كلامه. وإذا تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين: أحدهما: أن يكون التقدير وإياي ارهبوا، تنبهوا فارهبون، فتكون الفاء دخلت في جواب الأمر، وليست مؤخرة من تقديم. والوجه الثاني: أن يكون التقدير وتنبهوا فارهبون، ثم قدم المفعول فانفصل، وأخرت الفاء حين قدم المفعول وفعل الأمر الذي هو تنبهوا محذوف، فالتقى بعد حذفه حرفان: الواو العاطفة والفاء، التي هي جواب أمر، فتصدرت الفاء، فقدم المفعول وأخرت الفاء إصلاحا للفظ، ثم أعيد المفعول على سبيل التأكيد ولتكميل الفاصلة، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون إياي معمولا لفعل محذوف، بل معمولا لهذا الفعل الملفوظ به، ولا يبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل، كما أكد المتصل بالمنفصل في نحو: ضربتك إياك، والمعنى: ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا قول ابن عباس. وقيل معنى فارهبون: أن لا تنقضوا عهدي، وفي الأمر بالرهبة وعيد بالغ، وليس قول من زعم أن هذا الأمر معناه التهديد والتخويف والتهويل، مثل قوله تعالى: * (اعملوا ما شئتم) *، تشديد لأن هذا في الحقيقة مطلوب، واعملوا ما شئتم غير مطلوب فافترقا. وقيل: الخوف خوفان، خوف العقاب، وهو نصيب أهل الظاهر، ويزول، وخوف جلال، وهو نصيب أهل القلب، ولا يزول. وقال السلمي: الرهبة: خشية القلب من رديء خواطره. وقال سهل: * (وإياى فارهبون) *، موضع اليقين بمعرفته، * (وإياى فاتقون) *، موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج. وقال القشيري: أفردوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد.
* (وءامنوا بما أنزلت) *: ظاهره أنه
331

أمر لبني إسرائيل، لأن المأمورين قبل هم، وهذا معطوف على ما قبله، فظاهره اتحاد المأمور. وقيل: أنزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه، علماء اليهود ورؤسائهم، والظاهر الأول، ويندرج فيه كعب ومن معه. وما في قوله: * (بما أنزلت) * موصولة، أي بالذي أنزلت، والعائد محذوف تقديره: أنزلته، وشروط جواز الحذف فيه موجودة، والذي أنزل تعالى هو القرآن، والذي معهم هو التوراة والإنجيل. وقال قتادة: المراد * (بما أنزلت) *: من كتاب ورسول تجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وأبعد من جعل ما مصدرية، وأن التقدير: وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام. * (مصدقا) *. وعلى القول الأول يكون * (لما معكم) * من تمام * (مصدقا) *، واللام على كلا التقديرين في لما مقوية للتعدية، كهي في قوله تعالى: * (فعال لما يريد) *. وإعراب مصدقا على قول من جعل ما مصدرية حال من ما في قوله: * (لما معكم) *. ولا نقول: يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقو للتعدية، فهو كالحرف الزائد، وصار نظير: زيد ضارب، مجردة لهند، التقدير: ضارب هندا مجردة، ثم تقدمت هذه الحال، وهذا جائز عندنا، ويبعد أن يكون حالا من المصدر المقدر لوجهين: أحدهما: الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر. والوجه الثاني: أنه يبعد وصف الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوز به، ويراد به المنزل، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه، لأنه إذا أريد به المنزل لا يكون متعديا للمفعول. والظاهر أن مصدقا حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف، وهي حال مؤكدة، والعامل فيها أنزلت. وقيل: حال من ما في قوله: بما أنزلت، وهي حال مؤكدة أيضا.
* (ولا تكونوا أول كافر به) *: أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة، فإنه يبقى مفردا مذكرا، والنكرة تطابق ما قبلها، فإن كان مفردا كان مفردا، وإن كان تثنية كان تثنية، وإن كان جمعا كان جمعا، فتقول: زيد أفضل رجل، وهند أفضل امرأة، والزيدان أفضل رجلين، والزيدون أفضل رجال. ولا تخلو تلك النكرة
المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غير صفة، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا. وأجاز أبو العباس: إخوتك أفضل رجل، بالإفراد، ومنع ذلك الجمهور. وإن كانت صفة، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد، قال الشاعر: أنشده الفراء:
* وإذا هم طعموا فألأم طاعم
*
وإذا هم جاعوا فشر جياع
*
فأفرد بقوله: طاعم، وجمع بقوله: جياع. وإذا أفردت النكرة الصفة، وقبل أفعل التفضيل جمع، فهو عند النحويين متأول، قال الفراء: تقديره من طعم، وقال غيره: يقدر وصفا لمفرد يؤدي معنى جمع، كأنه قال: فألأم طاعم، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه. وقال بعض الناس: يكون التجوز في الجمع، فإذا قيل مثلا الزيدون أفضل عالم، فالمعنى: كل واحد من الزيدين أفضل عالم. وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع. وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى، فإذا قلت: أبوك أفضل عالم، فتقديره: عندهم أبوك الأفضل العالم، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى. وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو. وعلى ما قررناه تأولوا أول كافر بمن كفر، أو أول حزب كفر، أو لا يكن كل واحد منكم أول كافر. والنهي عن أن تكونوا أول كافر به لا يدل ذلك على إباحة الكفر لهم ثانيا أو آخرا، فمفهوم الصفة هنا غير مراد. ولما أشكلت الأولية هنا زعم بعضهم أن أول صلة يعني زائدة، والتقدير: ولا تكونوا كافرين به، وهذا ضعيف جدا. وزعم بعضهم أن ثم محذوفا معطوفا تقديره: ولا تكونوا أول كافر به ولا آخر كافر، وجعل ذلك مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه، وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش، لما فيها من الابتداء بها، وهذا شبيه بقول الشاعر:
332

* من أناس ليس في أخلاقهم
*
عاجل الفحش ولا سوء جزع
*
لا يريد أن فيهم فحشا آجلا، بل أراد لافحش عندهم، لا عاجلا، ولا آجلا، وتأوله بعضهم على حذف مضاف، أي: ولا تكونوا مثل أول كافر به، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفا مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له، وبعضهم على صفة محذوفة، أي أول كافر به من أهل الكتاب، إذ هم منظور إليهم في هذا مظنون بهم علم، وبعضهم على حذف صلة يصح بها المعنى، التقدير: ولا تكونوا أول كافر به مع المعرفة، لأن كفر قريش كان مع الجهل، وهذا القول شبيه بالذي قبله. وبعضهم قدر صلة غير هذه، أي ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم لذكره، بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه. وقيل: ذكر الأولية تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول مؤمن به، لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا هم المبشرين بزمانه والمستفتحين على الذين كفروا به، فلما بعث كان أمرهم على العكس، قال تعالى: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) *، وقال القشيري: لا تسنوا الكفر سنة، فإن وزر المبتدئين فيما يسنون أعظم من وزر المقتدين فيما يتبعون. والضمير في به عائد على الموصول في بما أنزلت، وهو القرآن، قاله ابن جريج، أو على محد صلى الله عليه وسلم)، ودل عليه المعنى، لأن ذكر المنزل يدل على ذكر المنزل عليه، قاله أبو العالية، أو على النعمة على معنى الإحسان، ولذلك ذكر الضمير، قاله الزجاج، أو على الموصول في لما معكم، لأنهم إذا كفروا بما يصدقه، فقد كفروا به، والأرجح الأول، لأنه أقرب، وهو منطوق به مقصود للحديث عنه، بخلاف الأقوال الثلاثة.
* (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) *. الاشتراء هنا مجاز يراد به الاستبدال، كما قال:
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
وقال آخر:
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
ولما كان المعنى على الاستبدال، جاز أن تدخل الباء على الآيات، وإن كان القياس أن تدخل على ما كان ثمنا، لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به، لكن لما دخل الكلام على معنى الاستبدال جاز ذلك، لأن معنى الاستبدال يكون المنصوب فيه هو الحاصل، وما دخلت عليه الباء هو الزائل، بخلاف ما يظن بعض الناس أن قولك: بدلت أو أبدلت درهما بدينار معناه: أخذت الدينار بدلا عن الدرهم، والمعنى، والله أعلم: ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة. ولو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس هذا المعنى، إذ كان يصير المعنى: أنهم هم بذلوا ثمنا قليلا وأخذوا الآيات. قال المهدوي: ودخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن، وكذلك كل ما لا عين فيه، وإذا كان في الكلام دنانير أو دراهم دخلت الباء على الثمن، قاله الفراء. انتهى كلام المهدوي ومعناه: أنه إذا لم يكن دنانير ولا دراهم في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمنا ومثمنا، لكن يختلف دخول الباء بالنسبة لمن نسب الشراء إلى نفسه من المتعاقدين جعل ما حصل هو المثمن، فلا تدخل عليه الباء، وجعل ما بذل هو الثمن فأدخل عليه الباء، ونفس الآيات لا يشترى بها، فاحتيج إلى حذف مضاف، فقيل تقديره: بتعليم آياتي، قاله أبو العالية، وقيل: بتغيير آياتي، قاله الحسن. وقيل: بكتمان آياتي، قاله السدي. وقيل: لا يحتاج إلى حذف مضاف، بل كنى بالآيات عن الأوامر والنواهي.
وعلى الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات، ما أنزل من الكتب، أو القرآن، أو ما أوضح من الحجج والبراهين، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة والإنجيل المتضمنة الأمر بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم). وعلى الأقاويل في ذلك
333

المضاف المقدر، والقول بعدها اختلفوا في المعنى بقوله: ثمنا قليلا. فمن قال: إن المضاف هو التعليم، قال: الثمن القليل هو الأجرة على التعليم، وكان ذلك ممنوعا منه في شريعتم، أو الراتب المرصد لهم على التعليم، فنهوا هنه، ومن قال: هو التغيير، قال الثمن القليل هو الرياسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لو صاروا أتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم). ومن جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي، جعل الثمن القليل هو ما يحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلو بها عن إيقاع ما أمرالله به واجتناب ما نهى عنه، ووصف الثمن بالقليل، لأن ما حصل عوضا عن آيات الله كائنا ما كان لا يكون إلا قليلا، وإن بلغ ما بلغ، كما قال تعالى: * (قل متاع الدنيا قليل) *، فليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف التي تخصص النكرات، بل من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات، إذ لا يكون إلا قليلا. ويحتمل أن يكون ثم معطوف تقديره: ثمنا قليلا ولا كثيرا، فحذف لدلالة المعنى عليه. وقد استدل بعض أهل العلم بقوله: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * على نع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله والعلم. وقد روي في ذلك أحاديث لا تصح، وقد صح أنهم قالوا: يا رسول الله، إنا نأخذ على كتاب الله أجرا، فقال: (إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله). وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم، وإنما نقل عن الزهري وأبي حنيفة الكراهة، لكون ذلك عبادة بدنية، ولا دليل لذلك الذاهب في الآية، وقد مر تفسيرها.
* (وإياى فاتقون) *: الكلام عليه إعرابا، كالكلام على قوله: * (وإياى فارهبون) *، ويقرب معنى التقوى من معنى الرهبة. قال صاحب المنتخب: والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف، وأما الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجرم بحصول ما يتقي منه، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم، انتهى كلامه. ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا: أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك، وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى، وشراء الثمن اليسير بآيات الله من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه، إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك، فقيل في ذلك: * (فارهبون) *، وقيل في هذا: * (فاتقون) *، أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به. والأحسن أن لا يقيد ارهبون واثقون بشيء، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولا واضحا، فكان المعنى: ارهبون، إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي، واتقون، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشترتيتم بآياتي ثمنا قليلا.
* (ولا تلبسوا الحق بالباطل) *: أي الصدق بالكذب، قاله ابن عباس، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام، قاله مجاهد، أو التوراة بما كتبوه بأيديهم فيها من غيرها، أو بما بدلوا فيها من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم)، قاله ابن زيد، أو الأمانة بالخيانة لأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله، أو الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم) إلى غيرهم وجحدهم أنه ما بعث إليهم، قاله أبو العالية، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم، أو صفة النبي صلى الله عليه وسلم) بصفة الدجال. وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله بالباطل للإلصاق، كقولك: خلطت الماء باللبن، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل، فلا يتيمز الحق من الباطل، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة، كهي في كتبت بالقلم، قال: كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك.
* (وتكتموا
334

الحق) *: مجزوم عطفا على تلبسوا، والمعنى: النهي عن كل واحد من الفعلين، كما قالوا: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالجزم نهيا عن كل واحد من الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار أن، وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف. والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو، وهذا مذكور في علم النحو. وما جوزوه ليس بظاهر، لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحبا على الجمع بين الفعلين، كما إذا قلت: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه: النهي عن الجمع بينهما، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما، وذلك منهي عنه، فلذلك رجح الجزم.
وقرأ عبد الله: * (وتكتمون الحق) *، وخرج على أنها جملة في موضع الحال، وقدره الزمخشري: كاتمين، وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، لأن الجملة المثبتة المصدرة بمضارع، إذا وقعت حالا لا تدخل عليها الواو، والتقدير الإعرابي هو أن تضمر قبل المضارع هنا مبتدأ تقديره: وأنتم تكتمون الحق، ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال، لأن الحال قيد في الجملة السابقة، وهم قد نهوا عن لبس الحق بالباطل، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال إلا أن تكون الحال لازمة، وذلك أن يقال: لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوما، ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر، وهو أن يكون الله قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق، فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي، على من يرى جواز ذلك، وهو سيبويه وجماعة، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل، وكلا التخريجين تخريج شذوذ. والحق الذي كتموه هو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبو العالية، والسدي، ومقاتل، أو الإسلام، قاله الحسن، أو يكون الحق عاما فيندرج فيه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) والقرآن، وما جاء به صلى الله عليه وسلم) وكتمانه أنهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه.
* (وأنتم تعلمون) * جملة حالية، ومفعول تعلمون محذوف اقتصارا، إذ المقصود: وأنتم من ذوي العلم، فلا يناسب من كان عالما أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل، وقد قدروا حذفه حذف اختصار، وفيه أقاويل ستة: أحدها: وأنتم تعلمون أنه مذكور هو وصفته في التوراة صلى الله عليه وسلم).
الثاني: وأنتم تعلمون البعث والجزاء.
335

الثالث: وأنتم تعلمون أنه نبي مرسل للناس قاطبة. الرابع: وأنتم تعلمون الحق من الباطل. وقال الزمخشري: وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، فجعل مفعول العلم اللبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين، قال: وهو أقبح، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه، انتهى. فكان ما قدره هو على حذف مضاف، أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم، وقال ابن عطية: وأنتم تعلمون، جملة في موضع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، انتهى. ومفهوم كلامه أن مفعول تعلمون هو الحق، كأنه قال: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمونه، لأن المكتوم قد يكون حقا وغير حق، فإذا كان حقا وعلم أنه حق، كان كتمانه له أشد معصية وأعظم ذنبا، لأن العاصي على علم أعصى من الجاهل العاصي. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلى الله عليه وسلم)، ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق، قال: ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال، انتهى. يعني أن الجملة تكون معطوفة، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة عبد الله: وتكتمون.
والأظهر من هذه الأقاويل ما قدمناه أولا من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار، إذ المقصود أن من كان من أهل العلم والاطلاع على ما جاءت به الرسل، لا يصلح له لبس الحق بالباطل ولا كتمانه. وهذه الحال، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل، لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقا أو باطلا، وإنما فائدتها: أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها. وقال القشيري: لا تتوهموا، إن يلتئم لكم جمع الضدين والكون في حالة واحدة في محلين، فإما مبسوطة بحق، وإما مربوطة بحط، * (ولا تلبسوا الحق بالباطل) *، تدليس، * (وتكتموا الحق) * تلبيس، * (وأنتم تعلمون) * أن حق الحق تقديس، انتهى. وفي هذه الآية دليل أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره، ويحرم عليه كتمانه. * (وإذ أخذنا ميثاق بنى) *: تقدم الكلام على مثل هذا في أول السورة في قوله: * (ويقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة) *، ويعني بذلك صلاة المسلمين وزكاتهم، فقيل: هي الصلاة المفروضة، وقيل: جنس الصلاة والزكاة. قيل: أراد المفروضة، وقيل: صدقة الفطر، وهو خطاب لليهود، فدل ذلك على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. قال القشيري: وأقيموا الصلاة: احفظوا أدب الحضرة، فحفظ الأدب للخدمة من الخدمة، وآتوا الزكاة، زكاة الهمم، كما تؤدى زكاة النعم، قال قائلهم:
* كل شيء له زكاة تؤدى
*
وزكاة الجمال رحمة مثلي
*
* (واركعوا مع الراكعين) *: خطاب لليهود، ويحتمل أن يراد بالركوع: الانقياد والخضوع، ويحتمل أن يراد به: الركوع المعروف في الصلاة، وأمروا بذلك وإن كان الركوع مندرجا في الصلاة التي أمروا بإقامتها، لأنه ركوع في صلاتهم، فنبه بالأمر به، على أن ذلك مطلوب في صلاة المسليمن. وقيل: كنى بالركوع عن الصلاة: أي وصلوا مع المصلين، كما يكنى عنها بالسجدة تسمية للكل بالجزء، ويكون في قوله مع دلالة على إيقاعها في جماعة، لأن الأمر بإقامة الصلاة أولا لم يكن فيها إيقاعها في جماعة. والراكعون: قيل النبي صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، وقيل: أراد الجنس من الراكعين.
وفي هذه الجمل، وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيبا ترتيب عجيب، من حيث الفصاحة وبناء الكلام بعضه على بعض،
336

وذلك أنه تعالى أمرهم أولا بذكر النعمة التي أنعمها عليهم، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب إطاعته، ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإيفاء بالعهد، ثم أمرهم بالخوف من نقماته إن لم يوفوا، فاكتنف الأمر بالإيفاء أمر بذكر النعمة والإحسان، وأمر بالخوف من العصيان، ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص، وهو ما أنزل من القرآن، ورغب في ذلك بأنه مصدق لما معهم، فليس أمرا مخالفا لما في أيديهم، لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف. ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس، ثم أمرهم تعالى باتقائه، ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل، وعن كتمان الحق، فكان الأمر بالإيمان أمرا بترك الضلال، والنهي عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق تركا للإضلال. ولما كان الضلال ناشئا عن أمرين: إما تمويه الباطل حقا إن كانت الدلائل قد بلغت المستتبع، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم، ثم أمرهم بعد تحصيل الإيمان وإظهار الحق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، إذ الصلاة آكد العبادات البدنية، والزكاة آكد العبادات المالية. ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له تعالى مع جملة الخاضعين الطائعين.
فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم، وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية. وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله على سائر الكلام، وهذه الأوامر والنواهي، وإن كانت خاصة في الصورة ببني إسرائيل، فإنهم هم المخاطبون بها هي عامة في المعنى، فيجب على كل مكلف ذكر نعمة الله، والإيفاء بالعهد وسائر التكاليف المذكورة بعد هذا.
2 (* (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون * واستعينوا بالصبر والصلواة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) *)) 2
* (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون * واستعينوا بالصبر والصلواة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) * الأمر: طلب إيجاد الفعل، ويطلق على الشأن، والفعل منه: أمر يأمر، على: فعل يفعل، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، فتقول: مر
زيدا وإتمامه قليل، أومر زيدا، فإن تقدم الأمر واو أو فاء، فإثبات الهمزة أجود، وهو مما يتعدى إلى مفعولين: أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر. ويجوز حذف ذلك الحرف، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازا تحفظ ولا يقاس عليها. البر: الصلة، وأيضا: الطاعة. قال الراجز:
* لا هم رب إن بكرا دونكا
*
يبرك الناس ويفخر ونكا
*
والبر: الفؤاد، وولد الثعلب والهر، وبر والده: أجله وأعظمه. يبره: على وزن فعل يفعل، ورجل بار، وبر، وبرت يمينه، وبر حجه: أجلها وجمع أنواعا من الخير، والبر سعة المعروف والخير، ومنه: البر والبرية للسعة. ويتناول كل خير، والإبرار: الغلبة، قال الشاعر:
ويبرون على الآبي المبر
النسيان: ضد الذكر، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم، ويطلق أيضا على الترك، وضده الفعل، والفعل: نسي ينسى على فعل يفعل، ويتعدى لواحد، وقد يعلق نسي حملا على علم، قال الشاعر:
* ومن أنتم إنا نسينا من أنتم
*
وريحكم من أي ريح الأعاصر
*
337

وفي البيت احتمال: التلاوة: القراءة، وسميت بها لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر. والتلو: التبع، وناقة مثل: يتبعها ولده. العقل: الإدراك المانع من الخطأ، ومنه عقال البعير، يمنعه من التصرف، والمعقل: مكان يمتنع فيه، والعقل: الدية لأن جنسها إبل تعقل في فناء الولي، أو لأنها تمنع من قتل الجاني، والعقل: ثوب موشى، قال الشاعر:
* عقلا ورقما تظل الطير تتبعه
*
كأنه من دم الأجواف مدموم
*
والعقل: زكاة العام، قال الشاعر:
* سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا
*
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
*
ورمل عقنقل: متماسك عن الانهيار. الصبر: حبس النفس على المكروه، والفعل: صبر يصبر على فعل يفعل، وأصله أن يتعدى لواحد. قال الشاعر:
* فصبرت عارفة لذلك حرة
*
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
*
وقد كثر حذف مفعوله حتى صار كأنه غير متعد. الكبيرة: من كبر يكبر، ويكون ذلك في الجرم وفي القدر، ويقال: كبر علي كذا، أي شق، وكبر يكبر، فهو كبير من السن. قال الشاعر:
* صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا
*
إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم
*
الخشوع: قريب من الخضوع، وأصله: اللين والسهولة، وقيل: الاستكانة والتذلل. وقال الليث: الخضوع في البدن، والخشوع في البدن والبصر والصوت،
والخشعة: الرملة المتطامنة. وفي الحديث: (كانت الكعبة خشعة على الماء). الظن: ترجيح أحد الجانبين، وهو الذي يعبر عنه النحويون بالشك، وقد يطلق على التيقن. وفي كلا الاستعمالين يدخل على ما أصله المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو، خلافا لأبي زيد السهيلي، إذ زعم أنها ليست من نواسخ الابتداء. والظن أيضا يستعمل بمعنى: التهمة، فيتعدى إذ ذاك لواحد، قال الفراء: الظن يقع بمعنى الكذب، والبصريون لا يعرفون ذلك.
* (أتأمرون الناس بالبر) * الهمزة: للاستفهام وضعا، وشابها هنا التوبيخ والتقريع لأن المعنى: الإنكار، وعليهم توبيخهم على أن يأمر الشخص بخير، ويترك نفسه ونظيره في النهي، قول أبي الأسود:
* لا تنه عن خلق وتأتي مثله
*
عار عليك إذا فعلت عظيم
*
وقول الآخر:
* وابدأ بنفسك فانهها عن غيها
*
فإن انتهت عنه فأنت حكيم
*
338

فيقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخير وهو لا يأتيه، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله. وفي تفسير البر هنا أقوال: الثبات على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهم لا يتبعونه، أو اتباع التوراة وهم يخالفونها في جحدهم صفته. وروي عن قتادة وابن جريج والسدي: أو على الصدقة ويبخلون، أو على الصدق وهم لا يصدقون، أو خص أصحابهم على الصلاة والزكاة ولا يأتونهما. وقال السلمي: أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم قلوبكم خالية عن ظواهر رسومها؟ وقال القشيري: أتحرضون الناس على البدار وترضون بالتخلف؟ وقال: أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنا؟ وألفاظا من هذا المعنى. وأتى بالمضارع في: أتأمرون، وإن كان قد وقع ذلك منهم لأنه يفهم منه في الاستعمال في كثير من المواضع: الديمومة وكثرة التلبس بالفعل، نحو قولهم: زيد يعطي ويمنع، وعبر عن ترك فعلهم بالنسيان مبالغة في الترك، فكأنه لا يجري لهم على بال، وعلق النسيان بالأنفس توكيدا للمبالغة في الغفلة المفرطة.
* (وتنسون) *: معطوف على تأمرون، والمنعي عليهم جمعهم بين هاتين الحالتين من أمر الناس بالبر الذي في فعله النجاة الأبدية، وترك فعله حتى صار نسيا منسيا بالنسبة إليهم. * (أنفسكم) *، والأنفس هنا: ذواتهم، وقيل: جماعتهم وأهل ملتهم، ثم قيد وقوع ذلك منهم بقوله: * (وأنتم تتلون الكتاب) *: أي أنكم مباشروا الكتاب وقارئوه، وعالمون بما انطوى عليه، فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم؟ وخالفتموه بالنسبة إلى أنفسكم؟ كقوله تعالى: * (وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) *. والجملة حالية ولا يخفى ما في تصديرها بقوله: * (وأنتم) *، من التبكيت لهم والتقريع والتوبيخ لأجل المخاطبة بخلافها لو كانت اسما مفردا. والكتاب هنا: التوراة والإنجيل، وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم، وهذا قول الجمهور. وقيل: الكتاب هنا القرآن، قالوا: ويكون قد انصرف من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب المؤمنين، ويكون ذلك من تلوين الخطاب، مثل قوله تعالى: * (يوسف أعرض عن هاذا واستغفرى لذنبك) *، وفي هذا القول بعد، إذ الظاهر أن هذا كله خطاب مع أهل الكتاب.
* (أفلا تعقلون) *: مذهب سيبويه والنحويين: أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل * (أو لم * يسيروا) * أثم إذا ما وقع، لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام، قدمت على حرف العطف، وذلك بخلاف هل. وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها، ولا تقديم ولا تأخير، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها، وكأنه رأى أن الحذف أولى من التقديم والتأخير. وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل. فعلى قول الجماعة يكون التقدير: فألا تعقلون، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير: أتعقلون فلا تعقلون، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعد حرف العطف، ونبههم بقوله: * (أفلا تعقلون) *، على ن فيهم إدراكا شريفا يمنعهم من قبيح ما ارتكبوه من أمر غيرهم بالخير ونسيان أنفسهم عنه، وإن هذه حالة من سلب العقل، إذ العاقل ساع في تحصيل ما فيه نجاته وخلاصه أولا، ثم يسعى بعد ذلك في خلاص غيره، إبدأ بنفسك ثم بمن تعول. ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل لنفسه مصلحة، فكيف يحصلها لغيره؟ ألا ترى إلى قول الشاعر:
* إذا المرء لم يخزن عليه لسانه
*
فليس على شيء سواه بخزان
*
فإذا صدر من الإنسان تحصيل المصلحة لغيره، ومنع ذلك لنفسه، كان ذلك خارجا عن أفعال العقلاء، خصوصا في الأمور التي يرجى بسلوكها النجاة من عذاب الله، والفوز بالنعيم السرمدي. وقد فسروا قوله: * (أفلا تعقلون) * بأقوال: أفلا
339

تعقلون: أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية بكم، أو أفلا تفهمون قبح ما تأتون من معصية ربكم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم) والإيمان به، أو أفلا تنتهون، لأن العقل ينهى عن القبيح، أو أفلا ترجعون، لأن العقل يراد إلى الأحسن، أو أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه، أو إن وبال ذلك عليكم راجع، أو أفلا تمتنعون من المعاصي، أو أفلا تعقلون، إذ ليس في قضية العقل أن تأمر بالمعروف ولا تأتيه، أو أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقل، لأن العقول تأباه وتدفعه. وشبيه بهذه الآية * (لم تقولون ما لا تفعلون) * الآية. والمقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الإرشاد إلى المنفعة والتحذير عن المفسدة، وذلك معلوم بشواهد العقل، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل، ويصير ذلك الوعظ سببا للرغبة في المعصية، لأنه يقال: لولا اطلاع الواعظ على أن لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية، فتكون النفس نافرة عن قبول وعظ من لم يتعظ، وأنشدوا:
* مواعظ الواعظ لن تقبلا
*
حتى يعيها قلبه أولا
*
وقال علي كرم الله وجهه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك. ولا دليل في الآية لمن استدل بها على أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا في قوله تعالى: * (لم تقولون ما لا تفعلون) *، ولا للمعتزلة في أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى، قالوا: التوبيخ لا يحسن إلا إذا كانوا فاعلي أفعالهم، وهذه مسألة مشكلة يبحث فيها في علم الكلام. وهذا الإنكار والتوبيخ والتقريع، وإن كان خطابا لبني إسرائيل، فهو عام من حيث المعنى. وعن محمد بن واسع: بلغني أن ناسا من أهل الجنة أطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة، قالوا: كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها.
* (واستعينوا بالصبر والصلواة) *: تقدم ذكر معاني استفعل عند ذكر المادة في قوله تعالى: * (وإياك نستعين) *، وأن من تلك المعاني الطلب، وأن استعان معناه طلب المعونة، وظاهر الصبر أنه يراد به ما يقع عليه في اللغة. وقال مجاهد: الصبر: الصوم، والصوم: صبر، لأنه إمساك عن الطعام، وسمي رمضان: شهر الصبر. والصلاة: هي المفروضة مع ما يتبعها من السنن والنوافل، قاله مجاهد. وقيل: الصلاة الدعاء وقد أضمروا للصبر صلة تقيده، فقيل: بالصبر على ما تكرهه نفوسكم من الطاعة والعمل، أو على أداء الفرائض، روي ذلك عن ابن عباس، أو عن المعاصي، أو على ترك الرياسة، أو على الطاعات وعن الشهوات، أو على حوائجكم إلى الله، أو على الصلاة. ولما قدر هذا التقدير، أعني بالصبر على الصلاة، توهم بعض من تكلم على القرآن، أن الواو التي في الصلاة هنا بمعنى على، وإنما يريد قائل هذا: أنهم أمروا بالاستعانة بالصبر على الصلاة وبالصلاة، لأن الواو بمعنى على، ويكون ينظر إلى قوله: * (وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها) * وأمروا بالاستعانة بالصلاة، لأنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا، أو لما فيها من تمحيص الذنوب وترقيق القلوب، أو لما فيها من إزالة الهموم، ومنه الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة). وقد روي أن ابن عباس نعى إليه قثم أخوه، فقام يصلي، وتلا: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) *، أو لما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وكل
340

هذه الوجوه ذكروها. وقدم الصبر على الصلاة، قيل: لأن تأثير الصبر في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي، والنفي مقدم على الإثبات، ويظهر أنه قدم الاستعانة به على الاستعانة بالصلاة، لأنه سبق ذكر تكاليف عظيمة شاق فراقها على من ألفها واعتادها من ذكر ما نسوه والإيفاء بما أخلفوه والإيمان بكتاب متجدد وترك أخذهم الرشا على آيات الله وتركهم إلباس الحق بالباطل وكتم الحق الذي لهم بذلك الرياسة في الدنيا والاستتباع لعوامهم وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهذه أمور عظيمة، فكانت البداءة بالصبر لذلك. ولما كان عمود الإسلام هو الصلاة، وبها يتميز المسلم من الشرك، أتبع الصبر بها، إذ يحصل بها الاشتغال عن الدنيا، وبالتلاوة فيها الوقوف على ما تضمنه كتاب الله من الوعد والوعيد، والمواعظ والآداب، ومصير الخلق إلى دار الجزاء، فيرغب المشتغل بها في الآخرة، ويرغب عن الدنيا. وناهيك من عبادة تتكرر على الإنسان في اليوم والليل خمس مرات، يناجي فيها ربه ويستغفر ذنبه. وبهذا الذي ذكرناه تظهر الحكمة في أن أمروا بالاستعانة بالصبر والصلاة. ويبعد دعوى من قال: إنه خطاب للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال: لأن من ينكره لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة. قال: ولا يبعد أن يكون الخطاب أولا لبني إسرائيل، ثم يقع بعد الخطاب للمؤمنين، والذي يظهر أن ذلك كله خطاب لبني إسرائيل، لأن صرف الخطاب إلى غيرهم لغير موجب، ثم يخرج عن نظم الفصاحة.
* (وإنها لكبيرة) *: الضمير عائد على الصلاة. هذا ظاهر الكلام، وهو القاعدة في علم العربية: أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل، وقيل: يعود على الاستعانة، وهو المصدر المفهوم من قوله: * (واستعينوا) *، فيكون مثل * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) *، أي العدل أقرب، قاله البجلي. وقيل: يعود على إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه، قاله الأخفش. وقيل: على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة. وقيل: يعود على الكعبة، لأن الأمر بالصلاة إليها. وقيل: يعود على جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها، من قوله: * (اذكروا نعمتي) * إلى * (واستعينوا) *. وقيل: المعنى على التثنية، واكتفى بعوده على أحدهما، فكأنه قال: وإنهما كقوله: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) * في بعض
التأويلات، وكقوله: * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) *، وقول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا فهذه سبعة أقوال فيما يعود الضمير عليه، وأظهرها ما بدأنا به أولا، قال مؤرج في عود الضمير: لأن الصلاة أهم وأغلب، كقوله تعالى: * (انفضوا إليها) *، انتهى. يعني أن ميل أولئك الذين انصرفوا في الجمعة إلى التجارة أهم وأغلب من ميلهم إلى اللهو، فلذلك كان عود الضمير عليها، وليس يعني أن الضميرين سواء في العود، لأن العطف بالواو يخالف العطف بأو، فالأصل في العطف بالواو مطابقة الضمير لما قبله في تثنية وجمع، وأما العطف بأو فلا يعود الضمير فيه إلا على أحد ما سبق. ومعنى كبر الصلاة: ثقلها وصعوبتها على من يفعلها مثل قوله تعالى: * (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) *، أي شق ذلك وثقل.
* (إلا على الخاشعين) *: استثناء مفرغ، لأن المعنى: وإنها لكبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين، وهم المتواضعون المستكينون، وإنما لم تشق على الخاشعين، لأنها منطوية على أوصاف هم متحلون بها لخشوعهم من القيام لله والركوع له والسجود له والرجاء لما عنده من الثواب. فلما كان مآل أعمالهم إلى السعادة الأبدية، سهل عليهم ما صعب على غيرهم من المنافقين والمرائين بأعمالهم الذين لا يرجون لها نفعا. ويجوز في * (الذين) * الاتباع والقطع إلى الرفع أو النصب، وذلك صفة مدح، فالقطع أولى بها. و * (يظنون) * معناه: يوقنون، قاله
341

الجمهور، لأن من وصف بالخشوع لا يشك أنه ملاق ربه ويؤيده أن في مصحف عبد الله الذين يعلمون. وقيل معناه: الحسبان، فيحتاج إلى مصحح لهذا المعنى، وهو ما قدروه من الحذف، وهو بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاء ربهم مذنبين، والصحيح هو الأول، ومثله * (إنى ظننت أنى ملاق حسابيه) *، فظنوا أنهم مواقعوها. وقال دريد:
* فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
*
سراتهم في السائري المسرد
*
قال ابن عطية: قد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس. لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر: أظن هذا إنسانا، وإنما نجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس، انتهى. والظن في كلا استعماليه من اليقين، أو الشك يتعدى إلى اثنين، وتأتي بعد الظن أن الناصبة للفعل وأن الناصبة للاسم الرافعة للخبر فتقول: ظننت أن تقوم، وظننت أنك تقوم. وفي توجيه ذلك خلاف. مذهب سيبويه: أن أن وإن كل واحدة منهما مع ما دخلت عليه تسد مسد المفعولين، وذلك بجريان المسند والمسند إليه في هذا التركيب. ومذهب أبي الحسن وأبي العباس: أن أن وما عملت فيه في موضع مفعول واحد أول، والثاني مقدر، فإذا قلت: ظننت أن زيدا قائم، فتقديره: ظننت قيام زيد كائنا أو واقعا، والترجيح بين المذهبين يذكر في علم النحو.
* (أنهم ملاقوا ربهم) *، الملاقاة: مفاعلة تكون من اثنين، لأن من لاقاك فقد لاقيته. وقال المهدوي والماوردي وغيرهما: الملاقاة هنا، وإن كانت صيغتها تقتضي التشريك، فهي من الواحد كقولهم: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاك الله، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن لقي يتضمن معنى لاقي، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف في المعنى لفاعل، انتهى كلامه. ويحتاج إلى شرح، وذلك أنه ضعفه من حيث إن مادة لقي تضمن معنى الملاقاة، بمعنى أن وضع هذا الفعل، سواء كان مجردا أو على فاعل، معناه واحد من حيث إن من لقيك فقد لقيته، فهو لخصوص مادة يقتضي المشاركة، ويستحيل فيه أن يكون لواحد. وهذا يدل على أن فاعل يكون لموافقة الفعل المجرد، وهذا أحد معاني فاعل، وهو أن يوافق الفعل المجرد. وقول ابن عطية: وليست كذلك الأفعال كلها كلام صحيح، أي ليست الأفعال مجردها بمعنى فاعل، بل فاعل فيها يدل على الاشتراك. وقوله: بل فعل خلاف فاعل يعني بل المجرد فيها يدل على الانفراد، وهو خلاف فاعل، لأنه يدل على الاشتراك، فضعف بأن يكون فاعل من اللقاء من باب: عاقبت اللص، حيث إن مادة اللقاء تقتضي الاشتراك، سواء كان بصيغة المجرد أو بصيغة فاعل. وهذه الإضافة غير محضة، لأنها إضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال. وقد تقدم لنا الكلام على اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال، أو الاستقبال بالنسبة إلى أعماله في المفعول، وإضافته إليه، وإضافته إلى الرب، وإضافة الرب إليهم في غاية من الفصاحة، وذلك أن الرب على أي محامله حملته فيه دلالة على الإحسان لمن يريه، وتعطف بين لا يدل عليه غير لفظ الرب. وقد اختلف المفسرون في معنى ملاقاة ربهم، فحمله بعضهم على ظاهر من غير حذف ولا كناية بأن اللقاء هو رؤية الباري تعالى، ولا لقاء أعظم ولا أشرف منها، وقد جاءت بها السنة المتواترة، وإلى اعتقادها ذهب أكثر المسلمين، وقيل ذلك على حذف مضاف، أي جزاء ربهم، لأن الملاقاة بالذوات مستحيلة في غير الرؤية، وقيل ذلك كناية عن انقضاء أجلهم كما يقال لمن مات قد لقي الله، ومنه قول الشاعر:
* غدا نلقى الأحبة
*
محمدا وصحبه
*
342

وكنى بالملاقاة عن الموت، لأن ملاقاة الله متسبب عن الموت، فهو من إطلاق المسبب، والمراد منه السبب، وذلك أن من كان يظن الموت في كل لحظة لا يفارق قلبه
الخشوع، وقيل ذلك على حذف مضاف أخص من الجزاء، وهو الثواب، أي ثواب ربهم. فعلى هذا القول، والقول الأول، يكون الظن على بابه من كونه يراد به الترجيح، وعلى تقدير الجزاء، أو كون الملاقاة يراد بها انقضاء الأجل، يكون الظن يراد به التيقن. وقد نازعت المعتزلة في كون لفظ اللقاء لا يراد به الرؤية ولا يفيدها. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه) * والمنافق لا يرى ربه * (واعلموا أنكم ملاقوه) *؟ ويتناول الكافر والمؤمن؟ وفي الحديث: (لقي الله وهو عليه غضبان) إلى غير ذلك مما ذكروه. وقد تكلم على ذلك أصحابنا. ومسألة الرؤية يتكلم عليها في أصول الدين.
* (وأنهم إليه راجعون) *: اختلف في الضمير في إليه على من يعود، فظاهر الكلام والتركيب الفصيح أنه يعود إلى الرب، وأن المعنى: وأنهم إلى ربهم راجعون، وهو أقرب ملفوظ به. وقيل: يعود على اللقاء الذي يتضمنه ملاقو ربهم. وقيل: يعود على الموت. وقيل: على الإعادة، وكلاهما يدل عليه ملاقوا. وقد تقدم شرح الرجوع، فأغنى عن إعادته هنا. وقيل: بالقول الأول، وهو أن الضمير يعود على الرب، فلا يتحقق الرجوع، فيحتاج في تحققه إلى حذف مضاف، التقدير: إلى أمر ربهم راجعون. وقيل: المعنى بالرجوع: الموت. وقيل: راجعون بالإعادة في الآخرة، وهو قول أبي العالية. وقيل: راجعون إلى أن لا يملك أحدهم ضرا ولا نفعا لغيره، كما كانوا في بدء الخلق. وقيل: راجعون، فيجزيهم بأعمالهم، وليس في قوله: وأنهم إليه راجعون دلالة للمجسمة والتناسخية على كون الأرواح قديمة، وإنما كانت موجودة في عالم الروحانيات. قالوا: لأن الرجوع إلى الشيء المسبوق بالكون عنده.
2 (* (يابنى إسراءيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين * واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون * وإذ نجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم) *)) 2
* (راجعون يابنى إسراءيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) *. الفضل: الزيادة، واستعماله في الخير، وفعله فعل يفعل، وأصله أن يتعدى بحرف الجر، وهو على ثم بحذف على، على حد قول الشاعر، وقد جمع بين الوجهين:
* وجدنا نهشلا فضلت فقيما
*
كفضل ابن المخاض على الفصيل
*
وأما في الفضلة من الشيء، وهي البقية، فيقال: فضل يفضل، كالذي قدمناه، وفضل يفضل، نحو: سمع يسمع، وفضل يفضل، بكسرها من الماضي، وضمها من المضارع، وقد أولع قوم من النحويين بإجازة فتح ضاد فضلت في البيت
343

وكسرها، والصواب الفتح. الجزاء: القضاء عن المفضل والمكافأة، قال الراجز:
* يجزيه رب العرش عني إذ جزى
*
جنات عدن في العلالي العلا
*
والإجزاء: الإغناء. قبول الشيء: التوجه إليه، والفعل قبل يقبل، والقبل: ما واجهك، قال القطامي:
* فقلت للركب لما أن علا بهم
*
من عن يمين الحبيا نظرة قبل
*
الشفاعة: ضم غيره إلى وسيلته، والشفعة: ضم الملك، الشفع: الزوج، والشفاعة منه، لأن الشفاعة والمشفوع له: شفع، وقال الأحوص:
* كان من لامني لأصرمها
*
كانوا لليلى بلومهم شفعوا
*
وناقة شفوع: خلفها ولد. وقيل: خلفها ولد، وفي بطنها ولد. الأخذ: ضد الترك، والأخذ: القبض والإمساك، ومنه قيل للأسير: أخيذ، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، وقل الإتمام. العدل: الفداء، والعدل: ما يساويه قيمة وقدرا، وإن لم يكن من جنسه، وبكسر العين: المساوي في الجنس والجرم. ومن العرب من يكسر العين من معنى الفدية، وواحد الأعدال بالكسر لا غير، والعدل: المقبول القول من الناس، وحكي فيه أيضا كسر العين. وقال ثعلب: العدل: الكفيل والرشوة، قال
الشاعر:
لا يقبل الصرف فيها نهاب العدلا
النصر: العون، أرض منصورة: ممدودة بالمطر، قال الشاعر:
* أبوك الذي أجدى علي بنصره
*
وأمسك عني بعده كل قاتل
*
وقال الآخر:
* إذا ودع الشهر الحرام فودعي
*
بلاد تميم وانصري أرض عامر
*
والنصر: العطاء، والانتصار: الانتقام. النجاة: التنجية من الهلكة بعد الوقوع فيها، والأصل: الإلقاء بنجوة، قال الشاعر:
* ألم تر للنعمان كان بنجوة
*
من الشر لو أن امرأ كان ناجيا
*
الآل: قيل بمعنى الأهل، وزعم أن ألفه بدل عن هاء، وأن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة، وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل: ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة، والآل من يؤول من قرابة أو ولي أو مذهب، فألفه بدل من واو. ولذلك قال يونس: في تصغيره أويل، ونقله الكسائي نصا عن العرب، وهذا اختيار أبي
344

الحسن بن الباذش، ولم يذكر سيبويه في باب البدل أن الهاء تبدل همزة، كما ذكر أن الهمزة تبدل هاء في: هرقت، وهيا، وهرحت، وهياك. وقد خصوا آلا بالإضافة إلى العلم ذي الخطر ممن يعلم غالبا، فلا يقال: آل الإسكاف والحجام، قال الشاعر:
* نحن آل الله في بلدتنا
*
لم نزل آلا على عهد ارم
*
قال الأخفش: لا يضاف آل إلا إلى الرئيس الأعظم، نحو: آل محمد صلى الله عليه وسلم)، وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة، قيل: وفيه نظر، لأنه قد سمع عن أهل اللغة في البلدان فقالوا: آل المدينة، وآل البصرة. وقال الكسائي: لا يجوز أن يقال: فلان من آل البصرة، ولا من آل الكوفة، بل يقال: من أهل البصرة، ومن أهل الكوفة، انتهى قوله. وقد سمع إضافته إلى اسم الجنس وإلى الضمير، قال الشاعر:
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك وقال هدبة:
* أنا الفارس الحامي حقيقة والدي
*
وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
*
وقد اختلف في اقتباس جواز إضافته إلى المضمر، فمنع من ذلك الكسائي، وأبو جعفر النحاس، وأبو بكر الزبيدي، وأجاز ذلك غيرهم. وجمع بالواو والنون رفعا وبالياء والنون جرا ونصبا، كما جمع أهل فقالوا: آلون. والآل: السراب، يجمع على أفعال، قالوا: أأوال، والآل: عمود الخيمة، والآل: الشخص، والآلة: الحالة الشديدة. فرعون: لا ينصرف للعلمية والعجمة، وسيأتي الكلام عليه. سامه: كلفه العمل الشاق، قال الشاعر:
* إذا ما الملك سام الناس خسفا
*
أبينا أن نقر الخسف فينا
*
وقيل معناه: يعلمونكم من السيماء، وهي العلامة، ومنه: تسويم الخيل. وقيل: يطالبونكم من مساومة البيع. وقيل: يرسلون عليكم من إرسال الإبل للرعي، وقال أبو عبيدة: يولونكم، يقال سامه خطة خسف: أي أولاه إياها. السوء: مصدر أساء، يقال: ساء يسوء، وهو متعد، وأساء الرجل: أي صار ذا سوء، قال الشاعر:
* لئن ساءني أن نلتني بمساءة
*
لقد سرني أني خطرت ببالك
*
ومعنى ساءه: أحزنه، هذا أصله، ثم يستعمل في كل ما يستقبح، ويقال: أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل: يراد قبحهما. الذبح: أصله الشق، قال الشاعر:
345

* كأن بين فكها والفك
*
فأرة مسك ذبحت في سك
*
وقال:
كأنما الصاب في عينيك مذبوح
والذبحة: داء في الحلق، يقال منه: ذبحه يذبحه ذبحا، والذبح: المذبوح. الاستحياء: هنا الإبقاء حيا، واستفعل فيه بمعنى أفعل: استحياه وأحياه بمعنى واحد، نحو قولهم: أبل واستبل، أو طلب الحياء، وهو الفرج، فيكون استفعل هنا للطلب، نحو: استغفر، أي تطلب الغفران. وقد تقدم الكلام على استحيا من الحياء في قوله: * (إن الله لا * يستحى أن يضرب مثلا) * النساء: اسم يقع للصغار والكبار، وهو جمع تكسير لنسوة، ونسوة على وزن فعلة، وهو جمع قلة، خلافا لابن السراج، إذ زعم أن فعلة اسم جمع لا جمع تكسير، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه. والواحدة: امرأة. البلاء: الاختبار، بلاه يبلوه بلاء: اختبره، ثم صار يطلق على المكروه والشدة، يقال: أصاب فلانا بلاء: أي شدة، وهو راجع لمعنى البلى، كأن المبتلى يؤول حاله إلى البلى، وهو الهلاك والفناء. ويقال: أبلاه بالنعمة، وبلاه بالشدة. وقد يدخل أحدهما على الآخر فيقال: بلاه بالخير، وأبلاه بالشر، قال الشاعر:
* جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
*
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
*
فاستعملهما بمعنى واحد، ويبنى منه افتعل فيقال: ابتلى.
* (خالدون يابنى إسراءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم) *: تقدم الكلام في شرح هذا، وأعيد نداؤهم ثانيا على طريق التوكيد، ولينبهوا لسماع ما يرد عليهم من تعداد النعم التي أنعم الله بها عليهم، وتفصيلها نعمة نعمة، فالنداء الأول للتنبيه على طاعة المنعم، والنداء الثاني للتنبيه على شكر النعم. * (وأنى فضلتكم) *: ثم عطف التفضيل على النعمة، وهو من عطف الخاص على العام لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، وهو ما انفردت به الواو دون سائر حروف العطف، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يذكر لنا هذا النحو من العطف، وأنه يسمى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر على سبيل التفضيل، وقال الشاعر:
* أكر عليهم دعلجا ولبانه
*
إذا ما اشتكى وقع القناة تحمحما
*
دعلج: هنا اسم فرس، ولبانه: صدره، ولأبي الفتح بن جني كلام في ذلك يكشف من سر الصناعة له. * (على العالمين) *: أي عالمي زمانهم، قاله الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم، أو على كل العالمين، بما جعل فيهم من الأنبياء، وجعلهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، وذلك خاصة لهم دون غيرهم. فيكون عاما والنعمة مخصوصة. قالوا: ويدفع هذا القول: * (كنتم خير أمة) *، أو على الجم الغفير من الناس، يقال: رأيت عالما من الناس، يراد به الكثرة. وعلى كل قول من هذه الأقوال الثلاثة لا يلزم منه التفضيل على هذه الأمة، لأن من قال بالعموم خص النعمة، ولا يلزم التفضيل على كل عالم بشيء خاص
التفضيل من جميع الوجوه، ومن قال بالخصوص فوجه عدم التفضيل مطلقا ظاهر. وقال القشيري: أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: * (وأنى فضلتكم على العالمين) *،
346

وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) *، فشتان بين من مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه. فالأول يقتضي الثناء، والثاني يقتضي الإعجاب، انتهى. وآخره ملخص من كلامه..
* (واتقوا يوما) * أمر بالاتقاء، وكأنهم لما أمروا بذكر النعم وتفضيلهم ناسب أن من أنعم عليه وفضل يكون محصلا للتقوى. فأمروا بالإدامة على التقوى، أو بتحصيل التقوى، إن عرض لهم خلل وانتصاب يوما، أما على الظرف والمتقى محذوف تقديره: اتقوا العذاب يوما، وإما على المفعول به اتساعا أو على حذف مضاف، أي عذاب يوم، أو هول يوم. وقيل معناه: جيئوا متقين، وكأنه على هذا التقدير لم يلحظ متعلق الاتقاء، فإذ ذاك ينتصب يوما على الظرف. قال القشيري: العوام خوفهم بعذابه، فقال: * (واتقوا يوما) *، * (واتقوا النار) *. والخواص خوفهم بصفاته، فقال: * (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) *، وما تكون في شأن الآية. وخواص الخواص خوفهم بنفسه، فقال: * (ويحذركم الله نفسه) *. وقرأ ابن السماك العدوي لا تجزي من أجزأ، أي أغني، وقيل جزا، واجزا، بمعنى واحد، وهذه الجملة صفة لليوم، والرابط محذوف، فيجوز أن يكون التقدير: لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر، فاتصل الضمير بالفعل، ثم حذف الضمير، فيكون الحذف بتدريج أو عداه إلى الضمير أولا اتساعا. وهذا اختيار أبي علي، وإياه نختار. قال المهدوي: والوجهان، يعني تقديره: لا تجزي فيه ولا تجزيه جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. وقال الكسائي: لا يكون المحذوف إلا لها، قال: لا يجوز أن تقول: هذا رجل قصدت، ولا رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه، انتهى. وحذف الضمير من الجملة الواقعة صفة جائز، ومنه قوله:
* فما أدري أغيرهم تناء
*
وطول العهد أم مال أصابوا
*
يريد: أصابوه، وما ذهبوا إليه من تعيين الربط أنه فيه، أو الضمير هو الظاهر، وقد يجوز على رأي الكوفيين أن يكون ثم رابط، ولا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها يوم محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: واتقوا يوما يوم لا تجزي، فحذف يوم لدلالة يوما عليه، فيصير المحذوف في الإضافة نظير الملفوظ به في نحو قوله تعالى: * (هاذا يوم لا ينطقون) *، ونظير يوم لا تملك، لا تحتاج الجملة إلى ضمير، ويكون إعراب ذلك المحذوف بدلا، وهو بدل كل من كل، ومنه قول الشاعر:
* رحم الله أعظما دفنوها
*
بسجستان طلحة الطلحات
*
في رواية من خفض التقدير أعظم طلحة. وقد قالت العرب: يعجبني الإكرام عندك سعد، بنية: يعجبني الإكرام إكرام سعد. وحكى الكسائي عن العرب: أطعمونا لحما سمينا شاة ذبحوها، أي لحم شاة. وحكى الفراء عن العرب: أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة سنة، الدقيق عظمه، على تقديره: لو تعلمون علم الكبيرة سنة، فحذف الثاني اعتمادا على الأول، ولم يجز البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف إليه على خفضه في: يعجبني القيام زيد، ولا يبعد ترجيح حذف يوم لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي والفراء عن العرب. ويحسن هذا التخريج كون المضاف إليه جملة، فلا يظهر فيها إعراب، فيتنافر مع إعراب ما قبله، فإذا جاز ذلك في نثرهم مع التنافر، فلأن يجوز مع عدم التنافر أولى. ولم أر أحدا من المعربين والمفسرين خرجوا هذه الجملة هذا
347

التخريج، بل هم مجمعون على أن الجملة صفة ليوم، ويلزم من ذلك حذف الرابط أيضا من الجمل المعطوفة على * (لا تجزى) *، أي ولا يقبل منها شفاعة فيه، ولا يؤخذ منها عدل فيه، ولا هم ينصرون فيه، وعلى ذلك التخريج لا يحتاج إلى إضمار هذه الروابط.
* (نفس عن نفس شيئا) * كلاهما نكرة في سياق النفي فتعم. ومعنى التنكير: أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس من الأنفس شيئا من الأشياء، قال الزمخشري: وفيه إقناط كلي قاطع من المطامع، وهذا على مذهبه في أن لا شفاعة. وقال بعضهم: التقدير عن نفس كافرة، فقيدها بالكفر، وفيه دلالة على أن النفس تجزي عن نفس مؤمنة، وذلك بمفهوم الصفة. ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على قوله: * (ولا يقبل منها شفاعة) *. وقرأ أبو السرار الغنوي: لا تجزي نسمة عن نسمة، وانتصاب شيئا على أنه مفعول به، أي لا يقضي شيئا، أي حقا من الحقوق، ويجوز أن يكون انتصابه على المصدر، أي: ولا تجزي شيئا من الجزاء، قاله الأخفش، وفيه إشارة إلى القلة، كقولك: ضربت شيئا من الضرب..
* (ولا يقبل منها شفاعة) *: قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولا تقبل بالتاء، وهو القياس والأكثر، ومن قرأ بالياء فهو أيضا جاز فصيح لمجاز التأنيث، وحسنة أيضا الفصل بين الفعل ومرفوعه. وقرأ سفيان: ولا يقبل بفتح الياء ونصب شفاعة على البناء للفاعل، وفي ذلك التفات وخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، لأن قبله: * (اذكروا نعمتي) * و * (إنى * فضلتكم) *، وبناؤه للمفعول أبلغ لأنه في اللفظ أعم، وإن كان يعلم أن الذي لا يقبل هو الله تعالى. والضمير في منها عائد
على نفس المتأخرة لأنها أقرب مذكور، أي لا يقبل من النفس المستشفعة شفاعة شافع، ويجوز أن يعود الضمير على نفس الأولى، أي ولا يقبل من النفس التي لا تجزي عن نفس شيئا شفاعة، هي بصدد أن لو شفعت لم يقبل منها، وقد يظهر ترجيح عودها إلى النفس الأولى، لأنها هي المحدث عنها في قوله: * (لا تجزى نفس عن نفس) *، والنفس الثانية هي مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة. وظاهر قوله: * (ولا يقبل منها شفاعة) * نفي القبول ووجود الشفاعة، ويجوز أن يكون من باب:
على رحب لا يهتدى بمناره
نفي القبول، والمقصود نفي الشفاعة، كأنه قيل: لا شفاعة، فتقبل. وقد اختلف المفسرون في فهم هذا على ستة أقوال: الأول: أنه لفظ عام لمعنى خاص، والمراد: الذين قالوا من بني إسرائيل نحن أبناء الله، وأبناء أنبيائه، وأنهم يشفعون لنا عند الله، فرد عليهم ذلك، وأويسوا منه لكفرهم، وعلى هذا تكون النفس الأولى مؤمنة، والثانية كافرة، والكافر لا تنفعه شفاعة لقوله تعالى: * (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) *. الثاني: معناه لا يجدون شفيعا تقبل شفاعته، لعجز المشفوع فيه عنه، وهو قول الحسن. الثالث: معناه لا يجيب الشافع المشفوع فيه إلى الشفاعة، وإن كان لو شفع لشفع. الرابع: معناه حيث لم يأذن الله في الشفاعة للكفار، ولا بد من إذن من الله بتقدم الشافع بالشفاعة لقوله: * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) *، * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) *. الخامس: معناه ليس لها شفاعة، فيكون لها قبول، وقد تقدم هذا القول.
348

السادس: أنه نفي عام، أي لا يقبل في غيرها، لا مؤمنة ولا كافرة، في مؤمنة ولا كافرة، قاله الزمخشري.
وأجمع أهل السنة أن شفاعة الأنبياء والصالحين تقبل في العصاة من المؤمنين، خلافا للمعتزلة، قالوا: الكبيرة تخلد صاحبها في النار، وأنكروا الشفاعة، وهم على ضربين: طائفة أنكرت الشفاعة إنكارا كليا وقالوا: لا تقبل شفاعة أحد في أحد، واستدلوا بظواهر آيات، وخص تلك الظواهر أصحابنا بالكفار لثبوت الأحاديث الصحيحة في الشفاعة. وطائفة أنكرت الشفاعة في أهل الكبائر، قالوا: وإنما تقبل في الصغائر. وقال في المنتخب: أجمعت الأمة على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم) شفاعة في الآخرة، واختلفوا لمن تكون. فذهبت المعتزلة إلى أنها للمستحقين الثواب، وتأثيرها في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه. وقال أصحابنا: تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين، إما بأن لا يدخلوا النار، وإما في أن يخرجوا منها بعد دخولها ويدخلون الجنة، واتفقوا على أنها ليست للكفار، ثم ذكر نحوا من ست أوراق في الاستدلال للطائفتين، ورد بعضهم على بعض، يوقف عليها في ذلك الكتاب.
* (ولا يؤخذ منها عدل) * العدل: الفدية، قاله ابن عباس وأبو العالية، وسميت عدلا لأن المفدي يعدل بها: أي يساويها، أو البدل: أي رجل مكان رجل. وروي عن ابن عباس: أو حسنة مع الشرك ثلاثة أقوال. * (ولا هم ينصرون) *: أتى بالضمير مجموعا على معنى نفس، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم، كقوله تعالى: * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) *، وأتى به مذكرا لأنه أريد بالنفوس الأشخاص كقولهم: ثلاثة أنفس، وجعل حرف النفي منسحبا على جملة اسمية ليكون الضمير مذكورا مرتين، فيتأكد ذكر المنفي عنه النصر بذكره مرتين، وحسن الحمل على المعنى كون ذلك في آخر فاصلة، فيحصل بذلك التناسب في الفواصل، بخلاف أن لو جاء ولا تنصر، إذ كان يفوت التناسب. ويحتمل رفع هذا الضمير وجهين من الإعراب. أحدهما: وهو المتبادر إلى أذهان المعربين أنه مبتدأ، والجملة بعده في موضع رفع على الخبر. والوجه الثاني: وهو أعمض الوجهين وأغربهما أنه مفعول لم يسم فاعله، يفسر فعله الفعل الذي بعده، وتكون المسألة من باب الاشتغال، وذلك أن لا هي من الأدوات التي هي أولى بالفعل، كهمزة الاستفهام. فكما يجوز في: أزيد قائم، وأزيد يضرب، الرفع على الاشتغال، فكذلك هذا، ويقوي هذا الوجه أنه تقدم جملة فغلية.
والحكم في باب الاشتغال أنه إذا تقدمت جملة فعلية وعطف عليها بشرط العطف المذكور في ذلك الباب، فالأفصح الحمل على الفعل، ويجوز الابتداء كما ذكرنا أولا، ويقوي عود الضمير إلى نفس الثانية بناء الفعل للمفعول، إذا لو كان عائدا على نفس الأولى لكان مبنيا للفاعل، كقوله: لا تجزي. ومن المفسرين من جعل الضمير في ولاهم عائدا على النفسين معا، قال: لأن التثنية جمع قالوا، وفي معنى النصر للمفسرين هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه لا يمنعون من عذاب الله. الثاني: لا يجدون ناصرا ينصرهم ولا شافعا يشفع لهم. الثالث: لا يعاونون على خلاصهم وفكاكهم من موبقات أعمالهم. وثلاثة الأقوال هذه متقاربة المعنى، وجاء النفي لهذه الجمل هنا بلا المستعملة لنفي المستقبل في الأكثر، وكذلك هذه الأشياء الأربعة هي مستقبلة، لأن هذا اليوم لم يقع بعد. وترتيب هذه الجمل في غاية الفصاحة، وهي على حسب الواقع في الدنيا، لأن المأخوذ بحق، إما أن يؤدى عنه الحق فيخلص، أو لا يقضى عنه فيشفع فيه، أو لا يشفع فيه فيفدى، أو لا يفدى فيتعاون بالإخوان على
349

تخليصه.
فهذه مراتب يتلو بعضها بعضا. فلهذا، والله أعلم، جاءت مترتبة في الذكر هكذا. ولما كان الأمر مختلفا عند الناس في الشفاعة والفدية، فمن يغلب عليه حب الرياسة قدم الشفاعة على الفدية، ومن يغلب عليه حب المال قدم الفدية على الشفاعة، جاءت هذه الجمل هنا مقدما فيها الشفاعة، وجاءت الفدية مقدمة على الشفاعة في جملة أخرى، ليدل ذلك على اختلاف الأمرين. وبدىء هنا بالشفاعة، لأن ذلك أليق بعلو النفس، وجاء هنا بلفظ القبول، وهناك بلفظ النفع، إشارة إلى انتفاء أصل الشيء، وانتفاء ما يترتب عليه. وبدىء هنا بالقبول، لأنه أصل للشيء المترتب عليه، فأعطى المتقدم ذكر المتقدم وجودا، وأخر هناك النفع إعطاء للمتأخر ذكر المتأخر وجودا.
* (وإذ نجيناكم من ءال فرعون) *: تقدم الكلام على إذ في قوله: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل) *. ومن أجاز نصب إذ هناك مفعولا به بإضمار اذكروا وادعى زيادتها، فقياس قوله هناك إجازته هنا، إذ لم يتقدم شيء تعطفه عليه إلا إن ادعى مدع أن إذ معطوفة على معمول اذكروا، كأنه قال: اذكروا نعمتي وتفضيلي
إياكم، ووقت تنجيتكم. ويكون قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة الاعتراض التي هي: * (واتقوا يوما) *. وقد قدمنا أنا لا نختار أن يكون مفعولا به باذكر، لا ظاهرة ولا مقدرة، لأن ذلك تصرف فيها، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرف فيها إلا بإضافة اسم زمان إليها على ما قرر في النحو. وإذا كان كذلك، فالذي نختاره أن ينتصب على الظرف، ويكون العامل فيه فعلا محذوفا يدل عليه ما قبله، تقديره: وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون، وتقدير هذا الفعل أولى من كل ما قدمناه. وخرج بقوله: أنجيناكم إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه من ضمير المتكلم الذي لا يدل على تعظيم في قوله: * (نعمتى التى أنعمت) *، لأن هذا الفعل الذي هو الإنجاء من عدوهم، هو من أعظم، أو أعظم النعم، فناسب الأعظم نسبته للمعظم نفسه. وقرئ: أنجيناكم، والهمزة للتعدية إلى المفعول، كالتضعيف في نجيناكم. ونسبة هذه القراءة للنخعي. وذكر بعضهم أنه قرأ: أنجيتكم، فيكون الضمير موافقا للضمير في نعمتي، والمعنى: خلصتكم من آل فرعون، وجعل التخليص منهم لأنهم هم الذين كانوا يباشرونهم بهذه الأفعال السيئة، وإن كان أمرهم بذلك فرعون، وآل فرعون هنا أهل مصر، قاله مقاتل، أو أهل بيته خاصة، قاله أبو عبيد، أو أتباعه على ذنبه، قاله الزجاج، ومنه: * (وإذ فرقنا بكم) *، وهم أتباعه على ذنبه، إذ لم يكن له أب، ولا بنت، ولا ابن، ولا عم، ولا أخ، ولا عصبة، وأدخلوا آل فرعون أشد العذاب. وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم): من آلك؟ فقال: (كل تقي). ويؤيد القول الثاني: لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد. والمراد بالآل هنا: آل عقيل، وآل عباس، وآل الحارث بن عبد المطلب ومواليهم. وورد أيضا أن آله: أزواجه وذريته، فدل على أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم) آل عام وآل خاص.
وفرعون: علم لمن ملك العمالقة، كما قيل: قيصر لمن ملك الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وتبع لمن ملك اليمن. وقال السهيلي: هو اسم لكل من ملك القبط ومصر، وقد اشتق منه: تفرعن الرجل، إذا تجبر وعتا، واسمه الوليد بن مصعب، قاله ابن إسحاق، وأكثر المفسرين، أو فنطوس، قاله مقاتل، أو مصعب بن الريان، حكاه ابن جرير، أو مغيث، ذكره بعض المفسرين، أو قابوس، وكنيته أبو مرة، وهو من بني عمليق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح وروي أنه من أهل إصطخر، ورد إلى مصر فصار بها ملكا، لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية، قاله المسعودي. وقال ابن وهب: فرعون موسى هو فرعون يوسف، قالوا: وهذا غير صحيح، لأن بين دخول يوسف مصر ودخول موسى أكثر من
350

أربعمائة سنة. والصحيح أنه غيره. وقيل: كان اسم فرعون يوسف الريان بن الوليد..
* (يسومونكم) *: يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال: أي سائميكم، وهي حال من آل فرعون. * (يرون العذاب) *: أشقه وأصعبه وانتصابه، مبني على المراد بيسومونكم، وفيه للمفسرين أقوال: السوم: بمعنى التكليف أو الإبلاء، فيكون سوء العذاب على هذا القول مفعولا ثانيا لسام، أي يكلفونكم، أو يولونكم سوء العذاب، أو بمعنى: الإرسال، أو الإدامة، أو التصريف، أي: يرسلونكم، أو يديمونكم، أو يصرفونكم في الأعمال الشاقة، أو بمعن الرفع، أي يرفعونكم إلى سوء العذاب، أو الوسم، أي: يعلمونكم من العلامة، ومعناه: أن الأعمال الشاقة لكثرة مزاولتها تصير عليهم علامة بتأثيرها في جلودهم وملابسهم، كالحدادة والنجارة، وغير ذلك يكون وسما لهم، والتقدير: يعلمونكم بسوء العذاب. وضعف هذا القول من جهة الاشتقاق، لأنه لو كان كذلك لكان يسمونكم، وهذا التضعيف ضعيف لأنه لم يقل إنه مأخوذ من الوسم، وإنما معناه معنى الوسم، وهو من السيمياء، والسيماءو مسومين في أحد تفاسيره بمعنى العلامة، وأصول هذا سين وواو وميم، وهي أصول يسومونكم، ويكون فعل المجرد بمعنى فعل، وهو مع الوسم مما اتفق معناه واختلفت أصوله: كدمت، ودمثر، وسبط، وسبطر، أو بمعنى الطلب بالزيادة من السوم في البيع، أي: يطلبونكم بازدياد الأعمال الشاقة.
وعلى هذه الأقوال غير القولين الأولين يكون * (سوء العذاب) * مفعولا على إسقاط حرف الجر. وقال بعض الناس: ينتصب سوء العذاب نصب المصدر، ثم قدره سوما شديدا. وسوء العذاب: الأعمال القذرة، قاله السدي، أو الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك، قاله بعضهم. قال: وكان قومه جندا ملوكا، أو الذبح، أو الاستحياء المشار إليهما، قاله الزجاج. ورد ذلك بثبوت الواو في إبراهيم فقال: ويذبحون، فدل على أنه عذبهم بالذبح وبغير الذبح. وحكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما في الأعمال من البناء والتخريب والزراعة والخدمة، ومن لا يعمل فالجزية، فذوو القوة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها، وطائفة ينقلون له الحجارة والطين ويبنون له القصور، وطائفة يضربون اللبن ويطبخون الآجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفة جعل عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم. فمن غربت عليه الشمس قبل أن تؤديها غلت يده إلى عنقه شهرا. والنساء يغزلن الكتان وينسجن. وأصل نشأة بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمان ابنه يوسف بها على نبينا وعليهما السلام.
* (يذبحون أبناءكم) *: قراءة الجمهور بالتشديد، وهو أولى لظهور تكرار الفعل باعتبار متعلقاته. وقرأ الزهري وابن محيصن: يذبحون خفيفا من ذبح المجرد اكتفاء بمطلق الفعل، وللعلم بتكريره من متعلقاته. وقرأ عبد الله: يقتلون بالتشديد مكان يذبحون، والذبح قتل، ويذبحون بدل من يسومونكم، بدل الفعل من الفعل، نحو: قوله تعالى: * (يلق أثاما * يضاعف له العذاب) *، وقول الشاعر:
* متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
*
تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
*
ويحتمل أن تكون مما حذف منه حرف العطف لثبوته في إبراهيم. وقول من ذهب إلى أن الواو زائدة لحذفها هنا ضعيف. وقال الفراء: الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسير لصفات العذاب، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم العذاب، غير الذبح، ويجوز أن يكون يذبحون: في موضع الحال، من ضمير الرفع في: يسومونكم، ويجوز أن يكون مستأنفا.
351

وفي سبب الذبح والاستحياء أقوال وحكايات مختلفة، الله أعلم بصحتها، ومعظمها يدل على خوف فرعون من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. والأبناء: الأطفال الذكور، يقال: إنه قتل أربعين ألف صبي. وقيل: أراد بالأبناء: الرجال، وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، والأول أشهر. والنساء هنا: البنات، وسموا نساء باعتبار ما يؤلن إليه، أو بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهن، وقيل: أراد: النساء الكبار، والأول أشهر.
* (ويستحيون نساءكم) *: وفسر الاستحياء بالوجهين اللذين ذكرناهما عند كلامنا على المفردات، وهو أن يكون المعنى: يتركون بناتكم أحياء للخدمة، أو يفتشون أرحام نسائكم. فعلى هذا القول ظاهره أن آل فرعون هم المباشرون لذلك، ذكر أنه وكل بكل عشر نساء رجلا يحفظ من تحمل منهن. وقيل: وكل بذلك القوابل. وقد قيل: إن الاستحياء هنا من الحياء الذي هو ضد القحة، ومعناه أنهم يأتون النساء من الأعمال بما يلحقهم منه الحياء، وقدم الذبح على الاستحياء لأنه أصعب الأمور وأشقها، وهو أن يذبح ولد الرجل والمرأة اللذين كانا يرجوان النسل منه، والذبح أشق الآلام. واستحياء النساء على القول الأول ليس بعذاب، لكنه يقع العذاب بسببه من جهة إبقائهن خدما وإذاقتهن حسرة ذبح الأبناء، إن أريد بالنساء الكبار، أو ذبح الإخوة، إن أريد الأطفال، وتعلق العار بهن، إذ يبقين نساء بلا رجال فيصرن مفترشات لأعدائهن. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الآمر بالقتل بغير حق والمباشر له شريكان في القصاص، فإن الله تعالى أغرق فرعون، وهو الآمر، وآله وهم المباشرون. وهذه مسألة يبحث فيها في علم الفقه، وفيها خلاف بين أهل العلم.
* (وفى ذالكم بلاء) *: هو إشارة إلى ذبح الأبناء واستحياء النساء، وهو المصدر الدال عليه الفعل نحو قوله تعالى: * (ولمن صبر وغفر إن ذلك) *، وهو أقرب مذكور، فيكون المراد بالبلاء: الشدة والمكروه. وقيل: يعود إلى معنى الجملة من قوله يسومونكم مع ما بعده، فيكون معنى البلاء كما تقدم. وقيل: يعود على التنيجة، وهو المصدر المفهوم من قوله: نجيناكم، فيكون البلاء هنا: النعمة ويكون ذلكم قد أشير به إلى أبعد مذكور، وهو أضعف من القول الذي قبله، والمتبادر إلى الذهن والأقرب في الذكر القول الأول.
وفي قوله: * (من ربكم عظيم) * دليل على أن الخير والشر من الله تعالى، بمعنى أنه خالقهما. وفيه رد على النصارى ومن قال بقولهم: إن الخير من الله والشر من الشيطان ووصفه بعظيم ظاهر، لأنه إن كان ذلكم إشارة إلى التنجية من آل فرعون، فلا يخفى ما في ذلك من عظم النعمة وكثرة المنة، وإن كان إشارة إلى ما بعد التنجي من السوم، أو الذبح، والاستحياء، فذلك ابتلاء عظيم شاق على النفوس، يقال إنه سخرهم فبنوا سبعة حوائط جائعة أكبادهم عارية أجسادهم، وذبح منهم أربعين ألف صبي. فأي ابتلاء أعظم من هذا وكونه عظيما هو بالنسبة للمخاطب والسامع، لا بالنسبة إلى الله تعالى، لأنه يستحيل عليه اتصافه بالاستعظام. قال القشيري: من صبر في الله على بلاء الله عوضه الله صحبة أوليائه. هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه، فجعل منهم أنبياء، وجعل منهم ملوكا، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، انتهى. ولم تزل النعم تمحو آثار النقم، قال الشاعر:
نأسوا بأموالنا آثار أيدينا
ولما تقدم الأمر بذكر النعم مجملة فيما سبق، أمرهم بذكرها ثانية مفصلة، فبدأ منها بالتفضيل، ثم أمرهم باتقاء يوم لا خلاص فيه، لا بقاض حق، ولا شفيع، ولا فدية، ولا نصر، لمن لم يذكر نعمه، ولم يمتثل أمره، ولم يجتنب نهيه، وكان الأمر بالاتقاء مهما هنا، لأن من أخبر بأنه فضل على العالمين ربما استنام إلى هذا التفضيل، فأعلم أنه لا بد مع ذلك من تحصيل التقوى وعدم الاتكال على مجرد التفضيل، لأن من ابتدأك بسوابق نعمه، يجب عليك أن تتقي لواحق نقمة. ثم ثنى بذكر الإنجاء الذي به كان سبب البقاء بعد شدة اللأواء. ثم بعد ذلك ذكر تفاصيل النعماء مما نص عليه إلى قوله: * (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) *، فكان تعداد الآلاء مما يوجب جميل الذكر وجليل الثناء. وسيأتي الكلام في ترتيب هذه النعم، نعمة نعمة، إن شاء الله تعالى.
352

2 (* (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون * وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * ثم عفونا عنكم من بعد ذالك لعلكم تشكرون * وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) *)) 2
* (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون * وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم * ظالمون * ثم عفونا عنكم من بعد ذالك لعلكم تشكرون * وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) *..
الفرق: الفصل، فرق بين كذا وكذا: فصل، وفرق كذا: فصل بعضه من بعض، ومنه: الفرق في شعر الرأس، والفريق، والفرقان، والتفرق، والفرق، المفروق، كالطحن. والفرق ضده: الجمع، ونظائره: الفصل، وضده: الوصل، والشق والصدع: وضدهما اللأم، والتمييز: وضده الاختلاط. وقيل: يقال فرق في المعاني، وفرق في الأجسام، وليس بصحيح. البحر: مكان مطمئن من الأرض يجمع المياه، ويجمع في القلة على أبحر، وفي الكثرة على بحور وبحار، وأصله قيل: الشق، وقيل: السعة. فمن الأول: البحيرة، وهي التي شقت أذنها، ومن الثاني: البحيرة، المدينة المتسعة، وفرس بحر: واسع العدو، وتبحر في العلم: أي اتسع، وقال:
* انعق بضأنك في بقل تبحره
*
من الأباطح وأحبسها بحلدان
*
وجاء استعماله في الماء الحلو والماء الملح، قال تعالى: * (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج)، وجاء استعماله للملح، ويقال: هو الأصل، فيه أنشد أحمد بن يحيى:
* وقد عاد عذب الماء بحرا فزادني
*
على مرض أن أبحر المشرب العذب
*
أي صار ملحا. الغرق: معروف، والفعل منه فعل بكسر العين يفعل بالفتح، قال:
وتارات يجم فيغرق
والتغريق، والتعويص، والترسيب، والتغييب، بمعنى واحد. النظر: تصويب المقلة إلى المرئي، ويطلق على الرؤية، وتعديته بإلى، ويعلق، وإن لم يكن من أفعال القلوب، فلينظر أيها أزكى طعاما، ونظره وانتظره وأنظره: أخره، والنظرة: التأخير. وعد في الخير والشر، والوعد في الخير، وأوعد في الشر، والإيعاد والوعيد في الشر. موسى: اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية. يقال: هو مركب من مو: وهو الماء، وشاو: وهو الشجر. فلما عرب أبدلوا شينه سينا، وإذا كان أعجميا فلا يدخله اشتقاق عربي. وقد اختلفوا في اشتقاقه، فقال مكي: موسى مفعل من أوسيت، وقال غيره: هو مشتق من ماس يميس، ووزنه: فعلى، فأبدلت الياء واوا الضمة ما قبلها، كما قالوا: طوبى، وهي من ذوات الياء، لأنها من طاب يطيب. وكون وزنه فعلى هو مذهب المعربين. وقد نص سيبويه على أن وزن موسى مفعل، وذلك فيما لا ينصرف. واحتج سيبويه في الأبنية على ذلك بأن زيادة الميم أولا أكثر من زيادة الألف آخرا، واحتج الفارسي على كونه مفعلا لا فعلى، بالإجماع على صرفه نكرة، ولو كان فعلى لم ينصرف نكرة لأن الألف كانت تكون للتأنيث، وألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة. الأربعون: ليس بجمع سلامة، بل هو من قبيل المفرد الذي هو اسم جمع، ومدلوله معروف، وقد أعرب إعراب الجمع المذكر السالم.
الليلة: مدلولها معروف، وتكسر شاذا على فعالى، فيقال: الليالي، ونظيره: الكيكة
353

والكياكي، كأنه جمع ليلاه وكيكاه، وأهل والأهالي. وقد شذوا في التصغير كما شذوا في التكسير، قالوا: لييله. الاتخاذ: افتعال من الأخذ، وكان القياس أن لا تبدل الهمزة إلا ياء، فتقول: إيتخذ كهمزة إيمان إذ أصله: إإمان، وكقولهم: ائتزر: افتعل من الإزار، فمتى كانت فاء الكلمة واوا أو ياء، وبنيت افتعل منها، فاللغة الفصحى إبدالها تاء وإدغامها في تاء الافتعال، فتقول: اتصل واتسر من الوصل واليسر، فإن كانت فاء الكلمة همزة، وبنيت افتعل، أبدلت تلك الهمزة ياء وأقررتها. هذا هو القياس، وقد تبدل هذه الياء تاء فتدغم، قالوا: اتمن، وأصله: ائتمن. وعلى هذا جاء: اتخذ. ومما علق بذهني من فوائد الشيخ الإمام بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر الحلبي، عرف بابن النحاس، رحمه الله، وهو كان المشتهر بعلم النحو في ديار مصر: أن اتخذ مما أبدل فيه الواو تاء على اللغة الفصحى، لأن فيه لغة أنه يقال: وخذ بالواو، فجاء هذا على الأصل في البدل، وإن كان مبنيا على اللغة القليلة، وهذا أحسن، لأنهم نصوا على أن اتمن لغة رديئة، وكان رحمه الله يغرب بنقل هذه اللغة. وقد خرج الفارسي مسألة اتخذ على أن التاء الأولى أصلية، إذ قلت: قالت العرب تخذ بكسر الخاء، بمعنى: أخذ، قال: تعالى: * (لاتخذت عليه أجرا) *، في قراء من قرأ كذلك، وأنشد الفارسي، رحمه الله:
* وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها
*
نسيفا كافحوص القطاة المطوق
*
فعلى قوله: التاء أصل، وبنيت منه افتعل، فقلت: اتخذ، كما تقول: اتبع، مبنيا من تبع، وقد نازع أبو القاسم الزجاجي في تخذ، فزعم أن أصله: اتخذ، وحذف كما حذف اتقى، فقالوا: تقى، واستدل على ذلك بقولهم: تخذ بفتح التاء مخففة، كما قالوا: يتقي ويتسع بحذف التاء التي هي بدل من فاء الكلمة. ورد السيرافي هذا القول وقال: لو كان محذوفا منه ما كسرت الخاء، بل كانت تكون مفتوحة، كقاف تفي، وأما يتخذ فمحذوف مثل: يتسع، حذف من المضارع دون الماضي، وتخذ بناء أصلي، انتهى. وما ذهب إليه الفارسي والسيرافي من أنه بناء أصلي على حده هو الصحيح، بدليل ما حكاه أبو زيد وهو: تخذ يتخذ تخذا، قال الشاعر:
* ولا تكثرن تخذ العشار فإنها
*
تريد مباءات فسيحا بناؤها
*
وذكر المهدوي في شرح الهداية: أن الأصل واو مبدلة من همزة، ثم قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء، فصار في اتخذ أقوال: أحدها: التاء الأولى أصل. الثاني: أنها بدل من واو أصلية. الثالث: أنها بدل من تاء أبدلت من همزة. الرابع: أنها بدل من واو أبدلت من همزة، واتخذ تارة يتعدى لواحد، وذلك نحو قوله تعالى: * (اتخذت بيتا) *، وتارة لاثنين نحو قوله تعالى: * (أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه) *: بمعنى صير. العجل: معروف، وهو ولد البقرة الصغير الذكر. بعد: ظرف زمان، وأصله الوصف، كقبل، وحكمه حكمه في كونه يبنى على الضم إذا قطع عن الإضافة إلى معرفة، ويعرب بحركتين، فإذا قلت: جئت بعد زيد، فالتقدير: جئت زمانا بعد زمان مجيء زيد، ولا يحفظ جره إلا بمن وحدها.
354

عفا: بمعنى كثر، فلا يتعدى حتى عفوا، وقالوا: وبمعنى درس، فيكون لازما متعديا نحو: عفت الديار، ونحو: عفاها الريح، وعفا عن زيد: لم يؤاخذه بجريمته، واعفوا عن اللحى، أي اتركوها ولا تأخذوا منها شيئا، ورجل عفو، والجمع عفو على فعل بإسكان العين، وهو جميع شاذ، والعفاء: الشعر الكثير، قال الشاعر:
عليه من عقيقته عفاء
ويقال في الدعاء على الشخص: عليه العفاء، قال:
على آثار من ذهب العفاء
يريد الدروس، وتأتي عفا: بمعنى سهل من قولهم: خذ ما عفا وصفا، وأخذت عفوه: أي ما سهل عليه، * (ماذا ينفقون قل العفو) *: أي الفضل الذي يسهل إعطاؤه، ومنه: خذ العفو، أي السهل على أحد الأقوال، والعافية: الحالة السهلة السمحة. الشكر: الثناء على إسداء النعم، وفعلة: شكر يشكرشكرا وشكورا، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف جر، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاس عليها، وهو قسم برأسه، تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء، خلافا لمن زعم استحالة ذلك. وكان شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن شكر أصله أن يتعدى بحرف جر، ثم أسقط اتساعا. وقيل: الشكر: إظهار النعمة من قولهم: شكرت الرمكة مهرها إذا أظهرته، والشكير: صغار الورق يظهر من أثر الماء، قال الشاعر:
* وبينا الفتى يهتز للعيش ناضرا
*
كعسلوجة يهتز منها شكيرها
*
وأول الشيب، قال الراجز:
* ألان ادلاج بك العتير
*
والرأس إذ صار له شكير
*
وناقة شكور تذر أكثر مما رعت
الفرقان: مصدر فرق، وتقدم الكلام في فرق.
* (وإذ فرقنا بكم البحر) *: معطوف على: وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل في إذ تلك بواسطة الحرف. وقرأ الزهري: فرقنا بالتشديد، ويفيد التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر مسلكا على عدد أسباط بني إسرائيل. ومن قرأ: فرقنا مجردا، اكتفى بالمطلق، وفهم التكثير من تعداد الأسباط. بكم: متعلق بفرقنا، والباء معناها: السبب، أي بسبب دخولكم، أو المصاحبة: أي ملتبسا، كما قال:
تدوس بنا الجماجم والتريبا
أي ملتبسة بنا، أو: أي جعلناه فرقا بكم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما، وهو قريب من معنى الاستعانة، أو معناها اللام، أي فرقنا لكم البحر، أي لأجلكم، ومعناها راجع للسبب. ويحتمل الفرق أن يكون عرضا من ضفة إلى ضفة، ويحتمل أن يكون طولا، ونقل كل: وعلى هذا الثاني قالوا: كان ذلك بقرب من موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة. وذكر العامري: أن موضع خروجهم من البحر كان قريبا من برية فلسطين،
355

وهي كانت طريقهم. البحر: قيل هو بحر القلزم من بحار فارس، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ، وقيل: من بحر من بحار مصر يقال له أساف، ويعرف الآن ببحر القلزم، قيل: وهو الصحيح، ولم يختلفوا في أن فرق البحر كان بعدد الأسباط، اثنى عشر مسلكا. واختلفوا في عدد المفروق بهم، وعدد آل فرعون، على أقوال يضاد بعضها بعضا، وحكوا في كيفية خروج بني إسرائيل، وتعنتهم وهم في البحر مقتحمون، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، حكايات مطولة جدا لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها، فالله أعلم بالصحيح منها.
* (فأنجيناكم) *: يعني من الغرق، ومن أدراك فرعون لكم واليوم الذي وقع فيه الفرق والنجاة والغرق كان يوم عاشوراء؟ واستطردوا إلى الكلام في يوم عاشوراء،
وفي صومه، وهي مسألة تذكر في الفقه. وبين قوله: * (فرقنا بكم البحر) *، وبين قوله: * (فأنجيناكم) * محذوف يدل عليه المعنى تقديره: وإذ فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم. * (وإذ فرقنا بكم) * والهمزة في أغرقنا للتعدية، ويعدى أيضا بالتضعيف. ولم يذكر فرعون فيمن غرق، لأن وجوده معهم مستقر، فاكتفى بذكر الآل هنا، لأنهم هم الذين ذكروا في الآية قبل هذه، ونسب تلك الصفة القبيحة إليهم من سومهم بني إسرائيل العذاب، وذبحهم أبناءهم، واستحيائهم نساءهم، فناسب هذا إفرادهم بالغرق. وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر، منها: * (فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم) *، * (حتى إذا أدركه الغرق) *، * (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) *. وناسب نجاتهم من فرعون بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين، نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح، بإلقائه وهو طفل في البحر، وخروجه منه سالما. ولكل أمة نصيب من نبيها. وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق، هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح، لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم، والغرق فيه إبطاء الموت، ولا دم خارج، وكان ما به الحياة * (وجعلنا من الماء كل شىء حى) * سببا لإعدامهم من الوجود. ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة، جعله الله تعالى نكالا لمن ادعى الربوبية، فقال: * (أنا ربكم الاعلى) *، إذ على قدر الذنب يكون العقاب، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدعى وتغييبه في قعر الماء.
* (وأنتم تنظرون) *: جملة حالية، وهو من النظر: بمعنى الإبصار. والمعنى، والله أعلم: أن هذه الخوارق العظيمية من فرق البحر بكم، وإنجائكم من الغرق، ومن أعدائكم، وإهلاك أعدائكم بالغرق، وقع وأنتم تعاينون ذلك وتشاهدونه، لم يصل ذلك إليكم بنقل، بل بالمشاهدة التي توجب العلم الضروري بأن ذلك خارق من عند الله تعالى على يد النبي الذي جاءكم. وقيل: وأنتم تنظرون إليهم لقرب بعض من بعض، وقيل: إلى طفوهم على وجه الماء غرقى. وقيل: إليهم وقد لفظهم البحر وهم العدد الذي لا يكاد ينحصر، لم يترك البحر في جوفه منهم واحدا. وقيل: تنظرون أي بعضكم إلى بعض وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له: أين أصحابنا؟ فقال: سيروا، فإنهم على طريق مثل طريقكم، قالوا: لا نرضى حتى نراهم، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان، فصار بها كوى، فتراءوا وتسامعوا كلام بعضهم بعضا. وهذه الأقوال الخمسة النظر فيها بمعنى الرؤية، وقيل: النظر تجوز به عن القرب، أي وأنتم بالقرب منهم، أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم: أنت مني بمرأى ومسمع، أي قريب بحيث أراك وأسمعك، قاله ابن الأنباري. وقيل: هو من نظر البصيرة والعقل، ومعناه: وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت إليهم. وقيل: النظر هنا بمعنى العلم، لأن العلم يحصل عن النظر، فكنى به عنه، قاله الفراء، وهو معنى قول ابن عباس.
* (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) * قرأ الجمهور: واعدنا، وقرأ أبو عمرو: وعدنا بغير ألف هنا، وفي الأعراف وطه، ويحتمل واعدنا: أن يكون بمعنى وعدنا، ويكون صدر من واحد، ويحتمل أن يكون من اثنين على أصل المفاعلة، فيكون الله قد وعد موسى الوحي، ويكون موسى وعد الله المجيء للميقات، أو يكون الوعد من الله وقبوله كان من موسى، وقبول الوعد يشبه الوعد. قال القفال: ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله بمعنى يعاهده. وقيل: وعد إذا كان عن غير طلب، وواعد إذا كان عن طلب. وقد رجح أبو عبيد
356

قراءة من قرأ: وعدنا بغير ألف، وأنكر قراءة من قرأ: واعدنا بالألف، وافقه على معنى ما قال أبو حاتم ومكي. وقال أبو عبيد: المواعدة لا تكون إلا من البشر، وقال أبو حاتم: أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين، كل واحد منهما يعد صاحبه، وقد مر تخريج واعد على تلك الوجوه السابقة، ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، لأن كلا منهما متواتر، فهما في الصحة على حد سواء. وأكثر القراء على القراءة بألف، وهي قراءة مجاهد، والأعرج، وابن كثير، ونافع، والأعمش، وحمزة، والكسائي. موسى: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. وذكر الشريف أبو البركات محمد بن أسعد بن علي الحواني النسابة: أن موسى على نبينا وعليه السلام هو: موسى بن عمران بن قاهث، وتقدم الكلام في لفظ موسى العلم. وأما موسى الحديدة، التي يحلق بها الشعر، فهي مؤنثة عربية مشتقة من: أسوت الشيء، إذا أصلحته، ووزنها مفعل، وأصلها الهمز، وقيل: اشتقاقها من: أوسيت إذا حلقت، وهذا الاشتقاق أشبه بها، ولا أصل للواو في الهمز على حد. أربعين ليلة: ذو الحجة وعشر من المحرم، أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قاله أبو العالية وأكثر المفسرين، وقرأ علي وعيسى بن عمر: بكسر باء أربعين شاذا اتباعا، ونصب أربعين على المفعول الثاني لواعدنا، على أنها هي الموعودة، أو على حذف مضاف التقديم تمام، أو انقضاء أربعين حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه، قاله الأخفش، فيكون مثل قوله:
* فواعديه سر حتى مالك
*
أو النقا بينهما أسهلا
*
أي إتيان سر حتى مالك، ولا يجوز نصب أربعين على الظرف لأنه ظرف معدود، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أجزائه، والمواعدة لم تقع كذلك. وليلة: منصوب على التمييز الجائي بعد تمام الاسم، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم العدد قبله شبه أربعين بضاربين، ولا يجوز تقديم هذا النوع من التمييز على اسم العدد بإجماع، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا ضرورة، نحو:
* على أنني بعدما قد مضى
*
ثلاثون للهجر حولا كميلا
*
وعشرين منها أصبعا من ورائنا
ولا تعريف للتمييز، خلافا لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة. وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب: ما فعلت العشرون الدرهم، وما جاء نحو: هذا مما يدل على التعريف، وذلك مذكور في علم النحو.
357

وكان تفسير الأربعين بليلة دون يوم، لأن أول الشهر ليلة الهلال، ولهذا أرخ بالليالي، واعتماد العرب على الأهلة، فصارت الأيام تبعا لليالي، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار) *، أو دلالة على مواصلته الصوم ليلا ونهارا، لأنه لو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها. وهذه المواعدة للتكلم، أو لإنزال التوراة. قال المهدوي: وكان ذلك بعد أن جاوز البحر، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فخرج إلى الطور في سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل، وصعد الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوما وعشرة ليال، فقالوا: قد أخلفنا موعده، انتهى كلامه. وقال الزمخشري: لما دخل بنو إسرائيل مصر، بعد هلاك فرعون، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله أن ينزل عليهم التوراة، وضرب له ميقاتا، انتهى.
* (ثم اتخذتم العجل) *: الجمهور على إدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير وحفص من السبعة: بالإظهار، ويحتمل اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد، أي صنعتم عجلا، كما قال: * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار) *، على أحد التأويلين، وعلى هذا التقدير: يكون ثم جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وتقديرها: وعبدتموه إلها، ويحتمل أن تكون مما تعدت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني محذوفا لدلالة المعنى، التقدير: ثم اتخذتم العجل إلها، والأرجح القول الأول، إذ لو كان مما يتعدى في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني، ولو في موضع واحد، ألا ترى أنه لم يعد إلى اثنين بل إلى واحد في هذا الموضع، وفي: * (اتخذ * قوم موسى) *، وفي: * (اتخذوه وكانوا ظالمين) *، وفي: * (إن الذين اتخذوا العجل) *، وفي قوله في هذه السورة أيضا: * (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) *، لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القول الأول حذف جملة من هذه الآيات، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول، وحذف المفرد أسهل من حذف الجملة. فعلى القول الأول فيه ذم الجماعة بفعل الواحد، لأن الذي عمل العجل هو السامري، وسيأتي، إن شاء الله، الكلام فيه وفي اسمه وحكاية إضلاله عند قوله تعالى: * (وأضلهم السامرى) *، وذلك عادة العرب في لاكمها تذم وتمدح القبيلة بما صدر عن بعضها. وعلى القول الثاني فيه ذمهم بما صدر منهم، والألف واللام في العجل على القول الأول لتعريف الماهية، إذ لم يتقدم عهد فيه، وعلى القول الثاني للعهد السابق، إذ كانوا قد صنعوا عجلا ثم اتخذوا ذلك العجل إلها، وكونه عجلا ظاهر في أنه صار لحما ودما، فيكون عجلا حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه حقيقة، قاله الحسن. وقيل: هو مجاز، أي عجلا في الصورة والشكل، لأن السامري صاغه على شكل العجل، وكان فيما ذكروا صائغا، ويكون نسبة الخوار إليه مجازا، قاله الجمهور، وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف، إن شاء الله. ومن أغرب ما ذهب إليه في هذا العجل أنه سمي عجلا لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى، فاتخذوه إلها، قاله أبو العالية، أو سمى هذا عجلا، لقصر مدته.
* (من بعده) *، من: تفيد ابتداء الغاية، ويتعارض مدلولها مع مدلول ثم، لأن ثم تقتضي وقوع الاتخاذ بعد مهلة من المواعدة، ومن تقتضي ابتداء الغاية في التعدية التي تلي المواعدة، إذا الظاهر عود الضمير على موسى، ولا تتصور التعدية في الذات، فلا بد من حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا، أي من بعد مواعدته، فلا بد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين، إلا أن قدر محذوف غير المواعدة، وهو أن يكون التقدير من بعد ذهابه إلى الطور، فيزول التعارض، إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ. ويبين المهلة قصة الأعراف، إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل كثيرة، وابتداء الغاية يكون عقيب الذهاب إلى الطور، فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد، فزال التعارض. وقيل: الضمير في بعده يعود على الذهاب، أي من بعد الذهاب، ودل على ذلك أن المواعدة
358

تقتضي الذهاب، فيكون عائدا على غير مذكور، بل على ما يفهم من سياق الكلام، نحو قوله تعالى: * (حتى توارت بالحجاب) *، * (فأثرن به نقعا) * أي توارت الشمس، إذ يدل عليها قوله: بالعشي، وأي فأثرن بالمكان، إذ يدل عليه * (والعاديات) * * (فالموريات) *، * (فالمغيرات) *، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا في مكان فاقتضته ودلت عليه. وقيل: الضمير يعود على الانجاء، أي من بعد الانجاء، وقيل: على الهدى، أي من بعد الهدى، وكلا هذين القولين ضعيف.
* (وأنتم ظالمون) *: جملة حالية، ومتعلق الظلم. قيل: ظالمون بوضع العبادة في غير موضعها، وقيل: بتعاطي أسباب هلاكها، وقيل: برضاكم فعل السامري في اتخاذه العجل، ولم تنكروا عليه. ويحتمل أن تكون الجملة غير حال، بل إخبار من الله إنهم ظالمون: أي سجيتهم الظلم، وهو وضع الأشياء في غير محلها. وكان المعنى: ثم اتخذتم العجل من بعده وكنتم ظالمين، كقوله تعالى: * (اتخذوه وكانوا ظالمين) *. وأبرز هذه الجملة في صورة ابتداء وخبر، لأنها أبلغ وآكد من الجملة الفعلية ولموافقة الفواصل. وظاهر قوله: ثم اتخذتم العموم، وأنهم كلهم عبدوا العجل إلا هارون، وقيل: الذين عكفوا على عبادته من قوم موسى ثمانية آلاف رجل، وقيل: كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفا، قيل: وهذا هو الصحيح، وقيل: إلا هارون والسبعين رجلا الذين كانوا مع موسى. واتخاذ السامري العجل دون سائر الحيوانات، قيل: لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم وكانت على صور البقر، فقالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فهجس في نفس السامري أن يفتنهم من هذه الجهة، فاتخذ لهم العجل، وقيل: إنه كان من قوم يعبدون البقر، وكان منافقا يظهر الإيمان بموسى، فاتخذ عجلا من جنس ما كان يعبده، وفي اتخاذهم العجل إلها
دليل على أنهم كانوا مجسمة أو حلولية، إذ من اعتقد تنزيه الله عن ذلك واستحالة ذلك عليه بالضرورة، تبين له بأول وهلة فساد دعوى أن العجل إله. وقد نقل المفسرون عن ابن عباس والسدي وغيرهما قصصا كثيرا مختلفا في سبب اتخاذ العجل، وكيفية اتخاذه، وانجر مع ذلك أخبار كثيرة، الله أعلم بصحتها، إذ لم يشهد بصحتها كتاب ولا حديث صحيح، فتركنا نقل ذلك على عادتنا في هذا الكتاب.
* (ثم عفونا عنكم) *: تقدمت معاني عفا، ويحتمل أن يكون عفا عنه من باب المحو والإذهاب، أو من باب الترك، أو من باب السهولة، والعفو والصفح متقاربان في المعنى. وقال قوم: لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب، فإن كان العفو هنا بمعنى الترك أو التسهيل، فيكون عنكم عام اللفظ خاص المعنى، لأن العفو إنما كان عمن بقي منهم، وإن كان بمعنى المحو، كان عاما لفظا ومعنى، فإنه تعالى تاب على من قتل، وعلى من بقي، قال تعالى: * (فاقتلوا أنفسكم ذالكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم) *. وروي أن الله أوحى إلى موسى بعد قتلهم أنفسهم أني قبلت توبتهم فمن قتل فهو شهيد، ومن لم يقتل فقد تبت عليه وغفرت له. وقالت المعتزلة: عفونا عنكم، أي بسبب إتيانكم بالتوبة، وهي قتل بعضهم بعضا: * (من بعد ذالك) * إشارة إلى اتخاذ العجل، وقيل: إلى قتلهم أنفسهم، والأول أظهر. * (لعلكم) *: تقدم الكلام في لعل في قوله: * (لعلكم تتقون) *، لغة ودلالة معنى بالنسبة إلى الله تعالى، فأغنى عن إعادته. * (تشكرون) *: أي تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم، وتظهرن النعمة بالثناء، وقالوا: الشكر باللسان، وهو الحديث بنعمة المنعم، والثناء عليه بذلك وبالقلب، وهو اعتقاد حق المنعم على المنعم عليه، وبالعمل * (اعملوا ءال * داوود * شاكرا) *، وبالله أي شكرا لله بالله لأنه لا يشكره حق شكره إلا هو، وقال بعضهم:
* وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة
*
وبالقلب أخرى ثم بالعمل الأسنى
*
* وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي
*
ولا بلساني بل به شكره عنا
*
ومعنى لعلكم تشكرون: أي عفو الله عنكم، لأن العفو يقتضي الشكر، قاله الجمهور، أو تظهرون نعمة الله عليكم في العفو، أو تعترفون بنعمتي، أو تديمون طاعتي، أو تقرون بعجزكم عن شكري أربعة أقوال: وقال ابن
359

عباس: الشكر طاعة الجوارح. وقال الجنيد: الشكر هو العجز عن الشكر. وقال الشبلي: التواضع تحت رؤية المنة. وقال الفضيل: أن لا تعصي الله. وقال أبو بكر الوراق أن تعرف النعمة من الله. وقال ذو النون: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان. قال القشيري: سرعة العفو عن عظيم الجرم دالة على حقارة المعفو عنه، يشهد لذلك * (من يأت منكن بفاحشة مبينة * يضاعف * لها العذاب ضعفين) *، وهؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال تعالى: * (ثم عفونا عنكم من بعد ذالك) *، وقال لهذه الأمة: * (ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *، انتهى كلامه. وناسب ترجي الشكر إثر ذكر العفو، لأن العفو عن مثل هذه الزلة العظيمة التي هي اتخاذ العجل إلها هو من أعظم، أو أعظم إسداء النعم، فلذلك قال: * (لعلكم تشكرون) *.
* (وإذ ءاتينا موسى الكتاب) *: هو التوراة بإجماع المفسرين. * (والفرقان) *: هو التوراة، ومعناه أنه آتاه جامعا بين كونه كتابا وفرقانا بين الحق والباطل، ويكون من عطف الصفات، لأن الكتاب في الحقيقة معناه: المكتوب، قاله الزجاج، واختاره الزمخشري، وبدأ بذكره ابن عطية قال: كرر المعنى لاختلاف اللفظ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل، ولفظة كتاب لا تعطي ذلك، أو الواو مقحمة، أي زائدة، وهو نعت للكتاب، قال الشاعر:
* إلى الملك القرم وابن الهمام
*
وليث الكتيبة في المزدحم
*
قاله الكسائي، وهو ضعيف، وإنما قوله، وابن الهمام، وليث: من باب عطف الصفات بعضها على بعض. ولذلك شرط، وهو أن تكون الصفات مختلفة المعاني، أو النصر، لأنه فرق بين العدو والولي في الغرق والنجاة، ومنه قيل ليوم بدر: يوم الفرقان، قاله ابن عباس، أو سائر الآيات التي أوتي موسى على نبينا وعلة السلام من العصا واليد وغير ذلك، لأنها فرقت بين الحق والباطل، أو الفرق بين الحق والباطل، قاله أبو العالية ومجاهد، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو البرهان الفارق بين الكفر والإيمان، قاله ابن بحر وابن زيد، أو الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط، ومنه قوله تعالى: * (يجعل لكم فرقانا) *، أي فرجا ومخرجا. وهذا القول راجع لمعنى النصر أو القرآن. والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم) حتى آمن به، حكاه ابن الأنباري، أو القرآن على حذف مفعول، التقدير: ومحمدا الفرقان، وحكي هذا عن الفراء وقطرب وثعلب، وقالوا: هو كقول الشاعر:
وزججن الحواجب والعيونا
التقدير: وكحلن العيون. ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة، لأنه لا دليل على هذا المحذوف، ويصير نظير
360

أطعمت زيدا خبزا ولحما، ويكون: اللحم أطعمته غير زيد، ولأن الأصل في العطف أنه يشارك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم السابق، إذا كان العطف بالحروف المشتركة في ذلك، وليس مثل ما مثلوا به من: وزججن الحواجب والعيون، لما هو مذكور في النحو. وقد جاء: * (ولقد ءاتينا موسى وهارون الفرقان وضياء) *، وذكروا جميع الآيات التي آتاها الله تعالى موسى لأنها فرقت بين الحق والباطل، أو انفراق البحر، قاله يمان وقطرب، وضعف هذا القول بسبق ذكر فرق البحر في قوله: * (وإذ فرقنا) *، وبذكر ترجية الهداية عقيب الفرقان، ولا يليق إلا بالكتاب. وأجيب بأنه، وإن سبق ذكر الانفلاق، فأعيد هنا ونص عليه بأنه آية لموسى مختصة به، وناسب ذكر الهداية بعد فرق البحر لأنه من الدلائل التي يستدل بها على وجود الصانع وصدق موسى على نبينا وعليه السلام، وذلك هو الهداية، أو لأن المراد بالهداية النجاة والفوز، وبفرق البحر حصل لهم ذلك فيكون قد ذكر لهم نعمة الكتاب الذي هو أصل الديانات لهم، ونعمة النجاة من أعدائهم. فهذه اثنتا عشرة مقالة للمفسرين في المراد بالفرقان هنا..
* (لعلكم تهتدون) *: ترجية لهدايتهم، وقد تقدم الكلام في لعل. وفي لفظ ابن عطية في لعل هنا، وفي قوله قيل: * (لعلكم تشكرون) *، أنه توقع، والذي تقرر في النحو أنه إن كان متعلق لعل محبوبا، كانت للترجي، فإن كان محذورا، كانت للتوقع، كقولك: لعل العدو يقدم. والشكر والهداية من المحبوبات، فينبغي أن لا يعبر عن معنى لعل هنا إلا بالترجي. قال القشيري: فرقان هذه الأمة الذي اختصوا به نور في قلوبهم، يفرقون به بين الحق والباطل: استفت قلبك، اتقوا فراسة المؤمن. المؤمن ينظر بنور الله * (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) *، وذلك الفرقان ما قدموه من الإحسان، انتهى كلامه. وناسب ترجي الهداية إثر ذكر إتيان موسى الكتاب والفرقان، لأن الكتاب به تحصل الهداية * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) *، * (ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى) *، * (وقفينا علىءاثارهم بعيسى ابن) *. وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر الامتنان على بني إسرائيل فصولا منها: فرق البحر بهم على الوجه الذي ذكر من كونه صار اثني عشر مسلكا على عدد الأسباط وبين كل سبط حاجز يمنعهم من الازدحام دون أن يلحقهم في ذلك استيحاش، لأنه صار في كل حاجز كوى بحيث ينظر بعضهم إلى بعض على ما نقل، وهو من أعظم الآيات الدالة على صدق موسى على نبينا وعليه السلام، وهذا الفرق هو النعمة الثالثة، لأن الأولى هي التفضيل، والثانية هي الإنجاء من آل فرعون، والثالثة هي هذا الفرق وما ترتب عليه من إنجائهم من الغرق وإغراق أعدائهم وهم بنظرون بحيث لا يشكون في هلاكهم. ثم استطرد بعد ذلك إلى ذكر النعمة الرابعة، وهي العفو عن الذنب العظيم الذي ارتكبوه من عبادة العجل، فذكر سبب ذلك، وأنه اتفق ذلك لغيبة موسى عنهم لمناجاة ربه، وأنهم على قصر مدة غيبته انخدعوا بما فعله السامري هذا، ولم يطل عليهم الأمد، وخليفة موسى فيهم أخوه هارون ينهاهم فلا ينتهون، ومع هذه الزلة العظيمة عفا عنهم وتاب عليهم، فأي نعمة أعظم من هذه؟ ثم ذكر النعمة الخامسة، وهي ثمرة الوعد، وهو إتيان موسى التوراة التي بها هدايتهم، وفيها مصالح دنياهم وآخرتهم. وجاء ترتيب هذه النعم متناسقا يأخذ بعضه بعنق بعض، وهو ترتيب زماني، وهو أحد الترتيبات الخمس التي مر ذكرها في هذا الكتاب، لأن التفضيل أمر حكمي، فهو أول ثم وقعت النعم بعده، وهي أفعال يتلو بعضها بعضا. فأولها الإنجاء من سوء العذاب، ذبح الأبناء واستحياء النساء بإخراج موسى
361

إياهم من مصر، بحيث لم يكن لفرعون ولا لقومه عليهم تسليط بعد هذا الخروج، والإنجاء، ثم فرق البحر بهم وإرائهم عيانا هذا الخارق العظيم، ثم وعد الله لموسى بمناجاته وذهابه إلى ذلك، ثم اتخاذهم العجل، ثم العفو عنهم، ثم إيتاء موسى التوراة. فانظر إلى حسن هذه الفصول التي انتظمت انتظام الدر في أسلاكها، والزهر في أفلاكها، كل فصل منها قد ختم بمناسبة، وارتقى في ذروة الفصاحة إلى أعلى مناصبه، واردا من الله على لسان محمد أمينه لسان من لم يتل من قبل كتابا ولا خطه بيمينه.
2 (* (وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذالكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم * وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون * وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *)) 2
* (وإذ قال موسى لقومه ياقوم * قوم * إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذالكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم * وإذ قلتم ياموسى * موسى * لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون * وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *..
القوم: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرؤ، وقياسه أن لا يجمع، وشذ جمعه، قالوا: أقوام، وجمع جمعه قالوا: أقاويم فقيل يختص بالرجال. قال تعالى: * (لا يسخر قوم من قوم) *، ولذلك قابله بقوله: * (ولا نساء من نساء) *. وقال زهير:
أقوم آل حصن أم نساء
وقال آخر:
* قومي هم قتلوا أميم أخي
*
فإذا رميت يصيبني سهمي
*
وقال آخر:
* لا يبعدن قومي الذين هم
*
سم العداة وآفة الجزر
*
وقيل: لا يختص بالرجال بل ينطلق على الرجال والنساء: * (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه * فيها بغير حساب * وياقوم ما لى) *. كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، قال هذا القائل: أما إذا قامت قرينة على التخصيص فيبطل العموم ويكون المراد ذلك الشيء المخصص. والقول الأول أصوب، ويكون اندراج النساء في القوم على سبيل الاستتباع وتغليب الرجال، والمجاز خير من الاشتراك. وسمي الرجال قوما لأنهم يقومون بالأمور. البارىء: الخالق، برأ يبرأ: خلق، وفي الجمع بين الخالق والبارىء في قوله: * (هو الله الخالق البارىء المصور) *، ما يدل على التباين، إلا أن حمل على التوكيد. وقد فرق بعض الناس بينهما، فقال: البارىء هو المبدع المحدث، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال. وقال
362

بعض العلماء: برأ وأنشأ وأبدع نظائر. قال المهدوي وغيره: واللفظ له، وأصله من تبرى الشيء من الشيء، وهو انفصاله منه، فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود، انتهى. وقال أمية الخالق البارىء المصور في الأرحام ماء حتى يصير دما. القتل: إزهاق الروح بفعل أحد، من طعن أو ضرب أو ذبح أو خنق أو ما شابه ذلك، وأما إذا كان من غير فعل فهو موت هلاك، والمقتل: المذلل، وقال امرؤ القيس:
بسهميك في أعشار قلب مقتل
شرحوه: بالمذلل.
خير: هي أفعل التفضيل، حذفت همزتها شذوذا في الكلام فنقص بناؤها فانصرفت، كما حذفوها شذوذا في الشعر من أحب للتي للتفضيل، وقال الأحوص:
* وزادني كلفا بالحب أن منعت
*
وحب شيء إلى الإنسان ما منعا
*
وقد نطقوا بالهمزة في الشعر، قال الشاعر:
بلال خير الناس وابن الأخير
وتأتي خير أيضا لا، بمعنى التفضيل، تقول: في زيد خير، تريد بذلك خصلة جميلة، ومخففا من خير: رجل خير، أي فيه خير، ويمكن أن يكون من ذلك: فيهن خيرات حسان. حتى: حرف معناه الكثير، فيه الغاية، وتكون للتعليل، وإبدال حائها عينا لغة هذيل، وسمع فيها الإمالة قليلا، وأحكامها مستوفاة في النحو. الرؤية الأبصار، والماضي رأى، عينه همزة تحذف في مضارعه، والأمر منه وبناء أفعل، والأمر منه، واسم الفاعل، واسم المفعول، تقول: يرى وترى ونرى وأرى زيدا، وأريت زيدا، وزيدا، ومر زيدا، ومرى. وتثبت في الرؤية والرأي والرؤيا والمرأى والمرئي والمرأة واسترأى وأرأى من كذا، وفي ما أرأه وأرئه في التعجب. وهذا الحذف الذي ذكرناه هو إذا كان مدلول رأي ما ذكرناه من الإبصار في يقظة أو نوم أو الاعتقاد، فإن كانت رأى بمعنى أصاب رئته، فلا تحذف الهمزة، بل تقول: رآه يرآه: أي أصاب رئته، نقله صاحب كتاب الأمر. ولغة تميم إثبات الهمزة فيما حذف منه غيرهم، فيقولون: يرأى وأرئي؟ وقال بعض العرب: فجمع بين حذف الهمزة والإثبات:
* ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر
*
ومن يتمل العيش يرأى ويسمع
*
الجهرة: العلانية، ومنه الجهر: ضد السر، وفتح عين هذا النحو مسموع عند البصريين، مقيس عند الكوفيين، وقد تقدم شيء من ذلك. ويقال: جهر الرجل الأمر: كشفه، وجهرت الركبة: أخرجت ما فيها من الحمأة وأظهرت الماء، قال:
* إذا وردنا آجنا جهرنا
*
أو حاليا من أهله عمرنا
*
والجهوري: العالي الصوت، وصوت جهير: عال، ووجه جهير: ظاهر الوضاءة، والأجهر: الأعمى، سمي على الضد.
363

البعث: الإحياء، وأصله الإثارة، قال الشاعر:
* أنيخها ما بدا لي ثم أبعثها
*
كأنها كاسر في الجو فتخاء
*
وقال آخر:
* وفتيان صدق قد بعثت بسحرة
*
فقاموا جميعا بين عان ونشوان
*
وقيل: أصله الإرسال، ومنه: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا) *، وتأتي بمعنى الإفاقة من الغشي أو النوم، * (وكذالك بعثناهم ليتساءلوا بينهم) *، والقدر المشترك بين هذه المعاني هو إزالة ما يمنع عن التصرف. ظلل: فعل، وهو مشتق من الظل، والظل أصله المنفعة، والسحابة ظلة لما يحصل تحتها من الظل، ومنه قيل: السلطان ظل الله في الأرض، قال الشاعر:
* فلو كنت مولى الظل أو في ظلاله
*
ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلم
*
الغمام: اسم جنس بينه وبين مفرده هاء التأنيث، تقول: غمامة وغمام، نحو حمامة وحمام، وهو السحاب. وقيل: ما ابيض من السحاب، وقال مجاهد: هو أبرد من السحاب وأرق، وسمي غماما لأنه يغم وجه السماء: أي يستره، ومنه: الغم والغمم والأغم والغمة والغمى والغماء، وغم الهلال: ستر، والنبت الغميم: هو الذي يستر ما يسامته من وجه الأرض. المن: مصدر مننت، أي قطعت، والمن: الإحسان، والمن: صمغة تنزل على الشجر حلوة، وفي المراد به في الآية أقوال ستأتي، إن شاء الله تعالى. السلوى: اسم جنس، واحدها سلواة، قاله الخليل، والألف فيها للإلحاق لا للتأنيث نحو: علقى وعلقاة، إذ لو كانت للتأنيث لما أنث بالهاء، قال الشاعر:
* وإني لتعروني لذكراك سلوة
*
كما انتفض السلواة من بلل القطر
*
وقال الكسائي: السلوى واحدة، وجمعها سلاوي. وقال الأخفش: جمعه وواحده بلفظ واحد. وقيل: جمع لا واحد له من لفظه. وقال مؤرخ السدوسي: السلوى هو العسل بلغة كنانة، قال الشاعر:
* وقاسمها بالله جهدا لأنتم
*
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
*
وقال غيره: هو طائر. قال ابن عطية: وقد غلط الهذلي في قوله:
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
فظن السلوى العسل. وعن هذا جوابان يبينان أن هذا ليس غلطا: أحدهما: ما نقلناه عن مؤرج من كونه العسل بلغة كنانة، والثاني: أنه تجوز في قوله: نشورها لأجل القافية، فعبر عن الأكل بالشور، على سبيل المجاز، قالوا: واشتقاق السلوى من السلوة، لأنه لطيبه يسلي عن غيره. الطيب: فيعل من طاب يطيب، وهو اللذيذ،
وتقدم الكلام في اختصاص هذا الوزن بالمعتل، إلا ما شذ، وفي تخفيف هذا النوع وبالمخفف منه سميت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم) طيبة.
* (وإذ قال موسى لقومه ياقوم * قوم * إنكم ظلمتم أنفسكم) *: عد صاحب المنتخب هذا إنعاما خامسا، وقيل: هذه الآية وما بعدها منقطعة مما تقدم من التذكير
364

بالنعم، وذلك لأنه أمر بالقتل، والقتل لا يكون نعمة، وضعف بأن من أعظم النعم التنبيه على ما به يتخلصون من عقاب الذنب العظيم، وذلك هو التوبة. وإذا كان قد عدد عليهم النعم الدنيوية، فلأن يعدد عليهم النعم الدينية أولى. ولما لم يكمل وصف هذه النعمة إلا بمقدمة ما تسببت عنه، قدم ذكر ذلك، وهذا الخطاب هو محاورة موسى لقومه حين رجع من الميقات ووجدهم قد عبدوا العجل. واللام في قوله: لقومه، للتبليغ، وإقبال موسى عليه بالنداء، ونداؤه بلفظ يا قوم، مشعر بالتحنن عليهم، وأنه منهم، وهم منه، ولذلك أضافهم إلى نفسه، كما يقول الرجل: يا أخي، ويا صديقي، فيكون ذلك سببا لقبول ما يلقى إليه، بخلاف أن لو ناداه باسمه، أو بالوصف القبيح الصادر منه. وفي ذلك أيضا هزلهم لقبولهم الأمر بالتوبة، بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم، وأي ظلم أعظم من اتخاذ إله غيره * (إن الشرك لظلم عظيم) *. ونص على أنهم ظلموا أنفسهم بذلك لأنه أفحش الظلم، لأن نفس الإنسان أحب شيء إليه، فإذا ظلمها، كان ذلك أفحش من أن يظلم غيره. ويا قوم: منادى مضاف إلى ياء المتكلم، وقد حذفت واجتزى بالكسرة عنها، وهذه اللغة أكثر ما في القرآن. وقد جاء إثباتها كقراءة من قرأ: يا عبادي فاتقون، بإثبات الياء ساكنة، ويجوز فتحها، فتقول: يا غلامي، وفتح ما قبلها وقلب الياء ألفا، فتقول: يا غلاما. وأجاز الأخفش حذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها، فتقول: يا غلام، وأجاز ضمه وهو على نية الإضافة فتقول: يا غلام، تريد: يا غلامي. وعلى ذلك قراءة من قرأ: قل * (رب احكم بالحق) *، * (قال رب السجن أحب إلى) *، هكذا أطلقوا، وفصل بعضهم بين أن يكون فعلا أو اسما، إن كان فعلا فلا يجوز بناؤه على الضم، ومثل الفعل بمثل: يا ضاربي، فلا يجيز في هذا يا ضارب، وظاهر الخطاب اختصاصه بمتخذي العجل. وقيل: يجوز أن يراد به: من عبد ومن لم يعبد جعلوا ظالمين، لكونهم لم يمنعوهم ولم يقاتلوهم. والباء في * (باتخاذكم العجل) * سببية، واحتمال الوجهين السابقين في قوله: * (ثم اتخذتم العجل) * جاء هنا، أي بعملكم العجل وعبادته، أو * (باتخاذكم العجل * إلاها) *. قال السلمي: عجل كل واحد نفسه، فمن أسقط مراده وخالف هواه فقد برئ من ظلمه.
* (فتوبوا إلى بارئكم) * الفاء في فتوبوا معها التسبيب، لأن الظلم سبب للتوبة، ولما كان السامري قد عمل لهم من حليهم عجلا، قيل لهم: توبوا إلى بارئكم، أي منشئكم وموجدكم من العدم، إذ موجد الأعيان هو الموجد حقيقة. وأما عمل العجل واتخاذه فليس فيه إبراز الذواب من العدم، إنما ذلك تأليف تركيبي لا خلق أعيان، فنبهوا بلفظ الباري على الصانع، أي الذي أوجدكم هو المستحق للعبادة، لا الذي صنعه، مصنوع مثله، فلذلك، والله أعلم، كان ذكر الباري هنا. وقرأ الجمهور: بظهور حركة الإعراب في بارئكم، وروي عن أبي عمرو: الاختلاس، روي ذلك عنه سيبويه، وروى عنه: الإسكان، وذلك إجراء للمنفصل من كلمتين مجرى المتصل من كلمة، فإنه يجوز تسكين مثل إبل، فأجرى المكسوران في بارئكم مجرى إبل، ومنع المبرد التسكين في حركة الإعراب، وزعم أن قراءة أبي عمرو لحن، وما ذهب إليه ليس بشيء، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). ولغة العرب توافقه على ذلك، فإنكار المبرد لذلك منكر، وقال الشاعر:
* فاليوم أشرب غير مستحقب
*
إثما من الله ولا واغل
*
365

وقال آخر:
* رحت وفي رجليك ما فيهما
*
وقد بداهنك من المئزر
*
وقال آخر:
أو نهر تيرى فما تعرفكم العرب
وقد خلط المفسرون هنا في الرد على أبي العباس، فأنشدوا ما يدل على التسكين مما ليست حركته حركة إعراب. قال الفارسي: أما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها، ومما يدل على صحة قراءة أبي عمر وما حكاه أبو زيد من قوله تعالى: * (ورسلنا لديهم يكتبون) *. وقراءة مسلمة ابن محارب: * (وبعولتهن أحق بردهن في ذالك) *. وذكر أبو عمرو: أن لغة تميم تسكين المرفوع من يعلمه ونحو، ومثل تسكين بارئكم، قراءة حمزة، * (ومكر السيىء) *. وقرأ الزهري: باريكم، بكسر الياء من غير همز، وروي ذلك عن نافع. ولهذه القراءة تخريجان أحدهما: أن الأصل الهمزة، وأنه من برأ، فخففت الهمزة بالإبدال المحض على غير قياس، إذ قياس هذا التخفيف جعلها بين بين. والثاني: أن يكون الأصل باريكم، بالياء من غير همز، ويكون مأخوذا من قولهم: بريت القلم، إذا أصلحته، أو من البري: وهو التراب، ثم حرك حرف العلة، وإن كان قياسه تقديرا لحركة في مثل هذا رفعا وجرا، وقال الشاعر:
ويوما توافينا الهوى غير ماضي
وقال آخر:
ولم تختضب سمر العوالي بالدم
وقال آخر:
خبيث الثرى كأبي الأزيد
وهذا كله تعليل شذوذ. وقد ذكر الزمخشري في اختصاص ذكر البارىء هنا كلاما حسنا هذا نصه. فإن قلت: من أين اختص هذا الموضع بذكر البارىء؟ قلت: البارىء هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت، * (ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت) *، ومتميزا بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم
366

الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته على الأشكال المختلفة، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة والبلادة. في أمثال العرب: أبلد من ثور، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغبطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها، انتهى كلامه.
* (فاقتلوا أنفسكم) *: ظاهر هذا أنه القتل المعروف من إزهاق الروح. فظاهره أنهم يباشرون قتل أنفسهم. والأمر بالقتل من موسى على نبينا وعليه السلام لا يكون إلا بوحي من الله تعالى، إما بكونه كانت التوراة في شريعته متقررة بقتل النفس، وإما بكونه أمر ذلك بأمر متجدد عقوبة لهؤلاء الذين عبدوا العجل، والمأمور بقتل أنفسهم عباد العجل، أو من عبد ومن لم يعبد. والمعنى: اقتلوا الذين عبدوا العجل من أهلكم، كقوله: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) *، أي من أهلكم وجلدتكم، أو الجميع مأمورون بقتل أنفسهم، ثلاثة أقوال. وقال ابن إسحاق: أمروا بأن يستسلموا للقتل، وسمي الاستسلام للتقل قتلا على سبيل المجاز. وقيل: معنى فاقتلوا أنفسكم: ذللوا أهواءكم. وقد قدمنا أن التقتيل بمعنى التذليل، ومنه أيضا قول حسان:
* إن التي عاطيتني فرددتها
*
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
*
فتلخص في قوله: * (فاقتلوا) *، ثلاثة أقوال: الأول: الأمر بقتل أنفسهم. الثاني: الاستسلام للقتل. والثالث: التذليل للأهواء. والأول هو الظاهر، وهو الذي نقله أكثر الناس. وظاهر الكلام أنهم هم المأمورون بقتل أنفسهم، فقيل: وقع القتل هكذا قتلوا أنفسهم بأيديهم. وقيل: قتل بعضهم بعضا من غير تعيين قاتل ولا مقتول. وقيل: القاتلون هم الذين اعتزلوا مع هارون، والمقتولون عباد العجل. وقيل: القاتلون هم الذين كانوا مع موسى في المناجاة بطور سيناء، والمقتولون من عداهم. وإذا قلنا: إن بعضهم قتل بعضا، فاختلفوا في كيفية القتل، فقيل: اصطفوا صفين، فاجتلدوا بالسيوف والخناجر، فقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم: كفوا، فكان ذلك شهادة للمقتول، وتوبة للقاتل، وقيل: أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك. وقيل: وقف عباد العجل صفا، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقيل: احتبى عباد العجل في أفنية دورهم، أو في موضع غيره، وخرج عليهم يوشع بن نون وهم محتبون فقال: ملعون من حل حبوته، أو مد طرفه إلى قاتله، أو اتقاه بيد أو رجل، فيقولون: آمين. فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم سبعون ألفا. وفي رواية، قال لهم: من حل حبوته لم تقبل توبته، ولم يذكر اللعنة. وقيل: إن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه، فلم يمكنهم المضي لأمر الله، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم، وقيل لهم: أصبروا، فلعن الله من مد طرفه، أو حل حبوته، أو اتقى بيد أو رجل، فيقولون: آمين، فقتلوهم إلى المساء، حتى دعا موسى وهارون، قالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية، فكشفت السحابة ونزلت التوبة، فسقطت الشفار من أيديهم، وكانت القتلى سبعين ألفا. انتهى ما نقلناه من بعض ما أورده المفسرون في كيفية القتل وفي القاتلين والمقتولين. وفي ذلك من الاتعاظ والاعتبار ما يوجب مبادرة الازدجار عن مخالفة الملك القهار. وانظر إلى لطف الله بهذه الملة المحمدية، إذ جعل توبتها في الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم على عدم المعاودة إليه.
والفاء في قوله: * (فاقتلوا أنفسكم) *، إن قلنا: إن التوبة هي نفس القتل، وأن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، فتكون هذه الجملة بدلا من قوله، فتوبوا، والفاء كهي في فتوبوا معها السببية. وإن قلنا: إن القتل هو تمام توبتهم، فتكون الفاء للتعقيب، والمعنى فأتبعوا التوبة القتل، تتمة لتوبتكم. وقد أنكر في المنتخب كون القتل يكون
367

توبة وجعل القتل شرطا في التوبة، فأطلق عليه مجازا، كما يقال للغاصب إذا قصد التوبة: توبتك رد ما غصبت، يعني أنه لا تتم توبتك إلا به، فكذلك هنا. وتعدية التوبة بإلى معناه الانتهاء بها إلى الله، فتكون بريئة من الرياء في التوبة، لأنهم إن راءوا بها لم تكن إلى الله. ولا يلتفت إلى ما وقع في المنتخب من أن المفسرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، إذ قد نقلنا أن منهم من قال ذلك، فليس بإجماع. وأما منع عبد الجبار ذلك من جهة العقل، بأن القتل هو نقض البنية التي عنده، يجب أن يخرج من أن يكون حيا، وما عدا ذلك إنما يسمى قتيلا على سبيل المجاز، قال: وهذا لا يجوز أن يأمر الله به، لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح
لذلك المكلف، ولا يكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة، وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه، وهذا بخلاف ما يفعله الله من الإماتة، لأن ذلك من فعل الله تعالى، فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحا لمكلف آخر، وبخلاف أن يأمر الله بأن يجرح نفسه أو يقطع عضوا من أعضائه، ولا يحصل الموت عقيبه، لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حيا لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحا في الأفعال المستقبلة. انتهى كلامه، وهو مبني على قاعدتهم في الاعتزال من مراعاة المصلحة. والكلام معهم في ذلك مذكور في أصول الدين، مع أنه يمكن أن يقال هنا بالمصلحة، لأن الأمر بالقتل ليس إلا من باب الزواجر والروادع، وليس من شرط ذلك اعتبار حال المكلف، بل يصنع الزواجر لازدجار غيره. وإذا فعل مثل هذا الفعل العظيم الذي هو القتل بمن عبد العجل، اتعظ به غيره وانكف عن الوقوع فيما لا يكون التوبة منه إلا بالقتل.
وقرأ قتادة فيما نقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهم: فأقيلوا أنفسكم وقال الثعلبي: قرأ قتادة: فاقتلوا أنفسكم. فأما فأقيلوا، فهو أمر من الإقالة، وكأن المعنى: أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه من عبادة العجل، وقد هلكت فأقيلوها بالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات. وأما فاقتالوا أنفسكم، فقالوا: هو افتعل بمعنى استفعل، أي فاستقيلوها، والمشهور استقال لا اقتال. قال ابن جني: يضعف أن يكون عينها واوا كاقتادوا، ويحتمل طأن تكون ياء كأقياس، والتصريف يضعف أن يكون من الاستقالة، كما قال ابن جني، فهذه اللفظة لا شك مسموعة بدليل نقل قتادة لها ويكون مما جاءت فيه افتعل بمعنى استفعل، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، وذلك نحو: اعتصم واستعصم. قال السلمي: فتوبوا إلى بارئكم. ارجعوا إليه بأسراركم وقلوبكم، فاقتلوا أنفسكم بالتبري منها، فإنها لا تصلح لبساط الأنس. وقال الواسطي: كانت توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم، ولهذه إلامة أشد، وهو إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم الهياكل. وقال فارس: التوبة محو البشرية بمباينات الإلهية. وقيل: توبوا إليه من أفعالكم وأقوالكم وطاعاتكم، واقتلوا أنفسكم في طاعاته، وقتل النفس عما دون الله وعن الله بالفراغ من طلب الجزاء حتى ترجع إلى أصل العدم، ويبقى الحق كما لم يزل. وقال بعض أهل اللطائف: التوبة بقتل النفس غير منسوخة، لأن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهرا، وهذه إلامة قتل أنفسهم في أنفسهم، وأول قدم في القصد إلى الله الخروج عن النفس توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق، ولا كما توهموا، فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة، وأما أهل الخصوص ففي كل لحظة قتل، قال الشاعر:
* ليس من مات فاستراح بميت
*
إنما الميت ميت الأحياء
*
368

* (ذالكم) *: إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: فاقتلوا، لأنه أقرب مذكور، أي القتل: * (خير لكم) * وقال بعضهم: هو إشارة إلى المصدرين المفهومين من قوله: فتوبوا واقتلوا، فأوقع المفرد موقع التثنية، أي فالتوبة والقتل خير لكم، فيكون مثل قولهم في قوله تعالى: * (عوان بين ذالك) * أي بين ذينك أي الفارض والبكر، وكذلك قوله:
* إن للخير وللشر مدى
*
وكلا ذلك وجه وقبل
*
أي: وكلا ذينك، وهذا ينبني على ما قدمناه من أن قوله: فاقتلوا، هل هو تفسير للتوبة؟ فتكون التوبة هي القتل. فينبغي أن يكون ذلكم مفردا أشير به إلى مفرد، وهو القتل، أو يكون القتل مغايرا للتوبة، فيتحتمل هذا الذي قاله هذه القائل، ولكن الأرجح خير، إن كانت للتفضيل فقيل: المعنى خير من العصيان والأصرار على الذنب. وقيل: خير من ثمرة العصيان، وهو الهلاك الذي لهم، إذ الهلاك المتناهي خبر من الهلاك غير المتناهي، إذ الموت لا بد منه، فليس فيه إلا التقديم والتأخير. وكلا هذين التوجيهين ليس التفضيل على بابه، إذ العصيان والهلاك غير المتناهي لا خير فيه، فيوصف غيره بأنه أزيد في الخيرية عليه، ولكن يكون على حد قولهم: العسل أحلى من الخل. ويحتمل أن لا يكون للتفضيل بل أريد به خير من الخيور. لكم: متعلق بخير إن كان للتفضيل، وإن كانت على أنها خير من الخيور فيتعلق بمحذوف، أي خبر كائن لكم. والتخريجان يجريان في نصب قوله: * (عند بارئكم) *. والعندية هنا مجاز، إذ هي ظرف مكان وتجوز به عن معنى حصول ثوابهم من الله تعالى. وكرر البارىء باللفظ الظاهر توكيدا، ولأنها جملة مستقلة فناسب الإظهار، وللتنبيه على أن هذا الفعل هو راجح عند الذي أنشأكم، فكما رأى أن إنشاءكم راجح، رأى أن إعدامكم بهذا الطريق من القتل راجح، فينبغي التسليم له في كل حال، وتلقي ما يرد من قبله بالقبول والامتثال.
* (فتاب عليكم) *: ظاهره أنه إخبار من الله تعالى بالتوبة عليهم، ولا بد من تقدير محذوف عطفت عليه هذه الجملة، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم. وتكون هاتان الجملتان مندرجتين تحت الإضافة إلى الظرف الذي هو: إذ في قوله: * (وإذ قالت * موسى لقومه) *. وأجاز الزمخشري أن يكون مندرجا تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوفة، هي وحرف الشرط، وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز، وذلك أن الجواب يجوز حذفه كثيرا للدليل عليه. وأما فعل الشرط وحده دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفيا بلا في الكلام الفصيح، نحو قوله:
* فطلقها فلست لها بكفؤ
*
وإن لا يعل مفرقك الحسام
*
369

التقدير: وأن لا تطلقها يعل، فإن كان غير منفي بلا، فلا يجوز ذلك إلا في ضرورة، نحو قوله:
* سقته الرواعد من صيف وإن
*
من خريف فلن يعدما
*
التقدير: وإن سقته من خريف فلن يعدم الري، وذلك على أحد التخريجين في البيت، وكذلك حذف فعل الشرط وفعل الجواب دون أن يجوز في الضرورة، نحو قوله:
* قالت بنات العم يا سلمى وإن
*
كان عييا معدما قالت وإن
*
التقدير: وإن كان عييا معدما أتزوجه. وأما حذف فعل الشرط وأداة الشرط معا، وإبقاء الجواب، فلا يجوز إذا لم يثبت ذلك من كلام العرب. وأما جزم الفعل بعد الأمر والنهي وأخواتهما فله. ولتعليل ما ذكرنا من الأحكام مكان آخر يذكر في علم النحو. وظاهر قوله: * (فتاب عليكم) * أنه كما قلنا: إخبار عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك. وقال ابن عطية: معناه على الباقين، وجعل الله القتل لمن قتل شهادة، وتاب على الباقين وعفا عنهم، انتهى كلامه. * (إنه هو التواب الرحيم) *: تقدم الكلام على هذه الجملة عند قوله تعالى في قصة آدم: * (فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) *، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
* (وإذ قلتم ياموسى * موسى) *: هذه محاورة بني إسرائيل لموسى، وذلك بعد محاورته لهم في الآية قبل هذا. والضمير في قلتم قيل للسبعين المختارين، قاله ابن مسعود وقتادة، وذكر في اختيار السبعين كيفية ستأتي، إن شاء الله تعالى، في مكانها في الأعراف. وقيل: الضمير لسائر بني إسرائيل إلا من عصمة الله، قاله ابن زيد. وقيل: الذين انفردوا مع هارون ولم يعبدوا العجل. وقال بعض من جمع في التفسير: تظافرت أقوال أئمة التفسير على أن الذين أصابتهم الصاعقة هم السبعون رجلا الذين اختارهم موسى ومضى بهم لميقات ربه ومناجاته، وما ذكر لا يمكن مع ذكر الاختلاف في قوله: * (وإذ قلتم) *، لأن الظاهر أن القائل ذلك هم الذين أخذتهم الصاعقة، إلا إن كان ذلك من تلوين الخطاب، وهو هنا بعيد. وفي نداء بني إسرائيل لنبيهم باسمه سوء أدب منهم معه، إذ لم يقولوا: يا نبي الله، أو يا رسول الله، أو يا كليم الله، أو غير ذلك من الألفاظ التي تشعر بصفات التعظيم، وهي كانت عادتهم معه: يا موسى لن نصبر على طعام واحد، يا موسى اجعل لنا إلها، يا موسى ادع لنا ربك. وقد قال الله لهذه الأمة لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا..
* (لن نؤمن لك) *: قيل معناه: لن نصدقك فيما جئت به من التوراة، ولم يريدوا نفي الإيمان به بدليل قولهم لك، ولم يقولوا بك نحو: * (وما أنت بمؤمن لنا) *، أي بمصدق. وقيل معنا: لن نقر لك، فعبر عن الإقرار بالإيمان وعداه باللام، وقد جاء * (لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى) *، قالوا: أقررنا، فيكون المعنى: لن نقر لك بأن التوراة من عند الله. وقيل: يجوز أن تكون اللام للعلة، أي لن نؤمن لأجل قولك بالتوراة.
370

وقيل: يجوز أن يراد نفي الكمال، أي لا يكمل إيماننا لك، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم): (لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله والناس أجمعين).
* (حتى نرى الله جهرة) * حتى: هنا حرف غاية، أخبروا بنفي إيمانهم مستصحبا إلى هذه الغاية ومفهومها أنهم إذا رأوا الله جهرة آمنوا، والرؤية هنا: هي البصرية، وهي التي لا حجاب دونها ولا ساتر، وانتصاب جهرة على أنه مصدر مؤكد مزيل لاحتمال الرؤية أن تكون مناما أو علما بالقلب. والمعنى حتى نرى الله عيانا، وهو مصدر من قولك: جهر بالقراءة وبالدعاء، أي أعلن بها فأريد بها نوع من الرؤية، فانتصابها على حد قولهم: قعد القرفصاء، وفي: نصب هذا النوع خلاف مذكور في النحو. والأصح أن يكون منصوبا بالفعل السابق يعدي إلى النوع، كما تعدى إلى لفظ المصدر الملاقي مع الفعل في الاشتقاق، وقيل انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال على تقدير الحذف، أي ذوي جهرة، أو على معنى جاهرين بالرؤية لا على طريق المبالغة نحو: رجل صوم، لأن المبالغة لا تراد هنا. فعلى القول الأول تكون الجهرة من صفات الرؤية، وعلى هذا القول تكون من صفات الرائين، وثم قول ثالث، وهو أن يكون راجعا لمعنى القول، أو القائلين، فيكون المعنى: وإذ قلتم كذا قولا جهرة أو جاهرين بذلك القول، لم يسروه ولم يتكاتموا به، بل صرحوا به وجهروا بأنهم أخبروا بانتفاء الإيمان مغيا بالرؤية. والقول بأن الجهرة راجع لمعنى القول مروي عن ابن عباس وأبي عبيدة، والظاهر تعلقه بالرؤية لا بالقول، وهو الذي يقتضيه التركيب الفصيح.
وقرأ ابن عباس وسهل بن شعيب وحميد بن قيس: جهرة، بفتح الهاء، وتحتمل هذه القراءة وجهين: أحدهما: أن يكون جهرة مصدرا كالغلبة، فتكون معناها ومعنى
جهرة المسكنة الهاء سواء، ويجري فيها من الإعراب الوجوه التي سبقت في جهرة. والثاني: أن يكون جمعا لجاهر، كما تقول: فاسق وفسقة، فيكون انتصابه على الحال، أي جاهرين بالرؤية. قال الزمخشري: وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه السلام رادهم، وعرفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال، وأن من استجاز على الله الرؤية، فقد جعله من جملة الإقسام أو الإعراض، فرادوه بعد بيان الحجة ووضوح البرهان، ولجوا فكانوا في الكفر كعبدة العجل، فسلط الله عليهم الصاعقة، كما سلط على أولئك القتل، تسوية بين الكافرين، ودلالة على عظمها بعظم المحنة. اه. كلامه. وهو مصرح باستحالة رؤية الله تعال بالأبصار. وهذه المسألة فيها خلاف بين المسلمين.
ذهبت القدرية والمعتزلة والنجارية والجهمية ومن شاركهم من الخوارج إلى استحالة ذلك في حق الباري سبحانه وتعالى، وذهب أكثر المسلمين إلى إثبات الرؤية. فقال الكرامية: يرى في جهة فوق وله تحت، ويرى جسما، وقالت المشبهة: يرى على صورة، وقال أهل السنة: لا مقابلا، ولا محاذيا، ولا متمكنا، ولا متحيزا، ولا متلونا، ولا على صورة ولا هيئة، ولا على اجتماع وجسمية، بل يراه المؤمنون، يعلمون أنه بخلاف المخلوقات كما علموه كذلك قبل. وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة الثابتة في رؤية الله تعالى، فوجب المصير إليها. وهذه المسألة من أصعب مسائل أصول الدين، وقد رأيت لأبي جعفر الطوسي من فضلاء الإمامية فيها مجلدة كبيرة، وليس في الآية ما يدل على ما ذهب إليه الزمخشري من استحالة الرؤية، لكن عادته تحميل الألفاظ ما لا تدل عليه، خصوصا ما يجر إلى مذهبه الاعتزالي، نعوذ بالله من العصبية فيما لا ينبغي. وكذلك اختلفوا في رؤية الحق نفسه، فذهب أكثر المعتزلة إلى أنه لا يرى نفسه، وذهبت
371

طائفة منهم إلى أنه يرى نفسه، وذهب الكعبي إلى أنه لا يرى نفسه ولا غيره، وهذا مذهب النجار، وكل ذلك مذكور في علم أصول الدين.
* (فأخذتكم الصاعقة) *: أي استولت عليكم وأحاطت بكم. وأصل الأخذ: القبض باليد. والصاعقة هنا: هل هي نار من السماء أحرقتهم، أو الموت، أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا، أو الفزع فدام حتى ماتوا، أو غشي عليهم، أو العذاب الذي يموتون منه، جو صيحة سماوية؟ أقوال، أصحها: أنها سبب الموت، لا الموت، وإن كانوا قد اختلفوا في السبب، قاله المحققون لقوله تعالى: * (فلما أخذتهم الرجفة) *. وأجمع المفسرون على أن المدة من الموت أو الصعق كانت يوما وليلة. وقيل: أصاب موسى ما أصابها، وقيل صعق ولم يمت، قالوا: وهو الصحيح، لأنه جاء، فلما أفاق في حق موسى وجاء، ثم بعثناكم في حقهم، وأكثر استعماله البعث في القرآن بعث الأموات. وقيل: غشي عليهم كهو ولم يموتوا، والصعق يطلق على غير الموت، وقال جرير:
* وهل كان الفرزدق غير قرد
*
أصابته الصواعق فاستدارا
*
والظاهر أن سبب أخذ الصاعقة إياهم قولهم: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) *، إذ لم يقولوا ذلك ويسألوا الرؤية إلا على سبيل التعنت، وقيل: سبب أخذ الصعقة إياهم هو غير هذا القول من كفرهم بموسى، أو تكذيبهم إياه لما جاءهم بالتوراة أو عبادة العجل. وقرأ عمرو على الصعقة، واستعظم سؤال الرؤية حيث وقع، لأن رؤيته لا تحصل إلا في الآخرة، فطلبها في الدنيا هو مستنكر، أو لأن حكم الله أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يراه، فكان طلبها طلبا لإزالة التكليف، أو لأنه لما دلت الدلائل على صدق المدعي كان طلب الدلائل الزائدة تعنتا ولأن في منع الرؤية في الدنيا ضربا من المصلحة المهمة للخلق، فلذلك استنكر..
* (وأنتم تنظرون) *: جملة حالية، ومتعلق النظر: أخذ الصعقة إياكم، أي وأنتم تنظرون إلى ما حل بكم منها أو بعضكم إلى بعض كيف يخر ميتا، أو إلى الأحياء، أو تعلمون أنها تأخذكم. فعبر بالنظر عن العلم، أو إلى آثار الصاعقة في أجسامكم بعد أن بعثتم، أو ينظر كل منكم إلى إحياء نفسه، كما وقع في قصة العزير، قالوا: حي عضوا بعد عضو، أو إلى أوائل ما كان ينزل من الصاعقة قبل الموت، أو أنتم يقابل بعضكم بعضا من قول العرب دور آل فلان تتراءى، أي يقابل بعضها بعضا، ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى * (وأنتم تنظرون) * إجابة السؤال في حصول الرؤية لهم، لكان وجها من قولهم: نظرت الرجل، أي انتظرته، كما قال الشاعر:
* فإنكما إن تنظراني ساعة
*
من الدهر تنفعني لدى أم جندب
*
لكن هذا الوجه ليس بمنقول، فلا أجسر على القول به، وإن كان اللفظ يحتمله. وقد عد صاحب المنتخب هذا
372

إنعاما سادسا، وذكر في كونه إنعاما وجوها: منها ما يتعلق بغير بني إسرائيل، ومنها ما يتعلق بهم، والمقصود ذكر ما يتعلق بكون ذلك إنعاما، وهو أن إحياءهم لأن يتوبوا عن التعنت، ولأن يتخلصوا من أليم العقاب ويفوزوا بجزيل الثواب من أعظم النعم، ولا تدل هذه الآية على أن قولهم هذا بعد أن كلف عبدة العجل بالقتل ولا قبله. وقد قيل بكل من القولين، لأن هذه الجمل معطوفة بالواو، والواو لا تدل بوضعها على الترتيب الزماني. قال بعضهم: لما أحلهم الله محل مناجاته، وأسمعهم لذيذ خطابه، اشرأبت نفوسهم للفخر وعلو المنزلة، فعاملهم الله بنقيض ما حصل في أنفسهم بالصعقة التي هي خضوع وتذلل تأديبا لهم وعبرة لغيرهم، * (إن فى ذالك لعبرة لاولى الابصار) *.
* (ثم بعثناكم من بعد موتكم) *: معطوف على قوله: * (فأخذتكم الصاعقة) *، ودل العطف بثم على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زمانا تتصور فيه المهلة والتأخير، هو زمان ما نشأ عن الصاعقة من الموت، أو الغشي على الخلاف الذي مر. والبعث هنا: الإحياء، ذكر أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول: يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله جميعا رجلا بعد رجل، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون. وقيل: معنى البعث الإرسال، أي أرسلناكم. روي أنه لما أحياهم الله سألوا أن يبعثهم أنبياء فبعثهم أنبياء. وقيل: معنى البعث: الإفاقة من الغشية، ويتخرج على قول من قال إنهم صعقوا ولم يموتوا. وقيل: البعث هنا: القيام بسرعة من مصارعهم، ومنه قالوا: * (قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا) *؟ وقيل معنى البعث هنا، التعليم، أي ثم علمناكم من بعد جهلكم، والموت هنا ظاهرة مفارقة الروح الجسد، وهذا هو الحقيقة، وكان إحياؤهم لأجل استيفاء أعمارهم. ومن قال: كان ذلك غشيا وهمودا كان الموت مجازا، قال تعالى: * (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) *، والذي أتاه مقدماته سميت موتا على سبيل المجاز، قال الشاعر:
* وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا
*
قولا يبرئكم إني أنا الموت
*
جعل نفسه الموت لما كان سببا للموت، وكذلك إذا حمل الموت على الجهل كان مجازا، وقد كنى عن العلم بالحياة، وعن الجهل بالموت. قال تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه) *، وقال الشافعي، رحمه الله:
إنما النفس كالزجاجة والعلم سراج وحكمة الله زيت
* فإذا أبصرت فإنك حي
*
وإذا أظلمت فإنك ميت
*
وقال ابن السيد:
* أخو العلم حي خالد بعد موته
*
وأوصاله تحت التراب رميموذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى
يظن من الأحياء وهو عديم
*
ولا يدخل موسى على نبينا وعليه السلام في خطاب ثم * (بعثناكم) *، لأنه خطاب مشافهة للذين قالوا: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) *، ولقوله: * (فلما أفاق) *، ولا يستعمل هذا في الموت. وأخطأ ابن قتيبة في زعمه أن موسى قد مات * (لعلكم تشكرون) *: وفي متعلق الشكر أقوال ينبني أكثرها على المراد بالبعث والموت. فمن زعم أنهما حقيقة قال: المعنى لعلكم تشكرون نعمته بالإحياء بعد الموت، أو على هذه النعمة وسائر نعمه التي أسداها إليهم، ومن جعل ذلك مجازا عن إرسالهم أنبياء، أو إثارتهم من الغشي، أو تعليمهم بعد الجهل، جعل متعلق الشكر أحد هذه المجازات. وقد أبعد من جعل متعلق الشكر إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعه، بعد أن لم يكن شرائع. وقيل: المعنى لعلكم تشكرون نعمة الله بعدما كفرتموها إذا رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت. وقال في المنتخب: إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم. أما أنه كلفهم، فلقوله: * (لعلكم تشكرون) *. ولفظ الشكر
373

يتناول جميع الطاعات لقوله: * (اعملوا ءال * داوود * شاكرا) *، انتهى كلامه. وقال الماوردي: اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته، ومعاينة الأهوال التي تضطره وتلجئه إلى الاعتراف بعد الاقتراف. فقال قوم: سقط عنهم التكليف ليكون تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار. وقال قوم: يبقى تكليفهم لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد، ولا يمنع حكم التكليف بدليل قوله تعالى: * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) *، وذلك حين أبوا أو يقبلوا التوراة، فلما نتق الجبل فوقهم آمنوا وقبلوها، فكان إيمانهم بها إيمان اضطرار، ولم يسقط عنهم التكليف، ومثلهم قوم يونس في إيمانهم. اه كلامه.
* (وظللنا عليكم الغمام) * الغمام: مفعول على إسقاط حرف الجر، أي بالغمام، كما تقول: ظللت على فلان بالرد، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللا. فعلى هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه، يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولهم؟ عدلت زيدا، أي جعلته عدلا، فكذلك هذا معناه: جعلنا الغمام عليكم ظله، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنى أفعل، فيكون التضعيف أصله للتعدية، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى، فكان الأصل: وظللناكم، أي أظللناكم بالغمام، نحو ما ورد في الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله)، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهة مما يمكن تعديته بعلى، فعداه بعلى. وقد تقدم ذكر معاني
فعل، وليس المعنى على ما يقتضيه ظاهر اللفظ، إذ ظاهره يقتضي أن الغمام ظلل علينا، فيكون قد جعل على الغمام شيء يكون ظلة للغمام، وليس كذلك، بل المعنى، والله أعلم، ما ذكره المفسرون. وقد تقدم تفسير الغمام، وقيل: إنه الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر، وهو الذي تأتي فيه ملائكة الرحمن، وهو المشار إليه بقوله: * (في ظلل من الغمام والملائكة) *، وليس بغمام حقيقة، وإنما سمي غماما لكونه يشبه الغمام. وقيل: الذين ظلل عليهم الغمام بعض بني إسرائيل، وكان الله قد أجرى العادة في بني إسرائيل أن من عبد الله ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلته غمامة.
وحكي أن شخصا عبد ثلاثين سنة فلم تظله غمامة، فجاء إلى أصحاب الغمائم فذكر لهم ذلك فقالوا: لعلك أحدثت ذنبا، فقال: لا أعلم شيئا إلا أني رفعت طرفي إلى السماء وأعدته بغير فكر، فقالوا له: ذلك ذنبك، وكانت فيهم جماعة يسمون أصحاب الغمائم، فامتن الله عليهم بكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة الباهرة. والمكان الذي أظلتهم فيه الغمامة كان في التيه بين الشام ومصر لما شكوا حر الشمس، وسيأتي بيان ذلك في قصتهم. وقيل: أرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل، وقعوا فيها حين خرجوا من البحر، فأظلهم الله بالغمام، ووقاهم حر الشمس.
* (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) * المن: اسم جنس لا واحد له من لفظه. وفي المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال: ما يسقط على الشجر أحلى من الشهد وأبيض من الثلج، وهو قول ابن عباس والشعبي، أو صمغة طيبة حلوة، وهو قول مجاهد؛ أو شراب كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجه بالماء، وهو قول الربيع أبن أنس وأبي العالية؛ أو عسل كان ينزل عليهم، وهو قول ابن زيد؛ أو الرقاق المتخذ من الذرة أو من النقي، وهو قول وهب؛ أو الزنجبيل، وهو قول السدي، أو الترنجبين، وعليه أكثر المفسرين؛ أو عسل حامض، قاله عمرو بن عيسى؛ أو جميع ما من الله به عليهم في التيه وجاءهم عفوا من غير تعب، قاله الزجاج، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم): (الكمأة من المن الذي من الله به على بني إسرائيل). وفي رواية: على موسى. وفي السلوى الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال: طائر يشبه السماني، أو هو السماني نفسه، أو طيور حمر بعث الله بها سحابة فمطرت في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه
374

على بعض، قاله أبو العالية ومقاتل؛ أو طير يكون بالهند أكبر من العصفور، قاله عكرمة؛ أو طير سمين مثل الحمام؛ أو العسل بلغة كنانة، وكانت تأتيهم السلوى من جهة السماء، فيختارون منها السمين ويتركون الهزيل؛ وقيل: كانت ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي. وقيل: كانت تنزل على الشجر فينطبخ نصفها وينشوي نصفها. وكان المن ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والسلوى بكرة وعشيا، وقيل: دائما، وقيل: كلما أحبوا.
وقد ذكر المفسرون حكايات في التظليل ونزول المن والسلوى، وتظافرت أقاويلهم أن ذلك كان في فحص التيه، وستأتي قصته في سورة المائدة، إن شاء الله تعالى، وأنهم قالوا: من لنا من حراك الشمس؟ فظلل عليهم الغمام، وقالوا: من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المن والسلوى، وقالوا: من لنا بالماء؟ فأمر الله موسى بضرب الحجر، وهذه دل عليها القرآن. وزيد في تلك الحكايات أنهم قالوا: بم نستصبح؟ فضرب لهم عمود من نور في وسط محلتهم، وقيل: من نار، وقالوا: من لنا باللباس؟ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب، ولا يخلق، ولا يدرن، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان. * (كلوا) *: أمر إباحة وإذن كقوله: * (فاصطادوا) *، * (فانتشروا فى الارض) *، وذلك على قول من قال: إن الأصل في الأشياء الحظر، أو دوموا على الأكل على قول من قال الأصل فيها الإباحة، وههنا قول محذوف، أي وقلنا: كلوا، والقول يحذف كثيرا ويبقى المقول، وذلك لفهم المعنى، ومنه: أكفرتم؟ أي فيقال: أكفرتم؟ وحذف المقول وإبقاء القول قليل، وذلك أيضا لفهم المعنى، قال الشاعر:
* لنحن الألى قلتم فأنى ملئتم
*
برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا
*
التقدير: قلتم نقاتلهم. * (من طيبات) *: من: للتبعيض لأن المن والسلوى بعض الطيبات، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة، ولا يتخرج ذلك إلا على قول الأخفش، وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس، لأن التي للجنس في إثباتها خلاف، ولا بد أن يكون قبلها ما يصلح أن يقدر بعده موصول يكون صفة له. وقول من زعم أنها للبدل، إذ هو معنى مختلف في إثباته، ولم يدع إليه هنا ما يرجح ذلك. والطيبات هنا قيل: الحلال، وقيل: اللذيذ المشتهى. ومن زعم أن هذا على حذف مضاف، وهو كلوا من عوض طيبات ما رزقناكم، فقوله ضعيف، عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة بالمن والسلوى، فكانا بدلا من الطيبات. وقد استنبط بعضهم من قوله: * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) * أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل، بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك، وهو قول. وقيل: يملك بالوضع فقط، وقيل: بالأخذ والتناول، وقيل: لا يملك بحال، بل ينتفع به وهو على ملك المالك. وما في قوله: * (ما رزقناكم) * موصولة، والعائد محذوف، أي ما رزقناكموه، وشروط الحذف فيه موجودة، ولا يبعد أن يجوز مجوز فيها أن تكون مصدرية، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير، ويكون يطلق المصدر على المفعول، والأول أسبق إلى الذهن.
* (وما ظلمونا) * نفي أنهم لم يقع منهم ظلم الله تعالى، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء إمكان وقوعه، لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه البتة. قيل: المعنى وما ظلمونا بقولهم: * (أرنا الله جهرة) *، بل ظلموا أنفسهم بما قابلناهم به من الصاعقة. وقيل: وما ظلمونا بادخارهم المن والسلوى، بل ظلموا أنفسهم بفساد طعامهم وتقليص أرزاقهم. وقيل: وما ظلموانا بإبائهم على موسى أن يدخلوا قرية الجبارين. وقيل: وما ظلمونا باستحبابهم العذاب وقطعهم مادة الرزق
عنهم، بل ظلموا أنفسهم بذلك. وقيل: وما ظلمونا بكفر النعم، بل ظلموا أنفسهم بحلول النقم. وقيل: وما ظلمونا بعبادة العجل، بل ظلموا أنفسهم بقتل بعضهم بعضا.
واتفق ابن عطية والزمخشري على أنه يقدر محذوف
375

قبل هذه الجملة، فقدره ابن عطية، فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر، قال: والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرة لنا، ولكن وضعوه في موضع مضرة لهم حيث لا يجب. وقدره الزمخشري: فظلموا بأن كفروا هذه النعم، وما ظلمونا، قال: فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه، انتهى. ولا يتعين تقدير محذوف، كما زعما، لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها، ومن سؤال رؤية الله على سبيل التعنت، وغير ذلك مما لم يقص هنا. فجاء قوله تعالى: * (وما ظلمونا) * جملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا بذلك نقص ولا ضرر، بل وبال ذلك راجع إلى أنفسهم ومختص بهم، لا يصل إلينا منه شيء.
* (ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *: لكن هنا وقعت أحسن موقع، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب، نحو قوله تعالى: * (وما ظلمناهم ولاكن ظلموا أنفسهم) *، وكذلك العكس، نحو قوله تعالى: * (ألا إنهم هم السفهاء ولاكن لا يعلمون) *، أعني أن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي، لأن الاستدراك الحاصل بها إنما يكون عليه ما قبلها بوجه ما، وذلك أنه لما تقرر أنه قد وقع منهم ظلم، فلما نفى ذلك الظلم أن يصل إلى الله تعالى بقيت النفس متشوفة ومتطلعة إلى ذكر من وقع به الظلم، فاستدرك بأن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعا بهم، وأحسن مواقعها أن تكون بين المتضادين، ويليه أن تقع بين النقيضين، ويليه أن تقع بين الخلافين، وفي هذا الأخير خلاف بين النحويين. أذلك تركيب عربي أم لا؟ وذلك نحو قولك: ما زيد قائم، ولكن هو ضاحك، وقد تكلم على ذلك في علم النحو. واتفقوا على أنها لا تقع بين المتماثلين نحو: ما خرج زيد ولكن لم يخرج عمرو. وطباق الكلام أن يثبت ما بعد لكن على سبيل ما نفي قبلها، نحو قوله: * (وما ظلمناهم ولاكن ظلموا أنفسهم) *، لكن دخلت كانوا هنا مشعرة بأن ذلك من شأنهم ومن طريقتهم، ولأنها أيضا تكون في كثير من المواضع تستعمل حيث يكون المسند لا ينقطع عن المسند إليه، نحو قوله: * (وكان الله بكل شىء عليما) *؛ فكان المعنى: ولكن لم يزالوا ظالمي أنفسهم بكثرة ما يصدر منهم من المخالفات. ويظلمون: صورته صورة المضارع، وهو ماض من حيث المعنى، وهذا من المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي.
ولم يذكره ابن مالك في التسهيل ولا فيما وقفنا عليه من كتبه، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليه هنا وهو قوله: * (أنفسهم) *، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل، وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل، ولأنه من حيث المعنى صار العامل في المفعول توكيدا لما يدل عليه ما قبله. فليس ذكره ضروريا، وبأن التوكيد أن يتأخر عن المؤكد، وذلك أنك تقول: ما ضربت زيدا ولكن ضربت عمرا، فذكر ضربت الثانية أفادت التأكيد، لأن لكن موضوعها أن يكون ما بعدها منافيا لما قبلها، ولذلك يجوز أن تقول: ما ضربت زيدا ولكن عمرا، فلست مضطرا لذكر العامل. فلما كان معنى قوله: * (ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) * في معنى: * (ولاكن ظلموا أنفسهم) *، كان ذكر العامل في المفعول ليس مضطرا إليه، إذ لو قيل: وما ظلمونا ولكن أنفسهم، لكان كلاما عربيا، ويكتفي بدلالة لكن أن ما بعدها مناف لما قبلها، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم المفعول كان تقديمه هنا الأفصح.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر قصص بني إسرائيل فصولا منها: أمر موسى، على نبينا وعليه السلام، إياهم بالتوبة إلى الله من مقارفة هذا الذنب العظيم الذي هو عبادة العجل من دون الله، وأن مثل هذا الذنب العظيم تقبل التوبة منه، والتلطف بهم في ندائهم بيا قوم، وتنبيههم على علة الظلم الذي كان وباله راجعا عليهم، والإعلام بأن توبتهم بقتل أنفسهم، ثم الإخبار بحصول توبة الله عليهم وأن ذلك كان بسابق رحمته، ثم التوبيخ لهم بسؤالهم ما كان لا ينبغي لهم أن يسألوه، وهو رؤية الله عيانا، لأنه كان سؤال تعنت. ثم ذكر ما ترتب على هذا السؤال من أخذ الصاعقة إياهم. ثم الإنعام عليهم بالبعث، وهو من الخوارق العظيمة أن يحيى الإنسان في الدنيا بعد أن مات. ثم
376

إسعافهم بما سألوه، إذ وقعوا في التيه، واحتاجوا إلى ما يزيل ضررهم وحاجتهم من لفح الشمس، وتغذية أجسادهم بما يصلح لها، فظلل عليهم الغمام، وهذا من أعظم الأشياء وأكبر المعجزات حيث يسخر العالم العلوي للعالم السفلي على حسب اقتراحه، فكان على ما قيل: تظلهم بالنهار وتذهب بالليل حتى ينور عليهم القمر. وأنزل عليهم المن والسلوى، وهذا من أشرف المأكول، إذ جمع بين الغذاء والدواء، بما في ذلك من الحلاوة التي في المن والدسم الذي في السلوى، وهما مقمعا الحرارة ومثيرا القوة للبدن. ثم الأمر لهم بتناول ذلك غير مقيد بزمان ولا مكان، بل ذلك أمر مطلق. ثم التنصيص أن ذلك من الطيبات وبحق ما يكون ذلك من الطيبات. ثم ذكر أنه رزق منه لهم لم يتعبوا في تحصيله ولا استخراجه ولا تنميته، بل جاء رزقا مهنأ لا تعب فيه. ثم أرداف هذه الجمل بالجملة الأخيرة، إذ هي مؤكدة لافتتاح هذه الجمل السابقة، لأنه افتتحها بالإخبار بأنهم ظلموا أنفسهم، وختمها بذلك وهو قوله: * (ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *. فجاءت هذه الجمل في غاية الفصاحة لفظا والبلاغة معنى، إذ جمعت الألفاظ المختارة والمعاني الكثيرة متعلقا أوائل أواخرها بأواخر أوائلها، مع لطف الإخبار عن نفسه. فحيث ذكر النعم صرح بأن ذلك من عنده، فقال: ثم بعثناكم، وقال: وظللنا وأنزلنا، وحيث ذكر النقم لم ينسبها إليه تعالى فقال: فأخذتكم الصاعقة. وسر ذلك أنه موضع تعداد للنعم، فناسب نسبة ذلك إليه ليذكرهم آلاءه، ولم ينسب النقم إليه، وإن كانت منه حقيقة، لأن في نسبتها إليه تخويفا عظيما ربما عادل ذلك الفرح بالنعم. والمقصود: انبساط نفوسهم بذكر ما أنعم الله به عليهم، وإن كان الكلام قد انطوى على ترهيب وترغيب، فالترغيب أغلب عليه.
2 (* (وإذ قلنا ادخلوا هاذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السمآء بما كانوا يفسقون * وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا فى الا رض مفسدين * وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها
وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وبآءوا بغضب من الله ذالك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذالك بما عصوا وكانوا يعتدون) *)) 2
* (وإذ قلنا ادخلوا هاذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون * وإذ) *.
الدخول: معروف، وفعلة: دخل يدخل، وهو مما جاء على يفعل بضم العين. وكان القياس فيه أن يفتح، لأن وسطه حرف حلق، كما جاء الكسر في ينزع وقياسه أيضا الفتح. القرية: المدينة، من قريت: أي جمعت. سميت بذلك لأنها مجتمع الناس على طريق المساكنة. وقيل: إن قلواقيل لها قرية، وإن كثروا قيل لها مدينة. وقيل: أقل العدد الذي تسمى به قرية ثلاثة فما فوقها، ومنه، قريت الماء في الحوض، والمقراة: الحوض، ومنه القرى: وهو الضيافة، والقرى
377

المجرى، والقرى: الظهر. ولغة أهل اليمن: القرية، بكسر القاف، ويجمعونها على قرى بكسر القاف نحو: رشوة ورشا. وأما قرية بالفتح فجمت على قرى بضم القاف، وهو جمع على غير قياس. قيل: ولم يسمع من فعله المعتل اللام إلا قرية وقرى، وتروة وترى، وشهوة وشهى. الباب: معروف، وهو المكان الذي يدخل منه، وجمعه أبواب، وهو قياس مطرد، وجاء جمعه على أبوبة في قوله:
هتاك أخبية ولاج أبوبة
لتشاكل أخبية، كما قالوا: لا دريت ولا تليت، وأصله تلوت، فقلبت الواو ياء لتشاكل دريت. سجدا: جمع ساجد، وهو قياس مطرد في فاعل وفاعلة الوصفين الصحيحي اللام. وقولوا: كل أمر من ثلاثي اعتلت عينه فانقلبت ألفا في الماضي، تسقط تلك العين منه إذا أسند لمفرد مذكر نحو: قل وبع، أو لضمير مؤنث نحو: قلن وبعن، فإن اتصل به ضمير الواحدة نحو: قولي، أو ضمير الاثنين نحو: قولا، أو ضمير الذكور نحو: قولوا، ثبتت تلك العين، وعلة الحذف والإثبات مذكورة في النحو. وقد جاء حذفها في الشعر، فجاء قوله: قلى وعشا. حطة: على وزن فعلة من الحط، وهو مصدر كالحط، وقيل: هو هيئة وحال: كالجلسة والقعدة، والحط: الإزالة، حططت عنه الخراج: أزلته عنه. والنزول: حططت. وحكى: بفناء زيد نزلت به، والنقل من علو إلى أسفل، ومنه انحطاط القدر. وقال أحمد بن يحيى، وأبان بن تغلب، الحطة: التوبة. وأنشدوا:
* فاز بالحطة التي جعل الله
*
بها ذنب عبده مغفورا
*
أي فاز بالتوبة، وتفسيرهما الحطة بالتوبة إنما هو تفسير باللازم لا بالمرادف، لأن من حط عنه الذنب فقد تيب عليه. الغفر والغفران: الستر، وفعله غفر يغفر، بفتح الغين في الماضي وكسرها في المضارع. والغفيرة: المغفرة، والغفارة: السحاب وما يلبس به سية القوس، وخرقة تلبس تحت الخمار، ومثله المغفر والجماء، الغفير: أي جماعة يستر بعضهم بعضا من الكثرة. وقوله عمر لمن قال له: لم حصبت المسجد؟ هو أغفر للنخامة، كل هذا راجع لمعنى الستر والتغطية. الخطيئة: فعيلة من الخطا، والخطأ: العدول عن القصد، يقال خطىء الشيء: أصابه بغير قصد، وأخطأ: إذا تعمد، وأما خطايا: فجمع خطية مشددة عند الفراء، كهدية وهدايا، وجمع خطيئة المهموز عند سيبويه والخليل. فعند سيبويه: أصله خطائي، مثل: صحائف، وزنة، فعائل، ثم أعلت الهمزة الثانية بقلبها ياء، ثم فتحت الأولى التي كان أصلها ياء المد في خطيئة فصار: خطأي، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فصار: خطآء، فوقعت همزة بين ألفين، والهمزة شبيهة بالألف فصار: كأنه اجتمع ثلاثة أمثال، فأبدلوا منها ياء فصار خطايا، كهدايا ومطايا. وعند الخليل أصله: خطابي، ثم قلب فصار خطائي على وزن فعالي، المقلوب من فعائل، ثم عمل فيه العمل السابق في قوله سيبويه.
وملخص ذلك: أن الياء في خطايا منقلبة عن الهمزة المبدلة من الياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة زائدة في خطيئة، على رأي سيبويه، والألف بعدها منقلبة عن الياء المبدلة
378

من الهمزة التي هي لام الكلمة، ومنقلبة عن الهمزة التي هي لام الكلمة في الجمع والمفرد، والألف بعدها هي الياء التي كانت ياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة في المفرد، على رأي الخليل. وقد أمعنا الكلام في هذه المسألة في (كتاب التكميل لشرح التسهيل) من تأليفنا. الإحسان والإنعام والإفضال: نظائر، أحسن الرجل: أتى بالحسن، وأحسن الشيء: أتى به حسنا: وأحسن إلى عمر وأسدي إليه خيرا. التبديل: تغيير الشيء بآخر. تقول: هذا بدل هذا: أي عوضه، ويتعدى لاثنين، الثاني أصله حرف جر: بدلت دينارا بدرهم: أي جعلت دينارا عوض الدرهم، وقد يتعدى لثلاثة فتقول: بدلت زيدا دينارا بدرهم: أي حصلت له دينارا عوضا من درهم، وقد يجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى، قال تعالى: * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم) *، أي يجعل لهم حسنات عوض السيئات، وقد وهم كثير من الناس فجعلوا ما دخلت عليه الباء هو الحاصل، والمنصوب هو الذاهب، حتى قالوا: ولو أبدل ضادا بظاء لم تصح صلاته، وصوابه: لو أبدل ظاء بضاد. الرجز: العذاب، وتكسر راؤه وتضم، والضم لغة بني الصعدات، وقد قرىء بهما في بعض المواضع، قال رؤبة:
* كم رامنا من ذي عديد مبزي
*
حتى وقينا كيده بالرجز
*
والرجز، بالضم: اسم صنم مشهور، والرجزاء: ناقة أصاب عجزها داء، فإذا نهضت ارتعشت أفخاذها، قال الشاعر:
* هممت بخير ثم قصرت دونه
*
كما ناءت الرجزاء شد عقالها
*
قيل: الرجز مشتق من الرجازة، وهي صوف تزين به الهوادج، كأنه وسمهم، قال الشاعر:
* ولو ثقفاها ضرجت بدمائها
*
كما ضرجت نضو القرام الرجائز
*
الاستسقاء: طلب السقي، والطلب أحد المعاني التي سبق ذكرها في الاستفعال في قوله: * (وإياك نستعين) *. العصا: مؤنث، والألف منقلبة عن واو، قالوا: عصوان، وعصوته: أي ضربته بالعصا، ويجمع على أفعل شذوذا، قالوا: أعص، أصله أعصوو، على فعول قياسا، قالوا: عصى، أصله عصوو، ويتبع حركة العين حركة الصاد، قال الشاعر:
* ألا إن لا تكن إبل فمعزى
*
كائن قرون جلتها العصى
*
الحجر: هو هذا الجسم الصلب المعروف عند الناس، وجمع على أحجار وحجار، وهما جمعان مقيسان فيه، وقالوا: حجارة بالتاء، واشتقوا منه، قالوا: استحجر الطين، والاشتقاق من الأعيان قليل جدا. الانفجار: انصداع شيء من شيء، ومنه انفجر، والفجور: وهو الانبعاث في المعصية كالماء، وهو مطاوع فعل فجره فانفجر، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها انفعل، وقد تقدم ذكرها. اثنتا: تأنيث اثنين، وكلاهما له إعراب المثنى، وليس بمثنى حقيقة لأنه لا يفرد، فيقال: اثن، ولا اثنة، ولامهما محذوفة، وهي ياء، لأنه من ثنيت. العشرة، بإسكان الشين، لغة الحجاز، وبكسرها لغة تميم،
379

والفتح فيها شاذ غير معروف، وهو أول العقود، واشتقوا منه فقالوا: عشرهم يعشرهم، ومنه العشر والعشر، والعشر: شجر لين، والإعشار: القطع لا واحد لها، ووصل بها المفرد، قالوا: برمة أعشار. العين: لفظ مشترك بين منبع الماء والعضو الباصر، والسحابة تقبل من ناحية القبلة، والمطر يمطر خمسا أو ستا، لا يقلع، ومن له شرف في الناس، والثقب في المزادة والذهب وغير ذلك، وجمع على أعين شاذ، أو عيون قياسا، وقالوا: في الأشراف من الناس: أعيان، وجاء ذلك قليلا في العضو الباصر، قال الشاعر:
أسمل أعيانا لها ومآقيا
أناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإذا سمي به مذكر صرف، وقول الشاعر:
وإلى ابن أم أناس أرحل ناقتي
منع صرفه، إما لأنه علم على مؤنث، وإما ضرورة على مذهب الكوفيين. مشرب: مفعل من الشراب يكون للمصدر والزمان والمكان، ويطرد من كل ثلاثي متصرف مجرد، لم تكسر عين مضارعه سواء صحت لامه: كسرت ودخل، أو أعلت: كرمى وغزا. وشذ من ذلك ألفاظ ذكرها النحويون. العثو، والعثى: أشد الفساد، يقال: عثا يعثو عثوا، وعثى يعثى عثيا، وعثا يعثى عثيا: لغة شاذة، قال الشاعر:
* لولا الحياء وأن رأسي قد عثا
*
فيه المشيب لزرت أم القاسم
*
وثبوت العثى دليل على أن عثى ليس أصلها عثو، كرضي الذي أصله رضو، خلافا لزاعمه. وعاث يعيث عيثا ومعاثا، وعث يعث كذلك، ومنه عثة الصوف: وهي
السوسة التي تلحسه. الطعام: اسم لما يطعم، كالعطاء، اسم لما يعطي، وهو جنس. الواحد: هو الذي لا يتبعض، والذي لا يضم إليه ثان. يقال: وحديحد وحدا وحدة إذا انفرد. الدعاء: التصويت باسم المدعو على سبيل النداء، والفعل منه دعا يدعو دعاء. الإنبات: الهمزة فيه للنقل، وهو: الإخراج لما شأنه النمو. البقل: جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والبهائم، يقال منه بقلت الأرض وأبقلت: أي صارت ذات بقل، ومنه: الباقلاء، قاله ابن دريد. القثاء: اسم جنس واحدة قثاءة، بضم القاف وكسرها، وهو هذا المعروف. وقال الخليل: هو الخيار، ويقال: أرض مقثأة: أي كثيرة القثاء. الفوم، قال الكسائي والفراء والنضر بن شميل أمية بن وغيرهم: هو الثوم،
380

أبدلت الثاء فاء، كما قالوا، في مغفور: مغثور، وفي جدث: جدف، وفي عاثور: عافور. قال الصلت:
* كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة
*
فيها القراديس والفومان والبصل
*
وأنشد مؤرج لحسان:
* وأنتم أناس لئام الأصول
*
طعامكم الفوم والحوقل
*
يعني: الفوم والبصل، وهذا كما أبدلوا بالفاء الثاء، قالوا في الأثافي: الأثاثي، وكلا البدلين لا ينقاس، أعني إبدال الثاء فاء والفاء ثاء. وقال أبو مالك وجماعة: الفوم: الحنطة، ومنه قول أحيحة بن الجلاح:
* قد كنت أحسبني كأغنى واحد
*
قدم المدينة عن زراعة فوم
*
قيل: وهي لغة مصر، وهو اختيار المبرد. وقال الفراء: وهي لغة قديمة. وقال ابن قتيبة والزجاج: هي الحبوب التي تؤكل. وقال أبو عبيدة وابن دريد: هي السنبلة، زاد أبو عبيدة بلغة أسد. وقيل: الحبوب التي تخبز. وقيل: الخبر، تقول العرب: فوموا لنا، أي اخبزوا، واختاره ابن قتيبة قال:
* تلتقم الفالح لم يفوم
*
تقمما زاد على التقمم
*
وقال قطرب: الفوم: كل عقدة في البصل، وكل قطعة عظيمة في اللحم، وكل لقمة كبيرة. وقيل: إنه الحمص، وهي لغة شامية، ويقال لبائعه: فامي، مغير عن فومي للنسب، كما قالوا: شهلي ودهري. العدس: معروف، وعدس وعدس من الأسماء الأعلام، وعدس: زجر للبغل. البصل: معروف. أدنى: أفعل التفضيل من الدنو، وهو القرب، يقال: منه دنا يدنو دنوا. وقال علي بن سليمان الأخفش: هو أفعل من الدناءة، وهي: الخسة والرداءة، خففت الهمزة بإبدالها ألفا. وقال أبو زيد في المهموز: دنؤ الرجل، يدنأ دناءة ودناء، ودنأ يدنأ. وقال غيره: هو أفعل من الدون، أي أحط في المنزلة، وأصله أدون، فاصر وزنه: أفلع، نحو: أولى لك، هو أفعل من الويل، أصله أويل فقلب. المصر: البلد، مشتق من مصرت الشاة، أمصرها مصرا: حلبت كل شيء في ضرعها، وقيل المصر: الحد بين الأرضين، وهجر يكتبون: اشترى الدار بمصورها: أي بحدودها. وقال عدي بن زيد:
* وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به
*
بين النهار وبين الليل قد فصلا
*
السؤال: الطلب، ويقال: سأل يسأل سؤالا، والسؤل: المطلوب، وسأل يسأل: على وزن خاف يخاف، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب. سلهم أيهم بذلك زعيم، قالوا: لأن السؤال سبب إلى العلم فأجرى مجرى العلم. الذلة: مصدر ذل يذل ذلة وذلا، وقيل: الذلة كأنها هيئة من الذل، كالجلسة، والذل: الخضوع
وذهاب الصعوبة. المسكنة: مفعلة من السكون، ومنه سمى المسكين لقلة حركاته وفتور نشاطه، وقد بنى من لفظه فعل، قالوا: تمسكن، كما قالوا: تمدرع من المدرعة، وقد طعن على هذا النقل وقيل: لا يصح وإنما الذي صح تسكن وتدرع. باء بكذا: أي رجع، قاله الكسائي: أو اعترف، قاله أبو عبيدة، واستحق، قاله أبو روق؛ أو نزل وتمكن، قاله المبرد؛ أو تساوى، قاله الزجاج، وأنشدوا لكل قول ما يستدل به أمن كلام العرب، وحذفنا نحن ذلك. النبيء: مهموز من أنبأ، فعيل: بمعنى مفعل، كسميع من أسمع، وجمع على النبآء، ومصدره النبوءة، وتنبأ مسيلمة، كل ذلك دليل على أن اللام همزة. وحكى الزهراوي أنه
381

يقال: نبؤ، إذا ظهر فهو نبىء، وبذلك سمي الطريق الظاهر: نبيئا. فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل من فعل، كشريف من شرف، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز، ثم سهل. وقيل: مشتق من نبا ينبو، إذا ظهر وارتفع، قالوا: والنبي: الطريق الظاهر، قال الشاعر:
* لما وردن نبيا واستتب بنا
*
مسحنفر لخطوط المسح منسحل
*
قال الكسائي: النبي: الطريق، سمي به لأنه يهتدي به، قالوا: وبه سمي الرسول لأنه طريق إلى الله تعالى. العصيان: عدم الانقياد للأمر والنهي والفعل، منه: عصى يعصي، وقد جاء العصى في معنى العصيان. أنشد بن حماد في تعليقه عن أبي الحسن بن الباذش مما أنشده الفراء:
في طاعة الرب وعصى الشيطان
الاعتداء: افتعال من العدو، وقد مر شرحه عند قوله: * (بعضكم لبعض عدو) *.
* (وإذ قلنا ادخلوا هاذه القرية) *. القائل: هو الله تعالى، وهل ذلك على لسان موسى أو يوشع عليهما السلام، قولان: وانتصاب هذه على ظرف المكان، لأنه إشارة إلى ظرف المكان، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر، وعلى ظرف الزمان إذا كن إشارة إليهما تقول: ضربت هذا الضرب، وصمت هذا اليوم. هذا مذهب سيبويه في دخل، إنها تتعدى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة في، فإن كان الظرف مجازيا تعدت بفي، نحو: دخلت في غمار الناس، ودخلت في الأمر المشكل. ومذهب الأخفش والجرمي أن مثل: دخلت البيت، مفعول به لا ظرف مكان، وهي مسألة تذكر في علم النحو. والألف واللام في القرية للحضور، وانتصاب القرية على النعت، أو على عطف البيان، كما مر في إعراب الشجرة من قوله: * (ولا تقربا هاذه الشجرة) *، وإن اختلفت جهتا الإعراب في هذه، فهي في: * (ولا تقربا هاذه) * مفعول به، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه.
والقرية هنا بيت المقدس، في قول الجمهور، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي والربيع وغيرهم. وقيل: أريحا، قاله ابن عباس أيضا، وهي بأرض المقدس. قال أبو زيد عمر بن شبة النمري: كانت قاعدة ومسكن ملوك، وفيها مسجد هو بيت المقدس، وفي المسجد بيت يسمى إيليا. وقال الكواشي: أريحا قرية الجبارين، كانوا من بقايا عاد، يقال لهم: العمالقة ورأسهم: عوج بن عنق، وقيل: الرملة، قاله الضحاك؛ وقيل: أيلة، وقيل: الأردن؛ وقيل: فلسطين؛ وقيل: البلقا؛ وقيل: تدمر، وقيل: مصر؛ وقيل: قرية بقرب بيت المقدس غير معينة أمروا بدخولها؛ وقيل: الشام. روي ذلك عن ابن كيسان، وقد رجح القول الأول لقوله في المائدة: * (ادخلوا الارض المقدسة) *. قيل: ولا خلاف، أن المراد في الآيتين واحد. ورد هذا القول بقوله: فبدل لأن ذلك يقتضي التعقيب في حياة موسى، لكنه مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس. وأجاب من قال إنها بيت المقدس بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن القول كان على لسان موسى، وهذا الجواب وهم، لأنه قد تقدم أن المراد في هذه الآية وفي التي في المائدة من قوله: ادخلوا الأرض المقدسة واحد، والقائل ذلك في آية المائدة قطعا. ألا ترى إلى قوله: * (العالمين ياقوم ادخلوا الارض المقدسة) *، وقولهم: * (قالوا يأبانا * موسى أن * فيها قوما جبارين) *؟ قال وهب: كانوا قد ارتكبوا ذنوبا، فقيل لهم: * (أدخلوا) * الآية. وقال غيره: ملوا المن والسلوى، فقيل لهم: اهبطوا مصرا، وكان أول ما لقوا أريحا. وفي قوله: * (هاذه القرية) * دليل على أنهم قاربوها وعاينوها، لأن هذه إشارة لحاضر قريب. قيل: والذي قال لهم ذلك هو يوشع بن نون، فإنه نقل عنهم أنهم لم يدخلوا البيت المقدس إلا بعد رجوعهم من قتال الجبارين، ولم يكن موسى معهم
382

حين دخلوها، فإنه مات هو وأخوه في التيه. وقيل: لم يدخلا التيه لأنه عذاب، والله لا يعذب أنبياءه.
* (فكلوا منها حيث شئتم رغدا) *: تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في قصة آدم في قوله: * (وكلا منها رغدا حيث شئتما) *، إلا أن هناك العطف بالواو وهنا بالفاء، وهناك تقديم الرغد على الظرف، وهنا تقديم الظرف على الرغد، والمعنى فيهما واحد، إلا أن الواو هناك جاءت بمعنى الفاء، قيل: وهو المعنى الكثير فيها، أعني أنه يكون المتقدم في الزمان والمعطوف بها هو المتأخر في الزمان، وإن كانت قد ترد بالعكس، وهو قليل. وللمعية والزمان، وهو دون الأول، ويدل أنها بمعنى الفاء ما جاء في الأعراف من قوله: * (فكلا) * بالفاء، والقضية واحدة. وأما تقديم الرغد هناك فظاهر، فإنه من صفات الأكل أو الآكل، فناسب أن يكون قريبا من العامل فيه ولا يؤخر عنه، ويفصل بينهما بظرف وإن لم يكن فاصلا مؤثرا المنع لاجتماعهما في المعمولية لعامل واحد، وأما هنا فإنه أخر لمناسبة الفاضلة بعده، ألا ترى أن قوله: * (فكلوا منها حيث شئتم رغدا) * وقوله: * (وادخلوا الباب سجدا) *، فهما سجعتان متناسبتان؟ فلهذا، والله أعلم، كان هذان التركيبان على هذين الوضعين.
* (وادخلوا الباب) *: الخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب القرية، والباب أحد أبواب بيت المقدس، ويدعى الآن: باب حطة، قاله ابن عباس؛ أو الثامن،
من أبواب بيت المقدس، ويدعى باب التوبة، قاله مجاهد والسدي؛ أو باب القرية التي أمروا بدخولها، أو باب القبة التي كان فيها موسى وهارون يتعبدان، أو باب في الجبل الذي كلم الله عليه موسى. * (سجدا) * نصب على الحال من الضمير في ادخلوا، قال ابن عباس: معناه ركعا، وعبر عن الركوع بالسجود، كما يعبر عن السجود بالركوع، قيل: لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء، وبعد هذا القول لأنه لو كان ضيفا لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعا، فلا يحتاج فيه إلى الأمر، وهذا لا يلزم، لأنه كان يمكن أن تكون الحال لازمة بمعنى أنه لا يمكن أن يقع الدخول إلا على هذه الحال، والحال اللازمة موجودة في كلام العرب. وقيل: معناه خضعا متواضعين، واختاره أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل في المنتخب، ونذكر وجه اختياره لذلك. وقيل: معناه السجود المعروف من وضع الجبهة على الأرض، والمعنى: ادخلوا ساجدين شكرا لله تعالى، إذ ردهم إليها. وهذا هو ظاهر اللفظ. قال أبو عبد الله بن أبي الفضل: وهذا بعيد، لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود، فلو حملناه على ظاهره لامتنع ذلك، فلما تعذر على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع، لأنهم إذا أخذوا في التوبة، فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاشعا مستكينا، وما ذهب إليه لا يلزم، لأن أخذ الحال مقارنة، فتعذر ذلك عنده، وليس بمتعذر لأنه لا يبعد أن أمروا بالدخول وهم ساجدون، فيضعون جباههم على الأرض وهم داخلون. وتصدق الحال المقارنة بوضع الجبهة على الأرض إذا دخلوا. وأما إذا جعلنا الحال مقدرة فيصح ذلك، لأن السجود إذ ذاك يكون متراخيا عن الدخول، والحال المقدرة موجودة في لسان العرب. من ذلك ما في كتاب سيبويه مررت برجل معه صقر صائدا به غدا. وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيرا، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة، كان أولى. وقال الزمخشري: أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب، شكرا لله وتواضعا، وما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب، بل أمروا بالدخول في حال السجود. فالسجود ليس مأمورا به، بل هو قيد في وقوع المأمور به، وهو الدخول، والأحوال نسب تقييدية، والأوامر نسب إسنادية، فتناقضتا، إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييديا إسناديا، لأنه من حيث التقييد لا يكتفي كلاما ومن حيث الإسناد يكتفي، فظهر التناقض. وفي كيفية دخولهم الباب أقوال: قال ابن عباس وعكرمة: دخلوا من قبل أستاههم، وقال ابن مسعود: دخلوا مقنعي رؤوسهم، وقال مجاهد: دخلوا على حروف أعينهم، وقال مقاتل: دخلوا مستلقين، وقيل: دخلوا منزحفين على ركبهم عنادا وكبرا، والذي
383

ثبت في البخاري ومسلم أنهم دخلوا الباب يزحفون على أستاههم. فاضمحلت هذه التفاسير، ووجب المصير إلى تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقوله: * (وقولوا حطة) *، حطة: مفر، ومحكي القول لا بد أن يكون جملة، فاحتيج إلى تقدير مصحح للجملة، فقدر مسألتنا حطة هذا تقدير الحسن بن أبي الحسن. وقال الطبري: التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة، وقال غيرهما: التقدير أمرك حطة. وقيل: التقدير أمرنا حطة، أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيه. قال الزمخشري: والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله:
صبر جميل فكلانا مبتلى
والأصل صبرا. انتهى كلامه، وهو حسن. ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة: حطة بالنصب، كما روي:
صبرا جميلا فكلانا مبتلي
بالنصب. والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر:
* إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة
*
معتقة مما تجيء به التجر
*
روي برفع طعم على تقدير: هذا طعم مدامة، وبالنصب على تقدير: ذقت طعم مدامة. قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها يقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد، انتهى. وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات، إنما يدخل على الجمل للحكاية، فيكون في موضع المفعول به، إلا إن كان المفرد مصدرا نحو: قلت قولا، أو صفة لمصدر نحو: قلت حقا، أو معبرا به عن جملة نحو: قلت شعرا وقلت خطبة، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول، فصار كالقهقري من الرجوع، وحطة ليس واحدا من هذه. ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا، كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي، والأصل هو الإسناد المعنوي. وإذا كان من الإسناد اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلا إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ، فلا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع لدلالة على معنى. ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى كلام. أما ما ذهب إليه أبو عبيدة من أن قوله حطة مفرد، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعا من جملة، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة، فبعيد عن الصواب لأنه يبقى حطة مرفوعا بغير رافع، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكى به الجمل لا المفردات، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى: * (يقال له إبراهيم) * إلى تأويل، وأما تشبيهه إياه بقوله:
سمعت الناس ينتجعون غيثا
* وجدنا في كتاب بني تميم
*
أحق الخيل بالركض المعار
*
384

فليس بسديد، لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل، لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفردا وقد يكون جملة. وأما القول فلا يقع إلا على الجمل، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره، وليس حطة منها. واختلفت أقوال المفسرين في حطة، فقال الحسن: معناه حط عنا ذنوبنا، وقال ابن عباس وابن جبير ووهب: أمروا أن يستغفروا، وقال عكرمة: معناها لا إلاه إلا الله، وقال الضحاك: معناه وقولوا هذا الأمر الحق، وقيل: معناه نحن لا نزال تحت حكمك ممتثلون لأمرك، كما يقال قد حططت في فنائك رحلي. وقد تقدمت التقادير في إضمار ذلك المبتدأ قبل حطة وهي أقاويل لأهل التفسير. وقد روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها، قيل: والأقرب خلافه، لأن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها، ولأن الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم والخضوع، حتى لو قالوا: اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، لكان الخضوع حاصلا، لأن المقصود من التوبة أما بالقلب فبالندم وأما باللسان فبذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب، وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها.
* (يغفر) *، نافع: بالياء مضمومة، ابن عامر: بالتاء، أبو بكر من طريق الجعفي: يغفر، الباقون: نغفر. فمن قرأ بالياء مضمومة فلأن الخطايا مؤنث، ومن قرأ بالياء مفتوحة فالضمير عائد على الله تعالى ويكون من باب الالتفات، لأن صدر الآية * (وإذ قلنا) * ثم قال: * (يغفر) *، فانتقل من ضمير متكلم معظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد، ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على القول الدال عليه وقولوا، أي نغفر القول ونسب الغفران إليه مجازا لما كان سببا للغفران، ومن قرأ بالنون، وهي قراءة باقي السبعة، فهو الجاري على نظام ما قبله من قوله: * (وإذ قلنا) *، وما بعده من قوله: * (وسنزيد) *، فالكلام به في أسلوب واحد، ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ * (خطاياكم) *، وأمالها الكسائي. وقرأت طائفة: تغفر بفتح التاء، قيل: كأن الحطة تكون سبب الغفران، يعني قائل هذا وهو ابن عطية، فيكون الضمير للحطة وهذا ليس بجيد، لأن نفس اللفظة بمجردها لا تكون سببا للغفران. وقد بينا ذلك قبل، فالضمير عائد على المقالة المفهومة من: * (وقولوا) *، ونسب الغفران إليها على طريق المجاز، إذ كانت سببا للغفران. وقرأ الجحدري وقتادة: تغفر بضم التاء وإفراد الخطيئة. وروي عن قتادة: يغفر بالياء مضمومة. وقرأ الأعمش: يغفر بالياء مفتوحة وإفراد الخطيئة. وقرأ الحسن: يغفر بالياء مفتوحة والجمع المسلم. وقرأ أبو حياة: تغفر بالتاء مضمومة وبالجمع المسلم. وحكى الأهوازي أنه قرأ: خطأياكم بهمز الألف وسكون الألف الأخيرة. وحكى عنه أيضا العكس. وتوجيه هذا الهمز أنه استثقل النطق بألفين مع أن الحاجز حرف مفتوج والفتحة تنشأ عنها الألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فهمز إحدى الألفين ليزول هذا الاستثقال، وإذ كانوا قد همزوا الألف المفردة بعد فتحه في قوله:
وخندف هامة هذا العألم
فلأن يهمزوا هذا أولى، وهذا توجيه شذوذ. ومن قرأ بضم الياء أو التاء كان: خطاياكم، أو خطياتكم، أو خطيتكم مفعولا لم يسم فاعله، ومن قرأ بفتح التاء أو الياء أو بالنون، كان ذلك مفعولا، وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر. وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى: * (وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم) *، وذكرنا الخلاف في ذلك. وهنا تقدمت أوامر أربعة: * (أدخلوا) *، * (فكلوا) *، * (وادخلوا الباب) *، * (وقولوا حطة) *، والظاهر أنه لا يكون جوابا إلا للآخرين، وعليه المعنى، لأن ترتب الغفران لا يكون على دخول القرية ولا على الأكل منها، وإنما يترتب على دخول الباب لتقييده بالحال التي هي عبادة وهي السجود، وبقوله: * (وقولوا حطة) * لأن فيه السؤال بحط الذنوب، وذلك لقوة المناسبة وللمجاورة. ويدل على ترتب
385

ذلك عليها ما في الأعراف من قوله تعالى: * (وقولوا حطة) *، * (وادخلوا الباب سجدا) *، * (نغفر) *، والقصة واحدة. فرتب الغفران هناك على قولهم حطة، وعلى دخول الباب سجدا، لما تضمنه الدخول من السجود. وفي تخالف هاتين الجملتين في التقديم والتأخير دليل على أن الواو لا ترتب وإنها لمطلق الجمع. وقرأ من الجمهور: بإظهار الراء من نغفر عند اللام، وأدغمها قوم قالوا وهو ضعيف.
* (وسنزيد) *: هنا بالواو، وفي الأعراف * (سنزيد) *، والتي في الأعراف مختصرة. ألا ترى إلى سقوط رغدا؟ والواو من: * (وسنزيد) *، وقوله: * (فأرسلنا عليهم) *، بدل، * (فأنزلنا على الذين ظلموا) *، وإثبات ذلك هنا، وناسب الأسهاب هنا والاختصار هناك. والزيادة ارتفاع عن القدر المعلوم، وضده النقص. * (المحسنين) *، قيل: الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة، وقيل: المحسنين منهم، فقيل: معناه من أحسن منهم بعد ذلك زدناه ثوابا ودرجات، وقيل: معناه من كان محسنا منهم زدنا في إحسانه، ومن كان مسيئا بعد ذلك زدناه ثوابا ودرجات، وقيل: معناه من كان محسنا منهم زدنا في إحسانه، ومن كان مسيئا مخطئا نغفر له خطيئته، وكانوا على هذين الصنفين، فأعلمهم الله أنهم إذا فعلوا ما أمروا به من دخولهم الباب سجدا وقولهم حطة يغفر ويضاعف ثواب محسنهم. وقيل: المحسنون من دخل، كما أمر وقال: لا إلاه إلا الله، فتلخص أن المحسنين إما من غيرهم أو منهم. فمنهم إما من اتصف بالإحسان في الماضي، أي كان محسنا، أو في المستقبل، أي من أحسن منهم بعد، أو في الحال، أي وسنزيدكم بإحسانكم في امتثالكم ما أمرتم به من دخول الباب سجدا والقول حطة. وهذه الجملة معطوفة على: * (وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم) *، وليست معطوفة على نغفر فتكون جوابا، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الإعراف في قوله سنزيد؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيب على دخول الباب سجدا. والقول حطة، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله.
* (فبدل الذين ظلموا) *: ظاهره انقسامهم إلى ظالمين وغير ظالمين، وأن الظالمين هم الذين بدلوا، فإن كان كلهم بدلوا، كان ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر
إشعارا بالعلة، وكأنه قيل: فبدلوا، لكنه أظهره تنبيها على علة التبديل، وهو الظلم، أي لولا ظلمهم ما بدلوا، والمبدل به محذوف تقديره: فبدل الذين ظلموا بقولهم حطة. * (قولا غير الذي قيل لهم) *: ولما كان محذوفا ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر بعدها. والذي قيل لهم هو أن يقولوا حطة، فلو لم يحذف لكان وجه الكلام فبدل الذين ظلموا بقولهم حطة قولا غيره، لكنه لما حذف أظهر مضافا إليه غير ليدل، على أن المحذوف هو هذا المظهر، وهو الذي قيل لهم. وهذا التقدير الذي قدرناه هو على وضع بدل إذ المجرور هو الزائل، والمنصوب هو الحاصل. واختلف المفسرون في القول الذي قالوه بدل أن يقولوا: حطة، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد ووهب وابن زيد: حنطة، وقال السدي عن أشياخه: حنطة حمراء، وقيل: حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة سوداء، وقال أبو صالح: سنبلة، وقال السدي ومجاهد أيضا: هطا شمهاثا، وقيل: حطى شمعاثا، ومعناها في هذين القولين: حنطة حمراء، وقيل: حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة. وقيل: حبة في شعيرة، وقال ابن مسعود: حنطة حمراء فيها شعير، وقيل: حنطة في شعير، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم). وقيل: حبة حنطة مقلوة في شعرة، وقيل: تكلموا بكلام النبطية على جهة الاستهزاء والاستخفاف. وقيل: إنهم غيروا ما شرع لهم ولم يعملوا بما أنزل الله عليهم.
والذي ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) فسر ذلك بأنهم قالوا: حبة في شعرة، فوجب المصير إلى هذا القول واطراح تلك الأقوال، ولو صح شيء من الأقوال السابقة لحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين، فيكون بعضهم قال: كذا،
386

وبعضهم قال: كذا، فلا يكون فيها تضاد. ومعنى الآية: أنهم وضعوا مكان ما أمروا به من التوبة والاستغفار قولا مغايرا له مشعرا باستهزائهم بما أمروا به، والإعراض عما يكون عنه غفران خطيآتهم. كل ذلك عدم مبالاة بأوامر الله، فاستحقوا بذلك النكال.
* (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا) *: كرر الظاهر السابق زيادة في تقبيح حالهم وإشعارا بعلية نزول الرجز. وقد أضمر ذلك في الأعراف فقال: * (فأرسلنا عليهم) *، لأن المضمر هو المظهر. وقرأ ابن محيصن: رجزا بضم الراء، وقد تقدم أنها بالغة في الرجز. واختلفوا في الرجز هنا، فقال أبو العالية: هو غضب الله تعالى، وقال ابن زيد: طاعون أهلك منهم في ساعة سبعين ألفا، وقال وهب: طاعون عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك، وقال ابن جبير: ثلج هلك به منهم سبعون ألفا، وقال ابن عباس: ظلمة وموت مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا وهلك سبعون ألفا عقوبة. والذي يدل عليه القرآن أنه أنزل عليهم عذاب ولم يبين نوعه، إذ لا كبير فائدة في تعليق النوع. * (من السماء) *: إن فسر الرجز بالثلج كان كونه من السماء ظاهرا، وإن فسر بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء عليهم، أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء. * (بما كانوا) *، ما: مصدرية التقدير بكونهم. * (يفسقون) *. وأجاز بعضهم أن تكون بمعى الذي، وهو بعيد. وقرأ النخعي وابن وثاب وغيرهما بكسر السين، وهي لغة. قال أبو مسلم: هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله: * (على الذين ظلموا) *. وفائدة التكرار التأكيد، لأن الوصف دال على العلية، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم، وأن إنزال الرجز سببه الظلم أيضا. وقال غير أبي مسلم: ليس مكرر الوجهين: أحدهما: أن الظلم قد يكون من الصغائر، * (ربنا ظلمنا) *، ومن الكبائر: * (إن الشرك لظلم عظيم) * والفسق لا يكون إلا من الكبائر. فلما وصفهم بالظلم أولا وصفهم بالفسق الذي هو لا بد أن يكون من الكبائر. والثاني: أنه يحتمل أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ونزول الرجز عليهم من السماء، لا بسبب ذلك التبديل بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل، وعلى هذا يزول التكرار. انتهى..
وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى: * (فبدل الذين ظلموا) *، وترتيب العذاب على هذا التبديل على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر. وقال قوم: يجوز ذلك إذا كانت الكلمة تسد مسدها، وعلى هذا جرى الخلاف في قراءة القرآن بالمعنى، وفي تكبيرة الإحرام، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك، وفي نقل الحديث بالمعنى. وذكروا أن في الآية سؤالات: الأول: قوله هنا، * (وإذا قلنا) *، وفي الأعراف: * (وإذ قيل) *. وأجيب بأنه صرح بالفاعل في البقرة لإزالة الإبهام، وحذف في الأعراف للعلم به في سورة البقرة. الثاني: قال هنا: ادخلوا، وهناك اسكنوا. وأجيب بأن الدخول مقدم على السكنى، فذكر الدخول في السورة المتقدمة. والسكنى في المتأخرة. الثالث: هنا خطاياكم، وهناك: خطيئتاكم. وأجيب بأن الخطايا جمع كثرة، فناسب حيث قرن به ما يليق بجوده، وهو غفران الكثير. والخطيئات جمع قلة لما لم يضف ذلك إلى نفسه. الرابع: ذكر هنا: رغدا وهناك: حذف. وأجيب بالجواب قبل. الخامس: هنا قدم دخول الباب على القول، وهناك عكس. وأجيب بأن الواو للجمع والمخاطبون بهذا مذنبون.
387

فاشتغاله بحط الذنب مقدم على اشتغاله بالعبادة، فكلفوا بقول حطة أولا، ثم بالدخول وغير مذنبين. فاشتغاله أولا بالعبادة ثم بذكر التوبة ثانيا على سبيل هضم النفس وإزالة العجب، فلما احتمل الانقسام ذكر حكم كل واحد منهما في سورة بأيهما بدأ. السادس: إثبات الواو في وسنزيد هنا، وحذفها هناك. وأجيب بأنه لما تقدم أمران كإن المجيء بالواو مؤذنا بأن مجموع الغفران والزيادة جزاء واحد لمجموع الأمرين، وحيث تركت أفاد توزع كل واحد على كل واحد من الأمرين، فالغفران في مقابلة القول، والزيادة في مقابلة ادخلوا. السابع: لم يذكر ههنا منهم وذكر هناك. وأجيب بأن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص بلفظ من قال: * (ومن قوم موسى أمة) *، فذكر لفظ من آخرا اليطابق آخره أوله، وهنا لم تبن القصة على التخصيص. الثامن: هنا فأنزلنا، وهناك: فأرسلنا. وأجيب بأن الإنزال مفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية، وهذا إنما يحدث بالآخر. التاسع: هنا: يفسقون، وهناك: يظلمون. وأجيب بأنه لما بين هنا كون ذلك الظلم فسقا اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان هنا. قال بعض الناس: بنو إسرائيل خالفوا الله في قول وفعل، وأخبر تعالى بالمجازاة على المخالفة بالقول دون الفعل، وهو امتناعهم عن الدخول بصفة السجود. وأجاب بأن الفعل لا يجب إلا بأمر، والأمر قول فحصل بالمجازاة عن القول المجازاة بالأمرين جميعا، والجزاء هنا إن كان قد وقع على هذه المخالفة الخاصة، فيفسقون يحتمل الحال، وإن كان قد وقع على ما مى من المخالفات التي فسقوا بها، فهو مضارع وقع
موضع الماضي، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام.
* (وإذا * استسقى موسى لقومه) *: هذا هو الإنعام التاسع، وهو جامع لنعم الدنيا والدين. أما في الدنيا فلأنه أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء، ولولا هو لهلكوا في التيه، وهذا أبلغ من الماء المعتاد في الأنعام لأنهم في مفازة منقطعة. وأما في الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه، وعلى صدق موسى عليه السلام، والاستسقاء طلب الماء عند عدمه وقلته. وقيل: مفعول استسقى محذوف، أي استسقى موسى ربه، فيكون المستسقى منه هو المحذوف، وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في قوله: * (إذ استسقاه قومه) *، أي طلبوا منه السقيا. وقال بعض الناس: وحذف المفعول تقديره استسقى ماء، فعلى هذا القول يكون المحذوف هو المستسقى، ويكون الفعل قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قوله:
* (هاد أفمن يتقى بوجهه) *. ويحتاج إثبات تعديه إلى اثنين إلى شاهد من كلام العرب، كان يسمع من كلامهم: استسقى زيد وبه الماء، وقد ثبت تعديه مرة إلى المستسقي منه ومرة إلى المستسقى، فيحتاج تعديه إليهما إلى ثبت من لسان العرب. وذكر الله هذه النعمة من الاستسقاء غير مقيدة بمكان. وقد اختلف في ذلك، فقال أبو مسلم: كان ذلك على عادة الناس إذا قحطوا، وما فعله الله تعالى من تفجير الماء من الحجر فوق الإجابة بالسقياء وإنزال الغيث. وقال أكثر المفسرين: كان هذا الاستسقاء في التيه حين قالوا: من لنا بكذا، إلى أن قالوا: من لنا بالماء، فأمرالله موسى بضرب الحجر. وقيل ذلك عند
388

خروجهم من البحر الذي انفلق، وقعوا في أرض بيضاء ليس فيها ظل ولا ماء، فسألوا أن يستسقى لهم، واللام قي لقومه لام السبب، أي لأجل قومه وثم محذوف يتم به معنى الكلام، أي لقومه إذ عطشوا، أو ما كان بهذا المعنى ومحذوف آخر: أي فأجبناه. * (فقلنا اضرب بعصاك) * قالوا: وهذه العصا هي المسؤول عنها في قوله: * (وما تلك بيمينك ياموسى * موسى) *، وكانت فيها خصائص تذكر في موضعها. قيل: كانت نبعة، وقيل: عليقي، وهو شجر له شوك، وقيل: من آس الجنة طولها عشرة أذرع، طول موسى عليه السلام، لها شعبتان يتقدان في الظلمة، وكان آدم حملها معه من الجنة إلى الأرض، فتوارثها أصاغر عن أكابر حتى وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وذلك أنه لما استرعاه قال له: اذهب فخذ عصا، فذهب إلى البيت، فطارت هذه إلى يده، فأمره بردها، فأخذ غيرها، فطارت إلى يده، فتركها له. وقيل: دفعها إليه ملك من الملائكة في طريق مدين.
* (الحجر) *: قال الحسن: لم يكن حجرا معينا بل أي حجر ضرب انفجر منه الماء، وهذا أبلغ في الإعجاز، حيث ينفجر الماء من أي حجر ضرب. وروي أنهم قالوا: لو فقد موسى عصاه متنا عطشا، فأوحى الله إليه: لا تقرع الحجارة، وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون، فكانت تطيعه فلم يعتبروا. وقال وهب: كان يقرع لهم أقرب حجر فينفجر، فعلى هذا تكون الألف واللام في الحجر للجنس. وقيل: إن الألف واللام للعهد، وهو حجر معين حمله معه من الطور مربع له أربعة أوجه، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم، وكانوا ستمائة ألف خارجا عن دوابهم، وسعة العسكر اثنا عشر ميلا. وقيل: حجر أهبطه معه آدم من الجنة، فتوارثوه حتى وقع لشعيب، فدفعه إلى موسى مع العصا. وقيل: هو الحجر الذي وضع موسى عليه ثوبه حين اغتسل، إذ رموه بالأدرة، ففز، قال له جبريل عليه السلام: بأمر الله أرفع هذا الحجر، فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاة، قاله ابن عباس. وقيل: حجر أخذه من قعر البحر خفيف مربع مثل رأس الرجل، له أربعة أوجه، ينبع من كل وجه ثلاث أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إليه، وكان يضعه في مخلاته، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه. وقيل: كان رخاما فيه اثنتا عشرة حفرة، تتبع من كل حفرة عين ماء عذب يأخذونه، فإذا فرغوا ضربه موسى بعصاه فذهب الماء. وقيل: حجر أخذه من جبل زبيد، طوله أربعة أذرع، قاله الضحاك. وقيل: حجر مثل رأس الشاة، يلقونه في جانب الجوالق إذا ارتحلوا، فيه من كل ناحية ثلاث عيون بعد أن يستمسك ماؤها بعد رحلتهم، فإذا نزلوا فقرعه موسى بعصاه فعادت العيون بحسبها، قاله ابن زيد. وقيل حجر يحمله في مخلاته، أخذه، إذ قالوا: كيف بنا إذا أفضنا إلى أرض ليست فيها حجارة؟ فحيثما نزلوا ألقاه فينفجر ماء. وقيل: حجر من الكذان فيه اثنتا عشرة عينا، يسقي كل يوم ستمائة ألف، قاله أبو روق، وقيل: حجر ذراع في ذراع، قاله السدي. وقيل: حجر مثل رأس الثور. وقيل: حجر كان ينفجر لهم منه الماء، لم يكونوا يحملونه، بل كانوا أي مكان نزلوا وجدوه فيه، وذلك أعظم في الإعجاز وأبلغ في الخارق، وقال مقاتل والكلبي: كانوا إذا قضوا حاجتهم من الماء اندرست تلك العيون، فإذا احتاجوا إلى الماء انفجرت.
فهذه أقوال المفسرين في الحجر، وظاهرها أو ظاهر أكثرها التعارض. قال بعض من جمع في تفسير القرآن: الأليق أنه الحجر الذي فر بثوب موسى عليه السلام، فإن الله أودع فيه حركة التنقل والسعي، أووكل به ملكا يحمله ولا يستنكر ذلك. فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (إني لأعرف حجرا كان يسلم علي). وقد رام هذا الرجل الجمع بين هذه الأقوال بأن يكون الحجر غير معين، بل أي حجر وجده ضربه، فوجد مرة مربعا، ومرة كذانا، ومرة رخاما، وكذا فيها. قال: فروى الراوي صفة ذلك الحجر الذي ضربه في تلك المنزلة قال: فيزول التغاير في الكيفيات، ويحصل التوفيق بين الروايات. وهذا الكلاك ما ترى. وظاهر القرآن: أن الحجر ليس بمعين، إذ لم يتقدم ذكر حجر فيكون هذا معهودا، وأن الاستسقاء لم يتكرر، لا هو ولا الضرب ولا الانفجار، وأن هذه الكيفيات التي ذكروها لم يتعرض لها لفظ القرآن
389

فيحتمل أن يكون ذلك متكررا، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة، والواحدة هي المتحققة.
* (فانفجرت) *: الفاء للعطف على جملة محذوفة، التقدير: فضرب فأنفجرت، كقوله تعالى: * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * أي فضرب فانفلق. ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار مرتبا على ضربه، إذ لو كان يتفجر دون ضرب، لما كان للأمر فائدة، ولكان تركه عصيانا، وهو لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وما ذهب إليه بعض الناس من أن الفاء في مثل: فانفلق، هي الفاء التي في ضرب، وأن المحذوف هو المعطوف عليه، وحرف العطف من المعطوف
حتى يكون المحذوف قد بقي عليه دليل، إذ قد أبقيت فاؤه وحذفت فاء فانفلق، واتصلت بانفلق فاء فضرب تكلف وتخرص على العرب بغير دليل. وقد ثبت في لسان العرب حذف المعطوف عليه، وفيه الفاء حيث لا معطوف بالفاء موجود، قال تعالى: * (فأرسلون * يوسف أيها الصديق) *، التقدير: فأرسلوه فقال: فحذف المعطوف عليه والمعطوف، وإذا جاز حذفهما معا، فلأن يجوز حذف كل منهما وحده أولى. وزعم الزمخشري أن الفاء ليست للعطف، بل هي جواب شرط محذوف، قال: فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في قوله: * (فتاب عليكم) *، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ، اه كلامه.
وقد تقدم لنا الرد على الزمخشري في هذا التقدير في قوله: * (فتاب عليكم) *، بأن إضمار مثل هذا الشرط لا يجوز، وبينا ذلك هناك، وفي قوله أيضا إضمار قد إذ يقدر، فقد تاب عليكم، وقد انفجرت، ولا يكاد يحفظ من لسانهم ذلك، إنما تكون بغير فاء، أو إن دخلت الفاء فلا بد من إظهار قد، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضيا لفظا ومعنى، نحو قوله: * (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) *، وإذا كان ماضيا لفظا ومعنى، استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط، فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب شرط. ومعلوم أن الانفجار على ما قدر يكون مترتبا على أن يضرب، وإذا كان مترتبا على مستقبل، وجب أن يكون مستقبلا، وإذا كان مستقبلا امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها أن لا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضيا نحو الآية، ونحو قولهم: إن تحسن إلي فقد أحسنت إليك، ويحتاج إلى تأويل، كما ذكرنا. وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال، وإن كان بلفظ الماضي نحو: إن زرتني فغفر الله لك. وأيضا فالذي يفهم من الآية أن الانفجار قد وقع وتحقق، ولذلك قال: * (قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا) *، وجعله جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه هذا الرجل يجعله غير واقع، إذ يصير مستقبلا لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل، والمعلق على تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلا عن وجوده، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي، وفاسد من حيث المعنى، فوجب طرحه، وأين هذا من قوله: وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ؟ وجاء هنا: انفجرت وفي الأعراف: * (* انبجست) *، فقيل: هما سواء، انفجر وانبجس وانشق مترادفات. وقيل: بينهما فرق، وهو أن الانبجاس هو أول خروج الماء، والانفجار اتساعه وكثرته. وقيل: الانبجاس خروجه من الصلب، والانفجار خروجه من اللين. وقيل: الانبجاس هو الرشح، والانفجار هو السيلان، وظاهر القرآن استعمالهما بمعنى واحد، لأن الآيتين قصة واحدة.
* (الكتاب منه) * متعلق بقوله: فانفجرت، ومن هنا لابتداء. الغاية والضمير عائد على الحجر المضروب، فانفجار الماء كان من الحجر لا من المكان، كما قال تعالى: * (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار) *، ولو كان هذا التركيب في غير كلام الله تعالى لأمكن أن يعود الضمير على الضرب، وهو
390

المصدر المفهوم من الكلام قبله، وأن تكون من للسبب، أي فانفجرت بسبب الضرب، ولكن لا يجوز أن يرتكب مثل هذا في كلام الله تعالى، لأنه لا ينبغي أن يحمل إلا على أحسن الوجوه في التركيب وفي المعنى، إذ هو أفصح الكلام. وفي هذا الانفجار من الإعجاز ظهور نفس الماء من حجر لا اتصال له بالأرض، فتكون مادته منها، وخروجه كثيرا من حجر صغير، وخروجه بقدر حاجتهم، وخروجه عند الضرب بالعصا، وانقطاعه عند الاستغناء عنه.
* (اثنتا عشرة) *: التاء في اثنتا للتأنيث، وفي ثنتا للالحاق، وهذه نظير ابنة وبنت. وقرأ الجمهور: عشرة بسكون الشين. وقرأ مجاهد، وطلحة، وعيسى، ويحيى بن وثاب، وابن أبي ليلى، ويزيد: بكسر الشين. وروى ذلك نعيم السعيدي عن أبي عمرو، والمشهور عنه الإسكان، وتقدم أنها لغة تميم، وكسرهم لها نادر في قياسهم لأنهم يخففون فعلا، يقولون في نمر: نمر. وقرأ ابن الفضل الأنصاري، والأعمش: بفتح الشين. وروي عن الأعمش: الإسكان، والكسر أيضا. قال الزمخشري: الفتح لغة. وقال ابن عطية: هي لغة ضعيفة. وقال المهدوي: فتح الشين غير معروف، ويحتمل أن تكون لغة، وقد نص بعض النحويين على أن فتح الشين شاذ، وعشرة في موضع خفض بالإضافة، وهو مبني لوقوعه موقع النون، فهو مما أعرب فيه الصدر وبني العجز. ألا ترى أن اثنتي معرب إعراب المثنى لثبوت ألفه رفعا وانقلابها نصبا وجرا، وأن عشرة مبني؟ ولما تنزلت منزلة نون اثنتين لم يصح إضافتها، فلا يقال: اثنتا عشرتك. وفي محفوظي أن ابن درستويه ذهب إلى أن اثنا واثنتا وثنتا مع عشر مبني، ولم يجعل الانقلاب دليل الإعراب.
* (عينا) *: منصوب على التمييز، وإفراد التمييز المنصوب في باب العدد لازم عند الجمهور، وأجاز الفراء أن يكون جمعا، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطا، وكان بينهم تضاغن وتنافس، فأجرى الله لكل سبط منهم عينا يرده، لا يشركه فيه أحد من السبط الآخر، وذكر هذا العدد دون غيره يسمى التخصيص عند أهل علم البيان، وهو أن يذكر نوع من أنواع كثيرة لمعنى فيه لم يشركه فيه غيره، ومنه قوله تعالى: * (وأنه هو رب الشعرى) *، وسيأتي بيان ذلك التخصيص فيها، إن شاء الله تعالى، في موضعها، وقول الخنساء:
* يذكرني طلوع الشمس صخرا
*
وأندبه بكل مغيب شمس
*
اختصتهما من دون سائر الأوقات للغارة والقرى. قال بعض أهل اللطائف: خلق الله الحجارة وأودعها صلابة يفرق بها أجزاء كثيرة مما صلب من الجوامد، وخلق الأشجار رطبة الغصون، ليست لها قوة الأحجار، فتؤثر فيها تفريقا بأجزائها ولا تفجير العيون مائها، بل الأحجار تؤثر فيها. فلما أيدت بقوة النبوة، انفلقت بها البحار، وتفرقت بها أجزاء الأحجار، وسالت بها الأنهار، * (إن فى ذالك لعبرة لاولى الابصار) *.
* (قد علم كل أناس مشربهم) *: جملة استئناف تدل على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعداه لمشرب غيره، وكأنه تفسير لحكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عينا، وتنبيه عليها. وعلم هنا متعدية لواحد أجريت مجرى عرف، واستعمالها كذلك كثير في القرآن ولسان العرب. وكل أناس مخصوص بصفة محذوفة، أي من قومه الذين استسقى لهم. والمشرب هنا مكان الشرب وجهته التي يجري منها الماء. وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء، والأول أولى، لأن دلالته على المكان بالوضع، ودلالته على الماء بالمجاز، وهو تسمية الشيء باسم مكانه وإضافة المشرب إليهم، لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم، وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كل لا على لفظها، ولا يجوز أن يعود على لفظها، فيقال: مشربه، لأن
391

مراعاة المعنى هنا لازمة، لأن كل قد أضيفت إلى نكرة، ومتى أضيفت إلى نكرة وجب مراعاة المعنى، فتطابق ما أضيفت إليه في عود ضمير وغيره، قال تعالى: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) *، وقال الشاعر:
* وكل أناس قاربوا قيد فحلهم
*
ونحن حللنا قيده فهو سارب
*
وقال:
* وكل أناس سوف تدخل بينهم
*
دويهية تصفر منها الأنامل
*
وقال تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت) *، وتقول: كل رجلين يقولان ذلك، ولا يجوز في شيء من هذا مراعاة لفظ كل، وثم محذوف تقديره: مشربهم منها: أي من الاثنتي عشرة عينا. ونص على المشرب تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة، وإن كان سرد الكلام قد علم كل أناس عينهم، لكن في ذكر المشرب ما ذكرناه من تسويغ الشرب لهم منها أنشىء لهم الأمر بالأكل من المن والسلوى، والشرب من هذه العيون، أو أمروا بالدوام على ذلك، لأن الإباحة كانت معلومة من غير هذا الأمر، والأمر بالواقع أمر بدوامه، كقولك للقائم: قم. * (كلوا واشربوا) *: هو على إضمار قول، أي وقلنا لهم، وهذا الأمر أمر إباحة. قال السلمي: مشرب كل أحد حيث أنزله رائده، فمن رائده نفسه مشربه الدنيا، أو قلبه فمشربه الآخرة، أو سره فمشربه الجنة، أو روحه فمشربه السلسبييل، أو ربه فمشربه الحضرة على المشاهدة حيث يقول: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *، طهرهم به عن كل ما سواه، وبدىء بالأكل لأنه المقصود أولا، وثنى بالشرب لأن الاحتياج إليه حاصل عن الأكل، ولأن ذكر المن والسلوى متقدم على انفجار الماء.
* (من رزق الله) *، من: لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتعبيض. ولما كان مأكولهم ومشروبهم حاصلين لهم من غير تعب منهم ولا تكلف، أضيفا إلى الله تعالى، وهذا التفات، إذ تقدم فقلنا: اضرب، ولو جرى على نظم واحد لقال: من رزقنا، إلا إن جعلت الإضمار قبل كلوا مسندا إلى موسى، أي وقال موسى: * (كلوا واشربوا) * فلا يكون فيه التفات، ومن رزق الله متعلق بقوله: واشربوا، وهو من إعمال الثاني على طريقة اختيار أهل البصرة، إذ لو كان من أعمال الأول لأضمر في الثاني ما يحتاجه، فكان يكون: كلوا واشربوا منه، من رزق الله، ولا يجوز حذف منه إلا في ضرورة على ما نص بعضهم، والضرورة والقليل لا يحمل كلام الله عليهما. والرزق هنا هو المرزوق، وهو الطعام من المن والسلوى، والمشروب من ماء العيون. وقيل: هو الماء ينبت منه الزروع والثمار، فهو رزق يؤكل منه ويشرب، وهذا القول يكون فيه من رزق الله، يجمع فيه بين الحقيقة والمجاز، لأن الشرب من الماء حقيقة، والأكل لا يكون إلا مما نشأ من الماء، لا أن الأكل من الماء حقيقة، فحمل الرزق على القدر المشترك بين الطعام والماء أولى من هذا القول.
ولما كان مطعومهم ومشروبهم لا كلفة عليهم ولا تعب في تحصيله حسنت إضافته إلى الله تعالى، وإن كانت جميع الأرزاق منسوبة إلى الله تعالى، سواء كانت مما تسبب العبد في كسبها أم لا، واختص بالإضافة للفظ الله، إذ هو الاسم العلم الذي لا يشركه فيه أحد، الجامع لسائر الأسماء * (الله الذى خلقكم ثم رزقكم) *، * (قل من يرزقكم من * السماوات والارض * قل الله) *، * (من * الله الخلق ثم يعيده) *، و * (من يرزقكم من السماء والارض) *، * (مع الله بل) *؟
392

واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال، لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة، واقتضى أن يكون الرزق مباحا، فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما، وأنه غير جائز. والجواب: إن الرزق هنا ليس بعادم هذا أريد به المن والسلوى والماء المنفجر من الحجر، ولا يلزم من حلية معين ما من أنواع الرزق حلية جميع الرزق، وفي هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات من الطعام، وشرب المستلذ من الشراب، والجمع بين اللونين والمطعومين، وكل ذلك بشرط الحل. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم) كان يحب الحلواء والعسل، وأنه كان يشرب الماء البارد العذب، وكانت تنبذ له فيه الثمرات، وجمع بين القثاء والرطب، وسقى بعض نسائه الماء. وقد نقل عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتركون اللذيذ من الطعام والشهي من الشراب رغبة فيما عند الله تعالى.
* (ولا تعثوا فى الارض مفسدين) *: لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله، ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار من مأكول أو مشروب، كان ذلك إنعاما
وإحسانا جزيلا إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المآكل والمشارب، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية، والقوة الاستعلائية. نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك، وهو الفساد، حتى لا يقابلوا تلك النعم بما يكفرها، وهو الفساد في الأرض. قال ابن عباس وأبو العالية: معناه ولا تسعوا. وقال قتادة: ولا تسيروا. وقيل: لا تتظالموا الشرب فيما بينكم، لأن كل سبط منكم قد جعل له شرب معلوم. وقيل: معناه: لا تؤخروا الغذاء، فكانوا إذا أخروه فسد. وقيل: معناه لا تخالطوا المفسدين. وقيل: معناه لا تتمادوا في فسادكم. وقيل: لا تطغوا، قاله ابن زيد. وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض. في الأرض: الجمهور على أنها أرض التيه، ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدر أن يوصلوا إليها فينالها فسادهم، ويجوز أن يريد الأرضين كلها. وأل: لاستغراق الجنس. ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات، وذلك انتقام يعم الأرض بالفساد. مفسدين: حال مؤكدة.
قال القشيري، في قوله تعالى: * (وإذ استسقى) * الآية أن الذي قدر على إخراج الماء من الصخرة الصماء كان قادرا على إروائهم بغير ماء، ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه، واتصال محل الاستعانة إليه، وليكون لموسى عليه السلام في فضل الحجر مع نفسه شغل، ولتكليفه أن يضرب بالعصا، نوع من المعالجة، ثم أراد أن يكون كل سبط جاريا على سننه، غير مزاحم لصاحبه، وحين كفاهم ما طلبوه أمرهم بالشكروحفظ الأمر وترك احتقاب الوزر، فقال: * (ولا تعثوا) *. والمناهل مختلفة، وكل يرد مشربه: فمشرب فرات، ومشرب أجاج، ومشرب صاف، ومشرب رنق، وسياق كل قوم يقودهم، فالنفوس ترد منا هل المنى، والقلوب ترد مشارب التقى، والأرواح ترد مناهل الكشف، والمشاهدات والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف من حقيقة الوحدة والذات. انتهى كلامه ملخصا.
* (وإذ قلتم ياموسى * موسى * لن نصبر على طعام واحد) *: لما سئموا من الإقامة في التيه، والمواظبة على مأكول واحد، لبعدهم عن الأرض التي ألفوها، وعن العوائد التي عهدوها، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك وتشوفهم إلى ما كانوا يألفون، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم. وأكثر أهل الظاهر من المفسرين على أن هذا السؤال كان معصية، قالوا: لأنهم كرهوا إنزال المن والسلوى، وتلك الكراهة معصية، ولأن موسى وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير، وبأن قوله: * (أتستبدلون) * هو على سبيل الإنكار. والجواب، أن قولهم: * (لن نصبر على طعام واحد) * لا يدل على عدم الرضا به فقط، بل اشتهوا أشياء أخر. وأما الإنكار فلأنه قد يكون لما فيه من تفويت
393

الأنفع في الدنيا، أو الأنفع في الآخرة. وأما الخيرية فسيأتي الكلام فيها، وإنما كان سؤالا مباحا، والدليل عليه أن قوله: * (كلوا واشربوا) * من قبل هذه الآية، عند إنزال المن وتفجير العين ليس بإيجاب بل هو إباحة، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم: * (لن نصبر على طعام واحد) * معصية لأن من أبيح له صنوف من الطعام يحسن منه أن يسأل غيرها، إما بنفسه أو على لسان الرسول. ولما كان سؤال النبي أقرب للإباحة، سألوه عن ذلك، ولأن النوع الواحد أربعين سنة يمل ويشتهي إذ ذاك غيره، ولأنهم ما تعودوا ذلك النوع. ورغبة الإنسان فيما اعتاده، وإن كان خسيسا، فوق رغبة ما لم يعتده، وإن كان شريفا، ولأن ذلك يكون سببا لانتقالهم عن التيه الذي ملوه، لأن تلك الأطعمة لا توجد فيه، فأرادوا الحلول بغيره، ولأن المواظسش
بة على طعام واحد سبب لنقص الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة، والاستكثار من الأنواع بعكس ذلك. فثبت بهذا أن تبديل نوع بنوع يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء، وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه، فثبت أنه لا يجوز أن يكون معصية. ومما يؤكد ذلك قوله: * (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) * هو كالإجابة لماطلبوا. ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية، وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ووصف الطعام بواحد، وإن كان طعامين، لأنه المن والسلوى اللذان رزقوهما في التيه، لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عديدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها قيل: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا، يراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف. ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معا من طعام أهل التلذذ والسرف، ونحن قوم فلاحة أهل زراعات، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة، كالحبوب والبقول ونحوهما. ذكر هذين الوجهين في معنى الواحد الزمخشري. وقيل: أعاد على لفظ الطعام من حيث أنه مفرد لا على معناه. وقيل: كانوا يأكلون المن والسلوى مختلطين، فيصير بمنزلة اللون الذي يجمع أشياء ويسمى لونا واحدا، قاله ابن زيد. وقيل: كان طعامهم يأتيهم بصفة الوحدة، نزل عليهم المن فأكلوا منه مدة حتى سئموه وملوه، ثم انقطع عنهم، فأنزل عليهم السلوى فأكلوها مدة وحدها. وقيل: أرادوا بالطعام الواحد السلوى، لأن المن كان شرابا، أو شيئا يتحلون به، وما كانوا يعدون طعاما إلا السلوى. وقيل: عبرعنهما بالواحد، كما عبر بالاثنين عن الواحد نحو: * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *، وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب. وقيل: قالوا ذلك عند نزول أحدهما. وقيل: معناه لن نصبر على أننا كلنا أغنياء، فلا يستعين بعضنا ببعض، ويكون قد كنى بالطعام الواحد عن كونهم نوعا واحدا، وهو كونهم ذوي غنى، فلا يخدم بعضهم بعضا، وكذلك كانوا في التيه، فلما خرجوا منه عادوا لما كانوا عليه من فقر بعض وغنى بعض. فهذه تسعة أقوال في معنى قوله: * (على طعام واحد) *.
* (فادع لنا ربك) *: معناه: اسأله لنا، ومتعلق الدعاء محذوف، أي ادع لنا ربك بأن يخرج كذا وكذا. ولغة بني عامر: فادع بكسر العين، جعلوا دعا من ذوات الياء، كرمى يرمي، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم بما اقترحوه ولم يدعو لهم، لأن إجابة الأنبياء أقرب من إجابة غيرهم، ولذلك قالوا: ربك، ولم يقولوا: ربنا، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإتيانه التوراة، فكأنهم قالوا: ادع لنا الذي هو محسن لك، فكما أحسن إليك في أشياء، كذلك نرجو أن يحسن إلينا في إجابة دعائك. * (يخرج لنا) *: جزمه على جواب الأمر الذي هوادع، وقد مر نظيره في * (أوفوا * بعهدى أوف بعهدكم) *. وقيل: ثم محذوف تقديره: وقل له اخرج فيخرج، مجزوم على جواب هذا الأمر الذي هو اخرج. وقيل: جزم يخرج بلام مضمرة، وهي لام الطلب، أي ليخرج، وهذا عند البصريين لا يجوز. * (مما تنبت الارض) *: مفعول يخرج محذوف ومن تبعيضه: أي مأكولا مما تنبت، هذا على مذهب سيبويه. وقال الأخفش: من زائدة،
التقدير: ما تنبت، وما موصولة، والعائد محذوف تقديره، تنبته، وفيه شروط جواز الحذف، وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية تقديره: من إنبات الأرض. قال أبو البقاء: لا يجوز ذلك لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات، لأن الإنبات مصدر، والمحذوف جوهر، وإضافة الإنبات إلى الأرض مجاز، إذ المنبت هو الله تعالى، لكنه لما
394

جعل فيها قابلية الإنبات نسب الإنبات إليها.
* (من بقلها) *: هذا بدل من قوله: * (مما تنبت الارض) *، على إعادة حرف الجر، وهو فصيح في الكلام، أعني أن يعاد حرف الجر في البدل. فمن على هذا التقدير تبعيضية، كهي في مما تنبت، ويتعلق بيخرج، إما الأولى، وإما أخرى مقدرة على الخلاف الذي في العامل في البدل، هل هو العامل الأول، أو ذلك على تكرار العامل؟ والمشهور هذا الثاني، وأجاز المهدوي أيضا، وابن عطية، وأبو البقاء أن تكون من في قوله: * (من بقلها) * لبيان الجنس، وعبر عنها المهدوي بأنها للتخصيص، ثم اختلفوا، فقال أبو البقاء: موضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف تقديره: مما تنبته الأرض كائنا من بقلها، وقدم ذكر هذا الوجه قال: ويجوز أن تكون بدلا من ما الأولى بإعادة حرف الجر. وأما المهدوي، وابن عطية فزعما مع قولهما: إن من في * (من بقلها) * بدل من قوله: مما تنبت، وذلك لأن من في قوله * (مما تنبت) * للتبعيض، ومن في قوله * (من بقلها) * على زعمهما لبيان الجنس. فقد اختلف مدلول الحرفين، واختلاف ذلك كاختلاف الحرفين، فلا يجوز البدل إلا أن ذهب ذاهب إلى أن من في قوله: * (مما تنبت الارض) * لبيان الجنس، فيمكن أن يفرع القول بالبدل على كونها لبيان الجنس. والمختار ما قدمناه من كون من في الموضعين للتبعيض، وأما أن تكون لبيان الجنس، فقد أباه أصحابنا وتأولوا ما استدل به مثبت ذلك، والمراد بالبقل هنا: أطايب البقول التي يأكلها الناس، كالنعناع، والكرفس، والكراث، وأشباهها، قاله الزمخشري. وقرأ يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وغيرهما: وقثائها بضم القاف، وقد تقدم أنها لغة.
* (وفومها) *: تقدم الكلام فيه، وللمفسرين فيه أقاويل ستة: أحدها: أنه الثوم، وبينته قراءة ابن مسعود: وثومها بالثاء، وهو المناسب للبقل والعدس والبصل. الثاني: قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: أنه الحنطة. الثالث: أنه الحبوب كلها. الرابع: أنه الخبز، قاله مجاهد وابن عطاء وابن زيد. الخامس: أنه الحمص. السادس: أنه السنبلة. * (وعدسها وبصلها) *: وأحوال هذه الخمسة التي ذكروها مختلفة، فذكروا، أولا: ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، إذ البقل منه ما هو بارد رطب كالهندبا، ومنه ما هو حار يابس كالكرفس والسداب، ومنه ما هو حار وفيه رطوبة عرضية كالنعناع. وثانيا القثاء، وهو بارد رطب. وثالثا: الثوم، وهو حار يابس. ورابعا: العدس، وهو بارد يابس. وخامسا: البصل، وهو حار رطب، وإذا طبخ صار باردا رطبا، فعلى هذا جاء ترتيب ذكر هذه الخمسة.
* (قال أتستبدلون) *: الضمير في قال ظاهر عوده على موسى، ويحتمل عوده على الرب تعالى، ويؤيده * (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) *، والهمزة في * (أتستبدلون) * للإنكار، والاستبدال: الاعتياض. وقرأ أبي: أتبدلون، وهو مجاز لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى، لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين، وكان المعنى: أتسألون تبديل. * (الذى هو أدنى بالذى هو خير) *، والذي: مفعول أتستبدلون، وهو الحاصل، والذي دخلت عليه الباء هو الزائل، كما قررناه في غير مكان. هو أدنى: صلة للذي، وهو هنا واجب الإثبات على مذهب البصريين، إذ لا طول في الصلة، وأدنى: خبر عن هو، وهو: أفعل التفضيل، ومن وما دخلت عليه حذفا للعلم، وحسن حذفهما كون أفعل التفضيل خبرا، فإن وقع غير خبر مثل كونه حالا أو صفة قل الحذف وتقديره: أدنى من ذلك الطعام الواحد، وحسن حذفهما أيضا كون المفضل عليه مذكورا بعد ذلك، وهو قوله: * (بالذى هو خير) *، وأفرد: * (الذى هو أدنى) * لأنه أحال به على المأكول الذي هو * (مما تنبت الارض) *، وعلى ما من قوله: * (مما تنبت) *،
395

فيكون قد راعى المبدل منه، إذ لو راعى البدل لقال: أتستبدلون اللاتي هي أدنى، وقد تقدم القول في أدنى الكسائي: أدنأ بالهمز، ووقع البعض من جمع في التفسير، وهم في نسبة هذه القراءة للكسائي، فقال: وقرأ زهير والكسائي شاذا: أدنأ، فظن أن هذه قراءة الكسائي، وجعل زهيرا والكسائي شخصين، وإنما هو زهير الكسائي يعرف بذلك، وبالفرقبي، فهو رجل واحد. فأما تفسير: الأدنى والخير هنا ففيه أقاويل: أحدها: قال الزجاج: تفاضل الأشياء بالقيم، وهذه البقول لا خطر فيها ولا علو قيمة، والمن والسلوى هما أعلا قيمة وأعظم خطرا، واختار هذا الزمخشري، قال: أقرب منزلة وأهون مقدارا، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال: هو أدنى المحل وقريب المنزلة، كما يعبر بالعبد عن عكس ذلك فيقال: بعيد المحل بعيد المنزلة، يريدون الرفعة والعلو. انتهى كلامه، وهو من كلام الزجاج. والثاني: أن المن والسلوى هو الذي من الله به وأمرهم بأكله، وفي استدامة ما أمر الله به وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصال فكان أدنى من هذا الوجه. الثالث: أن التفضيل يقع من جهة الطيب واللذة، والمن والسلوى لا شك أنهما أطيب من البقول التي طلبوها. الرابع: أن المن والسلوى لا كلفة في تحصيله ولا تعب ولا مشقة، والبقول لا تحصل إلا بعد مشقة الحرث والزرع والخدمة والسقي، وما حصل بلا مشقة خير مما حصل بمشقة. الخامس: أن المن والسلوى لا شك في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها العيوب والغصوب ويدخلها الحرام والشبهة، وما كان حلا خالصا أفضل مما يدخله الحرام والشبهة. السادس: أن المن والسلوى يفضلان ما سألوه من جنس الغذاء ونفعه. وملخص هذه الأقوال: هل الأدنوية والخيرية بالنسبة إلى القيمة، أو امتثال الأمر وما يترتب عليه، أو اللذة، أو الكلفة، أو الحل، أو الجنس؟ أقوال ستة. وأما قراءة زهير فهي من الدناء.
وقد تقدم أن أدنى غير المهموز قيل إن أصلها الهمزة فسهل كهذه القراءة، ومن قال بالقلب وإن أصله أدون، فالدناءة والدون راجعان إلى معنى واحد، وهو الخمسة، وهو من جهة المعنى أحسن مقابلة لقوله: * (بالذى هو خير) *. ومن جعل أدنى بمعنى أقرب، لأن الأدون والأدنأ يقابلهما الخير، والأدنى بمعنى الأقرب يقابله
الأبعد، وحذف من ومعمولها بعد قوله: هو خير، لما ذكرناه في قوله: هو أدنى، من وقوع أفعل التفضيل خبرا وتقديره: منه، أي من: * (الذى هو أدنى) *. وكانت هاتان الصلتان جملتين إسميتين لثبوت الجملة الإسمية، وكان الخير أفعل التفضيل، لأنه لا دلالة فيها على تعيين زمان، بل في ذلك إثبات الأدنوية والخيرية من غير تقييد بزمان، بخلاف الجملة الفعلية، فإنه كان يتعين الزمان، أو يتجوز في ذلك، إن لم يقصد التعيين، فكان الوصل بما هو حقيقة في عدم الدلالة على التعيين أفصح، وكانت صلة ما في قوله: مما تنبت، جملة فعلية، لأن الفعل عندهم يشعر بالتجدد والحدوث، والإنبات متجدد دائما، فناسب كل مكان ما يليق به من الصلة.
* (اهبطوا مصرا) *: في الكلام حذف على تقدير أن القائل: * (أتستبدلون) * هو موسى، وتقدير المحذوف، فدعا موسى ربه فأجابه، * (قال اهبطوا) *. وتقدم معنى الهبوط، ويقال: هبط الوادي: حل به، وهبط منه: خرج، وكان القادم على بلد ينصب عليه. وقرئ اهبطوا، بضم الباء، وهما لغتان، والأفصح الكسر، والجمهور على صرف مصرا هنا. وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان بن تغلب: بغير تنوين، وبين كذلك في مصحف أبي بن كعب، ومصحف عبد الله، وبعض مصاحف عثمان.
396

فأما من صرف فإنه يعني مصرا من الأمصار غير معين، واستدلوا بالأمر بدخول القرية، وبأنهم سكنوا الشام بعد التيه، وبأن ما سألوه من البقل وغيره لا يكون إلا في الأمصار، وهذا قول قتادة والسدي ومجاهد وابن زيد. وقيل: هو مصر غير معين لكنه من أمصار الأرض المقدسة، بدليل: ادخلوا الأرض المقدسة. وقيل: أراد بقوله: مصرا وإن كان غير معين مصر فرعون، وهو من إطلاق النكرة، ويراد بها المعين، كما تقول: ائتني برجل، وأنت تعني به زيدا. قال أشهب، قال لي مالك: هي مصر قريتك مسكن فرعون. وأجاز من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين أن تكون مصر هذه المنونة هي الاسم العلم. والمراد بقوله: * (ءان * تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) *، قالوا: وصرف، وإن كان فيه العلمية والتأنيث، كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين، لخفة الاسم لسكون وسطه، قاله الأخف 5، أو صرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف. وشبهه الزمخشري في منع الصرف، وهو علم بنوح ولوط حيث صرفا، وإن كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الاسم بكونه ثلاثيا ساكن الوسط، وهذا ليس كما ذهبوا إليه من أنه مشبه لهند، أو مشبه لنوح، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي: التأنيث والعلمية والعجمة. فهو يتحتم منع صرفه بخلاف هند، فإنه ليس فيه سوى العلمية والتأنيث، على أن من النحويين من خالف في هند، وزعم أنه لا يجوز فيه إلا منع الصرف، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى النحويون من الصرف في قوله:
* لم تتلفع بفضل مئزرها دعد
*
ولم تسق دعد في العلب
*
وبخلاف نوح، فإن العجمة لم تعتبر إلا في غير الثلاثي الساكن الوسط، وأما إذا كان ثلاثيا ساكن الوسط فالصرف. وقد أجاز عيسى بن عمر منع صرفه قياسا على هند، ولم يسمع ذلك من العرب إلا مصروفا، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب، فوجب اطراحه. وقال الحسن بن بحر: المراد بقوله مصرا، البيت المقدس، يعني أن اللفظ، وإن كان نكرة، فالمراد به معين، كما قلنا في قول من قال: إنه أراد به وإن كان نكرة مصر المعينة. وأما من قرأ مصر بغير تنوين، فالمراد مصر العلم، وهي دار فرعون. واستبعد بعض الناس قول من قال: إنها مصر فرعون، قال: لأنهم من مصر خرجوا، وأمروا بالهبوط إلى الأرض المقدسة لقتال الجبارين فأبوا، فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين، ولقولهم: * (اذهب أنت * وربك فقاتلا إنا هاهنا * قاعدون) *، فماتوا جميعا في التيه، وبقي أبناؤهم، فامتثلوا أمرالله، وهبطوا إلى الشام، وقاتلوا الجبارين، ثم عادوا إلى البيت المقدس. ولم يصرح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر. انتهى كلامه. فتلخص من قراءة التنوين: أن يكون المراد مصرا غير معين لا من الشام ولا من غيره، أو مصرا غير معين من أمصار الشام، أو معينا، وهو بيت المقدس، أو مصر فرعون، فهذه أربعة أقوال.
* (فإن لكم ما سألتم) *: هذه الجملة جواب للأمر، كما يجاب بالفعل المجزوم، ويجري فيه الخلاف الجاري فيه: هل ضمن اهبطوا مصرا معنى أن تهبوا أو أضمر الشرط؟ وفعله بعد فعل الأمر كأنه قال: أن تهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم، وفي ذلك محذوفان: أحدهما: ما يربط هذه الجملة بما قبلها، وتقديره: فإن لكم فيها ما سألتم. والثاني: الضمير العائد على ما، تقديره: ما سألتموه، وشروط جواز الحذف فيه موجودة. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: سألتم: بكسر السين، وهذا من تداخل اللغات، وذلك أن في سأل لغتين: إحداهما: أن تكون العين همزة فوزنه فعل. والثانية: أن تكون العين واوا تقول: سأل يسأل، فتكون الألف منقلبة عن واو، ويدل على أنه من الواو، وقولهم: هما يتساولان، كما تقول: يتجاوبان، وحين كسر السين توهم أنه فتحها، فأتى بالعين همزة، قال الشاعر:
397

* إذا جئتهم وسأيلتهم
*
وجدت بهم علة حاضره
*
الأصل ساءلتهم، والمعروف إبدال الهمزة ياء، فتقول: سايلتهم، فجمع بين العوض وهو الياء، وبين المعوض منه وهو الهمزة لكنه لما اضطر قدم الهمزة قبل ألف
فاعل. وقال ابن جني: يحتمل أن يكون إبدال الهمزة في سألتم ياء، كما أبدلت ألفا في قوله:
سألت هذيل رسول الله فاحشة
فانكسر السين قبل الياء، ثم تنبه للهمز فهمز. والمعنى: ما سألتم من البقول والحبوب التي اخترتموها على المن والسلوى. وقيل: ما سألتم من اتكالكم على تدبير أنفسكم في مصالح معاشكم وأحوال أقواتكم.
* (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) *: معنى الضرب هنا: الإلزام والقضاء عليهم، من ضرب الأمير البعث على الجيش، وكقول العرب: ضربة لازم، ويقال: ضرب الحاكم على اليد، وضرب الدهر ضرباته، أي ألزم إلزاماته، وقيل: معناه الإحاطة بهم والاشتمال عليهم مأخوذ من ضرب القباب. ومنه قول الفرزدق:
* ضربت عليك العنكبوت بنسجها
*
وقضى عليك بها الكتاب المنزل
*
وقيل: معناه التصقت بهم، من ضربت الحائط بالطين: ألصقته به. وقيل: معناه جعلت من ضربت الطين خزفا، أي جعلت عليهم الذلة والمسكنة. أما الذلة فقيل: هي هوانهم بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون، وقيل: هي ما ألزموا به من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود، ولا يلتبسوا بالمسلمين، وقيل: فقر النفس وشحها، فلا ترى ملة من الملل أذل وأحرص من اليهود. وأما المسكنة: فالخشوع، فلا يرى يهودي إلا وهو بادي الخشوع، أو الخراج، وهو الجزية، قاله الحسن وقتادة، أو الفاقة والحاجة، قاله أبو العالية، أو ما يظهرونه من سوء حالهم مخافة أن تضاعف عليهم الجزية، أو الضعف، فتراه ساكن الحركات قليل النهوض. واستبعد صاحب المنتخب قول من فسر الذلة بالجزية، لأن الجزية لم تكن مضروبة عليهم من أول أمرهم. وقيل: هو من المعجزات، لأنه أخبر عنه صلى الله عليه وسلم). فكان كما أخبر، والمضروب عليهم الذلة والمسكنة اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، قاله الجمهور، أو الذين كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغير حق. والقائلون: * (ادع لنا ربك) *، ومن تابعهم من أبنائهم أقوال ثلاثة.
* (وباءوا بغضب من الله) *: تقدم تفسيره باء، فعلى من قال: باء: رجع، تكون الباء للحال، أي مصحوبين بغضب، ومن قال: استحق، فالباء صلة نحو: لا يقرأن بالسور: أي استحقوا غضبا، ومن قال: نزل وتمكن أو تساووا، والباء ظرفية، فعلى القول الأول تتعلق بمحذوف، وعلى الثاني لا تتعلق، وعلى الثالث بنفس باء. وزعم الأخفش أن الباء في قوله بغضب للسبب، فعلى هذا تتعلق بباء، ويكون مفعول باء محذوفا، أي استحقوا العذاب بسبب غضب الله عليهم. وباء يستعمل في الخير: * (لنبوئنهم من الجنة غرفا) *، * (ولقد بوأنا بنى إسراءيل مبوأ صدق) *، * (نتبوأ من الجنة حيث نشاء) *. وفي الشر: * (وباءوا بغضب من الله) *، * (ءان * تبوء بإثمى
398

وإثمك) *، * (فباءو بغضب على غضب) *. وقد جاء استعمال المعنيين في الحديث: (أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي). وقال بعض الناس: باء لا تجيء إلا في الشر. والغضب هنا ما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا، أو ما يحل بهم من العذاب في الآخرة. ويكون باؤوا في معنى يبوؤون، نحو * (أزفت الازفة) *، * (اقتربت الساعة) *. * (من الله) * يحتمل أن يكون متعلقا بباؤوا إذا كان باء بمعنى رجع، وكأنهم كانوا مقبلين على الله تعالى، فبعصيانهم رجعوا منه، أي من عنده بغضب. ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف ويكون في موضع الصفة، أي بغضب كائن من الله، وهذا الوجه ظاهر إذا كان باء بمعنى استحق، أو بمعنى نزل وتمكن، ويبعد الوجه الأول، وفي وصف الغضب بكونه من الله تعظيم للغضب، وتفخيم لشأنه. * (ذلك بأنهم) * الإشارة إلى المباءة بالغضب، أو المباءة. والضرب وهو مبتدأ، والجار والمجرور بعده خبر، والباء للسبب، أي ذلك كائن بكفرهم وقتلهم.
* (كانوا يكفرون بآيات الله) *: الآيات المعجزات التسع وغيرها التي أتى بها موسى، أو التوراة، أو آيات منها، كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو فيها الرجم، أو القرآن، أو جميع آيات الله المنزلة على الرسل، أقوال خمسة، وإضافة الآيات إلى الله لأنها من عنده تعالى. * (ويقتلون النبيين) *: قتلوا يحيى وشعيا وزكريا. وروي عن ابن مسعود قتل بنو إسرائيل سبعين نبيا، وفي رواية ثلاثمائة نبي في أول النهار، وقامت سوق قتلهم في آخره. وعلى هذا يتوجه قراءة من قرأ: يقتلون بالتشديد لظهور المبالغة في القتل، وهي قراءة علي. وقرأ الحسن: وتقتلون بالتاء، فيكون ذلك من الالتفات. وروي عنه بالياء كالجماعة، ولا فرق في الدلالة بين النبيين والأنبياء، لأن الجمعين إذا دخلت عليهما أل تساويا بخلاف حالهما إذا كانا نكرتين، لأن جمع السلامة إذ ذاك ظاهر في القلة، وجمع التكسير على أفعلاء ظاهر في الكثرة. وقرأ نافع: بهمز النبيين والنبىء والأنبياء والنبوءة، إلا أن قالون أبدل وأدغم في الأحزاب في: * (إن وهبت نفسها للنبى) * إن أراد وفي * (لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن) *، في الوصل. وقرأ الجمهور بغير همز، وقد تقدم الكلام عليه في المفردات.
* (بغير الحق) *: متعلق بقوله: وتقتلون، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير في تقتلون، أي تقتلونهم مبالغة. قيل: ويجوز أن تكون منعة لمصدر محذوف، أي قتلا بغير حق. وعلى كلا الوجهين هو توكيد، ولم يرد هذا على أن قتل النبيين ينقسم إلى قتل بحق وقتل بغير حق، بل ما وقع من قتلهم إنما وقع بغير حق، لأن النبي معصوم من أن يأتي أمرا يستحق عليه فيه القتل، وإنما جاء هذا القيد على سبيل التشنيع لقتلهم، والتقبيح لفعلهم مع أنبيائهم، أي بغير الحق عندهم، أي لم يدعوا في قتلهم وجها يستحقون به القتل عندهم. وقيل: جاء ذلك على سبيل التأكيد كقوله: * (ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) *، إذ لا يقع قتل نبي إلا بغير
الحق، ولم يأت نبي قط بما يوجب قتله، وإنما قتل منهم من قتل كراهة له وزيادة في منزلته. قال ابن عباس وغيره: لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر. قيل: وعرف الحق هنا لأنه أشير به إلى المعهود في قوله عليه السلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثا. وأما المنكر فالمراد به تأكيد العموم، أي لم يكن هناك حق لا ما يعرفه المسلمون ولا غيره.
* (ذالك بما عصوا وكانوا يعتدون) *، ذلك: رد على الأول وتكرير له، فأشير به لما أشير بذلك الأول، ويجوز أن تكون إشارة إلى الكفر والقتل المذكورين، فلا يكون تكريرا ولا توكيدا، ومعناه: أن الذي حملهم على جحود آيات الله وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم، فجسرهم هذا على ذلك، إذا المعاصي يريد الكفر. * (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) *، * (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم) *، وقولهم * (قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم) *. وقد تقدم تفسير العصيان والاعتداء لغة، وقد فسر الاعتداء هنا أنه تجاوزهم ما حد الله لهم من الحق إلى الباطل. وقيل: التمادي على المخالفة وقتل الأنبياء. وقيل: العصيان بنقض العهد والاعتداء بكثرة قتل الأنبياء. وقيل: الاعتداء بسبب المخالفة والإقامة على ذلك الزمن الطويل أثر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه قال:
399

(اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسائة سنة حين كثر فيهم أولاد السبايا، واختلفوا بعد عيسى بمائة سنة). وقيل: هو الاعتداء في السبت، قال تعالى: * (وقلنا لهم لا تعدوا فى السبت) *. وما: في قوله * (بما عصوا) * مصدرية، أي ذلك بعصيانهم، ولم يعطف الاعتداء على العصيان لئلا يفوت تناسب مقاطع الآي، وليدل على أن الاعتداء صار كالشئ الصادر منهم دائما. ولما ذكر تعالى حلول العقوبة بهم من ضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب، وبين علة ذلك، فبدأ بأعظم الأسباب في ذلك، وهو كفرهم بآيات الله.. ثم ثنى بما يتلو ذلك في العظم وهو قتل الأنبياء، ثم أعقب ذلك بما يكون من المعاصي، وما يتعدى من الظلم. قال معنى هذا صاحب المنتخب، ويظهر أن قوله ذلك بأنهم كانوا يكفرون ويقتلون، تعليل لضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب، وأن الإشارة بقوله * (ذالك بما عصوا) * إشارة إلى الكفر والقتل، وبما تعليل لهما فيعود العصيان إلى الكفر، ويعود الاعتداء إلى القتل، فيكون قد ذكر شيئين وقابلهما بشيئين. كما ذكر أولا شيئين وهما: الضرب والمباءة، وقابلهما بشيئين وهما: الكفر والقتل، فجاء هذا لفا ونشرا في المؤضعين، وذلك من محاسن الكلام وجودة تركيبه، ويخرج بذلك عن التأكيد الذي لا يصار إليه إلا عند الحاجة، وذلك بأن يكون الكلام يبعد أن يحمل على التأسيس.
وقد تضمنت هذه الآيات من لطائف الامتنان وغرائب الإحسان لبني إسرائيل فصولا، منها: أنهم أمروا بدخول القرية التي بها يتحصنون، والأكل من ثمراتها ما يشتهون، ثم كلفوا النزر من العمل والقول، وهو دخول بابها ساجدين، ونطقهم بلفظة واحدة تائبين، ورتب على هذا النزر غفران جرائمهم العظيمة وخطاياهم الجسيمة، فخالفوا في الأمرين فعلا وقولا، جريا على عادتهم في عدم الامتثال، فعاقبهم على ذلك بأشد النكال. ثم ذكر تعالى ما كان عليه موسى عليه السلام من العطف عليهم وسؤال الخير لهم، وذلك بأن دعا الله لهم بالسقيا، فأحاله على فعل نفسه بأن أنشأ لهم، من قرع الصفا بالعصا، عيونا يجري بها ما يكفيهم من الماء، معينا على الوصف الذي ذكره تعالى من كون تلك العيون على عدد الأسباط، حتى لا يقع منهم مشاحة ولا مغالبة، وأعلمهم بأن ذلك منه رزق، وأمروا بالأكل منه والشرب، ثم نهوا عن الفساد، إذ هو سبب لقطع الرزق. ثم ذكر تعالى تبرمهم من الرزق الذي امتن به عليهم، فلجوا في طلب ما كان مألوفهم إلى نبيهم فقالوا: * (ادع لنا ربك) *، وذلك جري على عادته معهم، إذ كان يناجي ربه فيما كان عائدا عليهم بصلاح دينهم ودنياهم، وذكر توبيخه لهم على ما سألوه من استبدال الخسيس بالنفيس، وبما لا نصب في اكتسابه ما فيه العناء الشاق، إذ ما طلبوه يحتاج إلى استفراغ أوقاتهم المعدة لعبادة ربهم في تحصيله، ومع ذلك فصارت أغذية مضرة مؤذية جالبة أخلاطا رديئة، ينشأ عنها طمس أنوار الأبصار والبصائر، بخلاف ما رزقهم الله، إذ هو شيء واحد جيد، ينشأ عنه صحة البدن وجودة الإدراك.
كان الخليل بن أحمد، رحمه الله، يستف دقيق الشعير، ويشرب عليه الماء العذب، وكان ذهنه أشرق أذهان أهل زمانه، وكان قوي البدن يغزو سنة ويحج أخرى. ثم أمروا بالحلول فيما فيه مطلبهم والهبوط إلى معدن ما سألوه، ثم أخبر تعالى بما عاقبهم به من جعلهم أذلاء مساكين ومباءتهم بغضبه، وإن ذلك متسبب عن كفرهم بالآيات التي هي سبب الإيمان، لما احتوت عليه من الخوارق التي أعجزت الإنس والجان، وعن قتلهم من كان سببا لهدايتهم، وهم الأنبياء، إذ باتباعهم يحصل العز في الدنيا والفوز في الأخرى، وأن الذي جر الكفر والقتل إليهم هو العصيان والاعتداء اللذان كانا سبقا منهم قبل تعاطي الكفر والقتل.
وقال:
* إن الأمور صغيرها
*
مما يهيج له العظيم
*
والشر تحقره وقد ينمى
400

2 (* (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الا خر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون * ثم توليتم من بعد ذالك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين * ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين * فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) *)) 2
هاد: ألفه منقلبة عن واو، والمضارع يهود، ومعناه: تاب، أو عن ياء والمضارع يهيد، إذا تحرك. والأولى الأول لقوله تعالى: * (إنا هدنا إليك) *. وسيأتي
الكلام على لفظه اليهود حيث انتهينا إليها في القرآن، إن شاء الله تعالى. والنصارى: جمع نصران ونصرانه، مثل ندمان وندمانة. قال سيبويه وأنشد:
* وكلتاهما خرت وأسجد رأسها
*
كما سجدت نصرانة لم تحنف
*
وأنشد الطبري:
* يظل إذا دار العشي محنفا
*
ويضحى لديه وهو نصران شامس
*
منع نصرانا الصرف ضرورة، وهو مصروف لأن مؤنثه على نصرانه. قال سيبويه: إلا أنه لا يستعمل في الكلام إلا بياء النسب، فيكون: كلحيان ولحياني وكأحمري. وقال الخليل: واحد النصارى نصرى، كمهرى ومهاري. قيل: وهو منسوب إلى نصرة، قرية نزل بها عيسى. وقال قتادة: نسبوا إلى ناصرة، وهي قرية نزلوها. فعلى هذا يكون من تغييرات النسب. والصابئين: الصائبون، قيل: الخارجون من دين مشهور إلى غيره، من صبوء السن والنجم، يقال: صبأت النجوم: طلعت، وصبأت ثنية الغلام: خرجت، وصبأت على القوم بمعنى: طرأت، قال:
* إذا صبأت هوادي الخيل عنا
*
حسبت بنحرها شرق البعير
*
ومن قرأ بغير همز فسنتكلم على قراءته. قال الحسن والسدي: هم بين اليهود والمجوس. وقال قتادة: والكلبي: هم بين اليهود والنصارى، يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم. وقال الخليل: هم أشباه
401

النصارى، قبلتهم مهب الجنوب، يقرون بنوح، ويقرؤون الزبور، ويعبدون الملائكة. وقال عبد العزيز بن يحيى: لا عن منهم ولا أثر. وقال المغربي، عن الصابي صاحب الرسائل: هم قريب من المعتزلة، يقولون بتدبير الكواكب. وقال مجاهد: هم قوم لا دين لهم، ليسوا بيهود ولا نصارى. قال ابن أبي نجيح: قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم. وقال ابن زيد: قوم يقولون لا إلاه إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب، كانوا بالجزيرة والموصل. وروي عن الحسن وقتادة أيضا أنهم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون الخمس للقبلة، ويقرؤون الزبور، رآهم زياد بن أبي سفيان، فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة. وقال ابن عباس: هم قوم من اليهود والنصارى، لا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبائحهم. وقال أبو العالية: قوم من أهل الكتاب، ذبائحهم كذبائح أهل الكتاب، يقرؤون الزبر، ويخالفونهم في بقية أفعالهم. وقال الحسن والحكم: قوم كالمجوس. وقيل: قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم، وأنها فعالة. وأفتى أبو سعيد الأصطخري القادر بالله حين سأله عنهم بكفرهم. وقيل: قوم يعبدون الكواكب، ثم لهم قولان: أحدهما: أن خالق العالم هو الله، إلا أنه أمر بتعظيم الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والتعظيم والدعاء. الثاني: أنه تعالى خلق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم، ثم إنها تعبد الله، وهذا المذهب هو المنسوب للذين جاءهم إبراهيم عليه السلام رادا عليهم. الأجر: مصدر أجر بأجر، ويطلق على المأجور به، وهو الثواب. والأجور: جبر كسر معوج، والأجار: السطح، قال الشاعر:
* تبدوا هواديها من الغبار
*
كالجيش الصف على الإجار
*
الرفع: معروف، وهو أعلى الشيء، والفعل منه رفع يرفع، الطور: اسم لكل جبل، قال مجاهد وعكرمة وقتادة. أو الجبل المنبت دون غير المنبت، قاله ابن عباس والضحاك، أو الجبل الذي ناجى الله عليه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقال العجاج:
* دانى جناحيه من الطور فر
*
تقضي البازي إذا البازي كسر
*
وقال آخر:
* وإن تر سلمى الجن يستأنسوا بها
*
وإن ير سلمى صاحب الطور ينزل
*
وأصله الناحية، ومنه طوار الدار. وقال مجاهد: هو جنس الجبل بالسريانية. القوة: الشدة، وهي مصدر قوي يقوى، وطيء تقول: قوي، يفتحون العين والتاء مفتوحة فتنقلب ألفا، يقولون في بقي: بقي، وفي زهي: زها، وقد يوجد ذلك في لغة غيرهم. قال علقمة بن عبدة التميمي:
* زها الشوق حتى ظل إنسان عينه
*
يفيض بمغمور من الدمع متأف
*
402

وهذه المادة قليلة، وهي أن تكون العين واللام واوين. التولي: الإعراض بعد الإقبال. لولا: للتحضيض بمنزلة هلا، فيليها الفعل ظاهرا أو مضمرا، وحرف امتناع لوجود فيكون لها جواب، ويجيء بعدها اسم مرفوع بها عند الفراء، وبفعل محذوف عند الكسائي، وبالابتداء عند البصريين، والخبر محذوف عند جمهورهم، وعند بعضهم فيه تفصيل ذكرناه في (منهج السالك) من تأليفنا، وليست جملة الجواب الخبر، خلافا لأبي الحسين بن الطراوة، وإن وقع بعدها مضمر فيكون ضمير رفع مبتدأ عند البصريين، ويجوز أن يقع بعدها ضمير الجر فتقول: لولاني ولولاك ولولاه، إلى آخرها، وهو في موضع جر بلولا عند سيبويه، وفي موضع رفع عند الأخفش، استعير ضمير الجر للرفع، كما استعاروا ضمير الرفع للجر في قولهم: ما أنا كانت، ولا أنت كانا. والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. ومن ذهب إلى أن لولا نافية، وجعل من ذلك * (فلولا كانت قرية ءامنت) *، فبعيد قوله عن الصواب. السبت: اسم ليوم معلوم، وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع، أو من السبات، وهو الدعة والراحة، وقال أبو الفرج بن الجوزي: هذا خطأ لا يعرف في كلام العرب سبت بمعنى استراح، والسبت: الحلق والسير، قال الشاعر:
* بمقورة الألياط أما نهارها
*
فسبت وأما ليلها فذميل
*
والسبت: النعل، لأنه يقطع كالطحن والرعي. قال ابن جريج: سمي يوم السبت لأنه قطعة زمان، قال لبيد:
* وغنيت سبتا قبل مجرى داحس
*
لو كان للنفس اللحوح خلود
*
القرد: معروف، ويجمع فعل الاسم قياسا على فعول نحو: قرد وقرود، وجسم وجسوم، وقليلا على فعلة نحو: قرد وقردة، وحسل وحسلة. الخسىء: الصغار والطرد، والفعل: خسأ، ويكون لازما ومتعديا، يقال: خسأ الكلب خسوا: ذل وبعد، وخسأته: طردته وأبعدته، خسأ: كرجع رجوعا، ورجعته رجعا. النكال: العبرة، وأصله المنع، والنكل: القيد. وقال مقاتل: النكال: العقوبة اليد: عضو معروف أصله يدي، وقد صرح بهذا الأصل، وقد أبدلوا ياءه همزة قالوا: قطع الله أديه: يريدون يديه، وجمعت على أفعل، قالوا: أيد، أصله: أيدي، وقد استعملت للنعمة والإحسان. وأما الأيادي فهو في الحقيقة جمع جمع، واستعماله في النعمة أكثر من استعماله للجارحة، كما أن استعمال الأيدي في الجارحة أكثر منه في النعمة. خلف: ظرف مكان مبهم، وهو متوسط التصرف، ويكون أيضا وصفا، يقال رجل خلف: بمعنى رديء، وسكت ألفا ونطق خلفا: أي نطقا رديئا. موعظة: مفعلة، من الوعظ، والوعظ: الإذكار بالخير بما يرق له القلب، وكسر عين الكلمة فيما كان على هذا الوزن وعلى مفعل هو القياس، وقد شذ: موءلة وكلم، ذكرها النحويون جاءت مفتوحة العين.
قوله تعالى: * (إن الذين ءامنوا والذين هادوا) * الآية. نزلت في أصحاب سلمان، وذلك أنه صحب عبادا من النصارى، فقال له أحدهم: إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فآمن به. ورأى منهم عبادة عظيمة، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم)، ذكر له خبرهم وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية، حكى هذه القصة مطولة ابن إسحاق والطبري والبيهقي. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في أول الإسلام، وقدر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم)، ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، فله أجره، ثم نسخ ما قدر من ذلك بقوله: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا
403

فلن يقبل منه) *. وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم). وقال غير ابن عباس: ليست بمنسوخة، وهي فيمن ثبت على إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم). وروى الواحدي، بإسناد متصل إلى مجاهد، قال: لما قص سلمان على النبي صلى الله عليه وسلم) قصة أصحابه، وقال له هم في النار، قال سلمان: فأظلمت علي الأرض، فنزلت إلى * (يحزنون) *، قال: فكأنما كشف عني جبل.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر الكفرة من أهل الكتاب، وما حل بهم من العقوبة، أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم، دالا على أنه يجزي كلا بفعله، والذين آمنوا منافقوا هذه الأمة، أي آمنوا ظاهرا، ولهذا قرنهم بمن ذكر بعدهم، ثم بين حكم من آمن ظاهرا وباطنا، قاله سفيان الثوري أو المؤمنون بالرسول. ومن آمن: معناه من داوم على إيمانه، وفي سائر الفرق: من دخل فيه، أو الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول: كزيد بن عمرو بن نفيل، وقيس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، ومن لحقه: كأبي ذر، وسلمان، وبحيرا. ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون المبعث، فمنهم من أدرك وتابع، ومنهم من لم يدركه، والذين هادوا كذلك، ممن لم يلحق إلا من كفر بعيسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والنصارى كذلك، والصابئين كذلك، قاله السدي أو أصحاب سلمان، وقد سبق حديثهم، أو المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول، قاله ابن عباس، أو المؤمنون بموسى، وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى فآمنوا به وعملوا بشريعته، إلى أن جاء محمد، قاله السدي عن أشياخه، أو مؤمنوا الأمم الخالية، أو المؤمنون بالله وملائكة وكتبه ورسله من سائر الأمم. فهذه ثمانية أقوال في المعنى بالذين آمنوا والذين هادوا وهم اليهود.
وقرأ الجمهور: هادوا بضم الدال. وقرأ أبو السماك العدوي: بفتحها من المهاداة، قيل: أي مال بعضهم إلى بعض، فالقراءة الأولى مادتها هاء وواو ودال، أو هاء وياء ودال، والقراءة الثانية مادتها هاء ودال وياء، ويكون فاعل من الهداية، وجاء فيه فاعل موافقة فعل، كأنه قيل: والذين هدوا، أي هدوا أنفسهم نحو: جاوزت الشيء بمعنى جزته. * (والنصارى) *: الألف للتأنيث، ولذلك منع الصرف في قوله: * (الذين قالوا إنا نصارى) *، وهذا البناء، أعني فعالى، جاء مقصورا جمعا، وجاء ممدودا مفردا، وألفه للتأنيث أيضا نحو: بركاء. وقرأ الجمهور: والصابئين مهموزا، وكذا والصابئون، وتقدم معنى صبأ المهموز. وقرأ نافع: بغير همز، فيحتمل وجهين أظهرهما أن يكون من صبأ: بمعنى مال، ومنه قول الشاعر:
* إلى هند صبا قلبي
*
وهند مثلها يصبي
*
والوجه الآخر يكون أصله الهمز، فسهل بقلب الهمز ألفا في الفعل وياء في الاسم، كما قال الشاعر:
* إن السباع لتهدي في مرابضها
*
والناس ليس بهاد شرهم أبدا
*
وقال الآخر:
* وكنت أذل من وتد بقاع
*
يشجج رأسه بالفهرواج
*
وقال آخر:
404

فارعى فزارة لا هناك المرتع
إلا أن قلب الهمزة ألفا يحفظ ولا يقاس عليه. وأما قلب الهمزة ياء فبابه الشعر، فلذلك كان الوجه الأول أظهر. وذكر بعض المفسرين مسائل من أحكام اليهود والنصارى. * (والصابئين) *: لا يدل عليها لفظ القرآن هنا، فلم يذكرها، وموضعها كتب الفقه..
* (من ءامن بالله واليوم الاخر) *، من: مبتدأة، ويحتمل أن تكون شرطية، فالخبر الفعل بعدها، وإذا كانت موصولة، فالخبر قوله: * (فلهم أجرهم) *، ودخلت الفاء في الخبر، لأن المبتدأ الموصول قد استوفى شروط جواز دخول الفاء في الخبر، وقد تقدم ذكرها. واتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله: * (من ءامن) * في موضع خبر إن إذا كان من مبتدأ، وإن الرابط محذوف تقديره: من آمن منهم، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير الإيمانين، أعني: الذي هو صلة الذين، والذي هو صلة من، إما في التعليق، أو في الزمان، أو في الإنشاء والاستدامة. وأما إذا لم يتغايرا، فلا يتم ذلك، لأنه يصير المعنى: إن الذين آمنوا: من آمن منهم، ومن كانوا مؤمنين، لا يقال: من آمن منهم إلا على التغاير بين الإيمانين. وذهب بعض الناس إلى أن ذلك على الحذف، وأن التقدير: أن الذين آمنوا لهم أجرهم عند ربهم، والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن منهم، أي من الأصناف الثلاثة، فلهم أجرهم، وذلك لما لم يصلح أن يكون عنده من آمن خبرا عن الذين آمنوا، ومن
بعدهم. ومن أعرب من مبتدأ، فإنما جعلها شرطية. وقد ذكرنا جواز كونها موصولة، وأعربوا أيضا من بدلا، فتكون منصوبة موصولة. قالوا: وهي بدل من اسم إن وما بعده، ولا يتم ذلك أيضا إلا على تقدير تغاير الإيمانين، كما ذكرنا، إذا كانت مبتدأة. والذي نختاره أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن، فيصح إذ ذاك المعنى، وكأنه قيل: إن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة، ومن آمن من الأصناف الثلاثة، فلهم أجرهم. ودخلت الفاء في الخبر، لأن الموصول ضمن معنى الشرط، ولم يعتد بدخول إن على الموصول، وذلك جائز في كلام العرب، ولا مبالاة بمن خالف في ذلك. ومن زعم أن من آمن معطوف على ما قبله، وحذف منه حرف العطف، التقدير: ومن آمن بالله فقوله بعيد عن الصواب، ولا حاجة تدعو إلى ذلك، وقد اندرج في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالرسل، إذ البعث لا يعرف إلا من جهة الرسل.
* (وعمل صالحا) *: هو عام في جميع أفعال الصلاح وأقوالها وأداء الفرائض، أو التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم) أقوال. الثاني يروى عن ابن عباس، وقد حمل الصلة أو فعل الشرط والمعطوف على لفظ من، فأفرد الضمير في آمن وعمل ثم قال: * (فلهم أجرهم) * إلى آخر الآية، فجمع حملا على المعنى. وهذان الحملان لا يتمان إلا بإعراب من مبتدأ، وأما على إعراب من بدلا، فليس فيه إلا حمل على اللفظ فقط. وللحمل على اللفظ والمعنى قيود ذكرت في النحو. قال أبو محمد بن عطية: وإذا جرى ما بعد على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى، وإذا جرى ما بعدها على المعنى، لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ، لأن الإلباس يدخل في الكلام. انتهى كلامه. وليس كما ذكر، بل يجوز إذا راعيت المعنى أن تراعي اللفظ بعد ذلك. لكن الكوفيين يشترطون الفصل في الجمع بين هذه الحملين فيقولون: من يقومون في غير شيء، وينظر في أمورنا قومك والبصريون لا يشترطون ذلك، وهذا على ما قرر في علم العربية:
* تروى الأحاديث عن كل مسامحة
*
وإنما لمعانيها معانيها
*
وأجرهم: مرفوع بالابتداء، ولهم في موضع الخبر. وعند الأخفش والكوفيين: إن أجرهم مرفوع بالجار والمجرور. * (عند ربهم) *: ظرف يعمل فيه الاستقرار الذي هو عامل في لهم، ويحتمل أن ينتصب على الحال، والعامل فيه محذوف تقديره: كائنا عند ربهم. وقرأ الجمهور: * (ولا خوف) *، بالرفع والتنوين. وقرأ الحسن: ولا خوف، من غير تنوين. وقد تقدم الكلام على قوله: * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * في آخر قصة آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأغنى عن
405

إعادته هنا.
ومناسبة ختم هذه الآية بها ظاهره، لأن من استقر أجره عند ربه لا يلحقه حزن على ما مضى، ولا خوف على ما يستقبل. قال القشيري: اختلاف الطرق مع اتحاذ الأصل لا يمنع من حسن القبول، فمن صدق الله تعالى في إيمانه، وآمن بما أخبر به من حقه وصفاته، فاختلاف وقوع الاسم غير قادح في استحقاق الرضوان.
* (وإذ أخذنا ميثاقكم) *: هذا هو الإنعام العاشر، لأنه إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم، وتقدم الكلام في لفظة الميثاق في قوله تعالى: * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) *. والميثاق: ما أودعه الله تعالى العقول من الدلائل على وجوده وقدرته وحكمته وصدق أنبيائه ورسله، أو المأخوذ على ذرية آدم في قوله: * (ألست بربكم قالوا بلى) *، أو إلزام الناس متابعة الأنبياء، أو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم)، أو العهد منهم ليعملن بما في التوراة، فلما جاء موسى قرؤا ما فيها من التثقيل فامتنعوا من أخذها، أو قوله: * (لا تعبدون إلا الله) *، أقوال ستة. قال القفال: قال ميثاقكم ولم يقل مواثيقكم، لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم، كقوله: * (ثم يخرجكم طفلا) *، أو لأن ما أخذه على واحد منهم، أخذه على غيره، فكان ميثاقا واحدا، ولو جمع لاحتمل التغاير. انتهى كلامه ملخصا.
* (ورفعنا فوقكم الطور) *: سبب رفعه امتناعهم من دخول الأرض المقدسة، أو من السجود، أو من أخذ التوراة والتزمها. أقوال ثلاثة. روي أن موسى لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا، إلا أن يكلمنا الله بها، كما كلمك، فصعقوا ثم أحيوا. فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا. فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم، وأضرم نارا بين أيديهم، فاحتاط بهم غضبه، فقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، وغرقكم البحر، وأحرقتكم النار، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق، وسجدوا على شق لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا. فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها، فأمروا سجودهم على شق واحد. وذكر الثعلبي أن ارتفاع الجبل فوق رؤوسهم كان مقدار قامة الرجل، ولم تدل الآية على هذا السجود الذي ذكر في هذه القصة. والواو في قوله: ورفعنا، واو العطف: على تفسير ابن عباس، لأن أخذ الميثاق كان متقدما، فلما نقضوه بالامتناع من قبول الكتاب رفع عليهم الطور. وأما على تفسير أبي مسلم: فإنها واو الحال، أي إن أخذ الميثاق كان في حال رفع الطور فوقهم، نحو قوله تعالى: * (ونادى نوح ابنه وكان فى معزل) *، أي وقد كان في معزل.
* (خذوا ما ءاتيناكم) *: هو على إضمار القول، أي: وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم. وقال بعض الكوفيين: لا يحتاج إلى إضمار قول، لأن أخذ الميثاق هو قول، والمعنى: وإذا أخذنا ميثاقكم بأن خذوا ما آتيناكم، وما موصول، والعائد عليه محذوف، أي: ما آتيناكموه، ويعني به الكتاب. يدل على ذلك قوله: * (واذكروا ما فيه) *، وقرئ: ما آتيتكم، وهو شبه التفات، لأنه خرج من ضمير المعظم نفسه إلى غيره. ومعنى قوله: * (بقوة) * بجد واجتهاد، قاله ابن عباس وقتادة والسدي، أو بعمل، قاله
406

مجاهد؛ أو بصدق وحق، قاله ابن زيد؛ أو بقبول، قاله ابن بحر؛ أو بطاعة، قاله أبو العالية والربيع؛ أو بنية وإخلاص، أو بكثرة درس ودراية؛ أو بجد وعزيمة ورغبة وعمل؛ أو بقدرة. والقوة: القدرة والاستطاعة. وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، والباء للحال أو الاستعانة.
* (واذكروا ما فيه) *. قرأ الجمهور: به أمرا من ذكر، وقرأ أبي: واذكروا ما فيه: أمرا من اذكر، وأصله: وإذتكروا، ثم أبدل من التاء دال، ثم أدغم الذال في الدال، إذ أكثر الإدغام يستحيل فيه الأول إلى الثاني، ويجوز في هذا أن يستحيل الثاني إلى الأول، ويدغم فيه الأول فيقال: اذكر، ويجوز الإظهار فتقول: إذ ذكر. وقرأ ابن مسعود: تذكروا، على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر الذي هو خذوا. فعلى القراءتين قيل: هذا يكون أمرا بالإذكار، وعلى هذه القراءة يكون الذكر مترتبا على حصول الأخذ بقوة، أي أن تأخذوا بقوة تذكروا ما فيه. وذكر الزمخشري أنه قرىء: وتذكروا أمرا من التذكر، ولا يبعد عندي أن تكون هذه القراءة هي قراءة ابن مسعود، ووهم الذي نقلناه من كتابه تذكروا في إسقاط الواو، والذي فيه هو ما تضمنه من الثواب، قاله ابن عباس؛ أو احفظوا ما فيه ولا تنسوه وادرسوه، قاله الزجاج؛ أو ما فيه من أمر الله ونهيه وصفة محمد صلى الله عليه وسلم)، أو اتعظوا به لتنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى. والذكر: قد يكون اللسان، وقد يكون بالقلب على ما سبق، وقد يكون بهما. فباللسان معناه: ادرسوا، وبالقلب معناه: تدبروا، وبهما معناه: ادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه. أو أريد بالذكر: ثمرته، وهو العمل، فمعناه: اعملوا بما فيه من الأحكام والشرائع. والضمير في فيه يعود على ما. وقال في المنتخب: لا يحمل على نفس الذكر، لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله تعالى، فكيف يجوز الأمر به؟ انتهى.
ادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه. أو أريد بالذكر: ثمرته، وهو العمل، فمعناه: اعملوا بما فيه من الأحكام والشرائع. والضمير في فيه يعود على ما. وقال في المنتخب: لا يحمل على نفس الذكر، لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله تعالى، فكيف يجوز الأمر به؟ انتهى.
* (لعلكم تتقون) *: أي رجاء أن يحصل لكم التقوى بذكر ما فيه. وقيل: معناه لعلكم تنزعون عما أنتم فيه. والذي يفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وفعلوا مقتضاه، يدل على ذلك: * (ثم توليتم من بعد ذالك) *. فهذا يدل على القبول والالتزام لما أمروا به. وفي بعض القصص أنهم قالوا، لما زال الجبل: يا موسى، سمعنا وأطعنا، ولولا الجبل ما أطعناك. وفي بعض القصص: فآمنوا كرها، وظاهر هذا الإلجاء. والمختار عند أهل العلم أن الله تعالى خلق لهم الإيمان والطاعة في قلوبهم وقت السجود، حتى كان إيمانهم طوعا لا كرها.
* (ثم توليتم من بعد ذالك) *: أي أعرضتم عن الميثاق والعمل بما فيه، وأصل التولي: أن يكون بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات، اتساعا ومجازا. ودخول ثم مشعر بالمهلة، ومن تشعر بابتداء الغاية. لكن بين الجملتين كلام محذوف، التقدير، والله أعلم: فأخذتم ما آتيناكم، وذكرتم ما فيه، وعملتم بمقتضاه. فلا بد من ارتكاب مجاز في مدلول من، وأنه لسرعة التولي منهم واجتماعهم عليه، كأنه ما تخلل بين ما أمروا به وبين التولي شيء. وقد علم أنهم بعدما قبلوا التوراة، تولوا عنها بأمور، فحرفوها، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بالله، وعصوا أمره. ومن ذلك ما اختص به بعضهم، وما عمله أوائلهم، وما عمله أواخرهم. ولم يزالوا في التيه، مع مشاهدتهم الأعاجيب، يخالفون موسى، ويظاهرون بالمعاصي في سكرهم، حتى خسف ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأون بها، ثم فعل ساحروهمم ما لا خفاء به، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله، والقرآن، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة. فالجملة معروفة، وذلك إخبار من الله عن أسلافهم. فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم)، وحالهم في كتابه ما ذكر. والإشارة بذلك في قوله: * (من بعد ذالك) * إلى قبول ما أوتوه، أو إلى أخذ الميثاق والوفاء به، ورفع الجبل، أو خروج موسى من بينهم، أو الإيمان، أقوال.
* (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) *،
407

الفضل: الإسلام، والرحمة: القرآن، قاله أبو العالية. أو الفضل: قبول التوبة، والرحمة: العفو عن الزلة، أو الفضل: التوفيق للتوبة، والرحمة: القبول. أو الفضل والرحمة، فأخبر الله عنهم. أو الفضل والرحمة: بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وإدراكهم لمدته. وعلى هذا القول يكون من تلوين الخطاب، إذ صار هذا عائدا على الحاضرين. والأقوال قبله تدل على أن المخاطب به من سلف، لأنه جاء في سياق قصتهم. وفضل الله على مذهب البصريين مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: موجود، وما يشبهه مما يليق بالموضع. وعليكم: متعلق بفضل، أو معمول له، فلا يكون في موضع الخبر. والتقدير: * (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) * موجودان، * (لكنتم) *: جواب لولا. والأكثر أنه إذا كان مثبتا تدخله اللام، ولم يجئ في القرآن مثبتا إلا باللام، إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى: * (وهم بها) *، جواب: لولا قدم فإنه لا لام معه. وقد جاء في كلام العرب بغير لام، وبعض النحويين يخص ذلك بالشعر، قال الشاعر:
* لولا الحياء ولولا الدين عبتكما
*
ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
*
وقد جاء في كلامهم بعد اللام، قد، قال الشاعر:
* لولا الأمير ولولا حق طاعته
*
لقد شربت دما أحلى من العسل
*
وقد جاء في كلامهم أيضا حذف اللام وإبقاء قد نحو: لولا زيد قد أكرمتك. * (من الخاسرين) *: تقدم أن الخسران: هو النقصان، ومعناه من الهالكين في الدنيا والأخرى. ويحتمل أن يكون كان هنا بمعنى: صار. قال القشيري: أخذ سبحانه ميثاق المكلفين، ولكن قوما أجابوه طوعا، لأنه تعرف إليهم، فوحدوه، وقوما أجابوه كرها، لأنه ستر عليهم، فجحدوه. ولا حجة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور، ولكن عدموا نور البصيرة، فلم ينفعهم عيان البصر. قال تعالى: * (ثم توليتم) *، أي رجعتم إلى العصيان، بعد مشاهدتكم الإيمان بالعيان، ولولا حكمه بإمهاله، وحكمه بإفضاله، لعاجلكم بالعقوبة، ولحل بكم عظيم المصيبة.
وقال بعض أهل اللطائف: كانت نفوس بني إسرائيل، من ظلمات عصيانها، تخبط في عشواء حالكة الجلباب، وتخطر، من غلوائها وعلوها، في حلتي كبر وإعجاب. فلما أمروا بأخذ التوراة، ورأوا ما فيها من أثقال التكاليف، ثارت نفوسهم الآبية، فرفع الله عليهم الجبل، فوجدوه أثقل مما كلفوه، فهان عليهم حمل التوراة معما فيها من التكليف والنصب، إذ ذاك أهون من الهلاك، قال الشاعر:
* إلى الله يدعى بالبراهين من أبى
*
فإن لم يجب نادته بيض الصوارم
*
* (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم * فى السبت) * اللام في لقد: هي لام توكيد، وتسمى: لام الابتداء في نحو: لزيد قائم. ومن أحكامها: أن ما كان في حيزها لا يتقدم عليها، إلا إذا دخلت على خبر إن على ما قرر في النحو. وقد صنف بعض النحويين كتابا في اللامات ذكرها فيه وأحكامها. ويحتمل أن تكون جوابا لقسم محذوف، ولكنه جيء على سبيل التوكيد، لأن مثل هذه القصة يمكن أن يبهتوا في إنكارها، وذلك لما نال في عقبى أولئك المعتدين من مسخهم قردة، فاحتيج في ذلك إلى توكيد، وأنهم علموا ذلك حقيقة. وعلم هنا كعرف، فلذلك تعدت إلى واحد. وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين، وقدره بعضهم: علمتم أحكام الذين، وقدره بعضهم: اعتداء الذين. والاعتداء كان على ما
408

نقل من أن موسى أمره الله بصوم يوم الجمعة، وعرفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء، فذكر ذلك لبني إسرائيل، وأمرهم بالتشرع فيه، فأبوه وتعدوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى: أن دعهم وما اختاروه. وامتحنهم فيه، بأن أمرهم بترك العمل، وحرم عليهم فيه صيد الحيتان. فكانت تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية، قاله الحسن بن أبي الحسن، وقيل: حتى تخرج خراطيمها من الماء، وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان، فلم يظهروا للسبت الآخر. فبقوا على ذلك زمانا حتى اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت، فربط حوتا بخزمة، وضرب له وتدا بالساحل. فلما ذهب السبت، جاء فأخذه فسمع قوم بفعله، فصنعوا مثل ما صنع، وقيل: بل حفر رجل في غير السبت حفيرا يخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت، خرج الحوت وحصل في الحفيرة، فإذا جزر البحر، ذهب الماء من طريق الحفيرة وبقي الحوت، فجاء بعد السبت فأخذه. ففعل قوم مثل فعله. وكثر ذلك، حتى صادوه يوم السبت علانية وباعوه في الأسواق. فكان هذا من أعظم الاعتداء. وقد رويت زيادات في كيفية الاعتداء، الله أعلم بصحة ذلك. والذي يصح في ذلك هو ما ذكره الله في كتابه، وما صح عن نبيه.
منكم: في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف تقديره: كاثنين منكم، ومن: للتبعيض. في السبت: متعلق باعتدوا، إما على إضمار يوم، أو حكم. والحامل على الاعتداء قيل: الشيطان وسوس لهم وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، ولم تنهوا عن حبسها، فأطاعوه، ففعلوا ذلك. وقيل: لما فعل ذلك بعضهم، ولم يعجل له عقوبة، وتشبه به أناس منهم، وفعلوا لفعله، ظنوا أن السبت قد أبيح لهم، فتمالأ على ذلك جمع كبير، فأصابهم ما أصابهم. وقيل: أقدموا على ذلك متأولين، لأنه أمرهم بترك العمل يوم السبت، وقالوا: إنما نهانا الله عن أسباب الاكتساب التي تشغلنا عن العبادة، ولم ينهنا عن العمل اليسير. وقيل: فعل ذلك أوباشهم تحريا وعصيانا، فعم الله الجميع بالعذاب.
* (فقلنا لهم كونوا) *: أمر من الكون وليس بأمر حقيقة، لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم، لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم قردة، بل المراد منه سرعة الكون على هذا الوصف، كقوله تعالى: * (إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) *، ومجازه: أنه لما أراد منهم ذلك صاروا كذلك. وظاهر القرآن مسخهم قردة. وقيل: لم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كما قال تعالى: * (كمثل الحمار يحمل أسفارا) *، قاله مجاهد. وقيل: مسخت قلوبهم حتى صارت كقلوب القردة، لا تقبل وعظا ولا تعي زجرا، وهو محكي عن مجاهد أيضا. والقول الأول هو قول الجمهور، ويجوز أن يبقي الله لهم فهم الإنسانية بعد صيرورتهم قردة: وروي في بعض قصصهم: أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم فيقول له: ألم أنهك؟ فيقول له برأسه: بلى، وتسيل دموعه على خده، ولم يعرض في هذا المسخ شيء منهم خنازير. وروي عن قتادة: أن الشباب صاروا قردة، واليوخ صاروا خنازير، وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم. وروي في قصصهم: أن الله تعالى مسخ العاصين قردة بالليل، فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم، فلم يروا أحدا من الهالكين، فقالوا: إن للناس لشأنا، ففتحوا عليهم الأبواب، كما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم قردة يعرفون الرجل والمرأة. وقيل: إن الناجين قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار تبريا منهم،
فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا عليهم الجدار، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض. قال قتادة: وصاروا قردة تعاوي، لها أذناب، بعدما كانوا رجالا ونساء.
* (قردة خاسئين) *: كلاهما خبر كان، والمعنى: أنهم يكونون قد جمعوا بين القردة والخسوء. ويجوز أن يكون خاسئين صفة لقردة، ويجوز أن يكون حالا من اسم كونوا. ومعنى خاسئين: مبعدين. وقال أبو روق: خاسرين، كأنه فسر باللازم، لأن من أبعده الله فقد خسر. وجمهور المفسرين: على أن الذين مسخهم الله لم يأكلوا، ولم يشربوا، ولم ينسلوا، بل ماتوا جميعا، وأنهم لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام. وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام، وماتوا في اليوم الثامن،
409

وكان هذا في زمن داود، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وكانوا في قرية يقال لها: أيلة، وقيل: مدين. وروى مسلم، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال لمن سأله عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ؟ فقال: (الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وأن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك). واختار القاضي أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا، وأن القردة الموجودين الآن من نسلهم. * (فجعلناها) *: الضمير عائد على القرية أو على الأمة، أو على الحالة، أو على المسخة، أو على الحيتان، أو على العقوبة. والذي يظهر أن الضمير عائد على المصدر المفهوم من: كونوا، أي فجعلنا كينونتهم قردة خاسئين. * (نكالا) *: أي عبرة، وهو مفعول ثان لجعل.
* (لما بين يديها وما خلفها) *: أي من القرى، والضمير للقرية، قاله عكرمة عن ابن عباس، أو لمن بعدهم من الأمم. وما خلفها: أي الذين كانوا معهم باقين، رواه الضحاك عن ابن عباس. أو ما بين يديها: أي ما دونها، وما خلفها يعني: لمن يأتي بعدهم من الأمم. والضمير للأمة، قاله السدي. أو ما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها للحيتان التي أاصبوا، قاله قتادة. أو لما بين يديها: ما مضى من خطاياهم التي أهلكوا بها، قاله مجاهد. أو لما بين يديها ممن شاهدها، وما خلفها ممن لم يشاهدها، قاله قطرب. أو ما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب. أو لما بين يديها: من حضرها من الناجين، وما خلفها ممن يجيء بعدها. أو لما بين يديها من عقوبة الآخرة، وما خلفها في دنياهم، فيذكرون بها إلى قيام الساعة. أو لما بين يديها: لما حولها من القرى، وما خلفها: وما يحدث بعدها من القرى التي لم تكن، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين، فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين. أو في الآية تقديم وتأخير، أي فجعلناها وما خلفها مما أعد لهم في الآخرة من العذاب، نكالا وجزاء، لا لما بين يديها، أي لما تقدم من ذنوبهم لاعتدائهم في السبت. فهذه أحد عشر قولا. قال بعضهم: والأقرب للصواب قول من قال: ما بين يديها: من يأتي من الأمم بعدها. وما خلفها: من بقي منهم ومن غيرهم لم تنلهم العقوبة، ومن قال الضمير عائد على القرية، فالمراد أهلها.
* (وموعظة للمتقين) *: خص المتقين لأنهم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير، قال تعالى: * (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) *، * (إنما أنت منذر من يخشاها) *. وقيل: أراد نكالا لبني إسرائيل، وموعظة للمتقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم). قيل: المتقون أمة محمد صلى الله عليه وسلم)، قاله السدي عن أشياخه. وقيل: اللفظ عام في كل متق من كل أمة، قاله ابن عباس. وقيل: الذين نهوا ونجوا.
وقد تضمن تهذه الآيات الكريمة التسوية بين مؤمني اليهود والنصارى والصابئين، ومؤمني غيرهم في كينونة الأجر لهم، وأن ذلك عند من يراهم، وأن إيمانهم في الدنيا أنتج لهم الأمن في الآخرة، فلا خوف مما يستقبل، ولا حزن على ما فات إذ من استقر له أجره عند ربه فقد بلغ الغاية القصوى من الكرامة. وقد أدخل هذه الآية بين قصص بني إسرائيل ليبين أن الفوز إنما هو لمن أطاع. وصارت هذه الآية بين آيتي عقاب: إحداهما تتضمن ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل، والأخرى تتضمن ما عوقبوا به من تتق الجبل فوقهم، وأخذ الميثاق، ثم توليهم بعد ذلك. فأعلمت هذه الآية بحسنى عاقبة من آمن، حتى من هذا الجنس الذي عوقب بهاتين العقوبتين، ترغيبا في الإيمان، وتيسيرا للدخول في أشرف الأديان، وتبيينا أن الإسلام يجب ما قبله، وأن طاعة الله تجلب إحسانه وفضله.
وتضمن قوله * (وإذ أخذنا ميثاقكم) * التذكير بالميثاق الذي أخذ عليهم، وأنه كان يجب الوفاء به، وأنه رفع الطور فوقهم لأن يتوبوا ويرجوا، وأنهم مع مشاهدتهم هذا الخارق العظيم تولوا وأعرضوا عن قبول الحق، وأنه لولا أن تذاركهم بفضله ورحمته لخسروا. ثم أخذ يذكرهم ما هو في طي علمهم من عقوبة العاصين، ومآل اعتداء المعتدين، وأنه باستمرار العصيان والاعتداء في إباحة ما حظره الرحمن، يعاقب بخروج العاصي من طور الإنسانية إلى طور القردية، فبينا هو يفرح بجعله من ذوي
410

الألباب، ويمرج ملتذا بدلال الخطاب، نسخ اسمه من ديوان الكمال، ونسخ شكله إلى أقبح مثال، هذا مع أعدله في الآخرة من النكال، والعقوبات على الجرائم جارية على المقدار، ناشئة عن إرادة الملك القهار، ليست مما تدرك بالقياس، فيخوص في تعيينها ألباب الناس، ومثل هذه العقوبة تكون تنبيها للغافل، عظة للعاقل.
2 (* (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذالك فافعلوا ما تؤمرون * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقع لونها تسر الناظرين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى إن البقر تشابه علينا وإنآ إن شآء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الا رض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا اأان جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون * وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها كذالك يحى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون * ثم قست قلوبكم من بعد ذالك فهى كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون) *)) 2
البقرة: الأنثى من هذا الحيوان المعروف، وقد يقع على الذكر. والباقر والبقير والبيقور والباقور، قالوا: وإنما سميت بقرة لأنها تبقر الأرض، أي تشقها للحرث، ومنه سمي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: الباقر. وكان هو وأخوه زيد بن علي من العلماء الفصحاء. العياذ والمعاذ: الاعتصام. الفعل منه: عاذ
يعوذ. الجهل: معروف، والفعل منه: جهل يجهل، قيل: وقد جمع على أجهال، وهو شاذ.
قال الشنفري:
* ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى
*
سؤولا بأطراف الأقاويل أنمل ويحتمل أن يكون جمع جاهل، كأصحاب: جمع صاحب. الفارض: المسن التي انقطعت ولادتها من الكبر. يقال: فرضت وفرضت تفرض، بفتح العين في الماضي وضمها، والمصدر فروض، والفرض: القطع، قال الشاعر:
*
411

كميت بهيم اللون ليس بفارض
ولا بعوان ذات لون مخصف
*
ويقال لكل ما قدم وطال أمره: فارض، قال الشاعر:
* يا رب ذي ضغن علي فارض
*
له قروء كقروء الحائض
*
وكأن المسن سميت فارضا لأنها فرضت سنها، أي قطعتها وبلغت آخرها، قال خفاف بن ندبة:
* لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضا
*
تساق إليه ما تقوم على رجل
*
* ولم تعطه بكرا فيرضى سمينه
*
فكيف تجازى بالمودة والفضل
*
البكر: الصغيرة التي لم تلد من الصغر، وقال ابن قتيبة: التي ولدت ولدا واحدا. والبكر من النساء: التي لم يمسها الرجل، وقال ابن قتيبة: هي التي لم تحمل. والبكر من الأولاد: الأول، ومن الحاجات: الأولى.
قال الراجز:
* يا بكر بكرين ويا خلب الكبد
*
أصبحت مني كذراع من عضد
*
والبكر، بفتح الباء: الفتى من الإبل، والأنثى: بكرة، وأصله من التقدم في الزمان، ومنه البكرة والباكورة. والعوان: النصف، وهي التي ولدت بطنا أو بطنين، وقيل: التي ولدت مرة. وقالت العرب: العوان لا تعلم الخمرة، ويقال: عونت المرأة، وحرب عوان، وهي التي قوتل فيها مرة بعد مرة، وجمع على فعل: قالوا عون، وهو القياس في المعتل من فعأل، ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر، منه:
وفي الأكف اللامعات سور
بين: ظرف مكان متوسط التصرف، تقول: هو بعيد بين المنكبين، ونقي بين الحاجبين. قال تعالى: * (هاذا فراق بينى وبينك) *، ودخولها إذا كانت ظرفا: بين ما تمكن البينية فيه، والمال بين زيد وبين عمرو، ومسموع من كلامهم، وينتقل من المكانية إلى الزمانية إذا لحقتها ما، أو الألف، فيزول عنها الاختصاص بالأسماء، فيليها إذذاك الجملة الإسمية والفعلية، وربما أضيفت بينا إلى المصدر. ولبين في علم الكوفيين باب معقود كبير. اللون: معروف، وجمعه على القياس ألوان. واللون: النوع، ومنه ألوان الطعام: أنواعه. وقالوا: فلان متلون: إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد، ومنه: يتلون تلون الحرباء، وذلك أن الحرباء، لصفاء
جسمها، أي لون قابلته ظهر عليها، فتنقلب من لون إلى لون.
412

الصفرة: لون معروف، وقياس الفعل من هذا المصدر: صفر، فهو أصفر، وهي صفراء، كقولهم: شهب: فهو أشهب، وهي شهباء. الفقوع: أشد ما يكون من الصفرة وأبلغه، يقال: أصفر فاقع ووارس، وأسود حالك وحايك، وأبيض نقق ولمق، وأحمر قاني وزنجي، وأخضر ناضر ومدهام، وأزرق خطباني وأرمك رداني. السرور: لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق. وقال قوم: السرور والفرح والحبور والجذل نظائر، ونقيض السرور: الغم. الذلول: الريض الذي زالت صعوبته، يقال: دابة ذلول: بينة الذل، بكسر الذال، ورجل ذليل: بين الذل بضم الذال، والفعل: ذل يذل. الإثارة: الاستخراج والقلقلة من مكان إلى مكان، وقال امرؤ القيس:
* يهيل ويذري تربها ويثيره
*
إثارة نباش الهواجر مخمس
*
وقال النابغة:
* يثرن الحصى حتى يباشرن تربه
*
إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل
*
الحرث: مصدر حرث يحرث، وهو شق الأرض ليبذر فيها الحب، ويطلق على ما حرث وزرع، وهو مجاز في: * (نساؤكم حرث لكم) *. والحرث: الزرع، والحرث: الكسب، والحرائث: الإبل، الواحدة حريثة. وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث، لأن الحارث هو الكاسب، واحتراث المال: اكتسابه. المسلمة المخلصة المبرأة من العيوب، سلم له كذا: أي خلص، سلاما وسلامة مثل: اللذاذ واللذاذة. الشية: مصدر وشى الثوب، يشيه وشيا وشية: حسنه وزينه بخطوط مختلفة الألوان، ومنه قيل للساعي في الإفساد بين الناس: واش، لأنه يحسن كذبه عندهم حتى يقبل، والشية: اللمعة المخالفة للون، ومنه ثور موشى القوائم، قال الشاعر:
* من وحش وجرة موشي أكارعه
*
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
*
الآن: ظرف زمان، حضر جميعه أو بعضه، والألف واللام فيه للحضور. وقيل: زائدة، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة. وزعم الفراء أنه منقول من الفعل، يقال: آن يئين أينا: أي حان. الدر: الدفع، ويدرأ عنها العذاب. وقال الشاعر:
413

فنكب عنهم درء الأعادي
وادار: تفاعل منه، ولمصدره حكم يخالف مصادر الأفعال التي أولها همزة وصل ذكر في النحو. القساوة: غلظ القلب وصلابته. يقال: قسا يقسو قسوا وقسوة وقساوة، وقسا وجسا وعسا متقاربة. الشق، أن يجعل الشيء شقين، وتشقق منه. الخشية: الخوف مع تعظم المخشي. يقال: خشي يخشى. الغفلة والسهو والنسيان متقاربة. يقال منه: غفل يغفل، ومكان غفل لم يعلم به.
* (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * الآية. وجد قتيل في بني إسرائيل اسمه عاميل، ولم يدروا قاتله، واختلفوا فيه وفي سبب قتله. فقال عطاء والسدي: كان القاتل ابن عم المقتول، وكان مسكينا، والمقتول كثير المال. وقيل: كان أخاه، وقيل: ابن أخيه، ولا وارث له غيره، فلما طال عليه عمره قتله ليرثه. وقال عطاء أيضا: كان تحت عاميل بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال، فقتله لينكحها. وطول المفسرون في هذه الحكاية بما يوقف عليه في كتبهم. والذي سأل موسى البيان هو القاتل، قاله أبو العالية. وقال غيره: بل اجتمع القوم فسألوا موسى، ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه تقدم ذكر مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم في أكثر أنبائهم، فناسب ذلك ذكر هذه الآية لما تضمنت من المراجعة والتعنت والعناد مرة بعد مرة. وقوله: * (وإذ قال) * معطوف على قوله: * (وإذ أخذنا ميثاقكم) *، وقوم موسى أتباعه وأشياه. وقرأ الجمهور: يأمركم، بضم الراء، وعن أبي عمرو: والسكون والاختلاس وإبدال الهمزة ألفا، وقد تقدم توجيه ذلك عند الكلام على بارئكم ويأمركم بصيغة المضارع، فيحتمل أن يراد به الحال، ويحتمل أن يراد به الماضي إن كان الأمر بذبح البقرة بما أنزل الله في التوراة، أو بما أخبر موسى، وأن تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر، وهو على إسقاط الحرف، أي بأن تذبحوا. والحذف هنا مسوغان: أحدهما: أنه يجوز فيه، إذا كان المفعول متأثرا بحرف الجر، أن يحذف الحرف، كما قال:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
والثاني: كونه مع إن، وهو يجوز معها حذف حرف الجر إذا لم يلبس. ودلالة الكلام على أن المأمور به أن تذبحوا بقرة، فأي بقرة كانت لو ذبحوها لكان يقع الامتثال. وقد روى الحسن مرفوعا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (والذي نفس محمد بيده لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم). وإنما اختص البقر من سائر الحيوانات لأنهم كانوا يعظمون البقر ويعبدونها من دون الله، فاختبروا بذلك، إذ هذا من الابتلاء العظيم، وهو أن يؤمر الإنسان بقتل من يحبه ويعظمه، أو لأنه أراد تعالى أن يصل الخير للغلام الذي كان بارا بأمه. وقال طلحة بن مصرف: لم تكن من بقر الدنيا، بل نزلت من السماء. وقال بعض أهل العلم: البقر سيد الحيوانات الأنسية.
وقرأ: * (* أتتخدنا) *؟ الجمهور: بالتاء، على أن الضمير هو لموسى. وقرأ عاصم الجحدري وابن محيصن بالياء، على أن الضمير لله تعالى، وهو استفهام على سبيل الإنكار. * (أنذروا
414

هزوا) *، قرأ حمزة، وإسماعيل، وخلف في اختياره، والقزاز، عن عبد الوارث والمفضل، بإسكان الزاي. وقرأ حفص: بضم الزاي والواو بدل الهمز. وقرأ الباقون: بضم الزاي والهمزة، وفيه ثلاث لغات التي قرىء بها، وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله: * (أتتخذنا هزوا) *، فإما أن يريد به اسم المفعول، أي مهزوأ، كقوله: درهم ضرب الأمير، وهذا خلق الله، أو يكون أخبروا به على سبيل المبالغة، أي أتتخذنا نفس الهزو، وذلك لكثرة الاستهزاء ممن يكون جاهلا، أو على حذف مضاف، أي مكان هزء، أو ذوي هزء، وإجابتهم نبيهم حين أخبرهم عن أمر الله بأن يذبحوا بقرة، بقولهم: * (أتتخذنا هزوا) * دليل على سوء عقيدتهم في نبيهم وتكذيبهم له، إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى، لما كان جوابهم إلا امتثال الأمر، وجوابهم هذا كفر بموسى. وقال بعض الناس: كانوا مؤمنين مصدقين، ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية. والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى تعيين القاتل فقال لهم: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا) *، رأوا تباين ما بين السؤال والجواب وبعده، فتوهموا أن موسى داعبهم، وقد لا يكون أخبرهم في ذلك الوقت بأن القتيل يضرب ببعض البقرة المذبوحة فيحيا ويخبر بمن قتله، أو يكون أخبرهم بذلك، فتعجبوا من إحياء ميت ببعض ميت، فظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء. وقيل: في الكلام محذوف تقديره: آلله أمرك أن تتخذنا هزوا؟ وقيل: هو استفهام حقيقة ليس فيه إنكار، وهو استفهام استرشاد لا استفهام إنكار وعناد.
* (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) *، لما فهم موسى عليه السلام عنهم أن تلك المقالة التي صدرت عنهم إنما هي لاعتقادهم فيها أنه أخبر عن الله بما لم يأمر به، استعاذ بالله وهو الذي أخبر عنه، أن يكون من الجاهلين بالله، فيخبر عنه بأمر لم يأمر به تعالى، إذ الإخبار عن الله تعالى بما لم يخبر به الله إنما يكون ذلك من الجهل بالله تعالى. وقوله: من الجاهلين، فيه تصريح أن ثم جاهلين، واستعاذ بالله أن يكون منهم، وفيه تعريض أنهم جاهلون، وكأنه قال: أن أكون منكم، لأنهم جوزوا على من هو معصوم من الكذب، وخصوصا في التبليغ، عن الله أن يخبر عن الله بالكذب. قالوا: والجهل بسيط، ومركب البسيط: عام وخاص. العام: عدم العلم بشيء من المعلومات، والخاص: عدم العلم ببعض المعلومات، والمركب: أن يجهل، ويجهل أنه يجهل. فالعام والمركب لا يوصف بهما من له بعض علم، فضلا عن نبي شرف بالرسالة والتكليم، وذلك مستحيل عليه، فيستحيل أن يستعيذ منه إلا على سبيل الأدب. فالذي استعاذ منه موسى هو خاص، وهو المفضي إلى أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا، أو المقابل لجهلهم. فقالوا: أتتخذنا هزوا لمن يخبرهم عن الله، أو معناه الاستهزاء بالمؤمنين. فإن ذلك جهل، أو من الجاهلين بالجواب، لا على وفق السؤال، إذ ذاك جهل، والأمر من تلقاء نفسي، وأنسبه إلى الله، والخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء، فإن ذلك جهل. وهذه الوجوه الستة مستحيلة على موسى. قيل: وإنما استعاذ منها بطريق الأدب، كما استعاذ نوح عليه السلام * (أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم) *، وكما في: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) *، وإنما قالوا ذلك بطريق الأدب مع الله والتواضع له.
* (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى) *، لما قال لهم موسى: * (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) *، وعلموا أن ما أخبرهم به موسى من أمر الله إياهم بذبح البقرة كان عزيمة وطلبا، جاز ما قالوا له ذلك، وهذا القول أيضا فيه تعنيت منهم وقلة طواعية، إذ لو امتثلوا فذبحوا بقرة، لكانوا قد أتوا بالمأمور، ولكن شددوا، فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. وكسر العين من ادع لغة بني عامر، وقد سبق ذكر ذلك في * (فادع لنا ربك يخرج لنا) *، وجزم يبين على جواب الأمر. وما هي: مبتدأ وخبر. وقرأ عبد الله: سل لنا ربك يبين ما هي، ومفعول يبين: هي الجملة من المبتدأ والخبر، والفعل معلق، لأن معنى يبين لنا يعلمنا ما هي، لأن التبيين يلزمه الإعلام، والضمير في هي عائد على البقرة السابق ذكرها،
415

وكأنهم قالوا: يبين لنا ما البقرة التي أمرنا بذبحها، ولم يريدوا تبيين ماهية البقرة، وإنما هو سؤال عن الوصف، فيكون على حذف مضاف، التقدير: ما صفتها؟ ولذلك أجيبوا بالوصف، وهو قوله: * (لا فارض ولا بكر) *. وإنما سألوا على طريق التعنت، كما قدمناه، أو على طريق التعجب من بقرة ميتة يضرب بها ميت فيحيا، إذ ذاك في غاية الاستغراب والخروج عن المألوف، أو على طريق أنهم ظنوا قوله: * (أن تذبحوا بقرة) * من باب المجمل، فسألوا تبيين ذلك، إذ تبين المجمل واجب، أو على رجاء أن ينسخ عنهم تكليف الذبح، لثقل ذلك عليهم، لكونهم لم يعلموا المعنى الذي لأجله أمروا بذلك. وتقدم معنى قولهم: * (ادع لنا ربك) *، كيف خصوا لفظ الرب مضافا إلى موسى، وذلك لما علموا له عند الله من الخصوصية والمنزلة الرفيعة. وقيل: إنما سألوا موسى استرشادا لا عنادا، إذ لو كان عنادا لكفروا به وعجلت عقوبتهم، كما عجلت في قولهم: * (أرنا الله جهرة) *، وفي عبادتهم العجل، وفي امتناعهم من قبول التوراة، وقولهم: * (اذهب أنت * وربك فقاتلا) *. وفي الكلام حذف تقديره: فدعا موسى ربه فأجابه.
* (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر) *: صفة لبقرة، والصفة إذا كانت منفية بلا، وجب تكرارها، كما قال:
وفتيان صدق لا ضعاف ولا عزل
فإن جاءت غير مكررة، فبابها الشعر، ومن جعل ذلك من الوصف بالمجمل، فقدر مبتدأ محذوفا، أي * (لا * هى * فارض ولا بكر) *، فقد أبعد، لأن الأصل الوصف بالمفرد، والأصل أن لا حذف. * (عوان) *: تفسير لما تضمنه قوله: * (لا فارض ولا بكر) *. * (بين ذالك) *: يقتضي بين أن تكون تدخل على ما يمكن التثنية فيه، ولم يأت بعدها إلا اسم إشارة مفرد، فقيل: أشير بذلك إلى مفرد، فكأنه قيل: عوان بين ما ذكر، فصورته صورة المفرد، وهو في المعنى مثنى، لأن تثنية اسم الإشارة وجمعه ليس تثنية ولا جمعا حقيقة، بل كان القياس يقتضي أن يكون اسم الإشارة لا يثني ولا يجمع ولا يؤنث، قالوا: وقد أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة، قال رؤبة:
* فيها خطوط من سواد وبلق
*
كأنه في الجلد توليع البهق
*
قيل له: كيف تقول كأنه؟ وهلا قلت: كأنها، فيعود على الخطوط، أو كأنهما، فيعود على السواد والبلق؟ فقال: أردت كان ذاك، وقال لبيد:
* إن للخير وللشر مدى
*
وكلا ذلك وجه وقبل
*
قيل: أراد وكلا ذينك، فأطلق المفرد وأراد به المثنى، فيحتمل أن تكون الآية من ذلك، فيكون أطلق ذلك ويريد به ذينك، وهذا مجمل غير الأول. والذي أذهب إليه غير ما ذكروا، وهو أن يكون ذلك مما حذف منه المعطوف، لدلالة المعنى عليه، التقدير: عوان بين ذلك وهذا، أي بين الفارض والبكر، فيكون نظير قول الشاعر:
* فما كان بين الخير لو جاء سالما
*
أبو حجر إلا ليال قلائل
*
أي: فما كان بين الخير وباغيه، فحذف لفهم المعنى. * (سرابيل تقيكم الحر) * أي والبرد.
416

وإنما جعلت عوانا لأنه أكمل أحوالها، فالصغيرة ناقصة لتجاوزها حالته. * (فافعلوا ما تؤمرون) *: أي من ذبح البقرة، ولا تكرروا السؤال، ولا تعنتوا في أمر ما أمرتم بذبحه. ويحتمل أن تكون هذه الجملة من قول الله، ويحتمل أن تكون من قول موسى، وهو الأظهر. حرضهم على امتثال ما أمروا به، شفقة منه. وما موصولة، والعائد محذوف تقديره: ما تؤمرونه، وحذف الفاعل للعلم به، إذ تقدم أن الله يأمركم، ولتناسب أواخر الآي، كما قصد تناسب الإعراب في أواخر الأبيات في قوله:
ولا بد يوما أن ترد الودائع
إذ آخر البيت الذي قبل هذا قوله:
وما يدرون أين المصارع
وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية، أي: فافعلوا أمركم، ويكون المصدر بمعنى المفعول، أي مأموركم، وفيه بعد * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) * لما تعرفوا سن هذه، شرعوا في تعرف لونها، وذلك كله يدل على نقص فطرهم وعقولهم، إذ قد تقدم أمر الله لهم بذبح بقرة، وأمر المبلغ عن الله، الناصح لهم، المشفق عليهم، بقوله: * (فافعلوا ما تؤمرون) *، ومع ذلك لم يرتدعوا عن السؤال عن لونها، والقول في: * (ادع لنا ربك) *، وفي جزم: * (يبين) *، وفي الجملة المستفهم بها والمحذوف بعده سبق نظيره في الآية قبله، فأغنى عن ذكره. * (قال إنه يقول إنها بقرة صفراء) *: قال الجمهور: هو اللون المعروف: ولذلك أكد بالفقوع والسرور، فهي صفراء حتى القرن والظلف، وقال الحسن وأبو عبيدة: عنى به هنا السواد، قال الشاعر:
* وصفراء ليست بمصفرة
*
ولكن سوداء مثل الحمم
*
وقال سعيد بن جبير: صفراء القرن والظلف خاصة. * (فاقع) *: أي شديد الصفرة، قاله ابن عباس والحسن؛ أو الخالص الصفرة، قاله قطرب، أو الصافي، قاله
أبو العالية وقتادة. * (لونها) *: ذكروا في إعرابه وجوها: أحدها: أنا فاعل مرفوع بفاقع، وفاقع صفة للبقرة. الثاني: أنه مبتدأ وخبره فاقع. والثالث: أنه مبتدأ، و * (تسر الناظرين) * خبر. وأنث على أحد معنيين: أحدهما: لكونه أضيف إلى مؤنث، كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه. والثاني: أنه يراد به المؤنث، إذ هو الصفرة، فكأنه قال: صفرتها تسر الناظرين، فحمل على المعنى كقولهم: جاءته كتابي فاحتقرها، على معنى الصحيفة والوجه الإعراب الأول، لأن إعراب لونها مبتدأ، وفاقع خبر مقدم لا يجيزه الكوفيون، أو تسر الناظرين خبره، فيه تأنيث الخبر، ويحتاج إلى تأويل، كما قررناه. وكون لونها فاعلا بفاقع جار على نظم الكلام، ولا يحتاج إلى تقديم، ولا تأخير، ولا تأويل، ولم يؤنث فاقعا وإن كان صفة لمؤنث، لأنه رفع السبي، وهو مذكر فصار نحو: جاءتني امرأة حسن أبوها، ولا يصح هنا أن يكون تابعا لصفراء على سبيل التوكيد، لأنه يلزم المطابقة، إذ ذاك للمتبوع. ألا ترى أنك تقول أسود حالك، وسوداء حالكة، ولا يجوز سوداء حالك؟ فأما قوله:
* وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعا
*
كأن ذكي المسك فيها يفتق
*
فبابه الشعر، إذا كان وجه الكلام صفراء فاقعة، وجاء * (صفراء فاقع لونها) *، ولم يكتف بقوله: صفراء فاقعة، لأنه أراد تأكيد
417

نسبة الصفرة، فحكم عليها أنها صفراء، ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة، فابتدأ أولا بوصف البقرة بالصفرة، ثم أكد ذلك بوصف اللون بها، فكأنه قال: هي صفراء، ولونها شديد الصفرة. فقد اختلفت جهتا تعلق الصفرة لفظا، إذ تعلقت أولا بالذات، ثم ثانيا بالعرض الذي هو اللون، واختلف المتعلق أيضا، لأن مطلق الصفرة مخالف لشديد الصفرة، ومع هذا الاختلاف الظاهر فلا يحتاج ذلك إلى التوكيد. قال الزمخشري: فإن قلت، فهلا قيل: صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذلك اللون؟ قلت: الفائدة فيه التوكيد، لأن اللون اسم للهيئة، وهي الصفرة، فكأنه قيل: شديد الصفرة صفرتها، فهو من قولك: جد جده، وجنونك جنون. اه كلامه. وقال وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
* (تسر الناظرين) *: أي تبهج الناظرين إليها من سمنها ومنظرها ولونها. وهذه الجملة صفة للبقرة، وقد تقدم قول من جعلها خبرا، كقوله: لونها، وفيه تكلف قد ذكرناه. وجاء هذا الوصف بالفعل، ولم يجيء باسم الفاعل، لأن الفعل يشعر بالحدوث والتجدد. ولما كان لونها من الأشياء الثابتة التي لا تتجدد، جاء الوصف به بالاسم لا بالفعل، وتأخر هذا الوصف عن الوصف قبله، لأنه ناشىء عن الوصف قبله، أو كالناشىء، لأن اللون إذا كان بهجا جميلا، دهشت فيه الأبصار، وعجبت من حسنه البصائر، وجاء بوصف الجمع في الناظرين، ليوضح أن أعين الناس طامحة إليها، متلذذة فيها بالنظر. فليست مما تعجب شخصا دون شخص، ولذلك أدخل الألف واللام التي تدل على الاستغراق، أي هي بصدد من نظر إليها سر بها، وإن كان النظر هنا من نظر القلب، وهو الفكر، فيكون السرور قد حصل من التفكر في بدائع صنع الله، من تحسين لونها وتكميل خلقها. والضمير في تسر عائد على البقرة، على تقدير أن تسر صفة، وإن كان خبرا، فهو عائد على اللون الذي تسر خبر عنه. وقد تقدم توجيه التأنيث، ولذلك من قرأ يسر بالياء، فهو عائد على اللون، فيحتمل أن يكون لونها مبتدأ، ويسر خبرا، ويكون فاقعا صفة تابعة لصفراء، على حد هذا البيت الذي أنشدناه وهو:
وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعا
على قلة ذلك، ويحتمل أن يكون لونها فاعلا بفاقع، ويسر إخبار مستأنف. وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة، ولهذا كان علي كرم الله وجهه، يرغب في النعال الصفر. وقال ابن عباس: الصفرة تبسط النفس وتذهب الهم، وكان ابن عباس أيضا يحض على لبس النعال الصفر. ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهم.
* (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى) *، قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ري الظمآن وجه الاشتباه عليهم، إن كل بقرة لا تصلح عندهم أن تكون آية، لما علموا من ناقة صالح وما كان فيها من العجائب، فظنوا أن الحيوان لا يكون آية إلا إذا كان على ذلك الأسلوب، وذلك لما نبؤا أنها آية، سألوا عن ماهيتها وكيفيتها، ولذلك لم يسألوا موسى عن ذلك، بل سألوه أن يسأل الله لهم عن ذلك، إذ الله تعالى هو العالم بالآيات، وإنما سألوا عن التعيين، وإن كان اللفظ مقتضاه الإطلاق، لأنهم لو عملوا بمطلقة لم يحصل التقصي عن الأمر بيقين. انتهى كلامه. وقال غيره: لما لم يمكن التماثل من كل وجه، وحصل الاشتباه، ساغ لهم السؤال، فأخبروا بسنها، فوجدوا مثلها في السن كثيرا، فسألوا عن اللون، فأخبروا بذلك، فلم يزل اللبس بذلك، فسألوا عن العمل، فأخبروا بذلك، وعن بعض أوصافها الخاص بها، فزال اللبس بتبيين السن واللون والعمل وبعض الأوصاف، إذ وجود بقر كثير على هذه الأوصاف يندر، فهذا هو السبب الذي جرأهم على تكرار السؤال: * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى) *، تقدم الكلام على هذه الجملة.
* (إن البقر تشابه علينا) *: هذا تعليل لتكرار هذا السؤال إلى أن الحامل على استقصاء أوصاف هذه
418

البقرة، وهو تشابهها علينا، فإنه كثير من البقر يماثلها في السن واللون. وقرأ عكرمة ويحيى بن يعمر: إن الباقر، وقد تقدم أنه اسم جمع، قال الشاعر:
* ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا
*
خلقا كحوض الباقر المتهدم
*
وقرأ الجمهور: تشابه، جعلوه فعلا ماضيا على وزن تفاعل، مسند الضمير البقر، على أن البقر مذكر. وقرأ الحسن: تشابه، بضم الهاء، جعله مضارعا محذوف التاء، وماضيه تشابه، وفيه ضمير يعود على البقر، على أن البقر مؤنث. وقرأ الأعرج: كذلك، إلا أنه شدد الشين، جعله مضارعا وماضيه تشابه، أصله: تتشابه، فأدغم، وفيه ضمير يعود على البقر. وروي أيضا عن الحسن، وقرأ محمد المعيطي، المعروف بذي الشامة: تشبه علينا. وقرأ مجاهد: تشبه، جعله ماضيا على تفعل. وقرأ ابن مسعود: يشابه، بالياء وتشديد الشين، جعله مضارعا من تفاعل، ولكنه أدغم التاء في الشين. وقرئ: متشبه، اسم فاعل من تشبه. وقرأ بعضهم: يتشابه، مضارع تشابه، وفيه ضمير يعود على البقر. وقرأ أبي: تشابهت. وقرأ الأعم 5: متشابه ومتشابهة. وقرأ ابن أبي إسحاق: تشابهت، بتشديد الشين مع كونه فعلا ماضيا، وبتاء التأنيث آخره. فهذه اثنا عشر قراءة. وتوجيه هذه القراءات ظاهر، إلا قراءة ابن أبي إسحاق تشابهت، فقال بعض الناس: لا وجه لها. وتبيين ما قاله: إن تشديد الشين إنما يكون بإدغام التاء فيه، والماضي لا يكون فيه ناءات، فتبقى إحداهما وتدغم الأخرى. ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله: اشابهت، والتاء هي تاء البقرة، وأصله أن البقرة اشابهت علينا، ويقوي ذلك لحاق تاء التأنيث في آخر الفعل، أو اشابهت أصله: تشابهت، فأدغمت التاء في الشين واجتلبت همزة الوصل. فحين أدرج ابن أبي إسحاق القراءة، صار اللفظ: أن البقرة اشابهت، فظن السامع أن تاء البقرة هي تاء في الفعل، إذ النطق واحد، فتوهم أنه قرأ: تشابهت، وهذا لا يظن بابن أبي إسحاق، فإنه رأس في علم النحو، وممن أخذ النحو عن أصحاب أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو. وقد كان ابن أبي إسحاق يزري على العرب وعلى من يستشهد بكلامهم، كالفرزدق، إذا جاء في شعرهم ما ليس بالمشهور في كلام العرب، فكيف يقرأ قراءة لا وجه لها، وإن البقر تعليل للسؤال، كما تقول: أكرم زيدا إنه عالم، فالحامل لهم على السؤال هو حصول تشابه البقر عليهم.
* (وإنا إن شاء الله لمهتدون) *: أي لمهتدون إلى عين البقرة المأمور بذبحها، أو إلى ما خفي من أمر القاتل، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا بذبح البقرة. وفي تعليق هدايتهم بمشيئة الله إنابة وانقياد ودلالة على ندمهم على ترك موافقة الأمر. وقد جاء في الحديث: (ولو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد). وجواب هذا الشرط محذوف يدل عليه مضمون الجملة، أي إن شاء الله اهتدينا، وإذ حذف الجواب كان فعل الشرط ماضيا في اللفظ ومنفيا بلم، وقياس الشرط الذي حذف جوابه أن يتأخر عن الدليل على الجواب، فكان الترتيب أن يقال في الكلام: إن زيدا لقائم إن شاء الله، أي: إن شاء الله فهو قائم، لكنه توسط هنا بين اسم إن وخبرها، ليحصل توافق رؤوس الآي، وللاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله، وجاء خبر إن اسما، لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم، وأكد بحر في التأكيد إن واللام، ولم يأتوا بهذا الشرط إلا على سبيل الأدب مع الله تعالى، إذ أخبروا بثبوت الهداية لهم. وأكدوا تلك النسبة، ولو كان تعليقا محضا لما احتيج إلى تأكيد، ولكنه على قول القائل: أنا صانع كذا إن شاء الله، وهو متلبس بالصنع، فذكر إن شاء الله على طريق الأدب. قال الماتريدي: إن قوم موسى، مع غلظ أفهامهم وقلة عقولهم، كانوا أعرف بالله وأكمل توحيدا من المعتزلة، لأنهم قالوا:
419

* (وإنا إن شاء الله لمهتدون) *، والمعتزلة يقولون: قد شاء الله أن يهتدوا، وهم شاؤوا أن لا يهتدوا، فغلبت مشيئتهم مشيئة الله تعالى، حيث كان الأمر على: ما شاؤوا إلا كما شاء الله تعالى، فتكون الآية حجة لنا على المعتزلة. انتهى كلامه.
* (قال إنه يقول إنها بقرة) * الكلام على هذا كالكلام على نظيره. * (لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث) *، لا ذلول؛ صفة للبقرة، على أنه من الوصف بالمفرد، ومن قال هو من الوصف بالجملة، وأن التقدير: لا هي ذلول، فبعيد عن الصواب. وتثير الأرض: صفة لذلول، وهي صلة داخلة في حيز النفي، والمقصود نفي إثارتها الأرض، أي لا تثير فتذل، فهو من باب:
على لاحب لا يهتدي بمناره
اللفظ نفي الذل، والمقصود نفي الإثارة، فينتفي كونها ذلولا. ولا تسقي الحرث: نفي معادل لقوله: لا ذلول. والجملة صفة، والصفتان منفيتان من حيث المعنى، كما أن لا تسقي منفي من حيث المعنى أيضا. ومعنى الكلام: أنها لم تذلل بالعمل، لا في حرث، ولا في سقي، ولهذا نفي عنها إثارة الأرض وسقيها. وقال الحسن: كانت تلك البقرة وحشية، ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض بالحرث، ولا يسنى عليها فتسقى. وقد ذهب قوم إلى أن قوله: تثير الأرض، فعل مثبت لفظا ومعنى، وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها، ونفى عنها سقي الحرث. ورد هذا القول من حيث المعنى، لأن ما كان يحرث لا ينتفي كونه ذلولا.
وقال بعض المفسرين: معنى تثير الأرض بغير الحرث بطرا ومرحا، ومن عادة البقر، إذا بطرت، تضرب بقرنها وأظلافها، فتثير تراب الأرض، وينعقد عليه الغبار، فيكون هذا المعنى من تمام قوله: لا ذلول، لأن وصفها بالمرح والبطر دليل على أنها لا ذلول. قال الزمخشري: لا ذلول، صفة لبقرة بمعنى: بقرة غير ذلول، يعني: لم تذلل للحرث وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها بسقي الحروث. ولا: الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. انتهى كلامه. ووافقه على جعل لا الثانية مزيدة صاحب المنتخب، وما ذهبا إليه ليس بشيء، لأن قوله: لا ذلول، صفة منفية بلا، وإذا كان الوصف قد نفي بلا، لزم تكرار لا النافية، لما دخلت عليه، تقول مررت برجل لا كريم ولا شجاع، وقال تعالى: * (ذى ثلاث شعب * لا ظليل ولا يغنى من اللهب) * * (وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم) * * (لا فارض ولا بكر) *، ولا يجوز أن تأتي بغير تكرار، لأن المستفاد منها النفي، إلا إن ورد في ضرورة الشعر، وإذا آل تقديرهما إلى لا ذلول مثيرة وساقية، كان غير جائز لما ذكرناه من وجوب تكرار لا النافية،
وعلى ما قدراه كان نظير: جاءني رجل لا كريم، وذلك لا يجوز إلا إن ورد في شعر، كما نبهنا عليه. قال ابن عطية: ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في وضع الحال لأنها من نكرة. انتهى كلامه.
والجملة التي أشار إليها هي قوله: تثير الأرض، والنكرة هيقوله: لا ذلول، أو قوله: بقرة، فإن عنى بالنكرة بقرة، فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازا حسنا، وإن عنى بالنكرة لا ذلول، فهو قول الجمهور ممن لم يحصل مذهب سيبويه، ولا أمعن النظر في كتابه، بل قد أجاز سيبويه في كتابه، في مواضع مجيء الحال من النكرة، وإن لم توصف، وإن كان الاتباع هو الوجه والأحسن، قال سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة، وقد يجوز نصبه على نصب: هذا رجل منطلقا، يريد على الحال من النكرة، ثم قال: وهو قول عيسى، ثم قال: وزعم الخليل أن هذا جائز، ونصبه كنصبه في المعرفة جعله حالا، ولم يجعله صفة، ومثل ذلك: مررت برجل قائما، إذا جعلت المرور به في حال قيام، وقد يجوز على هذا: فيها رجل قائما، ومثل ذلك: عليه مائة بيضاء، والرفع الوجه، وعليه مائة دينا، الرفع الوجه، وزعم يونس أن ناسا من العرب
420

يقولون: مررت بماء قعدة رجل، والوجه الجر، وكذلك قال سيبويه في باب ما ينتصب، لأنه قبيح أن يكون صفة فقال: راقود خلا وعليك نحى سمنا، وقال في باب نعم، فإذا قلت لي عسل ملء جرة، وعليه دين شعر كلبين، فالوجه الرفع، لأنه صفة، والنصب يجوز كنصبه، عليه مائة بيضاء، فهذه نصوص سيبويه، ولو كان ذلك غير جائز، كما قال ابن عطية، لما قاسه سيبويه، لأن غير الجائز لا يقال به فضلا عن أن يقاس، وإن كان الاتباع للنكرة أحسن، وإنما امتنعت في هذه المسألة، لأن ما ذهب إليه أبو محمد هو قول الضعفاء في صناعة الإعراب، الذين لم يطلعوا على كلام الإمام.
وأجاز بعض المعربين أن يكون: تثير الأرض، في موضع الحال من الضمير المستكن في ذلول تقديره: لا تذل في حال إثارتها، والوجه ما بدأنا به أولا، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: لا ذلول، بالفتح. قال الزمخشري بمعنى لا ذلول هناك، أي حيث هي، وهو نفي لذلها، ولأن توصف به فيقال: هي ذلول، ونحوه قولك: مررت بقوم لا بخيل ولا جبان، أي فيهم، أو حيث هم. انتهى كلامه. فعلى ما قدره يكون الخبر محذوفا، ويكون قوله: تثير الأرض، صفة لاسم لا، وهي منفية من حيث المعنى، ولذلك عطف عليها جملة منفية، وهو قوله: ولا تسقي الحرث. وإذا تقرر هذا، فلا يجوز أن تكون * (تثير الارض ولا تسقى الحرث) * خبرا، لأنه كان يتنافر هذا التركيب مع ما قبله، لأن قوله: * (قال * إنها بقرة) * يبقى كلاما منفلتا مما بعده، إذ لا تحصل به الإفادة إلا على تقدير أن تكون هذه الجملة معترضة بين الصفة والموصوف، ويكون محط الخبر هو قوله: * (مسلمة * وأنزلنا فيها) *، لأنها صفة في اللفظ، وهي الخبر في المعنى، ويكون ذلك الاعتراض من حيث المعنى نافيا ذلة هذه البقر، إذ هي فرد من أفراد الجنس المنفي بلا الذي بنى معها، ولا يجوز أن تقع هذه الجملة أعني لا ذلول، على قراءة السلمي، في موضع الصفة على تقدير أن تثير وما بعدها الخبر، لأنه ليس فيها عائد على الموصوف الذي هو بقرة، إذ العائد الذي في تثير وفي تسقي ضمير اسم لا، ولا يتخيل أن قوله: * (لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث) * على تقدير أن تثير، وما بعده خبر يكون دالا على نفي ذلول مع الخبر عن الوجود، لأن ذلك كان يكون غير مطابق لما عليه الوجود، وإنما المعنى نفي ذلك بالنسبة إلى أرضهم وإلى حرثها؛ والألف واللام للعهد. فكما يتعقل انتفاء ذلول مع اعتقاد كون تثير وما بعده صفة، لأنك قيدت الخبر بتقديركه حيث هي، فصلح هذا النفي، كذلك يتعقل انتفاء ذلول مع الخبر عنه، حيث اعتقد أن متعلق الخبرين مخصوص، وهو الأرض والحرث، وكما تقدر ما من ذلول مثيرة ولا ساقية حيث تلك البقرة، كذلك تقدر ما من ذلول تثير أرضهم ولا تسقي حرثهم. فكلاهما نفي قد تخصص، إما بالخبر المحذوف، وإما بتعلق الخبر المثبت.
وقد انتفى وصف البقرة بذلول وما بعدها، إما بكون الجملة صفة والرابط الخبر المحذوف، وإما بكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف، إذ لم تشتمل على رابط يربطها بما قبلها، إذا جعلت تثير خبر ألا يقال أن الرابط هنا هو العموم، إذ البقرة فرد من أفراد اسم الجنس، لأن الرابط بالعموم إنما قيل به في نحو: زيد نعم الرجل، على خلاف في ذلك، ولعل الأصح خلافه. وباب نعم باب شاذ لا يقاس عليه، لو قلت زيد لا رجل في الدار، ومررت برجل لا عاقل في الدار، وأنت تعني الخبر والصفة وتجعل الرابط العموم، لأنك إذا نفيت لا رجل في الدار، انتفى زيد فيها، وإذا قلت: لا عاقل في الدار، انتفى العقل عن المرور به، لم يجز ذلك، فلذلك اخترنا في هذه القراءة على تقدير كون تثير وتسقي خبرا للا ذلول، أن تكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف، وتدل على نفي الإثارة ونفي السقي، من حيث المعنى، لا من حيث كون الجملتين صفة للبقرة. وأما تمثيل الزمخشري بذلك، بمررت بقوم لا بخيل ولا جبان فيهم، أو حيث هم، فتمثيل صحيح، لأن الجملة الواقعة صفة لقوم ليس الرابط فيها العموم، إنما الرابط هذا الضمير، وكذلك ما قرره هو الرابط فيه الضمير، إذ قدره لا ذلول هناك، أي حيث هي، فهذا الضمير عائد على البقرة، وحصل به الربط كما
421

حصل في تمثيله بقوله: فيهم، أو: حيث هم، فتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله تعالى: * (لا ذلول) * في قراءة السلمي يتخرج على وجهين: أحدهما: أن تكون معترضة، وذلك على تقدير حذف خبر، والثاني: أن تكونمعترضة، وذلك على تقدير أن تكون خبر لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. وكانت قراءة الجمهور أولى، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة، ولأن في قراءة أبي عبد الرحمن، على أحد تخريجيها، تكون قد بدأت بالوصف بالجملة وقدمته على الوصف بالمفرد، وذلك مخصوص بالضرورة عند بعض أصحبانا، لأن لا ذلول المنفي معها جملة ومسلمة مفرد، فقد قدمت الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد، والمفعول الثاني لتسقي محذوف، لأن سقي يتعدى إلى اثنين. وقرأ بعضهم: تسقى بضم التاء من أسقى، وهما بمعنى واحد. وقد قرىء: نسقيكم بفتح النون وضمها. مسلمة من العيوب، قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية ومقاتل، أو من الشيات والألوان، قاله مجاهد وابن زيد، أو من العمل في الحرث والسقي وسائر أنواع الاستعمال، قاله
الحسن وابن قتيبة. والمعنى: أن أهلها أعفوها من ذلك، كما قال الآخر:
* أومعبر الظهر ينبي عن وليته
*
ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا
*
أو من الحرام، لا غصب فيها ولا سرقة ولا غيرهما، بل هي مطهرة من ذلك، أو مسلمة القوائم والخلق، قاله عطاء الخراساني، أو مسلمة من جميع ما تقدم ذكره، لتكون خالية من العيوب، بريئة من الغصوب، مكملة الخلق، شديدة الأسر، كاملة المعاني، صالحة لأن تظهر فيها آية الله تعالى ومعجزة رسوله، قال أبو محمد بن عطية: ومسلمة، بناء مبالغة من السلامة، وقاله غيره، فقال: هي من صيغ المبالغة، لأن وزنها مفعلة من السلامة، وليس كما ذكر، لأن التضعيف الذي في مسلمة ليس لأجل المبالغة، بل هو تضعيف النقل والتعدية، يقال: سلم كذا، ثم إذا عديته بالتضعيف، فالتضعيف هنا كهو في قوله: فرحت زيدا، إذ أصله: فرح زيد، وكذلك هذا أصله: سلم زيد، ثم يضعف فيصير يتعدى. فليس إذن هنا مبالغة بل هو المرادف للبناء المتعدي بالهمزة. لاشية فيها: أي لا بياض، قاله السدي، أو: لا وضح، وهو الجمع بين لونين من سواد وبياض، أو لا عيب فيها، أو: لا لون يخالف لونها من سواد أو بياض، أو: لا سواد في الوجه والقوائم، وهو الشية في البقر، يقال ثور موشى، إذا كان في وجهه وقوائمه سواد. وقيل: لاشية فيها، تفسير لقوله: مسلمة، أي خلصت صفرتها عن أخلاط سائر الألوان، قاله ابن زيد. قال ابن عطية: والثور الأشيه الذي ظهر بلقه، يقال: فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وكلب أبقع، وثور أشيه. كل ذلك بمعنى البلقة. انتهى. وليس الأشيه مأخوذا من الشية لاختلاف المادتين.
* (قالوا الئان جئت بالحق) *: قرأ الجمهور: بإسكان اللام والهمزة بعده، وقرأ نافع: بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وعنه روايتان: إحداهما: حذف واو قالوا، إذ لم يعتد بنقل الحركة، إذ هو نقل عارض، والرواية الأخرى: إقرار الواو اعتدادا بالنقل، واعتبارا لعارض التحريك، لأن الواو لم تحذف إلا لأجل سكون اللام بعدها. فإذا ذهب موجب الحذف عادت الواو إلى حالها من الثبوت. وانتصاب الآن على الظرفية، وهو ظرف يدل على الوقت الحاضر، وهو قوله لهم: * (إنها بقرة لا ذلول) * إلى * (لا شية فيها) *، والعامل فيه جئت، ولا يراد بجئت أنه كان غائبا فجاء، وإنما مجازه نطقت بالحق، فبالحق متعلق بجئت على هذا المعنى، أو تكون الباء للتعدية، فكأنه قال: أجأت الحق، أي إن الحق كان لم يجئنا فأجأته. وهنا وصف محذوف تقديره بالحق المبين، أي الواضح الذي لم يبق معه إشكال، واحتيج إلى تقدير هذا الوصف لأنه في كل محاورة حاورها معهم جاء بالحق، فلو لم يقدر هذا الوصف لما كان لتقييدهم مجيئه بالحق بهذا الطرف الخاص فائدة. وقد ذهب قتادة إلى أنه لا وصف محذوف هنا، وقال: كفروا بهذا القول لأن نبي الله صلى الله عليه وسلم)، وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كان لا يأتيهم إلا بالحق في كل وقت، وقالوا: ومعنى بالحق: بحقيقة نعت البقرة، وما بقي فيها إشكال.
* (فذبحوها) *: قبل هذه الجملة محذوف، التقدير: فطلبوها وحصلوها، أي هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة، وتحصيلها كان بأن الله أنزلها من السماء، أو بأنها كانت وحشية فأخذوها، أو باشترائها من الشاب البار بأبويه. وهذا
422

الذي تضافرت عليه أقاويل أكثر المفسرين، وذكروا في ذلك اختلافا وقصصا كثيرا مضطربا أضربنا عن نقله صفحا كعادتنا في أكثر القصص الذي ينقلونه، إذ لا ينبغي أن ينقل من ذلك إلا ما صح عن الله تعالى، أو عن رسوله في قرآن أو سنة.
* (وما كادوا يفعلون) *: كنى عن الذبح بالفعل، لأن الفعل يكنى به عن كل فعل. وكاد في الثبوت تدل على المقاربة. فإذا قلت: كاد زيد يقوم، فمعناه نفي المقاربة، فهي كغيرها من الأفعال وجوبا ونفيا. وقد ذهب بعض الناس إلى أنها إذا أثبتت، دلت على نفي الخبر، وإذا نفيت، دلت على إثبات الخبر، مستدلا بهذه الآية، لأن قوله تعالى: * (فذبحوها) * يدل على ذلك، والصحيح القول الأول. وأما الآية، فقد اختلف زمان نفي المقاربة والذبح، إذ المعنى: وما قاربوا ذبحها قبل ذلك، أي وقع الذبح بعد أن نفى مقاربته. فالمعنى أنهم تعسروا في ذبحها، ثم ذبحوها بعد ذلك. قيل: والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو: إما غلاء ثمنها، وإما خوف فضيحة القاتل، وإما قلة انقياد وتعنت على الأنبياء على ما عهد منهم. واختلفوا في هذه البقرة المذبوحة: أهي التي أمروا أولا بذبحها، وأنها معينة في الأمر الأول، وأنه لو وقع الذبح عليها أولا لما وقع إلا على هذه المعينة؟ أم المأمور بها أولا هي بقرة غير مخصوصة، ثم انقلبت مخصوصة بلون وصفات، فذبحوا المخصوصة؟ فكان الأمر الأول مخصوصا لانتقال الحكم من البقرة المطلقة إلى البقرة المخصوصة، ويجوز النسخ قبل الفعل على أن هذه البقرة المخصوصة يتناولها الأمر بذبح بقرة، فلو وقع الذبح عليها بالخطاب الأول، لكانوا ممتثلين، فكذلك بعد التخصيص. ثم اختلف القائلون بهذا الثاني: هل الواجب كونها بالصفة الأخيرة فقط، وهي كونها لا ذلول إلى آخره؟ أم ينضاف إلى هذه الأوصاف في جواب السؤالين قبل، فيجب أن يكون مع الوصف الأخير لا فارض ولا بكر، وصفراء فاقع لونها؟ والذي نختاره هذا الثاني، لأن الظاهر اشتراك هذه الأوصاف، لأن قوله: ما هي، وما لونها، وما هي، يدل على ذلك، وهذا هو الذي اشتهر في الإخبار أنها كانت بهذه الأوصاف جميعا، وإذا كان البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة، كان ذلك تكليفا بعد تكليف، وذلك يدل على نسخ التسهيل بالأشق، وعلى جواز النسخ قبل الفعل.
* (وإذ قتلتم نفسا) *: معطوف على قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه) *. ويجوز أن يكون ترتيب وجودهما ونزولهما على حسب تلاوتهما، فيكون الله تعالى قد أمرهم بذبح البقرة، فذبحوها وهم لا يعلمون بما له تعالى فيها من السر، ثم وقع بعد ذلك أمر القتيل، فأظهر لهم ما كان أخفاه عنهم من الحكمة بقوله: اضربوه
ببعضها، ولا شيء يضطرنا إلى اعتقاد تقدم قتل القتيل. ثم سألوا عن تعيين قاتله، إذ كانوا قد اختلفوا في ذلك، فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة، فيكون الأمر بالذبح متقدما في النزول، والتلاوة متأخرا في الوجود، ويكون قتل القتيل متأخرا في النزول، والتلاوة متقدما في الوجود، ولا إلى اعتقاد كون الأمر بالذبح وما بعده مؤخرا في النزول، متقدما في التلاوة، والإخبار عن قتلهم مقدما في النزول، متأخرا في التلاوة، دون تعرض لزمان وجود القصتين. وإنما حمل من حمل على خلاف الظاهر، اعتبار ما رووا من القصص الذي لا يصح، إذ لم يرد به كتاب ولا سنة، ومتى أمكن حمل الشيء على ظاهره كان أولى، إذ العدول عن الظاهر إلى غير الظاهر، إنما يكون لمرجح، ولا مرجح، بل تظهر الحكمة البالغة في تكليفهم أولا ذبح بقرة. هل يمتثلون ذلك أم لا؟ وامتثال التكاليف التي لا يظهر فيها ببادىء الرأي حكمة أعظم من امتثال ما تظهر فيه حكمة، لأنها طواعية صرف، وعبودية محضة، واستسلام خالص، بخلاف ما تظهر له حكمة، فإن في العقل داعية إلى امتثاله، وحضا على العمل به.
وقال صاحب المنتخب: إن وقوع ذلك القتيل لا بد أن يكون متقدما لأمره تعالى بالذبح، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتيل، وعن أنه لا بد أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة، فلا يجب أن يكون متقدما على الإخبار عن قصة البقرة. فقول من يقول: هذه القصة يجب أن تكون متقدمة على الأولى خطأ، لأن هذه القص في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود. فأما التقديم في الذكر فغير واجب، لأنه تارة يقدم ذكر السبب على ذكر الحكم، وأخرى على العكس من ذلك، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم بذبح البقرة، فلما ذبحوها قال: * (وإذ قتلتم نفسا) * من قبل واختلفتم فإني مظهر لكم القاتل الذي
423

سترتموه، بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة. وتقدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عكس، لما كانت قصة واحدة، ولذهب الغرض في تثنية التقريع. انتهى كلامه، وهو مبني على أن القتل وقع أولا، ثم أمروا بعد ذلك بذبح البقرة، وليس له دليل على ذلك إلا نقل شيء من القصص التي لم تثبت في كتاب ولا سنة. وقد بينا حمل الآيتين على أن الأمر بالذبح يكون متقدما وأن القتل تأخر، كحالهما في التلاوة.
وقال بعض الناس: التقديم والتأخير حسن، لأن ذلك موجود في القرآن، في الجمل، وفي الكلمات، وفي كلام العرب. وأورد من ذلك جملا، من ذلك: قصة نوح عليه السلام في إهلاك قومه، وقوله: * (وقال اركبوا فيها) *، وفي حكم من مات عنها زوجها بالتربص بالأربعة الأشهر وعشر، وبمتاع إلى الحول، إذ الناسخ مقدم، والمنسوخ متأخر. وذكر من تقديم الكلمات في القرآن والشعر على زعمه كثيرا، والتقديم والتأخير، ذكر أصحابنا أنه من الضرائر، فينبغي أن ينزه القرآن عنه. ونسبة القتيل إلى جمع، إما لأن القاتلين جمع، وهم ورثة المقتول، وقد نقل أنهم اجتمعوا على قتله، أو لأن القاتلواحد، ونسب ذلك إليهم لوجود ذلك فيهم، على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة، إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح.
* (فادرأتم فيها) * قرأ الجمهور: بالإدغام وقرأ أبو حيوة؛ فتدارأتم، على وزن تفاعلتم، وهو الأصل، هكذا نقل بعض من جمع في التفسير. وقال ابن عطية: قرأ أبو حيوة، وأبو السوار الغنوي: * (وإذ قتلتم نفسا فادرأتم) *، وقرأت فرقة: فتدارأتم على الأصل. انتهى كلامه. ونقل من جمع في التفسير أن أبا السوار قرأ: فدرأتم، بغير ألف قبل الراء. ويحتمل هذا التدارؤ، وهو التدافع، أن يكون حقيقة، وهو أن يدفع بعضهم بعضا بالأيدي، لشدة الاختصام. ويحتمل المجاز، بأن يكون بعضهم طرح قتله على بعض، فدفع المطروح عليه ذلك إلى الطارح، أو بأن دف بعضهم بعضا بالتهمة والبراءة. والضمير في: فيها عائد على النفس، وهو ظاهر، وقيل: على القتلة، فيعود على المصدر المفهوم من الفعل، وقيل: على التهمة، فيعود على ما دل عليه معنى الكلام.
* (والله مخرج ما كنتم تكتمون) *، ما: منصوب باسم الفاعل، وهو موصول معهود، فلذلك أتى باسم الفاعل لأنه يدل على الثبوت، ولم يأت بالفعل الذي هو دال على التجدد والتكرار، ولا تكرار، إذ لا تجدد فيه، لأنها قصة واحدة معروفة، فلذلك، والله أعلم، لم يأت بالفعل. وجاء اسم الفاعل معملا، ولم يضف، وإن كان من حيث المعنى ماضيا، لأنه حكى ما كان مستقبلا وقت التدارؤ، وذلك مثل ما حكى الحال في قوله تعالى: * (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) *. ودخلت كان هنا ليدل على تقدم الكتمان، والعائد على ما محذوف تقديره: ما كنتم تكتمونه. والظاهر أن المعنى ما كنتم تكتمون من أمر القتيل وقاتله، وعلى هذا ذهب الجمهور. وقيل: يجوز أن يكون عاما في القتيل وغيره، فيكون القتيل من جملة أفراده، وفي ذلك نظر، إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى.
* (فقلنا اضربوه ببعضها) *: جملة معطوفة على قوله: * (قتلتم نفسا فادرأتم فيها) *.
والجملة من قوله تعالى: * (والله مخرج ما كنتم تكتمون) * اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، مشعرة بأن التدارؤ لا يجدي شيئا، إذ الله تعالى مظهر ما كتم من أمر القتيل. والهاء في اضربوه عائد على النفس، على تذكير النفس، إذ فيها التأنيث، وهو الأشهر، والتذكير، أو على أو الأول هو على حذف مضاف، أي وإذ قتلتم ذا نفس، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فروعي بعود الضمير مؤنثا في قوله: * (فادرأتم) * فيها، وروعي المحذوف بعود الضمير عليه مذكرا في قوله: * (فقلنا اضربوه) *، أو عائد على القتيل، أي، فقلنا: اضربوا القتيل ببعضها. الظاهر أنهم أمروا أن يضربوه بأي بعض كان، فقيل: ضربوه بلسانها، أو بفخذها اليمنى، أو بذنبها، أو بالغضروف، أو بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو أصل الأذن، أو بالبضغة التي بين الكتفين، أو بالعجب، وهو أصل الذنب، أو بالقلب واللسان معا، أو بعظم من عظامها، قاله أبو
424

العالية. والباء في ببعضها للآلة، كما تقول: ضربت بالقدوم، والضمير عائد على البقرة، أي ببعض البقرة. وفي الكلام حذف يدل عليه ما بعده وما قبله، التقدير: فضربوه فحيي، دل على ضربوه قوله تعالى: * (اضربوه ببعضها) *، ودل على فحيي قوله تعالى: * (كذالك يحى الله الموتى) *. ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل، وذلك قبل دفنه، ومن قال: إنهم مكثوا في طلبها أربعين سنة، أو من يقول: إنهم أمروا بطلبها، ولم تكن في صلب ولا رحم، فلا يكون الضرب إلا بعد
دفنه. قيل: على قبره، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر. وروي أنه قام وأوداجه تشخب دما، وأخبر بقاتله فقال: قتلني ابن أخي، فقال بنو أخيه والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد معاينته، ثم مات مكانه. وفي بعض القصص أنه قال: قتلني فلان وفلان، لا بني عمه، ثم سقط ميتا، فأخذا وقتلا، ولم يورثوا قاتلا بعد ذلك. وقال الماوردي: كان الضرب بميت لا حياة فيه، لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به لتزول الشبهة وتتأكد الحجة.
* (كذالك يحى الله الموتى) *: إن كان هذا خطابا للذين حضروا إحياء القتيل، كان ثم إضمار قول: أي وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة. وقدره المارودي خطابا مو موسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وإن كان لمنكري البعث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فيكون من تلوين الخطاب. والمعنى: كما أحيي قتيل بني إسرائيل في الدنيا، كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة، وإلى هذا ذهب الطبري، والظاهر هو الأول، لانتظام الآي في نسق واحد، ولئلا يختلف خطاب * (لعلكم تعقلون) *، وخطاب * (ثم قست قلوبكم) *، لأن ظاهر قلوبكم أنه خطاب لبني إسرائيل. والكاف من كذلك صفة لمصدر محذوف منصوب بقوله: * (فقلنا اضربوه ببعضها) *، أي إحياء مثل ذلك الإحياء يحيي الله الموتى، والمماثلة إنما هي في مطلق الإحياء لاقى كيفية الإحياء، فيكون ذلك إشارة إلى إحياء القتيل. وجعل صاحب المنتخب ذلك إشارة إلى نفس القتيل، ويحتاج في تصحيح ذلك إلى حذف مضاف، أي مثل إحياء ذلك القتيل، يحيي الله الموتى، فجعله إشارة إلى المصدر أولى وأقل تكلفا. وإذا كان ذلك خطابا لبني إسرائيل الحاضرين إحياء القتيل، فحكمه مشاهدة ذلك، وإن كانوا مؤمنين بالبعث، اطمئنان قلوبهم وانتفاء الشبهة عنهم، إذ الذي كانوا مؤمنين به بالاستدلال آمنوا به مشاهدة.
* (ويريكم ءاياته) *: ظاهر هذا الكلام الاستئناف، ويجوز أن يكون معطوفا على يحيي، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى، وهي ما أراهم من إحياء الميت، والعصا، والحجر، والغمام، والمن والسلوى، والسحر، والبحر، والطور، وغير ذلك. وكانوا مع ذلك أعمى الناس قلوبا، وأشد قسوة وتكذيبا لنبيهم في تلك الأوقات التي شاهدوا فيها تلك العجائب والمعجزات. وقال صاحب المنتخب: * (ويريكم ءاياته) *، وإن كانت آية واحدة، لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات، العالم بكل المعلومات، المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى عليه الصلاة والسلام، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل. انتهى كلامه.
* (لعلكم تعقلون) *: أي لعلكم تمتنعون من عصيانه، وتعملون على قضية عقولكم، من أن من قدر على إحياء نفس واحدة، قدر على إحياء الأنفس كلها، لعدم الاختصاص، * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) *، أي كخلق نفس واحدة وبعثها. وقال الزمخشري: في الأسباب والشروط حكم وفوائد، وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة في من التقرب، وأداء التكليف، واكتساب الثواب، والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب، وما في التشديد عليهم، لتشديدهم من اللطف لهم والآخرين في ترك التشديد، والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى، وارتسامها على الفور من غير تفتيش وتكثير سؤال، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البر بالأبوين، والشفقة على الأولاد، وتجهيل الهازىء بما لا يعلم
425

كنهه، ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء. وبيان أن من حق المتقرب إلى ربه: أن يتنوق في اختيار ما يتقرب به، وأن يختاره فتى السن غير فخم ولا ضرع، حسن اللون بريئا من العيوب، يونق من ينظر إليه، وأن يغالي بثمنه، كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار، وأن الزيادة في الخطاب نسخ له، وأن النسخ قبل الفعل جائز، وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البدء، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت، وحصول الحياة عقيبه، وأن المؤثر هو المسبب لا الأسباب، لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن يتولد منهما حياة. انتهى كلامه، وهو حسن.
وقد ذكر المفسرون أحكاما فقهية، انتزعوها واستدلوا عليها من قصة ها القتل، ولا يظهر استنباطهم ذلك من هذه الآية. قالوا: هذه الآية دليل على حرمان القاتل ميراث المقتول، وإن كان ممن يرثه. وأقول: لا تدل هذه الآية على ذلك، وإنما القصة، إن صحت، تدل على ذلك، لأن في آخرها: فما ورث قاتل بعدها ممن قتله. وروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن المسيب أنه لا ميراث له، عمدا كان أو خطأ، لا من ديته، ولا من سائر ماله. وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو يوسف، إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا: إن كان صبيا أو مجنونا، ورث. وقال عثمان الليثي: يرث قاتل الخطأ. وقال ابن وهب، عن مالك: لا يرث قاتل العمد من ديته، ولا من ماله. وإن قتله خطأ، يرث من ماله دون ديته. ويروى مثله عن الحسن ومجاهد والزهري، وهو قول الأوزاعي. وقال المزني، عن الشافعي: إذا قتل الباغي العادل، أو العادل الباغي، لا يتوارثان لأنهما قاتلان. وقالوا: استدل
426

مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب بهذه القصة، على صحة القول بالقسامة، بقول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني، وقال الجمهور خلافه. وقالوا في صفة البقرة استدلال لمن قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو مذهب مالك وجماعة من الفقهاء، قالوا: في هذه الآيات أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته، أنه إذا حصر بصفة يعرف بها جاز السلم فيه، وبه قال مالك والأوزاعي والليث والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز السلم في الحيوان. ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب خلاف الفقهاء، ولا يظهر استنباط شيء من هذا من هذه القصة. قال القشيري: أراد الله أن يحيي ميتهم ليفصح بالشهادة على قاتله، فأمر بقتل حيوان لهم، فجعل سبب حياة مقتولهم بقتل حيوان لهم صارت الإشارة منه، أن من أراد حياة قلبه لم يصل إليه إلا بذبح نفسه. فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حيي قلبه بأنوار المشاهدات، وكذلك من أراد حياة في الأبد أمات في الدنيا ذكره بالخمول.
* (ثم قست قلوبكم من بعد ذالك) *، قال الزمخشري، معنى ثم قست: استبعاد القسوة بعدما ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه، ثم أنتم تمترون. انتهى. وهو يذكر عنه أن العطف بثم يقتضي الاستبعاد، ولذلك قيل عنه في قوله: * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) *. وهذا الاستبعاد لا يستفاد ن العطف بثم، وإنما يستفاد من
مجيء هذه الجمل ووقوعها بعدما تقدم مما لا يقتضي وقوعها، ولأن صدور هذا الخارق العظيم الخارج عن مقدار البشر، فيه من الاعتبار والعظات ما يقتضي لين القلوب والإنابة إلى الله تعالى، والتسليم لأقضيته،
427

فصدر منهم غير ذلك من غلظ القلوب وعدم انتفاعها، بما شاهدت، والتعنت والتكذيب، حتى نقل أنهم بعدما حيي القتيل، وأخبر بمن قتله قالوا: كذب. والضمير في قلوبكم ضمير ورثة القتيل، قاله ابن عباس، وهم الذين قتلوه، وأنكروا قتله. وقيل: قلوب بني إسرائيل جميعا قست بمعاصيهم وما ارتكبوه، قاله أبو العالية وغيره. وكنى بالقسوة عن نبو القلب عن الاعتبار، وأن المواعظ لا تجول فيها. وأتى بمن في قوله: * (من بعد ذالك) * إشعارا بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة، فيتدافع معنى ثم، ومعنى من، فلا بد من تجوز في أحدهما. والتجوز في ثم أولى، لأن سجاياهم تقتضي المبادرة إلى المعاصي بحيث يشاهدون الآية العظيمة، فينحرفون إثرها إلى المعصية عنادا وتكذيبا، والإشارة بذلك قيل: إلى إحياء القتيل، وقيل: إلى كلام القتيل، وقيل: إشارة إلى ما سبق من الآيات من مسخهم قردة وخنازير، ورفع الجبل، وانبجاس الماء، وإحياء القتيل، قاله الزجاج.
* (فهى كالحجارة) *: يريد في القسوة. وهذه جملة ابتدائية حكم فيها بتشبيه قلوبهم بالحجارة، إذ الحجر لا يتأثر بموعظة، ويعني أن قلوبهم صلبة، لا تخلخلها الخوارق، كما أن الحجر خلق صلبا. وفي ذلك إشارة إلى أن اعتياص قلوبهم ليس لعارض، بل خلق ذلك فيها خلقا أوليا، كما أن صلابة الحجر كذلك. والكاف المفيدة معنى التشبيه: حرف وفاقا لسيبويه وجمهور النحويين، خلافا لمن ادعى أنها تكون اسما في الكلام، وهو عن الأخفش. فتعلقه هنا بمحذوف، التقدير: فهي كائنة كالحجارة، خلافا لابن عصفور، إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء، ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو. والألف واللام في الحجارة لتعريف الجنس. وجمعت الحجارة ولم تفرد، فيقال كالحجر، فيكون أخضر، إذ دلالة المفرد على الجنس كدلالة الجمع، لأنه قوبل الجمع بالجمع، لأن قلوبهم جمع، فناسب مقابلته بالجمع، ولأن قلوبهم متفاوتة في القسوة، كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة. فلو قيل: كالحجر، لأفهم ذلك عدم التفاوت، إذ يتوهم فيه من حيث الإفراد ذلك.
* (أو أشد قسوة) *، أو: بمعنى الواو، أو بمعنى أو للابهام، أو للإباحة، أو للشك، أو للتخيير، أو للتنويع، أقوال: وذكر المفسرون مثلا لهذه المعاني، والأحسن القول الأخير. وكأن قلوبهم على قسمين: قلوب كالحجارة قسوة، وقلوب أشد قسوة من الحجارة، فأجمل ذلك في قوله: * (ثم قست قلوبكم) *، ثم فصل ونوع إلى مشبه بالحجارة، وإلى أشد منها، إذ ما كان أشد، كان مشاركا في مطلق القسوة، ثم امتاز بالأشدية. وانتصاب قسوة على التمييز، وهو من حيث المعنى تقتضيه الكاف ويقتضيه أفعل التفضيل، لأن كلا منهما ينتصب عنه التمييز. تقول: زيد كعمرو حلما، وهذا التمييز منتصب بعد أفعل التفضيل، منقول من المبتدأ، وهو نقل غريب، فتؤخر هذا التمييز وتقيم ما كان مضافا إليه مقامه. تقول: زيد أحسن وجها من عمرو، وتقديره: وجه زيد أحسن من وجه عمرو، فأخرت وجها وأقمت ما كان مضافا مقامه، فارتفع بالابتداء، كما كان وجه مبتدأ، ولما تأخر أدى إلى حذف وجه من قولك: من وجه عمرو، وإقامة عمرو مقامه، فقلت: من عمرو، وإنما كان الأصل ذلك، لأن المتصف بزيادة الحسن حقيقة ليس الرجل إنما هو الوجه، ونظير هذا: مررت بالرجل الحسن الوجه، أو الوجه أصل هذا الرفع، لأن المتصف بالحسن حقيقة ليس هو الرجل إنما هو الوجه، وإنما أوضحنا هذا، لأن ذكر مجيء التمييز منقولا من المبتدأ غريب، وأفرد أشد، وإن كانت خبرا عن جمع، لأن استعمالها هنا هو بمن، لكنها حذفت، وهو مكان حسن حذفها، إذ وقع أفعل التفضيل خبرا عن المبتدأ وعطف، أو أشد، على قوله: كالحجارة، فهو عطف خبر على خبر من قبيل عطف المفرد، كما تقول: زيد على سفر، أو مقيم، فالضمير الذي في أشد عائد على القلوب، ولا حاجة إلى ما أجازه الزمخشري من أن ارتفاعه يحتمل وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون التقدير: أو هي أشد قسوة، فيصير من عطف الجمل. والثاني: أن يكون، التقدير: أو مثل أشد، فحذف مثل وأقيم أشد مقامه، ويكون الضمير في أشد إذ ذاك غير عائد على القلوب، إذ كان الأصل أو مثل شيء أشد قسوة من الحجارة،
428

فالضمير في أشد عائد على ذلك الموصوف بأشد المحذوف. ويعضد هذا الاحتمال الثاني قراءة الأعمش، بنصب الدال عطفا على، كالحجارة، قاله الزمخشري. وينبغي أن لا يصار إلى هذا إلا في هذه القراءة خاصة. وأما على قراءة الرفع، فلها التوجيه السابق الذي ذكرناه، ولا إضمار فيه، فكان أرجح.
وقد رد أبو عبد الله بن أبي الفضل في منتخبه على الزمخشري قوله: إنه معطوف على الكاف، فقال: هو على مذهب الأخفش، لا على مذهب سيبويه، لأنه لا يجيز أن يكون إسما إلا في الشعر، ولا يجيز ذلك في الكلام، فكيف في القرآن؟ فأولى أن يكون: أشد، خبر مبتدأ مضمر، أي وهي أشد. انتهى كلامه. وما ذهب إليه الزمخشري صحيح، ولا يريد بقوله: معطوف على الكاف، أن الكاف اسم، إنما يريد معطوفا على الجار والمجرور، لأنه في موضع مرفوع، فاكتفى بذكر الكاف عن الجار والمجرور. وقوله: فالأولى أن يكون أشد خبر مبتدأ مضمر، أي هي أشد، قد بينا أن الأولى غير هذا، لأنه تقدير لا حاجة إليه. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال أشد قسوة؟ وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب، قلت: لكونه أبين وأدل على فرط القسوة. ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى، ولكن قصد وصف القسوة بالشدة، كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشد قسوة. انتهى كلامه. ومعنى قوله: وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل، وفعل التعجب أن قسا يجوز أن يبني منه أفعل التفضيل، وفعل التعجب بجواز اجتماع الشرائط المجوزة لبناء ذلك، وهي كونه من فعل ثلاثي مجرد متصرف تام قابل للزيادة، والنقص مثبت. وفي كونه من أفعل، أو من كون، أو من مبني للمفعول خلاف. وقرأ أبو حياة: أو أشد قساوة، وهو مصدر لقسا أيضا.
* (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار) *: لما شبه تعالى قلوبهم بالحجارة في القسوة، ثم ذكر أنها أشد قسوة على اختلاف الناس في مفهوم، أو بين أن هذا التشبيه إنما هو بالنسبة لما علمه المخاطب من صلابة الأحجار، وأخذ يذكر جهة كون قلوبهم أشد قسوة: والمعنى أن قلوب هؤلاء جاسية صلبة لا تلينها المواعظ، ولا تتأثر للزواجر، وإن من الحجارة ما يقبل التخلخل، وأنها متفاوتة في قبول ذلك، على حسب التقسيم الذي أشار إليه تعالى ونتكلم عليه. فقد فضلت الأحجار على قلوبهم
في أن منها ما يقبل التخلخل، وأن قلوب هؤلاء في شدة القساوة.
واختلف المفسرون في هذه الآية، فقال قوم: إن قوله: * (وإن من الحجارة) * إلى آخره، هو على سبيل المثل، بمعنى أنه لو كان الحجر ممن يعقل لسقط من خشية الله تعالى، وتشقق من هيبته، وأنتم قد جعل الله فيكم العقل الذي به إدراك الأمور، والنظر في عواقب الأشياء، ومع ذلك فقلوبكم أشد قسوة، وأبعد عن الخير. وقال قوم: ليس ذلك على جهة المثل: بل أخبر عن الحجارة بعينها، وقسمها لهذه الأقسام، وتبين بهذا التقسيم كون قلوبهم أشد قسوة من الحجارة. وقرأ الجمهور: وإن مشددة، وقرأ قتادة: وإن مخففة، وكذا في الموضعين بعد ذلك، وهي المخففة من الثقيلة، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون معملة، ويكون من الحجارة في موضع خبرها، وما في موضع نصب بها، وهو اسمها، واللام لام الابتداء، أدخلت على الاسم المتأخر، والاسم إذا تأخر جاز دخول اللام عليه، نحو قوله: * (وإن لك لاجرا) *، وإعمالها مخففة لا يجيزه الكوفيون، وهم محجوجون بالسماع الثابت من العرب، وهو قولهم: إن عمرو لمنطلق، بسكون النون، إلا أنها إذا خففت لا تعمل في ضمير لا، تقول: إنك منطلق، إلا أن ورد في الشعر.
429

والوجه الثاني: أن لا تكون معملة، بل تكون ملغاة، وما في موضع رفع بالابتداء، والخبر في الجار والمجرور قبله. واللام في لما مختلف فيها، فمنهم من ذهب إلى أنها لام الابتداء لزمت للفرق بين أن المؤكدة وإن النافية، وهو مذهب أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش الصغير. وأكثر نحاة بغداد، وبه قال: من نحاة بلادنا أبو الحسن بن الأخضر، ومنهم من ذهب إلى أنها لام اختلست للفرق، وليست لام الابتداء، وبه قال أبو علي الفارسي. ومن كبراء بلادنا ابن أبي العالية، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو.
ولم يذكر المفسرون والمعربون في إن المخففة هنا إلا هذا الوجه الثاني، وهو أنها الملغاة، وأن اللام في لما لزمت للفرق. قال المهدوي: من خفف إن، فهي المخففة من الثقيلة، واللام لازمة للفرق بينها وبين إن التي بمعنى ما. وقال ابن عطية: فرق بينها وبين النافية لام التوكيد في لما. وقال الزمخشري: وقرئ: وإن بالتخفيف، وهي إن المخففة من الثقيلة التي يلزمها اللام الفارقة، ومنه قوله تعالى: * (وإن كل لما جميع) *، وجعلهم إن هي المخففة من الثقيلة، هو مذهب البصريين. وأما الفراء فزعم فيما ورد من ذلك أن إن هي النافية، واللام بمعنى إلا، فإذا قلت: إن زيد لقائم، فمعناه عنده: ما زيد إلا قائم. وأما الكسائي فزعم أنها إن وليها فعل، كانت إن نافية، واللام بمعنى إلا، وإن وليها اسم، كانت المخففة من الثقيلة. وذهب قطرب إلى أنها إذا وليها فعل، كانت بمعنى قد، والكلام على هذا المذهب في كتب النحو.
وقرأ الجمهور: لما بميم مخففة وهي موصولة. وقرأ طلحة بن مصرف: لما بالتشديد، قاله في الموضعين، ولعله سقطت واو، أي وفي الموضعين. قال محمد بن عطية: وهي قراءة غير متجهة، وما قاله ابن عطية من أنها غير متجهة لا يتمشى إلا إذا نقل عنه أنه يقرأ وإن بالتشديد، فحينئذ يعسر توجيه هذه القراءة. أما إذا قرأ بتخفيف إن، وهو المظنون به ذلك، فيظهر توجيهها بعض ظهور، إذ تكون إن نافية، وتكون لما بمنزلة إلا، كقوله تعالى: * (إن كل نفس لما عليها حافظ) *، * (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) *، * (وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحيواة) *، في قراءة من قرأ لما بالتشديد، ويكون مما حذف منه المبتدأ لدلالة المعنى عليه، التقدير: وما من الحجارة حجر إلا يتفجر منه الأنهار، وكذلك ما فيها، كقوله تعالى: * (وما منا إلا له مقام معلوم) *، أي وما منا أحد إلا له مقام معلوم، * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) *، أي وما من أهل الكتاب أحد، وحذف هذا المبتدأ أحسن، لدلالة المعنى عليه، إلا أنه يشكل معنى الحصر، إذ يظهر بهذا التفضيل أن الأحجار متعددة، فمنها ما يتفجر منه الأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من خشية الله. وإذا حصرت، أفهم المفهوم قبله أن كل فرد فرد من الأحجار فيه هذه الأوصاف كلها، أي تتفجر منه الأنهار، ويتشقق منه الماء، ويهبط من خشية الله. ولا يبعد ذلك إذا حمل اللفظ على القابلية، إذ كل حجر يقبل ذلك، ولا يمتنع فيه، إذا أرد الله ذلك. فإذا تلخص هذا كله كانت القراءة متوجهة على تقدير: أن يقرأ طلحة، وإن بالتخفيف. وأما إن صح عنه أنه يقر وإن بالتشديد، فيعسر توجيه ذلك. وأما من زعم أن إن المشددة هي بمعنى ما النافية، فلا يصح قوله، ولا يثبت ذلك في لسان العرب. ويمكن أن توجه قراءة طلحة لما بالتشديد، مع قراءة إن بالتشديد، بأن يكون اسم إن محذوفا لفهم المعنى، كما حذف في قوله:
ولكن زنجي عظيم المشافر
وفي قوله:
430

فليت دفعت الهم عني ساعة
وتكون لما بمعنى حين، على مذهب الفارسي، أو حرف وجوب لوجوب، على مذهب سيبويه. والتقدير: وإن منها منقادا، أو لينا، وما أشبه هذا. فإذا كانوا قد حذفوا الاسم والخبر على ما تأوله بعضهم في لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: إن وصاحبها، فحذف الاسم وحده أسهل. وقرأ الجمهور: يتفجر بالياء، مضارع تفجر. وقرأ مالك بن دينار: ينفجر بالياء، مضارع انفجر، وكلاهما مطاوع. أما يتفجر فمطاوع تفجر، وأما ينفجر فمطاوع فجر مخففا. والتفجر: التفتح بالسعة والكثرة، والانفجار دونه، والمعنى: إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر. وقرأ أبي والضحاك: منها الأنهار. وقرأ الجمهور منه. فالقراءة الأولى حمل على المعنى، وقراءة الجمهور على اللفظ، لأن ما لها هنا لفظ ومعنى، لأن المراد به الحجارة، ولا يمكن أن يراد به مفردا لمعنى، فيكون لفظه ومعناه واحدا، إذ ليس المعنى * (وإن من الحجارة) * للحجر الذي يتفجر منه الماء، إنما المعنى للأحجار التي يتفجر منها الأنهار. وقد سبق الكلام على الأنهار في قوله تعالى: * (وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) * الآية. وقد ذهب بعضهم إلى أن الحجر الذي يتفجر منه الأنهار، هو الحجر الذي ضربه موسى بعصاه،
فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.
* (وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) *، التشقق: التصدع بطول أو بعرض، فينبع منه الماء بقلة حتى لا يكون نهرا. وقرأ الجمهور: يشقق، بتشديد الشين، وأصله يتشقق، فأدغم التاء في الشين. وقرأ الأعمش: تشقق، بالتاء والشين المخففة على الأصل، ورأيتها معزوة لابن مصرف. وفي النسخة التي وقفت عليها من تفسير ابن عطية. ما نصه: وقرأ ابن مصرف: ينشقق، بالنون وقافين، والذي يقتضيه اللسان أن يكون بقاف واحدة مشددة، وقد يجيء الفك في شعر، فإن كان المضارع مجزوما، جاز الفك فصيحا، وهو هنا مرفوع، فلا يجوز الفك، إلا أنها قراءة شاذة، فيمكن أن يكون ذلك فيها، وأما أن يكون المضارع بالنون مع القافين وتشديد الأولى منهما، فلا يجوز. قال أبو حاتم: لما تتفجر بالتاء، ولا يجوز تتشقق بالتاء، لأنه إذا قال: تتفجر فأنثه لتأنيث الأنهار، ولا يكون في تشقق. وقال أبو جعفر النحاس: يجوز ما أنكره أبو حاتم حملا على المعنى، لأن المعنى: وإن منها للحجارة التي تشقق، وإما يشقق بالياء، فمحمول على اللفظ. انتهى، وهو كلام صحيح. ولم ينقل هنا أن أحدا قرأ منها الماء، فيعيد على المعنى، إنما نقل ذلك في قوله: لما يتفجر منه الأنهار، فناسب الجمع الجمع، ولأن الأنهار من حيث هي جمع، يبعد في العادة أن تخرج من حجر واحد، وإنما تخرج الأنهار من أحجار، فلذلك ناسب مراعاة المعنى هنا. وأما فيخرج منه الماء، فالماء ليس جمعا، فلا يناسب في حمل منه على المعنى، بل أجرى يشقق، ومنه على اللفظ.
* (وإن منها لما يهبط من خشية الله) *، الهبوط هنا: التردي من علو إلى أسفل. وقرأ الأعمش: يهبط، بضم الباء، وقد تقدم أنها لغة. وخشية الله: خوفه. واختلف المفسرون في تفسير هذا، فذهب قوم إلى أن الخشية هنا حقيقة. واختلف هؤلاء، فقال قوم معناه: من خشية الحجارة لله تعالى، فهي مصدر مضاف للمفعول، وأن الله تعالى جعل لهذه الأحجار التي تهبط من خشية الله تعالى تمييزا قام لها مقام الفعل المودع فيمن يعقل، واستدل على ذلك بأن الله تعالى وصف بعض الحجارة بالخشية، وبعضها بالإرادة، ووصف جميعها بالنطق
431

والتحميد والتقديس والتأويب والتصدع، وكل هذه صفات لا تصدر إلا عن أهل التمييز والمعرفة. قال تعالى: * (لو أنزلنا هاذا القرءان على جبل) * الآية، * (وإن من شىء إلا يسبح بحمده) *، * (فضلا ياجبال أوبى معه والطير) *، وفي الحديث الصحيح: (إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث وأنه بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه، وفي الحجر الأسود إنه يشهد لمن يستلمه). وفي حديث الحجر الذي فر بثوب موسى عليه السلام وصار يعدو خلفه ويقول: (ثوبي حجر ثوبي حجر). وفي الحديث عن أحد: (أن هذا جبل يحبنا ونحبه). وفي حديث حراء: (لما اهتز أسكن حراء). وفي حديث: (تسبيح صغار الحصى بكف رسول الله صلى الله عليه وسلم)). وقد دلت هذه الجملة وأحاديث أخر على نطق الحيوانات والجمادات، وانقياد الشجر وغير ذلك. فلولا أنه تعالى أودع فيها قوة مميزة، وصفة ناطقة، وحركة اختيارية، لما صدر عنها شيء من ذلك، ولا حسن وصفها به. وإلى هذا ذهب مجاهد وابن جريج وجماعة. وقال قوم: الخشية هنا حقيقة، وهو مصدر أضيف إلى فاعل. والمراد بالحجر الذي يهبط من خشية الله هو البرد، والمراد بخشية الله: إخافته عباده، فأطلق الخشية، وهو يريد الإخشاء، أي نزول البرد به، يخوف الله عباده، ويزجرهم عن الكفر والمعاصي. وهذا قول متكلف، وهو مخالف للظاهر. والبرد ليس بحجارة، وإن كان قد اشتد عند النزول، فهو ماء في الحقيقة. وقال قوم: الخشية هنا حقيقة، وهو مصدر مضاف للمفعول، وفاعله محذوف، وهو العباد. والمعنى: أن من الحجارة ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزلة من خشية عباد الله إياه.
وتحقيقه: أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى، صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط، فكان المعنى: لما يهبط من أجل أن يحصل لعباد الله تعالى. وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة، وأن الضمير في قوله: * (وإن منها لما يهبط من خشية الله) * عائد على القلوب، والمعنى: أن من القلوب قلوبا تطمئن وتسكن، وترجع إلى الله تعالى، فكنى بالهبوط عن هذا المعنى، ويريد بذلك قلوب المخلصين. وهذا تأويل بعيد جدا، لأنه بدأ بقوله: * (وإن من الحجارة) *، ثم قال: * (وإن منها) *، فظاهر الكلام التقسيم للحجارة، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل واضح، والهبوط لا يليق بالقلوب، إنما يليق بالحجارة. وليس تأويل الهبوط بأولى من تأويل الخشية إن تأولناها. وقد أمكن في الوجوه التي تضمنت حملها على الحقيقة، وإن كان بعض تلك الأقوال أقوى من بعض. وذهب بعضهم إلى أن الذي يهبط من خشية الله هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، إذ جعله دكا. وذهب قوم إلى أن الخشية هنا مجاز من مجاز الاستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى: * (يريد أن ينقض) *، وكما قال زيد الخيل:
* بجمع تضل البلق في حجراته
*
ترى الاكم منه سجدا للحوافر
*
وكما قال الآخر:
* لما أتى خبر الزبير تضعضعت
*
سور المدينة والجبال الخشع
*
432

أي من رأى الحجر مترديا من علو إلى أسفل، تخيل فيه الخشية، فاستعار الخشية، كناية عن الانقياد لأمر الله، وأنها لا تمتنع على ما يريد الله تعالى فيها. فمن يراها يظن أن ذلك الانفعال السريع هو مخافة خشية الله تعالى. وهذا قول من ذهب إلى أن الحياة والنطق لا يحلان في الجمادات، وذلك ممتنع عندهم. وتأولوا ما ورد في القرآن والحديث، مما يدل على ذلك على أن الله تعالى قرن بها ملائكة، هي التي تسلم وتتكلم، كما ورد أن الرحم معلقة بالعرش، تنادي: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني. والأرحام ليست بجسم، ولا لها إدراك، ويستحيل أن تسجد المعاني، أو تتكلم، وإنما قرن الله تعالى بها ملكا يقول ذلك القول. وتأولوا: هذا جبل يحبنا ونحبه، أي يحبه أهله ونحب أهله، كقوله تعالى: واسئل القرية. واختيار ابن عطية، رحمه الله تعالى، أن الله يخلق للحجارة قدرا ما من الإدراك، تقع به الخشية والحركة. واختيار الزمخشري أن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى وعدم امتناعها، وترتيب تقسيم هذه الحجارة ترتيب حسن جدا، وهو على حسب الترقي. فبدأ أولا بالذي تتفجر منه الأنهار، أي خلق ذا خروق متسعة، فلم ينسب إليه في نفسه تفعل ولا فعل، أي أنها خلقت ذات خروق بحيث لا يحتاج أن يضاف إليها صدور فعل منها. ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالا يسيرا، وهو أن يصدر منه تشقق بحيث ينبع منه الماء. ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالا عظيما، بحيث يتحرك ويتدهده من علو إلى أسفل، ثم رسخ هذا الانفعال التام بأن ذلك هو من خشية الله تعالى، من طواعيته وانقياده لما أراد الله تعالى منه، فكنى بالخشية عن الطواعية والانقياد، لأن من خشي أطاع وانقاد.
* (وما الله بغافل عما تعملون) *: هذا فيه وعيد، وذلك أنه لما قال: * (ثم قست قلوبكم من بعد ذالك) *، أفهم أنه ينشأ عن قسوة القلوب أفعال فاسدة وأعمال قبيحة، من مخالفة الله تعالى، ومعاندة رسله، فأعقب ذلك بتهديدهم بأن الله تعالى ليس بغافل عن أعمالهم، بل هو تعالى يحصيها عليهم، وإذا لم يفعل عنها كان مجازيا عليها. والغفلة إن أريد بها السهو، فالسهو لا يجوز على الله تعالى، وإن أريد بها الترك عن عمد، فذكروا أنه مما يجوز أن يوصف الله تعالى به. وعلى كلا التقديرين، فنفى الله تعالى الغفلة عنه. وانتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا، ولكونه لا يقع منه مع إمكانه. وقد ذهب القاضي إلى أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه ليس بغافل، قال: لأنه يوهم جواز الغفلة عليه، وليس الأمر كما ذهب إليه، لأن نفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) *؟ وقوله: * (وهو يطعم ولا يطعم) *، فقد نفى عنه تعالى ما لا يستلزم إمكانه له. وبغافل: في موضع نصب، على أن تكون ما حجازية. ويجوز أن تكون في موضع رفع، على أن تكون ما تميمية، فدخلت الباء في خبر المبتدأ، وسوغ ذلك النفي. ألا ترى أنها لا تدخل في الموجب؟ لا تقول: زيد بقائم، ولا: ما زيد إلا بقائم. قال ابن عطية: وبغافل في موضع نصب خبر ما، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية. انتهى كلامه. وهذا الذي ذهب إليه أبو محمد بن عطية، من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة، لم يذهب إليه نحوي فيما علمناه، بل القائلون قائلان، قائل: بأن التميمية لا تدخل الباء في خبر المبتدأ بعدها، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه، وتبعه الزمخشري. وقائل: بأنه يجوز أن يجر بالباء، وهو الصحيح. وقال الفرزدق:
لعمرك ما معن بتارك حقه
433

وأشعار بني تميم تتضمن جر الخبر بالباء كثيرا. وقرأ الجمهور: تعملون بالتاء، وهو الجاري على نسق قوله: * (ثم قست قلوبكم) *. وقرأ ابن كثير بالياء، فيحتمل أن يكون الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ويحتمل أن يكون الخطاب مع بني إسرائيل، ويكون ذلك التفاتا، إذ خرج من الخطاب في قوله تعالى: * (ثم قست قلوبكم) * إلى الغيبة في قوله: * (يعملون) *. وحكمة هذا الالتفات أنه أعرض عن مخاطبتهم، وأبرزهم في صورة من لا يقبل عليهم بالخطاب، وجعلهم كالغائبين عنه، لأن مخاطبة الشخص ومواجهته بالكلام إقبال من المخاطب عليه، وتأنيس له، فقطع عنهم مواجهته لهم بالخطاب، لكثرة ما صدر عنهم من المخالفات.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة فصولا عظيمة، ومحاورات كثيرة، وذلك أن موسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، شافههم بأن الله تعالى يأمرهم بذبح البقرة، وذلك امتحان من الله تعالى لهم، فلم يبادروا لامتثال أمر الله تعالى، وأخرجوا ذلك مخرج الهزؤ، إذ لم يفهموا سر الأمر. وكان ينبغي أن يبادروا بالامتثال، فأجابهم موسى باستعاذته بالله الذي أمره أن يكون ممن جهل، فيخبر عن الله بما لم يأمره به، فرد عليهم بأن استعمال الهزؤ في التبليغ عن الله تعالى، وفي غيره، وهو يستعيذ منه، فرجعوا إلى قوله، وتعنتوا في البقرة، وفي أوصافها، وكان يجزئهم أن يذبحوا بقرة، إذ المأمور به بقرة مطلقة، فسألوا ما هي؟ وسألوا موسى أن يدعو الله تعالى أن يبينها لهم، إذ كان دعاؤه أقرب للإجابة من دعائهم، فأخبر عن الله تعالى بسنها. ثم خاف من كثرة سؤالهم، ومن تعنتهم، كما جاء، إنما أهلك بني إسرائيل كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فبادر إلى أمرهم بأن يفعلوا ما يؤمرون، حتى قطع سؤالهم، فلم يلتفتوا إلى أمره، وسألوا أن يسأل الله تعالى ثانيا عن لونها، إذ قد أخبروا بسنها، فأخبرهم عن الله تعالى بلونها، ولم يأمرهم ثانيا أن يفعلوا ما يؤمرون به، إذ علم منهم تعنتهم، لأنهم خالفوا أمر الله أولا في قوله: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) *، وخالفوا أمر موسى ثانيا في قوله: * (فافعلوا ما تؤمرون) *. فلم يكن إلا أن أبقاهم على طبيعتهم من كثرة السؤال. فسألوا ثالثا أن يسأل الله عنها، فأخبرهم عن الله تعالى بحالها بالنسبة إلى العمل وباقي الأوصاف التي ذكرها، فحينئذ صرحوا بأن موسى جاء بالحق الواضح الذي بين أمر هذه البقرة، فالتمسوها حتى حصلوها وذبحوها امتثالا لأمر الله تعالى، وذلك بعد ترديد كثير وبطء عظيم، وقبل ذلك ما قاربوا ذبحها، بل بقوا متطلبين أشياء ليتأخر عنهم تحصيلها وذبحها.
ثم أخبر تعالى عنهم بقتل النفس، وتدافعهم فيمن قتلها، واختلافهم في ذلك، فأمروا بأن يضربوا ذلك القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة، فضربوه فحيي بإذن الله، وانكشف لهم سر أمر الله بذبح البقرة، وأنه ترتب على ذلك من الأمر المعجز الخارق، ما يحصل به العلم الضروري الدال على صدق موسى عليه السلام، وعلى نبينا
أفضل الصلاة والسلام. ثم بين تعالى أن مثل هذ الإحياء يحيي الموتى، إذ لا فرق بين الإحياءين في مطلق الإحياء. ثم أخبر تعالى بأنه يريهم آياته، لينتج عن تلك الإراءة كونهم يصيرون من أولي العقل، الناظرين في عواقب الأمور، المفكرين في المعاد. ثم أخبر تعالى بعد ذلك أنهم على مشاهدتهم هذا الخارق العظيم، ورؤيتهم الآيات قبل ذلك، لم يتأثروا لذلك، بل ترتب على ذلك عكس مقتضاه من القسوة الشديدة، حتى شبه قلوبهم بالحجارة، أو هي أشد من الحجارة. ثم استطرد لذكر الحجارة بالتقسيم الذي ذكره، على أن الحجارة تفضل قلوبهم في كون بعضها يتأثر تأثيرا عظيما، بحيث يتحرك ويتدهده، وكون بعضها يتشقق فيتأثر تأثيرا قليلا، فينبع منه الماء، وكون بعضها خلق منفرجا تجري منه الأنهار، وقلوبهم على سجية واحدة، لا تقبل موعظة، ولا تتأثر لذكري، ولا تنبعث لطاعة. ثم ختم ذلك بأنه تعالى لا يغفل عما اجترحوه في دار الدنيا، بل يجازيهم بذلك في الدار الأخرى. وكان افتتاح هذه الآيات بأن الله تعالى يأمر، واختتامها بأن الله لا يغفل. فهو العالم بمن امتثل، وبمن أهمل، فيجازي ممتثل أمره بجزيل ثوابه، ومهمل أمره بشديد عقابه.
(* (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من
434

بعد ما عقلوه وهم يعلمون * وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحآجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون * ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانى وإن هم إلا يظنون * فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هاذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون * وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون * بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيأته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) *))
) *
الطمع: تعلق النفس بإدراك مطلوب، تعالقا قويا، وهو أشد من الرجاء، لأنه لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدة إرادة، وإذا اشتد صار طمعا، وإذا ضعف كان رغبة ورجاء. يقال: طمع يطمع طمعا وطماعة وطماعية مخففا، كطواعية، قال الشاعر:
طماعية أن يغفر الذنب غافره
واسم الفاعل: طمع وطامع، ويعدي بالهمزة، ويقال: طامعه مطامعه، ويقال: طمع بضم الميم، كثر طعمه، وضد الطمع: اليأس، قال كثير:
* لا خير في الحب وقفا لا يحركه
*
عوارض اليأس أو يرتاجه الطمع
*
ويقال: امرأة مطماع، أي تطمع ولا تمكن، وقد توسع في الطمع فسمى به رزق الجند، يقال: أمر لهم الأمير بإطماعهم، أي أرزاقهم، وهو من وضع المصدر موضع المفعول. الكلام: هو القول الدال على نسبة إسنادية مقصودة لذاتها، ويطلق أيضا على الكلمة، ويعبر به أيضا عن الخط والإشارة، وما يفهم من حال الشيء. وهل يطلق على المعاني القائمة بالذهن التي يعبر عنها بالكلام؟ في ذلك خلاف، وتقاليبه الست موضوعة، وترجع إلى معنى القوة والشدة، وهي: كلم، كمل، لكم، لمك، ملك، مكل. التحريف: إمالة الشيء من حال إلى حال، والحرف: الحد المائل. التحديث: الإخبار عن حادث، ويقال منه يحدث، وأصله من الحدوث، وأصل فعله أن يتعدى إلى واحد بنفسه، وإلى آخر بعن، وإلى ثالث بالباء، فيقال: حدثت زيدا عن بكر بكذا، ثم إنه قد يضمن معنى أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين، فيتعدى إلى ثلاثة، وهي من إلحاق غير سيبويه بأعلم، ولم يذكر سيبويه مما يتعدى إلى ثلاثة غير: أعلم، وأرى
435

ونبأ، وأما حدث فقد أنشدوا بيت الحارث بن حلزة:
* أو منعتم ما تسألون فمن
*
حدثتموه له علينا العلاء
*
وجعلوا حدث فيه متعدية إلى ثلاثة، ويحتمل أن يكون التقدير: حدثتموا عنه. والجملة بعده حال. كما خرج سيبويه قوله: ونبئت عبد الله، أي عن عبد الله، مع احتمال أن يكون ضمن نبئت معنى: أعلمت، لكن رجح عنده حذف حرف الجر على التضمين. وإذا احتمل أن يخرج بيت الحارث على أن يكون مما حذف منه الحرف، لم يكن فيه دليل على إثبات تعدى حدث إلى ثلاثة بنفسه، فينبغي أن لا يذهب إلى ذلك، إلا أن يثبت من لسان العرب. الفتح: القضاء بلغة اليمن، * (وهو الفتاح العليم) *. والأذكار: فتح على الإمام، والظفر: * (فقد جاءكم الفتح) *. قال الكلبي: وبمعنى القصص. قال الكسائي: وبمعنى التبيين. قال الأخفش: وبمعنى المن. وأصل الفتح: خرق الشيء، والسد ضده. المحاجة: من الاحتجاج، وهو القصد للغلبة، حاجه: قصد أن يغلب. والحجة: الكلام المستقيم، مأخوذ من محجة الطريق.
أسر الشيء: أخفاه، وأعلنه: أظهره. الأمي: الذي لا يقرأ في كتاب ولا يكتب، نسب إلى الأم لأنه ليس من شغل النساء أن يكتبن أو يقرأن في كتاب، أو لأنه بحال ولدته أمه لم ينتقل عنها، أو نسب إلى الأمة، وهي القامة والخلقة، أو إلى الأمة، إذ هي ساذجة قبل أن تعرف المعارف. الأماني: جمع أمنية، وهي أفعولة، أصله: أمنوية، اجتمت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وهي من منى، إذا قدر، لأن المتمني يقدر في نفسه ويحزر ما يتمناه، أو من تمنى: أي كذب. قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به: أهذا شيء رويته أم تمنيته. أي اختلقته. وقال عثمان: ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت، أو من تمني إذا تلا، قال تعالى: * (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته) *، أي إذا تلا وقرأ، وقال الشاعر:
* تمنى كتاب الله أول ليله
*
وآخره لاقى حمام المقادر
*
والتلاوة والكذب راجعان لمعنى التقدير، فالتقدير أصله، قال الشاعر:
* ولا تقولن لشيء سوف أفعله
*
حتى تبين ما يمنى لك الماني
*
أي يقدر، وجمعها بتشديد الياء لأنه أفاعيل. وإذا جمع على أفاعل خففت الياء، والأصل التشديد، لأن الياء الأولى في الجمع هي الواو التي كانت في المفرد التي انقلبت فيه ياء، ألا ترى أن جمع أملود أماليد؟ ويل: الويل مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم. وأل مصنوع، ولم يجيء من هذه المادة التي فاؤها واو وعينها ياء إلا: ويل، وويح، وويس، وويب، ولا يثني ولا يجمع. ويقال: ويله، ويجمع على ويلات. قال:
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
وإذا أضيف ويل، فالأحسن فيه النصب، قال تعالى: * (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا) *. وزعم بعض
436

أنه إذا أضيف لا يجوز فيه إلا النصب، وإذا أفردته اختير الرفع، قال: * (فويل للذين) *، ويجوز النصب، قال:
فويلا لتيم من سرابيلها الخضر
والويل: معناه الفضيحة والحسرة، وقال الخليل: الويل: شدة الشر، وقال المفضل وابن عرفة: الويل: الحزن، يقال: تويل الرجل: دعا بالويل، وإنما يقال ذلك عند الحزم والمكروه. وقال غيره: الويل: الهلكة، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، وقال الأصمعي: هي كلمة تفجع، وقد يكون ترحما، ومنه:
ويل أمه مسعر حرب
الأيدي: جمع يد، ويد مما حذف منه اللام، ووزنه فعل، وقد صرح بالأصل. قالوا: يدي، وقد أبدلوا من الياء الأولى همزة، قالوا: قطع الله أدية، وأبدلوا منها أيضا جيما، قالوا: لا أفعل ذلك جد الدهر، يريدون يد الدهر، وهي حقيقة في الجارحة، مجاز في غيرها. وأما الأيادي فجمع الجمع، وأكثر استعمال الأيادي في النعم، والأصل: الأيدي، استثقلنا الضمة على الياء فحذفت، فسكنت الياء، وقبلها قسمة، فانقلبت واوا، فصار الأيد. وكما قيل في ميقن موقن، ثم إنه لا يوجد في لسانهم واو ساكنة قبلها ضمة في اسم، وإذا أدى القياس إلى ذلك، قلبت تلك الواو ياء وتلك الضمة قبلها كسرة، فصار الأيدي. وقد تقدم الكلام على اليد عند الكلام على قوله: * (لما بين يديها) *. الكسب: أصله اجتلاب النفع، وقد جاء في اجتلاب الضر، ومنه: بلى من كسب سيئة، والفعل منه يجيء متعديا إلى واحد، تقول: كسبت مالا، وإلى اثنين تقول: كسبت زيدا مالا. وقال ابن الأعرابي؛ يقال: كسب هو نفسه وأكسب غيره، وأنشد:
فأكسبني مالا وأكسبته حمدا
المس: الإصابة، والمس: الجمع بين الشيئين على نهاية القرب، واللمس: مثله لكن مع الإحساس، وقد يجيء المس مع الإحساس. وحقيقة المس واللمس باليد. ونقل من الإحساس إلى المعاني مثل: * (أنى مسنى الشيطان) * * (يتخبطه الشيطان من المس) *، ومنه سمي الجنون مسا، وقيل: المس واللمس والجس متقارب، إلا أن الجس عام في المحسوسات، والمس فيما يخفى ويدق، كنبض العروق، والمس واللمس بظاهر البشرة، والمس كناية عن النكاح وعن الجنون. المعدود: اسم مفعول من عد، بمعنى حسب، والعدد هو الحساب. الإخلاف: عدم الإيفاء بالشيء الموعود. بلى: حرف جواب لا يقع إلا بعد نفي في اللفظ أو المعنى، ومعناها: رده، سواء كان مقرونا به أداة الاستفهام، أو لم يكن، وقد وقع جوابا للاستفهام في مثل: هل يستطيع زيد مقاومتي؟ إذا كان منكرا لمقاومة زيد له، لما كان معناه النفي، ومما وقعت فيه جوابا للاستفهام قول الحجاف بن حكيم:
* بل سوف نبكيهم بكل مهند
*
ونبكي نميرا بالرماح الخواطر
*
وقعت جوابا للذي قال له، وهو الأخطل:
437

* ألا فاسأل الحجاف هل هو ثائر
*
بقتلي أصيبت من نمير بن عامر
*
وبلى عندنا ثلاثي الوضع، وليس أصله بل، فزيدت عليها الألف خلافا للكوفيين. السيئة: فيعلة من ساء يسوء مساءة، إذا حزن، وهي تأنيث السئ، وقد تقدم الكلام على هذا الوزن عند الكلام على قوله: * (أو كصيب) *، فأغنى عن إعادته.
* (وليتلطف ولا يشعرن بكم) *: ذكروا في سبب نزول هذه الآية أقاويل: أحدها: أنها نزلت في الأنصار، وكانوا حلفاء لليهود، وبينهم جوار ورضاعة، وكانوا يودون لو أسلموا. وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم) والمؤمنون يودون إسلام من بحضرتهم من أبناء اليهود، لأنهم كانوا أهل كتاب وشريعة، وكانوا يغضبون لهم ويلطفون بهم طمعا في إسلامهم. وقيل: نزلت فيمن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم) من أبناء السبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام في الطور، فسمعوا كلام الله، فلم يمتثلوا أمره، وحرفوا القول في أخبارهم لقومهم، وقالوا: سمعناه يقول إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا. وقيل: نزلت في علماء اليهود الذين يحرفون التوراة، فيجعلون الحلال حراما، والحرام حلالا، اتباعا لأهوائهم. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يدخل علينا قصبة المدينة إلا مؤمن). قال كعب بن الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما: اذهبوا وتجسسوا أخبار من آمن، وقولوا لهم آمنا، واكفروا إذا رجعتم، فنزلت. وقيل: نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين: نحن نؤمن أنه نبي، لكن ليس إلينا، وإنما هو إليكم خاصة، فلما خلوا، قال بعضهم: أتقرون بنبوته وقد كنا قبل نستفتح به؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه. وقيل: نزلت في قوم من اليهود كانوا يسمعون الوحي، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه.
وهذه الأقاويل كلها لا تخرج عن أن الحديث في اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لأنهم الذين يصح فيهم الطمع أن يؤمنوا، لأن الطمع إنما يصح في المستقبل، والضمير في * (أن يؤمنوا لكم) * لليهود. والمعنى: استبعد إيمان اليهود، إذ قد تقدم لأسلافهم أفاعيل، وجزى أبناؤهم عليها. فبعيد صدور الإيمان من هؤلاء، فإن قيل: كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين؟ قيل: قال القفال: يحتمل أن يكون المعنى: كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونه من قوم يحرفون عنادا؟ فإنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه، والمقلدون يقبلون ذلك منهم، فلا يلتفتون إلى الحق. وقيل: إياسهم من إيمان فرقة بأعيانهم.
والهمزة في أفتطعمون للاستفهام، وفيها معنى التقرير، كأنه قال: قد طمعتم في إيمان هؤلاء وحالهم ما ذكر. وقيل: فيه ضرب من النكير على الرغبة في إيمان من شواهد امتناعه قائمة. واستبعد إيمانهم، لأنهم كفروا بموسى، مع ما شاهدوا من الخوارق على يديه، ولأنهم ما اعترفوا بالحق، مع علمهم، ولأنهم لا يصلحون للنظر والاستدلال. والخطاب في أفتطعمون، للنبي صلى الله عليه وسلم) خاصة. خاطبه بلفظ الجمع تعظيما له، قاله ابن عباس ومقاتل، أو للمؤمنين، قاله أبو العالية وقتادة، أو للأنصار، قاله النقاش، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين، أو لجماعة من المؤمنين، أو لجماعة من الأنصار. والفاء بعد الهمزة أصلها التقديم عليها، والتقدير: أفتطعمون، فالفاء للعطف، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدمت عليها. والزمخشري يزعم أن بين الهمزة والفاء فعل محذوف، ويقر الفاء على حالها، حتى تعطف الجملة بعدها على الجملة المحذوفة قبلها، وهو خلاف مذهب سيبويه، ومحجوج بمواضع لا يمكن تقدير فعل فيها، نحو قوله: * (أو من * ينشأ فى الحلية * أفمن يعلم أنما أنزل إليك) *، * (أفمن هو قائم) *. أن يؤمنوا معمول لتطعمون على إسقاط حرف الجر، التقدير:
438

في أن يؤمنوا، فهو في موضع نصب، على مذهب سيبويه، وفي موضع جر، على مذهب الخليل والكسائي. ولكم: متعلق بيؤمنوا، على أن اللام بمعنى الباء، وهو ضعيف، ولام السبب أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم.
* (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله) *، الفريق: قيل: الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم)، قاله مجاهد والسدي. وقيل: جماعة من اليهود كانوا يسمعون الوحي، إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيحرفونه، قصد أن يدخلوا في الدين ما ليس فيه، ويحصل التضاد في أحكامه. وقيل: كل من حرف حكما، أو غيره، كفعلهم في آية الرجم ونحوها. وقيل: هم السبعون الذين سمعوا مع موسى عليه السلام كلام الله، ثم بدلوا بعد ذلك، وقد أنكر أن يكونوا سمعوا كلام الله تعالى. قال ابن الجوزي: أنكر ذلك أهل العلم، منهم: الترمذي، صاحب النوادر، وقال: إنما خص موسى عليه السلام بالكلام وحده. وكلام الله الذي حرفوه، قيل: هو التوراة، حرفوها بتبديل ألفاظ من تلقائهم، وهو قول الجمهور. وقيل: بالتأويل، مع بقاء لفظ التوراة، قاله ابن عباس. وقيل: هو كلام الله الذي سمعوه على الطور. وقيل: ما كانوا يسمعونه من الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقرأ الأعمش: كلم الله، جمع كلمة، وقد يراد بالكلمة: الكلام، فتكون القراءتان بمعنى واحد. وقد يراد المفردات، فيحرفون المفردات، فتتغير المركبات، وإسنادها بتغير المفردات. * (ثم يحرفونه) *: التحريف الذي وقع، قيل: في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فإنهم وصفوه بغير الوصف الذي هو عليه، حتى لا تقوم عليهم به الحجة. وقيل: في صفته،
وفي آية الرجم. * (من بعد ما عقلوه) * أي من بعد ما ضبطوه وفهموه، ولم تشتبه عليهم صحته. وما مصدرية، أي من بعد عقلهم إياه، والضمير في عقلوه عائد على كلام الله. وقيل: ما موصولة، والضمير عائد عليها، وهو بعيد.
* (وهم يعلمون) *: ومتعلق العلم محذوف، أي أنهم قد حرفوه، أو ما في تحريفه من العقاب، أو أنه الحق، أو أنهم مبطلون كاذبون. والواو في قوله: * (وقد كان فريق) *، وفي قوله: * (وهم يعلمون) *، واو الحال. ويحتمل أن يكون العامل في الحال قوله: * (* أفتطعمون) *؟ ويحتمل أن يكون: * (الناس أن يؤمنوا) *. فعلى الأول يكون المعنى: أفيكون منكم طمع في إيمان اليهود؟ وأسلافهم من عادتهم تحريف كلام الله، وهم سالكو سننهم ومتبعوهم في تضليلهم، فيكون الحال قيدا في الطمع المستبعد، أي يستبعد الطمع في إيمان هؤلاء وصفتهم هذه. وعلى الثاني يكون المعنى استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء إيمان، وقد كان أسلافهم على ما نص من تحريف كلام الله تعالى. فعلى هذا يكون الحال قيدا في أيمانهم. وعلى كلا التقديرين، فكل منهما، أعني من: أفتطعمون، ومن يؤمنوا، مقيد بهذه الحال من حيث المعنى. وإنما الذي ذكرناه تقتضيه صناعة الإعراب. وبيان التقييد من حيث المعنى أنك إذا قلت: أتطمع أن يتبعك زيد؟ وهو متبع طريقة أبيه، فاستبعاد الطمع مقيد بهذه الحال، ومتعلق الطمع، الذي هو الاتباع المفروض وقوعه، مقيد بهذه الحال. فمحصوله أن وجود هذه الحال لا يجامع الاتباع، ولا يناسب الطمع، بل إنما كان يناسب الطمع ويتوقع الاتباع، مع انتفاء هذه الحال. وأما العامل في قوله: * (وهم يعلمون) *، فقوله: * (ثم يحرفونه) *، أي يقع التحريف منهم بعد تعقله وتفهمه، عالمين في تحريفه من شديد العقاب، ومع ذلك فهم يقدمون على ذلك، ويجترئون عليه. والإنكار على العالم أشد من الإنكار على الجاهل، لأن عند العالم دواعي الطاعة، لما علم من ثوابها، وتواني المعصية لما علم من عقابها. وذهب بعضهم إلى أن العامل في قوله: * (وهم يعلمون) *، قوله: * (عقلوه) *، والظاهر القول الأول، وهو قوله: * (يحرفونه) *.
* (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا) *: قرأ ابن السميفع: لاقوا، قالوا: على التكثير. ولا يظهر التكثير، إنما هو من فاعل الذي هو بمعنى الفعل المجرد. فمعنى لاقوا، ومعنى لقوا واحد، وتقدم شرح مفردات هذه الجملة الشرطية. ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة منبئة عن نوع من قبائح اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكاشفة عما أكنوه من النفاق. ويحتمل أن تكون جملة حالية معطوفة على قوله: * (وقد كان فريق منهم) * الآية، أي كيف يطمع في إيمانهم، وقد كان من أسلافهم من يحرف كلام الله، وهؤلاء سالكو طريقتهم، وهم في أنفسهم منافقون، يظهرون موافقتكم إذا لقوكم، وأنهم منكم وهم في الباطن كفار. فمن جمع بين هاتين الحالتين، من
439

اقتدائهم بأسلافهم الضلال، ومنافقتهم للمؤمنين، لا يطمع في إيمانهم. والذين آمنوا هنا هم: أبو بكر وعمر وجماعة من المؤمنين، قاله جمهور المفسرين. وقال بعضهم: المؤمنون هنا جماعة من اليهود آمنوا وأخلصوا في إيمانهم، والضمير في لقوا الجماعة من اليهود غير معينة باقين على دينهم، أو لجماعة منهم أسلموا ثم نافقوا، أو لليهود الذين أمرهم رؤساؤهم من بني قريظة أن يدخلوا المدينة ويتجسسوا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم)، قالوا: ادخلوا المدينة وأظهروا الإيمان، فإنه نهى أن يدخل المدينة إلا مؤمن.
* (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) * أي: وإذا انفرد بعضهم ببعض، أي الذين لم ينافقوا إلى من نافق. وإلى، قيل: بمعنى مع، أي وإذا خلا بعضهم مع بعض، والأجود أن يضمن من خلا معنى فعل يعدي بإلى، أي انضوى إلى بعض، أو استكان، أو ما أشبهه، لأن تضمين الأفعال أولى من تضمين الحروف. * (قالوا) *: أي ذلك البعض الخالي ببعضهم. * (أتحدثونهم) *: أي قالوا عاتبين عليهم، أتحدثون المؤمنين؟ * (بما فتح الله عليكم) *: وما موصولة، والضمير العائد عليها محذوف تقديره: بما فتحه الله عليكم. وقد جوزا في ما أن تكون نكرة موصوفة، وأن تكون مصدرية، أي بفتح الله عليكم. والأولى الوجه الأول، والذي حدثوا به هو ما تكلم به جماعة من اليهود من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قاله أبو العالية وقتادة، أو ما عذب به أسلافهم، قاله السدي. وقال مجاهد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال لبني قريظة: (يا إخوة الخنازير والقرد). فقال الأحبار لأتباعهم: ما عرف هذا إلا من عندكم. وقال ابن زيد: كانوا إذا سئلوا عن شيء قالوا: في التوراة كذا وكذا، فكره ذلك أحبارهم، ونهوا في الخلوة عنه. فعلى ما قاله أبو العالية يكون الفتح بمعنى الإعلام والإذكار، أي أتحدثونهم بما أعلمكم الله من صفة نبيهم؟ ورواه الضحاك عن ابن عباس. وعلى قول السدي: يكون بمعنى الحاكم والقضاء، أي أتحدثونهم بما حكم الله به على أسلافكم وقضاء من تعذيبهم؟ وعلى قول ابن زيد يكون بمعنى: الإنزال، أي أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ وقال الكلبي: المعنى بما قضى الله عليكم، وهو راجع لمعنى الإنزال. وقيل: المعنى بما بين الله لكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم)، وصفته، وشريعته، وما دعاكم إليه من الإيمان به، وأخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه ونصرته. وقيل: المعنى بما من الله عليكم من النصر على عدوكم، ومن تأويل كتابكم.
* (ليحاجوكم) *: هذه لام كي، والنصب بأن مضمرة بعدها، وهي جائزة الإضمار، إلا إن جاء بعدها لا، فيجب إظهارها. وهي متعلقة بقوله: * (أتحدثونهم) *، فهي لام جر، وتسمى لام كي، بمعنى أنها للسبب، كما أن كي للسبب. ولا يعنون أن النصب بعدها بإضمار كي، وإن كان يصح التصريح بعدها بكي، فتقول: لكي أكرمك، لأن الذي يضمر إنما هو: أن لام: كي، وقد أجاز ابن كيسان والسيرافي أن يكون المضمر بعد هذه اللام كي، أو أن. وذهب الكوفيون إلى أن النصب بعد هذه اللام إنما هو بها نفسها، وأن ما يظهر بعدها من كي وأن، إنما ذلك على سبيل التأكيد. وتحرير الكلام في ذلك مذكور في مبسوطات النحو. وذهب بعض المعربين إلى أن اللام تتعلق بقوله: فتح، وليس بظاهر، لأن المحاجة ليست علة للفتح، إنما المحاجة ناشئة عن التحديث، إلا أن تكون اللام لام الصيرورة عند من يثبت لها هذا المعنى، فيمكن أن يصير المعنى: إن الذي فتح الله عليهم به حدثوا به، فآل أمره إلى أن حاجوهم به، فصار نظير: * (فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا)
*. لم يلتقطوه لهذا الأمر، إنما آل أمره إلى ذلك. ومن لم يثبت لام الصيرورة، جعلها لام كي، على تجوز، لأن الناشئ عن شيء، وإن لم يقصد، كالعلة. ولا فرق بين أن يجعلها متعلقة بقوله: أتحدثونهم، وبين: بما فتح، إلا أن جعلها متعلقة بالأول أقرب وساطة، كأنه قال: أتحدثونهم فيحاجوكم. وعلى الثاني يكون أبعد، إذ يصير المعنى: فتح الله عليكم به، فحدثتموهم به، فحاجوكم. فالأولى جعله لأقرب وساطة، والضمير في * (به) * عائد إلى ما من قوله: * (بما فتح الله) *، وبهذا يبعد قول من ذهب إلى أنها مصدرية، لأن المصدرية لا يعود عليها ضمير.
* (عند ربكم) * معمول لقوله: ليحاجوكم، والمعنى: ليحاجوكم به في الآخرة. فكنى بقوله: * (عند ربكم * عن * أكثرهم لا يعلمون * إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) *. وقيل: معنى عند ربكم: في ربكم، أي فيكونون أحق به جعل عند بمعنى في.
440

وقيل: هو على حذف مضاف، أي ليحاجوكم به عند ذكر ربكم. وقيل معناه: إنه جعل المحاجة في كتابكم محاجة عند الله، ألا تراك تقول هو في كتاب الله كذا، وهو عند الله كذا، بمعنى واحد؟ وقيل: هو معمول لقوله: * (بما فتح الله عليكم عند ربكم) *، أي من عند ربكم ليحاجوكم، وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم)، وأخذ ميثاقهم بتصديقه. قال ابن أبي الفضل: وهذا القول هو الصحيح، لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدنيا. انتهى. والأولى حمل اللفظ على ظاهره من غير تقديم ولا تأخير، إذا أمكن ذلك، وقد أمكن بجعل قوله: * (عند ربكم) * على بعض المعاني التي ذكرناها. وأما على ما ذهب إليه هذا الذاهب، فبعيد جدا، لأن ليحاجوكم متعلق بقوله: أتحدثونهم، وعند ربكم متعلق بقوله: بما فتح الله عليكم، فتكون قد فصلت بين قوله: عند ربكم، وبين العامل فيه الذي هو: فتح الله عليكم، بقوله: ليحاجوكم، وهو أجنبي منهما، إذ هو متعلق بقوله: أتحدثونهم على الأظهر، ويبعد أن يجيء هذا التركيب هكذا في فصيح الكلام، فكيف يجيء في كلام الله الذي هو أفصح الكلام؟.
* (أفلا تعقلون) *: ظاهره أنه مندرج تحت قول من قال: أتحدثونهم بما يكون حجة لهم عليكم؟ أفلا تعقلون فلا تحدثونهم بذلك؟ وقيل: هو خطاب من الله للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن هؤلاء اليهود لا يؤمنون، وهم على هذه الصفات الذميمة، من اتباع أسلافهم المحرفين كلام الله، والتقليد لهم فيما حرفوه، وتظاهرهم بالنفاق، وغير ذلك مما نعى عليهم ارتكابه؟.
* (أو لا * يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) *: هذا توبيخ من الله لهم، أي إذا كان علم الله محيطا بجميع أفعالهم، وهم عالمون بذلك، فكيف يسوغ لهم أن ينافقوا ويتظاهروا للمؤمنين بما يعلم الله منهم خلافه، فلا يجامع حالة نفاقهم بحالة علمهم بأن الله عالم بذلك والأولى حمل ما يسرون وما يعلنون على العموم، إذ هو ظاهر اللفظ. وقيل: الذي أسروه الكفر، والذي أعلنوه الإيمان. وقيل: العداوة والصداقة. وقيل: قولهم لشياطينهم إنا معكم، وقولهم للمؤمنين آمنا. وقيل: صفة النبي صلى الله عليه وسلم)، وتغيير صفته إلى صفة أخرى، حتى لا تقوم عليهم الحجة. وقرأ ابن محيصن: أو لا تعلمون بالتاء، قالوا: فيكون ذلك خطابا للمؤمنين، وفيه تنبيه لهم على جهلهم بعالم السر والعلانية، ويحتمل أن يكون خطابا لهم، وفائدته التنبيه على سماع ما يأتي بعده، ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة، إهمالا لهم، فيكون ذلك من باب الالتفات، ويكون حكمته في الحالتين ما ذكرناه. وقد تقدم لنا أن مثل * (أفلا تعقلون) *، * (أو لا * يعلمون) *، أن الفاء والواو وفيهما للعطف، وأن أصلهما أن يكونا أول الكلام، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدمت. وذكرنا طريقة الزمخشري في ذلك، فأغنى عن إعادته. و * (أن الله يعلم) *: يحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفرد، إذا قلنا: إن يعلمون متعد إلى واحد كعرف، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفعولين، إذا قلنا: أن يعلمون متعد إلى اثنين، كظننت، وهذا على رأي سيبويه. وأما الأخفش، فإنها تسد عنده مسد مفعول واحد، ويجعل الثاني محذوفا، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف، والعائد على ما محذوف تقديره: يسرونه ويعلنونه. وظاهر هذا الاستفهام أنه تقرير لهم أنهم عالمون بذلك، أي بأن الله يعلم السر والعلانية، أي قد علموا ذلك، فلا يناسبهم النفاق والتكذيب بما يعلمون أنه الحق. وقيل: ذلك تقريع لهم وحث على التفكر، فيعلمون بالتفكر ذلك. وذلك أنهم لما اعترفوا بصحة التوراة، وفيها ما يدل على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لزمهم الاعتراف بالربوبية، ودل على أن المعصية، مع علمهم بها، أقبح.
وفي هذه الآية وما أشبهها دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان يغضي عن المنافقين، مع أن الله أظهره على نفاقهم، وذلك رجاء أن يؤمنوا، فأغضى عنهم، حتى قبل الله منهم من قبل، وأهلك من أهلك. واختلف، هل هذا الحكم باق، أو نسخ؟ فقال قوم: نسخ، لأنه كان يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم)، تأليفا للقلوب. وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم، فلا حاجة إلى التأليف. وقال قوم: هو باق إلى الآن، لأن أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان، فيحتاجون إلى زيادة الأنصار وكثرة عددهم، والأول هو الأشهر. وفي قوله: * (يعلم ما يسرون وما يعلنون) *، حجة على من زعم أن الله لا يعلم الجزئيات، بل يعلم الكليات.
* (ومنهم أميون) *: ظاهر الكلام أنها نزلت في اليهود المذكورين في الآية التي قبل هذه، قاله ابن
441

عباس. وقيل: في المجوس، قاله علي بن أبي طالب. وقيل: في اليهود والمنافقين. وقال عكرمة والضحاك: في نصارى العرب، فإنهم كانوا لا يحسنون الكتابة. وقيل: في قوم من أهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها، فصاروا أميين. وقيل: في قوم لم يؤمنوا بكتاب ولا برسول، فكتبوا كتابهم وقالوا: هذا من عند الله، فسموا: أميين، لجحودهم الكتاب، فصاروا بمنزلة من لا يحسن شيئا. والقول الأول هو الأظهر، لأن سياق الكلام إنما هو مع اليهود، فالضمير لهم.
ومناسبة ارتباط هذه الآية: أنه لما بين أمر الفرقة الضالة التي حرفت كتاب الله، وهم قد عقلوه وعلموا بسوء مرتكبهم، ثم بين أمر الفرقة الثانية، المنافقين، وأمر الثالثة: المجادلة، أخذ يبين أمر الفرقة الرابعة، وهي: العامة التي طريقها التقليد، وقبول ما يقول لهم. قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما ومن هؤلاء اليهود المذكورون، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم، أي أنهم لا يطمع في إيمانهم. وقرأ أبو حياة وابن أبي عبلة: أميون، بتخفيف الميم، وقد تقدم أن الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ
في كتاب، أي لا يحسنون الكتب، فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها. و * (لا يعلمون الكتاب) *: جملة في موضع الصفة، والكتاب هو التوراة.
* (إلا أمانى) *: استثناء منقطع، لأن الأماني ليست من جنس الكتاب، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهو أحد فسمي الاستثناء المنقطع، وهو الذي يتوجه عليه العامل. ألا ترى أنه لو قيل لا يعلمون إلا أماني لكان مستقيما؟ وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان، أحدهما: النصب على الاستثناء، وهي لغة أهل الحجاز والوجه الثاني: الاتباع على البدل بشرط التأخر، وهي لغة تميم. فنصب أماني من الوجهين، والمعنى: إلا ما هم عليه من أمانيهم، وأمانيهم أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، أو ما يمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، أو لا يعلمون إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فنقلوها على التقليد، قاله ابن عباس ومجاهد، واختاره الفراء. وقيل: معناه إلا تلاوة، أي لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم. قال أبو مسلم: حمله على تمني القلب أولى، لقوله تعالى: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم) *. وقرأ الجمهور: أماني، بالتشديد. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن جماز، عن نافع وهارون، عن أبي عمرو: أماني بالتخفيف، جمعه على أفاعل، ولم يعتد بحرف المد الذي في المفرد. قال أبو حاتم: كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد، فلك فيه التشديد والتخفيف مثل: أناني، وأغاني، وأماني، ونحوه. قال الأخفش هذا، كما يقال في جمع مفتاح مفاتيح ومفاتح، وقال النحاس: الحذف في المعتل أكثر، كما قال:
* وهل رجع التسليم أو يكشف العمى
*
ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع
*
* (وإن هم إلا) *، إن هنا: هي النافية، بمعنى ما، وهم: مرفوع بالابتداء، وإلا يظنون: في موضع الخبر، وهو من الاستثناء المفرغ. وإذا كانت إن نافية، فدخلت على المبتدأ والخبر، لم يعمل عمل ما الحجازية، وقد أجاز ذلك بعضهم، ومن أجاز شرط نفي الخبر وتأخيره، والصحيح أنه لا يجوز، لأنه لم يحفظ من ذلك إلا بيت نادر وهو:
442

* إن هو مستوليا على أحد
*
إلا على أضعف المجانين
*
وقد نسب السهيلي وغيره إلى سيبويه جواز إعمالها إعمال ما، وليس في كتابه نص على ذلك. ومعنى يظنون، قال مجاهد: يكذبون، وقال آخرون: يتحدثون، وقال آخرون: يشكون، وهو التردد بين أمرين، لا يترجح أحدهما على الناظر فيهما، والأولى حمله على موضوعه الأصلي، وهو الترجيح لأحد الأمرين على الآخر، إذ لا يمكن حمله على اليقين، ولا يلزم من الترجيح عندهم أن يكون ترجيحا في نفس الأمر. وقال مقاتل: معناه ليسوا على يقين، إن كذب الرؤساء، أو صدقوا، بايعوهم. انتهى كلامه. وأتى بالخبر فعلا مضارعا، ولم يأت باسم الفاعل، لأنه يدل على حدوث الظن وتجدده لهم شيئا فشيئا، فليسوا ثابتين على ظن واحد، بل يتجدد لهم ظنون دالة على اضطراب عقائدهم واختلاف أهوائهم. وفي هذه الآية دليل على أن المعارف كسببية، وعلى بطلان التقليد، وعلى أن المغتر بإضلال المضل مذموم، وعلى أن الاكتفاء بالظن في الأصول غير جائز، وعلى أن القول بغير دليل باطل، وعلى أن ما تساوي وجوده وعدمه لا يجوز المصير إلى أحدهما إلا بدليل سمعي، وتمسك بها أيضا منكرو القياس، وخبر الواحد، لأنهما لا يفيدان العلم.
* (يظنون فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) * الآية. قيل: نزلت في الذين غيروا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وبدلوا نعته، فجعلوه آدم سبطا طويلا، وكان في كتابهم على الصفة التي هو بها، فقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة هذا النبي الذي يبعث في آخر الزمان، ليس يشبه نعت هذا، وكانت الأحبار من اليهود يخافون أن يذهب مأكلتهم بإبقاء صفة النبي صلى الله عليه وسلم) على حالها، فلذلك غيروها. وقيل: خاف ملوكهم على ملكهم، إذا آمن الناس كلهم، فجاءوا إلى أحبار اليهود فجعلوا لهم عليهم وضائع ومآكل، وكشطوها من التوراة، وكتبوا بأيديهم كتابا، وحللوا فيه ما اختاروا، وحرموا ما اختاروا. وقيل: نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي، ولم يتبعوا كتابا، بل كتبوا بأيديهم كتابا، وحللوا فيه ما اختاروا، وحرموا ما اختاروا، وقالوا: هذا من عند الله. وقال أبو مالك: نزلت في عبد الله بن سعد بن سرح، كاتب النبي صلى الله عليه وسلم)، كان يغيره فارتد. وقد تقدم شرح ويل عند الكلام على المفردات، وذكر عن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم): أنه جبل من نار جهنم، وذكر أن أبا سعيد روى: أنه واد في جهنم بين جبلين، يهوي فيه الهاوي، وذكر أن سفيان وعطاء بن يسار رويا أنه واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار. وحكى الزهراوي وجماعة: أنه باب من أبواب جهنم. وقيل: هو صهريج في جهنم. وقيل، عن سعيد بن جبير، إنه واد في جهنم، لو سجرت فيه جبال الدنيا لانماعت من حره، ولو صح في تفسير الويل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لوجب المصير إليه. وقد تكلمت العرب في نظمها ونثرها بلفظة الويل قبل أن يجيء القرآن، ولم تطلقه على شيء من هذه التفاسير، وإنما مدلوله ما فسره أهل اللغة، وهو نكرة فيها معنى الدعاء، فلذلك جاز الابتداء بها، إذ الدعاء أحد المسوغات لجواز الابتداء بالنكرة، وهي تقارب ثلاثين مسوغا، وذكرناها في كتاب (منهج المسالك) من تأليفنا.
والكتابة معروفة، ويقال أول من كتب بالقلم إدريس، وقيل: آدم. والكتاب هنا قيل: كتبوا أشياء اختلقوها، وأحكاما بدلوها من التوراة حتى استقر حكما بينهم. وقيل: كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وبنوها في سفهائهم، وفي العرب، وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل، وصار سفهاؤهم، ومن يأتيهم من مشركي العرب، إذا سألوهم عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يقولون: ما هو هذا الموصوف عندنا في التوراة المبدلة المغيرة، ويقرؤوها عليهم ويقولون لهم: هذه التوراة التي أنزلت من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. بأيديهم: تأكيد يرفع توهم المجاز، لأن قولك: زيد يكتب، ظاهره أنه يباشر الكتابة، ويحتمل أن ينسب إليه على طريقة المجاز، ويكون آمرا بذلك
443

كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كتب، وإنما المعنى: أمر بالكتابة، لأن الله تعالى قد أخبر أنه النبي الأمي، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب. وقد قال تعالى: * (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) *. ونظير هذا التأكيد * (يطير بجناحيه * ويقولون * بأفواههم) *، وقوله:
نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا
فهذه كلها أتى بها لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ولرفع المجاز الذي كان يحتمله. وفي هذا التأكيد أيضا تقبيح لفعلهم، إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم، واجترحوه بأيديهم. وقال ابن السراح: ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم، ومن عند أنفسهم، من غير أن ينزل عليهم. انتهى كلامه. ولا يدل على ما ذكر، لأن مباشرة الشيء باليد لا تقتضي الاختلاق، ولا بد من تقدير حال محذوفة يدل عليها ما بعدها، التقدير: يكتبون الكتاب بأيديهم محرفا، أو نحوه مما يدل على هذا المعنى لقوله بعد ثم: * (يقولون هاذا من عند الله) *، إذ لا إنكار على من يباشر الكتاب بيده إلا إذا وضعه غير موضعه، فلذلك قدرنا هذه الحال.
* (ثم يقولون) *: أي لأتباعهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء لهم، ومعمول القول هذه الجملة التي هي: * (هاذا من عند الله ليشتروا) *، علة في القول، وهي لام كي، وقد تقدم الكلام عليها قبل. وهي مكسورة لأنها حرف جر، فيتعلق ب يقولون. وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقة بالاستقرار، وبنو العنبر يفتحون لام كي، قال مكي في إعراب القرآن له. * (به ثمنا قليلا) *، به: متعلق بقوله: ليشتروا، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم: * (هاذا من عند الله) *، وهو المكتوب المحرف. وتقدم القول في الاشتراء في قوله: * (اشتروا الضلالة بالهدى) *. والثمن هنا: هو عرض الدنيا، أو الرشا والمآكل التي كانت لهم، ووصف بالقلة لكونه فانيا، أو حراما، أو حقيرا، أو لا يوازنه شيء، لا ثمن، ولا مثمن. وقد جمعوا في هذا الفعل أنهم ضلوا وأضلوا وكذبوا على الله، وضموا إلى ذلك حب الدنيا. وهذا الوعيد مرتب على كتابة الكتاب المحرف، وعلى إسناده إلى الله تعالى. وكلاهما منكر، والجمع بينهما أنكر. وهذا يدل على تحريم أخذ المال على الباطل، وإن كان برضا المعطي.
* (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) *: كتابتهم مقدمة، نتيجتها كسب المال الحرام، فلذلك كرر الويل في كل واحد منهما، لئلا يتوهم أن الوعيد هو على المجموع فقط. فكل واحد من هذين متوعد عليه بالهلاك. وظاهر الكسب هو ما أخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام، وهو الأليق بمساق الآية. وقيل: المراد بما يكسبون الأعمال السيئة، فيحتاج في كلا القولين إلى اختصاص، لأن ما يكسبون عام، والأولى أن يقيد بما ذكرناه.
* (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * سبب نزول هذه الآية: أنهم زعموا أنهم وجدوا في التوراة مكتبوا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، قالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنم وتهلك. روي ذلك عن ابن عباس. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (اليهود من أهل النار) قالوا: نحن ثم تخلفوننا أنتم، فقال: (كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم) فنزلت هذه الآية. وروي عنهم أنهم يعذبون سبعة أيام، عدد أيام الدنيا، سبعة آلاف لكل ألف يوم، ثم ينقطع العذاب. وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوما، عدد عبادتهم العجل، وقيل: أربعين يوما تحلة القسم. وقيل: أربعين ليلة، ثم ينادي: اخرجوا كل مختون من بني إسرائيل، فنزلت هذه الآية، والضمير في: وقالوا، عائد على الذين يكتبون الكتاب. جمعوا، إلى تبديل كتاب الله وتحريفه، وأخذهم به المال الحرام، وكذبهم
444

على أنه من عند الله، الأخبار بالكذب البحت عن مدة إقامتهم في النار. وقد تقدم أن المس هو الإصابة، أي لن تصيبنا النار إلا أياما، استثناء مفرغ، أي لن تمسنا النار أبدا إلا أياما معدودة، وقد تقدم ذكر العدد في الأيام بأنها سبعة أو أربعون. وقيل: أراد بقوله: معدودة، أي قلائل يحصرها العد، لأنها معينة العد في نفسه.
ثم أخذ في رد هذه الدعوى والأخبار الكاذبة فقال: * (قل أتخذتم عند الله عهدا) * أي مثل هذا الإخبار الجزم لا يكون إلا ممن اتخذ عند الله عهدا بذلك، وأنتم لم تتخذوا به عهدا، فهو كذب وافتراء. وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم) بأن يرد عليهم بهذا الاستفهام الذي بدل على إنكار ما قالوه. وهمزة الوصل من اتخذ، انحذفت لأجل همزة الاستفهام، ومن سهل بنقل حركتها على اللام وحذفها قال: قل اتخذتم، بفتح اللام، لأن الهمزة كانت مفتوحة. وعند الله: ظرف منصوب باتخذتم، وهي هنا تتعدى لواحد، ويحتمل أن تتعدى إلى اثنين، فيكون الثاني الظرف، فيتعلق بمحذوف، والعهد هنا: بالميثاق والموعد، وقال ابن عباس معناه: هل قلتم لا إلاه إلا الله، وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار؟ فعلى التأويل الأول المعنى: هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون؟ وعلى الثاني: هل أسلفتم عند الله أعمالا توجب ما تدعون؟.
* (فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) *: هذه الجملة جواب الاستفهام الذي ضمن معنى الشرط، كقولك: أيقصدنا زيد؟ فلن نجيب من برنا. وقد
تقدم الخلاف في جواب هذه الأشياء، هل ذلك بطريق التضمين أي يضمن الاستفهام والتمني والأمر والنهي إلى سائر باقيها معنى الشرط؟ أم يكون الشرط محذوفا بعدها؟ ولذلك قال الزمخشري: فلن يخلف متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عنده عهدا فلن يخلف الله عهده، كأنه اختار القول الثاني من أن الشرط مقدر بعد هذه الأشياء. وقال ابن عطية: * (فلن * يخلق الله * عهده) *، اعتراض في أثناء الكلام، كأنه يريد أن قوله: * (أم تقولون) * معادل لقوله: * (قل أتخذتم عند الله عهدا) *، فصارت هذه الجملة، بين هاتين اللتين وقع بينهما التعادل، جملة اعتراضية، فلا يكون لها موضع من الإعراب، وكأنه يقول: أي هذين واقع؟ أإتخاذكم العهد عند الله؟ أم قولكم على الله ما لا تعلمون؟ وأخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير، وإن كان قد علم وقوع أحدهما، وهو قولهم: * (على الله ما لا * يعلمون) *، ونظيره: * (وإنا أو * وإياكم * لعلى هدى أو فى ضلال مبين) *. وقد علم أيهما على هدى وأيهما هو في ضلال. وقيل: أم هنا منقطعة فيتقدر ببل والهمزة، كأنه قال: بل أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ وهو استفهام إنكار، لأنه قد وقع منهم قولهم: على الله ما لا يعلمون، فأنكروا عليهم صدور هذا منهم. وفي قوله: * (فلن يخلف الله عهده) * دليل على أن الله لا يخلف وعده. واختلف في الوعيد، فذهب الجمهور إلى أنه لا يخلفه، كما لا يخلف وعده. وذهب قوم إلى جواز إخلاف إيعاده، وقالوا: خلاف الوعد قبيحد وإخلاف الوعيد حسن، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين.
* (بلى) *: حرف جواب يثبت به ما بعد النفي، فإذا قلت: ما قام زيد، فقلت: نعم، كان تصديقا في نفي قيام زيد. وإذا قلت: بلى، كان نقضا لذلك النفي. فلما قالوا: * (لن تمسنا النار) *، أجيبوا بقوله: بلى، ومعناها: تمسكم النار. والمعنى على التأبيد، وبين ذلك بالخلود. * (من كسب سيئة) * من: يحتمل أن تكون شرطية، ويحتمل أن تكون موصولة، والمسوغات لجواز دخول الفاء في الخبر، إذا كان المبتدأ موصولا، موجودة هنا، ويحسنه المجيء في قسيمة بالذين، وهو موصول. والسيئة: الكفر والشرك، قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: الموجبة للنار، قاله السدي، وعليه تفسير من فسر السيئة بالكبائر، لأنها هي التي توجب النار، أي يستحق فاعلها النار إن لم تغفر له.
* (وأحاطت به خطيئته) *: قرأ الجمهور بالإفراد، ونافع: خطيئاته جمع سلامة، وبعض القراء: خطاياه جمع تكسير، والمعنى أنها أخذته من جميع نواحيه. ومعنى الإحاطة به أنه يوافي على الكفر والإشراك، هذا إذا فسرت الخطيئة بالشرك. ومن فسرها بالكبيرة، فمعنى
445

الإحاطة به أن يموت وهو مصر عليها، فيكون الخلود على القول الأول المراد به الإقامة، لا إلى انتهاء. وعلى القول الثاني المراد به الإقامة دهرا طويلا، إذ مآله إلى الخروج من النار. قال الكلبي: أوثقته ذنوبه. وقال ابن عباس: أحبطت حسناته. وقال مجاهد: غشيت قلبه. وقال مقاتل: أصر عليها. وقال الربيع: مات على الشرك. قال الحسن: بكل ما توعد الله عليه بالنار فهو الخطيئة المحيطة. ومن، كما تقدم، لها لفظ ومعنى، فحمل أولا على اللفظ، فقال: من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته، وحمل ثانيا على المعنى، وهو قوله: * (فأولئك) *، إلى آخره. وأفرد سيئة لأنه كنى به عن مفرد، وهو الشرك. ومن أفرد الخطيئة أراد بها الجنس ومقابلة السيئة، لأن السيئة مفردة، ومن جمعها فلأن الكبائر كثيرة، فراعى المعنى وطابق به اللفظ. وذهب قوم إلى أن السيئة والخطيئة واحدة، وأن الخطيئة وصف للسيئة. وفرق بعضهم بينهما فقال: السيئة الكفر، والخطيئة ما دون الكفر من المعاصي، قاله مجاهد وأبو وائل والربيع بن أنس. وقيل: إن الخطيئة الشرك، والسيئة هنا ما دون الشرك من المعاصي. قال الزمخشري: وأحاطت به خطيئته تلك، واستولت عليه، كما يحيط العدو، ولم ينقص عنها بالتوبة. انتهى كلامه. وهذا من دسائسه التي ضمنها كتابه، إذ اعتقاد المعتزلة أن من أتى كبيرة، ولم يتب منها، ومات، كان خالدا في النار.
وفي قوله: * (أصحاب النار هم فيها خالدون) *: إشارة إلى أن المراد: الكفار، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم): (أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون). وقد رتب كونهم أصحاب النار على وجود أمرين: أحدهما، كسب السيئة، والآخر: إحاطة الخطيئة. وما رتب على وجود شرطين لا يترتب على وجود أمرين: أحدهما: كسب السيئة، والآخر: إحاطة الخطيئة. وما رتب على وجود شرطين لا يترتب على وجود أحدهما، فدل ذلك على أن من لم يكسب سيئة، وهي الشرك، وإن أحاطت به خطيئته، وهي الكبائر، لا يكون من أصحاب النار، ولا ممن يخلد فيها. ويعني بأصحاب النار: الذين هم أهلها حقيقة، لا من دخلها ثم خرج منها.
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) *: لما ذكر أهل النار، وما أعد لهم من الهلاك: أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان، وما أعد لهم في الخلود في الجنان. والمراد بالذين آمنوا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم)، ومؤمنوا الأمم قبله، قاله ابن عباس وغيره، وهو ظاهر اللفظ، وقال ابن زيد: هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم) وأمته، وقل ما ذكر في القرآن آية في الوعيد، إلا وذكرت آية في الوعد. وفائدة ذلك ظهور عدله تعالى، واعتدال رجاء المؤمن وخوفه، وكمال رحمته بوعده وحكمته بوعيده.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة استبعاد طمع المؤمنين في إيمان من سبق من آبائه التشريف بسماع كلام الله، ثم مقابلة ذلك بعظيم التحريف، هذا على علم منهم بقبيح ما ارتكبوه. وهؤلاء المطموع في إيمانهم هم أبناء أولئك المحرفين، فهم على طريقة آبائهم في الكفر، ثم قد انطووا من حيث السريرة على مداجاة المؤمنين، بحيث إذا لقوهم أفهموهم أنهم مؤمنون، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، أنكروا عليهم ما يتكلمون به مع المؤمنين من إخبار بشيء مما في كتبهم، وذلك مخافة أن يحتج المؤمنون عليهم بما في كتابهم، ثم أنكر تعالى عليهم ذلك بأنهم قد علموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم، فلا يناسب ذلك إلا الانقياد إلى كتاب الله، والإخبار بما فيه، واتباع ما تضمنه من الأمر، باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، والإيمان بما يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، ولكنهم كفروا عنادا وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا.
ثم لما ذكر حال هؤلاء الذين هم من أهل العلم، ولم ينتفعوا بعلمهم، ذكر أيضا مقلدتهم وعوامهم، وأنهم لا يعلمون من الكتاب إلا ألفاظا مسموعة، وأن طريقهم في أصول دياناتهم إنما هو حسن ظنهم بعلمائهم المحرفين المبدلين. ثم توعد الله تعالى بالهلاك والحسرة، من حرف كلام الله وادعى أنه من عند الله، لتحصيل غرض من الدنيا تافه نزر لا يبقي، فباع باقيا بفان.
ثم كرر الوعيد على ما فعلوه، ثم أخبر عنهم بما
446

صدر عنهم من الكذب البحت، بأن لبثهم في النار أياما معدودة، وأن ذلك إخبار ليس صادرا عن عهد اتخذوه عند الله، بل قول على الله بما لا علم لهم به، ثم رد عليهم دعواهم تلك بقوله: * (بلى) *، ثم قسم الناس إلى قسمين كافر، وهو صاحب النار، ومؤمن وهو صاحب الجنة، وأنهم اندرجوا تحت قسم الكافر، لأنهم كسبوا السيئات، وأحاطت بهم الخطيئات، وناهيك ما اقتص الله فيهم من أول السورة إلى هنا، وما يقص بعد ذلك مما ارتكبوه من الكفر والمخالفات.
2 (* (وإذ أخذنا ميثاق بنىإسرءيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذى القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون * وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هاؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزآء من يفعل ذالك منكم إلا خزى في الحيواة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون * أولائك الذين اشتروا الحيواة الدنيا بالا خرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) *)) 2
الولدان: الأب والأم، وكل منهما يطلق عليه والد، وظاهر الإطلاق الحقيقة. قال:
وذي ولد لم يلده أبوان
ويقال للأم: والد ووالدة، وقيل: الوالد للأب وحده، وثنيا تغليبا للمذكر. الإحسان: النفع بكل حسن. ذو: بمعنى صاحب، وهو من الأسماء الستة التي ترفع، وفيها الواو، وتنصب وفيها الألف، وتجر وفيها الياء. وأصلها عند سيبويه، ذوي، ووزنها عنده: فعل، وعند الخليل: ذوة، من باب خوة، وقوة، ووزنها عنده فعل، وهو لازم الإضافة، وتنقاس إضافته إلى اسم جنس، وفي إضافته إلى مضمر خلاف، وقد يضاف إلى العلم وجوبا، إذا اقترنا وضعا، كقولهم: ذو جدن، وذو يزن، وذو رعين، وذو الكلاع، وإن لم يقترنا وضعا، فقد يجوز، كقولهم: في عمرو، وقطري: ذو عمرو، وذو قطري، ويعنون به صاحب هذا الاسم. وإضافته إلى العلم في وجهته مسموع، وكذلك: أنا ذوبكة، واللهم صل على محمد وعلى ذويه. ومما أضيف إلى العلم، وأريد به معنى: ذي مال، ومما أضيف إلى ضمير العلم، وأضيف أيضا إلى ضمير المخاطب، قال الشاعر:
* وإنا لنرجو عاجلا منك مثل ما
*
رجونا قدما من ذويك الأفاضل
447

*
وقد أتت ذو في لغة طي موصولة، ولها أحكام في النحو. القربى: مصدر كالرجعي، والألف فيه للتأنيث، وهي قرابة الرحم والصلب، قال طرفة:
* وقربت بالقربى وجدك أنه
*
متى يك أمر للنكيثة أشهد
*
وقال أيضا:
* وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
*
على الحر من وقع الحسام المهند
*
اليتامى: فعالى، وهو جمع لا ينصرف، لأن الألف فيه للتأنيث، ومفردة: يتيم، كنديم، وهو جمع على غير قياس، وكذا جمعه على أيتام. وقال الأصمعي: اليتم في بني آدم من قبل الأب، وفي غيرهم من قبل الأم. وحكى الماوردي: إن اليتم في بني آدم يقال: من فقد الأم، والأول هو المعروف، وأصله الانفراد. فمعنى صبي يتيم: أي منفرد عن أبيه، وسميت الدرة التي لا مثيل لها: يتمة لانفرادها، قاله ثعلب. وقيل: أصل اليتم: الغفلة، وسمي الصبي يتيما، لأنه يتغافل عن بره. وقيل: أصل اليتم: الإبطاء، ومنه أخذ اليتيم، لأن البر يبطىء عنه، قاله أبو عمرو. المساكين: جمع مسكين، وهو مشتق من السكون، فالميم زائدة، كمحضير من الحضر. وقد روي: تمسكن فلان، والأصح في اللغة تسكن، أي صار مسكينا، وهو مرادف للفقير، وهو الذي لا شيء له. وقيل: هو الذي له أدنى شيء. الحسن والحسن،
قيل: هما لغتان: كالبخل والبخل. والحسن: مصدر حسن، كالقبح مصدر قبح، مقابل حسن. القليل: اسم فاعل من قل، كما أن كثيرا مقابله اسم فاعل من كثر. يقال؛ قل يقل قلة وقلاو قلا، الإعراض: التولي، وقيل: التولي بالجسم، والإعراض بالقلب. والعرض: الناحية، فيمكن أن يكون قولك: أعرض زيد عن عمرو، أي صار في ناحية منه، فتكون الهمزة فيه للصيرورة. الدم: معروف، وهو محذوف اللام، وهي ياء، لقوله:
جرى الدميان بالخير اليقين
أو: واو، لقولهم: دموان، ووزنه فعل. وقيل: فعل، وقد سمع مقصورا، قال:
* غفلت ثم أتت تطلبه
*
فإذا هي بعظام ودما
*
وقال:
448

ولكن على أعقابنا يقطر الدما
في رواية من رواه كذلك، وقد سمع مشدد الميم، قال الشاعر:
* أهان دمك فرغا بعد عزته
*
يا عمرو نعيك إصرارا على الحسد
*
الديار: جمع دار، وهو قياس في فعل الاسم، إذا لم يكن مضاعفا، ولا معتل لام نحو: طلل، وفنى. والياء في هذا الجمع منقلبة عن واو، إذ أصله دوار، وهو قياس، أعني هذا الإبدال إذا كان جمعا واحد معتل العين، كثوب وحوض ودار، بشرط أن يكون فعالا صحيح اللام. فإن كان معتله، لم يبدل نحو: واو، وقالوا: في جمع طويل: طوالوطيال. أقر بالشيء: اعترف به. تظاهرون: تتعاونون، كأن المتظاهرين يسند كل واحد منهم ظهره إلى صاحبه، والظهر: المعين. الإثم: الذنب، جمعه آثام. الأسرى: جمع أسير، وفعلى مقيس في فعيل، بمعنى: ممات، أو موجع، كقتيل وجريح. وأما الأسارى فقيل: جمع أسير، وسمع الأسارى بفتح الهمزة، وليست بالعالية. وقيل: أسارى جمع أسرى، فيكون جمع الجمع، قاله المفضل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى: من في اليد، والأسارى: من في الوثاق، والأسير: هو المأخوذ على سبيل القهر والغلبة. الفداء: يكسر أوله فيمد، كما قال النابغة:
* مهلا فداء لك الأقوام كلهم
*
وما أثمروا من مال ومن ولد
*
ويقصر، قال:
فدا لك من رب طريفي وتالدي
وإذا فتح أوله قصر، يقال: قم فدا لك أبي، قاله الجوهري. ومعنى فدى فلان فلانا: أي أعطى عوضه. المحرم: اسم مفعول من حرم، وهو راجع إلى معنى المنع. تقول: حرمه يحرمه، إذا منعه. الجزاء: المقابلة، ويطلق في الخير والشر. الخزي: الهوان. قال الجوهري: خزي، بالكسر، يخزى خزيا. وقال ابن السكيت: معنى خزي: وقع في بلية، وأخزاه الله أيضا، وخزى الرجل في نفسه يخزى خزاية، إذا استحيا، وهو خزيان، وقوم خزايا، أو امرأة خزيا. الدنيا: تأنيث الأدنى، ويرجع إلى الدنو، ويرجع إلى الدنو، بمعنى القرب. والألف فيه للتأنيث، ولا تحذف منها الألف واللام إلا في شعر، نحو قوله:
449

في سعي دنيا طالما قد مدت
والدنيا تارة تستعمل صفة، وتارة تستعمل استعمال الأسماء، فإذا كانت صفة، فالياء مبدلة من واو، إذ هي مشتقة من الدنو، وذلك نحو: العليا. ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله: * (إنما مثل الحيواة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) *، فأما القصوى والحلوى فشاذ. وإذا استعملت استعمال الأسماء، فكذلك. وقال أبو بكر بن السراج: في (المقصور والممدود) له الدنيا مؤنثة مقصورة، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو، فيقولون: دنوى، مثل: شروى، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو، ويفتحون أولها ويقلبون الواو ياء، لأنهم يستثقلون الضمة والواو.
* (وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرءيل لا تعبدون إلا الله) * الآية، هذه الآية مناسبة للآيات الواردة قبلها في ذكر توبيخ بني إسرائيل وتقريعهم، وتبيين ما أخذ عليهم من ميثاق العبادة لله، وإفراده تعالى بالعبادة، وما أمرهم به من مكارم الأخلاق، من صلة الأرحام والإحسان إلى المساكين، والمواظبة على ركني الإسلام البدني والمالي: ثم
ذكر توليهم عن ذلك، ونقضهم لذلك الميثاق، على عادتهم السابقة وطريقتهم المألوفة لهم. وإذ: معطوف على الظروف السابقة قبل هذا. والميثاق: هو الذي أخذه تعالى عليهم، وهم في صلب آبائهم كالذر، قاله: مكي، وضعف بأن الخطاب قد خصص ببني إسرائيل، وميثاق الآية فيهم، أو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم، قاله ابن عطية. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم في التوراة، بأن يعبدوه، إلى آخر الآيات. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: لا يعبدون، بالياء. وقرأ الباقون: بالتاء من فوق. وقرأ أبي وابن مسعود: لا يعبدوا، على النهي. فأما لا يعبدون فذكروا في إعرابه وجوها.
أحدها: أنه جملة منفية في موضع نصب على الحال من بني إسرائيل، أي غير عابدين إلا الله أي موحدين الله ومفرديه بالعبادة، وهو حال من المضاف إليه، وهو لا يجوز على الصحيح. لا يقال إن المضاف إليه يمكن أن يكون معمولا في المعنى لميثاق، إذ يحتمل أن يكون مصدرا، أو حكمه حكم المصدر. وإذا كان كذلك، جاز أن يكون المجرور بعده فاعلا في المعنى، أو مفعولا لأن الذي يقدر فيه العمل هو ما انحل إلى حرف مصدري والفعل، وهنا ليس المعنى على أن ينحل، لذلك فلا يجوز الحكم على موضعه برفع ولا نصب، لأنك لو قدرت أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح، بل لو فرضنا كونه مصدرا حقيقة: لم يجز فيه ذلك. ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد، لم ينحل لحرف مصدري والفعل: لا يقال: أخذت أن يعلم زيد. فإذا لم يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ولا كان من ضربا زيدا، لم يعمل على خلاف في هذا الأخير، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه هذا. باب علم ما الكلم من العربية: أن يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ورد ذلك على من أجازه. وممن أجازه أن تكون الجملة حالا بالمبرد وقطرب، قالوا: ويجوز أن يكون حالا مقارنة، وحالا مقدرة. الوجه الثاني: أن تكون الجملة جوابا لقسم محذوف دل عليه قوله: * (أخذنا ميثاق بنى إسرءيل) *، أي استحلفناهم والله لا يعبدون، ونسب هذا الوجه إلى سيبويه، وأجازه الكسائي والفراء والمبرد. الوجه الثالث: أن تكون أن محذوفة، وتكون أن وما بعدها محمولا على إضمار حرف جر، التقدير: بأن لا تعبدوا إلا الله فحذف حرف الجر، إذ حذفه مع أن، وأن جائز مطرد، إذ لم يلبس، ثم حذف بعد ذلك، أن، فارتفع الفعل، فصار لا تعبدون، قاله الأخفش، ونظيره من نثر العرب: مره بحفرها، ومن نظمها قوله:
450

ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
أصله: مره بأن يحفرها. وعن: أن أحضر الوغى، فجرى فيه من العمل ما ذكرناه. وهذا النوع من إضمار أن في مثل هذا مختلف فيه، فمن النحويين من منعه، وعلى ذلك متأخرو أصحابنا. وذهب جماعة من النوحييو إلى أنه يجوز حذفها في مثل هذا الموضع. ثم اختلفوا فقيل: يجب رفع الفعل إذ ذاك، وهذا مذهب أبي الحسن. ومنهم من قال بنفي العمل، وهو مذهب المبرد والكوفيين. والصحيح: قصر ما ورد من ذلك على السماع، وما كان هكذا فلا ينبغي أن تخرج الآية عليه، لأن فيه حذف حرف مصدري، وإبقاء صلته في غير المواضع المنقاس ذلك فيها. الوجه الرابع: أن يكون التقدير: أن لا تعبدوا، فحذف أن وارتفع الفعل، ويكون ذلك في موضع نصب على البدل من قوله: * (ميثاق بنى إسرءيل) *. وفي هذا الوجه ما في الذي قبله من أن الصحيح عدم اقتياس ذلك، أعني حذف أن ورفع الفعل ونصبه. الوجه الخامس: أن تكون محكية بحال محذوفة، أي قائلين لا تعبدون إلا الله، ويكون إذ ذاك لفظه لفظ الخبر، ومعناه النهي، أي قائلين لهم لا تعبدوا إلا الله، قاله الفراء، ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود، والعطف عليه قوله: * (وقولوا للناس حسنا) *.
الوجه السادس: أن يكون المحذوف القول، أي وقلنا لهم: * (لا تعبدون إلا الله) *، وهو نفي في معنى النهي أيضا. قال الزمخشري: كما يقول تذهب إلى فلان، تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والهي، لأنه كان سورع إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه. انتهى كلامه، وهو حسن.
الوجه السابع: أن يكون التقدير أن لا تعبدون، وتكون أن مفسرة لمضمون الجملة، لأن في قوله: * (أخذنا ميثاق بنى إسرءيل) * معنى القول، فحذف أن المفسرة وأبقى المفسر. وفي جواز حذف أن المفسرة نظر.
الوجه الثامن: أن تكون الجملة تفسيرية، فلا موضع لها من الإعراب، وذلك أنه لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، كان في ذلك إيهام للميثاق ما هو، فأتى بهذه الجملة مفسرة للميثاق، فمن قرأ بالياء، فلأن بني إسرائيل لفظ غيبة، ومن قرأ بالتاء، فهو التفات، وحكمته الإقبال عليهم بالخطاب، ليكون أدعى للقبول، وأقرب للامتثال، إذ فيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب. ومع جعل الجملة مفسرة، لا تخرج عن أن يكون نفي أريد به نهي، إذ تبعد حقيقة الخبر فيه.
إلا الله: استثناء مفرغ، لأن لا تعبدون لم يأخذ مفعوله، وفيه التفات. إذ خرج من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب. ألا ترى أنه لو جرى على نسق واحد لكان نظم الكلام لا تعبدون إلا إيانا؟ لكن في العدول إلى الاسم الظاهر من الفخامة، والدلالة على سائر الصفات، والتفرد بالتسمية به، ما ليس في المضمر، ولأن ما جاء بعده من الأسماء، إنما هي أسماء ظاهرة، فناسب مجاورة الظاهر الظاهر.
* (وبالوالدين إحسانا) *، المعنى: الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما وإكرامهما. وقد تضمنت آي من القرآن وأحاديث كثيرة ذلك، حتى عد العقوق من الكبائر، وناهيك احتفالا بهما كون الله قرن ذلك بعبادته تعالى، ومن غريب الحكايات: أن عمر رأى امرأة تطوف بأبيها على ظهرها، وقد جاءت به على ظهرها من اليمن، فقال
451

لها: جزاك الله خيرا، لقد وفيت بحقه، فقالت: ما وفيته ولا أنصفته، لأنه كان يحملني ويود حياتي، وأنا أحمله وأود موته. واختلفوا فيما تتعلق به الباء في قوله: * (وبالوالدين) *، وفي انتصاب إحسانا على وجوه: أحدها: أن يكون معطوفا على لا تعبدون، أعني على المصدر المنسبك من الحرف المصدري والفعل، إذ التقدير عند هذا القائل بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي وببر الوالدين، أو بإحسان إلى الوالدين، ويكون انتصاب إحسانا على المصدر من ذلك المضاف المحذوف، فالعامل فيه الميثاق، لأنه به يتعلق الجار والمجرور، وروائح الأفعال تعمل في الظروف والمجرورات. الوجه الثاني: أن يكون متعلقا بإحسانا، ويكون إحسانا مصدرا موضوعا
موضع فعل الأمر، كأنه قال: وأحسنوا بالوالدين. قالوا: والباء ترادف إلى في هذا الفعل، تقول: أحسنت به وإليه بمعنى واحد، وقد تكون على هذا التقدير على حذف مضاف، أي وأحسنوا ببر الوالدين، المعنى: وأحسنوا إلى الوالدين ببرهما. وعلى هذين الوجهين يكون العامل في الجار والمجرور ملفوظا به. قال ابن عطية: ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له. انتهى كلامه. وهذا الاعتراض، إنما يتم على مذهب أبي الحسن في منعه تقديم مفعول، نحو: ضربا زيدا، وليس بشيء، لأنه لا يصح المنع إلا إذا كان المصدر موصولا بأن ينحل لحرف مصدري والفعل، أما إذا كان غير موصول، فلا يمتنع تقديمه عليه. فجائز أن تقول: ضربا زيدا، وزيدا ضربا، سواء كان العمل للفعل المحذوف العامل في المصدر، أو للمصدر النائب عن الفعل، لأن ذلك الفعل هو أمر، والمصدر النائب عنه أيضا معناه الأمر. فعلى اختلاف المذهبين في العامل يجوز التقديم. الوجه الثالث: أن يكون العامل محذوفا، ويقدر: وأحسنوا، أو ويحسنون بالوالدين، وينتصب إحسانا على أنه مصدر مؤكد لذلك الفعل المحذوف، فتقديره: وأحسنوا، مراعاة للمعنى، لأن معنى لا تعبدون: لا تعبدوا، أو تقديره؛ ويحسنون، مراعاة للفظ لا تعبدون، وإن كان معناه الأمر. وبهذين قدر الزمخشري هذا المحذوف. الوجه الرابع: أن يكون العامل محذوفا، وتقديره: واستوصوا بالوالدين، وينتصب إحسانا على أنه مفعول، قاله المهدوي: الوجه الخامس: أن يكون العامل محذوفا، وتقديره: ووصيناهم بالوالدين، وينتصب إحسانا على أنه مفعول من أجله، أي ووصيناهم بالوالدين إحسانا منا، أي لأجل إحساننا، أي أن التوصية بهما سببها إحساننا، إما لأن من شأننا الإحسان، أو إحسانا منا للموصين، إذ يترتب لهم على امتثال ذلك الثواب الجزيل والأجر العظيم، أو إحسانا منا للموصى بهم. وقد جاء هذا الفعل مصرحا به في قوله تعالى: * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) *. والمختار، الوجه الثاني: لعدم الإضمار فيه، ولاطراد مجيء المصدر في معنى فعل الأمر.
* (وذى القربى واليتامى والمساكين) *: معطوف على قوله: وبالوالدين. وكان تقديم الوالدين لأنهما آكد في البر والإحسان، وتقديم المجرور على العامل اعتناء بمتعلق الحرف، وهما الوالدان، واهتماما بأمرهما. وجاء هذا الترتيب اعتناء بالأوكد. فبدأ بالولدين، إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما، ثم بذي القربى، لأن صلة الأرحام مؤكدة أيضا، ولمشاركته الوالدين في القرابة، ثم باليتامى، لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب، وقد جاء: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) وغير ذلك من الآثار، ثم بالمساكين لما في الإحسان إليهم من الثواب. وتأخرت درجة المساكين، لأنه يمكنه
452

أن يتعهد نفسه بالاستخدام، ويصلح معيشته، بخلاف اليتامى، فإنهم لصغرهم لا ينتفع بهم، وهم محتاجون إلى من ينفعهم. وأول هذه التكاليف هو إفراد الله بالعبادة، ثم الإحسان إلى الوالدين، ثم إلى ذي القربى، ثم إلى اليتامى، ثم إلى المساكين. فهذه خمسة تكاليف تجمع عبادة الله، والحض على الإحسان للوالدين، والمواساة لذي القربى واليتامى والمساكين، وأفرد ذا القربى، لأنه أراد به الجنس، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة.
* (وقولوا للناس حسنا) *: لما ذكر بعد عبادة الله الإحسان لمن ذكر، وكان أكثر المطلوب فيه الفعل من الصلة والإطعام والافتقاد، أعقب بالقول الحسن، ليجمع المأخوذ عليه الميثاق امتثال أمر الله تعالى في الأفعال والأقوال، فقال تعالى: * (وقولوا للناس حسنا) *. ولما كان القول سهل المرام، إذ هو بدل لفظ لا مال، كان متعلقه بالناس عموما إذ لا ضرر على الإنسان في الإحسان إلى الناس بالقول الطيب. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: حسنا بفتح الحاء والسين. وقرأ عطاء بن أبي رباح وعيسى بن عمر: حسنا بضمهما. وقرأ أبي وطلحة بن مصرف: حسنى، على وزن فعل. وقرأ الجحدري: إحسانا. فأما قراءة الجمهور حسنا، فظاهره أنه مصدر، وأنه كان في الأصل قولا حسنا، أما على حذف مضاف، أي ذا حسن، وأما على الوصف بالمصدر لإفراط حسنه، وقيل: يكون أيضا صفة، لا أن أصله مصدر، بل يكون كالحلو والمر، فيكون الحسن والحسن لغتين، كالحزن والحزن، والعرب والعرب. وقيل: انتصب على المصدر من المعنى، لأن المعنى: وليحسن قولكم حسنا. وأما من قرأ: حسنا بفتحتين، فهو صفة لمصدر محذوف، أي وقولوا للناس قولا حسنا. وأما من قرأ بضمتين، فضمة السين اتباع لضمة الحاء. وأما من قرأ: حسنى، فقال ابن عطية: رده سيبويه، لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ويبقى مصدرا، كالعقبى، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها. انتهى كلامه. وفي كلامه ارتباك، لأنه قال: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، وليس على ما ذكر. أما أفعل فله استعمالات: أحدها: أن يكون بمن ظاهرة، أو مقدرة، أو مضافا إلى نكرة، فهذا لا يتعرف بحال، بل يبقى نكرة. والاستعمال الثاني: أن يكون بالألف واللام، فإذ ذاك يكون معرفة بهما. الثالث: أن يضاف إلى معرفة، وفي التعريف بتلك الإضافة خلاف، وذلك نحو: أفضل القوم. وأما فعلى فلها استعمالان: أحدهما: بالألف واللام، ويكون معرفة بهما. والثاني: بالإضافة إلى معرفة نحو: فضلى النساء. وفي التعريف بهذه الإضافة الخلاف الذي في أفعل، فقول ابن عطية: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، ليس بصحيح. وقوله: إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، ويبقى مصدرا، فيكون فعلى الذي هو مؤنث أفعل، إذا أزلت منه معنى التفضيل يبقى مصدرا، وليس كذلك، بل لا ينقاس مجيء فعلى مصدرا إنما جاءت منه ألفاظ يسيرة. فلا يجوز أن يعتقد في فعلى، التي مذكرها أفعل، أنها تصير مصدرا إذا زال منها معنى التفضيل. ألا ترى أن كبرى وصغرى وجلى وفضلى، وما أشبه ذلك، لا ينقاس جعل شيء منها مصدرا بعد إزالة معنى التفضيل؟ بل الذي ينقاس على رأس أنك إذا أزلت منها معنى التفضيل، صارت بمعنى: كبيرة وصغيرة وجليلة وفاضلة. كما أنك إذا أزلت من مذكرها معنى التفضيل، كان أكبر بمعنى كبير، وأفضل بمعنى فاضل، وأطول بمعنى طويل. ويحتمل أن يكون الضمير في عنها عائدا إلى حسنى، لا إلى فعلى، ويكون استثناء منقطعا، كأنه قال: إلا أن يزال عن حسنى، وهي اللفظة التي قرأها أبي وطلحة معنى التفضيل، ويبقى مصدرا، ويكون معنى الكلام إلا إن كانت مصدرا، كالعقبى. ومعنى قوله: وهو وجه القراءة بها، أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين:
453

أحدهما: المصدر، كالبشرى، ويحتاج ذلك إلى نقل أن العرب تقول: حسن حسنى، كما تقول: رجع رجعي، وبشر بشرى، إذ مجيء فعلى كما ذكرنا مصدر لاينقاس
. والوجه الثاني: أن يكون صفة لموصوف محذوف، أي وقولوا للناس كلمة حسنى، أو مقالة حسنى. وفي الوصف بها وجهان: أحدهما: أن تكون باقية على أنها للتفضيل، واستعمالها بغير ألف ولام ولا إضافة لمعرفة نادر، وقد جاء ذلك في الشعر، قال الشاعر:
* وإن دعوت إلى جلى ومكرمة
*
يوما كرام سراة الناس فادعينا
*
فيمكن أن تكون هذه القراءة من هذا لأنها قراءة شاذة. والوجه الثاني: أن تكون ليست للتفضيل، فيكون معنى حسنى: حسنة، أي وقولوا للناس مقالة حسنة، كما خرجوا يوسف أحسن إخوته في معنى: حسن إخوته. وأما من قرأ: إحسانا فيكون نعتا لمصدر محذوف، أي قولا إحسانا، وإحسانا مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة، أي قولا ذا حسن، كما تقول: أعشبت الأرض إعشابا، أي صارت ذات عشب. واختلف المفسرون في معنى قوله: * (وقولوا للناس حسنا) *، فقال ابن عباس: قولوا لهم لا إله إلا الله، ومروهم بها. وقال ابن جريج: قولوا لهم حسنا في الإعلام بما في كتابكم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال أبو العالية: قولوا لهم القول الطيب، وجاوبوهم بأحسن ما تحبون أن تجاوبوا به. وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. وقال ابن عباس أيضا صدقا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم). واختلفوا في المخاطب بقوله: وقولوا للناس حسنا، من هو؟.
فالظاهر أنه من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل: أن لا تعبدوا إلا الله، وأن تقولوا للناس حسنا. وعلى قراءة من قرأ: لا يعبدون بالياء، يكون التفاتا، إذ خرج من الغيبة إلى الخطاب. وقيل: المخاطب الأمة، والأول أقرب لتكون القصة واحدة مشتملة على مكارم الأخلاق، ولتناسب الخطاب الذي بعد ذلك من قوله: * (ثم توليتم) *، إلى آخر الآيات فإنه، لا يمكن أن يكون في بني إسرائيل. وظاهر الآية يدل على أن الإحسان للوالدين، ومن عطف عليه، والقول الحسن للناس، كان واجبا على بني إسرائيل في دينهم، لأن أخذ الميثاق يدل على الوجوب، وكذا ظاهر الأمر، وكأنه ذمهم على التولي عن ذلك. وروي عن قتادة أن قوله: * (وقولوا للناس حسنا) * منسوخ بآية السيف، وهذا لا يتأتى إلا إذا قلنا إن المخاطب بها هذه الأمة، ومن الناس من خصص هذا العموم بالمؤمنين، أو بالدعاء إلى الله تعالى بما في الأمر بالمعروف، فيكون تخصيصا بحسب المخاطب، أو بحسب الخطاب. وزعم أبو جعفر محمد بن علي الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره، وأنه لا حاجة إلى التخصيص. قيل: وهذا هو الأقوى. والدليل عليه، أن هارون وموسى، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، أمرا بالرفق مع فرعون، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قيل له: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) *، وقال تعالى: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) *، * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) *، * (وأعرض عن الجاهلين) *. ومن قال: لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق، استدل بأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم، وبقوله تعالى: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) *.
* (وإذ أخذنا ميثاق بنى) *: إن كان هذا الخطاب للمؤمنين، فيكون من
454

تلوين الخطاب. وقد تقدم الكلام على تفسير هاتين الجملتين. وإن كان هذا الخطاب لبني إسرائيل، وهو الظاهر، لأن ما قبله وما بعده يدل عليه، فالصلاة هي التي أمروا بها في التوراة، وهم إلى الآن مستمرون عليها. وروي عن ابن عباس: أن زكاة أموالهم كانت قربانا تهبط إليهم نار فتحملها، فكان ذلك تقبله، وما لا تفعل النار ذلك به، كان غير متقبل. وقيل: الصلاة هي هذه المفروضة علينا، والخطاب لمن يحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم) من أبناء اليهود، ويحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون أمرهم بالصلاة والزكاة أمرا بالإسلام. والثاني: على قول من يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الإيمان والزكاة هي هذه المفروضة، وقيل: الصلاة والزكاة هنا الطاعة لله وحده. ومعنى هذا القول أنه كنى عن الطاعة لله تعالى بالصلاة والزكاة اللتين هما أعظم أركان الإسلام.
* (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) *: ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل الذين أخذ الله عليهم الميثاق. وقيل: هو خطاب لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم) من بني إسرائيل، أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره. والمعنى: ثم توليتم عما أخذ عليكم من الميثاق، والمعني بالقليل القليل في عدد الأشخاص. فقيل: هذا القليل هو عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: من آمن قديما من أسلافهم، وحديثا كعبد الله بن سلام وغيره. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان، أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم) إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى. انتهى كلامه، وهو احتمال بعيد من اللفظ، إذ الذي يتبادر إليه الفهم إنما هو استثناء أشخاص قليلين من الفاعل الذي هو الضمير في توليتم، ونصب: قليلا، على الاستثناء، وهو الأفصح، لأن قبله موجب. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ: إلا قليل، بالرفع. وقرأ بذلك أيضا قوم، قال ابن عطية: وهذا على بدل قليل من الضمير في توليتم، وجاز ذلك، يعني البدل، مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي، لأن توليتم معناه النفي، كأنه قال: لم يفوا بالميثاق إلا قليل، انتهى كلامه. والذي ذكر النحويون أن البدل من الموجب لا يجوز، لو قلت: قام القوم إلا زيد، بالرفع على البدل، لم يجز، قالوا: لأن البدل يحل محل المبدل منه، فلو قلت: قام إلا زيد، لم يجز لأن إلا لا تدخل في الموجب. وأما ما اعتل به من تسويغ ذلك، لأن معنى توليتم النفي، كأنه قيل: لم يفوا إلا قليل، فليس بشيء، لأن كل موجب، إذا أخذت في نفي نقيضه أو ضده، كان كذلك، فليجز: قام القوم إلا زيد، لأنه يؤول بقولك: لم تجلسوا إلا زيد. ومع ذلك لم تعتبر العرب هذا التأويل، فتبني عليه كلامها، وإنما أجاز النحويون: قام القوم إلا زيد بالرفع، على الصفة. وقد عقد سيبويه في ذلك بابا في كتابه فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفا بمنزلة غير ومثل. وذكر من أمثلة هذا الباب: لو كان معنا
رجل إلا زيد لغلبنا، * (ولو كان * فيهما الهة إلا الله لفسدتا) *.
وقليل بها الأصوات إلا بغامها
وسوى بين هذا، وبين قراءة من قرأ: * (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر) *، برفع غير، وجوز في نحو: ما قام القوم إلا زيد، بالرفع البدل والصفة، وخرج على ذلك قول عمرو بن معدى كرب:
* وكل أخ مفارقه أخوه
*
لعمر أبيك إلا الفرقدان
*
قال: كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، كما قال الشماخ
455

* وكل خليل غيرها ضم نفسه
*
لوصل خليل صارم أو معارز
*
ومما أنشده النحويون:
* لدم ضائع نأت أقربوه
*
عنه إلا الصبا وإلا الجنوب
*
وأنشدوا أيضا:
* وبالصريمة منهم منزل خلق
*
عاف تغير إلا النؤى والوتد
*
قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: ويخالف الوصف بإلا الوصف بغيره، من حيث أنها يوصف بها النكرة والمعرفة والظاهر والمضمر. وقال أيضا: وإنما يعني النحويون بالوصف بإلا: عطف البيان. وقال غيره: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة بلام الجنس. وقال المبرد: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الوصف في موضع يصلح فيه البدل، وتحرير ذلك نتكلم عليه في علم النحو، وإنما نبهنا على أن ما ذهب إليه ابن عطية في تخريج هذه القراءة، لم يذهب إليه نحوي. ومن تخليط بعض المعربين أنه أجاز رفعه بفعل محذوف، كأنه قال: امتنع قليل أن يكون توكيدا للمضمر المرفوع المستثنى منه. ولولا أن هذين القولين مسطران في الكتب ما ذكرتهما. وأجاز بعضهم أن يكون رفعه على الابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: إلا قليل منكم لم يتول، كما قالوا: ما مررت بأحد إلا رجل من بني تميم خير منه. وهذه أعاريب من لم يمعن في النحو.
وأنتم معرضون: جملة حالية، قالوا: مؤكدة. وهذا قول من جعل التولي هو الإعراض بعينه، ومن خالف بينهما تكون الحال مبينة، وكذلك تكون مبينة إذا اختلف متعلق التولي والإعراض، كما قال بعضهم؛ إن معناه: ثم توليتم عن عهد ميثاقكم وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم). وجاءت الجملة الحالية اسمية مصدرة بأنتم، لأنها آكد. وكان الخبر اسما، لأنه أدل على الثبوت، فكأنه قيل: وأنتم عادتكم الإعراض عن الحق والتولية عنه. وفي المواجهة بأنتم تقبيح لفعلهم وكونهم ارتكبوا ذلك الفعل القبيح الذي من شأنه أن لا يقع، كقولك: يحسن إليك زيد وأنت مسيء إليه، فكان المعنى: أن من واثقه الله وأخذ عليه العهد في أشياء بها انتظام دينه ودنياه، جدير أن يثبت على العهد، وأن لا ينقضه، ولا يعرض عنه. وقيل: التولي والإعراض مأخوذ من سلوك الطريق، ومن ترك سلوك الطريق فله حالتان: إحداهما: أن يرجع عوده على بدئه، وذلك هو التولي، والثانية: أن يأخذ في عرض الطريق، وذلك هو الإعراض. وعلى هذا التفسير في التولي والإعراض لا يكون في الآية دليل على الاختلاف، إلا إن قصد أن ناسا تولوا وناسا أعرضوا، وجمع ذلك لهم، أو يتولون في وقت، ويعرضون في وقت.
وقال القشيري: التعبد بهذه الخصال حاصل لنا في شرعنا، وأولها التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة والطاعة، ثم ردك إلى مراعاة حق مثلك، إظهارا أن من لا يصلح لصحبة شخص مثله، كيف يقوم بحق معبود ليس كمثله شيء؟ فإذا كانت التربية المتضمنة حقوق الوالدين توجب عظيم هذا الحق، فما حق تربية سيدك لك؟ كيف تؤدي شكره؟ ثم ذكر عموم رحمته لذي القربى، واليتامى والمساكين، وأن يقول للناس حسنا. وحقيقة العبودية الصدق مع الحق، والرفق مع الخلق. انتهى، وبعضه
مختصر.
وقال بعض أهل الإشارات: الأسباب المتقرب بها إلى الله تعالى: اعتقاد وقول وعمل ونية. فنبه بقوله
456

* (لا تعبدون إلا الله) *، على مقام التوحيد، واعتقاد ما يجب له على عباده من الطاعات والخضوع منفردا بذلك، ومالية محضة وهي: الزكاة، وبدنية محضة وهي: الصلاة، وبدنية ومالية وهو: بر الوالدين والإحسان إلى اليتيم والمسكين.
* (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) *: الكلام على: * (تسفكون) *، كالكلام على: * (لا تعبدون) * إلا الله من حيث الإعراب. وقرأ الجمهور: بفتح التاء وسكون السين وكسر الفاء. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي جمزة؛ كذلك، إلا أنهما ضما الفاء. وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز: بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء المشددة. وقرأ ابن أبي إسحاق: كذلك، إلا أنه سكن السين وخفف الفاء، وظاهر قوله: * (لا تسفكون دماءكم) *، أي لا تفعلون ذلك بأنفسكم لشدة تصيبكم وحنق يلحقكم. وقد جاء في الحديث أمر الذي وضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه. وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه من أهل النار. وصح من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. وتظافرت على تحريم قتل النفس الملل. وقال تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم) *. وقيل معناه: لا تسفكوا دماء الناس، فإن من سفك دماءهم سفكوا دمه، وقال:
* سقيناهم كأسا سقونا بمثلها
*
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
*
وقيل: معناه لا تقتلوا أنفسكم بارتكابكم ما يوجب ذلك، كالارتداد والزنا بعد الإحصان والمحاربة، وقتل النفس بغير حق ونحو ذلك، مما يزيل عصمة الدماء. وقيل: معناه لا يسفك بعضكم دماء بعض، وإليه أشار بقوله: * (لا * لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض) *، وكان أهل دين كنفس واحدة، قاله قتادة، واختاره الزمخشري. قال ابن عطية: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا أن لا يقتل بعضهم بعضا، ولا ينفيه، ولا يسترقه، ولا يدعه يسترق، إلى غير ذلك من الطاعات. والخطاب في أخذنا ميثاقكم لعلماء اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو مع أسلافهم.
* (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) * معناه: لا يخرج بعضكم بعضا، أو لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم، أو لا تفعلوا ما تخرجون به أنفسكم من الجنة التي هي داركم، أو لا تخرجون أنفسكم، أي إخوانكم، لأنكم كنفس واحدة، أو لا تفسدوا، فيكون سببا لإخراجكم من دياركم، كأنه يشير إلى تغريب الجاني، أو لا تفسدوا وتشاقوا الأنبياء والمؤمنين، فيكتب عليكم الجلاء. أقوال ستة. ثم أقررتم: أي بالميثاق، واعترفتم بلزومه، أو اعترفتم بقبوله، أو رضيتم به، كما قال البعيث:
* ولست كليبيا إذا سيم خطة
*
أقر كإقرار الحليلة للبعل
*
* (وأنتم تشهدون) *: أي تعلمون أن الله أخذه عليكم، وأراد على قدماء بني إسرائيل، إن كان الخطاب واردا عليهم، وإن كان على معاصريه / صلى الله عليه وسلم) من أبنائهم، فمعناه: وأنتم تشهدون على أسلافكم بما أخذه الله عليهم من العهد، إما بالنقل المتواتر، وإما بما تتلونه من التوراة. وإن كان معنى الشهادة الحضور، فيتعين أن يكون الخطاب لأسلافهم. وقال بعض المفسرين: ثم أقررتم عائد إلى الخلف، وأنتم تشهدون عائد إلى السلف؟ لأنهم عاينوا سفك دماء بعضهم بعضا. وقال: وأنتم تشهدون لأن الأوائل والأصاغر صاروا كالشئ الواحد، فلذلك أطلق عليهم خطاب الحضرة
457

وقيل: إن قوله وأنتم تشهدون للتأكيد، كقولك، فلان مقر على نفسه بكذا، أشاهد عليها.
* (ثم أنتم هاؤلاء تقتلون أنفسكم) *: هذا استبعاد لما أخبر عنهم به من القتل والإجلاء والعدوان، بعد أخذ الميثاق منهم، وإقرارهم وشهادتهم. واختلف المعربون في إعراب هذه الجملة، فالمختار أن أنتم مبتدأ، وهؤلاء خبر، وتقتلون حال. وقد قالت العرب: ها أنت ذا قائما، وهاأنا ذا قائما. وقالت أيضا: هذا أنا قائما، وها هو ذا قائما، وإنما أخبر عن الضمير باسم الإشارة في اللفظ، وكأنه قال: أنت الحاضر، وأنا الحاضر، وهو الحاضر. والمقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال. ويدل على أن الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوبا على الحال، فيما قلناه من قولهم: ها أنت ذا قائما ونحوه. قال الزمخشري: والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين، تنزيلا لتغير الصفة منزلة تغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وقوله: * (تقتلون) * بيان لقوله: * (ثم أنتم هاؤلاء) *. انتهى كلامه. والظاهر أن المشار إليه بقوله: * (ثم أنتم هاؤلاء) *، هم المخاطبون أولا، فليسوا قوما آخرين. ألا ترى أن هذا التقدير الذي قدره الزمخشري من تنزيل تغير الصفة منزلة تغير الذات لا يتأتى في نحو: ها أنا ذا قائما ولا في ها أنتم أولاء؟ بل المخاطب هو المشار إليه من غير تغير.
قال ابن عطية: وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد: شيخنا، هؤلاء: رفع بالابتداء، وأنتم خبر مقدم، وتقتلون حال، بها تم المعنى، وهي كانت المقصود، فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه كما تقول: هذا زيد منطلقا، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه، لا الإخبار بأن هذا هو زيد. انتهى ما نقله ابن عطية عن شيخه، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، من أهل بلدنا غرناظة، يعرف بابن الباذش، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد، مؤلف (كتاب الإقناع في القراءات)، وله اختيارات في النحو، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي، وعلق عنه في النحو على (كتاب الجمل والإيضاح) ومسائل من كتاب سيبويه. توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ، وهؤلاء الخبر، إلى عكس هذا. والعامل في هذه الحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل. قالوا: وهو حال منه، فيكون إذ ذاك قد اتحد ذو الحال والعامل فيها. وقد تكلمنا على هذه المسألة في (كتاب منهج السالك) من تأليفنا، فيطالع هناك، وذهب بعض المعربين إلى أن هؤلاء منادى محذوف منه حرف النداء، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرف النداء، ونقل جوازه عن الفراء، وخرج عليه الآية الزجاج وغيره، جنوحا إلى مذهب الفراء، فيكون على هذا القول يقتلون خبرا عن أنتم. وفصل بين المبتدأ والخبر بالنداء. والفصل بينهما بالنداء جائز، وإنما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية، لأنه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب واسم الإشارة جملة من مبتدأ وخبر. وقد بينا كيفية انعقاد هذه الجملة، وقد أنشدوا أبياتا حذف منها حرف النداء مع اسم الإشارة، من ذلك قول رجل من طي:
* إن الأولى وصفوا قومي لهم فيهم
*
هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا
*
وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ، ويقتلون الخبر، وهؤلاء تخصيص للمخاطبين، لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون، فيكون إذ ذاك منصوبا بأعني. وقد نص النحويون على أن التخصيص لا يكون بالنكرات، ولا بأسماء الإشارة. والمستقرأ من لسان العرب أنه يكون أيا نحو: اللهم اغفر لنا، أيتها العصابة، أو معرفا بالألف واللام
458

نحو: نحن العرب أقرى الناس للضيف، أو بالإضافة نحو: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وقد يكون علما، كما أنشدوا:
بنا تميما يكشف الضباب. اه.
وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم، كما مثلناه. وقد جاء بعد ضمير مخاطب، كقولهم: بك الله نرجو الفضل. وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء موصول بمعنى الذي، وهو خبر عن أنتم، ويكون تقتلون صلة لهؤلاء، وهذا لا يجوز على مذهب البصريين. وأجاز ذلك الكوفيون، وهي مسألة خلافية مذكورة في علم النحو. وقرأ الجمهور: يقتلون، من قتل مخففا. وقرأ الحسن: تقتلون من قتل مشددا. هكذا في بعض التفاسير، وفي تفسير المهدوي إنها قراءة أبي نهيك، قال والزهري والحسن: تقتلون أنبياء الله، من قتل يعني مشددا، والله أعلم بصواب ذلك.
* (وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) *: هذا نزل في بني قينقاع، وبني قريظة، والنضير من اليهود. كان بنو قينقاع أعداء قريظة والنضير، والأوس والخزرج إخوان، والنضير وقريظة أيضا أخوان، ثم افترقوا. فصارت النضير حلفاء الخزرج، وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب، فيفدون أسرارهم، فعيرهم الله بذلك، قاله المهدوي. قال الزمخشر: فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم، وإذا أسر رجل من الفريقين، جمعوا له حتى يفدوه، فعيرتهم العرب وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فيقولون: أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم، ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا.
* (تظاهرون عليهم بالإثم) *: قرأ بتخفيف الظاء، عاصم وحمزة والكسائي، وأصله: تتظاهرون، فحذف التاء، وهي عندنا الثانية لا الأولى، خلافا لهشام، إذ زعم أن المحذوف هي التي للمضارعة، الدالة في مثل هذا على الخطاب، وكثيرا جاء في القرآن حذف التاء. وقال:
* تعاطسون جميعا حول داركم
*
فكلكم يا بني حمدان مزكوم
*
يريد: تتعاطسون. وقرأ باقي السبعة بتشديد الظاء، أي بإدغام الظاء في التاء. وقرأ أبو حيوة: تظاهرون، بضم التاء وكسر الهاء. وقرأ مجاهد وقتادة باختلاف عنهما: تظهرون، بفتح التاء، والظاء والهاء مشددين دون ألف، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ بعضهم: تتظاهرون على الأصل. فهذه خمس قراءات، ومعناها كلها التعاون والتناصر. وروى أبو العالية قال: كان بنو إسرائيل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم. عليهم بالإثم: فيه قولان: أحدهما: أنه الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم، الثاني: أنه الذي تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب. وفي حديث النواس: الإثم ما حاك في صدرك. وقيل: المعنى تظاهرون عليهم بما يوجب الإثم، وهذا من إطلاق السبب على مسببه، ولذلك سميت الخمر إثما، كما قال:
شربت الإثم حتى ضل عقلي
* (والعدوان) *: هو تجاوز الحد في الظلم. * (وإن يأتوكم أسارى) *: قراءة الجمهور بوزن فعالى، وحمزة بوزن فعلى. * (تفادوهم) *: قرأه نافع وعاصم والكسائي من فادي، وقرأ الباقون: من فدى.
459

قال ابن عطية: وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج، يعني: أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من ديارهم أن تحسنوا إليهم بالفداء، ومعنى تفادوهم: تفدوهم، إذ المفاعلة تكون من اثنين، ومن واحد. ففاعل بمعنى: فعل المجرد، وهو أحد معانيها. وقيل: معنى فادى: بادل أسيرا بأسير، ومعنى فدى: دفع الفداء، ويشهد للأول قول العباس: فاديت نفسي وفاديت عقيلا. ومعلوم أنه ما بادل أسيرا بأسير. وقيل: معنى تفدوهم بالصلح، وتفادوهم بالعنف. وقيل تفادوهم: تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم، ومنه قوله:
* قفي فادي أسيرك إن قومي
*
وقومك ما أرى لهم اجتماعا
*
وتفدوهم: تعطوا فديتهم. وقال أبو علي معنى تفادوهم في اللغة، تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنه شيئا. وفاديت نفسي: أي أطلقتها بعد أن دفعت شيئا. وفادى وفدى يتعديان إلى مفعولين، الثاني بحرف جر، وهو هنا به محذوف. * (وهو محرم عليكم إخراجهم) *: تقدمت أربعة أشياء: قتل النفس، والإخراج من الديار، والتظاهر، والمفاداة، وهي محرمة. واختص هذا القسم بتأكيد التحريم، وإن كانت كلها محرمة، لما في الإخراج من الديار من معرة الجلاء والنفي الذي لا ينقطع شره إلا بالموت، وذلك بخلاف القتل، لأن القتل، وإن كان من حيث هو هدم البنية، أعظم، لكن فيه انقطاع الشر، وبخلاف المفاداة بها، فإنها من جريرة الإخراج من الديار والتظاهر، لأنه لولا الإخراج من الديار والتظاهر عليهم، ما وقعوا في قيد الأسر. وقد يكون أيضا مما حذف فيه من كل جملة ذكر التحريم، ويكون التقدير: تقتلون أنفسكم، وهو محرم عليكم، وكذا باقيها. وارتفاع هو على الابتداء، وهو إما ضمير الشأن، والجملة بعده خبر عنه، وإعرابها أن يكون إخراجهم مبتدأ ومحرم خبرا، وفيه ضمير عائد على الإخراج، إذ النية به التأخير. ولا يجيز الكوفيون تقديم الخبر إذا كان متحملا ضميرا مرفوعا. فلا يجيزون: قائم زيد، على أن يكون قائم خبرا مقدما، فلذلك عدلوا إلى أن يكون خبر هو قوله محرم، وإخراجهم مرفوع به مفعولا لم يسم فاعله، وتبعهم على هذا المهدوي. ولا يجيز هذا الوجه البصريون، لأن عندهم أن ضمير الشأن لا يخبر عنه إلا بجملة مصرح بجزأيها، وإذا جعلت قوله محرم خبرا عن هو، وإخراجهم مرفوعا به، لزم أن يكون قد فسر ضمير الشأن بغير جملة. وهو لا يجوز عند البصريين كما ذكرنا. وأجازوا أيضا أن يكون هو مبتدأ، ليس ضمير الشأن، بل هو عائد على الإخراج، ومحرم خبر عنه، وإخراجهم بدل. وهذا فيه خلاف. منهم من أجاز أن يفسر المضمر الذي لم يسبق له ما يعود عليه بالبدل، ومنهم من منع. وأجازه الكسائي، وفي بعض النقول. وأجاز الكوفيون أن يكون هو عمادا، وهو الذي يعبر عنه البصريون بالفصل، وقد تقدم مع الخبر. والتقدير: وإخراجهم هو محرم عليكم، فلما قدم خبر المبتدأ على المبتدأ، أقدم معه الفصل. قال الفراء: لأن الواو ها هنا تطلب الاسم، وكل موضع تطلب فيه الاسم، فالعماد فيه جائز. ولا يجوز هذا التخريج عند البصريين، لأن فيه أمرين لا يجوزان عندهم: أحدهما: وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة، إذ التقدير: وإخراجهم هو محرم، فمحرم نكرة لا تقارب المعرفة. الثاني: أن فيه تقديم الفصل، وشرطه عند البصريين أن يكون متوسطا بين المبتدأ والخبر، أو بين ما هما أصله، وهذه كلها مسائل تحقق في علم النحو.
ووقع في كتاب ابن عطية في هذا المكان أقوال تنتقد، وهو أنه قال: قيل في هو إنه ضمير الأمر، تقديره: والأمر محرم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل من هو. انتهى ما نقله في هذا القول، وهذا خطأ من وجهين. أحدهما؛ أنه أخبر عن ضمير الأمر بمفرد، ولا يجيز ذلك بصري ولا كوفي. أما البصري، فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة، وأما الكوفي، فلأنه يجيز الجملة ويجيز المفرد، إذا كان قد انتظم منه ومما بعده مسند ومسند إليه في المعنى، نحو قولك: ظننته قائما الزيدان. والثاني: أنه جعل إخراجهم بدلا من ضمير الأمر، وضمير الأمر لا يعطف عليه، ولا يبدل منه، ولا يؤكد. قال ابن عطية: وقيل هو فاصلة، وهذا مذهب الكوفي، وليست هنا بالتي هي عماد، ومحرم على هذا ابتداء،
460

وإخراجهم خبر. انتهى ما نقله في هذا القول. والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب، وهو أن يكون الفصل قد قدم مع الخبر مع المبتدأ، فإعراب محرم عندهم خبر متقدم، وإخراجهم مبتدأ، وهو المناسب للقواعد، إذ لا يبتدأ بالاسم إذا كان نكرة، ولا مسوغ لها، ويكون الخبر معرفة، بل المستقر في لسانهم عكس هذا، إلا إن كان يرد في شعر، فيسمع ولا يقاس عليه. قال ابن عطية: وقيل هو الضمير المقدر في محرم قدم وأظهر. انتهى ما نقله في هذا القول. وهذا القول ضعيف جدا، إذ لا موجب لتقدم الضمير، ولا لبروزه بعد استتاره، ولأنه يؤدي إلى خلو اسم المفعول من ضمير، إذ على هذا القول يكون محرم خبرا مقدما، وإخراجهم مبتدأ، ولا يوجد اسم فاعل ولا مفعول عاريا من الضمير، إلا إذا رفع الظاهر. ولا يمكن هنا أن يرفع الظاهر، لأن الضمير المنفصل المقدم هو كان الضمير المرفوع بمحرم، ثم يبقى هذا الضمير لا يدري ما إعرابه، إذ لا جائز أن يكون مبتدأ، ولا جائز أن يكون فاعلا مقدما. قال ابن عطية: وقيل هو ضمير الإخراج، تقديره: وإخراجهم محرم عليكم. انتهى ما نقله في هذا القول، ولم يبين وجه ارتفاع إخراجهم، ولا يتأتى على أن يكون هو ضميره، ويكون إخراجهم تفسيرا لذلك المضمر، إلا على أن يكون إخراجهم بدلا من الضمير. وقد تقدم أن في ذلك خلافا، منهم من أجاز ومنهم من منع.
* (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) *: هذا استفهام معناه التوبيخ والإنكار. ولم يذمهم على الفداء، بل على المناقضة، إذ أتوا ببعض الواجب، وتركوا
بعضا. وتكون المناقضة آكد في الذم، ولا يقال الإخراج معصية. فلم سماها كفرا؟ لأنا نقول: لعلهم صرحوا بأن ترك الإخراج غير واجب، مع أن صريح التوراة كان دالا على وجوبه. والبعض الذي آمنوا به، إن كان المراد بالكتاب التوراة، فيكون عاما فيما آمنوا به من أحكامها، وفداء الأسير من جملته. والبعض الذي كفروا به: هو قتل بعضهم بعضا، وإخراج بعضهم من ديارهم، والمظاهرة بالإثم والعدوان، من جملة ما كفروا به من التوراة. وقيل: معناه يستعملون البعض ويتركون البعض، تفادون أسرى قبيلتكم، وتتركون أسرى أهل ملتكم ولا تفادونهم. وقيل: إن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه الحرب، ولا يفادي من وقع عليه الحرب. قال: فقال ابن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن. وقال مجاهد: معناه إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك. وقيل: المراد التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوة موسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم)، مع أن الحجة في أمرهما سواء، فجروا مجرى سلفهم، أن يؤمنوا ببعض، ويكفروا ببعض. قالوا: ويجوز أن يراد بالكتاب هنا المكتوب عليهم من هذه الأحكام الأربعة، أي المفروض، والذي آمنوا به منها فداء الأسرى، والذي كفروا به باقي الأربعة.
* (فما جزاء من يفعل ذالك منكم إلا خزى في الحيواة الدنيا) *: الجزاء يطلق في الخير والشر. قال: * (وجزاهم بما صبروا) *، وقال: * (فجزاؤه جهنم) *. والخزي هنا: الفضيحة، والعقوبة، والقصاص فيمن قتل أو ضرب الجزية غابر الدهر، أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحا، وأذرعات، أو غلبة العدو، أقوال خمسة. ولا يتأتى القول بالجزية ولا الجلاء إلا إن حملنا الآية على الذين كانوا معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم)، والأولى أن يكون المراد هو الذم العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص. وإلا خزي: استثناء مفرغ، وهو خبر المبتدأ. ونقض النفي هنا نقض لعمل ما على خلاف في المسألة، وتفصيل وذلك: أن الخبر إذا تأخر وأدخلت عليه إلا، فإما أن يكون هو الأول، أو منزلا منزلته، أو وصفا، إن كان الأول في المعنى، أو منزلا منزلته، لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور. وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلا منزلة الأول، وإن كان وصفا أجاز الفراء فيه النصب، ومنعه البصريون. ونقل عن يونس: إجازة النصب في الخبر بعد إلا كائنا ما كان، وهذا مخالف لما نقله أبو جعفر النحاس، قال: لا خلاف بين النحويين في قولك: ما زيد إلا أخوك، إنه لا يجوز إلا بالرفع. قال: فإن قلت ما أنت إلا لحيتك، فالبصريون يرفعون، والمعنى عندهم: ما فيك إلا لحيتك، وكذا: ما أنت إلا عيناك. وأجاز في هذا الكوفيون النصب، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر، إلا أن يعرف المعنى، فتضمر ناصبا نحو: ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى، وما أنت إلا عمامتك تحسينا ورداءك تزيينا.
* (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) *: يوم القيامة عبارة عن
461

زمان ممتد إلى أن يفصل بين العباد، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. ومعنى يردون: يصيرون، فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشد العذاب، أو يراد بالرد: الرجوع إلى شيء كانوا فيه، كما قال تعالى: * (فرددناه إلى أمه) *، وكأنهم كانوا في الدنيا في أشد العذاب أيضا، لأنهم عذبوا في الدنيا بالقتل والسبي والجلاء وأنواع من العذاب. وقرأ الجمهور: يردون بالياء، وهو مناسب لما قبله من قوله: * (من يفعل) *. ويحتمل أن يكون التفاتا، فيكون راجعا إلى قوله: * (أفتؤمنون) *، فيكون قد خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما: تردون بالتاء، وهو مناسب لقوله: * (أفتؤمنون) *. ويحتمل أن يكون التفاتا بالنسبة إلى قوله * (من يفعل ذالك) *، فيكون قد خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب. وأشد العذاب: الخلود في النار، وأشديته من حيث أنه لا انقضاء له، أو أنواع عذاب جهنم، لأنها دركات مختلفة، وفيها أودية وحيات، أو العذاب الذي لا فرح فيه ولا روح مع اليأس من التخلص، أو الأشدية هي بالنسبة إلى عذاب الدنيا، أو الأشدية بالنسبة إلى عذاب عامتهم، لأنهم الذين أضلوهم ودلسوا عليهم، أقوال خمسة. * (وما الله بغافل عما تعملون) *: تقدم الكلام على تفسير هذا الكلام، إذ وقع قبل * (أفتطمعون) *. وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر بالياء، والباقون بالتاء من فوق. فبالياء ناسب يردون قراءة الجمهور، وبالتاء تناسب قراءة تردون بالتاء، فيكون المخاطب بذلك من كان مخاطبا في الآية. قيل: ويحتمل أن يكون الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم). فقد روي عن عمر بن الخطاب قال: إن بني إسرائيل قد مضوا، وأنتم الذين تعنون بهذا ياأمة محمد، وبما يجري مجراه، وهذه الآية من أوعظ الآيات، إذ المعنى أن الله بالمرصاد لكل كافر وعاص.
* (أولئك الذين اشتروا الحيواة الدنيا بالاخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) *: قال ابن عباس: نزلت في اليهود، الذين تقدم ذكرهم أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة. وقد تقدم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله: * (أولائك على هدى من ربهم) *، وأنه إذا عددت أوصاف لموصوف، أشير إلى ذلك الموصوف تنبيها على أنه هو جامع تلك الأوصاف. والذين: خبر عن أولئك، وتقدم الكلام في قوله: * (اشتروا) *، وتقدم أن الشراء والبيع يقتضيان عوضا ومعوضا أعيانا. فتوسعت العرب في ذلك إلى المعاني، وجعل إيثارهم بهجة الدنيا وزينتها على النعيم السرمدي اشتراء، إيثارا للعاجل الفاني على الآجل الباقي، إذ المشتري ليس هو المؤثر لتحصيله، والثمن المبذول فيه مرغوب عنه عنده، ولا يفعل ذلك إلا مغبون الرأي فاسد العقل.
قال بعض أرباب المعاني: إن الدنيا: ما دنا من شهوات القلب، والآخرة: ما اتصلت برضا الرب. فلا يخفف معطوف على الصلة، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زمانا، تقول: جاءني الذي قتل زيدا بالأمس، وسيتقل غدا أخاه، إذ الصلاة هي جمل، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل من الأفعال منزلة المفردات، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضيا أو غيره، وعلى اختيار التوافق في الصيغة، وجوز أن يكون أولئك مبتدأ والذين بصلته خبرا. وفلا: يخفف خبر بعد خبر، وعلل دخول الفاء لأن الذين، إذا كانت صلته فعلا، كان فيها معنى الشروط، وهذا خطأ، لأن الموصول هنا أعربه خبرا عن أولئك، فليس قوله فلا يخفف خبرا عن الموصول، إنما هو خبر عن أولئك، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبرا عنه. وجوز أيضا أن يكون أولئك مبتدأ، والذين مبتدأ
ثان، وفلا يخفف خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك. قيل: ولم يحتج إلى عائد، لأن الذين هم أولئك، كما تقول: هذا زيد منطلق، وهذا خطأ، لأن كل جملة وقعت خبرا لمبتدأ فلا بد فيها من رابط، إلا إن كانت نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط. وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره، فلا بد من الرابط. وليس نظير ما مثل به من قوله: هذا زيد منطلق، لأن زيد منطلق خبران عن هذا، وهما مفردان، أو يكون زيد بدلا من هذا، ومنطلق خبرا. وأما أن يكون هذا مبتدأ، وزيد مبتدأ ثانيا، ومنطلق خبرا عن زيد، ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا، فلا يجوز لعدم الرابط. وأيضا فلو كان هنا رابط، لما جاز هذا الإعراب، لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه، فلا يشبه اسم الشرط، إذ يزول العموم باختصاصه، ولأن صلة
462

الذين ماضية لفظا ومعنى. ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبرا. والتخفيف هو التسهيل، وقد حمل نفي التخفيف على الانقطاع، وحمل أيضا على التشديد. والأولى جملة على نفي التخفيف بالانقطاع، أو بالتقليل منه، أو في وقت، أو في كل الأوقات، لأنه نفي للماهية، فيستلزم نفي أشخاصها وصورها. والظاهر من النفي بلا والكثير فيها أنخ نفي في المستقبل، وقد فسر الزمخشري نفي التخفيف بأن ذلك في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بنقصان الجزية، وكذلك نفى النصر في الدنيا والآخرة. ومعنى نفى النصر: أنهم لا يجدون من يدفع عنهم ما حل بهم من عذاب الله.
* (ولا هم ينصرون) *: جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسأل من باب الاشتغال، فيكون هم مرفوعا بفعل محذوف يفسره ما بعده، على حد قوله:
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله: * (فلا يخفف) *، وهو جملة فعلية، إذ لولا تقدم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء، وذلك أن لا ليست مما تطلب الفعل، لا اختصاصا ولا أولوية، فتكون كان والهمزة خلافا لأبي محمد بن السيد، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا، أولى من الابتداء، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل، لأنه أعم، إلا إن جعل الفاعل عاما، فيكون ولا هم ينصرهم أحد، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد، ويفوت الإيجاز، مع أن قوله: * (ولا هم ينصرون) * يفيد ذلك، أعني العموم.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أخبار الله تعالى، أنه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بإفراد العبادة، والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وبالقول الحسن للناس، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأنهم نقضوا الميثاق بتوليهم وإعراضهم، وأنه أخذ عليهم أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجون أنفسهم من ديارهم، وأنهم أقروا والتزموا ذلك. فكان الميثاق الأول يتضمن الأوامر، والميثاق الثاني يتضمن النواهي، لأن التكاليف الإلهية مبنية على الأوامر والنواهي. وكان البدء بالأوامر آكد، لأنها تتضمن أفعالا، والنواهي تتضمن تروكا، والأفعال أشق من التروك. وكان من الأوامر الأمر بإفراد الله بالعبادة، وهو رأس الإيمان، إذ متعلق أشرف المتعلقات، فكان البدء به أولى. ثم نعى عليهم التباسهم بما نهوا عنه، وإن كان قد تقدم أخباره أنهم خالفوا في الأمر بقوله: * (ثم توليتم) *، لأن فعل المنهيات أقبح من ترك المأمورات، لأنها تروك كما ذكرنا. ثم قرعهم بمخالفة نواهي الله، وأنهم مستعينون في ذلك بغير الحق، بل بالإثم والعدوان. ثم ذكر تناقض آرائهم وسخف عقولهم، بفداء من أتى إليهم منهم، مع أنهم هم السبب في إخراجهم وأسرهم، مع علمهم بتحريم إخراجهم، وبذكر أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. هذا مع أنه كله حق وصدق، فلا يناسب ذلك الكفر ببعض، والإيمان ببعض. ثم ذكر أن الجزاء لفاعل ذلك هو الخزي في الدنيا، وأشد العذاب في الآخرة، وأن الله تعالى لا يغفل عما عملوه، فيجازيهم على ذلك. ثم أشار إلى من تحلى بهذه الأوصاف الذميمة، وخالف أمر الله ونهيه، هو قد اشترى عاجلا تافها بآجل جليل، وآثر فانيا مكدرا على باق صاف. وأن نتيجة هذا الشراء أن لا يخفف عنهم ما حل بهم من العذاب، ولا يجدوا ناصرا يدفع عنهم سوء العقاب. لقد خسروا تجارة، وبدلوا بالنعيم السرمدي نارا وقودها الناس والحجارة. وإذا كان التخفيف قد نفى، فالرفع أولى. وهل هذا إلا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؟.
2 (* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جآءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون * وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون
463

ولما جآءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جآءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين * بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين * وإذا قيل لهم ءامنوا بمآ أنزل الله قالوا نؤمن بمآ أنزل علينا ويكفرون بما ورآءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبيآء الله من قبل إن كنتم مؤمنين * ولقد جآءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا فى قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين * قل إن كانت لكم الدار الا خرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنهم أحرص الناس على حيواة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون) *))
) *
قفوت الأثر: اتبعته، والأصل أن يجيء الإنسان تابعا لقفا الذي اتبعه، ثم توسع فيه حتى صار لمطلق الاتباع، وإن بعد زمان المتبوع، من زمان التابع. وقال أمية:
* قالت لأخت له قصيه عن جنب
*
وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد
*
الرسل: جمع رسول، ولا ينقاس فعل في فعول بمعنى مفعول. وتسكين عينه لغة أهل الحجاز، والتحريك لغة بني تميم. عيسى: اسم أعجمي علم لا يصرف للعجمة والعلمية، ووزنه عند سيبويه: فعلى، والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة، بمنزلة ياء معزى، يعني بالياء الألف، سماها ياء لكتابتهم إياها ياء. قال أبو علي: وليست للتأنيث، كالتي في ذكرى، بدلالة صرفهم له في النكرة. وذهب الحافظ أبو عمر، وعثمان بن سعيد الداني، صاحب التصانيف في القراءات، وعثمان بن سعيد الصيرفي وغيره، إلى أن وزنه فعلل، ورد ذلك الأستاذ أبو الحسن بن الباذش بأن الياء والواو لا يكونان أصلا في بنات الأربع. قال بعض أصحابنا: وهذه الأسماء أعجمية، وكل أعجمي استعملته العرب، فالنحويون يتكلمون على
464

أحكامه في التصريف على الحد الذي يتكلمون فيه العربي، فيسى من هذا الباب. انتهى كلامه. ومن زعم أنه مشتق من العيس: وهو بياض يخالطه شقرة، فغير مصيب، لأن الاشتقاق العربي يدخل الأسماء الأعجمية. مريم، باللسان السرياني، معناه: الخادم، وسميت به أم عيسى، فصار علما، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية. ومريم، باللسان العربي: من النساء، كالزير: من الرجال، وبه فسر قول رؤبة:
قلت لزير لم تصله مريمه
والزير: الذي يكثر خلطة النساء وزيارتهن، والياء فيه مبدلة من واو، كالريح، إذ هما من الزور والروح، فصار هذا اللفظ مشتركا بالنسبة إلى اللسانين. ووزن مريم عند النحويين مفعل، لأن فعيلا، بفتح الفاء، لم يثبت في الأبنية، كما ثبت نحو: عثير وعلبب، قاله الزمخشري وغيره. وقد أثبت بعض الناس فعيلا، وجعل منه: ضهيدا، اسم موضع، ومدين، إذا جعلنا ميمه أصلية، وضهياء مقصورة مصروفة، وهي المرأة التي لا تحيض، وقيل: التي لا ثدي لها. قال أبو عمرو الشيباني: ضهياة وضهياءة، بالقصر والمد. قال الزجاج: اشتقاقها من ضأهأت: أي شابهت، لأنها أشبهت الرجل. وقال ابن جني: أما ضهيد وعثير فمصنوعان، فلا يجعلان دليلا على إثبات فعيل. انتهى. وصحة حرف العلة في مريم على خلاف القياس نحو: مزيد. البين: الواضح، بان: وضح وظهر. أيد: فعل تأييد، أو أيد: أفعل إئيادا، وكلاهما من الأيد، وهو القوة. وقد أبدلوا في أفعل من يائه جيما، قالوا: أجد، أي قوي، كما أبدلوا ياء يد، قالوا: لا أفعل ذلك جدى الدهر، يريدون يد الدهر، وهو إبدال لا يطرد. والأصل في آيد أايد، وصححت العين كما صححت في أغيلت، وهو تصحيح شاذ إلا في فعل التعجب، فتقول: ما أبينا وما أطولا ورآه أبو زيد مقيسا، ولو أعل على حد أقتت وأحدت، فألقيت حركة العين على الفاء، وحذفت العين، لوجب أن تنقلب الفاء واوا لتحركها وانفتاح ما قبلها، كما انقلبت في أوادم جمع أدم على أفاعل، ثم تنقلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. فلما أدى القياس إلى إعلال الفاء والعين، رفض وصححت العين. الروح، من الحيوان: اسم للجزء الذي تحصل به الحياة، قاله الراغب، واختلف الناس فيه وفي النفس، أهما من المشترك أم من المتباين؟ وفي ماهية النفس والروح، وقد صنف في ذلك. القدس: الطهارة، وقيل: البركة، وقد تقدم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله تعالى: * (ونقدس لك) *، الرسول، فعول بمعنى: المفعول، أي المرسل، وهو قليل، ومنه: الحلوب، والركوب، بمعنى: المحلوب والمركوب. تهوى: تحب وتختار، ماضيه على فعل، ومصدره الهوى. غلف: جمع أغلف، كأحمر وحمر، وهو الذي لا يفقه، أو جمع غلاف، وهو الغشاء، فيكون أصله التثقيل، فخفف. اللعن:
465

الطرد والإبعاد، يقال: شأو لعين، أي بعيد، وقال الشماخ:
* ذرت به القطا ونفيت عنه
*
مقام الذئب كالرجل اللعين
*
المعرفة: العلم المتعلق بالمفردات، ويسبقه الجهل، بخلاف أصل العلم فإنه يتعلق بالنسب، وقد لا يسبقه الجهل، ولذلك لم يوصف الله تعالى بالمعرفة، ووصف بالعلم. بئس: فعل جعل للذم، وصله فعل، وله ولنعم باب معقود في النحو. البغي: الظلم، وأصله الفساد، من قولهم: بغى الجرح: فسد، قاله الأصمعي، وقيل: أصله شدة الطلب، ومنه ما نبغي، وقول الراجز:
* أنشد والباغي يحب الوجدان
*
فلائصا مختلفات الألوان
*
ومنه سميت الزانية بغيا، لشدة طلبها للزنا، الإهانة: الإذلال، وهان هوانا: لم يحفل به، وهو معنى الذل، وهو كون الإنسان لا يؤبه به، ولا يلتفت إليه. وراء، من الظروف المتوسطة التصرف، وتكون بمعنى: قدام، وبمعنى: خلف، وهو الأشهر فيه. الخالص: الذي لا يشوبه شيء، يقال: خلص يخلص خلوصا. تمنى: تفعل من المنية، وهو الشيء المشتهى، وقد يكون المتمنى باللسان بمعنى: التلاوة، ومنه: تمنى على زيد منه حاجة، وجد: مشترك بين الإصابة والعلم والغنى
والحرج ويختلف بالمصادر: كالوجدان والوجد والموجدة. الحرص: شدة الطلب. الود: المحبة للشيء والإيثار له، وفعله: ود وهو على فعل يفعل، وحكى الكسائي: وددت، فعلى هذا يجوز كسر الواو، إذ يكون فعل يفعل، وفك الإدغام في قوله:
ما في قلوبهم لنا من مودة
ضرورة. عمر: التضعيف فيه للنقل، إذ هو من عمر الرجل: أي طال عمره، وعمره الله: أطال عمره، والعمر: مدة البقاء. الألف: عشر من المئين، وقد يتجاوز فيه فيدل على الشيء الكثير، وهو من الألفة، إذ هو ما لف أنواع الأعداد، إذ العشرات مالف الآحاد، والمئون ما لف العشرات، والألف ما لف المئين. الزحزحة: الإزالة والتنحية عن المقر. بصير: فعيل من بصر به إذا رآه، * (فبصرت به عن جنب) *، ثم يتجوز به فيطلق على بصر القلب، وهو العلم. بصير بكذا: أي عالم به.
* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب) *: تقدم الكلام في هذه اللام، ويحتمل أن تكون للتأكيد، وأن تكون جواب قسم. ومناسبة هذا لما قبله أن إيتاء موسى الكتاب هو نعمة لهم، إذ فيه أحكامهم وشرائعهم. ثم قابلوا تلك النعمة بالكفران، وذلك جرى على ما سبق من عادتهم، إذ قد أمروا بأشياء ونهوا عن أشياء، فخالفوا أمر الله ونهيه، فناسب ذكر هذه الآية ما قبلها. والإيتاء: الإعطاء، فيحتمل أن يراد به: الإنزال، لأنه أنزله عليه جملة واحدة، ويحتمل أن يراد آتيناه: أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه، فيكون على حذف مضاف آتينا موسى علم الكتاب، أو فهم الكتاب. وموسى: هو نبي الله موسى بن عمران، صلى الله على نبينا وعليه وسلم. والكتاب هنا: التوراة، في قول الجمهور، والألف واللام فيه للعهد، إذ قرن بموسى وانتصابه على أنه مفعول ثان لآتينا. وقد تقدم أنه مفعول أول عند السهيلي،
466

وموسى هو الثاني عنده.
* (وقفينا) *: هذه الياء أصلها الواو، إلا أنها متى وقعت رابعة أبدلت ياء، كما تقول: غزيت من الغزو، والتضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية، إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين، لأن قفوت يتعدى إلى واحد. تقول: قفوت زيدا، أي تبعته، فلو جاء على التعدية لكان: وقفيناه من بعده الرسل، وكونه لم يجئ كذلك في القرآن، يبعد أن تكون الباء زائدة في المفعول الأول، ويكون المفعول الثاني جاء محذوفا. ألا ترى إلى قوله: * (ثم قفينا علىءاثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم) *، ولكنه ضمن معنى جئنا، كأنه قال: وجئنا من بعده بالرسل، يقفو بعضهم بعضا، ومن في: * (من بعده) *: لابتداء الغاية، وهو ظاهر، لأنه يحكى أن موسى لم يمت حتى نبىء يوشع. * (بالرسل) *: أرسل الله على أثر موسى رسلا وهم: يوشع، وشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان، وشعيا، وأمريا، وعزير، وحزقيل، وإلياس، وأليسع ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم. والباء في بالرسل متعلق بقفينا، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص، ويحتمل أن تكون للعهد، لما استفيد من القرآن وغيره أن هؤلاء بعثوا من بعده، ويحتمل أن تكون التقفية معنوية، وهي كونهم يتبعونه في العمل بالتوراة وأحكامها، ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها. وقرأ الجمهور: بالرسل بضم السين. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر: بتسكينها، وقد تقدم أنهما لغتان، وواقهما أبو عمرو أن أضيف إلى ضمير جمع نحو: رسلهم ورسلكم ورسلنا، استثقل توالي أربع متحركات، فسكن تخفيفا.
* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب) *: أضاف عيسى إلى أمه ردا على اليهود فيما أضافوه إليه. * (البينات) *: وهي الحجج الواضحة الدالة على نبوته، فيشمل كل معجزة أوتيها عيسى عليه السلام، وهذا هو الظاهر. وقيل: الإنجيل. وقيل: الحجج التي أقامها الله على اليهود. وقيل: إبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بالمغيبات، وإحياء الموتى، وهم أربعة: سام بن نوح، والعازر، وابن العجوز، وبنت العشار، ومن الطير: الخفاش، فقيل: لم يكن من قبل عيسى، بل هو صورة، والله نفخ فيه الروح. وقيل: كان قبله، فوضع عيسى على مثاله. قالوا: وإنما اختص هذا النوع من الطير لأنه ليس شيء من الطير أشد خلقا منه، لأنه لحم كله. وأجمل الله ذكر الرسل، وفصل ذكر عيسى، لأن من قبله كانوا متبعين شريعة موسى، وأما عيسى فنسخ شرعه كثيرا من شرع موسى.
* (وأيدناه) *: قرأ الجمهور على وزن فعلناه. وقرأ مجاهد، والأعرج، وحميد، وابن محيصن، وحسين، عن أبي عمرو: أأيدناه، على وزن: أفعلناه. وتقدم الكلام على ذلك في المفردات، وفرق بعضهم بينهما فقال: أما المد فمعناه القوة، وأما القصر فالتأييد والنصر، والأصح أنهما بمعنى قويناه، وكلاهما من الأيد، وهو القوة. * (بروح القدس) *: قراءة الجمهور: بضم القاف والدال. وقرأ مجاهد: وابن كثير: بسكون الدال حيث وقع، وفيه لغة فتحها. وقرأ أبو حيوة: القدوس، بواو. والروح هنا: اسم الله الأعظم الذي كان به عيسى عليه السلام يحيي الموتى، قاله ابن عباس، أو الإنجيل، كما سمى الله القرآن روحا، قال تعالى: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * قاله ابن زيد، أو الروح التي نفخها تعالى في عيسى عليه السلام، أو جبريل عليه السلام، قاله قتادة والسدي والضحاك والربيع، ونسب
467

هذا القول لابن عباس، قاله ابن عطية، وهذا أصح الأقوال. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم) لحسان بن ثابت (أهج قريشا وروح القدس معك)، ومرة قال له؛ (وجبريل معك). انتهى كلامه. قالوا: ويقوي ذلك قوله تعالى: * (إذ أيدتك بروح القدس) *. وقال حسان:
* وجبريل رسول الله فينا
*
وروح القدس ليس له كفاء
*
وتسمية جبريل بذلك، لأن الغالب على جسمه الروحانية، وكذلك سائر الملائكة، أو لأنه يحيا به الدين، كما يحيا البدن بالروح، فإنه هو المتولي لإنزال الوحي، أو لتكوينه روحا من غير ولادة. وتأييد الله عيسى بجبريل عليهما السلام لإظهار حجته وأمر دينه، أو لدفع اليهود عنه، إذ أرادوا قتله، أو في جميع أحواله. واختار الزمخشري أن معناه: بالروح المقدسة، قال: كما يقال حاتم الجود، ورجل صدق. ووصفها بالقدس كما قال: وروح منه، فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة. انتهى كلامه. وقد تقدم معنى القدس أنه الطهارة أو البركة. وقال مجاهد والربيع: القدس من أسماء الله تعالى، كالقدوس. قالوا: وإطلاق الروح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى اسم الله الأعظم مجاز، لأن الروح هو الريح المتردد في مخارق الإنسان في منافذه. ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك، إلا أن كلا منها أطلق الروح عليه على سبيل التشبيه، من حيث إن الروح سبب للحياة، فجبريل هو سبب لحياة القلوب بالعلوم، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها، والاسم الأعظم سبب لأن يتوصل به إلى تحصيل الأغراض. والمشابهة بين جبريل والروح أتم، ولأن هذه التسمية فيه أظهر، ولأن المراد من أيدناه: قويناه وأعناه، وإسنادها إلى جبريل حقيقة، وإلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز. ولأن اختصاص عيسى بجبريل من آكد وجوه الاختصاص، إذ لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك، لأنه هو الذي بشر مريم بولادته، وتولد عيسى بنفخه، ورباه في جميع الأحوال، وكان يسير معه حيث سار، وكان معه حيث صعد إلى السماء.
* (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم) *: الهمزة أصلها للاستفهام، وهي هنا للتوبيخ والتقريع. والفاء لعطف الجملة على ما قبلها، واعتنى بحرف الاستفهام فقدم، والأصل فأكلما. ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها، كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل، آتيناكم ما آتيناكم. فكلما جاءكم رسول. ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق. وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى: * (كلما رزقوا منها) *، فأغنى عن إعادته. والنصاب لها قولها: * (استكبرتم) *. والخطاب في جاءكم يجوز أن يكون عاما لجميع بني إسرائيل، إذ كانوا على طبع واحد من سوء الأخلاق، وتكذيب الرسل، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم، والشك والارتياب فيما أتوهم به، أو يكون عائدا إلى أسلافهم الذين فعلوا ذلك. وسياق الآيات يدل عليه أو إلى من بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم) من أبنائهم، لأنهم راضون بفعلهم، والراضي كالفاعل. وقد كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيما جاء به، وسقوه السم ليقتلوه، وسحروه. وبما: متعلق بقوله: جاءكم، وما موصولة، والعائد محذوف، أي لا تهواه. وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بحق، ومنه هذه الآية. وأسند الهوى إلى النفس، ولم يسند إلى ضمير المخاطب، فكان يكون بما لا تهوون إشعارا بأن النفس يسند إليها غالبا الأفعال السيئة، * (إن النفس لامارة بالسوء) *، * (فطوعت له نفسه قتل أخيه) *، * (قال بل سولت لكم أنفسكم) *. استكبرتم: استفعل هنا: بمعنى تفعل، وهو أحد معاني استفعل. وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم) الكبر بأنه سفه الحق وغمط الناس. والمعنى قيل: استكبرتم عن إجابته احتقارا للرسول. أو استبعادا للرسالة، وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الذي هو محل النقصائص ونتيجة الإعجاب. وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق، وإن ذلك كان يتكرر منهم
468

بتكرر مجيء الرسل إليهم، وهو كما ذكرنا استبكار بمعنى التكبر، وهو مشعر بالتكلف والتفعل، لذلك لا أنهم يصيرون بذلك كبراء عظماء، بل يتفعلون ذلك ولا يبلغون حقيقته، لأن الكبرياء إنما هي لله تعالى، فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة.
* (ففريقا كذبتم) *: ظاهره أنه معطوف على قوله: استكبرتم، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط، حيث لا يقدرون على قتله، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله. وتهيأ لهم ذلك، ويضمن أن من قتلوه فقد كذبوه. واستغنى عن التصريح بتكذيبه للعلم بذلك، فذكر أقبح أفعالهم معه، وهو قتله. وأجاز أبو القاسم الراغب أن * (يكون * ففريقا كذبتم) * معطوفا على قوله: * (وأيدناه) *، ويكون قوله: أفكلما مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار. والأظهر في ترتيب الكلام الأول، وهذا أيضا محتمل، وأخر العامل وقدم المفعول ليتواخى رؤوس الآي، وثم محذوف تقديره: ففريقا منهم كذبتم، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر، ولأنه المشترك بين الفريقين: المكذب والمقتول.
* (وفريقا تقتلون) *: وأتى بفعل القتل مضارعا، إما لكونه حكيت أنه الحال الماضية، إن كانت أريدت فاستحضرت في النفوس، وصور حتى كأنه ملتبس به مشروع فيه، ولما فيه من مناسبة رؤوس الآي التي هي فواصل، وإما لكونه مستقبلا، لأنهم يرومون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولذلك سحروه وسموه. وقال صلى الله عليه وسلم) عند موته: (ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري). وكان في ذلك على هذا الوجه تنبيه على أن عادتهم قتل أنبيائهم، لأن هذا النبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وقد أمروا بالإيمان به والنصر له، يرومون قتله. فكيف من لم يكن فيه تقدم عهد من الله؟ فقتله عندهم أولى. قال ابن عطية عن بني إسرائيل: كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم تقوم سوقهم آخر النهار. وروي سبعين نبيا، ثم تقوم سوق نقلهم آخر النهار.
* (وقالوا قلوبنا غلف) *: الضمير في قالوا عائد على اليهود، وهم أبناء بني إسرائيل الذين كانوا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قالوا ذلك بهتا ودفعا لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات، وأعجزتهم عن مدافعة الحق المعجزات. نزلوا عن رتبة الإنسانية إلى رتبة البهيمية. وقرأ الجمهور: غلف، بإسكان اللام. وتقدم الكلام على سكون اللام، أهو سكون أصلي فيكون جمع أغلف؟ أم هو سكون تخفيف فيكون جمع غلاف؟ وأصله الضم، كحمار وحمر. قال ابن عطية: وهنا يشير إلى أن التخفيف من التثقيل قلما يستعمل إلا في الشعر. ونص ابن مالك على أنه يجوز التسكين في نحو: حمر جمع حمار، دون ضرورة. وقرأ ابن عباس، والأعرج، وابن هرمز، وابن محيصن، غلف: بضم اللام، وهي مروية عن أبي عمرو، وهو جمع غلاف، ولا يجوز أن يكون في هذه القراءة جمع أغلف، لأن تثقيل فعل الصحيح العين لا يجوز إلا في الشعر. يقال غلفت السيف: جعلت له غلافا. فأما من قرأ: غلف بالإسكان، فمعناه أنها مستورة عن الفهم والتمييز. وقال مجاهد: أي عليها غشاوة. وقال عكرمة: عليها طابع. وقال الزجاج: ذوات غلف، أي عليها غلف لا تصل إليها الموعظة. وقيل معناه: خلقت غلفا لا تتدبر ولا تعتبر
. وقيل: محجوبة عن سماع ما تقول وفهم ما تبين. ويحتمل عل هذه القراءة أن يكون قولهم هذا على سبيل البهت والمدافعة، حتى يسكتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم). ويحتمل أن يكون ذلك خبرا منهم بحال قلوبهم، لأن الأول فيه ذم أنفسهم بما ليس فيها،
469

وكانوا يدفعون بغير ذلك، وأسباب الدفع كثيرة. وأما من قرأ بضم اللام فمعناه أنها أوعية للعلم، أقاموا العلم مقام شيء مجسد، وجعلوا الموانع التي تمنعهم غلفا له، ليستدل بالمحسوس على المعقول. ويحتمل أن يريدوا بذلك أنها أوعية للعلم، فلو كان ما تقوله حقا وصدقا لوعته، قاله ابن عباس وقتادة والسدي. ويحتمل أن يكون المعنى: أن قلوبنا غلف، أي مملوءة علما، فلا تسع شيئا، ولا تحتاج إلى علم غيره، فإن الشيء المغلف لا يسع غلافه غيره. ويحتمل أن يكون المعنى: أن قلوبهم غلف على ما فيها من دينهم وشريعتهم، واعتقادهم أن دوام ملتهم إلى يوم القيامة، وهي لصلابتها وقوتها، تمنع أن يصل إليها غير ما فيها، كالغلاف الذي يصون المغلف أن يصل إليه ما بغيره. وقيل: المعنى كالغلاف الخالي لا شيء فيه.
* (بل لعنهم الله بكفرهم) *: بل: للإشراب، وليس إضرابا عن اللفظ المقول، لأنه واقع لا محالة، فلا يضرب عنه، وإنما الإضراب عن النسبة التي تضمنها قولهم: إن قلوبهم غلف، لأنها خلقت متمكنة من قبول الحق، مفطورة لإدراك الصواب، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه. ثم أخبر تعالى أنهم لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم، وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الذي هو الكفر. * (فقليلا ما يؤمنون) *: انتصاب قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف، أي فإيمانا قليلا يؤمنون، قاله قتادة. وعلى مذهب سيبويه: انتصابه على الحال، التقدير: فيؤمنونه، أي الإيمان في حال قلته. وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف، أي فزمانا قليلا يؤمنون، لقوله تعالى: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي أنزل على الذين) *. وجوزوا أيضا انتصابه بيؤمنون على أن أصله فقليل يؤمنون، ثم لما أسقط الباء تعدي إليه الفعل، وهو قول معمر. وجوزوا أيضا أن يكون حالا من الفاعل الذي هو الضمير في يؤمنون، المعنى: أي فجمعا قليلا يؤمنون، أي المؤمن منهم قليل، وقال هذا المعنى ابن عباس وقتادة، وملخصه: أن القلة إما للنسبة للفعل الذي هو المصدر، أو للزمان، أو للمؤمن به، أو للفاعل. فبالنسبة إلى المصدر: تكون القلة بحسب متعلقه، لأن الإيمان لا يتصف بالقلة والكثرة حقيقة. وبالنسبة إلى الزمان: تكون القلة فيه لكونه قبل مبعثه / صلى الله عليه وسلم)، قليلا، وهو زمان الاستفتاح، ثم كفروا بعد ذلك. وبالنسبة إلى المؤمن به: تكون القلة لكونهم لم يبق لهم من ذلك إلا توحيد الله على غير وجهه، إذ هم مجسمون، وقد كذبوا بالرسول وبالتوراة. وبالنسبة للفاعل: تكون القلة لكون من آمن منهم بالرسول قليلا. وقال الواقدي: المعنى أي لا قليلا ولا كثيرا، يقال قل ما يفعل، أي ما يفعل أصلا. وقال ابن الأنباري: إن المعنى فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا. وقال المهدوي: مذهب قتادة أن المعنى: فقليل منهم من يؤمن، وأنكره النحويون وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع قليل. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم، وما ذهبوا إليه من أن قليلا يراد به النفي صحيح، لكن في غير هذا التركيب، أعني قوله تعالى: * (فقليلا ما يؤمنون) *، لأن قليلا انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير: قمت قليلا، أي قياما قليلا. ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت قليلا منصوبا نعتا لمصدر ذلك الفعل، يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا وعدم وقوعه بالكلية. وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم: أقل رجل يقول ذلك، وقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد، وقليل من الرجال يقول ذلك، وقليلة من النساء تقول ذلك. وإذا تقرر هذا، فحمل القلة هنا على النفي المحض ليس بصحيح. وأما ما ذكره المهدوي من مذهب قتادة، وإنكار النحويين ذلك، وقولهم: لو كان كذلك للزم رفع قليل. فقول قتادة صحيح، ولا يلزم ما ذكره النحويون، لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه، ولم يرد شرح الأعراب فيلزمه ذلك. وإنما انتصاب قليلا عنده على الحال من الضمير في يؤمنون، والمعنى عنده: فيؤمنون قوما قليلا، أي في حالة قلة. وهذا معناه: فقليل منهم من يؤمن. وما في قوله: ما يؤمنون، زائدة مؤكدة، دخلت بين المعمول والعامل، نظير قولهم: رويد ما الشعر، وخرج ما أنف خاطب بدم
470

ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية، لأنه كان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر. والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول، وهو أن يكون المعنى: فإيمانا قليلا يؤمنون، لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة، وعلى المفعول، وعلى الفاعل، ولموافقته ظاهر قوله تعالى: * (فلا يؤمنون إلا قليلا) *. وأما قول العرب: مررنا بأرض قليلا ما تنبت، وأنهم يريدون لا تثبت شيئا، فإنما ذلك لأن قليلا انتصب على الحال من أرض، وإن كان نكرة، وما مصدرية، والتقدير: قليلا إنباتها، أي لا تنبت شيئا، وليست ما زائدة، وقليلا نعت لمصدر محذوف، تقدير الكلام: تنبت قليلا، إذ لو كان التركيب المقدر هذا لما صلح أن يراد بالقليل النفي المحض، لأن قولك: تنبت قليلا، لا يدل على نفي الإنبات رأسا، وكذلك لو قلنا: ضربت ضربا قليلا، لم يكن معناه ما ضربت أصلا.
* (ولما جاءهم) *: الضمير عائد على اليهود، ونزلت فيهم حين كانت غطفان تقاتلهم وتهزمهم، أو حين كانوا يلقون من العرب أذى كثيرا، أو حين حاربهم الأوس والخزرج فغلبتهم. * (كتاب) *: هو القرآن، وإسناد المجيء إليه مجاز. * (من عند الله) *: في موضع الصفة، وصفه بمن عند الله جدير أن يقبل، ويتبع ما فيه، ويعمل بمضمونه، إذ هو وارد من عند خالقهم وإلههم الذي هو ناظر في مصالحهم. * (مصدق) *: صفة ثانية، وقدمت الأولى عليها، لأن الوصف بكينونته من عند الله آكد، ووصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله. لا يقال: إنه يحتمل أن يكون * (من عند الله) * متعلقا بجاءهم، فلا يكون صفة للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما. وفي مصحف أبي مصدقا، وبه قرأ ابن أبي عبلة ونصبه على الحال من كتاب، وإن كان نكرة. وقد أجاز ذلك سيبويه بلا شرط، فقد تخصصت بالصفة، فقربت من المعرفة. * (لما معهم) *: هو التوراة والإنجيل، وتصديقه إما بكونهما من عند الله، أو بما اشتملا عليه من ذكر بعث الرسول ونعته.
* (وكانوا) *: يجوز أن يكون معطوفا على جاءهم، فيكون جواب لما مرتبا على المجيء والكون. ويحتمل أن يكون جملة حالية، أي وقد كانوا، فيكون الجواب
مرتبا على المجيء بقيد في مفعوله، وهم كونهم يستفتحون. وظاهر كلام الزمخشري أن قوله: وكانوا ليست معطوفة على الفعل بعد لما، ولا حالا لأنه قدر جواب لما محذوفا قبل تفسيره يستفتحون، فدل على أن قوله: وكانوا، جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله: ولما. * (من قبل) *: أي من قبل المجيء، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة.
* (يستفتحون) *: أي يستحكمون، أو يستعلمون، أو يستنصرون، أقوال ثلاثة. يقولون، إذا دهمهم العدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة. واختلفوا في جواب ولما الأولى، فذهب الأخفش والزجاج إلى أنه محذوف لدلالة المعنى عليه، واختاره الزمخشري وقدره نحو: كذبوا به واستهانوا بمجيئه، وقدره غيره: كفروا، فحذف لدلالة كفروا به عليه، والمعنى قريب في ذلك. وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله: * (فلما جاءهم * جواب * لما * الاولى * وكفروا * جواب * هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف) *. قال: ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواو لا تصلح في موضعها. وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو: كفروا به، وكرر لما لطول الكلام، ويقيد ذلك تقريرا للذنب وتأكيدا له. وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد. وأما قول الفراء فلم يثبت من لسانهم، لما جاء زيد، فلما جاء خالد أقبل جعفر، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته، ولا حجة في هذا المختلف فيه، فالأولى أن كون الجواب محذوفا لدلالة المعنى عليه، وأن يكون التقدير: * (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) * كذبوه، ويكون التكذيب حاصلا بنفس مجيء الكتاب من غير فكر فيه ولا روية، بل بادروا إلى تكذيبه. ثم قال تعالى: * (وكانوا من قبل يستفتحون) *، أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث قد قرب وقت بعثه، فكانوا يخبرون بذلك.
* (فلما جاءهم ما عرفوا) *: وما سبق لهم تعريفه للمشركين. * (كفروا به) *: ستروه وجحدوه، وهذا أبلغ في ذمهم، إذ يكون الشيء المعورف لهم،
471

المستقر في قلوبهم وقلوب من أعلموهم به كيانه ونعته يعمدون إلى ستره وجحده، قال تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) *. وقال أبو القاسم الراغب: ما ملخصه الاستفتاح، طلب الفتح، وهو ضربان: إلهي، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم المؤدية إلى الثواب، ومنه * (إنا فتحنا لك) *، فعسى أن يأتي بالفتح. ودنيوي، وهو النصرة بالوصول إلى اللذات البدنية، ومنه * (فتحنا عليهم أبواب كل شىء) *. فمعنى يستفتحون: أي يعلمون خبره من الناس مرة، ويستنبطون ذكره من الكتب مرة. وقيل: بطلبون من الله بذكره الظفر. وقيل: كانوا يقولون إنا ننصر بمحمد صلى الله عليه وسلم) على عبدة الأوثان. وكل ذلك داخل في عموم الاستفتاح. انتهى. وظاهر قوله: ما عرفوا أنه الكتاب، لأنه أتى بلفظ ما، ويحتمل أنه يراد به النبي صلى الله عليه وسلم). فإن ما قد يعبر بها عن صفات من يعقل، ويجوز أن يكون المعنى: ما عرفوه من الحق، فيندرج فيه معرفة نبوته وشريعته وكتابه، وما تضمنه.
* (فلعنة الله على الكافرين) *: لما كان الكتاب جائيا من عند الله إليهم، فكذبوه وستروا ما سبق لهم عرفانه، فكان ذلك استهانة بالمرسل والمرسل به. قابلهم الله بالاستهانة والطرد، وأضاف اللعنة إلى الله تعالى على سبيل المبالغة، لأن من لعنه الله تعالى هو الملعون حقيقة. * (قل هل أنبئكم بشر من ذالك مثوبة عند الله من لعنه الله) *؟ * (ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) *. ثم إنه لم يكتف باللعنة حتى جعلها مستعلية عليهم، كأنه شيء جاءهم من أعلاهم، فجللهم بها، ثم نبه على علة اللعنة وسببها، وهي الكفر، كما قال قبل: * (بل لعنهم الله بكفرهم) *، وأقام الظاهر مقام المضمر لهذا المعنى، فتكون الألف واللام للعهد، أو تكون للعموم، فيكون هؤلاء فردا من أفراد العموم. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون للجنس، ويكون فيه دخولا أوليا. ونعني بالجنس العموم، وتخيله أنهم يدخلون فيه دخولا أوليا ليس بشيء، لأن دلالة العلة على إفراده ليس فيها بعض الإفراد أولى من بعض، وإنما هي دلالة على كل فرد فرد، فهي دلالة متساوية. وإذا كانت دلالة متساوية، فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء.
* (بئسما اشتروا به أنفسهم) *: تقدم الكلام على بئس، وأما ما فاختلف فيها، ألها موضع من الإعراب أم لا. فذهب الفراء إلى أنه بجملته شيء واحد ركب، كحبذا، هذا نقل ابن عطية عنه. وقال المهدوي: قال الفراء يجوز أن تكون ما مع بئس بمنزلة كلما، فظاهر هذين النقلين أن ما لا موضع لها من الإعراب، وذهب الجمهور إلى أن لها موضعا من الإعراب. واختلف، أموضعها نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى أن موضعها نصب على التمييز، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة، وفاعل بئس مضمر مفسر بما، التقدير: بئس هو شيئا اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا هو المخصوص بالذم، وبه قال الفارسي في أحد قوليه، واختاره الزمخشري. ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص بالذم محذوفا، واشتروا صفة له، والتقدير: بئس شيئا شيء اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا بدل من ذلك المحذوف، فهو في موضع رفع، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أن يكفروا. وذهب الكسائي في أحد قوليه إلى ما ذهب إليه هؤلاء، من أن ما موضعها نصب على التمييز، وثم ما أخرى محذوفة موصولة هي المخصوص بالذم، التقدير: بئس شيئا الذي اشتروا به أنفسهم. فالجملة بعدما المحذوفة صلة لها، فلا موضع لها من الإعراب. وأن يكفروا على هذا القول بدل، ويجوز على هذا القول أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو كفرهم. فتلخص في قول النصب في الجملة بعدما أقوال ثلاثة: أن يكون صفة لما هذه التي هي تمييز فموضعها نصب، أو صلة لما المحذوفة الموصولة فلا موضع لها، أو صفة لشيء المحذوف
472

المخصوص بالذم فموضعها الرفع، وذهب سيبويه إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل بئس، فقال سيبويه: هي معرفة تامة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذم على هذا محذوف، أي شيء اشتروا به أنفسهم. وعزى هذا القول، أعني أن ما معرفة تامة لا موصولة، إلى الكسائي. وقال الفراء والكسائي، فيما نقل عنهما: أن ما موصولة بمعنى الذي، واشتروا: صلة، وبذلك قال الفارسي، في أحد قوليه، وعزى ابن عطية هذا القول إلى سيبويه قال: فالتقدير على هذا القول: بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، كقولك: بئس الرجل زيد، وما في هذا القول موصولة. انتهى كلامه، وهو وهم على سيبويه. وذهب الكسائي فيما نقل عنه المهدوي
وابن عطية إلى أن ما وبعدها في موضع رفع، على أن تكون مصدرية، التقدير: بئس اشتراؤهم. قال ابن عطية: وهذا معترض، لأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير. انتهى كلامه. وما قاله لا يلزم إلا إذا نص على أنه مرفوع ببئس، أما إذا جعله المخصوص بالذم، وجعل فاعل بئس مضمرا والتمييز محذوفا، لفهم المعنى. التقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم، فلا يلزم الاعتراض، لكن يبطل هذا القول الثاني عود الضمير في به على ما، وما المصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف على مذهب الجمهور، هذا الأخفش يزعم أنها اسم. والكلام على هذه المذاهب تصحيحا وإبطالا يذكر في علم النحو.
اشتروا هنا: بمعنى باعوا، وتقدم أنه قال: شرى واشترى: بمعنى باع، هذا قول الأكثرين. وفي المنتخب إن الاشتراء هنا على بابه، لأن المكلف، إذا خاف على نفسه من العقاب، أتى بأعمال يظن أنها تخلصه، وكأنه قد اشترى نفسه بها. فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم، ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم، فذمهم الله عليه. قال: وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول، يعني بالأول أن يكون بمعنى باع، وهذا الذي اختاره صاحب المنتخب، يرد عليه قوله تعالى: * (بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) *، فدل على أن المراد ليس اشتراؤهم أنفسهم بالكفر، ظنا منهم أنهم يخلصون من العقاب، بل ذلك كان على سبيل البغي والحسد، لكونه تعالى جعل ذلك في محمد صلى الله عليه وسلم)، فاتضح أن قول الجمهور أولى.
* (أن يكفروا) *: تقدم أن موضعه رفع، إما، على أن يكون مخصوصا بالذم عند من جعل ما قبله من قوله: * (بئسما اشتروا به) * غير تام، وفيه الأعاريب التي في المخصوص بالذم، إذا تأخر، أهو مبتدأ، والجملة التي قبله خبر مبتدأ محذوف على ما تقرر قبل؟ وأجاز الفراء على هذا التقدير أن يكون بدلا من الضمير في به، فيكون في موضع خبر. * (بما أنزل الله) *: هو الكتاب الذي تقدم ذكره، وهو القرآن. وفي ذلك من التفخيم إن لم يحصل مضمر، بل أظهر موصولا بالفعل الذي هو أنزل المشعر بأنه من العالم العلوي، ونسب إسناده إلى الله، ليحصل التوافق من حيث المعنى بين قوله: * (كتاب من عند الله) * وبين قوله: * (بما أنزل الله) *. ويحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل، إذ كفروا بعيسى وبمحمد صلوات الله وسلامه عليهما، والكفر بهما كفر بالتوراة. ويحتمل أن يراد الجميع من قرآن وإنجيل وتوراة، لأن الكفر ببعضها كفر بكلها. * (بغيا) *: أي حسدا، إذ لم يكن من بني إسرائيل، قاله قتادة وأبو العالية والسدي. وقيل: معناه ظلما، وانتصابه على أنه مفعول من أجله وظاهره أن العامل فيه يكفروا، أي كفرهم لأجل البغي. وقال الزمخشري: هو علة اشتروا، فعلى قوله يكون العامل فيه اشتروا. وقيل: هو نصب على المصدر لا مفعول من أجله، والتقدير: بغوا بغيا، وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه.
* (أن ينزل الله) *: أن: مع الفعل بتأويل المصدر، وذلك المصدر المقدر منصوب على أنه مفعول من أجله، أي بغو التنزيل الله. وقيل: التقدير بغيا على أن ينزل الله لأن معناه حسدا على أن ينزل الله، أي على ما خص الله به نبيه من الوحي، فحذفت على، ويجيء الخلاف الذي في أن وأن، إذا حذف حرف الجر منهما، أهما في موضع نصب أم في موضع خفض؟ وقيل: أن ينزل
473

في موضع جر على أنه بدل اشتمال من ما في قوله: بما أنزل الله، أي بتنزيل الله، فيكون مثل قول الشاعر:
أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص
وقرأ أبو عمرو وابن كثير: جميع المضارع مخففا من أنزل، إلا ما وقع الإجماع على تشديده، وهو في الحجر، * (وما ننزله) *، إلا أن أبا عمرو شدد على أن ننزل آية في الأنعام، وابن كثير شدد * (وننزل من القرءان ما هو شفاء) *، * (حتى تنزل علينا كتابا) *، وشدد الباقون المضارع حيث وقع إلا حمزة والكسائي فخففا، * (وينزل الغيث) *، في آخر لقمان، * (وهو الذى ينزل الغيث) *، في الشورى. والهمزة والتشديد كل منهما للتعدية. وقد ذكروا مناسبات لقراآت القراء واختياراتهم ولا تصح. * (من فضله) *: من لابتداء الغاية، والفضل هنا الوحي والنبوة. وقد جوز بعضهم أن تكون من زائدة على مذهب الأخفش، فيكون في موضع المفعول، أي أن ينزل الله فضله. * (على) * من يشاء. على متعلقة بينزل، والمراد بمن يشاء: محمد صلى الله عليه وسلم)، لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب، وعز النبوة من يعقوب إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام كان في إسحاق، فختم في عيسى، ولم يكن من ولد إسماعيل نبي غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم)، فختمت النبوة على غيرهم، وعدموا العز والفضل. و * (من) * هنا موصولة، وقيل نكرة موصوفة. و * (يشاء) * على القول الأول: صلة، فلا موضع لها من الإعراب، وصفة على القول الثاني، فهي في موضع خفض، والضمير العائد على الموصول أو الموصوف محذوف تقديره يشاؤه. * (من عباده) *: جار ومجرور في موضع الحال، تقديره كائنا من عباده، وأضاف العباد إليه تشريفا لهم، كقوله تعالى: * (ولا يرضى لعباده الكفر) *، * (وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا) *.
* (* فباؤوا) *: أي مضوا، وتقدم معنى باؤوا. * (فباءو بغضب على غضب) *: أي مترادف متكاثر، ويدل ذلك على تشديد الحال عليهم. وقيل: المراد بذلك: غضبان معللان بقصتين: الغضب الأول: لعبادة العجل، والثاني: لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم)، قاله ابن عباس. أو الأول: كفرهم بالإنجيل، والثاني: كفرهم بالقرآن، قاله قتادة. أو الأول: كفرهم بعيسى، والثاني: كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم)، قاله الحسن وغيره، أو الأول: قولهم عزير ابن الله، وقولهم يد الله مغلولة، وغير ذلك من أنواع كفرهم، والثاني: كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم). * (وللكافرين عذاب مهين) *: الألف واللام في الكافرين للعهد، وأقام المظهر مقام المضمر إشعارا بعلة كون العذاب المهين لهم، إذ لو أتى، ولهم عذاب مهين، لم يكن في ذلك تنبيه على العلة، أو تكون الألف واللام للعموم، فيندرجون في الكافرين. ووصف العذاب بالإهانة، وهي الإذلال، قال تعالى: * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) *. وجاء في الصحيح، في حديث عبادة، وقد ذكر أشيائ محرمة فقال: (فمن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له). فهذا العذاب إنما هو لتكفير السيئات، أو لأنه يقتضي الخلود خلودا لا ينقطع، أو لشدته
وعظمته واختلاف أنواعه، أو لأنه جزاء على تكبرهم عن اتباع الحق. وقد احتج الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر، لأنه ثبت تعذيبه، واحتج بها المرجئة على أن الفاسق لا يعذب لأنه ليس بكافر.
* (وإذا قيل لهم) *: الإخبار عمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم) من اليهود، وسياق الآية يدل على أن المراد آباؤهم، لأنهم هم الذين قتلوا الأنبياء، وحسن ذلك أن الراضي بالشيء كفاعله، وأنهم جنس واحد، وأنهم متبعون لهم ومعتقدون ذلك، وأنهم يتولونهم، فهم منهم. * (بما أنزل الله قالوا) *، الجمهور: إنها لقرآن، وقال الزمخشري: مطلق فبما أنزل الله من كل كتاب. * (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) *: يريدون التوراة، وما جاءهم من الرسالات على لسان موسى،
474

ومن بعده من أنبيائهم، وحذف الفاعل هنا للعلم به، لأنه معلوم أنه لا ينزل الكتب الإلهية إلا الله أو لجريانه في قوله: * (بما أنزل الله قالوا) *، فحذف إيجازا إذ قد تقدم ذكره، وذموا على هذه المقالة لأنهم أمروا بالإيمان بكل كتاب أنزله الله، فأجابوا بأن آمنوا بمقيد، والمأمور به عام، فلم يطابق إيمانهم الأمر.
* (ويكفرون) *: جملة استؤنف بها الإخبار عنهم، أو جملة حالية، العامل فيها قالوا: أي وهم يكفرون. * (بما وراءه) *، أي بما سواه، وبه فسر * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *، و * (فمن ابتغى وراء ذالك) *، أي بما بعده، قاله قتادة، أي ويكفرون بما بعد التوراة، وهو القرآن، أو بما وراءه، أي بباطن معانيها التي وراء ألفاظها، ويكون إيمانهم بظاهر لفظها. * (وهو الحق) *، هو: عائد على القرآن، أو على القرآن والإنجيل، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا. * (مصدقا) *: حال مؤكد، إذ تصديق القرآن لازم لا ينتقل. * (لما معهم) *: هو التوراة، أو التوراة والإنجيل، لأنهما أنزلا على بني إسرائيل، وكلاهما غير مخالف للقرآن، وفيه رد عليهم، لأن من لم يصدق ما وافق التوراة، لم يصدق بها. وإذا دل الدليل على كون ذلك منزلا من عند الله، وجب الإيمان به، فالإيمان ببعض دون بعض متناقض. * (قل) *: أي قل يا محمد، وقل يا من يريد جدالهم. * (فلم) *: الفاء: جواب شرط مقدر، التقدير: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم * (تقتلون أنبياء الله) *؟ لأن الإيمان بالتوراة واستحلال قتل الأنبياء لا يجتمعان، فقولكم: إنكم آمنتم بالتوراة كذب وبهت، لا يؤمن بالقرآن من استحل محارمه. وما استفهامية حذفت ألفها لأجل لام الجر. ويقف البزي بالهاء فيقول: فلمه، وغيره يقف: فلم بغير هاء، ولا يجوز هذا الوقف إلا للاختبار، أو لانقطاع النفس. وجاء يقتلون بصورة المضارع، والمراد الماضي، إذ المعنى: قل فلم قتلتم، وأوضح ذلك أن هؤلاء الذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم يصدر منهم قتل الأنبياء، وأنه قيد بقوله * (من قبل) *، فدل على تقدم القتل.
قال ابن عطية: وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر. ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم) لما كانوا راضين بفعل أسفلاهم، بقي لهم من قتل الأنبياء جزء، وفي إضافة أنبياء إلى الله تشريف عظيم لهم، وأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله أن يعظم أجل تعظيم، وأن ينصر، لا أن يقتل. * (إن كنتم مؤمنين) * قيل: إن نافية أي ما كنتم مؤمنين، لأن من قتل أنبياء الله لا يكون مؤمنا، فأخبر تعالى أن الإيمان لا يجامع قتل الأنبياء، أي ما اتصف بالإيمان من هذه صفته. قيل: والأظهر أن إن شرطية، والجواب محذوف، التقدير: فلم فعلتم ذلك؟ ويكون الشرط وجوابه قد كرر مرتين على سبيل التوكيد، لكن حذف الشرط من الأول وأبقى جوابه وهو: فلم تقتلون؟ وحذف الجواب من الثاني وأبقى شرطه. وقال ابن عطية: وإن كنتم: شرط، والجواب متقدم. ولا يتمشى قوله هذا إلا على مذهب من يجيز تقدم جواب الشرط، وليس مذهب البصريين إلا أبا زيد الأنصاري والمبرد منهم. ومعنى مؤمنين: أي بما أنزل إليكم، أو متحققين بالإيمان صادقين فيه، أو مؤمنين بزعمكم. وأجرى هذا القول مجرى التهكم بهم والاستهزاء، كما تقول لمن بدا منه ما لا يناسبه: فعلت كذا وأنت عاقل، أي بزعمك.
* (ولقد جاءكم موسى بالبينات) *: أي بالآيات البينات، وهي الواضحة المعجزة الدالة على صدقه. وقيل: التسع، وهي: العصا، والسنون، واليد، والدم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، وفلق البحر. وهي المعنى بقوله: * (ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات) *. * (ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم * خذوا ما ءاتيناكم بقوة) *: تقدم تفسير هذه الجمل، وإنما كررت هنا لدعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم، وهم كاذبون في ذلك. ألا ترى أن اتخاذ العجل ليس في التوراة؟ بل فيها أن يفرد الله بالعبادة، ولأن عبادة غير الله أكبر المعاصي، فكرر عبادة العجل تنبيها على عظيم جرمهم. ولأن ذكر ذلك قبل، أعقبه تعداد النعم بقوله: * (ثم عفونا عنكم) *، و * (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) *. وهنا أعقبه التقريع والتوبيخ. ولأن في قصة الطور ذكر توليهم عما أمروا به، من قبول التوراة وعدم رضاهم بأحكامها اختيارا، حتى ألجئوا إلى القبول اضطرارا، فدعواهم الإيمان بما أنزل إليهم غير مقبولة. ثم في قصة الطور تذييل لم يتقدم ذكره. والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أو تعظيمه، كررته. وفي هذا التكرار
475

أيضا من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف.
* (واسمعوا) * أي: اقبلوا ما سمعتم، كقوله: * (سمع الله * لمن) *، أو * (الكتاب أن إذا سمعتم) *، أو * (الله وأطيعوا) *. لأن فائدة السماع الطاعة، قاله المفضل. والمعنى في هذه الأقوال الثلاثة قريب. قال الماتريدي: معنى اسمعوا: افهموا. وقيل: اعملوا، ووجهه أن السمع يسمع به، ثم يتخيل، ثم يعقل، ثم يعمل به إن كان مما يقتضي عملا. ولما كان السماع مبتدأ، والعمل غاية، وما بينهما وسائط، صح أن يراد بعض الوسائط، وصح أن يراد به الغاية. * (قالوا) *: هذا من الالتفات، إذ لو جاء على الخطاب لقال: قلتم * (سمعنا وعصينا) *: ظاهره أن كلتا الجملتين مقولة، ونطقوا بذلك مبالغة في التعنت والعصيان. ويؤيده قول ابن عباس: كانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا: * (سمعنا وأطعنا) *، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا: * (سمعنا وعصينا) *. وقيل: القول هنا مجاز، ولم ينطقوا بشيء من الجملتين، ولكن لما لم يقبلوا شيئا مما أمروا به، جعلوا كالناطقين بذلك. وقيل: يعبر بالقول للشيء عما يفهم به من حاله، وإن لم يكن نطق. وقيل: المعنى سمعنا بآذاننا وعصنيا بقلوبنا، وهذا راجع لما قاله الزمخشري، قال: قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك. فإن قلت: فكيف طابق قوله جوابهم؟ قلت: طابقه من حيث أنه
قال لهم اسمعوا، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة، انتهى كلامه. والقول الأول أحسن، لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره، لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه. * (واشربوا) *: عطف على قالوا سمعنا وعصينا. فيكون معطوفا على قالوا، أي خذوا ما آتيناكم بقوة، قلتم كذا وكذا وأشربتم، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات، بل إخبار من الله عنهم بما صدر منهم من عبادة العجل، أو الواو للحال، أي وقد أشربوا والعامل قالوا، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقع حالا، والقول الأول هو الظاهر. * (فى قلوبهم) *: ذكر مكان الإشراب، كقوله: * (إنما يأكلون فى بطونهم) *. * (العجل) *: هو على حذف مضافين، أي حب عبادة العجل من قولك: أشربت زيدا ماء، والإشراب مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صار في اللونين، قالوا: وأشربت البياض حمرة، أي خلطتها بالحمرة، ومعناه أنه داخلهم حب عبادته، كما داخل الصبغ الثوب، وأنشدوا:
* إذا ما القلب أشرب حب شيء
*
فلا تأمل له عند انصرافا
*
وقال ابن عرفة: يقال أشرب قلبه حب كذا، أي حل محل الشراب ومازجه. انتهى كلامه. وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، ولهذا قال بعضهم:
* جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي
*
فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
*
وأما الطعام فقالوا: وهو مجاور لها، غير متغلغل فيها، ولا يصل إلى القلب منه إلا يسير، وقال:
* تغلغل حب عثمة في فؤادي
*
فباديه مع الخافي يسير
*
وحسن حذف ذينك المضافين، وأسند الإشراب إلى ذات العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه، وإن كان المعنى على ما ذكرناه من الحذف. وقيل: معنى اشربوا: أي شد في قلوبهم حب العجل لشغفهم به، من أشربت البعير:
476

إذا شددت حبلا في عنقه. وقيل: هو من الشرب حقيقة، وذلك أنه نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم: اشربوا، فشرب جميعهم. فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه، وهذا قول يرده في قوله: * (فى قلوبهم) *. وروي أن الذين تبين لهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن. وبناؤه للمفعول في قوله: وأشربوا، دليل على أن ذلك فعل بهم، ولا يفعله إلا الله تعالى. وقالت المعتزلة: جاء مبنيا للمفعول لفرط ولوعهم بعبادته، كما يقال: معجب برأيه، أو لأن السامري وإبليس وشياطين الأنس والجن دعوهم إليه، ولما كان الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، نسب ذلك إلى المحبة، لأنها مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال. * (بكفرهم) *: الظاهر أن الباء للسبب، أي الحامل لهم على عباده العجل هو كفرهم السابق، قيل: ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع، يعنون أن يكون للحال، أي مصحوبا بكفرهم، فيكون ذلك كفرا على كفر.
* (قل) * يا محمد، أو قل يا من يجالهم. * (بئسما * ما * يأمركم به إيمانكم) *: تقدم الكلام في بئس، وفي المذاهب في ما، فأغنى عن إعادته. وقرأ الحسن ومسلم بن جندب: بهو إيمانكم، بضم الهاء ووصلها بواو، وهي لغة، والضم في الأصل، لكن كسرت في أكثر اللغات لأجل كسرة الباء، وعني بإيمانهم الذي زعموا في قولهم: * (نؤمن بما أنزل علينا) *، وأضاف الأمر إلى إيمانهم على طريق التهكم، كما قال أصحاب شعيب: أصلواتك تأمرك أن نترك؟ وقيل: ثم محذوف تقديره صاحب إيمانكم، وهو إبليس. وقيل: ثم صفة محذوفة التقدير إيمانكم الباطل، وأضاف: الإيمان إليهم لكونه إيمانا غير صحيح، ولذلك لم يقل الإيمان، قاله بعض معاصرينا رحمهم الله. والمخصوص بالذم محذوف بعدما، فإن كانت منصوبة، فالتقدير: بئس شيئا يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل، فيكون يأمركم صفة للتمييز، أو يكون التقدير: بئس شيئا شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذم المحذوف، أو يكون التقدير: بئس شيئا ما يأمركم، أي الذي يأمركم، فيكون يأمركم به إيمانكم. والمخصوص مقدر بعد ذلك، أي قتل الأنبياء، وكذا وكذا. فيكون ما موصولة، أو يكون التقدير: بئس الشيء شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون ما تامة. وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعا من الإعراب.
* (إن كنتم مؤمنين) *، قيل: إن نافية، وقيل: شرطية. قال الزمخشري: تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم. انتهى كلامه. وقال ابن عطية: وقد يأتي الشرط، والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين، كما قال الله عن عيسى عليه السلام: * (إن كنت قلته فقد علمته) *، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله،
وكذلك * (إن كنتم مؤمنين) *، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين، لكنه أقام حجة لقياس بين. انتهى كلامه، وهو يؤول من حيث المعنى إلى نفي الإيمان عنهم، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي إن كنتم مؤمنين، فلا تقتلوا الأنبياء، ولا تكذبوا الرسل، ولا تكتموا الحق. وتقدير الحذف الأول أعرب وأقوى.
* (قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة) *: نزلت فيما حكاه ابن الجوزي عندما قالت اليهود: إن الله لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه. وقال أبو العالية والربيع: سبب نزول هاتين الآيتين قولهم: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) *، و * (نحن أبناء الله) *، و * (لن تمسنا النار) *، الآيات، وروي مثله عن قتادة. والضمير في قل، إما للنبي صلى الله عليه وسلم)، وإما لمن ينبغي إقامة الحجة عليهم منه ومن غيره. وفسروا الدار الآخرة بالجنة، قالوا: وذلك معهود في إطلاقها على الجنة. قال تعالى: * (تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الارض ولا فسادا) *. ومعلوم أن ما يجعل لهؤلاء هو الجنة، * (وللدار الاخرة خير للذين يتقون) *. والأحسن أن يكون ذلك على حذف مضاف دل عليه المعنى، أي نعيم الدار الآخرة وحظوتها وخيرها، لأن الدار الآخرة هي موضع الإقامة بعد انقضاء الدنيا. وسميت آخرة لأنها متأخرة عن الدنيا، أو هي آخر ما يسكن
477

وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله: * (وهم بالاخرة هم يوقنون) *. ومعنى: عند الله، أي في حكم الله، كقوله تعالى: * (فأولئك عند الله) * أي في حكمه * (هم الفاسقون) *. وقيل: المراد بالعندية هنا: المكانة والمرتبة والشرف، لا المكان. ومعنى خالصة: أي مختصة بكم، لاحظ في نعيمها لغيركم. واختلفوا في إعراب خالصة، فقيل: نصب على الحال، ولم يحك الزمخشري غيره، فيكون لكم إذ ذاك خبر كانت، ويكون العامل في الحال هو العامل في المجرور، ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر، لأنه لا يستقل معنى الكلام به وحده. وقد وهم في ذلك المهدوي وابن عطية، إذ قالا: ويجوز أن يكون نصب خالصة على الحال، وعند الله خبر كان. وقيل: انتصاب خالصة على أنه خبر كان، فجوز في لكم أن يتعلق بكانت، لأن كان يتعلق بها حرف الجر، ويجوز أن يتعلق بخالصة. ويجوز أن تكون للتبين، فيتعلق بمحذوف تقديره: لكم، أعني نحو قولهم: * (أحللنا لك) * إذ تقديره: لك أدعو.
* (من دون الناس) *: متعلق بخالصة، ودون هنا لفظ يستعمل للاختصاص، وقطع الشركة. تقول: هذا ولي دونك، وأنت تريد لا حق فيه لك معي ولا نصيب. وفي غير هذا المكان يأتي لمعنى الانتقاص في المنزلة أو المكان أو المقدار. والمراد بالناس: الجنس، وهو الظاهر لدلالة اللفظ وقوله: خالصة. وقيل: المراد النبي صلى الله عليه وسلم) والمسلمون. وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم)، قاله ابن عباس: قالوا، ويطلق الناس، ويراد به الرجل الواحد، وهذا لا يكون إلا على مجاز وتنزيل الرجل الواحد منزلة الجماعة. * (فتمنوا الموت) *: أي سلوه باللسان فقط، وإن لم يكن بالقلب، قاله ابن عباس. أو تمنوه بقلوبكم واسألوه بألسنتكم، قاله قوم. أو فسلوه بقلوبكم على أردإ الحزبين من المؤمنين أومنهم. وروي عن ابن عباس وغيره، وقرأ الجمهور: فتمنوا الموت، بضم الواو، وهي اللغة المشهورة في مثل: أخشوا القوم. ويجوز الكسر تشبيها لهذه الواو بواو: ولو استطعنا، كما شبهوا واو لو بواو أخشوا، فضموا، فقالوا: لو استطعنا. وقرأ ابن أبي إسحاق: فتمنوا الموت بالكسر، وحكى أبو علي الحسن بن إبراهيم بن يزداد، عن أبي عمرو، أنه قرأ: فتمنوا الموت، بفتح الواو، وحركها بالفتح طلبا للتخفيف، لأن الضمة والكسرة في الواو يثقلان. وحكى أيضا عن أبي عمرو: واختلاس ضمة الواو.
* (وإن كنتم * صادقين) * في دعواكم أن الجنة لكم دون غيركم. وجواب الشرط محذوف، أي فتمنوا الموت. وعلق تمنيهم على شرط مفقود، وهو كونهم صادقين، وليسوا بصادقين في أن الجنة خالصة لهم دون الناس، فلا يقع التمني: والمقصود من ذلك التحدي وإظهار كذبهم، وذلك أن من أيقن أنه من أهل الجنة، اختار أن ينتقل إليها، وأن يخلص من المقام في دار الأكدار، وأن يصل إلى دار القرار. كما روي عمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالجنة، كعثمان، وعلي، وعمار، وحذيفة، أنهم كانوا يختارون الموت، وكذلك الصحابة كانت تختار الشهادة. وفي الحديث الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم): (ليتني أحيا ثم أقتل ثم أحيا فأقتل). لما علم من فضل الشهادة. وقال، لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة: (يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل). وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة. وعن عمار، لما كان بصفين قال: غدا نلقى الأحبة، محمدا وصحبه. وعن علي أنه كان يطوف بين الصفين بغلالة، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزي المحاربين، فقال: يا بني لا يبالي أبوك، أعلى الموت سقط، أم عليه سقط الموت. وكان عبد الله بن رواحة ينشد، وهو يقاتل الروم:
* يا حبذا الجنة واقترابها
*
طيبة وبارد شرابها
*
478

والروم روم قد دنا عذابها
وفي قصتي قتل عثمان وسعيد بن جبير ما يدل على اختيارهما الشهادة، وذلك أن عثمان جاءه جماعة من الصحابة فقالوا له: نقاتل عنك؟ فقال لهم: لا، وكان له قريب من ألف عبد، فشهروا سيوفهم لما هجم عليهم، فقال: من أغمد سيفه فهو حر. فصبر حتى قتل. وأما سعيد، فإن الموكلين به، لما طلبه الحجاج، لما شاهدوا من لياذ السباع به وتمسحها به، قالوا: لا ندخل في إراقة دم هذا الرجل الصالح، قالوا له: طلبك ليقتلك، فاذهب حيث شئت، ونحن نكون فداء. فقال: لا والله، إني سألت ربي الشهادة، وقد رزقنيها، والله لا برحت. وروي عن النبي / صلى الله عليه وسلم): (لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي). وذلك أن الله أمر نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات. ففعل النبي صلى الله عليه وسلم) ذلك، فعلم اليهود صدقه،
فأحجموا عن تمنيه فرقا من الله.
* (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم) *: هذا من المعجزات، لأنه إخبار بالغيب، ونظيره من الإخبار بالمغيب قوله: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) *، وظاهره أن من ادعى أن الجنة خالصة له دون الناس ممن اندرج تحت الخطاب في قوله: * (قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة) *، لا يمكن أن يتمنى الموت أبدا، ولذلك كان حرف النفي هنا لن الذي قد ادعى فيه أنه يقتضي النفي على التأييد، فيكون قوله: أبدا، على زعم من ادعى ذلك للتوكيد. وأما من ادعى أنه بمعنى لا، فيكون أبدا إذ ذاك مفيدا لاستغراق الأزمان. ويعني بالأبد هنا: ما يستقبل من زمان أعمارهم.
وفي المنتخب ما نصه: وإنما قال هنا: * (ولن يتمنوه) *، وفي الجمعة * (ولا يتمنونه) *، لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك، لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية، لأن الثانية تراد لحصول الأولى، ولن أبلغ في النفي من لا، فجعلها النفي الأعظم. انتهى كلامه. قال المهدوي في (كتاب التحصيل) من تأليفه: وهذه المعجزة إنما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم)، ثم ارتفعت بوفاته صلى الله عليه وسلم). ونظير ذلك رجل يقول لقوم حدثهم بحديث: دلالة صدقي، أن أحرك يدي ولا يقدر أحد منكم أن يحرك يده، فيفعل ذلك، فيكون دليلا على صدقه، ولا يبطل دلالته أن حركوا أيديهم بعد ذلك. انتهى كلامه، وقد قاله غيره من المفسرين.
قال ابن عطية: والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمني الموت، إنما كانت أياما كثيرة عند نزول الآية، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة، انتهى كلامه. وكلا القولين، أعني قول المهدوي وابن عطية، مخالف لظاهر القرآن، لأن أبدأ ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم، كما بينا. وهل امتناعهم من تمني الموت، كان لعلمهم أن كل نبي عرض على قومه أمرا وتوعدهم عليه بالهلاك فردوه تكذيبا له، فإن ما توعدهم به واقع لا محالة؟ أو لعلمهم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأنه لا يقول على الله إلا الحق؟ أو لصرف الله إياهم عن ذلك، كما قيل في عدم معارضة القرآن بالصرفة؟ أقوال ثلاثة. والظاهر أن ذلك معلل * (بما قدمت أيديهم) *. والذي قدمته أيديهم: تكذيبهم الأنبياء، وقتلهم إياهم، وقولهم: * (أرنا الله جهرة) *، وقولهم: * (اجعل لنا إلاها) *، وقولهم: * (فاذهب أنت وربك) *، واعتداؤهم في السبت، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم. وهذا التمني الذي طلب منهم، ونفي عنهم، لم يقع أصلا منهم، إذ لو وقع لنقل، ولتوفرت دواعي المخالفين للإسلام على نقله.
وقد تقدمت الأقوال في تفسير التمني، والظاهر أنه لا يعني به هنا العمل القلبي، لأنه لا يطلع عليه، فلا يتحدى به، وإنما عنى به القول اللساني كقولك: ليت الأمر يكون. ألا ترى أنه يقال لقائل ذلك: تمني؟ وتسمى ليت كلمة تمن، ولم ينقل أيضا أنهم قالوا: تمنينا ذلك بقلوبنا، ولا جائز أن يكون امتناعهم من الإخبار أنهم تمنوا بقلوبهم، كونهم لا يصدقون في
479

ذلك، لأنهم قد قاولوا المسلمين بأشياء لا يصدقونهم فيها، من الافتراء على الله، وتحريف كتابه، وغير ذلك. وقال الماتريدي ما مخلصه: أن المؤمن يقول: إن الجنة له، ومع ذلك ليس بتمني الموت. وأجاب: بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند الله من ادعاء بنوة ومحبة من الله لهم ما جعلته اليهود، لأن جميع المؤمنين، غير الأنبياء، لا يزول عنهم خوف الخاتمة. والخاطىء منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه. فلذلك لم يتمن المؤمنون الموت. ولذلك كان المبشرون بالجنة يتمنونه. وذكروا في ما من قوله: * (بما قدمت) *، أنها تكون مصدرية، والظاهر أنها موصول، والعائد محذوف، وهي كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة. ونسب التقديم لليد مجازا، والمعنى بما قدموه، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفا في الخير والشر. وكثر هذا الاستعمال في القرآن: * (ذالك بما قدمت يداك) *، * (بما قدمت أيديكم) *، * (فبما كسبت أيديكم) *. وقيل: المراد اليد حقيقة هنا، والذي قدمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان ذلك بكتابة أيديهم.
* (والله عليم بالظالمين) *: هذه جملة خبرية، ومعناها: التهديد والوعيد، وعلم الله متعلق بالظالم وغير الظالم. فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد. وقيل: معناه مجازيهم على ظلمهم، فكنى بالعلم عن الجزاء، وعلق العلم بالوصف ليدل على العلية، والألف واللام في الظالمين للعهد، فتختص باليهود الذين تقدم ذكرهم، أو للجنس، فتعم كل ظالم. وإنما ذكر الظالمين، لأن الظلم هو تجاوز ما حد الله، ولا شيء أبلغ في التعدي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضاتها، وانفراده بذلك دون الناس.
* (ولتجدنهم أحرص الناس على حيواة) *: الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم). ووجد هنا متعدية إلى مفعولين: أحدهما الضمير، والثاني أحرص الناس. وإذا تعدت إلى مفعولين كانت بمعنى علم المتعدية إلى اثنين، كقوله تعالى: * (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) *. وكونها هنا تعدت إلى مفعولين، هو قول من وفقنا على كلامه من المفسرين. ويحتمل أن يكون وجد هنا بمعنى لقي وأصاب، ويكون انتصاب أحرص على الحال، لكن لا يتم هذا إلا على مذهب من يرى أن إضافة أفعل التفضيل ليست بمحضة، وهو قال الفارسي. وقد ذهب إلى ذلك من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن عصفور. أما من قال بأنها محضة، ولا يجيز في الحال أن تأتي معرفة، فلا يجوز عنده في أحرص النصب على الحال. وأحرص هنا هي أفعل التفضيل، وهي مؤولة. بمعنى من، وقد أضيف إلى معرفة، فيجوز فيها الوجهان: أحدهما: أن يفرد مذكره، وإن كانت جارية على فرد ومثنى ومجموع، ومذكر ومؤنث. والثاني: أن يطابق ما قبلها. فمن الوجه الأول أحرص الناس ولو جاء على المطابقة، لكان أحارص الناس، أو أحرصي الناس. ومن الوجه الثاني قوله: أكابر مجرميها، كلا الوجهين فصيح. وذكر أبو منصور الجواليقي أن المطابقة أفصح من الإفراد. وذهب ابن السراج إلى تعين الإفراد، وليس بصحيح. وإذا أضيفت إلى معرفة، كهذين الموضعين، فشرط ذلك أن يكون بعض ما يضاف إليه، ولذلك منع
البصريون يوسف أحسن إخوته، على أن يكون أحسن أفعل التفضيل، وتأولوا ما ورد مما يشبهه، وشذ نحو قوله:
يا رب موسى أظلمي وأظلمه
يريد: أظلمنا حيث لم يضل أظلم إلى ما هو بعضه. والضمير المنصوب في ولتجدنهم عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت، أو على جميع اليهود، أو على علماء بني إسرائيل أقوال ثلاثة. وأتي بصيغة أفعل من الحرص مبالغة في شدة طلبهم للبقاء ودوام الحياة. والناس: الألف واللام للجنس فتعم، أو للعهد. إما لأن يكون المراد جماعة من الناس معروفين غلب عليهم الحرص على الحياة، أو لأن يكون المراد بذلك المجوس، أو مشركي العرب، لأن أولئك لا يوقنون ببعث، فليس عندهم إلا نعيم الدنيا، أو بؤسها، ولذلك قال بعضهم:
* تمتع من الدنيا فإنك فان
*
من النشوات والنسا الحسان
*
480

وقال آخر:
* إذا انقضت الدنيا وزال نعيمها
*
فما لي في شيء سوى ذاك مطمع
*
* (على حيواة) *: قدروا فيه أنه على حذف مضاف، أي على طول حياة، أو على حذف صفة، أي على حياة طويلة. ولو لم يقدر حذف لصح المعنى، وهو أن يكون أحرص الناس على مطلق حياة، لأن من كان أحرص على مطلق حياة، وهو تحققها بأدنى زمان، فلأن يكون أحرص على حياة طويلة أولى، وكانوا قد ذموا بأنهم أشد الناس حرصا على حياة، ولو ساعة واحدة. وقرأ أبي: على الحياة، بالألف واللام. قال الزمخشري ما معناه: قراءة التنكير أبلغ من قراءة أبي، لأنه أراد حياة مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة. انتهى. وقد بينا أنه لا يضطر إلى هذه الصفة.
* (ومن الذين أشركوا) * يجوز أن يكون متصلا داخلا تحت أفعل التفضيل، فيكون ذلك من الحمل على المعنى، لأن معنى أحرص الناس: أحرص من الناس. ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحذف، أي وأحرص من الذين أشركوا، فحذف أحرص لدلالة أحرص الأول عليه. والذين أشركوا: المجوس، لعبادتهم النور والظلمة. وقيل: النار، أو مشركو العرب لعبادتهم الأصنام واتخاذهم آلهة مع الله أو قوم من المشركين كانوا ينكرون البعث، كما قال تعالى: * (يقولون * أءنا لمردودون فى الحافرة * أءذا كنا عظاما نخرة) *. وعلى هذه الأقوال يكون: * (ومن الذين أشركوا) * تخصيصا بعد تعميم، إذا قلنا: إن قوله أحرص الناس عام، ويكون في ذلك أعظم توبيخ لليهود، إذ هم أهل كتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا، وهم مع ذلك أحرص ممن لا يرجو ذلك ولا يؤمن ببعث. وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العقاب، فكانوا أحب الناس في البعد منه، لأن من توقع شرا كان أنفر الناس عنه، فلما كانت الحياة سببا في تباعد العقاب، كانوا أحرص الناس عليها. وعلى هذا الذي تقرر من اتصال، ومن الذين أشركوا بأفعل التفضيل، فلا بد من ذكر من، لأن أحرص الناس جرى على اليهود، فلو عطفت بغير من لكان معطوفا على الناس، فيكون في المعنى: ولتجدنهم أحرص الذين أشركوا، فكان أفعل يضاف إلى غير ما اندرج تحته، لأن اليهود ليسوا من المشركين، أعني المشركين الذين فسر بهم الذين أشركوا هنا، لا إذا قلنا: إن الثواني في العطف يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل، فإنه يصح ذلك. وأما قول من زعم أن قوله: * (ومن الذين أشركوا) * معطوفا على الضمير في قوله: ولتجدنهم، أي ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهو معنى يصح، لكن اللفظ والتركيب ينبو عنه ويخرجه عن الفصاحة، ولا ضرورة تدعو إلى أن يكون ذلك من باب التقديم والتأخير، لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة.
وهذا البحث كله على تقدير أن تكون الواو في: * (ومن الذين أشركوا) * لعطف مفرد على مفرد، وأما إذا كانت لعطف الجمل، فيكون إذ ذاك منقطعا من الدخول تحت أفعل التفضيل، ويكون ابتداء، إخبار عن قوم من المشركين يودون طول الحياة أيضا. وتقدم أن المعني بالذين أشركوا: أهم المجوس؟ أم مشركو العرب؟ أم قوم من المشركين في الوجه الأول؟ وأما على أن يكون استئناف إخبار، فقال ابن عطية: هم المجوس، لأن تشميتهم للعاطس بلغتهم معناه: عش ألف سنة. وفي هذا القول تشبيه لبني إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين. انتهى كلامه. قال الزمخشري: والذين أشركوا على هذا، أي على أنه كلام مبتدأ، مشاربه إلى اليهود، لأنهم قالوا عزير ابن الله. انتهى كلامه.
فعلى هذا القول، يكون قد أخبر أن من هذه الطائفة التي اشتد حرصها على الحياة من * (يود) * لو عمرألف سنة، فيكون ذلك نهاية في تمني طول الحياة، ويكون الذين أشركوا من وقوع
481

الظاهر المشعر بالعلية موقع المضمر، إذ المعنى: ومنهم قوم يود أحدهم، ويود أحدهم صفة لمبتدأ محذوف، أي ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم، وهذا من المواضع
التي يجوز حذف الموصوف فيها، كقوله تعالى: * (وما منا إلا له مقام معلوم) *، * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) *، وكقول العرب: منا ظعن ومنا أقام، وعلى أن تكون الواو في * (ومن الذين أشركوا) * لعطف المفرد على المفرد، قالوا: ويكون قوله: * (يود أحدهم) * جملة في موضع الحال، أي وادا أحدهم، قالوا: ويكون حالا من الذين، فيكون العامل أحرص المحذوف، أو من الضمير في أشركوا، فيكون العامل أشركوا. ويجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب في ولتجدنهم، أي ولتجدنهم الأحرصين على الحياة وادا أحدهم، ويجوز أن يكون استئناف إخبار عنهم يبين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة.
* (أحدهم) *: أي واحد منهم، وليس أحد هنا هو الذي في قولهم ما قام أحد، لأن هذا مستعمل في النفي أو ما جرى مجراه. والفرق بينهما أن أحدا هذا أصوله همزة وحاء ودال، وأصول ذلك واو وحاء ودال. فالهمزة في أحدهم بدل من واو، ولا يراد بقوله: * (يود أحدهم) * أي يود واحد منهم دون سائرهم، وإنما أحدهم هنا عام عموم البدل، أي هذا الحكم عليهم بودهم أن يعمروا ألف سنة، هو يتناول كل واحد واحد منهم على طريقة البدل. فكان المعنى أنك إذا نظرت إلى حرص واحد منهم، وشدة تعلق قلبه بطول الحياة، وجدته لو عمر ألف سنة. * (لو يعمر ألف سنة) *: مفعول الودادة محذوف تقديره: يود أحدهم طول العمر. وجواب لو محذوف تقديره: لو يعمر ألف سنة لسر بذلك، فحذف مفعول يود لدلالة لو يعمر عليه، وحذف جواب لو لدلالة يود عليه. هذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان. وذهب بعض الكوفيين وغيرهم في مثل هذا إلى أن لو هنا مصدرية بمعنى أن، فلا يكون لها جواب، وينسبك منها مصدر هو مفعول يود، كأنه قال: يود أحدهم تعمير ألف سنة. فعلى هذا القول لا يكون في الكلام حذف، وعلى القول الأول لا يكون لقوله: * (لو يعمر ألف سنة) * محل إعراب. وعلى القول الثاني محله نصب على المفعول، كما ذكرنا، والترجيح بين القولين هو مذكور في علم النحو. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف اتصل لو يعمر بيود أحدهم؟ قلت: هو حكاية لودادتهم، ولو في معنى التمني، وكان القياس لو أعمر، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله: يود أحدهم، كقولهم: حلف بالله ليفعلن. انتهى كلامه. وفيه بعض إبهام، وذلك أن يود فعلى قلبي، وليس فعلا قوليا، ولا معناه معنى القول. وإذا كان كذلك، فكيف تقول هو حكاية لودادتهم؟ إلا أن ذلك لا يسوغ إلا على تجوز، وذلك أن يجري يود مجرى يقول، لأن القول ينشأ عن الأمور القلبية، فكأنه قال: يقول أحدهم عن ودادة من نفسه لو أعمر ألف سنة. ولا تحتاج لو، إذا كانت للتمني، إلى جملة جوابية، لأن معناها معنى: يا ليتني أعمر، وتكون إذ ذاك الجملة في موضع مفعول على طريق الحكاية. فتلخص بما قررناه في لو ثلاثة أقوال: أن تكون حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره، وأن تكون مصدرية، وأن تكون للمتني محكية. ومعنى ألف سنة: العمر الطويل في أبناء جنسه، فيكون ألف سنة كناية عن الزمان الطويل، ويحتمل أن يزيد ألف سنة حقيقة، وإن كان يعلم أنه لا يعيش ألف سنة، لأن التمني يقع على الجائز والمستحيل عادة أو عقلا، فيكون هذا معناه أنهم لشدة حرصهم في ازدياد الحياة يتعلق تمنيهم في ذلك بما لا يمكن وقوعه عادة.
* (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) *: الضمير من قوله: وما هو عائد على أحدهم، وهو اسم ما، وبمزحزحه خبر ما فهو في موضع نصب، وذلك على لغة أهل الحجاز. وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك، وأن يعمر فاعل بمزحزحه، أي وما أحدهم مزحزحه من العذاب تعمير. وجوزوا أيضا في هذا الوجه، أعني: أن يكون الضمير عائدا على أحدهم، أن يكون هو
482

مبتدأ، وبمزحزحه خبر. وأن يعمر فاعل بمزحزحه، فتكون ما تميمية. وهذا الوجه، أعني أن تكون ما تميمية هو الذي ابتدأ به ابن عطية. وأجازوا أن يكون هو ضميرا عائدا على المصدر المفهوم من قوله: * (لو يعمر) *، وأن يعمر بدل منه، وارتفاع هو على وجهيه من كونه اسم ما أو مبتدأ. وقيل: هو كناية عن التعمير، وأن يعمر بدل منه، ولا يعود هو على شيء قبله. والفرق بين هذا القول والذي قبله، أن مفسر الضمير هنا هو البدل، ومفسره في القول الأول هو المصدر الدال عليه الفعل في لو يعمر. وكون البدل يفسر الضمير فيه خلاف، ولا خلاف في تفسير الضمير بالمصدر المفهوم من الفعل السابق. فهذا يفسره ما قبله، وذاك يفسره ما بعده. وهذا الذي عنى الزمخشري بقوله: ويجوز أن يكون هو مبهما، وأن يعمر موضحه. يعني: أن يكون هو لا يعود على شيء قبله، وأن يعمر بدل منه وهو مفسر. وأجاز أبو علي الفارسي في الحلبيات أن يكون هو ضمير الشأن، وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين، وهو أن مفسر ضمير الشأن، وهو المسمى عندهم بالمجهول، يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسنادا معنويا نحو: ظننته قائما زيد، وما هو بقائم زيد، فهو مبتدأ ضمير مجهول عندهم، وبقائم في موضع الخبر، وزيد فاعل بقائم. وكان المعنى عندهم: ما هو يقوم زيد، ولذلك أعربوا في: ظننته قائما زيد، الهاء ضمير المجهول، وهي مفعول ظننت، وقائما المفعول الثاني، وزيد فاعل بقائم. ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسر إلا بجملة مصرح بجزأيها سالمة من حرف جر. قال ابن عطية، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: هو عماد. انتهى كلامه، ويحتاج إلى تفسير، وذلك أن العماد في مذهب بعض الكوفيين يجوز أن يتقدم مع الخبر على المبتدأ، فإذا قلت: ما زيد هو القائم، جوزوا أن تقول: ما هو القائم زيد. فتقدير الكلام عندهم، وما تعميره هو بمزحزحه. ثم قدم الخبر مع العماد، فجاء: وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، أي تعميره، ولا يجوز ذلك عند البصريين، لأن شرط الفصل عندهم أن يكون متوسطا. وتلخص في هذا الضمير: أهو عائد على أحدهم؟ أو على المصدر المفهوم من يعمر؟ أو على ما بعده من قوله أن يعمر؟ أو هو ضمير الشأن؟ أو عماد؟ أقوال خمسة، أظهرها الأول.
* (والله بصير بما يعملون) *: قرأ الجمهور يعملون بالياء، على نسق الكلام السابق. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب بالتاء، على سبيل الالتفات والخروج من العيبة إلى الخطاب. وهذه الجملة تتضمن التهديد والوعيد، وأتى عنا بصفة بصير، وإن كان الله تعالى متنزها عن الجارحة، إعلاما بأن علمه، بجميع الأعمال، علم إحاطة وإدراك للخفيات. وما: في بما، موصولة، والعائد محذوف، أي يعملونه. وجوزوا فيها أن تكون مصدرية أي بعملهم، وأتى بصيغة المضارع، وإن كان علمه تعالى محيطا بأعمالهم السالفة والآتية لتواخي الفواصل.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة الامتنان على بني إسرائيل وتذكارهم بنعم الله، إذ آتى موسى التوراة المشتملة على الهدى والنور، ووالى بعده بالرسل لتجديد دين الله وشرائعه، وآتى عيسى الأمور الخارقة، من إحياء الأموات، وإبراء الأكمة والأبرص، وإيجاد المخلوق، ونفخ الروح فيه، والإنباء بالمغيبات، وغير ذلك. وأيده بمن ينزل الوحي على يديه، وهو جبريل عليه السلام. ثم مع هذه المعجزات والنعم كانوا أبعد الناس عن قبول ما يأتيهم من عند الله، وكانوا بحيث إذا جاءهم رسول بما لا يوافقهم، بادروا إلى تكذيبه، أو قتلوه، وهم غير مكترثين بما يصدر منهم من الجرائم، حتى حكي أنهم في أثر قتلهم الجماعة من الأنبياء، تقوم سوق البقل بينهم، التي هي أرذل الأسواق، فكيف بالأسواق التي تباع فيها الأشياء النفيسة؟ ثم نعى تعالى عليهم أنهم باقون على تلك العادة من تكذيب ما جاء من عند الله، وإن كانوا قبل مجيئه به يذكرون أنه يأتيهم من عند الله. فحين وافاهم ما كانوا ينتظرونه ويعرفونه، كفروا به، فختم الله عليهم باللعنة. وأن سبب طردهم عن رحمة الله هو ما سبق من كفرهم، وأن إيمانهم كان قليلا، إذ كانوا قبل مجيء الكتاب يؤمنون بأنه سيأتي كتاب. ثم أخذ في ذكر ذمهم، أن باعوا أنفسهم
483

النفيسة بما يترتب لهم على كفرهم بآيات الله من المآكل والرياسات المنقضية في الزمن اليسير، وأن الحامل على ذلك هو البغي والحسد، لأن اختص الله بفضله من شاء من عباده، فلم يرضوا بحكمه ولا باختياره، فباؤا بالغضب من الله، وأعد لهم في الآخرة العذاب الذي يذلهم ويهينهم. إذ كان امتناعهم من الإيمان، إنما هو للتكبر والحسد وعدم الرضا بالقدر، فناسب ذلك أن يعذبوا العذاب الذي فيه صغار لهم وذلة وإهانة.
ثم أخبر تعالى عنهم، أنهم إذا عرض عليهم الإيمان بما أنزل الله، أجابوا أنهم يؤمنون بالتوراة، وأنهم يكفروا بما سواها. هذا والكتب المنزلة من عند الله سواء، إذ كلها حق يصدق بعضها بعضا. فالكفر ببعضها كفر بجميعها. ثم أخبر تعالى بكذبهم في قولهم: * (نؤمن بما أنزل علينا) *، وذلك بأنهم قتلوا الأنبياء، والتوراة ناطقة باتباع الأنبياء والاقتداء بهم، فقد خالف قولهم فعلهم. ثم كرر عليهم، توبيخا لهم، أن موسى الذي أنزل عليه التوراة، وأنهم يزعمون أنهم آمنوا بها، قد جاءهم بالأشيائ الواضحة والمعجزات الخارقة، من نجاتهم من فرعون، وفلق البحر وغير ذلك، ومع ذلك، اتخذوا من بعد ذهابه إلى مناجاة ربه إلها من أبعد الحيوان ذهنا وأبلدها، وهو العجل المصنوع من حليهم، المشاهد إنشاؤه وعمله، وموسى لم يمت بعد، وكتاب الله طري نزوله عليهم، لم يتقادم عهده. وكرر تعالى ذكر رفع الطور عليهم ليقبلوا ما في التوراة، وأمروا بالسمع والطاعة، فأجابوا بالعصيان. هذا وهم ملجؤن إلى الإيمان، أو كالملجئين، لأن مثل هذا المزعج العظيم من رفع جبل عليهم ليشدخوا به جدير بأن يأتي الإنسان ما أمر به، ويقبل ما كلف به من التكاليف. وتأبيهم لذلك، وعدم قبولهم، سببه أن عبادة العجل خامرت قلوبهم ومازجتها، حتى لم تسمع قبولا لشيء من الحق، والقلب إذا امتلأ بحب شيء لم يسمع سواه ولم يصغ إلى ملام، وأنشدوا:
* ملأت ببعض حبك كل قلبي
*
فإن ترد الزيادة هات قلبا
*
ثم ذمهم تعالى على ما أمرهم به إيمانهم، ولا إيمان لهم حقيقة، بل نسب ذلك إليهم، على سبيل التهكم من عبادة العجل واتخاذه إلها من دون الله. ثم كذبهم في دعواهم أن الجنة هي خالصة لهم، لا يدخلها أحد سواهم، فأمرهم بتمني الموت، لأن من اعتقد أنه يصير إلى سرور وحبور ولذة دائمة لا تنقضي، يؤثر الوصول إلى ذلك، وانقضاء ما هو فيه من الذلة والنكد. وأخبر تعالى أن تمني الموت لا يقع منهم أبدا، وأن امتناعهم من ذلك هو بما قدمت أيديهم من الجرائم، فظهر كذبهم في دعواهم بأنهم أهل الجنة. ثم أخبر ترشيحا لما قبله من عدم تمنيهم الموت، أنهم أشد الناس حرصا على حياة، حتى أنهم أحرص من الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة، ولا يرجون ثوابا، ولا يخافون عقابا. ثم ذكر أن أحدهم يود أن يعمر ألف سنة، ومع ذلك فتعميره، وإن طال، ليس بمنجيه من عذاب الله.
ثم ختم الآيات بأن الله تعالى مطلع على قبائح أفعالهم، ومجازيهم عليها. وتبين بمجموع هذه الآيات ما جبل عليه اليهود من فرط كذبهم، وتناقض أفعالهم وأقوالهم، ونقص عقولهم، وكثرة بهتهم، أعاذنا الله من ذلك، وسلك بنا أنهج المسلك.
2 (* (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين * من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين * ولقد أنزلنآ إليك ءايات بينات وما يكفر بهآ إلا الفاسقون * أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون * ولما جآءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله ورآء
484

ظهورهم كأنهم لا يعلمون * واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولاكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ومآ أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الا خرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون * ولو أنهم ءامنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) *))
) *
جبريل: اسم ملك علم له، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهو اسم أعجمي ممنوع الصرف، للعلمية والعجمة، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله، ومن ذهب إلى أنه مركب تركيب الإضافة. ومعنى جبر: عبد وإيل، اسم من أسماء الله، لأن الأعجمي لا يدخله الاشتقاق العربي، ولأنه لو
كان مركبا تركيب الإضافة لكان مصروفا. وقال المهدوي: ومن قال: جبر، مثل: عبد وإيل، اسم من أسماء الله، جعله بمنزلة حضرموت. انتهى كلامه. يعني أنه يجعله مركبا تركيب المزح، فيمنعه الصرف للعلمية والتركيب. وليس ما ذكر بصحيح، لأنه إما أن يلحظ فيه معنى الإضافة، فيلزم الصرف في الثاني، وإجراء الأول بوجوه الإعراب، أو لا يلحظ، فيركبه تركيب المزج. فما يركب تركيب المزج يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف، فكونه لم يسمع فيه الإضافة، ولا البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج. وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة. قالوا: جبريل: كقنديل، وهي لغة أهل الحجاز، وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو ونافع وحفص. وقال ورقة بن نوفل:
* وجبريل يأتيه وميكال معهما
*
من الله وحي يشرح الصدر منزل
*
وقال عمران بن حطان:
* والروج جبريل منهم لا كفاء له
*
وكان جبريل عند الله مأمونا
*
وقال حسان:
* وجبريل رسول الله فينا
*
وروح القدس ليس له كفاء
*
485

وكذلك إلا أن الجيم مفتوحة، وبها قراءة الحسن وابن كثير وابن محيصن. قال الفراء: لا أحبها، لأنه ليس في الكلام فعليل، وما قاله ليس بشيء، لأن ما أدخلته العرب في كلامها على قسمين: منه ما تلحقه بأبنية كلامها، كلجام، ومنه ما لا تلحقه بها، كابريسم. فجبريل، بفتح الجيم، من هذا القبيل. وقيل: جبريل مثل شمويل، وهو طائر. وجبرئيل كعنتر يس، وهي لغة: تميم، وقيس، وكثير من أهل نجد. حكاها الفراء، واختارها الزجاج وقال: هي أجود اللغات. وقال حسان:
* شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة
*
مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها
*
وقال جرير:
* عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد
*
وبجبرئيل وكذبوا ميكال
*
وهي قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وحماد بن أبي زياد، عن أبي بكر، عن عاصم. ورواها الكسائي، عن عاصم، وكذلك. إلا أنه بغير ياء بعد الهمزة، وهي رواية يحيى بن آدم، عن أبي بكر، عن عاصم. وتروى عن يحيى بن يعمر، وكذلك. إلا أن اللام مشددة، وهي قراءة أبان، عن عاصم ويحيى بن يعمر. وجبرائيل وجبراييل، وقرأ بهما ابن عباس وعكرمة. وجبرال وجبرائل بالياء والقصر، وبها قرأ طلحة. وجبراييل بألف بعد الراء، بعدها يا آن، أولاهما مكسورة، وقرأ بها الأعمش وابن يعمر أيضا. وجبرين وجبرين، وهذه لغة أسد. وجبرائين. قال أبو جعفر النحاس: جمع جبريل جمع التكسير على جباريل على اللغة العالية. إذن: به علم به، وآذنه: أعلمه. آذنتكم على سواء: أعلمتكم. ثم يطلق على التمكين. إذن لي في كذا: أي مكنني منه. وعلى الاختيار فعلته بإذنك: أي باختيارك. ميكائيل: الكلام فيه كالكلام في جبريل، أعني من منع الصرف. وبعد قول من ذهب إلى أنه مشتق من ملكوت الله، أو ذهب إلى أن معنى ميكا: عبد، وايل: اسم من أسماء الله تعالى، وقد تصرفت فيه العرب. قالوا: ميكال، كمفعال، وبها قرأ أبو عمرو وحفص، وهي لغة الحجاز. وقال الشاعر:
* ويوم بدر لقيناكم لنا مدد
*
فيه مع النصر ميكال وجبريل
*
وكذلك. إلا أن بعد الألف همزة، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ لقنبل، وكذلك. إلا أنه بياء بعد الهمزة، وبها قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر، وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي. وميكييل كميكعيل، وبها قرأ ابن محيصن، وكذلك. إلا أنه لا ياء بعد الهمزة. وقرئ بها: وميكاييل بياءين بعد الألف، أولاهما مكسورة، وبها قرأ الأعم 5. نبذ الشيء، ينبذه نبذا: طرحه وألقاه. الظهر: معروف، وجمع فعل الاسم غير المعتل العين على فعول قياس:
486

كظهور، وعلى فعلان: كظهران، وهو مشتق من الظهور. تقول: ظهر الشيء ظهورا، إذا بدا. تلا يتلو: تبع. وتلا القرآن: قرأه وتلا عليه كذب، قاله أبو مسلم. وقال أيضا: تلاعنه صدف، فإذا لم يذكر الصلتين احتمل الأمرين. سليمان: اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية. والعجمة، ونظيره من الأعجمية، في أن في آخره ألفا ونونا: هامان، وماهان، وسامان، وليس امتناعه من الصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون: كعثمان، لأن يادة الألف والنون موقوفة على الاشتقاق والتصريف. والاشتقاق والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية. السحر: مصدر سحر يسحر سحرا، ولا يوجد مصدر لفعل يفعل على وزن فعل إلا سحر وفعل، قاله بعض أهل العلم. قال الجوهري: كل ما لطف ودق فهو سحر. يقال سحره: أبدى له أمرا يدق عليه ويخفى. انتهى. وقال:
أداء عراني من حبائك أم سحر
ويقال سحره: خدعه، ومنه قول امرئ القيس:
* أرانا موضعين لأمر عيب
*
ونسحر بالطعام وبالشراب
*
أي نعلل ونخدع. وسيأتي الكلام على مدلول السحر في الآية. بابل: اسم أعجمي، اسم أرض، وسيأتي تعيينها. هاروت وماروت: اسمان أعجميان، وسيأتي الكلام على مدلولهما، ويجمعان على: هو أريت ومواريت، ويقال: هوارته وموارته، ومثل ذلك: طالوت وجالوت. الفتنة: الابتلاء والاختبار. فتن يفتن فتونا وفتنة. المرء: الرجل، والأفصح فتح الميم مطلقا، وحكي الضم مطلقا، وحكي اتباع حركة الميم لحركة الإعراب فتقول: قام المرء: بضم الميم، ورأيت المرء: بفتح الميم، ومررت بالمرء: بكسر الميم، ومؤنثه المرأة. وقد جاء جمعه بالواو والنون، قالوا: المرؤوون. الضرر والنفع معروفان، ويقال: ضر يضر، بضم الضاد، وهو قياس المضعف المتعدي ومصدره: الضر والضر والضرر، ويقال: ضار يضير، قال:
* يقول أناس لا يضيرك نابها
*
بلى كل ما شف النفوس يضيرها
*
ويقال: نفع ينفع نفعا. ورأيت في شرح الموجز، الذي للرماني في النحو، وهو تأليف رجل يقال له الأهوازي، وليس بأبي على الأهوازي المقري، أنه لا يقال منه اسم مفعول نحو منفوع، والقياس النحوي يقتضيه. الخلاق، في اللغة: النصيب، قاله الزجاج. قال: لكنه أكثر ما يستعمل في الخير، قال:
* يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم
*
إلا السرابيل من قطر وأغلال
*
والخلاق: القدر، قال الشاعر:
* فما لك بيت لدى الشامخات
*
وما لك في غالب من خلاق
*
مثوبة: مفعلة من الثواب، نقلت حركة الواو إلى الثاء، ويقال مثوبة. وكان قياسه الإعلال فتقول: مثابة، ولكنهم
487

صححوه كما صححوا في الأعلام مكورة، ونظيرهما في الوزن من الصحيح: مقبره ومقبره.
* (قل من كان عدوا لجبريل) *: أجمع أهل التفسير أن اليهود قالوا: جبريل عدونا، واختلف في كيفية ذلك، وهل كان سبب النزول محاورتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم)، أو محاورتهم مع عمر؟ وملخص العداوة: أن ذلك لكونه يأتي بالهلاك والخسف والحدب، ولو كان ميكال صاحب محمد لاتبعناه، لأنه يأتي بالخصب والسلم، ولكونه دافع عن بخت نصر حين أردنا قتله، فخرب بيت المقدس وأهلكنا، ولكونه يطلع محمدا صلى الله عليه وسلم) على سرنا. والخطاب بقوله: قل للنبي صلى الله عليه وسلم)، ومعمول القول: الجملة بعدو من هنا شرطية. وقال الراغب: العداوة، التجاوز ومنافاة الالتئام. فبالقلب يقال العداوة، وبالمشي يقال العدو، وبالإخلال في العدل يقال العدوان، وبالمكان أو النسب يقال قوم عدي، أي غرباء.
* (فإنه نزله) *: ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه، فلو قلت: من يكرمني؟ فزيد قائم، لم يجز. وقوله: * (فإنه
488

نزله على قلبك) *، ليس فيه ضمير يعود على من. وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري، وهو خطأ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير، ولمضي فعل التنزيل، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه، التقدير: فعداوته لا وجه لها، أو ما أشبه هذا التقدير. والضمير في فإنه عائد على جبريل، والضمير في نزله عائد على القرآن لدلالة المعنى عليه. ألا ترى إلى قوله: * (مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) *؟ وهذه كلها من صفات القرآن. ولقوله: * (بإذن الله) *، أي فإن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله. وقيل: الضمير في فإنه عائد على الله، وفي نزله عائد على جبريل، التقدير: فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك. وفي كل من هذين التقديرين إضمار يعود على ما يدل عليه سياق المعنى. لكن التقدير الأول أولى، لما ذكرناه، وليكون موافقا لقوله: * (نزل به الروح الامين * على قلبك) *، وينظر للتقدير الثاني قراءة من قرأ: نزل بالتشديد، والروح بالنصب. ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كان عدوا لجبريل، فعداوته لا وجه لها، لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب، والهادي والمبشر، كمن آمن. ومن كان هذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله، أو من كان عدوا لجبريل، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدق لكتابهم، والملزم لهم اتباعك، وهم لا يريدون ذلك، ولذلك حرفوا ما في كتبهم من صفاتك، ومن أخذ العهود عليهم فيها، بأن يتبعوك. والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين: أن التقدير الأول موجب لعدم العداوة، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك: إن عاداك زيد، فقد آذيته وأسأت إليه.
* (على قلبك) *: أتى بلفظ على، لأن القرآن مستعل على القلب، إذ القلب سامع له ومطيع، يمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه. وكانت أبلع من إلى، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط، وعلى تدل على الاستعلاء. وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه. وخص القلب، ولم يأت عليك، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها، أو لأنه سلطان الجسد. وفي الحديث: (إن في الجسد مضغة). ثم قال أخيرا: (ألا وهي القلب). أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنه بيت الله، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقا للمحل على الحال به، أو عن الجملة الإنسانية، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن: * (ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى) *، * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) *، أو يكون إطلاقا لبعض الشيء على كله، أقوال سبعة. وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب، ولم يضفه إلى ياء المتكلم، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهرا، لأن قوله: * (من كان عدوا لجبريل) *، هو معمول لقول مضمر، التقدير: قل يا محمد قال الله من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك. وإلى هذا نحا الزمخشري بقوله: جاءت على حكاية كلام الله تعالى، كأنه قيل: ما تكلمت به من قولي: * (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) *، وكلامه فيه تثبيج. وقال ابن عطية: يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله، فيسرده مخاطبة له، كما تقول: قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هذه الآية، ونحو من هذا قول الفرزدق:
* ألم تر أني يوم جو سويقة
*
دعوت فنادتني هنيدة ماليا
*
فأحرز المعنى، ونكب عن نداء هنيدة مالك. انتهى كلامه، وهو تخريج حسن، ويكون إذ ذاك الجملة الشرطية معمولة للفظ: قل، لا لقول: مضمر، وهو ظاهر الكلام * (بإذن الله) *: أي بأمر الله، اختاره في المنتخب ومنه: * (لا تكلم نفس إلا بإذنه) *، * (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه) *. وقد صرح بذلك في: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) *، أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة، قاله ابن عطية؛ أو باختياره، قاله الماوردي، أو بتيسيره وتسهيله، قاله الزمخشري. * (مصدقا لما بين يديه) *: انتصاب مصدقا على الحال من الضمير المنصوب في نزله، إن كان يعود على القرآن، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حالا من المجرور المحذوف لفهم المعنى، لأن المعنى: فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقا. والثاني: أن يكون حالا من جبريل. وما: في الموصولة، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله، أو التوراة والإنجيل. والهاء: في بين يديه يحتمل أن تكون عائدة على القرآن، ويحتمل أن تعود على جبريل. فالمعنى مصدقا لما بين يديه من الرسل والكتب.
* (وهدى وبشرى) *: معطوفان على مصدقا، فهما حالان، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل كأنه قال: وهاديا ومبشرا، أو من باب المبالغة، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى، جعل نفس الهدى والبشرى. والألف في بشرى للتأنيث، كهي في رجعي، وهو مصدر. وقد تقدم الكلام على المعنى في قوله: * (وبشر
الذين ءامنوا) * في أوائل هذه السورة، والمعنى: أنه وصف القرآن بتصديقه لما تقدمه من الكتب الإلهية، وأنه هدى، إذ فيه بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب والجوارح، وأنه بشرى لمن حصل له الهدى. فصار هذا الترتيب اللفظي في هذه الأحوال، لكون مدلولاتها ترتبت ترتيبا وجوديا. فالأول: كونه مصدقا للكتب، وذلك لأن الكتب كلها من ينبوع واحد. والثاني: أن الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق. والثالث: أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية. وقال الراغب: وهدى من الضلالة وبشرى بالجنة. * (للمؤمنين) *: خص الهدى والبشرى بالمؤمنين، لأن غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به ولا بشرى، كما قال: * (وهو عليهم عمى) *، ولأن المؤمنين هم المبشرون، * (فبشر * عبادى) *، * (يبشرهم ربهم برحمة منه) *. ودلت هذه الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة. ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، قالوا: وهذه الآية تعلقت بها الباطنية، وقالوا: إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول. ورد عليهم: بأنه معجزة ظاهرة بنظمه، وأن الله سماه وحيا وكتابا وعربيا، وأن جبريل نزل به، والملهم لا يحتاج إلى جبريل.
* (من كان عدوا لله) *: العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة، وعداوة العبد لله تعالى مجاز، ومعناها:
489

مخالفة الأمر، وعداوة الله للعبد، مجازاته على مخالفته. * (وملئكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) *. أكد بقوله: وملائكته، أمر جبريل، إذ اليهود قد أخبرت أنه عدوهم من الملائكة، لكونه يأتي بالهلاك والعذاب، فرد عليهم في الآية السابقة، بأنه أتى بأصل الخيور كلها، وهو القرآن الجامع لتلك الصفات الشريفة، من موافقته لكتبهم، وكونه هدى وبشرى، فكانت تجب محبته. ورد عليهم في هذه الآية، بأن قرنه باسمه تعالى مندرجا تحت عموم ملائكته، ثم ثانيا تحت عموم رسله، لأن الرسل تشمل الملائكة وغيرهم ممن أرسل من بني آدم، ثم ثالثا بالتنصيص على ذكره مجردا مع من يدعون أنهم يحبونه، وهو ميكال، فصار مذكورا في هذه الآية ثلاث مرار، كل ذلك رد على اليهود وذم لهم، وتنويه بجبريل. ودلت الآية على أن الله تعالى عدو لمن عادى الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال. ولا يدل ذلك على أن المراد من جع عداوة الجميع، فالله تعالى عدوه، وإنما المعنى أن من عادى واحدا ممن ذكر، فالله عدوه، إذ معاداة واحد ممن ذكر معاداة للجميع. وقد أجمع المسلمون على أن من أبغض رسولا أو ملكا فقد كفر. فقال بعض الناس: الواو هنا بمعنى أو، وليست للجمع. وقال بعضهم: الواو للتفصيل، ولا يراد أيضا أن يكون عدوا لجميع الملائكة، ولا لجميع الرسل، بل هذ من باب التعليق على الجنس بصورة الجمع، كقولك: إن كلمت الرجال فأنت طالق، لا يريد بذلك إن كلمت كل الرجال، ولا أقل ما ينطلق عليه الجمع، وإنما علق بالجنس، وإن كان بصورة الجمع، فلو كلمت رجلا واحدا طلقت، فكذلك هذا الجمع في الملائكة والرسل. فالمعنى أن من عادى الله، أو ملكا من ملائكته، أو رسولا من رسله، فالله عدو له.
وقال الماتريدي: يحتمل أن يكون الافتتاح باسم الله، على سبيل التعظيم لمن ذكر بعده، كقوله تعالى: * (فأن لله خمسه) *، وخص جبريل وميكال بالذكر تشريفا لهما وتفضيلا. وقد ذكرنا عن أستاذنا أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير، قدس الله روحه، أنه كان يسمي لنا هذا النوع بالتجريد، وهو أن يكون الشيء مندرجا تحت عموم، ثم تفرده بالذكر، وذلك لمعنى مختص به دون أفراد ذلك العام. فجبريل وميكال جعلا كأنهما من جنس آخر، ونزل التغاير في الوصف كالتغاير في الجنس، فعطف. وهذا النوع من العطف، أعني عطف الخاص على العام، على سبيل التفضيل، هو من الأحكام التي انفردت بها الواو، فلا يجوز ذلك في غيرها من حروف العطف. وقيل: خصا بالذكر، لأن اليهود ذكرهما، ونزلت الآية بسببهما. فلو لم يذكرا، لكان لليهود تعلق بأن يقولوا: لم نعاد الله؟ ولا جميع ملائكته؟ وقيل: خصا بالذكر دفعا لإشكال: أن الموجب للكفر عداوة جميع الملائكة، لا واحد منهم. فكأنه قيل: أو واحد منهم. وجاء هذا الترتيب في غاية الحسن، فابتدىء بذكر الله، ثم بذكر الوسائط التي بينه وبين الرسل، ثم بذكر الوسائط التي بين الملائكة وبين المرسل إليهم. فهذا ترتيب بحسب الوحي. ولا يدل تقديم الملائكة في الذكر على تفضيلهم على رسل بني آدم، لأن الترتيب الذي ذكرناه هو ترتيب بالنسبة إلى الوسائط، لا بالنسبة إلى التفضيل. ويأتي قول الزمخشري: بأن الملائكة أشرف من الأنبياء، إن شاء الله، قالوا: واختصاص جبريل وميكال بالذكر يدل على كونهما أشرف من جميع الملائكة. وقالوا: جبريل أفضل من ميكال، لأنه قدم في الذكر، ولأنه ينزل بالوحي والعلم، وهو مادة الأرواح. وميكال ينزل بالخصب والأمطار، وهي مادة الأبدان، وغذاء الأرواح أشرف من غذاء الأشباح، انتهى. ويحتاج تفضيل جبريل على ميكائيل إلى نص جلي واضح، والتقدم في الذكر لا يدل على التفضيل، إذ يحتمل أن يكون ذلك من باب الترقي. ومن: في قوله: * (من كان عدوا) * شرطية. واختلف في الجواب فقيل: هو محذوف، تقديره: فهو كافر، وحذف لدلالة المعنى عليه. وقيل الجواب: * (فإن الله عدو للكافرين) *، وأتى باسم الله ظاهرا، ولم يأت بأنه عدو لاحتمال أن يفهم أن الضمير عائد على اسم الشرط فينقلب المعنى، أو عائد على أقرب مذكور، وهو ميكال، فأظهر الاسم لزوال اللبس، أو للتعظيم والتفخيم، لأن العرب إذا فخمت شيئا كررته بالاسم الذي تقدم له: * (لينصرنه الله إن الله * لقوى عزيز) *، وقول الشاعر:
490

لا أرى الموت يسبق الموت شيئا
وهذه الجملة الواقعة خبرا للشرط، تحتاج إلى رابط لجملة الجزاء باسم الشرط. والرابط هنا الاسم الظاهر وهو: الكافرين، أوقع الظاهر موقع الضمير لتواخي أواخر الآي، ولينص على علة العداوة، وهي الكفر، إذ من عادى من تقدم ذكره، أو واحدا منهم، فهو كافر. أو يراد بالكافرين العموم، فيكون الرابط العموم، إذ الكفر يكون بأنواع، وهؤلاء الكفار بهذا الشيء الخاص فرد من أفراد العموم، فيحصل الربط بذلك. وقال الزمخشري: عدو للكافرين، أراد عدو لهم، فجاء بالظاهر ليدل على أن الله عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر. وإذا كانت عداوة الأنبياء كفرا، فما بال الملائكة؟ وهم أشرف. والمعنى: من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب. انتهى كلامه. وهذا مذهب المعتزلة يذهبون إلى أن الملائكة أفضل من خواص بني آدم. ودل كلام الزمخشري على أن الظاهر وقع موقع الضمير، وأنه لم
يلحظ فيه العموم، وقال ابن عطية: وجاءت العبارة بعموم الكافرين، لأن عود الضمير على من يشكل، سواء أفردته أو جمعته، ولو لم يبال بالإشكال. وقلنا: المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم. ويحتمل أن الله قد علم أن بعضهم يؤمن، فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله للمآل. وروي أن عمر نطق بهذه الآية مجاوبا لبعض اليهود في قوله: ذلك عدونا، يعني جبريل، فنزلت على لسان عمر. قال ابن عطية: وهذا الخبر ضعيف.
* (ولقد أنزلنا إليك ءايات بينات) *: سبب نزولها، فيما ذكر الطبراني، أن ابن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم): ما جئت بآية بينة، فنزلت. وقال الزمخشري: قال ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها، فنزلت انتهى. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه لما ذكر تعالى جملا من قبائح اليهود وذمهم على ذلك، وكان فيما ذكر من ذلك معاداتهم لجبريل، فناسب ذلك إنكارهم لما نزل به جبريل، فأخبر الله تعالى بأن الرسول عليه السلام أنزل عليه آيات بينات، وأنه لا يجحد نزولها إلا كل فاسق، وذلك لوضوحها. والآيات البينات، أي القرآن، أو المعجزات المقرونة بالتحدي، أو الأخبار عما خفي وأخفي في الكتب السالفة، أو الشرائع، أو الفرائض، أو مجموع كل ما تقدم، أقوال خمسة. والظاهر مطلق ما يدل عليه آيات بينات غير معين شيء منها، وعبر عن وصولها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالإنزال، لأن ذلك كان من علو إلى ما دونه.
وما يكفر بها إلا الفاسقون) *: المراد بالفاسقين هنا: الكافرون، لأن كفر آيات الله تعالى هو من باب فسق العقائد، فليس من باب فسق الأفعال. وقال الحسن: إذا استعمل الفسق في شيء من المعاصي، وقع على أعظمه من كفر أو غيره. انتهى. وناسب قوله: بينات لفظ الكفر، وهو التغطية، لأن البين لا يقع فيه إلباس، فعدم الإيمان به ليس لشبهة لأنه بين، وإنما هو تغطية وستر لما هو واضح بين. وستر الواضح لا يقع إلا من متمرد في فسقه، والألف واللام في الفاسقون، إما للجنس، وإما للعهد، لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود. وكنى بالفسق هنا عن الكفر، لأن الفسق: خروج الإنسان عما حد له. وقد تقدم قول الحسن أنه يدل على أعظم ما يطلق عليه، فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا المبالغ في كفره، المنتهي فيه إلى أقصى غاية. وإلا الفاسقون: استثناء مفرغ، إذ تقديره: وما يكفر بها أحد، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد. ثم استثنى الفساق من أحد، وأنهم يكفرون بها. ويجوز في مذهب
491

الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء، فأجاز: ما قام إلا زيدا، على مراعاة ذلك المحذوف، إذ لو كان لم يحذف، لجاز النصب، ولا يجيز ذلك البصريون.
* (*) *: المراد بالفاسقين هنا: الكافرون، لأن كفر آيات الله تعالى هو من باب فسق العقائد، فليس من باب فسق الأفعال. وقال الحسن: إذا استعمل الفسق في شيء من المعاصي، وقع على أعظمه من كفر أو غيره. انتهى. وناسب قوله: بينات لفظ الكفر، وهو التغطية، لأن البين لا يقع فيه إلباس، فعدم الإيمان به ليس لشبهة لأنه بين، وإنما هو تغطية وستر لما هو واضح بين. وستر الواضح لا يقع إلا من متمرد في فسقه، والألف واللام في الفاسقون، إما للجنس، وإما للعهد، لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود. وكنى بالفسق هنا عن الكفر، لأن الفسق: خروج الإنسان عما حد له. وقد تقدم قول الحسن أنه يدل على أعظم ما يطلق عليه، فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا المبالغ في كفره، المنتهي فيه إلى أقصى غاية. وإلا الفاسقون: استثناء مفرغ، إذ تقديره: وما يكفر بها أحد، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد. ثم استثنى الفساق من أحد، وأنهم يكفرون بها. ويجوز في مذهب الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء، فأجاز: ما قام إلا زيدا، على مراعاة ذلك المحذوف، إذ لو كان لم يحذف، لجاز النصب، ولا يجيز ذلك البصريون.
* (أو * كلما * عاهدوا عهدا) *: نزلت في مالك بن الصيف، قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم)، ولا ميثاق. وقيل في اليهود: عاهدوا على أنه إن خرج لنؤمنن به ولنكونن معه على مشركي العرب، فلما بعث كفروا به. وقال عطاء: هي العهود بينه وبين اليهود نقضوها، كفعل قريظة والنضير. قال تعالى: * (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون) *. وقرأ الجمهور: أو كلما، بفتح الواو. واختلف في هذه الواو فقيل: هي زائدة، قاله الأخفش. وقيل: هي أو الساكنة الواو، وحركت بالفتح، وهي بمعنى بل، قاله الكسائي. وكلا القولين ضعيف. وقيل: واو العطف، وهو الصحيح. وقد تقدم أن مذهب سيبويه والنحويين: أن الأصل تقديم هذه الواو، والفاء، وثم، على همزة الاستفهام، وإنما قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام. وإن الزمخشري يذهب إلى أن ثم محذوفا معطوفا عليه، مقدرا بين الهمزة وحرف العطف، ولذلك قدره هنا أكفروا بالآيات البينات؟ * (وكلما * عاهدوا) *. وقد رجع الزمخشري عن اختياره إلى قول الجماعة. وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتابنا المسمى (بالتكميل لشرح التسهيل). والمراد بهذا الاستفهام: الإنكار، وإعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها، فصار ذلك عادة لهم وسجية. فينبغي أن لا يكترث بأمرهم، وأن لا يصعب ذلك، فهي تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم)، إذ كفروا بما أنزل عليه، لأن ما كان ديدنا للشخص وخلقا، لا ينبغي أن يحتفل بأمره. وقرأ أبو السمال العدوي وغيره: أو كلما بسكون الواو، وخرج ذلك الزمخشري على أن يكون للعطف على الفاسقين، وقدره: وما يكفر بها إلا الذين فسقوا، أو نقضوا عهد الله مرارا كثيرة. وخرجه المهدوي وغيره على أن أو للخروج من كلام إلى غيره، بمنزلة أم المنقطعة، فكأنه قال: بل كلما عاهدوا عهدا، كقول الرجل للرجل، لأعاقبنك، فيقول له: أو يحسن الله رأيك، أي بل يحسن رأيك، وهذا التخريج هو على رأي الكوفيين، إذ يكون أو عندهم بمنزلة بل. وأنشدوا شاهدا على هذه الدعوى قول الشاعر:
* بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
*
وصورتها أو أنت في العين أملح
*
وقد جاء أو بمعنى الواو في قوله:
من بين ملجم مهره أو سافع
وقوله:
صدور رماح أشرعت أو سلاسل
يريد: وشافع وسلاسل.
وقد قيل في ذلك: في قوله خطيئة، أو إثما، أن المعنى: وإنما فيحتمل أن تخرج هذه القراءة الشاذة على أن تكون أو بمعنى الواو، كأنه قيل: وكلما عاهدوا عهدا. وقرأ الحسن وأبو رجاء: أو كلما عوهدوا على البناء للمفعول، وهي قراءة تخالف رسم المصحف. وانتصاب عهدا على أنه مصدر على غيرالصدر، أي معاهدة، أو على أنه مفعول على تضمين
492

عاهد معنى: أعطى، أي أعطوا عهدا. وقرئ: عهدوا، فيكون عهدا مصدرا، وقد تقدم. ما المراد بالعهد في سبب النزول، فأغنى عن إعادته. * (نبذه) *: طرحه، أو نقضه، أو ترك العمل به، أو اعتزله، أو رماه. أقوال خمسة، وهي متقاربة المعنى. ونسبة النبذ إلى العهد مجاز، لأن العهد معنى، والنبذ حقيقة، إنما هو في المتجسدات: * (فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم) *، * (إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) *، فنبذ خاتمه، فنبذ الناس خواتيمهم، * (لنبذ بالعراء) *.
* (فريق منهم) *: الفريق اسم جنس لا واحد له، يقع على القليل والكثير. وقرأ عبد الله: نقضه فريق منهم، وهي قراءة تخالف سواد المصحف، فالأولى حملها على التفسير.
* (بل أكثرهم لا يؤمنون) *: يحتمل أن يكون من باب عطف الجمل، وهو الظاهر، فيكون أكثرهم مبتدأ، ولا يؤمنون خبر عنه، والضمير في أكثرهم عائد على من عاد عليه الضمير في عاهدوا، وهم اليهود. ومعنى هذا الإضراب هو: انتقال من خبر إلى خبر، ويكون الأكثر على هذا واقعا على ما يقع عليه الفريق، كأنه أعم، لأن من نبذ العهد مندرج تحت من لم يؤمن، فكأنه قال: بل الفريق الذي نبذ العهد، وغير ذلك الفريق، محكوم عليه بأنه لا يؤمن. وقيل: يحتمل أن يكون من باب عطف المفردات، ويكون أكثرهم معطوفا على فريق، أي نبذه فريق منهم، بل أكثرهم، يكون قوله: لا يؤمنون، جملة حالية، العامل فيها نبذه، وصاحب الحال هو أكثرهم. ولما كان الفريق ينطلق على القليل والكثير، وأسند النبذ إليه، كان فيما يتبادر إليه الذهن أنه يحتمل أن يكون النابذون قليلا، فبين أن النابذين هم الأكثر، وصار ذكر الأكثر دليلا على أن الفريق هنا لا يراد به اليسير منهم، فكان هذا إضرابا عما يحتمله لفظ الفريق من دلالته على القليل. والضمير في أكثرهم عائد على الفريق، أو على جميع بني إسرائيل. وعلى كلا الاحتمالين، ذكر الأكثر محكوما عليه بالنبذ، أو بعدم الإيمان، لأن بعضهم آمن، ومن آمن فما نبذ العهد. وأجمع المسلمون على أن من كفر بآية من كتاب الله، أو نقض عهد الله الذي أخذه على عباده في كتبه، فهو كافر. * (ولما جاءهم رسول) *: الضمير في جاءهم عائد على بني إسرائيل، أو على علمائهم، والرسول، محمد صلى الله عليه وسلم)، أو عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، أو معناه الرسالة، فيكون مصدرا، كما فسروا بذلك قوله:
* لقد كذب الواشون ما بحت عنده
*
بليلي ولا أرسلتهم برسول
*
أي برسالة، أقوال ثلاثة. والظاهر الأول، لأن الكلام مع اليهود إنما سيق بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم). ألا ترى إلى قوله: * (قل) * قل، و * (فإنه نزله على قلبك) *، * (ولقد أنزلنا إليك) *، فصار ذلك كالالتفات، إذ هو خروج من خطاب إلى اسم غائب، ووصف بقوله: * (من عند الله مصدق) *: تفخيما لشأنه، إذ الرسول على قدر المرسل. ثم وصف أيضا بكونه مصدقا لما معهم، قالوا: وتصديقه أنه خلق على الوصف الذي ذكر في التوراة، أو تصديقه على قواعد التوحيد وأصول الدين وأخبار الأمم والمواعظ والحكم، أو تصديقه: إخباره بأن الذي معهم هو كلام الله، وأنه المنزل على موسى، أو تصديقه: إظهار ما سألوا عنه من غوامض التوراة، أقوال أربعة. وإذا فسر بعيسى، فتصديقه هو بالتوراة، وإذا فسر بالرسالة، فنسبة المجيء والتصديق إلى الرسالة على سبيل التوسع والمجاز. وقرأ ابن أبي عبلة: مصدقا بالنصب على الحال، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله: * (من عند الله) *. * (لما معهم) *: هو التوراة. وقيل: جميع ما أنزل إليهم من الكتب، كزبور داود، وصحف الأنبياء التي يؤمنون بها.
* (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) *: الكتاب الذي أوتوه هو التوراة، وهو مفعول ثان لأتوا، على مذهب الجمهور، ومفعول أول على مذهب السهيلي. وقد تقدم القول في ذلك. * (كتاب الله) *: هو مفعول بنبذ. فقيل: كتاب الله هو التوراة. ومعنى نبذهم له: اطراح أحكامه، أو اطراح ما فيه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إذ الكفر ببعض، كفر بالجميع. وقيل: الإنجيل، ونبذهم له: اطراحه بالكلية. وقيل: القرآن، وهذا أظهر، إذ الكلام مع الرسول. فصار المعنى: أنه يصدق ما بين أيديهم من التوراة، وهم بالعكس، يكذبون ما جاء به من القرآن ويطرحونه. وأضاف الكتاب إلى الله تعظيما له، كما أضاف الرسول إليه بالوصف السابق، فصار ذلك غاية في ذمهم
493

إذ جاءهم من عند الله بكتابه المصدق لكتابهم، وهو شاهد بالرسول والكتاب، فنبذوه * (وراء ظهورهم) *، وهذا مثل يضرب لمن أعرض عن الشيء جملة. تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال الفرزدق:
* تميم بن مر لا تكونن حاجتي
*
بظهر ولا يعيا عليك جوابها
*
وقالت العرب ذلك، لأن ما جعل وراء الظهر فلا يمكن النظر إليه، ومنه: * (واتخذتموه وراءكم ظهريا) *. وقال في المنتخب: النبذ والطرح والإلقاء متقاربة، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما يئس، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين.
* (كأنهم لا يعلمون) *: جملة حالية، وصاحب الحال فريق، والعامل في الحال نبذ، وهو تشبيه لمن يعلم بمن يجهل، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يعتد به، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة. ومتعلق العلم محذوف، أي كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، لا يداخلهم فيه شك لثبوت ذلك عندهم وتحققه، وإنما نبذوه على سبيل المكابرة والعناد. وقال الشعبي: هو بين أيديهم يقرأونه، ولكنهم نبذوا العمل به. وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير، وحلوه بالذهب، ولم يحلوا حلاله، ولم يحرموا حرامه. انتهى كلامه. وقول الشعبي وسفيان يدل على أن كتاب الله هو التوراة. وقال الماوردي: كأنهم لا يعلمون ما أمروا به من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: معناه كأنهم لا يعلمون أنه نبي صادق. وقيل: معناه كأنهم لا يعلمون أن القرآن والتوراة والإنجيل كتب الله، وأن كل واحد منها حق، والعمل به واجب.
* (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) *، معنى تبعوا: أي اقتدوا به إماما، أو فضلوا، لأن من اتبع شيئا فضله، أو قصد واو الضمير في واتبعوا لليهود، فقال ابن زيد والسدي: يعود على من كان في عهد سليمان. وقال ابن عباس: في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: يعود على جميع اليهود. والجملة من قوله: واتبعوا، معطوفة على جميع الجملة السابقة من قوله: ولما جاءهم إلى آخرها، وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبع، وهذا هو الظاهر، لا أنها معطوفة على قوله: نبذه فريق منهم، لأن الاتباع ليس مترتبا على مجيء الرسول، لأنهم كانوا متبعين ذلك قبل مجيء الرسول، بخلاف نبذ كتاب الله، فإنه مترتب على مجيء الرسول. وتتلو: تتبع، قاله ابن عباس، أو تدعي، أو تقرأ، أو تحدث، قاله عطاء، أو تروي، قاله يمان، أو تعمل، أو تكذب، قاله أبو مسلم. وهي أقوال متقاربة. وما موصولة، صلتها تتلو، وهو مضارع في معنى الماضي، أي ما تلت. وقال الكوفيون: المعنى: ما كانت تتلو، لا يريدون أن صلة ما محذوفة، وهي كانت وتتلو، في موضع الخبر، وإنما يريدون أن المضارع وقع موقع الماضي، كما أنك إذا قلت: كان زيد يقوم، هو إخبار بقيام زيد، وهو ماض لدلالة كان عليه. والشياطين: ظاهره أنهم شياطين الجن، لأنه إذا أطلق الشيطان، تبادر الذهن إلى أنه من الجان. وقيل: المراد شياطين الإنس. وقرأ الحسن والضحاك: الشياطون، بالرفع بالواو، هو شاذ، فاسه على قول العرب: بستان فلان حوله بساتون، رواه الأصمعي. قالوا: والصحيح أن هذا الجن فاحش. وقال أبو البقاء: شبه فيه الياء قبل النون بياء جمع الصحيح، وهو قريب من الغلط. وقال السجاوندي: خطأه الخازربجي.
على ملك: متعلق بتتلو، وتلا يتعدى بعلى إذا كان متعلقها يتلى عليه لقوله: يتلى على زيد القرآن، وليس الملك هنا بهذا المعنى، لأنه ليس شخصا يتلى عليه، فلذلك زعم بعض النحويين أن على تكون بمعن في، أي تتلو في ملك سليمان. وقال أصحابنا: لا تكون على في معنى في، بل هذا من التضمين في الفعل ضمن تتقول، فعديت بعلى لأن تقول: تعدى بها، قال تعالى: * (ولو تقول علينا) * ومعنى: * (على ملك سليمان) *، أي شرعه ونبوته وحاله. وقيل: على عهده، وفي زمانه، وهو قريب. وقيل: على كرسي سليمان بعد وفاته، لأنه كان من آلات ملكه. وفسروا ما يتلو الشياطين بالسحر، قالوا: وهو الأشهر والأظهر على ما نقل في أسباب النزول، من أن الشياطين كتبت السحر واختلقته ونسبته إلى سليمان وآصف. وقيل: الذي تلته هو الكذب الذي تضيفه إلى ما تسترق من أخبار السماء، وأضافوا ذلك إلى سليمان تفخيما لشأن ما يتلونه، لأن
494

الذي كان معه: من المعجزات، وإظهار الخوارق، وتسخير الجن والإنس، وتقريب المتباعدات، وتأليف الخواطر، وتكليم العجماوات، كان أمرا عظيما. والساحر يدعي أشياء من هذا النوع: من تسخير الجن، وبلوغ الآمال، والتأثير في الخواطر، بل ويدعي قلب الأعيان على ما يأتي في الكلام على السحر في قوله تعالى: * (يعلمون الناس السحر) *، أو لأنهم كانوا يزعمون أن ملك سليمان إنما حصل بالسحر. وقد ذكر المفسرون في كيفيات ما رتبوه من هذا الذي تلوه قصصا كثيرة، الله أعلم به، ولم تتعرض الآية الكريمة، ولا الحديث المسند الصحيح لشيء منه، فلذلك لم نذكره.
* (وما كفر سليمان) *: تنزيه لسليمان عن الكفر، أي ليس ما اختلقته الجن من نسبة ما تدعيه إلى سليمان تعاطاه سليمان، لأنه كفر، ومن نبأه الله تعالى منزه عن المعاصي الكبائر والصغائر، فضلا عن الكفر. وفي ذلك دليل على صحة نفي الشيء عمن لا يمكن أن يقع منه، لأن النبي لا يمكن أن يقع منه الكفر، ولا يدل هذا على أن ما نسبوه إلى سليمان من السحر يكون كفرا، إذ يحتمل أنهم نسبوا إليه الكفر مع السحر. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود: انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء، وما كان إلا ساحرا. ولم يتقدم في الآيات أن أحدا نسب سليمان إلى الكفر، ولكنها آية نزلت في السبب المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر والعمل به.
* (ولاكن الشياطين كفروا) *: كفرهم، إما بتعليم السحر، وإما تعلمهم به، وإما بتكفيرهم سليمان به، ويحتمل أن يكون كفرهم بغير ذلك. واستعمال لكن هنا حسن، لأنها بين نفي وإثبات. وقرئ: ولكن بالتشديد، فيجب إعمالها، وهي قراءة نافع وعاصم وابن كثير وأبي عمرو. وقرئ: بتخفيف النون ورفع ما بعدها بالابتداء والخبر، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي. وإذا خففت، فهل يجوز إعمالها؟ مسألة خلاف الجمهور على المنع ونقل أبو القاسم بن الرماك عن يونس جواز إعمالها، ونقل ذلك غيره عن الأخفش، والصحيح المنع. وقال الكسائي والفراء: الاختيار، التشديد إذا كان قبلها واو، والتخفيف إذا لم يكن معها واو، وذلك لأنها مخففة تكون عاطفة ولا تحتاج إلى واو معها. كبل: فإذا كانت قبلها واو لم تشبه بل، لأن بل لا تدخل عليها الواو، فإذا كانت لكن مشددة عملت عمل إن، ولم تكن عاطفة. انتهى الكلام. وهذا كله على تسليم أن لكن تكون عاطفة، وهي مسألة خلاف الجمهور على أن لكن تكون عاطفة. وذهب يونس إلى أنها لبيست من حروف العطف، وهو الصحيح لأنه لا يحفظ ذلك من لسان العرب، بل إذا جاء بعدها ما يوهم العطف، كانت مقرونة بالواو كقوله تعالى: * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولاكن رسول الله) *. وأما إذا جاءت بعدها الجملة، فتارة تكون بالواو، وتارة لا يكون معها الواو، كما قال زهير:
* إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره
*
لكن وقائعه في الحرب تنتظر
*
وأما ما يوجد في كتب النحويين من قولهم: ما قام زيد لكن عمرو، وما ضربت زيدا لكن عمرا، وما مررت بزيد لكن عمرو، فهو من تمثيلهم، لا أنه مسموع منا لعرب. ومن غريب ما قيل في لكن: إنها مركبة من كلم ثلاث: لا للنفي، والكاف للخطاب، وأن التي للإثبات والتحقيق، وأن الهمزة حذفت للاستثقال، وهذا قول فاسد، والصحيح أنها بسيطة.
* (يعلمون الناس السحر) *: الضمير في يعلمون اختلف في من يعود عليه، فالظاهر أنه يعود على الشياطين، يقصدون به إغواءهم وإضلالهم، وهو اختيار الزمخشري. وعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال من الضمير في
495

كفروا. قالوا: أو خبرا ثانيا. وقيل: حال من الشياطين. ورد بأن لكن لا تعمل في الحال، وقيل: بدل من كفروا، بدل الفعل من الفعل، لأن تعليم الشياطين السحر كفر في المعنى. والظاهر أنه استئناف إخبار عنهم. وقيل: الضمير عائد على الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين. على اختلاف المفسرين فيمن يعود عليه ضمير اتبعوا، فيكون المعنى: يعلم المتبعون ما تتلو الشياطين الناس، فالناس معلمون للمتبعين. وعلى القول الأول يكونون معلمين للشياطين.
واختلف في حقيقة السحر على أقوال: الأول: أنه قلب الأعيان واختراعها وتغيير صور الناس مما يشبه المعجزات والكرامات، كالطيران وقطع المسافات في ليلة. الثاني: أنه خدع ومخاريق وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها، ويدل عليه، * (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) *. وفي الحديث، حين سحر لبيد بن الأعصم رسول الله صلى الله عليه وسلم): (يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله). وهو قول المعتزلة: يرون أن السحر ليست له حقيقة، ووافقهم أبو إسحاق الاسترأباذي من الشافعية. الثالث: أنه أمر يأخذ بالعين على جهة الحيلة، ومنه: * (سحروا أعين الناس) *، كما روي أن حبالهم وعصيهم كانت مملوءة زئبقا، فسجروا تحتها نارا، فحميت الحبال والعصي، فتحركت وسعت. ولأرباب الحيل والدك والشعوذة من هذا أشياء، يبين كثير منها في الكتاب المسمى (بكشف الدك والشعوذة وإيضاح الشك)، وفي كتاب (إرخاء الستور والكلل في الشعوذة والحيل). وفي الحديث، حين انشق القمر نصفين بمكة، قال أبو جهل: اصبروا حتى يأتي أهل البوادي، فإن لم يخبروا بذلك، كان محمد قد سحر أعيننا، فأتوا فأخبروا بذلك، فقال: ما هذا إلا سحر عظيم. الرابع: أنه نوع من خدمة الجن، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف أجسامهم وهيآتها، فلطف ودق وخفي. الخامس: أنه مركب من أجسام تجمع وتحرق، وتتخذ منها أرمدة ومداد، ويتلى عليها أسماء وعزائم، ثم تستعمل فيما يحتاج إليها م السحر. السادس: أن أصله طلسمات وقلفطريات، تبنى على تأثير خصائص الكواكب، كتأثير الشمس في زئبق عصى فرعون، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسر. السابع: أنه مركب من كلمات ممزوجة بكفر. قال بعض معاصرينا: هذه الأقوال كلها التي قالوها في حقيقة السحر أنواع من أنواع السحر، وقد ضم إليها أنواع أخر من الشعبذة والدك والنارنجيات والأوفاق والعزائم وضروب المنادل والصرع، وما يجري مجرى ذلك. انتهى كلامه. ولا يشك في أن السحر كان موجودا، لنطق القرآن والحديث الصحيح به. وأما في زماننا الآن، فكلما وقفنا عليه في الكتب، فهو كذب وافتراء، لا يترت بعلية شيء، ولا يصح منه شيء البتة. وكذلك العزائم وضرب المندل، والناس الذين يعتقد فيهم أنهم عقلاء، يصدقون بهذه الأشياء، ويصغون إلى سماعها. وقد رأيت بعض من ينتمي إلى العلم، إذا أفلس، وضع كتبا وذكر فيها أشياء من رأسه، وباعها في الأسواق بالدراهم الجيدة. وقد أطلق اسم السحر بعض العلماء على الوشي بين الناس بالنميمة، لأن فيه قلب الصديق عدوا، والحبيب بغيضا. كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذب، لما فيه من الاستمالة، وسمي: سحرا حلالا. وقد روي أن من البيان لسحرا، وقال
496

* وحديثها السحر الحلال لو أنه
*
لم يجن قتل المسلم المنحرز
*
وظاهر قوله: * (يعلمون الناس السحر) *: أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم. وقيل: المعنى يدلونهم على تلك الكتب، فأطلق على الدلالة تعليما، تسمية للمسبب بالسبب. وقيل: المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق، تضر وتنفع، وأن سليمان إنما تم له ما تم بذلك، وهذا أيضا تسمية للمسبب بالسبب. وقيل: يعلمون معناه يعلمون، أي يعلمونهم بما يتعلمون به السحر، أو بمن يتعلمون منه ولم يعلموهم، فهو من باب الإعلام لا من باب التعليم. وأما حكم السحر، فما كان منه يعظم به غير الله من الكواكب والشياطين، وإضافة ما يحدثه الله إليها، فهو كفر إجماعا، لا يحل تعلمه ولا العمل به. وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء. وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك، بل يحتمل، فالظاهر أنه لا يحل تعلمه ولا العمل به. وما كان من نوع التحيل والتخييل والدك والشعبذة، فإن قصد بتعليمه العمل به والتمويه على الناس، فلا ينبغي تعلمه، لأنه من باب الباطل. وإن قصد بذلك معرفته لئلا تتم عليه مخايل السحرة وخدعهم، فلا بأس بتعلمه، أو اللهو واللعب، وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره. روي: لست من دد ولا دد مني. وأما سحر البيان، فما أريد به تأليف القلوب على الخير، فهو السحر الحلال، أو ستر الحق، فلا يجوز تعلمه ولا العمل به. وأما حكم الساحر حدا وتوبة، فقد تعرض المفسرون لذلك، ولم تتعرض إليه الآية، وهي مسألة موضوعها علم الفقه، فتذكر فيه.
* (وما أنزل) *: ظاهره أن ما موصول اسمي منصوب، وأنه معطوف على قوله: السخر، وظاهر العطف التغاير، فلا يكون ما أنزل على الملكين سحرا. وقيل: هو معطوف على ما تتلو الشياطين، أي * (واتبعوا ما تتلوا * الشياطين) *، و * (الذى أنزل) *، وظاهره أن ما علموه الناس، أو ما اتبعوه هو منزل. واختلف في هذا المنزل الذي علم، أو الذي اتبع فقيل: علم السحر أنزل على الملكين ابتلاء من الله للناس، من تعلمه منهم وعمل به كان كافرا، ومن تجنبه أو تعلمه لا يعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا، كما ابتلى قوم طالوت بالنهر، وهذا اختيار الزمخشري. وقال مجاهد وغيره: المنزل هو الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه، وهو دون السحر. وقيل: السحر ليعلم على جهة التحذير منه، والنهي عنه، والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه. وقيل: ما في موضع جر عطفا على ملك سليمان، والمعنى: افتراء على ملك سليمان، وافتراء على ما أنزل على الملكين، وهو اختيار أبي مسلم، وأنكر أن يكون الملكان نازلا عليهما السحر، قال: لأنه كفر، والملائكة معصومون، ولأنه لا يليق بالله إنزاله، ولا يضاف إليه، لأن الله يبطله، وإنما المنزل على الملكين الشرع، وإنهما كانا يعلمان الناس ذلك. وقيل: ما حرف نفي، والجملة معطوفة على * (وما كفر سليمان) *، وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكال بالسحر، فنفى الله ذلك.
* (على الملكين) *: قراءة الجمهور بفتح اللام، وظاهره أنهما ملكان من الملائكة، وقد تقدم الكلام على الملك في قوله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة) *، فقيل: هما جبريل وميكال، كما ذكرناه في هذا القول الأخير. وقيل: ملكان غيرهما وهما: هاروت وماروت. وقيل: ملكان غيرهما، وسيأتي إعراب هاروت وماروت على تقدير هذه الأقوال، إن شاء الله. وقرأ ابن عباس والحسن وأبو الأسود الدؤلي والضحاك وابن ابزي: الملكين، بكسر اللام، فقال ابن عباس: هما رجلان ساحران كانا ببابل، لأن الملائكة لا تعلم الناس السحر. وقال الحسن: هما علجان ببابل العراق. وقال أبو الأسود: هما هاروت وماروت، وهذا موافق لقول الحسن. وقال ابن أبزي: هما داود وسليمان، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام. وقيل: هما شيطانان. فعلى قول ابن أبزي تكون ما نافية، وعلى سائر الأقوال، في هذه القراءة، تكون ما موصولة. ومعنى الإنزال: القذف في قلوبهما.
وقد ذكر المفسرون، في قراءة من قرأ: الملكين بفتح اللام،
497

قصصا كثيرا، تتضمن: أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله به، وأن الله تعالى بكتهم، بأن قال لهم: اختاروا ملكين للهبوط إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت، وركب فيهما الشهوة، فحكما بين الناس، وافتتنا بامرأة، تسمى بالعربية الزهرة، وبالفارسية ميذخت، فطلباها وامتنعت، إلا أن يعبدا صنما، ويشربا الخمر ويقتلا. فخافا على مرهما، فعلماها ما تصعد به إلى السماء وما تنزل به، فصعدت ونسيت ما تنزل به، فمسخت. وأنهما تشفعا بإدريس إلى الله تعالى، فخيرهما في عذاب الدنيا والآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فهما ببابل يعذبان. وذكروا في كيفية عذابهما اختلافا. وهذا كله لا يصح منه شيء. والملائكة معصومون، * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) *، * (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) *، * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) *. ولا يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان يلعن الزهرة ولا ابن عمر. وقيل: سبب إنزال الملكين: أن السحرة كثروا في ذلك الزمان، وادعوا النبوة، وتحدوا الناس بالسخر. فجاء ليعلما الناس السحر، فيتمكنوا من معاوضة السحر، فيتبين كذبهم في دعواهم النبوة، أو لأن المعجزة والسحر ماهيتان متباينتان، ويعرض بينهما الالتباس. فجاء الإيضاح الماهيتين، أو لأن السحر الذي يوقع التفرقة بين أعداء الله وأوليائه كان مباحا، أو مندوبا، فبعثا لذلك، ثم استعمله القوم في التفرقة بين أولياء الله. أو لأن الجن كان عندهم من أنواع السحر ما لم تقدر البشر على مثله، فأنزلا بذلك لأجل المعارضة. وقيل: أنزلا على إدريس، لأن الملائكة لا يكونون رسلا لكافة الناس، ولا بد من رسول من البشر.
* (ببابل) *: قال ابن مسعود: هي في سواد الكوفة. وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين. وقيل: هي جبل دماوند. وقيل: هي بالمغرب. وقيل: في أرض غير معلومة، فيها هاروت وماروت، وسميت ببابل، قال الخليل: لتبلبل الألسنة حين أراد الله أن يخالف بينها، أتت ريح فحشرت الناس إلى بابل، فلم يدر أحد ما يقول الآخر، ثم فرقتهم الريح في البلاد. وقيل: لتبلبل الألسنة بها عند سقوط قصر نمروذ. * (هاروت وماروت) *: قرأ الجمهور: بفتح التاء، وهما بدل من الملكين، وتكون الفتحة علامة للجر لأنهما لا ينصرفان، وذلك إذا قلنا إنهما إسمان لهما. وقيل: بدل من الناس، فتكون الفتحة علامة للنصب، ولا يكون هاروت وماروت اسمين للملكين. وقيل: هما قبيلتان من الشياطين، فعلى هذا يكونان بدلا من الشياطين، وتك ن الفتحة علامة للنصب، على قراءة من نصب الشياطين. وأما من رفع الشياطين، فانتصابهما على الذم، كأنه قال: أذم هاروت وماروت، أي هاتين القبيلتين، كما قال الشاعر:
* أقارع عوف لا أحاول غيرها
*
وجوه قرود تبتغي من تخادع
*
وهذا على قراءة الملكين، بفتح اللام. وأما من قرأ بكسرها، فيكونان بدلا من الملكين، إلا إذا فسرا بداود وسليمان عليهما السلام، فلا يكون هاروت وماروت بدلا منهما، ولكن يتعلقان بالشياطين على الوجهين اللذين ذكرنا في رفع الشياطين ونصبه. وقرأ الحسن والزهري: هاروت وماروت بالرفع، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوف، أي هما هاروت وماروت، إن كانا ملكين. وجاز أن يكونا بدلا من الشياطين، الأول أو الثاني، على قراءة من رفعه، إن كانا شيطانين. وتقدم لنا القول في هاروت وماروت، وأنهما أعجميان. وزعم بعضهم أنهما مشتقان من الهرت والمرت، وهو الكسر، وقوله خطأ، بدليل منعهم الصرف لهما، ولو كانا، كما زعم، لانصرفا، كما انصرف جاموس إذا سميت به. واختصت بابل بالإنزال لأنها كانت أكثر البلاد سحرا.
* (وما يعلمان من أحد) *: قرأ الجمهور: بالتشديد، من علم على بابها من التعليم. وقالت طائفة: هو هنا بمعنى يعلمان التضعيف، والهمزة بمعنى واحد، فهو من باب الإعلام، ويؤيده قراءة طلحة بن مصرف. وما يعلمان: من أعلم قال: لأن الملكين إنما نزلا
498

يعلمان السحر وينهيان عنه. والضمير في يعلمان عائد على الملكين، أي وما يعلم الملكان. وكذلك قراءة أبي، أي بإظهار الفاعل لا إضماره. وقيل: عائد على هاروت وماروت، ففي القول الأول يكون عائدا على المبدل منه، وفي الثاني على البدل، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس، لأن أحدا من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام، فزيدت هنا لتأكيد ذلك، بخلاف قولك: ما قام من رجل، فإنها زيدت لاستغراق الجنس، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين، لأنهم شرطوا أن يكون بعدها نكرة، وأن يكون قبلها غير واجب. وقد أمعنا الكلام على زيادة من في (كتاب منهج السالك) من تأليفنا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد، والأول أظهر. * (حتى يقولا * حتى * يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة) *. وقال أبو البقاء: حتى هنا بمعنى إلا أن، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحدا من المتقدمين ذكره. وقد ذكره ابن مالك في (التسهيل) وأنشد عليه في غيره:
* ليس العطاء من الفضول سماحة
*
حتى تجود وما لديك قليل
*
قال: يريد إلا أن تجود، وما في * (إنما) * كافة، لأن عن العمل، فيصير من حروف الابتداء. وقد أجاز بعض النحويين عمل إن مع وجود ما، نحو: إنما زيدا قائم. * (نحن فتنة) *: أي ابتلاء واختبار.
* (فلا تكفر) *: قال علي رضي الله عنه: كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه، كأنهما يقولان: لا تفعل كذا، كما لو سأل سائل عن صفة الزنا، أو القتل، فأخبر بصفته ليجتنبه. فكان المعنى في يعلمان: يعلمان. وقال الزمخشري: فلا تكفر: فلا تتعلم، معتقدا أنه حق فتكفر. وحكى المهدوي: أن قولهما * (إنما نحن فتنة) *، فلا تكفر استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله. وقال في (المنتخب) قوله: * (إنما نحن فتنة) * توكيد لقبول الشرع والتمسك به، فكانت طائفة تمثيل وأخرى تخالف. وقيل: فلا تكفر، أي لا تستعمله فيما نهيت عنه، ولكن إذا وقفت عليه فتحرز من أن ينفذ لساحر عليك تمويه. وقيل: فلا تفعله لتعمل به. وهذا على قول من قال: تعلمه جائز والعمل به كفر. وقيل: فلا تكفر بتعليم السحر، وهذا على قول من قال: إن تعلمه كفر. وقيل: فلا تكفر بنا، وهذا على قول: إن الملكين نزلا من السماء بالسحر، وإن من تعلمه في ذلك الوقت كان كافرا، ومن تركه كان مؤمنا، كما جاء في نهر طالوت، وقد تقدم ما حكاه المهدوي إن قولهما: فلا تكفر، على سبيل الاستهزاء، لا على سبيل النصيحة. وقوله: حتى يقولا مطلقا في القول، وأقل ما يتحقق بالمرة الواحدة، فقيل مرة، وقيل سبع مرات، وقيل تسع مرات، وقيل ثلاث. ويحتاج ذلك إلى صحة نقل، وإن لم يوجد، فيكون محتملا، والمتحقق المرة الواحدة. واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما، فقال مجاهد: هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد، ويختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافه واحدة، فيتعلمان منهما ما يفرقان به بين المرء وزوجه. والظاهر أن هاروت وماروت هما اللذان يباشران التعليم لقوله: * (وما يعلمان) *. وقد ذكر المفسرون قصصا فيما يعرض من المحاورة بين الملكين وبين من جاء ليتعلم منهما، وفي كل من ذلك القصص أنهما يأمرانه بأن يبول في تنور. فاختلفوا في الإيمان الذي يخرج منه، أيرى فارسا مقنعا بحديد يخرج منه حتى يغيب في السماء؟ أو نورا خرج من رماد يسطع حتى يدخل السماء؟ أو طائرا خرج من بين ثيابه وطار نحو السماء؟ وفسروا ذلك الخارج بأنه الإيمان. وهذا كله شيء لا يصح البتة، فلذلك لخصنا منه شيئا، وإن كان لا يصح، حتى لا نخلي كتابنا مما ذكروه.
* (فيتعلمون) *: قاله الفراء،
499

واختاره الزجاج، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام، كأنه قال: فيأبون فيتعلمون. وقال الفراء أيضا: هو عطف على * (يعلمون الناس السحر) *، * (فيتعلمون منهما) *. وأنكره الزجاج بسبب لفظ الجمع في يعلمون، وقد قال منهما. وأجازه أبو علي وغيره، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون، وإن كان التعليم
من الملكين خاصة، والضمير في منهما راجع إليهما، لأن قوله: فيتعلمون منهما، إنما جاء بعد ذكر الملكين. وقال سيبويه: هو معطوف على كفروا، قال: وارتفعت فيتعلمون، لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر، فيتعلموا ليجعلا كفره سببا لتعلم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلمون. يريد سيبويه: أن فيتعلمون ليس بجواب لقوله: فلا تكفر، فينصب كما نصب * (لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) *، لأن كفر من نهي أن يكفر في الآية، ليس سببا لتعلم من يتعلم. وكفروا: في موضع فعل مرفوع، فعطف عليه مرفوع، ولا وجه لاعتراض من اعترض في العطف على كفروا، أو على يعلمون، بأن فيه إضمار الملكين. قيل: ذكرهما من أجل أن التقدير: * (ولاكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما) *، لأن قوله: * (فيتعلمون منهما) * إنما جاء بعد ذكر الملكين، كما تقدم. وقد نقل عن سيبويه أن قوله: فيتعلمون، هو على إضمارهم، أي فهم يتعلمون، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها عطف الجمل، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفا على يعلمان، والضمير الذي في فيتعلمون لأحد، وجمع حملا على منفى، فذلك المنفي هو موجب في المعنى، لأن معناه: إنهما يعلمان كل واحد، إذا قالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر. وذكر الزجاج هذا الوجه. وقال الزجاج أيضا: الأجود أن يكون عطفا على يعلمان فيتعلمون، واستغنى عن ذكر يعلمان، بما في الكلام من الدليل عليه. وقال أبو علي: لا وجه لقول الزجاج استغنى عن ذكر يعلمان، لأنه موجود في النص. انتهى كلام أبي علي، وهو كلام فيه مغالطة، لأن الزجاج لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان، الداخل عليها ما النافية في قوله: ولا ما يعلمان، فيكون يعلمان موجودا في النص، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لا منفية. وهذا الذي قدره الزجاج ليس موجودا في النص. وحمل أبا علي على هذه المغالطة حب رده على الزجاج وتخطئته، لأنه كان مولعا بذلك. وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس. انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف، وأكثره كلام المهدوي، لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك. وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقدير: فيأبون فيتعلمون، أو يعلمان فيتعلمون، أي على مثبت، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يتعلمون عطف جملة اسمية على فعلية، أو معطوفا على يعلمون الناس، أو معطوفا على كفروا، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى. فتلك أقوال ستة، أقر بها إلى اللفظ هذا القول الأخير.
* (منهما) *: الضمير في الظاهر عائد على الملكين، أي فيتعلمون من الملكين، سواء قرىء بفتح اللام، أو كسرها. وقيل: يعود على السحر، وعلى الذي أنزل على الملكين، وقيل: عائد على الفتنة والكفر، الذي هو مصدر مفهوم من قوله: * (فلا تكفر) *، وهذا قول أبي مسلم، والتقدير عنده: فيتعلمون من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه. * (ما يفرقون به) *: ما موصولة، وجوز أن تكون نكرة موصوفة، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأجل عود الضمير عليها. والمصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف في قول الجمهور، والذي يفرق به هو السحر. وعني بالتفريق: تفريق الألفة والمحبة، بحيث تقع الشحناء والبغضاء فيفترقان، أو تفريق الدين، بحيث إذا تعلم فقد كفر وصار مرتدا، فيكون ذلك مفرقا بينهما.
* (بين المرء) *: قراءة الجمهور بفتح الميم وسكون الراء والهمز. وقرأ الحسن والزهري وقتادة: المر بغير همز مخففا. وقرأ ابن أبي إسحاق: المرء بضم الميم والهمزة. وقرأ الأشهب العقيلي: المرء بكسر الميم والهمز، ورويت عن الحسن. وقرأ الزهري أيضا: المر بفتح الميم وإسقاط الهمز وتشديد الراء فأما فتح
500

الميم وكسرها وضمها فلغات، وأما المر بكسر الراء فوجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء، وحذف الهمزة، وأما تشديدها بعد الحذف، فوجهه أنه نوى الوقف فشدد، كما روي عن عاصم: مستطر بتشديد الراء في الوقف، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فأقرها على تشديدها فيه. * (وزوجه) *: ظاهره أنه يريد به امرأة الرجل. وقيل الزوج هنا: الأقارب والإخوان، وهم الصنف الملائم للإنسان، ومنه من كل زوج بهيج، * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) *.
* (وما هم بضارين به) *: الضمير الذي هو: هم عائد على السحرة الذين عاد عليهم ضمير فيتعلمون. وقيل: على اليهود الذين عاد عليهم ضمير واتبعوا. وقيل: على الشياطين. وبضارين: في موضع نصب على أن ما حجازية، أو في موضع رفع على أن ما تميمية. والضمير في به عائد على ما في قوله: * (ما يفرقون) *. وقرأ الجمهور: بإثبات النون في بضارين. وقرأ الأعمش: بحذفها، وخرج ذلك على وجهين: أحدهما: أنها حذفت تخفيفا، وإن كان اسم الفاعل في صلة الألف واللام. والثاني: أن حذفها لأجل الإضافة إلى أحد، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو به، كما قال:
هما أخوا في الحرب من لا أخا له
وكما قال:
كما خط الكتاب بكف يوما يهودي
وهذا اختيار الزمخشري، ثم استشكل ذلك، لأن أحدا مجرور بمن، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة؟ فقال: فإن قلت: كيف يضاف إلى أحد، وهو مجرور بمن؟ قلت: جعل الجار جزءا من المجرور. انتهى. وهذا التخريج ليس بجيد، لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، والجار والمجرور من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه، لأنه مشغول بعامل جر، فهو المؤثر فيه لا الإضافة. وأما جعل حرف الجر جزءا من المجرور، فهذا ليس بشيء، لأنه مؤثر فيه. وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء، والأجود التخريج الأول، لأن له نظيرا في نظم العرب ونثرها. فمن النثر قول العرب، قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا، يريدون: ثنتان ومائتان.
* (من أحد) *، من زائدة، واحد: مفعول بضارين. ومن تزاد في المعفول، إلا أن المعهود زيادتها في المفعول الذي يكون معمولا للفاعل الذي يباشره حرف النفي نحو: ما ضربت من رجل، وما ضرب زيد من رجل. وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة من الفعل والفاعل، لأن المعنى: وما يضرون من أحد.
* (إلا بإذن الله) *: مستثنى مفرغ من الأحوال، فيحتمل أن يكون حالا من الضمير الفاعل في قوله: * (بضارين) *، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول الذي هو: * (من أحد) *، ويحتمل أن يكون حالا من به، أي السحر المفرق به، ويحتمل أن يكون حالا من الضرر المصدر المعرف
501

المحذوف. والإذن هنا فسر الوجوه التي ذكرناها عند الكلام على المفردات. فقال الحسن: الإذن هنا: هو التخلية بين المسحور وضرر السحر. وقال الأصم: العلم. وقال غيره: الخلق، ويضاف إلى إذنه كقوله: * (كن فيكون) * وقيل: الأمر، قيل: والإذن حقيقة فيه، واستبعد ذلك، لأن الله لا يأمر بالسحر، ولأنه ذمهم على ذلك. وأول معنى الأمر فيه بأن يفسر التفريق بالصيرورة. كافرا فإن هذا حكم شرعي، وذلك لا يكون إلا بأمر الله. وفي هذه الجملة دليل على أن ما يتعلمون له تأثير وضرر، لكن ذلك لا يضر إلا بإذن الله، لأنه ربما أحدث الله عنده شيئا، وربما لم يحدث.
* (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) *: لما ذكر أنه يحصل به الضرر لمن يفرق بينهما، ذكر أيضا أن ضرره لا يقتصر على من يفعل به ذلك، بل هو أيضا يضر من تعلمه. ولما كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النفع، لأنه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر ويحصل به النفع، نفى النفع عنه بالكلية، وأتى بلفظ لا، لأنها ينفي بها الحال والمستقبل. والظاهر أن * (ولا ينفعهم) * معطوف على * (يضرهم) *، وكلا الفعلين صلة لما، فلا يكون لها موضع من الإعراب. وجوز بعضهم أن يكون لا ينفعهم على إضمار هو، أي وهو لا ينفعهم، فيكون في موضع رفع، وتكون الواو للحال، فتكون جملة حالية، وهذا ضعيف. وقد قيل: الضرر وعدم النفع مختص بالآخرة. وقيل: هو في الدنيا والآخرة، فإن تعلمه، إن كان غير مباح، فهو يجر إلى العمل به، وإلى التنكيل به، إذا عثر عليه، وإلى أن ما يأخذه عليه حرام هذا في الدنيا. وأما في الآخرة فلما يترتب عليه من العقاب. * (ولقد علموا) *: الضمير عائد قيل: على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام، وكانوا حاضرين استخراج الشياطين السحر ودفنه، أو أخذ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيه، ولما أخرجوه بعد موته قالوا: والله ما هذا من عمل سليمان ولا من دخائزه. وقيل: عائد على من بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم) من اليهود. وقيل: عائد على اليهود قاطبة، أي علموا ذلك في التوراة. وقيل: عائد على علماء اليهود. وقيل: عائد على الشياطين. وقيل: على الملكين، لأنهما كانا يقولان لمن يتعلم الحسر: فلا تكفر، فقد علموا أنه لا خلاق له في الآخرة. وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك. وعلم: هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين، وعلقت عن الجملة، ويحتمل أن يكون المتعدية لمفعول واحد، وعلقت أيضا كما علقت عرفت. والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها. واللام في: * (لمن اشتراه) * هي لام الابتداء، وهي المانعة من عمل علم، وهي أحد الأسباب الموجبة للتعليق، وأجازوا حذفها، وهي باقية على منع العمل، وخرجوا على ذلك.
إني وجدت ملاك الشيمة الأدب
يريد لملاك الشيمة. ومن هنا موصولة، وهي مرفوعة بالابتداء. والجملة من قوله: * (ما له فى الاخرة من خلاق) * في موضع الخبر. واللام في لقد للقسم. هذا مذهب سيبويه وأكثر النحويين. وجملة * (ولقد علموا) * مقسم عليها التقدير: والله لقد علموا. والجملة الثانية عنده غير مقسم عليها. وأجاز الفراء أن تكون الجملتان مقسما عليهما، وتكون من للشرط، وتبعه في ذلك الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء: اللام في * (لمن اشتراه) * هي التي يوطأ بها القسم مثل: * (لئن لم تنته) *، ومن في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط وجواب القسم ماله في الآخرة من خلاق. انتهى كلامه. فاشتراه في القول الأول صلة، وفي هذا القول خبر عن من، ويكون إذ ذاك جواب الشرط محذوفا يدل عليه جواب القسم، لأنه اجتمع قسم وشرط، ولم يتقدمهما ذو خبر، فكان الجواب للسابق، وهو القسم، ولذلك كان فعل الشرط ماضيا في اللفظ. هذا هو تقرير هذا القول وتوضيحه. وفي كلا القولين يكون: لمن اشتراه، في موضع نصب
502

بيعلموا. وقد نقل عن الزجاج رد قول من قال من شرط، وقال هذا ليس موضع شرط، ولم ينقل عنه توجيه، كونه ليس موضع شرط. وأرى المانع من ذلك أن الفعل الذي يلي من هو ماض لفظا ومعنى، لأن الاشتراء قد وقع، وجعله شرطا لا يصح، لأن فعل الشرط إذا كان ماضيا لفظا، فلا بد أن يكون مستقبلا في المعنى. فلما كان كذلك، كان ليس موضع شرط. والضمير المنصوب في اشتراه عائد على السحر، أو الكفر، أو كتابهم الذي باعوه بالسحر، أو القرآن، لأنه تعوضوا عنه بكتب السحر، أقوال أربعة. والخلاق: النصيب، قاله مجاهد، أو الدين، قاله الحسن؛ أو القوام، قاله ابن عباس، أو الخلاص، أو القدر، قاله قتادة؛ أقوال خمسة.
* (ولبئس ما شروا به أنفسهم) *: تقدم القول في بئس، وفي ما الواقعة بعدها، ومعناه: ذم ما باعوا به أنفسهم. والضمير في به عائد على السحر، أو الكفر. والمخصوص بالذم محذوف تقديره: على أحسن الوجوه التي تقدمت في بئسما السحر، أو الكفر. والضمير في: شروا، ويعلمون، باتفاق لليهود. فمتى فسر الضمير في ولقد علموا بأنه عائد على الشياطين، أو اليهود الذين كانوا بحضرة سليمان، وفي زمانه، أو الملكين بفتح اللام، أو بكسرها، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم. وإن اتحد المسند إليه، أول العلم الثاني بالعقل، لأن العلم من ثمرته، فلما انتفى الأصل، نفى ثمرته. أو بالعمل، لأنه من ثمرة العلم، فلما انتفت الثمرة، جعل ما ينشأ عنه منفيا، أو أول متعلق العلم، وهو المحذوف، أي علموا ضرره في الآخرة، ولم يعلموا نفعه في الدنيا. أو علموا نفي الثواب، ولم يعلموا استحقاق العذاب. وجواب لو محذوف تقديره: * (لو كانوا يعلمون) *. ذم ذلك لما باعوا أنفسهم. * (ولو أنهم ءامنوا واتقوا) *: قد تقدم الكلام في لو وأقسامها، وهي هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، ويأتي الكلام على جوابها إن شاء الله. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون قوله: * (ولو أنهم ءامنوا) * تمنيا لإيمانهم، على سبيل المجاز، عن إرادة الله، إيمانهم واختيارهم له، كأنه قيل: وليتهم آمنوا، ثم ابتدىء: * (لمثوبة من عند الله خير) *، انتهى. فعلى هذا لا يكون للجواب لازم، لأنها قد تجاب إذا كانت للتمني بالفاء، كما يجاب ليت. إلا أن الزمخشري دس في كلامه هذا، ويحرجه مذهبه الاعتزالي، حيث جعل التمني كناية عن إرادة الله، فيكون المعنى: إن الله أراد إيمانهم، فلم يقع مراده، وهذا هو عين مذهب الاعتزال، والطائفة الذين سموا أنفسهم عدلية:
* قالوا يريد ولا يكون مراده
*
عدلوا ولكن عن طريق المعرفة
*
وأنهم آمنوا، يتقدر بمصدر كأنه قيل: ولو إيمانهم، وهو مرفوع. فقال سيبويه: هو مرفوع بالابتداء، أي ولو إيمانهم ثابت. وقال المبرد: هو مرفوع على الفاعلية، أي ولو ثبت إيمانهم. ففي كل من المذهبين حذف للمسند، وإبقاء المسند إليه. والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو، والضمير في أنهم لليهود، أو الذين يعلمون السحر، قولان. والإيمان والتقوى: الإيمان التام، والتقوى الجامعة لضروبها، أو الإيمان بمحمد وبما جاء به، وتقوى الكفر والسحر، قولان متقاربان.
* (لمثوبة) *: اللام لام الابتداء، لا الواقعة في جواب لو، وجواب لو محذوف لفهم المعنى، أي لا ثيبوا، ثم ابتدأ على طريق الإخبار الاستئنافي، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم، وترتبه عليهما، هذا قول الأخفش، أعني أن الجواب محذوف. وقيل: اللام هي الواقعة في جواب لو، والجواب: هو قوله: * (لمثوبة) *، أي الجملة الإسمية. والأول اختيار الراغب، والثاني اختيار الزمخشري. قال: أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية في
503

جواب لو لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع في: سلام عليكم لذلك، انتهى كلامه. ومختاره غير مختار، لأنه لم يعهد في لسان العرب وقوع الجملة الابتدائية جوابا للو، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه. ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل، وليس مثل سلام عليكم، لثبوت رفع سلام عليكم من لسان العرب. ووجه من أجاز ذلك قوله: بأن مثوبة مصدر يقع للماضي والاستقبال، فصلح لذلك من حيث وقوعه للمضي. وقد تكلمنا على هذه المسألة في (كتاب التكميل) من تأليفنا، بأشبع من هذا. وقرأ الجمهور: لمثوبة بضم الثاء، كالمشورة. وقرأ قتادة وأبو السمال وعبد الله بن بريدة: بسكون الثاء، كمشورة. ومعنى قوله: لمثوبة، أي لثواب، وهو الجزاء والأجر على الإيمان والتقوى بأنواع الإحسان. وقيل: لمثوبة: لرجعة إلى الله خير.
* (من عند الله) *: هذا الجار والمجرور في موضع الصفة، أي كائنة من عند الله. وهذا الوصف هو المسوغ لجواز الابتداء بالنكرة. وفي وصف المثوبة بكونها من عند الله، تفخيم وتعظيم لها، ولمناسبة الإيمان والتقوى. لذلك، كان المعنى: أن الذي آمنتم به واتقيتم محارمه، هو الذي ثوابكم منه على ذلك، فهو المتكفل بذلك لكم. واكتفى بالتنكير في ذلك، إذ المعنى لشيء من الثواب.
قليلك لا يقال له قليل
* (خير) * خبر لقوله: لمثوبة، وليس خير هنا أفعل تفضيل، بل هي للتفضيل، لا للأفضلية. فهي كقوله: * (أفمن يلقى في النار خير وخير مستقرا.
فشركما لخيركما الفداء
* (لو كانوا يعلمون) *: جواب لو محذوف: التقدير: لو كانوا يعلمون لكان تحصيل المثوبة خيرا، ويعني سبب المثوبة، وهو الإيمان والتقوى. ولذلك قدره بعضهم لآمنوا، لأن من كان ذا علم وبصيرة، لم يخف عليه الحق، فهو يسارع إلى اتباعه، ولا الباطل، فهو يبالغ في اجتنابه. ومفعول يعلمون محذوف اقتصارا، فالمعنى: لو كانوا من ذوي العلم، أو اختصارا، فقدره بعضهم: لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك، وقدره بعضهم: لو كانوا يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى. وقيل: العلم هنا كناية عن العمل، أي لو بعلمهم، ولما انتقت ثمرة العلم الذي هو العمل، جعل العلم هنا كناية عن العمل، أي لو كانوا يعلمون بعلمهم، ولما انتفت ثمرة العلم الذي هو العمل، جعل العلم منتفيا.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة ما كان عليه اليهود من خبث السريرة، وعدم التوفيق والطواعية لأنبياء الله، ونصب المعاداة لهم، حتى انتهى ذلك إلى عداوتهم من لا يلحقه ضرر عداوتهم، وهو من لا ينبغي أن يعادى، لأنه السفير بين الله وبين خلقه، وهو جبريل. أتى بالقرآن المصدق لكتابهم، والمشتمل على الهدى والبشارة لمن آمن به، فكان ينبغي المبادرة إلى ولائه ومحبته. ثم أعقب ذلك بأن من كان عدوا لله، أي مخالفا لأمره وملائكته ورسله، أي مبغضا لهم، فالله عدوه، أي معامله بما يناسب فعله القبيح. ثم التفت إلى رسوله بالخطاب، فأخبره بأنه أنزل عليه آيات واضحات، وأنها لوضوحها، لا يكفر بها إلا متمرد في فسقه. ثم أخذ يسليه بأن عادة هؤلاء نكث عهودهم، فلا تبال بمن طريقته هذه، وأنهم سلكوا هذه الطريقة معك، إذ أتيتهم من عند الله تعالى بالرسالة، فنبذوا كتابه تعالى وراء ظهورهم، بحيث صاروا لا ينظرون فيه، ولا يلتفتون لما انطوى عليه من التبشير بك، وإلزامهم اتباعك، حتى كأنهم لم يطلعوا على الكتاب، ولا سبق لهم بك علم منه. ثم ذكر من مخازيهم أنهم تركوا كتاب الله واتبعوا ما ألقت إليهم الشياطين من كتب السحر على عهد
504

سليمان. ثم نزه نبيه سليمان عن الكفر، وأن الشياطين هم الذين كفروا. ثم استطرد في أخبار هاروت وماروت، وأنهما لا يعلمان أحدا حتى ينصحاه بأنهما جعلا ابتلاء واختبارا، وأنهما لمبالغتهما في النصيحة ينهيان عن الكفر. ثم ذكر أن قصارى ما يتعلمون منهما هو تفريق بين المرء وزوجه. ثم ذكر أن ضرر ذلك لا يكون إلا بإذن من الله تعالى، لأنه تعالى هو الضار النافع. ثم أثبت أن ما يتعلمون هو ضرر لملابسة ومتعلمه. ثم أخبر أنهم قد علموا بحقيقة الضرر، وإن متعاطي ذلك لا نصيب له في الآخرة. ثم بالغ في ذم ما باعوا به أنفسهم، إذ ما تعوضوه مآله إلى الخسران.
ثم ختم ذلك بما لو سلكوه، وهو الإيمان والتقوى، لحصل لهم من الله الثواب الجزيل على ذلك، وأن جميع ما اجترموه من المآتم، واكتسبوه من الجرائم، يعفي على آثاره جر ذيل الإيمان، ويبدل بالإساءة جميل الإحسان. ولما كانت الآيات السابقة فيها ما يتضمن الوعيد من قوله: * (فإن الله عدو للكافرين) *، وقوله: * (وما
يكفر بها إلا الفاسقون) *، وذكر نبذ العهود، ونبذ كتاب الله، واتباع الشياطين، وتعلم ما يضر ولا ينفع، والإخبار عنهم بأنهم علموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة، أتبع ذلك بآية تتضمن الوعد الجميل لمن آمن واتقى. فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد، والترغيب والترهيب، والإنذار والتبشير، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء، وإخبار بمغيب بعد مغيب، متناسقا تناسق اللآلىء في عقودها، متضحة اتضاح الدراري في مطالع سعودها، معلمة صدق من أتى بها، وهو ما قرأ الكتب، ولا دارس، ولا رحل، ولا عاشر الأحبار، ولا مارس * (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى * علمه شديد القوى) * صلى الله عليه وأوصل أزكى تحية إليه.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم * ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم * ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير * أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سوآء السبيل * ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره إن الله على كل شىء قدير * وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير * وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * وقالت اليهود ليست النصارى على شىء وقالت النصارى ليست اليهود على شىء وهم يتلون الكتاب كذالك قال الذين
505

لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) *))
) *
الرعاية والمراعاة: النظر في مصالح الإنسان وتدبير أموره. والرعونة والرعن: الجهل والهوج. ذو: يكون بمعنى صاحب، وتثنى، وتجمع، وتؤنث، وتلزم الإضافة لاسم جنس ظاهر. وفي إضافتها إلى ضمير الجنس خلاف، المشهور: المنع، ولا خلاف أنه مسموع، لكن من منع ذلك خصه بالضرورة. وإضافته إلى العلم المقرون به في الوضع، أو الذي لا يقرن به في أول الوضع مسموع. فمن الأول قولهم: ذو يزن، وذو جدن، وذو رعين، وذو الكلاع. فتجب الإضافة إذ ذاك. ومن الثاني قولهم: في تبوك، وعمرو، وقطرى: ذو تبوك، وذو عمرو، وذو قطري. والأكثر أن لا يعتد بلفظ ذو، بل ينطق بالاسم عاريا من ذو. وما جاء من إضافته لضمير العلم، أو لضمير مخاطب لا ينقاس، كقولهم: اللهم صل على محمد وعلى ذويه، وقول الشاعر:
* وإنا لنرجو عاجلا منك مثل ما
*
رجوناه قدما من ذويك الأفاضل
*
ومذهب سيبويه: أن وزنه فعل، بفتح العين، ومذهب الخليل: أن وزنه فعل، بسكونها. واتفقوا على أنه يجمع في التكسير على أفعال. قالوا: أذواء وذو من الأسماء الستة التي تكون في الرفع بالواو، وفي النصب بالألف، وفي الجر بالياء. وإعراب ذو كذا لازم بخلاف غيرها من تلك الأسماء، فذلك على جهة الجواز. وفيما أعربت به هذه الأسماء عشرة مذاهب ذكرت في النحو، وقد جاءت ذو أيضا موصولة، وذلك في لغة طيء، ولها أحكام، ولم تقع في القرآن. النسخ: إزالة الشيء بغير بدل يعقبه، نحو: نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الأثر. أو نقل الشيء من غير إزالة نحو: نسخت الكتاب، إذا نقلت ما فيه إلى مكان آخر. النسيئة: التأخير، نسأ ينسأ، ويأتي نسأ: بمعنى أمضى الشيء، قال الشاعر:
* لمؤن كألواح الإران نسأتها
*
على لاحب كأنه ظهر برجد
*
الولي: فعيل للمبالغة، من ولي الشيء: جاوره ولصق به. الحسد: تمني زوال النعمة عن الإنسان، حسد يحسد حسدا وحسادة. الصفح: قريب معناه من العفو، وهو الإعراض عن المؤاخذة على الذنب، مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضا. وقيل: هو التجاوز من قولك، تصفحت الورقة، أي تجاوزت عما فيها. والصفوح، قيل: من أسماء الله، والصفوح: المرأة تستر بعض وجهها إعراضا، قال:
* صفوح فما تلقاك إلا بخيلة
*
فمن مل منها ذلك الوصل ملت
*
تلك: من أسماء الإشارة، يطلق على المؤنثة في حالة البعد، ويقال: تلك وتيلك وتالك، بفتح التاء وسكون
506

اللام، وبكسرها وياء بعدها، وكسر اللام وبفتحها، وألف بعدها وكسر اللام، قال:
* إلى الجودي حتى صار حجرا
*
وحان لتالك الغمر انحسارا
*
هاتوا: معناه أحضروا، والهاء أصلية لا بدل من همزة أتى، لتعديها إلى واحد لا يحفظ هاتي الجواب، وللزوم الألف، إذ لو كانت همزة لظهرت، إذ زال موجب إبدالها، وهو الهمزة قبلها، فليس وزنها أفعل، خلافا لمن زعم ذلك، بل وزنها فاعل كرام. وهي فعل، خلافا لمن زعم أنها اسم فعل، والدليل على فعليتها اتصال الضمائر بها. ولمن زعم أنها صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر، وهو الزمخشري، وهو أمر وفعله متصرف. تقول: هاتي بهاتي مهاتاة، وليس من الأفعال التي أميت تصريف لفظه إلا الأمر منه، خلافا لمن زعم ذلك. وليست ها للتنبيه دخلت على أتى فألزمت همزة أتى الحذف، لأن الأصل أن لا حذف، ولأن معنى هات ومعنى ائت مختلفان. فمعنى هات أحضر، ومعنى ائت أحضر. وتقول: هات هاتي هاتيا هاتوا هاتين، تصرفها كرامي. البرهان: الدليل على صحة الدعوى، قيل: هو مأخوذ من البره، وهو القطع، فتكون النون زائدة. وقيل: من البرهنة، وهي البيان، قالوا: برهن إذا بين، فتكون النون زائدة لفقدان فعلن ووجود فعلل، فينبني على هذا الاشتقاق. التسمية ببرهان، هل ينصرف أو لا ينصرف؟ الوجه: معروف، ويجمع قلة على أوجه، وكثرة على وجوه، فينقاس أفعل في فعل الاسم الصحيح العين، وينقاس فعول في فعل الاسم ليس عينه واوا. اليهود: ملة معروفة، والياء أصلية، فليست مادة الكملة مادة هود من قوله: * (هودا أو نصارى) *، لثبوتها في التصريف يهده. وأما هوده فمن مادة هود. قال الأستاذ أبو علي الشلوبين، وهو الإمام الذي انتهى إليه علم اللسان في زمانه: يهود فيها وجهان، أحدهما: أن تكون جمع يهودي، فتكون نكرة مصروفة. والثاني: أن تكون علما لهذه القبيلة، فتكون ممنوعة الصرف. انتهى كلامه. وعلى الوجه الأول دخلته الألف واللام فقالوا: اليهود، إذ لو كان علما لما دخلته، وعلى الثاني قال الشاعر:
* أولئك أولى من يهود بمدحة
*
إذا أنت يوما قلتها لم تؤنب
*
ليس: فعل ماض، خلافا لأبي بكر بن شقير، وللفارسي في أحد قوليه، إذ زعما أنها حرف نفي مثل ما، ووزنها فعل بكسر العين. ومن قال: لست بضم اللام، فوزنها عنده فعل بضم العين، وهو بناء نادر في الثلاثي اليائي العين، لم يسمع منه إلا قولهم: هيؤ الرجل، فهو هيىء، إذا حسنت هيئته. وأحكام ليس كثيرة مشروحة في كتب النحو. الحكم: الفصل، ومنه سمي القاضي: الحاكم، لأنه يفصل بين الخصمين. الاختلاف: ضد الاتفاق.
* (ذلك بأن الذين كفروا) *: هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة، بالنداء الدال على الإقبال عليهم، وذلك أن أول نداء جاء أتى عاما: * (قدير
507

ياأيها الناس اعبدوا ربكم) *، وثاني نداء أتى خاصا: * (خالدون يابنى إسراءيل اذكروا) *، وهي الطائفة العظيمة التي اشتملت على الملتين: اليهودية والنصرانية، وثالث نداء لأمة محمد صلى الله عليه وسلم) المؤمنين. فكان أول نداء عاما، أمروا فيه بأصل الإسلام، وهو عبادة الله. وثاني نداء، ذكروا فيه بالنعم الجزيلة، وتعبدوا بالتكاليف الجليلة، وخوفوا من حلول النقم الوبيلة وثالث نداء: علموا فيه أدبا من آداب الشريعة مع نبيهم، إذ قد حصلت لهم عبادة الله، والتذكير بالنعم، والتخويف من النقم، والاتعاظ بمن سبق من الأمم، فلم يبق إلا ما أمروا به على سبيل التكميل، من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه. والتبجيل والخطاب بيا أيها الذين آمنوا متوجه إلى من بالمدينة من المؤمنين، قيل: ويحتمل أن يكون إلى كل مؤمن في عصره. وروي عن ابن عباس: أنه حيث جاء هذا الخطاب، فالمراد به أهل المدينة، وحيث ورد يا أيها الناس، فالمراد أهل مكة.
* (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) *: بدىء بالنهي، لأنه من باب التروك، فهو أسهل. ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس، قبل بالنهي. ثم لم يكن نهيا عن شيء سبق تحريمه، ولكن لما كانت لفظة المفاعلة تقتضي الاشتراك غالبا، فصار المعنى: ليقع منك رعي لنا ومنا رعي لك، وهذا فيه ما لا يخفى مع من يعظم نهوا عن هذه اللفظة لهذه العلة، وأمروا بأن يقولوا: انظرنا، إذ هو فعل من النبي صلى الله عليه وسلم)، لا مشاركة لهم فيه معه. وقراءة الجمهور: راعنا. وفي مصحف عبد الله وقراءته، وقراءة أبي: راعونا، على إسناد الفعل لضمير الجمع. وذكر أيضا أن في مصحف عبد الله: ارعونا. خاطبوه بذلك إكبارا وتعظيما، إذ أقاموه مقام الجمع. وتضمن هذا النهي، النهي عن كل ما يكون فيه استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم). وقرأ الحسن، وابن أبي ليلى، وأبو حياة، وابن محيصن: راعنا بالتنوين، جعله صفة لمصدر محذوف، أي قولا راعنا، وهو على طريق النسب كلابن وتامر. لما كان القول سببا في السبب، اتصف بالرعن، فنهوا في هذه القراءة عن أن يخاطبوا الرسول بلفظ يكون فيه، أو يوهم شيئا من الغض، مما يستحقه صلى الله عليه وسلم) من التعظيم وتلطيف القول وأدبه.
وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود كانت تقصد بذلك، إذ خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) الرعونة، وكذا قيل في راعونا، إنه فاعولا من الرعونة،
كعاشورا. وقيل: كانت لليهود كلمة عبرانية، أو سريانية يتسابون بها وهي: راعينا، فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا، اقترضوه وخاطبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهم يعنون تلك المسبة، فنهي المؤمنون عنها، وأمروا بما هو في معناها. ومن زعم أن راعنا لغة مختصة بالأنصار، فليس قوله بشيء، لأن ذلك محفوظ في جميع لغة العرب. وكذلك قول من قال: إن هذه الآية ناسخة لفعل قد كان مباحا، لأن الأول لم يكن شرعا متقررا قبل. وقيل في سبب نزولها غير ذلك. وبالجملة، فهي كما قال محمد بن جرير: كلمة كرهها الله أن يخاطب بها نبيه، كما قال صلى الله عليه وسلم): (لا تقولوا عبدي وأمتي وقولوا فتاي وفتاتي ولا تسموا العنب الكرم). وذكر في النهي وجوه: إن معناها اسمع لا سمعت، أو إن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند المفر، قاله قطرب، أو أن اليهود كانوا يقولون: راعينا أي راعي غنمنا، أو أنه مفاعلة فيوهم مساواة، أو معناه راع كلامنا ولا تغفل عنه، أو لأنه يتوهم أنه من الرعونة. وقوله: انظرنا، قراءة الجمهور، موصول الهمزة، مضموم الظاء، من النظرة، وهي التأخير، أي انتظرنا وتأن علينا، نحو قوله:
* فإنكما إن تنظراني ساعة
*
من الدهر تنفعني لدى أم جندب
*
508

أو من النظر، واتسع في الفعل فعدى بنفسه، وأصله أن يتعدى بإلى، كما قال الشاعر:
* ظاهرات الجمال والحسن ينظر
*
ن كما ينظر الأراك الظباء
*
يريد: إلى الأراك، ومعناه: تفقدنا بنظرك. وقال مجاهد: معناه فهمنا وبين لنا، فسر باللازم في الأصل، وهو انظر، لأنه يلزم من الرفق والإمهال على السائل، والتأني به أن يفهم بذلك. وقيل: هو من نظر البصيرة بالتفكر والتدبر فيما يصلح للمنظور فيه، فاتسع في الفعل أيضا، إذ أصله أن يتعدى بفي، ويكون أيضا على حذف مضاف، أي انظر في أمرنا. قال ابن عطية: وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم)، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى: راعنا، فبدلت للمؤمنين اللفظة، ليزول تعلق اليهود. انتهى. وقرأ أبي والأعمش: أنظرنا، بقطع الهمزة وكسر الظاء، من الإنظار، ومعناه: أخرنا وأمهلنا حتى نتلقى عنك. وهذه القراءة تشهد للقول الأول في قراءة الجمهور.
* (واسمعوا) *: أي سماع قبول وطاعة. وقيل: معناه اقبلوا. وقيل: فرغوا أسماعكم حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة. وقيل: اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا تعودون إليه. أكد عليهم ترك تلك الكلمة. وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، فوالذي نفسي بيده، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم) لأضربن عنقه. * (وللكافرين عذاب أليم) *: ظاهره العموم، فيدخل فيه اليهود. وقيل: المراد به اليهود، أي ولليهود الذين تهاونوا بالرسول وسبوه. ولما نهى أولا، وأمر ثانيا، وأمر بالسمع وحض عليه، إذ في ضمنه الطاعة، أخذ يذكر لمن خالف أمره وكفر، * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) *.
* (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين) *: ذكر المفسرون أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم)، فقالوا: وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه، فأكذبهم الله بقوله: * (ما يود الذين كفروا) *، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب: الذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم). والظاهر، العموم في أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى، وفي المشركين: وهم مشركو العرب وغيرهم، ونفى بما، ونها لنفي الحال، فهم ملتبسون بالبغض والكراهة أن ينزل عليكم. ومن، في قوله: من أهل الكتاب، تبعيضية، فتتعلق بمحذوف، أي كائنين من أهل الكتاب. ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس قال ذلك هنا، وبه قال الزمخشري، وأصحابنا لا يثبتون كونها للبيان. * (ولا المشركين) *، معطوف على: * (من أهل الكتاب) *. ورأيت في كتاب لأبي إسحاق الشيرازي، صاحب (التنبيه)، كلاما يرد فيه على الشيعة، ومن قال بمقالتهم: في أن مشروعية الرجلين في الوضوء هي المسح، للعطف في قوله: * (وأرجلكم) *، على قوله: * (برؤوسكم) *، خرج فيه أبو إسحاق قوله: وأرجلكم بالجر، على أنه من الخفض على الجوار، وأن أصله النصب فخفض عطفا على الجوار. وأشار في ذلك الكتاب إلى أن القرآن ولسان العرب يشهدان بجواز ذلك، وجعل منه قوله: ولا المشركين، في هذه الآية، وقوله: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين) *، وأن الأصل هو الرفع، أي ولا المشركون، عطفا على الذين كفروا، وهذا حديث من قصر في العربية، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح. ودخلت لا في قوله: ولا المشركين، للتأكيد، ولو كان في غير
509

القرآن لجاز حذفها. ولم تأت في قوله: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين) * لمعنى يذكر هناك، إن شاء الله تعالى.
* (أن ينزل عليكم) *: في موضع المفعول بيود، وبناؤه للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وللتصريح به في قوله: * (من ربكم) *. ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله: * (من ربكم) *. * (من خير) *، من: زائدة، والتقدير: خير من ربكم، وحسن زيادتها هنا، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي، فليس نظير: ما
يكرم من رجل، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى، لأنه إذا نفيت الودادة، كان كأنه نفى متعلقها، وهو الإنزال، وله نظائر في لسان العرب، من ذلك قوله تعالى: * (أو لم * يروا أن الله الذى خلق * السماوات والارض * ولم يعى بخلقهن بقادر) *. فلما تقدم النفي حسن دخول الباء، وكذلك قول العرب: ما ظننت أحدا يقول ذلك إلا زيد، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول، وإن لم يباشره حرف النفي، لأن المعنى: ما يقول ذلك أحد إلا زيد، فيما أظن. وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل. وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان، فيجوز زيادتها، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره. ويزيد الأخفش: أنه يجيز زيادتها في المعرفة. وذهب قوم إلى أن من للتبعيض، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم، ويكون المعنى: أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم.
* (من ربكم) *: من: لابتداء الغاية، كما تقول: هذا الخير من زيد. ويجوز أن تكون للتبعيض. المعنى من خير كائن من خيور ربكم، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله: ينزل، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف، وكان ذلك على حذف مضاف، كما قدرناه. والخير هنا: القرآن، أو الوحي، إذ يجمع القرآن وغيره، أو ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم) من التعظيم؛ أو الحكمة والقرآن والظفر؛ أو النبوة الإسلام، أو العلم والفقه والحكمة؛ أو هنا عام في جميع أنواع الخير، فهم يودون انتفاء ذلك عن المؤمنين، سبعة أقوال، أظهرها الآخر. وسبب عدم ودهم ذلك: أما في اليهود، فلكون النبوة كانت في بني إسماعيل، ولخوفهم على رئاستهم، وأما النصارى، فلتكذيبهم في ادعائهم ألوهية عيسى، وأنه ابن الله، ولخوفهم على رئاستهم، وأما المشركون، فلسب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، ولحسدهم أن يكون رجل منهم يختص بالرسالة، واتباع الناس له.
* (والله يختص برحمته من يشاء) *: أي يفرد بها، وضد الاختصاص: الاشتراك. ويحتمل أن يكون يختص هنا لازما، أي ينفرد، أو متعديا، أي يفرد، إذ الفعل يأتي كذلك. يقال: اختص زيد بكذا، واختصصته به، ولا يتعين هنا تعديه، كما ذكر بعضهم، إذ يصح، والله يفرد برحمته من يشاء، فيكون من فاعلة، وهو افتعل من: خصصت زيدا بكذا. فإذا كان لازما، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو: اضطررت، وإذا كان متعديا، كان موافقا لفعل المجرد نحو: كسب زيد مالا، واكتسب زيد مالا. والرحمة هنا عامة بجميع أنواعها؛ أو النبوة والحكمة والنصرة، اختص بها محمد صلى الله عليه وسلم)، قاله علي والباقر ومجاهد والزجاج؛ أو الإسلام، قاله ابن عباس؛ أو القرآن، أو النبي صلى الله عليه وسلم)، * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) *، هو نبي الرحمة، أقوال خمسة، أظهرها الأول.
* (والله ذو الفضل العظيم) *: قد تقدم أن ذو بمعنى صاحب. وذكر جملة من أحكام ذو، والوصف بذو، أشرف عندهم من الوصف بصاحب، لأنهم ذكروا أن ذو أبدا لا تكون إلا مضافة لاسم، فمدلولها أشرف. ولذلك جاء ذو رعين، وذو يزن، وذو الكلاع، ولم يسمعوا بصاحب رعين، ولا صاحب يزن ونحوها. وامتنع أن يقول في صحابي أبي سعيد أو جابر: ذو رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وجاز أن يقول: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم). ولذلك وصف الله تعالى نفسه بقوله: * (ذو الجلال) *، * (ذو الفضل) *، وسيأتي الفرق بين قوله تعالى: * (وذا النون إذ ذهب مغاضبا) *، وقوله تعالى: * (ولا تكن كصاحب الحوت) *، إن شاء الله تعالى. وتقدم تفسير * (الفضل العظيم) *، ويجوز أن يراد به هنا: جميع أنواع التفضلات، فتكون أل للاستغراق، وعظمه من جهة سعته وكثرته، أو فضل النبوة. وقد وصف تعالى ذلك بالعظم في قوله: * (وكان فضل الله عليك عظيما) *، أو الشريعة، فعظمها من جهة بيان أحكامها، من حلال، وحرام، ومندوب، ومكروه، ومباح؛ أو الثواب والجزاء، فعظمه من جهة السعة والكثرة
510

* (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) *، أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وعلى هذه التأويلات تكون أل للعهد، والأظهر القول الأول.
* (ما ننسخ من ءاية) *: سبب نزولها، فيما ذكروا، أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة، وطعنوا في الإسلام قالوا: إن محمدا يأمر أصحابه بأمر اليوم، وينهاهم عنه غدا، ويقول اليوم قولا، ويرجع عنه غدا، ما هذا القرآن إلا من عند محمد، وأنه يناقض بعضه بعضا، فنزلت.
وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه، وما اتفق عليه منه، وما اختلف فيه، وفي جوازه عقلا، ووقوعه شرعا، وبماذا ينسخ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام، وطولوا في ذلك. وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه، فيبحث في ذلك كله فيه. وهكذا جرت عادتنا: أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير، فنخرج عن طريقة التفسير، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، المعروف بابن خطيب الري، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير. ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال: فيه كل شيء إلا التفسير.
وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه علم التفسير. فمن زاد على ذلك، فهو فضول في هذا العلم، ونظير ما ذكره الرازي وغيره، إن النحوي مثلا يكون قد شرع في وضع كتاب في النحو، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة، فذكر أن الألف في الله، أهي منقلبة من ياء أو واو؟ ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى، فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل. ثم استطرد إلى جواز إرسال الرسل منه تعالى إلى الناس. ثم استطرد إلى أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم)، ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه، ثم استطرد إلى أن من مضمونه البعث والجزاء بالثواب والعقاب. ثم المثابون في الجنة لا ينقطع نعيمهم، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم. فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة، إذا هو يتكلم في الجنة والنار، ومن هذا سبيله في العلم، فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي، قدس الله تربته، يقول ما معناه: متى رأيت الرجل ينتقل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف،
فاعلم أن ذلك، إما لقصور علمه بذلك الفن، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه، حيث يظن أن المتغايرات متماثلات.
وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به من يقف عليه، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير، بل إنما تركنا ذلك عمدا، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير. وأسأل الله التوفيق
511

للصواب.
وما من قوله: ما ننسخ، شرطية، وهي مفعول مقدم، وفي ننسخ التفات، إذ هو خروج من غائب إلى متكلم. ألا ترى إلى قوله: * (والله يختص) *؟ * (والله ذو الفضل) *؟ وقرأ الجمهور: ننسخ من نسخ، بمعنى أزال، فهو عام في إزالة اللفظ والحكم معا، أو إزالة اللفظ فقط، أو الحكم فقط. وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة: ما ننسخ من الإنساخ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال: ليست لغة، لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى، ولا هي للتعدية، لأن المعنى يجيء: ما يكتب من آية، أي ما ينزل من آية، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخا. وليس الأمركذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى: ما نجده منسوخا، كما يقال: أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا، وأبخلته إذا وجدته بخيلا. قال أبو علي: وليس نجده منسوخا إلا بأن ينسخه، فتتفق القراءات في المعنى، وإن اختلفا في اللفظ. انتهى كلامه. فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب. وجعل الزمخشري الهزة فيه للتعدية قال: وإنساخها الأمر بنسخها، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة، بالإعلام بنسخها، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية. وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين. تقول: نسخ زيد الشيء، أي أزاله، وأنسخه إياه عمرو: أي جعل عمرو زيدا ينسخ الشيء، أي يزيله. وقال ابن عطية: التقدير ما ننسخك من آية، أي ما نبيح لك نسخة، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ، فسمى تلك الإباحة إنساخا. وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضا هو جعل الهمزة للتعدية، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف، أهو جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم)؟ وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ. وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ. وخرج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو: أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضا، وهو من نسخ الكتاب، وهو نقله من غير إزالة له، قال: ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله، أي ذلك فعلنا، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك، أو بمثله، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها عائدين على الضمير في ننسأها. انتهى كلامه. وذهل عن القاعدة النحوية، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه. وما في قوله: ما ننسخ شرطية، وقوله: أو ننساها، عائد على الآية، وإن كان المعنى ليس عائدا عليها نفسها من حيث اللفظ والمعنى، إنما يعود عليها لفظا لا معنى، فهو نظير قولهم: عندي درهم ونصفه، فهو في الحقيقة على إضمار ما الشرطية. التقدير: أو ما ننسأ من آية، ضرورة أن المنسوخ هو غير المنسوء، لكن يبقى قوله: * (ما ننسخ من ءاية) * مفلتا من الجواب، إذ لا رابط فيه منه له، وذلك لا يجوز، فبطل هذا المعنى.
من آية، من: هنا للتبعيض، وآية مفرد وقع موقع الجمع، ونظيره فارس في قولك: هذا أول فارس، التقدير: أول الفوارس. والمعنى: أي شيء من الآيات. وكذلك ما جاء من هذا النحو في القرآن، وفي كلام العرب تخريجه هكذا، نحو قوله: * (ما يفتح الله للناس من رحمة) *، * (وما بكم من نعمة) *، وقولهم: من يضرب من رجل اضربه. ويتضح بهذا المجرور ما كان معمولا لفعل الشرط، لأنه مخصص له، إذ في اسم الشرط عموم، إذ لو لم يأت بالمجرور لحمل على العموم. لو قلت: من يضرب أضرب، كان عاما في مدلول من. فإذا قلت: من رجل، اختص جنس الرجال بذلك، ولم يدخل فيه النساء، وإن كان مدلول من عاما للنوعين. ولهذا المعنى جعل بعضهم من آية، وما أشبهه في موضع نصب على التمييز. قال: والمميز ما
512

قال، والتقدير: أي شيء نسخ من آية. قال: ولا يحسن أن يقدر أي آية ننسخ، لأنك لا تجمع بين آية وبين المميز بآية. لا تقول: أي آية ننسخ من آية، ولا أي رجل يضرب من رجل أضربه. وجوزوا أيضا أن تكون من زائدة، وآية حالا. والمعنى: أي شيء ننسخ قليلا أو كثيرا. قالوا: وقد جاءت الآية حالا في قوله تعالى هذه: * (ناقة الله لكم ءاية) *، وهذا فاسد لأن، الحال لا يجر بمن وجوزوا أيضا أن تكون ما مصدرا، وآية مفعولا به، التقدير: أي نسخ ننسخ آية، ومجئ ما الشرطية مصدرا جائز، تقول: ما تضرب زيدا أضرب مثله، التقدير: أي ضرب تضرب زيدا أضرب مثله، وقال الشاعر:
* نعب الغراب فقلت بين عاجل
*
ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب
*
وهذا فاسد، لأن ما إذا جعلتها للنسخ، عرى الجواب من ضمير يعود عليها، ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط. ألا ترى أنك لو قلت: أي ضرب يضرب هندا أضرب أحسن منها، لم يجز لعرو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط، لأن الضمير في منها عائد على المفعول الذي هو هند، لا على أي ضرب الذي هو اسم الشرط، ولأن المفعول به لا تدخل عليه من الزائدة إلا بشرط أن يتقدمه غير موجب، وأن يكون ما دخلت عليه نكرة، وهذا على الجادة من مشهور مذهب البصريين. والشرط ليس من قبيل غير الموجب، فلا يجوز: إن قام من رجل أقم معه، وفي هذا خلاف ضعيف لبعض البصريين.
* (أو) *: قرأ عمر، وابن عباس، والنخعي، وعطاء، ومجاهد، وعبيد بن عمير، ومن السبعة ابن كثير، وأبو عمرو: أو ننسأها، بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة. وقرأت طائفة كذلك، إلا أنه بغير همز. وذكر أبو عبيد البكري في (كتاب اللآلىء) ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وأراه وهم، وكذا قال ابن عطية،
قال: وقرأ سعد بن أبي وقاص تنساها بالتاء المفتوحة وسكون النون وفتح السين من غير همز، وهي قراءة الحسن وابن يعمر. وقرأت فرقة كذلك، إلا أنهم همزو. وقرأ أبو حياة كذلك، إلا أنه ضم التاء. وقرأ سعيد كذلك، إلا أنه بغير همز. وقرأ باقي السبعة، ننسها، بضم النون وكسر السين من غير همز. وقرأت فرقة كذلك، إلا أنها همزت بعد السين. وقرأ الشحاك وأبو رجاء: بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين وبلا همز. وقرأ أبي: أو ننسك، بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين من غير همز، وبكاف للخطاب بدل ضمير الغيبة. وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة كذلك، إلا أنه جمع بين الضميرين، وهي قراءة أبي حذيفة. وقرأ الأعمش: ما ننسك من آية أو ننسخها نجيء بمثلها. وهكذا ثبت في مصحف عبد الله، فتحصل في هذه اللفظة، دون قراءة الأعمش، إحدى عشرة قراءة: فمع الهمزة: ننسأها وننسئها وننسأها وتنسأها، وبلا همز: ننسها وننسها وتنسها وتنسها ونسك وننسكها. وفسر النسخ هنا بالتبديل، قاله ابن عباس والزجاج، أو تبديل الحكم مع ثبوت الخط، قاله عبد الله وابن عباس أيضا، أو الرفع، قاله السدي. وأما قوله: أو ننسها بغير همز، فإن كان من النسيان ضد الذكر، فالمعنى: ننسكها إذا كان من أفعل، أو ننسها إذا كان من فعل، قاله مجاهد، وقتادة، وإن كان من الترك، فالمعنى: أو نترك إنزالها، قاله
513

الضحاك، أو نمحها، فلا نترك لها لفظا يتلى ولا حكما يلزم، قاله ابن زيد، أو نأمر بتركها، يقال: أنسيته الشيء: أي أمرت بتركه، ونسيته: تركته، قال:
* إن علي عقبة أقضيها
*
لست بناسيها ولا منسيها
*
أي لا آمر بتركها. وقال الزجاج: قراءة ننسها، بضم النون وسكون النون الثانية وكسر السين، لا يتوجه فيها معنى الترك، لأنه لا يقال: أنسى بمعنى ترك. وقال أبو علي الفارسي وغيره: ذلك متجه، لأنه بمعنى نجعلك تتركها. وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر، وقال: إن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم)، ولا نسي قرآنا. وقال أبو علي وغيره: ذلك جائز، وقد وقع، ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بنسئه. واحتج الزجاج بقوله تعالى: * (قليلا ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك) *، أي لم نفعل. قال أبو علي: معناه لم نذهب بالجميع، وحكى الطبري قول الزجاج عن أقدم منه. قال ابن عطية: والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم)، لما أراد الله أن ينساه، ولم يرد أن يثبته قرآنا جائزا. وأما النسيان الذي هو آفة في البشر، فالنبي صلى الله عليه وسلم) معصوم منه، قبل التبليغ، وبعد التبليغ، ما لم يحفظه أحد من الصحابة، وأما بعد أن يحفظ، فجائز عليه ما يجوز على البشر، لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث، حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال: (أفي القوم أبي؟) قال: نعم يا رسول الله، قال: (فلم لم تذكرني؟) قال: خشيت أنها رفعت). فقال النبي صلى الله عليه وسلم): (لم ترفع ولكني نسيتها). انتهى كلام ابن عطية. وأما من قرأ بالهمز فهو من التأخير، تقول العرب: نسأت الإبل عن الحوض، وأنسأ الإبل عن ظمئها يوما أو يومين، أو أكثر أخرها عن الورد. وأما في الآية فالمعنى: نؤخر نسخها أو نزولها، قاله عطاء وابن أبي نجيح، أو نمحها لفظا وحكما، قاله ابن زيد، أونمضها فلا ننسخها، قاله أبو عبيدة، وهذا يضعفه قوله: * (نأت بخير منها) *، لأن ما أمضى وأقر، لا يقال فيه نأت بخير منها. وحكي عن ابن عباس أن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره: ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها، أي أنفع منها لكم، أو مثلها. ثم قال: أو ننساها، أي نؤخرها، فلا ننسخها ولا نبدلها. وهذه الحكاية لا تصح عن ذلك الحبر ابن عباس، إذ هي محيلة لنظم القرآن.
* (نأت) *: هو جواب الشرط، واسم الشرط هنا جاء بعده الشرط والجزاء مضارعين، وهذا أحسن التراكيب في فعلي الشرط والجزاء، وهو أن يكونا مضارعين. * (بخير منها) *: الظاهر أن خيرا هنا أفعل التفضيل، والخيرية ظاهرة، لأن المأتي به، إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء، فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف، وإن كان أثقل، فخيريته بالنسبة لزيادة الثواب. * (أو مثلها) *: أو مساو لها في التكليف والثواب، وذلك كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة. وذهب قوم إلى أن خيرا هنا ليس بأفعل التفضيل، وإنما هو خير من الخيور، كخير في قوله: * (أن ينزل عليكم من خير من ربكم) *، فهو عندهم مصدر، ومن لابتداء الغاية. ويصير المعنى: أنه ما ننسخ من آية أو نؤخرها، نأت بخير من الخيور من جهة المنسوخ أو المنسوء، لكن يبعد هذا المعنى قوله: * (أو مثلها) *، فإنه لا يصح عطفه على قوله: * (بخير) * على هذا المعنى، إلا إن أطلق الخير على عدم التكليف، فيكون المعنى: نأت بخير من الخيور، وهو عدم التكليف، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء، فكأنه يقول: ما ننسخ من آية أو نؤخرها، فإلى غير بدل، أو إلى بدل مماثل، والذي إلى غيره بدل، هو خير أتاكم من جهة الآية المنسوخة أو المنسوءة، إذ هو راحتكم من التكاليف. وأما عطف مثلها على الضمير المجرور في منها فيضعف لعدم إعادة الجار.
* (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) *؟ قال ابن عطية: ظاهره الاستفهام المحض، فالمعادل هنا على
514

قول جماعة: أم تريدون. وقال قوم: أم هنا منقطعة، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره: أم علمتم، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم) مخاطبة أمته، وأما إن كان هو المخاطب وحده، فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي. انتهى كلامه ونقله. وما قالوه ليس بجيد، بل هذا استفهام معناه التقرير، فلا يحتاج إلى معادل البتة، والأولى أن يكون المخاطب السامع، والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جدا، خصوصا إذا دخل على النفي: * (أو ليس الله بأعلم بما فى صدور العالمين) *؟ * (أليس الله بأحكم الحاكمين) *؟ * (ألم نربك * بك * فينا وليدا) *؟ * (ألم يجدك يتيما فاوى) *؟ * (ألم نشرح لك صدرك) *؟ فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى معادل، لأنه إنما يراد به التقرير. والمعنى: قد علمت أيها المخاطب أن الله قادر على كل شيء، فله التصرف في
تكاليف عباده، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل. وحكمة إفراد المخاطب: أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك، والمنبه به، والمقرر على شيء ثابت عنده، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء، فلن يعجزه شيء، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه. وفي قوله: * (ألم تعلم أن الله) *، فيه خروج من ضمير جمع مخاطب وهو: * (من خير من ربكم) *، إلى ضمير مخاطب مفرد للحكمة التي بيناها، وخروج من ضمير متكلم معظم نفسه، إلى اسم ظاهر غائب وهو الله، إذ هو الاسم العلم الجامع لسائر الصفات، ففي ضمنه صفة القدرة، فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم، فلذلك عدل عن قوله: * (ألم تعلم * إننا) * إلى قوله: * (ألم تعلم أن الله) *، وقد تقدم تفسيره قوله: * (إن الله على كل شىء قدير) * في أوائل هذه السورة، فأغنى ذلك عن إعادته.
* (ألم تعلم أن الله له ملك * السماوات والارض) *؟ هذا أيضا استفهام دخل على النفي فهو تقرير، فليس له معادل، لأن التقرير معناه: الإيجاب، أي قد علمت أيها المخاطب أن الله له سلطان السماوات والأرض والاستيلاء عليهما، فهو يملك أموركم ويدبرها، ويجريها على ما يختاره لكم من نسخ وغيره، وخص السماوات والأرض بالملك، لأنهما من أعظم المخلوقات، ولأنهما قد اشتملا على جميع المخلوقات. وإذا كان استيلاؤه على الطرفين، كان مستوليا على ما اشتملا عليه، أو لأنه يعبر عن مخلوقاته العلوية بالسموات، والسفلية بالأرض.
وتضمنت هاتان الجملتان التقرير على الوصفين اللذين بهما كمال التصرف، وهما: القدرة والاستيلاء، لأن الشخص قد يكون قادرا، بمعنى أن له استطاعة على فعل شيء، لكنه ليس له استيلاء على ذلك الشيء، فينفذ فيه ما يستطيع أن يفعل. فإذا اجتمعت الاستطاعة وعدم المانعية، كمل بذلك التصرف مع الإرادة. وبدأ بالتقرير على وصف القدرة، لأنه آكد من وصف الاستيلاء والسلطان. * (وما لكم من دون الله) *: انتقل من ضمير الإفراد في الخطاب إلى ضمير الجماعة، وناسب الجمع هنا، لأن المنفي بدخول من عليه صار نصا في العموم، فناسب كون المنفي عنه يكون عاما أيضا، كان المعنى: وما لكل فرد منكم فرد فرد. * (من ولي ولا نصير) *: وأتى بصيغة ولي، وهو فعيل، للمبالغة، ولأنه أكثر في الاستعمال، ولذلك لم يجيء في القرآن وال إلا في سورة الرعد، لمواخاة الفواصل، وأتى بنصير على وزن فعيل، لمناسبة ولي في كونهما على فعيل، ولمناسبة أواخر الآي، ولأنه أبلغ من فاعل. ومن زائدة في قوله: * (من ولى) *، فلا تتعلق بشيء. ومن: في * (من دون الله) * متعلقة بما يتعلق به المجرور الذي هو لكم، وهو يتعلق بمحذوف، إذ هو في موضع الخبر، ويجوز في ما هذه أن تكون تميمية، ويجوز أن تكون حجازية على ذهب من يجيز تقدم خبرها، إذا كان ظرفا أو مجرورا. أما من منع ذلك فلا يجوز في ما أن تكون حجازية، ومعنى من الأولى ابتداء الغاية. وتكرر اسم الله ظاهرا في هذه الجمل الثلاث، ولم يضمر للدلالة على استقلال كل جملة منها، وأنها لم تجعل مرتبطة بعضها ببعض ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار.
ولما كانت الجملتان الأوليان للتقرير، وهو إيجاب من حيث المعنى، ناسب أن تكون الجملة الثالثة نفيا للولي والناصر، أي أن الأشياء التي هي تحت قدرة الله وسلطانه واستيلائه، فالله تعالى لا يحجزه عما يريد بها شيء، ولا مغالب له تعالى فيما يريد.
* (أم تريدون
515

أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) *: اختلف في سبب نزول هذه الآية، فقيل عن ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أمية ورهط من قريش، قالوا: يا محمد اجعل الصفا ذهبا، ووسع لنا أرض مكة، وفجر الأنهار خلالها تفجيرا، ونؤمن لك. وقيل: تمنى اليهود وغيرهم من المشركين، فمن قائل: ائتنا بكتاب من السماء جملة، كما أتى موسى بالتوراة. ومن قائل: ائتني بكتاب من السماء فيه: من رب العالمين إلى عبد الله بن أمية، إني قد أرسلت محمدا إلى الناس. ومن قائل: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. وقيل: إن رافع بن خزيمة، ووهب بن زيد قالا للنبي صلى الله عليه وسلم): ائتنا كتاب من السماء، وفجر لنا أنهارا، نتبعك. وقيل: إن جماعة من الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم): ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل في تعجيل العقوبة في الدنيا، فقال: (كانت بنو إسرائيل إذا أصابتهم خطيئة وجدوها مكتوبة على باب الخاطىء، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة). وقيل: اليهود وكفار قريش سألوا رد الصفا ذهبا، وقيل لهم: خذوه كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا ونكصوا. وقيل: سأل قوم أن يجعل لهم ذات أنواط، كما كانت للمشركين، وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها الثمرة وغيرها من المأكولات وأسلحتهم. كما سأل بنو إسرائيل موسى فقالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. ويحتمل أن تكون هذه كلها أسبابا في نزول هذه الآية، وقد طولنا بذكر هذه الأسباب، وذلك بخلاف مقصدنا في هذا الكتاب.
وأم: هنا منقطعة، وتتقدر المنقطعة ببل والهمزة، فالمعنى: بل أتريدون، فبل تفيد الإضراب عما قبله، ومعنى الإضراب هنا: هو الانتقال من جملة إلى جملة، لا على سبيل إبطال الأولى. وقد تقدم قول من جعل أم هنا معادلة للاستفهام الأول. وقد بينا ضعف ذلك. وقالت فرقة: أم استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال: أتريدون. وهذان القولان ضعيفان. والذي تقرر أن أم تكون متصلة ومنفصلة. فالمتصلة: شرطها أن يتقدمها لفظ همزة الاستفهام، وأن يكون بعدها مفرد، أو في تقدير المفرد. والمنفصلة: ما انخرم الشرطان فيها أو أحدهما، ويتقدر إذ ذاك ببل والهمزة معا، وأما مجيئها مرادفة للهمزة فقط، أو مرادفة لبل فقط، أو زائدة، فأقوال: ضعيفة. وعلى الخلاف في المخاطبين، يجيء الكلام في قوله: * (رسولكم) *. فإن كان الخطاب للمؤمنين، وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم، فيكون رسولكم جاء على ما في نفس الأمر، وعلى ما أقروا به من رسالته. وإن كان الخطاب للكفار، كانت إضافة الرسول إليهم على حسب الأمر في نفسه، لا على إقرارهم به. ورجح كون الخطاب للمؤمنين بقوله: * (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) *، وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمن، وبأنه معطوف على قوله: * (لا تقولوا راعنا) *، أي هل تفعلون ما أمرتم، أم تريدون؟ ورجح أنهم اليهود، لأنه سبق الكلام في الحكايات عنهم ما قالوا، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله ما يكون كفرا.
كما سئل: الكاف في موضع نصب، فعلى رأي سيبويه: على الحال، وعلى المشهور من مذاهب المعربين: نعت لمصدر محذوف، فيقدر على قولهم: سؤالا كما سئل، ويقدر على رأي سيبويه: أن تسألوه، أي السؤال كما سئل، وما مصدرية التقدير كسؤال. وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، التقدير: الذي سئله موسى. وقرأ الجمهور: وسيل. وقرأ الحسن وأبو السمال: بكسر السين وياء. وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري: بإشمام السين وياء. وقرأ بعض القراء: بتسهيل الهمزة بين بين وضم السين. وهذه القراءات مبنية على اللغتين في سأل، وهو أن تكون الهمزة مقرة مفتوحة، فتقول سأل. فعلى هذه اللغة تكون قراءة الجمهور، وقراءة من سهل الهمز بين بين. واللغة الثانية أن تكون عين الكلمة واوا، وتكون على فعل بكسر العين فتقول: سلت أسال، كخفت أخاف، أصله: سولت. وعلى هذه اللغة تكون قراءة الحسن، وقراءة من أشم. وتخريج هاتين القراءتين على هذه اللغة أولى من التخريج على أن أصل الألف الهمز، فأبدلت الهمزة ألفا، فصار مثل: قال وباع، فقيل فيه: سيل بالكسر المحض، أو الإشمام، لأن هذا الإبدال شاذ ولا ينقاس. وتلك لغة ثانية، فكان الحمل على ما كان لغة أولى من الحمل على الشاذ غير المطرد. وحذف الفاعل هنا للعلم به، التقدير: كما سأل قوم موسى موسى من قبل.
* (موسى من قبل) *: يتعلق هذا الجار بقوله: سئل، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظا، وذلك أن
516

المضاف إليه معرفة محذوف. فلذلك بنيت قبل على الضم، والتقدير: من قبل سؤالكم، وهذا توكيد، لأنه قد علم أن سؤال بني إسرائيل موسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، متقدم على سؤال هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وسؤال قوم موسى عليه السلام هو قولهم: * (أرنا الله جهرة) *، * (اجعل لنا إلاها) *. فأراد تعالى أن يوبخهم على تعلق إرادتهم بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأن يقترحوا عليه، إذ هم يكفيهم ما أنزل إليهم. وشبه سؤالهم بسؤال ما اقترحه آباء اليهود من الأشياء التي مصيرها إلى الوبال. وظاهر الآية يدل على أن السؤال لم يقع منهم. ألا ترى أنه قال: * (أم تريدون أن تسئلوا) *؟ فوبخهم على تعلق إرادتهم بالسؤال، إذ لو كان السؤال قد وقع، لكان التوبيخ عليه، لا على إرادته، وكان يكون اللفظ: أتسألون رسولكم؟ أو ما أشبه ذلك مما يؤدي معنى وقوع السؤال، لكن تظافرت نقولهم في سبب نزول هذه الآية، وإن اختلفوا في التعيين على أن السؤال قد وقع.
* (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) *؟ تقدم الكلام في التبديل، أي: من يأخذ الكفر بدل الإيمان؟ وهذه كناية عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر، كما جاء في قوله: * (اشتروا الضلالة بالهدى) *. وفسر الزمخشري هذا بأن قال: ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها. وقال أبو العالية: الكفر هنا: الشدة، والإيمان: الرخاء. وهذا فيه ضعف، إلا أن يريد أنهما مستعاران في الشدة على نفسه والرخاء لها عن العذاب والنعيم. وأما المعروف من شدة أمور الدنيا ورخائها، فلا تفسر الآية بذلك، والظاهر حمل الكفر والإيمان على حقيقتهما الشرعية، لأن من سأل الرسول ما سأل مع ظهور المعجزات ووضوح الدلائل على صدقه، كان سؤاله تعنتا وإنكارا، وذلك كفر..
* (فقد ضل سواء السبيل) *: هذا جواب الشرط، وقد تقدم الكلام على الضلال في قوله: * (ولا الضالين) *، وعلى سواء في قوله: * (سواء عليهم ءأنذرتهم) *، وأن سواء يكون بمعنى مستو. ولذلك يتحمل الضمير في قولهم: مررت برجل سواء هو والعدم، ويوصف به: * (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) *، ويفسر بمعنى العدل والنصفة، لأن ذلك مستو، وقال زهير:
* أرونا خطة لا عيب فيها
*
يسوى بيننا فيها السواء
*
ويفسر بمعنى الوسط. قال تعالى: * (فاطلع فرءاه فى سواء) *، أي في وسطها. وقال عيسى بن عمر: كتبت حتى انقطع سواي، وقال حسان:
* يا ويح أنصار النبي ورهطه
*
بعد المغيب في سواء الملحد
*
وبذلك فسر السواء في الآية أبو عبيدة، وفسره الفراء بالقصد. ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى، كنى عنها بالسبيل، وجعل من حاد عنها: كالضال عن الطريق، وكنى عن سؤالهم نبيهم ما ليس لهم أن يسألوه بتبدل الكفر بالإيمان، وأخرج ذلك في صورة شرطية، وصورة الشرط لم تقع بعد تنفيرا عن ذلك، وتبعيدا منه. فوبخهم أولا على تعلق إرادتهم بسؤال ما ليس لهم سؤاله، وخاطبهم بذلك، ثم أدرجهم في عموم الجملة الشرطية. وإن مثل هذا ينبغي أن لا يقع، لأنه ضلال عن المنهج القويم، فصار صدر الآية إنكارا وتوبيخا، وعجزها تكفيرا وضلالا. وما أدى إلى هذا فينبغي أن لا يتعلق به غرض ولا طلب ولا إرادة. وإدغام الدال في الضاد من الإدغام الجائز. وقد قرىء: * (فقد ضل) *، بالإدغام وبالإظهار في السبعة.
* (ود كثير من أهل الكتاب) *: المعنب بكثير: كعب بن الأشرف، أو حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر، أو نفر من اليهود حاولوا المسلمين بعد وقعة أحد أن يرجعوا إلى دينهم، أو فنحاص بن
517

عاذوراء وزيد بن قيس ونفر من اليهود حاولوا حذيفة وعمارا في رجوعهما إلى دينهم، أقوال. والقرآن لم يعين أحدا، إنما أخبر بودادة كثير من أهل الكتاب. والخلاف في سبب النزول مبني على الخلاف في تفسير كثير من أهل الكتاب، وتخصصت الصفة بقوله: * (من أهل الكتاب) *، فلذلك حسن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه. والكتاب هنا: التوراة.
* (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا) *: الكلام في لو هنا، كالكلام عليها في قوله: * (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) *. فمن قال: إنها مصدرية، قال: لو، والفعل في تأويل المصدر، وهو مفعول. ود: أي ود ردكم، ومن جعلها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره، جعل الجواب محذوفا، وجعل مفعول ود محذوفا التقدير: ودركم كفارا، لو يردونكم كفارا لسروا بذلك. وقال بعض الناس تقديره: لو يردونكم كفارا لودوا ذلك. فود دالة على الجواب، ولا يجوز لود الأولى أن تكون هي الجواب، لأن شرط لو أن تكون متقدمة على الجواب. انتهى. وهذا الذي قدره ليس بشيء، لأنك إذا جعلت جواب لو قوله: لودوا ذلك، كان ذلك دالا على أن الودادة لم تقع، لأنه جواب للو، وهو لما كان سيقع لوقوع غيره، فامتنع وقوع الودادة، لامتناع وقوع الرد. والغرض أن الودادة قد وقعت. ألا ترى إلى أقوال المفسرين في سبب نزول هذه الآية؟ وهي وإن اختلفت فاتفقوا على وقوع الودادة، وإن اختلفت أقوالهم بمن وقعت، وتقدير جواب لو لودوا ذلك، يدل على أن الودادة لم تقع، فلذلك كان تقديره لسروا أو لفرحوا بذلك هو المتعين، إذا جعلت لو تقتضي جوابا. ويرد هنا بمعنى يصير، فيتعدى إلى مفعولين: الأول هو ضمير الخطاب، والثاني كفارا، وقد أعربه بعضهم حالا، وهو ضعيف، لأن الحال مستغنى عنها في أكثر مواردها، وهذا لا بد منه في هذا المكان. ومن متعلقة بيرد، وهي لابتداء الغاية، وظاهر الواو في يردونكم أنها للجمع، ومن فسر كثيرا بواحد أو باثنين، فجعل الواو له أو لهما، ليس على الأصل.
* (حسدا من عند أنفسهم) *: انتصاب حسدا على أنه مفعول من أجله، والعامل فيه ود، أي الحامل لهم على ودادة ردكم كفارا هو الحسد، وجوزوا فيه أن يكون مصدرا منصوبا على الحال، أي حاسدين، ولم يجمع لأنه مصدر، وهذا ضعيف، لأن جعل المصدر حالا لا ينقاس. وجوزوا أيضا أن يكون نصبه على المصدر، والعامل فيه فعل محذوف يدل عليه المعنى، التقدير: حسدوكم حسدا. والأظهر القول الأول، لأنه اجتمعت فيه شرائط المفعول من أجله. ويتعلق المجرور الذي هو: * (من عند أنفسهم) *، إما بملفوظ به وهو ود، أي ودوا ذلك من قبل شهوتهم، لا أن ودادتهم ذلك هي من جهة التدين واتباع الحق. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (من بعد ما تبين لهم الحق) *؟ وإما بمقدر، فيكون في موضع الصفة، التقدير: حسدا كائنا من عند أنفسهم. وعلى كلا التقديرين يكون توكيدا، أي ودادتهم أو حسدهم من تلقائهم. ألا ترى أن ودادة الكفر والحسد على الإيمان لا يكون إلا من عند أنفسهم؟ فهو نظير، ولا طائر يطير بجناحيه. وقيل: يتعلق الجار والمجرور بقوله: يردونكم، ومن سببية، أي يكون الرد من تلقائهم وبإغوائهم وتزيينهم. * (من بعد ما تبين لهم الحق) *: تتعلق من هذه بقوله: ود، أي ودادتهم كفركم للحسد المنعبث من عند أنفسهم. وتلك الودادة ابتدأت من زمان وضوح الحق وتبينه لهم، فليسوا من أهل الغباوة الذين قد يغرب عليهم وضوح الحق، بل ذلك على سبيل الحسد والعناد. وهذا يدل على أن الكفر يكون عنادا. ألا ترى إلى ظاهر قوله: * (من بعد ما تبين لهم الحق) *؟ قال ابن عطية: واختلف أهل السنة في جواز ذلك. والصحيح عندي جوازه عقلا، وبعده وقوعا، ويترتب في كل رية تقتضيه أن المعرفة تسلب من ثاني حال من العناد. انتهى كلامه، والألف واللام في الحق، إما للعهد، ويراد به الإيمان، ويدل عليه جريانه قبل هذا، أو الألف واللام للاستغراق، أي من بعد ما اتضحت لهم وجوه الحق وأنواعه..
* (فاعفوا واصفحوا) *، قال ابن عباس: هي منسوخة بقوله: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) *. وقيل: بقوله: * (اقتلوا * المشركين) *، وقال قوم: ليس هذا حد المنسوخ، لأن هذا في نفس الأمر كان للتوقيف على مدته. * (حتى يأتى الله بأمره) *: غيا العفو والصفح بهذه الغاية، وهذه موادعة إلى أن أتى أمر الله بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بالجزية، وغير ذلك مما أتى من أحكام الشرع فيهم وترك العفو والصفح. وقال الكلبي: هو إسلام بعض واصطلام
518

بعض. وقيل: آجال بني آدم. وقيل: القيامة، وقيل: المجازاة يوم القيامة. وقيل: قوة الرسالة وكثرة الأمة، والجمهور على أنه الأمر بالقتال. وعن الباقر: أنه لم يؤمر بقتال حتى نزل أذن للذين يقاتلون، والأمر بالعفو والصفح هو أن لا يقاتلوا وأن يعرض عن جوابهم فيكون أدعى لتسكين الثائرة وإطفاء الفتنة وإسلام بعضهم، لا أنه يكون ذلك على وجه الرضا، لأن ذلك كفر. * (إن الله على كل شىء قدير) *: مر تفسير هذه الآية، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار، ووعد للمؤمنين بالنصر والتمكين. ألا ترى أنه أمر بالموادعة بالعفو والصفح، وغيا ذلك إلى أن يأتي الله بأمره، ثم أخبر بأنه قادر على كل شيء؟.
* (وإذ أخذنا ميثاق بنى) *: لما أمر بالعفو والصفح، أمر بالمواظبة على عمودي الإسلام: العبادة البدنية، والعبادة المالية، إذ الصلاة فيها مناجاة الله تعالى والتلذذ بالوقوف بين يديه، والزكاة فيها الإحسان إلى الخلق بالإيثار على النفس، فأمروا بالوقوف بين يدي الحق وبالإحسان إلى الخلق. قال الطبري: إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة ليحط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود: راعنا، لأن ذلك نهي عن نوعه، ثم أمر المؤمنون بما يحطه. انتهى كلامه. وليس له ذلك الظهور.
* (وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله) *: لما قدم الأمر بالصلاة والزكاة أتى بهذه الجملة الشرطية عامة لجميع أنواع الخير، فيندرج فيها الصلاة والزكاة وغيرهما. والقول في إعراب ما ومن خير، كالقول في إعراب: ما ننسخ من آية، من أنهم قالوا: يجوز أن تكون ما مفعولة، ومن خير: حال أو مصدر، ومن خير: مفعول، أو مفعولة، ومن خير: تمييز أو مفعولة، ومن خير، تبعيضية متعلقة بمحذوف وهو الذي اخترناه. لأنفسكم: متعلق بتقدموا، وهو على حذف مضاف، أي لنجاة أنفسكم وحياتها، قال تعالى: * (يقول ياليتنى * ليتنى * قدمت لحياتى) *. وقد فسر الخير هنا بالزكاة والصدقة، والأظهر العموم تجدوه جواب الشرط، والهاء عائدة على ما، والخيور المتقدمة هي أفعال منقضية. ونفس ذلك المنقضي لا يوجد، فإنما ذلك على حذف مضاف، أي تجدوا ثوابه. فجعل وجوب ما ترتب على وجودا له، وتجدوه متعد إلى واحد، لأنه بمعنى الإصابة. والعامل في قوله: * (عند الله) *، إما نفس الفعل، أو محذوف، فيكون في معنى الحال من الضمير، أي
تجدوه مدخرا ومعدا عند الله. والظرفية هنا المكاتبة ممتنعة، وإنما هي مجاز بمعنى القبل، كما تقول لك: عندي يد، أي في قبلي، أو بمعنى في علم الله نحو: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة) *، أي في علمه وقضائه، أو بمعنى الاختصاص بالإضافة إلى الله تعالى تعظيما كقوله: * (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته) *.
* (إن الله بما تعملون بصير) *: المجيء بالاسم الظاهر يدل على استقلال الجمل، فلذلك جاء إن الله، ولم يجيء إنه، مع إمكان ذلك في الكلام. وهذه جملة خبرية ظاهرة التناسب في ختم ما قبلها بها، تتضمن الوعد والوعيد. وكنى بقوله: بصير عن علم المشاهد، أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيعه، ومن كان مبصرا لفعلك، لم يخف عليه، هل هو خير أو شر، وأتى بلفظ بصير دون مبصر، إما لأنه من بصر، فهو يدل على التمكن والسجية في حق الإنسان، أو لأنه فعل للمبالغة بمعنى مفعل، الذي هو للتكثير. ويحتمل أن يكون فعيل بمعنى مفعل، كالسميع بمعنى المسمع، قال بعض الصوفية: على المريد إقامة المواصلات وإدامة التوسل بفنون القربات، واثقا بأن ما تقدمه من صدق المجاهدات ستزكو ثمرته في آخر الحالات، وأنشدوا:
* سابق إلى الخير وبادر به
*
فإنما خلفك ما تعلم
*
* وقدم الخير فكل امرئ
*
على الذي قدمه يقدم
*
* (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *: سبب نزولها اختصام نصارى نجران ويهود المدينة، وتناظرهم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم). فقالت اليهود: * (ليست النصارى على شىء) *، وقالت النصارى: * (ليست اليهود على شىء) *
519

وكفروا بالتوراة وموسى، قاله ابن عباس. والضمير في وقالوا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولهم في القول، لن يدخل الجنة، لأن القول صدر من الجميع، باعتبار أن كل فريق منهما قال ذلك، لا أن كل فرد فرد قال ذلك حاكما على أن حصر دخول الجنة على كل فرد فرد من اليهود والنصارى، ولذلك جاء في العطف بأو التي هي للتفصيل والتنويع، وأوضح ذلك العلم بمعاداة الفريقين، وتضليل بعضهم بعضا، فامتنع أن يحكم كل فريق على الآخر بدخول الجنة، ونظيره في لف الضمير، وفي كون أو للتفصيل قوله: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى) *، تهتدوا، إذ معلوم أن اليهودي لا يأمر بالنصرانية، ولا النصراني يأمر باليهودية، ولما كان دخول الجنة متأخرا، جاء النفي بلن المخلصة للاستقبال، ومن فاعلة بيدخل، وهو من الاستثناء المفرغ، والمعنى: لن يدخل الجنة أحد إلا من. ويجوز أن تكون على ذهب الفراء بدلا، أو يكون منصوبا على الاستثناء، إذ يجيز أن يراعى ذلك المحذوف، ويجعله هو الفاعل، ويحذفه، وهو لو كان ملفوظا به لجاز البدل والنصب على الاستثناء، فكذلك إذا كان محذوفا وحمل أولا على لفظ من، فأفرد الضمير في كان، ثم حمل على المعنى، فجمع في خبر كان فقال: * (هودا أو نصارى) *. وهود: جمع هائد، كعائد وعود. وتقدم مفرد النصارى ما هو أنصران أم نصرى. وفي جواز مثل هذين الحملين خلاف، أعني أن يكون الخبر غير فعل، بل صفة يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء نحو: من كان قائمين الزيدون، ومن كان قائمين الزيدان. فمذهب الكوفيين وكثير من البصريين جواز ذلك. وذهب قوم إلى المنع، وإليه ذهب أبو العباس، وهم محجوجون بثبوت ذلك في كلام العرب كهذه الآية، فإن هودا في الأظهر جمع هائد، وهو من الصفات التي يفصل بينها وبن مؤنثها بالتاء، وكقول الشاعر:
وأيقظ من كان منكم نياما
فنيام: جمع نائم، وهو من الصفات التي يفصل بين مذكرها ومؤمثها بالتاء، وقدم هودا على نصارى لتقدمها في الزمان. وقرأ أبي: إلا من كان يهوديا أو نصرانيا، فحمل الاسم والخبر معا على اللفظ، وهو الإفراد والتذكير.
* (تلك أمانيهم) *: جملة من مبتدأ وخبر معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم. وتلك يشار بها إلى الواحدة المفردة، وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث، فحمله الزمخشري على الجمع قال: أشير بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم. انتهى كلامه. وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر، لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء، فقد انفصلت وكملت واستقلت في النزول، فيبعد أن يشار إليها. وأما ما ذهب إليه في الوجه الثاني ففيه مجاز الحذف، وفيه قلب الوضع، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ، وأمانيهم خبر. فقلب هو الوضع، إذ قال: أن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه. وفيه أنه متى كان الخبر مشبها به المبتدأ، فلا يجوز تقديمه، مثل: زيد زهير، نص على ذلك النحويون. فإن تقدم ما هو أصل في أن يشبه به، كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة، إذ جعل الفرع أصلا والأصل فرعا كقولك: الأسد زيد شجاعة، والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم: * (لن يدخل الجنة) *، أي تلك المقالة أمانيهم، أي ليس ذلك عن تحقيق ولا دليل على من كتاب الله ولا من أخبار من
رسول، وإنما ذلك على سبيل التمني. وإن كانوا هم جازمين بمقالتهم، لكنها لما لم تكن عن برهان، كانت أماني، والتمني يقع بالجائز والممتنع. فهذا من الممتنع، ولذلك أتى بلفظ الأماني، ولم يأت بلفظ مرجواتهم، لأن الرجاء يتعلق بالجائز، تقول: ليتني طائر، ولا
520

يجوز، لعلني طائر، وإنما أفرد المبتدأ لفظا، لأنه كناية عن المقالة، والمقالة مصدر يصلح للقليل والكثير، فأريد بها هنا الكثير باعتبار القائلين، ولذلك جمع الخير، فطابق من حيث المعنى في الجمعية. وقد تقدم شرح الأماني في قوله: * (لا يعلمون الكتاب إلا أمانى) *، فيحتمل أن يكون المعنى: تلك أكاذيبهم وأباطيلهم، أو تلك مختاراتهم وشهواتهم، أو تلك تلاواتهم.
* (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *: لما تقدم منهم الدعوى بأنه لن يدخل الجنة إلا من ذكروا، طولبوا بالدليل على صحة دعواهم. وفي هذا دليل على أن من ادعى نفيا أو إثباتا، فلا بد له من الدليل. وتدل الآية على بطلان التقليد، وهو قبول الشيء بغير دليل. قال الزمخشري: وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين، وإن كل قول لا دليل عليه، فهو باطل. إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم، أي أوضحوا دعوتكم. وظاهر الآية أن متعلق الصدق هو دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة. وقيل: صادقين في إيمانكم. وقيل: في أمانيكم. وقيل معنى صادقين: صالحين كما زعمتم، وكل ما أضف إلى الصلاح والخير أضيف إلى الصدق. تقول: رجل صدق، وصديق صدق، ودالة صدق، ومنه: * (هاذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) *. وقيل: معناه إن كنتم موقنين بما أخذ الله ميثاقه وعهوده، ومنه: * (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) *.
* (بلى) *: رد لقولهم: * (لن يدخل الجنة) *، والكلام فيها كالكلام الذي تقدم في قوله: * (بلى من كسب سيئة) *، وقبل ذلك: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *، وكلاهما فيه نفي وإيجاب، إلا أن ذلك استثناء مفرغ من الأزمان، وهذا استثناء مفرغ من الفاعلين. وأبعد من ذهب إلى أن بلى رد لما تضمن قوله: * (قل هاتوا برهانكم) * من النفي، لأن معناه لا برهان لكم على صدق دعواكم، فأثبت ببلى أن لمن أسلم وجهه برهانا، وهذا ينبو عنه اللفظ.
* (من أسلم وجهه لله) *: الكلام في: من، كالكلام في: من، من قوله: * (من كسب سيئة) *، والأظهر أنها مبتدأة، وجوزوا أن تكون فاعلة، أي يدخلها من أسلم، وإذا كانت مبتدأة، فلا يتعين أن تكون شرطية. فالجملة بعدها هي الخبر، وجواب الشرط * (فله أجره) *. وإذا كانت موصولة، فالجملة بعدها صلة لا موضع لها من الإعراب، والخبر هو ما دخلت عليه الفاء من الجملة الابتدائية، وإذا كانت من فاعلة فقوله: * (فله أجره) * جملة اسمية معطوفة على ذلك الفعل الرافع لمن. والوجه هنا يحتمل أن يراد به الجارحة خص بالذكر، لأنه أشرف الأعضاء، أو لأنه فيه أكثر الحواس، أو لأنه عبر به عن الذات ومنه: * (كل شىء هالك إلا وجهه) *، ويحتمل أن يراد به الجهة، والمعنى: أخلص طريقته في الدين لله. وقال مقاتل: أخلص دينه. وقال ابن عباس: أخلص عمله لله. وقيل: قصده. وقيل: فوض أمره إلى الله تعالى. وقيل: خضع وتواضع. وهذه أقوال متقاربة في المعنى، وإنما يقولها السلف على ضرب المثال، لا على أنها متعينة يخالف بعضها بعضا. وهذا نظير ما يقوله النحوي: الفاعل زيد من قولك، قام زيد، وآخر يقول: جعفر من خرج جعفر، وآخر يقول: عمرو من انطلق عمرو، وهذا أحسن ما يظن بالسلف رحمهم الله، فيما جاء عنهم من هذا النوع.
* (وهو محسن) *: جملة حالية، وهي مؤكدة من حيث المعنى، لأن من أسلم وجهه لله فهو محسن. وقد قيد الزمخشري الإحسان بالعمل؛ وجعل معنى قوله: * (من أسلم وجهه لله) *: من أخلص نفسه له، لا يشرك به غيره، وهو محسن في عمله، فصارت الحال هنا مبينة، إذ من لا يشرك قسمان: محسن في عمله، وغير محسن، وذلك منه جنوح إلى مذهبه الاعتزالي من أن العمل لا بد منه، وأنه بهما يستوجب دخول الجنة، ولذلك فسر قوله: * (فله أجره) * الذي يستوجبه، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم) حقيقة الإحسان الشرعي حين سئل عن ماهيته فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وقد فسر هنا الإحسان بالإخلاص، وفسر بالإيمان، وفسر بالقيام بالأوامر، والانتهاء عن المناهي.
* (فله أجره عند ربه) *: العامل في
521

عند هو العامل في له، أي فأجره مستقر له عند ربه، ولما أحال أجره على الله أضاف الظرف إلى لفظه ربه، أي الناظر في مصالحة ومربيه ومدبر أحواله، ليكون ذلك أطمع له، فلذلك أتى بصفة الرب، ولم يأت بالضمير العائد على الله في الجملة قبله، ولا بالظاهر بلفظ الله. فلم يأت فله أجره عنده، لما ذكرناه، ولقلق الإتيان بهذه الضمائر، ولم يأت فله أجره عند الله، لما ذكرنا من المعنى الذي دل عليه لفظ الرب. * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *: جمع الضمير في قوله: * (عليهم ولا هم يحزنون) * حملا على معنى من، وحمل أولا على اللفظ في قوله: * (من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه) *، وهذا هو الأفصح، وهو أن يبدأ أولا بالحمل على اللفظ، ثم بالحمل على المعنى. وقد تقدم تفسير هذه الجملة. وقراءة ابن محيصن: فلا خوف، برفع الفاء من غير تنوين، باختلاف عنه. وقراءة الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب وغيرهم: فلا خوف، بالفتح من غير تنوين، وتوجيه ذلك، فأغنى عن إعادته هنا.
* (وقالت اليهود ليست النصارى على شىء وقالت النصارى ليست اليهود على شىء) *، قيل: المراد عامة اليهود وعامة النصارى، فهذا من الإخبار عن الأمم السالفة، وتكون أل للجنس، ويكون في ذلك تقريع لمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم) من الفريقين، وتسلية له صلى الله عليه وسلم)، إذ كذبوا بالرسل وبالكتب قبله. وقيل: المراد يهود المدينة ونصارى نجران، حيث تماروا عند الرسول وتسابوا، وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوة عيسى، وأنكرت النصارى التوراة ونبوة موسى. فتكون حكاية حال، وأل للعهد، أو المراد بذلك رجلان: رجل من اليهود، يقال له نافع بن حرملة، قال لنصارى نجران: لستم على شيء، وقال رجل من نصارى نجران لليهود: لستم على شيء، فيكون قد نسب ذلك للجميع، حيث وقع من بعضهم، كما يقال: قتل بنو تميم فلانا، وإنما قتله واحد منهم، وذلك على سبيل
المجاز والتوسع، ونسبة الحكم الصادر من الواحد إلى الجمع. وهو طريق معروف عند العرب في كلامها، نثرها ونظمها. ولما جمعهم في المقالة الأولى، وهي: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *، فصلهم في هذه الآية، وبين قولكل فريق في الآخر. وعلى شيء: في موضع خبر ليس، ويحتمل أن يكون المعنى: على شيء يعتد به في الدين، فيكون من باب حذف الصفة، نظير قوله:
لقد وقعت على لحم
أي لحم منيع، وأنه ليس من أهلك، أي من أهلك الناجين، لأنه معلوم أن كلا منهم على شيء، أو يكون ذلك نفيا على سبيل المبالغة العظيمة، إذ جعل ما هما عليه، وإن كان شيا كلا شيء. هذا والشيء يطلق عند بعضهم على المعدوم والمستحيل، فإذا نفى إطلاق اسم الشيء على ما هم عليه، كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به، وصار كقولهم أقل من لا شيء.
* (وهم يتلون الكتاب) *: جملة حالية، أي وهم عالمون بما في كتبهم، تالون له. وهذا نعي عليهم في مقالتهم تلك، إذ الكتاب ناطق بخلاف ما يقولونه، شاهدة توراتهم ببشارة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وصحة نبوتهما. وإنجيلهم شاهد بصحة نبوة موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم)، إذ كتب الله يصدق بعضها بعضا. وفي هذا تنبيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم) في أن من كان عالما بالقرآن، يكون واقفا عنده، عاملا بما فيه، قائلا بما تضمنه، لا أن يخالف قوله ما هو شاهد على مخالفته منه، فيكون في ذلك كاليهود والنصارى. والكتاب هنا قيل: هو التوراة والإنجيل. وقيل: التوراة، لأن النصارى تمتثلها.
* (كذالك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) *: الذين لا يعلمون: هم مشركو العرب في قول الجمهور. وقيل: مشركو قريش. وقال عطاء: هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى. وقال قوم: المراد اليهود، وكأنه أعيد قولهم: أي قال اليهود مثل قول النصارى، ونفى عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فجعلوا لا يعلمون. والظاهر القول
522

الأول. وقال الزمخشري: أي مثل ذلك الذي سمعت على ذلك المنهاج. قال: الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب، كعبدة الأصنام، والمعطلة ونحوهم قالوا: لكل أهل دين ليسوا على شيء، وهو توبيخ عظيم لهم، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم. والظاهر أن الكاف من كذلك في محل نصب، إما على أنها نعت لمصدر محذوف تقديره: قولا مثل ذلك القول، * (قال الذين لا يعلمون) *، أو على أنه منصوب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه قال، التقدير: مثل ذلك القول قاله، أي قال القول الذين لا يعلمون، وهذا على رأي سيبويه. وعلى الوجهين تنتصب الكاف بقال، وانتصب على هذين التقديرين مثل قولهم على البدل من موضع الكاف. وقيل: ينتصب مثل قولهم على أنه مفعول بيعلمون، أي الذين لا يعلمون مثل مقالة اليهود والنصارى، قالوا: مثل: مقالتهم، أي توافق الذين لا يعلمون مقالات النصارى، واليهود مع اليهود والنصارى في ذلك، أن من جهل قول اليهود والنصارى وافقهم في مثل ذلك القول. وجوزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء، والجملة بعده خبر، والعائد محذوف تقديره: مثل ذلك قاله الذين. ولا يجوز لقال أن ينصب مثل قولهم نصب المفعول، لأن قال قد أخذ مفعوله، وهو الضمير المحذوف العائد على المبتدأ، فينتصب إذ ذاك مثل قولهم على أنه صفة لمصدر محذوف، أو على أنه مفعول ليعلمون، أي مثل قولهم يعني اليهود والنصارى. قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى. انتهى ما قالوه في هذا الوجه، وهو ضعيف لاستعمال الكاف اسما، وذلك عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، مع أنه قد تؤول ما ورد من ذلك وأجاز ذلك، أعني أن تكون اسما في الكلام، ويحذف الضمير العائد على المبتدأ المنصوب بالفعل، الذي لو قدر خلوه من ذلك الضمير لتسلط على الظاهر قبله فنصبه، وذلك نحو: زيد ضربته. نص أصحابنا على أن هذا الضمير لا يجوز حذفه إلا في الشعر، وأنشدوا:
* وخالد يحمد ساداتنا
*
بالحق لا يحمد بالباطل
*
أي: يحمده ساداتنا. وعن بعض الكوفيين في جواز حذف نحو: هذا الضمير تفصيل مذكور في النحو.
* (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) *: أي يفصل، والفصل: الحكم، أو يريهم من يدخل الجنة عيانا، ومن يدخل النار عيانا، قاله الزجاج، أو يكذبهم جميعا ويدخلهم النار، أو يثيب من كان على حق، ويعذب من كان على باطل. وكلها أقوال متقاربة. والظرفان والجار الأول معمولان ليحكم، وفيه متعلق بيختلفون.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة أشياء منها: افتتاحها بحسن النداء، وإثبات وصف الإيمان لهم، وتنبيههم على تعلم أدب من آداب الشريعة، بأن نهوا عن قول لفظ لإيهام ما إلى لفظ أنص في المقصود، وأصرح في المطلوب. ثم ذكر ما للمخالف من العذاب الذي يذله ويهينه. ثم نبه على أن هذا الذي أمرتم به هو خير، وأن الكفار لا يودون أن ينزل عليكم شيء من الخير. ثم ذكر أن ذلك ليس راجعا لشهواتهم، ولا لتمنيهم، بل ذلك أمر إلهي يختص به من يشاء، وأنه تعالى هو صاحب الفضل الواسع. ولما كان صدر الآية فيه انتقال من لفظ إلى لفظ، وأن الثاني صار أنص في المقصود بين أن ما يفعله الله تعالى من النسخ، فإنما ذلك لحكمة منه، فيأتي بأفضل مما نسخ أو بما ماثله. وإن من كان قادرا على كل شيء، فله التصرف بما يريد من نسخ وغيره. ونبه المخاطب على علمه بقدرة الله تعالى، وبملكه الشامل لسائر
523

المخلوقات، وإنما نحن ما لنا من دونه من مانع يمنعنا منه. فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا، ثم أنكر على من تعلقت إرادته بأن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) سؤالا غير جائز، كسؤالات قوم موسى له. ثم ذكر أن من آثر الكفر على الإيمان، فقد خرج عن قصد المنهج. ثم ذكر أن الكثير من أهل الكتاب يودون ارتدادكم،
وأن الحامل لهم على ذلك الحسد. ثم أمروا بالموادعة والصفح، وغيا ذلك بأمر الله، فإذا أتى أمر الله ارتفع الأمر بالعفو والصفح.
ثم اختتم الآية بذكر قدره الله تعالى على كل شيء، لأن قبله وعدا بتغيير حال، فناسب ذلك ذكر القدرة. ثم أمرهم بما يقطع عنهم تلفت أقوال الكفار، وهي الصلاة والزكاة، وأخبر أن ما قدمتموه من الخير فإنه لا يضيع عند الله، بل تجدوه مذخورا لكم. ثم اختتم ذلك حيث نبه على أن ما عمل من الخير هو عند الله، بذكر صفة البصر التي تدل على مشاهدة الأشياء ومعاينتها. ثم نعى على اليهود والنصارى من دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة، وأن ذلك أكذوبة من أكاذيبهم المعروفة، وأنهم طولبوا بإقامة البرهان على دعوى الاختصاص. ثم ذكر أن من انقاد ظاهرا وباطنا لله تعالى فله أجره وهو آمن، فلا يخاف مما يأتي ولا يحزن على ما مضى. ثم أخذ يذكر مقالات النصارى واليهود بعضهم في بعض، وأنها مقالة من أظهر التبرؤ مما جاءت به الرسل وأفصحت عنه الكتب المنزلة، وذلك كله على جهة العناد، لأنهم تالون للكتب عالمون بما انطوت عليه، فصاروا في الحياة الدنيا على مثل حالهم في الآخرة. كما أخبر تعالى عنهم بقوله: * (يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) *. ثم ذكر أن مقالتهم تلك، وإن كانوا عالمين، فهي مماثلة لمقالة من لا يعلم، ثم ختم ذلك بالوعيد الذي يتضمن الحكم وفصل الباطل من الحق، وأنه تعالى هو المتولي ذلك ليجازيهم على كفرهم.
(* (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى فى خرابهآ أولائك ما كان لهم أن يدخلوهآ إلا خآئفين لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الا خرة عذاب عظيم * ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم * وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والا رض كل له قانتون * بديع السماوات والا رض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينآ ءاية كذالك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون * إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم * ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوآءهم بعد الذي جآءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير * الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولائك يؤمنون به ومن يكفر به فأولائك هم الخاسرون * يا بني إسراءيل اذكروا نعمتى التىأنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين * واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) *))
) *
المنع: الحيلولة بين المريد ومراده. ولما كان الشيء قد يمنع صيانة، صار المنع متعارفا في المتنافس فيه؛ قاله الراغب. وفعله: منع يمنع، بفتح النون، وهو القياس، لأن لام الفعل أحد حروف الحلق. المساجد: معروفة، وسيأتي الكلام على المفرد أول ما يذكر في القرآن، إن شاء الله. السعي: المشي بسرعة، وهو دون العدو، ثم يطلق على الطلب، كما قال امرؤ القيس:
524

* فلولا أن ما أسعى لأدنى معيشة
*
كفاني ولم أطلب قليل من المال
*
* ولكنما أسعى لمجد مؤثل
*
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
*
فسره الشراح بالطلب.
الخراب: ضد العمارة، وهو مصدر خرب الشيء يخرب خرابا، ويوصف به فيقال: منزل خراب، واسم الفاعل: خرب، كما قال أبو تمام:
* ما ربع مية معمورا يطيف به
*
غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب
*
والخرب: ذكر الحبارى، يجمع على خربان. المشرق والمغرب: مكان الشروق والغروب، وهما من الألفاظ التي جاءت على مفعل، بكسر العين شذوذا، والقياس الفتح، لأن كل فعل ثلاثي لم تكسر عين مضارعة، فقياس صوغ المصدر منه، والزمان والمكان مفعل، بفتح العين. أين: من ظروف المكان، وهو مبني لتضمنه في الاستفهام معنى حرفه، وفي الشرط معنى حرفه، وإذا كان للشرط جاز أن تزيد بعده ما، ومما جاء فيه شرطا بغير ما قوله:
أين تضرب بنا العداة تجدنا
وزعم بعضهم أن أصل أين: السؤال عن الأمكنة. ثم: ظرف مكان يشار به للبعيد، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة، وهو لازم للظرفية، لم يتصرف فيه بغير من
يقول: من ثم كان كذا. وقد وهم من أعرهبا مفعولا به في قوله: * (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) *. بل: مفعول رأيت محذوف. واسع: اسم فاعل من وسع يسع سعة ووسعا، ومقابلة ضاق، إلا أن وسع يأتي متعديا: * (وسع كرسيه السماوات والارض) *، * (ورحمتى وسعت كل شىء) *. الولد: معروف، وهو فعل بمعنى مفعول، كالقبض والنقض، ولا ينقاس فعل بمعنى مفعول، وفعله: ولد يلد ولادة ووليدية، وهذا المصدر الثاني غريب. القنوت: القيام، ومنه أفضل الصلاة طول القنوت، أي القيام والطاعة والعبادة والدعاء. قنت شهرا: دعا. البديع: النادر الغريب الشكل. بدع يبدع بداعة فهو بديع، إذا كان نادرا، غريب الصورة في الحسن، وهو راجع لمعنى الابتداع، وهو الاختراع والإنشاء. قضى: قدر، ويجيء بمعنى أمضى. قضى يقضي قضاء. قال:
* سأغسل عني العار بالسيف جالبا
*
علي قضاء الله ما كان جالبا
*
قال الأزهري: قضى على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، قال أبو ذؤيب:
* وعليهما مسرودتان قضاهما
*
داود أو صنع السوابغ تبع
*
525

وقال الشماخ في عمر:
* قضيت أمورا ثم غادرت بعدها
*
بوائق في أكمامها لم تفتق
*
فيكون بمعنى خلق: * (فقضاهن سبع * سماوات) *، وأعلم: * (وقضينا إلى بنى إسراءيل فى الكتاب) *، وأمر: * (وقضى ربك * أن لا تعبدوا إلا * إياه) *، وألزم، منه قضى القاضي، ووفى: * (فلما قضى موسى الاجل) *، وأراد: * (إذا قضى أمرا) *. لولا: حرف تحضيض، وجاء ذلك في القرآن كثيرا، وحكمها حكم هلا، وتأتي أيضا حرف امتناع لوجود، وأحكامها بمعنييها مذكورة في كتب النحو، ومنها أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا، وتلك لا يليها إلا الاسم، على خلاف في إعرابه. الجحيم: إحدى طبقات النار، أعاذنا الله منها. وقال الفراء: الجحيم: النار على النار. وقال أبو عبيد: النار المستحكمة المتلظية. وقال الزجاج: النار الشديدة الوقود، يقال جحمت النار تحجم: اشتد وقودها. وهذه كلها أقوال يقرب بعضها من بعض. وقال ابن فارس: الجاحم: المكان الشديد الحر، ويقال لعين الأسد: جحمة، لشدة توقدها، ويقال لشدة الحر: جاحم، قال:
* والحرب لا يبقى لجا
*
حمها التخيل والمراح
*
الرضا: معروف، ويقابله الغضب، وفعله رضي يرضى رضا بالقصر، ورضاء بالمد، ورضوانا، فياؤه منقلبة عن واو يدل على ذلك الرضوان، والأكثر تعديته بعن وقد جاء تعديته بعلى، قال:
إذا رضيت علي بنو قشير
وخرج على أن يكون على بمعنى عن، أو على تضمين رضي معنى عطف، فعدي بعلى كما تعدى عطف. الملة: الطريقة، وكثر استعمالها بمعنى الشريعة، فقيل: الاشتقاق من أمللت، لأن الشريعة تبتني على متلو ومسموع. وقيل: من قولهم طريق ممل، أي قد أثر المشي فيه. الخسران والخسارة: هو النقص من رأس المال في التجارة، هذا أصله، ثم يستعمل في النقص مطلقا، وفعله متعد، كما أن مقابله متعد، وهو الربح. تقول: خسر درهما، كما تقول: ربح درهما. وقال: * (خسروا أنفسهم وأهليهم) *.
* (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) *: نزلت في نطوس بن اسبيسيانوس الرومي، الذي خرب بيت المقدس، ولم يزل خرابا إلى أن عمر في زمان عمر بن الخطاب. وقيل في مشركي العرب: منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، قاله عطاء، عن ابن عباس، أو في النصارى، كانوا يودون خراب بيت المقدس، ويطرحون به الأقذار. وروي عن ابن عباس، وقال قتادة والسدي، في الروم الذين أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس: حين قتلت بنو إسرائيل يحيى
بن زكريا، على نبينا وعليه السلام، قال أبو بكر الرازي: لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل. وقيل في بختنصر، قاله قتادة، وقال ابن زيد وأبو مسلم: المراد كفار قريش حين صدوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن المسجد الحرام. وعلى اختلاف هذه الأقوال يجيء الاختلاف في تفسير المانع والمساجد.
وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل
526

مسجد، والعموم وإن كان سبب نزوله خاصا، فالعبرة به لا بخصوص السبب.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه جرى ذكر النصارى في قوله: * (وقالت النصارى ليست اليهود على شىء) *، وجرى ذكر المشركين في قوله: * (كذالك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) *، وفي أي نزلت منهم كان ذلك مناسبا لذكرها تلي ما قبلها. ومن: استفهام، وهو مرفوع بالابتداء. وأظلم: أفعل تفضيل، وهو خبر عن من. ولا يراد بالاستفهام هنا حقيقته، وإنما هو بمعنى النفي، كما قال: * (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) *؟ أي ما يهلك. ومعنى هذا: لا أحد أظلم ممن منع. وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن، وهذا أول موارده، وقال تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *. وقال: * (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله) *؟ * (ومن أظلم ممن ذكر بئايات ربه فأعرض عنها) *؟ إلى غير ذلك من الآيات. ولما كان هذا الاستفهام معناه النفي كان خبرا، ولما كان خبرا توهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها سبق إلى ذهنه التناقض فيها، لأنه قال المتأول في هذا: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وقال في أخرى: لا أحد أظلم ممن افترى، وفي أخرى: لا؛ أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها. فتأول ذلك على أن خص كل واحد بمعنى صلته، فكأنه قال: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله، وكذلك باقيها. فإذا تخصصت بالصلات زال عنده التناقض. وقال غيره: التخصيص يكون بالنسبة إلى السبق، لما لم يسبق أحد إلى مثله، حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم، سالكا طريقتهم في ذلك، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية، أو الافترائية. وهذا كله بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي، وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى. وإنما هذا نفي للأظلمية، ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق. لو قلت: ما في الدار رجل ظريف، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يكن تناقضا، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية. وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر، لأنهم يتساوون في الأظلمية. وصار المعنى: لا أحد أظلم ممن منع، وممن افترى، وممن ذكر. ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية. ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر. كما أنك إذا قلت: لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر، بل نفي أن يكون أحد أفقه منهم. لا يقال: إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعى في خرابها، ولم يفتر على الله الكذب، أقل ظلما ممن جمع بينهما، فلا يكون مساويا في الأظلمية، لأن هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار، فهم متساوون في الأظلمية، وإن اختلفت طرق الأظلمية. فكلها صائرة إلى الكفر، فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم، وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة، فنقول: الكافر أظلم من المؤمن، ونقول: لا أحد أظلم من الكافر. ومعناه: أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره. ومن في قوله: ممن منع، موصولة بمعنى الذي. وجوز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة. أن يذكر: يحتمل أن يكون مفعولا ثانيا لمنع، أو مفعولا من أجله، فيتعين حذف مضاف، أي دخول مساجد الله، أو ما أشبه ذلك، أو بدلا من مساجد بدل اشتمال، أي ذكر اسم الله فيها، أو مفعولا على إسقاط حرف الجر، أي من أن يذكر. فلما حذفت من انتصب على رأي، أو بقي مجرورا على رأي. وكنى بذكر اسم الله عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية، من تلاوة كتبه، وحركات الجسم من القيام
527

والركوع والسجود والقعود الذي تعبد به، أو إنما ذكر تعلق المنع بذكر اسم الله تنبيها على أنهم منعوا من أيسر الأشياء، وهو التلفظ باسم الله. فمنعهم لما سواه أولى. وحذف الفاعل هنا اختصارا، لأنهم عالم لا يحصون. وجاء تقديم المجرور على المفعول الذي لم يسم فاعله، لأن المحدث عنه قبل هي مساجد الله، وهي في اللفظ مذكورة قبل اسم الله، فناسب تقديم المجرور لذلك. وأضيفت المساجد لله على سبيل التشريف، كما قال تعالى: * (وأن المساجد لله) *، وخص بلفظ المسجد، وإن كان الذي يوقع فيه أفعالا كثيرة من القيام والركوع والقعود والعكوف. وكل هذا متعبد به، ولم يقل مقام ولا مركع ولا مقعد ولا معكف، لأن السجود أعظم الهيئات الدالة على الخضوع والخشوع والطواعية التامة. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم): (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)؟ وهي حالة يلقي فيها الإنسان نفسه للانقياد التام، ويباشر بأفضل ما فيه وأعلاه، وهو الوجه، التراب الذي هو موطىء قدميه.
قال ابن عطية: وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة، أو خرب مدينة إسلام، لأنها مساجد، وإن لم تكن موقوفة، إذ الأرض كلها مسجد. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف قيل مساجد الله؟ وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس، أو المسجد الحرام؟ قلت: لا بأس أن يجيء الحكم عاما، وإن كان السبب خاصا، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا، ومن أظلم ممن آذى الصالحين؟ وكما قال الله عز وجل: * (ويل لكل همزة لمزة) *، والمنزول فيه الأخنس بن شريق. انتهى كلامه. وقال غيره: جمعت لأنها قبلة المساجد كلها، يعني الكعبة للمسلمين، وبيت المقدس لغيره. * (وسعى فى خرابها) *: إما حقيقة، كتخريب بيت المقدس، أو مجازا بانقطاع الذكر فيها ومنع قاصديها منها، إذ ذلك يؤول بها إلى الخراب. فجعل المنع خرابا، كما جعل التعاهد بالذكر والصلاة عمارة، وذلك مجار. وقال المروزي: قال ومن أظلم ليعلم أن قبح الاعتقاد يورث تخريب المساجد، كما أن حسن الاعتقاد يورث عمارة المساجد.
* (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) *: هذه جملة خبرية قالوا تدل على ما يقع في المستقبل، وذلك من معجز القرآن، إذ هو من الإخبار بالغيب. وفيها
بشارة للمؤمنين بعلو كلمة الإسلام وقهر من عاداه. إلا خائفين: نصب على الحال، وهو استثناء مفرغ من الأحوال. وقرأ أبي: إلا خيفا، وهو جمع خائف، كنائم ونوم، ولم يجعلها فاصلة، فلذلك جمعت جمع التكسير. وإبدال الواو ياء، إذ الأصل خوف، وذلك جائز كقولهم، في صوم صيم، وخوفهم: هو ما يلحقهم من الصغار والذل والجزية، أو من أن يبطش بهم المؤمنون، أو في المحاكمة، وهي تتضمن الخوف، أو ضربا موجعا، لأن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين من الضرب، أقوال. والظاهر أن المعنى: أولئك ما ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا وهم خائفون من الله وجلون من عقابه. فكيف لهم أن يلتبسوا بمنعها من ذكر الله والسعي في تخريبها، إذ هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه * (يسبح له فيها بالغدو والاصال) *؟ وما هذه سبيله ينبغي أن يعظم بذكر الله فيه، ويسعى في عمارته، ولا يدخله الإنسان إلا وجلا خائفا، إذ هو بيت الله أمر بالمثول فيه بين يديه للعبادة. ونظير الآية أن يقول: ومن أظلم ممن قتل وليا لله تعالى؟ ما كان له أن يلقاه إلا معظما له مكرما أي هذه حالة من يلقى وليا لله، لا أن يباشره بالقتل. ففي ذلك تقبيح عظيم على ما وقع منه، إذ كان ينبغي أن يقع ضده، وهو التبجيل والتعظيم. ولما لم يقع هذا المعنى الذي ذكرناه للمفسرين، اختلفوا في الآية على تلك الأقوال التي ذكرناها عنهم. ولو أريد ما ذكروه، لكان اللفظ: أولئك ما يدخلونها إلا خائفين، ولم يأت بلفظ: ما كان لهم، الدالة على نفي الابتغاء. وقيل المعنى: ما كان لهم في حكم الله، يعني أن الله قد حكم وكتب في اللوح المحفوظ أنه ينصر المؤمنين ويقويهم حتى لا يدخل المساجد الكفار إلا خائفين. قال بعض الناس: وفيها دلالة على جواز دخول الكفار المساجد على صفة الخوف، وليس كما قال، إذ قد ذكرنا ما دل عليه ظاهر الآية. وقيل في قوله: * (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها) *: أن لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر لنا بأن نخيفهم، وإنما ذهب إلى ذلك لأن الله تعالى قد أخبر أنهم سيدخلون بيت المقدس على سبيل القهر والغلبة بقوله
528

* (فإذا جاء وعد الاخرة * ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) *، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم) أخبر أن ذا السويقتين من الحبشة يهدم الكعبة حجرا حجرا. فلما رأى أن هذا يعارض الآية، إذا جعلناها خبرا لفظا، ومعنى حملها على الأمر ودلالتها على الأمر لنا بالإخافة لهم بعيدة جدا، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه، بطلت هذه الأقوال. وأما قوله تعالى: * (فإذا جاء وعد الاخرة) *، فليس ذلك كناية عن يوم القيامة، وسيأتي الكلام عليه في موضعه، إن شاء الله تعالى. وقوله: * (أولائك) *، حمل على معنى من في قوله: * (ومن أظلم) *، ولا يختص الحمل فيها على اللفظ وعلى المعنى بكونها موصولة، بل هي كذلك في سائر معانيها من الوصل والشرط والاستفهام، وكلاهما موجود فيها في سائر معانيها في كلام العرب. أما إذا كانت موصوفة نحو: مررت بمن محسن لك، فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها. وقد تكلمنا قبل على كونها موصوفة. وقال بعض الناس في قوله تعالى: * (ومن أظلم) *: الآية، دليل على منع دخول الكافر المسجد، ثم ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك، وهي مسألة تذكر في علم الفقه، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره على ما فهمنا نحن من الآية.
* (لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الاخرة عذاب عظيم) *: هذا الجزاء مناسب لما صدر منهم. أما الخزي في الدنيا فهو الهوان والإذلال، وهو مناسب للوصف الأول، لأن فيه إخمال المساجد بعدم ذكر الله وتعطيلها من ذلك، فجوزوا على ذلك بالإذلال والهوان. وأما العذاب العظيم في الآخرة، فهو العذاب بالنار، وهو إتلاف لهياكلهم وصورهم، وتخريب لها بعد تخريب * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) *. وهو مناسب للوصف الثاني، وهو سعيهم في تخريب المساجد، فجوزوا على ذلك بتخريب صورهم وتمزيقها بالعذاب. ولما كان الخزي الذي يلحقهم في الدنيا لا يتفاوتون فيه حكما، سواء فسرته بقتل أو سبي للحربي، أو جزية للذمي، لم يحتج إلى وصف. ولما كان العذاب متفاوتا، أعني عذاب الكافر وعذاب المؤمن، وصف عذاب الكافر بالعظم ليتميز من عذاب المؤمن. وقيل: الخزي هو الفتح الإسلامي، كالقسطنطينية وعمورية ورومية، وقيل: جزية الذمي، قاله ابن عباس، وقيل: طردهم عن المسجد الحرام، وقيل: قتل المهدي إياهم إذا خرج، قاله المروزي، وقيل: منعهم من المساجد. قال بعض معاصرينا: إن على كل طائفة من الكفار في الدنيا خزيا. أما اليهود والنصارى، فقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، وقتل النصارى وفتح حصونهم وبلادهم، وإجراء الجزية عليهم، والسيما التي التزموها، وما شرطه عمر عليهم. وأما مشركو العرب، فقتل أبطالهم وأقيالهم، وكسر أصنامهم، وتسفيه أحلامهم، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم ومسقط رؤوسهم، وإلزامهم خطة الهلاك من القتل إلا أن يسلموا. وقال الفراء: معناه في آخر الدنيا، وهو ما وعد الله به المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد. قال القشيري: في قوله تعالى: * (ومن أظلم) * الآية، إشارة إلى ظلم من خرب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات، وهي قلوب العارفين وأوطان العبادة بالشهوات، وهي نفوس العباد وأوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات، وهي أرواح الواجدين وأوطان المشاهدات بالالتفات إلى القربات، وهي أسرار الموحدين. * (لهم فى الدنيا خزى) *: ذل الحجاب، وفي الآخرة عذاب لاقتناعهم بالدرجات. انتهى، وبعضه ملخص. وهذا تفسير عجيب ينبو عنه لفظ القرآن، وكذا أكثر ما يقوله هؤلاء القوم.
* (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) *: قال الحسن وقتادة: أباح لهم في الابتداء أن يصلوا حيث شاؤوا، فنسخ ذلك. وقال مجاهد والضحاك: معناها إشارة إلى الكعبة، أي حيثما كنتم من المشرق والمغرب، فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة. فعلى هذا هي ناسخة لبيت المقدس. وقال أبو العالية وابن زيد: نزلت جوابا لمن عير من اليهود بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وقال ابن عمر: نزلت في صلاة المسافر، حيث توجهت به دابته. وقيل: جواب لمن قال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ قاله سعيد بن جبير. وقيل: في الصلاة على النجاشي، حيث قالوا: لم يكن يصلي إلى قبلتنا. وقيل: فيمن اشتبهت
529

عليه القبلة في ليلة متغيمة، فصلوا بالتحري إلى جهات مختلفة. وقد روي ذلك في حديث عن جابر، أن ذلك وقع لسرية، وعن عامر بن ربيعة، أن ذلك جرى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) في السفر، ولو صح ذلك، لم يعدل إلى سواه من هذه الأقوال المختلفة المضطربة. وقال النخعي: الآية عامة، أينما تولوا في
متصرفاتكم ومساعيكم. وقيل: نزلت حين صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن البيت.
وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول هذه الآية، وظاهرها التعارض، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها. وقد صنف الواحدي في ذلك كتابا قلما يصح فيه شيء، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح. والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو: أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها، نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات، ولا من ذكر الله، إذ المشرق والمغرب لله تعالى، فأي جهة أديتم فيها العبادة، فهي لله يثيب على ذلك، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد. والمعنى: ولله بلاد المشرق والمغرب وما بينهما. فيكون على حذف مضاف، أو يكون المعنى: ولله المشرق والمغرب وما بينهما، فيكون على حذف معطوف، أو اقتصر على ذكرهما تشريفا لهما، حيث أضيفا لله، وإن كانت الأشياء كلها لله، كما شرف البيت الحرام وغيره من الأماكن بالإضافة إليه تعالى. وهذا كله على تقدير أن يكون المشرق والمغرب أسمى مكان.
وذهب بعض المفسرين إلى أنهما اسما مصدر، والمعنى أن لله تولى إشراق الشمس من مشرقها وإغرابها من مغربها، فيكونان، إذ ذاك، بمعنى الشروق والغروب. ويبعد هذا القول قوله بعد: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) *. وأفرد المشرق والمغرب باعتبار الناحية، أو باعتبار المصدر الواقع في الناحية. وأما الجمع فباعتبار اختلاف المغارب والمطالع كل يوم. وأما التثنية فباعتبار مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما. ومعنى التولية: الاستقبال بالوجوه. وقيل: معناها الاستدبار من قولك: وليت عن فلان إذا استدبرته، فيكون التقدير: فأي جهة وليتم عنها واستقبلتم غيرها فثم وجه الله. وقيل: ليست في الصلاة، بل هو خطاب للذين يخربون المساجد، أي أينما تولوا هاربين عني فإني ألحظهم. ويقويه قراءة الحسن: فأينما تولوا، جعله للغائب، فجرى على قوله: * (لهم فى الدنيا خزى) *، وعلى قوله: * (وقالوا اتخذ الله ولدا) *، فجرت الضمائر على نسق واحد. قال الزمخشري: ففي أي مكان فعلتم التولية، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام * ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) *، انتهى. فقيد التولية التي هي مطلقة بالتولية التي هي شطر القبلة، وهو قول حسن. وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب) * مسائل موضوعها علم الفقه منها: من صلى في ظلمة مجتهدا إلى جهة، ثم تبين أنه صلى لغير القبلة، ومسألة من صلى على ظهر الدابة فرضا لمرض أو نفلا، ومسألة الصلاة على الميت الغائب، إذا قلنا نزلت في النجاشي، وشحن كتابه بذكر هذه المسائل، وذكر الخلاف فيها، وبعض دلائلها وموضوعها، كما ذكرناه هو علم الفقه. * (فثم وجه الله) *، هذا جواب الشرط، وهي جملة ابتدائية، فقيل: معناه فثم قبلة الله، فيكون الوجه بمعنى الجهة، وأضيف ذلك إلى الله حيث أمر باستقبالها، فهي الجهة التي فيها رضا الله تعالى، قاله الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل. وقيل: الوجه هنا صلة، والمعنى فثم الله أي علمه وحكمه. وروي عن ابن عباس ومقاتل: أو عبر عن الذات بالوجه، كقوله تعالى: * (ويبقى وجه ربك) *، * (كل شىء هالك إلا وجهه) *، وقيل: المعنى العمل لله، قاله الفراء، قال:
* أستغفر الله ذنبا لست محصيه
*
رب العباد إليه الوجه والعمل
*
وقيل: يحتمل أن يراد بالوجه هنا: الجاه، كما يقال: فلان وجه القوم، أي موضع شرفهم، ولفلان وجه عند الناس:
530

أي جاه وشرف. والتقدير: فثم جلال الله وعظمته، قاله أبو منصور في المقنع. وحيث جاء الوجه مضافا إلى الله تعالى، فله محمل في لسان العرب، إذ هو لفظ يطلق على معان، ويستحيل أن يحمل على العضو، وإن كان ذلك أشهر فيه. وقد ذهب بعض الناس إلى أن تلك صفة ثابتة لله بالسمع، زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى. وضعف أبو العالية وغيره هذا القول، لأن فيه الجزم بإثبات صفة لله تعالى بلفظ محتمل، وهي صفة لا يدرى ما هي، ولا يعقل معناها في اللسان العربي، فوجب إطراح هذا القول والاعتماد على ما له محمل في لسان العرب. إذا كان للفظ دلالة على التجسيم فنحمله، إما على ما يسوغ فيه من الحقيقة التي يصح نسبتها إلى الله تعالى إن كان اللفظ مشتركا، أو من المجاز إن كان اللفظ غير مشترك. والمجاز في كلام العرب أكثر من رمل يبرين ونهر فلسطين.
فالوقوف مع ظاهر اللفظ الدال على التجسيم غباوة وجهل بلسان العرب وأنحائها ومتصرفاتها في كلامها، وحجج العقول التي مرجع حمل الألفاظ المشكلة إليها. ونعوذ بالله أن نكون كالكرامية، ومن سلك مسلكهم في إثبات التجسيم ونسبة الأعضاء لله، تعالى الله عما يقول المفترون علوا كبيرا. وفي قوله: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * رد على من يقول: إنه في حيز وجهة، لأنه لما خير في استقبال جميع الجهات دل على أنه ليس في جهة ولا حيز، ولو كان في حيز لكان استقباله والتوجه إليه أحق من جميع الأماكن. فحيث لم يخصص مكانا، علمنا أنه لا في جهة ولا حيز، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه، فأي جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره.
* (إن الله واسع عليم) *: وصف تعالى نفسه بصفة الواسع، فقيل ذلك لسعة مغفرته. وجاء: * (إن ربك واسع المغفرة) *، وهو معنى قول الكلبي: لا يتعاظمه ذنب. وقيل: واسع العطاء، وهو معنى قول أبي عبيدة: غني، ومعنى قول الفراء: جواد. وقيل: معناه عالم، من قوله: * (وسع كرسيه السماوات والارض) *، على أحد التفاسير، وجمع بينه وبين عليم على سبيل التأكيد. وقيل: واسع القدرة. وقيل: معناه يوسع على عباده في الحكم دينه يسر. عليم: أي بمصالحهم أو بنيات القلوب التي هي ملاك العمل، وإن اختلفت ظواهرها في قبلة وغيرها. وهذه التفاسير على قول من قال: إن الآية نزلت في أمر القبلة. وقال القفال: ليس فيها ذكر
القبلة والصلاة، وإنما أخبرهم تعالى عن علمه بهم، وطوق سلطانه إياهم حيث كانوا، كقوله تعالى: * (إن استطعتم) *، الآية، وقوله: * (ما يكون من نجوى) * الآية، ويكون في هذا تهديد لمن منع مساجد الله من الذكر، وسعى في خرابها، أنه لا مهرب له من الله ولا مفر، كما قال تعالى: * (أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر) *، وكما قال:
* فإنك كالليل الذي هو مدركي
*
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
*
وقال:
* ولم يكن المغتر بالله إذ سرى
*
ليعجز والمغتر بالله طالبه
*
وقال:
* أين المفر ولا مفر لهارب
*
وله البسيطان الثرى والماء
*
وعلى هذا المعنى يكون الخطاب عاما مندرج فيه من منع المساجد من الذكر وغيره. وجاءت هذه الجملة مؤكدة بأن مصرحا باسم الله فيها دالة على الاستقلال. وقد قدمنا ذلك في قوله: * (تجدوه عند الله) *، وكقوله: * (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) *، وذلك أفخم وأجزل من الضمير، لأن الضمير يشعر بقوة التعلق والظاهر يشعر بالاستقلال. ألا ترى أنه يصح الابتداء به، وإن لم يلحظ ما قبله؟ بخلاف الضمير، فإنه رابط
531

للجملة التي هو فيها بالجملة التي قبلها. ألا ترى إلى أن أكثر ما ورد في القرآن من ذلك إنما جاء بالظاهر؟ كما مثلناه، وكقوله: * (فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا الله) *، * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله) *، وقال:
* ليت شعري وأين مني ليت
*
إن ليتا وإن لوا عناء
*
* (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه) *: نزلت في اليهود، إذ قالوا: * (عزير ابن الله) *، أو في النصارى، إذ قالوا: * (المسيح ابن الله) *، أو في المشركين، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، أو في النصارى والمشركين، أقوال أربعة، والأخير قاله الزجاج. ولاختلافهم في سبب النزول، اختلفوا في الضمير في وقالوا، على من يعود؟ فقيل: هو عائد على الجميع من غير تخصيص. فإن كلا منهم قد جعل لله ولدا، قاله ابن إسحاق، والجمهور على قراءة: وقالوا بالواو، وهو آكد في الربط، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها. وقيل: هو عطف على قوله: * (وسعى فى خرابها) *، فيكون معطوفا على معطوف على الصلة، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة، وهذا بعيد جدا، ينزه القرآن عن مثله. وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما: قالوا بغي واو، ويكون على استئناف الكلام، أو ملحوظا فيه معنى العطف، واكتفى بالضمير والربط به عن الربط بالواو. وقال الفارسي: وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام. تقدم أن اتخذ: افتعل من الأخذ، وأنها تارة تتعدى إلى واحد نحو قوله: * (اتخذت بيتا) *، قالوا: معناه صنعت وعملت، وإلى اثنين فتكون بمعنى: صير. وكلا الوجهين يحتمل هنا. وكل من الوجهين يقتضي تصوره باستحالة الولد، لأن الولد يكون من جنس الوالد. فإن جعلت اتخذ بمعنى عمل وصنع، استحال ذلك، لأن الباري تعالى منزه عن الحدوث، قديم، لا أولية لقدمه، وما عمله محدث، فاستحال أن يكون ولد له. وإن جعلت اتخذ بمعنى صير، استحال أيضا، لأن التصيير هو نقل من حال إلى حال، وهذا لا يكون إلا فيما يقبل التغيير، وفرضية الولد به تقتضي أن يكون من جنس الوالد لا تقتضي التغيير، فقد استحال ذلك. وإذا جعلت اتخذ بمعنى صير، كان أحد المفعولين محذوفا، التقدير: وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولدا. والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد، قال تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا) *، * (ما اتخذ الله من ولد) *، * (وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا) *. وقال القشيري: أتى بالولد، وهو إحدى الذات، لا جزاء لذاته، ولا تجوز الشهوة في صفاته. انتهى.
ولما كانت هذه المقالة من أفسد الأشياء وأوضحها في الاستحالة، أتى باللفظ الذي يقتضي التنزيه والبراءة من الأشياء التي لا تجوز على الله تعالى، قبل أن يضرب عن
مقالتهم ويستدل على بطلان دعواهم. وكان ذكر التنزيه أسبق، لأن فيه ردعا لمدعي ذلك، وأنهم ادعوا أمرا تنزه الله عنه وتقدس، ثم أخذ في إبطال تلك المقالة فقال: * (بل له ما في * السماوات والارض) *: أي جميع ذلك مملوك له، ومن جملتهم من ادعوا أنه ولدا لله. والولادة تنافي الملكية، لأن الوالد لا يملك ولده. وقد ذكر بعض المفسرين هنا مسألة من اشترى والد أو ولده أو أحدا من ذوي رحمة، وموضوعها علم الفقه. ولما ذكر أن الكل مملوك لله تعالى، ذكر أنهم كلهم قانتون له، أي مطيعون خاضعون له. وهذه عادة المملوك، أن يكون طائعا لمالكه، ممتثلا لما يريده منه. واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية. ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الوالد، إذ الولد يكون من جنس الوالد. وأتى بلفظ ما في قوله: * (بل له ما في * السماوات والارض) *، وإن كانت لما لا يعقل، لأن ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل جاز أن يعبر عن الجميع بما. ولذلك قال سيبويه: وأما ما، فإنها مبهمة تقع على كل شيء، ويدل على اندراج من يعقل تحت مدلول ما جمع الخبر بالواو والنون، التي هي حقيقة فيما
532

يعقل، واندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل. فحين ذكر الملك، أتى بلفظة ما، وحين ذكر القنوت، أتى بجمع ما يعقل، فدل على أن ذلك شامل لمن يعقل وما لا يعقل. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاء بما الذي لغير أولي العلم مع قوله قانتون؟ قلت: هو كقوله: سبحان ما سخركن لنا، وكأنه جاء بما دون من، تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم، كقوله: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) *. انتهى كلامه، وهو جنوح منه إلى أن ما وقعت على من يعلم، ولذلك جعله كقوله: * (ما * وقالوا لنا) *. يريد أن المعنى: سبحان من سخركن لنا، لأنها يراد بها الله تعالى. وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل، إلا إذا اختلط بمن يعقل، فيقع عليهما، كما ذكرناه، أو كان واقعا على صفات من يعقل، فيعبر عنها بما. وأما أن يقع لمن يعقل، خاصة حالة إفراده أو غير إفراده، فلا. وقد أجاز ذلك بعض النحويين، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل، وقد يؤول، فيؤول قوله: * (سبحان * ما) *، على أن سبحان غير مضاف، وأنه علم لمعنى التسبيح، فهو كقوله:
سبحان من علقمة الفاخر
وما: ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا. والفاعل يسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى. وقول الزمخشري: وكأنه جاء بما دون من، تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم، ليست ما هنا مختصة بمن يعقل، فتقول عبر عنهم بما التي لما لا يعقل تحقيرا لهم، وإنما هي عامة لمن يعقل ولما لا يعقل. ومعنى قانتون: قائمون بالشهادة، قاله الحسن، أو في القيامة للعرض، قاله الربيع، أو مطيعون، قاله قتادة؛ أو مقرون بالعبودية، قاله عكرمة. وقيل: قائمون بالله. وأورد على من يقول القنوت: القيام لله بالشهادة والعبودية، أنه: كيف عم بهذا القول وكثير ليس بمطيع؟ وأجيب: أن ظاهره العموم، والمعنى الخصوص، أي أهل كل طاعة له قانتون، وبأن الكفار يسجد ضلالهم، وبظهور أثر الصنعة فيه، وجرى أحكام الله عليه، وذلك دليل على تذلله لله تعالى، ذكره ابن الأنباري.
* (وكل * له) *: مرفوع بالابتداء، والمضاف إليه محذوف، وهو عبارة عن من في السماوات والأرض، أي كل من في السماوات والأرض، وهو المحكوم عليهم بالملكية. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولدا، وهذا بعيد جدا، لأن المجعول لله ولدا لم يجر ذكره، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولدا وغيره. و * (قانتون) *: خبر عن كل، وجمع حملا على المعنى. وكل، إذا حذف ما تضاف إليه، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع، ومراعاة اللفظ فتفرد. وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا، لأنها فاصلة رأس آية، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن. قال تعالى: * (وكل كانوا ظالمين) *، * (وكل أتوه داخرين) *، و * (كل فى فلك يسبحون) *. وقد جاء إفراد الخبر كقوله: * (قل كل يعمل على شاكلته) *، وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر.
* (بديع * السماوات والارض) *: لما ذكر أنه مالك لجميع من في السماوات والأرض، وأنهم كل قانتون له، وهم المظروف للسموات والأرض، ذكر الظرفين وخصهما بالبداعة، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات. وارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل. فالمجرور مشبه بالمفعول، وأصله الأول بديع سماواته، ثم شبه الوصف فأضمر فيه، فنصب السماوات، ثم جر من نصب. وفيه أيضا ضمير يعود على الله تعالى، ويكون المعنى في الأصل أنه تعالى بدعت
533

سماواته، أي جاءت في الخلق على شكل مبتدع لم يسبق نظيره. وهذا الوجه ابتدأ به الزمخشري، إلا أنه قال: وبديع السماوات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، وهذا ليس عندنا. كذلك بل من إضافة الصفة المشبهة إلى منصوبها. والصفة عندنا لا تكون مشبهة حتى تنصب أو تخفض، وأما إذا رفعت ما بعدها فليس عندنا صفة مشبهة، لأن عمل الرفع في الفاعل يستوي فيه الصفات المتعدية وغير المتعدية. فإذا قلنا: زيد قائم أبوه، فقائم رافع للأب على حد رفع ضارب له. إذا قلت: زيد ضارب أبوه عمرا، لا تقول: إن قائما هنا من حيث عمل الرفع شبه بضارب، وإذا كان كذلك، فإضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه لا يجوز لما تقرر في علم العربية، إلا إن أخذنا كلام الزمخشري على التجوز فيمكن، ويكون المعنى من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلا بها قبل أن يشبه. وحكى الزمخشري وجها ثانيا قال: وقيل البديع بمعنى المبدع، كما أن السميع في قول عمرو:
أمن ريحانة الداعي السميع
بمعنى: المسمع، وفيه نظر. انتهى كلامه. وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره، قال: وبديع مصروف من مبدع، كبصير من مبصر، ومنه قول عمرو بن معدى كرب:
* أمن ريحانة الداعي السمي
*
ع يؤرقني وأصحابي هجوع
*
يريد: المسمع والمبدع والمنشىء، ومنه أصحاب البدع، ومنه قول عمر بن الخطاب في صلاة رمضان: نعمت البدعة هذه، انتهى. والنظر الذي ذكره الزمخشري، والله أعلم، أن فعيلا بمعنى مفعل لا ينقاس مع أن بيت عمرو محتمل للتأويل. وعلى هذا الوجه يكون من باب إضافة اسم الفاعل لمفعوله. وقرأ المنصور: بديع بالنصب على المدح، وقرئ بالجر على أنه بدل من الضمير في له.
* (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *: لما ذكر ما دل على الاختراع، ذكر ما يدل على طواعية المخترع وسرعة تكوينه. ومعنى قضى هنا: أراد، أي إذا أراد إنشاء أمر واختراعه. قال ابن عطية: وقضى: معناه قدر، وقد يجيء بمعنى: أمضى. ويتجه في هذه الآية المعنيان. فعلى مذهب أهل السنة: قدر في الأزل وأمضى فيه، وعلى مذهب المعتزلة: أمضى عند الخلق والإيجاد. والأمر: واحد الأمور، وليس هنا مصدر أمر يأمر. والمعتقد في هذه الآية أن الله لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، قادرا مع تأخر المقدورات، عالما مع تأخر وقوع المعلومات. وكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن، وكل ما استند إلى الله من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل. انتهى ما نقلناه هنا من كلامه. وقال المهدوي: * (وإذا قضى أمرا) *، أي أتقنه وأحكمه وفرغ منه. ومعنى: فإنما يقول له كن فيكون، يقول من أجله. وقيل: قال له كن، وهو معدوم، لأنه بمنزلة الموجود، إذ هو عنده معلوم. قال الطبري: أمره للشيء بكن لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلا وهو موجود
534

بالأمر، ولا موجودا بالأمر إلا وهو مأمور بالوجود. قال: ونظيره قيام الأموات من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ولا يتأخر عنه، كما قال: * (ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذا أنتم تخرجون) *. فالهاء في له تعود على الأمر، أو على القضاء الذي دل عليه قضى، أو على المراد الذي دل عليه الكلام. انتهى ما نقلناه من كتابه. وقال مكي: معنى الآية أنه عالم بما سيكون وما هو كائن، فقوله: كن، إنما هو للموجود في علمه ليخرجه إلى العيان لنا. انتهى كلامه. وقال الزمخشري: كن فيكون، من كان التامة، أي أحدث فيحدث، وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول، ثم كما لا قول في قوله:
إذ قالت الأنساع للبطن ألحق
وإنما المعنى: ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف. كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل، لا يتوقف ولا يمتنع، ولا يكون منه الإباء. أكد بهذا استبعاد الولادة، لأن من كان بهذه الصفة من القدرة، كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها. انتهى كلامه. وقال السجاوندي: كن على التمثيل لنفاذ الأمر، قال:
* فقالت له العينان سمعا وطاعة
*
وإلا فالمعدوم كيف يخاطب أو علامة للملائكة بحدوث الموجود، أو على تقدير ما تصور كونه في علمه، أو مخصوص في تحويل الموجود من حال إلى حال، ولو كان كن مخلوقا، لاحتاج إلى أخرى ولا يتناهي، فدكل على أن القرآن غير مخلوق. انتهى كلامه. قال المهدوي: وفي هذه الآية دليل على أن كلام الله غير مخلوق، لأنه لو كان مخلوقا لكان قائلا له: كن، ولكان قائلا: لكن كن، حتى ينتهي ذلك إلى ما لا يتناهى، وذلك مستحيل مع ما يؤدي إليه ذلك من أنه لا يوجد من الله فعل البتة، إذ لا بد أن يوجد قبله أفعال، هي أقاويل لا غاية لها، وذلك مستحيل. ولا يجوز أن يحمل على المجاز، إذ ذلك إنما يكون في الجمادات، ولا يكون فيمن يصح منه القول إلا بدليل. ويقوي ذلك أن المصدر فيه الذي هو قولنا من قوله: * (إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) *، وكد بمصدر آخر، وهو أن نقول، وأهل العربية مجمعون، على أنهم إذا أكدوا الفعل بالمصدر كان حقيقة، ولذلك جاء قوله: * (وكلم الله موسى تكليما) *، إذ كان الله تعالى متولي تكليمه. وقد قيل: إن معنى فإنما يقول له كن فيكون بكونه. انتهى كلام المهدوي. وقال في المنتخب: كن فيكون ليس المراد أنه تعالى يقول كن، فحينئد يكون ذلك الشيء، فإن ذلك فاسد من وجوه، فلا بد من تأويله، وفيه وجوه: الأول: وهو الأقوى، أن المراد نفاذ سرعة قدرة الله في تكوين الأشياء، وإنما يخلقها لا لفكرة، ونظيرة * (قالتا أتينا طائعين) *. الثاني: أنها علامة يعقلها الملائكة، إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا، قاله أبو الهذيل. الثالث: أنه جاء للموجودين الذين قال لهم: * (كونوا قردة خاسئين) *، ومن جرى مجراهم، وهو قول الأصم. الرابع: أنه أمر للأحياء بالموت، وللموتى بالحياة، والكل ضعيف، والقوي هو الأول. انتهى كلامه.
هذا ما نقلناه من كلام أهل التفسير في الآية. وظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له: كن،
535

تبينه الآية الأخرى: * (إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) *، وقوله: * (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) *. لكن دليل العقل صد عن اعتقاد مخاطبة المعدوم، وصد عن أن يكون الله تعالى محلا للحوادث، لأن لفظة كن محدثة، ومن يعقل مدلول اللفظ. وكونه يسبق بعض حروفه بعضا، لم يدخله شك في حدوثه، وإذا كان كذلك، فلا خطاب ولا قول لفظيا، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياصه، فهو من مجاز التمثيل، وكأنه قدر أن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة، بحيث لا يتأخر عن امتثال ما أمر به. وقرأ الجمهور: فيكون بالرفع، ووجه على أنه على الاستئناف، أي فهو يكون، وعزى إلى سيبويه.
وقال غيره: فيكون عطف على يقول، واختاره الطبري وقرره. وقال ابن عطية: وهو خطأ من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين حادث، وقد انتهى ما رده به ابن عطية. ومعنى رده: أن الأمر عنده قد تم، والتكوين حادث، وقد نسق عليه بالفاء، فهو معه، أي يعتقبه، فلا يصح ذلك، لأن القديم لا يعتقبه الحادث. وتقرير الطبري له هو ما تقدم في أوائل الكلام على هذه المسألة، من أن الأمر لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه. وما رده به ابن عطية لا يتم إلا بأن تحمل الآية على أن ثم قولا وأمرا قديما. أما إذا كان ذلك على جهة المجاز، ومن باب التمثيل، فيجوز أن يعطف على نقول. وقرأ ابن عامر: فيكون بالنصب، وفي آل عمران: * (كن فيكون) * ونعلمه، وفي النحل، وفي مريم، وفي يس، وفي المؤمن. ووافقه الكسائي في النحل ويس، ولم يختلف في * (كن فيكون) * الحق في آل عمران. * (وكن * فيكون) * قوله الحق في الأنعام أنه بالرفع، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن، لأنه جاء بلفظ الأمر، فشبه بالأمر الحقيقي. ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي، لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحوه: ائتني فأكرمك، إذ المعنى: إن تأتني أكرمك. وهنا لا ينتظم ذلك، إذ يصير المعنى: إن يكن يكن، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء، إما بالنسبة إلى الفاعل، وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه، أو في شيء من متعلقاته. وحكى ابن عطية، عن أحمد بن موسى، في قراءة ابن عامر: أنها لحن، وهذا قول خطأ، لأن هذه القراءة في السبعة، فهي قراءة متواترة، ثم هي بعد قراءة ابن عامر، وهو رجل عربي، لم يكن ليلحن. وقراءة الكسائي في بعض المواضع، وهو إمام الكوفيين في علم العربية، فالقول بأنها لحن، من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى.
* (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا ءاية) *: قال ابن عباس، والحسن، والربيع، والسدي: نزلت في كفار العرب حين، طلب عبد الله بن أمية وغيره ذلك. وقال مجاهطد: في النصارى، ورجحه الطبري، لأنهم المذكورون في الآية أولا. وقال ابن عباس أيضا: اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال رافع بن خزيمة، من اليهود: إن كنت رسولا من عند الله، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله الآية. وقال قتادة: مشركو مكة. وقيل: الإشارة بقوله: * (الذين لا يعلمون) * إلى جميع هذه الطوائف، لأنهم كلهم قالوا هذه المقالة، واختلافهم في الموصول مبني على اختلافهم في السبب. فإن كان الموصول الجهلة من العرب، فنفى عنهم العلم، لأنهم لم يكن لهم كتاب، ولا هم أتباع نبوة، وإن كان الموصول اليهود والنصارى، فنفى عنهم العلم، لانتفاء ثمرته، وهو الاتباع له والعمل بمقتضاه. وحذف مفعول العلم هنا اقتصارا، لأن المقصود إنما هو نفي نسبة العلم إليهم، لا نفي علمهم بشيء مخصوص، فكأنه قيل: وقال الذين ليسوا ممن له سجية في العلم لفرط غباوته، فهي مقالة صدرت ممن لا يتصف بتمييز ولا إدراك. ومعمول القول، الجملة التخصيصية وهي: * (لولا يكلمنا الله) *؛ كما يكلم الملائكة، وكما كلم موسى
536

عليه السلام، قالوا ذلك على طريقة الاستكبار والعتو، * (وقال الذين لا) *، أي هلا يكون أحد هذين، إما التكلم، وإما إتيان آية؟ قالوا ذلك جحودا لأن يكون ما أتاهم آية واستهانة بها. ولما حكى عنهم نسبة الولد إلى الله تعالى، أعقب ذلك بمقالة أخرى لهم تدل على تعنتهم وجهلهم بما يجب لله تعالى من التعظيم وعدم الاقتراح على أنبيائه.
* (كذالك قال الذين من قبلهم مثل قولهم) *: تقدم الكلام في إعراب كذلك، وفي تبيين وقوع من قبلهم صلة للذين في قوله: * (والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * والذين من قبلهم. إن فسر الموصول في الذين لا يعلمون بكفار العرب، أو مشركي مكة، فالذين من قبلهم هم الأمم المكذبة من أسلافهم وغيرهم. وإن فسر باليهود أو النصارى، فالذين من قبلهم أسلافهم، وانتصاب مثل قولهم على البدل من موضع الكاف. ولا تدل المثلية على التماثل في نفس المقول، يل يحتمل أن من قبلهم اقترحوا غير ذلك، وأن المثلية وقعت في اقتراح ما لا يليق سؤاله، وإن لم تكن نفس تلك المقالة، إذ المثلية تصدق بهذا المعنى. * (تشابهت قلوبهم) *: الضمير عائد على * (الذين لا يعلمون) *، * (والذين من قبلهم) *. لما ذكر تماثل المقالات، وهي صادرة عن الأهواء والقلوب، ذكر تماثل قلوبهم في العمى والجهل، كقوله تعالى: * (أتواصوا به) *. قيل: تشابهت قلوبهم في الكفر. وقيل: في القسوة. وقيل: في التعنت والاقتراح. وقيل: في المحال. وقرأ ابن أبي إسحاق، وأبو حيوة: تشابهت، بتشديد الشين. وقال أبو عمرو الداني: وذلك غير جائز، لأنه فعل ماض، يعني أن اجتماع التاءين المزيدتين لا يكون في الماضي، إنما يكون في المضارع نحو: تتشابه، وحينئذ يجوز فيه الإدغام. أما الماضي فليس أصله تتشابه. وقد مر نظير هذه القراءة في قوله: * (إن البقر تشابه علينا) *، وخرجنا ذلك على تأويل لا يمكن هنا، فيتطلب هنا تأويل لهذه القراءة.
* (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) *: أي أوضحنا الآيات، فاقتراح آية مع تقدم مجيء آيات وإيضاحها، إنما هو على سبيل التعنت. هذا، وهي آيات مبينات، لا لبس فيها، ولا شبهة، لشدة إيضاحها. لكن لا يظهر كونها آيات إلا لمن كان موقنا، أما من كان في ارتياب، أو شك، أو تغافل، أو جهل، فلا ينفع فيه الآيات، ولو كانت في غاية الوضوح. ألا ترى إلى قولهم: * (إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) *؟ وقول أبي جهل، وقد سأل أهل البوادي الوافدين إلى مكة عن انشقاق القمر، فأخبروه به، فقال بعد ذلك: هذا سحر مستمر. ولما ذكر أن اقتراح ما تقدم إنما هو من أهواء الذين لا يعلمون، قال في آخرها: * (لقوم يوقنون) *. والإيقان: وصف في العلم يبلغ به نهاية الوثاقة في العلم، أي من كان موقنا، فقد أوضحنا له الآيات، فآمن بها، ووضحت عنده، وقامت به الحجة على غيره. وفي جميع الآيات رد على من اقتراح آية، إذ الآيات قد بينت، فلم يكن آية واحدة، فيمكن أن يدعي الالتباس فيها، بل ذلك جمع آيات بينات، لكن لا ينتفع بها إلا من كان من أهل العلم والتبصر واليقين.
* (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا) *: بشيرا لمن آمن، ونذيرا لمن كفر. وهذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، فإنه كان يضيق صدره لتماديهم على
ضلالهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر أنه بين الآيات، ذكر من بينت على يديه، فأقبل عليه وخاطبه صلى الله عليه وسلم) ليعلم أنه هو صاحب الآيات فقال: * (إنا أرسلناك بالحق) *، أي بالآيات الواضحة، وفسر الحق هنا بالصدق وبالقرآن وبالإسلام. وبالحق في موضع الحال، أي أرسلناك ومعك الحق لا يزايلك. وانتصاب بشيرا ونذيرا على الحال من الكاف، ويحتمل أن يكون حالا من الحق، لأن ما جاء به من الحق يتصف أيضا بالبشارة والنذارة. والأظهر الأول.
537

وعدل إلى فعيل للمبالغة، لأن فعيلا من صفات السجايا، والعدل في بشير للمبالغة، مقيس عند سيبويه، إذا جعلناه من بشر لأنهم قالوا بشر مخففا، وليس مقيسا في نذير لأنه من أنذر، ولعل محسن العدل فيه كونه معطوفا على ما يجوز ذلك فيه، لأنه قد يسوغ في الكلمة مع الاجتماع مع ما يقابلها ما لا يسوغ فيها لو انفردت، كما قالوا: أخذه ما قدم وما حدث وشبهة.
* (ولا تسئل عن أصحاب الجحيم) *: قراءة الجمهور: بضم التاء واللام. وقرأ أبي: وما تسأل. وقرأ ابن مسعود: ولن تسأل، وهذا كله خبر. فالقراءة الأولى، وقراءة أبي يحتمل أن تكون الجملة مستأنفة، وهو الأظهر، ويحتمل أن تكون في موضع الحال. وأما قراءة ابن مسعود فيتعين فيها الاستئناف، والمعنى على الاستئناف أنك لا تسأل عن الكفار ما لهم لم يؤمنوا، لأن ذلك ليس إليك، * (إن عليك إلا البلاغ) *، * (إنك لا تهدى من أحببت) *، * (إنما أنت منذر) *. وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم)، وتخفيف ما كان يجده من عنادهم، فكأنه قيل: لست مسؤولا عنهم، فلا يحزنك كفرهم. وفي ذلك دليل على أن أحدا لا يسأل عن ذنب أحد، * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *. وأما الحال فعطف على ما قبلها من الحال، أي وغير مسؤول عن الكفار ما لهم لا يؤمنون، فيكون قيدا في الإرسال، بخلاف الاستئناف. وقرأ نافع ويعقوب: ولا تسأل، بفتح التاء وجزم اللام، وذلك على النهي، وظاهره: أنه نهى حقيقة، نهى صلى الله عليه وسلم) أن يسأل عن أحوال الكفار. قال محمد بن كعب القرظي: قال النبي صلى الله عليه وسلم): (ليت شعري ما فعل أبواي)، فنزلت، واستبعد في المنتخب هذا، لأنه عالم بما آل إليه أمرهما. وقد ذكر عياض أنهما أحييا له فأسلما. وقد صح أن الله أذن له في زيارتهما، واستبعد أيضا ذلك، لأن سياق الكلام يدل على أن ذلك عائد على اليهود والنصارى ومشركي العرب، الذين جحدوا نبوته، وكفروا عنادا، وأصروا على كفرهم. وكذلك جاء بعده: * (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى) * إلا إن كان ذلك على سبيل الانقطاع من الكلام الأول، ويكون من تلوين الخطاب وهو بعيد. وقيل: يحتمل أن لا يكون نهيا حقيقة، بل جاء ذلك على سبيل تعظيم ما وقع فيه أهل الكفر من العذاب، كما تقول: كيف حال فلان، إذا كان قد وقع في بلية، فيقال لك: لا تسأل عنه. ووجه التعظيم: أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما ذلك الشخص فيه لفظاعته، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره، فلا تسأل، فيكون معنى التعظيم: إما بالنسبة إلى المجيب، وإما بالنسبة إلى المجاب، ولا يراد بذلك حقيقة النهي.
* (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) *: روي أن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم) الهدنة، ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعا منهم، فأطلعه الله على سر خداعهم، فنزلت نفي الله رضاهم عنه إلا بمتابعة دينهم، وذلك بيان أنهم أصحاب الجحيم الذين هم أصحابها، لا يطمع في إسلامهم. والظاهر أن قوله تعالى: * (ولن ترضى) * خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، علق رضاهم عنه بأمر مستحيل الوقوع منه صلى الله عليه وسلم)، وهو اتباع ملتهم. والمعلق بالمستحيل مستحيل، سواء فسرنا الملة بالشريعة، أو فسرناها بالقبلة، أو فسرناها بالقرآن. وقيل: هو خطاب له، وهو تأديب لأمته، فإنهم يعلمون قدره عند ربه، وإنما ذلك ليتأدب به المؤمنون، فلا يوالون الكافرين، فإنهم لا يرضيهم منهم إلا اتباع دينهم. وقيل: هو خطاب له، والمراد أمته، لأن المخاطب لا يمكن ما خوطب به أن يقع منه، فيصرف ذلك إلى من يمكن ذلك منه، مثل قوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *، ويكون تنبيها من الله على أن اليهود والنصارى يخادعونكم بما يظهرون من الميل وطلب المهادنة والوعد بالموافقة، ولا يقع رضاهم إلا باتباع ملتهم. ووحدت الملة، وإن كان لهم ملتان، لأنهما يجمعهما الكفر، فهي واحدة بهذا الاعتبار، أو للإيجاز فيكون من باب الجمع في الضمير، نظير: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى) *، لأن المعلوم أن النصارى لن ترضى حتى تتبع ملتهم، واليهود لن ترضى حتى تتبع ملتهم. وقد اختلف العلماء في الكفر، أهو ملة واحدة أو ملل؟ وثمرة الخلاف تظهر في الارتداد من ملة إلى ملة، وفي
538

الميراث، وذلك مذكور في الفقه.
* (قل إن هدى الله هو الهدى) *: أمره أن يخاطبهم بأن هدى الله، أي الذي هو مضاف إلى الله، وهو الإسلام الذي أنت عليه، هو الهدى، أي النافع التام الذي لا هدى وراءهم، وما أمرتم باتباعه هو هوى لا هدى، * (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) *. وأكد الجملة بأن وبالفصل الذي قبل، فدل على الاختصاص والحصر، وجاء الهدى معرفا بالألف واللام، وهو مما قيل: إن ذلك يدل على الحصر، فإذا قلت: زيد العالم، فكأنه قيل: هو الخصوص بالعلم والمحصور فيه ذلك. ثم ذكر تعالى أن ما هم عليه إنما هي أهواء وضلالات ناشئة عن شهواتهم وميولهم، فقال: * (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) *: وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم) على الأقوال التي في قوله: * (ولن ترضى) *. واللام في لئن تسمى الموطئة والمؤذنة، وهي تشعر بقسم مقدر قبلها، ولذلك يبنى ما بعد الشرط على القسم لا على الشرط، إذ لو بنى على الشرط لدخلت الفاء في قوله: * (ما لك) *. والأهواء: جمع هوى، وكان الجمع دليلا على كثرة اختلافهم، إذ لو كانوا على حق لكان طريقا واحدا، * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *. وأضاف الأهواء إليهم لأنها بدعهم وضلالاتهم، ولذلك سمى أصحاب البدع: أرباب الأهواء. * (ما جاءك من العلم) *: أي من الدين وجعله علما، لأنه معلوم بالبراهين الصحيحة، وتدل هذه الآية على أمور منها: أن من علم الله منه أنه لا يفعل الشيء، يجوز أن يخاطب بالوعيد لاحتمال أن يكون الصارف له ذلك الوعيد، أو يكون ذلك الوعيد أحد الصوارف، ونظيره: لئن أشركت ليحبطن عملك. ومنها، إن قوله: * (بعد الذي جاءك من العلم) * يدل على أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد المعذرة أولا، فيبطل بذلك تكليف ما لا
يطاق. ومنها: أن اتباع الهوى باطل، فيدل على بطلان التقليد. وقد فسر العلم هنا بالقرآن، وبالعلم بضلال القوم، وبالبيان بأن دين الله هو الإسلام، وبالتحول إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وفي قوله؛ * (ما لك من الله من ولي ولا نصير) *، قطع لأطماعهم أن تتبع أهواؤهم، لأن من علم أنه لا ولي له ولا نصير ينفعه إذا ارتكب شيئا كان أبعد في أن لا يرتكبه، وذلك إياس لهم في أن يتبع أهواءهم أحد، وقد تقدم الكلام في الولي والنصير، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. * (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به) *، قال ابن عباس: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب، وكانوا اثنين وثلاثين من أهل الحبشة، وثمانية من رهبان الشام. وقيل: كان بعضهم من أهل نجران، وبعضهم من أهل الحبشة، ومن الروم، وثمانية ملاحون أصحاب السفينة أقبلوا مع جعفر. وقال الضحاك: هم من آمن من اليهود، كابن سلام، وابن صوريا، وابن يامين، وغيرهم. وقيل: في علماء اليهود وأحبار النصارى. وقال ابن كيسان: الأنبياء والمرسلون. وقيل: المؤمنون. وقيل: الصحابة، قاله عكرمة وقتادة. وعلى هذا الاختلاف، يتنزل الاختلاف في الكتاب، أهو التوراة أو الإنجيل؟ أو هما والقرآن؟ أو الجنس؟ فيكون يعني به به المكتوب، فيشمل الكتب المتقدمة. * (يتلونه حق تلاوته) *: أي يقرؤونه ويرتلونه بإعرابه. وقال عكرمة: يتبعون أحكامه. وقال الحسن: يعملون بمحكمه ويكلون متشابهه إلى الله. وقال عمر: يسألون من رحمته ويستعيذون من عذابه. وقال الزمخشري: لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم). والذين: مبتدأ، فإن أريد به الخصوص في من اهتدى، صح أن يكون يتلونه خبرا عنه، وصح أن يكون حالا مقدرة إما من ضمير المفعول، وإما من الكتاب، لأنهم وقت الإيتاء لم يكونوا تالين له، ولا كان هو متلوا لهم، ويكون الخبر إذ ذاك في
539

الجملة من قوله: * (أولئك يؤمنون به) *. وجوز الحوفي أن يكون يتلونه خبرا، وأولئك وما بعده خبر بعد خبر. قال مثل قولهم: هذا حلو حامض، وهذا مبني على أنه هل يقتضي المبتدأ الواحد خبرين؟ ألم لا يقتضي إلا إذا كان في معنى خبر واحد كقولهم: هذا حلو حامض، أي مز، وفي ذلك خلاف. وإن أريد بالذين آتيناهم الكتاب العموم، كان الخبر أولئك يؤمنون به، قالوا، ومنهم ابن عطية: ويتلونه حال لا يستغنى عنها، وفيها الفائدة، ولا يجوز أن يكون خبرا، لأنه كان يكون كل مؤمن يتلو الكتاب، وليس كذلك بأي تفسير فسرت التلاوة. ونقول: ما لزم في الامتناع من جعلها خبرا، يلزم في الحال، لأنه ليس كل مؤمن يكون على حالة التلاوة بأي تفسير فسرتها. وانتصب حق تلاوته على المصدر، كما تقول: ضربت زيدا حق ضربه، وأصله تلاوة حقا. ثم قدم الوصف، وأضيف إلى المصدر، وصار نظير: ضربت شديد الضرب، إذ أصله: ضربا شديدا. وجوزوا أن يكون وصفا لمصدر محذوف، وأن يكون منصوبا على الحال من الفاعل، أي يتلونه محقين. وقال ابن عطية: وحق مصدر والعامل فيه فعل مضمر، وهو بمعنى، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرف، وإنما جازت عنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم: رجل واحد أمه، ونسيج وحده. انتهى كلامه. وأولئك يؤمنون به: ظاهره أن الضمير في به يعود إلى ما يعود عليه الضمير في يتلونه، وهو الكتاب، على اختلاف الناس في الكتاب. وقيل: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم)، قالوا: وإن لم يتقدم له ذكر، لكن دلت قوة الكلام عليه، وليس كذلك، بل قد تقدم ذكره في قوله: * (إنا أرسلناك بالحق) *، لكن صار ذلك التفاتا وخروجا من خطاب إلى غيبة. وقيل: يعود على الله تعالى، ويكون التفاتا أيضا وخروجا من ضمير المتكلم المعظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد. قال ابن عطية: ويحتمل عندي أن يعود الضمير على الهدى الذي تقدم، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في الآية، وحذر رسوله من اتباع أهوائهم، وأعلمه بأن هدى الله هو الهدى الذي أعطاه وبعثه به. ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذلك الهدى المقتدون بأنواره. انتهى كلامه، وهو محتمل لما ذكر. لكن الظاهر أن يعود على الكتاب لتتناسب الضمائر ولا تختلف، فيحصل التعقيد في اللفظ، والإلباس في المعنى، لأنه إذا كان جعل الضمائر المتناسبة عائدة على واحد، والمعنى فيها جيد صحيح الإسناد، كان أولى من جعلها متنافرة، ولا نعدل إلى ذلك إلا بصارف عن الوجه الأول، إما لفظي، وإما معنوي، وإلى عوده على الكتاب ذهب الزمخشري.
* (ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) *: الضمير في به في هذه الجملة فيه من الخلاف ما فيه من الجملة السابقة، والظاهر كما قلناه، إنه عائد على الكتاب، ولم يعادل بين الجملتين في التركيب الخبري غير الشرطي أو الشرطي. بل قصد في الأولى إلى ذكر الحكم من غير تعليق عليه، ودل مقابلة الخسران على ربح من آمن به وفوزه ووفور حظه عند الله، فاكتفى بثبوت السبب عن ذكر المسبب عنه. وقصد في الجملة الثانية إلى ذكر المسبب على تقدير حصول السبب، فكان في ذلك تنفير عن تعاطي السبب لما يترتب عليه من المسبب الذي هو الخسران ونقص الحظ، وأخرج ذلك في جملة شرطية حمل فيها الشرط على لفظ من، والجزاء على معناها. وهم: محتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون فصلا. وعلى كلا التقديرين يكون في ذلك توكيد. وفي المنتخب الذي يليق به هذا الوصف، هو القرآن. وأولئك: الأولى عائدة على المؤمنين، والثانية عائدة على الكفار. والدليل عليه، أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب، فلما ذم طريقتهم وحكى سوء أفعالهم، أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم، بأن تأمل التوراة وترك تحريفها، وعرف منها صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم). انتهى. والتلاوة لها معنيان: القراءة لفظا، والاتباع فعلا. وقد تقدم ما نقل في تفسير التلاوة هنا، والأولى أن يحمل على كل تلك الوجوه، لأنها مشتركة في المفهوم، وهو أن بينها كلها قدرا مشتركا، فينبغي أن يحمل عليه لكثرة الفوائد.
540

* (الخاسرون يابنى إسراءيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) *: كرر نداء بني إسرائيل هنا، وذكرهم بنعمه على سبيل التوكيد، إذ أعقب ذلك النداء ذكر نداء ثان يلي ذكر الطائفتين متبعي الهدى والكافرين المكذبين بالآيات. وهذا النداء أعقب ذكر تلك الطائفتين من المؤمنين والكافرين. وكان ما بين النداءين قصص بني إسرائيل، وما أنعم الله به عليهم، وما صدر منهم، من أفعالهم التي لا تليق بمن أنعم الله عليه، من المخالفات والكذب والتعنتات، وما جوزوا به في الدنيا على ذلك، وما أعد لهم في الآخرة محشوا بين التذكيرين ومجعولا بين الوعظين والتخويفين ليوم القيامة. ونظير ذلك في الكلام أن تأمر شخصا بشيء على جهة الإجمال، ثم تفصل له ذلك الشيء إلى أشياء كثيرة عديدة، وأنت تسردها له
سردا، وكل واحدة منها هي مندرجة تحت ذلك الأمر السابق. ويطول بك الكلام حتى تكاد تتناسى ما سبق من ذلك الأمر، فتعيده ثانية، لتتذكر ذلك الأمر، وتصير تلك التفصيلات محفوفة بالأمرين المذكورين بهما. ولم تختلف هذه الآية مع تلك السابقة إلا في قوله هناك: * (ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) *، وقال هنا: * (ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة) *. وقد ذكرنا هناك ما ناسب تقديم الشفاعة هناك على العدل، وتأخيرها هنا عنه، ونسبة القبول هناك للشفاعة، والنفع هنا لها، فيطالع هناك.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة الأخبار عن مجاوزة الحد في الظلم ممن عطل بيوت الله من الذكر وسعي في خرابها، مع أنها من حيث هي منسوبة إلى الله، وهي محال ذكره وإيواء عباده الصالحين، كان ينبغي أن لا يدخلوها إلا وهم وجلون خائفون، متذكرون لمن بنيت، ولما يذكر فيها. ثم أخبر أن لأولئك الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة. ثم ذكر أن له تعالى المشرق والمغرب، فيندرج في ذلك المساجد، وأي جهة قصدتموها فالله تعالى حاويها ومالكها، فليس مختصا بحيز ولا مكان. وختم هذه الجملة بالوسع المنافي لوسع المقادير، وبالعلم الذي هو دليل الإحاطة.
ثم أخبر عنهم بأفظع مقالة، وهي نسبة الولد إلى الله تعالى، ونزه ذاته المقدسة عن ذلك، وأخبر أن جميع من في السماوات والأرض ملك له، خاضعون طائعون. ثم ذكر بداعة السماوات والأرض، وأنها مخلوقة على غير مثال، فكما أنه لا مثال لهما، فكذلك الفاعل لهما، لا مثال له. ففي ذلك إشارة إلى أنه يمتنع الولد، إذ لو كان له ولد لكان من جنسه، والبارىء لا شيء يشبهه، فلا ولد له، ثم ذكر أنه متى تعلقت إرادته بما يريد أن يحدثه، فلا تأخر له، وفيه إشارة أيضا إلى نفي الولد، لأنه لا يكون إلا عن توالد، ويقتضي إلى تعاقب أزمان، تعالى الله عن ذلك ثم ذكر نوعا من مقالاتهم التي تعنتوا بها أنبياء الله، من طلب كلامه ومشافهته إياهم، أو نزول آية. وقد نزلت آيات كثيرة، فلم يصغوا إليها، وأن هذه المقالة اقتفوا بها آثار من تقدمهم، وأن أهواءهم متماثلة في تعنت الأنبياء، وأنه تعالى قد بين الآيات وأوضحها، لكن لمن له فكر فهو يوقن بصحتها ويؤمن بها. ثم ذكر تعالى أنه أرسله بشيرا لمن آمن بالنعيم في الآخرة والظفر في الدنيا، ونذيرا لمن كفر بعكس ذلك، وأن لا تهتم بمن ختم له بالشقاوة، فكان من أهل النار، ولا تغتم بعدم إيمانه، فقد أبلغت وأعذرت. ثم ذكر ما عليه اليهود والنصارى من شدة تعاميهم عن الحق، بأنهم لا يرضون عنك حتى تخالف ما جاءك من الهدى الذي هو هدى الله، إلى ما هم عليه من ملة الكفر واتباع الأهواء. ثم أخبر أن متبع أهوائهم بعد وضوح ما وافاه من الدين والإسلام، لا أحد ينصره ولا يمنعه من عذاب الله. وأن الذين آتاهم الكتاب واصطفاهم له يتبعون الكتاب، ويتتبعون معانيه، فهم مصدقون بما تضمنه مما غاب عنهم علمه، ولم يحصل لهم استفادته إلا منه، من خبر ماض أو آت، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأن من كفر به حق عليه الخسران.
ثم ختم هذه الآيات بأمر بني إسرائيل بذكر نعمه السابقة، وتفضيلهم
541

على عالمي زمانهم، وكان ثالث نداء نودي به بنو إسرائيل، بالإضافة إلى أبيهم الأعلى، وتشريفهم بولادتهم منه. ثم أعرض في معظم القرآن عن ندائهم بهذا الاسم، وطمس ما كان لهم من نور هذا الوسم، والثلاث هي مبدأ الكثرة، وقد اهتم بك من نبهك وناداك مرة ومرة ومرة:
* لقد أسمعت لو ناديت حيا
*
ولكن لا حياة لمن تنادي
*
2 (* (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتى قال لا ينال عهدي الظالمين * وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى للطآئفين والعاكفين والركع السجود * وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من ءامن منهم بالله واليوم الا خر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير * وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منآ إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينآ إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم * ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه فى الا خرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) *)) 2
إبراهيم: اسم علم أعجمي. قيل: ومعناه بالسريانية قبل النقل إلى العلمية: أب رحيم، وفيه لغى ست: إبراهيم بألف وياء وهي الشهيرة المتداولة، وبألف مكان الياء، وبإسقاط الياء مع كسر الهاء، أو فتحها، أو ضمها، وبحذف الألف والياء وفتح الهاء، قال عبد المطلب:
* نحن آل الله في كعبته
*
لم نزل ذاك على عهد إبراهم
*
وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
* عذت بما عاذ به إبراهم
*
إذ قال وجهي لك عان راغم
*
الإتمام: الإكمال، والهمزة فيه للنقل. ثم الشيء يتم: كمل، وهو ضد النقص. الإمام: القدوة الذي يؤتم به، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، وهو مفرد على فعال، كالإزار للذي يؤتزر به، ويكون جمع آم، اسم فاعل من أم يؤم، كجائع وجياع، وقائم وقيام، ونائم ونيام. الذرية: النسل، مشتقة من ذروت، أو ذريت، أو ذرأ الله الخلق، أو
542

الذر. ويضم ذالها، أو يكسر، أو يفتح. فأما الضم فيجوز أن تكون ذرية، فعيلة من ذرأ الله الخلق، وأصله ذريئة، فخففت الهمزة بإبدالها ياء، كما خففوا همزة النسيء فقالوا: النسي، ثم أدغموا الياء التي هي لام الفعل التي هي للمد. ويجوز أن تكون فعولة من ذروت، الأصل ذرووة، أبدلت لام الفعل ياء. اجتمع لك واو وياء واو المد والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت واو المد ياء، وأدغمت في الياء، وكسر ما قبلها، لأن الياء تطلب الكسر. ويجوز أن تكون فعيلة من ذرت، أصلها ذريوة، اجتمعت ياء المد والواو التي هي لام الكلمة وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت ياء المد فيها. ويجوز أن تكون فعولة أو فعيلة من ذريت لغة في ذروت، فأصلها أن تكون فعولة ذروية، وإن كان فعيلة ذريية، ثم أدغم. ويجوز أن تكون فعيلة من الذر منسوبة، أو فعلية من الذر غير منسوبة، أو فعيلة، كمريقة، أو فعول، كسبوح وقدوس، أو فعلولة، كقردودة الظهر، فضم أولها إن كان اسما، كقمرية، وإن كانت منسوبة، كما قالوا في النسب إلى الدهر: دهري، وإلى السهل، سهلي. وأصل فعيلة من الذر: ذريرة، وفعولة من الذر: ذرورة، وكذلك فعلولة، أبدلت الراء الآخرة في ذلك ياء كراهة التضعيف، كما قالوا في تسررت؛ تسريت. وأما من كسر ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ الله الخلق، كبطيخة، فأبدلت الهمزة ياء، وأدغمت في ياء المد، أو فعلية من الذر منسوبة على غير قياس، أو فعيلة من الذر أصله ذريرة، أو فعليل، كحلتيت. ويحتمل أن تكون ذريوة من ذروت، أو فعيلة ذريئة من ذريت. وأما من فتح ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ، مثل سكينة، أو فعولة من هذا أيضا، كخروبة. فالأصل ذروءة، فأبدلت الهمزة ياء بدلا مسموعا، وقلبت الواو ياء وأدغمت. ويحتمل أن تكون فعيلة من الذر غير منسوبة، كبرنيه، أو منسوبة إلى الذر، أو فعولة، كخروبه من الذر أصلها ذرورة، ففعل بها ما تقدم، أو فعلولة، كبكولة، فالأصل ذرورة أيضا، أو فعيلة، كسكينة ذريرة، فقلبت الراء ياء في ذلك كله، ويحتمل أن يكون من ذروت فعيلة، كسكينة، فأوصل ذريوة، أو من ذريت ذريية، أو فعولة من ذروت أو ذريت. وأما من بناها على فعلة، كجفنة، وقال ذرية، فإنها من ذريت. النيل: الإدراك. نلت الشيء أناله نيلا، والنيل: العطاء. البيت: معروف، وصار علما بالغلبة على الكعبة، كالنجم للثريا. الأمن: مصدر أمن يأمن، إذا لم يخف واطمأنت نفسه. المقام: مفعل من القيام، يحتمل المصدر والزمان والمكان. إسماعيل: اسم أعجمي علم، ويقال إسماعيل باللام وإسماعين بالنون، قال:
* قال جواري الحي لماجينا
*
هذا ورب البيت اسماعينا
*
ومن غريب ما قيل في التسمية به أن إبراهيم كان يدعو أن يرزقه الله ولدا ويقول: اسمع إيل، وايل هو الله تعالى. التطهير: مصدر طهر، والتضعيف فيه للتعدية. يقال: طهر الشيء طهارة: نطف. الطائف: اسم فاعل من طاف به إذا دار به، ويقال أطاف: بمعنى طاف، قال:
أطافت به جيلان عند فطامه
543

والعاكف: اسم فاعل من عكف بالشيء: أقام به ولازمه، قال:
عليه الطير ترقبه عكوفا
وقال يعكفون على أصنام لهم: أي يقيمون على عبادتها. البلد: معروف، والبلد الصدر، وبه سمي البلد لأنه صدر القرى. يقال: وضعت الناقة بلدتها إذا بركت. وقيل: سمي البلد بمعنى الأثر، ومنه قيل بليد لتأثير الجهل فيه، ومنه قيل لبركة البعير بلدة لتأثيرها في الأرض إذ بركت، قال:
* أنيخت فألقت بلدة بعد بلدة
*
قليل بها الأصوات إلا بغامها
*
والبارك: البارك بالبلد. الاضطرار: هو الإلجاء إلى الشيء والإكراه عليه، وهو افتعل من الضر، أصله: اضترار، أبدلت التاء طاء بدلا لازما، وفعله متعد، وعلى ذلك استعماله في القرآن، وفي كلام العرب، قال:
اضطرك الحرز من سلمى إلى أجأ
المصير: مفعل من صار يصير، فيكون للزمان والمكان، وأما المصدر فقياسه مفعل بفتح العين، لأن ما كسرت عين مضارعة فقياسه ما ذكرناه، لكن النحويين اختلفوا فيما كان عينه ياء من ذلك على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه كالصحيح، فيفتح في المصدر ويكسر في الزمان والمكان. الثاني: أنه مخير فيه. الثالث: أنه يقتصر على السماع، فما فتحت فيه العرب فتحنا، وما كسرت كسرنا. وهذا هو الأولى. القواعد: قال الكسائي والفراء: هي الجدر، وقال أبو عبيدة: الأساس، قال:
* في ذروة من بقاع أولهم
*
زانت عواليها قواعدها
*
وبالأساس فسرها ابن عطية أولا والزمخشري وقال: هي صفة غالبة، ومعناها الثانية، ومنه قعدك الله، أي أسأل الله أن يقعدك، أي يثبتك. انتهى كلامه. والقواعد من النساء جمع قاعد، وهي التي قعدت عن الولد، وسيأتي الكلام على كون قاعد لم تأت بالتاء في مكانه، إن شاء الله تعالى. الأمة: الجماعة، وهو لفظ مشترك ينطلق على الجماعة، والواحد المعظم المتبوع، والمنفرد في الأمر والدين والحين. والأم: هذه أمة زيد، أي أمه، والقامة والشجة التي تبلغ أم الدماغ، وأتباع الرسل، والطريقة المستقيمة، والجيل. المناسك: جمع منسك ومنسك، والكسر في سين منسك شاذ، لأن اسم المصدر والزمان والمكان من يفعل بضم العين، أو فتحها مفعل بفتح العين إلا ما شذ من ذلك، والناسك: المتعبد. البعث: الإرسال، والإحياء، والهبوب من النوم. العزيز، يقال: عزيعز بضم العين، أي غلب، ومنه: وعزني في الخطاب، وعزيعز بفتحها، أي اشتد، ومنه: عز على هذا الأمر، أي شق،
544

وتعزز لحم الناقة: اشتد. وعز يعز من النفاسة، أي لا نظير له، أو قل نظيره. الرغبة عن الشيء: الزهادة فيه، والرغبة فيه: الإيثار له والاختيار له، وأصل الرغبة: الطلب. الاصطفاء: الانتجاب والاختيار، وهو افتعال من الصفو، وهو الخالص من الكدر والشوائب، أبدلت من تائه طاء، كان ثلاثيه لازما. صفا الشيء يصفو، وجاء الافتعال منه متعديا، ومعنى الافتعال هنا: التخير، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل.
* (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتى) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة، وأن اليهود عيروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة وترك بيت المقدس، كما قال: * (ما ولاهم عن قبلتهم) *، ذكر حديث إبراهيم وما ابتلاه به الله، واستطرد إلى ذكر البيت وكيفية بنائه، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعا لشرعه، واقتفاء لآثاره. فكان تعظيم البيت لازما لهم، فنبه الله بذلك على سوء اعتمادهم، وكثرة مخالفتهم، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم، وأنهم، وإن كانوا من نسله، لا ينالون لظلمهم شيئا من عهده، وإذ العامل فيه على ما ذكروا محذوف، وقدروه اذكر، أي أذكرا إذ ابتلي إبراهيم، فيكون مفعولا به، أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى: * (وإذ قال ربك للملائكة) *، والاختيار أن يكون العامل فيه ملفوظا به، وهو * (قال إنى جاعلك) *. والابتلاء: الاختبار، ومعناه أنه كلفه بأوامر ونواه. والباري تعالى عالم بما يكون منه. وقيل: معناه أمر. قال الزمخشري: واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اخيتار أحد الأمرين: ما يريد الله، وما يشتهيه العبد، كأنه امتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. انتهى كلامه، وفيه دسيسة الاعتزال. وفي ري الظمآن الابتلاء: إظهار الفعل، والاختبار: طلب الخبر، وهما متلازمان.
وإبراهيم هنا، وفي جميع القرآن هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهو خليل الله، ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر، وهو هود النبي عليه السلام، ومولده بأرض الأهواز. وقيل: بكوثي، وقيل: ببابل، وقيل: بنجران، ونقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان. وقد تقدم ذكر اللغات الست في لفظه. وقرأ الجمهور: إبراهيم بالألف والياء. وقرأ ابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان في البقرة بألفين. زاد هشام أنه قرأ كذلك في: إبراهيم، والنحل، ومريم، والشورى، والذاريات، والنجم، والحديد، وأول الممتحنة، وثلاث آخر النساء، وأخرى التوبة، وآخر الأنعام، والعنكبوت. وقرأ المفضل: ابراهام بألفين، إلا في المودة والأعلى. وقرأ ابن الزبير: ابراهام، وقرأ أبو بكرة: إبراهم بألف وحذف الياء وكسر الهاء. وقرأ الجمهور: بنصب إبراهيم ورفع ربه. وقرأ ابن عباس، وأبو الشعثاء، وأبو حنيفة: برفع إبراهيم ونصب ربه. فقراءة الجمهور على أن الفاعل هو الرب، وتقدم معنى ابتلائه إياه. قال ابن عطية: وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء، إذ معلوم أن الله تعالى هو المبتلي. وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول. انتهى كلامه، وفيه بعض تلخيص. وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور. وقد جاء في كلام العرب مثل: ضرب غلامه زيدا، وقال: وقاس عليه بعض النحويين، وتأول بعضه الجمهور، أو حمله على الشذوذ. وقد طول الزمخشري في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في الكشاف، وليست من المسائل التي يطول فيها لشهرتها في العربية. وقرأ ابن عباس: معناها أنه دعا ربه بكلمات من
545

الدعاء بتطلب فيها الإجابة، فأطلق على ذلك ابتلاء على سبيل المجاز لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير على الإنسان.
والكلمات لم تبين في القرآن ما هي، ولا في الحديث الصحيح، وللمفسرين فيها أقوال: الأول: روى طاوس، عن ابن عباس أنها العشرة التي من الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والفرق، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وحلق العانة، والاستطابة، والختان، وهذا قول قتادة. الثاني عشر: وهي: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، وغسل يوم الجمعة، والطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، والإفاضة. وروي هذا عن ابن عباس أيضا. الثالث: ثلاثون سهما في الإسلام، لم يتم ذلك أحد إلا إبراهيم، وهي عشر في براءة * (التائبون) * الآية، وعشر في الأحزاب * (إن المسلمين) * الآية،
وعشر في * (قد أفلح) * وفي المعارج. وروي هذا عن ابن عباس أيضا. الرابع: هي الخصال الست التي امتحن بها الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان. وقيل: بدل الهجرة الذبح لولده، قاله الحسن. الخامس: مناسك الحج، رواه قتادة، عن ابن عباس. السادس: كل مسألة سألها إبراهيم في القرآن مثل: * (رب اجعل هاذا البلد امنا) *، قاله مقاتل. السابع: هي قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقوله: ربنا تقبل منا، قاله ابن جبير. الثامن: هو قوله تعالى: * (وحاجه قومه) *، قاله يمان. التاسع: هي قوله: * (الذى خلقنى فهو يهدين) * الآيات، قاله أبو روق. العاشر: هي ما ابتلاه به في ماله وولده ونفسه، فسلم ماله للضيفان، وولده للقربان، ونفسه للنيران، وقلبه للرحمن، فاتخذه الله خليلا. الحادي عشر: هو أن الله أوحى إليه أن تطهر فتمضمض، ثم أن تطهر فاستنشق، ثم أن تطهر فاستاك، ثم أن تطهر فأخذ من شاربة، ثم أن تطهر ففرق شعره، ثم أن تطهر فاستنجى، ثم أن تطهر فحلق عانته، ثم أن تطهر فنتف إبطه، ثم أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ماذا يصنع، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة. وفي البخاري، أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم، وأوحى الله إليه * (إنى جاعلك للناس إماما) *، يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون. فإن صحت تلك الرواية، فالتأويل أنه اختتن بعد عشرين ومائة سنة من ميلاده، وابن ثمانين سنة من وقت نبوته، فيتفق التاريخان، والله أعلم. الثاني عشر: هي عشرة: شهادة أن لا إلاه إلا الله، وهي الملة والصلاة، وهي الفطرة والزكاة، وهي الطهرة والصوم، وهو الجنة والحج، وهو الشعيرة والغزو، وهو النصرة والطاعة، وهي العصمة والجماعة، وهي
546

الألفة والأمر بالمعروف، وهو الوفاء والنهي عن المنكر، وهو الحجة. الثالث عشر: هي: تجعلني إماما، وتجعل البيت مثابة وأمنا، وترينا مناسكنا، وتتوب علينا، وهذا البلد آمنا، وترزق أهله من الثمرات. فأجابه الله في ذلك بما سأله، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك.
وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما ابتلى الله به إبراهيم، إذ كلها ابتلاه بها، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد، ولا على التعيين، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض. وهذه الأشياء التي فسر بها الكلمات، إن كانت أقوالا، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات، وإن كانت أفعالا، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازا، لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر، والأوامر كلمات. سميت الذات كلمة لبروزها عن كلمة كن. قال تعالى: * (وكلمته ألقاها إلى مريم) *. وقد تكلم بعض المفسرين في أحكام ما شرحت به الكلمات من: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والفرق، والسدل، والسواك، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والاستنجاء، والختان، والشيب وتغييره، والثريد، والضيافة. وهذا يبحث فيه في علم الفقه، وليس كتابنا موضوعا لذلك، فلذلك تركنا الكلام على ذلك.
فأتمهن: الضمير المستكن في فأتمهن يظهر أنه يعود إلى الله تعالى، لأنه هو المسند إليه الفعل قبله على طريق الفاعلية. فأتمهن معطوف على ابتلى، فالمناسب التطابق في الضمير. وعلى هذا، فالمعنى: أي أكملهن له من غير نقص، أو بينهن، والبيان به يتم المعنى ويظهر، أو يسر له العمل بهن وقواه على إتمامهن، أو أتم له أجورهن، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، أقوال خمسة. ويحتمل أن يعود الضمير المستكن على إبراهيم. فالمعنى على هذا أدامهن، أو أقام بهن، قاله الضحاك؛ أو عمل بهن، قاله يمان؛ أو وفى بهن، قاله الربيع، أو أداهن، قاله قتادة. خمسة أقوال تقرب من الترادف، إذ محصولها أنه أتى بهن على الوجه المأمور به. واختلفوا في هذا الابتلاء، هل كان قبل نبوته أو بعدها؟ فقال االقاضي: كان قبل النبوة، لأنه نبه على أن قيامه بهن كالسبب، لأنه جعله إماما، والسبب مقدم على المسبب، فوجب كون الابتلاء مقدما في الوجود على صيرورته إماما. وقال آخرون: إنه بعد النبوة، لأنه لا يعلم كونه مكلفا بتلك التكاليف إلا من الوحي، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك. أجاب القاضي: بأنه يحتمل أنه أوحى إليه على لسان جبريل بهذه التكاليف الشاقة، فلما تمم ذلك، جعله نبيا مبعوثا إلى الخلق.
* (قال إنى جاعلك) *: تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفا، كانت قال استئنافا، فكأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: * (قال إنى جاعلك للناس إماما) *. وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها، أي وقال إني جاعلك للناس إماما، إذ ابتلاه، ويجوز أن يكون بيانا لقوله: ابتلى، وتفسيرا له. للناس: يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم. وللناس: في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها، التقدير: إماما كائنا للناس، قالوا: ويحتمل أن يكون متعلقا بجاعلك، أي لأجل الناس. وجاعل هنا بمعنى مصير، فيتعدى لاثنين، الأول: الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل، والثاني: إماما. قيل: قال أهل التحقيق: والمراد بالإمام هنا: النبي، أي صاحب شرع متبع، لأنه لو كان تبعا لرسول، لكان مأموما لذلك الرسول لا إماما ماله. ولأن لفظ الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء، ومن يكون كذلك، لا يكون إلا نبيا. ولأن الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتباعهم هم أئمة، قال تعالى: * (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا) *. والخلفاء أيضا أئمة، وكذلك القضاة والفقهاء والمصلي بالناس، ومن يؤتم به في الباطل. قال تعالى: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) *. فلما تناول الاسم هؤلاء كلهم، وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب وأعلاها، لأنه ذكره في معرض الامتنان، فلا بد أن يكون أعظم نعمة، ولا شيء أعظم من النبوة.
547

قال ومن ذريتي، قال الزمخشري: عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيدا. انتهى كلامه. ولا يصح العطف على الكاف، لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار، ولم يعدو، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافا إليها، لأنها حرف، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلا مضافا إليها لا يصح، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف، لأنه نصب، فيجعل من في موضع نصب، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع، على مذهب سيبويه، لفوات المحرز، وليس نظير: سأكرمك، فتقول: وزيدا لأن الكاف هنا في موضع نصب. والذي يقتضيه
المعنى أن يكون من ذريتي متعلقا بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماما، لأن إبراهيم فهم من قوله إني جاعلك للناس إماما الاختصاص، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماما. وقرأ زيد بن ثابت: ذريتي بالكسر في الذال. وقرأ أبو جعفر بفتحها. وقرأ الجمهور بالضم، وذكرنا أنها لغات فيها، ومن أي شيء اشتقت حين تكلمنا على المفردات.
* (قال لا ينال عهدي الظالمين) *: والضمير في قال الثانية ضمير إبراهيم، وفي قال هذه عائد على الله تعالى. والعهد: الإمامة، قال مجاهد: أو النبوة، قاله السدي؛ أو الأمان، قاله قتادة. وروي عن السدي، واختاره الزجاج: أو الثواب قاله قتادة أيضا؛ أو الرحمة، قاله عطاء؛ أو الدين، قاله الضحاك والربيع، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه، قاله ابن عباس؛ أو الأمر من قوله: * (إن الله عهد إلينا) *، * (ألم أعهد إليكم) *؛ أو إدخاله الجنة من قوله: كان له * (عند الله عهدا) *، أن يدخله الجنة؛ أو طاعتي، قاله الضحاك أيضا؛ أو الميثاق؛ أو الأمانة. والظاهر من هذه الأقوال: أن العهد هي الإمامة، لأنها هي المصدر بها، فأعلم إبراهيم أن الإمامة لا تنال الظالمين. وذكر بعض أهل العلم أن قوله: * (ومن ذريتى) * هو استعلام، كأنه قيل: أتجعل من ذريتي إماما: وقد قدمنا أن الظاهر أنه على سبيل الطلب، أي واجعل من ذريتي. وهذا الجواب الذي أجاب الله به إبراهيم هو من الجواب الذي يربو على السؤال، لأن إبراهيم طلب من الله، وسأل أن يجعل من ذريته إماما، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين، ودل بمفهومه لقطه على أنه ينال عهده من ليس بظالم، وكان ذلك دليلا على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم، ويدلك على أن العهد هو الإمامة أن ظاهر قوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) * أنه جواب لقول إبراهيم: * (ومن ذريتى) * على سبيل الجعل، إذ لو كان على سبيل المنع لقال لا، أو لا ينال عهدي ذريتك، ولم ينط المنع بالظالمين. وقرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش: الظالمون بالرفع، لأن العهد ينال، كما ينال أي عهدي لا يصل إلى الظالمين، أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه. وقد فسر الظلم هنا بالكفر، وهو قول ابن جبير، وبظلم المعاصي غير الكفر، وهو قول عطاء والسدي. واستدل بهذا على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده، قال الحسن: لم يجعل الله لهم عهدا. قال ابن أبي الفضل: ما ذكره المفسرون من أنه سأل الإمامة لذريته، وأنه أجيب إلى ملتمسه لا يظهر من اللفظ، لأنه قال: ومن ذريتي، وهو محتمل، وجاعل من ذريتي، أو تجعل من ذريتي، أو اجعل من ذريتي. وإذا كان هذا كله محتملا غير منطوق به، فمن أين لهم أنه سأل؟ وأما قولهم: أجيب إلى ملتمسه، فاللفظ لا يدل على ذلك، بل يدل على ضده، لأن ظاهره: أن أولادك ظالمون. لكن دل الدليل على خلاف ذلك، وهو: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب، وغير ذلك من الآي التي تدل على أن في ذريته النبوة. ولو قال: لا ينال عهدي الظالمين منهم، لدل ذلك على ما يقولون على أن
548

اللفظ لا ينزل عليه نزولا بينا. انتهى ما ذكره ملخصا بعضه. وفيما ذكره ابن أبي الفضل نظر، لأن تلك التقادير التي قدرها ظاهرها السؤال. أما من قدر: واجعل من ذريتي إماما، فهو سؤال؛ وأما من قدر: وتجعل وجاعل، فهو استفهام على حذف الاستفهام، إذ معناه: وأجاعل أنت يا رب، أو أتجعل يا رب من ذريتي. والاستفهام يؤول معناه إلى السؤل، ولا يجوز أن يكون المقدر من قولهم: وجاعل، أو تجعل من ذريتي إماما خبرا، لأنه خبر من نبي. وإذا كان خبرا من نبي، كان صدقا ضرورة. ولم يتقدم من الله إعلام لإبراهيم بذلك، إنما أعلمه أنه يجعله للناس إماما. فمن أين يخبر بذلك؟ ومن يخاطب بذلك؟ إن كان الله قد أعلمه ذلك. وإنما ذلك التقدير على سبيل الاستفهام والاستعلام. هل تحصل الإمامة لبعض ذريته أم لا تحصل؟ فأجابه الله: إلى أن من كان ظالما لا يناله عهده. وأما قوله: إن ظاهر اللفظ أن أولادك ظالمون، فليس كذلك، بل ظاهره أنه لا يناله من ظلم من أولاده وغير أولاده، ودل بمفهوم الصفة على أن غير الظالم ينالها. ولو كان على ما قاله ابن أبي الفضل، لكان اللفظ لا ينالها ذريتك لظلمهم، مع أنه يحتمل أن الظالمين تكون الألف واللام فيه معاقبة للضمير، أي: ظالموهم، أو الضمير محذوف، أي منهم. ومن أغرب الانتزاعات في قوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) * ما ذكر لي بعض الإمامية أنهم انتزعوا من هذا، كون أبي بكر لا يكون إماما قالوا: لأن إطلاق اسم الظلم يقع عليه، لأنه سجد للأصنام، فقد ظلم. وقد قال تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) *، وذلك بخلاف علي، فإنه لم يسجد لصنم قط. قلت له: فيلزم أن يسمي كل من أسلم من الصحابة ظالما، كسلمان، وأبي ذر، وابن مسعود، وحذيفة، وعمار. وهذا ما لا يذهب إليه أحد، فلم يحر جوابا.
وقال الزمخشري: وقالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته، ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة؟ وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن علي، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة، كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد، ابني عبد الله بن الحسين، حتى قتل فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المتصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد، وأرادوني على عد آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماما قط. وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة، والإمام إنما هو لكف المظلمة؟ فإذا نصب من كان ظالما في نفسه، فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب فقد ظلم. انتهى كلامه. وزيد بن علي الذي ذكره، هو زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وهو أخو محمد الباقر بن علي، وإليه تنتسب الزيدية اليوم. وكان من أهل العلم والفقه والفهم في القرآن والشجاعة، وإنما ذكره الزمخشري، لأنه كان بمكة مجاورا للزيدية ومصاحبا لهم، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم. واللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة، الذي ذكره الزمخشري، هو هشام بن عبد الملك، خرج عليه زيد بن علي، وكان قد قال لأخيه الباقر: ما لك لا تقوم وتدعو الناس إلى القيام معك؟ فأعرض عنه وقال له: لهذا وقت لا يتعداه. فدعا إلى نفسه وقال: إنما الإمام منا من أظهر سيفه وقام بطلب حق آل محمد، لا من أرخى عليه ستوره وجلس في بيته. فقال له الباقر: يا زيد إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم، مثل فرخ نهض من عشه من قبل أن يستوي جناحاه. فإذا فعل ذلك سقط، فأخذه الصبيان يتلاعبون به. فاتق الله في نفسك أن لا تكون المصلوب غدا بالكناسة. فلم يلتفت زيد لكلام الباقر، وخرج على هشام، فظفر به وصلبه على كناسة الكوفة، وأحرقه بالنار، وكان كما حذره الباقر
. وأما الدوانيقي، فهو المنصور أخو السفاح، سمي بذلك قيل لبخله. وقد ذكر بعض المصنفين أنه لم يكن بخيلا، وذكر من عطائه وكرمه أخبارا كثيرة. وأما إبراهيم ومحمد، اللذان ذكرهما الزمخشري، فهما ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كانا قد
549

تغيبا أيام السفاح، وأول أيام المنصور، ثم ظهر محمد أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة، ودخل مسجد المدينة قبل الفجر، فخطب حتى حضرت الصلاة، فنزل وصلى بالناس، وبويع بالمدينة طوعا، واستعمل العمال، وغلب على المدينة والبصرة، وجبى الأموال. وكان إبراهيم أخوه قد صار إلى البصرة يدعو إليه. وآخر أمرهما أن المنصور وجه إليهما العساكر وقتلا.
وقد ذكر بعض المفسرين هنا أحكام الإمامة الكبرى، وإن كان موضوعها أصول الدين، فهناك ذكرها، لكني لا أخلي كتابي عن شيء ملخص فيها دون الاستدلال. فنقول: الذي عليه أصحاب الحديث والسنة، أن نصب الإمام فرض، خلافا لفرقة من الخوارج، وهم أصحاب نجدة الحروري. زعموا أن الإمامة ليست بفرض، وإنما على الناس إقامة كتاب الله وسنة رسوله، ولا يحتاجون إلى إمام، ولفرقة من الإباضية زعمت أن ذلك تطوع. واستناد فرضية نصب الإمام للشرع لا للعقل، خلافا للرافضة، إذ أوجبت ذلك عقلا، ويكون الإمام من صميم قريش، خلافا لفرقة من المعتزلة، إذ قالوا: إذا وجد من يصلح لها قرشي ونبطي، وجب نصب النبطي دون القرشي، وسواء في ذلك بطون قريش كلها، خلافا لمن خص ذلك بنسل علي، أو العباس، إما منصوصا عليه، وإما اجتهاد، ويكون أفضل القوم، فلا ينعقد للمفضول مع وجود الفاضل، خلافا لأبي العباس القلانسي، فإنه يقول: ينعقد للمفضول، إذا كان بصفة الإمامة، مع وجود الفاضل، وشروطه: أن يكون عدلا مجتهدا في أحكام الشريعة، شجاعا، والشجاعة في القلب بحيث يمكنه ضبط الأمر وحفظ بيضة الإسلام، ولا يجوز نصب ساقط العدالة ابتداء، فإن عقد لشخص كامل الشروط ثم طرأ منه فسق، فقال أبو الحسن: يجوز الخروج عليه إذا أمن الناس. وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم. وقال أبو الحسن أيضا، والقاضي أبو بكر بن الطيب: لا يجوز الخروج عليه، وإن أمن الناس ذلك، إلا أن يكفر أو يدعو إلى ضلالة وبدعة، والمرجوع في
550

نصبه إلى اختيار أهل الاجتهاد في الدين، والعامة في ذلك تبع لهم ولا اعتبار بهم في ذلك، وليس من شرطه اجتماع كل المجتهدين، ولا اعتبار في ذلك بعدد، بل إذا عقد واحد من أهل الحل والعقد، وجبت المبايعة على كلهم، خلافا لمن خص أهل البيعة بأربعة. وقال: لا ينعقد بأقل من ذلك، أو لمن قال: لا ينعقد إلا بأربعين، أو لمن قال: لا ينعقد إلا بسبعين، ثم من خالف كان باغيا أو ناظرا أو غالطا، ولكل واحد منهم حكم يذكر في علم الفقه. ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد، خلافا للكرامية، إذ أجازوا ذلك، وزعموا أن عليا ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد، والقول بالتقية باطل، خلافا للإمامية، ومعناها: أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماما مستورا، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة. وليس من شرط الإمام العصمة، خلافا للرافضة، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرا وعلنا. وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها، خلافا للإمامية، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدي إليه اجتهاده. وليس لأحد الخروج عليه بالسيف، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب، خلافا لمن رأى ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم. وقد تكلم بعض الناس هنا في الإمامة الصغرى وهي: الإمامة في الصلاة، وموضوعها علم الفقه.
* (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) *: لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم، كانوا أحق بتعظيمها، لأنها من مآثر أبيهم. ولوجه آخر من إظهار فضلها، وهو كونها مثابة للناس وأمنا، وأن فيها مقام إبراهيم، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها، وجعلها محلا للطائف والعاكف والراكع والساجد، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها. والبيت هنا: الكعبة، على قول الجمهور. وقيل: المراد البيت الحرام لا نفس الكعبة، لأنه وصفه بالأمن، وهذه صفة جميع الحرم، لا صفة الكعبة فقط. ويجوز إطلاق البيت، ويراد به كل الحرم. وأما الكعبة فلا تطلق إلا على البناء الذي يطاف به، ولا تطلق على كل الحرم. والتاء في مثابة للمبالغة، لكثرة من يثوب إليه، قاله الأخفش، أو لتأنيث المصدر، أو لتأنيث البقعة، كما يقال مقام ومقامه، قال الشاعر:
* ألم تر أن الأرض رحب فسيحة
*
فهل يعجزني بقعة من بقاعها
*
ذكر رحبا على مراعاة المكان، وأنث فسيحة على اللفظ. وقرأ الأعمش وطلحة: مثابات على الجمع، وقال ورقة بن نوفل:
* مثابا لأفناء القبائل كلها
*
تخب إليها اليعملات الطلائح
*
ويروى: الذوابل. ووجه قراءة الجميع أنه مثابة لكل من الناس، لا يختص به واحد منهم، * (سواء العاكف فيه والباد) *. ومثابة، قال مجاهد وابن جبير معناه: يثوبون إليه من كل جانب، أي يحجونه في كل عام، فهم يتفرقون، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم، ولا يقضي أحد منهم وطرا، وقال الشاعر:
* جعل البيت مثابا لهم
*
ليس منه الدهر يقضون الوطر
*
وقال ابن عباس: معاذا وملجأ. وقال قتادة والخليل: مجمعا. وقال بعض أهل اللغة، فيما حكاه الماوردي: أي مكان. إثابة: واحدة من الثواب، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالا منه. والألف واللام في قوله للناس: أما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك. وجعلنا هنا بمعنى صيرنا، فمثابة مفعول ثان. وقيل: جعل هنا بمعنى: خلق، أو وضع، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره: مثابة كائنه، إذ هو في موضع الصفة. وقيل: يتعلق بلفظ جعلنا، أي لأجل الناس. والأمن: مصدر
551

جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن، أو على حذف مضاف، أي ذا أمن، أو على أنه أطلق على اسم الفاعل مجازا، أي آمنا، كما قال تعالى: * (اجعل هاذا البلد امنا) *، وجعله آمنا، اختلفوا، هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة؟ فمن قال: إنه في الدنيا، فقيل معناه: أن الناس كانوا يقتتلون، ويغير بعضهم على بعض حول مكة، وهي آمنة من ذلك، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه، لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة، وجعلها أمنا للناس والطير والوحش، إلا الخمس الفواسق، فخصصت من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأما من أحدث حدثا خارج الحرم، ثم أتى الحرم، ففي أمنه من أن يهاج فيه خلاف مذكور في الفقه. وقيل معناه: إنه آمن من لأهله، يسافر أحدهم الأماكن البعيدة، فلا يروعه أحد. وقيل: معناه: إنه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه وبين من قصده. ومن قال هذا الأمن في الآخرة، قيل: من المكر عند الموت. وقيل: من عذاب النار. وقيل: من بخس ثواب من قصده، قال قوم: وهذا الأمن مختص بالبيت. وقيل: يشمل البيت والحرم. وقال في ري الظمآن معناه: ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكان البوادي وسائر بلدان العرب. والظاهر أن قوله: وأمنا، معطوف على قوله: مثابة، ويفسر الأمن بما تقدم ذكره. وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر، التقدير: واجعلوه آمنا، أي جعلناه مثابة للناس، فاجعلوه آمنا لا يتعدى فيه أحد على أحد. فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمنا من الغارة والقتل، وكان البيت محرما بحكم الله، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ: واتخذوا على الأمر، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية، وعلى القول الظاهر يون من عطف المفردات.
* (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) *: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، والجمهور: واتخذوا، بكسر الخاء على الأمر. وقرأ نافع، وابن عامر: بفتحها، جعلوه فعلا ماضيا. فأما قراءة: واتخذوا على الأمر، فاختلف من المواجه به، فقيل: إبراهيم وذريته، أي وقال الله لإبراهيم وذريته: اتخذوا. وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم) وأمته، أي: وقلنا اتخذوا. ويؤيده ما روي عن عمر أنه قال: وافقت ربي في ثلاث، فذكر منها وقلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه أخذ بيد عمر فقال: (هذا مقام إبراهيم)، فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فقال: (لم أومر بذلك). فلم تغب الشمس حتى نزلت. وعلى هذين القولين يكون اتخذوا معمولا لقول محذوف. وقيل: المواجه به بنو إسرائيل، وهو معطوف على قوله: * (اذكروا نعمتي) *. وقيل: هو معطوف على قوله: * (وإذ جعلنا البيت مثابة) *، قالوا: لأن المعنى: ثوبوا إلى البيت، فهو معطوف على المعنى. وهذان القولان بعيدان. وأما قراءة: واتخذوا، بفتح الخاء، فمعطوف على ما قبله، فأما على مجموع، إذ جعلنا فيحتاج إلى إضمار إذ، وإما على نفس جعلنا، فلا يحتاج إلى تقديرها، بل يكون في صلة إذ. والمعنى: واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به، وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها، قاله الزمخشري. من مقام: جوزوا في من أن تكون تبعيضية، وبمعنى في، وزائدة على مذهب الأخفش، والأظهر الأول. وقال القفال: هي مثل اتخذت من فلان صديقا، وأعطاني الله من فلان أخا صالحا، دخلت من لبيان المتخذ الموهوب، وتميزه في ذلك المعنى والمقام مفعل من القيام، يراد به المكان، أي مكان قيامه، وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه، قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم، وخرجه البخاري، وهو الآن موضع ذلك الحجر والمسمى مقام إبراهيم. وعن عمر أنه سأل المطلب بن أبي رفاعة: هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال نعم، فأراه موضعه اليوم. قال أنس: رأيت في المقام
552

أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، حكاه القشيري. أو حجر جاءت به أم إسماعيل إليه وهو راكب، فاغتسل عليه، فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه، قاله الربيع بن أنس؛ أو مواقف الحج كلها، قاله ابن عباس أيضا وعطاء ومجاهد، أو عرفة والمزدلفة والجمار، قاله عطاء والشعبي، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها؛ أو الحرم له، قاله النخعي ومجاهد؛ أو المسجد الحرام، قاله قوم. واتفق المحققون على القول الأول ورجح بحديث عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ الحديث، وبقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم) د لما فرغ من الطواف وأتى المقام: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) *، فدل على أن المراد منه ذلك الموضع، ولأن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه، وفي ذلك معجزة له، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره. فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى، ولأن المقام هو موضع القيام، وثبت قيامه على الحجر ولم يثبت على غيره. مصلى: قبلة، قاله الحسن. موضع صلاة، قاله قتادة. موضع دعاء، قاله مجاهد، والأولى الحمل على الصلاة الشرعية لا على الصلاة لغة. قال ابن عطية: موضع صلاة على قول من قال المقام: الحجر، ومن قال غيره قال: مصلى، مدعى على أصل الصلاة، يعني في اللغة. انتهى.
* (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) * أي أمرنا أو وصينا، أو أوحينا، أو قلنا أقوال متقاربة المعنى. * (أن طهرا) *: يحتمل أن تكون أن تفسيرية، أي طهرا، ففسر بها العهد، ويحتمل أن تكون مصدرية، أي بأن طهرا. فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني يحتمل الجر والنصب على اختلاف النحويين. إذا
حذف من أن حرف الجر، هل المحل نصب أو خفض؟ وقد تقدم لنا الكلام مرة في وصل أن بفعل الأمر، وأنه نص على ذلك سيبويه وغيره، وفي ذلك نظر، لأن جميع ما ذكر من ذلك محتمل، ولا أحفظ من كلامهم: عجبت من أن أضرب زيدا، ولا يعجبني أن أضرب زيدا، فتوصل بالأمر، وون انسباك المصدر يحيل معنى الأمر ويصيره مستندا إليه وينافي ذلك الأمر. والتطهير: المأمور به هو التنظيف من كل ما لا يليق به. وقد فسروا التطهير بالبناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد، قاله السدي، وهو بعيد، وبالتطهير من الأوثان. وذكروا أنه كان عامرا على عهد نوح، وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم، وأنه طال العهد، فعبدت من دون الله، فأمر الله بتطهيره من تلك الأوثان، قاله جبير ومجاهد وعطاء ومقاتل. والمعنى: أنه لا ينصب فيه وثن، ولا يعبد فيه غير الله. وقال يمان: معناه بخراه ونظفاه وخلقاه. وقيل: من الآفات والريب. وقيل: من الكفار. وقيل: من الفرث والدم الذي كان يطرح فيه. وقيل: معناه أخلصاه لهؤلاء، لا يغشاه غيرهم، والأولى حمله على لتطهير مما لا يناسب بيوت الله، فيدخل فيه الأوثان والإنجاس، وجميع الخبائث، وما يمنع منه شرعا، كالحائض.
* (بيتى) *: هذه إضافة تشريف، لا أن مكانا محل لله تعالى، ولكن لما أمر ببنائه وتطهيره وإيفاد الناس من كل فج إليه، صار له بذلك اختصاص، فحسنت إضافته إلى الله بذلك، وصار نظير قوله: * (ناقة الله) * * (وروح * الله) *، من حيث أن في كل منهما خصوصية لا توجد في غيره، فناسب الإضافة إليه تعالى. والأمر بتطهيره يقتضي سبق وجوده، إلا إذا حملنا التطهير على البناء والتأسيس على الطهارة والتقوى. وقد تقدم أنه كان مبنيا على عهد نوح. * (للطائفين والعاكفين) *: ظاهره أنه كل من يطوف من حاضر أو باد، قاله عطاء وغيره. وقال ابن جبير: الغرباء الطارئون على مكة حجاجا وزوارا، فيرحلون عن قريب، ويؤيده أنه ذكر بعده. والعاكفين، قال: وهم أهل البلد الحرام المقيمون، والمقيم مقابل المسافر. وقال عطاء: العاكفون هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب. وقال مجاهد: المجاورون له من الغرباء. وقال ابن عباس: المصلون، لأن الذي يكون يدخل إلى البيت، إنما يدخل لطواف أو صلاة. وقيل: هم المعتكفون. قال الزمخشري: ويجوز أن
553

يراد بالعاكفين: الواقفين، يعني القائمين، كما قال للطائفين والقائمين والركع السجود. والمعنى للطائفين والمصلين، لأن القيام والركوع والسجود هيئات المصلي. انتهى. ولو قال: القائم هنا معناه: العاكف، من قوله: ما دمت عليه قائما، لكان حسنا، ويكون في ذلك جمع بين أحوال من دخل البيت للتعبد، لأنه لا يخلو إذ ذاك من طواف أو اعتكاف أو صلاة، فيكون حمله على ذلك أجمع لما هيىء البيت له.
* (والركع السجود) *: هو المصلون عند الكعبة، قاله عطاء وغيره. وقال الحسن: هم جميع المؤمنين، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي، لأنهما أقرب أحواله إلى الله، وقدم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان، وجمعا جمع تكسير لمقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة، فكان ذلك تنويعا في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما تنويعا في الفصاحة أيضا، وكان آخرهما على فعول، لا على فعل، لأجل كونها فاصلة، والفواصل قبلها وبعدها آخر ما قبله حرف مد ولين، وعطفت تينك الصفتان لفرط التباين بينهما بأي تفسير فسرتهما مما سبق. ولم يعطف السجود على الركع، لأن المقصود بهما المصلون. والركع والسجود، وإن اختلفت هيئاتهما فيشملهما فعل واحد وهو الصلاة. فالمراد بالركع السجود: المصلون، فناسب أن لا يعطف، لئلا يتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها، وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة، وليس كذلك. وفي قوله: * (والركع السجود) * دلالة على جواز الصلاة في البيت فرضا ونفلا، إذ لم يخصص.
* (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا بلدا آمنا) *: ذكروا أن العامل في إذا ذكر محذوفة، ورب: منادى مضاف إلى الياء، وحذف منه حرف النداء، والمضاف إلى الياء فيه لغات، أحسنها: أن تحذف منه ياء الإضافة، ويدل عليها بالكسرة، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف. ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو، وسيأتي منها في القرآن شيء، ونتكلم عليه في مكانه، إن شاء الله تعالى. وناداه بلفظ الرب مضافا إليه، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته. واجعل هنا بمعنى: صير، وصورته أمر، وهو طلب ورغبة. وهذا إشارة إلى الوادي الذي دعا لأهله حين أسكنهم فيه، وهو قوله: * (بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم) *، أو إلى المكان الذي صار بلدا، ولذلك نكره فقال: * (بلدا آمنا) *. وحين صار بلدا قال: * (رب اجعل هاذا البلد امنا واجنبنى) *، * (وقال لا * أقسم بهاذا البلد) *، هذا إن كان الدعاء مرتين في وقتين. وقيل: الآيتان سواء، فتحتمل آية التنكير أن يكون قبلها معرفة محذوفة، أي اجعل هذا البلد بلدا آمنا، ويكون بلدا النكرة، توطئة لما يجيء بعده، كما تقول: كان هذا اليوم يوما حارا، فتكون الإشارة إليه في الآيتين بعد كونه بلدا. ويحتمل وجها آخر وهو: أنه لا يكون محذوف ولا يكون إذ ذاك بلدا، بل ادعى له بذلك، وتكون المعرفة الذي جاء في قوله: * (هاذا البلد) *، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلدا. ووصف بلد بآمن، إما على معنى النسب، أي ذا أمن، كقولهم: * (عيشة راضية) *، أي ذات رضا، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمنا كقولهم: نهارك صائم وليلك قائم. وهل الدعاء بأن يجعله آمنا من الجبابرة والمسلطين، أو من أن يعود حرمه حلالا، أو من أن يخلو من أهله، أو آمنا من القتل، أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجدب، أو من دخول الدجال، أو من أصحاب الفيل؟ أقوال. ومن فسر آمنا بكونه آمنا من الجبابرة، فالواقع يرده، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا، كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج بن يوسف، والقرامطة، وغيرهم. وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب، فهي أكثر بلاد الله قحطا وجدبا. وقال القفال: معناه مأمونا فيه، وكانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن، حتى أن أحدهم إذا وجد بمفازة أو برية، لا يتعرض إليه عندما يعلم أنه من سكان الحرم.
* (وارزق أهله من الثمرات من ءامن منهم بالله واليوم الاخر) *: لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة، وكان حال من يتمدن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة، دعا الله للبلد بالأمن، وبأن يجبى له الأرزاق. فإنه إذا كان البلد ذا أمن، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح. ولما سمع في الإمامة قوله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) *. قيد هنا من سأل له الرزق فقال: * (من الثمرات من ءامن منهم بالله) *، والضمير في منهم عائد على أهله. دعا
لمؤمنهم بالأمن والخصب، لأن
554

الكافر لا يدعى له بذلك. ألا ترى أن قريشا لما طغت، دعا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم): (اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين، كسني يوسف)، وكانت مكة إذ ذاك قفرا، لا ماء بها ولا نبات، كما قال: * (بواد غير ذى زرع) * فبارك الله فيما حولها، كالطائف وغيره، وأنبت الله فيه أنواعا من الثمر. وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم، أمر جبريل فاقتلع فلسطين، وقيل: بقعة من الأردن، فطاف بها حول البيت سبعا، فأنزلها بواد، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف، وقال بعضهم:
* كل الأماكن إعظاما لحرمتها
*
تسعى لها ولها في سعيها شرف
*
وذكر متعلق الإيمان، وهو الله تعالى واليوم الآخر، لأن في الإيمان بالله إيمانا بالصانع الواجب الوجود، وبما يليق به تعالى من الصفات، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبرا صادقا به، وهم الأنبياء. فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، وبما جاؤوا به. فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به، اقتصر على ذلك، لأن غيره في ضمنه. ودعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم، ولا يختص ذلك بذريته، وإن كان ظاهر قوله: * (وارزقهم من الثمرات) * مختصا بذريته لقوله: * (إنى أسكنت من ذريتى) * لعود الضمير في وارزقهم عليه، فيحتمل أن يكونا سؤالين. ومن: في قوله: من الثمرات للتبعيض، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات. وقيل: هي لبيان الجنس، ومن بدل من أهله، بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه، وفائدته أنه يصير مذكورا مرتين: إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه، والثانية بالتنصيص عليه، وتبيين أن المبدل منه إنما عنى به وأريد البدل فصار مجازا، إذ أريد بالعام الخاص. هذه فائدة هذين البدلين، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم، وهو البدل، إذ ذكر مرتين.
* (قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) *: قرأ الجمهور من السبعة: فأمتعه، مشددا على الخبر. وقرأ ابن عامر: فأمتعه، مخففا على الخبر. وقرأ هؤلاء: ثم اضطره خبرا. وقرأ يحيى بن وثاب: فأمتعه مخففا، ثم أضطره بكسر الهمزة، وهما خبران. وقرأ ابن محيصن: ثم أضطره، بإدغام الضاد في الطاء خبرا. وقرأ يزيد بن أبي حبيب: ثم اضطره بضم الطاء، خبرا. وقرأ أبي بن كعب: فنمتعه ثم نضطره بالنون فيهما. وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما: * (فأمتعه قليلا ثم أضطره) * على صيغة الأمر فيهما، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائدا على إبراهيم، لما دعا للمؤمنين بالرزق، دعا على الكافرين بالأمتاع القليل والإلزازا إلى العذاب. ومن: على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع، على أن تكون موصولة أو شرطية، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضا. وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائدا على الله تعالى، ومن: يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره: قال الله وارزق من كفر فأمتعه، ويكون فأمتعه معطوفا على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن. ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء، إما موصولا، وإما شرطا، والفاء جواب الشرط، أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط. ولا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطا، لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط، لا الفعل الواقع جزاء، ولا إذا كانت موصولة، لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيها، للموصول باسم الشرط. فكما لا يفسر الجزاء، كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء. وأما إذا كان أمرا، أعني الخبر نحو: زيدا فاضربه، فيجوز أن يفسر، ولا يجوز أن تقول: زيدا
555

فتضربه على الاشتغال، ولجواز: زيدا فاضربه على الأمر، علة مذكورة في كتب النحو. قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون من مبتدأ، وفأمتعه الخبر، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها، إلا إذا كان الخبر مستحقا لصلتها، كقولك: الذي يأتيني فله درهم. والكفر لا يستحق به التمتع. فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز، أو الخبر محذوفا، وفأمتعه دليل على جاز، تقديره: ومن كفر أرزقه فأمتعه. ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وقيل: الجواب محذوف تقديره: ومن يكفر ارزق. ومن على هذا رفع بالابتداء، ولا يجوز أن تكون منصوبة، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها، بل الشرط. انتهى كلامه. وقوله أولا لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح، لأن الخبر مستحق بالصلة، لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر. ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضا. فلو كان التمتع قليلا ليس مستحقا بالصلة، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة، ناسب أن يقع خبرا من حيث وقع جزاء، وقد جوز هو ذلك. وأما تقدير زيادة الفاء، وإضمار الخبر، وإضمار جواب الشرط، إذا جعلنا من شرطية، فلا حاجة إلى ذلك، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار. وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها، ونحن ننزه القرآن عن ذلك. وقال الزمخشري: ومن كفر: عطف على من آمن، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك. انتهى كلامه. وتقدم لنا الرد عليه في زعمه أن ومن ذريتي عطف على الكاف في جاعلك. وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح، لأنه يتنافى في تركيب الكلام، لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم: وارزق من كفر، لأنه لا يكون معطوفا عليه حتى يشركه في العامل، ومن آمن العامل فيه فعل الأمر، وهو العامل في ومن كفر.
وإذا قدرته أمرا، تنافى مع قوله: فأمتعه، لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبه التمتع وإلجائهم إليه تعالى، وأن كلا من الفعلين يضمن ضمير الله تعالى، وذلك لا يجوز إلا على بعد، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى، أي قال إبراهيم: وارزق من كفر، فقال الله: أمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار. ثم ناقض الزمخشري قوله هذا، أنه عطف على من، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك فقال: فإن قلت: لم خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه؟ قلت: قاس الرزق على الإمامة، فعرف الفرق بينهما، لأن الاستخلاف استرعاء مختص بمن ينصح للمرعى. وأبعد الناس عن النصيحة الظالم، بخلاف الرزق، فإنه قد يكون استدراجا للمرزوق وإلزاما للحجة له. والمعنى: وارزق من كفر فأمتعه. انتهى كلامه. فظاهر قوله والمعنى: وارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال، ومن كفر عائد على الله، وأن من كفر منصوب بأسش
رزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى الله تعالى، وهو يناقص ما قدم أولا من أن من كفر معطوف على من آمن. وفي قوله خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه سوء أدب على الأنبياء، لأنه لم يرد عليه، لأنه لا يدعي، ويرغب في أن يرزق الكافر، بل قوله تعالى: * (قال ومن كفر) *، إخبار من الله تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل والصيرورة إلى النار، وليس هنا قياس الرزق على الإمامة، ولا تعريف الفرق بينهما، كما زعم.
وقد تقدم تفسير المتاع، وأنه كل ما انتفع به، وفسر هنا التمتيع والإمتاع بالإبقاء، أو بتيسير المنافع، ومنه متاع الحياة الدنيا، أي منفعتها التي لا تدوم، أو بالتزويد، ومنه: فمتعوهن؛ أي زودوهن نفقة. والمتعة: ما يتبلغ به من الزاد، والجمع متع، ومنه: متاعا لكم. وللسيارة والهمزة في أمتع يجعل الشيء صاحب ما صيغ منه: أمتعت زيدا، جعلته صاحب متاع، كقولهم: أقبرته وأنعلته، وكذلك التضعيف في متع هو: يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو قولهم: عدلته. وليس التضعيف في متع يقتضي التكثير، فينافي ظاهر
556

ذلك القلة، فيحتاج إلى تأويل، كما ظنه بعضهم وتأوله على أن الكثرة بإضافة بعضها إلى بعض، والقلة بالإضافة إلى نعيم الآخرة. فقد اختلفت جهتا الكثرة والقلة فلم يتنافينا. وانتصاب قليلا على أنه صفة لظرف محذوف، أي زمانا قليلا، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي تمتيعا قليلا، على تقدير الجمهور، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف، الدال عليه الفعل، وذلك على مذهب سيبويه. والوصف بالقلة لسرعة انقضائه، إما لحلول الأجل، وإما بظهور محمد صلى الله عليه وسلم) فيقتله، أو يخرجه عن هذا البلد، إن أقام على الكفر والإمتاع بالنعيم والزينة، أو بالإمهال عن تعجيل الانتقام فيها، أو بالرزق، أو بالبقاء في الدنيا، أقوال للمفسرين. وقراءة يحيى بن وثاب: ثم إضطره بكسر الهمزة. قال ابن عطية، على لغة قريش، في قولهم: لا إخال، يعني بكسر الهمزة. وظاهر هذا النقل في أن ذلك، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو اضطر، وهو ما أوله همزة وصل. وفي نحو إخال، وهو افعل المفتوح العين من فعل المكسور العين مخالف لما نقله النحويون. فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوله همزة وصل، ومما كان على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها، أو ذا ياء مزيدة في أوله، وذلك نحو علم يعلم، وانطلق ينطلق، وتعلم يتعلم، إلا إن كان حرف المضارعة ياء، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء، بل يفتحها. وفي مثل يوجل بالياء مضارع وجل، مذاهب تذكر في علم النحو، وإنما المقصود هنا: أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة، إلا إن كان نقل أن إخال بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحا.
وقد تقدم لنا في سورة الحمد في قوله: * (نستعين) * أن الكسرة لغة قيس وتميم وأسد وربيعة. وقد أمعنا الكلام على ذلك في (كتاب التكميل لشرح كتاب التسهيل) من تأليفنا. وقراءة ابن محيصن: ثم اطره، بإدغام الضاد في الطاء. قال الزمخشري: هي لغة مرذولة، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي حروف ضم شفر. انتهى كلامه. إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب، فالأوجه البيان، وإن أدغم قلب الثاني للأول فقيل: مضرب، كما قيل: مصبر في مصطبر. قال سيبويه: وقد قال بعضهم: مطجع، في مضطجع ومضجع أكثر، وجاز مطجع، وإن لم يجز في مصطبر مطبر، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد. فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع، وإلى قوله: ومضجع أكثر، فيدل على أن مطجعا كثير؟ وألا ترى إلى تعليله، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت، ولم يفعل ذلك بالصاد، وإبداء الفرق بينهما؟ وهذا كله من كلام سيبويه، يدل على الجوار. وقد أدغمت الضاد في الذال في قوله تعالى: * (الارض ذلولا) *، رواه اليزيدي، عن أبي عمرو، وهو ضعيف. وفي الشين في قوله تعالى: * (لبعض شأنهم) *، * (والارض شيئا) *، وهو ضعيف أيضا. وأما الشين فأدغمت في السين. روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى: * (إلى ذى العرش سبيلا) *، والبصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو، وهو رأس من رؤوس البصريين. وأما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي: * (إن نشأ نخسف بهم) *، وهو إمام الكوفيين. وأما الراء، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها، ولا في النون. وأجاز ذلك في اللام: يعقوب، وأبو عمرو، والكسائي، والفراء، وأبو جعفر الرؤاسي، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الكوفيين، حكوه سماعا عن العرب. وإنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها، وذكر الخلاف فيها، لئلا يتوهم من قول الزمخشري: لا تدغم فيما يجاورها، أنه لا يجوز ذلك
557

بإجماع من النحويين. فأوردت هذا الخلاف فيها، تنبيها على أن ذلك ليس بإجماع، إذ طلاقه يدل على المنع البتة. وقراءة ابن أبي حبيب: بضم الطاء، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء، وهو شاذ. وأما قراءة أبي بالنون فيهما، فهي مخالفة لرسم المصحف، فهي شاذة. وقراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير قال على سبيل التوكيد، أو ليكون ذلك جملتين، جملة بالدعاء لمن آمن، وجملة بالدعاء على من كفر، فلا يندرجان تحت معمول واحد، بل أفرد كلا بقول. واضطره على هذه القراءة، هو بفتح الراء المشددة، كما تقول: عضه بالفتح، وهذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين، لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك. ولو قرأ على لغة قومه،
لكان اضطره إلى عذاب يتعلق بقوله: ثم أضطره. ومعنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ ويلز إلى العذاب، بحيث لا يجد محيصا عنه إذا حد، لا يؤثر دخول النار ولا يختاره. ومفهوم الشرط هنا ملغي، إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين. * (وبئس المصير) * المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى، أي وبئس المصير النار، إن كان المصير اسم مكان، وإن كان مصدرا على رأي من أجاز ذلك فالتقدير: وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب.
* (وإذ يرفع إبراهيم) *: هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فالعامل في إذ ما ذكر أنه العامل في إذ قبلها. ويرفع في معنى رفع، وإذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي، لأنها ظرف لما مضى من الزمان. والرفع حالة الخطاب قد وقع. وقال الزمخشري: هي حكاية حال ماضية، وفي ذلك نظر. من البيت: هو الكعبة. ذكر المفسرون في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه، ومن أي شيء كان باباه، وكم مرة حجة آدم، ومن أي شيء بناه إبراهيم، ومن ساعده على البناء، قصصا كثيرة. واستطردوا من ذلك للكلام في البيت المعمور، وفي طول آدم، والصلع الذي عرض له ولولده، وفي الحجر الأسود، وطولوا في ذلك بأشياء لم يتضمنها القرآن ولا الحديث الصحيح. وبعضها يناقض بعضا، وذلك على جري عاداتهم في نقل ما دب وما درج. ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما صح في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال ابن عطية: والذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع القواعد من البيت ونشاحه في قوله: أمر، إذ لم يأت النص بأن الله أمر بذلك. * (القواعد) *: تقدم تفسيرها في الكلام على المفردات، وهل هي الأساس أو الجدر؟ فإن كانت الأساس، فرفعها بأن يبني عليها، فتنتقل من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، وتتطاول بعد التقاصر. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المراد بها ساقات البناء، ويجوز أن يكون المعنى ما قعد من البيت، أي استوطىء، يعني جعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء.
* (من البيت) *: يحتمل أن يكون متعلقا بيرفع، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من القواعد، فيتعلق بمحذوف تقديره: كائنة من البيت. ولم تضف القواعد إلى البيت، فكان يكون الكلام قواعد البيت، لما في عدم الإضافة من الإيضاح بعد الإبهام وتفخيم شأن المبين. * (وإسماعيل) *: معطوف على إبراهيم، فهما مشتركان في الرفع. قيل: كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. وقال عبيد بن عمير: رفع إبراهيم وإسماعيل معا، وهذا ظاهر القرآن. وروي عن ابن عباس أن إسماعيل طفل صغير إذ ذاك، كان يناوله الحجارة. وروي عن علي: أن إسماعيل كان إذ ذاك طفلا صغيرا، ولا يصح ذلك عن علي. ومن جعل الواو في وإسماعيل واو الحال، أعرب إسماعيل مبتدأ وأضمر الخبر، التقدير: وإسماعيل يقول
558

ربنا تقبل منا، فيكون إبراهيم مختصا بالبناء، وإسماعيل مختصا بالدعاء. ومن ذهب إلى العطف، جعل ربنا تقبل منا معمولا لقول محذوف عائد على إبراهيم وإسماعيل معا، في موضع نصب على الحال تقديره: وإذ يرفعان القواعد قائلين ربنا تقبل منا. ويؤيد هذا التأويل أن العطف في وإسماعيل أظهر من أن تكون الواو واو الحال. وقراءة أبي وعبد الله يقولان بإظهار هذه الجملة، ويجوز أن يكون القول المحذوف هو العامل في إذ، فلا يكون في موضع الحال، والمعنى: أنهما دعوا بذلك الدعاء وقت أن شرعا في رفع القواعد، وفي ندائهما بلفظ ربنا تلطف واستعطاف بذكر هذه الصفة الدالة على التربية والإصلاح بحال الداعي.
* (ربنا تقبل منا) *: أي أعمالنا التي قصدنا بها طاعتك، وتقبل بمعنى: اقبل، فتفعل هنا بمعنى المجرد كقولهم: تعدى الشيء وعداه، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل. والمراد بالتقبل: الإثابة، عبر بإحدى المتلازمين عن الآخر، لأن التقبل هو أن يقبل الرجل من الرجل ما يهدي إليه. فشبه الفعل من العبد بالعطية، والرضا من الله تعالى بالتقبل توسعا. وحكى بعض المفسرين عن بعض الناس فرقا بين القبول والتقبل، قال: التقبل تكلف القبول، وذلك حيث يكون العمل ناقصا لا يستحق أن يقبل، قال: فهذا اعتراف من إبراهيم وإسماعيل بالتقصير في العمل. ولم يكن المقصود إعطاء الثواب، لأن كون الفعل واقعا موقع القبول من المخدوم، ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه، وسؤالهما التقبل بذلك، على أن ترتيب الثواب على العمل ليس واجبا على الله تعالى، انتهى ملخصا. ونقول: إن التقبل والقبول سواء بالنسبة إلى الله تعالى، إذ لا يمكن تعقل التكليف بالنسبة إليه تعالى. وقد قدمنا أن تفعل هنا موافق للفعل المجرد الذي هو قبل.
* (إنك أنت السميع العليم) *: يجوز في أنت الابتداء والفصل والتأكيد. وقد تقدم الكلام في الفصل وفائدته، وهو من المسائل التي جمعت فيها الكلام في نحو من سبعة أوراق أحكاما دون استدلال. وهاتان الصفتان مناسبتان هنا غاية التناسب، إذ صدر منهما عمل وتضرع سؤال، فهو السميع لضراعتهما وتسآلهما التقبل، وهو العليم بنياتهما في إخلاص عملهما. وتقدمت صفة السمع، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة نحو قوله: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) *. فأما الذين اسودت وتأخرت صفة العليم لكونها فاصلة ولعمومها، إذ يشمل علم المسموعات وغير المسموعات. * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) *: أي منقادين، أو مخلصين أوجهنا لك من قوله: من أسلم وجهه، أي أخلص عمله، والمعنى: أدم لنا ذلك، لأنهما كانا مسلمين، ولك تفيد جهة الإسلام، أي لك لا لغيرك. وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي: مسلمين على الجمع، دعاء لهما وللموجود من أهلهما، كهاجر، وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية، وقد قيل به هنا.
* (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) *: لما تقدم الجواب له بقوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) *، علم أن من ذريتهما الظالم وغير الظالم، فدعا هنا بالتبعيض لا بالتعميم فقال: * (ومن ذريتنا) *، وخص ذريته بالدعاء للشفقة والحنو عليهم، ولأن في صلاح نسل الصالحين نفعا كثيرا لمتبعهم، إذ يكونون سببا لصلاح من وراءهم. والذرية هنا، قيل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم)، بدليل قوله: * (وابعث فيهم) *. وقيل: هم العرب، لأنهم من ذريتهما. قال القفال: لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا، ولم تزل الرسل عليهم الصلاة والسلام من ذريتهما، وكان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة الأيادي. ويقال: عبد المطلب بن هاشم، جد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وعمرو بن الظرب، كانا على دين الإسلام. وجوز الزمخشري أن يكون من في قوله: ومن ذريتنا، للتبيين، قال كقوله: * (وعد الله الذين ءامنوا منكم) *، وقد تقدم لنا أن كون من للتبيين يأباه أصحابنا ويتأولون ما فهم من ظاهره ذلك. وتقدم شرح الأمة، والمراد به هنا:
الجماعة، أو الجيل، والمعنى: على أن من ذريتنا هو في موضع المفعول الأول لقوله: واجعل، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير، فالمعنى: واجعل ناسا من ذريتنا أمة مسلمة لك، ويمتنع أن يكون ما قدر من قوله: واجعل من ذريتنا بمعنى: أوجد واخلق. وإن كان من جهة المعنى صحيحا، فكان يكون الجعل هنا يتعدى
559

إلى واحد. ومن ذريتنا متعلق بأجعل المقدرة، لأنه إن كان من باب عطف المفردات، فهو مشترك في العامل الأول، والعامل الأول ليس معناه على الخلق والإيجاد. وإن كان من باب عطف الجمل، فلا يحذف إلا ما دل عليه المنطوق. والمنطوق ليس بمعنى الإيجاد، فكذلك المحذوف. ألا تراهم قد منعوا في قوله تعالى: * (هو الذى يصلى عليكم وملئكته) * أن يكون التقدير: وملائكته يصلون، لاختلاف مدلولي الصلاتين لأنهما من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء، وتأولوا ذلك وحملوه على القدر المشترك بين الصلاتين لا على الحذف؟ وأجاز أبو البقاء أن يكون المفعول الأول أمة، ومن ذريتنا حال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال، ومسلمة المفعول الثاني، وكان الأصل: اجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك، قال: فالواو داخلة في الأصل على أمة، وقد فصل بينهما بقوله: من ذريتنا، وهو جائز، لأنه من جملة الكلام المعطوف بالظرف، وجعلوا قوله:
يوما تراها كشبه أردية ال
عصب ويوما أديمها نغلا
من الضرورات، فالفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، فصار نظير: ضربت الرجل، ومتجردة المرأة تريد: والمرأة متجردة، وينبغي أن يختص جواز هذا بالضرورة. * (وأرنا مناسكنا) *: قال قتادة: معالم الحج. وقال عطاء وابن جريج: مذابحنا، أي مواضع الذبح. وقيل: كل عبادة يتعبد بها الله تعالى. وقال تاج القراء الكرماني: إن كان المراد أعمال الحج، وما يفعل في المواقف، كالطواف، والسعي، والوقوف، والصلاة، فتكون المناسك جمع منسك: المصدر، جمع لاختلافها. وإن كان أراد المواقف التي يقام فيها شرائع الحج، كمنى، وعرفة، والمزدلفة، فيكون جمع منسك وهو موضع العبادة. وروي عن علي أن إبراهيم لما فرغ من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة، بعث الله إليه جبريل عليه السلام، فحج به. وفي قراءة ابن مسعود: وأرهم مناسكهم، أعاد الضمير على الذرية، ومعنى أرنا: أي بصرنا. إن كانت من رأي البصرية. والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر، لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد، وإن كانت من رؤية القلب، فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين، نحو قوله:
* وإنا لقوم ما نرى القتل سبة
*
إذا ما رأته عامر وسلول
*
وقال الكميت:
* بأي كتاب أم بأية سنة
*
ترى حبهم عارا علي وتحسب
*
فإذا دخلت عليها همزة النقل، تعدت إلى ثلاثة، وليس هنا إلا اثنان، فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين. وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب، وشرحها بقوله: عرف، فهي عنده تأتي بمعنى عرف، أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين، ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب. وحكى ابن عطية عن طائفة أنها من رؤية البصر، وعن طائفة أنها من رؤية القلب. قال ابن عطية: وهو الأصح ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين، وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب، كغير المعدى، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود:
560

* أريني جوادا مات هزلا لأنني
*
أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
*
انتهى كلام ابن عطية وقوله. ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين، إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ أن رأى. إذا كانت قلبية، تعدت إلى اثنين، وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة، وقوله: وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب، كغير المعدى، يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعديا إلى اثنين ومعه همزة النقل، كما استعمل متعديا إلى اثنين بغير الهمزة. وإذا كان كذلك، ثبت أن لرأي، إذا كانت قلبية، استعمالين: أحدهما: أن يكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف، والثاني: أن يكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين. واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أرى قلبية، لا دليل فيه، بل الظاهر أنها بصرية، والمعنى على أبصريني جواد. ألا ترى إلى قوله: مات هزلا؟ فإن هذا هو من متعلقات البصر، فيحتاج في إثبات رأي القلبية متعدية لواحد إلى سماع. وقد قال ابن مالك، وهو
حاشد لغة، وحافظ نوادر: حين عدى ما يتعدى إلى اثنين، فقال في التسهيل، ورأى لا لإبصار، ولا رأي، ولا ضرب، فلو كانت رأي بمعنى عرف، لنفى ذلك، كما نفى عن رأي المتعدية إلى اثنين، كونها لا تكون لأبصار، ولا رأى، ولا ضرب. وقال بعض الناس: المراد هنا بالرؤية رؤية البصر والقلب معا، لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعا، وهذا ضعيف، لأن فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو حمل اللفظ المشترك على أكثر من موضوع واحد في حالة واحدة، وهو لا يجوز عندنا. وقرأ ابن كثير: وأرنا، وأرني خمسة بإسكان الراء. وروي عن أبي عمر: والإسكان والاختلاس. وروي عنه: الإشباع، كالباقين، إلا أن أبا عامر، وأبا بكر أسكنا في أرنا اللذين. فالإشباع هو الأصل، والاختلاس حسن مشهور في العربية، والإسكان تشبيه للمنفصل بالمتصل، كما قالوا: فخذ سهله، كون الحركة فيه ليست لإعراب. وقد أنكر بعض الناس الإسكان من أجل أن الكسرة تدل على ما حذف، فيقبح حذفها، يعني أن الأصل كان أرء، فنقلت حركة الهمزة إلى الراء، وحذفت الهمزة، فكان في إقرارها دلالة على المحذوف. وهذا ليس بشيء، لأن هذا أصل مرفوض، وصارت الحركة كأنها حركة للراء. وقال الفارسي: ما قاله هذا القائل ليس بشيء. ألا تراهم أدغموا في لكنا هو الله ربي، أي الأصل لكن، ثم نقلوا الحركة وحذفوا، ثم أدغموا؟ فذهاب الحركة في أرنا ليس بدون ذهابها في الإدغام. وأيضا فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصا عن العرب، قال الشاعر:
* أرنا أداوة عبد الله نملؤها
*
من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
*
وأيضا فهي قراءة متواترة، فإنكارها ليس بشيء. وذكر المفسرون في كيفية تأدية إبراهيم وإسماعيل هذه المناسك، أقوالا سبعة مضطربة النقل. وذكروا أيضا من حج هذا البيت من الأنبياء، ومن مات بمكة منهم. وذكروا أنه مات بها نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، وغيرهم، ولم تتعرض الآية الكريمة لشيء من ذلك، فتركنا نقل ذلك على عادتنا.
* (وتب علينا) *: قالوا التوبة من حيث الشريعة تختلف باختلاف التائبين،
561

فتوبة سائر المسلمين الندم بالقلب، والرجوع عن الذنب، والعزم على عدم العود، ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة، وكان الضمير في قوله: * (وتب علينا) * خاصا بهما، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير. قالوا: ويحتمل أن يريد التثبيت على تلك الحالة مثل: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) *. وإن كان الضمير شاملا لهما وللذرية، كان الدعاء بالتوبة منصرفا لمن هو من أهل التوبة. وإن كان الضمير قبله محذوفا مقدرا، فالتقدير على عصاتنا، ويكون دعا بالتوبة للعصاة. ولا تدل هذه الآية على جواز وقوع الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لما ذكرناه من الاحتمال، خلافا لمن زعم ذلك وقال: التوبة مشروطة بتقدم الذنب، إذ لولا ذلك لاستحال طلب التوبة. والذي يقوي أن المراد الذرية العصاة قوله تعالى: * (واجنبنى وبنى أن نعبد الاصنام) *، إلى قوله: * (ومن عصانى فإنك غفور رحيم) *، أي فأنت قادر على أن تتوب عليه وتغفر له، وقراءة عبد الله، وأرهم مناسكهم، وتب عليهم، واحتمال أن يكون: وأرنا مناسكنا على حذف مضاف، أي وأر ذريتنا مناسكنا، كقوله: ولقد خلقناكم، أي خلقنا أباكم. وقال الزمخشري: وتب علينا ما فرط منا من الصغائر، أو استتابا لذريتهما. انتهى. فقوله: ما فرط منا من الصغائر هو على مذهب المعتزلة، إذ يقولون بتجويزها على الأنبياء. قال ابن عطية: وقد ذكر قولي التثبيت، أو كون ذلك دعاء للذرية، قال: وقيل وهو الأحسن عندي أنهما لما عرفا المناسك، وبنيا البيت، وأطاعا، أرادا أن يسنا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. وقال الطبري: ليس أحد من خلق الله إلا وبينه وبين الله تعالى معان يحب أن كون أحسن مما هي. انتهى كلام ابن عطية، وفيه خروج قوله: وتب علينا عن ظاهره إلى تأويل بعيد، أي إن الدعاء بقوله: وتب علينا، ليس معناه أنهما طلبا التوبة، بل نبها بذلك الطلب على أن غيرهما يطلب في تلك المواضع التوبة، فيكونان لم يقصدا الطلب حقيقة، إنما ذكرا ذلك لتشريع غيرهما لطلب ذلك، وهذا بعيد جدا. قال ابن عطية: وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة، واختلف في غير ذلك من الصغائر. انتهى كلامه. قال الإمام فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازي، في (كتاب المحصول) له ما ملخصه: قالت الشيعة، لا يجوز أن يقع منهم ذنب، لا صغير ولا كبير، لا عمدا ولا سهوا، ولا من جهة التأويل. ثم ذكر الاتفاق على أنه لا يجوز منهم الكفر، ولا التبديل في التبليغ، ولا الخطأ في الفتوى. وذكر خلافا في أشياء، ثم قال الذي يقول به إنه لا يقع منهم ذنب على سبيل القصد، لا كبير ولا صغير، وأما سهوا فقد يقع، لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهوا.
* (إنك أنت التواب الرحيم) *: يجوز في أنت: الفصل والتأكيد والابتداء، وهاتان الصفتان مناسبتان لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة، وبأن يريهما مناسكهما، وبأن يتوب عليهما. فناسب ذكر التوبة عليهما، أو الرحمة لهما. وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله: * (وتب علينا) *. وتأخرت صفة الرحمة لعمومها، لأن من الرحمة التوبة، ولكنها فاصلة. والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا، لأن قبلها * (إنك أنت السميع العليم) *، وبعدها: * (إنك أنت العزيز الحكيم) *.
562

* (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) *: لما دعا ربه بالأمن لمكة، وبالرزق لأهلها، وبأن يجعل من ذريته أمة مسلمة، ختم الدعاء لهم بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة، وهو
بعثة محمد صلى الله عليه وسلم) فيهم، فشمل دعاؤه لهم الأمن والخصب والهداية. وقد تقدم معنى البعث في قوله: * (ثم بعثناكم) *، والمراد هنا: الإرسال إليهم. والضمير في فيهم يحتمل أن يعود على الذرية، ويحتمل أن يعود على أمة مسلمة، ويحتمل أن يعود على أهل مكة، وييده قوله: * (هو الذى بعث فى الاميين رسولا منهم) *، ولا خلاف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وصح عنه أنه قال: (أنا دعوة أبي إبراهيم). ولم يبعث الله إلى مكة وما حولها إلا هو صلى الله عليه وسلم). وقرأ أبي: وابعث فيهم في آخرهم، قال ابن عباس: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ومحمد صلى الله عليه وسلم). ومنهم في موضع الصفة لرسولا، أي كائنا منهم لا من غيرهم، فهم يعرفون وجهه ونسبه ونشأته، كما قال: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) *، ودعا بأن يبعث الرسول فيهم منهم، لأنه يكون أشفق على قومه، ويكونون هم أعزبه وأشرف وأقرب للإجابة، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته. قال الربيع: لما دعا إبراهيم قيل له: قد استجيب لك، وهو في آخر الزمان.
* (يتلو عليهم * ءاياتك) * جملة في موضع الصفة لرسولا. وقيل: في موضع الحال منه، لأنه قد وصف بقوله منهم، ووصف إبراهيم الرسول بأنه يكون يتلو عليهم آيات الله، أي يقرؤها، فكان كذلك، وأوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم) القرآن، وهو أعظم المعجزات. وقبل الله دعاء إبراهيم، فأتى بالمدعو له على أكمل الأوصاف التي طلبها إبراهيم، والآيات هنا آيات القرآن. وقيل: خبر من مضى، وخبر من يأتي إلى يوم القيامة، وقال الفضل: معناه يبين لهم دينهم.
* (ويعلمهم الكتاب) *: هو القرآن، والمعنى: أنه يفهمهم ويلقي إليهم معانيه. وكان ترتيب التعليم بعد التلاوة، لأنه أول ما يقرع السمع هو التلاوة والتلفظ بالقرآن، ثم بعد ذلك تتعلم معانيه ويتدبر مدلوله. وأسند التعليم للرسول، لأنه هو الذي يلقي الكلام إلى المتعلم، وهو الذي يفهمه ويتلطف في إيصال المعاني إلى فهمه، ويتسبب في ذلك. والتعليم يكون بمعنى التفهيم وحصول العلم للمتعلم، ويكون بمعنى إلقاء أسباب العلم، ولا يحصل به العلم، ولذلك يقبل النقيضين، تقول: علمته فتعلم، وعلمته فما تعلم، وذلك لاختلاف المفهومين من تعلم. قال الزمخشري: يتلو عليهم آياتك: يقرأ عليهم، ويبلغهم ما يوحي إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك، ويعلمهم الكتاب القرآن، * (والحكمة) *: الشريعة وبيان الأحكام. وقال قتادة: الحكمة: السنة، وبيان النبي الشرائع. وقال مالك وأبو رزين: الحكمة، الفقه في الدين، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى. وقال مجاهد: الحكمة: فهم القرآن. وقال مقاتل: العلم والعمل به لا يكون الرجل حكيما حتى يجمعهما. وقيل: الحكم والقضاء. وقيل: ما لا يعلم إلا من جهة الرسول. وقال ابن زيد: كل كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة. وقال بعضهم: الحكمة هنا الكتاب، وكررها توكيدا. وقال أبو جعفر محمد بن يعقوب: كل صواب من القول ورث فعلا صحيحا فهو حكمة. وقال يحيى بن معاذ: الحكمة جند من جنود الله، يرسلها الله إلى قلوب العارفين حتى يروح عنها وهج الدنيا. وقيل: هي وضع الأشياء مواضعها. وقيل: كل قول وجب فعله. وهذه الأقوال في الحكمة كلها متقاربة، ويجمع هذه الأقوال
563

قولان: أحدهما، القرآن والآخر السنة، لأنها المبينة لما أنبهم من الكتاب، والمظهرة لوجوه الأحكام. ويكون المعنى، والله أعلم، في قوله: * (يتلو عليهم * ءاياتك) *، أي يفصح لهم عن ألفاظه ويوقفهم بقراءته على كيفية تلاوته، كما قال صلى الله عليه وسلم) لأبي: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن)، وذلك لأن يتعلم أبي منه صلى الله عليه وسلم) كيفية أداء القرآن ومقاطعه ومواصلة. وفي قوله: * (ويعلمهم الكتاب) *، أي يبين لهم وجوه أحكامه: حلاله وحرامه، ومفروضه، ومسنونه، ومواعظه، وأمثاله، وترغيبه، وترهيبه، والحشر، والنشر، والعقاب، والثواب، والجنة والنار. وفي قوله: والحكمة، أي السنة تبين ما في الكتاب من المجمل، وتوضح ما أنبهم من المشكل، وتفصح عن مقادير، وعن إعداد مما لم يتعرض الكتاب إليه، ويثبت أحكاما لم يتضمنها الكتاب. * (ويزكيهم) * باطنا من أرجاس الشرك وأنجاس الشك، وظاهرا بالتكاليف التي تمحص الآثام وتوصل الأنعام. قال ابن عباس: التزكية: الطاعة والإخلاص. وقال ابن جريج: يطهرهم من الشرك. وقيل: يأخذ منهم الزكاة التي تكون سببا لطهارتهم. وقيل: يدعوا إلى ما يصيرون به أزكياء. وقيل: يشهد لهم بالتزكية من تزكية العدول، ومعنى الزكاة لا تخرج عن التطهير أو التنمية.
* (إنك أنت العزيز الحكيم) *، العزيز: الغالب، أو المنيع الذي لا يرام، قاله المفضل بن سلمة، أو الذي لا يعجزه شيء، قاله ابن كيسان، أو الذي لا مثل له، قاله ابن عباس، أو المنتقم، قاله الكلبي، أو القوي، ومنه فعززنا بثالث، أو المعز ومنه: * (وتعز من تشاء) *. الحكيم: قد تقدم تفسير الحكيم في قصة الملائكة وآدم في قوله: * (إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) *. وأنت: يجوز فيها ما جاز في * (أنت السميع العليم) * قبل من الأعاريب. وهاتان الصفتان متناسبتان لما قبلهما، لأن إرسال رسول متصف بالأوصاف التي سألها إبراهيم لا تصدر إلا عمن اتصف بالعزة، وهي الغلبة أو القوة، أو عدم النظير، وبالحكمة التي هي إصابة مواقع الفعل، فيضع الرسالة في أشرف خلقه وأكرمهم عليه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته. وتقدمت صفة العزيز على الحكيم لأنها من صفات الذات، والحكيم من صفات الأفعال، ولكون الحكيم فاصلة كالفواصل قبلها. وفي المنتخب: يتلو عليهم آياتك: هي القرآن. وقيل: الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته. ومعنى التلاوة: تذكيرهم بها ودعاؤهم إليها وحملهم على الإيمان بها، وحكمة التلاوة: بقاء لفظها على الألسنة، فيبقى مصونا عن التحريف والتصحيف، وكون نظمها ولفظها معجزا، وكون تلاوتها في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة إلا أن الحكمة العظمى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام. وقال القفال، عبر بعض الفلاسفة عن الحكمة، بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية، وقيل الحكمة المتشابهات. وقيل: الكتاب أحكام الشرائع، والحكمة وجوه المصالح والمنافع فيها، وقيل: كلها صفات للقرآن، هو آيات، وهو كتاب وهو حكمة. انتهى ما لخص من المنتخب.
* (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) *: روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله قال في التوراة
: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر، فأنزل الله هذه الآية. ومن: اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء، وهو استفهام معناه: الإنكار، ولذلك دخلت إلا بعده. والمعنى: لا أحد يرغب، فمعناه النفي العام. ومن سفه: في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في يرغب، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء، والرفع أجود على البدل، لأنه استثناء من غير موجب، ومن في من سفه
564

موصولة، وقيل: نكرة موصوفة، وانتصاب نفسه على أنه تمييز، على قول بعض الكوفيين، وهو الفراء، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم، أو مفعول به، إما لكون سفه يتعدى بنفه كسفه المضعف، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدى، أي جهل، وهو قول الزجاج وابن جني، أو أهلك، وهو قول أبي عبيدة، أو على إسقاط حرف الجر، وهو قول بعض البصريين، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه، حكاه مكي. أما التمييزفلا يجيزه البصريون، لأنه معرفة، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة، وأما كونه مشبها بالمفعول، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة، ولا يجوز في الفعل، تقول: زيد حسن الوجه، ولا يجوز حسن الوجه، ولا يحسن الوجه. وأما إسقاط حرف الجر، وأصله من سفه في نفسه، فلا ينقاس، وأما كونه توكيدا وحذف مؤكدة ففيه خلاف. وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني: أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد، وأما التضمين فلا ينقاس، وأما نصبه على أن يكون مفعولا به، ويكون الفعل يتعدى بنفسه، فهو الذي نختاره، لأن ثعلبا والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى، كسفه بفتح الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة. قال الزمخشري: سفه نفسه: امتهنها واستخف بها، وأصل السفه، الخفة، ومنه زمام سفيه. وقيل: انتصاب النفس على التمييز نحو: غبن رأيه، وألم رأسه، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز، نحو قوله:
* ولا بفزارة الشعر الرقابا
*
أجب الظهر ليس له سنام
*
وقيل: معناه سفه في نفسه فحذف لجار، كقولهم: زيد ظني مقيم، أي في ظني، والوجه هو الأول، وكفى شاهدا له بما جاء في الحديث: (الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس). انتهى كلامه. فأجاز نصبه على المفعول به، إلا أن قوله: ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز، نحو قوله:
* ولا بفزارة الشعر الرقابا
*
أجب الظهر ليس له سنام
*
ليس بصحيح، لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة. والشعر جميع أشعر، وكذلك أجب الظهر هو أيضا من باب الصفة المشبهة، وأجب أفعل اسم وليس بفعل. وقبل النصف الأول قوله:
فما قومي بثعلبة بن سعدى
وقبل الآخر قوله:
ونأخذ بعده بذناب عيش
فليس نحوه، لأن نفسه انتصب بعد فعل، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم، وهما من باب الصفة المشبهة. ومعنى الآية: أنه لا يزهد ويرفع نفسه عن طريقة إبراهيم، وهو النبي المجمع على محبته من سائر الطوائف، إلا من أذل نفسه وامتهنها. وقال ابن عباس: معنى سفه نفسه: خسر نفسه. وقال أبو روق: عجز رأيه عن نفسه. وقال يمان: حمق رأيه. وقال الكلبي: قتل نفسه. وقال ابن بحر: جهلها ولم يعرف ما فيها من الدلائل. وحكي عن بعضهم أن معناه: سفه حق نفسه، فأما سفه بضم الفاء فمعناه: صار سفيها، مثل فقه إذا صار فقيها، قال:
* فلا علم إذا جهل العليم
*
ولا رشد إذا سفه الحليم
*
565

* (ولقد اصطفيناه في الدنيا) *: أي جعلناه صافيا من الأدناس، واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى ووصى بها، وبناء البيت، والإمامة، واتخاذ مقامه مصلى، وتطهير البيت، والنجاة من نار نمروذ، والنظر في النجوم، وأذانه بالحج، وإراءته مناسكه، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه، من خصائصه ووجوه اصطفائه. * (وإنه فى الاخرة لمن الصالحين) *: ذكر تعالى كرامة إبراهيم في الدارين، بأن كان في الدنيا من صفوته، وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد أن لا يعدل عن ملته. وهاتان الجملتان مؤكدتان، أما الأولى فباللام، وأما الثانية فبأن وباللام. ولما كان إخبارا عن حالة مغيبة في الآخرة، احتاجت إلى مزيد تأكيد، بخلاف حال الدنيا، فإن أرباب المآل قد علموا اصطفاء الله له في الدنيا بما شاهدوه منه ونقلوه جيلا بعد جيل. وأما
كونه في الآخرة من الصالحين، فأمر مغيب عنهم يحتاج فيه إلى إخبار من الله تعالى، فأخبر الله به مبالغا في التوكيد، وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده، أي وأنه لصالح في الآخرة. وقال بعضهم: هو على إضمار، أعني: فهو للتبيين، كلك بعد سقيا، وإنما لم يتعلق بالصالحين، لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام، ولا يتقدم معمول الوصف إذ ذاك. وكان بعض شيوخنا يجوز ذلك، إذا كان المعمول ظرفا أو جارا ومجرورا، قال: لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما. وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة، بل معرفة، كهي في الرجل، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك. وقيل: في الآخرة، أي في عمل الآخرة، فيكون على حذف مضاف، وقيل: الآخرة هنا البرزخ، والصلاح ما يتبعه من الثناء الحسن في الدنيا. وقيل: الآخرة يوم القيامة، وهو الأظهر. قال ابن عباس: لمن الصالحين، أي الأنبياء. وقيل: من الذين يستوجبون صالح الجزاء، قال معناه الحسن. وقيل: الوارد بن موارد قدسه، والحالين مواطن أنسه. وقال الحسن بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير، ولقد اصطفيناه في الدنيا، وفي الآخرة، وأنه لمن الصالحين. وهذا الذي ذهب إليه خطأ ينزه كتاب الله عنه.
* (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) *: هذا من الالتفات، إذ لو جرى على الكلام السابق، لكان: إذ قلنا له أسلم، وعكسه في الخروج من الغائب إلى الخطاب قوله:
* باتت تشكي إلي النفس مجهشة
*
وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
*
والعامل في إذ: قال أسلمت. وقيل: ولقد اصطفيناه، أي اخترناه في ذلك الوقت، وجوز بعضهم أن يكون بدلا من قوله: في الدنيا، وأبعد من جعل إذ قال في موضع الحال من قوله: ولقد اصطفيناه، وجعل العامل في الحال اصطفيناه، وقيل: محذوف تقديره أذكر. وعلى تقدير أن العامل اصطفيناه أو اذكر المقدرة، يبقى قوله: قال أسلمت، لا ينتظم مع ما قبله، إلا إن قدر، يقال: فحذف حرف العطف، أو جعل جوابا لكلام مقدر، أي ما كان جوابه؟ قال: أسلمت. وهل القول هنا على بابه، فيكون ذلك بوحي من الله وطلب؟ أم هذا كناية عما جعل الله في سجيته من الدلائل المفضية إلى الوحدانية وإلى شريعة الإسلام؟ فجعلت الدلالة قوما على سبيل المجاز، وإذا حمل على القول حقيقة، فاختلفوا متى قيل له ذلك. فالأكثرون على أنه قيل له ذلك قبل النبوة، وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية، وأمارات الحدوث، فلما عرف ربه، قال تعالى له أسلم. وقيل: كان بعد النبوة، فتؤول الأمر بالإسلام على أنه أمر بالثبات والديمومة، إذ هو متحل به وقت الأمر، ويكون الإسلام هنا على بابه، والمعنى: على شريعة الإسلام. وقيل: الإسلام هنا غير المعروف، وأول على وجوه، فقال عطاء: معناه سلم نفسك. وقال الكلبي وابن كيسان: أخلص دينك. وقيل: اخشع واخضع لله. وقيل: اعمل بالجوارح، لأن الإيمان هو صفة القلب، والإسلام هو صفة
566

الجوارح، فلما كان مؤمنا بقلبه كلفه بعد عمل الجوارح، وفي قوله: أسلم، تقدير محذوف، أي أسلم لربك. وأجاب بأنه أسلم الرب العالمين، فتضمن أنه أسلم لربه، لأنه فرد من أفراد العموم، وفي العموم من الفخامة ما لا يكون في الخصوص، لذلك عدل عن أن يقول: أسلمت لربي، ومن كان ربا للعالمين ينبغي أن يكون جميعهم مسلمين له منقادين.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة ابتداء قصص إبراهيم عليه السلام. فذكر أولا ابتلاءه بالكلمات، وإتمامه إياهن، واستحقاقه الإمامة بذلك على الناس كلهم في زمانه، وسؤال إبراهيم الإمامة لذريته شفقة عليهم ومحبة منه لهم، وإيثارا أن يكون في ذريته من يخلفه في الإمامة، وإجابة الله له بأن عهده لا يناله ظالم، وفي طيه أن من كان عادلا قد ينال ذلك. وكان في ابتداء قصص إبراهيم بنيه وذريته من بني إسرائيل وغيرهم، على فضيلته وخصوصيته عند الله تعالى، ليكون ذلك حاملا لهم على اتباعه، فإنه إذا كان للشخص والد متصف بصفات الكمال، أوشك ولده أن يتبعه وأن يسلك منهجه، لما في الطبع من اتباع الآباء والاقتفاء لآثارهم، ألا ترى إلى قوله: * (بل قالوا إنا وجدنا ءاباءنا) *؟.
ثم ذكر تعالى شرف البيت الحرام، وجعله مقصدا للناس يؤمون إليه، وملجأ يأمنون فيه، وأمره تعالى للناس بالاتخاذ من مقام إبراهيم مصلى، فحصل لهم الاقتداء بأن جعل مقامه مكان عبادة ومحل إجابة. ثم ذكر عهده لإبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت، حيث صار محل عبادة لله تعالى، ومكان عبادة الله تعالى يجب أن يكون مطهرا من الأرجاس والأنجاس. وأشار بتطهير المحل إلى تطهير الحال فيه ظاهرا وباطنا، وإلى تطهير ما يقع فيه من العبادة، بالإخلاص لله تعالى، فلا ينجس بشيء من الرياء، بل يطهر بإخلاصها لله تعالى. ثم أشار إلى من طهر البيت لأجله، وهم الطائفون والعاكفون والمصلون، فنبه على هذه العبادات التي تكون في البيت، ودل على أن البيت لا يصلح بشيء من أمور الدنيا، كالبيع والشراء وعمل الصنائع والحرف والخصومات، وأنه إنما هيىء لوقوع العبادات فيه. ثم ذكر دعاء إبراهيم ربه بجعل هذا البيت محل أمن، ودعاءه لهم بالخصب والرزق، وتخصيص ذلك الدعاء بالمؤمنين، إذ الأمن والخصب هما سببان لعمارة هذا البيت وقصد الناس له.
ثم أخبر الله تعالى أن من كفر فتمتيعه قليل ومآله إلى النار، ليكون التخويف حاملا على التقيد بالإيمان والانقياد للطاعات، وليدل على أن الرزق في الدنيا ليس مختصا بمن آمن، بل رزق الله يشترك فيه البر والفاجر. ثم ذكر رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت، وما دعوا به إذ ذاك من طلب تقبل ما يفعلانه، والثبات على الإسلام، والدعاء بأن يكون من ذريتهما مسلمون، وإراءة المناسك والتوبة، وبعثة رسول من أمته يهديهم إلى طريق الإسلام بما يوحى إليه من عند الله، ويطهرهم من الجرائم
والآثام. فدل ذلك على مشروعية الأدعية الصالحة عند الالتباس بالعبادات، وأفعال الطاعات، وأن ذلك الوقت مظنة إجابة، وفي ذلك جواز الدعاء للملتبس بالطاعة، ولمن أحب أن يدعو له. وختم كل دعاء بما يناسبه مما قبله. ولم يكن في هذا الدعاء شيء متعلق بأحوال الدنيا، إنما كان كله دعاء بما يتعلق بأمور الدين، فدل ذلك على عدم اكتراث إبراهيم وابنه إسماعيل بأحوال الدنيا حالة بناء هذا البيت ورفع قواعده.
وقد تقدم دعاؤه بالأمن والخصب، لكن كان ذلك بعد أن كمل البيت وفرغ من التعبد ببنائه ورفع قواعده. ثم ذكر شرف إبراهيم وطواعيته لربه، واختصاصه في زمانه بالإمامة، وصيرورته مقتدى به. ذكر أنه لا يرغب عن طريقته إلا خاسر الصفقة، لأنه المصطفى في الدنيا، الصالح في الآخرة. وختم ذلك بانقياده لأمر الله تعالى، فأول قصته إتمامه ما كلفه الله به، وآخرها التسليم لله، والانقياد إليه صلى الله على نبينا وعليه وسلم.
2 (* (ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب يابنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون * أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى
567

قالوا نعبد إلاهك وإلاه آبآئك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلاها واحدا ونحن له مسلمون * تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون * وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قولوا ءامنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ومآ أوتى موسى وعيسى ومآ أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن ءامنوا بمثل مآ ءامنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم فى شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم * صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون * قل أتحآجوننا فى الله وهو ربنا وربكم ولنآ أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون * أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل ءأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون * تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) *))
) *
الوصية: العهد، وصى بنيه: أي عهد إليهم وتقدم إليهم بما يعمل به مقترنا بوعظ. ووصى وأوصى لغتان، إلا أنهم قالوا: إن وصى المشدد يدل على المبالغة والتكثير. يعقوب: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية، ويعقوب عربي، وهو ذكر القبج، وهو مصروف، ولو سمي بهذا لكان مصروفا. ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان، فخرج العيص أولا ثم خرج هو يعقبه، أو سمي بذلك لكثرة عقبه، فقوله فاسد، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي، فكان يكون مصروفا. الحضور: الشهود، تقول منه: حضر بفتح العين، وفي المضارع: يحضر بضمهما، ويقال: حضر بكسر العين، وقياس المضارع أن يفتح فيه فيقال: يحضر، لكن العرب استغنت فيه بمضارع فعل المفتوح العين فقالت: حضر يحضر بالضم، وهي ألفاظ شذت فيها العرب، فجاء مضارع فعل المكسور العين على يفعل بضمها، قالوا: نعم ينعم، وفض يفضل، وحضر يحضر، ومت تموت، ودمت تدوم، وكل هذه جاء فيها فعل بفتح العين، فلذلك استغنى بمضارعه عن مضارع فعل، كما استغنت فيه بيفعل بكسر العين عن يفعل بفتحها. قالوا: ضللت بكسر العين، تضل بالكسر، لأنه يجوز فيه ضللت بفتح العين.
إسحاق: اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية، وإسحاق: مصدر أسحق، ولو سميت به لكان مصروفا، وقالوا في الجمع: أساحقة وأساحيق، وفي جمع يعقوب: يعاقبه ويعاقيب، وفي جمع إسرائيل: أسار له. وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل: براهمة وسماعلة، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة زناديق. وقال أبو العباس: هذا الجمع خطأ، لأن الهمزة ليست زائدة، والجمع: أباره وأسامع، ويجوز: أباريه وأساميع، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال: إبراهيمون، وإسماعيلون، وإسحاقون، ويعقوبون. وحكى الكوفيون أيضا: براهم، وسماعل، وأساحق، ويعاقب، بغير ياء ولا هاء. وقال الخليل وسيبويه: براهيم، وسماعيل. ورد أبو العباس على من أسقط الهمزة، لأن هذا ليس موضع زيادتها. وأجاز ثعلب: براه، كما يقال في التصغير: بريه. وقال أبو جعفر: الصفار: أما إسرائيل، فلا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال: أساريل.
568

وحكى الكوفيون: أسارلة وأسارل. انتهى. وقد تقدم لنا الكلام في شيء من نحو جمع هذه الأشياء، واستوفي النقل هنا. الحنف: لغة الميل، وبه سمي الأحنف لميل كان في إحدى قدميه عن الأخرى، قال الشاعر:
* والله لولا حنف في رجله
*
ما كان في صبيانكم من مثله
*
وقال ابن قتيبة: الحنف الاستقامة، وسمي الأحنف على سبيل التفاؤل، كما سمي اللديغ سليما. وقال القفال: الحنف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات. وقال عمر:
* حمدت الله حين هدى فؤادي
*
إلى الإسلام والدين الحنيف
*
وقال الزجاج: الحنيف: المائل عما عليه العامة إلى ما لزمه، وأنشد:
* ولكنا خلقنا إذ خلقنا
*
حنيفا ديننا عن كل دين
*
الأسباط: جمع سبط، وهم في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل، وهم ولد يعقوب اثنا عشر، لكل واحد منهم أمة من الناس، وسيأتي ذكر أسمائهم. سموا بذلك من السبط: وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون. ويقال: سبط عليه العطاء إذا تابعه. ويقال: هو مقلوب بسط، ومنه السباطة والساباط. ويقال للحسن والحسين: سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، سموا بذلك لكثرتهم وانبساطهم وانتشارهم، ثم صار إطلاق السبط على ابن البنت، فيقال: سبط أبي عمر بن عبد البر، وسبط حسين بن منده، وسبط السلفي في أولاد بناتهم. وقيل: أصل الأسباط من السبط، وهو الشجر الملتف، والسبط: الجماعة الراجعون إلى أصل واحد. الشقاق: مصدر شاقه، كما تقول: ضارب ضرابا، وخالف خلافا، ومعناه: المعاداة والمخالفة، وأصله من الشق، أي صار هذا في شق، وهذا في شق. والشق: الجانب، كما قال الشاعر:
* إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
*
بشق وشق عندنا لم يحول
*
وقيل: هو من المشقة، لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه. الكفاية: الأحساب. كفاني كذا: أي أحسبني، قال الشاعر:
* فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
*
كفاني ولم أطلب قليل من المال
*
أي أغناني قليل من المال. الصبغة: فعلة من صبغ، كالجلسة من جلس، وأصلها الهيئة التي يقع عليها الصبغ. والصبغ: المصبوغ به، والصبغ: المصدر، وهو تغيير الشيء بلون من الألوان، وفعله على فعل بفتح العين، ومضارعه المشهور فيه يفعل بضمها، والقياس الفتح إذ لامه حرف حلق. وذكر لي عن شيخنا أبي العباس أحمد بن
569

يوسف بن علي الفهري، عرف بالليلى، وهو شارح الفصيح، أنه ذكر فيه صنم الباء في المضارع والفتح والكسر.
* (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابنى * بنى * إن الله اصطفى لكم الدين) *: قرأ نافع وابن عامر: وأوصى، وقرأ الباقون: ووصى. قال ثعلب: أملى علي خلف بن هشام البزار، قال: اختلف مصحف أهل المدينة وأهل العراق في اثنى عشر حرفا. كتب أهل المدينة: وأوصى، وسارعوا، يقول، الذين آمنوا من يرتدد، الذين اتخذوا، مسجدا خيرا منهما، فتوكل، وأن يظهر، بما كسبت أيديكم، ما تشتهيه الأنفس، فإن الله الغني، ولا يخاف عقباها. وكتب أهل العراق: ووصى، سارعوا، ويقول، من يرتد، والذين اتخذوا، خيرا منها، وتوكل، أن يظهر، فيما كسبت أيديكم، ما تشتهي، فإن الله هو، فلا يخاف. وبها متعلق بأوصى، والضمير عائد على الملة في قوله: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) *، وبه ابتدأ الزمخشري، ولم يذكر المهدوي غيره، أو على الكلمة التي هي قوله: * (أسلمت لرب العالمين) *، ونظيره، وجعلها كلمة باقية في عقبه، حيث تقدم * (إننى براء مما تعبدون) *. وبهذا القول ابتدأ ابن عطية وقال: هو أصوب، لأنه أقرب مذكور، ورجح العود على الملة بأنه يكون المفسر مصرحا به، وإذا عاد على الكلمة كان غير مصرح به، وعوده على المصرح أولى من عوده على المفهوم. وبأن عوده على الملة أجمع من عوده على الكلمة، إذ الكلمة بعض الملة. ومعلوم أنه لا يوصي إلا بما كان أجمع للفلاح والفوز في الآخرة. وقيل: يعود على الكلمة المتأخرة، وهو قوله: * (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *. وقيل: على كلمة الإخلاص وهي: لا إلاه إلا الله، وإن لم يجر لها ذكر، فهي مشار إليها من حيث المعنى، إذ هي أعظم عمد الإسلام. وقيل: يعود على الوصية الدال عليها ووصى. وقيل: يعود على الطاعة.
بنيه: بنو إبراهيم، إسماعيل وأمه هاجر القبطية، وإسحاق وأمه سارة، ومدين: ومديان، ونقشان، وزمزان، ونشق، ونقش سورج، ذكرهم الشريف النسابة أبو البركات محمد بن علي بن معمر الحسيني الجواني وغيره، وأم هؤلاء الستة قطورا بنت يقطن الكنعانية. هؤلاء الثمانية ولده لصلبه، والعقب الباقي فيهم اثنان إسماعيل وإسحاق لا غير. قرأ الجمهور: ويعقوب بالرفع، وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكي، والضرير، وعمرو بن فائد الأسواري: بالنصب. فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفا على إبراهيم، ويكون داخلا في حكم توصية بنيه، أي ووصى يعقوب بنيه. ويحتمل أن يكون مرفوعا على الابتداء، وخبره محذوف
تقديره: قال يا بني إن الله اصطفى، والأول أظهر. وأما قراءة النصب فيكون معطوفا على بنيه، أي ووصى بها نافلته يعقوب، وهو ابن ابنه إسحاق. وبنو يعقوب يأتي ذكر أسمائهم عند الكلام على الأسباط. يا بني: من قرأ ويعقوب بالنصب، كان يا بني من مقولات إبراهيم، ومن رفع على العطف فكذلك، أو على الابتداء، فمن كلام يعقوب. وإذا جعلناه من كلام إبراهيم، فعند البصريين هو على إضمار القول، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك، لأن الوصية في معنى القول، فكأنه
570

قال: قال إبراهيم لبنيه يا بني، ونحوه قول الراجز:
* رجلان من ضبة أخبرانا
*
أنا رأينا رجلا عريانا
*
بكسر الهمزة على إضمار القول، أو معمولا لأخبرانا على المذهبين، وفي النداء لمن بحضرة المنادي. وكون النداء بلفظ البنين مضافين إليه تلطف غريب وترجئة للقبول وتحريك وهز، لما يلقى إليهم من أمر الموافاة على دين الإسلام الذي ينبغي أن يتلطف في تحصيله، ولذلك صدر كلامه بقوله: * (إن الله اصطفى لكم الدين) *، وما اصطفاه الله لا يعدل عنه العاقل. وقرأ أبي وعبد الله والضحاك: أن يا بني، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها. ومن لم يثبت معنى التفسير، لأن جعلها هنا زائدة، وهم الكوفيون. * (إن الله اصطفى لكم الدين) *، أي استخلصه لكم وتخيره لكم صفوة الأديان. والألف واللام في الدين للعهد، لأنهم كانوا قد عرفوه، وهو دين الإسلام.
* (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *: هذا استثناء من الأحوال، أي إلا على هذه الحالة، والمعنى: الثبوت على الإسلام، والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الإسلام. إلا أن ذلك نهى عن الموت، ونظير ذلك في الأمر: مت وأنت شهيد، لا يكون أمرا بالموت، بل أمر بالشهادة، فكأنه قال: لتستشهد في سبيل الله، وذكر الموت على سبيل التوطئة للشهادة. وقد تضمن هذا الكلام إيجازا بليغا ووعظا وتذكيرا، وذلك أن الإنسان يتيقن بالموت ولا يدري متى يفاجئه. فإذا أمر بالتباس بحالة لا يأتيه الموت إلا عليها، كان متذكرا للموت دائما، إذ هو مأمور بتلك الحالة دائما،. وهذا على الحقيقة نهي عن تعاطي الأشياء التي تكون سببا للموافاة على غير الإسلام، ونظير ذلك قولهم: لا أرينك هنا، لا ينهي نفسه عن الرؤية، ولكن المعنى على النهي عن حضوره في هذا المكان، فيكون يراه، فكأنه قال: اذهب عن هذا المكان. ألا ترى أن المخاطب ليس له أن يحجب إدراك الآمر عنه إلا بالذهاب عن ذلك المكان، فأتى بالمقصود بلفظ يدل على الغضب والكراهة، لأن الإنسان لا ينهى إلا عن شيء يكره وقوعه.
وقد اشتملت هذه الجملة على لطائف، منها: الوصية، ولا تكون إلا عند خوف الموت. ففي ذلك ما كان عليه إبراهيم من الاهتمام بأمر الدين، حتى وصى به من كان ملتبسا به، إذ كان بنوه على دين الإسلام. ومنها اختصاصه ببنيه، ولا يختصهم إلا بما فيه سلامة عاقبتهم. ومنها أنه عمم بنيه، ولم يخص أحدا منهم، كما جاء في حديث النعمان بن بشير، حين نحله أبوه شيئا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟) ورد نحله إياه وقال: لا أشهد على جور. ومنها إطلاق الوصية، ولم يقيدها بزمان ولا مكان. ثم ختمها بأبلغ الزجر أن يموتوا غير مسلمين. ثم التوطئة لهذا النهي والزجر بأن الله تعالى هو الذي اختار لكم دين الإسلام، فلا تخرجوا عما اختاره الله لكم. قال المؤرخون: نقل إبراهيم ولده إسماعيل إلى مكة وهو رضيع، وقيل: ابن سنتين. وقيل: ابن أربع عشرة سنة، وولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وثلاثون سنة. وكان لإسماعيل، لما مات أبوه إبراهيم أبوه، تسع وثمانون سنة. وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ومات بالأرض المقدسة، ودفن عند أبيه إبراهيم. وكان بين وفاة أبيه إبراهيم ومولد محمد صلى الله عليه وسلم) نحو من ألفي سنة وستمائة سنة، واليهود تنقص من ذلك نحوا من أربعمائة
571

سنة.
* (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) *: نزلت في اليهود. قالوا: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟ قال الكلبي: لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيرين، فجمع بنيه وخاف عليهم ذلك، فقال لهم: ما تعبدون من بعدي؟ فأنزل الله هذه الآية إعلاما لنبيه بما وصى به يعقوب، وتكذيبا لليهود. وأم هنا منقطعة، تتضمن معنى بل وهمزة الاستفهام الدالة على الإنكار، والتقدير: بل أكنتم شهداء؟ فمعنى الإضراب: الانتقال من شيء إلى شيء، لا أن ذلك إبطال لما قبله. ومعنى الاستفهام هنا: التقريع والتوبيخ، وهو في معنى النفي، أي ما كنتم شهداء، فكيف تنسبون إليه ما لا تعلمون؟ ولا شهدتموه أنتم ولا أسلافكم. وقيل: أم هنا بمعنى: بل، والمعنى بل كنتم، أي كان أسلافكم، أو نزلهم منزلة أسلافهم، إذ كان أسلافهم قد نقلوا ذلك إليهم، وفي إثبات ذلك إنكار عليهم ما نسبوه إلى يعقوب من اليهودية. والخطاب في كنتم لمن كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم) من أحبار اليهود والنصارى ورؤسائهم. وقال ابن عطية: قال لهم على جهة التقرير والتوبيخ أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى، فتدعون عن علم، أي لم تشهدوا، بل أنتم تفترون. وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية. انتهى ما ذكره. ولم أقف لأحد من النحويين على أن أم يستفهم بها في صدر الكلام. وأين ذلك؟ وإذا صح النقل فلا مدفع فيه ولا مطعن. وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه. ومنه: * (أم يقولون افتراه) *. انتهى، وهذا أيضا قول غريب. وتلخص أن أم هنا فيها ثلاثة أقوال: المشهور أنها هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة. الثاني: أنها للإضراب فقط، بمعنى بل. الثالث: بمعنى همزة الاستفهام فقط.
وقال الزمخشري: الخطاب للمؤمنين بمعنى: ما شاهدتم ذلك، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي. وقيل: الخطاب لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوه، ولو سمعوا ما قاله لبنيه، وما قالوه، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية. فالآية منافية لقولهم، فكيف يقال لهم: * (أم كنتم شهداء) *؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة، على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية؟ * (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) *؟ يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ انتهى كلامه. وملخصه: أنه جعل أم متصلة، وأنه حذف قبلها ما يعادلها، ولا نعلم أحدا أجاز حذف هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك، لا في شعر ولا غيره، فلا يجوز: أم زيد؟ وأنت تريد: أقام عمرو أم زيد؟ ولا أم قام خالد؟ وأنت تريد: أخرج زيد؟ أم قام خالد؟ والسبب في أنه لا يجوز الحذف. إن الكلام في معنى: أي الأمرين وقع؟ فهي في الحقيقة جملة واحدة. وإما يحذف المعطوف عليه ويبقى المعطوف مع الواو والفاء، إذا دل على ذلك دليل نحو قولك: بلى وعمرا، جوابا لمن. قال: ألم تضرب زيدا؟ ونحو قوله تعالى: * (أن اضرب بعصاك الحجر * فانفجرت) *، أي فضرب فانفجرت. وندر حذف المعطوف عليه مع أو، نحو قوله:
فهل لك أو من والد لك قبلنا
أراد: فهل لك من أخ أو من والد؟ ومع حتى على نظر فيه في قوله:
فيا عجبا حتى كليب تسبني
أي: يسبني الناس حتى كليب، لكن الذي سمع من كلام العرب حذف أم المتصلة مع المعطوف، قال
572

* دعاني إليها القلب إني لأمرها
*
سميع فما أدرى أرشد طلابها
*
يريد: أم غير رشد، فحذف لدلالة الكلام عليه، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه. فالمعنى: أقام زيد أم لم يقم، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله: أرشد طلابها، أي أم غير رشد. ويجوز حذف الثواني المقابلات إذ دل عليها المعنى. ألا ترى إلى قوله: * (تقيكم الحر) *، كيف حذف والبرد؟ إذ حضر العامل في إذ شهداء، وذلك على جهة الظرف، لا على جهة المفعول، كأنه قيل: حاضري كلامه في وقت حضور الموت، وكنى بالموت عن مقدماته لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئا، ومنه: * (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) *، أي ويأتيه دواعيه وأسبابه، وقال الشاعر:
* وقل لهم بادروا العذر والتمسوا
*
قولا يبرئكم إني أنا الموت
*
وفي قوله: حضر، كناية غريبة، إنه غائب لا بد أن يقدم، ولذلك يقال في الدعاء: واجعل الموت خير غائب ننتظره. وقرئ: حضر بكسر الضاد، وقد ذكرنا أن ذلك لغة، وأن مضارعها بضم الضاد شاذ، وقدم المفعول هنا على الفاعل للاعتناء. * (إذ قال لبنيه) *، إذ: بدل من إذ في قوله: إذ حضر، فالعامل فيه إما شهداء العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه، وإما شهداء مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل. وزعم القفال أن إذا وقت للحضور، فالعامل فيه حضر، وهو يؤول إلى اتحاد الظرفين، وإن اختلف عاملهما. * (ما تعبدون من بعدى) * ما: استفهام عما لا يعقل، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده. فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل، لأنه قد عبد بنو آدم والملائكة والشمس والقمر وبعض النجوم والأوثان المنحوتة، وأما من يذهب إلى تخصيص ما بغير العاقل، فقيل: هو سؤال عن صفة المعبود، لأن ما يسأل بها عن الصفات تقول: ما زيد، أفقيه أم شاعر؟ وقيل: سأل بما لأن المعبودات المتعارة في ذلك الوقت كانت جمادات، كالأوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم بما التي يستفهم بها عما لا يعقل. وفهم عنه بنوه فأجابوه: بأنا لا نعبد شيئا من هؤلاء. وقيل: استفهم بما عن المعبود تجربة لهم، ولم يقل من لئلا يطرق لهم الاهتداء، وإنما أراد أن يختبرهم وينظر ثبوتهم على ما هم عليه. وظاهر الكلام أنه استفهم عن الذي يعبدون، أي العبادة المشروعة؟ وقال القفال: دعاهم إلى أن لا يتحروا في أعمالهم غير وجه الله تعالى، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما خاف عليهم أن تشغلهم دنياهم. وفي ذلك دليل على أن شفقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أولادهم كانت في باب الدين، وهمتهم مصروفة إليهم. من بعدي: يريد من بعد موتي، وحكى أن يعقوب عليه السلام حين خير، كما يخير الأنبياء، اختار الموت وقال: أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا القول.
* (قالوا نعبد إلاهك وإلاه آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) *: هذه قراءة الجمهور. وقرأ أبي: وإله إبراهيم، بإسقاط آبائك. وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدري، وأبو رجاء: وإله أبيك. فأما على قراءة الجمهور، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك، أو عطف بيان. وإذا كان بدلا، فهو من البدل التفصيلي،
ولو قرىء فيه بالقطع، لكان ذلك جائزا. وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوبا على إضمار، أعني: وفيه دلالة على أن
573

العم يطلق عليه أب. وقد جاء في العباس: هذا بقية آبائي، وردوا علي أبي، وأنا ابن الذبيحين، على القول الشهير: أن الذبيح هو إسحاق، وفيه دلالة على أن الجد يسمى أبا لقوله: * (وإلاه آبائك إبراهيم) *، وإبراهيم جد ليعقوب. وقد استدل ابن عباس بذلك وبقوله: * (واتبعت ملة ءاباءي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) * على توريث الجد دون الإخوة، وإنزاله منزلة الأب في الميراث، عند فقد الأب، وأن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث، إذا لم يكن أب، وهو مذهب الصديق وجماعة من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، وهو قول أبي حنيفة. وقال زيد بن ثابت: هو بمنزلة الإخوة، ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث، فيعطى الثلث، ولم ينقص منه شيئا، وبه قال مالك وأبو يوسف والشافعي. وقال علي: هو بمنزلة أحد الإخوة، ما لم تنقصه المقاسمة من السدس، فيعطى السدس، ولم ينقص منه شيئا، وبه قال ابن أبي ليلى، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه. وأما قراءة أبي فظاهرة، وأما على قراءة ابن عباس، ومن ذكر معه، فالظاهر أن لفظ أبيك أريد به الإفراد ويكون إبراهيم بدلا منه، أو عطف بيان. وقيل: هو جمع سقطت منه النون للإضافة، فقد جمع أب على أبين نصبا وجرا، وأبون رفعا، حكى ذلك سيبويه، وقال الشاعر:
* فلما تبين أصواتنا
*
بكين وفديننا بالأبينا
*
وعلى هذا الوجه يكون إعراب إبراهيم مثل إعرابه حين كان جمع تكسير. وفي إجابتهم له بإظهار الفعل تأكيد لما أجابوه به، إذ كان يجوز أن يقال: قالوا إلهك، فتصريحهم بالفعل تأكيد في الجواب أنه مطابق للسؤال، أعني في العامل الملفوظ به في السؤال. وإضافة الإله إلى يعقوب فيه دليل على اتحاد معبود السائل والمجيب لفظا. وفي قوله: وإله آبائك دليل على اتحاد المعبود أيضا من حيث اللفظ، وإنما كرر لفظ وإله، لأنه لا يصح العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة جاره، إلا في الشعر، أو على مذهب من يرى ذلك، وهو عنده قليل. فلو كان المعطوف عليه ظاهرا، لكان حذف الجار، إذا كان اسما، أولى من إثباته، لما يوهم إثباته من المغايرة. فإن حذفه يدل على الاتحاد. وبدأ أولا بإضافة الإله إلى يعقوب، لأنه هو السائل، وقدم إبراهيم، لأنه الأصل، وقدم إسماعيل على إسحاق، لأنه أسن أو أفضل، لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم) من ذريته، وهو في عمود نسبه. واقتصر على هؤلاء، لأنهم كانوا خير الناس في أزمانهم، ولم يعم، لأن الناس كان لهم معبودون كثيرون دون الله.
* (إلاها واحدا) *: يجوز أن يكون بدلا، وهو بدل نكرة موصوفة من معرفة، ويجوز أن يكون حالا، ويكون حالا موطئة نحو: رأيتك رجلا صالحا. فالمقصود إنما هو الوصف، وجئ باسم الذات توطئة للوصف. وجوز الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص، أي يريد بإلهك إلها واحدا. وقد نص النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهما. وفائدة هذه الحال، أو البدل، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام. * (ونحن له مسلمون) *: أي منقادون لما ذكر الجواب بالفعل الذي هو نعبد، لأن العبادة متجددة دائما. ذكر هذه الجملة الإسمية المخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الدال على الثبوت، لأن الانقياد لا ينفكون عنه دائما، وعنه تكون العبادة، فيكون قوله: * (ونحن له مسلمون) * أحد جملتي الجواب. فأجابوه بشيئين: أحدهما: الذي سأل عنه، والثاني: مؤكد لما أجابوا به، فيكون من باب الجواب المربي على السؤال. وأجاز بعضهم أن تكون الجملة حالية من الضمير في نعبد، والأول أبلغ، وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله
574

* (نعبد) *، فيكون أحد شقي الجواب. وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أي: ومن حالنا أنا نحن له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون. والذي ذكره النحويون أن جملة الاعتراض هي الجملة التي تفيد تقوية بين جزأي موصول وصلة، نحو قوله:
* ماذا ولا عتب في المقدور رمت
*
إما تخطيك بالنجح أم خسر وتضليل
*
وقال:
* ذاك الذي وأبيك يعرف مالكا
*
والحق يدفع ترهات الباطل
*
أو بين جزأي إسناد، نحو قوله:
* وقد أدركتني والحوادث جمة
*
أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
*
أو بين فعل شرط وجزائه، أو بين قسم وجوابه، أو بين منعوت ونعته، أو ما أشبه ذلك مما بينهما تلازم ما. وهذه الجملة التي هي قوله: * (ونحن له مسلمون) * ليست من هذا الباب، لأن قبلها كلاما مستقلا، وبعدها كلام مستقل، وهو قوله: * (تلك أمة قد خلت) *. لا يقال: إن بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازم يصح به أن تكون الجملة معترضة، لأن ما قبلها من كلام بني يعقوب، حكاه الله عنهم، وما بعدها من كلام الله تعالى، أخبر عنهم بما أخبر تعالى. والجملة الاعتراضية الواقعة بين متلازمين لا تكون إلا من الناطق بالمتلازمين، يؤكد بها ويقوي ما تضمن كلامه. فتبين بهذا كله أن قوله: * (ونحن له مسلمون) * ليس جملة اعتراضية. وقال ابن عطية: * (ونحن له مسلمون) * ابتداء وخبر، أي: كذلك كنا ونحن نكون. ويحتمل أن يكون في موضع الحال. والعامل نعبد والتأويل الأول أمدح. انتهى كلامه. ويظهر منه أنه جعل الجملة معطوفة على جملة محذوفة، وهي قوله: كذلك كنا، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار، لأنه يصح عطفها على نعبد إلهك، كما ذكرناه وقررناه قبل. ومتى أمكن حمل الكلام على غير إضمار، مع صحة المعنى، كان أولى من حمله الإضمار.
وفي المنتخب ما ملخصه تمسك بهذه الآية المقلدة، وقالوا: إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد، ولم ينكره هو عليهم، فدل على أن التقليد كاف، واستدل بها التعليمية، قالوا: لا طريق لمعرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام، فإنهم لم يقولوا: نعبد الإله الذي دل عليه العقل، قالوا: لا نعبد إلا الذي أنت تعبده وآباؤك تعبده، وهذا يدل على أن طرية المعرفة التعلم. وما ذهبوا إليه لا دليل في الآية عليه، لأن الآية لم تتضمن إلا الإقرار بعبادة الإله. والإقرار بالعبادة لله لا تدل على أن ذلك ناشىء عن تقليد، ولا تعليم، ولا أنه أيضا ناشىء عن استدلال بالعقل، فبطل تمسكهم بالآية. وإنما لم تتعرض الآية للاستدلال العقلي، لأنها لم تجيء في معرض ذلك، لأنه إنما سألهم عما يعبدونه من بعد موته، فأحالوه على معبوده ومعبود آبائه، وهو الله تعالى، وكان ذلك أخصر في القول من شرح صفاته تعالى من الوحدانية والعلم والقدرة وغير ذلك من صفاته، وأقرب إلى سكون ننفس يعقوب، فكأنهم قالوا:
575

لسنا نجري إلا على طريقتك. وقد يقال: إن في قوله: * (نعبد إلاهك وإلاه آبائك) * إشارة إلى الاستدلال العقلي على وجود الصانع، لأنه قد تقدم في أول السورة: * (قدير ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم) *، فمرادهم هنا بقولهم: * (نعبد إلاهك وإلاه آبائك) * الإله الذي دل عليه وجود آبائك، وهذا إشارة إلى الاستدلال.
* (تلك أمة قد خلت) *، تلك: إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وأبنائهما. ومعنى خلت: ماتت وانقضت وصارت إلى الخلاء، وهو الأرض الذي لا أنيس به. والمخاطب هم اليهود والنصارى الذين ادعوا لإبراهيم وبنيه اليهودية والنصرانية. والجملة من قوله: قد خلت، صفة لأمة. * (لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) *: أي تلك الأمة مختصة بجزاء ما كسبت، كما أنكم كذلك مختصون بجزاء ما كسبتم من خير وشر، فلا ينفع أحدا كسب غيره. وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد، أي لها ما كسبته. وجوزوا أن تكون ما مصدرية، أي لها كسبها، وكذلك ما في قوله: * (ولكم ما كسبتم) *. ويجوز أن تكون الجملة من قوله: * (لها ما كسبت) * استئنافا، ويجوز أن تكون جملة حالية من الضمير في خلت، أي انقضت مستقرا ثابتا، لها ما كسبت. والأظهر الأول، لعطف قوله: * (ولكم ما كسبتم) * على قوله: * (لها ما كسبت) *. ولا يصح أن يكون * (ولكم ما كسبتم) * عطفا على جملة الحال قبلها، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها. وزمان استقرار كسب المخاطبين، وعطف الحال على الحال، يوجب اتحاد الزمان. افتخروا بأسلافهم، فأخبروا أن أحدا لا ينفع أحدا، متقدما كان أو متأخرا. وروي: يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم يا فاطمة، لا أغني عنك من الله شيئا قال ابن عطية: وفي هذا الآية رد على الجبرية القائلين: لا اكتساب للعبد. انتهى.
وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الدين، وهي من المسائل المعضلة، ومذاهب أهل الإسلام فيها أربعة. أحدها: قول الجبرية، وهو أن العبد مجبور على فعله، وأنه لا اختيار له في ذلك، بل هو ملجأ إليه، وأن نسبة الفعل إليه كنسبة حركة الغصن إليه، إذا حركه محرك. والثاني: قول القدرية، وهو أنهم ليسوا مجبورين على الفعل، بل لهم قدرة على إيجاد الفعل. والثالث: قول المعتزلة، أن العبد له قدرة يخلقها الله له قبل الفعل، وهو متمكن من إيقاعه وعدم إيقاعه. والرابع: مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله يخلق للعبد تمكينا وقدرة مع الفعل يفعل بها الخير والشر، لا على سبيل الاضطرار والإلجاء، وهذا التمكين هو مناط التكليف الذي يترتب عليه العقاب والثواب. ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل، اختلفوا في تفسيره على ثلاثة تفاسير: أحدها: قول أبي الحسن: أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير في المقدور، بل القدرة والمقدور حصلا بخلق الله، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله، وهو متعلق القدرة الحادثة، هو الكسب. والثاني: قول الباقلاني: أن ذات الفعل لم تحصل له صفة، كونه طاعة ومعصية، بل هذه الصفة حصلت له بالقدرة الحادثة. والثالث: قول أبي إسحاق الإسفرايني: أن القدرتين، القديمة والحديثة، إذا تعلقتا بمقدور وقع بهما، فكان فعل
576

العبد يوقع بإعانة، فهذا هو الكسب.
* (ولا تسئلون عما كانوا يعملون) *: جملة توكيدية لما قبلها، لأنه قد أخبر بأن كل أحد مختص بكسبه من خير، وإذا كان كذلك، فلا يسأل أحد عن عمل أحد. فكما أنه لا ينفعكم حسناتهم، فكذلك لا تسألون ولا تؤاخذون بسيئات من اكتسبها. * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *، كل شاة برجلها تناط. قالوا: وفي هذه الآية، وما
قبلها، دليل على أن للإنسان أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله، إفحاما له، وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه، لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج على نبوته بأمثال هذه الكلمات، بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة. لكنه لما أقام الحجة بها وأزاح العلة، وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم. فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه، فقال: إن كان الدين بالاتباع، فالمتفق عليه أولى. وفي قوله: * (لها ما كسبت) * إلى آخره، دلالة على بطلان قول من يقول بجواز تعذيب أولاد المشركين بذنوب آبائهم. وفي الآية قبلها دلالة على أن الأبناء يثابون على طاعة الآباء.
* (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) *: الضمير عائد في قالوا على رؤساء اليهود الذين كانوا بالمدينة، وعلى نصارى نجران، وفيهم نزلت. كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب، وأبي بن ياس بن أخطب، والسيد، والعاقب وأصحابهما خاصموا المسلمين في الدين، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها، فأخبر الله عنهم ورد عليهم. وأو هنا للتفصيل، كأو في قوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *. والمعنى: وقالت اليهود كونوا هودا، وقالت النصارى: كونوا نصارى، فالمجموع قالوا للمجموع، لا أن كل فرد فرد أمر باتباع أي الملتين. وقد تقدم إيضاح ذلك وإشباع الكلام فيه في قوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة) *. * (قل بل ملة إبراهيم) *: قرأ الجمهور: بنصب ملة بإضمار فعل. أما على المفعول، أي بل نتبع ملة، لأن معنى قوله: * (كونوا هودا أو نصارى) *: اتبعوا اليهودية أو النصرانية. وأما على أنه خبر كان، أي بل تكون ملة إبراهيم، أي أهل ملة إبراهيم، كما قال عدي بن حاتم، إني من دين، أي من أهل دين، قاله الزجاح. وأما على أنه منصوب على الإغراء، أي الزموا ملة إبراهيم، قاله أبو عبيد. وأما على أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي نقتدي ملة، أي بملة، وهو يحتمل أن يكون خطابا للكفار، فيكون المضمر اتبعوا، أو كونوا. ويحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، فيقدر بنتبع، أو تكون، أو نقتدي على ما تقدم تقديره. وقرأ ابن هرمز الأعرج، وابن أبي عبلة: * (بل ملة إبراهيم) *، برفع ملة، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي بل الهدى ملة، أو أمرنا ملته، أو نحن ملته، أي أهل ملته، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي بل ملة إبراهيم حنيفا ملتنا.
* (حنيفا) *: ذكروا أنه منصوب على الحال من إبراهيم، أي في حال حنيفيته، قاله المهدوي وابن عطية والزمخشري وغيرهم. قال الزمخشري: كقولك رأيت وجه هند قائمة، وأنه منصوب بإضمار فعل، حكاه ابن عطية. وقال: لأن الحال تعلق من المضاف إليه. انتهى. وتقدير الفعل نتبع حنيفا، وأنه منصوب على القطع، حكاه السجاوندي، وهو تخريج كوفي، لأن النصب على لقطع إنما هو مذهب الكوفيين. وقد تقدم لنا الكلام فيه، واختلاف الفراء والكسائي، فكان التقدير: بل ملة إبراهيم الحنيف، فلما نكره، لم يمكن اتباعه إياه، فنصبه على القطع. أما الحال من المضاف إليه، إذا كان المضاف غير عامل في المضاف إليه قبل الإضافة، فنحن لا نجيز، سواء كان جزءا مما أضيف إليه، أو كالجزء، أو غير ذلك. وقد أمعنا الكلام على ذلك في (كتاب منهج المسالك) من تأليفنا. وأما النصب على القطع، فقد رد هذا الأصل البصريون. وأما إضمار الفعل فهو قريب، ويمكن أن يكون منصوبا على الحال من المضاف، وذكر حنيفا ولم يؤنث لتأنيث ملة، لأنه حمل على المعنى، لأن الملة هي الدين، فكأنه قيل: نتبع دين إبراهيم
577

حنيفا. وعلى هذا خرجه هبة الله بن الشجري في المجلس الثالث من أماليه. قال: قيل إن حنيفا حال من إبراهيم، وأوجه من ذلك عندي أن يجعله حالا من الملة، وإن خالفها بالتذكير، لأن الملة في معنى الدين. ألا ترى أنها قد أبدلت من الدين في قوله جل وعز: * (دينا قيما ملة إبراهيم) *؟ فإذا جعلت حنيفا حالا من الملة، فالناصب له هو الناصب للملة، وتقديره: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، وإنما ضعف الحال من المضاف إليه، لأن العامل في الحال ينبغي أن يكون هو العامل في ذي الحال. انتهى كلامه. وتكون حالا لازمة، لأن دين إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية، وكذلك يلزم من جعل حنيفا حالا من إبراهيم أن يكون حالا لازمة، لأن إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية. والحنيف: هو المائل عن الأديان كلها، قاله ابن عباس؛ أو المائل عما عليه العامة، قاله الزجاج، أو المستقيم، قاله ابن قتيبة؛ أو الحاج، قاله ابن عباس أيضا؛ وابن الحنيفية، أو المتبع، قاله مجاهد؛ أو المخلص، قاله السدي؛ أو المخالف للكل، قاله ابن بحر؛ أو المسلم، قاله الضحاك، قال: فإذا جمع الحنيف مع المسلم فهو الحاج، أو المختتن. أو الحنف: هو الاختتان، وإقامة المناسك، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، عشرة أقوال متقاربة في المعنى. وإنما خص إبراهيم دون غيره من الأنبياء، وإن كانوا كلهم مائلين إلى الحق، مستقيمي الطريقة حنفاء، لأن الله اختص إبراهيم بالإمامة، لما سنه من مناسك الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام، مما يقتدى به إلى قيام الساعة. وصارت الحنيفية علما مميزا بين المؤمن والكافر. وسمي بالحنيف: من اتبعه واستقام على هديه، وسمي المنكث على ملته بسائر أسماء الملل، فقيل: يهودي ونصراني ومجوسي، وغير ذلك من ضروب النحل.
* (وما كان من المشركين) *: أخبر الله تعالى أنه لم يكن يعبد وثنا، ولا شمسا، ولا قمرا، ولا كوكبا، ولا شيئا غير الله تعالى. وكان في قوله: * (بل ملة إبراهيم) * دليل على أن ملته مخالفة لملة اليهود والنصارى، ولذلك أضرب ببل عنهما، فثبت أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا) *. وكانت العرب ممن تدين بأشياء من دين إبراهيم، ثم كانت تشرك، فنفى الله عن إبراهيم أن يكون من المشركين. وقيل: في الآية تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، لأن كلا منهم يدعي اتباع إبراهيم، وهو على الشرك، قاله الزمخشري. فإشراك اليهود بقولهم: عزير ابن الله، وإشراك النصارى بقولهم: * (*) *. وكانت العرب ممن تدين بأشياء من دين إبراهيم، ثم كانت تشرك، فنفى الله عن إبراهيم أن يكون من المشركين. وقيل: في الآية تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، لأن كلا منهم يدعي اتباع إبراهيم، وهو على الشرك، قاله الزمخشري. فإشراك اليهود بقولهم: عزير ابن الله، وإشراك النصارى بقولهم: * (المسيح ابن الله) *، وإشراك غيرهما
578

بعبادة الأوثان وغيرها.
* (قولوا ءامنا بالله) * الآية، خرج البخاري، عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم): (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، ولكن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية، فإن كان حقا لم تكذبوه وإن كان كذبا لم تصدقوه). والضمير في قوله: * (قولوا) * عائد على الذين قالوا: * (كونوا هودا أو نصارى) *. أمروا بأن يكونوا على الحق، ويصرحوا به. ويجوز أن يعود على المؤمنين، وهو أظهر. وارتبطت هذه الآية بما قبلها، لأنه لما ذكر في قوله: * (بل ملة إبراهيم) *، جوابا إلزاميا، وهو أنهم: وما أمروا باتباع اليهودية والنصرانية، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد. هذا، وكل طائفة منهما تكفر الأخرى، أجيبوا بأن الأولى في التقليد اتباع إبراهيم، لأنهم، أعني الطائفتين المختلفتين، قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم. والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فيه، إن كان الدين بالتقليد. فلما ذكر هنا جوابا إلزاميا، ذكر بعده برهانا في هذه الآية، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات. وقد ظهرت على يد محمد صلى الله عليه وسلم)، فوجب الإيمان بنبوته. فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالرد، يوجب التناقض في الدليل، وهو ممتنع عقلا.
* (وما أنزل إلينا) *: إن كان الضمير في قولوا للمؤمنين، فالمنزل إليهم هو القرآن، وصح نسبة إنزاله إليهم، لأنهم فيه هم المخاطبون بتكاليفه من الأمر والنهي وغير ذلك، وتعدية أنزل بإلى، دليل على انتهاء المنزل إليهم. وإن كان الضمير في قولوا عائدا على اليهود والنصارى، فالمنزل إلى اليهود: التوراة، والمنزل إلى النصارى: الإنجيل، ويلزم من الإيمان بهما، الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم). ويصح أن يراد بالمنزل إليهم: القرآن، لأنهم أمروا باتباعه، وبالإيمان به، وبمن جاء على يديه.
* (وما أنزل إلى إبراهيم) *: الذي أنزل على إبراهيم عشر صحائف. قال: * (إن هاذا لفى الصحف الاولى * صحف إبراهيم وموسى) *، وكرر الموصول، لأن المنزل إلينا، وهو القرآن، غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم. فلو حذف الموصول، لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إلى إبراهيم، قالوا: ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وعطفوا على إبراهيم، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه، فأضيف الإنزال إليهم، كما أضيف في قوله: * (وما أنزل إلينا) *. والأسباط هم أولاد يعقوب، وهم اثنا عشر سبطا. قال الشريف أبو البركات الجواني النسابة: وولد يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم): يوسف النبي صلى الله عليه وسلم)، صاحب مصر وعزيزها، وهو السبط الأول من أسباط يعقوب عليه السلام الاثني عشر، والأسباط سوى يوسف: كاذ، وبنيامين، ويهوذا، ويفتالي، وزبولون، وشمعون، وروبين، ويساخا، ولاوي، وذان، وياشيرخا من يهوذا بن يعقوب، وسليمان النبي صلى الله عليه وسلم). وجاء من سليمان عليه السلام النبي: مريم ابنة عمران، أم المسيح عليهما السلام. وجاء من لاوي بن يعقوب: موسى كليم الله وهارون أخوه عليهما السلام. انتهى كلامه. وقال ابن عطية: والأسباط هم ولد يعقوب. وهم: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ورفالون، وبشجر، وذينة بنته، وأمهم لياثم. خلف على أختها راحيل، فولدت له: يوسف، وبنيامين. وولد له من سريتين: داني، ونفتالي، وجاد، وآشر. انتهى كلامه، وهو مخالف لكلام الجواني في بعض الأسماء. وقيل: روبيل أكبر ولده. وقال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني: روبيل أصح وأثبت، يعني باللام، قال: وقبره في قرافة مصر، في لحف الجبل، في تربة أليسع عليهما السلام.
* (وما أوتى موسى وعيسى) *: أي: وآمنا بالذي أوتي موسى من التوراة والآيات، وعيسى من الإنجيل والآيات. وموسى هنا: هو موسى بن عمران، كليم الله. وقال الحسين بن أحمد البيساني: وفي ولد ميشا بن يوسف، يعني الصديق: موسى بن ميشا بن يوسف. وزعم أهل التوراة أن الله نبأه، وأنه صاحب الخضر. وذكر المؤرخون أنه لما مات يعقوب، فشا في الأسباط الكهانة، فبعث الله موسى بن ميشا يدعوهم إلى عبادة الله، وهو قبل موسى بن عمران بمائة سنة، والله أعلم بصحة ذلك. انتهى كلامه، ونص
579

على موسى وعيسى، لأنهما متبوعا اليهود والنصارى بزعمهم، والكلام معهم، ولم يكرر الموصول في عيسى، لأن عيسى إنما جاء مصدقا لما في التوراة، لم ينسخ منها إلا نزرا يسيرا. فالذي أوتيه عيسى هو ما أوتيه موسى، وإن كان قد خالف في نزر يسير. وجاء: * (وما أنزل إلينا) *، وجاء: * (وما أوتى موسى وعيسى) *، تنويعا في الكلام وتصرفا في ألفاظه، وإن كان المعنى واحدا، هذ لو كان كله بلفظ الإيتاء، أو بلفظ الإنزال، لما كان فيه حلاوة التنوع في الألفاظ. ألا تراهم لم يستحسنوا قول أبي الطيب:
* ونهب نفوس أهل النهب أولى
*
بأهل النهب من نهب القماش
*
ولما ذكر في الإنزال أولا خاصا، عطف عليه جمعا. كذلك لما ذكر في الإيتاء خاصا، عطف عليه جمعا. ولما أظهر الموصول في الإنزال في العطف، أظهره في الإيتاء فقال: * (وما أوتي النبيون من ربهم) *، وهو تعميم بعد تخصيص. وظاهر قوله: * (وما أوتي) * يقتضي التعميم في الكتب والشرائع. وفي حديث لأبي سعيد الخدري، قلت: يا رسول الله، كم أنزل الله؟ قال: (مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف، ثم أنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان. وأما عدد الأنبياء، فروي عن ابن عباس ووهب بن منبه: أنهم مائة ألف نبي، ومائة وعشرون ألف نبي، كلهم من بني إسرائيل، إلا عشرين ألف نبي. وعدد الرسل: ثلاثمائة وثلاثة عشرة، كلهم من ولد يعقوب، إلا عشرين رسولا، ذكر منهم في القرآن خمسة وعشرين، نص على أسمائهم وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب،
وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وأليسع، وإلياس، ويونس، وأيوب، وداود، وسليمان، وزكريا، وعزير، ويحيى، وعيسى، ومحمد / صلى الله عليه وسلم). وفي رواية عن ابن عباس: أن الأنبياء كلهم من بني إسرائيل، إلا عشرة: نوحا، وهودا، وشعيبا، وصالحا، ولوطا، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، ومحمدا / صلى الله عليه وسلم) أجمعين. وابتدىء أولا بالإيمان بالله، لأن ذلك أصل الشرائع، وقدم * (أنزل الله * إلينا) *، وإن كان متأخرا في الإنزال عن ما بعده، لأنه أولى بالذكر، لأن الناس، بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم)، مدعوون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملة وتفصيلا. وقدم * (ما أنزل إلى * إبراهيم) * على * (ما أوتى موسى * وعيسى) *، للتقدم في الزمان، أو لأن المنزل على موسى، ومن ذكر معه، هو المنزل إلى إبراهيم، إذ هم داخلون تحت شريعته. * (وما أوتى موسى) *: ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان، وجوزوا أن يكون: * (وما أوتى موسى وعيسى) * في موضع رفع بالابتداء، وما أوتي الثانية عطف على ما أوتي، فيكون في موضع رفع. والخبر في قوله * (من ربهم) *، أو لا نفرق، أو يكون: * (وما أوتى موسى وعيسى) * معطوفا على المجرور قبله، * (وما أوتي النبيون) * رفع على الابتداء، * (ومن * ربهم) * الخبر، أو لا نفرق هو الخبر. والظاهر أن من ربهم في موضع نصب، ومن لابتداء الغاية، فتتعلق بما أوتي الثانية، أو بما أوتي الأولى، وتكون الثانية توكيدا. ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله: * (وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم) *؟ ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول، فتتعلق بمحذوف، أي وما أوتيه النبيون كائنا من ربهم..
* (لا نفرق بين أحد منهم) *: ظاهره الاستئناف. والمعنى: أنا نؤمن بالجميع، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما فعلت اليهود والنصارى. فإن اليهود آمنوا بالأنبياء كلهم، وكفروا بمحمد وعيسى، صلوات الله على الجميع. والنصارى آمنوا بالأنبياء، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم)
580

. وقيل: معناه لا نقول إنهم يتفرقون في أصول الديانات. وقيل: معناه لانشق عصاهم، كما يقال شق عصا المسلمين، إذا فارق جماعتهم. وأحد هنا، قيل: هو المستعمل في النفي، فأصوله: الهمزة والحاء والدال، وهو للعموم، فلذلك لم يفتقر بين إلى معطوف عليه، إذ هو اسم عام تحته أفراد، فيصح دخول بين عليه، كما تدخل على المجموع فتقول: المال بين الزيدين، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه. وقيل: أحد هنا بمعنى: واحد، والهمزة بدل من الواو، إذ أصله: وحد، وحذف المعطوف لفهم السامع، والتقدير: بين أحد منهم وبين نظيره، فاختصر، أو بين أحد منهم والآخر، ويكون نظير قول الشاعر:
* فما كان بين الخير لو جاء سالما
*
أبو حجر إلا ليال قلائل
*
يريد: بين الخير وبيني، فحذف لدلالة لمعنى عليه، إذ قد علم أن بين لا بد أن تدخل بين شيئين، كما حذف المعطوف في قوله: * (سرابيل تقيكم الحر) *. ومعلوم أن ما وقي الحر وقي البرد، فحذف والبرد لفهم المعنى. ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه. وذكر الوجهين غير الزمخشري وابن عطية، والوجه الأول أرجح، لأنه لا حذف فيه.
* (ونحن له مسلمون) *: هذا كله مندرج تحت قوله: * (قولوا) *. ولما ذكر أولا الإيمان، وهو التصديق، وهو متعلق بالقلب، ختم بذكرالإسلام، وهو الانقياد الناشئ عن الإيمان الظاهر عن الجوارح. فجمع بين الإيمان والإسلام، ليجتمع الأصل والناشىء عن الأصل. وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم) الإيمان والإسلام حين سئل عنهما، وذلك في حديث جبريل عليه السلام. وقد فسروا قوله: * (مسلمون) * بأقوال متقاربة في المعنى، فقيل: خاضعون، وقيل: مطيعون، وقيل: مذعنون للعبودية، وقيل: مذعنون لأمره ونهيه عقلا وفعلا، وقيل: داخلون في حكم الإسلام، وقيل: منقادون، وقيل: مخلصون. وله متعلق بمسلمون، وتأخر عنه العامل لأجل الفواصل، أو تقدم له للاعتناء بالعائد على الله تعالى لما نزل قوله: * (قولوا ءامنا بالله) * الآية، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم) على اليهود والنصارى وقال: (الله أمرني بهذا). فلما سمعوا بذكر عيسى أنكروا وكفروا. وقالت النصارى: إن عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء، ولكنه ابن الله تعالى، فأنزل الله: * (فإن ءامنوا) * الآية. والضمير في آمنوا عائد على من عاد عليه في قوله: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى) *. ويجوز أن يكون الخطاب خاصا، والمراد به العموم، ويجوز أن يكون عائدا على كل كافر، فيفسره المعنى.
وقرأ الجمهور: * (بمثل ما ءامنتم به) *. وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس: بما آمنتم به. وقرأ أبي: بالذي آمنتم به، وقال ابن عباس: ليس لله مثل. وهذا يدل على إقرار الباء على حالها في آمنت بالله، وإطلاق على ما على الله تعالى. كما ذهب إليه بعضهم في قوله: * (والسماء وما بناها) *، يريد ومن بناها على قوله. وقراءة أبي ظاهرة، ويشمل جميع ما آمن به المؤمنون. وأما قراءة الجمهور، فخرجت الباء على لزيادة، والتقدير: إيمانا مثل إيمانكم، كما زيدت في قوله: * (وهزى إليك بجذع النخلة) *.
وسود المحاجر لا يقرأن بالسور
* (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *، وتكون ما مصدرية. وقيل: ليست بزائدة، وهي بمعنى على، أي فإن آمنوا على مثل ما آمنتم به، وكون الباء بمعنى على، قد قيل به، وممن قال به ابن مالك، قال ذلك في قوله تعالى: * (من إن تأمنه بقنطار) *، أي على قنطار. وقيل: هي للاستعانة، كقولك: عملت بالقدوم،
581

وكتبت بالقلم، أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم، وذلك فرار من زيادة الباء، لأنه ليس من أماكن زيادة الياء قياسا. والمؤمن به على هذه الأوجه الثلاثة محذوف، التقدير: فإن آمنوا بالله، ويكون الضمير في به عائدا على ما عاد عليه قوله: * (ونحن له) *، وهو الله تعالى. وقيل: يعود على ما، وتكون إذ ذاك موصولة. وأما مثل، فقيل: زائدة، والتقدير: فإن آمنوا بما آمنتم به، قالوا: كهي في قوله: * (ليس كمثله شىء) *، أي ليس كهو شيء، وكقوله:
* فصيروا مثل كعصف مأكول وكقوله:
*
* يا عاذلي دعني من عذلكا
*
مثلي لا يقبل من مثلكما
*
وقيل: ليست بزائدة. والمثلية هنا متعلقة بالاعتقاد، أي فإن اعتقدوا مثل اعتقادكم، أو متعلقة بالكتاب، أي فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به. والمعنى: فإن آمنوا بكتابكم المماثل لكتابهم، أي فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل، وعلى هذا التأويل، لا تكون الباء زائدة، بل هي مثلها في قوله: آمنت بالكتاب. وقالت فرقة: هذا من مجاز الكلام، يقول: هذا أمر لا يفعله مثلك، أي لا تفعله أنت. والمعنى: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، وهذا يؤول إلى إلغاء مثل، وزيادتها من حيث المعنى. وقال الزمخشري: بمثل ما آمنتم به من باب التبكيت، لأن دين الحق واحد، لا مثل له، وهو دين الإسلام. * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) *، فلا يوجد إذا دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقا، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له، كانوا مهتدين، فقيل: فإن آمنوا بكلمة الشك، على سبيل العرض، والتقدير: أي فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم، مساويا له في الصحة والسداد.
* (فقد اهتدوا) *: وفيه أن دينهم الذي هم عليه، وكل دين سواه مغاير له غير مماثل، لأنه حق وهدى، وما سواه باطل وضلال، ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه: هذا هو الرأي الصواب، فإن كان عندك رأي أصوب منه، فاعمل به، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه. انتهى كلامه، وهو حسن. وجواب الشرط قوله: * (فقد اهتدوا) *، وليس الجواب محذوفا، كهو في قوله: * (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل) * لمعنى تكذيب الرسل قطعا، واستقبال الهداية هنا، لأنها معلقة على مستقبل، ولم تكن واقعة قبل.
* (وإن تولوا) *: أي إن أعرضوا عن الدخول في الإيمان. * (فإنما هم فى شقاق) *: أكد الجملة الواقعة شرطا بأن، وتأكد معنى الخبر بحيث صار ظرفا لهم، وهم مظروفون له. فالشقاق مستول عليهم من جميع جوانبهم، ومحيط بهم إحاطة البيت بمن فيه. وهذه مبالغة في الشقاق الحاصل لهم بالتولي، وهذا كقوله: * (إنا لنراك في ضلال مبين) *، * (إنا لنراك في سفاهة) *، هو أبلغ من قولك: زيد مشاق لعمرو، وزيد ضال، وبكر سفيه. والشقاق هنا: الخلاف، قاله ابن عباس، أو العداوة، أو الفراق، أو المنازعة، قاله زيد بن أسلم، أو المجادلة، أو الضلال والاختلاف، أو خلع الطاعة، قاله الكسائي؛ أو البعاد والفراق إلى يوم القيامة. وهذه تفاسير للشقاق متقاربة المعنى. وقد ذكرنا مدار ذلك في المفردات على عنيين: إما من المشقة، وإما أن يصير في شق وصاحبه في شق، أي يقع بينهم خلاف. قال القاضي: ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق، لأن الشقاق في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه، وهذا وعيد لهم. انتهى.
* (فسيكفيكهم الله) *: لما ذكر أن توليهم يترتب عليه الشقاق، وهو العداوة العظيمة، أخبر تعالى أن تلك العداوة لا يصلون
582

إليك بشيء منها، لأنه تعالى قد كفاه شرهم. وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله، كفايته ومنعه منهم، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه، وغلبته إياهم، لأن من كان مشاقا لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك، إذا لم يتوصل إلى ذلك، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوة منعتك منه، وهذا نظير قوله تعالى: * (والله يعصمك من الناس) *. وكفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع، والنفي في بني النضير، والجزية في نصارى نجران. وعطف الجملة بالفاء مشعر بتعقب الكفاية عقيب شقاقهم، والمجيء بالسين يدل على قرب الاستقبال، إذ السين في وضعها أقرب في التنفيس من سوف، والذوات ليست المكفية، فهو على حذف مضاف، أي فسيكفيك شقاقهم، والمكفى به محذوف، أي بمن يهديه الله من المؤمنين، أو بتفريق كلمة المشاقين، أو بإهلاك أعيانهم وإذلال باقيهم بالسبي والنفي والجزية، كما بيناه.
* (وهو السميع العليم) *، مناسبة هاتين الصفتين: أن كلا من الإيمان وضده مشتمل على أقوال وأفعال، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال، فناسب أن يختتم ذلك بهما، أي وهو السميع لأقوالكم، العليم بنياتكم واعتقادكم. ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن، قدمت صفة السميع على العليم، ولأن العليم فاصلة أيضا. وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد، لأن المعنى، وهو السميع العليم، فيجازيكم بما يصدر منكم.
* (صبغة الله) *: أي دين الله، قاله ابن عباس وسمي صبغة لظهور أثر الدين على صاحبه، كظهور أثر الصبغ على الثوب، ولأنه يلزمه ولا يفارقه، كالصبغ في الثوب، أو فطرة الله، قاله مجاهد ومقاتل؛ أو خلقة الله، قاله الزجاج وأبو عبيد؛ أو سنة الله، قاله أبو عبيدة؛ أو الإسلام، قاله مجاهد أيضا؛ أو جهة الله يعني القبلة، قاله ابن كيسان؛ أو حجة الله على عباده، قاله الأصم: أو الختان، لأنه يصبغ صاحبه بالدم. والنصارى إذا ولد لهم مولود غمسوه في السابع في ماء يقال له المعمودية، فيتطهر عندهم ويصير نصرانيا. استغنوا به عن الختان، فرد الله عليهم بقوله: * (صبغة الله) *، أو الاغتسال للدخول في الإسلام عوضا عن ماء المعمودية، حكاه الماوردي؛ أو القربة إلى الله، حكاه ابن فارس في المجمل؛ أو التلقين، يقال: فلان يصبغ فلانا في الشيء، أي يدخله فيه ويلزمه إياه، كما يجعل
الصبغ لازما للثوب. وهذه أقوال متقاربة، والأقرب منها هو الدين والملة، لأن قبله: * (قولوا ءامنا بالله وما أنزل إلينا) * الآية. وقد تضمنت هذه الآية أصل الدين الحنيفي، فكنى بالصبغة عنه، ومجازه ظهور الأثر، أو ملازمته لمن ينتحله. فهو كالصبغ في هذين الوصفين، كما قال. وكذلك الإيمان، حين تخالط بشاشة القلوب. والعرب تسمي ديانة الشخص لشيء، واتصافه به صبغة. قال بعض شعراء ملوكهم:
* وكل أناس لهم صبغة
*
وصبغة همدان خير الصبغ
*
* صبغنا على ذاك أبناءنا
*
فأكرم بصبغتنا في الصبغ
*
وقد روي عن ابن عباس أن الأصل في تسمية الدين صبغة: أن عيسى حين قصد يحيى بن زكريا فقال: جئت لأصبغ منك، وأغتسل في نهر الأردن. فلما خرج، نزل عليه روح القدس، فصارت النصارى يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم، تشبيها بعيسى، ويقولون: الآن صار نصرانيا حقا. وزعموا أن في الإنجيل ذكر عيسى بأنه الصابغ. ويسمون الماء الذي يغمسون فيه أولادهم: المعمودية، بالدال، ويقال: المعمورية بالراء. قال: ويسمون ذلك الفعل التغميس، ومنهم من يسميه الصبغ، فرد الله ذلك بقوله: * (صبغة الله) *. وقال الراغب: الصبغة إشارة إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها عن البهائم، ورشحنا بها لمعرفته ومعرفة طلب الحق، وهو المشار إليه بالفطرة.
583

وسمي ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان، إذا اعتبرت، جرت مجرى الصبغة في المصبوغ، ولما كانت النصارى، إذا لقنوا أولادهم النصرانية يقولون: نصرناه، فقال: إن الإيمان بمثل ما آمنتم به صبغة الله.
وقرأ الجمهور: صبغة الله بالنصب، ومن قرأ برفع ملة، قرأ برفع صبغة، قاله الطبري. وقد تقدم أن تلك قراءة الأعرج وابن أبي عبلة. فأما النصب، فوجه على أوجه، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: * (قولوا ءامنا بالله) *. وقيل: عن قوله: * (ونحن له مسلمون) *. وقيل: عن قوله: * (فقد اهتدوا) * وقيل: هو نصب على الإغراء، أي الزموا صبغة الله. وقيل: بدل من قوله: * (ملة إبراهيم) *، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله: * (ونحن له عابدون) *، إلا إن قدر هناك قول، وهو إضمار، لا حاجة تدعو إليه، ولا دليل من الكلام عليه. وأما البدل، فهو بعيد، وقد طال بين المبدل ومنه والبدل بجمل، ومثل ذلك لا يجوز. والأحسن أن يكون منتصبا انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: * (قولوا ءامنا) *، فإن كان الأمر للمؤمنين، كان المعنى: صبغنا الله بالإيمان صبغة، ولم يصبغ صبغتكم. وإن كان الأمر لليهود والنصارى، فالمعنى: صبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا، وطهرنا به تطهيرا لا مثل تطهيرنا. ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله: * (صنع الله الذى أتقن كل شىء) *، إذ قبله: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى * وينشىء السحاب) *، معناه: صنع الله ذلك صنعه، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة، كما تقول لرجل يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، يريد رجلا يصطنع الكرم. وأما قراءة الرفع، فذلك خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك الإيمان صبغة الله.
* (ومن أحسن من الله صبغة) *: هذا استفهام ومعناه: النفي، أي ولا أحد أحسن من الله صبغة. وأحسن هنا لا يراد بها حقيقة التفضيل، إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن، أو يراد التفضيل، باعتبار من يظن أن في صبغة غير الله حسنا، لا أن ذلك بالنسبة إلى حقيقة الشيء. وانتصاب صبغة هنا على التمييز، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ. وقد ذكرنا أن ذلك غريب، أعني نص النحويين على أن من التمييز المنقول تمييزا نقل من المبتدأ، والتقدير: ومن صبغته أحسن من صبغة الله. فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين، لا بين الصابغين.
* (ونحن له عابدون) *: متصل بقوله: * (بالله فإذا) *، ومعطوف عليه. قال الزمخشري: وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة، أو نصب على الإغراء، بمعنى: عليكم صبغة الله، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه. وانتصابها يعني: صبغة الله على أنها مصدر مؤكدة، هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام. انتهى. وتقديره: في الإغراء عليكم صبغة الله ليس بجيد، لأن الإغراء، إذ كان بالظرف
584

والمجرور، لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدرناه بالزموا صبغة الله. وتقدم الكلام على العبادة في قوله: * (إياك نعبد) *، وأما هنا فقيل: عابدون موحدون، ومنه: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *، أي ليوحدون. وقيل: مطيعون متبعون ملة إبراهيم وصبغة الله. وقيل: خاضعون مستكينون في اتباع ملة إبراهيم، غير مستكبرين، وهذه أقوال متقاربة.
* (قل أتحاجوننا فى الله وهو ربنا وربكم) *: سبب النزول، قيل: إن اليهود والنصارى قالوا: يا محمد إن الأنبياء كانوا منا، وعلى ديننا، ولم تكن من العرب، ولو كنت نبيا، لكنت منا وعلى ديننا. وقيل: حاجوا المسلمين فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه وأصحاب الكتاب الأول، وقبلتنا أقدم، فنحن أولى بالله منكم، فأنزلت. قرأ
الجمهور: أتحاجوننا بنونين، إحداهما نون الرفع، والأخرى الضمير؟ وقرأ زيد بن ثابت، والحسن، والأعمش، وابن محيصن: بإدغام النون في النون، وأجاز بعضهم حذف النون. أما قراءة الجمهور فظاهرة، وأما قراءة زيد ومن ذكر معه، فوجهها أنه لما التقى مثلان، وكان قبل الأول حرف مد ولين، جاز الإدغام كقولك: هذه دار راشد، لأن المد يقوم مقام الحركة في نحو: جعل لك. وأما جواز حذف النون الأولى، فوجهه من أجاز ذلك على قراءة من قرأ: فبم تبشرون، بكسر النون، وأنشدوا:
* تراه كالثغام يعل مسكا
*
يسوء الفاليات إذا فليني
*
يريد: فلينني. والخطاب بقوله: قل للرسول، أو للسامع، والهمزة للاستفهام مصحوبا بالإنكار عليهم، والواو ضمير اليهود والنصارى. وقيل: مشركو العرب، إذ قالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. وقيل: ضمير اليهود والنصارى والمشركين. والمحاجة هنا: المجادلة. والمعنى: أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم، وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا، وترونكم أحق بالنبو منا؟ * (وهو ربنا وربكم) *: جملة حالية، يعني أنه مالكهم كلهم، فهم مشتركون في العبودية، فله أن يخص من شاء بما شاء من الكرامة. والمعنى: أنه مع اعترافنا كلنا أنا مربوبون لرب واحد، فلا يناسب الجدال فيما شاء من أفعاله، وما خص به بعض مربوباته من الشرف والزلفى، لأنه متصرف في كلهم تصرف المالك. وقيل المعنى: أتجادلوننا في دين الله، وتقولون إن دينكم أفضل الأديان، وكتابكم أفضل الكتب؟ والظاهر إنكار المجادلة في الله، حيث زعمت النصارى أن الله هو المسيح، وحيث زعم بعضهم أن الله ثالث ثلاثة، وحيث زعمت اليهود أن الله له ولد، وزعموا أنه شيخ أبيض الرأس واللحية، إلى ما يدعونه فيه من سمات الحدوث والنقص، تعالى الله عن ذلك، فأنكر عليهم كيف يدعون ذلك، والرب واحد لهم، فوجب أن يكون الاعتقاد فيه واحدا، وهو أن تثبت صفاته العلا، وينزه عن الحدوث والنقص.
* (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) *، المعنى: ولنا جزاء أعمالنا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. والمعنى: أن الرب واحد، وهو المجازي على الأعمال، فلا تنبغي المجادلة فيه ولا المنازعة. * (ونحن له مخلصون) *: ولما بين القدر المشترك من الربوبية والجزاء، ذكر ما يميز به المؤمنون من الإخلاص لله تعالى في العمل والاعتقاد، وعدم الإشراك الذي هو موجود في النصارى وفي اليهود، لأن من عبد موصوفا بصفات الحدوث والنقص، فقد أشرك مع الله إلها آخر. والمعنى: أنا لم نشب عقائدنا
585

وأفعالنا بشيء من الشرك، كما ادعت اليهود في العجل، والنصارى في عيسى. وهذه الجملة من باب التعريض بالذم، لأن ذكر المختص بعد ذكر المشترك نفي لذلك المختص عمن شارك في المشترك، ويناسب أن يكون استطرادا، وهو أن يذكر معنى يقتضي أن يكون مدحا لفاعله وذما لتاركه، نحو قوله:
* وأنا لقوم ما نرى القتل سبة
*
إذا ما رأته عامر وسلول
*
وهي منبهة على أن من أخلص لله، كان حقيقا أن يكون منهم الأنبياء وأهل الكرامة، وقد كثرت أقوال أرباب المعاني في الإخلاص. فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سر من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي). وقال سعيد بن جبير: الإخلاص: أن لا يشرك في دينه، ولا يرائي في عمله أحدا. وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وقال ابن معاذ: تمييز العمل من الذنوب، كتمييز اللبن من بين الفرث والدم. وقال البوشنجي: هو معنى لا يكتبه الملكان، ولا يفسده الشيطان، ولا يطلع عليه الإنسان، أي لا يطلع عليه إلا الله. وقال رويم: هو ارتفاع عملك عن الرؤية. وقال حذيفة المرعشي: أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن. وقال أبو يعقوب المكفوف: أن يكتم العبد حسناته، كما يكتم سيئاته. وقال سهل: هو الإفلاس، ومعناه أن يرجع إلى احتقار العمل. وقال أبو سليمان الداراني: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه. وهذا القول الذي أمر به صلى الله عليه وسلم) أن يقوله على وجه الشفقة والنصيحة في الدين، لينبهوا على أن تلك المجادلة منكم ليست واقعة موقع الصحة، ولا هي مما ينبغي أن تكون. وليس مقصودنا بهذا التنبيه دفع ضرر منكم، وإنما مقصودنا نصحكم وإرشادكم إلى تخليص اعتقادكم من الشرك، وأن تخلصوا كما أخلصنا، فنكون سواء في ذلك.
* (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى) *: قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص: أم تقولون بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. فأما قراءة التاء، فيحتمل أم فيه وجهين. أحدهما: أن تكون فيه أم متصلة، فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين: المحاجة في الله، والادعاء على إبراهيم ومن ذكر معه، أنهم كانوا يهودا ونصارى، وهو استفهام صحبه الإنكار والتقريع والتوبيخ، لأن كلا من المستفهم عنه ليس بصحيح.
586

الوجه الثاني: أن تكون أم فيه منقطعة، فتقدر ببل والهمزة، التقدير: بل أتقولون، فأضرب عن الجملة السابقة، وانتقل إلى الاستفهام عن هذه الجملة اللاحقة، على
سبيل الإنكار أيضا، أي أن نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه، ليست بصحيحة، بشهادة القول الصدق الذي أتى به الصادق من قوله تعالى: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) *، وبشهادة التوراة والإنجيل على أنهم كانوا على التوحيد والحنيفية، وبشهادة أن اليهودية والنصرانية لمن اقتفى طريقة عيسى، وبأن ما يدعونه من ذلك قول بلا برهان، فهو باطل. وأما قراءة الياء، فالظاهر أن أم فيها منقطعة. وحكى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، عن بعض النحاة: أنها ليست بمنقطعة، لأنك إذا قلت: أتقوم أم يقوم عمرو؟ فالمعنى: أيكون هذا أم هذا؟ وقال ابن عطية: هذا المثال يعني: أتقوم أم يقوم عمرو؟ غير جيد، لأن القائل فيه واحد، والمخاطب واحد، والقول في الآية من اثنين، والمخاطب اثنان غيران، وإنما يتجه معادلة أم للألف على الحكم المعنوي، كان معنى قل أتحاجوننا، أيحاجون يا محمد، أم يقولون؟ انتهى. ومعنى بقوله: لأن القائل فيه واحد، يعني في المثال الذي هو: أيقوم أم يقوم عمرو؟ فالناطق بهاتين الجملتين هو واحد، وقوله والمخاطب واحد، يعني الذي خوطب بهذا الكلام، والمعادلة وقعت بين قيام المواجه بالخطاب وبين قيام عمرو وقوله. والقول في الآية من اثنين، يعني أن أتحاجوننا من قول الرسول، إذ أمر أن يخاطبهم بذلك، وأتقولون بالتاء من قول الله تعالى. وقوله والمخاطب اثنان غيران، أما الأول فقوله أتحاجوننا، وأما الثاني فهو للرسول وأمته الذين خوطبوا بقوله: أم يقولون. وقال الزمخشري: وفيمن قرأ بالياء، لا تكون إلا منقطعة. انتهى. ويمكن الاتصال فيها مع قراءة التاء، ويكون ذلك من الالتفات، إذ صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة، والضمير لناس مخصوصين. والأحسن أن تكون أم في القراءتين معا منقطعة، وكأنه أنكر على هم محاجتهم في الله ونسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (قل ياأهل * أهل الكتاب لمن * تحاجون فى إبراهيم) * الآيات. وإذا جعلناها متصلة، كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين، بل إحداهما، وصار السؤال عن تعيين إحداهما، وليس الأمر كذلك، إذ وقعا معا. والقول في أو فيقول: * (هودا أو نصارى) *، قد تقدم في قوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *. وقوله: * (كونوا هودا أو نصارى) *، وأنها للتفضيل، أي قالت اليهود: هم يهود، وقالت النصارى: هم نصارى.
* (قل ءأنتم أعلم أم الله) *: القول في القراى اتت في أأنتم، كهو في قوله: * (أم لم تنذرهم لا) *، وقد توسط هنا المسؤول عنه، وهو أحسن من تقدمه وتأخره، إذ يجوز في العربية أن يقول: أأعلم أنتم أم الله؟ ويجوز: أأنتم أم الله أعلم؟ ولا مشاركة بينهم وبين الله في العلم حتى يسأل: أهم أزيد علما أم الله؟ ولكن ذلك على سبيل التهكم بهم والاستهزاء، وعلى تقدير أن يظن بهم علم، وهذا نظير قول حسان:
فشركما لخيركما الفداء
وقد علم أن الذي هو خير كله، هو الرسول عليه السلام، وأن الذي هو شر كله، هو هاجيه. وفي هذا رد على اليهود والنصارى، لأن الله قد أخبر بقوله: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) *، ولأن اليهودية والنصرانية إنما حدثتا بعد إبراهيم، ولأنه أخبر في التوراة والإنجيل أنهم كانوا مسلمين مميزين عن اليهودية والنصرانية. وخرجت هذه الجملة مخرج ما يتردد فيه، لأن اتباع أحبارهم ربما توهموا، أو ظنوا، أن أولئك كانوا هودا أو نصارى لسماعهم ذلك منه، فيكون ذلك ردا من الله عليهم، أو لأن أحبارهم كانوا يعلمون بطلان مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه، لكنهم كتموا ذلك ونحلوهم إلى ما ذكروا، فنزلوا لكتمهم ذلك منزلة من يتردد في الشيء، ورد
587

عليهم بقوله: أأنتم أعلم أم الله، لأن من خوطب بهذا الكلام بادر إلى أن يقول: الله أعلم، فكان ذلك أقطع للنزاع.
* (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) *: وهذا يدل على أنهم كانوا عالمين بأن إبراهيم ومن معه كانوا مباينين لليهودية والنصرانية، لكنهم كتموا ذلك. وقد تقدم الكلام على هذا الاستفهام، وأنه يراد به النفي، فالمعنى: لا أحد أظلم ممن كتم. وتقدم الكلام في أفعل التفضيل الجائي بعد من الاستفهام في قوله: * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله) *، والمنفي عنهم التفضيل في الكتم اليهود، وقيل: المنافقون تابعوا اليهود على الكتم. والشهادة هي أن أنبياء الله معصومون من اليهودية والنصرانية الباطلتين، قاله الحسن، ومجاهد، والربيع، أو ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم) ونبوته، والأمر بتصديقه، قاله قتادة، وابن زيد؛ أو الإسلام، وهم يعلمون أنه الحق. والقول الأول أشبه بسياق الآية.
من الله: يحتمل أن تكون من متعلقة بلفظ كتم، ويكون على حذف مضاف، أي كتم من عباد الله شهادة عنده، ومعناه أنه ذمهم على منع أن يصل إلى عباد الله، وأن يؤدوا إليهم شهادة الحق. ويحتمل أن تكون من متعلقة بالعامل في الظرف، إذ الظرف في موضع الصفة، والتقدير: شهادة كائنة عنده من الله، أي الله تعالى قد أشهده تلك الشهادة، وحصلت عنده من قبل الله، واستودعه إياها، وهو قوله * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا) * الآية. وقال ابن عطية في هذا الوجه: فمن على هذا متعلقة بعنده، والتحرير ما ذكرناه أن العامل في الظرف هو الذي يتعلق به الجار والمجرور، ونسبة التعلق إلى الظرف مجاز. وقال الزمخشري: أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها، وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية. ومن في قوله: شهادة من الله، مثلها في قولك: هذه شهادة مني لفلان، إذا شهدت له، ومثله: * (عليم براءة من الله ورسوله) *. انتهى. فظاهر كلامه: أن من الله في موضع الصفة لشهادة، أي كائنة من الله، وهو وجه ثالث في العامل في من. والفرق بينه وبين ما قبله: أن العامل في الوجه قبله في الظرف والجار والمجرور واحد، وفي هذا الوجه اثنان، وكان جعل من معمولا للعامل في الظرف، أو في موضع الصفة لشهادة، أحسن من تعلق من بكتم، لأنه أبلغ في الأظلمية أن تكون الشهادة قد استودعها الله إياه فكتمها. وعلى التعلق بكتم، تكون الأظلمية حاصلة لمن كتم من عباد الله شهادة مطلقة وأخفاها عنهم، ولا يصح إذ ذاك الأظلمية، لأن فوق هذه الشهادة ما تكون الأظلمية فيه أكثر، وهو كتم شهادة استودعه الله إياها، فلذلك اخترنا أن لا تتعلق من بكتم، قال الزمخشري: ويحتمل معنيين: أحدهما: أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم، لأنهم كتموا هذه الشهادة، وهم عالمون بها. والثاني: أنا لو كتمنا هذه الشهادة
، لم يكن أحد أظلم منا، فلا نكتمها، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته. انتهى كلامه، والمعنى الأول هو الظاهر، لأن الآية إنما تقدمها الإنكار، لما نسبوه إلى إبراهيم ومن ذكر معه. فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب، لا مع الرسول صلى الله عليه وسلم) وأتباعه، لأنهم مقرون بما أخبر الله به، وعالمون بذلك العلم اليقين، فلا يفرض في حقهم كتمان ذلك.
وذكر في (ري الظمآن): أي في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير: ومن أظلم ممن كتم شهادة حصلت له؟ كقولك: ومن أظلم من زيد؟ من جملة الكاتمين للشهادة. والمعنى: لو كان إبراهيم وبنوه يهودا ونصارى. ثم إن الله كتم هذه الشهادة، لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه، لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عن الكذب، علمنا أن الأمر ليس كذلك. انتهى. وهذا الوجه متكلف جدا من حيث التركيب، ومن حيث المدلول. أما من حيث التركيب، فزعم قائله أن ذلك على التقديم والتأخير، وهذا لا يكون عندنا إلا في الضرائر. وأيضا، فيبقى قوله: ممن كتم، متعلق: إما بأظلم، فيكون ذلك على طريقة البدلية، ويكون إذ ذاك بدل
588

عام من خاص، وليس هذا النوع بثابت من لسان العرب، على قول الجمهور، وإن كان بعضهم قد زعم أنه وجد في لسان العرب بدل كل من بعض. وقد تأول الجمهور ما أدى ظاهره إلى ثبوت ذلك، وجعلوه من وضع العام موضع الخاص، لندور ما ورد من ذلك، أو يكون من متعلقه بمحذوف، فيكون في موضع الحال، أي كائنا من الكاتمين الشهادة. وأما من حيث المدلول، فإن ثبوت الأظلمية لمن جر بمن يكون على تقدير: أي إن كتمها، فلا أحد أظلم منه. وهذا كله معنى لا يليق بالله تعالى، وينزه كتاب الله عن ذلك.
* (وما الله بغافل عما تعملون) *: تقدم الكلام على تفسير هذه الجملة عند قوله: * (وما الله بغافل عما تعملون * أفتطمعون * ولا يأتين * إلا * قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلاهك وإلاه آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلاها واحدا ونحن له مسلمون * تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون) *: تقدم الكلام على شرح هذه الجمل، وتضمنت معنى التخويف والتهديد، وليس ذلك بتكرار، لأن ذلك ورد إثر شيء مخالف لما وردت الجمل الأولى بإثره. وإذا كان كذلك، فقد اختلف السياق، فلا تكرار. بيان ذلك أن الأولى وردت إثر ذكر الأنبياء، فتلك إشارة إليهم، وهذه وردت عقب أسلاف اليهود والنصارى، فالمشار إليه هم. فقد اختلف المخبر عنه والسياق، والمعنى: أنه إذا كان الأنبياء على فضلهم وتقدمهم، يجازون بما كسبوا، فأنتم أحق بذلك. وقيل: الإشارة بتلك إلى إبراهيم ومن ذكر معه، واستبعد أن يراد بذلك أسلاف اليهود والنصارى، لأنه لم يجر لهم ذكر مصرح بهم، وإذا كانت الإشارة بتلك إلى إبراهيم ومن معه، فالتكرار حسن لاختلاف الأقوال والسياق.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة من كان عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الدعاء إلى الله تعالى، حتى جعلوا ذلك وصية يوصون بها واحدا بعد واحد. فأخبر تعالى عن إبراهيم أنه أوصى بملته الحنيفية بنيه، وأن يعقوب أوصى بذلك، وقدم بين يدي وصيته اختيار الله لهم هذا الدين، ليسهل عليهم اتباع ما اختاره الله لهم، ويحضهم على ذلك، وأمرهم أنهم لا يموتون إلا عليه، لأن الأعمال بخواتيمها. ثم ذكر سؤال يعقوب لبنيه عما يعبدون بعد موته، فأجابوه بما قرت به عينه من موافقته وموافقة آبائه الأنبياء من عبادة الله تعالى حده، والانقياد لأحكامه. وحكمة هذا السؤال أنه لما وصاهم بالحنيفية، استفسرهم عما تكن صدورهم، وهل يقبلون الوصية؟ فأجابوه بقبولها وبموافقة ما أحبه منهم، ليسكن بذلك جأشه، ويعلم أنه قد خلف من يقوم مقامه في الدعاء إلى الله تعالى. وصدر سؤال يعقوب بتقريع اليهود والنصارى بأنهم ما كانوا شهدوا وصية يعقوب، إذ فاجأه مقدمات الموت، فدعواهم اليهودية والنصرانية على إبراهيم ويعقوب وبنيهم باطلة، إذ لم يحضروا وقت الوصية، ولم تنبئهم بذلك توراتهم ولا إنجيلهم، فبطل قولهم، إذ لم يتحصل لا عن عيان ولا عن نقل، ولا ذلك من الأشياء التي يستدل عليها بالعقل.
ثم أخبر تعالى أن تلك الأمة قد مضت لسبيلها، وأنها رهينة بما كسبت، كما أنكم مرهونون بأعمالكم، وأنكم لا تسألون عنهم. ثم ذكر تعالى ما هم عليه من دعوى الباطل. والدعاء إليه، وزعمهم أن الهداية في اتباع اليهودية والنصرانية. ثم أضرب عن كلامهم، وأخذ في اتباع ملة إبراهيم الحنيفية المباينة لليهودية والنصرانية والوثنية. ثم أمرهم بأن يفصحوا بأنهم آمنوا بما أنزل إليهم وإلى إبراهيم ومن ذكر معه، فإن الإيمان بذلك هو الدين الحنيف، وأنهم منقادون لله اعتقادا وأفعالا. ثم أخبر أن اليهود والنصارى، إن وافقواكم على ذلك الإيمان، فقد حصلت الهداية لهم، ورتب الهداية على ذلك الإيمان، فنبه بذلك على فساد ترتيب الهداية على اليهودية والنصرانية في قوله: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) *.
ثم أخبر تعالى أنهم إن تولوا فهم الأعداء المشاقون لك، وأنك لا تبالي بشقاقهم، لأن الله تعالى هو كافيك أمرهم، ومن كان الله كافيه فهو الغالب، ففي ذلك إشارة إلى ظهوره عليهم. ثم ذكر أن صبغة الملة الحنيفية هي صبغة الله، وإذا كانت صبغة الله، فلا صبغة أحسن منها، وأن تأثير هذه الصبغة هو ظهورها عليهم بعبادة الله، تعالى، فقال: * (ونحن له عابدون) *. ثم استفهمهم أيضا على
589

طريق التوبيخ والتقريع عن مجادلتهم في الله ولا يحسن النزاع فيه، لأن الله هو ربنا كلنا، فالذي يقتضيه العقل أنه لا يجادل فيه. ثم ذكر أنه رب الجميع، وأشار إلى أنه يجازى الجميع بقوله: * (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) *. ثم ذكر ما انفردوا به من الإخلاص له، لأن اليهود والنصارى غير مخلصين له في العبادة. ثم استفهمهم أيضا على جهة التوبيخ والتقريع، عن مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه، من أنهم كانوا يهودا ونصارى، وأن دأبهم المجادلة بغير حق، فتارة في الله وتارة في أنبياء الله. ثم بين أنهم لا علم عندهم بل الله هو أعلم به. ثم بين أن تلك المقالة لم تكن عن دليل ولا شبهة، بل مجرد عناد، وأنهم كاتمون للحق، دافعون له، فقال ما معناه: لا أحد أظلم من كاتم شهادة استودعه الله إياها، والمعنى: لا أحد أظلم منكم في المجادلة في الله، وفي نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه، إذ عندهم الشهادة من الله بأحوالهم. ثم هددهم بأن الله تعالى لا يغفل عما يعملون.
ثم ختم ذلك بأن تلك أمة قد خلت منفردة بعملها، كما أنتم كذلك، وأنكم غير مسؤولين عما عملوه، وجاءت هذه الجمل من ابتداء ذكر إبراهيم إلى انتهاء الكلام فيه، على ختلاف معانيه وتعدد مبانيه، كأنها جملة واحدة، في حسن مساقها ونظم اتساقها، مرتقية في الفصاحة إلى ذروة الإحسان، مفصحة أن بلاغتها خارجة عن طبع الإنسان، مذكرة قوله تعالى: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هاذا القرءان) *. جعلنا الله ممن هدى إلى عمل به وفهم، ووفى من تدبره أوفر سهم، ووقى في تفكره من خطأ ووهم.
ض 2 (* (سيقول السفهآء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم * وكذالك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التى كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم * قد نرى تقلب وجهك في السمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون * ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك ومآ أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهوآءهم من بعد ما جآءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين * الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون * الحق من ربك فلا تكونن من الممترين * ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شىء قدير * ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون * ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره
590

لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشونى ولا تم نعمتى عليكم ولعلكم تهتدون * كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون * ياأيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلواة إن الله مع الصابرين * ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون * ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الا موال والا نفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذآ أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنآ إليه راجعون * أولائك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولائك هم المهتدون) *))
) *
القبلة: الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة. وقال قطرب: يقولون في كلامهم ليس له قبلة، أي جهة يأوي إليها. وقال غيره: إذا تقابل رجلان، فكل واحد منهما قبلة الآخر. وجاءت القبلة، وإن أريد بها الجهة، على وزن الهيئات، كالقعدة والجلسة. الوسط: اسم لما بين الطرفين وصف به، فأطلق على الخيار من الشيء، لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل، ولكونه اسما كان للواحد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد. وقال حبيب: كانت هي الوسط المحمي، فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفا. ووسط الوادي: خير موضع فيه، وأكثره كلأ وماء. ويقال: فلان من أوسط قومه، وأنه لواسطة قومه، ووسط قومه: أي من خيارهم، وأهل الحسب فيهم. وقال زهير:
* وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم
*
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
*
وقد وسط سطة ووساطة، وقال:
وكن من الناس جميعا وسطا
وأما وسط، بسكون السين، فهو طرف المكان، وله أحكام مذكورة في النحو. أضاع الرجل الشيء: أهمله ولم يحفظه، والهمزة فيه للنقل من ضاع يضيع ضياعا، وضاع المسك يضوع: فاح. الانقلاب: الانصراف والارتجاع، وهو للمطاوعة، قلبته فانقلب. عقب الرجل: معروف، والعقب: النسل، ويقال: عقب، بسكون القاف. الرأفة والرحمة: متقاربان في المعنى. وقيل: الرأفة أشد الرحمة، واسم الفاعل جاء للمبالغة على فعول، كضروب، وجاء على فعل، كحذر، وجاء على فعل، كندس، وجاء على فعل، كصعب. التقلب: التردد، وهو للمطاوعة، قلبته فتقلب. الشطر: النصف، والجزء من الشيء والجهة، قال الشاعر:
591

* ألا من مبلغ عني رسولا
*
وما تغني الرسالة شطر عمرو
*
أي نحوه، وقال الشاعر:
* أقول لأم زنباع أقيمي
*
صدور العيس شطر بني تميم
*
وقال:
* وقد أظلكم من شطر ثغركم
*
هول له ظلم يغشاكم قطعا
*
وقال ابن أحمر:
* تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة
*
قد كارب العقد من إيقاده الحقبا
*
وقال آخر:
وأظعن بالقوم شطر الملوك
أي نحوهم، وقال:
* إن العشير بها داء مخامرها
*
وشطرها نظر العينين مسجور
*
ويقال: شطر عنه: بعد، وشطر إليه: أقبل، والشاطر من الشباب: البعيد من الجيران، الغائب عن منزله. يقال: شطر شطورا، والشطير: البعيد، منزل شطير: أي بعيد. الحرام والحرم والحرم: الممتنع، وقد تقدم الكلام في ذلك في قوله: * (وهو محرم عليكم إخراجهم * هم) * الامتراء: افتعال من المرية، وهي الشك. امترى في الشيء: شك فيه، ومنه المراء. ماريته أي جادلته وشاككته فيما يدعيه. وافتعل: بمعنى تفاعل. تقول: تمارينا وامترينا فيه، كقولك: تجاورنا واحتورنا. وجهة، قال قوم، منهم المازني والمبرد والفارسي: إن وجهة اسم للمكان المتوجه إليه، فعلى هذا يكون إثبات الواو أصلا، إذ هو اسم غير مصدر. قال سيبويه: ولو بنيت فعلة من الوعد لقلت وعدة، ولو بنيت مصدرا لقلت عدة. وذهب قوم، منهم المازني، فيما نقل المهدوي إلى أنه مصدر، وهو الذي يظهر من كلام سيبويه. قال، بعد ما ذكر حذف الواو من المصادر، وقدأ ثبتوا فقالوا: وجهة في الجهة، فعلى هذا يكون إثبات الواو شاذا، منبهة على الأصل المتروك في المصادر. والذي سوغ عندي إقرار الواو، وإن كان مصدرا، أنه مصدر ليس بجار على فعله، إذ لا يحفظ وجه يجه، فيكون المصدر جهة. قالوا: وعد يعد عدة، إذ الموجب لحذف الواو من عدة هو الحمل على المضارع، لأن حذفها في المضارع لعلة مفقودة في المصدر. ولما فقد يجه، ولم يسمع، لم يحذف من وجهة، وإن كان مصدرا، لأنه ليس مصدرا ليجه، وإنما هو مصدر على حذف الزوائد، لأن الفعل منه: توجه واتجه. فالمصدر الجاري هو التوجه والاتجاه، وإطلاقه على المكان المتوجه إليه هو من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول.
الاستباق: افتعال من السبق، وهو الوصول
592

إلى الشيء أولا، ويكون افتعل منه، إما لموافقة المجرد، فيكون معناه ومعنى سبق واحدا، أو لموافقة تفاعل، فيكون استبق وتسابق بمعنى واحد. الخيرات: جمع خيرة، ويحتمل أن يكون بناء على فعلة، أو بناء على فيعلة، فحذف منه، كالميتة واللينة. وقد تقدم القول في هذا الحذف، قالوا: رجل خير، وامرأة خيرة، كما قالوا: رجل شر، وامرأة شرة، ولا يكونان إذ ذاك أفعل التفضيل. الجوع: القحط، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها: الغرث. يقال: غرث يغرث غرثا، فهو غرث وغرثان، قال:
* مغرثة زرقا كأن عيونها
*
من الذمر والإيحاء نوار عضرس
*
وقد استعمل المحدثون في الغرث: الجوع اتساعا.
* (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها) *: سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري، عن البراء بن عازب قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم) المدينة، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) * الآية. فقال: السفهاء من الناس، وهم اليهود، ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فقال الله تعالى: * (قل لله المشرق والمغرب) * الآية. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أن اليهود والنصارى قالوا: إن إبراهيم، ومن ذكر معه، كانوا يهودا ونصارى. ذكروا ذلك طعنا في الإسلام، لأن النسخ عند اليهود باطل، فقالوا: الانتقال عن قبلتنا باطل وسفه، فرد الله تعالى ذلك عليهم بقوله: * (قل لله المشرق والمغرب) * الآية، فبين ما كان هداية، وما كان سفها. وسيقول، ظاهر في الاستقبال، وأنه إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم)، أنه يصدر منهم هذا القول في المستقبل، وذلك قبل أن يؤمروا باستقبال الكعبة، وتكون هذه الآية متقدمة في النزول على الآية المتضمنة الأمر باستقبال الكعبة، فتكون من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه، ليكون ذلك معجزا، إذ هو إخبار بالغيب. ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء، وتستعد له، فيكون أقل تأثيرا منه إذا فاجأ، ولم يتقدم به علم، وليكون الجواب مستعدا لمنكر ذلك، وهو قوله: * (قل لله المشرق والمغرب) *. وإلى هذا القول ذهب الزمخشري وغيره. وذهب قوم إلى أنها متقدمة في التلاوة، متأخرة في النزول، وأنه نزل قوله: * (قد نرى تقلب وجهك) * الآية، ثم نزل: * (سيقول السفهاء من الناس) *. نص على ذلك ابن عباس وغيره. ويدل على هذا ويصححه حديث البراء المتقدم، الذي خرجه البخاري. وإذا كان كذلك، فمعنى قوله: سيقول، أنهم مستمرون على هذا القول، وإن كانوا قد قالوه، فحكمة الاستقبال أنهم، كما صدر عنهم هذا القول في الماضي، فهم أيضا يقولونه في المستقبل. وليس عندنا من وضع المستقبل موضع الماضي. وإن معنى سيقول: قال، كما زعم بعضهم، لأن ذلك لا يتأتى مع السين لبعد المجاز فيه. ولو كان عاريا من السين، لقرب ذلك وكان يكون حكاية حال ماضية. والسفهاء: اليهود، قاله البراء بن عازب، ومجاهد، وابن جبير. وأهل مكة قالوا: اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، واختاره الزجاج. أو المنافقون قالوا: ذلك استهزاء بالمسلمين، ذكره السدي، عن ابن مسعود. وقد جرى تسمية المنافقين بالسفهاء في قوله: * (ألا إنهم هم السفهاء) *، أو الطوائف الثلاث الذين تقدم ذكرهم من الناس. قال ابن عطية وغيره: وخص بقوله من الناس، لأن السفه أصله الخفة، يوصف به الجماد. قالوا: ثوب سفيه، أي خفيف النسج والهلهلة، ورمح سفيه: أي خفيف سريع النفوذ. ويوصف به الحيوانات غير الناس، فلو اقتصر، لاحتمل الناس وغيرهم، لأن القول ينسب إلى الناس حقيقة، وإلى
593

غيرهم مجازا، فارتفع المجاز بقوله: * (من الناس ما ولاهم) *، أي ما صرفهم، والضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم)، والمؤمنين عن قبلتهم. أضاف القبلة إليهم لأنهم كانوا استقبلوها زمنا طويلا، فصحت الإضافة.
وأجمع المفسرون على أن هذه التولية كانت من بيت المقدس إلى الكعبة. هكذا ذكر بعض المفسرين، وليس ذلك إجماعا، بل قد ذهب قوم إلى أن هذه القبلة، التي عيب التحول منها إلى غيرها هي الكعبة، وأنه كان يصلي إليها عندما فرضت الصلاة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم. فلما توجه إلى بيت المقدس، قال أهل مكة، زارين عليه وعائبين ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا على حذف مضاف، أي على استقبالها. والاستعلاء هنا مجاز، وحكمته أانهم لمواظبتهم على امتثال أمر الله في المحافظة على الصلوات. صارت القبلة لهم كالشئ المستعلى عليه، الملازم دائما. وفي وصف القبلة بقوله: * (التى كانوا عليها) *، ما يدل على تمكن استقبالها، وديمومتهم على ذلك. والضمير في قوله: قبلتهم وكانوا، ضمير المؤمنين. وقيل: يحتمل أن يكون الضمير عائدا على السفهاء، فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود، وهي إلى المغرب، وقبلة النصارى، وهي إلى المشرق، والعرب لم يكن لهم صلاة، فيتوجهون إلى شيء من الجهات. فلما توجه نحو الكعبة، استنكروا ذلك فقالوا: كيف يتوجه إلى غير هاتين المعروفتين؟ واختلفوا في استقبال بيت المقدس، أكان بوحي متلو؟ أو بأمر من الله غير متلو؟ أو بتخيير الله رسوله في النواحي؟ فاختار بيت المقدس، قاله الربيع؛ أو باجتهاده بغير وحي، قاله الحسن وعكرمة وأبو العالية. أقوال: الأول: عن ابن عباس، روي عنه أنه قال: أول ما نسخ من القرآن القبلة: وكذلك اختلفوا في المدة التي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيها إلى بيت المقدس، فقيل: ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا. وقيل: تسعة، أو عشرة أشهر. وقيل: ثلاثة عشر شهرا. وقيل: من وقت فرض الخمس وائتمامه بجبريل، إثر الإسراء، وكان ليلة سبع عشرة من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، ثم هاجر في ربيع الأول، وتمادى يصلي إلى بيت المقدس، إلى رجب من سنة اثنتين. وقيل: إلى جمادى. وقيل: إلى نصف شعبان. وروي أنه صلى الله عليه وسلم) صلى ركعتي الظهر، فانصرف بالآخرتين إلى الكعبة، وقد استدل بهذه الآية على جواز نسه السنة بالقرآن، إذ صلاته إلى بيت المقدس ليس فيها قرآن، واستدل بها أيضا على بطلان قول من يزعم أنه النسخ بداء.
* (قل لله المشرق والمغرب) *: الأمر متوجه للنبي صلى الله عليه وسلم)، وفيه تعليم له صلى الله عليه وسلم) كيف يبطل مقالتهم، ورد عليهم إنكارهم. والمعنى: أن الجهات كلها لله تعالى، يكلف عباده بما شاء أن يستقبل منها، وأن تجعل قبلة. وقد تقدم الكلام على قوله: * (لله المشرق والمغرب) *، فأغنى عن الإعادة هنا. وقد شرح المشرق ببيت المقدس، والمغرب بالكعبة، لأن الكعبة غربي بيت المقدس، فيكون بالضرورة بيت المقدس شرقيها. * (يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *: أي من يشاء هدايته. وقد تقدم الكلام على ما يشبه هذه الجملة في قوله: * (اهدنا الصراط) *، فأغنى عن إعادته: وتقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه، وهنا عدى بإلى. وقد اختلفوا في الصلاة التي حولت القبلة فيها، فقيل: الصبح، وقيل: الظهر، وقيل: العصر. وكذلك أكثروا الكلام في الحكمة التي لأجلها كان تحويل القبلة، بأشياء لا يقوم على صحتها دليل، وعللوا ذلك بعلل لم يشر إليها الشرع، ولا قاد نحوها العقل، فتركنا نقل ذلك في كتابنا هذا، على عادتنا في ذلك. ومن طلب للوضعيات تعاليل، فأحرى بأن يقل صوابه ويكثر خطؤه. وأما ما نص الشرع على حكته، أو أشار، أو قاد إليه النظر الصحيح، فهو الذي لا معدل عنه، ولا استفادة
إلا منه. وقد فسر قوله: * (إلى صراط مستقيم) * بأنه القبلة التي هي الكعبة. والظاهر أنه ملة الإسلام وشرائعه، فالكعبة من بعض مشروعاته.
* (وكذالك جعلناكم أمة وسطا) *: الكاف: للتشبيه، وذلك: اسم إشارة
594

والكاف في موضع نصب، إما لكونه نعتا لمصدر محذوف، وإما لكونه حالا. والمعنى: وجعلناكم أمة وسطا جعلا مثل ذلك، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك، لكن تقدم لفظ يهدي، وهو دال على المصدر، وهو الهدى، وتبين أن معنى * (يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *: يجعله على صراط مستقيم، كما قال تعالى: * (من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) *. قابل تعالى الضلال بالجعل على الصراط المستقيم، إذ ذلك الجعل هو الهداية، فكذلك معنى الهدي هنا هو ذلك الجعل. وتبين أيضا من قوله: * (قل لله المشرق والمغرب) * إلى آخره، أن الله جعل قبلتهم خيرا من قبلة اليهود والنصارى، أو وسطا. فعلى هذه التقادير اختلفت الأقاويل في المشار إليه بذلك. فقيل: المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطا بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، أي أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطا، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم، فتكون الإشارة بذلك إلى المصدر الدال عليه يهدي، أي جعلناكم أمة خيارا مثل ما هديناكما باتباع محمد صلى الله عليه وسلم)، وما جاء به من الحق. وقيل: المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطا بجعلهم على الصراط المستقيم، أي جعلناكم أمة وسطا مثل ذلك الجعل الغريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية، لأنه قال: * (يهدى من يشآء) *، فلا تقع الهداية إلا لمن شاء الله تعالى. وقيل: المعنى كما جعلنا قبلتكم خير القبل، جعلناكم خير الأمم. وقيل: المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب، جعلناكم أمة وسطا. وقيل: المعنى كما جعلنا الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطا، دون الأنبياء، وفوق الأمم، وأبعد من ذهب إلى أن ذلك إشارة إلى قوله تعالى: * (ولقد اصطفيناه في الدنيا) * أي مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطا. ومعنى وسطا: عدولا، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقد تظاهرت به عبارة المفسرين وإذا صح ذلك عن رسل الله صلى الله عليه وسلم) وجب المصير في تفسير الوسط إليه. وقيل: خيار، أو قيل: متوسطين في الدين بين المفرط والمقصر، لم يتخذوا واحدا من الأنبياء إلها، كما فعلت النصارى، ولا قتلوه، كما فعلت اليهود. واحتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا: أخبر الله عن عدالة هذه الأمة عن خيرتهم، فلو أقدموا على شيء، وجب أن يكون قولهم حجة.
* (لتكونوا شهداء على الناس) *: تقدم شرح الشهادة في قوله: * (وادعوا شهداءكم) *، وفي شهادتهم هنا أقوال: أحدها: ما عليه الأكثر من أنها في الآخرة، وهي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم، وقد روي ذلك نصا في الحديث في البخاري وغيره. وقال في المنتخب: وقد طعن القاضي في الحديث من وجوه، وذكروا وجوها ضعيفة، وأظنه عني بالقاضي هنا القاضي عبد الجبار المعتزلي، لأن الطعن في الحديث الثابت الصحيح لا يناسب مذاهب أهل السنة. وقيل: الشهادة تكون في الدنيا. واختلف قائلوا ذلك، فقيل: المعنى يشهد بعضكم على بعض إذا مات، كما جاء في الحديث من أنه مر بجنازة فأثنى عليها خيرا، وبأخرى فأثنى عليها شرا، فقال الرسول: (وجبت)، يعني الجنة والنار، (أنتم شهداء الله في الأرض) ثبت ذلك في مسلم. وقيل: الشهادة الاحتجاج، أي لتكونوا محتجين على الناس، حكاه الزجاج. وقيل: معناه لتنقلوا إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله رسول الله صلى الله عليه وسلم). وتكون على بمعنى اللام، كقوله: * (وما ذبح على النصب) *، أي للنصب. وقيل: معناه ليكون إجماعكم حجة، ويكون الرسول عليكم شهيدا، أي محتجا بالتبليغ. وقيل: لتكونوا شهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم) على الأمم، اليهود والنصارى والمجوس، قاله مجاهد. وقيل: شهداء على الناس في الدنيا، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار. وأسباب هذه الشهادة، أي شهادة هذه العدول أربعة: بمعاينة، كالشهادة على الزنا، وبخبر الصادق، كالشهادة على الشهادة؛ وبالاستفاضة، كالشهادة على الأنساب؛ وبالدلالة، كالشهادة على الأملاك، وكتعديل الشاهد وجرحه
595

وقال ابن دريد: الإشهاد أربعة: الملائكة بإثبات أعمال العباد، والأنبياء، وأمة محمد، والجوارح. انتهى. ولما كان بين الرؤية بالبصر والإدراك بالبصيرة مناسبة شديدة، سمي إدراك البصيرة: مشاهدة وشهودا، وسمي العارف: شاهدا ومشاهدا، ثم سميت الدلالة على الشيء: شهادة عليه، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا. وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات. قالوا: وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة، وهو مذهب أبي حنيفة، واستدل بقوله: * (أمة وسطا) *، أي عدولا خيارا. وقال بقية العلماء: العدالة وصف عارض لا يثبت إلاببينة، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور، لتغير أحوال الناس، ولما غلب عليهم في هذا القوت، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص.
* (ويكون الرسول عليكم شهيدا) *: لا خلاف أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم)، وفي شهادته أقوال: أحدها: شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه. الثاني: شهادته عليهم بإيمانهم. الثالث: يكون حجة عليهم. الرابع: تزكيته لهم وتعديله إياهم، قاله عطاء، قال: هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين، والرسول شهيد معد مرك لهم. وروي في ذلك حديث. وقد تقدم أيضا ما روى البخاري في ذلك. واللام في قوله: لتكونوا هي، لام كي، أو لام الصيروة عند من يرى ذلك، فمجيء ما بعدها سببا لجعلهم خيارا، أو عدولا ظاهرا. وأما كون شهادة الرسول عليهم سببا لجعلهم خيارا، فظاهر أيضا، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية، أو بأي معنى فسرت شهادته، ففي ذلك الشرف التام لهم، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليه. ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له، جيء بكلمة على، وتأخر حرف الجر في قوله: على الناس، عما يتعلق به. جاء ذلك على الأصل، إذ العامل أصله أن يتقدم على المعمول. وأما في قوله: * (عليكم شهيدا) * فتقدمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة، ولأن شهيدا أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله: عليكم، فكان قوله: شهيدا، تمام الجملة، ومقطعها دون عليكم. وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أولا، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم؛ وتأخير على: لاختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم، فهو مبني على
مذهبه: أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص. وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان. وتقدم ذكر تعليل جعلهم وسطا بكونهم شهداء، وتأخر التعليل بشهادة الرسول، لأنه كذلك يقع. ألا ترى أنهم يشهدون على الأمم، ثم يشهد الرسول عليهم، على ما نص في الحديث من أنهم إذا ناكرت الأمم رسلهم وشهدت أمة محمد عليهم بالتبليغ، يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم) فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بصدقهم؟ وإن فسرت الشهادتان بغير ذلك مما يمكن أن تكون شهادة الرسول متقدمة في الزمان، فيكون التأخير لذكر شهادة الرسول من باب الترقي، لأن شهادة الرسول عليهم أشرف من شهادتهم على الناس. وأتى بلفظ الرسول، لما في الدلالة بلفظ الرسول على اتصافه بالرسالة من عند الله إلى أمته. وأتى بجمع فعلاء، الذي هو جمع فعيل وبشهيد، لأن ذلك هو للمبالغة دون قوله: شاهدين، أو إشهادا، أو شاهدا. وقد استدل بقوله: * (ويكون الرسول عليكم شهيدا) * على أن التزكية تقتضي قبول الشهادة، فإن أكثر المفسرين قالوا: معنى شهيدا: مزكيا لكم، قالوا: وعليكم تكون بمعنى: لكم.
* (وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) *: جعل هنا: بمعنى صير، فيتعدى لمفعولين: أحدهما القبلة، والآخر * (التى كنت عليها) *. والمعنى: وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أولا عليها إلا لنعلم، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أولا، لأنه كان يصلي أولا إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، ثم
596

صار يصلي إلى الكعبة. وتكون القبلة: هو المفعول الثاني، والتي كنت عليها: هو المفعول الأول، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال. فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني. ألا ترى أنك تقول: جعلت الطين خزفا، وجعلت الجاهل عالما؟ والمعنى هنا على هذا التقدير: وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولا، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس، قبلتك الآن إلا لنعلم. ووهم الزمخشري في ذلك، فزعم أن التي كنت عليها: هو المفعول الثاني لجعل، قال: التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جعل. تريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة، تألفا لليهود، ثم حول إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولا بمكة، يعني: وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء، انتهى ما ذكره.
وقد أوضحنا أن التي كنت عليها: هو المفعول الأول. وقيل: هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة. والمعنى: وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم، فيكون ذلك على معنى: أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض، ليتميز به الثابت على دينه من المرتد. وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله: التي كنت عليها، لأنه قد كان متوجها إليهما في وقتين. وقيل: التي كنت عليها صفة للقبلة، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني، فقيل: تقديره: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم. وقيل: التقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعم. وقيل: ذلك على حذف مضاف، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله: لنعلم، كما تقول: ضرب زيد للتأديب، أي كائن وموجود للتأديب، أي بسبب التأديب. وعلى كون التي صفة، يحتمل أن يراد بالقبلة: الكعبة، ويحتمل أن يراد بيت المقدس، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه. وقال ابن عباس: القبلة في الآية: الكعبة، وكنت بمعنى: أنت، كقوله تعالى: * (كنتم خير أمة) * بمعنى: أنتم. انتهى. وهذا من ابن عباس، إن صح تفسير معنى، لا تفسير إعراب، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر، وهذا لم يذهب إليه أحد. وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير، ما نقله النحويون، أن كان تكون بمعنى صار، ومن صار إلى شيء واتصف به، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه. فإذا قلت: صرت عالما، صح أن تقول: أنت عالم، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه. فتفسير ابن عباس: كنت بأنت، هو من هذا القبيل، فهو تفسير معنى، لا تفسير إعراب. وكذلك من صار خير أمة، صح أن يقال فيه: أنتم خير أمة.
إلا لنعلم: استثناء مفرغ من المفعول له، وفيه حصر السبب، أي ما سبب تحويل القبلة إلا كذا. وظاهر قوله: لنعلم، ابتداء العلم، وليس المعنى على الظاهر، إذ يستحيل حدوث علم الله تعالى. فأول على حذف مضاف، أي ليعلم رسولنا والمؤمنون، وأسند علمهم إلى ذاته، لأنهم خواصه وأهل الزلفى لديه. فيكون هذا من مجاز الحذف، أو على الحذف، أو على إطلاق العلم على معنى التمييز، لأن بالعلم يقع التمييز، أي لنميز التابع من الناكص، كما قال تعالى: * (حتى يميز الخبيث من الطيب) *، ويكون هذا من مجاز إطلاق السبب، ويراد به المسبب. وحكي هذا التأويل عن ابن عباس، أو على أنه أراد ذكر علمه وقت موافقتهم الطاعة أو المعصية، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب. فليس المعنى لنحدث العلم، وإنما المعنى لنعلم ذلك موجودا، إذ الله قد علم في القدم من يتبع الرسول. واستمر العلم حتى وقع حدوثهم، واستمر في حين الاتباع والانقلاب، واستمر بعد ذلك. والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم، ويكون هذا قد كنى فيه بالعلم عن تعلق العلم، أي ليتعلق علمنا بذلك في حال وجوده. أو على أنه أراد بالعلم التثبيت، أي لنثبت التابع، ويكون من إطلاق السبب، ويراد به المسبب، لأن من علم الله أنه متبع للرسول، فهو ثابت الاتباع. أو على أنه أريد
597

بالعلم الجزاء، أي لنجازي الطائع والعاصي، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن، وفي كلام العرب، بذكرالعلم، كقولك: زيد عصاك، والمعنى: أنا أجازيه على ذلك، أو على أنه أريد بالمستقبل هنا الماضي، التقدير: لما علمنا، أو لعلمنا من يتبع الرسول ممن يخالف. فهذه كلها تأويلات في قوله: لنعلم، فرارا من حدوث العلم وتجدده، إذ ذلك على الله مستحيل. وكل ما وقع في القرآن، مما يدل على ذلك، أول بما يناسبه من هذه التأويلات. ونعلم هنا متعد إلى واحد، وهو الموصول، فهو في موضع نصب، والفعل بعده صلته. وقال بعض الناس: نعلم هنا متعلقة، كما تقول: علمت أزيد في الدر أم عمرو، حكاه الزمخشري. وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء، ويتبع في موضع الجر، والجملة في موضع المفعول ب نعلم. وقد رد هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم، لم يبق لقوله
: * (ممن ينقلب) *، ما يتعلق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بقوله: * (يتبع) *، الذي هو خبر عن من الاستفهامية، لأن المعنى ليس على ذلك، وإنما المعنى على أن يتعلق ب نعلم، كقولك: علمت من أحسن إليك ممن أساء. وهذا يقوى أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز، إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التييز، لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن. وقرأ الزهري: ليعلم، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهذا لا يحتاج إلى تأويل، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى، فحذف وبنى الفعل للمفعول، وعلم غير الله تعالى حادث، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث، وكان التقدير: ليعلم الرسول والمؤمنون. وأتى بلفظ الرسول، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله: * (كنت عليها) *، فكان يكون الكلام من يتبعك، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة. وجاء الخطاب مكتنفا ذكر الرسول مرتين، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة. ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة، أتى بلفظ الرسول، ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض. ولما كان التوجه إلى الكعبة توجها إلى المكان الذي ألفه الإنسان، وله إلى ذلك نزوع، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة، فقيل: * (التى كنت عليها) *، فهذه، والله أعلم، حكمة الالتفات هنا. وقوله: * (ينقلب على عقبيه) * كناية عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل. والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه، فلذلك شبه المرتد في الدين به. والمعنى: أنه كان متلبسا بالإيمان، فلما حولت القبلة، ارتاب فعاد إلى الكفر، فهذا انقلاب معنوي، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه. وقوله: * (على عقبيه) * في موضع الحال، أي ناكصا على عقبيه، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه، لم يخل في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الجالة الأولى التي كان عليها، فهو قد ولي عما كان أقبل عليه، ومشى أدراجه التي تقدمت له، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أولا. قالوا: وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة، أو بسبب تحويلها. فقيل: بالأول، لأنه كان يصلي إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة، فشق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم. وقال الأكثرون بالقول الثاني، قالوا: لو كان محمد على يقين من أمره، لما تغير رأيه. وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا: مرة هنا ومرة هنا، وهذا أشبه، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة، وقد وصفها الله بالكبر في قوله: * (وإن كانت لكبيرة) *. وقرأ ابن أبي إسحاق: على عقبيه، بسكون القاف وتسكين عين فعل، اسما كان أو فعلا، لغة تميمية، وقد تقدم ذكر ذلك.
* (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) *: اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله: * (وما جعلنا القبلة) *، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يتوجه إليها، وهي بيت المقدس، قبل التحويل، قاله أبو العالية والأخفش. وقيل: يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس. ومعنى كبيرة: أي شاقة صعبة، ووجه صعوبتها أن ذلك مخالف
598

للعادة، لأن من ألف شيئا، ثم انتقل عنه، صعب عليه الانتقال، أو أن ذلك محتاج إلى معرفة النسخ وجوازه ووقوعه. وإن هنا هي المخففة من الثقيلة، دخلت على الجملة الناسخة. واللام هي لام الفرق بين إن النافية والمخففة من الثقيلة، وهل هي لام الابتداء ألزمت للفرق، أم هي لام اجتلبت للفرق؟ في ذلك خلاف، هذا مذهب البصريين والكسائي والفراء وقطرب في إن التي يقول البصريون إنها مخففة من الثقيلة، خلاف مذكور في النحو. وقراءة الجمهور: لكبيرة بالنصب، على أن تكون خبر كانت. وقرأ اليزيدي: لكبيرة بالرفع، وخرج ذلك الزمخشري على زيادة كانت، التقدير: وإن هي لكبيرة، وهذا ضعيف، لأن كان الزائدة لا عمل لها، وهنا قد اتصل بها الضمير فعملت فيه، ولذلك استكن فيها. وقد خالف أبو سعيد، فزعم أنها إذا زيدت عملت في الضمير العائد على المصدر المفهوم منها، أي كان هو، أي الكون. وقد رد ذلك في علم النحو. وكذلك أيضا نوزع من زعم أن كان زئادة في قوله:
وجيران لنا كانوا كرام
لاتصال الضمير به وعمل الفعل فيه، والذي ينبغي أن تحمل القراءة عليه أن تكون لكبيرة خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: لهي كبيرة. ويكون لام الفرق دخلت على جملة في التقدير، تلك الجملة خبر لكانت، وهذا التوجيه ضعيف أيضا، وهو توجيه شذوذ. * (إلا على الذين هدى الله) *، هذا استثناء من المستثنى منه المحذوف، إذ التقدير: وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين هدى الله، ولا يقال في هذا إنه استثناء مفرغ، لأنه لم يسبقه نفي أو شبهة، إنما سبقه إيجاب. ومعنى هدى الله: أي هداهم لاتباع الرسول، أو عصمهم واهتدوا بهدايته، أو خلق لهم الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم، أو وفقهم إلى الحق وثبتهم على الإيمان. وهذه أقوال متقاربة، وفيه إسناد الهداية إلى الله، أي أن عدم صعوبة ذلك إنما هو بتوفيق من الله، لا من ذوات أنفسهم، فهو الذي وفقهم لهدايته.
* (وما كان الله ليضيع إيمانكم) *: قيل: سبب نزول هذا أن جماعة ماتوا قبل تحويل القبلة، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم) عنهم، فنزلت. وقيل: السائل أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور مع جماعة، وهذا مشكل، لأنه قد روي أن أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ماتا قبل تحويل القبلة. وقد فسر الإيمان بالصلاة إلى بيت المقدس، وكذلك ذكره البخاري والترمذي، وقال ذلك ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي
599

والربيع وغيرهم، وكنى عن الصلاة بالإيمان لما كانت صادرة عنه، وهي من شعبه العظيمة. ويحتمل أن يقر الإيمان على مدلوله، إذ هو يشمل التصديق في وقت الصلاة إلى بيت المقدس، وفي وقت التحويل. وذكر الإيمان، وإن كان السؤال عن صلاة من صلى إلى بيت المقدس، لأنه هو العمدة، والذي تصح به الأعمال. وقد كان لهم ثابتا في حال توجههم إلى بيت المقدس وغيره، فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمانكم، فاندرج تحته متعلقاته التي لا تصح إلا به. وكان ذكر الإيمان أولى من ذكر الصلاة، لئلا يتوهم اندراج صلاة المنافقين إلى بيت المقدس، وأتى بلفظ الخطاب، وإن كان السؤال عمن مات على سبيل التغليب، لأن المصلين إلى بيت المقدس لم
يكونوا كلهم ماتوا. وقرأ الضحاك: ليضيع، بفتح الضاد وتشديد الياء، وأضاع وضيع الهمزة، والتضعيف، كلاهما للنقل، إذ أصل الكلمة ضاع. وقال في المنتخب: لولا ذكر سبب نزول هذه الآية: لما اتصل الكلام بعضه ببعض. ووجه تقرير الإشكال، أن الذين لا يجوزون النسخ إلا مع البداء يقولون: إنه لما تغير الحكم، وجب أن يكون الحكم مفسدة، أو باطلا، فوقع في قلوبهم، بناء على هذا السؤال، أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة. فأجاب الله تعالى عن هذا الإشكال، وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة، ومن تكليف إلى تكليف، والأول كالثاني في أن المتمسك به قائم. انتهى.
وإذا كان الشك إنما تولد ممن يجوز البداء على الله، فكيف يليق ذلك بالصحابة؟ والجواب: أنه لا يقع إلا من منافق، فأخبر عن جواب سؤال المنافق، أو جواب على تقدير خطور ذلك ببال صحابي لو خطر، أو على تقدير اعتقاده أن التوجه إلى الكعبة أفضل. وما ذكره في المنتخب من أنه لولا ذكر سبب نزول هذه الآية، لما اتصل الكلام بعضه ببعض، ليس بصحيح، بل هو كلام متصل، سواء أصح ذكر السبب أم لم يصح، وذلك أنه لما ذكر قوله تعالى: * (لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) *، كان ذلك تقسيما للناس حالة الجعل إلى قسمين: متبع للرسول، وناكص. فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمان المتبع، بل عمله وتصديقه، قبل أن تحول القبلة، وبعد أن تحول لا يضيعه الله، إذ هو المكلف بما شاء من التكاليف، فمن امتثلها، فهو لا يضيع أجره. ولما كان قد يهجس في النفس الاستطلاع إلى حال إيمان من اتبع الرسول في الحالتين، أخبر تعال أنه لا يضيعه، وأتى بكان المنفية بما الجائي بعدها لام الجحود، لأن ذلك أبلغ من أن لا يأتي بلام الجحود. فقولك: ما كان زيد ليقوم، أبلغ مما: كان زيد يقوم، لأن في المثال الأول: هو نفي للتهيئة والإرادة للقيام، وفي الثاني: هو نفي للقيام. ونفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل، لأن نفي الفعل لا يستلزم نفي إرادته، ونفي التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفي الفعل، فلذلك كان النفي مع لام الجحود أبلغ. وهكذا القول فيما ورد من هذا النحو في القرآن. وكلام العرب. وهذه الأبلغية إنما هي على تقدير مذهب البصريين، فإنهم زعموا أن خبر كان التي بعدها لام الجحود محذوف، وأن اللام بعدها أن مضمرة ينسبك منها مع الفعل بعدها مصدر، وذلك الحرف متعلق بذلك الحرف المحذوف، وقد صرح بذلك الخبر في قول بعضهم:
سموت ولم تكن أهلا لتسمو
ومذهب الكوفيين: أن اللام هي الناصبة، وليست أن مضمرة بعده، وأن اللام بعدها للتأكيد، وأن نفس الفعل المنصوب بهذه اللام هو خبر كان، فلا فرق بين: ما كان زيد يقوم، وما كان زيد ليقوم، إلا مجرد التأكيد الذي في اللام. والكلام على هذين المذهبين مذكور في علم النحو.
* (إن الله بالناس لرءوف رحيم) *: ختم هذه الآية بهذه الجملة
600

ظاهر، وهي جارية مجرى التعليل لما قبلها، أي للطف رأفته وسعة رحمته، نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين، أو لم يجعل لها مشقة على الذين هداهم، أو لا يضيع إيمان من آمن، وهذا الأخير أظهر. والألف واللام في بالناس يحتمل الجنس، كما قال: * (الله لطيف بعباده) *، * (ورحمتى وسعت كل شىء) *، * (وسعت كل شىء رحمة وعلما) *، ويحتمل العهد، فيكون المراد بالناس المؤمنين. وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص: لرؤوف، مهموزا على وزن فعول حيث وقع، قال الشاعر:
* نطيع رسولنا ونطيع ربا
*
هو الرحمن كان بنا رؤفا
*
وقرأ باقي السبعة: لرؤف، مهموزا على وزن ندس، قال الشاعر:
* يرى للمسلمين عليه حقا
*
كحق الوالد الرؤف الرحيم
*
وقال الوليد بن عقبة:
* وشر الظالمين فلا تكنه
*
يقابل عمه الرؤوف الرحيم
*
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: لروف، بغير همز، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله، ساكنة كانت أو متحركة. ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغا فيها من حيث لام الجحود، ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغا فيها، فبولغ فيها بأن وباللام وبالوزن على فعول وفعيل، كل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وكثرة الرأفة. وتأخر الوصف بالرحمة لكونه فاصلة، وتقدم المجرور اعتناء بالمرؤوف بهم. وقال القشيري: من نظر الأمر بعين التفرقة، كبر عليه أمر التحويل؛ ومن نظر بعين الحقيقة، ظهر
لبصيرته وجه الصواب. * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) *: أي من كان مع الله في جميع الأحوال على قلب واحد، فالمختلفات من الأحوال له واحدة، فسواء غير، أو قرر، أو أثبت، أو بدل، أو حقق، أو حول، فهم به له في جميع الأحوال. قال قائلهم:
* حيثما دارت الزجاجة درنا
*
يحسب الجاهلون أنا جننا
*
* (قد نرى تقلب وجهك في السماء) *: تقدم حديث البراء، وتقدم ذكر الخلاف في هذه الآية. وقوله: * (سيقول السفهاء) *: أيهما نزل قبل؟ ونرى هنا مضارع بمعنى الماضي، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي قد، في بعض المواضع، ومنه: * (قد يعلم ما أنتم عليه) *، * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك) *، * (قد يعلم الله المعوقين منكم) *. وقال الشاعر:
601

* لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم
*
مرابط للأمهار والعكر الدثر
*
قال الزمخشري: قد نرى: ربما نرى، ومعناه: كثرة الرؤية، كقوله:
قد أترك القرن مصفرا أنامله
انتهى. وشرحه هذا على التحقيق متضاد، لأنه شرح قد نرى بربما نرى. ورب، على مذهب المحققين من النحويين، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه، أو لتقليل نظيره. ثم قال: ومعناه كثرة الرؤية، فهو مضاد لمدلول رب على مذهب الجمهور. ثم هذا المعنى الذي ادعاه، وهو كثرة الرؤية، لا يدل عليه اللفظ، لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة. هذا التركيب، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي، ولا غير المضي، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية، وهو التقلب، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة، لا يقال فيه: قلب بصره في السماء، وإنما يقال: قلب إذا ردد. فالتكثير، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب، نحو: قطعته فتقطع، وكسرته فتكسر، وما طاوع التكثير ففيه التكثير. والوجه هنا قيل: أريد به مدلول ظاهره. قال قتادة والسدي وغيرهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبله مكة. وقيل: كان يقلب وجهه ليؤذن له في الدعاء. وقال الزمخشري: كان يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود، فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل. انتهى كلامه، وهو كلام الناس قبله. فالأول: قول ابن عباس، وهو ليصيب قبلة إبراهيم. والثاني: قول السدي والربيع، وهو ليتألف العرب لمحبتها في الكعبة. والثالث: قول مجاهد، وهو قول اليهود: ما علم محمد دينه حتى اتبعنا، فأراد مخالفتهم. وقيل: كنى بالوجه عن البصر، لأنه أشرف، وهو المستعمل في طلب الرغائب. تقول: بذلت وجهي في كذا، وفعلت لوجه فلان. وقال:
رجعت بما أبغي ووجهي بمائه
وهو من الكناية بالكل عن الجزء، ولا يحسن أن يقال: إنه على حذف مضاف، ويكون التقدير بصر وجهك، لأن هذا لا يكاد يستعمل، إنما يقال: بصرك وعينك وأنفك؛ لا يكاد يقال: أنف وجهك، ولا خد وجهك. في السماء: متعلق بالمصدر، وهو تقلب، وهو يتعدى بفي، فهي على ظاهرها. قال تعالى: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد) *، أي في نواحي السماء، في هذه الجهة، وفي هذه الجهة. وقيل: في بمعنى إلى. وقيل: في السماء متعلق بترى، وفي: بمعنى من، أي قد نرى من السماء تقلب وجهك، وإن كان الله تعالى يرى من كل مكان، ولا تتحيز رؤيته بمكان دون مكان. وذكرت الرؤية من السماء لإعظام تقلب وجهه، لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها، ويكون كما جاء: بأن الله يسمع من فوق سبعة أرقعة، والظاهر الأول، وهو تعلق المجرور بالمصدر، وأن في علي حقيقتها. واختص التقلب بالسماء، لأن السماء جهة تعود منها الرحمة، كالمطر والأنوار والوحي، فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم، ولأن السماء قبلة الدعاء، ولأنه كان ينتظر جبريل، وكان ينزل من السما.
602

* (فلنولينك قبلة ترضاها) *: هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالا محذوفة، التقدير: قد نرى تقلب وجهك في السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها. وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها. وجاء الوعد قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة، ثم بإنجاز الوعد، فيتوالى السرور مرتين، ولأن بلوغ المطلوب بعد الوعد به أنس في التوصل من مفاجأة وقوع المطلوب. ونكر القبلة، لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة، فتعرف بالألف واللام. وليس في اللفظ ما يدل على أنه كان يطلب باللفظ قبلة معينة، ووصفها بأنها مرضية له لتقربها من التعيين، لأن متعلق الرضا هو القلب، وهو كان يؤثر أن تكون الكعبة، وإن كان لا يصرح بذلك. قالوا: ورضاه لها، إما لميل السجية، أو لاشتمالها على مصالح الدين. والمعنى: لنجعلنك تلي استقبال قبلة مرضية لك، ولنمكننك من ذلك.
* (فول وجهك شطر المسجد الحرام) *: أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة. وبهذا الأمر نسخ التوجه إلى بيت المقدس. قالوا: وإنما لم يذكر في الصلاة، لأن الآية نزلت وهو في الصلاة، فأغنى التلبس بالصلاة عن ذكرها. ومن قال نزلت في غير الصلاة، فأغنى عن ذكر الصلاة أن المطلوب لم يكن إلا ذلك، أعني: التوجه في الصلاة. وأقول: في قوله: * (فلنولينك قبلة ترضاها) * ما يدل على أن المقصود هو في الصلاة، لأن القبلة هي التي يتوجه إليها في الصلاة. وأراد بالوجه: جملة البدن، لأن الواجب استقبالها بجملة البدن. وكنى بالوجه عن الجملة، لأنه أشرف الأعضاء، وبه يتميز بعض الناس عن بعض. وقد يطلق ويراد به نفس الشيء، ولأن المقابلة تقتضي ذلك، وهو أنه قابل قوله: * (قد نرى تقلب وجهك) * بقوله: * (فول وجهك) *. وتقدم أن الشطر يطلق ويراد به النصف، ويطلق ويراد به النحو. وأكثر المفسرين على أن المراد بالشطر تلقاؤه وجانبه، وهو اختيار الشافعي. وقال الجبائي، وهو اختيار القاضي: المراد منه وسط المسجد ومنتصفه، لأن الشطر هو النصف، والكعبة بقعة في وسط المسجد. والواجب هو التوجه إلى الكعبة، وهي كانت في نصف المسجد، فحسن أن يقال: * (فول وجهك شطر المسجد) *، يعني النصف من كل جهة، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة. ويدل على صحة ما ذكرناه. أن المصلي خارج المسجد متوجها إلى المسجد، لا إلى منتصف المسجد الذي هو الكعبة، لم تصح صلاته. وأنه لو فسرنا الشطر بالجانب، لم يكن لذكره فائدة، ويكون لا يدل على وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو الكعبة. قال ابن عباس وغيره: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى البيت كله. وقال ابن عمر: إنما وجه هو وأمته حيال ميزاب الكعبة، والميزاب هو قبلة المدينة والشام، وهناك قبلة أهل الأندلس بتقريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق، وفي حرف عبد الله، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام. والقائلون بأن معنى الشطر: النحو، اختلفوا، فقال ابن عباس؛ البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، وهذا قول مالك. وقال آخرون: القبلة هي الكعبة، والظاهر أن المقصود بالشطر: النحو والجهة، لأن في استقبال عين الكعبة حرجا عظيما على من خرج لبعده عن مسامتنها. وفي ذكر المسجد الحرام، دون ذكر الكعبة، دلالة على أن الذي يجب هو مراعاة جهة الكعبة، لا مراعاة عينها. واستدل مالك من قوله: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) *، على أن المصلي ينظر أمامه، لا إلى موضع سجوده، خلافا للثوري والشافعي والحسن بن حي، في أنه يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده، وخلافا لشريك القاضي، في أنه ينظر القائم إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى موضع حجره. قال الحافظ أبو بكر بن العربي: إنما قلنا ينظر أمامه، لأنه إن حنى رأسه ذهب ببعض القيام المعترض عليه في الرأس، وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج، * (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) *.
* (إن كنتم) *: هذا عموم في الأماكن التي يحلها
603

الإنسان، أي في موضع كنتم، وهو شرط وجراء، والفاء جواب الشرط، وكنتم في موضع جزم. وحيث: هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة، فهي مقتضية، الخفض بعدها، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال، والإضافة موضحة لما أضيف، كما أن الصلة موضحة فينافي اسم الشرط، لأن الشرط مبهم. فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة، وضمنت معنى الشرط، وجوزي بها، وصارت إذ ذاك من عوامل الأفعال. وقد تقدم لنا ما شرط في المجازاة بها، وخلاف الفراء في ذلك. * (فولوا وجوهكم شطره) *: وهذا أمر لأمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لما تقدم أمره بذلك، أراد أن يبين أن حكمه وحكم أمته في ذلك واحد، مع مزيد عموم في الأماكن، لئلا يتوهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة، فبين أنهم في أيما حصلوا من بقاع الأرض، وجب أن يستقبلوا شطر المسجد. ولما كان صلى الله عليه وسلم) هو المتشوق لأمر التحويل، بدأ بأمره أولا ثم أتبع أمر أمته ثانيا لأنهم تبع له في ذلك، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به صلى الله عليه وسلم). وفي حرف عبد الله: فولوا وجوهكم قبله. وقرأ ابن أبي عبلة: فولوا وجوهكم تلقاءه، وهذا كله يدل على أن المراد بالشطر: النحو..
* (وإن الذين أوتوا الكتاب) *: أي رؤساء اليهود والنصارى وأحبارهم. وقال السدي: هم اليهود. * (ليعلمون أنه) *: أي التوجه إلى المسجد الحرام، * (الحق) *: الذي فرضه الله على إبراهيم وذريته. وقال قتادة والضحاك: إن القبلة هي الكعبة. وقال الكسائي: الضمير يعود على الشطر، وهو قريب من القول الثاني، لأن الشطر هو الجهة. وقيل: يعود على محمد صلى الله عليه وسلم)، أي يعرفون صدقه ونبوته، قاله قتادة أيضا ومجاهد. ومفسر هذه الضمائر متقدم. فمفسر ضمير التحويل والتوجه قوله: * (فول وجهك) *، فيعود على المصدر المفهوم من قوله: * (فولوا) *، ومفسر ضمير القبلة قوله: * (قبلة ترضاها) *، ومفسر ضمير الشطر قوله: * (شطر المسجد الحرام) *، ومفسر ضمير الرسول ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم). فعلى هذا الوجه يكون التفاتان. والعلم هنا يحتمل أن يكون مما يتعدى إلى اثنين، ويحتمل أن يكون مما يتعدى إلى واحد، لأن معموله هو أن وصلتها، فيحتمل الوجهين، وعلمهم بذلك، إما لأن في كتابهم التوجه إلى الكعبة، قاله أبو العالية، وإما لأن في كتابهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم) نبي صادق، فلا يأمر إلا بالحق، وإما لجواز النسخ، وإما لأن في بشارة الأنبياء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) يصلي إلى القبلتين. * (من ربهم) *: جار ومجرور في موضع الحال، أي ثابتا من ربهم. وفي ذلك دليل على أن التحول من بيت المقدس إلى الكعبة لم يكن باجتهاد، إنما هو بأمر من الله تعالى. وفي إضافة الرب إليهم تنبيه على أنه يجب اتباع الحق الذي هو مستقر ممن هو معتن بإصلاحك، كما قال تعالى: * (الحق من ربك) *.
* (وما الله بغافل عما يعملون) *: قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب. فيحتمل أن يراد به المؤمنون لقوله: * (فولوا وجوهكم شطره) *، ويحتمل أن يراد به أهل الكتاب، فتكون من باب الالتفات. ووجهه أن في خطابهم بأن الله لا يغفل عن أعمالهم، تحريكا لهم بأن يعملوا بما علموا من الحق، لأن المواجهة
بالشيء تقتضي شدة الإنكار وعظم الشيء الذي ينكر. ومن قرأ بالياء، فالظاهر أنه عائد على أهل الكتاب لمجيء ذلك في نسق واحد من الغيبة. وعلى كلتا القراءتين، فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد، ولا يغفل عنها، وهو متضمن الوعيد.
* (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك) * هذه تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له. أعلمه أولا أنهم يعلمون أنه الحق، وهم يكتمونه، ولا يرتبون على العلم به مقتضاه. ثم سلاه عن قبولهم الحق، بأنهم قد انتهوا في العناد وإظهار المعاداة إلى رتبة، لو جئتهم فيها بجميع المعجزات التي كل معجزة منها تقتضي قبول الحق، ما تبعوك ولا سلكوا طريقك. وإذا كانوا لا يتبعونك، مع مجيئك لهم بجميع المعجزات، فأحرى أن لا يتبعوك إذا جئتهم بمعجزة واحدة. والمعنى: بكل آية يدل على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق. واللام في: ولئن، هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم. فقد اجتمع القسم المتقدم المحذوف، والشرط متأخر عنه، فالجواب للقسم
604

وهو قوله: * (ما تبعوا) *، ولذلك لم تدخله الفاء. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهو منفي بما ماضي الفعل مستقبل. المعنى: أي ما يتبعون قبلتك، لأن الشرط قيد في الجملة، والشرط مستقبل، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلا، ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطا في الماضي. ونظير هذا التركيب في المثبت قوله تعالى: * (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون) *، التقدير: ليظلن أوقع الماضي المقرون باللام جوابا للقسم المحذوف، ولذلك دخلت عليه اللام موقع المستقبل، فهو ماض من حيث اللفظ، مستقبل من حيث المعنى، لأن الشرط قيد فيه، كما ذكرنا. وجواب الشرط في الآيتين محذوف، سد مسده جواب القسم، ولذلك أتى فعل الشرط ماضيا في اللفظ، لأنه إذا كان الجواب محذوفا، وجب مضي فعل الشرط لفظا، إلا في ضرورة الشعر، فقد يأتي مضارعا. وذهب الفراء إلى أن إن هنا بمعنى لو، ولذلك كانت ما في الجواب، فجعل ما تبعوا جوابا لأن، لأن إن بمعنى لو، فكما أن لو تجاب بما، كذلك أجيبت إن التي بمعنى لو، وإن كان إن إذا لم يكن بمعنى لو، لم يكن جوابها مصدرا بما، بل لا بد من الفاء. تقول: إن تزرني فما أزورك، ولا يجوز: ما أزورك. وعلى هذا يكون جواب القسم محذوفا لدلالة جواب إن عليه. وهذا الذي قاله الفراء هو بناء على مذهبه أن القسم إذا تقدم على الشرط، جاز أن يكون الجواب للشرط دون القسم. وليس هذا مذهب البصريين، بل الجواب يكون للقسم بشرطه المذكور في النحو. واستعمال إن بمعنى لو قليل، فلا ينبغي أن يحمل على ذلك، إذا ساغ إقرارها على أصل وضعها. وقال ابن عطية: وجاء جواب لئن كجواب لو، وهي ضدها في أن لو تطلب المضي والوقوع، وإن تطلب الاستقبال، لأنهما جميعا يترتب قبلهما القسم. فالجواب إنما هو للقسم، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، هذا قول سيبويه. انتهى كلامه.
وهذا الكلام فيه تثبيج وعدم نص على المراد، لأن أوله يقتضي أن الجوب ل إن، وقوله بعد: فالجواب إنما هو للقسم، يدل على أن الجواب ليس ل إن، والتعليل بعد بقوله، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، لا يصلح أن يعلل به قوله؛ فالجواب إنما هو للقسم، بل يصح أن يكون تعليلا، لأن الجواب ل إن، وأجريت في ذلك مجرى لو. وأما قوله: هذا قول سيبويه، فليس في كتاب سيبويه، إلا أن ما تبعوا جواب القسم، ووضع فيه الماضي موضع المستقبل. قال سيبويه: وقالوا لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل. وقال أيضا. وقال تعالى: * (ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) *: أي ما يمسكهما. وقال بعض الناس: كل واحدة من: لئن ولو، تقوم مقام الأخرى، ويجاب بما يجاب به، ومنه: * (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا) *، لأن معناه: ولو أرسلنا ريحا. وكذلك لو يجاب جواب لئن، كقولك: لو أحسنت إلي أحسن إليك، هذا قول
605

الأخفش والفراء والزجاج. وقال سيبويه: لا يجاب إحداهما بجواب الأخرى، لأن معناهما مختلف، وقدر الفعل الماضي الذي وقع بعد لئن بمعنى الاستقبال، تقدير: لا يتبعون، وليظلن. انتهى كلامه.
وتلخص من هذا كله أن في قوله: * (ما تبعوا) * قولين: أحدهما: أنها جواب قسم محذوف، وهو قول سيبويه. والثاني: أن ذلك جواب إن لإجرائها مجرى لو، وهو قول الأخفش والفراء والزجاج. وظاهر قوله: * (أوتوا الكتاب) *: العموم، وقد قال به هنا قوم. وقال الأصم: المراد علماؤهم المخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم الذين أوتوا الكتاب، وفي الآية المتأخرة. ويدل على خصوص ذلك خصوص ما تقدم، وخصوص ما تأخر، فكذلك المتوسط والإخبار بإصرارهم، وهو شأن المعاند، وأنه قد آمن به كثير من أهل الكتاب وتبعوا قبلته. واختلفوا في قوله: * (ما تبعوا قبلتك) *. قال الحسن والجبائي: أراد جميعهم، كأنه قال: لا يجتمعون على اتباع قبلتك، على نحو: * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) *، ويكون إذ ذاك إخبارا عن المجموع، من حيث هو مجموع، لا حكم على الأفراد. وقال الأصم: بل المراد أن أحدا منهم لا يؤمن. وقد تقدم أن من قول الأصم: أنه أريد بأهل الكتاب الخصوص، فكأنه قال: كل فرد من أولئك المختصين بالعناد، المستمرين على جحود الحق، لا يؤمن ولا يتبع قبلتك. وقد احتج أبو مسلم بهذه الآية، على أن علم الله في عباده وفيما يفعلونه، ليس بحجة لهم فيما يرتكبون، وأنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به، ويتركوا ضده الذي نهوا عنه. قيل: واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق، وهو أنه أخبر عنهم أنهم لا يتبعون قبلته، فلو اتبعوا قبلته، لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا، وعلمه جهلا، وهو محال، وما استلزم المحال فهو محال. وأضاف تعالى القبلة إليه، لأنه المتعبد بها والمقتدى به في التوجه إليها. أيأس الله نبيه من اتباعهم قبلته، لأنهم لم يتركوا اتباعه عن دليل لهم وضح، ولا عن شبهة عرضت، وإنما ذلك على سبيل العناد، ومن نازع عنادا فلا يرجى منه انتزاع.
* (وما أنت بتابع قبلتهم) *: هذه جملة خبرية. قيل: ومعناها النهي، أي لا تتبع قبلتهم، ومعناها: الدوام على ما أنت عليه، وإلا فهو معصوم عن اتباع قبلتهم بعد ورود الأمر. وقيل: هي باقية على معنى الخبر، وهو أنه بين بهذا الإخبار أن هذه القبلة لا تصير منسوخة، فجاءت هذه الجملة رفعا لتجويز النسخ، أو قطع بذلك
رجاء أهل الكتاب، فإنهم قالوا: يا محمد، عد إلى قبلتنا، ونؤمن بك ونتبعك، مخادعة منهم، فأيأسهم الله من اتباعه قبلتهم، أو بين بذلك حصول عصمته، أو أخبر بذلك على سبيل التعذر لاختلاف قبلتيهم، أو جاء ذلك على سبيل المقابلة، أي ما هو بتاركي باطلهم، وما أنت بتارك حقك. وأفرد القبلة في قوله: قبلتهم، وإن كانت مثناة، إذ لليهود قبلة، وللنصارى قبلة مغايرة لتلك القبلة، لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين، فصار الاثنان واحدا من جهة البطلان، وحسن ذلك المقابلة في اللفظ، لأن قبله * (ما تبعوا قبلتك) *. وهذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله: * (بتابع) *، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها، لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيدا في نفي تبعيته قبلتهم. وقرأ بعض القراء: بتابع قبلتهم على الإضافة، وكلاهما فصيح، أعني إعمال اسم الفاعل هنا وإضافته، وقد تقدم في أيهما أقيس.
* (وما بعضهم بتابع * قبله * بعض) *: الضمير في بعضهم عائد على أهل الكتاب. والمعنى: أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود، وذلك إشارة إلى أن اليهود لا تنتصر، وإلى أن النصارى لا تتهود، وذلك لما بينهما من إفراط العداوة والتباغض. وقد رأينا اليهود والنصارى كثيرا ما يدخلون في ملة الإسلام، ولم يشاهد يهوديا تنصر، ولا نصرانيا تهود. والمراد بالبعضين: من هو باق على دينه من أهل الكتاب، هذا قول السدي وابن زيد، وهو الظاهر. وقيل: أحد البعضين من آمن من أهل الكتاب، والبعض الثاني من كان على دينه منهم، لأن كلا منهما يسفه حلم الآخر ويكفره، إذ تباينت طريقتهما. ألا ترى إلى مدح اليهود عبد الله بن سلام قبل أن يعلموا بإسلامه وبهتهم له بعد ذلك؟ وتضمنت هذه الجمل: أن أهل الكتاب، وإن اتفقوا على خلافك، فهم مختلفون في القبلة، وقبلة اليهود بيت المقدس، وقبلة النصارى مطلع الشمس.
* (ولئن اتبعت
606

أهواءهم) *، اللام أيضا مؤذنة بقسم محذوف، ولذلك جاء الجواب بقوله: إنك، وتعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط. يقول الرجل لامرأته: إن صعدت إلى السماء فأنت طالق، ومعلوم امتناع صعودها إلى السماء. وقال تعالى في الملائكة الذين أخبر عنهم: أنهم * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) *، قال: * (ومن يقل منهم إنى إلاه من دونه فذالك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين) *، وإذا اتضح ذلك سهل ما ورد من هذا النوع. وفهم من ذلك الاستحالة، لأن المعلق على المستحيل مستحيل. ويصير معنى هذه الجملة، التي ظاهرها الوقوع على تقدير امتناع الوقوع، ويصير المعنى: لا يعد ظالما، ولا تكونه، لأنك لا تتبع أهواءهم، وكذلك لا يحبط عملك، لأن إشراكك ممتنع، وكذلك لا يجزي أحد من الملائكة جهنم، لأنه لا يدعي أنه إلاه. وقالوا: ما خوطب به من هو معصوم مما لا يمكن وقوعه منه، فهو محمول على إرادة أمته، ومن يمكن وقوع ذلك منه، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر، والتفخيم لشأنه، حتى يحصل التباعد منه. ونظير ذلك قولهم: إياك أعني: واسمعي يا جارة.
قال الزمخشري: قوله: * (ولئن اتبعت أهواءهم) *، بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله: * (وما أنت بتابع قبلتهم) *، كلام وارد على سبيل الفرض، والتقدير بمعنى: ولئن اتبعتهم مثلا بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر، إنك إذا لمن المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين، وزيادة تحذير واستفظاع بحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى، وإلهاب للثبات على الحق. انتهى كلامه. وقال في المنتخب: اختلفوا في هذا الخطاب. قال بعضهم: هو للرسول، وقال بعضهم: هو للرسول وغيره. وقال بعضهم: هو لغير الرسول، لأنه علم تعالى أن الرسول لا يفعل ذلك، فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب. أهواءهم: تقدم أنه جمع هوى، ولا يجمع على أهوية، وأكثر استعمال الهوى فيما لا خير فيه، وقد يستعمل في الخير، وأصله الميل والمحبة، وجمع، وإن كان أصله المصدر، لاختلاف أغراضهم ومتعلقاتها وتباينها.
* (من بعد ما جاءك من العلم) *: أي من الدلائل والآيات التي تفيد لك العلم وتحصله، فأطلق اسم الأثر على المؤثر. سمى تلك الدلائل علما، مبالغة وتعظيما وتنبيها على أن العلم من أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة. ودلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم. وقد فسر العلم هنا بالحق، يعني أن ما جاءه من تحويل القبلة هو الحق. وقال مقاتل: العلم هنا: البيان، وجاء في هذا المكان: * (من بعد ما جاءك) *، وقال قبل هذا: * (بعد الذي جاءك) *، وجاء في الرعد: * (بعد ما جاءك) *، فاختص موضعا بالذي، وموضعين بما، وهذا الموضع بمن. والذي نقوله في هذا: أنه من اتساع العبارة وذكر المترادف، لأن ما والذي موصولان، فأيا منهما ذكرت، كان فصيحا حسنا. وأما المجيء بمن، منهو دلالة على ابتداء بعدية المجيء، وأما قوله: بعد، فهو على معنى من، والتبعدية مقيدة بها من حيث المعنى، وإن كان إطلاق بعد لا يقتضيها. وقال بعضهم: في الجواب عن ذلك دخول ما مكان الذي، لأن الذي أخص، وما أشد إبهاما، فحيث خص بالذي أشير به إلى العلم بصحة الدين، الذي هو الإسلام، المانع من ملتي اليهود والنصارى، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه، لأنه علم بكل أصول الدين، وخص بلفظ ما، ما أشير به إلى العلم بركن من أركان الدين، أحدهما القبلة، والآخر الكتاب، لأنه أشار إلى قوله: * (ومن الاحزاب من ينكر بعضه) *، قال: وأما دخول من، ففائدته ظاهرة، وهي بيان أول الوقت الذي وجب على النبي صلى الله عليه وسلم) أن يخالف أهل الكتاب في أمر القبلة، أي ذلك الوقت الذي أمرك الله فيه بالتوجه فيه إلى نحو القبلة، إن اتبعت أهواءهم، كنت ظالما واضعا الباطل في موضع الحق. انتهى كلامه.
* (إنك إذا لمن الظالمين) *: قد ذكرنا أن هذه الجملة هي جواب القسم المحذوف
607

الذي أدنت بتقديره اللام في لئن، ودل على جواب الشرط، لا يقال: إنه يكون جوابا لهما، لامتناع ذلك لفظا ومعنى. أما المعنى، فلأن الاقتضاء مختلف. فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه، لأن القسم إنما جيء به توكيدا للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملا، واقتضاء الشرط على أنه عامل
فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له. وأما اللفظ، فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم، لم يحتج إلى مزيد رابط، وإذا كانت جواب شرط، احتاجت لمزيد رابط، وهو الفاء. ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها الفاء، فلذلك امتنع أن يقال إن الجملة جواب للقسم والشرط معا. ودخلت إذا بين اسم إن وخبرها لتقرير النسبة التي بينهما، وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر. فلم تتقدم، لأنه سبق قسم وشرط، والجواب هو للقسم. فلو تقدمت، لتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم يتأخر، لئلا تفوت مناسبة الفواصل وآخر الآي: فتوسطت والنية بها التأخير لتقرير النسبة. وتحرير معنى إذن صعب، وقد اضطرب الناس في معناها، وقد نص سيبويه على أن معناها الجواب والجزاء. واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه، وقد أمعنا الكلام في ذلك في (كتاب التكميل) من تأليفنا، والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظا أو تقديرا، وما بعدها في اللفظ أو التقدير، وإن كان مسببا عما قبلها، فهي في ذلك على وجهين: أحدهما: أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها. مثال ذلك أزورك فتقول: إذا أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطا لفعلك. وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب، وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها مذكورة في النحو. الوجه الثاني: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم، أو منبهة على مسبب شروط حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة، لأن المؤكدات لا يعتمد عليها، والعامل يعتمد عليه، وذلك نحو: إن تأتني إذن آتك، ووالله إذن لأفعلن. فلو أسقطت إذن، لفهم الارتباط. ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها، جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو: أزورك فتقول: إذن أنا أكرمك، وجاز توسطها نحو: أنا إذا أكرمك، وتأخرها. وإذا تقرر هذا، فجاءت إذا في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم، وإنما قررت معناها هنا لأنها كثيرة الدور في القرآن، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه.
* (الذين ءاتيناهم الكتاب) *: هم علماء اليهود والنصارى، أو من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم) من اليهود، كابن سلام وغيره، أو من آمن به مطلقا، أقوال. والكتاب: التوراة، أو الإنجيل، أو مجموعهما، أو القرآن. أقوال تنبني على من المراد بالذين آتيناهم، ولفظ آتيناهم أبلغ من أوتوا، لإسناد الإيتاء إلى الله تعالى، معبرا عنه بنون العظمة، وكذا ما يجيء من نحو هذا، مرادا به الإكرام نحو: هدينا، واجتبينا، واصطفينا. قيل: ولأن أوتوا قد يستعمل فيما لم يكن له قبول، وآتيناهم أكثر ما يستعمل فيما له قبول نحو: * (الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) *، وإذا أريد بالكتاب أكثر من واحد، فوحد، لأنه صرف إلى المكتوب المعبر عنه بالمصدر.
* (يعرفونه) *: جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو الذين آتيناهم، وجوز أن يكون الذين مجرورا على أنه صفة للظالمين، أو على أنه بدل من الظالمين، أو على أنه بدل من * (الذين أوتوا الكتاب) * في الآية التي قبلها، ومرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين، ومنصوبا على إضمار، أعني: وعلى هذه الأعاريب يكون قوله: * (يعرفونه) *، جملة في موضع الحال، إما من المفعول الأول في آتيناهم، أو من الثاني الذي هو الكتاب، لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما. والظاهر هو الإعراب الأول، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر، ولظاهر انتهاء الكلام عند قوله: * (إنك إذا لمن الظالمين) *. والضمير المنصوب في يعرفونه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم)، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما.
608

وروي عن ابن عباس، واختاره الزجاج، ورجحه التبريزي، وبدأ به الزمخشري فقال: يعرفونه معرفة جلية، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص. قال الزمخشري وغيره: واللفظ للزمخشري، وجاز الإضمار، وإن لم يسبق له ذكر، لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علما معلوم بغير إعلام. انتهى. وأقول: ليس كما قالوه من أنه إضمار قبل الذكر: بل هذا من باب الالتفات، لأنه قال تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك) *، ثم قال: * (ولئن أتيت الذين) * إلى آخر الآية، فهذه كلها ضمائر خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم التفت عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وحكمة هذا الالتفات أنه لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب، أقبل على الناس فقال: * (الذين ءاتيناهم الكتاب) * واخترناهم لتحمل العلم والوحي، يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه، لا يشكون في معرفته، ولا في صدق أخباره، بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة، لما في كتابهم من ذكره ونعته، والنص عليه يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. فقد اتضح بما ذكرناه أنه ليس من باب الإضمار قبل الذكر، وأنه من باب الالتفات، وتبينت حكمة الالتفات. ويؤيد كون الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم) ما روي أن عمر سأل عبد الله بن سلام، رضي الله عنهما، وقال: إن الله قد أنزل على نبيه: * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه) * الآية، فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله: يا عمر، لقد عرفته حين رأيته، كما أعرف ابني، ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم) أشد من معرفتي بابني. فقال عمر: وكيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله حقا، وقد نعته الله في كتابنا، ولا أدري ما يصنع النساء. فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت، وقد روي هذا الأثر مختصرا بما يرادف بعض ألفاظه ويقاربها، وفيه: فقبل عمر رأسه. وإذا كان الضمير للرسول، فقيل: المراد معرفة الوجه وتميزه، لا معرفة حقيقة النسب. وقيل: المعنى يعرفون صدقه ونبوته. وقيل: الضمير عائد على الحق الذي هو التحول إلى الكعبة، قاله ابن عباس وقتادة أيضا، وابن جريج والربيع. وقيل: عائد على القرآن. وقيل: على العلم. وقيل: على كون البيت الحرام قبلة إبراهيم ومن قبله من الأنبياء، وهذه المعرفة مختصة بالعلماء، لأنه قال: * (الذين ءاتيناهم الكتاب) *، فإن تعلقت المعرفة بالنبي صلى الله عليه وسلم)، فيكون حصولها بالرؤية والوصف، أو بالقرآن، فحصلت من تصديق كتابهم للقرآن، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم) وصفته، أو بالقبلة، أو التحويل، فحصلت بخبر القرآن وخبر الرسول المؤيد بالخوارق.
* (كما يعرفون أبناءهم) *، الكاف: في موضع نصب، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفانا مثل عرفانهم. أبناءهم: أو في موضع نصب على الحال من
ضمير المعرفة المحذوف، كان التقدير: يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم. وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم)، حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى، ومعرفة متعلقها المحسوس. وظاهر الأبناء الاختصاص بالذكور، فيكونون قد خصوا بذلك، لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء، وألصق وأعلق بقلوب الآباء. ويحتمل أن يراد بالأبناء: الأولاد، فيكون ذلك من باب التغليب. وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس، لأن الإنسان قد يمر عليه برهة من الزمان لا يعرف فيها نفسه، بخلاف الأبناء، فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه.
* (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق) *: أي من الذين آتيناهم الكتاب، وهم المصرون على الكفر والعناد، من علماء اليهود النصارى، على أحسن
609

التفاسير في الذين آتيناهم الكتاب، وأبعد من ذهب إلى أنه أريد بهذا الفريق جهال اليهود والنصارى، الذين قيل فيهم: * (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانى) *، للإخبار عن هذا الفريق أنهم يكتمون الحق وهم عالمون به، ولوصف الأميين هناك بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني. والحق المكتوم هنا هو نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قاله قتادة ومجاهد، والتوجه إلى الكعبة، أو أن الكعبة هي القبلة، أو أعم من ذلك، فيندرج فيه كل حق.
* (وهم يعلمون) *: جملة حالية، أي عالمين بأنه حق. ويقرب أن يكون حالا مؤكدة، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم. وقيل: متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق، فيكون إذ ذاك حالا مبينة.
* (الحق من ربك) *: قرأ الجمهور: برفع الحق على أنه مبتدأ، والخبر هو من ربك، فيكون المجرور في موضع رفع. أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق من ربك، والضمير عائد على الحق المكتوم، أي ما كتموه هو الحق من ربك، ويكون المجرور في موضع الحال، أو خبرا بعد خبر. وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره: الحق من ربك يعرفونه. والألف واللام في الحق للعهد، وهو الحق الذي عليه الرسول، أو الحق الذي كتموه، أو للجنس على معنى: أن الحق هو من الله، لا من غيره، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله، كالذي عليه الرسول، وما لم تثبت حقيقته، فليس من الله، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب. وقرأ علي بن أبي طالب: الحق بالنصب، وأعرب بأن يكون بدلا من الحق المكتوم، فيكون التقدير: يكتمون الحق من ربك، قاله الزمخشري؛ أو على أن يكون معمولا ليعلمون، قاله ابن عطية، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر، أي وهم يعلمونه كائنا من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل، كقوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
أي يسبقه شيء. وجوز ابن عطية أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره: الزم الحق من ربك، ويدل عليه الخطاب بعده: * (فلا تكونن من الممترين) *.
والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمة. ودل الممترين على وجودهم، ونهى أن يكون منهم، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل. فقولك: لا تكن ظالما، أبلغ من قولك: لا تظلم، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم. وقولك: لا تكن ظالما نهي عن الكون بهذه الصفة. والنهي عن الكون على صفة، أبلغ من النهي عن تلك الصفة، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة. والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة. وفرق بين ما يدل على عموم، ويستلزم عموما، وبين ما يدل على عموم فقط، فلذلك كان أبلغ، ولذلك كثر النهي عن الكون. قال تعالى: * (فلا تكونن من الجاهلين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله * فلا تكن فى مرية * منه) *. والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي. والمعنى: لا تظلم في كل أكوانك، أي في كل فرد من أكوانك، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم، فتصير كان فيه نصا على سائر الأكوان، بخلاف لا تظلم، فإنه يستلزم الأكوان. وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي، وكانت المشددة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة. والمعنى: فلا تكونن من الذين يشكون في الحق، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك.
* (ولكل وجهة هو موليها) *، لما ذكر القبلة التي
610

أمر المسلمون بالتوجه إليها، وهي الكعبة، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها، وأن كلا من طائفتي اليهود والنصارى مصممة على عدم اتباع صاحبها، أعلم أن ذلك هو بفعله، وأنه هو المقدر ذلك، وأنه هو موجه كل منهم إلى قبلته. ففي ذلك تنبيه على شكر الله، إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختارهم لذلك. وقرأ الجمهور: ولكل: منونا، وجهة: مرفوعا، هو موليها: بكسر اللام اسم فاعل. وقرأ ابن عامر: هو مولاها، بفتح اللام اسم مفعول وهي، قراءة ابن عباس. وقرأ قوم شاذا: ولكل وجهة، بخفض اللام من كل من غير تنوين، وجهة: بالخفض منونا على الإضافة، والتنوين في كل تنوين عوض من الإضافة، وذلك المضاف إليه كل المحذوف اختلف في تقديره. فقيل: المعنى: ولكل طائفة من أهل الأديان. وقيل: المعنى: ولكل أهل صقع من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق، إلى جهة الكعبة، وراءها وقدامها، ويمينها وشمالها، ليست جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها. وقيل: المعنى: ولكل نبي قبله، قاله ابن عباس. وقيل: المعنى: ولكل ملك ورسول صاحب شريعة جهة قبلة، فقبلة المقربين العرش، وقبلة الروحانيين الكرسي، وقبلة الكروبيين البيت المعمور، وقبلة الأنبياء قبلك بيت المقدس، وقبلتك الكعبة، وقد اندرج في هذا الذي ذكرناه أن المراد بوجهه: قبلة، وهو قول ابن عباس، وهي قراءة أبي، قرأ: ولكل قبلة. وقرأ عبد الله: ولكل جعلنا قبلة. وقال الحسن: وجهة: طريقة، كما قال: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) *، أي لكل نبي طريقة. وقال قتادة: وجهة: أي صلاة يصلونها، وهو من قوله: هو موليها عائد على كل على لفظه، لا على معناه، أي هو مستقبلها وموجه إليها صلاته التي يتقرب بها، والمفعول الثاني لموليها محذوف لفهم المعنى، أي هو موليها وجهه أو نفسه، قاله ابن عباس وعطاء والربيع، ويؤيد أن هو عائد على كل قراءة من قرأ: هو مولاها. وقيل: هو عائد على الله تعالى، قاله الأخفش والزجاج
، أي الله موليها إياه، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها. فمعنى هو موليها على هذا التقدير: شارعها ومكلفهم بها. والجملة من الابتداء والخبر في موضع الصفة لوجهة. وأما قراءة من قرأ: ولكل وجهة على الإضافة، فقال محمد بن جرير: هي خطأ، ولا ينبغي أن يقدم على الحكم في ذلك بالخطأ، لا سيما وهي معزوة إلى ابن عامر، أحد القراء السبعة، وقد وجهت هذه القراءة. قال الزمخشري: المعنى: ولكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام لتقدم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه. انتهى كلامه، وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور باللام. لا يجوز أن يقول: لزيد ضربته، ولا: لزيد أنا ضاربه. وعليه أن الفعل إذا تعدى للضمير بغير واسطة. كان قويا، واللام إنما تدخل على الظاهر إذا تقدم ليقويه لضعف وصوله إليه متقدما، ولا يمكن أن يكون العامل قويا ضعيفا في حالة واحدة، ولأنه يلزم من ذلك أن يكون المتعدي إلى واحد يتعدى إلى اثنين، ولذلك تأول النحويون قوله هذا:
سراقة للقرآن يدرسه
وليس نظير ما مثل به من قوله: لزيد ضربت، أي زيدا ضربت، لأن ضربت في هذا المثال لم يعمل في ضمير زيد، ولا يجوز أن يقدر عامل في لكل وجهة يفسره قوله موليها، كتقديرنا زيدا أنا ضاربه، أي اضرب زيدا أنا ضاربه، فتكون المسألة من باب الاشتغال، لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر. تقول: زيدا مررت به، أي
611

لابست زيدا، ولا يجوز: بزيد مررت به، فيكون التقدير: مررت بزيد مررت به، بل كل فعل يتعدى بحرف الجر، إذا تسلط على ضمير اسم سابق في باب الاشتغال، فلا يجوز في ذلك الاسم السابق أن يجر بحرف جر، ويقدر ذلك الفعل ليتعلق به حرف الجر، بل إذا أردت الاشتغال نصبته، هكذا جرى كلام العرب. قال تعالى: * (والظالمين أعد لهم عذابا أليما) *. وقال الشاعر:
* أثعلبة الفوارس أم رباحا
*
عدلت به طهية والخشابا
*
وأما تمثيله: لزيد أبوه ضاربه، فتركيب غير عربي. فإن قلت: لم لا تتوجه هذه القراءة على أن لكل وجهة في موضع المفعول الثاني لموليها، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو مول، وهو الهاء، وتكون عائدة على أهل القبلات والطوائف، وأنث على معنى الطوائف، وقد تقدم ذكرهم، ويكون التقدير: وكل وجهة الله مولى الطوائف أصحاب القبلات؟ فالجواب: أنه منع مع هذا التقدير نص النحويين على أن المتعدي إلى واحد هو الذي يجوز أن تدخل اللام على مفعوله، إذا تقدم. أما ما يتعدى إلى اثنين، فلا يجوز أن يدخل على واحد منهما اللام إذا تقدم، ولا إذا تأخر. وكذلك ما يتعدى إلى ثلاثة. ومول هنا اسم فاعل من فعل يتعدى إلى اثنين، فلذلك لا يجوز هذا التقدير. وقال ابن عطية، في توجيه هذه القراءة: أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع. وقدم قوله: لكل وجهة على الأمر في قوله: فاستبقوا الخيرات، للاهتمام بالوجهة، كما تقدم المفعول. انتهى كلام ابن عطية، وهو توجيه لا بأس به.
* (فاستبقوا الخيرات) *: هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح. وناسب هذا أن من جعل الله له شريعة، أو قبلة، أو صلاة، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها. قال قتادة: الاستباق في أمر الكعبة رغما لليهود بالمخالفة. وقال ابن زيد: معناه: سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: فاستبقوا الفاضلات من الجهات، وهي الجهات المسامتة للكعبة، وإن اختلفت. وذكرنا أن استبق بمعنى: تسابق، فهو يدل على الاشتراك. * (إنا ذهبنا نستبق) *، أي نتسابق، كما تقول. تضاربوا. واستبق لا يتعدى، لأن تسابق لا يتعدى، وذلك أن الفعل المتعدي، إذا بنيت من لفظ، معناه: تفاعل للاشتراك، صار لازما، تقول: ضربت زيدا، ثم تقول: تضاربنا، فلذلك قيل: إن إلى هنا محذوفة، التقدير: فاستبقوا إلى الخيرات. قال الراعي:
* ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل
*
سواكم فإني مهتد غير مائل
*
يريد ومن يمل سواكم * (أينما تكونوا * يأت بكم الله جميعا) *: هذه جملة تتضمن وعظا وتحذيرا وإظهارا لقدرته، ومعنى: * (يأت بكم الله جميعا) *: أي يبعثكم ويحشركم للثواب والعقاب، فأنتم لا تعجزونه، وافقتم أم خالفتم، ولذلك قال ابن عباس: يعني يوم القيامة. وقيل: المعنى: أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعا، أي يجمعكم ويجعل صلاتكم كلها إلى جهة واحدة، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام، قاله
612

الزمخشري. * (إن الله على كل شىء قدير) * تقدم شرح هذه الجملة، وسيقت بعد الجملة الشرطية المتضمنة للبعث والجزاء، أي لا يستبعد إتيان الله تعالى بالأشلاء المتمزقة في الجهات المتعددة المتفرقة، فإن قدرة الله تتعلق بالممكنات، وهذا منها. وقد تقدم لنا أن مثل هذه الجملة المصدرة بأن تجيء كالعلة لما قبلها، فكان المعنى: إتيان الله بكم جميعا لقدرته على ذلك.
* (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) *: لما ذكر تعالى أن لكل وجهة يتولاها، أمر نبيه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام من أي مكان خرج، لأن قوله: * (فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك) * ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة. فبين بهذا الأمر الثاني تساوي الحالين إقامة وسفرا في أنه مأمور باستقبال البيت الحرام، ثم عطف عليه: * (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) *، ليبين مساواتهم في ذلك، أي في حالة السفر، والأولى في حالة الإقامة. وقرأ عبد الله بن عمير: ومن حيث بالفتح، فتح تخفيفا. وقد تقدم القول في حيث في قوله: * (حيث شئتما) *.
* (وإنه للحق من ربك) *: هذا إخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق، أي الثابت الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل. وفي الأول قال: * (وإن الذين أوتوا الكتاب * فيعلمون أنه الحق من ربهم) *، حيث كان الكلام مع سفهائهم الذين اعترضوا في تحويل القبلة، فرد عليهم بأشياء منها: أن علمائهم يعلمون أن تحويل القبلة حق من عند الله، وختم آخر هذه الآية بما ختم به آخر تلك من قوله: * (وما الله بغافل عما تعملون) * في امتثال هذا التكليف العظيم الذي هو التحويل من جهة إلى جهة، وذلك مهو محض التعبد. فالجهات كلها بالنسبة إلى البارىء تعالى مستوية، فكونه خص باستقبال هذه زمانا، ونسخ ذلك باستقبال جهة أخرى متأبدة، لا يظهر في ذلك في بادي الرأي إلا أنه تعبد محض. فلم يبق في ذلك إلا امتثال ما أمر الله به، فأخبر تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم، بل هو المطلع عليها، المجازي بالثواب من امتثل أمره، وبالعقاب من خالفه. وجاء في قوله: * (الحق من ربك) * في المكانين، وفي قوله: * (وما الله) * في المكانين، فحيث نبه على استدلال حكمته بالنظر إلى أفعاله، ذكر الرب المقتضي للنعم، لننظر منها إلى المنعم، ونستدل بها عليه، ولما انتهى إلى ذكر الوعيد، ذكر لفظ الله المقتضي للعبادة التي من أخل بها استحق أليم العذاب.
* (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) *: ظاهر هذه الجملة أنها كررت توكيدا لما قبلها في الآية التي تليها فقط، لا أن ذلك توكيد للآية الأولى، لأنا قد بينا أن الأولى في الإقامة، والثانية في السفر، وأما الثالثة فهي في السفر، فهي تأكيد للثانية. وحكمة هذا التأكيد تثبيت هذا الحكم، وتقرير نسخ استقبال بيت المقدس، لأن النسخ هو من مظان الفتنة والشبهة وتزيين الشيطان للطعن في تبديل قبلة بقبله، إذ كان ذلك صعبا عليهم، فأكد بذلك أمر النسخ وثبت. وكان التأكيد على ما قررناه بتكرير هذه الجمل مرتين، لأن ذلك هو الأكثر المعهود في لسان العرب، وهو أن تعاد الجملة مرة واحدة. وقال المهدوي: كررت هذه الأوامر، لأنه لا يحفظ القرآن كل أحد، فكان يوجد عند بعض الناس ما ليس عند بعض لو لم يكرر. وهذا المعنى في التكرير يروى عن جعفر الصادق، ولهذا المعنى رفع التكرير في القصص. وقيل: لما كانت هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا، كررت للتأكيد والقرير وإزالة الشبهة، وقد ذكر العلماء في هذه الآيات مخصصات تخرجها بذلك عن التأكيد. فقيل: الأولى من قوله: * (فول وجهك) *، نسخ للقبلة الأولى، والثانية لاستواء الحكم في جميع الأمكنة، والثالثة للدوام في جميع الأزمان. وقيل: الأولى في المسجد الحرام، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد. وقيل: الخروج الأول إلى مكان ترى فيه الكعبة، والثاني إلى مكان لا ترى فيه، فسوى بين الحالتين. وقيل: الخروج الأول متصل بذكر السبب، وهو: * (وإنه للحق من ربك) *، والثاني متصل بانتفاء الحجة، وهو: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة) *. وقيل: الأول
613

لجميع الأحوال، والثاني لجميع الأمكنة، والثالث لجميع الأزمنة. وقيل: الأول أن يكون الإنسان في المسجد الحرام، والثاني: أن يكون خارجا عنه وهو في البلد، والثالث أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض، فسوى بين هذه الأحوال، لئلا يتوهم أن للأقرب حرمة لا تثبت للأبعد. وقيل: التخصيص حصل في كل واحد من الثلاثة بأمر، فالأول بين فيه أن أهل الكتاب يعلمون أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم) وأمر هذه القبلة، حتى أنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل، والثاني فيه شهادة الله بأن ذلك حق، والثالث بين فيه أنه فعل ذلك * (لئلا يكون للناس عليكم حجة) *، فقطع بذلك قول المعاندين. وقيل: الأول مقرون بإكرامه تعالى إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها، وهي قبلة إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، بقوله: * (ولكل وجهة هو موليها) *، أي لكل صاحب دعوة قبلة يتوجه إليها، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله أنها الحق، والثالث مقرون بقطع الله حجة من خاصمه من اليهود. وقيل: ربما خطر في بال جاهل أنه تعالى فعل ذلك لرضا نبيه لقوله: * (فلنولينك قبلة ترضاها) *، فأزال هذا الوهم بقوله: * (وإنه للحق من ربك) *، أي ما حولناك لمجرد الرضا، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق، فليست كقبلة اليهود التي يتبعونها بمجرد الهوى، ثم أعاد ثالثا، والمراد: دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة. وقيل: كرر * (وحيث ما كنتم) *، فحث بإحداهما على التوجه إلى القبلة بالقلب والبدن، في أي مكان كان الإنسان، نائيا كان عنها، أو دانيا منها، وذلك في حال التمكن والاختيار، وحث بالأخرى على التوجه بالقلب نحوه عند اشتباه القبلة في حالة المسابقة، وفي النافلة في حالة السفر، وعلى الراحلة في السفر.
* (لئلا يكون) *: هذه لام كي، وأن بعدها لا النافية، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم: أن لا تفعل أفعل. وكتبت في المصحف: لا ما بعدها ياء، بعدها لام ألف، فجعلوا صورة للهمزة الياء، وذلك على حسب التخفيف الذي قرأ به نافع في القرآن من إبدال هذه الهمزة ياء. وقرأ الجمهور بالتحقيق: وهذه أن واجبة الإظهار هنا، لكراهتهم اجتماع لام الجر مع لا النافية، لأن في ذلك قلقا في اللفظ، وهي جائزة الإظهار في غير هذا الموضع، فإذا أثبتوها، فهو الأصل، وهو الأقل في كلامهم، وإذا حذفوها، فلأن المعنى يقتضيها ضرورة أن اللام لا تكون الناصبة، لأنها قد ثبت لها أن تعمل في الأسماء الجر، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.
* (للناس عليكم حجة) *: أي احتجاج. والناس: قيل هو عموم في اليهود والعرب وغيرهم. وقيل: اليهود، وحجتهم قولهم: يخالفنا محمد في قبلتنا، وقد كان يتبعها، أو لم ينصرف عن بيت المقدس، مع علمه بأنه حق إلا برأيه، ويزعم أنه أمر به، أو ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم. وقيل: مشركو العرب،
وحجتهم قولهم: قد رجع محمد إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا حين صار يستقبل القبلة. وقيل: الناس عام، والمعنى: أن الله وعدهم بأنه لا يقوم لأحد عليهم حجة إلا حجة باطلة، وهي قولهم: يوافق اليهود مع قوله: إني حنيف أتبع ملة إبراهيم، أو لا يقين لكم ولا تثبتون على دين، أو قالوا: ما لك تركت بيت المقدس؟ إن كانت ضلالة فقد دنت بها، وإن كانت هدى فقد نقلت عنه، أو قولهم: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه، أو قولهم في التوراة: إنه يتحول إلى قبلة أبيه إبراهيم، فحوله الله، لئلا يقولوا: نجده في التوراة يتحول فما تحول، فيكون لهم ذلك حجة، فأذهب الله حجتهم بذلك. واللام في لئلا لام الجر، دخلت على إن وما بعدها فتتقدر بالمصدر، أي لانتفاء الحجة عليكم. وتتعلق هذه اللام، قيل: بمحذوف، أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة في ذلك لئلا يكون. وقيل: تتعلق بولوا، والقراءة بالياء، لأن الحجة تأنيثها غير حقيقي، وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين، فسهل التذكير جدا، وخبر كان قوله: للناس، وعليكم: في موضع نصب على الحال، وهو في الأصل صفة للحجة، فلما تقدم عليها انتصب على الحال، والعامل فيها محذوف، ولا جائز أن يتعلق بحجة، لأنه في معنى الاحتجاج، ومعمول المصدر المنحل لحرف مصدري، والفعل لا يتقدم على عامله. وأجاز بعضهم أن يتعلق عليكم بحجة، هكذا نقلوا، ويحتمل أن
614

يكون عليكم الخبر، وللناس متعلق بلفظ يكون، لأن كان الناقصة قد تعمل في الظرف والجار والمجرور.
* (إلا الذين ظلموا منهم) *، قرأ الجمهور: إلا جعلوها أداة استثناء، وقرأ ابن عامر وزيد بن علي وابن زيد: ألا بفتح الهمزة وتخفيف لام ألا، إذ جعلوها التي للتنبيه والاستفتاح. فعلى قراءة هؤلاء يكون إعراب الذين ظلموا مبتدأ، والجملة من قوله: * (فلا تخشوهم واخشونى) * في موضع الخبر، ودخلت الفاء لأنه سلك بالذين مسلك الشرط، والفعل الماضي الواقع صلة هو مستقبل. المعنى: كأنه قيل: من يظلم من الناس، فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم. واخشوني: فلا تخالفوا أمري، ولولا دخول الفاء لترجح نصب الذين ظلموا، على أن تكون المسألة من باب الاشتغال، أي لا تخشوا الذين ظلموا، لا تخشوهم، لكن ذلك يجوز على مذهب الأخفش في زيادة الفاء، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين نصبا بفعل مقدر على الإغراء. ونقل السجاوندي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قرأ إلى الذين، جعلها حرف جر، وتأولها بمعنى مع. وأما على قراءة الجمهور، فالاستثناء متصل، قاله ابن عباس وغيره، واختاره الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكانا حسنا، كان أولى من غيره. قال الزمخشري: ومعناه لئلا يكون حجة لأحد من اليهود، إلا للمعاندين منهم القائلين: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلا دين قومه وحبا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء. فإن قلت: أي حجة كانت تكون للمتصفين منهم لو لم يحول حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين؟ قلت: كانوا يقولون: ما له لا يحول إلى قبلة أبيه إبراهيم، كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ فإن قلت: كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين؟ قلت: لأنهم يسوقونه سياق الحجة، انتهى كلامه. وقال ابن عطية: المعنى أنه لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم: * (ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها) * استهزاء، وفي قولهم: تحير محمد في دينه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن، أو من يهودي، أو من منافق. وسماها تعالى: حجة، وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة. انتهى كلامه. وقد اتضح بهذا التقرير اتصال الاستثناء. وذهب قوم إلى أنه استثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة، يضعونها موضع الحجة، وليست بحجة. ومثار الخلاف هو: هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة؟ ومثار الخلاف هو: هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة؟ فإن كان الأول، فهو استثناء منقطع، وإن كان الثاني، فهو استثناء متصل. قال الزجاج: أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله تعالى: * (ولكل وجهة هو موليها * لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا * من ظلم) *، باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك علي حجة إلا الظلم، أو إلا أن تظلمني، أي ما لك حجة البتة، ولكنك تظلمني. وأجاز قطرب أن يكون الذين في موضع جر بدلا من ضمير الخطاب في عليكم، ويكون التقدير: لئلا تثبت حجة للناس على غير الظالمين منهم، وهم أنتم أيها المخاطبون، بتولية وجوهكم إلى القبلة. ونقل السجاوندي أن قطربا قرأ: إلا على الذين ظلموا، وهو بدل أيضا على إظهار حرف الجر، كقوله: * (للذين استضعفوا لمن ءامن منهم) *، وهذا ضعيف، لأن فيه إبدال الظاهر من ضمير الخطاب، بدل شيء من شيء، وهما لعين
615

واحدة، ولا يجوز ذلك إلى علي مذهب الأخفش. وزعم أبو عبيد معمر بن المثنى أن في إلا الآية بمعنى الواو، وجعل من ذلك قوله:
* ما بالمدينة دار غير واحدة
*
دار الخليفة إلا دار مروانا
*
وقوله:
* وكل أخ مفارقه أخوه
*
لعمر أبيك إلا الفرقدان
*
التقدير: عنده والذين ظلموا، ودار مروان والفرقدان وإثبات إلا بمعنى الواو، لا يقوم عليه دليل، والاستثناء سائغ فيما ادعى فيه أن إلا بمعنى الواو، وكان أبو عبيدة
يضعف في النحو. وقال الزجاج: هذا خطأ عند حذاق النحويين، وأضعف من هذا زعم أن إلا بمعنى بعد، أي بعد الذين ظلموا، وجعل من ذلك * (إلا ما قد سلف) *، أي بعد ما قد سلف، و * (إلا الموتة الاولى) *، أي بعد الموتة الأولى، ولولا أن بعض المفسرين ذكر هذين القولين، ما ذكرتهما لضعفهما. * (فلا تخشوهم واخشونى) *: هذا فيه تحقير لشأنهم، وأمر باطراحهم، ومراعاة لأمره تعالى. وضمير المفعول في فلا تخشوهم يحتمل أن يعود على الناس، أي فلا تخشوا الناس، وأن يعود على الذين ظلموا، أي فلا تخشوا الظالمين. ونهى عن خشيتهم فيما يزخرفونه من الكلام الباطل، فإنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر. وأمر بخشيته هو في ترك ما أمرهم به من التوجه إلى المسجد الحرام. وقيل: المعنى فلا تخشوهم في المباينة، واخشوني في المخالفة، ومعناه قريب من الأول. وقد ذكرنا شرح هاتين الجملتين في ذكر قراءة ابن عباس بقريب من هذا. وقال السدي: معناه لا تخشوا أن أردكم في دينكم واخشوني، وهذا الذي قاله لا يساعده قوله: فلا تخشوهم. قال بعضهم: ذكر الخشية هنا ولم يذكر الخوف، لأن الخشية حذر من أمر قد وقع، والخوف حذر من أمر لم يقع. والذي تدل عليه اللغة والاستعمال أن الخشية والخوف مترادفان، وقال تعالى: * (فلا تخافوهم وخافون) *، كما قال هنا: * (فلا تخشوهم واخشونى) *.
* (ولاتم نعمتى عليكم) *: الظاهر أنه معطوف على قوله: * (لئلا يكون) *، وكان المعنى: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم، ولإتمام النعمة، فيكون التعريف معللا بهاتين العلتين، والفصل بالاستثناء وما بعده كلا فصل، إذ هو من متعلق العلة الأولى. وقيل: هو معطوف على علة محذوفة، وكلاهما معلولهما الخشية السابقة، كأنه قيل: واخشوني لأوقفكم ولأتم نعمتي عليكم. وقيل: تتعلق اللام بفعل مؤخر، التقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي، ومن زعم أن الواو زائدة، فقوله ضعيف. وإتمام النعمة بما هداهم إليه من القبلة، أو بما أعده لهم من ثواب الطاعة، أو بما حصل للعرب من الشرف بتحويل القبلة إلى الكعبة، أو بإبطال حجج المحتجين عليهم، أو بإدخالهم الجنة، أو بالموت على الإسلام، أو النعمة سنة الإسلام، والقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم)، والستر، والعافية، والغنى عن الناس؛ أو بشرائع الملة الحنيفية، أقوال ثمانية صدرت مصدر المثال، لا مصدر التعيين، وكل فيها نعمة. * (ولعلكم تهتدون) *: تقدم القول في لعل بالنسبة إلى مجيئها من الله تعالى في قوله: * (والذين من قبلكم لعلكم تتقون) *، في أول البقرة، وهو أول مواقعها فيه. والمعنى: لتكونوا على رجاء إدامة هدايتي إياكم على استقبال الكعبة، أو لكي تهتدوا إلى قبلة أبيكم إبراهيم، والظاهر رجاء الهداية مطلقا.
* (كما أرسلنا فيكم) *: الكاف هنا للتشبيه، وهي في موضع نصب
616

على أنها نعت لمصدر محذوف. واختلف في تقديره، فقيل التقدير: ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل إتمام إرسال فيكم. ومتعلق الإتمامين مختلف، فالإتمام الأول بالثواب في الآخرة، والإتمام الثاني بإرسال الرسول إلينا في الدنيا. أو الإتمام الأول بإجابة الدعوة الأولى لإبراهيم في قوله: * (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) *، والإتمام الثاني بإجابة الدعوة الثانية في قوله: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) *، وقيل: التقدير: ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولا، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتا متحققا، كتحقق إرسالنا فيكم رسولا، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتا متحققا، كتحقق إرسالنا وثبوته. وقيل: متعلق بقوله: * (وكذالك جعلناكم أمة وسطا) *، أي جعلا مثل ما أرسلنا، وهو قول أبي مسلم، وهذا بعيد جدا، لكثرة الفصل المؤذن بالانقطاع. وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من نعمتي، أي: * (ولاتم نعمتى عليكم) * مشبهة إرسالنا فيكم رسولا، أي مشبهة نعمة الإرسال، فيكون على حذف مضاف. وقيل: الكاف منقطعة من الكلام قبلها، ومتعلقة بالكلام بعدها، والتقدير: قال الزمخشري: كما ذكرتكم بإرسال الرسول، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. انتهى. فيكون على تقدير مصدر محذوف، وعلى تقدير مضاف، أي اذكروني ذكرا مثل ذكرنا لكم بالإرسال، ثم صار مثل ذكر إرسالنا، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فائته بكرمك، وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل، وهو اختيار الأخفش والزجاج وابن كيسان والأصم، والمعنى: أنكم كنتم على حالة لا تقرؤون كتابا، ولا تعرفون رسولا، ومحمد صلى الله عليه وسلم) رجل منكم، أتاكم بأعجب الآيات الدالة على صدقه فقال: (كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلا، فاذكروني بالشكر، أذكركم برحمتي)، ويؤكده: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) *. ويحتمل على هذا الوجه، بل يظهر، وهو إذا علقت بما بعدها أن، لا تكون الكاف للتشبيه بل للتعليل، وهو معنى مقول فيها إنها ترد له وحمل على ذلك قوله تعالى: * (واذكروه كما هداكم) *، وقول الشاعر:
لا تشتم الناس كما لا تشتم
أي: واذكروه لهدايته إياكم، ولا تشتم الناس لكونك لا تشتم، أي امتنع من شتم الناس لامتناع الناس من شتمك. وما: في كما، مصدرية، وأبعد من زعم أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، ورسولا بدل منه، والتقدير: كالذي أرسلناه رسولا، إذ يبعد تقرير هذا التقدير مع الكلام الذي قبله، ومع الكلام الذي بعده، وفيه وقوع ما على آحاد من يعقل. وكذلك جعل ما كافة، لأنه لا يذهب إلى ذلك إلا حيث لا يمكن أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر، لولايتها الجمل الإسمية، نحو قول الشاعر:
* لعمرك إنني وأبا حميد
*
كما النشوان والرجل الحليم
*
وقول من قال إن: كما أرسلنا، متعلق بما بعده، قد رده أبو محمد مكي بن أبي طالب، قال: لأن الأمر إذا كان له جواب، لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه، قال:
لو قلت كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك، لم تتعلق الكاف من كما بأكرمني، لأن له جوابا، ولكن تتعلق بشيء آخر، أو بمضمر، وكذلك: فاذكروني أذكركم، هو أمر له جواب، فلا تتعلق كما به، ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين، وهو قولك: إذا أتاك فلان فائته ترضه، فتكون
617

كما وفاذكروني جوابين للأمر، والأول أفصح وأشهر. وتقول: كما أحسنت إليك فأكرمني، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني، إذ لا جواب له. انتهى كلامه. ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها، وهو: * (ولاتم نعمتى عليكم) *، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم، كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولا منكم يتلو. وما ذهب إليه مكي من إبطال أن، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء، لأن الكاف، إما أن تكون للتشبيه، أو للتعليل. فإن كانت للتشبيه، فتكون نعتا لمصدر محذوف، ويجوز تقدم ذلك المصدر على الفعل، مثال ذلك: أكرمني إكراما مثل إكرامي السابق لك أكرمك، فيجوز تقديم هذا المصدر. وإن كانت للتعليل، فيجوز أيضا تقدم ذلك على الفعل، مثال ذلك: أكرمني لا كرامي لك أكرمك، لا نعلم خلافا في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته، كما وفاذكروني جوابين للأمر، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب، ولأن ذلك التشبيه فاسد، لأن المصدر لا يشبه الجواب، وكذلك التعليل. أما المصدر التشبيهي، فهو وصف في الفعل المأمور به، فليس مترتبا على وقوع مطلق الفعل، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف. وعلى هذا لا يشبه الجواب، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل. وأما التعليل، فكذلك أيضا ليس مترتبا على وقوع الفعل، بل الفعل مترتب على وجود العلة، فهو نقيض الجواب، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل، والعلة مترتب عليها وجود الفعل، فلا تشبيه بينهما، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله: فاذكروني، هو الفاء، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيها قبلها، ولولا الفاء لكان التعلق واضحا، وتبعد زيادة الفاء. فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام.
وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الإسلام، بإتمام النعمة السابقة، بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعال بها، وجعل ذلك إتماما للنعمة في الحالين، لأن استقبال الكعبة ثانيا أمر لا يزاد عليه شيء ينسخه، فهي آخر القبلات المتوجه إليها في الصلاة. كما أن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم) هو آخر إرسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذ لا نبي بعده، وهو خاتم النبيين. فشبه إتمام تلك النعمة، التي هي كمال نعمة استقبال القبل، بهذا الإتمام الذي هو كمال إرسال الرسل. وفي إتمام هاتين النعمتين عز للعرب، وشرف واستمالة لقلوبهم، إذ كان الرسول منهم، والقبلة التي يستقبلونها في الصلاة بينهم الذي يحجونه قديما وحديثا ويعظمونه.
* (رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة) *: فيه اعتناء بالعرب، إذ كان الإرسال فيهم، والرسول منهم، وإن كانت رسالته عامة. وكذلك جاء * (هو الذى بعث فى الاميين) *، ويشعر هذا الامتنان بأنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم)، ولذلك أفرده فقال: * (رسولا منهم) *، ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم، وهي كونه منهم، وتاليا عليهم آيات الله، ومزكيا لهم، ومعلما لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون. وقدم كونه منهم، أي يعرفونه شخصا ونسبا ومولدا ومنشأ، لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله. وأتى ثانيا بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى، لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه، الباقية إلى الأبد. وأضاف الآيات إليه تعالى، لأنها كلامه سبحانه وتعالى، ومن تلاوته تستفاد العبادات ومجامع الأخلاق الشريفة، وتنبع العلوم. وأتى ثالثا بصفة التزكية، وهي التطهير من أنجاس الضلال، لأن ذلك ناشىء عن إظهار المعجز لمن أراد الله تعالى توفيقه وقبوله للحق. وأتى رابعا بصفة تعليم الكتاب والحكمة، لأن ذلك ناشىء عن تطهير الإنسان، باتباع النبي صلى الله عليه وسلم)، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب الله تعالى، وما اقتضته الحكمة الإلهية. وأتى بهذه الصفات فعلا مضارعا ليدل بذلك على التجدد، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائما. وأما الصفة الأولى، وهي كونه منهم، فليست بمتجددة، بل هو وصف ثابت له. وقد تقدم الكلام على هذه الأوصاف في قوله: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * بأشبع من هذا، فلينظر هناك.
وختم هذا بقوله: * (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) *، وهو ذكر عام بعد خاص، لأنهم لم يكونوا يعلمون الكتاب ولا الحكمة. وفسر بعضهم
618

ذلك بأن الذي لم يكونوا يعلمون: قصص من سلف، وقصص ما يأتي من الغيوب. وفي هذه الآية قدم التزكية على التعليم، وفي دعاء إبراهيم قدم التعليم على التزكية، وذلك لاختلاف المراد بالتزكية. فالظاهر أن المراد هنا هو التطهير من الكفر، كما شرحناه، وهناك هو الشهادة بأنهم خيار أزكياء، وذلك متأخر عن تعليم الشرائع والعمل بها. * (فاذكرونى أذكركم) *: أي اذكروني بالطاعة، أذكركم بالثواب والمغفرة، قاله ابن جبير، أو بالدعاء والتسبيح ونحوه، قاله الربيع والسدي. وقال عكرمة: يقول الله يا ابن آدم أذكرني بعد صلاة الصبح ساعة، وبعد صلاة العصر ساعة، وأنا أكفيك ما بينهما، أو اثنوا علي، أثن عليكم. وقد جاء هذا المعنى في الحديث الطويل في قوله صلى الله عليه وسلم): (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر). وفيه: ما يقول عبادي؟ قالوا: (يسبحونك ويحمدونك ويمجدونك). وقيل: هو على حذف مضاف، أي اذكروا نعمتي أذكركم بالزيادة. وقد جاء التصريح بالنعمة في قوله: * (اذكروا نعمتي) *. وقيل: الذكر باللسان وبالقلب عند الأوامر والنواهي. وقيل: اذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي. وقيل: بما فرضت عليكم، أو ندبتكم إليه، أذكركم، أي أجازكم على ذلك. وقد تقدم معنى هذا، وهو قول سعيد، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. وقيل: فاذكروني في الرخاء بالطاعة والدعاء، أذكركم في البلاء بالعطية والنعماء، قاله ابن بجر. وقيل: اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال، أو اذكروني بالتوبة أذكركم بالعفو عن الحوبة، أو اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة، أو اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات، أو اذكروني بمحامدي أذكركم بهدايتي، أو اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص، أو اذكروني بالموافقات أذكركم بالكرامات، أو
اذكروني بترك كل حظ أذكركم بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم، أو اذكروني بقطع العلائق أذكركم بنعت الحقائق، أو اذكروني لمن لقيتموه أذكركم لكل من خاطبته، قال: ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، أو اذكروني أذكركم، أحبوني أحبكم، أو اذكروني بالتذلل أذكركم بالتفضل، أو اذكروني بقلوبكم أذكركم بتحقيق مطلوبكم، أو اذكروني على الباب من حيث الخدمة أذكركم على بساط القرب بإكمال النعمة، أو اذكروني بتصفية السرد أذكركم بتوفية البر، أو اذكروني في حال سروركم أذكركم في قبوركم، أو اذكروني وأنتم بوصف السلامة أذكركم يوم القيامة يوم لا تنفع الندامة، أو اذكروني بالرهبة أذكركم بالرغبة. وقال القشيري: فاذكروني أذكركم، الذكر استغراق الذاكر في شهود المذكور، ثم استهلاكه في وجود المذكور حتى لا يبقى منه إلا أثر يذكر، فيقال: قد كان فلان. قال تعالى: * (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) *. وإنما الدنيا حديث حسن فكن حديثا حسنا لمن وعى، قال الشاعر:
* إنما الدنيا محاسنها
*
طيب ما يبقى من الخبر
*
وفي المنتخب ما ملخصه: الذكر يكون باللسان، وهو: الحمد، والتسبيح، والتمجيد، وقراءة كتب الله؛ وبالقلب، وهو: الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف، والأحكام، والأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والفكر في الصفات الإلاهية، والفكر في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم التقديس، فإذا نظر العبد إليها
619

انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال، وبالجوارح، بأن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها، خالية عن الأعمال المنهي عنها. وعلى هذا الوجه، سمى الله الصلاة ذكرا بقوله: * (فاسعوا إلى ذكر الله) *. انتهى. وقالوا: الذكر هو تنبيه القلب للمذكور والتيقظ له، وأطلق على اللسان لدلالته على ذلك. ولما كثر إطلاقه عليه، صار هو السابق إلى الفهم. فالذكر باللسان سري وجهري، والذكر بالقلب دائم ومتحلل، وبهما أيضا دائم ومتحلل. فباللسان ذكر عامة المؤمنين، وهو أدنى مراتب الذكر، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم) (ذكرا). خرج ابن ماجة أن أعرابيا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال: (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله)، وخرج أيضا قال: (يقول الله تعالى أنا مع عبدي إذ هو ذكرني وتحركت بي شفتاه). وسئل أبو عثمان، فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة، فقال: احمدوا الله على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته، وبالقلب هو ذكر العارفين وخواص المؤمنين، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم) ذكرا، ومعناه استقرار الذكر فيه حتى لا يخطر فيه غير المذكور: قال الشاعر:
* سواك ببالي لا يخطر
*
إذا ما نسيتك من أذكر
*
وبهما: هو ذكر خواص المؤمنين، وهذه ثلاث المقامات، أدومها أفضلها. انتهى.
وقد طال بنا الكلام في هذه الجملة، وتركنا أشياء مما ذكره الناس، وهذه التقييدات والتفسيرات التي فسر بها الذكران، لا يدل اللفظ على شيء منها، وينبغي أن يحمل ذلك من المفسرين له على سبيل التمثيل وجواز أن يكون المراد. وأما دلالة اللفظ فهي طلب مطلق الذكر، والذي يتبادر إليه الذهن هو الذكر اللساني. والذكر اللساني لا يكون ذكر لفظ الجلالة مفردا من غير إسناد، بل لا بد من إسناد، وأولاها الأذكار المروية في الآثار، والمشار إليها في القرآن. وقد جاء الترغيب في ذكر جملة منها، والوعد على ذكرها بالثواب الجزيل. وتلك الأذكار تتضمن: الثناء على الله، والحمد له، والمدح لجلاله، والتماس الخير من عنده. فعبر عن ذلك بالذكر، وأمر العبد به، فكأنه قيل: عظموا الله، وأثنوا عليه بالألفاظ الدالة على ذلك. وسمى الثواب المترتب على ذلك ذكرا، فقال: فاذكروني أذكركم على سبيل المقابلة، لما كان نتيجة الذكر وناشئا عنه سماه ذكرا. * (واشكروا لي) * تقدم تفسير الشكر، وعداه هنا باللام، وكذلك * (أن اشكر لى ولوالديك) *، وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدى بحرف جر، وتارة تتعدى بنفسها، كما قال عمرو بن لجاء التميمي:
* هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم
*
فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل
*
وفي إثبات هذا النوع من الفعل، وهو أن يكون يتعدى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر، بحق الوضع فيهما خلاف. وقالوا: إذا قلت: شكرت لزيد، فالتقدير: شكرت لزيد صنيعه، فجعلوه مما يتعدى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه. ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله: واشكروا لي ما أنعمت به عليكم. وقال ابن عطية: واشكروا لي، واشكروني بمعنى واحد، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه: نعمتي وأيادي، وكذلك إذا قلت: شكرتك، فالمعنى:
620

شكرت لك صنيعك وذكرته، فحذف المضاف، إذ معنى الشكر: ذكر اليد وذكر مسديها معا، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف، انتهى كلامه، ويحتاج، كونه يتعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف جر، فتقول: شكرت لزيد صنيعه، لسماع من العرب، وحينئذ يصار إليه.
* (ولا تكفرون) *: وهو من كفر النعمة، وهو على حذف مضاف، أي ولا تكفروا نعمتي. ولو كان من الكفر ضد الإيمان، لكان: ولا تكفروا، أو ولا تكفروا بي. وهذه النون نون الوقاية، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفا لتناسب الفواصل. قيل: المعنى واشكروا لي بالطاعة، ولا تكفرون بالمعصية. وقيل: معنى الشكر هنا: الاعتراف بحق المنعم، والثناء عليه، ولذلك قابله بقوله: * (ولا تكفرون) *. وهنا ثلاث جمل: جملة الأمر بالذكر، وجملة الأمر بالشكر، وجملة النهي عن الكفران. فبدىء أولا بجملة الذكر، لأنه أريد به الثناء والمدح العام والحمد له تعالى، وذكر له جواب مترتب عليه. وثنى بجملة الشكر، لأنه ثناء على شيء خاص، وقد اندرج تحت الأول، فهو بمنزلة التوكيد، فلم يحتج إلى جواب. وختم بجملة النهي، لأنه لما أمر بالشكر، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات. ونهى عن الكفران، لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان، وذلك ممكن لأنه من باب التروك. وقد تقدم لنا الكلام على أنه إذا كان أمر ونهي، بدىء بالأمر. وذكرنا الحكمة في ذلك في قوله: * (وءامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به) *، فأغنى عن إعادته هنا..
* (تكفرون يأيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلواة) *، قيل: سبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا: سيرجع محمد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا. هزهم بهذا النداء المتضمن هذا الوصف الشريف، وهو الإيمان مجعولا فعلا ماضيا في صلة الذين، دالا على الثبوت والالتباس به في تقدم زمانهم، ليكونوا أدعى لقبول ما يرد عليهم من الأمر والتكليف الشاق، لأن الصبر والصلاة هما ركنا الإسلام. فالصبر قصر النفس على المكاره والتكاليف الشاقة، وهو أمر قلبي؛ والصلاة ثمرته، وهي من أشق التكاليف لتكررها. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيرا، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة. وقد قيد بعضهم الصبر هنا: بأنه الصبر على أذى الكفار بالطعن على التحول والصلاة إلى الكعبة، وبعضهم بالصبر على أداء الفرائض. وروي عن ابن عباس وبعضهم قال: هو كناية عن الصوم، ومنه قيل لرمضان: شهر الصبر، وبعضهم قال: هو كناية عن الجهاد لقوله: بعد: * (ولا تقولوا لمن يقتل) *، وهو قول أبي مسلم. والأولى ما قدمناه من عموم اللفظ، فتندرج هذه الأفراد تحته. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له. وقد تقدم الكلام على شرح هذه الجملة من قوله: * (استعينوا بالصبر والصلواة) *.
* (إن الله مع الصابرين) *: أي بالمعونة والتأييد، كما قال: اهجهم، وروح القدس معك. وقال تعالى: * (لا تحزن إن الله معنا) *، ومن كان الله معه فهو الغالب، ولما كانت الصلاة ناشئة عن الصبر، وصار الصبر أصلا لجميع التكاليف الشاقة قال: * (إن الله مع الصابرين) *، فاندرج المصلون تحت الصابرين اندراج الفرع تحت الأصل. وأما قوله هناك: * (وإنها لكبيرة على الخاشعين) *، فأعاد الضمير عليها على ظاهر الكلام، لأنها أشرف وأشق نتائج الصبر..
* (ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) *، قيل: سبب نزول هذه الآية أنه قيل لمن قتل في سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزلت. نهوا عن قولهم عن الشهداء أموات، وأخبر تعالى أنهم أحياء، وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم أموات، بل هم أحياء. ويحتمل أن يكون بل أحياء، مندرجا تحت قول مضمر، أي بل قولوا هم أحياء. لكن يرجح الوجه الأول، وهو أنه إخبار من الله تعالى قوله: * (ولكن لا تشعرون) *، لأن معناه: أن حياتهم لا شعور لكم بها، والظاهر أن المراد حقيقة الموت والحياة. وقيل: ذلك مجاز. واختلفوا فقيل: أموات بانقطاع الذكر، بل أحياء ببقائه وثبوت الأجر. وكانت العرب
621

تسمي من لا يبقى له ذكر بعد موته كالولد، وغيره ميتا. وقيل: أموات بالضلال، بل أحياء بالطاعة والهدى، كما قال: * (أو من كان ميتا فأحييناه) *. وإذا حمل الموت والحياة على الحقيقة فاختلفوا، فقال قوم: معناه النهي عن قول الجاهلية أنهم لا يبعثون، فالمعنى: أنهم سيحيون بالبعث، فيثابون ثواب الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله. وأكثر أهل العلم على أنهم أحياء في الوقت. ومعنى هذه الحياة: بقاء أرواحهم دون أجسادهم، إذ أجسادهم نشاهد فسادها وفنائها. واستدلوا على بقاء الأرواح بعذاب القبر، وبقوله: * (ولكن لا تشعرون) * معناه: لا تشعرون بكيفية حياتهم. ولو كان المعنى بإحياء أنهم سيحيون يوم القيامة، أو أنهم على هدى ونور، لم يظهر لنفي الشعور معنى، إذ هو خطاب للمؤمنين، وهم قد علموا بالبعث، وبأنهم كانوا على هدى. فلا يقال فيه: ولكن لا تشعرون، لأنهم قد شعروا به وبقوله: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) *.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن الشهيد حي الجسد والروح، ولا يقدح في ذلك عدم الشعور به من الحي غيره. فنحن نراهم على صفة الأموات وهم أحياء، كما قال تعالى: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى * وينشىء السحاب) *، وكما ترى النائم على هيئته، وهو يرى في منامه ما ينعم به أو يتألم به. ونقل السهيلي في كتاب (دلائل النبوة) من تأليفه، حكاية عن بعض الصحابة، أنه حفر في مكان، فانفتحت طاقة، فإذا شخص جالس على سرير وبين يديه مصحف يقرأ فيه وأمامة روضة خضراء، وذلك بأحد، وعلم أنه من الشهداء، لأنه رأى في صفحة وجهه جرحا. وإذا ثبت أن الشهداء أحياء، إما أرواحهم، وإما أجسادهم وأرواحهم، فاختلف في مستقرها. فقيل: قبورهم يرزقون فيها. وقيل: في قباب بيض في الجنة يرزقون فيها، قاله أبو بشار السلمي. وقيل: في طير بيض تأكل من ثمار الجنة ومساكنهم سدرة المنتهى، قاله قتادة. وقيل: يأكلون من ثمر الجنة ويجدون ريحها، وليسوا فيها، قاله مجاهد. وروي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء). وروي: في روضة خضراء يجري عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا. وروي عنه صلى الله عليه وسلم): (أن
أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة، وأنهم في قناديل من ذهب، وأنهم في قبة خضراء). وإذا صح ذلك، فهي أحوال لطوائف من الشهداء، أو في أوقات مختلفة. والجمهور: على أنهم في الجنة، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم) لأم حارثة: (إنهم في الفردوس). ومذهب أهل السنة: أن الأرواح لا تفنى، وأنها باقية بعد خروجها من البدن. فأرواح أهل السعادة منعمة إلى يوم الدين، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدين.
والفرق بين الشهيد وغيره من المؤمنين إنما هو الرزق، فضلهم الله بذلك، وقال تعالى في حق الكفار: * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) *. وقال الحسن: الشهداء أحياء عند الله، تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على آل فرعون غدوة وعشيا، فيصل إليهم الوجع. وقالوا: يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم، وإن كانت في حجم الذرة. ولم تتعرض الآية الكريمة لرزق أرواح الشهداء ولا لمستقرها، وإنما جرى ذكر ذلك على سبيل الاستطراد، اتباعا للمفسرين، حيث تكلموا في ذلك في هذه الآية، وإلا فمظنة الكلام على ذلك في قوله: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) *، حيث ذكر العندية والرزق، وظاهر قوله: * (لمن يقتل فى سبيل الله) *، العموم. وقيل: نزلت في شهداء بدر، كانوا أربعة عشر، ولا يخصص هذا العموم بهذا السبب، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي هذه الآية تسلية لأقرباء الشهداء وإخوانهم من المؤمنين بذكر أنهم أحياء، فهم مغبوطون لا محزونون عليهم.
* (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات) *: تقدم أن الابتلاء: هو الاختبار، ليعلم ما يكون من حال
622

المختبر، وهذا مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى، وإنما معناه هنا: الإجابة، والضمير الذي للخطاب. قيل: هو للصحابة فقط، قاله عطاء. خاطبهم بذلك بعد الهجرة، وأخبرهم بذلك قبل وقوعه تطمينا لقلوبهم، لأنه إذا تقدم العلم بالواقع، كان قد استعد له، بخلاف الأشياء التي تفاجىء، فإنها أصعب على النفس، وزيادة ثواب وأجر على ما يحصل لهم من انتظار المصيبة، وإخبارا بمغيب يقع وفق ما أخبر، وتمييزا لمن أسلم مريدا وجه الله ممن نافق، وازدياد إخلاص في حال البلاء على إخلاصه في حال العافية، وحملا لمن لم يسلم على النظر في دلائل الإسلام، إذ رأى هؤلاء المبتلين صابرين على دينهم ثابتي الجأش فيه، ما ابتلوا به. وقيل: هؤلاء أهل مكة، خاطبهم بذلك إعلاما أنه أجاب دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم) فيهم، وليبقوا يتوقعون المصيبة، فتضاعف عليهم المصيبات. وقيل: هو خطاب للأمة، ويكون آخر الزمان، قال كعب: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة، يكون هذا الإخبار تحذيرا وموعظة على الركون إلى الدنيا وزهرتها، ويكون إخبارا بالمغيبات. وقيل: الخطاب لا يراد به معين، بل هو عام، لا يتقيد بزمان ولا بمخاطب خاص، فكأنه قيل: ولنصيبن بكذا، فيكون في ذلك تحذير، وأنه للصحابة وغيرهم.
وهذه الآية لها تعلق بقوله: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) * الآية، وقبلها: * (واشكروا لي) *، والشكر يوجب زيادة النعم، والابتلاء بما ذكر ينافيه ظاهرا، وتوجيه أن إتمام الشرائع إتمام للنعمة ولذلك يوجب الشكر والقيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المشاق، فأمر فيها بالصبر، وأنه أنعم عليه أولا فشكر، وابتلي ثانيا فصبر، لينال درجتي الشكر والصبر، فيكمل إيمانه. كما روي عنه عليه السلام: (الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر). بشيء: متعلق بقوله: * (ولنبلونكم) *، والباء فيه للإلصاق، وأفرده ليدل على التقليل، إذ لو جمعه فقال: بأشياء، لاحتمل أن تكون ضروبا من كل واحد مما بعده. وقد قرأ الضحاك: بأشياء، فلا يكون حذف فيما بعدها، فيكون من في موضع الصفة، بخلاف قراءة الجمهور: بشيء، فلا بد من تقدير حذف أي شء من الخوف، وشئ من الجوع، وشئ من نقص. والمعنى في هذه القراءة: ولنبلونكم بطرف من كذا وكذا. والخوف: خوف العدو، قاله ابن عباس، وقد حصل الخوف الشديد في وقعة الأحزاب. وقال الشافعي: هو خوف الله تعالى. والجوع: القحط، قاله ابن عباس، عبر بالمسبب عن السبب. وقيل: الجوع: الفقر، عبر بالمسبب عن السبب أيضا. وقال الشافعي: هو صيام شهر رمضان. ونقص من الأموال: بالخسران والهلاك. وقال الشافعي: بالصدقات. والأنفس: بالقتل والموت. وقال الشافعي: بالأمراض، وقيل: بالشيب. والثمرات: يعني الجوائح في الثمرات، وقلة النبات، وانقطاع البركات. وقال القفال: قد يكون نقصها بالجدوب، وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد، وقد يكون بالإنفاق على من يرد من الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: بظهور العدو عليهم. وقال الشافعي: والثمرات: موت الأولاد، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه. وفي حديث أبي موسى، أن الله يقول للملائكة إذا مات ولد العبد: أقبضتم ثمرة فؤاده؟.
وقال بعض العلماء: المراد في هذه الآية: مؤن الجهاد وكلفه، فالخوف من العدو، والجوع به وبالأسفار إليه، ونقص الأموال بالنفقات فيه، والأنفس بالقتل، والثمرات بإصابة العدو لها، أو الغفلة عنها بسبب الجهاد. انتهى كلامه. وعطف ونقص على قوله: بشيء، أي: ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص، ويحسن العطف تنكيرها، على أنه يحتمل أن يكون معطوفا على الخوف والجوع فيكون تقديره: وشئ من نقص. ومن الأموال: متعلق بنقص، لأنه مصدر نقص، وهو يتعدى إلى واحد، وقد حذف، أي: ونقص شيء. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص. وتكون من لابتداء الغاية. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف، أي ونقص شيء من الأموال، وتكون من إذ ذاك للتبعيض. وقالوا: يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة، أي ونقص الأموال
623

والأنفس والثمرات. وأتى بالجملة الخبرية مقسما عليها، تأكيدا لوقوع الابتلاء، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه. وأن هذه المحن من الله تعالى، ووعده بها المؤمنين يدل على أنها ليست عقوبات، بل إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين. وجاء هذا الترتيب في العطف على سبيل الترقي: فأخبر أولا بالابتلاء بشيء من الخوف، وهو توقع ما يرد من المكروه. ثم انتقل منه إلى الابتلاء بشيء من الجوع، وهو أشد من الخوف بأي تفسير فسر به من القحط، أو الفقر، أو الحاجة إلى الأكل، إلا على تفسير الشافعي، وهو صوم رمضان. ولا ترقي بين نقص وشئ، على ما اختاره من عطف نقص على بشيء، بل الترقي في العطف بعدو نقص، فبدأ أولا بالأموال، ثم ترقي إلى الأنفس. وأما والثمرات، فجاء كالتخصيص بعد التعميم، لأنها تندرج تحت الأموال، فلا ترقي فيها.
* (وبشر الصابرين) *: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، أو لكل من تتأتى منه البشارة، أي على الجهاد بالنصر، أو على الطاعة بالجزاء، أو على المصائب بالثواب، أقوال: والأحسن عدم التقييد، أي كل من صبر صبرا محمودا شرعا، فهو مندرج في الصابرين. قالوا: والصبر من خواص الإنسان، لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة، وهو بدني. وهو: إما فعلي، كتعاطي الأعمال الشاقة، وإما احتمال، كالصبر على الضرب الشديد، ونفسي، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع. فإن كان من شهوة الفرج والبطن، سمي عفة. وإن كان من احتمال مكروه، اختلفت أسامية باختلاف المكروه. ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر، ويضاده الجزع. وإن كان في الغنى، سمي ضبط النفس، ويضاده البطر. وإن كان في حرب، سمي شجاعة، ويضاده الجبن. وإن كان في نائبة مضجرة، سمي سعة صدر، ويضاده الضجر. وإن كان في إخفاء كلام، سمي كتمانا، وضاده الإعلان. وإن كان في فضول الدنيا، سمي زهدا، ويضاده الحرص. وإن كان على يسير من المال، سمي قناعة، ويضاده الشره. وقد جمع الله أقسام ذلك وسمى جميعها صبرا، فقال: * (والصابرين فى البأساء) *، أي المصيبة والضراء، أي الفقر وحين البأس، أي المحاربة. قال القفال: ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه، ولا أن لا يكره ذلك، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع، وإن ظهر دمع عين، أو تغير لون، ولو ظهر منه أول ما لا يعد معه صابرا ثم صبر، لم يعد ذلك إلا سلوانا.
* (الذين إذا أصابتهم مصيبة) *: يجوز في الذين أن يكون منصوبا على النعت للصابرين، وهو ظاهر الإعراب، أو منصوبا على المدح، فيكون مقطوعا، أو مرفوعا على إضمارهم على وجهين: إما على القطع، وإما على الاستئناف، كأنه جواب لسؤال مقدر، أي: من الصابرون؟ قيل: هم الذين الذين إذا. وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ، وأولئك عليهم خبره، وهو محتمل. مصيبة: اسم فاعل من أصابت، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه، وصارت كناية عن الداهية، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل. وأصابتهم مصيبة: من التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسما والأخرى فعلا، ومنه: * (أزفت الازفة * إذا وقعت الواقعة) *. والمصيبة: كل ما أذى المؤمن في نفس أو مال أو أهل، صغرت أو كبرت، حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يسمى: مصيبة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم)، أنه استرجع عند انطفاء مصباحه. والمعنى في إذا هنا: على التكرار والعموم. وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في إذا، أتدل على التكرار، أم وضعت للمرة الواحدة؟ قولان للنحويين.
* (قالوا إنا لله) *: قالوا: جواب إذا، والشرط وجوابه صلة للذين. وإنا: أصله إننا، لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل، فحذفت نون من إن. وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية، لأنها ظرف، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت، فقالوا: إن زيد لقائم، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال، فلذلك عملت، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة، لانفصل الضمير وارتفع ولم تعمل، لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير. ولله: معناه الإقرار بالملك والعبودية لله، فهو المتصرف فينا بما يريد من الأمور.
* (وإنا إليه راجعون) *: إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أعظم المصائب، وتذكير أن ما أصاب الإنسان دونها فهو قريب ينبغي أن يصير له. وللمفسرين في هاتين الجملتين المقولتين أقوال:
624

أحدهما: أن نفوسنا وأموالنا وأهلينا لله لا يظلمنا فيما يصنعه بنا. الثاني: أسلمنا الأمر لله ورضينا بقضائه، * (وإنا إليه راجعون) * يعني: للبعث لثواب المحسن ومعاقبة المسئ. الثالث: راجعون إليه في جبر المصاب وإجزال الثواب. الرابع: أن معناه إقرار بالمملكة في قوله: * (إنا لله) *، وإقرار بالهلكة في قوله: * (وإنا إليه راجعون) *.
وفي المنتخب ما ملخصه: إن إسناد الإصابة إلى المصيبة، لا إلى الله تعالى، ليعم ما كان من الله، وما كان من غيره. فما كان من الله فهو داخل تحت قوله: * (إنا لله) *، لأن في الإقرار بالعبودية تفويضا للأمور إليه، وما كان من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف منه، ولا يتعدى، كأنه في الأول * (إنا لله) *، يدبر كيف يشاء، وفي الثاني: * (أنا * إليه) *، ينصف لنا كيف يشاء. وقيل: * (إنا لله) *، دليل على الرضا بما نزل به في الحال، * (وإنا إليه راجعون) *، دليل على الرضا في الحال بكل ما سينزل به بعد ذلك. واشتملت الآية على فرض ونفل. فالفرض: التسليم لأمر الله، والرضا بقدره، والصبر على أداء فرائضه. والنفل: إظهارا لقول * (إنا لله وإنا إليه راجعون) *، وفي إظهاره فوائد منها: غيظ الكفار لعلمهم بجده في طاعة الله.
* (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) *، أولئك مبتدأ، وصلوات: ارتفاعها على الفاعل بالجار والمجرور، أي: أولئك مستقرة عليهم صلوات، فيكون قد أخبر عن المبتدأ بالمفرد، وهذا أولى من جعل صلوات مبتدأ، والجار والمجرور في موضع خبره. والجملة في موضع خبر المبتدأ الأول، لأنه يكون إخبارا عن المبتدأ بالجملة. والصلاة: من الله المغفرة، قاله ابن عباس؛ أو الثناء، قاله ابن كيسان، أو الغفران والثناء الحسن، قاله الزجاج. والرحمة: قيل هي الصلوات، كررت تأكيدا لما اختلف اللفظ، كقوله * (رأفة ورحمة) *. وقيل: الرحمة: كشف الكربة وقضاء الحاجة. وقال عمر: نعم العدلان ونعم العلاوة، وتلا: * (الذين إذا أصابتهم) * الآية، يعني بالعدلين: الصلوات والرحمة، وبالعلاوة: الاهتداء. وفي قوله: أولئك، اسم الإشارة الموضوع للبعد دلالة على بعد هذه الرتبة، كما جاء: * (أولائك على هدى من ربهم) *. والكناية عن حصول الغفران والثناء بقوله: * (عليهم صلوات) * بحرف على، إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك، قد غشيتهم وتجللتهم، وهو أبلغ من قوله لهم. وجمع صلوات، ليدل على أن ذلك ليس مطلق صلاة، بل صلاة بعد صلاة، ونكرت لأنه لا يراد العموم. ووصفها بكونها من ربهم، ليدل بمن على ابتدائها من الله، أي تنشأ تلك الصلوات وتبتدىء من الله تعالى. ويحتمل أن تكون من تبعيضية، فيكون ثم حذف مضاف، أي صلوات من صلوات ربهم. وأتى بلفظ الرب، لما فيه من دلالة التربية والنظر للعبد فيما يصلحه ويربه به. وإن كان أريد بالرحمة الصلوات، فلا يحتاج إلى تقييد بصفة محذوفة، لأنها قد تقيدت.
وإن كان أريد بها ما يغاير الصلوات، فيقدر: ورحمة منه، فيكون قد حذفت الصفة لما تقدم. ويحتمل أن يكون: * (من ربهم) *، متعلقا بقوله: * (عليهم) *، فلا يكون صفة، بل يكون معمولا للرافع لصلوات، وترتب على مقام الصبر. ومقال هذه الكلمات الدالة على التفويض لله تعالى، هذا الجزاء الجزيل والثناء الجميل.
وقد جاء في السنة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه). وفي حديث آخر: (من تذكر مصيبته، فأحدث استرجاعا، وإن تقادم عهدها، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب). وحديث أم سلمة مشهور، حيث أخلفها الله عن أبي سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال ابن جبير: ما أعطى أحد في المصيبة ما أعطيت هذه الأمة، ولو أعطيها أحد قبلها لأعطيها يعقوب. ألا ترى كيف قال حين فقد يوسف؟ * (فلما دخلوا على يوسف) *.
* (وأولئك هم المهتدون) *: إخبار من الله عنهم بالهداية، ومن أخبر الله عنه بالهداية فلن يضل أبدا. وهذه جملة ثابتة تدل على الاعتناء بأمر المخبر عنه، إذ كل وصف له يبرز في جملة مستقلة. وبدىء بالجملة
625

الأولى لأنها أهم في حصول الثواب المترتب على الوصف الذي قبله، وأخرت هذه لأنها تنزلت مما قبلها منزلة العلة، لأن ذلك القول المترتب عليه ذلك الجزاء الجزيل لا يصدر إلا عمن سبقت هدايته. وأكد بقوله: هم. وبالألف واللام، كأن الهداية انحصرت فيهم وباسم الفاعل، ليدل على الثبوت، لأن الهداية ليست من الأفع الالمتجددة وقتا بعد وقت فيخبر عنها بالفعل، بل هي وصف ثابت. وقيل: المهتدون في استحقاق الثواب وإجزال الأجر. وقيل: إلى تسهيل المصاب وتخفيف الحزن. وقيل: إلى الاسترجاع. وقيل: إلى الحق والصواب، وهذه التقييدات لا دلالة عليها في اللفظ، فالأولى الحمل على الهداية التي هي الإيمان، ونظير هاتين الجملتين قوله * (أولائك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون) *. والكلام في إعراب: هم المهتدون، كالكلام على: المفلحون، وقد تقدم.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة مزيد التوكيد في الأمر بتولية وجهه من حيث خرج صلى الله عليه وسلم) شطر المسجد، وبتوليتهم وجوههم شطره للاعتناء بأمر نسخ القبلة، حيث كان النسخ صعبا على النفوس، حيث ألفوا أمرا، وأمروا بتركه والانتقال إلى غيره، وخصوصا عند من لا يرى النسخ. فلذلك كرروا أنه تعالى أمر بذلك وفعله لانتفاء حجج الناس، لأن ذلك، إذا كان بأمر منه تعالى، لم تبق لأحد حجة على ممتثل أمر الله، لأن أمر الله ثانيا، كأمره أولا. وهو قد أمر أولا باستقبال بيت المقدس، وأمر آخرا باستقبال الكعبة. فلا فرق بين الأمرين، ولا حجة لمن خالف. واستثنى من الناس من ظلم، لأنه لا تنقطع حججه، وإن كانت باطلة، ولا تشغيباته وتمويهاته، لأنه قام به وصف يمنعه من إدراك الحق والبلج به، ثم أمرهم تعالى بخشيته، ونهاهم عن خشية الناس، لأنهم إذا خشوا الله تعالى امتثلوا أوامره واجتنبوا مناهيه. وعطف على تلك العلة علة أخرى، وهي إتمام النعمة باستقبال الكعبة إذ في ذلك اتباع أبيكم إبراهيم، والرجوع إلى المألوف، ولتحصيل الهداية. وشبه هذا الإتمام بإتمام نعمة إرسال الرسول منهم فيهم، إذ هذه النعمة هي الأصل، وهي منبع النعم والهداية، ثم وصف المرسل إليهم بتلك الأوصاف الجليلة التي رزقوا منها الحظ الأكمل، وهي تلاوة الكتاب عليهم: * (أو لم * يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) *؟ فكيف بمزيد التزكية والتعليم اللذين بهما تحصل الطهارة من الأرجاس والحياة السرمدية في الناس؟
* أخو العلم حي خالد بعد موته
*
وأوصاله تحت التراب رميم
*
وقال آخر:
* محل العلم لا يأوي ترابا
*
ولا يبلى على الزمن القديم
*
ثم أمرهم تعالى بالذكر لهذه النعم لئلا ينسوها، وبالشكر عليها لأن يزيدهم من النعم. ثم نهاهم عن كفرانها، لأن كفران النعم يقتضي زوالها واستحقاق العذاب الشديد عليه. ثم نادى من اتصف بالإيمان، وهو ثاني نداء للمؤمنين في هذه السورة، ليقبلوا على ما يأمرهم به. فأمرهم بالاستعانة بالصبر والصلاة، لأن الاستعانة بهما تحصل سعادة الدنيا والآخرة. ثم أخبر تعالى أنه مع من صبر ثم نهاهم عن أن يقولوا للشهداء إنهم أموات، وأخبر أنهم أحياء، فوجب تصديق ما أخبر به، وذكر أنا لا نشعر نحن بحياتهم. ثم أخبر تعالى أنه يبتليهم بما يظهر منهم فيه الصبر، وهو شيء من البلايا التي ذكرها تعالى. ثم أمر نبيه أن يبشر الصابرين على ما ابتلوا به المسلمين لقضاء الله اعتقادا وقولا صريحا أنهم عبيد الله ومماليكه، وإليه مآبهم ومرجعهم، يتصرف فيهم كما أراد. ثم ختم ذلك بأن من اتصف بهذا الوصف، فعليه من الله الصلاة والرحمة، وهو المهتدي الذي ثبتت هدايته ورسخت.
626

2 (* (إن الصفا والمروة من شعآئر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم * إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولائك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولائك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم * إن الذين
كفروا وماتوا وهم كفار أولائك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون * وإلاهكم إلاه واحد لا إلاه إلا هو الرحمان الرحيم * إن في خلق السماوات والا رض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس ومآ أنزل الله من السمآء من مآء فأحيا به الا رض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السمآء والأرض لآيات لقوم يعقلون * ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الا سباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) *)) 2
الصفا: ألفه منقلبة عن واو لقولهم: صفوان، ولاشتقاقه من الصفو، وهو الخالص. وقيل: هو اسم جنس بينه وبين مفرد تاءه التأنيث، ومفرده صفاة. وقيل: هو اسم مفرد يجمع على فعول وأفعال، قالوا: صفي وأصفاء. مثل: قفي وأقفاء. وتضم الصاد في فعول وتكسر، كعصي، وهو الحجر الأملس. وقيل: الحجر الذي لا يخالطه غيره من طين، أو تراب يتصل به، وهو الذي يدل عليه الاشتقاق. وقيل: هو الصخرة العظيمة. المروة: واحدة المرو، وهو اسم جنس، قال:
* فترى المرو إذا ما هجرت
*
عن يديها كالفراش المشفتر
*
وقالوا: مروات في جمع مروة، وهو القياس في جمع تصحيح مروة، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقيل: الحجارة الصلبة. وقيل: الصغار المرهفة الأطراف. وقيل: الحجارة السود. وقيل: البيض. وقيل: البيض الصلبة. والصفا والمروة في الآية: علمان لجبلين معروفين، والألف واللام لزمتا فيهما للغلبة، كهما في البيت
627

للكعبة، والنجم: للثريا، الشعائر: جمع شعيرة أو شعارة. قال الهروي: سمعت الأزهري يقول: هي العلائم التي ندب الله إليها، وأمر بالقيام بها. وقال الزجاج: كل ما كان م موقف ومشهد ومسعى ومذبح. وقد تقدمت لنا هذه المادة، أعني مادة شعر، أي أدرك وعلم. وتقول العرب: بيتنا شعار: أي علامة، ومنه إشعار الهدي. الحج: القصد مرة بعد أخرى. قال الراجز:
* لراهب يحج بيت المقدس
*
في منقل وبرجد وبرنس
*
والاعتمار: الزيارة. وقيل: القصد، ثم صار الحج والعمرة علمين لقصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين، وهما في المعاني: كالبيت والنجم في الأعيان. وقد تقدمت هاتان المادتان في يحاجوكم وفي يعمر. الجناح: الميل إلى المأثم، ثم أطلق على الإثم. يقال: جنح إلى كذا جنوحا: مال، ومنه جنح الليل: ميله بظلمته، وجناح الطائر. تطوع: تفعل من الطوع، وهو الانقياد. الليل: قيل هو اسم جنس، مثل: تمرة وتمر، والصحيح أنه مفرد، ولا يحفظ جمعا لليل، وأخطأ من ظن أن الليالي جمع الليل، بل الليالي جمع ليلة، وهو جمع غريب، ونظيره: كيكه والكياكي، والكيكة: البيضة، كأنهم توهموا أنهما ليلاه وكيكاه، ويدل على هذا التوهم قولهم في تصغير ليلة: لييلية، وقد صرحوا بليلاه في الشعر، قال الشاعر:
في كل يوم وبكل ليلاة
على أنه يحتمل أن تكون هذه الألف إشباعا نحو:
أعوذ بالله من العقراب
وقال ابن فارس: بعض الطير يسمى ليلا، ويقال: إنه ولد الحبارى. وأما النهار: فجمعه نهر وأنهرة، كقذل وأقذلة، وهما جمعان مقيسان فيه. وقيل: النهار مفرد لا يجمع لأنه بمنزلة المصدر، كقولك: الضياء يقع على القليل والكثير، وليس بصحيح. قال الشاعر:
628

* لولا الثريدان هلكنا بالضمر
*
ثريد ليل وثريد بالنهر
*
ويقال: رجل نهر، إذا كان يعمل في النهار، وفيه معنى النسب. قالوا: والنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم) لعدي: (إنما هو بياض النهار وسواد الليل)، يعني في قوله تعالى: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر) *. وظاهر اللغة أنه من وقت الأسفار. وقال النضر بن شميل: ويغلب أول النهار طلوع الشمس. زاد النضر: ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وقال الزجاج، في (كتب الأنواء): أول
النهار ذرور الشمس، واستدل بقول أمية بن أبي الصلت:
* والشمس تطلع كل آخر ليلة
*
حمراء يصبح لونها يتورد
*
وقال عدي بن زيد:
* وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به
*
بين النهار وبين الليل قد فصلا
*
والمصر: القطع. وأنشد الكسائي:
* إذا طبعت شمس النهار فإنها
*
أمارة تسليمي عليك فودعي
*
وقال ابن الأنباري: من طلوع الشمس إلى غروبها نهار، ومن الفجر إلى طلوعها مشترك بين الليل والنهار. وقد تقدمت مادة نهر في قوله: * (تجرى من تحتها الانهار) *. الفلك: السفن، ويكون مفردا وجمعا. وزعموا أن حركاته في الجمع ليست حركاته في المفرد، وإذا استعمل مفرد ثني، قالوا: فلكان. وقيل: إذا أريد به الجمع، فهو اسم جمع، والذي نذهب إليه أنه لفظ مشترك بين المفرد والجمع، وأن حركاته في الجمع حركاته في المفرد، ولا تقدر بغيرها. وإذا كان مفردا فهو مذكر، كما قال: * (فى الفلك المشحون) *. وقالوا: ويؤنث تأنيث المفرد، قال: * (والفلك التى تجرى) *، ولا حجة في هذا، إذ يكون هنا استعمل جمعا، فهو من تأنيث الجمع، والجمع بوصف بالتي، كما توصف به المؤنثة. وقيل: واحد الفلك، فلك، كأسد وأسد، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء الذي تدور فيه النجوم، وفلكة المغزل، وفلكة الجارية: استدرار نهدها. بث: نشر وفرق وأظهر. قال الشاعر:
وفي الأرض مبثوثا شجاع وعقرب
ومضارعه: يبث، على القياس في كل ثلاثي مضعف متعد أنه يفعل إلا ما شذ. الدابة: اسم لكل حيوان، ورد قول من أخرج منه الطير بقول علقمة:
* كأنهم صابت عليهم سحابة
*
صواعقها لطيرهن دبيب
*
ويقول الأعشى:
دبيب قطا البطحاء في كل منهل
629

وفعله: دب يدب، وهذا قياسه لأنه لازم، وسمع فيه يدب بضم عين الكلمة، والهاء في الدابة للتأنيث، إما على معنى نفس دابة، وإما للمبالغة، لكثرة وقوع هذا الفعل، وتطلق على الذكر والأنثى. التصريف: مصدر صرف، ومعناه: راجع للصرف، وهو الرد. صرفت زيدا عن كذا: رددته. الرياح: جمع ريح، جمع تكسير، وياؤه واو لأنها من راح يروح، وقلبت ياء لكسرة ما قبلها، وحين زال موجب القلب، وهو الكسر، ظهرت الواو، وقالوا: أرواح، كجمع الروح. قال الشاعر:
* أريت بها الأرواح كل عشية
*
فلم يبق إلا آل نؤي منضد
*
قال ابن عطية: وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، فاستعمل الأرياح في شعره، ولحن في ذلك. وقال أبو حاتم: إن الأرياح لا يجوز، فقال له عمارة: ألا تسمع قولهم: رياح؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك، فقال له: صدقت ورجع. انتهى. وفي محفوظي قديما أن الأرياح جاءت في شعر بعض فصحاء العرب الذين يستشهد بكلامهم، كأنهم بنوه على المفرد، وإن كانت علة القلب مفقودة في الجمع، كما قالوا: عيد وأعياد، وإنما ذلك من العود، لكنه لما لزم البدل جعله
كالحرف الأصلي. والسحاب: اسم جنس، المفرد سحابة، سمي بذلك لأنه ينسحب، كما يقال له: حبي، لأنه يحبو، قاله أبو علي. التسخير: هو التذليل وجعل الشيء داخلا تحت الطوع. قال الراغب: التسخير: القهر على الفعل، وهو أبلغ من الإكراه. الحب: مصدر حب يحب، وقياس مضارعه يحب بالضم، لأنه من المضاعف المتعدي، وقياس المصدر الحب بفتح الحاء، ويقال: أحب، بمعنى: حب، وهو أكثر منه، ومحبوب أكثر من محب، ومحب أكثر من حاب، وقد جاء جمع الحب لاختلاف أنواعه، قال الشاعر:
* ثلاثة أحباب فحب علاقة
*
وحب تملاق وحب هو القتل
*
والحب: إناء يجعل فيه الماء. الجميع: فعيل من الجمع، وكأنه اسم جمع، فلذلك يتبع تارة بالمفرد: * (نحن جميع منتصر) *، وتارة بالجمع: * (جميع لدينا محضرون) *، وينتصب حالا: جاء زيد وعمرو جميعا، ويؤكد به بمعنى كلهم: جاء القوم جميعهم، أي كلهم، ولا يدل على الاجتماع في الزمان، إنما يدل على الشموال في نسبة الفعل. تبرأ: تفعل، من قولهم: برئت من الدين. براءة: وهو الخلوص والانفصال والبعد. تقطع: تفعل من القطع، وهو معروف. الأسباب: جمع سبب، وهو الوصلة إلى الموضع، والحاجة من باب، أو مودة، أو غير ذلك. قيل: وقد تطلق الأسباب على الحوادث، قال الشاعر:
* ومن هاب أسباب المنية يلقها
*
ولو رام أسباب السماء بسلم
*
وأصل السبب: الحبل، وقيل: الذي يصعد به، وقيل: الرابط الموصل. الكرة: العودة إلى الحالة التي كان فيها، والفعل كريكر كرا، قال الشاعر:
630

* أكر على الكتيبة لا أبالي
*
أحتفي كان فيها أم سواها
*
الحسرة: شدة الندم، وهو تألم القلب بانحساره عن مأموله..
* (إن الصفا والمروة من شعائر الله) *، سبب النزول: أن الأنصار كانوا يحجون لمناة، وكانت مناة خزفا وحديدا، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا، فأنزلت. وخرج هذا السبب في الصحيحين وغيرهما. وقد ذكر في التحرج عن الطواف بينهما أقوال. مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله تعالى لما أثنى على الصابرين، وكان الحج من الأعمال الشاقة المفنية للمال والبدن وكان أحد أركان الإسلام، ناسب ذكره بعد ذلك. والصفا والمروة، كما ذكرنا، قيل: علمان لهذين الجبلين، والأعلام لا يلحظ فيها تذكير اللفظ ولا تأنيثه. ألا ترى إلى قولهم: طلحة وهند؟ وقد نقلوا أن قوما قالوا: ذكر الصفا، لأن آدم وقف عليه، وأنثت المروة، لأن حواء وقفت عليها. وقال الشعبي: كان على الصفا صنم يدعى إسافا، وعلى المروة صنم يدعى نائلة، فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث، وقدم المذكر. نقل القولين ابن عطية: ولولا أن ذلك دون في كتاب ما ذكرته. ولبعض الصوفية وبعض أهل البيت كلام منقول عنهم في الصفا والمروة، رغبنا عن ذكره. وليس الجبلان لذاتهما من شعائر الله، بل ذلك على حذف مضاف، أي إن طواف الصفا والمروة، ومعنى من شعائر الله: معالمه. وإذا قلنا: معنى من شعائر الله من مواضع عبادته، فلا يحتاج إلى حذف مضاف في الأول، بل يكون ذلك في الجر. ولما كان الطواف بينهما ليس عبادة مستقلة، إنما يكون عبادة إذا كان بعض حج أو عمرة. بين تعالى ذلك بقوله: * (فمن حج البيت أو اعتمر) *، ومن شرطية. * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) *، قرأ الجمهور: أن يطوف. وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر: أن لا، وكذلك هي في مصحف أبي وعبد الله، وخرج ذلك على زيادة لا، نحو: * (ما منعك أن * لا تسجدوا) *؟ وقوله:
* وما ألوم البيض أن لا تسخرا
*
إذا رأين الشمط القفندرا
*
فتتحد معنى القراءتين، ولا يلزم ذلك، لأن رفع الجناح في فعل الشيء هو رفع في تركه، إذ هو تخيير بين الفعل والترك، نحو قوله تعالى: * (فلا جناح عليهما أن يتراجعا) *. فعلى هذا تكون لا على بابها للنفي، وتكون قراءة الجمهور فيها رفع الجناح في فعل الطواف نصا، وفي هذه رفع الجناح في الترك نصا، وكلتا القراءتين تدل على التخيير بين الفعل والترك، فليس الطواف بهما واجبا، وهو مروي عن ابن عباس، وأنس، وابن الزبير، وعطاء، ومجاهد، وأحمد بن حنبل، فيما نقل عنه
أبو طالب، وأنه لا شيء على من تركه، عمدا كان أو سهوا، ولا ينبغي أن يتركه. ومن ذهب إلى أنه ركن، كالشافعي وأحمد ومالك، في مشهور مذهبه، أو واجب يجبر بالدم، كالثوري وأبي حنيفة، أو إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، أو ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين، كأبي حنيفة في بعض الروايات، يحتاج إلى نص جلي ينسخ هذا النص القرآني. وقول عائشة لعروة حين قال لها: أرأيت قول الله: * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) *، فما نرى على أحد شيئا؟ فقالت: يا عرية، كلا، لو كان كذلك لقال: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. كلام لا يخرج اللفظ عما دل عليه من رفع الإثم عمن طاف بهما، ولا يدل ذلك على وجوب الطواف، لأن مدلول اللفظ إباحة الفعل، وإذا كان مباحا كنت مخيرا بين فعله وتركه. وظاهر هذا الطواف أن يكون بالصفا والمروة، فمن سعى بينهما من غير صعود عليهما، لم يعد طائفا. ودلت الآية على مطلق الطواف، لا على كيفية، ولا عدد. واتفق علماء الأمصار على أن الرمل في السعي سنة. وروى عطاء، عن ابن عباس: من شاء سعى بمسيل مكة، ومن شاء لم يسع، وإنما يعني الرمل في بطن الوادي. وكان عمر يمشي بين الصفا والمروة وقال: إن مشيت، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) يمشي، وإن سعيت، فقد رأيت
631

رسول الله صلى الله عليه وسلم) يسعى. وسعى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بينهما ليرى المشركين قوته. فيحتمل أن يزول الحكم بزوال سببه، ويحتمل مشروعيته دائما، وإن زال السبب، والركوب في السعي بينهما مكروه عند أبي حنيفة وأصحابه، ولا يجوز عند مالك الركوب في السعي، ولا في الطواف بالبيت، إلا من عذر، وعليه إذ ذاك دم. وإن طاف راكبا بغير عذر، أعاد إن كان بحضرة البيت، وإلا أهدى. وشكت أم سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة). ولم يجئ في هذا الحديث أنه أمرها بدم. وفرق بعض أهل العلم فقال: إن طاف على ظهر بعير أجزاه، أو على ظهر إنسان لم يجزه. وكون الضمير مثنى في قوله: بهما، لا يدل على البداءة بالصفا، بل الظاهر أنه لو بدأ بالمروة في السعي أجزأه، ومشروعية السعي، على قول كافة العلماء، البداءة بالصفا. فإن بدأ بالمروة، فمذهب مالك، ومشهور مذهب أبي حنيفة، أنه يلغي ذلك الشوط، فإن لم يفعل، لم يجزه. وروي عن أبي حنيفة أيضا: إن لم يلغه، فلا شيء عليه، نزله بمنزلة الترتيب في أعضاء الوضوء. وقرأ الجمهور: يطوف وأصله يتطوف، وفي الماضي كان أصله تطوف، ثم أدغم التاء في الطاء، فاحتاج إلى اجتلاب همزة الوصل، لأن المدغم في الشيء لا بد من تسكينه، فصار أطوف، وجاء مضارعه يطوف، فانحذفت همزة الوصل لتحصين الحرف المدغم بحرف المضارعة. وقرأ أبو حمزة: أن يطوف بهما، من طاف يطوف، وهي قراءة ظاهرة. وقرى ابن عباس وأبو السمال: يطاف بهما، وأصله: يطتوف، يفتعل، وماضيه: اطتوف افتعل، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وأدغمت الطاء في التاء بعد قلب التاء طاء، كما قلبوا في اطلب، فهو مطلب، فصار: أطاف، وجاء مضارعه: يطاف، كما جاء يطلب: ومصدر أطوف: اطوفا، ومصدر أطاف: اطيافا، عادت الواو إلى أصلها، لأن موجب إعلالها قد زال، ثم قلبت ياء لكسرة ما قبلها، كما قالوا: اعتدا اعتيادا، وأن يطوف أصله، في أن يطوف، أي لا إثم عليه في الطواف بهما، فحذف الحرف مع أن، وحذفه قياس معها إذا لم يلبس، وفيه الخلاف السابق، أموضعها بعد الحذف جر أم نصب؟ وجوز بعض من لا يحسن علم النحو أن يكون: أن يطوف، في موضع رفع، على أن يكون خبرا أيضا، قال التقدير: فلا جناح الطواف بهما، وأن يكون في موضع نصب على الحال، والتقدير: فلا جناح عليه في حال تطوفه بهما، قال: والعامل في الحال العامل في الجر، وهي حال من الهاء في عليه. وهذان القولان ساقطان، ولولا تسطيرهما في بعض كتب التفسير لما ذكرتهما.
* (ومن تطوع خيرا) *: التطوع: ما تترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك. ألا ترى إلى قوله في حديث ضمام: هل عي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، أي تتبرع. هذا هو الظاهر، فيكون المراد التبرع بأي فعل طاعة كان، وهو قول الحسن؛ أو بالنفل على واجب الطواف، قاله مجاهد، أو بالعمرة، قاله ابن زيد؛ أو بالحج والعمرة بعد قضاء الواجب عليه، أو بالسعي بين الصفا والمروة، وهذا قول من أسقط وجوب السعي، لما فهم الإباحة في التطوف بهما من قوله: * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) *، حمل هذا على الطواف بهما، كأنه قيل: ومن تبرع بالطواف بينهما، أو بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة، أقوال ستة. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: تطوع فعلا ماضيا هنا، وفي قوله: * (فمن تطوع خيرا فهو خير له) *، فيحتمل من أن يكون بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون شرطية. وقرأ حمزة، والكسائي: يطوع مضارعا مجزوما بمن الشرطية، وافقهما زيد ورويس في الأول منهما، وانتصاب خيرا على المفعول بعد إسقاط حرف الجر، أي بخير، وهي قراءة ابن مسعود، قرأ: يتطوع بخير. ويطوع أصله: يتطوع، كقراءة عبد الله، فأدغم. وأجازوا جعل خيرا نعتا لمصدر محذوف، أي ومن يتطوع تطوعا خيرا.
* (فإن الله شاكر عليم) *: هذه الجملة جواب الشرط. وإذا كانت من موصولة
632

في احتمال أحد وجهي من في قراءة من قرأ تطوع فعلا ماضيا، فهي جملة في موضع خبر المبتدأ، لأن تطوع إذ ذاك تكون صلة. وشكر الله العبد بأحد معنيين: إما بالثواب، وإما بالثناء. وعلمه هنا هو علمه بقدر الجزاء الذي للعبد على فعل الطاعة، أو بنيته وإخلاصه في العمل. وقد وقعت الصفتان هنا الموقع الحسن، لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد، فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل، وذكر العلم باعتبار القصد، وأخرت صفة العلم، وإن كانت متقدمة، على الشكر، كما أن النية مقدمة على الفعل لتواخي رؤوس الآي.
* (إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى) *: الآية نزلت في أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم). وذكر ابن عباس: أن معاذا سأل اليهود عما في التوراة من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم) فكتموه إياه، فأنزل الله هذه الآية. والكاتمون هم أحبار اليهود وعلماء النصارى، وعليه أكثر المفسرين وأحبار اليهود كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وابن صوريا، وزيد بن التابوه. ما أنزلنا: فيه خروج من ظاهر إلى ضمير متكلم. والبينات: هي الحجج الدالة على
نبوته صلى الله عليه وسلم). والهدى: الأمر باتباعه، أو البينات والهدى واحد، والجمع بينهما توكيد، وهو ما أبان عن نبوته وهدى إلى اتباعه. أو البينات: الرجم والحدود وسائر الأحكام، والهدى: أمر محمد صلى الله عليه وسلم) ونعته واتباعه. وتتعلق من بمحذوف، لأنه في موضع الحال أي كائنا من البينات والهدى.
* (من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) *: الضمير المنصوب في بيناه عائد على الموصول الذي هو ما أنزلنا، وضمير الصلة محذوف، أي ما أنزلناه. وقرأ الجمهور: بيناه مطابقة لقوله: أنزلنا. وقرأ طلحة بن مصرف: بينه: جعله ضمير مفرد غائب، وهو التفات من ضمير متكلم إلى ضمير غائب. والناس هنا: أهل الكتاب، والكتاب التوراة والإنجيل، وقيل: الناس أمة محمد صلى الله عليه وسلم)، والكتاب: القرآن. والأولى والأظهر: عموم الآية في الكاتمين، وفي الناس، وفي الكتاب؛ وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم): (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)، وذلك إذا كان لا يخاف على نفسه في بثه. وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم، وهم العرب الفصح المرجوع إليهم في فهم القرآن. كما روي عن عثمان وأبي هريرة وغيرهما: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم. وقد امتنع أبو هريرة من تحديثه ببعض ما يخاف منه فقال: لو بثثته لقطع هذا البلعوم. وظاهر الآية استحقاق اللعنة على من كتم ما أنزل الله، وإن لم يسأل عنه، بل يجب التعليم والتبيين، وإن لم يسألوا، * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) *. وقال الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حزم القرطبي، فيما سمع منه أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الحافظ: الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة ويدعو إليه في شارع السابلة وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المهال لطلابه ويجري الأجور لمقتبسيه ويعظم الأجعال للباحثين عنه ويسني مراتب أهله صابرا في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظا جزيلا وعملا جيدا وسعدا كريما وأحياء للعلم، وإلا فقد درس وطمس ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام دائرة. انتهى كلامه.
* (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) *: هذه الجملة خبر إن. واستحقوا هذا الأمر الفظيع من لعنة الله ولعنة اللاعنين على هذا الذنب العظيم، وهو كتمان ما أنزل الله تعالى، وقد بينه وأوضحه للناس بحيث لا يقع فيه لبس، فعمدوا إلى هذا الواضح البين فكتموه، فاستحقوا بذلك هذا العقاب. وجاء بأولئك اسم الإشارة البعيد، تنبيها على ذلك الوصف القبيح، وأبرز
633

الخبر في صورة جملتين توكيدا وتعظيما، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد لتجدد مقتضيه، وهو قوله تعالى: * (إن الذين يكتمون) *. ولذلك أتى صلة الذين فعلا مضارعا ليدل أيضا على التجدد، لأن بقاءهم على الكتمان هو تجدد كتمان. وجاء بالجملة المسند فيها الفعل إلى الله، لأنه هو المجازي على ما اجترحوه من الذنب. وجاءت الجملة الثانية، لأن لعنة اللاعنين مترتبة على لعنة الله للكاتمين. وأبرز اسم الجلالة بلفظ الله على سبيل الالتفات، إذ لو جرى على نسق الكلام السابق، لكان أولئك يلعنهم، لكن في إظهار هذا الاسم من الفخامة ما لا يكون في الضمير. واللاعنون: كل من يتأتى منهم اللعن، وهم الملائكة ومؤمنو الثقلين، قاله الربيع بن أنس؛ أو كل شيء من حيوان وجماد غير الثقلين، قاله ابن عباس والبراء بن عازب، إذا وضع في قبره وعذب فصاح، إذ يسمعه كل شيء إلا الثقلين؛ أو البهائم والحشرات، قاله مجاهد وعكرمة، وذلك لما يصيبهم من الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين، أو الطاردون لهم إلى النار حين يسوقونهم إليها، لأن اللعن هو الطرد؛ أو الملائكة؛ قاله قتادة؛ أو المتلاعنون، إذا لم يستحق أحد منهم اللعن انصرف إلى اليهود، قاله ابن مسعود؛ والأظهر القول الأول. ومن أطلق اللاعنون على ما لا يعقل أجراه مجرى ما يعقل، إذ صدرت منه اللعنة، وهي من فعل من يعقل، وذلك لجمعه بالواو والنون. وفي قوله: * (ويلعنهم اللاعنون) *، ضرب من البديع، وهو التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسما والأخرى فعلا.
* (إلا الذين تابوا) *: هذا استثناء متصل، ومعنى تابوا عن الكفر إلى الإسلام، أو عن الكتمان ءلى الإظهار. * (وأصلحوا) * ما أفسدوا من قلوبهم بمخالطة الكفر لها، أو ما أفسدوا من أحوالهم مع الله، أو أصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال. * (وبينوا) *: أي الحق الذي كتموه، أو صدق توبتهم بكسر الخمر وإراقتها، أو ما في التوراة والإنجيل من صفة محمد صلى الله عليه وسلم)، أو اعترفوا بتلبيسهم وزورهم، أو ما أحدثوا من توبتهم، ليمحوا سيئة الكفر عنهم ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين. * (فأولئك) *: إشارة إلى من جمع هذه الأوصاف من التوبة والإصلاح والتبيين. * (أتوب عليهم) *: أي أعطف عليهم، ومن تاب الله عليه لا تلحقه لعنة. * (وأنا التواب الرحيم) *: تقدم الكلام في هاتين الصفتين، وختم بهما ترغيبا في التوبة وإشعارا بأن هاتين الصفتين هما له، فمن رجع إليه عطف عليه ورحمه.
وذكروا في هذه الآية من الأحكام جملة، منها أن كتمان العلم حرام، يعنون علم الشريعة لقوله: * (مآ أنزلنا من البينات) *، وبشرط أن يكون المعلم لا يخشى على نفسه، وأن يكون تعينا لذلك. فإن لم يكن من أمور الشرائع، فلا تحرج في كتمها. روي عن عبد الله أنه قال: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (حدث الناس بما يفهمون). أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ قلوا: والمنصوص عليه من الشرائع والمستنبط منه في الحكم سواء، وإن خشي على نفسه فلا يحرج عليه، كما فعل أبو هريرة، وإن لم يتعين عليه فكذلك، ما لم يسأل فيتعين عليه، ومنها: تحريم الأجرة على تعليم العلم، وقد أجازه بعض العلماء. ومنها: أن الكافر لا يجوز تعليمه القرآن حتى يسلم، ولا تعليم الخصم حجة على خصمه ليقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلا يتطرف به إلى مكاره الرعية، ولا تعليم الرخص إذا علم أنها تجعل طريقا إلى ارتكاب المحظورات وترك الواجبات. ومنها: وجوب قبول خبر الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب عليهم قبول قوله، لأن قوله من البينات والهدى يعم المنصوص والمستنبط وجواز لعن من مات كافرا، وقال بعض السلف: لا فائدة في لعن من مات أو جن من الكفار، وجمهور العلماء على جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين. وقال بعضهم بوجوبها، وأما الكافر المعين فجمهور العلماء على أنه لا يجوز لعنه.
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قوما بأعيانهم. وقال ابن العربي: الصحيح عندي جواز لعنه. وذكر ابن العربي الاتفاق على أنه لا يجوز لعن العاصي والمتجاهر بالكبائر من
634

المسلمين. وذكر بعض العلماء فيه خلافا، وبعضهم تفصيلا. فأجازه قبل إقامة الحد عليه. ومنها: أن التوبة المعتبرة شرعا أن يظهر التائب خلاف ما كان عليه في الأول، فإن كان مرتدا، فالبرجوع إلى الإسلام وإظهار شرائعه، أو عاصيا، فبالرجوع إلى العمل الصالح ومجانبة أهل الفساد. وأما التوبة باللسان فقط، أو عن ذنب واحد، فليس ذلك بتوبة. وقد تقدم الكلام في التوبة مشبعا.
* (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله) *: لما ذكر حال من كتم العلم وحال من تاب، ذكر حال من مات مصرا على الكفر، وبالغ في اللعنة، بأن جعلها مستعلية عليه، وقد تجللته وغشيته، فهو تحتها، وهي عامة في كل من كان كذلك. وقال أبو مسلم: هي مختصة بالذين يكتمون ما أنزل الله في الآية قبل، وذلك أنه ذكر حال الكاتمين، ثم ذكر حال التائبين، ثم ذكر حال من مات من غير توبة منهم. ولأنه لما ذكر أن الكاتمين ملعونون في الدنيا حال الحياة، ذكر أنهم ملعونون أيضا بعد الممات. والجملة من قوله: * (وهم كفار) *، جملة حالية، وواو الحال في مثل هذه الجملة إثباتها أفصح من حذفها، خلافا لمن جعل حذفها شاذا، وهو الفراء، وتبعه الزمخشري، وبيان ذلك في علم النحو. والجملة من قوله: * (عليهم لعنة الله) * خبر إن، ولعنة الله مبتدأ، خبره عليهم. والجملة من قوله: * (عليهم لعنة الله) * خبر عن أولئك. والأحسن أن يكون لعنة فاعلا بالمجرور قبله، لأنه قد اعتمد بكونه لذي خبر، فيرع ما بعده على الفاعلية، فتكون قد أخبرت عن أولئك بمفرد، بخلاف الإعراب الأول، فإنك أخبرت عنه بجمل.
وقرأ الجمهور: * (والملئكة والناس أجمعين) *، بالجر عطفا على اسم الله. وقرأ الحسن: والملائكة والناس أجمعون، بالرفع. وخرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه معطوف على موضع اسم الله، لأنه عندهم في موضع رفع على المصدر، وقدروه: أن لعنهم الله، أو: أن يلعنهم الله. وهذا الذي جوزوه ليس بجائز على ما تقرر في العطف على الموضع، من أن شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع لا يتغير، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل، وأنه ينحل لأن والفعل. والذي يظهر أن هذا المصدر لا ينحل لأن والفعل، لأنه لا يراد به العلاج. وكان المعنى: أن عليهم اللعنة المستقرة من الله على الكفار، أضيفت إلى الله على سبيل التخصيص، لا على سبيل الحدوث. ونظير ذلك: * (ألا لعنة الله على الظالمين) *، ليس المعنى إلا أن يلعن الله على الظالمين، وقولهم له ذكاء الحكماء. ليس المعنى هنا على الحدوث وتقدير المصدرين منحلين لأن والفعل، بل صار ذلك على معنى قولهم: له وجه وجه القمر، وله شجاعة شجاعة الأسد، فأضفت الشجاعة للتخصيص والتعريف، لا على معنى أن يشجع أوسد. ولئن سلمنا أنه يتقدر هذا المصدر، أعني لعنة الله بأن والفعل، فهو كما ذكرناه لا محرز للموضع، لأنه لا طالب له. ألا ترى أنك لو رفعت الفاعل بعد ذكر المصدر لم يجز حتى تنون المصدر؟ فقد تغير المصدر بتنوينه، ولذلك حمل سيبويه قولهم: هذا ضارب زيد غدا وعمرا، على إضمار فعل: أي ويضرب عمرا، ولم يجز حمله على موضع زيد لأنه لا محرز للموضع. ألا ترى أنك لو نصبت زيدا لقلت: هذا ضارب زيدا وتنون؟ وهذا أيضا على تسليم مجيء الفاعل مرفوعا بعد المصدر المنون، فهي مسألة خلاف. البصريون يجيزون ذلك فيقولون: عجبت من ضرب زيد عمرا. والفراء يقول: لا يجوز ذلك، بل إذا نون المصدر لم يجيء بعده فاعل مرفوع. والصحيح مذهب الفراء، وليس للبصريين حجة على إثبات دعواهم من السماع، بل أثبتوا ذلك بالقياس على أن والفعل. فمنع هذا التوجيه الذي ذكروه ظاهر، لأنا نقول: لا نسلم أنه مصدر ينحل، لأن والفعل، فيكون عاملا. سلمنا، لكن لا نسلم أن للمجرور بعده موضعا. سلمنا، لكن لا نسلم أنه يجوز العطف عليه. وتتخرج هذه القراءة على وجوه غير الوجه الذي ذكروه. أولاها: أنه على إضمار فعل لما لم يمكن العطف، التقدير: وتلعنهم الملائكة، كما خرج سيبويه في: هذا
635

ضارب زيد وعمرا: أنه على إضمار فعل: ويضرب عمرا. الثاني: أنه معطوف على لعنة الله على حذف مضاف، أي لعنة الله ولعنة الملائكة، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه نحو: * (واسئل القرية) *. الثالث: أن يكون مبتدأ حذف خبره لفهم المعنى، أي والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم. وظاهر قوله: والناس أجمعين العموم، فقيل ذلك يكون في القيامة، إذ يلعن بعضهم بعضا، ويلعنهم الله والملائكة والمؤمنون، فصار عاما، وبه قال أبو العالية. وقيل: أراد بالناس من يعتد بلعنته، وهم المؤمنون خاصة، وبه قال ابن مسعود، وقتادة، والربيع، ومقاتل. وقيل: الكافرون يلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون، فيقولون: في الدنيا لعن الله الكافر، فيتأتى العموم بهذا الاعتبار، بدأ تعالى بنفسه، وناهيك بذلك طردا وإبعادا. * (قل هل أنبئكم بشر من ذالك مثوبة عند الله) *؟ من لعنه الله، فلعنة الله هي التي تجر لعنة الملائكة والناس. ألا ترى إلى قول بعض الصحابة: وما لي لا ألعن من لعنه الله على لسان رسوله؟ وكما روي عن أحمد، أن ابنه سأله: هل يلعن؟ وذكر شخصا معينا. فقال لابنه: يا بني، هل رأيتني ألعن شيئا قط؟ ثم قال: وما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟ قال فقلت: يا أبت، وأين لعنة الله؟ قال: قال تعالى: * (ألا لعنة الله على الظالمين) *. ثم ثنى بالملائكة، لما في النفوس من عظم شأنهم وعلو منزلتهم وطهارتهم. ثم ثلث بالناس، لأنهم من جنسهم، فهو شاق عليهم، لأن مفاجأة المماثل من يدعي المماثلة بالمكروه أشق، بخلاف صدور ذلك من الأعلى.
* (خالدين فيها) *: أي في اللعنة، وهو الظاهر، إذ لم يتقدم ما يعود عليها في اللفظ إلا اللعنة. وقيل: يعود على النار، أضمرت لدلالة المعنى عليها، ولكثرة ما جاء في القرآن من قوله: خالدين فيها، وهو عائد على النار، ولدلالة اللعنة على النار، لأن كل من لعنة الله فهو في النار. * (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) *: سبق الكلام على مثل هاتين الجملتين تلو قوله * (أولئك الذين اشتروا الحيواة الدنيا بالاخرة فلا يخفف) *، الآية، فأغنى عن إعادته هنا. إلا أن الجملة من قوله: * (لا يخفف) * هي في موضع نصب من الضمير المستكن في خالدين، أي غير مخفف عنهم العذاب. فهي حال متداخلة، أي حال من حال، لأن خالدين حال من
الضمير في عليهم. ومن أجاز تعدي العامل إلى حالين لذي حال واحد، أجاز أن تكون الجملة من قوله: * (لا يخفف) *، حال من الضمير في عليهم، ويجوز أن تكون: لا يخفف جملة استئنافية، فلا موضع لها من الإعراب. وفي آخر الجملة الثانية، هناك: ولا ينصرون، نفى عنهم النصر، وهنا: ولا هم ينظرون، نفي الأنظار، وهو تأخير العذاب.
* (وإلاهكم إلاه واحد) * الآية. روي عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش، قالوا: يا محمد، صف وانسب لنا ربك، فنزلت سورة الإخلاص وهذه الآية. وروي عنه أيضا أنه كان في الكعبة، وقيل حولها، ثلاثمائة وستون صنما يعبدونها من دون الله، فنزلت. وظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المتصور منهم العبادة، فهو إعلام لهم بوحدانية الله تعالى. ويحتمل أن يكون خطابا لمن قال: صف لنا ربك وانسبه، أو خطابا لمن يعبد مع الله غيره من صنم ووثن ونار. وإله: خبر عن إلهكم، وواحد: صفته، وهو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله، ومنع الاقتصار عليه، فهو شبيه بالحال الموطئة، كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا. والواحد المراد به نفي النظير، أو القديم الذي لم يكن معه في الأزل
636

شيء، أو الذي لا أبعاض له ولا أجزاء، أو المتوحد في استحقاق العبادة. أقوال أربعة أظهرها الأول. تقول: فلان واحد في عصره، أي لا نظير له ولا شبيه، وليس المعنى هنا بواحد مبدأ العدد.
* (لا إلاه إلا هو) *: توكيد لمعنى الوحدانية ونفي الإلهية عن غيره. وهي جملة جاءت لنفي كل فرد فرد من الآلهة، ثم حصر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى، فدلت الآية الأولى على نسبة الواحدية إليه تعالى، ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناص على ذلك، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك، لأن من ثبتت له الواحدية ثبتت له الإلهية. وتقدم الكلام على إعراب الاسم بعد لا في قوله: * (لا ريب فيه) *، والخبر محذوف، وهو بدل من اسم لا على الموضع، ولا يجوز أن يكون خبرا. كما جاز ذلك في قولك: زيد ما العالم إلا هو، لأن لا لا تعمل في المعارف، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد لا التي يبني الاسم معها هو مرفوع بها، وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعا بها، بل هو خبر المبتدأ الذي هو لا مع المبني معها، وهو مذهب سيبويه، فلا يجوز أيضا، لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة، والخبر معرفة، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي. وتقرير البدل فيه أيضا مشكل على قولهم: إنه بدل من إله، لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل، لا تقول: لا رجل إلا زيد. والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلا من إله ولا من رجل في قولك: لا رجل إلا زيد، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، فإذا قلنا: لا رجل إلا زيد، فالتقدير: لا رجل كائن أو موجود إلا زيد. كما تقول: ما أحد يقوم إلا زيد، فزيد بدل من الضمير في يقوم لا من أحد، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب، فليس بدلا على موضع اسم لا، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا. ولولا تصريح النحويين أنه يدل على الموضع من اسم لا، لتأولنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا، أي من الضمير العائد على اسم لا. قال بعضهم: وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل، قال: ولا يجوز فيه النصب هاهنا، لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني، والمعنى في الآية على ذلك، والنصب على أن الاعتماد على الأول. انتهى كلامه. ولا فرق في المعنى بين: ما قام القوم إلا زيد، وإلا زيدا، من حيث أن زيدا مستثنى من جهة المعنى. إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب، فأعربوا ما كان تابعا لما قبله بدلا، وأعربوا هذا منصوبا على الاستثناء، غير أن الاتباع أولى للمشاكلة اللفظية، والنصب جائز، ولا نعلم في ذلك خلافا.
وقال في المنتخب: لما قال تعالى: * (وإلاهكم إلاه واحد) *، أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فلا جرم. أزال ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال: لا إلاه إلا هو. فقوله: لا إلاه يقتضي النفي العام الشامل، فإذا قال بعده: إلا الله، أفاد التوحيد التام المطلق المحقق. ولا يجوز أن يكون في الكلام حذف، كما يقوله النحويون، والتقدير: لا إلاه لنا، أو في الوجود، إلا الله، لأن هذا غير مطابق للتوحيد الحق، لأنه إن كان المحذوف لنا، كان توحيدا لإلهنا لا توحيدا للإله المطلق، فحينئذ لا يبقى بين قوله: * (وإلاهكم إلاه واحد) *، وبين قوله: * (لا إلاه إلا هو * فرق) *، فيكون ذلك تكرارا محضا، وأنه غير جائز. وأما إن كان المحذوف في الوجود، كان هذا نفيا لوجود الإله الثاني. أما لو لم يضمر، كان نفيا لماهية الإله الثاني، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى، وإنما قدم النفي على الإثبات، لغرض إثبات التوحيد، ونفي الشركاء والأنداد. انتهى الكلام.
قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن): هذا كلام من لا يعرف لسان العرب. فإن لا إله في موضع المبتدأ، على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين، لا بد من خبر للمبتدأ، أو للا، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد. وأما قوله: إذا لم يضمر كان نفيا للماهية، قلنا: نفي الماهية هو نفي الوجود، لأن نفي الماهية لا يتصور عندنا إلا مع الوجود، فلا فرق عنده بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة، خلافا للمعتزلة، فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود، والدليل يأبى ذلك. انتهى كلامه، وما قاله من تقدير خبر لا بد منه، لأن قوله: لا إله، كلام، فمن حيث هو كلام، لا بد فيه من مسنده ومسند إله. فالمسند إليه هو إله، والمسند هو الكون
637

المطلق، ولذلك ساغ حذفه، كما ساغ بعد قولهم: لولا زيد لأكرمتك، إذ تقديره: لولا زيد موجود، لأنها جملة تعليقية، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا، إذا علم، كثر حذفه عند الحجازيين، ووجب حذفه عند التميميين. وإذا كان الخبر. كونا مطلقا، كان معلوما، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها، بخلاف الكون المقيد، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه، فلذلك لا يجوز حذفه نحو: لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد، إلا أن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم، فيجوز حذفه.
* (الرحمان الرحيم) *: ذكر هاتين الصفتين منبها بهما على استحقاق العبادة له، لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشرا سويا عاقلا وتربية في دار الدنيا موعودا الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة، جدير بعبادتك له والوقوف عند أمره ونهيه، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته. وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب، ذكرت آية رحمة، وإذا ذكرت آية رحمة، ذكرت آية عذاب. وتقدم شرح هاتين الصفتين، فأغنى عن إعادته. ويجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو، وعلى إضمار مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الرحيم، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر لقوله: وإلهكم، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار: إله واحد خبر، ولا إله إلا هو خبر ثان، والرحمن الرحيم خبر ثالث. ولا يجوز أن يكون خبرا لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة، بخلاف قولك: ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد. قالوا: ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو، لأن المضمر لا يوصف. انتهى. وهو جائز على مذهب الكسائي، إذا كانت الصفة للمدح، وكان الضمير الغائب. وأهمل ابن مالك القيد الأول، فأطلق عن الكسائي أنه يجيز وصف الضمير الغائب. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إن هاتين الآيتين اسم الله الأعظم، وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم).
* (إن في خلق * السماوات والارض) *: روي أنه لما نزل * (وإلاهكم) * الآية، قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزل: * (إن في خلق) *. ولما تقدم وصفه تعالى بالوحدانية واختصاصه بالإلهية، استدل بهذا الخلق الغريب والبناء العجيب استدلالا بالأثر على المؤثر، وبالصنعة على الصانع، وعرفهم طريق النظر، وفيم ينظرون. فبدأ أولا بذكر العالم العلوي فقال: * (إن في خلق * السماوات) *. وخلقها: إيجادها واختراعها، أو خلقها وتركيب أجرامها وائتلاف أجزائها من قولهم: خلق فلان حسن: أي خلقته وشكله. وقيل: خلق هنا زائدة والتقدير: إن في السماوات والأرض، لأن الخلق إرادة تكوين الشيء. والآيات في المشاهد من السماوات والأرض، لا في الإرادة، وهذا ضعيف، لأن زيادة الأسماء لم تثبت في اللسان، ولأن الخلق ليس هو الإرادة، بل الخلق ناشىء عن الإرادة. قالوا: وجمع السماوات لأنها أجناس، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، ووحد الأرض لأنها كلها من تراب. وبدأ بذكر السماء لشرفها وعظم ما احتوت عليه من الأفلاك والأملاك والعرش والكرسي وغير ذلك، وآياتها: ارتفاعها من غير عمد تحتها، ولا علائق من فوقها، ثم ما فيها من النيرين، الشمس والقمر والنجوم السيارة والكواكب الزاهرة، شارقة وغاربة، نيرة وممحوة، وعظم أجرامها وارتفاعها، حتى قال أرباب الهيئة: إن الشمس قدر الأرض مائة وأربع وستين مرة، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض سبع مرات، وإن الأفلاك عظيمة الأجرام، قد ذكر أرباب علم الهيئة مقاديرها، وإنها سبعة أفلاك، يجمعها الفلك المحيط. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد). وصح أيضا.
أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفا، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة). وآية الأرض: بسطها، لا دعامة من تحتها ولا علائق من فوقها، وأنهارها ومياهها وجبالها ورواسيها وشجرها وسهلها ووعرها ومعادنها، واختصاص كل موضع منها بما هيىء له، ومنافع نباتها ومضارها. وذكر أرباب الهيئة أن الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة، وأن البحار محيطة بها، والهواء محيط بالماء، والنار محيطة بالهواء، والأفلاك وراء ذلك. وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه المعروف (بالدقائق) خلافا عن الناس المتقدمين: هل الأرض واقفة أم متحركة؟ وفي كل قول من
638

هذين مذاهب كثيرة في السبب الموجب لوقوفها، أو لتحركها. وكذلك تكلموا على جرم السماوات ولونها وعظمها وأبراجها، وذكر مذاهب للمنجمين والمانوية، وتخاليط كثيرة. والذي تكلم عليه أهل الهيئة هو شيء استدلوا عليه بعقولهم، وليس في الشرع شيء من ذلك. والمعتمد عليه أن هذه الأشياء لا يعلم حقيقة خلقها إلا الله تعالى، ومن أطلعه الله على شيء منها بالوحي * (أحاط بكل شىء علما) *، * (وأحصى كل شىء عددا) *.
* (واختلاف اليل والنهار) *: اختلافهما بإقبال هذا وإدبار هذا، أو اختلافهما بالأوصاف في النور والظلمة، والطول والقصر، أو تساويهما، قاله ابن كيسان. وقدم الليل على النهار لسبقه في الخلق، قال تعالى: * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار) *. وقال قوم: إن النور سابق على الظلمة، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في ليلة اليوم. فعلى القول الأول: تكون ليلة اليوم هي التي قبله، وهو قول الجمهور؛ وعلى القول الثاني: ليلة اليوم هي الليلة التي تليه، وكذلك ينبني على اختلافهم في النهار، اختلافهم في مسألة: لو حلف لا يكلم زيدا نهارا.
* (والفلك التى تجرى فى البحر) *: أول من عمل الفلك نوح، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وقال له جبريل عليه السلام: ضعها على جؤجؤ الطائر. فالسفينة طائر مقلوب، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها، قاله أبو بكر بن العربي. وآيتها تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء، ووقوفها فوقه مع ثقلها وتبليغها المقاصد. ولو رميت في البحر حصاة لغرقت. ووصفها بهذه الصفة من الجريان، لأنها آيتها العظمى، وجعل الصفة موصولا، صلته تجري: فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها. وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر. والألف واللام فيه للجنس، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري. * (بما ينفع الناس) *: يحتمل أن تكون ما موصولة، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد، فتكون الباء للحال. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي ينفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغزو والحج وغيرهما، فتكون الباء للسبب. واقتصر على ذكر النفع، وإن كانت تجري بما يضر، لأنه ذكرها في معرض الامتنان..
* (وما أنزل الله من السماء من ماء) *: أي من جهة السماء. من الأولى لابتداء الغاية تتعلق ب أنزل، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما، أي والذي أنزله الله من السماء. ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله: * (من السماء) *، بدل اشتمال، فهو على نية تكرار العامل، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى، أو للتبعيض، وتتعلق ب إنزل. ولا يقال: كيف تتعلق ب إنزل من الأولى والثانية، لأن معنييهما مختلفان. * (فأحيا به الارض بعد موتها) *: عطف على صلة ما،
الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات، وبه عائد على الموصول. وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره. وهما كنايتان غريبتان، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذبة والنامية والمحركة، وما لم يظهر فهو كامن فيها، كأنه دفين فيها، وله له قبر.
* (وبث فيها من كل دابة) *: إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره: وبث فيها من كل دابة. لكن حذف هذا الضمير، إذا كان مجرورا بالحرف، له شرط، وهو أن يدخل على الموصول، أو الموصوف بالموصول، أو المضاف إلى الموصول حرف جر، مثل ما دخل على الضمير لفظا ومعنى، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظا ومعنى، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع، وأن لا يكون محصورا، ولا في معنى المحصور، وأن يكون متعينا للربط. وهذا الشرط مفقود هنا. قال الزمخشري: فإن قلت قوله: * (وبث فيها) *، عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت: الظاهر أنه عطف على أنزل
639

داخل تحت حكم الصلة، لأن قوله: * (فأحيا به الارض) * عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعا كالشئ الواحد، وكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة. ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة، لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة. انتهى كلامه، ولا طائل تحته. وكيفما قدرت من تقدير يلزم أن يكون في قوله: * (وبث فيها من كل دابة) * ضمير يعود على الموصول، سواءأعطفته على أنزل، أو على فأحيا، لأن كلتا الجملتين في صلة الموصول. والذي يتخرج على الآية، أنها على حذف موصول لفهم المعنى معطوف على ما من قوله: * (وما أنزل) *، التقدير: وما بث فيها من كل دابة، فيكون ذلك أعظم في الآيات، لأن ما بث تعالى في الأرض من كل دابة فيه آيات عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومضارها ومنافعها وعجائبها، وما أودع في كل شكل، شكل منها من الأسرار العجيبة ولطائف الصنعة الغريبة، وذلك من الفيل إلى الذرة، وما وأجد تعالى في البحر من عجائب المخلوقات المباينة لأشكال البر. فمثل هذا ينبغي إفراده بالذكر، لا أنه يجعل منسوقا في ضمن شيء آخر وحذف الموصول الاسمي، غير أن أل عند من يذهب إلى اسميتها لفهم المعنى جائز شائع في كلام العرب، وإن كان البصريون لا يقيسونه، فقد قاسه غيرهم، قال بعض طي:
* ما الذي دأبه احتياط وحزم
*
وهواه أطاع مستويان
*
أي: والذي أطاع، وقال حسان:
* أمن يهجو رسول الله منكم
*
ويمدحه وينصره سواء
*
أي: ومن يمدحه، وقال آخر:
* فوالله ما نلتم وما نيل منكم
*
بمعتدل وفق ولا متقارب
*
يريد: ما الذي نلتم وما نيل منكم، وقد حمل على حذف الموصول قوله تعالى: * (وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم) *، أي والذي أنزل إليكم ليطابق قوله تعالى: * (والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل) *. وقد يتمشى التقدير الأول على ارتكاب حذف الضمير لفهم المعنى، وإن لم يوجد شرط جواز حذفه، وقد جاء ذلك في أشعارهم، قال:
* وإن لساني شهدة يشتفى بها
*
وهو على من صبه الله علقم
*
640

يريد: من صبه الله عليه، وقال:
* لعل الذي أصعدتني أن تردني
*
إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر
*
يريد: أصعدتني به. فعلى هذا القول يكون * (من كل دابة) * في موضع المفعول، ومن تبعيضية. وعلى مذهب الأخفش، يجوز أن تكون زائدة، وكل دابة هو نفس المفعول، وعلى حذف الموصول يكون مفعول بث محذوفا، أي: وبثه، وتكون من حالية، أي: كائنا من كل دابة، فهي تبعيضية، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك. * (وتصريف الرياح) * في هبوبها قبولا ودبورا وجنوبا وشمالا، وفي أوصافها حارة وباردة ولينة وعاصفة وعقيما ولواقح ونكباء، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين. وقيل: تارة بالرحمة، وتارة بالعذاب. وقيل: تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما يحملها، والصغار كذلك، ويصرف عنها ما يضر بها، ولا اعتبار بكبر القلوع ولا صغرها، فإنها لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلوع وأغرقت.
وقد تكلموا في أنواع الريح واشتقاق أسمائها وفي طبائعها، وفيما جاء فيها من الآثار، وفيما قيل فيها من الشعر، وليس ذلك من غرضنا. والريح جسم لطيف شفاف غير مرئي، ومن آياته ما جعل الله فيه من القوة التي تقلع الأشجار وتعفي الآثار وتهدم الدياروتهلك الكفار، وتربية الزرع وتنميته واشتداده بها، وسوق السحاب إلى البلد الماحل. واختلف القراء في إفراد الريح وجمعه في أحد عشر موضعا. هذا، وفي الشريعة وفي الأعراف: * (يرسل الرياح) *، و * (اشتدت به الريح) *، و * (أرسلنا * الرياح لواقح) *، و * (تذروه الرياح) *، وفي الفرقان: * (أرسل الرياح) *، * (ومن يرسل الرياح) *، وفي الروم: * (الله الذى يرسل الرياح) *، وفي فاطر: * (أرسل الرياح) *، وفي الشورى: * (إن يشأ يسكن * الرياح) *. فأفرد حمزة إلا في الفرقان، والكسائي إلا في الحجر، وجمع نافع الجميع والعربيان إلافي إبراهيم والشورى، وابن كثير في البقرة والحجر والكهف والشريعة فقط. وفي مصحف حفصة هنا وتصريف الأرواح. ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام. وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله: * (وجرين بهم بريح طيبة) *. وفي الحديث: (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا). قال ابن عطية: لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة منقطعة، فلذلك هي رياح، وهو معنى ينشر، وأفردت مع الفلك، لأن ريح أجزاء السفن إنما هي واحدة متصلة. ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب، انتهى. ومن قرأ بالتوحيد، فإنه يريد الجنس، فهو كقراءة الجمع. والرياح في موضع رفع، فيكون تصريف مصدرا مضافا للفاعل، أي وتصريف الرياح، السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن الله. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، فيكون المصدر في المعنى مضافا إلى الفاعل، وفي اللفظ مضافا إلى المفعول، أي وتصريف الله الرياح.
* (والسحاب المسخر) *، تسخيره: بعثه من مكان إلى مكان. وقيل: تسخيره: ثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه. ووصف السحاب هنا بالمسخر، وهو مفرد لأنه اسم جنس، وفيه لغتان: التذكير: كهذا وكقوله: * (أعجاز نخل منقعر) *، والتأنيث على معنى تأنيث الجمع، فتارة يوصف بما يوصف به الواحدة المؤنثة، وتارة يوصف بما يوصف به الجمع كقوله تعالى: * (حتى إذا أقلت سحابا ثقالا) *. قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر، ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض. فقيل: السحاب يأخذ المطر من السماء، وقيل: يغترفه من بحار الأرض، وقيل: يخلقه الله فيه، وللفلاسفة فيه أقوال. وجعل مسخرا باعتبار إمساكه الماء، إذ الماء ثقيل، فبقاؤه في جو الهواء هو على خلاف ما طبع عليه، وتقديره بالمقدار المعلوم الذي فيه المصلحة، يأتي به الله في وقت الحاجة،
641

ويرده عند زوال الحاجة، أو سوقه بواسطة تحريك الريح إلى حيث أراد الله تعالى. وفي كل واحد من هذه الأوجه استدلال على الوحدانية.
* (بين السماء والارض) *: انتصاب بين على الظرف، والعامل فيه المسخر، أي سخر بين كذا وكذا، أو محذوف تقديره كائنا بين، فيكون حالا من الضمير المستكن في المسخر. * (لآيات لقوم يعقلون) *: دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها، إذ لو كان يليها، ما جاز دخولها، وهي لام التوكيد، فصار في الجملة حرفا تأكيد: إن واللام. ولقوم: في موضع الصفة، أي كائنة لقوم. والجملة صفة لقوم، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلا، فإنه يشاهد من هذه الآية ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وانفراده بالإلهية، وعظيم قدرته، وباهر حكمته. وقد أثر في الأثر: ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها، أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد، وأنه منفرد بالإلهية، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار. ثم مع كونها دلائل، بل هي نعم من الله على عباده، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر. لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكنا من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب، وهذه الأشياء التي ذكرها الله ثمانية، وإن جعلنا: وبث فيها، على حذف موصول، كما قدرناه في أحد التخريجين، كانت تسعة، وهي باعتبار تصير إلى أربعة: خلق، واختلاف، وإنزال ماء، وتصريف.
فبدأ أولا بالخلق، لأنه الآية العظمى والدلالة الكبرى على الإلهية، إذ ذلك إبراز واختراع لموجود من العدم الصرف. * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *؟ * (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *. ودليل الخلق على جميع الصفات الذاتية، من واجبية الوجود والوحدة والحياة والعلم والقدرة والإرادة، وقدم السماوات على الأرض لعظم خلقها، أو لسبقه على خلق الأرض عند من يرى ذلك.
ثم أعقب ذكر خلق السماوات والأرض باختلاف الليل والنهار، وهو أمر ناشىء عن بعض الجواهر العلوية النيرة التي تضمنتها السماوات. ثم أعقب ذلك بذكر الفلك، وهو معطوف على الليل والنهار، كأنه قال واختلاف الفلك، أي ذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية، وهو أمر ناشىء عن بعض الأجرام
السفلية الجامدة التي تضمنتها الأرض.
ثم أعقب ذلك بأمور اشترك فيها العالم العلوي والعالم السفلي، وهو إنزال الماء من السماء، ونشر ما كان دفينا في الأرض بالأحياء. وجاء هذا المشترك مقدما فيه السبب على المسبب، فلذلك أعقب بالفاء التي تدل على السبب عند بعضهم.
ثم ختم ذلك بما لا يتم ما تقدمه من ذكر جريان الفلك وإنزال الماء وإحياء الموات إلا به، وهو تصريف الرياح والسحاب. وقدم الرياح على السحاب، لتقدم ذكر الفلك، وتأخر السحاب لتأخر إنزال الماء في الذكر على جريان الفلك.
فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر، حيث بدأ أولا باختراع السماوات والأرض، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي، ثم أتى ثالثا بذكر ما نشأ عن العالم السفلي، ثم أتى بالمشترك. ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به، وهو التصريف المشروح.
وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين: قسم مدرك بالبصائر، وقسم مدرك بالأبصار. فخلق السماوات والأرض مدرك بالعقول، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار. والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود، مستدل عليه بالعقول، فلذلك قال تعالى: * (لآيات لقوم يعقلون) *، ولم يقل: لآيات لقوم يبصرون، تغليبا لحكم العقل، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى.
* (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) *: لما قرر تعالى التوحيد بالدلائل الباهرة، أعقب ذلك بذكر من لم يوفق. واتخاذه الأنداد من دون الله، ليظهر تفاوت ما بين المنهجين. والضد يظهر حسنه الضد، وأنه مع وضوح هذه الآيات، لم يشاهد هذا الضال شيئا منها. ولفظ الناس عام، والأحسن حمله على الطائفتين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان. فالأنداد، باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم، اتبعوا ما رتبوه لهم من أمر ونهي، وإن خالف أمر الله ونهيه. قال تعالى: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) *. والأنداد، باعتبار عبادة الأوثان هي الأصنام، اتخذوها آلهة وعبدوها من دون الله. وقيل: المراد بالناس الخصوص. فقيل: أهل الكتاب. وقيل:
642

عباد الأوثان، والأولى القول الأول. ورجح كونهم أهل الكتاب بقوله: يحبونهم، فأتى بضمير العقلاء، وباستبعاد محبة الأصنام، وبقوله: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) *، والتبرؤ لا يناسب إلا العقلاء. ومن: مبتدأ موصول، أو نكرة موصوفة، وأفرد يتخذ حملا على لفظ من، ومن دون الله متعلق بيتخذ، ودون هنا بمعنى غير، وأصلها أن يكون ظرف مكان، وهي نادرة التصرف إذ ذاك. قال ابن عطية: ومن دون: لفظ يعطي غيبة ما يضاف إليه دون عن القضية التي فيها الكلام، وتفسير دون بسوى، أو بغير، لا يطرد. انتهى. تقول: فعلت هذا من دونك، أي وأنت غائب. وتقول: اتخذت منك صديقا، واتخذت من دونك صديقا. فالذي يفهم من هذا أنه اتخذ من شخص غيره صديقا. وتقول: قام القوم دون زيد. فالذي يفهم من هذا: أن المعنى أن زيدا لم يقم، فدلالتها دلالة غير في هذا. والذي ذكر النحويون، هو ما ذكرت لك من كونها تكون ظرف مكان، وأنها قليلة التصرف نادرته. وقد حكى سيبويه أيضا أنها تكون بمعنى رديء، تقول: هذا ثوب دون أي رديء، فإذا كانت ظرفا، دلت على انحطاط المكان، فتقول: قعد زيد دونك، فالمعنى: قعد زيد مكانا دون مكانك، أي منحطا عن مكانك. وكذلك إذا أردت بدون الظرفية المجازية تقول: زيد دون عمرو في الشرف، تريد المكانة لا المكان. ووجه استعمالها بمعنى غير انتقالها عن الظرفية فيه خفاء، ونحن نوضحه فنقول: إذا قلت: اتخذت من دونك صديقا، فأصله: اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ومكانك صديقا، فهو ظرف مجازي. وإذا كان المكان المتخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطة عنه وهي دونه، لزم أن يكون غيرا، لأنه ليس إياه، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه مع كونه غيرا، فصارت دلالته دلالة غير بهذا الترتيب، لا أنه موضوع في أصل اللغة لذلك. وانتصب أندادا هنا على المفعول بيتخذ، وهي هنا متعدية إلى واحد، نحو قولك: اتخذت منك صديقا، وهي افتعل من الأخذ، وقد تقدم الكلام على الند وعلى اتخذ، فأغنى عن إعادته. قال ابن عباس والسدي: الأنداد: الرؤساء المتبعون، يطيعونهم في معاصي الله تعالى. وقال مجاهد وقتادة: الأنداد: الأوثان، وجاء الضمير في يحبونهم ضمير من يعقل. وقد تقدم لنا أن الأولى أن تكون الأنداد: المجموع من الأوثان والرؤساء، وتكون الآية عامة. وجاء التغليب لمن يعقل في الضمير في: * (يحبونهم) *، أي يعظمونهم ويخضعون لهم. والجملة من يحبونهم صفة للأنداد، أو حال من الضمير المستكن في يتخذ، ويجوز أن تكون صفة لمن، إذا جعلتها نكرة موصوفة. وجاز ذلك، لأن في يحبونهم ضمير أنداد، أو ضمير من، وأعاد الضمير على من جمعا على المعنى، إذ قد تقدم الجمل على اللفظ في يتخذ، إذ أفرد الضمير، وقد وقع الفصل بين الجملتين، وهو شرط على مذهب الكوفيين.
* (كحب الله) *، الكاف في موضع نصب، إما على الحال من ضمير الحب المحذوف، على رأي سيبويه، أو على نه نعت لمصدر محذوف، على رأي جمهور المعربين، التقدير: على الأول يحبونهموه، أي الحب مشبها حب الله، وعلى الثاني تقديره: حبا مثل حب الله، والمصدر مضاف للمفعول المنصوب، والفاعل محذوف، التقدير: كحبهم الله، أو كحب المؤمنين الله، والمعنى أنهم سووا بين الحبين، حب الأنداد وحب الله. وقال ابن عطية: حب: مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ، وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر، تقديره: كحبكم الله، أو كحبهم، حسبما قدر كل وجه منهما فرقة. انتهى كلامه. فقوله: مضاف إلى الفاعل المضمر، لا يعني أن المصدر أضمر فيه الفاعل، وإنما سماه مضمرا لما قدره كحبكم أو كحبهم، فأبرزه مضمرا حين أظهر تقديره، أو يعني بالمضمر المحذوف، وهو موجود في اصطلاح النحويين، أعني أن يسمى الحذف إضمارا. وإنما قلت ذلك، لأن من النحويين من زعم أن الفاعل مع المصدر لا يحذف، وإنما يكون مضمرا في المصدر. ورد ذلك بأن المصدر هو اسم جنس، كالزيت والقمح، وأسماء الأجناس لا يضمر فيه. وقال الزمخشري: كحب الله: كتعظيم الله والخضوع له، أي كما يحب الله، على أنه مصدر
643

من المبني للمفعول، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه، لأنه غير ملبس. وقيل: كحبهم الله، أي يسوون بينه وبينه في محبتهم، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه، * (فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) *. انتهى كلامه. واختار كون المصدر مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهي مسألة خلاف. أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول؟ فيجوز: عجبت من ضرب زيد، على أنه مفعول لم يسم فاعله، ثم يضاف إليه، أم لا يجوز ذلك؟ فيه ثلاثة مذاهب، يفصل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يبن إلا للمفعول نحو: عجبت من جنون بالعلم زيد، لأنه من جننت التي لم تبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله، أو من فعل يجوز أن يبنى للفاعل، ويجوز أن يبنى للمفعول فيجوز في الأول، ويمتنع في الثاني، وأصحها المنع مطلقا. وتقرير هذا كله في النحو. وقد رد الزجاج قول من قدر فاعل المصدر المؤمنين، أو ضميرهم، وهو مروي عن ابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والمبرد، وقال: ليس بشيء، والدليل على نقضه قوله تعالى بعد: * (والذين ءامنوا أشد حبا لله) *، ورجح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتخذين، أي يحبون الأصنام كما يحبون الله، لأنهم أشركوها مع الله تعالى، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة على كمال قدرته ولطيف فطرته وذلة الأصنام وقلتها. وقرأ أبو رجاء العطاردي: يحبونهم، بفتح الياء، وهي لغة، وفي المثل السائر: من حب طب، وجاء مضارعه على يحب، بكسر العين شذوذا، لأنه مضاعف متعد، وقياسه أن يكون مضموم العين نحو: مده يمده، وجر يجره.
* (والذين ءامنوا أشد حبا لله) *: قال الراغب: الحب أصله من المحبة، حببته: أصبت حبة قلبه، وأصبته بحبة القلب، وهي في اللفظ فعل، وفي الحقيقة انفعال. وإذا استعمل في الله، فالمعنى: أصاب حبة قلب عبده، فجعلها مصونة عن الهوى والشيطان وسائر أعداء الله. انتهى. وقال عبد الجبار: حب العبد لله: تعظيمه والتمسك بطاعته، وحب الله العبد: إرادة الثناء عليه وإثابته. وأصل الحب في اللغة: اللزوم، لأن المحب يلزم حبيبه ما أمكن. اه. والمفضل عليه محذوف، وهم المتخذون الأنداد، ومتعلق الحب الثاني فيه خلاف. فقيل: معنى أشد حبا لله: أي منهم لله، لأن حبهم لله بواسطة، قاله الحسن؛ أو منهم لأوثانهم، قاله غيره. ومقتضى التمييز بالأشدية، إفراد المؤمنين له بالمحبة، أو لمعرفتهم بموجب الحب، أو لمحبتهم إياه بالغيب، أو لشهادته تعالى لهم بالمحبة، إذ قال تعالى: * (يحبهم ويحبونه) *، أو لإقبال المؤمن على ربه في السراء والضراء والشدة والرخاء، أو لعدم انتقاله عن مولاه ولا يختار عليه سواه، أو لعلمه بأن الله خالق الصنم وهو الضار النافع، أو لكون حبه بالعقل والدليل، أو لامتثاله أمره حتى في القيامة حين يأمرالله تعالى من عبده لا يشرك به شيئا أن يقتحم النار، فيبادرون إليه، فتبرد عليهم النار، فينادي مناد تحت العرش: * (والذين ءامنوا أشد حبا لله) *، ويأمر من عبد الأصنام أن يدخل معهم النار فيجزعون، قاله ان جبير. تسعة أقوال ثبتت نقائضها ومقابلاتها لمتخذ الأنداد. وهذه كلها خصائص ميز الله بها المؤمنين في حبه على الكافرين، فذكر كل واحد من المفسرين خصيصيه. والمجموع هو المقتضى لتمييز الحب، فلا تباين بين الأقوال على هذا، لأن كل قول منها ليس على جهة الحصر فيه، إنما هو مثال من أمثلة مقتضى التمييز.
وقال في المنتخب جمهور المتكلمين: على أن المحبة نوع من أنواع الإرادة، لا تعلق لها إلا بالجائزات، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته. فإذا قلنا: يحب الله، فمعناه: يحبطاعة الله وخدمته وثوابه وإحسانه. وحكى عن قوم سماهم هو بالعارفين أنهم قالوا: نحب الله لذاته، كما نحت اللذة لذاتها، لأنه تعالى موصوف بالكمال، والكمال محبوب لذاته. انتهى كلامه. وعدل في أفعل التفضيل عن أحب إلى أشد حبا، لما تقرر في علم العربية أن أفعل التفضيل وفعل التعجب من واد واحد. وأنت لو قلت: ما أحب زيدا، لم يكن ذلك تعجبا من فعل الفاعل، إنما يكون تعجبا من فعل المفعول، ولا يجوز أن يتعجب من الفعل الواقع بالمفعول، فينتصب المفعول به كانتصاب الفاعل. لا تقول: ما أضرب زيدا، على أن زيدا حل به الضرب. وإذا تقرر هذا، فلا يجوز
644

زيد أحب لمعمرو، لأنه يكون المعنى: أن زيدا هو المحبوب لعمرو. فلما لم يجز ذلك، عدل إلى التعجب وأفعل التفضيل بما يسوغ منه ذلك، فتقول: ما أشد حب زيد لعمرو، وزيد أشد حبا لعمرو من خالد لجعفر. على أنهم قد شذوا فقالوا: ما أحبه إلي، فتعجبوا من فعل المفعول على جهة الشذوذ، ولم يكن القرآن ليأتي على الشاذ في الاستعمال والقياس، ويعدل على الصحيح الفصيح. وانتصاب حبا على التمييز، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ تقديره: حبهم لله أشد من حب أولئك لله، أو لأندادهم على اختلاف القولين.
* (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب) *: قرأ نافع وابن عامر: وإذ ترون، بالتاء من فوق أن القوة، وأن بفتحهما. وقرأ ابن عامر: إذ يرون، بضم الياء. وقرأ الباقون: بالفتح. وقرأ الحسن، وقتادة، وشيبة، وأبو جعفر، ويعقوب: ولو ترى، بالتاء من فوق إن القوة، وإن بكسرهما. وقرأ الكوفيون، وأبو عمرو، وابن كثير: ولو يرى، بالياء من أسفل أن القوة، وأن بفتحهما. وقرأت طائفة: ولو يرى، بالياء من أسفل إن القوة، وإن بكسرهما. ولو هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، فلا بد لها من جواب، واختلف في تقديره. فمنهم من قدره قبل أن القوة، فيكون أن القوة معمولا لذلك الجواب، التقدير: على قراءة من قرأ بالتاء من فوق، لعلمت أيها السامع أن القوة لله جميعا، أو لعلمت يا محمد أن كان المخاطب في ولو ترى له. وقد كان صلى الله عليه وسلم) علم ذلك، ولكن خوطب، والمراد أمته، فإن فيهم ن يحتاج لتقوية علمه بمشاهدة مثل هذا. ومن قرأ بالكسر، قدر الجواب: لقلت إن القوة على اختلاف القولين في المخاطب بقوله: ولو ترى من هو؟ أهو السامع؟ أم النبي صلى الله عليه وسلم)؟ أو يكون التقدير: لاستعظمت حالهم. وأن القوة، وإن كانت مكسورة، فيها معنى التعليل مثل: لو قدمت على زيد لأحسن إليك، إنه مكرم للضيفان. وقال ابن عطية: تقدير ذلك: ولو ترى الذين ظلموا، في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستغطامهم له، لأقروا أن القوة لله. فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى، وهو العامل في أن انتهى. وفيه مناقشة، وهو قوله: في حال رؤيتهم العذاب. وكان ينبغي أن يقدر بمرادف، إذ وهو قوله: في وقت رؤيتهم العذاب، وأيضا فقدر جواب لو، وهو غير مترتب على ما يلي لو، لأن رؤية السامع، أو النبي صلى الله عليه وسلم) الظالمين في وقت رؤيتهم، لا يترتب عليها إقرارهم أن القوة لله جميعا صار نظير قولك: يا زيد لو ترى عمرا في وقت ضربه لأقر أن الله قادر عليه،
وإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد. وعلى من قرأ: ولو يرى، بالياء من أسفل وفتح، أن يكون تقدير الجواب: لعلموا أن القوة لله جميعا، وإن كان فاعل يرى هو الذين ظلموا، وإن كان ضميرا يقدر ولو يرى هو، أي السامع، كان التقدير: لعلم أن القوة لله جميعا. ومنهم من قدر الجواب محذوفا بعد قوله * (وأن الله شديد العذاب) *، وهو قول أبي الحسن الأخفش، وأبي العباس المبرد، وتقديره: على قراءة ولو ترى بالخطاب، لاستعظمت ما حل بهم، وعلى قراءة ولو يرى للغائب، فإن كان فيه ضمير السامع كان التقدير: لاستعظم ذلك، وإن كان الذين ظلموا هو الفاعل، كان التقدير: لاستعظموا ما حل بهم. وإذا كان الجواب مقدرا آخر الكلام، وكانت أن مفتوحة، فتوجيه فتحها على تقديرين: أحدهما أن تكون معمولة ليرى في قراءة من قرأ بالياء، أي ولو رأى الذين ظلموا أن القوة لله جميعا. وأما من قرأ بالتاء، فتكون أن مفعولا من أجله، أي لأن القوة لله جميعا، ومن كسر إن مع قراءة التاء في ترى، وقدر الجواب آخر الكلام، فهي، وإن كانت مكسورة على معنى المفتوحة، دالة على التعليل، تقول: لا تهن زيدا إنه عالم، ولا تكرم عمرا إنه جاهل، فهي على معنى المفتوحة من التعليل، وتكون هذه الجملة كأنها معترضة بين لو وجوابها المحذوف. وأما قراءة بالياء من أسفل وكسر الهمزتين، فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو، أي لقالوا إن القوة، أو على سبيل الاستئناف والجواب محذوف، أي لاستعظموا ذلك، ومفعول: ترى محذوف، أي ولو رأى الظالمون حالهم. وترى في قوله: ولو ترى، يحتمل أن تكون بصرية، وهو قول أبي علي، ويحتمل أن تكون عرفانية. وإذا جعلت أن معمولة ليرى، جاز أن تكون بمعنى علم التعدية إلى اثنين، سدت أن مسدهما، على مذهب سيبويه. والذين ظلموا، إشارة إلى متخذي الأنداد، ونبه على العلية، أو يكون عاما، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من
645

الكفار. ولكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد. وقراءة ابن عامر: إذ يرون، مبنيا للمفعول، هو من أريت المنقولة من رأيت، بمعنى أبصرت. ودخلت إذ، وهي للظرف الماضي، في أثناء هذه المستقبلات، تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه، كما يقع الماضي المستقبل في قوله: * (ونادى أصحاب النار) *، وكما جاء:
* بقيت وفري وانحرفت عن العلى
*
ولقيت أضيافي بوجه عبوس
*
لأنه علق ذلك على مستقبل، وهو قوله:
* إن لم أشن على ابن هند غارة
*
لم تخل يوما من نهاب نفوس
*
وحذف جواب لو، لفهم المعنى، كثير في القرآن، وفي لسان العرب. قال تعالى: * (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت) *، * (ولو ترى إذ وقفوا على النار) *، * (ولو ترى * قرانا سيرت به الجبال) *، وقال امرؤ القيس:
* وجدك لو شيء أتانا رسوله
*
سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
*
هذا ما يقتضيه البحث في هذه الآية من جهة الإعراب، ونحن نذكر من كلام المفسرين. قال عطاء: المعنى: ولو يرى الذين ظلموا يوم القيامة، إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام تلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبة، لعلموا أن القوة والقدرة لله جميعا. وقيل: لو يعلمون في الدنيا ما يعلمونه، إذ يرون العذاب، لأقروا بأن القوة لله جميعا، أي لتبرؤوا من الأنداد، والثانية من رؤية العين. وقال التبريزي: لو اعتقدوا أن الله يقدر ويقوى على تعذيبهم يوم القيامة، لامتنعوا عما يوجب الجزاء بالعذاب. وقال الزمخشري: ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم، أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين، إذ عاينوا العذاب يوم القيامة، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع الظلم بظلمهم وضلالهم. انتهى كلامه. وحكى الراغب: أن بعضهم زعم أن القوة بدل من الذين، قال: وهو ضعيف. انتهى. ويصير المعنى: ولو ترى قوة الله وقدرته على الذين ظلموا. وقال في المنتخب: قراءة الياء عند بعضهم أولى من قراءة التاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم) والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ويعاينونه من العذاب يوم القيامة، أما المتوعدون فإنهم لم يعلموا ذلك، فوجب إسناد الفعل إليهم. انتهى. ولا فرق عندنا بين القراءتين، أعني التاء والياء، لأنهما متواترتان. وانتصاب جميعا على الحال من الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور. والقوة هنا مصدر أريد به الجنس، التقدير: أن القوى مستقرة لله جميعا، ولا يجوز أن تكون حالا من القوة، لأن العامل في القوة أن، وأن لا تعمل في الأحوال. وهذا التركيب أبلغ هنا من أن لو قلت: إن الله قوي، إذ تدل هنا على الإخبار عنه بهذا الوصف. وأن القوة لله تدل على أن جميع أنواع القوى ثابتة مستقرة له تعالى، وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك، لأن شدة العذاب هي من آثار القوة.
* (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب) *: لما ذكر متخذي الأنداد ذكر أن عبادتهم لهم وإفناء أعمارهم في طاعتهم، معتقدين أنهم سبب نجاتهم، لم تغن شيئا، وأنهم حين صاروا أحوج إليهم، تبرؤوا منهم. وإذ: بدل من: إذ يرون العذاب. وقيل: معمولة لقوله شديد العذاب. وقيل: المحذوف تقديره اذكروا الذين اتبعوا، هم رؤساؤهم
646

وقادتهم الذين اتبعوهم في أقوالهم وأفعالهم، قاله ابن عباس وعطاء وأبو العالية وقتادة والربيع ومقاتل والزجاج، أو الشياطين الذين كانوا يوسوسون ويرونهم الحسن قبيحا والقبيح حسنا، قاله الحسن وقتادة أيضا والسدي؛ أو عام في كل متبوع، وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ. وقراءة الجمهور: اتبعوا الأول مبنيا للمفعول، والثاني مبنيا للفاعل. وقراءة مجاهد بالعكس. فعلى قراءة الجمهور: تبرؤ المتبوعون بالندم على الكفر، أو بالعجز عن الدفع، أو بالقول: إنا لم نضل هؤلاء، بل كفروا بإرادتهم وتعلق العقاب عليهم بكفرهم، ولم يتأت ما حاولوه من تعليق ذنوبهم على من أضلهم. أقوال ثلاثة، الأخير أظهرها، وهو أن يكون التبرؤ بالقول. قال تعالى: * (تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) *. وتبرؤ التابعين هو انفصالهم عن متبوعيهم والندم على عبادتهم، إذ لم يجد عنهم يوم القيامة شيئا، ولم يدفع عنهم من عذاب الله، ورأوا العذاب الظاهر. إن هذه الجملة، هي وما بعدها، قد عطفتا على تبرأ، فهما داخلان في حيز الظرف. وقيل: الواو للحال فيهما، والعامل تبرأ، أي تبرؤوا في حال رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب بهم، ولأنها حالة يزداد فيها الخوف والتنصل ممن كان سببا في العذاب. وقيل: الواو للحال في: ورأوا العذاب، وللعطف في: وتقطعت على تبرأ، وهو اختيار الزمخشري.
وتقطعت بهم الأسباب) *: كناية عن أن لا منجى لهم من العذاب، ولا مخلص، ولا تعلق بشيء يخلص من عذاب الله، وهو عام في كل ما يمكن أن يتعلق به. وللمفسرين في الأسباب أقوال: الوصلات عن قتادة، والأرحام عن ابن عباس وابن جريج، أو الأعمال المتلزمة عن ابن زيد والسدي، أو العهود عن مجاهد وأبي روق، أو وصلات الكفر، أو منازلهم من الدنيا في الجاه عن ابن عباس، أو أسباب النجاة، أو المودات. والظاهر دخول الجميع في الأسباب، لأنه لفظ عام. وفي هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع، وهو أن يكون الكلام مسجوعا كقوله تعالى: * (*) *: كناية عن أن لا منجى لهم من العذاب، ولا مخلص، ولا تعلق بشيء يخلص من عذاب الله، وهو عام في كل ما يمكن أن يتعلق به. وللمفسرين في الأسباب أقوال: الوصلات عن قتادة، والأرحام عن ابن عباس وابن جريج، أو الأعمال المتلزمة عن ابن زيد والسدي، أو العهود عن مجاهد وأبي روق، أو وصلات الكفر، أو منازلهم من الدنيا في الجاه عن ابن عباس، أو أسباب النجاة، أو المودات. والظاهر دخول الجميع في الأسباب، لأنه لفظ عام. وفي هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع، وهو أن يكون الكلام مسجوعا كقوله تعالى: * (ولستم بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه) *، وهو في القرآن كثير، وهو في هذه الآية في موضعين. أحدهما: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) *، وهو محسن الحذف لضمير الموصول في قوله: اتبعوا، إذ لو جاء اتبعوهم، لفات هذا النوع من البديع. والموضع الثاني: * (ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب) *، ومثال ذلك في الشعر قول أبي الطيب:
* في تاجه قمر في ثوبه بشر
*
في درعه أسد تدمي أظافره
*
وقولنا من قصيد عارضنا به بانت سعاد:
* فالنحر مرمرة والنشر عنبرة
*
والثغر جوهرة والريق معسول
*
* (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما * تنقم منا) *، المعنى: أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله ويتبرؤوا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعا، مثل ما تبرأ المتبوعون أولا منهم. ولو: هنا للتمني. قيل: وليست التي لما كان سيقع لوقوع غيره، ولذلك جاء جوابها بالفاء في قوله: * (فنتبرأ) *، كما جاء جواب ليت في قوله: * (مودة ياليتنى كنت معهم فأفوز) *، وكما جاء في قول الشاعر:
* فلو نبش المقابر عن كليب
*
فتخبر بالذنائب أي زير
*
647

والصحيح أن لو هذه هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره، وأشربت معنى التمني، ولذلك جاء بعد هذا البيت جوابها، وهو قوله:
* بيوم الشعثمين لقر عينا
*
وكيف لقاء من تحت القبور
*
وأن مفتوحة بعد لو، كما فتحت بعد ليت في نحو قوله:
* يا ليت أنا ضمنا سفينة
*
حتى يعود البحر كينونه
*
وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء، وأنها إذا سقطت الفاء، انجزم الفعل هذا الموضع، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضا، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جوابا للو التي أشربت معنى التمني إذا حذفت الفاء. والسبب في ذلك أن كونها مشربة معنى التمني، ليس أصلها، وإنما ذلك بالجمل على حرف التمني الذي هو ليت. والجزم في جواب ليت بعد حذف الفاء، إنما هو لتضمنها معنى الشرط، أو دلالتها على كونه محذوفا بعدها، على اختلاف القولين، فصارت لو فرع فرع، فضعف ذلك فيها. والكاف في كما: في موضع نصب، إما نعتا لمصدر محذوف، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف على القولين السابقين، في غير ما موضع من هذا الكتاب. وما في كما: مصدرية، التقدير: تبرؤوا مثل تبرئهم، أو فنتبرأه، أي فنتبرأ التبرؤ مشابها لتبرئهم. وقال ابن عطية: الكاف من قوله: كما في موضع نصب على النعت، إما لمصدر، أو لحال، تقديرها: متبرئين. كما انتهى كلامه. أما قوله على النعت، إما لمصدر، فهو كلام واضح، وهو الإعراب المشهور في مثل هذا. وأما قوله: أو لحال، تقديرها: متبرئين كما، فغير واضح، لأنا لو صرحنا بهذه الحال، لما كان كما منصوبا على النعت لمتبرئين، لأن الكاف الداخلة على ما المصدرية هي من صفات الفعل، لا من صفات الفاعل. وإذا كان كذلك، لم ينتصب على النعت للحال، لأن الحال هنا من صفات الفاعل، ولا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنها إذ ذاك تكون حالا مؤكدة، ولا نرتكب كون الحال مؤكدة إلا إذا كانت ملفوظا بها. أما أن تقدر حالا ونجعلها مؤكدة، فلا حاجة إلى ذلك. وأيضا فالتوكيد ينافي الحذف، لأن ما جيء به لتقوية الشيء لا يجوز حذفه أيضا. فلو صرح بهذه الحال، لما ساغ في كما إلا أن تكون نعتا لمصدر محذوف، أو حالا من الضمير المستكن في الحال المصرح بها، مثال ذلك: هم محسنون إلي كما أحسنوا إلى زيد. فكما أحسنوا ليس من صفات محسنين، إنما هو من صفات الإحسان، التقدير: على الإعراب المشهور إحسانا مثل إحسانهم إلى زيد.
* (كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) *: الكاف عند بعضهم في موضع رفع، وقدروه الأمر كذلك، أو حشرهم كذلك، وهو ضعيف، لأنه يقتضي زيادة الكاف وحذف مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأصل. والظاهر أن الكاف على بابها من التشبيه، وأن التقدير مثل إراءتهم تلك الأهوال، * (يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) *، فيكون نعتا لمصدر محذوف، فيكون في موضع نصب. وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله: كذلك، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض. والأجود تشبيه الآراءة بالآرة ء، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة، فتكون حسرات منصوبا على الحال، وأن تكون قلبية، فتكون مفعولا ثالثا، قالوا: ويكون ثم حذف مضاف، أي على تفريطهم. وتحسر: يتعدى بعلى، تقول: تحسرت على كذا، فعلى هنا متعلقة بقوله: حسرات. ويحتمل أن تكون في موضع الصفة، فالعامل محذوف، أي حسرات كائنة عليهم، وعلى تشعر بأن الحسرات مستعلية عليهم. وأعمالهم، قيل: هي الأعمال التي صنعوها، وأضيفت إليهم من حيث عملوها، وأنهم مأخوذون بها. وهذا على قول من يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهذا معنى قول الربيع وابن زيد: أنها الأعمال السيئة التي ارتكبوها، فوجب بهم بها النار. وقال ابن مسعود والسدي: المعنى أعمالهم الصالحة التي تركوها،
648

ففاتتهم الجنة، وأضيفت إليهم من حيث كانوا مأمورين بها. قال السدي: ترفع لهم الجنة فينظرون إلى بيوتهم فيها، لو أطاعوا الله تعالى، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله تعالى، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم، فذلك حين يندمون. وهذا معنى قول بعضهم، إن أعمالهم قد أحبط ثوابها كفرهم، لأن الكافر لا يثاب مع كفره. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم)، وقد ذكر له أن ابن جدعان كان يصل الرحم ويطعم المسكين، وسئل: هل ذلك نافعة؟ قال: (لا ينفعه، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، ومنه قوله تعالى: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) *. وقيل: المعنى أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم. والظاهر أنها الأعمال التي اتبعوا فيها رؤساءهم وقادتهم، وهي الكفر والمعاصي. وكانت حسرة عليهم، لأنهم رأوها مسطورة في صحائفهم، وتيقنوا الجزاء عليها، وكان يمكنهم تركها والعدول عنها، لو شاء الله.
* (وما هم بخارجين من النار) *: هذا يدل على دخول النار، إذ لا يقال: ما زيد بخارج من كذا إلا بعد الدخول. ولم يتقدم في الآية نص على دخولهم، إنما تقدم رؤيتهم العذاب ومفاوضة بسبب تبرؤ المتبوعين من الأتباع، وجاء الخبر مصحوبا بالباء الدالة على التوكيد. وقال الزمخشري: هم بمنزلته في قوله:
هم يفرشون اللبد كل طمره
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لا على الاختصاص. انتهى كلامه، وفيه دسيسة اعتزال، لأنه إذا لم يدل على الاختصاص، لا يكون فيه رد لقول المعتزلة، إن الفاسق يخلد في النار ولا يخرج منها. وأما قول صاحب المنتخب: إن الأصحاب احتجوا على أن صاحب الكبيرة من أهل القبلة، إلى آخر كلامه، فهو غير مسلم
، ولا دلالة في الآية على شيء من المذهبين. لأنك إذا قلت: ما زيد بمنطلق، وإنما في ذلك دلالة على نفي انطلاق زيد، وأما أن في ذلك دلالة على اختصاصه بنفي الانطلاق، أو مشاركة غيره له في نفي الانطلاق، فلا إنما يفهم ذلك، أعني الاختصاص، بنفي الخروج من النار، إذ المشاركة في ذلك من دليل خارج، وهل النفي إلا مركب على الإيجاب؟ فإذا قلت: زيد منطلق، فليس في هذا دليل على شيء من الاختصاص، ولا شيء من المشاركة، فكذلك النفي، وكونه قابلا للخصومة والاشتراك، يدل على ذلك. ألا ترى أنك تقول: زيد منطلق لا غيره، وزيد منطلق مع غيره؟.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة. إخباره تعالى بأن الصفا والمروة من معالمه التي جعلها محملا لعبادته، وإن كان قد سبق غشيان المشركين لها، وتقربهم بالأصنام عليها. وصرح برفع الإثم عمن طاف بهما ممن حج أو اعتمر. ثم ذكر أن من تبرع بخير، فإن الله شاكر لفعله، عليم بنيته، لما كان التطوع يشتمل على فعل ونية، ختم بهاتين الصفتين المتناسبتين. ثم أخبر تعالى عمن كتم ما أنزل الله من الحكم الإلهي من بعد ما بينه في كتابه، لعنه الله وملائكته ومن يسوغ منه اللعن من صالحي عباده. ثم استثنى من تاب وأصلح، وبين ما كتم. ولم يكتف بالتوبة فقط حتى أضاف إليها الإصلاح، لأن كتم ما أنزل الله من أعظم الإفساد، إذ فيه حمل الناس على غير المنهج الشرعي. وأضاف التبيين لما كتم حتى يتضح للناس وضوحا بينا ما كان عليه من الضلال، وأنه أقلع عن ذلك، وسلك نقيض فعله الأول، فكان ذلك أدعى لزوال ما قرر أولا من كتمان الحق وبضدها تتبين الأشياء
ثم أخبر تعالى عن هؤلاء المستثنين، أنه يتوب عليهم، وأنه تعالى لا يتعاظم عنده ذنب، وإن كان أعظم الذنوب، إذا تاب العبد منه. ثم أخبر تعالى أنه التواب الرحيم، بصفتي المبالغة التي في فعال وفعيل
649

ولما ذكر تعالى حال المؤمنين المتسمين بالصبر والصلاة والحج، وغير ذلك من أعمال البر، وحال من ارتكب المعاصي، ثم أقلع عن ذلك وتاب إلى الله. ذكر حال من وافى على الكفر، وأنه تحت لعنة الله وملائكته والناس، وأنهم خالدون في اللعنة، غير مخفف عنهم العذاب، ولا مرجؤن إلى وقت. ثم لما كان كفر معظم الكفار إنما هو لاتخاذهم مع الله آلهة * (أجعل الالهة إلاها واحدا) *؟ * (قلت للناس اتخذونى وأمى إلاهين من دون الله قال) *؟ * (وقالت اليهود عزير ابن الله) *، وفي الحديث: (أنهم يسألون فيقولون كنا نعبد عزيرا.
أخبر تعالى أن الإله هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ، ولا له مثيل في صفاته. ثم حصر الإلهية فيه، فتضمن ذلك أنه هو المثيب المعاقب، فوصف نفسه بهاتين الصفتين من الرحمانية والرحيمية. ثم أخذ في ذكر ما يدل على الوحدانية والانفراد بالإلهية. فبدأ بذكر اختراع الأفلاك العلوية، والجرم الكثيف الأرضي، وما يكون فيهما من اختلاف ما به السكون والحركة، من الليل والنهار الناشئين عما أودع الله تعالى في العالم العلوي، واختلاف الفلك ذاهبة وآيبة بما ينفع الناس الناشئ ذلك عما أودع في العالم السفلي، وما يكون مشتركا بين العالمين، من إنزال الماء، وتشقق الأرض بالنبات، وانتشار العالم فيها. ولما ذكر أشياء في الأجرام العلوية، وأشياء في الجرم الأرضي، ذكر شيئا مما هو بين الجرمين، وهو تصريف الرياح والسحاب، إذ كان بذلك تتم النعمة المقتضية لصلاح العالم في منافعهم البحرية والبرية. ثم ذكر أن هذا كله هي آيات للعاقل، تدله على وحدانية الله تعالى واختصاصه بالإلهية، إذ من عبدوه من دون الله يعلمون قطعا أنه لا يمكنه اقتدار على شيء ما تضمنته هذه الآيات، وأنهم بعض ما حوته الدائرة العلوية والدائرة السفلية، وأن نسبتهم إلى من لم يعبدوه من سائر المخلوقات نسبة واحدة في الافتقار والتغير، فلا مزية لهم على غيرهم إلا عند من سلب نور العقل، وغشبته ظلمات الجهل.
ثم ذكر تعالى، بعد ذكر هذه البينات الواضحات الدالة على الوحدانية واستحقاق العبادة، أن من الناس متخذي أنداد، وأنهم يؤثرونهم ويحبونهم مثل محبة الله، فهم يسوون بين الخالق والمخلوق في المحبة، * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *. ثم ذكر أن من المؤمنين أشد حبا لله من هؤلاء لأصناهم. ثم خاطب من خاطب بقوله: * (ولو يرى الذين ظلموا) *، حين عاينوا نتيجة اتخاذهم الأنداد، وهو العذاب، الحال بهم، أي لرأيت أمرا عظيما. ثم نبه على أن أندادهم لا طاقة لها ولا قوة بدفع العذاب عمن اتخذوهم، لأن جميع القوى والقدر هي لله تعالى. ثم ذكر تعالى تبرؤ المتبوعين من التابعين وقت رؤية العذاب وزالت المودات التي كانت بينهم، وأن التابعين تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا ويتبرؤوا من متبوعيهم حيث لا ينفع التمني ولا يمكن أن يقع، فهو تمني مستحيل، لأن الله تعالى قد حكم وأمضى أن لا عودة إلى الدنيا. ثم ذكرتعالى أنهم بعد رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب، أراهم أعمالهم ندامات حيث لا ينفع الندم، ليتضاعف بذلك الألم. ثم ختم ذلك بما ختم لهم من العذاب السرمدي والشقاء الأبدي. نعوذ بالله من يطا نقماته، ونستنزل من كرمه العميم نشر رحماته.
2 (* (ياأيها الناس كلوا مما فى الا رض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بالسوء والفحشآء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون * وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه ءابآءنآ أولو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون * ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعآء وندآء صم بكم عمى فهم لا يعقلون * ياأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكرو
650

ا لله إن كنتم إياه تعبدون * إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلاإثم عليه إن الله غفور رحيم * إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولائك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم * أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فمآ أصبرهم على النار * ذالك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا فى الكتاب لفى شقاق بعيد) *))
) *
الحلال: مقابل الحرام ومقابل المحرم. يقال شيء حلال: أي سائغ الانتفاع به، وشئ حرام: ممنوع منه، ورجل حلال: أي ليس بمحرم. قيل: وسمي حلالا
لانحلال عقد المنع منه، والفعل منه حتى يحل، بكسر الحاء في المضارع، على قياس الفعل المضاعف اللازم. ويقال: هذا حل، أي حلال، ويقال: حل بل على سبيل التوكيد، وحل بالمكان: نزل به، ومضارعه جاء بضم الحاء وكسرها، وحل عليه الدين: حان وقت أدائه. الخطوة، بضم الخاء: ما بين قدمي الماشي من الأرض، والخطوة، بفتحها: المرة من المصدر. يقال: خطا يخط خطوا: مشى. ويقال: هو واسع الخطو. فالخطوة بالضم، عبارة عن المسافة التي يخطو فيها، كالغرفة والقبضة، وهما عبارتان عن الشيء المعروف والمقبوض، وفي جمعها بالألف والياء لغي ثلاث: إسكان الطاء كحالها في المفرد، وهي لغة تميم وناس من قيس، وضمة الطاء اتباعا لضمة الخاء، وفتح الطاء. ويجمع تكسيرا على خطى، وهو قياس مطرد في فعلة الاسم. الفحشاء: مصدر كالبأساء، وهو فعلاء من الفحش، وهو قبح المنظر، ومنه قول امرئ القيس:
* وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
*
إذا هي نصته ولا بمعطل
*
ثم توسع فيه حتى صار يستعمل فيما يستقبح من المعاني. ألفي: وجد، وفي تعديها إلى مفعولين خلاف، ومن منع جعل الثاني حالا، والأصح كونه مفعولا لمجيئه معرفة، وتأويله على زيادة الألف واللام على خلاف الأصل. النعيق: دعاء الراعي وتصويته بالغنم، قال الشاعر:
* فانعق بضأنك يا جرير فإنما
*
منتك نفسك في الخلاء ضلالا
*
ويقال: نعق المؤذن، ويقال: نعق بتعق نعيقا ونعاقا ونعقا، وأما نغق الغراب، فبالغين المعجمة. وقيل أيضا: يقال بالمهملة في الغراب. النداء: مصدر نادى، كالقتال مصدر قاتل، وهو بكسر النون، وقد يضم. قيل: وهو مرادف
651

للدعاء، وقيل: مختص بالجهر، وقيل: بالبعد، وقيل: بغير المعين. ويقال: فلان أندى صوتا من فلان، أي أقوى وأشد وأبعد مذهبا. اللحم: معروف. يقال: لحم الرجل لحامه، فهو لحيم: ضخم. ولحم يلحم، فهو لحم: اشتاق إلى اللحم. ولحم الناس يلحمهم: أطعمهم اللحم، فهو لاحم. وألحم، فهو ملحم: كثر عنده اللحم. الخنزير: حيوان معروف، ونونه أصلية، فهو فعليل. وزعم بعضهم أن نونه زائدة، وأنه مشتق من خزر العين، لأنه كذلك ينظر. يقال: تخازر الرجل: ضيق جفنه ليحدد النظر، والخزر: ضيق العين وصغرها، ويقال: رجل أخزر: بين الخزر. وقيل: هو النظر بمؤخر العين، فيكون كالتشوش. الإهلال: رفع الصوت، ومنه الإهلال بالتلبية، ومنه سمي الهلال لارتفاع الصوت عند رؤيته، ويقال: أهل الهلال واستهل، ويقال: أهل بكذا: رفع صوته. قال ابن أحمر:
* يهل بالفدفد ركباننا
*
كما يهل الراكب المعتمر
*
وقال النابغة:
* أو درة صدفية غواصها
*
بهج متى تره يهل ويسجد
*
ومنه: إهلال الصبي واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته. وقال الشاعر:
* يضحك الذئب لقتلي هذيل
*
وترى الذئب لها يستهل
*
البطن: معروف، وجمعه على فعول قياس، ويجمع أيضا على بطنان، ويقال: بطن الأمر يبطن، إذا خفي. وبطن الرجل، فهو بطين: كبر بطنه. والبطنة: امتلاء البطن بالطعام. ويقال: البطنة تذهب الفطنة.
* (النار يأيها الناس كلوا مما فى الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) *: هذا ثاني نداء وقع في سورة البقرة بقوله: يا أيها الناس، ولفظه عام. قال الحسن: نزلت في كل من حرم على نفسه شيئا لم يحرمه الله عليه. وروي الكلبي ومقاتل وغيرهما: أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب، قاله النقش. وقيل: في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة. قيل: وبني مدلج، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وحرموا البحيرة والسوائب والوصيلة والحام. فإن صح هذا، كان السبب خاصا واللفظ عاما، والعبرة بعموم اللفظ لا يخصوص السبب. ومناسبة هذا لما قبله، أنه لما بين التوحيد ودلائله، وما للتائبين والعاصين، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الكافر والمؤمن، ليدل أن الكفر لار يؤثر في قطع الأنعام. وقال المروزي: لما حذر المؤمنين من حال من يصير عمله عليه حسرة، أمرهم بأكل الحلال، لأن مدار الطاعة عليه. كلوا: أمر إباحة وتسويغ، لأنه تعالى هو الموجد للأشياء، فهو المتصرف فيها على ما يريد.
مما في الأرض، من: تبعيضية، وما: موصولة، ومن: في موضع المفعول، نحو: أكلت من الرغيف، وحلالا: حال من الضمير المتسقر في الصلة المنتقل من العامل فيها إليه. وقال مكي بن أبي طالب: حلالا: نعت لمفعول تقديره محذوف تقديره شيئا
652

حلالا، قال ابن عطية: وهذا بعيد ولم يبين وجه بعده، وبعده أنه مما حذف الموصوف، وصفته غير خاصة، لأن الحلال يتصف به المأكول وغير المأكول. وإذا كانت الصفة هكذا، لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه. وأجاز قوم أن ينتصب حلالا على أنه مفعول بكلوا، وبه ابتدأ الزمخشري. ويكون على هذا الوجه من لابتداء الغاية متعلقة بكلوا، أو متعلقة بمحذوف، فيكون حالا، والتقدير: كلوا حلالا مما في الأرض. فلما قدمت الصفة صارت حالا، فتعلقت بمحذوف، كما كانت صفة تتعلق بمحذوف. وقال ابن عطية: مقصد الكلام لا يعطي أن تكون حلالا مفعولا بكلوا، تأمل. انتهى.
طيبا: انتصب صفة لقوله: حلالا، إما مؤكدة لأن معناه ومعنى حلالا واحد، وهو قول مالك وغيره، وإما مخصصة لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ، وهو قول الشافعي وغيره. ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث. وقيل: انتصب طيبا على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلا طيبا، وهو خلاف الظاهر. وقال ابن عطية: ويصح أن يكون طيبا حالا من الضمير في كلوا تقديره: مستطيبين، وهذا فاسد في اللفظ والمعنى. أما اللفظ فلأن طيبا اسم فاعل وليس بمطابق للضمير، لأن الضمير جمع، وطيب مفرد، وليس طيب بمصدر، فيقال: لا يلزم المطابقة. وأما المعنى: فلأن طيبا مغاير لمعنى مستطيبين، لأن الطيب من صفات المأكول، والمستطيب من صفات الآكل. تقول: طاب لزيد الطعام، ولا تقول: طاب زيد الطعام، في معنى استطابة. وقال الزمخشري في قوله طيبا: طاهرا من كل شبهة. وقال السجاوندي: حلالا مطلق الشرع، طيبا مستلذ الطبع. وقال في المنتخب ما ملخصه: الحلال: الذي انحلت عنه عقدة الخطر، إما لكونه حراما لجنسه كالميتة، وإما لا لجنسه كملك الغير، إذ لم يأذن في أكله. والطيب لغة الطاهر، والحلال يوصف بأنه طيب، كما أن الحرام يوصف بأنه خبيث، والأصل في الطيب ما يستلذ، ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه، لأن النجس تكرهه النفس، والحرام لا يستلذ، لأن الشرع منه. انتهى. والثابت في اللغة: أن الطيب هو الطاهر من الدنس. قال:
والطيبون معاقد الأزر
وقال آخر
* ولي الأصل الذي في مثله
*
يصلح الآبر زرع المؤتبر طيبوا الباءة سهل ولهم
سبل إن شئت في وحش وعر
*
وقال الحسن: الحلال الطيب: هو ما لا يسئل عنه يوم القيامة. وقال ابن عباس: الحلال الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا وبال في الآخرة. وقيل: الحلال ما يجوزه المفتي، والطيب ما يشهد له القلب بالحل. وقد استدل من قال بأن الأصل في الأشياء الحظر بهذه الآية، لأن الأشياء ملك الله تعالى، فلا بد من إذنه فيما يتناول منها، وما عدا ما لم يأذن فيه يبقى على الحظر. وظاهر الآية أن ما جمع الوصفين الحل والطيب مما في الأرض، فهو مأذون في أكله. أما تملكه والتصدق به، أو ادخاره، أو سائر الانتفاعات به غير الأكل، فلا تدل عليه الآية. فإما أن يجوز ذلك بنص آخر، أو إجماع عند من لا يرى القياس، أو بالقياس على الأكل عند من يقول بالقياس.
* (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) * وقرأ ابن عامر والكسائي وقنبل وحفص وعباس، عن أبي عمرو والبرجمي، عن أبي بكر: بضم الخاء والطاء وبالواو. وقرأ باقي السبعة: بضم الخاء وإسكان الطاء وبالواو. وقرأ أبو السمال: خطوات، بضم الخاء وفتح الطاء وبالواو. وقد تقدم أن هذه لغى ثلاث في جمع خطوة. ونقل ابن عطية والسجاوندي أن أبا السمال قرأ: خطوات، بفتح الخاء والطاء وبالواو، جمع خطوة، وهي المرة من
653

الخطو. وقرأ علي وقتادة والأعمش وسلام: خطؤات، بضم الخاء والطاء والهمزة، واختلف في توجيه هذه القراءة فقيل: الهمزة أصل، وهو من الخطأ جمع خطأة، إن كان سمع، وإلا فتقديرا. وممن قال إنه من الخطأ أبو الحسن الأخفش، وفسره مجاهد خطاياه، وتفسيره يحتمل أن يكون فسر بالمرادف، أو فسر بالمعنى. وقيل: هو جمع خطوة، لكنه توهم ضمة الطاء أنها على الواو فهمز، لأن مثل ذلك قد يهمز. قال معناه الزمخشري: والنهي عن اتباع خطوات الشيطان كناية عن ترك الاقتداء به، وعن اتباع ما سن من المعاصي. يقال: اتبع زيد خطوات عمرو ووطىء على عقبيه، إذ سلك مسلكه في أحواله. قال ابن عباس: خطواته أعماله. وقال مجاهد:
خطاياه. وقال السدي: طاعته. وقال أبو مجلز: النذور في المعاصي. وقيل: ما ينقلهم إليه من معصية إلى معصية، حتى يستوعبوا جميع المعاصي، مأخوذ من خطو القدم من مكان إلى مكان. وقال الزجاج وابن قتيبة: طرقه. وقال أبو عبيدة: محقرات الذنوب. وقال المؤرخ آثاره وقال عطاء: زلاته، وهذه أقوال متقاربة المعنى صدرت من قائلها على سبيل التمثيل. والمعنى بها كلها النهي عن معصية الله، وكأنه تعالى لما أباح لهم الأكل من الحلال الطيب، نهاهم عن معاصي الله وعن التخطي إلى أكل الحرام، لأن الشيطان يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة، فيزين بذلك ما لا يحل، فزجر الله عن ذلك. والشيطان هنا إبليس، والنهي عنا عن اتباع كل فرد فرد من المعاصي، لا أن ذلك يفيد الجمع، فلا يكون نهيا عن المفرد.
* (إنه لكم عدو مبين) *: تعليل لسبب هذا التحذير من اتباع الشيطان، لأن من ظهرت عداوته واستبانت، فهو جدير بأن لا يتبع في شيء وأن يفر منه، فإنه ليس له فكر إلا في إرداء عدوه.
* (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء) *: لما خبرته أنه عدو، أخذ يذكر ثمرة العداوة وما نشأ عنها، وهو أمره بما ذكر. وقد تقدم الكلام في إنما في قوله: * (إنما نحن مصلحون) *. وفي الخلاف فيها، أتفيد الحصر أم لا؟ وأمر الشيطان، إما بقوله في زمن الكهنة وحيث يتصور، وإما بوسوسته وإغوائه. فإذا أطيع، نفذ أمره بالسوء، أي بما يسوء في العقبى. وقال ابن عباس: السوء ما لا حد له. والفحشاء، قال السدي: هي الزنا. وقال ابن عباس: كل ما بلغ حدا من الحدود لأنه يتفاحش حينئذ. وقيل: ما تفاحش ذكره. وقيل: ما قبح قولا أو فعلا. وقال طاوس: ما لا يعرف في شريعتة ولا سنة. وقال عطاء: هي البخل.
* (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *، قال الطبري: يريد به ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوه، وجعلوه شرعا. وقال الزمخشري: هو قولهم هذا حلال وهذا حرام بغير علم، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله مما لا يجوز عليه. انتهى. قيل: وظاهر هذا تحريم القول في دين الله بما لا يعلمه القائل من دين الله، فيدخل في ذلك الرأي والأقيسة والشبهية والاستحسان. قالوا: وفي هذه الآية إشارة إلى ذم من قلد الجاهل واتبع حكمه. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله: * (ليس لك عليهم سلطان) *؟ قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتني نفسي بكذا، وتحته رمز إلى أنكم فيه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه، ولذلك قال: * (ولامرنهم فليبتكن ءاذان الانعام) * * (ولامرنهم فليغيرن خلق الله) *. وقال الله تعالى: * (إن النفس لامارة بالسوء) * لما كان الإنسان يطعمها ويعطيها
654

ما اشتهت. انتهى كلامه.
* (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا) *: الضمير في لهم عائد على كفار العرب، لأن هذا كان وصفهم، وهو الاقتداء بآبائهم، ولذلك قالوا لأبي طالب، حين احتضر: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ذكروه بدين أبيه ومذهبه. وقال ابن عباس: نزلت في اليهود، فعلى هذا يكون الضمير عائدا على غير مذكور، وهم أشد الناس اتباعا لأسلافهم. وقيل: هو عائد على من، من قوله: * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) *، وهو بعيد. وقال الطبري: هو عائد على الناس من قوله: * (النار يأيها الناس كلوا) * وهذا هو الظاهر، ويكون ذلك من باب الالتفات، وحكمته أنهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجب من فعله، حيث دعي إلى اتباع شريعة الله التي هي الهدى والنور. فأجاب باتباع شريعة أبيه، وكأنه يقال: هل رأيتم أسخف رأيا وأعمى بصيرة ممن دعى إلى اتباع القرآن المنزل من عند الله، فرد ذلك وأضرب عنه؟ وأثبت أنه يتبع ما وجد عليه أباه؟ وفي هذا دلالة على ذم التقليد، وهو قبول الشيء بلا دليل ولا حجة. وحكى ابن عطية أن الإجماع منعقد على إبطاله في العقائد. وفي الآية دليل على أن ما كان عليه آباؤهم هو مخالف لما أنزل الله، فاتباع أبنائهم لآبائهم تقليد في ضلال. وفي هذا دليل على أن دين الله هو اتباع ما أنزل الله، لأنهم لم يؤمروا إلا به. والمراد بقوله: وإذا، التكرار. وبنى قيل لما لم يسم فاعله، لأنه أخصر، لأنه لو ذكر الآمرون لطال الكلام، لأن الآمر بذلك هو الرسول ومن يتبعه من المؤمنين. وفي قوله: * (أنزل الله ولا) * إعلام بتعظيم ما أمروهم باتباعه أن نسب إنزاله إلى الله الذي هو المشرع للشرائع، فكان ينبغي أن يتلقى بالقبول ولا يعارض باتباع آبائهم رؤوس الضلالة. وأدغم الكسائي لام بل في نون نتبع، وأظهر ذلك غيره. وبل هنا عاطفة جملة على جملة محذوفة، التقدير: لا نتبع ما أنزل الله، * (بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا) *. ولا يجوز أن يعطف على قوله: * (اتبعوا ما أنزل الله) *. وعليه متعلق بقوله: ألفينا، وليست هنا متعدية إلى اثنين، لأنها بمعنى وجد، التي بمعنى أصاب.
* (أو * لو كان * لا يعقلون شيئا ولا يهتدون * ومثل) *: الهمزة للاستفهام المصحوب بالتوبيخ والإنكار والتعجب من حالهم، وأما الواو بعد الهمزة، فقال الزمخشري: الواو للحال، ومعناه: أيتبعونهم، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب؟ وقال ابن عطية: الواو لعطف جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزام هذا، أي هذه حال آبائهم. انتهى كلامه. وظاهر قول الزمخشري أن الواو للحال، مخالف لقول ابن عطية إنها للعطف، لأن واو الحال ليست للعطف. والجمع بينهما أن هذه الجملة المصحوبة بلو في مثل هذا السياق، هي جملة شرطية. فإذا قال: اضرب زيدا ولو أحسن إليك، المعنى: وإن أحسن، وكذلك: أعطوا السائل ولو جاء على فرس؛ ردوا السائل ولو بشق تمرة، المعنى فيها: وإن. وتجيء لو هنا تنبيها على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعل، ولتدل على أن المراد بذلك وجود الفعل في كل حال، حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل. ولذلك لا يجوز: اضرب زيدا ولو أساء إليك، ولا أعطوا السائل ولو كان محتاجا، ولا ردوا السائل ولو بمائة دينار. فإذا تقرر هذا، قالوا وفي ولو في المثل التي ذكرناها عاطفة على حال مقدرة، والعطف على الحال حال، فصح أن يقال: إنها للحال من حيث أنها عطفت جملة حالية على حال مقدرة. والجملة المعطوفة على الحال حال، وصح أن يقال: إنها للعطف من حيث ذلك العطف، والمعنى: والله أعلم إنكار اتباع آبائهم في كل حال، حتى في الحالة التي لا
تناسب أن يتبعوا فيها، وهي تلبسهم بعدم العقل وعدم الهداية. ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على لو، إذا كانت تنبيها على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها. وإن كانت الجملة الواقعة حالا فيها ضمير يعود على ذي الحال، لأن مجيئها عارية من الواو يؤذن بتقييد
655

الجملة السابقة بهذه الحال، فهو ينافي استغراق الأحوال حتى هذه الحال. فهما معنيان مختلفان، والفرق ظاهر بين: أكرم زيدا لو جفاك، أي إن جفاك، وبين أكرم زيدا ولو جفاك. وانتصاب شيئا على وجهين: أحدهما: على المفعول به فعم جميع المعقولات، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم، ولا يمكن أن يكون المراد نفي الوحدة فيكون المعنى لا يعقلون شيئا بل أشياء. والثاني: أن يكون منصوبا على المصدر، أي شيئا من العقل، وإذا انتفى، انتفى سائر العقول، وقدم نفي العقل، لأنه الذي تصدر عنه جميع التصرفات، وأخر نفي الهداية، لأن ذلك مترتب على نفي العقل، لأن الهداية للصواب هي ناشئة عن العقل، وعدم العقل عدم لها.
* (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون) *: لما ذكر تعالى أن هؤلاء الكفار، إذا أمروا باتباع ما أنزل الله، أعرضوا عن ذلك ورجعوا إلى ما ألفوه من اتباع الباطل الذي نشؤوا عليه ووجدوا عليه آباءهم، ولم يتدبروا ما يقال لهم، وصموا عن سماع الحق، وخرسوا عن النطق به، وعموا عن إبصار النور الساطع النبوي. ذكر هذا التشبيه العجيب في هذه الآية منبها على حالة الكافر في تقليده أباه ومحقرا نفسه، إذ صار هو في رتبة البهيمة، أو في رتبة داعيها، على الخلاف الذي سيأتي في هذا التشبيه.
وهذه الآية لا بد في فهم معناها من تقدير محذوف. واختلفوا، فمنهم من قال: المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق. ومنهم من قال: هو مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به، ومنهم من قال: هو مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق، ومنهم من قال: هو مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به. فعلى أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق، قيل: يكون التقدير: ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم وعقلهم، كمثل الرعاة يكلمون البهم، والبهم لا تعقل شيئا. وقيل: يكون التقدير: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم، كمثل الناعق بغنمه، فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء ونداء، وكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة وعبادته الأوثان إلا العناء. قال الزمخشري: وقد ذكر هذا القول، إلا أن قوله: * (إلا دعاء ونداء) * لا يساعد عليه، لأن الأصنام لا تسمع شيئا. انتهى كلامه. ولحظ الزمخشري في هذا القول تمام التشبيه من كل جهة، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاء ونداء، فكذلك مدعو الكافر من الصنم، والصنم لا يسمع، فضعف عنده هذا القول. ونحن نقول: التشبيه وقع في مطلق الدعاء، لا في خصوصيات المدعو، فشبه الكافر في دعائه الصنم بالناعق بالبهيمة، لا في خصوصيات المنعوق به. وقيل في هذا القول، أعني قول من قال التقدير: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأصنامهم أن الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم من الضأن أو غيرها، وإنما المراد به الصائح في جوف الجبال، فيجيبه منها صوت يقال له الصدا، يجيبه ولا ينفعه. فالمعنى: بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه ونداءه، قاله ابن زيد. فعلى القولين السابقين يكون الفاعل بيسمع ضميرا يعود على ما، وهو المنعوق به. وعلى هذا القول يكون الفاعل ضميرا عائدا على الذي ينعق، ويكون الضمير العائد على ما الرابط للصلة بالموصول محذوفا لفهم المعنى تقديره: بما لا يسمع منه، وليس فيه شروط جواز الحذف، لأن الضمير مجرور بحرف جر الموصول بغيره. واختلف ما يتعلقان به، فالحرف الأول باء تعلقت بينعق، والثاني من تعلق بيسمع. وقد جاء في كلامهم مثل هذا، قال: وقيل المراد بالذين كفروا: المتبوعون لا التابعون، ومعناه: مثل الذين كفروا في دعائهم أتباعهم، وكون أتباعهم لا يحصل لهم منهم إلا الخيبة والخسران، كمثل الناعق بالغنم.
656

وأما القول على أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به، وهو البهائم التي لا تعقل مثل: الإبل، والبقر، والغنم، والحمير، وهو قول ابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة والحسن والربيع والسدي. وأكثر المفسرين اختلفوا في تقديره مصحح هذا التشبيه، فقيل التقدير: ومثل الذين كفروا في دعاتهم إلى الله تعالى وعدم سماعهم إياه، كمثل بهائم الذي ينعق، فهو على حذف قيد في الأول، وحذف مضاف من الثاني. وقيل التقدير: ومثل الذين كفروا في عدم فهمهم عن الله وعن رسوله، كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي غير الصوت. فيراد بالذي ينعق، الذي ينعق به، فيكون هذا من المقلوب عندهم. قالوا: كما تقول: دخل الخاتم في يدي والخف في رجلي. وكقولهم: عرض الحوض على الناقة، وأوردوا مما ذكروا أنه مقلوب جملة. وذهب إلى هذا التفسير أبو عبيدة والفراء وجماعة، وينبغي أن ينزه القرآن عنه، لأن الصحيح أن القلب لا يكون إلا في الشعر، أو إن جاء في الكلام، فهو من القلة بحيث لا يقاس عليه. وأما القول على أن المثل مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق، فيكون قوله تعالى: * (ومثل الذين كفروا) * هو على تقدير: ومثل داعي الذين كفروا. فهو على حذف مضاف، فلا يكون من تشبيه الكافر بالناعق، ولا بالمنعوق، وإنما يكون من باب تشبيه داعي الكافر في دعائه إياه بالناعق بالبهائم، في كون الكافر لا يفهم مما يخاطبه به داعيه إلا دوي الصوت دون إلقاء ذهن ولا فكر، فهو شبيه بالناعق بالبهيمة التي لا تسمع من الناعق بها إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم شيئا آخر. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بما لا يسمع الأصم الأصلخ، الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والصوت لا غير، من غير فهم للحروف. وأما على القول بأن المثل مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به، فهو الذي اختاره سيبويه في الآية. إن المعنى: مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا، كمثل الناعق والمنعوق به. وقد اختلف في كلام سيبويه فقيل: هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، وقيل: هو تفسير إعراب، وهو أن الكلام حذفين: حذف من الأول، وهو حذف داعيهم، وقد أثبت نظيره في الثاني، وحذف من الثاني، وهو حذف المنعوق به، وقد أثبت نظيره في الأول؛ فشبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه إلا أصواتا، ولا يعرفون ما وراءها. وفي هذا الوجه حذف كثير، إذ فيه حذف معطوفين، إذ التقدير الصناعي: ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق والمنعوق به. وذهب إلى تقرير هذا الوجه جماعة من أصحابنا، منهم الأستاذ أبو بكر بن طاهر وتلميذه أبو الحسن بن خروف، والأستاذ أبو علي الشلوبين وقالوا: إن العرب تستحسنه، وإنه من بديع كلامها، ومثاله قوله تعالى: * (وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضاء) * التقدير: وأدخل يدك في جيبك تدخل، وأخرجها
تخرج بيضاء، فحذف تدخل لدلالة تخرج، وحذف وأخرجها لدلالة وأدخل، قالوا: ومثل ذلك قول الشاعر:
* وإني لتعروني لذكراك فترة
*
كما انتفض العصفور بلله القطر
*
لم يرد أن يشبه فترته بانتقاض العصفور حين يبله اقطر، لكونهما حركة وسكونا، فهما ضدان، ولكن تقديره: إني إذا ذكرتك عراني انتفاض ثم أفتر، كما أن العصفور إذا بلله القطر عراه فترة ثم ينتفض، غير أن وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة، وفترة العصفور قبل انتفاضه. وهذه الأقوال كلها في التشبيه، إنما هي على مراعاة تشبيه مفرد بمفرد، ومقابلة جزء من الكلام السابق بجزء من الكلام المشبه به. وأما إذا كان التشبيه من باب تشبيه الجملة بالجملة، فلا يراعى في ذلك مقابلة الألفاظ المفردة، بل ينظر فيه إلى المعنى. وعلى هذا الضرب من التشبيه حمل الآية أبو القاسم الراغب، قال
657

الراغب: فلما شبه قصة الكافرين في إعراضهم عن الداعي لهم إلى الحق بقصة الناعق، قدم ذكر الناعق ليبني عليه ما يكون منه ومن المنعوق به. وعلى هذا * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) *، وقوله تعالى: * (مثل ما ينفقون فى هاذه الحيواة الدنيا) *. فهذه تسعة أقوال في تفسير هذه الآية.
وقد بقي شيء من الكلام عليها، فنقول: ومثل الذين مبتدأ، خبره كمثل، والكاف للتشبيه. شبه الصفة بالصفة، أي صفتهم كصفة الذي ينعق. ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة، فقوله ليس بشيء، لأن الصفة ليست عين الصفة، فلا بد من الكاف التي تعطى التشبيه. بل لو جاء دونن الكاف لكنا نعتقد حذفها، لأن به تصحيح المعنى. والذي ينعق، لا يراد به مفرد، بل المراد الجنس. وتقدم أن المراد: كالناعق بالبهائم، أو كالمصوت في الجبال الذي لا يجيبه منها إلا الصدا، أو كالمصوت بالأصم الأصلخ، أو الكنعوق به، فيكون من باب القلب. وقيل: كالمصوت بشيء بعيد منه، فهو لا يسمع من أجل البعد، فليس للمصوت من ذلك إلا النداء الذي ينصبه ويتعبه. وقيل: وقع التشبيه بالراعي للضأن، لأنها من أبله الحيوان، فهي تحمق راعيها. وفي المثل: أحمق من راعي ضأن ثمانين. وقال دريد بن الصمة لمالك بن عوف، يوم هوازن: راعي ضأن والله، لأنه لما جاء إلى قتال النبي صلى الله عليه وسلم)، أمر هوازن ومن كان معهم أن يحملوا معهم المال والنساء، فلما لقيه دريد قال: أراك سقت المال والنساء؟ فقال: يقاتلون عن أموالهم وحريمهم. فقال له دريد: أمنت أن تكون عليك راعي ضان والله لأصحبتك، وقال الشاعر:
* أصبحت هزءا لراعي الضان يهزأ بي
*
ماذا يريبك مني راعي الضان
*
إلا دعاء ونداء: هذا استثناء مفرغ، لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله. وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغا وأن إلا زائدة، والدعاء والنداء منفي سماعهما، والتقدير: بما لا يسمع دعاء ولا نداء، وهذا ضعيف، لأن القول بزيادة إلا، قول بلا دليل. وقد ذهب الأصمعي، رحمه الله، إلى ذلك في قوله:
* خراجيح ما تنفك إلا مناخة
*
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
*
وضعف قوله في ذلك، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به، فنثبت لها الزيادة، وأورد بعضهم هنا سؤالا فقال: فإن قيل قوله لا يسمع إلا دعاء وندا، ليس المسموع إلا الدعاء والنداء، فكيف ذمهم بأنهم لا يسمعون إلا الدعاء؟ وكأنه قيل: لا يسمعون إلا المسموع، وهذا لا يجوز. فالجواب: أن في الكلام إيجارا، وإنما المعنى: لا يفهمون معاني ما يقال لهم، كما لا يميز البهائم بين معاني الألفاظ التي لا تصوت بها، وإنما يفهم شيئا يسيرا، وقد أدركته بطول الممارسة وكثرة المعاودة، فكأنه قيل: ليس لهم إلا سماع النداء دون إدراك المعاني والأعراض. انتهى كلامه. وقال علي بن عيسى: إنما ثنى فقال: إلا دعاء ونداء، لأن الدعاء طلب الفعل، والنداء إجابة الصوت. * (صم بكم عمى) *: تقدم الكلام على هذه الكلم. * (فهم لا يعقلون) *: لما تقرر فقدهم لمعاني هذه الحواس، قضى بأنهم لا يعقلون. كما قال أبو المعالي وغيره: العقل علوم ضرورية يعطيها هذه الحواس، إذ لا بد في كسبها من الحواس. انتهى. قيل: والمراد العقل الاكتسابي، لأن العقل المطبوع كان حاصلا لهم، والعقل عقلان: مطبوع ومكسوب. ولما كان الطريق لاكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاث، كان إعراضهم عنها فقدا للعقل
658

المكتسب، ولهذا قيل: من فقد حسا فقد فقد عقلا.
* (يعقلون يأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) *: لما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، بين لهم ما حرم عليهم، لكونه أقل. فلما بين ما حرم، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر. وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم)، لما سئل عما يلبس المحرم فقال: (لا يلبس القميص ولا السراويل)، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور، لكثرة المباح وقلة المحظور، وهذا من الإيجاز البليغ. والذين آمنوا: جمع من آمن برسول
الله صلى الله عليه وسلم)، ويجوز أن يراد أهل المدينة، فاللفظ عام والمراد خاص. وقيل: هذا الخطاب مؤكدا لقوله: * (الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار يأيها الناس كلوا مما فى الارض حلالا طيبا) *، فصار هذا الأمر الثاني مثل الأول في أن متعلقة المستلذ الحلال. ما رزقناكم: فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة، لما في الرزق من الامتنان والإحسان. وإذا فسر الطيبات بالحلال، كان في ذلك دلالة على أن ما رزقه الله ينفسم إلى حلال وإلى حرام، بخلاف ما ذهبت إليه المعتزلة، من أن الرزق لا يكون إلا حلالا. وقد تقدم الكلام على الرزق في أول السورة، فأغنى عن إعادته هنا. ومن منع أن يكون الرزق حراما قال: المراد كلوا من مستلذ ما رزقناكم، وهو الحلال، أمر بذلك وأباحه تعالى دفعا لمن يتوهم أن التنوع في المطاعم والتفنن في إطابتها ممنوع منه، فكان تخصيص المستلذ بالذكر لهذا المعنى.
* (واشكروا لله) *: هذا من الالتفات، إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب، وحكمة ذلك ظاهرة، لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الأنعام والزرق والشكر، ليس على هذا الإذن الخاص، بل يشكر على سائر الإنعامات والامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص. وجاء هنا تعدية الشكر باللام، وقد تقدم الكلام على ذلك.
وتضمنت هذه الآية أمرين: الأول: * (كلوا) *، قالوا: وهو عند دفع الضرر واجب، ومع الضيف مندوب إليه، وإذا خلا عن العوارض كان مباحا، وكذا هو في الآية. والثاني: * (واشكروا لله) *، وهو أمر وليس بإباحة. قيل: ولا يمكن القول بوجوب الشكر، لأنه إما أن يكون بالقلب، أو باللسان، أو بالجوارح. فبالقلب هو العلم بصدور النعمة من المنعم، أو العزم على تعظيمه باللسان، أو الجوارح. أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل، فإن العاقل لا ينسى ذلك. فإذا كان ذلك العلم ضروريا، فكيف يمكن إيجابه؟ وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح، فذلك العزم القلبي تابع للإقرار اللساني والعمل بالجوارح. فإذا بينا أنهما لا يجبان، كان العزم بأن لا يجب أولى. وأما الشكر باللسان، فإما أن يفسر بالاعتراف له بكونه منعما، أو بالثناء عليه. فهذا غير واجب بالاتفاق، بل هو من باب المندوبات. وأما الشكر بالجوارح والأعضاء، فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه، وذلك أيضا غير واجب. وقال غير هذا القائل الذي تلخص أنه يجب اعتقاد كونه مستحقا للتعظيم، وإظهارذلك باللسان أو سائر الأفعال إن وجدت هناك. وهذا البحث في وجوب الشكر أو عدم وجوبه، كان يناسب في أول شكر أمر به وهو قوله: * (واشكروا لي ولا تكفرون) *.
* (إن كنتم إياه تعبدون) *: من ذهب إلى أن معناها معنى إذ، فقوله ضعيف، وهو قول كوفي، ولا يراد بالشرط هنا إلا
659

التثبت والهز للنفوس، وكأن المعنى: العبادة له واجبة، فالشكر له واجب، وذلك كما تقول لمن هو متحقق العبودية إن كنت عبدي فأطعني، لا تريد بذلك التعليق المحض، بل تبرزه في صورة التعليق، ليكون أدعى للطاعة وأهزلها. وقيل: عبر بالعبادة عن العرفان، كما قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *. قيل: معناه ليعرفون، فيكون المعنى: أشكروا الله إن كنتم عارفين به وبنعمه، وذلك من إطلاق الأثر على المؤثر. وقيل: عبر بالعبادة عن إرادة العبادة، أي اشكروا الله إن كنتم تريدون عبادته، لأن الشكر رأس العبادات. وقال الزمخشري: إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم) يقول الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري. انتهى كلامه. وإيا هنا مفعول مقدم، وقدم لكون العامل فيه وقع رأس آية، وللاهتمام به والتعظيم لشأنه، لأنه عائد على الله تعالى، كما في قولك: * (وإياك نستعين) *، وهذا من الموضع التي يجب فيها انفصال الضمير، وهو إذا تقدم على العامل أو تأخر، لم ينفصل إلا في ضرورة، قال:
إليك حتى بلغت إياكا
* (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) *: تقدم الكلام على إنما في قوله: * (إنما نحن مصلحون) *. وقرأ الجمهور: حرم مسندا إلى ضمير اسم الله، وما بعده نصب، فتكون ما مهيئة في إنما هيأت إن لولايتها الجملة الفعلية. وقرأ ابن أبي عبلة: برفع الميتة وما بعدها، فتكون ما موصولة اسم إن، والعائد عليها محذوف، أي إن الذي حرمه الله الميتة، وما بعدها خبران. وقرأ أبو جعفر: حرم، مشددا مبنيا للمفعول، فاحتملت ما وجهين: أحدهما: أن تكون موصولة اسم إن، والعائد الضمير المستكن في حرم والميتة خبران. والوجه الثاني: أن تكون ما مهيئة والميتة مرفوع بحرم. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: إنما حرم، بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازما، والميتة وما بعدها مرفوع. ويحتمل ما الوجهين من التهيئة والوصل، والميتة فاعل يحرم، إن كانت ما مهيئة، وخبر إن، إن كانت ما موصولة. وقرأ أبو جعفر: الميتة، بتشديد الياء في جميع القرآن، وهو أصل للتخفيف. وقد تقدم الكلام على هذا التخفيف في قوله: * (أو كصيب) *، وهما لغتان جيدتان، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله:
* ليس من مات فاستراح بميت
*
إنما الميت ميت الأحياء
*
قيل: وحكى أبو معاذ عن النحويين الأولين، أن الميت بالتخفيف: الذي فارقته الروح، والميت بالتشديد: الذي لم يمت، بل عاين أسباب الموت. وقد تقدم الكلام في الموت. ولما أمر تعالى: بأكل الحلال في الآية السابقة، فصل هنا أنواع الحرام، وأسند التحريم إلى الميتة. والظاهر أن المحذوف هو الأكل، لأن التحريم لا يتعلق بالعين، ولأن السابق المباح هو الأكل في قوله: * (كلوا مما فى الارض * كلوا من طيبات ما رزقناكم) *. فالممنوع هنا هو الأكل، وهكذا حذف المضاف يقدر بما يناسب. فقوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم) *، المحذوف: وطء، كأنه قيل: وطء أمهاتكم
660

* (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *، أي وطء ما وراء ذلكم. فسائر وجوه الانتفاعات محرم من هذه الأعيان المذكورة، إما بالقياس على الأكل عند منيقول بالقياس، وإما بدليل سمعني عند من لا يقول به.
وقال بعض الناس ما معناه: أنه تعالى لما أسند التحريم إلى الميتة، وما نسق عليها وعلقه بعينها، كان ذلك دليلا على تأكيد حكم التحريم وتناول سائر وجوه المنافع، فلا يخص شيء منها إلا بدليل يقتضي جواز الانتفاع به، فاستنبط هذا القول تحريم سائر الانتفاعات من اللفظ. والأظهر ما ذكرناه من تخصص المضاف المحذوف بأنه الأكل. وظاهر لفظ الميتة يتناول العموم، ولا يخص شيء منها إلا بدليل. قال قوم: خص هذا العموم بقوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) *، وبما روي من قوله صلى الله عليه وسلم): (أحلت لنا ميتتان). وقال ابن عطية: الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم. انتهى. فإن عنى لم يدخل في دلالة اللفظ، فلا نسلم له ذلك. وإن عنى لم يدخل ففي الإرادة، فهو كما قال، لأن المخصص يدل على أنه لم يرد به الدخول في اللفظ العام الذي خصص به.
قال الزمخشري: فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد. قلت: قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة. ألا ترى أن القائل إذا قال: أكل فلان ميتة، لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد؟ كما لو قال: أكل دما، لم يسبق إلى الكبد والطحال. ولاعتبار العادة والتعارف قالوا: من حلف لا يأكل لحما، فأكل سمكا، لم يحنث، وإن أكل لحما في الحقيقة. وقال الله تعالى: * (لتأكلوا منه لحما طريا) *، وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة، فركب كافرا، لم يحنث وإن سماه الله دابة في قوله: * (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) *. انتهى كلامه.
وملخص ما يقوله: إن السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة، وليس كما قال. وكيف يكون ذلك، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أحلت لنا ميتتان)؟ فلو لم يندرج في الدلالة، لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله، إذ كان يبقى مدلولا على حله بقوله: * (كلوا مما فى الارض * كلوا من طيبات ما رزقناكم) *. وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة، كما قال الزمخشري، بل لو لم يكن للمخاطب شعور البتة، ولا علم ببعض أفراد العام، وعلق الحكم على العام، لاندرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به. مثال ذلك ما جاء في الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن أكل كل ذي ناب من السباع). فهذا علق الحكم فبه بكل ذي ناب. والمخاطب، الذين هم العرب، لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي، كما في بلادنا، بلاد الأندلس، حيوان مفترس يسمى عندهم بالدب وبالسمع، وهو ذو أنياب يفترس الرجل ويأكله، ولا يشبه الأسد، ولا الذئب، ولا النمر، ولا شيئا مما يعرفه العرب، ولا نعلمه خلق بغير بلاد الأندلس. فهذا لا يذهب أحد إلى أنه ليس مندرجا في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب، بل شمله النهي، كما شمل غيره مما تعاهده العرب وعرفوه، لأن الحكم نيط بالعموم وعلق به، فهو معلق بكل فرد من أفراده، حتى بما كان لم يخلق البتة وقت الخطاب، ثم خلق شكلا مباينا لسائر الأشكال ذوات الأنياب، فيندرج فيه، ويحكم بالنهي عنه. وإنما تمثيل الزمخشري بالإيمان، فللإيمان أحكام منوطة بها، ويؤول التحقيق فيها إلى أن ذلك تخصيص للعموم بإرادة خروج بعض الأفراد منه.
والميتة: ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة. واختلف في السمك الطافي، وهو ما مات في الماء فطفا. فذهب مالك وغيره أنه حلال. ومذهب العراقيين أنه ممنوع من أكله. وفي كلام بعض الحنفيين عن أبي حنيفة أنه مكروه. وأما ما مات من الجراد بغير تسبب، فهو عند مالك وجمهور أصحابه أنه حرام، وعند ابن
661

عبد الحكم وابن نافع حلال، وعند ابن القاسم وابن وهب وأشهب وسحنون تقييدات في الجراد ذكرت في كتب المالكية. هذا حكم الميتة بالنسبة إلى الأكل. وأما الانتفاع بشيء منها، نحو: الجلد، والشعر، والريش، واللبن، والبيض، والأنفخة، والجنين، والدهن، والعظم، والقرن، والناب، والغصب، فذلك مذكور في كتب الفقه، ولهم في ذلك اختلاف وتقييد كثير يوقف على ذلك في تصانيفهم.
والدم: ظاهره العموم، ويتخصص بالمسفوح لآية الأنعام. فإذا كان مسفوحا، فلا خلاف في نجاسته وتحريمه. وفي دم السمك المزايل له في مذهب مالك قولان: أحدهما: أنه طاهر، ويقتضي ذلك أنه غير محرم. وأجمعوا على جواز أكل الدم المتحلل بالعروق واللحم الشاق إخراجه، وكذلك الكبد والطحال. وذكر المفسرون في يسير الدم المسفوح الخلاف في العفو عنه، وفي مقدار اليسير، والخلاف في دم البراغيث والبق والذباب، وهذا كله من علم الفقه، فيطالع في كتب الفقه. ولم يذكرالله تعالى حكمة في تحريم أكل الميتة والدم، ولا جاء نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) في ذلك. ولو تعبدنا تعالى بجواز أكل الميتة والدم، لكان ذلك شرعا يجب اتباعه. وقد ذكروا أن الحكمة في تحريم الميتة جمود الدم فيها بالموت، وأنه يحدث أذى للآكل. وفي تحريم الدم أنه بعد خروجه يجمد، فهو في الأذى كالجامد في الميتة، وهذا ليس بشيء، لأن الحس يكذب ذلك. وجدنا من يأكل الميتة، ويشرب الدم من الأمم، صورهم وسحنهم من أحسن ما يرى وأجمله، ولا يحدث لهم أذى بذلك.
ولحم الخنزير: ظاهره أن المحرم منه هو لحمه فقط. وقد ذهب إلى ذلك داود، رأس الظاهرية، فقال: المحرم اللحم دون الشحم. وقال غيره من سائر العلماء: المحرم لحمه وسائر أجزائه. وإنما خص اللحم بالذكر، والمراد جميع أجزائه، لكون اللحم هو معظم ما ينتفع به. كما نص على قتل الصيد على المحرم، والمراد
حظر جميع أفعاله في الصيد. وكما نص على ترك البيع * (ياأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلواة) *، لأنه كان أعظم ما كانوا يبتغون به منافعهم، فهو أشغل لهم من غيره، والمراد جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة. وقال الزمخشري: فإن قلت: فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه؟ قلت: لأن الشحم داخل في ذكر اللحم بدليل قوله: لحم سمين، يريدون أنه شحيم. انتهى. وقولهم هذا ليس بدليل على أن الشحم داخل في ذكر اللحم، لأن وصف الشيء بأنه يمازجه شيء آخر، لا يدل على أنه مندرج تحت مدلول ذلك الشيء، ألا ترى أنك تقول مثلا رجل لابن، أو رجل عالم؟ لا يدل ذلك على أن اللبن أو العلم داخل في ذكر الرجل، ولا أن ذكر الرجل. مجردا عن الوصفين يدل عليهما. وقال ابن عطية: وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه، ذكي أو لم يذك، وليعم الشحم وما هناك من الغضاريف وغيرها. وأجمعت الأمة على تحريم شحمه. انتهى كلامه. وليس كما ذكر، لأن ذكر اللحم لا يعم الشحم وما هناك من الغضاريف، لأن
662

كلا من اللحم والشحم وما هناك من غضروف وغيره، وليس له اسم يخصه. إذ أطلق ذلك الاسم، لم يدخل فيه الآخر، ولا يدل عليه، لا بمطابقه، ولا تضمن. فإذن، تخصيصه بالذكر يدل على تخصيصه بالحكم، إذ لو أريد المجموع، لدل بلفظ يدل على المجموع. وقوله: أجمعت الأمة على تحريم شحمه، ليس كما ذكر. ألا ترى أن داود لا يحرم إلا ما ذكره الله تعالى، وهو اللحم دون الشحم؟ إلا أن يذهب ابن عطية إلى ما يذكر عن أبي المعالي عبد الملك الجويني، من أنه لا يعتد في الإجماع، بخلاف داود، فيكون ذلك عنده إجماعا. وقد اعتد أهل العلم الذين لهم الفهم التام والاجتهاد، قبل أن يخلق الجويني بأزمان، بخلاف داود، ونقلوا أقاويله في كتبهم، كما نقلوا أقاويل الأئمة، كالأوزاعي، وأبي حنيفة، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد. ودان بمذهبه وقوله وطريقته ناس وبلاد وقضاة وملوك الأزمان الطويلة، ولكنه في عصرنا هذا قد حمل هذا المذهب. ولما كان اللحم يتضمن عند مالك الشحم، ذهب إلى أنه لو حلف حالف أن لا يأكل لحما، فأكل شحما، أنه يحنث. وخالفه أبو حنيفة والشافعي فقالا: لا يحنث، كما لو حلف أنه لا يأكل شحما، فأكل لحما. وقال تعالى: * (حرمنا عليهم شحومهما) *. والإجماع، أن اللحم ليس بمحرم على اليهود، فالحق أن كلا منهما لا يندرج تحت لفظ الآخر.
واختلفوا في الانتفاع بشعره، في خرز وغيره، فأجاز ذلك مالك وأبو حنيفة والأوزاعي، ولم يجز ذلك الشافعي. وقال أبو يوسف: أكره الخرز به. وروي عنه الإباحة أيضا. وهل يتناول لفظ الخنزير خنزير البحر؟ ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه؟ فمنعوا من أكله؟ وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي: لا بأس بأكله. وقال الليث: لا يؤكل خنزير الماء، ولا إنسانه، ولا كلبه. وسئل مالك عن خنزير الماء، فتوقف وقال: أنتم تسمونه خنزيرا. وقال ابن القاسم: أنا أتقيه ولا أحرمه. وعلة تحريم لحم الخنزير قالوا: تفرد النصارى بأكله، فنهى المسلمون عن أكله، ليكون ذلك ذريعة إلى أن تقاطعوهم، إذ كان الخنزير من أنفس طعامهم. وقيل: لكونه ممسوخا، فغلط تحريم أكله لخبث أصله. وقيل: لأنه يقع الغيرة ويذهب بالأنفة، فيتساهل الناس في هتك المحرم وإباحة الزنا، ولم تشر الآية الكريمة إلى شيء من هذه التعليلات التي ذكروها.
وما أهل به لغير الله: أي ما ذبح للأصنام والطواغيت، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك، أو ما ذكر عليه اسم غير الله، قاله الربيع بن أنس وغيره، أو ما ذكر اسم المسيح عليه، قاله الزهري، أو ما قصد به غير وجه الله تعالى للتفاخر والتباهي، قاله علي والحسن. وروي أن عليا قال في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق: إنها مما أهل بها لغير الله، فتركها الناس، راعى علي النية في ذلك. ومنع الحسن من أكل جزور ذبحتها امرأة للعبها وقال: إنها نحرت لصنم. وسئلت عائشة عن أكل ما يذبحه الأعاجم لأعيادهم ويهدون للمسلمين فقالت: لا تأكلوه، وكلوا من أشجارهم. والذي يظهر من الآية تحريم ما ذبح لغير الله، فيندرج في لفظ غير الله الصنم والمسيح والفخر واللعب، وسمي ذلك إهلالا، لأنهم يرفعون أصواتهم باسم المذبوح له عند الذبيحة، ثم توسع فيه وكثر حتى صار اسما لكل ذبيحة جهر عليها أو لم يجهر، كالإهلال بالتلبية صار علما لكل محرم رفع صوته أو لم يرفعه. ومن حمل ذلك على ما ذبح على النصب، وهي الأوثان، أجاز ذبيحة النصراني، إذا سمى عليها باسم المسيح. وإلى هذا ذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وابن المسيب والأوزاعي والليث. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك
663

والشافعي: لا تؤكل ذبائحهم إذا سموا عليها اسم المسيح، وهو ظاهر قوله: * (لغير الله) * كما ذكرناه، لأن الإهلال لغير الله، هو إظهار غير اسم الله، ولم يفرق بين اسم المسيح واسم غيره. وروي عن علي أنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا. وأهل: مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله. والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور في قوله: به، والضمير في به عائد على ما، إذ هي موصولة بمعنى الذي. ومعنى أهل بكذا، أي صالح. فالمعنى: وما صيح به، أي فيه، أي في ذبحه لغير الله، ثم صار ذلك كناية عن كل ما ذبح لغير الله، صيح في ذبحه أو لم يصح، كما ذكرناه قبل. وفي ذبيحتة المجوسي خلاف. وكذلك فيما حرم على اليهودي والنصراني بالكتاب. أما ما حرموه باجتهادهم، فذلك لنا حلال. ونقل ابن عطية عن مالك: الكراهة فيما سمي عليه الكتابي اسم المسيح، أو ذبحه لكنيسة، ولا يبلغ به التحريم.
* (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) *، وقال: * (فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم) *. وقال: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) *، فلم يقيد في هذه الآية الاضطرار، وقيده فيما قبل. فإن المضطر يكون غير متجانف لإثم. وفي الأولى بقوله: * (غير باغ ولا عاد) *. قال مجاهد وابن جبير وغيرهما: غير باغ على المسلمين وعاد عليهم. فيدخل في الباغي والعادي: قطاع السبيل، والخارج على السلطان، والمسافر في قطع الرحم، والغارة على المسلمين وما شاكله، ولغير هؤلاء هي الرخصة. وإلى هذا ذهب الشافعي، وهو أنه إذا لم يخرج باغيا على إمام المسلمين، ولم يكن سفره في معصية، فله أن يأكل من هذه المحرمات إذا اضطر إليها. وإن كان سفره في معصية، أو كان باغيا على الإمام، لم يجز له أن يأكل. وقال عكرمة وقتادة والربيع وابن زيد وغيرهم: غير قاصد فساد وتعد، بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة. وقال ابن عباس والحسن: غير باغ في الميتة في الأكل، ولا عاد بأكلها، وهو يجد غيرها،
وهو يرجع لمعنى القول قبله. وبه قال أبو حنيفة ومالك: وأباح هؤلاء للبغاة الخارجين على المسلمين الأكل من هذه المحرمات عند الاضطرار، كما أباحوا لأهل العدل. وقال السدي: غير باغ، أي متزيد على إمساك رمقه وإبقاء قوته، فيجيء أكله شهوة، ولا عاد، أي متزود. وقيل: غير باغ، أي مستحل لها، ولا عاد، أي متزود منها. وقال شهر بن حوشب: غير باغ، أي مجاوز القدر الذي يحل له، ولا عاد، أي لا يقصده فيما لا يحل له.
والظاهر من هذه الأقوال، على ما يفهم من ظاهر الآية، أنه لا إثم في تناول شيء من هذه المحرمات للمضطر الذي ليس بباغ ولا عاد. وإن قوله: * (إلا ما اضطررتم إليه) *، لا بد فيه من التقييد المذكور هنا، وفي قوله: * (غير متجانف لإثم) *، لأن آية الأنعام فيها حوالة على هاتين الآيتين، لأنه قال: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) *. وتفصيل المحرم هو في هاتين الآيتين، والاضطرار فيهما مقيد، فتعين أن يكون مقيدا في الآية التي أحيلت على غيرها. والظاهر في البغي والعدوان، أن ذلك من قبل المعاصي، لأنهما متى أطلقتا، تبادر الذهن إلى ذلك. وفي جواز مقدار ما يأكل من الميتة، وفي التزود منها، وفي شرب الخمر عند الضرورة قياسا على هذه المحرمات. وفي أكل ابن آدم خلاف مذكور في كتب الفقه، قالوا: وإن وجد ميتة وخنزيرا، أكل الميتة، قالوا: لأنها أبيحت له في حال الاضطرار، والخنزير لا يحل بحال، وليس كما قالوا، لأن قوله: * (فمن اضطر) * جاء بعد ذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير. فالمعنى: فمن اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات، فرتبتها في الإباحة للأكل منها متساوية، فليس شيء منها أولى من الآخر بالإباحة، والمضطر مخير فيما يأكل منها. فقولهم: إن الخنزير لا يحل بحال ليس بصحيح.
وذكر بعض المفسرين أنهم أجمعوا على أن من سافر لغزو، أو حج، أو تجارة، وكان مع ذلك باغيا في أخذ مال، أو عاديا في ترك صلاة أو زكاة، لم يكن ما هو عليه من البغي والعدوان مانعا من استباحة الميتة للضرورة. وأنهم أجمعوا أيضا على جواز الترخيص للباغي، أو العادي الحاضر، وفي نقل هذين الإجماعين نظر.
واختلف القراء في حركة النون من قوله: * (فمن اضطر * وأن احكم) *، * (ولاكن
664

انظر) *، وشبهه وحركة الدال من: * (ولقد استهزىء) *، والتاء من: * (وقالت اخرج عليهن) *، وحركة التنوين من: * (فتيلا * أنظر) *، ونحوه، وحركة اللام من نحو: * (قل ادعوا الله) *، والواو من نحو: * (أو ادعوا الرحمان) *، فكسر ذلك عاصم وحمزة، وحركها أبو عمرو، إلا في اللام والواو؛ وعباس ويعقوب، إلا في الواو؛ وضم باقي السبعة، إلا ابن ذكوان، فإنه كسر التنوين. وعنه في: * (برحمة ادخلوا) *، و * (خبيثة اجتثت) * خلاف، وضابط هذا أنه يكون ضمة هذه الأفعال لازمة، فإن كانت عارضة، فالكسر نحو: * (أن امشوا) *، وتوجيه الكسر أنه حركة التقاء الساكنين، والضم أنه اتباع. ولم يعتدوا بالساكن، لأنه حاجز غير حصين، أو ليدلوا على أن حركة همزة الوصل المحذوفة كانت ضمة. وقرأ أبو جعفر وأبو السمال: فمن اضطر، بكسر الطاء، وأصله اضطرر، فلما أدرغم نقلت حركة الراء إلى الطاء. وقرأ ابن محيصن: فمن اطر، بإدغام الضاد في الطاء، وذلك حيث وقع. ومعنى الاضطرار: الالجاء بعدم، وغرث هذا قول الجمهور. وقيل معناه: أكره وغلب على أكل هذه امحرمات. وانتصاب غير باغ على الحال من الضمير المستكن في اضطر، وجعله بعضهم حالا من الضمير المستكن في الفعل المحذوف المعطوف على قوله: اضطر، وقدره: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد. قدره كذلك القاضي وأبو بكر الرازي ليجعلا ذلك قيدا في الأكل، لا في الاضطرار. ولا يتعين ما لاقاه، إذ يحتمل أن يكون هذا المقدر بعد قوله: غير باغ ولا عاد، بل هو الظاهر والأولى، لأن في تقدير قبل غير باغ ولا عاد فصلا بين ما ظاهره الاتصال بما بعده، وليس ذلك في تقديره بعد قوله غير باغ ولا عاد. وعاد: اسم فاعل من عدا، وليس اسم فاعل من عاد، فيكون مقلوبا، أو محذوفا من باب شاك ولاث، كما ذهب إليه بعضهم، لأن القلب لا ينقاس، ولا نصير إليه إلا لموجب، ولا موجب هنا لادعاء القلب. وأصل البغي، كما تقدم، هو طلب الفساد، وإن كان قد ورد لمطلق الطلب، فاستعمل في طلب الخير، كما قال الشاعر:
* أألخير الذي أنا أبتغيه
*
أم الشر الذي هو يبتغيني
*
ويقال:
لا يمنعك من بغاء الخير تعقاد التمائم فلا إثم عليه، الإثم: تحمل الذنب، نفى بذلك عنه الحرج. والمحذوف الذي قدرناه من قولنا: فأكل، لا بد منه، لأنه لا ينف الإثم عمن لم يوجد منه الاضطرار، ولا يترتب ذلك على الاضطرار وحده، بل على الأكل المترتب على الاضطرار، في حال كون المضطر لا باغيا ولا عاديا. وظاهر هذا التركيب أنه متى كان عاصيا بسفره فأكل، أنه يكون عله الإثم، لأنه يطلق أنه باغ، خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه، فإنه يبيح له الأكل عند الضرورة. وظاهر بناء اضطر حصول مطلق الضرورة بشغب، أو إكراه، سواء حصل الاضطرار في سفر أو حضر. وظاهر قوله: * (فلا إثم عليه) * نفي كل فرد من الإثم عنه إذا أكل، لا وجوب الأكل. وقال الطبري: ليس الأكل عند الضرورة رخصة، بل ذلك عزيمة واجبة، ولو امتنع من الأكل كان عاصيا. وقال مسروق: بلغني أنه من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات، دخل النار، كأنه أشار إلى أنه قاتل نفسه بتركه ما أباح الله له.
* (إن الله غفور رحيم) *: لما ذكر أشياء محرمة اقتضى المنع منها، ثم ذكر إباحتها للمضطر في تلك الحال المقيدة له، أتبع ذلك بالإخبار عن نفسه بأنه تعالى غفور رحيم، لأن المخاطب بصدد أن يخالف، فيقع في شيء من أكل هذه المحرمات، فأخبر بأنه غفور للعصاة إذا تابوا، رحيم بها. أو لأن المخاطب، إذا اضطر فأكل ما
يزيد على قدر الحاجة، فهو تعالى غفورله ذلك، رحيم بأن أباح له قدر الحاجة. أو لأن مقتضى الحرمة قائم في هذه المحرمات، ثم رخص في تناولها مع قيام المانع، فعبر عن هذا الترخيص والإباحة بالمغفرة، ثم ذكر بعد الغفران صفة الرحمة، أي لأجل رحمتي بكم أبحت لكم ذلك..
* (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) *: روي عن ابن عباس أنها نزلت في علماء اليهود، كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي
665

المبعوث منهم. فلما بعث من غيرهم، غيروا صفته وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان، حتى لا يتبعوه. وروي عنه أنه قال: إن الملوك سألوا علماءهم قبل المبعث: ما الذي تجدون في التوراة؟ فقالوا: نجد أن الله يبعث نبيا من بعد المسيح يقال له محمد، بتحريم الربا والخمر والملاهي وسفك الدماء. فلما بعث، قالت الملوك لليهود: هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقالوا، طمعا في أموال الملوك: ليس هذا بذلك النبي. فأعطاهم الملوك الأموال، فأنزلت إكذابا لهم. وقيل: نزلت في كل كاتم حق، لأخذ غرض أو إقامة غرض من مؤمن ويهودي ومشرك ومعطل. وإن صح سبب نزول، فهي عامة، والحكم للعموم. وإن كان السبب خاصا، فيتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك، لسبب دنيا يصيبها.
ما أنزل الله من الكتاب: ظاهره أنه أنزل من علو إلى أسفل، وأنه تعالى أنزل ملكا به، أي بالكتاب على رسوله. وقيل: معنى أنزل الله، أي أظهر، كقوله: * (سأنزل مثل ما أنزل الله) *، أي أظهر. فكون المعنى: أن الذين يكتمون ما أظهر الله، فيكون الإظهار في مقابلة الكتمان. وفي المراد بالكتاب هنا أقوال: أحدها: أنه التوراة، فيكون الكاتمون أحبار اليهود، كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وغيروها، وكتموا آيات في التوراة، كآية الرجم وشبه ذلك. وقيل: التوراة والإنجيل، ووحد اللفظ على المكتوب، ويكون الكاتمون اليهود والنصارى. وصف الله نبيه في الكتابين، ونعته فيهما وسماه فقال: * (يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل) *، وقال: * (ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد) *. والطائفتان أنكروا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقد شهدت التوراة والإنجيل بذلك، والنصوص موجودة فيهما، الآن في مواضع منها في التوراة في الفصل التاسع، وفي الفصل العاشر من السفر الأول، وفي الفصل العشرين من السفر الخامس. ومنها في الإنجيل مواضع تدل على ذلك، قد ذكر جميعها، من تعرض للكلام على ذلك. وقيل: الكتاب المكتوب، وهو أعم من التوراة والإنجيل، فيتناول كل من كتم ما أنزل الله مما يتعلق بالأحكام قديما وحديثا، وكل كاتم لحق وساتر لأمر مشروع.
* (ويشترون به ثمنا قليلا) *: لما تعوضوا عن الكتم شيئا من سحت الدنيا، أشبه ذلك البيع والشراء، لانطوائهما على عوض ومعوض عنه، فأطلق عليه اشتراء. وبه: الضمير عائد على الكتمان، أو الكتاب، أو على الموصول الذي هو: ما أقوال ثلاثة، أظهرها الآخر، ويكون على حذف مضاف، أي بكتم ما أنزل الله به. والفرق بين هذا القول وقول من جعله عائدا على الكتم، أنه يكون في ذلك القول عائدا على المصدر المفهوم من قوله: * (يكتمون) *، وفي هذا عائدا على ما على حذف مضاف، وتقدم الكلام في تفسير قوله: * (ليشتروا به ثمنا قليلا) *، فأغنى عن إعداته، إلا فعل الاشتراء جعل علة هناك وهنا جعل معطوفا على قوله (يكتمون) ورتب الخبر على مجموع الأمرين من الكتم والاشتراء، لأن الكتم ليست أسبابه منحصرة في الاشتراء، بل الاشتراء بعض أسبابه. فكتم ما أنزل الله من الكتاب، وهو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وإنكار نبوته وتبديل صفته، كان لأمور منها البغي، * (بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) *. ومنها الخسارة، لكونه من العرب لا منهم. ومنها طلب الرياسة، وأن يستتبعوا أهل ملتهم. ومنها تحصيل أموالهم ورشاء ملوكهم وعوامهم.
* (أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار) *: أتى بخبر إن جملة، لأنها أبلغ من المفرد، وصدر بأولئك، إذ هو اسم إشارة دال على اتصاف المخبر عنه بالأوصاف السابقة. وقد تقدم لنا الكلام في ذلك في قوله: * (أولائك على هدى من ربهم) *. ثم أخبر عن أولئك بأخبار أربعة: الأول: * (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) *، فمنهم من حمله على ظاهره وقال: إن ذلك يكون في الدنيا، وإن الرشاء التي هم يأكلونها تصير في أجوافهم نارا، فلا يحسون بها إلا بعد الموت. ومنع تعالى أن يدركوا أنها نار، استدراجا وإملاء لهم. ويكون في هذا المعنى بعض تجوز، لأنه حالة الأكل لم يكن نارا، إنما بعد
666

صارت في بطونهم نارا. وقيل: إن ذلك يكون في الآخرة، فهو حقيقة أيضا. واختلفوا فقيل: جميع ما أكلوه من السحت والرشاء في الدنيا يجعل نارا في الآخرة، ثم يطعمهم الله إياه في النار. وقيل: يأمر الزبانية أن تطعمهم النار ليكون عقوبة الأكل من جنسه. وأكثر العلماء على تأويل قوله: * (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) *، على معنى: أنهم يجازون على ما اقترفوه من كتم ما أنزل الله، والاشتراء به الثمن القليل، بالنار. وإن ما اكتسبوه بهذه الأوصاف الذميمة مآله إلى النار. وعبر بالأكل، لأنه أعظم منافع ما تصرف فيه الأموال. وذكر في بطونهم، أما على سبيل التوكيد، إذ معلوم أن الأكل لا يكون إلا في البطن، فصار نظير: * (ولا طائر يطير بجناحيه) *. أو كناية عن ملء البطن، لأنه يقال: فلان أكل في بطنه، وفلان أكل في بعض بطنه. أو لرفع توهم المجاز، إذ يقال: أكل فلان ماله، إذ بذره، وإن لم يأكله. وجعل المأكول النار، تسمية له بما يؤول إليه، لأنه سبب النار، وذلك كما يقولون: أكل فلان الدم، يريدون الدية، لأنها بدل من الدم، قال الشاعر:
* فلو أن حيا يقبل المال فدية
*
لسقنا إليه المال كالسيل مفعما
ولكن لنا قوم أصيب أخوهم
رضا العار واختاروا على اللبن الدما
*
وقال آخر:
* أكلت دما إن لم أرعك بضربة
*
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
*
وقال آخر:
تأكل كل ليلة أكافا
أي ثمن أكاف، ومعنى التلبس موجود في جميع ذلك. وتسمية الشيء بما يؤول إليه كثير، ومن ذلك: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا) *، ومن ذلك الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجر في بطنه نار جهنم، وذكر في بطونهم تنبيها على شرهم وتقبيحا لتضييع أعظم النعم لأجل المطعوم الذي هو أحسن متناول، قاله الراغب. وقال ابن عطية نحوه، قال: وفي ذكر البطن تنبيه على مذهبهم، بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم.
* (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) *: هذا الخبر الثاني عن أولئك، وظاهره نفي الكلام مطلقا، أعني مباشرتهم بالكلام، فيكون ما جاء في القرآن، أو في السنة، مما ظاهره أنه تعالى يحاورهم بالكلام، متأولا بأنه يأمر من يقول لهم ذلك، نحو قوله تعالى: * (قال * اخسئوا فيها ولا تكلمون) *، ويكون في نفي كلامه تعالى إياهم، دلالة على الغضب عليهم، ألا ترى أن من غضب على شخص صرمه وقطع كلامه؟ لأن في التكلم، ولو كان بشر، تأنيسا ما والتفاتا إلى المكلم. وقيل: معنى ولا يكلمهم الله: أي يغضب عليهم. وليس المراد نفي الكلام، إذ قد جاء في غير موضع ما ظاهره: أنه يكلم الكافرين، قاله الحسن. وقيل: المعنى ليس على العموم، إذ قد جاء في القرآن ما ظاهره أنه يكلمهم، كقوله: * (فوربك لنسئلنهم أجمعين) *، والسؤال لا يكون إلا بالتكليم، وقال: * (قال * اخسئوا فيها ولا تكلمون) *. فالمعنى: لا يكلمهم كلام خير وإقبال وتحية، وإنما يكلمهم كلاما يشق عليهم. وقيل: المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية. وقيل: ولا يكلمهم الله، تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه. وقيل: المعنى لا يحملهم على الكلام، لأن من كلمته، كنت قد استدعيت كلامه، كأنه قال: لا يستدعي كلامهم فيكون نحو قوله: * (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) *، فنفى الكلام، وهو يراد ما يلزم عنه، وهو استدعاء الكلام.
* (ولا يزكيهم) *: هذا هو الخبر الثالث، والمعنى: لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال
667

الأزكياء، أو لا ينزلهم منزلة الأزكياء. وقيل: المعنى لا يصلح أعمالهم الخبيثة. وقيل: المعنى لا يثني عليهم من قولهم: زكى فلانا، إذ أثنى عليه، قاله الزجاج. وقيل: لا يطهرهم من دنس كفرهم، وهو معنى قول بعضهم: لا يطهرهم من موجبات العذاب، قاله ابن جرير. وقيل: المعنى لا يسميهم أزكياء.
* (ولهم عذاب أليم) *: هذا هو الخبر الرابع لأولئك، وقد تقدم تفسير قوله: * (ولهم عذاب أليم) *، في أول السورة. وترتب على الكتمان واشتراء الثمن القليل هذه الأخبار الأربعة، وانعطفت بالواو الجامعة لها. وعطف الأخبار بالواو، ولا خلاف في جوازه، بخلاف أن لا تكون معطوفة، فإن في ذلك خلافا وتفصيلا. وناسب ذكر هذه الأخبار ما قبلها، ومناسب عطف بعضها على بعض، لما تذكره فنقول: متى ذكر وصف ورتب عليه أمر، فللعرب فيه طريقان: أحدهما: أن تكون تلك الأمور المترتبة على الأوصاف مقابلة لها، الأول منها لأول تلك الأوصاف، والثاني للثاني، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ومن حيث الترتيب اللفظي، حيث قوبل الأول بالأول، والثاني بالثاني. وتارة يكون الأول من تلك الأمور مجاورا لما يليه من تلك الأوصاف، فتحصل المقابلة من حيث المعنى، لا من حيث الترتيب اللفظي، وهذه الآية جاءت من هذا القبيل.
لما ذكر تعالى اشتراءهم الثمن القليل، وكان ذلك كناية عن مطاعمهم الخسيسة الفانية، بدأ أولا في الخبر بقوله: * (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) *. ثم قابل تعالى كتمانهم الدين والكتمان، هو أن لا يتكلموا به بل يخفوه بقوله تعالى: * (ولا يكلمهم الله) *، فجوزوا على منع التكلم بالدين أن منعوا تكليم الله إياهم، وابتنى على كتمانهم الدين، واشترائهم بما أنزل الله ثمنا قليلا، أنهم شهود زور وأخبار سوء، حيث غيروا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وادعوا أن النبي المبتعث هو غير هذا، فقوبل ذلك كله بقوله: * (ولا يزكيهم) *. ثم ذكر أخيرا ما أعد لهم من العذاب الأليم، فرتب على اشتراء الثمن القليل قوله: * (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) *، وعلى الكتمان قوله: * (ولا يكلمهم الله) *، وعلى مجموع الوصفين قوله: * (ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) *. فبدأ أولا: بما يقابل فردا فردا، وثانيا: بما يقابل المجموع. ولما كانت الجملة الأولى مشتملة على فعل مسند إلى الله، كان الكلام الذي قابلها فيه فعل مسند إلى الله. ولما كانت الثانية مسندة إليهم، ليس فيها إسناد إلى الله، جاءت الجملة المقابلة لها مسندة إليهم، ولم يأت ما يطعمهم الله في بطونهم إلا النار. وناسب ذكر هذه الآية ما قبلها، لأنه تعالى ذكر في الآية قبلها إباحة الطيبات، ثم فصل أشياء من المحرمات، فناسب أن يذكر جزاء من كتم شيئا من دين الله، ومما أنزله على أنبيائه، فكان ذلك تحذيرا أن يقع المؤمنون فيما وقع فيه أهل الكتاب، من كتم ما أنزل الله عليهم واشترائهم به ثمنا قليلا.
* (أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) *، أولئك: اسم إشارة إلى الكاتمين الذين سبق ذكرهم، وذكر ما أوعدوا به، وتقدم تفسير: * (أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * مستوعبا في أول السورة، فأغنى عن إعادته. * (والعذاب بالمغفرة) *: لما قدم حالهم في الدنيا، بأنهم اعتاضوا من الهدى الضلالة، ذكر نتيجة
ذلك في الآخرة، وهو أنهم اعتاضوا من المغفرة التي هي نتيجة الهدى. وسبب النعم الأطول السرمدي، العذاب الأطول السرمدي، الذي هو نتيجة الضلالة، لأنهم لما كانوا عالمين بالحق، وكتموه لغرض خسيس دنياوي. فإن كان ذلك اشتراء للعذاب بالمغفرة. وفي لفظ اشتروا إشعار بإيثارهم الضلالة والعذاب، لأن الإنسان لا يشتري إلا ما كان له فيه رغبة ومودة. واختيار وذلك يدل على نهاية الخسارة، وعدم النظر في العواقب.
* (فما أصبرهم على النار) *: اختلف في ما، فالأظهر أنها تعجبية، وهو قول الجمهور من المفسرين. وقد جاء: * (قتل الإنسان ما أكفره) *، * (أسمع بهم وأبصر) *. وأجمع النحويون على أن ما التعجبية في موضع رفع بالابتداء واختلفوا، أهي نكرة تامة والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو استفهامية صحبها معنى التعجب والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو موصولة والفعل بعدها صلة والخبر محذوف؟ أو موصوفة والفعل بعدها صفة والخبر محذوف؟ أقوال أربعة ذكرت في النحو. الأول قول سيبويه والجمهور، والثاني قول الفراء وابن درستويه، والثالث
668

والرابع للأخفش. وكذلك اختلفوا في أفعل بعد ما التعجبية، أهو فعل؟ وهو مذهب البصريين، أم اسم؟ وهو مذهب الكوفيين. وينبني عليه الخلاف في المنصوب بعده، أهو مفعول به أو مشبه بالمفعول به؟ وإذا قلنا: إن الكلام هو تعجب، فالتعجب هو استعظام الشيء وخفاء حصول السبب، وهذا مستحيل في حق الله تعالى، فهو راجع لمن يصح ذلك منه، أي هم ممن يقول فيهم من رآهم: ما أصبرهم على النار واختلف قائلوا التعجب، أهو صبر يحصل لهم حقيقة إذا كانوا في النار؟ فذهب إلى ذلك الأصم وقال: إذا قيل لهم: * (اخسئوا فيها ولا تكلمون) *، سكتوا وانقطع كلامهم، وصبروا على النار ليأسهم من الخلاص. وضعف قول الأصم، بأن ظاهر التعجب، أنه من صبرهم في الحال، لا أنهم سيصبرون، وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع. وقيل: الصبر مجاز عن البقاء في النار، أي ما أبقاهم في النار. أم هو صبر يوصفون به في الدنيا؟ وهو قول الجمهور. واختلف، أهو حقيقة أم مجاز؟ والقائلون بأنه حقيقة، قالوا: معناه ما أصبرهم على عمل يؤديهم إلى النار، لأنهم كانوا علماء بأن من عاند النبي صلى الله عليه وسلم) صار إلى النار، قاله المؤرج. وقيل: التقدير ما أصبرهم على عمل أهل النار، كما تقول: ما أشبه سخاءك بحاتم، أي بسخاء حاتم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وهو قول الكسائي وقطرب، وهو قريب من قول المؤرج. وقيل: اصبر هنا بمعنى أجرأ، وهي لغة يمانية، فيكون لفظ اصبر إذ ذاك مشتركا بين معناها المتبادر إلى الذهن من حبس النفس على الشيء المكروه، ومعنى الجراءة، أي ما أجرأهم على العمل الذي يقرب إلى النار، قاله الحسن وقتادة والربيع وابن جبير. قال الفراء: أخبرني الكسائي قال: أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه، فوجبت اليمين على أحدهما، فحلف له خصمه، فقال له: ما أصبرك على الله أي ما أجرأك على الله والقائلون بأنه مجاز. فقيل: هو مجاز أريد به العمل، أي ما أعملهم بأعمال أهل النار قاله مجاهد. وقيل: هو مجاز أريد به قلة الجزع، أي ما أقل جزعهم من النار وقيل: هو مجاز أريد به الرضا، وتقريره أن الراضي بالشيء يكون راضيا بمعلوله ولازمه، إذا علم ذلك اللزوم. فلما أقدموا على ما يوجب النار، وهم عالمون بذلك، صاروا كالراضين بعذاب الله والصابرين عليه، وهو كما يقول لمن تعرض لغضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن وقال الزمخشري: فما أصبرهم على النار تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم. انتهى كلامه، وانتهى القول في أن الكلام تعجب. وذهب معمر بن المثنى والمبرد إلى أن ما استفهامية لا تعجبية، وهو استفهام على معنى التوبيخ بهم، أي: أي شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وهو قول ابن عباس والسدي. يقال: صبره وأصبره بمعنى: أي جعله يصبر، لا أن أصبر هنا بمعنى: حبس واضطر، فيكون أفعل بمعنى: فعل، خلافا للمبرد، إذ زعم أن أصبر بمعنى: صبر، ولا نعرف ذلك في اللغة، وإنما تكون الهمزة للنقل، أي يجعل ذا صبر. وذهب قوم إلى أن ما نافية، والمعنى: أن الله ما أصبرهم على النار، أي ما يجعلهم يصبرون على العذاب، فتلخص في معنى قوله: * (ما * أصبرهم على النار) * التعجب والاستفهام والنفي، وتلخص في التعجب، أهو حقيقة أم مجاز؟ وكلاهما: أذلك في الدنيا أو في الآخرة؟.
* (ذالك بأن الله نزل الكتاب بالحق) *، ذلك: إشارة إلى ما تقدم من الوعيد، قاله الزجاج؛ أو إلى الحكم عليهم بأنهم من أهل الخلود في النار، قاله الحسن، أو العذاب، قاله الزمخشري؛ أو الاشتراء، قاله ابن عطية، تقريعا على بعض التفاسير في الكتاب من قوله: * (نزل الكتاب) *، وسيذكر أي ذلك الاشتراء بما سبق لهم في علم الله وورد أخباره به، أو الكتمان. وأبعدها أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار الله أنه ختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم، وأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون. واختلف في إعراب ذلك فقيل: هو منصوب بفعل محذوف
669

تقديره: فعلنا ذلك، وتكون الباء في بأن الله متعلقة بذلك الفعل المحذوف. وقيل: مرفوع، واختلفوا، أهو فاعل، والتقدير: وجب ذلك لهم؟ أم خبر مبتدأ محذوف، التقدير: الأمر ذلك؟ أي ما وعدوا به من العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق. فاختلفوا، أم مبتدأ، والخبر قوله: * (بأن الله نزل) *؟ أي ذلك مستقر ثابت بأن الله نزل الكتاب بالحق، ويكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور، وهو العذاب، ويكون الخبر ليس مجرد تنزيل الله الكتاب بالحق، بل ما ترتب على تنزيله من مخالفته وكتمانه، وأقام السبب مقام المسبب. والتفسير المعنوي: ذلك العذاب حاصل لهم بكتمان ما نزل الله من الكتاب المصحوب بالحق، أو الكتاب الذي نزله بالحق. وقال الأخفش: الخبر محذوف تقديره: ذلك معلوم بأن الله، فيتعلق الباء بهذا الخبر المقدر، والكتاب التوراة والإنجيل، أو القرآن، أو كتب الله المنزلة على أنبيائه، أو ما كتب عليهم من الشقاوة بقوله: * (صم بكم عمى) *، فيكون الكتاب بمعنى الحكم والقضاء، أقوال أربعة. بالحق، قال ابن عباس: بالعدل. وقال مقاتل: ضد الباطل. وقال مكي: بالواجب، وحيثما ذكر بالحق فهو الواجب.
* (وإن الذين اختلفوا فى الكتاب) *، قيل: هم اليهود، والكتاب: التوراة، واختلافهم: كتمانهم بعث عيسى، ثم بعث محمد صلى الله عليه وسلم). آمنوا ببعض، وهو ما أظهروه، وكفروا ببعض، وهو ما كتموه. وقيل: هم اليهود والنصارى، قاله السدي؛ واختلاف كفرهم بما قصه الله تعالى من قصص عيسى وأمه عليهما
السلام، وبإنكار الإنجيل، ووقع الاختلاف بينهم حتى تلاعنوا وتقاتلوا. وقيل: كفار العرب، والكتاب: القرآن. قال بعضهم: هو سحر، وبعضهم: هو أساطير الأولين، وبعضهم: هو مفترى إلى غير ذلك. وقيل: أهل الكتاب والمشركون. قال أهل الكتاب: إنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم)، وليس هو من كلام الله. وقالوا: إنما يعلمه بشر، وقالوا: دارست، وقالوا: إن هذا إلا اختلاق، إلى غير ذلك. وقال المشركون: بعضهم قال: سحر، وبعضهم: شعر، وبعضهم: كهانة، وبعضهم: أساطير، وبعضهم: افتراء إلى غير ذلك. والظاهر الإخبار عمن صدر منهم الاختلاف فيما أنزل الله من الكتاب بأنهم في معاداة وتنافر، لأن الاختلاف مظنة التباغض والتباين، كما أن الائتلاف مظنة التحاب والاجتماع. وفي المنتخب: الأقرب، حمل الكتاب على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم) فيهما، لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه، وعرفوا تأويله. فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة به، فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم، دون القرآن. انتهى كلامه.
* (لفى شقاق بعيد) *: تقدم أن ذلك إما مأخوذ من كون هذا يصير في شق وهذا في شق، أو من كون هذا يشق على صاحبه. وكنى بالشقاق عن العداوة، ووصف الشقاق بالبعد، إما لكونه بعيدا عن الحق، أو لكونه بعيدا عن الألفة. أو كنى به عن الطول، أي في معاداة طويلة لا تنقطع. وهذا الاختلاف هو سبب اعتقاد كل طائفة أن كتابها هو الحق، وأن غيره افتراء، وقد كذبوا في ذلك. كتب الله يشبه بعضها بعضا، ويصدق بعضها بعضا.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء الناس ثانيا، وأمرهم بالأكل من الحلال الطيب، ونهيهم عن اتباع الشيطان، وذكر خطواته، كأنهم يقتفون آثاره، ويطؤون عقبه. فكلما خطا خطوة، وضعوا أقدامهم عليها، وذلك مبالغة في اتباعه. ثم بين أنه إنما نهاهم عن اتباعه، لأنه هو العدو المظهر لعداوته. ثم لم يكتف بذكر العداوة حتى ذكر أنه يأمرهم بالمعاصي. ولما كان لهم متبوعا وهم تابعوه، ناسب ذكر الأمر، إذ هم ممتثلون ما زين لهم ووسوس. ثم ذكر ما به أمرهم، وهو أمره إياهم بالافتراء على الله، والإخبار عن الله بما لا يعلمونه عن الله، ثم ذكر شدة إعراضهم عما أنزل الله، واقتفاء اتباع آبائهم، حتى أنهم لو كان آباؤهم مسلوبي العقل والهداية، لكانوا متبعيهم، مبالغة في التقليد البحت والإعراض عن كتاب الله، وجريا لخلفهم على سلف سننهم، من غير نظر ولا استدلال.
ثم ذكر أن مثل الكفار وداعيهم إلى ما أنزل الله، مثل الناعق بما لا يسمع إلا مجرد ألفاظ. ثم ذكر ما هم عليه من الصمم والبكم والعمي، التي هي مانعة من وصول العلوم إلى الإنسان، فلذلك ختم بقوله * (فهم لا يعقلون) *، لأن
670

طرق العقل والعلم منسدة عليهم. ثم نادى المؤمنين نداء خاصا، وأمرهم بالأكل من الطيب وبالشكر لله. ثم ذكر أشياء مما حرم، وأباح الأكل منها حال الاضطرار، وشرط في تناول ذلك أن لا يكون المضطر باغيا ولا عاديا. ولما أحل أكل الطيبات وحرم ما حرم هنا، ذكر أحوال من كتم ما أنزل الله واشترى به النزر اليسير، لتعتبر هذه الأمة بحال من كتم العلم وباعه بأخس ثمن، إذ أخبر تعالى أنه لا يأكل في بطنه إلا النار، أي ما يوجب أكله النار. وأن الله لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم حين يكلم المؤمنين تكليم رحمة وإحسان. وذكر أنهم مع انتفاء التعليم الذي هو أعلى الرتب للمرؤوس من الرئيس، حيث أهله لمناجاته ومحادثته، وانتفاء الثناء عليهم لهم العذاب المؤلم. ثم بالغ في ذمهم بأن هؤلاء هم الذين آثروا الضلال على الهدى، والعذاب على النعيم. ثم ذكر أنهم بصدد أن يتعجب من جلدهم على النار، وأن ما حصل لهم من العذاب هو بسبب ما أنزل الله من الكتاب فخالفوه. ثم ذكر أن الذين اختلفوا فيما أنزل الله هم في معاداة لا تنقطع.
671

قتيل، وهو منقاس في فعيل، الوصف بمعنى ممات أو موجع. الأنثى: معروف، وهي فعلى، الألف فيه للتأنيث، وهو مقابل الذكر الذي هو مقابل للمرأة. ويقال للخصيتين أنثيان، وهذا البناء لا تكون ألفه إلا للتأنيث، ولا تكون للإلحاق، لفقد فعلل في كلامهم. الأداء: بمعنى التأدية، أديت الدين: قضيته، وأدى عنك رسالة: بلغها أنه لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، أي لا يبلغ. أولوا: من الأسماء التي هي في الرفع بالواو، وفي الجر والنصب بالياء. ومعنى أولوا: أصحاب، ومفرده من غير لفظه، وهو ذو بمعنى: صاحب. وأعرب هذا الإعراب على جهة الشذوذ، ومؤنثه أولات بمعنى: صاحبات، وإعرابها كإعرابها، فترفع بالضمة وتجر وتنصب بالكسرة، وهما لازمان للإضافة إلى اسم جنس ظاهر، وكتبا في المصحف بواو بعد الألف، ولو سميت باولوا، زدت نونا فقلت: جاء من أولون، ورأيت أولين، ومررت بأولين، نص على ذلك سيبويه، لأنها حالة إضافتها مقدر سقوط نون منها لأجل لإضافة. كما تقول: ضاربو زيد، وضاربين زيدا. الألباب: جمع لب، وهو العقل الخالي من الهوى، سمى بذلك، إما لبنائه من قولهم: ألب بالمكان، ولب به: أقام، وإما من اللباب، وهو الخالص. وهذا الجمع مطرد، أعني أن يجمع فعل اسم على أفعال، والفعل منه على فعل بضم العين وكسرها، قالوا: لببت. ولببت ومجئ المضاعف على فعل بضم العين إذ، استغنوا عنه بفعل نحو: عز يعز، وخف يخف. فما جاء من ذلك شاذا: لبيت، وسررت، وفللت، ودممت، وعززت. وقد سمع الفتح فيها إلا في: لبيت، فسمع الكسر كما ذكرنا. الجنف: الجور، جنف، بكسر النون، يجنف، فهو جنف وجانف عن النحاس، قال الشاعر:
* إني امرؤ منعت أرومة عامر
*
ضيمي وقد جنفت علي خصوم
*
وقيل: الجنف: الميل، ومنه قول الأعشى:
* تجانف عن حجر اليمامة ناقتي
*
وما قصدت من أهلها لسوائكا
*
وقال آخر:
* هم المولى وإن جنفوا علينا
*
وإنا من لقائهم لزور
*
ويقال: أجنف الرجل، جاء بالجنف، كما يقال: ألام الرجل، أتى بما يلام عليه، وأخس: أتى بخسيس.
672