الكتاب: التسهيل لعلوم التنزيل
المؤلف: الغرناطي الكلبي
الجزء: ٣
الوفاة: ٧٤١
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الرابعة
سنة الطبع: ١٤٠٣ - ١٩٨٣م
المطبعة: لبنان - دار الكتاب العربي
الناشر: دار الكتاب العربي
ردمك:
ملاحظات:

3
الجزء الثالث
1

سورة مريم
* (كهيعص) * قد تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء وقيل في هذا إن الكاف من كريم أو كبير أو كاف والهاء من هادي والياء من علي والعين من عزيز أو عليم والصاد من صادق وكان علي بن أبي طالب يقول في دعائه يا كهيعص فيحتمل أن تكون الجملة عنده اسما من أسماء الله تعالى أو ينادي بالأسماء التي اقتطعت منها هذه الحروف * (ذكر) * تقديره هذا ذكر * (عبده زكريا) * وصفه بالعبودية تشريفا له وإعلاما له بتخصيصه وتقريبه ونصب عبده على أنه مفعول لرحمة فإنها مصدر أضيف إلى الفاعل ونصب المفعول وقيل هو مفعول بفعل مضمر تقديره رحمة عبده وعلى هذا يوقف على ما قبله وهذا ضعيف وفيه تكلف الإضمار من غير حاجة إليه وقطع العامل عن العمل بعد تهيئته له * (إذ نادى ربه) * يعني دعاه * (نداء خفيا) * أخفاه لأنه يسمع الخفي كما يسمع الجهر ولأن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء ولئلا يلومه الناس على طلب الولد * (وهن العظم) * أي ضعف * (واشتعل) * استعارة للشيب من اشتعال النار * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) * أي قد سعدت بدعائي لك فيما تقدم فاستجب لي في هذا فتوسل إلى الله بإحسانه القديم إليه * (وإني خفت الموالي) * يعني الأقارب قيل خاف أن يرثوه دون نسله وقيل خاف أن يضيعوا الدين من بعده * (من ورائي) * أي من بعدي * (عاقرا) * أي عقيما * (فهب لي من لدنك وليا) * يعني وارثا يرثني قيل يعني وراثة المال وقيل وراثة العلم والنبوة وهو أرجح لقوله صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث وكذلك * (يرث من آل يعقوب) * العلم والنبوة وقيل الملك ويعقوب هنا هو يعقوب بن إسحاق على الأصح * (رضيا) * أي مرضيا فهو فعيل بمعنى مفعول * (سميا) * يعني من سمي باسمه وقيل مثيلا ونظيرا والأول أحسن هنا * (أنى يكون لي غلام) * تعجب واستبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته وعقم امرأته فسأل ذلك أولا لعلمه بقدرة الله عليه وتعجب منه
2

لأنه نادر في العادة وقيل سأله وهو في سن من يرجوه وأجيب بعد ذلك بسنين وهو قد شاخ * (عتيا) * قيل يبسا في الأعضاء والمفاصل وقيل مبالغة في الكبر * (كذلك) * الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك تصديقا له فيما ذكر من كبره وعقم امرأته وعلى هذا يوقف على قوله كذلك ثم يبتدأ قال ربك وقيل إن الكاف في موضع نصب بقال وذلك إشارة إلى مبهم يفسره هو علي هين * (اجعل لي آية) * أي علامة على حمل امرأته * (سويا) * أي سليما غير أخرس وانتصابه على الحال من الضمير في تكلم والمعنى أنه لا يكلم الناس مع أنه سليم من الخرس وقيل إن سويا يرجع إلى الليالي أي مستويات * (فأوحى إليهم) * أي أشار وقيل كتبه في التراب إذ كان لا يقدر على الكلام * (أن سبحوا) * قيل معناه صلوا والسبحة في اللغة الصلاة وقيل قولوا سبحان الله * (يا يحيى) * التقدير قال الله ليحيى بعد ولادته * (خذ الكتاب) * يعني التوراة * (بقوة) * أي في العلم به والعمل به * (وآتيناه الحكم صبيا) * قيل الحكم معرفة الأحكام وقيل الحكمة وقيل النبوة * (وحنانا) * قيل معناه رحمة وقال ابن عباس لا أدري ما الحنان * (وزكاة) * أي طهارة وقيل ثناء كما يزكي الشاهد * (واذكر في الكتاب مريم) * خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والكتاب القرآن * (إذ انتبذت من أهلها) * أي اعتزلت منهم وانفردت عنهم * (مكانا شرقيا) * أي إلى جهة الشرق ولذلك يصلي النصارى إلى المشرق * (أرسلنا إليها روحنا) * يعني جبريل وقيل عيسى والأول هو الصحيح لأن جبريل هو الذي تمثل لها باتفاق * (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) * لما رأت الملك الذي تمثل لها في صورة البشر قد دخل عليها خافت أن يكون من بني آدم فقالت له هذا الكلام ومعناه إن كنت ممن يتقي الله فابعد عني فإني أعوذ بالله منك وقيل إن تقيا اسم رجل معروف بالشر عندهم وهذا ضعيف وبعيد * (لأهب لك غلاما زكيا) * الغلام الزكي هو عيسى عليه السلام وقرئ ليهب بالياء والفاعل فيه هو ضمير الرب سبحانه وتعالى وقرئ بهمزة التكلم وهو جبريل وإنما نسب الهبة إلى نفسه لأنه هو الذي أرسله الله بها أو يكون قال ذلك حكاية عن الله تعالى * (ولم أك بغيا) * البغي هي المرأة المجاهرة بالزنا ووزن بغي فعول * (ولنجعله آية) * الضمير للولد واللام
3

تتعلق بمحذوف تقديره لنجعله آية فعلنا ذلك * (فحملته) * يعني في بطنها وكانت مدة حملها ثمانية أشهر وقال ابن عباس حملته وولدته في ساعة * (مكانا قصيا) * أي بعيدا وإنما بعدت حياء من قومها أن يظنوا بها الشر * (فأجاءها) * معناه ألجأها وهو منقول من جاء بهمزة التعدية * (المخاض) * أي النفاس * (إلى جذع النخلة) * روي أنها احتضنت الجذع لشدة وجع النفاس * (قالت يا ليتني مت) * إنما تمنت الموت خوفا من إنكار قومها وظنهم بها الشر ووقوعهم في دمها وتمني الموت جائز في مثل هذا وليس هذا من تمني الموت لضر نزل بالبدن فإنه منهي عنه * (وكنت نسيا) * النسي الشيء الحقير الذي لا يؤبه له ويقال بفتح النون وكسرها * (فناداها من تحتها) * قرىء من بفتح الميم وكسرها وقد اختلف على كلتا القراءتين هل هو جبريل أو عيسى وعلى أنه جبريل قيل إنه كان تحتها كالقابلة وقيل كان في مكان أسفل من مكانها " أن لا تحزني " تفسير للنداء فأن مفسرة * (سريا) * جدولا وهي ساقية من ماء كان قريبا من جذع النخلة وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم فسره بذلك وقيل يعني عيسى فإن السري الرجل الكريم * (وهزي إليك بجذع النخلة) * كان جذعا يابسا فخلق الله فيه الرطب كرامة لها وتأنيسا وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على أن الإنسان ينبغي له أن يتسبب في طلب الرزق لأن الله أمر مريم بهز النخلة والباء في بجذع زائدة كقوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة * (تساقط عليك رطبا جنيا) * الفاعل بتساقط النخلة وقرئ بالياء والفاعل على ذلك الجذع ورطبا تمييز والجني معناه الذي طاب وصلح لأن يجتني * (فكلي واشربي) * أي كلي من الرطب واشربي من ماء الجدول وهو السري * (وقري عينا) * أي طيبي نفسا بما جعل الله لك من ولادة نبي كريم أو من تيسير المأكول والمشروب * (فإما ترين) * هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد وترين فعل خوطبت به المرأة ودخلت عليه النون الثقيلة للتأكيد * (نذرت للرحمن صوما) * أي صمتا عن الكلام وقيل يعني الصيام لأن من شرطه في شريعتهم الصمت وإنما أمرت بالصمت صيانة لها عن الكلام مع المتهمين لها ولأن عيسى تكلم عنها فإخبارها بأنها نذرت الصمت بهذا الكلام
وقيل بالإشارة ولا يجوز في شريعتنا نذر الصمت * (فأتت به قومها) * لما رأت الآيات علمت أن الله سيبين عذرها فجاءت به من المكان القصي إلى قومها * (شيئا فريا) * أي شنيعا وهو من الفرية * (يا أخت هارون) * كان هارون عابدا من بني إسرائيل شبهت به مريم في كثرة العبادة فقيل لها أخته بمعنى أنها شبهه وقيل كان أخاها من أبيها وكان رجلا صالحا وقيل هو هارون النبي أخو موسى وكانت من ذريته فأخت على هذا كقولك أخو بني فلان أي واحد منهم ولا يتصور على هذا القول أن تكون أخته من النسب حقيقة فإن
4

بين زمانهما دهرا طويلا * (فأشارت إليه) * أي إلى ولدها ليتكلم وصمتت هي كما أمرت * (كان في المهد صبيا) * كان بمعنى يكون والمهد هو المعروف وقيل المهد هنا حجرها * (آتاني الكتاب) * يعني الإنجيل أو التوراة والإنجيل * (مباركا) * من البركة وقيل نفاعا وقيل معلم للخير واللفظ أعم من ذلك * (وأوصاني بالصلاة والزكاة) * هما المشروعتان وقيل الصلاة هنا الدعاء والزكاة التطهير من العيوب * (وبرا) * معطوف على مباركا روي أن عيسى تكلم بهذا الكلام وهو في المهد ثم عاد إلى حالة الأطفال على عادة البشر وفي كلامه هذا رد على النصارى لأنه اعترف أنه عبد الله ورد على اليهود لقوله وجعلني نبيا * (والسلام علي) * أدخل لام التعريف هنا لتقدم السلام المنكر في قصة يحيى فهو كقولك رأيت رجلا فأكرمت الرجل وقال الزمخشري الصحيح أن هذا التعريف تعريض بلغة من اتهم مريم كأنه قال السلام كله علي لا عليكم بل عليكم ضده * (قول الحق) * بالرفع خبر مبتدأ تقديره هذا قول الحق أو بدل أو خبر بعد خبر وبالنصب على المدح بفعل مضمر أو على المصدرية من معنى الكلام المتقدم * (فيه يمترون) * أي يختلفون فهو من المراء أو يشكون فهو من المرية والضمير لليهود والنصارى * (وإن الله ربي) * من كلام عيسى وقرئ بفتح الهمزة تقديره ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه وبكسرها لابتداء الكلام وقيل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى يا محمد قل لهم ذلك عيسى ابن مريم وأن الله ربي وربكم والأول أظهر * (فاختلف الأحزاب) * هذا ابتداء إخبار والأحزاب اليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في أمر عيسى اختلافا شديدا فكذبه اليهود وعبده النصارى والحق خلاف أقوالهم كلها * (من بينهم) * معناه من تلقائهم ومن أنفسهم وأن الاختلاف لم يخرج عنهم (من مشهد يوم عظيم) يعني يوم القيامة * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) * أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة على أنهم في الدنيا في ضلال مبين * (يوم الحسرة) * هو يوم يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت وقيل هو يوم القيامة وانتصاب يوم على المفعولية لا على الظرفية * (وهم في غفلة) * يعني في الدنيا فهو متعلق بقوله في ضلال مبين أو بأنذرهم * (صديقا) * بناء مبالغة من الصدق أو من
5

التصديق ووصفه بأنه صديق قبل الوحي نبي بعده ويحتمل أنه جمع الوصفين * (ما لا يسمع ولا يبصر) * يعني الأصنام * (صراطا سويا) * أي قويما لأرجمنك) قيل يعني الرجم بالحجارة وقيل الشتم * (واهجرني مليا) * أي حينا طويلا وعطف اهجرني على محذوف تقديره احذر رجمي لك * (قال سلام عليك) * وداع مفارقة وقيل مسالمة لا تحية لأن ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز * (سأستغفر لك) * وعد وهو الذي أشير إليه بقوله عن موعدة وعدها إياه قال ابن عطية معناه سأدعو الله أن يهديك فيغفر لك بإيمانك وذلك لأن الاستغفار للكافر لا يجوز وقيل وعده أن يستغفر له مع كفره ولعله كان لم يعلم أن الله لا يغفر للكفار حتى أعلمه بذلك ويقوي هذا القول قوله واغفر لأبي إنه كان من الضالين ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب لأستغفرن لك ما لم أنه عنك * (حفيا) * أي بارا متلطفا * (وأعتزلكم وما تدعون) * أي ما تعبدون * (إسحاق ويعقوب) * هما ابنه وابن ابنه وهبهما الله له عوضا من أبيه وقومه الذين اعتزلهم * (من رحمتنا) * النبوة وقيل المال والولد واللفظ أعم من ذلك لسان صدق يعني الثناء الباقي عليهم إلى آخر الدهر * (مخلصا) * بكسر اللام أي أخلص نفسه وأعماله لله وبفتحها أي أخلصه الله للنبوة والتقريب * (وكان رسولا نبيا) * النبي أعم من الرسول لأن النبي كل من أوحى الله إليه ولا يكون رسولا حتى يرسله الله إلى الناس مع النبوة فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا * (وناديناه) * هو تكليم الله له * (الطور) * وهو الجبل المشهور بالشام * (الأيمن) * صفة للجانب وكان على يمين موسى حين وقف عليه ويحتمل أن يكون من اليمن * (نجيا) * النجي فعيل وهو المنفرد بالمناجاة وقيل هو من المناجاة والأول أصح * (من رحمتنا) * من سببية أو للتبعيض وأخاه على الأول مفعول وعلى الثاني بدل * (إنه كان صادق الوعد) * روي أنه وعد رجلا إلى مكان فانتظره فيه سنة وقيل الإشارة إلى صدق وعده في قصة الذبح في قوله ستجدني إن شاء الله من الصابرين وهذا يدل على قول من قال إن الذبيح هو إسماعيل * (إدريس) * هو أول نبي بعث إلى أهل الأرض بعد آدم وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم
6

وخاط الثياب وهو من أجداد نوح عليه السلام * (ورفعناه مكانا عليا) * قال ابن عباس رفعه الله إلى السماء وهناك مات وفي حديث الإسراء وإنه في السماء الرابعة وقيل يعني رفعة النبوة وتشريف منزلته والأول أشهر ورجحه الحديث * (أولئك) * إشارة إلى كل من ذكر في هذه السورة من زكريا إلى إدريس * (من النبيين) * من هنا للبيان والتي بعدها للتبعيض * (من ذرية آدم) * يعني نوحا وإدريس * (وممن حملنا) * يعني إبراهيم * (ومن ذرية إبراهيم) * يعني إسماعيل وإسحاق ويعقوب * (وإسرائيل) * يعني أن من ذريته موسى وهارون ومريم وعيسى وزكريا ويحيى * (وممن هدينا) * يحتمل العطف على من الأولى أو الثانية * (بكيا) * جمع باك ووزنه فعول * (فخلف من بعدهم خلف) * يقال في عقب الخير خلف بفتح اللام وفي عقب الشر خلف بالسكون وهو المعنى هنا واختلف فيمن المراد بذلك فقيل النصارى لأنهم خلفوا اليهود وقيل كل من كفر وعصى من بعد بني إسرائيل * (أضاعوا الصلاة) * قيل تركوها وقيل أخرجوها عن أوقاتها * (يلقون غيا) * الغي الخسران وقد يكون بمعنى الضلال فيكون على حذف مضاف تقديره يلقون جزاء غي * (إلا من تاب) * استثناء يحتمل الاتصال والانقطاع * (بالغيب) * أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم * (مأتيا) * وزنه مفعول فقيل إنه بمعنى فاعل لأن الوعد هو الذي يأتي وقيل إنه على بابه لأن الوعد هو الجنة وهو يأتونها * (لغوا) * يعني ساقط الكلام * (إلا سلاما) * استثناء منقطع * (بكرة وعشيا) * قيل المعنى أن زمانهم يقدر بالأيام والليالي إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل وقيل المعنى أن الرزق يأتيهم في كل حين يحتاجون إليه وعبر عن ذلك بالبكرة والعشي على عادة الناس في أكلهم * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * حكاية قول جبريل حين غاب عن النبي صلى
الله عليه وسلم فقال له أبطأت عني واشتقت إليك فقال إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست ونزلت هذه الآية * (له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) * أي له ما قدامنا وما خلفنا وما نحن فيه من الجهات والأماكن فليس لنا الانتقال من مكان إلى مكان إلا بأمر الله وقيل ما بين أيدينا الدنيا إلى النفخة الأولى في الصور وما خلفنا الآخرة وما بين ذلك ما بين النفختين وقيل ما مضى من أعمارنا وما بقي منها والحال التي نحن فيها والأول أكثر مناسبة لسياق الآية * (وما كان ربك نسيا) * هو فعيل من النسيان بمعنى الذهول وقيل بمعنى الترك والأول أظهر * (هل تعلم له سميا) * أي مثيلا ونظيرا
7

فهو من المسامي والمضاهي وقيل من تسمى باسمه لأنه لم يتسم باسم الله غير الله تعالى * (ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا) * هذه حكاية قول من أنكر البعث من القبور والإنسان هنا جنس يراد به الكفار وقيل إن القائل لذلك أبي بن خلف وقيل أمية بن خلف والهمزة التي دخلت على أئذا ما مت للإنكار والاستبعاد واللام في قوله لسوف سيقت على الحكاية لقول من قال بهذا المعنى والإخراج يراد به البعث * (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل) * احتجاج على صحة البعث ورد على من أنكره لأن النشأة الأولى دليل على الثانية * (لنحشرنهم والشياطين) * يعني قرناءهم من الشياطين الذين أضلوهم والواو للعطف أو بمعنى مع فيكون الشياطين مفعول معه * (جثيا) * جمع جاث ووزنه مفعول من قولك جثا الرجل إذا جلس جلسة الذليل الخائف * (ثم لننزعن من كل شيعة) * الشيعة الطائفة من الناس التي تتفق على مذهب أو اتباع إنسان ومعنى الآية أن الله ينزع من كل طائفة أعتاها فيقدمه إلى النار وقال بعضهم المعنى نبدأ بالأكبر جرما فالأكبر جرما * (أيهم) * اختلف في إعرابه فقال سيبويه هو مبني على الضم لأنه حذف العائد عليه من الصلة وكأن التقدير أيهم أشد فوجب البناء وقال الخليل هو مرفوع على الحكاية تقديره الذي يقال له أشد وقال يونس علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء * (أولى بها صليا) * الصلي مصدر صلى النار ومعنى الآية أن الله يعلم من هو أولى بأن يصلى العذاب * (وإن منكم إلا واردها) * خطاب لجميع الناس عند الجمهور فأما المؤمنون فيدخلونها ولكنها تخمد فلا تضرهم فالورود على هذا بمعنى الدخول كقوله حصب جهنم أنتم لها واردون وأوردهم النار وقيل الورود بمعنى القدوم عليها كقوله ورد ماء مدين والمراد بذلك جواز الصراط وقيل الخطاب للكفار فلا إشكال * (حتما) * أي أمرا لا بد منه * (ثم ننجي الذين اتقوا) * إن كان الورود بمعنى الدخول فنجاة الذين اتقوا بكون النار عليهم بردا وسلاما ثم بالخروج منها وإن كان بمعنى المرور على الصراط فنجاتهم بالجواز والسلامة من الوقوع فيها * (أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) * الفريقان هم المؤمنون والكفار والمقام اسم مكان من قام وقرئ بالضم من أقام والندي المجلس ومعنى الآية أن الكفار قالوا للمؤمنين نحن خير منكم مقاما أي أحسن حالا في الدنيا وأجمل مجلسا فنحن أكرم على الله منكم * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) * كم مفعول بأهلكنا ومعنى الآية رد على الكفار في قولهم المذكور أي ليس حسن الحال في الدنيا دليلا على الكرامة عند الله لأن الله قد أهلك من كان أحسن حالا منكم في الدنيا * (هم أحسن) * قال الزمخشري هذه الجملة في موضع نصب صفة لكم * (أثاثا) * أي متاع البيت وقال ابن عطية هو اسم عام في المال العين والعروض والحيوان وهو اسم جمع وقيل هو جمع واحده أثاثه * (ورئيا) * بهمزة ساكنة قبل الياء معناه منظر حسن وهو من الرؤية والرئي اسم المرئي وقرئ بتشديد
8

الياء من غير همز وهو تخفيف من الهمز فالمعنى متفق وقيل هو من ري الشارب أي التنعم بالمشارب والمآكل وقرأ ابن عباس زيا بالزاي * (فليمدد له الرحمن مدا) * أي يمهله ويملي له واختلف هل هذا الفعل دعاء أو خبر سيق بلفظ الأمر تأكيدا * (حتى) * هنا غاية للمد في الإضلال * (إما العذاب) * يعني عذاب الدنيا * (شر مكانا وأضعف جندا) * في مقابلة قولهم خير مقاما وأحسن نديا * (والباقيات الصالحات) * ذكر في الكهف * (خير مردا) * أي مرجعا وعاقبة * (أفرأيت الذي كفر) * هو العاصي بن وائل * (وقال لأوتين مالا وولدا) * كان قد قال لئن بعثت كما يزعم محمد ليكونن لي هناك مالا وولدا * (أطلع الغيب) * الهمزة للإنكار والرد على العاصي في قوله * (كلا) * رد له عن كلامه * (سنكتب ما يقول) * إنما جعله مستقبلا لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل * (ونمد له من العذاب مدا) * أي نزيد له فيه * (ونرثه ما يقول) * أي نرث الأشياء التي قال إنه يؤتاها في الآخرة وهي المال والولد ووراثتها هي بأن يهلك العاصي ويتركها وقد أسلم ولداه هشام وعمرو رضي الله عنهما * (ويأتينا فردا) * أي بلا مال ولا ولد ولا ولي ولا نصير * (سيكفرون بعبادتهم) * قيل إن الضمير في يكفرون للكفار وفي عبادتهم للمعبودين فالمعنى كقولهم ما كنا مشركين وقيل إن الضمير في يكفرون للمعبودين وفي عبادتهم للكفار فالمعنى كقولهم ما كنتم إيانا تعبدون * (ويكونون عليهم ضدا) * معناه يكون لهم خلاف ما أملوه منهم فيصير العز الذي أملوه ذلة وقيل معناه أعداء * (أرسلنا الشياطين على الكافرين) * تضمن معنى سلطانا ولذلك تعدى بعلى * (تؤزهم أزا) * أي تزعجهم إلى الكفر والمعاصي * (فلا تعجل عليهم) * أي لا تستبطىء عذابهم وتطلب تعجيله * (إنما نعد لهم عدا) * أي نعد مدة بقائهم في الدنيا وقيل نعد أنفاسهم * (وفدا) * قيل معناه ركبانا ومعنى الوفد لغة القادمون وعادتهم الركوب فلذلك قيل ذلك وقيل مكرمون لأن العادة إكرام الوفود * (وردا) * معناه عطاشا لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش * (لا يملكون الشفاعة) * الضمير يحتمل أن يكون للكفار والمعنى لا يملكون أن يشفعوا لهم ويكون من اتخذ استثناء منقطعا بمعنى لكن أو يكون الضمير للمتقين فالاستثناء متصل والمعنى لا يملكون أن يشفعوا إلا لمن اتخذ عهدا أو لا يملكون أن يشفع منهم إلا من اتخذ عهدا أو يكون الضمير للفريقين إذ قد ذكروا قبل ذلك فالاستثناء أيضا متصل ومن اتخذ يحتمل أن يراد به
9

الشافع أو المشفوع له * (عهدا) * يريد به الإيمان والأعمال الصالحة ويحتمل أن يريد به الإذن في الشفاعة وهذا أرجح لقوله لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن والظاهر أن ذلك إشارة إلى شفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الموقف حين ينفرد بها ويقول غيره من الأنبياء نفسي نفسي * (شيئا إدا) * أي شيئا صعبا * (يتفطرن منه) * أي يتشققن من قول الكفار اتخذ الله ولدا * (هدا) * أي انهداما * (ان دعوا) * أي من أجل أن دعوا * (للرحمن ولدا) * وقرئ ولدا بضم الواو وإسكان اللام وهي لغة * (إن كل من في السماوات والأرض) * رد على مقالة الكفار والمعنى أن الكل عبيده فكيف يكون أحد منهم ولدا له وإن نافية وكل مبتدأ وخبره آتي الرحمن * (سيجعل لهم الرحمن ودا) * هي المحبة والقبول الذي يجعله الله في القلوب لمن شاء من عباده وقيل إنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه *
(يسرناه بلسانك) * الضمير للقرآن وبلسانك أي بلغتك * (قوما لدا) * جمع ألد وهو الشديد الخصومة والمجادلة والمراد بذلك قريش وقيل معناه فجارا * (أو تسمع لهم ركزا) * هو الصوت الخفي والمعنى أنهم لم يبق منهم اثر وفي ذلك تهديد لقريش
سورة طه
قيل في طه إنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل معناه يا رجل وانظر الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الصلاة حتى تورمت قدماه فنزلت الآية تخفيفا عنه فالشقاء على هذا إفراط التعب في العبادة وقيل المراد به التأسف على كفر الكفار واللفظ عام في ذلك كله والمعنى أنه نفى عنه جميع أنواع الشقاء في الدنيا والآخرة لأنه أنزل عليه القرآن الذي هو سبب السعادة * (إلا تذكرة) * نصب على الاستثناء المنقطع وأجاز ابن عطية أن يكون بدلا من موضع لتشقى إذ هو في موضع مفعول من أجله ومنع ذلك الزمخشري لاختلاف الجنسين ويصح أن ينتصب بفعل مضمر تقديره أنزلناه تذكرة * (تنزيلا) * نصب على المصدرية والعامل فيه مضمر وما أنزلنا وبدأ السورة بلفظ المتكلم في قوله ما أنزلنا ثم رجع إلى الغيبة في قوله تنزيلا ممن خلق الأرض الآية وذلك هو الالتفات
10

* (والسماوات العلى) * جمع عليا * (على العرش استوى) * تكلمنا عليه في الأعراف * (الثرى) * هو في اللغة التراب الندي والمراد به هنا الأرض * (وإن تجهر) * مطابقة هذا الشرط لجوابه كأنه يقول إن جهرت أو أخفيت فإنه يعلم ذلك لأنه يعلم السر وأخفى * (يعلم السر وأخفى) * السر الكلام الخفي والأخفى ما في النفس وقيل السر ما في نفوس البشر والأخفى ما انفرد الله بعلمه * (الأسماء الحسنى) * تكلمنا عليها في الأعراف * (وهل أتاك) * لفظ استفهام والمراد به التنبيه * (إذ رأى) * العامل في إذ حديث لأن فيه معنى الفعل وكان من قصة موسى أنه رحل بأهله من مدين يريد مصر فسار بالليل واحتاج إلى نار فقدح بزناده فلم ينقدح فرأى نارا فقصد إليها فناداه الله وأرسله إلى فرعون * (آنست نارا) * أي رأيت * (بقبس) * هو الجذوة من النار تكون على رأس العود والقصبة ونحوها * (أو أجد على النار هدى) * يعني هدى إلى الطريق من دليل أو غيره * (فاخلع نعليك) * قيل إنما أمر بخلع نعليه لأنهما كانتا من جلد حمار ميت فأمر بخلع النجاسة واختار ابن عطية أن يكون أمر بخلعهما ليتأدب ويعظم البقعة المباركة ويتواضع في مقام مناجاة الله وهذا أحسن " الوادي المقدس " أي المطهر * (طوى) * في معناه قولان أحدهما أنه اسم للوادي وإعرابه على هذا بدل ويجوز تنوينه على أنه مكان وترك صرفه على أنه بقعة والثاني أن معناه مرتين فإعرابه على هذا مصدر أي قدس الوادي مرة بعد مرة أو نودي موسى مرة بعد مرة * (وأقم الصلاة لذكري) * قيل المعنى لتذكرني فيها وقيل لأذكرك بها فالمصدر على الأول مضاف للمفعول وعلى الثاني مضاف للفاعل وقيل معنى لذكري عند ذكري كقوله أقم الصلاة لدلوك الشمس أي عند دلوك الشمس وهذا أرجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم استدل بالآية على وجوب الصلاة على الناسي إذا ذكرها * (أكاد أخفيها) * اضطرب الناس في معناه فقيل أخفيها بمعنى أظهرها وأخفيت هذا من الأضداد وقال ابن عطية هذا قول مختل وذلك أن المعروف في اللغة أن يقال أخفى بالألف من الإخفاء وخفي بغير ألف بمعنى أظهر فلو كان بمعنى الظهور لقال أخفيها بفتح همزة المضارع وقد قرىء بذلك في الشاذ وقال الزمخشري قد جاء في بعض اللغات أخفي بمعنى خفي أي أظهر فلا يكون هذا القول مختلا على هذه اللغة وقيل أكاد بمعنى أريد فالمعنى أريد إخفاءها وقيل إن المعنى إن الساعة آتية أكاد وتم هنا الكلام بمعنى أكاد أنفذها لقربها ثم استأنف الإخبار فقال أخفيها وقيل المعنى أكاد أخفيها عن نفسي فكيف عنكم وهذه الأقوال ضعيفة وإنما الصحيح أن
11

المعنى أن الله أبهم وقت الساعة فلم يطلع عليه أحد حتى أنه كاد أن يخفي وقوعها لإبهام وقتها ولكنه لم يخفها إذ أخبر بوقوعها فالأخفى على معناه المعروف في اللغة وكاد على معناها من مقاربة الشيء دون وقوعه وهذا المعنى هو اختيار المحققين * (لتجزى) * يتعلق بآتية * (بما تسعى) * أي بما تعمل * (فلا يصدنك عنها) * الضمير للساعة أي لا يصدنك عن الإيمان بها والاستعداد لها وقيل الضمير للصلاة وهو بعيد والخطاب لموسى عليه السلام وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك بعيد * (فتردى) * معناه تهلك والردى هو الهلاك وهذا الفعل منصوب في جواب لا يصدنك * (وما تلك بيمينك يا موسى) * إنما سأله ليريه عظيم ما يفعله في العصا من قلبها حية فمعنى السؤال تقرير أنها عصى فيتبين له الفرق بين حالها قبل أن يقلبها وبعد أن قلبها وقيل إنما سأله ليؤنسه ويبسطه بالكلام * (وأهش بها على غنمي) * معناه أضرب بها الشجر لينتشر الورق للغنم * (مآرب) * أي حوائج * (حية تسعى) * أي تمشي * (سيرتها الأولى) * يعني أنه لما أخذها عادت كما كانت أول مرة وانتصب سيرتها على أنه ظرف أو مفعول بإسقاط حرف الجر * (واضمم يدك إلى جناحك) * الجناح هنا الجنب أي تحت الإبط وهو استعارة من جناح الطائر * (تخرج بيضاء) * روي أن يده خرجت وهي بيضاء كالشمس * (من غير سوء) * يريد من غير برص ولا عاهة * (لنريك من آياتنا الكبرى) * يحتمل أن تكون الكبرى مفعول لنريك وأن تكون صفة للآيات ويختلف المعنى على ذلك * (اشرح لي صدري) * إن قيل لم قال اشرح لي ويسر لي مع أن المعنى يصح دون قوله لي فالجواب أن ذلك تأكيد وتحقيق للرغبة * (واحلل عقدة من لساني) * العقدة هي التي اعترته بالجمرة حين جعلها في فيه وهو صغير حين أراد فرعون أن يجر به وإنما قال عقدة بالتنكير لأنه طلب حل بعضها ليفقهوا قوله ولم يطلب الفصاحة الكاملة * (وزيرا) * أي معينا وإعراب هارون بدل أو مفعول أول * (أزري) * أي ظهري والمراد القوة ومنه فآزره أي قواه * (قال قد أوتيت سؤلك) * أي قد أعطيناك كل ما طلبت من الأشياء المذكورة * (إذ أوحينا إلى أمك) * يحتمل أن يكون وحي كلام بواسطة ملك أو وحي إلهام كقوله وأوحى ربك إلى النحل * (ما يوحى) * إبهام يراد به تعظيم الأمر * (أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم) * الضمير الأول لموسى والثاني للتابوت أو لموسى واليم البحر والمراد به هنا النيل وكان فرعون قد ذكر له أن هلاكه وخراب ملكه على يد غلام من بني إسرائيل فأمر
12

بذبح كل ولد ذكر يولد لهم فأوحى الله إلى أم موسى أن تلقيه في التابوت وتلقي التابوت في البحر ففعلت ذلك وكان فرعون في موضع يشرف على النيل فرأى التابوت
فأمر به فسيق إليه وامرأته معه ففتحه فأشفقت عليه امرأته وطلبت أن تتخذه ولدا فأباح لها ذلك * (يأخذه عدو لي وعدو له) * هو فرعون * (محبة مني) * أي أحببتك وقيل أراد محبة الناس فيه إذ كان لا يراه أحد إلا أحبه وقيل أراد محبة امرأة فرعون ورحمتها له وقوله مني يحتمل أن يتعلق بقوله ألقيت أو يكون صفة لمحبة فيتعلق بمحذوف * (ولتصنع على عيني) * أي تربى ويحسن إليك بمرأى مني وحفظ والعامل في لتصنع محذوف * (إذ تمشي أختك) * العامل في إذ تصنع أو ألقيت أو فعل مضمر تقديره ومننا عليك * (فتقول هل أدلكم على من يكفله) * كان لا يقبل ثدي امرأة فطلبوا له مرضعة فقالت أخته ذلك ليرد إلى أمه * (وقتلت نفسا) * يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه * (فنجيناك من الغم) * يعني الخوف من أن يطلب بثأر المقتول * (وفتناك فتونا) * أي اختبرناك اختبارا حتى ظهر منك أنك تصلح للنبوة والرسالة وقيل خلصناك من محنة بعد محنة لأنه خلصه من الذبح ثم من البحر ثم من القصاص بالقتل والفتون يحتمل أن يكون مصدرا أو جمع فتنة " فلثبت سنين " يعني الأعوام العشرة التي استأجره فيها شعيب * (جئت على قدر) * أي بميقات محدود قدره الله لنبوتك * (واصطنعتك لنفسي) * عبارة عن الكرامة والتقريب أي استخلصتك وجعلتك موضع صنيعتي وإحساني * (ولا تنيا) * أي لا تضعفا ولا تقصرا والوني هو الضعف عن الأمور والتقصير فيها * (أن يفرط) * أي يعمل بالشر * (فأرسل معنا بني إسرائيل) * أي سرحهم وكانوا تحت يد فرعون وقومه فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وتسريح بني إسرائيل * (ولا تعذبهم) * كان يعذبهم بذبح أبنائهم وتسخيرهم في خدمته وإذلالهم * (قد جئناك بآية) * يعني قلب العصا حية وإخراج اليد بيضاء وإنما وحدهما وهما آيتان لأنه أراد إقامة البرهان وهو معنى واحد * (والسلام على من اتبع الهدى) * يحتمل أن يريد التحية أو السلامة * (قال فمن ربكما يا موسى) * أفرد موسى بالنداء بعد جمعه مع أخيه لأنه الأصل في النبوة وأخوه تابع له " الذي أعطى كل شيء خلقه " المعنى أن الله أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه فخلقه على هذا بمعنى المخلوقين وإعرابه مفعول أول وكل شيء
13

مفعول ثان وقيل المعنى أعطى كل شيء خلقته وصورته أي أكمل ذلك وأتقنه فالخلق على هذا بمعنى الخلقة وإعرابه مفعول ثان وكل شيء مفعول أول والمعنى الأول أحسن * (ثم هدى) * أي هدى خلقه إلى التوصل لما أعطاهم وعلمهم كيف ينتفعون به * (قال فما بال القرون الأولى) * يحتمل أن يكون سؤاله عن القرون الأولى محاجة ومناقضة لموسى أي ما بالها لم تبعث كما يزعم موسى أو ما بالها لم تكن على دين موسى أو ما بالها كذبت ولم يصبها عذاب كما زعم موسى في قوله أن العذاب على من كذب وتولى ويحتمل أن يكون قال ذلك قطعا للكلام الأول وروغانا عنه وحيرة لما رأى أنه مغلوب بالحجة ولذلك أضرب موسى عن الكلام في شأنها فقال علمها عند ربي ثم عاد إلى وصف الله رجوعا إلى الكلام الأول * (في كتاب) * يعني اللوح المحفوظ * (الذي جعل لكم الأرض مهدا) * أي فراشا وانظر كيف وصف موسى ربه تعالى بأوصاف لا يمكن فرعون أن يتصف بها لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز ولو قال له هو القادر أو الرازق وشبه ذلك لأمكن فرعون أن يغالطه ويدعي ذلك لنفسه * (وسلك لكم فيها سبلا) * أي نهج لكم فيها طرقا تمشون فيها * (فأخرجنا) * يحتمل أن يكون من كلام موسى على تقدير يقول الله عز وجل فأخرجنا ويحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله وأنزل من السماء ماء ثم ابتدأ كلام الله * (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) * أي أصنافا مختلفة * (كلوا وارعوا أنعامكم) * المعنى أنها تصلح لأن تؤكل وترعاها الأنعام وعبر عن ذلك بصيغة الأمر لأنه أذن في ذلك فكأنه أمر به * (لأولي النهى) * أي العقول واحدها نهية * (منها خلقناكم) * الضمير للأرض يريد خلقة آدم من تراب * (وفيها نعيدكم) * يعني بالدفن عند الموت * (ومنها نخرجكم) * يعني عند البعث * (أريناه آياتنا) * يعني الآيات التي رآها فرعون وهي تسع آيات وليس يريد جميع آيات الله على العموم فالإضافة في قوله آياتنا تجري مجرى التعريف بالعهد أي آياتنا التي أعطينا موسى كلها وإنما أضافها الله إلى نفسه تشريفا * (فاجعل بيننا وبينك موعدا) * يحتمل أن يكون الموعد اسم مصدر أو اسم زمان أو اسم مكان ويدل على أنه اسم مكان قوله مكانا سوى ولكن يضعف بقوله موعدكم يوم الزينة لأنه أجاب بظرف الزمان ويدل على أن الموعد اسم زمان قوله يوم الزينة ولكن يضعف بقوله مكانا سوي ويدل على أنه اسم مصدر بمعنى الوعد قوله لا نخلفه لأن الإخلاف إنما يوصف به الوعد لا الزمان ولا المكان ولكن يضعف ذلك بقوله مكانا وبقوله يوم الزينة فلا بد على كل وجه من تأويل أو إضمار ويختلف إعراب قوله مكانا باختلاف تلك الوجوه فأما إن كان الموعد اسم مكان فيكون قوله موعدا ومكانا مفعولين لقوله اجعل ويطابقه قوله يوم الزينة
14

من طريق المعنى لا من طريق اللفظ وذلك أن الاجتماع في المكان يقتضي الزمان ضرورة وإن كان الموعد اسم زمان فينتصب قوله مكانا على أنه ظرف زمان والتقدير موعدا كائنا في مكان وإن كان الموعد اسم مصدر فينتصب مكانا على أنه مفعول بالمصدر وهو الموعد أو بفعل من معناه ويطابقه قوله يوم الزينة على حذف مضاف تقديره موعدكم وعد يوم الزينة وقرأ الحسن يوم الزينة بالنصب وذلك يطابق أن يكون الموعد اسم مصدر من غير تقدير محذوف * (مكانا سوى) * معناه مستوى في القرب منا ومنكم وقيل معناه مستوى الأرض ليس فيه انخفاض ولا ارتفاع وقرئ بكسر السين وضمها والمعنى متفق * (يوم الزينة) * يوم عيد لهم وقيل يوم عاشوراء * (وأن يحشر) * عطف على الزينة فهو في موضع خفض أو على اليوم فهو في موضع رفع وقصد موسى أن يكون موعدهم عند اجتماع الناس على رؤس الأشهاد لتظهر معجزته ويستبين الحق للناس * (فيسحتكم) * معناه يهلككم يقال سحت وأسحت وقد قرىء بفتح الياء وضمها والمعنى متفق * (قالوا إن هذان لساحران) * قرئ إن هذين بالياء ولا إشكال في ذلك وقرئ بتخفيف إن وهي مخففة من الثقيلة وارتفع بعدها هذان بالابتداء وأما قراءة نافع وغيره بتشديد إن ورفع هذان فقيل إن هنا بمعنى نعم فلا تنصب ومنه ما روي في الحديث أن الحمد لله بالرفع وقيل اسم إن ضمير الأمر والشأن تقديره إن الأمر وهذان لساحران مبتدأ وخبر في موضع خبر إن وقيل جاء القرآن في هذه الآية بلغة بني الحرث بن كعب وهو إبقاء التثنية بالألف حال النصب والخفض وقالت عائشة رضي الله عنها هذا مما لحن فيه كتاب المصحف * (ويذهبا بطريقتكم المثلى) * أي يذهب بسيرتكم الحسنة * (فأجمعوا كيدكم) * أي اعزموا وأنفذوه * (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * استدل بعضهم بهذه الآية على أن السحر تخييل لا حقيقة وقال بعضهم إن حيلة السحرة في سعي الحبال والعصي هي أنهم حشوها بالزئبق وأوقدوا تحتها نارا وغطوا النار لئلا يراها الناس ثم وضعوا عليها حبالهم وعصيهم وقيل جعلوها للشمس فلما أحس الزئبق بحر النار أو الشمس سال وهو في حشو الحبال والعصي فحملها فتخيل للناس أنها تمشي فألقى موسى عصاه
فصارت ثعبانا فابتلعتها " إنما صنعوا كيد
15

ساحر) ما هنا موصولة وهي اسم إن وكيد خبرها * (آمنا برب هارون وموسى) * قدم هارون لتعادل رؤس الآي * (من خلاف) * أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى * (والذي فطرنا) * معطوف على ما جاءنا من البينات وقيل هي واو القسم * (هذه الحياة) * نصب على الظرفية أي إنما قضاؤك في هذه الدنيا * (إنه من يأت ربه مجرما) * قيل إن هنا وما بعده من كلام السحرة لفرعون على وجه الموعظة وقيل هو من كلام الله * (أن أسر بعبادي) * يعني ببني إسرائيل وأضافهم إلى نفسه تشريفا لهم وكانوا فيما قيل ستمائة ألف * (يبسا) * أي يابسا وهو مصدر وصف به * (لا تخاف دركا ولا تخشى) * أي لا تخاف أن يدركك فرعون وقومه ولا تخشى الغرق في البحر * (ما غشيهم) * إبهام لقصد التهويل (وما هدى) إن قيل إن قوله وأضل فرعون قومه يغني عن قوله وما هدى فالجواب أنه مبالغة وتأكيد وقال الزمخشري هو تهكم بفرعون في قوله * (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) * * (يا بني إسرائيل) * خطاب لهم بعد خروجهم من البحر وإغراق فرعون وقيل هو خطاب لمن كان منهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والأول أظهر * (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) * لما أهلك الله فرعون وجنوده أمر موسى وبني إسرائيل أن يسيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه ربه والطور هو الجبل واختلف هل هذا الطور هو الذي رأى فيه موسى النار في أول نبوته أو هو غيره * (ونزلنا عليكم المن والسلوى) * ذكر في البقرة * (فقد هوى) * أي هلك وهو استعارة من السقوط من علو إلى سفل * (وإني لغفار لمن تاب) * المغفرة لمن تاب حاصلة ولا بد والمغفرة للمؤمن الذي لم يتب في مشيئة الله عند أهل السنة وقالت المعتزلة لا يغفر إلا لمن تاب * (ثم اهتدى) * أي استقام ودام على الإيمان والتوبة والعمل الصالح ويحتمل أن يكون الهدى هنا عبارة عن نور وعلم يجعله الله في قلب من تاب وآمن وعمل صالحا " وما أعجلك عن
16

قومك يا موسى) قصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما أمره الله أن يسير هو وبنو إسرائيل إلى الطور تقدم هو وحده مبادرة إلى أمر الله وطلبا لرضاه وأمر بني إسرائيل أن يسيروا بعده واستخلف عليهم أخاه هارون فأمرهم السامري حينئذ بعبادة العجل فلما وصل موسى إلى الطور دون قومه قال له الله تعالى * (ما أعجلك عن قومك) * وإنما سأل الله موسى عن سبب استعجاله دون قومه ليخبره موسى بأنهم يأتون على أثره فيخبره الله بما صنعوا بعده من عبادة العجل وقيل سأله على وجه الإنكار لتقدمه وحده دون قومه فاعتذر موسى بعذرين أحدهما أن قومه على أثره أي قريب منه فلم يتقدم عليهم بكثير فيوجب العتاب والثاني أنه إنما تقدم طلبا لرضا الله * (وأضلهم السامري) * كان السامري رجلا من بني إسرائيل يقال إنه ابن خال موسى وقيل لم يكن منهم وهو منسوب إلى قرية بمصر يقال لها سامرة وكان ساحرا منافقا * (فرجع موسى إلى قومه) * يعني رجع من الطور بعد إكمال الأربعين يوما التي كلمه الله فيها * (أسفا) * ذكر في الأعراف * (ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) * يعني ما وعدهم من الوصول إلى الطور * (أفطال عليكم العهد) * يعني المدة وهذا الكلام توبيخ لهم * (بملكنا) * قرىء بالفتح والضم والكسر ومعناه ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا ولكن غلبنا بكيد السامري فيحتمل أنهم اعتذروا بقلة قدرتهم وطاقتهم ويناسب هذا المعنى القراءة بضم الميم واعتذروا بقلة ملكهم لأنفسهم في النظر وعدم توفيقهم للرأي السديد ويناسب هذا المعنى القراءة بالفتح والكسر * (حملنا أوزارا من زينة القوم) * الأوزار هنا الأحمال سميت أوزارا لثقلها أو لأنهم اكتسبوا بسببها الأوزار أي الذنوب وزينة القوم هي حلي القبط قوم فرعون كان بنو إسرائيل قد استعاروه منهم قبل هلاكهم وقيل أخذوه بعد هلاكهم فقال لهم السامري اجمعوا هذا الحلي في حفرة حتى يحكم الله فيه ففعلوا ذلك وأوقد السامري نارا على الحلي وصاغ منه عجلا وقيل بل خلق الله منه العجل من غير أن يصنعه السامري ولذلك قال لموسى قد فتنا قومك من بعدك * (فقذفناها) * أي قذفنا أحمال الحلي في الحفرة * (فكذلك ألقى السامري) * كان السامري قد رأى جبريل عليه السلام فأخذ من وطء فرسه قبضة من تراب وألقى الله في نفسه أنه إذا جعلها على شيء مواتا صار حيوانا فألقاها على العجل فخار العجل أي صاح صياح العجول فالمعنى أنهم قالوا كما ألقينا الحلي في الحفرة ألقى السامري قبضة التراب * (جسدا) * أي جسما بلا روح والخوار صوت البقر * (فقالوا هذا إلهكم) * أي قال ذلك بنو إسرائيل بعضهم لبعض * (فنسي) * يحتمل وجهين أحدهما أن يكون من كلام بني إسرائيل والفاعل موسى أي نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في الطور والنسيان على هذا بمعنى الذهول والوجه الثاني أن يكون من كلام الله تعالى والفاعل على هذا السامري أي نسي دينه وطريق الحق والنسيان على هذا المعنى الترك * (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا) * معناه لا يرد عليهم كلاما إذا
17

كلموه وذلك رد عليهم في دعوى الربوبية له وقرئ يرجع بالرفع وأن مخففة من الثقيلة وبالنصب وهي مصدرية * (قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن) * لا زائدة للتأكيد والمعنى ما منعك أن تتبعني في المشي إلى الطور أو تتبعني في الغضب لله وشدة الزجر لمن عبد العجل وقتالهم بمن لم يعبده * (قال يا ابن أم) * ذكر في الأعراف * (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) * كان موسى قد أخذ بشعر هارون ولحيته من شدة غضبه لما وجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل * (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) * أي لو قاتلت من عبد العجل منهم بمن لم يعبده لقلت فرقت جماعتهم وأدخلت العداوة بينهم وهذا على أن يكون معنى قوله تتبعني في الزجر والقتال ولو اتبعتك في المشي إلى الطور لاتبعني بعضهم دون بعض فتفرقت جماعتهم وهذا على أن يكون معنى تتبعني في المشي إلى الطور * (ولم ترقب قولي) * يعني قوله له اخلفني في قومي وأصلح * (قال فما خطبك يا سامري) * أي قال موسى ما شأنك ولفظ الخطب يقتضي الانتهار لأنه يستعمل في المكاره * (قال بصرت بما لم يبصروا به) * أي رأيت ما لم يروه يعني جبريل عليه السلام وفرسه * (فقبضت قبضة من أثر الرسول) * أي قبضت قبضة من تراب من أثر فرس الرسول وهو جبريل وقرأ ابن مسعود من أثر فرس الرسول وإنما سمي جبريل بالرسول لأن الله أرسله إلى موسى والقبضة مصدر قبض وإطلاقها على المفعول من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير ويقال قبض بالضاد المعجمة إذا أخذ بأصابعه وكفه وبالصاد المهملة إذا أخذ بأطراف الأصابع وقد قرئ كذلك في الشاذ * (فنبذتها) * أي ألقيتها على الحلي فصار عجلا أو على العجل فصار له خوار * (فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) * عاقب موسى عليه السلام السامري بأن منع الناس من
مخالطته ومجالسته ومؤاكلته ومكالمته وجعل له مع ذلك أن يقول طول حياته لا مساس أي لا مماسة ولا إذاية وروي أنه كان إذا مسه أحد أصابت الحمى له وللذي مسه فصار هو يبعد عن الناس وصار الناس يبعدون عنه * (وإن لك موعدا) * يعني العذاب في الآخرة وهذا تهديد ووعيد * (ظلت) * أصله ظللت حذفت إحدى اللامين والأصل في معنى ظل أقام بالنهار ثم استعمل في الدأب على الشيء ليلا ونهارا * (لنحرقنه) * من الإحراق بالنار وقرئ بفتح النون وضم الراء بمعنى نبرده بالمبرد وقد حمل بعضهم قراءة الجماعة على أنها من هذا المعنى لأن الذهب لا يفنى بالإحراق بالنار والصحيح أن المقصود بإحراقه بالنار إذابته وإفساد صورته فيصح حمل قراءة الجماعة على ذلك * (ثم لننسفنه في اليم نسفا) * أي نلقيه في البحر والنسف تفريق الغبار ونحوه
18

* (إنما إلهكم الله) * الآية من كلام موسى لبني إسرائيل * (كذلك نقص عليك) * مخاطبة من الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأنباء ما قد سبق أخبار المتقدمين * (ذكرا) * يعني القرآن * (من أعرض عنه) * يعني إعراض تكذيب به * (وزرا) * الوزر في اللغة الثقل ويعني هنا العذاب لقوله خالدين فيه أو الذنوب لأنها سبب العذاب * (وساء لهم يوم القيامة حملا) * شبه الوزر بالحمل لثقله قال الزمخشري ساء تجري مجرى بئس ففاعلها مضمر يفسره حملا وقال غيره فاعلها مضمر يعود على الوزر * (يوم ينفخ في الصور) * أي ينفخ الملك في القرن وقرئ ننفخ بالنون أي بأمرنا * (زرقا) * أي زرق الألوان كالسواد وقيل زرق العيون من العمى * (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا) * أي يقول بعضهم لبعض في السر إن لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال وذلك لاستقلالهم مدة الدنيا وقيل يعنون لبثهم في القبور * (يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) * أي يقول أعلمهم بالأمور فالإضافة إليهم إن لبثتم إلا يوما واحدا فاستقل المدة أشد مما استقلها غيره * (ينسفها ربي) * أي يجعلها كالغبار ثم يفرقها * (فيذرها قاعا صفصفا) * الضمير في يذرها للجبال والمراد موضعها من الأرض والقاع الصفصف المستوي من الأرض الذي لا ارتفاع فيه * (لا ترى فيها عوجا) * المعروف في اللغة أن العوج بالكسر في المعاني وبالفتح في الأشخاص والأرض شخص فكان الأصل أن يقال فيها بالفتح وإنما قاله بالكسر مبالغة في نفيه فإن الذي في المعاني أدق من الذي في الشخاص فنفاه ليكون غاية في نفي العوج من كل وجه * (ولا أمتا) * الأمت هو الارتفاع اليسير * (يتبعون الداعي) * يعني الذي يدعو الخلق إلى الحشر * (لا عوج له) * أي لا يعوج أحد عن اتباعه والمشي نحو صوته أو لا عوج لدعوته لأنها حق * (همسا) * هو الصوت الخفي * (لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن) * يحتمل أن يكون الاستثناء متصلا ومن في موضع نصب بتنفع وهي واقعة على المشفوع له فالمعنى لا تنفع الشفاعة أحد إلا من أذن له الرحمن في أن يشفع له وأن يكون الاستثناء منقطعا ومن واقعة على الشافع والمعنى لكن من أذن له الرحمن يشفع * (ورضي له قولا) * إن أريد بمن أذن له الرحمن المشفوع فيه فاللام في له بمعنى لأجله أي رضي قول الشافع لأجل المشفوع فيه وإن أريد الشافع فالمعنى رضي له قوله في الشفاعة * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) * الضميران
19

لجميع الخلق والمعنى ذكر في آية الكرسي * (ولا يحيطون به علما) * قيل المعنى لا يحيطون بمعلوماته كقوله ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء والصحيح عندي أن المعنى لا يحيطون بمعرفة ذاته إذ لا يعرف الله على الحقيقة إلا الله ولو أراد المعنى الأول لقال ولا يحيطون بعلمه ولذلك استثني إلا بما شاء هناك ولم يستثن هنا * (وعنت الوجوه) * أي ذلت يوم القيامة * (ولا هضما) * أي بخسا ونقصا لحسناته * (أو يحدث لهم ذكرا) * أي تذكرا وقيل شرفا وهو هنا بعيد * (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) * أي إذا أقرأك جبريل القرآن فاستمع إليه واصبر حتى يفرغ وحينئذ تقرأه أنت فالآية كقوله * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه القرآن يأمر بكتبه في الحين فأمر بأن يتأنى حتى تفسر له المعاني والأول أشهر * (عهدنا إلى آدم) * أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة * (فنسي) * يحتمل أن يكون النسيان الذي هو ضد الذكر فيكون ذلك عذرا لآدم أو يريد الترك وقال ابن عطية ولا يمكن غيره لأن الناسي لا عقاب عليه وقد تقدم الكلام على قصة آدم وإبليس في البقرة * (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * أي لا تطيعاه فيخرجكما من الجنة فجعل المسبب موضع السبب وخص آدم بقوله فتشقى لأنه كان المخاطب أولا والمقصود بالكلام وقيل لأن الشقاء في معيشة الدنيا مختص بالرجال * (لا تظمأ فيها ولا تضحى) * الظمأ هو العطش والضحى هو البروز للشمس * (يخصفان) * ذكر في الأعراف وكذلك الشجرة وأكل آدم منها ذكر ذلك في البقرة * (اهبطا) * خطاب لآدم وحواء * (فإما يأتينكم) * هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة وجوابها فمن اتبع * (فلا يضل ولا يشقى) * أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة * (معيشة ضنكا) * أي ضيقة فقيل إن ذلك في الدنيا فإن الكافر ضيق المعيشة لشدة حرصه وإن كان واسع الحال وقد قال بعض الصوفية لا يعرض أحد عن ذكر الله إلا أظلم عليه وقته وتكدر عليه عيشه وقيل إن ذلك في البرزخ وقيل في جهنم يأكل الزقوم وهذا
20

ضعيف لأنه ذكر بعد هذا يوم القيامة وعذاب الآخرة * (ونحشره يوم القيامة أعمى) * أي يعني أعمى البصر * (فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) * من الترك لا من الذهول * (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) * أي عذاب جهنم أشد وأبقى من العيشة الضنك ومن الحشر أعمى * (أفلم يهد لهم) * معناه أفلم يتبين لهم والضمير لقريش والفاعل بيهد مقدر تقديره أولم يهد لهم الهدي أو الأمر وقال الزمخشري الفاعل الجملة التي بعده وقيل الفاعل ضمير الله عز وجل ويدل عليه قراءة أفلم نهد بالنون وقال الكوفيون الفاعل كم * (يمشون في مساكنهم) * يريد أن قريشا يمشون في مساكن عاد وثمود ويعاينون آثار هلاكهم * (لأولي النهى) * أي ذوي العقول * (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما) * الكلمة هنا القضاء السابق والمعنى لولا قضاء الله بتأخير العذاب عنهم لكان العذاب لزاما أي واقعا بهم * (وأجل مسمى) * معطوف على كلمة أي لولا الكلمة والأجل المسمى لكان العذاب لزاما وإنما أخره لتعتدل رؤس الآي والمراد بالأجل المسمى يوم بدر وبذلك ورد تفسيره في البخاري وقيل المراد به أجل الموت وقيل القيامة * (وسبح) * يحتمل أن يريد بالتسبيح الصلاة أو قول سبحان الله وهو ظاهر اللفظ * (بحمد ربك) * في موضع الحال أي وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح ويحتمل أن يكون المعنى سبح تسبيحا مقرونا بحمد ربك فيكون أمرا بالجمع بين قوله سبحان الله وقوله الحمد لله وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض * (قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) * إشارة إلى الصلوات الخمس عند من قال إن معنى فسبح الصلاة فالتي قبل طلوع الشمس الصبح والتي قبل غروبها الظهر والعصر ومن آناء الليل المغرب والعشاء الآخرة وأطراف النهار المغرب والصبح وكرر الصبح في ذلك تأكيدا للأمر بها وسمى الطرفين أطرافا لأحد وجهين إما على نحو فقد صغت قلوبكما وإما أن يجعل النهار للجنس فلكل يوم طرف وآناء الليل ساعاته واحدها إني * (ولا تمدن عينيك) * ذكر في الحجر ومد العينين هو تطويل النظر ففي ذلك دليل على أن النظر غير الطويل معفو عنه * (زهرة الحياة الدنيا) * شبه نعم الدنيا بالزهر وهو النوار لأن الزهر له منظر حسن ثم يذبل ويضمحل وفي نصب زهرة خمسة أوجه أن ينتصب بفعل مضمر على الذم أو يضمن متعنا معنى أعطينا ويكون زهرة مفعولا ثانيا له أو يكون بدلا من موضع الجار والمجرور أو يكون بدلا من أزواجا على تقدير ذوي زهرة أو ينتصب على الحال * (لنفتنهم فيه) * أي لنختبرهم * (لا نسألك رزقا) * أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك فتفرغ أنت وأهلك للصلاة فنحن
21

نرزقك وكان بعض السلف إذا أصاب أهله خصاصة قال قوموا فصلوا بهذا أمركم الله ويتلو هذه الآية " أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى " البينة هنا البرهان والصحف الأولى هي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله والضمير في قالوا وفي أولم تأتهم لقريش لما اقترحوا آية على وجه العناد والتعنت أجابهم الله بهذا الجواب والمعنى قد جاءكم برهان ما في التوراة والإنجيل من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فلأي شيء تطلبون آية أخرى ويحتمل أن يكون المعنى قد جاءكم القرآن وفيه من العلوم والقصص ما في الصحف الأولى فذلك بينة وبرهان على أنه من عند الله * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله) * الية معناها لو أهلكنا هؤلاء الكفار قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم لاحتجوا على الله بأن يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا ولولا هنا عرض فقامت عليهم الحجة ببعثه صلى الله عليه وسلم * (قل كل متربص) * أي قل كل واحد منا ومنكم منتظر لما يكون من هذا الأمر * (فتربصوا) * تهديد) الصراط السوي) المستقيم
سورة الأنبياء عليهم السلام)
* (اقترب للناس حسابهم) * الناس لفظ عام وقال ابن عباس المراد هنا المشركون من قريش بدليل ما بعد ذلك لأنه من صفاتهم وإنما أخبر عن الساعة بالقرب لأن الذي مضى من الزمان قبلها أكثر مما بقي لها ولأن كل آت قريب * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) * يعني بالذكر القرآن ومحدث أي محدث النزول * (وأسروا النجوى الذين ظلموا) * الواو في أسروا ضمير فاعل يعود على ما قبله والذين ظلموا بدل من الضمير وقيل إن الفاعل هو الذين ظلموا وجاء ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث وهي لغة بني الحارث بن كعب وقال سيبويه لم تأت هذه اللغة في القرآن ويحتمل أن يكون الذين ظلموا منصوبا بفعل مضمر على الذم أو خبر ابتداء مضمر والأول أحسن * (هل هذا إلا بشر مثلكم) * هذا الكلام في موضع نصب بدل من النجوى لأنه هو الكلام الذي تناجوا به والبشر المذكور في الآية هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " قال ربي يعلم بالقول " إخبار بأنه ما تناجوا به على أنهم أسروه فإن قيل هلا قال يعلم السر مناسبة لقوله أسروا النجوى فالجواب أن القول يشمل السر والجهر
22

فحصل به ذكر السر وزيادة * (بل قالوا أضغاث أحلام) * أي أخلاط منامات وحكى عنهم هذه الأقوال الكثيرة ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم * (كما أرسل الأولون) * أي كما جاء الرسل المتقدمون بالآيات فليأتنا محمد بآية فالتشبيه في الإتيان بالمعجزة * (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها) * لما قالوا فليأتنا بآية أخبرهم الله أن الذين من قبلهم طلبوا الآيات فلما رأوها ولم يؤمنوا أهلكوا ثم قال * (أفهم يؤمنون) * أي أن حالهم في عدم الإيمان وفي الهلاك كحال من قبلهم ويحتمل أن يكون المعنى أن كل قرية هلكت لم تؤمن فهؤلاء كذلك ولا يكون على هذا جوابا لقولهم فليأتنا بآية بل يكون إخبارا مستأنفا على وجه التهديد وأهلكناها في موضع الصفة لقرية والمراد أهل القرية * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا) * رد على قولهم هل هذا إلا بشر مثلكم والمعنى أن الرسل المتقدمين رجالا من البشر فكيف تنكرون أن يكون هذا الرجل رسولا * (أهل الذكر) * يعني أحبار أهل الكتاب * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) * أي ما جعلنا الرسل أجسادا غير طاعمين ووحد الجسد لإرادة الجنس ولا يأكلون الطعام صفة لجسد وفي الآية رد على قولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام * (ومن نشاء) * يعني المؤمنين * (فيه ذكركم) * أي شرفكم وقيل تذكيركم * (قصمنا) * أي أهلكنا وأصله من قصم الظهر أي كسره * (من قرية) * يريد أهل القرية قال ابن عباس هي قرية باليمن يقال لها حضور بعث الله إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر ملك بابل فأهلكهم بالقتل وظاهر اللفظ أنه على العموم لأن كم للتكثير فلا يريد قرية معينة * (يركضون) * عبارة عن فرارهم فيحتمل أن يكونوا ركبوا الدواب وركضوها لتسرع الجري أو شبهوا في سرعة جريهم على أرجلهم بمن يركض الدابة * (لا تركضوا) * أي قيل لهم لا تركضوا والقائل لذلك هم الملائكة قالوه تهكما بهم أو رجال بختنصر إن كانت القرية المعينة قالوا ذلك لهم خداعا ليرجعوا فيقتلوهم * (أترفتم) * أي نعمتم " لعلكم تسئلون " تهكم بهم وتوبيخ أي ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسئلون عما جرى عليكم ويحتمل أن يكون تسئلون بمعنى يطلب لكم الناس معروفكم وهذا أيضا تهكم * (قالوا يا ويلنا) * الآية اعتراف وندم حين لم ينفعهم * (حصيدا خامدين) * شبهوا في هلاكهم بالزرع المحصود ومعنى خامدين موتى وهو تشبيه بخمود النار * (لاعبين) * حال منفية أي ما خلقنا السماوات
23

والأرض لأجل اللعب بل للاعتبار بها والاستدلال على صانعها * (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا) * اللهو في لغة اليمن الولد وقيل المرأة ومن لدنا أي من الملائكة فالمعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ ولدا لاتخذناه من الملائكة لا من بني آدم فهو رد على من قال إن المسيح ابن الله وعزير ابن الله والظاهر أن اللهو بمعنى اللعب لاتصاله بقوله لاعبين وقال الزمخشري المعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ لهوا لكان ذلك في قدرتنا ولكن ذلك لا يليق بنا لأنه مناقض للحكمة وفي كلا القولين نظر * (إن كنا فاعلين) * يحتمل أن تكون إن شرطية وجوابها فيما قبلها أو نافية والأول أظهر * (بل نقذف بالحق على الباطل) * الحق عام في القرآن والرسالة والشرع وكل
ما هو حق والباطل عام في أضداد ذلك * (فيدمغه) * أي يقمعه ويبطله وأصله من إصابة الدماغ " ومن عنده " يعني الملائكة * (ولا يستحسرون) * أي لا يعيون ولا يملون * (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) * أم هنا للإضراب عما قبلها والاستفهام على وجه الإنكار لما بعدها من الأرض يتعلق بينشرون والمعنى أن الآلهة التي اتخذها المشركون لا يقدرون أن ينشروا الموتى من الأرض فليست بآلهة في الحقيقة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * هذا برهان على وحدانية الله تعالى والضمير في قوله فيهما للسموات والأرض وإلا الله صفة لآلهة وإلا بمعنى غير فاقتضى الكلام أمرين أحدهما نفي كثرة الآلهة ووجوب أن يكون الإله واحدا والأمر الثاني أن يكون ذلك الواحد هو الله دون غيره ودل على ذلك قوله إلا الله وأما الأول فكانت الآية تدل عليه لو لم تذكر هذه الكلمة وقال كثير من الناس في معنى الآية إنها دليل على التمانع الذي أورده الأصوليون وذلك أنا لو فرضنا إلهين فأراد أحدهما شيئا وأراد الآخر نقيضه فإما أن تنفذ إرادة كل واحد منهما وذلك محال لأن النقيضين لا يجتمعان وإما أن لا تنفذ إرادة واحد منهما وذلك أيضا محال لأن النقيضين لا يرتفعان معا ولأن ذلك يؤدي إلى عجزهما وقصورهما فلا يكونان إلهين وإما أن ينفذ إرادة واحد منهما دون الآخر فالذي تنفذ إرادته هو الإله والذي لا تنفذ إرادته ليس بإله فالإله واحد وهذا الدليل إن سلمنا صحته فلفظ الآية لا يطابقه بل الظاهر من اللفظ استدلال آخر أصح من دليل التمانع وهو أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا لما يحدث بينهما من الاختلاف والتنازع في التدبير وقصد المغالبة ألا ترى أنه لا يوجد ملكان اثنان لمدينة واحدة ولا وليان لخطة واحدة " لا يسئل عما يفعل " لأنه مالك كل شيء والمالك يفعل في ملكه ما يشاء ولأنه حكيم فأفعاله كلها جارية على الحكمة " وهم يسئلون " لفقد العلتين * (أم اتخذوا من دونه آلهة) * كرر هذا الإنكار استعظاما للشرك ومبالغة في تقبيحه لأن قبله من صفات الله ما يوجب توحيده وليناط به ما ذكر بعده من تعجيز المشركين وأنهم ليس لهم على الشرك برهان لا من جهة العقل ولا من جهة الشرع
24

* (هاتوا برهانكم) * تعجيز لهم وقد تكلمنا على هاتوا في البقرة * (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) * رد على المشركين والمعنى هذا الكتاب الذي معي والكتب التي من قبلي ليس فيهما ما يقتضي الإشراك بالله بل كلها متفقة على التوحيد * (وما أرسلنا) * الآية رد على المشركين والمعنى أن كل رسول إنما أتى بلا إله إلا الله * (عباد مكرمون) * يعني الملائكة وهم الذين قال فيهم بعض الكفار أنهم بنات الله فوصفهم بالعبودية لأنها تناقض البنؤة ووصفهم بالكرامة لأن ذلك هو الذي غر الكفار حتى قالوا فيهم ما قالوا * (لا يسبقونه بالقول) * أي لا يتكلمون حتى يتكلم هو تأدبا معه * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * أي لم ارتضى أن يشفع له ويحتمل أن تكون هذه الشفاعة في الآخرة أو في الدنيا وهي استغفارهم لمن في الأرض * (مشفقون) * أي خائفون * (ومن يقل منهم) * الآية على فرض أن لو قالوا ذلك ولكنهم لا يقولونه وإنما مقصد الآية الرد على المشركين وقيل إن الذي قال إني إله هو إبليس لعنه الله * (كانتا رتقا ففتقناهما) * الرتق مصدر وصف به ومعناه الملتصق بعضه ببعض الذي لا صدع فيه ولا فتح والفتق الفتح فقيل كانت السماوات ملصقة بالأرض ففتقها الله بالهواء وقيل كانت السماوات ملتصقة بعضها ببعض والأرضون كذلك ففتقهما الله سبعا سبعا والرؤية في قوله أولم ير على هذا رؤية قلب وقيل فتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات فالرؤية على هذا عين " وجعلنا من الماء كل شيء حي " أي خلقنا من الماء كل حيوان ويعني بالماء المني وقيل الماء الذي يشرب لأنه سبب لحياة الحيوان ويدخل في ذلك النبات باستعارة * (رواسي) * يعني الجبال * (أن تميد) * تقديره كراهية أن تميد * (فجاجا) * يعني الطرق الكبار وإعرابه عند الزمخشري حال من السبل لأنه صفة تقدمت على النكرة * (لعلهم يهتدون) * يعني في طرقهم وتصرفاتهم * (سقفا محفوظا) * أي حفظ من السقوط ومن الشياطين * (عن آياتها معرضون) * يعني الكواكب والأمطار والرعد والبرق وغير ذلك * (كل في فلك يسبحون) * التنوين في كل عوض عن الإضافة أي كلهم في فلك يسبحون يعني الشمس والقمر دون الليل والنهار إذ لا يوصف الليل والنهار بالسبح في الفلك فالجملة في موضع حال من الشمس والقمر أو مستأنفا فإن قيل لفظ كل ويسبحون جمع فكيف يعني الشمس والقمر وهما اثنان فالجواب أنه أراد جنس مطالعها كل يوم وليلة وهي كثيرة
25

قاله الزمخشري وقال القزنوي أراد الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة وعبر عنهما بضمير الجماعة العقلاء في قوله يسبحون لأنه وصفهم بفعل العقلاء وهو السبح فإن قيل كيف قال في فلك وهي أفلاك كثيرة فالجواب أنه أراد كل واحد يسبح في فلكه وذلك كقولهم كساهم الأمير حلة أي كسا كل واحد منهم حلة ومعنى الفلك جسم مستدير وقال بعض المفسرين إنه من موج وذلك بعيد والحق أنه لا يعلم صفته وكيفيتة إلا بإخبار صحيح عن الشارع وذلك غير موجود ومعنى يسبحون يجرون أو يدورون وهو مستعار من السبح بمعنى العوم في الماء وقوله كل في فلك من المقلوب الذي يقرأ من الطرفين * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) * سببها أن الكفار طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بشر يموت وقيل إنهم تمنوا موته ليشمتوا به وهذا أنسب لما بعده * (أفإن مت فهم الخالدون) * موضع دخول الهمزة فهم الخالدون وتقدمت لأن الاستفهام له صدر الكلام * (كل نفس ذائقة الموت) * أي كل نفس مخلوقة لا بد لها أن تذوق الموت والذوق هنا استعارة * (ونبلوكم بالشر والخير) * أي نختبركم بالفقر والغنى والصحة والمرض وغير ذلك من أحوال الدنيا ليظهر الصبر على الشر والشكر على الخير أو خلاف ذلك * (فتنة) * مصدر من معنى نبلوكم * (أهذا الذي يذكر آلهتكم) * أي يذكرهم بالذم دلت على ذلك قرينة الحال فإن الذكر قد يكون بذم أومدح والجملة تفسير للهزء أي يقولون أهذا الذي * (وهم بذكر الرحمن هم كافرون) * الجملة في موضع الحال أي كيف ينكرون ذمك لآلهتهم وهم يكفرون بالرحمن فهم أحق بالملامة وقيل معنى بذكر الرحمن تسميته بهذا الاسم لأنهم أنكروها والأول أغرق في ضلالهم * (خلق الإنسان من عجل) * خلق شديد الاستعجال وجاءت هذه العبارة للمبالغة كقولهم خلق حاتم من جود والإنسان هنا جنس وسبب الآية أن الكفار استعجلوا الآيات التي اقترحوها والعذاب الذي طلبوه فذكر الله هذا توطئة لقوله فلا تستعجلون وقيل المراد هنا آدم لأنه لما وصلت الروح إلى صدره أراد أن يقوم وهذا ضعيف وقيل من عجل أي من طين وهذا أضعف * (سأريكم آياتي) * وعيد وجواب على ما طلبوه من التعجيل * (ويقولون) * الآية تفسير لاستعجالهم * (الوعد) * القيامة وقيل نزول العذاب بهم * (لو يعلم) * جواب لو محذوف * (حين) * مفعول به ليعلموا أي لو يعلمون الوقت الذي يحيط بهم العذاب لآمنوا وما
استعجلوا * (بل تأتيهم) * الضمير الفاعل للنار وقيل للساعة * (تبهتهم) * أي تفجؤهم * (ولا هم ينظرون) * أي لا يؤخرون عن العذاب * (ولقد استهزئ) * الآية تسلية بالتأسي * (فحاق) * أي أحاط * (من يكلؤكم) * أي من
26

يحفظكم من أمر الله ومن استفهامية والمعنى تهديد وإقامة حجة لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا أنهم ليس لهم مانع ولا حافظ ثم جاء قوله * (بل هم عن ذكر ربهم معرضون) * بمعنى أنهم إذا سئلوا عن ذلك السؤال لم يجيبوا عنه لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا ولكنهم يعرضون عن ذكر الله أي عن الجواب الذي فيه ذكر الله وقال الزمخشري معنى الإضراب هنا أنهم معرضون عن ذكره فضلا عن أن يخافوا بأسه * (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا) * أي تمنعهم من العذاب وأم هنا للاستفهام والمعنى الإنكار والنفي وذلك أنه لما سألهم عمن يكلؤهم أخبر بعد ذلك أن آلهتهم لا تمنعهم ولا تحفظهم ثم احتج عن ذلك بقوله لا يستطيعون نصر أنفسهم فإن من لا ينصر نفسه أولى أن لا ينصر غيره * (ولا هم منا يصحبون) * الضمير للكفار أي لا يصحبون منا بنصر ولا حفظ * (بل متعنا هؤلاء وآباءهم) * أي متعناهم بالنعم والعافية في الدنيا فطغوا بذلك ونسوا عقاب الله والإضراب ببل عن معنى الكلام المتقدم أي لم يحملهم على الكفر والاستهزاء نصر ولا حفظ بل حملهم على ذلك أنا متعناهم وآباءهم " ننقصها من أطرافها " ذكر في الرعد * (ولا يسمع الصم الدعاء) * إشارة إلى الكفار والصم استعارة في إفراط إعراضهم * (نفحة) * أي خطرة وفيها تقليل العذاب والمعنى أنهم لو رأوا أقل شيء من عذاب الله لأذعنوا واعترفوا بذنوبهم * (ونضع الموازين القسط) * أي العدل وإنما أفرد القسط وهو صفة للجمع لأنه مصدر وصف به كالعدل والرضا وعلى تقدير ذوات القسط ومذهب أهل السنة أن الميزان يوم القيامة حقيقة له كفتان ولسان وعمود توزن فيه الأعمال والخفة والثقل متعلقة بالأجسام إما صحف الأعمال أو ما شاء الله وقالت المعتزلة إن الميزان عبارة عن العدل في الجزاء * (ليوم القيامة) * وقال ابن عطية تقديره لحساب يوم القيامة أو لحكمة فهو على حذف مضاف وقال الزمخشري هو كقولك كتبت الكتاب لست خلون من الشهر * (مثقال حبة) * أي وزنها والرفع على أن كان تامة والنصب على أنها ناقصة واسمها مضمر * (الفرقان) * هنا التوراة وقيل التفرقة بين الحق والباطل بالنصر وإقامة الحجة * (وهذا ذكر) * يعني القرآن * (رشده) * أي إرشاده إلى توحيد الله وكسر الأصنام وغير ذلك * (من قبل) * أي قبل موسى وهارون وقيل آتيناه رشده قبل النبوة " وكنا به
27

عالمين) أي علمناه أنه يستحق ذلك * (التماثيل) * يعني الأصنام وكانت على صور بني آدم * (وجدنا آباءنا) * اعتراف بالتقليد من غير دليل * (قالوا أجئتنا بالحق) * أي هل الذي تقول حق أم مزاح وانظر كيف عبر عن الحق بالفعل وعن اللعب بالجملة الإسمية لأنه أثبت عندهم * (فطرهن) * أي خلقهن والضمير للسموات والأرض أو التماثيل وهذا أليق بالرد عليهم * (بعد أن تولوا مدبرين) * يعني خروجهم إلى عيدهم * (جذاذا) * أي فتاتا ويجوز فيه الضم والكسر والفتح وهو من الجذ بمعنى القطع * (إلا كبيرا لهم) * ترك الصنم الكبير لم يكسره وعلق القدوم في يده * (لعلهم إليه يرجعون) * الضمير للصنم الكبير أي يرجعون إليه فيسألونه فلا يجيبهم فيظهر لهم أنه لا يقدر على شيء وقيل الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أي يرجعون إليه فيبين لهم الحق * (قالوا من فعل هذا) * قبله محذوف تقديره فرجعوا من عيدهم فرأوا الأصنام مكسورة فقالوا من فعل هذا * (فتى يذكرهم) * أي يذكرهم بالذم وبقوله لأكيدن أصنامكم * (يقال له إبراهيم) * قيل إن إعراب إبراهيم منادى وقيل خبر ابتداء مضمر وقيل رفع على الإهمال والصحيح أنه مفعول لم يسم فاعله لأن المراد الاسم لا المسمى وهذا اختيار ابن عطية والزمخشري * (لعلهم يشهدون) * أي يشهدون عليه بما فعل أو يحضرون عقوبتنا له * (قال بل فعله كبيرهم) * قصد إبراهيم عليه السلام بهذا القول تبكيتهم وإقامة الحجة عليهم كأنه يقول إن كان إلها فهو قادر على أن يفعل وإن لم يقدر فليس بإله ولم يقصد الإخبار المحض لأنه كذب فإن قيل فقد جاء في الحديث إن إبراهيم كذب ثلاث كذبات أحدها قوله فعله كبيرهم فالجواب أن معنى ذلك أنه قال قولا ظاهره الكذب وإن كان القصد به معنى آخر ويدل على ذلك قوله * (فاسألوهم إن كانوا ينطقون) * لأنه أراد به أيضا تبكيتهم وبيان ضلالهم * (فرجعوا إلى أنفسهم) * أي رجعوا إليها بالفكرة والنظر أو رجعوا إليها بالملامة * (فقالوا إنكم أنتم الظالمون) * أي الظالمون لأنفسكم في عبادتكم مالا ينطق ولا يقدر على شيء أو الظالمون لإبراهيم في قولكم عنه إنه لمن الظالمين وفي تعنيفه على أعين الناس " ثم نكسوا على رؤوسهم " استعارة لانقلابهم برجوعهم عن الاعتراف بالحق إلى الباطل والمعاندة " فقالوا لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " أي فكيف تأمرنا بسؤالهم فهم قد اعترفوا بأنهم لا ينطقون
28

وهم مع ذلك يعبدونهم فهذه غاية الضلال في فعلهم وغاية المكابرة والمعاندة في جدالهم ويحتمل أن يكون نكسوا على رؤوسهم بمعنى رجوعهم من المجادلة إلى الانقطاع فإن قولهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون اعتراف يلزم منه أنهم مغلوبون بالحجة ويحتمل على هذا أن يكون نكسوا على رؤوسهم حقيقة أي أطرقوا من الخجل لما قامت عليهم الحجة * (أف لكم) * تقدم الكلام على أف في الإسراء * (قالوا حرقوه) * لما غلبهم بالحجة رجعوا إلى التغلب عليه بالظلم * (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما) * أي ذات برد وسلام وجاءت العبارة هكذا للمبالغة واختلف كيف بردت النار فقيل أزال الله عنها ما فيها من الحر والإحراق وقيل دفع عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع ترك ذلك فيها وقيل خلق بينه وبينها حائلا ومعنى السلام هنا السلامة وقد روي أنه لو لم يقل سلاما لهلك إبراهيم من البرد وقد أضربنا عما ذكره الناس في قصة إبراهيم لعدم صحته ولأن ألفاظ القرآن لا تقتضيه * (إلى الأرض التي باركنا فيها) * هي الشام خرج إليها من العراق وبركتها بخصبها وكثرة الأنبياء فيها * (نافلة) * أي عطية والتنفيل العطاء وقيل سماه نافلة لأنه عطاء بغير سؤال فكأنه تبرع وقيل الهبة إسحاق والنافلة يعقوب لأنه سأل إسحاق بقوله هب لي من الصالحين فأعطى يعقوب زيادة على ما سأل واختار بعضهم على هذا الوقف على إسحاق لبيان المعنى وهذا ضعيف لأنه معطوف على كل قول * (يهدون بأمرنا) * أي يرشدون الناس بإذننا * (ولوطا) * قيل إنه انتصب بفعل مضمر يفسره آتيناه والأظهر أنه انتصب بالعطف على موسى وهارون أو إبراهيم وانتصب ونوحا وداود وسليمان وما بعدهم بالعطف أيضا وقيل بفعل مضمر تقديره اذكر * (آتيناه حكما) * أي حكما بين الناس أو حكمة * (من القرية) * هي سدوم من أرض الشام * (وأدخلناه في رحمتنا) * أي في الجنة أو في أهل رحمتنا * (نادى من قبل) * أي دعا قبل إبراهيم ولوط * (من الكرب) * يعني من الغرق * (ونصرناه من القوم) * تعدى نصرناه بمن لأنه مطاوع
انتصر المتعدي بمن أو تضمن معنى نجيناه أو أجرناه * (وداود وسليمان) * كان داود نبيا ملكا وكان ابنه سليمان ابن أحد عشر عاما * (في الحرث) * قيل زرع وقيل كرم والحرث يقال فيهما * (إذ نفشت) * رعت فيه بالليل
29

* (لحكمهم) * الضمير لداود وسليمان والمتخاصمين وقيل لداود وسليمان خاصة على أن يكون أقل الجمع اثنان * (ففهمناها سليمان) * تخاصم إلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فقضى داود بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم ووجه هذا الحكم أن قيمة الزرع كانت مثل قيمة الغنم فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب فأخبراه بما حكم به أبوه فدخل عليه فقال يا نبي الله لو حكمت بغير هذا كان أرفق للجميع قال وما هو قال يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود زرعها كما كان ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها فإذا أكمل الزرع ردت الغنم إلى صاحبها والأرض بزرعها إلى ربها فقال له داود وفقت يا بني وقضى بينهما ذلك ووجه حكم سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الزرع وواجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان ويحتمل أن يكون ذلك إصلاحا لا حكما واختلف الناس هل كان حكمهما بوحي أو اجتهاد فمن قال كان باجتهاد أجاز الاجتهاد للأنبياء وروي أن داود رجع عن حكمه لما تبين له أن الصواب خلافه وقد اختلف في جواز الاجتهاد في حق الأنبياء وعلى القول بالجواز اختلف هل وقع أم لا وظاهر قوله ففهمناها سليمان أنه كان باجتهاد فخص الله به سليمان ففهم القضية ومن قال كان بوحي جعل حكم سليمان ناسخا لحكم داود وأما حكم إفساد المواشي الزرع في شرعنا فقال مالك والشافعي يضمن أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار للحديث الوارد في ذلك وعلى هذا يدل حكم داود وسليمان لأن النفش لا يكون إلا بالليل وقال أبو حنيفة لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار لقوله صلى الله عليه وسلم العجماء جرحها جبار " وكلا آتيناه حكما وعلما " قيل يعني في هذه النازلة وأن داود لم يخطئ فيها ولكنه رجع إلى ما هو أرجح ويدل على هذا القول أن كل مجتهد مصيب وقيل بل يعني حكما وعلما في غير هذه النازلة وعلى هذا القول فإنه أخطأ فيها وأن المصيب واحد من المجتهدين * (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير) * كان هذا التسبيح قول سبحان الله وقيل الصلاة معه إذا صلى وقدم الجبال على الطير لأن تسبيحها أغرب إذ هي جماد * (وكنا فاعلين) * أي قادرين على أن نفعل هذا وقال ابن عطية معناه كان ذلك في حقه لأجل أن داود استوجب ذلك مناصفة * (صنعة لبوس) * يعني دروع الحديد وأول من صنعها داود عليه السلام وقال ابن عطية اللبوس في اللغة السلاح وقال الزمخشري اللبوس اللباس * (لتحصنكم من بأسكم) * أي لتقيكم في القتال وقرئ بالياء والتاء والنون فالنون لله تعالى والتاء للصنعة والياء لداود أو للبوس * (فهل أنتم شاكرون) * لفظ استفهام ومعناه استدعاء إلى الشكر * (ولسليمان الريح عاصفة) * عطف الريح على الجبال والعاصفة هي الشديدة فإن قيل كيف يقال عاصفة وقال في ص رخاء أي لينة فالجواب أنها كانت في نفسها لينة طيبة وكانت تسرع في جريها كالعاصف فجمعت الوصفين وقيل كانت رخاء في ذهابه وعاصفة في رجوعه إلى وطنه لأن عادة المسافرين الإسراع في الرجوع وقيل كانت تشتد إذا رفعت البساط وتلين إذا حملته * (إلى الأرض التي باركنا فيها) * يعني أرض الشام وكانت مسكنه وموضع ملكه فخص في الآية الرجوع إليها لأنه يدل على الانتقال منها * (يغوصون له) * أي
30

يدخلون في الماء ليستخرجوا له الجواهر من البحار * (عملا دون ذلك) * أقل من الغوص كالبنيان والخدمة * (وكنا لهم حافظين) * أي نحفظهم عن أن يزيغوا عن أمره أو نحفظهم من إفساد ما صنعوه وقيل معناه عالمين بعددهم * (وأيوب إذ نادى ربه) * كان أيوب عليه السلام نبيا من الروم وقيل من بني إسرائيل وكان له أولاد ومال كثير فأذهب الله ماله فصبر ثم أهلك الأولاد فصبر ثم سلط البلاء على جسمه فصبر إلى أن مر به قومه فشمتوا به فحينئذ دعا الله تعالى على أن قوله مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ليس تصريحا بالدعاء ولكنه ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه فكان في ذلك من حسن التلطف ما ليس في التصريح بالطلب * (فكشفنا ما به من ضر) * لما استجاب الله له أنبع له عينا من ماء فشرب منه واغتسل فبرئ من المرض والبلاء * (وآتيناه أهله ومثلهم معهم) * روي أن الله أحيا أولاده الموتى ورزقهم مثلهم معهم في الدنيا وقيل في الآخرة وقيل ولدت امرأته مثل عدد أولاده الموتى ومثلهم معهم وأخلف الله عليه أكثر مما ذهب من ماله * (رحمة من عندنا) * أي رحمة لأيوب وذكرى لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر ويحتمل أن تكون الرحمة والذكرى معا للعابدين * (وذا الكفل) * قيل هو إلياس وقيل زكريا وقيل نبي بعث إلى رجل واحد وقيل رجل صالح غير نبي وسمي ذا الكفل أي ذا الحظ من الله وقيل لأنه تكفل لليسع بالقيام بالأمر من بعده * (وذا النون) * هو يونس عليه السلام والنون هو الحوت نسب إليه لأنه التقمه * (إذ ذهب مغاضبا) * أي مغاضبا لقومه إذ كان يدعوهم إلى الله فيكفرون حتى أدركه ضجر منهم فخرج عنهم ولذلك قال الله ولا تكن كصاحب الحوت ولا يصح قول من قال مغاضبا لربه * (فظن أن لن نقدر عليه) * أي ظن أن نضيق عليه فهو من معنى قوله قدر عليه رزقه وقيل هو من القدر والقضاء أي ظن أن لن نضيق عليه بعقوبة ولا يصح قول من قال إنه من القدرة * (فنادى في الظلمات) * قيل هذا الكلام محذوف لبيانه في غير هذه الآية وهو أنه لما خرج ركب السفينة فرمى في البحر فالتقمه الحوت فنادى في الظلمات وهي ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت ويحتمل أنه عبر بالظلمة عن بطن الحوت لشدة ظلمته كقوله وتركهم في ظلمات * (أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) * أن مفسرة أو مصدرية على تقدير نادى بأن والظلم الذي اعترف به كونه لم يصبر على قومه وخرج عنهم * (ونجيناه من الغم) * يعني من بطن الحوت وإخراجه إلى البر * (وكذلك ننجي المؤمنين) * يحتمل أن يكون مطلقا أو لمن دعا بدعاء يونس ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة أخي يونس ذي النون ما دعا بها مكروب إلا استجيب له " لا تذرني
31

فردا) أي بلا ولد ولا وارث * (وأنت خير الوارثين) * إن لم ترزقني وارثا فأنت خير الوارثين فهو استسلام لله * (وأصلحنا له زوجه) * يعني ولدت بعد أن كانت عقيما واسم زوجته أشياع قاله السهيلي * (يسارعون في الخيرات) * والضمير للأنبياء المذكورين * (رغبا ورهبا) * الرغب الرجاء والرهب الخوف وقيل الرغب أن ترفع إلى السماء بطون الأيدي والرهب أن ترفع ظهورها * (والتي أحصنت فرجها) * هي مريم بنت عمران ومعنى أحصنت من العفة أي أعفته عن الحرام والحلال كقولها لم يمسسني بشر * (فنفخنا فيها من روحنا) * أي أجرينا فيها روح عيسى لما نفخ جبريل في جيب درعها ونسب الله النفخ إلى نفسه لأنه كان بأمره والروح هنا
هو الذي في الجسد وأضاف الله الروح إلى نفسه للتشريف أوللملك * (أيه) * أي دلالة ولذلك لم يثن * (إن هذه أمتكم) * أي ملتكم ملة واحدة وهو خطاب للناس كافة أو للمعاصرين لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أي إنما بعث الأنبياء المذكورون بما أمرتم به من الدين لأن جميع الأنبياء متفقون في أصول العقائد * (فتقطعوا أمرهم) * أي اختلفوا فيه وهو استعارة من جعل الشيء قطعا والضمير للمخاطبين قيل فالأصل تقطعتم * (فلا كفران لسعيه) * أي لإبطال ثواب عمله * (وإنا له كاتبون) * أي نكتب عمله في صحيفته * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) * قرىء حرام بكسر الحاء وهو بمعنى حرام واختلف في معنى الآية فقيل حرام بمعنى ممتنع على قرية أراد الله إهلاكها أن يرجعوا إلى الله بالتوبة أو ممتنع على قرية أهلكها الله أن يرجعوا إلى الدنيا ولا زائدة في الوجهين وقيل حرام بمعنى حتم واقع لا محالة ويتصور فيه الوجهان وتكون لا نافية فيهما أي حتم عدم رجوعهم إلى الله بالتوبة أو حتم رجوعهم إلى الدنيا وقيل المعنى ممتنع على قرية أهلكها الله أنهم لا يرجعون إليه في الآخرة ولا على هذا نافية أيضا ففيه رد على من أنكر البعث * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج) * حتى هنا حرف ابتداء أو غاية متعلقة بيرجعون وجواب إذا فإذا هي شاخصة وقيل الجواب يا ويلنا لأن تقديره يقولون يا ويلنا وفتحت يأجوج ومأجوج أي فتح سدها فحذف المضاف * (وهم من كل حدب ينسلون) * الحدب المرتفع من الأرض وينسلون أي يسرعون والضمير ليأجوج ومأجوج أي يخرجون من كل طريق لكثرتهم وقيل لجميع الناس * (الوعد الحق) * يعني القيامة * (فإذا هي شاخصة) * إذا هنا للمفاجأة والضمير عند سيبويه ضمير القصة وعند الفراء للأبصار وشاخصة من الشخوص وهو إحداد النظر من الخوف " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب
32

جهنم) هذا خطاب للمشركين والحصب ما توقد به النار كالحطب وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه " حطب جهنم " والمراد بما تعبدون الأصنام وغيرها تحرق في النار توبيخا لمن عبدها * (واردون) * الورود هنا الدخول " زفير " ذكر في هود * (لا يسمعون) * قيل يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون شيئا وقيل يصمهم الله كما يعميهم * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * سبقت أي قضيت في الأزل والحسنى السعادة ونزلت الآية لما اعترض ابن الزبعري على قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم فقال إن عيسى وعزير والملائكة قد عبدوا فالمعنى إخراج هؤلاء من ذلك الوعيد واللفظ مع ذلك على عمومه في كل من سبقت له السعادة * (حسيسها) * أي صوتها * (الفزع الأكبر) * أهوال القيامة على الجملة وقيل ذبح الموت وقيل النفخة الأولى في الصور لقوله ففزع من السماوات ومن في الأرض * (كطي السجل للكتب) * السجل الصحيفة والكتاب مصدر أي كما يطوي السجل ليكتب فيه أو ليصان الكتاب الذي فيه وقيل السجل رجل كاتب وهذا ضعيف وقيل هو ملك في السماء الثانية ترفع إليه الأعمال وهذا أيضا ضعيف * (كما بدأنا أول خلق نعيده) * أي كما قدرنا على البداءة نقدر على الإعادة فهو كقوله قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وقيل المعنى نعيدهم على الصورة التي بدأناهم كما جاء في الحديث يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ثم قرأ كما بدأنا أول خلق نعيده والكاف متعلقة بقوله نعيده * (فاعلين) * تأكيدا لوقوع البعث * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) * في الزبور هنا قولان أحدهما أنه كتاب داود والذكر هنا على هذا التوراة التي أنزل الله على موسى وما في الزبور من ذكر الله تعالى والقول الثاني أن الزبور جنس الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء والذكر على هذا هو اللوح المحفوظ أي كتب الله هذا في الكتاب الذي أفرد له بعد ما كتبه في اللوح المحفوظ حين قضى الأمور كلها والأول أرجح لأن إطلاق الزبور على كتاب داود أظهر وأكثر استعمالا ولأن الزبور مفرد فدلالته على الواحد أرجح من دلالته على الجمع ولأن النص قد ورد في زبور داود بأن الأرض يرثها الصالحون * (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) * الأرض هنا على الإطلاق في مشارق الأرض ومغاربها وقيل الأرض المقدسة وقيل أرض الجنة والأول أظهر والعباد الصالحون أمة محمد صلى الله عليه وسلم ففي الآية ثناء عليهم وإخبار بظهور غيب مصداقه في الوجود إذ فتح الله لهذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * هذا خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفيه تشريف عظيم وانتصب رحمة على أنه حال من ضمير المخاطب المفعول
33

والمعنى على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الرحمة ويحتمل أن يكون مصدرا في موضع الحال من ضمير الفاعل تقديره أرسلناك راحمين للعالمين أو يكون مفعولا من أجله والمعنى على كل وجه أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى والنجاة من الشقاوة العظمى ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى وعلمهم بعد الجهالة وهداهم بعد الضلالة فإن قيل رحمة للعالمين عموم والكفار لم يرحموا به فالجواب من وجهين أحدهما أنهم كانوا معرضين للرحمة به لو آمنوا فهم الذين تركوا الرحمة بعد تعريضها لهم والآخر أنهم رحموا به لكونهم لم يعاقبوا بمثل ما عوقب به الكفار المتقدمون من الطوفان والصيحة وشبه ذلك * (آذنتكم على سواء) * أي أعلمتكم بالحق على استواء في الإعلام وتبليغ إلى جميعكم لم يختص به واحد دون آخر * (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) * إن هنا وفي الموضع الآخر نافية وأدري فعل علق عن معموله لأنه من أفعال القلوب وما بعده في موضع المعمول من طريق المعنى فيجب وصله معه والهمزة في قوله أقريب للتسوية لا لمجرد الاستفهام وقيل يوقف على إن أدري في الموضعين ويبتدأ بما بعده وهذا خطأ لأنه يطلب ما بعده * (لعله فتنة) * الضمير لإمهالهم وتأخير عقوبتهم * (ومتاع إلى حين) * أي الموت أو القيامة * (المستعان على ما تصفون) * أي أستعين به على الصبر على ما تصفون من الكفر والتكذيب
سورة الحج
* (اتقوا ربكم) * تكلمنا على التقوى في أول البقرة * (إن زلزلة الساعة) * أي شدتها وهولها كقوله وزلزلوا أو تحريك الأرض حينئذ كقوله إذا زلزلت الأرض زلزالها والجملة تعليل للأمر بالتقوى واختلف هل الزلزلة والشدائد المذكورة بعد ذلك في الدنيا بين يدي القيامة أو بعد أن تقوم القيامة والأرجح أن ذلك قبل القيامة لأن في ذلك الوقت يكون ذهول المرضعة ووضع الحامل لا بعد القيامة * (يوم ترونها) * العامل في الظرف تذهل والضمير للزلزلة وقيل الساعة وذلك ضعيف لما ذكرنا إلا أن يريد ابتداء أمرها * (تذهل) * الذهول هو الذهاب عن الشيء مع دهشة * (مرضعة) * إنما لم يقل مرضع لأن المرضعة هي التي
34

في حال الإرضاع ملقمة ثديها للصبي والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقال مرضعة ليكون ذلك أعظم في الذهول إذ تنزع ثديها
من فم الصبي حينئذ * (وترى الناس سكارى) * تشبيه بالسكارى من شدة الغم * (وما هم بسكارى) * نفي لحقيقة السكر وقرئ سكرى والمعنى متفق * (ومن الناس من يجادل في الله) * نزلت في النضر بن الحارث وقيل في أبي جهل وهي تتناول كل من اتصف بذلك * (شيطان مريد) * أي شديد الإغواء ويحتمل أن يريد شيطان الجن أو الإنس * (كتب) * تمثيل لثبوت الأمر كأنه مكتوب ويحتمل أن يكون بمعنى قضى كقولك كتب الله أنه في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله وفي أنه عطف عليه وقيل تأكيد * (من تولاه) * أي تبعه أو اتخذه وليا والضمير في عليه وفي أنه في الموضعين وفي تولاه للشيطان وفي يضله ويهديه للمتولى له ويحتمل أن تكون تلك الضمائر أولا لمن يجادل * (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث) * الآية معناها إن شككتم في البعث الأخروي فزوال ذلك الشك أن تنظروا في ابتداء خلقتكم فتعلموا أن الذي قدر على أن خلقكم أول مرة قادر على أن يعيدكم ثاني مرة وأن الذي قدر على إخراج النبات من الأرض بعد موتها قادر على أن يخرجكم من قبوركم * (خلقناكم من تراب) * إشارة إلى خلق آدم وأسند ذلك إلى الناس لأنهم من ذريته وهو أصلهم * (من علقة) * العلقة قطعة من دم جامدة * (من مضغة) * أي قطعة من لحم * (مخلقة) * المخلقة التامة الخلقة وغير المخلقة الغير التامة كالسقط وقيل المخلقة المسواة السالمة من النقصان * (لنبين لكم) * اللام تتعلق بمحذوف تقديره ذكرنا ذلك لنبين لكم قدرتنا على البعث * (ونقر) * فعل مستأنف * (إلى أجل مسمى) * يعني وقت وضع الحمل وهو مختلف وأقله ست أشهر إلى ما فوق ذلك * (نخرجكم طفلا) * أفرده لأنه أراد الجنس أو أراد نخرج كل واحد منكم طفلا * (لتبلغوا أشدكم) * هو كمال القوة والعقل والتمييز وقد اختلف فيه من ثماني عشرة سنة إلى خمس وأربعين * (أرذل العمر) * ذكر في النحل * (هامدة) * يعني لا نبات فيها * (اهتزت) * تحركت بالنبات وتخلخلت أجزاؤها لما دخلها الماء * (وربت) * انتفخت * (زوج بهيج) * أي صنف عجيب * (ذلك بأن الله هو الحق) * أي ذلك المذكور من أمر الإنسان والنبات حاصل بأن الله هو الحق هكذا قدره الزمخشري والباء على هذا سببية وبهذا المعنى أيضا فسره ابن عطية ويلزم على هذا أن لا يكون قوله وأن الساعة آتية معطوفا على ذلك لأنه ليس بسبب لما ذكر فقال ابن عطية قوله أن الساعة ليس بسبب لما ذكر ولكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض أو على تقدير والأمر أن الساعة وهذان الجوابان اللذان ذكر ابن عطية ضعيفان أما قوله إن الأمر مرتبط بعضه ببعض فالارتباط هنا إنما يكون بالعطف والعطف لا يصح وأما قوله على تقدير الأمر أن الساعة فذلك استئناف
35

وقطع للكلام الأول ولا شك أن المقصود من الكلام الأول هو إثبات الساعة فكيف يجعل ذكرها مقطوعا مما قبله والذي يظهر لي أن الباء ليست بسببية وإنما يقدر لها فعل تتعلق به ويقتضيه المعنى وذلك أن يكون التقدير ذلك الذي تقدم من خلقة الإنسان والنبات شاهد بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وبأن الساعة آتية فيصح عطف وأن الساعة على ما قبله بهذا التقدير وتكون هذه الأشياء المذكورة بعد قوله ذلك مما استدل عليها بخلقة الإنسان والنبات * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) * نزلت فيمن نزلت فيه الأولى وقيل في الأخنس بن شريق * (ثاني عطفه) * كناية عن المتكبر المعرض * (له في الدنيا خزي) * إن كانت في النضر بن الحارث فالخزي أسره ثم قتله وكذلك قتل أبي جهل * (ذلك بما قدمت يداك) * أي يقال له ذلك بما فعلت وبعدل الله لأنه لا يظلم العباد * (من يعبد الله على حرف) * نزلت في قوم من الأعراب كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له ما يعجبه في ماله وولده قال هذا دين حسن وإن اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتد عن الإسلام فالحرف هنا كناية عن المقصد وأصله من الانحراف عن الشيء أو من الحرف بمعنى الطرف أي أنه في طرف من الدين لا في وسطه * (خسر الدنيا والآخرة) * خسارة الدنيا بما جرى عليه فيها وخسارة الآخرة بارتداده وسوء اعتقاده * (ما لا يضره) * يعني الأصنام ويدعو بمعنى يعبد في الموضعين * (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) * فيها إشكالان الأول في المعنى وهو كونه وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع ثم وصفها بأن ضرها أقرب من نفعها فنفى الضر ثم أثبته فالجواب أن الضر المنفي أولا يراد به ما يكون من فعلها وهي لا تفعل شيئا والضر الثاني يراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره والإشكال الثاني دخول اللام على من وهي في الظاهر مفعول واللام لا تدخل على المفعول وأجاب الناس عن ذلك بثلاثة أوجه أحدها أن اللام مقدمة على موضعها كأن الأصل أن يقال يدعو من لضره أقرب من نفعه فموضعها الدخول على المبتدأ والثاني أن يدعو هنا كرر تأكيدا ليدعو الأول وتم الكلام عنده ثم ابتدأ قوله لمن ضره فمن مبتدأ وخبره لبئس المولى وثالثها أن معنى يدعو يقول يوم القيامة هذا الكلام إذا رأى مضرة الأصنام فدخلت اللام على مبتدأ في أول الكلام * (المولى) * هنا بمعنى الولي * (العشير) * الصاحب فهو من العشيرة * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * الآية لما ذكر أن
36

الأصنام لا تنفع من عبدها قابل ذلك بأن الله ينفع من عبده بأعظم النفع وهو دخول الجنة * (فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع) * السبب هنا الحبل والسماء هنا سقف البيت وشبهه من الأشياء التي تعلق منها الحبال والقطع هنا يراد به الاختناق بالحبل يقال قطع الرجل إذا اختنق ويحتمل أن يراد به قطع الرجل من الأرض بعد ربط الحبل في العنق وربطه في السقف والمراد بالاختناق هنا ما يفعله من اشتد غيظه وحسرته أو طمعا فيما لا يصل إليه كقوله للحسود مت كمدا أو اختنق فإنك لا تقدر على غير ذلك وفي معنى الآية قولان الأول أن الضمير في ينصره لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى على هذا من كان من الكفار يظن أن لن ينصر الله محمدا فليختنق بحبل فإن الله ناصره ولا بد على غيظ الكفار فموجب الاختناق هو الغيظ من نصرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والقول الثاني أن الضمير في ينصره عائد على من والمعنى على هذا من ظن بسبب ضيق صدره وكثرة غمه أن لن ينصره الله فليختنق وليمت بغيظه فإنه لا يقدر على غير ذلك فموجب الاختناق على هذا القنوط والسخط من القضاء وسوء الظن بالله حتى ييئس من نصره ولذلك فسر بعضهم أن لن ينصره الله بمعنى أن لن يرزقه وهذا القول أرجح من الأول لوجهين أحدهما أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف لأنه إذا أصابته فتنة انقلب وقنط حتى ظن أن الله لن ينصره فيكون هذا الكلام متصلا بما قبله ويدل على ذلك قوله قبل هذه الآية إن الله يفعل ما يريد أي الأمور بيد الله فلا ينبغي لأحد أن يتسخط من قضاء الله ولا ينقلب إذا أصابته فتنة والوجه الثاني أن الضمير في ينصره على هذا القول يعود على ما تقدمه وأما على القول الأول فلا يعود على مذكور قبله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر قبل ذلك بحيث يعود الضمير عليه ولا يدل سياق الكلام عليه دلالة ظاهرة * (فلينظر هل
يذهبن كيده ما يغيظ) * الكيد هنا يراد به اختناقه وسمي كيدا لأنه وضعه موضع الكيد إذ هو غاية حيلته والمعنى إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب ذلك ما يغيظه من الأمر أي ليس يذهبه " وكذلك أنزلناه " الضمير للقرآن أي مثل هذا أنزلنا القرآن كله * (آيات بينات وأن الله يهدي من يريد) * قال ابن عطية أن في موضع خبر الابتداء والتقدير الأمر أن الله وهذا ضعيف لأن فيه تكلف إضمار وقطع للكلام عن المعنى الذي قبله وقال الزمخشري التقدير لأن الله يهدي من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات فجعل أن تعليلا للإنزال وهذا ضعيف للفصل بينهما بالواو والصحيح عندي أن قوله وأن الله معطوف على آيات بينات لأنه مقدر بالمصدر فالتقدير أنزلناه آيات بينات وهدى لمن أراد الله أن يهديه * (والصابئين) * ذكر في البقرة وكذلك الذين هادوا * (والمجوس) * هم الذين يعبدون النار ويقولون إن الخير من النور والشر من الظلمة * (والذين أشركوا) * هم الذين يعبدون الأصنام من العرب وغيرهم * (إن الله يفصل بينهم) * هذه الجملة هي خبر إن الذين آمنوا والذين هادوا الآية وكررت مع الخبر للتأكيد وفصل الله بينهم بأن يبين لهم أن الإيمان هو الحق وسائر الأديان باطلة وبأن
37

يدخل الذين آمنوا الجنة ويدخل غيرهم النار * (يسجد له من في السماوات ومن في الأرض) * دخل في هذا من في السماوات من الملائكة ومن في الأرض من الملائكة والجن ولم يدخل الناس في ذلك لأنه ذكرهم في آخر الآية إلا أن يكون ذكرهم في آخرها على وجه التجريد وليس المراد بالسجود هنا السجود المعروف لأنه لا يصح في حق الشمس والقمر وما ذكر بعدهما وإنما المراد به الانقياد ثم إن الانقياد يكون على وجهين أحدهما الانقياد لطاعة الله طوعا والآخر الانقياد لما يجري الله على المخلوقات في أفعاله وتدبيره شاؤوا أو أبوا * (وكثير من الناس) * إن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لطاعة الله فيكون كثير من الناس معطوفا على ما قبله من الأشياء التي تسجد ويكون قوله وكثير حق عليه العذاب مستأنفا يراد به من لا ينقاد للطاعة ويوقف على قوله وكثير من الناس وهذا القول هو الصحيح وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاء الله وتدبيره فلا يصح تفضيل الناس على ذلك إلى من يسجد ومن لا يسجد لأن جميعهم يسجد بذلك المعنى وقيل إن قوله وكثير من الناس معطوف على ما قبله ثم عطف عليه كثير حق عليه العذاب فالجميع على هذا يسجد وهذا ضعيف لأن قوله حق عليه العذاب يقتضي ظاهره أنه إنما حق عليه العذاب بتركه للسجود وتأوله الزمخشري على هذا المعنى بأن إعراب كثير من الناس فاعل بفعل مضمر تقديره يسجد سجود طاعة أو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره مثاب وهذا تكلف بعيد * (هذان خصمان) * الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ويدل على ذلك ما ذكر قبلها من اختلاف الناس في أديانهم وهو قول ابن عباس وقيل نزلت في علي ابن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا يوم بدر لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة فالآية على هذا مدنية إلى تمام ست آيات والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة والمراد به هنا الجماعة والإشارة بهذان إلى الفريقين * (اختصموا في ربهم) * أي في دينه وفي صفاته والضمير في اختصموا لجماعة الفريقين * (فالذين كفروا) * الآية حكم بين الفريقين بأن جعل للكفار النار وللمؤمنين الجنة المذكورة بعد هذا * (قطعت لهم ثياب من نار) * أي فصلت على قدر أجسادهم وهو مستعار من تفصيل الثياب * (الحميم) * الماء الحار * (يصهر به ما في بطونهم) * أي يذاب وذلك أن الحميم إذا صب على رؤسهم وصل حره إلى بطونهم فأذاب ما فيها وقيل معنى يصهر ينضج * (مقامع) * جمع مقمعة أي مقرعة * (من حديد) * يضربون بها وقيل هي السياط * (من غم) * بدل من المجرور قبله * (وذوقوا) * التقدير يقال لهم ذوقوا * (من أساور من ذهب) * من لبيان الجنس أو للتبعيض وفسرنا الأساور في الكهف * (ولؤلؤا) *
38

بالنصب مفعول بفعل مضمر أي يعطون لؤلؤا أو معطوف على موضع من أساور إذ هو مفعول وبالخفض معطوف على أساور أو على ذهب * (الطيب من القول) * قيل هو لا إله إلا الله واللفظ أعم من ذلك * (صراط الحميد) * أي صراط الله فالحميد اسم الله ويحتمل أن يريد الصراط الحميد وأضاف الصفة إلى الموصوف كقولك مسجد الجامع * (إن الذين كفروا) * خبره محذوف يدل عليه قوله نذقه من عذاب أليم وقيل الخبر يصدون على زيادة الواو وهذا ضعيف وإنما قال يصدون بلفظ المضارع ليدل على الاستمرار على الفعل * (سواء) * بالرفع مبتدأ أو خبره مقدر والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا وقرئ بالنصب على أنه المفعول الثاني والعاكف فاعل به * (العاكف فيه والباد) * العاكف المقيم في البلد والبادي القادم عليه من غيره والمعنى أن الناس سواء في المسجد الحرام لا يختص به أحد دون أحد وذلك إجماع وقال أبو حنيفة حكم سائر مكة في ذلك كالمسجد الحرام فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء وليس لأحد فيها ملك والمراد عنده بالمسجد الحرام جميع مكة وقال مالك وغيره ليست الدور في ذلك كالمسجد بل هي متملكة * (بإلحاد بظلم) * الإلحاد الميل عن الصواب والظلم هنا عام في المعاصي من الكفر إلى الصغائر لأن الذنوب في مكة أشد منها في غيرها وقيل هو استحلال الحرام ومفعول يرد محذوف تقديره من يرد أحدا أو من يرد شيئا وبإلحاد بظلم حالان مترادفان وقيل المفعول قوله بإلحاد على زيادة الباء " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت العامل في إذ مضمر تقديره اذكر وبوأنا أصله من باء بمعنى رجع ثم ضوعف ليتعدى واستعمل بمعنى أنزلنا في الموضع كقوله تبوئ المؤمنين إلا أن هذا المعنى يشكل هنا لقوله لإبراهيم لتعدي الفعل باللام وهو يتعدى بنفسه حتى قيل اللام زائدة وقيل معناه هيأنا وقيل جعلنا والبيت هنا الكعبة وروي أنه كان آدم يعبد الله فيه ثم درس بالطوفان فدل الله إبراهيم عليه السلام على مكانه وأمره ببنيانه " أن لا تشرك " أن مفسرة والخطاب لإبراهيم عليه السلام وإنما فسرت تبوئة البيت بالنهي عن الإشراك والأمر بالتطهير لأن التبوئة إنما قصدت لأجل العبادة التي تقتضي ذلك " طهرا بيتي " عام في التطهير من الكفر والمعاصي والأنجاس وغير ذلك " والقائمين " يعني المصلين " وأذن في الناس بالحج " خطاب لإبراهيم وقيل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والأول هو الصحيح روي أنه لما أمر بالأذان بالحج صعد على جبل أبي قبيس ونادى أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا فسمعه كل من يحج إلى يوم القيامة وهم في أصلاب آبائهم وأجابه في ذلك الوقت كل شيء من جماد وغيره لبيك اللهم لبيك فجرت التلبية على ذلك " يأتوك رجالا " جمع راجل أي ماشيا على رجليه " وعلى كل ضامر " الضامر يراد به كل ما يركب من فرس وناقة وغير ذلك وإنما وصفه بالضمور لأنه لا يصل إلى البيت إلا بعد ضموره وقوله وعلى كل ضامر حال معطوف على حال كأنه قال رجالا وركبانا واستدل
39

بعضهم بتقديم الرجال في الآية على أن المشي إلى الحج أفضل من الركوب واستدل بعضهم بسقوط ذكر البحر بهذه الآية على أنه يسقط فرض الحج على من يحتاج إلى ركوب البحر * (يأتين) * صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع * (من كل فج عميق) * أي طريق بعيد * (منافع لهم) * أي بالتجارة وقيل أعمال الحج وثوابه واللفظ أعم من ذلك * (ويذكروا اسم الله) * يعني التسمية عند ذبح البهائم ونحرها وفي الهدايا والضحايا وقيل يعني الذكر على الإطلاق وإنما قال اسم الله لأن الذكر باللسان إنما يذكر لفظ الأسماء * (في أيام معلومات) * هي عند مالك يوم النحر وثانيه وثالثه خاصة لأن هذه هي أيام الضحايا عنده ولم يجز ذبحها بالليل لقوله في أيام وقيل الأيام المعلومات عشر ذي الحجة ويوم النحر والثلاثة بعده وقيل عشر ذي الحجة خاصة وأما الأيام المعدودات فهي الثلاثة بعد يوم النحر فيوم النحر من المعلومات لا من المعدودات واليومان بعده من المعلومات والمعدودات ورابع النحر من المعدودات لا من المعلومات * (فكلوا منها) * ندب أو إباحة ويستحب أن يأكل الأقل من الضحايا ويتصدق بالأكثر * (البائس) * الذي أصابه البؤس وقيل هو المتكفف وقيل الذي يظهر عليه أثر الجوع * (ثم ليقضوا تفثهم) * التفث في اللغة الوسخ فالمعنى ليقضوا إزالة تفثهم بقص الأظفار والاستحداد وسائر خصال الفطرة والتنظف بعد أن يحلوا من الحج وقيل التفث أعمال الحج وقرئ بكسر اللام وإسكانها وهي لام الأمر وكذلك وليوفوا وليطوفوا * (وليطوفوا) * المراد هنا طواف الإفاضة عند جميع المفسرين وهو الطواف الواجب * (بالبيت العتيق) * أي القديم لأنه أول بيت وضع للناس وقيل العتيق الكريم كقولهم فرس عتيق وقيل أعتق من الجبابرة أي منع منهم وقيل العتيق هو الذي لم يملكه أحد قط * (ذلك) * هنا وفي الموضع الثاني مرفوع على تقدير الأمر ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كتابه ثم يقول هذا وقد كان كذا وأجاز بعضهم الوقف على قوله ذلك في ثلاثة مواضع من هذه السورة وهي هذا وذلك ومن يعظم شعائر الله وذلك ومن يشرك بالله لأنها جملة مستقلة أو هو خبر ابتداء مضمر والأحسن وصلها بما بعدها عند شيخنا أبي جعفر بن الزبير لأن ما بعدها ليس كلاما أجنبيا ومثلها ذلك ومن عاقب وذلكم فذوقوه في الأنفال وهذا وإن للطاغين في ص * (حرمات الله) * جمع حرمة وهو ما لا يحل هتكه من جميع الشريعة فيحتمل أن يكون هنا على العموم أو يكون خاصا بما يتعلق بالحج لأن الآية فيه * (فهو خير له) * أي التعظيم للحرمات خير * (إلا ما يتلى عليكم) * يعني ما حرمه في غير هذا الموضع كالميتة * (الرجس من الأوثان) * من لبيان الجنس كأنه قال الرجس الذي هو الأوثان والمراد النهي عن عبادتها أو عن الذبح تقربا إليها كما كانت العرب تفعل * (قول الزور) * أي الكذب وقيل شهادة الزور * (فكأنما خر من السماء) * الآية تمثيل للمشرك بمن أهلك نفسه أشد الهلاك * (سحيق) * أي بعيد * (شعائر الله) * قيل هي الهدايا
40

في الحج وتعظيمها بأن تختار سمانا عظاما غالية الأثمان وقيل مواضع الحج كعرفات ومنى والمزدلفة وتعظيمها إجلالها وتوقيرها والقصد إليها وقيل الشعائر أمور الدين على الإطلاق وتعظيمها القيام بها وإجلالها * (فإنها من تقوى القلوب) * الضمير عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام وهي مصدر يعظم وقال الزمخشري التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات * (لكم فيها منافع) * من قال إن شعائر الله هي الهدايا فالمنافع بها شرب لبنها وركوبها لمن اضطر إليها والأجل المسمى نحرها ومن قال إن شعائر الله مواضع الحج فالمنافع التجارة فيها أو الأجر والأجل المسمى الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * من قال إن شعائر الله الهدايا فمحلها موضع نحرها وهي منى ومكة وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وثم على هذا القول ليست للترتيب في الزمان لأن محلها قبل نحرها وإنما هي لترتيب الجمل ومن قال إن الشعائر موضع الحج فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم أي أخر ذلك كله الطواف بالبيت يعني طواف الإفاضة إذ به يحل المحرم من إحرامه ومن قال إن الشعائر أمور الدين على الإطلاق فذلك لا يستقيم مع قوله محلها إلى البيت * (ولكل أمة جعلنا منسكا) * أي لكل أمة مؤمنة والمنسك اسم مكان أي موضعها لعبادتهم ويحتمل أن يكون اسم مصدر بمعنى عبادة والمراد بذلك الذبائح لقوله ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام بخلاف ما يفعله الكفار من الذبح تقربا إلى الأصنام * (فإلهكم إله واحد) * في وجه اتصاله بما قبله وجهان أحدهما أنه لما ذكر الأمم المتقدمة خاطبها بقوله فإلهكم إله واحد أي هو الذي شرع المناسك لكم ولمن تقدم قبلكم والثاني أنه إشارة إلى الذبائح أي إلهكم إله واحد فلا تذبحوا تقربا لغيره * (المخبتين) * الخاشعين وقيل المتواضعين وقيل نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكذلك قوله بعد ذلك وبشر المحسنين واللفظ فيهما أعم من ذلك * (وجلت) * خافت * (والبدن) * جمع بدنة وهو ما أشعر من الإبل واختلف هل يقال للبقرة بدنة وانتصابه بفعل مضمر * (من شعائر الله) * واحدها شعيرة ومن للتبعيض واستدل بذلك من قال إن شعائر الله المذكورة أو على العموم في أمور الدين * (لكم فيها خير) * قيل الخير هنا المنافع المذكورة قبل وقيل الثواب والصواب العموم في خير الدنيا والآخرة * (صواف) * معناه قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وهي منصوبة على الحال من الضمير المجرور ووزنه فواعل وواحده صافة * (وجبت جنوبها) * أي سقطت إلى الأرض عند موتها يقال وجب
41

الحائط وغيره إذا سقط * (القانع) * معناه السائل وهو من قولك قنع الرجل بفتح النون إذا سأل وقيل معناه المتعفف عن السؤال فهو على هذا من قولك قنع بالكسر إذا رضي بالقليل * (والمعتر) * المعترض بغير سؤال ووزنه مفتعل يقال اعتررت بالقوم إذا تعرضت لهم فالمعنى أطعموا من سأل ومن لم يسأل ممن تعرض بلسان حاله وأطعموا من تعفف عن السؤال بالكلية ومن تعرض للعطاء * (كذلك سخرناها لكم) * أي كما أمرناكم بهذا كله سخرناها لكم وقال الزمخشري التقدير مثل التخيير الذي علمتم سخرناها لكم * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) * المعنى لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء وإنما تصلون إليه بالتقوى أي بالإخلاص لله وقصد وجه الله بما تذبحون وتنحرون من الهدايا فعبر عن هذا المعنى بلفظ ينال مبالغة وتأكيدا لأنه قال لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله وإنما تصل بالتقوى منكم فإن ذلك هو الذي طلب منكم وعليه يحصل لكم الثواب وقيل كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بالدماء فأراد المسلمون فعل ذلك فنهوا عنه ونزلت الآية * (كذلك سخرها لكم) * كرر للتأكيد * (لتكبروا الله) * قيل يعني قول الذابح بسم الله والله أكبر واللفظ أعم من ذلك * (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) * كان الكفار يؤذون المؤمنين بمكة فوعدهم الله
أن يدفع عنهم شرهم وأذاهم وحذف مفعول يدافع ليكون أعظم وأعم وقرئ يدافع بالألف ويدفع بسكون الدال من غير الألف وهما بمعنى واحد أجريت فاعل مجرى فعل من قولك عاقبة الأمر وقال الزمخشري يدافع معناه يبالغ في الدفع عنهم لأنه للمبالغة وفعل المغالبة أقوى * (إن الله لا يحب كل خوان كفور) * الخوان مبالغة في خائن والكفور مبالغة في كافر قال الزمخشري هذه الآية عليه لما قبلها * (أذن للذين يقاتلون) * هذه أول آية نزلت في الإذن في القتال ونسخت الموادعة مع الكفار وكان نزولها عند الهجرة وقرئ أذن بضم الهمزة على البناء لما لم يسم فاعله وبالفتح على البناء للفاعل وهو الله تعالى والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه وقرئ يقاتلون بفتح التاء وكسرها * (بأنهم ظلموا) * أي بسبب أنهم ظلموا * (الذين أخرجوا من ديارهم) * يعني الصحابة فإن الكفار آذوهم وأضروا بهم حتى اضطروهم إلى الخروج من مكة فمنهم من هاجر إلى أرض الحبشة ومنهم من هاجر إلى المدينة ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض إلزامهم الذنب ووصفهم بالظلم * (إلا أن يقولوا ربنا الله) * قال ابن عطية هو استثناء منقطع لا يجوز فيه البدل عند سيبويه وقال الزمخشري أن يقولوا في محل الجر على الإبدال من حق * (ولولا دفع الله الناس) * الآية تقوية للإذن في القتال وإظهار للمصلحة التي فيه كأنه يقول لولا القتال والجهاد لاستولى الكفار على المسلمين وذهب الدين وقيل المعنى لولا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة والأول أليق بسياق الآية وقرئ دفاع بالألف مصدر دافع
42

وبغير ألف مصدر دفع * (لهدمت) * قرئ بالتخفيف والتشديد للمبالغة * (صوامع) * جمع صومعة بفتح الميم وهي موضع العبادة وكانت للصابئين ولرهبان النصارى ثم سمي بها في الإسلام موضع الأذان والبيع جمع بيعة بكسر الباء وهي كنائس النصارى والصلوات كنائس اليهود وقيل هي مشتركة لكل أمة والمراد بها مواضع الصلوات والمساجد للمسلمين فالمعنى لولا دفع الله لاستولى الكفار على أهل الملل المتقدمة في أزمانهم ولاستولى المشركون على هذه الأمة فهدموا مواضع عباداتهم * (يذكر فيها اسم الله) * الضمير لجميع ما تقدم من المتعبدات وقيل للمساجد خاصة ولينصرن الله من ينصره) أي من ينصر دينه وأولياءه وهو وعد تضمن الحض على القتال * (الذين إن مكناهم) * الآية قيل يعني أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل الصحابة وقيل الخلفاء الأربعة لأنهم الذين مكنوا في الأرض بالخلافة ففعلوا ما وصفهم الله به * (وإن يكذبوك) * الآية ضمير الفاعل لقريش والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية له والوعيد لهم * (نكير) * مصدر بمعنى الإنكار * (على عروشها) * العروش السقف فإن تعلق الجار بخاوية فالمعنى أن العروش سقطت ثم سقطت الحيطان عليها فهي فوقها وإن كان الجار والمجرور في موضع الحال فالمعنى أنها خاوية مع بقاء عروشها * (بئر معطلة) * أي لا يستقي الماء منها لهلاك أهلها وروي أن هذه البئر هي الرس وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود والأظهر أنه لم يرد التعيين لقوله كأين من قرية وهذا اللفظ يراد به التكثير * (وقصر مشيد) * أي مبني بالشيد وهو الجص وقيل المشيد المرفوع البنيان * (قلوب يعقلون) * دليل على أن العقل في القلب خلافا للفلاسفة في قولهم العقل في الدماغ * (فإنها لا تعمى الأبصار) * أي لا تعمى الأبصار عمى يعتد به وإنما العمى الذي يعتد به عمى القلوب وإن هؤلاء القوم ما عميت أبصارهم ولكن عميت قلوبهم فالمعنى الأول لقصد المبالغة والثاني خاص بهؤلاء القوم * (التي في الصدور) * مبالغة كقوله يقولون بأفواههم * (ويستعجلونك بالعذاب) * الضمير لكفار قريش * (ولن يخلف الله وعده) * إخبار يتضمن الوعيد بالعذاب وسماه وعدا لأن المراد به مفهوم * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * المعنى أن يوما من أيام الآخرة مقداره ألف سنة من أعوام الدنيا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف
43

يوم وذلك خمسمائة سنة وقيل المعنى إن يوما واحدا من أيام العذاب كألف سنة لطول العذاب فإن أيام البؤس طويلة وإن كانت في الحقيقة قصيرة وفي كل واحد من الوجهين تهديد للذين استعجلوا العذاب إلا أن الأول أرجح لأن الألف سنة فيه حقيقة وقيل إن اليوم المذكور في الآية هو يوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض * (وكأين من قرية) * ذكر أولا القرى التي أهلكها بغير إملاء وذكر هنا التي أهلكها بعد الإملاء والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة فيما بعد وعطف هذه الجملة بالواو على الجمل المعطوفة قبلها بالواو وقال في الأولى فكأين لأنه بدل من قوله فكيف كان نكير * (سعوا في آياتنا) * أي سعوا فيها بالطعن عليها وهو من قولك سعى في الأمر إذا جد فيه لقصد إصلاحه أو إفساده * (معاجزين) * بالألف أي مغالبين لأنهم قصدوا عجز صاحب الآيات والآيات تقتضي عجزهم فصارت مفاعلة وقرئ بالتشديد من غير ألف ومعناه أنهم يعجزون الناس عن الإسلام أي يثبطونهم عنه * (من رسول ولا نبي) * النبي أعم من الرسول فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا فقدم الرسول لمناسبته لقوله أرسلنا وأخر النبي لتحصيل العموم لأنه لو اقتصر على رسول لم يدخل في ذلك من كان نبيا غير رسول * (إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة والنجم بالمسجد الحرام بمحضر المشركين والمسلمين فلما بلغ إلى قوله أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فسمع ذلك المشركون ففرحوا به وقالوا هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد واختلف في كيفية إلقاء الشيطان فقيل إن الشيطان هو الذي تكلم بذلك وظن الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المتكلم به لأنه قرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تكلم بذلك على وجه الخطأ والسهو لأن الشيطان ألقاه ووسوس في قلبه حتى خرجت تلك الكلمة على لسانه من غير قصد والقول الثاني أشهر عند المفسرين والناقلين لهذه القصة والقول الأول أرجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في التبليغ فمعنى الآية أن كل نبي وكل رسول قد جرى له مثل ذلك من إلقاء الشيطان واختلف في معنى تمنى وأمنيته في هذه الآية فقيل تمنى بمعنى تلا والأمنية التلاوة أي إذا قرأ الكتاب ألقى الشيطان من عنده في تلاوته وقيل هو من التمني بمعنى حب الشيء وهذا المعنى أشهر في اللفظ أي تمنى النبي صلى الله عليه وسلم مقاربة قومه واستئلافهم وألقى الشيطان ذلك في هذه الأمنية ليعجبهم ذلك * (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) * أي يبطله كقولك نسخت الشمس الظل * (ليجعل) * متعلق بقوله ينسخ ويحكم * (للذين في قلوبهم مرض) * أي أهل الشك " والقاسية
44

قلوبهم) المكذبون وقيل الذين في قلوبهم مرض عامة الكفار والقاسية قلوبهم أشد كفرا وعتوا كأبي جهل * (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) * يعني بالظالمين المذكورين قبل ولكنه جعل الظاهر موضع المضمر ليقضي عليهم بالظلم والشقاق العداوة ووصفه ببعيد لأنه في غاية الضلال والبعد عن الخير * (الذين أوتوا العلم) * قيل يعني الصحابة واللفظ أعم من ذلك * (أنه الحق) * الضمير عائد على القرآن وقال الزمخشري هو لتمكين الشيطان من الإلقاء * (فتخبت) * أي تخشع * (في مرية منه) * الضمير للقرآن أو للنبي صلى الله عليه وسلم أو للإلقاء * (يوم عقيم) * يعني يوم بدر ووصفه بالعقيم لأنه لا ليلة لهم بعده ولا يوم لأنهم يقتلون فيه وقيل هو يوم القيامة والساعة مقدماته ويقوي ذلك قوله الملك يومئذ لله ثم قسم الناس إلى قسمين أصحاب الجحيم وأصحاب النعيم * (قتلوا أو ماتوا) * روي أن قوما قالوا يا رسول الله قد علمنا ما أعطى الله لمن قتل من الخيرات فما لمن مات معك فنزلت الآية معلمة أن الله يرزق من قتل ومن مات معا ولا يقتضي ذلك المساواة بينهم لأن تفضيل الشهداء ثابت " رزقا حسنا " يحتمل أن يريد به الرزق في الجنة بعد يوم القيامة أو رزق الشهداء في البرزخ والأول أرجح لأنه يعم الشهداء والموتى * (مدخلا) * يعني الجنة * (ذلك) * تقديره هنا الأمر ذلك كما يقول الكاتب هذا وقد كان كذا إذا أراد أن يخرج إلى حديث آخر * (ومن عاقب بمثل ما عوقب به) * سمى الابتداء عقوبة باسم الجزاء عليها تجوزا كما تسمى العقوبة أيضا باسم الذنب ووعد بالنصر لمن بغى عليه * (إن الله لعفو غفور) * إن قيل ما مناسبة هذين الوصفين للمعاقبة فالجواب من وجهين أحدهما أن في ذكر هذين الوصفين إشعار بأن العفو أفضل من العقوبة فكأنه حض على العفو والثاني أن في ذكرهما إعلاما بعفو الله عن المعاقب حين عاقب ولم يأخذ بالعفو الذي هو أولى * (ذلك بأن الله يولج الليل) * أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر ومن آيات قدرته أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ومعنى الإيلاج هنا أنه يدخل ظلمة هذا في مكان ضوء هذا ويدخل ضوء هذا مكان ظلمة هذا وقيل الإيلاج هو ما ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر * (ذلك بأن الله هو الحق) * أي ذلك الوصف الذي وصف الله به هو
45

بسبب أنه الحق * (فتصبح الأرض مخضرة) * تصبح هنا بمعنى تصير وفهم بعضهم أنه أراد صبيحة ليلة المطر فقال لا تصبح الأرض مخضرة إلا بمكة والبلاد الحارة وأما على معنى تصير فذلك عام في كل بلد والفاء للعطف وليست بجواب ولو كانت جوابا لقوله ألم تر لنصبت الفعل وكان المعنى نفي خضرتها وذلك خلاف المقصود وإنما قال تصبح بلفظ المضارعة ليفيد بقاءها كذلك مدة * (سخر لكم ما في الأرض) * يعني البهائم والثمار والمعادن وغير ذلك * (أن تقع) * في موضع مفعول على تقدير عن أن تقع وقال الزمخشري كراهة أن تقع فهو مفعول من أجله * (إلا بإذنه) * يحتمل أن يريد يوم القيامة فجعل طي السماء كوقوعها أو يريد بإذنه لو شاء متى شاء * (أحياكم) * أي أوجدكم بعد العدم وعبر عن ذلك بالحياة لأن الإنسان قبل ذلك تراب فهو جماد بلا روح ثم أحياه بنفخ الروح * (ثم يميتكم) * يعني الموت المعروف * (ثم يحييكم) * يعني البعث * (لكفور) * أي جحود للنعمة * (منسكا) * هو اسم مصدر لقوله ناسكوه ولو كان اسم مكان لقال ناسكون فيه * (فلا ينازعنك) * ضمير الفاعل للكفار والمعنى أنه لا ينبغي منازعة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه فجاء الفعل بلفظ النهي والمراد غير النهي وقيل إن المعنى لا تنازعهم فينازعوك فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ويحتمل أن يكون نهيا لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ * (في الأمر) * أي في الدين والشريعة أو في الذبائح * (وادع إلى ربك) * أي ادع الناس إلى عبادة ربك * (وإن جادلوك) * الآية تقتضي موادعة منسوخة بالقتال * (إن ذلك في كتاب) * يعني اللوح المحفوظ والإشارة بذلك إلى معلومات الله * (ان ذلك على الله يسير) * يحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى كتب المعلومات في الكتاب أو إلى الحكم في الاختلاف والأول أظهر * (ما لم ينزل به سلطانا) * يعني الأصنام والسلطان هنا الحجة والبرهان وما ليس لهم به علم قيل إنه يعني ما ليس لهم به علم ضروري فنفى أولا البرهان النظري ثم العلم الضروري وليس اللفظ بظاهر في هذا المعنى بل الأحسن نفي العلم الضروري والنظري معا * (تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) * أي الإنكار لما يسمعون فالمنكر مصدر كالمكرم بمعنى الإكرام ويعرف ذلك في وجوههم بعبوسها وإعراضها * (يسطون) * من السطوة
46

وهي سرعة البطش * (النار وعدها الله) * يحتمل أن تكون النار مبتدأ ووعدها الله خبرا أو يكون النار خبر ابتداء مضمر كأن قائلا قال ما هو فقيل هو النار ويكون وعدها الله استئنافا وهذا أظهر * (ضرب مثل) * أي ضربه الله لإقامة الحجة على المشركين * (لن يخلقوا ذبابا) * تنبيه بالأصغر على الأكبر من باب أولى وأحرى والمعنى أن الأصنام التي تعبدونها لا تقدر على خلق الذباب ولا غيره فكيف تعبد من دون الله الذي خلق كل شيء ثم أوضح عجزهم بقوله * (ولو اجتمعوا له) * أي لو تعاونوا على خلق الذباب لم يقدروا عليه * (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه) * بيان أيضا لعجز الأصنام بحيث لو اختطف الذباب منهم شيئا لم يقدروا على استنقاذه منه على حال ضعفه وقد قيل إن المراد بما يسلب الذباب منهم الطيب الذي كانت تجعله العرب على الأصنام واللفظ أعم من ذلك * (ضعف الطالب والمطلوب) * المراد بالطالب الأصنام وبالمطلوب الذباب لأن الأصنام تطلب من الذباب ما سلبته منها وقيل الطالب الكفار والمطلوب الأصنام لأن الكفار يطلبون الخير منهم * (وما قدروا الله حق قدره) * أي ما عظموه حق تعظيمه * (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) * رد على من أنكر أن يكون الرسول من البشر * (اركعوا واسجدوا) * في هذه الآية سجدة عند الشافعي وغيره للحديث الصحيح الوارد في ذلك خلافا للمالكية * (واعبدوا ربكم) * عموم في العبادة بعد ذكر الصلاة التي عبر عنها بالركوع والسجود وإنما قدمها لأنها أهم العبادات * (وافعلوا الخير) * قيل المراد صلة الرحم وقال ابن عطية هي في الندب فيما عدا الواجبات واللفظ أعم من ذلك كله * (وجاهدوا في الله) * يحتمل أن يريد جهاد الكفار أو جهاد النفس والشيطان أو الهوى أو العموم في ذلك * (حق جهاده) * قيل إنه منسوخ كنسخ حق تقاته بقوله ما استطعتم وفي ذلك نظر وإنما أضاف الجهاد إلى الله ليبين بذلك فضله واختصاصه بالله * (اجتباكم) * أي اختاركم من بين الأمم * (من حرج) * أي مشقة وأصل الحرج الضيق * (ملة أبيكم إبراهيم) * انتصب ملة بفعل مضمر تقديره أعني بالدين ملة إبراهيم أو التزموا ملة إبراهيم وقال الفراء انتصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كملة وقال الزمخشري انتصب بمضمون ما تقدم كأنه قال وسع عليكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم ثم حذف المضاف فإن قيل لم يكن إبراهيم أبا للمسلمين كلهم فالجواب أنه
أبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده ولذلك قرىء وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وأيضا فإن قريشا وأكثر العرب من ذرية إبراهيم وهم أكثر الأمة فاعتبرهم دون غيرهم * (هو سماكم) * الضمير لله تعالى ومعنى من قبل في الكتب المتقدمة وفي هذا أي في القرآن وقيل الضمير لإبراهيم والإشارة إلى
47

قوله ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ومعنى من قبل على هذا من قبل وجودكم وهنا يتم الكلام على هذا القول ويكون قوله وفي هذا مستأنفا أي وفي هذا البلاغ والقول الأول أرجح وأقل تكلفا ويدل عليه قراءة أبي بن كعب الله سماكم المسلمين * (شهيدا عليكم) * تقدم معنى هذه الشهادة في البقرة * (فأقيموا الصلاة) * الظاهر أنها المكتوبة به لاقترانها مع الزكاة * (هو مولاكم) * معناه هنا وليكم وناصركم بدلالة ما بعد ذلك
سورة المؤمنون
* (الذين هم في صلاتهم خاشعون) * الخشوع حالة في القلب من الخوف والمراقبة والتذلل لعظمة المولى جل جلاله ثم يظهر أثر ذلك على الجوارح بالسكون والإقبال على الصلاة وعدم الالتفات والبكاء والتضرع وقد عد بعض الفقهاء الخشوع في فرائض الصلاة لأنه جعله بمعنى حضور القلب فيها وقد جاء في الحديث لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها والصواب أن الخشوع أمر زائد على حضور القلب فقد يحضر القلب ولا يخشع * (عن اللغو معرضون) * اللغو هنا الساقط من الكلام كالسب واللهو والكلام بما لا يعني وعدد أنواع المنهي عنه من الكلام عشرون نوعا ومعنى الإعراض عنه عدم الاستماع إليه والدخول فيه ويحتمل أن يريد أنهم لا يتكلمون به ولكن إعراضهم عن سماعه يقتضي ذلك من باب أولى وأحرى * (للزكاة فاعلون) * أي مؤدون فإن قيل لم قال فاعلون ولم يقل مؤدون فالجواب أن الزكاة لها معنيان أحدهما الفعل الذي يفعله المزكي أي أداء ما يجب على المال والآخر المقدار المخرج من المال كقولك هذه زكاة مالي والمراد هنا الفعل لقوله فاعلون ويصح المعنى الآخر على حذف تقديره هم لأداء الزكاة فاعلون * (على أزواجهم) * هذا المجرور يتعلق بفعل يدل عليه قوله غير ملومين أي لا يلامون على أزواجهم ويمكن أن يتعلق بقوله حافظون على أن يكون على بمعنى عن * (أو ما ملكت أيمانهم) * يعني النساء المملوكات قال الزمخشري إنما قال ما ملكت ولم يقل من لأن الإناث يجرين مجرى غير العقلاء * (وراء ذلك) * يعني ما سوى الزوجات والمملوكات * (لأماناتهم وعهدهم) * يحتمل أن يريد أمانة الناس وعهدهم وأمانة الله وعهده في دينه أو العموم والأمانة أعم من العهد
48

لأنها قد تكون بعهد وبغير عهد متقدم * (راعون) * أي حافظون لها قائمون بها * (على صلواتهم يحافظون) * المحافظة عليها هي فعلها في أوقاتها مع توفية شروطها فإن قيل كيف كرر ذكر الصلوات أولا وآخرا فالجواب أنه ليس بتكرار لأنه قد ذكر أولا الخشوع فيها وذكر هنا المحافظة عليها فهما مختلفان وأضاف الصلاة في الموضعين إليهم دلالة على ثبوت فعلهم لها * (الوارثون) * أي المستحقون للجنة فالميراث استعارة وقيل إن الله جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار فيرث المؤمنون مساكن الكفار في الجنة * (الفردوس) * مدينة الجنة وهي جنة الأعناب وأعاد الضمير عليها مؤنثا على معنى الجنة * (ولقد خلقنا الإنسان) * اختلف هل يعني آدم أو جنس بني آدم * (من سلالة من طين) * السلالة هي ما يسل من الشيء أي ما يستخرج منه ولذلك قيل إنها الخلاصة والمراد بها هنا القطعة التي أخذت من الطين وخلق منها آدم فإن أراد بالإنسان آدم فالمعنى أنه خلق من تلك السلالة المأخوذة من الطين ولكن قوله بعد هذا * (ثم جعلناه نطفة) * لا بد أن يراد به بنو آدم فيكون الضمير يعود على غير من ذكر أولا ولكن يفسره سياق الكلام وإن أراد بالإنسان ابن آدم فيستقيم عود الضمير عليه ويكون معنى خلقه من سلالة من طين أي خلق أصله وهو أبوه آدم ويحتمل عندي أن يراد بالإنسان الجنس الذي يعم آدم وذريته فأجمل ذكر الإنسان أولا ثم فصله بعد ذلك إلى الخلقة المختصة بآدم وهي من طين وإلى الخلقة المختصة بذريته وهي النطفة فإن قيل ما الفرق بين من ومن فالجواب على ما قال الزمخشري أن الأولى للابتداء والثانية للبيان كقوله من الأوثان * (في قرار مكين) * يعني رحم الأم ومعنى مكين متمكن وذلك في الحقيقة من صفة النطفة المستقرة لا من صفة المحل المستقر فيه ولكنه كقولك طريق سائر أي يسير الناس فيه وقد تقدم تفسير النطفة والمضغة والعلقة في أول الحج * (خلقا آخر) * قيل هو نفخ الروح فيه وقيل خروجه إلى الدنيا وقيل استواء الشباب وقيل على العموم من نفخ الروح فيه إلى موته * (فتبارك الله) * هو مشتق من البركة وقيل معناه تقدس * (أحسن الخالقين) * أي أحسن الخالقين خلقا فحذف التمييز لدلالة الكلام عليه وفسر بعضهم الخالقين بالمقدرين فرارا من وصف المخلوق بأنه خالق ولا يجب أن ينفي عن المخلوق أنه خالق بمعنى صانع كقوله وإذ تخلق من الطين وإنما الذي يجب أن ينفي عنه معنى الاختراع والإيجاد من العدم فهذا هو الذي انفرد الله به * (سبع طرائق) * يعني السماوات وسماها طرائق لأن بعضها طورق فوق بعض كمطارقة النعل وقيل يعني الأفلاك لأنها طرق للكواكب * (وما كنا عن الخلق غافلين) * يحتمل أن يريد بالخلق المخلوقين أو المصدر
49

* (ماء بقدر) * يعني المطر الذي ينزل من السماء فتكون منه العيون والأنهار في الأرض وقيل يعني أربعة أنهار وهي النيل والفرات ودجلة وسيحان ولا دليل على هذا التخصيص ومعنى بقدر بمقدار معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص منه * (وشجرة تخرج من طور سيناء) * يعني الزيتون وإنما خص النخيل والأعناب والزيتون بالذكر لأنها أكرم الشجر وأكثرها منافع وطور سيناء جبل بالشام وهو الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وينسب الزيتون إليه لأنها فيه كثيرة وسيناء اسم جبل أضافه إليه كقوله جبل أحد وقرئ بفتح السين ولم ينصرف للتأنيث اللازم وقرئ بالكسر ولم ينصرف للعجمة أو للتأنيث مع التعريف لأن فعلاء بالكسر لا تكون ألفه للتأنيث وقيل معناه مبارك وقيل ذو شجرة ويلزم على ذلك صرفه * (تنبت بالدهن) * يعني الزيت وقرئ تنبت بفتح التاء فالمجرور على هذا في موضع الحال كقولك جاء زيد بسلاحه وقرئ بضم التاء وكسر الباء وفيه ثلاثة أوجه الأول أن أنبت بمعنى نبت والثاني حذف المفعول تقديره تنبت ثمرتها بالدهن والثالث زيادة الباء * (وصبغ للآكلين) * الصبغ الغمس في الإدام * (في الأنعام) * هي الإبل والبقر والغنم والمقصود بالذكر الإبل لقوله وعليها وعلى الفلك تحملون وقد تقدم في النحل ذكر المنافع التي فيها
وتذكيرها وتأنيثها * (ما هذا إلا بشر) * استبعدوا أن تكون النبوة لبشر فيا عجبا منهم إذ أثبتوا الربوبية لحجر * (يريد أن يتفضل) * أي يطلب الفضل والرياسة عليكم * (ما سمعنا بهذا) * أي بمثل ما دعاهم إليه من عبادة الله أو بمثل الكلام الذي قال لهم وهذا يدل على أنه كان قبل نوح فترة طويلة * (به جنة) * أي جنون فانظر اختلاف قولهم فيه فتارة نسبوه إلى طلب الرياسة وتارة إلى الجنون * (حتى حين) * أي إلى وقت لم يعينوه ولكن أرادوا وقت زوال جنونه على قولهم أو وقت موته * (انصرني بما كذبون) * تضمن هذا دعاء عليهم لأن نصرته إنما هي بإهلاكهم وقد تقدم في هود تفسير بأعيننا ووحينا وفار التنور ولا تخاطبني * (اسلك فيها) *
50

أي أدخل فيها وقد تقدم تفسير زوجين اثنين * (وإن كنا لمبتلين) * إن مخففة من الثقيلة ومبتلين اسم فاعل من ابتلى ويحتمل أن يكون بمعنى الاختبار أو إنزال البلاء * (قرنا آخرين) * قيل إنهم عاد ورسولهم هود لأنهم الذين يلون قوم نوح وقيل إنهم ثمود ورسولهم صالح وهذا أصح لقوله فأخذتهم الصيحة وثمود هم الذين أهلكوا بالصيحة وأما عاد فأهلكوا بالريح * (من قومه) * قدم هذا المجرور على قوله الذين كفروا لئلا يوهم أنه متصل بقوله الحياة الدنيا بخلاف قوله قال الملأ الذين كفروا من قومه في غير هذا الموضع * (أترفناهم) * أي نعمناهم * (بشر مثلكم) * يحتمل أنهم قالوا ذلك لإنكارهم أن يكون نبي من البشر أو قالوه أنفة من اتباع بشر مثلهم وكذلك قال قوم نوح * (أيعدكم) * استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد * (أنكم مخرجون) * كرر أن تأكيدا للأولى ومخرجون خبر عن الأولى * (هيهات هيهات لما توعدون) * هذا من حكاية كلامهم وهيهات اسم فعل بمعنى بعد وقال الغزنوي هي للتأسف والتأوه ويجوز فيه الفتح والضم والكسر والإسكان وتارة يجيء فاعله دون لام كقوله فهيهات هيهات العقيق وأهله وتارة يجيء باللام كهذه الآية قال الزجاج في تفسيره البعد لما توعدون فنزله منزلة المصدر قال الزمخشري وفيه وجه آخر وهي أن تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به * (إن هي إلا حياتنا الدنيا) * أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا فوضع هي موضع الحياة لدلالة الخبر عليها * (نموت ونحيا) * أي يموت بعض ويولد بعض فينقرض قرن ويحدث قرن آخر ومرادهم إنكارهم البعث * (عما قليل) * ما زائدة وقيل صفة للزمان والتقدير عن زمان قليل يندمون * (فجعلناهم غثاء) * يعني هالكين كالغثاء والغثاء ما يحمله السيل من الورق وغيره مما يبلى ويسود فشبه به الهالكين * (فبعدا) * مصدر وضع موضع الفعل بمعنى بعدوا أي هلكوا والعامل فيه مضمر لا يظهر * (تترا) * مصدر ووزنه فعلى ومعناه التواتر والتتابع وهو موضوع موضع الحال أي متواترين واحدا بعد واحد فمن قرأه بالتنوين فألفه للإلحاق ومن قرأه بغير تنوين فألفه للتأنيث فلم ينصرف وتأنيثه لأن الرسل جماعة والتاء الأولى فيه بدل من واو هي فاء الكلمة
51

* (وجعلناهم أحاديث) * أي يتحدث الناس بما جرى عليهم ويحتمل أن يكون جمع حديث أو جمع أحدوثة وهذا أليق لأنها تقال في الشر * (قوما عالين) * أي متكبرين * (وقومهما لنا عابدون) * أي حامدون متذللون * (لعلهم يهتدون) * الضمير لبني إسرائيل لا لقوم فرعون لأنهم هلكوا قبل إنزال التوراة " وآويناهماإلى ربوة " الربوة الموضع المرتفع من الأرض ويجوز فيها فتح الراء وضمها وكسرها واختلف في موضع هذه الربوة فقيل بيت المقدس وقيل بغوطة دمشق وقيل بفلسطين * (ذات قرار ومعين) * القرار المستوي من الأرض فمعناه أنها بسيطة يمكن فيها الحرث والغراسة وقيل إن القرار هنا الثمار والحبوب والمعين الماء الجاري فقيل إنه مشتق من قولك معن الماء إذا كثر فالميم على هذا أصلية ووزنه فعيل وقيل إنه مشتق من العين فالميم زائدة ووزنه مفعول * (يا أيها الرسل) * هذا النداء ليس على ظاهره لأن الرسل كانوا في أزمنة متفرقة وإنما المعنى أن كل رسول في زمانه خوطب بذلك وقيل الخطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأقامه مقام الجماعة وهذا بعيد * (كلوا من الطيبات) * أي من الحلال فالأمر على هذا للوجوب أو من المستلذات فالأمر للإباحة * (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) * قرىء إن بالكسر على الاستئناف وبالفتح على معنى لأن وهي متعلقة بقوله آخرا * (فاتقون) * وقيل تتعلق بفعل مضمر تقديره واعلموا والأمة هنا الدين وهو ما اتفقت عليه الرسل من التوحيد وغيره * (فتقطعوا أمرهم) * أي افترقوا واختلفوا والضمير لأمم الرسل المذكورين من اليهود والنصارى وغيرهم * (زبرا) * جمع زبور وهو الكتاب والمعنى أنهم افترقوا في اتباع الكتب فاتبعت طائفة التوراة وطائفة الإنجيل وغير ذلك ووضعوا كتابا من عند أنفسهم * (فذرهم في غمرتهم) * الضمير لقريش والغمرة الجهل والضلال وأصلها من غمرة الماء * (حتى حين) * هنا يوم بدر أو يوم موتهم * (أيحسبون) * الآية رد عليهم فيما ظنوا من أن أموالهم وأولادهم خير لهم وأنهم سبب لرضا الله عنهم * (نسارع لهم) * هذا خبر أن والضمير الرابط محذوف تقديره نسارع به * (بل لا يشعرون) * أي لا يشعرون أن ذلك استدراج لهم ففيه معنى التهديد * (يؤتون ما آتوا) * قيل معناه يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وقيل إنه عام في جميع أفعال البر أي يفعلونها وهم يخافون أن لا تقبل منهم
52

وقد روت عائشة هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها قرأت يؤتون ما أتوا بالقصر فيحتمل أن يكون الحديث تفسيرا لهذه القراءة وقيل إنه عام في الحسنات والسيئات أي يفعلونها وهم خائفون من الرجوع إلى الله * (أنهم إلى ربهم راجعون) * أن في موضع المفعول من أجله أو في موضع المفعول بوجلت إذ هي في معنى خائفة * (أولئك يسارعون في الخيرات) * فيه معنيان أحدهما أنهم يبادرون إلى فعل الطاعات والآخرأنهم يتعجلون ثواب الخيرات وهذا مطابق للآية المتقدمة لأنه أثبت فيهم ما نفي عن الكفار من المسارعة * (وهم لها سابقون) * فيه المعنيان المذكوران في يسارعون للخيرات وقيل معناه سبقت لهم السعادة في الأزل * (لا نكلف نفسا إلا وسعها) * يعني أن هذا الذي وصف به الصالحون غير خارج عن الوسع والطاقة وقد تقدم الكلام على تكليف ما لا يطاق في البقرة * (ولدينا كتاب) * يعني صحائف الأعمال ففي الكلام تهديد وتأمين من الظلم والحيف * (في غمرة من هذا) * أي في غفلة من الدين بجملته ومن القرآن وقيل من الكتاب المذكور وقيل من الأعمال التي وصف بها المؤمنون * (ولهم أعمال من دون ذلك) * أي لهم أعمال سيئة دون الغمرة التي هم فيها فالمعنى أنهم يجمعون بين الكفر وسوء الأعمال والإشارة بذلك على هذا إلى الغمرة وإنما أشار إليها بالتأكيد لأنها في معنى الكفر وقيل الإشارة إلى قوله من هذا أي لهم أعمال سيئة غير المشار إليه حسبما اختلف فيه * (هم لها عاملون) * قيل هي إخبار عن أعمالهم في الحال وقيل عن الاستقبال وقيل المعنى أنهم يتمادون على عملها حتى يأخذهم الله فجعل * (حتى إذا أخذنا مترفيهم) * غاية
لقوله عاملون * (مترفيهم) * أي أغنياؤهم وكبراؤهم * (إذا هم يجأرون) * أي يستغيثون ويصيحون فإن أراد بالعذاب قتل المترفين يوم بدر فالضمير في يجأرون لسائر قريش أي صاحوا وناحوا على القتلى وإن أراد بالعذاب شدائد الدنيا أو عذاب الآخرة فالضمير لجميعهم * (لا تجأروا اليوم) * تقديره يقال لهم يوم العذاب لا تجأروا ويحتمل أن يكون هذا القول حقيقة وأن يكون بلسان الحال ولفظه نهي ومعناه أن الجؤار لا ينفعهم * (على أعقابكم تنكصون) * أي ترجعون إلى وراء وذلك عبارة عن إعراضهم عن الآيات وهي القرآن * (مستكبرين به) * قيل إن الضمير عائد على المسجد الحرام وقيل إنه على الحرم وإن لم يذكر ولكنه يفهم من سياق الكلام والمعنى أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام لأنهم أهله وولاته وقيل إنه عائد على القرآن من حيث ذكرت الآيات والمعنى على هذا أن القرآن يحدث لهم عتوا وتكبرا وقيل إنه يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على هذا متعلق بسامرا * (سامرا) * مشتق من السمر وهو الجلوس بالليل للحديث وكانت قريش تجتمع بالليل في المسجد فيتحدثون وكان أكثر حديثهم سب النبي صلى الله عليه وسلم وسامرا مفرد بمعنى الجمع وهو منصوب
53

على الحال فمن جعل الضمير في به للنبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى أنهم سامرون بذكره وسبه * (تهجرون) * من قرأ بضم التاء وكسر الجيم فمعناه تقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش من الكلام ومن قرأ بفتح التاء وضم الجيم فهو من الهجر بفتح الهاء أي تهجرون الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أو من قولك هجر المريض إذا هذى أي تقولون اللغو من القول * (أفلم يدبروا القول) * يعني القرآن وهذا توبيخ لهم * (أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين) * معناه أن النبوة ليست ببدع فينكرونها بل قد جاءت آباؤهم الأولين فقد كانت النبوة لنوح وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم * (أم لم يعرفوا رسولهم) * المعنى أم لم يعرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم ويعلموا أنه أشرفهم حسبا وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأرجحهم عقلا فكيف ينسبونه إلى الكذب أو إلى الجنون أو غير ذلك من النقائص مع أنه جاءهم بالحق الذي لا يخفى على كل ذي عقل سليم وأنه عين الصواب * (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض) * الاتباع هنا استعارة والحق هنا يراد به الصواب والأمر المستقيم فالمعنى لو كان الأمر على ما تقتضي أهواءهم من الشرك بالله واتباع الباطل لفسدت السماوات والأرض كقوله * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * وقيل إن الحق في الآية هو الله تعالى وهذا بعيد في المعنى وإنما حمله عليه أن جعل الاتباع حقيقة ولم يفهم فيه الاستعارة وإنما الحق هنا هو المذكور في قوله * (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) * * (بل أتيناهم بذكرهم) * يحتمل أن يكون بتذكيرهم ووعظهم أو بفخرهم وشرفهم وهذا أظهر * (أم تسألهم خرجا) * الخرج هو الأجرة ويقال فيه خراج والمعنى واحد وقرئ بالوجهين في الموضعين فهو كقوله أم تسألهم أي لست تسألهم أجرا فيثقل عليهم اتباعك * (فخراج ربك خير) * أي رزق ربك خير من أموالهم فهو يرزقك ويغنيك عنهم * (عن الصراط لناكبون) * أي عادلون ومعرضون عن الصراط المستقيم * (ولو رحمناهم) * الآية قال الأكثرون نزلت هذه الآية حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش بالقحط فنالهم الجوع حتى أكلوا الجلود وغيرها فالمعنى رحمناهم بالخصب وكشفنا ما بهم من ضر الجوع والقحط لتمادوا على طغيانهم وفي هذا عندي نظر فإن الآية مكية باتفاق وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بعد الهجرة حسبما ورد في الحديث وقيل المعنى لو رحمناهم بالرد إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وهذا القول لا يلزم عليه ما يلزم على الآخر ولكنه خرج عن معنى الآية * (ولقد أخذناهم بالعذاب) * قيل إن هذا العذاب هو الجوع بالقحط وأن الباب ذا العذاب الشديد المتوعد به بعد هذا يوم بدر وهذا مردود بأن العذاب الذي أصابهم إنما كان بعد بدر وقيل إن العذاب الذي أخذهم هو يوم بدر والباب المتوعد به هو القحط وقيل الباب ذو العذاب الشديد عذاب الآخرة وهذا أرجح ولذلك وصفه بالشدة لأنه أشد من عذاب الدنيا وقال إذ هم فيه مبلسون أي
54

يائسون من الخير وإنما يقع لهم اليأس في الآخرة كقوله ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون * (فما استكانوا) * أي ما تذللوا لله عز وجل وقد تقدم الكلام على هذه الكلمة في آخر آل عمران * (وما يتضرعون) * إن قيل هلا قال فما استكانوا وما تضرعوا أو فما يستكينون وما يتضرعون باتفاق الفعلين في الماضي أو في الاستقبال فالجواب أن ما استكانوا عند العذاب الذي أصابهم وما يتضرعون حتى يفتح عليهم باب عذاب شديد فنفى الاستكانة فيما مضى ونفى التضرع في الحال والاستقبال * (قليلا ما تشكرون) * ما زائدة وقليلا صفة لمصدر محذوف تقديره شكرا قليلا تشكرون وذكر السمع والبصر والأفئدة وهي القلوب لعظم المنافع التي فيها فيجب شكر خالقها ومن شكره توحيده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ففي ذكرها تعديد نعمة وإقامة حجة * (ذرأكم في الأرض) * أي نشركم فيها * (وله اختلاف الليل والنهار) * أي هو فاعله ومختص به فاللام على هذا للاختصاص وقد ذكر في البقرة معنى اختلاف الليل والنهار * (بل قالوا مثل ما قال الأولون) * أي قالت قريش مثل قول الأمم المتقدمة ثم فسر قولهم بإنكارهم البعث وإليه الإشارة بقولهم لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا وقد ذكر الاستفهامان في الرعد وأساطير الأولين في الأنعام * (قل لمن الأرض ومن فيها) * هذه الآيات توقيف لهم على أمور لا يمكنهم الإقرار بها وإذا أقروا بها لزمهم توحيد خالقها والإيمان بالدار الآخرة * (سيقولون لله) * قرئ في الأول لله باللام بإجماع جوابا لقوله لمن الأرض وكذلك قرأ الجمهور الثاني والثالث وذلك على المعنى لأن قوله من رب السماوات في معنى لمن هي وقرأ أبو عمرو الثاني والثالث بالرفع على اللفظ * (ملكوت) * مصدر وفي بنائه مبالغة * (يجير ولا يجار عليه) * الإجارة المنع من الإهانة يقال أجرت فلانا على فلان إذا منعته من مضرته وإهانته فالمعنى أن الله تعالى يغيث من شاء ممن شاء ولا يغيث أحد منه أحدا * (فأنى تسحرون) * أي تخدعون عن الحق والخادع لهم الشيطان وذلك تشبيه بالسحر في التخليط والوقوع في الباطل ورتب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولا أفلا تذكرون ثم قال ثانيا أفلا تتقون وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف ثم قال ثالثا فأنى تسحرون وفيه ما التوبيخ من ليس في غيره * (وإنهم لكاذبون) * يعني فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد ولذلك رد عليهم بنفي ذلك * (إذا لذهب كل إله بما خلق) * هذا برهان على
55

الوحدانية وبيانه أن يقال لو كان مع الله إلها آخر لانفرد كل واحد منهما بمخلوقاته عن مخلوقات الآخر واستبد كل واحد منهما بملكه وطلب غلبة الآخر والعلو عليه كما ترى حال ملوك الدنيا ولكن لما رأينا جميع المخلوقات مرتبطة بعضها ببعض حتى كأن العالم كله كرة واحدة علمنا أن مالكه ومدبره واحد لا إله غيره وليس هذا البرهان
بدليل التمانع كما فهم ابن عطية وغيره بل هو دليل آخر فإن قيل إذ لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب فكيف دخلت هنا ولم يتقدم قبلها شرط ولا سؤال سائل فالجواب أن الشرط محذوف تقديره لو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله وما كان معه من إله وهو جواب للكفار الذين وقع الرد عليهم * (عالم الغيب) * بالرفع خبر ابتداء وبالخفض صفة لله * (قل رب إما تريني ما يوعدون) * الآية معناه أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظالمين إن قضي أن يرى ذلك وفيها تهديد للظالمين وهم الكفار وإن شرطية وما زائدة وجواب الشرط فلا تجعلني وكرر قوله رب مبالغة في الدعاء والتضرع * (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) * قيل التي هي أحسن لا إله إلا الله والسيئة الشرك والأظهر أنه أمر بالصفح والاحتمال وحسن الخلق وهو محكم غير منسوخ وإنما نسخ ما يقتضيه من مسالمة الكفار * (من همزات الشياطين) * يعني نزغاته ووساوسه وقيل يعني الجنون واللفظ أعم من ذلك * (أن يحضرون) * معناه أن يكونوا معه وقيل يعني حضورهم عند الموت * (حتى إذا جاء أحدهم الموت) * قال ابن عطية حتى هنا حرف ابتداء أي ليست غاية لما قبلها وقال الزمخشري حتى تتعلق بيصفون أي لا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت * (قال رب ارجعون) * يعني الرجوع إلى الدنيا وخاطب به مخاطبة الجماعة للتعظيم قال ذلك الزمخشري وغيره ومثله قول الشاعر
(ألا فارحمون يا آل محمد
*) وقيل إنه نادى ربه ثم خاطب الملائكة * (فيما تركت) * قيل يعني فيما تركت من المال وقيل فيما تركت من الإيمان فهو كقوله أو كسبت في إيمانها خيرا والمعنى أن الكافر رغب أن يرجع إلى الدنيا ليؤمن ويعمل صالحا في الإيمان الذي تركه أول مرة * (كلا) * ردع له عما طلب * (إنها كلمة هو قائلها) * يعني قوله رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فسمى هذا الكلام كلمة وفي تأويل معناه ثلاثة أقوال أحدها أن يقولها هذه الكلمة لا محالة لإفراط ندمه وحسرته فهو إخبار بقوله والثاني أن المعنى أنها كلمة يقولها ولا تنفعه ولا تغني عنه شيئا والثالث أن يكون المعنى أنه يقولها كاذبا فيها ولو رجع إلى الدنيا لم يعمل صالحا * (ومن ورائهم) * أي فيما يستقبلون من الزمان والضمير للجماعة المذكورين في قوله جاء أحدهم * (برزخ) * يعني المدة التي بين الموت والقيامة وهي تحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا وأصل البرزخ الحاجز بين شيئين * (فلا أنساب بينهم) * المعنى أنه ينقطع يومئذ التعاطف والشفقة التي بين القرابة لاشتغال كل أحد بنفسه
56

كقوله * (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه) * فتكون الأنساب كأنها معدومة * (ولا يتساءلون) * أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغال كل أحد بنفسه فإن قيل كيف الجمع بين هذا وبين قوله وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون فالجواب أن ترك التساؤل عند النفخة الأولى ثم يتساءلون بعد ذلك فإن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف كثيرة * (تلفح وجوههم النار) * أي تصيبهم بالإحراق * (كالحون) * الكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان وكثيرا ما يجري ذلك للكلاب وقد يجري للكباش إذا شويت رؤسها وفي الحديث إن شفة الكافر ترتفع في النار حتى تبلغ وسط رأسه وفي ذلك عذاب وتشويه * (غلبت علينا شقوتنا) * أي ما قدر عليهم من الشقاء وقرئ شقاوتنا والمعنى واحد " قال اخسؤا " كلمة تستعمل في زجر الكلاب ففيها إهانة وإبعاد * (ولا تكلمون) * أي لا تكلمون في رفع العذاب فحينئذ يياسون من ذلك أعاذنا الله من ذلك برحمته * (سخريا) * بضم السين من السخرة بمعنى التخديم وبالكسر من السخر بمعنى الاستهزاء وقد يقال هذا بالضم وقرئ هنا بالوجهين لاحتمال المعنيين على أن معنى الاستهزاء هنا أليق لقوله * (وكنتم منهم تضحكون) * * (كم لبثتم في الأرض) * يعني في جوف الأرض أمواتا وقيل أحياء في الدنيا فأجابوا بأنهم لبثوا يوما أو بعض يوم لاستقصارهم المدة أو لما هم فيه من العذاب بحيث لا يعدون شيئا * (فاسأل العادين) * أي اسئل من يقدر على أن يعد وهو من عوفي مما ابتلوا به أو يعنون الملائكة * (إن لبثتم إلا قليلا) * معناه أنه قليل بالنسبة إلى بقائهم في جهنم خالدين أبدا * (عبثا) * أي باطلا والمعنى إقامة حجة على الحشر للثواب والعقاب * (لا برهان له به) * أي لا حجة ولا دليل والجملة صفة لقوله إلها آخر وجواب الشرط * (فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) * الضمير للأمر والشأن وانظر كيف افتتح السورة بفلاح المؤمنين وختمها بعدم فلاح الكافرين ليبين البون بين الفريقين والله أعلم
57

سورة النور
* (سورة أنزلناها) * السورة خبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره فيما أنزل عليكم سورة وأنزلناها صفة للسورة * (وفرضناها) * أي فرضنا الأحكام التي فيها وقرئ بالتشديد للمبالغة * (آيات بينات) * يعني ما فيها من المواعظ والأحكام والأمثال وقيل معنى بينات هنا ليس فيها مشكل * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * الزانية والزاني يراد بهما الجنس وقدم الزانية لأن الزنا كان حينئذ في النساء أكثر فإنه كان منهن إماء وبغايا يجاهرن بذلك وإعراب الزاني والزانية كإعراب السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقد ذكر في المائدة وهذه الآية ناسخة بإجماع لما في سورة النساء من الإمساك في البيوت في الآية الواحدة ومن الأذى في الأخرى ثم إن لفظ هذه الآية عند مالك ليس على عمومه فإن جلد المائدة إنما هو حد الزاني والزانية إذا كانا مسلمين حرين غير محصنين فيخرج منها الكفار فيردون إلى أهل دينهم ويخرج منها العبد والأمة والمحصن والمحصنة فأما العبد والأمة فحدهما خمسون جلدة سواء كانا محصنين أو غير محصنين وأما المحصنان الحران فحدهما الرجم هذا على مذهب مالك وأما الكلام على الآية بالنظر إلى سائر المذاهب فاعلم أن لفظ هذه الآية ظاهره العموم في المسلمين والكافرين وفي الأحرار والعبيد والإماء وفي المحصن وغير المحصن ثم إن العلماء خصصوا من هذا العموم أشياء منها باتفاق ومنها باختلاف فأما الكفار فرأى أبو حنيفة وأهل الظاهر أن حدهم جلد مائة أحصنوا أو لم يحصنوا أخذا بعموم الآية ورأى الشافعي أن حدهم كحد المسلمين الجلد إن لم يحصنوا والرجم إن أحصنوا أخذا بالآية وبرجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية إذ زنيا ورأى مالك أن يردوا إلى أهل دينهم لقوله تعالى في سورة النساء * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * فخص نساء المسلمين على أنها قد نسختها هذه ولكن بقيت في محلها وأما العبد والأمة فرأى أهل الظاهر أن حد الأمة خمسون جلدة لقوله تعالى * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * وأن حد العبد الجلد مائة لعموم الآية وقال غيرهم يجلد العبد خمسين بالقياس على الأمة إذ لا فرق بينهما وأما المحصن فقال الجمهور حده الرجم فهو مخصوص في هذه الآية وبعضهم
يسمي هذا التخصيص نسخا ثم اختلفوا في المخصص أو الناسخ فقيل الآية التي ارتفع لفظها وبقي حكمها وهي قوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم وقيل الناسخ لها السنة الثابتة في الرجم وقال أهل الظاهر وعلي بن أبي طالب يجلد المحصن بالآية ثم يرجم بالسنة فجمعوا عليه الحدين ولم يجعلوا الآية منسوخة ولا مخصصة وقال الخوارج لا رجم أصلا فإن الرجم ليس في كتاب الله ولا يعتد بقولهم وظاهر الآية الجلد دون تغريب وبذلك قال أبو حنيفة وقال مالك الجلد والتغريب سنة للحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم البكر بالبكر جلد مائة وتغريب
58

عام ولا تغريب على النساء ولا على العبيد عند مالك وصفة الجلد عند مالك في الظهر والمجلود جالس وقال الشافعي يفرق على جميع الأعضاء والمجلود قائم وتستر المرأة بثوب لا يقيها الضرب ويجرد الرجل عند مالك وقال قوم يجلد على قميص * (ولا تأخذكم بهما رأفة) * قيل يعني في إسقاط الحد أي أقيموه ولا بد وقيل في خفيف الضرب وقيل في الوجهين فعلى القول الأول يكون الضرب في الزنا كالضرب في القذف غير مبرح وهو مذهب مالك والشافعي وعلى القول الثاني والثالث يكون الضرب في الزنا أشد واختلف هل يجوز أن يجمع مائة سوط يضرب بها مرة واحدة فمنعه مالك وأجازه أبو حنيفة لما ورد في قصة أيوب عليه السلام وأجازه الشافعي للمريض لورود ذلك في الحديث * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) * المراد بذلك توبيخ الزناة والغلظة عليهم واختلف في أقل ما يجزئ من الطائفة فقيل أربعة اعتبارا بشهادة الزنا وهو قول ابن أبي زيد وقيل عشرة وقيل اثنين وهو مشهور في مذهب مالك وقيل واحد * (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) * الآية معناها ذم الزناة وتشنيع الزنا وأنه لا يقع فيه إلا زان أو مشرك ولا يوافقه عليه من النساء إلا زانية أو مشركة وينكح على هذا بمعنى يجامع وقيل معناها لا يحل لزان أن يتزوج إلا زانية أو مشركة ولا يحل لزانية أن تتزوج إلا زانيا أو مشركا ثم نسخ هذا الحكم وأبيح لهما التزوج ممن شاؤوا والأول هو الصحيح * (وحرم ذلك على المؤمنين) * الإشارة بذلك إلى الزنا أي حرم الزنا على المؤمنين وقيل الإشارة إلى تزوج المؤمن غير الزاني بزانية فإن قوما منعوا أن يتزوجها وهذا على القول الثاني في الآية قبلها وهو بعيد وأجاز تزويجها مالك وغيره وروى عنه كراهته * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) * هذا حد القذف وهو الفرية التي عبر الله عنها بالرمي والمحصنات يراد بهن هنا العفائف من النساء وخصهن بالذكر لأن قذفهن أكثر وأشنع من قذف الرجال ودخل الرجال في ذلك بالمعنى إذ لا فرق بينهم وأجمع العلماء على أن حكم الرجال والنساء هنا واحد وقيل إن المعنى يرمون الأنفس المحصنات فيعم اللفظ على هذا النساء والرجال ويحتاج هنا إلى الكلام في القذف والقاذف والمقذوف والشهادة في ذلك فأما القذف فهو الرمي بالزنا اتفاقا أو بفعل قوم لوط عند مالك والشافعي لعموم لفظ الرمي في الآية خلافا لأبي حنيفة أو النفي من النسب ومذهب مالك أن التعريض بذلك كله كالتصريح خلافا للشافعي وأبي حنيفة وأما القاذف فيحد سواء كان مسلما أو كافرا لعموم الآية وسواء كان حرا أو عبدا إلا أن العبد والأمة إنما يحدان أربعين عند الجمهور فنصفوا حدهما قياسا على تنصيفه في الزنا خلافا للظاهرية ولا يحد الصبي ولا المجنون لكونهما غير مكلفين وأما المقذوف فمذهب مالك أنه يشترط فيه الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والبراءة عما رمي به والتمكن من الوطء تحرزا من المجبوب وشبهه فلا يحد عنده من قذف صبيا أو كافرا أو مجبوبا أو عبدا ومن لا يمكنه الوطء وقد قيل يحد من قذف واحدا منهم لعموم الآية واتفقوا على اشتراط البراءة مما رمي به وأما الشهادة التي
59

تسقط حد القذف فهي أن يشهد شاهدان عدلان بأن المقذوف عبدا أو كافرا ويشهد أربعة شهود ذكور عدول على المعاينة لما قذف به كالمرود في المكحلة ويؤدون الشهادة مجتمعين * (إلا الذين تابوا) * تقدم قبل هذا الاستثناء ثلاثة أحكام وهي الحد ورد شهادة القاذف وتفسيقه فاتفق على أن الاستثناء راجع إلى التفسيق وأن ذلك يزول عنه بالتوبة واتفق على أنه لا يرجع إلى الحد وأنه لا يسقط عنه بالتوبة واختلف هل يرجع إلى رد الشهادة أم لا فقال مالك إذا تاب قبلت شهادته خلافا لأبي حنيفة وتوبته هو صلاح حاله في دينه وقيل إكذاب نفسه * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) * هذه الآية في قذف الرجل لامرأته فيجب اللعان بذلك وسببها أن رجلا قال يا رسول الله الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع فسكت عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم عاد فقال مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فأتني بها فتلاعنا وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وموجب اللعان عند مالك شيئان أحدهما أن يدعي الزوج أنه رأى امرأته تزني والآخر أن ينفي حملها ويدعي الاستبراء قبله فإا تلاعن الزوج تعلقت به ثلاثة أحكام نفي حد القذف عنه وانتفاء سبب الولد منه ووجوب حد الزنا عليها إن لم تلاعن فإن تلاعنت سقط الحد عنها ولفظ الآية عام في الزوجات الحرائر والمماليك والمسلمات والكافرات والعدول وغيرهم وبذلك أخذ مالك واشترط في الزوج الإسلام واشترط أبو حنيفة أن يكونا مسلمين حرين عدلين * (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) * أي يقول الزوج أربع مرات أشهد بالله لقد رأيت هذه المرأة تزني أو أشهد بالله ما هذا الحمل مني ولقد زنت وإني في ذلك لمن الصادقين ثم يقول في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وزاد أشهب أن يقول أشهد بالله الذي لا إله إلا هو وانتصب أربع شهادات بالله على المصدرية والعامل فيه شهادة أحدهم وقرئ بالرفع وهو خبر شهادة أحدهم وقوله بالله وإنه لمن الصادقين من صلة أربع شهادات أو من صلة شهادة أحدهم * (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) * قرئ بنصب الخامسة هنا وفي الموضع الثاني وانتصب بفعل مضمر تقديره ويشهد الخامسة أو بالعطف على أربع شهادات على قراءة النصب وقرئ بالرفع على الابتداء أو عطف على أربع شهادات بقراءة الرفع وقرئ أن لعنة وأن غضب بتشديد أن ونصب اسمها وتخفيفها ورفع اللعنة والغضب على الابتداء * (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين) * العذاب هنا حد الزنا أي يدفعه التعان المرأة وهي أن تقول أربع مرات اشهد بالله ما زنيت وإنه في ذلك لمن الكاذبين ثم تقول في الخامسة غضب الله عليها إن كان من الصادقين ويتعلق بالتعانها ثلاثة أحكام دفع الحد عنها والتفريق بينها وبين زوجها وتأبيد الحرمة * (ولولا فضل الله) * جواب لو محذوف هنا
60

وفي الموضع الآخر تقديره لولا فضل الله عليكم لآخذكم أو نحو هذا " إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم " الإفك أشد الكذب ونزلت هذه الآية وما بعدها إلى تمام ستة عشر آية في شأن سيدتنا عائشة رضي الله عنها وفي براءتها مما رماها به أهل الإفك وذلك أن الله برأ أربعة بأربعة برأ يوسف بشهادة الشاهد من أهلها وبرأ موسى من
قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه وبرأ مريم بكلام ولدها في حجرها وبرأ عائشة من الإفك بإنزال القرآن في شأنها ولقد تضمنت هذه الآيات الغاية القصوى في الاعتناء بها والكرامة لها والتشديد على من قذفها وقد خرج حديث الإفك البخاري ومسلم وغيرهما واختصاره أن عائشة خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فضاع لها عقد فتأخرت على التماسه حتى رحل الناس فجاء رجل يقال له صفوان بن المعطل فرآها فنزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة وأخذ يقودها حتى بلغ الجيش فقال أهل الإفك في ذلك ما قالوا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما بال رجال رموا أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وسأل جارية عائشة فقالت والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين ولم يذكر في الحديث من أهل الإفك إلا أربعة وهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وخمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وقيل إن حسانا لم يكن منهم وارتفاع عصبة لأنه خبر إن واختار ابن عطية أن يكون عصبة بدلا من الضمير في جاؤوا ويكون الخبر لا تحسبوه شرا لكم على تقدير إن حديث الذين جاؤوا بالإفك والأول أظهر * (بل هو خير لكم) * خطاب المسلمين والخير في ذلك من خمسة أوجه تبرئة أم المؤمنين وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها والأجر الجزيل لها في الفرية عليها وموعظة المؤمنين والانتقام من المفترين * (والذي تولى كبره) * هو عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق وقيل الذي بدأ بهذه الفرية غير معين والعذاب العظيم هنا يحتمل أن يراد به الحد أو عذاب الآخرة * (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) * لولا هنا عرض والمعنى أنه كان ينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يقيسوا ذلك الأمر على أنفسهم فإن كان ذلك يبعد في حقهم فهو في حق عائشة أبعد لفضلها وروى أن هذا النظر وقع لأبي أيوب الأنصاري فقال لزوجته أكنت أنت تفعلين ذلك قالت لا والله قال فعائشة أفضل منك قالت نعم فإن قيل لم قال سمعتموه بلفظ الخطاب ثم عدل إلى لفظ الغيبة في قوله ظن المؤمنون ولم يقل ظننتم فالجواب أن ذلك التفات قصد به المبالغة والتصريح بالإيمان الذي يوجب أن لا يصدق المؤمن على المؤمن شرا " لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء " لولا هنا عرض والضمير في جاءوا لأهل الإفك ثم حكم الله بكذبهم إذ لم يأتوا بالشهداء * (أفضتم فيه) * يقال أفاض في الحديث وخاض فيه إذا أكثر الكلام فيه * (إذ تلقونه بألسنتكم) * العامل في إذ قوله مسكم أو أفضتم ومعنى تلقونه يأخذه بعضكم من بعض وفي هذا الكلام وفي الذي قبله وبعده عتاب لهم على خوضهم
61

في حديث الإفك وإن كانوا لم يصدقوه فإن الواجب كان الإغضاء عن ذكره والترك له بالكلية فعاتبهم على ثلاثة أشياء وهي تلقيه بالألسنة أي السؤال عنه وأخذه من المسؤول والثاني قولهم ذلك والثالث أنهم حسبوه هينا وهو عند الله عظيم وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإشارة إلى أن ذلك الحديث كان باللسان دون القلب إذ كانوا لم يعلموا حقيقته بقلوبهم * (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) * أي كان الواجب أن يبادروا إلى إنكار هذا الحديث أول سماعهم له ولولا أيضا في هذه الآية عرض وكان حقها أن يليها الفعل من غير فاصل بينهما ولكنه فصل بينهما بقوله إذ سمعتموه لأن الظروف يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها والقصد بتقديم هذا الظرف الاعتناء به وبيان أنه كان الواجب المبادرة إلى إنكار الكلام في أول وقت سمعتموه ومعنى ما يكون لنا ما ينبغي لنا ولا يحل لنا أن نتكلم بهذا * (سبحانك) * تنزيه لله عن أن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال أهل الإفك وقال الزمخشري هو بمعنى التعجب من عظيم الأمر والاستبعاد له والأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجائب * (بهتان عظيم) * البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه والغيبة أن يقال ما فيه * (أن تعودوا لمثله) * تقديره يعظكم كراهة أن تعودوا لمثله ثم عظم الأمر وأكده بقوله إن كنتم مؤمنين * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) * الإشارة بذلك إلى المنافقين الذين أحبوا أن يشيع حديث الإفك ثم هو عام في غيرهم ممن اتصف بصفتهم والعذاب في الدنيا الحد وأما عذاب الآخرة فقد ورد في الحديث أن من عوقب في الدنيا على ذنب لم يعاقب عليه في الآخرة فأشكل اجتماع الحد مع عذاب الآخرة في هذا الموضع فيحتمل أن يكون القاذف يعذب في الآخرة ولا يسقط الحد عنه عذاب الآخرة بخلاف سائر الحدود أو يكون هذا مختصا بمن قذف عائشة فإنه روى عن ابن عباس أنه قال من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة أو يكون لمن مات مصرا غير تائب أو يكون للمنافقين * (خطوات الشيطان) * ذكر في البقرة * (الفحشاء والمنكر) * ذكر في النحل * (زكي) * أي تطهر من الذنوب وصلح دينه * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى) * معنى يأتل يحلف فهو من قولك آليت إذا حلفت وقيل معناه يقصر فهو من قولك
62

ألوت أي قصرت ومنه لا يألونكم خبالا والفضل هنا يحتمل أن يريد به الفضل في الدين أو الفضل في المال وهو أن يفضل له عن مقدار ما يكفيه والسعة هي اتساع المال ونزلت الآية بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح لما تكلم في حديث الإفك وكان ينفق عليه لمسكنته ولأنه قريبه وكان ابن بنت خالته فلما نزلت الآية رجع إلى مسطح النفقة والإحسان وكفر عن يمينه قال بعضهم هذه أرجى آية في القرآن لأن الله أوصى بالإحسان إلى القاذف ثم إن لفظ الآية على عمومه في أن لا يحلف أحد على ترك عمل صالح * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) * أي كما تحبون أن يغفر الله لكم كذلك اغفروا أنتم لمن أساء إليكم ولما نزلت قال أبو بكر رضي الله عنه إني لأحب أن يغفر الله لي ثم رد النفقة إلى مسطح * (المحصنات الغافلات) * معنى المحصنات هنا العفائف ذوات الصون ومعنى الغافلات السليمات الصدور فهو من الغفلة عن الشر * (لعنوا في الدنيا والآخرة) * هذا الوعيد للقاذفين لعائشة ولذلك لم يذكر فيه توبة قال ابن عباس كل مذنب تقبل توبته إذا تاب إلا من خاض في حديث عائشة وقيل الوعيد لكل قاذف والعذاب العظيم يحتمل أن يريد به الحد أو عذاب الآخرة * (يوم تشهد) * العامل فيه يوفيهم وكرر يومئذ توكيدا وقيل العامل فيه عذاب أو فعل مضمر * (دينهم الحق) * أي جزاؤهم الواجب لهم * (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) * هذه الآية تدل على أن ما قبلها في المنافقين لأن المؤمن قد علم في الدنيا أن الله هو الحق المبين ومعنى المبين الظاهر الذي لا شك فيه * (الخبيثات للخبيثين) * الآية معناها أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال وأن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال ففي ذلك رد على أهل الإفك لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أطيب الطيبين فزوجته أطيب الطيبات وقيل المعنى أن الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس والطيبات من الأعمال للطيبين من الناس ففيه أيضا رد على أهل الإفك وقيل معناه أن الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس والإشارة بذلك
إلى أهل الإفك أي أن أقوالهم الخبيثة لا يقولها إلا خبيث مثلهم " أولئك مبرؤن مما يقولون " الإشارة بأولئك إلى الطيبين والطيبات والضمير في يقولون للخبيثات والخبيثين والمراد تبرئة عائشة رضي الله عنها مما رميت به * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) * هذه الآية أمر بالاستئذان في غير بيت الداخل فيعم بذلك بيوت الأقارب وغيرهم وقد جاء في الحديث الأمر بالاستئذان على الأم خيفة أن يراها عريانة ومعنى تستأنسوا تستأذنوا وهو مأخوذ من قولك آنست الشيء إذا علمته فالاستئناس أن يستعلم هل يريد أهل الدار الدخول أم لا وقيل هو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة وقرأ ابن عباس حتى تستأذنوا والاستئذان واجب وأما السلام فلا ينتهي إلى الوجوب واختلف
63

أيهما يقدم فقيل يقدم السلام ثم يستأذن فيقول السلام عليكم ثم يقول أأدخل وقيل يقدم الاستئذان لتقديمه في الآية وليس في الآية عدد الاستئذان وجاء في الحديث أن يستأذن ثلاث مرات وهو تفسير للآية * (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم) * سبب هذه الآية أنه لما نزلت آية الاستئذان تعمق قوم فكانوا يأتون المواضع غير المسكونة فيسلمون ويستأذنون فأباحت هذه الآية دخولها بغير استئذان واختلف في البيوت غير المسكونة في هذه الآية فقيل هي الفنادق التي في الطرق ولا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل والمتاع على هذا التمتع بالنزول فيها والمبيت وغير ذلك وقيل هي الخرب التي تدخل للبول والغائط والمتاع على هذا حاجة الإنسان وقيل هي حوانيت القيسارية والمتاع على هذا الثياب والبسط وشبهها وهذا القول خطأ لأن الاستئذان في الحوانيت واجب بإجماع * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) * إعرابها كإعراب يقيموا الصلاة في إبراهيم وقد ذكر ومن أبصارهم للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل وقيل معنى التبعيض فيه أن النظرة الأولى لا حرج بها ويمنع ما بعدها وأجاز الأخفش أن تكون من زائدة وقيل هي لابتداء الغاية لأن البصر مفتاح القلب والغض المأمور به هو عن النظر إلى العورة أو إلى ما لا يحل من النساء أو إلى كتب الغير وشبه ذلك مما يستر وحفظ الفروج المأمور به هو عن الزنا وقيل أراد ستر العورة والأظهر أن الجميع مراد " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهمن " تؤمر المرأة بغض بصرها عن عورة الرجل وعن عورة المرأة إجماعا واختلف هل يجب عليها غض بصرها عن سائر جسد الرجل الأجنبي أم لا وعن سائر جسد المرأة أم لا فعلى القول بذلك تشتمل الآية عليه والكلام في حفظ فروج النساء كحفظ فروج الرجال * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) * نهى عن إظهار الزينة بالجملة ثم استثنى الظاهر منها وهو ما لا بد من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك فقيل إلا ما ظهر منها يعني الثياب فعلى هذا يجب ستر جميع جسدها وقيل الثياب والوجه والكفان وهذا مذهب مالك لأنه أباح كشف وجهها وكفيها في الصلاة وزاد أبو حنيفة القدمين * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) * الجيوب هي التي يقول لها العامة أطواق وسببها أن النساء كن في ذلك الزمان يلبسن ثيابا واسعات الجيوب يظهر منها صدورهن وكن إذا غطين رؤسهن بالأخمرة سدلها من وراء الظهر فيبقى الصدر والعنق والأذنان لا ستر عليها فأمرهن الله بلي الأخمرة على الجيوب ليستر جميع ذلك * (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن) * الآية المراد بالزينة هنا الباطنة فلما
64

ذكر في الآية قبلها ما أباح أن يراه غير ذوي المحرم من الزينة الظاهرة وذكر في هذه ما أباح أن يراه الزوج وذوي المحارم من الزينة الباطنة وبدأ بالبعولة وهم الأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا ثم ثنى بذوي المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكن مراتبهم تختلف بحسب القرب والمراد بالآباء كل من له ولادة من والد وجد وبالأبناء كل من عليه ولادة من ولد وولد ولد ولم يذكر في هذه الآية من ذوي المحارم العم والخال ومذهب جمهور العلماء جواز رؤيتهما للمرأة لأنهما من ذوي المحارم وكره ذلك قوم وقال الشافعي إنما لم يذكر العم والخال لئلا يصفا زينة المرأة لأولادهما * (أو نسائهن) * يعني جميع المؤمنات فكأنه قال أو صنفهن ويخرج عن ذلك نساء الكفار * (أو ما ملكت أيمانهن) * يدخل في ذلك الإماء المسلمات والكتابيات وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال منع رؤيتهم لسيدتهم وهو قول الشافعي والجواز وهو قول ابن عباس وعائشة والجواز بشرط أن يكون العبد وغدا وهو مذهب مالك وإنما أخذ جوازه من قوله أو التابعين غير أولي الإربة واختلف هل يجوز أن يراها عبد زوجها وعبد الأجنبي أم لا على قولين * (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال) * شرط في رؤية غير ذوي المحارم شرطين أحدهما أن يكونا تابعين ومعناه أن يتبع لشيء يعطاه كالوكيل والمتصرف ولذلك قال بعضهم هو الذي يتبعك وهمته بطنه والآخر أن لا يكون لهم إربة في النساء كالخصي والمخنث والشيخ الهرم والأحمق فلا يجوز رؤيتهم للنساء إلا باجتماع الشرطين وقيل بأحدهما ومعنى الإربة الحاجة إلى الوطء * (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) * أراد بالطفل الجنس ولذلك وصفه بالجمع ويقال طفل ما لم يراهق الحلم ويظهروا معناه يطلعون بالوطء على عورات النساء فمعناه الذين لم يطؤا النساء وقيل الذين لا يدرون ما عورات النساء وهذا أحسن * (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) * روي أن امرأة كان لها خلخالان فكانت تضرب بهما ليسمعهما الرجال فنهى الله عز وجل عن ذلك قال الزجاج إسماع صوت الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها * (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) * التوبة واجبة على كل مؤمن مكلف بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة وفرائضها ثلاثة الندم على الذنب من حيث عصى به ذو الجلال لا من حيث أضر ببدن أو مال والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا توان والعزم أن لا يعود إليها أبدا ومهما قضى عليه بالعود أحدث عزما مجددا وآدابها ثلاثة الاعتراف بالذنب مقرونا بالانكسار والإكثار من التضرع والاستغفار والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من السيئات ومراتبها سبع فتوبة الكفار من الكفر وتوبة المخلطين من الذنوب والكبائر وتوبة العدول من الصغائر وتوبة العابدين من الفترات وتوبة السالكين من علل القلوب والآفات وتوبة أهل الورع من الشبهات وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات والبواعث على التوبة سبعة خوف العقاب ورجاء الثواب والخجل
65

من الحساب ومحبة الحبيب ومراقبة الرقيب القريب وتعظيم بالمقام وشكر الإنعام * (وأنكحوا الأيامى منكم) * الأيامى جمع أيم ومعناه الذين لا أزواج لهم رجالا كانوا أو نساء أبكارا أو ثيبات والخطاب هنا للأولياء والحكام أمرهم الله بتزويج الأيامى فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن من التزويج وفي الآية دليل على عدم استقلال النساء بالإنكاح واشتراط الولاية فيه وهو مذهب مالك والشافعي خلافا لأبي حنيفة * (والصالحين من عبادكم وإمائكم) * يعني الذين يصلحون للتزويج من ذكور العبيد وإناثهم
وقال الزمخشري الصالحين بمعنى الصلاح في الدين قال وإنما خصهم الله بالذكر ليحفظ عليهم صلاحهم والمخاطبون هنا ساداتهم ومذهب الشافعي أن السيد يجبر على تزويج عبيده على هذه الآية خلافا لمالك ومذهب مالك أن السيد يجبر عبده وأمته على النكاح خلافا للشافعي * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) * وعد الله بالغنى للفقراء الذين يتزوجون لطلب رضا الله ولذلك قال ابن مسعود التمسوا الغنى في النكاح * (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) * أمر بالاستعفاف وهو الاجتهاد في طلب العفة من الحرام لمن لا يقدر على التزوج فقوله لا يجدون نكاحا معناه لا يجدون استطاعة على التزوج بأي وجه تعذر التزوج وقيل معناه لا يجدون صداقا للنكاح والمعنى الأول أعم والثاني أليق بقوله حتى يغنيهم الله من فضله * (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم) * الكتاب هنا مصدر بمعنى الكتابة وهي مقاطعة العبد على مال منجم فإذا أداه خرج حرا وإن عجز بقي رقيقا وقيل إن الآية نزلت بسبب حويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه وحكمها مع ذلك عام فأمر الله سادات العبيد أن يكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة وهذا الأمر على الندب عند مالك والجمهور وقال الظاهرية وغيرهم هو على الوجوب وذلك ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنس بن مالك حين سأله مملوكه سيرين الكتابة فتلكأ أنس فقال له عمر لتكاتبنه أو لأوجعنك بالدرة وإنما حمله مالك على الندب لأن الكتابة كالبيع فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها واختلف هل يجبر السيد عبده على الكتابة أم لا على قولين في المذهب * (إن علمتم فيهم خيرا) * الخير هنا القوة على أداء الكتابة بأي وجه كان وقيل هو المال الذي يؤدي منه كتابته من غير أن يسأل أموال الناس وقيل هو الصلاح في الدين * (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) * هذا أمر بإعانة المكاتب على كتابته واختلف فيمن المخاطب بذلك فقيل هو خطاب للناس أجمعين وقيل للولاة والأمر على هذين القولين للندب وقيل هو خطاب لسادات المكاتبين وهو على هذا القول ندب عند مالك ووجوب عند الشافعي فإن كان الأمر للناس فالمعنى أن يعطوهم صدقات من أموالهم وإن كان للولاة فيعطوهم من الزكاة وإن كان للسادات فيحطوا عنهم من كتابتهم وقيل يعطوهم من أموالهم من غير الكتابة وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يحط فقيل الربع وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
66

وقيل الثلث وقال مالك والشافعي لا حد في ذلك بل أقل ما ينطلق عليه اسم شيء إلا أن الشافعي يجبره على ذلك ولا يجبره مالك وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك وقيل في أول نجم * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) * معنى البغاء الزنا نهى الله المسلمين أن يجبروا مملوكاتهم على ذلك وسبب الآية أن عبد الله ابن أبي ابن سلول المنافق كان له جاريتان فكان يأمرهما بالزنا للكسب منه وللولادة ويضربهما على ذلك فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل مثل فعله * (إن أردن تحصنا) * هذا الشرط راجع إلى إكراه الفتيات على الزنا إذ لا يتصور إكراههن إلا إذا أردن التحصن وهو التعفف وقيل هو راجع إلى قوله وأنكحوا الأيامى وذلك بعيد * (لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) * يعني ما تكسبه الأمة بفرجها وما تلده من الزنا ويتعلق لتبتغوا بقوله لا تكرهوا * (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) * المعنى غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنا لأنهن أكرهن عليه ويحتمل أن يكون المعنى غفور رحيم للسيد الذي يكرههن إذا تاب من ذلك * (آيات مبينات) * بفتح الياء أي بينها الله وبالكسر مبينات للأحكام والحلال والحرام * (ومثلا) * يعني ضرب لكم الأمثال بمن كان قبلكم في تحريم الزنا لأنه كان حراما في كل ملة أو في براءة عائشة كما برأ يوسف ومريم * (الله نور السماوات والأرض) * النور يطلق حقيقة على الضوء الذي يدرك بالأبصار ومجازا على المعاني التي تدرك بالقلوب والله ليس كمثله شيء فتأويل الآية الله ذو نور السماوات والأرض ووصف نفسه بأنه نور كما تقول زيد كرم إذا أردت المبالغة في أنه كريم فإن أراد بالنور المدرك بالأبصار فمعنى نور السماوات والأرض أنه خلق النور الذي فيهما من الشمس والقمر والنجوم أو أنه خلقهما وأخرجهما من العدم إلى الوجود فإنما ظهرت به كما تظهر الأشياء بالضوء ومن هذا المعنى قرأ علي بن أبي طالب الله نور السماوات والأرض بفتح النون والواو والراء وتشديد الواو أي جعل فيهما النور وإن أراد بالنور المدرك بالقلوب فمعنى نور السماوات والأرض جاعل النور في قلوب أهل السماوات والأرض ولهذا قال ابن عباس معناه هادي أهل السماوات والأرض * (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) * المشكاة هي الكوة غير النافذة تكون في الحائط ويكون المصباح فيها شديد الإضاءة وقيل المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه والأول أصح وأشهر والمعنى صفة نور الله في وضوحه كصفة مشكاة فيها مصباح على أعظم ما يتصوره البشر من الإضاءة والإنارة وإنما شبه بالمشكاة وإن كان نور الله أعظم لأن ذلك غاية ما يدركه الناس من الأنوار فضرب المثل لهم بما يصلون إلى إدراكه وقيل الضمير في نوره عائد على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل على القرآن وقيل على المؤمن وهذه الأقوال ضعيفة لأنه لم يتقدم ما يعود عليه الضمير فإن قيل كيف يصح أن يقال الله نور السماوات والأرض فأخبر أنه هو النور ثم أضاف النور إليه في قوله مثل نوره والمضاف عين المضاف إليه فالجواب أن ذلك يصح مع التأويل الذي قدمناه أي الله ذو نور السماوات والأرض أو كما تقول زيد كرم ثم تقول ينعش الناس بكرمه
67

* (المصباح في زجاجة) * المصباح هو الفتيل بناره والمعنى أنه في قنديل من زجاج لأن الضوء فيه أزهر لأنه جسم شفاف * (الزجاجة كأنها كوكب دري) * شبه الزجاجة في إنارتها بكوكب دري وذلك يحتمل معنيين إما أن يريد أنها تضيء بالمصباح الذي فيها وإما أن يريد أنها في نفسها شديدة الضوء لصفائها ورقة جوهرها وهذا أبلغ لاجتماع نورها مع نور المصباح والمراد بالكوكب الدري أحد الدراري المضيئة كالمشتري والزهرة وسهيل ونحوها وقيل أراد الزهرة ولا دليل على هذا التخصيص وقرأ نافع دري بضم الدال وتشديد الياء بغير همزة ولهذه القراءة وجهان إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه أو يكون مسهلا من الهمز وقرئ بالهمز وكسر الدال وبالهمز وضم الدال وهو مشتق من الدرء بمعنى الدفع * (يوقد من شجرة مباركة زيتونة) * من قرأ يوقد بالياء أو توقد بالفعل الماضي فالفعل مسند إلى المصباح ومن قرأ توقد بالتاء والفعل المضارع فهو مسنج إلى الزجاجة والمعنى توقد من زيت شجرة مباركة ووصفها بالبركة لكثرة منافعها أو لأنها تنبت في الأرض المباركة وهي الشام * (لا شرقية ولا غربية) * قيل يعني أنها بالشام فليست من شرق الأرض ولا من غربها وأجود الزيتون زيتون الشام وقيل هي منكشفة تصيبها الشمس طول
النهار فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية بل هي غربية شرقية لأن الشمس تستدير عليها من الشرق والغرب وقيل إنها في وسط دوحة لا في جهة الشرق من الدوحة ولا في جهة الغرب وقيل إنها من شجرة الجنة ولو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " مبالغة في وصف صفاته وحسنه * (نور على نور) * يعني اجتماع نور المصباح وحسن الزجاجة وطيب الزيت والمراد بذلك كمال النور الممثل به * (يهدي الله لنوره من يشاء) * أي يوفق الله من يشاء لإصابة الحق * (في بيوت) * يعني المساجد وقيل بيوت أهل الإيمان من مساجد أو مساكن والأول أصح والجار يتعلق بما قبله أي كمشكاة في بيوت أو توقد في بيوت وقيل بما بعده وهو يسبح وكرر الجار بعد ذلك تأكيدا وقيل بمحذوف أي سبحوا في بيوت أذن الله أن ترفع والمراد بالإذن الأمر ورفعها بناؤها وقيل تعظيمها * (بالغدو والآصال) * أي غدوة وعشية وقيل أراد الصبح والعصر وقيل صلاة الضحى والعصر * (رجال) * فاعل يسبح على القراءة بكسر الباء وأما على القراءة بالفتح فهو مرفوع بفعل مضمر يدل عليه الأول * (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) * أي لا تشغلهم ونزلت الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها والبيع من التجارة ولكنه خصه بالذكر تجريدا كقوله فاكهة ونخل ورمان أو أراد بالتجارة الشراء * (تتقلب فيه القلوب والأبصار) * أي تضطرب
68

من شدة الهول والخوف وقيل تفقه القلوب وتبصر الأبصار بعد العمى لأن الحقائق تنكشف حينئذ والأول أصح كقوله وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وفي قوله تتقلب فيه القلوب تجنيس * (ليجزيهم الله) * متعلق بما قبله أو بفعل من معنى ما قبله * (أحسن ما عملوا) * تقديره جزاء أحسن ما عملوا * (ويزيدهم من فضله) * يعني زيادة على ثواب أعمالهم * (بغير حساب) * ذكر في البقرة * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) * لما ذكر الله حال المؤمنين أعقب ذلك بمثالين لأعمال الكافرين الأول يقتضي حال أعمالهم في الآخرة وأنها لا تنفعهم بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب والثاني يقتضي حال أعمالهم في الدنيا وأنها في غاية الفساد والضلال كالظلمات التي بعضها فوق بعض والسراب هو ما يرى في الفلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وجه الأرض والقيعة جمع قاع وهو المنبسط من الأرض وقيل بمعنى القاع وليس بجمع * (يحسبه الظمآن ماء) * الظمآن العطشان أي يظن العطشان أن السراب ماء فيأتيه ليشربه فإذا جاء خاب ما أمل وبطل ما ظن وكذلك الكافر يظن أن أعماله تنفعه فإذا كان يوم القيامة لم تنفعه فهي كالسراب * (حتى إذا جاءه) * ضمير الفاعل للظمآن وضمير المفعول للسراب أو ضمير الفاعل للكافر وضمير المفعول لعمله * (لم يجده شيئا) * أي شيئا ينتفع به أو شيئا موجودا على العموم لأنه معدوم ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل للظمآن وضمير المفعول للسراب أو ضمير الفاعل للكافر وضمير المفعول لعمله * (ووجد الله عنده) * ضمير الفاعل في وجد للكافر والضمير في عنده لعمله والمعنى وجد الله عنده بالجزاء أو وجد زبانية الله * (أو كظلمات) * هذا هو المثال الثاني وهو عطف على قوله كسراب والمشبه بالظلمات أعمال الكافر أي هم من الضلال والحيرة في مثل الظلمات المجتمعة من ظلمة البحر تحت الموج تحت السحاب * (في بحر لجي) * منسوب إلى اللج وهو معظم الماء وذهب بعضهم إلى أن أجزاء هذا المثال قوبلت به أجزاء الممثل به فالظلمات أعمال الكافر والبحر اللجي صدره والموج جهله والسحاب الغطاء الذي على قلبه وذهب بعضهم إلى أنه تمثيل بالجملة من غير مقابلة وفي وصف هذه الظلمات بهذه الأوصاف مبالغة كما أن وصف النور المذكور قبلها مبالغة * (إذا أخرج يده لم يكد يراها) * المعنى مبالغة في وصف الظلمة والضمير في أخرج وما بعده للرجل الذي وقع في الظلمات الموصوفة واختلف في تأويل الكلام فقيل المعنى إذا أخرج يده لم يقارب رؤيتها فنفى الرؤية ومقاربتها وقيل بل رآها بعد عسر وشدة لأن كاد إذا نفيت تقتضي الإيجاب وإذا أوجبت تقتضي النفي وقال ابن عطية إنما ذلك إذا دخل حرف النفي على الفعل الذي بعدها فأما إذا دخل حرف النفي على كاد كقوله لم يكد فإنه يحتمل النفي والإيجاب * (ومن لم يجعل الله له نورا) * أي من لم يهده الله لم يهتد فالنور كناية عن الهدى والإيمان في الدنيا وقيل أراد في الآخرة أي من لم يرحمه الله فلا رحمة له والأول أليق بما قبله " ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات ومن في الأرض " الرؤية هنا بمعنى العلم والتسبيح التنزيه والتعظيم وهو من العقلاء بالنطق وأما تسبيح الطير وغيرها مما لا يعقل فقال الجمهور إنه حقيقي ولا يبعد أن
69

يلهمها الله التسبيح كما يلهمها الأمور الدقيقة التي لا يهتدي إليها العقلاء وقيل تسبيحه ظهور الحكمة فيه * (صافات) * يصففن أجنحتهن في الهواء * (كل قد علم) * الضمير في علم لله أو لكل والضمير في صلاته وتسبيحه لكل * (يزجي) * معناه يسوق والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل كالسحاب * (ركاما) * متكاثف بعضه فوق بعض * (الودق) * المطر * (من خلاله) * أي من بينه وهو جمع خلل كجبل وجبال * (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) * قيل إن الجبال هنا حقيقة وأن الله جعل في السماء جبالا من برد وقيل إنه مجاز كقولك عند فلان جبال من مال أو علم أي هي في الكثرة كالجبال ومن في قوله من السماء لابتداء الغاية وفي قوله من جبال كذلك وهي بدل من الأولى وتكون للتبعيض فتكون مفعول ينزل ومن في قوله من برد لبيان الجنس أو للتبعيض فتكون مفعول ينزل وقال الأخفش هي زائدة وذلك ضعيف وقوله فيها صفة للجبال والضمير يعود على السماء * (سنا برقه) * السنا بالقصر الضوء وبالمد المجد والشرف * (يقلب الله الليل والنهار) * أي يأتي بهذا بعد هذا * (خلق كل دابة) * يعني بني آدم والبهائم والطير لأن ذلك كله يدب * (من ماء) * يعني المني وقيل الماء الذي في الطين الذي خلق منه آدم وغيره * (على بطنه) * كالحيات والحوت * (ويقولون آمنا) * الآية نزلت في المنافقين وسببها أن رجلا من المنافقين كانت بينه وبين يهودي خصومة فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ودعاه إلى كعب بن الأشرف * (مذعنين) * أي منقادين طائعين لقصد الوصول إلى حقوقهم * (أفي قلوبهم مرض) * توقيف يراد به التوبيخ وكذلك ما بعده * (أن يحيف) * معناه أن يجور والحيف الميل وأسنده إلى الله لأن الرسول إنما يحكم بأمر الله وشرعه * (إنما كان قول المؤمنين) * الآية معناها إنما الواجب أن يقول المؤمنون سمعنا وأطعنا إذا دعوا إلى الله ورسوله وجعل الدعاء إلى الله من حيث هو إلى شرعه * (ومن يطع الله ورسوله) * الآية قال ابن عباس معناها من
70

يطع الله في فرائضه ورسوله في سنته " ويخشى الله " فيما مضى من ذنوبه * (ويتقه) * فيما يستقبل وسأل بعض الملوك عن آية كافية جامعة فذكرت له هذه الآية وسمعها بعض بطارقة الروم فأسلم وقال إنها جمعت كل ما في التوراة والإنجيل * (وأقسموا) * أي حلفوا والضمير للمنافقين * (جهد أيمانهم) * أي بالغوا في اليمين وأكدوها * (ليخرجن) * يعني إلى الغزو * (قل لا تقسموا) * نهى عن اليمين الكاذبة لأنه قد عرف أنهم يحلفون على الباطل * (طاعة معروفة) * مبتدأ وخبره محذوف أي طاعة معروفة أمثل وأولى بكم أو خبر مبتدأ محذوف أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا يشك فيها * (عليه ما حمل) * يعني تبليغ الرسالة * (وعليكم ما حملتم) * يعني السمع والطاعة واتباع الشريعة * (ليستخلفنهم في الأرض) * وعد ظهر صدقه بفتح مشارق الأرض ومغاربها لهذه الأمة وقيل إن المراد بالآية خلافة أبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلافة بعدي ثلاثون سنة وانتهت الثلاثون إلى آخر خلافة علي فإن قيل أين القسم الذي جاء قوله ليستخلفنهم جوابا له فالجواب أنه محذوف تقديره وعدهم الله وأقسم أو جعل الوعد بمنزلة القسم لتحققه * (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) * قيل المراد بالذين ملكت أيمانكم الرجال خاصة وقيل النساء خاصة لأن الرجال يستأذنون في كل وقت وقيل الرجال والنساء * (والذين لم يبلغوا الحلم) * يعني الأطفال غير البالغين * (ثلاث مرات) * نصب على الظرفية لأنهم أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن فمعنى الآية أن الله أمر المماليك والأطفال بالاستئذان في ثلاثة أوقات وهي قبل الصبح وحين القائلة وسط النهار وبعد صلاة العشاء الأخيرة لأن هذه الأوقات يكون الناس فيها متجردين للنوم في غالب أمرهم وهذه الآية محكمة وقال ابن عباس ترك الناس العمل بها وحملها بعضهم على الندب * (تضعون ثيابكم) * يعني تتجردون * (الظهيرة) * وسط النهار * (ثلاث عورات) * جمع عورة من الانكشاف كقوله بيوتنا عورة ومن رفع ثلاث فهو خبر ابتداء مضمر تقديره هذه الأوقات ثلاث عورات لكم أي تنكشفون فيها ومن نصبه فهو بدل من ثلاث مرات * (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن) * هذا الضمير المؤنث يعود على الأوقات المتقدمة أي ليس عليكم
71

ولا على المماليك والأطفال جناح في ترك الاستئذان في غير المواطن الثلاثة * (طوافون عليكم) * تقديره المماليك والأطفال طوافون عليكم فلذلك يؤمر بالاستئذان في كل وقت * (بعضكم على بعض) * بدل من طوافون أي بعضكم يطوف على بعض وقال الزمخشري هو مبتدأ أي بعضكم يطوف على بعض أو فاعل بفعل مضمر * (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا) * لما أمر الأطفال في الآية المتقدمة بالاستئذان في ثلاثة أوقات وأباح لهم الدخول بغير إذن في غيرها أمرهم هنا بالاستئذان في جميع الأوقات إذا بلغوا ولحقوا بالرجال * (والقواعد من النساء) * جمع قاعد وهي العجوز فقيل هي التي قعدت عن الولد وقيل التي قعدت عن التصرف وقيل التي إذا رأيتها استقذرتها * (فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن) * أباح الله لهذا الصنف من العجائز ما لم يبح لغيرهن من وضع الثياب قال ابن مسعود إنما أبيح لهن وضع الجلباب الذي فوق الخمار والرداء وقال بعضهم إنما ذلك في منزلها الذي يراها فيه ذوو محارمها * (غير متبرجات بزينة) * إنما أباح الله لهن وضع الثياب بشرط ألا يقصدن إظهار زينة والتبرج هو الظهور * (وأن يستعففن خير لهن) * المعنى أن الاستعفاف عن وضع الثياب المذكورة خير لهن من وضعها والأولى لهن أن يلتزمن ما يلتزم شباب النساء من الستر * (ليس على الأعمى حرج) * الآية اختلف في المعنى الذي رفع الله فيه الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في هذه الآية فقيل هو في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخيرهم عنه وقوله ولا على أنفسكم مقطوع من الذي قبله على هذا القول كأنه قال ليس على هؤلاء الثلاثة حرج في ترك الغزو ولا عليكم حرج في الأكل وقيل الآية كلها في معنى الأكل واختلف الذاهبون إلى ذلك فقيل إن أهل هذه الأعذار كانوا يتجنبون الأكل مع الناس لئلا يتقذرهم الناس فنزلت الآية مبيحة لهم الأكل مع الناس وقيل إن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو خلفوا أهل هذه الأعذار في بيوتهم وكانوا يتجنبون أكل مال الغائب فنزلت الآية في ذلك وقيل إن الناس كانوا يتجنبون الأكل معهم تقذرا فنزلت الآية وهذا ضعيف لأن رفع الحرج عن أهل الأعذار لا عن غيرهم وقيل إن رفع الحرج عن هؤلاء الثلاثة في كل ما تمنعهم عنه أعذارهم من الجهاد وغيره * (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) * أباح الله تعالى للإنسان الأكل في هذه البيوت المذكورة في الآية فبدأ ببيت الرجل نفسه ثم ذكر القرابة على ترتيبهم ولم يذكر فيهم الابن لأنه دخل في قوله من بيوتكم لأن بيت ابن الرجل بيته لقوله عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لأبيك واختلف العلماء فيما ذكر في هذه الآية من الأكل من بيوت القرابة فذهب قوم إلى أنه منسوخ وأنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه والناسخ قوله تعالى * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * وقوله عليه الصلاة والسلام لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه
72

وقيل الآية محكمة ومعناها إباحة الأكل من بيوت القرابة إذا أذنوا في ذلك وقيل بإذن وبغير إذن * (أو ما ملكتم مفاتحه) * يعني الوكلاء والأجراء والعبيد الذين يمسكون مفاتح مخازن أموال ساداتهم فأباح لهم الأكل منها وقيل المراد ما ملك الإنسان من مفاتح نفسه وهذا ضعيف * (أو صديقكم) * الصديق يقع على الواحد والجماعة كالعدو والمراد به هنا جمع ليناسب ما ذكر قبله من الجموع في قوله آبائكم وأمهاتكم وغير ذلك وقرن الله الصديق بالقرابة لقرب مودته وقال ابن عباس الصديق أوكد من القرابة * (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا) * إباحة للأكل في حال الاجتماع والانفراد لأن بعض العرب كان لا يأكل وحده أبدا خيفة من البخل فأباح لهم الله ذلك * (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) * أي إذا دخلتم بيوتا مسكونة فسلموا على من فيها من الناس وإنما قال على أنفسكم بمعنى صنفكم كقوله ولا تلمزوا أنفسكم وقيل المعنى إذا دخلتم بيوتا خالية فسلموا على أنفسكم بأن يقول الرجل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقيل يعني بالبيوت المساجد والأمر بالسلام على من فيها فإن لم يكن فيها أحد فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الملائكة وعلى عباد الله الصالحين * (وإذا كانوا معه على أمر جامع) * الآية الأمر الجامع هو ما يجمع الناس للمشورة فيه أو للتعاون عليه ونزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق بالمدينة فإن بعض المؤمنين كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان * (لبعض شأنهم) * أي لبعض حوائجهم * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) * في معناها ثلاثة أقوال الأول أن الدعاء هنا يراد به دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ليجتمعوا إليه في أمر جامع أو في قتال وشبه ذلك فالمعنى أن إجابتكم له إذا دعاكم واجبة عليكم بخلاف إذا دعا بعضكم بعضا فهو كقوله
تعالى * (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) * ويقوي هذا القول مناسبته لما قبله من الاستئذان والأمر الجامع والقول الثاني أن المعنى لا تدعوا الرسول عليه السلام باسمه كما يدعو بعضكم بعضا باسمه بل قولوا يا رسول الله أو يا نبي الله تعظيما ودعاء بأشرف أسمائه وقيل المعنى لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي دعاؤه عليكم يجاب فاحذروه ولفظ الآية بعيد من هذا المعنى على أن المعنى صحيح * (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا) * الذين ينصرفون عن حفر الخندق واللواذ الروغان والمخالفة وقيل الانصراف في خفية * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * الضمير لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واختلف في عن هنا
73

فقيل إنها زائدة وهذا ضعيف وقال ابن عطية معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول كان المطر عن ريح قال الزمخشري يقال خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه وخالفه عن الأمر إذا صد الناس عنه فمعنى يخالفون عن أمره يصدون الناس عنه فحذف المفعول لأن الغرض ذكر المخالف * (فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * الفتنة في الدنيا بالرزايا أو بالفضيحة أو القتل أو العذاب في الآخرة * (قد يعلم ما أنتم عليه) * دخلت قد للتأكيد وفي الكلام معنى الوعيد وقيل معناها التقليل على وجه التهكم والخطاب لجميع الخلق أو للمنافقين خاصة * (ويوم يرجعون إليه) * يعني المنافقين والعامل في الظرف بينهم
سورة الفرقان
* (تبارك) * من البركة وهو فعل مختص بالله تعالى لم ينطق له بالمضارع * (على عبده) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وذلك على وجه التشريف له والاختصاص * (ليكون للعالمين نذيرا) * الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم أو للقرآن والأول أظهر وقوله للعالمين عموم يشمل الجن والإنس ممن كان في عصره وممن يأتي بعده إلى يوم القيامة وتضمن صدر هذه السورة إثبات النبوة والتوحيد والرد على من خالف في ذلك * (فقدره تقديرا) * الخلق عبارة عن الإيجاد بعد العدم والتقدير عبارة عن إتقان الصنعة وتخصيص كل مخلوق بمقداره وصفته وزمانه ومكانه ومصلحته وأجله وغير ذلك * (واتخذوا) * الضمير لقريش وغيرهم ممن أشرك بالله تعالى * (وأعانه عليه قوم آخرون) * يعنون قوما من اليهود منهم عداس ويسار وأبو فكيهة الرومي " فقد جاؤوا ظلما وزورا " أي ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما نسبوا إليه وكذبوا في ذلك عليه * (وقالوا أساطير الأولين) * أي ما سطره الأولون في كتبهم وكان الذي يقول هذه المقالة النضر بن الحارث * (اكتتبها) * أي كتبها له كاتب ثم صارت تملى عليه ليحفظها وهذا حكاية كلام الكفار وقال الحسن إنها من قول الله على وجه الرد عليهم ولو كان ذلك لقال أكتتبها بفتح الهمزة لمعنى الإنكار
74

وقد يجوز حذف الهمزة في مثل هذا وينبغي على قول الحسن أن يوقف على أساطير الأولين * (قل أنزله الذي يعلم السر) * رد على الكفار في قولهم ويعني بالسر ما أسره الكفار من أقوالهم أو يكون ذلك على وجه التنصل والبراءة مما نسبه الكفار إليه من الافتراء أي أن الله يعلم سري فهو العالم بأني ما افتريت عليه بل هو أنزله علي فإن قيل ما مناسبة قوله إنه كان غفورا رحيما لما قبله فالجواب أنه لما ذكر أقوال الكفار أعقبها بذلك لبيان أنه غفور رحيم في كونه لم يعجل عليهم بالعقوبة بل أمهلهم وإن أسلموا تاب عليهم وغفر لهم " وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام " الآية قال هذا الكلام قريش طعنا على النبي صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عليهم بقوله وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وقولهم هذا الرسول على وجه التهكم كقول فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم أو يعنون الرسول بزعمه ثم ذكر ما اقترحوا من الأمور في قولهم لولا أنزل إليه ملك وما بعده ثم وصفهم بالظلم وقد ذكرنا معنى مسحورا في سبحان * (ضربوا لك الأمثال) * أي قالوا فيك تلك الأقوال * (فلا يستطيعون سبيلا) * أي لا يقدرون على الوصول إلى الحق لبعدهم عنه وإفراط جهلهم * (خيرا من ذلك) * الإشارة إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا * (جنات تجري من تحتها الأنهار) * يعني جنات الآخرة وقصورها وقيل يعني جنات وقصورا في الدنيا ولذلك قال إن شاء * (إذا رأتهم) * أي إذا رأتهم جهنم وهذه الرؤية يحتمل أن تكون حقيقة أو مجازا بمعنى صارت منهم بقدر ما يرى على البعد * (سمعوا لها تغيظا وزفيرا) * التغيظ لا يسمع وإنما المسموع وإنما المسموع أصوات دالة عليه ففي لفظه تجوز والزفير أول صوت الحمار * (مكانا ضيقا) * تضيق عليهم زيادة في عذابهم * (مقرنين) * أي مربوط بعضهم إلى بعض وروي أن ذلك بسلاسل من النار * (دعوا هنالك ثبورا) * الثبور الويل وقيل الهلاك ومعنى دعائهم ثبورا أنهم يقولون يا ثبوراه كقول القائل واحسرتاه وا أسفاه * (لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا) * تقديره يقال لهم ذلك أو يكون حالهم يقتضي ذلك وإن لم يكن ثم قول وإنما دعوا ثبورا كثيرا لأن عذابهم دائم فالثبور يتجدد عليهم في كل حين * (قل أذلك خير أم جنة الخلد) * إنما جاز هنا التفضيل بين الجنة والنار لأن الكلام توقيف وتوبيخ وإنما
75

يمنع التفضيل بين شيئين ليس بينهما اشتراك في المعنى إذا كان الكلام خبرا " وعدا مسؤولا " أي سأله المؤمنين أو الملائكة في قولهم وأدخلهم جنات عدن وقيل معناه وعدا واجب الوقوع لأنه حتمه * (فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء) * القائل لذلك هو الله عز وجل والمخاطب هم المعبودون مع الله على العموم وقيل الأصنام خاصة والأول أرجح لقوله ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون وقوله * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * * (أم هم ضلوا السبيل) * أم هنا معادلة لما قبلها والمعنى أن الله يقول يوم القيامة للمعبودين أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم باختيارهم ولم تضلوهم أنتم ولأجل ذلك بين هذا المعنى بقوله هم ليتحقق إسناد الضلال إليهم فإنما سألهم الله هذا السؤال مع علمه بالأمور ليوبخ الكفار الذين عبدوهم * (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) * القائلون لهذا هم المعبودون قالوه على وجه التبري ممن عبدهم كقولهم أنت ولينا من دونهم والمراد بذلك توبيخ الكفار يومئذ وإقامة الحجة عليهم * (ولكن متعتهم وآباءهم) * معناه أن إمتاعهم بالنعم في الدنيا كان سبب نسيانهم لذكر الله وعبادته * (قوما بورا) * أي هالكين وهو من البوار وهو الهلاك واختلف هل هو جمع بائر أو مصدر وصف به ولذلك يقع على الواحد والجماعة * (فقد كذبوكم بما تقولون) * هذا خطاب خاطب الله به المشركين يوم القيامة أي قد كذبكم آلهتكم التي عبدتم من دون الله وتبرؤا منكم وقيل هو خطاب للمعبودين أي كذبوكم في هذه المقالة لما عبدوكم في الدنيا وقيل هو خطاب للمسلمين أي قد كذبكم الكفار فيما تقولونه من التوحيد
والشريعة وقرئ بما يقولون بالياء من أسفل والباء في قوله بما تقولون على القراءة بالتاء بدل من الضمير في كذبوكم وعلى القراءة بالياء كقولك كتبت بالقلم أو كذبوكم بقولهم " فما يستطيعون صرفا ولا نصرا " قرىء فما تستطيعون بالتاء فوق ويحتمل على هذا أن يكون الخطاب للمشركين أو للمعبودين والصرف على هذين الوجهين صرف العذاب عنهم أو يكون الخطاب للمسلمين والصرف على هذا رد التكذيب وقرئ بالياء وهو مسند إلى المعبودين أو إلى المشركين والصرف صرف العذاب * (ومن يظلم منكم) * خطاب للكفار وقيل للمؤمنين وقيل على العموم * (وما أرسلنا قبلك من المرسلين) * تقديره وما أرسلنا رسلا أو رجالا قبلك وعلى هذا المفعول المحذوف يعود الضمير في قوله إلا أنهم ليأكلون الطعام وهذه الآية رد على الكفار في استبعادهم بعث رسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) * هذا خطاب لجميع الناس لاختلاف أحوالهم فالغنى فتنة للفقير
76

والصحيح فتنة للمريض والرسول فتنة لغيره ممن يحسده ويكفر به * (أتصبرون) * تقديره لننظر هل تصبرون * (لا يرجون لقاءنا) * قيل معناه لا يخافون والصحيح أنه على بابه لأن لقاء الله يرجى ويخاف * (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) * اقترح الكفار نزول الملائكة أو رؤية الله وحينئذ يؤمنون فرد الله عليهم بقوله لقد استكبروا الآية أي طلبوا ما لا ينبغي لهم أن يطلبوه وقوله في أنفسهم كما تقول فلان عظيم في نفسه أي عند نفسه أو بمعنى أنهم أضمروا الكفر في أنفسهم * (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) * لما طلبوا رؤية الملائكة أخبر الله أنهم لا بشرى لهم يوم يرونهم فالعامل في يوم معنى لا بشرى ويومئذ بدل * (ويقولون حجرا محجورا) * الضمير في يقولون إن كان للملائكة فالمعنى أنهم يقولون للمجرمين حجرا محجورا أي حرام عليكم الجنة أو البشرى وإن كان الضمير للمجرمين فالمعنى أنهم يقولون حجرا بمعنى عوذا لأن العرب كانت تتعوذ بهذه الكلمة مما تكره وانتصابه بفعل متروك إظهاره نحو معاذ الله * (وقدمنا إلى ما عملوا) * أي قصدنا إلى أفعالهم فلفظ القدوم مجاز وقيل هو قدوم الملائكة أسنده الله إلى نفسه لأنه عن أمره * (فجعلناه هباء منثورا) * عبارة عن عدم قبول ما عملوا من الحسنات كإطعام المساكين وصلة الأرحام وغير ذلك وأنها لا تنفعهم لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال والهباء هي الأجرام الدقيقة من الغبار التي لا تظهر إلا حين تدخل الشمس على موضع ضيق كالكوة والمنثور المتفرق * (خير مستقرا) * جاء هنا التفضيل بين الجنة والنار لأن هذا مستقر وهذا مستقر * (وأحسن مقيلا) * هو مفعل من النوم في القائلة وإن كانت الجنة لا نوم فيها ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة في الأمكنة الباردة وقيل إن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار * (ويوم تشقق السماء بالغمام) * هو يوم القيامة وانشقاق السماء انفطارها ومعنى بالغمام أي يخرج منها الغمام وهو السحاب الرقيق الأبيض وحينئذ تنزل الملائكة إلى الأرض * (ويوم يعض الظالم على يديه) * عض اليدين كناية عن الندم والحسرة والظالم هنا عقبة بن أبي معيط وقيل كل ظالم والظلم هنا الكفر * (مع الرسول) * هو محمد صلى الله عليه وسلم أو اسم جنس على العموم * (ليتني لم أتخذ فلانا خليلا) * روي أن عقبة جنح إلى الإسلام فنهاه أبي بن خلف وأمية بن خلف فهو فلان وقيل إن عقبة نهى أبي بن خلف عن الإسلام فالظالم على هذا أبي وفلان عقبة وإن كان الظالم على العموم ففلانا على العموم أي خليل كل
77

كافر * (وكان الشيطان للإنسان خذولا) * يحتمل أن يكون هذا من قول الظالم أو ابتداء إخبار من قول الله تعالى ويحتمل أن يريد بالشيطان إبليس أو الخليل المذكور * (وقال الرسول) * قيل إن هذا حكاية قوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وقيل في الآخرة * (مهجورا) * من الهجر بمعنى البعد والترك وقيل من الهجر بضم الهاء أي قالوا فيه الهجر حين قالوا إنه شعر وسحر والأول أظهر * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا) * العدو هنا جمع والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بغيره من الأنبياء * (وكفى بربك هاديا ونصيرا) * وعد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالهدى والنصرة * (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) * هذا من اعتراضات قريش لأنهم قالوا لو كان القرآن من عند الله لنزل جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل * (كذلك لنثبت به فؤادك) * هذا جواب لهم تقديره أنزلناه كذلك مفرقا لنثبت به فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم لحفظه ولو نزل جملة واحدة لتعذر عليه حفظه لأنه أمي لا يقرأ فحفظ المفرق عليه أسهل وأيضا فإنه نزل بأسباب مختلفة تقتضي أن ينزل كل جزء منه عند حدوث سببه وأيضا منه ناسخ ومنسوخ ولا يتأتى ذلك فيما ينزل جملة واحدة * (ورتلناه ترتيلا) * أي فرقناه تفريقا فإنه نزل بطول عشرين سنة وهذا الفعل معطوف على الفعل المقدر الذي يتعلق به كذلك وبه يتعلق لنثبت * (ولا يأتونك بمثل) * الآية معناها لا يوردون عليك سؤالا أو اعتراضا إلا أتيناك في جوابه بالحق والتفسير الحسن الذي يذهب اعتراضهم ويبطل شبهتهم * (الذين يحشرون على وجوههم) * يعني الكفار وحشرهم على وجوههم حقيقة لأنه جاء في الحديث قيل يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه قال أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادرا على أن يمشيه في الآخرة على وجهه * (شر مكانا) * يحتمل أن يريد بالمكان المنزلة والشرف أو الدار والمسكن في الآخرة * (وزيرا) * معينا * (إلى القوم) * يعني فرعون وقومه وفي الكلام حذف تقديره فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم * (كذبوا الرسل) * تأويله كما ذكر في قوله في هود فعصوا رسله * (وأعتدنا للظالمين) * يحتمل أن يريد بالظالمين من تقدم ووضع هذا الاسم الظاهر موضع المضمر لقصد وصفهم بالظلم أو يريد الظالمين على العموم * (وأصحاب الرس) * معنى الرس في اللغة البئر واختلف في أصحاب الرس فقيل هم من بقية ثمود وقيل من أهل اليمامة وقيل من أهل أنطاكية وهم أصحاب يس واختلف في قصتهم فقيل بعث الله إليهم نبيا فرموه في بئر فأهلكهم الله وقيل كانوا حول بئر لهم فانهارت بهم فهلكوا * (وقرونا بين ذلك كثيرا) * يقتضي التكثير
78

والإبهام والإشارة بذلك إلى المذكور قبل من الأمم * (ضربنا له الأمثال) * أي بينا له * (تبرنا) * أي أهلكنا * (ولقد أتوا على القرية) * الضمير في أتوا لقريش وغيرهم من الكفار والقرية قرية قوم لوط ومطر السوء الحجارة ثم وقفهم على رؤيتهم لها لأنها في طريقهم إلى الشام ثم أخبر أن سبب عدم اعتبارهم بها كفرهم بالنشور ويرجون كقوله يرجون لقاءنا وقد ذكر * (أهذا الذي) * حكاية قولهم على وجه الاستهزاء فالجملة في موضع مفعول لقول محذوف يدل عليه هذا وقوله * (إن كاد
ليضلنا) * استئناف جملة أخرى وتم كلامهم واستأنف كلام الله تعالى في قوله * (وسوف يعلمون) * الآية على وجه التهديد لهم * (اتخذ إلهه هواه) * أي أطاع هواه حتى صار كأنه له إله * (بل هم أضل) * لأن الأنعام ليس لها عقول وهؤلاء لهم عقول ضيعوها ولأن الأنعام تطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وهؤلاء يتركون أنفع الأشياء وهو الثواب ولا يخافون أضر الأشياء وهو العقاب * (ألم تر إلى ربك) * أي إلى صنع ربك وقدرته * (مد الظل) * قيل مدة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لأن الظل حينئذ على الأرض كلها واعترضه ابن عطية لأن ذلك الوقت من الليل ولا يقال ظل بالليل واختار أن مد الظل من الإسفار إلى طلوع الشمس وبعد مغيبها بيسير وقيل معنى مد الظل أي جعله يمتد وينبسط * (ولو شاء لجعله ساكنا) * أي ثابتا غير زائل لكنه جعله يزول بالشمس وقيل معنى ساكن غير منبسط على الأرض بل يلتصق بأصل الحائط والشجرة ونحوها * (ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) * قيل معناه أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في سيرها على الظل متى يتسع ومتى ينقبض ومتى يزول عن مكان إلى آخر فيبنون على ذلك انتفاعهم به وجلوسهم فيه وقيل معناه لولا الشمس لم يعرف أن الظل شيء لأن الأشياء لم تعرف إلا بأضدادها * (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) * قبضه نسخه وإزالته بالشمس ومعنى يسيرا شيئا بعد شيء لا دفعة واحدة فإن قيل ما معنى ثم في هذه المواضع الثلاثة فالجواب أنه يحتمل أن تكون للترتيب في الزمان أي جعل الله هذه الأحوال حالا بعد حال أو تكون لبيان التفاضل بين هذه الأحوال الثلاثة وأن الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم من الثاني * (الليل لباسا) * شبه ظلام الليل باللباس لأنه يستر كل شيء كاللباس * (والنوم سباتا) * قيل راحة وقيل موتا لقوله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ويدل عليه مقابلته بالنشور * (الرياح بشرا) * ذكر في الأعراف * (ماء طهورا) * مبالغة في طاهر وقيل معناه مطهر للناس في الوضوء وغيره وبهذا المعنى يقول الفقهاء ماءا طهورا أي مطهر وكل مطهر طاهر وليس كل
79

طاهر مطهر * (أناسي) * قيل جمع إنسي وقيل جمع إنسان والأول أصح * (ولقد صرفناه) * الضمير للقرآن وقيل للمطر وهو بعيد * (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) * أي لو شئنا لخففنا عنك أثقال الرسالة ببعث جماعة من الرسل ولكنا خصصناك بها كرامة لك فاصبر * (وجاهدهم به) * الضمير للقرآن أو لما دل عليه الكلام المتقدم * (مرج البحرين) * اضطرب الناس في هذه الآية لأنه لا يعلم في الدنيا بحر ملح وبحر عذب وإنما البحار المعروفة ماؤها ملح قال ابن عباس أراد بالبحر الملح الأجاج بحر الأرض والبحر العذب الفرات بحر السحاب وقيل البحر الملح البحر المعروف والبحر العذب مياه الأرض وقيل البحر الملح جميع الماء الملح من الآبار وغيرها والبحر العذب هو مياه الأرض من الأنهار والعيون ومعنى العذب البالغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة والأجاج نقيضه واختلف في معنى مرجهما فقيل جعلهما متجاورين متلاصقين وقيل أسال أحدهما في الآخر * (وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) * أي فاصلا يفصل بينهما وهو ما بينهما من الأرض بحيث لا يختلطان وقيل البرزخ يعلمه الله ولا يراه البشر * (خلق من الماء بشرا) * إن أراد بالبشر آدم فالمراد بالماء الماء الذي خلق به مع التراب فصار طينا وإن أراد بالبشر بني آدم فالمراد بالماء المني الذي يخلقون منه * (فجعله نسبا وصهرا) * النسب والصهر يعمان كل قربى أي كل قرابة والنسب أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أم قرب ذلك أو بعد والصهر هو الاختلاط بالنكاح وقيل أراد بالنسب الذكور أي ذوي نسب ينتسب إليهم وأراد بالصهر الإناث أي ذوات صهر يصاهر بهن وهو كقوله * (فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى) * * (وكان الكافر على ربه ظهيرا) * الكافر هنا الجنس وقيل المراد أبو جهل والظهير المعين أي يعين الشيطان على ربه بالعداوة والشرك ولفظه يقع للواحد والجماعة كقوله والملائكة بعد ذلك ظهير " قل ما أسئلكم عليه من أجر " أي لا أسئلكم على الإيمان أجرة ولا منفعة * (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) * معناه إنما أسئلكم أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا بالتقرب إليه وعبادته فالاستثناء منقطع وقيل المعنى أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا بالصدقة فالاستثناء على هذا متصل والأول أظهر وفي الكلام محذوف تقديره إلا سؤال من شاء وشبه ذلك * (وتوكل على الحي الذي لا يموت) * قرأ هذه الآية بعض السلف فقال لا ينبغي لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق فإنه يموت * (وسبح بحمده) * أي قل سبحان الله وبحمده والتسبيح التنزيه عن كل ما لا يليق به ومعنى بحمده أي بحمده أقول ذلك ويحتمل أن يكون المعنى سبحه متلبسا بحمده فهو أمر بأن يجمع بين التسبيح والحمد " وكفى به بذنوب
80

عباده خبيرا) يحتمل أن يكون المراد بهذا بيان حلمه وعفوه عن عباده مع علمه بذنوبهم أو بكون المراد تهديد العباد لعلم الله بذنوبهم * (استوى على العرش) * ذكر في الأعراف * (الرحمن) * خبر ابتداء مضمر أو بدل من الضمير في استوى * (فاسأل به خبيرا) * فيه معنيان أحدهما وهو الأظهر أن المراد اسأل عنه من هو خبير عارف به وانتصب خبيرا على المفعولية وهذا الخبير المسؤول هو جبريل عليه السلام والعلماء وأهل الكتاب والباء في قوله به يحتمل أن تتعلق بخبيرا أو تتعلق بالسؤال ويكون معناها على هذا معنى عن والمعنى الثاني أن المراد اسأل بسؤاله خبيرا أي إن سألته تعالى تجده خبيرا بكل شيء فانتصب خبيرا على الحال وهو كقولك لو رأيت فلانا رأيت به أسدا أي رأيت برؤيته أسدا * (قالوا وما الرحمن) * لما ذكر الرحمن في القرآن أنكرته قريش وقالوا لا نعرف الرحمن وكان مسيلمة الكذاب قد تسمى بالرحمن فقالوا على وجه المغالطة إنما الرحمن الرجل الذي باليمامة * (أنسجد لما تأمرنا) * تقديره لما تأمرنا أن نسجد له * (وزادهم نفورا) * الضمير المفعول في زادهم يعود على المقول وهو اسجدوا للرحمن * (بروجا) * يعني المنازل الاثني عشر وقيل الكواكب العظام * (سراجا) * يعني الشمس وقرئ بضم السين والراء على الجمع يعني جميع الأنوار ثم خص القمر بالذكر تشريفا * (جعل الليل والنهار خلفة) * أي يخلف هذا هذا وقيل هو من الاختلاف لأن هذا أبيض وهذا أسود والخلفة اسم الهيئة كالركبة والجلسة والأصل جعلهما ذوي خلفة * (لمن أراد أن يذكر) * قيل معناه يعتبر في المصنوعات وقيل معناه يتذكر لما فاته من الصلوات وغيرها في الليل فيستدركه في النهار أو فاته بالنهار فيستذكره بالليل وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما * (وعباد الرحمن) * أي عباده المرضيون عنده فالعبودية هنا للتشريف والكرامة وعباد مبتدأ وخبره الذين يمشون أو قوله في آخر السورة أولئك يجزون الغرفة * (الذين يمشون على الأرض هونا) * أي رفقا ولينا بحلم ووقار ويحتمل أن يكون ذلك وصف مشيهم على الأرض أو وصف أخلاقهم في جميع أحوالهم وعبر بالمشي على الأرض عن جميع تصرفهم مدة حياتهم * (قالوا
سلاما) * أي قالوا قولا سديدا ليدفع الجاهل برفق وقيل معناه قالوا للجاهل سلاما أي هذا اللفظ بعينه بمعنى سلمنا منكم قال بعضهم هذه الآية منسوخة بالسيف وإنما يصح النسخ في حق الكفار وأما الإغضاء عن السفهاء والحلم عنهم فمستحسن غير منسوخ * (إن عذابها) * وما بعده يحتمل أن يكون من كلامهم أو من كلام الله عز وجل * (كان غراما) * أي هلاكا وخسرانا وقيل ملازما * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) * الاقتار هو التضييق في النفقة والشح وضده الاسراف فنهى عن الطرفين وأمر بالتوسط بينهما
81

وهو القوام وذلك في الإنفاق في المباحات وفي الطاعات وأما الإنفاق في المعاصي فهو إسراف وإن قل * (ومن يفعل ذلك يلق أثاما) * أي عقابا وقيل الأثام الإثم فمعناه يلق جزاء أثام وقيل الأثام واد في جهنم والإشارة بقوله ذلك إلى ما ذكر من الشرك بالله وقتل النفس بغير حق والزنا * (ويخلد فيه مهانا) * قيل نزلت في الكفار لأنهم المخلدون في النار بإجماع فكأنه قال الذين يجمعون بين الشرك والقتل والزنا وقيل نزلت في المؤمنين الذين يقتلون النفس ويزنون فأما على مذهب المعتزلة فالخلود على بابه وأما على مذهب أهل السنة فالخلود عبارة عن طول المدة * (إلا من تاب) * إن قلنا الآية في الكفار فلا إشكال فيها لأن الكافر إذا أسلم صحت توبته من الكفر والقتل والزنا وإن قلنا إنها في المؤمنين فلا خلاف أن التوبة من الزنا تصح واختلف هل تصح توبة المسلم من القتل أم لا * (يبدل الله سيئاتهم حسنات) * قيل يوفقهم الله لفعل الحسنات بدلا عما عملوا من السيئات وقيل إن هذا التبديل في الآخرة أي يبدل عقاب السيئات بثواب الحسنات * (يتوب إلى الله متابا) * أي متابا مقبولا مرضيا عند الله كما تقول لقد قلت يا فلان قولا أي قولا حسنا * (لا يشهدون الزور) * أي لا يشهدون بالزور وهو الكذب فهو من الشهادة وقيل معناه لا يحضرون مجالس الزور واللهو فهو على هذا من المشاهدة والحضور والأول أظهر * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * اللغو هو الكلام القبيح على اختلاف أنواعه ومعنى مروا كراما أي أعرضوا عنه واستحيوا ولم يدخلوا مع أهله تنزيها لأنفسهم عن ذلك * (لم يخروا عليها صما وعميانا) * أي لم يعرضوا عن آيات الله بل أقبلوا عليها بأسماعهم وقلوبهم فالنفي للصمم والعمى لا للخرور عليها * (قرة أعين) * قيل معناه اجعل أزواجنا وذريتنا مطيعين لك وقيل أدخلهم معنا الجنة واللفظ أعم من ذلك * (واجعلنا للمتقين إماما) * أي قدوة يقتدي بنا المتقون فإمام مفرد يراد به الجنس وقيل هو جمع آم أي متبع * (الغرفة) * يعني غرفة الجنة فهي اسم جنس " قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم " يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية وفي معنى الدعاء هنا ثلاثة أقوال الأول أن المعنى إن الله لا يبالي بكم لولا عبادتكم له فالدعاء بمعنى العبادة وهذا قريب من معنى قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الثاني أن الدعاء بمعنى الاستغاثة والسؤال والمعنى لا يبالي الله بكم ولكن يرحمكم إذا استغثتم به ودعوتموه ويكون على هذين القولين خطابا
82

لجميع الناس من المؤمنين والكافرين لأن فيهم من يعبد الله ويدعوه أو خطابا للمؤمنين خاصة لأنهم هم الذين يدعون الله ويعبدونه ولكن يضعف هذا بقوله فقد كذبتم الثالث أنه خطاب للكفار خاصة والمعنى على هذا ما يعبأ بكم ربي لولا أن يدعوكم إلى دينه والدعاء على هذا بمعنى الأمر بالدخول في الدين وهو مصدر مضاف إلى المفعول وأما على القول الأول والثاني فهو مصدر مضاف إلى الفاعل * (فقد كذبتم) * هذا خطاب لقريش وغيرهم من الكفار دون المؤمنين * (فسوف يكون لزاما) * أي سوف يكون العذاب لزاما ثابتا وأضمر العذاب وهو اسم كان لأنه جزاء التكذيب المتقدم واختلف هل يراد بالعذاب هنا القتل يوم بدر أو عذاب الآخرة
سورة الشعراء
* (طسم) * تكلمنا على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ويخص هذا أنه قيل الطاء من ذي الطول والسين من السميع أو السلام والميم من الرحيم أو المنعم * (باخع) * ذكر في الكهف * (فظلت أعناقهم لها خاضعين) * الأعناق جمع عنق وهي الجارحة المعروفة وإنما جمع خاضعين جمع العقلاء لأنه أضاف الأعناق إلى العقلاء ولأنه وصفها بفعل لا يكون إلا من العقلاء وقيل الأعناق الرؤساء من الناس شبهوا بالأعناق كما يقال لهم رؤس وصدور وقيل هم الجماعات من الناس فلا يحتاج جمع خاضعين إلى تأويل * (محدث) * يعني به محدث الإتيان * (فسيأتيهم) * الآية تهديد * (من كل زوج) * أي من كل صنف من النبات فيعم ذلك الأقوات والفواكه والأدوية والمرعى ووصفه بالكرم لما فيه من الحسن ومن المنافع * (إن في ذلك لآية) * الإشارة إلى ما تقدم من النبات وإنما ذكره بلفظ الإفراد لأنه أراد أن في كل واحد آية أو إشارة إلى مصدر قوله أنبتنا * (ويضيق صدري) * بالرفع عطف على أخاف أو استئناف وقرئ بالنصب عطفا على يكذبون * (فأرسل إلى هارون) * أي اجعله معي رسولا أستعين به * (ولهم علي ذنب) * يعني قتله للقبطي * (قال كلا) * أي لا تخف أن يقتلوك * (إنا معكم) * خطاب لموسى
83

وأخيه ومن كان معهما أو على جعل الاثنين جماعة * (مستمعون) * لفظه جمع وورد مورد تعظيم الله تعالى ويحتمل أن تكون الملائكة هي التي تسمع بأمر الله لأن الله لا يوصف بالاستماع وإنما يوصف بالسمع والأول أحسن وتأويله أن في الاستماع اعتناء واهتماما بالأمر ليست في صفة سامعون والخطاب في قوله معكم لموسى وهارون وفرعون وقومه وقيل لموسى وهارون خاصة على معاملة الاثنين معاملة الجماعة وذلك على قول من يرى أن أقل الجمع اثنان * (أنا رسول ربك) * إن قيل لم أفرده وهما اثنان فالجواب من ثلاثة أوجه الأول أن التقدير كل واحد منا رسول الثاني أنهما جعلا كشخص واحد لاتفاقهما في الشريعة ولأنهما أخوان فكأنهما واحد الثالث أن رسول هنا مصدر وصف به فلذلك أطلق على الواحد والاثنين والجماعة فإنه يقال رسول بمعنى رسالة بخلاف قوله إنا رسولا فإنه بمعنى الرسل * (أن أرسل معنا بني إسرائيل) * أي أطلقهم * (قال ألم نربك فينا وليدا) * قصد فرعون بهذا الكلام المن على موسى والاحتقار له * (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) * قصد فرعون بهذا الكلام توبيخ موسى عليه السلام ويعني بالفعلة قتله للقبطي والواو في قوله وأنت إن كانت للحال فقوله من الكافرين معناه كافرا بهذا الدين الذي جئت به لأن موسى إنما أظهر لهم الإسلام بعد الرسالة وقد كان قبل ذلك مؤمنا ولم يعلم بذلك فرعون وقيل معناه من الكافرين بنعمتي وإن كانت الواو للاستئناف فيحتمل أن يريد من الكافرين بديني ومن الكافرين بنعمتي * (قال فعلتها إذا وأنا من الضالين) * القائل هنا هو موسى عليه السلام والضمير في قوله فعلتها لقتله القبطي واختلف في معنى
قوله من الضالين فقيل معناه من الجاهلين بأن وكزتي تقتله وقيل معناه من الناسين فهو كقوله أن تضل إحداهما وقوله إذا صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ قال ذلك ابن عطية * (ففررت منكم) * أي من فرعون وقومه ولذلك جمع ضمير الخطاب بعد أن أفرده في قوله تمنها علي أن عبدت * (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) * معنى عبدت ذللت واتخذتهم عبيدا فمعنى هذا الكلام أنك عددت نعمة على تعبيد بني إسرائيل وليست في الحقيقة بنعمة إنما كانت نقمة لأنك تذبح أبناءهم ولذلك وصلت أنا إليك فربيتني فالإشارة بقوله تلك إلى التربية وأن عبدت في موضع رفع عطف بيان على تلك أو في موضع نصب على أنه مفعول من أجله وقيل معنى الكلام تربيتك نعمة على لأنك عبدت بني إسرائيل وتركتني فهي في المعنى الأول إنكار لنعمته وفي الثاني اعتراف بها * (قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) * لما أظهر فرعون الجهل
84

بالله فقال وما رب العالمين أجابه موسى بقوله رب السماوات والأرض فقال ألا تستمعون تعجبا من جوابه فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله ربكم ورب آبائكم الأولين لأن وجود الإنسان وآبائه أظهر الأدلة عند العقلاء وأعظم البراهين فإن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها على وجود خالقهم فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطة منه وأيد الازدراء والتهكم في قوله رسولكم الذي أرسل إليكم فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله رب المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن أحدا جحدها ولا أن يدعيها لغير الله ولذلك أقام إبراهيم الخليل بها الحجة على نمروذ فلما انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدده بالسجن فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة وذكرها له بتلطف طمعا في إيمانه فقال أولو جئتك بشيء مبين والواو واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام وتقديره أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين وقد تقدم في الأعراف ذكر العصا واليد وماذا تأمرون وأرجه وحاشرين فإن قيل كيف قال أولا إن كنتم موقنين ثم قال آخرا إن كنتم تعقلون فالجواب أنه لاين أولا طمعا في إيمانهم فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله إن كنتم تعقلون وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون إن رسولكم لمجنون * (لميقات يوم) * هو يوم الزينة * (نتبع السحرة) * أي نتبعهم في نصرة ديننا لا في عمل السحر لأن عمل السحر كان حراما * (بعزة فرعون) * قسم أقسموا به وقد تقدم في الأعراف تفسير ما يأفكون وما بعد ذلك * (لا ضير) * أي لا يضرنا ذلك لأننا ننقلب إلى الله * (أسر بعبادي) * يعني بني إسرائيل * (إنكم متبعون) * إخبار باتباع فرعون * (لشرذمة قليلون) * الشرذمة الطائفة من الناس وفي هذا احتقار لهم على
85

أنه روي أنهم كانوا ستمائة ألف ولكن جنود فرعون أكثر منهم بكثير * (فأخرجناهم من جنات وعيون) * يعني التي بمصر والعيون الخلجان الخارجة من النيل وكانت ثم عيون في ذلك الزمان وقيل يعني الذهب والفضة وهو بعيد * (ومقام كريم) * مجالس الأمراء والحكام وقيل المنابر وقيل المساكن الحسان * (كذلك) * في موضع خفض صفة لمقام أو في موضع نصب على تقدير أخرجناهم مثل ذلك الإخراج أو في موضع رفع على أنه خبر ابتداء تقديره الأمر كذلك * (وأورثناها بني إسرائيل) * أي أورثهم الله مواضع فرعون بمصر على أن التواريخ لم يذكر فيها ملك بني إسرائيل لمصر وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام فتأويله على هذا أورثهم مثل ذلك بالشام * (فأتبعوهم) * أي لحقوهم وضمير الفاعل لفرعون وقومه وضمير المفعول لبني إسرائيل * (مشرقين) * معناه داخلين في وقت الشروق وهو طلوع الشمس وقيل معناه نحو المشرق وانتصابه على الحال " تراء الجمعان " وزن تراءى تفاعل وهو منصوب من الرؤية والجمعان جمع موسى وجمع فرعون أي رأى بعضهم بعضا * (فانفلق) * تقدير الكلام فضرب موسى البحر فانفلق * (كل فرق) * أي كل جزء منه والطود الجبل وروي أنه صار في البحر اثني عشر طريقا لكل سبط من بني إسرائيل طريق * (وأزلفنا ثم الآخرين) * يعني بالآخرين فرعون وقومه ومعنى أزلفنا قربناهم من البحر ليغرقوا وثم هنا ظرف يراد به حيث انفلق البحر وهو بحر القلزم * (ما تعبدون) * إنما سألهم مع علمه بأنهم يعبدون الأصنام ليبين لهم أن ما يعبدونه ليس بشيء ويقيم عليهم الحجة * (قالوا نعبد أصناما) * إن قيل لم صرحوا بقولهم نعبد مع أن السؤال وهو قوله ما تعبدون يغني عن التصريح بذلك وقياس مثل هذا الاستغناء بدلالة السؤال كقوله ما أنزل ربكم قالوا خيرا فالجواب أنهم صرحوا بذلك على وجه الافتخار والابتهاج بعبادة الأصنام ثم زادوا قولهم فنظل لها عاكفين مبالغة في ذلك * (بل وجدنا آباءنا) * اعتراف بالتقليد المحض * (إلا رب العالمين) * استثناء منقطع وقيل
86

متصل لأن في آبائهم من عبد الله تعالى * (وإذا مرضت فهو يشفين) * أسند المرض إلى نفسه وأسند الشفاء إلى الله تأدبا مع الله * (أن يغفر لي خطيئتي) * قيل أراد كذباته الثلاثة الواردة في الحديث وهي قوله في سارة زوجته هي أختي وقوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم وقيل أراد الجنس على الإطلاق لأن هذه الثلاثة من المعاريض فلا إثم فيها * (لسان صدق) * ثناء جميلا * (يوم لا ينفع) * وما بعده منقطع عن كلام إبراهيم وهو من كلام الله تعالى ويحتمل أن يكون أيضا من كلام إبراهيم * (إلا من أتى الله بقلب سليم) * قيل سليم من الشرك والمعاصي وقيل الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيئا غيره وقيل بقلب لديغ من خشية الله والسليم هو اللديغ لغة وقال الزمخشري هذا من بدع التفاسير وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلا فيكون من أتى الله مفعولا بقوله لا ينفع والمعنى على هذا أن المال لا ينفع إلا من أنفقه في طاعة الله وأن البنين لا ينفعون إلا من علمهم الدين وأوصاهم بالحق ويحتمل أيضا أن يكون متصلا ويكون قوله من أتى الله بدلا من قوله مال ولا بنون على حذف مضاف تقديره إلا مال من أتى الله وبنوه ويحتمل أن يكون منقطعا بمعنى لكن * (وأزلفت الجنة) * أي قربت * (للغاوين) * يعني المشركين بدلالة ما بعده * (فكبكبوا فيها) * كبكبوا مضاعف من كب كررت حروفه دلالة على تكرير معناه أي كبهم الله في النار مرة بعد مرة والضمير للأصنام والغاوون هم المشركون وقيل الضمير للمشركين والغاوون هم الشياطين * (نسويكم برب العالمين) * أي نجعلكم سواء معه * (وما أضلنا إلا المجرمون) * يعني كبراءهم وأهل الجرم والجراءة منهم * (حميم) * أي خالص الود قال الزمخشري جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الأصدقاء * (كذبت قوم نوح المرسلين) * أسند الفعل إلى القوم وفيه علامة التأنيث لأن القوم في معنى الجماعة والأمة فإن قيل كيف قال المرسلين بالجمع وإنما كذبوا نوحا وحده فالجواب من وجهين أحدهما أنه أراد الجنس كقولك فلان
يركب الخيل وإنما لم يركب إلا فرسا واحدا والآخر أن من كذب نبيا واحدا فقد كذب جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن قولهم واحد ودعوتهم
87

سواء وكذلك الجواب في كذبت عاد المرسلين وغيره * (واتبعك الأرذلون) * جمع أرذل وقد تقدم الكلام عليه في قوله أراذلنا في هود * (وما أنا بطارد المؤمنين) * يعني الذين سموهم أرذلين فإن الكفار أرادوا من نوح أن يطردهم كما أرادت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد عمار بن ياسر وصهيبا وبلالا وأشباههم من الضعفاء * (المرجومين) * يحتمل أن يريدوا الرجم بالحجارة أو بالقول وهو الشتم * (فافتح بيني وبينهم) * أي احكم بيننا * (في الفلك المشحون) * أي المملوء * (بكل ريع) * الريع المكان المرتفع وقيل الطريق * (أيه) * يعني المباني الطوال وقيل أبراج الحمام * (مصانع) * جمع مصنع وهو ما أتقن صنعه من المباني وقيل مأخذ الماء * (أمدكم بأنعام) * الآية تفسير لقوله أمدكم بما تعلمون فأبهم أولا ثم فسره * (خلق الأولين) * بضم الخاء واللام أي عادتهم والمعنى أنهم قالوا ما هذا الذي عليه من ديننا إلا عادة الناس الأولين وقرئ بفتح الخاء وإسكان اللام ويحتمل على هذا وجهين أحدهما أنه بمعنى الخلقة والمعنى ما هذه الخلقة التي نحن عليها إلا خلقة الأولين والآخر أنها من الاختلاق بمعنى الكذب والمعنى ما هذا الذي جئت به إلا كذب الأولين * (أتتركون) * تخويف لهم معناه أتطمعون أن تتركوا في النعم على كفركم * (ونخل طلعها هضيم) * الطلع عنقود التمر
88

في أول نباته قبل أن يخرج من الكم والهضيم اللين الرطب فالمعنى طلعها يتم ويرطب وقيل هو الرخص أول ما يخرج وقيل الذي ليس فيه نوى فإن قيل لم ذكر النخل بعد ذكر الجنات والجنات تحتوي على النخل فالجواب أن ذلك تجريد كقوله فاكهة ونخل ورمان ويحتمل أنه أراد الجنات التي ليس فيها نخل ثم عطف عليها النخل * (وتنحتون) * ذكر في الأعراف * (فارهين) * قرئ بألف وبغير ألف وهو منصوب على الحال من الفاعل في تنحتون وهو مشتق من الفراهة وهي النشاط والكيس وقيل معناه أقوياء وقيل أشرين بطرين * (من المسحرين) * مبالغة في المسحورين وهو من السحر بكسر السين وقيل من السحر بفتح السين وهي الرؤية والمعنى على هذا إنما أنت بشر * (لها شرب) * أي حظ من الماء * (فأصبحوا نادمين) * لما تغيرت ألوانهم حسبما أخبرهم صالح عليه السلام ندموا حيث لا تنفعهم الندامة * (فأخذتهم الصيحة) * التي ماتوا منها وهي العذاب المذكور هنا * (من القالين) * أي من المبغضين وفي قوله قال ومن القالين ضرب من ضروب التجنيس * (مما يعملون) * أي نجني من عقوبة عملهم أو اعصمني من عملهم والأول أرجح * (إلا عجوزا) * يعني امرأة لوط * (في الغابرين) * ذكر في الأعراف وكذلك أمطرنا * (أصحاب الأيكة) * قرئ بالهمز وخفض التاء مثل الذي في الحجر وق ومعناه الغيضة من الشجر وقرئ هنا وفي ص بفتح اللام والتاء فقيل إنه مسهل من الهمز وقيل إنه اسم بلدهم ويقوي هذا القول بأنه على هذه القراءة بفتح التاء غير منصرف يدل على ذلك أنه اسم علم وضعف ذلك الزمخشري وقال إن الأيكة اسم لا يعرف * (إذ قال لهم شعيب) * لم يقل هنا أخوهم كما قال في قصة نوح وغيره وقيل إن شعيبا بعث إلى مدين وكان من قبيلتهم فلذلك قال وإلى مدين أخاهم شعيبا وبعث أيضا إلى أصحاب الأيكة ولم يكن منهم فلذلك لم يقل أخوهم فكان شعيبا على هذا
89

مبعوثا إلى القبيلتين وقيل إن أصحاب الأيكة مدين ولكنه قال أخوهم حين ذكرهم باسم قبيلتهم ولم يقل أخوهم حين نسبهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها تنزيها لشعيب عن النسبة إليها * (من المخسرين) * أي من الناقصين للكيل والوزن * (بالقسطاس) * الميزان المعتدل * (والجبلة) * يعني القرون المتقدمة * (عذاب يوم الظلة) * هي سحابة من نار أحرقتهم فأهلك الله مدين بالصيحة وأهلك أصحاب الأيكة بالظلة فإن قيل لم كرر قوله إن في ذلك لآية مع كل قصة فالجواب أن ذلك أبلغ في الاعتبار وأشد تنبيها للقلوب وأيضا فإن كل قصة منها كأنها كلام قائم مستقل بنفسه فختمت بما ختمت به صاحبتها * (وإنه لتنزيل رب العالمين) * الضمير للقرآن * (الروح الأمين) * يعني جبريل عليه السلام * (على قلبك) * إشارة إلى حفظه إياه لأن القلب هو الذي يحفظ * (بلسان عربي) * يعني كلام العرب هو متعلق بنزل أو المنذرين * (وإنه لفي زبر الأولين) * المعنى أن القرآن مذكور في كتب المتقدمين ففي ذلك دليل على صحته ثم أقام الحجة على قريش بقوله * (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) * بأنه من عند الله آية لكم وبرهان والمراد من أسلم من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وقيل الذين كانوا يبشرون بمبعثه عليه الصلاة والسلام * (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) * الآية جمع أعجم وهو الذي لا يتكلم سواء كان إنسانا أو بهيمة أو جمادا والأعجمي المنسوب إلى الأعجم وقيل بمعنى الأعجم ومعنى الآية أن القرآن لو نزل على من لا يتكلم ثم قرأه عليهم لا يؤمنوا لإفراط عنادهم ففي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على كفرهم به مع وضوح برهانه * (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) * معنى سلكناه أدخلناه والضمير للتكذيب الذي دل عليه ما تقدم من الكلام أو للقرآن أي سلكناه في قلوبهم مكذبا به وتقدير قوله كذلك مثل هذا السلك سلكناه والمجرمين يحتمل أن يريد به قريشا أو الكفار المتقدمين ولا يؤمنون تفسير للسلك الذي سلكه في قلوبهم * (فيقولوا هل نحن منظرون) * تمنوا أن يؤخروا حين لم
90

استعجالهم بالعذاب في قولهم * (فأمطر علينا حجارة من السماء) * وشبه ذلك * (أفرأيت إن متعناهم سنين) * المعنى أن مدة إمهالهم لا تغني مع نزول العذاب بعدها وإن طالت مدة سنين لأن كل ما هو آت قريب قال بعضهم سنين يريد به عمر الدنيا * (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) * المعنى أن الله لم يهلك قوما إلا بعد أن أقام الحجة عليهم بأن أرسل إليهم رسولا فأنذرهم فكذبوه * (ذكرى) * منصوب على المصدر من معنى الإنذار أو على الحال من الضمير في منذرون أو على المفعول من أجله أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر * (وما تنزلت به الشياطين) * الضمير للقرآن وهو رد على من قال إنه كهانة نزلت به الشياطين على محمد * (وما ينبغي لهم وما يستطيعون) * أي ما يمكنهم ذلك ولا يقدرون عليه ولفظ ما ينبغي تارة يستعمل بمعنى لا يمكن وتارة بمعنى لا يليق * (إنهم عن السمع لمعزولون) * تعليل لكون الشياطين لا يستطيعون الكهانة لأنهم منعوا من استراق السمع منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان أمر الكهان كثيرا منتشرا قبل ذلك " وأنذر عشسيرتك الأقربين " عشيرة الرجل هم قرابته الأدنون ولما نزلت هذه الآية أنذر النبي صلى الله عليه وسلم قرابته فقال يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ثم نادى كذلك ابنته فاطمة وعمته صفية قال الزمخشري في معناه قولان أحدهما أنه أمر أن يبدأ بإنذار أقاربه قبل غيرهم من الناس والآخر أنه أمر أن لا يأخذه ما
يأخذ القريب من الرأفة بقريبه ولا يخافهم بالإنذار * (واخفض جناحك) * عبارة عن لين الجانب والرفق وعن التواضع * (الذي يراك حين تقوم) * أي حين تقوم في الصلاة ويحتمل أن يريد سائر التصرفات * (وتقلبك في الساجدين) * معطوف على الضمير المفعول في قوله يراك والمعنى أنه يراك حين تقوم وحين تسجد وقيل معناه يرى صلاتك مع المصلين ففي ذلك إشارة إلى الصلاة مع الجماعة وقيل يرى تقلب بصرك في المصلين خلفك لأنه عليه الصللاة والسلام كان يراهم من وراء ظهره * (تنزل على كل أفاك أثيم) * هذا جواب السؤال المتقدم وهو قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين والأفاك الكذاب والأثيم الفاعل للإثم يعني بذلك الكهان وفي هذا رد على من قال إن الشياطين تنزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالكهانة لأنها لا تنزل إلا على أفاك أثيم وكان صلى الله عليه وسلم على غاية الصدق والبر * (يلقون السمع) * معناه يستمعون والضمير يحتمل أن يكون للشياطين بمعنى أنهم يستمعون إلى الملائكة أو يكون للكهان بمعنى أنهم يستمعون إلى الشياطين وقيل يلقون بمعنى يلقون المسموع
91

والضمير يحتمل أيضا على هذا أن يكون للشياطين لأنهم يلقون الكلام إلى الكهان أو يكون للكهان لأنهم يلقون الكلام إلى الناس * (وأكثرهم كاذبون) * يعني الشياطين أو الكهان لأنهم يكذبون فيما يخبرون به عن الشياطين * (والشعراء يتبعهم الغاوون) * لما ذكر الكهان ذكر الشعراء ليبين أن القرآن ليس بكهانة ولا شعر لتباين ما بين أوصافه وأوصاف الشعر والكهانة وأراد الشعراء الذين يلقون من الشعر ما لا ينبغي كالهجاء والمدح بالباطل وغير ذلك وقيل أراد شعراء الجاهلية وقيل شعراء كفار قريش الذين كانوا يؤذون المسلمين بأشعارهم والغاوون قيل هم رواة الشعر وقيل هم سفهاء الناس الذين تعجبهم الأشعار لما فيها من اللغو والباطل وقيل هم الشياطين * (في كل واد يهيمون) * استعارة وتمثيل أي يذهبون في كل وجه من الكلام الحق والباطل ويفرطون في التجوز حتى يخرجوا إلى الكذب * (إلا الذين آمنوا) * الآية استثناء من الشعراء يعني بهم شعراء المسلمين كحسان بن ثابت وغيره ممن اتصف بهذه الأوصاف وقيل إن هذه الآية مدنية * (ذكروا الله) * قيل معناه ذكروا الله في أشعارهم وقيل يعني الذكر على الإطلاق * (وانتصروا من بعد ما ظلموا) * إشارة إلى ما قاله حسان بن ثابت وغيره من الشعراء في هجو الكفار بعد أن هجا الكفار النبي صلى الله عليه وسلم * (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) * وعيد للذين ظلموا والظلم هنا بمعنى الاعتداء على الناس لقوله من بعد ما ظلموا وعمل ينقلبون في أي لتأخره وقيل إن العامل في أي سيعلم
سورة النمل
* (تلك آيات القرآن وكتاب مبين) * عطف الكتاب على القرآن كعطف الصفات بعضها على بعض وإن كان الموصوف واحدا * (هدى وبشرى) * في موضع نصب على المصدر أو في موضع رفع على أنه خبر ابتداء مضمر " وهم بالآخرة يوقنون " تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة فتكون بقية صلة الذين أو تكون مستأنفة وتمت الصلة قبلها ورجح الزمخشري هذا * (يعمهون) * يتحيرون * (سوء العذاب) * يعني في الدنيا وهو القتل يوم بدر ويحتمل أن يريد عذاب الآخرة والأول أرجح لأنه ذكر الآخرة بعد ذلك * (لتلقى القرآن) * أي
92

تعطاه * (آنست) * ذكر في طه وكذلك قبس والشهاب النجم شبه القبس به وقرئ بإضافة شهاب إلى قبس وبالتنوين على البدل أو الصفة فإن قيل كيف قال هنا سآتيكم وفي الموضع الآخر لعلي آتيكم والفرق بين الترجي والتسويف أن التسويف متيقن الوقوع بخلاف الترجي فالجواب أنه قد يقول الراجي سيكون كذا إذا قوي رجاؤه * (تصطلون) * معناه تستدفئون بالنار من البرد ووزنه تفعلون وهو مشتق من صلى بالنار والطاء بدل من التاء * (أن بورك من في النار ومن حولها) * أن مفسرة وبورك من البركة ومن في النار يعني من في مكان النار ومن حولها من حول مكانها يريد الملائكة الحاضرين وموسى عليه السلام قال الزمخشري والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وما حوله من أرض الشام * (وسبحان الله) * يحتمل أن يكون مما قيل في النداء لموسى عليه السلام أو يكون مستأنفا وعلى كلا الوجهين قصد به تنزيه الله مما عسى أن يخطر ببال السامع من معنى النداء أو في قوله بورك من في النار لأن المعنى نودي أن بورك من في النار إذ قال بعض الناس فيه ما يجب تنزيه الله عنه * (وألق عصاك) * هذه الجملة معطوفة على قوله بورك من في النار لأن المعنى يؤدي إلى أن بورك من في النار وأن ألق عصاك وكلاهما تفسير للنداء * (كأنها جان) * الجان الحية وقيل الحية الصغيرة وعلى هذا يشكل قوله فإذا هي ثعبان والجواب أنها ثعبان في جرمها جان في سرعة حركتها * (ولم يعقب) * لم يرجع أو لم يلتفت * (إلا من ظلم) * استثناء منقطع تقديره لكن من ظلم من سائر الناس لا من المرسلين وقيل إنه متصل على القول بتجويز الذنوب عليهم وهذا بعيد لأن الصحيح عصمتهم من الذنوب وأيضا فإن تسميتهم ظالمين شنيع على القول بتجويز الذنوب عليهم * (بدل حسنا) * أي عمل صالحا * (في جيبك) * ذكر في طه * (في تسع آيات) * متصل بقوله ألق وأدخل تقديره نيسر لك ذلك في جملة تسع آيات وقد ذكرت الآيات التسع في الإسراء * (إلى فرعون) * متعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام تقديره اذهب بالآيات التسع إلى فرعون * (مبصرة) * أي ظاهرة واضحة الدلالة وأسند الإبصار لها مجازا وهو في الحقيقة لمتأملها * (واستيقنتها أنفسهم) * يعني أنهم جحدوا بها مع أنهم تيقنوا أنها الحق فكفرهم عناد ولذلك قال فيه ظلما والواو فيه واو الحال وأضمرت بعدها قد علوا يعني تكبروا * (وورث سليمان داود) * أي ورث عنه النبوة والعلم والملك * (علمنا منطق الطير) * أي فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها " وأوتينا من كل شيء " عموم معناه الخصوص والمراد
93

بهذا اللفظ التكثير كقولك فلان يقصده كل أحد وقوله علمنا وأوتينا يحتمل أن يريد نفسه وأباه أو نفسه خاصة على وجه التعظيم لأنه كان ملكا * (وحشر لسليمان جنوده) * اختلف الناس في عدد جنود سليمان اختلافا شديدا تركنا ذكره لعدم صحته * (فهم يوزعون) * أي يكفون ويراد أولهم إلى آخرهم ولا بد لكل ملك أو حاكم من وزعة يدفعون الناس * (حتى إذا أتوا على وادي النمل) * ظاهر هذا أن سليمان وجنوده كانوا مشاة بالأرض أو ركبانا حتى خافت منهم النمل ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي
المحمول بالريح وأحست النملة بنزولهم في وادي النمل * (قالت نملة) * النمل حيوان فطن قوي الحس يدخر قوته ويقسم الحبة بقسمين لئلا تنبت ويقسم حبة الكسبرة على أربع قطع لأنها تنبت إذا قسمت قسمين ولإفراط إدراكها قالت هذا القول وروي أن سليمان سمع كلامها وكان بينه وبينها ثلاثة أميال وهذا لا يسمعه البشر إلا من خصه الله بذلك * (ادخلوا) * خاطبتهم مخاطبة العقلاء لأنها أمرتهم بما يؤمر به العقلاء * (لا يحطمنكم) * يحتمل أن يكون جوابا للأمر أو نهيا بدلا من الأمر لتقارب المعنى * (وهم لا يشعرون) * الضمير لسليمان وجنوده والمعنى اعتذار عنهم لو حطموا النمل أي لو شعروا بهم لم يحطموهم * (فتبسم ضاحكا) * تبسم لأحد أمرين أحدهما سروره بما أعطاه الله والآخر ثناء النملة عليه وعلى جنوده فإن قولها وهم لا يشعرون وصف لهم بالتقوى والتحفظ من مضرة الحيوان * (وتفقد الطير) * اختلف الناس في معنى تفقده للطير فقيل ذلك لعنايته بأمور ملكه وقيل لأن الطير كانت تظله فغاب الهدهد فدخلت الشمس عليه من موضعه * (أم كان من الغائبين) * أم منقطعة فإنه نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال مالي لا أرى الهدهد أي لا أراه ولعله حاضر وستره ساتر ثم علم بأنه غائب فأخبر بذلك * (لأعذبنه) * روي أن تعذيبه للطير كان بنتف ريشه * (بسلطان مبين) * أي حجة بينة * (فمكث) * أي أقام ويجوز فتح الكاف وضمها وبالفتح قرأ عاصم والفعل يحتمل أن يكون مسندا إلى سليمان عليه السلام أو إلى الهدهد وهو أظهر * (غير بعيد) * يعني زمان قريب * (أحطت) * أي أحطت علما بما لم تعلمه * (من سبإ) * يعني قبيلة من العرب وجدهم الذي يعرفون به سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ومن صرفه أراد الحي أو الأب ومن لم يصرفه أراد القبيلة أو البلدة وقرئ بالتسكين لتوالي الحركات وعلى القراءة بالتنوين يكون في قوله من سبإ بنبأ ضرب من أدوات البيان وهو التجنيس * (وجدت امرأة تملكهم) * المرأة بلقيس بنت شراحيل كان أبوها ملك اليمن ولم يكن له ولد غيرها فغلبت بعده على الملك والضمير في تملكهم يعود على سبإ وهم قومها " من كل
94

شيء) عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجه الملك * (ولها عرش عظيم) * يعني سرير ملكها ووقف بعضهم على عرش ثم ابتدأ عظيم وجدتها على تقدير عظيم أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وهذا خطأ وإنما حمله عليه الفرار من وصف عرشها بالعظمة " أن لا يسجدوا لله " من كلام الهدهد أو من كلام الله وقرأ الجمهور بالتشديد وأن في موضع نصب على البدل من أعمالهم أو في موضع خفض على البدل من السبيل أو يكون التقدير لا يهتدون لأن يسجدوا بحذف اللام وزيادة لا وقرئ بالتخفيف على أن تكون لا حرف تنبيه وأن تكون الياء حرف نداء فيوقف عليها بالألف على تقدير يا قوم ثم يبتدأ اسجدوا * (يخرج الخبء) * الخبء في اللغة الخفي وقيل معناه هنا الغيب وقيل يخرج النبات من الأرض واللفظ يعم كل خفي وبه فسره ابن عباس * (ثم تول عنهم) * أي تنح إلى مكان قريب لتسمع ما يقولون وروي أنه دخل عليها من كوة فألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة وقيل إن التقدير انظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم فهو من المقلوب والأول أحسن * (ماذا يرجعون) * من قوله يرجع بعضهم إلى بعض القول " قالت يا أيها الملأ " قيل هذا الكلام محذوف تقديره فألقى الهدهد إليها الكتاب فقرأته ثم جمعت أهل ملكها فقالت لهم يا أيها الملأ * (كتاب كريم) * وصفته بالكرم لأنه من عند سليمان أو لأن فيه اسم الله أو لأنه مختوم كما جاء في الحديث كرم الكتاب ختمه * (من سليمان) * يحتمل أن يكون هذا نص الكتاب بدأ فيه بالعنوان وأن يكون من كلامها أخبرتهم أن الكتاب من سليمان * (وأتوني مسلمين) * يحتمل أن يكون من الانقياد بمعنى مستسلمين أو يكون من الدخول في الإسلام " أولو قوة " يحتمل أن يريد قوة الأجساد أو قوة الملك والعدد * (وكذلك يفعلون) * من كلام الله عز وجل تصديقا لقولها فيوقف على ما قبله أو من كلام بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته وتعني كذلك يفعل هؤلاء بنا * (وإني مرسلة إليهم بهدية) * قالت لقومها إني أجرب هذا الرجل بهدية من نفائس الأموال فإن كان ملكا دنيويا أرضاه المال وإن كان نبيا لم يرضه المال وإنما يرضيه دخولنا في دينه فبعث إليه هدية عظيمة وصفها الناس واختصرنا وصفها لعدم صحته * (أتمدونن بمال) * إنكار للهدية لأن الله أغناه عنها بما أعطاه * (بل أنتم بهديتكم تفرحون) * أي أنتم محتاجون إليها فتفرحون بها وأنا لست
95

كذلك * (ارجع إليهم) * خطاب للرسول وقيل للهدهد والأول أرجح لأن قوله فلما جاء سليمان مسند إلى الرسول * (لا قبل لهم بها) * أي لا طاقة لهم بها * (قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) * القائل سليمان والملأ جماعة من الجن والإنس وطلب عرشها قبل أن يأتوه مسلمين لأنه وصف له بعظمة فأراد أن يأخذه قبل أن يسلموا فيمنع إسلامهم من أخذ أموالهم فمسلمين على هذا من الدخول في دين الإسلام وقيل إنما طلب عرشها قبل أن يأتوه مسلمين ليظهر لهم قوته فمسلمين على هذا بمعنى منقادين * (قال عفريت) * روي عن وهب بن منبه أن اسم هذا العفريت الكودن * (قبل أن تقوم من مقامك) * قبل أن تقوم من موضع الحكم وكان يجلس من بكرة إلى الظهر وقيل معناه قبل أن تستوي من جلوسك قائما * (قال الذي عنده علم من الكتاب) * هو آصف بن برخيا وكان رجلا صالحا من بني إسرائيل كان يعلم اسم الله الأعظم وقيل هو الخضر وقيل هو جبريل والأول أشهر وقيل سليمان وهذا بعيد * (آتيك به) * في الموضعين يحتمل أن يكون فعلا مستقبلا أو اسم فاعل * (قبل أن يرتد إليك طرفك) * الطرف العين فالمعنى على هذا قبل أن تغض بصرك إذا نظرت إلى شيء وقيل الطرف تحريك الأجفان إذا نظرت * (فلما رآه مستقرا عنده) * قيل هنا محذوف تقديره فجاءه الذي عنده علم من الكتاب بعرشها ومعنى مستقرا عنده حاصلا عنده وليس هذا بمستقر الذي يقدر النحويون تعلق المجرورات به خلافا لمن فهم ذلك * (يشكر لنفسه) * أي منفعة الشكر لنفسه * (قال نكروا لها عرشها) * تنكيره تغيير وصفه وستر بعضه وقيل الزيادة فيه والنقص منه وقصد بذلك اختبار عقلها وفهمها * (أتهتدي) * يحتمل أن يريد تهتدي لمعرفة عرشها أو للجواب عنه إذا سئلت أو للإيمان * (فلما جاءت قيل أهكذا عرشك) * كان عرشها قد وصل قبلها إلى سليمان فأمر بتنكيره وأن يقال لها أهكذا عرشك أي أمثل هذا عرشك لئلا تفطن أنه هو فأجابته بقولها كأنه هو جوابا عن السؤال ولم تقل هو تحرزا من الكذب أو من التحقيق في محل الاحتمال * (وأوتينا العلم من قبلها) * هذا من كلام سليمان وقومه لما رأوها قد آمنت قالوا ذلك اعترافا بنعمة الله عليهم في أن آتاهم العلم قبل بلقيس وهداهم للإسلام قبلها والجملة معطوفة على كلام محذوف تقديره قد أسلمت هي وعلمت وحدانية الله وصحة النبوة وأوتينا نحن العلم قبلها * (وصدها ما كانت تعبد من دون الله) * هذا يحتمل أن يكون من كلام سليمان وقومه أو من كلام الله تعالى ويحتمل أن يكون * (ما كانت تعبد) * فاعلا أو مفعولا فإن كان
فاعلا فالمعنى صدها ما كانت تعبد عن عبادة الله والدخول في الإسلام
96

حتى إلى هذا الوقت وإن كان مفعولا فهو على إسقاط حرف الجر والمعنى صدها الله أو سليمان عن ما كانت تعبد من دون الله فدخلت في الإسلام * (قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها) * الصرح في اللغة هو القصر وقيل صحن الدار روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصرا من زجاج أبيض وأجرى الماء من تحته وألقى فيه دواب البحر من السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه فلما رأته حسبته لجة واللجة الماء المجتمع كالبحر فكشفت عن ساقيها لتدخله لما أمرت بدخوله وروي أن الجن كرهوا تزوج سليمان لها فقالوا له إن عقلها مجنون وإن رجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش فوجدها عاقلة واختبر ساقها بالصرح فلما كشفت عن ساقيها وجدها أحسن الناس ساقا فتزوجها وأقرها على ملكها باليمن وكان يأتيها مرة في كل شهر وقيل أسكنها معه بالشام * (قال إنه صرح ممرد من قوارير) * لما ظنت أن الصرح لجة ماء وكشفت عن ساقيها لتدخل الماء قال لها سليمان إنه صرح ممرد والممرد الأملس وقيل الطويل والقوارير جمع قارورة وهي الزجاجة * (قالت رب إني ظلمت نفسي) * تعني بكفرها فيما تقدم * (وأسلمت مع سليمان) * هذا ضرب من ضروب التجنيس " فريقين يختصمون " الفريقان من آمن ومن كفر واختصامهم اختلافهم وجدالهم في الدين * (لم تستعجلون) * أي لم تطلبون العذاب قبل الرحمة أو المعصية قبل الطاعة * (قالوا اطيرنا بك) * أي تشاءمنا بك وكانوا قد أصابهم القحط * (قال طائركم عند الله) * أي السبب الذي يحدث عنه خيركم أو شركم هو عند الله وهو قضاؤه وقدره وذلك رد عليهم في تطيرهم ونسبتهم ما أصابهم من القحط إلى صالح عليه السلام * (وكان في المدينة) * يعني مدينة ثمود * (يفسدون في الأرض) * قيل إنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم ولفظ الفساد أعم من ذلك * (تقاسموا بالله) * أي حلفوا بالله وقيل إنه فعل ماض وذلك ضعيف والصحيح أنه فعل أمر قاله بعضهم لبعض وتعاقدوا عليه * (لنبيتنه وأهله) * أي لنقتلنه وأهله بالليل وهذا هو الفعل الذي تحالفوا عليه * (ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله) * أي نتبرأ من دمه إن طلبنا به وليه ومهلك يحتمل أن يكون اسم مصدر أو زمان أو مكان فإن قيل إن قولهم ما شهدنا مهلك أهله يقتضي التبري من دم أهله دون التبري من دمه فالجواب من ثلاثة أوجه الأول أنهم أرادوا ما شهدنا مهلكه ومهلك أهله وحذف مهلكه لدلالة قولهم لنبيتنه وأهله والثاني أن أهل الإنسان قد يراد به هو وهم لقوله وأغرقنا آل فرعون يعني فرعون وقومه الثالث أنهم قالوا مهلك أهله خاصة ليكونوا صادقين فإنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله معا وأرادوا التعريض في كلامهم لئلا
97

يكذبوا * (وإنا لصادقون) * يحتمل أن يكون قولهم وإنا لصادقون مغالطة مع اعتقادهم أنهم كاذبون ويحتمل أنهم قصدوا وجها من التعريض ليخرجوا به عن الكذب وقد ذكرناه في الجواب الثالث عن مهلك أهله وهو أنهم قصدوا أن يقتلوا صالحا وأهله معا ثم يقولون ما شهدنا مهلك أهله وحدهم وإنا لصادقون في ذلك بل يعنون أنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله معا وعلى ذلك حمله الزمخشري * (أنا دمرناهم وقومهم) * روي أن الرهط الذين تقاسموا على قتل صالح اختفوا ليلا في غار قريبا من داره ليخرجوا منه إلى داره بالليل فوقعت عليهم صخرة فأهلكتهم ثم هلك قومهم بالصيحة ولم يعلم بعضهم بهلاك بعض ونجا صالح ومن آمن به * (وأنتم تبصرون) * قيل معناه تبصرون بقلوبكم أنها معصية وقيل تبصرون بأبصاركم لأنهم كانوا ينكشفون بفعل ذلك ولا يستتر بعضهم من بعض وقيل تبصرون آثار الكفار قبلكم وما نزل بهم من العذاب يتطهرون والغابرين وأمطرنا قد ذكر * (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) * أمر الله رسوله أن يتلو الآيات المذكورة بعد هذا لأنها براهين على وحدانيته وقدرته وأن يستفتح ذلك بحمده والسلام على من اصطفاه من عباده كما تستفتح الخطب والكتب وغيرها بذلك تيمنا بذكر الله قال ابن عباس يعني بعباده الذين اصطفى الصحابة واللفظ يعم الملائكة والأنبياء والصحابة والصالحين * (آلله خير أما يشركون) * على وجه الرد على المشركين فدخلت خير التي يراد بها التفضيل لتبكيتهم وتعنيفهم مع أنه معلوم أنه لا خير فيما أشركوا أصلا ثم أقام عليهم الحجة بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وبغير ذلك مما ذكره إلى تمام هذه الآيات وأعقب كل برهان منها بقوله أإله مع الله على وجه التقرير لهم على أنه لم يفعل ذلك كله إلا الله وحده فقامت عليهم الحجة بذلك وفيها أيضا نعم يجب شكرها فقامت بذلك أيضا وأم في قوله خير أما يشركون متصلة عاطفة وأم في المواضع التي بعده منقطعة بمعنى بل والهمزة * (قوم يعدلون) * أي يعدلون عن الحق والصواب أو يعدلون بالله غيره أي يجعلون له عديلا ومثيلا * (رواسي) * يعني الجبال * (البحرين) * ذكر في الفرقان * (يجيب المضطر) * قيل هو المجهود وقيل الذي
98

لا حول له ولا قوة واللفظ مشتق من الضرر أي الذي أصابه الضر أو من الضرورة أي الذي ألجأته الضرورة إلى الدعاء * (خلفاء الأرض) * أي خلفاء فيها تتوارثون سكناها " أمن يهديكم " يعني الهداية بالنجوم والطرقات * (بشرا) * ذكر في الأعراف * (من السماء والأرض) * الرزق من السماء المطر ومن الأرض النبات * (هاتوا برهانكم) * تعجيز للمشركين * (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) * هذه الآية تقتضي انفراد الله تعالى بعلم الغيب وأنه لا يعلمه سواه ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدا يعلم الغيب فقد أعظم الفرية على الله ثم قرأت هذه الآية فإن قيل فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بالغيوب وذلك معدود في معجزاته فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم قال إني لا أعلم الغيب إلا ما علمني الله فإن قيل كيف ذلك مع ما ظهر من إخبار الكهان والمنجمين وأشباههم بالأمور المغيبة فالجواب أن إخبارهم بذلك عن ظن ضعيف أو عن وهم لا عن علم وإنما اقتضت الآية نفي العلم وقد قيل إن الغيب في هذه الآية يراد به متى تقوم الساعة لأن سبب نزولها أنهم سألوا عن ذلك ولذلك قال وما يشعرون أيان يبعثون فعلى هذا يندفع السؤال الأول والثاني لأنه علم الساعة انفرد به الله تعالى لقوله تعالى * (قل إنما علمها عند الله) * ولقوله صلى الله عليه وسلم في خمس لا يعلمها إلا الله ثم قرأ إن الله عنده علم الساعة إلى آخر السورة فإن قيل كيف قال إلا بالرفع على البدل والبدل لا يصح إلا إذا كان الاستثناء متصلا ويكون ما بعد إلا من جنس ما قبلها والله تعالى ليس ممن في السماوات والأرض باتفاق فإن القائلين بالجهة والمكان يقولون إنه فوق السماوات والأرض والقائلين بنفي الجهة يقولون إن الله تعالى ليس بهما ولا فوقهما ولا داخلا فيهما ولا خارجا عنهما فهو على هذا استثناء منقطع فكان يجب أن يكون منصوبا فالجواب من أربعة أوجه الأول أن البدل هنا جاء على لغة بني تميم في البدل وإن كان منقطعا كقولهم ما في الدار أحد إلا حمار بالرفع والحمار ليس من الأحدين
وهذا ضعيف لأن القرآن أنزل بلغة الحجاز لا بلغة بني تميم والثاني أن الله في السماوات والأرض بعلمه كما قال وهو معكم أينما كنتم يعني بعلمه فجاء البدل على هذا المعنى وهذا ضعيف لأن قوله في السماوات والأرض وقعت فيه لفظة في الظرفية الحقيقية وهي في حق الله على هذا المعنى للظرفية المجازية ولا يجوز استعمال لفظة واحدة في الحقيقة والمجاز في حالة واحدة عند المحققين الجواب الثالث أن قوله من في السماوات والأرض يراد به كل موجود فكأنه قال من في الوجود فيكون الاستثناء على هذا متصلا فيصح الرفع على البدل وإنما قال من في السماوات والأرض جريا على منهاج كلام العرب فهو لفظ خاص يراد به ما هو أعم منه الجواب الرابع أن يكون الاستثناء متصلا على أن يتأول من في السماوات في حق الله كما يتأول قوله أأمنتم من في السماء وحديث
99

الجارية وشبه ذلك * (وما يشعرون أيان يبعثون) * أي لا يشعرون من في السماوات والأرض متى يبعثون لأن علم الساعة مما انفرد به الله روي أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة * (بل ادارك علمهم في الآخرة) * وزن ادارك تفاعل ثم سكنت التاء وأدغمت في الدال واجتلبت ألف الوصل والمعنى تتابع علمهم بالآخرة وتناهى إلى أن يكفروا بها أو تناهى إلى أن لا يعلموا وقتها وقرئ أدرك بهمزة قطع على وزن أفعل والمعنى على هذا يدرك علمهم في الآخرة أي يعلمون فيها الحق لأنهم يشاهدون حينئذ الحقائق فقوله في الآخرة على هذا ظرف وعلى القراءة الأولى بمعنى الباء * (عمون) * جمع عم وهو من عمى القلوب * (ردف لكم) * أي تبعكم واللام زائدة أو ضمن معنى قرب وتعدى باللام ومعنى الآية أنهم استعجلوا العذاب بقولهم متى هذا الوعد فقيل لهم عسى أن يكون قرب لكم بعض العذاب الذي تستعجلون وهو قتلهم يوم بدر * (غائبة) * الهاء فيه للمبالغة أي ما من شيء في غاية الخفاء إلا وهو عند الله في كتاب * (إنك لا تسمع الموتى) * شبه من لا يسمع ولا يعقل بالموتى في أنهم لا يسمعون وإن كانوا أحياء ثم شبههم بالصم وبالعمي وإن كانوا صحاح الحواس وأكد عدم سماعهم بقوله إذا ولوا مدبرين لأن الأصم إذا أدبر وبعد عن الداعي زاد صممه وعدم سماعه بالكلية * (وإذا وقع القول عليهم) * أي إذا حان وقت عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله في ذلك وهو قضاؤه والمعنى إذا قربت الساعة أخرجنا لهم دابة من الأرض وخروج الدابة من أشراط الساعة وروي أنها تخرج من المسجد الحرام وقيل من الصفا وأن طولها ستون ذراعا وقيل هي الجساسة التي وردت في الحديث * (تكلمهم) * قيل تكلمهم ببطلان الأديان كلها إلا دين الإسلام وقيل تقول لهم ألا لعنة الله على الظالمين وروي أنها تسم الكافر وتحطم أنفه وتسود وجهه وتبيض وجه المؤمن * (ان الناس) * من قرأ بكسر الهمزة فهو ابتداء كلام
100

ومن قرأ بالفتح فهو مفعول تكلمهم أي تقول لهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون أو مفعول من أجله تقديره تكلمهم لأن الناس لا يوقنون ثم حذفت اللام ويحتمل قوله لا يوقنون بخروج الدابة ولا يوقنون بالآخرة وأمور الدين وهذا أظهر * (فهم يوزعون) * أي يساقون بعنف " أماذا كنتم تعملون " أم استفهامية والمعنى إقامة الحجة عليهم كأنه قيل لهم إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوها * (ووقع القول عليهم) * أي حق العذاب عليهم أو قامت الحجة عليهم * (فهم لا ينطقون) * إنما يسكتون لأن الحجة قد قامت عليهم وهذا في بعض مواطن القيامة وقد جاء أنهم يتكلمون في مواطن * (ليسكنوا فيه) * ذكر في يونس * (ينفخ في الصور) * ذكر في الكهف * (إلا من شاء الله) * قيل هم الشهداء وقيل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام * (داخرين) * صاغرين متذللين * (تحسبها جامدة) * أي قائمة ثابتة * (وهي تمر) * يكون مرورها في أول أحوال يوم القيامة ثم ينسفها الله في خلال ذلك فتكون كالعهن ثم تصير هباء منبثا * (صنع الله) * مصدر والعامل فيه محذوف وقيل هو منصوب على الإغراء أي انظروا صنع الله * (من جاء بالحسنة فله خير منها) * قيل إن الحسنة لا إله إلا الله واللفظ أعم ومعنى خير منها أن له بالحسنة الواحدة عشرا * (من فزع يومئذ) * من نون فزع فتح الميم من يومئذ ومن أسقط التنوين للإضافة قرأ بفتح الميم على البناء أو بكسرها على الإعراب * (ومن جاء بالسيئة) * السيئة هنا الكفر والمعاصي التي قضى الله بتعذيب فاعلها * (هذه البلدة) * يعني مكة * (الذي حرمها) * أي جعلها حرما آمنا لا يقاتل فيها أحد ولا ينتهك حرمتها ونسب تحريمها هنا إلى الله لأنه بسبب قضائه وأمره ونسبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيم عليه السلام في قوله إن إبراهيم حرم مكة لأن إبراهيم هو الذي أعلم الناس بتحريمها فليس بين الحديث والآية تعارض وقد جاء في حديث آخر أن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض * (ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) * أي إنما علي الإنذار والتبليغ " سيريكم
101

آياته) وعيد بالعذاب الذي يضطرهم إلى معرفة آيات الله إما في الدنيا أو في الآخرة
سورة القصص
* (علا في الأرض) * أي تكبر وطغا * (شيعا) * أي فرقا مختلفين فجعل فرعون القبط ملوكا وبني إسرائيل خداما لهم وهم الطائفة الذين استضعفهم وأراد الله أن يمن عليهم ويجعلهم أئمة أي ولاة في الأرض أرض فرعون وقومه * (هامان) * هو وزير فرعون * (وأوحينا إلى أم موسى) * اختلف هل كان هذا الوحي بإلهام أو منام أو كلام بواسطة الملك وهذا أظهر لثقتها بما أوحى إليها وامتثالها ما أمرت به * (فإذا خفت عليه) * أي إذا خفت عليه أن يذبحه فرعون لأنه كان يذبح أبناء بني إسرائيل لما أخبره الكهان أن هلاكه على يد غلام منهم * (فالتقطه آل فرعون) * الالتقاط اللقاء من غير قصد روي أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت في البحر وهو النيل فأمرت أن يساق لها ففتحته فوجدت فيه صبيا فأحبته وقالت لفرعون هذا قرة عين لي ولك * (ليكون لهم عدوا) * اللام لام العاقبة وتسمى أيضا لام الصيرورة * (لا تقتلوه) * روي أن فرعون هم بذبحه إذ توسم أنه من بني إسرائيل فقالت امرأته لا تقتلوه * (وهم لا يشعرون) * أي لا يشعرون أن هلاكهم يكون على يديه والضمير الفاعل لفرعون وقومه * (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) * أي ذاهلا لا عقل معها وقيل فارغا من الحزن إذ لم يغرق وهذا بعيد لما بعده وقيل فارغا من كل شيء إلا من ذكر الله وقرئ فزعا بالزاي من الفزع * (إن كادت لتبدي به) * أي تظهر أمره وفي الحديث كادت أم موسى أن تقول واابناه وتخرج صائحة على وجهها * (ربطنا على قلبها) * أي رزقناها الصبر * (لتكون من المؤمنين) * أي من المصدقين بالوعد الذي وعدها الله " وقالت
102

لأخته قصيه) أي اتبعيه والقص طلب الأثر فخرجت أخته تبحث عنه في خفية * (فبصرت به عن جنب) * أي رأته من بعيد ولم تقرب منه لئلا يعلموا أنها أخته وقيل معنى عن جنب عن شوق إليه وقيل معناه أنها نظرت إليه كأنها لا تريده * (وهم لا يشعرون) * أي لا يشعرون أنها أخته * (وحرمنا عليه المراضع) * أي منع منها بأن بغضها الله له والمراضع جمع مرضعة وهي المرأة التي ترضع أو جمع مرضع بفتح الميم والضاد وهو موضع الرضاع يعني الثدي * (من قبل) * أي من أول مرة * (فقالت هل أدلكم) * القائلة أخته تخاطب آل فرعون * (فرددناه إلى أمه) * لما منعه الله من المراضع وقالت أخته هل أدلكم على أهل بيت الآية جاءت بأمه فقبل ثديها فقال لها فرعون ومن أنت منه فما قبل ثدي امرأة إلا ثديك فقالت إني امرأة طيبة اللبن فذهبت به إلى بيتها وقرت عينها بذلك وعلمت أن وعد الله حق في قوله إنا رادوه إليك " بلغ أشده " ذكر في يوسف * (واستوى) * أي كمل عقله وذلك مع الأربعين سنة * (ودخل المدينة) * يعني مصر وقيل قرية حولها والأول أشهر * (على حين غفلة) * قيل في القائلة وقيل بين العشاءين وقيل يوم عيد وقيل كان قد جفا فرعون وخاف على نفسه فدخل مختفيا متخوفا * (هذا من شيعته) * الذي من شيعته من بني إسرائيل والذي من عدوه من القبط * (فوكزه موسى) * أي ضربه والوكز الدفع بأطراف الأصابع وقيل بجمع الكف * (فقضى عليه) * أي قتله ولم يرد أن يقتله ولكن وافقت وكزته الأجل فندم وقال هذا من عمل الشيطان أي إن الغضب الذي أوجب ذلك كان من الشيطان ثم اعترف واستغفر فغفر الله له فإن قيل كيف استغفر من القتل وكان المقتول كافرا فالجواب أنه لم يؤذن له في قتله ولذلك يقول يوم القيامة إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها * (قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) * الظهير المعين والباء سببية والمعنى بسبب إنعامك علي لا أكون ظهيرا للمجرمين فهي معاهدة عاهد موسى عليها ربه وقيل الباء باء القسم وهذا ضعيف لأن قوله فلن أكون لا يصلح لجواب القسم وقيل جواب القسم محذوف تقديره وحق نعمتك لأتوبن فلن أكون ظهيرا للمجرمين وقيل الباء للتحليف أي اعصمني بحق نعمتك علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ويحتج بهذه الآية على المنع من صحبة ولاة الجور * (يترقب) * في الموضعين أي يستحس هل يطلبه أحد * (يستصرخه) * أي
103

يستغيث به لقي موسى الإسرائيلي الذي قاتل القبطي بالأمس يقاتل رجلا آخر من القبط فاستغاث بموسى لينصره كما نصره بالأمس فعظم ذلك على موسى وقال له إنك لغوي مبين * (فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما) * الضمير في أراد وفي يبطش لموسى وفي قال للإسرائيلي والمعنى لما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الذي هو عدو له وللإسرائيلي ظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به إذ قال له إنك لغوي مبين فقال الإسرائيلي لموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس وقيل الضمير في أراد للإسرائيلي والمعنى فلما أراد الإسرائيلي أن يبطش موسى بالقبطي ولم يفعل موسى ذلك لندامته على قتله الآخر بالأمس فنصح الإسرائيلي فقال له أتريد أن تقتلني فاشتهر خبر قتله للآخر إلى أن وصل إلى فرعون * (وجاء رجل) * قيل إنه مؤمن آل فرعون وقيل غيره * (يسعى) * أي يسرع في مشيه ليدرك موسى فينصحه (إن الملأ يأتمرون بك) يتشاورون وقيل يأمر بعضهم بعضا بقتلك كما قتلت القبطي * (ولما توجه تلقاء مدين) * أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي مدينة شعيب عليه السلام * (قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) * أي وسط الطريق يعني طريق مدين إذ كان قد خرج فارا بنفسه وكان لا يعرف الطريق وبين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام وقيل أراد سبيل الهدى وهذا أظهر ويدل كلامه هذا على أنه كان عارفا بالله قبل نبوته * (ولما ورد ماء مدين) * أي وصل إليه وكان بئرا * (يسقون) * أي يسقون مواشيهم * (امرأتين) * روي أن اسمهما ليا وصفوريا وقيل صفيرا وصفرا * (تذودان) * أي تمنعان الناس عن غنمهما وقيل تذودان غنمهما عن الماء حتى يسقي الناس وهذا أظهر لقولهما لا نسقي حتى يصدر الرعاء أي كانت عادتهما ألا يسقيا غنمهما الإ بعد الناس لقوة الناس ولضعفهما أو لكراهتهما التزاحم مع الناس * (يصدر) * بضم الياء وكسر الدال فعل متعد والمفعول محذوف تقديره حتى يصدر الرعاء مواشيهم وقرئ بفتح الياء وضم الدال أي ينصرفون عن الماء * (وأبونا شيخ كبير) * أي لا يستطيع أن يباشر سقي غنمه وهذا الشيخ هو شعيب عليه السلام في قول الجمهور وقيل ابن أخيه وقيل رجل صالح ليس من شعيب بنسب * (فسقى لهما) * أي أدركته شفقته عليهما فسقى غنمهما وروي أنه كان على فم البئر صخرة لا يرفعها إلا ثلاثون رجلا فرفعها وحده * (تولى إلى الظل) * أي جلس في الظل وروي أنه كان ظل سمرة * (إني لما أنزلت إلي من خير فقير) * طلب من الله ما يأكله وكان قد
104

اشتد عليه الجوع * (فجاءته إحداهما) * قبل هذا كلام محذوف تقديره فذهبتا إلى أبيهما سريعتين وكانت عادتهما الإبطاء في السقي فأخبرتاه بما كان من أمر سقي الرجل لهما فأمر إحداهما أن تدعوه له فجاءته واختلف هل التي جاءته الصغرى أو الكبرى * (على استحياء) * روي أنها سترت وجهها بكم درعها والمجرور يتعلق بما قبله وقيل بما بعده وهو ضعيف * (وقص عليه القصص) * أي ذكر له قصته * (لا تخف) * أي قد نجوت من فرعون وقومه لأن بلد مدين لم يكن من ملك فرعون * (استأجره) * أي اجعله أجيرا لك * (إن خير من استأجرت القوي الأمين) * هذا الكلام حكمة جامعة بليغة روي أن أباها قال لها من أين عرفت قوته وأمانته قالت أما قوته ففي رفعه الحجر عن فم البئر وأما أمانته فإنه لم ينظر إلي * (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي) * زوجته التي دعته واختلف هل زوجه الكبرى أو الصغرى واسم التي زوجه صفور وقيل صفوريا ومن لفظ شعيب حسن أن يقال في عقود الأنكحة أنكحه إياها أكثر من أن يقال أنكحها إياه * (على أن تأجرني ثماني حجج) * أي أزوجك بنتي على أن تخدمني ثمانية أعوام قال مكي في هذه الآية خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول الأمد وجعل المهر إجارة قلت فأما التعيين فيحتمل أن يكون عند عقد النكاح بعد هذه المراودة وقد قال الزمخشري إن كلامه معه لم يكن عقد نكاح وإنما كان مواعدة وأما ذكر أول الأمد فالظاهر أنه من حين العقد وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية وقد قرره شرعنا حسبما ورد في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم للرجل قد زوجتكها على ما معك من القرآن أي على أن تعلمها ما عندك من القرآن وقد أجاز النكاح بالإجارة الشافعي وابن حنبل وابن حبيب للآية والحديث ومنعه مالك * (فإن أتممت عشرا فمن عندك) * جعل الأعوام الثمانية شرطا ووكل العامين إلى مروءة موسى فوفى له العشر وقيل وفي العشرة وعشرا بعدها وهذا ضعيف لقوله * (فلما قضى موسى الأجل) * أي الأجل المذكور * (وسار بأهله) * الأهل هنا الزوجة مشى بها إلى مصر * (جذوة) * أي قطعة ويجوز كسر الجيم وضمها وقد ذكر آنس والطور وتصطلون * (شاطئ الواد) *
جانبه والأيمن صفة للشاطئ اليمين ويحتمل أن يكون من اليمن فيكون صفة للوادي * (من الشجرة) * روي أنها كانت عوسجة * (جان) * ذكر في النمل
105

* (اسلك يدك في جيبك) * أي أدخلها فيه والجيب هو فتح الجبة من حيث يخرج الإنسان رأسه * (واضمم إليك جناحك) * الجناح اليد أو الإبط أو العضد أمره الله لما خاف من الحية أن يضمه إلى جنبه ليخف بذلك خوفه فإن من شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يخف خوفه وقيل ذلك على وجه المجاز والمعنى أنه أمر بالعزم على ما أمر به كقوله اشدد حيازمك واربط جأشك * (من الرهب) * أي من أجل الرهب وهو الخوف وفيه ثلاثة لغات فتح الراء والهاء وفتح الراء وإسكان الهاء وضم الراء وإسكان الهاء * (فذانك برهانان) * أي حجتان والإشارة إلى العصا واليد * (إلى فرعون) * يتعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام * (ردءا) * أي معينا وقرئ بالهمز وبغير همز على التسهيل من المهموز أو يكون من أرديت أي زدت * (سنشد عضدك بأخيك) * استعارة في المعونة * (بآياتنا) * يحتمل أن يتعلق بقوله نجعل أو بيصلون أو بالغالبون * (فأوقد لي يا هامان على الطين) * أي اصنع الآجر لبنيان الصرح الذي رام أن يصعد منه إلى السماء وروي أنه أول من عمل الآجر وكان هامان وزير فرعون وانظر ضعف عقولهما وعقول قومهما وجهلهم بالله تعالى في كونهم طمعوا أن يصلوا إلى السماء ببنيان الصرح وقد روي أنه عمله وصعد عليه ورمى بسهم إلى السماء فرجع مخضوبا بدم وذلك فتنة له ولقومه وتهكم بهم ثم قال * (وإني لأظنه من الكاذبين) * يعني في دعوى الرسالة والظن هنا يحتمل أن يكون على بابه أو بمعنى اليقين * (أئمة يدعون إلى النار) * أي كانوا يدعون الناس إلى الكفر الموجب للنار * (من المقبوحين) * أي من المطرودين المبعدين وقيل قبحت وجوههم وقيل
106

قبح ما يفعل بهم وما يقال لهم * (وما كنت بجانب الغربي) * خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والمراد به إقامة حجة لإخباره بحال موسى وهو لم يحضره والغربي المكان الذي في غربي الطور وهو المكان الذي كلم الله فيه موسى والأمر المقضي إلى موسى هو النبوة ومن الشاهدين معناه من الحاضرين هنالك * (ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر) * المعنى لم تحضر يا محمد للاطلاع على هذه الغيوب التي تخبر بها ولكنها صارت إليك بوحينا فكان الواجب على الناس المسارعة إلى الإيمان بك ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها فغابت عقولهم واستحكمت جهالتهم فكفروا بك وقيل المعنى لكنا أنشأنا قرونا بعد زمان موسى فتطاول عليهم العمر وطالت الفترة فأرسلناك على فترة من الرسل * (ثاويا) * أي مقيما * (إذ نادينا) * يعني تكليم موسى والمراد بذلك إقامة حجة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لإخباره بهذه الأمور مع أنه لم يكن حاضرا حينئذ * (ولكن رحمة) * انتصب على المصدر أو على أنه مفعول من أجله والتقدير ولكن أرسلناك رحمة منا لك ورحمة للخلق بك * (ولولا أن تصيبهم مصيبة) * لو هنا حرف امتناع ولولا الثانية عرض وتحضيض والمعنى لولا أن تصيبهم مصيبة بكفرهم لم نرسل الرسل وإنما أرسلناهم على وجه الإعذار وإقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين * (فلما جاءهم الحق) * يعني القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم * (قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى) * يعنون إنزال الكتاب عليه من السماء جملة واحدة وقلب العصا حية وفلق البحر وشبه ذلك " أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل " هذا رد عليهم فيما طلبوه والمعنى أنهم كفروا بما أوتي موسى فلو آتينا محمدا مثل ذلك لكفروا به ومن قبل على هذا يتعلق بقوله أوتي موسى ويحتمل أن يتعلق بقوله أولم يكفروا إن كانت الآية في بني إسرائيل والأول أحسن " قالوا ساحران تظاهرا " يعنون موسى وهارون أو موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم والضمير في أولم يكفروا وفي قالوا لكفار قريش وقيل لآبائهم وقيل لليهود والأول أظهر وأصح لأنهم المقصودون بالرد عليهم * (فأتوا بكتاب) * أمر على وجه التعجيز لهم * (أهدى منهما) * الضمير يعود على كتاب موسى وكتاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم * (فإن لم يستجيبوا لك) * قد علم أنهم لا يستجيبون للإتيان بكتاب هو أهدى منهما أبدا ولكنه ذكره بحرف إن مبالغة في إقامة الحجة عليهم
107

كقوله فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاعلم أنما يتبعون أهواءهم المعنى إن لم يأتوا بكتاب فاعلم أن كفرهم عناد واتباع أهوائهم لا بحجة وبرهان * (ولقد وصلنا لهم القول) * الضمير لكفار قريش وقيل لليهود والأول أظهر لأن الكلام من أوله معهم والقول هنا القرآن ووصلنا لهم أبلغناه لهم أو جعلناه موصلا بعضه ببعض * (الذين آتيناهم الكتاب من قبله) * يعني من أسلم من اليهود وقيل النجاشي وقومه وقيل نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهم عشرون رجلا فآمنوا به والضمير في قبله للقرآن وقولهم إنه الحق تعليل لإيمانهم وقولهم إنا كنا من قبله مسلمين بيان لأن إسلامهم قديم لأنهم وجدوا ذكر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم قبل أن يبعث * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) * قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت له أمة فأعتقها وتزوجها * (بما صبروا) * يعني صبرهم على إذاية قومهم لهم لما أسلموا أو غير ذلك من أنواع الصبر " ويدرؤون بالحسنة السيئة " أي يدفعون ويحتمل أن يريد بالسيئة ما يقال لهم من الكلام القبيح وبالحسنة ما يجاوبون به من الكلام الحسن أو يريد سيئات أعمالهم وحسناتها كقوله إن الحسنات يذهبن السيئات * (وإذا سمعوا اللغو) * يعني ساقط الكلام * (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) * هذا على وجه التبري والبعد من القائلين للغو * (سلام عليكم) * معناه هنا المتاركة والمباعدة لا التحية أو كأنه سلام الانصراف والبعد * (لا نبتغي الجاهلين) * أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة في الكلام * (إنك لا تهدي من أحببت) * نزلت في أبي طالب إذ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عند موته لا إله إلا الله فقال لولا أن يعايرني بها قريش لأقررت بها عينك ومات على الكفر ولفظ الآية مع ذلك على عمومه * (ولكن الله يهدي من يشاء) * لفظ عام وقيل أراد به العباس بن عبد المطلب * (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) * القائلون لذلك قريش وروي أن الذي قالها منهم الحارث بن عامر بن نوفل والهدى هو الإسلام ومعناه الهدى على زعمك وقيل إنهم قالوا قد علمنا أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك تخطفتنا العرب أي أهلكونا بالقتال لمخالفة دينهم " أولم نمكن لهم حرما آمنا " هذا رد عليهم فيما اعتذروا به من تخطف الناس لهم والمعنى أن الحرم لا تتعرض له العرب بقتال ولا يمكن الله أحدا من إهلاك أهله فقد كانت العرب يغير بعضهم على بعض وأهل الحرم آمنون من ذلك " يجبى إليه ثمرات كل شيء " أي
108

تجلب إليه الأرزاق مع أنه واد غير ذي زرع * (بطرت معيشتها) * معنى بطرت طغت وسفهت ومعيشتها نصب على التفسير مثل التفسير مثل سفه نفسه أو على إسقاط حرف الجر تقديره بطرت في معيشتها أو يتضمن معنى بطرت كفرت * (إلا قليلا) * يعني قليلا من السكنى أو قليلا من الساكنين أي لم يسكنها بعد إهلاكها إلا مارا على الطريق ساعة * (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا) * أم القرى مكة لأنها أول ما خلق الله من الأرض ولأن فيها بيت الله والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى بأن بعث سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم في أم القرى فإن كفروا أهلكهم بظلمهم بعد البيان لهم وإقامة الحجة عليهم " وما أوتيتم من شيء " الآية تحقير للدنيا وتزهيد فيها وترغيب في الآخرة * (أفمن وعدناه) * الآية إيضاح لما قبلها من البون بين الدنيا والآخرة والمراد بمن وعدناه المؤمنين وبمن متعناه الكافرين وقيل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم وأبو جهل وقيل حمزة وأبو جهل والعموم أحسن لفظا ومعنى من المحضرين أي من المحضرين في العذاب * (ويوم يناديهم) * العامل في الظرف مضمر وفاعل ينادي الله تعالى ويحتمل أن يكون نداؤه بواسطة أو بغير واسطة والمفعول به المشركون * (أين شركائي) * توبيخ للمشركين ونسبهم إلى نفسه على زعمهم ولذلك قال الذين كنتم تزعمون فحذف المفعول وتقديره تزعمون أنهم شركاء لي أو تزعمون أنهم شفعاء لكم * (قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا) * معنى حق عليهم القول وجب عليهم العذاب والمراد بذلك رؤساء المشركين وكبراؤهم والإشارة بقولهم هؤلاء الذين أغوينا إلى اتباعهم من الضعفاء فإن قيل كيف الجمع بين قولهم أغوينا وبين قولهم تبرأنا إليك فإنهم اعترفوا بإغوائهم وتبرؤا مع ذلك منهم فالجواب أن إغواءهم لهم هو أمرهم لهم بالشرك والمعنى أنا حملناهم على الشرك كما حملنا أنفسنا عليه ولكن لم يكونوا يعبدوننا إنما كانوا يعبدون غيرنا من الأصنام وغيرها فتبرأنا إليك من عبادتهم لنا فتحصل من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم أغووا الضعفاء وتبرؤا من أن يكونوا هم آلهتهم فلا تناقض في الكلام وقد قيل في معنى الآية غير هذا مما هو تكلف بعيد * (لو أنهم كانوا يهتدون) * فيه أربعة أوجه الأول أن المعنى لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لم يعبدوا الأصنام والثاني لو أنهم كانوا يهتدون لم يعذبوا
109

والثالث لو أنهم كانوا يهتدون في الآخرة لحيلة يدفعون بها العذاب لفعلوا فلو على هذه الأقوال حرف امتناع وجوابها محذوف والرابع أن يكون لو للتمني أي تمنوا لو كانوا مهتدين * (ماذا أجبتم المرسلين) * أي أهل صدقتم المرسلين أو كذبتموهم * (فعميت عليهم الأنباء يومئذ) * عميت عبارة عن حيرتهم والأنباء الأخبار أي أظلمت عليهم الأمور فلم يعرفوا ما يقولون * (فهم لا يتساءلون) * أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الأنباء لأنهم قد تساووا في الحيرة والعجز عن الجواب * (وربك يخلق ما يشاء ويختار) * قيل سببها استغراب قريش لاختصاص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة فالمعنى أن الله يخلق ما يشاء ويختار لرسالته من يشاء من عباده ولفظها أعم من ذلك والأحسن حمله على عمومه أي يختار ما يشاء من الأمور على الإطلاق ويفعل ما يريد * (ما كان لهم الخيرة) * ما نافية والمعنى ما كان للعباد اختيار إنما الاختيار والإرادة لله وحده فالوقف على قوله ويختار وقيل إن ما مفعولة بيختار ومعنى الخيرة على هذا الخير والمصلحة وهذا يجري على قول المعتزلة وذلك ضعيف لرفع الخيرة على أنها اسم كان ولو كانت ما مفعولة لكان اسم كان مضمرا يعود على ما وكانت الخيرة منصوبة على أنها خبر كان وقد اعتذر عن هذا من قال إن ما مفعولة بأن يقال تقدير الكلام يختار ما كان لهم الخيرة فيه ثم حذف الجار والمجرور وهذا ضعيف وقال ابن عطية يتجه أن تكون ما مفعولة إذا قدرنا كان تامة ويوقف على قوله ما كان أي يختار كل كائن ويكون لهم الخيرة جملة مستأنفة وهذا بعيد جدا * (يعلم ما تكن صدورهم) * أي ما تخفيه قلوبهم وعبر عن القلب بالصدر لأنه يحتوي عليه * (له الحمد في الأولى والآخرة) * قيل إن الحمد في الآخرة قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده أو قولهم الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وفي ذكر الأولى مع الآخرة مطابقة * (سرمدا) * أي دائما والمراد بالآيات إثبات الوحدانية وإبطال الشرك فإن قيل كيف قال يأتيكم بضياء وهلا قال يأتيكم بنهار في مقابلة قوله يأتيكم بليل فالجواب أنه ذكر الضياء لجملة ما فيه من المنافع والعبر * (لتسكنوا فيه) * أي في الليل * (ولتبتغوا من فضله) * أي في النهار ففي الآية لف ونشر * (ونزعنا من كل أمة شهيدا) * أي أخرجنا من كل أمة شهيدا منهم يشهد عليهم بأعمالهم
110

وهو نبيهم لأن كل نبي يشهد على أمته * (هاتوا برهانكم) * أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر وذلك إعذار لهم وتوبيخ وتعجيز * (إن قارون كان من قوم موسى) * أي من بني إسرائيل وكان ابن عم موسى وقيل ابن عمته وقيل ابن خالته * (فبغى عليهم) * أي تكبر وطغى ومن ذلك كفره بموسى عليه السلام * (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة) * المفاتح هي التي يفتح بها وقيل هي الخزائن والأول أظهر والعصبة جماعة الرجال من العشرة إلى الأربعين وتنوء معناه تثقل يقال ناء به الحمل إذا أثقله وقيل معنى تنوء تنهض بتحامل وتكلف والوجه على هذا أن يقال إن العصبة تنوء بالمفاتح لكنه قلب كما جاء قلب الكلام عن العرب كثيرا ولا يحتاج إلى قلب على القول الأول * (لا تفرح) * الفرح هنا هو الذي يقود إلى الإعجاب والطغيان ولذلك قال إن الله لا يحب الفرحين وقيل السرور بالدنيا لأنه لا يفرح بها إلا من غفل عن الآخرة ويدل على هذا قوله ولا تفرحوا بما آتاكم * (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) * أي اقصد الآخرة بما أعطاك الله من المال وذلك بفعل الحسنات والصدقات * (ولا تنس نصيبك من الدنيا) * أي لا تضيع حظك من دنياك وتمتع بها مع عملك للآخرة وقيل معناه لا تضيع عمرك بترك الأعمال الصالحات فإن حظ الإنسان من الدنيا إنما هو بما يعمل فيها من الخير فالكلام على هذا وعظ وعلى الأول إباحة للتمتع بالدنيا لئلا ينفر عن قبول الموعظة * (وأحسن كما أحسن الله إليك) * أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بالغنى قال * (إنما أوتيته على علم عندي) * لما وعظه قومه أجابهم بهذا على وجه الرد عليهم والروغان عما ألزموه من الموعظة والمعنى أن هذا المال إنما أعطاه الله لي بالاستحقاق له بسبب علم عندي استوجبته به واختلف في هذا العلم فقيل إنه علم الكيمياء وقيل التجارب للأمور والمعرفة بالمكاسب وقيل حفظه التوراة وهذا بعيد لأنه كان كافرا قيل المعنى إنما أوتيته على علم من الله وتخصيص خصني به ثم جعل قوله عندي كما تقول في ظني واعتقادي " أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون " هذا رد عليه في اغتراره بالدنيا وكثرة جمعه للمال أو جمعه للخدم والأول أظهر * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) * في معناه قولان أحدهما أنه متصل بما قبله والضمير في ذنوبهم يعود على القرون المتقدمة والمجرمون من بعدهم أي لا يسأل المجرمون عن ذنوب من تقدمهم من الأمم
الهالكة لأن كل أحد إنما يسأل عن ذنوبه خاصة والثاني أنه إخبار عن حال المجرمين في الآخرة وأنهم لا يسألون عن ذنوبهم لكونهم يدخلون النار من غير حساب والصحيح أنهم يحاسبون على ذنوبهم ويسئلون عنها لقوله " فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون " وأن هذا السؤال المنفي السؤال على وجه الاختبار وطلب التعريف لأنه لا يحتاج إلى سؤالهم على هذا الوجه لكن يسألون على وجه التوبيخ وحيثما ورد في القرآن إثبات السؤال في الآخرة فهو على معنى المحاسبة والتوبيخ وحيثما ورد نفيه فهو على وجه
111

الاستخبار والتعريف ومنه قوله * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) * * (فخرج على قومه في زينته) * في ثياب حمر وقيل في عبيده وحاشيته واللفظ أعم من ذلك * (ويلكم) * زجر للذين تمنوا مثل حال قارون * (ولا يلقاها إلا الصابرون) * الضمير عائد على الخصال التي دل عليها الكلام المتقدم وهي الإيمان والعمل الصالح وقيل على الكلمة التي قالها الذين أوتوا العلم أي لا تصدر الكلمة إلا عن الصابرين والصبر هنا إمساك النفس عن الدنيا وزينتها * (فخسفنا به وبداره الأرض) * روي أن قارون لما بغى على بني إسرائيل وآذى موسى دعا موسى عليه السلام عليه فأوحى الله إليه أن قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه وفي أتباعه فقال موسى يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب فاستغاثوا بموسى فقال يا أرض خذيهم حتى تم بهم الخسف * (مكانه) * أي منزلته في المال والعزة * (بالأمس) * يحتمل أن يريد به اليوم الذي كان قبل ذلك اليوم أو ما تقدم من الزمان القريب * (ويكأن) * مذهب سيبويه أن وي حرف تنبيه ثم ذكرت بعدها كأن والمعنى على هذا أنهم تنبهوا لخطئهم في قولهم يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ثم قالوا كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي ما أشبه الحال بهذا وقال الكوفيون ويك هو ويلك حذفت منها اللام لكثرة الاستعمال ثم ذكرت بعدها أن والمعنى ألم يعلموا أن الله وقيل ويكأن كلمة واحدة معناها ألم تعلم * (علوا في الأرض) * أي تكبرا وطغيانا لا رفعة المنزلة فإن إرادتها جائزة * (فرض عليك القرآن) * أي أنزله عليك وأثبته وقيل المعنى أعطاك القرآن والمعنى متقارب وقيل فرض عليك أحكام القرآن فهي على حذف مضاف * (لرادك إلى معاد) * المعاد الموضع الذي يعاد إليه فقيل يعني مكة والآية نزلت حين الهجرة ففيها وعد بالرجوع إلى مكة وفتحها وقيل يعني الآخرة فمعناها إعلام بالحشر وقيل يعني الجنة * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب) * أي ما كنت تطمع أن تنال النبوة ولا أن ينزل عليك الكتاب ولكن الله رحمك بذلك ورحم الناس بنبوتك والاستثناء بمعنى لكن فهو منقطع ويحتمل أن يكون متصلا والمعنى ما أنزل عليك الكتاب إلا رحمة من ربك لك ورحمة للناس ورحمة على هذا مفعول من أجله أو حال وعلى الأول منصوب على
112

الاستثناء * (وادع إلى ربك) * يحتمل أن يكون من الدعاء بمعنى الرغبة أو من دعوة الناس إلى الإيمان بالله فالمفعول محذوف على هذا تقديره ادع الناس * (ولا تدع) * أي لا تعبد " مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه " الآية أي إلا إياه والوجه هنا عبارة عن الذات
سورة العنكبوت
* (ألم) * ذكر في البقرة * (أحسب الناس أن يتركوا) * نزلت في قوم من المؤمنين كانوا بمكة مستضعفين منهم عمار بن ياسر وغيره وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام فضاقت صدورهم بذلك فآنسهم الله بهذه الآية ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار ليوطنوا أنفسهم على الصبر على الأذى والثبوت على الإيمان فأعلمهم الله تعالى أن تلك سيرته في عباده يسلط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب ولفظها مع ذلك عام فحكمها على العموم في كل من أصابته فتنة من مصيبة أو مضرة في النفس والمال وغير ذلك ومعنى حسب ظن وأن يتركوا مفعولها والهمزة للإنكار وهم لا يفتنون في موضع الحال من الضمير في يتركوا تقديره غير مفتونين وأن يقولوا تعليل في موضع المفعول من أجله * (فليعلمن الله الذين صدقوا) * أي يعلم صدقهم علما ظاهرا في الوجود وقد كان علمه في الأزل والصدق والكذب في الآية يعني بهما صحة الإيمان والثبوت عليه أو ضد ذلك * (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) * أم معادلة لقوله أحسب الناس والمراد بالذين يعملون السيئات الكفار الذين يعذبون المؤمنين ولفظها مع ذلك عام في كل كافر أو عاص ومعنى يسبقونا يفوتون من عقابنا ويعجزوننا فمعنى الكلام نفي سبقهم كما أن معنى الآية قبلها نفي ترك المؤمنين بغير فتنة * (من كان يرجو لقاء الله) * الآية تسلية للمؤمنين ووعد لهم بالخير في الدار الآخرة والرجاء هنا على بابه وقيل هو بمعنى الخوف وأجل الله هو الموت ومعنى الآية من كان يرجو ثواب الله فليصبر في الدنيا على المجاهدة في طاعة الله حتى يلقى الله فيجازيه فإن لقاء الله قريب الإتيان وكل ما هو آت قريب * (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) * أي منفعة جهاده فإنما هي لنفسه فإن الله لا تنفعه طاعة العباد والجهاد هنا يحتمل أن يراد به القتال أو جهاد
113

النفس * (حسنا) * منصوب بفعل مضمر تقديره ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسنا أو مصدرا من معنى وصينا أي وصية حسنة * (وإن جاهداك لتشرك بي) * الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأنه لما أسلم حلفت أمه أن لا تستظل بظل حتى يكفر وقيل نزلت في غيره ممن جرى له مثل ذلك فأمرهم الله بالثبات على الإسلام وألا يطيعوا الوالدين إذا أمروهم بالكفر وعبر عن أمر الوالدين بالجهاد مبالغة * (ومن الناس من يقول آمنا بالله) * نزلت في قوم كانوا مؤمنين بألسنتهم فإذا عذبهم الكفار رجعوا عن الإيمان فإذا نصر الله المؤمنين قالوا إنا كنا معكم فمعنى أوذي في الله أوذي بسبب إيمانه بالله وفتنة الناس تعذيبهم وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه * (اتبعوا سبيلنا) * أي قال الكفار للمؤمنين اكفروا كما كفرنا ونحمل نحن عنكم الإثم والعقاب إن كان وروي أن قائل هذه المقالة الوليد بن المغيرة حكاه المهدوي وقولهم ولنحمل خطاياكم جزاء قولهم اتبعوا سبيلنا ولكنهم ذكروه على وجه الأمر للمبالغة ولما كان معنى الخبر صحة تكذيبهم فيه أخبره الله أنهم كاذبون أي لا يحملون أوزار هؤلاء بل يحملون أوزار أنفسهم وأوزار أتباعهم من الكفار * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) * الظاهر أنه لبث هذه المدة بعد بعثه ويحتمل أن يكون ذلك من أول ولادته وروي أنه بعث وهو ابن أربعين سنة وأنه عمر بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فإن قيل لم قال ألف سنة ثم قال إلا خمسين عاما فاختلف اللفظ
مع اتفاق المعنى فالجواب أن ذلك كراهة لتكرار لفظ السنة فإن التكرار مكروه إلا إذا قصد به تفخيم أو تهويل * (وجعلناها آية) * يحتمل أن يعود الضمير على السفينة أو على النجاة أو على القصة بكمالها * (وتخلقون إفكا) * هو من الخلقة يريد به نحت الأصنام فسماه خلقة على وجه التجوز وقيل هو من اختلاق الكذب * (لا يملكون لكم رزقا) * الآية احتجاج على الوحدانية ونفي الشركاء فإن قيل لم نكر الرزق أولا ثم عرفه في قوله فابتغوا عند الله الرزق فالجواب أنه نكره في قوله لا يملكون لكم رزقا لقصد العموم في النفي فإن النكرة في سياق النفي تقتضي العموم ثم عرفه بعد ذلك لقصد العموم في طلب الرزق كله من الله لأنه لا يقتضي العموم في سياق
114

الإثبات إلا مع التعريف فكأنه قال ابتغوا الرزق كله عند الله * (وإن يكذبوك) * الآية يحتمل أن تكون من كلام إبراهيم أو من كلام الله تعالى ويحتمل مع ذلك أن يراد به وعيد الكفار وتهديدهم أو يراد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه له بالتأسي بغيره من الأنبياء الذين كذبهم قومهم " أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق " يقال بدأ الله الخلق وأبدأه بمعنى واحد وقد جاءت اللغتان في هذه السورة والمعنى أولم ير الكفار أن الله خلق الخلق فيستدلون بالخلقة الأولى على الإعادة في الحشر فقوله ثم يعيده ليس بمعطوف على يبدأ لأن المعنى فيهما مختلف لأن رؤية البداءة بالمشاهدة بخلاف الإعادة فإنها تعلم بالنظر والاستدلال وإنما هو معطوف على الجملة كلها وقد قيل إنه يريد إعادة النبات وإبدائه وعلى هذا يكون ثم يعيده عطفا على يبدىء لاتفاق المعنى والأول أحسن وأليق بمقاصد الكلام * (ان ذلك على الله يسير) * يعني إعادة الخلق وهي حشرهم ثم أمرهم بالسير في الأرض ليروا مخلوقات الله فيستدلوا بها على قدرته على حشرهم ولذلك ختمها بقوله إن الله على كل شيء قدير " وإليه تقلبون " أي ترجعون * (وما أنتم بمعجزين) * أي لا تفوتون من عذاب الله وليس لكم مهرب في الأرض ولا في السماء " أولئك يئسوا من رحمتي " يحتمل أن يكون يأسهم في الآخرة أو يكون وصف لحالهم في الدنيا لأن الكافر يائس من رحمة الله والمؤمن راج خائف وهذا الكلام من قوله أولم يروا إلى هنا يحتمل أن يكون خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم معترضا بين قصة إبراهيم ويحتمل أن يكون خطابا لإبراهيم وبعد ذلك ذكر جواب قومه له " مودة بينكم " نصب مودة على أنها مفعول من أجله أو مفعول ثان لاتخذتم ورفعها على أنها خبر ابتداء مضمر أو خبر إن وتكون ما موصولة ونصب بينكم على الظرفية وخفضه بالإضافة " فآمن له لوط " تضمن آمن معنى انقاد ولذلك تعدى باللام " وقال إني مهاجر إلى ربي " القائل لذلك إبراهيم وقيل لوط وهاجرا من بلادهما بأرض بابل إلى الشام " وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب " أكثر الأنبياء من ذرية إبراهيم
115

وعلى ذريته أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور والفرقان " وتقطعون السبيل " قيل أراد قطع الطرق للسلب والقتل وقيل أراد قطع سبيل النسل بترك النساء وإتيان الرجال " وتأتون في ناديكم المنكر " النادي المجلس الذي يجتمع فيه الناس والمنكر فعلهم بالرجال وقيل إذايتهم للناس " ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى " الرسل هنا الملائكة والبشرى بشارة إبراهيم بالولد وهو قوله " فبشروه بغلام حليم " أو بشارته بنصر سيدنا لوط والأول أظهر " أهل هذه القرية " يعني قرية سيدنا لوط " قال إن فيها لوطا " ليس إخبارا بأنه فيها وإنما قصد نجاة سيدنا لوط من العذاب الذي يصيب أهل القرية وبراءته من الظلم الذي وصفوه به فكأنه قال كيف تهلكون أهل القرية وفيها لوط وكيف تقولون إنهم ظالمون وفيهم لوط * (من الغابرين) * قد ذكر وكذلك سئ بهم * (رجزا من السماء) * أي عذابا * (وارجوا اليوم الآخر) * قيل الرجاء هنا الخوف وقيل هو على بابه * (ولا تعثوا في الأرض) * يعني نقصهم المكيال والميزان * (الرجفة) * هي الصيحة * (وقد تبين لكم من مساكنهم) * أي آثار مساكنهم باقية تدل على ما أصابهم * (وكانوا مستبصرين) * قيل معناه لهم بصيرة في كفرهم وإعجاب به وقيل لهم بصيرة في الإيمان ولكنهم كفروا عنادا وقيل معنى مستبصرين عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال ولكنهم لم يفعلوا * (وما كانوا سابقين) * أي لم يفوتونا * (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا) * الحاصب الحجارة والحاصب أيضا الريح الشديدة ويحتمل عندي أنه أراد به المعنيين لأن قوم سيدنا لوط أهلكوا بالحجارة وعاد أهلكوا بالريح وإن حملناه
116

على المعنى الواحد نقص ذكر الآخر وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد في معنيين كقوله * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * ويقوي ذلك هنا لأن المقصود هنا ذكر عموم أخذ أصناف الكفار * (ومنهم من أخذته الصيحة) * يعني ثمود ومدين * (ومنهم من خسفنا به الأرض) * يعني قارون * (ومنهم من أغرقنا) * يعني قوم نوح وفرعون وقومه * (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) * شبه الله الكافرين في عبادتهم للأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتا ضعيفا فكان ما اعتمدت عليه العنكبوت في بيتها ليس بشيء فكذلك ما اعتمدت عليه الكفار من آلهتهم ليس بشيء لأنهم لا ينفعون ولا يضرون * (أوهن البيوت) * أي أضعفها * (لو كانوا يعلمون) * أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم " إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء " ما موصولة بمعنى الذي مفعولة للفعل الذي قبلها وقيل هي نافية والفعل معلق عنها والمعنى على هذا لستم تدعون من دون الله شيئا له بال فلا يصلح أن يسمى شيئا * (بالحق) * أي بالواجب لا على وجه العبث واللعب * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * إذا كان المصلي خاشعا في صلاته متذكرا لعظمة من وقف بين يديه حمله ذلك على التوبة من الفحشاء والمنكر فكأن الصلاة ناهية عن ذلك * (ولذكر الله أكبر) * قيل فيه ثلاثة معان الأول أن المعنى أن الصلاة أكبر من غيرها من الطاعات وسماها بذكر الله لأن ذكر الله أعظم ما فيها كأنه أشار بذلك إلى تعليل نهيها عن الفحشاء والمنكر لأن ذكر الله فيها هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر الثاني أن ذكر الله على الدوام أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة لأنها في بعض الأوقات دون بعض الثالث أن ذكر الله أكبر أجرا من الصلاة ومن سائر الطاعات كما ورد في الحديث ألا أنبئكم بخير أعمالكم قالوا بلى قال ذكر الله * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) * أي لا تجادلوا كفار أهل الكتاب إذا اختلفتم معهم في الدين إلا بالتي هي أحسن لا بضرب ولا قتال وكان هذا قبل أن يفرض الجهاد ثم نسخ بالسيف ومعنى إلا الذين ظلموا أي ظلموكم وصرحوا بإذاية نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وقيل معنى الآية لا تجادلوا من أسلم من أهل الكتاب فيما حدثوكم به من الأخبار إلا بالتي هي أحسن ومعنى إلا الذين ظلموا على هذا من بقي منهم على كفره والمعنى الأول أظهر * (وقولوا آمنا) * هذا وما بعده يقتضي مواعدة ومسالمة وهي منسوخة بالسيف ويقتضي أيضا الإعراض عن مكالمتهم وفي الحديث لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل
117

إليكم فإن كان باطلا لم تصدقوهم وإن كان حقا لم تكذبوهم * (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب) * أي كما أنزلنا الكتاب على من قبلك أنزلناه عليك * (فالذين آتيناهم الكتاب) * يعني عبد الله بن سلام وأمثاله ممن أسلم من اليهود والنصارى * (ومن هؤلاء من يؤمن به) * أراد بالذين أوتوا الكتاب أهل التوراة والإنجيل وأراد بقوله من هؤلاء من يؤمن به كفار قريش وقيل أراد بالذين أوتوا الكتاب المتقدمين من أهل التوراة والإنجيل وأراد بهؤلاء المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم منهم كعبد الله بن سلام " وما كنت تتلوا من قبله من كتاب " هذا احتجاج على أن القرآن من عند الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقرأ ولا يكتب ثم جاء بالقرآن فإن قيل ما فائدة قوله بيمينك فالجواب أن ذلك تأكيد للكلام وتصوير للمعنى المراد * (إذا لارتاب المبطلون) * أي لو كنت تقرأ أو تكتب لتطرق الشك إلى الكفار فكانوا يقولون لعله تعلم هذا الكتاب أو قرأه وقيل وجه الاحتجاج أن أهل الكتاب كانوا يجدون في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب فلما جعله الله كذلك قامت عليهم الحجة ولو كان يقرأ أو يكتب لكان مخالفا للصفة التي وصفه الله بها عندهم والمذهب الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأ قط ولا كتب وقال الباجي وغيره أنه كتب لظاهر حديث الحديبية وهذا القول ضعيف * (بل هو آيات) * الضمير للقرآن والإضراب ببل عن كلام محذوف تقديره ليس الأمر كما حسب الظالمون والمبطلون " أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب " المعنى كيف يطلبون آية والقرآن أعظم الآيات وأوضحها دلالة على صحة النبوة فهلا اكتفوا به عن طلب الآيات " قل كفى بالله " ذكر معناه في الرعد وفي الأنعام * (ويستعجلونك بالعذاب) * الضمير للكفار يعني قولهم ائتنا بما تعدنا وقولهم فأمطر علينا حجارة من السماء وشبه ذلك * (ولولا أجل مسمى) * أي لولا أن الله قدر لعذابهم أجلا مسمى لجاءهم به حين طلبوه * (وليأتينهم بغتة) * يحتمل أن يريد القتل الذي أصابهم يوم بدر أو الجوع الذي أصابهم بتوالي القحط أو يريد عذاب الآخرة وهذا أظهر لقوله وإن جهنم لمحيطة بالكافرين * (يوم يغشاهم العذاب) * أي يحيط بهم والعامل في الظرف محذوف أو محيطة " إن أرضي
118

واسعة) تحريض على الهجرة من مكة إذ كان المؤمنون يلقون فيها أذى الكفار وترغيبا في غيرها من أرض الله فحينئذ هاجروا إلى أرض الحبشة ثم إلى المدينة * (لنبوئنهم) * أي ننزلهم وقرئ نثوينهم بالثاء المثلثة من الثوى وهو الإقامة في المنزل * (وكأين من دابة لا تحمل رزقها) * أي كم من دابة ضعيفة لا تقدر على حمل رزقها ولكن الله يرزقها مع ضعفها والقصد بالآية تقوية لقلوب المؤمنين إذ خافوا الفقر والجوع في الهجرة إلى بلاد الناس أي كما يرزق الله الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا هاجرتم من بلدكم * (ولئن سألتهم) * في الموضعين إقامة حجة عليهم * (فأنى يؤفكون) * أي كيف يصرفون عن الحق * (قل الحمد لله) * حمدا لله على ظهور الحجة ويكون المعنى إلزامهم أن يحمدوا الله لما اعترفوا أنه خلق السماوات والأرض * (بل أكثرهم لا يعقلون) * إضراب عن كلام محذوف تقديره يجب عليهم أن يعبدوا الله لما اعترفوا به ولكنهم لا يعقلون * (لهي الحيوان) * أي الحياة الدائمة التي لا موت فيها ولفظ الحيوان مصدر كالحياة * (فإذا ركبوا في الفلك) * الآية إقامة حجة عليهم بدعائهم حين الشدائد ثم يشركون به في حال الرخاء * (ليكفروا) * أمر على وجه التهديد أو على وجه الخذلان والتخلية كما تقول لمن تنصحه فلا يقبل نصحك اعمل ما شئت " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا " الضمير لكفار قريش والحرم الآمن مكة لأنها كانت لا تغير عليها العرب كما تغير على سائر البلاد ولا ينتهك أحد حرمتها * (ويتخطف الناس من حولهم) * عبارة عما يصيب غير أهل مكة من القتال أو أخذ الأموال * (والذين جاهدوا فينا) * يعني جهاد النفس من الصبر على إذاية الكفار واحتمال الخروج عن الأوطان وغير ذلك وقيل يعني القتال وذلك ضعيف لأن القتال لم يكن مأمورا به حين نزول الآية * (لنهدينهم سبلنا) * أي لنوفقنهم لسبيل الخير * (وإن الله لمع المحسنين) * المعنى أنه معهم بإعانته ونصره
119

سورة الروم
* (غلبت الروم) * أي هزم كسرى ملك الفرس جيش ملك الروم وسميت الروم باسم جدهم وهو روم ابن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم * (في أدنى الأرض) * قيل هي الجزيرة وهي بين الشام والعراق وهي أدنى أرض الروم إلى فارس وقيل في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام * (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) * إخبار بأن الروم سيغلبون الفرس * (في بضع سنين) * البضع ما بين الثلاث إلى التسع * (ويومئذ يفرح المؤمنون) * روي أن غلب الروم فارس وقع يوم بدر وقيل يوم الحديبية ففرح المؤمنون بنصر الله لهم على كفار قريش وقيل فرح المؤمنون بنصر الروم على الفرس لأن الروم أهل كتاب فهم أقرب إلى الإسلام كذلك فرح الكفار من قريش بنصر الفرس على الروم لأن الفرس ليسوا بأهل كتاب فهم أقرب إلى كفار قريش وروي أنه لما فرح الكفار بذلك خرج إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال إن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون وراهنهم على عشرة قلاص إلى ثلاث سنين وذلك قبل أن يحرم القمار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم زدهم في الرهن واستزدهم في الأجل فجعل القلاص مائة والأجل تسعة أعوام وجعل معه أبي ابن خلف مثل ذلك فلما وقع الأمر على ما أخبر به أخذ أبو بكر القلاص من ذرية أبي بن خلف إذ كان قد مات وجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له تصدق بها * (وعد الله) * مصدر مؤكد كقوله له على ألف درهم عرفا لأن معناه اعترفت له بها اعترافا * (يعلمون ظاهرا) * قيل معناه يعلمون ما يدرك بالحواس دون ما يدرك بالعقول فهم في ذلك مثل البهائم وقيل الظاهر ما يعلم بأوائل العقول والباطن ما يعلم بالنظر والدليل وقيل هو من الظهور بمعنى العلو في الدنيا وقيل ظاهر بمعنى زائل ذاهب والأظهر أنه أراد بالظاهر المعرفة بأمور الدنيا ومصالحها لأنه وصفهم بعد ذلك بالغفلة عن الآخرة وذلك يقتضي عدم معرفتهم بها وانظر كيف نفى العلم عنهم أولا ثم أثبت لهم العلم بالدنيا خاصة وقال بعض أهل البيان إن هذا من المطابقة لاجتماع النفي والإثبات وجعل بعضهم العلم المثبت كالعدم لقلة منفعته فهو على هذا بيان للنفي " أولم يتفكروا في أنفسهم " يحتمل معنيين أحدهما أن تكون النفس ظرفا للفكرة في خلق السماوات والأرض كأنه قال أولم يتفكروا بعقولهم فيعلموا أن الله ما خلق السماوات والأرض إلا بالحق والثاني أن يكون المعنى أو لم يتفكروا في ذواتهم
120

وخلقتهم ليستدلوا بذلك على الخالق ويكون قوله ما خلق الآية استئناف كلام والمعنى الأول أظهر * (وأثاروا الأرض) * أي حرثوها " ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوآى
" معنى السوآى هلاك الكفار ولفظ السوآى تأنيث الأسوأ كما أن الحسنى تأنيث الأحسن وقرئ عاقبة بالرفع على أنه اسم كان والسوآى خبرها وقرئ بنصب عاقبة على أنها خبر كان والسوآى اسمها وأن كذبوا مفعول من أجله ويحتمل أن تكون السوآى مصدر أساءوا * (يبلس المجرمون) * الإبلاس الكون في شر مع اليأس من الخير * (يتفرقون) * معناه في المنازل والجزاء * (يحبرون) * تنعمون من الحبور وهو السرور والنعيم وقيل تكرمون * (سبحان الله) * هذا تعليم للعباد أي قولوا سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * (وعشيا وحين تظهرون) * أي حين تدخلون في وقت الظهيرة وهي وسط النهار وقوله وله الحمد في السماوات والأرض اعتراض بين المعطوفات وقيل أراد بذلك الصلوات الخمس فحين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الصبح وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر * (يخرج الحي) * ذكر في آل عمران * (ويحيي الأرض) * أي ينبت فيها النبات * (وكذلك تخرجون) * أي كما يخرج الله النبات من الأرض كذلك يخرجكم من الأرض للبعث يوم القيامة * (تنتشرون) * أي تنصرفون في الدنيا * (من أنفسكم أزواجا) * أي صنفكم وجنسكم قيل أراد خلقة حواء من ضلع آدم وخاطب الناس بذلك لأنهم ذرية آدم * (مودة ورحمة) * قيل المودة الجماع والرحمة الولد والعموم أحسن وأبلغ * (واختلاف ألسنتكم) * أي لغاتكم * (وألوانكم) * يعني البياض والسواد وقيل يعني أصنافكم
121

والأول أظهر * (خوفا وطمعا) * ذكر في الرعد * (أن تقوم السماء والأرض) * معناه تثبت أو يقوم تدبيرها * (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون) * إذا الأولى شرطية والثانية فجائية وهي جواب الأولى والدعوة في هذه الآية قوله للموتى قوموا بالنفخة الثانية في الصور ومن الأرض يتعلق بقوله مخرجون أو بقوله دعاكم على أن تكون الغاية بالنظر إلى المدعو كقولك دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل * (قانتون) * ذكر في البقرة * (وهو أهون عليه) * أي الإعادة يوم القيامة أهون عليه من الخلقة الأولى وهذا تقريب لفهم السامع وتحقيق للبعث فإن من صنع صنعة أول مرة كانت أسهل عليه ثاني مرة ولكن الأمور كلها متساوية عند الله فإن كل شيء على الله يسير * (وله المثل الأعلى) * أي الوصف الأعلى الذي يصفه به أهل السماوات والأرض " هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء " هذا هو المثل المضروب معناه أنكم أيها الناس لا يشارككم عبيدكم في أموالكم ولا يستوون معكم في أحوالكم فكذلك الله تعالى لا يشارك عبيده في ملكه ولا يماثله أحد في ربوبيته فذكر حرف الاستفهام ومعناه التقرير على النفي ودخل في النفي قوله فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم أي لستم في أموالكم سواء مع عبيدكم ولستم تخافونهم كما تخافون الأحرار مثلكم لأن العبيد عندكم أقل وأذل من ذلك * (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم) * الإضراب ببل عما تضمنه معنى الآية المتقدمة كأنه يقول ليس لهم حجة في إشراكهم بالله بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم * (فأقم وجهك للدين) * هو دين الإسلام وإقامة الوجه في الموضعين من السورة عبارة عن الإقبال عليه والإخلاص فيه في قوله أقم والقيم ضرب من ضروب التجنيس " فطرت الله " منصوب على المصدر كقوله صبغة الله أو مفعولا بفعل مضمر تقديره الزموا فطرة الله أو عليكم فطرة الله ومعناه خلقة الله والمراد به دين الإسلام لأن الله خلق الخلق عليه إذ هو الذي تقتضيه عقولهم السليمة وإنما كفر من كفر لعارض أخرجه عن أصل فطرته كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه * (لا تبديل لخلق الله) * يعني بخلق الله الفطرة التي خلق الناس عليها من الإيمان ومعنى أن الله لا يبدلها أي لا يخلق الناس على غيرها ولكن يبدلها شياطين الإنس والجن بعد الخلقة الأولى أو
122

يكون المعنى أن تلك الفطرة لا ينبغي للناس أن يبدلوها فالنفي على هذا حكم لا خبر وقيل إنه على الخصوص في المؤمنين أي لا تبديل لفطرة الله في حق من قضى الله أنه يثبت على إيمانه وقيل إنه نهى عن تبديل الخلقة كخصاء الفحول من الحيوان وقطع آذانها وشبه ذلك * (منيبين إليه) * منصوب على الحال من قوله أقم وجهك لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته ولذلك جمعهم في قوله منيبين وقيل هو حال من ضمير الفاعل المستتر في الزموا فطرة الله وقيل هو حال من قوله فطر الناس وهذا بعيد * (واتقوه) * وما بعده معطوف على أقم وجهك أو على العامل في فطرة الله وهو الزموا المضمر * (من الذين فرقوا دينهم) * المجرور بدل من المجرور قبله ومعنى فرقوا دينهم جعلوه فرقا أي اختلفوا فيه وقرئ فارقوا من المفارقة أي تركوه والمراد بالمشركين هنا أصناف الكفار وقيل هم المسلمون الذين تفرقوا فرقا مختلفة وفي لفظ المشركين هنا تجوز بعيد ولعل قائل هذا القول إنما قاله في قول الله في الأنعام إن الذين فرقوا دينهم فإنه ليس هناك ذكر المشركين " وإذ مس الناس ضر " الآية إنحاء على المشركين لأنهم يدعون الله في الشدائد ويشركون به في الرخاء * (ليكفروا) * ذكر في النحل * (أم أنزلنا عليهم سلطانا) * أم هنا منقطعة بمعنى بل والسلطان الحجة وكلامه مجاز كما تقول نطق بكذا والمعنى ليس لهم حجة تشهد بصحة شركهم * (وإذا أذقنا الناس رحمة) * إنحاء على من يفرح ويبطر إذا أصابه الخير ويقنط إذا أصابه الشر وانظر كيف قال هنا إذا وقال في الشر إن تصبهم سيئة لأن إذا للقطع بوقوع الشرط بخلاف إن فإنها للشك في وقوعه ففي ذلك إشارة إلى أن الخير الذي يصيب به عباده أكثر من الشر * (بما قدمت أيديهم) * المعنى أن ما يصيب الناس من المصائب فإنه بسبب ذنوبهم * (فآت ذا القربى حقه) * يعني صلة رحم القرابة بالإحسان والمودة ولو بالكلام الطيب " وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس " الآية معناها كقوله " يمحق الله الربا ويربي الصدقات " أي ما أعطيتم من أموالكم على وجه الربا فلا يزكو عند الله وما آتيتم من الصدقات فهو الذي يزكو عند الله وينفعكم به وقيل المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدي له ليعوض له أكثر من ذلك فهذا وإن كان جائزا فإنه لا ثواب فيه وقرئ وما آتيتم بالمد بمعنى أعطيتم وبالقصر يعني جئتم أي فعلتموه وقرئ لتربوا بالتاء المضمومة وليربوا بالياء
123

مفتوحة ونصب الواو * (فأولئك هم المضعفون) * المضعف ذو الإضعاف من الحسنات وفي هذه الجملة التفات لخروجه من الغيبة إلى الخطاب وكان الأصل أن يقال وما آتيتم من زكاة فأنتم المضعفون وفيه أيضا حذف لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما وتقديره المضعفون به أو فمؤتوه هم المضعفون * (ظهر الفساد في البر والبحر) * قيل البر البلاد البعيدة من البحر والبحر هو البلاد التي على ساحل البحر وقيل البر اللسان والبحر القلب وهذا ضعيف والصحيح أن البر والبحر المعروفان فظهور الفساد في البر بالقحط والفتن وشبه ذلك وظهور الفساد في البحر بالغرق وقلة الصيد وكساد التجارات وشبه ذلك وكل ذلك بسبب ما يفعله الناس من الكفر والعصيان * (لا مرد له) * أي لا رجوع له ولا بد من وقوعه * (من الله) * يتعلق بقوله يأتي أو بقوله لا مرد له أي لا يرده الله * (يومئذ يصدعون) * من الصدع وهو الفرقة
أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير * (فلأنفسهم يمهدون) * أي يوطنون وهو استعارة من تمهيد الفراش ونحوه والمعنى أنهم يعملون ما ينتفعون به في الآخرة * (ليجزي) * يتعلق بيمهدون أو يصدعون أو بمحذوف * (مبشرات) * أي تبشر بالمطر * (وليذيقكم) * عطف على مبشرات كأنه قال ليبشركم وليذيقكم ويحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره ليذيقكم * (من رحمته) * أرسلها * (وكان حقا) * انتصب حقا لأنه خبر كان واسمها نصر المؤمنين وقيل اسمها مضمر يعود على مصدر انتقمنا أي وكان الانتقام حقا فعلى هذا يوقف على حقا ويكون نصر المؤمنين مبتدأ وهذا ضعيف * (تثير سحابا) * أي تحركها وتنشرها * (كسفا) * أي قطعا وقرئ بإسكان السين وهما بناءان للجمع وقيل معنى الإسكان أن السحاب قطعة واحدة * (الودق) * هو المطر * (من خلاله) * الخلال الشقاق الذي بين بعضه وبعض لأنه متخلل الأجزاء والضمير يعود على السحاب " من
124

قبله) كرر للتأكيد وليفيد سرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى الاستبشار * (لمبلسين) * أي قانطين كقوله ينزل الغيث من بعد ما قنطوا " فرآه مصفرا " الضمير للنبات الذي ينبته الله بالمطر والمعنى لئن أرسل الله ريحا فاصفر به النبات لكفر الناس بالقنوط والاعتراض على الله وقيل الضمير للريح وقيل للسحاب والأول أحسن في المعنى * (فإنك لا تسمع الموتى) * الآية استعارة في عدم سماع الكفار للمواعظ والبراهين فشبه الكفار بالموتى في عدم إحساسهم * (خلقكم من ضعف) * الضعف الأول كون الإنسان من ماء مهين وكونه ضعيف في حال الطفولية والضعف الثاني الأخير الهرم وقرئ بفتح الضاد وضمها وهما لغتان * (ما لبثوا غير ساعة) * هذا جواب القسم ومعناه أنهم يحلفون أنهم ما لبثوا في القبور تحت التراب إلا ساعة أي ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة وذلك لاستقصار تلك المدة * (كذلك كانوا يؤفكون) * أي مثل هذا الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الصدق والتحقيق حتى يروا الأشياء على ما هي عليه * (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان) * هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون ردوا مقالة الكفار التي حلفوا عليها * (في كتاب الله) * يعني اللوح المحفوظ أو علم الله والمجرور على هذا يتعلق بقوله لبثتم وقيل يعني القرآن فعلى هذا يتعلق هذا المجرور بقوله أوتوا العلم وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره على هذا قال الذين أوتوا العلم في كتاب الله أي العلماء بكتاب الله وقولهم لقد لبثتم خطاب للكفار وقولهم فهذا يوم البعث تقرير لهم وهو في المعنى جواب لشرط مقدر تقديره إن كنتم تنكرون البعث فهذا يوم البعث * (ولا هم يستعتبون) * من العتبى بمعنى الرضا أي ولا يرضون وليست استفعل هنا للطلب * (إن وعد الله حق) * يعني ما وعد من النصر على الكفار * (ولا يستخفنك) * من الخفة أي لا تضطرب لكلامهم
125

سورة لقمان
* (الكتاب الحكيم) * ذكر في يونس * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) * هو الغناء وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال شراء المغنيات وبيعهن حرام وقرأ هذه الآية وقيل نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فالشراء على هذا حقيقة وقيل نزلت في النضر بن الحارث وكان قد تعلم أخبار فارس فذلك هو لهو الحديث وشراء لهو الحديث استحبابه وسماعه فالشراء على هذا مجاز وقيل لهو الحديث الطبل وقيل الشرك ومعنى اللفظ يعم ذلك كله وظاهر الآية أنه لهو مضاف إلى الكفر بالدين واستخفاف لقوله تعالى * (ليضل عن سبيل الله) * الآية وأن المراد شخص معين لوصفه بعد ذلك بجملة أوصاف * (بغير عمد ترونها) * ذكر في الرعد * (أن تميد بكم) * أي لئلا تميد بكم * (لقمان) * رجل ينطق بالحكمة واختلف هل هو نبي أم لا وفي الحديث لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا حسن اليقين أحب الله فأحبه فمن عليه بالحكمة روي أنه كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته وروي أنه كان قاضي بني إسرائيل واختلف في صناعته فقيل كان نجارا وقيل خياطا وقيل راعي غنم وكان ابنه كافرا فما زال يوصيه حتى أسلم وروي أن اسم ابنه ثاران * (ووصينا الإنسان) * هذه الآية والتي بعدها اعتراض في أثناء وصية لقمان لابنه على وجه التأكيد لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بالله ونزلت الآية في سعد بن أبي وقاص وأمه حسبما ذكرنا في العنكبوت * (حملته أمه وهنا على وهن) * أي ضعفا على ضعف لأن الحمل كلما عظم ازدادت الحامل به ضعفا وانتصاب وهنا بفعل مضمر تقديره تهن وهنا * (وفصاله) * أي فطامه وأشار بذلك إلى غاية مدة الرضاع * (أن أشكر) * تفسير للوصية واعترض بينها وبين تفسيرها بقوله وفصاله في عامين
126

ليبين ما تكابده الأم بالولد مما يوجب عظيم حقها ولذلك كان حقها أعظم من حق الأب * (يا بني) * الآية رجع إلى كلام لقمان والتقدير وقال لقمان يا بني * (مثقال حبة من خردل) * أي وزنها والمراد بذلك أن الله يأتي بالقليل والكثير من أعمال العباد فعبر بحبة الخردل ليدل على ما هو أكثر * (في صخرة) * قيل المراد الصخرة التي عليها الأرض وهذا ضعيف وإنما معنى الكلام أن مثقال خردلة من الأعمال أو من الأشياء ولو كانت في أخفى موضع كجوف صخرة فإن الله يأتي بها يوم القيامة وكذلك لو كانت في السماوات أو في الأرض * (واصبر على ما أصابك) * أمر بالصبر على المصائب عموما وقيل المعنى ما يصيب من يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر * (من عزم الأمور) * يحتمل أن يريد مما أمر الله به على وجه العزم والإيجاب أو من مكارم الأخلاق التي يعزم عليها أهل الحزم والجد ولفظ العزم مصدر يراد به المفعول أي من معزومات الأمور * (ولا تصعر خدك للناس) * الصعر في اللغة الميل أي لا تول الناس خدك وتعرض عنهم تكبرا عليهم * (مرحا) * ذكر في الإسراء * (مختالا) * من الخيلاء * (واقصد في مشيك) * أي اعتدل فيه ولا تتسرع إسراعا يدل على البطش والخفة ولا تبطئ إبطاء يدل على الفخر والكبر * (نعمه ظاهرة وباطنة) * الظاهرة الصحة والمال وغير ذلك والباطنة النعم التي لا يطلع عليها الناس ومنها ستر القبيح من الأعمال وقيل الظاهرة نعم الدنيا والباطنة نعم العقبى واللفظ أعم من ذلك كله * (ومن الناس من يجادل) * نزلت في النضر بن الحارث وأمثاله * (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) * معناه أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم إلى النار * (ومن يسلم وجهه إلى الله) * يسلم أي
127

يخلص أو يستسلم أو ينقاد والوجه هنا عبارة عن القصد * (بالعروة الوثقى) * ذكر في البقرة * (قل الحمد لله) * وما بعده ذكر في العنكبوت " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام " الآية إخبار بكثرة كلمات الله والمراد اتساع علمه ومعنى الآية أن شجر الأرض لو كانت أقلاما والبحر لو كان مدادا يصب فيه سبعة أبحر صبا دائما
وكتبت بذلك كلمات الله لنفدت الأشجار والبحار ولم تنفد كلمات الله لأن الأشجار والبحار متناهية وكلمات الله غير متناهية فإن قيل لم لم يقل والبحر مدادا كما قال في الكهف قل لو كان البحر مدادا فالجواب أنه أغنى عن ذلك قوله يمده لأنه من قولك مد الدواة وأمدها فإن قيل لم قال من شجرة ولم يقل من شجر باسم الجنس الذي يقتضي العموم فالجواب أنه أراد تفصيل الشجر إلى شجرة حتى لا يبقى منها واحدة فإن قيل لم قال كلمات الله ولم يقل كلم الله بجمع الكثرة فالجواب أن هذا أبلغ لأنه إذا لم تنفد الكلمات مع أنه جمع قلة فكيف ينفد الجمع الكثير وروي أن سبب الآية أن اليهود قالوا قد أوتينا التوراة وفيها العلم كله فنزلت الآية لتدل أن ما عندهم قليل من كثير والآية على هذا مدنية وقيل إن سببها أن قريشا قالوا إن القرآن سينفد * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) * بيان لقدرة الله على بعث الناس ورد على من استبعد ذلك * (يولج الليل في النهار) * أي يدخل كلا منهما في الآخر بما يزيد في أحدهما وينقص من الآخر أو بإدخال ظلمة الليل على ضوء النهار وإدخال ضوء النهار على ظلمة الليل * (إلى أجل مسمى) * يعني يوم القيامة * (ذلك بأن الله) * يحتمل أن تكون الباء سببية أو يكون المعنى ذلك بأن الله شاهد هو الحق * (بنعمة الله) * يحتمل أن يريد بذلك ما تحمله السفن من الطعام والتجارات والباء للإلصاق أو للمصاحبة أو يريد الريح فتكون الباء سببية * (صبار شكور) * مبالغة في صابر وشاكر * (كالظلل) * جمع ظلة وهو ما يعلوك من فوق شبه الموج بذلك إذا ارتفع وعظم حتى علا فوق الإنسان * (فمنهم مقتصد) * المقتصد المتوسط في الأمر فيحتمل أن يريد كافرا متوسطا في كفره لم يسرف فيه أو مؤمنا متوسطا في إيمانه لأن الإخلاص الذي عليه في البحر كان يزول عنه وقيل معنى مقتصد مؤمن ثبت في البر على ما عاهد الله عليه في البحر * (ختار) * أي غدار شديد الغدر وذلك أنه جحد نعمة الله غدرا " لا يجزى
128

والد عن ولده) أي لا يقضي عنه شيئا والمعنى أنه لا ينفعه ولا يدفع عنه مضرة * (ولا مولود) * أي ولد فكما لا يقدر الوالد لولده على شيء كذلك لا يقدر الولد لوالده على شيء * (الغرور) * الشيطان وقيل الأمل والتسويف * (علم الساعة) * أي متى تكون فإن ذلك مما انفرد الله بعلمه ولذلك جاء في الحديث مفاتح الغيب خمس وتلا هذه الآية * (ماذا تكسب غدا) * يعني من خير أو شر أو مال أو ولد أو غير ذلك
سورة السجدة
* (تنزيل الكتاب) * يعني القرآن * (لا ريب فيه) * أي لا شك أنه من عند الله عز وجل ونفي الريب على اعتقاد أهل الحق وعلى ما هو الأمر في نفسه لا على اعتقاد أهل الباطل * (من رب العالمين) * يتعلق بتنزيل * (أم يقولون) * الضمير لقريش وأم بمعنى بل والهمزة " لتنذر " يتعلق بما قبله أو بمحذوف * (ما أتاهم من نذير) * يعني من الفترة من زمن عيسى وقد جاء الرسل قبل ذلك إبراهيم وغيره ولما طالت الفترة على هؤلاء أرسل الله رسولا ينذرهم ليقيم الحجة عليهم * (استوى على العرش) * قد ذكر في الأعراف * (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) * نفي الشفاعة على وجهين أحدهما الشفاعة للكفار وهي معدومة على الإطلاق والآخر أن الشفاعة للمؤمنين لا تكون إلا بإذن الله كقوله * (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) * * (يدبر الأمر) * أي واحد الأمور وقيل المأمور به من الطاعات والأول أصح * (من السماء إلى الأرض) * أي ينزل ما دبره وقضاه من السماء إلى الأرض * (ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) * قال ابن عباس المعنى ينفذ الله ما قضاه من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه خبر ذلك في يوم من أيام الدنيا مقداره لو سير فيه السير المعروف من البشر ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام فالألف ما بين نزول الأمر إلى الأرض وعروجه إلى السماء وقيل إن الله يلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من أعوام البشر وهو يوم من أيام الله فإذا
129

فرغت ألقي إليهم مثلها فالمعنى أن الأمور تنفذ عنده لهذه المدة ثم تصير إليه آخرا لأن عاقبة الأمور إليه فالعروج على هذا عبارة عن مصير الأمور إليه * (عالم الغيب والشهادة) * الغيب ما غاب عن المخلوقين والشهادة ما شاهدوه " أحسن كل شيء خلقه " أي أتقن جميع المخلوقات وقرئ بإسكان اللام على البدل * (وبدأ خلق الإنسان من طين) * يعني آدم عليه السلام * (نسله) * يعني ذريته * (من سلالة من ماء مهين) * يعني المني والسلالة مشتقة من سل يسل فكأن الماء يسل من الإنسان والمهين الضعيف * (ثم سواه) * أي قومه * (ونفخ فيه من روحه) * عبارة عن إيجاد الحياة فيه وأضيفت الروح إلى الله إضافة ملك إلى ملك وقد يراد بها الاختصاص لأن الروح لا يعلم كهنه إلا الله * (أئذا ضللنا في الأرض) * أي تلفنا وصرنا ترابا ومعنى هذا الكلام المحكي عن الكفار استبعاد البعث والعامل في إذا معنى قولهم إنا لفي خلق جديد تقديره نبعث * (يتوفاكم ملك الموت) * اسمه عزرائيل وتحت يده ملائكة * (ولو ترى) * يحتمل أن تكون لو للتمني وتأويله في حق الله كتأويل الترجي وقد ذكر أو تكون للامتناع وجوابها محذوف تقديره ولو ترى حال المجرمين في الآخرة لرأيت أمرا مهولا " ناكسوا رؤوسهم " عبارة عن الذل والغم والندم * (ربنا أبصرنا وسمعنا) * تقديره يقولون ربنا قد علمنا الحقائق * (لو شئنا لآتينا كل نفس هداها) * يعني أنه لو أراد أن يهدي جميع الخلائق لفعل فإنه قادر على ذلك بأن يجعل الإيمان في قلوبهم ويدفع عنهم الشيطان والشهوات ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء * (فذوقوا بما نسيتم) * أي يقال لهم ذوقوا والنسيان هنا بمعنى الترك * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * أي ترتفع والمعنى يتركون مضاجعهم بالليل من كثرة صلاتهم النوافل ومن صلى العشاء والصبح في جماعة فقد أخذ بحظه من هذا * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) * يعني أنه لا يعلم أحد مقدار ما يعطيهم الله من النعيم وقرئ أخفي بإسكان الياء على أن يكون فعل المتكلم وهو الله تعالى * (أفمن كان مؤمنا) * الآية يعني المؤمنين
130

والفاسقين على العموم وقيل يعني علي بن أبي طالب وعقبة بن أبي معيط " فذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون " الذي نعت بالعذاب ولذلك أعاد عليه الضمير المذكور في قوله به فإن قيل لم وصف هنا العذاب وأعاد عليه الضمير ووصف في سبأ النار وأعاد عليها الضمير وقال عذاب النار التي كنتم بها تكذبون فالجواب من ثلاثة أوجه الأول أنه خص العذاب في السجدة بالوصف اعتناء به لما تكرر ذكره في قوله ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر والثاني أنه قدم في السجدة ذكر النار فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ الضمير لكنه جعل الظاهر مكان المضمر فكما لا يوصف المضمر لم يوصف ما قام مقامه وهو النار ووصف العذاب ولم يصف النار
والثالث وهو الأقوى أنه امتنع في السجدة وصف النار فوصف العذاب وإنما امتنع وصفها لتقدم ذكرها فإنك إذا ذكرت شيئا ثم كررت ذكره لم يجز وصفه كقولك رأيت رجلا فأكرمت الرجل فلا يجوز وصفه لئلا يفهم أنه غيره * (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى) * يعني الجوع ومصائب الدنيا وقيل القتل يوم بدر وقيل عذاب القبر وهذا بعيد لقوله لعلهم يرجعون * (إنا من المجرمين منتقمون) * هذا وعيد لمن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها وكان الأصل أن يقول إنا منه منتقمون ولكنه وضع المجرمين موضع المضمر ليصفهم بالإجرام وقدم المجرور على منتقمون للمبالغة * (فلا تكن في مرية من لقائه) * المرية الشك والضمير لموسى أي لا تمتر في لقائك موسى ليلة الإسراء وقيل المعنى لا تشك في لقاء موسى والكتاب الذي أنزل عليه والكتاب على هذا التوراة وقيل الكتاب هنا جنس والمعنى لقد آتينا موسى الكتاب فلا تشك أنت في لقائك الكتاب الذي أنزل عليك وعبر باللقاء عن إنزال الكتاب كقوله وإنك لتلقى القرآن * (يفصل بينهم) * الضمير لجميع الخلق وقيل لبني إسرائيل خاصة * (أولم يهد لهم) * ذكر في طه * (يمشون في مساكنهم) * الضمير في يمشون لأهل مكة أي يمشون في مساكن القوم المهلكين كقوله * (وقد تبين لكم من مساكنهم) * وقيل الضمير للمهلكين أي أهلكناهم وهم يمشون في مساكنهم والأول أحسن لأن فيه حجة على أهل مكة * (الأرض الجرز) * يعني التي لا نبات فيها من شدة العطش
131

* (متى هذا الفتح) * أي الحكم بين المسلمين والكفار في الآخرة وقيل يعني فتح مكة وهذا بعيد لقوله * (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم) * وذلك في الآخرة وقيل يعني فتح مكة لأن من آمن يوم فتح مكة نفعه إيمانه * (فأعرض عنهم) * منسوخ بالسيف * (وانتظر إنهم منتظرون) * أي انتظر هلاكهم إنهم ينتظرون هلاكك وفي هذا تهديد لهم
سورة الأحزاب
* (يا أيها النبي) * نداء فيه تكريم له لأنه ناداه بالنبوة ونادى سائر الأنبياء بأسمائهم * (اتق الله) * أي دم على التقوى وزد منها * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) * أي لا تقبل أقوالهم وإن أظهروا أنها نصيحة ويعني بالكافرين المظهرين للكفر وبالمنافقين الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر وروي أن الكافرين هنا أبي بن خلف والمنافقين هنا عبد الله بن أبي ابن سلول والعموم أظهر * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) * قال ابن عباس كان في قريش رجل يقال له ذو القلبين لشدة فهمه فنزلت الآية نفيا لذلك ويقال إنه ابن أخطا وقيل جميل بن معمر وقيل إنما جاء هذا اللفظ توطئة لما بعده من النفي أي كما لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه كذلك لم يجعل أزواجكم أمهاتكم ولا أدعياءكم أبناءكم * (اللائي تظاهرون منهن) * أي تقولون للزوجة أنت علي كظهر أمي وكانت العرب تطلق هذا اللفظ بمعنى التحريم ويأتي حكمه في المجادلة وإنما تعدى هذا الفعل بمن لأنه يتضمن معنى يتباعدون منهن * (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) * الأدعياء جمع دعي وهو الذي يدعى ولد فلان وليس بولده وسببها أمر زيد بن حارثة وذلك أنه كان فتى من كلب فسباه بعض العرب وباعه من خديجة فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فتبناه فكان يقال له زيد بن محمد حتى أنزلت هذه الآية * (ذلكم قولكم) * الإشارة إلى نسبة الدعي إلى غير أبيه أو إلى كل ما تقدم من المنفيات وقوله * (بأفواهكم) * تأكيد لبطلان القول * (ادعوهم لآبائهم) * الضمير للأدعياء أي انسبوهم لآبائهم الذين ولدوهم
132

* (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) * يقتضي أن يحبوه صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحبون أنفسهم وأن ينصروا دينه أكثر مما ينصرون أنفسهم * (وأزواجه أمهاتهم) * جعل الله تعالى لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الأمهات في تحريم نكاحهن ووجوب مبرتهن ولكن أوجب حجبهن عن الرجال " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " هذا نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بأخوة الإسلام وبالهجرة وقد تكلمنا عليها في الأنفال * (في كتاب الله) * يحتمل أن يريد القرآن أو اللوح المحفوظ * (من المؤمنين) * يحتمل أن يكون بيانا لأولي الأرحام أو يتعلق بأولي أي أولوا الأرحام أولى بالميراث من المؤمنين الذين ليسوا بذوي أرحام * (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) * يريد الإحسان إلى الأولياء الذين ليسوا بقرابة ونفعهم في الحياة والوصية لهم عند الموت فذلك جائز ومندوب إليه وإن لم يكونوا قرابة وأما الميراث فللقرابة خاصة واختلف هل يعني بالأولياء المؤمنين خاصة أو المؤمنين والكافرين * (في الكتاب مسطورا) * يعني القرآن أو اللوح المحفوظ * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) * هو الميثاق بتبليغ الرسالة والقيام بالشرائع وقيل هو الميثاق الذي أخذه حين أخرج بني آدم من صلب آدم كالذر والأول أرجح لأنه هو المختص بالأنبياء * (ومنك ومن نوح) * قد دخل هؤلاء في جملة النبيين ولكنه خصهم بالذكر تشريفا لهم وقدم محمدا صلى الله عليه وسلم تفضيلا له * (ميثاقا غليظا) * يعني الميثاق المذكور وإنما كرره تأكيدا وليصفه بأنه غليظ أي وثيق ثابت يجب الوفاء به * (ليسأل الصادقين) * اللام تحتمل أن تكون لام كي أو لام الصيرورة والصدق هنا يحتمل أن يكون الصدق في الأقوال أو الصدق في الأفعال والعزائم ويحتمل أن يريد بالصادقين الأنبياء وغيرهم من المؤمنين * (اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود) * هذه الآية وما بعدها نزلت في قصة غزوة الخندق والجنود المذكورة هم قريش ومن كان معهم من الكفار وسماهم الله في هذه السورة الأحزاب وكانوا نحو عشرة آلاف حاصروا المدينة وحفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حولها ليمنعهم من دخولها * (فأرسلنا عليهم ريحا) * أرسل الله عليهم ريح الصبا فأطفأت نيرانهم وأكفأت قدورهم ولم يمكنهم معها قرار فانصرفوا خائبين * (وجنودا لم تروها) * يعني الملائكة " إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم " أي حصروا المدينة من أعلاها ومن أسفلها وقيل معنى من فوقكم أهل نجد لأن أرضهم فوق المدينة ومن أسفل منكم أهل مكة وسائر تهامة * (وإذ زاغت الأبصار) * أي مالت عن مواضعها وذلك عبارة عن شدة الخوف " وبلغت
133

القلوب الحناجر) جمع حنجرة وهي الحلق وبلوغ القلب إليها مجاز وهو عبارة عن شدة الخوف وقيل بل هي حقيقة لأن الرئة تنتفخ من شدة الخوف فتربو ويرتفع القلب بارتفاعها إلى الحنجرة * (وتظنون بالله الظنونا) * أي تظنون أن الكفار يغلبوكم وقد وعدكم الله بالنصر عليهم فأما المنافقون فظنوا ظن السوء وصرحوا به وأما المؤمنون فربما خطرت لبعضهم خطرة مما لا يمكن البشر دفعها ثم استبصروا ووثقوا بوعد الله وقرأ نافع الظنونا والرسولا والسبيلا بالألف في الوصل وفي الوقف وقرئ بإسقاطها
في الوصل والوقف وبإثباتها في الوقف دون الوصل فأما إسقاطها فهو الأصل وأما إثباتها فلتعديل رؤوس الآي لأنها كالقوافي وتقتضي هذه العلة أن تثبت في الوقف خاصة وأما من أثبتها في الحالين فإنه أجرى الوصل مجرى الوقف * (هنالك ابتلي المؤمنون) * أي اختبروا أو أصابهم بلاء والعامل في الظرف ابتلى وقيل ما قبله * (وزلزلوا) * أصل الزلزلة شدة التحريك وهو هنا عبارة عن اضطراب القلوب * (وإذ يقول المنافقون) * روي أنه معتب بن قشير * (وإذ قالت طائفة) * قال السهيلي الطائفة تقع على الواحد فما فوق والمراد هنا أوس بن قبطي * (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) * يثرب اسم المدينة وقيل اسم البقعة التي المدينة في طرف منها ومقام اسم موضع من القيام أي لا قرار لكم هنا يعنون موضع القتال وقريء بالضم وهو اسم موضع من الإقامة وقولهم فارجعوا أي إلى منازلكم بالمدينة ودعوا القتال * (ويستأذن فريق منهم النبي) * أي يستأذنوه في الانصراف والمستأذن أوس بن قبطي وعشيرته وقيل بنو حارثة " إن بيوتا عورة " أي منكشفة للعدو وقيل خالية للسراق فكذبهم الله في ذلك * (ولو دخلت عليهم من أقطارها) * أي لو دخلت عليهم المدينة من جهاتها * (ثم سئلوا الفتنة) * يريد بالفتنة الكفر أو قتال المسلمين * (لآتوها) * قرىء بالقصر بمعنى جاؤوا إليها وبالمد بمعنى أعطوها من أنفسهم * (وما تلبثوا بها) * الضمير للمدينة * (قد يعلم الله) * دخلت قد على الفعل المضارع بمعنى التهديد وقيل للتعليل على وجه التهكم * (المعوقين منكم) * أي الذين يعوقون الناس عن الجهاد ويمنعونهم منه بأقوالهم وأفعالهم * (والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) * هم المنافقون الذين قعدوا بالمدينة عن الجهاد وكانوا يقولون لقرابتهم أو للمنافقون مثلهم هلم إلى الجلوس معنا بالمدينة وترك القتال وقد ذكر هلم في الأنعام * (ولا يأتون البأس إلا قليلا) * البأس القتال وقليلا صفة لمصدر محذوف تقديره إلا إتيانا قليلا أو مستثنى من فاعل يأتون أي إلا قليلا منهم
134

* (أشحة عليكم) * أشحة جمع شحيح بوزن فعيل معناه يشحون بأنفسهم فلا يقاتلون وقيل يشحون بأموالهم وقيل معناه أشحة عليكم وقت الحرب أي يشفقون أن يقتلوا ونصب أشحة على الحال من القائلين أو على المعوقين أو من الضمير في يأتون أو نصب على الذم * (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك) * أي إذا اشتد الخوف من الأعداء نظر إليك هؤلاء في تلك الحالة ولاذوا بك من شدة خوفهم * (تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) * عبارة عن شدة خوفهم * (فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) * السلق بالألسنة عبارة عن الكلام بكلام مستكره ومعنى حداد فصحاء قادرين على الكلام وإذا نصركم الله فزال الخوف رجع المنافقون إلى إذايتكم بالسب وتنقيص الشريعة وقيل إذا غنمتم طلبوا من الغنائم * (أشحة على الخير) * أي يشحون بفعل الخير وقيل يشحون بالمغانم وانتصابه هنا على الحال من الفاعل في سلقوكم * (لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم) * ليس المعنى أنها حبطت بعد ثبوتها وإنما المعنى أنها لم تقبل لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال وقيل إنهم نافقوا بعد أن آمنوا فالإحباط على هذا حقيقة * (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) * الأحزاب هنا هم كفار قريش ومن معهم فالمعنى أن المنافقين من شدة جزعهم يظنون أن الأحزاب لم ينصرفوا عن المدينة وهم قد انصرفوا * (وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بأدون في الأعراب) * معنى يودوا يتمنوا وبادون خارجون في البادية والأعراب هم أهل البوادي من العرب فمعنى الآية أنه إن أتى الأحزاب إلى المدينة مرة أخرى تمنى هؤلاء المنافقون من شدة جزعهم أن يكونوا في البادية مع الأعراب وأن لا يكونوا في المدينة بل غائبين عنها يسألون من ورد عليهم عن أنبائكم * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * أي قدوة تقتدون به صلى الله عليه وسلم في اليقين والصبر وسائر الفضائل وقرئ أسوة بضم الهمزة والمعنى واحد * (هذا ما وعدنا الله ورسوله) * قيل إن هذا الوعد ما أعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بحفر الخندق من أن الكفار ينزلون وأنهم ينصرفون خائبين وقيل إنه قول الله تعالى * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء) * الآية فعلموا أنهم يبتلون ثم ينصرون * (فمنهم من قضى نحبه) * يعني قتل شهيدا قال أنس بن مالك يعني عمى أنس بن النضر وقيل يعني حمزة بن عبد المطلب وقضاء النحب عبارة عن الموت عند ابن عباس وغيره وقيل قضى نحبه وفي العهد الذي عاهد الله عليه ويدل على هذا ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال طلحة ممن قضى نحبه وهو لم يقتل حينئذ * (ومنهم من ينتظر) * المفعول
135

محذوف أي ينتظر أن يقضي نحبه أو ينتظر الشهادة في سبيل الله على قول ابن عباس أو ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح على القول الآخر * (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم) * الصياصي هي الحصون ونزلت الآية في يهود بني قريظة وذلك أنهم كانوا معاهدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا عهده وصاروا مع قريش فلما انصرفت قريش عن المدينة حصر رسول الله بني قريظة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم بأن يقتل رجالهم ويسبي نساؤهم وذريتهم * (فريقا تقتلون) * يعني الرجال وقتل منهم يومئذ كل من أنبت وكانوا بين ثمانمائة أو تسعمائة * (وتأسرون فريقا) * يعني النساء والذرية * (أورثكم أرضهم) * يعني أرض بني قريظة قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين " وأرضا لم تطؤها " هذا وعد بفتح أرض لم يكن المسلمون قد وطؤها حينئذ وهي مكة واليمن والشام والعراق ومصر فأورث الله المسلمين جميع ذلك وما وراءها إلى أقصى المشرق والمغرب ويحتمل عندي أن يريد أرض بني قريظة لأنه قال أورثكم بالفعل الماضي وهي التي كانوا أخذوها حينئذ وأما غيرها من الأرضين فإنما أخذها بعد ذلك فلو أرادها لقال يورثكم إنما كررها بالعطف ليصفها بقوله لم تطؤها أي لم تدخلوها قبل ذلك * (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) * الآية سببها أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تغايرن حتى غمه ذلك وقيل طلبن منه الملابس ونفقات كثيرة وكان أزواجه يومئذ تسع نسوة خمس من قريش وهن عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسودة بنت زمعة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وأربع من غير قريش وهم ميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي من بني إسرائيل وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق * (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا) * أصل تعال أن يقوله من كان في موضع مرتفع لمن في موضع منخفض ثم استعملت بمعنى أقبل في جميع الأمكنة وأمتعكن من المتعة وهي الإحسان إلى المرأة إذا طلقت والسراح الطلاق فمعنى الآية أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخير نساءه بين الطلاق والمتعة إن أرادوا زينة الدنيا وبين البقاء في عصمته إن أرادوا الآخرة فبدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة فاختارت البقاء في عصمته ثم
تبعها سائرهن في ذلك فلم يقع طلاق وقالت عائشة خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعد ذلك طلاقا وإذا اختارت المخيرة الطلاق فمذهب مالك أنه ثلاث وقيل طلقة بائنة وقيل طلقة رجعية ووصف السراح بالجميل يحتمل أن يريد أنه دون الثلاث أو يريد أنه ثلاث وجماله حسن الرعي والثناء
136

وحفظ العهد * (للمحسنات منكن) * من للبيان لا للتبعيض لأن جميعهن محسنات * (بفاحشة مبينة) * قيل يعني الزنا وقيل يعني عصيان زوجهن عليه الصلاة والسلام أو تكليفه ما يشق عليه وقيل عموم في المعاصي * (يضاعف لها العذاب ضعفين) * أي يكون عذابها في الآخرة مثل عذاب غيرها مرتين وإنما ذلك لعلو رتبتهن لأن كل أحد يطالب على مقدار حاله وقرئ يضاعف بالياء ورفع العذاب على البناء للمفعول وبالنون ونصب العذاب على البناء للفاعل * (ومن يقنت منكن لله ورسوله) * قرىء بالياء حملا على لفظ من وبالتاء حملا على المعنى وكذلك تعمل والقنوت هنا بمعنى الطاعة * (نؤتها أجرها مرتين) * أي يضاعف لها ثواب الحسنات * (رزقا كريما) * يعني الجنة وقيل في الدنيا والأول هو الصحيح * (لستن كأحد من النساء إن اتقيتن) * فضلهن الله على النساء بشرط التقوى وقد حصل لهن التقوى فحصل التفضيل على جميع النساء إلا أنه يخرج من هذا العموم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون لشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل واحدة منهن بأنها سيدة نساء عالمها * (فلا تخضعن بالقول) * نهى عن الكلام اللين الذي يعجب الرجال ويميلهن إلى النساء * (في قلبه مرض) * أي فجور وميل للنساء وقيل هو النفاق وهذا بعيد في هذا الموضع * (وقلن قولا معروفا) * هو الصواب من الكلام أو الذي ليس فيه شيء مما نهى عنه * (وقرن في بيوتكن) * قرئ بكسر القاف ويحتمل وجهين أن يكون من الوقار أو من القرار في الموضع ثم حذفت الراء الواحدة كما حذفت اللام في ظلت وأما القراءة بالفتح فمن القرار في الموضع على لغة من يقول قررت بالكسر أقر بالفتح والمشهور في اللغة عكس ذلك وقيل هي من قار يقار إذا اجتمع ومعنى القرار أرجح لأن سودة رضي الله عنها قيل لها لم لا تخرجين فقالت أمرنا الله بأن نقر في بيوتنا وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية تبكي على خروجها أيام الجمل وحينئذ قال لها عمر إن الله أمرك أن تقري في بيتك * (ولا تبرجن) * التبرج إظهار الزينة * (تبرج الجاهلية الأولى) * أي مثل ما كان نساء الجاهلية يفعلن من الانكشاف والتعرض للنظر وجعلها أولى بالنظر إلى حال الإسلام وقيل الجاهلية الأولى ما بين آدم ونوح وقيل ما بين موسى وعيسى * (الرجس) * أصله النجس والمراد به هنا النقائص والعيوب * (أهل البيت) * منادى أو منصوب على التخصيص وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم أزواجه وذريته وأقاربه كالعباس وعلي وكل من حرمت عليه الصدة وقيل المراد هنا أزواجه خاصة والبيت على هذا المسكن وهذا ضعيف لأن الخطاب بالتذكير ولو أراد ذلك لقال عنكن وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نزلت هذه الآية في خمسة في ولد علي وفاطمة والحسن
137

والحسين * (واذكرن) * خطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خصهن بعد دخولهن مع أهل البيت وهذا الذكر يحتمل أن يكون التلاوة أو التذكر بالقلب وآيات الله هي القرآن والحكمة هي السنة * (إن المسلمين والمسلمات) * الآية سببها أن بعض النساء قلن ذكر الله الرجال ولم يذكرنا فنزل فيها ذكر النساء * (والمؤمنين والمؤمنات) * الإسلام هو الانقياد والإيمان هو التصديق ثم إنهما يطلقان بثلاثة أوجه باختلاف المعنى كقوله لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وبالاتفاق لاجتماعهما كقوله فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين الآية وبالعموم فيكون الإسلام أعم لأنه بالقلب والجوارح والإيمان أخص لأنه بالقلب خاصة وهذا هو الأظهر في هذا الموضع * (والقانتين والقانتات) * يحتمل أن يكون بمعنى العبادة أو الطاعة * (والصادقين والصادقات) * يحتمل أن يكون من صدق القول أو من صدق العزم * (وما كان لمؤمن) * الآية معناها أنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة اختيار مع الله ورسوله بل يجب عليهم التسليم والانقياد لأمر الله ورسوله والضمير في قوله من أمرهم راجع إلى الجمع الذي يقتضيه قوله لمؤمن ولا مؤمنة لأن معناه العموم في جميع المؤمنين والمؤمنات وهذه الآية توطئة للقصة المذكورة بعدها وقيل سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب امرأة ليزوجها لمولاه زيد بن حارثة فكرهت هي وأهلها ذلك فلما نزلت الآية قالوا رضينا يا رسول الله واختلف هل هذه المخطوبة زينب بنت جحش أو غيرها وقد قيل إنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط * (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه) * هو زيد بن حارثة الكلبي وإنعام الله عليه بالإسلام وغيره وإنعام النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق وكانت عند زيد زينب بنت جحش وهي بنت أميمة عمة النبي صلى الله عليه وسلم فشكا زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء معاشرتها وتعاظمها عليه وأراد أن يطلقها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجك واتق الله يعني فيما وصفها به من سوء المعاشرة واتق الله ولا تطلقها فيكون نهيا عن الطلاق على وجه التنزيه كما قال عليه الصلاة والسلام أبغض المباح إلى الله الطلاق * (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) * الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جائز مباح لا إثم فيه ولا عتب ولكنه خاف أن يسلط الله عليهم ألسنتهم وينالوا منه فأخفاه حياء وحشمة وصيانة لعرضه وذلك أنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن يطلق زيد زينب ليتزوجها هو صلى الله عليه وسلم لقرابتها منه ولحسبها فقال أمسك عليك زوجك وهو يخفي الحرص عليها خوفا من كلام
138

الناس لئلا يقولوا تزوج امرأة ابنه إذ كان قد تبناه فالذي أخفاه صلى الله عليه وسلم هو إرادة تزوجها فأبدى الله ذلك بأن قضى له بتزويجها فقالت عائشة لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه وقيل إن الله كان أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج زينب بعد طلاق زيد فالذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعلمه الله به من ذلك * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) * لم يذكر أحد من الصحابة في القرآن باسمه غير زيد بن حارثة والوطر الحاجة قال ابن عطية ويراد به هنا الجماع والأحسن أن يكون أعم من ذلك أي لما لم يبق لزيد فيها حاجة زوجها الله من نبيه صلى الله عليه وسلم وأسند الله تزويجها إليه تشريفا لها ولذلك كانت زينب تفتخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول إن الله زوجني نبيه من فوق سبع سماوات واستدل بعضهم بقوله زوجناكها على أن الأولى أن يقال في كتاب الصداق أنكحه إياها بتقديم ضمير الزوج على ضمير الزوجة كما في الآية " لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم " المعنى أن الله زوج زينب امرأة زيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم المؤمنين أن تزوج نساء أدعيائهم حلال لهم فإن الأدعياء ليسوا لهم بأبناء حقيقة * (ما كان على
النبي من حرج فيما فرض الله له) * المعنى أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بعد زيد حلال لا حرج فيه ولا إثم ولا عتاب وفي ذلك رد على من تكلم في ذلك من المنافقين وفرض هنا بمعنى قسم له * (سنة الله في الذين خلوا من قبل) * أي عادة الله في الأنبياء المتقدمين أن ينالوا ما أحل الله لهم وقيل الإشارة بذلك إلى داود في تزوجه للمرأة التي جرى له فيها ما جرى والعموم أحسن ونصب سنة على المصدر أو على إضمار فعل أو على الإغراء * (الذين يبلغون رسالات الله) * صفة للذين خلوا من قبل وهم الأنبياء أو رفع على إضمار مبتدأ أو نصب بإضمار فعل * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) * هذا رد على من قال في زيد بن حارثة زيد ابن محمد فاعترض على النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة زيد وعموم النفي في الآية لا يعارضه وجود الحسن والحسين لأنه صلى الله عليه وسلم ليس أبا لهما في الحقيقة لأنهما ليسا من صلبه وإنما كانا ابني بنته وأما ذكور أولاده فماتوا صغارا فليسوا من الرجال * (وخاتم النبيين) * أي آخرهم فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم وقرئ بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم فهو خاتم وبالفتح بأنهم ختموا به فهو كالخاتم والطابع لهم فغن قيل إن عيسى ينزل في آخر الزمان فيكون بعده عليه الصلاة والسلام فالجواب أن النبوة أوتيت عيسى قبله عليه الصلاة والسلام وأيضا فإن عيسى يكون إذا نزل على شريعته عليه الصلاة والسلام فكأنه واحد من أمته * (اذكروا الله ذكرا كثيرا) * اشترط الله الكثرة في الذكر حيثما أمر به بخلاف سائر الأعمال والذكر يكون بالقلب وباللسان وهو
139

على أنواع كثيرة من التهليل والتسبيح والحمد والتكبير وذكر أسماء الله تعالى * (وسبحوه بكرة وأصيلا) * قيل إن ذلك إشارة إلى صلاة الصبح والعصر والأظهر أنه أمر بالتسبيح في أول النهار وآخره وقال ابن عطية أراد في كل الأوقات فحد النهار بطرفيه * (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم) * هذا خطاب للمؤمنين وصلاة الله عليهم رحمة لهم وصلاة الملائكة عليهم دعاؤهم لهم فاستعمل لفظ يصلي في المعنيين على اختلافهما وقيل إنه على حذف مضاف تقديره وملائكته يصلون * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * قيل يعني يوم القيامة وقيل في الجنة وهو الأرجح لقوله وتحيتهم فيها سلام ويحتمل أن يريد تسليم بعضهم على بعض أو قول الملائكة لهم سلام عليكم طبتم * (إنا أرسلناك شاهدا) * أي يشهد على أمته * (وداعيا إلى الله بإذنه) * أي بأمر الله وإرساله * (وسراجا منيرا) * استعارة للنور الذي يتضمنه الدين * (ودع أذاهم) * يحتمل وجهين أحدهما لا تؤذهم فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين بآية السيف والآخر احتمل إذايتهم لك وأعرض عن أقوالهم فالمصدر على هذا مضاف للفاعل * (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن) * الآية معناه سقوط العدة عن المطلقة قبل الدخول فالنكاح في الآية هو العقد والمس هو الجماع وتعتدونها من العدد * (فمتعوهن) * هذا يقتضي متعة المطلقة قبل الدخول سواء فرض لها أو لم يفرض لها صداق وقوله تعالى في البقرة * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) * يقتضي أن المطلقة قبل الدخول وقد فرض لها يجب لها نصف الصداق ولا متعة لها وقد اختلف هل هذه الآية ناسخة لآية البقرة أو منسوخة بها ويمكن الجمع بينهما بأن تكون آية البقرة مبينة لهذه مخصصة لعمومها * (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن) * في معناه قولان أحدهما أن المراد أزواجه اللاتي في عصمته حينئذ كعائشة وغيرها وكان قد أعطاهن مهورهن والآخر أن المراد جميع النساء فأباح الله له أن يتزوج كل امرأة يعطى مهرها وهذا أوسع من الأول * (وما ملكت يمينك) * أباح الله له مع الأزواج السراري بملك اليمين ويعني بقوله أفاء الله عليك الغنائم * (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك) * يعني قرابته
140

من جهة أبيه ومن جهة أمه وكان له عليه الصلاة والسلام أعمام وعمات إخوة لأبيه ولم يكن لأمه عليه الصلاة والسلام أخ ولا أخت وإنما يعني بخاله وخالاته عشيرته أمه وهم بنو زهرة ولذلك كانوا يقولون نحن أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قال إن المراد بقوله أحللنا لك أزواجك من كانت في عصمته فهو عطف عليهن وإباحة لأن يتزوج قرابته زيادة على من كان في عصمته ومن قال إن المراد جميع النساء فهو تجريد منهن على وجه التشريف بعد دخول هؤلاء في العموم * (اللاتي هاجرن معك) * تخصيص تحرز به ممن لم يهاجر كالطلقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة * (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) * أباح الله له صلى الله عليه وسلم من وهبت له نفسها من النساء واختلف هل وقع ذلك أم لا فقال ابن عباس لم تكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بنكاح أو ملك يمين لا بهبة نفسها ويؤيد هذا قراءة الجمهور إن وهبت بكسر الهمزة أي إن وقع وقيل قد وقع ذلك وهو على هذا القول قرئ أن وهبت بفتح الهمزة واختلف على هذا القول فيمن هي التي وهبت نفسها فقيل ميمونة بنت الحارث وقيل زينب بنت خزيمة أم المساكين وقيل أم شريك الأنصارية وقيل أم شريك العامرية * (خالصة لك من دون المؤمنين) * أي هبة المرأة نفسها مزية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وانظر كيف رجع من الغيبة إلى الخطاب ليخص المخاطب وحده وقيل إن خالصة يرجع إلى كل ما تقدم من النساء المباحات له صلى الله عليه وسلم لأن سائر المؤمنين قصروا على أربع نسوة وأبيح له عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك ومذهب مالك أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد بخلاف أبي حنيفة وإعراب خالصة مصدر أو حال أو صفة لامرأة * (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) * يعني أحكام النكاح من الصداق والولي والاقتصار على أربع وغير ذلك * (لكيلا يكون عليك حرج) * يتعلق بالآية التي قبله أي بينا أحكام النكاح لئلا يكون عليك حرج أو لئلا يظن بك أنك فعلت ما لا يجوز وقال الزمخشري يتعلق بقوله خالصة لك * (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) * معنى ترجي تؤخر وتبعد ومعنى تؤوي تضم وتقرب واختلف في المراد بهذا الإرجاء والإيواء فقيل إن ذلك في القسمة بينهن أي تكثر لمن شئت وتقلل لمن شئت وقيل إنه في الطلاق أي تمسك من شئت وتطلق من شئت وقيل معناه تتزوج من شئت وتترك من شئت والمعنى على كل قول توسعة على النبي صلى الله عليه وسلم وإباحة له أن يفعل ما يشاء وقد اتفق الناقلون على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه أخذا منه بأفضل الأخلاق مع إباحة الله له والضمير في قوله منهن يعود على أزواجه صلى الله عليه وسلم خاصة أو على كل ما أحل الله له على حسب الخلاف المتقدم * (ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) * في معناه قولان أحدهما من كنت عزلته من نسائك فلا جناح عليك في رده بعد عزله والآخر من ابتغيت ومن عزلت سواء في إباحة ذلك فمن للتبعيض على القول الأول وأما على القول الثاني فنحو قولك من لقيك ومن لم يلقك سواء * (ذلك أدنى أن تقر أعينهن) * أي إذا علمن أن هذا
141

حكم الله قرت به أعينهن ورضين به وزال ما كان بهن من الغيرة فإن سبب نزول هذه الآية ما وقع لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غيرة بعضهن على بعض * (لا يحل لك النساء من بعد) * فيه قولان أحدهما لا يحل لك النساء غير اللاتي في عصمتك الآن ولا تزيد عليهن قال ابن عباس لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترن الله ورسوله جازاهن الله على ذلك بأن حرم غيرهن من النساء كرامة لهن والقول الثاني لا يحل لك النساء غير الأصناف التي سميت والخلاف هنا يجري على الخلاف في المراد بقوله * (إنا أحللنا لك أزواجك) * أي لا يحل لك غير من ذكر حسبما تقدم وقيل معنى لا يحل لك النساء لا يحل لك اليهوديات والنصرانيات من بعد المسلمات المذكورات وهذا بعيد واختلف في حكم هذه الآية فقيل إنها منسوخة بقوله إنا أحللنا لك أزواجك على القول بأن المراد جميع النساء وقيل إن هذه الآية ناسحة لتلك على القول بأن المراد من كان في عصمته وهذا هو الأظهر لما ذكرنا عن ابن عباس ولأن التسع في حقه عليه الصلاة والسلام كالأربع في حق أمته * (ولا أن تبدل بهن من أزواج) * معناه لا يحل لك أن تطلق واحدة منهن وتتزوج غيرها بدلا منها وقيل معناه كانت العرب تفعله من المبادلة في النساء بأن ينزل الرجل عن زوجته لرجل وينزل الآخر عن زوجته له وهذا ضعيف * (ولو أعجبك حسنهن) * في هذا دليل على جواز النظر إلى المرأة إذا أراد الرجل أن يتزوجها * (إلا ما ملكت يمينك) * المعنى أن الله أباح له الإماء والاستثناء في موضع رفع على البدل من النساء أو في موضع نصب على الاستثناء من الضمير في حسنهن * (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) * سبب هذه الآية ما رواه أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فدعا الناس فلما طعموا قعد نفر في طائفة من البيت فثقل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فخرج ليخرجوا بخروجه ومر على حجر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم فانصرف فخرجوا عن ذلك وقال ابن عباس نزلت في قوم كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام فيقعدون إلى أن يطبخ ثم يأكلون ولا يخرجون فأمروا أن لا يدخلوا حتى يؤذن لهم وأن ينصرفوا إذا أكلوا قلت والقول الأول أشهر وقول ابن عباس أليق بما في الآية من النهي عن الدخول حتى يؤذن لهم فعلى قول ابن عباس في النهي عن الدخول حتى يؤذن لهم والقول الأول في النهي عن القعود بعد الأكل فإن الآية تضمنت الحكمين * (غير ناظرين إناه) * أي غير منتظرين لوقت الطعام والإنا الوقت وقيل إنا الطعام نضجه وإدراكه يقال أنى يأنى إناء * (ولكن إذا دعيتم فأدخلوا) * أمر بالدخول بعد الدعوة وفي ذلك تأكيد للنهي عن الدخول قبلها * (فإذا طعمتم فانتشروا) * أي انصرفوا قال بعضهم هذا أدب أدب الله به الثقلاء وقالت عائشة رضي الله عنها حسبك من الثقلاء أن الله لم يحتملهم * (ولا مستأنسين لحديث) * معطوف على غير ناظرين أو تقديره ولا تدخلوا مستأنسين ومعناه النهي عن أن يطلبوا الجلوس للأنس بحديث بعضهم مع بعض أو يستأنسوا لحديث أهل البيت واستئناسهم تسمعهم وتجسسهم * (إن ذلكم كان يؤذي النبي) * يعني جلوسهم للحديث أو دخولهم بغير إذن * (فيستحيي منكم) * تقديره
142

يستحيي من إخراجكم بدليل قوله والله لا يستحيي من الحق أي إن إخراجكم حق لا يتركه الله * (إذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) * المتاع الحاجة من الأثاث وغيره وهذه الآية نزلت في احتجاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وسببها ما رواه أنس من قعود القوم يوم الوليمة في بيت زينب وقيل سببها أن عمر بن الخطاب أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحجب نساءه فنزلت الآية موافقة لقول عمر قال بعضهم لما نزلت في أمهات المؤمنين * (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) * كن لا يجوز للنساء كلامهن إلا من وراء حجاب ولا يجوز أن يراهن متنقبات ولا غير متنقبات فخصصن بذلك دون سائر النساء * (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) * يريد أنقى من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء والنساء في أمر الرجال " ولا تنكحوا أزواجه " سببها أن بعض الناس قالوا لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة فحرم الله على الناس تزوج نسائه بعده كرامة له صلى الله عليه وسلم * (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن) * الآية لما أوجب الله الحجاب أباح لهن الظهور لذوي محارمهن من القرابة وهم الآباء والأبناء والإخوة وأولادهم وأولاد الأخوات * (ولا نسائهن) * قيل يريد بالنساء القرابة والمصرفات لهن وقيل يريد نساء جميع المؤمنات ويقوي الأول تخصيص النساء بالإضافة لهن ويقوي الثاني أنهن كن لا يحتجبن من النساء على الإطلاق " وما ملكت أيمانهن " واختلف فيمن أبيح لهن الظهور له من ملك اليمين فقيل الإماء دون العبيد وقيل الإماء والعبيد وهو أولى بلفظ الآية ثم اختلف من ذهب إلى هذا فقال قوم من ملكنه من العبيد دون من ملكه غيرهن وهذا هو الظاهر من لفظ الآية وقال قوم جميع العبيد كن في ملكهن أو في ملك غيرهن * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا معنى صلاة الله وصلاة الملائكة في قوله يصلي عليكم وملائكته * (صلوا عليه وسلموا تسليما) * الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض إسلامي فالأمر به محمول على الوجوب وأقله مرة في العمر وأما حكمها في الصلاة فمذهب الشافعي أنها فرض تبطل الصلاة بتركه ومذهب مالك أنها سنة وصفتها ما ورد في الحديث الصحيح اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وقد اختلفت الروايات في ذلك اختلافا كثيرا أما السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن يريد السلام عليه في التشهد في الصلاة أو السلام عليه حين لقائه وأما السلام عليه بعد موته فقد قال صلى الله عليه وسلم من سلم علي قريبا سمعته ومن سلم علي بعيدا أبلغته فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء * (إن الذين يؤذون الله ورسوله) * إذاية الله هي
143

بالإشراك به ونسبة الصاحبة والولد له وليس معنى إذايته أنه يضره الأذى لأنه تعالى لا يضره شيء ولا ينفعه شيء وقيل إنها على حذف مضاف تقديره يؤذون أولياء الله والأول أرجح لأنه ورد في الحديث يقول الله تعالى يشتمني ابن آدم وليس له أن يشتمني ويكذبني وليس له أن يكذبني أما شتمه إياي فقوله إن لي صاحبة وولدا وأما تكذيبه إياي فقوله لا يعيدني كما بدأني وأما إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي التعرض له بما يكره من الأقوال أو الأفعال وقال ابن عباس نزلت في الذين طعنوا عليه حين أخذ صفية بنت حيي * (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) * الآية في البهتان وهو ذكر الإنسان بما ليس فيه وهو أشد من الغيبة مع أن الغيبة محرمة وهي ذكره ما فيه مما يكره * (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) * كان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء
وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن ويفهم الفرق بين الحرائر والإماء والجلابيب جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار وقيل هو الرداء وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها وقيل أن تلويه حتى لا يظهر إلا عيناها وقيل أن تغطي نصف وجهها * (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) * أي ذلك أقرب إلى أن يعرف الحرائر من الإماء فإذا عرف أن المرأة حرة لم تعارض بما تعارض به الأمة وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من هي إنما المراد أن يفرق بينها وبين الأمة لأنه كان بالمدينة إماء يعرفن بالسوء وربما تعرض لهن السفهاء * (لئن لم ينته المنافقون) * الآية تضمنت وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا وقيل إنهم لم ينتهوا ولم ينفذ الوعيد عليهم ففي ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ الوعيد في الآخرة وقيل إنهم انتهوا وستروا أمرهم فكف عنهم إنفاذ الوعيد والمنافقون هم الذين يظهرون الإيمان ويخفون الكفر والذين في قلوبهم مرض قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه وقيل هم الزناة كقوله فيطمع الذي في قلبه مرض والمرجفون في المدينة قوم كانوا يشيعون أخبار السوء ويخوفون المسلمين فيحتمل أن تكون هذه الأصناف متفرقة أو تكون داخلة في جملة المنافقين ثم جردها بالذكر * (لنغرينك بهم) * أي نسلطك عليهم وهذا هو الوعيد * (ثم لا يجاورونك فيها) * ذلك لأنه ينفيهم أو يقتلهم والضمير المجرور للمدينة * (إلا قليلا) * يحتمل أن يريد إلا جوارا قليلا أو وقتا قليلا أو عددا قليلا منهم والإعراب يختلف بحسب هذه الاحتمالات فقليلا على الاحتمال الأول مصدر وعلى الثاني ظرف وعلى الثالث منصوب على الاستثناء * (ملعونين) * نصب على الذم أو بدل من قليلا على الوجه الثالث أو حال من
144

ضمير الفاعل في يجاورونك تقديره سينفون ملعونين * (أينما ثقفوا أخذوا) * أي حيث ما ظفر بهم أسروا والأخذ الأسر * (سنة الله) * أي عادته ونصب على المصدر * (في الذين خلوا من قبل) * أي عادته في المنافقين من الأمم المتقدمة وقيل يعني الكفار من بدر لأنهم أسروا وقتلوا * (تكون قريبا) * إنما قال قريبا بالتذكير والساعات مؤنثة على تقدير شيئا قريبا أو زمانا قريبا أو لأن تأنيثها غير حقيقي * (يوم تقلب وجوههم في النار) * العامل في يوم قوله يقولون أو لا يجدون أو محذوف وتقليب وجوههم تصريفها في جهة النار كما تدور البضعة في القدر إذا غلت من جهة إلى جهة أو تغيرها عن أحوالها * (لا تكونوا كالذين آذوا موسى) * هم قوم من بني إسرائيل وإذايتهم له ما ورد في الحديث أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة وكان موسى يستتر منهم إذا اغتسل فقالوا إنه لآدر فاغتسل موسى يوما وحده وجعل ثيابه على حجر ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى وهو يقول ثوبي حجر ثوبي حجر فمر في أتباعه على ملأ من بني إسرائيل فرأوه سليما مما قالوا فذلك قوله فبرأه الله مما قالوا وقيل إذايتهم له أنهم رموه بأنه قتل أخاه هارون فبعث الله ملائكة فحملته حتى رآه بنو إسرائيل ليس فيه أثر فبدأ الله موسى وروي أن الله أحياه فأخبرهم ببراءة موسى والقول الأول هو الصحيح لوروده في الحديث الصحيح * (قولا سديدا) * قيل يعني لا إله إلا الله واللفظ أعم من ذلك * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال) * الأمانة هي التكاليف الشرعية من التزام الطاعات وترك المعاصي وقيل هي الأمانة في الأموال وقيل غسل الجنابة والصحيح العموم في التكاليف وعرضها على السماوات والأرض والجبال يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الله خلق لها إدراكا فعرضت عليها الأمانة حقيقة فأشفقت منها وامتنعت من حملها والثاني أن يكون المراد تعظيم شأن الأمانة وأنها من الثقل بحيث لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين من حملها وأشفقن منها فهذا ضرب من المجاز كقولك عرضت الحمل العظيم على الدابة فأبت أن تحمله والمراد أنها لا تقدر على حمله * (وحملها الإنسان) * أي التزم الإنسان القيام بالتكاليف مع شدة ذلك وصعوبته على الأجرام التي هي أعظم منه ولذلك وصفه الله بأنه ظلوم جهول والإنسان هنا جنس وقيل يعني آدم وقيل قابيل الذي قتل أخاه * (ليعذب) * اللام للصيرورة فإن حمل الأمانة كان سبب تعذيب
145

المنافقين والمشركين ورحمة للمؤمنين
سورة سبأ
* (وله الحمد في الآخرة) * يحتمل أن يكون الحمد الأول في الدنيا والثاني في الآخرة وعلى هذا حمله الزمخشري ويحتمل عندي أن يكون الحمل الأول للعموم والاستغراق فجمع الحمد في الدنيا والآخرة ثم جرد منه الحمد في الآخرة كقوله فاكهة ونخل ورمان ثم إن الحمد في الآخرة يحتمل أن يريد به الجنس أو يريد به قوله وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين أو الحمد لله الذي صدقنا وعده * (ما يلج في الأرض) * أي يدخل فيها من المطر والأموات وغير ذلك * (وما يخرج منها) * من النبات وغيره * (وما ينزل من السماء) * من المطر والملائكة والرحمة والعذاب وغير ذلك * (وما يعرج فيها) * أي يصعد ويرتفع من الأعمال وغيرها * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة) * روي أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب * (لا يعزب) * أي لا يغيب ولا يخفى * (ولا أصغر) * معطوف على مثقال وقال الزمخشري هو مبتدأ لأن حرف الاستثناء من حروف العطف ولا خلاف بين القراء السبعة في رفع أصغر وأكبر في هذا الموضع وقد حكى ابن عطية الخلاف فيه عن بعض القراء السبعة وإنما الخلاف في يونس * (في كتاب مبين) * يعني اللوح المحفوظ * (ليجزي) * متعلق بقوله لتأتينكم أو بقوله لا يعزب أو بمعنى قوله في كتاب مبين * (والذين سعوا) * مبتدأ وخبره الجملة بعده وقال ابن عطية هو معطوف على الذين الأول وقد ذكر في الحج معنى سعوا ومعاجزين * (أليم) * بالرفع صفة لعذاب وبالخفض صفة لرجز * (ويري) * معطوف على ليجزي أو مستأنف وهذا أظهر * (الذين أوتوا العلم) * هم الصحابة أو من أسلم من أهل الكتاب أو على العموم * (الحق) * مفعول ثان ليرى لأن الرؤيا هنا بالقلب بمعنى العلم والضمير ضمير فصل * (وقال الذين كفروا) * أي قال بعضهم لبعض هل ندلكم على رجل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم
146

* (ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد) * معنى مزقتم أي بليتم في القبور وتقطعت أوصالكم وكل ممزق مصدر والخلق الجديد هو الحشر في القيامة والعامل في إذا معنى إنكم لفي خلق جديد لأن معناه تبعثون إذا مزقتم وقيل العامل فيه فعل مضمر مقدر قبلها وذلك ضعف وإنكم لفي خلق جديد معمول ينبئكم وكسرت اللام التي في خبرها ومعنى الآية أن ذلك الرجل يخبركم أنكم تبعثون بعد أن بليتم في الأرض ومرادهم استبعاد الحشر * (افترى على الله) * هذا من جملة كلام الكفار ودخلت
همزة الاستفهام على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت الهمزة مفتوحة غير ممدودة * (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب) * هذا رد عليهم أي أنه لم يفتر على الله الكذب وليس به جنة بل هؤلاء الكفار في ضلال وحيرة عن الحق توجب لهم العذاب ويحتمل أن يريد بالعذاب عذاب الآخرة أو العذاب في الدنيا بمعاندة الحق ومحاولة ظهور الباطل * (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض) * الضمير في يروا للكفار المنكرين للبعث وجعل السماء والأرض بين أيديهم وخلفهم لأنهما محيطتان بهم والمعنى ألم يروا إلى السماء والأرض فيعلمون أن الذي خلقهما قادر على بعث الناس بعد موتهم ويحتمل أن يكون المعنى تهديد لهم ثم فسره بقوله إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء أي أفلم يروا إلى السماء والأرض أنهما محيطتان بهم فيعلمون أنهم لا مهرب لهم من الله * (إن في ذلك لآية) * الإشارة إلى إحاطة السماء بهم أو إلى عظمة السماء والأرض بأن فيهما آية تدل على البعث * (يا جبال أوبي معه) * تقديره قلنا يا جبال والجملة تفسير للفضل ومعنى أوبي سبحي وأصله من التأويب وهو الترجيع لأنه كان يرجع التسبيح فنرجعه معه وقيل هو من التأويب بمعنى السير بالنهار وقيل كان ينوح فتساعده الجبال بصداها والطير بأصواتها * (والطير) * بالنصب عطف على موضع يا جبال وقيل مفعول معه وقيل معطوف على فضلا وقرئ بالرفع عطف على لفظ يا جبال * (وألنا له الحديد) * أي جعلناه له لينا بغير نار كالطين والعجين وقيل لان له الحديد لشدة قوته * (سابغات) * هي الدروع الكاسية * (وقدر في السرد) * معنى السرد هنا نسج الدروع وتقديرها أن لا يعمل الحلقة صغيرة فتضعف ولا كبيرة فيصاب لابسها من خلالها وقيل لا يجعل المسمار دقيقا ولا غليظا * (واعملوا صالحا) * خطاب لداود وأهله * (ولسليمان الريح) * بالنصب على تقدير وسخرنا وقرئ بالرفع على الابتداء * (غدوها شهر ورواحها شهر) * أي كانت تسير به بالغداة مسيرة شهر وبالعشي مسيرة شهر فكان يجلس على سريره وكان من خشب يحمل فيها روي أربعة آلاف فارس فترفعه الريح ثم تحمله * (وأسلنا له عين القطر) * قال ابن عباس كانت تسيل له
147

باليمين عين من نحاس يصنع منها ما أحب والقطر النحاس وقيل القطر الحديد والنحاس وما جرى مجرى ذلك كان يسيل له منه أربعة عيون وقيل المعنى أن الله أذاب له النحاس بغير نار كما صنع بالحديد لداود * (نذقه من عذاب السعير) * يعني نار الآخرة وقيل كان معه ملك يضربهم بصوت من نار * (محاريب) * هي القصور وقيل المساجد وتماثيل قيل إنها كانت على غير صور الحيوان وقيل على صور الحيوان وكان ذلك جائزا عندهم * (كالجواب) * جمع جابية وهي البركة التي يجتمع فيها الماء * (راسيات) * أي ثابتات في مواضعها لعظمها * (اعملوا آل داود شكرا) * حكاية ما قيل لآل داود وانتصب شكرا على أنه مفعول من أجله أو مصدر في موضع الحال تقديره شاكرين أو مصدر من المعنى لأن العمل شكر تقديره اشكروا شكرا أو مفعول به * (وقليل من عبادي الشكور) * يحتمل أن يكون مخاطبة لآل داود أو مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم * (دابة الأرض تأكل منسأته) * المنسأة هي العصا وقرئ بهمز وبغير همز ودابة الأرض هي الأرضة وهي السوسة التي تأكل الخشب وغيره وقصص الآية أن سليمان عليه السلام دخل قبة من قوارير وقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها فبقي كذلك سنة لم يعلم أحد بموته حتى وقعت العصا فخر إلى الأرض واختصرنا كثيرا مما ذكره الناس في هذه القصة لعدم صحته * (تبينت الجن) * من تبين الشيء إذا ظهر وما بعدها بدل من الجن والمعنى ظهر للناس أن الجن لا يعلمون الغيب وقيل تبينت بمعنى علمت وأن وما بعدها مفعول به على هذه والمعنى علمت الجن أنهم لا يعلمون الغيب وتحققوا أن ذلك بعد التباس الأمر عليهم أو علمت الجن أن كفارهم لا يعلمون الغيب وأنهم كاذبون في دعوى ذلك * (في العذاب المهين) * يعني الخدمة التي كانوا يخدمون سليمان وتسخيره لهم في أنواع الأعمال والمعنى لو كانت الجن تعلم الغيب ما خفي عليهم موت سليمان * (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية) * سبأ قبيلة من العرب سميت باسم أبيها الذي تناسلت منه وقيل باسم أمها وقيل باسم موضعها والأول أشهر لأنه ورد في الحديث وكانت مساكنهم بين الشام واليمن * (جنتان عن يمين وشمال) * كان لهم واد وكانت الجنتان عن يمينه وشماله وجنتان بدل من آية ومبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف * (كلوا) * تقديره قيل لهم كلوا من رزق ربكم قالت لهم ذلك الأنبياء وروي أنهم بعث لهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم * (بلدة طيبة) * أي كثيرة الأرزاق طيبة الهواء سليمة من الهوام * (فأعرضوا) * أي أعرضوا عن شكر الله أو عن طاعة الأنبياء * (فأرسلنا عليهم سيل العرم) * كان لهم سد يمسك الماء ليرتفع فتسقى به الجنتان فأرسل الله على السد الجرذ وهي دويبة خربته فيبست الجنتان وقيل لما خرب السد حمل السيل الجنتان وكثير من الناس واختلف في معنى العرم فقيل هو السد وقيل هو اسم ذلك الوادي بعينه وقيل معناه الشديد فكأنه صفة
148

للسيل من العرامة وقيل هو الجرذ الذي خرب السد وقيل المطر الشديد " أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل " الأكل بضم الهمزة المأكول والخمط شجر الأراك وقيل كل شجرة ذات شوك والأثل شجر يشبه الطرفا والسدر شجر معروف وإعراب خمط بدل من أكل أو عطف بيان وقرئ بالإضافة وأثل عطف على الأكل لا على خمط لأن الأثل لا أكل له والمعنى أنه لما أهلكت الجنتان المذكورتان قيل أبدلهم الله منها جنتين بضد وصفهما في الحسن والأرزاق " وهل نجازي إلى الكفور " معناه لا يناقش ويجازى بمثل فعله إلا الكفور لأن المؤمن قد يسمح الله له ويتجاوز عنه * (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة) * هذه الآية وما بعدها وصف حال سبأ قبل مجيء السيل وهلاك جناتهم ويعني بالقرى التي باركنا فيها الشام والقرى الظاهرة قرى متصلة من بلادهم إلى الشام ومعنى ظاهرة يظهر بعضها من بعض لاتصالها وقيل مرتفعة في الآكام وقال ابن عطية خارجة عن المدن كما تقول بظاهر المدينة أي خارجها * (وقدرنا فيها السير) * أي قسمنا مراحل السفر وكانت القرى متصلة فكان المسافر يبيت في قرية ويصبح في أخرى ولا يخاف جوعا ولا عطشا ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا يخاف من أحد * (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) * قرئ باعد وبعد بالتخفيف والتشديد على وجه الطلب والمعنى أنهم بطروا النعمة وملوا العافية وطلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزودوا للأسفار فعجل الله إجابتهم وقرئ باعد بفتح العين على الخبر والمعنى أنهم قالوا إن الله باعد بين قراهم وذلك كذب وجحد للنعمة * (وظلموا أنفسهم) * يعني بقولهم باعد بين أسفارنا أو بذنوبهم على الإطلاق * (ومزقناهم كل ممزق) * أي فرقناهم في البلاد حتى ضرب المثل بفرقتهم قيل تفرقوا أيدي سبا وفي الحديث إن سبا أبو عشرة من
القبائل فلما جاء السيل على بلادهم تفرقوا فتيامن منهم ستة وتشاءم أربعة * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) * أي وجد ظنه فيهم صادقا يعني قوله لأغوينهم وقوله ولا تجد أكثرهم شاكرين * (قل ادعوا الذين زعمتم) * تعجيز للمشركين وإقامة حجة عليهم ويعني بالذين زعمتم آلهتهم ومفعول زعمتم محذوف أي زعمتم أنهم آلهة أو زعمتم أنهم شفعاء وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا * (من شرك) * أي نصيب والظهير المعين * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) * المعنى لا تنفع الشفاعة عند الله إلا لمن أذن الله له أن يشفع فإنه لا يشفع أحد إلا بإذنه وقيل المعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الله أن يشفع فيه والمعنى أن الشفاعة على كل وجه لا تكون إلا بإذن الله ففي ذلك رد على المشركين الذين كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله * (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم) *
149

تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية في الملائكة عليهم السلام فإنهم إذا سمعوا الوحي إلى جبريل يفزعون لذلك فزعا عظيما فإذا زال الفزع عن قلوبهم قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم فيقولون قال الحق ومعنى فزع عن قلوبهم زال عنها الفزع والضمير في قلوبهم وفي قالوا الملائكة فإن قيل كيف ذلك ولم يتقدم لهم ذكر يعود الضمير عليه فالجواب أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين فعاد الضمير على الشفعاء الذين دل عليهم لفظ الشفاعة فإن قيل بم اتصل قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم ولأي شيء وقعت حتى غائبة فالجواب أنه اتصل بما فهم من الكلام من أن ثم انتظارا للإذن وفزعا وتوقفا حتى يزول الفزع بالإذن في الشفاعة ويقرب هذا في المعنى من قوله يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ولم يفهم بعض الناس اتصال هذه الآية بما قبلها فاضطربوا فيها حتى قال بعضهم هي في الكفار بعد الموت ومعنى فزع عن قلوبهم رأوا الحقيقة فقيل لهم ماذا قال ربكم فيقولون قال الحق فيقرون حين لا ينفعهم الإقرار والصحيح أنها في الملائكة لورود ذلك في الحديث ولأن القصد الرد على الكفار الذين عبدوا الملائكة فذكر شدة خوف الملائكة من الله وتعظيمهم له * (قل من يرزقكم) * سؤال قصد به إقامة الحجة على المشركين * (قل الله) * جواب عن السؤال بما لا يمكن لمخالفة فيه ولذلك جاء السؤال والجواب من جهة واحدة * (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) * هذه ملاطفة وتنزل في المجادلة إلى غاية الإنصاف كقولك الله يعلم أن أحدنا على حق وأن الآخر على باطل ولا تعين بالتصريح أحدهما ولكن تنبه الخصم على النظر حتى يعلم من هو على الحق ومن هو على الباطل والمقصود من الآية أن المؤمنين على هدى وأن الكفار على ضلال مبين * (قل لا تسألون عما أجرمنا) * إخبار يقتضي مسالمة نسخت بالسيف * (يفتح بيننا) * أي يحكم والفتاح الحاكم " قل أروني الذي ألحقتم به شركاء " إقامة حجة على المشركين والرؤية هنا رؤية قلب فشركاه مفعول ثالث والمعنى أروني بالدليل والحجة من هم له شركاء عندكم وكيف وجه الشركة وقيل هي رؤية بصر وشركاء حال من المفعول في ألحقتم كأنه قال أين الذين تعبدون من دونه وفي قوله أروني تحقير للشركاء وازدراء بهم وتعجيز للمشركين وفي قوله كلا ردع لهم عن الإشراك وفي وصف الله بالعزيز الحكيم رد عليهم بأن شركاءهم ليسوا كذلك * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) * المعنى أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس وهذه إحدى الخصال التي أعطاه الله دون سائر الأنبياء وإعراب كافة حال من الناس قدمت للاهتمام هكذا قال ابن عطية وقال الزمخشري ذلك خطأ لأن تقدم حال المجرور
150

عليه لا يجوز وتقديره عنده وما أرسلناك إلا رسالة عامة للناس فكافة صفة للمصدر المحذوف وقال الزجاج المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والتبشير فجعله حالا من الكاف والتاء على هذا للمبالغة كالتاء في راوية وعلامة * (قل لكم ميعاد يوم) * يعني يوم القيامة أو نزول العذاب بهم في الدنيا وهو الذي سألوا عنه على وجه الاستخفاف فقالوا متى هذا الوعد * (ولا بالذي بين يديه) * يعني الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل وإنما قال الكفار هذه المقالة حين وقع عليهم الاحتجاج بما في التوراة من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وقيل الذي بين يديه يوم القيامة وهذا خطأ وعكس لأن الذي بين يدي الشيء هو ما تقدم عليه * (ولو ترى) * جواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا عظيما * (يرجع بعضهم إلى بعض القول) * أي يتكلمون ويجيب بعضهم بعضا * (بل كنتم مجرمين) * أي كفرتم باختياركم لا بأمرنا * (بل مكر الليل والنهار) * المعنى أن المستضعفين قالوا للمستكبرين بل مكركم بنا في الليل والنهار سبب كفرنا وإعراب مكر مبتدأ وخبره محذوف أو خبر ابتداء مضمر وأضاف مكر إلى الليل والنهار على وجه الاتساع ويحتمل أن يكون إضافة إلى المفعول أو إلى الفاعل على وجه المجاز كقولهم نهاره صيام وليله قيام أي يصام فيه ويقام ودلت الإضافة على كثرة المكر ودوامه بالليل والنهار فإن قيل لم أثبت الواو في قول الذين استضعفوا دون قول الذين استكبروا فالجواب أنه قد تقدم كلام الذين استضعفوا قبل ذلك فعطف عليه كلامهم الثاني ولم يتقدم للذين استكبروا كلام آخر فيعطف عليه * (وأسروا الندامة) * أي أخفوها في نفوسهم وقيل أظهروها فهو من الأضداد والضمير لجميع المستضعفين والمستكبرين * (مترفوها) * يعني أهل الغنى والتنعم في الدنيا وهم الذين يبادرون إلى تكذيب الأنبياء والقصد بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب أكابر قريش له * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا) * الضمير لقريش أو للمترفين المتقدمين قاسوا أمر الدنيا على الآخرة وظنوا أن الله كما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبهم في الآخرة * (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * إخبار يتضمن الرد عليهم بأن بسط الرزق وقبضه في الدنيا معلق بمشيئة الله فقد يوسع الله على الكافر وعلى العاصي ويضيق على المؤمن والمطيع وبالعكس فليس
151

في ذلك دليل على أمر الآخرة * (زلفى) * مصدر بمعنى القرب كأنه قال تقربكم قربى * (إلا من آمن) * استثناء من المفعول في تقربكم والمعنى أن الأموال لا تقرب إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله وقيل الاستثناء منقطع والأول أحسن * (جزاء الضعف) * يعني تضعيف الحسنات إلى عشر أمثالها فما فوق ذلك " يبسط الرزق " الآية كررت لاختلاف القصد فإن القصد بالأول على الكفار والقصد هنا ترغيب المؤمنين بالإنفاق * (فهو يخلفه) * الخلف قد يكون بمال أو بالثواب * (أنت ولينا من دونهم) * براءة من أن يكون لهم رضا بعبادة المشركين لهم وليس في ذلك نفي لعبادتهم لهم * (بل كانوا يعبدون الجن) * عبادتهم للجن طاعتهم لهم في الكفر والعصيان وقيل كانوا يدخلون في جوف الأصنام فيعبدون بعبادتها ويحتمل أن يكون قوم عبدوا الجن لقوله وجعلوا لله شركاء الجن * (وما آتيناهم من كتب يدرسونها) *
الآية في معناها وجهين أحدهما ليس عندهم كتب تدل على صحة أقوالهم ولا جاءهم نذير يشهد بما قالوه فأقوالهم باطلة إذ لا حجة لهم عليها فالقصد على هذا رد عليهم والآخر أنهم ليس عندهم كتب ولا جاءهم نذير فهم محتاجون إلى من يعلمهم وينذرهم ولذلك بعث الله إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فالقصد على هذا إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم * (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) * المعشار العشر وقيل عشر العشر والأول أصح والضمير في بلغوا لكفار قريش وفي آتيناهم للكتب المتقدمة أي أن هؤلاء لم يبلغوا عشر ما أعطى الله المتقدمين من القوة والأموال وقيل الضمير في بلغوا للمتقدمين وفي آتيناهم لقريش أي ما بلغ المتقدمون عشر ما أعطى الله هؤلاء من البراهين والأدلة والأول أصح وهو نظير قوله كانوا أشد منهم قوة * (فكيف كان نكير) * أي إنكاري يعني عقوبة الكفار المتقدمين وفي ذلك تهديد لقريش * (قل إنما أعظكم بواحدة) * أي بقضية واحدة تقريبا عليكم * (أن تقوموا لله) * هذا تفسير القضية الواحدة وأن تقوموا بدل أو عطف بيان أو خبر ابتداء مضمر ومعناه أن تقوموا للنظر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم قياما خالصا لله تعالى ليس
152

فيه اتباع هوى ولا ميل وليس المراد بالقيام هنا القيام على الرجلين إنما المراد القيام بالأمر والجد فيه * (مثنى وفرادى) * حال من الضمير في تقوموا والمعنى أن تقوموا اثنين اثنين للمناظرة في الأمر وطلب التحقيق وتقوموا واحدا واحدا لإحضار الذهن واستجماع الفكرة ثم تتفكروا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فتعلموا أن ما به من جنة لأنه جاء بالحق الواضح ومع ذلك فإن أقواله وأفعاله تدل على رجاحة عقله ومتانة علمه وأنه بلغ في الحكمة مبلغا عظيما فيدل ذلك على أنه ليس بمجنون ولا مفتر على الله * (ما بصاحبكم من جنة) * متصل بما قبله على الأصح أي تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة وقيل هو استئناف " قل ما سألتكم عليه من أجر فهو لكم " هذا كما يقول الرجل لصاحبه إن أعطيتني شيئا فخذه وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا ولكنه يريد البراءة من عطائه وكذلك معنى هذا فهو كقولك قل ما أسألكم عليه من أجر * (قل إن ربي يقذف بالحق) * القذف الرمي ويستعار للإلقاء فالمعنى يلقي الحق إلى أصفيائه أو يرمي الباطل بالحق فيذهبه * (علام الغيوب) * خبر ابتداء مضمر أو بدل من الضمير في يقذف أو من اسم إن على الموضع * (قل جاء الحق) * يعني الإسلام * (وما يبدئ الباطل وما يعيد) * الباطل الكفر ونفى الإبداء والإعادة على أنه لا يفعل شيئا ولا يكون له ظهور أو عبارة عن ذهابه كقوله جاء الحق وزهق الباطل وقيل الباطل الشيطان * (إنه سميع قريب) * يعني قربه تعالى بعلمه وإحاطته * (ولو ترى إذ فزعوا) * جواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا عظيما أو معنى فزعوا أسرعوا إلى الهروب والفعل ماض بمعنى الاستقبال وكذلك ما بعده من الأفعال ووقت الفزع البعث وقيل الموت وقيل يوم بدر * (فلا فوت) * أي لا يفوتون الله إذ هربوا * (وأخذوا من مكان قريب) * يعني من الموقف إلى النار إذا بعثوا أومن ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا أو من أرض بدر إلى القليب والمراد على كل قول سرعة أخذهم * (وقالوا آمنا به) * أي قالوا ذلك عند أخذهم والضمير المجرور لله تعالى أو للنبي صلى الله عليه وسلم أو للقرآن أو للإسلام * (وأنى لهم التناوش من مكان بعيد) * التناوش بالواو التناول إلا أن التناوش تناول قريب سهل لشيء قريب وقرئ بهمز الواو فيحتمل أن يكون المعنى واحدا ويكون المهموز بمعنى الطلب ومعنى الآية استبعاد وصولهم إلى مرادهم والمكان البعيد عبارة عن تعذر مقصودهم فإنهم يطلبون ما لا يكون أو يريدون أن يتناولوا ما لا ينالون وهو رجوعهم إلى الدنيا أو انتفاعهم بالإيمان حينئذ * (وقد كفروا به) * الضمير يعود على ما عاد عليه قولهم آمنا به * (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد) * يقذفون فعل ماض في المعنى معطوف على كفروا ومعناه أنهم يرمون بظنونهم في
153

الأمور المغيبة فيقولون لا بعث ولا جنة ولا نار ويقولون في الرسول عليه الصلاة والسلام إنه ساحر أو شاعر والمكان البعيد هنا عبارة عن بطلان ظنونهم وبعد أقوالهم عن الحق * (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) * أي حيل بينهم وبين دخول الجنة وقيل حيل بينهم وبين الانتفاع بالإيمان حينئذ وقيل حيل بينهم وبين نعيم الدنيا والرجوع إليها * (كما فعل بأشياعهم من قبل) * يعني الكفار المتقدمين وجعلهم أشياعهم لاتفاقهم في مذاهبهم ومن قبل يحتمل أن يتعلق بفعل أو بأشياعهم على حسب معنى ما قبله * (في شك مريب) * هو أقوى الشك وأشده إظلاما
سورة فاطر
* (جاعل الملائكة رسلا) * أي وسائط بين الله وبين الأنبياء متصرفين في أمر الله * (مثنى وثلاث ورباع) * صفات للأجنحة ولم ينصرف للعدل والوصف والمعنى أن الملائكة منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة أجنحة ومنهم من له أربعة أجنحة * (يزيد في الخلق ما يشاء) * قيل يعني حسن الصوت وقيل حسن الوجه وقيل حسن الحظ والأظهر أنه يرجع إلى أجنحة الملائكة أو يكون على الإطلاق في كل زيادة في المخلوقين * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) * الفتح عبارة عن العطاء والإمساك عبارة عن المنع والإرسال الإطلاق بعد المنع والرحمة كل ما يمن الله به على عباده من خيري الدنيا والآخرة فمعنى الآية لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع الله فإن قيل لم أنث الضمير في قوله فلا ممسك لها وذكره في قوله فلا مرسل له وكلاهما يعود على ما الشرطية فالجواب أنه لما فسر من الأولى بقوله من رحمة أنثه لتأنيث الرحمة وترك الآخر على الأصل من التذكير * (من بعده) * أي من بعد إمساكه * (هل من خالق غير الله) * رفع غير على الصفة لخالق على الموضع وخفضه صفة على الرفع ورزق السماء المطر ورزق الأرض النبات والمعنى تذكير بنعم الله وإقامة حجة على المشركين ولذلك أعقبه بقوله لا إله إلا هو * (وإن يكذبوك) * الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم
154

على تكذيب قومه كأنه يقول إن يكذبوك فلا تحزن لذلك فإن الله سينصرك عليهم كما كذبت رسل من قبلك فنصرهم الله * (الغرور) * الشيطان وقيل التسويف * (أفمن زين له سوء عمله) * توقيف وجوابه محذوف تقديره أفمن زين له سوء عمله كمن لم يزين له ثم بني على ذلك ما بعده فالذي زين له سوء عمله هو الذي أضله الله ومن لم يزين له سوء عمله هو الذي هداه الله * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) * تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن حزنه لعدم إيمانهم لأن ذلك بيد الله * (كذلك النشور) * أي الحشر والمعنى كما يحيي الله الأرض بالنبات كذلك يحيي الموتى * (من كان يريد العزة) * الآية تحتمل ثلاثة معان أحدها وهو الأظهر من كان يريد نيل العزة
فليطلبها من عند الله فإن العزة كلها لله والثاني من كان يريد العزة بمغالبة الإسلام فلله العزة جميعا فالمغالب له مغلوب والثالث من كان يريد أن يعلم لمن العزة فليعلم أن العزة لله جميعا * (إليه يصعد الكلم الطيب) * قيل يعني لا إله إلا الله واللفظ يعم ذلك وغيره من الذكر والدعاء وتلاوة القرآن وتعليم العلم فالعموم أولى * (والعمل الصالح يرفعه) * فيه ثلاثة أقوال أحدها أن ضمير الفاعل في يرفعه الله وضمير المفعول للعمل الصالح فالمعنى على هذا أن الله يرفع العمل الصالح أي يتقبله ويثيب عليه والثاني أن ضمير الفاعل للكلام الطيب وضمير المفعول للعمل الصالح والمعنى على هذا لا يقبل عمل صالح إلا ممن له كلام طيب وهذا يصح إن قلنا إن الكلم الطيب لا إله إلا الله لأنه لا يقبل العمل إلا من موحد والثالث أن ضمير الفاعل للعمل الصالح وضمير المفعول للكلم الطيب والمعنى على هذا أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب فلا يقبل الكلم إلا ممن له عمل صالح روي هذا المعنى عن ابن عباس واستبعده ابن عطية وقال لم يصح عنه لأن اعتقاد أهل السنة أن الله يتقبل من كل مسلم قال وقد يستقيم بأن يتأول أن الله يزيد في رفعه وحسن موقعه * (يمكرون السيئات) * لا يتعدى مكر فتأويله يمكرون المكرات السيئات فتكون السيئات مصدرا أو تضمن يمكرون معنى يكتسبون فتكون السيئات مفعولا والإشارة هنا إلى مكر قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة وأرادوا أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه * (ومكر أولئك هو يبور) * البوار الهلاك أو الكساد ومعناه هنا أن مكرهم يبطل ولا ينفعهم * (ثم جعلكم أزواجا) * أي أصنافا وقيل ذكرانا وإناثا وهذا أظهر * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) * التعمير طول العمر والنقص قصره والكتاب اللوح المحفوظ فإن قيل إن التعمير والنقص لا يجتمعان لشخص واحد فكيف
155

أعاد الضمير في قوله ولا ينقص من عمره على الشخص المعمر فالجواب من ثلاثة أوجه الأول وهو الصحيح أن المعنى ما يعمر من أحد ولا ينقص من عمره إلا في كتاب فوضع من معمر موضع من أحد وليس المراد شخصا واحدا وإنما ذلك كقولك لا يعاقب الله عبدا ولا يثيبه إلا بحق والثاني أن المعنى لا يزاد في عمر إنسان ولا ينقص من عمره إلا في كتاب وذلك أن يكتب في اللوح المحفوظ أن فلانا إن تصدق فعمره ستون سنة وإن لم يتصدق فعمره أربعون وهذا ظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم صلة الرحم تزيد في العمر إلا أن ذلك مذهب المعتزلة القائلين بالأجلين وليس مذهب الأشعرية وقد قال كعب حين طعن عمر لو دعا الله لزاد في أجله فأنكر الناس عليه فاحتج بهذه الآية والثالث أن التعمير هو كتب ما يستقبل من العمر والنقص هو كتب ما مضى منه في اللوح المحفوظ وذلك حق كل شخص * (وما يستوي البحران) * قد فسرنا البحرين الفرات والأجاج في الفرقان وسائغ في النحل والقصد بالآية التنبيه على قدرة الله ووحدانيته وإنعامه على عباده وقال الزمخشري إن المعنى أن الله ضرب للبحرين الملح والعذب مثلين للمؤمن والكافر وهذا بعيد * (لحما طريا) * يعني الحوت * (حلية تلبسونها) * يعني الجوهر والمرجان فإن قيل إن الحلية لا تخرج إلا من البحر الملح دون العذب فكيف قال ومن كل أي كل واحد منهما فالجواب من ثلاثة أوجه الأول أن ذلك تجوز في العبارة كما قال * (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) * والرسل إنما هي من الإنس الثاني أن المرجان إنما يوجد في البحر الملح حيث تنصب أنهار الماء العذب أو ينزل المطر فلما كانت الأنهار والمطر وهي البحر العذب تنصب في البحر الملح كان الإخراج منهما جميعا الثالث زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح والعذب وهذا قول يبطله الحس * (مواخر) * ذكر في النحل * (يولج) * ذكر في لقمان * (قطمير) * هو القشر الرقيق الأبيض الذي على نوى التمر والمعنى أن الأصنام لا يملكون أقل الأشياء فكيف أكثرها * (يكفرون بشرككم) * أي بإشراككم فالمصدر مضاف للفاعل وكفر الأصنام بالشرك يحتمل أن يكون بكلام يخلقه الله عندها أو بقرينة الحال " ولا ينبئك مثل خيبر " أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل مخبر عالم يعني نفسه تعالى في إخباره أن الأصنام يكفرون يوم القيامة بمن عبدهم * (أنتم الفقراء إلى الله) * خطاب لجميع الناس وإنما عرف الفقر بالألف واللام ليدل على اختصاص الفقر بجنس الناس وإن كان غيرهم فقراء ولكن فقراء الناس أعظم ثم وصف نفسه بأنه الغني في مقابلة وصفهم بالفقر ووصفه بأنه
156

الحميد ليدل على جوده وكرمه الذي يوجب أن يحمده عباده " وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء " الحمل عبارة عن الذنوب والمثقلة الثقيلة الحمل أو النفس الكثيرة الذنوب والمعنى أنها لو دعت أحدا إلى أن يحمل عنها ذنوبها لم يحمل عنها وحذف مفعول إن تدع لدلالة المعنى وقصد العموم وهذه الآية بيان وتكميل لمعنى قوله ولا تزر وازرة وزر أخرى * (ولو كان ذا قربى) * المعنى ولو كان المدعو ذا قربى ممن دعاه إلى حمل ذنوبه لم يحمل منه شيئا لأن كل واحد يقول نفسي نفسي * (إنما تنذر الذين يخشون ربهم) * المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم وليس المعنى اختصاصهم بالإنذار * (بالغيب) * في موضع حال من الفاعل في يخشون أي يخشون ربهم وهم غائبون عن الناس فخشيتهم حق لا رياء * (وما يستوي الأعمى والبصير) * تمثيل للكافر والمؤمن * (ولا الظلمات ولا النور) * تمثيل للكفر والإيمان * (ولا الظل ولا الحرور) * تمثيل للثواب والعقاب وقيل الظل الجنة والحرور النار والحرور في اللغة شدة الحر بالنهار والليل والسموم بالنهار خاصة * (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) * تمثيل لمن آمن فهو كالحي ومن لم يؤمن فهو كالميت * (إن الله يسمع من يشاء) * عبارة عن هداية الله لمن يشاء * (وما أنت بمسمع من في القبور) * عبارة عن عدم سماع الكفار للبراهين والمواعظ فشبههم بالموتى في عدم إحساسهم وقيل المعنى أن أهل القبور وهم الموتى حقيقة لا يسمعون فليس عليك أن تسمعهم وإنما بعثت للأحياء وقد استدلت عائشة بالآية على أن الموتى لا يسمعون وأنكرت ما ورد في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى بدر حين جعلوا في القليب ولكن يمكن الجمع بين قولها وبين الحديث بأن الموتى في القبور إذا ردت إليهم أرواحهم إلى أجسادهم سمعوا وإن لم ترد لم يسمعوا * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * معناه أن الله قد بعث إلى كل أمة نبيا يقيم عليهم الحجة فإن قيل كيف ذلك وقد كان بين الأنبياء فترات وأزمنة طويلة ألا ترى أن بين عيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة لم يبعث فيها نبي فالجواب أن دعوة عيسى ومن تقدمه من الأنبياء كانت قد بلغتهم فقامت عليهم الحجة فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك فالجواب أنهم لم يأتهم نذير معاصر لهم فلا يعارض ذلك من تقدم قبل عصرهم وأيضا فإن المراد بقوله وإن من أمة إلا خلا فيها
نذير أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ليست ببدع فلا ينبغي أن تنكر لأن الله أرسله كما أرسل من قبله والمراد بقوله لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك أنهم محتاجون إلى الإنذار لكونهم لم يتقدم من ينذرهم فاختلف سياق الكلام فلا تعارض بينهما * (وإن يكذبوك) * الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم للتأسي * (نكير) * ذكر في سبأ * (ثمرات مختلفا ألوانها) * يريد الصفرة
157

والحمرة وغير ذلك من الألوان وقيل يريد الأنواع والأول أظهر لذكره البيض والحمر والسود بعد ذلك وفي الوجهين دليل على أن الله تعالى فاعل مختار يخلق ما يشاء ويختار وفيه رد على الطبائعيين لأن الطبيعة لا يصدر عنها إلا نوع واحد * (جدد) * جمع جدة وهي الخطط والطرائق في الجبال * (وغرابيب) * جمع غربيب وهو الشديد السواد وقدم الوصف الأبلغ وكان حقه أن يتأخر لقصد التأكيد ولأن ذلك كثيرا ما يأتي في كلام العرب * (كذلك) * يتعلق بما قبله فيتم الوقف عليه والمعنى أن من الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه مثل الجبال المختلف ألوانها والثمرات المختلف ألوانها وذلك كله استدلال على قدرة الله وإرادته * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * يعني العلماء بالله وصفاته وشرائعه علما يوجب لهم الخشية من عذابه وفي الحديث أعلمكم بالله أشدكم له خشية لأن العبد إذا عرف الله خاف من عقابه وإذا لم يعرفه لم يخف منه فلذلك خص العلماء بالخشية * (إن الذين يتلون كتاب الله) * أي يقرؤن القرآن وقيل معنى يتلون يتبعون والخبر يرجون تجارة أو محذوف * (لن تبور) * أي لن تكسد ويعني بالتجارة طلب الثواب * (ويزيدهم من فضله) * توفية الأجوروهو ما يستحقه المطيع من الثواب والزيادة التضعيف فوق ذلك وقيل الزيادة النظر إلى وجه الله * (مصدقا لما بين يديه) * تقدم في البقرة * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا) * يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم والتوريث عبارة عن أن الله أعطاهم الكتاب بعد غيرهم من الأمم * (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) * قال عمر وابن مسعود وابن عباس وكعب وعائشة وأكثر المفسرين هذه الأصناف الثلاثة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالظالم لنفسه العاصي والسابق التقي والمقتصد بينهما وقال الحسن السابق من رجحت حسناته على سيئاته والظالم لنفسه من رجحت سيئاته والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته وجميعهم يدخلون الجنة وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له وقيل الظالم الكافر والمقتصد المؤمن العاصي والسابق التقي فالضمير في منهم على هذا يعود على العباد وأما على القول الأول فيعود على الذين اصطفينا وهو أرجح وأصح لوروده في الحديث وجلالة القائلين به فإن قيل لم قدم الظالم ووسط المقتصد وأخر السابق فالجواب أنه قدم الظالم لنفسه رفقا به لئلا ييئس واخر السابق لئلا يعجب بنفسه وقال
158

الزمخشري قدم الظالم لكثرة الظالمين وأخر السابق لقلة السابقين * (ذلك هو الفضل الكبير) * إشارة إلى الاصطفاء * (جنات عدن) * بدل من الفضل أو خبر مبتدأ تقديره ثوابهم جنات عدن أو مبتدأ تقديره لهم جنات عدن " يدخلونها " ضمير الفاعل يعود على الظالم والمقتصد والسابق على القول بأن الآية في هذه الأمة وأما على القول بأن الظالم هو الكافر فيعود على المقتصد والسابق خاصة وقال الزمخشري إنه يعود على السابق خاصة وذلك على قول المعتزلة في الوعيد * (أساور) * ذكر في الحج * (أذهب عنا الحزن) * قيل هو عذاب النار وقيل أهوال القيامة وقيل هموم الدنيا والصواب العموم في ذلك كله * (دار المقامة) * هي الجنة والمقامة هي الإقامة والموضع وإنما سميت الجنة دار المقامة لأنهم يقومون فيها ولا يخرجون منها * (نصب) * النصب تعب البدن واللغوب تعب النفس اللازم عن تعب البدن * (يصطرخون) * يفتعلون من الصراخ أي يستغيثون فيقولون ربنا أخرجنا وفي قولهم غير الذي كنا نعمل اعتراف بسوء عملهم وتندم عليه * (أولم نعمركم) * الآية توبيخ لهم وإقامة حجة عليهم وقيل إن مدة التذكير ستون سنة وقيل أربعون وقيل البلوغ والأول أرجح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر * (وجاءكم النذير) * يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقيل يعني الشيب لأنه نذير بالموت والأول أظهر * (إنه عليم بذات الصدور) * أي بما تضمره الصدور وتعتقده وقال الزمخشري ذات هنا تأنيث ذو بمعنى صاحب لأن المضمرات تصحب الصدور * (خلائف) * ذكر في الأنعام * (مقتا) * المقت احتقار الإنسان وبغضه لأجل عيوبه أو ذنوبه * (قل أرأيتم شركاءكم) * الآية احتجاج على المشركين وإبطال لمذهبهم * (أم لهم شرك) * أي نصيب * (على بينة) * أي على أمر جلي والضمير في أتيناهم يحتمل أن يكون للأصنام أو للمشركين وهذا أظهر في المعنى والأول أليق بما قبله من الضمائر * (أن تزولا) * في موضع مفعول من أجله تقديره كراهة أو تزولا أو مفعول به لأن يمسك بمعنى يمنع * (ولئن زالتا) * أي لو فرض زوالهما لم يمسكهما أحد وقيل أراد زوالهما يوم القيامة عند طي
159

السماء وتبديل الأرض ونسف الجبال * (من بعده) * أي من بعد تركه الإمساك * (وأقسموا بالله) * الضمير لقريش وذلك أنهم قالوا لعن الله اليهود والنصارى جاءتهم الرسل فكذبوهم والله لئن جاءنا رسول لنكونن أهدى منهم * (إحدى الأمم) * يعني اليهود والنصارى * (فلما جاءهم نذير) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم) * استكبارا) بدل من نفورا أو مفعول من أجله " ومكر السيء " هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف كقولك مسجد الجامع وجانب الغربي والأصل أن يقال المكر السيء " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله " أي لا يحيط وبال المكر السيء إلا بمن مكره ودبره وقال كعب لابن عباس إن في التوراة من حفر حفرة لأخيه وقع فيها فقال ابن عباس أنا أجد هذا في كتاب الله ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله " فهل ينظرون إلا سنة الأولين " أي هل ينتظرون إلا عادة الأمم المتقدمة في أخذ الله لهم وإهلاكهم بتكذيبهم للرسل " وما كان الله ليعجزه من شيء " أي لا يفوته شيء ولا يصعب عليه " ما ترك على ظهرها من دابة " الضمير للأرض والدابة عموم في كل ما يدب وقيل أراد بني آدم خاصة " إلى أجل مسمى " يعني يوم القيامة وباقي الآية وعد ووعيد
سورة يس
قد تكلمنا في البقرة على حروف الهجاء وقيل في يس إنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل معناه يا إنسان " تنزيل " بالرفع خبر ابتداء مضمر وبالنصب مصدر أو مفعول بفعل مضمر " لتنذر قوما " هم قريش ويحتمل أن يدخل معهم سائر العرب وسائر الأمم " ما أنذر آباؤهم " ما نافية والمعنى لم يرسل إليهم ولا لآبائهم رسول ينذرهم
وقيل المعنى لتنذر قوما مثل ما أنذر آباؤهم فما على هذا موصولة بمعنى الذي أو مصدرية والأول أرجح لقوله " فهم غافلون " يعني أن غفلتهم بسبب عدم إنذارهم وتكون بمعنى قوله ما أتاهم من نذير من قبلك
160

ولا يعارض هذا بعث الأنبياء المتقدمين فإن هؤلاء القوم لم يدركوهم ولا آباؤهم الأقربون * (لقد حق القول) * أي سبق القضاء * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) * الآية فيها ثلاثة أقوال الأول أنها عبارة عن تماديهم على الكفر ومنع الله لهم من الإيمان فشبههم بمن جعل في عنقه غل يمنعه من الالتفات وغطى على بصره فصار لا يرى والثاني أنها عبارة عن كفهم عن إذاية النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أبو جهل أن يرميه بحجر فرجع عنه فزعا مرعوبا والثالث أن ذلك حقيقة في حالهم في جهنم والأول أظهر وأرجح لقوله قبلها * (فهم لا يؤمنون) * وقوله بعدها " وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " * (فهي إلى الأذقان) * الذقن هي طرف الوجه حيث تنبت اللحية والضمير للأغلال وذلك أن الغل حلقة في العنق فإذا كان واسعا عريضا وصل إلى الذقن فكان أشد على المغلول وقيل الضمير للأيدي على أنها لم يتقدم لها ذكر ولكنها تفهم من سياق الكلام لأن المغلول تضم يداه في الغل إلى عنقه وفي مصحف ابن مسعود إنا جعلنا في أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان وهذه القراءة تدل على هذا المعنى وقد أنكره الزمخشري * (فهم مقمحون) * يقال قمح البعير إذا رفع رأسه وأقمحه غيره إذا فعل به ذلك والمعنى أنهم لما اشتدت الأغلال حتى وصلت إلى أذقانهم اضطرت رؤوسهم إلى الارتفاع وقيل معنى مقمحون ممنوعون من كل خير * (وجعلنا من بين أيديهم سدا) * الآية السد الحائل بين الشيئين وذلك عبارة عن منعهم من الإيمان * (فأغشيناهم) * أي غطينا على أبصارهم وذلك أيضا مجاز يراد به إضلالهم * (وسواء عليهم) * الآية ذكرنا معناها وإعرابها في البقرة * (إنما تنذر من اتبع الذكر) * المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا من اتبع الذكر وهو القرآن * (وخشي الرحمن بالغيب) * معناه كقولك إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وقد ذكرناه في فاطر * (إنا نحن نحيي الموتى) * أي نبعثهم يوم القيامة وقيل إحياؤهم إخراجهم من الشرك إلى الإيمان والأول أظهر * (ونكتب ما قدموا وآثارهم) * أي ما قدموا من أعمالهم وما تركوه بعدهم كعلم علموه أو تحبيس حبسوه وقيل الأثر هنا الخطا إلى المساجد وجاء ذلك في الحديث * (إمام مبين) * أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ أو صحائف الأعمال * (واضرب لهم مثلا) * الضمير لقريش ومثلا وأصحاب القرية مفعولان باضرب على القول بأنها تتعدى إلى مفعولين وهو الصحيح والقرية أنطاكية * (إذ جاءها المرسلون) * هم من الحواريين الذين أرسلهم عيسى عليه الصلاة والسلام يدعون الناس إلى عبادة الله وقيل بل هم رسل أرسلهم الله ويدل على هذا قول قومهم ما أنتم إلا بشر مثلنا فإن هذا إنما يقال لمن ادعى أن الله أرسله * (فعززنا بثالث) * أي قوينا الاثنين برسول ثالث قيل اسمه شمعون * (ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) * إنما أكدوا الخبر هنا باللام لأنه جواب المنكرين بخلاف
161

الموضع الأول فإنه إخبار مجرد * (قالوا إنا تطيرنا بكم) * أي تشاءمنا بكم وأصل اللفظة من زجر الطير ليستدل على ما يكون من شر أو خير وإنما تشاءموا بهم لأنهم جاؤهم بدين غير دينهم وقيل وقع فيهم الجذام لما كفروا وقيل قحطوا * (قالوا طائركم معكم) * أي قال الرسل لأهل القرية شؤمكم معكم أي إنما الشؤم الذي أصابكم بسبب كفركم لا بسببنا * (أئن ذكرتم) * دخلت همزة الاستفهام على حرف الشرط وفي الكلام حذف تقديره أتطيرون أن ذكرتم * (يسعى) * أي يسرع بجده ونصيحته وقيل اسمه حبيب النجار * (اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) * أي هؤلاء المرسلون لا يسألونكم أجرة على الإيمان فلا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون معهم الاهتداء في دينكم " ومالي لا أعبد الذي فطرني " المعنى أي شيء يمنعني من عبادة ربي وهذا توقيف وإخبار عن نفسه قصد به البيان لقومه ولذلك قال وإليه ترجعون فخاطبهم " إن يردن الرحمن بضر لا تغن عن شفاعتهم " هذا وصف للآلهة والمعنى كيف أتخذ من دون الله آلهة لا يشفعون ولا ينقذونني من الضر * (إني إذا لفي ضلال مبين) * أي إن اتخذت آلهة غير الله فإني لفي ضلال مبين * (إني آمنت بربكم فاسمعون) * خطاب لقومه أي اسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي وقيل خطاب للرسل ليشهدوا له * (قيل ادخل الجنة) * قيل هنا محذوف يدل عليه الكلام وروي في الأثر وهو أن الرجل لما نصح قومه قتلوه فلما مات قيل له ادخل الجنة واختلف هل دخلها حين موته كالشهداء أو هل ذلك بمعنى البشارة بالجنة ورؤيته لمقعده منها * (قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي) * تمنى أن يعلم قومه بغفران الله له على إيمانه فيؤمنون ولذلك ورد في الحديث أنه نصح لهم حيا وميتا وقيل أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم معه وينفعهم ذلك * (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء) * المعنى أن الله أهلكهم بصيحة صاحها جبريل ولم يحتج في تعذيبهم إلى إنزال جند من السماء لأنهم أهون من ذلك وقيل المعنى ما أنزل الله على قومه ملائكة رسلا كما قالت قريش لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ولفظ الجند أليق بالمعنى الأول وكذلك ذكر الصيحة بعد ذلك * (وما كنا منزلين) * ما كنا لننزل جندا من السماء على أحد * (فإذا هم خامدون) * أي ساكنون لا يتحركون
162

ولا ينطقون * (يا حسرة على العباد) * نداء للحسرة كأنه قال يا حسرة احضري فهذا وقتك وهذا التفجع عليهم استعارة في معنى التهويل والتعظيم لما فعلوا من استهزائهم بالرسل ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة أو المؤمنين من الناس وقيل المعنى يا حسرة العباد على أنفسهم * (ألم يروا) * الضمير لقريش أو للعباد على الانطلاق والرؤية هنا بمعنى العلم * (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) * قرئ لما بالتخفيف وهي لام التأكيد دخلت على ما المزيدة وإن على هذا مخففة من الثقيلة وقرئ بالتشديد وهي بمعنى إلا وإن على هذا نافية * (وما عملته أيديهم) * ما معطوفة على ثمره أي ليأكلوا من الثمر وما عملته أيديهم بالحرث والزراعة والغراسة وقيل ما نافية وقرئ ما عملت من غير هاء وما على هذا معطوفة * (الأزواج) * يعني أصناف المخلوقات ثم فسرها بقوله مما تنبت الأرض وما بعده فمن في المواضع الثلاثة للبيان * (ومما لا يعلمون) * يعني أشياء لا يعلمها بنو آدم كقوله ويخلق ما لا تعلمون * (نسلخ منه النهار) * أي نجرده منه وهي استعارة * (والشمس تجري لمستقر لها) * أي لحد موقت تنتهي إليه من فلكها وهي نهاية جريها إلى أن ترجع في المنقلبين الشتاء والصيف وقيل مستقرها وقوفها كل وقت زوال بدليل وقوف الظل حينئذ وقيل مستقرها يوم القيامة حين تكور وفي الحديث مستقرها تحت العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها وهذا أصح الأقوال لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث الصحيح وقرئ لا مستقر لها أي لا تستقر عن جريها * (والقمر قدرناه منازل) * قرئ بالرفع على الابتداء أو عطف على الليل وبالنصب على إضمار فعل ولا بد في قدرناه من حذف تقديره قدرنا سيره منازل ومنازل القمر ثمانية وعشرون ينزل القمر كل ليلة واحدة منها من أول الشهر ثم يستتر في آخر الشهر ليلة أو ليلتين وقال الزمخشري وهذه المنازل هي مواضع النجوم وهي السرطان البطين الثريا الدبران الهقعة الهنعة الذراع النثرة الطرف الجبهة الزبرة الصرفة العوى السماك الغفر الزباني الإكليل القلب الشولة النعائم البلدة سعد بلع سعد الذابح سعد السعود سعد الأخبية فرغ الدلو المقدم فرغ الدلو المؤخر بطن الحوت * (حتى عاد كالعرجون القديم) * العرجون هو غصن النخلة شبه القمر به إذا انتهى في نقصانه والتشبيه في ثلاثة أوصاف وهي الرقة والانحناء والصفرة ووصفه بالقديم لأنه حينئذ تكون له هذه الأوصاف * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) * المعنى لا يمكن الشمس أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره وهكذا قال بعضهم ويحتمل أن يريد أن سير الشمس في الفلك بطيء فإنها تقطع الفلك في سنة وسير
163

القمر سريع فإنه يقطع الفلك في شهر والبطيء لا يدرك السريع * (ولا الليل سابق النهار) * يعني أن كل واحد منهما جعل الله له وقتا موقتا واحدا معلوما لا يتعداه فلا يأتي الليل حتى ينفصل النهار كما لا يأتي النهار حتى ينفصل الليل ويحتمل أن يريد أن آية الليل وهي القمر لا تسبق آية النهار وهي الشمس أي لا تجتمع معه فيكون المعنى كالذي قيل في قوله * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) * فحصل من ذلك أن الشمس لا تجتمع مع القمر وأن القمر لا يجتمع مع الشمس * (وكل في فلك يسبحون) * ذكر في الأنبياء * (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) * معنى المشحون المملوء والفلك هنا يحتمل أن يريد به جنس السفن أو سفينة نوح عليه السلام وأما الذرية فقيل إنه يعني الآباء الذين حملهم الله في سفينة نوح عليه السلام وسمى الآباء ذرية لأنها تناسلت منهم وأنكر ابن عطية ذلك وقال إنه يعني النساء وهذا بعيد والأظهر أنه أراد بالفلك جنس السفن فيعني جنس بني آدم وإنما خص ذريتهم بالذكر لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة وإن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني بالذرية من كان في السفينة وسماهم ذرية لأنهم ذرية آدم ونوح فالضمير في ذريتهم على هذا النوع بني آدم كأنه يقول الذرية منهم * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * إن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني بقوله من مثله سائر السفن التي يركبها سائر الناس وإن أراد بالفلك جنس السفن فيعني بقوله من مثله الإبل وسائر المركوبات فتكون المماثلة على هذا في أنه مركوب لا غير والأول أظهر لقوله وإن نشأ نغرقهم ولا يتصور هذا في المركوبات غير السفن * (فلا صريخ لهم) * أي لا مغيث لهم ولا منقذ لهم من الغرق * (إلا رحمة منا) * قال الكسائي نصب رحمة على الاستثناء كأنه قال إلا أن نرحمهم وقال الزجاج نصب رحمة على المفعول من أجله كأنه قال إلا لأجل رحمتنا إياهم * (ومتاعا إلى حين) * يعني آجالهم * (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم) * الضمير لقريش وجواب إذا محذوف تقديره أعرضوا يدل عليه إلا كانوا كانوا عنها معرضين والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم ذنوبهم المتقدمة والمتأخرة وقيل ما بين أيديهم عذاب الأمم المتقدمة وما خلفهم عذاب الآخرة * (قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) * كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يحضون على الصدقات وإطعام المساكين فيجيبهم الكفار بهذا الجواب وفي معناه قولان أحدهما أنهم قالوا كيف نطعم المساكين ولو شاء الله أن يطعمهم لأطعمهم ومن حرمهم الله نحن نحرمهم وهذا كقولهم كن مع الله على المدبر والآخر أن قولهم رد على المؤمنين وذلك أن المؤمنين كانوا يقولون إن الأمور كلها بيد الله فكأن الكفار يقولون لهم لو كان كما تزعمون لأطعم الله هؤلاء فما بالكم تطلبون إطعامهم منا ومقصدهم في الوجهين احتجاج لبخلهم ومنعهم الصدقات واستهزاء بمن حضهم على الصدقات * (إن أنتم إلا في ضلال مبين) * يحتمل أن يكون من بقية كلامهم خطابا للمؤمنين أو يكون
164

من كلام الله خطابا للكافرين * (ويقولون متى هذا الوعد) * يعنون يوم القيامة أو نزول العذاب بهم * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) * أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي النفخة الأولى في الصور وهي نفخة الصعق * (تأخذهم وهم يخصمون) * أي يتكلمون في أمورهم وأصل يخصمون يختصمون ثم أدغم وقرئ بفتح الخاء وبكسرها واختلاس حركتها * (فلا يستطيعون توصية) * أي لا يقدرون أن يوصوا بما لهم وما عليهم لسرعة الأمر * (ولا إلى أهلهم يرجعون) * أي لا يستطيعون أن يرجعوا إلى منازلهم لسرعة الأمر * (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) * هذه النفخة الثانية وهي نفخة القيام من القبور والأجداث هي القبور وينسلون يسرعون المشي وقيل يخرجون * (قالوا يا ويلنا) * الويل منادى أو مصدر * (من بعثنا من مرقدنا) * المرقد يحتمل أن يكون اسم مصدر أو اسم مكان قال أبي بن كعب ومجاهد إن البشر ينامون نومة قبل الحشر قال ابن عطية هذا غير صحيح الإسناد وإنما الوجه في معنى قولهم من مرقدنا أنها استعارة وتشبيه به يعني أن قبورهم شبهت بالمضاجع لكونهم فيها على هيئة الرقاد وإن لم يكن رقاد في الحقيقة * (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) * هذا مبتدأ وما بعده خبر وقيل إن هذا صفة لمرقدنا وما وعد الرحمن مبتدأ محذوف الخبر وهذا ضعيف ويحتمل أن يكون هذا الكلام من بقية كلامهم أو من كلام الله أو الملائكة أو المؤمنين يقولونها للكفار على وجه التقريع * (إن كانت إلا صيحة واحدة) * يعني النفخة الثانية وهي نفخة القيام * (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل) * قيل هو افتضاض الأبكار وقيل سماع الأوتار والأظهر أنه عام في الاشتغال باللذات * (فاكهون) * قرئ بالألف ومعناه أصحاب فاكهة وبغير ألف وهو من الفكاهة بمعنى الراحة والسرور * (في ظلال) * جمع ظل وبالضم جمع ظلة * (على الأرائك) * جمع أريكة وهي السرير * (ولهم ما يدعون) * أي ما يتمنون وقيل معناه أن ما يدعون به يأتيهم * (سلام) * مبتدأ وقيل بدل مما يدعون * (قولا) * مصدر مؤكد والمعنى أن السلام عليهم قول من الله بواسطة الملك أو بغير واسطة * (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) * أي انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حدة * (جبلا كثيرا) * الجبل الأمة العظيمة وقال الضحاك أقلها عشرة آلاف ولا نهاية لأكثرها وقرئ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام وبضمهما مع التخفيف وبضم الجيم وإسكان الباء وهي لغات
165

بمعنى واحد * (اليوم نختم على أفواههم) * أي نمنعهم من الكلام فتنطق أعضاؤهم يوم القيامة * (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) * هذا تهديد لقريش والطمس على
الأعين هو العمى والصراط الطريق وأنى استفهام يراد به النفي فمعنى الآية لو نشاء لأعميناهم فلو راموا أن يمشوا على الطريق لم يبصروه وقيل يعني عمي البصائر أي لو نشاء لختمنا على قلوبهم فالطريق على هذا استعارة بمعنى الإيمان والخير * (ولو نشاء لمسخناهم) * هذا تهديد بالمسخ فقيل معناه المسخ قردة وخنازير وحجارة وقيل معناه لو نشاء لجعلناهم مقعدين مبطولين لا يستطيعون تصرفا وقيل إن هذا التهديد كله بما يكون يوم القيامة والأظهر أنه في الدنيا * (على مكانتهم) * المكانة المكان والمعنى لو نشاء لمسخناهم مسخا يقعدهم في مكانهم * (فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) * أي إذا مسخوا في مكانهم لم يقدروا أن يذهبوا ولا أن يرجعوا * (ومن نعمره ننكسه في الخلق) * أي نحول خلقته من القوة إلى الضعف ومن الفهم إلى البله وشبه ذلك كما قال تعالى * (ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) * وإنما قصد بذكر ذلك هنا للاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار كما قدر على تنكيس الإنسان إذا هرم * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) * الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك رد على الكفار في قولهم إنه شاعر وكان صلى الله عليه وسلم لا ينظم الشعر ولا يزنه وإذا ذكر بيت شعر كسر وزنه فإن قيل قد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وروي أيضا عنه صلى الله عليه وسلم هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت وهذا الكلام على وزن الشعر فالجواب أنه ليس بشعر وأنه لم يقصد به الشعر وإنما جاء موزونا بالاتفاق لا بالقصد فهو كالكلام المنثور ومثل هذا يقال في مثل ما جاء في القرآن من الكلام الموزون ويقتضي قوله وما ينبغي له تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الشعر لما فيه من الأباطيل وإفراط التجاوز حتى يقال إن الشعر أطيبه أكذبه وليس كل الشعر كذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم إن من الشعر لحكمة وقد أكثر الناس في ذم الشعر ومدحه وإنما الإنصاف قول الشافعي الشعر كلام والكلام منه حسن ومنه قبيح * (إن هو إلا ذكر) * الضمير للقرآن يعني أنه ذكر لله أو تذكير للناس أو شرف لهم * (لينذر من كان حيا) * أي حي القلب والبصيرة * (ويحق القول على الكافرين) * أي يجب عليهم العذاب " أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما علمت أيدينا أنعاما " مقصد الآية تعديد النعم وإقامة الحجة والأيدي هنا عند أهل التأويل عبارة عن القدرة وعند أهل التسليم من المتشابه الذي يجب الإيمان به وعلمه عند الله * (فمنها ركوبهم) * الركوب بفتح الراء هو المركوب * (ولهم فيها منافع) * يعني الأكل منها والحمل عليها والانتفاع بالجلود والصوف وغيره * (ومشارب) * يعني الألبان * (لا يستطيعون نصرهم) * الضمير في يستطيعون للأصنام وفي نصرهم للمشركين ويحتمل العكس ولكن الأول أرجح فإنه لما ذكر أن المشركين اتخذوا الأصنام لينصروهم أخبر أن الأصنام لا يستطيعون نصرهم فخاب أملهم
166

* (وهم لهم جند محضرون) * الضمير الأول للمشركين والثاني للأصنام يعني أن المشركين يخدمون الأصنام ويتعصبون لهم حتى أنهم لهم كالجند وقيل بالعكس بمعنى أن الأصنام جند محضرون لعذاب المشركين في الآخرة والأول أرجح لأنه تقبيح لحال المشركين * (فلا يحزنك قولهم) * تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم معللة لما بعدها * (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة) * هذه الآية وما بعدها إلى آخر السورة براهين على الحشر يوم القيامة ورد على من أنكر ذلك والنطفة هي نطفة المني التي خلق الإنسان منها ولا شك أن الإله الذي قدر على خلق الإنسان من نطفة قادر على أن يخلقه مرة أخرى عند البعث وسبب الآية أن العاصي بن وائل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال يا محمد من يحيي هذا وقيل إن الذي جاء بالعظم أمية بن خلف وقيل أبي بن خلف فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم الله يحييه ويميتك ثم يحييك ويدخلك جهنم * (فإذا هو خصيم مبين) * أي متكلم قادر على الخصام يبين ما في نفسه بلسانه * (وضرب لنا مثلا) * إشارة إلى قول الكافرين من يحيي هذا العظم * (ونسي خلقه) * أي نسي الاستدلال بخلقته الأولى على بعثه والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول أو الترك * (وهي رميم) * أي بالية متفتتة * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * استدلال بالخلقة الأولى على البعث * (وهو بكل خلق عليم) * أي يعلم كيف يخلق كل شيء فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد فنائها والخلق هنا يحتمل أن يكون مصدرا أو بمعنى المخلوق * (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) * هذا دليل آخر على إمكان البعث وذلك أن الذين أنكروه من الكفار والطبائعيين قالوا طبع الموت يضاد طبع الحياة فكيف تصير العظام حية فأقام الله عليهم الدليل من الشجر الأخضر الممتلىء ماء مع مضادة طبع الماء للنار ويعني بالشجر زناد العرب وهو شجر المرخ والعفار فإنه يقطع من كل واحد منهما غصنا أخضر يقطر منه الماء فيسحق المرخ على العفار فتنقدح النار بينهما قال ابن عباس ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب ولكنه في المرخ والعفار أكثر " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم " هذا دليل آخر على البعث بأن الإله الذي قدر على خلق السماوات والأرض على عظمهما وكبر أجرامهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد فنائها والضمير في مثلهم يعود على الناس * (وهو الخلاق العليم) * ذكر في هذين الاسمين أيضا استدلال على البعث وكذلك في قوله إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون لأن هذا عبارة عن قدرته على جميع الأشياء ولا شك أن الخلاق العليم القدير لا يصعب عليه إعادة الأجساد " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء " في هذا استدلال على البعث وتنزيه لله عما نسبه الكفار إليه من العجز عن البعث فإنهم ما قدروا الله حق قدره وكل من أنكر البعث فإنما أنكره لجهله بقدرة الله سبحانه وتعالى
167

سورة الصافات
* (والصافات صفا) * تقديره والجماعات الصافات ثم اختلف فيها فقيل هي الملائكة التي تصف في السماء صفوفا لعبادة الله وقيل هو من يصف من بني آدم في الصلوات والجهاد والأول أرجح لقوله حكاية عن الملائكة وإنا لنحن الصافون * (فالزاجرات زجرا) * هي الملائكة تزجر السحاب وغيرها وقيل الزاجرون بالمواعظ من بني آدم وقيل هي آيات القرآن المتضمنة للزجر عن المعاصي * (فالتاليات ذكرا) * هي الملائكة تتلو القرآن والذكر وقيل هم التالون للقرآن والذكر من بني آدم وهي كلها أشياء أقسم الله بها على أنه واحد * (ورب المشارق) * يعني مشارق الشمس وهي ثلاثمائة وستون مشرقا وكذلك المغارب فإنها تشرق كل يوم من أيام السنة في مشرق منها وتغرب في مغرب واستغنى بذكر المشارق عن ذكر المغارب لأنها معادلة لها فتفهم من ذكرها * (بزينة الكواكب) * قرئ بإضافة الزينة إلى الكواكب والزينة تكون مصدرا واسما لما يزان به فإن كان مصدرا فهو مضاف إلى الفاعل تقديره بأن زينة الكواكب اسما أو مضاف إلى المفعول تقديره بأن زينا الكواكب وإن كانت
اسما فالإضافة بيان للزينة وقرئ بتنوين زينة وخفض الكواكب على البدل ونصب الكواكب على أنها مفعول بزينة أو بدل من موضع زينة * (وحفظا) * منصوب على المصدر تقديره وحفظناها حفظا أو مفعول من أجله والواو زائدة أو محمول على المعنى لأن المعنى إنا جعلنا الكواكب زينة للسماء وحفظا * (مارد) * أي شديد الشر * (لا يسمعون إلى الملإ الأعلى) * الضمير في يسمعون للشياطين والملأ الأعلى هم الملائكة الذين يسكنون في السماء والمعنى أن الشياطين منعت من سماع أحاديث الملائكة وقرئ يسمعون بتشديد السين والميم ووزنه يتفعلون والسمع طلب السماع فنفى السماع على القراءة الأولى ونفى طلبه على القراءة بالتشديد والأول أرجح لقوله * (إنهم عن السمع لمعزولون) * ولأن ظاهر الأحاديث أنهم يستمعون لكنهم لا يسمعون شيئا منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم يرمون بالكواكب * (ويقذفون) * أي يرجمون يعني بالكواكب وهي التي يراها الناس تنقض قال النقاش ومكي ليست الكواكب الراجمة للشياطين بالكواكب الجارية في السماء لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا قال ابن عطية وفي هذا نظر * (دحورا) * أي طردا وإبعادا وإهانة لأن الدحر الدفع بعنف وإعرابه مفعول من أجله أو مصدر من يقذفون على المعنى أو مصدر في موضع الحال تقديره مدحورين * (عذاب واصب) * أي دائم لأنهم يرجمون
168

بالنجوم في الدنيا ثم يقذفون في جهنم * (إلا من خطف الخطفة) * من في وضع رفع بدل من الضمير في قوله لا يسمعون والمعنى لا تسمع الشياطين أخبار السماء إلا الشيطان الذي خطف الخطفة * (شهاب ثاقب) * أي شديد الإضاءة * (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا) * الضمير لكفار قريش والاستفتاء نوع من السؤال وكأنه سؤال من يعتبر قوله ويجعل حجة لأن جوابهم عن السؤال مما تقوم به الحجة عليهم ومن خلقنا يراد به ما تقدم ذكره من الملائكة والسماوات والأرض والمشارق والكواكب وقيل يراد به ما تقدم من الأمم والأول أرجح لقراءة ابن مسعود أم من عددنا ومقصد الآية إقامة الحجة عليهم في إنكارهم البعث في الآخرة كأنه يقول هذه المخلوقات أشد خلقا منكم فكما قدرنا على خلقهم كذلك نقدر على إعادتكم بعد فنائكم " إنا خلقناهم من طير لازب " اللازب اللازم أي يلزم ما جاوره ويلصق به ووصفه بذلك يراد به ضعف خلقة بني آدم * (بل عجبت ويسخرون) * أي عجبت يا محمد من ضلالهم وإعراضهم عن الحق أو عجبت من قدرة الله على هذه المخلوقات العظام المذكورة وقرئ عجبت بضم التاء وأشكل ذلك على من يقول إن التعجب مستحيل على الله فتأولوه بمعنى أنه جعله على حال يتعجب منها الناس وقيل تقديره قل يا محمد عجبت وقد جاء التعجب من الله في القرآن والحديث كقوله صلى الله عليه وسلم يعجب ربك من شاب ليس له صبوة وهو صفة فعل وإنما جعلوه مستحيلا على الله لأنهم قالوا إن التعجب استعظام خفي سببه والصواب أنه لا يلزم أن يكون خفي السبب بل هو لمجرد الاستعظام فعلى هذا لا يستحيل على الله * (ويسخرون) * تقديره وهم يسخرون منك أو من البعث * (وإذا رأوا آية يستسخرون) * الآية هنا العلامة كانشقاق القمر ونحوه وروي أنها نزلت في مشرك اسمه ركانة أراه النبي صلى الله عليه وسلم آيات فلم يؤمن ويستسخرون معناه يسخرون فيكون فعل واستعمل بمعنى واحد وقيل معناه يستدعي بعضهم بعضا لأن يسخر وقيل يبالغون في السخرية * (أئذا كنا ترابا) * الآية معناها استبعادهم وقد تقدم الكلام على الاستفهامين في الرعد * (أو آباؤنا) * بفتح الواو دخلت همزة الإنكار على واو العطف وقرئ بالإسكان عطفا بأو * (قل نعم وأنتم داخرون) * أي قل تبعثون والداخر الصاغر الذليل * (زجرة واحدة) * هي النفخة في الصور للقيام من القبور * (فإذا هم ينظرون) * يحتمل أن يكون من النظر بالأبصار أو من الانتظار أي ينتظرون ما يفعل بهم " فهذا يوم الدين " يحتمل أن يكون من كلامهم مثل الذي قبله أو مما يقال لهم مثل الذي بعده * (احشروا) * الآية خطاب للملائكة خاطبهم به الله تعالى أو خاطب به بعضهم بعضا " وأزواجهم " يعني نساؤهم المشركات وقيل يعني أصنامهم وقرناءهم من الجن والإنس * (وما كانوا يعبدون) * يعني الأصنام والآدميين الذين كانوا يرضون بذلك * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * أي دلوهم على طريق جهنم ليدخلوها " إنهم مسؤولون " يعني إنهم يسألون عن أعمالهم توبيخا لهم وقيل يسألون
169

عن قول لا إله إلا الله والأول أرجح لأنه أهم ويحتمل أن يسألوا عن عدم تناصرهم على وجه التهكم بهم فيكون مسؤولون عاملا فيما بعده والتقدير يقال لهم ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا وقد كنتم في الدنيا تقولون نحن جميع منتصر * (مستسلمون) * أي منقادون عاجزون عن الانتصار * (قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) * الضمير في قالوا للضعفاء من الكفار خاطبوا الكبراء منهم في جهنم أو للإنس خاطبوا الجن واليمين هنا يحتمل ثلاث معان الأول أن يراد بها طريق الخير والصواب وجاءت العبارة عن ذلك بلفظ اليمين كما أن العبارة عن الشر بالشمال والمعنى أنهم قالوا لهم إنكم كنتم تأتوننا عن طريق الخير فتصدوننا عنه والثاني أن يراد به القوة والمعنى على هذا أنكم كنتم تأتوننا بقوتكم وسلطانكم فتأمروننا بالكفر وتمنعوننا من الإيمان والثالث أن يراد بها اليمين التي يحلف بها أي كنتم تأتوننا بأن تحلفوا لنا أنكم على الحق فنصدقكم في ذلك ونتبعكم * (قالوا بل لم تكونوا مؤمنين) * الضمير في قالوا للكبراء من الكفار أو للشياطين والمعنى أنهم قالوا لأتباعهم ليس الأمر كما ذكرتم بل كفرتم باختياركم * (فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون) * أي وجب العذاب علينا وعليكم وإنا لذائقون معمول القول وحذف معمول ذائقون تقديره وجب القول بأنا ذائقون العذاب * (فأغويناكم إنا كنا غاوين) * أي دعوناكم إلى الغي لأنا كنا على غي * (فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون) * أي إن المتبوعين والأتباع مشتركون في عذاب النار " يقولون إنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " الضمير في يقولون لكفار قريش ويعنون بشاعر مجنون محمد صلى الله عليه وسلم فرد الله عليهم بقوله " بل جاء الحق " أي جاء بالتوحيد والإسلام وهو الحق * (وصدق المرسلين) * الذين جاؤوا قبله لأنه جاء بمثل ما جاؤوا به ويحتمل المعنى أن يكون صدقهم لأنهم أخبروا بنبوته فظهر صدقهم لما بعث عليه الصلاة والسلام * (إلا عباد الله المخلصين) * استثناء منقطع بمعنى لكن وقرئ مخلصين بفتح اللام وكسرها في كل موضع وقد تقدم تفسيره * (على سرر متقابلين) * السرر جمع سرير وتقابلهم في بعض الأحيان للسرور بالأنس وفي بعض الأحيان ينفرد كل واحد بقصره * (يطاف عليهم بكأس من معين) * الذين يطوفون عليهم الولدان حسبما ورد في الآية الأخرى والكأس الإناء الذي فيه خمر قاله ابن عباس وقيل الكأس إناء واسع الفم ليس له مقبض سواء كان فيه خمر أم لا والمعين الجاري الكثير ووزنه فعيل والميم فيه أصلية وقيل هو مشتق من العين والميم زائدة ووزنه مفعول * (لذه) * أي ذات لذة فوصفها بالمصدر
170

اتساعا * (لا فيها غول) * الغول اسم عام في الأذى والضير ومنه يقال غاله يغوله إذا أهلكه وقيل الغول وجع في البطن وقيل صداع في الرأس وإنما قدم المجرور هنا تعريضا بخمر الدنيا لأن الغول فيها * (ولا هم عنها ينزفون) * أي لا يسكرون من خمر الجنة ومنه النزيف وهو السكران وعن هنا سببية كقولك فعلته عن أمرك أي لا ينزفون بسبب شربها * (قاصرات الطرف) * معناه أنهن قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهن * (عين) * جميع عيناء وهو الكبيرة العينين في جمال * (كأنهن بيض مكنون) * قيل شبههن في اللون ببيض النعام فإنه بياض خالطه صفرة حسنة وكذلك قال امرئ القيس
(كبكر مقناة البياض بصفرة
*) وقيل إنما التشبيه بلون قشر البيضة الداخلي الرقيق وهو المكنون المصون تحت القشرة الأولى وقيل أراد الجوهر المصون * (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * هذا إخبار عن تحدث أهل الجنة قال الزمخشري هذه الجملة معطوفة على يطاف عليهم والمعنى أنهم يشربون فيتحدثون على الشراب بما جرى لهم في الدنيا * (إني كان لي قرين) * قيل إن هذا القائل وقرينه من البشر مؤمن وكافر وقيل إن قرينه كان من الجن * (يقول أئنك لمن المصدقين) * معناه أنه كان يقول له على وجه الإنكار أتصدق بالدنيا والآخرة * (لمدينون) * أي مجازون ومحاسبون على الأعمال ووزنه مفعول وهو من الدين بمعنى الجزاء والحساب * (قال هل أنتم مطلعون) * أي قال ذلك القائل لرفقائه في الجنة أو للملائكة أو لخدامه هل أنتم مطلعون على النار لأريكم ذلك العزيز فيها وروي أن في الجنة كوى ينظرون أهلها منها إلى النار * (في سواء الجحيم) * أي في وسطها * (قال تالله إن كدت لتردين) * أي تهلكن بإغوائك والردى الهلاك وهذا خطاب خاطب به المؤمن قرينه الذي في النار * (من المحضرين) * في العذاب * (أفما نحن بميتين) * هذا من كلام المؤمن خطاب لقرينه أو خطابا لرفقائه في الجنة ولهذا قال نحن فأخبر عن نفسه وعنهم ويحتمل أن يكون من كلامه وكلامهم جميعا * (إن هذا لهو الفوز العظيم) * يحتمل أن يكون من كلام المؤمن أو من كلامه وكلام رفقائه في الجنة أو من كلام الله تعالى وكذلك يحتمل هذه الوجوه في قوله لمثل هذا فليعمل العاملون والأول أرجح فيه أن يكون من كلام الله تعالى لأن الذي بعده من كلام الله فيكون متصلا به ولأن الأمر بالعمل إنما هو حقيقة في الدنيا ففيه تحضيض على العمل الصالح " أذلك خير أم شجرة الزقوم " الإشارة بذلك إلى نعيم الجنة وكل ما ذكر من وصفها وقال الزمخشري الإشارة إلى قوله رزق معلوم والنزل الضيافة وقيل الرزق الكثير وجاء التفضيل هنا بين شيئين ليس بينهما اشتراك لأن الكلام تقرير وتوبيخ * (إنا جعلناها فتنة للظالمين) * قيل سببها أن أبا جهل وغيره لما سمعوا ذكر شجرة الزقوم قالوا كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق
171

الشجر فالفتنة على هذا الابتلاء في الدنيا وقيل معناه عذاب الظالمين في الآخرة والمراد بالظالمين هنا الكفار * (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) * أي تنبت في قعر جهنم وترتفع أغصانها إلى دركاتها " طلعها كأنه رؤس الشياطين " الطلع ثمر النخل فاستعير لشجرة الزقوم وشبه برءوس الشياطين مبالغة في قبحه وكراهته نه قد تقرر في نفوس الناس كراهتها وإن لم يروها ولذلك يقال للقبيح المنظر وجه شيطان وقيل رؤس الشياطين شجرة معروفة باليمن وقيل هو صنف من الحيات * (لشوبا من حميم) * أي مزاجا من ماء حار فإن قيل لم عطف هذه الجملة بثم فالجواب من وجهين أحدهما أنه لترتيب تلك الأحوال في الزمان فالمعنى أنهم يملؤن البطون من شجر الزقوم وبعد ذلك يشربون الحميم والثاني أنه لترتيب مضاعفة العذاب فالمعنى أن شربهم للحميم أشد مما ذكر قبله " يهرعون " الإهراع الإسراع الشديد * (ولقد نادانا نوح) * أي دعانا فالمعنى دعاؤه بإهلاك قومه ونصرته عليهم * (من الكرب العظيم) * يعني الغرق * (وجعلنا ذريته هم الباقين) * أهل الأرض كلهم من ذرية نوح لأنه لما غرق الناس في الطوفان ونجا نوح ومن كان معه في السفينة تناسل الناس من أولاده الثلاثة سام وحام ويافث * (وتركنا عليه في الآخرين) * معناه أبقينا عليه ثناء جميلا في الناس إلى يوم القيامة * (سلام على نوح في العالمين) * هذا التسليم من الله على نوح عليه السلام وقيل إن هذه الجملة مفعول تركنا وهي محكية أي تركنا هذه الكلمة تقال له يعني أن الخلق يسلمون عليه فيبتدأ بالسلام على القول الأول لا على الثاني والأول أظهر ومعنى في العالمين على القول الأول تخصيصه بالسلام عليه بين العالمين كما تقول أحب فلانا في الناس أي أحبه خصوصا من بين الناس ومعناه على القول الثاني أن السلام عليه ثابت في العالمين وهذا الخلاف يجري حيث ما ذكر ذلك في هذه السورة * (وإن من شيعته لإبراهيم) * الشيعة الصنف المتفق فمعنى من شيعته من على دينه في التوحيد والضمير يعود على نوح وقيل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والأول أظهر * (إذ جاء ربه) * عبارة عن إخلاصه وإقباله على الله تعالى بكليته وقيل المراد المجيء بالجسد * (بقلب سليم) * أي سليم من الشرك والشك وجميع العيوب * (أئفكا آلهة دون الله تريدون) * الإفك الباطل وإعرابه هنا مفعول من أجله وآلهة مفعول به وقيل ائفكا مفعول به وآلهة بدل منه وقيل أئفكا مصدر في موضع الحال تقديره آفكين أي كاذبين والأول أحسن
172

* (فما ظنكم برب العالمين) * المعنى أي شيء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم به وقد عبدتم غيره أو أي شيء تظنون أنه هو حتى عبدتم غيره كما تقول ما ظنك بفلان إذا قصدت تعظيمه فالمقصد على المعنى الأول تهديد وعلى الثاني تعظيم لله وتوبيخ لهم * (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) * روي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه فدعوه إلى الخروج معهم فحينئذ قال إني سقيم ليمتنع عن الخروج معهم فيكسر أصنامهم إذا خرجوا لعيدهم وفي تأويل ذلك ثلاثة أقوال الأول أنها كانت تأخذه الحمى في وقت معلوم فنظر في النجوم ليرى وقت الحمى واعتذر عن الخروج لأنه سقيم من الحمى والثاني أن قومه كانوا منجمين وكان هو يعلم أحكام النجوم فأوهمهم أنه استدل بالنظر في علم النجوم أنه يسقم فاعتذر بما يخلف من السقم عن الخروج معهم والثالث أن معنى نظر في النجوم أنه نظر وفكر فيما يكون من أمره معهم فقال إني سقيم والنجوم على هذا ما ينجم من حاله معهم وليست بنجوم السماء وهذا بعيد وقوله إني سقيم على حسب هذه الأقوال يحتمل أن يكون حقا لا كذب فيه ولا تجوز أصلا ويعارض هذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات أحدها قوله إني سقيم ويحتمل أن يكون كذبا صراحا وجاز له ذلك لهذا الاحتمال لأنه فعل ذلك من أجل الله إذ قصد كسر الأصنام ويحتمل أن يكون من المعاريض فإن أراد أنه سقيم فيما يسقبل لأن كل إنسان لا بد له أن يمرض أو أراد أنه سقيم النفس من
كفرهم وتكذيبهم له وهذان التأويلان أولى لأن نفي الكذب بالجملة معارض للحديث والكذب الصراح لا يجوز على الأنبياء عند أهل التحقيق أما المعاريض فهي جائزة * (فتولوا عنه مدبرين) * أي تركوه إعراضا عنه وخرجوا إلى عيدهم وقيل إنه أراد بالسقم الطاعون وهو داء يعدي فخافوا منه وتباعدوا عنه مخافة العدوي * (فراغ) * أي مال * (فقال ألا تأكلون) * إنما قال ذلك على وجه الاستهزاء بالذين يعبدون تلك الأصنام * (ضربا باليمين) * أي يمين يديه وقيل بالقوة وقيل بالحلف وهو قوله تالله لأكيدن أصنامكم والأول أظهر وأليق بالضرب وضربا مصدر في موضع الحال * (يزفون) * أي يسرعون * (قال أتعبدون ما تنحتون) * أي تنجرون والنحت النجارة إشارة إلى صنعهم للأصنام من الحجارة والخشب * (والله خلقكم وما تعملون) * ذهب قوم إلى أن ما مصدرية والمعنى الله خلقكم وأعمالكم وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق أفعال العباد وقيل إنها موصولة بمعنى الذي والمعنى الله خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها وهذا أليق بسياق الكلام وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام وقيل إنها نافية وقيل إنها استفهامية وكلاهما باطل * (قالوا ابنوا له بنيانا) * قيل البنيان في موضع النار وقيل بل كان للمنجنيق الذي رمى عنه * (فأرادوا به كيدا) * يعني حرقه بالنار * (فجعلناهم الأسفلين) * أي المغلوبين * (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين) * قيل إنه قال هذا بعد خروجه من النار وأراد أنه ذاهب أي مهاجر إلى الله فهاجر إلى أرض الشام وقيل إنه قال ذلك قبل أن يطرح في النار وأراد أنه ذاهب إلى ربه بالموت لأنه ظن أن النار تحرقه وسيهدين على القول الأول يعني الهدى إلى صلاح
173

الدين والدنيا وعلى القول الثاني إلى الجنة وقالت المتصوفة معناه إني ذاهب إلى ربي بقلبي أي مقبل على الله بكليتي تاركا سواه * (رب هب لي من الصالحين) * يعني ولدا من الصالحين * (فبشرناه بغلام حليم) * أي عاقل واختلف الناس في هذا الغلام المبشر به في هذا الموضع وهو الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق فقال ابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين هو إسماعيل وحجتهم من ثلاثة أوجه الأول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنا ابن الذبيحين يعني إسماعيل عليه السلام ووالده عبد الله حين نذر والده عبد المطلب أن ينحره إن يسر الله له أمر زمزم ففداه بمائة من الإبل والثاني أن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح وبشرناه بإسحق فدل ذلك على أن الذبيح غيره والثالث أنه روي أن إبراهيم جرت له قصة الذبح بمكة وإنما كان معه بمكة إسماعيل وذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود وجماعة من التابعين إلى أن الذبيح إسحاق وحجتهم من وجهين الأول أن البشارة المعروفة لإبراهيم بالوادي إنما كانت بإسحاق لقوله فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب والثاني أنه روي أن يعقوب كان يكتب من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله * (فلما بلغ معه السعي) * يريد بالسعي هنا العمل والعبادة وقيل المشي وكان حينئذ ابن ثلاثة عشر سنة * (قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) * يحتمل أن يكون رأى في المنام الذبح وهو الفعل أو أمر في المنام أنه يذبحه والأول أظهر في اللفظ هنا والثاني أظهر في قوله افعل ما تؤمر ورؤيا الأنبياء حق فوجب عليه الامتثال على الوجهين * (فانظر ماذا ترى) * إن قيل لم شاوره في أمر هو حتم من الله فالجواب أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ولكن ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطن نفسه على الصبر فأجابه بأحسن جواب * (فلما أسلما) * أي استسلما وانقادا لأمر الله * (وتله للجبين) * أي صرعه بالأرض على جبينه وللإنسان جبينان حول الجبهة وجواب لما محذوف عند البصريين تقديره فلما أسلما كان ما كان من الأمر العظيم وقال الكوفيون جوابها تله والواو زائدة وقال بعضهم جوابها ناديناه والواو زائدة * (قد صدقت الرؤيا) * يحتمل أنه يريد بقلبك أي كانت عندك رؤيا صادقة فعملت بحسبها ويحتمل أن يريد صدقتها بعملك أي وفيت حقها من العمل فإن قيل إنه أمر بالذبح ولم يذبح فكيف قيل له صدقت الرؤيا فالجواب أنه قد بذل جهده إذ قد عزم على الذبح ولو لم يفده الله لذبحه ولكن الله هو الذي منعه من ذبحه لما فداه فامتناع ذبح الولد إنما كان من الله وبأمر الله وقد قضى إبراهيم ما عليه * (البلاء المبين) * أي الاختبار البين الذي يظهر به طاعة الله أو المحنة البينة الصعوبة * (وفديناه بذبح عظيم) * الذبح اسم لما يذبح وأراد به هنا الكبش الذي فدى به وروي أنه من كباش الجنة وقيل إنه الكبش الذي قرب به ولد آدم ووصفه بعظيم لذلك أو لأنه من عند الله أو لأنه متقبل وروي في القصص أن الذبيح قال لإبراهيم اشدد رباطي لئلا أضطرب واصرف بصرك عني
174

لئلا ترحمني وأنه أمر الشفرة على حلقه فلم تقطع فحينئذ جاءه الكبش من عند الله وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية وتركناه لعدم صحتة " كذلك نجزي المحسنين " إن قيل لم قال هنا في قصة إبراهيم كذلك دون قوله إنا وقال في غيرها إنا فالجواب أنه قد تقدم في قصة إبراهيم نفسها إنا كذلك فأغنى عن تكرار إنا * (ولقد مننا على موسى وهارون) * يعني بالنبوة وغير ذلك * (من الكرب العظيم) * يعني الغرق أو تعذيب فرعون وإذلاله لهم * (ونصرناهم) * الضمير يعود على موسى وهارون وقومهما وقيل على موسى وهارون خاصة وعاملهما معاملة الجماعة للتعظيم وهذا ضعيف * (وآتيناهما الكتاب المستبين) * يعني التوراة ومعنى المستبين البين وفي هذه الآية وما بعدها نوع من أدوات البيان وهو الترصيع * (وإن إلياس لمن المرسلين) * إلياس من ذرية هارون وقيل إنه إدريس وقد أخطأ من قال إنه إلياس المذكور في أجداد النبي صلى الله عليه وسلم * (أتدعون بعلا) * البعل في اللغة الرب بلغة أهل اليمن وقيل بعل اسم صنم يقال له بعلبك * (سلام على إل ياسين) * آل هنا على هذه القراءة بمعنى أهل ياسين اسم لإلياس وقيل لأبيه وقيل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقرئ إلياسين بكسر الهمزة ووصل اللام ساكنة على هذا جمع إلياس أو منسوب لإلياس حذفت منه الياء كما حذفت من أعجمين وقيل سمي كل واحد من آل ياسين إلياس ثم جمعهم وقيل هو لغة في إلياس " عجوز في الغابرين " قد ذكر * (وإن يونس لمن المرسلين) * قد ذكرنا قصته في يونس والأنبياء * (إذ أبق إلى الفلك المشحون) * أي هرب إلى السفينة والفلك هنا واحد والمشحون المملوء وسبب هروبه غضبه على قومه حين لم يؤمنوا وقيل إنه أخبرهم أن العذاب يأتيهم في يوم معين حسبما أعلمه الله فلما رأوا قومه مخايل العذاب آمنوا فرفع الله عنهم العذاب فخاف أن ينسبوه إلى الكذب فهرب * (فساهم فكان من المدحضين) * معنى ساهم ضارب القرعة والمدحض المغلوب في القرعة والمحاجة وسبب مقارعته أنه لما ركب السفينة وقفت ولم تجر فقالوا إنما وقفت من حدث أحدثه أحدنا فنقترع لنرى على من تخرج
175

القرعة فنطرحه فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فطرحوه في البحر * (فالتقمه الحوت وهو مليم) * أي فعل ما يلام عليه وذلك خروجه بغير أن يأمره الله
بالخروج * (فلولا أنه كان من المسبحين) * تسبيحه هو قوله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين حسبما حكى الله عنه في الأنبياء وقيل هو قوله سبحان الله وقيل هو الصلاة واختلف على هذا هل يعني صلاته في بطن الحوت أو قبل ذلك واختلف في مدة بقائه في بطن الحوت فقيل ساعة وقيل ثلاثة أيام وقيل سبعة أيام وقيل أربعون يوما * (فنبذناه بالعراء) * العراء الأرض الفضاء التي لا شجر فيها ولا ظل وقيل يعني الساحل * (وهو سقيم) * روي أنه كان كالطفل المولود بضعة لحم * (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) * أي أنبتناها فوقه لتظله وتقيه حر الشمس واليقطين القرع وإنما خصه الله به لأنه يجمع برد الظل ولين اللمس وكبر الورق وأن الذباب لا يقربه فإن لحم يونس لما خرج من البحر كان لا يحتمل الذباب وقيل اليقطين كل شجرة لا ساق لها كالبقول والقرع والبطيخ والأول أشهر * (وأرسلناه إلى مائة ألف) * يعني رسالته الأولى التي أبق بعدها وقيل هذه رسالة ثانية بعد خروجه من بطن الحوت والول أشهر * (أو يزيدون) * قيل أو هنا بمعنى بل وقرأ ابن عباس بل يزيدون وقيل هي بمعنى الواو وقيل هي للإبهام وقيل المعنى أن البشر إذا نظر إليهم يتردد فيقول هم مائة ألف أو يزيدون واختلف في عددهم فقيل مائة وعشرون ألفا وقيل مائة وثلاثون ألفا وقيل مائة وأربعون ألفا وقيل مائة وسبعون ألفا * (فآمنوا فمتعناهم إلى حين) * روي أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم وفرقوا بينهم وبين الأمهات وناحوا وتضرعوا إلى الله وأخلصوا فرفع الله العذاب عنهم إلى حين يعني لانقضاء آجالهم وقد ذكر الناس في قصة يونس أشياء كثيرة أسقطناها لضعف صحتها * (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون) * قال الزمخشري إن هذا معطوف على قوله فاستفتهم الذي في أول السورة وإن تباعد ما بينهما والضمير المفعول لقريش وسائر الكفار أي اسألهم على وجه التقرير والتوبيخ عما زعموا من أن الملائكة بنات الله فجعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور وتلك قسمة ضيزى ثم قررهم على ما زعموا من أن الملائكة إناث ورد عليهم بقوله وهم شاهدون ويحتمل أن يكون بمعنى الشهادة أو بمعنى الحضور أي أنهم لم يحضروا ذلك ولم يعلموه ثم أخبر عن كذبهم في قولهم ولد الله ثم قررهم على ما زعموا من أن الله اصطفى لنفسه البنات وذلك كله رد عليهم وتوبيخ لهم تعالى الله عن أقوالهم علوا كبيرا * (اصطفي) * دخلت همزة التقرير والتوبيخ على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل * (مالكم) * هذا استفهام معناه التوبيخ وهي في موضع رفع بالابتداء والمجرور بعدها خبرها فينبغي الوقف على قوله مالكم * (أم لكم سلطان مبين) * أي برهان بين * (فأتوا بكتابكم) * تعجيز لهم لأنهم ليس لهم كتاب يحتجون به * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) *
176

الضمير في جعلوا لكفار العرب وفي معنى الآية قولان أحدهما أن الجنة هنا الملائكة وسميت بهذا الاسم لأنه مشتق من الاجتنان وهو الاستتار والملائكة مستورين عن أعين بني آدم كالجن والنسب الذي جعلوه بينهم وبين الله قولهم إنهم بنات الله والقول الثاني أن الجن هنا الشياطين وفي النسب الذي جعلوه بينه وبينهم قولان أحدهما أن بعض الكفار قالوا إن الله والشياطين أخوان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا والآخر أن بعضهم قال إن الله نكح في الجن فولدت له الملائكة سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا " ولقد علمت الجن إنهم لمحضرون " من قال إن الجن الملائكة فالضمير في قوله إنهم لمحضرون يعود على الكفار أي قد علمت الملائكة أن الكفار محضرون في العذاب ومن قال إن الجن الشياطين فالضمير يعود عليهم أي قد علمت الشياطين أنهم محضرون في العذاب * (إلا عباد الله المخلصين) * استثناء منقطع من المحضرين أو من الفاعل في يصفون والمعنى لكن عباد الله المخلصين لا يحضرون في العذاب أو لكن عباد الله المخلصين يصفونه بما هو أهله * (فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم) * هذا خطاب للكفار والمراد بما تعبدون الأصنام وغيرها وما تعبدون عطف على الضمير في إنكم ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ومعنى فاتنين مضلين والضمير في عليه يعود على ما تعبدون وعلى سببية معناها التعليل ومن هو مفعول بفاتنين والمعنى إنكم أيها الكفار وكل ما تعبدونه لا تضلون أحدا إلا من قضى الله أنه يصلى الجحيم أي لا تقدرون على إغواء الناس إلا بقضاء الله وقال الزمخشري الضمير في عليه يعود على الله تعالى * (وما منا إلا له مقام معلوم) * هذا حكاية كلام الملائكة عليهم السلام تقديره ما منا ملك إلا وله مقام معلوم وحذف الموصوف لفهم الكلام والمقام المعلوم يحتمل أن يراد به المكان الذي يقومون فيه لأن منهم من هو في السماء الدنيا وفي الثانية وفي السماوات وحيث شاء الله ويحتمل أن يراد به المنزلة من العبادة والتقريب والتشريف * (وإنا لنحن الصافون) * أي الواقفون في العبادة صفوفا ولذلك أمر المسلمون بتسوية الصفوف في صلاتهم ليقتدوا بالملائكة وليس أحد من أهل الملل يصلون صفوفا إلا المسلمون * (وإنا لنحن المسبحون) * قيل معناه المصلون لأن الصلاة يقال لها تسبيح وقيل معناه القائلون سبحان الله وفي هذا الكلام الذي قالته الملائكة رد على من قال إنهم بنات الله وشركاء له لأنهم اعترفوا على أنفسهم بالعبودية والطاعة لله والتنزيه له ويدل هذا الكلام أيضا على أن المراد بالجن قيل هذا الملائكة وقيل إنه هذا كله من كلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكلام المسليمن والأول أشهر * (وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين) * الضمير لكفار قريش وسائر العرب والمعنى أنهم كانوا قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم يقولون لو أرسل الله إلينا رسولا وأنزل علينا كتابا لكنا عباد الله المخلصين * (فكفروا به) * الضمير للذكر أو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأن المعنى يقتضي ذلك وإن لم يتقدم له ذكر * (فسوف يعلمون) * تهديد ووعيد لهم على كفرهم * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون) *
177

المعنى سبق القضاء بأن المرسلين منصورون على أعدائهم " وإن جندنا لهم الغالبون " هذا النصر والغلبة بظهور الحجة والبرهان وبهزيمة الأعداد في القتال وبالسعادة في الآخرة * (فتول عنهم حتى حين) * أي أعرض عنهم وذلك موادعة منسوخة بالسيف والحين هنا يراد به يوم بدر وقيل حضور آجالهم وقيل يوم القيامة * (وأبصر فسوف يبصرون) * هذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم * (أفبعذابنا يستعجلون) * إشارة إلى قولهم متى هذا الوعد وأمطر علينا حجارة من السماء وشبه ذلك * (فإذا نزل بساحتهم) * الساحة الفناء حول الدار والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من محظور وسوء * (فساء صباح المنذرين) * الصباح مستعمل في ورود الغارات والرزايا ومقصد الآية التهديد بعذاب يحل بهم بعد أن أنذروا فلم ينفعهم الإنذار وذلك تمثيل بقوم أنذرهم ناصح بأن جيشا يحل بهم فلم يقبلوا نصحه حتى جاءهم الجيش وأهلكهم * (وأبصر) * كرر الأمر بالتولي عنهم والوعد والوعيد على وجه التأكيد وقيل أراد بالوعيد الأول عذاب الدنيا وبالثاني عذاب الآخرة
فإن قيل لم قال أولا أبصرهم وقال هنا أبصر فحذف الضمير المفعول فالجواب من وجهين أحدهما أنه اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا فحذفه اقتصارا والآخر أنه حذفه ليفيد العموم فيمن تقدم وغيرهم كأنه قال أبصر جميع الكفار بخلاف الأول فإنه في قريش خاصة * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) * نزه الله تعالى نفسه عما وصفه به الكفار مما لا يليق به فإنه حكى عنهم في هذه السورة أقوالا كثيرة شنيعة والعزة إن أراد بها عزة الله فمعنى رب العزة ذو العزة وأضافها إليه لاختصاصه بها وإن أراد بها عزة الأنبياء والمؤمنين فمعنى رب العزة مالكها وخالقها ومن هذا قال محمد بن سحنون من حلف بعزة الله فإن أراد صفة الله فهي يمين وإن أراد العزة التي أعطى عباده فليست بيمين ثم ختم هذه السورة بالسلام على المرسلين * (والحمد لله رب العالمين) * فأما السلام على المرسلين فيحتمل أن يريد به التحية أو سلامتهم من أعدائهم ويكون ذلك تكميلا لقوله إنهم لهم المنصورون وأما الحمد لله فيحتمل أن يريد به الحمد لله على ما ذكر في هذه السورة من تنزيه الله ونصرة الأنبياء وغير ذلك ويحتمل أن يريد الحمد لله على الإطلاق
سورة داود عليه السلام
* (ص) * تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة ويختص بهذا أنه قال فيه معناه صدق محمد وقيل هو حرف
178

من اسم الله الصمد أو صادق الوعد أو صانع المصنوعات * (والقرآن ذي الذكر) * هذا قسم جوابه محذوف تقديره إن القرآن من عند الله وإن محمدا لصادق وشبه ذلك وقيل جوابه في قوله صلى الله عليه وسلم إذ هو بمعنى صدق محمد وقيل جوابه إن كل إلا كذب الرسل وهذا بعيد وقيل جوابه إن ذلك لحق تخاصم أهل النار وهذا أبعد ومعنى ذي الذكر ذي الشرف والذكر بمعنى الموعظة أو ذكر الله وما يحتاج إليه من الشريعة * (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) * الذين كفروا يعني قريشا وبل للإضراب عن كلام محذوف وهو جواب القسم أي إن كفرهم ليس ببرهان بل هو بسبب العزة والشقاق والعزة التكبر والشقاق العداوة وقصد المخالفة وتنكيرهما للدلالة على شدتهما وتفاخم الكفار فيهما * (كم أهلكنا من قبلهم من قرن) * إخبار يتضمن تهديدا لقريش * (فنادوا ولات حين مناص) * المعنى أن القرون الذين هلكوا دعوا واستغاثوا حين لم ينفعهم ذلك ولات بمعنى ليس وهي لا النافية زيدت عليها علامة التأنيث كما زيدت في ربت وثمت ولا تدخل لات إلا على زمان واسمها مضمر وحين مناص خبرها والتقدير ليس الحين الذي دعوا فيه حين مناص والمناص المفر والنجاة من قولك ناص ينوص إذا فر * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) * الضمير لقريش والمنذر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أي استبعدوا أن يبعث الله رسولا منهم ويحتمل أن يريد من قبيلتهم أو يريد من البشر مثلهم * (وقال الكافرون) * كان الأصل وقالوا ولكن وضع الظاهر موضع المضمر قصدا لوصفهم بالكفر * (أجعل الآلهة إلها واحدا) * هذا إنكار منهم للتوحيد وسبب نزول هذه الآيات أن قريشا اجتمعوا وقالوا لأبي طالب كف ابن أخيك عنا فإنه يعيب ديننا ويذم آلهتنا ويسفه أحلامنا فكلمه أبو طالب في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم إنما أريد منهم كلمة واحدة يملكون بها العجم وتدين لهم بها العرب فقالوا نعم وعشر كلمات معها فقال قولوا لا إله إلا الله فقاموا وأنكروا ذلك وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا * (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا) * انطلاق الملأ عبارة عن خروجهم عن أبي طالب وقيل عبارة عن تفرقتهم في طرق مكة وإشاعتهم للكفر وأن امشوا معناه يقول بعضهم لبعض امشوا واصبروا على عبادة آلهتكم ولا تطيعوا محمدا فيما يدعوا إليه من عبادة الله وحده " إن هذا لشيء يراد " هذا أيضا مما حكى الله من كلام قريش وفي معناه وجهان أحدهما أن الإشارة إلى الإسلام والتوحيد أي إن هذا التوحيد شيء يراد منا الانقياد إليه والآخر أن الإشارة إلى الشرك والصبر على آلهتهم أي إن هذا لشيء ينبغي أن يراد ويتمسك به أو أن هذا شيء يريده الله منا لما قضى علينا به والأول أرجح لأن الإشارة فيما بعد ذلك إليه فيكون الكلام على نسق واحد * (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة) * هذا أيضا مما حكى الله عنهم من كلامهم أي ما سمعنا بالتوحيد في الملة الآخرة والمراد بالملة الآخرة ملة النصارى لأنها بعد ملة موسى وغيره وهم يقولون بالتثليث لا بالتوحيد وقيل المراد ملة قريش أي ما سمعنا بهذا في الملة التي أدركنا عليها آباءنا وقيل المراد الملة المنتظرة إذ كانوا يسمعون من الأحبار والكهان أن رسولا يبعث يكون آخر الأنبياء " إن هذا
179

إلا اختلاق) هذا أيضا مما حكي من كلامهم والإشارة إلى التوحيد والإسلام ومعنى الاختلاف الكذب * (أنزل عليه الذكر من بيننا) * الهمزة للإنكار والمعنى أنهم أنكروا أن يخص الله محمدا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن عليه دونهم * (بل هم في شك من ذكري) * هذا رد عليهم والمعنى أنهم ليست لهم حجة ولا برهان بل هم في شك من معرفة الله وتوحيده فلذلك كفروا ويحتمل أن يريد بالذكر القرآن * (بل لما يذوقوا عذاب) * هذا وعيد لهم وتهديد والمعنى أنهم إنما حملهم على الكفر كونهم لم يذوقوا العذاب فإذا ذاقوه زال عنهم الشك وأذعنوا للحق * (أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب) * هذا رد عليهم فيما أنكروا من اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والمعنى أنهم ليس عندهم خزائن رحمة الله حتى يعطوا النبوة من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا بل يعطيها الله لمن يشاء ثم وصف نفسه بالعزيز الوهاب لأن العزيز يفعل ما يشاء والوهاب ينعم على من يشاء فلا حجة لهم فيما أنكروا * (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما) * هذا أيضا رد عليهم والمعنى أم لهم الملك فيتصرفون فيه كيف شاؤوا بل مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء وأم الأولى منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار وأما أم الثانية فيحتمل أن تكون كذلك أو تكون عاطفة معادلة لما قبلها * (فليرتقوا في الأسباب) * هذا تعجيز لهم وتهكم بهم ومعنى يرتقوا يصعدوا والأسباب هنا السلالم والطرق وشبه ذلك مما يوصل به إلى العلو وقيل هي أبواب السماء والمعنى إن كان لهم ملك السماوات والأرض فليصعدوا إلى العرش ويدبروا الملك * (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) * هذا وعيد بهزيمتهم في القتال وقد هزموا يوم بدر وغيره وما هنالك صفة لجند وفيها معنى التحقير لهم والإشارة بهنالك إلى حيث وصفوا أنفسهم من الكفر والاستهزاء وقيل الإشارة إلى الارتقاء في الأسباب وهذا بعيد وقيل الإشارة إلى موضع بدر ومن الأحزاب معناه من جملة الأحزاب الذين تعصبوا للباطل فهلكوا * (وفرعون ذي الأوتاد) * قال ابن عباس كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها وقيل كانت له أوتاد يسمرها في الناس لقتلهم وقيل أراد المباني العظام الثابتة ورجحه ابن عطية وقال الزمخشري إن ذلك استعارة في ثبات
الملك كقول القائل في ظل ملك ثابت الأوتاد * (وأصحاب الأيكة) * قد ذكر * (وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة) * ينظر هنا بمعنى ينتظر وهؤلاء يعني قريشا والصيحة الواحدة النفخة في الصور وهي نفخة الصعق وقيل الصيحة عبارة عما أصابهم من قتل أو شدة والأول أظهر وقد روي تفسيرها بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم " مالها من فواق " فيه ثلاثة أقوال الأول ما لها رجوع أي لا يرجعون بعدها إلى الدنيا وهو على هذا مشتق من الإفاقة الثاني ما لها من ترداد أي إنما هي واحدة لا ثانية لها الثالث ما لها من تأخير ولا توقف مقدار فواق ناقة وهي ما بين حلبتي اللبن وهذا القول الثالث إنما يجري على قراءة فواق بالضم لأن فواق الناقة
180

بالضم والقولان الأولان على الفتح والضم * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا) * القط في اللغة له معنيان أحدها الكتاب والآخر النصيب وفي معناه ثلاثة أقوال أحدها نصيبنا من الخير أي دعوا أن يعجله الله لهم في الدنيا والآخر نصيبهم من العذاب فهو كقولهم أمطر علينا حجارة من السماء الثالث صحائف أعمالنا * (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) * الأيد القوة وكان داود جمع قوة البدن وقوة الدين والملك والجنود والأواب الرجاع إلى الله فإن قيل ما المناسبة بين أمر الله لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر على أقوال الكفار وبين أمره له بذكر داود فالجواب عندي أن ذكر داود ومن بعده من الأنبياء في هذه السورة فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعد له بالنصر وتفريج الكرب وإعانة له على ما أمر به من الصبر وذلك أن الله ذكر ما أنعم به على داود من تسخير الطير والجبال وشدة ملكه وإعطائه الحكمة وفصل الخطاب ثم الخاتمة له في الآخرة بالزلفى وحسن المآب فكأنه يقول يا محمد كما أنعمنا على داود بهذه النعم كذلك ننعم عليك فاصبر ولا تحزن على ما يقولون ثم ذكر ما أعطى سليمان من الملك العظيم وتسخير الريح والجن والخاتمة بالزلفى وحسن المآب ثم ذكر من ذكر بعد ذلك من الأنبياء والمقصد ذكر الإنعام عليهم لتقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فإن داود وسليمان وأيوب أصابتهم شدائد ثم فرجها الله عنهم وأعقبها بالخير العظيم فأمر سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بذكرهم ليعلمه أنه يفرج عنه ما يلقى من إذاية قومه ويعقبها بالنصر والظهور عليهم فالمناسبة في ذلك ظاهرة وقال ابن عطية المعنى اذكر داود ذا الأيدي في الدين فتأس به وتأيد كما تأيد وأجاب الزمخشري عن السؤال فإنه قال كأن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم اصبر على ما يقولون وعظم أمر المعصية في أعين الكفار بذكر قصة داود وذلك أنه نبي كريم عند الله ثم زل زلة فوبخه الله عليها فاستغفر وأناب فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم وهذا الجواب لا يخفى ما فيه من سوء الأدب مع داود عليه السلام حيث جعله مثالا يهدد الله به الكفار وصرح بأنه زل وأن الله وبخه على زلته ومعاذ الله من ذكر الأنبياء بمثل هذا * (والإشراق) * يعني وقت الإشراق وهو حين تشرق الشمس أي تضيء ويصفر شعاعها وهو وقت الضحى وأما شروقها فطلوعها * (محشورة) * أي مجموعة * (كل له أواب) * أي كل مسبح لأجل تسبيح داود ويحتمل أن يكون أواب هنا بمعنى رجاع أي ليرجع إلى أمره * (وآتيناه الحكمة) * قيل يعني النبوة وقيل العلم والفهم وقيل الزبور * (وفصل الخطاب) * قال ابن عباس هو فصل القضاء بين الناس بالحق وقال علي بن أبي طالب هو إيجاب اليمين على المدعى عليه والبينة على المدعي وقيل أراد قول أما بعد فإنه أول من قالها وقال الزمخشري معنى فصل الخطاب البين من الكلام الذي يفهمه من يخاطب به وهذا المعنى اختاره ابن عطية وجعله من قوله تعالى إنه لقول فصل * (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب) * جاءت هذه القصة بلفظ الاستفهام تنبيها
181

للمخاطب ودلالة على أنها من الأخبار العجيبة التي ينبغي أن يلقي البال لها والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة كقولك عدل وزور واتفق الناس على أن هؤلاء الخصم كانوا ملائكة وروي أنهما جبريل وميكائيل بعثهما الله ليضرب بهما المثل لداود في نازلة وقع هو في مثلها فأفتى بفتيا هي واقعة عليه في نازلته ولما شعر وفهم المراد أناب واستغفر وسنذكر القصة بعد هذا ومعنى تسوروا المحراب علوا على سوره ودخلوه والمحراب الموضع الأرفع من القصر أو المسجد وهو موضع التعبد ويحتمل أن يكون المتسور المحراب اثنين فقط لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين فقط فتجيء الضمائر في تسوروا ودخلوا وفزع منهم على وجه التجوز والعبارة عن الاثنين بلفظ الجماعة وذلك جائز على مذهب من يرى أن أقل الجمع اثنان ويحتمل أنه جامع كل واحد من الخصمين جماعة فيقع على جميعهم خصم وتجيء الضمائر المجموعة حقيقة وعلى هذا عول الزمخشري * (إذ دخلوا على داود ففزع منهم) * العامل في إذ هنا تسوروا وقيل هي بدل من الأولى وأما إذ الأولى فالعامل فيها أتاك أو تسوروا ورد الزمخشري ذلك وقال إن العامل فيها محذوف تقديره هل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا وإنما فزع داود منهم لأنهم دخلوا عليه بغير إذن ودخلوا من غير الباب وقيل إن ذلك كان ليلا * (خصمان بغى بعضنا على بعض) * تقديره نحن خصمان ومعنى بغى تعدى * (ولا تشطط) * أي لا تجر علينا في الحكم يقال أشط الحاكم إذا جار وقرئ في الشاذ لا تشطط بفتح التاء أي لا تبعد عن الحق يقال شط إذا بعد * (سواء الصراط) * أي وسط الطريق ويعني القصد والحق الواضح * (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب) * هذه حكاية كلام أحد الخصمين والأخوة هنا أخوة الدين والنعجة في اللغة تقع على أنثى بقر الوحش وعلى أنثى الضأن وهي هنا عبارة عن المرأة ومعنى أكفلنيها أملكها لي وأصله اجعلها في كفالتي وقيل اجعلها كفلي أي نصيبي ومعنى عزني في الخطاب أي غلبني في الكلام والمحاورة يقال عز فلان فلانا إذا غلبه وهذا الكلام تمثيل للقصة التي وقع داود فيها وقد اختلف الناس فيها وأكثروا القول فيها قديما وحديثا حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من حدث بما يقول هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله ونحن نذكر من ذلك ما هو أشهر وأقرب إلى تنزيه داود عليه السلام روي أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأة فيتزوجها إذا أعجبته وكانت لهم عادة في ذلك لا ينكرونها وقد جاء عن الأنصار في أول الإسلام شيء من ذلك فاتفق أن وقعت عين داود على امرأة رجل فأعجبته فسأله النزول عنها ففعل وتزوجها داود عليه السلام فولد له منها سليمان عليه السلام وكان لداود تسع وتسعون امرأة فبعث الله إليه ملائكة مثالا لقصته فقال أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة إشارة إلى التسع والتسعين امرأة التي كانت لداود ولي نعجة واحدة إشارة إلى أن ذلك الرجل لم تكن له إلا تلك المرأة الواحدة فقال أكفلنيها إشارة إلى سؤال داود من الرجل النزول عن امرأته فأجابه داود عليه السلام بقوله لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فقامت الحجة عليه بذلك فتبسم الملكان عند ذلك
182

وذهبا ولم يرهما فشعر داود أن ذلك عتاب من الله له على ما وقع فيه * (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) * ولا تقتضي هذه القصة على هذه الرواية أن داود عليه السلام وقع فيما لا يجوز شرعا وإنما عوتب على أمر جائز كان ينبغي له أن يتنزه عنه لعلو مرتبته ومتانة دينه فإنه قد يعاتب الفضلاء على ما لا يعاتب عليه غيرهم كما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين وأيضا فإنه كان له تسع وتسعون امرأة فكان غنيا عن هذه المرأة فوقع العتاب على الاستكثار من النساء وإن كان جائزا وروي هذا الخبر على وجه آخر وهو أن داود انفرد يوما في محرابه للتعبد فدخل عليه طائر من كوة فوقع بين يديه فأعجبه فمد يده ليأخذه فطار على الكوة فصعد داود ليأخذه فرأى من الكوة امرأة تغتسل عريانة فأعجبته ثم انصرف فسأل عنها فأخبر أنها امرأة رجل من جنده وأنه خرج للجهاد مع الجند فكتب داود إلى أمير تلك الحرب أن يقدم ذلك الرجل يقاتل عند التابوت وهو موضع قل ما تخلص أحد منه فقدم ذلك الرجل فقاتل حتى قتل شهيدا فتزوج داود امرأته فعوتب على تعريضه ذلك الرجل للقتل وتزوجه امرأته بعده مع أنه كان له تسع وتسعون امرأة سواها وقيل إن داود هم بذلك كله ولم يفعله وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك وروي أن السبب فيما جرى له مثل ذلك أنه أعجب بعلمه وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف الفتنة على نفسه ففتن بتلك القصة وروي أيضا أن السبب في ذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب والتزم أن يبتلى كما ابتلوا فابتلاه الله بما جرى له في تلك القصة * (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) * سؤال مصدر مضاف إلى المفعول وإنما تعدى بإلى لأنه تضمن معنى الإضافة كأنه قال بسؤال نعجتك مضافة أو مضمومة إلى نعاجه فإن قيل كيف قال له داود لقد ظلمك قبل أن يثبت عنده ذلك فالجواب أنه روي أن الآخر اعترف بذلك وحذف ذكر اعترافه اختصارا ويحتمل أن يكون قوله لقد ظلمك على تقدير صحة قوله وقد قيل إن قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك قبل أن يسمع حجة الآخر كانت خطيئته التي استغفر منها وأناب * (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض) * الخلطاء هم الشركاء في الأموال ولكن الخلطة أعم من الشركة ألا ترى أن الخلطة في المواشي ليست بشركة في رقابها وقصد داود بهذا الكلام الوعظ للخصم الذي بقي والتسلية بالتأسي للخصم الذي بقي عليه * (وقليل ما هم) * ما زائدة للتأكيد * (وظن داود أنما فتناه) * ظن هنا بمعنى شعر بالأمر وقيل بمعنى أيقن وفتناه معناه اختبرناه * (وخر راكعا وأناب) * معنى خر ألقى بنفسه إلى الأرض وإنما حقيقة ذلك في السجود فقيل إن الركوع هنا بمعنى السجود وقيل خر من ركوعه ساجدا بعد أن ركع ومعنى أناب تاب وروي أنه بقي ساجدا أربعين يوما يبكي حتى نبت البقل من دموعه وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك خلافا للشافعي إلا أنه اختلف في مذهب مالك هل يسجد عند قوله وأناب أو عند قوله وحسن مآب * (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) * الزلفى القربة والمكانة الرفيعة والمآب المرجع في الآخرة * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) * تقديره
183

قال الله يا داود وخلافة داود بالنبوة والملك قال ابن عطية لا يقال خليفة الله إلا لنبي وأما الملوك والخلفاء فكل واحد منهم خليفة الذي قبله وقول الناس فيهم خليفة الله تجوز * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) * أي عبثا بل خلقهما الله بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما * (ذلك ظن الذين كفروا) * المعنى أن الكفار لما أنكروا الحشر والجزاء كانت خلقة السماوات والأرض عندهم باطلا بغير الحكمة فإن الحكمة في ذلك إنما تظهر في الجزاء الأخروي * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض) * أم هنا استفهامية يراد بها الإنكار أي أن الله لا يجعل المؤمنين والمتقين كالمفسدين والفجار بل يجازي كل واحد بعمله لتظهر حكمة الله في الجزاء ففي ذلك استدلال على الحشر والجزاء وفيه أيضا وعد ووعيد * (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد) * الصافنات جمع صافن وهو الفرس الذي يرفع إحدى رجليه أو يديه ويقف على طرف الأخرى وقيل الصافن هو الذي يسوي يديه والصفن علامة على فراهة الفرس والجياد السريعة الجري واختلف الناس في قصص هذه الآية فقال الجمهور إن سليمان عليه السلام عرضت عليه خيل كان ورثها عن أبيه وقيل أخرجتها له الشياطين من البحر وكانت ذوات أجنحة وكانت ألف فرس وقيل أكثر فتشاغل بالنظر إليها حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العشى العصر فأسف لذلك وقال ردوا علي الخيل وطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف حتى عقرها لما كانت سبب فوات الصلاة ولم يترك منها إلا اليسير فأبدله الله أسرع منها وهي الريح وأنكر بعض العلماء هذه الرواية وقال تفويت الصلاة ذنب لا يفعله سليمان وعقر الخيل لغير فائدة لا يجوز فكيف يفعله سليمان عليه السلام وأي ذنب للخيل في تفويت الصلاة فقال بعضهم إنما عقرها ليأكلها الناس وكان زمانهم زمان مجاعة فعقرها تقربا إلى الله وقال بعضهم لم تفته الصلاة ولا عقر الخيل بل كان يصلي فعرضت عليه الخيل فأشار إليهم فأزالوها حتى دخلت اصطبلاتها فلما فرغ من صلاته قال ردوها علي فطفق يمسح عليها بيده كرامة لها ومحبة وقيل إن المسح عليها كان وسما في سوقها وأعناقها بوسم حبس في سبيل الله * (فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي) * معنى هذا يختلف على حسب الاختلاف في القصة فأما الذين قالوا إن سليمان عقر الخيل لما اشتغل بها حتى فاتته الصلاة فاختلفوا في هذا على ثلاثة أقوال أحدها أن الخير هنا يراد به الخيل وزعموا أن الخيل يقال لها خير وأحببت بمعنى آثرت أو بمعنى فعل يتعدى بعن كأنه قال آثرت حب الخيل فشغلني عن ذكر ربي والآخر أن الخير هنا يراد به المال لأن الخيل وغيرها مال فهو كقوله تعالى أو ترك خيرا أي مالا والثالث
184

أن المفعول محذوف وحب الخير مصدر والتقدير أحببت هذه الخيل مثل حب الخير فشغلني عن ذكر ربي وأما الذين قالوا كان يصلي فعرضت عليه الخيل فأشار بإزالتها فالمعنى أنه قال إني أحببت حب الخير الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي وشغلني ذلك عن النظر إلى الخيل * (حتى توارت بالحجاب) * الضمير للشمس وإن لم يتقدم ذكرها ولكنها تفهم من سياق الكلام وذكر العشي يقتضيها والمعنى حتى غابت الشمس وقيل إن الضمير للخيل ومعنى توارت بالحجاب دخلت اصطبلاتها والأول أشهر وأظهر * (ردوها علي) * أي قال سليمان ردوا الخيل علي * (فطفق مسحا بالسوق والأعناق) * السوق جمع ساق يعني سوق الخيل وأعناقهم أي جعل يمسحها مسحا وهذا المسح يختلف على حسب الاختلاف المتقدم هل هو قطعها وعقرها أو مسحها باليد محبة لها أو وسمها للتحبيس * (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) * تفسير هذه الآية يختلف على حسب الاختلاف في قصتها وفي ذلك أربعة أقوال الأول أن سليمان كان له خاتم ملكه وكان فيه اسم الله فكان ينزعه إذا دخل الخلاء توقيرا لاسم الله تعالى فنزعه يوما ودفعه إلى جارية فتمثل لها جني في صورة سليمان وطلب منها الخاتم فدفعته له روي أن اسمه صخر فقعد على كرسي سليمان
يأمر وينهى والناس يظنون أنه سليمان وخرج سليمان فارا بنفسه فأصابه الجوع فطلب حوتا ففتح بطنه فوجد فيه خاتمه وكان الجني قد رماه في البحر فلبس سليمان الخاتم وعاد إلى ملكه ففتنة سليمان على هذا هي ما جرى له من سلب ملكه والجسد الذي ألقى على كرسيه هو الجني الذي قعد عليه وسماه جسدا لأنه تصور في صورة إنسان ومعنى أناب رجع إلى الله بالاستغفار والدعاء أو رجع إلى ملكه والقول الثاني أن سليمان كان له امرأة يحبها وكان أبوها ملكا كافرا قد قتله سليمان فسألته أن يضع لها صورة أبيها فأطاعها في ذلك فكانت تسجد للصورة ويسجد معها جواريها وصار صنما معبودا في داره وسليمان لا يعلم حتى مضت أربعون يوما فلما علم به كسره فالفتنة على هذا عمل الصورة والجسد هو الصورة والقول الثالث أن سليمان كان له ولد وكان يحبه حبا شديدا فقالت الجن إن عاش هذا الولد ورث ملك أبيه فبقينا في السخرة أبدا فلم يشعر إلا وولده ميت على كرسيه فالفتنة على هذا حبه الولد والجسد هو الولد لما مات وسمي جسدا لأنه جسد بلا روح القول الرابع أنه قال لأطوفن الليلة على مائة امرأة تأتي كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فلم تحمل إلا واحدة جاءت بشق إنسان فالفتنة على هذا كونه لم يقل إن شاء الله والجسد هو شق الإنسان الذي ولد له فأما القول الأول فضعيف من طريق النقل مع أنه يبعد ما ذكر فيه من سلب ملك سليمان وتسليط الشياطين عليه وأما القول الثاني فضعيف أيضا مع أنه يبعد أنه يعبد صنم في بيت نبي أو يأمر نبي بعمل صنم وأما القول الثالث فضعيف أيضا وأما القول الرابع فقد روي في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم يذكر في الحديث أن ذلك تفسير الآية * (قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * قدم الاستغفار على طلب الملك لأن أمور الدين كانت عندهم أهم من الدنيا فقدم الأولى والأهم فإن قيل لأي شيء قال لا ينبغي لأحد من بعدي وظاهر هذا طلب الانفراد به حتى قال فيه الحجاج
185

إنه كان حسودا فالجواب من وجهين أحدهما أنه إنما قال ذلك لئلا يجري عليه مثل ما جرى من أخذ الجني لملكه فقصد أن لا يسلب ملكه عنه في حياته ويصير إلى غيره والآخر أنه طلب ذلك ليكون معجزة ودلالة على نبوته * (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب) * معنى رخاء لينة طيبة وقيل طائعة له وقد ذكرنا الجمع بين هذا وبين قوله عاصفة في الأنبياء وحيث أصاب أي حيث قصد وأراد * (والشياطين كل بناء وغواص) * الشياطين معطوف على الريح وكل بناء بدل من الشياطين أي سخرنا له الريح والشياطين من يبني منهم ومن يغوص في البحر * (وآخرين مقرنين في الأصفاد) * أي آخرين من الجن موثقون في القيود والأغلال * (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك) * الإشارة إلى الملك الذي أعطاه الله له والمعنى أن الله قال له أعط من شئت وامنع من شئت وقيل المعنى امنن على من شئت من الجن بالإطلاق من القيود وأمسك من شئت منهم في القيود والأول أحسن وهو قول ابن عباس * (بغير حساب) * يحتمل ثلاثة معان أحدها أنه لا يحاسب في الآخرة على ما فعل والآخر بغير تضييق عليك في الملك والثالث بغير حساب ولا عدد بل خارج عن الحصر * (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) * قد ذكر في قصة داود * (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب) * قد ذكرنا قصة أيوب عليه السلام في الأنبياء والنصب يقال بضم النون وإسكان الصاد وبفتح النون وإسكان الصاد وبضم النون والصاد وبفتحهما ومعناه واحد وهو المشقة فإن قيل لم نسب ما أصابه من البلاء إلى الشيطان فالجواب من أربعة أوجه أحدها أن سبب ذلك كان من الشيطان فإنه روي أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكرا فلم يغيره وقيل إنه كانت له شاة فذبحها وطبخها وكان له جار جائع فلم يعط جاره منها شيئا والثاني أنه أراد ما وسوس له الشيطان في مرضه من الجزع وكراهة البلاء فدعا إلى الله أن يدفع عنه وسوسة الشيطان بذلك والثالث أنه روي أن الله سلط الشيطان عليه ليفتنه فأهلك ماله فصبر وأهلك أولاده فصبر وأصابه الجذام والمرض الشديد فصبر فنسب ذلك إلى الشيطان لتسليط الشيطان عليه والرابع روي أن الشيطان لقي امرأته فقال لها قولي لزوجك إن سجد لي سجدة أذهبت ما به من المرض فذكرت المرأة ذلك لأيوب فقال لها ذلك عدو الله الشيطان وحينئذ دعا * (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) * التقدير قلنا له اركض برجلك فضرب الأرض برجله فنبعت له عين ماء صافية باردة فشرب منها فذهب كل مرض كان داخل جسده واغتسل منها فذهب ما كان في ظاهر جسده وروي أنه ركض الأرض مرتين فنبع له عينان فشرب من أحدهما واغتسل من الأخرى * (ووهبنا له أهله) * ذكر في الأنبياء * (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) * الضغث القبضة من القضبان وكان أيوب عليه السلام قد حلف أن يضرب امرأته
186

مائة سوط إذا برئ من مرضه وكان سبب ذلك ما ذكرته له من لقاء الشيطان وقوله لها إن سجد لي زوجك أذهبت ما به من المرض فأمره أن يأخذ ضغثا فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة فيبر في يمينه وقد ورد مثل هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم في حد رجل زنى وكان مريضا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق نخلة فيه شماريخ مائة فضرب به ضربة واحدة ذكر ذلك أبو داود والنسائي وأخذ به بعض العلماء ولم يأخذ به مالك ولا أصحابه * (أولي الأيدي والأبصار) * الأيدي جمع يد وذلك عبارة عن قوتهم في الأعمال الصالحات وإنما عبر عن ذلك بالأيدي لأن الأعمال أكثر ما تعمل بالأيدي وأما الأبصار فعبارة عن قوة فهمهم وكثرة علمهم من قولك أبصر الرجل إذا تبينت له الأمور وقيل الأيدي جمع يد بمعنى النعمة ومعناه أولوا النعم التي أسداها الله إليهم من النبوة والفضيلة وهذا ضعيف لأن اليد بمعنى النعمة أكثر ما يجمع على أيادي وقرأ ابن مسعود أولوا الأيد بغير ياء فيحتمل أن تكون الأيدي محذوفة الياء أو يكون الأيد بمعنى القوة كقوله داود ذا الأيد * (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) * معنى أخلصناهم جعلناهم خالصين لنا أو أخلصناهم دون غيرهم وخالصة صفة حذف موصوفها تقديره بخصلة خالصة وأما الباء في قوله بخالصة فإن كان أخلصناهم بمعنى جعلناهم خالصين فالباء سببية للتعليل وإن كان أخلصناهم بمعنى خصصناهم فالباء لتعدية الفعل وقرأ نافع بإضافة خالصة إلى ذكرى من غير تنوين وقرأ غيره بالتنوين على أن تكون ذكر بدلا من خالصة على وجه البيان والتفسير لها والدار يحتمل أن يريد به الآخرة أو الدنيا فإن أراد به الآخرة ففي المعنى ثلاثة أقوال أحدها أن ذكرى الدار يعني به ذكرهم للآخرة وجهنم فيها والآخر أن معناه تذكيرهم للناس بالآخرة وترغيبهم للناس فيها عند الله والثالث أن معناه ثواب الآخرة أي أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة والأول أظهر وإن أراد بالدار الدنيا فالمعنى حسن الثناء والذكر الجميل في الدنيا كقوله لسان صدق * (الأخيار) * جمع خير بتشديد الياء أو خير المخفف من خير كميت مخفف من ميت * (وذا الكفل) * ذكر في النبياء * (هذا ذكر) * الإشارة إلى ما تقدم في هذه السورة من ذكر الأنبياء وقيل الإشارة إلى القرآن
بجملته والأول أظهر وكأن قوله هذا ذكر ختام للكلام المتقدم ثم شرع بعده في كلام آخر كما يتم المؤلف بابا ثم يقول فهذا باب ثم يشرع في آخر * (قاصرات الطرف) * ذكر في الصافات * (أتراب) * يعني أسنانهن سواء يقال فلان ترب فلان إذا كان مثله في السن وقيل إن أسنانهن وأسنان أزواجهن سواء * (ما له من نفاد) * أي ماله من فناء ولا انقضاء * (هذا وإن للطاغين لشر مآب) * تقديره الأمر هذا لما تم ذكر أهل الجنة ختمه بقوله هذا ثم ابتدأ وصف
187

أهل النار ويعني بالطاغين الكفار * (هذا فليذوقوه حميم وغساق) * هذا مبتدأ وخبره حميم فليذوقوه اعتراف بينهما والحميم الماء الحار والغساق قرئ بتخفيف السين وتشديدها وهو صديد أهل النار وقيل ما يسيل من عيونهم وقيل هو عذاب لا يعلمه إلا الله * (وآخر من شكله أزواج) * آخر معطوف على حميم وغساق تقديره وعذاب آخر قيل يعني الزمهرير ومعنى من شكله من مثله ونوعه أي من مثل العذاب المذكور وأزواج معناه أصناف وهو صفة للحميم والغساق والعذاب الآخر والمعنى أنهما أصناف من العذاب وقال ابن عطية آخر مبتدأ واختلف في خبره فقيل تقديره ولهم عذاب آخر وقيل أزواج مبتدأ ومن شكله خبر أزواج والجملة خبر آخر وقيل أزواج خبر الآخر ومن شكله في موضع الصفة وقرئ أخر بالجمع وهو أليق أن يكون أزواج خبره لأنه جمع مثله * (هذا فوج مقتحم معكم) * الفوج جماعة من الناس والمقتحم الداخل في زحام وشدة وهذا من كلام خزنة النار خاطبوا به رؤساء الكفار الذين دخلوا النار أولا ثم دخل بعدهم أتباعهم وهو الفوج المشار إليه وقيل هو كلام أهل النار بعضهم لبعض والأول أظهر * (لا مرحبا بهم) * أي لا يلقون رحبا ولا خيرا وهو دعاء من كلام رؤساء الكفار أي لا مرحبا بالفوج الذين هم أتباع لهم * (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم) * هذا حكاية كلام الأتباع الرؤساء لما قالوا لهم لا مرحبا بهم أجابوهم بقولهم بل أنتم لا مرحبا بكم * (أنتم قدمتموه لنا) * هذا أيضا من كلام الأتباع خطابا للرؤساء وهو تعليل لقولهم بل أنتم لا مرحبا بكم والضمير في قدمتموه للعذاب ومعنى قدمتموه أوجبتموه لنا بما قدمتم في الدنيا من إغوائنا وأمركم لنا بالكفر * (قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار) * هذا أيضا من كلام الأتباع دعوا إلى الله تعالى أن يضاعف العذاب لرؤسائهم الذين أوجبوا لهم العذاب فهو كقولهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا في النار والضعف زيادة المثل * (قالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار) * الضمير في قالوا لرؤساء الكفار وقيل للطاغين والرجال هم ضعفاء المؤمنين وقيل إن القائلين لذلك أبو جهل لعنه الله وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأمثالهم وأن الرجال المذكورين هم عمار وبلال وصهيب وأمثالهم واللفظ أعم من ذلك والمعنى أنهم قالوا في جهنم ما لنا لا نرى في النار رجالا كنا في الدنيا نعدهم من الأشرار * (اتخذناهم سخريا) * قرئ اتخذناهم بهمزة قطع ومعناها توبيخ أنفسهم على اتخاذهم المؤمنين سخريا وقرئ بألف وصل على أن يكون الجملة صفة لرجال وقرئ سخريا بضم السين من التسخير بمعنى الخدمة وبالكسر بمعنى الاستهزاء * (أم زاغت عنهم الأبصار) * هذا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون معادلا لقولهم ما لنا لا نرى رجالا والمعنى ما لنا لا نراهم في جهنم فهم ليسوا فيها أم هم فيها ولكن زاغت عنهم أبصارنا ومعنى زاغت عنهم مالت فلم نرهم الثاني أن يكون معادلا لقولهم اتخذناهم سخريا والمعنى اتخذناهم سخريا وأم زاغت الأبصار على هذا مالت عن النظر إليهم احتقارا لهم الثالث أن تكون أم منقطعة بمعنى بل والهمزة فلا تعادل شيئا مما قبلها * (إن ذلك لحق) * الإشارة إلى ما تقدم من حكاية أقوال أهل النار
188

ثم فسره بقوله * (تخاصم أهل النار) * وإعراب تخاصم بدل من حق أو خبر مبتدأ مضمر * (قل هو نبأ عظيم) * النبأ الخبر ويعني به ما تضمنته الشريعة من التوحيد والرسالة والدار الآخرة وقيل هو القرآن وقيل هو يوم القيامة والأول أعم وأرجح * (ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون) * الملأ الأعلى هم الملائكة ومقصد الآية الاحتجاج على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بأمور لم يكن يعلمها قبل ذلك والضمير في يختصمون للملأ الأعلى واختصامهم هو في قصة آدم حين قال لهم إني جاعل في الأرض خليفة حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى فقال لا أدري قال في الكفارات وهي إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطأ إلى المساجد الحديث بطوله وقيل الضمير في يختصمون للكفار أي يختصمون في الملأ الأعلى فيقول بعضهم هم بنات الله ويقولون آخرون هم آلهة تعبد وهذا بعيد * (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين) * إذ بدل من إذ يختصمون وقد ذكرنا في البقرة معنى سجود الملائكة لآدم ومعنى كفر إبليس وذكرنا في الحجر معنى قوله تعالى من روحي * (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) * الضمير في قال لله عز وجل وبيدي من المتشابه الذي ينبغي الإيمان به وتسليم علم حقيقته إلى الله وقال المتأولون هو عبارة عن القدرة وقال القاضي أبو بكر بن الطيب إن اليد والعين والوجه صفات زائدة على الصفات المتقررة قال ابن عطية وهذا قول مرغوب عنه وحكى الزمخشري أن معنى خلقت بيدي خلقت بغير واسطة * (أستكبرت أم كنت من العالين) * دخلت همزة الاستفهام على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وأم هنا معادلة والمعنى أستكبرت الآن أم كنت قديما ممن يعلو ويستكبر وهذا على جهة التوبيخ له * (رجيم) * أي لعين مطرود * (إلى يوم الوقت المعلوم) * يعني القيامة وقد تقدم الكلام على ذلك في الحجر * (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين) * الباء للقسم أقسم إبليس بعزة الله أن يغوي بني آدم * (قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * الضمير في قال هنا لله تعالى والحق الأول مقسم به وهو منصوب بفعل مضمر كقولك الله لأفعلن وجوابه لأملأن جهنم وقرئ بالرفع وهو مبتدأ أو خبر مبتدأ مضمر تقديره الحق يميني وأما الحق الثاني
189

فهو مفعول بأقول وقوله والحق أقول جملة اعتراض بين القسم وجوابه على وجه التأكيد للقسم * (وما أنا من المتكلفين) * أي الذين يتصنعون ويتحيلون بما ليسوا من أهله * (ولتعلمن نبأه بعد حين) * هذا وعيد أي لتعلمن صدق خبره بعد حين والحين يوم القيامة أو موتهم أو ظهور الإسلام يوم بدر وغيره
سورة الزمر
* (تنزيل الكتاب) * تنزيل مبتدأ وخبره من الله أو خبر ابتداء مضمر تقديره هذا تنزيل ومن الله على هذا الوجه يتعلق بتنزيل أو يكون خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ آخر محذوف والكتاب هنا القرآن أو السورة واختار ابن عطية أن يراد به جنس الكتب المنزلة وأما الكتاب الثاني فهو القرآن باتفاق * (بالحق) * يحتمل معنيين أحدهما أن
يكون معناه متضمنا الحق والثاني أن يكون معناه بالاستحقاق والوجوب * (مخلصا له الدين) * أي لا يكون فيه شرك أكبر ولا أصغر وهو الرياء * (ألا لله الدين الخالص) * قيل معناه من حقه ومن واجبه أن يكون له الدين الخالص ويحتمل أن يكون معناه إن الدين الخالص هو دين الله وهو الإسلام الذي شرعه لعباده ولا يقبل غيره ومعنى الخالص الصافي من شوائب الشرك وقال قتادة الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله وقال الحسن هو الإسلام وهذا أرجح لعمومه * (والذين اتخذوا من دونه أولياء) * يريد بالأولياء الشركاء المعبودين ويحتمل أن يريد بالذين اتخذوا الكفار العابدين لهم أو الشركاء المعبودين والأول أظهر لأنه يحتاج على الثاني إلى حذف الضمير العائد على الذين تقديره الذين اتخذوهم ويكون ضمير الفاعل في اتخذوا عائدا على غير مذكور وارتفاع الذين على الوجهين بالابتداء وخبره إما قوله إن الله يحكم بينهم أو المحذوف المقدر قبل قوله ما نعبدهم لأن تقديره يقولون ما نعبدهم والأول أرجح لأن المعنى به أكمل * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * هذه الجملة في موضع معمول قول محذوف والقول في موضع الحال أو في موضع بدل من صلة الذين وقرأ ابن مسعود قالوا ما نعبدهم بإظهار القول أي يقول الكفار ما نعبد هؤلاء الآلهة إلا ليقربونا إلى الله ويشفعوا لنا عنده ويعني بذلك الكفار الذين عبدوا الملائكة أو الذين عبدوا الأصنام أو الذين عبدوا عيسى أو عزير فإن جميعهم قالوا هذه المقالة ومعنى زلفى قربى فهو مصدر من يقربونا * (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) * إشارة إلى كذبهم في قولهم ليقربونا إلى الله وقوله لا يهدي في تأويله وجهان أحدهما لا يهديه في حال كفره والثاني أن ذلك مخص بمن قضى عليه بالموت على الكفر أعاذنا الله من ذلك وهذا تأويل لا يهدي القوم الظالمين والكافرين حيثما وقع " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق
190

ما يشاء) الولد يكون على وجهين أحدهما بالولادة الحقيقية وهذا محال على الله تعالى لا يجوز في العقل والثاني التبني بمعنى الاختصاص والتقريب كما يتخذ الإنسان ولد غيره ولدا لإفراط محبته له وذلك ممتنع على الله بإخبار الشرع فإن قوله وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا يعم نفي الوجهين فمعنى الآية على ما أشار إليه ابن عطية لو أراد الله أن يتخذ ولدا على وجه التبني لاصطفى لذلك مما يخلق من موجوداته ومخلوقاته ولكنه لم يرد ذلك ولا فعله وقال الزمخشري معناه لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ذلك ولكنه يصطفي من عباده من يشاء على وجه الاختصاص والتقريب لا على وجه اتخاذه ولدا فاصطفى الملائكة وشرفهم بالتقريب فحسب الكفار أنهم أولاده ثم زادوا على ذلك أن جعلوهم إناثا فأفرطوا في الكفر والكذب على الله وملائكته * (سبحانه هو الله الواحد القهار) * نزه تعالى نفسه من اتخاذ الولد ثم وصف نفسه بالواحد لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد لأنه لو كان له ولد لكان من جنسه ولا جنس له لأنه واحد ووصف نفسه بالقهار ليدل على نفي الشركاء والأنداد لأن كل شيء مقهور تحت قهره تعالى فكيف يكون شريكا له ثم أتبع ذلك بما ذكره من خلقة السماوات والأرض وما بينهما ليدل على وحدانيته وقدرته وعظمته * (يكور الليل على النهار) * التكوير اللف واللي ومنه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض وهو هنا استعارة ومعناه على ما قال ابن عطية يعيد من هذا على هذا فكان الذي يطيل من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزءا فيستره وكأن الذي ينقص يدخل في الذي يطول فيستتر فيه ويحتمل أن يكون المعنى أن كل واحد منهما يغلب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في ستره له بثوب يلف على الآخر * (لأجل مسمى) * يعني يوم القيامة * (خلقكم من نفس واحدة) * يعني آدم عليه السلام * (ثم جعل منها زوجها) * يعني حواء خلقها من ضلع آدم فإن قيل كيف عطف قوله ثم جعل على خلقكم بثم التي تقتضي الترتيب والمهلة ولا شك أن خلقة حواء كانت قبل خلقة بني آدم فالجواب من ثلاثة أوجه الأول وهو المختار أن العطف إنما هو على معنى قوله واحدة لا على خلقكم كأنه قال خلقكم من نفس كانت واحدة ثم خلق منها زوجها بعد وحدتها الثاني أن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الوجود الثالث أنه يعني بقوله خلقكم إخراج بني آدم من صلب أبيهم كالذر وذلك كله كان قبل خلقه حواء * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) * يعني المذكورة في الأنعام من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين وسماها أزواجا لأن الذكر زوج الأنثى والأنثى زوج الذكر وأما أنزل ففيه ثلاثة أوجه الأول أن الله خلق أول هذه الأزواج في السماء ثم أنزلها الثاني أن معنى أنزل قضى وقسم فالإنزال عبارة عن نزول أمره وقضائه الثالث أنه أنزل المطر الذي ينبت به النبات فتعيش منه هذه الأنعام فعبر بإنزالها عن إنزال أرزاقها وهذا بعيد * (خلقا من بعد خلق) * يعني أن الإنسان يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يتم خلقه ثم ينفخ فيه الروح * (في ظلمات ثلاث) * هي البطن والرحم والمشيمة وقيل صلب الأب
191

والرحم والمشيمة والأول أرجح لقوله بطون أمهاتكم ولم يذكر الصلب * (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) * أي لا يضره كفركم * (ولا يرضى لعباده الكفر) * تأول الأشعرية هذه الآية على وجهين أحدهما أن الرضا بمعنى الإرادة ويعني بعباده من قضى الله له بالإيمان والوفاة عليه فهو كقوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان والآخر أن الرضا غير الإرادة والعباد على هذا على العموم أي لا يرضى الكفر لأحد من البشر وإن كان قد أراد أن يقع من بعضهم فهو لم يرضه دينا ولا شرعا وأراده وقوعا ووجودا وأما المعتزلة فإن الرضا عندهم بمعنى الإرادة والعباد على العموم جريا على قاعدتهم في القدر وأفعال العباد * (وإن تشكروا يرضه لكم) * هذا عموم والشكر الحقيقي يتضمن الإيمان * (ولا تزر وازرة) * ذكر في الإسراء * (وإذا مس الإنسان ضر) * الآية يراد بالإنسان هنا الكافر بدليل قوله وجعل له أندادا والقصد بهذه الآية عتاب وإقامة حجة فالعتاب على الكفر وترك دعاء الله وإقامة الحجة على الإنسان بدعائه إلى الله في الشدائد فإن قيل لم قال هنا وإذا مس بالواو وقال بعدها فإذا مس بالفاء فالجواب أن الذي بالفاء مسبب عن قوله اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة فجاء بفاء السببية قاله الزمخشري وهو بعيد * (ثم إذا خوله نعمة منه) * خوله أعطاه والنعمة هنا يحتمل أن يريد بها كشف الضر المذكور أو أي نعمة كانت * (نسي ما كان يدعو إليه من قبل) * يحتمل أن تكون ما مصدرية أي نسي دعاء أو تكون بمعنى الذي والمراد بها الله تعالى * (أم من هو قانت) * بتخفيف الميم على إدخال همزة الاستفهام على من وقيل هي همزة النداء الأول أظهر وقرئ بتشديدها على إدخال أم على من ومن مبتدأ وخبره محذوف وهو المعادل للاستفهام تقديره أم من هو قانت كغيره وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو ما ذكر قبله وما ذكر بعده وهو قوله * (هل يستوي الذين يعلمون) * والقنوت هنا بمعنى الطاعة والصلاة بالليل وآناء الليل ساعاته * (قل يا عباد الذين آمنوا) * الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب
وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة ومعناها التأنيس لهم والتنشيط على الهجرة * (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) * يحتمل أن يتعلق في هذه الدنيا بأحسنوا والمعنى الذين أحسنوا في الدنيا لهم حسنة في الآخرة أو يتعلق بحسنة والحسنة على هذا حسن الحال والعافية في الدنيا والأول أرجح * (وأرض الله واسعة) * يراد البلاد المجاورة للأرض التي هاجروا منها والمقصود من ذلك الحض على الهجرة * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * هذا يحتمل وجهين أحدهما أن الصابر يوفى أجره ولا يحاسب على أعماله فهو من الذين يدخلون الجنة بغير حساب والثاني أن أجر الصابرين بغير حصر بل أكثر من
192

أن يحصر بعدد أو وزن وهذا قول الجمهور * (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) * اللام هنا يجوز أن تكون زائدة أو للتعليل ويكون المفعول على هذا محذوف فإن قيل كيف عطف أمرت على أمرت والمعنى واحد فالجواب أن الأول أمر بالعبادة والإخلاص والثاني أمر بالسبق إلى الإسلام فهما معنيان اثنان وكذلك قوله قل الله أعبد ليس تكرارا لقوله أمرت أن أعبد الله لأن الأول إخبار بأنه مأمور بالعبادة والثاني إخبار بأنه يفعل العبادة وقدم اسم الله تعالى للحصر واختصاص العبادة به وحده * (فاعبدوا ما شئتم من دونه) * هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتخلية لهم على ما هم عليه * (ظلل) * جمع ظلة بالضم وهو ما غشي من فوق كالسقف فقوله من فوقهم بين وأما من تحتهم فسماه ظلة لأنه سقف لمن تحتهم فإن جهنم طبقات وقيل سماه ظلة لأنه يلتهب ويصعد من أسفلهم إلى فوقهم * (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) * قيل إنها نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن ابن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير إذ دعاهم أبو بكر الصديق إلى الإيمان فآمنوا وقيل نزلت في أبي ذر وسلمان وهذا ضعيف لأن سلمان إنما أسلم بالمدينة والآية مكية والأظهر أنها عامة والطاغوت كل ما عبد من دون الله وقيل الشياطين * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * قيل يستمعون القول على العموم فيتبعون القرآن لأنه أحسن الكلام وقيل يستمعون القرآن فيتبعون بأعمالهم أحسنه من العفو الذي هو أحسن من الانتصار وشبه ذلك وقيل هو الذي يستمع حديثا فيه حسن وقبيح فيتحدث بالحسن ويكف عما سواه وهذا قول ابن عباس وهو الأظهر وقال ابن عطية هو عام في جميع الأقوال والقصد الثناء على هؤلاء ببصائر ونظر سديد يفرقون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ فيتبعون الأحسن من ذلك وقال الزمخشري مثل هذا المعنى * (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار) * فيها وجهان أحدهما أن يكون الكلام جملة واحدة تقديره أفمن حق عليه كلمة العذاب أأنت تنقذه فموضع من في النار موضع المضمر والهمزة في قوله أفأنت هي الهمزة التي في قوله أفمن وهي همزة الإنكار كررت للتأكيد والثاني أن يكون التقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب تتأسف عليه فحذف الخبر ثم استأنف قوله أفأنت تنقذ من في النار وعلى هذا
193

يوقف على العذاب والأول أرجح لعدم الإضمار * (فسلكه ينابيع في الأرض) * معنى سلكه أدخله وأجراه والينابيع جمع ينبوع وهو العين وفي هذا دليل على أن ماء العيون من المطر * (مختلفا ألوانه) * أي أصنافه كالقمح والأرز والفول وغير ذلك وقيل ألوانه الخضرة والحمرة وشبه ذلك وفي الوجهين دليل على الفاعل المختار ورد على أهل الطبائع * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) * تقديره أفمن شرح الله صدره كالقاسي قلبه وروي أن الذي شرح الله صدره للإسلام علي بن أبي طالب وحمزة والمراد بالقاسية قلوبهم أبو لهب وأولاده واللفظ أعم من ذلك * (من ذكر الله) * قال الزمخشري من هنا سببية أي قلوبهم قاسية من أجل ذكر الله وهذا المعنى بعيد ويحتمل عندي أن يكون قاسية تضمن معنى خالية فلذلك تعدى بمن والمعنى أن قلوبهم خالية من ذكر الله * (الله نزل أحسن الحديث) * يعني القرآن * (كتابا) * بدل من أحسن أو حال منه * (متشابها) * معناه هنا أنه يشبه بعضه بعضا في الفصاحة والنطق بالحق وأنه ليس فيه تناقض ولا اختلاف * (مثاني) * جمع مثان أي تثنى فيه القصص وتكرر ويحتمل أن يكون مشتقا من الثناء لأنه يثنى فيه على الله فإن قيل مثاني جمع فكيف وصف به المفرد فالجواب أن القرآن ينقسم فيه إلى سور وآيات كثيرة فهو جمع بهذا الاعتبار ويجوز أن يكون كقولهم برمة أعشار وثوب أخلاق أو يكون تمييزا من متشابها كقولك حسن شمائل * (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) * إن قيل كيف تعدى تلين بإلى فالجواب أنه تضمن معنى فعل تعدى بإلى كأنه قال تميل أو تسكن أو تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله فإن قيل لم ذكرت الجلود أولا وحدها ثم ذكرت القلوب بعد ذلك معها فالجواب أنه لما قال أولا تقشعر ذكر الجلود وحدها لأن القشعريرة من وصف الجلود لا من وصف غيرها ولما قال ثانيا تلين ذكر الجلود والقلوب لأن اللين توصف به الجلود والقلوب أما لين القلوب فهو ضد قسوتها وأما لين الجلود فهو ضد قشعريرتها فاقشعرت أولا من الخوف ثم لانت بالرجاء * (ذلك هدى الله) * يحتمل أن تكون الإشارة إلى القرآن أو إلى الخشية واقشعرار الجلود * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب) * الخبر محذوف كما تقدم في نظائره تقديره أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن من العذاب ومعنى يتقي يلقى النار بوجهه ليكفها عن نفسه وذلك أن الإنسان إذا لقي شيئا من المخاوف استقبله بيديه وأيدي هؤلاء مغلولة فاتقوا النار بوجوههم * (ذوقوا ما كنتم تكسبون) * أي ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون من الكفر والعصيان * (قرآنا عربيا) * نصب على الحال أو بفعل مضمر على المدح
194

* (غير ذي عوج) * أي ليس فيه تضاد ولا اختلاف ولا عيب من العيوب التي في كلام البشر وقيل معناه غير مخلوق وقيل غير ذي لحن فإن قيل لم قال غير ذي عوج ولم يقل غير معوج فالجواب أن قوله غير ذي عوج أبلغ في نفي العوج عنه كأنه قال ليس فيه شيء من العوج أصلا * (رجلا فيه شركاء متشاكسون) * أي متنازعون متظالمون وقيل متشاجرون وأصله من قولك رجل شكس إذا كان ضيق الصدر والمعنى ضرب هذا المثل لبيان حال من يشرك بالله ومن يوحده فشبه المشرك بمملوك بين جماعة من الشركاء يتنازعون فيه والمملوك بينهم في أسوأ حال وشبه من يوحد الله بمملوك لرجل واحد فمعنى قوله " سالما لرجل " أي خالصا له وقرئ سلما بغير ألف والمعنى واحد * (إنك ميت وإنهم ميتون) * في هذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفار فإنهم إذا ماتوا جميعا وصاروا إلى الله فاز من كان على الحق وهلك من كان على الباطل وفيه أيضا إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم سيموت لئلا يختلف الناس في موته كما اختلفت الأمم في غيره وقد جاء أنه لما مات صلى الله عليه وسلم أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه موته حتى احتج عليه أبو بكر الصديق بهذه الآية فرجع إليها * (تختصمون) * قيل يعني الاختصام في الدماء وقيل في الحقوق
والأظهر أنه اختصام النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار في تكذيبهم له فيكون من تمام ما قبله ويحتمل أن يكون على العموم في اختصام الخلائق فيما بينهم من المظالم وغيرها * (فمن أظلم ممن كذب على الله) * المعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله ويريد بالكذب على الله هنا ما نسبوا إليه من الشركاء والأولاد * (وكذب بالصدق) * أي كذب بالإسلام والشريعة * (والذي جاء بالصدق وصدق به) * قيل الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر وقيل الذي جاء بالصدق جبريل والذي صدق به محمد صلى الله عليه وسلم وقيل الذي جاء بالصدق الأنبياء والذي صدق به المؤمنون واختار ابن عطية أن يكون على العموم وجعل الذي للجنس كأنه قال الفريق الذي لأنه في مقابلة من كذب على الله وكذب بالصدق والمراد به العموم * (أليس الله بكاف عبده) * تقوية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم وإزالة للخوف الذي كان الكفار يخوفونه * (ولئن سألتهم) * الآية احتجاج
195

على التوحيد ورد على المشركين * (هل هن كاشفات ضره) * الآية رد على المشركين وبرهان على الوحدانية وروي أن سببها أن المشركين خوفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من آلهتم فنزلت الآية مبينة أنهم لا يقدرون على شيء فإن قيل كيف قال كاشفات وممسكات بالتأنيث فالجواب أنها لا تعقل فعاملها معاملة المؤنث وأيضا ففي تأنيثها تحقير لها وتهكم بمن عبدها * (اعملوا على مكانتكم) * تهديد ومسالمة منسوخة بالسيف * (بالحق) * ذكر في أول السورة * (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) * هذه الآية اعتبار ومعناها أن الله يتوفى النفوس على وجهين أحدها وفاة كاملة حقيقية وهي الموت والآخر وفاة النوم لأن النائم كالميت في كونه لا يبصر ولا يسمع ومنه قوله * (وهو الذي يتوفاكم بالليل) * وتقديرها ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها * (فيمسك التي قضى عليها الموت) * أي يمسك الأنفس التي قضى عليها بالموت الحقيقي ومعنى إمساكها أنه لا يردها إلى الدنيا * (ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) * أي يرسل الأنفس النائمة وإرسالها هو ردها إلى الدنيا والأجل المسمى هو أجل الموت الحقيقي وقد تكلم الناس في النفس والروح وأكثروا القول في ذلك بالظن دون تحقيق والصحيح أن هذا مما استأثر الله بعلمه لقوله * (قل الروح من أمر ربي) * * (أم اتخذوا من دون الله شفعاء) * أم هنا بمعنى بل وهمزة الإنكار والشفعاء هم الأصنام وغيرها لقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله * (قل أولو كانوا) * دخلت همزة الاستفهام على واو الحال تقديره يشفعون وهم لا يملكون شيئا ولا يعقلون * (قل لله الشفاعة جميعا) * أي هو مالكها فلا يشفع أحد إليه إلا بإذنه وفي هذا رد على الكفار في قولهم إن الأصنام تشفع لهم * (وإذا ذكر الله وحده) * الآية معناها أن الكفار يكرهون توحيد الله ويحبون الإشراك به ومعنى اشمأزت انقبضت من شدة الكراهة وروي أن هذه الآية نزلت حين قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم فألقى الشيطان في أمنيته حسبما ذكرنا في الحج فاستبشر الكفار بما ألقى الشيطان من تعظيم اللات والعزى فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان استكبروا واشمأزوا * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) * أي ظهر لهم يوم القيامة خلاف ما كانوا
196

يظنون لأنهم كانوا يظنون ظنونا كاذبة قال الزمخشري المراد بذلك تعظيم العذاب الذي يصيبهم أي ظهر لهم من عذاب الله ما لم يكن في حسابهم فهو كقوله في الوعد * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) * وقيل معناها عملوا أعمالا حسبوها حسنات فإذا هي سيئات وقال الحسن ويل لأهل الربا من هذه الآية وهذا على أنها في المسلمين والظاهر أنها في الكفار " وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن " معنى حاق حل ونزل وقال ابن عطية وغيره إن هذا على حذف مضاف تقديره حاق بهم جزاء ما كانوا به يستهزؤن ويحتمل أن يكون الكلام دون حذف وهو أحسن ومعناه حاق بهم العذاب الذي كانوا به يستهزؤن لأنهم كانوا في الدنيا يستهزؤن إذا خوفوا بعذاب الله ويقولون متى هذا الوعد * (قال إنما أوتيته على علم) * يحتمل وجهين أحدهما وهو الأظهر أن يريد على علم مني بالمكاسب والمنافع والآخر على علم الله باستحقاقي لذلك وإنما هنا تحتمل وجهين أحدهما وهو الأظهر أن تكون ما كافة وعلى علم في موضع الحال والآخر أن تكون ما اسم إن وعلى علم خبرها وإنما قال أوتيته بالضمير المذكر وهو عائد على النعمة للحمل على المعنى * (بل هي فتنة) * رد على الذي قال إنما أوتيته على علم * (قد قالها الذين من قبلهم) * يعني قارون وغيره * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) * قال علي بن أبي طالب وابن مسعود هذه أرحى آية في القرآن وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية واختلف في سببها فقيل نزلت في وحشي قاتل حمزة لما أراد أن يسلم وخاف أن لا يغفر له ما وقع فيه من قتل حمزة وقيل نزلت في قوم آمنوا ولم يهاجروا ففتنوا فافتتنوا ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم وهذا قول عمر بن الخطاب وقد كتب بها إلى هشام بن العاص لما جرى له ذلك وقيل نزلت في قوم من أهل الجاهلية قالوا ما ينفعنا الإسلام لأننا قد زنينا وقتلنا النفوس فنزلت الآية فيهم ومعناها مع ذلك على العموم في جميع الناس إلى يوم القيامة على تفصيل نذكره وذلك أن الذين أسرفوا على أنفسهم إن أراد بهم الكفار فقد اجتمعت الأمة على أنهم إذا أسلموا غفر لهم كفرهم وجميع ذنوبهم لقوله صلى الله عليه وسلم الإسلام يجب ما قبله وأنهم إن ماتوا على الكفر فإن الله لا يغفر لهم بل يخلدهم في النار وإن أراد به العصاة من المسلمين فإن العاصي إذا تاب غفر له ذنوبه وإن لم يتب فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له فالمغفرة المذكورة في هذه الآية يحتمل أن يريد بها المغفرة للكفار إذا أسلموا أو للعصاة إذا تابوا أو للعصاة وإن لم يتوبوا إذا تفضل الله عليهم بالمغفرة والظاهر أنها نزلت في الكفار وأن المغفرة المذكورة هي لهم إذا أسلموا
197

والدليل على أنها في الكفار ما ذكر بعدها إلى قوله قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين * (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) * يعني اتبعوا القرآن وليس المعنى أن بعض القرآن أحسن من بعض لأنه حسن كله إنما المعنى أن يتبعوا بأعمالهم ما فيه من الأوامر ويجتنبوا ما فيه من النواهي فالتفضيل الذي يقتضيه أحسن إنما هو في الاتباع وقيل يعني اتبعوا الناسخ دون المنسوخ وهذا بعيد * (أن تقول نفس) * في موضع مفعول من أجله تقديره كراهة أن تقول نفس وإنما ذكر النفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكفار * (في جنب الله) * أي في حق الله وقيل في أمر الله وأصله من الجنب بمعنى الجانب ثم استعير لهذا المعنى * (الساخرين) * أي المستهزئين * (بلي) * جواب للنفس التي حكى كلامها ولا يجاوب ببلى إلا النفي وهي هنا جواب لقوله لو أن الله هداني لكنت من المتقين لأنه في
معنى النفي لأن لو حرف امتناع وتقرير الجواب بل قد جاءك الهدى من الله بإرساله الرسل وإنزاله الكتب وقال ابن عطية هي جواب لقوله لو أن لي كرة فإن معناه يقتضي أن العمر يتسع للنظر فقيل له بلى على وجه الرد عليه والأول أليق بسياق الكلام لأن قوله قد جاءتك آياتي تفسير لما تضمنته بلى * (وجوههم مسودة) * يحتمل أن يريد سواد اللون حقيقة أو يكون عبارة عن شدة الكرب * (بمفازتهم) * أصله من الفوز والتقدير بسبب فوزهم وقيل معناه بفضائلهم " وهو على كل شيء وكيل " أي قائم بتدبير كل شيء * (مقاليد) * مفاتيح وقيل خزائن واحدها مقليد وقيل إقليد وقيل لا واحد لها من لفظها وأصلها كلمة فارسية وقال عثمان بن عفان سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقاليد السماوات والأرض فقال هي لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وأستغفر الله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير فإن صح هذا الحديث فمعناه أن من قال هذه الكلمات صادقا مخلصا نال الخيرات والبركات من السماوات والأرض لأن هذه الكلمات توصل إلى ذلك فكأنها مفاتيح له * (والذين كفروا) * الآية قال الزمخشري إنها متصلة بقوله وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم وما بينهما من الكلام اعتراض * (أفغير الله) * منصوب بأعبد * (تأمروني) * حذفت إحدى النونين
198

تخفيفا وقرئ بإدغام إحدى النونين في الأخرى * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * دليل على إحباط عمل المرتد مطلقا خلافا للشافعي في قوله لا يحبط عمله إلا إذا مات على الكفر فإن قيل الموحى إليهم جماعة والخطاب بقوله لئن أشركت لواحد فالجواب أنه أوحى إلى كل واحد منهم على حدته فإن قيل كيف خوطب الأنبياء بذلك وهم معصومون من الشرك فالجواب أن ذلك على الفرض والتقدير أي لو وقع منهم شرك لحبطت أعمالهم لكنهم لم يقع منهم شرك بسبب العصمة ويحتمل أن يكون الخطاب لغيرهم وخوطبوا هم ليدل المعنى على غيرهم بالطريق الأولى * (وما قدروا الله حق قدره) * أي ما عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه بما يجب له ولا نزهوه عما لا يليق به والضمير في قدروا لقريش وقيل لليهود * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) * المقصود بهذا تعظيم جلال الله والرد على الكفار الذين ما قدروا الله حق قدره ثم اختلف الناس فيها كاختلافهم في غيرها من المشكلات فقالت المتأولة إن القبضة واليمين عبارة عن القدرة وقال ابن الطيب إنها صفة زائدة على صفات الذات وأما السلف الصالح فسلموا علم ذلك إلى الله ورأوا أن هذا من المتشابه الذي لا يعلم علم حقيقته إلا الله وقد قال ابن عباس ما معناه إن الأرض في قبضته والسماوات مطويات كل ذلك بيمينه وقال ابن عمر ما معناه إن الأرض في قبضة اليد الواحدة والسماوات مطويات باليمين الأخرى لأن كلتا يديه يمين * (ونفخ في الصور) * هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وهذه النفخة نفخة الصعق وهو الموت وقد قيل إن قبلها نفخة الفزع ولم تذكر في هذه الآية * (إلا من شاء الله) * قيل يعني جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت ثم يميتهم الله بعد ذلك وقيل استثناء الأنبياء وقيل الشهداء * (ثم نفخ فيه أخرى) * هي نفخة القيام * (قيام ينظرون) * قيل إنه من النظر وقيل من الانتظار أي ينتظرون ما يفعل بهم * (ووضع الكتاب) * يعني صحائف الأعمال وإنما وحدها لأنه أراد الجنس وقيل هو اللوح المحفوظ " وجئ بالنبيين " ليشهدوا على قومهم * (والشهداء) * يحتمل أن يكون جمع شاهد أو جمع شهيد في سبيل الله والأول أرجح لأن فيه الوعيد معنى ولأنه أليق بذكر الأنبياء الشاهدين والمراد على هذا أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم يشهدون على الناس وقيل يعني الملائكة الحفظة * (وقضي بينهم) * الضمير لجميع الخلق * (زمرا) * في الموضعين جمع زمرة وهي الجماعة من الناس وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمرة يدخلون الجنة وجوههم على مثل القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على مثل أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد
199

ذلك منازل * (خزنتها) * جمع خازن حيث وقع * (كلمة العذاب) * يعني القضاء السابق بعذابهم * (وفتحت أبوابها) * إنما قال في الجنة وفتحت أبوابها بالواو وقال في النار فتحت بغير واو لأن أبواب الجنة كانت مفتحة قبل مجيء أهلها والمعنى حتى إذا جاؤها وأبوابها مفتحة فالواو واو الحال وجواب إذا على هذا محذوف وأما أبواب النار فإنها فتحت حين جاؤها فوقع قوله فتحت جواب الشرط فكأنه بغير واو وقال الكوفيون الواو في أبواب الجنة واو الثمانية لأن أبواب الجنة ثمانية وقيل الواو زائدة وفتحت هو الجواب * (وأورثنا الأرض) * يعني أرض الجنة والوراثة هنا استعارة كأنهم ورثوا موضع من لم يدخل الجنة * (نتبوأ) * أي ننزل من الجنة حيث نشاء ونتخذه مسكنا * (حافين من حول العرش) * أي محدقين به دائرين حوله * (وقضي بينهم) * الضمير لجميع الخلق كالموضع الأول ويحتمل هنا أن يكون للملائكة والقضاء بينهم توفية أجورهم على حسب منازلهم * (وقيل الحمد لله رب العالمين) * يحتمل أن يكون القائل لذلك الملائكة أو جميع الخلق أو أهل الجنة لقوله وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العاليمن
تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله سورة غافر
200