الكتاب: تفسير البحر المحيط
المؤلف: أبي حيان الأندلسي
الجزء: ٧
الوفاة: ٧٤٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض، شارك في التحقيق ١) د.زكريا عبد المجيد النوقي ٢) د.أحمد النجولي الجمل
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠١م
المطبعة: لبنان/ بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

((سورة الشعراء))
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (طسم * تلك ءايات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السمآء ءاية فظلت أعناقهم لها خاضعين * وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزءون * أولم يروا إلى الا رض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إنى أخاف أن يكذبون * ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى فأرسل إلى هارون * ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلا فاذهبا بأاياتنآ إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولاإنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بنىإسراءيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتهآ إذا وأنا من الضآلين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لى ربى حكما وجعلنى من المرسلين * وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى إسراءيل * قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والا رض وما بينهمآ إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب ءابآئكم الا ولين * قال إن رسولكم الذىأرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهمآ إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلاها غيرى لأجعلنك من المسجونين * قال أولو جئتك بشىء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هى بيضآء للناظرين * قال للملإ حوله إن هاذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث فى المدآئن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم
3

معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جآء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفكون * فألقى السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنآ إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانآ أن كنآ أول المؤمنين * وأوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادىإنكم متبعون * فأرسل فرعون فى المدآئن حاشرين * إن هاؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغآئظون * وإنا لجميع حاذرون * فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بنىإسراءيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما ترآءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معى ربى سيهدين * فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الا خرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الا خرين * إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنآ ءابآءنا كذلك يفعلون * قال أفرءيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وءابآؤكم الا قدمون * فإنهم عدو لىإلا رب العالمين * الذى خلقنى فهو يهدين * والذى هو يطعمنى ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذى يميتنى ثم يحيين * والذىأطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين * رب هب لى حكما وألحقنى بالصالحين * واجعل لى لسان صدق فى الا خرين * واجعلنى من ورثة جنة النعيم * واغفر لابىإنه كان من الضآلين * ولا تخزنى يوم يبعثون * يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم * وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين * وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفى ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * ومآ أضلنآ إلا المجرمون *
4

فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين * إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *))
) *
الشرذمة: الجمع القليل المحتقر، وشرذمة كل شيء: بقيته الخسيسة: وأنشد أبو عبيدة:
في شراذم البغال وقال آخر:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق شراذم يضحك منه وقال الجوهري: الشرذمة: الطائفة من الناس، والقطعة من الشيء، وثوب شراذم: أي قطع. انتهى. وقيل: السفلة من الناس. كبكبه: قلب بعضه على بعض، وحروفه كلها أصول عند جمهور البصريين. وقال الزمخشري: الكبكبة: تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى. وقال ابن عطية: كبكب مضاعف من كب، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح، لأن معناهما واحد، والتضعيف في الفعل نحو: صر وصرصر. انتهى. وقول الزمخشري وابن عطية هو قول الزجاج، وهو أنه يزعم أن نحو كبكبه مما يفهم المعنى بسقوط ثالثه، هو مما ضوعف فيه الباء. وذهب الكوفيون إلى أن الثالث بدل من مثل الثاني، فكان أصله كبب، فأبدل من الباء الثانية كاف، الحميم: الولي القريب، وحامة الرجل: خاصته. وقال الزمخشري: الحميم من الاحتمام، وهو الاهتمام، وهو الذي يهمه ما أهمك؛ أو من الحامة بمعنى الخاصة، وهو الصديق الخالص.
* (طسم تلك ءايات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السماء ءاية فظلت أعناقهم لها خاضعين * وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به * يستهزءون * أو لم * يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إنى أخاف أن يكذبون * ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى فأرسل إلى * هارون * ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلا فاذهبا بئاياتنا إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب
العالمين * أن أرسل معنا بنى إسراءيل) *.
هذه السورة كلها مكية في قول الجمهور إلا أربع آيات من: * (والشعراء يتبعهم الغاوون) * إلى آخر السورة، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة. وقال مقاتل: * (أول * لم يكن لهم ءاية) *، الآية مدنية. ومناسبة أولها الآخر ما قبلها أنه قال تعالى: * (فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) * كذر تلهف رسول الله صلى الله عليه وسلم) على كونهم لم يؤمنوا، وكونهم كذبوا بالحق، لما جاءهم. ولما أوعدهم في آخر السورة بقوله: * (فسوف يكون لزاما) *، أوعدهم في أول هذه فقال في إثر إخباره بتكذيبهم فسوف يأتيهم * (أنباء ما كانوا به يستهزءون) *. وتلك إشارة إلى آيات السورة، أو آيات القرآن. وأمال فتحة الطاء حمزة والكسائي، وأبو بكر وباقي السبعة: بالفتح؛ وحمزة بإظهار نون سين، وباقي السبعة بإدغامها؛ وعيسى بكسر الميم من طسم هنا وفي القصص، وجاء كذلك عن نافع. وفي مصحف عبد الله ط س م مقطوع، وهي قراءة أبي جعفر. وتكلموا على هذه الحروف بما يشبه اللغز والأحاجي، فتركت نقهل، إذ لا دليل على
5

شيء مما قالوه.
* (والكتاب المبين) *: هو القرآن، هو بين في نفسه ومبين غيره من الأحكام والشرائع وسائر ما اشتمل عليه، أو مبى ن إعجازه وصحة أنه من عند الله. وتقدم تفسير * (باخع نفسك) * في أول الكهل. * (ألا يكونوا) *: أي لئلا يؤمنوا، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وقرأ قتادة وزيد بن علي: باخع نفسك على الإضافة. * (إن نشأ ننزل) *، دخلت إن على نشأ وإن للممكن، أو المحقق المنبهم زمانه. قال ابن عطية: ما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حزينا، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار، وإنما جعل الله آيات الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر، ليهتدي من سبق في علمه هداه، ويضل من سبق ضلاله، وليكون للنظرة كسب به يتعلق الثواب والعقاب، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا إذ لو كانت. انتهى. ومعنى آية: أي ملجئة إلى الإيمان يقهر عليه. وقرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه: إن يشأ ينزل على الغيبة، أي إن يشأ الله ينزل، وفي المصاحف: لو شئنا لأنزلنا. وقرأ الجمهور: فظلت، ماضيا بمعنى المستقبل، لأنه معطوف على ينزل. وقرأ طلحة: فتظلل، وأعناقهم. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق؟ قلت؛ أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخشوع، وترك الكلام على أصله كقولهم: ذهبت أهل اليمامة، كان الأهل غير مذكور. انتهى. وقال مجاهد، وابن زيد، والأخفش: جماعاتهم، يقال: جاءني عنق من الناس، أي جماعة، ومنه قول الشاعر:
* إن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا وقيل: أعناق الناس: رؤساؤهم، ومقدموهم شبهوا بالأعناق، كما قيل:
*
* لهم الرؤوس والنواصي والصدور قال الشاعر:
*
* في مجفل من نواصي الخيل مشهود
*
وقيل: أريد الجارحة. فقال ابن عبسى: هو على حذف مضاف، أي أصحاب للأعناق. وروعي هذا المحذوف في قوله: * (خاضعين) *، حيث جاء جمعا للمذكر العاقل، أولا حذف، ولكنه اكتسى من إضافته للمذكر العاقل وصفه، فأخبر عنه إخباره، كما يكتسي المذكر التأنيث من إضافته إلى المؤنث في نحو:
كما شرقت صدر القناة من الدم
أولا حذف، ولكنه لما وضعت لفعل لا يكون إلا مقصودا للعاقل وهو الخضوع، جمعت جمعه كما جاء: * (أتينا طائعين) *.
6

وقرأ عيسى، وابن أبي عبلة: خاضعة. وعن ابن عباس: فنزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية، ستكون لنا عليهم الدولة، فتذل أعناقهم بعد معاوية، ويلحقهم هوان بعد عز. * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث) *. تقدم تفسيره في الأنبياء. * (إلا كانوا) *: جملة حالية، أي إلا يكونوا عنها. وكان يدل ذلك أن ديدنهم وعادتهم الإعراض عن ذكر الله. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد، وهو الإعراض؟ قلت: كان قبل حين أعرضوا عن الذكر، فقد كذبوا به، وحين كذبوا به، فقد خف عليهم قدره وصار عرضه الاستهزاء بالسخرية، لأن من كان قابلا للتحق مقبلا عليه، كان مصدقا به لا محالة، ولم يظن به التكذيب. ومن كان مصدقا به، كان موقرا له. انتهى.
* (فسيأتيهم) *: وعيد بعذاب الدنيا، كيوم بدر، وعذاب الآخرة. ولما كان إعراضهم عن النظر في صانع الوجود، وتكذيب ما جاءتهم به رسله من أعظم الكفر، وكانوا يجعلون الأصنام آلهة، نبه تعالى على قدرته، وأنه الخالق المنشيء الذي يستحق العبادة بقوله: * (أو لم * يروا إلى الارض) *؟ والزوج: النوع. وقيل: الشيء وشكله. وقيل: أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض. وقال الفراء: الزوج: اللون. والكريم: الحسن، قاله مجاهد وقتادة. وقيل: ما يأكله الناس والبهائم. وقيل: الكثير المنفعة. وقيل: الكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد. وجه كريم: مرضي في حسنه وجماله؛ وكتاب كريم: مرضي في معانيه وفوائده. وقال: حتى يشق الصفوف من كرمه، أي من كونه مرضيا في شجاعته وبأسه، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور، والأغذية والنباتات، ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن اثنين. قال تعالى: * (والله أنبتكم من الارض نباتا) *. قال الشعبي: الناس من نبات الأرض، فمن صار إلى الجنة فهو كريم، ومن صار إلى النار فبضد ذلك.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى الجمع بين كم وكل؟ ولو قيل: * (أنبتنا فيها من كل زوج كريم) * قلت: دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل
، وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة؟ فهذا معنى الجمع، وبه نبه على كمال قدرته. انتهى. وأفرد * (لآية) *، وإن كان قد سبق ما دل على الكثرة في الأزواج، وهو كم، وعلى الإحاطة بالعموم في الأزواج، لأن المشار إليه واحد، وهو الإنبات، وإن اختلفت متعلقاته، أو أريد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية. * (وما كان أكثرهم مؤمنين) *: تسجيل على أكثرهم بالكفر. * (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *: أي الغالب القاهر. ولما كان الموضع موضع بيان القدرة، قدم صفة العزة على صفة الرحمة. فالرحمة إذا كانت عن قدرة، كانت أعظم وقعا، والمعنى: أنه عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة. ولما ذكر تكذيب قريش بما جاءهم من الحق وإعراضهم عنه، ذكر قصة موسى عليه السلام، وما قاسى مع فرعون وقومه، ليكون ذلك مسلاة لما كان يلقاه عليه الصلاة والسلام من كفار قريش. وإذ كانت قريش. وإذ كانت قريش قد اتخذت آلهة من دون الله، وكان قوم فرعون قد اتخذوه إلاها، وكان أتباع ملة موسى عليه السلام هم المجاورون من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم)، بدأ بقصة موسى، ثم ذكر بعد ذلك ما يأتي ذكره من القصص. والعامل في قال الزجاج، أتل مضمرة، أي أتل هذه القصة فيما يتلوا إذ نادى، ودليل ذلك * (واتل عليهم نبأ إبراهيم) * إذ. وقيل: العامل اذكر، وهو مثل واتل، ومعنى نادى: دعا. وقيل: أمر. وأن: يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون تفسيرية، وسجل عليهم بالظلم، لظلم أنفسهم بالكفر، وظلم بني إسرائيل بالاستعباد، وذبح الأولاد، و * (قوم فرعون) *، وقيل: بدل من * (القوم الظالمين) *، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد، إذ كل واحد عطف البيان، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد، إذ كل واحد عطف البيان، وسوغه مستقل بالإسناد. ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك، أتى عطف البيان بإزالته
7

إذ هو أشهر. وقرأ الجمهور: ألا يتقون، بالياء على الغيبة. وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار، وشقيق بن سلمة، وحماد بن سلمة، وأبو قلابة: بتاء الخطاب، على طريقة الالتفات إليهم إنكارا وغضبا عليهم، وإن لم يكونوا حاضرين، لأنه مبلغهم ذلك ومكافحهم. قال ابن عطية: معناه قل لهم، فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى.
وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق قوله: * (ألا يتقون) *؟ قلت: هو كلام مستأنف اتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيبا لموسى عليه السلام من حالهم التي سعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله. ويحتمل أن يكون ألا يتقون حالا من الضمير في الظالمين، أي يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال. انتهى. وهذا الاحتمال الذي أورده خطأ فاحش لأنه جعله حالا من الضمير في الظالمين، وقد أعرب هو * (قوم فرعون) * عطف بيان، فصار فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي بينهما، لأن قوم فرعون معمول لقوله: * (ائت) * والذي زعم أنه حال معمول لقوله الظالمين، وذلك لا يجوز أيضا لو لم يفصل بينهما بقوله: قوم فرعون. لم يجز أن تكون الجملة حالا، لأن ما بعد الهمزة يمتنع أن يكون معمولا لما قبلها. وقولك: جئت أمسرعا؟ على أن يكون أمسرعا حالا من الضمير في جئت لا يجوز، فلو أضمرت عاملا بعد الهمزة جاز. وقرئ: بفتح النون وكسرها، التقدير: أفلا يتقونني؟ فحذفت نون الرفع لالتقاء الساكنين، وياء المتكلم اكتفاء بالكسرة. وقال الزمخشري: في ألا يتقون بالياء وكسر النون وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ألا يا ناس اتقون، كقوله: * (ألا يسجدوا) *. انتهى. يعني: وحذف ألف ياخطا ونطقا لالتقاء الساكنين، وهذا تخريج بعيد. والظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى، وقول من قال إنها للتنبيه لا يصح، وكذلك قول الزمخشري: إنها للنفي دخلت عليها همزة الإنكار.
ولما كان فرعون عظيم النخوة حتى ادعى الإلاهية، كثير المهابة، قد أشربت القلوب الخوف منه خصوصا من كان من بني إسرائيل، قال موسى عليه السلام: * (إنى أخاف أن يكذبون) *. وقرأ الجمهور: ويضيق، ولا ينطلق) *، بالرفع فيهما عطفا على أخاف. فالمعنى: إنه يفيد ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان. وقرأ الأعرج، وطلحة، وعيسى، وزيد بن علي، وأبو حيوة، وزائدة، عن الأعمش، ويعقوب: بالنصب فيهما عطفا على يكذبون، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف. وحكى أبو عمرو الداني، عن الأعرج: أنه قرأ بنصب: ويضيق، ورفع: ولا ينطلق، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان. وقال ابن عطية: وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر، لم ينطلق اللسان.
فأرسل إلى هارون) *: معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارون عليه السلام فصيحا واسع الصدر، فحذف بعض المراد من القول، إذ باقية دال عليه. انتهى.
8

وقال الزمخشري: ومعنى * (*) *، بالرفع فيهما عطفا على أخاف. فالمعنى: إنه يفيد ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان. وقرأ الأعرج، وطلحة، وعيسى، وزيد بن علي، وأبو حيوة، وزائدة، عن الأعمش، ويعقوب: بالنصب فيهما عطفا على يكذبون، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف. وحكى أبو عمرو الداني، عن الأعرج: أنه قرأ بنصب: ويضيق، ورفع: ولا ينطلق، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان. وقال ابن عطية: وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر، لم ينطلق اللسان.
فأرسل إلى هارون) *: معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارون عليه السلام فصيحا واسع الصدر، فحذف بعض المراد من القول، إذ باقية دال عليه. انتهى. وقال الزمخشري: ومعنى * (*) *: معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارون عليه السلام فصيحا واسع الصدر، فحذف بعض المراد من القول، إذ باقية دال عليه. انتهى. وقال الزمخشري: ومعنى * (فأرسل إلى هارون) *: أرسل إليه جبريل عليه السلام، واجعله نبيا، وأزرني به، واشدد به عضدي؛ وهذا كلام مختصر، وقد أحسن في الاختصار حيث قال: * (فأرسل إلى هارون) *، فجاء بما يتضمن معنى الاستثناء. وقوله: * (إنى أخاف) * إلى آخره، بعد أن أمره الله بأن يأتي القوم
الظالمين، ليس توقفا فيما أمره الله تعالى به، ولكنه طلب من الله أن يعضده بأخيه، حتى يتعاونا على إنفاذ أمره تعالى، وتبليغ رسالته، مهد قبل طلب ذلك عذره ثم طلب. وطلب العون دليل على القبول لا على التوقف والتعلل، ومفعول أرسل محذوف. فقيل جبريل، كما تقدم ذكره، وفي الخبر أن الله أرسل موسى إلى هارون، وكان هارون بمصر حين بعث الله موسى نبيا بالشام. قال السدي: سار بأهله إلى مصر، فالتقى بهارون وهو لا يعرفه فقال: أنا موسى، فتعارفا؛ وأمرهما أن ينطلقا إلى فرعون لأداء الرسالة، فصاحت أمهما لخوفهما عليه، فذهبا إليه.
* (ولهم على ذنب) *: أي قبلي قود ذنب، أو عقوبة، وهو قتله القبطي الكافر خباز فرعون بالوكزة التي وكزها، أو سمى تبعة الذنب ذنبا، كما سمى جزاء السيئة سيئة. وليس قول موسى ذلك تلكأ في أداء الرسالة، بل قال ذلك استدفاعا لما يتوقعه منهم من القتل، وخاف أن يقتل قبل أداء الرسالة، ويدل على ذلك قوله: كلا، وهي كلمة الردع، ثم وعده تعالى بالكلاءة والدفع. وكلا رد لقوله: * (إنى أخاف) *، أي لا تخف ذلك، فإني قضيت بنصرك وظهورك. وقوله: * (فاذهبا) *، أمر لهما بخطاب لموسى فقط، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع، ولكنه قال لموسى: * (اذهب أنت وأخوك) *. قال الزمخشري: جمع الله له الاستجابتين معا في قوله: * (كلا فاذهبا) *، لأنه استدفعه بلاءهم، فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس المؤازرة بأخيه، فأجابه بقوله: اذهب، أي اذهب أنت والذي طلبته هارون. فإن قلت: علام عطف قوله اذهبا؟ قلت: على الفعل الذي يدل عليه كلا، كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت وهارون بآياتنا، يعم جميع ما بعثهما الله به، وأعظم ذلك العصا، وبها وقع العجز. قال ابن عطية: ولا خلاف أن موسى هو الذي حمله الله أمر النبوة وكلفها، وأن هارون كان نبيا رسولا معينا له ووزيرا. انتهى. ومعكم، قيل: من وضع الجمع موضع المثنى، أي معكما. وقيل: هو على ظاهره من الجمع، والمراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه. وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى، والخطاب لموسى وهارون فقط، قال: لأن لفظة مع تباين من يكون كافرا، فإنه لا يقال الله معه. وعلى أنه أريد بالجمع التثنية، حمله سيبويه رحمه الله وكأنهما لشرفهما عند الله، عاملهما في الخطاب معاملة الجمع، إذ كان ذلك جائزا أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته.
قال ابن عطية: * (مستمعون) * اهتبالا، ليس في صيغة سامعون، وإلا فليس يوصف الله تعالى بطلب الاستماع، وإنما القصد إظهار التهم ليعظم أنس موسى، أو يكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع. وقال الزمخشري: * (معكم مستمعون) * من مجاز الكلام، يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه، فأظهركما وغلبكما وكسر شوكته عنكما ونكسه. انتهى. ويجوز أن يكون معه متعلقا بمستمعون، وأن يكون خبرا ومستمعون خبر ثان. والمعية هنا مجاز، وكذلك الاستماع، لأنه بمعنى الإصغاء، ولا يلزم من الاستماع السماع، تقول: أسمع إليه، فما سمع واستمع إليه، فسمع كما قال: * (استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا) *، وأفرد رسول هنا ولم يثن، كما في قوله: * (إنا رسولا ربك) *، إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة، فجاز أن يقع مفردا خبر المفرد فما فوقه، وإما لكونهما ذوي شريعة واحدة، فكأنهما رسول واحد. وأريد بقوله: أنا أوكل واحد منا رسول.
* (ورسول * رب العالمين) * فيه رد عليه، وأنه مربوب لله تعالى، بادهه
9

بنقض ما كان أبرمه من ادعاء الألوهية، ولذلك أنكر فقال: وما رب العالمين والمعنى إليك، * (وأن * أرسل) *: يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنى القول، وأن تكون مصدرية، وأرسل بمعنى أطلق وسرح، كما تقول: أرسلت الحجر من يدي، وأرسلت لصقر. وكان موسى مبعوثا إلى فرعون في أمرين: إرسال بني إسرائيل ليزول عنهم العبودية، والإيمان بالله وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل وإرسالهم معهما كان إلى فلسطين، وكانت مسكن موسى وهارون.
* (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لى ربى حكما وجعلنى من المرسلين * وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى إسراءيل * قال فرعون وما رب العالمين * قال رب * السماوات والارض * وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب ءابائكم الاولين * قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلاها غيرى لاجعلنك من المسجونين * قال أوحى * لو * جئتك بشىء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هى بيضاء للناظرين) *.
ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون، ولم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إن هنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال له: ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له: * (ألم نربك فينا وليدا) * وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره: فأتيا فرعون، فقالا له ذلك. ولما بادهه موسى بأنه رسول رب العالمين، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما جاء به من عنده، ويذكره بحالة الصغر والمن عليه بالتربية. والوليد الصبي، وهو فعيل بمعنى مفعول، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة. وقرأ أبو عمرو في رواية: من عمرك، بإسكان الميم، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه. وقرأ الجمهور: فعلتك، بفتح الفاء، إذ كانت وكزة واحدة، والشعبي: بكسر الفاء، يريد الهيئة، لأن الوكزة نوع من القتل. عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال، حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي، وعظم ذلك بقوله: * (وفعلت فعلتك التى فعلت) *، لأن هذا الإبهام، بكونه لم يصرح أنها القتل، تهويل للواقعة وتعظيم شأن. * (وأنت من الكافرين) *: يجوز أن يكون حالا، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك، والأنبياء عليهم السلام معصومون. ويجوز أن يكون إخبارا مستأنفا من فرعون، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان، قاله ابن زيد؛ أو من الكافرين بي في أنني إلاهك، قاله الحسن؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه الآن، قاله السدي.
* (قال فعلتها إذا) *: إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل، إذ كان الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية، لأنه فيه إزهاق النفس. قال ابن
عطية: إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ. انتهى. وليس بصلة، بل هي حرف معنى. وقوله وكأنها بمعنى حينئذ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ. وقال الزمخشري: فإن قلت: إذا جواب وجزاء معا، والكلام وقع جوابا لفرعون، فكيف وقع جزاء؟ قلت: قول فرعون: * (وفعلت فعلتك) * فيه معنى: إنك جازيت نعمتي بما فعلت؛ فقال له موسى: نعم فعلتها، مجازيا لك تسليما لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. انتهى. وهذا الذي ذكره من أن إذا جواب وجزاء معا، هو قول سيبويه، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جوابا وجزاء معا، وقد تكون جوابا فقط دون جزاء. فالمعنى اللازم لها هو الجواب، وقد يكون مع ذلك جزاء. وحملوا قوله: * (فعلتها إذا) * من المواضع التي جاءت فيها جوابا بالآخر، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجوابا، وهذا كله محرر
10

فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح، ولا قول الأكثرين.
* (وأنا من الضالين) *، قال ابن زيد: معناه من الجاهلين، بأن وكزني إياه تأتي على نفسه. وقال أبو عبيدة: من الناسين، ونزع لقوله: * (أن تضل إحداهما) *. وفي قراءة عبد الله، وابن عباس: وأنا من الجاهلين، ويظهر أنه تفسير للضالين، لا قراءة مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم). وقال الزمخشري: من الفاعلين فعل أولي الجهل، كما قال يوسف لإخوته: * (إذ أنتم جاهلون) * أو المخلصين، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل، أو الذاهبين عن تلك الصفة. انتهى. وقيل: من الضالين، يعني عن النبوة، ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس على فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. ومن غريب ما شرح به أن معنى * (وأنا من الضالين) *، أي من المحبين لله، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله. قيل: والضلال يطلق ويراد به المحبة، كما في قوله: * (إنك لفى ضلالك القديم) *، أي في محبتك القديمة. وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد أفرد في: تمنها وعبدت، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، وإنما منه ومن ملته المذكورين قبل * (أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون) *، وهم كانوا قوما يأتمرون لقتله. ألا ترى إلى قوله: * (إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج) *. وقرأ الجمهور: لما حرف وجوب لوجوب، على قول سيبويه، وظرفا بمعنى حين، على مذهب الفارسي. وقرأ حمزة في رواية: لما بكسر اللام وتخفيف الميم، أي يخوفكم. وقرأ عيسى: حكما بضم الكاف؛ والجمهور: بالإسكان. والحكم: النبوة. * (وجعلنى من المرسلين) *: درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول. وقيل: الحكم: العلم والفهم.
* (وتلك نعمة تمنها على) *: وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: * (ألم نربك فينا وليدا) *؛ وذكر بهذا آخرا على ما بدأ به فرعون في قوله: * (ألم نربك * بك) *. والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة، كأنه يقول: وتربيتك لي نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولدا، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي. وإلى هذا التأويل ذهب السدي والطبري. وقال قتادة: هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة، كأنه يقول: أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك. وقرأ الضحاك: وتلك نعمة ماألك أن تمنها، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله. والقول الأول فيه إنصاف واعتراف. وقال الأخفش: والفراء: قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار، وحذفت لدلالة المعنى عليها، ورده النحاس بأنها لا تحذف، لأنها حرف يحدث معها معنى، إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئا، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع أفعال الشك، وحكى: ترى زيدا منطلقا، بمعنى: ألا ترى؟ وكان الأخفش الأصغر يقول: أخذه من ألفاظ العامة. وقال
11

الضحاك: الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي، فأي نعمة لك علي فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به. وقيل: اتخاذك بني إسرائيل عبيدا أحبط نعمتك التي تمن بها. وقال الزمخشري: وأبي، يعني موسى عليه السلام، أن يسمي نعمته أن لا نعمة، حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت. وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيدا، يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبدا، قال الشاعر:
* علام يعبدني قومي وقد كثرت
*
فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان
*
فإن قلت: وتلك إشارة إلى ماذا؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها؛ ومحل أن عبدت الرفع، عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى: * (وقضينآ إليه ذلك الامر أن دابر هؤلآء مقطوع مصبحين) *، والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في موضع نصب، المعنى أنها صارت نعمة علي، لأن عبدت بني إسرائيل، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم. انتهى. وقال الحوفي: * (أن عبدت بنى إسراءيل) * في موضع نصب مفعول من أجله. وقال أبو البقاء: بدل، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين، لم يسأل إذ ذاك فيقول: * (وما رب العالمين) *؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي. فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل، وكان في قوله: رسول رب العالمين دعاء إلى الإقرار بربوبية الله، وإلى طاعة رب العالم، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده. والظاهر أن
سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادة، وكان عالما بالله. ويدل عليه: * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب * السماوات والارض * بصائر) *، ولكنه تعامى عن ذلك طلبا للرياسة ودعوى الإلهية، واستفهم بما استفهاما عن مجهول من الأشياء. قال مكي: كما يستفهم عن الأجناس، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن. انتهى. والموضع الآخر قوله: * (فمن ربكما ياموسى * موسى) *؟ ولما سأله فرعون، وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية، ولم يمكن الجواب بالماهية، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها، وهي ربوبية السماوات والأرض وما بينهما. وقال الزمخشري: وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس مما شاهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، * (ليس كمثله) * شيء. وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشا عن حقيقة الخاصة ما هي، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون، ويدل عليه الكلام، أن كون سؤاله إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه، ألا نرى أنه يعلم حدوثه بعد العدم؟ وأنه محل للحوادث؟ وأنه لم يدع الإلاهية إلا في محل ملكه مصر؟ وأنه لم يكن ملك الأرض؟ بل كان فيها ملوك غيره، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام؟ وأنه كان مقرا بالله تعالى في باطن أمره؟ وجاء قوله: * (وما بينهما) * على التثنية، والعائد عليه الضمير مجموع اعتبارا للجنسين: جنس السماء، وجنس الأرض؛ كما ثنى المظهر في قوله:
بين رماحي مالك ونهشل
اعتبارا للجنسين: وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال: كان عالما بالله ولكنه قال ما قال طلبا للملك والرياسة. وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفا بالله، وهو قوله: * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء) * الآية. ويحتمل أنه كان على
12

مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار، ثم اعتقد أنه بمنزلة إلاه لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم. ويحتمل أن يقال: كان على مذهب الحلولية القائلين: بأن ذات الإلاه تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإلاه سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلاها. انتهى. ومعنى: * (إن كنتم موقنين) *: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح، نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفعكم؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله. وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد.
* (قال لمن حوله) *: هم أشراف قومه. قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور، وكانت للملوك خاصة. * (إلا * تسمعون) *: أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجبا، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم. قال ابن عطية: والفراعنة قبله كذلك، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية. انتهى. يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلاهية، وأقاموا ملوكا بمصر، من زمان المعز إلى زمان العاض، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي الله عنه، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها: فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام، كان النصارى مستولين عليها، فاستنقذها منهم. * (قال ربكم ورب ءابائكم الاولين) *: نبههم على منشئهم ومنشىء آبائهم، وجاء في قوله: الأولين، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم. وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلاهية، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود، فمحال أن يكون وهو في العدم إلاها هم.
* (قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون) *. قال أبو عبد الله الرازي: التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجود لذواتهم، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم، وعدمهم بعد وجودهم، فعند ذلك قال فرعون: ما قال يعني أن المقصود من سؤال ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه، فقال موسى عليه السلام: * (رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) *: فعدل إلى طرق أوضح من الثاني، وذلك أنه أراد بالمشرق: طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب: غروب الشمس وزوال النهار.
وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة، وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله: * (ربكم ورب ءابائكم الاولين) *، فأجابه نمروذ بقوله: * (ألم تر إلى) *، فقال: * (إن الله * يأتى بالشمس من المشرق * فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر) * وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله: * (رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) *: أي إن كنتم من العقلاء، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال ابن عطية: زاده موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها، وهي ربوبية المشرق والمغرب، ولم يكن لفرعون إلا ملك معصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية. وقرأ مجاهد، وحميد، والأعرج: أرسل إليكم، على بناء الفاعل، أي أرسله ربه إليكم. وقرأ عبد الله، وأصحابه، والأعمش: رب المشارق والمغارب، على الجمع فيهما. ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج، رجع إلى الاستعلاء والغلب، وهذا أبين علامات الانقطاع، فتوعد موسى بالسجن حين أعياه خطابه: * (قال لئن اتخذت إلاها غيرى لاجعلنك من المسجونين) *. وقال الزمخشري: لما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه من جوابه، حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى
قومه وظنن به، حيث سماه رسولهم، فلما ثلث احتد واحتدم، وقال: * (لئن اتخذت إلاها غيرى) *.
فإن قلت: كيف قال:
13

أولا: * (إن كنتم موقنين) *، وآخرا: * (إن كنتم تعقلون) *؟ قلت: لأين أولا، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج، خاشن وعارض إن رسولكم لمجنون بقوله: * (إن كنتم تعقلون) *. فإن قلت: ألم يكن لأسجننك أخصر من * (لاجعلنك من المسجونين) * ومؤديا مؤداه؟ قلت: أما أخصر فنعم، وأما مؤديا مؤداه فلا، لأن معناه: لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا، لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أشد من القتل. انتهى. ولما كان عند موسى عليه السلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون، قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: * (أو * لو * جئتك بشىء مبين) *، أي يوضح لك صدقي، أفكنت تسجنني؟ قال الزمخشري: أو لو جئتك، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام، معناه: أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ انتهى. وتقدم لنا الكلام على هذه الواو، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله: * (أو * لو كان * لا يعقلون شيئا ولا يهتدون * ومثل) *، فأغنى عن إعادته. وقال الحوفي: واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير، والمعنى: أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها؟.
ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له: * (فأت به إن كنت من الصادقين) *، إن لك ربا بعثك رسولا إلينا. قال الزمخشري: وفي قوله: * (إن كنت من الصادقين) * دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة، والحكيم لا صدق الكاذب. ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه مثل هذا، وخفي على ناس من أهل القبلة، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى. وتقديره: إن كنت من الصادقين فأئت به، حذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه. وقدره الزمخشري: إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به. جعل الجواب المحذوف فعلا ماضيا، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقوله: أنت ظالم إن فعلت، تقديره: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وقال الحوفي: إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه، وجاز تقديم الجواب، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئا. ويجوز أن يكون الجواب محذوفا تقديره فائت به. وقول الزمخشري: حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها. والمعجز عندهم هو ما كان خارقا للعادة، ولا يكون إلا لنبي أو في زمان نبي، إن جرى على يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي، أو على سبيل الإرهاص لنبي.
* (فألقى عصاه) *: رماها من يده، وتقدم الكلام على عصا موسى عليه السلام. والثعبان: أعظم ما يكون من الحيات. ومعنى * (مبين) *: ظاهر الثعبانية، ليست من الأشياء التي تزور بالشعبذة والسحر. * (ونزع يده) * من جيبه، فإذا هي تلألأ كأنها قطعة من الشمس. ومعنى * (للناظرين) *: أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضا نورانيا. روي أنه لما أبصر أمر العصا قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده، فقال: ما هذه؟ قال: يدك، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.
* (قال للملإ حوله إن هاذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث فى المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جاء السحرة قالوا لفرعون * أإن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفكون * فألقى السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر
14

فلسوف تعلمون لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) *.
قال ابن عطية: وانتصب حوله على الظرف، وهو في موضع الحال، أي كائنين حوله، فالعامل فيه محذوف، والعامل فيه هو الحال حقيقة والناصب له، قال: لأنه هو العامل في ذي الحال بواسطة لام الجر، نحو: مررت بهند ضاحكة. والكوفيون يجعلون الملأ موصولا، فكأنه قيل: قال للذي حوله، فلا موضع للعامل في الظرف، لأنه وقع صلة. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما العامل في حوله؟ قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، وذلك استقروا حوله، وهذا يقدر في جميع الظروف، والعامل في النصب المحلي، وهو النصب على الحال. انتهى. وهو تكثير وشقشقة كلام في أمر واضح من أوائل علم العربية.
ولما رأى فرعون أمر العصا واليد، وما ظهر فيهما من الآيات، هاله ذلك ولم يكن له فيه مدفع فزع إلى رميه بالسحر. وطمع لغلبة علم السحر في ذلك الزمان أن يكون ثم من يقاومه، أو كان علم صحة المعجزة. وعمى تلك الحجة على قومه، برميه بالسحر، وبأنه * (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) *، ليقوي تنفيرهم عنه، وابتغاؤهم الغوائل له، وأن لا يقبلوا قوله؛ إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن الذي نشأوا فيه، ثم استأمرهم فيما يفعل معه، وذلك لما حل به من التحير والدهش وانحطاطه عن مرتبة ألوهيته إلى أن صار يستشيرهم في أمره، فيأمرونه بما يظهر لهم فيه، فصار مأمورا بعد أن كان آمرا. وتقدم الكلام في * (ماذا * تأمرون) * وفي الألفاظ التي وافقت ما في سورة الأعراف، فأغنى عن إعادته. ولما قال: * (إن هاذا لساحر عليم) *، عارضوا بقوله: * (بكل سحار) *، فجاءوا بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة، لينفسوا عنه بعض ما لحقه من الكرب. وقرأ الأعمش، وعاصم في رواية: بكل ساحر. واليوم المعلوم: يوم الزينة، وتقدم الكلام عليه في سورة طه. وقوله: * (هل أنتم مجتمعون) *، استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه استعجالهم، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق؟
إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق، كما يخيل إليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف، ومنه قول تأبط شرا:
* هل أنت باعث دينارا لحاجتناأو عند رب أخا عون بن مخراق
*
يريد: ابعثه إلينا سريعا ولا تبطىء به. وترجوا اتباع السحرة، أي في دينهم، إن غلبوا موسى عليه السلام، ولا يتبعون موسى في دينه. وساقوا الكلام سياق الكناية، لأنهم إذا اتبعوهم لم يتعبوا موسى عليه السلام. ودخلت إذا هنا بين اسم إن وخبرها، وهي جواب وجزاء. * (قال فرعون) *: الظاهر أن الباء للقسم، والذي تتعلق به الباء محذوف، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيما، كما يقال للملوك: أمروا رضي الله عنهم بكذا، فيخبر عنه إخبار الغائب، وهذا من نوع إيمان الجاهلية. وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية، لا يرضون بالقسم بالله، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف، فحينذ يستوثق منه. وقال ابن عطية: بعد أن ذكر أنه قسم قال: والأجر أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه، إذ كانوا يعبدونه؛ كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء: بسم الله، وعلى بركة الله، ونحو هذا. وبين قوله: * (قال لهم موسى) *، وقوله: * (لمن المقربين) *، كلام محذوف، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه في البداءة من يلقى. قال الزمخشري: فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ قلت: هو الله عز وجل، بما خولهم من التوفيق وإيمانهم، أو بما عاينوا من المعجزة الباهرة، ولك أن لا تقدر فاعلا، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا. انتهى. وهذا القول الآخر ليس بشيء. لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه، أما أنه لا يقدر فاعل، فقول ذاهب عن الصواب.
15

وقال ابن عطية: قرأ البزي، وابن فليح، عن ابن كثير: بشد التاء وفتح اللام وشد القاف، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن حذف همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين. انتهى. كأنه يخيل أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل، وليس ذلك بلازم كثيرا ما يكون الوصل مخالفا للوقف، والوقف مخالفا للوصل، ومن له تمرن في القراءات عرف ذلك.
* (قالوا لا ضير) *: أي لا ضرر علينا في وقوع ما وعدتنا به من قطع الأيدي والأرجل والتصليب، بل لنا فيه المنفعة التامة بالصبر عليه. يقال: ضاره يضيره ضيرا، وضاره يضوره ضورا. إنا إلى ربنا: أي إلى عظيم ثوابه، أو: لا ضير علينا، إذ انقلابنا إلى الله بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه. وقال أبو عبد الله الرازي: لما آمنوا بأجمعهم، لم يأمن فرعون أن يقول قومه لم تؤمن السحرة على كثرتهم إلا عن معرفة بصحة أمر موسى فيؤمنون، فبالغ في التنفير من جهة قوله: * (قال ءامنتم له قبل أن ءاذن) * موهما أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل. وبقوله: * (إنه لكبيركم) *، صرح بما رمزه أولا من مواطأتهم وتقصيرهم ليظهر أمر كبيرهم، وبقوله: * (فلسوف تعلمون) *، حيث أوعدهم وعيدا مطلقا، وبتصريحه بما هددهم به من العذاب، فأجابوا بأن ذلك إن وقع، لن يضير، وفي قولهم: * (إنا إلى * ربك * منقلبون) *، نكتة شريفة، وهو أنهم آمنوا لا رغبة ولا رهبة، إنما قصدوا محض الوصول إلى مرضات الله والاستغراق في أنوار معرفته. انتهى ملخصا. ويدفع هذا الأخير قولهم: * (إنا نطمع) * إلى آخره، ولا يكون ذلك إلا من خوف تبعات الخطايا. والظاهر بقاء الطمع على بابه كقوله: * (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) *. وقيل: يحتمل اليقين. قيل: كقول إبراهيم عليه السلام: * (والذى أطمع) *.
وقرأ الجمهور: * (أن كنا) *، بفتح الهمزة، وفيه الجزم بإيمانهم. وقرأ أبان بن تغلب، وأبو معاذ: إن كنا، بكسر الهمزة. قال صاحب اللوامح على الشرط: وجاز حذف الفاء من الجواب، لأنه متقدم، وتقديره: * (أن كنا أول المؤمنين) * فإنا نطمع، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من قبول الإيمان. انتهى. وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد، حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقال الزمخشري: هو من الشرط الذي يجيء به المدلول بأمره المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين. ونظيره قول العامل لمن يؤخر. جعله إن كنت عملت فوفني حقي، ومنه قوله تعالى: * (إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغاء مرضاتى) *، مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك. وقال ابن عطية بمعنى: أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط. انتهى. ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون، فلا يحتمل النفي، والتقدير: إن كنا لأول المؤمنين. وجاء في الحديث: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحب العسل)، أي ليحب. وقال الشاعر:
* ونحن أباة الضيم من آل مالك
*
وإن مالك كانت كرام المعادن
أي: وإن مالك لكانت كرام المعادن، وأول يعني أول المؤمنين من القبط، أو أول المؤمنين من حاضري ذلك
16

المجمع. وقال الزمخشري: وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، وهذا لا يصح لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة.
*
* (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم متبعون * فأرسل فرعون فى المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون * فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بنى إسراءيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا
إن معى ربى سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الاخرين * الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *. تقدم الخلاف في * (أسر) *، وأنه قرىء بوصل الهمزة وبقطعها في سورة هود. وقرأ اليماني: أن سر، أمر من سار يسير. أمر الله موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر إلى تجاه البحر، وأخبره أنهم سيتبعون. فخرج سحرا، جاعلا طريق الشام على يساره، وتوجه نحو البحر، فيقال له في ترك الطريق، فيقول: هكذا أمرت. فلما أصبح، علم فرعون بسري موسى ببني إسرائيل، فخرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر ليحلقه العساكر. وذكروا أعدادا في أتباع فرعون وفي بني إسرائيل، الله أعلم بصحة ذلك. * (إن هؤلاء لشرذمة) *: أي قال إن هؤلاء وصفهم بالقلة، ثم جمع القليل فجعل كل حزب قليلا، جمع السلام الذي هو للقلة، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل، والظاهر تقليل العدد. قال الزمخشري: ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة والقماءة، ولا يريد قلة العدد، والمعنى: أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غفلتهم، ولكنهم يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم يساره، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه. انتهى. قال أبو حاتم: وقرأ من لا يؤخذ عنه: * (لشرذمة قليلون) *، وليست هذه موقوفة. انتهى. يعني أن هذه القراءة ليست موقوفة على أحد رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: * (لغائظون) *: أي بخلافهم وأخذهم الأموال حين استعاروها ولم يردوها، وخرجوا هاربين. وقرأ الكوفيون، وابن ذكوان، وزيد بن علي: * (حاذرون) *، بالألف، وهو الذي قد أخذ يحذر ويجدد حذره، وحذر متعد. قال تعالى: * (يحذر الاخرة) *. وقال العباس بن مرداس:
* وإني حاذر أنمي سلاحي
*
إلى أوصال ذيال صنيع
*
وقرأ باقي السبعة: بغير ألف وهو المتيقظ. وقال الزجاج: مؤذن، أي ذوو أدوات وسلاح، أي متسلحين. وقيل: حذرون في الحال، وحادرون في المآل. وقال الفراء: الحاذر: الخائف ما يرى، والحذر: المخلوق حذرا. وقال أبو عبيدة: رجل حذر وحذر وحاذر بمعنى واحد. وذهب سيبويه إلى أن حذرا يكون للمبالغة، وأنه يعمل كما يعمل حاذر، فينصب المفعول به، وأنشد:
* حذر أمورا لا تضير وآمن
*
ما ليس منجيه من الأقدار
*
17

وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو. وعن الفراء أيضا، والكسائي: رجل حذر، إذا كان الحذر في خلقته، فهو متيقظ منتبه. وقرأ سميط بن عجلان، وابن أبي عمار، وابن السميفع: حاذرون، بالدال المهملة من قولهم: عين حدرة، أي عظيمة، والحادر: المتوارم. قال ابن عطية: فالمعنى ممتلئون غيظا وأنفة. وقال ابن خالوية: الحادر: السمين القوي الشديد، يقال غلام حدر بدر. وقال صاحب اللوامح: حدر الرجل: قوي بأسه، يقال: منه رجل حد بدر، إذا كان شديد البأس في الحرب، ويقال: رجل حدر، بضم الدال للمبالغة، مثل يقظ. وقال الشاعر:
* أحب الصبي السوء من أجل أمة
*
وأبغضه من بغضها وهو حادر
*
أي سمين قوي. وقيل: مدججون في السلاح. * (فأخرجناهم) *: الضمير عائد على القبط. * (من جنات وعيون) *: بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد، قاله ابن عمر وغيره، والجمهور: على أنها عيون الماء. وقال ابن جبير: المراد عيون الذهب. * (وكنوز) *: هي الأموال التي خربوها. قال مجاهد: سماها كنوزا لأنه لم ينفق في طاعة الله قط. وقال الضحاك: الكنوز: الأنهار. قال صاحب التحبير: وهذا فيه نظر، لأن العيون تشملهما. وقيل: هي كنوز للقطم ومطالبة. قال ابن عطية: هي باقية إلى اليوم. انتهى.
وأهل مصر في زماننا في غاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم، فينفقون على حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة، ويبلغون في العمق إلى أقصى غاية، ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكذان الذي المقطم مخلوق منه، وأي مغربي يرد عليهم سألوه عن علم المطالب. فكثير منهم يضع في ذلك أوراقا ليأكلوا أموال المصريين بالباطل، ولا يزال الرجل منهم يذهب ماله في ذلك حتى يفتقر، وهو لا يزداد إلا طلبا لذلك حتى يموت. وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابة هذه الأسطر، نحوا من خمسة وأربعين عاما، فلم أعلم أن أحدا منهم حصل على شيء غير الفقر؛ وكذلك رأيهم في تغوير الماء. يزعمون أن ثمر آبارا، وأنه يكتب
أسماء في شقفة، فتلقى في البئر، فيغور الماء وينزل إلى باب في البئر، يدخل منه إلى قاعة مملوءة ذهبا وفضة وجوهرا وياقوتا. فهم دائما يسألون من يرد من المغاربة عمن يحفظ تلك الأسماء التي تكتب في الشفقة، فيأخذ شياطين المغاربة منهم مالا جزيلا، ويستأكلونهم، ولا يحصلون على شيء غير ذهاب أموالهم، ولهم أشياء من نحو هذه الخرافات، يركنون إليها ويقولون إليها ويقولون بها، وإنما أطلت في هذا على سبيل التحذير لمن يعقل.
وقوله تعالى: * (ومقام كريم) *. قال ابن لهيعة: هو الفيوم. وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: هو المنابر للخطباء. وقيل: الأسرة في الكلل. وقيل: مجالس الأمراء والأشراف والحكام. وقال النقاش: المساكن الحسان. وقيل: مرابط الخيل، حكاه الماوردي. وقرأ قتادة، والأعرج: ومقام، بضم الميم من أقام كذلك. قال الزمخشري: يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، والجر على أنه وصف لمقام، أي ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك. انتهى. فالوجه الأول لا يسوغ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه، وكذلك الوجه الثاني، لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم، ولا يشبه الشيء بنفسه.
والظاهر أن قوله: * (وأورثناها بنى إسراءيل) *، أنهم ملكوا ديار مصر بعد غرق فرعون وقومه، لأنه اعتقب قوله: * (وأورثناها) *: قوله: * (* وأخرجناهم) *، وقاله الحسن؛ قال: كما عبروا النهر، رجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم. وقيل: ذهبوا إلى الشام وملكوا مصر زمن سليمان. وقرأ الجمهور: * (إسراءيل فأتبعوهم) *: أي فلحقوهم. وقرأ الحسن، والذماري:
18

فاتبعوهم، بوصل الألف وشد التاء. * (* مشرفين) *: داخلين في وقت الشروق، من شرقت الشمس شروقا، إذا طلعت، كأصبح: دخل في وقت الصباح، وأمسى: دخل في وقت المساء. وقال أبو عبيدة: فاتبعوهم نحو الشرق، كأنجد: إذا قصد نحو نجد. والظاهر أن مشرقين حال من الفاعل. وقيل: مشرقين: أي في ضياء، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة، تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر، فعلى هذا يكون مشرقين حالا من المفعول.
فلما تراءى الجمعان) *: أي رأى أحدهما الآخر، * (*) *: أي رأى أحدهما الآخر، * (الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون) *: أي ملحقون، قالوا ذلك حين رأوا العدو القوي وراءهم والبحر أمامهم، وساءت ظنونهم. وقرأ الأعمش: وابن وثاب: تراي الجمعان، بغير همز، على مذهب التخفيف بين بين، ولا يصح القلب لوقوع الهمزة بين ألفين، إحداهما ألف تفاعل الزائدة بعد الفاء، والثانية اللام المعتلة من الفعل. فلو خففت بالقلب لاجتمع ثلاث ألفات متسقة، وذلك مما لا يكون أبدا، قاله أبو الفضل الرازي. وقال ابن عطية: وقرأ حمزة: تريء، بكسر الراء ويمد ثم يهمز؛ وروى مثله عن عاصم، وروي عنه أيضا مفتوحا ممدودا، أو الجمهور يقرؤونه مثل تراعى، وهذا هو الصواب، لأنه تفاعل. وقال أبو حاتم: وقراءة حمزة هذا الحرف محال، وحمل عليه، قال: وما روي عن ابن وثاب والأعمش خطأ. انتهى. وقال الأستاذ أبو جعفر أحمد ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، هو ابن الباذش، في كتاب الإقناع من تأليفه: تراءى الجمعان في الشعراء إذا وقف عليها حمزة والكسائي، أما لا الألف المنقلبة عن لام الفعل، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلا ووقفا لإمالة الألف المنقلبة؛ ففي قراءته إمالة الإمالة. وفي هذا الفعل، وفي راءى، إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة، حذف السبب وإبقاء المسبب، كما قالوا: صعقى في النسب إلى الصعق. وقرأ الجمهور: لمدركون، بإسكان الدال؛ والأعرج، وعبيد بن عمير: بفتح الدال مشددة وكسر الراء، على وزن مفتعلون، وهو لازم، بمعنى الفناء والاضمحلال. يقال: منه ادرك الشيء بنفسه، إذا فني تتابعا، ولذلك كسرت الراء على هذه القراءة؛ نص على كسرها أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح)، والزمخشري في (كشافه) وغيرهما. وقال أبو الفضل الرازي: وقد يكون ادرك على افتعل بمعنى أفعل متعديا، فلو كانت القراءة من ذلك، لوجب فتح الراء، ولم يبلغني ذلك عنهما، يعني عن الأعرج وعبيد بن عمير. قال الزمخشري: المعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد، ومنه بيت الحماسة:
* أبعد بني أمي الذين تتابعوا
*
أرجى الحياة أم من الموت أجزع
*
* (قال كلا إن معى ربى سيهدين) *: زجرهم وردعهم بحرف الردع وهو كلا، والمعنى: لن يدركوكم لأن الله وعدكم بالنصر والخلاص منهم، إن معي ربي سيهدين عن قريب إلى طريق النجاة ويعرفنيه. وقيل: سيكفيني أمرهم. ولما انتهى موسى إلى البحر، قال له مؤمن آل فرعون، وكان بين يدي موسى: أين أمرت، وهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون؟ قال: أمرت بالبحر، ولا يدري موسى ما يصنع. ورويت هذه المقالة عن يوشع، قالها لموسى عليه السلام، فأوحى الله إليه * (أن اضرب بعصاك البحر) *، فحاض يوشع الماء. وضرب موسى بعصاه، فصار فيه اثنا عشر طريقا، لكل سبط طريق. أراد تعالى أن يجعل هذه الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل فعله، ولكنه بقدرة الله إذ ضرب البحر بالعصا لا يوجب انفلاق البحر بذاته، ولو شاء تعالى لفلقه دون ضربه بالعصا، وتقدم الخلاف في مكان هذا البحر.
* (فانفلق) *: ثم محذوف تقديره: فضرب فانفلق. وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب، وفاء انفلق. والفاء في انفلق هي فاء ضرب،
19

فأبقى من كل ما يدل على المحذوف، أبقيت الفاء من فضرب واتصلت بانفلق، ليدل على ضرب المحذوفة، وأبقى انفلق ليدل على الفاء المحذوفة منه. وهذا قول شبيه بقول صاحب البرسام، ويحتاج إلى وحي يسفر عن هذا القول. وإذا نظرت القرآن وجدت جملا كثيرة محذوفة، وفيها الفاء نحو قوله: * (فأرسلون * يوسف أيها
الصديق) *، أي فأرسلوه، فقال يوسف أيها الصديق، والفرق الجزء المفصل. والطود: الجبل العظيم المنطاد في السماء. وحكى يعقوب عن بعض القراء، أنه قرأ كل فلق باللام عوض الراء.
* (وأزلفنا) *: أي قربنا، * (ثم) *: أي هناك، وثم ظرف مكان للبعد. * (الاخرين) *: أي قوم فرعون، أي قربناهم، ولم يذكر من قربوا منه، فاحتمل أن يكون المعنى: قربناهم حيث انفلق البحر من بني إسرائيل، أو قربنا بعضهم من بعض حتى لا ينجو أحد، أو قربناهم من البحر. وقرأ الحسن، وأبو حيوة: وزلفنا بغير ألف. وقرأ أبي، وابن عباس، وعبد الله بن الحارث: وأزلقنا بالقاف عوض الفاء، أي أزللنا، قاله صاحب اللوامح. قيل: من قرأ بالقاف صار الآخرين فرعون وقومه، ومن قرأ بالعامة يعني بالقراءة العامة، فالآخرون هم موسى وأصحابه، أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة. انتهى، وفي الكلام حذف تقديره: ودخل موسى وبنو إسرائيل البحر وأنجينا. قيل: دخلوا البحر بالطول، وخرجوا في الصفة التي دخلوا منها بعد مسافة، وكان بين موضع الدخول وموضع الخروج أوعار وجبال لا تسلك.
* (إن فى ذلك لآية) *: أي لعلامة واضحة عاينها الناس وشاع أمرها. قال الزمخشري: * (وما كان أكثرهم مؤمنين) *: أي ما تنبه أكثرهم عليها ولا آمنوا. وبنو إسرائيل، الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء، قد سألوه بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وطلبوا رؤية الله جهرة. انتهى. والذي يظهر أن قوله: * (وما كان أكثرهم مؤمنين) *: أي أكثر قوم فرعون، وهم القبط، إذ قد آمن السحرة، وآمنت آسية امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وعجوز اسمها مريم، دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام، واستخرجوه وحملوه معهم حين خرجوا من مصر.
* (واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا ءاباءنا كذلك يفعلون * قال أفرءيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وءاباؤكم الاقدمون * فإنهم عدو لى إلا رب العالمين * الذى خلقنى فهو يهدين * قال أفرءيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وءاباؤكم الاقدمون * فإنهم عدو لى إلا رب العالمين * الذى خلقنى فهو يهدين * والذى هو يطعمنى ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذى يميتنى ثم يحيين * والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين * رب هب لى حكما وألحقنى بالصالحين * واجعل لى لسان صدق فى الاخرين * واجعلنى من ورثة جنة النعيم * واغفر لابى إنه كان من الضالين * ولا تحزنى * يوم يبعثون * يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم * وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين * وقيل لهم * أينما * كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفى ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما أضلنا إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من * المؤمنون * إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
لما كانت العرب لها خصوصية بإبراهيم عليه السلام، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم) أن يتلو عليهم قصصه، وما جرى له مع قومه. ولم يأت في قصة من قصص هذه السورة أمره عليه السلام بتلاوة قصة إلا في هذه، وإذ: العامل فيه. قال الحوفي: أتل، ولا يتصور ما قال إلا بإخراجه عن الظرفية وجعله بدلا من نبا، واعتقاد أن العامل في البدل والمبدل منه واحد. وقال أبو البقاء: العامل في إذ نبأ. والظاهر أن الضمير في * (وقومه) * عائد على إبراهيم. وقيل: على أبيه، أي وقوم أبيه، كما قال: * (إنى أراك وقومك فى ضلال مبين) *. وما: استفهام بمعنى التحقير والتقرير. وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم
20

عبدة أصنام، ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا يعبدونه ليس مستحقا للعبادة، لما ترتب على جوابهم من أوصاف معبوداتهم التي هي منافية للعبادة. ولما سألهم عن الذي يعبدونه، ولم يقتصروا على ذكره فقط، بل أجابوا بالفعل ومتعلقه وما عطف عليه من تمام صفتهم مع معبودهم، فقالوا: * (نعبد أصناما فنظل لها عاكفين) *: على سبيل الابتهاج والافتخار، فأتوا بقصتهم معهم كاملة، ولم يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم: أصناما، كما جاء: * (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) *، * (يسئلونك عن الخمر والميسر قل) *، ولذلك عطفوا على ذلك الفعل قولهم: * (فنظل) *. قال: كما تقول لرئيس: ما تلبس؟ فقال: ألبس مطرف الخز فاجر ذيوله، يريد الجواب: وحاله مع ملبوسه. وقالوا: فنظل، لأنهم كانوا يعبدونهم بالنهار دون الليل. ولما أجابوا إبراهيم، أخذ يوقفهم على قلة عقولهم، باستفهامه عن أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى.
وقرأ الجمهور: * (يسمعونكم) *، من سمع؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدت إلى واحد، نحو: سمعت كلام زيد، وإن دخلت على غير مسموع، فذهب الفارسي أنها تتعدى إلى اثنين، وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع، نحو: سمعت زيدا يقرأ والصحيح أنها تتعدى إلى واحد، وذلك الفعل في موضع الحال، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. وهنا لم تدخل إلا على واحد، ولكنه بمسموع، فتأولوه على حذف مضاف تقديره: هل يسمعوانكم، تدعون؟ وقيل: * (هل يسمعونكم) * بمعنى: يجيبونكم. وقرأ قتادة، ويحيى بن يعمر: بضم الياء وكسر الميم من أسمع، والمفعول الثاني محذوف تقديره: الجواب، أو الكلام. وإذ: ظرف لما مضى، فإما أن يتجاوز فيه فيكون بمعنى إذا، وإما أن يتجاوز في المضارع فيكون قد وقع موقع الماضي، فيكون التقدير: هل سمعوكم هذ دعوتم؟ وقد ذكر أصحابنا أن من قرائن صرف المضارع إلى الماضي إضافة إلى جملة مصدرة بالمضارع، ومثلوا بقوله: * (وإذ تقول للذى أنعم الله عليه) *، أي وإذ قلت. وقال الزمخشري: وجاء مضارعا مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية التي كنتم تدعونها فيها، وقولوا: هل سمعوا، أو اسمعوا قط؟ وهذا أبلغ في التبكيت. انتهى. وقرئ: بإظهار ذال إذ وبإدغامها في تاء تدعونن. قال ابن عطية: ويجوز فيه قياس مذكر، ولم يقرأ به أحد؛ والقياس أن يكون اللفظ به، إذ إتدعون. فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل، فكثرة المتماثلات. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه يجوز فيه قياس مذكر لا يجوز، لأن ذلك الإبدال، وهو إبدال التاء دالا، لا
يكون إلا في افتعل، مما فاؤه ذال أو زاي أو دال، نحو: إذذكر، وازدجر، وادهن، أصله: اذتكر، وازتجر، وادتهن؛ أو جيم شذوذ، قالوا: أجد مع في اجتمع، ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال، ومثلوا بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت: فزد، وفي جلدت: جلد، ومن تاء تولج شذوذا قالوا: دولج، وتاء المضارعة ليست شيئا مما ذكرنا، فلا تبدل تاءه. وقول ابن عطية: والذي منع من هذا اللفظ إلى آخره، يدل على أنه لولا ذلك لجاز إبدال تاء، المضارعة دالا وإدغام الذال فيها، فكنت تقول: إذ تخرج: ادخرج، وذلك لا يقوله أحد، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء، فتقول: اتخرج.
* (أو ينفعونكم * إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون) * بترك عبادتكم إياهم، فإذا لم ينفعوا ولم يضروا، فما معنى عبادتكم لها؟ * (قالوا بل وجدنا) * هذه حيدة عن جواب الاستفهام، لأنهم لو قالوا: يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا، فضحوا أنفسهم بالكذب الذي لا يمتري فيه، ولو قالوا: يسمعوننا ولا يضروننا، لسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض، فعدلوا إلى التقليد البحث لآبائهم في عبادتها من غير برهان ولا حجة. والكاف في موضع نصب بيفعلون، أي يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعل الذي يفعله، وهو عبادتهم؛ والحيدة عن الجواب من علامات انقطاع الحجة. وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعا وإقرارا بالعجز.
* (أنتم وءاباؤكم) *: وصفهم بالأقدمين دلالة على ما تقادم عبادهم الأصنام فيهم، وإذ كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليه السلام، فزمان من بعده؟ وعدو: يكون للمفرد والجمع، كما قال: * (هم العدو فاحذرهم) *، قيل: شبه بالمصدر، كالقبول والولوع. قال الزمخشري: وإنما قال: عدو لي، تصورا للمسألة في نفسه على
21

معنى: أي فكرت في أمري، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولا، وبنى عليها تدبير أمره، لينظروا ويقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أرادو لروحه، ليكون أدنى لهم إلى القبول، وأبعث على استماع منه. ولو قال: فإنه عدو لكم، لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنضوح. ما لا يبلغ التصريح، لأنه ربما يتأمل فيه، فربما قاده التأميل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله عنه، أن رجلا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب؛ وسمع رجل ناسا يتحدثون عن الحجر فقال: ما هو بيتي ولا بيتكم. انتهى. وهو كلام فيه تكثير على عادته، وذهاب من ذهب إلى أن قوله: * (فإنهم عدو لى) *، من المقلوب والأصل: فإني عدو لهم، لأن الأصنام لا تعادي لكونها جمادا، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. ألا ترى إلى قوله: * (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *، فهذا معنى العداوة، ولأن المغري على عداوتها عدو الإنسان، وهو الشيطان. وقيل: لأنه تعالى يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا من عبدتهم ويوبخوهم. وقيل: هو على حذف، أي: فإن عبادهم عدولي. والظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير. وقال الجرجاني: تقديره: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين، فإنهم عدو لي، وإلا: بمعنى دون وسوى. انتهى. فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون، ولا حاجة إلى هذا التقدير لصحة أن يكون مستثنى من قوله: * (فإنهم عدو لى) *. وجعله جماعة منهم الفراء، واتبعه الزمخشري استثناء منقطعا، أي لكن رب العالمين، لأنهم فهموا من قوله: ما كنتم تعبدون أنهم الأصنام. وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلا على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله، وأجازوا في * (الذى خلقنى) * النصب على الصفة لرب العالمين، أو بإضمار، أعني: والرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون * (الذى خلقنى) * رفعا بالابتداء، * (فهو يهدين) *: ابتداء وخبر في موضع الخبر عن الذي، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط. انتهى. وليس الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص، ولا يتخيل فيه العموم، فليس نظير: الذي يأتيني فله درهم، وأيضا ليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى إبراهيم.
وتابع أبو البقاء الحوفي في إعرابه هذا، لكنه لم يقل: ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط. فإن كان أراد ذلك، فليس بجيد لما ذكرناه، وإن لم يرده، فلا يجوز ذلك إلا على زيادة الفاء، على مذهب الأخفش في نحو: زيد فاضربه؛ الذي خلقني بقدرته فهو يهدين إلى طاعته. وقيل: إلى جنته. وقال الزمخشري: فهو يهدين، يريد أنه حين أتم خلقه، ونفخ فيه الروح عقب هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى ما يصلحه ويعينه، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصا؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة؟ وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الارتضاع؟ إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاذ. انتهى. والظاهر أن قوله: * (يطعمنى ويسقين) *: الطعام المعروف المعهود، والسقي المعهود، وفيه تعديد نعمة الرزق. وقال أبو بكر الوراق: يطعمني بلا طعام، ويسيني بلا شراب، كما جاء أني أبيت يطمني ربي ويسقيني ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو، فلم يكن التركيب الذي هو خلقني، ولما كانت الهداية قد يمكن ادعاؤها. والإطعام والسقي كذلك أكد بهو في قوله: * (فهو يهدين * والذى هو يطعمنى) *، وذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة ويستمر به نظام الخلق، وهو الغذاء والشرب. ولما كان ذلك سببا لغلبة إحدى الكيفيات على الأخرى بزيادة الغذاء أو نقصانه، فيحدث بذلك مرض ذكر نعمته، بإزالة ما حدث من السقم، وأضاف المرض إلى نفسه، ولم يأت التركيب: وإذا أمر ضني، وإن كان تعالى هو الفاعل لذلك وإبراهيم عليه السلام عدد نعم الله تعالى عليه والشفاء محبوب والمرض مكروه. ولما لم يكن المرض منها، لم يضفه إلى الله. وعن جعفر الصادق، ولعله لا يصح: وإذا مرضت بالذنوب
22

شفاني بالتوبة. وقال الزمخشري: وإنما قال: مرضت دون أمر ضني، لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قال الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم، ولما كان الشفاء قد يعزى إلى الطيب، وإلى الدواء على سبيل المجاز؛ كما قال: * (فيه شفآء للناس) *، أكد بقوله: * (فهو يشفين) *: أي الذي هو يهدين ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره.
ولما كانت الإماتة بعد البعث، لا يمكن إسنادها إلا إلى الله، لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ لإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة، وكذلك لم يحتج إلى
تأكيد في: * (والذى أطمع) *. وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني وما بعده، وهي رواية عن نافع. والطمع عبارة عن الرجاء، وإبراهيم عليه السلام كان جازما بالمغفرة. فقال الزمخشري: لم يجزم القول بالمغفرة، وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفا بهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. انتهى. ورده الرازي قال: لأن حاصله يرجع إلى أنه، ونطق بكلمة لا أذكرها، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة، وهو باطل قطعا. وقال الجبائي: أراد به سائر المؤمنين، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون. ورده الرازي بأن جعل كلام الواحد من كلام غيره، مما يبطل نظم الكلام. وقال الحسن: المراد بالطمع اليقين. وقال الرازي: لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا، حيث قلنا: إنه لا يجب على الله شيء، وإنه يحسن منه كل شيء، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله. وقال ابن عطية: أوقف عليه الصلاة والسلام نفسه على الطمع في المغفرة، وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته.
وقرأ الجمهور: خطيئتي على الإفراد، والحسن: خطاياي على الجمع، وذهب الأكثرون إلى أنها قوله: * (إنى سقيم) *، و * (بل فعله كبيرهم) *، وهي أختي في سارة. وقالت فرقة: أراد بالخطيئة اسم الجنس، قدرها في كل أمره من غير تعيين. قال ابن عطية: وهذا أظهر عندي، لأن تلك الثكلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعاريض. وقال الزمخشري: المراد ما يندر منه في بعض الصغائر، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين، وهي قوله وذكر الثلاثة ثم قال وما هي إلا معاريض، كلام وتخيلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر، وهي تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا، وطمع أن يغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق، أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله: اطمع، ولم يجزم القول. انتهى. و * (يوم الدين) *: ظرف، والعامل فيه يعفر، والغفران، وإن كان في الدنيا، فأثره لا يتبين إلا يوم الجزاء، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى. وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئة على تلك الثلاث، لأن نسبة ما لا يطابق إلى إبراهيم غير جائز، وحمله على سبيل التواضع قال: لأنه إن طابق في هذا الموضع زال الإشكال، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به، لأجل تنزيهه عن المعصية. قال: والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى خطأ. فإن من باع جوهرة تساوي ألفا بدينار، قيل: أخطأ، وترك الأولى على الأنبياء جائز. انتهى، وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة.
وقدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله تعالى، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي طلبته ومسألته، ثم سأله تعالى فقال: * (رب هب لى حكما) *، فدل على أن تقديم الثناء على المسلة من المهمات. والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق. وقيل: الحكم: الحكمة والنبوة، لأنها حاصلة تلو طلب النبوة،
23

لأن النبي ذو حكمة وحكم بين الناس. وقال أبو عبد الله الرازي: لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأنها حاصلة، فلو طلب النبوة لكانت مطلوبة، إما عين الحاصلة أو غيرها. والأول محال، لأن تحصيل الحاصل محال، والثاني محال، لأنه يمنع أن يكون الشخص الواحد نبيا مرتين، بل المراد من الحكم ما هو كمال النبوة العملية، وذلك بأن يكون عالما بالخير لأجل العمل به. انتهى. وقال ابن عطية: وقد فسر الحكم بالحكمة والنبوة، قال: ودعاؤه عليه السلام في مثل هذا هو في التثبت والدوام. وإلحاقه بالصالحين: توفيقه لعمل ينتظمه في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة. وقد أجابه تعالى حيث قال: * (وإنه فى الاخرة لمن الصالحين) *.
قال أبو عبد الله الرازي: وإنما قدم قوله: * (هب لى حكما) * على قوله: * (وألحقنى بالصالحين) *، لأن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية، لأنه يمكنه أن يعلم الحق، وإن لم يعمل به، وعكسه غير ممكن، لأن العلم صفة الروح، والعمل صفة البدن، وكما أن الروح أشرف من البدن، كذلك العلم أفضل من الإصلاح. انتهى. ولسان الصدق، قال ابن عطية: هو الثناء وتخليد المكانة بإجماع من المفسرين. وكذلك أجاب الله دعوته، فكل ملة تتمسك به وتعظمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم). قال مكي: وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، فأجيبت الدعوة في محمد عليه السلام، وهذا معنى حسن، إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ. انتهى. ولما طلب سعادة الدنيا، طلب سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث، لأنه الذي يقسم في الدنيا شبه غنيمة الدنيا بغنيمة الآخرة، وقال تعالى: * (تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا) *.
ولما فرغ من مطالب الدنيا والآخرة لنفسه، طلب لأشد الناس التصاقا به، وهو أصله الذي كان ناشئا عنه، وهو أبوه، فقال: * (واغفر لابى) *، وطلبه المغفرة مشروط بالإسلام، وطلب المشروط يتضمن طلب الشرط، فحاصله أنه دعا بالإسلام. وكان وعده ذلك يوضحه قوله: * (وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو * الله) *، أي الموافاة على الكفر تبرأ منه. وقيل: كان قال له إنه على دينه باطنا وعلى دين نمروذ ظاهرا، تقية وخوفا، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، ولذلك قال في دعائه: * (واغفر لابى إنه كان من الضالين) *. فلولا اعتقاده أنه في الحال ليس بضال ما قال ذلك. * (ولا تحزنى) *: إما من الخزي، وهو الهوان، وإما من الخزاية، وهي الحياء. والضمير في * (يبعثون) * ضمير العباد، لأنه معلوم، أو ضمير * (الضالين) *، ويكون من جملة الاستغفار، لأنه يكون المعنى: يوم يبعث الضالون. وأتى فيهم: * (يوم لا ينفع) * بدل من: * (يوم يبعثون) *. * (مال ولا بنون) *: أي كما ينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه. وقيل: المراد بالبنين جميع الأعوان. وقيل: المعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها، فقصد من ذلك الذكر العظيم والأكثر، لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا. والظاهر أن الاستثناء منقطع، أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه. قال الزمخشري: ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف، وهو الحال المراد بها السلامة، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى. انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى حذف مضاف، كما ذكر، إذ قدرناه، لكن * (من أتى الله بقلب سليم) * ينفعه ذلك، وقد جعله الزمخشري في أول توجيه متصلا بتأويل قال: إلا من أتى الله: لا حال من أتى الله بقلب سليم، وهو من قوله
24

تحية بينهم ضرب وجيع
وما ثوابه إلا السيف، ومثاله أن يقال: هل لزيد مال وبنون؟ فيقول: ماله وبنوه سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. انتهى. وجعله بعضهم استثناء مفرغا، ف (من) مفعول، والتقدير: لا ينفع مال ولا بنون أحدا إلا من أتى الله بقلب سليم، فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر، وبنوه الصلحاء، إذ كان أنفقه في طاعة الله، وأرشد بنيه إلى الدين، وعلمهم الشرائع وسلامة القلب، خلوصه من الشرك والمعاصي، وعلق الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين. وقال سفيان: هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره، وهذا يقتضي عمومه اللفظ، ولكن السليم من الشرك هو الأعم. وقال الجنيد: بقلب لديغ من خشية الله، والسليم: اللديغ. وقال الزمخشري: هو من بدع التفاسير وصدق.
* (وأزلفت الجنة) *: قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها. * (وبرزت الجحيم) *: أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم كقوله: * (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل * لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله) *، وذلك على سبيل التوبيخ. هل ينفعونكم بنصرهم إياكم، أو ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها، إذ هم وأنتم وقود النار؟ وقرأ الأعمش: فبرزت بالفاء، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه، وذلك لأن الواو للجمع، فيمكن أن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر، وهو من تقديم الرحمة على العذاب، وهو حسن، لو أن رسم المصحف بالواو. وقرأ مالك بن دينار: * (وبرزت) * بالفتح والتخفيف؛ * (الجحيم) * بالرفع، بإسناد الفعل إليها اتساعا. ولما وبخهم وقرعهم، أخبر عن حال يوم القيامة، وجئ في ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت. وقيل: * (فكبكبوا) *، لتحقق وقوع ذلك، وإن كان لم يقع. والضمير في: فكبكبوا عائد على الأصنام، أجريت مجرى من يعقل. قال الكرماني: فكبكبوا: قذفوا فيها. وقيل: جمعوا. وقيل: هدروا. وقيل: نكسوا على رؤوسهم بموج بعضهم في بعض. وقيل: ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى يستقروا في قعرها. * (والغاوون) *: هم الكفرة الذين شملتهم الغواية. وقيل: الضمير يعود على الكفار، والغاوون: الشياطين. * (وجنود إبليس) *: قبيلة، وكل من تبعه فهو جند له وعون. وقال السدي: هم مشركو العرب، والغاوون: سائر المشركين. وقيل: هم القادة والسفلة، قالوا: أي عباد الأصنام، والجملة بعده حال، والمقول جملة القسم ومتعلقه، والخطاب في * (نسويكم) * للأصنام على جهة الإقرار والاعتراف بالحق. قال ابن عطية: أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى، الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم. انتهى. وقوله: إن كنا إلا ضالين، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح، وإن أراد أن هنا نافية، واللام في لفي بمعنى إلا، فليس مذهب البصريين، وإنما هو مذهب الكوفيين. ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي المخففة من الثقيلة، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة.
* (وما أضلنا إلا المجرمون) *: أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم: * (أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) *. وقال السدي: هم الأولون الذين اقتدوا بهم. وقيل: المجرمون: الشياطين، وقيل: من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس. وقال ابن جريج: إبليس وابن آدم القاتل، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي. وحين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان، وشفاعة الصديق في
25

صديقه خاصة، قالوا على جهة التلهف والتأسف، * (فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم) *. وقال ابن جريج: شافعين من الملائكة وصديق من الناس. ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانة عند المشفوع عنده، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة ونصرة، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ونفي الشفعاء. والصديق يحتمل أن يكون نفيا لوجودهم إذ ذاك، وهم موجودون للمؤمنين، إذ تشفع الملائكة وتتصادق المؤمنون، كما قال: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، أو ذلك على حسب اعتقادهم في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله، وأن لهم أصدقاء من الإنس والشياطين، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع، لأن ما لا ينفع، حكمه حكم المعدوم، فصار المعنى: فما لنا من نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء، وجمع الشفعاء لكثرتهم في العادة. ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع في ورطة من لا يعرفه، وأفرد الصديق لقلته، وأريد به الجمع؟ إذ يقال: هم صديق، أي أصدقاء، كما يقال: هم عدو، أي أعداء. والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني، وفتكون الجواب، كأنه قيل: يا ليت لنا كرة فنكون. وقيل: هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره، فيكون قوله: * (فنكون) * معطوفا على كرة، أي فكونا من المؤمنين، وجواب لو محذوف، أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء، أو لخلصنا من العذاب. والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول إبراهيم، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من حال قومه.
وقال ابن عطية: وهذه الآيات من قوله: * (يوم لا ينفع مال ولا بنون) * هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام، وهي إخبار من الله عز وجل، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه. انتهى. وكان ابن عطية قد أعرب * (يوم لا ينفع) * بدلا من * (يوم يبعثون) *، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام، وجعل بعضه من كلام إبراهيم، وبعضه من كلام الله، لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخرمن لفظ الأول، أو الأول. وعلى كلا التقديرين، لا يصح أن يكون من كلام الله، إذ يصير التقدير: ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون. والإشارة بقوله * (إن فى ذلك لآية) * إلى قصة إبراهيم عليه السلام ومحاورته لقومه. * (وما كان أكثرهم) *: أي أكثر قوم إبراهيم. بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم) في تكذيب قومه إياه عليه السلام.
(* (كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب
العالمين * فاتقوا الله وأطيعون * قالوا أنؤمن لك واتبعك الا رذلون * قال وما علمى بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربى لو تشعرون * ومآ أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين * قالوا لئن لم تنته يانوح لتكونن من المجرمين * قال رب إن قومى كذبون * فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى ومن معى من المؤمنين * فأنجيناه ومن معه فى الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين * إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذى صلى الله عليه وسلم
26

1764 أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إنىأخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا سوآء علينآ أوعظت أم لم تكن من الواعظين * إن هاذا إلا خلق الا ولين * وما نحن بمعذبين * فكذبوه فأهلكناهم إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتتركون فى ما هاهنآ ءامنين * فى جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون فى الا رض ولا يصلحون * قالوا إنمآ أنت من المسحرين * مآ أنت إلا بشر مثلنا فأت بأاية إن كنت من الصادقين * قال هاذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم * ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم * فعقروها فأصبحوا نادمين * فأخذهم العذاب إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين * قال إنى لعملكم من القالين * رب نجنى وأهلى مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين * ثم دمرنا الا خرين * وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين * إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * كذب أصحاب لأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تعثوا فى الا رض مفسدين * واتقوا الذى خلقكم والجبلة الا ولين * قالوا إنمآ أنت من المسحرين * ومآ أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السمآء إن كنت من الصادقين * قال ربىأعلم بما تعملون * فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم * إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم * وإنه
27

لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الا مين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين * وإنه لفى زبر الا ولين * أو لم يكن لهم ءاية أن يعلمه علماء بنىإسراءيل * ولو نزلناه على بعض الا عجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين * كذلك سلكناه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الا ليم * فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون * فيقولوا هل نحن منظرون * أفبعذابنا يستعجلون * أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جآءهم ما كانوا يوعدون * مآ أغنى عنهم ما كانوا يمتعون * ومآ أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين * وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغى لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون * فلا تدع مع الله إلاها ءاخر فتكون من المعذبين * وأنذر عشيرتك الا قربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم * الذى يراك حين تقوم * وتقلبك فى الساجدين * إنه هو السميع العليم * هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعرآء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون) *))
) *
المشحون: المملوء بما ينبغي له من قدر ما يحمل، يقال: شحنها عليها خيلا ورجالا، الريع: بكسر الراء وفتحها: جمع ريعة، وهو المكان المرتفع. قال ذو الرمة:
* طراق الخوافي مشرق فوق ريعه
*
بذي ليلة في ريشه يترقرق
*
وقال أبو عبيدة: الريع: الطريق. قال ابن المسيب بن علس يصف ظعنا:
* في الآل يخفضها ويرفعها
*
ريع يلوح كأنه سحل
*
الطلع: الكفري، وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكم في أول نباته. وقال الزمخشري: الطلعة: هي التي تطلع
28

من النخلة، كنصل السيف في جوفه. شماريخ القنو، والقنو: اسم للخارج من الجذع، كما هو بعرجونه. الفراهة: جودة منظر الشيء وقوته وكماله في نوعه. وقيل
: الكيس والنشاط. القالي: المبغض، قلى يقلي ويقلى، ومجيئه على يفعل بفتح العين شاذ. الجبلة: الخلق المتجسد الغليظ، مأخوذ من الجبل. قال الشاعر:
* والموت أعظم حادث
*
مما يمر على الجبلة
*
ويقال: بسكون الباء مثلث الجيم. وقال الهروي: الجبل والجبل والجبل، لغات، وهو الجمع الكثير العدد من الناس. انتهى. هام: ذهب على وجهه، قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة: حاد عن القصد.
* (كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسئلكم عليه من * خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما * قل ما يعبؤا بكم ربى لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما * طسم * تلك ءايات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السماء ءاية فظلت أعناقهم لها خاضعين * وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزءون * أولم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
القوم: مؤنث مجازي التأنيث، ويصغر قويمة، فلذلك جاء: * (كذبت قوم نوح) *. ولما كان مدلوله أفرادا ذكورا عقلاء، عاد الضمير عليه، كما يعود على جمع المذكر العاقل. وقيل: قوم مذكر، وأنث لأنه في معنى الأمة والجماعة، وتقدم معنى تكذيب قوم نوح المرسلين، وإن كان المرسل إليهم واحدا في الفرقان في قوله: * (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم) *، وإخوة نوح قيل: في النسب. وقيل: في المجانسة، كقوله:
يا أخيا تميم تريد يا واحد أمته
وقال الشاعر:
* لا يسألون أخاهم حين يندبهم
*
في النائبات على ما قال برهانا
*
ومتعلق التقوى محذوف، فقيل: ألا تتقون عذاب الله وعقابه على شرككم؟ وقيل: ألا تتقون مخالفة أمر الله فتتركوا عبادتكم للأصنام وأمانته، كونه مشهورا في قومه بذلك، أو مؤتمنا على أداء رسالة الله؟ ولما عرض عليهم برفق تقوى الله فقال: * (ألا تتقون) *، انتقل من العرض إلى الأمر فقال: * (فاتقوا الله وأطيعون) * في نصحي لكم، وفيما دعوتكم إليه من توحيد الله وإفراده بالعبادة. * (وما أسئلكم عليه) *: أي على دعائي إلى الله والأمر بتقواه. وقيل: الضمير في عليه يعود على النصح، أو
29

على التبليغ، والمعنى: لا أسئلكم عليه شيئا من أموالكم. وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله سبب لطاعة نوح عليه السلام. ثم كرر الأمر بالتقوى والطاعة، ليؤكد عليهم ويقرر ذلك في نفوسهم، وإن اختلف التعليل، جعل الأول معلولا لأمانته، والثاني لانتفاء أخذ الأجر. ثم لم ينظروا في أمر رسالته، ولا تفكروا فيما أمرهم به، لما جبلوا عليه ونشؤوا من حب الرئاسة، وهي التي تطبع على قلوبهم. فشرع أشرافهم في تنقيص متبعيه، وأن الحامل على انتفاء إيمانهم له، كونه اتبعه الأرذلون.
وقوله: * (واتبعك الارذلون) *، جملة حالية، أي كيف نؤمن وقد اتبعك أراذلنا، فنتساوى معهم في اتباعك؟ وكذا فعلت قريش في شأن عمار وصهيب. والضعفاء أكثر استجابة من الرؤساء، لأن أدهانهم ليست مملوءة بزخارف الدنيا، فهم أدرك للحق وأقبل له من الرؤساء. وقرأ الجمهور: واتبعك فعلا ماضيا. وقرأ عبد الله، وابن عباس، والأعمش، وأبو حيوة، والضحاك، وابن السميفع، وسعيد بن أبي سعد الأنصاري، وطلحة، ويعقوب: واتباعك جمع تابع، كصاحب وأصحاب. وقيل: جمع تبيع، كشريف وأشراف. وقيل:. قيل: والذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكنانة وبنو بنيه، فعلى هذا لا تكون الرذالة دناءة المكاسب؛ وتقدم الكلام في الرذالة في هود في قوله: * (إلا الذين هم أراذلنا) *، وأرادوا بذلك تنقيص نوح عليه السلام، إذ لم يعلموا أن ضعفاء الناس هم أتباع الرسل، كما ورد في حديث هرقل. وهذا الذي أجابوا به في غاية السخافة، إذ هو مبعوث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى، ولا شرف المكاسب ودناءتها.
وقال ابن عطية: ويظهر من الآية أن مراد قوم نوح نسبة الرذيلة إلى المؤمنين، بتهجين أفعالهم لا النظر إلى صنائعهم، يدل على ذلك قول نوح: * (وما علمى) * الآية، لأن معنى كلامه ليس في نظري، وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهم فائدة، فإنما أقنع بظاهرهم وأجتزىء به، ثم حسابهم على الله تعالى، وهذا نحو ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلاه إلا الله)، الحديث بجملته انتهى. وقال الكرماني: لا أطلب العلم بما عملوه، إنما على أن أدعوهم. وقال الزمخشري: وما علمي، وأي شيء علمي، والمراد انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم واطلاعه على سرائرهم؛ وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا في استرذالهم في إيمانهم، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا هوى وبديهة، كما حكى الله عنهم في قوله: * (الذين هم أراذلنا) * بادىء الرأي. ويجوز أن يتعالى لهم نوح
عليه السلام، فيفسر قولهم: الأرذلون، بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم. ثم بنى جوابه على ذلك فيقول: ما علي إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش على أسرارهم والشق عن قلوبهم، وإن كان لهم شيء، فالله محاسبهم ومجازيهم، وما أنا إلا منذر لا محاسب، ولا مجاز، لو تشعرون ذلك، ولكنكم تجهلون، فتنساقون مع الجهل حيث سيركم. وقصد بذلك رد اعتقادكم، وإنكار أن يسمى المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا. فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى. انتهى. وهو تكثير. وقال الحوفي: وما علمي ماانا فيه، والباء متعلقة بعلمي. انتهى. وهذا التخريج يحتاج فيه إلى إضمار خبر حتى تصير جملة ولما كانوا لا يصدقون بالحساب ولا بالبعث، أردفه بقوله: * (لو تشعرون) *، أي بأن المعاد حق، والحساب حق. وقرأ الجمهور: تشعرون بتاء الخطاب. وقرأ الأعرج، وأبو زرعة، وعيسى بن عمر الهمداني: بياء الغيبة.
* (وما أنا بطارد المؤمنين) *: هذا مشعر بأنهم طلبوا منه ذلك فأجابهم بذلك، كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يطرد من آمن من الضعفاء، فنزلت: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) * الآية، أي لا أطردهم عني لاتباع شهواتكم والطمع في إيمانكم. * (إن أنا إلا نذير مبين: ما جئت به بالبرهان الصحيح الذي يميز به الحق من الباطل. ولما اعتلوا في ترك إيمانهم بإيمان من هو دونهم، دل ذلك على أنهم لم تثلج صدورهم للإيمان، إذ اتباع الحق لا يأنف منه أحد لوجود الشركة فيه، أخذوا في التهديد والوعيد.
* (قالوا لئن لم تنته يا نوح) * عن تقبيح ما نحن عليه، وادعائك الرسالة من الله، * (لتكونن من المرجومين) *، أي بالحجارة، وقيل: بالشتم
30

وأيس إذ ذاك من فلاحهم، فنادى ربه وهو أعلم بحاله فدعائي ليس لأجل أنهم آذوني، ولكن لأجل دينك. * (فافتح) *، أي فاحكم. ودعا لنفسه ولمن آمن به بالنجاة، وفي ذلك إشعار بحلول العذاب بقومه، أي: * (ونجنى) * مما يحل بهم. وقيل: ونجني من عملهم لأنه سبب العقوبة. والفلك واحد وجمع، وغالب استعماله جمعا لقوله: * (وترى الفلك مواخر فيه) *، والفلك التي تجري في البحر) *، فحيث أتى في غير فاصلة، استعمل جمعا، وحيث كان فاصلة، استعمل مفردا لمراعاة الفواصل، كهذا الموضع. والذي في سورة يس، وتقدم الخلاف إذا كان مدلوله جمعا، أهو جمع تكسير، أم اسم جمع؟ والمشحون، قال ابن عباس: الموقر، وقال عطاء: المثقل. * (*) *، فحيث أتى في غير فاصلة، استعمل جمعا، وحيث كان فاصلة، استعمل مفردا لمراعاة الفواصل، كهذا الموضع. والذي في سورة يس، وتقدم الخلاف إذا كان مدلوله جمعا، أهو جمع تكسير، أم اسم جمع؟ والمشحون، قال ابن عباس: الموقر، وقال عطاء: المثقل. * (ثم أغرقنا بعد) *: أي بعد نجاة نوح والمؤمنين.
* (كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم * ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذى أمدكم بما * تعملون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين * إن هاذا إلا خلق الاولين * وما نحن بمعذبين * فكذبوه فأهلكناهم إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
كان أخاهم من النسب، وكان تاجرا جميلا، أشبه الخلق بآدم عليه السلام، عاش أربعمائة سنة وأربعا وستين سنة، وبينه وبين ثمود مائة سنة. وكانت منازل عاد ما بين عمان إلى حضرموت. أمرع البلاد، فجعلها الله مفاوز ورمالا. أمرهم أولا أمر به نوح قومه، ثم نعى عليهم من سوء أعمالهم مع كفرهم فقال: * (أتبنون بكل ريع) *؟ قال ابن عباس: هو رأس الزقاق. وقال مجاهد: فج بين جبلين. وقال عطاء: عيون فيها الماء. وقال ابن بحر: جبل. وقيل: الثنية الصغيرة. وقرأ الجمهور: ريع بكسر الراء، وابن أبي عبلة: بفتحها. قال ابن عباس: * (ءاية) *: علما. وقال مجاهد: أبراج الحمام. وقال النقاش وغيره: القصور الطوال. وقيل: بيت عشار. وقيل: ناديا للتصلف. وقيل: أعلاما طوالا ليهتدوا بها في أسفارهم، عبثوا بها لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم. وقيل: علامة يجتمع إليها من يعبث بالمار في الطريق. وفي قوله إنكار للبناء على صورة العبث، كما يفعل المترفون في الدنيا. والمصانع: جمع مصنعة. قيل: وهي البناء على الماء. وقيل: القصور المشيدة المحكمة. وقيل: الحصون. وقال قتادة: برك الماء. وقيل: بروج الحمام. وقيل: المنازل. واتخذ هنا بمعنى عمل، أي ويعملون مصانع، أي تبنون. وقال لبيد:
وتبقى جبال بعدنا ومصانع
* (لعلكم تخلدون) *: الظاهر أن لعل على بابها من الرجاء، وكأنه تعليل للبناء والاتخاذ، أي الحامل لكم على ذلك هو الرجاء للخلود ولا خلود. وفي قراءة عبد الله: كي تخلدون، أو يكون المعنى يشبه حالكم حال من يخلد، فلذلك بتيتم واتخذتم. وقال ابن زيد: معناه الاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم، أي هل أنتم تخلدون: وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي. وقال ابن عباس: المعنى كأنكم خالدون، وفي حرف أبي: كأنكم تخلدون. وقرئ: كأنكم خالدون. وقرأ أبي، وعلقمة، وأبو العالية، مبنيا للمفعول مشددا، كما قال الشاعر:
31

* وهل ينعمن إلا سعيد مخلد
*
قليل الهموم ما يبيت بأوجال
*
وإذا بطشتم: أي أردتم البطش، وحمل على الإرادة لئلا يتحد الشرط وجوابه، كقوله:
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
أي متى أردتم بعثها. قال الحسن: بادروا تعذيب الناس من غير تثبت ولا فكر في العواقب. وقيل: المعنى أنكم كفار الغضب، لكم السطوات المفرطة والبوادر. فبناء الأبنية العالية تدل على حب العلو، واتخاذ المصانع رجاء الخلود يدل على البقاء، والجبارية تدل على التفرد بالعلو، وهذه صفات الإلاهية، وهي ممتنعة الحصول للعبد. ودل ذلك على استيلاء حب الدنيا عليهم بحيث خرجوا عن حد العبودية، وحب الدنيا رأس كل خطيئة. ولما نبههم ووبخهم على أفعالهم القبيحة، أمرهم ثانيا بتقوى الله وطاعة نبيه. ثم أمرهم ثالثا بالتقوى تنبيها لهم على إحسانه تعالى إليهم، وسبوغ نعمته عليهم. وأبرز صلة * (الذى) * متعلقة بعلمهم، تنبيها لهم وتحريضا على الطاعة والتقوى، إذ شكر المحسن واجب، وطاعته متعينة، ومشيرا إليهم بأن من أمد بالإحسان هو قادر على سلبه، وعلى تعذيب من لم يتقه، إذ هذا الإمداد ليس من جهتكم، وإنما هو من تفضله تعالى عليكم بحيث أتبعكم إحسانه شيئا بعد شيء. ولما أتى بذكر ما أمدهم به مجملا محالا على علمهم، أتى به مفصلا. فبدأ بالأنعام، وهي التي تحصل بها الرئاسة في الدنيا، والقوة على من عاداهم، والغنى هو السبب في حصول الذرية غالبا لوجده. وبحصول القوة أيضا بالبنين، فلذلك قرنهم بالأنعام، ولأنهم يستعينون بهم في حفظها والقيام عليها. واتبع ذلك بالبساتين والمياه المطردة، إذ الإمداد بذلك من إتمام النعمة.
* (* وبأنعام) *: ذهب بعض النحويين إلى أنه بدل من قوله: * (خبير بما تعملون) *، وأعيد العامل كقوله: * (اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسئلكم) *. والأكثرون لا يجعلون مثل هذا بدلا وإنما هو عندهم من تكرار الجمل، وإن كان المعنى واحدا، ويسمى التتبيع، وإنما يجوز أن يعاد عندهم العامل إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به، نحو: مررت بزيد بأخيك، ثم حذرهم عذاب الله، وأبرز ذلك في صورة الخوف لا على سبيل الجزم، إذ كان راجيا لإيمانهم، فكان من جوابهم أن قالوا: * (سواء علينا) * وعظك وعدمه، وجعلوا قوله وعظا، إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به، وأنه كاذب فيما ادعاه، وقولهم ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به. وقرأ الجمهور: وعظت، بإظهار الظاء. وروي عن أبي عمرو، والكسائي، وعاصم: إدغام الظاء في التاء. وبالإدغام، قرأ ابن محيصن، والأعمش، إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ: أوعظتنا. وينبغي أن يكون إخفاء، لأن الظاء مجهورة مطبقة، والتاء مهموسة منفتحة، فالظاء أقوى من التاء، والإدغام إنما يحسن في المتماثلين، أو في المتقاربين، إذا كان الأول أنقص من الثاني. وأما إدغام الأقوى في الأضعف، فلا يحسن. على أنه قد جاء من ذلك أشياء في القرآن بنقل الثقات، فوجب قبولها، وإن كان غيرها هو أفصح وأقيس.
وعادل * (أوعظت) * بقوله: * (أم لم تكن من الواعظين) *، وإن كان قد يعادله: أم لم تعظ. كما قال: * (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا) * لأجل الفاصلة، كما عادلت في قوله: * (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) *، ولم يأت التركيب أم صمتم، وكثيرا ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه. وقال الزمخشري: بينهما فرق، يعني بين ما جاء في الآية وهي: أم لم تعظ، قال: لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلا من أهله ومباشرته، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظ من قولك: أم لم تعظ. ولما لم يبالوا بما أمرهم به، وبما ذكرهم من نعم الله وتخويفه الانتقام منهم، أجابوه بأن قالوا: * (إن هاذا إلا خلق الاولين) *. وقرأ عبد الله، وعلقمة، والحسن، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وابن كثير، والكسائي: خلق، بفتح الخاء وسكون اللام، فهو يحتمل أن يكون المعنى: إن هذا الذي تقوله وتدعيه إلا اختلاق الأولين من الكذبة
32

قبلك، فأنت على مناهجهم. وروى علقمة عن عبد الله: أن هذا إلا اختلاق الأولين. ويحتمل أن يكون المعنى: ما هذه البنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها الأولون، حياة وموت ولا بعث ولا تعذيب. وقرأ باقي السبعة: خلق، بضمتين؛ وأبو قلابة، والأصمعي عن نافع: بضم الخاء وسكون اللام؛ وتحتمل هذه القراءة ذينك الاحتمالين اللذين في خلق.
* (كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتتركون * فيما * هاهنا * ءامنين * فى جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون فى الارض ولا يصلحون * قالوا إنما أنت من المسحرين * ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بئاية إن كنت من الصادقين * قال هاذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم * ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم * فعقروها فأصبحوا نادمين * فأخذهم العذاب إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
* (أتتركون) *: يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزولون عنه، وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات، وغير ذلك مع الأمن والدعة، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: تخويف لهم، بمعنى: أتطمعون إن كفرتم في النعم على معاصيكم؟ وقيل: أتتركون؟ استفهام في معنى التوبيخ، أي أيترككم ربكم؟ * (فيما * هاهنا) *: أي فيما أنتم عليه في الدنيا * (ءامنين) *: لا تخافون بطشه. انتهى. وما موصولة، وههنا إشارة إلى المكان الحاضر القريب، أي في الذي استقر في مكانكم هذا من النعيم. وفي جنات: بدل من ما ههنا أجمل، ثم فصل، كما أجمل هود عليه السلام في قوله: * (أمدكم بما تعلمون) *، ثم فصل في قوله: * (أمدكم بأنعام وبنين) *، وكانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل. والهضيم، قال ابن عباس: إذا أينع وبلغ. وقال الزهري: الرخص اللطيف أول ما يخرج. وقال الزجاج: الذي رطبه بغير نوى. وقال الضحاك: المنضد بعضه على بعض. وقيل: الرطب المذنب. وقيل: النضيج من الرطب. وقيل: الرطب المتفتت. وقيل: الحماض الطلع، ويقارب قشرته من الجانبين من قولهم: خصر هضيم. وقيل: العذق المتدلي. وقيل: الجمار الرخو. وجاء قوله: * (ونخل) * بعد قوله: * (في جنات) *، وإن كانت الجنة تتناول النخل أول شيء، ويطلقون الجنة، ولا يريدون بها إلا النخل، كما قال الشاعر:
* كان عيني في غربي مقتلة
*
من النواضح تسقي جنة سحقا
*
أراد هنا النخل. والسحق جمع سحوق، وهي التي ذهبت بجردتها صعدا فطالت. فأفرد * (ونخل) * بالذكر بعد اندراجه في لفظ جنات، تنبيها على انفارده عن شجر الجنة بفضله. أو أراد بجنات غير النخل من الشجر، لأن اللفظ صالح لهذه الإرادة، ثم عطف عليه ونخل، ذكرهم تعالى في أن وهب لهم أجود النخل وأينعه، لأن الإناث ولادة التمر، وطلعها فيه لطف، والهضيم: اللطيف الضامر، والبرني ألطف من طلع اللون. ويحتمل اللطف في الطلع أن يكون بسبب كثرة الحمل، فإنه متى كثر لطف فكان هضيما، وإذا قل الحمل جاء التمر فاخرا. ولما كانت منابت النخل جيدة، وكان السقي لها كثيرا، أوسلمت من العاهة، كبر الحمل بلطف الحب. وقرأ الجمهور: * (وتنحتون) *، بالتاء للخطاب
33

وكسر الحاء؛ وأبو حيوة، وعيسى، والحسن: بفتحها، وتقدم ذكره، وعنه بألف بعد الحاء إشباعا. وعن عبد الرحمن بن محمد، عن أبيه: بالياء من أسفل وكسر الحاء. وعن أبي حيوة، والحسن أيضا: بالياء من أسفل وفتح الحاء. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وزيد بن علي، والكوفيون، وابن عامر: فارهين بألف، وباقي السبعة: بغير ألف؛ ومجاهد: متفرهين، اسم فاعل من تعزه، والمعنى: نشطين مهتمين، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: شرهين. وقال ابن زيد: أقوياء. وقال ابن عباس أيضا، وأبو عمرو بن العلاء: أشرين بطرين. وقال عبد الله بن شداد: بمعنى مستفرهين، أي مبالغين في استجادة المغارات ليحفظوا أموالهم فيها. وقال قتادة: آمنين. وقال الكلبي: متجبرين. وقال خصيف: معجبين. وقال عكرمة: ناعمين. وقال الضحاك: كيسين. وقال أبو صالح: حاذقين. وقال ابن بحر: قادرين. وقال أبو عبيدة: مرحين.
وظاهر هذه الآيات أن الغالب على قوم هود: اللذات الخيالية من طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر، وعلى قوم صالح: اللذات الحسية من المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة. * (ولا تطيعوا) *: خطاب الجمهور قومه. والمسرفون: هم كبراؤهم وأعلامهم في الكفر والإضلال، وكانوا تسعة رهط. * (يفسدون فى الارض) *: أي أرض ثمود. وقيل: في الأرض كلها، لأن بمعاصيهم امتناع الغيث. ولما كانوا يفسدون دلالته دلالة المطلق، أتى بقوله: * (ولا يصلحون) *، فنفى عنهم الصلاح، وهو نفي لمطلق الصلاح، فيلزم منه نفي الصلاح كائنا ما كان، فلا يحصل منهم صلاح البتة. والمسحر: الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله. وقيل: من السحر، وهو الرئة، أي أنت بشر لا تصلح للرسالة. ويضعف هذا القول قولهم بعد: * (ما أنت إلا بشر مثلنا) *، إذ تكون هذه الجملة توكيدا لما قبلها، والأصل التأسيس. ومثلنا: أي في الأكل والشرب وغير ذلك من صفات البشر، فلا اختصاص لك بالرسالة.
* (يأتى بئاية) *: أي بعلامة على صحة دعواك، وفي الكلام حذف تقديره: قال آتي بها، قالوا: ما هي؟ * (قال هاذه ناقة) * روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة تلد سقبا. فقعد صالح يتفكر، فقال له جبريل عليه السلام: صل ركعتين وسل ربك الناقة، ففعل؛ فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم، ونتجت سقبا مثلها في العظم. وتقدم في الأعراف طرف من قصة ثمود والناقة، والشرب النصيب المشروب من الماء نحو السقي. وقرأ ابن أبي عبلة: شرب، بضم الشين فيهما، وظاهر هذا العذب أنه في الدنيا، وكذا وقع ووصف بالعظم لحلول العذاب فيه، ووصفه به أبلغ من وصف العذاب به، لأن الوقت إذا عظم بسبب العذاب، كان موقع العذاب من العظم أشد. ونسب العقر إلى جميعهم، لكونهم راضين بذلك، حتى روي أنهم استرضوا المرأة في خدرها والصبيان، فرضوا جميعا.
* (فأصبحوا نادمين) *، لا ندم توبة، بل ندم خوف أن يحل بهم العذاب عاجلا، وذلك عند معاينة العذاب في غير وقت التوبة. أصبحوا وقد تغيرت ألوانهم حسبما كان أخبرهم به صالح عليه السلام، وكان العذاب صيحة خمدت لها أبدانهم، وانشقت قلوبهم، وماتوا عن آخرهم، وصب عليهم حجارة خلال ذلك. وقيل: كانت ندامتهم على ترك عقر الولد، وهو قول بعيد. وأل في: * (فأخذهم العذاب) * للعهد في العذاب السابق، عذاب ذلك اليوم العظيم.
* (كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسئلكم
34

عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يالوط * لوط * لتكونن من المخرجين * قال إنى لعملكم من القالين * رب نجنى وأهلى مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين * ثم دمرنا الاخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين * إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
أتأتون: استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ؛ * (* والذكران) *: جمع ذكر، مقابل الأنثى. والإتيان: كناية عن وطء الرجال، وقد سماه تعالى بالفاحشة فقال: * (لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) *، هو مخصوص بذكران بني آدم. وقيل: مخصوص بالغرباء. * (وتذرون ما خلق) *: ظاهر في كونهم لا يأتون النساء، إما البتة، وإما غلبة. * (ما خلق لكم ربكم) *: يدل على الإباحة بشرطها. * (من أزواجكم) *: أي من الإناث. ومن إما للتبيين لقوله: * (ما خلق) *، وإما للتبعيض: أي العضو المخلوق للوطء، وهو الفرج، وهو على حذف مضاف، أي وتذرون إتيان. فإن كان ما خلق لا يراد به العضو، فلا بد من تقدير مضاف آخر، أي وتذرون إتيان فروج ما خلق. * (بل أنتم قوم عادون) *:: أي متجاوزون الحد في الظلم، وهو إضراب بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء، لا أنه إبطال لما سبق من الإنكار عليهم وتقبيح أفعالهم واعتداؤهم؛ إما في المعاصي التي هذه المعصية من جملتها، أو من حيث ارتكاب هذه الفعلة الشنيعة. وجاء تصدير
الجملة بضمير الخطاب تعظيما لقبح فعلهم وتنبيها على أنهم هم مختصون بذلك، كما تقول: أنت فعلت كذا، أي لا غيرك. ولما نهاهم عن هذا الفعل القبيح توعدوه بالإخراج، وهو النفي من بلده الذي نشأ فيه، أي: * (لئن لم تنته) * عن دعواك النبوة، وعن الإنكار علينا فيما نأتيه من الذكران، فننفينك كما نفينا من نهانا قبلك. ودل قوله: * (من المخرجين) * على أنه سبق من نهاهم عن ذلك، فنفوه بسبب النهي، أو من المخرجين بسبب غير هذا السبب، كأنه من خالفهم في شيء نفوه، سواء كان الخلاف في هذا الفعل الخاص، أم في غيره.
* (قال إنى لعملكم) *: أي للفاحشة التي أنتم تعملونها. ولعملكم يتعلق إما بالقالين، وإن كان فيه أل، لأنه يسوغ في المجرورات والظروف ما لا يسوغ في غيرها، لاتساع العرب في تقديمها، حيث لا يتقدم غيرها؛ وإما بمحذوف دل عليه القالين وكونه بغض القالين يدل على أنه يبغض هذا الفعل ناس غيره هو بعضهم، ونبه ذلك على أن هذا الفعل موجب للبغض حتى يبغضه الناس. ومن القالين أبلغ من قال لما ذكرنا من أن الناس يبغضونه، ولتضمنه أنه معدود ممن يبغضه. ألا ترى إن قولك: زيد من العلماء، أبلغ من: زيد عالم، لأن في ذلك شهادة بأنه معدود في زمرتهم. وقال أبو عبد الله الرازي: القلى: البغض الشديد، كأنه بغض فقلي الفؤاد والكبد. انتهى. ولا يكون قلى بمعنى أبغض. وقلا من الطبخ؛ والشيء من مادة واحدة لاختلاف التركيب. فمادة قلا من الشي من ذوات الواو، وتقول: قلوت اللحم فهو مقلو. ومادة قلى من البغض من ذوات الياء، قليت الرجل، فهو مقلي. قال الشاعر:
ولست بمقلي الخلال ولا قال
ولما توعدوه بالإخراج، أخبرهم ببغض عملهم، ثم دعا ربه فقال: * (رب نجنى وأهلى مما يعملون) *: أي من عقوبة ما يعملو من المعاصي. ويحتمل أن يكون دعاء لأهله بالعصمة من أن يقع واحد منهم في مثل فعل قومه. ودل دعاؤه بالتنجية لأهله على أنهم كانوا مؤمنين. ولما كانت زوجته مندرجة في الأهل، وكان ظاهر دعائه دخولها في التنجية، وكانت كافرة استثنيت في قوله: * (فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين) *، ودل قوله: عجوزا، على أنها قد عسيت في الكفر ودامت فيه إلى أن صارت عجوزا. ومن الغابرين صفة، أي من الباقين من لذاتها وأهل بيتها، قاله أبو عبيدة.
35

وقال قتادة: من الباقين في العذاب النازل بهم. وتقدم القول في غبر، وأنه يستعمل بمعنى بقي، وهو المشهور، وبمعنى مضى. ونجاته عليه السلام أن أمره تعالى بالرحلة ليلا، وكانت امرأته كافرة تعين عليه قومه، فأصابها حجر، فهلكت فيمن هلك. قال قتادة: أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم. وقال قتادة: أتبع الائتفاك مطرا من الحجارة. وساء: بمعنى بئس، والمخصوص بالذم محذوف، أي مطرهم. وقال مقاتل: خسف الله بقوم لوط، وأرسل الحجارة إلى من كان خارجا من القربة، ولم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط.
* (كذب أصحاب لئيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله * فيها تحية وسلاما * خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما * قل ما يعبؤا بكم ربى لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما * طسم * تلك ءايات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السماء ءاية فظلت أعناقهم لها خاضعين * وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزءون * أولم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
قرأ الحرميان وابن عامر: ليكة هنا، وفي * (ص) * بغير لام ممنوع الصرف. وقرأ باقي السبعة الأيكة، بلام التعريف. فأما قراءة الفتح، فقال أبو عبيد: وجدنا في بعض التفسيران: ليكة: اسم للقرية، والأيكة: البلاد كلها، كمكة وبكة، ورأيتها في الإمام مصحف عثمان في الحجر و * (ق) *: الأيكة، وفي الشعراء و * (ص) *: ليكة، واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد على ذلك ولم تختلف. انتهى. وقد طعن في هذه القراءة المبرد وابن قتيبة والزجاج وأبو علي الفارسي والنحاس، وتبعهم الزمخشري؛ ووهموا القراء وقالوا: حملهم على ذلك كون الذي كتب في هذين الموضعين على اللفظ في من نقل حركة الهمزة إلى اللام وأسقط الهمزة، فتوهم أن اللام من بنية الكلمة ففتح الياء، وكان الصواب أن يخيز، ثم مادة ل ي ك لم يوجد منها تركيب، فهي مادة مهملة. كما أهملوا مادة خ ذ ج منقوطا، وهذه نزغة اعتزالية، يعتقدون أن بعض القراءة بالرأي لا بالرواية، وهذه قراءة متواترة لا يمكن الطعن فيها، ويقرب إنكارها من الردة، والعياذ بالله. أما نافع، فقرأ على سبعين من التابعين، وهم عرب فصحاء، ثم قراءة أهل المدينة قاطبة. وأما ابن كثير، فقرأ على سادة التابعين ممن كان بمكة، كمجاهد وغيره، وقد قرأ عليه إمام البصرة أبو عمرو بن العلاء، وسأله بعض العلماء: أقرأت على ابن كثير؟ قال: نعم، ختمت على ابن كثير بعدما ختمت على مجاهد، وكان ابن كثير أعلم من مجاهد باللغة. قال أبو عمرو: ولم يكن بين القراءتين كبير يعني خلافا. وأما ابن عامر فهو إمام أهل الشام، وهو عربي قح، قد سبق اللحن، أخذ عن عثمان، وعن أبي الدرداء وغيرهما. فهذه أمصار ثلاثة اجتمعت على هذه القراءة الحرمان مكة والمدينة والشام، وأما كون هذه المادة مفقودة في لسان العرب، فإن صح ذلك كانت الكلمة عجمية، ومواد كلام العجم مخالفة في كثير مواد كلام العرب، فيكون قد اجتمع على منع صرفها العلمية والعجمة والتأنيث.
وتقدم مدلول الأيكة في الحجر، وكان شعيب عليه السلام من أهل مدين، فلذلك جاء: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا) *. ولم يكن من أهل الأيكة، فلذلك قال هنا: * (إذ قال لهم شعيب) *. ومن غريب النقل ما روي عن ابن عباس، أن * (كذب أصحاب) * هم أصحاب مدين، وعن غيره، أن * (كذب أصحاب) * هم أهل البادية، وأصحاب مدين هم الحاضرة. وروي في الحديث: (أن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة، أمرهم بإيفاء الكيل، وهو الواجب، ونهاهم عن الإخسار، وهو التطفيف، ولم يذكر الزيادة على الواجب، لأن
36

النفوس قد تشح بذلك فمن فعله فقد أحسن، ومن تركه فلا حرج). وتقدم تفسير القسطاس في سورة الإسراء. وقال الزمخشري: إن كان من القسط، وهو العدل،
وجعلت الغين مكررة، فوزنه فعلاء، وإلا فهو رباعي. انتهى. ولو تكرر ما يماثل العين في النطق، لم يكن عند البصريين إلا رباعيا. وقال ابن عطية: هو مبالغة من القسط. انتهى. والظاهر أن قوله: * (وزنوا) *، هو أمر بالوزن، إذ عادل قوله: * (أوفوا الكيل) *، فشمل ما يكال وما يوزن مما هو معتاد فيه ذلك. وقال ابن عباس ومجاهد: معناه عدلوا أموركم كلها بميزان العدل الذي جعله الله لعباده.
* (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) *: الجملة والتي تليها تقدم الكلام عليهما. ولما تقدم أمره عليه السلام إياهم بتقوى الله، أمرهم ثانيا بتقوى من أوجدهم وأوجد من قبلهم، تنبيها على أن من أوجدهم قادر على أن يعذبهم ويهلكهم. وعطف عليهم * (والجبلة) * إيذانا بذلك، فكأنه قيل: يصيركم إلى ما صار إليه أولوكم، فاتقوا الله الذي تصيرون إليه. وقرأ الجمهور: والجبلة بكسر الجيم والباء وشد اللام. وقرأ أبو حصين، والأعمش، والحسن: بخلاف عنه، بضمها والشد للام. وقرأ السلمي: والجبلة، بكسر الجيم وسكون الباء، وفي نسخة عنه: فتح الجيم وسكون الباء، وهي من جبلوا على كذا، أي خلقوا. قيل: وتشديد اللام في القراءتين في بناءين للمبالغة. وعن ابن عباس: الجبلة: عشرة آلاف. * (وما أنت) *: جاء هنا بالواو، وفي قصة هود: * (ما أنت) *، بغير واو. فقال الزمخشري: إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان، كلاهما مخالف للرسالة عندهم، التسخير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا، ولا يجوز أن يكون بشرا، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد، وهو كونه مسحرا، ثم قرر بكونه بشرا. انتهى.
* (وإن نظنك لمن الكاذبين) *: إن هي المخففة من الثقيلة، واللام في لمن هي الفارقة، خلافا للكوفيين، فإن عندهم نافية واللام بمعنى إلا، وتقدم الخلاف في نحو ذلك في قوله: * (وإن كانت لكبيرة) * في البقرة. ثم طلبوا منه إسقاط كسف، من السماء عليهم، وليس له ذلك، فالمعنى: إن كنت صادقا، فادفع الذي أرسلك أن يسقط علينا كسفا، أي قطعة، أو قطعا على حسب التسكين والتحريك. وقال الزمخشري: وكلاهما جمع كسفة، نحو: قطع وشذر. وقيل: الكسف والكسفة، كالريع والريعة، وهي القطعة وكسفة: قطعة، والسماء: السحاب أو المظلة. ودل طلبهم ذلك على التصميم على الجحود والتكذيب. ولما طلبوا منه ما طلبوا، أحال علم ذلك إلى الله تعالى، وأنه هو العالم بأعمالكم، وبما تستوجبون عليها من العقاب، فهو يعاقبكم بما شاء.
* (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة) *، وهو نحو مما اقترحوا. ولم يذكر الله كيفية عذاب يوم الظلة، حتى أن ابن عباس قال: من حدثك ما عذاب يوم الظلة فقد كذب، وذكر في حديثها تطويلات. فروى أنه حبس عنهم الريح سبعا، فابتلوا بحر عظيم يأخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم ظل ولا ماء، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا فأحرقتهم. وكرر ما كرر في أوائل هذه القصص، تنبيها على أن طريقة الأنبياء واحدة لا اختلاف فيها، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ورفض ما سواه، وأنهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم) مشتركون في ذلك، وأن ما جاء به صلى الله عليه وسلم) هو ما جاءت به الرسل قبله، وتلك عادة الأنبياء.
قال ابن عطية: وجاءت الألفاظ في دعاء كل واحد من هؤلاء الأنبياء واحدة بعينها، إذ كان الإيمان المدعو إليه معنى واحدا بعينه. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها. فكانت كل واحدة منها تدلى بحق، إلى أن تفتتح بمثل ما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بمثل ذلك مما اختتمت به، ولأن التكرير تقرير للمعاني في النفوس، وتثبيت لها في الصدور، ولأن هذه القصص طرقت بهذا آذان، وقر عن الإنصات للحق، وقلوب
37

غلف عن تدبره، فأوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير.
* (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الامين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين * وإنه لفى زبر الاولين * أو لم يكن لهم ءاية أن يعلمه علماء بنى إسراءيل * ولو نزلناه على بعض الاعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين * كذلك سلكناه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم * فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون * فيقولوا هل نحن منظرون * أفبعذابنا يستعجلون * أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون * وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين) *.
الضمير في: * (وأنه) * عائد على القرآن، أي إنه ليس بكهانة ولا سحر، بل هو من عند الله، وكأنه عاد أيضا إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر، ليتناسب المفتتح والمختتم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وحفص: * (نزل) * مخففا، و * (الروح الامين) *: مرفوعان؛ وباقي السبعة: بالتشديد ونصبهما. والروح هنا: جبريل عليه السلام، وقد تقدم في سورة مريم لم أطلق عليه الروح، وبه قال ابن عطية: في موضع الحال كقوله: * (وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) *. انتهى. والظاهر تعلق على * (قلبك) * و * (لتكون) * بنزل، وخص القلب والمعنى عليك، لأنه محل الوعي والتثبيت، وليعلم أن المنزل على قلبه عليه السلام محفوظ، لا يجوز عليه التبديل ولا التغيير، وليكون علة في التنزيل أو النزول اقتصر عليها، لأن ذلك أزجر للسامع، وإن كان القرآن نزل للإنذار والتبشير. والظاهر تعلق * (بلسان) * بنزل، فكان يسمع من جبريل حروفا عربية. قال ابن عطية، وهو القول الصحيح: وتكون صلصلة الجرس صفة لشدة الصوت وتداخل حروفه وعجلة مورده وإغلاظه. ويمكن أن يتعلق بقوله: * (لتكون) *، وتمسك بهذا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم)، كان يسمع أحيانا مثل صلصلة الجرس، يتفهم له منه القرآن، وهو مردود. انتهى. وقال الزمخشري: * (بلسان) *، إما أن يتعلق بالمنذرين، فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان، وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ومحمد صلى الله عليه وسلم) وعليهم؛ وإما أن يتعلق بنزل، فيكون المعنى: نزله باللسان العربي المبين لتنذر به، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي، لتجافوا عنه أصلا وقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به. وفي هذا الوجه، إن تنزيله بالعربية التي هي لسانك
ولسان قومك، تنزيل له على قلبك، لأنك تفهمه ويفهمه قومك. ولو كان أعجميا، لكان نازلا على سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها، وقد يكون الرجل عارفا بعده لغات، فإذا كلم بلغتها التي لقنها أولا ونشأ عليها وتطبع بها، لم يكن قلبه إلا إلى معاني تلك الكلم يتلقاها بقلبه، ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت. وإن كلم بغير تلك اللغة، وإن كان ماهرا بمعرفتها، كان نظره أولا في ألفاظها، ثم في معانيها. فهذا تقرير أنه أنزل على قلبه لنزوله بلسان عربي مبين. انتهى. وفيه تطويل.
وإنه، أي القرآن، * (لفى زبر الاولين) *: أي مذكور في الكتب المنزلة القديمة، منبه عليه مشار إليه. وقيل: إن معانيه فيها، وبه يحتج لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة، على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية، حيث قيل: * (وإنه لفى زبر الاولين) *، لكون معانيه فيها. وقيل: الضمير عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي إن ذكره ورسالته في الكتب الإلهية المتقدمة يكون التفاتا، إذ خرج من ضمير الخطاب في قوله: * (على قلبك لتكون) * إلى ضمير الغيبة، وكذلك قبل في أن يعلمه، أي أن يعلم محمدا صلى الله عليه وسلم)، وتناسق الضمائر لشيء واحد أوضح. وقرأ الأعمش: لفي زبر، بسكون الباء، والأصل الضم، ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره، كون علماء بني إسرائيل يعلمونه، أي أو لم يكن لهم علامة على صحة علم بني إسرائيل به؟ إذ كانت قريش ترجع في كثير من الأمور النقلية إلى
38

بني إسرائيل، ويسألونهم عنها ويقولون: هم أصحاب الكتب الإلهية. وقد تهود كثير من العرب وتنصر كثير، لاعتقادهم في صحة دينهم. وذكر الثعلبي، عن ابن عباس، أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم)، فقالوا: هذا زمانه، ووصفوا نعته، وخلطوا في أمر محمد عليه السلام، فنزلت الآية في ذلك، ويؤيد هذا كون الآية مكية. وقال مقاتل: هي مدنية.
* (معى بنى إسراءيل) *: عبد الله بن سلام ونحوه، قاله ابن عباس ومجاهد، وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه السلام، قال تعالى: * (وإذا يتلى عليهم قالوا ءامنا به إنه الحق من ربنا) * الآية. وقيل: علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم. وقيل: أنبياؤهم، حيث نبهوا عليه وأخبروا بصفته وزمانه ومكانة. وقرأ الجمهور: * (أو لم يكن) *، بالياء من تحت، * (ءاية) *: بالنصب، وهي قراءة واضحة الإعراب توسط خبر يكن، و * (أن يعلمه) *: هو الاسم. وقرأ ابن عامر، والجحدري: تكن بالتاء من فوق، آية: بالرفع. قال الزمخشري: جعلت آية اسما، وأن يعلمه خبرا، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا، وقد خرج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك فقيل: في تكن ضمير القصة، وآية أن يعلمه جملة واقعة الخبر، ويجوز على هذا أن يكون لهم آية جملة الشأن، وأن يعلمه بدلا من آية. انتهى. وقرأ ابن عباس: تكن بالتاء من فوق، آية بالنصب، كقراءة من قرأ: ثم * (لم تكن) *، بتاء التأنيث، * (فتنتهم) * بالنصب، إلا أن قالوا، وكقول لبيد:
* فمضى وقدمها وكانت عادة
*
منه إذا هي عردت أقدامها
*
ودل ذلك إما على تأنيث الاسم لتأنيث الخبر، وإما لتأويل أن يعلمه بالمعرفة، وتأويل * (إلا أن قالوا) * بالمقالة، وتأويل الإقدام بالإقدامة. وقرأ الجحدري: أن تعلمه بتاء التأنيث، كما قال الشاعر:
* قالت بنو عامر خالوا بني أسد
*
يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام
*
وكتب في المصحف: علموا بواو بين الميم والألف. قيل: على لغة من يميل ألف علموا إلى الواو، كما كتبوا الصلاة والزكاة والربوا على تلك اللغة. قال الزمخشري: الأعجمي الذي لا يفصح، وفي لسانه عجمة واستعجام، والأعجمي مثله إلا أن فيه لزيادة ياء بالنسبة زيادة توكيد. وقال ابن عطية: الأعجمون جمع أعجم، وهو الذي لا يفصح، وإن كان عربي النسب يقال له أعجم، وذلك يقال للحيوانات والجمادات، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم): (جرح العجماء جبار). وأسند الطبري، عن عبد الله بن مطيع أنه قال، حين قرأ هذه الآية وهو واقف بعرفة: (جملي هذا أعجم، فلو أنزل عليه ما كانوا يؤمنون). والعجمي هو الذي نسبته في العجم، وإن كان أفصح الناس. انتهى. وفي التحرير: * (الاعجمين) *: جمع أعجم على التخفيف، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة. قيل: والمعنى ولو نزلناه بلغة العجم على رجل أعجمي فقرأه على
39

العرب، لم يؤمنوا به، حيث لم يفهموه، واستنكفوا من اتباعه. وقيل: ولو نزلنا القرآن على بعض العجم من الدواب فقرأه عليهم، لم يؤمنوا، لعنادهم لقوله تعالى: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة) * الآية، وجمع جمع السلامة، لأنه وصف بالإنزال عليه والقراءة، وهو فعل العقلاء. وقيل: ولو نزل على بعض البهائم، فقرأه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم)، لم تؤمن البهائم، كذلك هؤلاء لأنهم: * (كالانعام بل هم أضل سبيلا) * انتهى.
ولما بين بما تقدم، من أن هذا القرآن في كتب الأولين، وأن علماء بني إسرائيل يعلمون ذلك، وكان في ذلك دليلان على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بين أن هؤلاء الكفار لا تجدي فيهم الدلائل. ألا ترى نزوله على رجل عربي بلسان عربي، وسمعوه وفهموه وأدركوا إعجازه وتصديق كتب الله القديمة له، ومع ذلك جحدوا وسموه تارة شعرا وتارة سحرا؟ ولو نزل على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية، لكفروا به وتمحلوا بجحوده. وقال الفراء: الأعجمين جمع أعجم وأعجمي، على حذف ياء النسب، كما قالوا: الأشعرين، وواحدهم أشعري. وقال ابن الجهم: قال الكميت:
* ولو جهزت قافية شرودا
*
لقد دخلت بيوت الأشعرينا
*
انتهى. وقرأ الحسن، وابن مقسم: الأعجمين، بياء النسب: جمع أعجمي. والضمير في * (سلكناه) *، الظاهر أنه عائد على ما عادت عليه الضمائر. قيل: وهو القرآن، وقاله الرماني. والمعنى: مثل ذلك السلك، وهو الإدخال والتمكين والتفهيم لمعانيه. * (سلكناه) *: أدخلناه ومكناه في * (قلوب المجرمين) *. والمعنى: ما ترتب على ذلك السلك من كونهم فهموه وأدركوه، ولم يزدهم ذلك إلا عنادا وجحودا وكفرا به، أي على مثل هذه الحالة وهذه الصفة من الكفر به والتكديب له، كما وضعناه فيها. فكيف ما يرام إيمانهم به لم يتغير؟ وأعماهم عليه من الإنكار والجحود، كما قال: * (ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس) * الآية. وقال الكرماني: أدخلناه فيها، فعرفوا معانيه، وعجزهم عن الإتيان الإيمان بمثله، ولم يؤمنوا به. وقال يحيى بن سلام: الضمير في سلكناه يعود على التكذيب، فذلك الذي منعهم من الإيمان. انتهى. ويقويه قوله: * (فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين) *. وقال الحسن: الضمير يعود على الكفر الذي يتضمنه قوله: * (ما كانوا به مؤمنين) *. انتهى. وهو قريب من القول الذي قبله. وقال عكرمة: سلكناه، أي القسوة، وأسند السلك تعالى إليه، لأنه هو موجد الأشياء حقيقة، وهو الهادي وخالق الضلال.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ قلت: أراد به الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكين وأثبته، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه. ألا ترى إلى قولهم: هو مجبول على الشح؟ يريدون تمكن الشح فيه، لأن الأمور الخلقية أثبت من العارضة، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه، وهو قوله: * (لا يؤمنون) * به. انتهى. وهو على طريقة الاعتزال والتشبيه بين السلكين، يقتضي تغاير من حل به. والمعنى: مثل ذلك السلك في قلوب قريش، سلكناه في قلوب من أجرم، لاشتراكهما في علة السلك وهو الإحرام. قال ابن عطية: أراد بهم مجرمي كل أمة، أي إن هذه عادة الله فيهم، أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب، فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم، وهذا على جهة المثال لقريش، أي هؤلاء كذلك، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما موقع * (لا يؤمنون به) * من قوله: * (سلكناه في قلوب المجرمين) *؟ قلت: موقعه منه موقع الموضح والملخص، لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم، فاتبع بما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد، ويجوز أن يكون حالا، أي سلكناه فيها غير مؤمن به. انتهى. ورؤيتهم العذاب، قيل: في الدنيا، وقيل: يوم القيامة. وقرأ الجمهور: * (فيأتيهم) *، بياء، أي العذاب.
40

وقرأ الحسن، وعيسى: بتاء التأنيث، أنث على معنى العذاب لأنه العقوبة، أي فتأتيهم العقوبة يوم القيامة، كما قال: أتته كتابي، فلما سئل قال: أوليس بصحيفة؟ قال الزمخشري: فتأتيهم بالتاء، يعني الساعة. وقال أبو الفضل الرازي: أنث العذاب لاشتماله على الساعة، فاكتسى منها التأنيث، وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيبا بها، فلذلك أنث. ولا يكتسى المذكر من المؤنث تأنيثا إلا إن كان مضافا إليه نحو: اجتمعت أهل اليمامة، وقطعت بعض أصابعه، وشرقت صدر القناة، وليس كذلك. وقرأ الحسن: بغتة، بفتح الغين، فتأتيهم بالتاء من فوق، يعني الساعة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله: * (فتأتيهم * بغتة) * قلت: ليس المعنى يراد برؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب مما هو أشد منها، وهو لحوقه بهم مفاجأة مما هو أشد منه، وهو سؤالهم النظرة. ومثل ذلك أن تقول: إن أسأت مقتك الصالحون، فمتقك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسئ، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين. فما هو أشد من مقتهم؟ وهو مقت الله. ويرى، ثم يقع هذا في هذا الأسلوب، فيحل موقعه. انتهى. * (فيقولوا) *، أي كل أمة معذبة: * (هل نحن منظرون) *: أي مؤخرون، وهذا على جهة التمني منهم والرغبة حيث لا تنفع الرغبة. ثم رجع لفظ الآية إلى توبيخ قريش على استعجالهم عذاب الله في طلبهم سقوط السماء كسفا وغير ذلك، وقولهم للرسول: أين ما تعدنا به؟
وقال الزمخشري: * (أفبعذابنا يستعجلون) *، تبكيت لهم بإنكاره وتهكم، ومعناه: كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب فيه من جنس، ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال؟ طرفة عين فلا يجاب إليها. ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ، يوبخون به عند استنظارهم يومئذ، ويستعجلون هذا على الوجه، حكاية حال ماضية ووجه آخر متصل بما بعده، وذلك أن استعجالهم بالعذاب إما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن. فقال عز وعلا: * (أفبعذابنا يستعجلون) *؟ أشر أو بطر أو استهزاء واتكالا على الأمل الطويل؟ ثم قال: وهب أن الأمر كما يعتقدون من تمتعهم وتعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك، ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم؟ انتهى. وقيل: اتبع قوله: فتأتيهم بغتة بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة. * (فيقولوا هل نحن منظرون) *، كما يستغيث إليه المرء عند تعذر الخلاص، لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجا، لكنهم يقولون ذلك استرواحا. وقيل: يطلبون الرجعة حين يبغتهم
عذاب الساعة، فلا يجابون إليها.
* (أفرأيت إن متعناهم سنين) *: خطاب للرسول عليه السلام بإقامة الحجة عليهم، في أن مدة الإرجاء والإمهال والإملاء لا تغني إذا نزل العذاب بعدها. وقال عكرمة: سنين، عمر الدنيا. انتهى. وتقرر في علم العربية أن أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني، تعدت إلى مفعولين، أحدهما منصوب والآخر جملة استفهامية. في الغالب تقول العرب: أرأيت زيدا ما صنع؟ وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك أول، وتقدم الكلام على ذلك مشبعا في أوائل سورة الأنعام. وتقول هنا مفعول أرأيت محذوف، لأنه تنازع على ما يوعدون أرأيت وجاءهم، فأعمل الثاني فهو مرفوع بجاءهم. ويجوز أن يكون منصوبا بأرأيت على إعمال الأول، وأضمر الفاعل في جاءهم. والمفعول الثاني هو قوله: * (ما أغنى عنهم) *، وما استفهامية، أي: أي شيء أغنى عنهم تمتعهم في تلك السنين التي متعوها؟ وفي الكلام محذوف يتضمن الضمير العائد على المفعول الأول، أي: أي شيء أغنى عنهم تمتعهم حين حل، أي الموعود به، وهو العذاب؟ وظاهر ما
41

فسر به المفسرون ما أغنى: أن تكون ما نافية، والاستفهام قد يأتي مضمنا معنى النفي كقوله: * (هل يهلك إلا القوم * الفاسقون) *؟ بعد قوله: * (أرأيتكم) * في سورة الأنعام، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون. وجوز أبو البقاء في ما أن تكون استفهاما وننافية. وقرئ: يمتعون، بإسكان الميم وتخفيف التاء.
ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا وقد أرسل إليها من ينذرها عذاب الله، إن هي عصت ولم تؤمن، كما قال تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. وجمع منذرون، لأن * (من قرية) * عام في القرى الظالمة، كأنه قيل: وما أهلكنا القرى الظالمة. والجملة من قوله: * (لها منذرون) *، في موضع الحال * (من قرية) *، والإعراب أن تكون لها في موضع الحال، وارتفع منذرون بالمجرور إلا كائنا لها منذرون، فيكون من مجيء الحال مفردا لا جملة، ومجئ الحال من المنفي كقولك: ما مررت بأحد إلا قائما، فصيح. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا، ولم تعزل عنها في قوله: * (ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) *؟ قلت: الأصل عزل الواو، لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله: * (سبعة وثامنهم كلبهم) *. انتهى. ولو قدر نالها منذرون جملة، لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا. ومذهب الجمهور، أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو: ما جاءني أحد إلا راكب. وإذا سمع مثل هذا، خرجوه على البدل، أي: إلا رجل راكب. ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول: ما مررت بأحد إلا قائما، ولا يحفظ من كلامها: ما مررت بأحد إلا قائم. فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة، لو رد المفرد بعد إلا صفة لها. فإن كانت الصفة غير معتمدة على أداة، جاءت الصفة بعد إلا نحو: ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو، التقدير: ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد. وأما كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف، فغير معهود في كلام النحويين. لو قلت: جاءني رجل وعاقل، على أن يكون وعاقل صفة لرجل، لم يجز، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازا إذا عطف بعضها على بعض، وتغاير مدلولها نحو: * (* مررت) * بزيد الكريم والشجاع والشاعر. وأما * (سبعة وثامنهم كلبهم) * فتقدم الكلام عليه في موضعه.
* (وذكرى) *: منصوب على الحال عند الكسائي، وعلى المصدر عند الزجاج. فعلى الحال، إما أن يقدر ذوي ذكرى، أو مذكرين. وعلى المصدر، فالعامل منذرون، لأنه في معنى مذكرون ذكرى، أي تذكرة. وأجاز الزمخشري في ذكرى أن يكون مفعولا له، قال: على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة، وأن تكون مرفوعة صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى، أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. وأجاز هو وابن عطية أن تكون مرفوعة على خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى، والجملة اعتراضية. قال الزمخشري: ووجه آخر، وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولا له، والمعنى: وما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، لتكون تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم. * (وما كنا ظالمين) *، فنهلك قوما غير ظالمين، وهذا الوجه عليه المعول. انتهى. وهذا لا معول عليه، لأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعا له غير معتمد على الأداة نحو: ما مررت بأحد إلا زيد خير من عمرو. والمفعول له ليس واحدا من هذه الثلاثة، فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا. ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش، وإن كانا لم ينصا على المفعول له بخصوصيته.
* (وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغى لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون * فلا تدع مع الله إلاها ءاخر فتكون من المعذبين * وأنذر عشيرتك الاقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم * الذى يراك حين تقوم * وتقلبك فى الساجدين * إنه هو السميع العليم * هل أنبئكم * من تنزل الشياطين *
42

تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون) *.
كان مشركو قريش يقولون: إن لمحمد تابعا من الجن يخبره كما يخبر الكهنة، فنزلت، والضمير في * (به) * يعود على القرآن، بل * (نزل به الروح الامين) *. وقرأ الحسن: الشياطون، وتقدمت في البقرة، وقد ردها أبو حاتم والقراء؛ قال أبو حاتم: هي غلط منه أو عليه. وقال النحاس: هو غلط عند جميع النحويين. وقال المهدوي: هو غير جائز في العربية. وقال الفراء: غلط الشيخ، ظن أنها النون التي على هجائن. فقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤية، فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه، يريد محمد بن السميفع، مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بها إلا وقد سمعا فيه؟ وقال يونس بن حبيب: سمعت أعرابيا يقول: دخلت بساتين من ورائها بساتون، فقلت: ما أشبه هذا بقراءة الحسن. انتهى. ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين، فكما أجرى إعراب هذا على النون تارة وعلى ما قبله تارة فقالوا: يبرين ويبرون وفلسطين وفلسطون؛ أجرى ذلك في الشياطين تشبيها به فقالوا: الشياطين والشياطون. وقال أبو فيد مؤرج السدوسي
: إن كان اشتقاقه من شاط، أي احترق، يشيط شوطة، كان لقراء تهما وجه. قيل: ووجهها أن بناء المبالغة منه شياط، وجمعه الشياطون، فخففا الياء، وقد روي عنهما التشديد، وقرأ به غيرهما. انتهى. وقرأ الأعمش: الشياطون، كما قرأه الحسن وابن السميفع. فهؤلاء الثلاثة من نقلة القرآن، قرؤوا ذلك، ولا يمكن أن يقال غلطوا، لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان. وما أحسن ما ترتب نفي هذه الجمل؛ نفى أولا تنزيل الشياطين به، والنفي في الغالب يكون في الممكن، وإن كان هنا لا يمكن من الشياطين التنزل بالقرآن، ثم نفى انبغاء ذلك والصلاحية، أي ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلا له، ثم نفى قدرتهم على ذلك وأنه مستحيل في حقهم التنزل به، فارتقى من نفي الإمكان إلى نفي الصلاحية إلى نفي القدرة والاستطاعة، وذلك مبالغة مترتبة في نفي تنزيلهم به، ثم علل انتفاء ذلك عن استماع كلام أهل السماء مرجومون بالشهب.
ثم قال تعالى: * (فلا تدع مع الله إلاها ءاخر) *: والخطاب في الحقيقة للسامع، لأنه تعالى قد علم أن ذلك لا يمكن أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم)، ولذلك قال المفسرون: المعنى قل يا محمد لمن كفر: لا تدع مع الله إلها آخر. ثم أمره تعالى بإنذار عشيرته، والعشيرة تحت الفخذ وفوق الفصيلة، ونبه على العشيرة، وإن كان مأمورا بإنذار الناس كافة. كما قال: * (أن أنذر الناس) *، لأن في إندارهم، وهم عشيرته، عدم محاباة ولطف بهم، وأنهم والناس في ذلك شرع واحد في التخويف والإنذار. فإذا كانت القرابة قد خوفوا وأنذروا مع ما يلحق الإنسان في حقهم من الرأفة، كان غيرهم في ذلك أوكد وأدخل، أو لأن البداءة تكون بمن يليه ثم من بعده، كما قال: * (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) *. وقال عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة: (كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، فأول ما أضعه ربا العباس، إذ العشيرة مظنة الطواعية، ويمكنه من الغلظة عليهم ما لا يمكنه مع غيرهم، وهم له أشد احتمالا). وامتثل صلى الله عليه وسلم) ما أمره به ربه من إنذار عشيرته، فنادى الأقرب فالأقرب فخذا. وروي عنه في ذلك أحاديث. * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) *: تقدم الكلام على هذه الجمل في آخر الحجر، وهو كناية عن التواضع. وقال بعض الشعراء:
* وأنت الشهير بخفض الجناح
*
فلا تك في رفعه أجدلا
*
43

نهاه عن التكبر بعد التواضع. والأجدل: الصقر، ومن المؤمنين عام في عشيرته وغيرهم. ولما كان الإنذار يترتب عليه إما الطاعة وإما العصيان، جاء التقسيم عليهما، فكان المعنى: أن من اتبعك مؤمنا، فتواضع له؛ فلذلك جاء قسيمه: * (فإن عصوك) * فتبرأ منهم ومن أعمالهم. وفي هذا موادعة نسختها آية السيف. والظاهر عود الضمير المرفوع في عصوك، على أن من أمر بإنذارهم، وهم العشيرة، والذي برئ منه هو عبادتهم الأصنام واتخاذهم إلها آخر. وقيل: الضمير يعود على من اتبعه من المؤمنين، أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام، بعد تصديقك والإيمان بك، * (فقل إنى برىء مما تعملون) *، لا منكم، أي أظهر عدم رضاك بعملهم وإنكارك عليهم. ولو أمره بالبراءة منهم، ما بقي بعد هذا شفيعا للعصاة، ثم أمره تعالى بالتوكل. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر، وشيبة: فتوكل بالفاء، وباقي السبعة: بالواو. وناسب الوصف بالعزيز، وهو الذي لا يغالب، والرحيم، وهو الذي يرحمك. وهاتان الصفتان هما اللتان جاءتا في أواخر قصص هذه السورة. فالتوكل على من هو بهذين الوصفين كافية شر من بعضه من هؤلاء وغيرهم، فهو يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته. والتوكل هو تفويض الأمر إلى من يملك الأمر ويقدر عليه. ثم وصف بأنه الذي أنت منه بمرأى، وذلك من رحمته بك أن أهلك لعبادته، وما تفعله من تهجدك. وأكثر المفسرين منهم ابن عباس، على أن المعنى حين تقوم إلى الصلاة.
وقرأ الجمهور: * (وتقلبك) * مضارع قلب مشددا، عطفا على * (يراك) *. وقال مجاهد وقتادة: * (فى الساجدين) *: في المصلين. وقال ابن عباس: في أصلاب آدم ونوح وإبراهيم حتى خرجت. وقال عكرمة: يراك قائما وساجدا. وقيل: معنى * (تقوم) *: تخلو بنفسك. وعن مجاهد أيضا: المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه، كما قال: (أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي). وفي الوجيز لابن عطية: ظاهر الآية أنه يريد قيام الصلاة، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات، وهو تأويل مجاهد وقتادة. وفي الساجدين: أي صلاتك مع المصلين، قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما. وقال ابن عباس أيضا، وقتادة: أراد وتقلبك في المؤمنين، فعبر عنهم بالساجدين. وقال ابن جبير: أراد الأنبياء، أي تقلبك كما تقلب غيرك من الأنبياء. وقال الزمخشري: ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ويستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم. كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، بحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات، فوجدها كبيوت الزنابير، لما سمع من دندنتهم بذكر الله والتلاوة. والمراد بالساجدين: المصلون. وقيل: معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة، وتقلبه في الساجدين: تصرفه فيما بينهم لقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم. وعن مقاتل، أنه سأل أبا حنيفة رضي الله عنه: هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فتلا هذه الآية. ويحتمل أن لا يخفى على حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين. انتهى.
* (إنه هو السميع) * لما تقوله، * (العليم) * بما تنوبه وتعمله، وذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم) كانوا مؤمنين، واستدلوا بقوله تعالى: * (وتقلبك فى الساجدين) * قالوا: فاحتمل الوجوه التي ذكرت، واحتمل أن
44

يكون المراد أنه تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد، كما نقوله نحن. فإذا احتمل كل هذه الوجوه، وجب حمل الآية على الكل ضرورة، لأنه لا منافاة ولا رجحان. وبقوله عليه الصلاة والسلام: (لم أزل أنقل من أصلال الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، وكل من كان كافرا فهو نجس لقوله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * فأما قوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم لابيه ءازر) *، فلفظ الأب قد يطلق على العم، كما قالوا أبناء يعقوب له: * (نعبد إلاهك وإلاه آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) *،. سموا إسماعيل أبا مع أنه كان عما له.
* (قل هل أنبئكم) *: أي قل يا محمد: هل أخبركم؟ وهذا استفهام توقيف وتقرير. وعلى من متعلق بتنزل، والجملة المتضمنة معنى الاستفهام في موضع نصب لأنبئكم، لأنه معلق، لأنه بمعنى أعلمكم، فإن قدرتها متعدية لاثنين، كانت سادة مسد المفعول الثاني؛ وإن قدرتها متعدية لثلاثة، كانت سادة مسد الاثنين. والاستفهام إذا علق عنه العامل، لا يبقى على حقيقة الاستفهام وهو الاستعلام، بل يؤول معناه إلى الخبر. ألا ترى أن قولك: علمت أزيد في الدار أم عمرو، كان المعنى: علمت أحدهما في الدار؟ فليس المعنى أنه صدر منه علم، ثم استعلم المخاطب عن تعيين من في الدار من زيد وعمرو، فالمعنى هنا: هل أعلمكم من تنزل الشياطين عليه؟ لا أنه استعلم المخاطبين عن الشخص الذي تنزل الشياطين عليه.
ولما كان المعنى هذا، جاء الإخبار بعده بقوله: * (تنزل على كل أفاك أثيم) *، كأنه لما قال: هل أخبركم بكذا؟ قيل له: أخبر، فقال: * (تنزل على كل أفاك) *، وهو الكثير الإفك، وهو الكذب، أثيم: كثير الإثم. فأفاك أثيم: صيغتا مبالغة، والمراد الكهنة. والضمير في * (يلقون) * يحتمل أن يعود إلى الشياطين، أي ينصتون ويصغون بأسماعهم، ليسترقوا شيئا مما يتكلم به الملائكة، حتى ينزلوا بها إلى الكهنة، أو: * (يلقون السمع) *: أي المسموع إلى من يتنزلون عليه. * (وأكثرهم) *: أي وأكثر الشياطين الملقين * (كاذبون) *. فعلى معنى الإنصات يكون استئناف إخبار، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة احتمل الاستئناف، واحتمل أن يكون حالا من الشياطين، أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما سمعوا. ويحتمل أن يعود الضمير في يلقون على كل أفاك أثيم، وجمع الضمير، لأن كل أفاك فيه عموم وتحته أفراد. واحتمل أن يكون المعنى: يلقون سمعهم إلى الشياطين، لينقلوا عنهم ما يقررونه في أسماعهم، وأن يكون يلقون السمع، أي المسموع من الشياطين إلى الناس؛ وأكثرهم، أي أكثر الكهنة كاذبون. كما جاء أنهم يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء، فيخلطون معها مائة كذبة. فإذا صدقت تلك الكلمة، كانت سبب ضلالة لمن سمعها. وعلى كون الضمير عائدا على كل أفاك، احتمل أن يكون يلقون استئناف إخبار عن الأفاكين، واحتمل أن يكون صفة لكل أفاك، ولا تعارض بين قوله: * (كل أفاك) *، وبين قوله: * (وأكثرهم كاذبون) *، لأن الأفاك هو الذي يكثر الكذب، ولا يدل ذلك على أنه لا ينطق إلا بالإفك، فالمعنى: أن الأفاكين من صدق منهم فيما يحكى عن الجني، فأكثرهم مغتر.
قال الزمخشري: فإن قلت: * (وإنه لتنزيل رب العالمين * وما تنزلت به الشياطين * هل أنبئكم على من تنزل الشياطين) *، لم فرق بينهن وبين إخوان؟ قلت: أريد التفريق بينهن بآيات ليست في معناهن، ليرجع إلى المجيء بهن، بطريه ذكر ما فيهن كرة بعد كرة، فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي أسندت كراهة الله لهم، ومثاله: أن يحدث الرجل بحديث، وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه. انتهى. ولما ذكر الكهنة بإفكهم الكثير وحالهم المقتضية، نفى كلام القرآن، إذ كان بعض الكفار قال في القرآن: إنه شعر، كما قالوا في الرسول: إنه كاهن، وإن ما أتى به هو من باب الكهانة، كما قال تعالى: * (وما هو * يقول * كاهن) *، وقال: * (وما هو بقول شاعر * (.
فقال: * (والشعراء يتبعهم الغاوون) *. قيل: هي في أمية بن أبي الصلت، وأبي عزة، ومسافع الجمحي، وهبيرة بن أبي وهب، وأبي سفيان بن الحرث، وابن الزبعري. وقد أسلم ابن الزبعري وأبو سفيان. والشعراء عام يدخل فيه كل شاعر، والمذموم من يهجو ويمدح شهوة محرمة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور وما لا يسوغ شرعا. وقرأ عيسى: والشعراء: نصبا على الاشتغال؛ والجمهور: رفعا على الابتداء والخبر. وقرأ السلمي، والحسن
45

بخلاف عنه، ونافع يتبعهم مخففا؛ وباقي السبعة مشددا؛ وسكن العين: الحسن، وعبد الوارث، عن أبي عمرو. وروى هارون: نصبها عن بعضهم، وهو مشكل. * (والغاوون) *، قال ابن عباس: الرواة، وقال أيضا: المستحسنون لأشعارهم، المصاحبون لهم. وقال عكرمة: الرعاع الذين يتبعون الشاعر. وقال مجاهد، وقتادة: الشياطين. وقال عطية: السفهاء المشركون يتبعون شعراءهم.
* (ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون) *: تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول، واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق، ومجاوزة حد القصد فيه، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشجهم علي حاتم، ويبهتوا البريء، ويفسقوا النفي. وقال ابن عباس: هو تقبيحهم الحسن، وتحسينهم القبيح. * (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) *، وذلك لغلوهم في أفانين الكلام، ولهجهم بالفصاحة والمعاني اللطيفة، قد ينسبون لأنفسهم ما لا يقع منهم. وقد درأ الحد في الخمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النعمان بن عدي، في شعر قاله لزوجته حين احتج عليه بهذه الآية، وكان قد ولاه بيسان، فعزله وأراد أن يحده والفرزدق، سليمان بن عبد الملك:
* فبتن كأنهن مصرعات
*
وبت أفض أغلاق الختام
*
فقال له سليمان: لقد وجب عليك الحد، فقال: لقد درأ الله عني الجد بقوله: * (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) *. أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حالا
النبوة، إذ أمرهم، كما ذكر، من اتباع الغواة لهم، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمه، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم، وذلك بخلاف حال النبوة، فإنها طريقة واحدة، لا يتبعها إلا الراشدون. ودعوة الأنبياء واحدة، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته، والترغيب في الآخرة والصدق. وهذا مع أن ما جاءوا به لا يمكن أن يجيء به غيرهم من ظهور المعجز. ولما كان ما سبق ذما للشعراء، واستثنى منهم من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والإكثار من ذكر الله، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر؛ وإذا نظموا شعرا كان في توحيد الله والثناء عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم) وصحبه، والموعظة والزهد والآداب الحسنة وتسهيل علم، وكل ما يسوغ القول فيه شرعا فلا يتلطخون في قوله بذنب ولا منقصة. والشعر باب من الكلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
وقال رجل علوي لعمرو بن عبيد: إن صدري ليجيش بالشعر، فقال: ما يمنعك منه فيما لا بأس به. وقيل: المراد بالمستثنين: حسان، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، ومن كان ينافخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقال عليه السلام لكعب بن مالك: (اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل). وقال لحسان: (قل وروح القدس معك)، وهذا معنى قوله: * (وانتصروا) *: أي بالقول فيمن ظلمهم. وقال عطاء بن يسار وغيره: لما ذم الشعراء بقوله: * (والشعراء) * الآية، شق ذلك على حسان وابن رواحة وكعب بن مالك، وذكروا ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام، فنزلت آية الاستثناء بالمدينة، وخص ابن زيد قوله: * (وذكروا الله كثيرا) *، فقال: أي في شعرهم. وقال ابن عباس: صار خلقا لهم وعادة، كما قال لبيد، حين طلب منه شعرة: إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيرا منه. ولما ذكر: * (وانتصروا من بعد ما ظلموا) *، توعد الظالمين هذا التوعد العظيم الهائل الصادع للأكباد وأبهم في قوله: * (أى منقلب ينقلبون) *.
ولما عهد أبو بكر لعمر رضي الله عنهما، تلا عليه: * (وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب
46

ينقلبون) *، وكان السلف الصالح يتواعظون بها. والمفهوم من الشريعة أن الذين ظلموا هم الكفار. وقال الزمخشري: وتفسير الظلم بالكفر تعليل، وكان ذكر قبل أن الذين ظلموا مطلق، وهذا منه على طريق الاعتزال. وقرأ ابن عباس، وابن أرقم، عن الحسن: أي منفلت ينفلتون، بفاء وتاءين، معناه: إن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات، وهو النجاة. * (وسيعلم) * هنا معلقة، وأي منقلب: استفهام، والناصب له ينقلبون، وهو مصدر. والجملة في موضع المفعول لسيعلم. وقال أبو البقاء: أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف، والعامل ينقلبون انقلابا، أي منقلب، ولا يعمل فيه يعلم، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. انتهى. وهذا تخليط، لأن أيا، إذا وصف بها، لم تكن استفهاما، بل أي الموصوف بها قسم لأي المستفهم بها، لا قسم. برأسه فأي تكون شرطية واستفهامية وموصولة، ووصفا على مذهب الأخفش موصوفة بنكرة نحو: مررت بأي معجب لك، وتكون مناداة وصلة لنداء ما فيه الألف واللام نحو: يا أيها الرجل. والأخفش يزعم أن التي في النداء موصولة. ومذهب الجمهور أنها قسم برأسه، والصفة تقع حالا من المعرفة، فهذه أقسام أي؛ فإذا قلت: قد علمت أي ضرب تضرب، فهي استفهامية، لا صفة لمصدر محذوف.
47

((سورة النمل))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (طستلك ءايات القرءان وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم بالا خرة هم يوقنون * إن الذين لا يؤمنون بالا خرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولائك الذين لهم سوء العذاب وهم فى الا خرة هم الا خسرون * وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم * إذ قال موسى لاهله إنىآنست نارا سأاتيكم منها بخبر أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون * فلما جآءها نودى أن بورك من فى النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين * ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم * وألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إنى لا يخاف لدى المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم * وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء فى تسع ءايات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما جآءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هاذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين * ولقد ءاتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين * وورث سليمان داوود وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء إن هاذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون * حتى إذآ أتوا على وادى النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعنىأن أشكر نعمتك التىأنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين * وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغآئبين * لأعذبنه عذابا شديدا أو لاذبحنه أو ليأتينى بسلطان مبين * فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به
48

وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شىء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون * ألا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء فى السماوات والا رض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إلاه إلا هو رب العرش العظيم * قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابى هاذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون * قالت ياأيها الملأ إنىألقى إلى كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم * ألا تعلوا على وأتونى مسلمين * قالت ياأيها الملأ أفتونى فىأمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد والا مر إليك فانظرى ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة وكذالك يفعلون * وإنى مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جآء سليمان قال أتمدونن بمال فمآ ءاتانى الله خير ممآ ءاتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منهآ أذلة
وهم صاغرون * قال ياأيها الملأ أيكم يأتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين * قال عفريت من الجن أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنى عليه لقوى أمين * قال الذى عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رءاه مستقرا عنده قال هاذا من فضل ربى ليبلوني أءشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم * قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدىأم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جآءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين * قيل لها ادخلى الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إنى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) *))
) *
الوزع: أصله الكف والمنع، يقال: وزعه يزعه، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: (ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن، وقول الحسن: لا بد للقاضي من وزعة، وقول الشاعر:
* ومن لم يزعه لبه وحياؤه
*
فليس له من شيب فوديه وازع
*
49

النمل: جنس، واحدة نملة، ويقال بضم الميم فيهما، وبضم النون مع ضم الميم، وسمي بذلك لكثرة تنمله، وهو حركته. الحطم: الكسر، قاله النحاس. التبسم: ابتداء الضحك، وتفعل فيه بمعنى المجرد، وهو بسم. قال الشاعر:
* وتبسم عن ألمي كان منورا
*
تخلل حر الرمل دعص له ند
*
وقال آخر:
أبدى نواجذه لغير تبسم
التفقد: طلب ما فقدته وغاب عنك. الهدهد: طائر معروف، وتصغيره على القياس هديهد، وزعم بعضهم أن ياءه أبدلت ألفا في التصغير، فقيل: هداهد. قال الشاعر:
كهداهد كسر الرماة جناحه
كما قالوا: دوابة وشوابة، يريدون: دويبة وشويبة. سبأ: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهو يصرف ولا يصرف إذا صار اسما للحي والقبيلة، أو البقعة التي تسمى مأرب سميت باسم الرجل. الخبء: الشيء المخبوء، من خبأت الشيء خبأ بسترته، وسمي المفعول بالمصدر. الهدية: ما سيق إلى الإنسان مما يتحف به على سبيل التكرمة. العفريت والعفر والعفرتة والعفارتة من الرجال: الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين: الخبيث المارد. قال الشاعر:
* كأنه كوكب في إثر عفرية
*
مصوب في سواد الليل منقضب
*
الصرح: القصر، أو صحن الدار، أو ساحتها، أو البركة، أو البلاط المتخذ من القوارير، أقوال تأتي في التفسير. الساق: معروف، يجمع على أسوق في القلة، وعلى سووق وسوق في الكثرة، وهمزة لغة: الممرد: المملس، ومنه الأمرد، وشجرة مرداء: لا ورق عليها. القوارير: جمع قارورة.
* (طس تلك ءايات القرءان وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم بالاخرة هم يوقنون * إن الذين لا يؤمنون بالاخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم فى الاخرة هم الاخسرون * وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم * إذ قال موسى لاهله إنى آنست نارا سئاتيكم منها * بخير * إذ قال موسى لاهله إنى آنست * فلما جاءها نودى أن بورك من فى النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين * رب العالمين * ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم * وألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إنى لا يخاف لدى المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم * وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء فى تسع ءايات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين) *.
50

هذه السورة مكية بلا خلاف. ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها واضحة، لأنه قال: * (وما تنزلت به الشياطين) *، وقبله: * (وإنه لتنزيل رب العالمين) *، وقال هنا: * (طس تلك ءايات القرءان) *: أي الذي هو تنزيل رب العالمين. وأضاف الآيات إلى القرآن والكتاب المبين على سبيل التفخيم لها والتعظيم، لأن المضاف إلى العظيم عظيم. والكتاب المبين، إما اللوح، وإبانته أن قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين، وإما السورة، وإما القرآن، وإبانتهما أنهما يبينان ما
أودعاه من العلوم والحكم والشرائع. وأن إعجازهما ظاهر مكشوف ونكر. * (وكتاب مبين) *، ليبهم بالتنكير، فيكون أفخم له كقوله: * (فى مقعد صدق) *. وإذا أريد به القرآن، فعطفه من عطف إحدى الصفتين على الأخرى، لتغايرهما في المدلول عليه بالصفة، من حيث أن مدلول القرآن الاجتماع، ومدلول كتاب الكتابة. وقيل: القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، فحيث جاء بلفظ التعريف، فهو العلم، وحيث جاء بوصف النكرة، فهو الوصف، وقيل: هما يجريان مجرى العباس، وعباس فهو في الحالين اسم العلم. انتهى. وهذا خطأ، إذ لو كان حاله نزع منه علما، ما جاز أن يوصف بالنكرة. ألا ترى إلى قوله: * (وكتاب مبين) *، * (الر تلك) *، وأنت لا تقول: مررت بعباس قائم، تريد به الوصف؟ وقرأ ابن أبي عبلة: وكتاب مبين، برفعهما، التقدير: وآيات كتاب، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فأعرب بإعرابه. وهنا تقدم القرآن على الكتاب، وفي الحجر عكسه، ولا يظهر فرق، وهذا كالمعاطفين في نحو: ما جاء زيد وعمرو. فتارة يظهر ترجيح كقوله: * (شهد الله أنه لا إلاه إلا هو والملائكة وأولوا * العلم) *، وتارة لا يظهر كقوله: * (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا) *.
قال يحيى بن سلام: * (هدى) * إلى الجنة، * (وبشرى) * بالثواب. وقال الشعبي: هدى من الضلال، وبشرى بالجنة، وهدى وبشرى مقصوران، فاحتمل أن يكونا منصوبين على الحال، أي هادية ومبشرة. قيل: والعامل في الحال ما في تلك من معنى الإشارة، واحتمل أن يكونا مصدرين، واحتملا الرفع على إضمار مبتدأ. أي هي هدى وبشرى؛ أو على البدل من آيات؛ أو على خبر بعد خبر، أي جمعت بين كونها آيات وهدى وبشرى. ومعنى كونها هدى للمؤمنين: زيادة هداهم. قال تعالى: * (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول) *. وقيل: هدى لجميع الخلق، ويكون الهدى بمعنى الدلالة والإرشاد والتبيين، لا بمعنى تحصيل الهدى الذي هو مقابل الضلال. * (وبشرى للمؤمنين) * خاصة، وقيل: هدى للمؤمنين وبشرى للمؤمنين، وخصهم بالذكر لانتفاعهم به.
* (وهم بالاخرة هم يوقنون) *: تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة * (الذين) *. ولما كان: * (يقيمون الصلواة ويؤتون) * مما يتجدد ولا يستغرق الأزمان، جاءت الصلة فعلا. ولما كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت عندهم مستقر الديمومة، جاءت الجملة اسمية، وأكدت المسند إليه فيها بتكراره، فقيل: * (وبالأخرة هم يوقنون) * وجاء خبر المبتدأ فعلا ليدل على الديمومة، واحتمل أن تكون الجملة استئناف إخبار. قال الزمخشري: ويحتمل أن تتم الصلة عنده، أي عند قوله: * (وهم) *، قال: وتكون الجملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة، وهو الوجه، ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هم، حتى صار معناها: وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق. انتهى. وقوله: وتكون الجملة اعتراضية، هو على غير اصطلاح النحاة في الجملة الاعتراضية من كونها لا تقع إلا بين شيئين متعلق بعضهما ببعض، كوقوعها بين صلة موصول، وبين جزأي إسناد، وبين شرط وجزائه، وبين نعت ومنعوت، وبين
51

قسم ومقسم عليه، وهنا ليست واقعة بين شيئين مما ذكر وقوله الخ. حتى صار معناها فيه دسيسة الاعتزال. وقال ابن عطية: والزكاة هنا يحتمل أن تكون غير المفروضة؛ لأن السورة مكية قديمة، ويحتمل أن تكون المفروضة من غير تفسير. وقيل: الزكاة هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق. انتهى.
ولما ذكر تعالى المؤمنين الموقنين بالبعث، ذكر المنكرين والإشارة إلى قريش ومن جرى مجراهم في إنكار البعث. والأعمال، إما أن تكون أعمال الخير والتوحيد التي كان الواجب عليهم أن تكون أعمالهم، فعموا عنها وترددوا وتجيزوا، وينسب هذا القول إلى الحسن البصري؛ أو أعمال الكفر والضلال، فيكون تعالى قد حبب ذلك إليهم وزينه بأن خلقه في نفوسهم، فرأوا تلك الأعمال القبيحة حسنة. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أسند تزين أعمالهم إلى ذاته، وأسنده إلى الشيطان في قوله: * (وزين لهم الشيطان أعمالهم) *؟ قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله تعالى مجاز، وله طريقان في علم البيان: أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة. والثاني: أن يكون من المجاز المحكي.
فالطريق الأول: أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله عليهم بذلك وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الترفه ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم، وإليه إشارة الملائكة بقولهم: * (ولاكن متعتهم وءاباءهم حتى نسوا الذكر) *. * (* والطريق الثاني) *: أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند إليه، لأنه المختار المحكي ببعض الملابسات. انتهى، وهو تأويل على طريق الاعتزال.
* (وكذبوا بئاياتنا أولائك) *: إشارة إلى منكري البعث، و * (سوء العذاب) *: الظاهر أنه ليس مقيدا بالدنيا، بل لهم ذلك في الدنيا والآخرة. وقيل: المعنى في الدنيا، وفسر بما نالهم يوم بدر من القتل والأسر والنهب. وقيل: ما ينالونه عند الموت وما بعده من عذاب القبر. وسوء العذاب: شدته وعظمه. والظاهر أن * (الاخسرون) * أفعل التفضيل، وذلك أن الكافر خسر الدنيا والآخرة، كما أخبر عنه تعالى، وهو في الآخرة أكثر خسرانا، إذ مآله إلى عقاب دائم. وأما في الدنيا، فإذا أصابه بلاء، فقد يزول عنه وينكشف. فكثرة الخسران وزيادته، إنما ذلك له في الآخرة، وقد ترتب الأكثرية، وإن كان المسند إليه واحدا بالنسبة إلى الزمان والمكان، أو الهيئة، أو غير ذلك مما يقبل الزيادة. وقال الكرماني: أفعل هنا للمبالغة لا للشركة، كأنه يقول: ليس للمؤمن خسران البتة حتى يشركه فيه الكافر ويزيد عليه، وقد بينا كيفية الاشتراك بالنسبة إلى الدنيا والآخرة. وقال ابن عطية: والأخسرون جمع أخسر، لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف، فتقوى رتبته في الأسماء، وفي هذا نظر. انتهى. ولا نظر في كونه يجمع جمع سلامة وجمع تكسير. إذا كان بأل، بل لا يجوز فيه إلا ذلك، إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية فيقول: الزيدون هم الأفضلون، والأفاضل، والهندات هن الفضليات والفضل. وأما قوله: لا يجمع إلا أن يضاف، فلا يتعين إذ ذاك جمعه، بل إذا أضيف إلى نكرة فلا يجوز
جمعه، وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد على ما قرر ذلك في كتب النحو.
ولما تقدم: * (تلك ءايات القرءان) *، خاطب نبيه بقوله: * (وأنك) *، أي هذا القرآن الذي تلقيته هو من عند الله تعالى، وهو الحكيم العليم، لا كما ادعاه المشركون من أنه إفك وأساطير وكهانة وشعر، وغير ذلك من تقولاتهم. وبنى
52

الفعل للمفعول، وحذف الفاعل، وهو جبريل عليه السلام، للدلالة عليه في قوله: * (نزل به الروح الامين) *. ولقي يتعدى إلى واحد، والتضعيف فيه للتعدية، فيعدى به إلى اثنين، وكأنه كان غائبا عنه فلقيه فتلقاه. قال ابن عطية: ومعناه يعطي، كما قال: * (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) *. وقال الحسن: المعنى وإنك لتقبل القرآن. وقيل: معناه تلقن. والحكمة: العلم بالأمور العملية، والعلم أعم منه، لأنه يكون عمليا ونظريا، وكمال العلم: تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصونا عن كل التغيرات، ولا يكون ذلك إلا لله تعالى. وهذه الآية تمهيد لما يخبر به من المغيبات وبيان قصص الأمم الخالية، مما يدل على تلقيه ذلك من جهة الله، وإعلامه بلطيف حكمته دقيق علمه تعالى. قيل: وانتصب * (إذ) * باذكر مضمرة، أو بعليم؛ وليس انتصابه بعليم واضحا، إذ يصير الوصف مقيدا بالمعمول.
وقد تقدم طرف من قصة موسى عليه السلام في رحلته بأهله من مدين: في سورة طه، وظاهر أهله جمع لقوله: * (سئاتيكم) * و * (تصطلون) *، وروي أنه لم يكن معه غير امرأته. وقيل: كانت ولدت له، وهو عند شعيب، ولدا، فكان مع أمه. فإن صح هذا النقل، كان من باب خطاب الجمع على سبيل الإكرام والتعظيم. وكان الطريق قد اشتبه عليه، والوقت بارد، والسير في ليل، فتشوقت نفسه، إذ رأى النار إلى زوال ما لحق من إضلال الطريق وشدة البرد فقال: * (إذ قال * بخير) *: أي من موقدها بخبر يدل على الطريق، * (إذ قال موسى لاهله) *: أي إن لم يكن هناك من يخبر، فإني أستصحب ما تدفؤون به منها. وهذا الترديد بأو ظاهر، لأنه كان مطلوبه أولا أن يلقي على النار من يخبره بالطريق، فإنه مسافر ليس بمقيم. فإن لم يكن أحد، فهو مقيم، فيحتاجون لدفع ضرر البرد، وهو أن يأتيهم بما يصطلون، فليس محتاجا للشيئين معا، بل لأحدهما الخبر إن وجد من يخبره فيرحل، أو الاصطلاء إن لم يجد وأقام. فمقصوده إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، وهو معنى قوله: * (لعلى اتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) *.
وجاء هنا: * (إذ قال موسى) *، وهو خبر، وفي طه: * (لعلى اتيكم منها بقبس) *، وفي القصص: * (فلما قضى موسى * بخير) *، وهو ترج، ومعنى الترجي مخالف لمعنى الخبر. ولكن الرجاء إذا قوي، جاز للراجي أن يخبر بذلك، وإن كانت الخيبة يجوز أن تقع. وأتى بسين الاستقبال، إما لأن المسافة كانت بعيدة، وإما لأنه قد يمكن أن تبطىء لما قدر أنه قد يعرض له ما يبطئه. والشهاب: الشعلة، والقبس: النار المقبوسة، فعل بمعنى مفعول، وهو القطعة من النار في عود أو غيره، وتقدم ذلك في طه. وقرأ الكوفيون: بشهاب منونا، فقبس بدل أو صفة، لأنه بمعنى المقبوس. وقرأ باقي السبعة: بالإضافة، وهي قراءة الحسن. قال الزمخشري: أضاف الشهاب إلى القبس،، واتبع في ذلك أبا الحسن. قال أبو الحسن: الإضافة أجود وأكثر في القراءة، كما تقول: دار آجر، وسوار ذهب. والظاهر أن الضمير في * (جاءها) * عائد على النار، وقيل: على الشجرة، وكان قد رآها في شجرة سمر. وقيل: عليق، وهي لا تحرقها، كلما قرب منها بعدت. و * (نودى) * المفعول الذي لم يسم فاعله، الظاهر أنه ضمير عائد على موسى عليه السلام. و * (ءان) * على هذا يجوز أن تكون مفسرة لوجود شرط المفسرة فيها، ويجوز أن تكون مصدرية. أما الثنائية التي تنصب المضارع، وبورك صلة لها، والأصل حرف الجر، أي بأن بورك، وبورك خبر. وأما المخففة من الثقيلة فأصلها حرف الجر. وقال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وتقديره بأنه بورك، والضمير ضمير الشأن والقصة؟ قلت: لا، لأنه لا بد من قد. فإن قلت: فعلى إضمارها؟ قلت: لا يصح، لأنها علامة ولا تحذف. انتهى. ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وبورك فعل دعاء، كما تقول: بارك الله فيك. وإذا كان دعاء، لم يجز دخول قد عليه، فيكون كقوله تعالى: * (والخامسة أن غضب الله عليها) * في قراءة من جعله فعلا ماضيا، وكقول العرب: إما أن جزاك الله خيرا، وإما أن يغفر الله لك، وكان الزمخشري بنى ذلك على * (أن بورك) * خبر لا دعاء، فلذلك لم يجز أن تكون مخففة من الثقيلة، وأجاز
53

الزجاج أن تكون * (أن بورك) * في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو على إسقاط الخافض، أي نودي بأن بورك، كما تقول: نودي بالرخص. ويجوز أن تكون أن الثنائية، أو المخففة من الثقيلة، فيكون بورك دعاء. وقيل: المفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير النداء، أي نودي هو، أي النداء، ثم فسر بما بعده. وبورك معناه: قدس وطهر وزيد خيره، ويقال: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك. وقال الشاعر:
* فبوركت مولودا وبوركت ناشئا
*
وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وقال آخر:
*
بورك الميت الغريب كما
بورك نبع الرمان والزيتون
*
وقال عبد الله بن الزبير:
* فبورك في بنيك وفي بنيهم
*
إذا ذكروا ونحن لك الفداء
*
و * (من) *: المشهور أنها لمن يعلم، فقال ابن عباس، وابن جبير، والحسن وغيرهم: أراد تعالى بمن في النار ذاته، وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله تعالى. وإذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف، أي بورك من قدرته وسلطانه في النار. وقيل لموسى عليه السلام: أي بورك من في المكان أو الجهة التي لاح له فيه النار. وقال السدي: من للملائكة الموكلين بها. وقيل: من تقع هنا على ما لا يعقل. فقال ابن عباس: أراد النور. وقيل: الشجرة التي تتقد فيها النار. وقيل: والظاهر في * (ومن حولها) * أنه لمن يعلم تفسير * (حديث موسى) *، وفسر بالملائكة، ويدل عليه قراءة أبي؛ فيما نقل أبو عمرو الداني: وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة؛ ومن حولها من الملائكة، وتحمل هذه القراءة على التفسير، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، وفسر أيضا بموسى والملائكة عليهم السلام معا. وقيل: تكون لما لا يعقل، وفسر بالأمكنة التي حول النار؛ وجدير أن يبارك من فيها ومن حواليها إذا حدث أمر عظيم، وهو تكليم الله لموسى عليه السلام؛ وتنبيئه وبدؤه بالنداء بالبركة تبشير لموسى وتأنيس له ومقدمة لمناجاته.
والظاهر أن قوله: * (وسبحان الله رب العالمين) * داخل تحت قوله: * (نودى) *. أي لما نودي ببركة من ذكر، نودي أيضا بما يدل على التنزيه والبراءة من صفات المحدثين مما عسى أن يخطر ببال، ولا سيما إن حمل من في النار على تفسير ابن عباس أن من أريد به الله تعالى، فإن ذلك دال على التحيز، فأتى بما يقتضي التنزيه. وقال السدي: هو من كلام موسى، لما سمع النداء قال: * (وسبحان الله رب العالمين) * تنزيها لله تعالى عن سمات المحدثين. وقال ابن شجرة: هو من كلام الله، ومعناه: وبورك من سبح الله، وهذا بعيد من دلالة اللفظ. وقيل: * (وسبحان الله رب العالمين) * خطاب لمحمد عليه لصلاة والسلام، وهو اعتراض بين الكلامين، والمقصود به التنزيه.
ولما آنسه تعالى، ناداه وأقبل عليه
54

فقال: * (ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم) *. والظاهر أن الضمير في إنه ضمير الشأن، وأنا الله: جملة في موضع الخبر، والعزيز الحكيم: صفتان، وأجاز الزمخشري أن يكون الضمير في إنه راجعا إلى ما دل عليه ما قبله، يعني: إن مكلمك أنا، والله بيان لأنا، والعزيز الحكيم صفتان للبيان. انتهى. وإذا حذف الفاعل وبني الفعل مفعول، فلا يجوز أن يعود على الضمير على ذلك المحذوف، إذ قد غير الفعل عن بنائه له، وعزم على أن لا يكون محدثا عنه. فعود الضمير إليه مما ينافي ذلك، إذ يصير مقصودا معتنى به، وهذا النداء والإقبال والمخاطبة تمهيد لما أراد الله تعالى أن يظهره على يده من المعجز، أي أنا القوي القادر على ما يبعد في الأوهام، الفاعل ما أفعله بالحكمة. وقال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: * (وألق عصاك) *؟ قلت: على بورك، لأن المعنى: * (نودى أن بورك من فى النار) *. وقيل له: ألق عصاك، والدليل على ذلك قوله: * (وأن ألق عصاك) *، بعد قوله: * (أن ياإبراهيم * موسى إنى * أنا الله) *، على تكرير حرف التفسير، كما تقول: كتبت إليه أن حج واعتمر، وإن شئت أن حج وأن اعتمر. انتهى. وقوله: * (أنه) *، معطوف على بورك مناف لتقديره. وقيل له: ألق عصاك، لأن هذه جملة معطوفة على بورك، وليس جزؤها الذي هو. وقيل: معطوفا على بورك، وإنما احتيج إلى تقدير. وقيل له: ألق عصاك، لتكون الجملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها، كأنه يرى في العطف تناسب المتعاطفين، والصحيح أنه لا يشترط ذلك، بل قوله: * (وألق عصاك) * معطوف على قوله: * (إنه أنا الله العزيز الحكيم) *، عطف جملة الأمر على جملة الخبر. وقد أجاز سيبويه: جاء زيد ومن عمرو.
* (فلما رءاها تهتز) *: ثم محذوف تقديره: فألقاها من يده. وقرأ الحسن، والزهري، وعمرو بن عبيد: جأن، بهمزة مكان الألف، كأنه فر من التقاء الساكنين؛ وقد تقدم الكلام في نحو ذلك في قوله: ولا الضألين، بالهمز في قراءة عمرو بن عبيد. وجاء: * (فإذا هى حية) *، * (فإذا هى ثعبان مبين) *، وهذا إخبار من الله بانقلابها وتغيير أوصافها وإعراضها، وليس إعداما لذاتها وخلقها لحية وثعبان، بل ذلك من تغيير الصفات لا تغيير الذات. وهنا شبهها حالة اهتزازها بالجان، فقيل: وهو صغار الحيات، شبهها بها في سرعة اضطرابها وحركتها، مع عظم جثتها. ولما رأى موسى هذا الأمر الهائل، * (ولي * مدبرا ولم يعقب) *. قال مجاهد: ولم يرجع. وقال السدي: لم يمكث. وقال قتادة: ولم يلتفت، يقال: عقب الرجل: توجه إلى شيء كان ولى عنه، كأنه انصرف على عقبيه، ومنه: عقب المقاتل، إذا كر بعد الفرار. قال الشاعر:
* فما عقبوا إذ قيل هل من معقب
*
ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
ولحقه ما لحق طبع البشرية إذا رأى الإنسان أمرا هائلا جدا، وهو رؤية انقلاب العصا حية تسعى، ولم يتقدمه في ذلك تطمين إليه عند رؤيتها. قال الزمخشري: وإنما رغب لظنه أن ذلك لأمر أريد به، ويدل عليه: * (إنى لا يخاف لدى المرسلون) *. انتهى. وقال ابن عطية: وناداه الله تعالى مؤنسا ومقويا على الأمر: * (خيفة قالوا لا تخف) *، فإن رسلي الذين اصطفيتم للنبوة لا يخافون غيري. فأخذ موسى عليه السلام الحية، فرجعت عصا، ثم صارت له عادة. انتهى. وقيل: لالمعنى لا
يخاف المرسلون في الموضع الذي يوحى إليهم فيه، وهم أخوف الناس من الله. وقيل: إذا أمرتهم بإظهار معجز، فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك، فالمرسل يخاف الله لا محالة. انتهى.
*
والأظهر أن قوله: * (إلا من ظلم) *، استثناء منقطع، والمعنى: لكن من ظلم غيرهم، قاله الفراء وجماعة، إذ الأنبياء معصومون من وقوع الظلم الواقع من غيرهم. وعن الفراء: إنه استثناء متصل من جمل محذوفة، والتقدير: وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم. ورده النحاس وقال: الاستثناء من محذوف محال، لو
55

جاز هذا لجاز أن لا يضرب القوم إلا زيدا، بمعنى: وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا، وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه. انتهى. وقالت فرقة: إلا بمعنى الواو، والتقدير: ولا من ظلم، وهذا ليس بشيء، لأن معنى إلا مباين لمعنى الواو مباينة كثيرة، إذ الواو للإدخال، وإلا للإخراج، فلا يمكن وقوع أحدهما موقع الآخر. وروي عن الحسن، ومقاتل، وابن جريج، والضحاك، ما يقتضي أنه استثناء متصل.
قال ابن عطية: وأجمع العلماء على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل، واختلف فيما عداها، فعسى أن يشير الحسن وابن جريج إلى ما عدا ذلك. انتهى. وقال الزمخشري: وإلا بمعنى لكن، لأنه لما أطلق نفي الخوف عن المرسل كان ذلك مظنة لطرو الشبهة فاستدرك ذلك، والمعنى: ولكن من ظلم منهم، أي فرطت منهم صغيرة مما لا يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى، بوكزة القبطي. ويوشك أن يقصد بهذا التعريض ما وجد من موسى، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها، وسماه ظلما؛ كما قال موسى: * (رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى) *. انتهى. وقرأ أبو جعفر، وزيد بن أسلم: ألا من ظلم، بفتح الهمزة وتخفيف اللام، حرف استفتاح. ومن: شرطية. والحسن: حسن التوبة، والسوء: الظلم الذي ارتكبه. وقرأ الجمهور: حسنا، بضم الحاء وإسكان السين منونا. وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني: كذلك، إلا أنه لم ينون، جعله فعلى، فامتنع الصرف؛ وابن مقسم: بضم الحاء والسين منونا. ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي ليلى، والأعمش، وأبو عمرو في رواية الجعفي، وأبو زيد، وعصمة، وعبد الوارث، وهارون، وعياش: بفتحهما منونا.
* (وأدخل) *: أمر بما يترتب عليه من ظهور المعجز العظيم، لما أظهر له معجزا في غيره، وهو العصا، أظهر له معجزا في نفسه، وهو تلألؤ يده كأنها قطعة نور، إذا فعل ما أمر به. وجواب الأمر الظاهر أنه تخرج، لأن خروجها مترتب على إدخالها. وقيل: في الكلام حذف تقديره: وأدخل يدك في جيبك تدخل، وأخرجها تخرج، فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني، ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول. قال قتادة: * (فى جيبك) *: قميصك، كانت له مدرعة من صوف لا كمين لها. وقال ابن عباس، ومجاهد: كان كمها إلى بعض يده. وقال السدي: في جيبك: أي تحت إبطك. والظاهر أن قوله: * (وأدخل يدك فى جيبك تخرج) * متعلق بمحذوف تقديره: اذهب بهاتين الآيتين: * (وأدخل يدك فى جيبك تخرج) *، ويدل عليه قوله بعد: * (فلما جاءتهم ءاياتنا مبصرة) *، وهذا الحذف مثل قوله:
* أتوا ناري فقلت منون أنتم
*
فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
*
* وقلت إلى الطعام فقال منهم
*
فريق يحسد الإنس الطعاما
*
التقدير: هلموا إلى الطعام. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: وألق عصاك، وأدخل يدك، في * (تسع ءايات) *، أي في جملة تسع آيات. ولقائل أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة، ثنتان منها: اليد والعصا، والتسع: الفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجذب في بواديهم، والنقصان من مزارعهم. انتهى. فعلى الأول يكون العصا واليد داخلتين في التسع، وعلى الثاني تكون في بمعنى مع، أي مع تسع آيات. وقال ابن عطية: * (وأدخل يدك فى) * متصل بقوله: * (ألق * وأدخل) *، وفيه اقتضاب وحذف تقديره: نمهد ذلك وتيسر لك في جملة تسع آيات وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمس، والحجر؛ وفي هذين الأخيرين اختلاف، والمعنى: يجيء بهن إلى فرعون وقومه. وقال الزجاج: في تسع آيات، أي من تسع آيات، كما تقول: خذ * (لى) * عشرا من الإبل فيها فحلان، أي منها إلى فرعون، أي مرسلا إلى فرعون. انتهى. وانتصب * (مبصرة) * على الحال، أي بينة واضحة، ونسب الإبصار إليها على
56

سبيل المجاز، لما كان يبصر بها جعلت مبصرة، أو لما كان معها الإبصار والوضوح. وقيل: لجعلهم بصراء، من قولل: أبصرته المتعدية بهمزة النقل من بصر. وقيل: فاعل بمعنى مفعول، كماء دافق. وقرأ قتادة، وعلي بن الحسين: مبصرة، بفتح الميم والصاد، وهو مصدر، كما تقول: الولد مجبنة، وأقيم مقام الاسم،
وانتصب أيضا على الحال، وكثر هذا الوزن في صفات الأماكن نحو: أرض مسبعة، ومكان مضنية. قال الزمخشري: أي مكانا يكثر فيه التبصر. انتهى. والأبلغ في: * (واستيقنتها) * أن تكون الواو واو الحال، أي كفروا بها وأنكروها في الظاهر، وقد استيقنت أنفسهم في الباطن أنها آيات من عند الله، وكابروا وسموها سحرا. وقال تعالى، حكاية عن موسى في محاورته لفرعون: * (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب * السماوات والارض * بصائر) *. * (ظلما) *: مجاوزة الحد، * (وعلوا) *: ارتفاعا وتكبرا عن الإيمان، وانتصبا على أنهما مصدران في موضع الحال، أي ظالمين عالين؛ أو مفعولان من أجلهما، أي لظلمهم وعلوهم، أي الحامل لهم على الإنكار والجحود، مع استيقان أنها آيات من عند الله هو الظلم والعلو. واستفعل هنا بمعنى تفعل نحو: استكبر في معنى تكبر. وقرأ عبد الله، وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وأبان بن تغلب، وعليا: تقلب الواو ياء، وكسر العين واللام، وأصله فعول، لكنهم كسروا العين اتباعا؛ وروي ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة، وتقدم الخلاف في كفر العناد، هل يجوز أن يقع أم لا؟ والعاقبة: ما آل إليه قوم فرعون من سوء المنقلب، وما أعد لهم في الآخرة أشد، وفي هذا تمثيل لكفار قريش، إذ كانوا مفسدين مستعلين، وتحذيرهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن كان قبلهم.
* (ولقد ءاتينا * داوود * وسليمان علما وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين * وورث سليمان * داوود * وقال يأبت * أيها الناس * علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء إن هاذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون * حتى إذا أتوا على وادى * النمل قالت نملة يأيها * أيها * النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه) *.
هذا ابتداء قصص وأخبار بمغيبات وعبر ونكر. * (علما) * لأنه طائفة من العلم. وقال قتادة: علما: فهما. وقال مقاتل: علما بالقضاء. وقال ابن عطاء: علما بالله تعالى. وقال الزمخشري: أو علما سنيا عزيزا. * (وقالا) * قال: فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشئ من مواجبه، فأضمر ذلك، ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علما، فعملا به وعلماه، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، * (وقالا الحمد لله) *، والكثير المفضل عليه من لم يؤت علما، أو من يؤت مثل علمهما، وفي الآية دليل على شرف العلم. انتهى. والموروث: الملك والنبوة، بمعنى: صار ذلك إليه بعد موت أبيه فسمي ميراثا تجوزا، كما قيل: العلماء ورثة الأنبياء. وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا نورث مالا، وكان لداود تسعة عشر ولدا ذكرا، فنبىء سليمان من بينهم وملك. وقيل: ولاه على بني إسرائيل في حياته من بين سائر أولاده، فكانت الولاية في معنى الوراثة. وقال الحسن: ورث المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث. وقيل: الملك والسياسة. وقيل: النبوة فقط، والأظهر القول الأول، ويؤيده قوله: * (علمنا منطق الطير) *، فهذا يدل على النبوة؛ * (وأوتينا من كل شىء) * يدل على الملك، وكان هذا شرحا للميراث. وقوله: * (إن هاذا لهو الفضل المبين) * يقوي ذلك، ولا يناسب شيء من هذا وراثة المال.
وقوله: * (يذهبكم أيها الناس) * تشهير لنعمة الله، وتنويه بها واعتراف بمكانها، ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم
57

الأمور. و * (منطق الطير) *: استعارة لما يسمع منها من الأصوات، وهو حقيقة في بني آدم، لما كان سليمان يفهم منه ما يفهم من كلام بني آدم، كما يفهم بعض الطير من بعض، أطلق عليه منطق. وقيل: كانت الطير تكلمه معجزة له، كقصة الهدهد، والظاهر أنه علم منطق الطير وعموم الطير. وقيل: علم منطق الحيوان. قيل: والنبات، حتى كان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها، وإنما نص على الطير، لأنه كان جندا من جنوده، يحتاج إليه في التظليل من الشمس، وفي البعث في الأمور. وقال قتادة: والشعبي: وكذلك كانت هذه النملة القائلة ذات جناحين. وأورد المفسرون مما ذكروا بأن سليمان عليه السلام أخبر عن كثير من الطير بأنواع من الكلام، تقديس لله تعالى وعظات، وعبر ما الله أعلم بصحته.
* (وأوتينا من كل شىء) *: ظاهره العموم، والمراد الخصوص، أي من كل شيء يصلح لنا ونتمناه، وأريد به كثرة ما أوتي، فكأنه مستغرق لجميع الأشياء. كما تقول: فلان يقصده كل أحد، يريد كثرة فصاده، وهذا كقوله تعالى في قصة بلقيس: * (وأوتيت من كل شىء) *؛ وبنى علمنا وأوتينا للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وهو الله تعالى. وكانا مسندين لنون العظمة لا لتاء المتكلم، لأنه إما إن أراد نفسه وأباه، أو لما كان ملكا مطاعا خاطب أهل طاعته ومملكته بحاله التي هو عليها، لا على سبيل التعاظم والتكبر.
* (إن هاذا لهو الفضل المبين) *: إقرار بالنعمة وشكر لها ومحمدة.
روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة خمسة وعشرون للجن، ومثلها للإنس، ومثلها للطير، ومثلها للوحش، وألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة، وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، ومنبره في وسطه من ذهب، فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، تقعد الأنبياء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط، فتسير به مسيرة شهر، وتفصيل هذه الأشياء يحتاج إلى صحة نقل، وكان ملكه عظيما، ملأ الأرض، وانقاد له أهل المعمور منها. وتقدم لنا أنه ملك الأرض بأسرها أربعة: مؤمنان: سليمان وذو القرنين، وكافران: بختنصر ونمروذ. وحشر الجنود يقتضي سفرا وفسر الجنود أنهم الجن والإنس والطير، وذكر المفسرون الوحش رابعا.
* (فهم يوزعون) *: يحشر أولهم على آخرهم، أي يوقف متقدمو العسكر حتى يأتي آخرهم فيجتمعون، لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة، أو يكفون عن المسير حتى يجتمعوا. وقيل: يجتمعون من كل جهة. وقيل: يساقون. وقيل: يدفعون. وقيل: يحبسون. كانت الجيوش تسير معه إذا سار، تنزل إذا نزل. * (حتى إذا أتوا) *: هذه غاية لشيء مقدر، أي وساروا حتى إذا أتوا، أو يضمن يوزعون معنى فعل يقتضي أن تكون حتى غاية له، أي فهم يسيرون مكنوفا بعضهم من مفارقة بعض. وعدى أتوا بعلى، إما لأن إتيانهم كان من فوق، وإما أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم: أتى على الشيء، إذا أتى على آخره وأنفذه، كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم، قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية: والظاهر أن سليمان وجنوده كانوا مشاة في الأرض، ولذلك يتهيأ حطم النمل بنزولهم في وادي النمل. ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح، فأحست النمل بنزولهم في وادي النمل، ووادي النمل قيل بالشام. وقيل: بأقصى اليمن، وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها. وقال كعب: وادي السدر من الطائف. والظاهر صدور القول من النملة، وفهم سليمان كلامها، كما فهم منطق الطير. قال مقاتل: من ثلاثة أميال. وقال الضحاك بلغته: الريح كلامها. وقال ابن بحر: نطقت بالصوت معجزة لسليمان، ككلام الضب والذراع للرسول. وقيل: فهمه إلهاما من الله، كما فهمه جنس النمل، لا أنه سمع قولا. وقال الكلبي: أخبره ملك بذلك. قال الشاعر:
* لو كنت أوتيت كلام الحكل
*
علم سليمان كلام النمل
*
58

والحكل: ما لا يسمع صوته. وذكروا اختلافا في صغر النملة وكبرها، وفي اسمها العلم ما لفظه. وليت شعري، من الذي وضع لها لفظا يخصها، أبنو آدم أم النمل؟ وقالوا: كانت نملة عرجاء، ولحوق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنث، بل يصح أن يقال في المذكر: قالت نملة، لأن نملة، وإن كان بالتاء، هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث. وما كان كذلك، كالنملة والقملة، مما بينه في الجمع وبين واحدة من الحيوان تاء التأنيث، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على أنه ذكر أو أنثى، لأن التاء دخلت فيه للفرق، لا دالة على التأنيث الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس.
وقال الزمخشري، وعن قتادة: أنه دخل الكوفة، فالتف عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم. وكان أبو حنيقة حاضرا، وهو غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكرا أم أنثى: فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى. فقيل له: من أين عرفت؟ فقال: من كتاب الله، وهو قوله: * (قالت نملة) *، ولو كان ذكرا لقال قال نملة. قال الزمخشري: وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وهو وهي. انتهى. وكان قتادة بن دعامة السدوسي بصيرا بالعربية، وكونه أفحم، يدل على معرفته باللسان، إذ علم أن النملة يخبر عنها إخبار المؤنث، وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر، إذ هو مما لا يتميز فيه أحد هذين، فتذكيره وتأنيثه لا يعلم ذلك من إلحاق العلامة للفعل فتوقف، إذ لا يعلم ذلك إلا بوحي من الله. وأما استنباط تأنيثه من كتاب الله من قوله: * (قالت نملة) *، ولو كان ذكرا لقال: قال نملة، وكلام النحاة على خلافه، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبار المؤنث، سواء كان ذكرا أم أنثى. وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة، فبينهما قدره مشترك، وهو إطلاقهما على الذكر والمؤنث، وبينهما فرق، وهو أن الحمامة والشاة يتميز فيهما المذكر من المؤنث، فيمكن أن تقول: حمامة ذكر وحمامة أنثى، فتميز بالصفة. وأما تمييزه بهو وهي، فإنه لا يجوز. لا تقول: هو الحمامة، ولا هو الشاة؛ وأما النملة والقملة فلا يتيمز فيه المذكر من المؤنث، فلا يجوز فيه في الإخبار إلا التأنيث، وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان العاقل نحو: المرأة، أو غير العاقل كالدابة، إلا أن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك، فيجوز أن تلحق العلامة الفعل، ويجوز أن لا تلحق، على ما قرر ذلك في باب الإخبار عن المؤنث في علم العربية.
وقرأ الحسن، وطلحة، ومعتمر بن سليمان، وأبو سليمان التيمي: نملة، بضم الميم كسمرة، وكذلك النمل، كالرجلة والرجل لعتان. وعن سليمان التيمي: نمل ونمل بضم النون والميم، وجاء الخطاب بالأمر، كخطاب من يعقل في قوله: * (أدخلوا) * وما بعده، لأنها أمرت النمل كأمر من يعقل، وصدر من النمل الامتثال لأمرها. وقرأ شهر بن حوشب: مسكنكم، على الإفراد. وعن أبي: أدخلن مساكنكن لا يحطمنكم: مخففة النونن التي قبل الكاف. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وقتادة، وعيسى بن عمر الهمداني، الكوفي، ونوح القاضي: بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون، مضارع حطم مشددا. وعن الحسن: بفتح الياء وإسكان الحاء وشد الطاء، وعنه كذلك مع كسر الحاء، وأصله: لا يحطتمنكم من الاحتطام. وقرأ ابن أبي إسحاق، وطلحة، ويعقوب، وأبو عمرو في رواية عبيد: كقراءة الجمهور، إلا أنهم سكنوا نون التوكيد. وقرأ الأعمش: بحذف النون وجزم الميم، والظاهر أن قوله: * (لا يحطمنكم) *، بالنون خفيفة أو شديدة، نهي مستأنف، وهو من باب: لا أرينك
59

ههنا، بهن غير النمل، والمراد النمل، أي لا تظهروا بأرض الوادي فيحطمكم، ولا تكن هنا فأراك. وقال الزمخشري: فإن قلت: لا يحطمنكم ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جوابا للأمر، وأن يكون هنا بدلا من الأمر، والذي جوز أن يكون بدلا منه، لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة لا أرينك ههنا، أرادت لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاءت بما هو أبلغ ونحوه: عجبت من نفسي ومن إشفاقها. انتهى. وأما تخريجه على أنه أمر، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش، إذ هو مجزوم، مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نفي، وأما مع وجود نون التوكيد، فإنه لا يجوز ذلك إلا إن كان في الشعر. وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في
الشعر، فأحرى أن لا يجوز في جواب الأمر إلا في الشعر. وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في النحو، ومثال مجيء نون التوكيد في جواب الشرط، قول الشاعر:
* نبتم نبات الخيزرانة في الثرى
*
حديثا متى يأتك الخير ينفعا
*
وقول الآخر:
* مهما تشا منه فزارة يعطه
*
ومهما تشا منه فزارة يمنعا
*
قال سيبويه: وذلك قليل في الشعر، شبهوه بالنفي حيث كان مجزوما غير واجب. انتهى. وقد تنبه أبو البقاء لشيء من هذا قال: وقيل هو جواب الأمر، وهو ضعيف، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار. وأما تخريجه على البدل فلا يجوز، لأن مدلول * (لا يحطمنكم) * مخالف لمدلول * (أدخلوا) *. وأما قوله: لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم، فهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، والبدل من صفة الألفاظ. نعم لو كان اللفظ القرآني لا تكونوا حيث أنتم لا يحطمنكم لتخيل فيه البدل، لأن الأمر بدخول المساكن نهى عن كونهم في ظاهر الأرض. وأما قوله: أنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخر، فيسوغ زيادة الأسماء، وهو لا يجوز، بل الظاهر إسناد الحطم إليه وإلى جنوده، وهو على حذف مضاف، أي خيل سليمان وجنوده، أو نحو ذلك مما يصح تقديره. * (وهم لا يشعرون) *: جملة حالية، أي إن وقع حطم، فليس ذلك بتعمد منهم، إنما يقع وهم لا يعلمون بحطمنا، كقوله: * (فتصيبكم منهم معرة بغير علم) *، وهذا التفات حسن، أي من عدل سليمان وأتباعه ورحمته ورفقه أن لا يحطم نملة فما فوقها إلا بأن لا يكون لهم شعور بذلك.
وما أحسن ما أتت به هذه النملة في قولها وأغربه وأفصحه وأجمعه للمعاني، أدركت فخامة ملك سليمان، فنادت وأمرت وأنذرت. وذكروا أنه جزى بينها وبين سليمان محاورات، وأهدت له نبقة، وأنشدوا أبياتا في حقارة ما يهدى إلى العظيم، والاستعذار من ذلك، ودعاء سليمان للنمل بالبركة، والله أعلم بصحة ذلك أو افتعاله. والنمل حيوان قوي الحس شمام جدا، يدخر القوت، ويشق الحبة قطعتين لئلا تنبت، والكزبرة بأربع، لأنها إذا قطعت قطعتين أنبتت، وتأكل في عامها بعض ما
60

تجمع، وتدخر الباقي عدة. وفي الحديث: (النهي عن قتل أربع من الدواب: الهدهد والصرد والنملة والنحلة)، خرجه أبو داود عن ابن عباس. وروي من حديث أبي هريرة: وتبسم سليمان عليه السلام، إما للعجب بما دل عليه قولها: * (وهم لا يشعرون) *، وهو إدراكها رحمته وشفقته ورحمة عسكره، وإما للسرور بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا، وهو إدراكه قول ما همس به، الذي هو مثل في الصغر، ولذلك دعا أن يوزعه الله شكر ما أنعم به عليه. وانتصب ضاحكا على الحال، أي شارعا في الضحك ومتجاوزا حد التبسم إلى الضحك، ولما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب، كما يقولون، تبسم تبسم الغضبان، وتبسم تبسم المستهزىء، وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح، أتى بقوله: * (ضاحكا) *. وقرأ ابن السميفع: ضحكا، جعله مصدرا، لأن تبسم في معنى ضحك، فانتصابه على المصدر به، أو على أنه مصدر في موضع الحال، كقراءة ضاحكا.
* (وقال رب أوزعنى) *: أي اجعلني شكر نعمتك وآلفه وأرتبطه، حتى لا ينفلت عني، حتى لا أنفك شاكرا لك. وقال ابن عباس: أوزعني: اجعلني أشكر. وقال ابن زيد: حرضني. وقال أبو عبيدة: أولعني. وقال الزجاج: امنعني عن الكفران. وقيل: ألهمني الشكر، وأدرج ذكر نعمة الله على والديه في أن يشكرهما، كما يشكر نعمة الله على نفسه، لما يجب للوالد على الولد من الدعاء لهما والبر بهما، ولا سيما إذا كان الولد تقيا لله صالحا، فإن والديه ينتفعان بدعائه وبدعاء المؤمنين لهما بسببه، كقولهم: رحم الله من خلفك، رضي الله عنك وعن والديك. ولما سأل ربه شيئا خاصا، وهو شكر النعمة، سأل شيئا عاما، وهو أن يعمل عملا يرضاه الله تعالى، فاندرج فيه شكر النعمة، فكأنه سأل إيزاع الشكر مرتين، ثم دعا أن يلحق بالصالحين. قال ابن زيد: هم الأنبياء والمؤمنون، وكذا عادة الأنبياء أن يطلبوا جعلهم من الصالحين، كما قال يوسف عليه السلام: * (توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين) *. وقال تعالى، عن إبراهيم عليه السلام: * (وإنه فى الاخرة لمن الصالحين) *. قيل: لأن كمال الصلاح أن لا يعصي الله تعالى ولا يهم بمعصية، وهذه درجة عالية.
* (وتفقد الطير فقال مالي * لى لا * أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لاعذبنه عذابا شديدا أو لاذبحنه أو ليأتينى بسلطان مبين * فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شىء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون * ألا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء * في السماوات * والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إلاه إلا هو رب العرش العظيم * قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابى هاذا فألقه إليهم * ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون) *.
الظاهر أنه تفقد جميع الطير، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا. قيل: وكان يأتيه من كل صنف واحد، فلم ير الهدهد. وقيل: كانت الطير
تظله من الشمس، وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن، فمسته الشمس، فنظر إلى مكان الهدهد، فلم يره. وعن عبد الله بن سلام: أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماء فيها، وكان الهدهد يرى ظاهر الأرض وباطنها، وكان يخبر سليمان بذلك، فكانت الجن تخرجه في ساعة تسلخ الأرض كما تسلخ الشاة، فسأل عنه حين حلوا تلك المفازة، لاحتياجهم إلى الماء. وفي قوله * (وتفقد الطير) * دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم. وقال عمر رضي الله عنه: لو أن سخلة على شاطىء الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر، وفي الكلام محذوف، أي فقد الهدهد حين تفقد الطير.
قال ابن عطية وقوله: * (ما لى * لا أرى الهدهد) *، مقصد الكلام الهدهد، غاب ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه، وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز والاستفهام الذي في قوله: * (ما لى) *،
61

(سقط: ناب مناب الألف التي تختلجها أم، انتهى فظاهر هذا الكلام أن أم متصلة، وأن الاستفهام الذي في قوله ومالي) ناب مناب ألف الاستفهام، فمعناه عنده: أغاب عني الآن فلم أره حالة التفقد؟ أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته؟ وقال الزمخشري: أم هي المنقطعة، نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال: * (ما لى * لا أرى الهدهد) *؟ على معنى: أنه لا يراه، وهو حاضر، لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه سأل صحة ما لا ح له، ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء؟ انتهى. والصحيح أن أم في هذا هي المنقطعة، لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة، كانت أم منقطعة، وهنا تقدم ما، ففارت شرط المتصلة. وقيل: يحتمل أن تكون من المقلوب وتقديره: ما للهدهد لا أراه؟ ولا ضرورة إلى ادعاء القلب. وفي الكشاف، أن سليمان لما تم له بناء بيت المقدس، تجهز للحج، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، ثم عزم على المسير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغذى ويصلي، فلم يجد الماء، وكان الهدهد يأتيه، وكان يرى الماء من تحت الأرض. وذكر أنه كان الجن يسلخون الأرض حتى يظهر الماء.
* (لاعذبنه عذابا شديدا) *: أبهم العذاب الشديد، وفي تعيينه أقوال متعارضة، والأجود أن يجعل أمثلة. فعن ابن عباس، ومجاهد، وابن جريج: نتف ريشه. وقال ابن جريج: ريشه كله. وقال يزيد بن رومان: جناحه. وقال ابن وهب: نصفه ويبقى نصفه. وقيل: يراد مع نتفه تركه للشمس. وقيل: يحبس في القفص. وقيل: يطلى بالقطران ويشمس. وقيل: ينتف ويلقى للنمل. وقيل: يجمع مع غير جنسه. وقيل: يبعد من خدمة سليمان عليه السلام. وقيل: يفرق بينه وبين إلفه. وقيل: يلزم خدمة امرأته، وكان هذا القول من سليمان غضبا لله، حيث حضرت الصلاة وطلب الماء للوضوء فلم يجده، وأباح الله له ذلك للمصلحة، كما أباح البهائم والطيور للأكل، وكما سخر له الطير، فله أن يؤديه إذا لم يأت ما سخر له.
وقرأ الجمهور: أو ليأتيني، بنون مشددة بعدها ياء المتكلم، وابن كثير: بنون مشددة بعدها نون الوقاية بعد الياء؛ وعيسى بن عمر: بنون مشددة مفتوحة بغير ياء. والسلطان المبين: الحجة والعذر، وفيه دليل على الإغلاط على العاصين وعقابهم. وبدأ أولا بأخف العقابين، وهو التعذيب؛ ثم أتبعه بالأشد، وهو إذهاب المهجة بالذبح، وأقسم على هذين لأنهما من فعله، وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من فعله لما نظم الثلاثة في الحكم بأو، كأنه قال: ليكونن أحد الثلاثة، والمعنى: إن أتى بالسلطان، لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإلا كان أحدهما. ولا يدل قسمه على الإتيان على ادعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه يأتيه بسلطان، فيكون قوله: * (أو ليأتينى بسلطان مبين) * عن دراية وإيقان.
وقرأ الجمهور: فمكث، بضم الكاف؛ وعاصم، وأبو عمرو في رواية الجعفي، وسهل، وروح: حبضمها. وفي قراءة أبي: فيمكث، ثم قال: وفي قراءة عبد الله: فيمكث، فقال: وكلاهما في الحقيقة تفسير لا قراءة، لمخالفة ذلك سواد المصحف، وما روي عنهما بالنقل الثابت. والظاهر أن الضمير في فمكث عائد على الهدهد، أي غبر زمن بعيد، أي عن قرب. ووصف مكثه بقصر المدة، للدلالة على إسراعه، خوفا من سليمان، وليعلم كيف كان الطير مسخرا له، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة
62

الله. وقيل: وقف مكانا غير بعيد من سليمان، وكأنه فيما روي، حين نزل سليمان حلق الهدهد، فرأى هدهدا، فانحط عليه ووصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وعظم منه، وذهب معه لينظر، فما رجع إلا بعد العصر. وقيل: الضمير في فمكث لسليمان. وقيل: يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد، وفي الكلام حذف، فإن كان غير بعيد زمانا، فالتقدير: فجاء سليمان، فسأله: ما غيبك؟ فقال: أحطت؛ وإن كان مكانا، فالتقدير: فجاء فوقف مكانا قريبا من سليمان، فسأله: ما غيبك؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه سليمان، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه، وهو أن غيبته كانت لأمر عظيم عرض له، فقال: * (أحطت بما لم تحط به) *، وفي هذا جسارة من لديه علم، لم يكن عند غيره، وتبجحه بذلك، وإبهام حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المهم ما هو. ومعنى الإحاطة هنا: أنه علم علما ليس عند نبي الله سليمان.
قال الزمخشري: ألهم الله الهدهد، فكافح سليمان بهذا الكلام، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به سليمان، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته، لا يخفى منه معلوم، قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أعلم منه. انتهى.
ولما أبهم في قوله: * (بما لم تحط) *، انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاما، وهو قوله: * (وجئتك من سبإ بنبإ يقين) *، إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه، وأنه له
علم بخبر مستيقن له. وقرأ الجمهور: من سبأ، مصروفا، هذا وفي: * (لقد كان لسبإ) *، وابن كثير، وأبو عمرو: بفتح الهمزة، غير مصروف فيهما، وقنبل من طريق النبال: بإسكانها فيهما. فمن صرفه جعله اسما للحي أو الموضع أو للأب، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد، تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة. والستة: حمير، وكندة، والأزد، وأشعر، وخثعم، وبجيلة؛ والأربعة: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان. وكان سبأ رجلا من قحطان اسمه عبد شمس. وقيل: عامر، وسمي سبأ لأنه أول من سبأ، ومن منعه الصرف جعله اسما للقبيلة أو البقعة، وأنشدوا على الصرف:
* الواردون وتيم في ذرى سبأ
*
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
*
ومن سكن الهمزة، فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف، وإجراء للوصل مجرى الوقف. وقال مكي: الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي. انتهى. وقرأ الأعمش: من سبأ، بكسر الهمزة من غير تنوين، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية، ويبعد توجيهها. وقرأ ابن كثير في رواية: من سبأ، بتنوين الباء على وزن رحى، جعله مقصورا مصروفا. وذكر أبو معاذ أنه قرأ من سبأ: بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة، بناه على فعلى، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم. وروى ابن حبيب، عن اليزيدي: من سبأ، بألف ساكنة، كقولهم: تفرقوا أيدي سبا. وقرأت فرقة: بنبأ، بألف عوض الهمزة، وكأنها قراءة من قرأ: لسبا، بالألف، لتتوازن الكلمتان، كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمز المكسور والتنوين. وقال في التحرير: إن هذا النوع في علم البديع يسمى بالترديد، وفي كتاب التفريع بفنون البديع. إن الترديد رد أعجاز البيوت على صدورها، أو رد كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني، ويسمى أيضا التصدير، فمثال الأول قوله:
* سريع إلى ابن العم يجبر كسره
*
وليس إلى داعي الخنا بسريع
*
ومثال الثاني قوله
63

* والليالي إذا نأيتم طوال
*
والليالي إذا دنوتم قصار
*
وذكر أن مثل: * (من سبإ بنبإ) *، يسمى تجنيس التصريف، قال: وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف، ومنه قوله تعالى: * (ذلكم بما كنتم تفرحون فى الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) *، وما ورد في الحديث: (الخيل معقود في نواصيها الخير). وقال الشاعر:
* لله ما صنعت بنا
*
تلك المعاجر والمحاجر
*
وقال الزمخشري: وقوله: * (من سبإ بنبإ) *، من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعا، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده. ولقد جاء هنا زائدا على الصحة، فحسن وبدع لفظا ومعنى. ألا ترى لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحا؟ وهو كما جاء أصح، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال. انتهى. والزيادة التي أشار إليها هي أن النبأ لا يكون إلا الخبر الذي له شأن، ولفظ الخبر مطلق، ينطلق على ماله شأن وما ليس له شأن.
ولما أبهم الهدهد أولا، ثم أبهم ثانيا دون الإبهام، صرح بما كان أبهمه فقال: * (إنى وجدت امرأة تملكهم) *. ولا يدل قوله: * (تملكهم) * على جواز أن تكون المرأة ملكة، لأن ذلك كان من فعل قوم بلقيس، وهم كفار، فلا حجة في ذلك. وفي صحيح البخاري، من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم)، لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح عنه. ونقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه، لا على الإطلاق، ولا أن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما ذلك على سبيل التحكم والاستنابة في القضية الواحدة. ومعنى وجدت هنا: أصبت، والضمير في تملكهم عائد على سبأ، إن كان أريد القبيلة، وإن أريد الموضع، فهو على حذف، أي وجئتك من أهل سبأ.
والمرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك اليمن كلها، وقد ولد له أربعون ملكا، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس. واختلف في اسم أبيها اختلافا كثيرا. قيل: وكانت أمها جنية تسمى ريحانة بنت السكن، تزوجها أبوها، إذ كان من عظميه لم ير أن يتزوج أحدا من ملوك زمانه، فولدت له بلقيس، وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن، ولا الحديث الصحيح.
وبدأ الهدهد بالإخبار عن ملكها، وأنها أوتيت من كل شيء، وهذا على سبيل المبالغة، والمعنى: من كل شيء احتاجت إليه، أو من كل شيء في أرضها. وبين قول الهدهد ذلك، وبين قول سليمان: * (وأوتينا من كل شىء) * فرق، وذلك أن سليمان عطف على قوله: * (علمنا منطق الطير) *، وهو معجزة، فيرجع أولا إلى ما أوتي من النبوة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطف الهدهد على الملك، فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها. * (ولها عرش عظيم) *، قال ابن زيد: هو مجلسها. وقال سفيان: هو كرسيها، وكان مرصعا بالجواهر، وعليه سبعة أبواب. وذكروا من وصف عرشها أشياء، الله هو العالم بحقيقة ذلك، واستعظام الهدهد عرشها، إما لاستصغار حالها أن يكون لها مثل هذا العرش، وإما لأن سليمان لم يكن له مثله، وإن كان عظيم المملكة في كل شيء، لأنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هو تحت طاعته.
ولما
64

كان سليمان قد آتاه الله من كل شيء، وكان له عرش عظيم، أخبره بهذا النبأ العظيم، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك. ولم يلتفت سليمان لذلك، إذ كان معرضا عن أمور الدنيا. فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين، وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك، أخبر أولا باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان، تحصنا من العقوبة، بزينة العلم الذي حصل له، فتشوف السامع إلى علم ذلك. ثم أخبرنا ثانيا يتعلق ذلك العلم، وهو أنه من سبأ، وأنه أمر متيقن لا شك فيه، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ. ثم أخبر ثالثا عن الملك الذي أوتيته امرأة، وكان سليمان عليه السلام قد سأل الله أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. ثم أخبر رابعا ما ظاهره الاشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال، وهو قوله: * (وأوتيت من كل شىء) *، وقوله: * (ولها عرش عظيم) *، وكان سليمان له بساط قد صنع له، وكان عظيما. ولما لم يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله، إذ هو أمر دنياوي، أخبره خامسا بما يهزه لطلب هذه الملكة، ودعائها إلى الإيمان، وإفراده بالعبادة فقال: * (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) *، وقد تقدم القول: إنهم كانوا مجوسا يعبدون الأنوار، وهو قول الحسن. وقيل: كانوا زنادقة.
وهذه الإخبارات من الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن سليمان، وعرف أن مقصد سليمان الدعاء إلى توحيد الله والإيمان به، فكان ذلك عذرا واضحا أزال عنه العقوبة التي كان سليمان قد توعده بها. وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان المبين، إذ كان في غيبته مصلحة لإعلام سليمان بما كان خافيا عنه، ومآله إلى إيمان الملكة وقومها. وفي ملك هذه المرأة ومكانها على سليمان، وإن كانت المسافة بينهما قريبة، كما خفي ملك يوسف على يعقوب، وذلك لأمر أراده الله تعالى. قال الزمخشري: ومن نوكي القصاص من يقف على قوله: * (ولها عرش عظيم) *، وجدتها يريد أمر عظيم، إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله. انتهى. وقال أيضا فإن قلت: من أين للهدهد الهدى إلى معرفة الله ووجوب السجود له، وإنكار السجود للشمس، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه الله ذلك، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة الت لا تكاد العقلاء يهتدون لها. ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان خصوصا في زمان بني سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له. انتهى.
وأسند التزيين إلى الشيطان، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى. * (فصدهم عن السبيل) *، أي الشيطان، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة. * (فهم لا يهتدون) *، أي إلى الحق. وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر، والزهري، والسلمي، والحسن، وحميد، والكسائي: ألا، بتخفيف لام الألف، فعلى هذا له أن يقف على: * (فهم لا يهتدون) *، ويبتدىء على: * (ألا يسجدوا) *. قال الزمخشري: وإن شاء وقف على ألا يا، ثم ابتدأ اسجدوا، وباقي السبعة: بتشديدها، وعلى هذا يصل قوله: * (فهم لا يهتدون) * بقوله: * (ألا يسجدوا) *. وقال الزمخشري: وفي حرف عبد الله، وهي قراءة الأعمش: هلا وهلا، بقلب الهمزتين هاء، وعن عبد الله: هلا يسجدون، بمعنى: ألا تسجدون، على الخطاب. وفي قراءة أبي: ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السمائ والأرض ويعلم سركم وما تعلنون، انتهى. وقال بن عطية: وقرأ الأعمش: هلا يسجدون؛ وفي حرف عبد الله: ألا هل تسجدون، بالتاء، وفي قراءة أبي: ألا تسجدون، بالتاء أيضا؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون، وقرأ بالتاء أو الياء، فتخريجها واضح. وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله: * (ألا يسجدوا) * في موضع نصب، على أن يكون بدلا من قوله: * (أعمالهم) *، أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا.
65

وما بين المبدل منه والبدل معترض، أو في موضع جر، على أن يكون بدلا من السبيل، أي قصدهم عن أن لا يسجدوا. وعلى هذا التخريج تكون لا زائدة، أي فصدهم عن أن يسدجوا لله، ويكون * (فهم لا يهتدون) * معترضا بين المبدل منه والبدل، ويكون التقدير: لأن لا يسجدوا. وتتعلق اللام إما بزين، وإما بقصدهم، واللام الداخلة على أن داخلة على مفعول له، أي علة تزيين الشيطان لهم، أو صدهم عن السبيل، هي انتفاء سجودهم لله، أو لخوفه أن يسجدوا لله. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون لا فريدة، ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. انتهى. وأما قراءة ابن عباس ومن وافقه، فخرجت على أن تكون ألا حرف استفتاح، ويا حرف نداء، والمنادى محذوف، واسجدوا فعل أمر، وسقطت ألف يا التي للنداء، وألف الوصل في اسجدوا، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير ألفين لما سقط لفظا سقطا خطا. ومجئ مثل هذا التركيب موجود في كلام العرب. قال الشاعر:
ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد
وقال:
ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال
وقال:
ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى
وقال:
* فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة
*
فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي
وقال:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدروإن كان جبانا عدا آخر الدهر
*
وسمع بعض العرب يقول:
ألا يا ارحمونا ألا تصدقوا علينا
ووقف الكسائي في هذه القراءة على يا، ثم يبتدئ اسجدوا، وهو وقف اختيار لا اختبار، والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يافيه للنداء، وحذف المنادى، لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه. ولو حذفنا المنادى، لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلقه وهو المنادي، فكان ذلك إخلالا كبيرا. وإذا أبقينا المنادي ولم نحذفه، كان ذلك دليلا على العامل فيه جملة النداء. وليس حرف النداء حرف جواب، كنعم، ولا، وبلى، وأجل؛ فيجوز حذف الجمل بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة. فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين، ولقصد المبالغة في التوكيد، وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي
66

اللفظ العاملين في قوله:
فأصبحن لا يسألنني عن بما به
والمتفقي اللفظ العاملين في قوله:
ولا للما بهم أبدا دواء
وجاز ذلك، وإن عدوه ضرورة أو قليلا، فاجتماع غير العاملين، وهما مختلفا اللفظ، يكون جائزا، وليس يا في قوله:
يا لعنة الله والأقوام كلهم
حرف نداء عندي، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه. وقال الزمخشري: فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا، أو في واحدة منهما: قلت: هي واجبة فيهما، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك؛ وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه، انتهى. والخبء: مصدر أطلق على المخبوء، وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه تعالى من غيوبه. وقرأ الجمهور: الخبء، بسكون الباء والهمزة. وقرأ أبي، وعيسى: بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة. وقرأ عكرمة: بألف بدل الهمزة، فلزم فتح ما قبلها، وهي قراءة عبد الله، ومالك بن دينار. ويخرج على لغة من يقول في الوقف: هذا الخبو، ومررت بالخبي، ورأيت الخبا، وأجرى الوصل مجرى الوقف. وأجاز الكوفيون أن تقول في المرأة والكمأة: المرأة والكمأة، فيبدل من الهمزة ألفا، فتفتح ما قبلها، فعلى قولهم هذا يجوز أن يكون الخبأ منه. قيل: وهي لغة ضعيفة، وإجراء الوصل مجرى الوقف أيضا نادر قليل، فيعادل التخريجان. ونقل الحركة إلى الباء، وحذف الهمزة، حكاه سيبويه، عن قوم من بني تميم وبني أسد. وقراءة الخب بالألف، طعن فيها أبو حاتم وقال: لا يجوز في العربية، قال: لأنه إن حذف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال: الخب، وإن حولها قال: الخبي، بسكون الباء وياء بعدها. قال المبرد: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو، ولم يلحق بهم، إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه. والظاهر أن * (في السماوات) * متعلق بالخب، أي المخبوء في السماوات. وقال الفراء في ومن يتعاقبان بقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم، يريد منكم. انتهى. فعلى هذا يتعلق بيخرج، أي من في السماوات.
(ولما كان الهدهد قد أوتي من معرفة الماء تحت الأرض ما لم يؤت غيره، وألهمه الله تعالى ذلك، كان وصفه ربه تعالى بهذا الوصف الذي هو قوله: * (الذى يخرج الخبء) *، إذ كل مختص بوصف من علم أو صناعة، يظهر عليه مخايل ذلك الوصف في روائه ومنطقه وشمائله، ولذلك ورد ما عمل عبد عملا إلا ألقى الله عليه رداء عمله. وقرأ الحرميان والجمهور: ما يخفون وما يعلنون، بياء الغيبة، والضمير عائد على المرأة وقومها. وقرأ الكسائي وحفص: بتاء الخطاب، فاحتمل أن يكون خطابا لسليمان عليه السلام والحاضرين معه، إذ يبعد أن تكون محاورة الهدهد لسليمان، وهما ليس معهما أحد. وكما جاز له أن يخاطبه بقوله: * (أحطت * ما
لم تحط به) *، جاز أن يخاطبه والحاضرين معه بقوله: * (ما تخفون وما تعلنون) *، بل خطابه بهذا ليس فيه ظهور شغوف بخلاف ذلك الخطاب. والظاهر أن قوله: * (ألا يسجدوا) * إلى العظيم من كلام الهدهد. وقيل: من كلام الله تعالى
67

لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال ابن عطية: القراءة بياء الغيبة تعطي أن الأية من كلام الهدهد، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم).
وقال صاحب الغنيان: لما ذكر الهدهد عرش بلقيس ووصفه بالعظم، رد الله عز وجل عليه وبين أن عرشه تعالى هو الموصوف بهذه الصفة على الحقيقة، إذ لا يستحق عرش دونه أن يوصف بالعظمة. وقيل: إنه من تمام كلام الهدهد، كأنه استدرك ورد العظمة من عرش بلقيس إلى عرش الله. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ قلت: بين الوصفين فرق، لأن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض. انتهى. وقرأ ابن محيصن وجماعة: العظيم بالرفع، فاحتمل أن تكون صفة للعرش، وقطع على إضمار هو على سبيل المدح، فتستوي قراءته وقراءة الجمهور في المعنى. واحتمل أن تكون صفة للرب، وخص العرش بالذكر، لأنه أعظم المخلوقات، وما عداه في ضمنه.
ولما فرغ الهدهد من كلامه، وأبدى عذره في غيبته، أخر سليمان أمره إلى أن يتبين له صدقه من كذبه فقال: * (سننظر أصدقت) * في أخبارك أم كذبت. والنظر هنا: التأمل والتصفح، وأصدقت: جملة معلق عنها سننظر، وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر، لأن نظر، بمعنى التأمل والتفكر، إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في. وعادل بين الجملتين بأم، ولم يكن التركيب أم كذبت، لأن قوله: * (أم كنت من الكاذبين) * أبلغ في نسبة الكذب إليه، لأن كونه من الكاذبين يدل على أنه معروف بالكذب، سابق له هذا الوصف قبل الإخبار بما أخبر به. وإذا كان قد سبق له الوصف بالكذب، كان متهما فيما أخبر به، بخلاف من يظن ابتداء كذبه فيما أخبر به. وفي الكلام حذف تقديره: فأمر بكتابة كتاب إليهم، وبذهاب الهدهد رسولا إليهم بالكتاب، فقال: * (اذهب بكتابى هاذا) *: أي الحاضر المكتوب الآن. * (فألقه إليهم ثم تول عنهم) *: أي تنح عنهم إلى مكان قريب، بحيث تسمع ما يصدر منهم وما يرجع به بعضهم إلى بعض من القول.
وفي قوله: * (اذهب بكتابى هاذا فألقه إليهم) * دليل على إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام، يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى ازسلام. وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى كسرى وقيصر وغيرهما ملوك العرب. وقال وهب: أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به الملوك، بمعنى: وكن قريبا بحيث تسمع مراجعاتهم. وقال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه، أي ألقه وارجع. قال: وقوله: * (فانظر ماذا يرجعون) * في معنى التقديم على قوله: * (ثم * أغنت عنهم) *. انتهى. وقاله أبو علي، ولا ضرورة تدعو إلى التقديم والتأخير، بل الظاهر أن النظر معتقب التولي عنهم. وقرئ في السبعة: فألقه، بكسر الهاء وياء بعدها، وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء. وقرأ مسلم بن جندب: بضم الهاء وواو بعدها، وجمع في قوله: * (إليهم) * الهدهد قال: * (وجدتها وقومها) *. وفي الكتاب أيضا ضمير الجمع في قوله: * (أن لا * تعلوا على) *، والكتاب كان فيه الدعاء إلى الإسلام لبلقيس وقومها. ومعنى: * (فانظر ماذا يرجعون) *: أي تأمل واستحضره في ذهنك. وقيل معناه: فانتظر. ماذا: إن كان معنى فانظر معنى التأمل بالفكر، كان انظر معلقا، وماذا: إما كلمة استفهام في موضع نصب، وإما أن تكون ما استفهاما وذا موصول بمعنى الذي. فعلى الأول يكون يرجعون خبرا عن ماذا، وعلى الثاني يكون ذا هو الخبر ويرجعون صلة ذا. وإن كان معنى فانظر: فانتظر، فليس فعل قلب فيعلق، بل يكون ماذا كله موصولا بمعنى الذي، أي فانتظر الذي يرجعون، والمعنى: فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلى ما يرجعون من القول.
* (قالت ياأيها * أيها * الملا إنى ألقى إلى كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم * أن لا * تعلوا على * على وأتونى مسلمين * قالت ياأيها الملا أفتونى فى أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد والامر إليك فانظرى ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذالك يفعلون * وإنى مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما ءاتانى الله خير مما ءاتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة
68

وهم صاغرون) *.
في الكلام حذف تقديره: فأخذ الهدهد الكتاب وذهب به إلى بلقيس وقومها وألقاه إليهم، كما أمره سليمان. فقيل: أخذه بمنقاره. وقيل: علقه في عنقه، فجاءها حتى وقف على رأسها، وحولها جنودها، فرفرف بجناحيه، والناس ينظرون إليه، حتى رفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها. وقيل: كانت في قصرها قد غلقت الأبواب واستلقت على فراشها نائمة، فألقي الكتاب على نحرها. وقيل: كانت في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم، فإذا نظرت إليها سجدت، فجاء الهدهد فسدها بجناحه، فرأت ذلك وقامت إليه، فألقى الكتاب إليها، وكانت قارئة عربية من قوم تبع. وقيل: ألقاه من كوة وتوارى فيها.
فأخذت الكتاب ونادت أشراف قومها: * (قالت ياأيها * أيها * الملا) *. وكرم الكتاب لطبعه بالخاتم، وفي الحديث: (كرم الكتاب ختمه) أو لكونه من سليمان، وكانت عالمة بملكه، أو لكون الرسول به الطير، فظنته كتابا سماويا؛ أو لكونه تضمن لطفا ولينا، لا سبا ولا ما يغير النفس، أو لبداءته باسم الله، أقوال. ثم أخبرتهم فقالت: * (إنه من سليمان) *، كأنها قيل لها: ممن الكتاب وما هو؟ فقالت: * (إنه من سليمان) *، وإنه كيت وكيت. أبهمت أولا ثم فسرت، وفي بنائها ألقي للمفعول دلالة على جهلها بالملقي، حيث حذفته، أو تحقيرا له، حيث كان طائرا، إن كانت شاهدته. والظاهر أن بداءة الكتاب من سليمان باسم الله الرحمن الرحيم،
إلى آخر ما قص الله منه خاصة، فاحتمل أن يكونن من سليمان مقدما على بسم الله، وهو الظاهر، وقدمه لاحتمال أن يندر منها ما لا يليق، إذ كانت كافرة، فيكون اسمه وقاية لاسم الله تعالى. أو كان عنوانا في ظاهر الكتاب، وباطنه فيه بسم الله إلى آخره. واحتمل أن يكون مؤخرا في الكتابة عن بسم الله، وإن ابتدأ الكتاب باسم الله، وحين قرأته عليهم بعد قراءتها له في نفسها، قدمته في الحكاية، وإن لم يكن مقدما في الكتابة.
وقال أبو بكر بن العربي: كانت رسل المتقدمين إذا كتبوا كتابا بدؤوا بأنفسهم، من فلان إلى فلان، وكذلك جاءت الإشارة. وعن أنس: ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتابا بدؤوا بأنفسهم. وقال أبو الليث في (كتاب البستان) له: ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز، لأن الأمة قد أجمعت عليه وفعلوه. وقرأ الجمهور: إنه من سليمان، وإنه بكسر الهمزة فيهما. وقرأ عبد الله: وإنه من سليمان، بزيادة واو عطفا على * (إنى ألقى) *. وقرأ عكرمة، وابن أبي عبلة: بفتحهما، وخرج على البدل من كتاب، أي ألقى إلي أنه، أو على أن يكون التقدير لأنه كأنها. عللت كرم الكتاب لكونه من سليمان وتصديره ببسم الله. وقرأ أبي: أن من سليمان وأن بسم الله، بفتح الهمزة ونون ساكنة، فخرج على أن أن هي المفسرة، لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول، وعلى أنها أن المخففة من الثقيلة، وحذفت الهاء وبسم الله الرحمن الرحيم، استفتاح شريف بارع المعنى مبدوء به في الكتب في كل لغة وكل شرع. وأن في قوله: * (أن لا * تعلوا) *، قيل: في موضع رفع على البدل من كتاب. وقيل: في موضع نصب على معنى بأن لا تعلوا، وعلى هذين التقديرين تكون أن ناصبة للفعل. وقال الزمخشري: وأن في * (أن لا * تعلوا على) * مفسرة، فعلى هذا تكون لا في لا تعلوا للنهي، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه. وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير هو أن لا تعلوا، فيكون خبر مبتدأ محذوف. ومعنى لا تعلوا: لا تتكبروا، كما يفعل الملوك. وقرأ ابن عباس، في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي: أن لا تعلوا، بالغين المعجمة، أي ألا تتجاوزوا الحد، وهو من الغلو. والظاهر أنه طلب منهم أن يأتوه وقد أسلموا، وتركوا الكفر وعبادة الشمس. وقيل: معناه مذعنين مستسلمين من الانقياد والدخول في الطاعة
69

وما كتبه سليمان في غاية الإيجاز والبلاغة، وكذلك كتب الأنبياء.
والظاهر أن الكتاب هو ما نص الله عليه فقط. واحتمل أن يكون مكتوبا بالعربي، إذ الملوك يكون عندهم من يترجم بعدة ألسن، فكتب بالخط العربي واللفظ العربي، لأنها كانت عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري. واحتمل أن يكون باللسان الذي كان سليمان يتكلم به، وكان عندها من يترجم لها، إذ كانت هي عارفة بذلك اللسان. وروي أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فلا تعلوا علي وائتوني مسلمين. وكانت كتب الأنبياء جملا لا يطيلون ولا يكثرون، وطبع الكتاب بالمسك، وختمه بخاتمة. وروي أنه لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان، ولما قرأت على الملأ الكتاب، ورأت ما فيه من الانتقال إلى سليمان، استشارتهم في أمرها. قال قتادة: وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر، وعنه: وثلاثة عشر، كل رجل منهم على عشرة آلاف، وكانت بأرض مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام، وذكر عن عسكرها ما هو أعظم وأكثر من هذا، والله أعلم بذلك. وتقدم الكلام في الفتوى في سورة يوسف، والمراد هنا: أشيروا علي بما عندكم في ما حدث لها من الرأي السديد والتدبير. وقصدت بإشارتهم: استطلاع آرائهم واستعطافهم وتطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا.
* (ما كنت قاطعة أمرا) *: أي مبرمة وفاصلة أمرا، * (حتى تشهدون) *: أي تحضروا عندي، فلا أستبد بأمر، بل تكونون حاضرين معي. وفي قراءة عبد الله: ما كنت قاضية أمرا، أي لا أبت إلا وأنتم حاضرون معي. وما كنت قاطعة أمرا، عام في كل أمر، أي إذا كانت عادتي هذه معكم، فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة الكبرى التي هي الخروج من الملك والانسلاك في طاعة غيري والصيرورة تبعا؟ فراجعها الملأ بما أقرعينها من قولهم: إنهم * (أولوا قوة) *، أي قوة بالعدد والعدد، * (وأولو بأس شديد) *: أي أصحاب شجاعة ونجدة. أظهروا القوة العرضية، ثم القوة الذاتية، أي نحن متهيؤون للحرب ودفع هذا الحادث. ثم قالوا: * (والامر إليك فانظرى ماذا تأمرين) *، وذلك من حسن محاورتهم، إذ وكلوا الأمر إليها، وهو دليل على الطاعة المفرطة، أي نحن ذكرنا ما نحن عليه، ومع ذلك فالأمر موكول إليك، كأنهم أشاروا أولا عليه بالحرب، أو أرادوا: نحن أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة، وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن. فانظري ماذا تأمرين به، نرجع إليك ونتبع رأيك، وفانظري من التأمل والتفكر، وماذا هو المفعول الثاني لتأمرين، والمفعول الأول محذوف لفهم المعنى، أي تأمريننا. والجملة معلق عنها انظري، فهي في موضع مفعول لا نظري بعد إسقاط الحرف من اسم الاستفهام.
ولما وصل إليها كتاب سليمان، لا على يد رجل بل على طائر، استعظمت ملك سليمان، وعلمت أن من سخر له الطير حتى يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب، غير ممتنع عليه تدويخ الأرض وملوكها، فأخبرت بحال الملوك ومالت إلى المهاداة والصلح فقالت: * (إن الملوك إذا دخلوا قرية) *: أي تغلبوا عليها، * (أفسدوها) *: أي خربوها بالهدم والحرق والقطع، وأذلوا أعزة أهلها بالقتل والنهب والأسر، وقولها فيه تزييف لآرائهم في الحرب، وخوف عليهم وحياطة لهم، واستعظام لملك سليمان. والظاهر أن * (وكذالك يفعلون) * هو من قولها، أي عادة الملوك المستمرة تلك من الإفساد والتذليل، وكانت ناشئة في بيت الملك، فرأت ذلك وسمعت. ذكرت ذلك تأكيدا لما ذكرت من حال الملوك. وقيل: هو من كلام الله إعلاما لرسوله صلى الله عليه وسلم) وأمته، وتصديقا لإخبارها عن الملوك إذا تغلبوا.
ولما كانت عادة الملوك قبول الهدايا، وأن قبولها يدل على الرضا والإلفة، قالت: * (وإنى مرسلة إليهم) *، أي إلى سليمان ومن معه، رسلا بهدية، وجاء لفظ الهدية مبهما. وقد ذكروا في تعيينها أقوالا مضطربة متعارضة، وذكروا من حالها ومن حال سليمان حين وصلت إليه الهدية، وكلامه مع رسولها ما الله أعلم به. و * (فناظرة) * معطوف على * (مرسلة) *. و * (بم) * متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أن البائ متعلقة بناظرة، وهو وهم فاحش، والنظر هنا معلق أيضا. والجملة
في موضع مفعول به، وفيه دلالة على أنها لم تثق بقبول الهدية، بل جوزت الرد، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان. والهدية: اسم لما يهدي، كالعطية هي اسم لما يعطى. وروي أنها قالت لقومها: إن كان ملكا دنياويا، أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيا، لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه، وفي الكلام حذف تقديره: فأرسلت الهدية، فلما جاء، أي الرسول سليمان، والمراد بالرسول الجنس لا حقيقة المفرد، وكذلك الضمير في ارجع والرسول يقع على الجمع
70

والمفرد والمذكر والمؤنث. وقرأ عبد الله: فلما جاءوا، قرأ: ارجعوا، جعله عائدا على قوله: * (المرسلون) *. و * (أتمدونن بمال) *: استفهام إنكار واستقلال، وفي ذلك دلالة على عزوفه عن الدنيا، وعدم تعلق قلبه عليه الصلاة والسلام بها.
ثم ذكر نعمة الله عليه، وإن ما آتاه الله من النبوة وسعة الملك خير مما آتاكم، بل أنتم بما يهدى إليكم تفرحون بحبكم الدنيا، والهدية تصح إضافتها إلى المهدي وإلى المهدي إليه، وهي هنا مضافة للمهدي إليه، وهذا هو الظاهر. ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي، أي بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، فإنكم قدرتم على إهداء مثلها. ويجوز أن تكون عبارة عن الرد، كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها. وقرأ جمهور السبعة: أتمدونني، بنونين، وأثبت بعض الياء. وقرأ حمزة: بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات ياء المتكلم. وقرأ المسيبي، عن نافع: بنون واحدة خفيفة. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين قولك: أتمدونني بمال وأنا أغني منكم، وبين أن يقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته بالواو، فقد جعلت مخاطبي عالما بزيادتي عليه في الغنى، وهو مع ذلك يمدني بالمال، وإذا قلته بالفاء، فقد جعلته ممن خفيت عنه حالي، وأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده، كأني أقول له: أنكر عليك ما فعلت، فإني غني عنه وعليه. ورد قوله: * (فما ءاتانى الله) *. فإن قلت: فما وجه الإضراب؟ قلت: لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه، وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا فرح إلا أن يهدي إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها. انتهى.
* (ارجع إليهم) *: هو خطاب للرسول الذي جاء بالهدية، وهو المنذر بن عمرو أمير الوفد، والمعنى: ارجع إليهم بهديتهم، وتقدمت قراءة عبد الله: ارجعوا إليهم، وارجعوا هنا لا تتعدى، أي انقلبوا وانصرفوا إليهم. وقيل: الخطاب بقوله: ارجع، للهدهد محملا كتابا آخر. ثم أقسم سليمان فقال: * (فلنأتينهم بجنود) *، متوعدا لهم، وفيه حذف، أي إن لم يأتوني مسلمين. ودل هذا التوعد على أنهم كانوا كفارا باقين على الكفر إذ ذاك. والضمير في * (بها) * عائد على الجنود، وهو جمع تكسير، فيجوز أن يعود الضمير عليه، كما يعود على الواحدة، كما قالت العرب: الرجال وأعضادها. وقرأ عبد الله: بهم. ومعنى * (لا قبل) *: لا طاقة، وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة، أي لا تقدرون أن تقابلوهم. والضمير في منها عائد على سبأ، وهي أرض بلقيس وقومها. وانتصب * (أذلة) * على الحال. * (وهم صاغرون) *: حال أخرى. والذل: ذهاب ما كانوا فيه من العز، والصغار: وقوعهم في أسر واستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا. وفي مجيء هاتين الحالتين دليل على جواز أن يقضي العامل حالين الذي حال واحد، وهي مسألة خلاف، ويمكن أن يقال: إن الثانية هنا جاءت توكيدا لقوله: * (أذلة) *، فكأنهما حال واحدة.
* (قال ياءادم * أيها * الملا أيكم يأتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين * قال عفريت من الجن أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنى عليه لقوى أمين * قال الذى عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رءاه مستقرا عنده قال) *.
في الكلام حذف تقديره: فرجع المرسل إليها بالهدية، وأخبرها بما أقسم عليه سليمان، فتجهزت للمسير إليه، إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتال نبي. فروي أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات، بعضها في جوف بعض، في آخر قصر من قصورها، وغلقت الأبواب ووكلت به حراسا يحفظونه، وتوجهت إلى سليمان في
71

أقيالها وأتباعهم.
قال عبد الله بن شداد: فلما كانت على فرسخ من سليمان، قال: * (أيكم يأتينى بعرشها) *؟ وقال ابن عباس: كان سليمان مهيبا، لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه. فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه فقال: ما هذا؟ فقالوا: بلقيس، فقال ذلك. واختلفوا في قصد سليمان استدعاء عرشها. فقال قتادة، وابن جريج: لما وصف له عظم عرشها وجودته، أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويمنع أخذ أموالهم، والإسلام على هذا الدين، وهذا فيه بعد أن يقع ذلك من نبي أوتي ملكا لم يؤته غيره. وقال ابن عباس، وابن زيد: استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله، وليغرب عليها سليمان والإسلام على هذا الاستسلام. وأشار الزمخشري لقول فقال: ولعله أوحي إليه عليه السلام باستيثاقها من عرشها، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه به من إجراء العجائب على يده، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان ويصدقها. انتهى. وقال الطبري: أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله: * (ولها عرش عظيم) *، وهذا فيه بعد، لأنه قد ظهر صدقة في حمل الكتاب، وما ترتب على حمله من مشورة بلقيس قومها وبعثها بالهدية. وقيل: أراد أن يؤتي به، فينكر ويغير، ثم ينظر أتثبته أم تنكره، اختبارا لعقلها. والظاهر ترتيب هذه الأخبار على حسب ما وقعت في الوجود، وهو قول الجمهور. وعن ابن عباس أنه قال: * (أيكم يأتينى بعرشها) *؟ حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال: * (ولها عرش عظيم) *. ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير، وفي قوله: * (أيكم يأتينى بعرشها) * دليل على جواز الاستعانة ببعض الاتباع في مقاصد الملوك، ودليل على أنه قد يخص بعض أتباع الأنبياء بشيء لا يكون لغيرهم، ودليل على مبادرة من طلبه منه الملوك قضاء حاجة، وبداءة الشياطين في التسخير على الإنس، وقدرتهم بأقدار الله على ما يبعد فعله من الإنس. وقرأ الجمهور: عفريت، وأبو حيوة: بفتح العين. وقرأ أبو رجاء، وأبو السمال، وعيسى، ورويت عن أبي بكر الصديق: عفرية، بكسر العين، وسكون الفاء، وكسر الراء، بعدها ياء مفتوحة، بعدها تاء التأنيث. وقال ذو الرمة:
* كأنه كوكب في إثر عفرية
*
مصوب في سواد الليل مقتضب
*
وقرأت فرقة: عفر، بلا ياء ولا تاء، ويقال في لغة طيىء وتميم: عفراة بالألف وتاء التأنيث، وفيه لغة سادسة عفارية، ويوصف بها الرجل، ولما كان قد يوصف به الإنس خص بقوله من الجن. وعن ابن عباس: اسمه صخر. وقيل: كوري. وقيل: ذكران. و * (ءاتيك) *: يحتمل أن يكون مضارعا واسم فاعل. وقال قتادة، ومجاهد، ووهب: * (من مقامك) *: أي من مجلس الحكم، وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم. وقيل: قبل أن تستوي من جلوسك قائما. * (وإنى عليه) *: أي على الإتيان به لقوي على حمله؛ * (أمين) *: لا أختلس منه شيئا. قال الحسن: كان كافرا، لكنه كان مسخرا، والعفريت لا يكون إلا كافرا.
* (قال الذى عنده علم من الكتاب) *، قيل: هو من الملائكة، وهو جبريل، قاله النخعي. والكتاب: اللوح المحفوظ، أو كتاب سليمان إلى بلقيس. وقيل: ملك أيد الله به سليمان. وقيل: هو رجل من الإنس، واسمه آصف بن برخيا، كاتب
72

سليمان، وكان صديقا عالما قاله الجمهور. أو اسطوام، أو هود، أو مليخا، قاله قتادة. أو اسطورس، أو الخضر عليه السلام، قاله ابن لهيعة. وقالت جماعة: هو ضبة بن اد جد بني ضبة، من العرب، وكان فاضلا يخدم سليمان، كان على قطعة من خيله، وهذه أقوال مضطربة، وقد أبهم الله اسمه، فكان ينبغي أن لا يذكر اسمه حتى يخبر به نبي. ومن أغرب الأقوال أنه سليمان عليه السلام، كأنه يقول لنفسه: * (قال الذى عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك) *، أو يكون خاطب بذلك العفريت، حكى هذا القول الزمخشري وغيره، كأنه استبطأ ما قال العفريت، فقال له سليمان ذلك على تحقير العفريت. والكتاب: هو المنزل من عند الله، أو اللوح المحفوظ، قولان. والعلم الذي أوتيه، قال: اسم الله الأعظم وهو: يا حي يا قيوم. وقيل: يا ذا الجلال والإكرام. وقيل بالعبرانية: أهيا شراهيا. وقال الحسن: الله ثم الرحمن. والظاهر أن ارتداد الطرف حقيقة، وأنه أقصر في المدة من مدة العفريت، ولذلك روي أن سليمان قال: أريد أسرع من ذلك حين أجابه العفريت، ولما كان الناظر موصوفا بإرسال البصر، كما قال الشاعر:
* وكنت متى أرسلت طرفك رائدا
*
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
*
وصف برد الطرف، ووصف الطرف بالارتداد. فالمعنى أنك ترسل طرفك، فقبل أن ترده أتيتك به، وصار بين يديك. فروي أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد طرفه فنظر نحو اليمن، فدعا آصف فغاب العرش في مكانه بمأرب، ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله، قبل أن يرد طرفه. وقال ابن جبير، وقتادة: قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى. وقال مجاهد: قبل أن تحتاج إلى التغميض، أي مدة ما يمكنك أن تمد بصرك دون تغميض، وذلك ارتداده. قال ابن عطية: وهذان القولان يقابلان قول من قال: إن القيام هو من مجلس الحكم، ومن قال: إن القيام هو من الجلوس، فيقول في ارتداد الطرف هو أن تطرف، أي قبل أن تغمض عينيك وتفتحهما، وذلك أن الثاني يعطي الأقصر في المدة ولا بد. انتهى. وقيل: طرفك مطروفك، أي قبل أن يرجع إليك من تنظر إليه من منتهى بصرك، وهذا هو قول ابن جبير وقتادة المتقدم، لأن من يقع طرفك عليه هو مطروفك. وقال الماوردي: قبل أن ينقبض إليك طرفك بالموت، فخبره أنه سيأتيه قبل موته، وهذا تأويل بعيد، بل المعنى آتيك به سريعا. وقيل: ارتداد الطرف مجاز هنا، وهو من باب مجاز التمثيل، والمراد استقصار مدة الإتيان به، كما تقول لصاحبك: افعل كذا في لحظة، وفي ردة طرف، وفي طرفة عين، تريد به السرعة، أي آتيك به في مدة أسرع من مدة العفريت.
* (فلما رءاه مستقرا) * عنده: في الكلام حذف تقديره: فدعا الله فأتاه به، فلما رآعه: أي عرش بلقيس. قيل: نزل على سليمان من الهواء. وقيل: نبع من الأرض. وقيل: من تحت عرش سليمان، وانتصب مستقرا على الحال، وعنده معمول له. والظرف إذا وقع في موضع الحال، كان العامل فيه واجب الحذف. فقال ابن عطية: وظهر العامل في الظرف من قوله: * (مستقرا) *، وهذا هو المقدر أبدا في كل ظرف وقع في موضع الحال. وقال أبو البقاء: ومستقرا، أي ثابتا غر متقلقل، وليس بمعنى الحضور المطلق، إذ لو كان كذلك لم يذكر. انتهى. فأخذ في مستقرا أمرا زائدا على الاستقرار المطلق، وهو كونه غير متقلقل، حتى يكون مدلوله غير مدلول العندية، وهو توجيه حسن لذكر العامل في الظرف الواقع حالا؛ وقد رد ذكر العامل في ما وقع خبرا من الجار والمجرور التام في قول الشاعر:
* لك العزان مولاك عزوان يهن
*
فأنت لدى بحبوحة الهون كائن
*
* (قال هاذا من فضل ربى) *: أي هذا الإتيان بعرشها، وتحصيل ما أردت من ذلك، هو من فضل ربي علي وإحسانه، ثم علل
73

ذلك بقوله: * ((سقط: ليبلوني أأشكر أم أكفر)) *. قال ابن عباس: المعنى أأشكر على السرير وسوقه أم أكفر؟ إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني. انتهى. وتلقى سليمان النعمة وفضل الله بالشكر، إذ ذاك نعمة متجددة، والشكر قيد للنعم. وأأشكر أم أكفر في موضع نصب ليبلوني، وهو معلق، لأنه في معنى التمييز، والتمييز في معنى العلم، وكثير التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم، وإن لم يكن مرادفا له، لأن مدلوله الحقيقي هو الاختبار. * (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) *: أي ذلك الشكر عائد ثوابه إليه، إذ كان قد صان نفسه عن كفران النعمة، وفعل ما هو واجب عليه من شكر نعمة الله عليه. * (ومن كفر) *: أي فضل الله ونعمته عليه، فإن ربي غني عن شكره، لا يعود منفعتها إلى الله، لأنه هو الغني المطلق الكريم بالإنعام على من كفر نعمته. والظاهر أن قوله: * (فإن ربى غنى كريم) * هو جواب الشرط، ولذلك أضمر فاء في قوله: * (غنى) *، أي عن شكره. ويجوز أن يكون الجواب محذوفا دل عليه ما قبله من قسيمة، أي ومن كفر فلنفسه، أي ذلك الكفر عائد عقابه إليه. ويجوز أن تكون ما موصولة، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط.
* (قال نكروا لها عرشها) *. روي أن الجن أحست من سليمان، أو ظنت به أنه ربما تزوج بلقيس، فكرهوا ذلك ورموها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة، وأن رجلها كحافر دابة، فجرب عقلها وميزها بتنكير العرش، ورجلها بالصرح، لتكشف عن ساقيها عنده. وتنكير عرشها، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: بأن زيد فيه ونقص منه. وقيل: بنزع ما عليه من الفصوص والجواهر. وقيل: يجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره. والتنكير: جعله متنكرا متغيرا عن شكله وهيئته، كما يتنكر الرجل للناس حتى لا يعرفوه. وقرأ الجمهور: ننظر: بالجزم على جواب الأمر. وقرأ أبو حيوة: بالرفع على الاستئناف. أمر بالتنكير، ثم استأنف الإخبار عن نفسه بأنه ينظر، ومتعلق أتهتدي محذوف. والظاهر أنه أتهتدي لمعرفة عرشها ولا يجعل تنكيره قادحا في معرفتها له فيظهر بذلك فرط عقلها وأنها لم يخف عليه حال عرشها وإن كانوا قد راموا الإخفاء أو أتهتدي للجواب المصيب إذا سئلت عنه، أو أتهتدي للإيمان بنبوة سليمان عليه السلام إذا رأت هذا المعجز من نقل عرشها من المكان الذي تركته فيه وغلقت الأبواب عليه وجعلت له حراسا.
* (فلما جاءت) *، في الكلام حذف، أي فنكروا عرشها ونظروا ما جوابها إذا سئلت عنه. * (فلما جاءت قيل أهكذا عرشك) *: أي مثل هذا العرش الذي أنت رأيتيه عرشك الذي تركتيه ببلادك؟ ولم يأت التركيب: أهذا عرشك؟ جاء بأداة التشبيه، لئلا يكون ذلك تلقينا لها. ولما رأته على هيئة لا تعرفها فيه، وتميزت فيه أشياء من عرشها، لم تجزم بأنه هو، ولا نفته النفي البالغ، بل أبرزت ذلك في صورة تشبيهية فقالت: * (كأنه هو) *، وذلك من جودة ذهنها، حيث لم تجزم في الصورة المحتملة بأحد الجائزين من كونه إياه أو من كونه ليس إياه، وقابلت تشبيههم بتشبيهها. والظاهر أن قوله: * (وأوتينا العلم) * إلى قوله: * (من قوم كافرين) * ليس من كلام بلقيس، وإن كان متصلا بكلامها. فقيل: من كلام سليمان. وقيل: من كلام قوم سليمان وأتباعه. فإن كان من قول سليمان فقيل: العلم هنا مخصوص، أي وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة. * (من قبلها) * أي من قبل مجيئها. * (وكنا مسلمين) *: موحدين خاضعين. وقال ابن عطية: وفي الكلام حذف تقديره كأنه هو، وقال سليمان عند ذلك: * (وأوتينا العلم من قبلها) * الآية، قال ذلك على جهة تعديد نعم الله تعالى، وإنما قال ذلك بما علمت هي وفهمت، ذكر هو نعمة الله عليه وعلى آبائه. انتهى ملخصا. وقال الزمخشري: وأوتينا العلم من كلام سليمان وملائه، فإن قلت: علام عطف هذا الكلام وبما اتصل؟ قلت: لما كان المقام الذي سئلت فيه عن
74

عرشها، وأجابت بما أجابت به مقاما، أجرى فيه سليمان وملأه ما يناسب قولهم: * (وأوتينا العلم) *، نحو أن يقولوا عند قولها: * (كأنه هو) *، قد أصابت في جوابها، فطبقت المفصل، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة النبوة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر.
وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان ما جاء من عنده قبل علمها، ولم نزل نحن على دين الإسلام، شكروا الله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها وصدها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة. ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولا بقولها * (كأنه هو) *، والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة، أو قبل هذه الحالة، يعني ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام. ثم قال الله تعالى: * (وصدها) * قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل. وقيل: وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار واتصال الفعل. انتهى. أما قوله: ويجوز أن يكون من كلام بلقيس، فهو قول قد تقدم إليه على سبيل التعيين لا الجوار. قيل: والمعنى وأوتينا العلم بصحة نبوته بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة، يعني إحضار العرش. وكنا مسلمين مطيعين لأمرك منقادين لك. والظاهر أن الفاعل بصدها هو قوله: * (ما كانت تعبد) *، وكونه الله أو سليمان، وما مفعول صدها على إسقاط حرف الجر، قاله الطبري، وهو ضعيف لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، نحو قوله:
تمرون الديار ولم تعوجوا
أي عن الديار، وليس من مواضع حذف حرف الجر. وإذا كان الفاعل هو ما كانت بالمصدود عنه، الظاهر أنه الإسلام. وقال الرماني: التقدير التفطن للعرش، لأن المؤمن يقظ والكافر خبيث. والظاهر أن قوله: * (وصدها) * معطوف على قوله: * (وأوتينا) *، إذا كان من كلام سليمان، وإن كان يحتمل ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمد نبيه ولأمته. وإن كان وأوتينا من كلام بلقيس، فالظاهر أنه يتعين كونه من قول الله تعالى وقول من قال إنه متصل بقوله: * (أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون) *. والواو في صدها للحال، وقد مضمرة مرغوب عنه لطول الفصل بينهما، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة. وقرأ الجمهور: إنها بكسر الهمزة، وسعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: بفتحها، فإما على تقدير حرف الجر، أي لأنها، وإما على أن يكون بدلا من الفاعل الذي هو ما كانت تعبد.
قال محمد بن كعب القرظي وغيره: لما وصلت بلقيس، أمر سليمان الجن فصنعت له صرحا، وهو السطح في الصحن من غير سقف، وجعلته مبنيا كالصهريج وملئ ماء، وبث فيه السمك والضفادع، وجعل لسليمان في وسطه كرسي. فلما وصلته بلقيس، * (قيل لها ادخلى) * إلى النبي عليه السلام، فرأت اللجة وفزعت، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر، فكشفت عن ساقيها، فرأى سليمان ساقيها سليمتين مما قالت الجن. فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان: * (إنه صرح ممرد من قوارير) *، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأدغنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم. وفي هذه الحكاية زيادة، وهو أنه وضع سريره في وصدره وجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجن والإنس. قال الزمخشري: وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره وتحققا لنبوته وثباتا على الدين. انتهى. والصرح: كل بناء عال، ومنه: * (ابن لى صرحا لعلى أبلغ الاسباب) *، وهو من التصريح، وهو الإعلان البالغ. وقال مجاهد: الصرح هنا: البركة. وقال ابن عيسى: الصحن، وصرحة الدار: ساحتها. وقيل: الصرح هنا: القصر من
75

الزجاج؛ وفي الكلام حذف، أي فدخلته امتثالا للأمر. واللجة: الماء الكثير. وكشف ساقيها عادة من كان لابسا وأراد أن يخوض الماء إلى مقصد له، ولم يكن المقصود من الصرح إلا تهويل الأمر، وحصل كشف الساق على سبيل التبع، إلا أن يصح ما روي عن الجن أن ساقها ساق دابة بحافر، فيمكن أن يكون استعلام ذلك مقصودا. وقرأ ابن كثير: قيل في رواية الأخريط وهب بن واضح عن سأقيها بالهمز، قال أبو علي: وهي ضعيفة، وكذلك في قراءة قنبل: يكشف عن سأق، وأما همز السؤق وعلى سؤقه فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة. حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة، وأنشد:
أحب المؤقدين إلى موسى
والظاهر أن الفاعل قال هو سليمان، ويحتمل أن يكون الفاعل هو الذي أمرها بدخول الصرح. وظلمها نفسها، قيل: بالكفر، وقيل: بحسبانها أن سليمان أراد أن يعرفها. وقال ابن عطية: ومع، ظرف بني على الفتح، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى. انتهى، والصحيح أنها ظرف، فتحت العين أو سكنت، وليس التسكين مخصوصا بالشعر، كما زعم بعضهم، بل ذلك لغة لبعض العرب، والظرفية فيها مجاز، وإنما هو اسم يدل على معنى الصحبة.
2 (* (ولقد أرسلنآ إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون * قال ياقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون * قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون * وكان فى المدينة تسعة رهط يفسدون فى الا رض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون * ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن فى ذالك لاية لقوم يعلمون * وأنجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون * ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون * أءنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء بل أنتم قوم تجهلون * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين * قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفىءآلله خير أما يشركون * أمن خلق السماوات والا رض وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة ما كان
76

لكم أن تنبتوا شجرها أإلاه مع الله بل هم قوم يعدلون * أمن جعل الا رض قرارا وجعل خلالهآ أنهارا وجعل لها رواسى وجعل بين البحرين حاجزا أءلاه مع الله بل أكثرهم لا يعلمون * أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم حلفآء الا رض أءلاه مع الله قليلا ما تذكرون * أمن يهديكم فى ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته أءلاه مع الله تعالى الله عما يشركون * أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السمآء والا رض أءلاه مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * قل لا يعلم من فى السماوات والا رض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون * بل ادارك علمهم فى الا خرة بل هم فى شك منها بل هم منها عمون * وقال الذين كفروا أءذا كنا ترابا وءابآؤنآ أءنا لمخرجون * لقد وعدنا هاذا نحن وءابآؤنا من قبل إن هاذآ إلا أساطير الا ولين * قل سيروا فى الا رض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين * ولا تحزن عليهم ولا تكن فى ضيق مما يمكرون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذى تستعجلون * وإن ربك لذو فضل على الناس ولاكن أكثرهم لا يشكرون * وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون * وما من غآئبة فى السمآء والا رض إلا فى كتاب مبين * إن هاذا القرءان يقص على بنىإسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون * وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين * إن ربك يقضى بينهم بحكمه وهو العزيز العليم * فتوكل على الله إنك على الحق المبين * إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين * ومآ أنت بهادى العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بأاياتنا فهم مسلمون * وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دآبة من الا رض تكلمهم أن الناس كانوا بأاياتنا لا يوقنون * ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بأاياتنا فهم يوزعون * حتى إذا جآءوا قال أكذبتم بأاياتى ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون * ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون * ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذلك لايات لقوم يؤمنون * ويوم ينفخ فى الصور ففزع من فى السماوات ومن فى الا رض إلا من شآء الله وكل أتوه داخرين * وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله الذىأتقن كل شىء إنه خبير بما تفعلون * من جآء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون * ومن جآء بالسيئة فكبت
77

وجوههم فى النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون * إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها وله كل شىء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرءان فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فقل إنمآ أنا من المنذرين * وقل الحمد لله سيريكم ءاياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) *))
) *
والحديقة: البستان، كان عليه جدار أو لم يكن. الحاجز: الفاصل بين الشيئين. الفوج: الجماعة. الجمود: سكون الشيء وعدم حركته. الإتقان: الإتيان بالشيء على
أحسن حالاته من الكمال والإحكام في الخلق، وهو مشتق من قول العرب: تقنوا أرضهم إذا أرسلوا فيها الماء الخاثر بالتراب فتجود، والتقن: ما رمي به الماء في الغدير، وهو الذي يجيء به الماء من الخثورة. كبيت الرجل: ألقيته لوجهه.
* (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون * قال ياءادم * قوم لم * تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون * قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون * وكان فى المدينة تسعة رهط يفسدون فى الارض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون * ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن فى ذالك لاية لقوم يعلمون * وأنجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *.
ثمود هي عاد الأولى، وصالح أخوهم في النسب. لما ذكر قصة موسى وداود وسليمان، وهم من بني إسرائيل، ذكر قصة من هو من العرب، يذكر بها قريشا والعرب، وينبههم أن من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة، وأن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعاء إلى عبادة الله، وإن في: * (أن اعبدوا) * يجوز أن تكون مفسرة، لأن * (أرسلنا) * تتضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية، أي بأن اعبدوا، فحذف حرف الجر، فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني ففي موضعها خلاف، أهو في موضع نصب أم في موضع جر؟ والظاهر أن الضمير في * (فإذا هم) * عائد على * (ثمود) *، وأن قومه انقسموا فريقين: مؤمنا وكافرا، وقد جاء ذلك مفسرا في سورة الأعراف في قوله: * (قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن ءامن منهم) *. وقال الزمخشري: أريد بالفريقين: صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد. انتهى. فجعل الفريق الواحد هو صالح، والفريق الآخر قومه، وإذا هنا هي الفجائية، وعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب لا المهلة، فكان المعنى: أنهم بادروا بالاختصام، متعقبا دعاء صالح إياهم إلى عبادة الله. وجاء * (يختصمون) * على المعنى، لأن الفريقين جمع، فإن كان الفريقان من آمن ومن كفر، فالجمعية حاصلة في كل فريق، ويدل على أن فريق المؤمن جمع قوله: * ((سقط: إنا بالذي آمنتم به كافرون)) * فقال: آمنتم، وهو ضمير الجمع. وإن كان الفريق المؤمن هو صالح وحده، فإنه قد انضم إلى قومه، والمجموع جمع، وأوثر يختصمون على يختصمان، وإن كان من حيث التثنية جائرا فصيحا، لأنه مقطع فصل، واختصاصهم دعوى كل فريق أن الحق معه، وقد ذكر الله
78

تخاصمهم في سورة الأعراف.
ثم تلطف صالح بقومه ورفق بهم في الخطاب فقال مناديا لهم على جهة التحنن عليهم: * (لم تستعجلون بالسيئة) *، أي بوقوع ما يسوؤكم قبل الحالة الحسنة، وهي رحمة الله. وكان قد قال لهم في حديث الناقة: * (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) * فقالوا له: * (ائتنا بعذاب الله) *. وقيل: لم تستعجلون بوقوع المعاصي منكم قبل الطاعة؟ قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما قبل الأخرى؟ قلت: كانوا يقولون بجهلهم: إن العقوبة التي يعدنا صالح، إن وقعت على زعمه، تبنا حينئذ واستغفرنا، مقدرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت، وإن لم تقع، فنحن على ما نحن عليه، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب قولهم واعتقادهم. انتهى. ثم حضهم على ما فيه درء السيئة عنهم، وهو الإيمان واستغفار الله مما سبق من الكفر، وناط ذلك يترجى الرحمة، ولم يجزم بأنه يترتب على استغفارهم. وكان في التحضيض تنبيه على الخطأ منهم في استعجال العقوبة، وتجهيل لهم في اعتقادهم.
ولما لاطفهم في الخطاب أغلظوا له وقالوا: * (اطيرنا بك وبمن معك) *: أي تشاء منا بك وبالذين آمنوا معك. ودل هذا العطف على أن الفريقين كانوا مؤمنين وكافرين لقوله: * (وبمن معك) *، وكانوا قد قحطوا. وتقدم الكلام في معنى التطير في سورة الأعراف، جعلوا سبب قحطهم هو ذات صالح ومن آمن معه، فرد عليهم بقوله: * (طائركم عند الله) *: أي حظكم في الحقيقة من خير أو شر هو عند الله وبقضائه، إن شاء رزقكم، وإن شاء حرمكم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يريد عملكم مكتوب عند الله، فمنه نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وفتنة، ومنه طائركم معكم، وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه. وقرئ: تطيرنا بك على الأصل، ومعنى تطير به: تشاءم به، وتطير منه: نفر عنه. انتهى. ثم انتقل إلى الإخبار عنهم بحالهم فقال: * (بل أنتم قوم تفتنون) *، أي تختبرون، أو تعذبون، أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة، أو تفتنون بشهواته: أي تشفعون بها، كما يقال: فتن فلان بفلان. وقال الشاعر:
* داء قديم في بني آدم
*
فتنة إنسان بإنسان
*
وهذه أقوال يحتملها لفظ تفتنون، وجاء تفتنون بتاء الخطاب على مراعاة أنتم، وهو الكثير في لسان العرب. ويجوز يفتنون بياء الغيبة على مراعاة لفظ قوم، وهو قليل. تقول العرب: أنت رجل تأمر بالمعروف، بتاء الخطاب وبياء الغيبة. والمدينة مجتمع ثمود وقريتهم، وهي الحجر. وذكر المفسرون أسماء التسعة، وفي بعضها اختلاف، ورأسهم: قدار بن سالف، وأسماؤهم لا تنضبط بشكل ولا تتعين، فلذلك ضربنا صفحا عن ذكرها، وكانوا عظماء القرية وأغنياءها وفساقها. والرهط: من الثلاثة إلى العشرة، والنفر: من الثلاثة إلى التسعة، واتفق المفسرون على أن المعنى: تسعة رجال. وقال الزمخشري: إنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة، فكأنه قيل: تسعة أنفس. انتهى. وتقدير غيره: تسعة رجال هو الأولى، لأنه من حيث أضاف إلى أنفس كان ينبغي أن يقول: تسع أنفس، على تأنيث النفس، إذ الفصيح فيها التأنيث. ألا تراهم عدوا من الشذوذ قول الشاعر:
79

ثلاثة أنفس وثلاث ذود
فأدخل التاء في ثلاثة؛ وكان الفصيح أن يقول: ثلاث أنفس. وقال أبو عبد الله الرازي: الأقرب أن يكون المراد تسعة جمع، إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد، لاختلاف صفاتهم وأحوالهم، لا لاختلاف أجناسهم. انتهى. قيل: والرهط اسم الجماعة، وكأنهم كانوا رؤساء، مع كل واحد منهم رهط. وقال الكرماني: وأصله من الترهيط، وهو تعظيم اللقم وشدة الأكل. انتهى. ورهط: اسم جمع، واتفقوا على أن فصله بمن هو الفصيح كقوله تعالى: * (فخذ أربعة من الطير) *. واختلفوا في جواز إضافة العدد إليه، فذهب الأخفش إلى أنه لا ينقاس، وما ورد من الإضافة إليه فهو على سبيل الندور. وقد صرح سيبويه أنه لا يقال: ثلاث غنم، وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك وينقاس، وهو مع ذلك قليل، وفصل قوم بين أن يكون اسم الجمع للقليل، كرهط ونفر وذود، فيجوز أن يضاف إليه، أو للتكثير، أو يستعمل لهما، فلا تجوز إضافته إليه، وهو قول المازني، وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة في (شرح التسهيل).
و * (يفسدون) *: صفة لتسعة رهط، والمعنى: أنهم يفسدون الفساد العظيم الذي لا يخالطه شيء من الإصلاح، فلذلك قال: * (ولا يصلحون) *، لأن بعض من يقع منه إفساد قد يقع منه إصلاح في بعض الأحيان. وقرأ الجمهور: تقاسموا، وابن أبي ليلى: تقسموا، بغير ألف وتشديد السين، وكلاهما من القسم والتقاسم والتقسيم، كالتظاهر والتظهير. والظاهر أن قوله * (تقاسموا) * فعل أمر محكي بالقول، وهو قول الجمهور، أشار بعضهم على بعض بالحلف على تبييت صالح. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن يكون تقاسموا فعلا ماضيا في موضع الحال، أي قالوا متقاسمين. قال الزمخشري: تقاسموا يحتمل أن يكون أمرا وخبرا على محل الحال بإضمار قد، أي قالوا: متقاسمين. انتهى. أما قوله: وخبرا، فلا يصح لأن الخبر هو أحد قسمي الكلام، إذ هو منقسم إلى الخبر والإنشاء، وجميع معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين. وقال بعد ذلك وقرئ لنبيتنه بالياء والتاء والنون، فتقاسموا مع النون والتاء يصح فيه الوجهان، يعني فيه: أي في تقاسموا بالله، والوجهان هما الأمر والخبر عنده. قال: ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبرا. انتهى. والتقييد بالحال ليس إلا من باب نسبة التقييد، لا من نسبة الكلام التي هي الإسناد، فإذا أطلق عليها الخير، كان ذلك على تقدير أنها لو لم تكن حالا لجاز أن تستعمل خبرا، وكذلك قولهم في الجملة الواقعة قبله صلة أنها خبرية هو مجاز، والمعنى: أنها لو لم تكن صلة، لجاز أن تستعمل خبرا، وهذا شيء فيه غموض، ولا يحتاج إلى الإضمار، فقد كثر وقوع الماضي حالا بغير قد كثرة ينبغي القياس عليها. وعلى هذا الإعراب، احتمل أن يكون * (بالله) * متعلقا بتقاسموا الذي هو حال، فهو من صلته ليس داخلا تحت القول. والمقول: * (لنبيتنه) * وما بعده احتمل أن يكون هو وما بعده هو المقول.
وقرأ الجمهور: * (لنبيتنه وأهله ثم لنقولن) * بالنون فيهما، والحسن، وحمزة، والكسائي: بتاء خطاب الجمع؛ ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش: بياء الغيبة، والفعلان مسندان للجمع؛ وحميد بن قيس: بياء الغيبة في الأول مسندا للجمع، أي ليبيتنه، أي قوم منا، وبالنون في الثاني، أي جميعنا ما يقول لوليه، والبيات: مباغتة العدو. وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال: ليس من عادة الملوك استراق الظفر، ووليه طالب ثأره إذا قتل. وقرأ الجمهور: مهلك، بضم الميم وفتح اللام من أهلك. وقرأ حفص: مهلك، بفتح الميم وكسر اللام، وأبو بكر: بفتحهما. فأما القراءة الأولى فتحتمل المصدر والزمان والمكان، أي ما شهدنا إهلاك أهله، أو زمان إهلاكهم، أو مكان إهلاكهم. ويلزم من هذين أنهم إذا لم يشهدوا الزمان ولا المكان أن لا يشهدوا الإهلاك. وأما القراءة
80

الثانية فالقياس يقتضي أن يكون للزمان والمكان، أي ما شهدنا زمان هلاكهم ولا مكانة. والثالثة: تقتضي القياس أن يكون مصدرا، أي ما شهدنا هلاكه. وقال الزمخشري: وقد ذكروا القراءات الثلاثة، قال: ويحتمل المصدر والزمان والمكان. انتهى. والظاهر في الكلام حذف معطوف بدل عليه ما قبله، والتقدير: ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه، ودل عليه قولهم: * (لنبيتنه وأهله) *، وما روي أنهم كانوا عزموا على قتله وقتل أهله، وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح، كقوله: سرابيل تقيكم الحر، أي والبرد، وقال الشاعر:
* لما كان بين الخير لو جاء سالما
*
أبو حجر إلا ليال قلائل
أي بين الخير وبيني، ويكون قولهم: * (وإنا لصادقون) * كذبا في الإخبار، أوهموا قومهم أنهم إذا قتلوه وأهله سرا، ولم يشعر بهم أحد، وقالوا تلك المقالة، أنهم صادقون وهم كاذبون. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلت: كأنهم اعتقدوا إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله، فجمعوا بين البياتين، ثم قالوا: * (ما شهدنا مهلك أهله) *، فذكروا أحدهما كانوا صادقين، فإنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما. وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه، ولا يخطر ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبي الله، ولم يروا لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سووا الصدق في أنفسهم حيلة ينقصون بها عن الكذب؟ انتهى.
*
والعجب من هذا الرجل كيف يتخيل هذه الحيل في جعل إخبارهم * (وإنا لصادقون) * إخبارا بالصدق؟ وهو يعلم أنهم كذبوا صالحا، وعقروا الناقة التي كانت من أعظم الآيات، وأقدموا على قتل نبي وأهله؟ ولا يجوز عليهم الكذب، وهو يتلو في كتاب الله كذبهم على أنبيائهم. ونص الله ذلك، وكذبهم على من لا تخفى عليه خافية، * (يوم تبلى السرائر) *، وهو قولهم، * (والله ربنا ما كنا مشركين) *، وقول الله تعالى: * (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) *، وإنما هذا منه تحريف لكلام
الله تعالى، حتى ينصر مذهبه في قوله: إن الكذب قبيح عند الكفرة، ويتحيل لهم هذا التحيل حتى يجعلهم صادقين في إخبارهم. وهذا الرجل، وإن كان أوتي من علم القرآن، أوفر حظ، وجمع بين اختراع المعنى وبراعة اللفظ. ففي كتابه في التفسير أشياء منتقدة، وكنت قريبا من تسطير هذه الأحرف قد نظمت قصيدا في شغل الإنسان نفسه بكتاب الله، واستطردت إلى مدح كتاب الزمخشري، فذكرت شيئا من محاسنه، ثم نبهت على ما فيه مما يجب تجنبه، ورأيت إثبات ذلك هنا لينتفع بذلك من يقف على كتابي هذا ويتنبه على ما تضمنه من القبائح، فقلت بعد ذكر ما مدحته به:
* ولكنه فيه مجال لناقد
*
وزلات سوء قد أخذن المخانقا
*
* فيثبت موضوع الأحاديث جاهلا
*
ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا
*
* ويشتم أعلام الأئمة ضلة
*
ولا سيما إن أولجوه المضايقا
*
* ويسهب في المعنى الوجيز دلالة
*
بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
*
* يقول فيها الله ما ليس قائلا
*
وكان محبا في الخطابة وامقا
*
81

* ويخطىء في تركيبه لكلامه
*
فليس لما قد ركبوه موافقا
*
* وينسب إبداء المعاني لنفسه
*
ليوهم أغمارا وإن كان سارقا
*
* ويخطىء في فهم القرآن لأنه
*
يجوز إعرابا أبى أن يطابقا
*
* وكم بين من يؤتى البيان سليقة
*
وآخر عاناه فما هو لاحقا
*
* ويحتال للألفاظ حتى يديرها
*
لمذهب سوء فيه أصبح مارقا
*
* فيا خسرة شيخا تخرق صيته
*
مغارب تخريق الصبا ومشارقا
*
* لئن لم تداركه من الله رحمة
*
لسوف يرى للكافرين مرافقا
*
ومكرهم: ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله. ومكر الله: إهلاكهم من حيث لا يشعرون، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة، ومكرهم: أنبائهم أنهم مسافرون واختفاؤهم في غار. قيل: أو شعب، أو عزمهم على قتله وقتل أهله، وحلفهم أنهم ما حضروا ذلك. ومكر الله بهم: إطباق صخرة على فم الغار والشعب وإهلاكهم فيه، أو رمي الملائكة إياهم بالحجارة، يرونها ولا يرون الرامي حين شهروا أسيافهم بالليل ليقتلوه، قولان. وقيل: إن الله أخبر صالحا بمكرهم فيخرج عنه، فذلك مكر الله في حقهم. وروي أن صالحا، بعد عقر الناقة، أخبرهم بمجيء العذاب بعد ثلاثة أيام، فاتفق هؤلاء التسعة على قتل صالح وأهله ليلا وقالوا: إن كان كاذبا في وعيده، كنا قد أوقعنا به ما يستحق؛ وإن كان صادقا، كنا قد عجلناه قبلنا وشفينا نفوسنا. واختفوا في غار، وأهلكم الله، كما تقدم ذكره، وأهلك قومهم، ولم يشعر كل فريق بهلاك الآخر. والظاهر أن كيف خبر كان، وعاقبة الاسم، والجملة في موضع نصب بانظر، وهي معلقة، وقرأ الجمهور: إنا، بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، والكوفيون: بفتحها، فأنا بدل من عاقبة، أو خبر لكان، ويكون في موضع الحال، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي، أي العاقبة تدميرهم. أو يكون التقدير: لأنا وحذف حرف الجر. وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون * (كان) * تامة و * (عاقبة) * فاعل بها، وأن تكون زائدة وعاقبة مبتدأ خبره * (كيف) *. وقرأ أبي: أن دمرناهم، وهي أن التي من شأنها أن تنصب المضارع، ويجوز فيها الأوجه الجائزة في أنا، بفتح الهمزة. وحكى أبو البقاء: أن بعضهم أجاز في * (أنا دمرناهم) * في قراءة من فتح الهمزة أن تكون بدلا من كيف، قال: وقال آخرون: لا يجوز، لأن البدل من الاستفهام يلزم فيه إعادة حرفه، كقوله: كيف زيد، أصحيح أم مريض؟
ولما أمر تعالى بالنظر فيما جرى لهم من الهلاك في أنفسهم، بين ذلك بالإشارة إلى منازلهم وكيف خلت منهم، وخراب البيوت وخلوها من أهلها، حتى لا يبقى منهم أحد مما يعاقب به الظلمة، إذ يدل ذلك على استئصالهم. وفي التوراة: ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك، وهو إشارة إلى هلاك الظالم، إذ خراب بيته متعقب هلاكه، وهذه البيوت هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأصحابه، عام تبوك: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين)، الحديث. وقرأ الجمهور: خاوية، بالنصب على الحال. قال الزمخشري: عمل فيها ما دل عليه تلك. وقرأ عيسى بن عمر: خاوية، بالرفع. قال الزمخشري: على خبر المبتدأ المحذوف، وقاله ابن عطية، أي هي خاوية، قال: أو على الخبر عن تلك، وبيوتهم بدل، أو على خبر ثان، وخاوية خبرية بسبب ظلمهم، وهو الكفر، وهو من خلو البطن. وقال ابن عباس: خاوية، أي ساقط أعلاها على أسفلها. * (إن فى ذلك) *: أي في
82

فعلنا بثمود، وهو استئصالنا لهم بالتدمير، وخلاء مساكنهم منهم، وبيوتهم هي بوادي القرى بين المدينة والشام.
* (وأنجينا الذين ءامنوا) *، أي بصالح من العذاب الذي حل بالكفار، وكان الذين آمنوا به أربعة آلاف، خرج بهم صالح إلى حضرموت، وسميت حضرموت لأن صالحا عليه السلام لما دخلها مات بها، وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها: حاضورا. وأما الهالكون فخرج بأبدانهم خراج مثل الحمص، احمر في اليوم الأول، ثم اصفر في الثاني، ثم اسود في الثالث، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، وهلكوا يوم الأحد. قال مقاتل: تفتقت تلك الخراجات، وصاح جبريل عليه السلام بهم صيحة فحمدوا.
* (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون * أئنكم لتأتون الرجال * شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) *.
* (ولوطا) *: عطف على * (صالحا) *، أي وأرسلنا لوطا، أو على * (الذين كفروا) *، أي وأنجينا لوطا، أو باذكر مضمرة، وإذ بدل منه، أقوال. و * (أتأتون) *: استفهام إنكار وتوبيخ، وأبهم أولا في قوله: * (الفاحشة) *، ثم عينها في قوله: * (أئنكم لتأتون الرجال) *، وقوله: * (وأنتم تبصرون) *: أي
تعلمون قبح هذا الفعل المنكر الذي أحدثتموه، وأنه من أعظم الخطايا، والعلم بقبح الشيء مع إتيانه أعظم في الذنب، أو آثار العصاة قبلكم، أو ينظر بعضكم إلى بعض لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك مجانة وعدم اكتراث بالمعصية الشنعاء، أقوال ثلاثة. وانتصب * (شهوة) * على أنه مفعول من أجله، و * (تجهلون) * غلب فيه الخطاب، كما غلب في * (بل أنتم قوم تفتنون) *. ومعنى: * (تجهلون) *، أي عاقبة ما أنتم عليه، أو تفعلون فعل السفهاء المجان، أو فعل من جهل أنها معصية عظيمة مع العلم أقوال. ولما أنكر عليهم ونسب إلى الجهل، ولم تكن لهم حجة فيما يأتونه من الفاحشة، عدلوا إلى المغالبة والإيذاء، وتقدم معنى يتطهرون في الأعراف. وقرأ الجمهور: * (جواب) * بالنصب؛ والحسن، وابن أبي إسحاق: بالرفع، والجمهور: * (قدرناها) *، بتشديد الدال؛ وأبو بكر بتخفيفها، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره في الأعراف. وساء: بمعنى بئس، والمخصوص بالذم محذوف، أي مطرهم.
* (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى * الله خير * أما يشركون * أمن خلق * السماوات والارض * وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلاه مع الله) *.
لما فرغ من قصص هذه السورة، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم) بحمده تعالى والسلام على المصطفين، وأخذ في مباينة واجب الوجود، الله تعالى، ومباينة الأصنام والأديان التي أشركوها مع الله وعبدوها. وابتدأ في هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمدلة، وكأنها صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة. وقد اقتدى بذلك المسلمون في تصانيف كتبهم وخطبهم ووعظهم، فافتتحوا بتحميد الله، والصلاة على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وتبعهم المترسلون في أوائل كتب الفتوح والتهاني والحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر الرسول عليه السلام بتحميد الله على هلاك الهالكين من
83

كفار الأمم، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين.
وقيل: * (قل) *، خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه، * (وسلام على عباده الذين اصطفى) *. وعزا هذا القول ابن عطية للفراء، وقال: هذه عجمة من الفراء. وقرأ أبو السمال: * (قل الحمد لله) *، وكذا: قل الحمد لله سيريكم، بفتح اللام، وعباده المصطفون، يعم الأنبياء وأتباعهم. وقال ابن عباس: العباد المسلم عليهم هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، اصطفاهم لنبيه، وفي اختصاصهم بذلك توبيخ للمعاصرين من الكفار. وقال أبو عبد الله الرازي: لما ذكر تعالى أحوال الأنبياء، وأن من كذبهم استؤصل بالعذاب، وأن ذلك مرتفع عن أمة الرسول، أمره تعالى بحمده على ما خصه من هذه النعمة، وتسليمه على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة. انتهى، وفيه تلخيص.
وقوله: * (الله خير * أما يشركون) *: استفهام فيه تبكيت وتوبيخ وتهكم بحالهم، وتنبيه على موضع التباين بين الله تعالى وبين الأوثان، إذ معلوم عند من له عقل أنه لا شركة في الخيرية بين الله تعالى وبينهم، وكثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركه فيها وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على خطا مرتكبه. والظاهر أن هذا الاستفهام هو عن خبرية الذوات، فقيل: جاء على اعتقاد المشركين حيث اعتقدوا في آلهتهم خيرا بوجه ما، وقيل: في الكلام حذف في موضعين، التقدير: أتوحيد الله خير أم عبادة ما يشركون؟ فيما في أم ما بمعنى الذي. وقيل: ما مصدرية، والحذف من الأول، أي أتوحيد الله خير أم شرككم؟ وقيل: خير ليست للتفضيل، فهي كما تقول: الصلاة خير، يعني خيرا من الخيور. وقيل: التقدير ذو خير. والظاهر أن خيرا أفعل التفضيل، وأن الاستفهام في نحو هذا يجيء لبيان فساد ما عليه الخصم، وتنبيهه على خطئه، وإلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد، وانتفائه عن الآخر، وقرأ الجمهور: تشركون، بتاء الخطاب؛ والحسن، وقتادة، وعاصم، وأبو عمرو: بياء الغيبة. وأم في أم ما متصلة، لأن المعنى: أيهما خير؟ وفي * (أم من خلقنا) * وما بعده منفصلة. ولما ذكر الله خيرا، عدد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عددها في غير موضع من كتابه، توقيفا لهم على ما أبدع من المخلوقات، وأنهم لا يجدون بدا من الإقرار بذلك لله تعالى.
وقرأ الجمهور: * (أمن خلق) *، وفي الأربعة بعدها بشد الميم، وهي ميم أم أدغمت في ميم من. وقرأ الأعمش: بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام، أدخلت على من، ومن في القراءتين مبتدأ وخبره. قال ابن عطية: تقديره: يكفر بنعمته ويشك به، ونحو هذا من المعنى. وقدره الزمخشري: خير أما يشركون، فقدر ما أثبت في الاستفهام الأول؛ بدأ أولا في الاستفهام باسم الذات، ثم انتقل فيه إلى الصفات. وقال أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح) له: ولا بد من إضمار جملة معادلة، وصار ذلك المضمر كالمنطوق به لدلالة الفحوى عليه. وتقدير تلك الجملة: أمن خلق السماوات كمن لم يخلق، وكذلك أخواتها، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر فيها لقوله تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *. انتهى. وتسمية هذا المقدر جملة، إن أراد بها جملة من الألفاظ فهو صحيح، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو فليس كذلك، بل هو مضمر من قبيل المفرد. وبدأ تعالى بذكر إنشاء مقر العالم العلوي والسفلي، وإنزال ما به قوام العالم السفلي وقال: * (لكم) *، أي لأجلكم، على سبيل الامتنان، وأن ذلك من أجلكم. ثم قال: * (فأنبتنا) *، وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالا على اختصاصه بذلك، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح بماء واحد إلا هو تعالى. وقد رشح هذا الاختصاص بقوله: * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) *.
ولما كان خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا لله، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة، ويسوغ لفاعل
84

السبب نسبة فعل المسبب إليه، بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الالتفات وتأكيد ذلك بقوله: * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) *. ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده؟ ولو أتى فهو جاهل بطبعه ومقداره وكيفيته، فكيف يكون فاعلا لها؟ والبهجة: الجمال والنضرة والحسن، لأن الناظر فيها يبتهج، أي يسر ويفرح
. وقرأ الجمهور: * (ذات) *، بالإفراد، * (بهجة) *، بسكون الهاء، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة، كقوله: * (أزواج مطهرة) *، وهو على معنى جماعة. وقرأ ابن أبي عبلة، ذوات، بالجمع، بهجة بتحريك الهاء بالفتح.
* (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) *: قد تقدم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة وقوعه كهذا، أو لامتناع وقوعه شرعا، أو لنفي الأولوية. والمعنى هنا: أن إنبات منكم محال، لأنه إبراز شيء من العدم إلى الوجود، وهذا ليس بمقدور إلا لله تعالى. ولما ذكر منته عليهم، خاطبهم بذلك؛ ثم لما ذكر ذمهم، عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال: * (بل هم قوم يعدلون) *، إما التفاتا، وإما إخبارا للرسول صلى الله عليه وسلم) بحالهم، أي يعدلون عن الحق، أو يعدلون به غيره، أي يجعلون له عديلا ومثيلا. وقرئ: إلها، بالنصب، بمعنى: أتدعون أو أتشركون؟ وقرئ: أإله، بتخفيف الهمزتين وتليين الثانية، والفصل بينهما بألف. ولما ذكر تعالى أنه منشىء السماوات والأرض، ذكر شيئا مشتركا بين السماء والأرض، وهو إنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق بالأرض، ذكر شيئا مختصا بالأرض، وهو جعلها قرارا، أي مستقرا لكم، بحيث يمكنكم الإقامة بها والاستقرار عليها، ولا يديرها الفلك، قيل: لأنها مضمحلة في جنب الفلك، كالنقطة في الرحى.
* (وجعل خلالها) *: أي بين أماكنها، في شعابها وأوديتها، * (أنهارا وجعل لها رواسى) *: أي جبالا ثوابت حتى لا تتكفأ بكم وتميد. والبحران: العذب والملح، والحاجز: الفاصل، من قدرته تعالى، قاله الضحاك. وقال مجاهد: بحر السماء والأرض، والحاجز من الهواء. وقال الحسن: بحر فارس والروم، وقال السدي: بحر العراق والشام، والحاجز من الأرض. قال ابن عطية: مختارا لهذا القول في الحاجز: هو ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها، على رقتها في بعض المواضع، ولطافتها التي لولا قدرته لبلع الملح العذب. وكان ابن عطية قد قدم أن البحرين: العذب بجملته، والماء الأجاج بجملته؛ ولما كانت كل واحدة منه عظيمة مستقلة، تكرر فيها العامل في قوله: * (وجعل) *، فكانت من عطف الجمل المستقل كل واحدة منها بالامتنان، ولم يشرك في عامل واحد فيكون من عطف المفردات. ولأبي عبد الله الرازي في ذكر هذه الامتنانات الأربع كلام من علم الطبيعة، والحكماء على زعمه، خارج عن مذاهب العرب، يوقف عليه في كتابه. والمضطر: اسم مفعول، وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث من حوادث الدهر إلى الالتجاء إلى الله والتضرع إليه، فيدعوه لكشف ما اعتراه من ذلك وإزالته عنه. وقال ابن عباس: هو المجهود. وقال السدي: هو الذي لا حول ولا قوة له. وقيل: هو المذنب إذا استغفر، وإجابته إياه مقرونة بمشيئته تعالى، فليس كل مضطر دعا يجيبه الله في كشف ما به. وقال الزمخشري: الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة، ولهذا لا يحسن الدعاء إلا شارطا فيه المصلحة. انتهى، وهو على طريق الاعتزال في مراعاة المصلحة من الله تعالى.
* (ويكشف السوء) *: هو كل ما يسوء، وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر، وهو خاص إلي أعم، وهو ما يسوء، سواء كان المكشوف عنه في حالة الاضطرار أو فيما دونها. وخلفاء: أي الأمم السالفة، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم) من بعده، أو خلفاء الكفار في أرضهم، أو الملك والتسلط، أقوال. وقرأ الحسن في رواية: ونجعلكم بنون المتكلم، كأنه استئناف إخبار ووعد، كما قال
85

تعالى: * (ليستخلفنهم فى الارض) *.
وقوله: * (ويجعلكم حلفاء الارض) *: انتقال من حالة المضطر إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار، وهي حالة الخلافة، فهما ظرفان. وكم رأينا في الدنيا ممن بلغ حالة الاضطرار ثم صار ملكا متسلطا. وقرأ الجمهور: تذكرون، بتاء الخطاب؛ والحسن، والأعمش، وأبو عمرو: بياء الغيبة، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها. وقرأ أبو حيوة: تتذكرون، بتاءين. وظلمة البر هي ظلمة الليل، وهي الحقيقة، وتنطلق مجازا على الجهل وعلى انبهام الأمر فيقال: أظلم علي الأمر. وقال الشاعر:
تجلت عمايات الرجال عن الصبا
أي جهالات الصبا وهداية البر تكون بالعلامات، وهداية البحر بالنجوم.
* (ومن يرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته) *: تقدم تفسير نظير هذه الجملة. وقرئ: عما تشركون، بتاء الخطاب. * (أمن يبدأ الخلق) *: الظاهر أن الخلق هو المخلوق، وبدؤه: اختراعه وإنشاؤه. ويظهر أن المقصود هو من يعيده الله في الآخرة من الإنس والجن والملك، لا عموم المخلوق. وقال ابن عطية: والمقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة، والإعادة البعث من القبور، ويحتمل أن يريد بالخلق مصدر خلق، ويكون يبدأ ويعيد استعارة للإتقان والإحسان، كما تقول: فلان يبدىء ويعيد في أمركذا إذا كان يتقنه. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف قال لهم أمن يبدأ الخلق ثم يعيده وهم منكرون الإعادة؟ قلت: قد أنعم عليهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار. انتهى.
ولما كان إيجاد بني آدم إنعاما إليهم وإحسانا، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال: * (ومن يرزقكم من السماء) * بالمطر، * (والارض) * بالنبات؟ * (قل هاتوا برهانكم) *: أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شيء مما تقدم تقريره * (إن كنتم صادقين) * في أن مع الله إلها آخر. فأين دليلكم عليه؟ وهذا راجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جيء به على سبيل التقرير، وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه.
لما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة، فختم بقوله: * (بل هم قوم يعدلون) *، أي عن عبادته، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع. ولما ذكر جعل الأرض مستقرا، وتفجير الأنهار، وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيها على تعقل ذلك والفكر فيه، ختم بقوله: * (بل أكثرهم لا يعلمون) *، إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك. ولما ذكر إجابة دعاء المضطر، وكشف السوء،
واستخلافهم في الأرض، ناسب أن يستحضر الإنسان دائما هذه المنة، فختم بقوله: قليلا ما تذكرون، إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره وكشف السوء عنه، كما قال: * (نسى ما كان يدعو إليه من قبل) *. ولما ذكر الهداية في الظلمات، وإرسال الرياح نشرا، ومعبوداتهم لا تهدي ولا ترسل، وهم يشركون بها الله، قال تعالى: * (عما يشركون) *. واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله: * (مع الله بل) *، على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى.
قيل: سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم)، وألحوا عليه، فنزل: * (قل لا يعلم من فى * السماوات والارض) *، الآية. والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم، والغيب مفعول، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من، وجاء مرفوعا على لغة تميم، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب. وعن عائشة، رضي الله عنها: من زعم أن محمدا يعلم ما في غد، فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول: * (قل لا يعلم من فى * السماوات والارض * الغيب إلا الله) *، ولا يقال: إنه مندرج في مدلول من، فيكون في السماوات والأرض ظرفا حقيقيا للمخلوقين فيهما، ومجازيا بالنسبة إليه تعالى، أي هو فيها بعلمه، لأن في ذلك جمعا بين الحقيقة والمجاز، وأكثر العلماء ينكر ذلك، وإنكاره هو الصحيح. ومن أجاز ذلك فيصح
86

عنده أن يكون استثناء متصلا، وارتفع على البدل أو الصفة، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء، لأنه استثناء من نفي متقدم، والظاهر عموم الغيب. وقيل: المراد غيب الساعة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ يعني في كونه استثناء منقطعا، إذ ليس مندرجا تحت من، ولم أختر الرفع على لغة تميم، ولم نختر النصب على لغة الحجاز، قال: قلت: دعت إلى ذلك نكتة سرية، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلا اليعافير، بعد قوله: ليس بها أنيس، ليؤول المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السماوات والأرض، فهم يعلمون الغيب، يعني أن علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم. كما أن معنى: ما في البيت إن كانت اليعافير أنيسا، ففيها أنيس بناء للقول بخلوها عن الأنيس. انتهى. وكان الزمخشري قد قدم قوله: فإن قلت: لم أرفع اسم الله، والله سبحانه أن يكون ممن في السماوات والأرض؟ قلت: جاء على لغة بني تميم، حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، كان أحدا لم يذكر، ومنه قوله:
* عشية ما تغني الرماح مكانها
*
ولا النبل إلا المشرفي المصمم
*
وقوله: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. انتهى. وملخصه أنه يقول: لو نصب لكان مندرجا تحت المستثنى منه، وإذا رفع كان بدلا، والمبدل منه في نية الطرح، فصار العامل كأنه مفرغ له، لأن البدل على نية تكرار العامل، فكأنه قيل: قل لا يعلم الغيب إلا الله. ولو أعرب من مفعولا، والغيب يدل منه، وإلا الله هو الفاعل، أي لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا الله، أي الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم، وهم لا يعلمون بحدوثها، أي لا يسبق علمهم بذلك، لكان وجها حسنا، وكان الله تعالى هو المخصوص بسابق علمه فيما يحدث في العالم. وأيان: تقدم الكلام فيها في أواخر الأعراف، وهي هنا اسم استفهام بمعنى متى، وهي معمولة ليبعثون ويشعرون معلق، والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به. وقرأ السلمي: إيان، بكسر الهمزة، وهي لغة قبيلته بني سليم. ولما نفى علم الغيب عنهم على العموم، نفى عنهم هذا الغيب المخصوص، وهو وقت الساعة والبعث، فصار منتفيا مرتين، إذ هو مندرج في عموم الغيب ومنصوص عليه بخصوصه.
وقرأ الجمهور: * (بل ادرك) *، أصله ادارك، فأدغمت التاء في الدال فسكنت، فاجتلبت همزة الوصل. وقرأ أبي: أم تدارك، على الأصل، وجعل أم بدل. وقرأ سليمان بن يسار أخوه: بل ادرك، بنقل حركة الهمزة إلى اللام، وشد الدال بناء على أن وزنه افتعل، فأدغم الدال، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالا، فصار قلب الثاني للأول لقولهم: اثرد، وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام، أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل، ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل. وقرأ أبو رجاء والأعرج، وشيبة، وطلحة، وتوبة العنبري: كذلك، إلا أنهم كسروا لام بل؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعاصم، والأعمش. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وأهل مكة: بل أدرك، على وزن أفعل، بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر، عن عاصم. وقرأ عبد الله في رواية، وابن عباس في رواية، وابن أبي جمرة، وغيره عنه، والحسن، وقتادة، وابن محيصن: بل آدرك، بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك، فقلب الثانية ألفا تخفيفا، كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه الرواية ووجهها. وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد بل، لأن بل إيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى: لم يكن كقوله تعالى: * (أشهدوا خلقهم) *، أي لم يشهدوا، فلا يصح وقوعهما معا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار. انتهى. وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد بل، وشبهه بقول القائل: أخيرا أكلت بل أماء شربت؟ على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني. وقرأ مجاهد: أم أدرك، جعل أم بدل بل، وأدرك على وزن أفعل. وقرأ ابن عباس أيضا: بل إدارك،
87

بهمزة داخلة على ادارك، فيسقط همزة الوصل المجتلبة، لأجل الإدغام والنطق بالساكن. وقرأ ابن مسعود أيضا: بل أأدرك، بهمزتين، همزة الاستفهام وهمزة أفعل. وقرأ الحسن أيضا، والأعرج: بل ادرج، بهمزة وإدغام فاء الكلمة، وهي الدال في تاء افتعل، بعد صيرورة التاء دالا. وقرأ ورش في رواية: بل ادرك، بحذف
همزة أدرك ونقل حركتها إلى اللام. وقرأ ابن عباس أيضا: بلى أدرك، بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي. وقرئ: بل آأدرك، بألف بين الهمزتين. فأما قراءة من قرأ بالاستفهام، فقال ابن عباس: هو للتقريع بمعنى لم يدرك علمهم على الإنكار عليهم. وقال الزمخشري: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك قراءة من قرأ: أم ادرك، وأم تدارك، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة. انتهى. وقال ابن عطية: هو على معنى الهزء بالكفرة والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم، أي اعلموا أمر الآخرة وادركها علمهم. وأما قراءة من قرأ على الخبر، فقال ابن عباس: المعنى: بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا، أي علموه في الآخرة، بمعنى: تكامل علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم، لمشاهدتهم عيانا في الآخرة ما وعدوا به غيبا في الدنيا، وكونه بمعنى المضي، ومعناه الاستقبال، لأن الإخبار به صدق، فكأنه قد وقع. وقال ابن عطية: يحتمل معنيين: أحدهما: أنه تناهي علمهم، كما تقول: أدرك النبات وغيره، أي تناهى وتتابع علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقدارا فيؤمنوا، وإنما لهم ظنون كاذبة؛ أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتا، وتكون في بمعنى الباء متعلقة بعلمهم، وقد تعدى العلم بالباء، كما تقول: علمي بزيد كذا، ويسوغ حمل هذه القراءة على معنى التوقيف الاستفهام، وجاء إنكارا لأنهم لم يدركوا شيئا نافعا. والثاني: أن أدرك: بمعنى يدرك، أي علمهم في الآخرة يدرك وقت القيامة، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها، وأما في الدنيا فلا. وهذا تأويل ابن عباس، ونحا إليه الزجاج، وفي علي بابها من الظرفية متعلقة بتدارك. انتهى، وفيه بعض تلخيص وزيادة. وقال الزمخشري: هو على وجهين: أحدهما: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون، وذلك قوله: * (بل هم فى شك منها بل هم منها عمون) *، يريد المشركين ممن في السماوات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسل فعلهم إلى الجميع، كما يقال: بنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله ناس منهم. والوجه الثاني: أن وصفهم باستحكامه وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك، على سبيل الهزء به، وذلك حيث شكوا وعموا عن إتيانه الذي هو طريق إلى علم مشكوك، فضلا عن أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته. وفي أدرك علمهم وادارك وجه آخر، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني، من قولهم: أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقد فسر الحسن باضمحل علمهم وتدارك، من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك. انتهى.
وقال الكرماني: العلم هنا بمعنى الحكم والقول، أي تتابع منهم القول والحكم في الآخرة، وكثرة منهم الخوض فيها، فنفاها بعضهم، وشك فيها بعضهم، واستبعدها بعضهم. وقال الفراء: بل أدرك، فيصير بمعنى الجحد، ولذلك نظائر؛ أي لم يعلموا حدوثها وكونها، ودل على ذلك * (بل هم فى شك منها) *، فصارت في في الكلام بمعنى الباء، أي لم يدرك علمهم بالآخرة. قال الفراء: ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ: أدرك، بالاستفهام. انتهى. وأما قراءة من قرأ بلى بحرف الجواب بدل بل، فقال أبو حاتم: إن كان بلى جوابا لكلام تقدم، جاز أن يستفهم به، كأن قوما أنكروا ما تقدم من القدرة، فقيل لهم: بلى إيجابا لما نفوا، د ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى: * (بل هم فى شك منها) *، بمعنى: أم هم في شك منها، لأن حروف العطف قد تتناوب، وكف عن الجملتين بقوله تعالى: * (بل هم منها عمون) *. انتهى. يعني أن المعنى: ادرك علمهم بالآخرة أم شكو؟ ف (بل) بمعنى أم، عودل بها الهمزة، وهذا ضعيف جدا، وهو أن تكون بل بمعنى أم وتعادل همزة الاستفهام.
قال الزمخشري: فإن قلت: فمن قرأ بلى أدرك؟ قلت: لما جاء ببلى بعد قوله: * (وما
88

يشعرون) *، كان معناه: بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله: أدرك علمهم في الآخرة، على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم، فكأنه قال: شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون، كونها، فيرجع إلى المبالغة في نفي الشعور على أبلغ ما يكون. وأما من قرأ: بلى أدرك، على الاستفهام فمعناه: يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها، لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. فإن قلت: هذه الإضرابات الثلاث ما معناه؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة، وقد جعل الآخر مبدأ عما هم ومنشأه، فلذلك عداه بمن دون عن، لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون. انتهى.
* (وقال الذين كفروا أءذا كنا ترابا وءاباؤنا أءنا لمخرجون * لقد وعدنا هاذا نحن وءاباؤنا من قبل إن هاذا إلا أساطير الاولين * قل سيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين * ولا تحزن عليهم ولا تكن فى ضيق مما يمكرون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذى تستعجلون * وإن ربك لذو فضل على الناس ولاكن أكثرهم لا يشكرون * وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون * وما من غائبة فى السماء والارض إلا فى كتاب مبين * إن هاذا القرءان يقص على بنى إسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون * وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين * إن ربك يقضى بينهم بحكمه وهو العزيز العليم * فتوكل على الله إنك على الحق المبين * إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بئاياتنا فهم مسلمون * وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا بئاياتنا لا يوقنون) *.
لما تقدم أنه تعالى منفرد بعلم الغيب، ومن جملتها وقت الساعة، وأنهم لا شعور لهم بوقتها، وأن الكفار في شك منها عمون، ناسب ذكر مقالاتهم في استبعادها، وأن ما وعدوا به من ذلك ليس بصحيح، إنما ذلك ما سطر الأولون من غير إخبار بذلك عن حقيقة.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: * (* أئذا، أئنا) * بالجمع بين الاستفهامين؛ وقلب الثانية ياء، وفصل بينهما بألف أبو عمرو، وقرأهما عاصم وحمزة: بهمزتين، ونافع: إذا بهمزة مكسورة، آينا بهمزة الاستفهام، وقلب الثانية ياء، وبينهما مدة، والباقون: آئذا، باستفهام ممدود، إننا: بنونين من غير استفهام، والعامل في إذا محذوف
دل على مضمون الجملة الثانية تقديره: يخرج ويمتنع إعمال لمخرجون فيه، لأن كلا من إن ولام الابتداء والاستفهام يمنع أن يعمل ما بعده فيما قبله، إلا اللام الواقعة في خبر إن، فإنه يتقدم معمول الخبر عليها وعلى الخبر على ما قرر في علم النحو.
وآباؤنا: معطوف على اسم كان، وحسن ذلك الفصل بخبر كان. والإخراج هنا من القبور أحياء، مردودا أرواحهم إلى الأجساد، والجمع بين الاستفهام في إذا وفي إنا إنكار على إنكار، ومبالغة في كون ذلك لا يكون، والضمير في إننا لهم وآبائهم، لأن صيرورتهم ترابا، شامل للجميع. ثم ذكروا أنهم وعدوا ذلك هم وآباؤهم، فلم يقع شيء من هذا الموعود، ثم جزموا وحصروا أن ذلك من أكاذيب من تقدم. وجاء هنا تقديم الموعود به، وهو هذا، وتأخر في آية أخرى على حسب ما سيق الكلام لأجله. فحيث تأكد الإخبار عنهم بإنكار البعث والآخرة، عمدوا إليها بالتقديم على سبيل الاعتناء، وحيث لم يكن ذلك، عمدوا إلى إنكار إيجاد المبعوث، فقدموه وأخروا الموعود به، ثم أمر نبيه أن يأمرهم بالسير في الأرض؛ وتقدم الكلام في نظير هذه الآية في أوائل الأنعام. وأراد بالمجرمين: الكافرين، ثم سلي نبيه فقال: * (أزواجا منهم ولا تحزن عليهم) *: أي في كونهم لم يسلموا ولم يذعنوا إلى ما جئت به، * (ولا تكن فى ضيق) *: أي في حرج وأمر شاق عليك مما يمكرون) *، فإن مكرهم لاحق بهم، لا بك، والله يعصمك منهم. وتقدمت قراءة ضيق، بكسر الضاد وفيتحها، وهما مصدران. وكره أبو علي أن يكون المفتوح الضاد، أصله ضيق، بتشديد الياء فخفف، كلين في لين، لأن ذلك يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وليست من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد. وأجاز ذلك الزمخشري، قال: ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم.
ولما استعجلت قريش بأمر
89

الساعة، أو بالعذاب الموعود به هم، وسألوا عن وقت الموعود به على سبيل الاستهزاء، قيل له: قل عسى أن يكون ردفكم بعضه: أي تبعكم عن قرب وصار كالرديف التابع لكم بعض ما استعجلتم به، وهو كان عذاب يوم بدر. وقيل: عذاب القبر. وقرأ الجمهور: ردف، بكسر الدال. وقرأ ابن هرمز: بفتحها، وهما لغتان، وأصله التعدي بمعنى تبع ولحق، فاحتمل أن يكون مضمنا معنى اللازم، ولذلك فسره ابن عباس وغيره بأزف وقرب لما كان يجيء بعد الشيء قريبا منه ضمن معناه، أو مزيدا اللام في مفعوله لتأكيد وصول الفعل إليه، كما زيدت الباء في: * (*) *، فإن مكرهم لاحق بهم، لا بك، والله يعصمك منهم. وتقدمت قراءة ضيق، بكسر الضاد وفيتحها، وهما مصدران. وكره أبو علي أن يكون المفتوح الضاد، أصله ضيق، بتشديد الياء فخفف، كلين في لين، لأن ذلك يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وليست من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد. وأجاز ذلك الزمخشري، قال: ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم.
ولما استعجلت قريش بأمر الساعة، أو بالعذاب الموعود به هم، وسألوا عن وقت الموعود به على سبيل الاستهزاء، قيل له: قل عسى أن يكون ردفكم بعضه: أي تبعكم عن قرب وصار كالرديف التابع لكم بعض ما استعجلتم به، وهو كان عذاب يوم بدر. وقيل: عذاب القبر. وقرأ الجمهور: ردف، بكسر الدال. وقرأ ابن هرمز: بفتحها، وهما لغتان، وأصله التعدي بمعنى تبع ولحق، فاحتمل أن يكون مضمنا معنى اللازم، ولذلك فسره ابن عباس وغيره بأزف وقرب لما كان يجيء بعد الشيء قريبا منه ضمن معناه، أو مزيدا اللام في مفعوله لتأكيد وصول الفعل إليه، كما زيدت الباء في: * (ولا تلقوا بأيديكم) *، قاله الزمخشري، وقد عدى بمن على سبيل التضمين لما يتعدى بها، وقال الشاعر:
* فلما ردفنا من عمير وصحبه
*
تولوا سراعا والمنية تعنق
*
أي دنوا من عمير. وقيل: ردفه وردف له، لغتان. وقيل: الفعل محمول على المصدر، أي الرادفة لكم. وبعض على تقدير ردافة بعض ما تستعجلون، وهذا فيه تكلف ينزه القرآن عنه. وقيل: اللام في لكم داخلة على المفعول من أجله، والمفعول به محذوف تقديره: ردف الخلق لأجلكم، وهذا ضعيف. وقيل: الفاعل بردف ضمير يعود على الوعد، ثم قال: لكم بعض ما تستعجلون على المبتدأ والخبر، وهذا فيه تفكيك للكلام، وخروج عن الظاهر لغير حاجة تدعو إلى ذلك. * (لذو فضل) *: أي إفضال عليهم بترك معاجلتهم بالعقوبة على معاصينهم وكفرهم، ومتعلق يشكرون محذوف، أي لا يشكرون نعمه عندهم، أو لا يشكرون بمعنى: لا يعرفون حق النعمة، عبر عن انتفاء معرفتهم بالنعمة، بانتفاء ما يترتب على معرفتها، وهو الشكر.
ثم أخبر تعالى بسعة علمه، فبدأ بما يخص الإنسان، ثم عم كل غائبة وعبر بالصدور، وهي محل القلوب التي لها الفكر والتعقل، كما قال: * (ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) * عن الحال فيها، وهي القلوب، وأسند الإعلان إلى ذواتهم، لأن الإعلان من أفعال الجوارح. ولما كان المضمر في الصدر هو الداعي لما يظهر على الجوارح، والسبب في إظهاره قدم الإكنان على الإعلام. وقرأ الجمهور: * (ما تكن) *، من أكن الشيء: أخفاه. وقرأ ابن محيصن، وحميد، وابن السميفع: بفتح التاء وضم الكاف، من كن الشيء: ستره، والمعنى: ما يخفون وما يعلنون من عداوة الرسول ومكايدهم. والظاهر عموم قوله: * (من غائبة) *، أي ما من شيء في غاية الغيبوبة والخفاء إلا في كتاب عند الله ومكنون علمه. وقيل: ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض. وقيل: هو يوم القيامة وأهوالها، قاله الحسن. والكتاب: اللوح المحفوظ. وقيل: أعمال العباد أثبتت ليجازى عليها. وقال صاحب الغنيان: أي حادثة غائبة، أو نازلة واقعة. وقال ابن عباس: أي ما من شيء سر في السماوات والأرض وعلانية، فاكتفى بذكر السر عن مقبلة. وقال الزمخشري: سمي الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العاقبة
والعافية، ونظيرهما: النطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالرواية في قولهم: ويل للشاعر من رواية السوء، كأنه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء، إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح المبين الظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة. انتهى.
ولما ذكر تعالى المبدأ والمعاد، ذكر ما يتعلق بالنبوة، وكان المعتمد الكبير في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم) وهو القرآن. ومن جملة إعجازه إخباره بما تضمن من القصص، الموافق لما في التوراة والإنجيل، مع العلم بأنه أمي لم يخالط العلماء ولا اشتغل بالتعليم. وبنو إسرائيل هم اليهود والنصارى. قص فيه أكثر ما اختلفوا فيه على وجهه، وبينه لهم، ولو أنصفوا وأسلموا. ومما اختلفوا فيه أمر المسيح، تحزبوا فيه، فمن قائل هو الله، ومن قائل ابن الله، ومن قائل ثالث ثلاثة، ومن قائل هو نبي كغيره من الأنبياء، وقد عقدوا لهم اجتماعات، وتباينوا في العقائد، وتناكروا في أشياء حتى لعن بعضهم بعضا
90

والظاهر عموم المؤمنين. وقيل لمن آمن من بني إسرائيل والقضاء والحكم، وإن ظهر أنهما مترادفان، فقيل: المراد به هنا العدل، أي بعدله، لأنه لا يقضي إلا بالعدل، وقيل: المراد بحكمته والحكم. قيل: ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه، بكسر الحاء وفتح الكاف، جمع حكمة، وهو جناح بن جيش. ولما كان القضاء يقتضي تنفيذ ما يقضي به، والعلم بما يحكم به، جاءت هاتان الصفتان عقبه، وهو العزة: أي الغلبة والقدرة والعلم، ثم أمره تعالى بالتوكل عليه، وأخبره أنه على الحق الواضح الذي لا شك فيه، وهو كالتعليل للتوكل، وفيه دليل على أن من كان على الحق يحق له أن يثق بالله، فإنه ينصره ولا يخذله.
ولما كان القرآن وما قص الله فيه لا يكاد يجدي عندهم، أخبر تعالى عنهم أنهم موتى القلوب، أو شبهوا بالموتى، وإن كانوا أحياء صحاح الأبصار، لأنهم إذا تلي عليهم لا تعيه آذانهم، فكانت حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى. وقرأ الجمهور: * (ولا تسمع الصم) * هنا، وفي الروم بضم التاء وكسر الميم، الصم بالرفع، ولما كان الميت لا يمكن أن يسمع، لم يذكر له متعلق، بل نفي الإسماع، أي لا يقع منك إسماع لهم البتة لعدم القابلية. وأما الأصم فقد يكون في وقت يمكن إسماعه وسماعه، فأتى بمتعلق الفعل وهو الدعاء. وإذا معمولة لتسمع، وقيد نفي الإسماع أو السماع بهذا الطرف وما بعده على سبيل التأكيد لحال الأصم، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولي مدبرا، كان أبعد عن إدراك صوته.
شبههم أولا بالموتى، ثم بالصم في حالة، ثم بالعمي، فقال: * (وما أنت بهادى العمى) * حيث يضلون الطريق، فلا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويحولهم هداة بصراء إلا الله تعالى. وقرأ الجمهور: بهادي العمى، اسم فاعل مضاف؛ ويحيى بن الحارث، وأبو حيوة: بهاد، منونا العمي؛ والأعمش، وطلحة، وابن وثاب، وابن يعمر، وحمزة: تهدي، مضارع هدي، العمي بالنصب؛ وابن مسعود: وما أنت تهتدي، بزيادة أن بعد ما، ويهتدي مضارع اهتدى، والعمي بالرفع، والمعنى: ليس في وسعك إدخال الهدى في قلب من عمي عن الحق ولم ينظر إليه بعين قلبه. * (وما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم) *، وهم الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته. * (فهم مسلمون) *: منقادون للحق. وقال الزمخشري: مسلمون مخلصون، من قوله: * (بلى من أسلم وجهه لله) *، بمعنى جعله سالما لله خالصا. انتهى.
* (وإذا وقع القول عليهم) *: أي إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله، كقوله: * (حقت كلمة العذاب) *، فالمعنى: إذا أراد الله أن ينفذ في الكافرين سابق علمه فيهم من العذاب، أخرج لهم دابة تنفذ من الأرض. ووقع: عبارة عن الثبوت واللزوم والقول، إما على حذف مضاف، أي مضمون القول، وإما أنه أطلق القول على المقول، لما كان المقول مؤدي بالقول، وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب. وقال ابن مسعود: * (وقع القول عليهم) * يكون بموت العلماء، وذهاب العلم، ورفع القرآن. انتهى. وروي أن خروجها حين ينقطع الخبر، ولا يؤمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، ولا يبقى منيب ولا نائب. وفي الحديث: (أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول الأشراط)، ولم يعين الأول، وكذلك الدجال؛ وظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخرها، والظاهر أن الدابة التي تخرج هي واحدة. وروي أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مثبوت نوعها في الأرض، وليست واحدة، فيكون قوله: * (دابة) * اسم جنس. واختلفوا في ماهيتها، وشكلها، ومحل خروجها، وعدد خروجها، ومقدار ما تخرج منها، وما تفعل بالناس، وما الذي تخرج به، اختلافا مضطربا معارضا بعضه بعضا، ويكذب بعضه بعضا؛ فاطرحنا ذكره، لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح، وتضييع لزمان نقله.
والظاهر أن قوله: * (تكلمهم) *، بالتشديد، وهي قراءة الجمهور، من الكلام؛ ويؤيده قراءة أبي: تنبئهم، وفي بعض القراءات: تحدثهم، وهي قراءة يحيى بن سلام؛ وقراءة عبد الله: بأن الناس. قال السدي: تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوى الإسلام. وقيل: نخاطبهم، فتقول للمؤمن: هذا مؤمن، وللكافر: هذا كافر. وقيل معنى تكلمهم: تجرحهم من الكلم، والتشديد للتكثير؛ ويؤيده قراءة ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وأبي زرعة،
91

والجحدري، وأبي حيوة، وابن أبي عبلة: تكلمهم، بفتح التاء وسكون الكاف مخفف اللام، وقراءة من قرأ: تجرحهم مكان تكلمهم. وسأل أبو الحوراء ابن عباس: تكلم أو تكلم؟ فقال: كل ذلك تفعل، تكلم المؤمن وتكلم الكافر. انتهى. وروي: أنها تسم الكافر في جبهته وتربده، وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه.
وقرأ الكوفيون، وزيد بن علي: * (إن الناس) *، بفتح الهمزة، وابن مسعود: بأن وتقدم؛ وباقي السبعة: إن، بكسر الهمزة، فاحتمل الكسر أن يكون من كلام الله، وهو الظاهر لقوله: * (بئاياتنا) *، واحتمل أن يكون من كلام الدابة. وروي هذا عن ابن عباس، وكسرت إن هذا على القول، إما على إضمار القول، أو على إجراء تكلمهم إجراء تقول لهم. ويكون قوله: * (بئاياتنا) * على حذف مضاف، أو لاختصاصها بالله؛ كما تقول بعض خواص الملك: خيلنا وبلادنا، وعلى قراءة الفتح، فالتقدير بأن كقراءة عبد الله، والظاهر أنه متعلق بتكلمهم، أي تخاطبهم بهذا الكلام. ويجوز أن تكون الباء المنطوق بها أو المقدرة سببية، أي تخاطبهم أو تجرحهم بسبب انتفاء إيقانهم بآياتنا.
* (ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بئاياتنا فهم يوزعون * حتى إذا * أكذبتم بئاياتى ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون * ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم
لا ينطقون * ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذلك لايات لقوم يؤمنون * ويوم ينفخ فى الصور ففزع من فى السماوات ومن فى الارض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين * وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله الذى أتقن كل شىء إنه خبير بما تفعلون * من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم فى النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون * إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها وله كل شىء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرءان فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين * وقل الحمد لله سيريكم ءاياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) *.
أي اذكر يوم نحشر، والحشر: الجمع على عنف. * (من كل أمة) *: أي من الأمم، ومن هي للتبعيض. * (فوجا) *: أي جماعة كثيرة. * (ممن يكذب بئاياتنا) *: من للبيان، أي الذين يكذبون. والآيات: الأنبياء، أو القرآن، أو الدلائل، أقوال. * (فهم يوزعون) *: تقدم تفسيره في أول قصة سليمان من هذه السورة. وعن ابن مسعود، أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة: بين يدي أهل مكة، كذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. * (حتى إذا) *: أي إلى الموقف؛ * (جاءوا قال أكذبتم بئاياتى) *: استفهام توبيخ وتقريع وإهانة؛ * (ولم تحيطوا بها علما) *: الظاهر أن الواو للحال، أي أوقع تكذيبكم بها غير متدبرين لها ولا محيطين علما بكنهها؟ ويجوز أن تكون الواو للعطف، أي أجحدتموها: ومع جحودها لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها، فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه إليه، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويحيط بمعانيه علما. وقيل: * (ولم تحيطوا بها علما) *، أي يبطلانها حتى تعرضوا عنها، بل كذبتم جاهلين غير مستدلين. وأم هنا منقطعة، وينبغي أن تقدر ببل وحدها. انتقل من الاستفهام الذي يقتضي التوبيخ إلى الاستفهام عن عملهم أيضا على جهة التوبيخ، أي: أي شيء كنتم تعملون؟ والمعنى: إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوا، وليس لهم عمل ولا حجة فيما عملوه إلا الكفر والتكذيب. وماذا بجملته يحتمل أن يكون استفهاما منصوبا بخبر كان، وهو تعملون، وأن يكون ما هو الاستفهام، وذا موصول بمعنى الذي، فيكونان مبتدأ وخبرا، وكان صلة لذا والعائد محذوف، أي تعملونه. وقرأ أبو حيوة: أما ذا، بتخفيف الميم، أدخل أداة الاستفهام على اسم الاستفهام على سبيل التوكيد.
* (ووقع القول) *: أي العذاب الموعود به بسبب ظلمهم، وهو التكذيب بآيات الله. * (فهم لا ينطقون) *: أي بحجة ولا عذر لما شغلهم من عذاب الله. وقيل: يختم على أفواههم فلا ينطقون، وانتفاء
92

نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة، أو من فريق من الناس، لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن.
ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة، ليرتدع بسماعها من أراد الله تعالى ارتداعه، نبههم على ما هو دليل على التوحيد والحشر والنبوة بما هم يشاهدونه في حال حياتهم، وهو تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة، ومن ظلمة إلى نور، وفاعل ذلك واحد، وهو الله تعالى، فيجب أن يفرد بالعبادة والألوهية. وفي هذا التقليب دليل على القلب من حياة إلى موت، ومن موت إلى حياة أخرى، وفيه دليل أيضا على النبوة، لأن هذا التقليب هو لمنافع المكلفين، ولهذا علل ذلك الجعل بقوله: * (لتسكنوا فيه) *، وبعثة الأنبياء لتحصيل منافع الخلق؛ وأضاف الإبصار إلى النهار على سبيل المجاز، لما كان يقع فيه أضافه إليه، كما تقول: ليلك نائم، وعلل جعل الليل بقوله: * (لتسكنوا فيه) *، أي لأن يقع سكونهم فيه مما يلحقهم من التعب في النهار واستراحة نفوسهم. قال بعض الرجاز:
* النوم راحة القوى الحسية
*
من حركات والقوى النفسية
*
ولم يقع التقابل في جعل النهار بالنص على علته، فيكون التركيب: والنهار لتبصروا فيه، بل أتى بقوله: * (مبصرا) *، قيدا في جعل النهار، لا علة للجعل. فقال الزمخشري: هو مراعى من حيث المعنى، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف، لأن معنى مبصرا: لتبصروا فيه طريق التقلب في المكاسب. انتهى. والذي يظهر أن هذا من باب ما حذف من أوله ما أثبت في مقابله، وحذف من آخره ما أثبت في أوله، فالتقدير: جعلنا الليل مظلما لتسكنوا فيه، والنهار مبصرا لتنصرفوا فيه؛ فالإظلام ينشأ عنه السكون، والإبصار ينشأ عنه التصرف في المصالح، ويدل عليه قوله تعالى: * (وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية اليل وجعلنا) *؟ فالسكون علة لجعل الليل مظلما، والتصرف علة لجعل النهار مبصرا وتقدم لنا: الكلام على نظير هذين الحذفين مشبعا في البقرة في قوله: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق) *.
* (إن فى ذلك) *: أي في هذا الجعل، * (لايات لقوم يؤمنون) *: لما كان لا ينتفع بالفكر في هذه الآيات إلا المؤمنون، خصوا بالذكر، وإن كانت آيات لهم ولغيرهم. * (ويوم ينفخ فى الصور) *: تقدم القول في الصور في سورة الأنعام، وهذه النفخة هي نفخة الفزع. وروي أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور. وقيل: نفختان، جعلوا الفزع والصعق نفخة واحدة، واستدلوا بقوله: * (ثم نفخ فيه أخرى) *، ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله. وقال صاحب الغنيان: * (ويوم ينفخ فى الصور) * للبعث من القبور والحشر، وعبر هنا بالماضي في قوله: * (* ففزغ) *، وإن كان لم يقع إشعارا بصحة وقوعه، وأنه كائن لا محالة، وهذه فائدة وضع الماضي موضع المستقبل، كقوله تعالى: * (القيامة فأوردهم النار) *، بعد قوله: * (يقدم قومه يوم القيامة) *.
* (إلا من شاء الله) *: أي فلا ينالهم هذا الفزع لتثبيت الله قلبه. فقال مقاتل: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت عليهم السلام. وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم، فهم حريون أن لا ينالهم هذا. وقال الضحاك: الحور العين، وخزنة النار، وحملة العرش. وعن جابر: منهم موسى، لأنه صعق مرة. وقال أبو هريرة: هم الشهداء، ورواه أبو هريرة حديثا، وهو: (أنهم هم الشهداء عند ربهم يرزقون)، وهو قول ابن جبير، قال: هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش. وقيل: هم المؤمنون لقوله: * (وهم من فزع
93

يومئذ ءامنون) *. قال بعض العلماء: ولم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل. قال القرطبي: خفي عليه حديث أبي هريرة، وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي، فيعول عليه في التعيين، وغيره اجتهاد. وهذا النفخ هو حقيقة، إما في القرن، وإما في الصور، وهو قول الأكثرين. وقيل: يجوز أن يكون تمثيلا لدعاء الموتى، فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش عند سماع الصوت، فيكون ذلك مجازا. والأول قول الأكثرين، وهو الصواب، لكثرة ورود النفخ في الصور في القرآن وفي الحديث الصحيح. وقيل: ففزع، ليس من الفزع بمعنى الخوف، وإنما معناه: أجاب وأسرع إلى البقاء.
* (وكل أتوه) *: المضاف إليه كل محذوف تقديره: وكلهم. وقرأ الجمهور: آتوه، اسم فاعل؛ وعبد الله؛ وحمزة، وحفص: أتوه، فعلا ماضيا، وفي القراءتين روعي معنى كل من الجمع، وقتادة: أتاه، فعلا ماضيا مسندا الضمير كل على لفظها، وجمع داخرين على معناها. وقرأ الحسن، والأعمش: دخرين، بغير ألف. قيل: ومعنى آتوه: حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية، ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له. * (وترى الجبال) *: هو من رؤية العين تحسبها حال من فاعل ترى، أو من الجبال. وجامدة، من جمد مكانه إذا لم يبرح منه، وهذه الحال للجبال عقيب النفخ في الصور، وهي أول أحوال الجبال، تموج وتسير، ثم ينسفها الله فتصير كالعهن، ثم تكون هباء منبثا في آخر الأمر. * (وهى تمر مر السحاب) *: جملة حالية، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة، وتشبيه مرورها بمر السحاب. قيل: في كونها تمر مرا حثيثا، كما مر السحاب، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد، إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها، كما قال النابغة الجعدي في صفة جيش:
* نار عن مثل الطود تحسب أنهم
*
وقوف لحاج والركاب تهملج
وقيل: شبه مرورها بمر السحاب في كونها تسير سيرا وسطا، كما قال الأعشى:
*
* كأن مشيتها من بيت جارتها
*
مر السحابة لا ريث ولا عجل
*
وحسبان الرائي الجبال جامدة مع مرورها، قيل: لهول ذلك اليوم، فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها ليست بجامدة. وقال أبو عبد الله الرازي: الوجه في حسبانهم أنها جامدة، أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت، ظن الناظر إليها أنها واقفة، وهي تمر مرا حثيثا. انتهى. وقيل: وصف تعالى الجبال بصفات مختلفة، ترجع إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه. فأول الصفات: ارتجاجها، ثم صيرورتها كالعهن المنفوش، ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن، ثم نسفها، وهي مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها، والأرض غير بارزة، وبالنسف برزت، ونفسها بإرسال الرياح عليها، ثم تطييرها بالريح في الهواء كأنها غبار، ثم كونها سرابا، فإذا نظرت إلى مواضعها لم تجد فيها منها شيئا كالسراب. وقال مقاتل: بل تقع على الأرض فتسوى بها.
وانتصب * (صنع الله) * على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها، فالعامل فيه مضمر من لفظه. وقال الزمخشري: * (صنع الله) * من المصادر المؤكدة كقوله: * (وعد الله) * و * (صبغة الله) *، إلا أن مؤكده محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ، والمعنى: * (ويوم ينفخ فى الصور) *، فكان كيت وكيت، أثاب الله المحسنين، وعاقب المجرمين، ثم قال: * (صنع الله) *، يريد به الإثابة والمعاقبة، وجعل
94

هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب، حيث قال: * (صنع الله الذى أتقن كل شىء) *، يعني؛ أن مقابلته الحسنة بالثواب، والسيئة بالعقاب، من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها واجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد، وبما يستوجبون عليه، فيكافئهم على حسب ذلك. ثم لخص ذلك بقوله: * (من جاء بالحسنة فله) *، إلى آخر الآيتين. فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، ومكانة إضماده، ورصانة تفسيره، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ إفراغا واحدا، وما لأمر أعجز القوى وأخرس الشقاشق، ونحو هذا المصدر، إذا جاء عقيب كلام، جاء كالشاهد لصحته، والمنادى على سداده، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما كان. ألا ترى إلى قوله: * (صنع الله) *، و * (صبغة الله) *، و * (وعد الله) *، و * (عبد الله) *؟ بعد ما رسمها بإضافتها إليه تسمية التعظيم، كيف تلاها بقوله: * (الذى أتقن كل شىء * ومن أحسن من الله صبغة) *، * (إن الله لا يخلف الميعاد) *، * (لا تبديل لخلق الله) *؟ انتهى. وهذا الذي ذكر من شقاشقه وتكثيره في الكلام، واحتياله في إدارة ألفاظ القرآن لما عليه، من مذاهب المعتزلة.
والذي يظهر أن صنع الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، وهي جملة الحال، أي صنع الله بها ذلك، وهو قلعها من الأرض، ومرها مرا مثل مر السحاب. وأما قوله: إلا أن مؤكده محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ إلى قوله صنع الله، يريد به الإثابة والمعاقبة، فذلك لا يصح، لأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته، لأنه منصوب بفعل من لفظه، فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر، وذلك حذف كثير مخل. ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة، وجد الجمل مصرحا بها، لم يرد الحذف في شيء منها، إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد، إذ الحذف ينافي التوكيد، لأنه من حيث أكد معتني به، ومن حيث حذف غير معتني به. وقيل: انتصب صنع الله على الإغراء بمعنى، انظروا صنع الله. وقرأ العربيان، وابن كثير: يفعلون بالياء؛ وباقي السبعة بتاء الخطاب.
ولما ذكر علامات القيامة، ذكر أحوال المكلفين بعد قيام الساعة.
* (* والحسنة) *: الإيمان. وقال ابن عباس، والنخعي، وقتادة: هي لا إله إلا الله، ورتب على مجيء المكلف بالحسنة شيئين: أحدهما: أنه له خير منها، ويظهر أن خيرا ليس أفعل تفضيل، ومن لابتداء الغاية، أي له خير من الخيور مبدؤه ونشؤه منها، أي من جهة هذه الحسنة، والخير هنا: الثواب. وهذا قول الحسن، وابن جريج، وعكرمة. قال عكرمة: ليس شيء خيرا من لا إله إلا الله، يريد أنها ليست أفعل التفضيل. وقيل: أفعل التفضيل. فقال الزمخشري: * (بالحسنة فله خير منها) *، يريد الإضعاف، وأن العمل ينقضي والثواب يدوم، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد. انتهى. وقوله: وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد، تركيب مختلف فيه، فبعض العلماء منعه، والصحيح جوازه. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون للتفضيل، ويكون في قوله: * (منها) *، حذف مضاف تقديره: خير من
95

قدرها واستحقاقها، بمعنى: أن الله تعالى تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته. قال ابن زيد: يعطى بالواحدة عشرا، والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل. انتهى. وقيل: ثواب المعرفة الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة، ولذة النظر إلى وجهه الكريم. وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة، ولو لم تحمل الآية على ذلك، لزم أن يكون الأكل والشرب خيرا من معرفة الله تعالى، وذلك لا يكون.
وقرأ الكوفيون: * (من فزع) *، بالتنوين، * (ويومئذ) *، منصوب على الظرف معمول لقوله: * (ءامنون) *، أو لفزع. ويدل على أنه معمول له قراءة من أضافه إليه، أو في موضع الصفة لفزع، أي كائن في ذلك الوقت. وقرأ باقي السبعة: بإضافة فزع إلى يومئذ؛ فكسر الميم العربيان، وابن كثير، وإسماعيل بن جعفر، عن نافع، وفتحها، بناء لإضافته إلى غير متمكن؛ نافع، في غير رواية إسماعيل. والتنوين في يومئذ تنوين العوض، حذفت الجملة وعوض منها، والأولى أن تكون الجملة المحذوفة ما قرب من الظرف، أي يوم، إذ جاء بالحسنة، ويجوز أن يكون التقدير: يوم إذ ترى الجبال، ويجوز أن يكون التقدير: يوم إذ ينفخ في الصور، ولا سيما إذا فسر بأنه نفخ القيام من القبور للحساب، ويكون الفزع إذ ذاك واحدا. وقال أبو علي ما معناه: من فزع، بالتنوين، أو بالإضافة، ويجوز أن يراد به فزع واحد، وأن يراد به الكثرة، لأنه مصدر. فإن أريد لكثرة، شمل كل فزع يكون في القيامة، وإن أريد الواحد، فهو الذي أشير إليه بقوله: * (لا يحزنهم الفزع الاكبر) *.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين الفزعين؟ قلت: الفزع الأول: ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة يقع، وهو يفجأ من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به. والثاني: الخوف من العذاب. انتهى. والسيئة: الكفر والمعاصي ممن حتم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار. وخصت الوجوه، إذ كانت أشرف الأعضاء، ويلزم من كبها في النار كب الجميع، أو عبر بالوجه عن جملة الإنسان، كما يعبر عنها بالرأس والرقبة، كما قال: * (فكبكبوا فيها) *، فكأنه قيل: فكبوا في النار. والظاهر من كبت، أنهم يلقون في النار منكوسين، قاله أبو العالية، أعلاهم قبل أسفلهم. ويجوز أن يكون ذلك كناية عن طرحهم في النار، قاله الضحاك. * (هل تجزون) *: خطاب لهم على إضمار القول، أي يقال لهم وقت الكب: هل تجزون.
ثم أمر تعالى نبيه أن يقول: * (إنما أمرت) *، والآمر هو الله تعالى على لسان جبريل، أو دليل العقل على وحدانية الله تعالى. * (أن أعبد) *: أي أفرده بالعبادة، ولا أتخذ معه شريكا، كما فعلت قريش، وهذه إشارة تعظيم كقوله: * (وهاذا كتاب أنزلناه) *، هذا ذكر من معي من حيث هي موطن نبيه ومهبط وحيه. والبلدة: مكة، وأسند التحريم إليه تشريفا لها واختصاصا، ولا تعارض بين قوله: * (الذى حرمها) *، وقوله عليه السلام: (إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة)، لأن إسناد ذلك إلى الله من حيث كان بقضائه وسابق علمه، وإسناده إلى إبراهيم من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته. وفي قوله: * (حرمها) *، تنبيه بنعمته على قريش، إذ جعل بلدتهم آمنة من الغارات والفتن التي تكون في بلاد العرب، وأهلك من أرادها بسوء. وقرأ الجمهور: الذي: صفة للرب. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: التي حرمها: صفة للبلدة، ولما أخبر أنه مالك هذه البلدة، أخبر أنه يملك كل شيء فقال: * (وله كل شىء) *، أي جميع الأشياء داخلة في ربوبيته، فشرفت البلدة بذكر اندراجها تحت ربوبيته على جهة الخصوص، وعلى جهة العموم. * (وأمرت أن أكون من المسلمين) *: أي من المستسلمين المنقادين لأمر الله، فاعبده كما أمرني، أو من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام المشار إليهم في قوله: * (هو سماكم المسلمين) *، * (وأن أتلو القرءان) *، إما من التلاوة، أي: وأن أتلو عليكم القرآن، وهذا الظاهر، إذ بعده التقسيم المناسب للتلاوة، وإما من المتلو، أي: وأن أتبع القرآن، كقوله: * (واتبع ما يوحى إليك) *. وقرأ الجمهور: وأن أتلو. وقرأ عبد الله: وأن أتل، بغير واو، أمرا من تلا، فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار: وأمرت أن أتل، أي أتل. وقرأ أبي: واتل هذا القرآن، جعله أمرا دون أن. * (فمن اهتدى) *، به ووحد الله وآمن بنبيه بما جاء به، فثمرة هدايته مختصة به. * (ومن ضل) *، فوبال إضلاله مختص به، وحذف جواب من ضل لدلالة
96

جواب مقابله عليه، أو يقدر في قوله: * (فقل إنما أنا من المنذرين) * ضمير حي يربط الجزاء بالشرط، إذ أداة الشرط اسم وليس ظرفا، فلا بد في جملة الجواب من ذكر يعود عليه ملفوظ به أو مقدر، فتكون هذه الجملة هي جواب الشرط، ويقدر الضمير من المنذرين له، ليس علي إلا إنذاره، وأما هدايته فإلى الله. * (وقل الحمد لله) *: أمر أن يقول ذلك، فيحمد ربه على ما خصه به من شرف النبوة والرسالة، واختصه من رفيع المنزلة. * (سيريكم ءاياته) *: تهديد لأعدائه بما يريهم الله من آياته التي تضطرهم إلى معرفتها والإقرار أنها آيات الله. قال الحسن: وذلك في الآخرة حتى لا تنفعهم المعرفة. وقال الكلبي: في الدنيا؛ وهي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من نقمات الله. وقيل: يوم بدر. وقيل: خروج الدابة، ولو بعد حين. وقيل: آياته في أنفسكم وفي سائر ما خلق مثل قوله: * (سنريهم ءاياتنا فى الافاق وفى أنفسهم) *. وقيل: معجزات الرسول، وأضافها إليه لأنه هو مجريها على يدي رسوله، ومظهرها من جهته. * (فتعرفونها) *: أي حقيقتها، ولا يسعكم جحودها. وقرأ الجمهور: عما يعملون، بياء الغيبة، التفاتا من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة؛ ونافع، وابن عامر: بتاء الخطاب لقوله: * (سيريكم) *. ولما قسمهم إلى مهتد وضال، أخبر تعالى أنه محيط بأعمالهم، غير غافل عنها.
97

الوكز: الضرب باليد مجموعا كعقد ثلاث وسبعين. وقيل: بجمع كفه. وقيل: الوكز والنكز واللهز واللكز: الدفع بأطراف الأصابع. وقيل: الوكز على القلب، واللكز على اللحى. وقيل: الوكز بأطراف الأصابع. ذاذ: طرد ودفع وقال الفراء: حبس جذوت الشيء جذوا: قطعته، والجذوة: عود فيه نار بلا لهب. قال ابن مقبل:
* باتت حواطب ليلى يلتمسن لها
*
جزل الجذا غير خوار ولا ذعر
الخوار: الذي يتقصف، والذعر الذي فيه تعب. وقال آخر:
وألقى على قبس من النار جذوة عليها حمئها وإلتهابها
وقيل: الجذوة مثلث الجيم، العود الغليظ، كانت في رأسه نار أو لم تكن. وقال السلمني يصف الصلى:
حمى حب هذي النار حب خليلتي وحب الغواني فهو دون الحبائب
وبدلت بعد المسك والبان شقوة ذخان الجذا في رأس أشمط شاحب
الشاطئ والشط: حفة الوادي. الفصاحة: بسط اللسان في إيضاح المعنى المقصود، ومقابله: اللكن. الردء: المعين الذي يشد به في الأمر، فعل بمعنى مفعول، فهو اسم لما يعان به، كما أن الدفء اسم لما يدفأ به. قال سلامة بن حندل:
*
وردء كل أبيض مشرفي
شحيذ الحد عضب ذي فلول
*
ويقال: ردأت الحائط أردؤه، إذا دعمته بخشبة لئلا يسقط. وقال أبو عبيدة: العون، ويقال: ردأته على عدوه: أعنته. المقبوح: المطرود، وقال الشاعر:
* ألا قبح الله البراجم كلها
*
وجدع يربوعا وعفر دارما
*
ثوى يثوي ثواء: أقام، قال الشاعر:
* لقد كان في حول ثواء ثويته
*
تقضي لبانات ويسأم سائم
وقال العجاج:
فبات حيث يدخل الثوى
*
أي الضيف المقيم. البطر: الطغيان. السرمد: الدائم الذي لا ينقطع.
بسم الله الرحمن الرحيم
* (طسم تلك ءايات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون * إن فرعون علا فى الارض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين) *.
هذه السورة مكية كلها، قاله الحسن وعطاء وعكرمة. وقال مقاتل: فيها من المدني * (الذين ءاتيناهم الكتاب من قبله) * إلى قوله: * (لا نبتغى الجاهلين) *. وقيل: نزلت بين مكة والجحفة. وقال ابن عباس: بالجحفة، في خروجه عليه السلام للهجرة. وقال ابن سلام: نزل * (إن الذى فرض عليك القرءان لرادك إلى معاد) *، بالجحفة، وقت الهجرة إلى المدينة. ومناسبة أول هذه السورة لآخر السورة قبلها أنه أمره تعالى بحمده، ثم قال: * (سيريكم ءاياته) *.
وكان مما فسر به آياته تعالى معجزات الرسول، وأنه أضافها تعالى إليه، إذ كان هو المخبر بها على قدمه فقال: * (تلك ءايات الكتاب) *، إذ كان الكتاب هو أعظم المعجزات وأكبر الآيات البينات، والظاهر أن الكتاب هو القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ. * (* نتلو) *: أي نقرأ عليك بقراءة جبريل، أو نقص. ومفعول * (جاءك من نبإ) *: أي بعض نبأ، وبالحق متعلق بنتلو، أي محقين، أو في موضع الحال من نبأ، أي متلبسا بالحق، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالتلاوة. * (علا فى الارض) *: أي تجبر واستكبر حتى ادعى الربوبية الإلهية. والأرض: أرض مصر، والشيع: الفرق. ملك القبط واستعبد بني إسرائيل، أي يشيعونه على ما يريد، أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته، أو ناسا في بناء وناسا في حفر، وغير ذلك من الحرف الممتهنة. ومن لم يستخدمه، ضرب عليه الجزية، أو أغرى بعضهم ببعض ليكونوا له أطوع، والطائفة المستضعفة بنو إسرائيل. والظاهر أن
98

((سورة القصص))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (طسم * تلك ءايات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون * إن فرعون علا فى الا رض وجعل أهلها شيعا يستضعف طآئفة منهم يذبح أبنآءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الا رض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم فى الا رض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون
99

* (يستضعف) * استئناف يبين حال بعض الشيع، ويجوز أن يكون حالا من ضمير، وجعل وأن تكون صفة لشيعا، ويذبح تبيين للاستضعاف، وتفسير أو في موضع الحال من ضمير يستضعف، أو في موضع الصفة لطائفة. وقرأ الجمهور: يذبح، مضعفا؛ وأبو حيوة، وابن محيصن: بفتح الياء وسكون الذال.
* (إنه كان من المفسدين) *: علة لتجبره ولتذبيح الأبناء، إذ ليس في ذلك إلا مجرد الفساد. * (ونريد) *: حكاية حال ماضية، والجملة معطوفة على قوله: * (إن فرعون) *، لأن كلتيهما تفسير للبناء، ويضعف أن يكون حالا من الضمير في يستضعف، لاحتياجه إلى إضمار مبتدأ، أي ونحن نريد، وهو ضعيف. وإذا كانت حالا، فكيف يجتمع استضعاف فرعون وإرادة المنة من الله ولا يمكن الاقتران؟ فقيل: لما كانت المنة بخلاصهم من فرعون قرينة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم. و * (أن نمن) *: أي بخلاصهم من فرعون وإغراقه. * (ونجعلهم أئمة) *: أي مقتدى بهم في الدين والدنيا. وقال مجاهد: دعاة إلى الخير. وقال قتادة: ولاة، كقولهم وجعلكم ملوكا. وقال الضحاك: أنبياء.
* (ونجعلهم الوارثين) *: أي يرثون فرعون وقومه، ملكهم وما كان لهم. وعن علي، الوارثون هم: يوسف عليه السلام وولده، وعن قتادة أيضا: ورثوا أرض مصر والشام. وقرأ الجمهور: * (ونمكن) *، عطفا على نمن. وقرأ الأعمش: ولنمكن، بلام كي، أي وأردنا ذلك لنمكن، أو ولنمكن فعلنا ذلك. والتمكين: التوطئة في الأرض، هي أرض مصر والشام، بحيث ينفذ أمرهم ويتسلطون على من سواهم. وقرأ الجمهور: * (ونرى) *، مضارع أرينا، ونصب ما بعده. وعبد الله، وحمزة، والكسائي: ونرى، مضارع رأى، ورفع ما بعده. * (وهامان) *: وزير فرعون وأحد رجاله، وذكر لنباهته في قومه ومحله من الكفر. ألا ترى إلى قوله له: * (فرعون ياهامان ابن لى صرحا) *؟ ويحذرون أي زوال ملكهم وإهلاكهم على يدي مولود من بني إسرائيل.
* (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنى إنا رادوه إليك) *.
إيحاء الله إلى أم موسى: إلهام وقذف في القلب، قاله ابن عباس وقتادة؛ أو منام، قاله قوم؛ أو إرسال ملك، قاله قطرب وقوم، وهذا هو الظاهر لقوله: * (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) *. وأجمعوا على أنها لم تكن نبية، فإن كان الوحي بإرسال ملك، كما هو الظاهر، فهو كإرساله للأقرع والأبرص والأعمى، وكما روي من تكليم الملائكة للناس. والظاهر أن هذا الإيحاء هو بعد الولادة، فيكون ثم جملة محذوفة، أي ووضعت موسى أمه في زمن الذبح وخافت عليه. * (وأوحينا) *، و * (ءان) * تفسيرية، أو مصدرية. وقيل: كان الوحي قبل الولادة. وقرأ عمرو بن عبد الواحد، وعمر بن عبد العزيز: أن ارضعيه، بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس، لأن القياس فيه نقل حركة الهمزة، وهي الفتحة، إلى النون، كقراءة ورش.
* (فإذا خفت عليه) * من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الأولاد، * (فألقيه فى اليم) *. قال الجنيد: إذا خفت حفظه بواسطة، فسلميه إلينا بإلقائه في البحر، واقطعي عنك شفقتك وتدبيرك. وزمان إرضاعه ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو ثمانية، أقوال. واليم هنا: نيل مصر. * (ولا تخافى) *: أي من غرقه وضياعه، ومن التقاطه، فيقتل، * (ولا تحزنى) * لمفارقتك إياه، * (إنا رادوه إليك) *، وعد صادق يسكن قلبها ويبشرها بحياته وجعله رسولا، وقد تقدم في سورة طه طرف من حديث التابوت ورميه في اليم وكيفية التقاطه، فأغنى عن إعادته. واستفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدت شعرا فقالت: أبعد قوله تعالى * (وأوحينا إلى
أم
100

موسى) * الآية، فصاحة؟ وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
* (فالتقطه ءال فرعون) *: في الكلام حذف تقديره: ففعلت ما أمرت به من إرضاعه ومن إلقائه في اليم. واللام في * (ليكون) * للتعليل المجازي، لما كان مآل التقاطه وتربيته إلى كونه عدوا لهم * (وحزنا) *، وإن كانوا لم يلتقطوه إلا للتبني، وكونه يكون حبيبا لهم، ويعبر عن هذه اللام بلام العاقبة وبلام الصيرورة. وقرأ الجمهور: وحزنا، بفتح الحاء والزاي، وهي لغة قريش. وقرأ ابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وابن سعدان: بضم الحاء وإسكان الزاي. والخاطىء: المتعمد الخطأ، والمخطىء: الذي لا يتعمده. واحتمل أن يكون في الكلام حذف، وهو الظاهر، أي فكان لهم عدوا وحزنا، أي لأنهم كانوا خاطئين، لم يرجعوا إلى دينه، وتعمدوا الجرائم والكفر بالله. وقال المبرد: خاطئين على أنفسهم بالتقاطه. وقيل: بقتل أولاد بني إسرائيل. وقيل: في تربية عدوهم.
وأضيف الجند هنا وفيما قبل إلى فرعون وهامان، وإن كان هامان لا جنود له، لأن أمر الجنود لا يستقيم إلا بالملك والوزير، إذ بالوزير تحصل الأموال، وبالملك وقهره يتوصل إلى تحصيلها، ولا يكون قوام الجند إلا بالأموال. وقرئ: خاطيين، بغير همز، فاحتمل أن يكون أصله الهمز. وحذفت، وهو الظاهر. وقيل: من خطا يخطو، أي خاطين الصواب.
ولما التقطوه، هموا بقتله، وخافوا أن يكون المولود الذي يحذرون زوال ملكهم على يديه، فألقى الله محبته في قلب آسية امرأة فرعون، ونقلوا أنها رأت نورا في التابوت، وتسهل عليها فتحه بعد تعسر فتحه على يدي غيرها، وأن بنت فرعون أحبته أيضا لبرئها من دائها الذي كان بها، وهو البرص، بإخبار من أخبر أنه لا يبرئها إلا ريق إنسان يوجد في تابوت في البحر.
وقرة: خبر مبتدأ محذوف، أي هو قرة، ويبعد أن يكون مبتدأ والخبر * (لا تقتلوه) *؛ وتقدم شرح قرة في آخر الفرقان. وذكر أنها لما قالت لفرعون: * (قرة عين لى ولك) *، قال: لك لا لي. وروي أنها قالت له: لعله من قوم آخرين ليس من بني إسرائيلي، وأتبعت النهي عن قتله برجائها أن ينفعهم لظهور مخايل الخير فيه من النور الذي رأته، ومن برء البرص، أو يتخذوه ولدا، فإنه أهل لذلك. * (وهم لا يشعرون) *: جملة حالية، أي لا يشعرون أنه الذي يفسد ملكهم على يديه، قاله قتادة؛ أو أنه عدو لهم، قاله مجاهد؛ أو أني أفعل ما أريد لا ما يريدون، قاله محمد بن إسحاق. والظاهر أنه من كلام الله تعالى. وقيل: هو من كلام امرأة فرعون، أي قالت ذلك لفرعون، والذين أشاروا بقتله لا يشعرون بمقالتها له واستعطاف قلبه عليه، لئلا يغروه بقتله.
وقال الزمخشري: تقدير الكلام: * (فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) *، و * (قالت امرأت * فرعون) * كذا، * (وهم لا يشعرون) * أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. وقوله: * (إن فرعون) * الآية، جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم. انتهى. ومتى أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير فصل كان أحسن.
* (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين * وقالت لاخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون * وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون * فرددناه إلى أمه كى تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولاكن أكثرهم لا يعلمون * ولما بلغ أشده واستوى ءاتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين) *.
* (وأصبح) *: أي صار فارغا من العقل، وذلك حين بلغها أنه وقع في يد فرعون، فدهمها أمر مثله لا يثبت معه العقل، لا
101

سيما عقل امرأة خافت على ولدها حتى طرحته في اليم، رجاء نجاته من الذبح؛ هذا مع الوحي إليها أن الله يرده إليها ويجعله رسولا، ومع ذلك فطاش لبها وغلب عليها ما يغلب على البشر عند مفاجأة الخطب العظيم، ثم استكانت بعد ذلك لموعود الله. وقرأ أحمد بن موسى، عن أبي عمر وفؤاد: بالواو. وقال ابن عباس: فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى. وقال مالك: هو ذهاب العقل. وقالت فرقة: فارغا من الصبر. وقال ابن زيد: فارغا من وعد الله ووحيه إليها، تناسته من الهم. وقال أبو عبيدة: فارغا من الحزن، إذ لم يغرق، وهذا فيه بعد، وتبعده القراءات الشواذ التي في اللفظة. وقرأ فضالة بن عبيد، والحسن، ويزيد بن قطيب، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير: فزعا، بالزاي والعين المهملة، من الفزع، وهو الخوف والقلق؛ وابن عباس: قرعا، بالقاف وكسر الراء وإسكانها، من قرع رأسه، إذا انحسر شعره، كأنه خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى. وقيل: قرعا، بالسكون، مصدر، أي يقرع قرعا من القارعة، وهي الهم العظيم. وقرأ بعض الصحابة: فزغا، بالفاء مكسورة وسكون الزاي والغين المنقوطة، ومعناه: ذاهبا هدرا تالفا من الهم والحزن. ومنه قول طليحة الأسدي في أخيه حبال:
* فإن يك قتلي قد أصيبت نفوسهم
*
فلن تذهبوا فزغا بقتل حبال
أي: بقتل حبال فزغا، أي هدرا لا يطلب له بثأر ولا يؤخذ. وقرأ الخليل بن أحمد: فرغا، بضم الفاء والراء. * (إن كادت لتبدى به) *: هي إن المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة. وقيل: إن نافية، واللام بمعنى إلا، وهذا قول كوفي، والإبداء: إظهار الشيء. والظاهر أن الضمير في به عائد على موسى عليه السلام، فقيل: الباء زائدة، أي: لتظهره. وقيل: مفعول تبدي محذوف، أي لتبدي القول به، أي بسببه وأنه ولدها. وقيل: الضمير في به للوحي، أي لتبدي بالوحي. وقال ابن عباس: كادت تصيح عند إلقائه في البحر وا ابناه. وقيل: عند رؤيتها تلاطم الأمواج به * (لولا أن ربطنا على قلبها) *. قال قتادة: بالإيمان. وقال السدي: بالعصمة
. وقال الصادق: باليقين. وقال ابن عطاء: بالوحي، و * (لتكون من المؤمنين) *. فعلنا ذلك، أي المصدقين بوعد الله، وأنه كائن لا محالة. والربط على القلب كناية عن قراره وإطمئنانه، شبه بما يربط مخافة الانقلاب.
*
وقال الزمخشري: ويجوز: وأصبح فؤادها فارغا من الهم حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه. * (إن كادت لتبدى) * بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت، لولا أنا طمأنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج. * (لتكون من المؤمنين) * الواثقين بوعد الله، لا بتبني فرعون وتعطفه. انتهى. وما ذهب إليه الزمخشري من تجويز كونه فارغا من الهم إلى آخره، خلاف ما فهمه المفسرون من الآية، وجواب لولا محذوف تقديره: لكادت تبدي به، ودل عليه قوله: * (إن كادت لتبدى به) *، وهذا تشبيه بقوله: * (وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) *.
* (وقالت لاخته) *، طمعا منها في التعرف بحاله. * (قصيه) *: أي اتبعي أثره وتتبعي خبره. فروي أنها خرجت في سكك المدينة مختفية، فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يتطلبون له امرأة ترضعه، حين لم يقبل المراضع، واسم أخته مريم، وقيل: كلثمة، وقيل: كلثوم، وفي الكلام حذف، أي فقصت أثره. * (فبصرت به) *: أي أبصرته؛ * (عن جنب) *، أي عن بعد؛ * (وهم لا يشعرون) * بتطلبها له ولا بإبصارها. وقيل: معنى * (عن جنب) *: عن شوق إليه، حكاه أبو عمرو بن العلاء وقال: هي لغة جذام، يقولون: جنبت إليك: اشتقت. وقال الكرماني: جنب صفة لموصوف محذوف، أي عن مكان جنب، يريد بعيد.
102

وقيل: عن جانب، لأنها كانت تمشي على الشط، وهم لا يشعرون أنها تقص. وقيل: لا يشعرون أنها أخته. وقيل: لا يشعرون أنه عدو لهم، قاله مجاهد. وقرأ الجمهور: عن جنب، بضمتين. وقرأ قتادة: فبصرت، بفتح الصاد؛ وعيسى: بكسرها. وقرأ قتادة، والحسن، والأعرج، وزيد بن علي: جنب، بفتح الجيم وسكون النون. وعن قتادة: بفتحهما أيضا. وعن الحسن: بضم الجيم وإسكان النون. وقرأ النعمان بن سالم: عن جانب، والجنب والجانب والجنابة والجناب بمعنى واحد. وقال قتادة: معنى عن جنب: أنها تنظر إليه كأنها لا تريده. والتحريم هنا بمعنى المنع، أي منعناه أن يرضع ثدي امرأة؛ والمراضع جمع مرضع، وهي المرأة التي ترضع؛ أو جمع مرضع، وهو موضع الرضاع، وهو الثدي، أو الإرضاع. * (من قبل) *: أي من أول أمره. وقيل: من قبل قصها أثره وإتيانه على من هو عنده.
* (فقالت هل أدلكم) *: أي أرشدكم إلى * (أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) *، لكونهم فيهم شفقة ورحمة لمن يكفلونه وحسن تربية. ودل قوله: * (وحرمنا عليه المراضع) *، أنه عرض عليه جملة من المرضعات، والظاهر أن الضمير في له عائد على موسى. قيل: ويحتمل أن يعود على الملك الذي كان الطفل في ظاهر أمره من جملته. وقال ابن جريج: تأول القوم أن الضمير للطفل فقالوا لها: إنك قد عرفتيه، فأخبرينا من هو؟ فقالت: ما أردت، إلا أنهم ناصحون للملك، فتخلصت منهم بهذا التأويل. وفي الكلام حذف تقديره: فمرت بهم إلى أمه، فكلموها في إضاعة؛ أو فجاءت بأمه إليهم، فكلموها في شأنه، فأرضعته، فالتقم ثديها. ويروى أن فرعون قال لها: ما سبب قبول هذا الطفل ثديك، وقد أبى كل ثدي؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أوتي بصبي إلا قبلني، فدفعه إليها، وذهبت به إلى بيتها، وأجرى لها كل يوم دينارا. وجاز لها أخذه لأنه مال حربي، فهو مباح، وليس ذلك أجرة رضاع. * (فرددناه إلى أمه) *، كما قال تعالى: * (إنا رادوه إليك) *، ودمع الفرح بارد، وعين المهموم حرى سخنة، وقال أبو تمام:
* فأما عيون العاشقين فأسخنت
*
وأما عيون الشامتين فقرت
*
لما أنجز تعالى وعده في الرد، ثبت عندها أنه سيكون نبيا رسولا. * (ولتعلم أن وعد الله حق) *، فعلنا ذلك. ولا يعلمون، أي أن وعد الله حق، فهم مرتابون فيه؛ أو لا يعلمون أن الرد إنما كان لعلمها بصدق وعد الله. ولكن أكثر الناس لا يعلمون بأن الرد كان لذلك، وفي قوله: * (ولتعلم أن وعد الله حق) * دلالة على ضعف من ذهب إلى أن الإيحاء إليها كان إلهاما أو مناما، لأن ذلك يبعد أن يقال فيه وعد. وقوله: ولتعلم وقوع ذلك فهو علم مشاهدة، إذ كانت عالمة أن ذلك سيكون، وأكثرهم هم القبط، ولا يعلمون سر القضاء. وقال الضحاك: لا يعلمون مصالحهم وصلاح عواقبهم. وقال الضحاك أيضا، ومقاتل: لا يعلمون أن الله وعدها رده إليها، وتقدم تفسير * (ولما بلغ أشده) * إلى * (المحسنين) * في سورة يوسف عليه السلام.
* (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هاذا من شيعته وهاذا من عدوه فاستغاثه الذى) *. (سقط: من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو)
103

(سقط: الآية كاملة)
* (المدينة) *، قال ابن عباس: هي منف. ركب فرعون يوما وسار إليها، فعلم موسى عليه السلام بركوبه، فلحق بتلك المدينة في وقت القائلة، وعنه بين العشاء والعتمة. وقال ابن إسحاق: المدينة مصر بنفسها، وكان موسى قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فاختفى وخاف، فدخلها متنكرا حذرا متغفلا للناس. وقال ابن زيد: كان فرعون قد أخرجه من المدينة، فغاب عنها سنين، فنسي، فجاء والناس في غفلة بنسيانهم له وبعد عهدهم به. وقيل: كان يوم عيد، وهم مشغولون
بلهوهم. وقيل: خرج من قصر فرعون ودخل مصر. وقيل: المدينة عين شمس. وقيل: قرية على فرسخين من مصر يقال لها حابين. وقيل: الإسكندرية. وقرأ أبو طالب القارئ: * (على حين) *، بنصب نون حين، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل، كأنه قال: على حين غفل أهلها، فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض، كقوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وهذا توجيه شذوذ. وقرأ نعيم بن ميسرة: يقتلان. بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف. قيل: كانا يقتتلان في الدين، إذ أحدهما إسرائيل مؤمن والآخر قبطي. وقيل: يقتتلان، في أن كلف القبطي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون على ظهر الإسرائيلي، ويقتتلان صفة لرجلين. وقال ابن عطية: يقتتلان في موضع الحال. انتهى. والحال من النكرة أجازه سيبويه من غير شرط. * (هاذا من شيعته) *: أي ممن شايعه على دينه، وهو الإسرائيلي. قيل: وهو السامري، وهذا من عدوه، أي من القبط. وقيل: اسمه فاتون، وهذا حكاية حال، وقد كانا حاضرين حالة وجد أن موسى لهما، أو لحكاية الحال، عبر عن غائب ماض باسم الإشارة الذي هو موضوع للحاضر. وقال المبرد: العرب تشير بهذا إلى الغائب. قال جرير:
104

* هذا ابن عمي في دمشق خليفة
*
لو شئت ساقكم إلي قطينا
وقرأ الجمهور: * (* فاستغاثة) *، أي طلب غوثه ونصره على القبطي. وقرأ سيبويه، وابن مقسم، والزعفراني: بالعين المهملة والنون بدل الثاء، أي طلب منه الإعانة على القبطي. قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة: والاختيار قراءة ابن مقسم، لأن الإعانة أولى في هذا الباب. وقال ابن عطية: ذكرها الأخفش، وهي تصحيف لا قراءة. انتهى. وليست تصحيفا، فقد نقلها ابن خالويه عن سيبويه، وابن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني. وروي أنه لما اشتد التناكر بينهما قال القبطي لموسى: لقد هممت أن أحمله عليك، يعني الحطب، فاشتد غضب موسى، وكان قد أوتي قوة، * (عدوه فوكزه) *، فمات. وقرأ عبد الله فلكزه، باللام، وعنه: فنكزه، بالنون. قال قتادة: وكزه بعصاه؛ وغيره قال: بجمع كفه، والظاهر أن فاعل * (فقضى) * ضمير عائد على موسى. وقيل: يعود على الله، أي فقضى الله عليه بالموت. ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه، أي فقضى الوكز عليه، وكان موسى لم يتعمد قتله، ولكن وافقت وكزته الأجل، فندم موسى. وروي أنه دفنه في الرمل وقال: * (هاذا من عمل الشيطان) *، وهو ما لحقه من الغضب حتى أدى إلى الوكزة التي قضت على القبطي، وجعله من عمل الشيطان وسماه ظلما لنفسه واستغفر منه، لأنه أدى إلى قتل من لم يؤذن له في قتله. وعن ابن جريج: ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر. وقال كعب: كان موسى إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة، وكان قتله خطأ، فإن الوكزة في الغالب لا تقتل. وقال النقاش: كان هذا قبل النبوة، وقد انتهج موسى عليه السلام نهج آدم عليه السلام إذ قال: * (ظلمنا أنفسنا) *. والباء في * (بما أنعمت) * للقسم، والتقدير: أقسم بما أنعمت به علي من المغفرة، والجواب محذوف، أي لأتوبن، * (فلن أكون) *، أو متعلقة بمحذوف تقديره: اعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة، * (فلن أكون) * إن عصمتني * (ظهيرا للمجرمين) *. وقيل: * (فلن أكون) * دعاء لا خبر، ولن بمعنى لا في الدعاء، والصحيح أن لن لا تكون في الدعاء، وقد استدل على أن لن تكون في الدعاء بهذه الآية، وبقول الشاعر:
لن تزالوا كذاكم ثم ما زلت لهم خالدا خلود الجبال
*
والمظاهرة، إما بصحبته لفرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما أنه أدت المظاهرة إلى القتل الذي جرى على يده. وقيل: بما أنعمت علي من النبو، فلن استعملها إلا في مظاهرة أوليائك، ولا أدع قبطيا يغلب إسرائيليا. واحتج أهل العلم بهذه الآية على منع معونة أهل الظلم وخدمتهم، نص على ذلك عطاء بن أبي رباح وغيره. وقال رجل لعطاء: إن خي يضرب بعلمه ولا يعد ورزقه، قال: فمن الرأس، يعني من يكتب له؟ قال: خالد بن عبد الله القسري، قال: فأين قول موسى؟ وتلا الآية: * (فأصبح فى المدينة خائفا) * من قبل القبطي أن يؤخذ به، يترقب وقوع المكروه، به أو الإخبار هل وقفوا على ما كان منه؟ قيل: خائفا من أنه يترقب المغفرة. وقيل: خائفا يترقب نصرة ربه، أو يترقب هداية قومه، أو ينتظر أن يسلمه قومه. * (فإذا الذى استنصره بالامس) *: أي الإسرائيلي الذي كان قتل القبطي بسببه. وإذا هنا للمفاجأة، وبالأمس يعني اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ، وهو معرب، فحركة سينه حركة إعراب لأنه دخلته أل، بخلاف حاله إذا عري منها، فالحجاز تنبيه إذا كان معرفة، وتميم تمنعه الصرف حالة الرفع فقط، ومنهم من يمنعه الصرف مطلقا، وقد يبنى مع أل على سبيل الندور. قال الشاعر:
105

* وإني حسبت اليوم والأمس قبله
*
إلى الليل حتى كادت الشمس تغرب
* (يستصرخه) *: يصيح به مستغيثا من قبطي آخر، ومنه قول الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قرع الطنابيب
*
قال له موسى: الظاهر أن الضمير في له عائد على الذي * (إنك لغوى مبين) * لكونك كنت سببا في قتل القبطي بالأمس، قال له ذلك على سبيل العتاب والتأنيب. وقيل: الضمير في له، والخطاب للقبطي، ودل عليه قوله: يستصرخه، ولم يفهم الإسرائيلي أن الخطاب للقبطي. * (فلما أن أراد أن يبطش) *: الظاهر أن الضمير في أراد ويبطش هو لموسى. * (بالذى هو عدو لهما) *: أي للمستصرخ وموسى وهو القبطي يوهم الإسرائيلي أن قوله: * (إنك لغوى مبين) * هو على سبيل إرادة السوء به، وظن أنه يسطو عليه. قال، أي الإسرائيلي: * (قال ياموسى أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا بالامس) *، دفعا لما ظنه من سطو موسى عليه، وكان تعيين القائل القبطي قد خفي على الناس، فانتشر في المدينة أن قاتل القبطي هو موسى، ونمى ذلك إلى فرعون، فأمر بقتل موسى. وقيل: الضمير في أراد ويبطش للإسرائيلي عند ذلك من موسى، وخاطبه بما يقبح، وأن بعد لما يطرد زيادتها. وقيل: لو إذا سبق قسم كقوله:
* فأقسم أن لو التقينا وأنتم
*
لكان لكم يوم من الشر مظلم
*
وقرأ الجمهور: يبطش، بكسر الطاء؛ والحسن، وأبو جعفر: بضمها. * (إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الارض) *: وشأن الجبار أن يقتل بغير حق. وقال الشعبي: من قتل رجلين فهو جبار، يعني بغير حق، ولما أثبت له الجبروتية نفى عنه الصلاح. * (وجاء رجل من أقصى المدينة) *، قيل: هو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون. قال الكلبي: واسمه جبريل بن شمعون. وقال الضحاك: شمعون بن إسحاق. وقيل: هو غير مؤمن آل فرعون. * (يسعى) *: يشتد في مشيه. ولما أمر فرعون بقتله، خرج الجلاوزة من الشارع الأعظم، فسلك هذا الرجل طريقا أقرب إلى موسى. ومن أقصى المدينة، ويسعى: صفتان، ويجوز أن يكون يسعى حالا، ويجوز أن يتعلق من أقصى بجاء. قال الزمخشري: وإذا جعل، يعني، من أقصى حالا، لجاء لم يجز في يسعى إلا الوصف. انتهى. يعني: أن رجلا يكون نكرة لم توصف، فلا يجوز منها الحال، وقد أجاز ذلك سيبويه في كتابه من غير وصف. قال: * (إن الملا) *، وهم وجوه أهل دولة فرعون، * (يأتمرون) *: يتشاورون، قال الشاعر، وهو النمر بن تولب:
* أرى الناس قد أحدثوا شيمة
*
وفي كل حادثة يؤتمر
*
106

وقال ابن قتيبة: يأمر بعضهم بعضا بقوله، من قوله تعالى: * (وأتمروا بينكم بمعروف) *. * (فاخرج إنى لك من الناصحين) *. ولك: متعلق إما بمحذوف، أي ناصح لك من الناصحين، أو بمحذوف على جهة البيان، أي لك أعني، أو بالناصحين، وإن كان في صلة أل، لأنه يتسامح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما. وهي ثلاثة أقوال للنحويين فيما أشبه هذا، فامتثل موسى ما أمره به ذلك الرجل، وعلم صدقه ونصحه، وخرج وقد أفلت طالبيه فلم يجدوه. وكان موسى لا يعرف ذلك الطريق، ولم يصحب أحدا، فسلك مجهلا، واثقا بالله تعالى، داعيا راغبا إلى ربه في تنجيته من الظالمين.
* (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل * ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا) *.
* (توجه) *: رد وجهه. و * (تلقاء) *: تقدم الكلام عليه في يونس، أي ناحية وجهه. استعمل المصدر استعمال الظرف، وكان هناك ثلاث طرق، فأخذ موسى أوسطها، وأخذ طالبوه في الآخرين وقالوا: المريب لا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلا بنياتها. فبقي في الطريق ثماني ليال وهو حاف، لا يطعم إلا ورق الشجر. والظاهر من قوله: * (عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل) *، أنه كان لا يعرف الطريق، فسأل ربه أن يهديه أقصد الطريق بحيث أنه لا يضل، إذ لو سلك ما لا يوصله إلى المقصود لتاه. وعن ابن عباس: قصد مدين وأخذ يمشي من غير معرفة، فأوصله الله إلى مدين. وقيل: هداه جبريل إلى مدين. وقيل: ملك غيره. وقيل: أخذ طريقا يأمن فيه، فاتفق ذهابه إلى مدين. والظاهر أن سواء السبيل: وسط الطريق
107

الذي يسلكه إلى مكان مأمنه. وقال مجاهد: سواء السبيل: طريق مدين. وقال الحسن: هو سبيل الهدى، فمشى موسى عليه السلام إلى أن وصل إلى مدين، ولم يكن في طاعة فرعون.
* (ولما ورد ماء مدين) *: أي وصل إليه، والورود بمعنى الوصول إلى الشيء، وبمعنى الدخول فيه. قيل: وكان هذا الماء بئرا. والأمة: الجمع الكثير، ومعنى عليه: أي على شفيره وحاشيته. * (يسقون) *: يعني مواشيهم. * (ووجد من دونهم) *: أي من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة، فهما من دونهم بالإضافة إليه، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: في مكان أسفل من مكانهم. * (تذودان) *، قال ابن عباس وغيره: تذودان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء. وقال قتادة: تذودان الناس عن غنمهما. قال الزجاج: وكأنهما تكرهان المزاحمة على الماء. وقيل: لئلا تختلط غنمهما بأغنامهم. وقيل: تذودان عن وجوههما
نظر الناظر لتسترهما. وقال الفراء: تحبسانها عن أن تتفرق، واسم الصغرى عبرا، واسم الكبر صبورا.
ولما رآهما موسى عليه السلام واقفتين لا تتقدمان للسقي، سألهما فقال: * (ما خطبكما) *؟ قال ابن عطية: والسؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أو من يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر. قال الزمخشري: وحقيقته: ما مخطوبكما؟ أي ما مطلوبكما من الذياد؟ سمى المخطوب خطبا، كما سمى الشؤون شأنا في قولك: ما شأنك؟ يقال: شانت شأنه، أي قصدت قصده. انتهى. وفي سؤاله عليه الصلاة والسلام دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعن ولم يكن لأبيهما أجير، فكانتا تسوقان الغنم إلى الماء، ولم تكن لهما قوة الإستقاء، وكان الرعاة يستقون من البئر فيسقون مواشيهم، فإذا صدروا، فإن بقي في الحوض شيء سقتا. فوافى موسى عليه السلام ذلك اليوم وهما يمنعان غنمهما عن الماء، فرق عليهما وقال: * (ما خطبكما) *؟ وقرأ شمر: بكسر الخاء، أي من زوجكما؟ ولم لا يسقي هو؟ وهذه قراءة شاذة نادرة.
* (قالتا لا نسقى) *. وقرأ ابن مصرف: لا نسقي، بضم النون. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والحسن، وقتادة، والعربيان: يصدر، بفتح الياء وضم الدال، أي يصدرون بأغنامهم؛ وباقي السبعة، والأعرج، وطلحة، والأعمش، وابن أبي إسحاق، وعيسى: بضم الياء وكسر الدال، أي يصدرون أغنامهم. وقرأ الجمهور: الرعاء، بكسر الراء: جمع تكسير. قال الزمخشري: وأما الرعاء بالكسر فقياس، كصيام وقيام. انتهى. وليس بقياس، لأنه جمع راع؛ وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة، كقاض وقضاة، وما سوى جمعه هذا فليس بقياس. وقرئ: الرعاء، بضم الراء، وهو اسم جمع، كالرخال والثناء. قال أبو الفضل الرازي: وقرأ عياش، عن أبي عمرو: الرعاء، بفتح الراء، وهو مصدر أقيم مقام الصفة، فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه، وقد يجوز أنه حذف منه المضاف. * (وأبونا شيخ كبير) *: اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخه وكبره، واستعطاف لموسى في إعانتهما.
* (فسقى لهما) *: أي سقى غنمهما لأجلهما. وروي أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا عدد من الرجال، واضطرب النقل في العدد، فأقل ما قالوا سبعة، وأكثره مائة، فأقله وحده. وقيل: كانت لهم دلو لا ينزع بها إلا أربعون، فنزع بها وحده. وروي أنه زاحمهم على الماء حتى سقى لهما، كل ذلك رغبة في الثواب على ما كان به من نصب السفر وكثرة الجوع، حتى كانت تظهر الخضرة في بطنه من البقل. وقيل: إنه مشى حتى سقط أصله، وهو باطن القدم، ومع ذلك أغاثهما وكفاهما أمر السقي. وقد طابق جوابهما لسؤاله. سألهما عن سبب الذود، فأجاباه: بأنا امرأتان ضعيفتان مستورتان، لا نقدر على مزاحمة الرجال، فتؤخر السقي إلى فراغهم. ومباشرتهما ذلك ليس بمحظور، وعادة العرب وأهل البدو في ذلك غير عادة أهل الحضر والأعاجم، لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة. * (ثم تولى إلى الظل) *، قال ابن مسعود:
108

ظل شجرة. قيل: كانت سمرة. وقيل: إلى ظل جدار لا سقف له. وقيل: جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس. * (فقال رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير) *، قال المفسرون: تعرض لما يطعمه، لما ناله من الجوع، ولم يصرح بالسؤال؛ وأنزلت هنا بمعنى تنزل. وقال الزمخشري: وعدى باللام فقير، لأنه ضمن معنى سائل وطالب. ويحتمل أن يريد، أي فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير الدين، وهو النجاة من الظالمين، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، قال ذلك رضا بالبدل السني وفرحا به وشكرا له. وقال الحسن: سأل الزيادة في العلم والحكمة.
* (فجاءته إحداهما تمشى على استحياء) *: في الكلام حذف، والتقدير: فذهبتا إلى أبيهما من غير إبطاء في السقي، وقصتا عليه أمر الذي سقى لهما، فأمر إحداهما أن تدعوه له. * (فجاءته إحداهما) *. قرأ ابن محيصن: فجاءته إحداهما، بحذف الهمزة، تخفيفا على غير قياس، مثل: ويل أمه في ويل أمه، ويابا فلان، والقياس أن يجعل بين بين، وإحداهما مبهم. فقيل: الكبرى، وقيل: كانتا توأمتين، ولدت الأولى قبل الأخرى بنصف نهار. وعلى استحياء: في موضع الحال، أي مستحيية متحفزة. قال عمر بن الخطاب: قد سترت وجهها بكم درعها؛ والجمهور: على أن الداعي أباهما هو شعيب عليه السلام، وهما ابنتاه. وقال الحسن: هو ابن أخي شعيب، واسمه مروان. وقال أبو عبيدة: هارون. وقيل: هو رجل صالح ليس من شعيب ينسب. وقيل: كان عمهما صاحب الغنم، وهو المزوج، عبرت عنه بالأب، إذ كان بمثابته. * (ليجزيك أجر ما سقيت لنا) *، في ذلك ما كان عليه شعيب من الإحسان والمكافأة لمن عمل له عملا، وإن لم يقصد العالم المكافأة.
* (فلما جاءه) *: أي فذهب معهما إلى أبيهما، وفي هذا دليل على اعتماد أخبار المرأة، إذ ذهب معها موسى، كما يعتمد على أخبارها في باب الرواية. * (وقص عليه القصص) *: أي ما جرى له من خروجه من مصر، وسبب ذلك. * (قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين) *: أي قبل الله دعاءك في قولك: * (رب نجنى من القوم الظالمين) *، أو أخبره بنجاته منهم، فأنسه بقوله: * (لا تخف) *، وقرب إليه طعاما، فقال له موسى: إنا أهل بيت، لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا، فقال له شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة آبائي قري الضيف وإطعام الطعام؛ فحينئذ أكل موسى عليه السلام.
* (قالت إحداهما) *: أبهم القائلة، وهي الذاهبة والقائلة والمتزوجة، * (إحداهما ياأبت استجره) *: أي لرعي الغنم وسقيها. ووصفته بالقوة: لكونه رفع الصخرة عن البئر وحده، وانتزع بتلك الدلو، وزاحمهم حتى غلبهم على الماء؛ وبالأمانة: لأنها حين قام يتبعها هبت الريح فلفت ثيابها فوصفتها، فقال: ارجعي خلفي ودليني على الطريق. وقولها كلام حكيم جامع، لأنه إذا اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمر، فقد تم المقصود، وهو كلام جرى مجرى المثل، وصار مطروقا للناس، وكان ذلك تعليلا للاستئجار، وكأنها قالت: استأجره لأمانته وقوته، وصار الوصفات منبهين عليه. ونظير هذا التركيب قول الشاعر:
* ألا إن خير الناس حيا وهالكا
*
أسير ثقيف عندهم في السلاسل
*
جعل خير من استأجرت الاسم، اعتناء به. وحكمت عليه بالقوة والأمانة. ولما وصفته بهذين الوصفين قال لها أبوها: ومن أين عرفت هذا؟ فذكرت إقلاله الحجر وحده، وتحرجه من النظر إليها حين وصفتها الريح؛ وقاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم. وقيل: قال لها موسى ابتداء: كوني ورائي، فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء، ودليني على الطريق يمينا أو يسارا.
109

وقال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله: * (عسى أن ينفعنا) *، وأبو بكر في عمر. وفي قولها: * (استجره) *، دليل على مشروعية الإجارة عندهم، وكذا كانت في كل ملة، وهي ضرورة الناس ومصلحة الخلطة، خلافا لابن علية والأصم، حيث كانا لا يجيزانها؛ وهذا مما انعقد عليه الإجماع، وخلافهما خرق.
* (قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين) *: رغب شعيب في مصاهرته، لما وصفته به، ولما رأى فيه من عزوفه عن الدنيا وتعلقه بالله وفراره من الكفرة. وقرأ ورش، وأحمد بن موسى، عن أبي عمرو: أنكحك إحدى، بحذف الهمزة. وظاهر قوله: * (أن أنكحك) *، أن الإنكاح إلى الولي لا حق للمرأ فيه، خلافا لأبي حنيفة في بعض صوره، بأن تكون بالغة عالمة بمصالح نفسها، فإنها تعقد على نفسها بمحضر من الشهود، وفيه دليل على عرض الولي وليته على الزوج، وقد فعل ذلك عمر، ودليل على تزويج ابنته البكر من غير استئمار، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا بلغت البكر، فلا تزوج إلا برضاها. قيل: وفيه دليل على قول من قال: لا ينعقد إلا بلفظ التزويج، أو الإنكاح، وبه قال ربيعة، والشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود. وإحدى ابنتي: مبهم، وهذا عرض لا عقد. ألا ترى إلى قوله: * (إنى أريد) *؟ وحين العقد يعين من شاء منهما، وكذلك لم بحد أول أمد الإجارة. والظاهر من الآية جواز النكاح بالإجارة، وبه قال الشافعي وأصحابه وابن حبيب. وقال الزمخشري: * (هاتين) *، فيه دليل على أنه كانت له غيرهما. انتهى. ولا دليل في ذلك، لأنهما كانتا هما اللتين رآهما تذودان، وجاءته إحداهما، فأشار إليهما، والإشارة إليهما لا تدل على أن له غيرهما. * (على أن تأجرنى) * في موضع الحال من ضمير أنكحك، إما الفاعل، وإما المفعول. وتأجرني، من أجرته: كنت له أجيرا، كقولك: أبوته: كنت له أبا، ومفعول تأجرني الثاني محذوف تقديره نفسك. و * (ثمانى حجج) *: ظرف، وقاله أبو البقاء. وقال الزمخشري: حجج: مفعول به، ومعناه: رعيه ثماني حجج. * (فإن أتممت عشرا فمن عندك) *: أي هو تبرع وتفضل لا اشتراط. * (وما أريد أن أشق عليك) * بإلزام أيم الأجلين، ولا في المعاشرة والمناقشة في مراعاة الأوقات، وتكليف الرعاة أشياء من الخدم خارجة عن الشرط. * (ستجدنى إن شاء الله من الصالحين) *: وعد صادق مقرون بالمشيئة من الصالحين في حسن المعاملة ووطاءة الخلق، أو من الصالحين على العموم، فيدخل تحته حسن المعاملة.
ولما فرغ شعيب مما حاور به موسى، قال موسى: * (ذلك بينى وبينك) *، على جهة التقدير والتوثق في أن الشرط إنما وقع في ثماني حجج. وذلك مبتدأ أخبره بيني وبينك، إشارة إلى ما عاهده عليه، أي ذلك الذي عاهدتني وشارطتني قائم بيننا جميعا لا نخرج عنه، ثم قال: * (أيما الاجلين) *، أي الثماني أو العشر؟ * (فلا عدوان على) *: أي لا يعتدى علي في طلب الزيادة، وأي شرط، وما زائدة. وقرأ الحسن، والعباس، عن أبي عمرو: أيما، بحذف الياء الثانية، كما قال الشاعر:
* تنظرت نصرا والسماكين أيما
*
علي من الغيث استهلت مواطره
*
وقرأ عبد الله: أي الأجلين ما قضيت، بزيادة ما بين الأجلين وقضيت. قال الزمخشري فإن قلت: ما الفرق بين موقع ما المزيدة في القراءتين؟ قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة الإبهام، أي زائدة في شياعها وفي الشاذ، تأكيدا للقضاء، كأنه قال: أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له؟ وقرأ أبو حيوة، وابن قطيب: فلا عدوان، بكسر العين. قال المبرد: قد علم أنه لا عدوان عليه في أتمهما، ولكن جمعهما، ليجعل الأول كالأتم في الوفاء. وقال الزمخشري:
110

تصور العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصر، وهو المطالبة بتتمة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟ قلت: معناه: كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر، كان عدوانا لا شك فيه، فكذلك إن طولبت في الزيادة على الثماني. أراد بذلك تقرير الخيار، وأنه ثابت مستقر، وأن الأجلين على السواء، إما هذا، وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء. وأما التتمة فموكولة إلى رأيي، إن شئت أتيت بها وإلا لم أجبر عليها. وقيل: معناه فلا أكون متعديا، وهو في نفي العدوان عن نفسه، كقولك: لا إثم علي ولا تبعة. انتهى، وجوابه الأول فيه تكثير. * (والله على ما نقول) *: أي على ما تعاهدنا عليه وتواثقنا، * (وكيل) *: أي شاهد. وقال قتادة: حفيظ. وقال ابن شجرة: رقيب، والوكيل الذي وكل إليه الأمر، فلما ضمن معنى شاهد ونحوه عدى بعلى.
* (فلما قضى موسى الاجل) *: جاء على النبي صلى الله عليه وسلم) أنه وفي أطول الأجلين، وهو العشر. وعن مجاهد: وفي عشر أو عشرا بعدها، وهذا ضعيف. * (وسار بأهله) *: أي نحو مصر بلده وبلد قومه. والخلاف فيمن تزوج، الكبرى أم الصغرى، وكذلك في اسمها. وتقدم كيفية مسيره، وإيناسه النار في سورة طه وغيرها. وقرأ الجمهور: جذوة، بكسر الجيم؛ والأعمش، وطلحة، وأبو حيوة، وحمزة: بضها؛ وعاص، غير الجعفي: بفتحها. * (لعلكم تصطلون)
*: أي تتسخنون بها، إذ كانت ليلة باردة، وقد أضلوا الطريق.
* (فلما أتاها نودى من شاطىء الوادى الايمن فى البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى * موسى إنى * أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك * وألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبرا * موسى * أقبل ولا تخف إنك من الامنين * اسلك يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى) *.
من، في: من شاطىء، لابتداء الغاية، ومن الشجرة كذلك، إذ هي بدل من الأولى، أي من قبل الشجرة. والأيمن: يحتمل أن يكون صفة للشاطىء وللوادي، على معنى اليمن والبركة، أو الأيمن: يريد المعادل للعضو الأيسر، فيكون ذلك بالنسبة إلى موسى، لا للشاطىء، ولا للوادي، أي أيمن موسى في استقباله حتى يهبط الوادي، أو بعكس ذلك؛ وكل هذه الأقوال في الأيمن مقول. وقرأ الأشهب العقيلي، ومسلمة: في البقعة، بفتح الباء. قالأبو زيد: سمعت من العرب: هذه بقعة طيبة، بفتح الباء، ووصفت البقعة بالبركة، لما خصت به من آيات الله وأنواره وتكليمه لموسى عليه السلام، أو لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة. ويتعلق في البقعة بنودي، أو تكون في موضع الحال من شاطىء. والشجرة عناب، أو عليق، أو سمرة، أو عوسج، أقوال. وأن: يحتمل أن تكون حرف تفسير، وأن تكون مخففة من الثقيلة. وقرأت فرقة: * (إنى أنا) *، بفتح الهمزة، وفي إعرابه إشكال، لأن إن، إن كانت تفسيرية، فينبغي كسر إني، وإن
111

كانت مصدرية، تتقدر بالمفرد، والمفرد لا يكون خبرا لضمير الشأن، فتخريج هذه القراءة على أن تكون إن تفسيرية، وإن معمول لمضمر تقديره: إني يا موسى أعلم إني أنا الله.
وجاء في طه: * (نودى ياموسى * موسى إنى * أنا ربك) *، وفي النمل: * (نودى أن بورك من فى النار) *، وهنا: * (نودى من شاطىء) *، ولا منافاة، إذ حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء. والجمهور: على أنه تعالى كلمه في هذا المقام من غير واسطة. وقال الحسن: ناداه نداء الوحي، لا نداء الكلام. وتقدم الكلام على نظير قوله: * (وأن ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب) *، ثم أمره فقال: * (اسلك يدك فى جيبك) *، وهو فتح الجبة من حيث تخرج الرأس، وكان كم الجبة في غاية الضيق. وتقدم الكلام على: * (تخرج بيضاء من غير سوء) * وفسر الجناح هنا باليد وبالعضد وبالعطاف، وبما أسفل من العضد إلى الرسغ، وبجيب مدرعته. والرهب: الخوف، وتأتي القراءات فيه. وقيل: بفتح الراء والهاء: الكم، بلغة بني حنيفة وحمير، وسمع الأصمعي قائلا يقول: أعطني ما في رهبك، أي في كمك، والظاهر حمل: * (واضمم إليك جناحك من الرهب) * على الحقيقة.
قال الثوري: خاف موسى أن يكون حدث به سوء، فأمره تعالى أن يعيد يده إلى جيبه لتعود على حالتها الأولى، فيعلم موسى أنه لم يكن سوءا بل آية من الله. وقال مجاهد، وابن زيد: أمره بضم عضده وذراعه، وهو الجناح، إلى جنبه، ليخف بذلك فزعه. ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوي قلبه. وقيل: لما انقلبت العصا حية، فزع موسى واضطرب، فاتقاها بيده، كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له: أدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء لتظهر معجزة أخرى، وهذا القول بسطه الزمخشري، لأنه كالتكرار لقوله: * (اسلك يدك فى جيبك) *. وقد قال هو والجناح هنا اليد، قال: لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى، فقد ضم جناحه إليه. وقيل: المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها، فاضممها إليك تسكن. وقالت فرقة: هو مجاز أمره بالعزم على ما أمره به، كما تقول العرب: أشدد حيازيمك واربط جأشك، أي شمر في أمرك ودع الرهب، وذلك لما كثر تخوفه وفزعه في غير موطن، قاله أبو علي، وكأنه طيره الفزع، وآلة الطيران الجناح. فقيل له: اسكن ولا تخف، وضم منشور جناحك من الخوف إليك، وذكر هذا القول الزمخشري، فقال والثاني أن يراد بضم جناحه إليه: تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية، حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما، وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومعنى * (من الرهب) *: من أجل الرهب، أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية، فاضمم إليك جناحك. جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه. ومعنى: * (واضمم إليك جناحك) *، وقوله: * (اسلك يدك فى جيبك) * على أحد التفسيرين واحد، ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب. فإن قلت: قد جعل الجناح، وهو اليد، في أحد الموضعين مضموما وفي الآخر مضموما إليه، وذلك قوله: * (واضمم إليك جناحك) *، * (واضمم يدك إلى جناحك) *، فما التوفيق بينهما؟ قلت: المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى، وبالمضموم إليه اليد اليسرى، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح. ومن بدع التفاسير أن الرهب: الكم، بلغة حمير، وأنهم يقولون: أعطني ما في رهبك؛ وليت شعري؛ كيف صحته في اللغة؟ وهل سمع من الأثبات الثقات التي ترضي عربيتهم؟ ثم ليت شعري: كيف موقعه في الآية؟ وكيف يعطيه الفصل كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى، صلوات الله عليه، ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرماتقة من صوف، لا كمين لها. انتهى. أما قوله: وهل سمع من الأثبات؟ وهذا مروي عن الأصمعي، وهو ثقة ثبت. وأما قوله: كيف موقعه من الآية؟ فقالوا: معناه أخرج يدك من كمك، وكان قد أخذ العصا بالكم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: من الرهب، بفتح الراء والهاء؛ وحفص: بفتح الراء
112

وسكون الهاء؛ وباقي السبعة: بضم الراء وإسكان الهاء. وقرأ قتادة، والحسن، وعيسى، والجحدري: بضمهما.
* (فذانك) *: شارة إلى العصا واليد، وهما مؤنثتان، ولكن ذكرا لتذكير الخبر، كما أنه قد يؤنث المذكر لتأنيث الخبر، كقراءة من قرأ: ثم لم يكن فتنتهم إلا أن قالوا، بالياء في تكن. * (برهانان) *: حجتان نيرتان. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: فذانك، بتشديد النون؛ وباقي السبعة: بتخفيفها. وقرأ ابن مسعود، وعيسى، وأبو نوفل، وابن هرمز، وشبل: فذانيك، بياء بعد النون المكسورة، وهي لغة هذيل. وقيل: بل لغة تميم، ورواها شبل عن ابن كثير، وعنه أيضا: فذانيك، بفتح النون
قبل الياء، على لغة من فتح نون التثنية، نحو قوله:
* على أحوذيين استقلت عشية وقرأ ابن مسعود: بتشديد النون مكسورة بعدها ياء. قيل: وهي لغة هذيل. وقال المهدوي: بل لغتهم تخفيفها. و * (إلى فرعون) *: يتعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره: اذهب إلى فرعون. * (قال رب إنى قتلت منهم نفسا) *: هو القبطي الذي وكزه فمات، فطلب من ربه ما يزداد به قوة، وذكر أخاه والعلة التي تكون له زيادة التبليغ. و * (أفصح) *: يدل على أنه فيه فصاحة، ولكن أخوة أفصح. * (فأرسله معى) *: أي معينا يصدقني، ليس المعنى أنه يقول لي: صدقت، إذ يستوي في قول هذا اللفظ العيي والفصيح، وإنما المعنى: أنه لزيادة فصاحته يبالغ في التبيان، وفي الإجابة عن الشبهات، وفي جداله الكفار. وقرأ الجمهور: ردأ، بالهمزة؛ وأبو جعفر، ونافع، والمدنيان: بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الدال؛ والمشهور عن أبي جعفر بالنقل، ولا همز ولا تنوين، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وقرأ عاصم، وحمزة: يصدقني، بضم القاف، فاحتمل الصفة لردأ، والحال احتمل الاستئناف وقرأ باقي السبعة: بالإسكان. وقرأ أبي، وزيد بن علي: يصدقوني، والضمير لفرعون وقومه. قال ابن خالويه: هذا شاهد لمن جزم، لأنهلو كان رفعا لقال: يصدقونني. انتهى، والجزم على جواب الأمر. والمعنى في يصدقوني: أرجو تصديقهم إياي، فأجابه تعالى إلى طلبته وقال: * (قال سنشد عضدك بأخيك) *. وقرأ زيد بن علي، والحسن: عضدك، بضمتين. وعن الحسن: بضم العين وإسكان الضاد. وعن بعضهم: بفتح العين وكسر الضاد؛ وفتحهما، قرأ به عيسى، ويقال فيه: عضد، بفتح العين وسكون الضاد، ولا أعلم أحدا قرأ به. والعضد: العضو المعروف، وهي قوام اليد، ويشدتها يشتد. قال الشاعر:
*
* أبني لبيني لستما بيد
*
إلا يدا ليست لها عضد
*
والمعنى فيه: سنقويك بأخيك. ويقال في الخير: شد الله عضدك، وفي الشر: فت الله في عضدك. والسلطان: الحجة والغلبة والتسليط. * (فلا يصلون إليكما) *: أي بسوء، أو إلى إذايتكما. ويحتمل * (بئاياتنا) * أن يتعلق بقوله: ويجعل، أو بيصلون، أو بالغالبون، وإن كان موصولا على مذهب من يجوز عنده أن يتقدم الظرف والجار والمجرور على صلة أل، وإن كان عنده موصولا على سبيل الاتساع، أو بفعل محذوف، أي اذهبا بآياتنا. كما علق في تسع آيات باذهب، أو على البيان، فالعامل محذوف، وهذه أعاريب منقولة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون قسما جوابه * (فلا يصلون) * مقدما عليه، أو من لغو القسم. انتهى. أما أنه قسم جوابه * (فلا يصلون) *، فإنه لا يستقيم على قول الجمهور، لأن جواب القسم لا تدخله الفاء. وأما قوله: أو من لغو القسم، فكأنه يريد والله أعلم. إنه لم يذكر له جواب، بل حذف لدلالة عليه، أي بآياتنا لتغلبن.
113

* (فلما جاءهم موسى بئاياتنا بينات قالوا ما هاذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهاذا فىءابائنا الاولين * وقال موسى ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون * وقال) *.
* (بئاياتنا) *: هي العصا واليد. * (بينات) *: أي واضحات الدلالة على صدقه، وأنه أمر خارق معجز، كفوا عن مقاومته ومعارضته، فرجعوا إلى البهت والكذب، ونسبوه إلى أنه سحر، لأنهم يرون الشيء على حالة، ثم يرونه على حالة أخرى، ثم يعود إلى الحالة الأولى، فزعموا أنه سحر يفتعله موسى ويفتريه على الله، فليس بمعجز. ثم مع دعواهم أنه سحر مفترى، وكذبهم في ذلك، أرادوا في الكذب أنهم ما سمعوا بهذا في آبائهم، أي في زمان آبائهم وأيامهم. وفي آبائنا: حال، أي بهذا، أي بمثل هذا كائنا في أيام آبائنا. وإذا نفوا السماع لمثل هذا في الزمان السابق، ثبت أن ما ادعاه موسى هو بدع لم يسبق إلى مثله، فدل على أنه مفترى على الله، وقد كذبوا في ذلك، وطرق سمعهم أخبار الرسل السابقين موسى في الزمان. ألا ترى إلى قول مؤمن من آل فرعون: * (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات) *؟
ولما رأى موسى ما قابلوه به من كون ما أتى به سحرا، وانتفاء سماع مثله في الزمان السابق، * (قال موسى * ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده) *، حيث أهله للرسالة، وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبي، ويعني بذلك نفسه، ولو كان كما يزعمون لم يرسله. ثم نبه على العلة الموجبة لعدم الفلاح، وهي الظلم. وضع الشيء غير موضعه، حيث دعوا إلى الإيمان بالله، وأتوا بالمعجزات، فادعوا الإلهية، ونسبوا ذلك المعجز إلى السحر. وعاقبة الدار، وإن كانت تصلح للمحمودة والمذمومة، فقد كثر استعمالها في المحمودة، فإن لم تقيد، حملت عليها. ألا ترى إلى قوله: * (أولئك لهم عقبى الدار * جنات عدن) *؟ وقال: * (وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) * وقرأ ابن كثير: قال موسى، بغير واو؛ وباقي السبعة: بالواو. ومناسبة قراءة الجمهور أنه لما جاءهم بالبينات قالوا: كيت وكيت، وقال موسى: كيت وكيت؛ فيتميز الناظر فصل ما بين القولين وفساد أحدهما، إذ قد تقابلا، فيعلم يقينا أن قول موسى هو الحق والهدى. ومناسبة قراءة ابن كثير، أنه موضع قراءة لما قالوا: كيت وكيت، قال موسى: كيت وكيت. ونفى فرعون علمه بإله غيره للملأ، ويريد بذلك نفي وجوده، أي ما لكم من إله غيري. ويجوز أن يكون غير معلوم عنده إله لهم، ولكنه مظنون، فيكون النفي على ظاهره، ويدل على ذلك قوله: * (وإنى لاظنه من الكاذبين) *، وهو الكاذب في انتفاء علمه بإله غيره. ألا ترى إلى قوله حالة غرقه: * (وجاوزنا ببنى إسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا * إسراءيل) *؟ واستمر
114

فرعون في مخرقته، ونادى وزيره هامان، وأمره أن يوقد النار على الطين. قيل: وهو أول من عمل الآجر، ولم يقل: أطبخ الآخر، لأنه لم يتقدم لهامان علم بذلك، ففرعون هو الذي يعلمه ما يصنع.
* (فاجعل لى صرحا) *: أي ابن لي، لعل أطلع إلى إله موسى. أوهم قومه أن إله موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه، وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكن له؛ وقومه لغباوتهم وجهلهم وإفراط عمايتهم، يمكن ذلك عندهم، ونفس إقليم مصر يقتضي لأهله تصديقهم بالمستحيلات وتأثرهم للموهمات والخيالات، ولا يشك أنه كان من قوم فرعون من يعتقد أنه مبطل في دعواه، ولكن يوافقه مخافه سطوه واعتدائه. كما رأيناه يعرض لكثير من العقلاء، إذا حدث رئيس بحضرته بحديث مستحيل، يوافقه على ذلك الحديث. ولا يدل الأمر ببناء الصرح على أنه بني، وقد اختلف في ذلك، فقيل: بناه، وذكر من وصفه بما الله أعلم به. وقيل: لم يبن. واطلع في معنى: اطلع، يقال: طلع إلى الجبل واطلع بمعنى واحد، أي صعد، فافتعل فيه بمعنى الفعل المجرد وبغير الحق، إذ ليس لهم ذلك، فهم مبطلون في استكبارهم، حيث ادعى الإلهية ووافقوه على ذلك؛ والكبرياء في الحقيقة إنما هو الله. وقرأ حمزة، والكسائي، ونافع: لا يرجون، مبنيا للفاعل؛ والجمهور: مبنيا للمفعول. والأرض هنا أرض مصر. * (فنبذناهم فى اليم) *: كناية عن إدخالهم في البحر حتى غرقوا، شبهوا بحصيات. قذفها الرامي من يده، ومنه نبذ النواة، وقول الشاعر:
* نظرت إلى عنوانه فنبذته
*
كنبذك نعلا من نعالك باليا
*
وقوم فرعون وفرعون، وإن ساروا إلى البحر باختيارهم في طلب بني إسرائيل، فإن ما ضمهم من القدر السابق، وإغراقهم في البحر، هو نبذ الله إياهم. وجعل هنا بمعنى: صبر، أي صيرناهم أئمة قدوة للكفار يقتدون بهم في ضلالتهم، كما أن للخير أئمة يقتدى بهم، اشتهروا بذلك وبقي حديثهم. وقال الزمخشري: وجعلناهم: دعوناهم، أئمة: دعاة إلى النار، وقلنا: إنهم أئمة دعاة إلى النار، وهو من قولك: جعله بخيلا وفاسقا إذا دعاه فقال: إنه بخيل وفاسق. ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله: جعله بخيلا وفاسقا، ومنه قوله عز وجل: * (وجعلوا الملئكة الذين هم عباد الرحمان إناثا) *. ومعنى دعوتهم إلى النار: دعوتهم إلى موجباتها من الكفر. انتهى. وإنما فسر جعلناهم بمعنى دعوناهم، لا بمعنى صيرناهم، جريا على مذهبه من الاعتزال، لأن في تصييرهم أئمة، خلق ذلك لهم. وعلى مذهب المعتزلة، لا يجوزون ذلك من الله، ولا ينسبونه إليه، قال: ويجوز خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر، ومعنى الخذلان: منع الإلطاف، وإنما يمنعها من علم أنه لا ينفع فيه، وهو المصمم على الكفر، الذي لا تغني عنه الآيات والنذر. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال أيضا. * (لعنة) *: أي طردا وإبعادا، وعطف يوم القيامة على: * (فى هاذه الدنيا) *. * (من المقبوحين) *، قال أبو عبيدة: من الهالكين. وقال ابن عباس: من المشوهين الخلقة، لسواد الوجوه وزرقة العيون. وقيل: من المبعدين.
ولما ذكر تعالى ما آل إليه فرعون وقومه من غضب الله عليهم وإغراقه، ذكر ما امتن به على رسوله موسى عليه السلام فقال: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب) *، وهو التوراة، وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائص والأحكام. * (من بعد ما أهلكنا القرون الاولى) *: قوم نوح وهود وصالح ولوط، ويقال: لم تهلك قرية بعد نزول التوراة غير القرية التي مسخ أهلها قردة. وانتصب بصائر على الحال، أي طرائق هدي يستبصر بها.
115

* (وما كنت بجانب الغربى إذ قضينا إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين * ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا فى أهل مدين تتلو * عليهم العمر وما كنت ثاويا * وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولاكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم) *.
لما قص الله تعالى من أنباء موسى وغرائب ما جرى له من الحمل به في وقت ذبح الأبناء، ورميه في البحر في تابوت، ورده إلى أمه، وتبني فرعون له، وإيتائه الحكم والعلم، وقتله القبطي، وخروجه من منشئه فارا، وتصاهره مع شعيب، ورعيه لغنمه السنين الطويلة، وعوده إلى مصر، وإضلاله الطريق، ومناجاة الله له، وإظهار تينك المعجزتين العظيمتين على يديه، وهي العصا واليد، وأمره بالذهاب إلى فرعون، ومحاورته معه، وتكذيب فرعون وإهلاكه وإهلاك قومه، والامتنان على موسى بإيتائه التوراة؛ وأوحى تعالى بجميع ذلك إلى محمد رسوله صلى الله عليه وسلم)؛ ذكره بإنعامه عليه بذلك، وبما خصه من الغيوب التي كان لا يعلمها لا هو ولا قومه فقال: * (وما كنت بجانب الغربى إذ قضينا إلى موسى الامر) *.
والأمر، قيل: النبوة والحكم الذي آتاه الله موسى. وقيل: الأمر: أمر محمد عليه السلام أن يكون من أمته، وهذا التأويل يلتئم معه ما بعده من قوله: * (ولكنا أنشأنا قرونا) *. وقيل: الأمر: هلاك فرعون بالماء، ويحمل بجانب الغربى على اليم، وبدأ أولا بنفي شيء خاص، وهو أنه لم يحضر وقت قضاء الله لموسى الأمر، ثم ثنى بكونه لم يكن من الشاهدين. والمعنى، والله أعلم؛ من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به، فهو نفي لشهادته جميع ما جرى لموسى، فكان عموما بعد خصوص. وبجانب الغربي: من إضافة الموصوف إلى صفته عند قوم، ومن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه عند قوم. فعلى القول الأول أصله بالجانب الغربي، وعلى الثاني أصله بجانب المكان الغربي، والترجيح بين القولين مذكور في النحو. والغربي، قال قتادة: غربي الجبل، وقال الحسن: بعث الله موسى بالغرب، وقال أبو عبيدة: حيث تغرب الشمس والقمر والنجوم. وقيل: هنا جبل غربي. وقيل: الغربي من الوادي، وقيل: من البحر. قال ابن عطية: المعنى: لم تحضر يا محمد هذه الغيوب التي تخبر بها، ولكنها صارت إليك بوحينا، أي فكان الواجب أن يسارع إلى الإيمان بك، ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها زمنا زمنا، فعزبت حلومهم، واستحكمت جهالتهم وضلالتهم. وقال الزمخشري: الغرب: المكان الواقع في شق الغرب
116

وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى من الطور، وكتب الله له في الألواح. والأمر المقضي إلى موسى: الوحي الذي أوحى إليه. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، يقول: وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى، ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه، أو على الوحي إليه، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات، حتى نقف من جملة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته، وكتب التوراة له في الألواح، وغير ذلك. فإن قلت: كيف يتصل قوله: * (ولكنا أنشأنا قرونا) * بهذا الكلام، ومن أي جهة يكون استدراكا؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكا من حيث أن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قرونا كثيرة، فتطاول على آخرهم، وهو القرن الذي أنت فيهم.
* (العمر) *: أي أمد انقطاع الوحي، واندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة النظرة، ودل به على المسبب على عادة الله في اختصاره. فإذن، هذا الاستدراك شبيه للاستدراكين بعده. * (وما كنت ثاويا) *: أي مقيما في أهل مدين، هم شعيب والمؤمنون. * (تتلو عليهم * ءاياتنا) *: تقرأ عليهم تعلما منهم، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه. ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها. * (إذ نادينا) *، يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه، ولكن علمناك. وقيل: * (فتطاول عليهم العمر) *، وفترت النبوة، ودرست الشرائع، وحرف كثير منها؛ وتمام الكلام مضمر تقديره: وأرسلناك مجددا لتلك الأخبار، مميزا للحق بما اختلف فيه منها، رحمة منا. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: وما كنت من الشاهدين في ذلك الزمان، وكانت بينك وبين موسى قرون تطاولت أعمارهم، وأنت تخبر الآن عن تلك الأحوال أخبار مشاهدة وعيان بإيحائنا، معجزة لك. وقيل: تتلو حال، وقيل: مستأنف، أي أنت الآن تتلو قصة شعيب، ولكنا أرسلناك رسولا، وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار المنسية تتلوها عليهم، ولولاك ما أخبرتهم بما لم يشاهدوه.
وقال الفراء: * (وما كنت ثاويا) * في أيهل مدين مع موسى، فتراه وتسمع كلامه، وها أنت * (تتلو عليهم * ءاياتنا) *: أي على أمتك، فهو منقطع. انتهى. قيل: وإذا لم يكن حاضرا في ذلك المكان، فما معنى: * (وما كنت من الشاهدين) *؟ فقال ابن عباس: التقدير: لم تحضر ذلك الموضع، ولو حضرت، فما شاهدت تلك الوقائع، فإنه يجوز أن يكون هناك: ولا يشهد ولا يرى. وقال مقاتل: لم يشهد أهل مدين فيقرأ على أهل مكة خبرهم، ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة، وأنزلنا إليك هذه الأخبار، ولولا ذلك ما علمت. وقال الضحاك: يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين، تتلو عليهم آيات الكتاب، وإنما كان غيرك، ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولا، فأرسلنا إلى مدين شعيبا، وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء. انتهى.
وقال الطبري: * (إذ نادينا) * بأن: * (خير للذين يتقون) *. وعن أبي هريرة: أنه نودي من السماء حينئذ يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني، وغفرت لكم قبل أن تسألوني، فحينئذ قال موسى عليه السلام: اللهم اجعلني من أمة محمد. فالمعنى: إذ نادينا بأمرك، وأخبرناك بنبوتك. وقرأ الجمهور: * (رحمة) *، بالنصب، فقدر: ولكن جعلناك رحمة، وقدر أعلمناك ونبأناك رحمة. وقرأ عيسى، وأبو حيوة: بالرفع، وقدر: ولكن هو رحمة، أو هو رحمة، أو أنت رحمة. * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير) *: أي في زمن الفترة بينك وبين عيسى، وهو خمسمائة وخمسون عاما ونحوه. وجواب * (لولا) * محذوف. والمعنى: لولا أنهم قائلون، إذ عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي، هلا أرسلت إلينا رسولا؟ لولا أنهم قائلون، إذ عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي، هلا أرسلت إلينا رسولا؟ محتجين بذلك علينا ما أرسلنا إليهم: أي إنما أرسلنا الرسل إزالة لهذا العذر، كما قال: * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *، أن * (تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) *. وتقدير الجواب: ما أرسلنا إليهم الرسل، هو قول الزجاج. وقال ابن عطية: تقديره: لعاجلناهم بما يستحقونه. والمصيبة: العذاب. ولما كان أكثر الأعمال تزاول بالأيدي، عبر عن كل عمل باجتراح الأيدي، حتى أعمال القلوب، اتساعا في الكلام، وتصيير الأقل تابعا للأكثر، وتغليب الأكثر على الأقل. والفاء في * (فيقولوا) * للعطف على نصيبهم، ولولا الثانية للتحضيض. وفنتبع: الفاء فيه جواب للتحضيض.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف استقام هذا المعنى، وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة، لما كانت هي السبب للقول
117

فكان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها لولا، وجئ بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ويؤول معناها إلى قولك: ولولا قولهم هذا، * (إذا أصابتهم مصيبة) * لما أرسلنا، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة، وهو أنهم لم يعاقبوا مثلا على كفرهم، وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين. لم يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير، لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم. وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخهم فيه ما لا يخفى، كقولهم: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) *. انتهى.
* (والحق) *: هو الرسول، محمد صلى الله عليه وسلم)، جاء بالكتاب المعجز الذي قطع معاذيرهم. وقيل: القرآن، * (مثل ما أوتى موسى) *. * (من قبل) *: أي من قبل الكتاب المنزل جملة واحدة، وانقلاب العصا حية، وفلق البحر، وغيرها من الآيات. اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والعناد، كما قالوا: لولا أنزل عليه كنز، وما أشبه ذلك من المقترحات لهم. وهذه المقالة التي قالوها هي من تعليم اليهود لقريش، قالوا لهم. ألا يأتي بآية باهرة كآيات موسى، فرد الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، وقد وقع منهم في آيات موسى ما وقع من هؤلاء في آيات الرسول. فالضمير في: * (أو لم * يكفروا) * لليهود، قاله ابن عطية: وقيل: قائل ذلك العرب بالتعليم، كما قلنا. وقيل: قائل ذلك اليهود، ويظهر عندي أنه عائد على قريش الذين قالوا: * (لولا أوتى) *: أي محمد، * (ما أوتى موسى) *، وذلك أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم) تكذيب لموسى عليه السلام، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى، إذ الأنبياء هم من واد واحد. فمن نسب إلى
أحد من الأنبياء ما لا يليق، كان ناسبا ذلك إلى جميع الأنبياء. وتتناسق الضمائر كلها في هذا، في قوله: * (قل فأتوا بكتاب من عند الله) * وإن كان الظاهر من القول إنه النطق اللساني، فقد ينطلق على الاعتقاد وهم من حيث إنكار النبوات، معتقدون أن ما ظهر على أيدي الأنبياء من الآيات إنما هو من باب السحر.
وقال الزمخشري: * (أو لم * يكفروا) *، يعني آباء جنسهم، ومن مذهبهم مذهبهم، وعنادهم عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى * (بما أوتى موسى) *. وعن الحسن: قد كان للعرب أصل في أيام موسى، فمعناه على هذا: أو لم يكفر آباؤهم؟ قالوا في موسى وهارون: * (وإن تظاهرا) *، أي تعاونا. انتهى. ومن قبل: يحتمل أن يتعلق بيكفروا، وبما أوتي. وقرأ الجمهور: ساحران. قال مجاهد: موسى وهارون. وقال الحسن: موسى وعيسى. وقال ابن عباس: موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم). وقال الحسن أيضا: عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وقرأ عبد الله، وزيد بن علي، والكوفيون: سحران. قال ابن عباس: التوراة والقرآن. وقيل: التوراة والإنجيل، أو موسى وهارون جعلا سحرين على سبيل المبالغة. * (تظاهرا) *: تعاونا. قرأ الجمهور: تظاهرا: فعلا ماضيا على وزن تفاعل. وقرأ طلحة، والأعمش: اظاهرا، بهمزة الوصل وشد الظاء، وكذا هي في حرف عبد الله، وأصله تظاهرا، فأدغم التاء في الظاء، فاجتلبت همزة الوصل لأجل سكون التاء المدغمة. وقرأ محبوب عن الحسن، ويحيى بن الحارث الذماري، وأبو حيوة، وأبو خلاد عن اليزيدي: تظاهرا بالتاء، وتشديدالظاء. قال ابن خالويه: وتشديده لحن لأنه فعل ماض، وإنما يشدد في المضارع. وقال صاحب اللوامح: ولا أعرف وجهه. وقال صاحب الكامل في القراءات: ولا معنى له. انتهى. وله تخريج في اللسان، وذلك أنه مضارع حذفت منه النون، وقد جاء حذفها في قليل من الكلام وفي الشعر، وساحران خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنتما ساحران تتظاهران؛ ثم أدغمت التاء في الظاهر وحذفت النون، وروعي ضمير الخطاب. ولو قرىء: يظاهرا، بالياء، حملا على مراعاة ساحران، لكان له وجه، أو على تقدير هما ساحران تظاهرا.
* (وقالوا إنا بكل كافرون) *: أي بكل من الساحرين أو السحرين، ثم أمره تعالى أن يصدع بهذه الآية، وهي قوله: * (قل فأتوا) *: أي أنتم أيها المكذبون، بهذه الكتب التي تضمنت الأمر بالعبادات ومكارم الأخلاق، ونهت عن الكفر والنقائص، ووعد الله عليها الثواب الجزيل. إن كان تكذيبكم لمعنى * (فأتوا بكتاب من عند الله) * يهدي أكثر من هدي هذه، أتبعه معكم. والضمير في منها عائد على ما أنزل على موسى، وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم، وتعليق إتيانهم بشرط الصدق أمر متحقق
118

متيقن، أنه لا يكون ولا يمكن صدقهم، كما أنه لا يمكن أن يأتوا بكتاب من عند الله يكون أهدى من الكتابين. ويجوز أن يراد بالشرط التهكم بهم. وقرأ زيد بن علي: أتبعه، برفع العين الاستئناف، أ ي أنا أتبعه. * (فإن لم يستجيبوا لك) *، قال ابن عباس: يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج، ولم يمكنهم أن يأوا بكتاب هو أفضل، والاستجابة تقتضي دعاء، وهو صلى الله عليه وسلم) يدعو دائما إلى الإيمان، أي فإن لم يستجيبوا لك بعدما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي أنزل، أو يكون قوله: * (فأتوا بكتاب) *، هو الدعاء إذ هو طلب منهم ودعاء لهم بأن يأتوا به. ومعلوم أنهم لا يستجيبون لأن يأتوا بكتاب من عند الله، فاعلم أنه ليس لهم إلا اتباع هوى مجردغ، لا اتباع دليل. واستجاب: بمعنى أجاب، ويعدى للداعي باللام ودونها، كما قال: * (فاستجاب له ربه) *، * (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى) *، * (فإن لم يستجيبوا * لكم) *. وقال الشاعر:
* فلم يستجبه عند ذاك مجيب
*
فعداه بغير لام. وقال الزمخشري: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه، واستجاب له، فلا يكاد يقال استجاب له دعاءه. وأما البيت فمعناه: فلم يستجب دعاء، على حذف المضاف. انتهى. * (ومن أضل) *: أي لا أحد أضل، و * (بغير هدى) *: في موضع الحال، وهذا الحال قيد في اتباع الهوى، لأنه قد يتبع الإنسان ما يهواه، ويكون ذلك الذي يهواه فيه هدى من الله، لأن الأهواء كلها تنقسم إلى ما يكون فيه هدى وما لا يكون فيه هدى، فلذلك قيد بهذه الحال. وقال الزمخشري: يعني مخذولا مخلى بينه وبين هواه. انتهى، وهو على طريق الاعتزال.
* (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون * الذين ءاتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا ءامنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا * صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين * إنك لا تهدى من أحببت ولاكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين * وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما ءامنا يجبى إليه ثمرات كل شىء رزقا من لدنا ولاكن أكثرهم لا يعلمون) *.
قرأ الجمهور: * (وصلنا) *، مشدد الصاد؛ والحسن: بتخفيفها، والضمير في لهم لقريش. وقال رفاعة القرظي: نزلت في عشرة من اليهود، أنا أحدهم. قال الجمهور: وصلنا: تابعنا القرآن موصولا بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام. وقال الحسن: وفي ذكر الأمم المهلكة. وقال مجاهد: جعلناه أوصالا من حيث كان أنواعا من القول في معان مختلفة. وقال ابن زيد: وصلنا لهم خبر الآخرة بخبر الدنيا، حتى كأنهم عاينوا الآخرة. وقال الأخفش: أتممنا لوصلك الشيء بالشيء، وأصل التوصل في الحبل، يوصل بعضه ببعض. وقال الشاعر
119

* فقل لبني مروان ما بال ذمتي
*
بحبل ضعيف لا يزال يوصل
*
وهذه الأقوال معناها: توصيل المعاني فيه بها إليهم. وقالت فرقة: التوصيل بالنسبة إلى الألفاظ، أي وصلنا لهم قولا معجزا دالا على نبوتك. وأهل الكتاب هنا جماعة من اليهود أسلمت، وكان الكفار يؤذونهم. أو بحيرا الراهب، أو النجاشي، أو سلمان الفارسي. وابن سلام، وأبو رفاعة، وابنه في عشرة من اليهود أسلموا. أو أربعون من أهل الإنجيل كانوا مؤمنين بالرسول قبل مبعثه، اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب، وثمانية قدموا من الشام: بحيرا، وأبرهة، وأشرف، وأربد، وتمام، وإدريس، ونافع، ورادأ ابن سلام، وتميم الداري، والجارود العبدي، وسلمان، سبعة أقوال آخرها لقتادة. والظاهر أنها أمثلة لمن آمن منهم، والضمير في به عائد على القول، وهو القرآن. وقال الفراء: عائد على الرسول، وقال أيضا: إن عاد على القرآن، كان صوابا، لأنهم قد قالوا: إنه الحق من ربنا. انتهى.
* (إنه الحق من ربنا) *: تعليل للإيمان به، لأن كونه حقا من الله حقيق بأن نؤمن به. * (إنا كنا من قبله مسلمين) *: بيان لقوله: * (به إنه) *، أي إيماننا به متقادم، إذ كان الآباء الأقدمون إلى آبائنا قرأوا ما في الكتاب الأول، وأعلموا بذلك الأبناء، فنحن مسلمون من قبل نزوله وتلاوته علينا، والإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي. وإيتاء الأجر مرتين، لكونه آمن بكتابه وبالقرآن؛ وعلل ذلك بصبرهم: أي على تكاليف الشريعة السابقة لهم، وهذه الشريعة وما يلقون من الأذى. وفي الحديث: (ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي)، الحديث. * (* ويدرأون) *: يدفعون، * (ويدرءون بالحسنة) *: بالطاعة، * (السيئة) *: المعصية المتقدمة، أو بالحلم الأذى، وذلك من مكارم الأخلاق. وقال ابن مسعود: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك. وقال ابن جبير: بالمعروف المنكر. وقال ابن زيد: بالخير الشر. وقال ابن سلام: بالعلم الجهل، وبالكظم الغيظ. وفي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم)، لمعاذ: (أتبع السيئة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن). و * (اللغو) *: سقط القول. وقال مجاهد: الأذى والسب. وقال الضحاك: الشرك. وقال ابن زيد: ما غيرته اليهود من وصف الرسول، سمعه قوم منهم، فكرهوا ذلك وأعرضوا. * (ولكم أعمالكم) *: خطاب لقائل اللغو المفهوم ذلك من قوله: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) *.
* (سلام عليكم) *، قال الزجاج: سلام متاركة لإسلام تحية. * (لا نبتغى الجاهلين) *: أي لا نطلب مخالطتهم. * (إنك لا تهدى) * من أحببت: أي لا تقدر على خلق الهداية فيه، ولا تنافي بين هذا وبين قوله: * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) *، لأن معنى هذا: وإنك لترشد. وقد أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب، وحديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، حالة أن مات، مشهور. وقال الزمخشري: لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت، لأنك لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره، ولكن الله يدخل في الإسلام من يشاء، وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه، وأن الألطاف تنفع فيه، فتقرب به ألطافه حتى يدعوه إلى القبول. * (وهو أعلم بالمهتدين) *: بالقابلين من الذين لا يقبلون. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال في أمر الألطاف. وقالوا: الضمير في وقالوا لقريش. وقيل، القائل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف: إنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب، فذلك وإنما نحن أكلة رأس، أي قليلون أن يتخطفونا من أرضنا.
وقولهم: * (الهدى معك) *: أي على زعمك، فقطع الله حجتهم، إذ كانوا، وهم كفار بالله، عباد أصنام قد أمنوا في حرمهم، والناس في غيره يتقاتلون، وهم مقيمون في بلد غير
120

ذي زرع، يجيء إليهم ما يحتاجون من الأقوات، فكيف إذا آمنوا واهتدوا؟ فهو تعالى يمهد لهم الأرض ويملكهم الأرض، كما وعدهم تعالى، ووقع على وعد به؛ ووصف الحرم بالأمن مجاز، إذ الآمنون فيه هم ساكنوه. و * (ثمرات كل شىء) *: عام مخصوص، يراد به الكثرة. وقرأ المنقري: يتخطف، برفع الفاء، مثل قوله تعالى: * (أينما تكونوا يدرككم) *، برفع الكاف، أي فيدرككم، أي فهو يدرككم. وقوله: من يفعل الحسنات الله يشكرها: أي فيتخطف، وفالله يشكرها، وهو تخريج شذوذ. وقرأ نافع وجماعة، عن يعقوب؛ وأبو حاتم، عن عاصم: تجبى، بتاء التأنيث، والباقون بالياء. وقرأ الجمهور: ثمرات، بفتحتين؛ وأبان بن تغلب: بضمتين؛ وبعضهم: بفتح الثاء وإسكان الميم. وانتصب رزقا على أنه مصدر من المعنى، لأن قوله: * (يجبى إليه ثمرات) *: أي برزق ثمرات، أو على أنه مفعول له، وفاعل الفعل المعلل محذوف، أي نسوق إليه ثمرات كل شيء، وإن كان الرزق ليس مصدرا، بل بمعنى المرزوق، جاز انتصابه على الحال من ثمرات، ويحسن لك تخصيصا بالإضافة. و * (أكثرهم لا يعلمون) *: أي جهلة، بأن ذلك الرزق هو من عندنا.
* (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين * وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث فى أمها رسولا يتلو عليهم ءاياتنا وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها) *.
هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش، فعظموا النعمة، وقابلوها بالأشر والبطر، فدمرهم الله وخرب ديارهم. و * (معيشتها) * منصوب على التمييز، على مذهب الكوفيين؛ أو مشبه بالمفعول، على مذهب بعضهم؛ أو مفعول به على تضمين * (بطرت) * معنى فعل متعد، أي خسرت معيشتها، على مذهب أكثر البصريين؛ أو على إسقاط في، أي في معيشتها، على مذهب الأخفش؛ أو على الظرف، على تقدير أيام معيشتها، كقولك: جئت خفوق النجم، على قول الزجاج. * (فتلك مساكنهم) *: أشار إليها، أي ترونها خرابا، تمرون عليها كحجر ثمود، هلكوا وفنوا،
وتقدم ذكر المساكن. و * (تسكن) *، فاحتمل أن يكون الاستثناء في قوله: * (إلا قليلا) * من المساكن: أي إلا سكنى قليلا، أي لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق. * (وكنا نحن الوارثين) *: أي لتلك المساكن وغيرها، كقوله: * (إنا نحن نرث الارض) *، خلت من ساكنيها فخربت.
* تتخلف الآثار عن أصحابها
*
حينا ويدركها الفناء فتتبع
*
والظاهر أن القرى عامة في القرى التي هلكت، فالمعنى أنه تعالى لا يهلكها في كل وقت. حتى يبعث في أم تلك القرى، أي كبيرتها، التي ترجع تلك القرى إليها، ومنها يمتارون، وفيها عظيمهم الحاكم على تلك القرى. * (حتى يبعث فى أمها رسولا) *، لإلزام الحجة وقطع المعذرة. ويحتمل أن يراد بالقرى: القرى التي في عصر الرسول، فيكون أم القرى:
121

مكة، ويكون الرسول: محمدا صلى الله عليه وسلم)، خاتم الأنبياء، وظلم أهلها: هو بالكفر والمعاصي. * (وما أوتيتم من شىء) *: أي حسن يسركم وتفخرون به، * (فمتاع الحيواة الدنيا وزينتها) *: تمتعون أياما قلائل، * (وما عند الله) *: من النعيم الدائم الباقي المعد للمؤمنين، * (خير) *. من متاعكم، * (أفلا تعقلون) *: توبيخ لهم. وقرأ أبو عمرو: يعقلون، بالياء، إعراض عن خطابهم وخطاب لغيرهم، كأنه قال: انظروا إلى هؤلاء وسخافة عقولهم. وقرأ الجمهور: بالتاء من فوق، على خطابهم وتوبيخهم، في كونهم أهملوا العقل في العاقبة. ونسب هذه القراءة أبو علي في الحجة إلى أبي عمرو وحده، وفي التحرير والتحبير بين الياء والتاء، عن أبي عمرو. وقرئ: متاعا الحياة الدنيا، أي يمتعون متاعا في الحياة الدنيا، فانتصب الحياة الدنيا على الظرف.
* (أفمن وعدناه) *: يذكر تفاوت ما بين الرجلين من وعد، * (وعدا حسنا) *، وهو الثواب، فلاقاه، ومن متع في الحياة الدنيا، ثم أحضر إلى النار. وظاهر الآية العموم في المؤمن والكافر. قيل: ونزلت في الرسول صلى الله عليه وسلم)، وأبي جهل. وقيل: في حمزة وأبي جهل. وقيل: في علي وأبي جهل. وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة. وقيل: نزلت في المؤمن والكافر، وغلب لفظ المحضر في المحضر إلى النار كقوله: * (لكنت من المحضرين) *، * (فكذبوه فإنهم لمحضرون) *. والفاء في: * (أفمن) *، للعطف، لما ذكر تفاوت ما بين ما أوتوا من المتاع والزينة، وما عند الله من الثواب، قال: أفبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا؟ والفاء في: * (فهو لاقيه) *، للتسبيب، لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخبر، وثم للتراخي حال الإحضار عن حال التمتع بتراخي وقته عن وقته. وقرأ طلحة: أمن وعدناه، بغير فاء.
* (ويوم يناديهم فيقول أين شركائى الذين كنتم تزعمون * قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون * وقيل) *.
122

لما ذكر أن الممتعين في الدنيا يحضرون إلى النار، ذكر شيئا من أحوال يوم القيامة، أي واذكر حالهم يوم يناديهم الله، ونداؤه إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وبغير واسطة؛ * (فيقول أين شركائى) *؟ أي على زعمكم، وهذا الاستفهام على جهة التوبيخ والتقريع؛ والشركاء هم من عبدوه من دون الله، من ملك، أو جن، أو إنس، أو كوكب، أو صنم، أو غير ذلك. ومفعولا * (تزعمون) * محذوفان، أحدهما العائد على الموصول، والتقدير: تزعمونهم شركاء. ولما كان هذا السؤال مسكتا لهم، إذ تلك الشركاء التي عمدوها مفقودون، هم أوجدوا هم في الآخرة حادوا عن الجواب إلى كلام لا يجدي.
* (قال الذين حق عليهم القول) *: أي الشياطين، وأئمة الكفر ورؤوسه؛ وحق: أي وجب عليهم القول، أي مقتضاه، وهو قوله: * (لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *. و * (هؤلاء) *: مبتدأ، و * (الذين أغوينا) *: هم صفة، و * (أغويناهم كما غوينا) *: الخبر، و * (كما غوينا) *: صفة لمطاوع أغويناهم، أي فغووا كما غوينا، أي تسببنا لهم في الغي فقبلوا منا. وهذا الإعراب قاله الزمخشري. وقال أبو علي: ولا يجوز هذا الوجه، لأنه ليس في الخبر زيادة على ما في صفة المبتدأ. قال: فإن قلت: قد وصلت بقوله: * (كما غوينا) *، وفيه زيادة. قيل: الزيادة بالظرف لا تصيره أصلا في الجملة، لأن الظروف صلات، وقال هو: * (الذين أغوينا) * هو الخبر، و * (أغويناهم) *: مستأنف. وقال غير أبي علي: لا يمتنع الوجه الأول، لأن الفضلات في بعض المواضع تلزم، كقولك: زيد عمرو قائم في داره. انتهى. والمعنى: هؤلاء أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان، كما آثرناه نحن، ونحن كنا السبب في كفرهم، فقبلوا منا. وقرأ أبان، عن عاصم وبعض الشاميين: كما غوينا، بكسر الواو. قال ابن خالويه: وليس ذلك مختارا، لأن كلام العرب: غويت من الضلالة، وغويت من البشم. ثم قالوا: * (تبرأنا إليك) *، منهم ما كانوا يعبدوننا، إنما عبدوا غيرنا، و * (إيانا) *: مفعول * (يعبدون) *، لما تقدم الفصل، وانفصاله لكون يعبدون فاصلة، ولو اتصل، ثم لم يكن فاصلة. وقال الزمخشري: إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم؛ وإخلاء الجملتين من العاطف، لكونهما مقرونين لمعنى الجملة الأولى. انتهى.
* (وقيل ادعوا شركاءكم) *: لما سئلوا ابن شركاؤكم وأجابوا بغير جواب، سئلوا ثانيا فقيل: ادعوا شركاءكم، وأضاف الشركاء إليهم، أي الذين جعلتموهم شركاء لله. وقوله: * (ادعوا شركاءكم) *، على سبيل التهكم بهم، لأنه يعلم أنه لا فائدة في دعائهم، * (فدعوهم) *، هذا لسخافة عقولهم في ذلك الموطن أيضا، إذ لم يعلموا أن من كان موجودا منهم في ذلك الموطن لا يجيبهم، والضمير في * (ورأوا) *. قال الضحاك ومقاتل: هو للتابع والمتبوع، وجواب لو محذوف، والظاهر أن يقدر مما يدل عليه مما يليه، أي لو كانوا مؤمنين في الدنيا، ما رأوا العذاب في الآخرة. وقيل: التقدير: لو كانوا مهتدين بوجه من وجوه الحيل، لدفعوا به العذاب
. وقيل: لعلموا أن العذاب حق. وقيل: لتحيروا عند رؤيته من فظاعته، وإن لم يعذبوا به، وقيل: ما كانوا في الدنيا عابدين الأصنام. وقال أبو عبد الله الرازي: وعندي أن الجواب غير محذوف، وفي تقريره وجوه: أحدها: أن الله إذا خاطبهم بقوله: * (ادعوا شركاءكم) *، اشتد خوفهم ولحقهم شيء بحيث لا يبصرون شيئا، لا جرم ما رأوا العذاب. وثانيها: لما ذكر الشركاء، وهي الأصنام، وأنهم لا يجيبون الذين دعوهم، قال في حقهم: * (ورأوا العذاب) *، لو كانوا من الأحياء المهتدين، ولكنها ليست كذلك، ولا جرم ما رأت العذاب. والضمير في رأوا، وإن كان للعقلاء، فقد قال: ودعوهم وهم للعقلاء. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقد أثنى على هذا الذي اختاره، وليس بشيء، لأنه بناه على أن الضمير
123

في رأوا عائد على المدعوين، قال: وهم الأصنام. والظاهر أنه عائد على الداعين، كقوله: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب) *، ولأن حمل مهتدين على الأحياء في غاية البعد، لأن ما قدره هو جواب، ولا يشعر به أنه جواب، إذ صار التقدير عنده: لو كانوا من الأحياء رأوا العذاب، لكنها ليست من الأحياء، فلا ترى العذاب. ألا ترى إلى قوله: فلا جرم ما رأت العذاب؟
* (ويوم يناديهم) *: هذا النداء أيضا قد يكون بواسطة من الملائكة، أو بغير واسطة. حكى أولا ما يوبخهم من اتخاذهم له شركاء، ثم ما يقوله رؤوس الكفر عند توبيخهم، ثم استعانتهم بشركائهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزالة العلل. وقرأ الجمهور: * (فعميت) * بفتح العين وتخفيف الميم. وقرأ الأعمش، وجناح بن حبيش، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير: بضم العين وتشديد الميم، والمعنى: أظلمت عليهم الأمور، فلم يستطيعوا أن يخبروا بما فيه نجاة لهم، وأتى بلفظ الماضي لتحقق وقوعه. * (فهم لا يتساءلون) *، وقرأ طلحة: يساءلون، بإدغام التاء في السين: أي لا يسأل بعضهم بعضا فيما يتحاجون به، إذا أيقنوا أنه لا حجة لهم، فهم في عمى وعجز عن الجواب. والمراد بالنبأ: الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله. ولما ذكر تعالى أحوال الكفار يوم القيامة، وما يكون منهم فيه، أخبر بأن من تاب من الشرك وآمن وعمل صالحا، فإنه مرجو له الفلاح والفوز في الآخرة، وهذا ترغيب للكافر في الإسلام، وضمان له للفلاح. ويقال: إن عسى من الله واجبة.
* (وربك يخلق ما يشاء ويختار) *: نزلت بسبب ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي صلى الله عليه وسلم)، وقول بعضهم: * (لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم) *، وقائل ذلك الوليد بن المغيرة. قال القرطبي: هذا متصل بذكر الشركاء الذين دعوهم واختاروهم للشفاعة، أي الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء، لا إلى المشركين. وقيل: هو جواب لليهود، إذ قالوا: لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل، لأمنا به، ونص الزجاج، وعلي بن سليمان، والنحاس: على أن الوقف على قوله: * (ويختار) * تام، والظاهر أن ما نافية، أي ليس لهم الخيرة، إنما هي لله تعالى، كقوله: * (ما كان لهم الخيرة) * من أمرهم. وذهب الطبري إلى أن ما موصولة منصوبة بيختار، أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس، كما لا يختارون هم ما ليس إليهم، ويفعلون ما لم يؤمروا به. وأنكر أن تكون ما نافية، لئلا يكون المعنى: إنه لم تكن لهم الخير فيما مضى، وهي لهم فيما يستقبل، ولأنه لم يتقدم كلام ينفي. وروي عن ابن عباس معنى ما ذهب إليه الطبري، وقد رد هذا القول تقدم العائد على الموصول، وأجيب بأن التقدير: ما كان لهم فيه الخيرة، وحذف لدلالة المعنى. قال الزمخشري: كما حذف من قوله: * (إن ذلك لمن عزم الامور) *، يعني: أن التقدير أن ذلك فيه لمن عزم الأمور. وأشد القاسم ابن معن بيت عنترة:
* أمن سمية دمع العين تذريف
*
لو كان ذا منك قبل اليوم معروف
*
وقرن الآية بهذا البيت. والرواية في البيت: لو أن ذا، ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن يكون في كان ضمير الشأن. فأما في الآية، فقال ابن عطية: تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف. قال ابن عطية: ويتجه عندي أن تكون ما مفعولة، إذا قدرنا كان تامة، أي أن الله تعالى يختار كل كائن، ولا يكون شيء إلا بإذنه. وقوله: * (لهم الخيرة) *: جملة مستأنفة معناها: تعديد النعمة عليهم في اختيار الله لهم، لو قبلوا وفهموا. انتهى. يعني: والله أعلم خيرة الله لهم، أي لمصلحتهم. والخيرة من التخير، كالطيرة من التطير، يستعملان بمعنى المصدر؛ والجمل التي بعد هذا تقدم الكلام عليها. والحمد في الآخرة قولهم: * (الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن) *، * (الحمد لله الذى صدقنا وعده) *
124

* (الحمد * الله رب العالمين) *، والتحميد هنالك على سبيل اللذة، لا التكليف. وفي الحديث: (يلهمون التسبيح والتقديس). وقرأ ابن محيصن: ما تكن، بفتح التاء وضم الكاف.
* (وله الحكم) *: أي القضاء بين عباده والفصل. و * (أرءيتم) *: بمعنى أخبرون، وقد يسلط على الليل * (أرءيتم) * و * (جعل) *، إذ كان منهما يقتضيه، فأعمل الثاني. وجملة أرأيتم الثانية هي جملة الاستفهام، والعائد على الليل محذوف تقديره: من إله غير الله يأتيكم بضياء بعده، ولا يلزم في باب التنازع أن يستوي المتنازعان في جهة التعدي مطلقا، بل قد يختلف الطلب، فيطلبه هذا على جهة الفاعلية، وهذا على جهة المفعولية، وهذا على جهة المفعول، وهذا على جهة الظرف. وكذلك أرأيتم ثاني مفعولية جملة استفهامية غالبا، وثاني جعل إن كانت بمعنى صير لا يكون استفهاما، وإن كانت بمعنى خلق وأوجد وانتصب ما بعد مفعولها، كان ذلك المنتصب حالا. و * (سرمدا) *، قيل: من السرمد، فميمه زائدة، ووزنه فعمل، ولا يزاد وسطا ولا آخرا بقياس، وإنما هي ألفاظ تحفظ مذكورة في علم
التصريف. وأتى * (بضياء) *، وهو نور الشمس، ولم يجئ التركيب بنهار يتصرفون فيه، كما جاء * (بليل تسكنون فيه) *، لأن منافع الضياء متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء. * (أفلا تسمعون) *؟ لأن السمع يدرك ما يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل. * (أفلا تبصرون) *؟ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه، قال الزمخشري. و * (من رحمته) *، من هنا للسبب، أي وبسبب رحمته إياكم، * (جعل لكم اليل والنهار) *، ثم علل جعل كل واحد منهما، فبدأ بعلة الأول، وهو الليل، وهو: * (لتسكنوا فيه) *، ثم بعلة الثاني وهو: ولتبتغوا من فضله، ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو: * (ولتبتغوا من فضله) *، ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو: * (لعلكم تشكرون) *، أي هذه الرحمة والنعمة. وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير، وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها، ومنه قول ابن جيوش:
* ومقرطق يغني النديم بوجهه
*
عن كأسه الملأى وعن إبريقه
*
* فعل المدام ولونها ومذاقها
*
في مقلتيه ووجنتيه وريقه
*
والضمير في * (فيه) * عائد على الليل، وفي * (فضله) * يجوز أن يكون عائدا على الله، والتقدير: من فضله، أي من فضل الله فيه، أي في النهار؛ وحذف لدلالة المعنى، ولدلالة لفظ فيه السابق عليه. ويحتمل أن يعود على النهار، أي من فضل النهار، ويكون أضافه إلى ضمير النهار على سبيل المجاز. لما كان الفضل حاصلا فيه، أضيف إليه، كقوله: * (بل مكر اليل والنهار) *.
* (ويوم يناديهم فيقول أين شركائى الذين كنتم تزعمون * ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون * إن قارون * كل من * قوم موسى فبغى عليهم وءاتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا (سقط: لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين إلى آخر الآية)) *.
125

(سقط: الآية كاملة)
تقدم الكلام على قوله: * (ويوم يناديهم) *: وكرر هنا على جهة الإبلاغ والتأكيد. * (ونزعنا) *: أي ميزنا وأخرجنا بسرعة من كل أمة من الأمم. * (شهيدا) *: وهو نبي تلك الأمة، لأنه هو الشهيد عليها، كما قال: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا؟ وقيل: عدولا وخيارا. والشهيد على هذا اسم الجنس، والشهيد يشهد على تلك الأمة بما صدر منها، وما أجابت به لما دعيت إلى التوحيد، وأنه قد بلغهم رسالة ربهم. * (فقلنا) *: أي للملأ، * (هاتوا برهانكم) *: أي حجتكم فيما كنتم عليه في الدنيا من الكفر ومخالفة هذا الشهيد، * (فعلموا أن الحق لله) *، لا لأصنامهم وما عبدوا من دون الله. * (وضل عنهم) *: أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع، * (ما كانوا يفترون) * من الكذب والباطل.
وقارون أعجمي: منع الصرف للعجمة والعلمية. وقيل: ومعنى كان من قومه: أي ممن آمن به. قال ابن عطية: وهو إسرائيلي بإجماع. انتهى. واختلف في قرابته من موسى عليه السلام، إختلافا مضطربا متكاذبا، وأولاها: ما قاله ابن عباس أنه ابن عمه، وهو قارون ابن يصهر بن قاهث، جد موسى، لأن النسابين ذكروا نسبة كذلك، وكان يسمى المنور لحسن صورته، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم، فنافق كما نافق السامري. * (فبغى عليهم) *: ذكروا من أنواع بغيه الكفر والكبر، وحسده لموسى على النبوة، ولهارون على الذبح والقربان، وظلمه لبني إسرائيل حين ملكه فرعون عليهم، ودسه بغيا تكذب على موسى أنه تعرض لها، وتفضحه بذلك في ملأ من بني إسرائيل، ومن تكبره أن زاد في ثيابه شبرا. * (إن قارون كان) *، قيل: أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليه السلام. وقيل: سميت أمواله كنوزا، إذ كان ممتنعا من أداء الزكاة، وبسبب ذلك عادى موسى عليه السلام أول عداوته. وما موصوله، صلتها إن ومعمولاها. وقال النحاس: سمعت علي بن سليمان، يعني الأخفش الصغير، يقول: ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات، أنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه، وفي القرآن: * (ما إن مفاتحه) *. انتهى. وتقدم الكلام في مفاتح في سورة الأنعام، وقالوا هنا: مقاليد خزائنه. وقال السدي: هي الخزائن نفسها. وقال الضحاك: ظروفه وأوعيته. وقرأ الأعمش: مفاتيحه، بياء، جمع مفتاح، وذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب، أو يقارب الكذب، فلم أكتبه. قال أبو زيد: نؤت بالعمل إذا نهضت به. قال الشاعر:
* إذا وجدنا خلفا بئس الخلف
*
عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
*
ويقول: ناء ينوء، إذا نهض بثقل. قال الشاعر:
126

* تنوء بأحراها فلأيا قيامها
*
وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر
*
وقال أبو عبيدة: هو مقلوب وأصله: لتنوء بها العصبة، أي تنهض، والقلب عند أصحابنا بابه الشعر. والصحيح أن الباء للتعدية، أي لتنيء العصبة، كما تقول: ذهبت به وأذهبته، وجئت به وأجأته. ونقل هذا عن الخليل وسيبويه والفراء، واختاره النحاس، وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي، وتقول العرب: ناء الحمل بالبعير إذا أثقله. قال ابن عطية: ويمكن أن يسند تنوء إلى المفاتح، لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها، وذا مطرد في ناء الحمل بالبعير ونحوه، فتأمله. وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء، بالياء، وتذكيره راعى المضاف المحذوف، التقدير: ما إن حمل مفاتحه، أو مقدارها، أو نحو ذلك. وقال الزمخشري: ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن، ويعطيها حكم ما أضيف إليه للملابسة والإيصال، كقوله: ذهبت أهل اليمامة. انتهى. يعني: أنه اكتسب المفاتح التذكير من الضمير الذي لقارون، كما اكتسب أهل التأنيث من إضافته إلى اليمامة، فقيل فيه، ذهبت. وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ: ما إن مفتاحه، على الإفراد، فلا تحتاج قراءته لينوء بالياء إلى تأويل. وتقدم تفسير العصبة في سورة يوسف عليه السلام. وتقدم قبل تفسير المفاتح، أهي المقاليد، أو الخزائن نفسها، أو الظروف والأوعية؟ وعن ابن عباس والحسن: أن المفاتح هي الأموال.
قال ابن عباس: كانت خزائنه تحملها أربعون أقوياء، وكانت أربعمائة ألف، يحمل كل رجل عشرة آلاف. وقال أبو مسلم: المراد من المفاتح: العلم والإحاطة، كقوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب) *، والراد: وآتيناه من الكنوز، ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة، أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها، يتعب حفظها القائمين على حفظها. * (إذ قال له قومه لا تفرح) *: نهوه عن الفرح المطغى الذي هو إنهماك وانحلال نفس وأشر وإعجاب، وإنما يفرح بإقبال الدنيا عليه من اطمأن إليها وغفل عن أمر الآخرة، ومن جعل أنه مفارق زهرة الدنيا عن قريب، فلا يفرح بها. وقال أبو الطيب:
* أشد الغم عندي في سرور
*
تيقن عنه صاحبه انتقالا
*
قال الزمخشري: ومحل إذ منصوب بتنوء. انتهى، وهذا ضعيف جدا، لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيدا بوقت قول قومه له: * (لا تفرح) *. وقال ابن عطية: متعلق بقوله: * (فبغى عليهم) *، وهو ضعيف أيضا، لأن بغيه عليهم لم يكن مقيدا بذلك الوقت. وقال الحوفي: الناصب له محذوف تقديره أذكر. وقال أبو البقاء: * (إذ قال له) * ظرف لآتيناه، وهو ضعيف أيضا، لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول. وقال أيضا: ويجوز أن يكون ظرفا لفعل محذوف دل عليه الكلام، أي بغى عليهم، * (إذ قال له قومه) *. انتهى. ويظهر أن يكون تقديره: فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز، * (إذ قال له قومه لا تفرح) *. وقال تعالى: * (ولا تفرحوا بما ءاتاكم) *، والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير. وقال الشاعر:
* ولست بمفراح إذا الدهر سرني
*
ولا جازع من صرفه المتحول
*
وقال الآخر:
127

* إن تلاق منفسا لا تلقنا
*
فرح الخير ولا نكبوا الضر
*
وقرئ: الفارحين، حكاه عيسى بن سليمان الحجازي. و * (لا يحب) *: صفة فعل، لا صفة ذات، بمعنى الإرادة، لأن الفرح أمر قد وقع، فالمعنى: لا يظهر عليهم بركته، ولا يعمهم رحمته. ولما نهوه عن الفرح المطغى، أمروه بأن يطلب، فيما آتاه الله من الكنوز وسعة الرزق، ثواب الدار الآخرة، بأن يفعل فيه أفعال البر، وتجعله زادك إلى الآخرة. * (ولا تنس نصيبك من الدنيا) *، قال ابن عباس، والجمهور: معناه: ولا تضيع عمرك في أن لا تعمل صالحا في دنياك، إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها، وهذا التأويل فيه عظة. وقال الحسن، وقتادة: معناه: لا تضيع حظك من الدنيا في تمتعك بالحلال
وطلبك إياه ونظرك لعاقبة دنياك، وفي هذا التأويل بعض رفق. وقال الحسن: معناه: قدم الفضل وأمسك ما تبلغ به. وقال مالك: هو الأكل والشرب بلا سرف. وقيل: أرادوا بنصيبه الكفن، وهذا وعظ متصل، كأنهم قالوا: تترك جميع مالك، لا يكون نصيبك منه إلا الكفن؛ كما قال الشاعر:
* نصيبك مما تجمع الدهر كله
*
رداءان تأوي فيهما وحنوط
*
وقال الزمخشري: أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك، وهذا قريب من قول الحسن: * (وأحسن) * إلى عباد الله، أو يكرك وطاعتك لله. * (كما أحسن الله إليك) * بتلك النعم التي خولكها، والكاف للتشبيه، وهو يكون في بعض الأوصاف، لأن مماثلة إحسان العبد لإحسان الله من جميع الصفات يمتنع أن تكون، فالتشبيه وقع في مطلق الإحسان، أو تكون الكاف للتعليل، أي أحسن لأجل إحسان الله إليك. * (ولا تبغ الفساد) *: أي ما أنت عليه من البغي والظلم. * (على علم) *، علم: مصدر، يحتمل أن يكون مضافا إليه ومضافا إلى الله. فقال الجمهور: ادعى أن عنده علما استوجب به أن يكون صاحب تلك الكنوز. فقيل: علم التوراة وحفظها، وكان أحد السبعين الذين اختارهم موسى للميقات، وكانت هذه مغالطة. وقال أبو سليمان الداني: أي علم التجارة ووجوه المكاسب، أي أوتيته بإدراكي وسعيي. وقال ابن المسيب: علم الكيمياء، قال ابن المسيب: وكان موسى عليه السلام يعلم الكيمياء، وهي جعل الرصاص والنحاس ذهبا. وعن ابن عباس: على علم الصنعة الذهب، ولعل ذلك لا يصح عنه ولا عن ابن المسيب. وأنكر الزجاج علم الكيمياء وقال: باطل لا حقيقة له. انتهى.
وكثيرا ما تولع أهل مصر بطلب أشياء من المستحيلات والخرافات؛ من ذلك: تغوير الماء، وخدمة الصور الممثلة في الجدر خطوطا، وادعائهم أن تلك الخطوط تتحرك إذا خدمت بأنواع من الخدم لهم، والكيمياء؛ حتى أن مشايخ العلم عندهم، الذين هم عندهم بصورة الولاية، يتطلب ذلك من أجهل وارد من المغاربة. وقال ابن زيد وغيره:
128

أراد: * (أوتيته على علم) * من الله وتخصيص من لدنه قصدني به، أي فلا يلزمني فيه شيء مما قلتم، ثم جعل قوله: * (عندى) *، كما يقول: في معتقدي وعلى ما أراه. وقال مقاتل: * (على علم) *، أي على خير علمه الله عندي. والظاهر أن قوله: * (أو لم * يعلم) *، تقرير لعلمه ذلك، وتنبيه على خطئه في اغتراره؛ أي قد علم أن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قد قرأه في التوراة، وأخبر به موسى، وسمعه في التواريخ، كأنه قيل: أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم؟ هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون نعتا لعلمه بذلك، لأنه لما قال: * (أوتيته على علم عندى) *، فتنفح بالعلم وتعظم به، قيل: أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه؟ وأرى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافح حتى يقي نفسه مصارع الهالكين. انتهى. * (وأكثر جمعا) *، إما للمال، أو جماعة يحوطونه ويخدمونه. قال ابن عطية: * (أو لم * يعلم) *، يرجح أن قارون تشبع بعلم نفسه على زعمه.
وقرأ الجمهور: * (ولا يسئل) *، مبنيا للمفعول و * (المجرمون) *: رفع به، وهو متصل بما قبله، قاله محمد بن كعب. والضمير في * (ذنوبهم) * عائد على من أهلك من القرون، أي لا يسأل غيرهم ممن أجرم، ولا ممن لم يجرم، عمن أهلكه الله، بل: * (كل نفس بما كسبت رهينة) *. وقيل: أهلك من أهلك من القرون، عن علم منه بذنوبهم، فلم يحتج إلى مسألتهم عنها. وقيل: هو مستأنف عن حال يوم القيامة. قال قتادة: لا يسألون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها، لأنهم يدخلون النار بغير حساب. وقال قتادة أيضا، ومجاهد: لا تسألهم الملائكة عن ذنوبهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه، كقوله: * (يعرف المجرمون بسيماهم) *. وقيل: لا يسألون سؤال توبيخ وتفريع. وقرأ أبو جعفر في روايته: ولا تسأل، بالتاء والجزم، المجرمين: نصب. وقرأ ابن سيرين، وأبو العالية: كذلك في ولا تسأل على النهي للمخاطب، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوز ذلك إلا أن يكون المجرمين بالياء في محل النصب، بوقوع الفعل عليه. قال صاحب اللوامح: فالظاهر ما قاله، ولم يبلغني في نصب المجرمين شيء، فإن تركاه على رفعه، فله وجهان: أحدهما: أن تكون الهاء والميم في * (عن ذنوبهم) * راجعة إلى ما تقدم من القرون، وارتفاع المجرمين بإضمار المبتدأ، وتقديره: هم المجرمون، أو أولئك المجرمون، ومثله * (التائبون العابدون) * في التوبة. والثاني: أن يكون بدلا من أصل الهاء والميم في ذنوبهم، لأنها، وإن كانت في محل الجر بالإضافة إليها، فإن أصلها الرفع، لأن الإضافة إليها بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل؛ فعلى ذلك المجرمون محمول على الأصل، على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ: * (أن يضرب مثلا ما بعوضة) * بالجر، على أنها بدل من أصل ا لمثل، وما زائدة فيه، وتقديره: لا يستحي بضرب مثل بعوضة، أي بضرب بعوضة. في ذلك فسر أن مع الفصل بالمصدر ناصب إلى المفعول به، ثم أبدل منه البعوضة من غير أن أعرف فيها أثرا لحال. فأما قوله: من ذنوبهم، فذنوب جمع، فإن كان جمع مصدر، ففي إعماله خلاف. وأما قوله على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ، فقد ذكر في البقرة أنه سمع ذلك، ولا تعرف فيها أثرا، فينبغي أن لا يجعلها قراءة.
ولما ذكر تعالى قارون ونعته، وما آتاه من الكنوز، وفرحه بذلك فرح البطرين، وادعاءه أن ما أوتي من ذلك إنما أوتيه على علم، ذكر ما هو ناشىء عن التكبر والسرور بما أوتي فقال: * (فخرج على قومه فى زينته) *، وكان يوم السبت: أي أظهر ما يقدر عليه من الملابس والمراكب وزينة الدنيا. قال جابر، ومجاهد: في ثياب حمر. وقال ابن زيد: هو وحشمه في ثياب معصفرة. وقيل: في ثياب الأرجوان. وقيل: على بغلة شهباء عليها الأرجوان، وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعلى يمينه ثلاثمائة غلام، وعلى يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهم الحلى والديباج. وقيل:
129

في تسعين ألفا عليهم المعصفرات، وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر. وقيل غير ذلك من الكيفيات.
* (قال الذين يريدون الحيواة الدنيا) * قيل: كانوا مؤمنين. وقال قتادة: تمنوه ليتقربوا به إلى الله. وقيل: رغبة في اليسارة والثروة. وقيل: كانوا كفارة، وتمنوا * (مثل ما أوتى قارون) *، ولم يذكروا زوال نعمته، وهذا من الغبطة. * (إنه لذو حظ عظيم) *: أي درجة عظيمة، قاله الضحاك. وقيل: نصيب كثير من الدنيا والحظ البخت والسعد، يقال: فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ. * (وقال الذين أوتوا العلم) *، منهم: يوشع، والعلم: معرفة الثواب والعقاب، أو التوكل، أو الإخبار، أقوال. * (ويلكم) *: دعاء بالشر. * (ثواب الله) *: وهو ما أعده في الآخرة للمؤمن * (خير) * مما أوتي قارون. * (ولا يلقاها) *: أي هذه الحكمة، وهي معرفة ثواب الله، وقيل: الجنة ونعيمها. وقيل: هذه المقالة، وهي قولهم: * (ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحا) *، وبخهم بها. * (إلا الصابرون) * على الطاعات وعلى قمع أنفسهم عن الشهوات.
تقدم طرف من خبر قارون وحسده لموسى. ومن حسده أنه جعل لبغي جعلا، على أن ترمي موسى بطلبها وبزنائها، وأنها تابت إلى الله، وأقرت أن قارون هو الذي جعل لها جعلا على رمي موسى بذلك، فأمر الله الأرض أن يطيعه، فقال: يا أرض خذيه وأتباعه، فخسف بهم في حكاية طويلة، الله أعلم بها. ولما خسف بقارون ومن معه، فقال بنو إسرائيل: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله. ومن زائدة، أي من جماعة تفيد استغراق الفئات. وإذا انتفت الجملة، ولم يقدر على نصره، فانتفاء الواحد عن نصرته أبلغ. * (وما كان من المنتصرين) *: أي لم يكن في نفسه ممن يمتنع من عذاب الله.
* (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالامس) *: بدل، وأصبح، إذا حمل على ظاهره، أن الخسف به وبداره كان ليلا، وهو أفظع العذاب، إذ الليل مقر الراحة والسكون، والأمس يحتمل أن يراد به الزمان الماضي، ويحتمل أن يراد به ما قبل يوم الخسف، وهو يوم التمني، ويدل عليه العطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في قوله: * (فخسفنا) *، فيكون فيه اعتقاب العذاب خروجه في زينته، وفي ذلك تعجيل العذاب. ومكانه: منزلته في الدنيا من الثروة والحشم والأتباع. و: وي، عند الخليل وسيبويه: اسم فعل مثل: صه ومه، ومعناها: أعجب. قال الخليل: وذلك أن القوم ندموا فقالوا: متندمين على ما سلف منهم: وي، وكل من ندم فأظهر ندامته قال: وي. وكأن: هي كاف التشبيه الداخلة على أن، وكتبت متصلة بكاف التشبيه لكثرة الاستعمال، وأنشد سيبويه:
* وي كأن من يكن له نشب بح
*
سبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
*
والبيت لزيد بن عمرو بن نفيل. وحكى الفراء أن امرأة قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت، وعلى هذا المذهب يكون الوقف على وي. وقال الأخفش: هي ويك، وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب، ولا موضع له من الإعراب، والوقف عليه ويك، ومنه قول عنترة:
* ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها
*
قيل الفوارس ويك عنتر اقدم
*
قال الأخفش: وأن عنده مفتوح بتقدير العلم، أي أعلم أن الله، وقال الشاعر:
130

* ألا ويك المضرة لا تدوم
*
ولا يبقى على البؤس النعيم
*
وذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك، فحذفت اللام والكاف في موضع جر بالإضافة. فعلى المذهب الأول قيل: تكون الكاف خالية من معنى التشبيه، كما قيل: * (ليس كمثله شىء) *. وعلى المذهب الثاني، فالمعنى: أعجب لأن الله. وعلى المذهب الثالث تكون ويلك كلمة تحزن، والمعنى أيضا: لأن الله. وقال أبو زيد وفرقة معه: ويكأن، حرف واحد بجملته، وهو بمعنى: ألم تر. وبمعنى: ألم تر، قال ابن عباس والكسائي وأبو عبيد. وقال الفراء: ويك، في كلام العرب، كقوله الرجل: أما ترى إلى صنع الله؟ وقال ابن قتيبة، عن بعض أهل العلم أنه قال: معنى ويك: رحمة لك، بلغة حمير.
ولما صدر منهم تمني حال قارون، وشاهدوا الخسف، كان ذلك زاجرا لهم عن حب الدنيا، وداعيا إلى الرضا بقدر الله، فتنبهوا لخطئهم فقالوا: وي، ثم قالوا: * (كان الله * يبسط الرزق لمن يشاء من عباده) *، بحسب مشيئته وحكمته، لا لكرامته عليه، ويضيق على من يشاء، لا لهوانه، بل لحكمته وقضائه ابتلاء. وقرأ الأعمش: لولا من الله، بحذف أن، وهي مزادة. وروي عنه: من الله، برفع النون والإضافة. وقرأ الجمهور: لخسف مبنيا للمفعول؛ وحفص، وعصمة، وأبان عن عاصم، وابن أبي حماد عن أبي بكر: مبنيا للفاعل؛ وابن مسعود، وطلحة، والأعمش: لا تخسف بنا، كقولك: انقطع بنا، كأنه فعل مطاوع، والمقام مقام الفاعل
هو * (بنا) *. ويجوز أن يكون المصدر: أي لا نخسف الانخساف، ومطاوع فعل لا يتعدى إلى مفعول به، فلذلك بني إما لبنا وإما للمصدر. وعن ابن مسعود أيضا: لتخسف، بتاء وشد السين، مبنيا للمفعول.
* (تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين * من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون * إن) *.
لما كان من قول أهل العلم والإيمان ثواب الله خير، ذكر محل الثواب، وهو الدار الآخرة. والمعنى: تلك التي سمعت بذكرها، وبلغك وصفها. * (الدار الاخرة) *: أي نعيم الدار الآخرة، وهي الجنة، والبقاء فيها سرمدا، وعلق حصولها على مجرد الإرادة، فكيف يمن بأشر العلو والفساد؟ ثم جاء التركيب بلا في قوله: * (ولا فسادا) *، فدل على أن كل واحد من العلو والفساد مقصود، لا مجموعهما. قال الحسن: العلو: العز والشرف، إن جر البغي الضحاك، الظلم والفساد يعم أنواع الشر. وعن علي، كرم الله وجهه: أن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها.
131

وعن الفضيل، أنه قرأها ثم قال: ذهبت الأماني. وعن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يرددها حتى قبض. * (فله خير منها) *: يحتمل أن يكون خير أفعل التفضيل، وأن يكون واحد الخيور، أي فله خير بسبب فعلها، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: * (فلا يجزى الذين عملوا السيئات) *، تهجينا لحالهم وتبغيضا للسيئة إلى قلوب السامعين، ففيه بتكراره ما ليس فيه لو كان: فلا يجزون بالصهر، وما كانوا على حذف مثل، أي إلا مثل ما كانوا يعملون، لأن جزاء السيئة سيئة مثلها، والحسنة بعشر أمثالها.
* (إن الذى فرض عليك القرءان) *، قال عطاء: العمل به؛ ومجاهد: أعطاكه؛ ومقاتل: أنزله عليك، وكذا قال الفراء وأبو عبيدة. وقال الزمخشري: أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه؛ يعني أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف ليثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف. والمعاد، قال الجمهور: في الآخرة، أي باعثك بعد الموت، ففيه إثبات الجزاء والإعلام بوقوعه. وعن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري: المعاد: الموت. وقيل: بيت المقدس. وقيل: الجنة، وكان قد دخلها ليلة المعراج. وقال ابن عباس أيضا، ومجاهد: المعاد: مكة، أراد رده إليها يوم الفتح، ونكره، والمقصود التعظيم، أي معاد أي معاد، أي له شأن لغلبة الرسول عليها وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله، فكأن الله وعده وهو بمكة أنه يهاجر منها ويعود إليها ظافرا ظاهرا. وقيل: نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره، وقد اشتاق إليها، فقال له جبريل: أتشتاق إليها؟ قال: نعم، فأوحاها إليه. ومن منصوب بإضمار فعل، أي يعلم من جاء بالهدى، ومن أجاز أن يأتي أفعل بمعنى فاعل، وأجاز مع ذلك أن ينصب به، جاز أن ينتصب به، إذ يؤوله بمعنى عالم، ويعطيه حكمه من العمل.
ولما وعده تعالى أنه يرده إلى معاد، وأنه تعالى فرض عليه القرآن، أمره أن يقول للمشركين ذلك، أي هو تعالى عالم بمن جاء بالهدى، وهو محمد صلى الله عليه وسلم)، وبما يستحقه من الثواب في معاده، وهذا إذا عنى بالمعاد ما بعد الموت. ويعني بقوله: * (ومن هو فى ضلال مبين) *: المشركين الذين أمره الله بأن يبلغهم ذلك، هو عالم بهم، وبما يستحقونه من العقاب في معادهم، وفي ذلك متاركة للكفار وتوبيخ. * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب) *: هذا تذكير لنعمه تعالى على رسوله، وأنه تعالى رحمه رحمة لم يتعلق بها رجاؤه. وقيل: بل هو معلق بقوله: * (إن الذى فرض عليك القرءان) *، وأنت بحال من لا يرجو ذلك، وانتصب رحمة على الاستثناء المنقطع، أي لكن رحمة من ربك سبقت، فألقى إليك الكتاب. وقال الزمخشري: هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. انتهى. فيكون استثناء متصلا، إما من الأحوال، وإما من المفعول له. وقرأ الجمهور: يصدنك، مضارع صد وشدوا النون، ويعقوب كذلك، إلا أنه خففها. وقرئ: يصدنك، مضارع أصد، بمعنى صد، حكاه أبو زيد، عن رجل من كلب قال: وهي لغة قومه، وقال الشاعر:
* أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم
*
صدود السواقي عن أنوف الحوائم
*
* (بعد إذ أنزلت إليك) *: أي بعد وقت إنزالها، وإذ تضاف إليها أسماء الزمان كقوله: * (بعد إذ هديتنا) *، ويومئذ، وحينئذ. قال الضحاك: وذلك حين دعوه إلى دين إبائه، أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم، فيصدونك عن اتباع آيات الله. * (وادع إلى ربك) *: أي دين ربك
132

وهذه المناهي كلها ظاهرها أنها للرسول، وهي في الحقيقة لأتباعه، والهلاك يطلق بإزاء العدم المحض، فالمعنى: أن الله يعدم كل شيء سواه. وبإزاء نفي الانتفاع به، إما للإمانة، أو بتفريق الأجزاء، وإن كانت نافية يقال: هلك الثوب، لا يريدون فناء أجزائه، ولكن خروجه عن الانتفاع به. ومعنى: * (إلا وجهه) *: إلا إياه، قاله الزجاج. وقال مجاهد، والسدي: هالك بالموت إلا العلماء، فإن علمهم باق. انتهى. ويريدون إلا ما قصد به وجهه من العلم، فإنه باق. وقال الضحاك: إلا الله عز وجل، والعرش، والجنة، والنار. وقيل: ملكه، ومنه: * (لمن الملك اليوم) *. وقال أبو عبيدة: المراد بالوجه: جاهه الذي جعله في الناس. وقال سفيان الثوري: إلا وجهه، ما عمل لذاته، ومن طاعته، وتوجه به نحوه، ومنه قول الشاعر:
* رب العباد إليه الوجه والعمل وقوله: يريدون وجهه. * (له الحكم) *: أي فصل القضاء. * (إليه ترجعون) *: أي إلى جزائه. وقرأ عيسى: ترجعون، مبنيا للفاعل؛ والجمهور: مبنيا للمفعول.
*
133

((سورة العنكبوت))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا سآء ما يحكمون * من كان يرجو لقآء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم * ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغنى عن العالمين * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون * ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهمآ إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم فى الصالحين * ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذآ أوذى فى الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جآء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما فى صدور العالمين * وليعلمن الله الذين ءامنوا وليعلمن المنافقين * وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شىء إنهم لكاذبون * وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون
هذه السورة مكية، قاله جابر وعكرمة والحسن. وقال ابن عباس، وقتادة: مدنية. وقال يحيى بن سلام: مكية إلا من أولها إلى * (وليعلمن المنافقين) *، ونزل أوائلها في مسلمين بمكة كرهوا الجهاد حين فرض بالمدينة، قاله السدي؛ أو في عمار ونظرائه ممن كان يعذب في الله، قاله ابن عمر؛ أو في مسلمين كان كفار قريش يؤذونهم، قاله مجاهد، و قريب
134

مما قبله؛ أو في مهجع مولى عمر، قتل ببدر فجزع أبواه وامرأته عليه، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم): (سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة)؛ أو في عياش أخي أبي جهل، غدر فارتد.
و * (الناس) *: فسر بمن نزلت فيه الآية. وقال الحسن: الناس هنا المنافقون، أي أن يتركوا لمجرد قولهم آمنا. وحسب يطلب مفعولين. فقال الحوفي، وابن عطية، وأبو البقاء: سدت أن وما بعدها من معمولها مسد المفعولين، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يقولوا بدلا من أن يتركوا. وأن يكونوا في موضع نصب بعد إسقاط الخافض، وقدروه بأن يقولوا ولأن يقولوا. وقال ابن عطية، وأبو البقاء: وإذا قدرت الباء كان حالا. قال ابن عطية: والمعنى في الباء واللام مختلف، وذلك أنه في الباء كما تقول: تركت زيدا بحاله، وهي في اللام بمعنى من أجل، أي حسبوا أن إيمانهم علة للترك تفسير معنى، إذ تفسير الأعراب حسبانهم أن الترك لأجل تلفظهم بالإيمان. وقال الزمخشري: فإن قلت: فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان؟ قلت: هو في قوله: * (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم) *، وذلك أن تقديره حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا، فالترك أول مفعولي حسب، ولقولهم آمنا هو الخبر، وأما غير مفتونين فتتمة للترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله:
فتركته جزر السباع ينشنه
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول: تركتهم غير مفتونين، لقولهم آمنا، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام؟ فإن قلت: * (أن يقولوا) * هو علة تركهم غير مفتونين، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت: كما تقول: خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب، وقد كان التأديب والمخافة في قوله: خرجت مخافة الشر وضربته تأديبا، تعليلين. وتقول أيضا: حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب، فتجعلها مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرا. انتهى، وهو كلام فيه اضطراب.
ذكر أولا أن تقديره غير مفتونين تتمة، يعني أنه حال، لأنه سبك ذلك من قوله: * (وهم لا يفتنون) *، وهذه جملة حالية. ثم ذكر * (أن يتركوا) * هنا من الترك الذي هو من التصيير، وهذا لا يصح، لأن مفعول صير الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم، إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم: * (وهم لا يفتنون) *، وهذا كلام لا يصح. وأما ما مثل به من البيت فإنه يصح، وأن يكون جزر السباع مفعولا ثانيا لترك بمعنى صير، بخلاف ما قدر في الآية.
وأما تقديره تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام، فلا يصح؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم، كان غير مفتونين حالا، إذ لا ينعقد من تركهم، بمعنى تصييرهم، وتقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم، بمعنى تصييرهم، إلى مفعول ثان، لأن غير مفتونين عنده حال، لا معفول ثان.
وأما قوله: فإن قلت * (أن يقولوا) * إلى آخره، فيحتاج إلى فضلة فهم، وذلك أن قوله: * (أن يقولوا) * هو علة تركهم فليس كذلك، لأنه لو كان علة له لكان متعلقا، كما يتعلق بالفعل، ولكنه علة للخبر المحذوف الذي هو مستقر، أو كائن، والخبر غير المبتدأ. ولو كان لقولهم علة للترك، لكان من تمامه، فكان يحتاج إلى خبره. وأما قوله: كما تقول خروجه لمخافة الشر، فلمخافة ليس علة للخروج، بل للخبر المحذوف الذي وهو مستقر، أو كائن. * (وهم لا يفتنون) *، قال الشعبي: الفتنة
135

هنا ما كلفه المؤمنون من الهجرة التي لم يتركوا دونها. وقال الكلبي: هو مثال، * (أو يلبسكم شيعا) *. وقال مجاهد: يتبتلون في أنفسهم وأموالهم.
و * (الذين من قبلهم) *: المؤمنون أتباع الأنبياء، أصابهم من المحن ما فرق به المؤمن بالمنشار فرقتين، وتمشط بأمشاط الحديد، ولا يرجع عن دينه. * (فليعلمن الله) *، بالامتحان، * (الذين صدقوا) * في إيمانهم، * (وليعلمن الكاذبين) * فيه من علم المتعدية إلى واحد فيهما، ويستحيل حدوث العلم لله تعالى. فالمعنى:
وليتعلقن علمه به موجودا به كما كان متعلقا به حين كان معدوما. والمعنى: وليميزن الصادق منهم من الكاذب، أو عبر بالعلم عن الجزاء، أي وليتبين الصادق وليعذبن الكاذب. ومعنى صدقوا في إيمانهم يطابق قولهم واعتقادهم أفعالهم، والكاذبين ضد ذلك. وقرأ علي، وجعفر بن محمد: فليعلمن، مضارع المنقولة بهمزة التعدي من علم المتعدية إلى واحد، والثاني محذوف، أي منازلهم في الآخرة من ثواب وعقاب؛ أو الأول محذوف، أي فليعلمن الناس الذين صدقوا، أي يشهرهم هؤلاء في الخير، وهؤلاء في الشر، وذلك في الدنيا والآخرة، أو من العلامة فيتعدى إلى واحد، أي يسمهم بعلامة تصلح لهم، كقوله: (من أسر سريرة ألبسه الله رداءها). وقرأ الزهري: الأولى كقراءة الجماعة، والثانية كقراءة علي.
* (أم حسب) *، قال ابن عطية: أم معادلة للألف في قوله: * (أحسب) *، وكأنه عز وجل قرر الفريقين: قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك، على ظنهم أنهم يسبقون نقمات الله ويعجزونه. انتهى. وليست أم هنا معادلة للألف في أحسب، كما ذكر، لأنها إذ ذاك تكون متصلة، ولها شرطان: أحدهما: أن يكون قبلها لفظ همزة الاستفهام، وهذا الشرط هنا موجود. والثاني: أن يكون بعدها مفرد، أو ما هو في تقدير المفرد. مثال المفرد: أزيد قائم أم عمرو؟ ومثال ما هو في تقدير المفرد: أقام زيد أم قعد؟ وجوابها: تعيين أحد الشيئين، إن كان التعادل بين شيئين؛ أو الأشياء، إن كان بين أكثر من شيئين. وهنا بعد أم جملة، ولا يمكن الجواب هنا بأحد الشيئين، بل أم هنا منقطعة، بمعنى بل التي للإضراب، بمعنى الانتقال من قضية إلى قضية، لا بمعنى الإبطال. وهمزة الاستفهام والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ والإنكار، فلا يقتضي جوابا، لأنه في معنى: كيف وقع حسبان لك؟
و * (الذين يعملون السيئات) *، قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والأسود، والعاصي بن هشام، وشيبة، وعتبة، والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط، وحنظلة بن أبي سفيان، والعاصي بن وائل، وأنظارهم من صناديد قريش. انتهى. والآية، وإن نزلت على سبب، فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم. وقال مجاهد: * (أن يسبقونا) *: أي يعجزونا، فلا نقدر على الانتقام، وقيل: أن يعجلونا محتوم القضاء، وقيل: أن يهربوا منا ويفوتونا بأنفسهم. وقال الزمخشري: * (أن يسبقونا) *: أن يفوتونا، يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة، وهم لم يطمعوا في الفوت، ولم يحدثوا به أنفسهم، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة، وإصرارهم على المعاصي في صورة من يقدم ذلك ويطمع فيه؛ ونظيره: * (وما أنتم بمعجزين فى الارض) *، * (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) *. فإن قلت: أين مفعولا حسب؟ قلت: اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد المفعولين، كقولهم: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) *. ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر، وأم منقطعة. ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه. انتهى.
أما قوله: وهو لم يطمعوا في الفوت، إلى آخر قوله: ويطمع فيه، فليس كما ذكر، بل هم معتقدون أن لا بعث ولا جزاء، ولا سيما السرية التي نص عليها ابن عباس، وما ذكره، كما الزمخشري، هو على اعتقاد من يعلم أن الله
136

يجازيه، ولكن طمع في عفو الله. وأما قوله: اشتمال صلة أن، إلى آخره، فقد كان ينبغي أن يقدر ذلك في قوله: * (أن يتركوا) *، فيجعل ذلك سد مسد المفعولين، ولم يقدر ما لا يصح تقديره، وأما قوله: ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر، فتعين إن أن وما بعدها في موضع مفعول واحد، والتضمين ليس بقياس، ولا يصار إليه إلا عند الحاجة إليه، وهذا الإجابة إليه.
* (ساء ما يحكمون) *، قال الزمخشري، وابن عطية ما معناه: أن * (ما) * موصولة و * (يحكمون) * صلتها، أو تمييز بمعنى شيء، ويحكمون صفة، والمخصوص بالذم محذوف، فالتقدير: أي حكمهم. انتهى. وفي كون ما موصولة مرفوعة بساء، أو منصوبة على التمييز خلاف مذكور في النحو. وقال ابن كيسان: ما مصدرية، فتقديره: بئس حكمهم. وعلى هذا القول يكون التمييز محذوفا، أي ساء حكما حكمهم. وساء هنا بمعنى: بئس، وتقدم حكم بئس إذا اتصل بهاما، والفعل في قوله: * (بئسما اشتروا به أنفسهم) * مشبعا في البقرة. وجاء بالمضارع، وهو * (يحكمون) *، قيل: إشعارا بأن حكمهم مذموم حالا واستقبالا، وقيل: لأجل الفاصلة وقع المضارع موقع الماضي اتساعا. والظاهر أن * (يرجو) * على بابها، ومعنى * (لقاء الله) *: الوصول إلى عاقبة الأمر من الموت والبعث والجزاء؛ مثلت حاله بحالة عبد قدم على مولاه من سفر بعيد، وقد اطلع مولاه على ما عمل في غيبته عنه، فإن كان عمل خيرا، تلقاه بإحسان أو شرا، فبضد الإحسان.
* (فإن أجل الله لآت) *: وهو ما أجله وجعل له أجلا، لا نفسه لا محالة، فليبادر لما يصدق رجاءه. وقال أبو عبيدة: يرجو: يخاف، ويظهر أن جواب الشرط محذوف، أي * (من كان يرجو لقاء الله) *، فليبادر بالعمل الصالح الذي يحقق رجاءه، فإن ما أجله الله تعالى من لقاء جزائه لآت. والظاهر أن قوله: * (ومن جاهد) *، معناه: ومن جاهد نفسه بالصبر على الطاعات، فثمرة جهاده، وهو الثواب المعد له، إنما هو له، لا لله، والله تعالى غني عنه وعن العالمين، وإنما كلفهم ما كلفهم إحسانا إليهم. * (لنكفرن عنهم سيئاتهم) *: يشتمل من كان كافرا فآمن وعمل صالحا، فأسقط عنه عقاب ما كان قبل الإيمان من كفر ومعصية، ومن نشأ مؤمنا عاملا للصالحات وأساء في بعض أعماله، فكفر عنه ذلك، وكانت سيئاته مغمورة بحسناته. * (ولنجزينهم أحسن الذى) *: أي أحسن جزاء أعمالهم. وقال ابن عطية: فيه حذف مضاف تقديره: ثواب أحسن الذي كانوا يعملون. انتهى. وهذا التقدير لا يسوغ، لأنه يقتضي أن أولئك يجزون ثواب أحسن أعمالهم، وأما ثواب حسنها فمسكوت عنه، وهم يجزون ثواب الأحسن والحسن، إلا إن أخرجت أحسن عن بابها من التفضيل، فيكون بمعنى حسن، فإنه يسوغ ذلك. وأما التقدير الذي قبله فمعناه: أنه مجزي أحسن جزاء العمل، فعمله يقتضي أن تكون الحسنة بمثلها، فجوزي أحسن جزائها، وهي أن جعلت بعشر أمثالها. وفي هذه الآيات تحريك وهز
المن تخلف عن الجهرة أن يبادر إلى استدراك ما فرط فيه منها، وثناء على المؤمنين الذين بادروا إلى الهجرة، وتنويه بقدرهم.
* (ووصينا الإنسان) *، في جامع الترمذي: إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص، آلت أمه أن لا يطعم ولا يشرب حتى تموت، أو يكفر. وقيل: في عياش بن أبي ربيعة، أسلم وهاجر مع عمر، وكانت أمه شديدة الحب له، وحلفت على مثل ذلك، فتحيل عليه أبو جهل وأخوه الحارث، فشداه وثاقا حين خرج معهما من المدينة إلى أمه قصد ليراها، وجلده كل منهما مائة جلدة، ورداه إلى أمه فقالت: لا يزال في عذاب حتى يكفر بمحمد، في حديث طويل ذكر في السير. * (ووصينا الإنسان بوالديه) *: أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما. وانتصب * (حسنا) * على أنه مصدر، وصف به مصدر وصينا، أي إيصاء حسنا، أي ذا حسن، أو على سبيل المبالغة، أي هو في ذاته حسن. قال ابن عطية: يحتمل أن ينتصب على المفعول، وفي ذلك تحريض على كونه عاما لمعان. كما تقول: وصيتك خيرا، وأوصيتك شرا؛ وعبر بذلك عن جملة ما قلت له، ويحسن ذلك دون حرف الجر، كون حرف الجر في قوله: * (بوالديه) *، لأن المعنى: ووصينا الإنسان بالحسن في قوله مع والده، ونظير هذا قول الشاعر:
137

* عجبت من دهماء إذ تشكونا
*
ومن أبي دهماء إذ يوصينا
*
انتهى. مثله قول الحطيئة يوصي ابنته برة:
* وصيت من برة قلبا حرا
*
بالكلب خيرا والحماة شرا
*
وعلى هذا التقدير يكون الأصل بخير، وهو المفعول الثاني. والباء في بوالديه وفي بالحماة وبالكلب ظرفية بمعنى في، أي وصينا الإنسان في أمر والديه بخير. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله: * (بوالديه) *، وينتصب * (حسنا) * بفعل مضمر تقديره: يحسن حسنا، وينتصب انتصاب المصدر. وفي التحرير: حسنا نصب عند البصريين على التكرير، أي وصيناه حسنا، وقيل: على القطع، تقديره: ووصينا بالحسن، كما تقول: وصيته خيرا، أي بالخير، ويعني بالقطع عن حرف الجر، فانتصب. وقال أهل الكوفة: ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا، فيقدر له فعل. انتهى. وفي هذا القول حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول، وهو لا يجوز عند البصريين. وقال الزمخشري: وصيناه بايتاء والديه حسنا، أو نائلا والديه حسنا، أي فعلا ذا حسن، وما هو في ذاته حسن لفرط حسنه، كقوله: * (وقولوا للناس حسنا) *. انتهى. وهذا التقدير فيه إعمال المصدر محذوفا وإبقاء معموله، وهو لا يجوز عند البصريين. قال الزمخشري: ويجوز أن يجعل حسنا من باب قولك: زيدا، بإضمار اضرب إذا رأيته متهيأ للضرب، فتنصبه بإضمار أولهما، أو افعل بهما، لأن الوصية بهما دالة عليه، وما بعده مطابق له، فكأنه قال: قلنا أو لهما معروفا. وقرأ عيسى، والجحدري: حسنا، بفتحتين؛ والجمهور: بضم الحاء وإسكان السين، وهما كالبخل. وقال أبو الفضل الرازي: وانتصابه بفعل دون التوصية المقدمة، لأنها قد أخذت مفعوليها معا مطلقا ومجرورا، فالحسن هنا صفة أقيم مقام الموصوف بمعنى: أمر حسن. انتهى، أي أمرا حسنا، حذف أمرا وأقيم حسن مقامه. وقوله: مطلقا، عنى به الإنسان، وفيه تسامح، بل هو مفعول به؛ والمطلق إنما هو المصدر، لأنه مفعول لم يقيد من حيث التفسير بأداة جر، بخلاف سائر المفاعيل، فإنك تقول: مفعول به، ومفعول فيه، ومفعول معه، ومفعول له؛ وفي مصحف أبي: إحسانا.
* (وإن جاهداك) *: أي وقلنا: إن جاهداك * (ما ليس لك به علم) *: أي بإلهيته، فالمراد بنفي العلم نفي المعلوم، أي * (لتشرك) * به شيئا، لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم، * (فلا تطعهما) * فيما جاهداك عليه من الإشراك؛ * (إلي مرجعكم) *: شامل للموصي والموصي والمجاهد والمجاهد، * (فأنبئكم) *: فأجازيكم، * (بما كنتم تعملون) *: من بر، أو عقوق، أو طاعة، أو عصيان. وكرر تعالى ما رتب للمؤمنين من دخولهم * (فى الصالحين) *، ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم. ومعنى * (فى الصالحين) *: في جملتهم، ومرتبة الصلاح شريفة، أخبر الله بها عن إبراهيم، وسألها سليمان، عليهما السلام، وأخبر تعالى أن يجعل من أطاع الله ورسوله معهم. ويجوز أن يكون التقدير: في ثواب الصالحين، وهي الجنة. ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلص، ذكر حال المنافقين ناسا آمنوا بألسنتهم، فإذا آذاهم الكفار، جعلوا ذلك الأذى، وهو فتنة الناس، صارفا لهم عن الإيمان؛ كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر؛ وكونها نزلت في منافقين، قول ابن زيد. وقال الزجاج: جزع كما يجزع من عذاب الله، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك. وقال قتادة: فيمن هاجر، فردهم المشركون إلى مكة. وقيل: في مؤمنين أخرجهم إلى بدر
138

المشركون فارتدوا، وهم الذين قال فيهم: * (إن الذين توفاهم الملئكة ظالمى أنفسهم) *.
* (ولئن جاء نصر من ربك) *: أي للمؤمنين، * (ليقولن) *: أي القائلون أو ذينا في الله، * (إنا معكم) *: أي متابعون لكم في دينكم، أو مقاتلون معكم ناصرون لكم، قاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم. وهذه الجملة المقسم عليها مظهرة مغالطتهم، إذ لو كان إيمانهم صحيحا، لصبروا على أذى الكفار، وإن كانت فيمن
هاجر، وكانوا يحتالون في أمرهم، وركبوا كل هول في هجرتهم. وقرئ: ليقولن، بفتح اللام، ذكره أبو معاذ النحوي والزمخشري. وأعلم: أفعل تفضيل، أي من أنفسهم؛ وبما في صدورهم: أي بما تكن صدورهم من إيمان ونفاق، وهذا استفهام معناه التقرير، أي قد علم ما انطوت عليه الضمائر من خير وشر. * (وليعلمن المنافقين) *: ظاهر في أن ما قبل هذه الجملة في المنافقين، كما قال ابن زيد، وعلمه بالمؤمن، وعد له بالثواب، وبالمنافق وعيد له بالعقاب. ولما ذكر حال المؤمنين والمنافقين، ذكر مقالة الكافرين قولا واعتقادا، وهم رؤساء قريش. قال مجاهد: كانوا يقولن لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فإن كان عليكم شيء فهو علينا. وقيل: قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف، قالا لعمران: كان في الإقامة على دين الآباء إثم، فنحن نحمله عنك، وقيل: قائل ذلك الوليد بن المغيرة. قال ابن عطية: وقوله: * (ولنحمل) *، أخبر أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالنقل، لكنهم أخرجوه في صيغة الأمر، لأنها أوجب وأشد تأكيدا في نفس السامع من المجازاة، ومن هذا النوع قول الشاعر:
* فقلت ادعى وأدعو فإن أندى
*
لصوت أن ينادي داعيان
*
ولكونه خبرا حسن تكذيبهم فيه. وقال الزمخشري: أمروهم باتباع سبيلهم، وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم، فحمل الأمر على الأمر وأرادوا، ليجتمع هذان الأمران في الحصول، أن يتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم. والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، وهذا قول صناديد قريش، كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فإن عسى، كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم. انتهى. وقوله: فإن عسى، كان تركيب أعجمي لا عربي، لأن إن الشرطية لا تدخل على عسى، لأنه فعل جامد، ولا تدخل أدوات الشرط على الفعل الجامد؛ وأيضا فإن عسى لا يليها كان، واستعمل عسى بغير اسم ولا خبر، ولم يستعملها تامة. وقرأ الحسن، وعيسى، ونوح القارئ: ولنحمل، بكسر لام الأمر؛ ورويت عن علي، وهي لغة الحسن، في لام الأمر. والحمل هنا مجاز، شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر، والخطايا بالمحمول. وقال مجاهد: نحمل هنا من الحمالة، لا من الحمل. وقرأ الجمهور: * (من خطاياهم) *. وقرأ داود بن أبي هند، فيما ذكر أبو الفضل الرازي: من خطيئتهم، على التوحيد، قال: ومعناه الجنس، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة. وذكر ابن خالويه، وأبو عمر والداني أن داود هذا قرأ: من خطيآتهم، بجمع خطيئة جمع السلامة، بالألف والتاء. وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ: من خطئهم، بفتح الطاء وكسر الياء، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين، فأشبهت الياء، لأن قياس تسهيلها هو ذلك.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف سماهم كاذبين؟ وإنما ضمنوا شيئا علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به، ومن ضمن شيئا لا يقدر على الوفاء به، لا يسمى كاذبا، لا حين ضمن، ولا حين عجز، لأنه في الحالين لا يدخل تحت عد الكاذبين، وهو المخبر عن الشيء، لا على ما هو عليه؟ قلت: شبه الله حالهم، حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به، فكان ضمانهم عنده، لا على ما عليه بالكاذبين الذين خبرهم، لا على ما عليه المخبر عنه. ويجوز أن يريد إنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الذين يصدقون الشيء، وفي قلوبهم فيه الخلف. انتهى. وتقدم من قول ابن عطية أن قوله: ولنحمل خبر، يعني أمرا، ومعناه الخبر، وهذان الأمران منزلة الشرط والجزاء، إذ المعنى: أن تتبعوا سبيلنا، ولحقكم في ذلك إثم على ما
139

تزعمون، فنحن نحمل خطاياكم. وإذا كان المعنى على هذا، كان إخبارا في الجزاء بما لا يطابق، وكان كذبا.
* (وليحملن أثقالهم) *: أثقال أنفسهم من كفرهم ومعاصيهم، * (وأثقالا) * أي أخر، وهي أثقال الذين أغروهم، فكانوا سببا في كفرهم. ولم يبين من الذين يحملون أثقاله، فأمكن اندراج أثقال المظلوم بحملها للظالم، كما جاء في الحديث: (أنه يقتص من الظالم للمظلوم بأن يعطي من حسنات ظالمه، فإن لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيآت المظلوم فطرح عليه). وفي صحيح مسلم ما معناه: أيما داع دعا إلى ضلالة، فأتبع عليها وعمل بها بعده، فعليه أو زار من عمل بها ممن اتبعه، لا ينقص ذلك من أوزاهم شيئا. * (وليحملن أثقالهم وأثقالا) *: أي سؤال توبيخ وتقريع.
* (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون * فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها ءاية للعالمين * وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون * إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا) *.
ذكر هذه القصة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، لما كان يلقى من أذى الكفار. فذكر ما لقي أول الرسل، وهو نوح، من أذى قومه، المدد المتطاولة، تسلية لخاتم الرسل صلوات الله عليه. والواو في * (ولقد) * واو عطف، عطفت جملة على جملة. قال ابن عطية: والقسم فيها بعيد، يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه، وفيه حذف المجرور وإبقاء حرف الجار، وحرف الجر لا يعلق عن عمله، بل لا بد له من ذكره. والظاهر أنه أقام في قومه هذه المدة المذكورة يدعوهم إلى الله. وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه، من لدن مولده إلى غرق قومه. انتهى. وليس عندي محتملا، لأن اللبث متعقب بالفاء الدالة على التعقيب، واختلف في مقدار عمره، حين كان بعث وحين مات، اختلافا مضطربا متكاذبا، تركنا حكايته في كتابنا، وهو في كتب التفسير. والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد، وفي كونه ثابتا من لسان العرب خلاف مذكور في النحو، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك، وغاير بين تمييز المستثنى منه وتمييز المستثنى، لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة، إلا إذا كان لغرض من تفخيم، أو تهويل، أو تنويه. ولأن التعبير عن المدة
المذكورة بما عبر به، لأن ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدة صبره، ولإزالة التوهم الذي يجيء مع قوله: تسعمائة وخمسون عاما، بأن ذلك على سبيل المبالغة لا التمام، والاستثناء يرفع
140

ذلك التوهم المجازي.
وتقدمت وقعة نوح بأكمل مما هنا، والخلاف في عدد من آمن ودخل السفينة. والضمير في * (وجعلناها) * يحتمل أن يعود على * (السفينة) *، وأن يعود على الحادثة والقصة، وأفرد * (ءاية) * وجاء بالفاصلة * (للعالمين) *، لأن إنجاء السفن أمر معهود. فالآية إنجاؤه تعالى أصحاب السفينة وقت الحاجة، ولأنها بقيت أعواما حتى مر عليها الناس ورأوها، فحصل العلم بها لهم، فناسب ذلك قوله: * (للعالمين) *، وانتصب * (إبراهيم) * عطفا على * (نوحا) *. قال ابن عطية: أو على الضمير في * (فأنجيناه) *. وقال هو والزمخشري: بتقدير اذكروا بدل منه، إذ بدل اشتمال منه، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها، وقد تقدم لنا أن إذ ظرف لا يتطرف، فلا يكون مفعولا به، وقد كثر تمثيل المعربين، إذ في القرآن بأن العامل فيها اذكر، وإذا كانت ظرفا لما مضي، فهو لو كان منصرفا، لم يجز أن يكون معمولا لا ذكر، لأن المستقبل لا يقع في الماضي، لا يجوز ثم أمس، فإن كان خلع من الظرفية الماضية وتصرف فيه، جاز أن يكون مفعولا به ومعمولا لا ذكر. وقرأ النحعي، وأبو جعفر، وأبو حنيفة، وإبراهيم: بالرفع، أي: ومن المرسلين إبراهيم. وهذه القصة تمثيل لقريش، وتذكير لحال أبيهم إبراهيم من رفض الأصنام، والدعوى إلى عبادة الله، وكان نمروذ وأهل مدينة عباد أصنام. وقرأ الجمهور: * (وتخلقون) *، مضارع خلق، * (إفكا) *، بكسر الهمزة وسكون الفاء. وقرأ علي، والسلمي، وعون العقيلي، وعبادة، وابن أبي ليلى، وزيد بن علي: بفتح التاء والخاء واللام مشددة. قال ابن مجاهد: رويت عن ابن الزبير، أصله: تتخلقون، بتاءين، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي في المحذوفة. وقرأ زيد بن علي أيضا، فيما ذكر الأهوازي: تخلقون، من خلق المشدد. وقرأ ابن الزبير، وفضيل بن زرقان: أفكا، بفتح الهمزة وكسر الفاء، وهو مصدر مثل الكذب. قال ابن عباس: * (وتخلقون إفكا) *، هو نحت الأصنام وخلقها، سماها إفكا توسعا من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة. وقال مجاهد: هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك. وقال الزمخشري: إفكا فيه وجهان: أحدهما: أن تكون مصدرا نحو: كذب ولعب، والإفك مخفف منه، كالكذب واللعب من أصلهما، وأن تكون صفة على فعل، أي خلقا إفكا، ذا إفك وباطل، واختلافهم الإفك تسمية الأوثان آلهة وشركاء لله وشفعاء إليه، أو سمي الأصنام إفكا، وعملهم لها نحتهم خلقا للإفك. انتهى.
وهذا الترد بد منه في نحو: * (وتخلقون إفكا) *، قولان لابن عباس ومجاهد، وقد تقدم لنا نقلهما عنهما ونفيهم بقوله: * (لا يملكون لكم رزقا) * على جهة الاحتجاج بأمر يفهمه عامتهم وخاصتهم، فقرر أن الأصنام لا ترزق، والرزق يحتمل أن يريد به المصدر: لا يملكون أن يرزقوكم شيئا من الرزق، واحتمل أن يكون اسم المرزوق، أي لا يملكون لكم إيتاء رزق ولا تحصيله، وخص الرزق لمكانته من الخلق. ثم أمرهم بابتغاء الرزق ممن هو يملكه ويؤتيه، وذكر الرزق لأن المقصود أنهم لا يقدرون على شيء منه، وعرفه بعد لدلالته على العموم، لأنه تعالى عنده الأرزاق كلها. * (واشكروا له) * على نعمة السابغة من الرزق وغيره. * (وإليه ترجعون) *: أي إلى جزائه، أخبر بالمعاد والحشر. ثم قال: * (وإن تكذبوا) *: أي ليس هذا مبتكرا منكم، وقد سبق ذلك من أمم الرسل، قيل: قوم شيث وإدريس وغيرهم. وروي أن إدريس عليه السلام عاش في قومه ألف سنة، فآمن به ألف إنسان على عدد سنيه، وباقيهم على التكذيب. * (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) *: تقدم الكلام على مثل هذه الجملة. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، بخلاف عنه: تروا، بتاء الخطاب؛ وباقي السبعة: بالياء. والجمهور: يبديء، مضارع أبدأ؛ والزبير. وعيسى، وأبو عمرو: بخلاف عنه: يبدأ، مضارع بدأ. وقرأ الزهري: * (كيف بدأ الخلق) *، بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفا، فذهبت في الوصل، وهو تخفيف غير قياسي، كما قال الشاعر:
141

فارعى فزارة لا هناك المرتع
وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين، وتقريرهم على رؤية بدء الخلق في قوله: * (أو لم * يروا) *، وفي: * (فانظروا كيف بدأ الخلق) *، إنما هو لمشاهدتهم إحياء الأرض بالنبات، وإخراج أشياء من العدم إلى الوجود، وقوله: * (ثم يعيده) *، وقوله: * (ثم الله ينشىء) *، ليس داخلا تحت الرؤية ولا تحت النظر، فليس * (ثم يعيده) * معطوفا على يبدىء، ولا * (ثم * ينشىء) * داخلا تحت كيفية النظر في البدء، بل هما جملتان مستأنفتان، إخبارا من الله تعالى بالإعادة بعد الموت. وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل الدلالة على إمكان ذلك، فإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه، صار واجبا مقطوعا بعامة، ولا شك فيه. وقال قتادة: * (أو لم * يروا) *، بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت؟ وقال الربيع بن أنس المعنى: كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر، حتى إلى التراب؟ وقال مقاتل: الخلق هنا الليل والنهار. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: النشاءة هنا، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة؛ وباقي السبعة: النشأة، على وزن فعلة، وهما كالرآفة والرأفة، وهما لغتان، والقصر أشهر، وانتصابه على المصدر، إما على غير المصدر قام مقام الإنشاء، وإما على إضمار فعله، أي فتنشئون النشأة.
وفي الآية الأولى صرح باسمه تعالى في قوله: * (كيف يبدىء الله الخلق ثم يبدىء الله الخلق ثم يعيده) *، وهنا عكس أضمر في بدا ثم أبرزه في قوله: * (ثم الله ينشىء) *، حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه. ودل إبرازه هنا على تفخيم النشأة الآخرة وتعظيم أمرها وتقرير وجودها، إذ كان نزاع الكفار فيها، فكأنه قيل: ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي * (ينشىء النشأة الاخرة) *، فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه. والآخرة صفة للنشأة، فهما نشأتان: نشأة اختراع من العدم، ونشأة إعادة. ثم ذكر الصفة التي النشأة هي بعض مقدوراتها. ثم أخبر بأنه * (يعذب من يشاء) *، أي تعذيبه، * (ويرحم من يشاء) * رحمته، وبدأ
بالعذاب، لأن الكلام هو مع الكفار مكذبي الرسل. * (وإليه تقلبون) *: أي تردون. وقال الزمخشري: ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن، وهو يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا، ومن المعصوم والتائب. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. * (وما أنتم بمعجزين) *: أي فائتين ما أراد الله لكم. * (في الارض ولا فى السماء) *، إن حمل السماء على العلو فجائز، أي في البروج والقلاع الذاهبة في العلو، ويكون تخصيصا بعد تعميم، أو على المظلة، فيحتاج إلى تقرير، أي لو صرتم فيها، ونظيره قول الأعشى:
* ولو كنت في جب ثمانين قامة
*
ورقيت أسباب السماء بسلم
*
ليعتورنك القول حتى تهزه
وتعلم أني فيك لست بمجرم
*
وقوله تعالى: * (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار * السماوات والارض) *، على تقدير الحكم لو كنتم فيها، * (والارض فانفذوا) *. وقال ابن زيد، والفراء: التقدير: ولا من في السماء، أي يعجز إن عصى. وقال الفراء: وهذا من غوامض العربية، وأنشد قول حسان:
* فمن يهجو رسول الله منكم
*
ويمدحه وينصره سواء
*
أي: ومن ينصره، وهذا عند البصريين لا يكون إلا في الشعر، لأن فيه حذف الموصول وإبقاء صلته. وأبعد من هذا
142

القول قول من زعم أن التقدير: وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الإنس والجن، ولا من في السماء من الملائكة، فكيف تعجزون الله؟ وقرأ الجمهور: * (يئسوا) *، بالهمز؛ والذماري، وأبو جعفر: بغير همز، بل بياء بدل الهمزة، وهو وعيد، أي ييأسون يوم القيامة. وقيل: * (من رحمتى) *. وقيل: من ديني، فلا أهديهم. وقيل: هو وصف بحالهم، لأن المؤمن يكون دائما راجيا خائفا، والكافر لا يخطر بباله ذلك. شبه حالهم في انتفاء رحمته عنهم بحال من يئس من الرحمة. والظاهر أن قول: * (وإن تكذبوا) *، من كلام الله، حكاية عن إبراهيم، إلى قوله: * (عذاب أليم) *. وقيل: هذه الآيات اعتراض من كلام الله بين كلام إبراهيم والإخبار عن جواب قومه، أي وإن تكذبوا محمدا، فتقدير هذه الجملة اعتراضا يرد على أبي علي الفارسي، حيث زعم أن الاعتراض لا يكون جملتين فأكثر، وفائدة هذا الاعتراض أنه تسلية للرسول لله، حيث كان قد ابتلي بمثل ما كان أبوه إبراهيم قد ابتلي، من شرك قومه وعبادتهم الأوثان وتكذيبهم إياه ومحاولتهم قتله. وجاءت الآيات بعد الجملة الشرطية مقررة لما جاء به الرسول من توحيد الله ودلائله وذكر آثار قدرته والمعاد.
* (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن فى ذالك لايات لقوم) *.
لما أمرهم بعبادة الله، وبين سفههم في عبادة الأوثان، وظهرت حجته عليهم، رجعوا إلى الغلبة، فجعلوا القائم مقام جوابه فيما أمرهم به قولهم: * (اقتلوه أو حرقوه) *. والآمرون بذلك، إما بعضهم لبعض، أو كبراؤهم قالوا لأتباعهم: اقتلوه،
143

فتستريحوا منه عاجلا، أو حرقوه بالنار؛ فإما أن يرجع إلى دينكم، إذا أمضته النار؛ وإما أن يموت بها، إن أصر على قوله ودينه. وفي الكلام حذف، أي حرقوه في النار، * (فأنجاه الله من النار) *. وتقدمت قصته في تحريقه في سورة * (اقترب للناس حسابهم) *. وجمع هنا فقال: الآيات، لأن الإنجاء من النار، وجعلها بردا وسلاما، وأنها في الحبل الذي كانوا أوثقوه به دون الجسم، وإن صح ما نقل من أن مكانها، حالة الرمي، صار بستانا يانعا، هو مجموع آيات، فناسب الجمع، بخلاف الإنجاء من السفينة، فإنه آية واحدة، وتقدم الكلام على ذلك، وفي ذلك إشارة من النار بعد إلقائه؛ فيما قال كعب: لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به. وجاء هنا الترديد بين قتله وإحراقه، فقد يكون ذلك من قائلين: ناس أشاروا بالقتل، وناس أشاروا بالإحراق. وفي اقترب قالوا: * (حرقوه) * اقتصروا على أحد الشيئين، وهو الذي فعلوه، رموه في النار ولم يقتلوه.
وقرأ الجمهور: * (جواب) *، بالنصب؛ والحسن، وسالم الأفطس: بالرفع، اسما لكان. وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو عمرو في رواية الأصمعي، والأعمش عن أبي بكر: مودة بالرفع، وبينكم بالنصب. فالرفع على خبر إن، وما موصولة بمعنى الذي، أي إن الأوثان التي اتخذتموها مودودا، أو سبب مودة، أو مصدرية، أي إن اتخاذكم أوثانا مودة، أو على خبر مبتدأ محذوف، أي هي مودة بينكم، وما إذ ذاك مهيئة. وروى عن عاصم: مودة، بالرفع من غير تنوين؛ وبينكم بالفتح، أي بفتح النون، جعله مبنيا لإضافته إلى مبني، وهو موضع خفض بالإضافة، ولذلك سقط التنوين من مودة. وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وابن كثير: كذلك، إلا أنه خفض نون بينكم. وقرأ ابن عامر، وعاصم: بنصب مودة منونا ونصب بينكم؛ وحمزة كذلك، إلا أنه أضاف مودة إلى بينكم وخفض، كما في قراءة
من نصب مودة مهيئة. واتخذ، يحتمل أن يكون مما تعدت إلى اثنين، والثاني هو مودة، أي اتخذتم الأوثان بسبب المودة بينكم، على حذف المضاف، أو اتخذتموها مودة بينكم، كقوله: * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) *، أو مما تعدت إلى واحد، وانتصب مودة على أنه مفعول له، أي ليتوادوا ويتواصلوا ويجتمعوا على عبادتها، كما يجتمع ناس على مذهب، فيقع التحاب بينهم. وذكروا عن ابن مسعود قراءة شاذة تخالف سواد المصحف، مع أنه قد روي عنه ما في سواد المصحف بالنقل الصحيح المستفيض، فلذلك لم أذكر تلك القراءة. * (ثم يوم القيامة) * يقع بينكم التلاعن، أي فيلاعن العبدة والمعبودات الأصنام، كقوله: و * (يكونون * عليهم ضدا) *. و * (بينكم) *، و * (وقال إنما) *: يجوز تعليقهما بلفظ مودة وعمل في ظرفين لاختلافهما، إذ هما ظرفا مكان وزمان، ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين، فيكونان في موضع الصفة، أي كائنة بينكم في الحياة في موضع الحال من الضمير المستكن في بينكم. وأجاز أبو البقاء أن يتعلق * (وقال إنما) *. باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة، لا على جعل ما موصولة بمعنى الذي، أو مصدرية ورفع موده، لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة بالخبر. وأجاز قوم منهم ابن عطية أن يتعلق * (وقال إنما) * بمودة، وأن يكون * (بينكم) * صفة لمودة، وهو لا يجوز، لأن المصدر إذا وصف قبل أخذ متعلقاته لا يعمل، وشبهتهم في هذا أنه يتسع في الظرف، بخلاف المفعول به. وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس بينكم، قال: لأن معناه: اجتماعكم أو وصلكم. وأجاز أيضا أن يجعله حالا من بينكم، قال: لتعرفه بالإضافة. انتهى، وهما إعرابان لا يتعقلان.
* (فئامن له لوط) *: لم يؤمن بإبراهيم أحد من قومه إلا لوط عليه السلام، حين رأى النار لم تحرقه، وكان ابن أخي سارة، أو كانت بنت عمه. والضمير في * (وقال) * عائد على إبراهيم، وهو الظاهر، ليتناسق مع قوله: * (ووهبنا له إسحاق) *، وهو قول قتادة والنخعي. وقالت فرقة: يعود على لوط، وهاجر، وإبراهيم، عليهم السلام، من قريتهما كوني، وهي في سواد العراق، من أرض بابل، إلى فلسطين من أرض الشأم. وكان إبراهيم ابن خمس وسبعين سنة، وهو أول من هاجر في الله. وقال ابن جريج: هاجر إلى حران، ثم إلى الشام، وفي هجرته هذه كانت معه سارة. والمهاجر: الفارغ عن الشيء، وهو في عرف الشريعة: من ترك وطنه رغبة في رضا الله. وعرف بهذا الاسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، المهاجرون، قبل فتح مكة. * (إلى ربى) *، أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها. وقيل: إلى حيث لا أمنع عبادة ربي
144

وقيل: مهاجرا من خالفني من قومي، متقربا إلى ربي. ونزل إبراهيم قرية من أرض فلسطين، وترك لوطا في سدوم، وهي المؤتفكة، على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما السلام. * (إنه هو العزيز) * الذي لا يذل من عبده، * (الحكيم) * الذي يضع الأشياء مواضعها. والضمير في * (ذريته) * عائد على إبراهيم. * (النبوة) *: إسحاق، ويعقوب، وأنبياء بني إسرائى ل، وإسماعيل، ومحمد خاتمهم، صلى الله وسلم عليهم أجمعين. * (والكتاب) *: اسم جنس يدخل فيه التوراة، والزبور، والإنجيل، والفرقان.
* (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) *: أي في حياته قال مجاهد: نجاته من النار، ومن الملك الجبار، والعمل الصالح: والثناء الحسن، بحيث يتولاه كل أمة وقال ابن جريج: والولد الذي قرت به عينه، قاله الحسن. وقال السدي: إنه رأى مكانه من الجنة. وقال ابن أبي بردة: ما وفق له من عمل الآخرة. وقال الماوردي: بقاء ضيافته عند قبره، وليس ذلك لنبي غيره. وقيل: النبوة والحكمة. وقيل: الصلاة عليه إلى آخر الدهر. وانتصب لوطا بإضمار اذكر، أو بالعطف على إبراهيم، أو بالعطف على ما عطف عليه إبراهيم. والجمهور: على الاستفهام في أئنكم معا. وقرئ: أنكم على الخبر، والثاني على الاستفهام. وقال أبو عبيد: وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء، ورأيت الثاني بحرفين، الياء والنون. ولم يأت في قصة لوط أنه دعا قومه إلى عبادة الله، كما جاء في قصة إبراهيم وقصة شعيب، لأن لوطا كان من قوم إبراهيم وفي زمانه، وسبقه إبراهيم إلى الدعاء لعبادة الله وتوحيده، واشتهر أمره بذلك عند الخلق، فذكر لوط ما اختص به من المنع من الفحشاء وغيرها. وأما إبراهيم وشعيب فجاآ بعد انقراض من كان يعبد الله، فلذلك دعوا إلى عبادة الله.
قال الزمخشري: * (ما سبقكم بها) * جملة مستأنفة مقررة لفاحشة تلك الفعلة، كأن قائلا قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل: لأن أحدا قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازا منها في طباعهم لإفراط قبحها، حتى قدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم، قالوا: لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط. انتهى. ويظهر أن * (ما سبقكم بها) * جملة حالية، كأنه قال: أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها؟ واستفهم أولا وثانيا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، وبين ما تلك الفاحشة المبهمة في قوله: * (إنكم لتأتون الفاحشة) *، وإن كانت معينة أنها إتيان الذكور في الأدبار بقوله: * (ما سبقكم بها) *، فقال: * (أئنكم لتأتون الرجال) *: يعني في الأدبار، * (وتقطعون السبيل) *: الولد، بتعطيل الفرج ووطء أدبار الرجال، أو بإمساك الغرباء لذلك الفعل حتى انقطعت الطرق، أو بالقتل وأخذ المال، أو بقبح الأحدوثة حتى تنقطع سبل الناس في التجارات. * (وتأتون فى ناديكم) *: أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه، وهو اسم جنس، إذ أنديتهم في مدائنهم كثيرة، ولا يسمى ناديا إلا ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه، لم يطلق عليه ناد إلا مجازا.
و * (المنكر) *: ما تنكره العقول والشرائع والمروآت، حذف الناس بالحصباء، والاستخفاف بالغريب الخاطر، وروت أم هانىء، عن النبي صلى الله عليه وسلم). أو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا، قاله منصور ومجاهد والقاسم بن محمد وقتادة بن زيد؛ أو تضارطهم؛ أو تصافعهم فيها، قاله ابن عباس؛ أو لعب الحمام؛ أو تطريف الأصابع بالحناء، والصفير، والحذف، ونبذ الحياء في جميع أمورهم، قاله مجاهد أيضا، أو الحذف بالحصى، والرمي بالبنادق، والفرقعة، ومضغ العلك، والسواك بين الناس، وحل الأزرار، والسباب، والفحش في المزاح، قاله ابن عباس أيضا مع شركهم بالله. كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة، تظالم فيما بينهم، وبشاعة، ومضاريط في مجالسهم، وحذف، ولعب بالنرد والشطرنج، ولبس المصبغات، ولباس النساء للرجال، والمكوس على كل عابر؛ وهم أول من لاط
ومن ساحق.
ولما وقفهم لوط عليه السلام على هذه القبائح، أصروا على اللجاج في التكذيب، فكان جوابهم له: * (أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن
145

كنت من الصادقين) *، فيما تعدنا به من نزول العذاب، قالوا ذلك وهم مصممون على اعتقاد كذبه فيما وعدهم به. وفي آية أخرى: * (فما كان جواب قومه إلا أن) *، الجمع بينهما أنهم أولا قالواغ: * (ائتنا بعذاب الله) *، ثم أنه كثر منه الإنكار، وتكرر ذلك منه نهيا ووعظا ووعيدا، * (قالوا أخرجوا ءال لوط) *. ولما كان إنما يأمرهم بترك الفواحش وما كانوا يصنعونه من قبيح المعاصي، ويعد على ذلك بالعذاب، وكانوا يقولون إن الله لم يحرم هذا ولا يعذب عليه وهو يقول إن الله حرمه ويعذب عليه، * (قالوا ائتنا بعذاب الله) *، فكانوا ألطف في الجواب من قوم إبراهيم بقولهم: * (اقتلوه أو حرقوه) *، لأنه كان لا يذم آلهتهم، وعهد إلى أصنامهم فكسرها، فكان فعله هذا معهم أعظم من قول لوط لقومه، فكان جوابهم له: * (أن قالوا اقتلوه أو حرقوه) *.
ثم استنصر لوط عليه السلام، فبعث ملائكة لعذابهم، ورجمهم بالحاصب، وإفسادهم بحمل الناس على ما كانوا عليه من المعاصي طوعا وكرها، وخصوصا تلك المعصية المبتدعة. * (بالبشرى) *: هي بشارته بولده إسحاق، وبنافلته يعقوب، وبنصر لوط على قومه وإهلاكهم، و * (القرية) *: سدوم، وفيها قيل: أجور من قاضي سدوم. * (كانوا ظالمين) *: أي قد سبق منهم الظلم. واستمر على الأيام السالفة وهم مصرون، وظلمهم: كفرهم وأنواع معاصيهم. ولما ذكروا لإبراهيم: * (إنا مهلكو أهل هاذه القرية) *، أشفق على لوط فقال: * (إن فيها لوطا) *. ولما عللوا الإهلاك بالظلم، قال لهم: فيها من هو بريء من الظلم، * (قالوا نحن أعلم بمن فيها) *: أي منك، وأخبر بحاله. ثم أخبروه بإنجائهم إياه * (وأهله إلا امرأته) *. وقرأ حمزة، والكسائي: * (* لنجينه) *، مضارع أنجى؛ وباقي السبعة: مضارع نجى؛ والجمهور: بشد النون؛ وفرقة: بتخفيفها.
* (الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا) *: تقدم الكلام على مثل هذه الجملة، إلا أن هنا زيدت، أن بعد لما، وهو قياس مطرد. وقال الزمخشري أن صلة أكدت وجود الفعلين مترتبا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان، كأنه قيل: لما أحس بمجيئهم، فاجأت المساءة من غير وقت خيفة عليهم من قومه. انتهى. وهذا الذي ذكره في الترتيب هو مذهب سيبويه، إذ مذهبه. أن لما: حرف لا ظرف، خلافا للفارسي، وهذا مذكور في علم النحو. وقرأ العربيان، ونافع، وحفص: * (منجوك) *، مشددا؛ وباقي السبعة: مخففا، والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر. * (وأهلك) *: منصوب على إضمار فعل، أي وننجي أهلك. ومن راعى هذا الموضع، عطفه على موضع الكاف، والكاف على مذهب الأخفش وهشام في موضع نصب، وأهلك معطوف عليه، لأن هذه النون كالتنوين، وهما على مذهبهما يحذفان للطافة الضمير وشدة طلبه الاتصال بما قبله. وقرأ الجمهور: سئ، بكسر السين؛ وضمها نافع وابن عامر والكسائي. وقرأ عيسى، وطلحة: سوء، بضمهما، وهي لغة بني هذيل. وبني وبير يقولون في قيل وبيع ونحوهما: قول وبوع. وقرئ: منزلون، مخففا ومشددا؛ وابن محيصن: رجزا، بضم الراء؛ وأبو حيوة والأعمش: بكسر سين يفسقون. والظاهر أن الضمير في منها عائد على القرية، فقال ابن عباس: منازلهم الخربة. وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الآية في قريتهم، إلا أن أساسها أعلاها، وسقوفها أسفلها إلى الآن. وقال الفراء: المعنى تركناها آية، يقول: إن في السماء لآية، يريد أنها آية. انتهى، وهذا لا يتجه إلا على زيادة من في الواجب، نحو قوله: أمهرت منها جبة وتيسا، يريد: أمهرتها؛ وكذلك: ولقد تركناها آية، وقيل: الهاء في منها عائدة على الفعلة التي فعلت بهم، فقيل: الآية: الحجارة التي أدركتها أوائل هذه
146

الأمة، قاله قتادة؛ وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض، قاله مجاهد؛ وقيل: أنجز ما صنع بهم. و * (لقوم) *: متعلق بتركنا، أو بينة.
* (وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال ياقوم * قوم * اعبدوا الله وارجوا اليوم الاخر ولا تعثوا فى الارض مفسدين * فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم * جاثمين * وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين * وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا فى الارض وما كانوا سابقين * فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الارض ومنهم من) *.
* (وإلى مدين) *: أي وإلى مدين أرسلنا، أو بعثنا، مما يتعدى بإلى. أمرهم بعبادة الله، والإيمان بالبعث واليوم الآخر. والأمر بالرجاء، أمر بفعل ما يترتب الرجاء عليه، أقام المسبب مقام السبب. والمعنى: وافعلوا ما ترجون به الثواب من الله، أو يكون أمرا بالرجاء على تقدفير تحصيل شرطه، وهو الإيمان بالله. وقال أبو عبيدة: * (وارجوا) *: خافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله منكم إن لم تعبدوه. وتضمن الأمر بالعبادة والرجاء أنه إن لم يفعلوا ذلك، وقع بهم العذاب؛ كذلك جاء: * (فكذبوه) *، وجاءت ثمرة التكذيب، وهي: * (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) *، وتقدم تفسير مثل هذه الجمل. وانتصب * (وعادا وثمودا) * أهلكنا، لدلالة فأخذتهم الرجفة عليه. وقيل: بالعطف على الضمير في فأخذتهم، وأبعد الكسائي في عطفه على الذين من قوله: * (يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم) *. وقرأ: ثمود، بغير تنوين؛ حمزة، وشيبة، والحسن، وحفص، وباقي
147

السبعة: بالتنوين. وقرأ ابن وثاب: وعاد وثمود، بالخفض فيهما، والتنوين عطفا على مدين، أي وأرسلنا إلى عاد وثمود. * (وقد تبين لكم) *: أي ذلك، أي ما وصف لكم من إهلاكهم من جهة مساكنهم، إذا نظرتم إليها عند مروركم لها، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم. وقرأ الأعمش: مساكنهم، بالرفع من غير من، فيكون فاعلا بتبين.
* (وزين لهم الشيطان) *: أي بوسوسته وإغوائه، * (أعمالهم) * القبيحة. * (فصدهم عن * سبيل الله) *؛ وهي طريق الإيمان بالله ورسله. * (وكانوا مستبصرين) *: أي في كفرهم لهم به بصر وإعجاب قاله، ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. وقيل: عقلاء، يعلمون أن الرسالة والآيات حق، ولكنهم كفروا عنادا،
وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم. * (وقشرون) *: معطوف على ما قبله، أو منصوب بإضمار اذكر. * (فاستكبروا) *: أي عن الإقرار بالصانع وعبادته في الأرض، إشارة إلى قلة عقولهم، لأن من في الأرض يشعر بالضعف، ومن في السماء يشعر بالقوة، ومن في السماء لا يستكبرون عن عبادة الله، فكيف من في الأرض؟ * (وما كانوا سابقين) * الأمم إلى الكفر، أي تلك عادة الأمم مع رسلهم. والحاصب لقوم لوط، وهي ريح عاصف فيها حصا، وقيل: ملك كان يرميهم. والصيحة لمدين وثمود، والخسف لقارون، والغرق لقوم نوح وفرعون وقومه. وقال ابن عطية: ويشبه أن يدخل قوم عاد في الحاصب، لأن تلك الريح لا بد كانت تحصبهم بأمور مؤذية، والحاصب: هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء، ومنه قول الفرزدق:
* مستقبلين شمال الشأم تضربهم
*
بحاصب كنديف القطن منثور
*
ومنه قول الأخطل:
* ترمي العضاة بحاصب من بلحها
*
حتى تبيت على العضاة حفالا
*
* (العنكبوت) *: حيوان معروف، ووزنه فعللوت، ويؤنث ويذكر، فمن تذكيره قول الشاعر:
* على هطالهم منهم بيوت
*
كأن العنكبوت هو ابتناها
*
ويجمع عناكب، ويصغر عنيكيب. يشبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام، وبنائهم أمورهم عليها بالعنكبوت التي تبني وتجتهد، وأمرها كله ضعيف، متى مسته أدنى هامة أو هامة أذهبته، فكذلك أمر أولئك، وسعيهم مضمحل، لا قوة له ولا معتمد. وقال الزمخشري: الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلا ومعتمدا في دينهم، وتولوه من دون الله، مما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة، وهو نسج العنكبوت. ألا ترى إلى مقطع التشبيه، وهو قوله: * (ءان * أوهن البيوت لبيت العنكبوت) *؟ انتهى. يعني بقوله: ألا ترى إلى مقطع التشبيه بما ذكر أولا من أن الغرض تشبيه المتخذ بالبيت، لا تشبيه المتخذ بالعنكبوت؟ والذي يظهر، هو تشبيه المتخذ من دون الله وليا، بالعنكبوت المتخذة بيتا، أي فلا اعتماد للمتخذ على وليه من دون الله، كما أن العنكبوت لا اعتمادها على بيتها في استظلال وسكنى، بل لو دخلت فيه خرقته. ثم بين حال بيتها، وأنه في غاية الوهن، بحيث لا ينتفع به. كما أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تجدي شيئا البتة، وقوله: * (لو كانوا يعلمون) *، ليس مرتبطا بقوله: * (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) *، لأن كل أحد يعلم ذلك، فلا يقال فيه: لو كانوا يعلمون؛ وإنما المعنى: لو كانوا يعلمون أن
148

هذا مثلهم، وأن أمر دينهم بالغ من الوهن هذه الغاية لأقلعوا عنه، وما اتخذوا الأصنام آلهة.
وقال الزمخشري: إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان، لو كانوا يعلمون؛ أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز، وكأنه قال: وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان، لو كانوا يعلمون. ولقائل أن يقول: مثل المشرك الذي يعبد الوثن، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل عنكبوت يتخذ بيتا، بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر. فكما أن أوهن البيوت، إذا استقريتها بيتا، بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان، إذا استقريتها دينا دينا، عبادة الأوثان، لو كانوا يعلمون. انتهى.
وما ذكره من قوله: ولقائل أن يقول إلخ. لا يدل عليه لفظ الآية، وإنما هو تحميل للفظ ما لا يحتمله، كعادته في كثير من تفسيره. وقرأ أبو عمرو، وسلام: يعلم ما، بالإدغام؛ والجمهور: بالفك؛ والجمهور: تدعون، بتاء الخطاب؛ وأبو عمرو، وعاصم: بخلاف، بياء الغيبة؛ وجوزوا في ما أن يكون مفعولا بيدعون، أي يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء، أي يعلم حالهم، وأنهم لا قدرة لهم. وأن تكون نافية، أي لستم تدعون من دونه شيئا له بال ولا قدر، فيصلح أن يسمى شيئا، وأن يكون استفهاما، كأنه قدر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء، وهي في هذين الوجهين مقتطعة من يعلم، واعتراض بين يعلم وبين قوله: * (وهو العزيز الحكيم) *. وجوز أبو علي أن يكون ما استفهاما منصوبا بيدعون، ويعلم معلقة؛ فالجملة في موضع نصب بها، والمعنى: أن الله يعلم أوثانا تدعون من دونه، أم غيرها لا يخفى عليه ذلك. والجملة تأكيد للمثل، وإذا كانت ما نافية، كان في الجملة زيادة على المثل، حيث لم يجعل تعالى ما يدعونه شيئا. * (وهو العزيز الحكيم) *: فيه تجهيل لهم، حيث عبدوا ما ليس بشيء، لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلا، وتركوا عبادة القادر القاهر الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا لحكمة. * (وما يعقلها إلا العالمون) *: أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها.
وكان جهلة قريش يقولون: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة، فتبرزها وتصورها للفهم، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد. والإشارة بقوله: * (وتلك الامثال) * إلى هذا المثل، وما تقدم من الأمثال في السور. وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، تلا هذه الآية فقال: (العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه).
* (خلق * السماوات والارض) *: فيه تنبيه على صغر قدر الأوثان التي عبدوها. ومعنى * (بالحق) *: بالواجب الثابت، لا بالعبث واللعب، إذ جعلها مساكن عباده، وعبرة ودلائل على عظيم قدرته وباهر حكمته. والظاهر أن الصلاة هي المعهود، والمعنى: من شأنها أنها إذا أديت على ما يجب من فروضها وسننها والخشوع فيها، والتدبر لما يتلو فيها، وتقدير المثول بين يدي الله تعالى، أن * (تنهى عن الفحشاء والمنكر) *. وقال ابن عباس، والكلبي، وابن جريج، وحماد بن أبي سليمان: تنهى ما دام المصلي فيها. وقال ابن عمر: الصلاة هنا القرآن. وقال ابن بحر: الصلاة: الدعاء، أي أقم الدعاء إلى أمر الله، وأما من تراه من المصلين يتعاطى المعاصي، فإن صلاته تلك ليست بالوصف الذي تقدم.
وفي الحديث أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم)، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ارتكبه، فقيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم)، فقال: (إن صلاتها تنهاه). فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (ألم أقل لكم؟) ولا يدل اللفظ على أن كل صلاة تنهى، بل المعنى، أنه يوجد ذلك فيها، ولا يكون على العموم. كما تقول: فلان يأمر بالمعروف، أي من شأنه ذلك، ولا
149

يلزم منه أن كل معروف يأمر به. والظاهر أن * (أكبر) * أفعل تفضيل. فقال عبد الله، وسلمان، وأبو الدرداء، وابن عباس، وأبو قرة: معناه ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه. وقال قتادة، وابن زيد: أكبر من كل شيء؛ وقيل: ولذكر الله في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة، أي أكبر ثوابا؛ وقيل: أكبر من سائر أركان الصلاة؛ وقيل: ولذكر الله نهيه أكبر من نهي الصلاة؛ وقيل: أكبر من كل العبادة. وقال ابن عطية: وعندي أن المعنى: ولذكر الله أكبر على الإطلاق، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، والجزء الذي منه في الصلاة ينهى، كما ينهى في غير الصلاة، لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر الله مراقبه، وثواب ذلك الذاكر أن يذكره الله في ملأ خير من ملئه، والحركات التي في الصلاة لا تأثيرلها في النهي، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله. وأما ما لا يجاوز اللسان ففي رتبة أخرى. وقال الزمخشري: يريد والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله، كما قال: * (فاسعوا إلى ذكر الله) *، وإنما قال: * (ولذكر الله) *، لتستقل بالتعليل، كأنه قال: والصلاة أكبر، لأنها ذكر الله مما تصنعون من الخير والشر فيجازيكم، وفيه وعيد وحث على المراقبة.
* (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم) *.
و * (أهل الكتاب) *: اليهود والنصارى. * (إلا بالتى هى أحسن) *: من الملاطفة في الدعاء إلى الله والتنبيه على آياته. * (إلا الذين ظلموا) *: ممن لم يؤد جزية ونصب الحرب، وصرح بأن لله ولدا أو شريكا، أو يده مغلولة؛ فالآية منسوخة في مهادنة من لم يحارب، قاله مجاهد ومؤمنو أهل الكتاب. * (إلا بالتى هى أحسن) *: أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أحبار أوائلهم. * (إلا الذين ظلموا) *: من بقي منهم على كفره، وعد لقريظة والنضير، قاله ابن زيد، والآية على هذا محكمة. وقيل: إلا الذين آذوا رسول
150

الله صلى الله عليه وسلم). وقال قتادة: الآية منسوخة بقوله: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون) * الآية. وقرأ الجمهور: إلا، حرف استثناء؛ وابن عباس: ألا، حرف تنبيه واستفتاح، وتقديره: ألا جادلوهم بالتي هي أحسن. * (وقولوا ءامنا) *: هذا من المجادلة بالأحسن. * (بالذى أنزل إلينا) *، وهو القرآن، * (وأنزل إليكم) *، وهو التوراة والزبور والإنجيل.
وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة: كان أهل الكتاب يقرؤن التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم). * (وكذالك) *: أي مثل ذلك الإنزال الذي للكتب السابقة، * (أنزلنا إليك الكتاب) *: أي القرآن. * (فالذين ءاتيناهم الكتاب) * هم: عبد الله بن سلام ومن آمن معه. * (ومن هؤلاء) *: أي من أهل مكة. وقيل: * (فالذين ءاتيناهم الكتاب) *: أي الذين تقدموا عهد الرسول، يؤمنون به: أي بالقرآن، إذ هو مذكور في كتبهم أنه ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم). * (ومن هؤلاء) *: أي ممن في عهده منهم. * (وما يجحد بئاياتنا) *، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها، * (إلا الكافرون) *: أي من بني إسرائيل وغيرهم.
قال مجاهد: كان أهل الكتاب يقرأون في كتبهم أن محمدا عليه السلام، لا يحظ ولا يقرأ كتابا، فنزلت: * (وما كنت تتلو من قبله) *: أي من قبل نزوله عليك، * (من كتاب) *: أي كتابا، ومن زائدة لأنها في متعلق النفي، * (ولا تخطه) *: أي لا تقرأ ولا تكتب، * (بيمينك) *: وهي الجارحة التي يكتب بها، وذكرها زيادة تصوير لما نفي عنه من الكتابة، لما ذكر إنزال الكتاب عليه، متضمنا من البلاغة والفصاحة والإخبار عن الأمم السابقة والأمور المغيبة ما أعجز البشر أن يأتوا بسورة مثله. أخذ يحقق، كونه نازلا من عند الله، بأنه ظهر عن رجل أمي، لا يقرأ ولا يكتب، ولا يخالط أهل العلم. وظهور هذا القرآن المنزل عليه أعظم دليل على صدقه، وأكثر المسلمين على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم يكتب قط، ولم يقرأ بالنظر في كتاب.
وروي عن الشعبي أنه قال: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم)، حتى كتب وأسند النقاش. حديث أبي كبشة السلولي: أنه صلى الله عليه وسلم)، قرأ صحيفة لعيينة ابن حصن وأخبر بمعناها. وفي صحيح مسلم ما ظاهره: أنه كتب مباشرة، وقد ذهب إلى ذلك جماعة، منهم أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي، والقاضي أبو الوليد الباجي وغيرهما. واشتد نكير كثير من علماء بلادنا على أبي الوليد الباجي، حتى كان بعضهم يسبه ويطعن فيه على المنبر. وتأول أكثر العلماء ما ورد من أنه
كتب على أن معناه: أمر بالكتابة، كما تقول: كتب السلطان لفلان بكذا، أي أمر بالكتب. * (إذا لارتاب المبطلون) *: أي لو كان يقرأ كتبا قبل نزول القرآن عليه، أو يكتب، لحصلت الريبة للمبطلين، إذا كانوا يقولون: حصل ذلك الذي يتلوه مما قرأه، قيل: وخطه واستحفظه؛ فكان يكون لهم في ارتيابهم تعلق ببعض شبهة، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده. والمبطلون: أهل الكتاب، قاله قتادة؛ أو كفار قريش، قاله مجاهد. وسموا مبطلين، لأنهم كفروا به، وهو أمي بعيد من الريب. ولما لم يكن قارئا ولا كاتبا، كان ارتيابهم لا وجه له.
* (بل هو) *: أي القرآن: * (بينات فاسأل) *: واضحات الإعجاز، * (فى صدور الذين أوتوا العلم) *: أي مستقرة، مؤمن من بها، محفوظة في صدورهم، يتلوها أكثر الأمة ظاهرا، بخلاف غيره من الكتب، فليس بمعجز، ولا يقرأ إلا من الصحف. وجاء في صفة هذه الأمة صدورهم: أنا جيلهم، وكونه القرآن، يؤيده قراءة عبد الله، بل هي آيات. وقيل: بل هو، أي النبي وأمورة، آيات بينات، قاله قتادة. وقرأ: بل هو آية بينة على التوحيد؛ وقيل: بل هو، أي كونه لا يقرأ ولا يكتب. ويقال: جحدته وجحدت به، وكفرته وكفرت به، قيل: والجحود الأول معلق بالواحدنية، والثاني معلق بالنبوة، وختمت تلك
151

بالكافر. ولأنه قسيم المؤمنين في قوله: * (يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن) *، وهذه بالظالمين، لأنه جحد بعد إقامة الدليل على كون الرسول صدر منه القرآن منزل عليه، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، فهم الظالمون بعد ظهور المعجزة.
* (وقالوا لولا أنزل عليه * اية من ربه) *: أي قريش، وبعض اليهود كانوا يعلمون قريشا مثل هذا الاقتراح يقولون له: ألا يأتيكم بآية مثل آيات موسى من العصا وغيرها؟ وقرأ العربيان، ونافع، وحفص: آيات، على الجمع؛ وباقي السبعة: على التوحيد. * (قل إنما الايات عند الله) *، ينزل أيتها شاء، ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل. * (وإنما أنا نذير) * بما أعطيت من الآيات. وذكر يحيى بن جعدة أن ناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بكتب قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلما نظر إليها ألقاها وقال: (كفر بها جماعة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم)، فنزلت: * (أو لم * يكفهم) *.
والذي يظهر أنه رد على الذين قالوا: * (لولا أنزل عليه ءاية من ربه) *: أي أو لم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات، إن كانوا طالبين للحق، غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان؟ فلا تزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل، كما تزول كل آية بعد وجودها، ويكون في مكان دون مكان. إن في هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان لرحمة لنعمة عظيمة لا تنكر وتذكر. وقيل: * (أو لم * يكفهم) *: يعني اليهود، * (أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم * إنما الايات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن فى ذالك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون * قل كفى بالله بينى وبينكم شهيدا) *: أي قد بلغت وأنذرت، وأنكم جحدتم وكذبتم، وهو العالم * (ما في السماوات * والارض) *، فيعلم أمري وأمركم، * (والذين ءامنوا بالباطل) *. قال ابن عباس: بغير الله. وقال مقاتل: بعبادة الشيطان. وقيل: بالضم.
* (ويستعجلونك) *: أي كفار قريش في قولهم: * (ائتنا بما تعدنا) *، وقول النضر: * (فأمطر علينا حجارة) *، وهو استعجال على جهة التعجيز والتكذيب والاستهزاء بالعذاب الذي كان يتوعدهم به الرسول. والأجل المسمى: ما سماه الله وأثبته في اللوح لعذابهم، وأوجبت الحكمة تأخيره. وقال ابن جبير: يوم القيامة. وقال ابن سلام: أجل ما بين النفختين، وقيل: يوم بدر. * (وليأتينهم بغتة) *: أي فجأة، وهو ما ظهر يوم بدر، وفي السنين السبع. ثم كرر فعلهم وقبحه، وأخبر أن وراءهم جهنم، تحيط بهم. وانتصب * (يوم يغشاهم) * بمحيطة. وقرأ الكوفيون، ونافع: * (ويقول) *: أي الله؛ وباقي السبعة: بالنون، نون العظمة، أو نون جماعة الملائكة؛ وأبو البرهثيم: بالتاء، أي جهنم؛ كما نسب القول إليها في: * (وتقول هل من مزيد) *. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: ويقال، مبنيا للمفعول.
* (تعملون ياعبادى الذين ءامنوا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شىء عليم ولئن سألتهم من
152

نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون وما هاذه الحيواة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما ءاتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس فى جهنم مثوى للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) *.
أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن قوله: * (فى عبادى) * الآية، نزلت فيمن كان مقيما بمكة؛ أمروا بالهجرة عنها إلى المدينة، أي جانبوا أهل الشرك، واطلبوا أهل الإيمان. وقال أبو العالية: سافر والطلب أوليائه. وقال ابن جبير، وعطاء، ومجاهد، ومالك بن أنس: الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية، ويلزم الهجرة عنها إلى بلد حق. وقال مطرف بن الشخير: * (إن أرضى واسعة) * عدة بسعة الرزق في جميع الأرض. وقيل: أرض الجنة واسعة أعطيكم. وقال مجاهد: سافروا لجهاد أعدائه. * (فإياى فاعبدون) *، من باب الاشتغال: أي فإياي اعبدوا فاعبدون. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى الفاء في فاعبدون، وتقدم المفعول؟ قلت: الفاء جواب شرط محذوف، لأن المعنى: إن أرضي واسعة، فإن لم تخلصوا العبادة في أرض، فاخلصوها في غيرها. ثم حذف الشرط وعوض من
حذفة تقديم المفعول، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص. انتهى. ويحتاج هذا الجواب إلى تأمل.
ولما أخبر تعالى بسعة أرضه، وكان ذلك إشارة إلى الهجرة، وأمر بعبادته، فكأن قد يتوهم متوهم أنه إذا خرج من أرضه التي نشأ فيها لأجل من حلها من أهل الكفر إلى دار الإسلام، لا يستقيم له فيها ما كان يستقيم له في أرضه، وربما أدى ذلك إلى هلاكه. أخبر أن كل نفس لها أجل تبلغه، وتموت في أي مكان حل، وأن رجوع الجمع إلى أجزائه يوم القيامة. وقرأ علي: * (ترجعون) *، مبنيا للفاعل؛ والجمهور: مبنيا للمفعول، بتاء الخطاب. وروى عن عاصم: بياء الغيبة. وقرأ أبو حيوة: * (ذائقة) *، بالتنوين؛ * (الموت) *: بالنصب. وقرأ: * (لنبوئنهم) *، من المباءة. وقرأ علي، وعبد الله، والربيع بن خيثم، وابن وثاب، وطلحة، وزيد بن علي، وحمزة، والكسائي: من الثواء؛ وبوأ يتعدى لاثنين. قال تعالى: * (وبشر المؤمنين) * مقاعد للقتال، وقد جاء متعدي بالام. قال تعالى: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) *، والمعنى: ليجعلن لهم مكان مباءة، أي مرجعا يأوون إليه. * (غرفا) *: أي علالي، وأما ثوى فمعناه: أقام، وهو فعل لازم، فدخلت عليه همزة التعدية فصار يتعدى إلى واحد، وقد قرىء مشددا عدى بالتضعيف، فانتصب غرفا، إما على إسقاط حرف الجر، أي في غرف، ثم اتسع فحذف، وإما على تضمين الفعل معنى التبوئة، فتعدى إلى اثنين، أو شبه الظرف المكاني المختص بالمبهم يوصل إليه الفعل. وروي عن ابن عامر: غرفا، بضم الراء. وقرأ ابن وثاب: فنعم، بالفاء؛ والجمهور: بغير فاء. * (الذين صبروا) *: أي على مفارقة أوطانهم والهجرة وجميع المشاق، من امتثال الأوامر واجتناب المناهي. * (وعلى ربهم يتوكلون) *: هذان جماع الخير كله، الصبر وتفويض الأمور إلى الله تعالى.
ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، من أسلم بمكة بالهجرة، خافوا الفقر فقالوا
153

غربة في بلاد لا دار لنا، ولا فيه عقار، ولا من يطعم. فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدخر، ولا تروي في رزقها، ولا تحمل رزقها، من الحمل: أي لا تنقل، ولا تنظر في إدخار، قاله مجاهد، وأبو مجلز، وعلي بن الأقمر. والإدخار جاء في حديث: (كيف بك إذا بقيت في حثالة من حثالة الناس يخبئون رزق سنة لضعف اليقين؟) قيل: ويجوز أن يكون من الحمالة التي لا تتكفل لنفسها ولا تروى. وقال الحسن: * (لا تحمل رزقها) *: لا تدخر، إنما تصبح فيرزقها الله. وقال ابن عباس: لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق، وقيل: البلبل يحتكر في حضنيه، ويقال: للعقعق مخابىء، إلا أنه ينساها. وانتفاء حملها لرزقها، إما لضعفها وعجزها عن ذلك، وإما لكونها خلقت لا عقل لها، فيفكر فيما يخبؤه للمستقبل: أي يرزقها على ضعفها. * (وإياكم) *: أي على قدرتكم على الاكتساب، وعلى التحيل في تحصيل المعيشة، ومع ذلك فرازقكم هو الله، * (وهو السميع) * لقولكم: نخشى الفقر، * (العليم) * بما انطوت عليه ضمائركم.
ثم أعقب تعالى ذلك بإقرارهم بأن مبدع العالم ومسخر النيرين هو الله. وأتبع ذلك ببسط الرزق وضيقه، فقال: * (الله يبسط الرزق لمن يشاء) * أن يبسطه، * (ويقدر) * لمن يشاء أن يقدره. والضمير في له ظاهره العود على من يشاء، فيكون ذلك الواحد يبسط له في وقت، ويقدر في وقت. ويجوز أن يكون الضمير عائدا عليه في اللفظ، والمراد لمن يشاء آخر، فصار نظير: * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) *: أي من عمر معمر آخر. وقولهم: عندي درهم ونصفه: أي ونصف درهم آخر، فيكون المبسوط له الرزق غير المضيق عليه الرزق. وقرأ علقمة الحمصي: ويقدر: بضم الياء وفتح القاف وشد الدال، * (عليم) *: يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.
ولما أخبر بأنهم مقرون بأن موجد العالم، ومسخر النيرين، ومحيي الأرض بعد موتها هو الله، كان ذلك الإقرار ملزما لهم أن رازق العباد إنما الله هو المتكفل به. وأمر رسوله بالحمد له تعالى، لأن في إقرارهم توحيد الله بالإبداع ونفي الشركاء عنه في ذلك، وكان ذلك حجة عليهم، حيث أسندوا ذلك إلى الله وعبدوا الأصنام. * (بل أكثرهم لا يعقلون) *، حيث يقرون بالصانع الرازق المحيي، ويعبدون غيره.
* (وما هاذه الحيواة الدنيا) *: الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها، وكيف لا؟ وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، أي ما هي في سرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون. والحيوان، والحياة بمعنى واحد، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر حيي، والمعنى: لهي دار الحياة، أي المستمرة التي لا تنقطع. قال مجاهد: لا موت فيها. وقيل: الحيوان: الحي، وكأنه أطلق على الحي اسم المصدر. وجعلت الدار الآخرة حيا على المبالغة بالوصف بالحياة، وظهور الواو في الحيوان وفي حيوة، علم لرجل استدل به من ذهب إلى أن الواو في مثل هذا التركيب تبدل ياء لكسر ما قبلها، نحو: شقي من الشقوة. ومن ذهب إلى أن لام الكلمة لامها ياء، زعم أن ظهور الواو في حيوان وحيوة بدل من ياء شذوذا، وجواب لو محذوف، أي لو كانوا يعلمون، لم يؤثروا دار الفناء عليها. وجاء بنا مصدر حي على فعلان، لأنه يدل على الحركة والاضطراب، كالغليان، والنزوان، واللهيان، والجولان، والطوفان. والحي: كثير الاضطراب والحركة، فهذا البناء فيه لكثرة الحركة.
ولما ذكر تعالى أنهم مقرون بالله إذا سئلوا: من خلق العالم؟ * (ومن * نزل من السماء ماء) *؟ ذكر أيضا حالة أخرى يرجعون فيها إلى الله، ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد، وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: * (فإذا ركبوا فى الفلك) *؟ قلت: بمحذوف
154

دل عليه ما وصفهم به، وشرح من أمرهم معناه على ما وصفوا به من الشرك والعناد. * (فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) *: كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون مع الله آخر. وفي المخلصين ضرب من التهكم، و * (إذا هم يشركون) *: جواب لما، أي فاجأ السحية إشراكهم بالله، أي لم يتأخر عنها ولا وقتا. والظاهر في * (ليكفروا) * أنها لام كي، وعطف عليه * (وليتمتعوا) * في قراءة من كسر اللام وهم: العربيان ونافع وعاصم، والمعنى: عادوا إلى شركهم. * (ليكفروا) *: أي الحامل لهم على الشرك هو كفرهم بما أعطاهم الله تعالى، وتلذذهم بما متعوا به من عرض الدنيا
، بخلاف المؤمنين، فإنهم إذا نجوا من مثل تلك الشدة، كان ذلك جالب شكر الله تعالى، وطاعة له مزدادة. وقيل: اللام في: * (ليكفروا) *، * (وليتمتعوا) *، لام الأمر، ويؤيده قراءة من سكن لام وليتمتعوا وهم: ابن كثير، والأعمش، وحمزة، والكسائي؛ وهذا الأمر على سبيل التهديد، كقوله: * (اعملوا ما شئتم) *.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر، وبأن يعمل العصاة ما شاوؤا، وهوناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت: هو مجاز عن الخذلان والتحلية، وإن ذلك الأمر مسخط إلى غاية. انتهى. والتحلية والخذلان من ألفاظ المعتزلة. وقرأ ابن مسعود: فتمتعوا فسوف تعلمون، بالتاء فيهما: أي قيل لهم تمتعوا فسوف تعلمون، وكذا في مصحف أبي. وقرأ أبو العالية: فيتمتعوا، بالياء، مبنيا للمفعول. ومن قرأ: وليتمتعوا، بسكون اللام، وكان عنده اللام في: ليكفروا، لام كي، فالواو عاطفة كلاما على كلام، لا عاطفة فعلا على فعل. وحكى ابن عطية، عن ابن مسعود: لسوف تعلمون، باللام، ثم ذكرهم تعالى بنعمه، حيث أسكنهم بلدة أمنوا فيها، لا يغزوهم أحد ولا يستلب منهم، مع كونهم قليلي العدد، قارين في مكان لا زرع فيه، وهذه من أعظم النعمة التي كفروها، وهي نعمة لا يقدر عليها إلا الله تعالى. وقرأ الجمهور: * (يؤمنون) *، و * (يكفرون) *، بالياء فيهما. وقرأ السلمي، والحسن: بتاء الخطاب فيهما. وافتراؤهم الكذب: زعمهم أن لله شريكا، وتكذيبهم بالحق: كفرهم بالرسول والقرآن. وفي قوله: * (لما جاءه) *: إشعار بأنهم لم يتوقفوا في تكذيبه وقت مجيء الحق لهم، بخلاف العاقل، فإنه إذا بلغه خبر، نظر فيه وفكر حتى يبين له أصدق هو أم كذب. وأليس تقرير لمقامهم في جهنم كقوله:
ألستم خير من ركب المطايا
و * (للكافرين) * من وضع الظاهر موضع المضمر: أي مثواهم. * (والذين جاهدوا فينا) *: أطلق المجاهدة، ولم يقيدها بمتعلق، ليتناول المجاهدة في النفس الأمارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين، وما ورد من أقوال العلماء، فالمقصود بها المثال. قال ابن عباس: جاهدوا أهواءهم في طاعة الله وشكر آلائه والصبر على بلائه. * (لنهدينهم سبلنا) *: لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير، كقوله: * (والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم) *. وقال السدي: جاهدوا فينا بالثبات على الإيمان، لنهدينهم سبلنا إلى الجنة. وقال أبو سليمان الداراني: جاهدوا فيما علموا، لنهدينهم إلى ما لم يعلموا. وقيل: جاهدوا في الغزو، لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة. وقال ابن عباس: المحسنين الموحدين. وقال غيره: المجاهدون. وقال عبد الله بن المبارك: من اعتاصت عليه مسألة، فليسأل أهل الثغور عنها، كقوله تعالى: * (لنهدينهم سبلنا) *. * (والذين) *: مبتدأ خبره القسم المحذوف، وجوابه: وهو لنهدينهم وبهذا، ونظيره رد على أبي العباس ثعلب في منعه أن تقع جملة القسم والمقسم عليه خبرا للمبتدأ، ونظيره: * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات) *.
155

((سورة الروم))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ألم * غلبت الروم * فىأدنى الا رض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * فى بضع سنين لله الا مر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشآء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحيواة الدنيا وهم عن الا خرة هم غافلون * أولم يتفكروا فىأنفسهم ما خلق الله السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقآء ربهم لكافرون * أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الا رض وعمروهآ أكثر مما عمروها وجآءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بأايات الله وكانوا بها يستهزئون * الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون * ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون * ولم يكن لهم من شركآئهم شفعاء وكانوا بشركآئهم كافرين * ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم فى روضة يحبرون * وأما الذين كفروا وكذبوا بأاياتنا ولقآء الاخرة فأولائك فى العذاب محضرون
هذه السورة مكية، قال ابن عطية وغيره، بلا خلاف. وقال الزمخشري: إلا قوله: * (فسبحان الله) *. وسبب نزولها أن كسرى بعث جيشا إلى الروم، وأمر عليهم رجلا، واختلف النقلة في اسمه؛ فسار إليهم بأهل فارس، وظفر وقتل وخرب وقطع زيتونهم، وكان التقاؤهم بأذرعات وبصرى، وكان قد بعث قيصر رجلا أميرا على الروم. وقال مجاهد: التقت
156

بالجزيرة. وقال السدي: بأرض الأردن وفلسطين، فشق ذلك على المسلمين لكونهم مع الروم أهل الكتاب، وفرح بذلك المشركون لكونهم مع المجوس ليسوا بأهل كتاب. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أن الروم * (سيغلبون * فى بضع سنين) *.
ونزلت أوائل الروم، فصاح أبو بكر بها في نواحي مكة: * (ألم * غلبت الروم * فى أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * فى بضع سنين) *. فقال ناس من مشركي قريش: زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارسا في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ فقال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان. فاتفقوا أن جعلوا بضع سنين وثلاث قلائص، وأخبر أبو بكر رسول الله بذلك فقال: (هلا اختطبت؟ فارجع فزدهم في الأجل والرهان). فجعلوا القلائص مائة، والأجل تسعة أعوام. فظهرت الروم على فارس في السنة السابعة، وكان ممن راهن أبي بن خلف. فلما أراد أبو بكر الهجرة، طلب منه أبي كفيلا بالخطر إن غلبت، فكفل به ابنه عبد الرحمن. فلما أراد أبي الخروج إلى أحد، طلبه عبد الرحمن بالكفيل، فأعطاه كفيلا ومات أبي من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم). وظهر الروم على فارس يوم الحديبية. وقيل: كان النصر يوم بدر للفريقين، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقال له: (تصدق به).
وسبب ظهور الروم، أن كسرى بعث إلى شهريزان، وهو الذي ولاه على محاربة الروم، أن اقتل أخاك فرخان لمقالة قالها، وهي قوله: لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى، فلم يقتله. فبعث إلى فارس أني عزلت شهريزان ووليت أخاه فرخان، وكتب إليه: إذا ولي، أن يقتل أخاه شهريزان، فأراد قتله، فأخرج له شهريزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل أخيه فرخان. قال: وراجعته في أمرك مرارا، ثم تقتلني بكتاب واحد؟ فرد الملك إلى أخيه. وكتب شهريزان إلى قيصر ملك الروم، فتعاونا على كسرى، فغلبت الروم فارس، وجاء الخبر، ففرح المسلمون. وكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة، وأن القرآن من عند الله، لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
وقرأ علي، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر، ومعاوية بن قرة، والحسن: * (غلبت الروم) *: مبنيا للفاعل، * (سيغلبون) *: مبنيا للمفعول؛ والجمهور: مبنيا للمفعول، سيغلبون: مبنيا للفاعل. وتأويل ذلك على ما فسره ابن عمران: الروم غلبت على أدنى ريف الشأم، يعنى: بالريف السواد. وجاء كذلك عن عثمان، وتأوله أبو حاتم على أن الروم غلبت يوم بدر، فعز ذلك على كفار قريش، وسر المؤمنون، وبشر الله عباده بأنهم سيغلبون في بضع سنين. انتهى. فيكون قد أخبر عن الروم بأنهم قد غلبوا، وبأنهم سيغلبون، فيكون غلبهم مرتين. قال ابن عطية: والقراءة بضم الغين أصح. وأجمع الناس على سيغلبون بفتح الياء، يراد به الروم. وروي عن ابن عمر أنه قرأ سيغلبون بضم الياء، وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات. انتهى. وقوله: وأجمعوا، ليس كذلك. ألا ترى أن الذين قرؤا غلبت بفتح الغين هم الذين قرؤا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام، وليست هذه مخصوصة بابن عمر؟ وقرأ الجمهور: غلبهم، بفتح الغين واللام: وعلي، وابن عمر، ومعاوية بن قرة: بإسكانها؛ والقياس عن ابن عمر: وغلابهم، على وزن كتاب. والروم: طائفة من النصارى، وأدنى الأرض: أقر بها: فإن كانت الواقعة في أذرعات، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله:
* تنورتها من أذرعات وأهلها
*
بيثرب أدنى دارها نظر عال
*
وإن كانت بالجزيرة، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى. فإن كانت بالأردن، فهي أدنى بالنظر إلى أرض الروم. وقرأ الكلبي: * (فى أدنى الارض) *، وتقدم الكلام في مدلول البضع باعتبار القراءتين. ففي غلبت، بضم الغين، يكون مضافا
157

للمفعول؛ وبالفتح، يكون مضافا للفاعل، ويكون المعنى: سيغلبهم المسلمون في بضع سنين، عند انقضاء هذه المدة التي هي أقصى مدلول البضع.
أخذ المسلمون في جهاد الروم، وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى: * (ألم * غلبت الروم) * إلى قوله: * (فى بضع سنين) *، افتتاح المسلمين بيت المقدس، معينا زمانه ويومه، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى، وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي كان عينه للفتح، وأنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم. وكان أبو جعفر يعتقد في أبي الحكم هذا، أنه كان يطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله.
* (لله الامر) *: أي إنفاذ الأحكام وتصريفها على ما يريد. وقرأ الجمهور: * (من قبل ومن بعد) *، بضمهما: أي من قبل غلبة الروم ومن بعدها. ولما كانا مضافين إلى معرفة، وحذفت بنيا على الضم، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو. وقرأ أبو السمال، والجحدري، وعون العقيلي: من قبل ومن بعد، بالكسر والتنوين فيهما. قال الزمخشري: على الجر من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه، كأنه قيل: قبلا وبعدا، بمعنى أولا وآخرا. انتهى. وقال ابن عطية: ومن العرب من يقول: من قبل ومن بعد، بالخفض والتنوين. قال الفراء: ويجوز ترك التنوين، فيبقى كما هو في الإضافة، وإن حذف المضاف. انتهى. وأنكر النحاس ما قاله الفراء ورده، وقال الفراء في كتابه: في القرآن أشياء كثيرة من الغلط، منها: أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد، وإنما يجوز من قبل ومن بعد على أنهما نكرتان، والمعنى: من متقدم ومن متأخر. وحكى الكسائي عن بعض بني أسد لله: الأمر من قبل ومن بعد الأول مخفوض منون، والثاني مضموم بلا تنوين. والظاهر أن يومئذ ظرف * (يفرح المؤمنون) *، وعلى هذا المعنى فسره المفسرون.
وقيل: * (ويومئذ) * عطف على: * (من قبل ومن بعد) *، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة: الماضي والمستقبل والحال، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر. و * (بنصر الله) *: أي الروم على فارس، أو المسلمين على عدوهم، أو في أن صدق ما قال الرسول من أن الروم ستغلب فارس، أو في أن يسلط بعض الظالمين على بعض، حتى تفانوا وتناكصوا، احتمالات. وفي الحديث: (فارس نطحة أو نطحتان، ثم لا فارس بعدها أبدا، والروم ذات القرون، كلما ذهب قرن خلف قرن إلى آخر الأبد).
وقال ابن عباس: يوم بدر كانت هزيمة عبدة الأوثان وعبدة النيران، وقال معناه أبو سعيد الخدري، وقيل: ورد الخبر يوم الحديبية بوفاة كسرى، فسر المسلمون بحرب المشركين، ولموت عدو لهم في الأرض متمكن. وهو * (العزيز) * بانتقامه من أعدائه، * (الرحيم) * لأوليائه. وانتصب * (وعد الله) * على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت، وهو قوله: * (سيغلبون) *، وقوله: * (يفرح المؤمنون) *. * (ولاكن أكثر الناس) * الكفار من قريش وغيرهم، * (لا يعلمون) *: نفي عنهم العلم النافع للآخرة، وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا. قيل: والمعنى لا يعلمون أن الأمور من عند الله، وأن وعده لا يخلفه، وأن ما يورده بعينه /
صلى الله عليه وسلم)، حق. * (يعلمون ظاهرا) *: أي بينا، أي ما أدته إليهم حواسهم، فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم. وقال ابن عباس، والحسن، والجمهور: معناه ما فيه الظهور والعلو في الدنيا من اتقان الصناعات والمباني ومظان كسب المال والفلاحات، ونحو هذا. وقالت فرقة: معناه ذاهبا زائلا، أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة. وقال الهذلي:
* وعيرها الواشون أني أحبها
*
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
*
أي: زائل. وقال ابن جبير: * (ظاهرا) *، أي يعلمون من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين. وقال الرماني: كل ما يعلم بأوائل الرؤية فهو الظاهر، وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن. وقال الزمخشري: * (يعلمون) * بدل من قول: * (لا يعلمون) *، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده، لنعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله: * (ظاهرا من الحيواة الدنيا) *: يفيد أن للدنيا ظاهرا ا وباطنا، فظاهرها ما
158

يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز للآخرة، يتزود إليها منها بالطاعة والأعمال الصالحة؛ وهم الثانية توكيد لهم الأولى، أو مبتدأ. وفي إظهارهم على أي الوجهين، كانت تنبيه على غفلتهم التي صاروا ملتبسين بها، لا ينفكون عنها. و * (فى أنفسهم) *: معمول ليتفكروا، إما على تقدير مضاف، أي في خلق أنفسهم ليخرجوا من الغفلة، فيعلموا أنهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فقط، ويستدلوا بذلك على الخالق المخترع.
ثم أخبر عقب هذا بأن الحق هو السبب في خلق السماوات والأرض؛ وأما على أن يكون * (فى أنفسهم) * ظرفا للفكرة في خلق السماوات والأرض، فيكون * (فى أنفسهم) * توكيدا لقوله: * (يتفكرون) *، كما تقول: أبصر بعينك واسمع بأدنك. وقال الزمخشري: في هذا الوجه كأنه قال: أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم؟ أي في قلوبهم الفارغة من الفكر. والفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك. وقال أيضا: يكون صلة المتفكر، كقولك: تفكر في الإمر وأجال فكره. و * (ما خلق الله) * متعلق بالقول المحذوف، معناه: أو لم يتفكروا، فيقولوا هذا القول؟ وقيل معناه: فيعلموا، لأن في الكلام دليلا عليه. انتهى. والدليل هو قوله: * (أو لم * يتفكروا) *. وقيل: * (أو لم * يتفكروا) * متصل بما بعده، ومثله: ثم * (يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) *، ومثله: * (وظنوا ما لهم من محيص) *، فيكون في بمعنى الباء، ثم * (يتفكروا ما بصاحبهم من) *، كأنه قال: أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا. انتهى. ويجوز أن يكون تفكروا هنا معلقة، ومتعلقها الجملة من قوله: * (ما خلق) * إلى آخرها. و * (فى أنفسهم) *: ظرف على سبيل التأكيد، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس، كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد. و * (بالحق) *: في موضع الحال، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو: قيام الساعة، ووقت الحساب والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) *. كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثا؟ والمراد بلقاء ربهم: الأجل المسمى.
وقال ابن عطية: * (إلا بالحق) *، أي بسبب المنافع التي هي حق واجب، يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك. * (وأجل) * عطف على الحق، أي وبأجل مسمى، وهو يوم القيامة. ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم. ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفروا بذلك المعنى، فعبر عنها بلقاء الله، لأن لقاء الله هو عظيم الأمر، فيه النجاة والهلكة. انتهى.
وقال أبو عبد الله الرازي: قدم هنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق، وفي: * (سنريهم ءاياتنا فى الافاق وفى أنفسهم) * دلائل الآفاق على دلائل الأنفس، وحكمة ذلك أن المفيد يذكر الفائدة على وجه يختارها، فإن فهمت، وإلا انتقل إلى الأبين. والمستفيد يفهم أولا الأبين، ثم يرتقي إلى الأخفى. وفي * (أو لم * يتفكروا) * بفعل مسند إلى السامع، فبدأ بما يفهم أولا، ثم ارتقى إليه ثانيا. وفي * (سنريهم) * أسند إلى المفيد، فذكر أولا، الآفاق، فإن لم يفهموا، فالأنفس، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها، بخلاف دلائل الآفاق، لأنه قد يذهل عنها، وهذا مراعي في * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا) * الآية. بدأ بأحوال الأنفس، ثم بدلائل الآفاق. وقال أيضا هنا: * (وإن كثيرا) *، * (وقبل) *، * (ولاكن أكثر الناس) *، وذلك أن هنا ذكر كثيرا بعد ذكر الدلائل الواضحة، وهما: * (أو لم * يتفكروا فى أنفسهم) *، و * (ما خلق الله) *. والإيمان بعد الدلائل أكثر من الإيمان قبلها، فبعد ذكر الدليل، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع، فلا يبقى الأكثر. انتهى، وفيه تلخيص. ولا يتم كلامه الأول إلا إذا جعل * (فى أنفسهم) * محلا للتفكر، وجعل * (ما خلق) * أيضا محلا ثانيا.
* (أو لم * يسيروا فى الارض) *: هذا تقرير توبيخ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممن كان قبلهم من مكذبي الرسل، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها، وأنهم أقوى منهم في ذلك. قال مجاهدا: * (وأثاروا الارض) *: حرثوها. وقال الفراء: قلبوها للزراعة. وقال غيرهما: قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه، واستخراج المعادن، وإلقاء البذر فيها للزراعة؛ والإثارة: تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه. وقرأ أبو جعفر: وآثاروا الأرض، بمدة بعد الهمزة. وقال ابن مجاهد: ليس بشيء، وخرجه أبو الفتح على الإشباع كقوله:
ومن ذم الزمان بمنتزاح
159

وقال: من ضرورة الشعر، ولا يجيء في القرآن. وقرأ أبو حيوة: وآثروا من الإثرة، وهو الاستبداد بالشيء. وقرئ: وأثروا الأرض: أي أبقوا عنها آثارا. * (وعمروها) *: من العمارة، أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء، أو من العمران: أي سكنوا فيها، أو من العمارة. قال الزمخشري: * (أكثر مما عمروها) *: من عمارة أهل مكة، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع، ما لهم إثارة الأرض أصلا، ولا عمارة لهم رأسا، فما هو إلا تهكم بهم وتضعيف حالهم في دنياهم، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة، وهم أيضا ضعاف القوى. * (فما كان الله ليظلمهم) *: قبله محذوف، أي فكذبوهم فأهلكوا. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: * (ثم كان عاقبة) * بالرفع اسما لكان، وخبرها * (* السوأى) *، أو هو تأنيث الأسوإ، افعل من السوء. * (السوءى أن كذبوا) *: مفعول من أجله متعلق بالخبر، لا بأساء، وإلا كان فيه الفصل بين الصلة ومتعلقها بالخبر، وهو لا يجوز؛ والمعنى: ثم كان عاقبتهم، فوضع المظهر موضع المضمر. * (* السوأى) *: أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة، وهي جهنم. ويجوز أن تكون * (* السوأى) * مصدرا على وزن فعلى، كالرجعي، وتكون خبرا أيضا. ويجوز أن تكون مفعولا بأساء بمعنى اقترفوا، وصفة مصدر محذوف، أي الإساءة السوأى، ويكون خبر كان * (السوءى أن كذبوا) *. وقرأ الأعمش والحسن: السوى، بإبدال الهمزة واوا وإدغام الواو فيها، كقراءة من قرأ: * (بالسوء) *، بالإدغام في يوسف. وقرأ ابن مسعود: السوء، بالتذكير. وقرأ الكوفيون وابن عامر: * (عاقبة) *، بالنصب، خبر كان، والاسم السوأى، أو السوء مفعول، وكذبوا الاسم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون أن بمعنى: أي تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء، كانت في بمعنى القول، نحو: نادى وكتب. ووجه آخر، وهو أن يكون * (* أساؤا السوأى) * بمعنى: اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايات، * (وأن * كذبوا) * عطف بيان لها، وخبر كان محذوف، كما يحذف جواب لما ولو إرادة الإبهام. انتهى. وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جدا. وأما قول الخطايات فكذا هو في النسخة التي طالعناها، جمع جمع تكسير بالألف والتاء، وذلك لا ينقاس، إنما يقتصر فيه على مورد السماع، ولا يبعد أن يكون زيادة التاء في الخطايات من الناسخ. وأما قوله: * (وأن * كذبوا) * عطف بيان لها، أي للسوأى، وخبر كان محذوف الخ. فهذا فهم أعجمي، لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف، فيتكلف له محذوفا يدل عليه دليل. وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها، لا اقتصارا ولا اختصارا، إلا إن ورد منه شيء، فلا ينقاس عليه.
وقرأ عبد الله وطلحة: يبدىء، بضم الياء وكسر الدال؛ والجمهور: بفتحها؛ والأبوان: يرجعون، بياء الغيبة؛ والجمهور: بتاء الخطاب، أي إلى ثوابه وعقابه؛ والجمهور: يبلس، بكسر اللام؛ وعلي والسلمي: بفتحها، من أبلسه إذا أسكته؛ والجمهور: ولم يكن، بالياء؛ وخارجة والأريس، كلاهما عن نافع، وابن سنان عن أبي جعفر، والأنطاكي عن شيبة: بتاء التأنيث. * (من شركائهم) *: من الذين عبدوهم من دون الله، وهي الأوثان، وأضيفوا إليهم لأنهم أشركوهم في أموالهم، وقيل: لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء لله. وقال مقاتل: المراد بهم الملائكة شفعاء لله، كما زعموا: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) *. * (وكانوا) * معناه: ويكون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام عبر بالماضي، لتيقن الأمر وصحة وقوعه. وكتب السوأى بالألف قبل الياء، كما كتبوا علماء بني إسرائيل بواو قبل الألف والتنوين في * (يومئذ) *، تنوين عوض من الجملة المحذوفة، أي * (ويوم تقوم الساعة) *، يوم إذ * (يبلس المجرمون) *. والضمير في * (يتفرقون) * للمسلمين والكافرين، لدلالة ما بعده عليه. قال الزمخشري: ويظهر أنه عائد على ما قبله، إذ قبله: * (الله يبدأ الخلق ثم يعيده) *. قال قتادة: هي فرقة، لا اجتماع بعدها.
* (فى روضة) *، الروضة، الأرض ذات النبات والماء، وفي المثل: أحسن من بيضة، يريدون: بيض النعامة، والروضة مما تعجب
160

العرب، وقد أكثروا من مدحها في أشعارهم. * (يحبرون) *: يسرون. حبره: سره سرورا، وتهلل له وجهه وظهر له أثره. يحبر بالضم، حبرا وحبرة وحبورا، وفي المثل: امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة. وحكى الكسائي: حبرته: أكرمته ونعمته. وقال علي بن سليمان: هو من قولهم: على أسنانه حبرة، أي أثر، أي يسير عليهم أثر النعمة. وقيل: من التحبير، وهو التحسين، أي يحسنون. ويقال: فلان حسن الحبر والسبر، بالفتح، إذا كان جميلا حسن الهيئة. وقال ابن عباس، والضحاك، ومجاهد: يكرمون. وقال يحيى بن أبي كثير، والأوزاعي، ووكيع: يسمعون الأغاني. وقال أبو بكر، وابن عباس: يتوجون على رؤوسهم. وقال ابن كيسان: يحلون. ومعنى * (محضرون) *: مجموعون له، لا يغيب أحد منهم عنه بقوله: * (وما هم بخارجين منها) *، وجاء في روضة منكرا وفي معرفا. قال الزمخشري: والتنكير لإيهام أمرها وتفخيمه، وجاء يحبرون بالفعل المضارع لاستعماله للتجدد، لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة. وجاء * (محضرون) * باسم الفاعل لاستعماله للثبوت، فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين، فهو وصف لاذم لهم.
* (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد فى * السماوات والارض * وعشيا وحين تظهرون * يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحى الارض بعد موتها وكذلك تخرجون * ومن ءاياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون * ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لايات لقوم) *.
لما بين تعالى عظيم قدرته في خلق السماوات والأرض بالحق، وهو حالة ابتداء العالم، وفي مصيرهم إلى الجنة والنار، وهي حالة الانتهاء، أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء. والظاهر أنه أمر عباده بتنزيهه في هذه الأوقات، لما يتجدد فيها من النعم. ويحتمل أن يكون كناية عن استغراق زمان العبد، وهو أن يكون ذاكرا ربه، واصفه بما يجب له على كل حال.
وقال الزمخشري: لما ذكر الوعد والوعيد، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد. وقيل: المراد هنا بالتسبيح: الصلاة. فعن ابن عباس وقتادة: المغرب
والصبح والعصر والظهر، وأما العشاء ففي قوله: * (وزلفا من اليل) *. وعن ابن عباس: الخمس، وجعل * (حين تمسون) * شاملا للمغرب والعشاء. * (وله الحمد فى * السماوات والارض) *: اعتراض بين الوقتين،
161

ومعناه: أن الحمد واجب على أهل السماوات وأهل الأرض، وكان الحسن يذهب إلى أن هذه الآية مدنية، لأنه كان يقول: فرضت الخمس بالمدينة. وقال الأكثرون: بل فرضت بمكة؛ وفي التحرير، اتفق المفسرون على أن الخمس داخلة في هذه الآية. وعن ابن عباس: ما ذكرت الخمس إلا فيها، وقدم الإمساء على الإصباح، كما قدم في قول * (يولج اليل فى النهار) *، والظلمات على النور، وقابل بالعشي الإمساء، وبالإظهار الإصباح، لأن كلا منهما يعقب بما يقابله؛ فالعشي يعقبه الإمساء، والإصباح يعقبه الإظهار. ولما لم يتصرف من العشي فعل، لا يقال أعشى، كما يقال أمسى وأصبح وأظهر، جاء التركيب * (وعشيا) *. وقرأ عكرمة: حينا تمسون وحينا تصبحون، بتنوين حين، والجملة صفة حذف منها العائد تقديره: تمسون فيه وتصبحون فيه. ولما ذكر الإبداء والإعادة، ناسب ذكره: * (يخرج الحى من الميت) *، وتقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران. * (وكذالك) *: أي مثل ذلك الإخراج، والمعنى: تساوي الإبداء والإعادة في حقه تعالى. وقرأ الجمهور: * (تخرجون) *، بالتاء المضمومة، مبنيا للمفعول؛ وابن وثاب وطلحة والأعمش: بفتح تاء الخطاب وضم الراء.
ثم ذكر تعالى آياته من بدء خلق الإنسان، آية آية، إلى حين بعثه من القبر فقال: * (ومن ءاياته أن خلقكم من تراب) *: جعل خلقهم من تراب، حيث كان خلق أباهم آدم من تراب. و * (تنتشرون) *: تتصرفون في أغراضكم بثم المقتضية المهلة والتراخي. ونبه تعالى على عظيم قدرته بخلق الإنسان من تراب، وهو أبعد الأشياء عن درجة الإحياء، لأنه بارد يابس، والحياة بالحرارة والرطوبة، وكذا الروح نير وثقيل، والروح خفيف وساكن، والحيوان متحرك إلى الجهات الست، فالتراب أبعد من قبول الحياة من سائر الأجسام. * (من أنفسكم) *: فيها قولا * (وخلق منها زوجها) *، إما كون حواء خلقت من ضلع آدم، وأما من جنسكم ونوعكم. وعلل خلق الأزواج بالسكون إليها، وهو الإلف. فمتى كان من الجنس، كان بينهما تألف، بخلاف الجنسين، فإن يكون بينهما التنافر، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس بني آدم. ويقال: سكن إليه: مال، ومنه السكن: فعل بمعنى مفعول. * (مودة ورحمة) *: أي بالأزواج، بعد أن لم يكن سابقة تعارف يوجب التواد. وقال مجاهد والحسن وعكرمة: المودة: النكاح، والرحمة: الولد، كنى بذلك عنهما. وقيل: مودة للشابة، ورحمة للعجوز. وقيل: مودة للكبير، ورحمة للصغير. وقيل: هما اشتباك الرحم. وقيل: المودة من الله، والبغض من الشيطان.
* (واختلاف ألسنتكم) *: أي لغاتكم، فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها أو قوانينها، مع اتحاد المدلول، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات. وعن وهب: أن الألسنة اثنان وسبعون لسانا، في ولد حام سبعة عشر، وفي ولد سام تسعة عشر، وفي ولد يافث ستة وثلاثون. وقيل: المراد باللغات: الأصوات والنغم. وقال الزمخشري: الألسنة: اللذات وأجناس النطف وأشكاله. خالف عز وجل بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، ولا جهارة، ولا حدة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا نظم، ولا أسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله. انتهى. * (وألوانكم) *: السواد والبياض وغيرهما، والأنواع والضروب بتخطيط الصور، ولولا ذلك الاختلاف، لوقع الالتباس وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها. وفيه آية بينة، حيث فرعوا من أصل واحد، وتباينوا في الأشكال على كثرتهم. وقرأ الجمهور: * (للعالمين) *، بفتح اللام، لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم. وقرأ حفص وحماد بن شعيب عن أبي بكر، وعلقمة عن عاصم، ويونس عن أبي عمرو: بكسر اللام، إذ المنتفع بها إنما هم أهل العلم، كقوله: * (وما يعقلها إلا العالمون) *. والظاهر أن * (الذين ينفقون) * متعلق * (* بمنامكم) *، فامتن تعالى بذلك، لأن النهار قد يقام فيه، وخصوص من كل مشتغلا في حوائجه بالليل. * (والنهار وابتغاؤكم من فضله) *: أي فيهما، أي في الليل والنهار معا، لأن بعض الناس قد يبتغي الفعل بالليل، كالمسافرين والحراس بالليل وغيرهم.
وقال الزمخشري: هذا من باب اللف، وترتيبه: * (ومن ءاياته منامكم باليل والنهار وابتغاؤكم) *، ولأنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على ذلك، ويجوز أن يراد * (منامكم) * في الزمانين، * (وابتغاؤكم من فضله) * فيهما. والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن. وقال ابن عطية: وقال بعض المفسرين: في الكلام تقديم وتأخير، وهذا ضعيف، وإنما أراد أن ترتب النوم في الليل والابتغاء للنهار، ولفظ الآية لا يعطي ذلك. * (ومن
162

ءاياته يريكم البرق خوفا) *: إما أن يتعلق من آياته بيريكم، فيكون في موضع نصب، ومن لابتداء الغاية، أو يكون يريكم على إضمار أن، كما قال:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوعي
برفع أحضر، والتقدير أن أحضر، فلما حذف أن، ارتفع الفعل، وليس هذا من المواضع التي يحذف منها أن قياسا، أو على إنزال الفعل منزلة المصدر من غير ما يسبكه له، كما قال الخليل في قول:
أريد لأنسى حبها
أي أرادني لأنسى حبها، فيكون التقدير في هذين الوجهين: ومن آياته إراءته إياكم البرق، فمن آياته في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ. وقال الرماني: يحتمل أن يكون التقدير: ومن آياته يريكم البرق بها، وحذف لدلالة من عليها، كما قال الشاعر:
* وما الدهر إلا تارتان فمنهما
*
أموات وأخرى أبتغي العيش أكدح
*
أي: فمنهما تارة أموات، ومن على هذه الأوجه الثلاثة للتبعيض. وانتصب * (خوفا وطمعا) * على أنهما مصدران في موضع الحال، أي خائفين وطامعين. وقيل: مفعول من أجله. وقال الزجاج: وأجازه الزمخشري على تقدير إرادة خوف وطمع، فيتحد الفاعل في العامل والمحذوف، ولا يصح أن يكون العامل يريكم، لاختلاف الفاعل في العامل والمصدر. وقال الزمخشري: المفعولون فاعلون في المعنى، لأنهم راؤون مكانه، فكأنه قيل: لجعلكم رائين البرق خوفا وطمعا. انتهى. وكونه فاعلا، قيل: همزة التعدية لا تثبت له حكمه بعدها، على أن المسألة فيها خلاف. مذهب الجمهور: اشتراط اتحاد الفاعل، ومن النحويين من لا يشترطه. ولو قيل: على مذهب من يشترطه. أن التقدير: يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا، فحذف العامل للدلالة، لكان إعرابا سائغا واتحد فيها الفاعل. وقال الضحاك: خوفا من صواعقه، وطمعا في مطره. وقال قتادة: خوفا للمسافر، وطمعا للمقيم. وقيل: خوفا أن يكون خلبا، وطمعا أن يكون ماطرا. وقال الشاعر:
* لا يكن برقك برقا خلبا
*
إن خير البرق ما العيث معه
وقال ابن سلام: خوفا من البرد أن يهلك الزرع، وطمعا في المطر أن يحييه. * (ومن ءاياته أن تقوم) *: أن تثبت وتمسك، مثل: وإذا أظلم عليهم قاموا: أي ثبتوا بأمره، أي بإرادته. وإذا الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة جواب الشرط، والمعنى: أنه لا يتأخر طرفة عين خروجكم عن دعائه، كما يجيب الداعي المطيع مدعوه، كما قال الشاعر:
دعوت كليبا دعوة فكأنمادعوت قرين الطود أو هو أسرع
163

قرين الطود: الصد، أو الحجر ان أيد هذا. والطود: الجبل. و * (* الدعوة) *: البعث من القبور، و * (دعوة من الارض) * يتعلق بدعاكم، و * (دعوة) *: أي مرة، فلا يحتاج إلى تكرير دعاءكم لسرعة الإجابة. وقيل: * (من الارض) * صفة لدعوة. وقال ابن عطية: ومن عندي هنا لانتهاء الغاية، كما يقول: دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل. انتهى. وكون من لانتهاء الغاية قول مردود عند أصحابنا. وعن نافع ويعقوب: أنهما وقفا على دعوة، وابتد آمن الأرض. * (إذا أنتم تخرجون) * علقا من الأرض بتخرجون، وهذا لا يجوز، لأن فيه الفصل بين الشرط وجوابه، بالوقف على دعوة فيه إعمال ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، وهو لا يجوز. وقال الزمخشري: وقوله: * (إذا دعاكم) * بمنزلة قوله: * (يريكم) * في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السماوات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة: يا أهل القبور أخرجوا، وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بثم، بيانا لعظيم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر. انتهى. وقرأ حمزة والكسائي: تخرجون، بفتح التاء وضم الراء؛ وباقي السبعة: بضمها وفتح الراء.
*
وبدأ أولا من الآيات بالنشأة الأولى، وهي خلق الإنسان من التراب، ثم كونه بشرا منتشرا، وهو خلق حي من جماد، ثم أتبعه بأن خلق له من نفسه زوجا، وجعل بينهما تواد، وذلك خلق حي من عضو حي. وقال: * (لقوم يتفكرون) *، لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن بينهما تعارف، ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالم كلهم، وهو خلق السماوات والأرض، واختلاف اللغات والألوان، والاختلاف من لوازم الإنسان لا يفارقه. وقال: * (للعالمين) *، لأنها آية مكشوفة للعالم، ثم اتبعه بالمنام والابتغاء، وهما من الأمور المفارقة في بعض الأوقات، بخلاف اختلاف الألسنة والألوان. وقال: * (لقوم يسمعون) *، لأنه لما كان من أفعال العبادة قد يتوهم أنه لا يحتاج إلى مرشد، فنبه على السماع، وجعل البال من كلام المرشد. ولما ذكر عرضيات الأنفس اللازمة والمفارقة، ذكر عرضيأ الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر، وقدمها على ما هو من الأرض، وهو الإتيان والإحياء، كما قدم السماوات على الأرض، وقدم البرق على الإنزال، لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم. والأعراب لا يعلمون البلاد المعشبة، إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب. وقال: * (لقوم يعقلون) *، لأن البرق والإنزال ليس أمرا عاديا فيتوهم أنه طبيعة، إذ يقع ذلك ببلدة دون أخرى، ووقتا دون وقت، وقويا وضعيفا، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار، فقال: هو آية لمن عقل بأن لم يتفكر تفكرا تاما.
ثم ختم هذه الآيات بقيام السماوات الأرض، وذلك من العوارض اللازمة، فإن كلا من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه، فيتعجب من وقوف الأرض وعدم نزولها، ومن علو السماء وثباتها من غير عمد. ثم أتبع ذلك بالنشأة الأخرى، وهي الخروج من الأرض، وذكر تعالى من كل باب أمرين: من الأنفس خلقكم وخلق لكم، ومن الآفاق السماء والأرض، ومن لوازم الإنسان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان، ومن خواصه المنام والابتغاء، ومن عوارض الآفاق البرق والمطر، ومن لوازمه قيام السماء وقيام الأرض.
* (وله من فى * السماوات والارض * كل له قانتون * وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الاعلى فى * السماوات والارض * وهو العزيز الحكيم * ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم * مما ملكت أيمانكم * من شركاء * فيما * رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الايات لقوم يعقلون * بل
* اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين * فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر
164

الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولاكن أكثر) *.
* (من فى * السماوات والارض) *: عام في كونهم تحت ملكه وقهره. وقال الحسن: * (قانتون) *: قائمون بالشهادة على وحدانيته، كما قال الشاعر:
* وفي كل شيء له آية
*
تدل على أنه واحد
*
وقال ابن عباس: مطيعون، أي في تصريفه، لا يمتنع عنه شيء يريد فعله بهم، من حياة وموت وصحة ومرض، فهي طاعة الإرادة لا طاعة العبادة. وقيل: قائمون يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين. وإذا حمل القنوت على الإخلاص، كما قال ابن جبير، أ على الإقرار بالعبودية، أو قانتون من ملك ومؤمن، لأن كل عام مخصوص. * (وهو أهون عليه) *: أي والعود أهون عليه، وليست أهون أفعل تفصيل، لأنه تفاوت عند الله في النشأتين: الإبداء والإعادة، فلذلك تأوله ابن عباس والربيع بن خيثم على أنه بمعنى هين، وكذا هو في مصحف عبد الله. والضمير في عليه عائد على الله. وقيل: أهون للتفضيل، وذلك بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في المشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون من البداءة، للاستغناء عن الروية التي كانت في البداءة؛ وهذا، وإن كان الاثنان عنده تعالى من اليسر في حيز واحد. وقيل: الضمير في عليه عائد على الخلق، أي والعود أهون على الخلق: بمعنى أسرع، لأن البداءة فيها تدرج من طور إلى طور إلى أن يصير إنسانا، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات في الأطوار، إنما يدعوه الله فيخرج، فكأنه قال: وهو أيسر عليه، أي أقصر مدة وأقل انتقالا. وقيل: المعنى وهو أهون على المخلوق، أي يعيد شيئا بعد إنشائه، فهذا عرف المخلوقين، فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق؟ قال ابن عطية: والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى، ويؤيده قوله تعالى: * (وله المثل الاعلى) *، كما جاء بلفظ فيه استعاذة واستشهاد بالمخلوق على الخالق، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم، خلص جانب العظمة، بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به، فكيف ولا تمثال مع شيء؟ انتهى. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: * (وهو أهون عليه) *، وقدمت في قوله: * (هو على هين) *؟ قلت: هنالك قصد الاختصاص، وهو تجبره، فقيل: وهو على هين، وإن كان مستصعبا عندك، وإن تولد بين هرم وعاقر. وأما هنا لا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء؟ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. انتهى. ومبنى كلامه على أن تقديم المعمول يؤذن بالاختصاص، وقد تكلمنا معه في ذلك، ولم نسلمه في قوله: * (إياك نعبد) *.
* (وله المثل الاعلى) *، قيل: هو متعلق بما قبله، قاله الزجاج، وهو قوله: * (وهو أهون) *؛ قد ضربه لكم مثلا فيما يسهل أو يصعب. وقيل: بما بعده من قوله: * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم) *. وقيل: المثل: الوصف الأرفع الأعلى الذي ليس لغيره مثله، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما. * (وهو العزيز) *: أي القاهر لكل شيء، الحكيم الذي أفعالى على مقتضى حكمته. وعن مجاهد: المثل الأعلى قوله: * (لا إلاه إلا الله) *، وله الوصف بالوحدانية، ويؤيده قول: * (ضرب لكم) *.
وقال ابن عباس وغيره: بين تعالى أمر الأصنام
165

وفساد معتقد من يشركها بالله، بضربه هذا المثل، ومعناه: أنكم أيها الناس، إذا كان لكم عبيد تملكونهم، فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهم أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم، أو يقاسمونكم إياها في حياتكم، كما يفعل بعضكم ببعض؛ فإذا كان هذا فيكم، فكيف تقولون: إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم؟ وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير. وقال السدي: كانوا يورثون آلهتهم، فنزلت. وقيل: لما نزلت، قال أهل مكة: لا يكون ذلك أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (فلم يجوز لربكم)؟ ومن في: * (من أنفسكم) * لابتداء الغاية، كأنه قال: أخذ مثلا، وافترى من أقرب شيء منكم، وهو أنفسكم، ولا يبعد. ومن في: * (مما ملكت) * للتبعيض، ومن في: * (من شركاء) * زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. يقول: ليس يرضى أحد منكم أن يشركه عبده في ماله وزوجته وما يختص به حتى يكون مثله، فكيف ترضون شريكا لله، وهو رب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد؟
وقال أبو عبد الله الرازي: وبين المثل والممثل به مشابهة ومخالفة. فالمشابهة معلومة، والمخالفة من وجوه: قوله: * (من أنفسكم) *: أي من نسلكم، مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها، وقاس نفسه عليكم مع عظمتها وجلالتها وقدرتها. وقوله: * (مما ملكت أيمانكم) *: أي عبيدكم، والملك ما قبل النقل بالبيع، والزوال بالعتق، ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك. فإذا لم يجز أن يشرككم مملوككم، وهو مثلكم من جميع الوجوه ومثلكم في الآدمية، حالة الرق، فكيف يشرك الله مملوكه من جميع الوجوه المباين له بالكلية؟ وقوله: * (فيما * رزقناكم) *: يعني أن الميسر لكم في الحقيقة إنما هو الله ومن رزقه حقيقة، فإذا لم يجز أن يشرككم فيما هو لكم من حيث الاسم، فكيف يكون له تعالى شريك فيما له من جهة الحقيقة؟ انتهى، وفيه بعض تلخيص. و * (شركاء) * في موضع رفع بالابتداء، و * (فيما * رزقناكم) * متعلق به، و * (لكم) * الخبر، و * (مما ملكت) * في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها وانتصب على الحال، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور، والواقع خبرا، وهو مقدر بعد المبتدأ. وما في فيما * (رزقناكم) * واقعة على النوع، والتقدير: هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي
ملكته أيمانكم كائنون لكم؟ ويجوز أن يتعلق لكم بشركاء، ويكون مما رزقناكم في موضع الخبر، كما تقول: لزيد في المدينة مبغض، فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ، وفي المدينة الخبر، و * (فأنتم فيه سواء) * جملة في موضع الجواب للاستفهام المضمن معنى النفي، وفيه متعلق بسواء، و * (تخافونهم) * خبر ثان لأنتم، والتقدير: فأنتم مستوون معهم فيما رزقناكم، تخافونهم كما يخاف بعضكم بعضا أيها السادة. والمقصود نفي الشركة والاستواء والخوف، وليس النفي منسحبا على الجواب وما بعده فقط، كأحد وجهي ما تأتينا فتحدثنا، أي ما تأتينا فتحدثنا، إنما تأتي ولا تحدث، بل هو على الوجه الآخر، أي ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي ليس منك إتيان فلا يكون حديث. وكذلك هذا ليس لهم شريك، فلا استواء ولا خوف. وقرأ الجمهور:، بالنصب، أضيف المصدر إلى الفاعل؛ وابن أبي عبيدة: بالرفع، أضيف المصدر للمفعول، وهما وجهان حسنان، ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل.
* (كذالك) *: أي مثل ذلك التفصيل، * (نفصل الآيات) *: أي نبينها، لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها. ألا ترى كيف صور الشرك بالصورة المشوهة؟ وقرأ الجمهور: نفصل، بالنون، حملا على رزقناكم؛ وعباس عن ابن عمر: بياء الغيبة، رعيا لضرب، إذ هو مسند للغائب. وذكر بعض العلماء في هذه الآية دليلا على صحة أصل الشركة بين المخلوقين، لافتقار بعضهم إلى بعض، كأنه يقول: الممتنع والمستقبح شركة العبيد لساداتهم؛ أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا يمتنع ولا يستقبح. والإضراب ببل في قوله: * (بل اتبع) * جاء على ما تضمنته الآية، إذ المعنى: ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من إشراكهم بالله، بل ذلك بمجرد هوى بغير علم، لأنه قد يكون هوى للإنسان، وهو يعلم. و * (الذين ظلموا) *: هم المشركون، اتبعوا أهواءهم جاهلين هائمين على أوجههم، لا يرغمهم عن هواهم علم، إذ هم خالون من العلم
166

الذي قد يردع متبع الهوى. * (فمن يهدى من أضل الله) *: أي لا أحد يهدي من أضله الله، أي هؤلاء ممن أضلهم الله، فلا هادي لهم. وقال الزمخشري: من أضل الله: من خذله الله ولم يلطف به، لعلمه أنه ممن لا لطف له ممن يقدر على هداية مثله. * (وما لهم من ناصرين) *: دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
* (فأقم وجهك للدين) *: فقوم وجهك له وعد له غير ملتفت، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه. فإن من اهتم بالشيء، عقد عليه طرفه وقوم له وجهه مقبلا به عليه، والدين دين الإسلام. وذكر الوجه، لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. و * (حنيفا) *: حال من الضمير في أقم، أو من الوجه، أو من الدين، ومعناه: مائلا عن الأديان المحرفة المنسوخة. * (فطرة الله) *: منصوب على المصدر، كقوله: * (صبغة الله) *، وقيل: منصوب بإضمار فعل تقديره: التزم فطرة الله. وقال الزمخشري: الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله. وإنما أضمرت على خطاب الجماعة لقوله: * (منيبين إليه) *، ومنيبين حال من الضمير في الزموا. وقوله: * (وأقيموا) *، * (ولا تكونوا) *، معطوف على هذا المضمر. انتهى. وقيل: * (فأقم وجهك) *، المراد به: فأقيموا وجوهكم، وليس مخصوصا بالرسول وحده، وكأنه خطاب لمفرد أريد به الجمع، أي: فأقم أيها المخاطب، ثم جمع على المعنى، لأنه لا يراد به مخاطب واحد. فإذا كان هذا، فقوله: * (منيبين) *، * (وأقيموا) *، * (ولا تكونوا) * ملحوظ فيه معنى الجمع. وقول الزمخشري: أو عليكم فطرة الله لا يجوز، لأن فيه حذف كلمة الإغراء، ولا يجوز حذفها، لأنه قد حذف الفعل وعوض عليك منه. فلو جاء حذفه لكان إجحافا، إذ فيه حذف العوض والمعوض منه.
والفطرة، قيل: دين الإسلام، والناس مخصوصون بالمؤمنين. وقيل: العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم نسما من ظهره ورجح الحذاق. إنها القابلية التي في الطفل للنظر في مصنوعات الله، والاستدلال بها على موجده، فيؤمن به ويتبع شرائعه، لكن قد عتعرض له عوارض تصرفه عن ذلك، كتهويد أبويه له، وتنصيرهما، إغواء شياطين الإنس والجن.
* (لا تبديل لخلق الله) *: أي لا تبديل لهذه القابلية من جهة الخالق. وقال مجاهد، وابن جبير، والضحاك، والنخعي، وابن زيد: لا تبديل لدين الله، والمعنى: لمعتقدات الأديان، إذ هي متفقة في ذلك. وقال الزمخشري: أي ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير. وقال ابن عباس: لا تبديل لقضاء الله بسعادتهم وشقاوتهم، وقيل: هو نفي معناه: النهي، أي لا تبدلوا ذلك الدين. وقيل: * (لا تبديل لخلق الله) * بمعنى: الواحدانية مترشحة فيه، لا تغير لها، حتى لو سألته: من خلق السماوات والأرض؟ تقول: الله. ويستغرب ما روي عن ابن عباس أن معنى * (لا تبديل لخلق الله) *: النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقول من ذهب إلى أن المعنى في هذه الجملة ألجأ على الكفرة، اعترض به أثناء الكلام، كأنه يقول: أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا، فإن هؤلاء الكفرة ومن خلق الله لهم الكفر، و * (لا تبديل لخلق الله) *: أي أنهم لا يفلحون ذلك الذي أمرت بإقامة وجهك له، هو الدين المبالغ في الاستقامة. والقيم: بياء مبالغة، من القيام، بمعنى الاستقامة، ووزنه فعيل، أصله قيوم كيد، اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء فيها، وهو بناء مختص بالمعتل العين، لم يجئ منه في الصحيح إلا بيئس وصيقل علم لامرأة.
* (منيبين) *: حال من * (الناس) *، ولا سيما إذا أريد بالناس: المؤمنون، أو من الضمير في: الزموا فطرة الله، وهو تقدير الزمخشري، أو من الضمير في: * (فأقم) *، إذ المقصود: الرسول وأمته، وكأنه حذف معطوف، أي فأقم وجهك وأمتك. وكذا زعم الزجاج في: * (الحكيم يأيها النبى إذا طلقتم) *: أي يا أيها النبي والناس، ودل على ذلك مجيء الحال في * (منيبين) * جمعا، وفي * (إذا طلقتم) * جاء الخطاب فيه وفي ما بعده. جمعا، أو على خبر كان مضمرة، أي كونوا منيبين، ويدل عليه قوله بعد * (ولا تكونوا) *، وهذه احتمالات منقولة كلها. * (من المشركين) *: من اليهود والنصارى، قاله قتادة. وقال ابن زيد: هم اليهود؛ وعن أبي هريرة وعائشة: أنهم أهل القبلة، ولفظة الإشراك على هذا تجوز بأنهم صاروا في دينهم فرقا. والظاهر أن المشركين: كل من
167

أشرك، فيدخل فيهم أهل الكتاب وغيرهم. و * (من الذين) *: بدل من المشركين، * (فرقوا دينهم) *: أي دين الإسلام وجعلوه أديانا مختلفة لاختلاف أهوائهم. * (وكانوا شيعا) *: كل فرقة تشايع إمامها الذي كان سبب ضلالها. * (كل حزب) *: أي منهم فرح بمذهبه مفتون به. والظاهر أن * (كل حزب) * مبتدأ و * (فرحون) * الخبر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون * (من الذين) * منقطعا مما قبله ومعناه: من المفارقين دينهم. كل حزب فرحين بما لديهم، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل، كقوله:
وكل خليل غيرها ضم نفسه
انتهى. قدر أولا فرحين مجرورة صفة لحزب، ثم قال: ولكنه رفع على الوصف لكل، لأنك إذا قلت: من قومك كل رجل صالح، جاز في صالح الخفض نعتا لرجل، وهو الأكثر، كقوله:
* جادت عليه كل عين ترة
*
فتركن كل حديقة كالدرهم
*
وجاز الرفع نعتا لكل، كقوله:
* وعليه هبت كل معصفة
*
هو جاء ليس للبها دبر
*
يرفع هو جاء صفة لكل.
* (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا) *.
الضر: الشدة، من فقر، أو مرض، أو قحط، أو غير ذلك؛ والرحمة: الخلاص من ذلك الضر. * (دعوا ربهم) *: أفردوه بالتضرع والدعاء لينجوا من ذلك الضر، وتركوا أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو تعالى، فلهم في ذلك الوقت
168

إنابة وخضوع، وإذا خلصهم من ذلك الضر، أشرك فريق ممن اخلص، وهذا الفريق هم عبدة الأصنام. قال ابن عطية: ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين، إذ جاءهم فرج بعد شدة، علقوا ذلك بمخلوقين، أو بحذق آرائهم، أو بغير ذلك، ففيه قلة شكر الله، ويسمى مجازا. وقال أبو عبد الله الرازي: يقول: تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني وسبب الصنم الفلاني، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه يخلص بسبب فلان إذا كان ظاهرا، فإنه شرك خفي. انتهى. و * (إذا فريق) *: جواب * (إذا أذاقهم) *، الأولى شرطية، والثانية للمفاجأة، وتقدم نظيره، وجاء هنا فريق، لأن قوله: * (وإذا مس الناس) * عام للمؤمن والكافر، فلا يشرك إلا الكافر. وضر هنا مطلق، وفي آخر العنكبوت * (إذا هم يشركون) * لأنه في مخصوصين من المشركين عباد الأصنام، والضر هناك معين، وهو ما يتخوف من ركوب البحر. * (إذا هم) *: أي ركاب البحر عبدة الأصنام، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده. واللام في * (ليكفروا) * لام كي، أو لام الأمر للتهديد، وتقدم نظيره في آخر العنكبوت.
وقرأ الجمهور: * (فتمتعوا فسوف تعلمون) *، بالتاء فيهما. وقرأ أبو العالية: فيتمتعوا، بياء قبل التاء، عطف أيضا على * (ليكفروا) *، أي لتطول أعمارهم على الكفر؛ وعنه وعن عبد الله: فليتمتعوا. وقال هارون في مصحف عبد الله: يمتعوا. * (أم أنزلنا) *، أم: بمعنى بل، والهمزة للإضراب عن الكلام السابق، والهمزة للاستفهام عن الحجة استفهام إنكار وتوبيخ. والسلطان: البرهان، من كتاب أو نحوه. * (فهو يتكلم) *: أي يظهر مذهبهم وينطق بشركهم، والتكلم مجاز لقوله: * (هاذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) *. وهو يتكلم: جواب للاستفهام الذي تضمنه أم، كأنه قال: بل أنزلنا عليهم سلطانا، أي برهانا شاهدا لكم بالشرك، فهو يشهد بصحة ذلك، وإن قدر ذا سلطان، أي ملكا ذا برهان، كان التكلم حقيقة.
* (وإذا أذقنا الناس رحمة) *: أي نعمة، من مطر، أو سعة، أو صحة. * (وإن تصبهم سيئة) *: أي بلاء، من حدث، أو ضيق، أو مرض. * (بما قدمت أيديهم * من) * المعاصي. * (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) *، ففي إصابة الرحمة فرحوا وذهلوا عن شكر من أسداها إليهم، وفي إصابة البلاء قنطوا ويئسوا وذهلوا عن الصبر، ونسوا ما أنعم به عليهم قبل إصابة البلاء. و * (إذا هم) * جواب: * (وإن تصبهم) *، يقوم مقام الفاء في الجملة الاسمية الواقعة جوابا للشرط. وحين ذكر إذاقة الرحمة، لم يذكر سببها، وهو زيادة الإحسان والتفضل. وحين ذكر إصابة السيئة، ذكر سببها، وهو العصيان، ليتحقق بدله. ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييأس من روح الله، وهو أنه تعالى هو الباسط القابض، فينبغي أن لا يقنط، وأن يتلقى ما يرد من قبل الله بالصبر في البلاء، والشكر في النعماء، وأن يقلع عن المعصية التي أصابته السيئة بسببها، حتى تعود إليه رحمة ربه.
ومناسبة * (فئات ذا القربى) * لما قبله: أنه لما ذكر أنه تعالى هو الباسط القابض، وجعل في ذلك آية للمؤمن، ثم نبه بالإحسان لمن به فاقة واحتياج، لأن من الإيمان
الشفقة على خلق الله، فخاطب من بسط له الرزق بأداء حق الله من المال، وصرفه إلى من يقرب منه من حج، وإلى غيره من مسكين وابن سبيل. وقال الحسن: هذا خطاب لكل سامع بصلة الرحم، * (والمساكين وابن السبيل) *. وقيل: للرسول، عليه السلام. وذو القربى: بنو هاشم وبنو المطلب، يعطون حقوقهم من الغنيمة والفيء. وقال الحسن: حق المسكين وابن السبيل من الصدقة المسماة لهما. واحتج أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. أثبت تعالى لذي القربى حقا، وللمسكين وابن السبيل حقهما.
والسورة مكية، فالظاهر أن الحق ليس الزكاة، وإنما يصير حقا بجهة الإحسان والمواساة. وللاهتمام بذي القربى، قدم على المسكين وابن السبيل، لأن بره صدقة وصلة. * (ذالك) *: أي الإيتاء، * (خير) *: أي يضاعف لهم الأجر في الآخرة، وينمو ما لهم في الدنيا لوجه الله، أي التقرب إلى رضا الله لا يضره. ثم ذكر تعالى من يتصرف في ماله غلى غير الجهة المرضية فقال؛ * (وما ءاتيتم) * أكلة اليربو، ليزيد ويزكو في المال، فلا يزكو عند الله، ولا يبارك فيه لقوله: * (يمحق الله الربواا ويربى الصدقات) *. قال السدي: نزلت في ربا ثقيف، كانوا يعملون بالربا، ويعمله فيهم قريش. وقال ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وطاوس: هذه الآية نزلت
169

في هبات، للثواب. وقال ابن عطية: وما جرى مجراهما مما يصنع للمجازاة، كالسلم وغيره، فهو وإن كان لا إثم فيه، فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله. وقال ابن عباس أيضا، والنخعي: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم، وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع به، فذلك النفع لهم. وقال الشعبي قريبا من هذا وهو: أن ما خدم به الإنسان غيره انتفع به، فذلك النفع لهم. وقال الشعبي أيضا قريبا من هذا وهو: أن لا يربو عند الله، والظاهر القول الأول، وهو النهي عن الربا. وقرأ الجمهور: * (وما ءاتيتم) *، الأول بمد الهمزة، أي وما أعطيتم؛ وابن كثير: بقصرها، أي وما جئتم. وقرأ الجمهور: ليربو، بالياء وإسناد الفعل إلى الربا؛ وابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والشعبي، ونافع، وأبو حيوة: بالتاء مضمومة، وإسناد الفعل إليهم. وقرأ أبو مالك: ليربوها، بضمير المؤنث.
والمضعف: ذو أضعاف في الأجر. قال الفراء: هم أصحاب المضاعفة، كما تقول: هو مسمن، أي صاحب إبل سمان، ومعطش: أي صاحب إبل عطشى. وقرأ أبي: * (المضعفون) *، بفتح العين، اسم مفعول. وقال الزمخشري: * (فأولئك هم المضعفون) *، التفات حسن، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه: فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم هم المضعفون، والمعنى: المضعفون به بدلالة أولئك هم المضعفون، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه، وهذا أسهل مأخذا، والأول أملأ بالفائدة: انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير ما قدر، لأن اسم الشرط ليس بظرف، لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه يتم به الربط.
* (الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء سبحانه) *.
كرر تعالى خطاب الكفار في أمر أوثانهم، فذكر أفعاله التي لا يمكن أن يدعى له فيها شريك، وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء، ثم استفهم على جهة التقرير لهم والتوبيخ، ثم نزه نفسه عن مقالتهم. و * (الله الذى خلقكم) *: مبتدأ وخبر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون * (الذى خلقكم) * صفة للمبتدأ، والخبر: * (هل من شركائكم) *؛ وقوله: * (من ذالكم) * هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ لأن معناه: من أفعاله. انتهى. والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطا إذا كان أشير به إلى المبتدأ. وأما * (ذالكم) * هنا فليس إشارة إلى المبتدأ، لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى، وخالفه الناس، وذلك في قوله: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن) *، قال التقدير: يتربصن أزواجهم، فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير الذين، فحصل به الربط، كذلك قدر الزمخشري * (من ذالكم) *: من أفعاله المضاف إلى الضمير العائد على المبتدأ. وقال الزمخشري أيضا: هل من شركائكم الذين اتخذتموهم أندادا له من الأصنام وغيرها من يفعل شيئا، قط
170

من تلك الأفعال، حتى يصح ما ذهبتم إليه؟ فاستعمل قط في غير موضعها، لأنها ظرف للماضي، وهنا جعلها معمولة ليفعل. وقال الزمخشري أيضا: ومن الأولى والثانية، كل واحدة مستقبلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم؛ فمن الأولى للتبعيض، والجار والمجرور خبر المبتدأ؛ ومن يفعل هو المبتدأ، ومن الثانية في موضع الحال من شيء، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال؛ ومن الثالثة زائدة لانسحاب الاستفهام الذي معناه النفي على الكلام، التقدير: من يفعل شيئا من ذلكم، أي من تلك الأفعال.
وقرأ الجمهور: * (يشركون) *، بياء الغيبة؛ والأعمش، وابن وثاب: بتاء الخطاب، والظاهر مراد ظاهر البر والبحر. وقال الحسن: وظهور الفساد فيهما بارتفاع البركات، ونزول رزايات، وحدوث فتن، وتقلب عدو كافر، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر. وقال ابن عباس: * (الفساد فى البر) *، القطاع فتسده. وقال مجاهد: * (فى البر) *، بقتل أحد بني آدم لأخيه، وفي البحر: بأخذ السفن غصبا، وعنه أيضا: البر: البلاد البعيدة من البحر، والبحر: السوواحل والجزر التي على ضفة البحر والأنهار. وقال قتادة: البر: الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمور، والبحر: المدن، جمع بحرة، ومنه: ولقد أجمع أهل هذه البحيرة ليتوجوه، يعني قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبي ابن سلول، ويؤيد هذا قراءة عكرمة. والبحور بالجمع، ورويت عن ابن عباس، وكان قد ظهر الفساد برا وبحرا وقت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان الظلم عم الأرض، فأظهر الله به الدين، وأزال الفساد، وأخمده صلى الله عليه وسلم). وقال النحاس: فيه قولان، أحدهما: ظهر الجدب في البر في البوادي وقراها والبحر، أي في مدن البحر، مثل: * (واسئل القرية) * أي ظهر قلة العشب، وغلا السعر. والثاني: ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم، فهذا هو الفساد على الحقيقة، والأول مجاز، وقيل: إذا قل المطر قل الغوص، وأحنق الصياد وعميت دواب البحر. وقال ابن عباس
: إذا مطرت تفتحت الأصداف في البحر، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ.
* (بما كسبت أيدى الناس) *: أي بسبب معاصيهم وذنوبهم. * (ليذيقهم) *: أي أنه تعالى أفسد أسباب دنياهم ومحقهم، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، قبل أن يعاقبهم بها جميعا في الآخرة. * (لعلهم يرجعون) * عما هم فيه. وقال ابن عطية: * (بما كسبت) *: جزاء ما كسبت، ويجوز أن يتعلق الباء بظهر، أي بكسبهم المعاصي في البر والبحر، وهو نفس الفساد الظاهر. وقرأ السلمي، والأعرج، وأبو حيوة، وسلام، وسهل، وروح، وابن حسان، وقنبل من طريق ابن مجاهد، وابن الصباح، وأبو الفضل الواسطي عنه، ومحبوب عن أبي عمر. و: لنذيقهم، بالنون؛ والجمهور: بالياء، ثم أمرهم بالمسير في الأرض، فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم، وذلك تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار بمن سلف من الأمم، قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. * (كان أكثرهم مشركين) *: أهلكهم كلهم بسبب الشرك، وقوم بسبب المعاصي، لأنه تعالى يهلك بالمعاصي، كما يهلك بالشرك، كأصحاب السبت. أو أهلكهم كلهم، المشرك والمؤمن، كقوله تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) *، وأهلكهم كلهم، وهم كفار، فأكثرهم مشركون، وبعضهم معطل. وحين ذكر امتنانه قال: * (الله الذى خلقكم ثم رزقكم) *، فذكر الوجود ثم البقاء بسبب الرزق. وحين ذكر خذلانهم بالطغيان، بسبب البقاء بإظهار الفساد، ثم بسبب الوجود بالإهلاك. * (من قبل أن يأتى يوم) *: يوم القيامة، وفيه تحذير
171

يعم الناس، * (لا مرد له من الله) *، المرد: مصدر رد، ومن الله: يحتمل أن يتعلق بيأتي، أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد حتى لا يأتي لقوله: * (فلا يستطيعون ردها) *، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف يدل عليه مرد، أي لا يرده هو بعد أن يجيء به، ولا رد له من جهته. * (يومئذ) *: أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم. * (يصدعون) *: يتفرقون، فريق في الجنة، وفريق في السعير. يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه الصداع، لأنه يفرق شعب الرأس، وقال الشاعر:
* وكنا كندماني جذيمة حقبة
*
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
ثم ذكر حالتي المتفرقين: * (من كفر فعليه كفره) *: أي جزاء كفره، وعبر عن حالة الكافر بعلية، وهي تدل على الفعل والمشقة، وعن حال المؤمن بقوله: * (فلانفسهم) *، باللام التي هي لام الملك. و * (يمهدون) *: يوطئون، وهي استعارة من الفرش، وعبارة عن كونهم يفعلون في الدنيا ما يلقون به، ما تقر به أعينهم وتسر به أنفسهم في الجنة. وقال مجاهد: هو التمهيد للقبر. وقال الزمخشري: وتقديم الظرف في الموضعين لدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعداه، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه. انتهى. وهو على طريقته في دعواه أن تقديم المفعول وما جرى مجراه يدل على الاختصاص، وأما على مذهبنا فيدل على الاهتام، وأما ما يدعيه من الاختصاص فمفهوم من آي كثيرة في القرآن منها: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) *. واللام في * (ليجزى) *، قال الزمخشري: متعلق بيمهدون، تعليل له وتكرير * (الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) *، وترك الضمير إلى الصريح لتقديره أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح. وقوله: * (أن لا * يحب الكافرين) *، تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس. وقال ابن عطية: ليجزي متعلق بيصدعون، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك ليجزي، وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى: * (من كفر) *، * (ومن عمل صالحا) *. انتهى. ويكون قسم * (الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) * على هذين التقديرين اللذين ذكرهما ابن عطية محذوفا تقديره: كأنه قال: والكافرون بعد له، ودل على حذف هذا القسيم قوله: * (إنه لا يحب الكافرين) *. ومعنى نفي الحب هنا: أنه لا تظهر عليهم أمارات رحمته، ولا يرضى الكفر لهم دينا. وقال الزمخشري: * (من فضله) *: بما تفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب، وهذا يشبه الكناية، لأن الفضل تبع للثواب، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له، أو أراد من عطائه، وهو ثوابه، لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب.
*
* (ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين * الله (سقط: الذي يرسل الرياح إلى آخر الآية)) *.
172

(سقط: يكفرون، فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمى عن ظلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بأياتنا فهم مسلمون)
لما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك، ذكر ظهور الصلاح. والكريم لا يذكر لإحسانه عوضا، ويذكر لعقابه سببا لئلا يتوهم به الظلم؛ فذكر من أعلام قدرة إرسال الرياح مبشرات بالمطر، لأنها متقدمة. والمبشرات: رياح الرحمة، الجنوب والشمال والصبا، وأما الدبور، فريح العذاب، وليس تبشيرها مقتصرا به على المطر، بل لها تبشيرات بسبب السفن والسير بها إلى مقاصد أهلها، وكأنه بدأ أولا بشيء عام، وهو التبشير. وقرأ الأعمش: الريح، مفردا، وأراد معنى الجمع، ولذلك قرأ: * (مبشرات) *. ثم ذكر من أعظم تباشيرها إذاقة الرحمة، وهي نزول المطر، ويتبعه حصول الخصب، والريح الذي معه الهبوب، وإزالة العفونة من الهواء، وتذرية الحبوب، وغير ذلك. * (وليذيقكم) *: عطف على معنى مبشرات، فالعامل أن يرسل، ويكون عطفا على التوهم، كأنه قيل: ليبشروكم، والحال والصفة قد يجيئان، وفيهما معنى التعليل. تقول: أهن زيد سيئا وأكرم زيدا العالم، تريد لإماءته ولعلمه. وقيل: ما يتعلق به اللام محذوف، أي ولكنا أرسلناها. وقيل: الواو في وليذيقكم زائدة. و * (بأمره) *: أي بأمر الله، يعني أن جريانها، لما كان مسندا إليها، أخبر أنه بأمره تعالى. * (من فضله) *: مما يهيء لكم
من الريح في التجارات في البحر، ومن غنائم أهل الشرك. ثم بين لرسوله بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء، ولما كان تعالى بين الأصلين: المبدأ والمعاد، بين ذكر الأصل الثالث، وهو النبوة؛ وفي الكلام حذف تقديره: وآمن به بعض وكذب بعض، * (فانتقمنا من الذين أجرموا) *.
وفي قوله: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) *: تبشير للرسول وأمته بالنصر والظفر، إذا أخبر أن المؤمنين بأولئك المؤمنين نصروا، وفي لفظ حقا مبالغة في التحتم، وتكريم للمؤمنين، وإظهار لفضيلة سابقة الإيمان، حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر. والظاهر أن * (حقا) * خبر كان، و * (نصر المؤمنين) * الاسم، وأخر لكون ما تعلق به فاصلة للاهتمام بالجزاء، إذ هو محط الفائدة. وقال ابن عطية: وقف بعض القراء على حقا وجعله من الكلام المتقدم، ثم استأنف جملة من قوله: * (علينا نصر المؤمنين) *، وهذا قول ضعيف، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية. وقال الزمخشري: وقد يوقف على * (حقا) *، ومعناه: وكان الانتقام منهم حقا، ثم يبتدأ علينا * (نصر المؤمنين) *. انتهى. وفي الوقف على * (وكان حقا) * بيان أنه لم يكن الانتقام ظلما، بل عدلا، لأنه لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلا زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر، فكان عدمهم خيرا من وجودهم الخبيث.
* (الله الذى يرسل الرياح) *، هذا متعلق بقوله: * (ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات) *، والجملة التي بينهما اعتراض، جاءت تأنيسا للرسول وتسلية ووعدا بالنصر ووعيدا لأهل الكفر، وفي إرسالها قدرة وحكمة. أما القدرة، فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء، وهو ليس بذاته يفعل ذلك، بل بفاعل مختار. وأما الحكمة، ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب، وإخراج الماء منه، وإنبات الزرع، ودر الضرع، واختصاصه بناس دون ناس؛ وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة، تحريكها وتسييرها. والبسط: نشرها في الآفاق، والكسف: القطع. وتقدم الكلام على قوله: * (فترى الودق يخرج من خلاله) *، وذكر الخلاف في * (كسفا) * وحاله من جهة القراء. والضمير في: * (من خلاله) *، الظاهر أنه عائد على السحاب، إذ هو المحدث عنه، وذكر الضمير لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه. قيل: ويحتمل أن يعود على * (كسفا) * في قراءة من سكن العين، والمراد بالسماء: سمت السماء، كقوله: * (وفرعها
173

فى السماء) *. * (فإذا أصاب به من يشاء) *: أي أرض من يشاء إصابتها، فاجأهم الاستبشار، ولم يتأخر سرورهم. وقال الأخفش: * (من قبله) * تأكيد لقوله: * (من قبل أن ينزل عليهم) *.
وقال ابن عطية: أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله: * (من قبل أن ينزل عليهم) * يحتمل الفسحة في الزمان، أي من قبل أن ينزل بكثير، كالأيام ونحوه، فجاء قوله: * (من قبل) * بمعنى: أن ذلك متصل بالمطر، فهو تأكيد مقيد. وقال الزمخشري: وبمعنى التوكيد، فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك. انتهى. وما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله: * (من قبله) * غير ظاهر، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد، ويفيد رفع المجاز فقط. وقال قطرب: التقدير: وإن كانوا من قبل التنزيل، من قبل المطر. انتهى. وصار من قبل إنزال المطر: من قبل المطر، وهذا تركيب لا يسوغ في كلام فصيح، فضلا عن القرآن. وقيل: التقدير: من قبل تنزيل الغيث: من قبل أن يزرعوا، ودل المطر على الزرع، لأنه يخرج بسبب المطر؛ ودل على ذلك قوله: * (فرأوه مصفرا) *، يعني الزرع. انتهى. وهذا لا يستقيم، لأن * (من قبل أن ينزل عليهم) * متعلق بقوله: * (لمبلسين) *. ولا يمكن من قبل الرزع أن يتعلق بمبلسين، لأن حرفي جر لا يتعلقان بعامل واحد إلا إن كان بواسطة حرف العطف، أو على جهة البدل. وليس التركيب هنا ومن قبله بحرف العطف، ولا يصح فيه البدل، إذا إنزال الغيث ليس هو الزرع، ولا الزرع بعضه. وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف. أما لاشتمال الإنزال على الزرع، بمعنى أن الزرع يكون ناشئا عن الإنزال، فكأن الإنزال مشتمل عليه، وهذا على مذهب من يقول: الأول يشتمل على الثاني. وقال المبرد: الثاني السحاب، ويحتاج أيضا إلى حرف عطف حتى يمكن تعلق الحرفين بمبلسين. وقال علي بن عيسى: من قبل الإرسال. وقال الكرماني: ومن قبل الاستبشار، لأنه قرنه بالإبلاس، ولأنه من عليهم بالاستبشار. انتهى. ويحتاج قوله وقول ابن عيسى إلى حرف العطف، فإن ادعى في قوله من جعل الضمير في من قبله عائد إلى غير إنزال الغيث أن حرف العطف محذوف، أمكن، لكن في حذف حرف العطف خلاف، أينقاس أم لا ينقاس؟ أما حذفه مع الجمل فجائز، وأما وحده فهو الذي فيه الخلاف.
وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وأبو بكر: إلى أثر، بالإفراد؛ وباقي السبعة: بالجمع؛ وسلام: بكسر الهمزة وإسكان الثاء. وقرأ الجحدري، وابن السميفع، وأبو حيوة: تحيي، بالتاء للتأنيث، والضمير عائد على الرحمة. وقال صاحب اللوامح: وإنما أنث الأثر لاتصاله بالرحمة إضافة إليها، فاكتسب التأنيث منها، ومثل ذلك لا يجوز إلا إذا كان المضاف بمعنى المضاف إليه، أو من سببه. وأما إذا كان أجنبيا، فلا يجوز بحال. انتهى. وقرأ زيد بن علي: نحيي، بنون العظمة؛ والجمهور: * (يحى) *، بياء الغيبة، والضمير لله، ويدل عليه قراءة * (ءاثار) * بالجمع، وقيل: يعود على أثر في قراءة من أفرد. وقال ابن جني: * (كيف يحى) * جملة منصوبة الموضع على الحال حملا على المعنى، كأنه قال: محييا، وهذا فيه نظر. * (إن ذالك) *: أي القادر على إحياء الأرض بعد موتها، هو الذي يحيي الناس بعد موتهم. وهذا الإخبار على جهة القياس في البعث، والبعث من الأشياء التي هو قادر عليها تعالى.
* (ولئن أرسلنا ريحا) *: أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم، أنه بعد الاستبشار بالمطر، بعث الله ريحا، فاصفر بها النبات. لظلوا يكفرون قلقا منهم، والريح التي تصفر النبات صر حرور، وهما مما يصبح به النبات هشيما، والحرور جنب الشمال إذا عصفت. والضمير في * (فرأوه) * عائد على ما يفهم من سياق الكلام، وهو النبات. وقيل: إلى الأثر، لأن الرحمة هي الغيث، وأثرها هو النبات. ومن قرأ: آثار، بالجمع، رجع الضمير إلى آثار الرحمة، وهو النبات، واسم النبات يقع
على القليل والكثير، لأنه مصدر سمى به ما ينبت. وقال ابن عيسى: الضمير في * (فرأوه) * عائد على السحاب، لأن السحاب إذا اصفر لم يمطر؛ وقيل: على الريح، وهذان قولان ضعيفان. وقرأ صباح بن حبيش: مصفارا، بألف بعد الفاء. واللام في * (ولئن) * مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا، وهو مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل اتساعا تقديره: ليظلن، ونظيره قوله تعالى: * (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك) *: أي ما
174

يتبعون ذمهم تعالى في جميع أحوالهم، كان عليهم أن يتوكلوا على فضل الله فقنطوا، وإن شكروا نعمته فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار، وإن تصبروا على بلائه كفروا. والضمير في * (من بعده) * عائد على الاصفرار، أي من بعد اصفرار النبات تجحدون نعمته. وتقدم الكلام على قوله: * (فإنك لا تسمع الموتى) * إلى قوله: * (فهم مسلمون) * في أواخر النمل، إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله: * (فإنك) *.
* (الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق) *.
لما ذكر دلائل الآفاق، ذكر شيئا من دلائل الأنفس، وجعل الخلق من ضعف، لكثرة ضعف الإنسان أول نشأته وطفوليته، كقوله: * (خلق الإنسان من عجل) *. والقوة التي تلت الضعف، هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل الاكتهال. والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم. وقيل: * (من ضعف) *: من النطفة، كقوله: * (من ماء مهين) *. والترداد في هذه الهيئات شاهد بقدرة الصانع وعلمه. وقرأ الجمهور: بضم الضاد في ضعف معا؛ وعاصم وحمزة: بفتحها فيهما، وهي قراءة عبد الله وأبي رجاء. وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك: الضم والفتح في الثاني. وقرأ عيسى: بضمتين فيهما. والظاهر أن الضعف والقوة هما بالنسبة إلى ما عدا البدن من ذلك، وإن الضم والفتح بمعنى واحد في ضعف. وقال كثير من اللغويين: الضم في البدن، والفتح في العقل. * (ما لبثوا) *: هو جواب، وهو على المعنى، إذ لو حكى قولهم، كان يكون التركيب: ما لبثنا غير ساعة، أي ما أقاموا تحت التراب غير ساعة، وما لبثوا في الدنيا: استقلوها لما عاينوا من الآخرة، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث، وإخبارهم بذلك هو على جهة التسور والتقول بغير علم، أو على جهة النسيان، أو الكذب. * (يؤفكون) *: أي يصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق.
* (الذين أوتوا العلم) *: هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون. * (فى كتاب الله) *: فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم الإيمان وغيره، ولكن نص على هذا الخاص تشريفا وتنبيها على محله من العلم. وقيل: * (فى كتاب الله) *: اللوح المحفوظ، وقيل: في علمه، وقيل: في حكمه. وقرأ الحسن: البعث، بفتح العين فيهما، وقرئ: بكسرها، وهو اسم، والمفتوح مصدر. وقال قتادة: هو على التقديم والتأخير، تقديره: أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان. * (لقد لبثتم) *: وعلى هذا تكون في بمعنى الباء، أي العلم بكتاب الله، ولعل هذا القول لا يصح عن قتادة، فإن فيه تفكيكا للنظم لا يسوغ في كلام غير فصيح، فكيف يسوغ في كلام الله؟ وكان قتادة موصوفا بعلم العربية، فلا يصدر عنه مثل هذا القول. والفاء في: * (فهاذا يوم البعث) * عاطفة لهذه الجملة المقولة على الجملة التي قبلها، وهي: * (لقد لبثتم) *، اعتقبها في الذكر. قال الزمخشري: فإن قلت: ما هذه الفاء، وما حقيقتها؟ قلت: هي التي في قوله:
175

فقد جئنا خراسانا
وحقيقتها أنها جواب شرط يدل عليه الكلام، كأنه قال: إن صح ما قلتم من أن أقصى ما يراد بنا قلنا القفول: قد جئنا خراسانا، وإذا أمكن جعل الفاء عاطفة، لم يتكلف إضمار شرط، وجعل الفاء جوابا لذلك الشرط المحذوف، لا تعلمون لتفريطكم في طلب الحق واتباعه. وقيل: لا تعلمون البعث ولا تعرفون به، فصار مصيركم إلى النار، فتطلبون التأخير. * (فيومئذ) *: أي يوم إذ، يقع ذلك من إقسام الكفار وقول أولي العلم لهم. وقرأ الكوفيون: * (لا ينفع) *، بالياء هنا وفي الطول، ووافقهم نافع في الطول؛ وباقي السبعة بتاء التأنيث. * (ولا هم يستعتبون) *، قال الزمخشري: من قولك: استعتبنى فلان فأعتبته: أي استرضاني فأرضيته، وذلك إذا كان جانيا عليه، وحقيقته: أعتبته: أزلت عتبه. ألا ترى إلى قوله:
* غضبت تميم أن يقتل عامر
*
يوم النثار فأعتبوا بالصيلم
*
كيف جعلهم غضابا. ثم قال: فأعتبوا: أي أزيل غضبهم، والغضب في معنى العتب، والمعنى: لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، ومثله قوله تعالى: * (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون) *. فإن قلت: كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات، وغير معتبين في بعضها؟ وقوله: * (وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) *؟ قلت: أما كونهم غير مستعتبين، فهذا معناه؛ وأما كونهم غير معتبين، فمعناه أنهم غير راضين بما هم فيه؛ فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم، فهم عاتبون على الجاني، غير راضى ن منه. فإن يستعتبوا الله: أي يسألوه إزالة ما هم فيه، فما هم من المجابين إلى إزالته. وقال ابن عطية: هذا إخبار عن هول يوم القيامة، وشدة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار، ولا يعطون عتبى، وهو الرضا. ويستعتبون بمعنى: يعتبون، كما تقول: يملك ويستملك. والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه، لأن المعنى لا يفسد إذا كان المفهوم منه، ولا يطلب منهم عتبى. انتهى. فيكون استفعل في هذا بمعنى الفعل المجرد، وهو عتب، أي هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب. وقد قيل: لا يعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون. وقيل: لا يطلب لهم العتبى. وقيل: لا يلتمس منهم عمل وطاعة، ولكن ضربنا إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار. وقال الزمخشري: وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها،
وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كصفة المبعوثين يوم القيامة، وما يقال لهم، وما لا يقع من اعتذارهم، ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا: أجئتنا بزور باطل؟ انتهى. و * (أنتم) *: خطاب للرسول والمؤمنين، أي: تبطلون في دعواكم الحشر والجزاء. وقال أبو عبد الله الرازي: وفي توحيد الخطاب بقول: * (ولئن جئتهم) *، والجمع في قوله: * (إن أنتم) * لطيفة، وهي: أن الله عز وجل قال: * (ولئن جئتهم) * بكل آية جاءت بها الرسل، فيمكن أن يجاوبوه بقوله: أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون.
* (كذلك يطبع الله) *: أي مثل هذا الطبع يطبع الله، أي يحتم على قلوب الجهلة الذين قد حتم الله عليهم الكفر في الأزل، وأسند الطبع إلى ذاته تعالى، إذ هو فاعل ذلك ومقدره. وقال الزمخشري: ومعنى طبع الله: صنع الألطاف التي يشرح لها الصدور حتى تقبل الحق، ثم قال: فكأنه كذلك تصدأ القلوب وتقسو قلوب الجهلة حتى يسموا المحقين مبطلين، وهم أعرف خلق الله في تلك الصفة. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. ثم أمره تعالى بالصبر على عداوتهم، وقواه بتحقق الوعد أنه لا بد من إنجازه والوفاء به، ونهاه عن الاهتزاز بكلامهم والتحرك، فإنهم لا يقين لهم ولا بصيرة. وقرأ ابن أبي إسحاق، ويعقوب: ولا يستحقنك: بحاء مهملة وقاف، من الاستحقاق؛ والجمهور: بخاء معجمة وفاء، من الاستخفاف؛ وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب، والمعنى: لا يفتننك ويكونوا أحق بك من المؤمنين.
176

لقمان: اسم علم، فإن كان أعجميا فمنعه من الصرف للعجمة والعلمية، وإن كان عربيا فمنعه للعلمية وزيادة الألف والنون، ويكون مشتقا من اللقم مرتجلا، إذ لا يعلم له وضع في النكرات. صعر: مشدد العين، لغة بني تميم. قال شاعرهم:
* وكنا إذا الجبار صعر خده
*
أقمنا له من ميله فيقوم
*
فيقوم: أمر بالاستقامة للقوافي في المخفوضة، أي فيقوم إن قاله أبو عبيدة وانشاد الطبري فيقوما فعلا ماضيا خطأ، وتصاعر لغة الحجاز، ويقال: يصعر. قال الشاعر:
أقمنا له من خده المتصعر
ويقال: أصعر خده. قال الفضل: هو الميل، وقال اليزيدي: هو التشدق في الكلام. وقال أبو عبيدة: أصل هذا من الصعر، داء يأخذ الإبل في رؤوسها وأعناقها، فتلتوى منه أعناقها. القلم: معروف. الختار: شديد الغدر، ومنه قولهم:
* إنك لا تمد إلينا شبرا من غدر
*
إلا مددنا لك باعا من ختر
*
وقال عمرو بن معدي كرب:
* وإنك لو رأيت أبا عمير
*
ملأت يديك من غدر وختر
*
وقال الأعشى:
* فالأيلق الفرد من تيماء منزله
*
حصن حصين وجار غير ختار
*
177

* (ألم تلك ءايات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين * الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم بالاخرة هم يوقنون * أولائك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون * ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين * وإذا) *.
هذه السورة مكية، قال ابن عباس: إلا ثلاث آيات، أولهن: * (ولو أن * ما فى الارض) *. وقال قتادة: إلا آيتين، أولهما: * (ولو أن) * إلى آخر الآيتين، وسبب نزولها أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه، وعن بر والديه، فنزلت. وقيل: نزلت بالمدينة إلا الآيات الثلاث: * (ولو أن * ما فى الارض) * إلى آخرهن، لما نزل * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) *. وقول اليهود: إن الله أنزل التوراة على موسى وخلفها فينا ومعنا، فقال الرسول: (التوراة وما فيها من الأنباء
قليل في علم الله)، فنزل: * (ولو أن * ما فى الارض * من شجرة أقلام) *. ومناسبتها لما قبلها أنه قال تعالى: * (ولقد ضربنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل) *، فأشار إلى ذلك بقوله: * (ألم تلك ءايات الكتاب الحكيم) *؛ وكان في آخر تلك: * (ولئن جئتهم بئاية) *، وهنا: * (وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا) *، وتلك إشارة إلى البعيد، فاحتمل أن يكون ذلك لبعد غايته وعلو شأنه.
و * (الكتاب الحكيم) *: القرآن واللوح المحفوط. ووصف الكتاب بالحكيم، إما لتضمنه للحكمة، قيل: أو فعيل بمعنى المحكم، وهذا يقل أن يكون فعيل بمعنى مفعل، ومنه عقدت العسل فهو عقيد، أي معقد، ويجوز أن يكون حكيم بمعنى حاكم. وقال الزمخشري: الحكيم: ذو الحكمة؛ أو وصف لصفة الله عز وجل على الإسناد المجازي، ويجوز أن يكون
178

الأصل الحكيم قابله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة. وقرأ الجمهور: * (هدى ورحمة) *، بالنصب على الحال من الآيات، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة، قاله الزمخشري وغيره، ويحتاج إلى نظر. وقرأ حمزة، والأعمش، والزعفراني، وطلحة، وقنبل، من طريق أبي الفضل الواسطي: بالرف، خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، على مذهب من يجيز ذلك. * (للمحسنين) *: يعملون الحسنات، وهي التي ذكرها، كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيقان بالآخرة، ونظيره قول أوس:
* الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
*
حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد، وخص المحسنون، لأنهم هم الذين انتفعوا به ونظروه بعين الحقيقة. وقيل: الذين يعملون بالحسن من الأعمال، وخص منهم القائمون بهذه الثلاث، لفضل الاعتداد بها. ومن صفة الإحسان ما جاء في الحديث من أن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه). وقيل: المحسنون: المؤمنون. وقال ابن سلام: هم السعداء. وقال ابن شجرة: هم المنجحون. وقيل: الناجون، وكرر الإشارة إليهم تنبيها على عظم قدرهم. ولما ذكر من صفات القرآن الحكمة، وأنه هدى ورحمة، وأن متبعه فائز، ذكر حال من يطلب من بدل الحكمة باللهو، وذكر مبالغته في ارتكابه حتى جعله مشتريا له وباذلا فيه رأس عقله، وذكر علته وأنها الإضلال عن طريق الله.
ونزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، كان يتجر إلى فارس، ويشتري كتب الأعاجم، فيحدث قريشا بحديث رستم واسفندار ويقول: أنا أحسن حديثا. وقيل: في ابن خطل، اشترى جارية تغني بالسب، وبهذا فسر * (لهو الحديث) *: المعازف والغناء. وفي الحديث من رواية أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (شراء المغنيات وبيعهم حرام)، وقرأ هذه الآية. وقال الضحاك: * (لهو الحديث) *: الشرك. وقال مجاهد، وابن جريج: الطبل، وهذا ضرب من آلة الغناء. وقال عطاء: الترهات. وقيل: السحر. وقيل: ما كان يشتغل به أهل الجاهلية من السباب. وقال أيضا: ما شغلك عن عبادة الله، وذكره منالسحر والأضاحيك والخرافات والغناء. وقال سهل: الجدال في الدين والخوض في الباطل، والظاهر أن الشراء هنا مجاز عن اختيار الشيء، وصرف عقله بكليته إليه. فإن أريد به ما يقع عليه الشراء، كالجواري المغنيات عند من لا يرى ذلك، وككتب الأعاجم التي اشتراها النضر؛ فالشراء حقيقة ويكون على حذف، أي من يشتري ذات لهو الحديث. وإضافة لهو إلى الحديث هي لمعنى من، لأن اللهو قد يكون من حديث، فهو كباب ساج، والمراد بالحديث: الحديث المنكر. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية، كأنه قال: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه. انتهى.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: * (ليضل) * بفتح الياء، وباقي السبعة: بضمها. قال الزمخشري: فإن قلت: القراءة بالرفع بينة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدق عنه، ويزيد فيه ويمده بأن المخذول كان شديد الشكيمة قد عداوة الدين وصد الناس عنه. والثاني: أن يوضع ليضل موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة، فدل بالرديف على المردوف. فإن قلت: قوله بغير علم ما معناه
179

قلت: لما جعله مشتريا لهو الحديث بالقرآن قال: يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق، ونحوه قوله تعالى: * (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) *، أي وما كانوا مهتدين للتجارة وبصراء بها. انتهى. و * (سبيل الله) *: الإسلام أو القرآن، قولان. قال ابن عطية: والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافا إلى الكفر، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله: * (ليضل) * إلى آخره. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص: * (ويتخذها) *، بالنصب عطفا على * (ليضل) *، تشريكا في الصلة؛ وباقي السبعة: بالرفع، عطفا على * (يشترى) *، تشريكا في الصلة. والظاهر عود ضمير * (ويتخذها) * على السبيل، كقوله: * (ويبغونها عوجا) *. قيل: ويحتمل أن يعود على * (الكتاب الحكيم) *. وقال تعالى: * (ولا تتخذوا آيات الله هزوا) *. قيل: ويحتمل أن يعود على الأحاديث، لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث. وقال صاحب التحرير: ويظهر لي أنه أراد بلهو الحديث: ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم، والأمر بالدوام عليه، وتفسير صفة الرسول، وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق، يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان، وأطلق اسم الشراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم، ويؤيده * (ليضل عن سبيل الله) *: أي دينه. انتهى، وفيه بعض حذف وتلخيص.
* (وإذا تتلى عليه) *: بدأ أولا بالحمل على اللفظ، فأفرد في قوله: * (من يشترى) *، * (* وليضل) *، * (علم ويتخذها) *، ثم جمع على الضمير في قوله: * (أولئك لهم) *، ثم حمل على اللفظ فأفرد في قوله: * (وإذا تتلى) * إلى آخره. ومن في: * (من يشترى) * موصولة، ونظيره في من الشرطية قوله
: * (ومن يؤمن * من * بالله) *، فما بعده أفرد ثم قال: * (خالدين) *، فجمع ثم قال: * (قد أحسن الله له رزقا) *، فأفرد، ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ، ثم على المعنى، ثم على اللفظ، غير هاتين الآيتين. والنحويون يذكرون * (ومن يؤمن بالله) * الآية فقط، ثم على المعنى، ثم على اللفظ، ويستدلون بها على أن هذا الحكم جار في من الموصولة ونظيرها مما لم يثن ولم يجمع من الموصولات. وتضمنت هذه الآية ذم المشتري من وجوه التولية عن الحكمة، ثم الاستكبار، ثم عدم الالتفات إلى سماعها، كأنه غافل عنها، ثم الإيغال في الإعراض بكون أذنيه كأن فيهما صمما يصده عن السماع. و * (كأن لم يسمعها) *: حال من الضمير في * (مستكبرا) *، أي مشبها حال من لم يسمعها، لكونه لا يجعل لها بالا ولا يلتفت إليها؛ وكأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن واجب الحذف. و * (كأن فى أذنيه وقرا) *: حال من لم يسمعها. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونا استئنافين. انتهى، يعني الجملتين التشبيهيتين.
ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم، ذكر ما وعد به المؤمنين. وقرأ زيد بن علي: خالدون، بالواو؛ والجمهور: بالياء. وانتصب * (وعد الله) * على أنه مصدر مؤكد لنفسه، و * (حقا) * على المصدر المؤكد لغيره، لأن قوله: * (لهم جنات النعيم) *، والعامل فيها متغاير، فوعد الله منصوب، أي يوعد الله وعده، وحقا منصوب بأحق ذلك حقا. * (خلق * السماوات) * إلى * (فأنبتنا فيها) *، تقدم الكلام على ذلك. ومعنى * (كريم) *: مدحته بكرم جوهره ونفاسته وحسن منظره، وما تقضي له النفوس بأنه أفضل من غيره حتى استحق الكرم، فيخص لفظ الأزواج ما كان نفيسا مستحسنا من جهة، أو مدحته بإتقان صفته وظهور حسن الرتبة والتحكم للصنع فيه، فيعم جميع الأزواج، وهو الأنواع. * (هاذا خلق الله) *: إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته، وبخ بذلك الكفار وأظهر حجته. والخلق بمعنى المخلوق، كقولهم: درهم ضرب الأمير، أي مضروبه. ثم سألهم على جهة التهكم بهم أن يورده. وأما خلقته آلتهم لما ذكر مخلوقاته، فكيف عبدوها من دونه؟ ويجوز في ماذا أن تكون كلها موصولة بمعنى الذي، وتكون مفعولا ثانيا لأروني. واستعمال ماذا كلها موصولا قليل، وقد ذكره سيبويه. ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع على الابتداء، وذا موصولة بمعنى الذي، وهو خبر عن ما، والجملة في موضع نصب بأروني، وأروني معلقة عن العمل لفظا لأجل الاستفام. ثم أضرب عن توبيخهم وتبكيتهم إلى التسجيل عليهم بأنهم في حيرة واضحة لمن يتدبر، لأن من عبد صنما وترك خالقه جدير بأن يكون في حية وتيه لا يقلع عنه.
180

* (ولقد ءاتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد وإذ) *.
اختلف في لقمان، أكان حرا أم عبدا؟ فإذا قلنا: كان حرا، فقيل: هو ابن باعورا. قال وهب: ابن أخت أيوب عليه السلام. وقال مقاتل: ابن خالته. وقيل: كان من أولاد آزر، وعاش ألف سنة، وأدرك داود عليه السلام، وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث داود، قطع الفتوى، فقيل له: لم؟ فقال: ألا أكتفي إذا كفيت؟ وكان قاضيا في بني إسرائيل. وقال الواقدي: كان قاضيا في بني إسرائيل، وزمانه ما بين عيسى ومحمد، عليهما السلام، والأكثرون على أنه لم يكن نبيا. وقال عكرمة، والشعبي: كان نبيا. وإذا قلنا: كان عبدا، اختلف في جنسه، فقال ابن عباس، وابن المسيب، ومجاهد: كان نوبيا مشقق الرجلين ذا مشافر. وقال الفراء وغيره: كان حبشيا مجدوع الأنف ذا مشفر. واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال، فقال خالد بن الربيع: كان نجارا، وفي معاني الزجاج: كان نجادا، بالدال. وقال ابن المسيب: كان خياطا. وقال ابن عباس: كان راعيا. وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة. وهذا الاضطراب في كونه حرا أو عبدا، وفي جنسه، وفيما كان يعانيه، يوجب أن لا يكتب شيء من ذلك، ولا ينقل. لكن المفسرون مولعون بنقل المضطربات حشوا وتكثيرا، والصواب تركه.
وحكمة لقمان مأثورة كثيرة، منها: قيل له: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. وقال له داود، عليه السلام، يوما: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في يد غيري، فتفكر داود فيه، فصعق صعقة. وقال وهب بن منبه: قرأت في حكم لقمان أكثر من عشرة آلاف. و * (الحكمة) *: المنطق الذي يتعظ به ويتنبه به، ويتناقله الناس لذلك. * (أن اشكر) *، قال الزمخشري: أن هي المفسرة، لأن إيتاء الحكمة في معنى القول، وقد نبه سبحانه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما، أو عبادة الله والشكر له، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشك. وقال الزجاج: المعنى: * (ولقد ءاتينا لقمان الحكمة) * لأن يشكر الله، فجعلها مصدرية، لا تفسيرية. وحكى سيبويه: كتبت إليه بأن قم. * (فإنما يشكر لنفسه) *: أي ثواب الشكر لا يحصل إلا للشاكرين، إذ هو تعالى غني عن الشكر، فشكر الشاكر لا ينفعه، وكفر من كفر لا يضره. و * (حميد) *: مستحق الحمد لذاته وصفاته.
* (وإذ قال) *: أي واذكر إذ، وقيل:
181

يحتمل أن يكون التقدير: وآتيناه الحكمة، إذ قال، واختصر لدلالة المتقدم عليه. وابنه بار، أي: أو أنعم، أو اشكر، أو شاكر، أقوال. * (وهو يعظه) *: جملة حالية. قيل: كان ابنه وامرأته كافرين، فما زال يعظهما حتى أسلما. والظاهر أن قوله: * (إن الشرك لظلم عظيم) * من كلام لقمان. وقيل: هو خبر من الله، منقطع عن كلام لقمان، متصل به في تأكيد المعنى؛ وفي صحيح مسلم ما ظاهره أنه من كلام لقمان. وقرأ البزي: * (أو بنى) *، بالسكون، و * (وما يشعركم أنها) *: بكسر الياء، و * (لسنتنا تحويلا أقم) *: بفتحها. وقيل: بالسكون في الأولى والثانية، والكسر في الوسطى؛ وحفص والمفضل عن عاصم: بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا، والاجتزاء بالفتحة عن الألف. وقرأ باقي السبعة: بالكسر في الثلاثة.
* (ووصينا الإنسان بوالديه) *: لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه، كان ذلك حثا على طاعة الله، ثم بين أن الطاعة تكون للأبوين، وبين السبب في ذلك، فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه، أخبر الله عنه بذلك. وقيل: هو من كلام الله، قاله للقمان، أي قلنا له اشكر. وقلنا له: * (ووصينا) *. وقيل: هذه الآية اعتراض بين أثناء وصيته للقمان، وفيها تشديد وتوكيد لاتباع الولد والده، وامتثال أمره في طاعة الله تعالى. وقال القرطبي: والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت نزلتا في سعد بن أبي وقاص، وعليه جماعة من المفسرين. ولما خص الأم بالمشقات من الحمل والنفاس والرضاع والتربية، نبه على السبب الموجب للإيصاء، ولذلك جاء
في الحديث الأمر ببر الأم ثلاث مرات، ثم ذكر الأب، فجعل له مرة الربع من المبرة.
* (وهنا على وهن) *، قال ابن عباس: شدة بعد شدة، وخلقا بعد خلق. وقال الضحاك: ضعفا بعض ضعف. وقال قتادة: جهدا على جهد، يعني: ضعف الحمل، وضعف الطلق، وضعف النفاس، وانتصب على هذه الأقوال على الحال. وقيل: * (وهنا على وهن) *: نطفة ثم علقة، إلى آخر النشأة، فعلى هذا يكون حالا من الضمير المنصوب في حملته، وهو الولد. وقرأ عيسى الثقفي، وأبو عمرو في رواية: وهنا على وهن، بفتح الهاء فيهما، فاحتمل أن يكون كالشعر والشعر، واحتمل أن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن وهنا، بفتحها في المصدر قياسا. وقرأ الجمهور: بسكون الهاء فيهما. وقرؤا: * (وفصاله) *. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وقتادة، والجحدري، ويعقوب: وفصله، ومعناه الفطام، أي في تمام عامين، عبر عنه بنهايته، وأجمعوا على اعتبار العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن في الرضاع فخلاف مذكور في الفقه. و * (أن اشكر) * في موضع نصب، على قول الزجاج. وقال النحاس: الأجود أن تكون مفسرة. * (لى) *: أي على نعمة الإيمان. * (ولوالديك) *: على نعمة التربية * (إلى المصير) *: توعد أثناء الوصية. * (وإن جاهداك) * إلى: * (فلا تطعهما) *: تقدم الكلام عليه في العنكبوت، إلا أن هنا علي، وهناك لتشرك بلام العلة. وانتصب * (معروفا) * على أنه صفة لمصدر محذوف، أي صحابا، أو مصاحبا معروفا وعشرة جميلة، وهو إطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما وانتهارهما، وعيادتما إذا مرضا، ومواراتهما إذا ماتا. * (واتبع سبيل من أناب إلى) *: أي رجع إلى الله، وهو سبيل الرسول لا سبيلهما. * (ثم إلي مرجعكم) *: أي مرجعك ومرجعهما، فأجازي كلا منكم بعمله.
ولما نهى لقمان ابنه عن الشرك، نبهه على قدرة الله، وأنه لا يمكن أن يتأخر عن مقدوره شيء فقال: * (تعملون يابنى إنها إن تك) *، والظاهر أن الضمير في إنها ضمير القصة. وقرأ نافع: مثقال، بالرفع على * (إن تك) * تامة، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر، وأخبر عن مثقال، وهو مذكر، إخبار المؤنث، لأضافته إلى مؤنث، وكأنه قال: إن تك زنة حبة؛ وباقي السبعة: بالنصب على * (إن تك) * ناقصة، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام تقديره: هي، أي التي سألت عنها. وكان فيما روي قد سأل لقمان ابنه: أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر؟ أيعلمها الله؟ فيكون الضمير ضمير جوهر لا ضمير عرض، ويؤيده قوله: * (إن تك مثقال حبة) *. وقرأ عبد الكريم الجزري: فتكن، بكسر الكاف وشد النون وفتحها؛ وقراءة محمد بن أبي فجة البعلبكي: فتكن، بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة. وقرأ قتادة: فتكن، بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون، من وكن يكن، ورويت هذه القراءة عن عبد الكريم الجزري أيضا: أي تستقر، ويجوز أن يكون الضمير ضمير عرض، أي تلك الفعلة من الطاعة أو المعصية. وعلى من قرأ بنصب مثقال، يجوز أن يكون الضمير في أنها ضمير الفعلة، لا ضمير القصة. قال الزمخشري: فمن نصب يعني مثقال، كان الضمير للهيئة من الإساءة والإحسان، أي كانت مثلا في الصغر والقماءة، كحبة
182

الخردل، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه، كجوف الصخرة، أو حيث كانت من العالم العلوي أو السفلي.
* (يأت بها الله) *، يوم القيامة، فيحاسب عليها. * (إن الله لطيف) *، يتوصل علمه إلى كل خفي. * (خبير) *: عالم يكنهه. وعن قتادة: لطيف باستخراجها، خبير بمستقرها. وبدأ له بما يتعلق به أولا، وهو كينونة الشيء. * (فى صخرة) *: وهو ما صلب من الحجر وعشر إخراجه منها، ثم أتبعه بالعالم العلوي، وهو أغرب للسامع، ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد، وهو الأرض. وعن ابن عباس والسدي، أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض. قال ابن عباس: هي تحت الأرضين السبع، يكتب فيها أعمال الفجار. قال ابن عطية: قيل: أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء، وهي على ظهر ملك. وقيل: هي صخرة في الريح، وهذا كله ضعيف لا يثبت سنده، وإنما معنى الكلام: المبالغة والانتهاء في التفهم، أي إن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة، وما يكون في السماء والأرض. انتهى. قيل: وخفاء الشيء يعرف بصغره عادة، ويبعده عن الرائي. وبكونه في ظلمة وباحتجابه، ففي صخرة إشارة إلى الحجاب، وفي السماوات إشارة إلى البعد، وفي الأرض إشارة إلى الظلمة، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن. وفي قوله: * (يأت بها الله) * دلالة على العلم والقدرة، كأنه قال: يحيط بها علمه وقدرته.
ولما نهاه أولا عن الشرك، وأخبره ثانيا بعلمه تعالى وباهر قدرته، أمره بما يتوسل به إلى الله من الطاعات، فبدأ بأشرفها، وهو الصلاة، حيث يتوجه إليه بها، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها، أو على ما يصيبه بسبب الأمر بالمعروف ممن يبعثه عليه، والنهي عن المنكر ممن ينكره عليه، فكثيرا ما يؤذى فاعل ذلك، وهذا إنما يريد به بعد أن يمثل هو في نفسه فيأتي بالمعروف. إن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما نهاه عنه وأمره به. والعزم مصدر، فاحتمل أن يراد به المفعول، أي من معزوم الأمور، واحتمل أن يراد به الفاعل، أي عازم الأمور، كقوله: * (فإذا عزم الامر) *. وقال ابن جريج: مما عزمه الله وأمر به؛ وقيل: من مكارم الأخلاف وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة. والظاهر أنه يريد من لازمات الأمور الواجبة، لأن الإشارة بذلك إلى جميع ما أمر به ونهى عنه. وهذه الطاعات يدل إيصاء لقمان على أنها كانت مأمورا بها في سائر الملل. والعزم: ضبط الأمر ومراعاة إصلاحه. وقال مؤرج: العزم: الحزم، بلغة هذيل. والحزم والعزم أصلان، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء، لاطراد تصاريف كل واحد من اللفظين، فليس أحدهما أصلا للآخر.
* (ولا تصعر خدك للناس) *: أي لا تولهم شق وجهك، كفعل المتكبر، وأقبل على الناس بوجهك من غير كبر ولا إعجاب، قاله ابن عباس والجماعة. قال ابن خويز منداد: نهى أن يذل نفسه من غير حاجة، وأورد قريبا من هذا ابن عطية احتمالا فقال: ويحتمل أن يريد: ولا سؤالا ولا ضراعة بالفقر. قال: والأول، يعني تأويل ابن عباس والجماعة، أظهر لدلالة ذكر الاختيال والعجز بعده. وقال مجاهد: * (ولا تصعر) *، أراد به الإعراض، كهجره بسب أخيه. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وزيد بن علي: تصعر، بفتح الصادر وشد العين؛ وباقي السبعة: بألف؛ والجحدري: يصعر مضارع أصعر. * (ولا تمش فى الارض مرحا
) *: تقدم الكلام على هذه الجملة في سورة سبحان. * (إن الله لا يحب كل مختال فخور) *: تقدم الكلام في النساء على نظير هذه الجملة في قوله: * (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) *. ولما وصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ صار هو في نفسه ممتثلا للمعروف مزدجرا عن المنكر، أمر به غيره وناهيا عنه غيره، نهاه عن التكبر على الناس والإعجاب والمشي مرحا، وأخبره أنه تعالى لا يحب المختال، وهو المتكبر، ولا الفخور. قال مجاهد: وهو الذي يعدد ما أعطي، ولا يشكر الله. ويدخل في الفخور: الفخر بالأنساب.
* (واقصد فى مشيك واغضض من صوتك) *: ولما نهاه عن الخلق الذميم، أمره بالخلق الكريم، وهو القصد في المشي، بحيث لا يبطيء، كما يفعل المتنامسون والمتعاجبون، يتباطؤون في نقل خطواتهم المتنامين للرياء والمتعاجب للترفع، ولا يسرع، كما يفعل الخرق
183

المتهور. ونظر أبو جعفر المنصور إلى أبي عمرو بن عبيد فقال: كلكم يمشي رويدا، كلكم يطلب صيدا، غير عمرو بن عبيد. وقال ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، ولكن مشيا بين ذلك. وقيل: معناه: اجعل بصرك موضع قدمك. وقرئ: وأقصد، بهمزة القطع: أي سدد في مشيك؛ من أقصده الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية، ونسبها ابن خالويه للحجاز. والغض من الصوت: التنقيص من رفعه وجهارته، والغض: رد طموح الشيء، كالصوت والنظر والزمام. وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت، وتمدح به في الجاهلية، ومنه قول الشاعر:
* جهير الكلام جهير العطاس
*
جهير الرواء جهير النعيم
*
* ويخطو على الأين خطو الظليم
*
ويعلو الرجال بخلق عميم
*
وغض الصوت أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه. وأنكر: أفعل، إن بنى من فعل المفعول، كقولهم: أشغل من ذات النحيين؛ وبناؤه من ذلك شاذ. والأصوات: أصوات الحيوان كلها. وأنكر جماعة للمذام اللاحقة للأصوات، والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة. شبه الرافعون أصواتهم بالحمير، وأصواتهم بالنهاق، ولم يؤت بأداة التشبيه، بل أخرج مخرج الاستعارة، وهذه أقصى مبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت. ولما كان صوت الحمير متماثلا في نفسه، لا يكاد يختلف في الفظاعة، أفرد لأنه في الأصل مصدر. وأما أصوات الحمير فغير مختلفة جدا، جمعت في قوله: * (إن أنكر الاصوات) *، فالمعنى: أنكر أصوات الحمير، بالجمع بغير لام. وقال الحسن: كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات، فرد عليهم بأنه لو كان خيرا، فضل به الحمير. والظاهر أن قوله: * (إن أنكر الاصوات لصوت الحمير) * من كلام لقمان لابنه، تنفير له عن رفع الصوت، ومماثلة الحمير في ذلك. قيل: هو من كلام الله تعالى، وفرغت وصية لقمان في قوله: * (واغضض من صوتك) * ردا لله به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت، ورفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرج الغشاء الذي هو داخل الأذن. وقيل: * (واقصد فى مشيك) *: إشارة إلى الأفعال، * (واغضض من صوتك) *: إشارة إلى الأقوال، فنبه على التوسط في الأفعال، وعلى الإقلال من فضول الكلام.
* (ألم تروا أن الله سخر لكم ما فى * السماوات وما في الارض * وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * وإذا (سقط: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل إلى آخر الآية)) *.
184

(سقط: والبحر يمده من بعد سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إن الله عزيز حكيم، ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير)
* (سخر لكم) *: تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع من تسخير * (ما في السماوات) *: من الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب؛ * (وما فى الارض) *: من الحيوان، والنبات، والمعادن، والبحار، وغير ذلك؛ وذلك لا يكون إلا بمسخر من مالك متصرف كما يشاء. وقرأ ابن عباس، ويحيى بن عمارة: وأصبغ بالصاد، وهي لغة لبني كلب، يبدلونها من السين، إذا جامعت الغين أو الخاء أو القاف صادا؛ وباقي القراء: بالسين على الأصل. وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع، وأبو عمرو، وحفص: * (نعمه) *، جمعا مضافا للضمير؛ وباقي السبعة، وزيد ابن علي: نعمة، على الإفراد. والظاهر أنه يراد بالنعمة الظاهرة: الإسلام، والباطنة: الستر. وعن الضحاك، الظاهرة: حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء، والباطنة: المعرفة. وقيل: الظاهرة: البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح، والباطنة: القلب والعقل والفهم. والذي ينبغي أن يقال: إن الظاهرة مما يدرك بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، أو لا يعلم أصلا. فكم من نعمة في بدن الإنسان لا يعلمها، ولا يهتدي إلى العلم بها؟ وانتصب * (ظاهرة) * على الحال من * (نعمه) *، الجمع على الصفة، ومن نعمة على الإفراد. وتقدم الكلام على: * (ومن الناس) * إلى: * (منير) *، في الحج، وعلى ما بعده إلى: * (ءاباءنا) *، في نظيره في البقرة. * (أو * لو) *: كان تقديره: أيتبعونهم في أحوالهم؟ وفي هذه الحال التي لا ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء؟ لأنها حال تلف وعذاب. وقد تقدم لنا أن مثل هذا التركيب الذي فيه ولو، إنما
يكون في الشيء الذي كان ينبغي أن لا يكون، نحو: أعطوا السائل ولو جاء على فرس، ردوا السائل ولو بظلف محرق، * (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) *. وكذلك هذا، كان ينبغي من دعا إلى عذاب السعير أن لا يتبع. وقرأ الجمهور:
* (ومن يسلم) *، مضارع أسلم؛ وعلي، والسلمي، وعبد الله بن مسلم بن يسار: بتشديد اللام، مضارع سلم، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في البقرة، والمراد: التفويض إلى الله. * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) *: تقدم الكلام عليه في البقرة. وقال الزمخشري، من باب التمثيل: مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه. انتهى. ولما ذكر حال الكافر المجادل، ذكر حال المسلم، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه. وقال ابن عطية: والعروة: موضع التعليق، فكأن المؤمن متعلق بأمر الله، فشبه ذلك بالعروة. وسلى رسوله بقوله: * (ومن كفر) *، إلى آخره، وشبه إلزام العذاب وإهاقهم إليه باضطرار من يضطر إلى الشيء الذي لا يمكنه دفعه، ولا الإنفكاك منه. والغلظ يكون في الإجرام، فاستعير للمعنى، والمراد: الشدة. * (ليقولن الله) *: أقام الحجة عليهم بأنهم يقرون بأن الله هو خالق العالم بأسره، ويدعون مع ذلك إلاها غيره. * (قل الحمد لله) * على ظهور الحجة عليهم. * (بل أكثرهم لا يعلمون) *: إضراب عن مقدر، تقديره: ليس دعواهم، نحو: لا يعلمون أن ما ارتكبوه من ادعاء إله غير الله لا يصح، ولا يذهب إليه ذو علم. ثم أخبر أنه مالك للعالم كله، وأنه هو الغني، فلا افتقار له لشيء من الموجودات. * (الحميد) *: المستحق الحمد على ما أنشأ وأنعم.
* (ولو أن * ما فى الارض * من شجرة أقلام) *: تقدم في أول السورة سبب نزول هذه الآية. ولما ذكر تعالى أن ما في السماوات والأرض ملك له، وكان ذلك متناهيا، بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها، فقال: * (ولو أن * ما فى الارض) *، وأن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية، أي لو وقع أو ثبت على رأي المبرد، أو في موضع مبتدأ محذوف الخبر على رأي غيره، وتقرر ذلك في علم النحو. و * (من شجرة) *: تبيين لما، وهو في التقرير في موضع الحال من الضمير الذي في الجار والمجرور المنتقل من العامل فيه، وتقديره: ولو أن الذي استقر في الأرض كائنا من شجرة وأقلام خبر لأن، وفيه دليل على بطلان دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله: إن خبر أن
185

الجائية بعد لولا يكون اسما جامدا ولا اسما مشتقا، بل يجب أن يكون فعلا، وهو قول باطل، ولسان العرب طافع بالزيادة عليه. قال الشاعر:
* ولو أنها عصفورة لحسبتها
*
مسومة تدعو عبيدا وأيما
*
وقال الآخر:
* ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر
*
تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
*
وقال آخر:
* ولو أن حيا فائت الموت فاته
*
أخو الحرب فوق القارح القدوان
*
وهو كثير في لسانهم. والظاهر أن الواو في قوله: * (والبحر) *، في قراءة من رفع، وهم الجمهور، واو الحال؛ والبحر مبتدأ، و * (يمده) * الخبر، أي حال كون البحر ممدودا. وقال الزمخشري: عطفا على محل إن ومعمولها على ولو، ثبت كون الأشجار أقلاما، وثبت أن البحر مدودا بسبعة أبحر. انتهى. وهذا لا يتم إلا على رأي المبرد، حيث زعم أن * (ءان) * في موضع رفع على الفاعلية. وقال بعض النحويين: هو عطف على أن، لأنها في موضع رفع بالابتداء، وهو لا يتم إلا على رأي من يقول: إن أن بعد لو في موضع رفع على الابتداء، ولولا يليها المبتدأ اسما صريحا إلا في ضرورة شعر، نحو قوله:
* لو بغير الماء حلقي شرق
*
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
*
فإذا عطفت والبحر على أن ومعموليها، وهما رفع بالابتداء، لزم من ذلك أن لو يليها الاسم مبتدأ، إذ يصير التقدير: ولو البحر، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة، إلا
أنه قد يقال: إنه يجوز في المعطوف عليه نحو: رب رجل وإخيه يقولان ذلك. وقرأ عبد الله: وبحر يمده، بالتنكير بالرفع، والواو للحال، أو للعطف على ما تقدم؛ وإن كان الواو واو الحال، كان بحر، وهو نكرة، مبتدأ، وذكروا في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون واو الحال تقدمته، نحو قوله:
* سرينا ونجم قد أضاء فقد بدا
*
محياك أخفى ضوؤه كل شارق
*
وقرأ الجمهور: * (يمده) * بالياء، من مد؛ وابن مسعود، وابن عباس: بتاء التأنيث، من مد أيضا؛ وعبد الله أيضا، والحسن، وابن مطرف، وابن هرمز: بالياء من تحت، من أمد؛ وجعفر بن محمد: والبحر مداده، أي يكتب به من السواد. وقال ابن عطية: هو مصدر. انتهى. * (من بعده) *: أي من بعد نفاد ما فيه، * (سبعة أبحر) *: لا يراد به الاقتصار على هذا العدد، بل جيء للكثرة، كقوله: المؤمن من يأكل في معي واحد، والكافر في سبعة أمعاء، لا يراد به العدد، بل ذلك إشارة إلى القلة والكثرة. ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعا في الأصل للتكثير، وإن كان مرادا به التكثير، جاء مميزه بلفظ القلة، وهو أبحر، ولم يقل بحور، وإن كان لا يراد به أيضا إلا التكثير، ليناسب بين اللفظين. فكما يجوز في سبعة، واستعمل للتكثر، كذلك يجوز في أبحر، واستعمل للتكثير. وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وكتب بها الكتاب كلمات الله.
* (ما نفدت) *، والمعنى: ولو
186

أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله، * (ما نفدت) *، ونفدت الأقلام والمداد الذي في البحر وما يمده، كما قال: * (لو كان البحر مدادا لكلمات ربى) * الآية. وقال الزمخشري: فإن قلت: زعمت أن قوله: * (والبحر يمده) *، حال في أحد وجهي الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال، قلت: هو كقوله:
وقد اغتدي والطير في وكناتها
وجئت والجيش مصطف، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. يجوز أن يكون المعنى: وبحرها، والضمير للأرض. انتهى. وهذا الذي جعله سؤالا وجوابا من واضح النحو الذي لا يجهله المبتدئون فيه، وهو أن الجملة لا سمية إذا كانت حالا بالواو، لا يحتاج إلى ضمير يربط، واكتفى بالواو فيها. وأما قوله: وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف، فليس بجيد، لأن الظرف إذا وقع حالا، ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف. والجملة الاسمية إذا كانت حالا بالواو، فليس فيها ضمير منتقل. وأما قوله: ويجوز، فلا يجوز إلا على رأي الكوفيين، حيث يجعلون أل عوضا من الضمير. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: * (من شجرة) *، على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر ونقضها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا قد بريت أقلاما. انتهى. وهذا النوع هو مما أوقع فيه المفرد موقع الجمع، والنكرة موقع المعرفة، ونظيره: * (ما ننسخ من ءاية) *، * (ما يفتح الله للناس من رحمة) *، * (ولله يسجد ما فى * السماوات وما في الارض من * دابة) *؛ وكقول العرب: هو أول فارس، وهذا أفضل عالم، يريد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب، وأول الفرسان. أخبروا بالمفرد والنكرة، وأرادوا به معنى الجمع المعرف بأل، وهو مهيع في كلام العرب معروف. وكذلك يتقدر هذا من الشجرات، أو من الأشجار. وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما ينبغي أن يتأمل، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة، وتلك الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم، فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لا يعلم به، ولا يحيط إلا الله تعالى.
وقرأ الجمهور: * (ما * نفدت كلمات الله) *، بالألف والتاء. وقرأ زيد بن علي: كلمة الله، على التوحيد. وقرأ الحسن: ما نفد، بغير تاء، كلام الله. قال أبو علي: المراد بالكلمات، والله أعلم: ما في المعدوم دون ما خرج من العدم إلى الوجود. وقالت فرقة: المراد بكلمات الله: معلوماته. وقال الزمخشري: فإن قلت: الكلمات جمع قلة، والمواضع مواضع التكثير لا التقليل، فهلا قيل: كلم الله؟ قلت: معناه أن كلماته لا تفي بكتبها البحار، فكيف بكلمة؟ انتهى. وعلى تسليم أن كلمات جمع قلة، فجموع القلة إذا تعرفت بالألف واللام غير العهدية، أو أضيفت، عمت وصارت لا تخص القليل، والعام مستغرق لجميع الأفراد. * (أن الله عزيز) *: كامل القدرة، فمقدوراته لا نهاية لها. * (حكيم) *: كامل العلم، فمعلوماته لا نهاية لها. ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعلمه، ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر. * (إلا كنفس واحدة) *: إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتي: كونوا فيكونون، فالقليل والكثير، والواحد والجمع، لا يتفاوت في قدرته. وقال النقاش: هذه الآية في أبي بن خلف، وأبي الأسد، ونبيه ومنبه ابني الحجاج، قالوا: يا محمد: إنا نرى الطفل يخلق بتدريج، وأنت تقول: الله يعيدنا دفعة واحدة، فنزلت. * (إن الله سميع بصير) *: سميع كل صوت، بصير يبصر كل مبصر في حالة واحدة، لا يشغله إدراك
187

بعضها عن بعض، فكذلك الخلق والبعث.
* (ألم تر أن الله يولج ألم تر أن الله يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل (سقط: مسمى وأن الله بما تعملون خبير إلى آحر اللأية)) *.
* (يولج اليل) *: الجملتين شرحت في آل عمران وهنا. * (إلى أجل) *، ويدل على الانتهاء، أي: يبلغه وينتهي إليه. وفي الزمر: * (لاجل) *، ويدل على
الاختصاص بجعل الجري مختصا بإدراك أجل مسمى، وجري الشمس مختص بآخر السنة، وجري القمر بآخر الشهر؛ فكلا المعنيين متناسب لجريهما، فلذلك عدى بهما. وقرأ عياش، عن أبي عمرو: بما يعملون، بياء الغيبة. * (ذالك بأن الله) * الآية، تقدم شرحها في الحج وهنا. * (وأن ما يدعون من دونه الباطل) *، وفي الحج * (من دونه هو الباطل) *، بزيادة هو. ولما ذكر تعالى تسخير النيرين وامتنانه بذلك علينا، ذكر أيضا من سخر الفلك من العالم الأرضي بجامع ما اشتركا فيه من الجريان. وقرأ الجمهور: * (ألم تر) * على الإفراد اللفظي. وقرأ الأعرج، والأعمش، وابن يعمر: بنعمات الله، بكسر النون وسكون العين جمعا بالألف والتاء. وقرأ ابن أبي عبلة: بفتح النون وكسر العين بالألف والتاء والباء، وتحتمل السبية: أي تجري بسبب الريح وتسخير الله، وتحتمل الحالية، أي مصحوبة بنعمة الله، وهي ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات. وقال ابن عطية: الباء للالصاق. انتهى. وقرأ موسى بن الزبير: * (الفلك) *، بضم اللام. و * (صبار شكور) *: بنيتا مبالغة، وفعال أبلغ لزيادة حروفه.
ولما تقدم ذكر جري الفلك في البحر، وكأن في ذلك ما لا يخفى على راكبه من الخوف، وتقدم ذكر النعمة، ناسب الختم بالصبر على ما يحذر، وبالشكر على ما أنعم به تعالى، وشبه الموج في ارتفاعه واسوداده واضطرابه بالظلل، وهو السحاب. وقيل: كالظلل: كالجبال، أطلق على الجبل ظلة. وقرأ محمد بن الحنفية: كالظلال، وهما جمع ظلة، نحو: قلة وقلل وقلال. وقوله: * (وإذا غشيهم) *، فيه التفات خرج من ضمير الخطاب في * (ليريكم) * إلى ضمير الغيبة في * (غشيهم) *. و * (موج) *: اسم جنس يفرق بينه وبين مفرده بتاء التأنيث، فهو يدل على الجمع، ولذلك شبهه بالجمع.
* (فمنهم مقتصد) *، قال الحسن: أي مؤمن يعرف حق الله في هذه النعم. وقال مجاهد: مقتصد على كفره: أي يسلم لله ويفهم أن نحو هذا من القدرة، وإن ضل في الأصنام من جهة أنه يعظمها. قيل: أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر. قال الزمخشري: يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند
188

الخوف لا ينبغي لأحد قط. انتهى. وكثر استعمال الزمخشري قط ظرفا، والعامل فيه غير ماض، وهو مخالف لكلام العرب في ذلك. فقبل حذف مقابل فمنهم مؤمن مقتصد تقديره: ومنهم جاحد ودل عليه، قوله: * (وما يجحد بئاياتنا) *. وعلى هذا القول يكون مقتصد معناه: مؤمن مقتصد في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء، موف بما عاهد الله عليه في البحر، وختم هنا ببنيتي مبالغة، وهما: * (ختار) *، و * (كفور) *. فالصبار الشكور معترف بآيات الله، والختار الكفور يجحد بها. وتوازنت هذه الكلمات لفظا ومعنى. أما لفظا فظاهر، وأما معنى فالختار هو الغدار، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر، لأن الصبار يفوض أمره إلى الله، وأما الغدار فيعهد ويغدر، فلا يصبر على العهد: وأما الكفور فمقابلته معنى للشكور واضحة. ولما ذكر تعالى الدلائل على الوحدانية والحشر من أول السورة، أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بهذا اليوم العظيم.
لا يجزي: لا يقضي، ومنه قيل للمتقاضي: المتجازي، وتقدم الكلام في ذلك في أوائل البقرة. ولما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه، بدأ به أولا، وأتى في الإسناد إلى الوالد بالفعل المقتضي للتجدد، لأن شفقته متجددة على الولد في كل حال، وأتى في الإسناد إلى الولد باسم الفاعل، لأنه يدل على الثبوت، والثبوت يصدق بالمرة الواحدة. والجملة من لا يجزي صفة ليوم، والضمير محذوف، أي منه، فإما أن يحذف برمته، وإما على التدريج حذف الخبر، فتعدى الفعل إلى الضمير وهو منصوب فحذف. وقرأ الجمهور: لا يجزي مضارع جزى؛ وعكرمة: بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول؛ وأبو السماك، وعامر بن عبد الله، وأبو السوار: لا يجزئ، بضم الياء وكسر الزاي مهموزا، وومعناه: لا يغني؛ يقال: أجزأت عنك جزاء فلان: أي أغنيت. ويجوز في * (ولا مولود) * وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفا على والد، والجملة من قوله: * (هو) *، صفة مولود. والثاني: أن يكون مبتدأ، وهو مبتدأ ثان، وجاز خبره، والجملة خبر للأول، وجاز الابتداء به، وهو نكرة لوجود مسوغ ذلك، وهو النفي. وذهل المهدوي فقال: لا يكون * (ولا مولود) * مبتدأ، لأنه نكرة وما بعده صفة، فيبقى بلا خبر و * (شيئا) * منصوب بجاز، وهو من باب الأعمال، لأنه يطلبه * (لا يجزى) * ويطلبه * (جاز) *، فجعلناه من أعمال الثاني، لأنه المختار. وقرأ ابن أبي إسحاق، وابن أبي عبلة، ويعقوب: نغرنكم، بالنون الخفيفة. وقرأ سماك بن حرب، وأبو حيوة: الغرور بالضم، وهو مصدر؛ والجمهور: بالفتح، وفسره ابن مجاهد والضحاك بالشيطان، ويمكن حمل قراءة الضم عليه جعل الشيطان نفس الغرور مبالغة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: قوله: * (ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) * هو وارد على طريق من التوكيد، لم يرد عليه ما هو معطوف عليه. قلت: الأمر كذلك، لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم إلى ذلك قوله: * (هو) *، وقوله: * (مولود) *، والسبب في مجيئه هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين، وغالبهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس أن ينفعوا آباءهم في الآخرة، وأن يشفعوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئا، فلذلك جيء به على الطريق الأوكد. ومعنى التوكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه، لم تقبل شفاعته فضلا أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأن الولد يقع على الولد، وولد الولد بخلاف المولود، فإنه لمن ولد منك.
* (إن الله عنده علم الساعة) *: يروى أن الحارث بن عمارة المحاربي قال: يا رسول الله، أخبرني عن الساعة متى قيامها؟ وإني لقد ألقيت حباتي في الأرض، وقد أبطأت عني السماء، متى تمطر؟ وأخبرني عن امرأتي، فقد اشتملت على ما في بطنها، أذكر أم أنثى؟ وعلمت أمس، فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته، فأين أموت؟ فنزلت. وفي الحديث: (خمس لا يعلمهن إلا الله)، وتلا هذه الآية. وعلم: مصدر أضيف إلى الساعة، والمعنى: علم يقين، وفيها: * (وينزل الغيث) * في آياته من غير تقديم ولا تأخير. * (ما فى الارحام) * من ذكر أم أنثى، تام أو ناقص، * (وما تدرى نفس) *، برة أو فاجرة. * (ماذا تكسب غدا) * من خير أو شر، وربما عزمت على أحدهما فعلمت ضده. * (بأى أرض تموت) *: ورما أقامت بمكان ناوية
189

أن لا تفارقه إلى أن تدفن به، ثم تدفن في مكان لم يحظر لها ببال قط. وأسند العلم إلى الله، والدراية للنفس، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة؛ ولذا وصف الله بالعالم، ولا يوصف بالداري. وأما قوله:
لاهم لا أدري وأنت الداري
فقول عربي جلف جاهلي، جاهل بما يطلق على الله من الصفات، وما يجوز منها وما يمتنع. وقرأ الجمهور: * (بأى أرض) *. وقرأ موسى الأسواري، وابن أبي عبلة: بأية أرض، بتاء التأنيث لإضافتها إلى الموت، وهي لغة قليلة فيهما. كما أن كلا إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث، تقول: كلهن فعلن ذلك، وتدري معلقة في الموضعين. فالجملة من قوله: * (ماذا تكسب) * في موضع مفعول * (تدرى) *، ويجوز أن يكون ماذا كلها موصولا منصوبا بتدري، كأنه قال: وما تدري نفس الشيء التي تكسب غدا. وبأي متعلق بتموت، والباء ظرفية، أي: في أي أرض؟ فالجملة في موضع نصب بتدري. ووقع الإخبار بأن الله استأثر بعلمه هذه الخمس، لأنها جواب لسائل سأل، وهو يستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو، وهذه الخمس.
190

((سورة السجدة))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ألم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون * الله الذى خلق السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون * يدبر الا مر من السمآء إلى الا رض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذالك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون * وقالوا أءذا ضللنا فى الا رض أءنا لفى خلق جديد بل هم بلقآء ربهم كافرون * قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون * ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون * ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولاكن حق القول منى لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين * فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هاذآ إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون * إنما يؤمن بأاياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس مآ أخفى لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون * أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون * ولنذيقنهم من العذاب الا دنى دون العذاب الا كبر لعلهم يرجعون * ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه ثم أعرض عنهآ إنا من المجرمين منتقمون * ولقد ءاتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقآئه وجعلناه هدى لبني إسراءيل * وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأاياتنا يوقنون * إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك لايات أفلا يسمعون * أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الا رض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون * ويقولون متى هاذا الفتح إن كنتم صادقين * قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون (* (فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون) *))
) *
* (ألم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما * أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون * الله الذى خلق * السماوات والارض * وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش * مالكم * من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون * يدبر الامر من السماء إلى الارض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذالك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون * وقالوا * أءذا ضللنا فى الارض أءنا لفى خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون * قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون * ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) *.
هذه السورة مكية، قيل: إلا خمس آيات: * (* تتجافي) * إلى * (بها تكذبون) *. وقال ابن عباس، ومقاتل، والكبي: إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة: * (أفمن كان مؤمنا) *. قال كفار قريش: لم يبعث الله محمدا إلينا، وإنما الذي جاء به اختلاق منه، فنزلت. ولما ذكر تعالى، فيما قبلها، دلائل التوحيد من بدء الخلق، وهو الأصل الأول؛ ثم ذكر المعاد والحشر، وهو الأصل الثاني، وختم به السورة، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث، وهو تبيين الرسالة.
و * (الكتاب) *: القرآن. قال الحوفي: * (تنزيل) *
191

مبتدأ، * (ولا * ريب) * خبره. ويجوز أن يكون * (تنزيل) * خبر مبتدأ، أي هذا المتلو تنزيل، أو هذه الحروف تنزيل، و * (ألم) * بدل على الحروف. وقال أبو البقاء: * (ألم) * مبتدأ، و * (تنزيل) * خبره بمعنى المنزل، و * (لا ريب فيه) * حال من الكتاب، والعامل فيه تنزيل، و * (من رب العالمين) * متعلق بتنزيل أيضا. ويجوز أن يكون حالا من الضمير في فيه، والعامل فيه الظرف. ويجوز أن يكون * (تنزيل) * مبتدأ، و * (لا ريب فيه) * الخبر، و * (من
رب العالمين) * حال كما تقدم. ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل، لأن المصدر قد أخبر عنه. ويجوز أن يكون الخبر * (من رب العالمين) *، و * (لا ريب) * حال من الكتاب، وأن يكون خبرا بعد خبر. انتهى. والذي أختاره أن يكون * (تنزيل) * مبتدأ، و * (لا ريب) * اعتراض، و * (من رب العالمين) * الخبر. وقال ابن عطية: * (من رب العالمين) * متعلق بتنزيل، ففي الكلام تقديم وتأخير؛ ويجوز أن يتعلق بقوله: * (لا ريب) *، أي لا شك، من جهة الله تعالى، وإن وقع شك الكفرة، فذلك لا يراعى. والريب: الشك، وكذا هو في كل القرآن، إلا قوله: * (ريب المنون) *. انتهى.
وإذا كان * (تنزيل) * خبر مبتدأ محذوف، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه، لم نقل فيه: إن فيه تقديما وتأخيرا، بل لو تأخر لم يكن اعتراضا. وأما كونه متعلقا بلا ريب، فليس بالجيد، لأن نفي الريب عنه مطلقا هو المقصود، لأن المعنى: لا مدخل للريب فيه، إن تنزيل الله، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه، وهو الإعجاز، فهو أبعد شيء من الريب. وقولهم: * (افتراه) *، كلام جاهل لم يمعن النظر، أو جاحد مستيقن أنه من عند الله، فقال ذلك حسدا، أو حكما من الله عليه بالضلال. وقال الزمخشري: والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أي في كونه منزلا من رب العالمين. ويشهد لوجاهته قوله: * (أم يقولون افتراه) *، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين. وكذلك قوله: * (بل هو الحق من ربك) *، وما فيه من تقدير أنه من الله، وهذا أسلوب صحيح محكم، أثبت أولا أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه. ثم أضرب عن ذلك إلى قوله: * (أم يقولون افتراه) *، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل، والهمزة إنكارا لقولهم وتعجبا منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات، ثم أضرب عن الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك. انتهى، وهو كلام فيه تكثير. وقال أبو عبيدة: أم يكون معناه: بل يقولون، فهو خروج من حديث إلى حديث؛ ومن ربك في موضع الحال، أي كائنا من عند ربك، وبه متعلق بلتنذر، أو بمحذوف تقديره: أنزله لتنذر. والقوم هنا قريش والعرب، وما نافية، ومن نذير: من زائدة، ونذير فاعل أتاهم.
أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولا بخصوصيتهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم)، لا لهم ولا لآبائهم، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم، وعبدوا الأصنام وعم ذلك، فهم مندرجون تحت قوله: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) *، أي شريعته ودينه؛ والنذير ليس مخصوصا بمن باشر، بل يكون نذيرا لمن باشره، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير، ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى الله عليه وسلم). وقال ابن عباس، ومقاتل: المعنى لم يأتهم في الفترة بين عيس ومحمد، عليهما السلام.
وقال الزمخشري: * (ما أتاهم من نذير من قبلك) *، كقوله: * (ما أنذر ءاباؤهم) *، وذلك أن قريشا لم يبعث الله إليهم رسولا قبل محمد صلى الله عليه وسلم). فإن قلت: فإذا لم يأتهم نذير، لم تقم عليهم حجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان. انتهى. والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون، وذلك أنهم فهموا من قوله: * (ما ءاتاهم) *، و * (ما أنذر ءاباؤهم) *، أن ما نافية، وعندي أن ما موصولة، والمعنى: لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم. * (من نذير) *: متعلق بأتاهم، أي أتاهم على لسان نذير من قبلك. وكذلك * (لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم) *: أي العقاب الذي أنذره آباؤهم، فما مفعولة في الموضعين، وأنذر يتعدى إلى اثنين. قال تعالى: * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة) *، وهذا القول جار على ظواهر القرآن. قال تعالى: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) *، و * (أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير) *، * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *، * (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث فى أمها رسولا) *.
ولما حكى تعالى عنهم أنهم يقولون: إن محمدا صلى الله عليه وسلم) افتراه ورد عليهم، اقتصر في ذكر ما
192

جاء به القرآن على الإنذار، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعا لهم، ولأنه إذا ذكر الإنذار، صار عند العاقل فكر فيما أنذر به، فلعل ذلك الفكر يكون سببا لهدايته. و * (لعلهم يهتدون) *: ترجية من رسول الله، كما كان في قوله: * (لعله يتذكر أو يخشى) *، من موسى وهارون. قال الزمخشري: وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة. انتهى. يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي، ومعناه: إرادة اهتدائهم، وهذه نزغة اعتزالية، لأنه عندهم أن يرد هداية العبد، فلا يقع ما يريد، ويقع ما يريد العبد، تعالى الله عن ذلك. ولما بين تعالى أمر الرسالة، ذكر ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل بذكر مبدأ العالم. وتقدم الكلام على * (في ستة أيام) * في الأعراف. * (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) *: أي إذا جاوزتموه إلى سواه فاتخذتموه ناصرا وشفيعا. * (أفلا تتذكرون) * موجد هذا العالم، فتعبدوه وترفضوا ما سواه؟
* (يدبر الامر) *، الأمر: واحد الأمور. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة، والضحاك: ينفذ الله قضاءه بجيمع ما يشاؤه. * (ثم يعرج إليه) *: أي يصعد، خبر ذلك * (فى يوم) * من أيام الدنيا، * (مقداره) *: أن لو سير فيه السير المعروف من البشر * (ألف سنة) *، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام. وقال مجاهد أيضا: الضمير في مقداره عائد على التدبير، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبره البشر. وقال مجاهد أيضا: يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا، وهو اليوم عنده، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها. فالمعنى: أن الأمور تنفذ عنه لهذه المدة وتصير إليه آخر، لأن عاقبة الأمور إليه. وقيل: المعنى يدبره في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فينزل القضاء والقدر، ثم تعرج إليه يوم القيامة، ومقداره ما ذكر ليحكم فيه من ذلك اليوم، حيث ينقطع أمر الأمراء، أو أحكام الحكام، وينفرد بالأمر كل يوم من أيام الآخرة بألف سنة، وهو على الكفار قدر خسمين ألف سنة حسبما في سورة سأل سائل، وتأتي الأقوال فيه إن شاء الله تعالى. وقيل: ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض، ثم يرجع إلى ما كان من قبول الوحي أو ربه مع جبريل، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة
في يوم واحد. قال الزمخشري: وبداية الأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة، ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض، ثم لا يعمل به، ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصا كما يريده ويرتضيه، إلا في مدة متطاولة، لقلة الأعمال لله والخلوص من عباده، وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص، ودل عليه قوله على أثره: * (قليلا ما تشكرون) *. انتهى.
وقيل: يدبر أمر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب، ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض، لأنها على أهل الأرض تطلع إلى أن تغرب، وترجع إلى موضعها من الطلوع في يوم مقداره في المسافة ألف سنة. والضمير في * (إليه) * عائد إلى السماء، لأنها تذكر؛ وقيل: إلى الله. وقال عبد الله بن سابط: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل للرياح، والجنود وميكائيل للقطر والماء، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل لنزول الأمر عليهم. وقيل: العرش موضع التدبير، وما دونه موضع التفصيل، وما دون السماوات موضع التعريف. وقال السدي: الأمر: الوحي. وقال مقاتل: القضاء. وقال غيرهما: أمر الدنيا. قال الزجاج: تقول عرجت في السلم أعرج، وعرج الرجل يعرج إذا صار أعرج. وقرأ ابن أبي عبلة: * (يعرج) * مبنيا للمفعول؛ والجمهور: مبنيا للفاعل. قال أبو عبد الله الرازي: وفي هذا لطيفة، وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق، وأشار إلى عظمة الملك؛ وذكر هنا عالم الأرواح والأمر بقوله: * (يدبر الامر) *، والروح من عالم الأمر، كما قال: * (قل الروح من أمر ربى) *، وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان. والمراد دوام النفاد، كما يقال في العرف: طال زمان فلان، والزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة. فأشار إلى عظمة الملك بالمكان، وأشار إلى دوامه هنا بالزمان والمكان من خلقه وملكه، والزمان بحكمه وأمره. انتهى. وهو كلام ليس جاريا على فهم العرب. وقرأ الجمهور: * (مما تعدون) *، بتاء الخطاب. وقرأ السلمي، وابن وثاب، والأعمش، والحسن: بياء الغيبة، بخلاف عن الحسن. وقرأ جناح بن حبيش:
193

ثم تعرج الملائكة، بزيادة الملائكة، ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف.
* (ذالك) *: أي ذلك الموصوف بالخلق والاستواء والتدبير، * (عالم الغيب) *: والغيب الآخرة، * (والشهادة) *: الدنيا، أو الغيب: ما غاب عن المخلوقين، والشهادة: ما شوهد من الأشياء، قولان. وقرأ زيد بن علي: * (عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) *: بخفض الأوصاف الثلاثة؛ وأبو زيد النحوي: بخفض * (العزيز الرحيم) *. وقرأ الجمهور: برفع الثلاثة على أنها أخبار لذلك، أو الأول خبر والاثنان وصفان، ووجه الخفض أن يكون ذلك إشارة إلى الأمر، وهو فاعل بيعرج، أي ثم يعرج إليه ذلك، أي الأمر المدبر، ويكون عالم وما بعده بدلا من الضمير في إليه. وفي قراءة ابن زيد يكون ذلك عالم مبتدأ وخبر، والعزيز الرحيم بالخفض بدل من الضمير في إليه. وقرأ الجمهور: خلقه، بفتح اللام، فعلا ماضيا صفة لكل أو لشيء. وقرأ العربيان، وابن كثير: بسكون اللام، والظاهر أنه بدل اشتمال، والمبدل منه كل، أي أحسن خلق كل شيء، فالضمير في خلقه عائد على كل. وقيل: الضمير في خلقه عائد على الله، فيكون انتصابه نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة، كقوله: * (صبغة الله) *، وهو قول سيبويه، أي خلقه خلقا. ورجح على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المصدر إلى الفاعل، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول، وبأنه أبلغ في الامتنان، لأنه إذا قال: * (أحسن كل شىء) *، كأن أبلغ من: أحسن خلق كل شيء، لأنه قد يحسن الخلق، وهو المجاز له، ولا يكون الشيء في نفسه حسنا. فإذا قال: * (أحسن كل شىء) *، اقتضى أن كل شيء خلقه حسن، بمعنى: أنه وضع كل شيء في موضعه. انتهى.
وقيل: في هذا الوجه، وهو عود الضمير في خلقه على الله، يكون بدلا من كل شيء، بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة. ومعنى * (أحسن) *: حسن، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما تقضيه الحكمة. فالمخلوقات كلها حسنة، وإن تفاوتت في الحسن، وحسنها من جهة المقصد الذي أريد بها. ولهذا قال ابن عباس: ليست القردة بحسنة، ولكنها متقنة محكمة. وعلى قراءة من سكن لام خلقه، قال مجاهد: أعطى كل جنس شكله، والمعنى: خلق كل شيء على شكله الذي خصه به. وقال الفراء: ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه، كأنه أعلمهم ذلك، فيكون كقوله: * (أعطى كل شىء خلقه) *. وقرأ الجمهور: بدأ بالهمز؛ والزهري: بالألف بدلا من الهمزة، وليس بقياس أن يقول في هدأ: هدا، بإبدال الهمزة ألفا، بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين؛ على أن الأخفش حكى في قرأت: قريت ونظائره. وقيل: وهي لغية؛ والأنصار تقول في بدأ: بدى، بكسر عين الكلمة وياء بعدها، وهي لغة لطي. يقولون في فعل هذا نحو بقي: بقاء، فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة أصله بدى، ثم صار بدأ، أو على لغة الأنصار. وقال ابن رواحة:
* باسم الإله وبه بدينا
*
ولو عبدنا غيره شقينا
*
* (وبدأ خلق الإنسان) *: هو آدم، عليه الصلاة والسلام. * (ثم جعل نسله) *: أي ذريته. نسل من الشيء: انفصل منه. * (ثم سواه) *: قومه وأضاف الروح إلى ذاته دلالة على أنه خلق عجيب، لا يعلم حقيقته إلا هو، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق تعالى. * (وجعل لكم) *: التفات، إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب، وتعديد للنعم، وهي شاملة لآدم؛ كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته. والظاهر أن * (وقالوا) *، الضمير لجمع، وقيل: القائل أبي بن خلف، وأسند إلى الجمع لرضاهم به، والناصب للظرف محذوف يدل عليه * (* أئنا) * وما بعدها تقديره انبعث. * (أءذا ضللنا) *، ومن قرأ إذا بغير استفهام، فجواب إذا محذوف، أي: إذا ضللنا في الأرض نبعث، ويكون إخبارا منهم على طريق
194

الاستهزاء. وكذلك من قرأ: إنا على الخبر، أكدوا ذلك الاستهزاء باستهزاء آخر. وقرأ الجمهور: بفتح اللام، والمضارع يضل بكسر عين الكلمة، وهي اللغة الشهيرة الفصحية، وهي لغة نجد. قال مجاهد: هلكنا، وكل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك، وأصله من: ضل الماء في اللبن، إذا ذهب. وقال قطرب: ضللنا: غبنا في الأرض، وأنشد قول النابغة الذبياني:
* فآب مضلوه بعين جلية
*
وغودر بالجولان حزم ونائل
*
وقرأ يحيى بن يعمر، وابن محيصن، وأبو رجاء، وطلحة، وابن وثاب: بكسر اللام، والمضارع بفتحها، وهي لغة أبي العالية. وقرأ أبو حيوة: ضللنا، بالضاد المنقوطة وضمها وكسر اللام مشددة، ورويت عن علي. وقرأ علي، وابن عباس، والحسن، والأعمش، وأبان ين سعيد بن العاص: صللنا، بالصاد المهملة وفتح اللام، ومعناه: أنتنا. وعن الحسن: صللنا، بكسر اللام، يقال: صل يصل، بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع؛ وصل يصل: بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع؛ وأصل يصل، بالهمزة على وزن أفعل. قال الشاعر:
* تلجلج مضغة فيها أبيض
*
أصلت فهي تحت الكشح داء
*
وقال الفراء: معناه صرنا بين الصلة، وهي الأرض اليابسة الصلبة. وقال النحاس: لا نعرف في اللغة صللنا، ولكن يقال: أصل اللحم وصل، وأخم وخم إذ أنتن، وحكاه غيره. * (بل هم بلقاء ربهم كافرون) *: جاحدون بلقاء الله والصيرورة إلى جزائه. ثم أمره تعالى أن يخبرهم بجملة الحال غبر مفصلة، من قبض أرواحهم، ثم عودهم إلى جزاء ربهم بالبعث. و * (مالك * الموت) *: اسمه عزرائيل، ومعناه عبد الله. وقرأ الجمهور: * (ترجعون) *، مبنيا للمفعول؛ وزيد بن علي: مبنيا للفاعل.
* (ولو ترى) *: الظاهر أنه خطاب للرسول، وقيل: له ولأمته، أي: يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب. وقال أبو العباس: المعنى يا محمد قل للمجرم. * (ولو ترى) *: رأى أن الجملة معطوفة على * (يتوفاكم) *، داخلة تحت * (قل) *، فلذلك لم يجعله خطابا للرسول. والظاهر أن لو هنا لم تشرب معنى التمني، بل هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره، والجواب محذوف، أي لرأيت أسوأ حال يرى. ولو تعليق في الماضي، وإذ ظرف للماضي، فلتحقق الأخبار ووقوعه قطعا أتى بهما تنزيلا منزلة الماضي. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون خطابا لرسول الله، وفيه وجهان: أحدهما: أن يراد به التمني، كأن قيل: وليتك ترى، والتمني له، كما كان الترجي له في: * (لعلهم يهتدون) *، لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم، فجعل الله له، تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم، وأن تكون لو امتناعية، وقد جوابها، وهو: لرأيت أمرا فظيعا. ويجوز أن يخاطب به كل أحد، كما تقول: فلان لئيم إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، فلا يريد به مخاطبا بعينه، وكأنك قلت: إن أكرم وإن أحسن إليه. انتهى. والتمني بلو في هذا الموضع بعيد، وتسمية لو امتناعية ليس بجيد، بل العبارة الصحيحة لو لما كان سيقع لوقوع غيره، وهي عبارة سيبويه، وقوله قد حذف جوابها وتقديره: وليتك ترى ما يدل على أنها كانت إذا للتمني لا جواب لها، والصحيح أنها إذا أشربت معنى التمني، يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه. قال الشاعر:
* فلو نبش المقابر عن كليب
*
فيخبر بالذنائب أي زير
*
195

* بيوم الشعشمين لقر عينا
*
وكيف لقاء من تحت القبور
*
وقال الزمخشري: وقد تجيء لو في معنى التمني، كقولك: لو تأتيني فتحدثني، كما تقول: ليتك تأتيني فتحدثني. فقال ابن مالك: إن أراد به الحذف، أي وددت لو تأتيني فصحيح، وإن أراد أنها موضوعة للتمني فغير صحيح، لأنها لو كانت موضوعة له، ما جاز أن يجمع بينها وبين فعل التمني. لا يقال: تمنيت ليتك تفعل، ويجوز: تمنيت لو تقوم. وكذلك امتنع الجمع بين لعل والترجي، وبين إلا واستثنى. انتهى. * (ناكسوا رءوسهم) *: مطرقوها، من الذل والحزن والهم والغم. وقرأ زيد
بن علي: نكسوا رؤوسهم، فعلا ماضيا ومفعولا؛ والجمهور: اسم فاعل مضاف. * (عند ربهم) *: أي عند مجازاته، وهو مكان شدة الخجل، لأن المربوب إذا أساء ووقف بين يدي ربه كان في غاية الخجل. * (ربنا) *: على إضمار يقولون، وقدره الزمخشري: يستغيثون بقولهم: * (ربنا أبصرنا) * ما كنا نكذب؛ * (وسمعنا) *: ما كنا ننكر؛ وأبصرنا صدق وعدك ووعيدك، وسمعنا تصديق رسلك، وكنا عميا وصما فأبصرنا وسمعنا، فارجعنا إلى الدنيا. * (إنا موقنون) *: أي بالبعث. قاله النقاش؛ وقيل: مصدقون بالذي قال الرسول، قاله يحيى بن سلام. وموقنون: مشعر بالالتباس في الحال، أي حين أبصروا وسمعوا. وقيل: موقنون: زالت الآن عنا الشكوك، ولم نكن في الدنيا نتدبر، وكنا كمن لا يبصر ولا يسمع. وقيل: لك الحجة، ربنا قد أبصرنا رسلك وعجائب في الدنيا، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا، وهذا اعتراف منهم.
* (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولاكن حق القول منى لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين * فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هاذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون * إنما يؤمن بئاياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون * أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم) *.
* (لاتينا كل نفس هداها) *: أي اخترعنا الإيمان فيها، كقوله: * (أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) *، و * (لجمعهم على الهدى) *، و * (لجعل الناس أمة واحدة) *. وقال الزمخشري: على طريق الإلجاء والقسر، ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار، فاستحبوا العمى على الهدى، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون أهل البصر. ألا ترى إلي
196

ما عقبه به من قوله: * (فذوقوا بما نسيتم) *؟ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان: خلاف التذكر، يعني: أن الانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة، وسلط عليكم نسيانها. ثم قال: * (إنا نسيناكم) * على المقابلة: أي جازيناكم جزاء نسيانكم. وقيل: هو بمعنى الترك، قاله ابن عباس وغيره، أي تركتم الفكر في العاقبة، فتركناكم من الرحمة. انتهى. وقوله: على طريق الإلجاء والقسر، هو قول المعتزلة. وقالت الإمامية: يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة، ولم يعاقب أحدا، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم، فلا يجب على الله هداية الكل إليها. قالوا: بل الواجب هداية المعصومين؛ فأما من له ذنب، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. انتهى. و * (هاذا) *: صفة ليومكم، ومفعول * (فذوقوا) * محذوف، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم * (لقاء يومكم هاذا) *، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم. وفي استئناف قوله: * (إنا نسيناكم) *، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم.
* (وإنما * يؤمن بئاياتنا) *: أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى، من سجودهم عند التذكير، وتسبيحهم وعدم استكبارهم؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير، وقول الهجر، وإظهار التكبر؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن. وقال ابن عباس: السجود هنا بمعنى الركوع. وروي عن ابن جريج: المسجد مكان الركوع، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارئ للسجدة يركع، واستدل بقوله: * (وخر راكعا وأناب) *. * (تتجافى جنوبهم) *: أي ترتفع وتتنحى، يقال: جفا الرجل الموضع: تركه. قال عبد الله بن رواحة:
* نبي تجافى جنبه عن فراشه
*
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
*
وقال الزجاج والرماني: التجافي: التنحي إلى جهة فوق. والمضاجع: أماكن الاتكاء للنوم، الواحد مضجع، أي هم منتبهون لا يعرفون نوما. وقال الجمهور: المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم. وفي الحديث، ذكر قيام الليل، ثم استشهد بالآية، يعني الرسول. وقال أبو الدرداء، وقتادة، والضحاك: تجافي الجنب: هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة. وقال الحسن: هو التهجد؛ وقال أيضا: هو وعطاء: هو العتمة. وفي الترمذي، عن أنس: نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة. وقال قتادة، وعكرمة: التنفل ما بين المغرب والشعاء، * (يدعون) *: حال، أو مستأنف خوفا وطمعا، مفعول من أجله، أو مصدران في موضع الحال. والظاهر أن الدعاء هو: الابتهال إلى الله، وقيل: الصلاة.
وقرأ الجمهور: * (ما أخفى لهم) *، فعلا ماضيا مبنيا للمفعول؛ وحمزة، والأعمش، ويعقوب: بسكون الياء، فعلا مضارعا للمتكلم؛ وابن مسعود: وما نخفي، بنون العظمة؛ والأعمش أيضا: أخفيت. وقرأ محمد بن كعب: ما أخفي، فعلا ماضيا مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور: * (من قرة) *، على الإفراد. وقرأ عبد الله، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعوف العقيلي: من قرأت، على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش؛ و * (ما أخفى) * يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون استفهامية، فيكون * (تعلم) * متعلقة. والجملة في موضع المفعول، إن كان * (تعلم) * مما عدى لواحد؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين، وتقدم تفسيره في * (قرة عين) * في طه وفي الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم): (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرؤا إن شئتم: * (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) *). وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن
المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره. * (ولا * تعلم نفس) *: نكرة في سياق النفي، فيعم جميع الأنفس مما ادخرا لله تعالى
197

لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم، لا يعلمه إلا هو، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها، بل ولا تفاصيلها. وقال الحسن: أخفوا اليوم أعمالا في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. * (جزاء بما كانوا يعملون) *، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح. وقال الزمخشري: فحسم أطماع المتمنين. انتهى، وهذه نزغة اعتزالية.
* (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) *، قال ابن عباس وعطاء: نزلت في علي والوليد بن عقبة. تلاحما، فقال له الوليد: أنا أذلق منك لسانا، وأحد سنانا، وأرد للكتيبة. فقال له علي: اسكت، فإنك فاسق. قال الزمخشري: فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما. وقال الزجاج، والنحاس: نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط. فعلى هذا تكون الآية مكية، لأن عقبة لم يكن بالمدنية، وإنما قتل بطريق مكة، منصرف بدر. والجمع في * (لا يستوون) *، والتقسيم بعده، حمل على معنى من. وقيل: * (لا يستوون) * لاثنين، وهو المؤمن والفاسق، والتثنية جمع. وقال الزجاج: ونزول الآية في علي والوليد، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد. والجمهور: * (جنات) * بالجمع. وقيل: سميت بذلك لما روي عن ابن عباس، قال: يأوي إليها أرواح الشهداء. وقيل: هي عن يمين العرش. وقرأ الجمهور: * (نزلا) * بضم الزاي؛ وأبو حيوة: بإسكانها. والنزل: عطاء النازل، ثم صار عاما فيما يعد للضيف. * (وأما الذين فسقوا) *: أي بالكفر، * (فمأواهم النار) *. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد: فجنة مأواهم النار، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين، كقوله: * (فبشرهم بعذاب أليم) *. انتهى وهذا فيه بعد. وإنما يذهب إلى مثل * (فبشرهم) * إذا كان مصرحا به فيقول: قام مقام التبشير العذاب، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع. أما أن تضمر شيئا لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار، فليس بجيد.
و * (العذاب الادنى) *، قال أبي، وابن عباس، والضحاك، وابن زيد: مصائب الدنيا في الأنفس والأموال. وقال ابن مسعود، والحسن بن علي: هو القتل بالسيف، نحو يوم بدر. وقال مجاهد: القتل والجوع لقريش، وعنه: إنه عذاب القبر. وقال النخعي، ومقاتل: هو السنون التي أجاعهم الله فيها. وقال ابن عباس أيضا: هو الحدود. وقال أبي أيضا: هو البطشة واللزام والدخان. و * (العذاب الاكبر) *، قال ابن عطية: لا خلاف أنه عذاب الآخرة. وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار. وقيل: هو القتل والسبي والأسر. وعن جعفر بن محمد: أنه خروج المهدي بالسيف. * (لعلهم يرجعون) *، قال ابن مسعود: لعل من بقي منهم يتوب. وقال أبو العالية: لعلهم يتوبون. وقال مقاتل: يرجعون عن الكفر إلى الإيمان. وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله: * (فارجعنا نعمل صالحا) *. وسميت إرادة الرجوع رجوعا، كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم) *. انتهى. ويقابل الأدنى: الأبعد، والأكبر: الأصغر. لكن الأدنى يتضمن الأصغر، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف، إنما يصلح بما هو قريب، وهو العذاب العاجل. والأكبر يتضمن الأبعد، لأنه واقع في الآخرة، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته، فحصلت المقابلة من حيث التضمن، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف.
وقال الزمخشري: فإن قلت: من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ ولعل من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئا كان ولم يمتنع، وتوبتهم مما لا يكون، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت: إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئا من أفعاله كان، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي؛ وأما أفعال عباده، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك، وهو لا يختارها، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك، فلم يكن بعده دالا على عجزك. انتهى، وهو على مذهب المعتزلة، وقد رد عليهم أهل السنة، وذلك مقرر في علم الكلام. * (ممن ذكر بئايات ربه ثم أعرض عنها) *، بخلاف المؤمنين، إذا ذكروا بها خروا سجدا. * (ثم أعرض عنها) *، قال
198

الزمخشري: ثم للاستبعاد، والمعنى: أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل؛ والعادة، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة، ثم لم تنتهزها استبعادا لتركه الانتهاز، ومنه ثم في بيت الشاعر:
* ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة
*
يرى غمرات الموت ثم يزورها
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها. انتهى. * (من المرجومين) *: عام في كل من أجرم، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان أظلم ظالم؛ والإجرام هنا: هو: الكفر. وقال يزيد بن رفيع: هي في أهل القدر، وقرأ: * (إن المجرمين) * إلى قوله: * (بقدر) *. وفي الحديث: (ثلاث من كن فيه فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، ومن عق والديه، ومن نصر ظالما).
*
* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقائه وجعلناه هدى * لنبى * إسراءيل * وجعلنا منهم أئمة * يهتدون * وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما * إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * أو لم * يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك لايات أفلا يسمعون * أو لم * يروا أنا نسوق الماء إلى الارض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون * ويقولون متى هاذا الفتح إن كنتم صادقين * قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا
إيمانهم ولا هم ينظرون * فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون) *.
لما قرر الأصوال الثلاثة: الرسالة، وبدء الخلق، والمعاد، عاد إلى الأصل الذي بدأ به، وهو الرسالة التي ليست بدعا في الرسالة، إذ قد سبق قبلك رسل. وذكر موسى عليه السلام، لقرب زمانه، وإلزاما لمن كان على دينه؛ ولم يذكر عيسى، لأن معظم شريعته مستفاد من التوراة، ولأن أتباع موسى لا يوافقون على نبوته، وأتباع عيسى متفقون على نبوة موسى.
و * (الكتاب) *: التوراة. وقرأ الحسن: في مرية، بضم الميم، والظاهر أن الضمير عائد على موسى، مضافا إليه على طريق المفعول، والفاعل محذوف ضمير الرسول، أي من لقائك موسى، أي في ليلة الإسراء، أي شاهدته حقيقة، وهو النبي الذي أوتي التوراة، وقد وصفه الرسول فقال: (آدم طوال جعد، كأنه من رجال شنوءة حين رآه ليلة الإسراء)، قاله أبو العالية وقتادة وجماعة من السلف. وقال المبرد: حين امتحن الزجاج بهذه المسألة. وقيل: عائد على الكتاب، فإما مضاف إليه على طريق الفاعل والمفعول محذوف، أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه، وإما بالعكس، أي من لقاء موسى الكتاب وتلقيه. وقيل: يعود على الكتاب على تقدير مضمر، أي من لقاء مثله، أي: إنا آتيناك مثل ما آتينا موسى، ولقناك بمثل ما لقن من الوحي، فلا تك في شك من أنك لقنت مثله ولقيت نظيره، ونحوه من لقائه قوله: * (وإنك لتلقى القرءان) *. وقال الحسن: يعود على ما تضمنه القول من الشدة والمحنة التي لقي موسى، وذلك إن إخباره بأنه آتى موسى الكتاب كأنه قال: ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله، فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس. انتهى، وهذا قول
199

بعيد. وأبعد من هذا، من جعله عائدا على ملك الموت الذي تقدم ذكره، والجملة اعتراضية. وقيل: عائد على الرجوع إلى الآخرة، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: * (ثم إلى ربكم ترجعون) *.
* (فلا تكن فى مرية من لقائه) *: أي من لقاء البعث، وهذه أنقال كان ينبغي أن ينزه كتابنا عن نقلها، ولكن نقلها المفسرون، فاتبعناهم. والضمير في * (وجعلناه) * لموسى، وهو قول قتادة. وقيل: للكتاب، جعله هاديا من الضلالة؛ وخص بني إسرائيل بالذكر، لأنه لم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. * (وجعلنا منهم) *: أي من بني إسرائيل، * (أئمة) *: قادة يقتدى بهم. وقرأ الجمهور: * (لما صبروا) *، بفتح اللام وشد الميم. وعبد الله وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، ورويس: بكسر اللام وتخفيف الميم. * (وكانوا) *: يحتمل أن يكون معطوفا على * (صبروا) *، فيكون داخلا في التعليق. ويحتمل أن يكون عطفا على * (وجعلنا منهم) *. وقرأ عبد الله أيضا: بما صبروا، بباء الجر، والضمير في منهم ظاهره يعود على بني إسرائيل. والفصل: يوم القيامة يعم الخلق كلهم. * (أو لم * يهد لهم) *: تقدم الكلام على نحو هذه الآية إعرابا وقراءة وتفسيرا في طه، إلا أن هنا: * (من قبلهم) * والقوم * (يسمعون) *، وهناك: * (قبلهم) *، و * (لاولى) *. ويسمعون، والنهي من الفواصل.
* (أو لم * يروا أنا نسوق الماء) *: أقام تعالى الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا، ثم أقامها عليهم بإظهار قدرته وتنبيههم على البعث، وتقدم تفسير * (الجرز) * في الكهف، وكل أرض جزر داخلة في هذا، فلا تخصيص لها بمكان معين. وقال ابن عباس: هي أرض أبين من اليمن، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر. وقرئ: الجرز، بسكون الراء. * (فنخرج به) *: أي بالماء، وخص الزرع بالذكر، وإن كان يخرج الله به أنواعا كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره، تشريفا للزرع، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات، وأوقع الزرع موقع النبات. وقدمت الأنعام، لأن ما ينبت يأكله الأنعام أول فأول، من قبل أن يأكل بنو آدم الحب. ألا ترى أن القصيل، وهو شعير يزرع، تأكله الأنعام قبل أن يسبل؛ والبرسيم والفصفصة وأمثال ذلك تبادره الأنعام بالأكل قبل أن يأكل بنو آدم حب الزرع، أو لأنه غذاء الدواب، والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره، أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف، وهم بنو آدم. وقرأ أبو حيوة، وأبو بكر في رواية: يأكل، بالياء من أسفل. وقرأ الجمهور: * (يبصرون) *، بياء الغيبة؛ وابن مسعود: بتاء الخطاب. وجاءت الفاصلة: * (أفلا يبصرون) *، لأن ما سبق مرئي، وفي الآية قبله مسموع، فناسب: * (أفلا يسمعون) *. ثم أخبر تعالى عن الكفرة، باستعجال فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب. و * (الفتح) *: الحكم، قاله الجمهور، وهو الذي يترتب عليه قوله: * (قل يوم الفتح) * الخ، ويضعف قول الحسن ومجاهد: فتح مكة، لعدم مطابقته لما بعده، لأن من آمن يوم فتح مكة، إيمانه ينفعه، وكذا قول من قال: يوم بدر. * (ولا هم ينظرون) *: أي لا يؤخرون عن العذاب. ولما عرف غرضهم في سؤالهم على سبيل الهزء، وقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا، فكأن قد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم، فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم في حلول العذاب، فلم تنظروا، فيوم منصوب بلا ينفع. ثم أمر بالإعراض عنهم وانتظار النصر عليهم والظفر بهم. * (إنهم منتظرون) * للغلبة عليكم لقوله: * (فتربصوا إنا معكم متربصون) *، وقيل: إنهم منتظرون العذاب، أي هذا حكمهم، وإن كانوا لا يشعرون. وقرأ اليماني: منتظرون، بفتح الظاء، اسم مفعول؛ والجمهور: بكسرها، اسم فاعل، أي منتظر هلاكهم، فإنهم أحقاء أن ينتظر هلاكهم، يعني: إنهم هالكون لا محالة، أو: وانتظر ذلك، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.
200

((سورة الأحزاب))
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (يأيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما * واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا * وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا * ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو
يهدى السبيل * ادعوهم لابآئهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا ءاباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولاكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما * النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الا رحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليآئكم معروفا كان ذلك فى الكتاب مسطورا * وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا * ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما * ياأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جآءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الا بصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طآئفة منهم ياأهل. يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبى يقولون إن بيوتنا عورة وما هى بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بهآ إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا
201

يولون الا دبار وكان عهد الله مسئولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا * قد يعلم الله المعوقين منكم والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جآء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولائك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذالك على الله يسيرا * يحسبون الا حزاب لم يذهبوا وإن يأت الا حزاب يودوا لو أنهم بادون فى الا عراب يسألون عن أنبآئكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا * لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الا خر وذكر الله كثيرا * ولما رأى المؤمنون الا حزاب قالوا هاذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شآء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما * ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف فى قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شىء قديرا * ياأيها النبى قل لا زواجك إن كنتن تردن الحيواة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الا خرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما * يانسآء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتهآ أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما * يانسآء النبى لستن كأحد من النسآء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الا ولى وأقمن الصلواة وءاتين الزكواة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا * واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من ءايات الله
202

والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا * إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما * وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا * وإذ تقول للذىأنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فىأزواج أدعيآئهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا * ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له سنة الله فى الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا * الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا * ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولاكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شىء عليما * ياأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذى يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما * تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما * ياأيها النبى إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا * وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا * ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا * ياأيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا * ياأيها النبى إنآ أحللنا لك أزواجك اللاتىءاتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتى هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم فىأزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما * ترجى من تشآء منهن وتؤوىإليك من تشآء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا
203

يحزن ويرضين بمآ ءاتيتهن كلهن والله يعلم ما فى قلوبكم وكان الله عليما حليما * لا يحل لك النسآء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شىء رقيبا * ياأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذى النبى فيستحيى منكم والله لا يستحى من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من ورآء حجاب ذالكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذالكم كان عند الله عظيما * إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شىء عليما * لا جناح عليهن فىءابآئهن ولا أبنآئهن ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخواتهن ولا نسآئهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شىء شهيدا * إن الله وملائكته يصلون على النبى ياأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما * إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والا خرة وأعد لهم عذابا مهينا * والذين يؤذون المؤمنين
والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا * ياأيها النبى قل لازواجك وبناتك ونسآء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذالك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما * لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا * يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا * إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا * خالدين فيهآ أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا * يوم تقلب وجوههم فى النار يقولون ياليتنآ أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا * ربنآ ءاتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا * ياأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها * ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما * إنا عرضنا الا مانة على السماوات والا رض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما) *))
) *
الجوف: معروف، وجمعه أجواف. يثرب: مدينة الرسول، عليه السلام، وقيل: أرض المدينة في ناحية منها. الحنجرة: رأس الغلصمة، وهي منتهى الحلقوم؛ والحلقوم: مدخل الطعام والشراب. الأقطار: النواحي، واحدها قطر، ويقال: قتر بالتاء، لغة فيه. عوق عن كذا: تثبط عنه. سلقه: اجترأ عليه وضربه، ويقال: صلقه بالصاد. قال الشاعر:
فصلقنا في مراد صلقه وصداء لحقتهم بالثلل
وقيل: سلقه: خاطبه مخاطبة بليغة، ومنه خطيب سلاق ومسلاق، ولسان سلاق ومسلاق. السحب: النذر، والشيء الذي لا يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء به. قال الشاعر:
* عشية فر الحارثون بعيد ما
*
قضى نحبه في ملتقى القوم هزبر
*
وقال جرير:
204

* بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا
*
عشية بسطام جرين على نحب
*
أي على أمر عظيم التزم القيام به، وقد يسمى الموت نحبا. الصياصي: الحصون، واحدها صيصية، وهي كل ما يمتنع به. ويقال لقرن الصور والظبي، ولشوكة الديك، وهي مخلبه الذي في ساقه لأنه يتحصن به. والصياصي أيضا: شوكة الحاكة، ويتخذ من حديد، ومنه قول دريد بن الصمة:
كوقع الصياصي في النسيج المدد
الأسوة: القدوة، وتضم همزته وتكسر، ويتأسى بفلان: يقتدي به؛ والأسوة من الائتساء، كالقدوة من الاقتداء: اسم وضع موضع المصدر. التبرج، قال الليث: تبرجت: أبدت محاسنها من وجهها وجسدها، ويرى مع ذلك من عينها حسن نظر. وقال أبو عبيدة: تخرج محاسنها مما تستدعي به شهوة الرجال، وأصله من البرج في عينه وفي أسنانه، برج: أي سعة. الوطر، قال أبو عبيدة: كالأرب، وأنشد للربيع بن أصبغ:
* ودعنا قبل أن نودعه
*
لما قضى من شبابنا وطرا
*
وقال المبرد: الوطر: الشهوة والمحبة، يقال: ما قضيت من لقائك وطرا، أي ما استمتعت بك حتى تشتهي نفسي وأنشد:
* وكيف ثوائي بالمدينة بعدما
*
قضى وطرا منها جميل بن معمر
الجلباب: ثوب أكبر من الخمار.
*
* (منتظرون ياأيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم (سقط: إلى آخر الآية)) *.
205

(سقط: ببعض في كتاب الله من المؤمنين والهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أولياؤكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا، وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما)
هذه السورة مدنية. وتقدم أن نداءه / صلى الله عليه وسلم): * (منتظرون ياأيها النبى) *، * (الله وأطيعوا الرسول) *، هو على سبيل التشريف والتكرمة والتنويه بمحله وفضيلته، وجاء نداء غيره باسمه، كقوله: * (وعلم ءادم) *، * (ونادى نوح) *، * (ضيف إبراهيم) *، * (حديث موسى) *، * (وقتل داوود) *، * (وءاتينا عيسى) *. وحيث ذكره على سبيل الأخبار عنه بأنه رسوله، صرح باسمه فقال: * (محمد رسول الله) *، * (وما محمد إلا رسول) *، أعلم أنه رسوله، ولقنهم أن يسموه بذلك. وحيث لم يقصد الإعلام بذلك، جاء اسمه كما جاء في النداء: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) *، * (وقال الرسول يارب * رب) *، * (النبى أولى بالمؤمنين) *، وغير ذلك من الآي. وأمره بالتقوى للمتلبس بها، أمر بالديموية عليها والازدياد منها. والظاهر أنه أمر للنبي، وإذا كان هو مأمورا بذلك، فغيره أولى بالأمر. وقيل: هو خطاب له لفظا، وهو لأمته.
وروي أنه لما قدم المدينة، وكان يحب إسلام اليهود، فبايعه ناس منهم على النفاق، وكان يلين لهم جانبه، وكانوا يظهرون النصائح في طرق المخادعة، ولحلفه وحرصه على ائتلافهم ربما كان يسمع منهم، فنزلت تحذيرا له منهم وتنبيها على عداوتهم. وروي أيضا أن أبا سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي قدموا في الموادعة التي كانت بينهم وبينه، وقام عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس فقالوا له: ارفض ذكر آلهتنا وقل: إنها تشفع وتنفع، وندعك وربك؛ فشق ذلك عليه وعلى المؤمنين، وهموا بقتلهم، فنزلت. وناسب أن نهاه عن طاعة الكفار، وهم المتظاهرون به، وعن طاعة المنافقين، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. فالسببان حاويان الطائفتين، أي: ولا تطع الكافرين من أهل مكة، والمنافقين من أهل المدينة، فيما طلبوا إليك. وروي أن أهل مكة دعوه إلى أن يرجع إلى دينهم، ويعطوه شطر أموالهم، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته؛ وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع، فنزلت.
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة، وهو أنه حكى أنهم يستعجلون الفتح، وهو الفصل بينهم، وأخبر تعالى أنه يوم الفتح لا ينفعهم إيمانهم، فأمره في أول هذه السورة بتقوى الله، ونهاه عن طاعة الكفار والمنافقين فيما أرادوا به. * (إن الله كان عليما حكيما) *: عليما بالصواب من الخطأ، والمصلحة من المفسدة؛ حكيما لا يضع الأشياء إلا مواضعها منوطة بالحكمة؛ أو عليما حيث أمر بتقواه، وأنها تكون عن صميم القلب، حكيما حيث نهى عن طاعة الكفار والمنافقين. وقيل: هي تسلية للرسول، أي عليما بمن يتقي، حكيما في هدي من شاء وإضلال من شاء. ثم أمره باتباع ما أوحي إليه، وهو القرآن، والاقتصار عليه، وترك مراسيم الجاهلية. وقرأ أبو عمرو: بما يعملون، الأولى والثانية بياء الغيبة؛ وباقي السبعة: بتاء الخطاب، فجاز في الأولى أن يكون من باب الالتفات، وجاز أن يكون مناسبة لقوله: * (واتبع) *، ثم أمره بتفويض أمره إلى الله. وتقدم الكلام في * (كفى بالله) * في أول ما وقع في القرآن. روي أنه كان في بني فهر رجل فيهم يقال له: أبو معمر جميل بن أسد، وقيل: حميد بن معمر بن حبيب بن وهب بن حارثة بن جمح، وفيه يقول الشاعر:
* وكيف ثوائي بالمدينة بعدما
*
قضى وطرا منها جميل بن معمر
206

يدعي أن له قلبين، ويقال له: ذو القلبين، وكان يقول: أنا أذكى من محمد وأفهم؛ فلما بلغته هزيمة بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل، فنزلت. وقال الحسن: هم جماعة، يقول الواحد منهم: نفس تأمرني ونفس تنهاني. وقيل: إن بعض المنافقين قال إن محمدا له قلبان، لأنه ربما كان في شيء، فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه، فنفى الله ذلك عنه وعن كل أحد. قيل: وجه نظم هذه الآية بما قبلها، أنه تعالى لما أمر بالتقوى، كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير الله، فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره، وهو لا يتقي غيره إلا بصرف القلب عن جهة الله إلى غيره، ولا يليق ذلك بمن يتقي الله حق تقاته. انتهى، ملخصا. ولم يجعل الله للإنسان قلبين، لأنه إما أن يفعل أحدهما مثل ما يفعل الآخر من أفعال القلوب، فلا حاجة إلى أحدهما، أو غيره، فيؤدي إلى اتصاف الإنسان بكونه مريدا كارها عالما ظانا شاكا موقنا في حال واحدة. وذكر الجوف، وإن كان المعلوم أن القلب لا يكون إلا بالجوف، زيادة للتصوير والتجلي للمدلول عليه، كما قال تعالى: * (ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) *. فإذا سمع بذلك، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين يسرع إلى إنكار ذلك.
*
* (وما جعل أزواجكم) *: لم يجعل تعالى الزوجة المظاهر منها أما، لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوك، وهما حالتان متنافيتان. وقرأ قالون وقنبل: * (اللائى) * هنا، وفي المجادلة والطلاق: بالهمزة من غير ياء؛ وورش: بياء مختلسة الكسرة؛ والبزي وأبو عمرو: بياء ساكنة بدلا من الهمزة، وهو بدل مسموع لا مقيس، وهي لغة قريش؛ وباقي السبعة: بالهمز وياء بعدها. وقرأ عاصم: * (تظاهرون) * بالتاء للخطاب، وفي المجادلة: بالياء للغيبة، مضارع ظاهر؛ وبشد الظاء والهاء: الحرميان وأبو عمرو؛ وبشد الظاء وألف بعدها: ابن عامر؛ وبتخفيفها والألف: حمزة
والكسائي؛ ووافق ابن عامر الآخرين في المجادلة؛ وباقي السبعة فيها بشدها. وقرأ ابن وثاب، فيما نقل ابن عطية: بضم الياء وسكون الظاء وكسر الهاء، مضارع أظهر؛ وفيما حكى أبو بكر الرازي عنه: بتخفيف الظاء، لحذفهم تاء المطاوعة وشد الهاء. وقرأ الحسن: تظهرون، بضم التاء وتخفيف الظاء وشد الهاء، مضارع ظهر، مشدد الهاء. وقرأ هارون، عن أبي عمرو: تظهورن، بفتح التاء والهاء وسكون الظاء، مضارع ظهر، مخفف الهاء، وفي مصحف أبي: تتظهرون، بتاءين. فتلك تسع قراآت، والمعنى: قال لها: أنت علي كظهر أمي. فتلك الأفعال مأخوذة من هذا اللفظ كقوله: لبى المحرم إذا قال لبيك، وأفف إذا قال أف. وعدى الفعل بمن، لأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فيتجنبون المظاهر منها، كما يتجنبون المطلقة، والمعنى: أنه تباعد منها بجهة الظهار وغيره، أي من امرأته. لما ضمن معنى التباعد، عدى بمن، وكنوا عن البطن بالظهر إبعادا لما يقارب الفرج، ولكونهم كانوا يقولون: يحرم إتيان المرأة وظهرها للسماء، وأهل المدينة يقولون: يجيء الولد إذ ذاك أحول، فبالغوا في التغليظ في تحريم الزوجة، فشبهها بالظهر، ثم بالغ فجعلها كظهر أمه. وروي أن زيد بن حارثة من كلب سبي صغيرا، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، وجاء أبوه وعمه بفدائه، وذلك قبل بعثة رسول الله، فأعتقه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فنزلت.
* (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) * الآية: وكانوا في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى الرجل ولد غيره صار يرثه. وأدعياء: جمع دعي، فعيل بمعنى مفعول، جاء شاذا، وقياسه فعلى، كجريح وجرحى، وإنما هذا الجمع قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل، نحو: تقي وأتقياء. شبهوا أدعياء بتقي، فجمعوه جمعه شذوذا، كما شذوا في جمع أسير وقتيل فقالوا: أسراء وقتلاء، وقد سمع المقيس فيهما فقالوا: أسرى وقتلى. والبنوة تقتضي التأصل في النسب، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية، فلا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل. * (ذالكم) *: أي دعاؤهم أبناء مجرد قول لا حقيقة لمدلوله، إذ لا يواطئ اللفظ الاعتقاد، إذ يعلم حقيقة أنه ليس ابنه. * (والله يقول الحق) *: أي ما يوافق
207

ظاهرا وباطنا. * (وهو يهدى السبيل) *: أي سبيل الحق، وهو قوله: * (ادعوهم لابائهم) *، أو سبيل الشرع والإيمان. وقرأ الجمهور: يهدي مضارع هدى؛ وقتادة: بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال. و * (أقسط) *: أفعل التفضيل، وتقدم الكلام فيه في أواخر البقرة، ومعناه: أعدل. ولما أمر بأن يدعى المتبني لأبيه إن علم قالوا: زيد بن حارثة * (ومواليكم) *؛ ولذلك قالوا: سالم مولى أبي حذيفة. وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية ثم قال: أنا ممن لا يعرف أبوه، فأنا أخوكم في الدين ومولاكم. قال الرازي: ولو علم والله أباه حمارا لانتمى إليه، ورجال الحديث يقولون فيه: نفيع بن الحارث. وفي الحديث: (من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرم الله عليه الجنة). * (فيما أخطأتم به) *، قيل: رفع الحرج عنهم فيما كان قبل النهي، وهذا ضعيف لا يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي. وقيل: فيما سبق إليه اللسان. أما على سبيل الغلط، إن كان سبق ذلك إليهم قبل النهي، فجرى ذلك على ألسنتهم غلطا، أو على سبيل التحنن والشفقة، إذ كثيرا ما يقول الإنسان للصغير: يا بني، كما يقول للكبير: يا أبي، على سبيل التوقير والتعظيم. وما عطف على ما أخطأتم، أي ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم. وأجيز أن تكون ما في موضع رفع بالابتداء، أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح. * (وكان الله غفورا) * للعامد إذا تاب، * (رحيما) * حيث رفع الجناح عن المخطىء.
وكونه، عليه السلام، * (أولى بالمؤمنين من أنفسهم) *: أي أرأف بهم وأعطف عليهم، إذ هو يدعوهم إلى النجاة، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك. ومنه قوله، عليه السلام: (أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش). ومن حيث ينزل لهم منزلة الأب. وكذلك في محصف أبي، وقراءة عبد الله: * (وأزواجه أمهاتهم) *: وهو أب لهم، يعني في الدين. وقال مجاهد: كل نبي أبو أمته. وقد قيل في قول لوط عليه السلام: هؤلاء بناتي، إنه أراد المؤمنات، أي بناته في الدين؛ ولذلك جاء: * (إنما المؤمنون إخوة) *، أي في الدين. وعنه عليه السلام: (ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة). وأقرؤا إن شئتم: * (النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم) *، فأيما مؤمن هلك وترك مالا، فليرثه عصبته من كانوا؛ وإن ترك دينا أو ضياعا فإلي. قيل: وأطلق في قوله تعالى: * (أولى بالمؤمنين) *: أي في كل شيء، ولم يقيد. فيجب أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقوقه آثر، إلى غير ذلك مما يجب عليهم في حقه. انتهى. ولو أريد هذا المعنى، لكان التركيب: المؤمنون أولى بالنبي منهم بأنفسهم. * (وأزواجه أمهاتهم) *: أي مثل أمهاتهم في التوقير والاحترام. وفي بعض الأحكام: من تحريم نكاحهن، وغير ذلك مما جرين فيه مجرى الأجانب. وظاهر قوله: * (وأزواجه) *: كل من أطلق عليها أنها زوجة له، عليه السلام، من طلقها ومن لم يطلقها. وقيل: لا يثبت هذا الحكم لمطلقة. وقيل: من دخل بها ثبتت حرمتها قطعا. وهم عمر برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ونكحت بعده، فقالت له: ولم هذا، وما ضرب علي حجابا، ولا سميت للمسلمين أما؟ فكف عنها. كان أولا بالمدينة، توارث بأخوة الإسلام وبالهجرة، ثم حكى تعالى بأن أولي الأرحام أحق بالتوارث من الأخ في الإسلام، أو بالهجرة في كتاب الله، أي في اللوح المحفوظ، أو في القرآن من المؤمنين والمهاجرين، أي أولى من المؤمنين الذين كانوا يتوارثون بمجرد الإيمان، ومن المهاجرين الذين كانوا يتوارثون بالهجرة. وهذا هو الظاهر، فيكون من هنا كهي في: زيد أفضل من عمرو. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون بيانا لأولي الأرحام، أي الأقرباء من هؤلاء، بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب. انتهى. والظاهر عموم قوله: * (إلى أوليائكم) *، فيشمل جميع أقسامه، من قريب وأجنبي، مؤمن وكافر، يحسن إليه ويصله في حياته، ويوصي له عند الموت، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنفية. وقال مجاهد، وابن زيد، والرماني وغيره: * (إلا * أوليائكم) *، مخصوص بالمؤمنين.
وسياق ما تقدم في المؤمنين يعضد هذا، لكن ولاية النسب لا تدفع في الكافر، إنما تدفع في أن تلقي إليه بالمودة، كولي الإسلام. وهذا الاستثناء في قوله: * (إلا أن تفعلوا) * هو مما يفهم من
208

الكلام، أي: * (وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض) * في النفع بميراث وغيره. وعدى بإلى، لأن المعنى: إلا أن توصلوا إلى أوليائكم، كان ذلك إشارة إلى ما في الآيتين. * (فى الكتاب) *: إما اللوح، وإما القرآن، على ما تقدم. * (مسطورا) *: أي مثبتا بالأسطار، وهذه الجملة مستأنفة كالخاتمة، لما ذكر من الأحكام، ولما كان ما سبق أحكام عن الله تعالى، وكان فيها أشياء مما كانت في الجاهلية، وأشياء في الإسلام نسخت. أتبعه بقوله: * (وإذا * أخذنا من النبيين ميثاقهم) *: أي في تبليغ الشرائع والدعاء إلى الله، فلست بدعا في تبليغك عن الله. والعامل في إذ، قاله الحوفي وابن عطية، يجوز أن يكون مسطورا، أي مسطورا في أم الكتاب، ويحن أخذنا. وقيل: العامل: واذكر حين أخذنا، وهذا الميثاق هو في تبليغ رسالات الله والدعاء إلى الإيمان، ولا يمنعهم من ذلك مانع، لا من خوف ولا طمع. قال الكلبي: أخذ ميثاقهم بالتبليغ. وقال قتادة: بتصديق بعضهم بعضا، والإعلان بأن محمدا رسول الله، وإعلان رسول الله أن لا نبي بعده. وقال الزجاج وغيره: الذي أخذ عليهم وقت استخراج البشر من صلب آدم كالذر، قالوا: فأخذ الله حينئذ ميثاق النبيين بالتبليغ وتصديق بعضهم بعضا، وبجميع ما تمضنته النبوة. وروي نحوه عن أبي بن كعب، وخص هؤلاء الخمسة بالذكر بعد دخولهم في جملة النبيين. وقيل: هم أولو العزم لشرفهم وفضلهم على غيرهم. وقدم محمد صلى الله عليه وسلم)، لكونه أفضل منهم، وأكثرهم أتباعا. وقدم نوح في آية الشورى في قوله: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) * الآية، لأن إيراده على خلاف. الإيراد، فهناك أورده على طريق وصف دين الإسلام بالأصالة، فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير.
والميثاق الثاني هو الأول، وكرر لأجل صفته. والغلظ: من صفة الأجسام، واستعير للمعنى مبالغا في حرمته وعظمته وثقل فرط تحمله. وقيل: الميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاء بما حمله. واللام في * (ليسأل) *، قيل: يحتمل أن تكون لام الصيرورة، أي أخذ الميثاق على الأنبياء ليصير الأمر إلى كذا. والظاهر أنها لام كي، أي بعثنا الرسل وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين: فرقة يسألها عن صدقها على معنى إقامة الحجة، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها، فيثيبها على ذلك؛ وفرقة كفرت، فينالها ما أعد لها من العذاب. فالصادقون على هذا المسؤولون هم: المؤمنون. والهاء في * (صدقهم) * عائدة عليهم، ومفعول * (صدقهم) * محذوف تقديره: عن صدقهم عهده. أو يكون * (صدقهم) * في معنى: تصديقهم، ومفعوله محذوف، أي عن تصديقهم الأنبياء، لأن من قال للصادق صدقت، كان صادقا في قوله. أو ليسأل الأنبياء الذي أجابتهم به أممهم، حكاه علي بن عيسى؛ أو ليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم، حكاه ابن شجرة؛ أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، قاله مجاهد، وفي هذا تنبيه، أي إذا كان الأنبياء يسألون، فكيف بمن سواهم؟ وقال مجاهد أيضا: * (ليسأل الصادقين) *، أراد المؤدين عن الرسل. انتهى. وسؤال الرسل تبكيت للكافرين بهم، كما قال تعالى: * (قلت للناس اتخذونى وأمى إلاهين من دون الله قال) *، وقال تعالى: * (فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين) *. * (وأعد) *: معطوف على * (أخذنا) *، لأن المعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعاء إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين. * (وأعد للكافرين عذابا أليما) *، أو على ما دل عليه: * (ليسأل الصادقين) *، كأنه قال: فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين، قالهما الزمخشري. ويجوز أن يكون حذف من الأول ما أثيب به الصادقون، وهم المؤمنون، وذكرت العلة؛ وحذف من الثاني العلة، وذكر ما عوقبوا به. وكان التقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم، فأثابهم؛ ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم، كقوله: * (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين * فعميت عليهم الانباء) *، و * (أعد لهم عذابا أليما) *، فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني، ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول
209

وهذه طريقة بليغة، وقد تقدم لنا ذكر ذلك في قوله: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق) *، وأمعنا الكلام هناك.
* (أليما ياأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون) *.
ذكرهم الله تعالى بنعمته عليهم في غزوة الخندق، وما اتصل بها من أمر بني قريظة، وقد استوفى ذلك أهل السير، ونذكر من ذلك ما له تعلق بالآيات التي نفسرها.
وإذ معمولة لنعمة، أي إنعامه عليكم وقت مجيء الجنود، والجنود كانوا عشرة آلاف قريش، ومن تابعهم من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وسليم يقودهم أبو الأعور، واليهود النضير رؤساؤهم حيي بن أخطب وابنا أبي الحقيق، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد، وكان بينه وبين الرسول عهد، فنبذه بسعي حيي بن أخطب. وقيل: فاجتمعوا خمسة عشر ألفا، وهم الأحزاب، ونزلوا المدينة، فحفروا الخندق بإشار سلمان، وظهرت للرسول به تلك المعجزة العظيمة من كسر الصخرة التي أعوزت الصحابة ثلاث فرق، ظهرت مع كل فرقة برقة، أراه الله منها مدائن كسرى وما حولها، روما ومدائن قيصر وما حولها، ومدائن الحبشة وما حولها؛ وبشر بفتح ذلك، وأقام الذراري والنساء بالآطام، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم) والمسلمون في ثلاثة آلاف، فنزلوا بظهر سلع، والخندق بينهم وبين المشركين، وكان ذلك في شوال، سنة خمس، قاله ابن إسحاق. وقال مالك: سنة أربع.
وقرأ الحسن: وجنودا، بفتح الجيم؛ والجمهور: بالضم. بعث الله الصبا النصرة نبيه، فأضرت بهم؛ هدمت بيوتهم، وأطفأت نيرانهم، وقطعت حبالهم، وأكفأت قدورهم، ولم يمكنهم معها قرار. وبعث الله مع الصبا ملائكة تشدد الريح وتفعل نحو فعلها. وقرأ أبو عمر وفي رواية، وأبو بكرة في رواية: لم يروها، بياء الغيبة؛ وباقي السبعة، والجمهور: بتاء الخطاب. * (من فوقكم) *: من أعلى الوادي من قبل مشرق غطفان، * (ومن أسفل منكم) *: من أسفل الوادي منه قبل المغرب، وقريش تحزبوا وقالوا: نكون جملة حتى نستأصل محمدا. وقال مجاهد: * (من فوقكم) *، يريدف أهل نجد مع عيينة بن حصن، و * (من * أسفل منكم) *، يريد مكة وسائر تهامة، وهو قول قريب من الأول. وقيل: إنما يراد ما يختص ببقعة المدينة، أي نزلت طائفة في أعلى المدينة، وطائفة في أسفلها، وهذا قريب من
القول الأول، وقد يكون ذلك على معنى المبالغة، أي جاوؤكم من جميع الجهات، كأنه قيل: إذ جاوؤكم محيطين بكم، كقوله: * (يغشاهم العذاب من فوقهم ومن
210

تحت أرجلهم) *، المعنى: يغشاهم محيطا بجميع أبدانهم. وزيغ الأبصار: ميلها عن مستوى نظرها، فعل الواله الجزع. وقال الفراء: زاغت من كل شيء، فلم تلتفت إلا إلى عدوها. وبلوغ القلب الحناجر: مبالغة في اضطرابها ووجيبها، دون أن تنتقل من مقرها إلى الحنجرة. وقيل: بحت القلوب من شدة الفزع، فيتصل وجيبها بالحنجرة، فكأنها بلغتها. وقيل: يجد خشونة وقلبه يصعد علوا لينفصل، فالبلوغ ليس حقيقة. وقيل: القلب عند الغضب يندفع، وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة. وقيل: يفضي إلى أن يسد مخرج النفس، فلا يقدر المرء أن يتنفس، ويموت خوفا، ومثله: * (إذ القلوب لدى الحناجر) *. وقيل: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع والغضب، أو الغم الشديد، ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثم قيل للجبان، انتفخ سحره. والظنون: جمع لما اختلفت متعلقاته، وإن كان لا ينقاس عند من جمع المصدر إذا اختلفت متعلقاته، وينقاس عند غيره، وقد جاء الظنون جمعا في أشعارهم، أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان:
* إذا الجوزاء أردفت التريا
*
ظننت بآل فاطمة الظنونا
*
فظن المؤمنون الخلص أن ما وعدهم الله من النصر حق، وأنهم يستظهرون؛ وظن الضعيف الإيمان مضطربه، والمنافقون أن الرسول والمؤمنين سيغلبون، وكل هؤلاء يشملهم الضمير في * (وتظنون) *. وقال الحسن: ظنوا ظنونا مختلفة، ظن المنافقون أن المسليمن يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم يبتلون. وقال ابن عطية: أي يكادون يضطربون، ويقولون: ما هذا الخلف للوعد؟ وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين، لا يمكن البشر دفعها. وأما المنافقون فعجلوا ونطقوا. وقال الزمخشري: ظن المؤمنون الثبت القلوب بالله أن يبتلهيهم ويفتنهم، فخافوا الزلل وضعف الاحتمال؛ والضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقون ظنوا بالله ما حكى عنهم، وكتب: الظنونا والرسولا والسبيلا في المصحف بالألف، فحذفها حمزة وأبو عمر ووقفا ووصلا؛ وابن كثير، والكسائي، وحفص: بحذفها وصلا خاصة؛ وباقي السبعة: بإثباتها في الحالين. واختار أبو عبيد والحذاق أن يوقف على هذه الكلمة بالألف، ولا يوصل، فيحذف أو يثبت، لأن حذفها مخالف لما اجتمعت عليه مصاحف الأمصار، ولأن إثباتها الوصل معدوم في لسان العرب، نظمهم ونثرهم، لا في اضطرار ولا غيره. أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقته لبعض مذاهب العرب، لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم وفي تصاريفها، والفواصل في الكلام كالمصارع. وقال أبو علي: هي رؤوس الآي، تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع، كما كانت القوافي مقاطع.
و * (هنالك) *: ظرف مكان للبعيد هذا أصله، فيحمل عليه، أي في ذلك المكان الذي وقع فيه الحصار والقتال * (ابتلى المؤمنون) *، والعامل فيه ابتلي. وقال ابن عطية: * (هنالك) * ظرف زمان؛ قال: ومن قال إن العامل فيه * (وتظنون) *، فليس قوله بالقوي، لأن البداءة ليست متمكنة. وابتلاؤهم، قال الضحاك: بالجوع. وقال مجاهد: بالحصار. وقيل: بالصبر على الإيمان. * (وزلزلوا) *، قال ابن سلام: حركوا بالخوف. وقيل؛ * (* زلزلوا) *، فثبتوا وصبروا حتى نصروا. وقيل: حركوا إلى الفتنة فعصموا. وقرأ الجمهور: وزلزلوا، بضم الزاي. وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي، عن أبي عمرو: بكسر الزاي، قال ابن خالويه. وقال الزمخشري، وعن أبي عمرو: إشمام زاي زلزلوا. انتهى، كأنه يعني: إشمامها الكسر، ووجه الكسر في هذه القراءة الشاذة أنه أتبع حركة الزاي الأولى بحركة الثانية، ولم يعتد بالساكن، كما يعتد به من قال: منتن، بكسر الميم إتباعا لحركة التاء، وهو اسم فاعل من أنتن. وقرأ الجمهور: * (وزلزلوا زلزالا) *، بكسر الزاي؛ والجحدري. وعيسى: بفتحها، وكذا: * (إذا زلزلت الارض زلزالها) *، ومصدر فعلل من المضاعف يجوز فيه الكسر والفتح نحو: قلقل قلقالا. وقد يراد بالمفتوح معنى
211

اسم الفاعل، فصلصال بمعنى مصلصل، فإن كان غير مضاعف، فما سمع منه على فعلان، مكسور الفاء نحو: سرهفه سرهافا.
* (وإذ يقول المنافقون) *: وهم المظهرون للإيمان المبطنون الكفر. * (والذين في قلوبهم مرض) *: هم ضعفاء الإيمان الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، فهم على حرف، والعطف دال على التغاير، نبه عليهم على جهة الذم. لما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم) الصخرة، وبرقت تلك البوارق، وبشر بفتح فارس والروم واليمن والحبشة، قال معتب بن قشير: يعدنا محمد أن نفتح كنوز كسرى وقيصر ومكة، ونحن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط، ما يعدنا إلا غرورا: أي أمرا يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به. وقال غيره من المنافقين نحو ذلك. وقولهم: * (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) *، هو على سبيل الهزء، إذ لو اعتقدوا أنه رسول حقيقة ما قالوا هذه المقالة، فالمعنى: ورسوله على زعمكم وزعمه، وفي معتب ونظرائه نزلت هذه الآية.
* (وإذ قالت طائفة منهم) *: أي من المنافقين، * (لا مقام لكم) * في حومة القتال والممانعة، * (فارجعوا) * إلى بيوتكم ومنازلكم، أمروهم بالهرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: فارجعوا كفارا إلى دينكم الأول وأسلموه إلى أعدائه. قال السدي: والقائل لذلك عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه. وقال مقاتل: بنو مسلمة. وقال أوس بن رومان: أوس بن قبطي وأصحابه. وقال الكلبي: بنو حارثة. ويمكن صحة هذه الأقوال، فإن فيهم من كان منافقا. * (لا مقام لكم) *، وقرأ السلمي والأعرج واليماني وحفص: بضم الميم، فاحتمل أن يكون مكانا، أي لامكان إقامة؛ واحتمل أن يكون مصدرا، أي لا إقامة. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وأبو رجاء، والحسن، وقتادة، والنخعي، وعبد الله بن مسلم، وطلحة، وباقي السبعة: بفتحها، واحتمل أيضا المكان، أي لامكان قيام، واحتمل المصدر، أي لا قيام
لكم. * (ويستأذن فريق منهم النبى) *: هو أوس بن قبطي، استأذن في الدخول إلى المدينة عن اتفاق من عشيرته. * (يقولون) *: حال، أي قائلين: * (إن بيوتنا عورة) *: أي منكشفة للعدو، وقيل: خالية للسراق، يقال: أعور المنزل: انكشف. وقال الشاعر:
له الشدة الأولى إذا القرن أعورا
وقال ابن عباس: الفريق بنو حارثة، وهم كانوا عاهدوا الله لا يولون الأدبار، اعتذروا بأن بيوتهم معرضة للعدو، ممكنة للسراق، لأنها غير محرزة ولا محصنة، فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك، وإنما يريدون الفرار. وقرأ ابن عباس، وابن يعمر، وقتادة، وأبو رجاء، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو طالوت، وابن مقسم، وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير: عورة وبعوزة، بكسر الواو فيهما؛ والجمهور: بإسكانها. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تخفيف عورة وبالكسر هو اسم فاعل. وقال ابن جني: صحة الواو في هذا إشارة لأنها متحركة قبلها فتحة. انتهى. فيعني أنها تنقلب ألفا، فيقال: عارة، كما يقول: رجل مال، أي ممول. وإذا كان عورة اسم فاعل، فهو من عور الذي صحت عينه، فاسم الفاعل كذلك تصح عينه، فلا تكون صحة العين على هذا شذوذا. وقيل: السكون على أنه مصدر وصف به، والبيت العور: هو المنفرد المعرض لمن أراد سوءا. وقال الزجاج: عور المكان يعور عورا وعورة فهو عور، وبيوت عورة. وقال الفراء: أعور المنزل: بدا منه عورة، وأعور الفارس: كان فيه موضع خلل للضرب والطعن. قال الشاعر:
* متى تلقهم لم تلق في البيت معورا
*
ولا الضيف مسحورا ولا الجار مرسلا
قال الكلبي: * (عورة) *: خالية من الرجال ضائعة. وقال قتادة: قاصية، يخشى عليها العدو. وقال السدي: قصيرة الحيطان، يخاف عليها السراق. وقال الليث: العورة: سوأة الإنسان، وكل أمر يستحيا منه فهو عورة، يقال: عورة في
212

التذكير والتأنيث، والجمع كالمصدر. وقال ابن عباس: قالت اليهود لعبد الله ابن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه؟ فارجعوا إلى المدينة فأنتم آمنون. * (إن يريدون إلا فرارا) *: من الدين، وقيل: من القتل. وقال الضحاك: ورجع ثمانون رجلا من غير إذن للنبي صلى الله عليه وسلم). والضمير في: * (دخلت) *، الظاهر عوده على البيوت، إذ هو أقرب مذكور. قيل: أو على المديمنة، أي ولو دخلها الأحزاب الذين يفرون خوفا منها؛ والثالث على أهاليهم وأولادهم. * (ثم سئلوا الفتنة) *: أي الردة والرجوع إلى إظهار الكفر ومقاتلة المسلمين. * (لاتوها) *: أي لجاءوا إليها وفعلوا على قراءة القصر، وهي قراءة نافع وابن كثير. وقرأ باقي السبعة: لآتوها بالمد، أي لأعطوها. * (وما تلبثوا بها) *: وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم * (إلا يسيرا) *، فإن الله يهلكهم ويخرجهم بالمؤمنين. قال ابن عطية: ولو دخلت المدينة من أقطارها، واشتد الحرب الحقيقي، ثم سئلوا الفتنة والحرب لمحمد صلى الله عليه وسلم)، لطاروا إليها وأتوها مجيبين فيها، ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلا يسيرا، قيل: قدر ما يأخذون سلاحهم. انتهى. وقرأ الجمهور: سئلوا، وقرأ الحسن: سولوا، بواو ساكنة بعد السين المضمومة، قالوا: وهي من سال يسال، كخاف يخاف، لغة من سأل المهموز العين. وحكى أبو زيد: هما يتساولان. انتهى. ويجوز أن يكون أصلها الهمزة، لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب ضرب، ثم سهل الهمزة بإبدالها واوا على قول من قال في بؤس بوس، بإبدال الهمزة واوا لضمة ما قبلها. وقرأ عبد الوارث، عن أبي عمرو والأعمش: سيلوا، بكسر السين من غير همز، نحو: قيل. وقرأ مجاهد: سوئلوا، بواو بعد السين المضمومة وياء مكسورة بدلا من الهمزة.
*
وقال الضحاك: * (ثم سئلوا الفتنة) *: أي القتال في العصبية، لأسرعوا إليه. وقال الحسن: الفتنة، الشرك، والظاهر عود الضمير بها على الفتنة. وقيل: يعود على المدينة. و * (عاهدوا) *: أجرى مجرى اليمين، ولذلك يتلقى بقوله: * (لا يولون الادبار) *. وجواب هذا القسم جاء على الغيبة عنهم على المعنى: ولو جاء كما لفظوا به، لكان التركيب: لا نولي الأدبار. والذين عاهدوا: بنو حارثة وبنو مسلمة، وهما الطائفتان اللتان هما بالفشل في يوم أحد، ثم تابوا وعاهدوا أن لا يفروا، فوقع يوم الخندق من بني حارثة ذلك الاستئذان. قال ابن عباس: عاهدوا بمكة ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منهم أنفسهم. وقيل: ناس غابوا عن وقعة بدر قالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن من قبل: أي من قبل هذه الغزوة، غزوة الخندق. * (لا يولون الادبار) *: كناية عن الفرار والانهزام، سئلوا مطلوبا مقتضى حتى يوفى به، وفي ذلك تهديد ووعيد.
* (قل لن ينفعكم الفرار) *: خطاب توبيخ وإعلام أن الفرار لا ينجي من القدر، وأنه تنقطع أعمارهم في يسيرهم من المدة، واليسير مدة: الآجال. قال الربيع بن خيثم: وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: * (إن فررتم من الموت) *، أو القتل، لا ينفعكم الفرار، لأن مجيء الأجل لا بد منه. وإذا هنا تقدمها حرف عطف، فلا يتحتم إعمالها، بل يجوز، ولذلك قرأ بعضهم: * (وإذا لا * يلبثوا * خلفك) * في سورة الإسراء، بحذف النون. ومعنى خلفك: أي بعد فراقهم إياك. و * (قليلا) *: نعت لمصدر محذوف، أي تمتيعا قليلا، أو لزمان محذوف، أي زمانا قليلا. ومر بعض المروانية على حائط مائل فأسرع، فتليت له هذه الآية، فقال: ذلك القليل نطلب. وقرأ الجمهور: * (لا تمتعون) *، بتاء الخطاب؛ وقرئ: بياء الغيبة. و * (من ذا) *: استفهام، ركبت ذا مع من وفيه معنى النفي، أي لا أحد يعصمكم من الله. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة، ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم
بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله:
متقلدا سيفا ورمحا
أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. انتهى.
أما الوجه الأول ففيه حذف جملة لا ضرورة تدعو
213

إلى حذفها، والثاني هو الوجه، لا سيما إذا قدر مضاف محذوف، أي يمنعكم من مراد الله. والقائلين لإخوانهم كانوا، أي المنافقون، يثبطون إخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يقولون: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لا تهمهم أبو سفيان، فخلوهم. وقيل: هم اليهود، كانوا يقولون لأهل المدينة: تعالوا إلينا وكونوا معنا. وقال ابن زيد: انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يوم الأحزاب، فوجد شقيقه عنده سويق ونبيذ، فقال: أنت هاهنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم) بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إليه، فقد أحيط بك وبصاحبك. والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا، فقال: كذبت والذي يحلف به، ولأخبرنه بأمرك. فذهب ليخبره، فوجد جبريل قد نزل بهذه الآية. وقال ابن السائب: هي في عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة. فإذا جاءهم المنافق قالوا له: ويحك اجلس ولا تخرج، ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنا ننتظركم. وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن يجدوا بدا من إتيانه، فيأتون ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة، فنزلت. وتقدم الكلام في * (هلم) * في أواخر الأنعام. وقال الزمخشري: وهلموا إلينا، أي قربوا أنفسكم إلينا، قال: وهو صوت سمي به فعل متعد مثل: احضر وأقرب. انتهى.
والذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا، وإنما هو مركب مختلف في أصل تركيبه؛ فقيل: هو مركب من هاالتي للتنبيه ولم، وهو مذهب البصريين. وقيل: من هل وأم، والكلام على ترجيح المختار منهما مذكور في النحو. وأما قوله: سمي به فعل متعد، ولذلك قدر * (هلم إلينا) *: أي قربوا أنفسكم إلينا؛ والنحويون: أنه متعد ولازم؛ فالمتعدي كقوله: * (قل هلم شهداءكم) *: أي احضروا شهداءكم، واللازم كقوله: * (هلم إلينا) *، وأقبلوا إلينا. * (ولا يأتون البأس) *: أي القتال، * (إلا قليلا) *. يخرجون مع المؤمنين، يوهمونهم أنهم معهم، ولا نراهم يقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطروا إليه، كقوله: * (ما قاتلوا إلا قليلا) *. وقلته إما لقصر زمانه، وإما لقلة عقابه، وإنه رياء وتلميع لا تحقيق.
* (أشحة) *: جمع شحيح، وهو البخيل، وهو جمع لا ينقاس، وقياسه في الصفة المضعفة العين واللام فعلاء نحو: خليل وأخلاء؛ فالقياس أشحاء، وهو مسموع أيضا، ومتعلق الشح بأنفسهم، أو بأحوالهم، أو بأموالهم في النفقات في سبيل الله، أو بالغنيمة عند القسم، أقوال. والصواب: أن يعم شحهم كل ما فيه منفعة للمؤمنين. وقال الزمخشري: * (أشحة عليكم) * في وقت الحرب، أضناء بكم، يترفرفون عليكم، كما يفعل الرجل بالذاب عن المناضل دونه عند الخوف. * (ينظرون إليك) * في تلك الحالة، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت، حذرا وخورا ولواذا، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة، نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير، وهو المال والغنيمة وسوء تلك الحالة الأولى، واجترؤوا عليكم وضربوكم بألسنتهم، وقالوا: وفروا قسمتنا، فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوكم، وبنا نصرتم عليهم. انتهى. وهو تكثير وتحميل للفظ ما لا يحتمله كعادته. وقرأ الجمهور: * (أشحة) *، بالنصب. قال الفراء: على الذم، وأجاز نصبه على الحال، والعامل يعوقون. وقال الطبري: حال من * (هلم إلينا) *. وقال الزجاج: حال من * (ولا يأتون) *؛ وقيل: حال من * (المعوقين) *؛ وقيل: من * (* القائلين) *، ورد القولان بأن فيهما تفريقا بين الموصول وما هو من تمام صلته. وقرأ ابن أبي عبلة: أشحة، بالرفع على إضمار مبتدأ، أي هم أشحة.
* (عليكم فإذا جاء الخوف) * من العدو، وتوقع أن يستأصل أهل المدينة، لاذ هؤلاء المنافقون بك ينظرون نظر الهلوع المختلط النظر، الذي يغشى عليه من الموت. و * (تدور) *: في موضع الحال، أي دائرة أعينهم. * (كالذى) *: في موضع الصفة لمصدر محذوف، وهو مصدر مشبه، أي دورانا كدوران عين الذي يغشى
214

عليه. فبعد الكاف محذوفان وهما: دوران وعين، ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمصدر من * (ينظرون إليك) *، نظرا كنظر الذي يغشى عليه. وقيل: إذا جاء الخوف من القتال، وظهر المسلمون على أعدائهم، * (رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم) * في رؤوسهم، وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم. قال قتادة: بسطوا ألسنتهم فيكم. قال يزيد ابن رومان: في أذى المؤمنين وسبهم وتنقيص الشرع. وقال قتادة: في طلب العطاء من الغنيمة، والإلحاف في المسألة. وقيل: السلق في مخادعة المؤمنين بما يرضيهم من القول على جهة المصانعة والمجاملة. وقرأ الجمهور: * (سلقوكم) *، بالسين؛ وابن أبي عبلة: بالصاد. وقرأ ابن أبي عبلة: أشحة بالرفع، أي هم أشحة؛ والجمهور: بالنصب على الحال من * (سلقوكم) *، وعلى الخبر يدل على عموم الشح في قوله أولا: * (أشحة عليكم) *. وقيل: في هذا: أشحة على مال الغنائم. وقيل: على مالهم الذي ينفقونه. وقيل: على الرسول بظفره.
* (أولئك لم يؤمنوا) *، إشارة إلى المنافقين: أي لم يكن لهم قط إيمان. والإحباط: عدم قبول أعمالهم، فكانت كالمحبطة. وقال الزمخشري: فإن قلت: هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت: لا، ولكن تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان، وإن لم يواطئه القلب؛ وأن ما يعمله المنافق من الأعمال يجزى عليه. فبين أن إيمانه ليس بإيمان، وأن كل عمل يوجد منه باطل. انتهى، وفي كلامه استعمال عسى صلة لمن، وهو لا يجوز. وقال ابن زيد، عن أبيه: نزلت في رجل بدري، نافق بعد ذلك ووقع في هذه المعاني، فأحبط الله عمله في بدر وغيرها. وكان ذلك، أي الإحباط، أو حالهم من شحهم ونظرهم، يسيرا لا يبالي به، ولا له أثر في دفع خير، ولا عليه شر. وقال الزمخشري: * (على الله يسيرا) *، معناه: أن أعمالهم حقيقة بالإحباط، تدعو إليه الدواعي، ولا يصرف عنه صارف.
انتهى، وهي ألفاظ المعتزلة.
* (يحسبون) * أنهم لم يرحلوا، * (وإن يأت الاحزاب) * كرة ثانية، تمنوا لخوفهم بما منوا به عند الكرة أنهم مقيمون في البدو مع الأعراب، وهم أهل العمود، يرحلون من قطر إلى قطر، يسألون من قدم من المدينة عما جرى عليكم من قتال الأحزاب، يتعرفون أحوالكم بالاستخبار، لا بالمشاهدة، فرقا وجبنا، وغرضهم من البداوة أن يكونوا سالمين من القتال، ولو كانوا فيكم ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان قتال لم يقاتلوا إلا قليلا، لعلة ورياء وسمعة. قال ابن السائب: رميا بالحجارة خاصة دون سائر أنواع القتال. وقرأ الجمهور: * (بادون) *، جمع سلامة لباد. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وابن يعمر، وطلحة: بدى على وزن فعل، كفاز وغزى، وليس بقياس في معتل اللام، بل شبه بضارب، وقياسه فعلة، كقاض وقضاة. وعن ابن عباس: بدا فعلا ماضيا؛ وفي رواية صاحب الإقليد: بدى بوزن عدى. وقرأ الجمهور: * (يسئلون) *، مضارع سأل. وحكى ابن عطية أن أبا عمرو وعاصما والأعمش قرؤوا: يسألون، بغير همز، نحو قوله: * (سل بنى إسراءيل) *، ولا يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم، ولعل ذلك في شاذهما؛ ونقلهما صاحب اللوامح عن الحسن والأعمش. وقرأ زيد بن علي، وقتادة، والجحدري، والحسن، ويعقوب بخلاف عنهما: يسأل بعضهم بعضا، أي يقول بعضهم لبعض: ماذا سمعت وماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب، كما تقول: تراءينا الهلال. ثم سلى الله نبيه عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا ما أغنوا وما قاتلوا إلا قتالا قليلا. قال: هو قليل من حيث هو رياء، ولو كان كثيرا.
* (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا * ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هاذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما * من) *.
الظاهر أن الخطاب في قوله: * (لقد كان لكم) *، للمؤمنين، لقوله قبل: * (ولو كانوا فيكم) *، وقوله بعد: * (لمن كان يرجو الله واليوم الاخر) *. والمعنى: أنه / صلى الله عليه وسلم) ج، لكم فيه
215

الاقتداء. فكما نصركم ووازركم حتى قاتل بنفسه عدوكم، فكسرت رباعيته الكريمة، وشج وجهه الكريم، وقتل عمر، وأودي ضروبا من الإيذاء؛ يجب عليكم أن تنصروه وتوازروه، ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه، ولا عن مكان هو فيه، وتبذلوا أنفسكم دونه؛ فما حصل لكم من الهداية للإسلام أعظم من كل ما تفعلونه معه / صلى الله عليه وسلم)، من النصرة والجهاد في سبيل الله، ويبعد قول من قال: إن خطاب للمنافقين. * (واليوم الاخر) *: يوم القيامة. وقيل: يوم السياق. و * (أسوة) *: اسم كان، و * (لكم) *: الخبر، ويتعلق * (فى رسول الله) * بما يتعلق به * (لكم) *، أو يكون في موضع الحال، لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتا بعد لأسوة، أو يتعلق بكان على مذهب من أجاز في كان وأخواتها الناقصة أن تعمل في الظرف والمجرور، ويجوز أن يكون * (فى رسول الله) * الخبر، ولكم تبيين، أي لكم، أعني: * (لمن كان يرجو الله) *. قال الزمخشري: بدل من لكم، كقوله: * (للذين استضعفوا لمن ءامن منهم) *. انتهى. ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب، اسم ظاهر في بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش، ويدل عليه قول الشاعر:
* بكم قريش كفينا كل معضلة
*
وأم نهج الهدى من كان ضليلا
وقرأ الجمهور: إسوة بكسر الهمزة؛ وعاصم بضمها. والرجاء: بمعنى الأمل أو الخوف. وقرن الرجاء بذكر الله، والمؤتسي برسول الله، هو الذي يكون راجيا ذاكرا. ولما بين تعالى المنافقين وقولهم: * (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) *، بين حال المؤمنين، وقولهم صندما قال المنافقون. وكان الله وعدهم أن يزلزلهم حتى يستنصروه في قوله: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) * الآية. فلما جاء الأحزاب، ونهض بهم للقتال، واضطربوا، * (قالوا هاذا ما وعدنا الله ورسوله) *، وأيقنوا بالجنة والنصر. وعن ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم)، لأصحابه: (إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا)، أي في آخر تسع ليال أو عشر. فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك. وقيل: الوعد هو ما جاء في الآية مما وعده عليه السلام حين أمر بحفر الخندق، فإنه أعلمهم بأنهم يحضرون، وأمرهم بالاستعداد لذلك، وأعلمهم أنهم سينصرون بعد ذلك. فلما رأوا الأحزاب قالوا ذلك، فسلموا الأول الأمر، وانتظروا آخره. وهذا إشارة إلى الخطب، إيمانا بالله وبما أخبر به الرسول مما لم يقع، كقولك: فتح مكة وفارس والروم، فالزيادة فيما يؤمن، لا في نفس الإيمان.
*
وقرأ ابن أبي عبلة: وما زادوهم، بالواو، وضمير الجمع يعود على الأحزاب، وتقول: صدقت زيدا الحديث، وصدقت زيدا في الحديث. وقد عدت صدق هذه في ما يتعدى بحرف الجر، وأصله ذلك، ثم يتسع فيه فيحذف الحرف ويصل الفعل إليه بنفسه، ومنه قولهم في المثل: صدقني سن بكره، أي في سن بكره. فما عاهدوا، إما أن يكون على إسقاط الحرف، أي فيما عاهدوا، والمفعول الأول محذوف، والتقدير: صدقوا الله، وإما أن يكون صدق يتعدى إلى واحد، كما تقول: صدقني أخوك إذا قال لك الصدق، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب. وكان المعاهد عليه مصدوقا مجازا، كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفي لك، وهم وافون به، فقد صدقوه، ولو كانوا ناكثين لكذبوه، وكان مكذوبا. وهؤلاء الرجال، قال مقاتل والكلبي: هم أهل العقبة السبعون، أهل البيعة. وقال أنس: نزلت في قوم لم يشهدوا بدرا، فعاهدوا أن لا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فوفوا. وقال زيد بن رومان: بنو حارثة.
* (فمنهم من قضى
216

نحبه) *، وهذا تجوز، لأن الموت أمر لا بد منه أن يقع بالإنسان، فسمي نحبا لذلك. وقال مجاهد: قضى نحبه: أي عهده. قال أبو عبيدة: نذره. وقال الزمخشري: * (فمنهم من قضى نحبه) *، يحتمل موته شهيدا، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقالت فرقة: الموصوفون بقضاء النحب جماعة من الصحابة وفوا بعهود الإسلام على التمام. فالشهداء منهم، والعشرة الذين شهد لهم الرسول بالجنة، منهم من حصل في هذه المرتبة بما لم ينص عليه، ويصحح هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقد سئل من الذي قضى نحبه وهو على المنبر؟ فدخل طلحة بن عبيد الله فقال: هذا ممن قضى نحبه. * (ومنهم من ينتظر) *: إذا فسر قضاء النحب بالشهادة، كان التقدير: ومنهم من ينتظر الشهادة؛ وإذا فسر بالوفاء لعهود الإسلام، كان التقدير: ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح. وقال مجاهد: ينتظر يوما فيه جهاد، فيقضي نحبه. * (وما بدلوا) *: لا المستشهدون، ولا من ينتظر. وقد ثبت طلحة يوم أحد حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أوجب طلحة)، وفيه تعريض لمن بدل من المنافقين حين ولو الأدبار، وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار.
* (ليجزى الله الصادقين) *: أي الذين * (صدقوا ما عاهدوا الله عليه) *، * (بصدقهم) *: أي بسبب صدقهم. * (ويعذب المنافقين إن شاء) *، وعذابهم متحتم. فكيف يصح تعليقه على المشيئة، وهو قد شاء تعذيبهم إذا وفوا على النفاق؟ فقال ابن عطية: تعذيب المنافقين ثمرته إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم، والتوبة موازية لتلك الإقامة، وثمرة التوبة تركهم دون عذاب. فهما درجتان: إقامة على نفاق، أو توبة منه. وعنهما ثمرتان: تعذيب، أو رحمة. فذكر تعالى، على جهة الإيجاز، واحدة من هاتين، وواحدة من هاتين. ودل ما ذكر على ما ترك ذكره، ويدلك على أن معنى قوله: * (* لي عذب) *، أي: ليديم على النفاق، قوله: * (مصر إن شاء) *، ومعادلته بالتوبة، وحذف أو. انتهى. وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير: ليقيموا على النفاق، فيموتوا عليه، إن شاء فيعذبهم، أو يتوب عليهم فيرحمهم. فحذف سبب التعذيب، وأثبت المسبب، وهو التعذيب. وأثبت سبب الرحمة والغفران، وحذف المسبب، وهو الرحمة والغفران، وهذا من الإيجاز الحسن. وقال الزمخشري: ويعذيهم إن شاء إذا لم يتوبوا، ويتوب عليهم إذا تابوا. انتهى. ولا يجوز تعليق عذابهم إذا لم يتوبوا بمشيئته تعالى، لأنه تعالى قد شاء ذلك وأخبر أنه يعذب المنافقين حتما لا محالة. واللام في * (ليجزى) *، قيل: لام الصيرورة؛ وقيل: لام التعليل، ويتعلق بقوله: * (وما بدلوا تبديلا) *. قال الزمخشري: جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما. وقال السدي: المعنى: إن شاء يميتهم على نفاقهم، أو يتوب عليهم بفعلهم من النفاق بتقبلهم الإيمان. وقيل: يعذبهم في الدنيا إن شاء، ويتوب عليهم إن شاء. * (إن الله كان غفورا رحيما) * أي مغيظين غفور اللحوبة، رحيما بقبول التوبة.
* (ورد الله الذين كفروا) * الأحزاب عن المدينة، والمؤمنين إلى بلادهم. * (بغيظهم) *: فهو حال، والباء للمصاحبة؛ و * (لم ينالوا) *: حال ثانية، أو من الضمير في بغيظهم، فيكون حالا متداخلة. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون الثانية بيانا للأولى، أو استئنافا. انتهى. ولا يظهر كونها بيانا للأولى، ولا للاستئناف، لأنها تبقى كالمفلتة مما قبلها. * (وكفى الله المؤمنين القتال) *
217

بإرسال الريح والجنود، وهم الملائكة، فلم يكن قتال بين المؤمنين والكفار. وقيل: المراد علي بن أبي طالب ومن معه، برزوا للقتال ودعوا إليه. وقتل علي من الكفار عمرو بن عبيد مبارزة، حين طلب عمرو المبارزة، فخرج إليه علي، فقال: إني لا أوثر قتلك لصحبتي لأبيك، فقال له علي: فأنا أوثر قتلك، فقتله علي مبارزة. واقتحم نوفل بن الحارث، من قريش، الخندق بفرسه، فقتل فيه. وقتل من الكفار أيضا: منبه بن عثمان، وعبيد بن السباق. واستشهد من المسلمين، في غزوة الخندق: معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهل، وأبو عمرو، وهم من بني عبد الأشهل؛ والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمه، وهما من بني سلمة؛ وكعب بن زيد، من بني ذبيان بن النجار، أصابه سهم غرب فقتله. ولم تغز قريش المسلمين بعد الخندق، وكفى الله مداومة القتال وعودته بأن هزمهم بعد ذلك، وذلك بقوته وعزته. وعن أبي سعيد الخدري: حبسنا يوم الخندق، فلم نصل الظهر، ولا العصر، ولا المغرب، ولا العشاء، حتى كان بعد هوى من الليل، كفينا وأنزل الله تعالى: * (وكفى الله المؤمنين القتال) *، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بلالا، فأقام وصلى الظهر فأحسنها، ثم كذلك كل صلاة بإقامة.
* (وأنزل الذين ظاهروهم) *: أي أعانوا قريشا ومن معهم من الأحزاب من أهل الكتاب، هم يهود بني قريظة، كما هو قول الجمهور. وعن الحسن: بنو النضير. وقذف الرعب سبب لإنزالهم، ولكنه قدم المسبب، لما كان السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم قدم. وقال رجل: يا رسول الله، مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء عليهم قطيفة ديباج، فقال: (ذلك جبريل، عليه السلام، بعث إلى بني قريظة، يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم). ولما رجعت الأحزاب، جاء جبريل وقت الظهر فقال: إن الله يأمرك بالخروج إلى بني قريظة. فنادى في الناس: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)، فخرجوا إليهما، فمصل في الطريق، ورأى أن ذلك خرج مخرج التأكيد والاستعجال؛ ومصل بعد العشاء، وكل مصيب. فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، وقيل: إحدى وعشرين، وقيل: خمسة عشر. فنزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي، لحلف كان بينهم، رجوا حنوه عليهم، فحكم أن يقتل المقاتلة ويسبي الذرية والعيال والأموال، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار. فقالت له الأنصار في ذلك، فقال: أردت أن يكون لهم أموال كما لكم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم): (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة)، ثم استنزلهم، وخندق لهم في سوق المدينة، وقدمهم فضرب أعناقهم، وهم من بين ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل: كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير. وجئ يحيى بن أخطب النضيري، وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فدخل عندهم وفاء لهم، فترك فيمن ترك على حكم سعد.
فلما قرب، وعليه حلتان تفاحيتان، مجموعة يداه إلى عنقه، أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقال: يا محمد والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل. ثم قال: أيها الناس، إنه لا بأس أمر الله وقدره، ومحنة كتبت على بني إسرائيل، ثم تقدم فضربت عنقه. وقال فيه بعض بني ثعلبة:
* لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه
*
ولكنه من يخذل الله يخذل
لا جهد حتى أبلغ النفس عذرهاوقلقل يبغي الغد كل مقلقل
وقتل من نسائهم امرأة، وهي لبابة امرأة الحكم القرظي، كانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتل؛ ولم
218

يستشهد في حصار بني قريظة غيره. ومات في الحصار أبو سفيان بن محصن، أخو عكاشة بن محصن، وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة. وقرأ الجمهور: وتاسرون، بتاء الخطاب وكسر السين؛ وأبو حيوة: بضمهما؛ واليماني: بياء الغيبة؛ وابن أنس، عن ابن ذكوان: بياء الغيبة في: * (تقتلون وتأسرون) *. * (وأورثكم) *: فيه إشعار أنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين ومن نقلهم من أرضهم، وقدمت لكثرة المنفعة بها من النحل والزرع، ولأنهم باستيلائهم عليها ثانيا وأموالهم ليستعان بها في قوة المسلمين للجهاد، ولأنها كانت في بيوتهم، فوقع الاستيلاء عليها ثالثا. * (وأرضا لم) *: وعد صادق في فتح البلاد، كالعراق والشام واليمن ومكة، وسائر فتوح المسلمين. وقال عكرمة: أخبر تعالى أن قد قضى بذلك. وقال الحسن: أراد الروم وفارس. وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة. وقال مقاتل، ويزيد بن رومان، وابن زيد: هي خيبر؛ وقيل: اليمن؛ ولا وجه لهذه التخصيصات، ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم. وقرأ الجمهور: تطؤوها، بهمزة مضمومة بعدها واو. وقرأ زيد بن علي: لم تطوها، بحذف الهمزة، أبدل همزة تطأ ألفا على حد قوله:
إن السباع لتهدا في مرابضها والناس لا يهتدى من شرهم أبدا
فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت، كقولك: لم تروها. وختم تعالى: هذه الآية بقدرته على كل شيء، فلا يعجزه شيء، وكان في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة، وأنه لا يستبعد ذلك، فكما ملكهم هذه، فكذلك هو قادر على أن يملكهم غيرها من البلاد.
*
* (كل شىء قديرا ياأيها النبى قل لازواجك إن كنتن تردن الحيواة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الاخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما يانساء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يانساء النبى لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن) *.
سبب نزولها أن أزواجه / صلى الله عليه وسلم)، تغايرن وأردن زيادة في كسوة ونفقة، فنزلت. ولما نصر الله نبيه وفرق عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلى والحلل والإماء والخول، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق. وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن؛ وأزواجه إذ ذاك تسع: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمه، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سملة بنت أبي أمية، وهؤلاء من قري 5. ومن غير قري 5: ميمونة بنت الحارث الهلالية
219

وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية.
وقال أبو القاسم الصيرفي: لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، فاختار الآخرة، وأمر بتخيير نسائه ليظهر صدق موافقتهن، وكان تحته عشر نساء، زاد الحميرية، فاخترن الله ورسوله إلا الحميرية. وروي أنه قال لعائشة، وبدأ بها، وكانت أحبهن إليه: (إن ذاكر لك أمرا، ولا عليك أن لا تعجلي فيه تستأمري أبويك). ثم قرأ عليها القرآن، فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، لا تخبر أزواجك أني اخترتك، فقال: (إنما بعثني الله مبلغا ولم يبعثني متعنتا). والظاهر أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها، متعهن رسول الله وطلقهن، وأنه ليس باختيارهن ذلك يقع الفراق دون أن يوقعه هو. وقال الأكثرون: هي آية تخيير، فإذا قال لها: اختاري، فاختارت زوجها، لم يكن ذلك طلاقا. وعن علي: تكون واحدة رجعية، وإن اختارت نفسها، وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول علي؛ وواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها، وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول علي؛ وواحدة رجعية عند الشافعي، وهو قول عمر وابن مسعود؛ وثلاث عند مالك. وأكثر الناس ذهبوا إلى أن الآية في التخيير والطلاق، وهو قول علي والحسن وقتادة، قال هذا القائل. وأما أمر الطلاق فمرجأ، فإن اخترن أنفسهن، نظر هو كيف يسرحهن، وليس فيها تخيير في الطلاق، لأن التخيير يتضمن ثلاث تطليقات، وهو قد قال: * (وأسرحكن سراحا جميلا) *، وليس مع بت الطلاق سراح جميل. انتهى.
والذي يدل عليه ظاهر الآية هو ما ذكرناه أولا من أنه علق على إرادتهن زينة الحياة الدنيا وقوع التمتيع والتسريح منه، والمعنى في الآية: أنه كان عظيم همكن ومطلبكن التعمق في الدنيا ونيل نعيمها وزينتها.
وتقدم الكلام في: * (فتعالين) * في قوله تعالى: * (قل تعالوا * ندع أبناءنا وأبناءكم) * في آل عمران. * (أمتعكن) *، قيل: المتعة واجبة في الطلاق؛ وقيل: مندوب إليها. والأمر في قوله: * (ومتعوهن) * يقتضي الوجوب في مذهب الفقهاء، وتقدم الكلام في ذلك، وفي تفصيل المذاهب في البقرة. والتسريح الجميل إما في دون البيت، أو جميل الثناء، والمعتقد وحسن العشرة إن كان تاما. وقرأ الجمهور: * (أمتعكن) *، بالتشديد من متع؛ وزيد بن علي: بالتخفيف من أمتع، ومعنى * (أعد) *: هيأ ويسر، وأوقع الظاهر موقع المضمر تنبيها على الوصف الذي ترتب لهن به الأجر العظيم، وهو الإحسان، كأنه قال: أعدلكن، لأن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسنا. وقراءة حميد الخراز: * (أمتعكن وأسرحكن) *، بالرفع على الاستئناف؛ والجمهور: بالجزم على جواب الأمر، أو على جواب الشرط، ويكون * (فتعالين) * جملة اعتراض بين الشرط وجزائه، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض، ومثل ذلك قول الشاعر:
* واعلم فعلم المرء ينفعه
*
إن سوف يأتي كل ما قدرا
*
ثم نادى نساء النبي، ليجعلن بالهن مما يخاطبن به، إذا كان أمرا يجعل له البال. وقرأ زيد بن علي، والجحدري، وعمرو بن فائد الأسواري، ويعقوب: تأت، بتاء التأنيث، حملا على معنى من؛ والجمهور: بالياء، حملا على لفظ من. * (بفاحشة مبينة) *: كبيرة من المعاصي، ولا يتوهم أنها الزنا، لعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، من ذلك، ولأنه وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به، وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي، لزمهن بسبب ذلك. وكونهن تحت الرسول أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، والكسائي: * (يضاعف) *، بألف وفتح العين؛ والحسن، وعيسى، وأبو عمرو: بالتشديد وفتح العين؛ والجحدري، وابن كثير، وأبو عامر: بالنون وشد العين مكسورة؛ وزيد بن علي، وابن محيصن، وخارجة، عن أبي عمرو: بالألف والنون والكسر؛ وفرقة: بياء الغيبة والألف والكسر. ومن فتح العين رفع * (العذاب) *، ومن كسرها نصبه. * (ضعفين) *: أي عذابين، فيضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر. وقال أبو
220

عبيدة، وأبو عمرو فيما حكى الطبري عنهما: إنه يضاف إلى العذاب عذابان، فتكون ثلاثة. وكون الأجر مرتين بعد هذا القول، لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة. * (وكان ذالك) *: أي تضعيف العذاب عليهن، * (على الله يسيرا) *: أي سهلا، وفيه إعلام بأن كونهن نساء، مع مقارفة الذنب، لا يغني عنهن شيئا، وهو يغني عنهن، وهو سبب مضاعفة العذاب.
* (ومن يقنت) *: أي يطع ويخضع بالعبودية لله، وبالموافقة لرسوله. وقرأ الجمهور: ومن يقنت بالمذكر، حملا على لفظ من، وتعمل بالتاء حملا على المعنى. * (نؤتها) *: بنون العظمة. وقرأ الجحدري، والأسواري، ويعقوب، في رواية: ومن تقنت بتاء التأنيث، حملا على المعنى، وبها قرأ ابن عامر في رواية، ورواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع. وقال ابن خالويه: ما سمعت أن أحدا قرأ: ومن يقنت، إلا بالتاء. وقرأ السلمي، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: بياء من تحت في ثلاثتها. وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ: ومن يقنت بالياء، حملا على المعنى، ويعمل بالياء حملا على لفظ من قال؛ فقال بعض النحويين: هذا ضعيف، لأن التذكير أصل لا يجعل تبعا للتأنيث، وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن، وهو قوله تعالى: * (خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) *. انتهى. وتقدم الكلام على * (خالصة) * في الأنعام. والرزق الكريم: الجنة. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون في ذلك وعد دنياوي، أي أن أرزاقها في الدنيا على الله، وهو كريم من حيث هو حلال وقصد، وبرضا من الله في نيله. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا، ثم عذاب الآخرة؛ وكذلك الأجر، وهو ضعيف. انتهى. وإنما ضوعف أجرهن لطلبهن رضا رسول الله، بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة والتوقر على عبادة الله.
* (كريما يانساء النبى لستن كأحد من النساء) *: أي ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء، أي من نساء عصرك. وليس النفي منصبا على التشبيه في كونهن نسوة. تقول: ليس زيد كآحاد الناس، لا تريد نفي التشبيه عن كونه إنسانا، بل في وصف أخص موجود فيه، وهو كونه عالما، أو عاملا، أو مصليا. فالمعنى: أنه يوجد فيكن من التمييز ما لا يوجد في غيركن، وهو كونكن أمهات المؤمنين وزوجات خير المرسلين. ونزل القرآن فيكن، فكما أنه عليه السلام ليس كأحد من الرجال، كما قال عليه السلام: (لست كأحدكم)، كذلك زوجاته اللاتي تشرفن به. وقال الزمخشري: أحد في الأصل بمعنى وحد، وهو الواحد؛ ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه، والمعنى: لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة، لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومنه قوله عز وجل: * (والذين ءامنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم) *، يريد بين جماعة واحدة منهم، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين. انتهى. أما قوله: أحد في الأصل بمعنى: وحد، وهو الواحد فصحيح. وأما قوله: ثم وضع، إلى قوله: وما وراءه، فليس بصحيح، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحدا، لأن واحد ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة، وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل. وذكر النحويون أن مادته همزة وحاء ودال، ومادة أحد بمعنى وحد أصله واو وحاء ودال، فقد اختلفا مادة ومدلولا. وأما قوله: * (لستن) * كجماعة واحدة، فقد قلنا: إن قوله * (لستن) * معناه: ليست كل واحدة منكن، فهو حكم على كل واحدة واحدة، ليس حكما على المجموع من حيث هو مجموع. وقلنا: إن معنى كأحد: كشخص واحد، فأبقينا أحدا على موضوعه من التذكير، ولم نتأوله بجماعة واحدة. وأما * (ولم يفرقوا بين أحد منهم) *، فاحتمل أن يكون الذي للنفي العام،
ولذلك جاء في سياق النفي، فعم وصلحت البينية للعموم. واحتمل أن يكون أحد بمعنى واحد، ويكون قد حذف معطوف، أي بين واحد وواحد من رسله، كما قال الشاعر:
* فما كان بين الخير لوجا سالما
*
أبو حجر ألا ليال قلائل
*
221

أي: لستن مثلهن إن اتقيتن الله، وذلك لما انضاف مع تقوى الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في بيتهن وفي حقهن. وقال الزمخشري: * (إن اتقيتن) *: إن أردتن التقوى، وإن كن متقيات. * (فلا تخضعن بالقول) *: فلا تجبن بقولكن خاضعا، أي لينا خنثا، مثل كلام المريبات والمومسات. * (فيطمع الذى فى قلبه مرض) *: أي ريبة وفجورا. انتهى. فعلى القول الأول يكون * (إن اتقيتن) * قيدا في كونهن لسن كأحد من النساء، ويكون جواب الشرط محذوفا. وعلى ما قاله الزمخشري، يكون * (ءان) * ابتداء شرط، وجوابه * (اتقيتن فلا تخضعن) *، وكلا القولين فيهما حمل. * (إن اتقيتن) * على تقوى الله تعالى، وهو ظاهر الاستعمال، وعندي أنه محمول على أن معناه: إن استقبلتن أحدا، * (فلا تخضعن) *. واتقى بمعنى: استقبل معروف في اللغة، قال النابغة:
* سقط النصيف ولم تردا إسقاطه
*
فتناولته واتقتنها باليد
*
أي: استقبلتنا باليد، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن، إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى، ولا علق نهيهن عن الخضوع بها، إذ هن متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى. قال ابن عباس: لا ترخصن بالقول. وقال الحسن: لا تكلمن بالرفث. وقال الكلبي: لا تكلمن بما يهوى المريب. وقال ابن زيد: الخضوع بالقول ما يدخل في القلب الغزل. وقيل: لا تلن للرجال القول. أمر تعالى أن يكون الكلام خيرا، لا على وجه يظهر في القلب علاقة ما يظهر عليه من اللين، كما كان الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم الصوت ولينه، مثل كلام المومسات، فنهاهن عن ذلك، وقال الشاعر:
* يتكلم لو تستطيع كلامه
*
لانت له أروى الهضاب بالصخر
*
وقال آخر:
* لو أنها عرضت لأشمط راهب
*
عبد الإله ضرورة المتعبد
*
* لرنا لرؤيتها وحسن حديثها
*
ولحالها رشدا وإن لم يرشد
*
وقرأ الجمهور: * (فيطمع) *، بفتح الميم ونصب العين، جوابا للنهي؛ وأبان بن عثمان، وابن هرمز: بالجزم، فكسرت العين لالتقاء الساكنين، نهين عن الخضوع بالقول، ونهى مريض القلب عن الطمع، كأنه قيل: لا تخضع فلا تطمع. وقراءة النصب أبلغ، لأنها تقتضي الخضوع بسبب الطمع. وقال أبو عمر والداني: قرأ الأعرج وعيسى: فيطمع، بفتح الياء وكسر الميم. ونقلها ابن خالويه عن أبي السماء، قال: وقد روي عن ابن محيصن، وذكر أن الأعرج، وهو ابن هرمز، قرأ: فيطمع،
222

بضم الياء وفتح العين وكسر الميم، أي فيطمع هو، أي الخضوع بالقول؛ والذي مفعول، أو الذي فاعل والمفعول محذوف، أي فيطمع نفسه. والمرض، قال قتادة: النفاق؛ وقال عكرمة: الفسق الغزل. * (وقلن قولا معروفا) *: والمحرم، وهو الذي لا تنكره الشريعة ولا العقول. قال ابن عباس: المرأة تندب إذا خالطت الأجانب، عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول من غير رفع الصوت، فإنهما مأمورة بخفض الكلام. وقال الكلبي: معروفا صحيحا، بلا هجر ولا تمريض. وقال
الضحاك: عنيفا؛ وقيل: خشنا حسنا؛ وقيل: معروفا، أي قولا أذن لكم فيه؛ وقيل: ذكر الله وما يحتاج إليه من الكلام.
وقرأ الجمهور: وقرن، بكسر القاف، من وقر يقر إذا سكن وأصله، أو قرن، مثل عدن من وعد. وذكر أبو الفتح الهمداني، في كتاب التبيان، وجها آخر قال: قاريقار، إذا اجتمع، ومنه القارة لاجتماعها. ألا ترى إلى قول عضل والديش: اجتمعوا فكونوا قارة؟ فالمعنى: اجمعن أنفسكن في بيوتكن. * (وقرن) *: أمر من قار، كما تقول: خفن من خاف؛ أو من القرار، تقول: قررت بالمكان، وأصله: واقررن، حذفت الراء الثانية تخفيفا، كما حذفوا لام ظللت، ثم نقلت حركتها إلى القاف فذهبت ألف الوصل. وقال أبو علي: أبدلت الراء ونقلت حركتها إلى القاف، ثم حذفت الياء لسكوتها وسكون الراء بعدها. انتهى، وهذا غاية في التحميل كعادته. وقرأ عاصم ونافع: بفتح القاف، وهي لغة العرب؛ يقولون: قررت بالمكان، بكسر الراء وبفتح القاف، حكاه أبو عبيد والزجاج وغيرهما، وأنكرها قوم، منهم المازني، وقالوا: بكسر الراء، من قرت العين، وبفتحها من القرار. وقرأ ابن أبي عبلة: واقررن، بألف الوصل وكسر الراء الأولى. وتقدم لنا الكلام على قررت، وأنه بالفتح والكسر من القرار ومن القرة. أمرهن تعالى بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم تعالى أنه فعل الجاهلية الأولى، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية بكت حتى تبل خمارها، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان. وقيل لسودة: لم لا تحجين وتعتمرين كما يفعل إخوانك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي، فما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها.
* (ولا تبرجن) *، قال مجاهد وقتادة: التبرج: التبختر والتغنج والتكسر. وقال مقاتل: تلقي الخمار على وجهها ولا تشده. وقال المبرد: تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره. و * (الجاهلية الاولى) *: يدل على أن ثم جاهلية متقدمة وأخرى متأخرة. فقيل: هما ابنان لآدم، سكن أحدهما الجبل، فذكور أولاده صباح وإناثهم قباح؛ والآخر السهل، وأولادوه على عكس ذلك. فسوى لهم إبليس عيدا يجتمع جميعهم فيه، فمال ذكور الجبل إلى إناث السهل وبالعكس، فكثرت الفاحشة، فهو تبرج الجاهلية الأولى. وقال عكرمة والحكم بن عيينة: ما بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة، كان الرجال صباحا والنساء قباحا، فكانت المرأة تدعو الرجل إلى نفسها. وقال ابن عباس أيضا: الجاهلية الأولى ما بين إدريس ونوح، كانت ألف سنة، تجمع المرآة بين زوج وعشيق. وقال الكلبي وغيره: ما بين نوح وإبراهيم. قال مقاتل: زمن نمروذ، بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في الطرق. وقال الزمخشري: والجاهلية الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم. كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقال أبو العالية: من داود وسليمان، كان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين، يظهر منه الأكعاب والسوأتان. وقال المبرد: كانت المرأة تجمع بين زوجها وحلمها، للزوج نصفها الأسفل، وللحلم نصفها، يتمتع به في التقبيل والترشف. وقيل: ما بين موسى وعيس. وقال الشعبي: ما بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام. وقال مقاتل: الأولى زمن إبراهيم، والثانية زمن محمد، عليه الصلاة والسلام، وقال عمر لابن عباس: وهل كانت الجاهلية إلا واحدة؟ فقال ابن عباس: وهل كانت الأولى إلا ولها آخرة؟ فقال عمر: لله درك يا ابن عباس.
وقال الزمخشري: والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام قبل ان يبعث، وقال الزجاج: الأشبه قول الشعبي لأنهم هم الجاهلية المعروفون
223

كانوا يتخذون البغايا وانما قيل الأولى لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم) فهم أولى وهم أول من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) ويجوز أن يكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكان المعنى: ولا يجد كن بالتبرج جاهلية في الإسلام يتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر. ويعضده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال لأبي الدرداء: (إن فيك جاهلية)، قال: جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال: (بل جاهلية كفر). انتهى. والمعروف في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام إنما قال: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، لأبي ذر، رضي الله عنه. وقال ابن عطية: والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي خصها، فأمرن بالنقلة من سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر، ولأنهم كانوا إلا غيرة عندهم، وكان أمر النساء دون حجبة، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى. وقد مر إطلاق اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء. وقال ابن عباس في البخاري: سمعت، أي في الجاهلية إلى غير هذا. انتهى.
* (وقرن فى) *: أمرهن أمرا خاصا بالصلاة والزكاة، إذ هما عمود الطاعة البدنية والمالية، ثم جاء بهما في عموم الأمر بالطاعة، ثم بين أن نهيهن وأمرهن ووعظهن إنما هو لإذهاب المأثم عنهن وتصونهن بالتقوى. واستعار الرجس للذنوب، والطهر للتقوى، لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها ويتلوث، كما يتلوث بدنه بالأرجاس. وأما الطاعات، فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر، وفي هذه الاستعارة تنفير عما نهى الله عنه، وترغيب فيما أمر به. والرجس يقع على الإثم، وعلى العذاب، وعلى النجاسة، وعلى النقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت. وقال الحسن: الرجس هنا: الشرك. وقال السدي: الإثم. وقال ابن زيد: الشيطان. وقال الزجاج: الفسق؛ وقيل: المعاصي كلها، ذكره الماوردي. وقيل: الشك؛ وقيل: البخل والطبع؛ وقيل: الأهواء والبدع. وانتصب أهل على النداء، أو على المدح، أو على الاختصاص، وهو قليل في المخاطب، ومنه.
بل الله نرجو الفضل
وأكثر ما يكون في المتكلم، وقوله:
* نحن بنات طارق
*
نمشي على النمارق
*
ولما كان أهل البيت يشملهن وآباءهن، غلب المذكر على المؤنث في الخطاب في: * (عنكم) *، * (ويطهركم) *. وقول عكرمة، ومقاتل، وابن السائب: أن أهل البيت في هذه الآية مختص بزوجاته عليه السلام ليس بجيد، إذ لو كان كما قالوا، لكان التركيب: عنكن ويطهركن، وإن كان هذا القول مرويا عن ابن عباس، فلعله لا يصح عنه. وقال أبو سعيد الخدري: هو خاص برسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين. وروي نحوه عن أنس وعائشة وأم سلمة. وقال الضحاك: هم أهله وأزواجه. وقال زيد بن أرقم، والثعلبي: بنو هاشم الذين يحرمون الصدقة آل عباس، وآل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، ويظهر أنهم زوجاته وأهله، فلا تخرج الزوجات عن أهل البيت، بل يظهر أنهن أحق بهذا الاسم لملازمتهن بيته، عليه الصلاة والسلام. وقال ابن عطية: والذي يظهر أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة، فأهل البيت: زوجاته وبنته وبنوها وزوجها. وقال الزمخشري: وفي هذا دليل على أن نساء النبي من أهل بيته. ثم ذكر لهن أن بيوتهن مهابط
224

الوحي، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين: وهو آيات بينات تدل على صدق النبوة، لأنه معجز بنظمه، وهو حكمة وعلوم وشرائع. * (إن الله كان لطيفا خبيرا) *، حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم، أو علم من يصلح لنبوته ومن يصلح لأن تكونوا أهل بيته، أو حيث جعل الكلام جامعا بين الغرضين. انتهى. واتصال * (واذكرن) * بما قبله يدل على أنهن من البيت، ومن لم يدخلهن قال: هي ابتداء مخاطبة. * (واذكرن) *، إما بمعنى احفظن وتذكرنه، وإما اذكرنه لغيركن واروينه حتى ينقل. و * (من آيات الله) *: هو القرآن، * (والحكمة) *: هي ما كان من حديثه وسنته، عليه الصلاة والسلام، غير القرآن، ويحتمل أن يكون وصفا للآيات. وفي قوله: * (لطيفا) *، تليين، وفي * (خبيرا) *، تحذير ما. وقرأ زيد بن علي: ما تتلى بتاء التأنيث، والجمهور: بالياء.
وروي أن نساءه عليه الصلاة والسلام، قلن: يا رسول الله، ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكرنا؛ وقيل: السائلة أم سلمة. وقيل: لما نزل في نسائه ما نزل، قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء، فنزلت: * (إن المسلمين) * الآية، وهذه الأوصاف العشرة تقدم شرحها، فبدأ أولا بالانقياد الظاهر، ثم بالتصديق، ثم بالأوصاف التي بعدهما تندرج في الإسلام وهو الانقياد، وفي الإيمان وهو التصديق، ثم ختمها بخلة المراقبة وهي ذكر الله كثيرا. ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقا إلا في قوله: * (والحافظين فروجهم والذكرين الله كثيرا) *، نص على متعلق الحفظ لكونه منزلة العقلاء ومركب الشهوة الغالبة، وعلى متعلق الذكر بالاسم الأعظم، وهو لفظ الله، إذ هو العلم المحتوي على جميع أوصافه، ليتذكر المسلم من تذكره، وهو الله تعالى، وحذف من الحافظات والذاكرات المفعول لدلالة ما تقدم، والتقدير: والحافظاتها والذاكراته. * (أعد الله لهم) *: غلب الذكور، فجمع الإناث معهم وأدرجهم في الضمير، ولم يأت التركيب لهم ولهن.
* (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله) *.
قال الجمهور، وابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم: خطب الرسول لزيد زينب بنت جحش، فأبت وقالت: لست بناكحة، فقال: (بلى فأنكحيه فقد رضيته لك)، فأبت، فنزلت. وذكر أنها وأخاها عبد الله كرها ذلك، فلما نزلت الآية رضيا. وقال ابن زيد: وهبت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول امرأة وهبت للنبي صلى الله عليه وسلم) نفسها، فقال: (قد قبلتك وزوجتك زيد بن حارثة)، فسخطت هي وأخوها، قالا: إنما أردناه فزوجنا عبده، فنزلت، والسبب الأول أصح. ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر تلك الأوصاف السابقة من الإسلام فما بعده، عقب ذلك بما صدر من بعض المسلمين، إذ أشار الرسول بأمر وقع منهم الإباء له، فأنكر عليهم، إذ طاعته، عليه السلام، من طاعة الله، وأمره من أمره.
و * (الخيرة) *: مصدر من تخير على غير قياس، كالطيرة من تطير. وقرئ: بسكون الياء، ذكره عيسى بن سليمان. وقرأ الحرميان، والعربيان، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، وعيسى: أن تكون، بتاء التأنيث؛ والكوفيون، والحسن، والأعمش، والسلمي: بالياء. ولما كان قوله: * (لمؤمن ولا مؤمنة) *
225

يعم في سياق النفي، جاء الضمير مجموعا على المعنى في قوله: * (لهم) *، مغلبا فيه المذكر على المؤنث. وقال الزمخشري: كان من حق الضمير أن يوحد، كما تقول: ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. انتهى. ليس كما ذكر، لأن هذا عطف بالواو، فلا يجوز إفراد الضمير إلا على تأويل الحذف، أي: ما جاءني من رجل إلا كان من شأنه كذا، وتقول: ما جاء زيد ولا عمرو إلا ضربا خالدا، ولا يجوز إلا ضرب إلا على الحذف، كما قلنا.
* (وإذ تقول) *: الخطاب للرسول، عليه السلام. * (للذى أنعم الله عليه) *، بالإسلام، وهو أجل النعم، وهو زيد بن حارثة الذي كان الرسول تبناه. * (وأنعمت عليه) *: وهو عتقه، وتقدم طرف من قصته في أوائل السورة. * (أمسك عليك زوجك) *: وهي زينب بنت جحش، وتقدم أن الرسول كان خطبها له. وقيل: أنعم الله عليه بصحبتك ومودتك، وأنعمت عليه بتبنيه. فجاء زيد فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: (أرا بك منها شيء) قال: لا والله ولكنها تعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال: (* (أمسك عليك زوجك) *)، أي لا تطلقها، وهو أمر ندب، (* (واتق الله) * في معاشرتها). فطلقها، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بعد انقضاء عدتها. وعلل تزويجه إياها بقوله: * (لكى لا يكون على المؤمنين حرج) * في أن يتزوجوا زوجات من كانوا تبنوه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم في قوله: * (وحلائل أبنائكم) *.
وقال علي بن الحسين: كان قد أوحى الله إليه أن زيدا سيطلقها، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها. فلما شكا زيد خلقها، وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنه يريد طلاقها، قال: له (* (أمسك عليك زوجك واتق الله) *)، على طريق الأدب والوصية، وهو يعلم أنه سيطلقها. وهذا هو الذي أخفي في نفسه، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق. ولما علم من أنه سيطلقها، وخشي رسول الله أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد
أباحه الله بأن قال؛ * (أمسك) *، مع علمه أنه يطلق، فأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال. انتهى. وهذا المروي عن علي بن الحسين، هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهري، وبكر بن العلاء، والقشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. والمراد بقوله: * (وتخشى الناس) *، إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم) معصوم في حركاته وسكناته. ولبعض المفسرين كلام في الآية يقتضي النقص من منصب النبوة، ضربنا عنه صفحا. وقيل؛ قوله * (واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه) *: خطاب من الله عز وجل، أو من النبي صلى الله عليه وسلم) لزيد، فإنه أخفى الميل إليها، وأظهر الرغبة عنها، لما توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أراد أن تكون من نسائه. انتهى.
وللزمخشري: في هذه الآية كلام طويل، وبعضه لا يليق ذكره بما فيه غير صواب مما جرى فيه على مذهب الاعتزال وغيره، واخترت منه ما أنصه. قال: كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيي من اطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله. وربما كان الدخول في ذلك المباح سلما إلى حصول واجبات، لعظم أثرها في الدين، ويجل ثوابها، ولو لم يتحفظ منه، لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم، إلا من أوتي فضلا وعلما ودينا ونظرا في حقائق الأشياء ولبابها دون قشورها. ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يديمون مستأنسين بالحديث. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يؤذيه قعودهم، ويضيق صدره حديثهم، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار حتى نزلت: * (يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم إلى) *. ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم) مكنون ضميره، وأمرهم أن ينتشروا، لشق عليهم، ولكان بعض المقالة. فهذا من ذلك القبيل، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته، من امرأة أو غيرها، غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع. وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضا، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه. ولم يكن مستنكرا عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه، ولا مستهجنا إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر. فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة، استهم الأنصار بكل شيء، حتى أن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر. وإذا كان الأمر مباحا من جميع جهاته، ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح، ولا مفسدة ولا مضرة بزيد ولا بأحد، بل كان مستجرا مصالح؛ ناهيك
226

بواحدة منها: أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أما من أمهات المؤمنين، إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامة في قوله: * (لكى لا يكون) * الآية. انتهى ما اخترناه من كلام الزمخشري. وقوله: * (أمسك عليك) * فيه وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد، فهو كقوله:
هون عليك ودع عنك نهيا صيح في حجراته
وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان، ولا يجوز أن يكونا حرفين، لامتناع فكر فيك، وأعني بك، بل هذا مما يكون فيه النفس، أي فكر في نفسك، وأعني بنفسك، وقد تكلمنا على هذا في قوله: * (أنزلنا إليك) *، * (واضمم إليك جناحك) *. وقال الحوفي: * (وتخفى فى نفسك) *: مستأنف، * (وتخشى) *: معطوف على وتخفي. وقال الزمخشري: واو الحال، أي تقول لزيد: * (أمسك عليك زوجك) *، مخفيا في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفي خاشيا قاله الناس، أو واو العطف، كأنه قيل: وأن تجمع بين قولك: * (أمسك) *، وإخفاء قالة، وخشية الناس. انتهى. ولا يكون * (وتخفى) * حالا على إضمار مبتدأ، أي وأنت تخفي، لأنه مضارع مثبت، فلا يدخل عليه الواو إلا على ذلك الإضمار، وهو مع ذلك قليل نادر، لا يبنى على مثله القواعد؛ ومنه قولهم: قمت وأصك عينه، أي وأنا أصك عينه. * (والله أحق أن تخشاه) *: تقدم إعراب نظيره في التوبة.
* (فلما قضى زيد منها وطرا) *: أي حاجة، قيل: وهو الجماع، قاله ابن عباس. وروي أبو عصمة: نوح ابن أبي مريم، بإسناد رفعه إلى زينب أنها قالت: ما كنت أمتنع منه، غير أن الله منعني منه. وقيل: إنه مذ تزوجها لم يتمكن من الاستمتاع بها. وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقر بها. وقال قتادة: الوطر هنا: الطلاق. وقرأ الجمهور: * (زوجناكها) *، بنون العظمة؛ وجعفر بن محمد، وابن الحنفية، وأخواه الحسن والحسين، وأبوهم علي: زوجتكها، بتاء الضمير للمتكلم. ونفى تعالى الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج النبين في تحريمهن عليهن بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن. * (وكان أمر الله) *: أي مقتضى أمر الله، أو مضمن أمره. قال ابن عطية: وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل. وقال الزمخشري: * (وكان أمر الله) * الذي يريد أن يكونه، * (مفعولا) *: مكونا لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم) زينب. ويجوز أن يراد بأمر الله المكون، لأنه مفعول يكن. ولما نفى الحرج عن المؤمنين فيما ذكر، واندرج الرسول فيهم، إذ هو سيد المؤمنين، نفى عنه الحرج بخصوصه، وذلك على سبيل التكريم والتشريف، ونفى الحرج عنه مرتين، إحداهما بالاندراج في العموم، والأخرى بالخصوص.
* (فيما فرض الله له) *، قال الحسن: فيما خص به من صحة النكاح بلا صداق. وقال قتادة: فيما أحل له. وقال الضحاك: في الزيادة على الأربع، وكانت اليهود عابوه بكثرة النكاح وكثرة الأزواج، فرد الله عليهم بقوله: * (سنة الله) *: أي في الأنبياء بكثرة النساء، حتى كان لسليمان، عليه السلام، ثلاثمائة حرة وسبعماى ة سرية، وكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية. وقيل: الإشارة إلى أن الرسول جمع بينه وبين زينب، كما جمع بين داود وبين التي تزوجها بعد قتل زوجها. وانتصب * (سنة الله) * على أنه اسم موضوع موضع المصدر، قاله الزمخشري؛ أ على المصدر؛ أو على إضمار فعل تقديره: ألزم أو نحوه، أو على الإغراء، كأنه قال: فعليه سنة الله. قال ابن عطية: وقوله: أو على الإغراء، ليس بجيد، لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه،
227

وأيضا فتقديره: فعليه سنة الله بضمير الغيبة، ولا يجوز ذلك في الإغراء، إذ لا يغرى غائب. وما جاء من قولهم: عليه رجلا، ليسنى له تأويل، وهو مع ذلك نادر.
و * (الذين خلوا) *: الأنبياء، بدليل وصفهم بعد قوله: * (الذين يبلغون رسالات الله) *. * (وكان أمر الله) *: أي مأموراته، والكائنات من أمره، فهي مقدورة. وقوله: * (قدرا) *: أي ذا قدر، أو عن قدر، أو قضاء مقضيا وحكما مثبوتا. و * (الذين) *: صفة الذين خلوا، أو مرفوع، أو منصوب على إضمارهم، أو على أمدح. وقرأ عبد الله: الذين بلغوا، جعله فعلا ماضيا. وقرأ أبي: رسالة الله على التوحيد؛ والجمهور: يبلغون رسالات جمعا. * (وكفى بالله حسيبا) *: أي محاسبا على جميع الأعمال والعقائد، أو محسبا: أي كافيا.
ثم نفى تعالى كون رسوله * (أبا أحد من رجالكم) *، بينه وبين من تبناه من حرمة الصهارة والنكاح ما يثبت بين الأب وولده. هذا مقصود هذه الجملة، وليس المقصود أنه لم يكن له ولد، فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين. وإضافة رجالكم إلى ضمير المخاطبين يخرج من كان من بنيه، لأنهم رجاله، لا رجال المخاطبين. وقرأ الجمهور؛ * (ولاكن رسول) *، بتخفيف لكن ونصب رسول على إضمار كان، لدلالة كان المتقدمة عليه؛ قيل: أو على العطف على * (أبا أحد) *. وقرأ عبد الوارث، عن أبي عمرو: بالتشديد والنصب على أنه خبر لكن، والخبر محذوف تقديره: * (ولاكن رسول الله وخاتم النبيين) * هو، أي محمد صلى الله عليه وسلم). وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه الدليل. ومما جاء في ذلك قول الشاعر:
* فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي
*
ولكن زنجيا عظيم المشافر
*
أي: أنت لا تعرف قرابتي. وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة: بالتخفيف، ورفع ورسوله وخاتم، أي ولكن هو رسول الله، كما قال الشاعر:
* ولست الشاعر السقاف فيهم
*
ولكن مدرة الحرب العوال
*
أي: لكن أنا مدرة. وقرأ الجمهور: * (* خاتم) *، بكسر التاء، بمعنى أنه ختمهم، أي جاء آخرهم. وروي عنه أنه قال: أنا خاتم نبي، وعنه: أنا خاتم النبيين في حديث واللبنة. وروي عنه، عليه السلام، ألفاظ تقتضي نصا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم)، والمعنى أن لا يتنبأ أحد بعده، ولا يرد نزول عيسى آخر الزمان، لأنه ممن نبىء قبله، وينزل عاملا على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم) مصليا إلى قبلته كأنه بعض أمته. قال ابن عطية: وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية، من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف، وما ذكره الغزالي في هذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد، وتطرق إلى ترك تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم) النبوة، فالحذر الحذر منه، والله الهادي برحمته. وقرأ الحسن، والشعبي، وزيد بن علي، والأعرج: بخلاف؛ وعاصم: بفتح التاء بمعنى: أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم.
ومن ذهب
228

إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولي أفضل من النبي، فهو زنديق يجب قتله. وقد ادعى النبوة ناس، فقتلهم المسلمون على ذلك. وكان في عصرنا شخص من الفقراء ادعى النبوة بمدينة مالقة، فقتله السلطان بن الأحمر، ملك الأندلس بغرناطة، وصلب إلى أن تناثر لحمه.
* (النبيين وكان الله بكل شىء عليما) *: هذا عام، والقصد هنا علمه تعالى بما رآه الأصلح لرسوله، وبما قدره في الأمر كله، ثم أمر المؤمنين بذكره بالثناء عليه وتحميده وتقديسه، وتنزيهه عما لا يليق به. والذكر الكثير، قال ابن عباس: أن لا ينساه أبدا، أو التسبيح مندرج في الذكر، لكنه خص بأنه ينزهه تعالى عما لا يليق به، فهو أفضل، أو من أفضل الأذكار. وعن قتادة: قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وعن مجاهد: هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب. و * (بكرة وأصيلا) *: يقتضيهما اذكروا وسبحوا، والنصب بالثاني على طريق الإعمال، والوقتان كناية عن جميع الزمان، ذكر الطرفين إشعار بالاستغراق. وقال ابن عباس: أي صلوا صلاة الفجر والعشاء. وقال الأخفش: ما بين العصر إلى العشاء. وقال قتادة: الإشارة بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر؛ ويجوز أن يكون الأمر بالذكر وإكثارة تكثير الطاعات والإقبال على الطاعات، فإن كل طاعة وكل خير من جملة الذكر. ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا، وهي الصلاة في جميع أوقاتها، تفضل الصلاة غيرها، أو صلاة الفجر والعشاء، لأن أداءهما أشق.
ولما أمرهم بالذكر والتسبيح، ذكر إحسانه تعالى بصلاته عليهم هو وملائكته. قال الحسن: * (يصلى عليكم) *: يرحمكم. وقال ابن جبير: يغفر لكم. وقال أبو العالية يثني عليكم. وقيل: يترأف بكم. وصلاة الملائكة الاستغفار، كقوله تعالى: * (ويستغفرون للذين ءامنوا) *. وقال مقاتل: الدعاء، والمعنى: هو الذي يترحم عليكم، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار الذكر والطاعة، ليخرجكم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة. وقال ابن زيد: من الضلالة إلى الهدى. وقال مقاتل: من الكفر إلى الإيمان. وقيل: من النار إلى الجنة، حكاه الماوردي. وقيل: من القبور إلى البعث. * (وملئكته) *: معطوف على الضمير المرفوع المستكن في * (يصلى) *، فأغنى الفصل بالجار والمجرور عن التأكيد، وصلاة الله غير صلاة الملائكة، فكيف اشتركا في قدر مشترك؟ وهو إرادة وصول الخير إليهم. فالله
تعالى يريد برحمته إياهم إيصال الخير إليهم، وملائكته يريدون بالاستغفار ذلك. وقال الزمخشري: جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة، كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة، ونظيره قولهم: حياك الله: أي أحياك وأبقاك، وحييتك: أي دعوت لك بأن يحييك الله، لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة؛ وكذلك عمرك الله وعمرتك، وسقاك الله وسقيتك، وعليه قوله؛ * (إن الله وملائكته يصلون على النبى ياأيها * أيها * الذين ءامنوا صلوا عليه) *: أي ادعوا له بأن يصلى عليه. * (وكان بالمؤمنين رحيما) *: دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة. انتهى. وما ذكره من قوله، كأنهم فاعلون فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، وما ذكرناه من أن الصلاتين اشتركتا في قدر مشترك أولى.
* (تحيتهم يوم يلقونه) *: أي يوم القيامة. * (سلام) *: أي تحية الله لهم. يقول للمؤمنين: السلام عليكم، مرحبا بعبادي الذين أرضوني باتباع أمري، قاله الرقاشي. وقيل: يحييهم الملائكة بالسلامة من كل مكروه. وقال البراء بن عازب: معناه أن ملك الموت لا يقبض روح المؤمن حتى يسلم عليه. وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال: ربك يقرؤك السلام، قيل: فعلى هذا الهاء في قوله: * (يلقونه) * كناية عن غير مذكور، وقيل: سلام الملائكة عند خروجهم من القبور. وقال قتادة: يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضا بالسلام، أي سلمنا وسلمت من كل مخوف. وقيل: تحييهم الملائكة يومئذ. وقيل: هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم، وبشارتهم بالجنة. والتحية مصدر في هذه الأقوال أضيف إلى المفعول، إلا في قول من قال إنه مصدر مضاف للمحيي والمحيا، لا على جهة العمل، لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلا مفعولا، ولكنه كقوله: * (وكنا لحكمهم شاهدين) *: أي للحكم الذي جرى بينهم، وليبعث إليهم، فكذلك هذه التحية الجارية بينهم هي سلام. وفرق المبرد بين
229

التحية والسلام فقال: التحية يكون ذلك دعاء، والسلام مخصوص، ومنه: * (ويلقون فيها تحية وسلاما) *. والأجر الكريم: الجنة، * (شاهدا) * على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي مفعولا قولك عند الله، وشاهدا بالتبليغ إليهم، وبتبليغ الأنبياء قولك. وانتصب * (شاهدا) * على أنه حال مقدرة، إذا كان قولك عند الله وقت الإرسال لم يكن شاهدا عليهم، وإنما يكون شاهدا عند تحمل الشهادة وعند أدائها، أو لأنه أقرب زمان البعثة، وإيمان من آمن وتكذيب من كذب كان ذلك وقع في زمان واحد.
* (وداعيا إلى الله) *، قال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن عيسى: إلى الطاعة. * (بإذنه) *: أي بتسهيله وتيسيره، ولا يراد به حقيقة الإذن، لأنه قد فهم في قوله: إنا أرسلناك داعيا أنه مأذون له في الدعاء. ولما كان دعاء المشرك إلى التوحيد صعبا جدا، قيل: بإذنه، أي بتسهيله تعالى. و * (سراجا * منيرا) *: جلي من ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير. ويهتدى به إذا مد الله بنور نبوته نور البصائر، كما يمد بنور السراج نور الأبصار. ووصفه بالإنارة، لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وقال الزجاج: هو معطوف على * (شاهدا) *، أي وذا سراج منير، أي كتاب نير. وقال الفراء: إن شئت كان نصبا على معنى: وتاليا سراجا منيرا. وقال الزمخشري؛ ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف * (أرسلناك) *. انتهى. ولا يتضح هذا الذي قاله، إذ يصير المعنى: أرسلنا ذا سراج منير، وهو القرآن. ولا يوصف بالإرسال القرآن، إنما يوصف بالإنزال. وكذلك أيضا إذا كان التقدير: وتاليا، يصير المعنى: أرسلنا تاليا سراجا منيرا، ففيه عطف الصفة التي للذات على الذات، كقولك: رأيت زيدا والعالم. إذا كان العالم صفة لزيد، والعطف مشعر بالتغاير، لا يحسن مثل هذا التخريج في كلام الله، وثم حمل على ما تقتضيه الفصاحة والبلاغة.
ولما ذكر تعالى أنه أرسل نبيه * (شاهدا) * إلى آخره، تضمن ذلك الأمر بتلك الأحوال، فكأنه قال؛ فاشهد وبشر وأنذر وادع وانه، ثم قال؛ * (وبشر المؤمنين) *؛ فهذا متصل بما قبله من جهة المعنى، وإن كان يظهر أنه منقطع من الذي قبله. والفضل الكبير الثواب من قولهم: للعطايا فضول وفواضل، أو المزيد على الثواب. وإذا ذكر المتفضل به وكبره، فما ظنك بالثواب؟ أو ما فضلوا به على سائر الأمم، وذلك من جهته تعالى، أو الجنة وما أوتوا فيها، ويفسره: * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير) *. * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) *: نهى له عليه السلام عن السماع منهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب، وفي أشياء ينتصحون بها وهي غش. * (ودع أذاهم) *: الظاهر إضافته إلى المفعول. لما نهى عن طاعتهم، أمر بتركه إذا يتهم وعقوبتهم، ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف. * (وتوكل على الله) *، فإنه ينصرك ويخذلهم. ويجوز أن يكون مصدرا مضافا للفاعل، أي ودع إذايتهم إياك، أي مجازاة الإذاية من عقاب وغيره حتى تؤمر، وهذا تأويل مجاهد.
* (وكيلا ياأيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن) *.
لما ذكر تعالى قصة زيد وزينب وتطليقه إياها، وكانت مدخولا بها، واعتدت، وخطبها الرسول، عليه السلام، بعد انقضاء عدتها، بين حال من طلقت قبل المسيس، وأنها لا عدة عليها.
ومعنى * (نكحتم) *: عقدتم عليهن. وسمى العقد نكاحا لأنه سبب إليه، كما سميت الخمر إثما لأنها سبب له. قالوا: ولفظ النكاح في كتاب الله لم يرد إلا في العقد، وهو من
230

آداب القرآن؛ كما كنى عن الوطء بالمماسة والملامسة والقربان والتغشي والإتيان، قيل: إلا في قوله: * (حتى تنكح زوجا غيره) *، فإنه بمعنى الوطء، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة. والكتابيات، وإن شاركت المؤمنات في هذا الحكم، فتخصيص المؤمنات بالذكر تنبيه على أن المؤمن لا ينبغي أن يتخير لنطفته إلا المؤمنة. وفائدة المجيء بثم، وإن كان الحكم ثابتا، إن تزوجت وطلقت على الفور، ولمن تأخر طلاقها. قال الزمخشري: نفي التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن
يطلقها، وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح، وتتراخى بها المدة في حيالة الزوج ثم يطلقها. انتهى. واستعمل صلة لمن عسى، وهو لا يجوز، أو لو حظ في ذلك الغالب. فإن من أقدم على العقد على امرأة، إنما يكون ذلك لرغبة، فيبعد أن يطلقها على الفور، لأن الطلاق مشعر بعدم الرغبة، فلا بد أن يتخلل بين العقد والطلاق مهلة يظهر فيها للزوج نأيه عن المرأة، وأن المصلحة في ذلك له. والظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد، ولا يصح طلاق من لم يعقد عليها عينها أو قبيلتها أو البلد، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين. وقالت طائفة كبيرة، منهم مالك: يصح ذلك. والظاهر أن المسيس هنا كناية عن الجماع، وأنه إذا خلا بها ثم طلقها، لا يعقد. وعند أبي حنيفة وأصحابه: حكم الخلوة الصحيحة حكم المسيس. والظاهر أن المطلقة رجعية، إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها، ثم فارقها قبل أن يمسها، لا تتم عدتها من الطلقة الأولى، ولا تستقبل عدة، لأنها مطلقة قبل الدخول، وبه قال داود. وقال عطاء وجماعة: تمضي في عدتها عن طلاقها الأول، وهو أحد قولي الشافعي. وقال مالك: لا تبنى على العدة من الطلاق الأول، وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق الثاني، وهو قول فقهاء جمهور الأمصار. والظاهر أيضا أنها لو كانت بائنا غير مبتوتة، فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول، كالرجعية في قول داود، ليس عليها عدة، لا بقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة الثاني، ولها نصف المهر. وقال الحسن، وعطاء، وعكرمة، وابن شهاب، ومالك، والشافعي، وعثمان البتي، وزفر: لها نصف الصداق، وتتم بقية العدة الأولى. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأبو يونس: لها مهر كامل للنكاح الثاني، وعدة مستقبلة، جعلوها في حكم المدخول بها، لاعتدادها من مائة.
وقرأ الجمهور: * (تعتدونها) *، بتشديد الدال: افتعل من العد، أي تستوفون عددها، من قولك: عد الدراهم فاعتدها، أي استوفى عددها؛ نحو قولك: كلته واكتاله، وزنته فاتزنته. وعن ابن كثير وغيره من أهل مكة: بتخفيف الدال، ونقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي. وقال ابن عطية: وروي عن أبي برزة، عن ابن كثير: بتخفيف الدال من العدوان، كأنه قال: فما لكم عدة تلزمونها عدوانا وظلما لهن، والقراءة الأولى أشهر عن ابن كثير، وتخفيف الدال وهم من أبي برزة. انتهى. وليس بوهم، إذ قد نقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح في شواذ القراءات)، ونقلها الرازي المذكور عن أهل مكة وقال: هو من الاعتداد لا محالة، لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه. فإن جعلت من الاعتداء الذي هو الظلم ضعف، لأن الاعتداء يتعدى بعلى. انتهى. وإذا كان يتعدى بعلى، فيجوز أن لا يحذف على، ويصل الفعل إلى الضمير، نحو قوله:
* تحن فتبدى ما بها من صبابة
*
وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني
أي: لقضى علي. وقال الزمخشري: وقريء: تعتدونها مخففا، أي تعتدون فيها، كقوله: ويوما شهدناه. والمراد بالاعتداء ما في قوله: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا. انتهى. ويعني أنه اتصل بالفعل لما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدة، كقوله:
231

ويوما شهدناه سليما وعامرا
أي: شهدنا فيه. وأما على تقدير على، فالمعنى: تعتدون عليهن فيها. وقرأ الحسن: بإسكان العين كغيره، وتشديد الدال جمعا بين الساكنين. وقوله: * (فما لكم) * يدل على أن العدة حق الزوج فيها غالب، وإن كانت لا تسقط بإسقاطه، لما فيه من حق الله تعالى. والظاهر أن من طلقت قبل المسيس لها المتعة مطلقا، سواء كانت ممدودة أم مفروضا لها. وقيل: يختص هذا الحكم بمن لا مسمى لها. والظاهر أن الأمر في * (فمتعوهن) * للوجوب، وقيل: للندب، وتقدم الكلام مشبعا في المتعة في البقرة. والسراج الجميل: هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب. وقيل: أن لا يطالبها بما آتاها. ولما بين تعالى بعض أحكام أنكحة المؤمنين، أتبعه بذكر طرف من نساء النبي صلى الله عليه وسلم). والأجور: المهور، لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع. وفي وصفهن ب * (ياأيها النبى إنا) *، تنبيه على أن الله اختار لنبيه الأفضل والأولى، لأن إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره، ليتفصى الزوج عن عهدة الدين وشغل ذمته به، ولأن تأخيره يقتضي أنه يستمتع بها مجانا دون عوض تسلمته، والتعجيل كان سنة السلف، لا يعرف منهم غيره. ألا ترى إلى قوله، عليه السلام، لبعض الصحابة حين شكا حالة التزوج: (فأين درعك الحطمية)؟ وكذلك تخصيص ما ملكت يمينه بقوله: * (مما أفاء الله عليك) *، لأنها إذا كانت مسبية، فملكها مما غنمه الله من أهل دار الحرب كانت أحل وأطيب مما تشترى من الجلب. فما سبي من دار الحرب قيل فيه سبي طيبة، وممن له عهد قيل فيه سبي خبيثة، وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث.
*
والظاهر أن قوله: * (إنا أحللنا لك أزواجك) *، مخصوص لفظة أزواجك بمن كانت في عصمته، كعائشة وحفصة، ومن تزوجها بمهر. وقال ابن زيد: أي من تزوجها بمهر، ومن تزوجها بلا مهر، وجميع النساء حتى ذوات المحارم من ممهورة ورقيقة وواهبة نفسها مخصوصة به. ثم قال بعد * (ترجى من تشاء منهن) *: أي من هذه الأصناف كلها، ثم الضمير بعد ذلك يعم إلى قوله: * (ولا أن تبدل بهن من أزواج) *، فينقطع من الأول ويعود على أزواجه التسع فقط، وفي التأيل الأول تضييق. وعن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يتزوج أي النساء شاء، وكان ذلك يشق على نسائه. فلما نزلت هذه الآية، وحرم عليه بها النساء، إلا من سمي سر نساؤه بذلك، وملك اليمين إنما يعلقه في النادر، وبنات العم، ومن ذكر معهن يسير. ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه، ولا سيما وقد قرن بشرط الهجرة، والواجب أيضا من النساء قليل، فلذلك سر بانحصار الأمر. ثم مجيء * (ترجى من تشاء منهن) *، إشارة إلى ما تقدم، ثم مجيء * (ولا أن تبدل بهن من أزواج) *، إشارة إلى أن أزواجه اللواتي تقدم النص عليهن بالتحليل، فيأتي الكلام مثبتا مطردا أكثر من اطراده على التأيل الآخر.
* (وبنات عمك) *، قالت أم هانىء، بنت أبي طالب: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فاعتذرت إليه فعذرني، ثم نزلت هذه الآية فحرمتني عليه، لأني لم أهاجر معه، وإنما كنت من الطلقاء. والتخصيص ب * (اللاتى هاجرن معك) *، لأن من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات. وقيل: شرط الهجرة في التحليل منسوخ. وحكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق. والثاني: أنه شرط في إحلال قرابات المذكورات في الآية دون الأجنبيات، والمعية هنا: الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها، فيقال: دخل فلان معي وخرج معي، أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان. ولو قلت: فرجعنا
232

معا، اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل، والاقتران في الزمان. وأفرد العم والخال لأنه اسم جنس، والعمة والخالة كذلك، وهذا حرف لغوي قاله أبو بكر بن العربي القاضي.
* (وامرأة مؤمنة) *، قال ابن عباس، وقتادة: هي ميمونة بنت الحارث. وقال علي بن الحسين، والضحاك، ومقاتل: هي أم شريك. وقال عروة، والشعبي: هي زينب بنت خزيمة، أم المساكين، امرأة من الأنصار. وقال عروة أيضا: هي خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية. واختلف في ذلك. فعن ابن عباس: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) أحد منهن بالهبة. وقيل: الموهبات أربع: ميمونة بنت الحارث، ومن ذكر معها قبل. وقرأ الجمهور: * (وامرأت) *، بالنصب؛ * (إن وهبت) *، بكسر الهمزة: أي أحللنا لك. * (إن وهبت) *، * (إن أراد) *، فهنا شرطان، والثاني في معنى الحال، شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، لأن إرادته هي قبوله الهبة وما به تتم، وهذان الشرطان نظير الشرطين في قوله: * (ولا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) *. وإذا اجتمع شرطان، فالثاني شرط في الأول، متأخر في اللفظ، متقدم في الوقوع، ما لم تدل قرينة على الترتيب، نحو: إن تزوجتك أو طلقتك فعبدي حر. واجتماع الشرطين مسألة فيها خلاف وتفصيل، وقد استوفينا ذلك في (شرح التسهيل)، في باب الجوازم. وقرأ أبو حيوة: وامرأة مؤمنة، بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف: أي أحللناها لك. وقرأ أبي، والحسن، والشعبي، وعيسى، وسلام: أن بفتح الهمزة، وتقديره: لأن وهبت، وذلك حكم في امرأة بعينها، فهو فعل ماض، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسهما دون واحدة بعينها. وقرأ زيد بن علي: إذ وهبت، إذ ظرف لما مضى، فهو في امرأة بعينها.
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة في النبي، * (إن أراد النبى) *، ثم رجع إلى الخطاب في قوله: * (خالصة لك) *، للإيذان بأنه مما خص به وأوثر. ومجيئه على لفظ النبي، لدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته. واستنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه. والجمهور: على أن التزويج لا يجوز بلفظ الإجارة ولا بلفظ الهبة. وقال أبو الحسن الكرخي: يجوز بلفظ الإجارة لقوله: * (ياأيها النبى إنا) *، وحجة من منع: أن عقد الإجارة مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فتنافيا. وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى جواز عقد النكاح بلفظ الهبة إذا وهبت، فأشهد على نفسه بمهر، لأن رسول الله وأمته سواء في الأحكام، إلا فيما خصه الدليل. وحجة الجمهور: أنه، عليه السلام، خص بمعنى الهبة ولفظها جميعا، لأن اللفظ تابع للمعنى، والمدعى للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل. وقرأ الجمهور: * (خالصة) *، بالنصب، وهو مصدر مؤكد، * (عبد الله) *، و * (صبغة الله) *، أي أخلص لك إخلاصا. * (أحللنا لك) *، * (خالصة) * بمعنى خلوصا، ويجىء المصدر على فاعل وعلى فاعلة. وقال الزمخشري: والفاعل والفاعلة في المصادر على غير عزيزين، كالخارج والقاعد والعاقبة والكاذبة. انتهى، وليس كما ذكر، بل هما عزيزان، وتمثيله كالخارج يشير إلى قول الفرزدق:
ولا خارج من في زور كلام
والقاعد إلى أحد التأويلين في قوله
233

أقاعدا وقد سار الركب
والكاذبة إلى قوله تعالى: * (ليس لوقعتها كاذبة) *. وقد تتأول هذه الألفاظ على أنها ليست مصادر. وقرئ: خالصة، بالرفع، فمن جعله مصدرا، قدره ذلك خلوص لك، وخلوص من دون المؤمنين. والظاهر أن قوله: * (خالصة لك) * من صفة الواهبة نفسها لك، فقراءة النصب على الحال، قاله الزجاج: أي أحللناها خالصة لك، والرفع خبر مبتدأ: أي هي خالصة لك، أي هبة النساء أنفسهن مختص بك، لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك. وأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره، عليه السلام. ويظهر من كلام أبي بن كعب أن معنى قوله: * (خالصة لك) * يراد به جميع هذه الإباحة، لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع. وقال الزمخشري: والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم)، على سبيل التوكيد لها قوله: * (قد علمنا ما فرضنا عليهم فى أزواجهم وما ملكت أيمانهم) *، بعد قوله: * (من دون المؤمنين) *، وهي جملة اعتراضية. وقوله: * (لكيلا يكون عليك حرج) * متصل ب * (خالصة لك من دون المؤمنين) * في الأزواج الإماء، وعلى أي حد وصفه يجب أن يفرض عليهم، ففرضه وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم) بما اختصه به، ففعل.
ومعنى * (لكيلا يكون عليك حرج) *: أي لكيلا يكون عليك ضيق في دينك، حيث اختصصناك بالتنزيه، واختصاص ما هو أولى وأفضل في دنياك، حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات، وزدناك الواهبة نفسها؛ ومن جعل خالصة نعتا للمرأة، فعلى مذهبه هذه المرأة خالصة لك من دونهم. انتهى. والظاهر أن * (لكيلا) * متعلق بقوله: * (أحللنا لك أزواجك) *. وقال ابن عطية: * (لكيلا يكون) *، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لكي لا يكون عليك حرج، ويظن بك أنك قد أثمت
عند ربك، ثم آنس جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته. وقال الزمخشري: * (غفورا) * للواقع في الحرج إذا تاب، * (رحيما) * بالتوسعة على عباده. انتهى، وفيه دسيسه اعتزالية. * (قد علمنا ما فرضنا عليهم) * الآية، معناه: أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك، وأما حكم أمتك فعندنا علمه، وسنبينه لهم. وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم)، فإن له في النكاح والتسري خصائص ليست لغيره. وقال مجاهد: * (ما فرضنا عليهم) *، هو أن لا يجاوزوا أربعا. وقال قتادة: هو الولي والشهود والمهر. وقيل: ما فرضنا من المهر والنفقة والكسوة. * (وما ملكت أيمانهم) *، قيل: لا يثبت الملك إلا إذا كانت ممن يجوز سبيها. وقيل: ما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور، والمعنى: قد علمنا إصلاح كل منك ومن أمتك، وما هو الأصلح لك ولهم، فشرعنا في حقك وحقهم على وفق ما علمنا.
روي أن أزواجه عليه السلام لما تغايرن وابتغين زيادة النفقة، فهجرهن شهرا، ونزل التخيير، فأشفقن أن يطلقن فقلن: يا رسول الله، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت. وتقدم الكلام في معنى ترجي في قوله: * (وءاخرون مرجون لامر الله) *، في سورة براءة. والظاهر أن الضمير في * (منهن) * عائد على أزواجه عليه السلام، والإرجاء: الإيواء. قال ابن عباس، والحسن: في طلاق ممن تشاء ممن حصل في عصمتك، وإمساك من تشاء. وقالت فرقة: في تزوج من تشاء من الواهبات، وتأخير من تشاء. وقال مجاهد، وقتادة، والضحاك: وتقرر من شئت في القسمة لها، وتؤخر عنك من شئت، وتقلل لمن شئت، وتكثر لمن شئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن أن هذا حكم الله وقضاؤه، زالت الإحنة والغيرة عنهن ورضين وقرت أعينهن، وهذا مناسب لما روي في سبب هذه الآية المتقدم ذكره.
* (ومن ابتغيت ممن عزلت) *: أي ومن طلبتها من المعزولات ومن المفردات، * (فلا جناح عليك) * في ردها وإيوائها إليك. ويجوز أن يكون ذلك توكيدا لما قبله، أي ومن
234

ابتغيت ممن عزلت ومن عزلت سواء، لا جناح عليك. كما تقول: من لقيك ممن لم يلقك، جميعهم لك شاكر، تريد من لقيك ومن لم يلقك، وفي هذا الوجه حذف المعطوف، وغرابة في الدلالة على هذا المعنى بهذا التركيب، والراجح القول الأول. وقال الحسن: المعنى: من مات من نسائك اللواتي عندك، أو خليت سبيلها، فلا جناح عليك أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك، فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك. وقال الزمخشري: بمعنى تترك مضاجع من تشاء منهن وتضاجع من تشاء، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، أو لا تقسم لأيتهن شئت وتقسم لمن شئت، أو تترك من تشاء من أمتك وتتزوج من شئت. وعن الحسن: كان النبي / صلى الله عليه وسلم) إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض، لأنه إما أن يطلق، وأما أن يمسك. فإذا أمسك ضاجع، أو ترك وقسم، أو لم يقسم. وإذا طلق وعزل، فإما أن يخلي المعزولة لا يتبعها، أو يتبعها. وروي أنه ارجأ منهن: سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة. فكان يقسم لهن ما شاء كما شاء، وكانت ممن أوى إليه: عائشة، وحفصة، وأم سملة، وزينب، أرجأ خمسا وأوى أربعا. وروي أنه كان يسوي بينهن مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة، فإنها وهبت نفسها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. انتهى. ذلك التفويض إلى مشيئتك أدنى إلى قرة عيونهن وانتفاء حزنهن ووجود رضاهن، إذا علمت أن ذلك التفويض من عند الله، فحالة كل منهن كحالة الأخرى في ذلك.
وقرأ الجمهور: * (ءان) *: مبنيا للفاعل من قرت العين؛ وابن محيصن: يقر من أقرأ عينهن بالنصب، وفاعل تقر ضميرالخطاب، أي أنت. وقرئ: تقر مبنيا للمفعول، وأعينهن بالرفع. وقرأ الجمهور: * (بما ءاتيتهن كلهن) * بالرفع، تأكيدا النون * (* يرضين) *؛ وأبو إياس حوبة بن عائد: بالنصب تأكيدا لضمير النصب في * (بما ءاتيتهن) *. * (والله يعلم ما فى قلوبكم) *: عام. قال ابن عطية: والإشارة به ههنا إلى ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم) من محبة شخص دون شخص، ويدخل في المعنى المؤمنون. وقال الزمخشري، وعبيدة: من لم يرض منهن بما يريد الله من ذلك، وفوض إلى مشيئة رسوله، وبعث على تواطؤ قلوبهن، والتصافي بينهن، والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وما فيه طيب نفسه. انتهى. * (وكان الله عليما) * بما انطوت عليه القلوب، * (حليما) *: يصفح عما يغلب على القلب من المسؤول، إذ هي مما لا يملك غالبا. واتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام، كان يعدل بينهن في القسمة حتى مات، ولم يستعمل شيئا مما أبيح له، ضبطا لنفسه وأخذا بالفضل، غير ما جرى لسودة مما ذكرناه.
* (لا يحل لك النساء من بعد) *: الظاهر أنها محكمة، وهو قول أبي بن كعب وجماعة، منهم الحسن وابن سيرين، واختاره الطبري. ومن بعد المحذوف منه مختلف فيه، فقال أبي، وعكرمة، والضحاك: ومن بعد اللواتي أحللنا لك في قوله: * (إنا أحللنا لك أزواجك) *. فعلى هذا المعنى، لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي نص عليهن أنهن يحللن لك من الأصناف الأربعة: لا أعرابية، ولا عربية، ولا كتابية، ولا أمة بنكاح. وقال ابن عباس، وقتادة: من بعد، لأن التسع نصاب رسول الله من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمته منهن. قال: لما خيرن فاخترن الله ورسوله، جازاهن الله أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء. وقال مجاهد، وابن جبير: وروي عن عكرمة: من بعد، أي من بعد إباحة النساء على العموم، ولا تحل لك النساء غير المسلمات من يهودية ولا نصرانية. وكذلك: * (ولا أن تبدل بهن من أزواج) *: أي بالمسلمات من أزواج يهوديات ونصرانيات. وقيل: في قوله * (ولا أن تبدل) *، هو من البدل الذي كان في الجاهلية. كان يقول الرجل: بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي، فينزل كل واحد منهما عن امرأته للآخر. قال معناه ابن زيد، وأنه كان في الجاهلية، وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية، وما فعلت العرب قط هذا. وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، حين دخل عليه بغير استئذان، وعنده عائشة. من هذه الحميراء؟ فقال: (عائشة)، فقال عيينة: يا رسول الله، إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالا: ونسبا، فليس بتبديل، ولا أراد
235

ذلك، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية. ومن في * (من أزواج) * زائدة لتأكيد النفي، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم. وقيل: الآية منسوخة، واختلف في الناسخ فقيل: بالسنة. قال عائشة: ما مات حتى حل له النساء. وروي ذلك عن أم سلمة، وهو قول علي وابن عباس والضحاك، وقيل بالقرآن، وهو قوله: * (ترجى من تشاء منهن) * الآية. قال هبة الله الضرير: في الناسخ والمنسوخ له، وقال: ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا. قال ابن عطية: وكلامه يضعف من جهات. انتهى. وقيل: قوله * (إنا أحللنا لك أزواجك) * الآية، فترتيب النزول ليس على ترتيب كتابة المصحف. وقد روي عن ابن عباس القولان: إنها محكمة، وإنها منسوخة.
* (ولو أعجبك حسنهن) *، قيل: منهن أسماء بنت عميس الخثعمية، امرأة جعفر بن أبي طالب. والجملة، قال الزمخشري، في موضع الحال من الفاعل، وهو الضمير في * (تبدل) *، لا من المفعول الذي هو * (من أزواج) *، لأنه موغل في التنكير، وتقديره: مفروضا إعجابك لهن؛ وتقدم لنا في مثل هذا التركيب أنه معطوف على حال محذوفة، أي * (ولا أن تبدل بهن من أزواج) * على كل حال، ولو في هذه الحال التي تقتضي التبدل، وهي حالة الإعجاب بالحسن. قال ابن عطية: وفي هذا اللفظ * (أعجبك حسنهن) *، دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها. انتهى. وقد جاء ذلك في السنة من حديث المغيرة بن شعبة، وحديث محمد بن مسلمة.
* (إلا ما ملكت يمينك) *: أي فإنه يحل لك. وأما إن كانت موصولة واقعة على الجنس، فهو استثناء من الجنس، يختار فيه الرفع على البدل من النساء. ويجوز النصب على الاستثناء، وإن كانت مصدرية، ففي موضع نصب، لأنه استثناء من غير جنس الأول، قاله ابن عطية، وليس بجيد، لأنه قال: والتقدير: إلا، ملك اليمين، وملك بمعنى: مملوك، فإذا كان بمعنى مملوك صار من حملة النساء لأنه لم يرد حقيقة المصدر، فيكون الرفع هو أرجح، ولأنه قال: وهو في موضع نصب، ولا يتحتم أن يكون في موضع نصب. ولو فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة، بل الحجاز تنصب وتميم تبدل، لأنه مستثنى، يمكن توجه العامل عليه، وإنما يكون النصب متحتما حيث كان المستثنى لا يمكن توجه العامل عليه نحو: ما زاد المال إلا النقص، فلا يمكن توجه الزيادة على النقص، ولأنه قال: استثناء من غير الجنس. وقال مالك: بمعنى مملوك فناقض. * (وكان الله على كل شىء رقيبا) *: أي راقبا، أو مراقبا، ومعناه: حافظ وشاهد ومطلع، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطي حلاله وحرامه.
* (رقيبا يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا) *.
في الصحيحين، أنه صلى الله عليه وسلم) لما تزوج زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، فجاء فدخل، فإذا القوم جلوس، فرجع وأنهم قاموا فانطلقوا، وجئت فأخبرته أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل عليه هذه الآية. قال ابن عباس: كان ناس يتحينون طعامه، عليه الصلاة والسلام، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون، وكان يتأذى بهم، فنزلت. وأما سبب الحجاب، فعمر قال: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن
236

البار والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت. وقال مجاهد: طعم معه بعض أصحابه، ومعهم عائشة، فمست يد رجل منهم يد عائشة، فكره ذلك عليه السلام، فنزلت آية الحجاب.
ولما كان نزول الآية في شيء خاص وقع للصحابة، لم يدل ذلك على أنه لا يجوز دخول بيوت النبي إلا إن كان عن إذن * (إلى طعام غير ناظرين إناه) *، لا يجوز دخول بيوته، عليه السلام، إلا بإذن، سواء كان لطعام أم لغيره. وأيضا فإذا كان النهي إلا بإذن إلى طعام، وهو ما تمس الحاجة إليه لجهة الأولى. و * (بيوت) *: جمع، وإن كانت الواقعة في بيت واحد خاص يعم جميع بيوته. و * (إلا أن يؤذن) *، قال الزمخشري: * (إلا أن يؤذن) * في معنى الظرف تقديره: وقت أن يؤذن لكم، و * (غير ناظرين) *: حال من * (لا تدخلوا) *، أوقع الاستثناء على الوقت والحال معا، كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه. انتهى. فقوله: * (إلا أن يؤذن) * في معنى الظرف وتقديره: وقت أن يؤذن لكم، وأنه أوقع الاستثناء على الوقت فليس بصحيح، وقد نصوا على أن أن المصدرية لا تكون في معنى الظرف. تقول: أجيئك صياح الديك وقدوم الحاج، ولا يجوز: أجيئك أن يصيح الديك ولا أن يقدم الحاج. وأما أن الاستثناء وقع على الوقت والحال معا، فلا يجوز على مذهب الجمهور، ولا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى، أو المستثنى منه، أو صفة المستثنى منه: وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال، أجازا: ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا، فيجوز ما قاله الزمخشري في الحال. وأما قوله: * (إلا أن يؤذن لكم) *، فلا يتعين أن يكون ظرفا، لأنه يكون التقدير: إلا بأن يؤذن لكم، فتكون الباء للسببية، كقوله: * (فأخرجنا به من كل الثمرات) *، أو للحال، أي مصحوبين بالإذن. وأما * (غير ناظرين) *، كما قرر في قوله: * (بالبينات والزبر) *. أرسلناهم بالبينات والزبر، دل عليه * (لا تدخلوا) *، كما دل عليه أرسلناهم قوله: * (وما أرسلنا) *. ومعنى * (غير ناظرين) * فحال، والعامل فيه محذوف تقديره: ادخلوا بالإذن غير ناظرين. كما قرر في قوله: * (بالبينات والزبر) *، أي غير منتظرين وقته، أي وقت استوائه وتهيئته. وقرأ الجمهور: * (غير) * بالنصب على الحال؛ وابن أبي عبلة: بالكسر، صفة لطعام. قال الزمخشري: وليس بالوجه، لأنه جرى على غير من هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز من إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، كقوله: هند زيد ضاربته هي. انتهى. وحذف هذا الضمير جائزو عند الكوفيين إذا لم يلبس وأنى الطعام إدراكه، يقال: أني الطعام أنى، كقوله: قلاه قلى، وقيل: وقته، أي غير ناظرين ساعة أكله. وقرأ الجمهور: إناه مفردا؛ والأعمش: إناءه، بمدة بعد النون. ورتب تعالى الدخول على أن يدعوا، فلا يقدمون عليه الدخول حين يدعوا، ثم أمر بالاستثناء إذا طعموا. * (ولا
مستأنسين لحديث) *: معطوف على * (ناظرين) *، فهو مجرور أو معطوف على * (غير) *، فهو منصوب، أي لا تدخلوها لا ناظرين ولا مستأنسين. وقيل: ثم حال محذوفة، أي لا تدخلوها أجمعين ولا مستأنسين، فيعطف عليه. واللام في * (لحديث) * إما لام العلة، نهوا أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه، به أو اللام المقوية لطلب اسم الفاعل للمفعول، فنهوا أن يستأنسوا حديث أهل البيت. واستئناسه: تسمعه وتوحشه.
* (إن ذلكم) *: أي انتظاركم واستئناسكم، * (يؤذى النبى فيستحيى منكم) *: أي من إنهاضكم من البيوت، أو من إخراجكم منها بدليل قوله: * (والله لا يستحى من الحق) *: يعني أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيا منه. ولما كان الحياء مما يمنع الحي من بعض الأفعال، قيل: * (لا تدخلوا بيوت النبى) * بمعنى: لا يمتنع، وجاء ذلك على سبيل المقابلة لقوله: * (فيستحيى منكم) *. وعن عائشة، وابن عباس: حسبك في الثقلاء، أن الله لم يحتملهم. وقرئت هذه الآية بين يدي إسماعيل بن أبي حكيم فقال: هنا أدب أدب الله به الثقلاء. وقرأت فرقة: فيستحيي بكسر الحاء، مضارع استحى، وهي لغة بني تميم. واختلفوا ما المحذوف، أعين الكلمة أم لامها؟ فإن كان العين فوزنها يستفل، وإن كان اللام فوزنها يستفع، والترجيح مذكور في النحو. وقرأ الجمهور: بياءين وسكون الحاء، والمتاع عام في ما يمكن أن يطلب على عرف
237

السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا. * (ذالكم) *، أي السؤال من وراء الحجاب، * (أطهر) *: يريد من الخواطر التي تخطر للرجال في أمر النساء، والنساء في امر الرجال، إذ الرؤية سبب التعلق والفتنة. ألا ترى إلى قول الشاعر:
* والمرء ما دام ذاعين يقلبها
*
في أعين العين موقوف على الخطر
*
يسر مقلته ما ساء مهجته
لامر حبا بانتفاع جاء بالضرر
*
وذكر أن بعضهم قال: انتهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لا تزوجن فلانة. وقال ابن عباس وبعض الصحابة: وفلانة عائشة. وحكى مكي عن معمر أنه قال: هو طلحة بن عبيد الله. قال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح على طلحة فإن الله عصمه منه. وفي التحرير أنه طلحة، فنزلت: * (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) *، فتاب وأعتق رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشيا.
وروي أن بعض المنافقين قال: حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أم سلمة بعده، أي بعد سلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا؟ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وارتدت العرب ثم رجعت، تزوج عكرمة ابن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قد تزوجها ولم يبن بها. فصعب ذلك على أبي بكر وقلق، فقال له عمر: مهلا يا خليفة رسول الله، إنها ليست من نسائه، إنه لم يبن بها، ولا أرخى عليها حجابا، وقد أبانتها منه ردتها مع قومها. فسكن أبو بكر، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم عنها، مراعاة للحجاب، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة، ومنعه عمر. وروي أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم).
* (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) *: عام في كل ما يتأذى به، * (ولا أن تنكحوا) *: خاص بعد عام، لأن ذلك يكون أعظم الأذى، فحرم الله نكاح أزواجه بعد وفاته. * (إن ذلكم) *: أي إذايته ونكاح أزواجه، * (كان عند الله عظيما) *: وهذا من أعلام تعظيم الله لرسوله، وإيجابه حرمته حيا وميتا، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه، فإن نحو هذا مما يحدث به المرء نفسه. ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت، لئلا تنكح من بعده، وخصوصا العرب، فإنهم أشد الناس غيرة. وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قبل جارية كان يحبها في حكاية قال: تصورا لما عسى أن يتفق من بقائها بعده، وحصولها تحت يد غيره. انتهى. فقال لما عسى، صلة للموصول، وقد كثر منه هذا وهو لا يجوز. وعن بعض الفقهاء، أن الزوج الثاني في هدير الثلث يجري مجرى العقوبة، فعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، عملا يلاحظ ذلك. * (إن تبدوا شيئا أو تخفوه) *: وعيد لما تقدم التعرض به في الآية ممن أشير إليه بقوله: * (ذالكم أطهر) *، ومن أشير إليه: * (وما كان لكم أن تؤذوا) *، فقيل: * (إن تبدوا شيئا) * على ألسنتكم، * (* أوتخفوه) * في صدوركم، مما يقع عليه العقاب، فالله يعلمه، فيجازي عليه. وقال: * (تك شيئا) *، ليدخل فيه ما يؤذيه، عليه السلام، من نكاحهن وغيره، وهو صالح لكل باد وخاف.
وروي أنه لما نزلت آية الحجاب قال: الآباء والأبناء والأقارب، أو نحن يا رسول الله أيضا، نكلمهن من وراء حجاب، فنزلت: * (لا جناح عليهن) *: أي لا إثم عليهن. قال قتادة: في ترك الحجاب. وقال مجاهد: في وضع الجلباب وإبداء الزينة. وقال الشعبي: لم يذكر العم والخال، وإن كانا من المحارم، لئلا يصفا للأبناء، وليسوا من المحارم. وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها، وقيل: لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد جاءت تسمية العم أبا. وذكر هنا بعض المحارم، والجميع في سورة النور. ودخل في: * (ولا نسائهن) *
238

الأمهات والأخوات وسائر القربات، ومن يتصل بهن من المتطرفات لهن. وقال ابن زيد وغيره: أراد جميع النساء المؤمنات، وتخصيص الإضافة إنما هي في الإيمان. وقال مجاهد: من أهل دينهن، وهو كقول ابن زيد. والظاهر من قوله: * (أما * ملكت أيمانهن) *، دخول العبيد والإماء دون ما ملك غيرهن. وقيل: مخصوص بالإماء، وقيل: جميع العبيد ممن في ملكهن أو ملك غيرهن. وقال النخعي: يباح لعبدها النظر إلى ما يواريه الدرع من ظاهر بدنها، وإذا كان للعبد المكاتب ما يؤدي، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) بضرب الحجاب دونه، وفعلته أم سلمة مع مكاتبها نبهان.
* (واتقين الله) *: أمر بالتقوى وخروج من الغيبة إلى الخطاب، أي واتقين الله فيما أمرتن به من الاحتجاب، وأنزل الله فيه الوحي من الاستتار، وكأن في الكلام جملة حذفت تقديره: اقتصرن على هذا، واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره. ثم توعد بقوله: * (إن الله كان على كل شىء شهيدا) *، من السر والعلن، وظاهر الحجاب وباطنه، وغير ذلك. * (شهيدا) *: لا تتفاوت الأحوال في علمه. وقرأ الجمهور: * (وملئكته) * نصبا؛ وابن عباس، وعبد الوارث عن أبي عمرو: رفعا. فعند الكوفيين غير الفراء هو عطف على موضع اسم إن، والفراء يشترط خفاء إعراب اسم إن. وعند البصريين هو على حذف الخبر، أي يصلي على النبي، وملائكته يصلون، وتقدم الكلام على كيفية اجتماع الصلاتين في قوله: * (هو الذى يصلى عليكم وملئكته) *. فالضمير في * (يصلون) * عائد على * (الله وملائكته) *، وقيل: في الكلام حذف، أي يصلي وملائكته يصلون، فرارا من اشتراك الضمير، والظاهر وجوب الصلاة والسلام عليه، وقيل: سنة. إذا كانت الصلاة واجبة فقيل: كلما جرى ذكره قيل في كل مجلس مرة. وقد ورد في الحديث في الصلاة عليه، فضائل كثيرة.
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال قوم من الصحابة: السلام عليك يا رسول الله عرفناه، فكيف نصلي عليك قال: (قولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وارحم محمدا وآل محمد، كما رحمت وباركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد). وفي بعض الروايات زيادة ونقص. * (إن الذين يؤذون الله ورسوله) *، قال ابن عباس: نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت حيي زوجا. انتهى. والطعن في تأمير أسامة بن زيد: أن إيذاءه عليه السلام، وإيذاء الله والرسول فعل ما نهى الله ورسوله عنه من الكفر والمعاصي، وإنكار النبوة ومخالفة الشرع، وما يصيبون به الرسول من أنواع الأذى. ولا يتصور الأذى حقيقة في حق الله، فقيل: هو على حذف مضاف، أي يؤذون أولياء الله، وقيل: المراد يؤذون رسول الله، وقيل: في أذى الله، هو قول اليهود والنصارى والمشركين: * (يد الله مغلولة) *، و * (ثالث ثلاثة) *، و * (المسيح ابن الله) *، و * (الملائكة * بنات * الله) *، و * (الاصنام) *. وعن عكرمة: فعل أصحاب التصاوير الذين يزورون خلقا مثل خلق الله، وقيل: في أذى رسول الله قولهم: ساحر شاعر كاهن مجنون، وقيل: كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد.
وأطلق إيذاء الله ورسوله على إيذاء المؤمنين بقوله: * (والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) *، لأن إيذاءهما لا يكون إلا بغير حق، بخلاف إيذاء المؤمن، فقد يكون بحق. ومعنى * (بغير ما اكتسبوا) *: بغير جناية واستحقاق أذى. وقال مقاتل: نزلت في ناس من المنافقين يؤذون عليا، كرم الله وجهه، ويسمعونه؛ وقيل: في الذين أفكوا على عائشة. وقال الضحاك، والسدي، والكلبي: في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات؛ وقيل: في عمر، رأى من الريبة على جارية من جواري الأنصار ما كره، فضربها، فأذوى أهل عمر باللسان، فنزلت. قال ابن عباس: وروي أن عمر قال يوما لأبي: قرأت البارحة * (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات) * ففزعت منها، وإني لأضربهم وأنهرهم، فقال له: لست منهم، إنما أنت معلم ومقوم.
* (مبينا يأيها النبى قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذالك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا (سقط: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون)) *
239

(سقط الآية كاملة)
كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار، وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف، وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن. وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن، فنزلت.
قيل: والجلابيب: الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل، وقال ابن جبير: المقانع؛ وقيل: الملاحف، وقيل: الجلباب: كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وقيل: كل ما تستتر به من كساء أو غيره. قال أبو زيد:
تجلببت من سواد الليل جلبابا
وقيل: الجلباب أكبر من الخمار. وقال عكرمة: تلقي جانب الجلباب على غيرها ولا يرى. وقال أبو عبيدة السلماني، حين سئل عن ذلك فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وقال السدي: تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين. انتهى. وكذا عادة بلاد الأندلس، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة. وقال الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن، أراد بالإنضمام معنى: الإدناء. وقال ابن عباس، وقتادة: وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. والظاهر أن قوله: * (ونساء المؤمنين) * يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر، لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح. ومن في: * (من جلابيبهن) * للتبعيض، و * (عليهن) *: شامل لجميع أجسادهن، أو * (عليهن) *: على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه. * (ذالك أدنى أن يعرفن) *: لتسترهن بالعفة، فلا يتعرض لهن، ولا يلقين
بما يكرهن؛ لأن المرأة إذا كانت في
240

غاية التستر والانضمام، لم يقدم عليها، بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها. * (وكان الله غفورا رحيما) *: تأنيس للنساء في ترك الاستتار قبل أن يؤمر بذلك.
ولما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله، والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين، ذكر حال المسر الذي يؤذي الله ورسوله، ويظهر الحق ويضمر النفاق. ولما كان المؤذون ثلاثة، باعتبار إذايتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، كان المشركون ثلاثة: منافق، ومن في قلبه مرض، ومرجف. فالمنافق يؤذي سرا، والثاني يؤذي المؤمن باتباع نسائه، والثالث يرجف بالرسول، يقول: غلب، سيخرج من المدينة، سيؤخذ، هزمت سراياه. وظاهر العطف التغاير بالشخص، فيكون المعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يقولون من أخبار السوء ويشيعونه. ويجوز أن يكون التغاير بالوصف، فيكون واحدا بالشخص ثلاثة بالوصف. كما جاء أن المسلمين والمسلمات، فذكر أوصافا عشرة، والموصوف بها واحد، ونص على هذين الوصفين من المنافقين لشدة ضررهما على المؤمنين. قال عكرمة: * (الذين فى قلوبهم مرض) *، هو العزل وحب الزنا، ومنه فيطمع الذي في قلبه مرض. وقال السدي: المرض: النفاق، ومن في قلوبهم مرض. وقال ابن عباس: هم الذين آذوا عمر. وقال الكلبي: من آذى المسلمين. وقال ابن عباس: * (* المرجفون) *: ملتمسوا الفتن. وقال قتادة: الذين يؤذون قلوب المؤمنين بإيهام القتل والهزيمة. * (المدينة لنغرينك بهم) *: أي لنسلطنك عليهم، قاله ابن عباس. وقال قتادة: لنحرسنك بهم.
* (ثم لا يجاورونك فيها) *: أي في المدينة، و * (ثم لا يجاورونك) * معطوف على * (لنغرينك) *، ولم يكن العطف بالفاء، لأنه لم يقصد أنه متسبب عن الإغراء، بل كونه جوابا للقسم أبلغ. وكان العطف بثم، لأن الجلاء عن الوطن كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا، به فتراخت حالة الجلاء عن حالة الإغراء. * (إلا قليلا) *: أي جوارا قليلا، أو زمانا قليلا، أو عددا قليلا، وهذا الأخير استثناء من المنطوق، وهو ضمير الرفع في * (يجاورونك) *، أو ينتصب قليلا على الحال، أي إلا قليلين، والأول استثناء من المصدر الدال عليه * (يجاورونك) *، والثاني من الزمان الدال عليه * (يجاورونك) *، والمعنى: أنهم يضطرون إلى طلب الجلاء عن المدينة خوف القتل. وانتصب * (ملعونين) * على الذم، قاله الطبري؛ وأجاز ابن عطية أن يكون بدلا من * (قليلا) *، قال: هو من إقلاء الذي قدرناه؛ وأجاز هو أيضا أن يكون حالا من الضمير في * (يجاورونك) *، قال: كأنه قال: ينتفون من المدينة معلونين، فلا يقدر * (لا يجاورونك) *، فقدر ينتفون حسن هذا. انتهى. وقال الزمخشري، والحوفي، وتبعهما أبو البقاء: يجوز أن يكون حالا من الضمير في * (لا يجاورونك) *، كما قال ابن عطية. قال الزمخشري: وهذا نصه معلونين، نصب على الشتم أو الحال، أي لا يجاورونك، إلا ملعونين. دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا، كما مر في قول: * (إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) *، ولا يصح أن ينتصب من أخذ، والأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. انتهى. وتقدم الكلام معه في مجيء الحال مما قبل إلا مذكورة بعد ما استثنى بإلا، فيكون الاستثناء منصبا عليهما، وأن جمهور البصريين منعوا من ذلك. وأما تجويز ابن عطية أن يكون بدلا، فالبدل بالمشتق قليل. وأما قول الزمخشري: لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها، فليس هذا مجمعا عليه، لأن ما بعد كلمة الشرط شيئان: فعل الشرط والجواب. فأما فعل الشرط، فأجاز الكسائي تقديم معموله على الكلمة، أجاز زيد أن يضرب اضربه، وأما الجواب فقد أجاز أيضا تقديم معموله عليه نحو: إن يقم زيد عمرا يضرب. وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال: المعنى: * (أينما ثقفوا) *: أخذوا ملعونين، والصحيح أن ملعونين صفة لقليل، أي إلا قليلين ملعونين، ويكون قليلا مستثنى من الواو في لا يجاورونك، والجملة الشرطية صفة أيضا، أي مقهورين مغلوبا عليهم. ومعنى * (ثقفوا) *: حصروا وظفر بهم، ومعنى * (أخذوا) *: أسروا، والأخيذ: الأسير. وقرأ الجمهور: * (قاتلوا) *، بتشديد التاء؛ وفرقة: بتخفيفها، فيكون * (تقتيلا) * مصدرا على غير قياس المصدر.
والظاهر أن المنافقين انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول والمؤمنين، وتستر
241

جميعهم، وكفوا خوفا من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه، وهو الإغراء والجلاء والأخذ والقتل. وقيل: لم يمتثلوا للانتهاء جملة، ولا نفذ عليهم الوعيد كاملا. ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد، ونهيه عن الصلاة عليهم، وما نزل فيهم في سورة براءة؟ وأبعد من ذهب إلى أنه لم ينته هؤلاء الأصناف، ولم ينفذ الله الوعيد عليهم، ففيه دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة، ويكون هذا الوعيد مفروضا ومشروطا بالمشيئة.
* (سنة الله) *: مصدر مؤكد، أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ظفر بهم. وعن مقاتل: كما قتل أهل بدر وأسروا، فالذين خلوا يشمل أتباع الأنبياء الذين نافقوا، ومن قتل يوم بدر. * (يسئلك الناس) *: أي المشركون، عن وقت قيام الساعة، استعجالا على سبيل الهزء، واليهود على سبيل الامتحان، إذ كانت معمى وقتها في التوراة، فنزلت الآية بأن يرد العلم إلى الله، إذ لم يطلع عليها ملكا ولا نبيا. ولما ذكر حالهم في الدنيا أنهم معلونون مهانون مقتولون، بين حالهم في الآخرة. * (وما يدريك) *: ما استفهام في موضع رفع بالابتداء، أي: وأي شيء يدريك بها؟ ومعناه النفي، أي ما يدريك بها أحد. * (لعل الساعة تكون قريبا) *: بين قرب الساعة، وفي ذلك تسلية للممتحن، وتهديد للمستعجل. وانتصب قريبا على الظرف، أي في زمان قريب، إذ استعماله ظرفا كثير، ويستعمل أيضا غير ظرف، تقول: إن قريبا منك زيد، فجاز أن يكون التقدير شيئا قريبا، أو تكون الساعة بمعنى الوقت، فذكر قريبا على المعنى. أو يكون التقدير: لعل قيام الساعة، فلوحظ الساعة في تكون فأنث، ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في قريبا فذكر.
* (يوم تقلب وجوههم فى النار) *: يجوز أن ينتصب يوم بقوله: * (لا يجدون) *، ويكون يقولون استئناف إخبار عنهم، أو تم الكلام عند قولهم: * (ولا نصيرا) *. وينتصب يوم بقوله: * (يقولون) *، أو بمحذوف، أي اذكر ويقولون حال. وقرأ الجمهور: تقلب مبنيا للمفعول؛ والحسن، وعيسى، وأبو جعفر الرواسي: بفتح التاء، أي تتقلب؛ وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة. وقال ابن خالويه عن أبي حيوة: نقلب بالنون، وجوههم بالنصب. وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة أيضا
وخارجة. زاد صاحب اللوامح أنها قراءة عيسى البصري. وقرأ عيسى الكوفي كذلك، إلا أن بدل النون تاء، وفاعل تقلب ضمير يعود على * (سعيرا) *، وعلى جهنم أسند إليهما اتساعا. وقراءة ابن أبي عبلة: تتقلب بتاءين، وتقليب الوجوه في النار: تحركها في الجهات، أو تغيرها عن هيئاتها، أو إلقاؤها في النار منكوسة. والظاهر هو الأول، والوجه أشرف ما في الإنسان، فإذا قلب في النار كان تقليب ما سواه أولى. وعبر بالوجه عن الجملة، وتمنيهم حيث لا ينفع، وتشكيهم من كبرائهم لا يجدي. وقرأ الجمهور: * (سادتنا) *، جمعا على وزن فعلات، أصله سودة، وهو شاذ في جمع فيعل، فإن جعلت جمع سائد قرب من القياس. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وقتادة، والسلمي، وابن عامر، والعامة في الجامع بالبصرة: ساداتنا على الجمع بالألف والتاء، وهو لا ينقاس، كسوقات ومواليات بني هاشم وسادتهم، رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم. قال قتادة: سادتنا: رؤساؤنا. وقال طاوس: أشرافنا؛ وقال أبو أسامة: أمراؤنا، وقال الشاعر:
* تسلسل قوم سادة ثم زادة
*
يبدون أهل الجمع يوم المحصب
*
ويقال: ضل السبيل، وضل عن السبيل. فإذا دخلت همزة النقل تعدى لاثنين؛ وتقدم الكلام على إثبات الألف في الرسولا والسبيلا في قوله: * (وتظنون بالله الظنونا) *. ولما لم يجد تمنيهم الإيمان بطاعة الله ورسوله، ولا قام لهم عذر في تشكيهم ممن أضلهم، دعوا على ساداتهم. * (ربنا ءاتهم ضعفين من العذاب) *: ضعفا على ضلالهم في أنفسهم، وضعفا على إضلال من أضلوا. وقرأ الجمهور: كثيرا بالثاء المثلثة. وقرأ حذيفة بن اليمان، وابن عامر، وعاصم، والأعرج: بخلاف عنه بالباء. * (كالذين ءاذوا موسى) *، قيل: نزلت في شأن زيد وزينب، وما سمع فيه من قاله بعض الناس. وقيل: المراد حديث الإفك على أنه ما أوذي نبي مثل ما أوذيت. وفي حديث الرجل الذي قال لقسم قسمه رسول الله: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فغضب وقال: رحم الله أخي موسى، لقد أوذي أكثر من هذا فصبر. وإذاية موسى قولهم: إنه أبرص وآدر، وأنه حسد أخاه
242

هارون وقتله. أو حديث المومسة المستأجرة لأن تقول: إن موسى زنى بها، أو ما نسبوه إليه من السحر والجنون، أقوال.
* (مما قالوا) *: أي من وصم ما قالوا، وما موصولة أو مصدرية. وقرأ الجمهور: * (وكان عند الله) *: الظرف معمول لوجيها، أي ذا وجه ومنزلة عند الله تعالى، تميط عنه الأذى وتدفع التهم. وقرأ عبد الله، والأعمش، وأبو حيوة: عبد من العبودية، لله جر بلام الجر، وعبدا خبر كان، ووجيها صفة له. قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ: وكان عبد الله، على قراءة ابن مسعود. قال ابن زيد: * (وجيها) *: مقبولا. وقال الحسن: مستجاب الدعوة، ما سأل شيئا إلا أعطي، إلا الرؤية في الدنيا. وقال قطرب: رفيع القدر؛ وقيل: وجاهته أنه كلمة ولقبه كليم الله. والسديد: تقدم شرحه في أوائل النساء. وقال ابن عباس: هنا صوابا. وقال مقاتل، وقتادة: سديدا في شأن زيد وزينب والرسول. وقال ابن عباس، وعكرمة أيضا: لا إله إلا الله، وقيل: ما يوافق ظاهره باطنه؛ وقيل: ما هو إصلاح من تسديد السهم ليصيب الغرض؛ وقيل: السديد يعم الخيرات. ورتب على القول السديد: صلاح الأعمال وغفران الدنوب. قال الزمخشري: وهذه الآية مقررة للتي قبلها. بنيت تلك على النهي عما يؤدي به رسول الله، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى، واتباع الأمر الوعد البليغ، فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. انتهى، وهو كلام حسن.
* (إنا عرضنا الامانة) *: لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول، ورتب على الطاعة ما رتب، بين أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم، فقال: * (إنا عرضنا الامانة) *، تعظيما الأمر التكليف. والأمانة: الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا. والشرع كله أمانة، وهذا قول الجمهور، ولذلك قال أبي بن كعب: من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها. وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، والظاهر عرض الإمانة على هذه المخلوقات العظام، وهي الأوامر والنواهي، فتثاب إن أحسنت، وتعاقب إن أساءت، فأبت وأشفقت، ويكون ذلك بإدراك خلقه الله فيها، وهذا غير مستحيل، إذ قد سبح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام، وحن الجذع إليه، وكلمته الذراع، فيكون هذا العرض والإباء حقيقة.
قال ابن عباس: أعطيت الجمادات فهما وتمييزا، فخيرت في الحمل، وذكر الجبال، مع أنها مع الأرض، لزيادة قوتها وصلابتها، تعظيما للأمر. وقال ابن الأنباري: عرضت بمسمع من آدم، عليه الصلاة والسلام، وأسمع من الجمادات الإباء ليتحقق العرض عليه، فيتجاسر على الحمل غيره، ويظهر فضله على الخلائق، حرصا على العبودية، وتشريفا على البرية بعلو الهمة. وقيل: هو مجاز، فقيل: من مجاز الحذف، أي على من فيها من الملائكة، وقيل: من باب التمثيل.
قال الزمخشري: إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به، فأبى محمله والاستقلال به، وحملها الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته. * (إنه كان ظلوما جهولا) *، حيث حمل الأمانة، ثم لم يف بها. ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء به القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم. من ذلك قول العرب: لو قيل للشحم أين تذهب لقيل: أسوي العوج. وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات وتصور مقالة الشحم محال، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه؛ فصور أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف؛ وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها.
فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حال تميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضي على
إحداهما بحال من يتردى في ذهابه، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه، وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، فليس كذلك ما في الآية. فإن عرض الأمانة على الجماد، وإباءه وإشفاقه محال
243

في نفسه غير مستقيم، فكيف صح بها التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا، والمشبه به غير معقول. قلت: الممثل به في الآية، وفي قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب؟ وفي نظائره مفروض، والمفروض أن يتخيل في الذهن. كما أن المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحال المفروض، لو عرضت على السماوات والأرض والجبال * (فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) *. انتهى.
وقال أيضا: إن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها، وهو ما تأتي من الجمادات، حيث لم يمتنع على مشيئته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة. كما قال: * (قالتا أتينا طائعين) *. وأما الإنسان، فلم يكن حاله فيما يصح منه من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان إن صالح للتكليف، مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد. والمراد بالأمانة: الطاعة، لأنها لازمة للوجود. كما أن الأمانة لازمة للأداء، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز. وحمل الأمانة من قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، يريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها، وهو حامل لها. ألا تراهم يقولون: ركبته الديون؟ ولي عليه حق؟ فأبين أن لا يؤدونها، وأبى الإنسان أن لا يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لخطئه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها. انتهى، وفيه بعض حذف.
وقال قوم: الآية من المجاز، أي إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال، رأيتهما أنهما لا تطيقها، وأنها لو تكلمت، لأبتها وأشفقت عنها؛ فعبر عن هذا المعنى بقوله: * (إنا عرضنا) * الآية، وهذا كما تقول: (عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد بذلك مقارنة قوته بثقل الحمل، فرأيتها تقصر عنه؛ ونحوه قول ابن بحر) معنى عرضنا: عارضناها وقابلناها بها. * (فأبين أن يحملنها) *: أي قصرن ونقص عنها، كما تقول: أبت الصنجة أن تحمل ما قابلها. * (وحملها الإنسان) *، قال ابن عباس، وابن جبير: التزم القيام بحقها، والإنسان آدم، وهو في ذلك ظلوم نفسه، جهول بقدر ما دخل فيه. وقال ابن عباس: ما تم له يوم حتى أخرج من الجنة. وقال الضحاك، والحسن: وحملها معناه: خان فيها، والإنسان الكافر والمنافق والعاصي على قدره. وقال ابن مسعود، وابن عباس أيضا: ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه هابيل، وكان قد تحمل لأبيه أمانة أن يحفظ الأهل بعده، وكان آدم مسافرا عنهم إلى مكة، في حديث طويل ذكره الطبري. وقال ابن إسحاق: عرض الأمانة: وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات. والحمل: الخيانة، كما تقول: حمل خفي واحتمله، أي ذهب به. قال الشاعر:
* إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة
*
وتحمل أخرى أخرجتك الودائع
انتهى. وليس وتحمل أخرى نصفا في الذهاب بها، بل يحتمل لأنك تتحمل أخرى، فتؤدي واحدة وتتحمل أخرى، فلا تزال دائما ذا أمانات، فتخرج إذ ذاك.
*
واللام في * (ليعذب) * لام الصيرورة، لأنه لم يحملها لأن يعذب، لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك، ويتوب على من آمن. وقال الزمخشري: لام التعليل على طريق المجاز، لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب، كما أن التأديب في: ضربته للتأديب، نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش: فيتوب، يعني بالرفع، بجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدىء ويتوب. ومعنى قراءة العامة: ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا ثبت على أن الواو في وكان ذلك نوعان من عذاب القتال. انتهى. وذهب صاحب اللوامح أن الحسن قرأ ويتوب بالرفع.
244

المزق: خرق الشيء، قال: منه ثوب ممزوق ومزيق ومتمزق وممزق، إذا صار قعطا باليا، ومنه قول العبدي:
* فإن كنت مأكولا فكن خير آكل
*
وإلا فأدركني ولما أمزق
السابغات: الدروع، وأصله الوصف بالسبوغ، وهو التمام والكمال، وغلب على الدروع فصار كالأبطح، وقال الشاعر:
*
عليها أسود ضاريات لبوسهم
سوابغ بيض لا يخرقها النبل
*
السرد: اتباع الشيء بالشيء من جنسه، قال الشماخ:
* فظن تباعا خيلنا في بيوتكم
*
كما تابعت سرد الضأن الخوارز
*
ويقال الدرع: مسرودة، لأنه توبع فيها الحلق بالحلق، قال الشاعر:
* وعليهما مسرودتان قضاهما
*
داود أو صنع السوابغ تبع
*
ويقال لصانع ذلك: سراد وزراد، تبدل من السين الزاي؛ كما قالوا: سراط وزراط. ويقال للأشفى: مسرد ومسراد وسرد القرآن، إذا حدر فيه؛ والكلام إذا تابعه مستعجلا فيه. سال، من سال الوادي والدمع: جرى لسرعة ما فيه من الماء والدمع. القطر: النحاس، وقيل: الفلز النحاس والحديد وما جرى مجراه. الجفان: جمع جفنة، وهي معروفة. الجوابي: الحياض العظام، واحدها جابية، لأنه يجبي فيها الماء، أي يجمع. قال الشاعر:
* بجفان تعتري نادينا
*
من سديف حين قد هاج الضبر
*
كالجوابي لا تفي مترعة
لقرى الأضياف أو للمحتظر
*
وقال الأعشى:
* نفى الذم عن آل المحلق جفنة
*
كجابية السيح العراقي تفهق
وقال لأفوه الأودي:
*
وقدور كالربا راسيات
وجفان كالجوابي مترعه
*
القدر: إناء يطبخ فيه من فخار أو غيره، وهو على شكل مخصوص. المنسأة: العصى تهمز ولا تهمز، ووزنها مفعلة، من نسأت: أي أخرت وطردت؛ ويقال: منساءة بالمد والهمز على وزن مفعالة، كما قالوا: ميضاءة وميضاة، وقال الشاعر:
245

* ضربنا بمنساءة وجهه
*
فصار بذاك مهينا ذليلا
*
وقال آخر
* إذا دببت على المنساة من هرم
*
فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وقياس تخفيف همزتها أن يكون بين بين، وأما إبدالها ألفا أو حذفها فغير قياس. العرم: إما صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته كقولهم: مسجد الجامع، وإما اسم لشيء، ويأتي القول فيه في تفسير المركبات. الخمط، قال أبو عبيدة: كل شجرة مرة ذات شواك. وقال ابن الأعرابي: الخمط ثمر شجرة على صورة الخشخاش لا ينتفع به. وقال القتي: يقال للحماضة خمطة اللبن. إذا أخذ شيئا من الريح فهو خامط وخميط؛ وتخمط الفحل: هدر، والرجل: تعصب وتكسر، والخمر: أخذت
ريح الأراك كرائحة التفاح ولم تدرك بعد. ويقال: هي الخامطة، قاله الجوهري. الأثل: شجر، وهو ضرب من الطرفاء، قاله أبو حنيفة اللغوي في كتاب النبات له، ويأتي ما قال فيه المفسرون. السدر، قال الفراء: هو السرو. وقال الأزهري: السدر سدران: سدر لا ينتفع به، ولا يصلح ورقه للغسول، وله ثمرة عفصة لا تؤكل، وهو الذي يسمى الضال؛ وسدر ينبت على الماء، وثمرة النبق، ورقه غسول يشبه ورق شجر العناب. التناوش: تناول سهل لشيء قريب، يقال: ناشه ينوشه وتناوشه القوم وتناوشوا في الحرب: ناش بعضهم بعضا بالسلام. وقال الراجز:
فهي تنوش الحوض نوشا من غلانوشا به تقطع أجواز الفلا
وأما بالهمزة، فقال الفراء: من ناشت: أي تأخرت. قال الشاعر:
*
تمنى نئيش أن يكون أطاعني
وقد حدثت بعد الأمور أمور
*
وقال آخر:
* وجئت نئيشا بعد ما
*
فاتك الخبز نئيشا أخيرا
)
* سقط: اسم السورة)
246

* (الحمد لله الذى له ما فى * السماوات وما في الارض * وله الحمد فى الاخرة وهو الحكيم الخبير * يعلم ما يلج فى الارض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور * وقال (سقط الذين كفروا إلى آخر الآية)) *.
هذه السورة، قال في التحرير، مكية بإجماعهم. قال ابن عطية: مكية إلا قوله: * (ويرى الذين أوتوا العلم) *، فقالت فرقة: مدنية فيمن أسلم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأشباهه. انتهى. وسبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار مكة، لما سمعوا * (ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) *: إن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت، ويخوفنا بالبعث، واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا، ولا نبعث. فقال الله: * (قل) * يا محمد * (بلى وربى لتبعثن) *، قاله مقاتل؛ وباقي السورة تهديد لهم وتخويف. ومن ذكر هذا السبب، ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها.
* (الحمد لله) *: مستغرق لجميع المحامد. * (وله الحمد فى الاخرة) *: ظاهره الاستغراق. ولما كانت نعمة الآخرة مخبرا بها، غير مرئية لنا في الدنيا، ذكرها ليقاس نعمها بنعم الدنيا، قياس الغائب على الشاهد، وإن اختلفا في الفضيلة
247

والديمومة. وقيل: أل للعهد والإشارة إلى قوله: * (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم) *، أو إلى قوله: * (وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده) *. وقال الزمخشري: الفرق بين الحمدين وجوب الحمد في الدنيا، لأنه على نعمه متفضل بها، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة، وهي الثواب. وحمد الآخرة ليس بواجب، لأنه على نعمة واجبة الاتصال إلى مستحقها، إنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم يلتذون به. انتهى، وفيه بعض تلخيص.
* (يعلم ما يلج فى الارض) *، من المياه. وقال الكلبي: من الأموات والدفائن. * (وما يخرج منها) *، من النبات. وقال الكلبي: من جواهر المعادن. * (وما ينزل من السماء) *، من المطر والثلج والبرد والصاعقة والرزق والملك. * (وما يعرج فيها) *، من أعمال الخلق. وقال الكلبي: وما ينزل من الملائكة. وقيل: من الأقضية والأحوال والأدعية والأعمال. وقيل: من الأنعام والعطاء. وقرأ علي، والسلمي: وما ينزل بضم الياء وفتح النون وشد الزاي، أي الله تعالى. وبلى جواب للنفي السابق من قولهم * (لا تأتينا الساعة) *، أي بلى لتأتينكم. وقرأ الجمهور: * (لتأتينكم) * بتاء التأنيث، أي الساعة التي أنكرتم مجيئها. وقرأ طلق عن أشياخه بياء الغيبة، أي ليتأتينكم البعث، لأنه مقصودهم من نفي الساعة أنهم لا يبعثون. وقال الزمخشري: أو على معنى الساعة، أي اليوم، أو على إسناده إلى الله على معنى ليتأتينكم أمر عالم الغيب كقوله: * (أو يأتى ربك) *، أي أمره. ويبعد أن يكون ضمير الساعة، لأنه مذهوب به مذهب التذكير، لا يكون إلا في الشعر، نحو قوله:
ولا أرض أبقل أبقالها
ثم أكد الجواب بالقسم على البعث، واتبع القسم بقوله: * (عالم الغيب) * وما بعده، ليعلم أن إنباتها من الغيب الذي تفرد به تعالى. وجاء القسم بقوله: * (وربى) * مضافا إلى الرسول، ليدل على شدة القسم، إذ لم يأت به في الاسم المشترك بينه وبين من أنكر الساعة، وهو لفظ الله. وقرأ نافع، وابن عامر، ورويس، وسلام، والجحدري، وقعنب: * (عالم) * بالرفع على إضمار هو؛ وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون مبتدأ، والخبر لا * (يعزب) *. وقال الحوفي: أو خبره محذوف، أي عالم الغيب هو، وباقي السبعة: عالم بالجر. قال ابن عطية، وأبو البقاء: وذلك على البدل. وأجاز أبو البقاء أن تكون صفة، ويعني أن عالم الغيب يجوز أن
يتعرف، وكذا كل ما أضيف إلى معرفة مما كان لا يتعرف بذلك يجوز أن يتعرف بالإضافة، إلا الصفة المشبهة فلا تتعرف بإضافة. ذكر ذلك سيبويه في كتابة، وقل من يعرفه. وقرأ ابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي: علام على المبالغة والخفض، وتقدمت قراءة يعزب في يونس.
وقرأ الجمهور: * (ولا أصغر من ذالك ولا أكبر) *، برفع الراءين، واحتمل أن يكون معطوفا على * (مثقال) *، وأن يكون مبتدأ، والخبر في قوله: * (إلا فى كتاب) *. وعلى الاحتمال الأول، يكون * (إلا فى كتاب مبين) * توكيدا لما تضمن النفي في قوله: * (لا يعزب) *، وتقديره: لكنه في كتاب مبين، وهو كناية عن ضبط الشئ والتحفظ به، فكأنه في كتاب، وليس ثم كتاب حقيقة. وعلى التخريج الأول، يكون الكتاب هو اللوح المحفوظ. وقرأ الأعمش، وقتادة: بفتح الراءين. قال ابن عطية: عطفا على * (ذرة) *. ورويت عن أبي عمرو، وعزاها أيضا إلى نافع، ولا يتعين ما قال، بل تكون لا لنفي الجنس، وهو مبتدأ، أعني مجموع لا وما بني معها على مذهب سيبويه، والخبر * (إلا فى كتاب مبين) *، وهو من عطف الجمل، لا من عطف المفردات، كما قال ابن عطية.
وقال الزمخشري: جوابا لسؤال من قال: هل جاز عطف * (ولا أصغر) * على * (مثقال) *، وعطف * (ولا أصغر) * على * (ذرة) *؟ قلت: يأبى ذلك حرف الاستثناء، إلا إذا جعلت الضمير في عنه للغيب، وجعلت الغيب اسما للخفيات قبل أن تكتب في اللوح، لأن إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يزول عنه إلا
248

مسطورا في اللوح. انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التأويل إذا جعلنا الكتاب المبين ليس اللوح المحفوظ. وقرأ زيد بن علي: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، بخفض الراءين بالكسرة، كأنه نوى مضافا إليه محذوفا، التقدير: ولا أصغر ولا أكبره، ومن ذلك ليس متعلقا بأفعل، بل هو بتبين، لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظا فبينه بقوله: * (من ذالك) *، أي عنى من ذلك، وقد جاءت من كون أفعل التفضيل مضافا في قول الشاعر:
* تحن نفوس الورى وأعلمنا
*
بنا يركض الجياد في السدف
*
وخرج على أنه أراد علم بنا، فأضاف ناويا طرح المضاف إليه، فاحتملت قراءة زيد هذا التوجيه الآخر: أنه لما أضاف أصغر وأكبر على إعرابهما حالة الإضافة، وهذا كله توجيه شذوذ، وناسب وصفه تعالى بعالم الغيب، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات، فاندرج في ذلك وقت قيام الساعة، وصار ذلك دليلا على صحة ما أقسم عليه، لأن من كان عالما بجميع الأشياء كلها وجزئها، وكانت قدرته ثابتة، كان قادرا على إعادة ما فنى من جميع الأرواح والأشباح. قيل: وقوله * (مثقال ذرة في * السماوات) *، إشارة إلى علمه بالأرواح، * (ولا فى الارض) *، إشارة إلى علمه بالأشياء. وكما أبرزهما من العدم إلى الوجود أولا، فكذلك يعيدهما ثانيا. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكون بمعنى اليمين مصححة لما أنكروه؟ قلت: هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها بالحجة القاطعة، وهو قوله: * (ليجزى) *، فقد وضع الله في العقول وركب في الغرائز وجوب الجزاء، وأن المحسن لا بد له من ثواب، والمسيء لا بد له من عقاب. انتهى، وفي السؤال بعض اختصار، وفيه دسيسة الاعتزال. والظاهر أن قوله: * (ليجزى) * متعلق بقوله: * (لا يعزب) *، وقيل: بقوله * (لتأتينكم) *، وقيل: بالعامل * (فى كتاب مبين) *: أي إلا مستقرا في كتاب مبين ليجزي. وقرأ الجمهور: معجزين مخففا، وابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السماك: مثقلا وتقدم في الحج، أي معجزين قدره الله في زعمهم. وقال ابن الزبير: معناه مثبطين عن الإيمان من أراده، مدخلين عليه العجز في نشاطه، وهذا هو سعيهم في الآيات، أي في شأن الآيات. وقال قتادة: مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا. وقال عكرمة: مراغمين. وقال ابن زيد: مجاهدين في إبطالها. وقرأ ابن كثير وحفص وابن أبي عبلة: * (أليم) * هنا، وفي الجاثية بالرفع صفة للعذاب، وباقي السبعة بالجر صفة للرجز، والرجز: العذاب السيء. والظاهر أن قوله: * (والذين سعوا) * مبتدأ، والخبر في الجملة الثانية، وهي * (أولائك) *. وقيل: هو منصوب عطفا على * (الذين كفروا) *، أي وليجزي الذين سعوا. واحتمل أن تكون الجملتان المصدرتان بأولئك هما نفس الثواب والعقاب، واحتمل أن تكونا مستأنفتين، والثواب والعقاب ما تضمنتا مما هو أعظم، كرضا الله عن المؤمن دائما، وسخطه على الفاسق دائما. قال العتبي: والظاهر أن قوله: * (ويرى) * استئناف إخبار عمن أوتي العلم، يعلمون القرآن المنزل عليك هو الحق. وقيل: ويرى منصوب عطفا على ليجزي، وقاله الطبري والثعلبي؛ وتقدم الخلاف في * (الذين أوتوا العلم) * في ذلك المكان الذي نزلت فيه هذه السورة. وقال الزمخشري: أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علما لا يزاد عليه في الاتفاق، ويحتجوا به على الذين كفروا وتولوا. ويجوز أن يريد: وليعلم من لم يؤمن من الأخيار أنه هو الحق، فيزداد حسرة وغما. انتهى. وإنما قال: عند مجيء الساعة، لأنه علق ليجزي بقوله: * (لتأتينكم) *، فبنى التخريج على ذلك. وقرأ الجمهور: الحق بالنصب، مفعولا ثانيا ليرى، وهو فصل؛ وابن أبي عبلة: بالرفع جعل هو مبتدأ والحق خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى، وهو لغة تميم، يجعلون ما هو
249

فصل عند غيرهم مبتدأ، قاله أبو عمر الجرمي. والظاهر أن الفاعل ليهدي هو ضمير الذي أنزل، وهو القرآن، وهو استئناف إخبار. وقيل: هو في موضع الحال على إضمار، وهو يهدي، ويجوز أن يكون معطوفا على الحق، عطف الفعل على الاسم، كقوله: * (صافات ويقبضن) *، أي قابضات، كما عطف الاسم على الفعل في قوله:
* فألفيته يوما يبير عدوه
*
وبحر عطاء يستحق المعابرا
*
عطف وبحر على يبير، وقيل: الفاعل بيهدي ضمير عائد على الله، وفيه بعد. * (وقال الذين كفروا) *: هم قريش، قال بعضهم لبعض على جهة التعجب والاستهزاء، كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه: هل أدلك على قصة عريبة نادرة؟ لما كان البعث عندهم من المحال، جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه، وأتوا باسمه، عليه السلام، نكرة في قوله: * (هل ندلكم على رجل) *؟ وكان اسمه أشهر علم في قريش، بل في الدنيا، وإخباره بالبعث أشهر خبر، لأنهم أخرجوا ذلك مخرج الاستهراء والتحلي ببعض الأحاجي المعمولة للتلهي والتعمية، فلذلك نكروا اسمه. وقرأ الجمهور: * (ينبئكم) * بالهمز؛ وزيد بن علي: بإبدال الهمزة ياء محضة. وحكى عنه الزمخشري: ينبئكم، بالهمزة من أنبأ، وإذا جوابها محذوف تقديره: تبعثون، وحذف لدلالة ما بعده عليه، وهو العامل إذا، على قول الجمهور. وقال الزجاج ذلك، وقال أيضا هو والنحاس: العامل * (مزقتم) *. قال ابن عطية: هو خطأ وإفساد للمعنى. وليس بخطأ ولا إفساد للمعنى، وإذا الشرطية مختلف في العامل فيها، وقد بينا ما كتبناه في (شرح التسهيل) أن الصحيح أن يعمل فيها فعل الشرط، كسائر أدوات الشرط. والجملة الشرطية يحتمل أن تكون معمولة لينبئكم، لأنه في معنى يقول لكم: * (إذا مزقتم كل ممزق) *، ثم أكد ذلك بقوله: * (إنكم لفى خلق جديد) *. ويحتمل أن يكون: * (إنكم لفى خلق جديد) * معمولا لينبئكم، ينبئكم متعلق، ولولا اللام في خبر إن لكانت مفتوحة، فالجملة سدت مسد المفعولين. والجملة الشرطية على هذا التقدير اعتراض، وقد منع قوم التعليق في باب أعلم، والصحيح جوازه. قال الشاعر:
* حذار فقد نبئت أنك للذي
*
ستنجزى بما تسعى فتسعد أو تشقى
وممزق مصدر جاء على زنة اسم المفعول، على القياس في اسم المصدر من كل فعل زائد على الثلاثة، كقوله:
*
ألم تعلم بمسرحي القوافي
فلا عيابهن ولا اجتلابا
*
أي: تسريحي القوافي. وأجاز الزمخشري أن يكون ظرف مكان، أي إذا مزقتم في مكان من القبور وبطون الطير والسباع، وما ذهبت به السيول كل مذهب، وما نسفته الرياح فطرحته كل مطرح. انتهى. و * (جديد) *، عند البصريين، بمعنى فاعل، تقول: جد فهو جاد وجديد، وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه. والظاهر أن قوله: * (افترى) * من قول بعضهم لبعض، أي هو مفتر، * (على الله كذبا) * فيما ينسب إليه من أمر البعث، * (أم به) * جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه. عاد لو أبين الافتراء والجنون، لأن هذا القول عندهم إنما يصدر عن أحد هذين، لأنه إذا كان يعتقد خلاف ما أتى به فهو مفتر، وإن كان لا يعتقده فهو مجنون. ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال: * (هل ندلكم) *، ردد بين الشيئين ولم يجزم
250

بأحدهما، حيث جوز هذا وجوز هذا، ولم يجزم بأنه افتراء محض، احترازا من أن ينسب الكذب لعاقل نسبة قطعية، إذا العاقل حتى الكافر لا يرضى بالكذب، لا من نفسه ولا من غيره، وأضرب تعالى عن مقالتهم، والمعنى: ليس للرسول كما نسبتم البتة، بل أنتم في عذاب النار، أو في عذاب الدنيا بما تكابدونه من إبطال الشرع وهو بحق، وإطفاء نور الله وهو متم.
ولما كان الكلام في البعث قال: * (بل الذين لا يؤمنون بالاخرة) *، فرتب العذاب على إنكار البعث، وتقدم الكلام في وصف الضلال بالبعد، وهو من أوصاف المحال استعير للمعنى، ومعنى بعده: أنه لا ينقضي خبره المتلبس به. * (أفلم يروا) *: أي هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة، * (إلى ما بين أيديهم) *: أي حيث ما تصرفوا، فالسماء والأرض قد أحاطتا بهم، ولا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، ولا يخرجوا عن ملكوت الله فيهما. وقال الزمخشري: أعموا فلم ينظروا، جعل بين الفاء والهمزة فعلا يصح العطف عليه، وهو خلاف ما ذهب إليه النحويون من أنه لا محذوف بينهما، وأن الفاء للعطف على ما قبل همزة الاستفهام، وأن التقدير فالم، لكن همزة الاستفهام لما كان لها الصدر قدمت، وقد رجع الزمخشري إلى مذهب النحويين في ذلك، وقد رددنا عليه هذا المذهب فيما كتبناه في (شرح التسهيل). وقفهم تعالى على قدرته الباهرة، وحذرهم إحاطتها بهم على سبيل الإهلاك لهم، وكان ثم حال محذوفة، أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهور تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد؟
* (إن نشأ نخسف بهم الارض) *، كما فعلنا بقارون، * (أو نسقط عليهم كسفا من السماء) *، كما فعلنا بأصحاب الظلة، أو * (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم) * محيطا بهم، وهم مقهورون تحت قدرتنا؟ * (إن فى ذلك) * النظر إلى السماء والأرض، والفكر فيهما، وما يدلان عليه من قدرة الله، * (لآية) *: لعلامة ودلالة، * (لكل عبد منيب) *: راجع إلى ربه، مطيع له. قال مجاهد: مخبت. وقال الضحاك: مستقيم. وقال أبو روق: مخلص في التوحيد. وقال قتادة
: مقبل إلى ربه بقلبه، لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقابه من يكفر به. وقرأ الجمهور: إن نشأ نخسف ونسقط بالنون في الثلاثة؛ وحمزة والكسائي، وابن وثاب، وعيسى، والأعمش، وابن مطرف: بالياء فيهن؛ وأدغم الكسائي الفاء في الباء في نخسف بهم. قال أبو علي: وذلك لا يجوز، لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء، فلا تدغم فيها، وإن كانت الباء تدغم في الفاء، نحو: اضرب فلانا، وهذا ما تدغم الباء في الميم، كقولك: اضرب مالكا، ولا تدغم الميم في الباء، كقولك: اصمم بك، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم. وقال الزمخشري: وقرأ الكسائي نخسف بهم، بالإدغام، وليست بقوية. انتهى. والقراءة سنة متبعة، ويوجد فيها الفصيح والأفصح، وكل ذلك من تيسيرة تعالى القرآن للذكر، فلا التفات لقول أبي علي ولا الزمخشري.
* (ولقد ءاتينا * داوود * منا فضلا ياجبال * جبال * أوبى معه والطير وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر فى السرد واعملوا صالحا إنى بما تعملون بصير * ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر * له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (سقط: يعملون له ما يشاء إلى نهاية الآية)) *.
251

(سقط: تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين)
مناسبة قصة داود وسليمان، عليهما السلام، لما قبلها، هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره، إذ طفحت ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره، إن شاء الله، من تأويب الجبال والطير مع داود، والإنة الحديد، وهو الجرم المستعصي، وتسخير الريح لسليمان، وإسالة النحاس له، كما ألان الحديد لأبيه، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة.
وقيل: لما ذكر من ينيب من عباده، ذكر من جملتهم داود، كما قال: * (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) *، وبين ما آتاه الله على إنابته فقال: * (ولقد ءاتينا * داوود * منا فضلا) *، وقيل: ذكر نعمته على داود وسليمان، عليهما السلام، احتجاجا على ما منح محمدا صلى الله عليه وسلم): أي لا تستبعدوا هذا، فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا وكذا. فلما فرغ التمثيل لمحمد، عليه السلام، رجع التمثيل لهم بسبأ، وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو. انتهى. والفضل الذي أوتي داود: الزبور، والعدل في القضاء، والثقة بالله، وتسخير الجبال، والطير، وتليين الحديد، أقوال. * (من جبال) *: هو إضمار القول، إما مصدر، أي قلنا * (من جبال) *، فيكون بدلا من * (فضلا) *، وأما فعلا، أي قلنا، فيكون بدلا من * (ءاتينا) *، وإما على الاستئناف، أي قلنا * (من جبال) *، وجعل الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته، ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية، حيث نادى الجبال وأمرها. وقرأ الجمهور: * (أوبى) *، مضاعف آب يؤوب، ومعناه: سبحي معه، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد. وقال مؤرج، وأبو ميسرة: أوبي: سبحي، بلغة الحبشة، أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح، أي تردد بالذكر، وضعف الفعل للمبالغة، قاله ابن عطية. ويظهر أن التضعيف للتعدية، فليس للمبالغة، إذا أصله آب، وهو لازم بمعنى: رجع اللازم فعدى بالتضعيف، إذ شرحوه بقولهم: رجعي معه التسبيح.
قال الزمخشري: ومعنى تسبيح الجبال: أن الله يخلق فيها تسبيحا، كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح، معجزة لداود. قيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين، وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها. انتهى. وقوله: كما خلق الكلام في الشجرة، يعني أن الذي يسمع موسى هو مما خلقه الله في الشجرة من الكلام، لا أنه كلام الله حقيقة، وهو مذهب المعتزلة. وأما قوله: تساعده الجبال على نوحه بأصدائها فليس بشيء، لأن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة، والله تعالى نادى الجبال وأمرها بأن تؤوب معه، والصدى لا تؤمر الجبال بأن تفعله، إذ ليس فعلا لها، وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما يقوم عليه البرهان. وقال الحسن: معنى * (أوبى معه) *: سيري معه أين سار، والتأويب: سير النهار. كان الإنسان يسير الليل ثم يرجع للسير بالنهار، أي يردده، وقال تميم بن مقبل:
* لحقنا بحي أوبوا السير بعدما
*
رفعنا شعاع الشمس والطرف تجنح
*
وقال آخر:
* يومان يوم مقامات وأندية
*
ويوم سير إلى الأعداء تأويب
*
وقيل: أوبي: تصرفي معه على ما يتصرف فيه. فكان إذا قرأ الزبور، صوتت الجبال معه وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل. وقرأ ابن عباس، والحسن،
وقتادة، وابن أبي إسحاق: أوبي، أمر من أوب: أي رجعي معه في التسبيح، أو في
252

السير، على القولين. فأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة، لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك، ومنه: يا خيل الله اركبي، ومنه: يا رب أخرى، وقد جاء ذلك في جميع ما يعقل من المؤنث، قال الشاعر:
* تركنا الخيل والنعم المفدى
*
وقلنا للنساء بها أقيمي
*
لكن هذا قليل. وقرأ الجمهور: * (والطير) *، بالنصب عطفا على موضع * (من جبال) *. قال سيبويه: وقال أبو عمرو: بإضمار فعل تقديره: وسخرنا له الطير. وقال الكسائي: عطفا على * (فضلا) *، أي وتسبيح الطير. وقال الزجاج: نصبه على أنه مفعول معه. انتهى، وهذا لا يجوز، لأن قبله معه، ولا يقتضي الفعل اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف، فكما لا يجوز: جاء زيد مع عمر ومع زينب إلا بالعطف، كذلك هذا. وقرأ السلمي، وابن هرمز، وأبو يحيى، وأبو نوفل، ويعقوب، وابن أبي عبلة، وجماعة من أهل المدينة، وعاصم في رواية: والطير، بالرفع، عطفا على لفظ * (من جبال) *؛ وقيل: عطفا على الضمير في * (أوبى) *، وسوغ ذلك الفصل بالظرف؛ وقيل: رفعا بالابتداء، والخبر محذوف، أي والطير تؤوب. وإلانة الحديد، قال ابن عباس وقتادة: صار كالشمع. وقال الحسن: كالعجين، وكان يعمله من غير نار. وقال السدي: كالطين المبلول والعجين والشمع، يصرفه كيف شاء من غير نار ولا ضرب مطرقة. وقيل: أعطي قوة يلين بها الحديد. وقال مقاتل: وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو في بعض ليلة ثمنها ألف درهم، وكان داود يتنكر فيسأل الناس عن حاله، فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله، فقال: نعم العبد لولا خلة فيه، فقال: وما هي؟ فقال: يرتزق من بيت المال، ولو أكل من عمل يده تمت فضائله، فدعا الله أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، د فعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فأثرى، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين. وأن في * (أن اعمل) * مصدرية، وهي على إسقاط حرف الجر، أي ألناه لعمل * (سابغات) *. وأجاز الحوفي وغيره أن تكون مفسرة، ولا يصح، لأن من شرطها أن يتقدمها معنى القول، وأن ليس فيه معنى القول. وقدر بعضهم قبلها فعلا محذوفا حتى يصح أن تكون مفسرة، وتقديره: وأمرناه أن اعمل، أي اعمل، ولا ضرورة تدعو إلى هذا المحذوف. وقرئ: صابغات، بالصاد بدلا من السين، وتقدم أنها لغة في قوله: وأسبغ عليكم نعمه. * (وقدر فى السرد) *، قال ابن زيد: هو في قدر الحلقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف، فلا يقوى الدرع على الدفاع، ولا كبيرة فينال لابسها من خلالها. وقال ابن عباس: هو في المسمار، لا يرق فينكسر، ولا يغلظ فيفصم، بالفاء وبالقاف. وقال قتادة: إن الدروع كانت قبل صفائح كانت ثقالا، وهو أول من صنع الدرع حلقا. والظاهر أن الأمر في قوله: * (اعملوا ءال * داوود) * لآل داود، وإن لم يجر لهم ذكر. ويجوز أن يكون أمر الداود شرفه الله بأن خاطبه خطاب الجمع.
* (ولسليمان الريح) *، قال الحسن: عقر سليمان الخيل على ما فوتته من صلاة العصر، فأبدله الله خيرا منها، وأسرع الريح تجري بأمره. وقرأ الجمهور: الريح بالنصب، أي ولسليمان سخرنا الريح؛ وأبو بكر: بالرفع على الابتداء، والخبر في المجرور، ويكون الريح على حذف مضاف، أي تسخير الريح، أو على إضمار الخبر، أي الريح مسخرة. وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وخالد بن الياس: الرياح، بالرفع جمعا. وقال قتادة: كانت تقطع في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة شهر، وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر. وقال الحسن: فخرج من مستقره بالشام يريد تدمر التي بنتها الجن بالصفاح والعمد، فيقيل في إصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان. والغد وليس الشهر هو على حذف مضاف، أي جزى غدوها، أي جريها في الغد ومسيرة شهر، وجرى رواحها، أي جريها في الرواح مسيرة شهر. وأخبر
253

هنا في الغدو وعن الرواح بالزمان وهو شهر، ويعني شهرا واحدا كاملا، ونصب شهر جائز، ولكنه لم يقرأ به فيما أعلم. وقرأ ابن أبي عبلة: غدوتها وروحتها على وزن فعلة، وهي المرة الواحدة من غدا وراح. وقال وهب: كان مستقر سليمان، عليه السلام، بتدمر، وكانت الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر، وفيه يقول النابغة:
* ألا سليمان قد قال الإله له
*
قم في البرية فاصددها عن العبد
وجيش الجن إني قد أذنت لهميبنون تدمر بالصفاح والعمد
ووجدت أبياتا منقورة في صخرة بأرض يشكر شاهدة لبعض أصحاب سليمان، عليه السلام، وهي:
ونحن ولا حول سوى حول ربنانروح من الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنامسيرة شهر والغد ولآخر
*
أناس أعز الله طوعا نفوسهم
بنصر ابن داود النبي المطهر
*
* لهم في معاني الدين فضل ورفعة
*
وإن نسبوا يوما فمن خير معشر
*
وإن ركبوا الريح المطيعة أسرعت
مبادرة عن يسرها لم تقصر
*
* تظلهم طير صفوف عليهم
*
متى رفرفت من فوقهم لم تنشر
انتهى ما حكى وهب. * (وأسلنا له عين القطر) *: الظاهر أنه جعله له في معدنه عينا تسيل كعيون الماء، دلالة على نبوته. قال قتادة: يستعملها فيما يريد. وعن ابن عباس ومجاهد والسدي: أجريت له ثلاثة أيام بلياليهن، وكانت بأرض اليمن. قال مجاهد: سالت من صنعاء، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله، وكان لا يذوب. وقالت فرقة: المعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود، عليه السلام. قالوا: وكانت الأعمال تتأتى منه، وهو بارد دون نار، وعين بمعنى الذات. وقالوا: لم يكن أولا ذاب لأحد قبله. وقال الزمخشري: أراد بها معدن النحاس نبعا له، كما ألان الحديد لداود، فنبع كما ينبع الماء من العين، فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه، كما قال: * (إنى أرانى أعصر خمرا) *. انتهى ويحتمل * (من يعمل) * أن يكون في موضع نصب، أي وسخرنا من الجن من يعمل، وأن يكون في موضع رفع على الابتداء، وخبره في الجار والمجرور قبله * (بإذن ربه) * لقوله: * (ومن يزغ منهم عن أمرنا) *. وقرأ الجمهور: يزغ مضارع زاغ، أي ومن يعدل عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان. وقرئ: يزغ بضم الياء من أزاغ: أي ومن بملء ويصرف نفسه عن أمرنا. * (وعذاب * السعير) *: عذاب الآخرة، قاله ابن عباس. وقال السدي: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني. ولبعض الباطنية، أو من يشبههم، تحريف في هذه الجمل. إن تسبح الجبال هو نوع قوله: * (وإن من شىء إلا يسبح بحمده) *، وإن تسخير الريح هو أنه راض الخيل وهي كالريح، وإن * (غدوها شهر) * يكون فرسخا، لأن من يخرج للتفرج لا يسير في غالب الأمر أشد من فرسخ. والإنة الحديد وإسالة القطر هو استخراج ذو بهما بالنار واستعمال الآلات منهما.
*
* (ومن الجن) *: هم ناس من بني آدم أقوياء شبهوا بهم في قواهم، وهذا تأويل فاسد وخروج بالجملة عما يقوله أهل التفسير في الآية، وتعجيز للقدرة الإلهية، نعوذ بالله من ذلك. والمحاريب، قال مجاهد: المشاهد، سميت باسم بعضها تجوزا. وقال ابن عطية: القصور. وقال قتادة: كليهما. وقال ابن زيد: مساكن. وقيل: ما يصعد اليه بالدرج، كالغرف. والتماثيل: الصور، وكانت لغير الحيوان. وقال الضحاك: كانت تماثيل حيوان، وكان عملها جائزا في
254

ذلك الشرع. وقال الزمخشري: هي صور الملائكة والنبين والصالحين، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام، ليراها الناس، فيعبدوا نحو عبادتهم، وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع، لأنه ليس من مقبحات الفعل، كالظلم والكذب. وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما، أو صورا محذوفة الرؤوس. انتهى، وفيه بعض حذف. وقيل: التماثيل طلسمات، فيعمل تمثالا للتمساح، أو للذباب، أو للبعوض، ويأمر أن لا يتجاوز ذلك الممثل به ما دام ذلك التمثال والتصوير حراما في شريعتنا. وقد ورد تشديد الوعيد على المصورين، ولبعض العلماء استثناء في شيء منها. وفي حديث سهل بن حنيف: لعن الله المصورين، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام. وحكى مكي في الهداية أن قوما أجازوا التصوير، وحكاه النحاس عن قوم واحتجوا بقوله: * (وتماثيل) *، قاله ابن عطية، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه. وقرئ: * (كالجواب) * بلاياء، وهو الأصل، اجتزاء بالكسرة، واجراء الألف واللام مجرى ما عاقبها، وهو التنوين، وكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه، وهو أل. و * (* الراسيات) *: الثابتات على الأثافي، فلا تنقل ولا تحمل لعظمها. وقدمت المحاريب على التماثيل، لأن النقوش تكون في الأبنية. وقدم الجفان على القدور، لأن القدور آلة الطبخ، والجفان آلة الأكل، والطبخ قبل الأكل، لما بين الأبنية الملكية. وأراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيها، والقدور لا تكون فيها ولا تحضر هناك، ولهذا قال: * (وقدور رسيات) *. ولما بين حال الجفان، سرى الذهن إلى عظمة ما يطبخ فيه، فذكر القدور للمناسبة، وذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب لاحتياجه إلى قتال الأعداء، وفي حق سليمان المحاريب والتماثيل، لأنه كان ملكا ابن ملك، قد وطدله أبوه الملك، فكانت حاله حالة سلم، إذ لم يكن أحد يقدر على محاربته.
وقال عقب: * (أن اعمل سابغات) *، و * (اعملوا * صالحا) *، وعقب ما يعلمه الجن: * (اعلموا * ءال * داوود * شاكرا) *، إشارة إلى أن الإنسان لا
يستغرق في الدنيا ولا يلتفت إلى زخارفها، وأنه يجب أن يعمل صالحا، * (اعلموا * ءال * داوود) *. وقيل: مفعول اعلموا محذوف، أي اعلموا الطاعات وواظبوا عليها شكرا لربكم على ما أنعم به عليكم، فقيل: انتصب شكرا على الحال، وقيل: مفعول من أجله، وقيل: مفعول له باعملوا، أي اعلموا اعملا هو الشكر، كالصلاة والصيام والعبادات كلها في أنفسها هي الشكر إذا سدت مسدة، وقيل: على المصدر لتضمينه اعلموا اشكروا بالعمل لله شكرا. روي أن مصلى آل داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلا ونهارا، وكانوا يتناوبونه. وكان سليمان، عليه السلام، يأكل الشعير، ويطعم أهله الخشكار، والمساكين الدرمك، وما شبع قط، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف إن شبعت أن أنس الجياع. و * (الشكور) *: صيغة مبالغة، وأريد به الجنس. قال ابن عباس: الشكور: من يشكر على أحواله كلها. وقال السدي: من يشكر على الشكر. وقيل: من يرى عجزه عن الشكر، وهذه الجملة تحتمل أن تكون خطابا لآل داود، وهو الظاهر، وأن تكون خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم)، وفيها تنبيه وتحريض على الشكر.
* (فلما قضينا عليه الموت) *: أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت، وأخرجناه إلى حيز الوجود. وجواب لما النفي الموجب، وهذا يدل على أن لما حرف لا ظرف، خلافا لمن زعم ذلك، لأنه لو كان ظرفا لكان الجواب هو العامل وما دخلت عليه، وهي نافية، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها، وقد مضى لنا نظير هذا في يوسف في قوله: * (ولما دخلوا
255

من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شىء) *. فالضمير في * (دلهم) * عائد على الجن الذين كانوا يعملون له، وكان سليمان قد أمر الجن ببناء صرح له، فبنوه له. ودخله مختليا ليصفو له يوم من الدهر من الكدر، فدخل عليه شاب فقال له: كيف دخلت علي بغير إذن؟ فقال: إنما دخلت بإذن، قال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح. فعلم أنه ملك الموت أتى بقبض روحه، فقال: سبحان الله، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا، فقال له: طلبت ما لم يخلق، فاستوثق من الاتكاء على العصا، فقبض روحه، وبقيت الجن تعمل على عادتها. وكان سليمان قصد تعمية موته، لأنه كان بقي من تمام بناء المسجد عمل سنة، فسأل الله تمامها على يد الإنس والجن، وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة، فكانوا يقولون: إنه يتحنث. وقيل: إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة، فدعا الشياطين فبنوا له الصرح، وقام يصلي متكئا على عصاه، فقبض روحه وهو متكئ عليها. وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه، فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع، فنظر فإذا هو قد خر ميتا، وكأن عمره ثلاثا وخمسين سنة. ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان أبوه قد أسس بنيان المسجد موضع بساط موسى، فمات قبل أن يتمه، ووصى به ابنه، فأمر الشياطين بإتمامه، ومات قبل تمامه.
و * (دابة الارض تأكل) *: هي سوسة الخشب، وهي الأرضة. وقيل: ليست سوسة الخشب، لأن السوسة ليست من دواب الأرض، بل هذه حيوان من الأرض شأنه أن يأكل الخشب، وذلك موجود. وقالت فرقة، منها أبو حاتم: الأرض هنا مصدر أرضت الأبواب، والخشب أكلتها الأرضة فكأنه قال: دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة. وإذا كان الأرض مصدرا، كان فعله أرضت الدابة الخشب تأرضه أرضا فأرض بكسر الراء نحو: جدعت أنفه فجدع. ويقال: إنه مصدر لفعل مفتوح العين، قراءة ابن عباس. والعباس بن الفضل: الأرض بفتح الراء، لأن مصدر فعل المطاوع لفعل يكون على فعل نحو: جدع أنفه جدعا وأكلت الأسنان أكلا، مطاوع أكلت. وقيل: الأرض بفتح الراء جمع أرضه، وهو من إضافة العام إلى الخاص، لأن الدابة أعم من الأرض. وقراءة الجمهور: بسكون الراء، فالمتبادر أنها الأرض المعروفة، وتقدم أنها مصدر لأرضت الدابة الخشب. وتأكل: حال، أي أكلت منسأته، وهي حال مصاحبة. وتقدم أن المنسأة هي العصا، وكانت فيما روي من خرنوب، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس، فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر فتقلع، ويتصرف في منافعها، وتغرس لتتناسل. فلما قرب موته، نبتت شجرة وسألها فقالت: أنا الخرنوب، خرجت لخراب ملكك، فعرف أنه حضر أجله، فاستعد واتخذ منها عصا واستدعى بزاد سنة، والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل. وروي أن سليمان كان في قبة، وأوصى بعض أهله بكتمان موته عن الإنس والجن سنة ليتم البناء الذي بدىء في زمن داود، فلما مضى لموته سنة، خر عن العصا ونظر إلى مقدار ما تأكله الأرضة يوما وقيس عليه، فعلم أنها أكلت العصا منه سنة. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وجماعة: منساته بألف، وأصله منسأته، أبدلت الهمزة ألفا بدلا غير قياسي. وقال أبو عمر: وأنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا، فإن كانت مما لا تهمز، فقد احتطت، وإن كانت تهمز، فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز. وقرأ ابن ذكوان وجماعة، منهم بكار والوليدان بن عتبة وابن مسلم: منسأته، بهمزة ساكنة، وهو من تسكين التحريك تخفيفا، وليس بقياس. وضعف النحاة هذه القراءة، لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل التأنيث ساكنا غير الفاء. وقيل: قياسها التخفيف بين بين، والراوي لم يضبط، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدا على سكون هذه القراءة قول الراجز:
256

* صريع خمر قام من وكأته
*
كقومة الشيخ إلى منسأته
*
وقرأ باقي السبعة بالهمز مفتوحة، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا، وعلى وزن مفعالة: منساءة. وقرأت فرقة، منهم عمر بن ثابت، عن ابن جبير: مفصولة حرف جر وسأته بجر التاء، قيل: ومعناه من عصاه، يقال لها: ساة القوس وسيتها معا، وهي يدها العليا والسفلى، سميت العصا ساة القوس على الاستعارة، ولا سيما إن صح النقل أنه اتخذها من شجر الخروب قبل موته، فيكون حين اتكأ عليها، وهي كما قطعت من شجرة خضراء، قد اعوجت حتى صارت كالقوس. ألا
ترى أنك إذا اتكأت على غصن أخضر كيف يعوج حتى يكاد يلتقي طرفاه؟ فيها لغتان: ساة وسية، كما يقال: قحة وقحاة، والمحذوف من ساة وسية.
* (فلما خر) *: أي سقط عن العصا ميتا، والظاهر أن الضمير في خر عائد على سليمان. وقيل: إن لم يمت إلى أن وجد في سفر مضطجعا، ولكنه كان في بيت مبني عليه، وأكلت الأرضة عتبة الباب حتى خر الباب، فعلم موته. وقال ابن عباس: مات في متعبده على فراشه، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة، أي عتبة الباب، فلما خر، أي الباب. انتهى، وهذا فيه ضعف، لأنه لو كانت المنسأة هي العتبة، وعاد الضمير عليها، لكان التركيب: فلما خرت، بتاء التأنيث، ولا يجيء حذف مثل هذه التاء إلا في ضرورة الشعر، ولا يكون من ذكر المعنى على معنى العود لأنه قليل. وقرأ الجمهور: تبينت، مبنيا للفاعل، فاحتمل أن يكون من تبين بمعنى بان، أي ظهرت الجن، والجن فاعل، وإن وما بعدها بدل من الجن. كما تقول: تبين زيد جهله، أي ظهر جهل زيد، فالمعنى: ظهر للناس جهل الجن علم الغيب، وأن ما ادعوه من ذلك ليس بصحيح. واحتمل أن يكون من تبين بمعنى علم وأدرك، والجن هنا خدم الجن، وضعفتهم * (أن لو كانوا) *: أي لو كان رؤساؤهم وكبراؤهم يعلمون الغيب، قاله قتادة. وقال الزمخشري: أو علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم، وأنهم لا يعلمون الغيب، وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم، وإنما أريد بهم التهكم كما يتهكم بمدعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله، كقولك: هل تبينت أنك مبطل وأنت لا تعلم أنه لم يزل لذلك متبينا؟ انتهى. ويجىء تبين بمعنى بأن وظهر لازما، وبمعنى علم متعديا موجود في كلام العرب. قال الشاعر:
* تبين لي أن القماءة ذلة
*
وأن أعزاء الرجال طيالها
*
وقال آخر:
* أفاطم إني ميت فتبيني
*
ولا تجزعي على الأنام بموت
*
أي: فتبيني ذلك، أي أعلمية. وقال ابن عطية: ذهب سيبويه إلى أن أن لا موضع لها من الإعراب، إنما هي موزونة، نحو: إن ما ينزل القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين، لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم. فما لبثوا: جواب القسم، لا جواب لو. وعلى الأقوال، الأول جواب لو. وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ: * (تبينت الجن) *، بنصب الجن، أي تبينت الإنس الجن، والمعنى: أن الجن لو كانت تعلم الغيب ما خفى عليها موته، أي موت سليمان. وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة والضعة وهو ميت. وقرأ ابن عباس، فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه: تبينت مبنيا للمفعول؛ وعن ابن عباس، وابن مسعود، وأبي، وعلي بن الحسن، والضحاك قراءة
257

في هذا الموضع مخالفة لسواد المصحف ولما روي عنهم، ذكرها المفسرون، أضرب عن ذكرها صفحا على عادتنا في ترك نقل الشاذ الذي يخالف للسواد مخالفة كثيرة.
* (لقد كان لسبإ فى * مساكنهم * جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجناتهم جنتين ذواتى أكل خمط وأثل وشىء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجزى إلا الكفور * وجعلنا بينهم وبين القرى التى باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالى وأياما ءامنين * فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن فى ذلك لايات لكل صبار شكور (سقط: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ)) *. لما ذكر تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان، بين حال الكافرين بأنعمه بقصة سبأ، موعظة لقريش وتحذيرا وتنبيها على ما جرى لمن كفر أنعم الله، وتقدم الكلام في سبأ في النمل. ولما ملكت بلقيس، اقتتل قومها على ماء واديهم، فتركت ملكها وسكنت قصرها، وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك، فقالت لهم: لا عقول لكم ولا تطيعوني، فقالوا: نطيعك، فرجعت إلى واديهم، وكانوا إذا مطروا، أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمساءة بالصخر والقار، وحبست الماء من وراء السد، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة فيها اثنان عشر مخرجا على عدد أنهارهم، وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان، عليه السلام، ما سبق ذكره في سورة النمل. وقيل: الذي بنى لهم السد هو حمير أبو القبائل اليمنية. وعن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم). قيل: وكان لهم رئيس يلقب بالحمار، وكان في الفترة، فمات ولده فرفع رأسه إلى السماء فبزق وكفر، فلذا يقال في المثل: أكفر من حمار، ويقال: بركة جوف حمار، أي كوادي حمار، لما حال بهم السيل.
وقرأ الجمهور: * (فى مساكنهم) *، جمعا؛ والنخعي، وحمزة، وحفص: مفردا بفتح الكاف؛ والكسائي: مفردا بكسرها، وهي قراءة الأعمش وعلقمة. وقال أبو الحسن: كسر الكاف لغة فاشية، وهي لغة الناس اليوم؛ والفتح لغة الحجاز، وهي اليوم قليلة. وقال الفراء: هي لغة يمانية فصيحة، فمن قرأ الجمع فظاهر، لأن كل
أحد له مسكن، ومن أفرد ينبغي أن يحمل على المصدر، أي في سكناهم، حتى لا يكون مفردا يراد به الجمع، لأن سيبويه يرى ذلك ضرورة نحو: كلوا في بعض بطنكم تعفوا، يريد بطونكم. وقوله:
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
258

أي جلود.
آية: أي علامة دالة على الله وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره، أو جعل قصتهم لأنفسهم آية، إذ: أعرض أهلها عن شكر الله عليهم، فخر بهم وأبدلهم عنها الخمط والإثل ثمرة لهم؛ و * (جنتان) *: خبر مبتدأ محذوف، أي هي جنتان، قاله الزجاج، أو بدل، قال معناه الفراء، قال: رفع لأنه تفسير لآية. وقال مكي وغيره، وضعفه ابن عطية، ولم يذكر جهة تضعيفه. وقال: * (جنتان) * ابتداء، وخبره في قوله: * (عن يمين وشمال) *. انتهى. ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها، إلا إن اعتقد إن ثمة صفة محذوفة، أي جنتان لهم، أو عظيمتان لهم * (عن يمين وشمال) *، وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام مفلتا مما قبله. وقرأ ابن أبي عبلة: جنتين بالنصب، على أن آية اسم كان، وجنتين الخبر. قيل: ووجه كون الجنتين آية نبات الخمط والإثل والسدر مكان الأشجار المثمرة. قال قتادة: كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار تسر الناس بظلالها، ولم يرد جنتين ثنتين، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة. انتهى. قال الزمخشري: وإنما أراد جماعة من البساتين عن يمين بلدتهم، وأخرى عن شمالها، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة، كما يكون بلاد الريف العامرة وبساتينها، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله، كما قال: * (جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب) *. انتهى. قال ابن زيد: لا يوجد فيها برغوث، ولا بعوض، ولا عقرب، ولا تقمل ثيابهم، ولا تعيا دوابهم؛ وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار، وعلى رأسها المكتل، فيمتلىء ثمارا من غير أن تتناول بيدها شيئا. وروي نحو هذا عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس.
* (كلوا من رزق ربكم) *: قول الله لهم على ألسنة الأنبياء المبعوثين إليهم، وروي ذلك مع الأيمان بالله، أو قول لسان الحال لهم، كما رأوا نعما كثيرة وأرزاقا مبسوطة، وفيه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم، حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض. * (واشكروا له) * على ما أنعم به عليكم، * (بلدة طيبة) *: أي كريمة التربة، حسنة الهواء، رغدة النعم، سليمة من الهوام والمضار، * (ورب غفور) *، لا عقاب على التمتع بنعمه في الدنيا، ولا عذاب في الآخرة، فهذه لذة كاملة خالية عن المفاسد العاجلة والمآلية. وقرأ رويس: بنصب الأربعة. قال أحمد بن يحيى: اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا ربا غفورا. وقال الزمخشري: منصوب على المدح. ولما ذكر تعالى ما كان من جانبه من الإحسان إليهم، ذكر ما كان من جانبهم في مقابلته فقال: * (فأعرضوا) *: أي عما جاء به إليهم أنبياؤهم، وكانوا ثلاثة عشر نبيا، دعوهم إلى الله تعالى، وذكر وهم نعمه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله نعمة، فبين كيفية الانتقام منهم. كما قال: * (ومن أظلم ممن ذكر بئايات ربه ثم أعرض عنها) *، * (إنا من المجرمين منتقمون) *، فسلط الله عليهم الجرذ فأرا أعمى توالد فيه، ويسمى الخلد، وخرقه شيئا بعد شيء، وأرسل سيلا في ذلك الوادي، فحمل ذلك السد، فروي أنه كان من العظم، وكثر به الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنات وكثيرا من الناس ممن لم يمكنه الفرار. وروي أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات، فهلكت بهذا الوجه. وقال المغيرة بن حكيم، وأبو ميسرة: العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي: كل ما بني أو سنم ليمسك الماء. وقال ابن جبير: العرم: المسناة، بلسان الحبشة. وقال الأخف 5: هو عربي، ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز
259

المسناة، كأنها الجسور والسداد، ومن هذا المعنى قول الأعشى:
* وفي ذاك للمؤتسى أسوة
*
مآرب عفى عليها العرم
*
* رجام بنته لهم حمير
*
إذا جاش دفاعه لم يرم
*
* فأروى الزروع وأشجارها
*
على سعة ماؤه إذ قسم
*
* فصاروا أيادي لا يقدرو
*
ن منه على شرب طفل فطم
وقال آخر:
* ومن سبأ للحاضرين مآرب
*
إذا بنوا من دونه سيل العرم
*
وقال ابن عباس، وقتادة، والضحاك: العرام اسم، وإن ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني به. انتهى. ويمكن أن يسمى الوادي بذلك البناء لمجاروته له، فصار علما عليه. وقال ابن عباس أيضا: العرم: الشديد، فاحتمل أن يكون صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته، والتقدير: السيل العرم، أو صفة لموصوف محذوف، أي سيل المطر الشديد الذي كان عنه السيل، أو سيل الجرذ العرم، فالعرم صفة للجرذ. وقيل: العرم اسم للجرذ، وأضيف السيل إليه لكونه كان السبب في خراب السد الذي حمله السيل، والإضافة تكون بأدنى ملابسة. وقرأ عروة بن الورد فيما حكى ابن خالويه: العرم، بإسكان الراء تخفيف العرم، كقولهم: في الكبد الكبد.
*
ولما غرق من غرق، ونجا من نجا، تفرقوا وتحرفوا حتى ضربت العرب بهم المثل فقالوا: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ، قيل: الأوس والخزرج منهم. وعن ابن عباس: كان سيل ذلك الوادي يصل إلى مكة وينتفع به، وكان سيل العرم في ملك ذي الأذعار بن حسان، في الفترة بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم). انتهى.
ودخلت الباء في * (* بجنيتهم) * على الزائل، وانتصب ما كان بدلا، وهو قوله: * (بجناتهم جنتين) * على المعهود في لسان العرب، وإن كان كثيرا لمن ينتمي للعلم يفهم العكس حتى قال بعضهم: ولو أبدل ضادا بظاء لم تصح صلاته، وهو خطأ في لسان العرب، ولو أبدل ظاء بضاد، وقد تكلمنا على ذلك في البقرة في قوله: * (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) *. وسمى هذا المعوض جنتين على سبيل المقابلة، لأن ما كان فيه خمط وأثل وسدر لا يسمى جنة، لأنها أشحار لا يكاد ينتفع بها. وجاءت تثنية ذات على الأصح في رد عينها في التثنية فقال: * (ذواتى أكل) *، كما جاء * (ذواتا أفنان) *. ويجوز أن لا ترد فتقول: ذاتا كذا على لفظ ذات، وتقدم ذكر الخلاف في ضم كاف أكل وسكونها. وقرأ الجمهور: أكل منونا، وألاكل: الثمر المأكول، فخرجه الزمخشري على أنه على حذف مضاف، أي أكل خمط قال أو وصف ألاكل بالخمط كأنه قيل ذواتي أكل شبع. انتهى. والوصف بالأسماء لا يطرد، وإن كان قد جاء منه شيء، نحو قولهم: مررت بقاع عرفج كله. وقال أبو علي: البدل في هذا لا يحسن، لأن الخمط ليس بالأكل نفسه. انتهى. وهو جائز على ما قاله الزمخشري، لأن البدل حقيقة هو ذلك المحذوف، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه. قال أبو علي: والصفة أيضا كذلك، يريد لا بجنتين، لأن الخمط اسم لا صفة، وأحسن ما فيه عطف البيان، كأنه بين أن ألاكل هذه الشجرة ومنها. انتهى. وهذا لا يجوز على مذهب البصريين، إذ شرط عطف البيان أن يكون معرفة، وما قبله معرفة، ولا يجيز ذلك في النكرة من النكرة إلا
260

الكوفيون، فأبو علي أخذ بقولهم في هذه المسألة. وقرأ أبو عمرو: أكل خمط بالإضافة: أي ثمر خمط. وقرئ: وأثلا وشيئا بالنصب، حكاه الفضل بن إبراهيم، عطفا على جنتين. وقليل صفة لسدر، وقلله لأنه كان أحسن أشجاره وأكرم، قاله الحسن، وذلك إشارة إلى ما أجراه عليهم من تخريب بلادهم، وإغراق أكثرهم، وتمزيقهم في البلاد، وإبدالهم بالأشجار الكثيرة الفواكه الطيبة المستلذة، الخمط والأثل والسدر. ثم ذكر سبب ذلك، وهو كفرهم بالله وإنكار نعمه. * (وهل) * بذلك العقاب * (نجزى إلا الكفور) *: أي المبالغ في الكفر، يجازي بمثل فعله قدرا بقدر، وأما المؤمن فجزاؤه بتفضيل وتضعيف. وقرأ الجمهور: بضم الياء وفتح الزاي، الكفور رفعا؛ وحمزة والكسائي: بالنون وكسر الزاي، الكفور نصبا. وقرأ مسلم بن جندب: يجزي مبنيا للمفعول، الكفور رفعا، وأكثر ما يستعمل الجزاء في الخير، والمجازاة في الشر، لكن في تقييدهم قد يقع كل واحد منهما موقع الآخر.
* (وجعلنا بينهم وبين القرى التى باركنا فيها قرى ظاهرة) *: جاءت هذه الجملة بعد قوله: * (وبدلناهم) *، وذلك أنه لما ذكر ما أنعم به عليهم من جنتيهم، وذكر تبديلها بالخمط والأثل والسدر، ذكر ما كان أنعم به عليهم من اتصال قرارهم، وذكر تبديلها بالمفاوز والبراري. وقوله: * (وجعلنا) *، وصف تعالى حالهم قبل مجيء السيل، وهو أنه مع ما كان منهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلها أربابها، وقدر السير بأن قرب القرى بعضها من بعض. قال ابن عطية: حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في أخرى، ولا يحتاج إلى حمل زاد. والقرى: المدن، ويقال للجمع الصغير أيضا قرية. والقرى التي بورك فيها بلاد الشام، بإجماع من المفسرين. والقرى الظاهرة هي التي بين الشأم ومأرب، وهي الصغار التي هي البوادي. انتهى. وما ذكره من أن القرى التي بورك فيها هي قرى الشام بإجماع ليس كما ذكر، قال مجاهد: هي السراوي. وقال وهب: قرى صنعاء. وقال ابن جبير: قرى مأرب. وقال ابن عباس: قرى بيت المقدس. وبركتها: كثرة أشجارها أو ثمارها. ووصف قرى بظاهرة، قال قتادة: متصلة على الطريق، يغدون فيقيلون في قرية، ويروحون فيبيتون في قرية. قيل: كان كل ميل قرية بسوق، وهو سبب أمن الطريق. وقال المبرد: ظاهرة: مرتفعة، أي في الآكام والظراب، وهو أشرف القرى. وقيل: ظاهرة، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى. وقيل: ظاهرة: معروفة، يقال هذا أمر ظاهر: أي معروف، وقيل: ظاهرة: عامرة. وقال ابن عطية: والذي يظهر لي أن معنى ظاهرة: خارجة عن المدة، فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن، كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن. وظواهر المدن: ما خرج عنها في الفيافي والفحوص، ومنه قولهم: نزلنا بظاهر فلاة أي خارجا عنها، وقوله: * (ظاهرة) *: تظهر،
تسميه الناس إياها بالبادية والضاحية، ومن هذا قول الشاعر:
* فلو شهدتني من قريش عصابة
*
قريش البطاح لا قريش الظواهر
*
يعني: الخارجين من بطحاء مكة. وفي الحديث: (وجاء أهل الضواحي يسكنون الغرف). * (وقدرنا فيها السير) *: قد ذكر أن الغادي يقيل في قرية، والرائح في أخرى، إلى أن يصل إلى مقصوده آمنا من عدو وجوع وعطش وآفات المسافر. قال الضحاك: مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها. وقال الكلبي: مقادير المقيل والمبيت، وقال القتبي: بين كل قرية وقرية مقدار واحد معلوم، وقيل: بين كل قريتين نصف يوم، وهذه أقوال متقاربة. والظاهر أن قوله: * (سيروا) *، أمر حقيقة على لسان أنبيائهم. وقال الزمخشري: ولا قول ثم، ولكنهم لما مكنوا من السير، وسويترلهم أسبابه، فكأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه. انتهى. ودخول الفاء في قوله فكأنهم لا يجوز، والصواب كأنهم لأنه خبر
261

لكنم. وقال قتادة: كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشر في أمان، ولو وجد الرجل قاتل ابنه لم يهجه، وكان المسافر لا يأخذ زادا ولا سقاء مما بسط الله لم من النعم. وقال الزمخشري: * (سيروا فيها) *، إن شئتم بالليل، وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات؛ أو سيروا فيا آمنين ولا تخافون، وإن تطاولت مدة أسفاركم فيها وامتدت أياما وليالي؛ أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم، فإنكم في كل حين وزمان لا تلقون فيها إلا آمنين. انتهى. وقدم الليالي، لأنها مظنة الخوف لمن قال: ومن عليهم بالأمن، حتى يساوي الليل النهار في ذلك.
ولما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا العافية، وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، كما فعلت بنو إسرائيل، وقالوا: لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأغلى قيمة، فتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد فقالوا: * (ربنا باعد بين أسفارنا) *. وقرأ جمهور السبعة: ربنا بالنصب على النداء، باعد: طلب؛ وابن كثير، وأبو عمرو، وهشام: كذلك، إلا أنهم شددوا العين؛ وابن عباس، وابن الحنفية، وعمرو بن فائد: ربنا رفعا، بعد فعلا ماضيا مشدد العين؛ وابن عباس أيضا، وابن الحنفية أيضا؛ وأبو رجاء، والحسن، ويعقوب، وأبو حاتم، وزيد بن علي، وابن يعمر أيضا؛ وأبو صالح، وابن أبي ليلى، والكلبي، ومحمد بن علي، وسلام، وأبو حيوة: كذلك، إلا أنه بألف بين الباء والعين؛ وسعيد بن أبي الحسن أخي الحسين، وابن الحنفية أيضا، وسفيان بن حسين، وابن السميفع: ربنا بالنصب، بعد بضم العين فعلا ماضيا بين بالنصب، إلا سعيدا منهم، فضم نون بين جعله فاعلا، ومن نصب، فالفاعل ضمير يعود على السير، أي أبعد السير بين أسفارنا، فمن نصب ربنا جعله نداء، فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشرا منهم وبطرا وإن جاء بعد فعلا ماضيا كان ذلك شكوى مما أحل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها أولا، ومن رفع ربنا فلا يكون الفعل إلا ماضيا، وهي جملة خبرية فيها شكوى بعضهم إلى بعض مما حل بهم من بعد الأسفار. ومن قرأ باعد، أو بعد بالألف والتشديد، فبين مفعول، به لأنهما فعلان متعديان، وليس بين ظرفا. ألا ترى إلى قراءة من رفعه كيف جعله اسما؟ * (فكذلك) * إذا نصب وقرئ بعد مبنيا للمفعول. وقرأ ابن يعمر: بين سفرنا مفردا؛ والجمهور: بالجمع. * (وظلموا أنفسهم) *: عطف على * (فقالوا) *. وقال الكلبي: هو حال، أي وقد ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل. * (فجعلناهم أحاديث) *: أي عظاة وعبرا يتحدث بهم ويتمثل. وقيل: لم يبق منهم إلا الحديث، ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث. * (ومزقناهم كل ممزق) *: أي تفريفا، اتخذه الناس مثلا مضروبا، فقال كثير:
* أيادي سبايا عز ما كنت بعدكم
*
فلم يحل للعينين بعدك منظر
وقال قتادة: فرقناهم بالتباعد. وقال ابن سلام: جعلناهم ترابا تذروه الرياح. وقال الزمخشري: غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان؛ وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة، وأسد بالبحرين، وخزاعة بتهامة. وفي الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل، فلما جاء السيل على مأرب، وهو اسم بلدهم، تيامن منهم ستة قبائل، أي تبددت في بلاد اليمن: كندة والأزد والسفر ومذ حج وأنمار، التي منها بجيلة وخثعم، وطائفة قيل لها حجير بقي عليها اسم الأب الأول؛ وتشاءمت أربعة: لخم وجذام وغسان وخزاعة، ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة، وهم الأوس والخزرج، ومنها عاملة وغير ذلك.
*
* (إن فى ذلك لايات) *: أي في قصص هؤلاء لآية: أي علامة. * (لكل صبار) *، عن المعاصي وعلى الطاعات. * (شكور) *، للنعم. والظاهر أن الضمير في * (عليهم) * عائد على من قبله من أهل سبأ، وقيل: هو لبني آدم. وقرأ ابن عباس، وقتادة، وطلحة، والأعمش، وزيد بن علي، والكوفيون: * (صدق) * بتشديد الدال، وانتصب * (ظنه) * على أنه مفعول بصدق، والمعنى: وجد ظنه صادقا، أي ظن شيئا فوقع ما ظن. وقرأ باقي السبعة: بالتخفيف، فانتصب ظنه على المصدر، أي يظن ظنا، أو على إسقاط الحرف، أي في ظنه، أو على المفعول به نحو قولهم: أخطأت ظني، وأصبت
262

ظني، وظنه هذا كان حين قال: * (* لأضلنهم) *، * (الارض ولاغوينهم) *، وهذا مما قاله ظنا منه، فصدق هذا الظن. وقرأ زيد بن علي، والزهري،
وجعفر بن محمد، وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب، وبلال بن أبي برزة: بنصب إبليس ورفع ظنه. أسند الفعل إلى ظنه، لأنه ظنا فصار ظنه في الناس صادقا، كأنه صدقه ظنه ولم يكذبه. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمر: وإبليس ظنه، برفعهما، فظنه بدل من إبليس بدل اشتمال.
* (فاتبعوه) *: أي في الكفر. * (إلا فريقا) *: هم المؤمنون، ومن لبيان الجنس، ولا يمكن أن تكون للتبعيض لاقتضاء ذلك، إن فريقا من المؤمنين اتبعوا إبليس. وفي قوله: * (إلا فريقا) *، تقليل، لأن المؤمنين بالإضافة إلى الكفار قليل، كما قال: لاحتنكن ذريته إلا قليلا. * (وما كان له) *: أي لا بليس، * (عليهم من سلطان) *: أي من تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستواء، ولا حجة إلا الحكمة بينه وبين تميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها. وعلل التسلط بالعلم، والمراد ما تعلق به العلم، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: * (إلا لنعلم) * موجودا، لأن العلم متقدم أولا. انتهى. وقال معناه ابن قتيبة، قال: لنعلم حادثا كما علمناه قبل حدوثه. وقال قتادة: ليعلم الله به المؤمن من الكافر عاما ظاهرا يستحق به العقاب والثواب؛ وقيل: ليعلم أولياؤنا وحزبنا. وقال الحسن: والله ما كان له سوط ولا سيف، ولكنه استمالهم فمالوا بتزيينه. انتهى. كما قال تعالى عنه: * (ما كان لى * عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى) *. وقرأ الزهري: إلا ليعلم، بضم الياء وفتح اللام، مبنيا للمفعول. وقال ابن خالويه: إلا ليعلم من يؤمن بالياء. * (وربك على كل شىء حفيظ) *، إما للمبالغة عدل إليها عن حافظ، وإما بمعنى محافظ، كجليس وخليل. والحفظ يتضمن العلم والقدرة، لأن من جهل الشيء وعجز لا يمكنه حفظه.
* (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى * السماوات * ولا فى الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق (سقط: وهو العلي الكبير إلى آخر الآية)) *.
263

(سقط: الآية كاملة)
لما بين حال الشاكرين وحال الكافرين، وذكر قريشا ومن لم يؤمن بمن مضى، عاد إلى خطابهم فقال: * (قل) *، يا محمد للمشركين الذين ضرب لهم المثل بقصة سبأ المعروفة عندهم بالنقل في أخبارهم وأشعارهم، * (ادعوا الذين زعمتم) *، وهم معبوداتهم من الملائكة والأصنام، وهو أمر بدعاء هو تعجيز وإقامة للحجة. وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا، أي ادعوهم ليكشفوا عنكم ما حل بكم، والجؤوا إليهم فيما يعن لكم. وزعم: من الأفعال التي تتعدى إلى اثنين إذا كانت اعتقادية، والمفعول الأول هو الضمير المحذوف العائد على الذين، والثاني محذوف أيضا لدلالة المعنى، ونابت صفته منابه، التقدير: الذي زعمتموهم آلهة من دونه؛ وحسن حذف الثاني قيام صفته مقامه، ولولا ذلك ما حسن، إذ في حذف إحدى مفعولي ظن وأخواتها اختصارا خلاف، منع ذلك ابن ملكوت، وأجازه الجمهور، وهو مع ذلك قليل، ولا يجوز أن يكون الثاني من دونه، لأنه لا يستقل كلاما. لو قلت: هم من دونه، لم يصح، ولا الجملة من قوله: * (لا يملكون مثقال ذرة) *، لأنه لو كانت هذه النسبة مزعومة لهم لكانوا معترفين بالحق قائلين له. ولو كان ذلك توحيدا منهم، وأن آلهتهم ومعبوداتهم لا يملكون شيئا باعترافهم. ثم أخبر عن آلهتهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة، وهو أحقر الأشياء، وإذا انتفى ملك الأحقر عنهم، فملك الأعظم أولى. ثم ذكر مقر ذلك المثقال، وهو السماوات والأرض. ثم أخبر أنهم ما لهم في السماوات ولا في الأرض من شركة، فنفى نوعي الملك من الاستبداد والشركة. ثم نفى الإعانة منهم له تعالى في شيء مما أنشأ بقوله: * (وما له منهم من ظهير) *، فبين عجز معبوداتهم من جميع الجهات.
ولما كان من العرب من يعبد الملائكة لتشفع له، نفى أن شفاعتهم تنفع، والنفي منسحب على الشفاعة، أي لا شفاعة لهم فتنفع، وليس المعنى أنهم يشفعون، ولا تنفع شفاعتهم، أي لا يقع من معبوداتهم شفاعة أصلا. ولأن عابديهم كفار، فإن كان المعبودون أصناما أو كفارا، كفرعون، فسلب الشفاعة عنهم ظاهر، وإن كانوا ملائكة أو غيرهم ممن عبد، كعيسى عليه السلام، فشفاعتهم إذا وجدت تكون لمؤمن. و * (إلا لمن أذن له) *: استثناء مفرغ، فالمستثنى منه محذوف تقديره: ولا تنفع الشفاعة لأحد * (إلا لمن أذن له) *. واحتمل قوله لأحد أن يكون مشفوعا له، وهو الظاهر، فيكون قوله: * (إلا لمن أذن له) *، أي المشفوع، أذن لأجله أن يشفع فيه؛ والشافع ليس بمذكور، وإنما دل عليه المعنى. واحتمل أن يكون شافعا، فيكون قوله: * (إلا لمن أذن له) * بمعنى: إلا لشافع أذن له أن يشفع، والمشفوع ليس بمذكور، إنما دل عليه المعنى. وعلى هذا الاحتمال تكون اللام في * (أذن له) * لام التبليغ، لا لام العلة. وقال الزمخشري: يقول: الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع، كما يقول: الكرم لزيد، وعلى معنى أنه المشفوع له، كما تقول: القيام لزيد، فاحتمل قوله: * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) * أن يكون على أحد هذين الوجهين، أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له، أو لا تنفع الشافعة إلا كائنة لمن أذن له، أي لشفيعه، أو هي اللام الثانية في قولك: أذن لزيد لعمرو، أي لأجله، وكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله، وهذا وجه لطيف، وهو الوجه، وهذا تكذيب لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. انتهى. فجعل إلا لمن أذن له استثناء مفرغا من الأحوال، ولذلك قدره: إلا كائنة، وعلى ما قررناه استثناء من الذوات.
وقال أبو عبد الله الرازي: المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة: قائل:
264

إن الله خلق السماوات وجعل الأرض والأرضيات في حكمها، ونحن من جملة الأرضيات، فنعبد الكواكب والملائكة السماوية، وهم إلهنا، والله إلههم، فأبطل بقوله: * (لا يملكون) *، * (في السماوات) *، كما اعترفتم، * (ولا فى الارض) *، خلاف ما زعمتم. وقائل: السماوات من الله استبدادا، والأرضيات منه بواسطة الكواكب، فإنه تعالى خلق العناصر والتركيبات التي فيها بالاتصالات وحركات وطوالع، فجعلوا مع الله شركاء في الأرض، والأولون جعلوا الأرض لغيره، فأبطل بقوله: * (وما لهم فيهما من شرك) *، أي الأرض، كالسماء لله لا لغيره، ولا لغيره فيهما نصيب. وقائل: التركيبات والحوادث من الله، لكن فوض إلى الكواكب، وفعل المأذون ينسب إلى الآذن، ويسلب عن المأذون له فيه، جعلوا السماوات معينة لله، فأبطل بقوله: * (وما له منهم من ظهير) * وقائل: نعبد الأصنام التي هي
صور الملائكة ليشفعوا لنا، فأبطل بقوله: * (ولا تنفع الشفاعة) *، الجملة، وأل في الشفاعة الظاهر أنها للعموم، أي شفاعة جميع الخلق. وقيل: للعهد، أي شفاعة الملائكة التي زعموها شركاء وشفعاء. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال أبو البقاء: اللام في * (لمن أذن له) * يجوز أن تتعلق بالشفاعة، لأنك تقول: أشفعت له، وأنت تعلق بتنفع. انتهى، وهذا فيه قلة، لأن المفعول متأخر، فدخول اللام عليه قليل. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: أذن بضم الهمزة؛ وباقي السبعة: بفتحها، أي أذن الله له. والظاهر أن الضمير في قوله: * (قلوبهم) * عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله: * (لا يملكون) *، وفي * (ما لهم) *، و * (ما لهم * منهم) *، وهم الملائكة الذين دعوهم آلهة وشفعاء، ويكون التقدير: إلا لمن أذن له منهم.
و * (حتى) *: تدل على الغاية، وليس في الكلام عائد على أن حتى غاية له. فقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل عليه الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تحبون أنتم، بل هم عبدة أو مسلمون أبدا، يعني منقادون، * (حتى إذا فزع عن قلوبهم) *. قال: وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أن قوله: * (حتى إذا فزع عن قلوبهم) *، إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي، أي جبريل، وبالأمر يأمر الله به سمعت، كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة. وقيل: خوف أن تقوم الساعة، فإذا فزع ذلك عن قلوبهم، أي أطير الفزع عنها وكشف، يقول بعضهم لبعض ولجبريل: * (ماذا قال ربكم) *؟ فيقول المسؤولون: قال * (الحق وهو العلى الكبير) *، وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: * (الذين زعمتم) * لم تتصل له هذه الآية بما قبلها، فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار، بعد حلول الموت: ففزع عن قلوبهم بفقد الحياة، فرأوا الحقيقة، وزال فزعهم مما يقال لهم في حياتهم، فيقال لهم حينئذ: * (ماذا قال ربكم) *؟ فيقولون: قال الحق، يقرون حين لا ينفعكم الإقرار. وقالت فرقة: الآية في جميع العالم. وقوله: * (حتى) *، يريد في الآخرة، والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح، وهو الذي تظاهرت به الأحاديث، وهذا بعيد. انتهى. وإذا كان الضمير في * (عن قلوبهم) * لا يعود على * (الذين زعمتم) *، كان عائدا على من عاد عليه الضمير في قوله: * (ولقد صدق عليهم إبليس) *، ويكون الضمير في * (عليهم) * عائدا على جميع الكفار، ويكون حتى غاية لقوله: * (فاتبعوه) *، ويكون التفزيع حالة مفارقة الحياة، أو يجعل اتباعهم إياه مستصحبا لهم إلى يوم القيامة مجازا) *.
والجملة بعد من قوله: * () *.
والجملة بعد من قوله: * (قل ادعوا) * اعتراضية بين المغيا والغاية. قال ابن زيد: أقروا بالله حين لا ينفعهم الإقرار، فالمعنى: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم ما كان يطلبهم به، * (قالوا ماذا قال ربكم) *. وقال الحسن: وإنما يقال للمشركين * (ماذا قال ربكم) * على لسان الأنبياء، فأقروا حين لا ينفع. وقيل: * (حتى) * غاية متعلقة بقوله: * (زعمتم) *، أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع، ثم تركتم ما زعمتم وقلتم: قال الحق. انتهى. فيكون في الكلام التفاوت من خطاب في * (زعمتم) * إلى غيبة في * (فزع عن قلوبهم) *. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال: فإذا أدن فزع ودام فزعه حتى إذا أزيل التفزيع عن قلوبهم. قال بعض الشافعين من الملائكة لبعض الملائكة: * (ماذا قال ربكم) * في قبول شفاعتنا؟ فيجيب بعضهم لبعض: قال أي الله الحق، أي القول الحق، وهو قبول شفاعتهم، إذا كان تعالى أذن لهم في ذلك، ولا يأذن إلا وهو مريد
265

لقبول الشفاعة. وقال الزمخشري: فإن قلت بم اتصل قوله: * (حتى إذا فزع عن قلوبهم) *؟ ولا شيء وقعت حتى غاية له. قلت: بما فهم من هذا الكلام من أن ثم انتظار الإذن وتوقفا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص. ومثل هذه الحال دل عليه قوله، عز من قائل: * (رب * السماوات والارض * وما بينهما الرحمان لا يملكون منه خطابا * يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا) *، كأنه قيل: يتربصون ويتوقفون مليا فزعين وهلين.
* (حتى إذا فزع عن قلوبهم) *: أي كشف الفزع من قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن. تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا: * (ماذا قال ربكم) *؟ قال الحق، أي القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. انتهى. وتلخص من هذا أن حتى غائيه إما لمنطوق وهو زعمتم، ويكون الضمير في * (عن قلوبهم) * التفاتا، وهو للكفار، أو هو فاتبعوه، وفيه تناسق الضمائر لغائب. والفصل بالاعتراض والضمير أيضا للكفار، والضمير في * (قالوا) * للملائكة، وضمير الخطاب في * (ربكم) *، والغائب في * (قالوا) * الثانية للكفار. وأما لمحذوف، فما قدره ابن عطية لا يصح أن يغيا، لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، وهم عبدة منقادون دائما لا ينفكون عن ذلك، لا إذا فزع عن قلوبهم، ولا إذا لم يفزع، وحمل ذلك على الملائكة حال الوحي لا يناسب الآية، وكون النبي صلى الله عليه وسلم)، في قصة الوحي قال: (فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم)، لا يدل على أن هذه الآية في الملائكة حالة تكلم الله بالوحي. والحديث رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم)، قال: (إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليه السلام، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ قال فيقول الحق، (فينادون الحق). وما قدره الزمخشري يحتمل، إلا أن فيه تخصيص الذين زعمتم من دونه بالملائكة، والذين عبدوهم ملائكة وغيرهم. وتخصيص من أذن له بالملائكة أيضا، والمأذون لهم في الشفاعة الملائكة وغيرهم. ألا ترى إلى ما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، في (الشفاعة في قوله عز وجل؟).
وقرئ: فزع مشددا، من الفزع، مبنيا للمفعول، أي أطير الفزع عن قلوبهم. وفعل تأتي لمعان منها: الإزالة، وهذا منه نحوه: قردت البعير، أي أزلت القراد عنه. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وطلحة، وأبو المتوكل الناجي، وابن السمفيع، وابن عامر: مبنيا للفاعل من الفزع أيضا، والضمير الفاعل في فزع إن كان الضمير
في عن قلوبهم للملائكة، فهو الله، وإن كان للكفار، فالضمير لمغويهم. وقرأ الحسن: * (فزع) * من الفزع، بتخفيف الزاي، مبنيا للمفعول، و * (عن قلوبهم) * في موضع رفع به، كقولك: انطلق يزيد. وقرأ الحسن أيضا، وأبو المتوكل أيضا، وقتادة، ومجاهد: فزع مشددا، مبنيا للفاعل من الفزع. وقرأ الحسن أيضا: كذلك، إلا أنه خفف الزاي. وقرأ عبد الله بن عمر، والحسن أيضا، وأيوب السختياني، وقتادة أيضا، وأبو مجلز: فرغ من الفراغ، مشدد الراء، مبنيا للمفعول. وقرأ ابن مسعود، وعيسى افرنقع: عن قلوبهم، بمعنى انكشف عنها، وقيل: تفرق. وقال الزمخشري: والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين، كما ركب قمطر من حروف القمط مع زيادة الراء. انتهى. فإن عني الزمخشري أن العين من حروف الزيادة، وكذلك الراء، وهو ظاهر كلامه، فليس بصحيح، لأن العين والراء ليستا من حروف الزيادة. وإن عنى أن الكلمة فيها حروف، وما ذكروا زائدا إلى ذلك العين والراء كمادة فرقع وقمطر، فهو صحيح لولا إيهام ما قاله الزمخشري في هذه الكلمة، لم أذكر هذه القراءة لمخالفتها سواد المصحف. وقالوا أيضا في قوله تعالى: * (حتى إذا فزع) * أقوالا غير ما سبق. قال كعب: إذا تكلم الله عز وجل بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها وخرت فزعا، قالوا فيما بينم: * (ماذا قال ربكم قالوا الحق) *. وقيل: إذا دعاهم إسرافيل من قبورهم، قالوا مجيبين ماذا، وهو من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ، كما قاله زهير
266

* إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم
*
طوال الرماح لإضعاف ولا عزل
*
وقيل: هو فزع ملائكة أدنى السماوات عند نزول المدبرات إلى الأرض. وقيل: لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم)، وبعث الله محمدا، أنزل الله جبريل بالوحي، فظنت الملائكة أنه قد نزل بشيء من أمر الساعة، وصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي، قاله قتادة ومقاتل وابن السائب. وقيل: الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض، ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله فانحدروا، سمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجدا يصعقون، رواه الضحاك عن ابن مسعود.
وهذه الأقوال والتي قبلها لا تكاد تلائم ألفاظ القرآن، فالله أسأل أن يرزقنا فهم كتابه، وأقر بها عندي أن يكون الضمير في * (قلوبهم) * عائدا على من عاد عليه اتبعوه وعليهم، وممن هو منها في شك، وتكون الجملة بعد ذلك اعتراضا. وقوله: * (قالوا) *، أي الملائكة، لأولئك المتبعين الشاكين يسألونهم سؤال توبيخ: * (ماذا قال ربكم) *، على لسان من بعث إليكم بعد أن كشف الغطاء عن قلوبهم، فيقرون إذ ذاك أن الذي قاله، وجاءت به أنبياؤه، وهو الحق، لا الباطل الذي كنا فيه من اتباع إبليس. وشكنا في البعث ماذا يحتمل أن تكون ما منصوبة بقال، أي أي شيء قال ربكم، وأن يكون في موضع رفع على أن ذا موصولة، أي ما الذي قال ربكم، وذا خبره، ومعموله قال ضمير محذوف عائد على الموصول. وقرأ ابن أبي عبلة: قالوا الحق، برفع الحق، خبر مبتدأ، أي مقولة الحق، * (وهو العلى الكبير) *، تنزيه منهم له تعالى وتمجيد. ثم رجع إلى خطاب الكفار فسألهم عمن يرزقهم، محتجا عليهم بأن رازقهم هو الله، إذ لا يمكن أن يقولوا إن آلهتهم ترزقهم وتسألهم أنهم * (لا يملكون مثقال ذرة فى * السماوات * ولا فى الارض) *، وأمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: * (قل الله) *، لأنهم قد لا يجيبون حبا في العناد وإيثارا للشرك. ومعلوم أنه لا جواب لهم ولا لأحد إلا بأن يقول هو الله. * (وأنا) *: أي الموحدين الرازق العابدين، * (أو إياكم) *: المشركين العابدين الأصنام والجمادات. * (لعلى هدى) *: أي طريقة مستقيمة، أو في حيرة واضحة بينة. والمعنى: أن أحد الفريقين منا ومنكم لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، أخرج الكلام مخرج الشك والاحتمال. ومعلوم أن من عبد الله ووحده هو على الهدى، وأن من عبد غيره من جماد أو غيره في ضلال. وهذه الجملة تضمنت الإنصاف واللطف في الدعوى إلى الله، وقد علم من سمعها أنه جملة اتصاف، والرد بالتورية والتعريض أبلغ من الرد بالتصريح، ونحوه قول العرب: أخزى الله الكاذب مني ومنك، يقول ذاك من يتيقن أن صاحبه هو الكاذب، ونظيره قوله الشاعر:
* فأنيي ماوأيك كان شرا
*
فسيق إلى المقادة في هوان
*
وقال حسان:
* أتهجوه ولست له بكفؤ
*
فشركما لخيركما الفداء
*
وهذا النوع يسمى في علم البيان: استدراج المخاطب. يذكر له أمرا يسلمه، وإن كان بخلاف ما ذكر حتى يصغي إليه إلى ما يلقيه إليه، إذ لو بدأ به بما يكره لم يصغ،
ولا يزال ينقله من حال إلى حال حتى يتبين له الحق ويقبله. وهنا لما سمعوا الترداد بينه وبينهم، ظهر لهم أنه غير جازم أن الحق معه، فقال لهم بطريق الاستدلال: إن آلهتكم لا تملك مثقال ذرة، ولا تنفع ولا تضر، لأنها جماد، وهم يعلمون ذلك، فتحقق أن الرازق لهم والنافع والضار هو الله سبحانه. وقيل: معنى الجملة استنقاص المشركين والاستهزاء بهم، وقد بينوا أن آلهتهم لا ترزقهم شيئا ولا تنفع ولا تضر، فأراد الله من نبيه، وأمره أن يوبخهم ويستنقصهم ويكذبهم بقول غير مكشوف، إن كان ذلك أبلغ في استنقاصهم، كقولك: إن أحدنا لكاذب، وقد
267

علمت أن من خاطبته هو الكاذب، ولكنك وبخته بلفظ غير مكشوف. وأوهنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين، أو الأشياء. وخبر * (إنا أوحينا * إياكم) * هو * (لعلى هدى أو فى ضلال مبين) *، ولا يحتاج إلى تقدير حذف، إذ المعنى: أن أحدنا لفي أحد هذين، كقولك: زيد أو عمر وفي القصر، أو في المسجد، لا يحتاج هذا إلى تقدير حذف، إذ معناه: أحد هذين في أحد هذين. وقيل: الخبر محذوف، فقيل: خبر لا وله، والتقدير: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، فحذف لدلالة خبر ما بعده عليه، فلعلى هدى أو في ضلال مبين المثبت خبر عنه، أو إياكم، إذ هو على تقدير إنا، ولكنها لما حذفت اتصل الضمير، وقيل: خبر الثاني، والتقدير: أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، وحذف لدلالة خبر الأول عليه، وهو هذا المثبت * (لعلى هدى أو فى ضلال مبين) *، ولا حاجة لهذا التقدير من الحذف لو كان ما بعد أو غير معطوف بها، نحو: زيد أو عمر وقائم، كان يحتاج إلى هذا التقدير، وإن مع ما يصلح أن يكون خبرا لأن اسمها عطف عليه بأو، والخبر معطوف بأو، فلا يحتاج إليه. وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو، فيكون من باب اللف والنشر، والتقدير: وإنا لعلى هدى، وإياكم في ضلال مبين، فأخبر عن كل بما ناسبه، ولا حاجة إلى إخراج أو عن موضوعها. وجاء في الهدى بعلى، لأن صاحبه ذو استعلاء، وتمكن مما هو عليه، يتصرف حيث شاء. وجاء في الضلال بعن لأنه منغمس في حيرة مرتبك فيها لا يدري أين يتوجه.
* (قل لا تسئلون عما أجرمنا) * هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ من الأول، وأكثر تلطفا واستدراجا، حيث سمى فعله جرما، كما يزعمون، مع أنه مثاب مشكور. وسمى فعلهم عملا، مع أنه مزجور عنه محظور. وقد يراد بأجرمنا نسبة ذلك إلى المؤمنين دون الرسول، وذلك ما لا يكاد يخلو المؤمن منه من الصغائر، والذي تعملون هو الكفر وما دونه من المعاصي الكبائر. قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. * (قل يجمع بيننا ربنا) *: أي يوم القيامة، * (ثم يفتح) *: أي يحكم، * (بالحق) *: بالعدل، فيدخل المؤمنين الجنة والكفار النار. * (وهو الفتاح) *: الحاكم الفاصل، * (العليم) * بأعمال العباد. والفتاح والعليم صيغتا مبالغة، وهذا فيه تهديد وتوبيخ. تقول لمن نصحته وخوفته فلم يقبل: سترى سوء عاقبة الأمر. وقرأ عيسى: الفاتح اسم فاعل، والجمهور: الفتاح.
* (قل أرونى الذين ألحقتم به شركاء) *: الظاهر أن أرى هنا بمعنى أعلم، فيتعدى إلى ثلاثة: الضمير للمتكلم هو الأول، والذين الثاني، وشركاء الثالث، أي أروني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة، وهل يملكون مثقال ذرة أو يرزقونكم؟ وقيل: هي رؤية بصر، وشركاء نصب على الحال من الضمير المحذوف في ألحقتم، إذ تقديره: ألحقتموهم به في حال توهمه شركاء له. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: أروني، وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت: أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم، ليطلعهم على حالة القياس إليه والإشراك به. و * (كلا) *: ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة، كما قال إبراهيم: * (أف لكم ولما تعبدون من دون الله) *، بعد ما حجهم، وقد نبه على تفاحش غلطهم، وأن يقدروا الله حق قدره بقوله: * (هو الله العزيز الحكيم) *، كأنه قال: أي الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات؟ وهو راجع إلى الله وحده، أو هو ضمير الشأن كما في قوله: * (قل هو الله أحد) *. انتهى. وقول ابن عطية، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له، أي لا نفع له، ليس بجيد، بل في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ، ولا يريد حقيقة الأمر، بل المعنى: أن الذين هم شركاء الله على زعمكم، هم ممن إن أريتموهم افتضحتم، لأنهم خشب وحجر وغير ذلك من الحجارة والجماد، كما تقول للرجل الخسيس الأصل: أذكر لي أباك الذي قايست به فلانا الشريف ولا تريد حقيقة الذكر، وإنما أردت تبكيته، وأنه إن ذكر أباه افتضح.
و * (كافة) *: اسم فاعل من كف، وقيل: مصدر كالعاقبة والعافية، فيكون على حذف مضاف، أي إلا ذا كافة، أي ذا كف للناس، أي منع لهم من الكفر، أو ذا منع من أن يشذوا عن تبليغك. وإذا كان اسم فاعل، فقال الزجاج وغيره: هو حال من الكاف في * (* رأسلناك) *، والمعنى: إلا جامعا للناس في الإبلاغ، والكافة بمعنى الجامع، والهاء فيه
268

للمبالغة، كهي في علامة وراوية. وقال الزمخشري: إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، قال: ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ، لأن تقدم حال المجرور عليه في الإصالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى، لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني، فلا بد من ارتكاب الخطأين. انتهى. أما كافة بمعنى عامة، فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالا، ولم يتصرف فيها بغير ذلك، فجعلها صفة لمصدر محذوف، خروج عما نقلوا، ولا يحفظ أيضا استعماله صفة لموصوف محذوف. وأما قول الزجاج: إن كافة بمعنى جامعا، والهاء فيه للمبالغة، فإن اللغة لا تساعد على ذلك، لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع. وأما قول الزمخشري: ومن جعله حالا إلى آخره، فذلك مختلف فيه. ذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يجوز، وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان ومن معاصرينا ابن مالك إلى أنه يجوز، وهو الصحيح. ومن أمثلة أبي علي زيد: خير ما يكون خير منك، التقدير: زيد خير منك خير ما يكون، فجعل ما يكون حالا من الكاف في منك، وقدمها عليه، قال الشاعر:
* إذا المرء أعيته المروءة ناشئا
*
فمطلبها كهلا عليه شديد
*
وقال آخر:
* تسليت طرا عنكم بعد بينكم
*
بذكركم حتى كأنكم عندي
*
أي: تسليت عنكم طرا، أي جميعا. وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به، ومن ذلك قول الشاعر:
* مشغوفة بك قد شغفت وإنما
*
حتم الفراق فما إليك سبيل
*
وقال الآخر:
* غافلا تعرض المنية للمر
*
ء فيدعى ولات حين إباء
*
أي: شغفت بك مشغوفة، وتعرض المنية للمرء غافلا. وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل، فتقديمها عليه دون العامل أجوز، وعلى أن كافة حال من الناس، حمله ابن عطية وقال: قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله: أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم، وتقدير إلى الناس كافة. انتهى. وقول الزمخشري: وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ، إلى آخر كلامه، شنيع؟ لأن قائل ذلك لا يحتاج إلى أن يتأول اللام بمعنى إلى، لأن أرسل يتعدى بإلى ويتعدى باللام، كقوله: * (نفسك وأرسلناك للناس رسولا) *. ولو تأول اللام بمعنى إلى، لم يكن ذلك خطأ، لأن اللام قد جاءت بمعنى إلى، وإلى قد جاءت بمعنى اللام، وأرسل مما جاء متعديا بهما إلى المجرور. ثم حكى تعالى مقالتهم في الاستهزاء بالبعث، واستعالجهم على سبيل التكذيب، ولم يجابوا بتعيين الزمان، إذ ذاك مما انفرد تعالى بعلمه، بل أجيبوا بأن ما وعدوا به لا بد من وقوعه، وهو ميعاد يوم القيامة، وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة، ويجوز أن يكون سؤالهم عما وعدوا به من العذاب في الدنيا واستعجلوا به استهزاء منهم. وقال أبو عبيد: الوعد والوعيد والميعاد بمعنى. وقال الجمهور: الوعد في الخير،
269

والوعيد في الشر، والميعاد يقع لهذا. والظاهر أن الميعاد اسم على وزن مفعال استعمل بمعنى المصدر، أي قل لكم وقوع وعد يوم وتنجيزه. وقال الزمخشري: الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان، وهو ههنا الزمان، والدليل عليه قراءة من قرأ ميعاد يوم فأبدل منه اليوم. انتهى. ولا يتعين ما قال، إذ يكون بدلا على تقدير محذوف، أي قل لكم ميعاد يوم، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه.
وقرأ الجمهور: * (ميعاد يوم) * بالإضافة. ولما جعل الزمخشري الميعاد ظرف زمان قال: أما الإضافة فإضافته تبيين، كما تقول: سحق ثوب وبعير سانية. وقرأ ابن أبي عبلة، واليزيدي: ميعاد يوما بتنوينهما. قال الزمخشري: وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره لكم ميعاد، أعني يوما، وأريد يوما من صفته، أعني كيت وكيت، ويجوز أن يكون انتصابه على حذف مضاف، ويجوز أن يكون الرفع على هذا للتعظيم. انتهى. لما جعل الميعاد ظرف زمان، خرج الرفع والنصب على ذلك، ويجوز أن يكون انتصابه على الظرف على حذف مضاف، أي إنجاز وعد يوم من صفته كيت وكيت. وقرأ عيسى: ميعاد منونا، ويوم بالنصب من غير تنوين مضافا إلى الجملة، فاحتمل تخريج الزمخشري على التعظيم، واحتمل تخريجا على الظرف على حذف مضاف، أي إنجاز وعد يوم كذا. وجاء هذا الجواب على طريق التهديد مطابقا لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت، وأنهم مرصدون بيوم القيامة، يفاجئهم فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدما عليه. واليوم: يوم القيامة، وهو السابق إلى الذهن، أو يوم مجيء أجلهم عند حضور منيتهم، أو يوم بدر، أقوال.
و * (لن نؤمن بهاذا القرءان) *: يديه يعني الذي تضمن التوحيد والرسالة والبعث المتقدم ذكرها فيه. * (ولا بالذى بين يديه) *: هو ما نزل من كتب الله المبشرة برسول الله. يروي أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب، فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، في كتبهم، وأغضبهم ذلك، وقرنوا إلى القرآن ما تقدم من كتب الله في الكفر، ويكون * (الذين كفروا) * مشركي قريش ومن جرى مجراهم. والمشهور أن * (الذين * بين يديه) *: التوراة والإنجيل وما تقدم من الكتب، وهو مروي عن ابن جريج. وقالت فرقة: * (الذى بين يديه) *: هي القيامة، قال ابن عطية: وهذا خطأ، قائله لم يفهم أمر بين اليد في اللغة، وأنه المتقدم
في الزمان، وقد بيناه فيما تقدم. انتهى. * (ولو ترى * إذا * الظالمون) *: أخبر عن حالهم في صفة التعجب منها، وترى في معنى رأيت لإعمالها في الظرف الماضي، ومفعول ترى محذوف، أي حال الظالمين، إذ هم * (موقوفون) *. وجواب لو محذوف، أي لرأيت لهم حالا منكرة من ذلهم وتخاذلهم وتحاورهم، حيث لا ينفعهم شيء من ذلك. ثم فسر ذلك الرجوع والجدل بأن الأتباع، وهم الذين استضعفوا، قالوا لرؤسائهم على جهة التذنيب والتوبيخ ورد اللائمة عليهم: * (لولا أنتم لكنا مؤمنين) *: أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر. وأتى الضمير بعد لولا ضمير رفع على الأفصح. وحكى الأئمة سيبويه والخليل وغيرهما مجيئه بضمير الجر نحو: لولاكم، وإنكار المبرد ذلك لا يلتفت إليه. ولما كان مقاما، استوى فيه المرؤوس والرئيس.
بدأ الأتباع بتوبيخ مضليهم، إذ زالت عنهم رئاستهم، ولم يمكنهم أن ينكروا أنهم ما جاءهم رسول، بل هم مقرون. ألا ترى إلى قول المتبوعين: * (بعد إذ جاءكم) *؟ فالجمع المقرون بأن الذكر قد جاءهم، فقال لهم رؤساؤهم: * (أنحن صددناكم) *، فأتوا بالاسم بعد أداة الاستفهام إنكارا، لأن يكونوا هم الذين صدوهم. صددتم من قبل أنفسكم وباختياركم بعد أداة الاستفهام، كأنهم قالوا: نحن أخبرناكم وحلنا بينكم وبين الذكر بعد أن هممتم على الدخول في الإيمان، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلالة على الهدى، فكنتم مجرمين كافرين باختياركم، لا لقولنا وتسويلنا. ولما أنكر رؤساؤهم أنهم السبب في كفرهم، وأثبتوا بقولهم: * (بل كنتم مجرمين) *، أن كفرهم هو من قبل أنفسهم، قابلوا إضرابا بإضراب، فقال الأتباع: * (بل مكر اليل والنهار) *: أي ما كان إجرامنا من جهتنا، بل مكركم لنا دائما ومخادعتكم لنا ليلا ونهارا، إذ تأمروننا ونحن أتباع لا نقدر على مخالفتكم، مطيعون لكم لاستيلائكم علينا بالكفر بالله واتخاذ الأنداد. وأضيف المكر إلى الليل والنهار اتسع في الظرفين، فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة، أو في موضع رفع على الإسناد المجازي، كما قالوا: ليل نائم، والأولى عندي أن يرتفع مكر على
270

الفاعلية، أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار، ونظيره قول القائل: أنا ضربت زيدا بل ضربه عمرو، فيقول: بل ضربه غلامك، والأحسن في التقدير أن يكون المعنى: ضربه غلامك. وقيل: يجوز أن يكون مبتدأ وخبرا، أي سبب كفرنا. وقرأ قتادة، ويحيى بن يعمر: بل مكر بالتنوين، الليل والنهار نصب على الظرف. وقرأ سعيد بن جبير بن محمد، وأبو رزين، وابن يعمر أيضا: بفتح الكاف وشد الراء مرفوعة مضافة، ومعناه: كدور الليل والنهار واختلافهما، ومعناها: الإحالة على طول الأمل، والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء الكفر بالله. وقرأ ابن جبير أيضا، وطلحة، وراشد هذا من التابعين ممن صحح المصاحف بأمر الحجاج: كذلك، إلا أنهم نصبوا الراء على الظرف، وناصبه فعل مضمر، أي صدد تمونا مكر الليل والنهار، أي في مكرهما، ومعناه دائما. وقال صاحب اللوامح: يجوز أن ينتصب بإذ تأمروننا مكر الليل والنهار. انتهى. وهذا وهم، لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها. وقال الزمخشري: بل يكون الإغراء مكرا دائما لا يفترون عنه. انتهى.
وجاء * (قال الذين استكبروا) * بغير واو، لأنه جواب لكلام المستضعفين، فاستؤنف، وعطف * (وقال الذين استضعفوا) * على ما سبق من كلامهم، والضمير في * (وأسروا) * للجميع المستكبرين والمستضعفين، وهم * (الظالمون) *، وتقدم الكلام في * (به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) * في سورة يونس، والندامة من المعاني القلبية، فلا تظهر، إنما يظهر ما يدل عليها، وما يدل عليها غيرها، وقيل: هو من الأضداد. وقال ابن عطية: هذا لم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد وندامة الذين استكبروا على ضلالهم في أنفسهم وإضلالهم وندامة الذين استضعفوا على ضلالهم وأتباعهم المضلين. * (وجعلنا الاغلال فى أعناق الذين كفروا) *، والظاهر عموم الذين كفروا، فيدخل فيه المستكبرون والمتسضعفون، لأن من الكفار من لا يكون له اتباع مراجعة القول في الآخرة، ولا يكون أيضا تابعا لرئيس له كافر، كالغلام الذي قتله الخضر. وقيل: * (الذين كفروا) * هم الذين سبقت منهم المحاورة، وجعل الأغلال إشارة إلى كيفية العذاب قطعوا بأنهم واقعون فيه فتركوا التندم. * (هل يجزون) *: معناه النفي، ولذلك دخلت إلا بعد النفي.
* (وما أرسلناك * فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون * وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين * قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من ءامن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا (سقط: وهم في الغرقات ءامنون إلى آخر الآية)) *.
271

* (وما أرسلنا) * الآية: هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، مما مني به من قومه قريش، من الكفر والافتخار بالأموال والأولاد. وإن ما ذكروا من ذلك هو عادة المترفين مع أنبيائهم، فلا يهمنك أمرهم و. * (من نذير) *: عام، أي تنذرهم بعذاب الله إن لم يوحدوه. و * (قال مترفوها) *: جملة حالية، ونص على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل، لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على عقولهم منها، فقلوبهم أبدا مشغولة منهمكة بخلاف الفقراء. فإنهم خالون من مستلذات الدنيا، فقلوبهم أقبل للخير، ولذلك هم أتباع الأنبياء، كما جاء في حديث هرقل. وبما متعلق بكافرون، وبه متعلق بأرسلتم، وما عامة في ما جاءت به النذر من طلب الإيمان بالله وإفراده بالعبادة والأخبار بأنهم رسله إليهم، والبعث والجزاء على الأعمال. والظاهر أن الضمير في * (وقالوا) * عائد على المترفين؛ وقيل: عائد على قريش، ويدل عليه ما بعده من الخطاب في قوله: * (قل) *، لأن من تقدم من المترفين الهالكين لا يخاطبون، فلا يقول إلا الموجودون، وقوله: * (وما أموالكم ولا أولادكم) *؛ واحتجوا على رضا الله عنهم بإحسانه تعالى إليهم، فلو يتكرم عليهم ما بوسع علينا، وأما أنتم فلهو انكم عليه حرمكم أيها التابعون للرسل. ثم نقول: إن يعذبوا نفيا عاما، لأن الأنبياء قد ينذرون بعذاب عاجل في الدنيا، أو آجل في الآخرة، فنفواهم جميع ذلك. فإما أن يكونوا منكرين للآخرة، فقد نفوا تعذيبهم فيها، لأنها إذ لم تكن، فلا يكون فيها عذاب. وإما أن يكونوا مقرين بها حقيقة، أو على سبيل الفرض، فيقولون: كما أنعم علينا في الدنيا، ينعم علينا في الآخرة على حالة الدنيا قياسا فاسدا، فأبطل الله ذلك بأن الرزق فضل منه يقسم علينا في الآخرة على حالة الدنيا، كما شاء. * (لمن يشاء) *، فقد بوسع على العاصي ويضيق على الطائع، وقد يوسع عليهما، والوجود شاهد بذلك، فلا تقاس التوسعة في الدنيا، لأن ذلك في الآخرة إنما هو على الأعمال الصالحة. وقرأ الأعمش: ويقدر في
الموضعين مشددا؛ والجمهور: مخففا، ومعناه: ويضيق مقابل يبسط.
* (ولاكن أكثر الناس) *: مثل هؤلاء الكفرة، * (لا يعلمون) * أن الرزق مصروف بالمشيئة، وليس دليلا على الرضا ثم أخبر تعالى أن أموالهم وأولادهم التي افتخروا بها ليست بمقربة من الله، وإنما يقرب الإيمان والعمل الصالح. وقرأ الجمهور: * (بالتى) *، وجمع التكسير من العقلاء وغيرهم يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون التي هي التقوى، وهي المقربة عند الله زلفى وحدها، أي ليست أموالكم تلك الموضوعة للتقريب. انتهى. فجعل التي نعتا لموصوف محذوف وهي التقوى. انتهى، ولا حاجة إلى تقدير هذا الموصوف. والظاهر أن التي راجع إلى الأموال والأولاد، وقاله الفراء. وقال أيضا، هو والزجاج: حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، والتقدير: * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى) *. انتهى. ولا حاجة لتقدير هذا المحذوف، إذ يصح أن يكون التي لمجموع الأموال والأولاد. وقرأ الحسن: باللاتي جمعا، وهو أيضا راجع للأموال والأولاد. وقرى بالذي، وزلفى مصدر، كالقربى، وانتصابه على المصدرية من المعنى، أي يقربكم. وقرأ الضحاك: زلفا بفتح اللام وتنوين الفاء، جمع زلفة، وهي القربة.
* (وما أموالكم ولا) *: الظاهر أنه استثناء منقطع، وهو منصوب على الاستثناء، أي لكن من آمن؛ * (وعمل صالحا) *، فإيمانه وعمله يقربانه. وقال الزجاج: هو بدل من الكاف والميم في تقربكم، وقال النحاس: وهذا غلط لأن الكاف والميم للمخاطب، فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا الجاز: رأيتك زيدا؛ وقول أبي إسحاق هذا قول الفراء. انتهى. ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضمير المخاطب والمتكلم، لكن البدل في الآية لا يصح. ألا ترى أنه لا يصح تفرغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا؟ لو قلت: مازيد بالذي يضرب إلا خالدا، لم يصح. وتخيل الزجاج أن الصلة، وإن كانت من حيث المعنى منفية، أنه يصح البدل، وليس بجائز إلا فيما يصح التفريغ له. وقد اتبعه الزمخشري فقال: إلا من آمن استثناء من كم في تقربكم
272

والمعنى: أن الأموال لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله؛ والأولاد لا تقرب أحدا إلا من علمهم الخير وفقهم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة. انتهى، وهو لا يجوز. كماذ كرنا، لا يجوز: ما زيد بالذي يخرج إلا أخوة، ولا مازيد بالذي يضرب إلا عمرا، ولا ما زيد بالذي يمر إلا ببكر. والتركيب الذي ركبه الزمخشري من قوله: لا يقرب أحدا إلا المؤمن، غير موافق للقرآن؛ ففي الذي ركبه يجوز ما قال، وفي لفظ القرآن لا يجوز. وأجاز الفراء أن تكون من في موضع رفع، وتقدير الكلام عنده ما هو المقرب * (وما أموالكم ولا) *. انتهى. وقوله كلام لا يتحصل منه معنى، كأنه كان نائما حين قال ذلك.
وقرأ الجمهور: * (جزاء الضعف) * على الإضافة، أضيف فيه المصدر إلى المفعول، وقدره الزمخشري مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله، فقال: أن يجازوا الضعف، والمصدر في كونه يبني للمفعول الذي لم يسم فاعله فيه خلاف، والصحيح المنع، ويقدر هنا أن يجاوز الله بهم الضعف، أي يضاعف لهم حسناتهم، الحسنة بعشر أمثالها، وبأكثر إلى سبعمائة لمن يشاء. وقرأ قتادة: جزاء الضعف برفعهما؛ فالضعف بدل، ويعقوب في رواية بنصب جزاء ورفع الضعف، وحكى هذه القراءة الداني عن قتادة، وانتصب جزاء على الحال، كقولك: في الدار قائما زيد. وقرأ الجمهور: * (فى الغرفات) * جمعا مضموم الراء؛ والحسن، وعاصم: بخلاف عنه؛ والأعمش، ومحمد بن كعب: بإسكانها؛ وبعض القراء: بفتحها؛ وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وحمزة: وأطلق في اختياره في الغرفة على التوحيد ساكنة الراء؛ وابن وثاب أيضا: بفتحها على التوحيد. ولما ذكر جزاء من آمن، ذكر عقاب من كفر، ليظهر تباين الجزاءين، وتقدم تفسير نظير هذه الكلمة. ولما كان افتخارهم بكثرة الأموال والأولاد، أخبروا أن ذلك على ما شاء الله كبر، وذلك المعنى تأكيد أن ذلك جار على ما شاء الله، إلا أن ذلك على حسب الاستحقاق، لا التكرمة، ولا الهوان. ومعنى * (فهو يخلفه) *: أي يأتي بالخلف والعوض منه، وكان لفظ من عباده مشعرة بالمؤمنين، وكذلك الخطاب في * (وما أنفقتم) *: يقصد هنا رزق المؤمنين، فليس مساق.
* (قل إن ربى يبسط) *: مساق ما قيل للكفار، بل مساق الوعظ والتزهيد في الدنيا، والحض على النفقة في طاعة الله، وإخلاف ما أنفق، إما منجزا في الدنيا، وإما مؤجلا في الآخرة، وهو مشروط بقصد وجه الله. وقال مجاهد: من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقصد، وأن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له قليل، وهو ينفق نفقة الموسع عليه، فينفق جميع ما في يده، ثم يبقى طول عمره في فقر ولا يتأتى. * (وما أنفقتم من شىء فهو يخلفه) *: في الآخرة، ومعنى الآية: ما كان من خلف فهو منه. وجاء * (الرازقين) * جمعا، وإن كان الرازق حقيقة هو الله وحده، لأنه يقال: الرجل يرزق عياله، والأمير جنده، والسيد عبده، والرازقون جمع بهذا الاعتبار، لكن أولئك يرزقون مما رزقهم الله، وملكهم فيه التصرف، ولله تعلى يرزق من خزائن لا تفنى، ومن إخراج من عدم إلى وجود.
* (ويوم يحشرهم جميعا) *: أي المكذبين، من تقدم ومن تأخر. وقرأ الجمهور: نحشرهم، نقول بالنون فيهما، وحفص بالياء، وتقدمت في الأنعام وخطاب الملائكة تقريع للكفار، وقد علم تعالى أن الملائكة منزهون برآء مما وجه عليهم من السؤال، وإنما ذلك على طريق توقيف الكفار، وقد علم سوء ما ارتبكوه من عبادة غير الله، وأن من عبدوه متبرىء منهم. و * (هؤلاء) * مبتدأ و، خبره * (كانوا يعبدون) *، و * (إياكم) * مفعول * (يعبدون) *. ولما تقدم انفصل، وإنما قدم لأنه أبلغ في الخطاب، ولكون * (يعبدون) * فاصلة. فلو أتى بالضمير منفصلا، كان التركيب يعبدونكم، ولم تكن فاصلة. واستدل بتقديم هذا المعمول على جواز تقديم خبر كان عليها إذا كان جملة، وهي مسألة خلاف، أجاز ذلك ابن السراج، ومنع ذلك قوم من النحويين، وكذلك منعوا توسطه إذا كان جملة. وقال ابن السراج: القياس جواز ذلك، ولم يسمع. ووجه الدلالة من الآية أن تقديم المعمول مؤذن بتقديم العامل، فكما جاز تقديم * (إياكم) *، جاز تقديم * (يعبدون) *، وهذه القاعدة ليست مطردة، والأولى منع ذلك إلى أن يدل على
273

جوازه سماع من العرب. ولما أجابوا الله بدؤا بتنزيهه وبرائته من كل سوء، كما قال عيس عليه السلام: * (سبحانك) *، ثم انتسبوا إلى موالاته دون أولئك الكفرة،
أي * (أنت ولينا) *، إذ موالاة بيننا وبينهم.
وفي قولهم: * (بل كانوا يعبدون الجن) *، إشعار لهم بما عبدوه، وإن لم يصرح به. لكن الإضراب ببل يدل عليه وذلك لأن المعبود إذ لم يكن راضيا بعبادة عابده مريدا لها، لم يكن ذلك العابد عابدا له حقيقة، فلذلك قالوا: * (بل كانوا يعبدون الجن) *، لأن أفعالهم القبيحة من وسوسة الشياطين وإغوائهم ومراداتهم عابدون لهم حقيقة، فلذلك قالوا: * (بل كانوا يعبدون الجن) *، إذ الشياطين راضون تلك الأفعال. وقيل: صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن، وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت، فيعبدون بعبادتها. وقال ابن عطية: لم تنف الملائكة عبادة البشر إياها، وإنما أقرت أنها لم يكن لها في ذلك مشاركة. وعبادة البشر الجن هي فيما يقرون بطاعتهم إياهم، وسماعهم من وسوستهم واغوائهم، فهذا نوع من العبادة. وقد يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت، في سورة الأنعام وغيرها. انتهى. وإذا هم قد عبدوا الجن، فما وجه قولهم: أكثرهم مؤمنون، ولم يقولوا جميعهم، وقد أخبروا أنهم كانوا يعبدون الجن؟ والجواب أنهم لم يدعوا إلا حاطة، إذ قد يكون في الكفارة من لم يطلع الملائكة عليهم، أو أنهم حلموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من عمل القلب، فلم يذكروا الاطلاع على جميع أعمال قلوبهم، لأن ذلك لله تعالى. ومعنى * (مؤمنون) *: مصدقون أنهم معبودوهم، وقيل: مصدقون أنهم بنات الله، وأنهم ملائكة، * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) *. وأما من قال بأن الأكثر بمعنى الجميع، فلا يرد عليه شيء، لكنه ليس موضوع اللغة.
* (فاليوم) *: هو يوم القيامة، والخطاب في * (بعضكم) *، قيل: للملائكة، لأنهم المخاطبون في قوله: * (أهؤلاء إياكم) *، ويكون ذلك تبكيتا للكفار حين بين لهم أن من عبدوه لا ينفع ولا يضر، ويؤيده: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) *، ولأن بعده: * (ونقول للذين ظلموا) *، ولو كان الخطاب للكفار، لكان التركيب فذوقوا. وقيل: الخطاب للكفار، لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم، ويكون قوله: ويقول، تأكيدا لبيان حالهم في الظلم. وقيل: هو خطاب من الله لمن عبد ومن عبد. وقوله: * (نفعا) *، قيل: بالشفاعة، * (ولا ضرا) * بالتعذيب. وقيل هنا: * (التى كنتم بها تكذبون) *، وفي السجدة: * (الذي كنتم به تكذبون) * كل منهما، أي من العذاب ومن النار، لأنهم هنا لم يكونوا ملتبسين بالعذاب، بل ذلك أول مارأوا النار، إذ جاء عقيب الحشر، فوصفت لهم النار بأنها هي التي كنتم تكذبون بها. وأما الذي في السجدة، فهم ملابسو العذاب، مترددون فيه لقوله: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) *، فوصف لهم العذاب الذي هم مباشروه، وهو العذاب المؤبد الذي أنكروه.
والإشارة بقوله: ما * (هاذا إلا رجل) *، إلى تالي الآيات، المفهوم من قوله: * (وإذا تتلى) *، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم). وحكي تعالى مطاعنهم عند تلاوة القرآن عليهم، فبدؤوا أولا بالطعن في التالي، فإنه يقدح في معبودات آلهتكم. ثانيا فيما جاء به الرسول من القرآن، بأنه كذب مختلق من عنده، وليس من عند الله. وثالثا: بأن ما جاء به سحر واضح لما اشتمل على ما يوجب الاستمالة وتأثير النفوس له وإجابته. وطعنوا في الرسول، وفيما جاء به، وفي وصفه، واحتمل أن يكون ذلك صدرمن مجموعهم، واحتمل أن تكون كل جملة منها قالها قوم غير من قال الجملة الأخرى. وفي قوله: * (لما جاءهم) * دليل على أنه حين جاءهم لم يفكروا فيه، بل بادروه بالإنكار ونسبته إلى السحر، ولم يكتفوا بقولهم، إنه سحر حتى وصفوه بأنه واضح لمن يتأمله. وقيل: إنكار القرآن والمعجزة كان متفقا عليه من المشركين وأهل الكتاب، فقال تعالى: * (وقال الذين كفروا للحق) *، على وجه العموم.
* (وما ءاتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير * وكذب الذين من قبلهم وما
274

بلغوا معشار ما ءاتيناهم فكذبوا رسلى فكيف كان نكير * قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير (سقط: الآية كاملة)) *.
* (وما ءاتيناهم) *: أهل مكة، * (من كتاب) *، قال السدي: من عندنا، فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به. وقال ابن زيد: منقصوا أن الشرك جائز، وهو كقوله: * (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) *. وقال قتادة: ما أنزلنا الله على العرب كتابا قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد صلى الله عليه وسلم). والمعنى: من أين كذبوا، ولم يأتهم كتاب، ولا نذير بذلك؟ وقيل: وصفهم بأنهم قوم أميون، أهل جاهلية، ولا ملة لهم، وليس لهم عهد بإنزال الكتاب ولا بعثة رسول. كما قال: * (أم ءاتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) *، فليس لتكذيبهم وجه مثبت، ولا شبهة تعلق. كما يقول أهل الكتاب، وإن كانوا مبطلين: نحن أهل الكتاب والشرائع، ومستندون إلى رسل من رسل الله. وقيل: المعنى أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله، يقول بعضهم سحر، وبعضهم افتراء، ولا يستندون فيه إلى أثارة من علم، ولا إلى خبر من يقبل خبره. فإنا آتيناهم كتبا يدرسونها، ولا أرسلنا إليهم رسولا ولا نذيرا فيمكنهم أن يدعوا، إن أقوالهم تستند إلى أمره.
وقرأ الجمهور: * (يدرسونها) *، مضارع درس مخففا؛ أبو حيوة: بفتح الدال وشدها وكسر الراء، مضارع ادرس، افتعل من الدرس، ومعناه: تتدارسونها. وعن أبي حيوة أيضا: يدرسونها، من التدريس، وهو تكرير الدرس، أو من درس الكتاب مخففا، ودرس الكتاب مشددا التضعيف باعتبار الجمع. ومعنى * (قبلك) *، قال ابن عطية: أي وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء، ولا يباشر أهل عصرهم، ولا من قرب من آبائهم. وقد كانت النذارة في العالم، وفي العرب مع شعيب وصالح وهود. ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه، وإنما المعنى: من نذير يختص بهؤلاء الذين بقيت إليهم، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل، والله تعالى يقول: * (إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا) *، ولكن لم يتجرد للنذارة، وقاتل عليها، إلا محمد صلى الله عليه وسلم). انتهى.
* (وكذب الذين من قبلهم) *: توعد لهم ممن تقدمهم من الأمم، وما آل إليه أمرهم، وتسلية لرسوله بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة، وسيحل بهم ما حل
بأولئك. وأن الضميرين في: * (بلغوا) * وفي: * (ما ءاتيناهم) * عائدان على * (الذين من قبلهم) *، ليتناسقا مع قوله تعالى: * (فكذبوا) *، أي ما بلغوا في شكر النعمة وجزاء المنة معشار ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم. وقال ابن عباس، وقتادة، وابن زيد: الضمير في * (بلغوا) * لقريش، وفي * (ما ءاتيناهم) * للأمم * (الذين من قبلهم) *. والمعنى: وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال، وحيث كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة، فكيف حال هؤلاء إذا جاءهم العذاب
275

والهلاك؟ وقيل: الضمير في * (بلغوا) * عائد على * (الذين من قبلهم) *، وفي * (ءاتيناهم) * على قريش، وما بلغ الأمم المتقدمة معشار ما آتينا قريشا من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به. وأورد ابن عطية هذه الأقوال احتمالات، والزمخشري ذكر الثاني، وأبو عبد الله الرازي اختار الثالث، قال: أي * (الذين من قبلهم) * ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البرهان، وذلك لأن كتاب محمد، عليه السلام، أكمل من سائر الكتب وأوضح، ومحمد، عليه السلام، أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أو في، وبيانه أشفى، ويؤيد ما ذكرنا، * (وما ءاتيناهم من كتب يدرسونها) * تغني عن القرآن. فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب، حمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب، وكان أولى. انتهى.
وعن ابن عباس: فليس أنه أعلم من أمته، ولا كتاب أبين من كتابه. والمعشار مفعال من العشر، ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع، ومعناهما: العشر والربع. وقال قوم: المعشار عشر العشر. قال ابن عطية: وهذا ليس بشيء. انتهى. وقيل: والعشر في هذا القول عشر المعشرات، فيكون جزأ من ألف جزء. قال الماوردي: وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى * (فكذبوا رسلى) *، وهو مستغنى عنه بقوله * (وكذب الذين من قبلهم) *؟ قلت: لما كان معنى قوله: * (وكذب الذين من قبلهم) *، وفعل الذين من قبلهم التكذيب، وأقدموا عليه، جعل تكذيب الرسل مسببا عنه، ونظيره أن يقول القائل: أقدم فلان على الكفر، فكفر بمحد صلى الله عليه وسلم). ويجوز أن ينعطف على قوله: * (ما * بلغوا) *، كقولك: ما بلغ زيد معشار فضل عمرو، فيفضل عليه. * (فكيف كان نكير) *: للمكذبين الأولين، ليحذروا من مثله. انتهى. وفكيف: تعظيم للأمر، وليست استفهاما مجردا، وفيه تهديد لقريش، أي أنهم معرضون لنكير مثله، والنكير مصدر كالإنكار، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل، والفعل على وزن أفعل، كالنذير والعذير من أنذر وأعذر، وحذفت إلى من نكير تخفيفا لأنها أجزأته.
* (قل إنما أعظكم بواحدة) *، قال: هي طاعة الله وتوحيده. وقال السدي: هي لا إله إلا الله. قال قتادة: هي أن تقوموا. قال أبو علي: * (أن تقوموا) * في موضع خفض على البدل من واحدة. وقال الزمخشري: * (بواحدة) *: بخصلة واحدة، وهو فسرها بقوله: * (أن تقوموا) * على أن عطف بيان لها. انتهى. وهذا لا يجوز، لأن بواحدة نكرة، وأن تقوموا معرفة لتقديره قيامكم لله. وعطف البيان فيه مذهبان: أحدهما: أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة، وهو مذهب الكوفيين، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب، وإنما هو وهم من قائله. وقد رد النحويون على الزمخشري في قوله: * (ءان * مقام إبراهيم) * عطف بيان من قوله: * (بينات فاسأل) *، وذلك لأجل التحالف، فكذلك هذا. والظاهرر أن القيام هنا هو الانتصاب في الأمر، والنهوض فيه بالهمة، لا القيام الذي يراد به المقول على القولين، ويبعد أن يراد به ما جوزه الزمخشري من القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وتفرقهم عن مجتمعهم عنده. والمعنى: إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصكم، وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به. وإنما قال: * (مثنى وفرادى) *، لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر، وتخليط الكلام، والتعصب
276

للمذاهب، وقلة الإنصاف، كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة، فلا يوقف فيها على تحقيق. وأما الاثنان، إذا نظر انظر إنصاف، وعرض كل واحد منهما على صاحبه ما ظهر له، فلا يكاد الحق أن يعدوهما. وأما الواحد، إذا كان جيد الفكر، صحيح النظر، عاريا عن التعصب، طالبا للحق، فبعيد أن يعدوه. وانتصب * (مثنى وفرادى) * على الحال، وقدم مثنى، لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، إذا انقدح الحق بين الاثنين، فكر كل واحد منهما بعد ذلك، فيزيد بصيرة. قال الشاعر:
* إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة
*
فيزداد بعض القوم من بعضهم علما
*
* (ثم تتفكروا) *: عطف على * (أن تقوموا) *، فالفكرة هنا في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفيما نسبوه إليه. فإن الفكرة تهدي غالبا إلى الصواب إذا عرى صاحبها عما يشوش النظر، والوقف عند أبي حاتم عند قوله: * (ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) *، نفي مستأنف. قال ابن عطية: وهو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم، لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين، ويكون على هذا في آيات الله والإيمان به. انتهى. واحتمل أن يكون تتفكروا معلقا، والجملة المنفية في موضع نصب، وهو محط التفكر، أي ثم تتفكروا في انتفاء الجنة على محمد صلى الله عليه وسلم). فإن إثبات ذلك لا يصح أن يتصف به من كان أرجح قريش عقلا، وأثبتهم ذهنا، وأصدقهم قولا، وأنزههم نفسا، ومن ظهر على يديه هذا القرآن المعجز، فيعلمون بالفكرة أن نسبته للجنون لا يمكن، ولا يذهب إلى ذلك عاقل، وأن من نسبه إلى ذلك فهو مفتر كاذب. والظاهر أن ما للنفي، كما شرحنا. وقيل: ما استفهام، وهو استفهام لا يراد به حقيقته، بل يؤول معناه إلى النفي،
التقدير: أي شيء بصاحبكم من الجنون، أي ليس به شيء من ذلك. ولما نفى تعالى عنه الجنة أثبت أنه * (نذير) *، * (بين يدى عذاب شديد) *: أي هو متقدم في الزمان على العذاب الذي توعدوا به، وبين يدي يشعر بقرب العذاب.
* (قل ما سألتكم من أجر) * الآية: في التبري من طلب الدنيا، وطلب الأجر على النور الذي أتى به، والتوكل على الله فيه. واحتملت ما أن تكون موصولة مبتدأ، والعائد من الصلة محذوف تقديره: سألتكموه، و * (فهو لكم) * الخبر. ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، واحتملت أن تكون شرطية مفعولة بسألتكم، وفهو لكم جملة هي جواب الشرط. وقوله: * (ما سألتكم من أجر فهو لكم) * على معنيين: أحدهما: نفي مسألة للأجر، كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئا فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا، ولكنه أراد لبت لتعليقه الأخذ بما لم يكن، ويؤيده * (إن أجرى إلا على الله) *. والثاني: أن يريد بالأجر ما في قوله: * (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) *، وفي قوله: * (لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى) *، لأن اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم ما فيه نفعهم، وكذلك المودة في القرابة، لأن القرابة قد انتظمت وإياهم، قاله الزمخشري، وفيه بعض زيادة. قال ابن عباس: الأجر: المودة في القربى. وقال قتادة: * (فهو لكم) *، أي ثمرته وثوابه، لأني سألتكم صلة الرحم. وقال مقاتل: تركته لكم. * (وهو على كل شىء شهيد) *: مطلع حافظ، يعلم أني لا أطلب أجرا على نصحكم ودعائكم إليه إلا منه، ولا أطمع منكم في شيء.
والقذف: الرمي بدفع واعتماد، ويستعار لمعنى الإلقاء لقوله: * (فاقذفيه فى اليم) *، * (وقذف فى قلوبهم الرعب) *. قال قتادة: ة * (يقذف بالحق) *: يبين الحجة ويظهرها. وقال ابن القشيري: يبين الحجة بحيث لا اعتراض عليها، لأنه * (علام الغيوب) *، وأنا مستمسك بما يقذف إلي من الحق. وأصل القذف: الرمي بالسهم، أو الحصى والكلام. وقال ابن عباس: يقذف الباطل بالحق، والظاهر أن بالحق هو المفعول، فالحق هو المقذوف محذوفا، أي يقذف، أي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه من الوحي والشرع بالحق لا بالباطل، فتكون الباء إما للمصاحبة، وإما للسبب، ويؤيد هذا الاحتمال كون قذف متعديا بنفسه، فإذا جعلت بالحق هو
277

المفعول، كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد زيادتها. وقرأ الجمهور: علام بالرفع، فالظاهر أنه خبر ثان، وهو ظاهر قول الزجاج، قال: هو رفع، لأن تأويل قل رب علام الغيوب. وقال الزمخشري: رفع محمول على محل إن واسمها، أو على المستكن في يقذف، أو هو خبر مبتدأ محذوف. انتهى. أما الحمل على محل إن واسمها فهو غير مذهب سيبويه، وليس بصحيح عند أصحابنا على ما قررناه في كتب النحو. وأما قوله على المستكن في يقذف، فلم يبين وجه حمله، وكأنه يريد أنه بدل من ضمير يقذف. وقال الكسائي: هو نعت لذلك الضمير، لأنه مذهبه جواز نعت المضمر الغائب. وقرأ عيسى، وابن أبي إسحاق، وزيد بن علي، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، وحرب عن طلحة: علام بالنصب؛ فقال الزمخشري: صفة لربي. وقال أبو الفضل الرازي، وابن عطية: بدل. وقال الحوفي: بدل أو صفة؛ وقيل: نصب على المدح. وقرئ: الغيوب بالجر، أما الضم فجمع غيب، وأما الكسر فكذلك استثقلوا ضمتين والواو فكسر، والتناسب الكسر مع الياء والضمة التي على الياء مع الواو؛ وأما الفتح فمفعول للمبالغة، كالصبور، وهو الشيء الذي غاب وخفي جدا.
ولما ذكر تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة المضارع، أخبر أن الحق قد جاء، وهو القرآن والوحي، وبطل ما سواه من الأديان، فلم يبق لغير الإسلام ثبات، لا في بدء ولا في عاقبة، فلا يخاف على الإسلام ما يبطله، كما قال: * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) *. وقال قتادة: الباطل: الشيطان، لا يخلق شيئا ولا يبعثه. وقال الضحاك: الأصنام لا تفعل ذلك. وقال أبو سليمان: لا يبتدئ الصنم من عنده كلاما فيجاب، ولا يرد ما جاء من الحق بحجة. وقيل: الباطل: الذي يضاد الحق، فالمعنى: ذهب الباطل بمجيء الحق، فلم يبقى منه بقية، وذلك أن الجائي إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة، فصار قولهم: لا يبدي ولا يعيد، مثلا في الهلاك، ومنه قول الشاعر:
* أفقر من أهيله عبيد
*
فاليوم لا يبدي ولا يعيد
*
والظاهر أن ما نفي، وقيل: استفهام ومآله إلى النفي، كأنه قال: أي شيء يبدىء الباطل، أي إبليس، ويعيده، قاله الزجاج وفرقة معه. وعن الحسن: لا يبديء، أي إبليس، لأهله خيرا، ولا يعيده: أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقيل: الشيطان: الباطل، لأنه صاحب الباطل، لأنه هالك، كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك. وقيل: الحق: السيف. عن ابن مسعود: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم) مكة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود نبقة ويقول: (* (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) *، * (جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد) *).
وقرأ الجمهور: * (قل إن ضللت) *، بفتح اللام، * (فإنما أضل) *، بكسر الضاد. وقرأ الحسن، وابن وثاب، وعبد الرحمن المقري: بكسر اللام وفتح الضاد، وهي لغة تميم، وكسر عبد الرحمن همزة أضل. وقال الزمخشري: لغتان نحو: ضللت أضل، وظللت أظل. * (وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربى) *، وأن تكون مصدرية، أي فبوحي ربي. والتقابل اللفظي: وإن اهتديت فإنما أهتدي لها، كما قال: * (ومن أساء فعليها) *، مقابل: * (من عمل صالحا فلنفسه) *، * (ومن ضل فإنما يضل عليها) *، مقابل: * (فمن اهتدى فلنفسه) *، أو يقال: فإنما أضل بنفسي. وأما في الآية فالتقابل معنوي، لأن النفس كل ما عليها فهو لها، أي كل وبال عليها فهو بسببها. * (إن النفس لامارة بالسوء) * وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عام لكل مكلف. وأمر رسوله أن يسنده إلى نفسه، لأنه إذا
دخل تحته مع جلالة محله وسر طريقته كما غيره أولى به. انتهى، وهو من كلام
278

الزمخشري. * (إنه سميع قريب) *، يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله.
والظاهر أن قوله: * (ولو ترى إذ فزعوا) *، أنه وقت البعث وقيام الساعة، وكثيرا جاء: * (ولو ترى إذ وقفوا على النار) *، * (لو * ترى إذ المجرمون ناكسوا * رؤوسهم * عند ربهم) *، وكل ذلك في يوم القيامة؛ وعبر بفزعوا، وأخذوا، وقالوا؛ وحيل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه بالخبر الصادق. وقال ابن عباس، والضحاك: هذا في عذاب الدنيا. وقال الحسن: في الكفار عند خروجهم من القبور. وقال مجاهد: يوم القيامة. وقال ابن زيد، والسدي: في أهل بدر حين ضربت أعناقهم، فلم يستطيعوا فرارا من العذاب، ولا رجوعا إلى التوبة. وقال ابن جبير، وابن أبي أبزي: في جيش لغز والكعبة، فيخسف بهم في بيداء من الأرض، ولا ينجو إلا رجل من جهينة، فيخبر الناس بما ناله، قالوا، وله قيل:
وعند جهينة الخبر اليقين
وروى في هذا المعنى حديث مطول عن حذيفة. وذكر الطبري أنه ضعيف السند، مكذوب فيه على رواية ابن الجراح. وقال الزمخشري، وعن ابن عباس: نزلت في خسف البيداء، وذلك أن ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم. وذكر في حديث حذيفة أنه تكون فتنة بين أهل المشرق والمغرب، فبينما هم كذلك، إذ خرج السفياني من الوادي اليابس في فوره، ذلك حين ينزل دمشق، فيبعث جيشا إلى المدينة فينتهبونها ثلاثة أيام، ثم يخرجون إلى مكة فيأتيهم جبريل، عليه السلام، فيضربها، أي الأرض، برجله ضربة، فيخسف الله بهم في بيداء من الأرض، ولا ينجو إلا رجل من جهينة، فيخبر الناس بما ناله، فذلك قوله: * (فلا فوت) *، ولا يتفلت منهم إلا رجلان من جهينة، ولذلك جرى المثل: (وعند جهينة الخبر اليقين)، اسم أحدهما بشير، يبشر أهل مكة، والآخر نذير، ينقلب بخبر السفياني. وقيل: لا ينقلب إلا رجل واحد يسمى ناجية من جهينة، ينقلب وجهه إلى قفاه. ومفعول ترى محذوف، أي ولو ترى الكفار إذ فزعوا فلا فوت، أي لا يفوتون الله، ولا يهرب لهم عنما يريد بهم. وقال الحسن: فلا فوت من صيحة النشور، وأخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. انتهى. أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا، أو من صحراء بدر إلى القليب، أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم، وهذه أقوال مبنية على تلك الأقوال السابقة في عود الضمير في فزعوا. ووصف المكان بالقرب من حيث قدرة الله عليهم، فحيث ما كانوا هو قريب.
وقرأ الجمهور: * (فلا فوت) *، مبني على الفتح، * (وأخذوا) *: فعلا ماضيا، والظاهر عطفه على * (فزعوا) *، وقيل: على * (فلا فوت) *، لأن معناه فلا يفوتوا وأخذوا. وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه، وطلحة؛ فلا فوت، وأخذ مصدرين منونين. وقرأ أبي: فلا فوت مبنيا، وأخذ مصدرا منونا، ومن رفع وأخذ فخبر مبتدأ، أي وحالهما أخذ أو مبتدأ، أي وهناك أخذ. وقال الزمخشري: وقرئ: وأخذ، وهو معطوف على محل فلا فوت، ومعناه: فلا فوت هناك، وهناك أخذ. انتهى. كأنه يقول: لا فوت مجموع لا، والمبني معها في موضع مبتدأ، وخبره هناك، فكذلك وأخذ مبتدأ، وخبره هناك، فهو من عطف الجمل، وإن كانت إحداهما تضمنت النفي والأخرى تضمنت الإيجاب. والضمير في به عائد على الله، قاله مجاهد، أي يقولون ذلك عندما يرون العذاب. وقال الحسن: على البعث. وقال مقاتل: على القرآن. وقيل: على العذاب. وقال الزمخشري وغيره: على الرسول، لمرور ذكره في قوله: * (ما بصاحبكم من جنة) *. * (وأنى لهم التناوش) *، قال ابن عباس: التناوش: الرجوع إلى الدنيا، وأنشد ابن الأنباري:
* تمنى أن تؤوب إلي مي
*
وليس إلى تناوشها سبيل
*
أي: تتمنى، وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في
279

الدنيا. مثل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعد، كما يتناوله الآخر من قرب. وقرأ الجمهور: التناوش بالواو. وقرأ حمزة، والكسائي. وأبو عمرو، وأبو بكر: بالهمز، ويجوز أن يكونا مادتين، إحداهما النون والواو والشين، والأخرى والهمزة والشين، وتقدم شرحهما في المفردات. ويجوز أن يكون أصل الهمزة الواو، على ما قاله الزجاج، وتبعه الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء، وقال الزجاج: كل واو مضمومة ضمة لازمة، فأنت فيها بالخيار، إن شئت تثبت همزتها، وإن شئت تركت همزتها. تقول: ثلاث أدور بلا همز، وأدؤر بالهمز. قال: والمعنى: من أنى لهم تناول ما طلبوه من التوبة بعد فوات وقتها، لأنها إنما تقبل في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا فصارت على بعد من الآخرة، وذلك قوله تعالى: * (من مكان بعيد) *. وقال الزمخشري: همزت الواو المضمومة كما همزت في أجوه وأدور. وقال ابن عطية: وأما التناؤش بالهمز فيحتمل أن يكون من التناوش، وهمزت الواو لما كانت مضمومة ضمة لازمة، كما قالوا: أفتيت. وقال الحوفي: ومن همز احتمل وجهان: أحدهما: أن يكون من الناش، وهو الحركة في إبطاء، ويجوز أن يكون من ناش ينوش، همزت الواو لانضمامها، كما همزت أفتيت وأدور. وقال أبو البقاء: ويقرأ بالهمز من أجل الواو، وقيل: هي أصل من ناشه. انتهى. وما ذكروه من أن الواو إذا كانت مضمومة ضمة لازمة يجوز أن تبدل همزة، ليس على إطلاقه، بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كان مدغمة فيها، ونحو يعود وتعوذ مصدرين؛ ولا إذا صحت في الفعل نحو: ترهوك ترهوكا، وتعاون تعاونا، ولم يسمع همزتين من ذلك، فلا يجوز. والتناوش مثل التعاون، فلا يجوز همزه، لأن واوه قد صحت في الفعل، إذ يقول: تناوش.
* (وقد كفروا به) *: الضمير في به عائد على ما عاد عليه * (به إنه) * على الأقوال، والجملة حالية، و * (من قبل) * نزول العذاب. وقرأ الجمهور: * (ويقذفون) * مبنيا للفاعل، حكاية حال متقدمة. قال الحسن: قولهم لا جنة ولا نار، وزاد قتادة: ولا بعث ولا نار. وقال ابن زيد: طاعنين في القرآن بقولهم: * (أساطير الاولين) *. وقال مجاهد في الرسول صلى الله عليه وسلم)، بقولهم: شاعر وساحر وكاهن. * (من مكان بعيد) *: أي في جهة بعيدة، لأن نسبته إلى شيء من ذلك من أبعد الأشياء. قال الزمخشري: وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي، لأنهم لم يشاهدوا منه سحرا ولا شعرا ولا كذبا، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله، لأن أبعد شيء مما جاء به الشعر والسحر، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت الكذب والزور. انتهى. وقيل: هو مستأنف، أي يتلفظون بكلمة الإيمان حين لا ينفع نفسها إيمانها، فمثلت حالهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم: آمنا في الآخرة، وذلك مطلب مستبعد ممن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للنظر في لحوقه، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه بعيدا. والغيب: الشيء الغائب. وقرأ مجاهد، وأبو حيوة، ومحبوب عن أبي عمرو: ويقذفون، مبنيا للمفعول. قال مجاهد: ويرجمهم بما يكرهون من السماء. وقال أبو الفضل الرازي: يرمون بالغيب من حيث لا يعلمون، ومعناه: يجازون بسوء أعمالهم، ولا علم لهم بما أتاه، إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت، وإما في الآخرة. وقال الزمخشري: أي يأتيهم به، يعني بالغيب، شياطينهم ويلقنونهم إياهم. وقيل: يرمون في النار؛ وقيل: هو مثل، لأن من ينادي من مكان بعيد لا يسمع، أي هم لا يعقلون ولا يسمعون.
* (وحيل بينهم) *، قال الحوفي: الظرف قائم مقام اسم ما لم يسم فاعله. انتهى. ولو كان على ما ذكر، لكان مرفوعا بينهم، كفراءة من قرأ: * (لقد تقطع بينكم) *، في أحد المعنين، لا يقال لما أضيف إلى مبني وهو الضمير بنى، فهو في موضع رفع، وإن كان مبنيا. كما قال بعضهم في قوله: وإذ ما مثلهم، يشير إلى أنه في موضع رفع لإضافته إلى الضمير، وإن كان مفتوحا، لأنه قول فاسد. يجوز أن تقول: مررت بغلامك، وقام غلامك بالفتح، وهذا لا يقوله أحد. والبناء لأجل الإضافة إلى المبني ليس مطلقا، بل له مواضع أحكمت في النحو
280

وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر:
وقد حيل بين العير والنزوان
فإنه نصب بين، وهي مضافة إلى معرب، وإنما يخرج ما ورد من نحو هذا على أن القائم مقام الفاعل هو ضمير المصدر الدال عليه، وحيل هو، أي الحول، ولكونه أضمر لم يكن مصدرا مؤكدا، فجاز أن يقام مقام الفاعل، وعلى ذلك يخرج قول الشاعر:
* وقالت متى يبخل عليك ويعتلل
*
بسوء وإن يكشف غرامك تدرب
*
أي: ويعتلل هو، أي الاعتلال. والذي يشتهون الرجوع إلى الدنيا، قاله ابن عباس؛ أو الأهل والمال والولد، قاله السدي؛ أو بين الجيش وتخريب الكعبة، أو بين المؤمنين، أو بين النجاة من العذاب، أو بين نعيم الدنيا ولذتها، قاله مجاهد أيضا. * (كما فعل بأشياعهم) *، من كفرة الأمم، أي حيل بينهم وبين مشتهياتهم. و * (من قبل) *: يصح أن يكون متعلقا * (بأشياعهم) *، أي من اتصف بصفتهم من قبل، أي في الزمان الأول. ويترجح بأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد، ويصح أن يكون متعلقا بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا. وقال الضحاك: أشياعهم أصحاب الفيل، يعني أشياع قريش، وكأنه أخرجه مخرج التمثيل. وأما التخصيص، فلا دليل عليه. * (إنهم كانوا فى شك مريب) *: يعني في الدنيا، ومريب اسم فاعل من أراب الرجل: أتى بريبة ودخل فيها، وأربت الرجل: أوقعته في ريبة، ونسبة الارابة إلى الشك مجاز. قال الزمخشري: إلا أن بينهما فرقا، وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريبا من الأعيان إلى المعنى، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك، كما تقول: شعر شاعر. انتهى، وفيه بعض تبيين. قيل: ويجوز أن يكون أردفه على الشك، وهما بمعنى لتناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب، كما تقول: عجب عجيب، وشتاشات، وليلة ليلاء. وقال ابن عطية: الشك المريب أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاما.
281

((سورة فاطر))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الحمد لله فاطر السماوات والا رض جاعل الملائكة رسلا أولىأجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد فى الخلق ما يشآء إن الله على كل شىء قدير * ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم * ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السمآء والا رض لا إلاه إلا هو فأنى تؤفكون * وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الا مور * ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيواة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور * إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير * الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير * أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا فإن الله يضل من يشآء ويهدى من يشآء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون * والله الذىأرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الا رض بعد موتها كذلك النشور * من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون
السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولائك هو يبور * والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب إن ذلك على الله يسير * وما يستوى البحران هاذا عذب فرات سآئغ شرابه وهاذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير
282

إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير * ياأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغنى الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز * ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلواة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير * وما يستوى الا عمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوى الا حيآء ولا الا موات إن الله يسمع من يشآء ومآ أنت بمسمع من فى القبور * إن أنت إلا نذير * إنآ أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير * وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جآءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير * ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير * ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدوآب والا نعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور * إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلواة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور * والذي أوحينآ إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير * ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وقالوا الحمد لله الذىأذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذىأحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب * والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور * وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير * إن الله عالم غيب السماوات والا رض إنه عليم بذات الصدور * هو الذى جعلكم خلائف فى الا رض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا * قل أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات أم ءاتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا * إن الله يمسك السماوات والا رض أن تزولا ولئن زالتآ إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الا مم فلما جآءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا فى الا رض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة آلا ولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا * أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شىء فى السماوات ولا فى الا رض إنه كان عليما قديرا * ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) *))
) *
القمطير: المشهور أنه القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة، ويأتي ما قال المفسرون. الجدد: جمع جدة، وهي
283

الطريقة تكون من الأرض والجبل، كالقطعة العظيمة المتصلة طولا. وقال الزمخشري: والجدد: الخطط والطرائق. وقال لبيد: أو مذهب جدد على الواحد، ويقال: جدة الحمار للخطة السوداء التي على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه. انتهى. وقال الشاعر:
* كأن مبرات وجدة ظهره
*
كنائن يجري بينهن دليص
*
الجدة: الخط الذي في وسط ظهره، يصف حمار وحش. الغربيب: الشديد السواد. لغب يلغب لغوبا: أعيا.
* (الحمد لله فاطر * السماوات والارض * جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد فى الخلق ما يشاء إن الله على كل شىء قدير) *.
هذه السورة مكية. ولما ذكر تعالى في آخر السورة التي قبلها هلاك المشركين أعداء المؤمنين، وأنزلهم منازل العذاب، تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره لنعمائه ووصفه بعظيم آلائه، كما في قوله: * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) *.
وقرأ الضحاك والزهري: فطر، جعله فعلا ماضيا ونصب ما بعده. قال أبو الفضل الرازي: فأما على إضمار الذي فيكون نعتا لله عز وجل، وأما بتقدير قد فيما قبله فيكون بمعنى الحال. انتهى. وحذف الموصول الاسمي لا يجوز عند البصريين، وأما الحال فيكون حالا محكية، والأحسن عندي أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو فطر، وتقدم شرح * (فاطر * السماوات والارض) *، وأن المعنى خالقها بعد أن لم تكن، والسماوات والأرض عبارة عن العالم.
وقال أبو عبد الله الرازي: الحمد يكون في غالب الأمر على النعمة، ونعم الله عاجلة، و * (الحمد لله الذى خلق * السماوات والارض * وجعل الظلمات والنور) *، إشارة إلى أن النعمة العاجلة ودليله: * (هو الذى خلقكم من طين ثم قضى أجلا) *، و * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب) *، إشارة إليها أيضا، وهي
الاتقاء، فإن الاتقاء والصلاح بالشرع والكتاب. والحمد في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر، ودليله: * (يعلم ما يلج فى الارض وما يخرج منها) * منها، وقوله: * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة) *، وهنا إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة، ودليله: * (وتتلقاهم الملئكة) *. ففاطر السماوات والأرض شاقهما لنزول الأرواح من السماء، وخروج الأجساد من الأرض دليله: * (جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة) *: أي في ذلك اليوم. فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى، لأن كما فعل بأشياعهم من قبل بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب. ولما ذكر حالهم ذكر حال المؤمن وبشره بإرسال الملائكة إليهم مبشرين، وأنه يفتح لهم أبواب الرحمة.
وقرأ الحسن: جاعل بالرفع، أي هو جاعل؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو: وجاعل رفعا بغير تنوين، الملائكة نصبا، حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن يعمر، وخليد بن نشيط: جعل فعلا ماضيا، الملائكة نصبا، وذلك بعد قراءته فاطر بألف، والجر كقراءة من قرأ: * (فالق الإصباح وجعل
284

اليل سكنا) *. وقرأ الحسن، وحميد بن قيس: رسلا بإسكان السين، وهي لغة تميم. وقال الزمخشري: وقرئ الذي فطر السماوات والأرض وجعل الملائكة. فمن قرأ: فطر وجعل، فينبغي أن تكون هذه الجمل إخبارا من العبد إلى ما أسداه إلينا من النعم، كما تقول: الفضل لزيد أحسن إلينا بكذا خولنا كذا، يكون ذلك جهة بيان لفعله الجميل، كذلك يكون في قوله: فطر، جعل، لأن في ذلك نعما لا تحصى. ومن قرأ: وجاعل، فالأظهر أنهما اسما فاعل بمعنى المضي، فيكونان صفة لله، ويجيء الخلاف في نصب رسلا. فمذهب السيرافي أنه منصوب باسم الفاعل، وإن كان ماضيا لما لم يمكن إضافته إلى اسمين نصب الثاني. ومذهب أبي علي أنه منصوب بإضمار فعل، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. وأما من نصب الملائكة فيتخرج على مذهب الكسائي وهشام في جواز إعمال الماضي النصب، ويكون إذ ذاك إعرابه بدلا. وقيل: هو مستقبل تقديره: يجعل الملائكة رسلا، ويكون أيضا إعرابه بدلا. ومعنى رسلا بالوحي وغيره من أوامره، ولا يريد جميع الملائكة لأنهم ليسوا كلهم رسلا. فمن الرسل: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، والملائكة المتعاقبون، والملائكة المسددون حكام العدل وغيرهم، كالملك الذي أرسله الله إلى الأعمى والأبرص والأقرع.
و * (أجنحة) * جمع جناح، صيغة جمع القلة، وقياس جمع الكثرة فيه جنح على وزن فعل، فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملا في القليل والكثير. وتقدم الكلام على مثنى وثلاث ورباع في أول النساء مشبعا، ولكن المفسرون تعرضوا لكلام فيه هنا، فقال الزمخشري: مثنى وثلاث ورباع صفات الأجنحة، وإنما لم تنصرف لتكرار العدل فيها، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الإعداد من صيغ إلى صيغ أخر، كما عدل عمر عن عامر، وحذام عن حاذمة، وعن تكرير إلى غير تكرير. وأما بالوصفية، فلا تقترن الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها. ألا تراك تقول بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها؟ انتهى. فجعل المانع للصرف هو تكرار العدل فيها، والمشهور أنها امتنعت من الصرف للصفة والعدل. وأما قوله: ألا تراك، فإنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أفعل وفي ثلاثة، وليس بصحيح، لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة، بل اشترطوا فيه. فليس الشرط موجودا في أربع، لأن شرطه أن لا يقبل تاء التأنيث. وليس شرطه في ثلاثة موجودا، لأنه لم يجعل علة مع التأنيث. فقياس الزمخشري قياس فاسد، إذ غفل عن شرط كون الصفة علة. وقال ابن عطية: عدلت عن حال التنكير، فتعرفت بالعدل، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف، وقيل: للعدل والصفة. انتهى. وهذا الثاني هو المشهور، والأول قول لبعض الكوفيين. والظاهر أن الملك الواحد من صنف له جناحان، وآخر ثلاثة، وآخر أربعة، وآخر أكثر من ذلك، لما روي أن لجبريل ستمائة جناح، منها اثنان يبلغ بهما المشرق إلى المغرب. قال قتادة: وأخذ الزمخشري يتكلم على كيفية هذه الأجنحة، وعلى صورة الثلاثة بما لا يجدي قائلا: يطالع ذلك في كتابه. وقالت فرقة: المعنى أن في كل جانب من الملك جناحان، ولبعضهم ثلاثة، ولبعضهم أربعة، وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد، لما اعتدلت في معتاد ما رأينا نحن من الأجنحة. وقيل: بل هي ثلاثة لواحد، كما يوجد لبعض الحيوانات. والظاهر أن المراد من الأجنحة ما وضعت له في اللغة.
وقال أبو عبد الله الرازي: يزيل بحثه في قوله: * (الحمد لله فاطر * السماوات والارض) *، وهو الذي حكينا عنه أن قوله: * (جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) *، أقل ما يكون لذي الجناح، إشارة إلى الجهة، وبيانه أن الله ليس شيء فوقه، وكل شيء تحت قدرته ونعمته، والملائكة لهم وجه إلى الله يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما أخذوه بإذن الله، كما قال تعالى: * (نزل به الروح الامين * على قلبك) *، وقوله: * (علمه شديد القوى) *، وقال تعالى في حقهم: * (فالمدبرات أمرا) *، النازعات فهما جناحان، وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة، وفيهم من يفعله لا بواسطة. فالفاعل بواسطة فيهم من له ثلاث جهات، ومنهم من له أربع جهات وأكثر. انتهى. وبحثه في هذه، وفي * (فاطر * السماوات والارض) * بحث
285

عجيب، وليس على طريقة فهم العرب من مدلولات الألفاظ التي حملها ما حمل. والظاهر أن مثنى وما بعده من صفات الأجنحة، وقيل: * (أولى أجنحة) * معترض، * (* ومثنى) * حال، والعامل فعل محذوف يدل عليه * (بعده رسلا) *، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع. قيل: وإنما جعلهم أولي أجنحة، لأنه لما جعلهم رسلا، جعل لهم أجنحة ليكون أسرع لنفاد الأمر وسرعة إنفاذ القضاء. فإن المسافة التي بين السماء والأرض لا تقطع بالأقدام إلا في سنين، فجعلت لهم الأجنحة حتى ينالوا المكان البعيد في الوقت القريب كالطير.
* (يزيد فى الخلق ما يشاء) *: تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب من خبر الملائكة أولي أجنحة، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله، فإنه يزيد في خلقه ما يشاء، والظاهر عموم الخلق. وقال الفراء: هذا في الأجنحة التي للملائكة، أي يزيد في خلق الملائكة الأجنحة. وقالوا: في هذه الزيادة الخلق الحسن، أو حسن الصوت، أو حسن الخط، أو لملاحة في العينين أو الأنف، أو خفة الروح، أو الحسن، أو جعودة الشعر، أو العقل، أو العلم، أو الصنعة، أو العفة في الفقراء،
والحلاوة في الفم، وهذه الأقوال على سبيل التمثيل لا الحصر. والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق، وقد شرحوا هذه الزيادة بالأشياء المستحسنة، وما يشاء عام لا يخص مستحسنا دون غيره. وختم الآية بالقدرة على كل شيء يدل على ذلك، والفتح والإرسال استعارة للإطلاق، * (فلا مرسل له) * مكان لا فاتح له، والمعنى: أي شيء يطلب الله.
* (من رحمة) *: أي نعمة ورزق، أو مطر، أو صحة، أو أمن، أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها. وما روي عن المفسرين المتقدمين من تفسير رحمة بشيء معين فليس على الحصر منه، إنما هو مثال. قال الزمخشري: وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام، كأنه قال: من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية، فلا يقدر أحد على إمساكها وحبسها، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه. انتهى. والعموم مفهوم من اسم الشرط ومن رحمة لبيان ذلك العام من أي صنف هو، وهو مما اجتزىء فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط، وتقديره: من الرحمات، ومن في موضع الحال، أي كائنا من الرحمات، ولا يكون في موضع الصفة، لأن اسم الشرط لا يوصف. والظاهر أن قوله: * (وما يمسك) * عام في الرحمة وفي غيرها، لأنه لم يذكر له تبيين، فهو باق على العموم في كل ما يمسك. فإن كان تفسيره * (من رحمة) *، وحذفت لدلالة الأول عليه، فيكون تذكير الضمير في * (فلا مرسل له من بعده) * حملا على لفظ ما، وأنث في * (ممسك لها) * على معنى ما، لأن معناها الرحمة. وقرئ: فلا مرسل لها، بتأنيث الضمير، وهو دليل على أن التفسير هو * (من رحمة) *، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وعن ابن عباس: * (من رحمة) *: من باب توبة، * (فلا ممسك لها) *: أي يتوبون إن شاؤوا وإن أبوا، * (وما يمسك) *: من باب، * (فلا مرسل له) * من بعده، فهم لا يتوبون. وعنه أيضا: * (من رحمة) *: من هداية. قال الزمخشري: فإن قلت: فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس؟ قلت: أراد بالتوبة: الهداية لها والتوفيق فيها، وهو الذي أراده ابن عباس، إن قاله فمقبول، وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب، وإن لم يشأ لم يتب فمردود، لأن الله تعالى يشاء التوبة أبدا، ولا يجوز عليه أن لا يشاء بها. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. * (من بعده) *: هو على حذف مضاف، أي من بعد إمساكه، كقوله: * (فمن يهديه من بعد الله) *، أي من بعد إضلال الله إياه، لأن قبله وأضله الله على علم، كقوله: * (ومن يضلل الله * فلا هادي له) *، وقدره الزمخشري من بعد هداية الله، وهو تقدير فاسد لا يناسب الآية، جرى فيه على طريقة الاعتزال. * (وهو العزيز) * الغالب القادر على الإرسال والإمساك، * (الحكيم) * الذي يرسل ويمسك ما اقتضته حكمته.
* (يذهبكم أيها الناس) *: خطاب لقريش، وهو متجه لكل مؤمن وكافر، ولا سيما من عبد غير الله، وذكرهم بنعمه في إيجادهم. و * (اذكروا) *: ليس أمرا بذكر اللسان، ولكن به وبالقلب وبحفظ النعمة من كفرانها وشكرها، كقولك لمن أنعمت عليه: اذكر أيادي عندك، تريد حفظها وشكرها، والجميع مغمورون في نعمة الله. فالخطاب عام اللفظ، وإن كان نزل ذلك بسبب قريش، ثم استفهم على جهة التقرير. * (هل من خالق غير الله) *: أي فلا إله إلا الخالق، ما تعبدون أنتم من الأصنام. وقرأ ابن وثاب، وشقيق، وأبو جعفر، وزيد بن علي، وحمزة، والكسائي: غير بالخفض، نعتا على اللفظ، * (ومن * خالق) *: (سقط: مبتدأ)
286

(سقط: ويرزقكم) جوزوا أن يكون خبرا للمبتدأ، وإن يكون صفته، وأن يكون مستأنفا، والخبر على هذين الوجهين محذوف تقديره لكم. وقرأ شيبة، وعيسى، والحسن، وباقي السبعة: * (من ماء غير) * بالرفع، وجوزوا أن يكون نعتا على الموضع، كما كان الخبر نعتا على اللفظ، وهذا أظهر لتوافق القراءتين؛ وأن يكون خبرا للمبتدأ، وأن يكون فاعلا باسم الفاعل الذي هو خالق، لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام، فحسن إعماله، كقولك: أقائم زيد في أحد وجهيه؟ وفي هذا نظر، وهو أن اسم الفاعل، أو ما جرى مجراه، إذا اعتمد على أداة الاستفهام وأجرى مجرى الفعل، فرفع ما بعده، هل يجوز أن تدخل عليه من التي للاستغراق فتقول: هل من قائم الزيدون؟ كما تقول: هل قائم الزيدون؟ والظاهر أنه لا يجوز. ألا ترى أنه إذا جرى مجرى الفعل، لا يكون فيه عموم خلافه إذا أدخلت عليه من، ولا أحفظ مثله في لسان العرب، وينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا إلا بسماع من كلام العرب؟ وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي: غير بالنصب على الاستثناء، والخبر إما يرزقكم وإما محذوف، ويرزقكم مستأنف؛ وإذا كان يرزقكم مستأنفا، كان أولى لانتفاء صدق خالق على غير الله، بخلاف كونه صفة، فإن الصفة تقيد، فيكون ثم خالق غير الله، لكنه ليس برازق. ومعنى * (من السماء) *: بالمطر، * (والارض) *: بالنبات، * (لا إلاه إلا هو) *: جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب. * (فأنى يؤفكون) *: أي كيف يصرفون على التوحيد إلى الشرك، وأن يكذبوك إلى الأمور، تقدم الكلام على ذلك.
* (إن وعد الله حق) *: شامل لجميع ما وعد من ثواب وعقاب وغير ذلك. وقرأ الجمهور: * (الغرور) * بفتح الغين، وفسره ابن عباس بالشيطان. وقرأ أبو حيوة، وأبو السمال: بضمها جمع غار، أو مصدرا، كقوله: * (فدلاهما بغرور) *، وتقدم الكلام على ذلك في آخر لقمان. * (إن الشيطان لكم عدو) *: عداوته سبقت لابنا آدم، وأي عداوة أعظم من أن يقول في بنيه: * (لاغوينهم أجمعين) *، * (ولاضلنهم) *؟ * (فاتخذوه عدوا) *: أي بالمقاطعة والمخالفة باتباع الشرع. ثم بين أن مقصوده في دعاء حزبه إنما هو تعذيبهم في النار، يشترك هو وهم في العذاب، فهو حريص على ذلك أشد الحرص حتى يبين صدق قوله في: * (* فلاغوينهم) *، * (مفروضا ولاضلنهم) *، لأن الاشتراك فيما يسوء مما قد يتسلى به بخلاف المنفرد بالعذاب. ثم ذكر الفريقين، وما أعد لهما من العقاب والثواب. وبدأ بالكفار لمجاورة قوله: * (إنما يدعو حزبه) *، فاتبع خبر الكافر بحاله في الآخرة. قال ابن عطية: واللام في ليكون لام الصيرورة، لأنه لم يدعهم إلى السعير، إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك. انتهى. ونقول: هو مما عبر فيه عن السبب بما تسبب عنه دعاؤهم إلى الكفر، وتسبب عنه العذاب. و * (الذين كفروا) *، * (والذين ءامنوا) *. مبتدآن، وجوز بعضهم في * (الذين كفروا) * أن يكون في موضع خفض بدلا * (من أصحاب السعير) *، أو صفة، وفي موضع نصب بدلا من حزبه، وفي موضع رفع بدلا من ضمير * (ليكونوا) *، وهذا كله بمعزل من فصاحة التقسيم وجزالة التركيب.
* (أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا) *: أي فرأى سوء عمله حسنا، ومن مبتدأ موصول، وخبره محذوف. فالذي يقتضيه النظر أن يكون التقدير: كمن لم يزين له، كقوله: * (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله) *، * (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) *، * (أو من كان ميتا فأحييناه) *، ثم قال: * (كمن مثله في الظلمات) *، وقاله الكسائي، أي تقديره: تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة: * (فلا تذهب نفسك عليهم) *. وقيل: التقدير: فرآه حسنا، فأضله الله كمن هداه الله، فحذف ذلك لدلالة: * (فإن الله يضل من يشاء) *، وذكر هذين الوجهين الزجاج. وشرح الزمخشري هنا * (يضل من يشاء) * على طريقته في غير موضع من كتابه، من أن الإضلال هو خذلانه وتخليته وشأنه، وأتى بألفاظ كثيرة في هذا المعنى. وقرأ الجمهور: * (أفمن زين * مبينا * لا إلاه إلا هو فأنى تؤفكون * وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الامور * يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيواة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور * إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير * الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير * أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء) * تسلية للرسول عن كفر قومه، ووجوب التسليم لله في
287

إضلاله من يشاء وهداية من يشاء. وقرأ الجمهور: * (فلا تذهب نفسك) *، مبنيا للفاعل من ذهب، ونفسك فاعل. وقرأ أبو جعفر، وقتادة، وعيسى، والأشهب، وشيبة، وأبو حيوة، وحميد والأعمش، وابن محيصن: تذهب من أذهب، مسند الضمير المخاطب، نفسك: نصب، ورويت عن نافع: والحسرة هم النفس على فوات أمر. وانتصب * (حسرات) * على أنه مفعول من أجله، أي فلا تهلك نفسك للحسرات، وعليهم متعلق بتذهب، كما تقول: هلك عليه حبا، ومات عليه حزنا، أو هو بيان للمتحسر عليه، ولا يتعلق بحسرات لأنه مصدر، فلا يتقدم معموله. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون حالا، كأنه كلها صارت حسرات لفرط التحسر، كما قال جرير:
* مشق الهواجر لحمهن مع السرى
*
حتى ذهبن كلاكلا وصدروا
*
يريد: رجعن كلاكلا وصدورا، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها، ومنه قوله:
* فعلى إثرهم تساقط نفسي
*
حسرات وذكرهم لي سقام
*
انتهى. وما ذكر من أن كلاكلا وصدورا حالان هو مذهب سيبويه. وقال المبرد: هو تمييز منقول من الفاعل، أي حتى ذهبت كلاكلها وصدورها. ثم توعدهم بالعقاب على سوء صنعهم فقال: * (إن الله عليم بما يصنعون) *: أي فيجازيهم عليه.
* (والله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى * بدل * ميت فأحيينا به الارض بعد موتها كذلك النشور * من كان يريد العزة فلله * العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور * والله) *.
لما ذكر أشياء من الأمور السماوية وإرسال الملائكة، ذكر أشياء من الأمور الأرضية: الرياح وإسالها، وفي هذا احتجاج على منكري البعث. دلهم على المثال الذي يعاينونه، وهو وإحياء الموتى سيان. وفي الحديث: (أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم): كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: هل مررت بوادي أهلك محلا، ثم مررت به يهتز خضرا؟ فقالوا: نعم، فقال: فكذلك يحيي الله الموتى، وتلك آيته في خلقه).
قيل: * (أرسل) * في معنى يرسل، ولذلك عطف عليه * (فتثير) *. وقيل: جيء بالمضارع حكاية حال يقع فيها إثارة الرياح السحاب، ويستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية
288

ومنه فتصبح الأرض مخضرة. قال الزمخشري: وكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز خصوصية بحال يستغرب، أو يتهم المخاطب، أو غير ذلك، كما قال تأبط شرا:
* بأني قد لقيت الغول تهوي
*
بشهب كالصحيفة صحصحان
*
* فأضربها بلاد هش فخرت
*
صريعا لليدين وللجران
*
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي يشجع فيها ابن عمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها، مشاهدة للتعجب من جراءته على كل هول، وثباته عند كل شدة. وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها. لما كان من الدلائل على القدرة الباهرة وقيل: فسقنا وأحيينا، معدولا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: أي أرسل بلفظ الماضي. لما أسند إلى الله وما يفعله تعالى بقوله: كن، لا يبقى زمانا ولا جزء زمان، فلم يأت بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه، ولأنه فرغ من كل شيء، فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة. ولما أسند الإثارة إلى الريح، وهي تؤلف في زمان، قال: * (فتثير) *، وأسند * (أرسل) * إلى الغائب، وفي * (فسقناه) *، و * (فأحيينا) * إلى المتكلم، لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال، ثم لما عرف قال: أنا الذي عرفتني سقت السحاب فأحييت الأرض. ففي الأول تعريف بالفعل العجيب، وفي الثاني تذكير بالبعث. وفسقناه وفأحيينا بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين فتثير وأرسل. انتهى. وهذا الذي ذكر من الفرق بين أرسل وفتثير لا يظهر. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة الروم: * (الله الذى يرسل الرياح فتثير سحابا) *، وفي الأعراف: * (وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته) *، كيف جاء في الإرسال بالمضارع؟ وإنما هذا من التفنن في الكلام والتصرف في البلاغة. وأما الخروج من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه فهو من باب الالتفات، وكذلك ما في الأعراف * (سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا * كلى من كل الثمرات) *. وأما قوله: وما يفعله تعالى إلى آخره، وكل فعل، وإن كان أسند إلى غيره مجازا، فهو فعله حقيقة، فلا فرق بين ما يسنده إلى ذاته، وبين ما يسند إلى غيره، لأن جميع ذلك هو إيجاده وخلقه. والنشور، مصدر نشر: الميت إذا حيي، قال الأعشى:
* حتى يقول الناس مما رأوا
*
يا عجبا للميت الناشر
*
والنشور: مبتدأ، والجار والمجرور قبله في موضع الجر، والتشبيه وقع لجهات لما قلبت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها، كذلك الأعضاء تقبل الحياة. أو كما أن الريح يجمع قطع السحاب، كذلك تجمع أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء؛ أو كما يسوق الرياح والسحاب إلى البلد الميت، يسوق الروح والحياة إلى البدن. * (من كان يريد العزة) *: أي المغالبة، * (فالله * العزة) *: أي ليست لغيره، ولا تتم إلا به، والمغالب مغلوب. ونحا إليه مجاهد و قال: * (من كان يريد العزة) * بعبادة الأوثان، وهذا تمثيل لقوله: * (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا) *. وقال قتادة: * (من كان يريد العزة) * وطريقها القويم ويحب نيلها، * (فالله * العزة) *: أي به وعن أمره، لا تنال عزته إلا بطاعته. وقال الفراء: من كان يريد علم العزة، * (فالله * العزة) *: أي هو المتصف بها. وقيل: * (من كان يريد العزة) *: أي لا يعقبها ذلة ويصار بها للذلة. وقال الزمخشري: كان الكافرون يتعززون بالأصنام، كما قال عز وجل: * (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا) *. والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين، كما قال: * (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن
289

العزة لله جميعا) *، فبين أن لا عزة إلا لله ولأوليائه وقال: * (العزة ولرسوله وللمؤمنين) *. انتهى. ولا تنافي بين قوله: * (فإن العزة لله جميعا) *، وإن كان الظاهر أنها له لا لغيره، وبين قوله * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * وإن كان يقتضى الاشتراك، لأن العزة في الحقيقة لله بالذات، وللرسول بواسطة قربه من الله، وللمؤمنين بواسطة الرسول. فالمحكوم عليه أولا غير المحكوم عليه ثانيا. ومن اسم شرط، وجملة الجواب لا بد أن يكون فيها ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفا، والجواب محذوف تقديره على حسب تلك الأقوال السابقة. فعلى قول مجاهد: فهو مغلوب، وعلى قول قتادة: فيطلبها من الله، وعلى قول الفراء: فلينسب ذلك إلى الله، وعلى القول الرابع: فهو لا ينالها؛ وحذف الجواب استغناء عنه بقوله: * (فالله * العزة جميعا) *، لدلالته عليه. والظاهر من هذه الأقوال قول قتادة: فليطلبها من العزة له يتصرف فيها كما يريد، كما قال تعالى: * (وتعز من تشاء وتذل من تشاء) *، وانتصب جميعا على المراد، والمراد عزة الدنيا وعزة الآخرة.
و * (الكلم الطيب) *: التوحيد والتحميد و ذكر الله ونحو ذلك. وقال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: ثناء بالخير على صالحي المؤمنين. وقال كعب: إن لسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لدويا حول العرش كدوي النحل بذكر صاحبها. وقرأ الجمهور: * (يصعد) *، مبنيا للفاعل من صعد؛ * (الكلم الطيب) *: مرفوعا، فالكلم جمع كلمة. وقرأ علي، وابن مسعود، والسلمي، وإبراهيم: يصعد من أصعد، الكلام الطيب على البناء للمفعول. انتهى. وقرأ زيد بن علي يصعد من صعد الكلام: رقي، وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه، لأنه تعالى ليس في جهة، و لأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود، لأن الصعود من الاجرام يكون، وإنما ذلك كناية عن القبول، ووصفه بالكمال. كما يقال: علا كعبة وارتفاع شأنه، ومنه ترافعوا إلى الحاكم، ورفع الأمر إليه، وليس هناك علو في الجهة.
وقرأ الجمهور: والعمل الصالح يرفعهما. فالعمل مبتدأ، ويرفعه الخبر، وفاعل يرفعه ضمير يعود على العمل الصالح، وضمير النصب يعود على الكلم، أي يرفع الكلم الطيب، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد والضحاك. وقال الحسن: يعرض القول على الفعل، فإن وافق القول الفعل قبل، وإن خالف رد. وعن ابن
عباس نحوه، قال: إذ اذكر الله العبد وقال كلا ما طيبا وأدى فرائضه، ارتفع قوله مع عمله؛ وإذا قال ولم يؤد فرائضه، رد قوله على عمله؛ وقيل: عمله أولى به. قال ابن عطية: وهذا قول يرده معتقد أهل السنة، ولا يصح عن ابن عباس. والحق أن القاضي لفرائضه إذ ذكر الله وقال كلاما طيبا، فإنه مكتوب له متقبل، وله حسناته وعليه سيئآته، والله يتقبل من كل من اتقى الشرك. وقال أبو صالح، وشهر بن حوشب عكس هذا القول: ضمير الفاعل يعود على الكلم، وضمير النصب على العمل الصالح، أي يرفعه الكلم الطيب. وقال قتادة: إن الفاعل هو ضمير يعود على الله، والهاء للعمل الصالح، أي يرفعه الله إليه، أي يقبله. وقال ابن عطية: هذا أرجح الأقوال. وعن ابن عباس: والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه، فجعله على حذف مضاف. ويجوز عندي أن يكون العمل معطوفا على الكلم الطيب، أي يصعدان إلى الله، ويرفعه استئناف إخبار، أي يرفعهما الله، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود، والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة، فيكون لفظه مفردا، و المراد به التثنية، فكأنه قيل: ليس صعودهما من ذاتهما، بل ذلك برفع الله إياهما. وقرأ عيس، وابن أبي عبلة: والعمل الصالح، بنصبهما على الاشتغال، فالفاعل ضمير الكلم أو ضمير الله، ومكر لازم، والسيئات نعت لمصدر محذوف، أي المكرات السيئات، أو المضاف إلى المصدر، أي أضاف المكر إلى السيئات، أو ضمن يمكرون معنى، يكتسبون، فنصب السيئات مفعولا به. وإذا كانت السيئات نعتا لمصدر، أو لمضاف لمصدر، فالظاهر أنه عنى به مكرات قريش في دار الندوة، إذ تذاكروا إحدى ثلاث مكرات، وهي المذكورة في الأنفال: إثباته، أو قتله، أو إخراجه؛ و * (أولائك) * إشارة إلى الذين مكروا تلك المكرات. * (يبور) *: أي يفسد و يهلك دون مكر الله بهم، إذ أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعا وحقق فيهم قوله: * (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) *، وقوله: * (ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله) *، وهو مبتدأ، أو يبور خبره، والجملة خبر عن قوله: * (ومكر أولئك) *. وأجاز الحوفي وأبو البقاء
290

أن يكون هو فاصلة، ويبور خبر، ومكر أولئك والفاصلة لا يكون ما يكون ما بعدها فعلا، ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له، فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلا ورد ذلك عليه.
* (والله خلقكم من تراب) *: من حيث خلق أبينا آدم. * (ثم من نطفة) *: أي بالتناسل. * (ثم جعلكم أزواجا) *: أي أصنافا ذكرانا واناثا، كما قال: * (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) *. وقال قتادة: قدر بينكم الزوجية، وزوج بعضكم بعضا، ومن في * (من معمر) * زائدة، وسماه بما يؤول إليه، وهو الطويل العمر. والظاهر أن الضمير في * (من عمره) * عائد على معمر لفظا ومعنى. وقال ابن عباس وغيره: يعود على معمر الذي هو اسم جنس، والمراد غير الذي يعمر، فالقول تضمن شخصين: يعمر أحدهما مائة سنة، وينقص من الآخر. وقال ابن عباس أيضا، وابن جبير، وأبو مالك: المراد شخص واحد، أي يحصي ما مضى منه إذ مر حول كتب ذلك ثم حول، فهذا هو النقص، وقال الشاعر:
* حياتك أنفاس تعد فكلما
*
مضى نفس منك انتقصت به جزءا
وقال كعب الأحبار: معنى * (ولا ينقص من عمره) *: لا يخترم بسببه قدره الله، ولو شاء لأخر ذلك السبب. وروي أنه قال، لما طعن عمر رضي الله عنه: لو دعا الله لزاد في أجله، فأنكر المسامون عليه ذلك وقالوا: إن الله تعالى يقول: * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *، فاحتج بهذه الآية. قال ابن عطية: وهو قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين، وبنحوه تمسك المعتزلة. وقرأ الجمهور: ولا ينقص، مبنيا للمفعول. وقرأ يعقوب، وسلام، وعبد الوارث، وهارون، كلاهما عن أبي عمرو: و لا ينقص، مبنيا للفاعل. وقرأ الحسن: * (من عمره إلا فى كتاب) *. قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ. وقال الزمخشري: يجوز أن يراد كتاب الله علم الله، أو صحيفة الإنسان. انتهى.
*
* (وما يستوى البحران) *: هذه آية أخرى يستدل بها على كل عاقل أنه مما لا مدخل لصنم فيه. وتقدم شرح: * (هاذا عذب فرات) *، وشرح: * (وهاذا ملح أجاج) * في سورة الفرقان. وهنا بين القسمين صفة للعرب، وبين قوله: * (سائغ شرابه) *. وقرأ الجمهور: سائغ، اسم فاعل من ساغ. وقرأ عيسى: سيغ على وزن فيعل، كميت؛ وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم. وقرأ عيسى أيضا: سيغ مخففا من المشدد، كميت مخفف ميت. وقرأ الجمهور: ملح، وأبو نهيك وطلحة: بفتح الميم وكسر اللام، وقال أبو الفضل الرازي: وهي لغة شاذة، ويجوز أن يكون مقصورا من مالح، فحذف الألف تخفيفا. وقد يقال: ماء ملح في الشذوذ، وفي المستعمل: مملوح. وقال الزمخشري: ضرب البحرين، العذب والملح، مثلين للمؤمن والكافر. ثم قال على صفة الاستطراد في صفة البحرين وما علق بها: من نعمته وعطائه. * (ومن كل) *، من شرح الزمخشري: ألفاظا من الآية تكررت في سورة النحل. ثم قال: ويحتمل غير طريقة الاستطراد، وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر، بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ، وجرى الفلك فيه. وللكافر خلو من النفع، فهو في طريقة قوله تعالى: * (ثم قست قلوبكم من بعد ذالك) * الآية. انتهى. * (لتبتغوا من فضله) *: يريد التجارات والحج والغزو، أو كل سفر له وجه شرعي.
* (يولج اليل فى النهار) *: تقدم شرح هذه الجمل. ولما ذكر أشياء كثيرة تدل على قدرته الباهرة، من إرسال الرياح، والإيجاد من تراب وما عطف عليه، وإيلاج الليل في النهار، وتسخير الشمس والقمر؛ أشار إلى أن المتصف بهذه الأفعال الغريبة هو الله فقال: * (ذلكم الله ربكم له الملك) *، وهي أخبار مترادفة؛ والمبتدأ * (ذالكم) *، و * (الله ربكم) * خبران، و * (له الملك) * جملة مبتدأ في قران قوله: * (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) *. قال الزمخشري:
ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة
291

وعطف بيان، وربكم خبر، لولا أن المعنى يأباه. انتهى. أما كونه صفة، فلا يجوز، لأن الله علم، والعلم لا يوصف به، وليس اسم جنس كالرجل، فتتخيل فيه الصفة. وأما قوله: لولا أن المعنى يأباه، فلا يظهر أن المعنى يأباه، لأنه يكون قد أخبر بأن المشار إليه بتلك الصفات والأفعال المذكورة ربكم، أي مالكم، أو مصلحكم، وهذا معنى لائق سائغ، والذين يدعون من دونه هي الأوثان. وقرأ الجمهور: تدعون، بتاء الخطاب، وعيسى، وسلام، ويعقوب: بياء الغيبة. وقال صاحب الكامل أبو القاسم بن جبارة: يدعون بالياء، اللؤلؤي عن أبي عمرو وسلام، والنهاوندي عن قتيبة، وابن الجلاء عن نصير، وابن حبيب وابن يونس عن الكسائي، وأبو عمارة عن حفص. والقطمير، تقدم شرحه. وقال جويبر عن رجاله، والضحاك: هو القمع الذي في رأس التمرة. وقال مجاهد: لفافة النواة؛ وقيل: الذي بين قمع التمرة والنواة؛ وقيل: قشر الثوم؛ وأياما كان، فهو تمثيل للقليل، وقال الشاعر:
* وأبوك يخفف نعله متوركا
*
ما يملك المسكين من قطمير
*
* (لا يسمعوا دعاءكم) *، لأنهم جماد؛ * (ولو سمعوا) *، هذا على سبيل الفرض؛ * (ما استجابوا لكم) *، لأنهم لا يدعون لهم من الإلهية، يتبرؤون منها. وقيل: ما نفعوكم، وأضاف المصدر: في شرككم، أي بإشراككم لهم مع الله في عبادتكم إياهم كقوله: * (ما كنتم إيانا تعبدون) *، فهي إضافة إلى الفاعل. وقوله: * (يكفرون) *، يحتمل أن يكون بما يظهر هنالك من جمودها وبطئها عند حركة ناطق، ومدافعة كل محتج، فيجيء هذا على طريق التجوز، كقول ذي الرمة:
* وقفت على ربع لمية ناطق
*
تخاطبني آثاره وأخاطبه
*
* وأسقيه حتى كاد مما أبثه
*
تكلمني أحجاره وملاعبه
*
* (ولا ينبئك مثل خبير) *، قال قتادة وغيره من المفسرين: الخبير هنا أراد به تعالى نفسه، فهو الخبير الصادق الخبر، نبأ بهذا، فلا شك في وقوعه. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون قوله: * (ولا ينبئك مثل خبير) * من تمام ذكر الأصنام، كأنه قال: فلا يخبرك مثل من يخبرك عن نفسه، أي لا يصدق في تبرئها من شرككم منها، فيريد بالخبير على هذا المثل لهما، كأنه قال: ولا ينبئك مثل خبير عن نفسه، وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء. وقال الزمخشري: لا يخبرك بالأمر مخبر، هو مثل خبير عالم به، يريد أن الخبير بالأمر هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به. والمعنى: أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق، لأني خبير بما أخبر به. وقال في التجريد: يحتمل وجهين: أن يكون ذلك خطابا للرسول لما أخبر بأن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده، وهو أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله عنه، قال تعالى: * (أنهم * بربهم * يكفرون) *، أي يكفرون بهم يوم القيامة، وهذا القول مع كون المخبر عنه أمرا عجيبا هو كما قال، لأن المخبر عنه خبير. والثاني: أن يكون خطابا ليس مختصا بأحد، أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر، لا ينبئك أيها السامع كائنا من كنت مثل خبير.
* (ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى إنما (سقط: الآية كاملة))) *.
292

(سقط: الآية كاملة)
هذه آية موعظة وتذكير، وأن جميع الناس محتاجون إلى إحسان الله تعالى وإنعامه في جميع أحوالهم، لا يستغنى أحد عنه طرفة عين، وهو الغني عن العالم على الإطلاق. وعرف الفقراء ليريهم شديد افتقارهم إليه، إذ هم جنس الفقراء، وإن كان العالم بأسره مفتقر إليه، فلضعفهم جعلوا كأنهم جميع هذا الجنس؛ ولو نكر لكان المعنى: أنتم، يعني الفقراء، وقوبل الفقراء بالغني، ووصف بالحميد دلالة على أنه جواد منعم، فهو محمود على ما يسديه من النعم، مستحق للحمد. ولما ذكر أنه الغني على الإطلاق، ذكر ما يدل على استفنائه عن العالم، وأنه ليس بمحتاج إليهم فقال: * (إن يشأ يذهبكم) *: أي إن يشأ إذهابكم يذهبكم، وفي هذا وعيد بإهلاكهم. * (وما ذالك) *: أي إذهابكم، والإتيان بخلق جديد * (بعزيز) *، أي بممتنع عليه، إذ هو المتصف بالقدرة التامة، فلا يمتنع عليه شيء مما يريده. ومعنى: * (بخلق جديد) *: بدلكم لقوله: * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) *. وعن ابن عباس: يخلق بعدكم من يعبده، لا يشرك به شيئا. وقد جاء هذا المعنى من ذكر الإذهاب بعد وصفه تعالى بالغني في قوله تعالى: * (وربك الغنى ذو الرحمة إن يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) *. وجاء أيضا تعليق الإذهاب مختوما آخر الآية
بذكر القدرة الدالة على ذلك في قوله: * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت باخرين وكان الله على ذالك قديرا) *.
روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين: اكفروا بمحمد وعلي وزركم، فنزلت. وأخبر تعالى، لا يحمله أحد عن أحد. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: هذه الآية في الذنوب والجرائم. ويقال: وزر الشيء: حمله، ووازرة: صفة لمحذوف، أي نفس وازرة: حاملة، وذكر الصفة ولم يذكر الموصوف مقتصرا عليه، لأن المعنى: أن كل نفس لا ترى إلا حامله وزرها، لا وزر غيرها، فلا يؤاخذ نفسا بذنب نفس، كما يأخذ جبابرة الدنيا الجاربالجار، والصديق بالصدق، والقريب بالقريب. وقال ابن عطية: ومن تطرف من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمته، كفعل زياد ونحوه، فإنما ذلك ظلم، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بموازرة ومواصلة، أو اطلاع على حاله وتقرير لها، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب. انتهى. وكأن ابن عطية تأول أفعال زياد وما فعل في الإسلام، وكانت سيرته قريبة من سيرة الحجاج، ولا منافاة بين هذه الآية في العنكبوت، لأن تلك في الضالين المضلين يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، فكل ذلك أثقالهم، ما فيها من ثقل غيرهم شيء. ألا ترى: * (وما هم بحاملين من خطاياهم من شىء) *؟
* (وإن تدع مثقلة) *: أي نفس مثقلة بحملها، * (إلى حملها لا يحمل منه شىء) *: أي لا غياث يومئذ لمن استغاث، ولا إعانة حتى أن نفسا قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن يخفف بعض وزرها لم تجب وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ فالآية قبلها في الدلالة على عدل الله في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها وهذه في نفي الإعانة والحمل ما كان على الظهر في الأجرام فاستعير للمعاني كالذنوب ونحوها فيجعل كل محمول متصلا بالظهر كقوله: * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) *، كما جعل كل اكتساب منسوبا إلى اليد. وقرأ الجمهور: يحمل بالياء، مبنيا للمفعول؛ وأبو السمال عن طلحة، وإبراهيم بن زادان عن الكسائي: بفتح التاء من فوق وكسر الميم، وتقتضي هذه القراءة نصب شيء، كما اقتضت قراءة الجمهور رفعه، والفاعل بيحمل ضمير عائد على مفعول تدع المحذوف، أي وإن تدع مثقلة نفسا أخرى إلى حملها، لم تحمل منه شيئا. واسم كان ضمير يعود على المدعو المفهوم من قوله: * (وإن تدع) *، هذا معنى قول الزمخشري، قال: وترك المدعو ليعم ويشمل كل مدعو. قال: فإن قلت: فكيف استفهام إضمار، ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقل؟ قلت: هو من العموم الكائن على طريق البدل. انتهى. وقال
293

ابن عطية: واسم كان مضمر تقديره ولو كان. انتهى، أي ولو كان الداعي ذا قربى من المدعو، فإن المدعو لا يحمل منه شيئا. وذكر الضمير حملا على المعنى، لأن قوله: * (مثقلة) *، لا يريد به مؤنث المعنى فقط، بل كل شخص، فكأنه قيل: وإن تدع شخصا مثقلا. وقرئ: ولو كان ذو قربى، على أن كان تامة، أي ولو حضر إذا ذاك ذو قربى ودعته، لم يحمل منه شيئا. وقالت العرب: قد كان لبن، أي حضر وحدث. وقال الزمخشري: نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة، لأن المعنى: على أن المثقلة إذا دعت أحدا إلى حملها لا يحمل منه، وإن كان مدعوها ذا قربى، وهو معنى صحيح ملتئم. ولو قلت: ولو وجد ذو قربى، لتفكك وخرج عن اتساقه والتئامه. انتهى. وهو نسق ملتئم على التقدير الذي ذكرناه، وتفسيره كان، وهو مبني للفاعل، يؤخذ المبني للمفعول تفسير معنى، وليس مرادفا ومرادفه، حدث أو حضر أو وقع، هكذا فسره النحاة.
ولما سبق ما تضمن الوعيد وبعض أهوال القيامة، كان ذلك إنذارا، فذكر أن الإنذار إنما يجدي وينفع من يخشى الله. * (بالغيب) *: حال من الفاعل أو المفعول، أي يخشون ربهم غافلين عن عذابه، أو يخشون عذابه غائبا عنهم. وقيل: بالغيب في السر، وقيل: بالغيب، أي وهو بحال غيبه عنهم إنما هي رسالة. وقرأ الجمهور: * (ومن تزكى) *، فعلا ماضيا، * (فإنما يتزكى) *: فعلا، مضارع تزكى، أي ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي، فإنما ثمرة ذلك عائدة عليه، وهو إنما زكاته لنفسه لا لغيره، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة. وقرأ العباس عن أبي عمرو: ومن يزكى فإنما يزكى، بالياء من تحت وشد الزاي فيهما، وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى، أدغمت التاء في الزاي، كما أدغمت في الذال في قوله: * (يذكرون) *. وقرأ ابن مسعود، وطلحة: ومن أزكى، بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء؛ وطلحة أيضا: فإنما يزكى، بإدغام التاء في الزاي. * (وإلى الله المصير) *: وعد لمن يزكى بالثواب.
* (وما يستوى الاعمى والبصير) * الآية: هي طعن على الكفرة وتمثيل. فالأعمى الكافر، والبصير المؤمن، أو الأعمى الصنم، والبصير الله عز وجل وعلا، أي لا يستوي معبودهم ومعبود المؤمنين. والظلمات والنور، والظل والحرور: تمثيل للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب. والأحياء والأموات، تمثيل لمن دخل في الإسلام ومن لم يدخل فيه. والحرور: شدة حر الشمس. وقال الزمخشري: والحرور: السموم، إلا أن السموم تكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار؛ وقيل: بالليل. انتهى. وقال ابن عطية: قال رؤبة: الحرور بالليل، والسموم بالنهار، وليس كما قال، وإنما الأمر كما حكى الفراء وغيره: أن السموم يختص بالنهار. ويقال: الحرور في حر الليل، وفي حر النهار. انتهى. ولا يرد على رؤبة، لأنه منه تؤخذ اللغة، فأخبر عن لغة قومه. وقال قوم: الظل هنا: الجنة، والحرور: جهنم، ويستوي من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد. فدخول لا في النفي لتأكيد معناه لقوله: * (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة) *. وقال ابن عطية: دخول لا إنما هو على هيئة التكرار، كأنه قال: ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني، ودل مذكور الكلام على متروكه. انتهى. وما ذكر غير محتاج إلى تقديره، لأنه إذا نفى استواء الظلمات والنور، فأي فائدة في تقدير نفي استوائهما ثانيا وادعاء محذوفين؟ وأنت تقول: ما قام زيد ولا عمرو، فتؤكد بلا معنى النفي، فكذلك هذا. وقرأ زادان عن الكسائي: وما تستوي الأحياء، بتاء التأنيث؛ والجمهور: بالياء، وترتيب هذه المنفي عنها الاستواء في غاية الفصاحة. وذكر الأعمى والبصير مثلا للمؤمن والكافر، ثم البصير. ولو كان حديد النظر لا يبصر إلا في ضوء، فذكر ما هو فيه الكافر من ظلمة الكفر، وما هو فيه المؤمن من نور الإيمان. ثم ذكر مآلهما، وهو الظل، وهو أن المؤمن بإيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب.
ثم ذكر مثلا آخر في حق المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير، إذ الأعمى قد يشارك البصير في إدراك ما، والكافر غير مدرك إدراكا نافعا، فهو كالميت، ولذلك أعاد الفعل فقال: * (وما يستوى الاحياء ولا الاموات) *، كأنه جعل مقام سؤال، وكرر لا فيما ذكر لتأكيد المنافاة.
294

فالظلمات تنافي النور وتضاده، والظل والحرور كذلك، والأعمى والبصير ليس كذلك، لأن الشخص الواحد قد يكون بصيرا. ثم يعرض له العمى، فلا منافاة إلا من حيث الوصف. والمنافاة بين الظل والحرور دائمة، لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد؛ فلما كانت المنافاة أتم، أكد بالتكرار. وأما الأحياء والأموات من حيث أن الجسم الواحد يكون محلا للحياة، فيصير محلا للموت. فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير، لأن هذين قد يشتركان في إدراك ما، ولا كذلك الحي. والميت يخالف الحي في الحقيقة، لا في الوصف، على ما بين في الحكمة الإلهية. وقدم الأشرف في مثلين، وهو الظل والحر؛ وآخر في مثلين، وهما البصير والنور، ولا يقال لأجل السجع، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل فيه. وفي المعنى: والشاعر قد يقدم ويؤخر لأجل السجع والقرآن. المعنى صحيح، واللفظ فصيح، وكانوا قبل المبعث في ضلالة، فكانوا كالعمي، وطريقهم الظلمة. فلما جاء الرسول، واهتدى به قوم، صاروا بصيرين، وطريقهم النور، وقدم ما كان متقدما من المتصف بالكفر، وطريقته على ما كان متأخرا من المتصف بالإيمان وطريقته. ثم لما ذكر المآل والمرجع، قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب، كما جاء: سبقت رحمتي غضبي، فقدم الظل على الحرور.
ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى، وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال: * (وما يستوى الاحياء) *: الذين آمنوا بما أنزل الله، * (ولا الاموات) *: الذين تليت عليهم الآيات البينات، ولم ينتفعوا بها. وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن، فأخرهم لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافر. وأفرد الأعمى والبصير، لأنه قابل الجنس بالجنس، إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي به بعض أفراد البصراء، كأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البصير البليد. فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به، لا بين الأفراد. وجمعت الظلمات، لأن طرق الكفر متعددة؛ وأفرد النور، لأن التوحيد والحق واحد، والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد فقال: الظلمات لا تجد فيها ما يساوي هذا النور. وأما الأحياء والأموات، فالتفاوت بينهما أكثر، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيا، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات، سواء قابلت الجنس بالجنس، أم قابلت الفرد بالفرد. انتهى. من كلام أبي عبد الله الرازي، وفيه بعض تلخيص.
ثم سلى رسوله بقوله: * (إن الله يسمع من يشاء) *: أي إسماع هؤلاء منوط بمشيئتنا، وكنى بالإسماع عن الذي تكون عنه الإجابة للإيمان. ولما ذكر أنه * (ما * يستوى الاحياء ولا الاموات) *، قال: * (وما أنت بمسمع من فى القبور) *: أي هؤلاء، من عدم إصغائهم إلى سمع الحق، بمنزلة من هم قد ماتوا فأقاموا في قبورهم. فكما أن من مات لا يمكن أن يقبل منك قول الحق، فكذلك هؤلاء، لأنهم أموات القلوب. وقرأ الأشهب، والحسن بمسمع من، على الإضافة؛ والجمهور: بالتنوين. * (إن أنت إلا نذير) *: أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر. فإن كان المنذر ممن أراد الله هدايته سمع واهتدى، وإن كان ممن أراد الله ضلاله فما عليك، لأنه تعالى هو الذي يهدي ويضل. و * (بالحق) *: حال من الفاعل، أي محق. أو من المفعول، أي محقا، أو صفة لمصدر محذوف، أي إرسالا بالحق، أي مصحوبا. قال الزمخشري: أو صلة بشير ونذير، فنذير على بشير بالوعد الحق؛ ونذير بالوعيد. انتهى. ولا يمكن أن يتعلق بالحق هذا بشير ونذير معا، بل ينبغي أن يتأول كلامه على أنه أراد أن ثم محذوفا، والتقدير: بالوعد الحق بشيرا، وبالوعيد الحق نذيرا، فحذف المقابل لدلالة مقابله عليه.
* (وإن من أمة إلا * من نذير) *، الأمة: الجماعة الكثيرة، والمعنى: أن الدعاء إلى الله لم ينقطع عن كل أمة. أما بمباشرة من أنبيائهم وما ينقل إلى وقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم)، والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناه لم يباشرهم ولا آباؤهم القريبين، وأما أن النذارة انقطعت فلا. ولما شرعت آثار النذراة تندرس، بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم). وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات، فإن ذلك على حسب العرض لأنه واقع، ولا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى الله وعبارته. واكتفى بذكر نذير عن بشير، لأنها مشفوعة بها في قوله: * (بشيرا ونذيرا) *، فدل ذلك على أنه مراد، وحذف للدلالة عليه. * (وإن يكذبوك) *: مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم)، وتقدم الكلام على نظير هذه الجمل في أواخر آل عمران. قوله: * (فكيف كان نكير) *، توعد لقريش بما جرى لمكذبي رسلهم
295

* (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف (سقط: الآية كاملة)) *.
لما قرر تعالى وحدانيته بأدلة قربها وأمثال ضربها، أتبعها بأدلة سماوية وأرضية فقال: * (ألم تر) *، وهذا الاستفهام تقريري، ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جدا. والخطاب للسامع، وتر من رؤية القلب، لأن إسناد إنزاله تعالى لا يستدل عليه إلا بالعقل الموافق للنقل، وإن كان إنزال المطر مشاهدا بالعين، لكن رؤية القلب قد تكون مسندة لرؤية البصر ولغيرها. وخرج من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله: * (فأخرجنا) *، لما في ذلك من الفخامة، إذ هو مسند للمعظم المتكلم. ولأن نعمة الإخراج أتم من نعمة الإنزال لفائدة الإخراج، فأسند الأتم إلى ذاته بضمير المتكلم، وما دونه بضمير الغائب. والظاهر أن الألوان، إن أريد بها ما يتبادر إليه الذهن من الحمرة والصفرة والخضرة والسواد وغير ذلك، والألوان بهذا المعنى أوسع وأكثر من الألوان بمعنى الأصباغ. وقرأ الجمهور: * (مختلفا ألوانها) *، على حد اختلف ألوانها. وقرأ زيد بن علي: مختلفة ألوانها، على حد اختلفت ألوانها، وجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء، وأن لا تلحق. وقرأ الجمهور: * (جدد) *، بضم الجيم وفتح الدال، جمع جدة. قال ابن بحر: قطع من قولك: جددت الشيء: قطعته. وقرأ الزهري: كقراءة الجمهور. قال صاحب اللوامح: جمع جدة، وهي ما تخالف من الطريق في الجبال لون ما يليها. وعنه أيضا، بضم الجيم والدال: جمع جديدة وجدد وجدائد، كما يقال في الاسم: سفينة وسفن وسفائن. قال أبو ذؤيب:
جون السراة أم جدائد أربع
وعنه أيضا: بفتح الجيم والدال، ولم يجزه أبو حاتم في المعنى، ولا صححه أثرا. وقال غيره: هو الطريق الواضح المبين، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. وقال أبو عبيدة: يقال جدد في جمع جديد، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية. وقال صاحب اللوامح: جدد جمع جديد بمعنى: آثار جديدة واضحة الألوان. انتهى. وقال: مختلف ألوانها، لأن البياض والحمرة تتفاوت بالشدة والضعف، فأبيض لا يشبه أبيض، وأحمر لا يشبه أحمر، وإن اشتركا في القدر المشترك، لكنه مشكل. والظاهر عطف * (وغرابيب) * على * (حمر) *، عطف ذي لون على ذي لون. وقال الزمخشري: معطوف على * (بيض) * أو على * (جدد) *، كأنه قيل: ومن الجبال مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد. وقال بعد ذلك: ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله: * (ومن الجبال جدد) *، بمعنى: ذو جدد بيض وحمر وسود، حتى تؤول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال: * (ثمرات مختلفا ألوانها) *. * (ومن الناس والدواب والانعام مختلف * ألوانها) * يعني: ومنهم بعض مختلف ألوانه. وقرأ ابن السميفع: ألوانها. انتهى.
والظاهر أنه لما ذكر الغرابيب، وهو الشديد السواد، لم يذكر فيه مختلف ألوانه، لأنه من حيث جعله شديد السواد، وهو المبالغ في غاية السواد، لم يكن له ألوان، بل هذا لون واحد، بخلاف البيض والحمر، فإنها مختلفة. والظاهر أن قوله: * (بيض وحمر) * ليسا مجموعين بجدة واحدة، بل المعنى: جدد بيض، وجدد حمر، وجدد
296

غرابيب. ويقال: أسود حلكوك، وأسود غربيب، ومن حق الواضح الغاية في ذلك اللون أن يكون تابعا. فقال ابن عطية: قدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن يتأخر، وكذلك هو في المعنى، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيرا على هذا. وقال الزمخشري: الغربيب تأكيد للأسود، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد، كقولك: أصفر فاقع، وأبيض يقق، وما أشبه ذلك؛ ووجهه أن يظهر المؤكد قبله، فيكون الذي بعده تفسيرا لما أضمر، كقول النابغة:
والمؤمن العائذات الطير
وإنما يفعل لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريق الإظهار والإضمار جميعا. انتهى. وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجيز حذف المؤكد. ومن النحاة من منع ذلك، وهو اختيار ابن مالك. وقيل: هو على التقديم والتأخير، أي سود غرابيب. وقيل: سود بدل من غرابيب، وهذا أحسن، ويحسنه كون غرابيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيدا، ومنه ما جاء في الحديث: (أن الله يبغض الشيخ الغربيب)، يعني الذي يخضب بالسواد، وقال الشاعر:
* العين طامحة واليد سابحة
*
والرجل لائحة والوجه غربيب
*
وقال آخر:
* ومن تعاجيب خلق الله غالية
*
البعض منها ملاحي وغربيب
*
وقرأ الجمهور: * (والدواب) *، مشدد الباء؛ والزهري: بتخفيفها، كراهية التضعيف، إذ فيه التقاء الساكنين. كما همز بعضهم * (ولا الضالين) *، فرارا من التقاء الساكنين، فحذف هنا آخر المضعفين وحرك أول الساكنين. ومختلفة، صفة لمحذوف، أي خلق مختلف ألوانه كذلك، أي كاختلاف الثمرات والجبال؛ فهذا التشبيه من تمام الكلام قبله، والوقف عليه حسن. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب، كأنه قال: كما جاءت القدرة في هذا كله.
* (إنما يخشى الله من عباده العلماء) *: أي المخلصون لهذه العبر، الناظرون فيها. انتهى. وهذا الاحتمال لا يصح، لأن ما بعد إنما لا يمكن أن يتعلق بهذا المجرور قبلها، ولو خرج مخرج السبب، لكان التركيب: كذلك يخشى الله من عباده، أي لذلك الاعتبار، والنظر في مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى. ولكن التركيب جاء بإنما، وهي تقطع هذا المجرور عما بعدها، والعلماء هم الذين علموه بصفاته وتوحيده وما يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه، فعظموه وقدروه
297

0 حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علما ازداد منه خوفا، ومن كان علمه به أقل كان آمن، وقد وردت أحاديث وآثار في الخشية. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق، وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. ومن ادعى أن إنما للحصر قال: المعنى ما يخشى الله إلا العلماء، فغيرهم لا يخشاه، وهو قول الزمخشري. وقال ابن عطية: وإنما في هذه الآية تخصيص العلماء لا الحصر، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضا دونه، وإنما ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه. انتهى.
وجاءت هذه الجملة بعد قوله: * (ألم تر) *، إذ ظاهره خطاب للرسول، حيث عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعته، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه وعلى صفاته، فكأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته. وقرأ الجمهور: بنصب الجلالة ورفع العلماء. وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة عكس ذلك، وتؤولت هذه القراءة على أن الخشية استعارة للتعظيم، لأن من خشي وهابه أجل وعظم من خشيه وهاب، ولعل ذلك لا يصح عنهما
. وقد رأينا كتبا في الشواذ، ولم يذكروا هذه القراءة، وإنما ذكرها الزمخشري، وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن جبارة في كتابه الكامل. * (إن الله عزيز غفور) *: تعليل للخشية، إذ العزة تدل على عقوبة العصاة وقهرهم، والمغفرة على إنابة الطائعين والعفو عنهم.
* (إن الذين يتلون) *: ظاهره يقرأون، * (كتاب الله) *: أي يداومون تلاوته. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: هذه آية القراء، ويتبعون كتاب الله، فيعملون بما فيه؛ وعن الكلبي: يأخذون بما فيه. وقال السدي: هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم)، ورضي عنهم وقال: (عطاءهم المؤمنون). ولما ذكر تعالى وصفهم بالخشية، وهي عمل القلب، ذكر أنهم يتلون كتاب الله، وهو عمل اللسان. * (والذين يمسكون) *: وهو عمل الجوارح، وينفقون: وهو العمل المالي. وإقامة الصلاة والإنفاق: يقصدون بذلك وجه الله، لا للرياء والسمعة. * (تجارة لن تبور) *: لن تكسد، ولا يتعذر الربح فيها، بل ينفق عند الله. * (ليوفيهم) *: متعلق بيرجون، أو بلن تبور، أو بمضمر تقديره: فعلوا ذلك، أقوال. وقال الزمخشري: وإن شئت فقلت: يرجون في موضع الحال على وأنفقوا راجين ليوفيهم، أي فعلو جميع ذلك لهذا الغرض. وخبر إن قوله: * (إنه غفور شكور) * لأعمالهم، والشكر مجاز عن الإثابة. انتهى. وأجورهم هي التي رتبها تعالى على أعمالهم، وزيادته من فضله. قال أبو وائل: بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم. وقال الضحاك: بتفسيح القلوب، وفي الحديث: (بتضعيف حسناتهم). وقيل: بالنظر إلى وجهه. والكتاب: هو القرآن، ومن: للتبين أو الجنس أو التبعيض، تخريجات للزمخشري. * (ومصدقا) *: حال مؤكدة لما * (بين يديه) * من الكتب الإلهية: التوراة والإنجيل والزبور وغيره، وفيه إشارة إلى كونه وحيا، لأنه عليه السلام لم يكن قارئا كاتبا، وأتى ببيان ما في كتب الله، ولا يكون ذلك إلا من الله تعالى. * (إن الله بعباده لخبير بصير) *: عالم بدقائق الأشياء وبواطنها، بصير بما ظهر منها، وحيث أهلك لوحيه، واختارك برسالته وكتابه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
* (ثم أورثنا الكتاب) *، وثم قيل: بمعنى الواو، وقيل: للمهلة، إما في الزمان، وإما في الإخبار على ما يأتي بيانه. والكتاب فيه قولان، أحدهما: أن المعنى: أنزلنا الكتب الإلهية، والكتاب على هذا اسم جنس. والمصطفون، على ما يأتي بيانه أن المعنى: الأنبياء وأتباعهم، قاله الحسن. وقال ابن عباس: هم هذه الأمة، أورثت أمة محمد صلى الله عليه وسلم)، كل كتاب أنزله الله. وقال ابن جرير: أورثهم الإيمان، فالكتب تأمر باتباع القرآن، فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها، يدل عليه: * (والذى أوحينا إليك من الكتاب هو الحق) *، ثم أتبعه بقوله: * (ثم أورثنا الكتاب) *، فعلمنا أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم)، إذ كان معنى الميراث: انتقال شيء من قوم إلى قوم، ولم تكن أمة انتقل إليها كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته. فإذا قلنا: هم الأنبياء وأتباعهم، كان المعنى: أورثنا كل كتاب أنزل على نبي، ذلك النبي وأتباعه. والقول الثاني: أن الكتاب هو القرآن، والمصطفون أمة الرسول، ومعنى أورثنا، قال مجاهد: أعطينا، لأن الميراث عطاء. ثم قسم الوارثين إلى هذه الأقسام
298

الثلاثة، قال مكي: فقيل هم المذكرون في الواقعة. فالسابق بالخيرات هو المقرب، والمقتصد أصحاب الميمنة، والظالم لنفسه أصحاب المشأمة، وهو قول يروى معناه عن عكرمة والحسن وقتادة، قالوا: الضمير في منهم عائد على العباد. فالظالم لنفسه الكافر والمنافق، والمقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق، وقالوا: هو نظير ما في الواقعة. والأكثرون على أن هؤلاء الثلاثة هم في أمة الرسول، ومن كان من أصحاب المشأمة مكذبا ضالا لا يورث الكتاب ولا اصطفاه الله، وإنما الذي في الواقعة أصناف الخلق من الأولين والآخرين. قال عثمان ابن عفان: سابقنا أهل جهاد، ومقتصدنا أهل حضرنا، وظالمنا أهل بدونا، لا يشهدون جمعة ولا جماعة. وقال معاذ: الظالم لنفسه: الذي مات على كبيرة لم يتب منها، والمقتصد: من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها، والمقتصد: من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها، والسابق: من مات نائبا عن كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك. وقيل: الظالم لنفسه: العاصي المسرف، والمقتصد: متقي الكبائر، والسابق: المتقي على الإطلاق. وقال الحسن: الظالم: من خفت حسناته، والمقتصد: من استوت، والسابق: من رجحت. وقال الزمخشري: قسمهم إلى ظالم مجرم، وهو المرجىء لأمر الله، ومقتصد، وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا؛ وسابق، من السابقين. انتهى. وذكر في التجريد ثلاثة وأربعين قولا في هؤلاء الأصناف الثلاثة. وقرأ أبو عمران الحوفي، وعمر ابن أبي شجاع، ويعقوب في رواية، والقرآءة عن أبي عمر و: سباق؛ والجمهور. سابق، قيل: وقدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله. وقال الزمخشري: للإيذان بكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم، وأن المقتصد قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل. انتهى. * (بإذن الله) *: بتيسيره وتمكنه، أي أن سبقه ليس من جهة ذاته، بل ذلك منه تعالى. والظاهر أن الإشارة بذلك إلى إيراث الكتاب واصطفاء هذه الأمة.
* (وجنات) * على هذا مبتدأ، و * (يدخلونها) * الخبر. وجنات، قراءة الجمهور جمعا بالرفع، ويكون ذلك إخبارا بمقدار أولئك المصطفين. وقال الزمخشري، وابن عطية: * (جنات) * بدل من * (الفضل) *. قال الزمخشري: فإن قلت: فكيف جعلت * (جنات عدن) * بدلا من * (الفضل الكبير) * الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟ قلت: لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب، فأبدلت عنه جنات عدن. انتهى. ويدل على أنه مبتدأ قراءة الجحدري وهارون، عن عاصم. جنات، منصوبا على الاشتغال، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها. وقرأ رزين، وحبيش، والزهري: جنة على الأفراد. وقرأ أبو عمرو: ويدخلونها مبنيا للمفعول، ورويت عن ابن كثير والجمهور مبنيا للفاعل. والظاهر أن الضمير المرفوع في يدخلونها عائدا على الأصناف الثلاثة، وهو يقول عبد الله بن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وأبي الدرداء، وعقبة بن عامر، وأبي سعيد، وعائشة، ومحمد بن الحنيفة، وجعفر الصادق، وأبي إسحاق السبيعي، وكعب الأحبار. وقرأ عمر هذه الآية، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له). ومن جعل ثلاثة الأصناف هي التي في الواقعة، لأن الضمير في يدخلونها عائد عنده على المقتصد والسابق. وقال الزمخشري: هو عائد على السابق فقط، ولذلك إشارة إلى السبق بعد التقسيم، فذكر ثوابهم. والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليهلك الظالم لنفسه حذرا، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله
، ولا يغتر بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم): (سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له)، فإن شرط ذلك صحة
299

التوبة، عسى الله أن يتوب عليهم. وقوله: إما يعذبهم، وإما يتوب عليهم، ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخداع. انتهى، وهو على طريق المعتزلة. وقرأ الجمهور: * (يحلون) * بضم الياء وفتح الحاء وشد اللام، مبنيا للمفعول. وقرئ: بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام، من حليت المرأة فهي حال، إذا لبست الحلى. ويقال: جيد حال، إذا كان فيه الحلى، وتقدم في سورة الحج الكلام على * (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) *. وقرأ الجمهور: * (الحزن) * بفتحتين؛ وقرئ: بضم الحاء وسكون الزاي، ذكره جناح بن حبيش، والحزن يعم جميع الأحزان، وقد خص المفسرون هنا وأكثروا، وينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل لا على التعيين، فقال أبو الدرداء: حزن: أهوال يوم القيامة، وما يصيب هنالك من ظلم نفسه من الغم والحزن. وقال سمرة بن جندب: معيشة الدنيا الخير ونحوه. وقال قتادة: حزن الدنيا في الحوفة أن لا يتقبل أعمالهم. وقال مقاتل: حزن الانتقال، يقولونها إذا استقروا فيها. وقال الكلبي: خوف الشيطان. وقال ابن زيد: حزن: تظالم الآخرة، والوقوف عن قبول الطاعات وردها، وطول المكث على الصراط. وقال القاسم بن محمد: حزن: زوال الغم وتقلب القلب وخوف العاقبة، وقد أكثروا حتى قال بعضهم: كراء الدار، ومعناه أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا حتى هذا. * (إن ربنا لغفور شكور) *، لغفور: فيه إشارة إلى دخول لأنها دار إقامة دائما لا يرحل عنها. * (من فضله) *: من عطائه.
* (لا يمسنا فيها نصب) *: أي تعب بدن، * (ولا يمسنا فيها لغوب) *: أي تعب، وهو لازم عن تعب البدن. وقال قتادة: اللغوب: الوضع. وقال الزمخشري: النصب: التعب والمشقة التي تصيب المنتصب المزاول له، وأما اللغوب: فما يلحقه من الفتور بسبب النصب. فالنصب نفس المشقة والكلفة، واللغوب نتيجته، وما يحدث منه من الكلال والفترة. انتهى. فإن قلت: إذا انتفى السبب انتفى مسببه، فما حكمه إذا نفي السبب وانتفى مسببه؟ وأنت تقول: ما شبعت ولا أكلت، ولا يحسن ما أكلت ولا شبعت، لأنه يلزم من انتفاء الأكل انتفاء الشبع، ولا ينعكس، فلو جاء على هذا الأسلوب لكان التركيب لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة؟ فالجواب: أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا، فإن أماكنها على قسمين: موضع يمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحارى، وموضع يمس فيه الأعياء كالبيوت والمنازل التي فيها الصغار، فقال: * (لا يمسنا فيها نصب) *، لأنها ليست مظان المتاعب لدار الدنيا؛ * (ولا يمسنا فيها لغوب) *: أي ولا نخرج منها إلى موضع نصب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء. وقرأ الجمهور: لغوب، بضم اللام، وعلي بن أبي طالب والسلمي: بفتحها. قال الفراء: هو ما يلغب به، كالفطور والسحور، وجاز أن يكون صفة للمصدر المحذوف، كأنه لغوب، كقولهم: موت مائت. وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون مصدرا كالقبول، وإن شئت جعلته صفة لمضمر، أي أمر لغوب، واللغوب أيضا في غير هذا للأحمق. قال أعرابي أن فلانا لغوب جاءت كتابي فاحتقرها، أي أحمق، فقيل له: لم أنثته؟ فقال: أليس صحيفة؟
* (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور وهم (سقط: الآية كاملة)) *.
300

(الآية كاملة)
لما ذكر حال المؤمنين ومقرهم، ذكر حال الكافرين، وهذا يدل على أن أولئك الثلاثة هم في الجنة، * (والذين كفروا) * هم مقابلوهم، * (لا يقضى عليهم) *: أي لا يجهز عليهم فيموتوا، لأنهم إذا ماتوا بطلت حواسهم فاستراحوا. وقرأ الجمهور: * (فيموتوا) *، بحذف النون منصوبا في جواب النفي، وهو على أحد معنيي النصب؛ فالمعنى انتفى القضاء عليهم، فانتفى مسببه، أي لا يقضى عليهم ولا يموتون، كقولك: ما تأتينا فتحدثنا، أي ما يكون حديث، انتفى الإتيان، فانتفى الحديث. ولا يصح أن يكون على المعنى الثاني من معنى النصب، لأن المعنى: ما تأتينا محدثا، إنما تأتي ولا تحدث، وليس المعنى هنا: لا يقضى عليهم ميتين، إنما يقضى عليهم ولا يموتون. وقرأ عيسى، والحسن: فيموتون، بالنون، وجهها أن تكون معطوفة على لا يقضى. وقال ابن عطية: وهي قراءة ضعيفة. انتهى. وقال أبو عثمان المازين: هو عطف، أي فلا يموتون، لقوله: * (ولا * يؤذون * لهم فيعتذرون) *، أي فلا يعتذرون ولا يخفف عنهم نوع عذابهم. والنوع في نفسه يدخله أن يحيوا ويسعدوا. قال ابن عطية: وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: ولا يخفف بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل، كقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب
وقرأ الجمهور: * (نجزى كل) *، مبنيا للفاعل، ونصب كل؛ وأبو عمرو، وأبو حاتم عن نافع: بالياء مبنيا للمفعول، كل بالرفع. * (وهم يصطرخون) *: بني من الصرخ يفتعل، وأبدلت من التاء طاء، وأصله يصرخون، والصراخ: شدة الصياح، قال الشاعر:
صرخت حبلى أسلمتها قبيلها
واستعمل في الاستغاثة لجهة المستغيث صوته، قال الشاعر:
* وطول اصطراخ المرء في بعد قعرها
*
وجهد شقي طال في النار ما عوى
*
* (ربنا أخرجنا) *: أي قائلين ربنا أخرجنا منها، أي من النار، وردنا إلى الدنيا. * (نعمل صالحا) * قال ابن عباس: نقل: لا إله إلا الله، * (غير الذى كنا نعمل) *، أي من الشرك، ونمتثل أمر الرسل، فنؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية. وقال الزمخشري: هل اكتفى بصالحا، كما اكتفى به في * (فارجعنا نعمل
صالحا) *؟ وما فائدة زيادة * (غير الذى كنا نعمل) * على أنه يوهم أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الذي علموه؟ قالت: فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به، وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي، ولأنهم كانوا يحسنون صنعا فقالوا: أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله. انتهى. روي أنهم يجابون بعد مقدار الدنيا: * (أو لم * نعمركم) *، وهو استفهام
301

توبيخ وتوقيف وتقرير، وما مصدرية ظرفية، أي مدة يذكر. وقرأ الجمهور: * (ما يتذكر فيه من تذكر) *. وقرأ الأعمش: ما يذكر فيه، من اذكر، بالادغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظا بها في الدرج. وهذه المدة، قال الحسن: البلوغ، يريد أنه أول حال التذكر، وقيل: سبع عشرة سنة. وقال قتادة: ثمان عشرة سنة. وقال عمر بن عبد العزيز: عشرون. وقال ابن عباس: أربعون؛ وقيل: خمسون. وقال علي: ستون، وروي ذلك عن ابن عباس. * (وجاءكم) * معطوف على * (أو لم * نعمركم) *، لأن معناه: قد عمرناكم، كقوله: * (ألم نربك * بك * فينا وليدا) *، وقوله: * (ألم نشرح لك صدرك) *، ثم قال: * (ولبثت فينا) * وقال * (ووضعنا) *، لأن المعنى قدر بيناك وشرحنا. والنذير جنس، وهم الأنبياء، كل نبي نذير أمته. وقرئ: النذر جمعا، وقيل: النذير: الشيب، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسفيان، ووكيع، والحسن بن الفضل، والفراء، والطبري. وقيل: موت الأهل والأقارب؛ وقيل: كمال السفل.
فذوقوا) *: أي عذاب جهنم. وقرأ جناح بن حبيش: عالم منونا، غيب نصبا؛ والجمهور: على الإضافة. ومجئ هذه الجملة عقيب ما قبلها هو أنه تعالى ذكر أن الكافرين يعذبون دائما مدة كفرهم. كانت مدة يسيرة منقطعة، فأخبر أنه تعالى * (*) *: أي عذاب جهنم. وقرأ جناح بن حبيش: عالم منونا، غيب نصبا؛ والجمهور: على الإضافة. ومجئ هذه الجملة عقيب ما قبلها هو أنه تعالى ذكر أن الكافرين يعذبون دائما مدة كفرهم. كانت مدة يسيرة منقطعة، فأخبر أنه تعالى * (عالم غيب * السماوات والارض) *، فلا يخفى عليه ما تنطوي عليه الصدور من المضمرات. وكان يعلم من الكافر أنه تمكن الكفر في قلبه، بحيث لو دام إلى الأبد ما آمن بالله ولا عبده. وخلائف: جمع خليفة، وخلفاء: جمع خليف ويقال للمستخلف: خليفة وخليف، وفي هذا تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من مكذبي الرسل وما حل بهم من الهلاك، ولا اعتبروا بمن كفر، ولم يتعظوا بمن تقدم. * (فعليه كفره) *: أي عقاب كفره، والظاهر أنه خطاب عام؛ وقيل: لأهل مكة. والمقت: أشد الاحتقار والبغض والغضب، والخسار: خسار العمر. كان العمر رأس مال، فإن انقضى في غير طاعة الله، فقد خسره واستعاض به بدل الربح بما يفعل من الطاعات سخط الله وغضبه، بحيث صاروا إلى النار.
* (قل أرءيتم شركاءكم) *، قال الحوفي: ألف الاستفهام ذلك للتقرير، وفي التحرير: أرأريتم: المراد منه أخبروني، لأن الاستفهام يستدعي ذلك. يقول القائل: أرأيت ماذا فعل زيد؟ فيقول السامع: باع واشترى، ولولا تضمنه معنى أخبروني لكان الجواب نعم أو لا. وقال ابن عطية: أرأيتم ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني. وقال الزمخشري: أروني بدل من أرأيتم لأن معنى أرأيتم أخبروني، كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعن ما استحقوا به الإلهية والشركة، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله، أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات؟ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه؟ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب، أو يكون الضمير في * (ءاتيناهم) * للمشركين لقوله: * (أم أنزلنا عليهم سلطانا) *، * (أم ءاتيناهم كتابا من قبله) *.
* (بل إن يعد الظالمون بعضهم) *: وهم الرؤساء، * (بعضا) *: وهم الأتباع، * (إلا غرورا) * وهو قولهم: * (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) *. انتهى. أما قوله * (أرونى) * بدل من * (أرءيتم) * فلا يصح، لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بد من دخول الأداة على البدل، وأيضا فإبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم، ثم البدل على نية تكرار العامل، ولا يتأتى ذلك هنا، لأنه لا عامل في أرأيتم فيتخيل دخوله على أروني. وقد تكلمنا في الأنعام على أرأيتم كلاما شافيا. والذي أذهب إليه أن أرأيتم بمعنى أخبرني، وهي تطلب مفعولين: أحدهما منصوب، والآخر مشتمل على استفهام. تقول العرب: أرأيت زيدا ما صنع؟ فالأول هنا هو * (شركاءكم) *، والثاني * (ماذا خلقوا) *، وأروني جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد. ويحتمل أن يكون ذلك أيضا من باب الإعمال، لأنه توارد على ماذا حلقوا، أرأيتم وأروني، لأن أروني قد تعلق على مفعولها في قولهم: أما ترى، أي ترى هاهنا، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين. وقيل: يحتمل أن يكون أرأيتم استفهاما حقيقيا، وأروني أمر تعجيز للتبيين، أي أعملتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز، أو تتوهمون فيها قدرة؟ فإن كنتم تعلمونها
302

عاجزة، فكيف تعبدونها؟ أو توهمتم لها قدرة، فأروني قدرتها في أي شيء هي، أهي في الأرض؟ كما قال بعضهم: إن الله إله في السماء، وهؤلاء آلهة في الأرض. قالوا: وفيها من الكواكب والأصنام صورها، أم في السماوات؟ كما قال بعضهم: إن السماء خلقت باستعانة الملائكة، فالملائكة شركاء في خلقها، وهذه الأصنام صورها، أم قدرتها في الشفاعة لكم؟ كما قال بعضهم: إن الملائكة ما خلقوا شيئا، ولكنهم مقربون عند الله، فنعبدهم لتشفع لنا، فهل معهم من الله كتاب فيه إذنه لهم بالشفاعة؟ انتهى. وأضاف الشركاء إليهم من حيث هم جعلوهم شركاء الله، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولهم وجعلهم، قيل: ويحتمل شركاءكم في النار لقوله: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) *. والظاهر أن الضمير في * (ءاتيناهم) * عائد على الشركاء، لتناسب الضمائر، أي هل مع ما جعل شركاء لله كتاب من الله فيه إن له شفاعة عنده؟ فإنه لا يشفع إلا بإذنه. وقيل: عائد على المشركين، ويكون التفاتا خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضا عنهم وتنزيلا لهم منزلة الغائب الذي لا يحصل للخطاب، ومعناه: أن عبادة هؤلاء أما بالعقل، ولا عقل لمن يعبد ما لا يخلق من الأرض جزءا من الأجزاء ولا له شرك في السماء؛ وأما بالنقل، ولم نؤت المشركين كتابا فيه أمر بعبادة هؤلاء، فهذه عبادة لا عقلية ولا نقلية. انتهى. وقرأ ابن وثاب، والأعمش، وحمزة، وأبو عمرو، وابن كثير، وحفص، وأبان عن عاصم: * (على بينة) *، بالإفراد؛ وباقي السبعة: بالجمع.
ولما بين تعالى فساد أمر الأصنام ووقف الحجة على بطلانها، عقبة بذكر عظمته وقدرته ليتبين الشيء بضده، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله فقال: * (إن الله يمسك * السماوات والارض * أن تزولا) *: والظاهر أن معناه أن تنتقلا عن أماكنهما وتسقط السماوات عن علوها. وقيل: معناه أن تزولا عن الدوران. انتهى. ولا يصح أن الأرض لا تدور. ويظهر من قول ابن مسعود: أن السماء لا تدور، وإنما تجري فيها الكواكب. وقال: كفى بها زوالا أن تدور، ولو دارت لكانت قد زالت. وأن تزولا في موضع المفعول له، وقدر لئلا تزولا، وكراهة أن تزولا. وقال الزجاج: يمسك: يمنع من أن تزولا، فيكون مفعولا ثانيا على إسقاط حرف الجر، ويجوز أن يكون بدلا، أي يمنع زوال السماوات والأرض، بدل اشتمال. * (ولئن زالتا) *: إن تدخل غالبا على الممكن، فإن قدرنا دخولها على الممكن، فيكون ذلك باعتبار يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال، فإن ذلك ممكن، ثم واقع بالخبر الصادق، أي ولئن جاء وقت زوالهما. ويجوز أن يكون ذلك على سبيل الفرض، أي ولئن فرضنا زوالهما، فيكون مثل لو في المعنى. وقد قرأ ابن أبي عبلة: ولو زالتا، وإن نافية، وأمسكهما في معنى المضارع جواب للقسم المقدر قبل لام التوطئة في لئن، وإنما هو في معنى المضارع لدخول إن الشرطية، كقوله: * (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك) *. أي ما يتبعون، وكقوله: * (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا) *: أي ليظلوا، فيقدر هذا كله مضارعا لأجل إن الشرطية، وجواب إن في هذه المواضع محذوف لدلالة جواب القسم عليه. قال الزمخشري: و * (ءان) * جواب القسم في * (تزولا ولئن زالتا) *، سد مسد الجوابين. انتهى، يعني أنه دل على الجواب المحذوف، وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح، لأنه لو سد مسدهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم. والشيء الواحد لا يكون معمولا غير معمول. ومن في * (من أحد) * لتأكيد الاستغراق، ومن في * (من بعده) * لابتداء الغاية، أي من بعد ترك إمساكه. وسأل ابن عباس رجلا أقبل من الشام: من لقيت؟ قال كعبا، قال: وما سمعته يقول؟ قال: إن السماوات على منكب ملك، قال: كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد؟ ثم قرأ هذه الآية. وقال ابن مسعود لجندب البجلي، وكان رجل: أي كعب
303

الأحبار في كلام آخره ما تمكنت اليهودية في قلب وكادت أن تفارقه. وقالت طائفة: اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول، والأرض كذلك، لإشراك الكفرة، فيمسكها حكما منه عن المشركين وتبرصا ليغفر لمن آمن منهم، كما قال في آخر آية أخرى: * (تكاد * السماوات * يتفطرن منه) *. وقال الزمخشري: * (حليما غفورا) *، غير معاجل بالعقوبة، حيث يمسكها، وكانتا جديرتين بأن تهدهد العظم كلمة الشرك، كما قال * (تكاد * السماوات * يتفطرن منه) *.
* (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (سقط: الآية كاملة)) *.
الضمير في * (وأقسموا) * لقريش. ولما بين إنكارهم للتوحيد، بين تكذيبهم للرسل. قيل: وكانوا يعلنون اليهود والنصارى حيث كذبوا رسلهم، وقالوا: * (لئن ءاتانا * رسول * ليكونن أهدى) * من إحدى الأمم. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم)، كذبوه. * (لئن جاءهم) *: حكاية لمعنى كلامهم لا للفظهم، إذ لو كان اللفظ، لكان التركيب لئن جاءنا نذير من إحدى الأمم، أي من واحدة مهتدية من الأمم، أو من الأمة التي يقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها، كما قالوا: هو أحد الأحدين، وهو أحد الأحد، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل بحيث لا نظير له، وقال الشاعر:
* حتى استشاروا في أحد الأحد
*
شاهد يرادا سلاح معد
*
* (فلما جاءهم نذير) *، وهو محمد صلى الله عليه وسلم)، قاله ابن عباس، وهو الظاهر. وقال مقاتل: هو انشقاق القمر. * (ما زادهم) *: أي ما زادهم هو أو مجيئه. * (إلا نفورا) *: بعدا من الحق وهربا منه. وإسناد الزيادة إليه مجاز، لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم نفورا، كقوله: * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) *، وصاروا أضل مما كانوا. وجواب لما: * (ما زادهم) *، وفيه دليل واضح على حرفية لما لا ظرفيتها، إذ لو كانت ظرفا، لم يجز أن يتقدم على عاملها المنفي بما، وقد ذكرنا ذلك في قوله: * (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم) *، وفي قوله: * (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم) *.
304

والظاهر أن * (استكبارا) * مفعول من أجله، أيسبب النفور وهو الاستكبار، * (ومكر) * معطوف على * (واستكبروا استكبارا) *، فهو مفعول من أجله أيضا، أي الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار؛ * (* والمكر السيء) *، وهو الخداع الذي ترومونه برسول الله صلى الله عليه وسلم)، والكيد له. وقال قتادة: المكر السيء هو الشرك. وقيل: * (وأصروا واستكبروا استكبارا) * بدل من * (نفورا) *، وقاله الأخفش. وقيل: حال، يعني مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين، ومكر السيء من إضافة الموصوف إلى صفته، ولذلك جاء على الأصل: * (ولا يحيق المكر) *. وقيل: يجوز أن يكون * (ومكر) * معطوفا على * (إلا نفورا) *. وقرأ الجمهور: ومكر السيء، بكسر الهمزة؛ والأعمش، وحمزة: بإسكانها، فإما إجراء للوصل مجرى الوقف، وإما إسكانا لتوالي الحركات وإجراء للمنفصل مجرى المتصل، كقوله: لنا ابلان. وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن. قال أبو جعفر: وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه. وزعم محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر، لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش يقرأ بهذا، وقال: إنما كان يقف على من أدى عنه، والدليل على هذا أنه تمام الكلام، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعربه، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة
بين كسرتين. وقال الزجاج أيضا: قراءة حمزة ومكر السيء موقوفا عند الحذاق بياءين لحن لا يجوز، وإنما يجوز في الشعر للاضطرار. وأكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد، والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والاضطرار، والوصل بنية الوقف، قال: فإذا ساغ ما ذكرناه في هذه القراءة من التأويل، لم يسغ أن يقال لحن. وقال ابن القشيري: ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرىء به فلا بد من جوازه، ولا يجوز أن يقال لحن. وقال الزمخشري: لعله اختلس فظن سكونا، أو وقف وقفة خفيفة، ثم ابتدأ * (ولا يحيق) *. وروي عن ابن كثير: ومكر السيء، بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة، وهو مقلوب السيء المخفف من السيء، كما قال الشاعر:
* ولا يجزون من حسن بسي
*
ولا يجزون من غلظ بلين
*
وقرأ ابن مسعود: ومكرا سيئا، عطف نكرة على نكرة؛ * (ولا يحيق) *: أي يحيط ويحل، ولا يستعمل إلا في المكروه. وقرئ: يحيق بالضم، أي بضم الياء؛ المكر السيء: بالنصب، ولا يحيق الله إلا بأهله، أما في الدنيا فعاقبة ذلك على أهله. وقال أبو عبد الله الرازي: فإن قلت: كثيرا نرى الماكر يفيده مكره ويغلب خصمه بالمكر، والآية تدل على عدم ذلك. فالجواب من وجوه: أحدها: أن المكر في الآية هو المكر بالرسول من العزم على القتل والإخراج، ولا يحيق إلا بهم حيث قتلوا ببدر. وثانيها: أنه عام، وهو الأصح، فإنه عليه السلام نهى عن المكر وقال: (لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا، فإنه تعالى يقول: * (ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله) *، فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلا فلا يزد نقصا). وثالثها: أن الأمور بعواقبها، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر، ففي الحقيقة هو الفائز، والماكر هو الهالك. انتهى.
وقال كعب لابن عباس في التوراة (من حفر حفرة لأخيه وقع فيها)، فقال له ابن عباس: إنا وجدنا هذا في كتاب الله، * (ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله) *. انتهى.
وفي أمثال العرب (من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا). و * (قل للذين) *: إنزال العذاب على الذين كفروا برسلهم من الأمم، وجعل استقبالهم لذلك انتظارا له منهم. وسنة الأولين أضاف فيه المصدر. وفي * (لسنة الله) * إضافة إلى الفاعل، فأضيفت أولا إليهم لأنها سنة بهم، وثانيا إليه لأنه هو الذي سنها. وبين تعالى الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها بغيرها ولا
305

يحولها إلى غير أهلها، وإن كان ذلك كائن لا محالة. واستشهد عليهم مما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم، في رحلتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الماضين، وعلامات هلاكهم وديارهم، كديار ثمود ونحوها، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة الروم. وهناك * (كانوا أشد منهم قوة) *: استئناف إخبار عن ما كانوا عليه، وهنا: * (وكانوا) *: أي وقد كانوا، فالجملة حال، فهما مقصدان. * (وما كانوا * الله ليعجزه) *: أي ليفوته ويسبقه، * (من شىء) *: أي شيء، و * (من) * لاستغراق الأشياء * (إنه كان عليما قديرا) *: فبعلمه يعلم جميع الأشياء، فلا يغيب عن علمه شيء، وبقدرته لا يتعذر عليه شيء.
ثم ذكر تعالى حلمه تعالى على عباده في تعجيل العقوبة فقال: * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا) *: أي من الشرك وتكذيب الرسل، وهو المعنى في الآية التي في النحل، وهو قوله: * (بظلمهم) *، وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في النحل، وهناك * (عليها) *، وهنا على * (ظهرها) *، والضمير عائد على الأرض، إلا أن هناك يدل عليه سياق الكلام، وهنا يمكن أن يعود على ملفوظ به، وهو قوله: * (في السماوات * ولا فى الارض) *. ولما كانت حاملة لمن عليها، استعير لها الظهر، كالدابة الحاملة للأثقال، ولأنه أيضا هو الظاهر بخلاف باطنها. فإنه * (كان بعباده بصيرا) *: توعد للمكذبين، أي فيجازيهم بأعمالهم.
306

((سورة يس))
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون
307

أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا من ما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون) *
قمح البعير رأسه: رفعه أثر شرب الماء، ويأتي الكلام فيه مستوفى العرجون: عود العذق من بين الشمراخ إلى منبته من النخلة، وقال الزجاج: ' هو فعلون من الانعراج أو الانعطاف '. الجدث: القبر، وسمع فيه جدف بإبدال الثاء فاء، كما قالوا: فم في ثم، وكما أبدلوا من الفاء ثاء قالوا في معفور معثور، وهو ضرب من الكمأة. المسخ: تحويل من صورة إلى صورة منكرة، الرميم: البالي المفتت.
* (يس والقرآن الحكيم أنك لمن المرسلين، على صراط مستقيم، تنزيل العزيز الرحيم، لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون، لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون، إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، وجعلنا من بين أي \ يهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون، وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم، إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في أمام مبين) *.
هذه الصورة مكية إلا أن فرقة زعمت أن قوله: * (ونكتب ما قدموا وآثارهم) * [يس: 12] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول. وليس زعما صحيحا، وقيل: إلا قوله: * (وإذا
308

قمح البعير رأسه: رفعه أثر شرب الماء، ويأتي الكلام فيه مستوفى العرجون: عود العذق من بين الشمراخ إلى منبته من النخلة، وقال الزجاج: ' هو فعلون من الانعراج أو الانعطاف '. الجدث: القبر، وسمع فيه جدف بإبدال الثاء فاء، كما قالوا: فم في ثم، وكما أبدلوا من الفاء ثاء قالوا في معفور معثور، وهو ضرب من الكمأة. المسخ: تحويل من صورة إلى صورة منكرة، الرميم: البالي المفتت.
* (يس والقرآن الحكيم أنك لمن المرسلين، على صراط مستقيم، تنزيل العزيز الرحيم، لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون، لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون، إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، وجعلنا من بين أي \ يهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون، وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم، إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في أمام مبين) *.
هذه الصورة مكية إلا أن فرقة زعمت أن قوله: * (ونكتب ما قدموا وآثارهم) * [يس: 12] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول. وليس زعما صحيحا، وقيل: إلا قوله: * (وإذا
309

قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله) * [يس: 47] الآية وتقدم الكلام في الحروف المقطعة في أول البقرة. قال ابن جبير هنا: إنه اسم من أسماء محمد - صلى الله عليه وسلم - ودليله (إنك من المرسلين)، قال السيد الحميري:
* يا نفس لا تمخضي بالود جاهدة
* على المودة إلا آل ياسينا
*
وقال ابن عباس معناه: ' يا إنسان بالحبشية '. وعنه: ' هو في لغة طيىء، وذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان ويجمعونه على أياسين فهذا منه '. وقالت فرقة: (يا) حرف نداء. والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه. وقال الزمخشري: ' إن صح أن معناه يا إنسان في لغة طيىء، فوجهه أن يكون أصله: يا أنيسين، فكثر النداء على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره، كما قالوا في القسم م / الله في أيمن الله '. انتهى. والذي نقل عن العرب في تصغيرهم إنسان أنيسيان بياء بعدها ألف، فدل على أنه أصله أنيسان، لآن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، ولا نعلمهم قالوا في تصغيرة: أنيسين. وعلى تقدير أنه بقية أنيسين فلا يجوز ذلك، لا أن يبنى على الضم ولا يبقى موقوفا، لأنه منادى مقبل عليه مع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير ويمتنع ذلك في حق النبوة. وقوله: ' كما قالوا في القسم م الله في أيمن الله '. هذا قول ومن النحويين من يقول: إن م حرف قسم وليس مبقي من أيمن. وقرئ بفتح الياء وإمالتها محضا وبين اللفظين. وقرأ الجمهور بسكون النون مدغمة في الواو، ومن السبعة الكسائي وأبو بكر وورش وابن عامر. مظهرة عند باقي السبعة. وقرأ الجمهور بسكون النون بفتح النون. وقال قتادة: ' (يس) قسم ' قال أبو حاتم: فقياس هذا القول فتح النون، كما تقول: الله لأفعلن كذا. وقال النجاج: ' النصب كأنه قال أتل يس وهذا على مذهب سيبوية أنه اسم للسورة '. وقرأ الكلبي بضم النون وقال: ' هي بلغة طيىء يا إنسان '، وقرأ السماك وابن أبي إسحاق أيضا بكسرها. قيل: والحركة لالتقاء الساكنين، فالفتح كائن طلبا للتخفيف. والضم كحيث. والكسر على أصل التقائهما. وإذا قيل إنه قسم فيجوز أن يكون معربا بالنصب على ما قال أبو حاتم. والرفع على الابتداء نحو أمانة الله لأقومن. والجر على إضمار حرف الجر، وهو جائز عند الكوفيين. و (الحكيم) إما فعيل بمعنى مفعل كما تقول عقدت العسل فهو عقيد أي معقد وإما للمبالغة من حاكم وإما على معنى السبب. أي: ذي حكمة (على صراط) خبر ثان أو في موضع الحال منه - عليه السلام - أو من (المرسلين) أو متعلق بالمرسلين. والصراط المستقيم: شريعة الإسلام. وقرأ طلحة والأشهب وعيسى بخلاف عنهما وابن عامر وحمزة الكسائي (تنزيل) بالنصب على المصدر. وباقي السبعة وأبو بكر وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش بالرفع خبر مبتدأ محذوف. أي: هو تنزيل. وأبو حيوة واليزيدي والقورصي عن أبي جعفر وشبية بالخفض إما على البدل من (القرآن) وإما على الوصف بالمصدر (لتنذر) متعلق ب (تنزيل) أو ب (أرسلنا) مضمرة. (ما أنذر) قال عكرمة: بمعنى الذي، أي الشيء الذي أنذره آباؤهم من العذاب ف (ما) مفعول ثان. كقوله: * (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) * [النبأ: 40]، قال ابن عطية: ' ويحتمل أن يكون (ما) مصدرية. أي: ما أنذر آباءهم والآباء على هذا: هم الآقدمون من ولد إسماعيل وكانت النذارة فيهم. و (فهم) على هذا للتأويل بمعنى فإنهم، دخلت الفاء، لقطع الجملة من الجملة الواقعة صلة فتتعلق بقوله (إنك لمن المرسلين لتنذر) كما تقول أرسلنك إلى فلان لتنذره، فإنه غافل أو فهو غافل. وقال قتادة: ' (ما) نافية. أي: إن آباءهم لم ينذروا ف (آباؤهم) على هذا هم القريبون منهم. و (ما أنذر) في موضع الصفة. أي: غير منذر آباؤهم و (فهم غافلون) متعلق بالنفي. أي: لم ينذروا فهم
310

غافلون على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم وباعتبار الآباء في القدم والقرب يزول التعارض بين الإنذار ونفيه. (لقد حق القول على أكثرهم) المشهور أن القول: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) وقيل: لقد سبق في علمه وجوب العذاب، وقيل: حق. القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه، فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك. والظاهر أن قوله * (غنا دجعلنا في أعناقهم أغلالا) * لآية هو حقيقة لا استعارة. لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار. قال ابن عطية: ' وقوله * (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * يضعف هذا، لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله '. انتهى. ولا يضعف هذا. ألا ترى إلى قوله: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا) * [الإسراء: 97] ووقوله: * (قال رب لم حشرتني أعمى) * [طه: 125] وإما أن يكون قوله: * (فبصرك اليوم حديد) * [ق: 22] كناية عن إدراكه ما يؤول إليه حتى كأنه يبصره. وقال الجمهور ذلك استعارة. قال ابن عباس وابن إسحاق: ' استعارة لحالة الكفرة الذين أرادوا الرسول بسوء، جعل الله هذا لهم مثلا في كفه إياهم عنه ومنعهم من أذاه حين بيتوه ' وقال الضحاك والفراء: ' استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله، كما قال: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * [الإسراء: 29]. وقال عكرمة: ' نزلت حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم، وفي غير ذلك من المواطن، فمنعه الله ' وهذا قريب من ابن عباس، فروي: ' أن أبا جهل حمل حجرا ليدفع به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فانثنت يداه إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر في يده قد لزق فما فكوه إلا بجهد فأخذ آخر، فلما دنا الرسول طمس الله بصره فلم يره فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه '. فجعل الغل يكون استعارة عن منع أبي جهل وغيره في هذه القصة. ولما كان أصحاب أبي جهل راضين بما أراد أن يفعل فنسب ذلك إلى الجمع. وقالت فرقة: استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه. قال ابن عطية: ' وهذا أرجح الأقوال لأنه تعالى لما ذكر أنهم يؤمنون لما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من منع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغلولين '. انتهى. وقال الزمخشري: ' مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى دعواهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا خلفهم في أن لا تأمل لهم، ولا يبصرون أنهم متعامون عن النظر في آيات الله تعالى '. انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. ألا ترى إلى قول أهل السنة: استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان. وقول الزمخشري: ' ومثل تصميمهم ونسبته الأفعال التي يعدها إليهم لا إلى الله '. والغل: ما أحاط بالعنق على معنى التعنيف، والتضييق، والتعذيب، والأسر، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة على معنى التعليل، والظاهر: عود الضمير في (فهي) إلى الأغلال، لأنها هي المذكورة والمحدث عنها. قال ابن عطية: ' هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان. والذقن: مجتمع اللحيين فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء، وذلك هو الإقماح. وهو نحو الإقناع في الهيئة. وقال الزمخشري: الإغلال، وأصله إلى الأذقان مكروزة إليها، وذلك أن طوق الغل الذي هو عنق المغلول يكون في ملتقى طرفية تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن فلا
تخليه يطأطىء رأسه ويوطىء رأسه ويوطىء فداله فلا يزال مقمحا '. انتهى وقال الفراء: ' القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه '. وقال الزجاج نحوه، قال: ' يقال قمح البعير رأسه عن ري وقمح هو '. وقال أبو عبيدة: ' قمح قموحا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب والجمع قماح. ومنه قول بشر يصف ميتة أحدهم ليدفنها:
* ونحن على جوانبها قعود
* نغض الطرف كالإبل القماح
*
311

وقال الليث: ' هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود '. وقال الزجاج للكانونين شهرا قماح لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤوسها لشدة برده. وأنشد أبو زيد بيت الهذلي:
* فتى ما ابن الأغر إذا شتونا
* وحب الزاد في شهري قماح
*
رواه بضم القاف، وابن السكيت بكسرها، وهما لغتان. ' وسميا شهري قماح، لكراهة كل ذي كبد شرب الماء فيه '. وقال الحسن: ' القامح الطافح ببصره إلى موضع قدمه '. وقال مجاهد: ' الرافع الرأس الواضع يده على فيه '. وقال الطبري: ' الضمير في (فهي) عائد على الأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى. وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين، ولذلك سمي الغل جامعة لجمعه اليد والعنق. وأرى علي كرم الله وجهه الناس الإقماح فجعل يديه تحت لحيية وألصقهما ورفع رأسه '. وقال الزمخشري: ' جعل الإقماح نتيجة قوله فهي (إلى الأذقان) ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطل الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج '. انتهى. وقرأ عبد الله وعكرمة والنخعي وابن وثاب وطلحة وحمزة والكسائي وابن كثير وحفص (سدا) بفتح السين فيهما والجمهور بالضم وتقدم شرح السد في الكهف. وقرأ الحمهور (فأغشيناهم) بالغين منقوطة. وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي ويزيد بن المهلب وأبو حنيفة وابن مقسم بالعين من العشاء، وهو ضعف البصر جعلنا عليها غشاوة. (وسواء عليهم) الآية تقدم الكلام على نظيرها تفسيرا وإعرابا في أول البقرة. (إنما تنذر) تقدم * (لتنذر قوما) * [يس: 6] لكنه لما كان محتوما عليهم أن لا يؤمنوا حتى قال (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) لم يجد الإنذار لانتفاء منفعته فقال (إنما تنذر) أي: إنذارا ينفع (من اتبع الذكر) وهو القرآن قال قتادة: ' أو الوعظ ' (وخشي الرحمن) أي: المتصف بالرحمة مع أن الرحمة مع أن الرحمة قد تعود إلى الرجاء لكنه مع علمه برحمته هو يخشاه خوفا من أن يسلبه ما أنعم به عليه (بالغيب) أي: بالخلوة عند مغيب الإنسان عن غيوب البشر. ولما أحدث فيه النذارة (بشر بمغفرة) لما سلف (وأجر كريم) على ما أسلف من العمل الصالح، وهو الجنة. ولما ذكر تعالى الرسالة، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمنا ذكر \ الحشر وهو أحد الأصول الثلاثة والثالث: هو توحيد. فقال (إنا نحن نحيي الموتى) أي: بعد مماتهم. وأبعد الحسن والضحاك في قوله: إحياؤهم: إخراجهم من الشرك إلى الإيمان (ونكتب ما قدموا) كناية عن المجازاة. أي: ونحصي. فعبر عن إحاطة علمه بأعمالهم بالكتابة التي تضبط بها الأشياء. وقرأ زر ومسروق (ويكتب ما قدموا وآثارهم) بالياء مبنيا للمفعول. و (ما قدموا) من الأعمال (وآثارهم) خطاهم إلى المساجد. وقال: السير الحسنة والسيئة. وقيل (ما قدموا) من السيئات (وآثارهم) من الأعمال. وقال الزمخشري: ' ونكتب ما أسلفوا من الأعمال الصالحات غيرها، وما هلكوا عنه من أثر حسن كعلم علموه، وكتاب صنفوه، أو حبيس أحبسوه، أو بناء بنوه من مسجد أورباط أو قنطرة أو نحو ذلك. أوسيىء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تحيرهم، وشئ أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاء، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة، يستن بها ونحوه قوله عز وجل * (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) * [القيامة: 13] من آثاره '. انتهى. وقرأ الجمهور (وكل شيء) بالنصب على الاشتغال. وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء. والإمام المبين: اللوح المحفوظ. قاله مجاهد وقتادة وابن زيد. وقالت فرقة: أراد صحف الأعمال.
* (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون، قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون، قالوا ربنا يعلم إنا إليكم
312

لمرسلون، وما علينا إلا البلاغ المبين، قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم، قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون، وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون، وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون، أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون، إني إذا لفي ضلال مبين، إني آمنت بربكم فاسمعون، قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) *.
تقدم الكلام على اضرب مع المثل في قوله: * (أن يضرب مثلا ما بعوضة) * [البقرة: 26] والقرية: أنطاكية فلا خلاف في قصة أصحاب القرية (إذ جاءها المسلون) هم ثلاثة جمعهم في المجيء وإن اختلفوا في زمن المجيء (إذ أرسلنا إليهم اثنين) الظاهر من (أرسلنا) أنهم أنبياء أرسلهم الله، ويدل عليه قوله المرسل إليهم (ما أنتم إلا بشر مثلنا) وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله. وهذا قول ابن عباس وكعب. وقال قتادة: ' وغيرهم من الحواريين بعثم عيسى - عليه
السلام - حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه فافترق الحواريون في الآفاق فقص الله قصة الذين ذهبوا إلى أنطاكية وكان أهلها عباد أصنام صادق وصدوق قاله وهب وكعب الأحبار '، وحكى النقاش بن سمعان ويحنا. وقال مقاتل: ' تومان ويونس '. (فكذبوهما) أي: دعواهم إلى الله وأخبرا بأنهما رسول الله فكذبوهما (فعززنا بثالث) أي: قوينا وشددنا قاله مجاهد وابن قتيبة. وقال: يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب '. وقال غيره: يقال المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدها، ويقال للأرض الصلبة القرآن هذا على قراءة تشديد الزاي، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو بكر والمفضل وأبان بالتخفيف. قال أبو علي:: ' فغلبنا '، انتهى وذلك من قولهم:: من عزني وقوله تعالى * (وعزني في الخطاب) *، وقرأ عبد الله (بالثالث) بألف ولام. والثالث. شمعون الصفا قاله ابن عباس. وقال كعب ووهب ' شلوم '. وقيل: يونس. وحذف مفعول (فعززنا) مشددا. أي: قويناهما بثالث. مخففا. فغلبناهم. أي: بحجة ثالث وما يلطف به من التوصل إلى الدعاء إلى الله حتى من الملك على ما ذكر في قصتهم. وستأتي هي أو بعض منها إن شاء الله وجاء أولا (مرسلون) بغير لام، لأنه ابتداء أخبار فلا يحتاج إلى توكيد بعد المحاورة (لمرسلون) بلام التوكيد لأنه جواب عن إنكار، وهؤلاء أمة أنكرت النبوات بقولها (وما أنزل الرحمن من شيء) وراجعتهم الرسل بأن ردوا إلى الله، وقنعوا بعلمه، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط، وما عليهم من هداهم وضلالهم، وفي هذا وعيد لهم. ووصف البلاغ بالمبين وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الميت * (قالوا إنا تطيرنا بكم) * أي: تشاءمنا. قلال مقاتل: ' احتبس عليهم المطر '. وقال آخر: ' أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل '، قال ابن عطية: ' والظاهر أن تطير هؤلاء كان ما سبب ما دخل فيهم من اختلاف الكلمة، وافتتان الناس. وهذا على نحو تطير قريش بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى نحو ما خوطب به موسى - عليه السلام - ' وقال الزمخشري: ' وذلك أنهم كرهوا دينهم، ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه، وقبلته طباعهم، وتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابتهم نعمة، أو بلاء قالوا ببركة هذا، وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط * (وإن نصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) * [الأعراف: 131] وعن مشركي مكة * (وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) * [النساء 78] انتهى. وعن قتادة: ' إن أصابنا شيء كان من أجلكم (لنرجمنكم) بالحجارة. قاله قتادة (عذاب أليم) هو الحريق. (قالوا طائركم معكم) أي: حظكم وما صار لكم من خير أو شر معكم. أي من أفعالكم ليس هو من أجلنا بل بكفركم. وقرأ الحسن وابن هرمز وعمرو بن عبيد وزر بن حبيش (طيركم) بياء ساكنة بعد الطاء. وقرأ الحسن فيما نقل (أطيركم) مصدر ' أطير '
313

الذي أصله تطير، فأدغمت التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر. وقرأ الجمهور (طائركم) على وزن فاعل وقرأ الجمهور (ا ~ ن ذكرتم) بهمزتين، الأولى: همزة الاستفهام. والثالنية: همزة إن الشرطية، فخففها الكوفيين وابن عامر. وسهلها باقي السبعة. وقرا زر بهمزتين مفتوحتين، وهي قراءة أبو جعفر وطلحة إلا أنها لبناء الثانية بين بين. وقال الشاعر في تحقيقها:
* أإن كنت داود بن أحوى مرحلا
* فلست بداع لأبن عمك محرما
* والماجشوني: وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة المدني بهمزة واحدة مفتوحة. والحسن بهاء مكسورة. وأبو عمرو في رواية وزر أيضا بمدة قبل الهمزة المفتوحة. واستقل اجتماعهما ففصل بينهما بألف. وقرأ أبو جعفر أيضا والحسن أيضا وقتادة وعيسى الهمداني والأعمش (أين) بهمزة مفتوحة وياء ساكنة وفتح النون ظرف مكان. وروي هذا عن عيسى الثقفي أيضا. فالقراءة الأولى على معنى إن ذكرتم تتطيرون بجعل المحذوف مصب الاستفاهم على مذهب سيبوبة. ويجعله للشرط على مذهب يونس. فإن قدرته مضارعا كان مجزوما. والقراءة الثانية على معنى: ألأن ذكرتم تطيرتم فإن مفعول من أجله وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة، والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة. وقراءة الهمزة المكسورة وحدها فحرف شرط بمعنى الإخبار. أي: إن ذكرتم تطيرتم. والقراءة الثانية الأخيرة (أين) فيها ظرف، أداة الشرط حذف جزاؤه للدلالة عليه. وتقديره: أين ذكرتم صحبكم طائركم. ويدل عليه قوله (طائركم معكم) ومن جوز تقديم الجزاء على الشرط وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد يجوز أن يكون الجواب (طائركم معكم) وكان أصله: أين ذكرتم فطائركم معكم. فلما قدم حذفت الفاء. وقرأ الجمهور (ذكرتم) بتشديد الكاف. وأبو جعفر وخالد بن الياس وطلحة وحسن وقتادة وأبو حيوة والعمش من طريق زائدة والأصمعي عن نافع بتخفيفها (بل أنتم قوم مسرفون) مجاوزون الحد في ضلالكم فمن ثم أتاكم الشؤم: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) اسمه: حبيب، قاله ابن عباس، وأبو مجلز، وكعب الأحبار، ومجاهد، ومقاتل، قيل: وهو ابن إسرائيل وكان قصارا. وقيل: كان ينحت الأصنام. ويمكن أن يكون جامعا لهذه الصنائع و (من أقصى المدينة) أي: من أبعد مواضعها، فقيل: كان في خارج المدينة يعاني زرعا له. وقيل: كان في غار يعبد ربه وقيل: كان مجذوما فميز له أقصى باب من أبوابها عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضرة فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله قال هل من آية؟ قالوا نعم: ندعوا ربنا القادر يفرج عنك ما بك فقال: إن هذا لعجيب لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع يفرجه ربكم في غداة واحدة. قالوا: نعم، وربنا على ما يشاء قدير وهذه لا تنفع شيء ولا تضر فآمن، ودعوا ربهم فكشف الله ما به كأن لم يكن به بأس، فأقبل على التكسب فإذا مشى تصدق بكسبه، نصف لعياله، ونصف يطعمه. فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم فقال (يا قوم اتبعوا المرسلين) وحبيب هذا ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر، وورقة بن نوفل، وغيرهما. ولم يؤمن بني غيره أحد إلا بعد ظهوره. وقال ابن أبي ليلى ' سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين علي بن أبي طالب، وصاحب يس ومؤمن آلا فرعون '. وأورد الزمخشري قول ابن أبي ليلى حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقدم قبل من حاله أنه كان مجذوما عبد الصنام سبعين فالله أعلم '. وهنا تقدم (من أقصى المدينة) وفي القصص تأخر وهو من التفنن في البلاغة (رجل يسعى) يمشي على قدميه (قال يا قوم
اتبعوا المرسلين) الظاهر أنه لا يقول ذلك إلا بعد تقدم إيمانه كما سبق في قصة. وقيل: جاء عيسى وسمع قولهم وفهمه فيما فهمه. روي: ' أنه تعقب أمرهم وسبره بان قال لهم: أتطلبون أجرا على دعوتكم؟ قالوا: لا فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم
314

واحتج عليهم بقوله (اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) أي: وهم على هدى من الله. أمرهم أولا باتباع المرسلين. أي: هم رسل الله إليكم، فاتبعوهم. ثم أمرهم ثانيا بجملة جامعة في الترغيب في كونهم لا ينقص منهم من حطام دنياهم شيء، وفي كونهم يهتدون بهداهم فيشتملون على خيري الدنيا والآخرة. وقد أجاز بعض النحويين في (من) أن تكون بدلا من (المرسلين) ظهر فيه العامل كما ظهر فيه إذا كان حرف جر كقوله تعالى: * (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم) * [الزخرف: 33] والجمهور لا يعربون ما صرح فيه بالعامل الرافع والناصب بدلا، بل يجعلون ذلك مخصوصا بحرف الجر، وإذا كان الرافع والناصب سموا ذلك بالتتبيع لا بالبدل، وفي قوله (اتبعوا من لا يسألكم أجرا) دليل على نقص من يأخذ أجرا على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة كالصلاة. ولما أمرهم باتباع المرسلين أخذ يبدي الدليل في اتباعهم وعبادة الله فأبرزه في صورة نصحه لنفسه، وهو يريد نصحهم ليتلطف بهم ويراد بهم، ولأنه أدخل في امحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا مل يريد لنفسه فوضع قوله (ومالي لا أعبد الذي فطرني) موضع (ومالكم لا تعبدون الذي فطركم، ولذلك قال (وإليه ترجعون) ولولا أنه قصد ذلك لقال وإليه أرجع. ثم أتبع الكلام كذلك مخاطبا لنفسه، فقال (أأتخذ من دونه ى لهة) قاصرة عن كل شيء لا تنفع ولا تضر، فإن أرادكم الله بضر وشفعت لكم لم تنفع شفاعتهم، ولم يقدروا على إنقاذكم فيه. أولا بانتفاء الجاه عن كون شفاعتهم لا تنفع، ثم ثانيا بانتفاء القدرة فعبر بانتفاء الإنقاذ عنه إذ هو نتيجته. وفتح ياء المتكلم في (يردني) مع طلحة السمان. كذا في كتاب ابن عطية. وفي كتاب ابن خالوية طلحة بن مطرف، وعيسى الهمداني، وأبو جعفر، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو. وقال الزمخشري: ' وقرئ (إن يردني الرحمن بضر) بمعنى ان يجعلني موردا للضر. انتهى. وهذا والله أعلم رأي في كتب القراءات (يردني) بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعديا بالياء المعدية كالهمزة، فلذلك أدخل عليه همزة التعدية ونصب به اثنين. والذي في كتب القراء الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطا ونطقا لالتقاء الساكنين. قال في كتاب ابن خالوية: ' بفتح ياء الإضافة '، وقال في اللوامح: (إن يردني الرحمن) بالفتح وهو أصل الياء عند البصرية، ولكن هذه محذوفة يعني البصرية. أي المثبتة بالخط البربري بالبصر لكونها مكتوبة بخلاف المحذوفة خطا ولفظا فلا ترى بالبصر '. (إني إذا) إن لم أعبد الذي فطرني واتخذت آلهة من دونه في حيرة واضحة لكل ذي عقل صحيح. ثم صرح بإيمانه وصدع بالحق فقال مخاطبا لقومه (إني آمنت بربكم) أي: الذي كفرتم به (فاسمعون) أي: اسمعوا قولي وأطيعون. فقد نبهتكم على الحق، وأن العبادة لا تكون إلا لمن منه نشأتكم، وإليه مرجعكم، والظاهر: أن الخطاب بالكاف والميم وبالواو وهو لقومه. والأمر على جهة المبالغة والتنبيه، قاله ابن عباس وكعب ووهب. وقيل: خاطب بقوله (فاسمعون) الرسل على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم. وقيل: الخطاب في (بربكم) وفي (فاسمعون) للرسل لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل فقال ذلك، أي: اسمعوا إيماني واشهدوا لي به. (قيل ادخل الجنة) ظاهرة: أنه أمر حقيقي. وقيل: معناه وجبت لك الجنة فهو خبر بأنه قد استحق دخولها، ولا يكون إلا بعد البعث, ولم يأت في القرآن أنه قتل فقال الحسن: ' لما أراد قومه قتله رفعه الله غلى السماء فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماوات وهلاك الجنة فإذا أعاد الله الجنة دخلها '. وقيل: لما قال ذلك رفعوه إلى الملك فطول معهم الكلام ليشغلهم عن قتل الرسل إلى أن صرح لهم بإيمانه فوثبوا عليه فقتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قلبه من دبره وألقي في
315

بئر وهي الرس '. وقال السدي: ' رموه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي حتى مات '. وقال الكلبي: ' رموه في حفرة وردوا التراب عليه فمات '. وعن الحسن: حرقوه حرقا، وعلقوه في باب المدينة وقبره في سور أنطاكية. وقيل: نشروه بالمناشير حتى خرج من بين رجليه. وعن قتادة: ' أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق '. أراد قوله تعالى: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين) * [آل عمران: 169، 170] وفي النسخة التي طالعنا من تفسير ابن عطية ما نصه. وقرأ الجمهور (فاسمعون) بفتح النون، قال أبو حاتم: ' هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر فإما حذف النون وإما كسرها على جهة البناء '. انتهى. يعني ياء المتكلم والنون للوقاية. وقوله: وقرأ الجمهور، وهم فاحش، ولا يكون والله أعلم إلا من الناسخ، بل القراء مجمعون فيما أعلم على كسر النون سبعتهم وشواذهم إلا ما روي عن عصمة عن عاصم من فتح النون ذكره في الكامل مؤلف أبي القاسم الهذلي ولعل ذلك وهم من عصمة، وقال ابن عطية: ' هنا محذوف تواترات به الأحاديث والروايات وهو أنهم قتلوه، فقيل له عند موته ادخل الجنة، وذلك - والله أعلم - بأن عرض عليه مقعده منها، وتحقق أنه من ساكنيها، فرأى ما أقر عينه، فلما حصل ذلك تمنى أن يعلم قومه بذلك '. انتهى. وقول (قيل ادخل الجنة) كأنه جواب لسائل عن حالة عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه، فقيل (ادخل الجنة) ولم يأت التركيب قيل له، لأنه معلوم أنه المخاطب. وتمنيه علم قومه بذلك هو مرتب على تقدير سؤال عن ما وجد من قوله عند ذلك، استيفاقا، ونصحا لهم. أي: لو علموا ذلك لآمنوا بالله. وفي الحديث: ' نصح قومه حيا وميتا: تمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ في أمره، وهو على صواب فيندموا، ويحزنهم ذلك، ويبشر بذلك. وموجود في طباع البشر أن من أصاب خيرا في غير موطنه ود أن يعلم بذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم. وبلغنا أن الوزير ذنك الدين المسيري وكان وزيرا لملك مصر راح إلى قريته التي كان منها وهي مسير وهي من أصغر قرى مصر فقيل له في ذلك، فقال: أردت أن يراني عجائز مسير في هذه الحالة التي أنا فيها. قال الشاعر:
* والعز مطلوب وملتمس
* وأحبه ما نيل في الوطن
*
والظاهر: أن (ما) في قوله (بما غفر لي ربي) مصدرية. جوزوا أن يكون بمعنى الذي والعائد محذوف. تقديره: بالذي غفره لي ربي من الذنوب. وليس هذا بجيد
، إذ يؤول إلى تمنى علمهم بالذنوب المغفرة. والذي يحسن تمنى علمهم بمغفرة ذنوبه، وجعله من المكرمين. وأجاز الفراء أن تكون (ما) استفهاما، وقال الكسائي: ' لو صح هذا يعني الاستفهام لقال بم من غير ألف '. وقال الفراء: ' يجوز أن يقال بما بالألف وأنشد فيه أبياتا '. وقال الزمخشري: ' ويحتمل أن تكون استفهامية، يعني: بأي شيء غفر لي ربي؟ يريد ما كان منه معهم من المصابرة لإعزاز دين الله حتى قيل: إن قولك (بما غفر لي ربي) يريد ما كان منه معهم بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزا فقال: قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت '. انتهى. والمشهور أن إثبات الألف في ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر مختص بالضرورة نحو قوله:
* على ما قام يشتمني لئيم
* كخنزير تمرغ في رماد
* وحذفها هو المعروف في الكلام نحو قوله:
* على م يقول الرمح يثقل كاهلي
* إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
*
316

وقرئ (من المكرمين) مشدد الراء مفتوح الكاف. والجمهور بإسكان الكاف وتخفيف الراء.
* (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين، إن كانت الا صيحة واحدة فإذا هم خامدون، يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون، ألم يرو كم أهلكنا من القرون أنهم غليهم لا يرجعون، وإن كل لما جميع لدينا محضرون، وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون، سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون، وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون، إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين) *.
أخبر تعالى بإهلاك قوم حبيب بصيحة واحدة، صاح بهم جبريل. وفي ذلك توعد لقريش أن يصيبهم ما أصابهم إذ هم المضروب لهم المثل. وأخبر تعالى أنه ينزل عليهم لإهلاكهم (جندا من السماء) كالحجارة والريح وغير ذلك، وكانوا أهون عليه. وقوله (من بعده) يدل على ابتداء الغاية. أي: لم يرسل إليهم رسولا ولا عاتبهم بعد قتله، بل عاجلهم بالهلاك. والظاهر: أن (ما) في قوله (وما كنا منزلين) نافية. فالمعنى قريب من معنى الجملة قبلها. أي: وما كان يصح في حكمنا أن ننزل في إهلاكهم جندا من السماء، لأنه تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض كما قال * (فكلا أخذنا بذنبه) * [العنكبوت 40] الآية. وقالت فرقت (ما) اسم معطوف على (جند)، قال ابن عطية: ' أي: من جند ومن الذي منا منزلين على الأمم مثلهم '. انتهى. وهو تقدير لا يصح، لأن (من) في (من جندد) زائدة. ومذهب البصريين غير الأخفش أن لزيادتها شرطين، أحدهما. أن يكون قبلها نفي أو نهي أو استفهام والثاني: أن يكون بعدها نكرة. وإن كان كذلك فلا يجوز أن يكون المعطوف على النكرة معرفة. لا يجوز ما ضربت من رجل ولا زيد. وإنه لا يجوز ولا من زيد. وهو. قدر المعطوف بالذي وهو معرفة فلا يعطف على النكرة المرورة بمن الزائدة. وقال أبو البقاء: ' ويجوز أن تكون (ما) زائدة. أي وقد كنا منزلين '. وقوله ليس بشيء. وقرأ (إن كانت إلا صيحة) بنصب الصيحة. و (كان) ناقصة واسمها مضمر. أي: أن كانت الأخذة أو العقوبة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ومعاذ بن الحارث القارئ (صيحة) ' بالرفع في الموضعين على أن (كانت تامة. أي: ما حدثت أو وقعت إلا صيحة. وكان الأصل لا يلحق التاء، لأنه إذا كان الفعل مسندا إلى ما بععد إلا من المؤنث لم تلحق العلامة للتأنيث، فيقول: ما قام إلا هند. ولا يجوز ما قامت إلا هند عند أصحابنا إلا في الشعر. وجوزه بعضهم في الكلام على قلة ومثله قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء والجحدري وقتادة وأبي حيوة وابن أبي عبلة وأبي بحرية * (لا ترى غلا مساكنهم) * [الأحقاف: 25] بالتاء والقراءة المشهورة بالياء. وقول ذي الرمة:
* وما بقيت إلا الضلوع الجراشع
* وقول الآخر:
* ما ربرئت من ريبة وذم
* في حربنا إلا بنات العم
* فأنكر أبو حاتم وكثير من النحويين هذه القراءة بسبب لحوق تاء التأنيث (فإذا هم خامدون) أي: فاجأهم الخمود إثر
317

الصيحة لم يتأخر. وكنى بالخمود عن سكوتهم بعد حياتهم كنار خمدت بعد توقدها. ونداء الحسرة على معنى هذا وقت حضورك وظهورك هذا تقدير نداء مثل هذا عند سيبوية. وهو منادى منكور على قراءة الجمهور. وقرأ أبي وابن عباس وعلي بن الحسين والضحاك ومجاهد والحسن (يا حسرة العباد) على الإضافة، فيجوز أن تكون الحسرة منهم على ما فاتهم. ويجوز أن تكون الحسرة من غيرهم عليهم لما فاتهم من أتباع الرسل حين أحضروا للعذاب، وطباع البشر تتأثر عند معانيه عذاب غيرهم وتتحسر عليهم. وقرأ أبو الزناد وعبد الله بن ذكوان المدني وابن هرمز وابن جندب (يا حسره على العباد) بسكون الهاء في الحالين. حمل فيه الوصل على
الوقف. ووقفوا على الهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التأهة كالتأوة ثم وصلوا على تلك الحال، قاله صاحب اللوامح، وقال بانب خالوية ' (يا حسرة على العباد) بغير تنوين قاله ابن عباس '. انتهى ووجهه أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف التي هي بدل من ياء المتكلم في النداء كما اجتزأ بالكسرة عن الياء فيه. وقد قرىء (يا حسرتا) بالألف أي: يا حسرتي. ويكون من الله على سبيل الآستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم وفرط إنكاره وتعجيبه منه. والظاهر: أن العباد هم مكذبو الرسل تحسرت عليهم الملائكة. قاله الضحاك، وقال الضحاك أيضا: ' المعنى. يا حسرة الملائكة على عبادنا الرسل حتى لم ينفعهم الإيمان لهم ' وقال ا [و العالية: ' المراد بالعباد: الرسل الثلاثة. وكأن هذا التحسر هو من الكفار حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم. قال ابن عطية: ' وقوله (ما يأتيهم) الآية بدفع هذا التأويل '. انتهى قال الزجاج: ' الحسرة: أمر يركب الإنسان من كثرة الندم على ما لا نهاية له حتى يبقى حسيرا '. وقيل: المنادى محذوف. وانتصب (حسرة) على المصدر. أي: يا هؤلاء تحسروا حسرة. وقيل: (يا حسرة على العباد) من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لما وثب القوم لقتله. وقيل: هو من قول الرسل الثلاثة، قالوا ذلك حين قتلوا ذلك الرجل، وحل بهم العذاب، قالوا يا حسرة على هؤلاء، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا '. انتهى. فالألف واللام للعهد إذا قلنا: إن العباد المراد بهم الرسل الثلاثة أو من أرسلوا إليه، وهم الهالكون بسبب كفرهم وتكذيبهم إياهم. والظاهر أنها لتعريف جنس الكفار المكذبين. وتلخص: أن المتحسر الملائكة، أو الله تعالى، أو المؤمنون، أو الرسل الثلاثة، أو ذلك الرجل. أقوال (ما يأتيهم) إلى آخر الآية. تمثيل لقريش، وهم الذين عاد عليهم الضمير في قوله (ألم يروا كم أهلكنا)، قال ابن عطية: ' و (كم) هنا خبرية و (أنهم) بدل منها، والرؤية رؤية البصر '. انتهى. فهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب ب (أهلكنا) ولا يسوغ فيها، إلا ذلك. وإذا كان كذلك امتنع لأن يكون (أنهم) بدل منها لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت (أهلكنا) على (أنهم) لم يصح. ألا ترى أنك لو قلت. أهلكنا انتفاء رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون. لم يكن كلاما، لكن ابن عطية توهم أن (يروا) مفعوله (كم) فتوهم أن قولهم (أنهم لا يرجعون) بدل لأنه يسوغ أن يتسلط عليه، فتقول: ألم يروا أنهم لا يرجعون. وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية. وقال الزجاج: ' هو بدل من الجملة. والمعنى: ألم يروا أن القرون التي أهلكناها إليهم لا يرجعون، لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى النهي '. وهذا الذي قاله الزجاج ليس بشيء، لأنه ليس بدلا صناعيا. وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صنعة النحو. وقال أبو البقاء: ' أنهم إليهم انتهى. وليس بشيء، لأن (كم) ليس بمعمول ل (يروا) ونقل عن الفراء أنه يعمل (يروا) في الجملتين من غير إبدال وقولهم في الجملتين تجوز لأن (أنهم) وما بعده ليس بجملة ولم يبين كيفية هذا العمل. وقال الزمخشري: (ألم يروا) ألم يعلموا وهو معلق عن العمل في (كم) لا يعمل فيها عامل قبلها، كانت للاستفاهم أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام إلا أن معناها نافذ في الجملة. كما نفذ في قولك: ألم يروا أن زيدا لمنطلق. وإن لم تعمل في لفظه و (أنهم إليهم لا يرجعون) بدل من (أهلكنا) على المعنى لا على اللفظ تقديره: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين
318

إليهم '. انتهى. فجعل (يروا) بمعنى يعلموا، وعلقها على العمل في (كم) وقوله: ' لأن (كم) لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر '. وهذا ليس على إطلاقه، لأن العامل إذا كان حرف جر، أو أسما مضافا، جاز أن يعمل فيها نحوكم. على كم جذع بيتك؟ وأين كم رئيس صحبت؟ وعلى كم فقير تصدقت؟ أرجو الثواب؟ وأين كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟ قوله: ' أو للخبر ' الخبرية فيها لغتان الفصيحة كما ذكر، لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار. واللغة الأخرى حكاها الأخفش يقولون فيها: ملكت كم غلام. أي: ملكت كثيرا من الغلمان. فكما يجوز أن يتقدم العامل على كثير كذلك يجوز أن يتقدم على كم، لأنها بمعناها. وقوله: ' لأن أصلها الاستفهام ' ليس أصلها الاستفهام، بل كل واحدة أصل في بابها لكنها لفظ مشترك بين الاستفهام والخبر. وقوله: ' إلا أن معناها نافذ في الجملة '. يعني: معنى (يروا) نافذ في الجملة، لأن جعلها معلقة وشرح ب (يعلموا). وقوله كما تقدم في قولك - ألم يروا ان زيدا لمنطلق. فإن زيدا لمنطلق معمول من حيث المعنى ل (يروا) ولو كان عاملا من حيث اللفظ لم تدخل اللام وكانت أن مفتوحة كإن وفي خبرها اللام من الأدوات التي تعلق أفعال القلوب. وقوله: ' وأنهم لا يرجعون ' إلى آخر كلامه. لا يصح أن يكون بدلا لا على اللفظ ولا على المعنى. أما على اللفظ، فإنه زعم أن (يروا) معلقة فيكون (كم) استفهاما وهو معمول ل (أهلكنا) و (أهلكنا) لا يتسلط على (أنهم إليهم لا يرجعون) وتقدم لنا ذلك. وأما على المعنى فلا يصح أيضا، لأنه قال تقديره: أي على المعنى ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم، فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك فلا يكون بدل كل من كل، ولا بعضا من الإهلاك، ولا يكون بدل بعض من كل، ولا يكون بدل اشتمال، لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف إلى ما أبدل منه. وكذلك بدل بعض من كل وهذا لا يصح هنا، لا تقول: ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم وفي بدل الاشتمال نحو. أعجبني الجارية ملاحتها. وسرق زيد ثوبه يصح: أعجبني ملاحة الجارية. وسرق ثوب زيد. وتقدم لنا الكلام على إعراب مثل هذه الجملة في قوله: * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) * [الأنعام: 6] في سورة الأنعام والذي تقتضيه صناعة العربية أن (أنهم) معمول المحذوف ودل عليه المعنى. وتقديره: قضينا أو حكمنا أنهم إليهم لا ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب لتتفق القراءتان ولا تختلفا. والضمير في (أنهم) عائد على معنى (كم) وهم القرون. و (إليهم) عائد على من أسند إليه (يرو) وهم قريش. فالمعنى: أنهم لا يرجعون إلى من في الدنيا وقيل: الضمير في (انهم) عائد على من أسند إليه (يروا) وفي (إليهم) عائد على المهلكين. والمعنى: أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة. أي: أهلكناهم، وقطعنا نسلهم. والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم. وقرأ عبد الله (ألم يروا من أهلكنا) (أنهم) هلى هذا بدل اشتمال. وفي قولهم (أنهم لا يرجعون) رد على القائلين بالرجعة. وقيل لابن عباس: إن قوما يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة فقال: ليس القوم نحن إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه '. وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر بتثقيل (لما) وباقي السبعة بتخفيفا. فمن ثقلها كانت عنده بمعنى إلا و (إن) نافية. أي: ما كل. أي: كلهم إلا (جميع لدينا محضرون). أي: محشرون. قاله قتادة. وقال ابن سلام: ' معذبون '، وقيل: التقدير لمن ما وليس بشيء ومن خفف (لما) جعل (إن) المخففة من الثقيلة و (ما) زائدة. أي: إن كل لجميع، وهذا على مذهب
البصريين. وأما الكوفيون ف (إن) عندهم نافية واللام بمعنى إلا و (ما) زائدة. و (لما) المشددة بمعنى غلآ ثابت في لسان العرب بنقل الثقات، فلا يلتفت إلى زعم الكسائي لأنه لا يعرف ذلك. وقال أبو عبد الله الرازي: ' في كون لما بمعنى إلا معنى مناسب، وهو أن لما كأنها حرفا نفي جميعا وهما لم وما فتأكد النفي وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخرة ' انتهى.. وهذا أخذه من قول الفراء في ألا في الاستثناء أنها مركبة من إن ولا إلا أن الفراء جعل أن المخففة من الثقيلة وما الزائدة. أي: عن كل لجميع، وهذا على مذهب البصريين. وأما الكوفيون و (إن) عندهم مافية والللام بمعنى إلا و (ما) زائدة. ولما المشددة بمعنى إلا ثابت حرف مفي، وهو قول مردود عند النحاة ركيك وما تركب منه وزاد تحريفا أرك منه. و (كل) بمعنى الإحاطة. و (جميع) فعيل بمعنى
319

مفعول ويدل على الاجتماع. و (جميع) (محضرون) هنا على المعنى كما أفرد منتصر على اللفظ، وكلاهما بعد جميع يراعى فيه الفواصل. وجاءت هذه الجملة بعد ذكر للإهلاك تبيينا أنه تعالى ليس من أهله يترك بل بعد إهلاكهم جمع، وحساب، وثواب، وعقاب، ولذلك أعقب هذا بما يدل على الحشر من قوله (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) وما بعده من الآيات. وبدأ بالأرض، لأنه مستقرهم، حركة وسكونا، حياة وموتا. وموت الأرض: جدبها، وإحياؤها بالغيث. والضمير في (لهم) عائد على كفار قريش ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر، و (أحييناهم) استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية، وكذلك نسلخ. وقيل: (أحييناها) في موضع الحال، والعامل فيها (آية) بما فيها من معنى الإعلام ويكون (آية) خبرا مقدما و (الأرض الميتة) مبتدأ، فالنية بآية التأخير. والتقدير: والأرض الميتة آية لهم محياة، كقولك: قائم زيد مسرعا. أي: زيد قائم مسرعا. و (لهم) متعلق بآية لا صفة، وقال الزمخشري: ' ويجوز أن يوصف الأرض والليل بالفعل، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض وليل بإحيائهما فعوملا معاملة النكرات في وصفها بالأفعال '. ونحوه:
* ولقد أمر على اللئيم يسبني
* انتهى. وهذا هدم لما استقر عند أئمة النحو من أن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة. ولا دليل لمن ذهب إلى ذلك وأما يسبني فحال. أي: سابا لي. وقد تبع الزمخشري ابن مالك على ذلك في التسهيل من تأليف. وفي هذه الجمل تعدد نعم إحياؤها بحيث تصير مخضرة، تبهج النفس والعين، وإخراج الحب منها، حيث صار ما يعيشون به في المكان الذي هم فيه مستقرون لا في السماء ولا في الهواء، وجعل الحبات لأنهم أكلوا من الحب وربما تاقت النفس غلى النقلة فالأرض يوجد منها الحب، والشجر يوجد منه الثمر، وتفجير العيون يحصل به الاعتماد على تحصيل الزرع والثمر، ولو كان من السماء لم يدر أين يغرس ولا يقع المطر. وقرأ جناح بن حبيش (وفجرنا) بالتخفيف. والجمهور بالتشديد. ومن ثمره) بفتحتين. وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي بضمتين. والأعمش بضم الثاء وسكون الميم. والضمير في (ثمره) عائد على الماء، قيل: لدلالة العيون عليه، ولكونه على حذف مضاف. أي: من ماء العيون. وقيل على النخيل واكتفى به للعلم في اشتراك الأعيان فيما علق به النخيل من أكل ثكره أو يراد من ثمر المذكور وهو الجنات كما قال الشاعر:
* فيها خطوط من سواد وبلق
* كأنه في الجلد توليع البهق
*
فقيل له: كيف قلت بعيون كأنه والذي تقدم خطوط؟ فقال: أرت كان ذاك. وقيل: عائد إلى التفجير الدال عليه (وفجرنا) الآية أقرب مذكور. وعنى ب (ثمره) فوائده كما تقول ثمرة التجارة الربح. وقال الزمخشري: ' وأصله: من ثمرنا. كما قال (وجعلنا) (وفجرنا) فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات. والمعنى: ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر، ومما عملته أيديهم من الغرس، والسقي، والآبار، وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه. وبأن أكله يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه. وفيه آثار من كد بني آدم. ويجوز أن تكون (ما) نافية على أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس، ولا يقدرون على خلقه. وقرأ الجمهور (وما علمته) بالضمير فإن كانت (ما) موصولة فالضمير عائد عليها وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر. وقرأ طلحة وعيسى وحمزة والكسائي وأبو بكر بغير ضمير. مفعول (علمت) على التقديرين محذوفة. وجوز في هذه القراءة أن تكون (ما) مصدرية. أي: وعمل أيديهم. وهو مصدر أريد به المعمول فيعود إلى معنى الموصول. ولما عدد تعالى هذه النعم حض على الشكر فقال (أفلا تشكرون) ثم نزه تعالى نفسه عن كل ما يلحد به ملحد، أو يشرك به مشرك، فذكر إنشاء الزواج وهي الأنواع من جميع الأشياء مما تنبت الأرض من النخل والشجر والزرع
320

والثمر وغير ذلك. وكل صنف زوج، مختلف لونا وطعما وشكلا وصغرا وكبرا (ومن أنفسهم) ذكورا وإناثا (مما يعلمون) أي: أنواعا مما لا يعلمون أعلموا بوجوده ولم يعلموا ما هو، إذ لا يتعلق علمهم بما هيته أمر محتاج إليه في دين ولا دنيا. وفي إعلامه بكثرة مخلوقاته دليل على اتساع ملكه، وعظم قدرته. ولما ذكر تعالى الاستدلال بأحوال الأرض وهي المكان الكلي ذكر الاستدلال بالليل والنهار وهو الزمان الكلي وبينهما مناسبة، لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر، والزمان لا تستغني عنه الأعراض، لأن كل عرض فهو في زمان ومثله مذكور في قوله: * (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر) * [فصلت: 37] ثم قال بعده * (ومن آياته أنك ترى الأرض هامدة) * [فصلت: 39] الآية وبدأ هناك بالزمان، لأن المقصود إثبات الوحدانية بدليل قوله (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) الآية. ثم الحشر بقوله (إن الذي أحياها لمحيي الموتى) وهذا المقصود الحشر أولا، لأن ذكره فيها أكثر، وذكر التوحيد في فصلت أكثر بدليل قوله (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض) انتهى. وهو من كلام أبي عبد الله الرازي وفيه تلخيص. و (نسلخ) معناه: نكشط ونقشر، وهو استعارة لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل. و (مظلمون) داخلون في الظلام كما ثقول أعتمنا وأسحرنا، دخلنا في العتمة وفي السحر. واستدل قوم بهذا على أن الليل أصل والنهار فرع طارىء عليه، ومستقر الشمس بين يدي العرش
تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها كما جاء في حديث أبي ذر (ويقال لها اطلعي من حيث طلعت فإذا كان طلوعها من مغربها يقال لها اطلعي من حيث غربت فذلك حين * (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) * [الأنعام: 158]، وقال ابن عباس: ' إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه استوت تحت العرش إلى أن تطلع '. وقال الحسن: ' للشمس في السنة ثلاثمائة وستون مطلعا، تنزل كل يوم مطلعا، ثم لا تنزل إلى الحول وهي تجري في فلك المنازل، أو يوم القيامة، أو غيبوبتها، لأنها تجري كل وقت إلى حد محدد تغرب فيه، أو أحد مطالعها في المنقلبين، لأنهما نهايتها مطالعها فإذا استقر وصولها كرت راجعة وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين '. ونحا إلى هذا ابن قتيبة أو وقوفها عند الزوال كل يوم، ودليل استقرارها وقوف ذلك الظلام حينئذ. وقال الزمخشري: ' بمستقر لها لحد لها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في ى خر السنة. شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره أو كمنتهى لها من المشاق والمغارب لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا، ومغربا مغربا، حتى تبلغ أقصاها، ثم ترجع فلذلك حدها ومستقرها لأنها تعدوه أو لا يعدلها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب. وقيل: مستقرها: محلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها فاستقرت عليه، وهو آخر السنة. وقيل: الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها، وهو يوم القيامة، وقال أبو عبد الله الرازي: ما ملخصه: ' في المستقر وجوه في الزمان وفي المكان، ففي الزمان الليل، أو السنة، أو يوم القيامة. وفي المكان: غاية ارتفاعها في الصيف، وانخفاضها في الشتاء، ويجري إلى ذلك الموضع فترجع، أو غاية مشارقها، فلها في كل يوم مشرق إلى سنة أشهر، ثم تعود على تلك المقنطرات، وهذا هو ما تقدم في الارتفاع، فإن اختلاف المشارق، سبب اختلاف الارتفاع، أو وصولها إلى بيتها في الأسد أو الدائرة التي عليها حركتها حيث لا تميل عن منطقة البروج على مرور الشمس. ويحتمل أن يقال: تجري مجرى مستقرها فإن أصحاب الهيئة قالوا: الشمس في فلك والفلك يدور فيدير الشمس، فالشمس تجري مجرى مستقرها '. انتهى. وقرئ (إلى مستقرها)، وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وعطاء بن رباح وزين العابدين والباقر وابنه الصادق وابن أبي عبدة (لا مستقر لها) نفيا. مبنيا على الفتح. فيقتضي انتفاء كل مستقر وذلك في الدنيا، أي: هي تجري دائما فيها لا تستقر إلا ابن أبي عبلة فإنه قرأ برفع (مستقر) وتنويه على
321

إعمالها إعمال ليس. نحو قول الشاعر:
* تعز فلا شيء على الأرض باقيا
* ولا وزر مما قضى الله واقيا
* الإشارة بذلك غلى جري الشمس. أي: ذلك الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق، تقدير (العزيز) الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علما بكل معلوم. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر وابن محيصن والحسن بخلاف عنه (والقمر) بالرفع على الابتداء. وباقي السبعة بالنصب على الاشتغال.. و (قدرناه) على حذف مضاف. أي: قدرنا سيره. و (منازل) طرف أي منازلة. وقيل: قدرنا نوره فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية، وينقص في المنازل الاستقبالية، وقيل (قدرناه) جعلنا أنه أجرى عكس منازل أنوار الشمس، ولا يحتاج إلى حذف حرف الصفة فإن جرم القمر المظلم ينزل فيه النور لقبول عكس ضياء الشمس مثل المرآة المجلوة إذا قوبل بها الشعاع، وهذه المنازل معروفة عند العرب، وهي ثمانية وعشرون منزلة القمر كل ليلة في واحدة منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو لا بتفاوت يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين، ثم يسير ليلتين إذا نقص الشهر، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة وهي: الشرطين، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة،، الدبرة، الصرفة، العواء، السماك، العفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرع الدلو المقدم، فرع الدلو المؤخر، بطن الحوت، ويقال له: الرشاء، فإذا كان في ى خر منازله دق واستقوس واصفر فشبه بالعرجون القديم من ثلاثة الأوجه، وقرأ سليمان التيمي (كالعرجون) بكسر العين وفتح الجيم. والجمهور بضمهما. وهما لغتان كالبريون. و (القديم) ما مر عليه زمان طويل. وقيل: أقل عدة الموصوف بالقدم حول، فلو قال رجل: كل مملوك لي قديم فهو حر، أو كتب ذلك في وصية، عتق منهم من مضى له حول وأكثر '. انتهى. والقدم: أمر نسبي وقد يطلق على ما ليس له سنة، ولا سنتان، فلا يقال: العالم قديم وإنما تعتبر العادة في ذلك. (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) (ينبغي لها) مستعملة فيما لا يمكن خلافه. أي: لم يجعل لها قدرة على ذلك، وهذا الإدراك المنبغي هو: قال الزمخشري: ' إن الله تعالى جعل لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسما من الزمان، وضرب له حدا معلوما، ودبر أمرهما على التعاقب، فلا ينبغي للشمس أن يستهل لها، ولا يصح ولا يستقيم لوقوع التدبير على العاقبة. وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان على حياله أن يدرك القمر، فتجتمع معه في وقت واحد، وتدخله في سلطانه، فتطمس نوره، ولا يسبق الليل النهار: يعني: آية الليل آية النهار، وهما النيران، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك، وينقص ما ألف فيجمع بين الشمس والقمر، فتطلع الشمس من مغربها '. انتهى. وقال ابن عباس والضحاك: ' إذا طلعت لم يكن للقمر ضوء وإذا طلع لم يكن للشمس ضوء '. وقال مجاهد: ' لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر '. وقال قتادة: ' لكل أحد حد لا يعدوه ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا '. وقال ابن عباس أيضا: ' إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها '، وقال الحسن: ' لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة. أي: لا تبقي الشمس حتى يطلع الفجر ولكن إذا غربت طلع '. وقال يحيى بن سلام: ' لا تدركه ليلة البدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها '. وقيل: ' لا يمكنها أن تدركه في سرعته، لأن دائرة فلك القمر داخله في فلك عطارد داخل في فلك الزهرة، وفلك الزهرة داخل في فلك الشمس، فإذا كان طريق الشمس أبعععد قطع القمر جميع أجزاء فلكه، أي: من البروج الاثني عشر في زمان تقطع الشمس فيه برجا واحدا من فلكه.
322

وقال النحاس: ' ما قيل فيه وأبينه أن مسير القمر مسير سريع والشمس لا تدركه في السير '. انتهى. وهو ملخص القول الذي قبله (ولا الليل سابق النهار) لا يعارض
قوله * (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا) * [الأعراف 54] لأن ظاهر قوله (يطلبه حثيثا) ن النهار سابق أيضا، فيوافق الظاهر. وفهم أبو عبد الله الرازي من قوله (يطلبه حثيثا) أن النهار يطلب الليل، والليل سابقة. وفهم من قوله (ولا الليل سايق النهار) أن الليل مسبوق لا سابق فأورده سؤالا. وقال: كيف يكون الليل سابقا مسبوقا؟ وأجاب أن المراد من الليل هنا سلطان الليل، وهو القمر، وهو لا يسبق الشمس. بالحركة اليومية السريعة والمراد من الليل هناك: نفس الليل، وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه '. انتهى. وعرض له هذا السؤال لكونه جعل الضمير الفاعل في (يطلبه) عائدا على النهار، وضمير المفعول عائدا على (الليل) والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل، لأنه كان قبل دخول همزة النقل (يغشى الليل النهار) وضمير المفعول عائد على النهار، لأنه المفعول قبل النقل وبعده، وقرأ عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الخطفي (سابق) بغير تنوين (النهار) بالنصب، قال المبرد: ' سمعته يقرأ ما هذا؟ قال: أردت سابق النهار فحذفت، لأنه أخف '. انتهى. وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين وتقدم شرح * (وكل في فلك يسبحون) * [الأنبياء: 33] في سورة الأنبياء والظاهر من الذرية أنه يراد به الأبناء ومن نشأ منهم. وقيل: ينطلق على الآباء وعلى الأبناء. قاله أبو عثمان، وقال ابن عطية: ' هذا تخلط ولا يعرف هذا في اللغة ' انتهى. وتقدم الكلام في الذرية في آل عمران. والظاهر: أن الضمير في (لهم) وفي (ذرياتهم) عائد على شيء واحد، فالمعنى: أنه تعالى حمل ذريات هؤلاء وهم آباؤهم الأقدمون في سفينة نوح - عليه السلام - قاله ابن عباس، وجماعة. ومن مثله للسفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة، أو أريد بقوله (ذرياتهم) حذف مضاف. أي: ذريات جنسهم، وأريد بالذرية: من لا يطيق المشي والركوب من الذرية والضعفاء و (الفلك)، اسم جنس من عليهم بذلك. وكون الفلك مرادا به الجنس. قاله ابن عباس أيضا، ومجاهد والسدي ومن مثله الإبل وسائر ما يركب. وقيل: الضميران مختلفان. أي: ذرية القرون الماضية قاله علي بن سليمان. وكان آية لهؤلاء، إذ هم نسل تلك الذرية، وقيل: الذرية: النطف و (الفلك المشحون) بطون النساء. ذكره الماوردي، ونسب إلى علي بن أبي طالب. وهذا لا يصح، لأنه من نوع تفسير الباطنية، وغلاة المتصوفة الذين يفسرون كتاب الله على شيء لا يدل عليه اللفظ بجهة من جهات الدلالة، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويدل على أنه أريد ظاهر الفلك قوله (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) يعني: الإبل والخيل والبغال والحمير. والمماثلة في أنه مركوب مبلغ للأوطان فقط. هذا إذا كان الفلك جنسا، ولأما إن أريد به سفينة نوح فالمماثلة تكون في كونها سفنا مثلها، وهي الموجودة في بني آدم ويبعد قول من قال ' الذرية في الفلك: قوم نوح في سفينته والمثل: الأجل وما يركب '. لأنه يدفعه قوله (وإن نشأ نغرقهم)، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش وزيد بن علي وأبان بن عثمان (ذرياتهم) بالجمع وكسر زيد وأبان الذال وباقي السبعة وطلحة وعيسى بالإفراد، وقال الزمخشري (ذريتهم أولادهم ومن يهمهم حمله '. وقيل: اسم الذرية يقع على النساء لأنهن مزارعها، وفي الحديث: ' أنه نهى عن قتل الذراري يعني النساء '. (من مثله) من مثل الفلك (ما يركبون) من الإبل وهي سفائن البر. وقيل (الفلك المشحون) سفينة نوح، ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها، أنه حمل فيها آباؤهم الأقدمون، وفي أصلابهم هم وذرياتهم، وإنما ذكر ذلارياتهم دونهم، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح، و (من مثله) من مثل ذلك الفلك (ما يركبون) من السفن '. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي: ' إنما خص الذريات بالذكر، لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم. أي: لم يكن الحمل حملا لهم وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين '. وقال أيضا: ' الضمير في ' وآية لهم ' عائد على العباد في قوله (يا حسرة على العباد) ثم قال بعععد (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) (وآية لهم الليل وآية لهم أنا حملنا ذريتهم) ذريات العباد، ولا يلزم أن يكون الضمير في الموضعين المعنيين فهو كقوله: * (لا تقتلوا أنفسكم) *] النساء] إنما يريد. لا يقتل بعضكم بعضا، فكذلك هذا (وآية لهم) أي: آية كل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم، أو ذرية بعض منهم '. انتهى. والظاهر في قوله
323

(وخلقنا) أنه أريد الإنشاء والاختراع، فالمراد الإبل وما يركب، وتكون (من) للبيان، وإن كان ما يصنعه الإنسان قد ينسب إلى الله خلقا، لكن الأكثر ما ذكرنا، وإذا أريد به السفن تكون (من) للتبعيض، و (لهم) الظاهر عوده على ما عاد عليه (وآية لهم) لأنه المحدث عنهم. وجوز أن يعود على الذرية والظاهر: أن الضمير في (مثله) عائد على (الفلك)، وقيل: يعود على معلوم غير مذكور. وتقديره: من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض) كما قالوا في قوله (من ثمره) أي: من ثمر ما ذكرنا. وقرأ الحسن (نغرقهم) مشددا. والجمهور مخففا. والصريخ: فعيل بمعنى صاروخ. أي: مستغيث. بمعنى مصرخ أي مغيث لهم ولا معين، وقال الزمخشري: ' (فلا صريخ لهم) أي: فلا إغاثة لهم '. انتهى. كأنه جعله مصدرا من أفعل ويحتاج إلى نقل أن صريخا يكون مصدرا بمعنى صراخ والظاهر: أن قوله (فلا صريخ لهم) أي: لا مغيث لهؤلاء الذين شاء الله إغراقهم (ولا هم منقذون) أي: ينجون من الموت بالغرق نفي أولا الصريخ وهو خاص، ثم نفى ثانيا إنقاذهم انتهى. وليس بحسن ولا أحسن. والفاء في (فلا صريخ لهم) تعلق الجملة بما قبلها تعليقا واضحا، وترتبط به ربطا لائحا، والخلاص من العذاب بما يدفعه من أصله، فنفي بقوله (فلا صريخ لهم) وما يرفعه بعععد وقوعه فنفي بقوله (ولا هم ينقذون) وانتصب (رحمة) على الاستثناء المفرغ للمفعول من أجله. أي: لرحمة منا. وقال الكسائي والزجاج: ' إلى حين '. أي: إلى حين الموت. قاله قتادة. وقال الزمخشري: ' إما الرحمة منا، وليتمتع بالحياة إلى حين. أي: إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق '. انتهى. وإنما قال: ' لا بد لهم من موت الغرق '، لأنه تعالى قال (وإن نشأ) أي: إغراقهم (نغرقهم) فمن شاء أغراقه لا بد أن يموت بالغرق. والظاهر: أن (رحمة) (ومتاعا إلى حين) يكون للذين ينقذون، فلا يفيد الدوام بل ينقذه الله رحمة له، ويمتعه إلى حين ثم يمينه. وقيل: فيه تقسيم إلا رحمة لمن علم أنه يؤمن فينقذه الله رحمة، ومن علم أنه لا يؤمن بمنعه زمانا ويزداد إثما.
* (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما وما خلفكم لعلكم ترحمون، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، وإذا قيل لهم اتقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين، ويقولن متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون
، فلا يستطيعون نوصية ولا إلى أهلهم يرجعون، ونفخ فس السور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون، قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، وإن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون، فاليوم لا تظلم نفس ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) *
الضمير في (لهم) لقريش. و (ما بين أيديكم) قال قتادة ومقاتل: ' عذاب الأمم قبلكم ' (وما خلفكم) عذاب الآخرة ' ز. وقال مجاهد: عكسه. وقال الحسن: ' خوفوا بما مضى من ذنوبهم وما يأتي منها '، وقال مجاهد أيضا كقول الحسن: ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر ' (لعلكم ترحمون) وجواب (إذغ) محذوف يدل عليه ما بعده. أي: أعرضوا (وما تأتيهم من آية) أي: دأبهم الإعراض عند كل آية تأتيهم (وإذا قيل لهم أنفقوا) لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به، وكان ذلك بمكة أولا قبل نزول آيات القتال، فندبهم المؤمنون إلى صلة قراباتهم فقالوا (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) وقيل: سحق قريش بسبب أذية المساكين من مؤمن وغيره فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة عليهم فقالوا هذا القول. وقيل: قال فقراء المؤمنين أعطونا ما زعمتم من أموالكم إنها لله فحرموهم وقالوا
324

ذلك على سبيل الاستهزاء. وقال ابن عباس: ' كان بمكة زنادقة إذا أمروا بالصدقة، قالوا: لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن، أو كانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله لو شاء الله لأغني فلانا، ولو شاء لأعزه، ولو شاء لكان كذا فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون. وقال القشيري: ' نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع، استهزاء بالمسلمين بهذا القول. وقال الحسن: ' (وإذا قيل لهم): اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وجواب (لو نشاء) قوله (أطعمهم) وورود الموجب بغير لام فصيح، ومنه (أن لو نشاء أصبناهم) * (لو نشاء جعلناه أجاجا) * [الواقعة 70] والأكثر مجيئة باللام. والتصريح بالموضعين من الكفر والإيمان، دليل على أن المقول لهم هم الكافرون. والقائل لهم هم المؤمنون وإن كل وصف حامل صاحبه على ما صدر منه إذ كل إناء بالذي فيه يرشح. وأمروا بالانفاق مما رزقكم الله، وهو عام في الإطعام وغيره فأجابوه بغاية المخالفة، لأن نفي إطعامهم يقتضي نفي الإنفاق العام، فكأنهم قالوا: لا ننفق ولا أقل الأشياء التي كانوا يسمحون بها، ويؤثرون بها على أنفسهم وهو الإطعام الذي به يفتخرون، وهذا على سبيل المبالغة، كمن يقول لشخص: أعط لزيد دينارا فيقول: لا أعطيه درهما. فهذا أبلغ من لا أعطيه دينارا. والظاهر: أن قوله (إن أنتم إلا في ضلال مبين) من تمام كلام الكفار يخاطبون المؤمنين. أي: حيث طلبتم أن تطعموا من لا يريد الله إطعامه إذ لو أراد الله إطعامه لأطعمه هو. ويجوز أن يكون من قول الله لهم. استأنف زجرهم به، أو من قول المؤمنين لهم، ثم حكى تعالى عنهم ما يقولون على سبيل الاستهزاء والتعجيل لما توعدون به. أي: متى يوم القيامة الذي أنتم توعدوننا به، أو متى هذا العذاب الذي تهددوننا به. وهو سبيل على سبيل الاستهزاء منهم لما أمروا بالتقوى ولا يتقي إلا مما يخاف وهم غير مؤمنين. سألوا متى يقع هذا الذي تخوفونا به استهزاء منهم. (ما ينظرون) أي: ما ينتظرون. ولما كانت هذه الصيحة لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها، وهذه هي النفخة الأولى، تأخذهم فيهلكون، وهم يتخاصمون. أي: في معاملاتهم وأسواقهم وفي أماكنهم من غير إمهال لتوصية ولا رجوع إلى أهل. وفي الحديث: ' تقوم الساعة والرجلان قد نشر أثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتى تقوم، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى حتى تقوم ' وقيل: (لا يرجعون) إلى أهلهم قولا. وقيل: ولا إلى أهلهم يرجعون أبدا. وقرأ أبي (يختصمون) على الأصل والحرميان وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن فنطنطين بإدغام التاء في الصاد ونقل حركتها إلى الخاء، وأبو عمرو أيضا. وقالون يخالف بالاختلاس وتشديد الصاد. وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصم. وباقي السبعة بكسر الخاء وشد الصاد. وفرقة بكسر الياء اتباعا لكسرة الخاء وشد الصاد. وقرأ ابن محيصن (يرجعون) بضم الياء وفتح الجيم، وقرأ الأعرج في (الصور) بفتح الواو. والجمهور بإسكانها. وقرئ (من الأجداف) بالفاء بدل الثاء، وقرأ الجمهور بالثاء و (ينسلون) بكسر السين. وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بخلاف عنه يبضمها. وهذه النفخة هي الثانية التي يقوم الناس أحياء عنها، ولا تنافر بين (ينسلون) وبين * (فإذا هم قيام ينظرون) * [الزمر 68] لأنه لا ينسل إلا قائما، ولأن تفاوت الزمانين يجعله كأنه زمان واحد. وقرأ ابن أبي ليلى (يا ويلتنا) بتاء التأنيث. وعنه أيضا (يا ويلتي) بالتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة ومعنى هذه القراءة: أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي. والجمهور و (من بعثنا) (من) استفهام. و (بعث) فعل ماض. وعلي وابن عباس والضحاك وأبو نهيك (من) حرف جر و (بعثنا) مجرور به. و (المرقد) استعارة عن مضجع الميت. واحتمل أن يكون مصدرا. أي: من رقادنا وهو أجود. أو يكون مكانا، فيكون المفرد فيه يراد به الجمع، أي: من مراقدنا. وما روي عن أبي كعب ومجاهد وقتادة: ' من أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر ' فقالوا: هو غير صحيح الإسناد. وقيل: قالوا (من مرقدنا) لأن عذاب
325

الجمهور (فاكهون) بالألف، والحسن، وأبو جعفر، وقتادة، وأبو حيوة، ومجاهد، وشيبة، وأبو رجاء، ويحيى بن صبيح، ونافع في رواية بغير ألف. وطلحة، والأعمش (فاكهين) بالألف وبالياء نصبا على الحال. و (في شغل) هو الحبر. فبالألف أصحاب فاكهة، كما يقال: لابن، وتامر، وشاحم ولاحم. وبغير ألف معناه: فرحون طربون. مأخوذ من الفكاهة. وهي المزحة، وقرئ (فكهين) بغير ألف وبالياء. وقرئ (فكهون) بضم الكاف يقال: رجل فكه وفكه نحو يدس ويدس، ويجوز في (هم) أن يكون مبتدأ وخبره (في ضلال) و (متكئون) خبر ثان ل (إن) أو يكون تأكيدا للضمير المستكن في شغل المنتقل إليه من العامل فيه. وعلى هذا الوجه والذي قبله يكون الأزواج قد شاركوهم في التفكة، والشغل، والاتكاء على الأرائك، وذلك من جهة المنطوق. وعلى الأول شاركوهم في الظلال والاتكاء على الأرائك من حيث المنطوق وهن قد شاركنهم في التفكة والشغل من حيث المعنى. وقرأ الجمهور (في ظلال)، قال ابن عطية: ' وهو جمع ظل إذا الجنة لا شمس فيها، وإنما هواؤها سجسج، كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس '. انتهى، وجمع فعل على فعال في الكثرة نحو ذئب وذئاب. وأما أن وقت الجنة كوقت الإسفار قبل طلوع الشمس، فيحتاج هذا إلى نقل صحيح، وكيف يكون ذلك وفي الحديث ما يدل على حوراء من حور الجنة لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا، أو نحو من هذا. قال: '
ويحتمل أن يكون جمع ظلة ' قال أبو علي ' كبرمة وبرام '، وقال منذر بن سعيد: ' جمع ظلة بكسر الظاء '، قال ابن عطية: ' وهي لغة في ظلة '. انتهى. فيكون مثل لقحة ولقاح، وفعال لا ينقاس في فعلة بل يحفظ. وقرأ عبد الله، والسلمي، وطلحة وحمزة، والكسائي (في ظل) جمع ظلة وجمع فعلة على فعل مقيس. وهي عبارة عن الملابس، والمراتب من الحجال، والستور، ونحوها من الأشياء التي تظل. وقرأ عبد الله (متكئين) نصب على الحال و (يدعون) مضارع ادعى، وهو افتعل من دعا، ومعناه: ولهم ما يتمنون. وقال أبو عبيدة: ' العرب تقول ادع على ما شئت بمعنى تمن علي. وتقول فلان في خير ما تمنى، قال الزجاج: ' وهو من الدعاء، أي: ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم، وقيل: ' يدعون به لأنفسهم '. وقيل: ' يتداعونه لقوله ارتموه وتراموه. وقرأ الجمهور (سلام) بالرفع، قيل: وهو صفة ل (ما) أي: مسلم لهم وخالص ' انتهى. ولا يصح إن كان (ما) بمعنى الذي لأنها تكون إذ ذاك معرفة، و (سلام) نكرة ولا تنعت المعرفة بالنكرة، فإن كانت (ما) نكرة موصوفة جاز إلا أنه لا يكون فيه عموم كحالها بمعنى الذي. وقيل: (سلام) مبتدأ ويكون خبره ذلك الفعل الناصب لقوله (قولا) أي: سلام يقال قولا (من رب رحيم) أو يكون (عليكم) محذوفا. أي: سلام عليكم قولا من رب رحيم، وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي: هو سلام، وقال الزمخشري: ' (سلام قولا) بدل من (ما يدعون) كأنه قال لهم سلام، يقال لهم قولا من جهة رب رحيم. والمعنى: أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة، مبالغة في تعظيمهم. وذلك متمناهم (ولهم) ذلك لا يمنعونه. قال ابن عباس: ' والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين '. انتهى. وإذا كان (سلام) بدلا من (ما يدعون) كان (ما يدعون) خصوصا، والظاهر: أنه عموم في كل ما يدعون، وإذا كان عموما لم يكن (سلام) بدلا منه. وقيل (سلام) خبر (ما يدعون) و (ما يدعون) مبتدأ. أي: ولهم ما يدعون. سلام خالص لا شرب فيه. و (قولا) مصدر مؤكد كقوله (ولهم ما يدعون سلام) أي: عدة من (رحيم)، قال الزمخشري: ' والأوجه أن ينتصب على الاختصاص وهو من مجازه '. انتهى ويكون (لهم) متعلقا على هذا الإعراب ب (سلام)، وقرأ محمد بن كعب القرظي (سلم) بكسر السين وسكون اللام ومعناه سلام وقال أبو فضل الرازي: ' مسالم لهم. أي: ذلك مسالم '، وقرأ أبي، وعبد الله، وعيسى والقنوي، (سلاما) بالنصب على المصدر. وقال الزمخشري: ' نصب على الحال. أي: لهم مرادهم خالصا. (وامتازوا اليوم) أي: انفردوا عن المؤمنين لأن المحشر جنع البر والفاجر، فأمر المجرمون بأن يكونوا على حدة من المؤمنين. والظاهر: أن ثم قولا محذوفا. لما ذكر تعالى ما يقال للمؤمنين في قوله (سلام قولا من رب رحيم) قيل: ويقال للمجرمين امتازوا. ولما امتثلوا ما أمروا به، قال
327

لهم على جهة التوبيخ والتقريع (ألم اعهد إليكم) وقفهم على عهده إليهم ومخالفتهم إياه. وعن الضحاك: ' ولكل كافر بيت ' من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى فعلى هذا معناه أن بعضهم من بعض '. وعن قتادة: ' اعتزلوا عن كل خير. والعهد الوصية. عهد إليه: إذا وصاه. وعهد الله إليهم: ما ركز فيهم من أدلة العقل، وأنزل إليهم من أدلة السمع. وعبادة الشيطان: طاعته فيما يغويه ويزينه. وقرأ الجمهور (أعهد) بفتح الهمزة والهاء، وقرأ طلحة والهذيل بن شرحبيل الكوفي بكسر الهمزة. قاله صاحب اللوامح: ' وقال لغة تميم وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروف المضارعة. يعني نعهد وتعهد ' وقال ابن خالوية: ' ألم أعهد، يحيى بن وثاب ألم أحد لغة تميم '. وقال ابن عطية: ' وقرأ بن وثاب (ألم أعهد) بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء. وروي عن ابن وثاب: ' ألم (أعهد) بكسر الهاء. يقال: عهد يعهد '. انتهى. وقوله: ' بكسر الميم والهمزة ' يعني: أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة لأن الحركة التي في الميم هي حركة نقل الهمزة المكسورة، وحذفت الهمزة حين نقلت حركتها إلى الساكن قبلها، وهو الميم (اعهد) بالهمزة المقطوعة المكسورة لفظا لأن هذا لا يجوز. وقال الزمخشري: ' وقرئ (اعهد) بكسر الهمزة. وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء وأعهد بكسر الهاء. وقد جوز الزجتج ان يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب وأحهد بالحاء وأحد وهي لغة تميم ومنه قولهم: دحا محا ' انتهى. وقوله: ' إلا في الياء '. لغة لبعض كلب: أنهم يكسرون أيضا في لياء يقولون هل يعلم وقوله: دحا محا ' يريدون دعها معها، أدغموا العين في الحاء، والإشارة بهذا إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن. وقرأ نافع وعاصم (جبلا) بكسر الجيم والباء وتشدديد اللام. وهي قراءة أبي حيوة، وسهيل، وأبي جعفر، وشيبة، وأبي رجاء، والحسن بخلاف عنه، وقرأ العربيان، والهذيل بن شرحبيل، بضم الجيم وإسكان الباء. وباقي السبعة بضمها وتخفيف اللام. والحسن بن أبي إسحاق، والزهري، وابن هرمز، وعبد الله بن عبيد بن عمير، وحفص بن حميد، بضمتين وتشديد اللام. والأشهب العقيلي، واليماني، وحماد بن مسلمة عن عاصم بكسر الجيم وسكون الباء، والأعمش (جبلا) بكسرتين وتخفيف اللام. وقرئ (جبلا) بكسر الجيم، وفتح الباء وتخفيف اللام. جمع جبلة، نحو: ' فطره وفطر فهذه سبع لغات قرىء بها. وقرأ علي بن أبي طالب وبعض الخراسانيين (جبلا) بكسر الجيم بعدها ياء ى خر الحروف. واحد الأجيال. و (الجبل) بالباء بواحدة من أسفل الأمة العظيمة. وقال الضحاك: ' أقله عشرة آلاف '. خاطب تعالى الكفار بما فعل معهم الشيطان، تقريعا لهم. وقرأ الجمهور (أفلم تكونوا) بتاء الخطاب. وطلحة وعيسى بياء الغيبة عائدا على (جبل) ويروى: ' انهم يجحدون ويخاصمون، فيشهد عليهم جيرانهم وعشائرهم، وأهاليهم فيحلفون ما كانوا مشركين، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم '. وفي الحديث. ' يقول العبد يوم القيامة. إني لا أجيز علي شاهد إلا من نفسي، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقال بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أناضل '. وقرئ (يختم) مبنيا للمفعول (وتتكلم أيديهم) بتاءين وقرئ (ولتكلمنا أيديهم ولتشهد) بلام الأمر والجزم. وعلى أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة. وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ (ولتكلمنا أيديهم ولتشهد) بلام كي، والنصب على معنى: وكذلك يختم على أفواههم. والظاهر: أن الأعين: هي الأعضاء المبصرة. والمعنى: لأعميناهم فلا يرون كيف يمشون؟ قاله الحسن وقتادة ويؤيده مناسبة المسخ فهم في قبضة القدرة وبروج العذاب إن شاءه الله لهم. وقال ابن عباس: ' أراااد عين البصائر، والمعنى: ولو نشاء لختمت عليهم بالكفر فلا يهتدي منهم أحد أبدا. والطمس: إذهاب الشيء وأثره جملة حتى كأنه لم يوجد فإن أريد بالأعين
الحقيقة، فالظاهر: أنه يطمس بمعنى يمسخ حقيقة، ويجوز أن يكون الطمس: يراد به العمى من غير إذهاب العضو وأثره، وقرأ الجمهور (فاستبقوا) فعلا ماضيا، معطوفا على (لطمسنا) وهو على الفرض. و (الصراط) منصوب على
328

تقدير إلى حذفت، ووصل الفعل. والأصل: (فاستبقوا إلى صراط) أو مفعولا به على تضمين (استبقوا) معنى: ' تبادروا '. وجعله مسبوقا لا مسبوقا إليه الفعل إلا بوساطة في ' إلا في شذوذ، كما أنشد سيبوبة:
* لدن بهز الكف يعسل متنه
* فيه كما عسل الطريق الثعلب
* ومذهب بن الطراوة: ' أن الصراط والطريق، والمخرم وما أشبهها من الظروف المكانية ليست مختصة '. فعلى مذهبه يسوغ ما قاله الزمخشري. وقرأ عيسى (فاستبقوا) على الأمر، وهو على إضمار القول. أي: فيقال لهم: استبقوا الصراط وهذا على سبيل التعجيز، إذا لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين (فإني يبصرون) أي: كيف يبصر من طمس على عينه، والظاهر: أن المسخ حقيقة، وهو تبديل صورهم شنيعة. قال ابن عباس: ' لمسخناهم قردة وخنازير كما تقدم في بني إسرائيل '. وقيل: حجارة. وقال الحسن وقتادة وجماعة: ' لأقعدناهم وأزمناهم فلا يستطعيون تصرفا '، والظاهر: أن هذا لو كان يكون في الدنيا. وقال ابن سلام: ' هذا التوعد كله يوم القيامة '، وقرأ الحسن (على مكانتهم) بالإفراد وهي المكان كالمقامة والمقام. وقرأ الجمهور، وأبو بكر، بالجمع. والجمهور (مضيا) بضم الميم. وأبو حيوة وأحمد بن جبير الأنطاكي، عن الكسائي بكسرها اتباعا لحركة الضااد كالعتبي والقتبي وزنه. فعول التقت واو ساكنة وياء فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لتصح الياء. وقرئ (مضيا) بفتح الميم، فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل كالرسيم والوجيف. ولما ذكر تعالى الطمس والمسخ على تقدير المشبه، ذكر تعالى دليلا على باهر قدرته في تنكيس المعمر وأن ذلك لا يفعله إلا هو تعالى وتنكيسه قلبه وجعله على عكس ما خلقه أولا، وهو أنه خلقه على ضعف في جسد، وخلو من عقل وعلم، ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال أن يبلغ أشده، وتستكمل قوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه. فإذا انتهى نكسه في الخلق، فيتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبا في ضعف جسده، وقلة عقله، وخلو من الفهم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله. وفي هذا كله دليل على أن من فعل هذه الأفاعيل قادر على أن يطمس، وأن يفعل بهم ما أراد. وقرأ الجمهور (ننكسه) مشددا. وعاصم وحمزة مخففا. وقرأ نافع وابن ذكوان، وأبو عمرو في رواية عباس (تعقلون) بتاء الخطاب. وباقي السبعة بياء الغيبة. (وما علمناه الشعر) الضمير في (علمناه) للرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون فيه شاعر. وروي أن القائل عقبة بن أبي معيط فنفى الله ضلك عنه، وقولهم فيه شاعر. أما من كان في طبعه الشعر، فقوله مكابرة وإيهام للجاهل بالشعر وأما من ليس في طبعه، فقوله جهل محض، وأين هو من الشعر؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفي يدل على معنى تنتخبه الشعراء من كثرة التخييل، وتزويق الكلام، وغير ذلك مما يتورع المتدين عن إنشاده فضلا عن إنشائه، وكان عليه السلام لا يقول الشعر وإذا أنشد بيتا أحرز المعنى دون وزنه كما أنشد:
* ستبدي بلك الأيام ما كنت جاهلا
* ويأتيك من لم تزود بالأخبار
* وقيل من أشعر الناس فقال الذي يقول:
329

* ألم ترياني كلما جئت طارقا
* وجدت بها وإن تطيب طيبا
*
* أتجعل نهبي ونهب العبد
* بين الأقرع وعيينة
* وأنشد يوما: كفي بالإسلام والشيب ناهيا
فقال أبو بكر وعمرو: نشهد أنك رسول الله إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام. وربما أنشد البيت متزنا في النادر. وروى عنه، أنشد بيت ابن رواحة:
* ببيت يجافي جنبه عن فراشه
* إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
* ولا يدل غجراء البيت على لسانه متزنا أنه يعلم الشعر، وقد وقع في كلامه - عيه السلام - ما يدخله الوزن كقوله:
* أنا النبي لا كذب
* انا ابن عبد المطلب
* وكذلك قوله:
* هل أنت إلا أصبع دميت
* وفي سبيل الله ما لقيت
*
وهو كلام من جنس كلامه الذي يتكلم به على طبيعته من غير صنعة فيه، ولا قصد لوزن، ولا تكلف. كما يوجد في القرآن شيء موزون، ولا يعد شعرا. كقوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا ما تحبون) * [آل عمران: 92] وقوله: * (فمن شاء ليؤمن وشاء فليكفر) * [الكهف: 29] وفي كثير من النثر الذي تنشئه الفصحاء. ولا يسمى ذلك شعرا، ولا يخطر ببال المنشي ولا السامع أنه شعر. (وما ينبغي له) أي: ولا يمكن له، ولا يصح، ولا يناسب، لأنه - عليه السلام - في طريق جد محض، والشعر أكثره في طريق هزل، وتحسين لما ليس حسنا، وتقبيح لما ليس قبيحا، ومغالاة مفرطة، جعله تعالى لا يقرض الشعر، كما جعله أميالا يخط، لتكون الحجة أثبت، والشبهة أدحض. وقيل: في هذه الآية دلالة على غضاضة الشعر وقد قال عليه السلام: ' ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي '. وذهب قوم إلى أنه غضاضة فيه، وغنما منعه الله نبه - عليه الصلاة والسلام - وإن كان حلية جليلة ليجيء القرآن منقبله أغرب فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرى ن هذا من تلك، القوة قال: ابن عطية: ' وليس الأمر عندي كذلك وقد كان - عليه السلام - من الفصاحة والبيان. في النثر في الرتبة العليا، ولكن كلام الله يبين بإعجازه، ويندر بوصفه، ويخرجه إحاطة علم الله عن كل كلام، وإنما منع الله نبيه من الشعر، ترفيعا له عن ما في قول الشعراء من التبخييل والتزويق للقول. وأما القرآن فهو ذكر بحقائق وبراهين، فما هو بقول شاعر. وهذا كان أسلوب كلامه - عليه السلام - قولا واحدا. انتهى. والضمير (له) للرسول. أي: وما ينبغي الشعر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبعد من ذهب إلى أنه عائد على القرآن. أي: وما ينبغي الشعر للقرآن ولم يجر له ذكر، لكن له انيقول يدل الكلام عليه، ويبينه عود الضمير عليه في قوله (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) أ]: كتاب سماوي يقرأ في المحاريب، وينال
330

بتلاوته، والعمل به، ما فيه فوز الدارين. فكم بينه وبين الشعر الذي أكثره من همزات الشياطين. وقرأ نافع وابن عامر (لتنذر) بتاء الخطاب للرسول. وباقي السبعة بالياء للغيبة، فاحتمل أن يعود على الرسول، واحتمل ا، يعود على القرآن. وقرأ اليماني (لينذر) بالياء مبنيا للمفعول، ونقلها ابن خالوية عن الجحدري، وقال عن أبي السمال واليماني: ' إنهما قرأ (لينذر) بفتح الياء والذال مضارع نذر بكسر الذال إذا علم بالشيء فاستعد له. (من كان حيا) أي: غافلا، قاله الضحاكى لأن الغافل كالميت ويريد به من حتم عليه بالإيمان، وكذلك قابله بقوله (ويحق القول) أي: كلمة العذاب على الكافرين المحتوم لهم بالموافاة على الكفر. * (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيديهم أنعاما فهم لها مالكون، وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون، واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون، لا يستطعون نصرهم وهم لهم جند محضرون، فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون، أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون، أوليس الذي خلق السماوات وألرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون) *.
الإخبار وتنبيه الاستفهام لقريش وإعراضها عن عبادة الله، وعكوفها على عبادة الأصنام. ولما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها إلا باليد عبر لهم بما يقرب من أفهامهم بقوله (مما عملت أيدينا) أي: مما تولينا عمله، ولا يمكن لغيرنا أن يعلمه، فبقدرتنا وإرادتنا برزت هذه الأشياء، لم يشركنا فيها أحد. والباري تعالى منزه عن اليد التي هي الجارحة وعن كل ما اقتضي التشبيه بالمحدثات. وذكر الأنعام لها، لأنها كانت جل أموالهم، ونبه على ما يجعل لهم من منافعها (لها مالكون) أي: ملكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك، مختصون بالانتفاع بها، أو (مالكون) ضابطون لها، قاهرونها. من قوله:
* أصبحت لا أحمل السلاح ولا
* أملك رأس البعير إن نفرا
*
أي: لا أضبطه، وهو من جملة النعم الظاهرة فلولا تذليله تعالى إياها وتسخيره لم يقدر عليها، ألا ترى إلى ما ند منها ألا يكاد يقدر على رده، لذلك أمر بتسبيح الله راكبها، وشكره على هذه النعمة، بقوله: * (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) * [الزخرف: 13] وقرأ الجمهور (ركوبهم) وهو فعول بمعنى مفعول كالحضور والحلوب والقذوع وهو مما لا ينقاس. وقرأ أبي وعائشة (ركوبتهم) بالتاء وهي فعولة بمعنى مفعولة. وقال الزمخشري: ' وقيل: الركوبة جمع '. انتهى. ويعني اسم جمع، لأن فعولة، فينبغي أن يعتقد فيها أنها اسم مفرد لا جنع تكسير، ولا أسم جمع. أي: مركوبتهم، كالحلوبة بمعنى المحلوبة. وقرأ الحسن، وأبو البر هيثم، والأعمش (ركوبهم) بضم الراء وبغير تاء، وهو مصدر حذف مضافه. أي: ذو ركوبهم أو فحسن منافعها ركوبهم، فيحذف ذو، أو يحذف منافع. قال ابن خالوية: ' العرب تقول: ناقة ركوب حلوب. وركوبة حلوبة، وركباة حلباة، وركبوب حلبوب وركبى حلبى وركبوتا حلبوتا، كل ذلك محكي. وأنشد:
331

* ركبانة حلبانة زفوف
* تخلط بين وبر وصوف
*
وأجمل المنافع هنا، وفصلها في قوله (وجعل لكم من جلود الأنعام) الآية والمشارب: جمع مشرب، وهو أما مصدر. أي: شرب أو موضع الشرب. ثم عنفهم واستجهلهم في اتخاذهم آلهة لطلب الاستنصار (لا يستطيعون) أي: الآلهة نصر متخذيهم. وهذا هو الظاهر لما اتخذوا آلهة للاستنصار بهم رد تعالى عليهم بأنهم ليس
لهم قدرة على نصرهم. وقال ابن عطية: ' ويحتمل أن يكون الضمير في (يستطيعون) عائدا للكفار، وفي (نصرهم) للأصنام '. انتهى. والظاهر: أن الضمير في (هم) عائد على ما هو الظاهر في (لا يستطيعون) أي: والآلهة للكفار (جند محضرون) في الآخرة عند الحساب على جهة التوبيخ والنقمة. وسماهم جندا، إذا هم معدون للنقمة من عابديهم، وللتوبيخ. أو محضرون لعذابهم، لأنهم يجعلون وقودا للنار. قيل: ويجوز أن يكون الضمير في (وهم) عائدا على الكفار، وفي (لهم) عائدا على الأصنام. أي: وهم الأصنام (جند محضرون) متعصبون لهم، متحيرون، يذبون عنهم، يعني في الدنيا. ومع ذلك لا يستطيعون أي: الكفار التناصر. وههذا القول مركب على أن الضمير في (لا يستطيعون) للكفار. ثم آنس تعالى نبيه بقوله (فلا يحزنك قولهم) أي: لا يهمك تكذيبهم، وأذاهم، وجفاؤهم. وتوعد الكفار بقوله (إنا نعلم ما يسرون وما يعنلون) فنجازيهم على ذلك. (أو لم ير الإنسان) قبح تعالى إنكار الكفرة البعث حيث قرر أن عنصره الذي خلق منه هو مطفة ماء مهين، خارج من مخرج النجاسة، أفضى به مهانة أصله إلى أن يخاصم الباري تعالى، ويقول: من يحيى الميت بعد ما رم مع علمه أنه منشأ من موات. وقائل ذلك العاصي بن وائل، أو أمية بن خلف، أو أبي بن خلف. أقوال. أصحها أنه أبي بن خلف. رواه ابن وهب عن مالك، وقال ابن إسحاق وغيره. والقول: أنه أمية قاله مجاهد، وقتادة، ويحتمل أن كلا منهم واقع ذلك منه. وقد كان لأبي مع الرسول مراجعات ومقامات. ' جاء بالعظم الرميم بمكة ففتته في وجهه كريم وقال من يحيى هذا يا محمد؟ فقال: الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم ' ثم نزلت الآية. وأبي هذا قتله رسول اله - صلى الله عليه وسلم - بيده يوم أحد بالرحبة، فخرجت من عنقه. ووهم من نسب غلى ابن عباس ان الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي ابن سلول، لأن السورة مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة. وبين قوله (فإذا هو خصيم مبين) وبين (خلقناه من نطفة) جمل محذوفة تبين أكثرها في قوله في سورة المؤمنين * (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) * [المؤمنون: 13] وغنما أعتقب قوله (فإذا هو خصيم مبين) الوصف الذي ى ل إليه من التمييز، والإدراك الذي يتأتى معه الخصام. أي: فإذا هو بععدما كان نطفة، رجل مميز منطيق، قادر على الخصام، مبين معرب عما في نفسه. (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه) أي: نشأته من النطفة فذهل عنها، (خلقه) أي نشأته, وسمي قوله (من يحيي العظام وهي رميم) لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة الله على إحياء الموتى كما هم عاجزون عن ذلك. وقال الزمخشري: ' والرميم: اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفاة، فلا يقال لم لم يؤنث وقد وقع خبرا لمؤنث، ولا هو فعيل أو مفعول؟ انتهى. واستدل بقوله (قل يحييها) على أن الحياة تحلها. وهذا الاستدلال ظاهر ومن قال إن الحياة لا تحلها، قال المراد بغحياء العظام ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حسن حساس. (وهو بكل خلق عليم) يعلم كيفيات ما يخلق لا يتعاظمه شيء من المنشآت والمعادات جنسا، ونوعا، دقة وجلالة. (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) ذكر ما هو أغرب من خلق الإنسان من النطفة وهو إبراز الشيء من ضده وذلك
332

أبدع شيء وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر ألا ترى أن الماء يطفئ النار ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء. والأعراب توري النار من الشجر الأخضر وأكثرها من المرخ، والعفار. وفي أمثالهم: ' في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعفار '. يقطع الرجل منهما غصنين - مثل السواكين - وهما أخضران، يقطر منهما الماء، فيستحق المرخ وهو ذكر والعفار وهي أنثي، ينقدح النار بإذن الله عز وجل. وعن ابن عباس: ' ليس شجر إلا وفيه نار إلا العفار '. وقرأ الجمهور (الأخضر) وقرئ (الخضراء) وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحده بالتاء. وأهل نجد يذكرون ألفاظا، واستثنيت في كتب النحو. ثم ذكر ما هو أبدع وأغرب من خلق الإنسان من نطفة، ومن غعادة الموتى وهو إنشاء هذه المخلوقات العظيمة الغريبة من صرف عدم العدم إلى الوجود فقال (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) وقرأ الجمهور (بقادر) بباء الجر داخله على اسم الفاعل. وقرأ الجحدري، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وسلام، ويعقوب، (بقدر) فعلا مضارعا. أي: من قدر على خلق السماوات والأرض من عظم شأنهما كان على خلق الأناس قادرا والضمير في (مثلهم) عائد على الناس. قاله الرماني، وقال جماعة من المفسرين: ' عائد على السماوات والأرض ' وعاد الضمير عليهما كضمير من يعقل من حيث كانت متضمنه من يعقل من الملائكة والثقلين. وقال الزمخشري: ' مثلهم ' يحتمل معنيين، أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السماوات والأرض. أو أن يعيدهم لأن المصادر مثل للمبتدأ وليس به '. انتهى. ويقول: إن المعاد هو عين المبتدأ ولو كان مثله لم يسم ذلك إعادة، بل يكون إنشاء مستأنفا. وقرأ الجمهور (الخلاق) بصيغة المبالغة لكثرة مخلوقاته. وقرأ الحسن، والجحدري، ومالك بن دينار، وزيد بن علي (الخالق) اسم فاعل (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) تقدم شرح مثل هذه الجملة. والخلاف في (فيكون) من حيث القراءة نصبا ورفعا. (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء) تنزيه عام له تعالى من جميع النقائص. وقرأ الجمهور (ملكوت) وطلحة والأعمش (ملكه) على وزن شجرة. ومعناه: ضبط كل شيء والقدرة عليه. وقرئ (مملكة) على وزن مفعلة. وقرئ (ملك) والمعنى: أنه متصرف فيه على ما أراد وقضى. والجمهور (ترجعون) مبنيا للمفعول وزيد بن علي مبنيا للمفعول للفاعل.
333

((سورة الصافات))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلاهكم لواحد * رب السماوات والا رض وما بينهما ورب المشارق * إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملإ الا على ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب * فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ إنا خلقناهم من طين لازب * بل عجبت ويسخرون * وإذا ذكروا لا يذكرون * وإذا رأوا ءاية يستسخرون * وقالوا إن هاذآ إلا سحر
مبين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * أو ءابآؤنا الا ولون * قل نعم وأنتم داخرون * فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم ينظرون * وقالوا ياويلنا هاذا يوم الدين * هاذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون * احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم * وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون * وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون * قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين * قالوا بل لم تكونوا مؤمنين * وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين * فحق علينا قول ربنآ إنا لذآئقون * فأغويناكم إنا كنا غاوين * فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون * إنا كذلك نفعل بالمجرمين * إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إلاه إلا الله يستكبرون * ويقولون أءنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون * بل جآء بالحق وصدق المرسلين * إنكم لذآئقو العذاب الا ليم * وما تجزون إلا ما كنتم تعملون * إلا عباد الله المخلصين * أولائك لهم رزق معلوم * فواكه وهم مكرمون * فى جنات النعيم * على سرر متقابلين * يطاف عليهم بكأس من معين * بيضآء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون * وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنهن بيض مكنون * فأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون * قال قآئل منهم إنى كان لى قرين * يقول أءنك لمن المصدقين * أءذا متنا وكنا
334

ترابا وعظاما أءنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرءاه فى سوآء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الا ولى وما نحن بمعذبين * إن هاذا لهو الفوز العظيم * لمثل هاذا فليعمل العاملون * أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج فىأصل الجحيم * طلعها كأنه رءوس الشياطين * فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم * إنهم ألفوا ءابآءهم ضآلين * فهم علىءاثارهم يهرعون * ولقد ضل قبلهم أكثر الا ولين * ولقد أرسلنا فيهم منذرين * فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * إلا عباد الله المخلصين * ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين * وتركنا عليه فى الا خرين * سلام على نوح فى العالمين * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * ثم أغرقنا الا خرين * وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جآء ربه بقلب سليم * إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون * أءفكا ءالهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين * فنظر نظرة فى النجوم * فقال إنى سقيم * فتولوا عنه مدبرين * فراغ إلىءالهتهم فقال ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا باليمين * فأقبلوا إليه يزفون * قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون * قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم * فأرادوا به كيدا فجعلناهم الا سفلين) *))
) *
الزجر: الدفع عن الشيء بتسليط وصياح. والزجرة: الصيحة، من قولك: زجر الراعي الإبل والغنم، إذا صاح عليهما فرجعت لصوته، قال الشاعر:
* زجر أبي عروة السباع إذا
*
أشفق أن يختلطن بالغنم
*
يريد تصويته بها. الثاقب: الشديد النفاذ. اللازب: اللازم ما جاوره واللاصق به. اللذيذ: المستطاب، يقال لذا لشيء يلذ، فهو لذيذ ولذ على وزن فعل، كطلب. قال الشاعر:
* تلذ بطعمه وتخال فيه
*
إذا نبهتها بعد المنام
*
335

وقال:
* ولذ كطعم الصرخدي تركته
*
بأرض العدا من خشية الحدثان
*
يريد النوم.
وقال:
* بحديثك اللذي الذي لو كلمت
*
أسد الفلاة به أتين سراعا
*
الغول: اسم عام في الأذى، تقول: غاله كذا وكذا، إذا ضره في خفاء، ومنه: الغيلة في العقل، والغيلة في الرضاع، وغاله الشيء: أهلكه وأفسده، ومنه: الغول التي في أكاذيب العرب وفي أمثالهم: الغضب غول الحلم. وقال الشاعر:
* مضى أولونا ناعمين بعيشهم
*
جميعا وغالتني بمكة غول
*
أي: عاقتني عوائق، وقال:
* وما زالت الخمر تغتالنا
*
وتذهب بالأول فالأول
*
نزفت الشارب الخمر وأنزف هو: ذهب عقله من السكر، فهو نزيف ومنزف، الثلاثي متعد والرباعي لازم، نحو: كبيت الرجل وأكب، وقشعت الريح السحاب، وقشع هواي: أي دخلا في الكب والقشع. قال الشاعر، وهو الأسود:
* لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم
*
لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
*
ونزف الشارب، بضم الزاي، ويقال: نزف المطعون: ذهب دمه كله، مبنيا للمفعول، ونزحت الركية حتى نزفتها: لم يبق فيها ماء، ويقال: أنزف الرجل بعد شرابه، فانزف مشترك بين سكر ونفد. البيض: معروف، وهو اسم جنس، الواحد بيضة، وسمي بذلك لبياضه، ويجمع على بيوض. قال الشاعر:
* بتيهاء قفر والمطي كأنها
*
قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
الزقوم: شجرة مسمومة لها لبن، إن مس جسم إنسان تورم ومات منه في أغلب الأمر، تنبت في البلاد المجدبة المجاورة للصحراء. والتزقم: البلع على شدة وجهد. شاب الشيء بالشيء يشوبه شوبا: خلطه ومزجه. راغ يروغ: مال في خفية من روغة الثعلب. زف: أسرع، وأزف: دخل في الزفيف، فهمزته به ليست للتعدية، وأزفه: حمله على الزفيف. قال
336

الأصمعي: فالهمزة فيه للتعدية. وقال الشاعر، وهو الفرزدق:
*
فجاء فزيع الشول قبل افالها
يزف وجاءت خلفه وهي زفف
*
* (والصافات صفا * فالزجرات زجرا * فالتاليات * ذكرا * إن إلاهكم لواحد * رب السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق * إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملإ الاعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) *.
هذه السورة مكية، ومناسبة أولها لآخر يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى، وأنه هو منشئهم، وإذا تعلقت إرادته بشيء، كان ذكر تعالى وحدانيته، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجودا وعدما إلا بكون المريد واحدا، وتقدم الكلام على ذلك في قوله: * (لو كان فيهما الهة إلا الله) *.
وأقسم تعالى بأشياء من مخلوقاته فقال: * (ترجعون والصافات) *. قال ابن مسعود، وقتادة، ومسروق: هم الملائكة، تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفا؛ وقيل: تصف أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله. وقيل: من يصف من بني آدم في قتال في سبيل الله، أو في صلاة وطاعة. وقيل: والطير صافات. والزاجرات، قال مجاهد، والسدي: الملائكة تزجر السحاب وغيرها من مخلوقات الله تعالى. وقال قتادة: آيات القرآن لتضمنه النواهي الشرعية؛ وقيل: كل ما زجر
عن معاصي الله. والتاليات: القارئات. قال مجاهد: الملائكة يتلون ذكره. وقال قتادة: بنو آدم يتلون كلامه المنزل وتسبيحه وتكبيره. وقال مجاهد: الملائكة يتلون ذكره. قال الزمخشري: ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات، فالزاجرات بالموعظة والنصائح، فالتاليات آيات الله، والدارسات شرائعه؛ أو بنفوس قراء القرآن في سبيل الله التي تصف الصفوف، وتزجر الخيل للجهاد، وتتلوا الذكر مع ذلك لا يشغلها عنه تلك الشواغل. انتهى. وقال ما معناه: إن الفاء العاطفة في الصافات، إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله: يا لهف زيابة للحارث الصابح، فالغانم، فالآيب، أي الذي صبح فغنم فآب؛ وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأفضل، واعمل الأحسن فالأجمل؛ وإما على ترتيب موصوفاتها في ذلك، كقولك: رحم الله المحلقبين فالمقصرين. فأما هنا، فإن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتيب الصافات في التفاضل، فإذا كان الموحد الملائكة، فيكون الفضل للصف، ثم الزجر، ثم التلاوة؛ وإما على العكس، وإن تليت الموصوف، فترتب في الفضل، فتكون الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلا، أو على العكس. انتهى. ومعنى العكس في المكانين: أنك ترتقي من أفضل إلى فاضل إلى مفضول؛ أو تبدأ بالأدنى، ثم بالفاضل، ثم بالأفضل. وأدغم ابن مسعود، ومسروق، والأعمش، وأبو عمرو، وحمزة: التاآت الثلاثة. والجملة المقسم عليها تضمنت وحدانيته تعالى، أي هو واحد من جميع الجهات التي ينظر فيها المتفكرون خبر بعد خبر، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار، أو خبر مبتدأ محذوف، وهو أمدح، أي هو رب.
وذكر المشارق لأنها مطالع الأنوار، والإبصار بها أكلف، وذكرها يغني عن ذكر المغارب، إذ ذاك مفهوم من المشارق، والمشارق ثلاثمائة وستون مشرقا، وكذلك المغارب. تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين.
337

وثني في * (رب المشرقين ورب المغربين) *، باعتبار مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وقال ابن عطية: أراد تعالى مشارق الشمس ومغاربها، وهي مائة وثمانون في السنة، فيما يزعمون، من أطول أيام السنة إلى أقصرها.
ثم أخبر تعالى عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، وانتظام التزيين أن جعلها حفظا وحذرا من الشيطان. انتهى. والزينة مصدر كالسنة، واسم لما يزان به الشيء، كالليقة اسم لما يلاق به الدواة. وقرأ الجمهور: * (بزينة الكواكب) * بالإضافة، فاحتمل المصدر مضافا للفاعل، أي بأن زانت السماء الكواكب، ومضافا للمفعول، أي بأن زين الله الكواكب. واحتمل أن يكون ما يزان به، والكواكب بيان للزينة، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به، أو مما زينت الكواكب من إضاءتها وثبوتها. وقرأ ابن مسعود، ومسروق: بخلاف عنه؛ وأبو زرعة، وابن وثاب، وطلحة: بزينة منونا، الكواكب بالخفض بدلا من زينة. وقرأ ابن وثاب، ومسروق: بخلاف عنهما؛ والأعمش، وطلحة، وأبو بكر: بزينة منونا، الكواكب نصبا، فاحتمل أن يكون بزينة مصدرا، والكواكب مفعول به، كقوله: * (أو إطعام فى يوم ذى مسغبة * يتيما) *. واحتمل أن يكون الكواكب بدلا من السماء، أي زينا كواكب السماء. وقرأ زيد بن علي بتنوين زينة، ورفع الكواكب على خبر مبتدأ، أي هو الكواكب، أو على الفاعلية بالمصدر، أي بأن زينت الكواكب. ورفع الفاعل بالمصدر المنون، زعم الفراء أنه ليس بمسموع، وأجاز البصريون ذلك على قلة. وقال ابن عباس: * (بزينة الكواكب) *: بضوء الكواكب؛ قيل: ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة، كشكل الثريا، وبنات نعش، والجوزاء، وغير ذلك، ومطالعها ومسايرها. وخص * (السماء الدنيا) * بالذكر، لأنها التي تشاهد بالأبصار؛ والحفظ من الشياطين، إنما هو فيها وحدها. وانتصب * (وحفظا) * على المصدر، أي وحفظناها حفظا، أو على المفعول من أجله على زيادة الواو، أو على تأخير العامل، أي ولحفظها زيناها بالكواكب، وحملا على معنى ما تقدم، لأن المعنى: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا: وكل هذه الأقوال منقولة، والمارد تقدم شرحه في قوله: * (شيطانا مريدا) * في النساء، وهناك جاء * (مريدا) *، وهنا * (مارد) *، مراعاة للفواصل.
* (لا يسمعون إلى الملإ الاعلى) *: كلام منقطع مبتدأ اقتصاصا لما عليه حال المسترقة للسمع، وأنهم لا يقدرون أن يستمعوا أو يسمعوا، وهم مقذوفون بالشهب مبعدون عن ذلك، إلا من أمهل حتى خطف الخطفة واسترق استراقة، فعندها تعاجله الملائكة باتباع الشهاب الثاقب. ولا يجوز أن يكون لا يسمعون صفة ولا استئنافا جوابا لسائل سأل لم يحفظ من الشياطين، لأن الوصف كونهم لا يسمعون، أو الجواب لا معنى للحفظ من الشياطين على تقديرهما، إذ يصير المعنى مع الوصف: وحفظا من كل شيطان مارد غير سامع أو مسمع، وكذلك لا يستقيم مع كونه جوابا. وقول من قال: إن الأصل لأن لا يسمعوا، فحذفت اللام وإن، فارتفع الفعل، قول متعسف يصان كلام الله عنه. وقرأ الجمهور: لا يسمعون: نفي سماعهم، وإن كانوا يسمعون بقوله: * (إنهم عن السمع لمعزولون) *، وعداه بإلى لتضمنه معنى الإصغاء. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه؛ وابن وثاب، وعبد الله بن مسلم، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص: بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون، أدغمت التاء في السين، وتقتضي نفي التسمع. وظاهر الأحاديث أنهم يتسمعون حتى الآن، لكنهم لا يسمعون؛ وإن سمع أحد منهم شيئا لم يفلت حرسا وشهبا من وقت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وكان الرجم في الجاهلية أحق، فأما كانت ثمرة التسمع هو السمع، وقد انتفى السمع بنفي التسمع في هذه القراءة لانتفاء ثمرته، وهو السمع. و * (الملإ الاعلى) * يعم الملائكة، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض. وقال ابن عباس: هم أشراف الملائكة، وعنه كتابهم.
* (ويقذفون) *: يرمون ويرجمون، * (من كل جانب) *: أي من كل جهة يصعدون إلى السماء منها، والمرجوم بها هي التي يراها الناس تنقض، وليست بالكواكب الجارية في السماء، لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا، قاله مكي والنقاش. وقرأ محبوب عن ابن عمرو ويقذفون مبنيا للفاعل، ودحورا مصدر في موضع الحال. قال مجاهد: مطرودين، أو مفعول من أجله، أي ولو يقذفون للطرد، أو مصدر ليقذفون، لأنه متضمن معنى الطرد، أي ويدحرون من كل جانب دحورا
338

لو ويقذفون من كل جانب قذفا. فإما أن يكون التجوز في ويقذفون، وإما في دحورا. وقرأ علي، والسلمي، وابن أبي عبلة، والطبراني عن رجاله عن أبي جعفر: دحورا، بنصب الدال، أي قذفا دحورا، بنصب الدال. ويجوز أن يكون مصدرا، كالقبول والولوغ، إلا أن هذه ألفاظ ذكر أنها محصورة. والواضب: الدائم، قاله السدي وأبو صالح، وتقدم في سورة النحل. ويقال: وصب الشيء وصوبا: دام. وقال مجاهد: الموجع، ومنه الوصب، كأن المعنى: أنهم في الدنيا مرجومون، وفي الآخرة معذبون. ويجوز أن يكون هذا العذاب الدائم لهم في الدنيا، وهو رجمهم دائما، وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع.
* (إلا من خطف الخطفة) *: من بدل من الضمير في لا يسمعون، ويجوز أن يكون منصوبا على الاستثناء، أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف. وقرأ الجمهور: خطف ثلاثيا بكسر الطاء. وقرأ الحسن، وقتادة: بكسر الخاء والطاء مشددة. قال أبو حاتم: ويقال هي لغة بكر بن وائل وتميم بن مرة. وقرئ: خطف بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة، ونسبها ابن خالويه إلى الحسن وقتادة وعيسى، وعن الحسن أيضا التخفيف. وأصله في هاتين القراءتين اختطف، ففي الأول لما سكنت للإدغام، والخاء ساكنة، كسرت لالتقاء الساكنين، فذهبت ألف الوصل وكسرت الطاء اتباعا لحركة الخاء. وعن ابن عباس: خطف بكسر الخاء والطاء مخففة، اتبع حركة الخاء لحركة الطاء، كما قالوا نعم. وقرئ: فاتبعه، مخففا ومشددا. والثاقب، قال السدي وقتادة: هو النافذ بضوئه وشعاعه المنير.
* (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب * بل عجبت ويسخرون * وإذا ذكروا لا يذكرون * وإذا رأوا ءاية يستسخرون * وقالوا إن هاذا إلا سحر مبين * مبين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * أو ءاباؤنا الاولون * قل نعم وأنتم داخرون * فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم ينظرون * وقالوا ياويلنا هاذا يوم الدين * هاذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون) *.
الاستفتاء نوع من السؤال، والهمزة، وإن خرجت إلى معنى التقرير، فهي في الأصل لمعنى الاستفهام، أي فاستخبرهم، والضمير لمشركي مكة. وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة، وكني بذلك لشدة بطشه وقوته. وعادل في هذا الاستفهام التقريري في الأشدية بينهم وبين من خلق من غيرهم من الأمم والجن والملائكة والأفلاك والأرضين. وفي مصحف عبد الله: أم من عددنا، وهو تفسير لمن خلقنا، أي من عددنا من الصافات وما بعدها من المخلوقين. وغلب العاقل على غيره في قوله: * (من خلقنا) *، واقتصر على الفاعل في * (خلقنا) *، ولم يذكر متعلق الخلق اكتفاء ببيان ما تقدمه، وكأنه قال: أم من خلقنا من غرائب المصنوعات وعجائبها. وقرأ الأعمش: أمن بتخفيف الميم دون أم، جعله استفهاما ثانيا تقريرا أيضا، فهما جملتان مستقلتان في التقرير، ومن مبتدأ، والخبر محذوف تقديره أشد. فعلى أم من هو تقرير واحد ونظيره: * (أشد خلقا أم السماء بناها) *. قال الزمخشري: وأشد خلقا يحتمل أقوى خلقا، من قولهم: شديد الخلق، وفي خلقه شدة، وأصعب خلقا. وأشد خلقا وأشقه يحتمل أقوى خلقا من قولهم: شديد الخلق، وفي خلقه شدة، على معنى الرد، لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى. وإن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة، ولم يصعب عليه اختراعها، كان خلق الشر عليه أهون. وخلقهم من طين لازب، إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة، لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة؛ أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب. فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله؟ قالوا: * (أءذا كنا ترابا) *، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. انتهى. والذي يظهر الاحتمال الأول. وقيل: * (أم من خلقنا) * من الأمم الماضية، كقوله: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا) *، وقوله: * (وكانوا أشد * منكم قوة) *، وأضاف: الخلق من الطين إليهم، والمخلوق منه هو
339

أبوهم آدم، إذ كانوا نسله. وقال الطبري: خلق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء، وهذا كله إذا خلط صار طينا لازبا يلزم ما جاوره. وعن ابن عباس: اللازب بالجر، أي الكريم الجيد.
وقرأ الجمهور: * (بل عجبت) *، بتاء الخطاب، أي من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة، وهم يسخرون منك ومن تعجبك، ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو عجبت من إنكارهم البعث، وهم يسخرون من أمر البعث. أو عجبت من إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى، وأن يكونوا كافرين مع ما جئتم به من عند الله. وقرأ حمزة، والكسائي، وابن سعدان، وابن مقسم: بياء المتكلم. ورويت عن علي، وعبد الله، وابن عباس، والنخعي، وابن وثاب، وطلحة، وشقيق، والأعمش. وأنكر شريح القاضي هذه القراءة. وقال: الله لا يعجب، فقال إبراهيم: كان شريح معجبا بعلمه، وعبد الله أعلم منه، يعني عبد الله ابن مسعود. والظاهر أن ضمير المتكلم هو لله تعالى، والعجب لا يجوز على الله تعالى، لأنه روعة تعتري المتعجب من الشيء. وقد جاء في الحديث إسناد العجب إلى الله تعالى، وتؤول على أنه صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه. فالمعنى: بل عجبت من ضلالتهم وسوء عملهم، وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن فيها من شرعي وهداي متعجبا. وقال الزمخشري: أي بلغ من عظيم آياتي وكثرة خلائقي أني عجبت منها، فكيف بعبادي وهؤلاء، لجهلهم وعنادهم، يسخرون من آياتي؟ أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون بمن يصف الله بالقدرة عليه، قال: ويجرد العجب لمعنى الاستعظام، أو يخيل العجب ويفرض. وقيل: هو ضمير الرسول، أي قل بل عجبت. قال مكي، وعلي بن سليمان: وهم يسخرون من نبوتك والحق الذي عندك.
* (وإذا ذكروا) * ووعظوا، * (لا يذكرون) *، ولا يتعظون. وذكر جناح بن حبيش: ذكروا، بتخفيف الكاف. روي أن ركانة رجلا من المشركين من أهل مكة، لقيه الرسول في جبل خال يرعى غنما له، وكان من أقوى الناس، فقال له: (يا ركانة، أرأيت إن صرعتك أتؤمن من بي)؟ قال: نعم، فصرعه ثلاثا، ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها، فلم يؤمن، وجاء إلى مكة فقال: يا بني هاشم، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، فنزلت فيه وفي نظرائه: * (وإذا رأوا ءاية يستسخرون) *. قال مجاهد، وقتادة: يسخرون، يكون استفعل بمعنى المجرد. وقيل: فيه معنى الطلب، أي يطلبون أن يكونوا ممن يسخرون. وقال الزمخشري: يبالغون في السخرية، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها. وقرئ: يستسحرون، بالحاء المهملة، وهو عبارة عن ما قال ركانة لأسحر الرسول. والإشارة
بهذا إلى ما ظهر على يديه، عليه السلام، من الخارق المعجز.
وتقدم الخلاف في كسر ميم * (متنا) * وضمها. ومن قرأ: * (* أئذا) * بالاستفهام، فجواب إذا محذوف، أي نبعث، ويدل عليه إنا لمبعوثون، أو يعرى عن الشرط ويكون ظرفا محضا، ويقدر العامل: أنبعث إذا متنا؟ وقرأ الجمهور: * (لمبعوثون أو ءاباؤنا) * بفتح الواو في أو. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وابن عامر، ونافع في رواية قالون: بالسكون، فهي حرف عطف، ومن فتح قالوا وحرف عطف دخلت عليه همزة الاستفهام. قال الزمخشري: * (أو ءاباؤنا) * معطوف على محل إن واسمها، أو على الضمير في مبعوثون. والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام، والمعنى: أيبعث أيضا آباؤنا؟ على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل. انتهى. أما قوله معطوف على محل إن واسمها فمذهب سيبويه خلافه، لأن قولك: إن زيدا قائم وعمرو، فيه مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف. وأما قوله: أو على الضمير في * (مبعوثون) * إلى آخره، فلا يجوز عطفه على الضمير، لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلا على الجمل، لا على المفرد، لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملا في المفرد بوساطة حرف العطف، وهمزة الاستفهام لا يعمل فيما بعدها ما قبلها. فقوله: * (أو ءاباؤنا) * مبتدأ، خبره محذوف تقديرهه مبعوثون، ويدل عليه ما قبله. فإذا
340

قلت: أقام زيد أو عمرو، فعمرو مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا، واستفهامهم تضمن إنكارا واستبعادا، فأمر الله نبيه أن يجيبهم بنعم.
* (وأنتم داخرون) *: أي صاغرون، وهي جملة حالية، العامل فيها محذوف تقديره نعم تبعثون، وزادهم في الجواب أن بعثهم وهم ملتبسون بالصغار والذل. وقرأ ابن وثاب: نعم بكسر العين، وتقدم الخلاف فيها في سورة الأعراف، وهي كناية عن البعثة، فإنما بعثتهم * (زجرة) *: أي صيحة، وهي النفخة الثانية. لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا. وقال الزمخشري: هي مبهمة يوضحها خبرها. انتهى. وكثيرا ما يقول هو وابن مالك أن الضمير يفسره الخبر، وجعل من ذلك ابن مالك * (إن هى إلا حياتنا الدنيا) *، وتكلمنا معه في ذلك في شرح التسهيل. وقال الزمخشري: فإنما جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا كان ذلك، فما هي إلا زجرة واحدة. انتهى. وكثيرا ما تضمن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ، تقديره: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي، وما ذكر معهما على قول بعضهم، أما ابتداء فلا يجوز حذفه.
و * (ينظرون) *: من النظر، أي فإذا هم بصراء ينظرون، أو من الانتظار، أي فإذا هم ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به. والظاهر أن قوله: * (* يا ويلنا) * من كلام بعض الكفار لبعض، إلى آخر الجملتين، أقروا بأنه يوم الجزاء، وأنه يوم الفصل، وخاطب بعضهم بعضا. ووقف أبو حاتم على قوله: * (* يا ويلنا) *، وجعل * (وقالوا ياويلنا هاذا يوم الدين) * إلى آخره من قول الله لهم أو الملائكة. وقيل: * (هاذا يوم الدين) * من كلام الكفرة، و * (هاذا يوم الفصل) * ليس من كلامهم، وإنما المعنى يقال لهم هذا يوم الفصل. ويوم الدين: يوم الجزاء والمعاوضة، ويوم الفصل: يوم الفرق بين فرق الهدى وفرق الضلال. وفي * (الذي كنتم به تكذبون) * توبيخ لهم وتقريع.
* (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم * وقفوهم إنهم مسئولون * مالكم * لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون * وأقبل بعضهم على بعض * يتساءلون * قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين * قالوا بل لم تكونوا مؤمنين * وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين * فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون * فأغويناكم إنا كنا غاوين * فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون * إنا كذلك نفعل بالمجرمين * إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إلاه إلا الله يستكبرون * ويقولون أءنا لتاركو ءالهتنا لشاعر مجنون * بل جاء بالحق وصدق المرسلين * إنكم لذائقو العذاب الاليم * وما تجزون إلا ما كنتم تعملون) *.
* (احشروا) *: خطاب من الله للملائكة، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، قاله ابن عباس، ورجحه الرماني. وأنواعهم وضرباؤهم، قاله عمرو ابن عباس أيضا، أو أشباههم من العصاة، وأهل الزنا مع أهل الزنا، وأهل السرقة، أو قرناؤهم الشياطين. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي: * (وأزواجهم) *، مرفوعا عطفا على ضمير ظلموا، أي وظلم أزواجهم. * (فاهدوهم) *: أي عرفوهم وقودوهم إلى طريق النار حتى يصطلوها، والجحيم طبقة من طبقات جهنم. * (وقفوهم) *، كما قال: * (ولو ترى إذ وقفوا على النار) *، وهو توبيخ لهم، * (أنهم) *. وقرأ عيسى: أنهم، بفتح الهمزة. قال عبد الله: يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم، وعنه أيضا: يسألون عن لا إله إلا الله. وقال الجمهور: وعن أعمالهم، ويوقفون على قبحها. وفي الحديث: (لا تزول قد ما عبد حتى يسأل عن خمس شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه، وعن ما عمل فيما علم). وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله: * (مسئولون ما لكم لا تناصرون) *، أي إنهم مسؤولون عن امتناعهم عن التناصر، وهذا على سبيل التوبيخ في الامتناع. وقال الزمخشري: هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعدما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين. وقال الثعلبي: * (ما لكم لا تناصرون) *، جواب أبي جهل حين قال
341

في بدر: * (نحن جميع منتصر) *. وقرئ: لا تناصرون، بتاء واحدة وبتاءين، وبإدغام إحداهما في الأخرى.
* (بل هم اليوم مستسلمون) *: أي قد أسلم بعضهم بعضا، وخذله عن عجز، وكل واحد منهم مستسلم غير منتصر. * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) *، قال قتادة: هم جن وإنس، وتساؤلهم على معنى التقريع والندم والسخط. قالوا: أي قالت الإنس للجن. قال مجاهد، وابن زيد: أو ضعفة الإنس الكفرة لكبرائهم وقادتهم. و * (اليمين) *: الجارحة، وليست مرادة هنا. فقيل: استعيرت لجهة الخير، أو للقوة والشدة، أو لجهة الشهوات، أو لجهة التمويه والإغواء وإظهار أنها رشد، أو الحلف. ولكل من هذه الاستعارات وجه.
فأما استعارتها لجهة الخير، فلان الجارحة أشرف العضوين وأيمنها، وكانوا يتمنون بها حتى في السانح، ويصافحون ويماسخون ويناولون ويزاولون بها أكثر الأمور، ويباشرون بها أفاضل الأشياء، وجعلت لكاتب الحسنات، ولأخذ المؤمن كتابه بها، والشمال بخلاف ذلك. وأما استعارتها للقوة والشدة، فإنها يقع بها البطش، فالمعنى: أنكم تعروننا بقوتكم وتحملوننا على طريق الضلال. وأما استعارتها لجهة الشهوات، فلأن جهة اليمين هي الجهة الثقيلة من الإنسان وفيها كبده، وجهة شماله فيها قلبه ومكره، وهي أخف، والمنهزم يرجع على شقه الأيسر، إذ هو أخف شقيه. وأما استعارتها لجهة التمويه والإغواء، فكأنهم شبهوا أقوال المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة، كأن التمويه في إغوائهم أظهر ما يحمدونه. وأما الحلف، فإنهم يحلفون لهم ويأتونهم إتيان المقسمين على حسن ما يتبعونهم فيه.
* (قالوا) *، أي المخاطبون، إما الجن وإما قادة الكفر: * (بل لم تكونوا مؤمنين) *: أي لم نقركم على الكفر، بل أنتم من ذواتكم أبيتم الإيمان. وقال الزمخشري: وأعرضتم مع تمكنكم واختباركم، بل كنتم قوما على الكفر غير ملجئين، وما كان لنا عليكم من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختباركم، بل كنتم قوما مختارين الطغيان. انتهى. ولفظة التمكن والاختيار ألفاظ المعتزلة جريا على مذهبهم. * (فحق علينا قول ربنا) *: أي لزمنا قول ربنا، أي وعيده لنا بالعذاب. والظاهر أن قوله: * (إنا لذائقون) *، إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم، الرؤساء، والأتباع. وقال الزمخشري: فلزمنا قول ربنا: * (إنا لذائقون) *، يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة. ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم، ونحوه قول القائل:
لقد زعمت هوازن قل مالي
ولو حكى قولها لقال: قل مالك، ومنه قول المحلف للحالف: لأخرجن، ولنخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف، والتاء لإقبال المحلف على الحلف. انتهى. * (فأغويناكم) *: دعوناكم إلى الغي، فكانت فيكم قابلية له فغويتم. * (إنا كنا غاوين) *: فأردنا أن تشاركونا في الغي. * (فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون) *: أي يوم إذ تساؤلوا وتراجعوا في القول، وهذا إخبار منه تعالى، كما اشتركوا في الغي، اشتركوا فيما ترتب عليه من العذاب. * (إنا كذلك) *: أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بكل مجرم، فيترتب على إجرامه عذابه. ثم أخبر عنهم بأكبر إجرامهم، وهو الشرك بالله، واستكبارهم عن توحيده، وإفراده بالآلهية. ثم ذكر عنهم ما قدحوا به في الرسول، وهو نسبته إلى الشعر والجنون، وأنهم ليسوا بتاركي آلهتهم له ولما جاء به، فجمعوا بين
342

إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. وقولهم: * (لشاعر مجنون) *: تخليط في كلامهم، وارتباك في غيهم. فإن الشاعر هو عنده من الفهم والحذق وجودة الإدراك ما ينظم به المعاني الغريبة ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنونا لا يصل إلى شيء من ذلك.
ثم أضرب تعالى عن كلامهم، وأخبر بأن جاء الحق، وهو إثبات الذي لا يلحقه اضمحلال، فليس ما جاء به شعرا، بل هو الحق الذي لا شك فيه. ثم أخبر أنه صدق من تقدمه من المرسلين، إذ هو وهم على طريقة واحدة في دعوى الأمم إلى التوحيد وترك عبادة غيره. وقرأ عبد الله: وصدق بتخفيف الدال، المرسلون بالواو رفعا، أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم. وقرأ الجمهور: * (لذائقون * العذاب) *، بحذف النون للإضافة؛ وأبو السمال، وأبان، عن ثعلبة، عن عاصم: بحذفها لالتقاء لام التعريف ونصب العذاب. كما خذف بعضهم التنوين لذلك في قراءة من قرأ أحد الله، ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ: لذائق منونا، العذاب بالنصب، ويخرج على أن التقدير جمع، وإلأ لم يتطابق المفرد وضمير الجمع في * (إنكم) *، وقول الشاعر:
* فألفيته غير مستعتب
*
ولا ذاكر الله إلا قليلا
*
وقرئ: لذائقون بالنون، العذاب بالنصب، وما ترون إلا جزاء مثل عملكم، إذ هو ثمرة عملكم. * (إلا عباد الله المخلصين، أولئك لهم رزق معلوم، فواكه وهم مكرمون، في جنات النعيم، على سرر متقابلين، يطاف عليهم بكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، وعندهم قاصرات الطرف عين، كأنهم بيض مكنون، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قال قائل منهم إني كان لي قرين، يقول أإنك لمن المصدقين، أإذا متنا وكنا ترابا وعظام أإنا لمدينون، قال هل أنتم مطلعون، فاطلع فرآه في سواء الجحيم، قال تالله إن كدت لتردين، ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين، أفما نحن بميتين، إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين، إن هذا لهو الفوز العظيم، لمثل هذا فليعمل العاملون.
* (إلا عباد الله) *: استثناء منقطع. لما ذكر شيئا من أحوال الكفار وعذابهم ذكر شيئا من أحوال المؤمنين ونعيمهم. و * (المخلصين) *: صفة مدح، لأن كونهم عباد الله، يلزم منه أن يكونوا مخلصين. ووصف * (رزق) * بمعلوم، أي عندهم. فقد قرت عيونهم بما يستدر عليهم من الرزق، وبأن شهواتهم تأتيهم بحسبها. وقال الزمخشري: معلوم بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل: معلوم الوقت كقوله: * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) *. وعن قتادة: الرزق المعلوم: الجنة. وقوله: * (في جنات النعيم) * يأباه. انتهى. * (فواكه) * بدل من * (رزق) *، وهي ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة، يعني أن رزقهم كله فواكه لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالأقوات لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ. وقرأ ابن مقسم: مكرمون، بفتح الكاف مشدد الراء.
ذكر أولا الرزق، وهو ما يتلذذ به الأجسام. وثانيا الإكرام، وهو ما يتلذذ به النفوس، ورزق بإهانة تنكيد. ثم ذكر المحل الذي هم فيه، وهو جنات النعيم. ثم أشرف المحل، وهو السرر. ثم لذة التآنس بأن بعضهم يقابل بعضا، وهو أتم السرور آنسة. ثم المشروب، وأنهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم، بل يطاف عليهم بالكؤوس. ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد. ثم ذكر تمام اللذة الجسمانية، وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق، وهي أبلغ الملاذ، وهي التآنس بالنساء.
وقرأ الجمهور: * (على سرر) *، بضم الراء؛ وأبو السمال: بفتحها، وهي لغة بعض تميم؛ وكلب يفتحون ما كان جمعا على فعل من
343

المضعف إذا كان اسما. واختلف النحويون في الصفة، فمنهم من قاسها على الاسم ففتح، فيقول ذلك بفتح اللام على تلك اللغة الثانية في الاسم. ومنهم من خص ذلك بالاسم، وهو مورد السماع في تلك اللغة. وقيل: التقابل لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وفي الحديث: (أنه في أحيان ترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض ولا محالة أن أكثر أحيانهم فيها قصورهم). و * (يطاف) *: مبني للمفعول وحذف الفاعل، وهو المثبت في آية أخرى في قوله: * (ويطوف عليهم ولدان مخلدون) *، * (ويطوف عليهم غلمان لهم) *، ولعلهم من مات من أولاد المشركين قبل التكليف. ففي صحيح البخاري أنهم خدم أهل الجنة. والكاس: ما كان من الزجاجة فيه خمر أو نحوه من الأنبذة، ولا يسمى كأسا إلا وفيه ذلك. وقد سمى الخمر نفسها كأسا، تسمية للشيء باسم محله، قال الشاعر:
* وكأس شربت على لذة
*
وأخرى تداويت منها بها
*
وقال ابن عباس، والضحاك، والأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر. وقيل: الكأس هيئة مخصوصة في الأواني، وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض، ولا يراعى كونه لخمر أولا. * (من معين) *: أي من شراب معين، أو من ثمد معين، وهو الجاري على وجه الأرض كما يجري الماء. و * (بيضاء) *: صفة للكأس أو للخمر. وقال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. وفي قراءة عبد الله: صفراء، كما قال بعض المولدين:
* صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
*
لو مسها حجر مسته سراء
*
و * (لذة) *: صفة بالمصدر على سبيل المبالغة، أو على حذف، أي ذات لذة، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ. * (لا فيها غول) *، قال ابن عباس، وقتادة: هو صداع في الرأس. وقال ابن عباس أيضا، ومجاهد، وابن زيد: وجع في البطن. انتهى. والاسم يشمل أنواع الفساد الناشئة عن شرب الخمر، فينتفي جميعها من مغص، وصداع، وخمار، وعربدة، ولغو، وتأثيم، ونحو ذلك. ولما كان السكر أعظم مفاسدها، أفرده بالذكر فقال؛ * (ولا هم عنها ينزفون) *. وقرأ الحرميان، والعربيان: بضم الياء وفتح الزاي هنا، وفي الواقعة: وبذهاب العقل، فسره ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وحمزة، والكسائي: بكسرها فيهما؛ وعاصم: بفتحها هنا وكسرها في الواقعة؛ وابن أبي إسحاق: بفتح الياء وكسر الزاي؛ وطلحة: بفتح الياء وضم الزاي. قال ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد: * (قاصرات الطرف) *: قصرن الطرف على أزواجهن، لا يمتد طرفهن إلى أجنبي بقوله تعالى: * (عربا) *، وقال الشاعر:
* من القاصرات الطرف لو (دب محول من الذر فوق الخد منها لأثرا
*
والعين: جمع عيناء، وهي الواسعة العين في جمال. * (كأنهن بيض مكنون) *: شبههن، قال الجمهور: ببيض النعام المكنون في عشه، وهو الأدحية ولونها بياض به صفرة حسنة، وبها تشبه النساء فقال:
مضيئات الخدود ومنه قول امرئ القيس:
* وبيضة خدر لا يرام خباؤها
*
تمتعت من لهو بها غير معجل
344

كبكر مغاناة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل
*
وقال السدي، وابن جبير: شبه ألوانهن بلون قشر البيضة الداخل، وهو غرقىء البيضة، وهو المكنون في كن، ورجحه الطبري وقال: وأما خارج قشر البيضة فليس بمكنون. وعن ابن عباس، البيض المكنون: الجوهر المصون، واللفظ ينبو عن هذا القول. وقالت فرقة: هو تشبيه عام جملة المرأة بجملة البيضة، أراد بذلك تناسب
أجزاء المرأة، وأن كل جزء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائها إلى نوعه؛ فنسبة شعرها إلى عينها مستوية، إذ هما غاية في نوعها، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء، لأنها من حيث حسنها في النظر واحد، كما قال بعض الأدباء يتغزل:
* تناسبت الأغضاء فيه فلا ترى
*
بهن اختلافا بل أتين على قدر
وتساؤلهم في الجنة سؤال راحة وتنعم، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا والإيمان وثمرته. و * (فأقبل) *: معطوف على * (يطاف عليهم) *، والمعنى: يشربون فيتحدثون على الشراب، كعادة الشراب في الدنيا.
*
قال الشاعر:
* وما بقيت من اللذات إلا
*
أحاديث الكرام على المدام
*
وجئ به ماضيا لصدق الإخبار به، فكأنه قد وقع. ثم حكى تعالى عن بعضهم ما حكى، يتذكر بذلك نعمه تعالى عليه، حيث هداه إلى الإيمان واعتقاد وقوع البعث والثواب والعقاب، وهو مثال للتحفظ من قرناء السوء والبعد منهم. قال ابن عباس وغيره: كان هذا القائل وقرينه من البشر. وقالت فرقة: هما اللذان في قوله: * (ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا) *. وقال مجاهد: كان إنسيا وجنيا من الشياطين الكفرة. وقرأ الجمهور: * (من * المصدقين) *، بتخفيف الصاد، من التصديق؛ وفرقة: بشدها، من التصدق. قال قرة بن ثعلبة النهراني: كانا شريكين بثمانية آلاف درهم، يعبد الله أحدهما، ويقصر في التجارة والنظر؛ والآخر كان مقبلا على ماله، فانفصل من شريكه لتقصيره، فكلما اشترى دارا أو جارية أو بستانا ونحوه، عرضه على المؤمن وفخر عليه، فيتصدق المؤمن بنحو من ذلك ليشتري به في الجنة، فكان من أمرهما في الآخرة ما قصد الله. وقال الزمخشري: نزلت في رجل تصدق بماله لوجه الله، فاحتاج، فاستجدى بعض إخوانه، فقال: وأين مالك؟ فقال: تصدقت به ليعوضني الله في الآخرة خيرا منه، فقال: * (أءنك لمن المصدقين) * بيوم الدين، أو من المتصدقين لطلب الثواب؟ والله لا أعطيك شيئا.
* (أءنا لمدينون) *، قال ابن عباس، وقتادة والسدي: لمجازون محاسبون؛ وقيل: لمسوسون مديونون. يقال: دانه: ساسه، ومنه الحديث: (العاقل من دان نفسه). والظاهر أن الضمير في * (قال هل أنتم) * عائد على قائل في قوله: * (قال قائل) *. قيل: وفي الكلام حذف تقديره: فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة: إن قرينك هذا في جهنم يعذب، فقال عند ذلك: * (هل أنتم مطلعون) *. والخطاب في * (هل أنتم مطلعون) * يجوز أن يكون للملائكة، وأن يكون لرفقائه في الجنة الذين كان هو وإياهم يتساؤلون، أو لخدمته، وهذا هو الظاهر. لما كان قرينه ينكر البعث، علم أنه في النار فقال: * (هل أنتم مطلعون) * إلى النار لأريكم ذلك القرين؟ وعلى هذا القول لا يحتاج الكلام إلى حذف، ولا لقول الملائكة: إن قرينك في جهنم يعذب. قيل: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. وقيل: القائل * (هل أنتم مطلعون) * الله تعالى. وقيل: بعض الملائكة يقول لأهل الجنة: بل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار. وقرأ الجمهور: * (مطلعون) *، بتشديد الطاء المفتوحة وفتح النون، واطلع بشد الطاء فعلا ماضيا. وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي: مطلعون، بإسكان الطاء وفتح النون، فأطلع بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلا ماضيا مبنيا
345

للمفعول، وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج. وقرئ: فأطلع، مشددا مضارعا منصوبا على جواب الاستفهام. وقرئ: مطلعون، بالخفيف، فاطلع مخففا فعلا ماضيا، وفاطلع مخففا مضارعا منصوبا. وقرأ أبو البر هيثم، وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عن عمار: مطلعون، بتخفيف الطاء وكسر النون، فاطلع ماضيا مبنيا للمفعول؛ ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره. لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم. والوجه مطلعي، كما قال، أو مخرجي هم، ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع، وأنشد الطبري على هذا قول الشاعر:
* وما أدري وظني كل ظن
*
أمسلمني إلى قومي شراحي
*
قال الفراء: يريد شراحيل. وقال الزمخشري: يريد مطلعون إياي، فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله:
هم الفاعلون الخير والآمرونه
أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما، كأنه قال: تطلعون، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر. انتهى. والتخريج الثاني تخريخ أبي الفتح، وتخريجه الأول
لا يجوز، لأنه ليس من مواضع الضمير المنفصل، فيكون المتصل وضع موضعه، لا يجوز هند زيد ضارب إياها، ولا زيد ضارب إياي، وكلام الزمخشري يدل على جوازه، فالأولى تخريج أبي الفتح، وقد جاء منه:
أمسلمني إلى قومي شراحي
وقول الآخر:
* فهل فتى من سراة القوم يحملني
*
وليس حاملني إلا ابن حمال
*
وقال الآخر:
وليس بمعييني
فهذه أبيات ثبت التنوين فيها مع ياء المتكلم، فكذلك ثبتت نون الجمع معها إجراء للنون مجرى التنوين، لاجتماعهما في السقوط للإضافة. ويقال: طلع علينا فلان واطلع بمعنى واحد. ومن قرأ: فاطلع مبنيا للمفعول، فضميره القائل الذي هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو متعد بالهمزة، إذ يقول: طلع زيد وأطلعه غيره. وقال صاحب اللوامح: طلع واطلع، إذا بدا وظهر؛ واطلع اطلاعا، إذا أقبل وجاء مبنيا، ومعنى ذلك: هل أنتم مقبلون؟ فأقبل. وإن أقيم المصدر فيه مقام الفاعل
346

بتقديره فاطلع الاطلاع، أو حرف الجر المحذوف، أي فاطلع به، لأنه اطلع لازم، كما أن أقبل كذلك. انتهى. وقد ذكرنا أن أطلع عدى بالهمزة من طلع اللازم، وأما قوله: أو حرف الجر المحذوف، أي فاطلع، به فهذا لا يجوز، لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه، لأنه نائب عن الفاعل. فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله، فكذلك هذا. لو قلت: زيد ممدود أو مغضوب، تريد به أو عليه، لم يجز. و * (سواء الجحيم) *: وسطها، تقول: تعبت حتى انقطع سوائي. قال ابن عباس: سمي سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب، يعني سواء الجحيم.
وقال خليل العصري: رآه: تبدلت حاله، فلولا ما عرفه الله به لم يعرفه، قال له عند ذلك: * (تالله إن كدت لتردين) *: أي لتهلكني بإغوائك. وإن مخففة من الثقيلة، يلقي بها القسم؛ وتالله قسم فيه التعجب من سلامته منه إذا كان قرينه قارب أن يرديه. * (ولولا نعمة ربى) *: وهي توفيقه للإيمان والبعد من قرين السوء، * (لكنت من المحضرين) * للعذاب، كما أحضرته أنت. * (أفما نحن بميتين) *، قرأ زيد بن علي: بمائتين، والظاهر أنه من كلام القائل: يسمع قرينه على جهة التوبيخ له، أي لسنا أهل الجنة بميتين، لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا، بخلاف أهل النار، فإنهم في كل ساعة يتمنون فيها الموت.
* (وما نحن بمعذبين) *، كحال أهل النار، بل نحن منعمون دائما. ويكون في خطابه ذلك منكلا له، مقرعا محزنا له أنعم الله به عليه من دخول الجنة، معلما له بتباين حاله في الآخرة بحاله. كما كانتا تتباينان في الدنيا من أنه ليس بعد الموت جزاء ظهر له خلافه، يعذب بكفره بالله وإنكار البعث. ويجوز أن يكون خطابا من القائل لرفقائه، لما رأى ما نزل بقرينه، وقفهم على نعمه تعالى في ديمومة خلودهم في الجنة ونعيمهم فيها. ويتصل قوله: * (إن هذا) * إلى قوله: * (العاملون) * بهذا التأويل أيضا، لا واضحا خطابا لرفقائه. ويجوز أن يكون تم كلامه عند قوله: * (لتردين) *، ويكون * (أفما نحن) * إلى * (بمعذبين) * من كلامه وكلام رفقائه، وكذلك * (إن هذا) * إلى * (العاملون) *: أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه من النعيم والنجاة من النار. وقيل: هو من قول الله تعالى، تقريرا لقولهم وتصديقا له وخطابا لرسول الله وأمته، ويقوي هذا قوله: * (لمثل هاذا فليعمل العاملون) *، والآخرة ليست بدار عمل، ولا يناسب ذلك قول المؤمن في الآخرة إلا على تجوز، كأنه يقول: لمثل هذا ينبغي أن يعمل العاملون. وقال الزمخشري: الذي عطف عليه الفاء محذوف معناه: أنحن مخلدون؟ أي منعمون، فما نحن بميتين ولا معذبين. انتهى. وتقدم من مذهبه أنه إذا تقدمت همزة الاستفهام، وجاء بعدها حرف العطف بضمير ما، يصح به إقرار الهمزة والحرف في محلهما اللذين وقعا فيهما، ومذهب الجماعة أن حرف العطف هو المقدم في التقدير، والهمزة بعده، ولكنه لما كانت الهمزة لها صدر الكلام قدمت، فالتقدير عند الجماعة. فأما وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة، وتقدم الكلام معه في ذلك.
* (أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم * طلعها كأنه * رءوس * الشياطين * فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم * إنهم ألفوا ءاباءهم ضالين * فهم علىءاثارهم يهرعون * ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين * ولقد أرسلنا فيهم منذرين * فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * إلا عباد الله المخلصين * وقد * نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين * وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على نوح فى العالمين * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * ثم أغرقنا الاخرين) *.
لما انقضت قصة المؤمن وقرينه، وكان ذلك على سبيل الاستطراد من شيء إلى شيء، عاد إلى ذكر الجنة والرزق الذي أعده الله فيها لأهلها فقال: أذلك الرزق * (خير نزلا) *؟ والنزل ما يعد للأضياف، وعادل بين ذلك الرزق وبين * (شجرة الزقوم) *.
347

فلاستواء الرزق المعلوم يحصل به اللذة والسرور، وشجرة الزقوم يحصل بها الألم والغم، فلا اشتراك بينهما في الخيرية. والمراد تقرير قريش والكفار وتوقيفهم على شيئين، أحدهما فاسد. ولو كان الكلام استفهاما حقيقة لم يجز، إذ لا يتوهم أحد أن في شجرة الزقوم خيرا حتى يعادل بينهما وبين رزق الجنة. ولكن المؤمن، لما اختار
ما أدى إلى رزق الجنة، والكافر اختار ما أدى إلى شجرة الزقوم، قيل ذلك توبيخا للكافرين وتوقيفا على سوء اختيارهم. * (إنا جعلناها فتنة للظالمين) *، قال قتادة، ومجاهد، والسدي: أبو جهل ونظراؤه، لما نزلت قال للكفار، يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار، وهي تأكلها وتذهبها، ففتنوا بذلك أنفسهم وجملة أتباعهم. وقال أبو جهل: إنما الزقوم: التمر بالزبد، ونحن نتزقمه. وقيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. واستعير الطلع، وهي النخلة، لما تحمل هذه الشجرة، وشبه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لثمرها رؤوس الشياطين، وهي بناحية اليمن يقال لها الاستن، وذكرها النابغة في قوله:
* تحيد من استن سود أسافله
*
مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما
*
وهو شجر خشن مر منكر الصورة، سمت ثمره العرب بذلك تشبها برؤوس الشياطين، ثم صار أصلا يشبه به. وقيل: هو شجرة يقال لها الصوم، ذكرها ساعدة بن حوبة الهذلي في قوله:
* موكل بشدوف الصوم يرقبها
*
من المناظر مخطوف الحشازرم
*
وقيل: الشياطين صنف من الحيات ذوات أعراف، ومنه:
* عنجرو تحلف حين أحلف
*
كمثل شيطان الحماط أعرف
*
وقيل: شبه بما اشتهر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها، وإن كانت غير مرئية، ولذلك يصورون الشيطان في أقبح الصور. وإذا رأوا أشعث منتفش الشعر قالوا: كأنه وجه شيطان، وكأن رأسه رأس شيطان، وهذه بخلاف الملك، يشبهون به الصورة الحسنة. وكما شبه امرؤ القيس المسنونة الزرق بأنياب الغول في قوله:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وإن كان لم يشاهد تلك الأنياب، وهذا كله تشبيه تخييلي. والضمير في منها يعود على الشجرة، أي من طلعها. وقرأ الجمهور: * (لشوبا) * بفتح الشين؛ وشيبان النحوي: بضمها. وقال الزجاج: الفتح للمصدر والضم للاسم، يعني أنه فعل بمعنى مفعول، أي مشوب، كالنقص بمعنى المنقوص. وفسر بالخلط والحميم الماء السخن جدا، وقيل: يراد به هنا شرابهم الذي هو طينة الخبال صديدهم وما ساح منهم. ولما ذكر أنهم يملؤون بطونهم من شجرة الزقوم للجوع الذي
348

يلحقهم، أو لإكراههم على الأكل وملء البطون زيادة في عذابهم، ذكر ما يسقون لغلبة العطش، وهو ما يمزج لهم من الحميم. ولما كان الأكل يعتقبه ملء البطن، كان العطف بالفاء في قوله: * (فما) *. ولما كان الشرب يكثر تراخيه عن الأكل، أتي بلفظ ثم المقتضية المهلة، أو لما امتلأت بطونهم من ثمرة الشجرة، وهو حار، أحرق بطونهم وعطشهم، فأخر سقيهم زمانا ليزدادوا بالعطش عذابا إلى عذابهم، ثم سقوا ما هو أحر وآلم وأكره.
* (حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم) *: لما ذهب بهم من منازلهم التي أسكنوها في النار إلى شجرة الزقوم للأكل والتملؤ منها والسقي من الحميم ونواحي رجوعهم إلى منازلهم، دخلت ثم لدلالة على ذلك، والرجوع دليل على الانتقال في وقت الأكل والشرب إلى مكان غير مكانهما، ثم ذكر تعالى حالهم في تقليد آبائهم. والضمير لقريش وأن ذلك التقليد كان سببا لاستحقاقهم تلك الشدائد، أي وجدوا آباءهم ضالين، فاتبعوهم على ضلالتهم، مسرعين في ذلك لا يثبطهم شيء. ثم أخبر بضلال أكثر من تقدم من الأمم، هذا وما خلت أزمانهم من إرسال الرسل، وإنذارهم عواقب التكذيب. وفي قوله: * (فانظر) * ما يقتضي إهلاكهم وسوء عاقبتهم، واستثنى المخلصين من عباده، وهم الأقل المقابل لقوله: * (أكثر الاولين) *، والمعنى: إلا عباد الله، فإنهم نجوا. ولما ذكر ضلال الأولين، وذكر أولهم شهرة، وهم قوم نوح، عليه السلام، تضمن أشياء منها: الدعاء على قومه، وسؤاله النجاة، وطلب النصرة. وأجابه تعالى في كل ذلك إجابة بلغ بها مراده. واللام في * (فلنعم) * جواب قسم كقوله:
يمينا لنعم السيدان وجدتما
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: فلنعم المجيبون نحن، وجاء بصيغة الجمع للعظمة والكبرياء لقوله: * (فقدرنا فنعم القادرون) * و * (الكرب العظيم) *، قال السدي: الغرق، ومنه تكذيب الكفرة وركوب الماء، وهو له، وهم فصل متعين للفصيلة لا يحتمل غيره. قال ابن عباس، وقتادة: أهل الأرض كلهم من ذرية نوح.
وفي الحديث: (أنه عليه السلام قرأ * (وجعلنا ذريته هم الباقين) * فقال: سام وحام ويافث). وقال الطبري: العرب من أولاد سام، والسودان من أولاد حام، والترك وغيرهم من أولاد يافث. وقالت فرقة: أبقى الله ذرية نوح ومد في نسله، وليس الناس منحصرين في نسله، بل في الأمم من لا يرجع إليه.
* (وتركنا عليه فى الاخرين) *: أي في الباقين غابر الدهر؛ ومفعول تركنا محذوف تقديره ثناء حسنا جميلا في آخر الدهر، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وسلام. رفع بالابتداء مستأنف، سلم الله عليه ليقتدي بذلك البشر، فلا يذكره أحد من العالمين بسوء. سلم تعالى عليه جزاء على ما صبر طويلا، من أقوال الكفرة وإذايتهم له. وقال الزمخشري: * (وتركنا عليه فى الاخرين) *، هذه الكلمة، وهي * (سلام على نوح فى العالمين * نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين * وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم متبعون * فأرسل فرعون فى المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون * فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بنى إسراءيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معى ربى سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الاخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الاخرين) *: أي من كان مكذبا له من قومه، لما ذكر تحياته ونجاة أهله، إذ كانوا مؤمنين، ذكر هلاك غيرهم بالغرق.
349

* (وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلب سليم * إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون * أءفكا ءالهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين * فنظر نظرة فى النجوم * فقال إنى سقيم * فتولوا عنه مدبرين * فراغ إلىءالهتهم فقال ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا باليمين * فأقبلوا إليه يزفون * قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون * قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم * فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين) *.
والظاهر عود الضمير في * (من شيعته) * على نوح، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، أي ممن شايعه في أصول الدين والتوحيد، وان اختلفت شرائعهما، أو اتفق أكثرهما، أو ممن شايعه في التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين. وكان بين نوح وإبراهيم ألفا سنة وستمائة وأربعون سنة، وبينهما من الأنبياء هود وصالح، عليهما السلام. وقال الفراء: الضمير في * (من شيعته) * يعود على محمد صلى الله عليه وسلم) والأعرف أن المتأخر في الزمان هو شيعة للمتقدم، وجاء عكس ذلك في قول الكميت:
* وما لي إلا آل أحمد شيعة
*
ومالي إلا مشعب الحق مشعب
*
جعلهم شيعة لنفسه. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم يتعلق الظرف؟ قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة، يعني: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم، أو بمحذوف، وهو اذكر. انتهى. أما التخريج الأول فلا يجوز، لأن فيه الفضل بين العامل والمعمول بأجنبي، وهو قوله: * (لإبراهيم) *، لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ، وزاد المنع، إذ قدره ممن شايعه حين جاء لإبراهيم. وأيضا فلام التوكيد يمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها. لو قلت: إن ضار بالقادم علينا زيدا، وتقديره: ضاربا زيدا لقادم علينا، لم يجز. وأما تقديره اذكر، فهو المعهود عند المعربين. ومجيئه ربه بقلب سليم: إخلاصه الدين لله، وسلامة قلبه: براءته من الشرك والشك والنقائص التي تعتري القلوب من الغل والحسد والخبث والمكر والكبر ونحوها. قال عروة بن الزبير: لم يعلن شيئا قط. وقيل: سليم من الشرك ولا معنى للتخصيص. وأجازوا في نصب * (* أئفكا) * وجوها: أحدها: أن يكون مفعولا بتريدون، والتهديد لأمته، وهو استفهام تقرير، ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه، وذكره الزمخشري قال: فسر الإفك بقوله: آلهة من دون الله، على أنها إفك في أنفسهم. والثاني: أن يكون مفعولا من أجله أي: تريدون آلهة من دون الله فكا، وآلهة مفعول به، وقدمه عناية به، وقدم المفعول له على المفعول به، لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم، وبدأ بهذا الوجه الزمخشري. والثالث: أن يكون حالا، أي أتريدون آلهة من دون الله آفكين؟ قاله الزمخشري، وجعل المصدر حالا لا يطرد إلا مع أما في نحو: أما علما فعالم.
* (تريدون فما ظنكم برب العالمين) *: استفهام توبيخ وتحذير وتوعد، أي: أي شيء ظنكم بمن هو يستحق لأن تعبدوه، إذ هو رب العالمين حتى تركتم عبادته وعدلتم به الأصنام؟ أي: أي شيء ظنكم بفعله معكم من عقابكم، إذ قد عبدتم غيره؟ كما تقول: أسأت آل فلان، فما ظنك به أن يوقع بك خيرا ما أسأت إليه؟ ولما وبخهم على عبادة غير الله، أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تنفع ولا تضر، فعهد إلى ما يجعله منفردا بها حتى يكسرها ويبين لهم حالها وعجزها. * (فنظر نظرة فى النجوم) *، والظاهر أنه أراد علم الكواكب، وما يعزي إليها من التأثيرات التي جعلها الله لها. والظاهر أن نظره كان فيها، أي في علمها، أو في كتابها الذي اشتمل على أحوالها وأحكامها. قيل: وكانوا يعانون ذلك، فأتاهم من الجهة التي يعانونها، وأوهمهم بأنه استدل بأمارة في علم النجوم أنه سقيم، أي يشارف السقم. قيل: وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم إذ ذاك، وخافوا العدوي
350

وهربوا منه إلى عيدهم، ولذلك قال: * (فتولوا عنه مدبرين) *، قال معناه ابن عباس، وتركوه في بيت الأصنام ففعل ما فعل. وقيل: كانوا أهل رعاية وفلاحة، وكانوا يحتاجون إلى علم النجوم. وقيل: أرسل إليهم ملكهم أن غدا عيدنا، فاحضر معنا، فنظر إلى نجم طالع فقال: إن يطلع مع سقمي. وقيل: معنى * (فنظر نظرة فى النجوم) *، أي فيما نجم إليه من أمور قومه وحاله معهم، ومعنى: * (فتولوا عنه مدبرين) *، أي لكفرهم به واحتقارهم له، وقوله: * (إنى سقيم) *، من المعاريض، عرض أنه يسقم في المآل، أي يشارف السقم. قيل: وهو الطاعون، وكان أغلب، وفهموا منه أنه ملتبس بالسقم، وابن آدم لا بد أن يسقم، والمثل: كفى
بالسلامة داء. قال الشاعر:
* فدعوت ربي بالسلامة جاهدا
*
ليصحني فإذا السلامة داء
*
ومات رجل فجأة، فاكتنف عليه الناس فقالوا: مات وهو صحيح، فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه؟ * (فراغ إلىءالهتهم) *: أي أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة، كقوله: * (أين شركائى) *، وعرض الأكل عليها. واستفهامها عن النطق هو على سبيل الهزء، لكونها منحطة عن رتبة عابديها، إذ هم يأكلون وينطقون. وروي أنهم كانوا يضعون عندها طعاما، ويعتقدون أنها تصيب منه شيئا، وإنما يأكله خدمتها. * (فراغ عليهم ضربا باليمين) *: أي أقبل عليهم مستخفيا ضاربا، فهو مصدر في موضع الحال، أو يضربهم ضربا، فهو مصدر فعل محذوف، أو ضمن فراغ عليهم معنى ضربهم، وباليمين: أي يمين يديه. قال ابن عباس: لأنها أقوى يديه أو بقوته، لأنه قيل: كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس. وقيل: سبب الحلف الذي هو: * (وتالله لاكيدن أصنامكم) *.
وقرأ الجمهور: * (يزفون) *، بفتح الياء، من زف: أسرع، أو من زفاف العروس، وهو التمهل في المشية، إذ كانوا في طمأنينة أن ينال أصنامهم شيء لعزتهم. وقرأ حمزة، ومجاهد، وابن وثاب، والأعمش: بضم الياء، من أزف: دخل في الزفيف، فهي للتعدي، قاله الأصمعي. وقرأ مجاهد أيضا، وعبد الله بن يزيد، والضحاك، ويحيى بن عبد الرحمن المقري، وابن أبي عبلة: يزفون مضارع زف بمعنى أسرع. وقال الكسائي، والفراء: لا نعرفها بمعنى زف. وقال مجاهد: الوزيف: السيلان. وقرئ: يزفون مبنيا للمفعول. وقرئ: يزفون بسكون الزاي، من زفاه إذا حداه، فكان بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه. وبين قوله: * (فراغ عليهم ضربا باليمين) * وبين قوله: * (فأقبلوا إليه يزفون) * جمل محذوفة هي مذكورة في سورة اقترب، ولا تعارض بين قوله: * (فأقبلوا إليه يزفون) * وبين سؤالهم * (من فعل هاذا بئالهتنا) *، وأخبار من عرض بأنه إبراهيم كان يذكر أصنامهم، لأن هذا الإقبال كان يقتضي تلك الجمل المحذوفة، أي فأقبلوا إليه، أي إلى الإنكار عليه في كسر أصنامهم وتأنيبه على ذلك. وليس هذا الإقبال من عندهم، بل بعد مجيئهم من عندهم جرت تلك المفاوضات المذكورة في سورة اقترب.
واستسلف الزمخشري في كلامه أشياء لم تتضمنها الآيات، صارت الآيات عنده بها كالمتناقضة. قال، حيث ذكر ههنا: إنهم أدبروا عنه خيفة العدوي، فلما أبصروه يكسر أصنامهم، أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويقعوا به. وذكرتم أنهم سألوا عن الكاسر حتى قيل: سمعنا إبراهيم يذمهم، فلعله هو الكاسر. ففي إحداهما أنهم شاهدوه يكسرها، وفي الآخرى أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر. انتهى. ما أبدى من التناقض، وليس في الآيات ما يدل على أنهم أبصروه يكسرهم، فيكون فيه كالتناقض. ولما قرر أنه كالتناقض قال: قلت فيه وجهان: أحدهما: أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفرا منهم دون جمهورهم وكبرائهم، فلما رجع الجمهور والعلية من عندهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة، اشمأزوا من ذلك وسألوا من فعل هذا بها؟ لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة، ولكن على سبيل التورية والتعريض بقولهم: سمعنا فتى يذكرهم
351

لبعض الصوارف. والثاني: أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم، وسؤالهم عن الكاسر، وقولهم: * (قالوا فأتوا به على أعين الناس) *. انتهى. وهذا الوجه الثاني الذي ذكر هو الصحيح.
* (قال أتعبدون ما تنحتون) *: استفهام توبيخ وإنكار عليهم، كيف هم يعبدون صورا صوروها بأيديهم وشكلوها على ما يريدون من الأشكال؟ * (والله خلقكم وما تعملون) *: الظاهر أن ما موصولة بمعنى الذي معطوفة على الضمير في خلقكم، أي أنشأ ذواتكم وذوات ما تعملون من الأصنام، والعمل هنا هو التصوير والتشكيل، كما يقول: عمل الصائغ الخلخال، وعمل الحداد القفل، والنجار الخزانة؛ ويحمل ذلك على أن ما بمعنى الذي يتم الاحتجاج عليهم، بأن كلا من الصنم وعابده هو مخلوق لله تعالى، والعابد هو المصور ذلك المعبود، فكيف يعبد مخلوق مخلوقا؟ وكلاهما خلق الله، وهو المنفرد بإنشاء ذواتهما. والعابد مصور الصنم معبوده. وما في: * (وما * تنحتون) * بمعنى الذي، فكذلك في * (وما تعملون) *، لأن نحتهم هو عملهم. وقيل: ما مصدرية، أي خلقكم وعملكم، وجعلوا ذلك قاعدة على خلق الله أفعال العباد. وقد بدد الزمخشري تقابل هذه المقالة بما يوقف عليه في كتابه. وقيل: ما استفهام إنكاري، أي: وأي شيء تعملون في عبادتكم أصناما تنحتونها؟ أي لا عمل لكم يعتبر. وقيل: ما نافية، أي وما أنتم تعملون شيئا في وقت خلقكم ولا تقدرون على شيء. وكون ما مصدرية واستفهامية ونعتا، أقوال متعلقة خارجة عن طريق البلاغة. ولما غلبهم إبراهيم، عليه السلام، بالحجة، مالوا إلى الغلبة بقوة الشوكة والجمع فقالوا: * (ابنوا له بنيانا) *، أي في موضع إيقاد النار. وقيل: هو المنجنيق الذي رمي عنه. وأرادوا به كيدا، فأبطل الله مكرهم، وجعلهم الأخسرين الأسفلين، وكذا عادة من غلب بالحجة رجع إلى الكيد.
2 (* (وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين * رب هب لى من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعى قال يابنى إنىأرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدنىإن شآء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن ياإبراهيم * قد صدقت الرؤيآ إنا كذلك نجزى المحسنين * إن هاذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم
352

وتركنا عليه فى الا خرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين * ولقد مننا على موسى وهارون * ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم * ونصرناهم فكانوا هم الغالبون * وءاتيناهما الكتاب
المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم * وتركنا عليهما فى الا خرين * سلام على موسى وهارون * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين * وإن إلياس لمن المرسلين * إذ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب ءابآئكم الا ولين * فكذبوه فإنهم لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه فى الا خرين * سلام على إل ياسين * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وإن لوطا لمن المرسلين * إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين * ثم دمرنا الا خرين * وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل أفلا تعقلون * وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون * فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا أنه كان من المسبحين * للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون * فنبذناه بالعرآء وهو سقيم * وأنبتنا عليه شجرة من يقطين * وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فأامنوا فمتعناهم إلى حين * فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * مالكم كيف تحكمون * أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين * فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين * وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون * سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين * فإنكم وما تعبدون * مآ أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم * وما منآ إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصآفون * وإنا لنحن المسبحون * وإن كانوا ليقولون * لو أن عندنا ذكرا من الا ولين * لكنا عباد الله المخلصين * فكفروا به فسوف يعلمون * ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون * فتول عنهم حتى حين * وأبصرهم فسوف يبصرون * أفبعذابنا يستعجلون * فإذا نزل بساحتهم فسآء صباح المنذرين * وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون * سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين) *))
) *
تل الرجل الرجل: صرعه على شقه، وقيل: وضعه بقوة. وقال ساعدة بن جؤية: وتل.
تليلا للجبين وللفم
والجبينان: ما اكتف من هنا ومن هنا، وشذ جمع الجبين على أجبن، وقياسه في القلة أجبنة، ككثيب وأكثبة، وفي الكثرة: جبنات وجبن، ككثبات وكثب. الذبح: اسم ما يذبح، كالرعي اسم ما يرعى. أبق: هرب. ساهم: قارع. المدحض: المقلوب. الحوت: معروف. ألام: أتى بما يلام عليه، قال الشاعر:
* وكم من ميلم لم يصب بملامة
*
ومتبع بالذنب ليس له ذنب
*
353

العراء: الأرض الفيحاء لا شجر فيها ولا يعلم، قال الشاعر:
* رفعت رجلا لا أخاف عثارها
*
ونبذت بالمين العراء ثيابي
*
اليقطين: يفعيل كاليفصيد، من قطن: أقام بالمكان، وهو بالمكان، وهو ما كان من الشجر لا يقوم على ساق من عود، كشجر البطيخ والحنظل والقثاء. الساحة: الفناء، وجمعها سوح، قال الشاعر:
* فكان سيان أن لا يسرحوا نعما
*
أو يسرحوه بها واغبرت السوح
*
* (وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين * رب هب لى من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعى قال يابنى * بنى * إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت * قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن ياإبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين * إن هاذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) *.
لما سلمه الله منهم ومن النار التي ألقوه فيها، عزم على مفارقتهم، وعبر بالذهاب إلى ربه عن هجرته إلى أرض الشام. كما قال: * (إنى مهاجر إلى ربى) *، ليتمكن من عبادة ربه ويتضرع له من غير أن يلقي من يشوش عليه، فهاجر من أرض بابل، من مملكة نمرود، إلى الشأم. وقيل: إلى أرض مصر. ويبعد قول من قال: ليس المراد بذهابه الهجرة، وإنما مراده لقاء الله بعد الإحراق، ظانا منه أنه سيموت في النار، فقالها قبل أن يطرح في النار. و * (سيهدين) *: أي إلى الجنة
، نحا إلى هذا قتادة، لأن قوله: * (رب هب لى من الصالحين) * يدفع هذا القول، والمعتقد أنه يموت في النار لا يدعو بأن يهب الله له ولدا صالحا. * (سيهدين) *: يوفقني إلى ما فيه صلاحي. * (من الصالحين) *: أي ولدا يكون في عداد الصالحين. ولفظ الهبة غلب في الولد، وإن كان قد جاء في الأخ، كقوله: * (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) *. واشتملت البشارة على ذكورية المولود وبلوغه سن الحلم ووصفه بالحلم، وأي حلم أعظم من قوله، وقد عرض عليه أبوه الذبح: * (ستجدنى إن شاء الله من الصابرين) *؟
* (فلما بلغ معه السعى) *، بين هذه الجملة والتي قبلها محذوف تقديره: فولد له وشب. * (فلما بلغ) *: أي أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه. وقال ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد: والسعي هنا: العمل والعبادة والمعونة. وقال قتادة: السعي على القدم، يريد سعيا متمكنا، وفيه قال الزمخشري: لا يصح تعلقه ببلغ به بلوغهما معا حد السعي ولا بالسعي، لأن أصله المصدر لا يتقدم عليه، فنفى أن يكون بيانا، كأنه لما قال: * (فلما بلغ معه السعى) *، أي الحد الذي يقدر فيه على السعي، قيل: مع من؟ فقال: مع أبيه، والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس وأعطفهم عليه وعلى غيره وبما عنف عليه في الاستسعاء، فلا يحتمله، لأنه لم يستحكم قوله، ولم يطلب عوده، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. انتهى.
* (قال ياءادم * بنى) *: نداء شفقة وترحم. * (إنى أرى فى المنام أنى أذبحك) *: أي بأمر من الله، ويدل عليه: * (افعل ما) *. ورؤيا الأنبياء
354

وحي كاليقظة، وذكره له الرؤيا تجسير على احتمال تلك البلية العظيمة. وشاوره بقوله: * (فانظر ماذا ترى) *، وإن كان حتما من الله ليعلم ما عنده من تلقي هذا الامتحان العظيم، ويصبره إن جزع، ويوطن نفسه على ملاقاة هذا البلاء، وتسكن نفسه لما لا بد منه، إذ مفاجأة البلاء قبل الشعور به أصعب على النفس، وكان ما رآه في المنام ولم يكن في اليقظة، كرؤيا يوسف عليه السلام، ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم) دخول المسجد الحرام، ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناما سواء في الصدق متظافرتان عليه. قيل: إنه حين بشرت الملائكة بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح الله. فلما بلغ حد السعي معه قيل له: أوف بنذرك. قيل: رآى ليلة التروية قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا. فلما أصبح، روى في ذلك من الصباح إلى الرواح. أمن الله هذا الحلم، فمن ثم سمي يوم التروية. فلما أمس رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فمن ثم سمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحرة، فسمي يوم النحر.
وقرأ الجمهور: * (ترى) *، بفتح التاء والراء؛ وعبد الله، والأسود بن يزيد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، ومجاهد، وحمزة، والكسائي: بضم التاء وكسر الراء؛ والضحاك، والأعمش أيضا بضم التاء وفتح الراء. فالأول من الرأي، والثاني ماذا ترينيه وما تبديه لأنظر فيه؟ والثالث ما الذي يخيل إليك ويوقع في قلبك؟ وانظر معلقة، وماذا استفهام. فإن كانت ذا موصولة بمعنى الذي، فما مبتدأ، والفعل بعد ذا صلة. وإن كانت ذا مركبة، ففي موضع نصب بالفعل بعدها. والجملة، واسم الاستفهام الذي هو معمول للفعل بعده في موضع نصب لانظر. ولما كان خطاب الأب * (أو بنى) *، على سبيل الترحم، قال: هو * (* يا أبت) *، على سبيل التعظيم والتوقير. * (قال ياأبت افعل ما تؤمر) *: أي ما تؤمره، حذفه وهو منصوب، وأصله ما تؤمر به، فحذف الحرف، واتصل الضمير منصوبا، فجاز حذفه لوجود شرائط الحذف فيه. وقال الزمخشري: أو أمرك، على إضافة الصدر إلى المفعول الذي لم يسم فاعله، وفي ذلك خلاف؛ هل يعتقد في المصدر العامل أن يجوز أن يبني للمفعول، فيكون ما بعده مفعولا لم يسم فاعله، أم يكون ذلك؟ * (ستجدنى إن شاء الله من الصابرين) *: كلام من أوتي الحلم والصبر والامتثال لأمر الله، والرضا بما أمر الله.
* (فلما أسلما) *: أي لأمر الله، ويقال: استسلم وسلم بمعناه. وقرأ الجمهور: أسلما. وقرأ عبد الله، وعلي، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وجعفر بن محمد، والأعمش، والثوري: سلما: أي فوضا إليه في قضائه وقدره. وقرئ: استسلما، ثلاث قراءات. وقال قتادة في أسلما: أسلم هذا ابنه، وأسلم هذا نفسه، فجعل أسلما متعديا، وغيره جعله لازما بمعنى: انقاذ الأمر الله وخضعا له. * (وتله للجبين) *: أي أوقعه على أحد جنبيه في الأرض مباشرا الأمر بصبر وجلد، وذلك عند الصخرة التي بمنى؛ وعن الحسن: في الموضع المشرف على مسجد منى؛ وعن الضحاك: في المنحر الذي ينحر فيه اليوم. وجواب لما محذوف يقدر بعد * (وتله للجبين) *، أي أجز لنا أجرهما، قاله بعض البصريين؛ أو بعد * (الرءيا) *، أي كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما وحمدهما الله على ما أنعم به إلى ألفاظ كثيرة ذكرها الزمخشري على عادته في خطابته؛ أو قبل * (وتله) * تقديره: * (فلما أسلما وتله) *. قال ابن عطية: وهو قول الخليل وسيبويه، وهو عندهم كقول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحي
وقال الكوفيون: الجواب مثبت، وهو: * (وناديناه) * على زيادة الواو. وقالت فرقة: هو * (وتله) * على زيادة الواو. وذكر
355

الزمخشري في قصة إبراهيم وابنه، وما جرى بينهما من الأقوال والأفعال فصولا، الله أعلم بصحتحها، يوقف عليها في كتابة. وأن مفسرة، أي * (قد صدقت) *. وقرأ زيد ابن علي: وناديناه قد صدقت، بحذف أن؛ وقرئ: صدقت، بتخفيف الدال. وقرأ فياض: الريا، بكسر الراء والإدغام وتصديق الرؤيا. قال الزمخشري: بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، لكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم. ألا ترى أنه لا يسمى عاصيا ولا مفرطا؟ بل يسمى مطيعا ومجتهدا، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم. وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل، ولا قبل أو ان الفعل في شيء، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام فيه. وقال ابن عطية: * (قد صدقت) *، يحتمل أن يريد يقلبك على معنى: كانت عندك رؤياك صادقة حقا من الله فعلمت بحسبها حين آمنت بها، واعتقدت صدقها. ويحتمل أن يريد: صدقت بقلبك ما حصل عن الرؤيا في نفسك، كأنه قال: قد
وفيتها حقها من العمل. انتهى. * (إنا كذلك نجزى المحسنين) *: تعليل لتخويل ما خولهما الله من الفرج بعد الشدة، والظفر بالبغية بعد اليأس.
* (إن هذا) *: أي ما أمر به إبراهيم من ذبح ابنه، * (لهو البلاء المبين) *: أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون وغيرهم، أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها. * (وفديناه بذبح) *، قال ابن عباس: هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل. وقال أيضا هو والحسن: فدي بوعل أهبط عليه من سرو. وقال الجمهور: كبش أبيض أقرن أقنى، ووصف بالعظم. قال مجاهد: لأنه متقبل يقينا. وقال عمرو بن عبيد: لأنه جرت السنة به، وصار دينا باقيا إلى آخر الدهر. وقال الحسن بن الفضل: لأنه كان من عند الله. وقال أبو بكر الوراق: لأنه لم يكن عن نسل، بل عن التكوين. وقال ابن عباس، وابن جبير: عظمته كونه من كباش الجنة، رعى فيها أربعين خريفا. وفي قوله: * (وفديناه بذبح عظيم) * دليل على أن إبراهيم لم يذبح ابنه، وقد فدي. وقالت فرقة: وقع الذبح وقام بعد ذلك. قال ابن عطية: وهذا كذب صراح. وقالت فرقة: لم ير إبراهيم في منامه الإمرار بالشفرة فقط، فظن أنه ذبح مجهز، فنفذ لذلك. فلما وقع الذي رآه وقع النسخ، قال: ولا اختلاف، فإن إبراهيم عليه السلام، أمر الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع. انتهى. والذي دل عليه القرآن أنه * (وتله للجبين) * فقط، ولم يأت في حديث صحيح أنه أمر الشفرة على حلق ابنه. * (وتركنا عليه) * إلى: * (المؤمنين) *، تقدم تفسير نظيره في آخر قصة نوح، قبل قصة إبراهيم هنا، وقال هنا كذلك دون إنا، اكتفاء بذكر ذلك قبل وبعد.
* (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) *: الظاهر أن هذه بشارة غير تلك البشارة، وأن الغلام الحليم المبشر به إبراهيم هو إسماعيل، وأنه هو الذبيح لا إسحاق؛ وهو قول ابن عباس، وابن عمر، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن كعب القرظي، والشعبي، والحسن، ومجاهد، وجماعة من التابعين؛ واستدلوا بظاهره هذه الآيات وبقوله عليه السلام: أنا ابن الذبيحين، وقول الأعرابي له: يا ابن الذبيحين: فتبسم عليه السلام، يعني إسماعيل، وأباه عبد الله. وكان عبد المطلب نذر ذبح أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا له: افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بها. وفيما أوحي الله لموسى في حديث طويل. وأما إسماعيل، فإنه جاد بدم نفسه. وسأل عمر بن عبد العزيز يهوديا أسلم عن ذلك فقال: إن يهوديا ليعلم، لكهنم يحسدونكم معشر العرب، وكان قرنا الكبش منوطين في الكعبة. وسأل الأصمعي أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي، أين عزب عنك عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة؟ وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة؟ انتهى. ووصفه تعالى بالصبر في قوله: * (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين) *،
356

وهو صبره على الذبح؛ وبصدق الوعد في قوله: * (إنه كان صادق الوعد) *، لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به. وذكر الطبري أن ابن عباس قال: الذبيح إسماعيل، ويزعم اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود. ومن أقوى ما يستدل به أن الله تعالى بشر إبراهيم بإسحاق، وولد إسحاق يعقوب. فلو كان الذبيح إسحاق، لكان ذلك الإخبار غير مطابق للواقع، وهو محال في إخبار الله تعالى. وذهبت جماعة إلى أن الذبيح هو إسحاق، منهم: العباس بن عبد المطلب، وابن مسعود، وعلي، وعطاء، وعكرمة، وكعب، وعبيد بن عمير، وابن عباس في رواية، وكان أمر ذبحه بالشأم. وقال عطاء ومقاتل: ببيت المقدس؛ وقيل: بالحجاز، جاء مع أبيه على البراق. وقال عبيد بن عمير، وابن عباس في رواية: وكان أمر ذبحه بالشأم، كان بالمقام. وقال ابن عباس: والبشارة في قوله: * (وبشرناه بإسحاق) *، هي بشارة نبوته. وقالوا: أخبر تعالى عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولدا، ثم أتبع تلك البشارة بغلام حليم، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به، ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف، عليهما السلام: من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. ومن جعل الذبيح إسحاق، جعل هذه البشارة بشارة بنبوته، كما ذكرنا عن ابن عباس. وقالوا: لا يجوز أن يبشره الله بولادته ونبوته معا، لأن الامتحان بذبحه لا يصح مع علمه بأنه سيكون نبيا. ومن جعله إسماعيل، جعل البشارة بولده إسحاق. وانتصب نبيا على الحال، وهي حال مقدرة. فإن كان إسحاق هو الذبيح، وكانت هذه البشارة بولادة إسحاق، فقد جعل الزمخشري ذلك محل سؤال. فإن قلت: فرق بين هذا وقوله: * (فادخلوها خالدين) *، وذلك أن المدخول موجود مع وجود الدخول، والخلود غير موجود معهما، فقدرت مقدرين للخلود، فكان مستقيما. وليس كذلك المبشر به، فإنه معلوم وقت وجود البشارة، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله، لأن الحال حلية لا تقوم إلا بالمحلي. وهذا المبشر به الذي هو إسحاق، حين وجد لم توجد النبوة أيضا بوجوده، بل تراخت عنه مدة طويلة، فكيف يجعل نبيا حالا مقدرة؟ والحال صفة للفاعل والمفعول عند وجود الفعل منه أو به. فالخلود، وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة، فتقديرها صفتهم، لأن المعنى: مقدرين الخلود. وليس كذلك النبوة، فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق. قلت: هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك، والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف محذوف وذلك قوله: * (وبشرناه) * بوجود إسحاق نبيا، أي بأن يوجد مقدرة نبوته، فالعامل في الحال الوجود، لا فعل البشارة؛ وبذلك يرجع نظير قوله تعالى: * (فادخلوها خالدين) *، * (من الصالحين) *، حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ، لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصالحين. انتهى.
* (وباركنا عليه وعلى إسحاق) *: أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا، وبأن أخرجنا أنبياء بني إسرائيل من صلبه. * (ومن ذريتهما محسن وظالم) *: فيه وعيد لليهود ومن كان من ذريتهما لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم)، ومن ذريتهم محسن وظالم وفيه دليل على أن البرقد يلد الفاضل، ولا يلحقه من ذلك عيب ولا منقصة.
* (ولقد مننا على موسى وهارون * ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم * ونصرناهم فكانوا هم الغالبون * وءاتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم * وتركنا عليهما فى الاخرين * سلام على موسى وهارون * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين * وإن إلياس لمن المرسلين * إذ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم * الاولين * قال * فكذبوه فإنهم لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على إل ياسين
* إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وإن لوطا لمن المرسلين * إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين * ثم دمرنا الاخرين * وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل أفلا تعقلون) *.
* (الكرب العظيم) *: تعبد القبط لهم، ثم خوفهم من جيش فرعون، ثم البحر بعد ذلك، والضمير في * (ونصرناهم) * عائد على موسى وهارون وقومهما؛ وقيل: عائد على موسى وهارون فقط، تعظيما لهما بكناية الجماعة. و * (هم) *: يجوز أن يكون فصلا وتوكيدا أو بدلا. و * (الكتاب المستبين) *: التوراة، كما قال تعالى: * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) *
357

و * (الصراط المستقيم) *: هو الإسلام وشرع الله. و * (إلياس) *، قال ابن مسعود وقتادة: هو إدريس عليه السلام. ونقلوا عن ابن مسعود، وابن وثاب، والأعمش، والمنهال بن عمر، والحكم بن عتيبة الكوفي أنهم قرأوا: وإن إدريس لمن المرسلين، وهو محمولة عندي على تفسيره، لأن المستفيض عن ابن مسعود أنه قرأ: * (وإن إلياس) *، وأيضا تفسيره إلياس بأنه إدريس لعله لا يصح عنه، لأن إدريس في التاريخ المنقول كان قبل نوح. وفي سورة الأنعام ذكر إلياس، وأنه ذرية إبراهيم، أو من ذرية نوح على ما يحتمله قوله تعالى: * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا) *، * (ومن ذريته * داوود) *، وذكر في جملة هذه الذرية إلياس، وقيل: إلياس من أولاد هارون. قال الطبري: هو إلياس بن ياسين ابن فنحاص بن العيزار بن هارون. وقرأ الجمهور: * (وإن إلياس) *، بهمزة قطع مكسورة. وقرأ عكرمة، والحسن: بخلاف عنهما؛ والأعرج، وأبو رجاء، وابن عامر، وابن محيصن: بوصل الألف، فاحتمل أن يكون وصل همزة القطع، واحتمل أن يكون اسمه ياسا، ودخلت عليه أل، كما دخلت على أليسع. وفي حرف أبي ومصحفه: وإن إيليس، بهمزة مكسورة، بعدها ياء ساكنة، بعدها لام مكسورة، بعدها ياء ساكنة وسين مفتوحة. وقرئ: وإن أدراس، لغة في إدريس، كأبراهام في إبراهيم.
* (أتدعون بعلا) *: أي أتعبدون بعلا، وهو علم لصنم لهم، قاله الضحاك والحسن وابن زيد. قيل: وكان من ذهب، طوله عشرون ذراعا، وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وبه سميت مدينتهم بعلبك. وقال عكرمة، وقتادة: البعل: الرب بلغة اليمن. وسمع ابن عباس رجلا ينشد ضالة، فقال له رجل: أنا بعلها، فقال ابن عباس: الله أكبر، أتدعون بعلا؟ ويقال: من بعل هذه الدار، أي ربها؟ والمعنى على هذا: أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله؟ وقالت فرقة: إن بعلا اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها. وقرئ: أتدعون بعلاء، بالمد على وزن حمراء، ويؤنس هذه القراءة قول من قال: إنه اسم امرأة.
وقرأ الكوفيون، وزيد بن علي: * (الله ربكم ورب ءابائكم) *، بالنصب في الثلاثة بدلا من * (أحسن) *، أو عطف بيان إن قلنا إن إضافة التفضيل محضة؛ وباقي السبعة بالرفع، أي هو الله؛ أو يكون استئنافا مبتدأ وربكم خبره. وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب، وإذا قطع رفع. * (فكذبوه) *: أي كذبه قومه، إما في قوله: * (الله ربكم) * هذه النسب، أو فكذبوه فيما جاء به من عند الله من الأمر بالتوحيد وترك الصنم والايمان بما جاءت به الرسل. ومحضرون: مجموعون للعذاب. * (إلا عباد الله المخلصين) *: استثناء يدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه، فهو استثناء متصل من ضمير * (فكذبوه) *، ولا يجوز أن يكون استثناء من * (فإنهم لمحضرون) *، لأنهم كانوا يكونون مندرجين فيمن كذب، ويكونون * (عباد الله المخلصين) *، وذلك لا يمكن ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعا، إذ يصير المعنى: لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون للعذاب، ولا مسيس لهؤلاء الممسوسين بالآية التي فيها قصة إلياس هذه.
وقرأ زيد بن علي، ونافع، وابن عامر: على آل ياسين. وزعموا أن آل مفصولة في المصحف، وياسين اسم لإلياس. وقيل: اسم لأبي إلياس، لأنه إلياس بن ياسين، وآل ياسين هو ابنه إلياس. وقيل: ياسين هو اسم محمد صلى الله عليه وسلم). وقرأ باقي السبعة: * (على) *، بهمزة مكسورة، أي الياسين، جمع المنسوبين إلى الياس معه، فسلم عليهم. وهذا يدل على أن من قومه من كان اتبعه على الدين، وكل واحد ممن نسب إليه كأنه إلياس، فلما جمعت، خففت ياء النسبة بحذف إحداهما كراهة التضعيف، فالتفى ساكنان: الياء فيه وحرف العلة الذي للجمع، فحذفت لالتقائهما، كما قالوا: الأشعرون والأعجمون والخبيبون والمهلبون. وحكى أبو عمرو أن مناديا نادى يوم الكلاب: ههلك اليزيديون. وقال الزمخشري: لو كانا جمعا، لعرف بالألف واللام. وقرأ أبو رجاء، والحسن: على الياسين، بوصل الألف على أنه جمع يراد به إلياس وقومه المؤمنون، وحذفت ياء النسب، كما قالوا: الأشعرون، والألف
358

واللام دخلت على الجمع، واسمه على هذا ياس. وقرأ ابن مسعود، ومن ذكر معه أنه قرأ إدريس: سلام على إدراسين. وعن قتادة: وإن إدريس. وقرأ: على إدريس. وقرأ ابن علي: إيليس، كقراءته وإن إيليس لمن المرسلين. * (أجمعين إلا عجوزا) *: هي امرأة لوط، وكانت كافرة، إما مستترة بالكفر، وإما معلنة به. وكان نكاح الوثنيات عندهم جائزا. * (مصبحين) *: أي داخلين في الأصباح. والخطاب في * (وإنكم) * لقريش، وكانت متاجرهم إلى الشأم على مدائن قوم لوط. * (أفلا تعقلون) *، فتعتبرون بما جرى على من كذب الرسل.
* (وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون * فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا أنه كان من المسبحين * للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون * فنبذناه بالعراء وهو سقيم * وأنبتنا عليه شجرة من يقطين * وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فئامنوا فمتعناهم إلى حين * فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * ما لكم كيف تحكمون * أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين * فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) *.
يونس بن متى من بني إسرائيل. وروي أنه نبىء وهو ابن ثمان وعشرين سنة، بعثه الله إلى قومه، فدعاهم للإيمان فخالفوه، فوعدهم بالعذاب، فأعلمهم الله بيومه،
فحدده يونس لهم. ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا، فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم. وتقدم شرح قصته، وأعدنا طرف منها ليفيد ما بين الذكرين. قيل: ولحق يونس غضب، فأبق إلى ركوب السفينة فرارا من قومه، وعبر عن الهروب بالإباق، إذ هو عبد الله، خرج فار من غير إذن من الله. وروي عن ابن مسعود أنه لما أبعدت السفينة في البحر، ويونس فيها، ركدت. فقال أهلها: إن فيها لمن يحبس الله السفينة بسببه، فلنقترع. فأخذوا لكل سهم، على أن من طفا سهمه فهو، ومن غرق سهمه فليس إياه، فطفا سهم يونس. فعلوا ذلك ثلاثا، تقع القرعة عليه، فأجمعوا على أن يطرحوه. فجاء إلى ركن منها ليقع منها، فإذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له. فانتقل إلى الركن الآخر، فوجدها حتى استدار بالمركب وهي لا تفارقه، فعلم أن ذلك من عند الله، فترامي إليها فالتقمته. ففي قصة يونس عليه السلام هنا جمل محذوفة مقدرة قبل ذكر فراره إلى الفلك، كما في قصته في سورة الأنبياء في قوله: * (إذ ذهب مغاضبا) * هو ما بعد هذا، وقوله: * (فنادى فى الظلمات) *، جمل محذوفة أيضا. وبمجموع القصص يتبين ما حذف في كل قصة منها.
* (فساهم فكان من المدحضين) *: من المغلوبين، وحقيقته من المزلقين عن مقام الظفر في الاسهام. وقرئ: * (وهو مليم) *، بفتح الميم، وقياسه ملوم، لأنه من لمته ألومه لوما، فهو من ذوات الواو، ولكنه جيء به على أليم، كما قالوا: مشيب ومدعى في مشوب، ومدعو بناء على شيب ودعى. * (من المسبحين) *: من الذاكرين الله تعالى بالتسبيح والتقديس. والظاهر أنه يريد ما ذكر في قوله في سورة الأنبياء: * (فنادى فى الظلمات أن لا إلاه إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين) *. وقال ابن جبير: هو قوله سبحان الله. وقالت فرقة: تسبيحه صلاة التطوع؛ فقال ابن عباس، وقتادة، وأبو العالية: صلاته في وقت الرخاء تنفعه في وقت الشدة. وقال الضحاك بن قيس على منبره: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس كان عبدا ذاكرا، فلما أصابته الشدة نفعه ذلك. قال الله عز وجل: * (فلولا أنه كان من المسبحين) *، * (للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون) *. وقال الحسن: تسبيحه: صلاته في بطن الحوت. وروي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه يقول: لأبنين لك مسجدا حيث لم ينبه أحد قبلي.
وروي أن الحوت
359

سافر مع السفينة رافعا رأسه ليتنفس ويونس يسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظه سالما لم يتغير منه شيء، فأسلموا. والظاهر أن قوله للبث في بطنه إلى يوم البعث، وعن قتادة: لكان بطن الحوت له قبرا إلى يوم القيامة. وذكر في مدة لبثه في بطن الحوت أقوالا متكاذبة، ضربنا عن ذكرها صفحا. * (وهو سقيم) *: روي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد، قاله ابن عباس والسدي. وقال ابن عباس، وأبو هريرة، وعمرو بن ميمون: اليقطين: القرع خاصة، قيل: وهي التي أنبتها الله عليه، وتجمع خصالا، برد الظل، ونعومة الملمس، وعظم الورق، والذباب لا يقربها. قيل: وماء ورقه إذا رش به مكان لم يقربه ذباب، وقال أمية بن أبي الصلت:
* فأنبت يقطينا عليه برحمة
*
من الله لولا الله ألفي ضياعيا
*
وفيما روي: إنك لتحب القرع، قال: أجل، هي شجرة أخي يونس. وقيل: هي شجرة الموز، تغطي بورقها، واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها. ومعنى * (أنبتنا * عليه شجرة) *، في كلام العرب: ما كان على ساق من عود، فيحتمل أن يكون الله أنبتها ذات ساق يستظل بها وبورقها، خرقا للعادة، فنبت وصح وحسن وجهه، لأن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده.
* (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) *، قال الجمهور: رسالته هذه هي الأولى التي أبق بعدها، ذكرها آخر القصص تنبيها على رسالته، ويدل عليه: * (فئامنوا فمتعناهم) *، وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس عليه السلام حتى أبق. وقال ابن عباس، وقتادة: هي رسالة أخرى بعد أن نبذه بالعراء، وهي إلى أهل نينوى من ناحية الموصل. وقال الزمخشري: المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه، وهم أهل نينوى. وقيل: هو إرسال ثان بعد ما جري إليه إلى الأولين، أو إلى غيرهم. وقيل: أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى، لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم، فقال لهم: إن الله باعث إليكم نبيا. وقرأ الجمهور: * (أو) *، قال ابن عباس بمعنى بل. وقيل: بمعنى الواو وبالواو، وقرأ جعفر بن محمد. وقيل: للإبهام على المخاطب. وقال المبرد وكثير من البصريين: المعنى على نظر البشر، وحزرهم أن من وراءهم قال: هم مائة ألف أو يزيدون، وهذا القول لم يذكر الزمخشري غيره. قال: أو يزيدون في مرأى الناظر، إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر. والغرض الوصف بالكثرة، والزيادة ثلاثون ألفا، قاله ابن عباس؛ أو سبعون ألفا، قاله ابن جبير؛ أو عشرون ألفا، رواه أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم)، وإذا صح بطل ما سواه.
* (فئامنوا) *: روي أنهم خرجوا بالأطفال والأولاد والبهائم، وفرقوا بينها وبين الأمهات، وناحوا وضجوا وأخلصوا، فرفع الله عنهم. والتمتع هنا هو بالحياة، والحين آجالهم السابقة في الأزل، قاله قتادة والسدي. والضمير في * (فاستفتهم) *، قال الزمخشري: معطوف على مثله في أول السورة، وإن تباعدت بينهما المسافة. أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولا، ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى. انتهى. ويبعد ما قاله من العطف.
وإذا كانوا عدوا الفصل بجملة مثل قولك: كل لحما واضرب زيدا وخبزا، من أقبح التركيب، فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة؟ فالقول بالعطف لا يجوز، والاستفتاء هنا سؤال على جهة التوبيخ والتقريع على قولهم البهتان على الله، حيث جعلوا لله الإناث في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهتهم لهن، ووأدهم إياهن، واستنكافهم من ذكرهن. وارتكبوا ثلاثة أنواع من الكفر: التجسيم، لأن الولادة مختصة بالأجسام؛ وتفضيل أنفسهم، حيث نسبوا أرفع الجنسين لهم وغيره لله تعالى؛ واستهانتهم بمن هو مكرم عند الله، حيث أنثوهم، وهم الملائكة.
بدأ أولا بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله: * (ألربك البنات) *، وعدل عن قوله: * (* ألربكم) *، لما في ترك الإضافة إليهم من تحسينهم وشرف نبيه بالإضافة إليه. وثنى بأن نسبة الأنوثة إلى الملائكة يقتضي المشاهدة
360

فأنكر عليهم بقوله: * (البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون) *: أي خلقناهم وهم لا يشهدون شيئا من حالهم، كما قال في الأخرى: * (أشهدوا خلقهم) * وكما قال * (ما أشهدتهم خلق * السماوات والارض ولا * خلق أنفسهم) *. ثم أخبر عنهم ثالثا بأعظم الكفر، وهو ادعاؤهم أنه تعالى قد ولد، فبلغ إفكهم إلى نسبة الولد. ولما كان هذا فاحشا قال: * (وإنهم لكاذبون) *. واحتمل أن تخص هذه الجملة بقولهم ولد الله، ويكون تأكيد لقوله: * (من إفكهم) *، واحتمل أن يعم هذا القول. فإن قلت: لم قال: * (وهم شاهدون) *، فخص علمهم بالمشاهدة؟ قلت: ما هو إلا استهزاء وتجهيل كقوله: * (أشهدوا خلقهم) *، وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ولا بإخبار صادق، لا بطريق استدلال ولا نظر. ويجوز أن يكون المعنى أنهم يقولون ذلك، كالقائل قولا عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم، كأنهم قد شاهدوا خلقه. وقرأ: * (ولد الله) *: أي الملائكة ولده، والولد فعل بمعنى مفعول يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. تقول: هذه ولدي، وهؤلاء ولدي. انتهى.
وقرأ الجمهور: * (اصطفى) *، بهمزة الاستفهام، على طريقة الإنكار والاستبعاد. وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة، وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة: بوصل الألف، وهو من كلام الكفار. حكى الله تعالى شنيع قولهم، وهو أنهم ما كفاهم أن قالوا ولد الله، حتى جعلوا ذلك الولد بنات الله، والله تعالى اختارهم على البنين. وقال الزمخشري: بدلا عن قولهم ولد الله، وقد قرأ بها حمزة والأعمش، وهذه القراءة، وإن كان هذا محملها، فهي ضعيفة؛ والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها، وذلك قوله: * (وإنهم لكاذبون) *، * (ما لكم كيف تحكمون) *. فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين سببين، وليست دخيلة بين نسيبين، بل لها مناسبة ظاهرة مع قولهم ولد الله. وأما قوله: * (وإنهم لكاذبون) *، فهي جملة اعتراض بين مقالتي الكفر، جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم. * (ما لكم كيف تحكمون) *: تقريع وتوبيخ واستفهام عن البرهان والحجة. وقرأ طلحة بن مصرف: تذكرون، بسكون الذال وضم الكاف. * (أم لكم سلطان) *: أي حجة نزلت عليكم من السماء، وخبر بأن الملائكة بنات الله. * (فأتوا بكتابكم) *، الذي أنزل عليكم بذلك، كقوله: * (أم أنزلنا عليهم سلطانا) *، فهو يتكلم بما كانوا به يشركون.
* (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون * سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين * فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم * وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون * وإن كانوا ليقولون * لو أن عندنا ذكرا من الاولين * لكنا عباد الله المخلصين * فكفروا به فسوف يعلمون * ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون * فتول عنهم حتى حين * وأبصرهم فسوف يبصرون * أفبعذابنا يستعجلون * فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين * وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون * سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين) *.
الظاهر أن الجنة هم الشياطين، وعن الكفار في ذلك مقالات شنيعة. منها أنه تعالى صاهر سروات الجن، فولد منهم الملائكة، وهم فرقة من بني مدلج، وشافه بذلك بعض الكفار أبا بكر الصديق. * (ولقد علمت الجنة) *: أي الشياطين، أنها محضرة أمر الله من ثواب وعقاب، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: إذا فسرت الجنة بالشياطين، فيجوز أن يكون الضمير في * (إنهم لمحضرون) * لهم. والمعنى أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم، ولو كانوا مناسبين له، أو شركاء في وجوب الطاعة، لما عذبهم. وقيل: الضمير في * (وجعلوا) * لفرقة من كفار قريش والعرب، والجنة: الملائكة، سموا
361

بذلك لاجتنابهم وخفائهم. وقال الزمخشري: وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعا منهم وتصغيرا لهم، وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم، وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار، وهو من صفات الأجرام، لا يصح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك. انتهى.
* (ولقد علمت الجنة) *: أي الملائكة، * (أنهم) *: أي الكفرة المدعين نسبة بين الملائكة وبين الله تعالى، محضرون النار، يعذبون بما يقولون. وأضيف ذلك إلى علم من نسبوا لذلك، مبالغة في تكذيب الناسبين. ثم نزه تعالى نفسه عن الوصف الذي لا يليق به، * (إلا عباد الله) *، فإنهم يصفونه بصفاته. وأما من المحضرون، أي إلا عباد الله، فإنهم ناجون مدة العذاب، وتكون جملة التنزيه اعتراضا على كلا القولين، فالاستثناء منقطع. والظاهر أن الواو في * (وما تعبدون) * للعطف، عطفت ما تعبدون على الضمير في إنكم، وأن الضمير في عليه عائد على ما، والمعنى: قل لهم يا محمد: وما تعبدون من الأصنام ما أنتم وهم، وغلب الخطاب. كما تقول: أنت وزيد تخرجان عليه، أي على عبادة معبودكم. * (بفاتنين) *: أي بحاملين بالفتنة عبادة، إلا من قدر الله في سابق علمه أنه من أهل النار. والضمير في * (عليه) * عائد على ما على حذف مضاف، كما قلنا، أي على عبادته. وضمن فاتنين معنى: حاملين بالفتنة، ومن مفعولة بفاتنين، فرغ له العامل إذ لم يكن بفاتنين مفعولا. وقيل: عليه بمعنى: أي ما أنتم بالذي تعبدون بفاتنين، وبه متعلق بفاتنين، المعنى: ما أنتم فاتنين بذلك الذي عبدتموه إلا من سبق عليه القدر أنه
يدخل النار. وجعل الزمخشري الضمير في عليه عائدا على الله، قال فإن قلت: كيف يفتنونهم على الله؟ قلت: يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم من قولك: فتن فلان على فلان امرأته، كما تقول: أفسدها عليه وخيبها عليه. ويجوز أن تكون الواو في * (وما تعبدون) * بمعنى مع مثلها في قولهم: كل رجل وضيعته. فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته، جاز أن يسكت على قوله: * (فإنكم وما تعبدون) *، لأن قوله: * (وما تعبدون) * ساد مسد الخبر، لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون، والمعنى: فإنكم مع آلهتكم، أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونهم. ثم قال * (ما أنتم عليه) *: أي على ما تعبدون، * (بفاتنين) *: بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال، إلا من هو ضال منكم. انتهى. وكون الواو في * (وما تعبدون) * واو مع غير متبادر إلى الذهن، وقطع * (ما أنتم عليه بفاتنين) * عن إنكم وما تعبدون ليس بجيد، لأن اتصافه به هو السابق إلى الفهم مع صحة المعنى، فلا ينبغي العدول عنه.
وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة: صالوا الجحيم بالواو، وهكذا في كتاب الكامل للهذلي. وفي كتاب ابن خالويه عنهما: صال مكتوبا بغير واو، وفي كتاب ابن عطية. وقرأ الحسن: صالوا مكتوبا بالواو؛ وفي كتاب اللوامح وكتاب الزمخشري عن الحسن: صال مكتوبا بغير واو. فمن أثبت الواو فهو جمع سلامة سقطت النون للإضافة. حمل أولا على لفظ من فأفرد، ثم ثانيا على معناها فجمع، كقوله: * (ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين) *، حمل في يقول على لفظ من، وفي وما هم على المعنى، واجتمع الحمل على اللفظ، والمعنى في جملة واحدة، وهي صلة للموصول، كقوله: * (إلا من كان هودا أو) *. وقول الشاعر:
وأيقظ من كان منكم نياما
ومن لم يثبت الواو احتمل أن يكون جمعا، وحذفت الواو خطأ، كما حذفت في حالة الوصل لفظا لأجل التقاء الساكنين. واحتمل أن يكون صال مفردا حذفت لامه تخفيفا، وجرى الإعراب في عينه، كما حذف من قوله: * (إستبرق وجنى الجنتين دان) *، * (وله الجوار) *، برفع النون والجوار، وقالوا: ما باليت به بالة، أي بالية من بالى، كعافية من عافى، فحذفت لام باليت وبالية. وقالوا بالة وبال، بحذف اللام فيهما. وقال الزمخشري: وقد وجه نحوا من الوجهين السابقين وجعلهما أولا وثالثا فقال: والثاني أن يكون أصله صائل على القلب، ثم يقال: صال في صائل، كقولهم: شاك في شائك. انتهى. * (الجحيم وما منا) *: أي أحد، * (إلا له مقام معلوم) *: أي مقام في العبادة والانتهاء إلى أمر الله، مقصور عليه لا يتجاوزه. كما روي: فمنهم راكع لا يقيم ظهره، وساجد لا يرفع رأسه، وهذا قول الملائكة، وهو يقوي قول من جعل الجنة
362

هم الملائكة تبرؤا عن ما نسب إليهم الكفرة من كونهم بنات الله، وأخبروا عن حال عبوديتهم، وعلى أي حالة هم فيها. وفي الحديث: (أن السماء ما فيها موضع إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي)، وعن ابن مسعود: (موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه)، وحذف المبتدأ مع من جيد فصيح، كما مر في قوله: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن) *، أي وأن من أهل الكتاب أحد. وقال العرب: منا ظعن ومنا أقام، يريد: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام. وقال الزمخشري: وما منا أحد إلا له مقام معلوم، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، كقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
بكفي كان من أرمي البشر
انتهى. وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، لأن أحدا المحذوف مبتدأ. وإلا له مقام معلوم خبره، ولأنه لا ينعقد كلام من قوله: وما منا أحد، فقوله: * (إلا له مقام معلوم) * هو محط الفائدة. وإن تخيل أن * (إلا له مقام معلوم) * في موضع الصفة، فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها، وأنها فارقت غير إذا؛ كانت صفة في ذلك، ليتمكن غيره في الوصف وقلة تمكن إلا فيه، وجعل ذلك كقوله: أنا ابن جلا، أي اين رجل جلا؛ وبكفي كان، أي رجل كان، وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات. * (وإنا لنحن الصافون) *: أي أقدامنا في الصلاة، أو أجنحتنا في الهواء، أو حول العرش داعين للمؤمنين. وقال الزهراوي: قيل إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية، ولا يصطف أحد من الملل غير المسلمين. * (وأن * لنحن المسبحون) *: أي المنزهون الله عن ما نسب إليه الكفرة، أو المنزهون بلفظ التسبيح، أو المصلون. وينبغي أن يجعل قوله: * (سبحان الله عما يصفون) * من كلام الملائكة، فتطرد الجمل وتنساق لقائل واحد، فكأنه قيل: ولقد علمت الملائكة أن ناسبي ذلك لمحضرون للعذاب؛ وقالوا: سبحان الله، فنزهوا عن ذلك واستثنوا من أخلص من عباد الله؛ وقالوا للكفرة: فإنكم وآلهتكم إلى آخره. وكيف نكون مناسبيه، ونحن عبيد بين يديه، لكل منا مقام من الطاعة؟ إلى ما وصفوا به أنفسهم من رتبة العبودية. وقيل: * (وما منا إلا له مقام معلوم) *، هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي وما من المرسلين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله، من قوله تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.
ثم ذكر أعمالهم، وأنهم المصطفون في الصلاة المنزهون الله عن ما يقول أهل الضلال. والضمير في * (ليقولون) * لكفار قريش، * (لو أن عندنا ذكرا) *: أي كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولم نكذب كما كذبوا. * (فكفروا به) *: أي فجاءهم الذكر الذي كانوا يتمنونه، وهو أشرف الأذكار، لأعجازه من بين الكتب. * (فسوف يعلمون) * عاقبة كفرهم، وما يحل بهم من الانتقام. وأكدوا قولهم بأن المخففة وباللام كونهم كانوا جادين في ذلك، ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ، كقوله: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) *.
* (ولقد سبقت كلمتنا) *: قرأ الجمهور بالإفراد لما انتظمت في معنى واحد عبر عنها بالإفراد. وقرأ الضحاك: بالجمع، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقامات الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة. وقال الحسن: ما غلب نبي في الحرب، ولا قتل فيها. * (فتول عنهم حتى حين) *: أي إلى
مدة يسيرة، وهي مدة الكف عن القتال. وعن السدي: إلى يوم بدر، ورجحه الطبري. وقال قتادة: إلى موتهم. وقال ابن زيد: إلى يوم القيامة. * (وأبصارهم) *: أي انظر إلى عاقبة أمرهم، فسوف
363

يبصرونها وما يحل بهم من العذاب والأسر والقتل، أو سوف يبصرونك وما يتم لك من الظفر بهم والنصر عليهم. وأمره بإبصارهم إشارة إلى الحالة المنتظرة الكائنة لا محالة، وأنها قريبة كأنها بين ناظريه بحيث هو يبصرها، وفي ذلك تسلية وتنفيس عنه عليه السلام. * (أفبعذابنا يستعجلون) *: استفهام توبيخ.
* (فإذا نزل) * هو، أي العذاب، مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذره، فأنكروه بحيث أنذر بهجومه قومه وبعض صناعهم، فلم يلتفتوا إلى إنذراه، ولا أخذوا أهبته، ولا دبروا أمرهم تدبير ينجيهم حتى أناخ بفنائهم، فشن عليهم الغارة، وقطع دابرهم. وكانت عادة مغازيهم أن يغيروا صباحا، فسميت الغارة صباحا، وإن وقعت في وقت آخر. وما فصحت هذه الآية، ولا كانت له الروعة التي يحسن بها، ويرونك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل، قاله الزمخشري. وقرأ الجمهور: مبنيا للفاعل؛ وابن مسعود: مبنيا للمفعول؛ وساحتهم: هو القائم مقام الفاعل. ونزل ساحة فلان، يستعمل فيما ورد على الإنسان من خير أو شر؛ وسوء الصباح: يستعمل في حلول الغارات والرزايات؛ ومثل قول الصارخ: يا صباحاه؛ وحكم ساء هنا حكم بئس. وقرأ عبد الله: فبئس، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: فساء صباح المنذرين صباحهم. * (وتول عنهم حتى حين) *: كرر الأمر بالتولي، تأنيسا له عليه الصلاة والسلام، وتسلية وتأكيد لوقوع الميعاد؛ ولم يقيد أمره بالإبصار، كما قيده في الأول، إما لاكتفائه به في الأول فحذفه اختصارا، وإما لما في ترك التقييد من جولان الذهن فيما يتعلق به الإبصار منه من صنوف المساءات، والإبصار منهم من صنوف المساآت. وقيل: أريد بالأول عذاب الدنيا، وبالآخرة عذاب الآخرة.
وختم تعالى هذه السورة بتنزيهه عن ما يصفه المشركون، وأضاف الرب إلى نبيه تشريفا له بإضافته وخطابه، ثم إلى العزة، وهي العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين، وكذلك قال الفقهاء من جهة أنها مربوبة. وقال محمد بن سحنون وغيره: من حلف بعزة الله تعالى إلى يريد عزته التي خلقت بين عباده، وهي التي في قوله: * (رب العزة) *، فليست بيمين. وقال الزمخشري: أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذو العزة، كما تقول: صاحب صدق لاختصاصه بالصدق. انتهى. فعلى هذا تنعقد اليمين بعزة الله لأنها صفة من صفاته. قال: ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها، لقوله: * (وتعز من تشاء) *. وعن علي، كرم الله وجهه: (من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه: * (سبحان ربك رب العزة) *، إلى آخر السورة.
((سورة ص))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
364

2 (* (صوالقرءان ذى الذكر * بل الذين كفروا فى عزة وشقاق * كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص * وعجبوا أن جآءهم م نذر منهم وقال الكافرون هاذا ساحر كذاب * أجعل الا لهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء عجاب * وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا علىءالهتكم إن هاذا لشىء يراد * ما سمعنا بهاذا فى الملة الا خرة إن هاذا إلا اختلاق * أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب * أم عندهم خزآئن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم م لك السماوات والا رض وما بينهما فليرتقوا فى الا سباب * جند ما هنالك مهزوم من الا حزاب * كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الا وتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب لأيكة أولائك الا حزاب * إن كل إلا كذب الر سل فحق عقاب) *)) 2
لات: هي لا، ألحقت بها التاء كما ألحقت في ثم ورب، فقالوا: ثمت وربت، وهي تعمل عمل ليس في مذهب سيبويه، وعمل إن في مذهب الأخفش. فإن ارتفع ما بعدها، فعلى الابتداء عنده؛ ولها أحكام ذكرت في علم النحو، ويأتي شيء منها هنا عند ذكر القراءات التي فيها. والمناص: المنجا والغوث، يقال ناصه ينوصه: إذا فاته. قال الفراء: النوص: التأخر، يقال ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا: أي فر وزاغ، وأنشد لامرىء القيس:
* أم ذكر سلمى ان نأتك كنوص
*
واستناص طلب المناص
قال حارثة بن بدر:
*
غمر الجراء إذا قصرت عنانه
بيدي استناص ورام جري المسحل
*
365

وقال الجوهري: استناص: تأخر. وقال النحاس: ناص ينوص: تقدم. الوتد: معروف، وكسر التاء أشهر من فتحها. ويقال: وتد واتد، كما يقال: شغل شاغل. قال الأصمعي وأنشد:
* لاقت على الماء جذيلا واتدا
*
ولم يكن يخلفها المواعدا
*
وقالوا: ود فأدغموه، قال الشاعر:
* تخرج الود إذا ما أشحذت
*
وتواريه إذا ما تشتكر
*
وقالوا فيه: دت، فأدغموا بإدال الدال تاء، وفيه قلب الثاني للأول، وهو قليل.
* (ص والقرءان ذى الذكر * بل الذين كفروا فى عزة وشقاق * كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص * وعجبوا أن جاءهم م نذر منهم وقال الكافرون هاذا ساحر كذاب * أجعل الالهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء * عجاب * وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا علىءالهتكم إن هاذا لشىء يراد * ما سمعنا بهاذا فى الملة الاخرة إن هاذا إلا اختلاق * أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب * أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم م لك السماوات والارض وما بينهما فليرتقوا فى الاسباب * جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب * كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب لئيكة أولئك الاحزاب * إن كل إلا كذب الر سل فحق عقاب) *.
هذه السورة مكية، ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه لما ذكر عن الكفار أنهم كانوا يقولون: * (لو أن عندنا ذكرا من الاولين) *، لأخلصوا العبادة لله. وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به. بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن، لأنه الذكر الذي جاءهم، وأخبر عنهم أنهم كافرون، وأنهم في تعزز ومشاقة للرسول الذي جاء به؛ ثم ذكر من أهلك من القرون التي شاقت الرسل ليتعظوا. وروي أنه لما مرض أبو طالب، جاءت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدي إليهم الجزية بها العجم. قال: وما الكلمة؟ قال: كلمة واحدة، قال: وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، قال فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا؟ قال: فنزل فيهم القرآن: * (ص والقرءان ذى الذكر) *، حتى بلغ، * (إن هاذا إلا اختلاق) *.
قرأ الجمهور: صاد، بسكون الدال. وقرأ أبي، والحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو السمال، وابن أبي عبلة، ونصر بن عاصم: صاد، بكسر الدال، والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين. وهو حرف من حروف المعجم نحو: قاف ونون. وقال الحسن: هو أمر من صادى، أي عارض، ومنه الصدى، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام، أي عارض بعملك القرآن. وعنه أيضا: صاديت: حادثت، أي حادث، وهو قريب من القول الأول. وقرأ عيسى، ومحبوب عن أبي عمرو، وفرقة: صاد، بفتح الدال، وكذا قرأ: قاف ونون، بفتح الفاء والنون، فقيل: الفتح لالتقاء الساكنين طلبا للتخفيف؛ وقيل: انتصب على أنه مقسم به، حذف منه حرف القسم نحو قوله: الله لأفعلن، وهو اسم للسورة، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقد صرفها من قرأ صاد بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل
366

وهو ابن أبي إسحاق في رواية. وقرأ الحسن أيضا: صاد، بضم الدال، فإن كان اسما للسورة، فخبر مبتدأ محذوف، أي هذه ص، وهي قراءة ابن السميفع وهرونه الأعور؛ وقرأ قاف ونون، بضم الفاء والنون. وقيل: هو حرف دال على معنى من فعل أو من اسم، فقال الضحاك: معناه صدق الله. وقال محمد بن كعب: مفتاح أسماء الله محمد صادق الوعد صانع المصنوعات. وقيل: معناه صدق محمد.
قال ابن عباس، وابن جبير، والسدي: ذي الذكر: ذي الشرف الباقي المخلد. وقال قتادة: ذي التذكرة، للناس والهداية لهم. وقيل: ذي الذكر، للأمم والقصص والغيوب والشرائع وجواب القسم، قيل: مذكور، فقال الكوفيون والزجاج: هو قوله: * (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) *. وقال الفراء: لا نجده مستقيما في العربية لتأخره جدا عن قوله: * (والقرءان) *. وقال الأخفش: هو * (إن كل إلا كذب الر سل) *، وقال قوم: * (كم أهلكنا) *، وحذف اللام أي لكم، لما طال الكلام؛ كما حذفت في * (والشمس) *، ثم قال: * (قد أفلح) *، حكاه الفراء وثعلب، وهذه الأقوال يجب اطراحها. وقيل: هو صاد، إذ معناه: صدق محمد وصدق الله. وكون صاد جواب القسم، قاله الفراء وثعلب، وهذا مبني على تقدم جواب القسم، واعتقاد أن الصاد يدل على ما ذكروه. وقيل: الجواب محذوف، فقدره الحوفي: لقد جاءكم الحق ونحوه، والزمخشري: إنه لمعجز، وابن عطية: ما الأمر كما تزعمون، ونحو هذا من التقدير. ونقل أن قتادة والطبري قالا: هو محذوف قبل * (بل) *، قال: وهو الصحيح، وقدره ما ذكرنا عنه، وينبغي أن يقدر ما أثبت هنا جوابا للقرآن حين أقسم به، وذلك في قوله تعالى: * (يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين) *، ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله: * (وعجبوا أن جاءهم م نذر منهم) *، وقال هناك: * (لتنذر قوما) *، فالرسلة تتضمن النذارة والبشارة، وبل للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى حالة تعزز الكفار ومشاقهم في قبول رسالتك وامتثال ما جئت به، واعتراف بالحق.
وقرأ حماد بن الزبرقان، وسورة عن الكسائي، وميمون عن أبي جعفر، والجحدري من طريق العقيلي: في غرة، بالغين المعجمة والراء، أي في غفلة ومشاقة. * (قبلهم) *: أي قبل هؤلاء ذوي المنعة الشديدة والشقاق، وهذا وعيد لهم. * (فنادوا) *: أي استغاثوا ونادوا بالتوبة، قاله الحسن؛ أو رفعوا أصواتهم، يقال: فلان أندى صوتا: أي أرفع، وذلك بعد معاينة العذاب، فلم يك وقت نفع. وقرأ الجمهور: * (ولات حين) *، بفتح التاء ونصب النون، فعلى قول سيبويه، عملت عمل ليس، واسمها محذوف تقديره: ولات الحين حين فوات ولا فرار. وعلى قول الأخفش: يكون حين اسم لات، عملت عمل إن نصبت الاسم ورفعت الخبر، والخبر مخذوف تقديره: ولات أرى حين مناص. وقرأ أبو السمال: ولات حين، بضم التاء ورفع النون؛ فعلى قول سيبويه: حين مناص اسم لات، والخبر محذوف؛ وعلى قول الأخفش: مبتدأ، والخبر محذوف. وقرأ عيسى بن عمر: ولات حين، بكسر التاء وجر النون، خبر بعد لات، وتخريجه مشكل، وقد تمحل الزمخشري في تخريج الخبر في قوله:
* طلبوا صلحنا ولات حين أوان
*
فأجبنا أن لات حين بقاء
*
قال: شبه أوان بإذ في قوله:
367

وأنت إذ صحيح في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض، لأن الأصل: ولات أوان صلح. فإن قلت: فما تقول في حين مناص، والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف والمضاف إليه، وجعل تنوينه عوضا من الضمير المحذوف، ثم بنى الحين لكونه مضافا إلى غير متمكن. انتهى. هذا التمحل، والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة، والبيت النادر في جر ما بعد لات: أن الجر هو على إضمار من، كأنه قال: لات من حين مناص، ولات من أوان صلح، كما جروا بها في قولهم: على كم جذع بيتك؟ أي من جذع في أصح القولين، وكما قالوا: لا رجل جزاه الله خيرا، يريدون: لا من رجل، ويكون موضع من حين مناص رفعا على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقول: ليس من رجل قائما، والخبر محذوف، وهذا على قول سيبويه، أو على أنه مبتدأ أو الخبر محذوف، على قول الأخفش. وقال بعضهم: ومن العرب من يخفض بلات، وأنشد الفراء:
* ولتندمن ولات ساعة مندم وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين، أي ولات حين أوان، حذف حين وأبقى أوان على جره. وقال أبو إسحاق: ولات أواننا، فحذف المضاف إليه، فوجب أن لا يعرب، وكسره لالتقاء الساكنين؛ وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري، أخذه من أبي إسحاق الزجاج، وأنشده المبرد: ولات أوان بالرفع. وعن عيسى: ولات حين، بالرفع، مناص: بالفتح. وقال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك، فلعله بنى حين على الضم، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، وأجراه مجرى قبل وبعد في الغاية، وبنى مناص على الفتح مع لات، على تقدير: لات مناص حين، لكن لا إنما تعمل في النكرات في اتصالها بهن دون أن يفصل بينهما ظرف أو غيره، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه. انتهى. وقرأ عيسى أيضا: ولات بكسر التاء، وحين بنصب النون، وتقدم تخريج نصب حين. ولات روي فيها فتح التاء وضمها وكسرها والوقف عليها بالتاء، قول سيبويه والفراء وابن كيسان والزجاج، ووقف الكسائي والمبرد بالهاء، وقوم على لا، وزعموا أن التاء زيدت في حين؛ واختاره أبو عبيدة وذكر أن رآه في الإمام مخلوطا تاؤه بحين، وكيف يصنع بقوله: ولات ساعة مندم، ولات أوان. وقال الكلبي: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا، قال بعضهم لبعض: مناص، أي عليكم بالفرار، فلما أتاهم العذاب قالوا: مناص، فقال الله: * (ولات حين مناص) *. قال القشيري: فعلى هذا يكون التقدير: فنادوا مناص، فحذف لدلالة ما بعده عليه، أي ليس الوقت وقت ندائكم به، وفيه نوع تحكم، إذ كل من هلك من القرون يقول مناص عند
368

الاضطرار. انتهى. وقال الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص، أي ساعة لا منجا ولا فوت. فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو، كما تقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبرا مثل: جاء زيد راكبا، ثم تقول: جاء زيد وهو راكب، فحين ظرف لقوله: * (فنادوا) *. انتهى. وكون أصل هذه الجملة: فنادوا حين لا مناص، وأن حين ظرف لقوله: * (فنادوا) * دعوى أعجمية مخالفة لنظم القرآن، والمعنى على نظمه في غاية الوضوح، والجملة في موضع الحال، فنادوا وهم لات حين مناص، أي لهم.
*
ولما أخبر تعالى عن الكفار أنهم في عزة وشقاق، أردف بما صدر عنهم من كلماتهم الفاسدة، من نسبتهم إليه السحر والكذب. ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: * (وقال الكافرون) *، أي: وقالوا تنبيها على الصفة التي أوجبت لهم العجب، حتى نسبوا من جاء بالهدى والتوحيد إلى السحر والكذب. * (أجعل الالهة إلاها واحدا) *، قالوا: كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمورهم؟ وجعل: بمعنى صير في القول والدعوى والزعم، وذكر عجبهم مما لا يعجب منه. والضمير في * (وعجبوا) * لهم، أي استغربوا مجيء رسول من أنفسهم. وقرأ الجمهور: * (عجاب) *، وهو بناء مبالغة، كرجل طوال وسراع في طويل وسريع. وقرأ علي، والسلمي، وعيسى، وابن مقسم: بشم الجيم، وقالوا: رجل كرام وطعام طياب، وهو أبلغ من فعال المخفف. وقال مقاتل: عجاب لغة أزد شنوءة. والذين قالوا: * (أجعل الالهة إلاها واحدا) *، قال ابن عباس: صناديد قريش، وهم ستة وعشرون.
* (وانطلق الملا منهم) *: الظاهر انطلاقهم عن مجلس أبي طالب، حين اجتمعوا هم والرسول عنده وشكوه على ما تقدم في سبب النزول؛ ويكون ثم محذوف تقديره:
يتحاورون. * (أن امشوا) *، وتكون أن مفسرة لذلك المحذوف، وامشوا أمر بالمشي، وهو نقل الأقدام عن ذلك المجلس. وقال الزمخشري: وأن بمعنى أي، لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول والأمر بالمشي، أي بعضهم أمر بعضا. وقيل: أمر الأشراف أتباعهم وأعوانهم. ويجوز أن تكون أن مصدرية، أي وانطلقوا بقولهم امشوا، وقيل: الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام، وأن مفسرة على هذا، والأمر بالمشي لا يراد به نقل الخطا، إنما معناه: سيروا على طريقتكم ودوموا على سيرتكم. وقيل: * (امشوا) * دعاء بكسب الماشية، قيل: وهو ضعيف، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطوعة، لأنه إنما يقال: أمشي الرجل إذا صار صاحب ماشية؛ وأيضا فهذا المعنى غير متمكن في الآية. وقال الزمخشري: ويجوز أنهم قالوا: امشوا، أي أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها؛ ومنه الماشية للتفاؤل. انتهى. وأمروا بالصبر على الآلهة، أي على عبادتها والتمسك بها.
والإشارة بقوله: * (إن هذا) * أي ظهور محمد صلى الله عليه وسلم)، وعلوه بالنبوة، * (لشىء يراد) *: أي يراد منا الانقياد إليه، أو يريده الله ويحكم بإمضائه، فليس فيه إلا الصبر، أو أن هذا الأمر شيء من نوائب الدهر مراد منا، فلا انفكاك عنه، وأن دينكم لشيء يراد، أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا معليه، احتمالات أربعة. وقال القفال: هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف، المعنى: أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير للدين، وإنما غرضه أن يستولي علينا، فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد. * (ما سمعنا بهاذا فى * الملة الاخرة) *، قال ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، ومقاتل: ملة النصارى، لأن فيها التثليث، ولا توحد. وقال مجاهد، وقتادة: ملة العرب: قريش ونجدتها. وقال الفراء، والزجاج: ملة اليهود والنصرانية، أشركت اليهود بعزير، وثلث النصارى. وقيل: في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان، وذلك أنه قبل المبعث، كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين. ويدل على صحة هذا ما روي من أقوال الأحبار أولي الصوامع، وما روي عن الكهان شق وسطيح وغيرهما، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم. وقيل: في الملة الآخرة، أي لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة
369

توحيد الله. * (إن هاذا إلا اختلاق) *: أي افتعال وكذب.
* (عليه الذكر من بيننا بل) *: أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم، وهذا الإنكار هو ناشىء عن حسد عظيم انطوت عليه صدورهم فنطقت به ألسنتهم. * (بل هم فى شك من ذكرى) *: أي من القرآن الذي أنزلت على رسولي يرتابون فيه، والإخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم: * (إن هاذا إلا اختلاق) *. * (بل لما يذوقوا عذاب) *: أي بعد، فإذا ذاقوه عرفوا أن ما جاء به حق وزال عنهم الشك. * (أم عندهم خزائن رحمة ربك) *: أي ليسوا متصرفين في خزائن الرحمة، فيعطون ما شاؤوا، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا، ويصطفون للرسالة من أرادوا، وإنما يملكها ويتصرف فيها * (العزيز) *: الذي لا يغالب، * (الوهاب) *: ما شاء لمن شاء.
لما استفهم استفهام إنكار في قوله: * (أم عندهم خزائن رحمة ربك) *، وكان ذلك دليلا على انتفاء تصرفهم في خزائن رحمة ربك، أتى بالإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم فقال: * (أم لهم م لك * السماوات والارض) *: أي ليس لهم شيء من ذلك. * (فليرتقوا) *: أي ألهم شيء من ذلك، فليصعدوا، * (فى * الاسباب) *، الموصولة إلى السماء، والمعارج التي يتوصل بها إلى تدبير العالم، فيضعون الرسالة فيمن اختاروا. ثم صغرهم وحقرهم، فأخبر بما يؤول إليه أمرهم من الهزيمة والخيبة. قيل: وما زائدة، ويجوز أن تكون صفة أريد به التعظيم على سبيل الهزء بهم، أو التحقير، لأن مال الصفة تستعمل على هذين المعنيين. و * (هنالك) *: ظرف مكان يشار به للبعيد. والظاهر أنه يشار به للمكان الذي تفاوضوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بتلك الكلمات السابقة، وهو مكة، فيكون ذلك إخبارا بالغيب عن هزيمتهم بمكة يوم الفتح، فالمعنى أنهم يصيرون مهزومين بمكة يوم الفتح. وقيل: * (هنالك) *، إشارة إلى الارتقاء في الأسباب، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم. وقيل: أشير بهنالك إلى جملة الأصنام وعضدها، أي هم جند مهزوم في هذه السبيل. وقال مجاهد، وقتادة: الإشارة إلى يوم بدر، وكان غيبا، أعلم الله به على لسان رسوله. وقيل: الإشارة إلى حصر عام الخندق بالمدينة. وقال الزمخشري: وهنالك، إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم من قولهم: لمن يندبه لأمر ليس من أهله، لست هنالك. انتهى. و * (هنالك) *، يحتمل أن يكون في موضع الصفة لجند، أي كائن هنالك؛ ويحتمل أن يكون متعلقا بمهزوم، وجند خبر مبتدأ محذوف، أي هم جند، ومهزوم خبره. وقال أبو البقاء: جند مبتدأ، وما زائدة، وهنالك نعت، ومهزوم الخبر. انتهى. وفيه بعد لفصله عن الكلام الذي قبله. ومعنى * (من الاحزاب) *: من جملة الأحزاب الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل. ولما ذكر تعالى أنه أهلك قبل قريش قرونا كثيرة لما كذبوا رسلهم، سرد منهم هنا من له تعلق بعرفانه. و * (ذو الاوتاد) *: أي صاحب الأوتاد، وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده. قال الأفوه العوذي:
* والبيت لا يبتنى إلا على عمد
*
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
*
فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر، كما قال الأسود:
* في ظل ملك ثابت الأوتاد
370

قاله الزمخشري، وأخذه من كلام غيره. وقال ابن عباس، وقتادة، وعطاء: كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها. وقال السدي: كان يقتل الناس بالأوتاد، ويسمرهم في الأرض بها. وقال الضحاك: أراد المباني العظيمة الثابتة. وقيل: عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره. وقيل: كان يشج المعذب بين أربع سواري، كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروبة فيها وتد من حديث، ويتركه حتى يموت. روي معناه عن الحسن ومجاهد، وقيل: كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض، ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل: يشدهم بأربعة أوتاد، ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتشدخه. وقال ابن مسعود، وابن عباس، في رواية عطية: الأوتاد: الجنود، يشدون ملكه، كما يقوي الوتد الشيء. وقيل: بنى منارا يذبح عليها الناس، قاله ابن جبير. * (أولئك الاحزاب) *: أي الذين تحزبوا على أنبيائهم، كما تحزب قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم). والظاهر أن الإشارة بأولئك إلى أقرب مذكور، وهم قوم نوح ومن عطف عليهم؛ وفيه تفخيم لشأنهم وإعلاء لهم على من تحزب على رسول الله، أي هؤلاء العظماء لما كذبوا عوقبوا، وكذلك أنتم.
*
* (إن كل إلا كذب الر سل فحق عقاب) *: فوجب عقابهم. كذبت قوم نوح، آذوا نوحا فأغرقوا؛ وقوم هود فأهلكوا بالريح؛ وفرعون فأغرق؛ وثمود بالصيحة؛ وقوم لوط بالخسف؛ والأيكة بعذاب الظلة. ومعنى * (إن كل) *: ما كان من قوم نوح فمن بعدهم، * (فحق عقاب) *: أي وجب عقابهم، فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بالرسول. قال الزمخشري: * (أولئك الاحزاب) *، قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم هم هم، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب، ولقد ذكرت تكذيبهم أولا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية، فأوضحه فيها بأن كل واحد من الأحزاب كذب الرسل، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم، فقد كذبوا جميعا، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولا، وبالاستثناء ثانيا، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العذاب وأبلغه. ثم قال: * (فحق عقاب) *: أي فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم. انتهى.
(* (وما ينظر هاؤلآء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق * وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب * اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الا يد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب * وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سوآء الصراط * إن هذآ أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذالك وإن له عندنا لزلفى وحسن مأاب * ياداوود إنا جعلناك خليفة فى الا رض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب * وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار * أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الا رض أم نجعل المتقين كالفجار * كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الا لباب * ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد * فقال إنىأحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب * ردوها على فطفق مسحا بالسوق والا عناق * ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب * قال رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدىإنك أنت الوهاب * فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخآء حيث أصاب * والشياطين كل بنآء وغواص * وءاخرين مقرنين فى الا صفاد * هاذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مأاب) *))
) *
371

الفواق، بضم الفاء وفتحها: الزمان الذي ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع، وفي الحديث: (العبادة قدر فواق الناقة). وأفاقت الناقة إفاقة: اجتمعت الفيقة في ضرعها فهي مفيق ومفيقة، عن أبي عمرو. والفيقة: اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، ويجمع على أفواق، وأفاويق جمع الجمع. وقال أبو عبيدة والفراء ومؤرج: الفواق، بالفتح: الإفاقة والاستراحة. القط، قال الفراء: الحظ والنصيب، ومنه قيل للصك: القط، وقال أبو عبيدة والكسائي: القط: الكتاب بالجوائز، وقال الأعشى:
* ولا الملك النعمان يوم لقيته
*
بغبطته يعطي القطوط ويأفق
*
ويروى بأمته: أي بنعمته، ويأفق: يصلح، وهو في الكتاب أكثر استعمالا. قال أمية بن أبي الصلت:
* قوم لهم ساحة أرض العراق وما
*
يجبى إليهم بها والقط والعلم
ويجمع أيضا على قططة، وفي القليل قط وأقطاط. تسور الحائط والسور وتسنمه والبعير: علا أعلاه. والسور: حائط المدينة، وهو غير مهمور. الشطط: مجاوزة الحد وتخطي الحق. وقال أبو عبيدة: شططت على فلان وأشططت: جرت في الحكم. التسع: رتبة من العدد معروفة، وكسر التاء أشهر من الفتح. النعجة: الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن، ويكنى بها عن المرأة. قال الشاعر:
* هما نعجتان من نعاج تبالة
*
لذي جؤذرين أو كبعض لدى هكر
*
وقال ابن عون:
* أنا أبوهن ثلاث هنه
*
رابعة في البيت صغرا هنه
*
* ونعجتي خمسا توفيهنه
*
إلا فتى سجح يغذيهنه
*
عزة: غلبه، يعزه عزا؛ وفي المثل: من عز برأي من غلب سلب. وقال الشاعر:
* قطاة عزها شرك فباتت
*
تجاذبه وقد علق الجناح
*
الصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه، وقد يفعل ذلك برجله، وهي علامة الفراهة، وأنشد الزجاج:
* ألف الصفون فما يزال كأنه
*
مما يقوم على الثلاث كسيرا
*
372

وقال أبو عبيدة: الصافن: الذي يجمع يديه ويسويهما، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المتخيم. وقال القتبي: الصافن: الواقف في الخيل وغيرها. وفي الحديث: (من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار)، أي يديمون له القيام، حكاه قطرب. وأنشد النابغة:
* لناقبة مضروبة بفنائها
*
عتاق المهارى والجياد الصوافن
*
وقال الفراء: على هذا رأيت العرب وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة. جاد الفرس: صار رابضا، يجود جودة بالضم، فهو جواد للذكر والأنثى من خيل جياد وأجواد وأجاويد. وقيل: الطوال الأعناق من الجيد، وهو العنق، إذ هي من صفات فراهتها. وقيل: الجياد جمع جود، كثوب وثياب. الرخاء: اللينة، مشتقة من الرخاوة.
* (وما ينظر هؤلآء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق * وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب * اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا * داوود * ذا الايد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب * وهل أتاك نبؤا * الخصم إذ تسوروا * المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط) *.
* (وما ينظر) *: أي ينظر، * (هؤلاء) *: إشارة إلى كفار قريش، والإشارة بهؤلاء مقوية أن الإشارة باؤلئك هي للذين يلونها من قوم نوح وما عطف عليه.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب لاستحضارهم بالذكر، أو لأنهم كالحضور عند الله. انتهى. وفيه بعد، وهو إخبار منه تعالى صدقه الوجود. والصيحة: ما نالهم من قتل وأسر وغلبة، كما تقول؛ صاح فيهم الدهر. وقال قتادة: توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور. وقيل: بصيحة يملكون بها في الدنيا. فالقول الأول فيه الانتظار من الرسول لشيء معين فيهم، وعلى هذين القولين بمدرج عقوبة، وتحت أمر خطر ما ينتظرون فيه إلا الهلكة. وقرأ الجمهور: * (من فواق) *، بفتح الفاء؛ والسلمي، وابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وطلحة: بضمها، فقيل: هما بمعنى واحد، كقصاص الشعر. وقال ابن زيد، والسدي: بالفتح، إفاقة من أفاق واستراح، كجواب من أجاب. قال ابن عباس: * (من فواق) *: من ترداد. وقال مجاهد: من رجوع.
* (عجل لنا قطنا) *: نصيبنا من العذاب. وقال أبو العالية والكلبي: صحفنا بإيماننا. وقال السدي: المعنى: أرنا منازلنا من الجنة حتى نتابعك، وعلى كل قول، فإنما قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف والاستهزاء. ومعنى * (قبل يوم الحساب) *: أي الذين يزعمون أنه واقع في العالم، إذ هم كفرة لا يؤمنون بالبعث.
ولما كانت مقالتهم تقتضي الاستخفاف، أمر تعالى نبيه بالصبر على أذاهم، وذكر قصصا للأنبياء: داود وسليمان وأبوب وغيرهم، وما عرض لهم، فصبروا حتى فرج الله عنهم، وصارت عاقبتهم أحسن عاقبة. فكذلك
373

أنت تصبر، ويؤول أمرك إلى أحسن مآل، وتبلغ ما تريد من إقامة دينك وإماتة الضلال. وقيل: * (اصبر على ما يقولون) *، وعظم أمر مخالفتهم لله في أعينهم، وذكرهم بقصة داود وما عرض له، وهو قد أوتي النبوة والملك، فما الظن بكم مع كفركم وعصيانكم؟ انتهى. وهو ملتقط من كلام الزمخشري مع تغيير بعض ألفاظه لا تناسب منصب النبة. وقيل: أمر بالصبر، فذكر قصص الأنبياء ليكون برهانا على صحة نبوته. وقيل: * (اصبر على ما يقولون) *، وحافظ على ما كلفت به من مصابرتهم، وتحمل أذاهم، واذكر داود وكرامته على الله، وما عرض له، ومالقي من عتب الله. * (ذا الايد) *: أي ذا القوة في الدين والشرع والصدع بأمر الله والطاعة لله، وكان من ذلك قويا في بدنه. والآواب: الرجاع إلى طاعة الله، قاله مجاهد وابن زيد. وقال السدي: المسبح. ووصفه بأنه أوأب يد على أن ذا الأيد معناه: القوة في الدين. ويقال: رجل أيد وأيد وذو أد وأياد: كل بمعنى ما يتقوى. و * (* الإشراق) *: وقت الإشراق. قال ثعلب: شرقت الشمس، إذا طلعت؛ وأشرقت: إذا أضاءت وصفت. وفي الحديث، أنه عليه السلام، صلى صلاة الضحى وقال: (يا أم هانىء، هذه صلاة الإشراق، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل). وتقدم كل الكلام في تسبيح الجبال في قصة داود في سورة الأنبياء، وأتى بالمضارع باسم الفاعل دلالة على حدوث التسبيح شيئا بعد شيء، وحالا بعد حال؛ فكأن السامع محاضر تلك الجبال سمعها تسبح. ومثله قول الأعشى:
* لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في بقاع تحرق
*
أي: تحرق شيئا فشيئا. ولو قال محرقة، لم يدل على هذا المعنى. وقرأ الجمهور: * (والإشراق والطير محشورة) *، بنصبهما، عطفا على الجبال يسبحن، عطف مفعول على مفعول، وحال على حال، كقولك: ضربت هندا مجردة، ودعدا لابسة. وقرأ ابن أبي عبلة، والجحدري: والطير محشورة، برفعهما، مبتدأ وخبر، أو جاء محشورة باسم المفعول، لأنه لم يرد أنها تحشر شيئا، إذ حاشرها هو الله تعالى، فحشرها جملة واحدة أدل على القدرة. والظاهر عود الضمير في له على داود، أي كل واحد من الجبل والطير لأجل داود، أي لأجل تسبيحه. سبح لأنها كانت ترجع تسبيحه، ووضع الأواب موضع المسبح. وقيل: الضمير عائد على الله، أي كل من داود والجبال والطير أواب، أي مسبح مرجع للتسبيح.
وقرأ الجمهور: * (وشددنا) *، مخففا: أي قوينا، كقوله: * (سنشد عضدك بأخيك) *. والحسن، وابن أبي عبلة: بشد الدال، وهي عبارة شاملة لما وهبه الله تعالى من قوة وجند ونعمة، فالتخصيص ببعض الأشياء لا يظهر. وقال السدي: بالجنود. قيل: كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مسلم يحرسونه، وهذا بعيد في العادة؛ وقيل: بهيبة قذفها الله له في قلوب قومه. و * (الحكمة) * هنا: النبوة، أو الزبور، أو الفهم في الدين، أو كل كلام، ولقن الحق أقوال. * (وفصل الخطاب) *، قال علي والشعبي: إيجاب اليمين على المدعى عليه، والبينة على المدعي. وقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه. وقال الشعبي: كلمة أما بعد، لأنه أول من تكلم بها وفصل بين كلامين. قال الزمخشري: لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أما بعد. ويجوز أن يراد بالخطاب: القصد الذي ليس له فيه اختصار مخل، ولا إشباع ممل؛ ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم))
374

، فصل لا نذر ولا هذر. انتهى. ولما كان تعالى قد كمل نفس نبيه داود بالحكمة، أردفه ببيان كمال خلقه في النطق والعبادة فقال: * (وفصل الخطاب) *.
* (وهل أتاك نبؤا الخصم) *: لما أنثى تعالى على داود عليه السلام بما أثنى، ذكر قصته هذه، ليعلم أن مثل قصته لا يقدح في الثناء عليه والتعظيم لقدره، وإن تضمنت استغفاره ربه، وليس في الاستغفار ما يشعر بارتكاب أمر يستغفر منه، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة. ومجئ مثل هذا الاستفهام إنما يكون لغرابة ما يجيء معه من القصص، كقوله: * (وهل أتاك حديث موسى) *، فيتهيأ المخاطب بهذا الاستفهام لما يأتي بعده ويصغي لذلك. وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء، ضربنا عن ذكرها صفحا، وتكلمنا على ألفاظ الآية. والنبأ: الخبر، فالخبر أصله مصدر، فلذلك تصلح للمفرد والمذكر وفروعهما، وهنا جاء للجمع، ولذلك قال: * (إذ تسوروا) *: إذ دخلوا، كما قال الشاعر:
* وخصم يعدون الدخول كأنهم
*
قروم غيارى كل أزهر مصعب
*
والظاهر أنهم كانوا جماعة، فلذلك أتى بضمير الجمع. فإن كان المتحاكمان اثنين، فيكون قد جاء معهم غيرهم على جهة المعاضدة أو المؤانسة، ولا خلاف أنهم كانوا ملائكة، كذا قال بعضهم. وقيل: كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم، والأول أشهر. وقيل: الخصم هنا اثنان، وتجوز في العبارة فأخبر عنهما أخبار ما زاد على اثنين، لأن معنى الجمع في التثنية. وقيل: معنى خصمان: فريقان، فيكون تسوروا ودخلوا عائدا على الخصم الذي هو جمع الفريقين، ويدل على أن خصمان بمعنى فريقان قراءة من قرأ: بغى بعضهم على بعض. وقال تعالى: * (هاذان خصمان اختصموا فى ربهم) *، بمعنى: فأما إن هذا أخي. وما روي أنه بعث إليه ملكان، فالمعنى: أن التحاكم كان بين اثنين، ولا يمتنع أن يصحبهما غيرهما. وأطلق على الجميع خصم، وعلى الفريقين خصمان، لأن من جاء مع متخاصم لمعاضدة فهو في سورة خصم، ولا يبعد أن تطلق عليه التسمية، والعامل في الظرف، وهو إذ أتاك، قاله الحوفي ورد بأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا يقع إلا في عهده، لا في عهد داود. وقال ابن عطية، وأبو البقاء: العامل فيه نبأ ورد بما رد به ما قبله أن النبأ الواقع في عهد داود عليه السلام لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم). وإذا أردت بالنبأ القصة في نفسها، لم يكن ناصبا. وقيل: العامل فيه محذوف تقديره: وهل أتاك تخاصم الخصم؟ قاله الزمخشري. ويجوز أن ينتصب بالخصم، لما فيه من معنى الفعل. وإذ دخلوا بدل من إذ الأولى؛ وقيل: ينتصب بتسوروا. وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما، فتسورا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان.
قال ابن عباس: جزأ زمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما لجميع بني إسرائيل، فيعظهم ويبكيهم. فجاءوه في غير القضاء، ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه، فخاف أن يؤذوه. وقيل: كان ذلك ليلا، ويحتمل أن يكون فزعه من أجل أن أهل ملكته قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان، فينكون فزعه على فساد السيرة، لا من الداخلين. وقال أبو الأحوص: فزع منهم لأنهما دخلا عليه، وكل منهما آخذ برأس صاحبه. وقيل: فزع منهم لما رأى من تسورهم على موضع مرتفع جدا لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد. وقيل: إنهما قالا: لم نتوصل إليك إلا بالتسور لمنع الحجاب، وخفنا تفاقم الأمر بيننا، فقبل داود عذرهم. ولما أدركوا منه الفزع قالوا: * (لا تخف) *، أي لسنا ممن جاء إلا لأجل التحاكم. * (خصمان) *: يحتمل أن يكون هذا موصولا بقولهما: * (لا تخف) *، بادر بإخبار ما جاءا إليه. ويحتمل أن يكون سألهم: ما أمركم؟ فقالوا: خصمان، أي نحن خصمان. * (بغى) *: أي
375

جار، * (بعضهم على بعض) *، كما قال الشاعر:
* ولكن الفتى حمل بن بدر
*
بغى والبغي مرتعه وخيم
*
وقرأ أبو يزيد الجراد، عن الكسائي: خصمان، بكسر الخاء؛ وفي أمرهم له ونهيهم ببعض فظاظة على الحكام، حمل على ذلك ما هم فيه من التخاصم والتشاجر، واستدعوا عدله من غير ارتياب في أنه يحكم بالعدل. وقرأ الجمهور: * (ولا تشطط) *، مفكوكا من أشط رباعيا؛ وأبو رجاء، وابن أبي عبلة، وقتادة، والحسن، وأبو حيوة: تشطط، من شط ثلاثيا. وقرأ قتادة أيضا: تشط، مدغما من أشط. وقرأ زر: تشاطط، بضم التاء وبالألف على وزن تفاعل، مفكوكا. وعن قتادة أيضا: تشطط من شطط، * (وسوآء * الصراط) *: وسط طريق الحق، لا ميل فيه من هنا ولا هنا.
* (إن هذا أخى) *: هو قول المدعي منهما، وأخي عطف بيان عند ابن عطية، وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري. والأخوة هنا مستعارة، إذ هما ملكان، لكنهما لما ظهرا في صورة انسانين تكلما بالأخوة، ومجازها أنها إخوة في الدين والإيمان، أو على معنى الصحبة والمرافقة، أو على معنى الشركة والخلطة لقوله: * (وإن كثيرا من الخلطاء) *، وكل واحدة من هذه الأخوات تقتضي منع الاعتداء، ويندب إلى العدل. وقرأ الجمهور: * (تسع وتسعون) *، بكسر التاء فيهما. وقرأ الحسن، وزيد بن علي: بفتحها. وقرأ الجمهور: * (نعجة) *، بفتح النون؛ والحسن، وابن هرمز: بكسر النون، وهي لغة لبعض بني تميم. قيل: وكنى بالنعجة عن الزوجة. * (فقال أكفلنيها) *: أي ردها في كفالتي. وقال ابن كيسان: اجعلها كفلي، أي نصيبي. وقال ابن عباس: أعطنيها؛ وعنه، وعن ابن مسعود: تحول لي عنها؛ وعن أبي العالية: ضمها إلي حتى أكفلها. * (وعزنى فى الخطاب) *، قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني. وقال ابن عطية: كان أوجه مني وأقوى، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي، وقوته أعظم من قوتي. وقال الزمخشري: جاءني محجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أرده به. وأراد بالخطاب: مخاطبة المحاج المجادل، أو أراد خطيب المرأة، وخطبها هو فخاطبني خطابا: أي غالبني في الخطبة، فغلبني حيث زوجها دوني؛ وقيل: غلبني بسلطانه، لأنه لما سأله لم يستطع خلافه. قال الحافظ أبو بكر بن العربي: كان ببلادنا أمير يقال له سيري بن أبي بكر، فكلمته في أن يسأل لي رجلا حاجة، فقال لي: أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غضب لها؟ فقلت: أما إذا كان عدلا فلا. وقرأ أبو حيوة، وطلحة: وعزني، بتخفيف الزاي. قال أبو الفتح: حذف الزاي الواحدة
تخفيفا، كما قال أبو زبيد:
أحسن به فهز إليه شوس
وروي كذلك عن عاصم. وقرأ عبيد الله، وأبو وائل، ومسروق، والضحاك، والحسن، وعبيد بن عمير: وعازني، بألف وتشديد الزاي: أي وغالبني. والظاهر إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضأن، ولا يكنى بها عن المرأة، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك لأن ذلك الإخبار كان صادرا من الملائكة، على سبيل التصوير للمسئلة والفرض لها مرة غير تلبس بشيء منها، فمثلوا بقصة رجل له نعجة، ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة، فطمع في نعجة خليطة، وأراد انتزاعها منه؛ وحاجة في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده، ويدل على ذلك قوله: * (وإن كثيرا من الخلطاء) *، وهذا التصوير والتمثيل أبلغ في المقصود وأدل على المراد.
* (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) *: ليس هذا ابتداء من داود،
376

عليه السلام، إثر فراغ لفظ المدعي، ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور ما يجب، فقيل ذلك على تقدير، أي لئن كان ما تقول، * (لقد ظلمك) *. وقيل: ثم محذوف، أي فأقر المدعي عليه فقال: * (لقد ظلمك) *، ولكنه لم يحك في القرآن اعتراف المدعي عليه، لأنه معلوم من الشرائع كلها، إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه. فأما ما قاله الحليمي من أنه رأى في المدعي مخايل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم، كما تقول، فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه، فاستعجل بقوله: * (لقد ظلمك) *، فقوله ضعيف لا يعول عليه. وروي أن داود، عليه السلام، لما سمع كلام الشاكي قال للآخر: ما تقول؟ فأقر فقال له: لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك، وقال للثاني: * (لقد ظلمك) *؛ فتبسما عند ذلك وذهبا، ولم يرهما لحينه، ورأى أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه. وأضاف المصدر إلى المفعول، وضمن السؤال معنى الإضافة، أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال والطلب، ولذلك عداه بإلى.
* (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض) *: هذا من كلام داود، ويدل على أن زمانه كان فيه الظلم والاعتداء كثيرا. والخلطاء: الشركاء الذين خلطوا أموالهم، الواحد خليط. قصد داود بهذا الكلام الموعظة الحسنة، والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة، وأن يكره إليهم الظلم، وأن يسلي المظلوم عن ما جرى عليه من خليطه، وأن له في أكثر الخلطاء أسوة. وقرئ: ليبغي، بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة، وأصله: ليبغين، كما قال:
اضرب عنك الهموم طارقها يريد: اضربن، ويكون على تقدير قسم محذوف ذلك القسم، وجوابه خير لأن. وعلى قراءة الجمهور، يكون ليبغي خبرا لأن. وقرئ: ليبغ، بحذف الياء كقوله:
محمد تفد نفسك كل نفس
أي: تفدي على أحد القولين. و * (قليل) *: خبره مقدم، وما زائدة تفيد معنى التعظيم والتعجب، وهم مبتدأ. * (وظن * داوود) *: لما كان الظن الغالب يقارب العلم، استعير له، ومعناه: وعلم داود وأيقن أنا ابتليناه بمحاكمة الخصمين. وأنكر ابن عطية مجيء الظن بمعنى اليقين. وقال: لسنا نجده في كلام العرب، وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ودلالة اليقين التام، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون: ظن بمعنى أيقن، وطول ابن عطية في ذلك بما يوقف عليه في كتابه. وقرأ الجمهور: * (فتناه) *؛ وعمر بن الخطاب، وأبو رجاء، والحسن: بخلاف عنه، شد التاء والنون مبالغة؛ والضحاك: أفتناه، كقوله:
لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت
وقتادة، وأبو عمرو في رواية؛ يخفف التاء والنون، والألف ضمير الخصمين. * (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) *، راكعا: حال، والخرور: الهوي إلى الأرض. فإما أنه عبر بالركوع عن السجود، وإما أنه ذكر أول أحوال الخرور، أي راكعا ليسجد. وقال الحسن: لأنه لا يكون ساجدا حتى يركع. وقال الحسن بن الفضل: أخر من ركوعه، أي سجد بعد أن كان راكعا وقال قوم: يقال خر لمن ركع، وإن لم ينته إلى الأرض. والذي يذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس، دخلوا عليه من غير المدخل، وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه، إذا كان منفردا في محرابه لعبادة ربه. فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكم، كما قص الله تعالى، وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة إنقاذ من الله له أن يغتالوه، فلم يقع ما كان طنه، فاستغفر من ذلك الظن، حيث أخلف ولم يكن يقع مظنونه، وخر ساجدا، أو رجع إلى الله تعالى فغفر له ذلك الظن؛ ولذلك أشار بقوله: * (فغفرنا له ذالك) *،
377

ولم يتقدم سوى قوله: * (وظن * داوود * أنما فتناه) *، ويعلم قطعا أن الأنبياء، عليهم السلام، معصومون من الخطايا، لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة أن لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك، بطلت الشرائع، ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم، فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده تعالى، وما حكى القصاص مما فيه غض عن منصب النبوة طرحناه، ونحن كما قال الشاعر:
* ونؤثر حكم العقل في كل شبهة
*
إذا آثر الأخبار جلاس قصاص
*
* (مئاب ياداوود إنا جعلناك خليفة فى الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون) *.
جعله تعالى داود خليفة في الأرض يدل على مكانته، عليه السلام، عنده واصطفائه، ويدفع في صدر من نسب إليه شيئا مما لا يليق بمنصب النبوة. واحتمل لفظ خليفة أن يكون معناه: تخلف من تقدمك من الأنبياء، أن يعلي قدرك بجعلك ملكا نافذ الحكم، ومنه قيل: خلفاء الله في أرضه. واستدل من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله، ولا يلزم ذلك من الآية، بل لزومه من جهة الشرع والإجماع. قال ابن عطية: ولا يقال خليفة الله إلا لرسول. وأما الخلفاء، فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز، كما قال قيس الرقيات:
* خليفة الله في بريته
*
حقت بذاك الأقلام والكتب
*
وقالت الصحابة لأبي بكر: خليفة رسول الله، وبذلك كان يدعى مدته. فلما ولي عمر قالوا: خليفة خليفة رسول الله، وطال الأمر وزاد أنه في المستقبل، فدعوه أمير المؤمنين، وقصر هذا الاسم على الخلفاء. انتهى. * (فاحكم بين الناس بالحق) *: أمر بالديمومة، وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس. فمن حيث هو معصوم لا يحكم إلا بالحق، أمر أولا بالحكم؛ ولما كان الهوى قد يعرض لغير المعصوم، أمر باجتنابه، وذكر نتيجة اتباعه، وهو إضلاله عن سبيل الله. و * (فيضلك) *: جواب للنهي، والفاعل في
378

فيضلك ضمير * (الهوى) *، أو ضمير المصدر المفهوم من * (ولا تتبع) *، أي فيضلك اتباع الهوى. ولما ذكر ما ترتب على اتباع الهوى، وهو الإضلال عن سبيل الله، ذكر عقاب الضال. وقرأ الجمهور: * (يضلون) *، بفتح الياء، لأنهم لما أضلهم اتباع الهوى صاروا ضالين. وقرأ ابن عباس، والحسن: بخلاف عنهما؛ وأبو حيوة: بضم الياء، وهذه القراءة أعم، لأنه لا يضل الإضال في نفسه؛ وقراءة الجمهور أوضح. و * (بما نسوا) *: متعلق بما تعلق به لهم، ونسوا: تركوا، و * (يوم) *: يجوز أن يكون منصوب بنسوا، أو بما تعلق به لهم، ويكون النسيان عبارة عن ضلالهم عن سبيل الله. وانتصب * (باطلا) * على أنه نعت لمصدر محذوف، أي خلق باطلا، أو على الحال، أي مبطلين، أو ذوي باطل، أو على أنه مفعول من أجله. معنى باطلا: عبثا.
* (ذالك) *: أي كون خلقها باطلا، * (ظن الذين كفروا) *: أي مظنونهم، وهؤلاء، وإن كانوا مقرين بأن خالق السماوات والأرض هو الله تعالى، فهم من حيث أنكروا المعاد والثواب والعقاب ظانون أن خلق ذلك ليس بحكمة، وأن خلق ذلك إنما هو عبث؛ ولذلك قال تعالى: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) *. فنبه على المعاد والرجوع إلى جزائه، ثم ذكر ما بين المؤمن، عامل الصالحات، والمفسد من التباين، وأنهما ليساسيين، وقابل الصلاح بالفساد، والتقوى بالفجور. قال ابن عباس: هي عامة في جميع المسلمين والكافرين. وقيل في قوم من مشركي قريش قالوا: نحن لنا في الآخرة أعظم مما لنا في الدنيا، فأنزل الله هذه الآية. وقيل في جماعة من المؤمنين والكافرين معينين بارزوا يوم بدر عليا وحمزة وعبيدة بن الحرث، رضي الله عنهم، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة؛ ووصف كلا ناسبه. والاستفهام بأم في الموضعين استفهام إنكار، والمعنى: أنه لا يستوي عند الله من أصلح ومن أفسد، ولا من اتقى ومن فجر، وكيف تكون التسوية بين من أطاع ومن عصي؟ إذن كان يبطل الجزاء، والجزاء لا محالة واقع، والتسوية منتفية.
ولما انتفت التسوية، بين ما تصلح به لمتبعه السعادة الأبدية، وهو كتاب الله تعالى، فقال: * (كتاب أنزلناه) *، وارتفاعه على إضمار متبدأ، أي هذا كتاب. وقرأ الجمهور: * (مبارك) *، على الصفة. وقرئ: مبارك، على الحال اللازمة، أي هذا كتاب. وقرأ الجمهور: * (ليدبروا ءاياته) *، بياء الغيبة وشد الدال، وأصله ليتدبروا. وقرأ علي بهذا الأصل. وقرأ أبو جعفر: بتاء الخطاب وتخفيف الدال؛ وجاء كذلك عن عاصم والكسائي بخلاف عنهما، والأصل: لتتدبروا بتاءين، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها، أهي تاء المضارعة أم التاء التي تليها؟ واللام في ليدبروا لام كي، وأسند التدبر في الجميع، وهو التفكر في الآيات، والتأمل الذي يفضي بصاحبه إلى النظر في عواقب الأشياء. وأسند التذكر إلى أولي العقول، لأن ذا العقل فيه ما يهديه إلى الحق وهو عقله، فلا يحتاج إلا إلى ما يذكره فيتذكروا، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: * (نعم العبد) * هو، أي سليمان. وقرئ: نعم على الأصل، كما قال:
نعم الساعون في القوم الشطر
أثنى تعالى عليه لكثرة رجوعه إليه، أو لكثرة تسبيحه. * (إذ عرض) *، الناصب لإذ، قيل: * (أواب) *، وقيل: اذكر على الاختلاف في تأويل هذه الآية. قال الجمهور: عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه له، وقيل: ألف واحد، فأجريت بين يديه عشيا، فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكر له، فقال: ردوها علي. فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف لما كانت سبب الذهول عن ذلك الذكر، فأبد له الله أسرع منها الريح. وقال قوم، منهم الثعلبي: كانت بالناس مجاعة، ولحوم الخيل لهم حلال، فعقرها لتؤكل على سبيل القربة، ونحر الهدى عندنا. انتهى. وفي هذه القصة ألفاظ فيها
379

غض من منصب النبوة كفينا عنه. والخير في قوله * (حب الخير) *: أي هذا القول يراد به الخيل. والعرب تسمي الخيل الخير، قاله قتادة والسدي: وقال الضحاك، وابن جبير: الخير هنا المال، وانتصب حب الخير، قيل: على المفعول به لتضمن أحببت معنى آثرت، قاله الفراء. وقيل: منصوب على المصدر التشبيهي، أي
أحببت الخيل كحب الخير، أي حبا مثل حب الخير. وقيل: عدى بعن فضمن معنى فعل يتعدى بها، أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي، أو جعلت حب الخير مغني عن ذكر ربي. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان أن أحببت بمعنى: لزمت، من قوله:
مثل بعير السوء إذ أحبا
وقالت فرقة: * (أحببت) *: سقطت إلى الأرض، مأخوذ من أحب البعير إذا أعي وسقط. قال بعضهم: حب البعير: برك، وفلان: طأطأ رأسه. وقال أبو زيد: بعير محب، وقد أحب إحبابا، إذا أصابه مرض أو كسر، فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت. قال ثعلب: يقال للبعير الحسير محب، فالمعنى: قعدت عن ذكر ربي. وحب الخير على هذا مفعول من أجله، والظاهر أن الضمير في * (توارت) * عائد على * (الصافنات) *، أي دخلت اصطبلاتها، فهي الحجاب. وقيل: حتى توارت في المسابقة بما يحجبها عن النظر. وقيل: الضمير للشمس، وإن لم يجر لها ذكر لدلالة العشي عليها. وقالت طائفة: عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة، فأشار إليهم أني في صلاتي، فأزالوها عنه حتى دخلت في الاصطبلات؛ فقال هو لما فرغ من صلاته: * (إنى أحببت حب الخير) *، أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي، كأنه يقول: فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها، ردوها علي فطفق يمسح أعرافها وسوقها محبة لها. وقال ابن عباس والزهري: مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف بل بيدية تكريما لها ومحبة، ورجحه الطبري. وقيل: بل غسلا بالماء. وقال الثعلبي: إن هذا المسح كان في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله. انتهى. وهذا القول هو الذي يناسب مناصب الأنبياء، لا القول المنسوب للجمهور، فإن في قصته ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء.
و * (حتى توارت) *: غاية، فالفعل يكون قبلها متطاولا حتى تصح الغاية، فأحببت: معناه أردت المحبة. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: * (ردوها على) *؟ قلت: بمحذوف تقديره: قال ردوها علي، فأضمروا ضمير ما هو جواب له، كأن قائلا قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء ظاهرا. ثم ذكر الزمخشري لفظا فيه غض من النبوة فتركته. وما ذهب إليه من هذا الإضمار لا يحتاج إليه، إذ الجملة مندرجة تحت حكاية القول وهو: * (فقال إنى أحببت) *. فهذه الجملة وجملة * (ردوها على) * محكيتان بقال، وطفق من أفعال المقاربة للشروع في الفعل، وحذف غيرها لدلالة المصدر عليه، أي فطفق يمسح مسحا. وقرأ الجمهور: * (مسحا) *: وزيد بن علي: مساحا، على وزن قتال، والباء * (فى * بالسوق) * زائدة، كهي في قوله: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) *. وحكى سيبويه: مسحت برأسه ورأسه بمعنى واحد، وتقدم الكلام على ذلك في المائدة. وقرأ الجمهور: بالسوق، بغير همز على وزن فعل، وهو جمع ساق، على وزن فعل بفتح العين، كأسد وأسد؛ وابن كثير بالهمز، قال أبو علي: وهي ضعيفة، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو وقدر أنها عليها فهمزت، كما يفعلون بالواو المضمومة. ووجه همز السوق من السماع أن أبا حبة النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة، وكان ينشد:
حب المؤقدين إلى مؤسى
انتهى. وليست ضعيفة، لأن الساق فيه الهمزة، ووزن فعل بسكون العين، فجاءت هذه القراءة على هذه اللغة. وقرأ
380

ابن محيصن: بهمزة بعدها الواو، رواهما بكار عن قنبل. وقرأ زيد بن علي: بالساق مفردا، اكتفى به عن الجمع لأمن اللبس. ومن غريب القول أن الضمير في ردوها عائد على الشمس، وقد اختلفوا في عدد هذه الخيل على أقوال متكاذبة، سودوا الورق بذكرها.
* (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا) *: نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الأنبياء منها، يوقف عليها في كتبهم، وهي مما لا يحل نقلها، وأما هي من أوضاع اليهود والزنادقة، ولم يبين الله الفتنة ما هي، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان. وأقرب ما قيل فيه: أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال: (لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة واحدة، وجاءته بشق رجل). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (والذي نفسي بيده، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون). فالمراد بقوله: * (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا) * هو هذا، والجسد الملقى هو المولود شق رجل. وقال قوم: مرض سليمان مرضا كالإغماء حتى صار على كرسيه جسدا كأنه بلا روح. ولما أمر تعالى نبيه عليه السلام بالصبر على ما يقول كفار قريش وغيرهم، أمره بأن يذكر من ابتلي فصبر، فذكر قصة داود وقصة سليمان وقصة أيوب ليتأسى بهم، وذكر ما لهم عنده من الزلفى والمكانة، فلم يكن ليذكر من يتأسى به ممن نسب المفسرون إليه ما يعظم أن يتفوه به ويستحيل عقلا وجود بعض ما ذكروه، كتمثل الشيطان بصورة نبي، حتى يلتبس أمره عند الناس، ويعتقدون أن ذلك المتصور هو النبي، ولو أمكن وجود هذا، لم يوثق بإرسال نبي، وإنما هذه مقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية، نسأل الله سلامة أذهاننا وعقولنا منها. * (ثم أناب) *: أي بعد امتحاننا إياه، أدام الإنابة والرجوع.
* (قال رب اغفر لى) *: هذا أدب الأنبياء والصالحين من طلب المغفرة من الله هضما للنفس وإظهارا للذلة والخشوع وطلبا للترقي في المقامات، وفي الحديث: (إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة)، والاستغفار مقدمة بين يدي ما يطلب المستغفر بطلب الأهم في دينه، فيترتب عليه أمر دنياه، كقول نوح في ما حكى الله عنه: * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا) * الآية. والظاهر أن طلب الملك كان بعد هذه المحنة. وذكر المفسرون أنه أقام في ملكه عشرين سنة قبل هذا الابتلاء، وأقام بعدها عشرين سنة، فيمكن أنه كان في ملك قبل المحنة، ثم سأل بعدها ملكا مقيدا بالوصف الذي بعده، وهو كونه لا ينبغي لأحد من بعده، واختلفوا في هذا القيد، فقال عطاء بن أبي رباح وقتادة: إلى مدة حياتي، لا أسلبه ويصير إلى غيري. وقال ابن عطية: إنما قصد بذلك قصدا جائزا، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد، لا سيما بحسب المكانة والنبوة. وانظر إلى قوله: * (لا ينبغى) *، إنما هي لفظة محتملة ليست تقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد. انتهى.
وقال الزمخشري: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة ووارثا لهما؛ فأراد أن يطلب من ربه معجزة، فطلب على حسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوته، قاهرا للمبعوث إليهم، ولن يكون معجزة حتى تخرق العادات، فذلك معنى قوله: * (لا ينبغى لاحد من بعدى) *. وقيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن يعطي مثله أحد، فلا يحافظ على حدود الله فيه، كما قالت الملائكة: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) *. وقيل: ملكا لا أسلبه، ولا يقوم فيه غيري مقامي. ويجوز أن يقال: علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، وعلم أنه لا يطلع بأحبابه غيره، وأوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أن لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده. أو أراد أن يقول: ملكا عظيما، فقال: * (لا ينبغى لاحد من بعدى) *، ولم يقصد بذلك إلا عظمة الملك وسعته، كما تقول لفلان: ما ليس لأحد من الفضل والمال، وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده. انتهى.
ولما بالغ في صفة هذا الملك الذي طلبه، أتى في صفته تعالى باللفظ الدال على المبالغة فقال: * (إنك أنت الوهاب) *: أي الكثير الهبات، لا يتعاظم عنده هبة. ولما طلب الهبة التي اختص بطلبها، وهبه وأعطاه ما ذكر تعالى من قوله: * (فسخرنا له الريح) *. وقرأ الجمهور: بالإفراد؛ والحسن، وأبو رجاء
381

وقتادة، وأبو جعفر: الرياح بالجمع، وهو أعم لعظم ملك سليمان، وإن كان المفرد بمعنى الجمع لكونه اسم جنس. * (تجرى) *: يحتمل أن تكون جملة حالية، أي جارية، وأن تكون تفسيرية لقوله: * (فسخرنا له الريح) *. * (بأمره) *؛ أي لا يمتنع عليه إذا أراد جريها. * (رخاء) *، قال ابن عباس والحسن والضحاك: مطيعة. وقال مجاهد: طيبة. * (حيث أصاب) *: أي حيث قصد وأراد، حكى الزجاج عن العرب. أصاب الصواب فأخطأ الجواب: أي قصد. وعن رؤية أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة، فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟ فقال: هذه طلبتنا. ويقال: أصاب الله بك خيرا، وأنشد الثعلبي:
* أصاب الكلام فلم يستطع
*
فأخطأ الجواب لدى المفصل
*
وقال وهب: حيث أصاب، أي أراد. قيل: ويجوز أن يكون أصاب دخلت فيه همزة التعدية من صاب، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر. وقيل: أصاب: أراد، بلغة حمير. وقال قتادة: بلغة هجر. * (والشياطين) *: معطوف على الريح و * (كل بناء وغواص) *: بدل، وأتى ببنية المبالغة، كما قال: * (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل) * الآية، وقال النابغة:
* إلا سليمان إذ قال الإله له
*
قم في البرية فاحددها عن الفند
*
* وجيش الجن إني قد أذنت لهم
*
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
*
والمعطوف على العام عام، فالتقدير: وكل غواص، أي في البحر يستخرجون له الحلية، وهو أول من استخرج الدر. * (وءاخرين) *: عطف على كل، فهو داخل في البدل، إذ هو بدل كل من كل بدل التفصيل، أي من الجن، وهم المردة، سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم. وقال النابغة في ذلك:
* فمن أطاعك فانفعه بطاعته
*
كما أطاعك وادلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
*
وتقدم تفسير * (مقرنين فى الاصفاد) * في آخر سورة إبراهيم عليه السلام، وأوصاف من ملك سليمان في سورة النمل. * (هاذا عطاؤنا) *: إشارة لما أعطاه الله تعالى من الملك الضخم وتسخير الريح والإنس والجن والطير، وأمره بأن يمن على من يشاء ويمسك عن من يشاء. وقفه على قدر النعمة، ثم أباح له التصرف فيها بمشيئته، وهو تعالى قد علم أنه لا يتصرف إلا بطاعة الله. قال الحسن وغيره، قاله قتادة: إشارة إلى ما فعله الجن، أي فامتن على من شئت منهم، وأطلقه من وثاقه، وسرحه من خدمته، وامسك أمره كما تريد. وقال ابن عباس: إشارة إلى ما وهبه من النساء وأقدره عليهن من جماعهن، ولعله لا يصح عن ابن عباس، لأنه لم يجر
هنا ذكر النساء، ولا ما أوتي من القدرة على ذلك، و * (بغير حساب) *: في موضع الحال من * (عطاؤنا) *، أي هذا عطاؤنا جما كثيرا لا تكاد تقدر على حصر. ويجوز أن يكون * (بغير حساب) * من تمام * (فامنن) *. أو أمسك: أي لا حساب عليك في إعطاء من شئت أو حرمانه، وفي إطلاق من شئت من الشياطين أو إيثاقه.
وختم تعالى قصته بما ذكر في قصة والده، وهو قوله: * (فغفرنا له ذالك وإن له عندنا) *. وقرأ الجمهور: * (وحسن مئاب) *، بالنصب عطفا على * (* الزلفى) *. وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة: بالرفع، ويقفان على * (عندنا لزلفى) *، ويبتدئانه * (وحسن مئاب) *، وهو مبتدأ، خبره محذوف تقديره: وحسن مآب له.
382

2 (* (واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب * اركض برجلك هاذا مغتسل بارد وشراب * ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لا ولى الا لباب * وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب * واذكر عبادنآ إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الا يدى والا بصار * إنآ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الا خيار * واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الا خيار * هاذا ذكر وإن للمتقين لحسن مأاب * جنات عدن مفتحة لهم الا بواب * متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب * وعندهم قاصرات الطرف أتراب * هاذا ما توعدون ليوم الحساب * إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد * هاذا وإن للطاغين لشر مأاب * جهنم يصلونها فبئس المهاد * هاذا فليذوقوه حميم وغساق * وءاخر من شكله أزواج * هاذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالو النار * قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار * قالوا ربنا من قدم لنا هاذا فزده عذابا ضعفا فى النار * وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الا شرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار * إن ذلك لحق تخاصم أهل النار * قل إنمآ أنا منذر وما من إلاه إلا الله الواحد القهار * رب السماوات والا رض وما بينهما العزيز الغفار * قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ما كان لى من علم بالملإ الا على إذ يختصمون * إن يوحى إلى إلا أنمآ أنا نذير مبين * إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتىإلى يوم الدين * قال رب فأنظرنىإلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين * قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين) *)) 2
الضغث: حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان، وقيل: القبضة الكبيرة من القضبان، ومنه قولهم: ضغث على إبالة، والإبالة: الحزمة من الحطب، والضغث: القبضة عليها من الحطب أيضا، ومنه قول الشاعر:
* وأسفل مني نهدة قد ربطتها
*
وألقيت ضغثا من خلى متطيب
*
الحنث: فعل ما حلف على تركه، وترك ما حلف على فعله، الغساق: ما سال، يقال: غسقت العين والجرح. وعن أبي عبيدة: أنه البارد المنتن، بلغة الترك؛ وقال الأزهري: الغاسق: البارد، ولهذا قيل: ليل غاسق، لأنه أبرد من النهار. الاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها، والقحمة: الشدة.
* (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب * اركض برجلك هاذا مغتسل بارد وشراب * ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولى الالباب * وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب * واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الايدى والابصار * إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار * واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار) *.
لما أمر نبيه بالصبر، وذكر ابتلاء داود وسليمان، وأثنى عليهما، ذكر من كان أشد ابتلاء منهما، وأنه كان في غاية الصبر، بحيث أثنى الله عليه بذلك. وأيوب: عطف بيان أو بدل. قال الزمخشري: وإذ بدل اشتمال منه. وقرأ الجمهور: * (إنى) * بفتح الهمزة، وعيسى: بكسرها، وجاء بضمير التكلم حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال: إنه مسه، لأنه غائب، وأسند المس إلى الشيطان. قال الزمخشري: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب، نسبه إليه وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله، ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به البلاء، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. وذكر في سبب بلائه أن رجلا استغاثه على ظالم، فلم يغثه. وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه ولم يفده. وقيل: أعجب بكثرة ماله. انتهى.
ولا يناسب مناصب الأنبياء ما ذكره الزمخشري من
383

أن أيوب كانت منه طاعة للشيطان فيما وسوس به، وأن ذلك كان سببا لما مسه الله به من النصب والعذاب، ولا أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه، ولا أنه داهن كافرا، ولا أنه أعجب بكثرة ماله. وكذلك ما رووا أن الشيطان سلطه الله عليه حتى أذهب أهله وماله لا يمكن أن يصح، ولا قدرة له على البشر إلا بإلقاء الوساوس الفاسدة
لغير المعصوم. والذي نقوله: أنه تعالى ابتلى أيوب عليه السلام في جسده وأهله وماله، على ما روي في الأخبار. وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم)، أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم، ولم يصبر عليه إلا امرأته، ولم يبين لنا توالي السبب المقتضي لعلته. وأما إسناده المس إلى الشيطان، فسبب ذلك أنه كان يعوده ثلاث من المؤمنين، فارتد أحدهم، فسأل عنه فقيل: ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين، فحينئذ قال: * (مسنى الشيطان) *، نزل لشفقته على المؤمنين.
مس الشيطان ذلك المؤمن حتى ارتد منزلة مسه لنفسه، لأن المؤمن الخير يتألم برجوع المؤمن الخير إلى الكفر؛ ولذلك جاء بعده: * (اركض برجلك) *، حتى يغتسل ويذهب عنه البلاء، فلا يرتد أحد من المؤمنين بسبب طول بلائه، وتسويل الشيطان أنه تعالى لا يبتلي الأنبياء. وقيل: أشار بقوله: * (مسنى الشيطان) * إلى تعريضه لامرأته، وطلبه أن تشرك بالله، وكأنه بتشكي هذا الأمر كان عليه أشد من مرضه. وقرأ الجمهور: * (بنصب) *، بضم النون وسكون الصاد، قيل: جمع نصب، كوثن ووثن؛ وأبو جعفر، وشيبة، وأبو عمارة عن حفص، والجعفي عن أبي بكر، وأبو معاذ عن نافع: بضمتين، وزيد بن علي، والحسن، والسدي؛ وابن عبلة، ويعقوب، والجحدري: بفتحتين؛ وأبو حيوة، ويعقوب في رواية، وهبيرة عن حفص: بفتح النون وسكون الصاد. وقال الزمخشري: النصب والنصب، كالرشد والرشد، والنصب على أصل المصدر، والنصب تثقيل نصب، والمعنى واحد، وهو التعب والمشقة. والعذاب: الألم، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب. انتهى.
وقال ابن عطية: وقد ذكر هذه القراءات، وذلك كل بمعنى واحد معناه المشقة، وكثيرا ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء. وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ، والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم: أنصبني الأمر، إذا شق علي انتهى. وقال السدي: بنصب في الجسد وعذاب في المال، وفي الكلام حذف تقديره: فاستجبنا له وقلنا: * (اركض برجلك) *، فركض، فنبعت عين، فقلنا له: * (هاذا مغتسل بارد وشراب) * فيه شقاؤك، فاغتسل فبرأ، * (ووهبنا له) *، ويدل على هذه المحذوفات معنى الكلام وسياقه. وتقدم الكلام في الركض في سورة الأنبياء. وعن قتادة والحسن ومقاتل: كان ذلك بأرض الجابية من الشأم.
ومعنى * (هاذا مغتسل) *: أي ما يغتسل به، * (وشراب) *، أي ما تشربه، فباغتسالك يبرأ ظاهرك، وبشربك يبرأ باطنك. والظاهر أن المشار إليه كان واحدا، والعين التي نبعت له عينان، شرب من إحداهما واغتسل من الأخرى. وقيل: ضرب برجله اليمنى، فنبعت عين حارة فاغتسل. وباليسرى، فنبعت باردة فشرب منها، وهذا مخالف لظاهر قوله: * (مغتسل بارد) *، فإنه يدل على أنه ماء واحد. وقيل: أمر بالركض بالرجل، ليتناثر عنه كل داء بجسده. وقال القتبي: المغتسل: الماء الذي يغتسل به. وقال مقاتل: هو الموضع الذي يغتسل فيه. وقال الحسن: ركض برجله، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا، ثم ركض برجله، فنبعت عين، فشرب منها. قيل: والجمهور على أنه ركض ركضتين، فنبعت له عينان، شرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى. والجمهور: على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شتت منهم. وقيل: رزقه أولادا وذرية قدر ذريته الذين هلكوا، ولم يرد أهله الذين هلكوا بأعيانهم، وظاهر هذه الهيئة أنها في الدنيا. وقيل ذلك وعد، وتكون تلك الهيئة في الآخرة. وقيل: وهبه من كان حيا منهم، وعافاه من الأسقام، وأرغد لهم العيش، فتناسلوا حتى تضاعف عددهم وصار مثلهم.
و * (رحمة) *، * (وذكرى) *: مفعولان لهما، أي أن الهبة كانت لرحمتنا إياه، وليتذكر أرباب العقول، وما يحصل للصابرين من الخير، وما يؤول إليه من الأجر. وفي الكلام حذف تقديره: وكان حلف
384

ليضربن امرأته مائة ضربة لسبب جرى منها، وكانت محسنة له، فجعلنا له خلاصا من يمينه بقولنا: * (وخذ بيدك ضغثا) *. قال ابن عباس: الضغث: عثكال النخل. وقال مجاهد: الأثل، وهو نبت له شوك. وقال الضحاك: حزمة من الحشيش مختلفة. وقال الأخفش: الشجر الرطب، واختلفوا في السبب الذي أوجب حلفه. ومحصول أقوالهم هو تمثل الشيطان لها في صورة ناصح أو مداو. وعرض لها شفاء أيوب على يديه على شرط لا يمكن وقوعه من مؤمن، فذكرت ذلك له، فعلم أن الذي عرض لها هو الشيطان، وغضب لعرضها ذلك عليه فحلف. وقيل غير ذلك من الأسباب، وهي متعارضة. فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها، لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها، وقد وقع مثل هذه الرخصة في الإسلام. أني رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمخدج قد خبث بأمة فقال: (خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة). وقال بذلك بعض أهل العلم في الإيمان، قال: ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة، إما أطرافها قائمة، وإما أعراضها مبسوطة، مع وجود صورة الضربة. والجمهور على ترك القول في الحدود، وأن البر في الإيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات. ووصف الله تعالى نبيه بالصبر. وقد قال: * (مسنى الضر) *، فدل على أن الشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الوصف بالصبر. وقد قال يعقوب: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله على أن أيوب عليه السلام طلب الشفاء خيفة على قومه أن يوسوس إليهم الشيطان أنه لو كان نبيا لم يبتل، وتألفا لقومه على الطاعة، وبلغ أمره في البلاء إلى أنه لم يبق منه إلا القلب واللسان. ويروى أنه قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يمنعني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعانا ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان، فكشف الله عنه.
* (واذكر عبادنا إبراهيم) *، وقرأ ابن عباس وابن كثير وأهل مكة، عبدنا على الإفراد، وإبراهيم بدل منه، أو عطف بيان. والجمهور على الجمع، وما بعده من الثلاثة بدل أو عطف بيان. وقرأ الجمهور: * (أولى الايدى) *، بالياء. قال ابن عباس ومجاهد: القوة في طاعة الله. وقيل: إحسانهم في الدين وتقدمهم عند الله على عمل صدق، فهي كالأيدي، وهو قريب مما قبله. وقيل: النعم التي أسداها الله إليهم من النبوة والمكانة. وقيل * (الايدى) *: الجوارح المتصرفة في الخير، * (
والابصار) * الثاقبة فيه.
قال الزمخشري: لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت، فقيل في كل عمل: هذا مما عملت أيديهم، وإن كان عملا لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدي، أو كان العمال جذما لا أيدي لهم، وعلى ذلك ورد قوله عز وعلا: * (أولى الايدى والابصار) *، يريد: أولي الأعمال والفكر؛ كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة، ولا يجاهدون في الله؛ ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات، ولا يستبصرون في حكم الزمني الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم؛ وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منها. انتهى، وهو تكثير. وقال أبو عبد الله الرازي: اليد آلة لأكثر الأعمال، والبصر آلة لأقوى الإدراكات، فحسن التعبير عن العمل باليد، وعن الإدراك بالبصر. والنفس الناطقة لهو قوتان: عاملة وعالمة، فأولي الأيدي والأبصار إشارة إلى هاتين الحالتين. وقرأ عبد الله، والحسن، وعيسى، والأعمش: الأيد بغير ياء، فقيل: يراد الأيدي حذف الياء اجتزاء بالكسرة عنها، ولما كانت أل تعاقب التنوين، حذفت الياء معها، كما حذفت مع التنوين، وهذا تخريج لا يسوغ، لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضرائر. وقيل: الأيدي: القوة في طاعة الله، والأبصار: عبارة عن البصائر التي يبصرون بها الحقائق وينظرون بنور الله تعالى. وقال الزمخشري: وتفسير الأيدي من التأييد قلق غير متمكن، وإنما كان قلقا عنده لعطف الأبصار عليه، ولا ينبغي أن يعلق، لأنه فسر أولي الأيدي والأبصار بقوله: يريد أولي الأعمال والفكر. وقرئ: الأيادي، جمع الجمع، كأوطف وأواطف.
وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج، ونافع، وهشام: بخالصة، بغير تنوين، أضيفت إلى
385

ذكرى. وقرأ باقي السبعة بالتنوين، و * (ذكرى) * بدل من * (بخالصة) *. وقرأ الأعمش، وطلحة: بخالصتهم، و * (أخلصناهم) *: جعلناهم لنا خالصين وخالصة، يحتمل، وهو الأظهر، أن يكون اسم فاعل به عن مزية أو رتبة أو خصلة خالصة لا شوب فيها، ويحتمل أن كون مصدرا، كالعاقبة، فيكون قد حذف منه الفاعل، أي أخلصناهم بأن أخلصوا ذكرى الدار، فيكون ذكرى مفعولا، أو بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار، أو يكون الفاعل ذكرى، أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والدار في كل وجه من موضع نصب بذكرى، وذكرى مصدر، والدار دار الآخرة. قال قتادة: المعنى بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة، ودعا الناس إليها وحضهم عليها. وقال مجاهد: خلص لهم ذكرهم الدار الآخرة، وخوفهم لها. والعمل بحسب ذلك. وقال ابن زيد: وهبنا لهم أفضل ما في الدار الآخرة، وأخلصناهم به، وأعطيناهم إياه. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالدار دار الدنيا، على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس، والحمد الباقي الذي هو الخلد المجازي، فتجيء الآية في معنى قوله: * (لسان صدق) *، وقوله: * (وتركنا عليه فى الاخرين) *. انتهى. وحكى الزمخشري هذا الاحتمال قولا فقال: وقيل * (ذكرى الدار) *: الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق. انتهى. والباء في بخالصة باء السبب، أي بسبب هذه الخصلة وبأنهم من أهلها، ويعضده قراءة بخالصهم * (وإنهم عندنا لمن المصطفين) *، أي المختارين من بين أبناء جنسهم، * (الاخيار) *: جمع خير، وخير كميت وميت وأموات. وتقدم الكلام في اليسع في سورة الأنعام، وذا الكفل في سورة الأنبياء. وعندنا ظرف معمول لمحذوف دل عليه المصطفين، أي وأنهم مصطفون عندنا، أو معمول للمصطفين، وإن كان بأل، لأنهم يتسمحون في الظرف والمجرور ما لا يتسمحون في غيرهما، أو على التبيين، أي أعني عندنا، ولا يجوز أن يكون عندنا في موضع الخبر، ويعني بالعندية: المكانة، ولمن المصطفين: في موضع خبر ثان لوجود اللام، لا يجوز أن زيدا قائم لمنطلق، * (وكل) *: أي وكلهم، من الأخيار.
* (هاذا ذكر وإن للمتقين لحسن مئاب * جنات عدن مفتحة لهم الابواب * متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب * وعندهم قاصرات الطرف أتراب * هاذا ما توعدون ليوم الحساب * إن هاذا لرزقنا * ماله * من نفاد * هاذا وإن للطاغين لشر مئاب * جهنم يصلونها فبئس المهاد * هاذا فليذوقوه حميم وغساق * وءاخر من شكله أزواج * هاذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالو النار * قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار * قالوا ربنا من قدم لنا هاذا فزده عذابا ضعفا فى النار * وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الابصار * إن ذلك لحق تخاصم أهل النار * قل إنما أنا منذر وما من إلاه إلا الله الواحد القهار * رب * السماوات والارض * وما بينهما العزيز الغفار) *.
لما أمره تعالى بالصبر على سفاهة قومه، وذكر جملة من الأنبياء وأحوالهم، ذكر ما يؤول إليه حال المؤمنين والكافرين من
386

الجزاء، ومقر كل واحد من الفريقين. ولما كان ما يذكره نوعا من أنواع التنزيل، قال: * (هاذا ذكر) *، كأنه فصل بين ما قبله وما بعده. ألا ترى أنه لما ذكر أهل الجنة، وأعقبه بذكر أهل النار قال: * (هاذا وإن للطاغين) *؟ وقال ابن عباس: هذا ذكر من مضى من الأنبياء. وقيل: * (هاذا ذكر) *: أي شرف تذكرون به أبدا. وقرأ الجمهور: * (جنات) * بالنصب، وهو بدل، فإن كان عدن علما، فبدل معرفة من نكرة؛ وإن كان نكرة، فبدل نكرة من نكر.
وقال الزمخشري: * (جنات عدن) * معرفة لقوله: * (جنات عدن التى وعد الرحمان) *، وانتصابها على أنها عطف بيان بحسن مآب، ومفتحة حال، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل. وفي مفتحة ضمير الجنات، والأبواب بدل من الضمير تقديره: مفتحة هي الأبواب لقولهم: ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال. انتهى. ولا يتعين أن يكون جنات عدن معرفة بالدليل الذي استدل به وهو قوله: * (جنات عدن التى) *، لأنه اعتقد أن التي صفة لجنات عدن، ولا يتعين ما ذكره، إذ يجوز أن تكون التي بدلا من جنات عدن. ألا ترى أن الذي والتي وجموعهما تستعمل استعمال الأسماء، فتلي العوامل، ولا يلزم أن تكون صفة؟ وأما انتصابها على أنها عطف بيان فلا يجوز، لأن النحويين في ذلك على مذهبين: أحدهما: أن ذلك لا يكون إلا في المعارف، فلا يكون عطف البيان إلا تابعا لمعرفة، وهو مذهب البصريين. والثاني: أنه يجوز أن يكون في النكرات، فيكون عطف البيان تابعا لنكرة، كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة، وهذا مذهب الكوفيين، وتبعهم
الفارسي. وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى هذا المصنف. وقد أجاز ذلك في قوله: * (مقام إبراهيم) *، فأعربه عطف بيان تابعا لنكرة، وهو * (بينات فاسأل) *، و * (مقام إبراهيم) * معرفة، وقد رددنا عليه ذلك في موضعه في آل عمران. وأما قوله: وفي مفتحة ضمير الجنات، فجمهور النحويين أعربوا الأبواب مفعولا لم يسم فاعله. وجاء أبو علي فقال: إذا كان كذلك، لم يكن في ذلك ضمير يعود على جنات عدن. من الحالية أن أعرب مفتحة حالا، أو من النعت أن أعرب نعتا لجنات عدن، فقال: في مفتحة ضمير يعود على الجنات حتى ترتبط الحال بصاحبها، أو النعت بمنعوته، والأبواب بدل. وقال: من أعرب الأبواب مفعولا، لم يسم فاعله العائد على الجنات محذوف تقديره: الأبواب منها. وألزم أبو علي البدل في مثل هذا لا بد فيه من الضمير، إما ملفوظا به، أو مقدرا. وإذا كان الكلام محتاجا إلى تقديره واحد، كان أولى مما يحتاج إلى تقديرين. وأما الكوفيون، فالرابط عندهم هو أل لمقامه مقام الضمير، فكأنه قال: مفتحة لهم أبوابها. وأما قوله: وهو من بدل الاشتمال، فإن عنى بقوله: وهو قوله اليد والرجل، فهو وهم، وإنما هو بدل بعض من كل. وإن عنى الأبواب، فقد يصح، لأن أبواب الجنات ليست بعضا من الجنات. وأما تشبيهه ما قدره من قوله: مفتحة هي الأبواب، بقولهم: ضرب زيد اليد والرجل، فوجهه أن الأبواب بدل من ذلك الضمير المستكن، كما أن اليد والرجل بدل من الظاهر الذي هو زيد. وقال أبو إسحاق: وتبعه ابن عطية: مفتحة نعت لجنات عدن. وقال الحوفي: مفتحة حال، والعامل فيها محذوف يدل عليه المعنى، تقديره: يدخلونها. وقرأ زيد بن علي، وعبد الله بن رفيع، وأبو حيوة: جنات عدن مفتحة، برفع التاءين: مبتدأ وخبر، أوكل منهما خبر مبتدأ محذوف، أي هو جنات عدن هي مفتحة. والاتكاء: من هيئات أهل السعادة يدعون فيها، يدل على أن عندهم من يستخدمونه فيما يستدعون، كقوله: * (ويطوف عليهم ولدان مخلدون) *.
ولما كانت الفاكهة يتنوع وصفها بالكثرة، وكثرتها باختلاف أنواعها، وكثرة كل نوع منها؛ ولما كان الشراب نوعا واحدا وهو الخمر، أفرد: * (وعندهم قاصرات الطرف) *. قال قتادة: معناه على أزواجهن، * (أتراب) *: أي أمثال على سن واحدة، وأصله في بني آدم لكونهم مس أجسادهم التراب في وقت واحد، والأفران أثبت في التحاب. والظاهر أن هذا الوصف هو بينهن، وقيل: بين أزواجهن، أسنانهن كأسنانهم. وقال ابن عباس: يريد الآدميات. وقال صاحب الغنيان: حور. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: وهذا
387

ما يوعدون، بياء الغيبة، إذ قبله وعندهم؛ وباقي السبعة: بتاء الخطاب على الالتفات، والمعنى: هذا ما وقع به الوعد ليوم الجزاء. * (إن هذا) *: أي ما ذكر للمتقين مما تقدم، * (لرزقنا) * دائما: أي لا نفاد له.
* (هاذا وإن * للطاغين لشر مئاب) *، قال الزجاج: أي الأمر هذا، وقال أبو علي: هذا للمؤمنين، وقال أبو البقاء: مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوف المبتدأ، والطاغون هنا: الكفار؛ وقال الجبائي: أصحاب الكبائر كفارا كانوا أو لم يكونوا. وقال ابن عباس، المعنى: الذين طغوا علي وكذبوا رسلي لهم شر مآب: أي مرجع ومصير. * (فبئس المهاد) *: أي هي * (هاذا) * في موضع رفع مبتدأ خبره * (جهنم) *، * (وغساق) *، أو خبر مبتدأ محذوف، أي العذاب هذا، وحميم خبر مبتدأ، أو في موضع نصب على الاشتغال، أي ليذوقوا. * (هاذا فليذوقوه حميم) *: أي هو حميم، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي منه حميم ومنه غساق، كما قال الشاعر:
* حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس
*
وغودر البقل ملوى ومحصود
*
أي: منه ملوى ومنه محصود، وهذه الأعاريب مقولة منقولة. وقيل: هذا مبتدأ، وفليذوقوه الخبر، وهذا على مذهب الأخفش في إجازته: زيد فاضربه، مستدلا بقول الشاعر:
* وقائلة خولان فانكح فتاتهم
*
والغساق، عن ابن عباس: الزمهرير؛ وعنه أيضا، وعن عطاء، وقتادة، وابن زيد: ما يجري من صديد أهل النار؛ وعن كعب: عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية أو عقرب أو غيرهما، يغمس فيها فيتساقط الجلد واللحم عن العظم؛ وعن السدي: ما يسيل من دموعهم؛ وعن ابن عمر: القيح يسيل منهم فيسقونه. وقرأ ابن أبي إسحاق، وقتادة، وابن وثاب، وطلحة، وحمزة، والكسائي، وحفص، والفضل، وابن سعدان، وهارون عن أبي عمرو: بتشديد السين. فإن كان صفة، فيكون مما حذف موصوفها، وإن كان اسما، ففعال قليل في الأسماء، جاء منه: الكلاء، والجبان، والفناد، والعقار، والخطار. وقرأ باقي السبعة: بتخفيف السين. وقرأ الجمهور: * (وأخر) * على الإفراد، فقيل: مبتدأ خبره محذوف تقديره: ولهم عذاب آخر. وقيل: خبره في الجملة، لأن قوله: * (أزواج) * مبتدأ، و * (من شكله) * خبره، والجملة خبر. وآخر، وقيل: خبره أزواج، ومن شكله في موضع الصفة، وجاز أن يخبر بالجمع عن الواحد من حيث هو درجات، ورتب من العذاب، أو سمى كل جزء من ذلك الآخر باسم الكل. وقال الزمخشري: وآخر، أي وعذاب آخر، أو مذوق آخر؛ وأزواج صفة آخر، لأنه يجوز أن يكون ضروبا أو صفة للثلاثة، وهي: حميم وغساق وآخر من شكله. انتهى. وهو إعراب أخذه من الفراء. وقرأ الحسن، ومجاهد، والجحدري، وابن جبير، وعيسى،
وأبو عمرو: وأخر على الجمع، وهو مبتدأ، ومن شكله في موضع الصفة؛ وأزواج خبره، أي ومذوقا آخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة؛ * (أزواج) *: أجناس. وقرأ مجاهد: من شكله، بكسر الشين؛ والجمهور: بفتحها، وهما لغتان بمعنى المثل والضرب. وأما إذا كان بمعنى الفتح، فبكسر الشين لا غير. وعن ابن مسعود: * (وءاخر من شكله) *: هو الزمهرير.
والظاهر أن قوله: هذا فوج مقتحم معكم) *، من قول رؤسائهم بعضهم لبعض، والفوج: الجمع الكثير، * (*) *، من قول رؤسائهم بعضهم لبعض، والفوج: الجمع الكثير، * (مقتحم معكم) *: أي النار، وهم الأتباع، ثم دعوا عليهم بقولهم: * (لامر * حبا * بهم) *، لأن الرئيس إذا رأى الخسيس قد قرن معه في العذاب، ساءه ذلك حيث وقع التساوي في العذاب، ولم يكن هو السالم من العذاب وأتباعه في العذاب. ومر حبا معناه: ائت رحبا وسعة لا ضيقا، وهو منصوب بفعل يجب إضماره، ولأن علوهم بيان للمدعو عليهم. وقيل: * (هاذا فوج) *، من كلام الملائكة خزنة النار؛ وأن الدعاء على الفوج والتعليل بقوله: * (إنهم صالو النار) *، من كلامهم. وقيل: * (هاذا فوج مقتحم معكم) *، من كلام الملائكة، والدعاء على الفوج والإخبار بأنهم صالوا النار من
388

كلام الرؤساء المتبوعين. * (قالوا) * أي الفوج: * (لا مرحبا بكم) *، رد على الرؤساء ما دعوا به عليهم. ثم ذكروا أن ما وقعوا فيه من العذاب وصلى النار، إنما هو بما ألقيتم إلينا وزينتموه من الكفر، فكأنكم قدمتم لنا العذاب أو الصلى. وإذا كان * (لا مرحبا بهم) * من كلام الخزنة، فلم يجيء التركيب: قالوا: بل هؤلاء لا مرحبا بهم، بل جاء بخطاب الأتباع للرؤساء، لتكون المواجهة لمن كانوا لا يقدرون على مواجهتهم في الدنيا بقبيح أشفى لصدورهم، حيث تسببوا في كفرهم، وأنكى للرؤساء. * (فبئس القرار) *: أي النار؛ وهذه المرادة والدعاء كقوله: * (كلما دخلت أمة لعنت أختها) *. ولم يكتف الأتباع برد الدعاء على رؤسائهم، ولا بمواجهتهم بقوله: * (أنتم قدمتموه لنا) *، حتى سألوا من الله أن يزيد رؤساءهم ضعفا من النار، والمعنى: من جملنا على عمل السوء حتى صار جزاءنا النار، * (فزده عذابا ضعفا) *، كما جاء في قول الأتباع: * (ربنا ءاتهم) *، أي بمعاداتهم، * (ضعفين من العذاب) *، * (ربنا هؤلاء * أضلوا * قال ادخلوا فى أمم قد) *.
ولما كان الرؤساء ضلالا في أنفسهم وأضلوا اتباعهم، ناسب أن يدعو عليهم بأن يزيدهم ضعفا، كما جاء: فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فعلى هذا الضمير في قوله: * (قالوا) * للاتباع، ومن قدم: هم الرؤساء. وقال ابن السائب: * (قالوا ربنا) * إلى آخره، قول جميع أهل النار. وقال الضحاك: * (من قدم) *، هو إبليس وقابيل. وقال ابن مسعود: الضعف حيات وعقارب. * (وقالوا) *: أي أشراف الكفار، * (ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار) *: أي الأرذال الذين لا خير فيهم، وليسوا على ديننا، كما قال: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) *. وروي أن القائلين من كفار عصر الرسول / صلى الله عليه وسلم)، هم: أبو جهل، وأمية بن خلف، وأصحاب القليب، والذين لم يروهم: عمار، وصهيب، وسلمان، ومن جرى مجراهم، قاله مجاهد وغيره. قيل: يسألون أين عمار؟ أين صهيب؟ أين فلان؟ يعدون ضعفاء المسلمين فيقال لهم: أولئك في الفردوس. وقرأ النحويان، وحمزة: أين صهيب؟ أين فلان؟ يعدون ضعفاء المسلمين فيقال لهم: أولئك في الفردوس. وقرأ النحويان، وحمزة: اتخذناهم وصلا، فقال أبو حاتم، والزمخشري، وابن عطية: صفة لرجال. قال الزمخشري: مثل قوله: * (كنا نعدهم من الاشرار) *. وقال ابن الأنباري: حال، أي وقد اتخذناهم. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، والحسن، وقتادة، وباقي السبعة: بهمزة الاستفهام، لتقرير أنفسهم على هذا، على جهة التوبيخ لها. والأسف، أي اتخذناهم سخريا، ولم يكونوا كذلك. وقرأ عبد الله، وأصحابه، ومجاهد، والضحاك، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، ونافع، وحمزة، والكسائي: سخريا، بضم السين، ومعناها: من السخرة والاستخدام. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وعيسى، وابن محيصن، وباقي السبعة: بكسر السين، ومعناها: المشهور من السخر، وهو الهزء. قال الشاعر:
* إني أتاني لسان لا أسر بها
*
من علو لا كذب فيها ولا سخر
*
وقيل: بكسر السين من التسخير. وأم إن كان اتخذناهم استفهاما إما مصرحا بهمزته كقراءة من قرأ كذلك، أو مؤولا بالاستفهام، وحذفت الهمزة للدلالة. فالظاهر أنها متصلة لتقدم الهمزة، والمعنى: أي الفعلين فعلنا بهم، الاستسخار منهم أم ازدراؤهم وتحقيرهم؟ وإن أبصارنا كانت تعلوا عنهم وتقتحم. ويكون استفهاما على معنى الإنكار على أنفسهم، للاستسخار والزيغ جميعا. وقال الحسن: كل ذلك قد فعلوا، اتخذوهم سخريا، وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم. وأن اتخذناهم ليس استفهاما، فأم منقطعة، ويجوز أن تكون منقطعة أيضا مع تقدم الاستفهام، يكون كقولك: أزيد عندك أم عندك عمرو؟ واستفهمت عن زيد، ثم أضربت عن ذلك واستفهمت عن عمرو، فالتقدير: بل أزاغت عنهم الأبصار. ويجوز
389

أن يكون قولهم: * (أم زاغت عنهم الابصار) * له تعلق بقوله: * (ما لنا لا نرى رجالا) *، لأن الاستفهام أولا دل على انتفاء رؤيتهم إياهم، وذلك دليل على أنهم ليسوا معه، ثم جوزوا أن يكونوا معه، ولكن أبصارهم لم ترهم. * (إن ذالك * أي * لحسرة على الكافرين * وإنه لحق) *: أي ثابت واقع لا بد أن يجري بينهم. وقرأ الجمهور: * (تخاصم) * بالرفع مضافا إلى أهل. قال ابن عطية: بدل من * (لحق) *. وقال الزمخشري: بين ما هو فقال: تخاصم منونا، أهل رفعا بالمصدر المنون، ولا يجيز ذلك الفراء، ويجيزه سيبويه والبصريون. وقرأ ابن أبي عبلة: تخاصم، أهل، بنصب الميم وجر أهل. قال الزمخشري: على أنه صفة
لذلك، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس. وفي كتاب اللوامح: ولو نصب تخاصم أهل النار، لجاز على البدل من ذلك. وقرأ ابن السميفع: تخاصم: فعلا ماضيا، أهل: فاعلا، وسمى تعالى تلك المفاوضة التي جرت بين رؤساء الكفار وأتباعهم تخاصما، لأن قولهم: * (لا مرحبا بهم) *، وقول الأتباع: * (بل أنتم لا مرحبا بكم) *، هو من باب الخصومة، فسمى التفاوض كله تخاصما لاستعماله عليه. * (قل) *: يا محمد، * (إنما أنا منذر) *: أي * (منذر * المشركين * بالعذاب) *، وأن الله لا إله إلا الله، لا ند له ولا شريك، وهو الواحد القهار لكل شيء، وأنه مالك العالم، علوه وسفله، العزيز الذي لا يغالب، الغفار لذنوب من آمن به واتبع لدينه.
* (قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ما كان لى من علم بالملإ الاعلى إذ يختصمون * إن يوحى إلى * أنما أنا نذير مبين * إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال ياءادم * إبليس * ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتى إلى يوم الدين * قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين * قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين) *.
الضمير في قوله: * (قل هو نبأ) * يعود على ما أخبر به صلى الله عليه وسلم) من كونه رسولا منذرا داعيا إلى الله، وأنه تعالى هو المنفرد بالألوهية، المتصف بتلك الأوصاف من الوحدانية والقهر وملك العالم وعزته وغفرانه، وهو خبر عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. وقال ابن عباس: النبأ العظيم: القرآن. وقال الحسن: يوم القيامة. وقيل: قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد. وقال صاحب التحرير: سياق الآية وظاهرها أنه يريد بقوله: * (قل هو نبأ عظيم) *، ما قصه الله تعالى من مناظرة أهل النار ومقاولة الأتباع مع السادات، لأنه من أحوال البعث، وقريش كانت تنكر البعث
390

والحساب والعقاب، وهم عن ذلك معرضون. وقوله: * (ما كان لى من علم بالملإ الاعلى إذ يختصمون) *: احتجاج على قريش بأن ما جاء به من عند الله لا من قبل نفسه. فإن من في الأرض ما له علم بمن في السماء إلا بإعلام الله تعالى؛ وعلم المغيبات لا يوصل إليه إلا بإعلام الله تعالى، وعلمه بأحوال أهل النار، وابتداء خلق آدم لم يكن عنه علم بذلك؛ فإخباره بذلك هو بإعلام الله والاستدلال بقصة آدم، لأنه أول البشر خلقا، وبينه وبين الرسول عليه السلام أزمان متقادمة وقرون سالفة. انتهى، وفي آخره بعض اختصار.
ثم احتج بصحة نبوته، بأن ما ينبئ به عن الملأ الأعلى واختصامهم أمر لم يكن به به من علم قط. ثم علمه من غير الطريق الذي يسلكه المتعلمون، بل ذلك مستفاد من الوحي، وبالملأ متعلق بعلم، وإذ منصوب به. وقال الزمخشري: بمحذوف، لأن المعنى: ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم. * (وإذ قال) * بدل من * (إذ يختصمون) * على الملأ الأعلى، وهم الملائكة، وأبعد من قال إنهم قريش، واختصام الملائكة في أمر آدم وذريته في جعلهم في الأرض. وقالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) *. قال ابن عباس: وقال الحسن: إن الله خالق خلقا كنا أكرم منه وأعلم. وقيل: في الكفارات وغفر الذنوب، فإن العبد إذا عمل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه في ذلك حتى يقضي الله بما يشاء. وفي الحديث: (قال له ربه في نومه، عليه السلام: فيم يختصمون؟ فقلت: لا أدري، فقال: في الكفارات وفي إسباغ الوضوء في السرات ونقل الخطأ إلى الجماعات).
وقال الزمخشري: كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك، وكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط، فيصح أن التقاول بين الملائكة وآدم وإبليس، وهم الملأ الأعلى؛ والمراد بالاختصام: التقاول. وقيل: الملأ الأعلى: الملائكة، وإذ يختصمون: الضمير فيه للعرب الكافرين، فبعضهم يقول: هي بنات الله، وبعضهم: آلهة تعبد، وغير ذلك من أقوالهم.
* (ءان * يوحى إلى) *: أي ما يوحى إلي، * (أنما أنا نذير) *: أي للإنذار، حذف اللام ووصل الفعل والمفعول الذي لم يسم فاعله يجوز أن يكون ضميرا يدل عليه، المعنى، أي أن يوحى إلي هو، أي ما يوحى إلا الإنذار، وأقيم إلى مقامه، ويجوز أن يكون إنما هو المفعول الذي لم يسم فاعله، أي ما يوحى إلي إلا الإنذار. وقرأ أبو جعفر: إلا إنما، بكسر همزة إنما على الحكاية، أي ما يوحى إلي إلا هذه الجملة، كأن قيل له: أنت نذير مبين، فحكى هو المعنى، وهذا كما يقول الإنسان: أنا عالم، فيقال له: قلت إنك عالم، فيحكى المعنى. وقال الزمخشري: وقرئ إنما بالكسر على الحكاية، أي إلا هذا القول، وهو أن أقول لكم * (أنما أنا نذير مبين) *، فلا أدعي شيئا آخر. انتهى. في تخريجه تعارض، لأنه قال: أي إلا هذا القول، فظاهره الجملة التي هي * (أنما أنا نذير مبين) *، ثم قال: وهو أن أقول لكم إني نذير، فالمقام مقام الفاعل هو أن أقول لكم، وأن وما بعده في موضع نصب، وعلى قوله: إلا هذا القول، يكون في موضع رفع فيتعارضا. وتقدم أن، إذ قال بدل من: إذ يختصمون، هذا إذا كانت الخصومة في شأن من يستخلف في الأرض، وعلى غيره من الأقوال يكون منصوبا باذكر.
ولما كانت قريش، خالفوا الرسول، عليه السلام، بسبب الحسد والكبر. ذكر حال إبليس، حيث خالف أمر الله بسبب الحسد والكبر وما آل إليه من اللعنة والطرد من رحمة الله، ليزدجر عن ذلك من فيه شيء منهما. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح أن يقول لهم: * (إنى خالق بشرا) *، وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ قلت: وجهه أن يكون قد قال لهم: إني خالق خلقا من صفة كيت وكيت، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم. انتهى. والبشر هو آدم عليه السلام، وذكر هنا أنه خلقه من طين، وفي آل عمران: * (خلقه من تراب) *، وفي الحجر: * (من صلصال من حمإ مسنون) *، وفي الأنبياء: * (من عجل) *؛ ولا منافاة في تلك المادة البعيدة، وهي التراب، ثم ما يليه وهو الطين، ثم ما يليه وهو الحمأ المسنون، ثم المادة تلي الحمأ وهو الصلصال؛ وأما من عجل
391

فمضى تفسير.
* (فإذا سويته * فنسى ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس) *: تقدم الكلام على هذا في الحجر، وهنا * (استكبر وكان من الكافرين) *، وفي البقرة: * (أبى واستكبر وكان من الكافرين) *، وفي الأعراف: * (لم يكن من الساجدين) *، وفي الحجر: * (أبى أن يكون * من الساجدين) *، وفي الإسراء: * (قال أءسجد لمن خلقت طينا) *، وفي الكهف: * (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) *. والاستثناء في جميع هذه الآيات يدل على أنه لم يسجد، فتارة أكد بالنفي المحض، وتارة ذكر إبايته عن السجود، وهي الأنفة من ذلك، وتارة نص على أن ذلك الامتناع كان سببه الاستكبار. والظاهر أن قوله: * (وكان من الكافرين) * أريد به كفره ذلك الوقت، وإن لم يكن قبله كافرا؛ وعطف على استكبر، فقوى ذلك، لأن الاستكبار عن السجود إنما حصل له وقت الأمر. ويحتمل أن يكون إخبارا منه بسبق كفره في الأزمنة الماضية في علم الله.
* (قال ياءادم * إبليس * ما منعك أن تسجد) *، وفي الأعراف: * (ما منعك أن * لا تسجدوا) *، فدل أن تسجد هنا، على أن لا في أن لا تسجد زائدة، والمعنى أيضا يدل على ذلك، لأنه لا يستفهم إلا عن المانع من السجود، وهو استفهام تقرير وتوبيخ. وما في * (لما خلقت) *، استدل بها من يجيز إطلاق ما على آحاد من يعقل، وأول بأن ما مصدرية، والمصدر يراد به المخلوق، لا حقيقة المصدر. وقرأ الجحدري: لما بفتح اللام وتشديد الميم، خلقت بيدي، على الإفراد؛ والجمهور: على التثنية؛ وقرئ بيدي، كقراءة بمصرخي؛ وقال تعالى: * (مما عملت أيدينا) * بالجمع، وكلها عبارة عن القدرة والقوة، وعبر باليد، إذ كان عند البشر معتادا أن البطش والقوة باليد. وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن اليد صفة ذات. قال ابن عطية: وهو قول مرغوب عنه.
وقرأ الجمهور: * (أستكبرت) *، بهمزة الاستفهام، وأم متصلة عادلت الهمزة. قال ابن عطية: وذهب كثير من النحويين إلى أن أم لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين، وإنما تكون معادلة إذا دخلنا على فعل واحد، كقولك: أزيد قام أم عمرو؟ وقولك: أقام زيد أم عمرو؟ فإذا اختلف الفعلان كهذه الآية، فليست معادلة. ومعنى الآية: أحدث لك الاستكبار الآن، أم كنت قديما ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك؟ وهذا على جهة التوبيخ. انتهى. وهذا الذي ذكره عن كثير من النحويين مذهب غير صحيح. قال سيبويه: وتقول أضربت زيدا أم قتلته فالبدء هنا بالفعل أحسن، لأنك إنما تسأل عن أحدهما، لا تدري أيهما كان، ولا تسأل عن موضع أحدهما، كأنك قلت: أي ذلك كان؟ انتهى. فعادل بأم الألف مع اختلاف الفعلين. * (من العالين) *: ممن علوت وفقت. فأجاب بأنه من العالين، حيث قال * (أنا خير منه) *. وقيل: استكبرت الآن، أو لم تزل مذ كنت من المستكبرين؟ ومعنى الهمزة: التقرير. انتهى. وقرأت فرقة، منهم ابن كثير وغيره: استكبرت، بصلة الألف، وهي قراءة أهل مكة، وليست في مشهور ابن كثير، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام حذفت لدلالة أم عليها، كقوله:
بسبع رمين الجمر أم بثمان
واحتمل أن يكون إخبارا خاطبه بذلك على سبيل التقريع، وأم تكون منقطعة، والمعنى: بل أنت من العالين عند نفسك استخفافا به. * (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) *: تقدم الكلام على ذلك في الأعراف. * (قال فاخرج منها) * إلى قوله: * (إلى يوم الوقت المعلوم) *: تقدم الكلام على مثل ذلك في الحجر، إلا أن هنا * (لعنتى) * وهناك * (اللعنة) * أعم. ألا ترى إلى قوله: * (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) *؟ وأما بالإضافة، فالعموم في اللعنة أعم، واللعنات إنما تحصل من جهة أن عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل لاعن، هذا من جهة المعنى، وأما باللفظ فيقتضي التخصيص. * (قال فبعزتك لاغوينهم) *: أقسم إبليس هنا بعزة الله، وقال في الأعراف: * (فيما * أغويتنى لاقعدن) *، وفي الحجر: * (رب بمآ أغويتنى لازينن) *. وتقدم الكلام عليهما في موضعهما، وأن من المفسرين من قال: إن الباء في: بما أغويتني، وفي: فبما أغويتني ليست باء القسم. فإن كانت باء القسم، فيكون ذلك في موطئين: فهنا: * (لاغوينهم) *، وفي الأعراف: * (لاقعدن) *، وفي الحجر: * (لازينن) *. وقرأ الجمهور: فالحق، بنصبهما. أما الأول فمقسم به، حذف منه الحرف كقوله: * (* أمانة الله لأقومن) *، والمقسم
392

عليه * (لاملان) *. * (والحق أقول) *: اعتراض بين القسم وجوابه. قال الزمخشري: ومعناه: ولا أقول إلا الحق. انتهى، لأن عنده تقدم المفعول يفيد الحصر. والحق المقسم به إما اسمه تعالى الذي في قوله: * (أن الله هو الحق المبين) *، أو الذي هو نقيض الباطل. وقيل: فالحق منصوب على الإغراء، أي فالزموا الحق، ولأملأن: جواب قسم محذوف. وقال الفراء: هو على معنى قولك: حقا لا شك، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء، أي لأملأن جهنم حقا. انتهى. وهذا المصدر الجائي توكيدا لمضمون الجملة، لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة، وذلك مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدتان جمودا محضا. وقال صاحب البسيط: وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة، قال: والمبتدأ يكون ضميرا نحو: هو زيد معروف، وهو الحق بيننا، وأنا الأمير مفتخرا؛ ويكون ظاهرا كقولك: زيد أبوك عطوفا، وأخوك زيد معروفا. انتهى. وقالت العرب: زيد قائم غير ذي شك، فجاءت الحال بعد جملة، والخبر نكرة، وهي حال مؤكدة لمضمون الجملة، وكأن الفراء لم يشترط هذا الذي ذكره أصحابنا من كون المبتدأ والخبر معروفين جامدين، لأنه لا فرق بين تأكيد مضمون الجملة الابتدائية وبين تأكيد الجملة الفعلية. وقيل: التقدير فالحق الحق، أي افعله. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والأعمش: بالرفع فيهما، فالأول مبتدأ خبره محذوف، قيل: تقديره فالحق أنا، وقيل: فالحق مني، وقيل: تقديره فالحق قسمي، وحذف كما حذف في: لعمرك لأقومن، وفي: يمين الله أبرح قاعدا، أي لعمرك قسمي ويمين الله قسمي، وهذه الجملة هي جملة القسم وجوابه: لأملأن. وأما * (والحق أقول) * فمبتدأ أيضا، خبره الجملة، وحذف العائد، كقراءة ابن عباس: * (وكلا وعد الله الحسنى) *. وقال ابن عطية: أما الأول فرفع على الابتداء، وخبره في قوله: * (لاملان) *، لأن المعنى: أن أملأ. انتهى. وهذا ليس بشيء، لأن لأملأن جواب قسم، ويجب أن يكون جملة، فلا يتقدر
بمفرد. وأيضا ليس مصدرا مقدرا بحرف مصدري، والفعل حتى ينحل إليهما، ولكنه لما صح له إسناد ما قدر إلى المبتدأ، حكم أنه خبر عنه. وقرأ الحسن، وعيسى، وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر: بجرهم، ويخرج على أن الأول مجرور بواو القسم محذوفة تقديره: فوالحق، والحق معطوف عليه، كما تقول: والله والله لأقومن، وأقوال اعتراض بين القسم وجوابه. وقال الزمخشري: * (والحق أقول) *: أي ولا أقول إلا الحق على حكاية لفظ المقسم به، ومعناه التوكيد والتسديد، وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع، وهو وجه دقيق حسن. انتهى. وملخصه أنه أعمل القول في لفظ المقسم به على سبيل الحكاية نصبا أو رفع أو جرا. وقرأ مجاهد، والأعمش: بخلاف عنهما؛ وأبان بن تغلب، وطلحة في رواية، وحمزة، وعاصم عن المفضل، وخلف، والعبسي: برفع فالحق ونصب والحق، وتقدم إعرابهما. والظاهر أن قوله: * (أجمعين) * تأكيد للمحدث عنه والمعطوف عليه، وهو ضمير إبليس ومن عطف عليه، أي منك ومن تابعيك أجمعين. وأجاز الزمخشري أن يكون أجمعين تأكيدا للضمير الذي في منهم، مقدر لأملأن جهنم من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم. انتهى. والضمير في عليه عائد على القرآن، قاله ابن عباس. وقيل: عائد على الوحي. وقيل: على الدعاء إلى الله. * (وما أنا من المتكلفين) *: أي المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله، فانتحل النبوة والقول على الله. * (إن هو) *: أي القرآن، * (إلا ذكر) *: أي من الله، * (للعالمين) *: الثقلين الإنس والجن. * (ولتعلمن) *: أي عاقبة خبره لمن آمن به ومن أعرض عنه، * (نبأه بعد حين) *، قال ابن
393

عباس وعكرمة وابن زيد: يعني يوم القيامة. وقال قتادة، والفراء، والزجاج: بعد الموت. وكان الحسن يقول: يا ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين. وقيل: المعنى ليظهرن لكم حقيقة ما أقول. * (بعد حين) *: أي في المستأنف، إذا أخذتكم سيوف المسلمين، وذلك يوم بدر، وأشار إلى ذلك السدي.
394

((سورة الزمر))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إنآ أنزلنآ إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفىإن الله يحكم بينهم فى ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار * لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء سبحانه هو الله الواحد القهار * خلق السماوات والا رض بالحق يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار * خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الا نعام ثمانية أزواج يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق فى ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لاإلاه إلا هو فأنى تصرفون * إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور * وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعوإليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار * أمن هو قانت ءانآء اليل ساجدا وقآئما يحذر الا خرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الا لباب * قل ياعباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب * قل إنىأمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لان أكون أول المسلمين * قل إنىأخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم * قل الله أعبد مخلصا له دينى * فاعبدوا ما شئتم من دونه
395

قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذالك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون * والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولائك الذين هداهم الله وأولائك هم أولو الا لباب * أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار * لاكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الا نهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد * ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينابيع فى الا رض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن فى ذلك لذكرى لا ولى الا لباب * أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولائك فى ضلال مبين * الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشآء ومن يضلل الله فما له من هاد * أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظلمين ذوقوا ما كنتم تكسبون * كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * فأذاقهم الله الخزى فى الحيواة الدنيا ولعذاب الا خرة أكبر لو كانوا يعلمون * ولقد ضربنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون * قرءانا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون * ضرب الله مثلا رجلا فيه شركآء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) *))
) *
التكوير: اللف واللي، يقال: كار العمامة على رأسه وكورها. خوله النعمة: أي أعطاه ابتداء من غير مجازاة، ولا يقال في الجراء خول. قال زهير:
* هنالك إن يستخولوا المال يخولوا
*
ويروى يستخيلوا المال يخيلوا
*
وقال أبو النجم:
396

* أعطى فلم يبخل ولم يبخل
*
كوم الذرى من خول المخول
*
هاج الزرع: ثار من منابته، وقيل: يبس. الحطام: الفتات بعد يبسه. القشعريرة: تقبض الجلد، يقال: اقشعر جلده من الخوف: وقف شعره، وهو مثل في شدة الخوف. الشكاسة: سوء الخلق وعسره.
* (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم) *.
هذه السورة مكية، وعن ابن عباس: إلا * (الله نزل أحسن الحديث) *، و * (قل ياأهل * عبادى * الذين أسرفوا) *. وعن مقاتل: إلا * (قل ياعبادى الذين أسرفوا) *، وقوله: * (قل ياعباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة) *. وعن بعض السلف: إلا * (قل ياعبادى الذين أسرفوا) *، إلى قوله: * (تشعرون) *، ثلاث آيات. وعن بعضهم: إلا سبع آيات، من قوله: * (قل ياعبادى الذين أسرفوا) *. ومناسبتها لآخر ما قلبها أنه ختم السورة المتقدمة بقوله: * (إن هو إلا ذكر للعالمين) *، وبدأ هنا: * (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) *. وقال الفراء والزجاج: * (تنزيل) * مبتدأ، و * (من الله) * الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هذا تنزيل، ومن الله متعلق بتنزيل؛ وأقول إنه خبر، والمبتدأ هو ليعود على قوله: * (إن هو إلا ذكر للعالمين) *، كأنه قيل: وهذا الذكر ما هو فقيل: هو تنزيل الكتاب. وقال الزمخشري: أو غير صلة، يعني من الله، كقولك: هذا الكتاب من فلان إلى فلان، وهو على هذا خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيل الكتاب. هذا من الله، أو حال من تنزيل عمل فيها معنى الإشارة. انتهى. ولا يجوز أن يكون حالا عمل فيها معنى الإشارة، لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هو فيه محذوفا، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله في بيت الفرزذق:
وإذ ما مثلهم بشر
أن مثلهم منصوب بالخبر المحذوف وهو مقدر، أي وأن ما في الوجود في حال مماثلتهم بشر. والكتاب يظهر أنه القرآن، وكرر في قوله: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب) * على جهة التفخيم والتعظيم، وكونه في جملة غير السابقة ملحوظا فيه إسناده إلى ضمير العظمة وتشريف من أنزل إليه بالخطاب وتخصيصه بالحق. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي وعيسى: تنزيل بالنصب، أي اقرأ والزم. وقال ابن عطية: قال المفسرون في تنزيل الكتاب هو القرآن، ويظهر لي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب، وكأنه أخبر إخبارا مجردا أن الكتاب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب) *، والعزيز في قدرته، الحكيم في ابتداعه. والكتاب الثاني هو القرآن، لا يحتمل
397

غير ذلك. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن، وعلى الثاني أنه السورة. انتهى. وبالحق في موضع الحال، أي ملتبسا بالحق، وهو الصدق الثابت فيما أودعناه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد والتكاليف، فهذا كله حق وصدق يجب اعتقاده والعمل، به أو يكون بالحق: بالدليل على أنه من عند الله، وهو عجز الفصحاء عن معارضته. وقال ابن عطية: أي متضمنا الحق فيه وفي أحكامه وفي أخباره، أو بمعنى الاستحقاق وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله. انتهى ملخصا.
ولما امتن تعالى على رسوله بإنزال الكتاب عليه بالحق، وكان الحق إخلاص العبادة لله، أمره تعالى بعبادته فقال: * (فاعبد الله) *، وكأن هذا الأمر ناشىء عن إنزال الكتاب، فالفاء فيه للربط، كما تقول: أحسن إليك زيد فاشكره. * (مخلصا) *: أي ممحضا، * (له الدين) *: من الشرك والرياء وسائر ما يفسده. وقرأ الجمهور: الدين بالنصب. وقرأ ابن أبي عبلة: بالرفع فاعلا بمخلصا، والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين، أي الدين منك، أو يكون أل عوضا من الضمير، أي دينك. وقال الزمخشري: وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا بفتح اللام، كقوله تعالى: * (وأخلصوا دينهم لله) *، حتى يطابق قوله: * (ألا لله الدين الخالص) *، والخالص والمخلص واحد، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي، كقولهم: شعر شاعر. وأما من جعل مخلصا حالا من العابد، وله الدين مبتدأ وخبر، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين، أي لله الدين الخالص. انتهى. وقد قدمنا تخريجه على أنه فاعل بمخلصا، وقدرنا ما يربط الحال بصاحبها، وممن ذهب إلى أن له الدين مستأنف مبتدأ وخبر الفراء. * (ألا لله الدين الخالص) *: أي من كل شائبة وكدر، فهو الذي يجب أن تخلص له الطاعة، لاطلاعه على الغيوب والأسرار، ولخلوص نعمته على عباده من غير استجرار منفعة منهم. قال الحسن: الدين الخالص: الإسلام؛ وقال قتادة: شهادة أن لا إله إلا الله.
* (والذين اتخذوا) *: مبتدأ، والظاهر أنهم المشركون، واحتمل أن يكون الخبر قال المحذوف المحكى به قوله: * (ما نعبدهم) *، أي والمشركون المتخذون من دون الله أولياء قالوا: ما نعبد تلك الأولياء * (إلا ليقربونا إلى الله زلفى) *، واحتمل أن يكون الخبر: * (إن الله يحكم بينهم) *، وذلك القول المحذوف في موضع الحال، أي اتخذوهم قائلين ما نعبدهم. وأجاز الزمخشري أن يكون الخبر * (إن الله يحكم) *، وقالوا: المحذوفة بدل من اتخذوا صلة الذين، فلا يكون له موضع من
الإعراب، وكأنه من بدل الاشتمال. وفي مصحف عبد الله: قالوا ما نعبدهم، وبه قرأ هو وابن عباس ومجاهد وابن جبير، وأجاز الزمخشري أن يكون * (والذين اتخذوا) * بمعنى المتخذين، وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى ونحوهم، والضمير في اتخذوا عائد على الموصول محذوف تقديره: والذين اتخذهم المشركون أولياء، وأولياء مفعول ثان، وهذا الذي أجازه خلاف الظاهر، وهذه المقالة شائعة في العرب، فقال ذلك ناس منهم في الملائكة وناس في الأصنام والأوثان. قال مجاهد: وقد قال ذلك قوم من اليهود في عزيز، وقوم من النصارى في المسيح. وقرئ: ما نعبدهم بضم النون، اتباعا لحركة الباء.
* (إن الله يحكم بينهم) *: اقتصر في الرد على مجرد التهديد، والظاهر أن الضمير في بينهم عائد على المتخذين، والمتخذين والحكم بينهم هو بإدخال الملائكة وعيسى عليه السلام الجنة، ويدخلهم النار مع الحجارة والخشب التي نحتوها وعبدوها من دون الله، يعذبهم بها، حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم. واختلافهم أن من عبدوه كالملائكة وعيسى كانوا متبرئين منهم لاعنين لهم موحدين لله. وقيل: الضمير في بينهم عائد على المشركين والمؤمنين، إذا كانوا يلومونهم على عبادة الأصنام فيقولون: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) *، والحكم إذ ذاك هو في يوم القيامة بين الفريقين.
* (إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار) *: كاذب في دعواه أن لله شريكا، كفار لأنعم الله حيث، جعل مكان الشكر الكفر، والمعنى: لا يهدي من ختم عليه بالموافاة على الكفر فهو عام، والمعنى على الخصوص: فكم قد هدى من
398

سبق منه الكذب والكفر. قال ابن عطية: لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره. وقال الزمخشري: المراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين. انتهى، وهو على طريق الاعتزال. وقرأ أنس بن مالك، والجحدري، والحسن، والأعرج، وابن يعمر: كذاب كفار. وقرأ زيد بن علي: كذوب وكفور.
ولما كان من كذبهم دعوى بعضهم أن الملائكة بنات الله، وعبدوها عقبه بقوله: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا) *، تشريفا له وتبنيا، إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بالتوالد المعروف، * (لاصطفى) *: أي اختار من مخلوقاته ما يشاء ولدا على سبيل التبني، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك لقوله: * (وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا) *، وهو عام في اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء. ويدل على أن الاتخاذ هو التبني، والاصطفاء قوله: * (مما يخلق) *: أي من التي أنشأها واخترعها؛ ثم نزه تعالى نفسه تنزيها مطلقا فقال: * (سبحانه) *، ثم وصف نفسه بالوحدانية والقهر لجميع العالم. وقال الزمخشري: يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع، ولم يصح لكونه محالا، ولم يتأت إلا أن يصطفى من خلقه بعضهم، ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه، وقد فعل ذلك بالملائكة، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم، فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم به وبحقيقة المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه، وهم الملائكة، فليس مفهوما من قوله: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء) *.
ولما نزه تعالى نفسه ووصف ذاته بالوحدة والقهر، ذكر ما دل على ذلك من اختراع العالم العلوي والسفلي بالحق، وتكوير الليل والنهار، وتسخير النيرين وجريهما على نظام واحد، واتساق أمرهما على ما أراد إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة، حيث تخرب بنية هذا العالم فيزول جريهما، أو إلى وقت مغيبهما كل يوم وليلة، أو وقت قوايسها كل شهر. والتكوير: تطويل منهما على الآخر، فكأنه الآخر صار عليه جزء منه. قال ابن عباس: يحمل الليل على النهار. وقال الضحاك: يدخل الزيادة في أحدهما بالنقصان من الآخر. وقال أبو عبيدة: يدخل هذا على هذا. وقال الزمخشري: وفيه أوجه: منها أن الليل والنهار خلفة، يذهب هذا ويغشى مكانه هذا؛ وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف على اللابس اللباس؛ ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه من مطامح الأبصار؛ ومنها أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض. انتهى. * (ألا هو العزيز الغفار) *: العزيز الذي لا يغالب، الغفار لمن تاب، أو الحليم الذي لا يعجل، سمى الحلم غفرانا مجازا.
ولما ذكر ما دل على واحدانيته وقهره، ذكر الإنسان، وهو الذي كلف بأعباء التكاليف، فذكر أنه أوجدنا من نفس واحدة، وهي آدم عليه السلام، وذلك أن حواء على ما روي خلقت من آدم، فقد صار خلقا من نفس واحدة لوساطة حواء. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء، فعلى هذا كان خلقا من آدم بغير واسطة. وجاءت على هذا القول على وضعها، ثم للمهلة في الزمان، وعلى القول الأول يظهر أن خلق حواء كان بعد خلقنا، وليس كذلك. فثم جاء لترتيب الأخبار كأنه قيل: ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها، فليس الترتيب في زمان الجعل. وقيل: ثم معطوف على الصفة التي هي واحدة، أي من نفس وحدت، أي انفردت.
* (ثم جعل) *، قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه قوله تعالى: * (ثم جعل منها زوجها) *، وما تعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان من
399

جملة الآيات التي عددها، دالا على وحدانيته وقدرته. تشعب هذا الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة، والأخرى لم تجربها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بثم على الآية الأولى، للدلالة على مباينتها فضلا ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود. انتهى. وأما * (ثم جعل منها زوجها) *، فقد تقدم الكلام على هذا الجعل في أول سورة النساء، ووصف الأنعام بالإنزال مجازا ما، لأن قضاياه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون وأما لعيشها بالنبات والنبات ناشىء عن المطر والمطر نازل من السماء فكأنه تعالى أنزلها، فيكون مثل قول الشاعر:
أسنمة الا بال في ربابه
أي: في سحابه، وقال آخر:
صار الثريد في رؤوس العيدان
وقيل: خلقها في الجنة ثم أنزلها، فعلى هذا يكون إنزال أصولها حقيقة. والأنعام: الإبل والبقر والضأن والمعز، * (ثمانية أزواج) *، لأن كلا منها ذكر وأنثى، والزوج ما كان معه آخر من جنسه، فإذا انفرد فهو فرد ووتر. وقال تعالى: * (فجعل منه الزوجين الذكر والانثى) *.
قال ابن زيد: * (خلقا من بعد خلق) *: آخر من ظهر آدم وظهور الآباء. وقال عكرمة ومجاهد والسدي: رتبا * (خلقا من بعد خلق) * على المضغة والعلقة وغير ذلك. وأخذه الزمخشري فقال: حيوانا سويا، من بعد عظام مكسوة لحما، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. انتهى. وقرأ عيسى وطلحة: يخلقكم، بإدغام القاف في الكاف، والظلمات الثلاث: البطن والرحم والمشيمة، وقيل: الصلب والرحم والبطن. * (ذالكم) *: إشارة إلى المتصف بتلك الأوصاف السابقة من خلق السماوات وما بعد ذلك من الأفعال. * (فأنى تصرفون) *: أي كيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره؟
* (إن تكفروا) *، قال ابن عباس: خطاب للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. وعباده: هم المؤمنون، ويؤيده قوله قبله: * (فأنى تصرفون) *، وهذا للكفار، فجاء * (إن تكفروا) * خطابا لهم، * (فإن الله غنى عنكم) *، وعن عبادتكم، إذ لا يرجع إليه تعالى منفعة بكم ولا بعبادتكم إذ هو الغني المطلق. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مخاطبا لجميع الناس، لأنه تعالى غني عن جميعهم، وهم فقراء إليه. انتهى. ولفظ عباده عام، فقيل: المراد الخصوص، وهم الملائكة ومؤمنو الإنس والجن. والرضا بمعنى الإرادة، فعلى هذا صفة ذات. وقيل: المراد العموم، كما دل عليه اللفظ، والرضا مغاير للإرادة، عبر به عن الشكر والإثابة، أي لا يشكره لهم دينا ولا يثيبهم به خيرا، فالرضا على هذا صفة فعل بمعنى القبول والإثابة. قال ابن عطية: وتأمل الإرادة، فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد، والرضا حقيقته إنما هو فيما قد وقع، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارهم على جهة التجوز هذا بدل هذا. وقال الزمخشري: ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر، فقال: هذا من العام الذي أريد به الخاص، وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان) *، يريد
400

المعصومين لقوله: * (عينا يشرب بها عباد الله) *، تعالى الله عما يقول الظالمون. انتهى. فسمى عبد الله بن عباس ترجمان القرآن وأعلام أهل السنة بعض الغواة، وأطلق عليهم اسم الظالمين، وذلك من سفهه وجرأته، كما قلت في قصيدتي التي ذكرت فيها ما ينقد عليه:
* ويشتم أعلام الأئمة ضلة
*
ولا سيما إن أو لجوه المضايقا
*
* (وإن تشكروا يرضه لكم) *، قال ابن عباس: يضاعف لكم، وكأنه يريد ثواب الشكر؛ وقيل: يقبله منكم. قال صاحب التحرير: قوة الكلام تدل على أن معنى تشكروا: تؤمنوا حتى يصير بإزاء الكفر، والله تعالى قد سمى الأعمال الصالحة والطاعات شكرا في قوله: * (اعملوا ءال * داوود * شاكرا) *. انتهى. وتقدم الكلام على هذه الآية في سبأ. وقرأ النحويان، وابن كثير: يرضه بوصل ضمة الهاء بواو؛ وابن عامر وحفص: بضمة فقط؛ وأبو بكر: بسكون الهاء، قال أبو حاتم: وهو غلط لا يجوز. انتهى. وليس بغلط، بل ذلك لغة لبني كلاب وبني عقيل. وقوله: * (ولا تزر) * إلى: * (بذات الصدور) *، تقدم الكلام عليه.
* (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار * أمن هو قانت ءاناء اليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجوا * رحمته * ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الالباب * قل ياأهل * عباد * الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) *.
الظاهر أن الإنسان هنا جنس الكافر، وقيل: معين، كعتبة بن ربيعة. ويدخل في الضر جميع المكاره في جسم أو أهل أو مال. * (دعا ربه) *: استجار ربه وناداه، ولم يؤمل في كشف الضر سواه، * (منيبا إليه) *: أي راجعا إليه وحده في إزالة ذلك. * (ثم إذا خوله) *: أناله وأعطاه بعد كشف ذلك الضر عنه. وحقيقة خوله أن يكون من قولهم: هو خائله، قال: إذا كان متعهدا حسن القيام عليه، أو من خال يخول، إذا إختال وافتخر، وتقول العرب:
إن الغني طويل الذيل مياس
* (نسى ما كان يدعو) *: أي ترك، والظاهر أن ما بمعنى الذي، أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل: ما بمعنى من، أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره. وقيل: ما مصدرية، أي نسي كونه يدعو. وقيل: تم الكلام عند قوله: * (نسى) *، أي نسي ما كان فيه من الضر. وما نافية، نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصا لله مقصورا من قبل الضرر، وعلى الأقوال السابقة. * (من قبل) *: أي من قبل تخويل النعمة، وهو زمان الضرر. * (وجعل لله أندادا) *: أي أمثالا يضاد بعضها بعضا ويعارض. قال قتادة: أي من الرجال يطيعونهم في المعصية. وقال غيره: أوثانا، وهذا من سخف عقولهم. حين مسى الضر دعوا الله ولم يلتجئوا في كشفه إلا إليه؛ وحين كشف ذلك وخول النعمة أشركوا به، فاللام لام العلة، وقيل: لام العاقبة. وقرأ الجمهور: * (ليضل) *، بضم الياء: أي ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل. وقرأ ابن كثير، وأبو عمر، وعيسى: بفتحها، ثم أتى بصيغة الأمر فقال: * (تمتع بكفرك
401

قليلا) *: أي تلذذوا صنع ما شئت قليلا، أي عمرا قليلا، والخطاب للكافر جاعل الأنداد لله. * (إنك من أصحاب النار) *: أي من سكانها المخلدين فيها. وقال الزمخشري: وقوله * (تمتع بكفرك) *، أي من باب الخذلان والتخلية، كأنه قيل له: إذ قد أبيت قبل ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك. ويؤمر بتركه مبالغة خذلانه وتخليته وشأنه، لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمروا به، ونظيره في المعنى: * (متاع قليل ثم مأواهم جهنم) *. انتهى.
ولما شرح تعالى شيئا من أحوال الظالمين الضالين المشركين، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال: * (أمن هو قانت) *. وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والأعمش، وعيسى، وشيبة، والحسن في رواية: أمن، بتخفيف الميم. والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير، ومقابله محذوف لفهم المعنى، والتقدير: أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله * (قل تمتع بكفرك) *؟ ويدل عليه قوله: * (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) *. ومن حذف المقائل قول الشاعر:
* دعاني إليها القلب إني لأمرها
*
سميع فما أدري أرشد طلابها
*
تقديره: أم غي. وقال الفراء: الهمزة للنداء، كأنه قيل: يا من هو قانت، ويكون قوله قل خطابا له، وهذا القول أجنبي مما قبله وما بعده. وضعف هذا القول أبو علي الفارسي، ولا التفات لتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة. وقرأ باقي السبعة، والحسن، وقتادة، والأعرج، وأبو جعفر: أمن، بتشديد الميم، وهي أم أدغمت ميمها في ميم من، فاحتملت أم أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها تقديره: أهذا الكافر خير أم من هو قانت؟ قال معناه الأخفش، ويحتاج مثل هذا التقدير إلى سماع من العرب، وهو أن يحذف المعادل الأول. واحتملت أم أن تكون منقطعة تتقدر ببل، والهمزة والتقدير: بل أم من هو قانت صفته كذا، كمن ليس كذلك. وقال النحاس: أم بمعنى بل، ومن بمعنى الذي، والتقدير: بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله. انتهى. ولا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل، بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة، يدل عليه مقابله: * (إنك من أصحاب النار) *. والقانت: المطيع، قاله ابن عباس، وتقدم الكلام في القنوت في البقرة.
وقرأ الجمهور: * (ساجدا وقائما) *، بالنصب على الحال؛ والضحاك: برفعهما إما على النعت لقانت، وإما على أنه خبر بعد خبر، والواو للجمع بين الصفتين. * (يحذر الاخرة) *: أي عذاب الآخرة، * (من رحمة ربه) *: أي حصولها، وقيل: نعيم الجنة، وهذا المتصف بالقنوت إلى سائر الأوصاف، قال مقاتل: عمار، وصهيب، وابن مسعود، وأبو ذر. وقال ابن عمر: عثمان. وقال ابن عباس في رواية الضحاك: أبو بكر وعمر. وقال يحيى بن سلام: رسول الله صلى الله عليه وسلم). والظاهر أنه من اتصف بهذه الأوصاف من غير تعيين. وفي الآية دليل على فضل قيام الليل، وأنه أرجح من قيام النهار.
ولما ذكر العمل ذكر العلم فقال: * (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) *، فدل أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فكما لا يستوي هذان، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. والمراد بالعلم هنا: ما أدى إلى معرفة الله ونجاة العبد من سخطه. وقرأ: يذكر، بإدغام تاء يتذكر في الذال. * (قل ياأهل * عباد * الذين ءامنوا اتقوا ربكم) *، وروي أنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا عن الهجرة إلى أرض الحبشة، وعدهم تعالى فقال: * (للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة) *. والظاهر تعلق في هذه بأحسنوا، وأن المحسنين في الدنيا لهم في الآخرة حسنة، أي حسنة عظيمة، وهي الجنة، قاله مقاتل، والصفة محذوفة يدل عليها المعنى، لأن من أحسن في الدنيا لا يوعد أن يكون له في الآخرة مطلق حسنة. وقال السدي: في
402

هذه من تمام حسنة، أي ولو تأخر لكان صفة، أي الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا. فلما تقدم انتصب على الحال، والحسنة التي لهم في الدنيا هي العافية والظهور وولاية الله تعالى.
ثم حض على الهجرة فقال: * (وأرض الله واسعة) *، كقوله: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) *، أي لا عذر للمفرطين البتة، حتى لو اعتلوا بأوطانهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من أعمال الطاعات، قيل لهم: إن بلاد الله كثيرة واسعة، فتحولوا إلى الأماكن التي تمكنكم فيها الطاعات. وقال عطاء: وأرض الله: المدينة للهجرة، قيل: فعلى هذا يكون أحسنوا: هاجروا، وحسنة: راحة من الأعداء. وقال قوم: أرض الله هنا: الجنة. قال ابن عطية: وهذا القول تحكم، لا دليل عليه. انتهى. وقال أبو مسلم: لا يمتنع ذلك، لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى؛ ثم بين أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة، وهي الخلود في الجنة؛ ثم بين أن أرض الله واسعة لقوله: * (وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) *، وقوله: * (وجنة عرضها * السماوات والارض * أعدت للمتقين) *.
ولما كانت رتبة الإحسان منتهى الرتب، كما جاء: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه. وكان الصبر على ذلك من أشق الأشياء، وخصوصا من فارق وطنه وعشيرته وصبر على بلاء الغربة. ذكر أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب، أي لا يحاسبون في الآخرة، كما يحاسب غيرهم؛ أو يوفون ما لا يحصره حساب من الكثرة. * (قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) *: أمره تعالى أن يصدع الكفار بما أمر به من عبادة الله، يخلصها من الشوائب، * (وأمرت) *: أي أمرت بما أمرت، لأكون أول من أسلم، أي انقاد لله تعالى، ويعني من أهل عصره أو من قومه، لأنه أول من حالف عباد الأصنام، أو أول من دعوتهم إلى الإسلام إسلاما، أو أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بي قولا وفعلا، لا كالملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، أو أن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر
بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء. وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت، لأن أفعل لا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع. والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله: * (وأمرت أن أكون * أول من أسلم) *. انتهى. ويحتمل في أن أكون في ثلاثة المواضع أصله لأن أكون، فيكون قد حذفت اللام، والمأمور به محذوف، وهو المصرح به هنا * (إنى أمرت أن أعبد الله) *. * (قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *: تقدم الكلام على هذه الجملة مقول القول في سورة يونس.
لما أمره أولا أن يخبر بأنه أمر بعبادة الله، أمر ثانيا أن يخبر بأنه يعبد الله وحده. وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد، وعند الزمخشري يدل على الاختصاص، قال: ولدلالته على ذلك، قدم المعبود على فعل العبادة، وأخره في الأول. فالكلام أولا واقع في الفعل في نفسه وإيجاده، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله: * (فاعبدوا ما شئتم من دونه) *. والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية. انتهى. وقال غيره: * (فاعبدوا ما شئتم) *: صيغة أمر على جهة التهديد لقوله: * (قل تمتع بكفرك) *. * (قل إن الخاسرين) *: أي حقيقة الخسران، * (الذين خسروا) *: أي هم الذين خسروا أنفسهم، حيث صاروا من أهل النار، وأهليهم الذين كانوا معهم في الدنيا، حيث كانوا معهم في النار، فلم ينتفعوا منهم بشيء، وإن كان أهلوهم قد آمنوا، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم. وقال قتادة: كأن الله قد أعد لهم أهلا في الجنة فخسروهم، وقال معناه ميمون بن مهران. وقال الحسن: هي الحور العين، ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولا، والإشارة إليه، وتأكيده بالفعل، وتعريفه بأل، ووصفه بأنه المبين: أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل.
ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم، ذكر حالهم في جهنم، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحت أرجلهم ظلل، فيظهر أن النار تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم، وسمى ما تحتهم ظللا لمقابلة ما فوقهم، كما قال: * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت
403

أرجلهم) *، وقال لهم: * (من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) * وقيل: هي ظلل للذين هم تحتهم، إذ النار طباق. وقيل: إنما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة، فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيرا. * (ذالك) *: أي ذلك العذاب، يخوف الله به عباده: ليعلموا ما يخلصكم منه، ثم ناداهم وأمرهم فقال: * (قليلا وإياى فاتقون) *: أي اتقوا عذابي.
* (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين * هداهم الله وأولئك هم أولو الالباب * أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار * لاكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الانهار وعد الله لا يخلف الله) *.
قال ابن زيد: نزلت * (والذين اجتنبوا الطاغوت) * في زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان وأبي ذر. وقال ابن إسحاق: الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، والزبير، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر، سمعوا ذلك فجاؤوه وقالوا: أسلمت؟ قال: نعم، وذكرهم بالله، فآمنوا بأجمعهم، فنزلت فيهم، وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة. والطاغوت: تقدم الكلام عليها في البقرة. وقرأ الحسن: الطواغيت جمعا. * (أن يعبدوها) *: أي عبادتها، وهو بدل اشتمال. * (لهم البشرى) *: أي من الله تعالى بالثواب. * (فبشر عباد) *: هم المجتنبون الطاغوت إلى الله. وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنهم هم، وليترتب على الظاهر الوصف، وهو: * (الذين يستمعون القول) *، وهو عام في جميع الأقوال، * (فيتبعون أحسنه) *: ثناء عليهم بنفوذ بصائرهم وتمييزهم الأحسن، فإذا سمعوا قولا تبصروه. قيل: وأحسن القول: القرآن وما يرجع إليه. وقيل: القول: القرآن، وأحسنه: ما فيه من صفح وعفو واحتمال ونحو ذلك. وقال قتادة: أحسن القول طاعة الله. وعن ابن عباس: هو الرجل يجلس مع القوم، فيسمع الحديث فيه محاسن مساو، وفيحدث بأحسن ما سمع، ويكف عن ما سواه. و * (الذين) *: وصف لعباد. وقيل: الوقف على عباد، والذين مبتدأ خبره أولئك وما بعده.
* (أفمن حق عليه كلمة العذاب) *: قيل نزلت في أبي جهل، أي نفذ عليه الوعيد بالعذاب. والظاهر أنها جملة مستقلة، ومن موصولة مبتدأ، والخبر محذوف، فقيل تقديره: يتأسف عليه، وقيل: يتخلص منه. وقدره الزمخشري: فأنت تخلصه، قال: حذف لدلالة أفأنت تنفذ عليه؟ وقدر الزمخشري بين الهمزة والفاء جملة حتى تقر الهمزة في مكانها والفاء في مكانها، فقال: التقدير: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب، وهو قول انفرد به فيما علمناه. والذي تقوله النحاة أن الفاء للعطف وموضعها التقديم على الهمزة، لكن الهمزة، لما كان لها صدر الكلام، قدمت، فالأصل عندهم: فأمن حق عليه، وعلى القول أنها جملة مستقلة يكون قوله: * (أفأنت تنقذ من فى النار) *، استفهام توقيف، وقدم فيه الضمير إشعارا بأنك لست تقدر أن تنقذه من النار، بل لا يقدر على ذلك أحد إلا الله. وذهبت فرقة، منهم الحوفي والزمخشري، إلى أن من شرطية، وجواب الشرط أفأنت، فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار، وهو ظاهر، موضع المضمر، إذ كان الأصل تنقذه، وإنما أظهر تشهيرا لحالهم وإظهارا لخسة منازلهم. قال الحوفي:
404

وجئ بألف الاستفهام لما طال الكلام توكيدا، ولولا طوله، لم يجز الإتيان بها، لأنه لا يصلح في العربية أن يأتي بألف الاستفهام في الاسم، وألف أخرى في الجزاء. ومعنى الكلام: أفأنت تنقذه؟ انتهى. وعلى هذا القول، يكون قد اجتمع استفهام وشرط على قول الجماعة أن الهمزة قدمت من تأخر، فيجيء الخلاف بين سيبويه ويونس: هل الجملة الأخيرة هي للمستفهم عنها أو هي جواب الشرط؟ وعلى تقدير الزمخشري: لم تدخل الهمزة على اسم الشرط، فلم يجتمع استفهام وشرط، لأن الاستفهام عنده دخل على الجملة المحذوفة عنده، وهو: أأنت مالك أمرهم؟ وفمن معطوف على تلك الجملة المحذوفة، عطفت جملة الشرط على جملة الاستفهام، ونزل استحقاقهم العذاب، وهم في الدنيا بمنزلة دخولهم النار، ونزل اجتهاد الرسول عليه السلام في دعائهم إلى الإيمان منزلة انقاذهم من النار.
ولما ذكر حال الكفار في النار، وأن الخاسرين لهم ظلل، ذكر حال المؤمنين، وناسب الاستدراك هنا، إذ هو واقع بين الكافرين والمؤمنين، فقال: * (لكن الذين اتقوا) *. ففي ذلك حض على التقوى، لهم علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية، أي بناء المنازل التي سويت على الأرض. والضمير في * (من تحتها) * عائد على الجمعين، أي من تحت الغرف السفلى والغرف العليا، لا تفاوت بين أعلاها وأسفلها وانتصب * (وعد الله) * على المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله، إذ تضمنت معنى الوعد. * (ألم تر) *: خطاب وتوقيف للسامع على ما يعتبر به من أفعال الله الدالة على فناء الدنيا واضمحلالها. * (فسلكه ينابيع) *: أي أدخله مسالك وعيونا. والظاهر أن ماء العيون هو من ماء المطر، تحبسه الأرض ويخرج شيئا فشيئا. * (ثم يخرج به زرعا) *، ذكر منته تعالى علينا بما تقوم به معيشتنا. * (مختلفا ألوانه) *: من أحمر وأبيض وأصفر، وشمل لفظ الزرع جميع ما يرزع من مقتات وغيره، أو مختلفا أصنافه من بر وشعير وسمسم وغير ذلك. * (ثم يهيج) *: يقارب الثمار، * (فتراه مصفرا) *: أي زالت خضرته ونضارته. وقرأ أبو بشر: ثم يجعله، بالنصب في اللام. قال صاحب الكامل وهو ضعيف. انتهى. * (إن فى ذلك) *: أي فيما ذكر من إنزال المطر وإخراج الزرع به وتنقلاته إلى حالة، الحطامية، * (لذكرى) *: أي لتذكرة وتنبيها على حكمة فاعل ذلك وقدرته.
* (أفمن شرح الله صدره للإسلام) *: نزلت في حمزة، وعلى ومن مبتدأ، وخبره محذوف يدل عليه * (فويل للقاسية قلوبهم) * تقديره: كالقاسي المعرض عن الإسلام، وأبو لهب وابنه كاتا من القاسية قلوبهم، وشرح الصدر استعارة عن قبوله للإيمان والخير والنور والهداية. وفي الحديث: (كيف انشراح الصدور؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، قلنا: وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل الموت). * (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) *: أي من أجل ذكره، أي إذا ذكر الله عندهم قست قلوبهم. وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب. * (أولائك) *: أي القاسية قلوبهم، * (فى ضلال مبين) *: أي في حيرة واضحة، لا تخفى على من تأملها.
* (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر) *.
عن ابن عباس، أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حدثنا بأحاديث حسان، وبأخبار الدهر، فنزل: * (الله نزل أحسن الحديث) *. وعن ابن مسعود، أن الصحابة ملؤوا مكة، فقالوا له: حدثنا، فنزلت. والابتداء باسم الله، وإسناد نزل
405

لضميره مبنيا عليه فيه تفخيم للمنزل ورفع منه، كما تقول: الملك أكرم فلانا، هو أفخم من: أكرم الملك فلانا. وحكمة ذلك البداءة بالأشراف من تذكر ما تسند إليه، وهو كثير في القرآن، كقوله: * (الله يصطفى من الملائكة رسلا) * /
و * (* وكتابا) * بدل من * (نزل أحسن الحديث) *. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون حالا. انتهى. وكان بناء على أن * (أحسن الحديث) * معرفة لإضافته إلى معرفة. وأفعل التفضيل، إذا أضيف إلى معرفة، فيه خلاف. فقيل: إضافته محضة، وقيل: غير محضة. و * (متشابها) *: مطلق في مشابهة بعضه بعضا. فمعانيه متشابهة، لا تناقض فيها ولا تعارض، وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغة والتناسب، بحيث أعجزت العظماء والبلغاء. وقرأ الجمهور: * (مثاني) *، بفتح الياء؛ وهشام، وابن عامر، وأبو بشر: بسكون الياء، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف، واحتمل أن يكون منصوبا، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال، لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها. ومثاني يظهر أنه جمع مثنى، ومعناه: موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد. وقيل: يثني في الصلاة بمعنى: التكرير والإعادة. انتهى. ووصف المفرد بالجمع، لأن فيه تفاصيل، وتفاصيل الشيء جملته. ألا ترى أنك تقول: القرآن سور وآيات؟ فكذلك تقول: أحكام ومواعظ مكررات، وأصله كتابا متشابها فصولا مثاني، حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه. وأجاز الزمخشري أن يكون من باب برمة أعشار وثوب أخلاق، وأن يكون تمييزا عن متشابها، فيكون منقولا من الفاعل، أي متشابها مثانية. كما تقول: رأيت رجلا حسنا شمائل، وفائدة تثنيته وتكرره رسوخه في النفوس، إذ هي أنفر شيء عن سماع الوعظ والنصيحة. والظاهر حمل القشعريرة على الحقيقة، إذ هو موجود عند الخشية، محسوس يدركه الإنسان من نفسه، وهو حاصل من التأثر القلبي. وقيل: هو تمثيل تصوير لإفراط خشيتهم، والمعنى: أنه حين يسمعونه يتلي ما فيه من آيات الوعيد، عرتهم خشية تنقبض منها جلودهم.
ثم إذا ذكروا لله ورحمته لانت جلودهم، أي زال عنها ذلك التقبض الناشئ عن خشية القلوب بزوال الخشية عنها، وضمن تلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة، وقلوبهم راجية غير خاشية، ولذلك عداه بإلى. وكان في ذكر القلوب في هذه الجملة دليل على تأثرها عند السماع، فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب. فلما ذكر اللين ذكرهما، وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة الله، كما كان في قوله: * (إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) *، دليل بقوله: * (وجلت) * عن ذكر المحذوف، أي إذا ذكر وعيد الله وبطشه. وقال العباس بن عبد المطلب: قال النبي عليه السلام: (من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها). وقال ابن عمر: وقد رأى ساقطا من سماع القرآن فقال: إنا لنخشى الله، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقالت أسماء بنت أبي بكر: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن قوما اليوم إذا اسمعوا القرآن خر أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين بصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن رمى بنفسه فهو صادق. والإشارة بذلك إلى الكتاب، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين، أي أثر هدى الله. * (أفمن يتقى) *: أي يستقبل، كما قال الشاعر:
* سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
*
فتناولته واتقتنا باليد
*
أي: استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى. والظاهر حمل بوجهه على حقيقته. لما كان يلقي في النار مغلولة
406

يداه إلى رجليه مع عنقه، لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه. قال مجاهد: يجر على وجهه في النار، ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة. وقيل: المعنى وصف كثرة ما ينالهم من العذاب، يتقيه أولا بجوارحه، فيتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه، وفيه جواب، وهو غاية العذاب. قال ابن عطية: وهذا المعنى عندي أبين بلاغة. في هذا المضمار يجري قول الشاعر:
* يلقي السيوف بوجهه وبنحره
*
ويقيم هامته مقام المغفر
*
لأنه إنما أراد عظم جرأته عليها، فهو يلقاها بكل مجن، وبكل شيء عنه، حتى بوجهه وبنحره. انتهى. و * (سوء العذاب) *: أشده، وخبر من محذوف قدره الزمخشري: كمن أمن العذاب، وابن عطية: كالمنعمين في الجنة. * (وقيل للظلمين) *: أي قال ذلك خزنة النار، * (ذوقوا ما كنتم) *: أي وبال ما كنتم * (تكسبون) * من الأعمال السيئة. * (كذب الذين من قبلهم) *: تمثيل لقريش بالأمم الماضية، وما آل إليه أمرهم من الهلاك. * (فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) *: من الجهة التي لا يشعرون أن العذاب يأتيهم من قبلها، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها. كانوا في أمن وغبطة وسرور، فإذا هم معذبون مخزيون ذليلون في الدنيا من ممسوخ ومقتول ومأسور ومنفي. ثم أخبر أن ما أعدلهم في الآخرة أعظم. وانتصب * (قرءانا عربيا) * على الحال، وهي حال مؤكدة، والحال في الحقيقة هو عربيا، وقرآنا توطئة له. وقيل: انتصب على المدح، ونفى عنه العوج، لأنه مستقيم يرى من الاختلاف والتناقض. وقال عثمان بن عفان: غير مضطرب. وقال ابن عباس: غير مختلف. وقال مجاهد: غير ذي لبس. وقال السدي: غير مخلوق. وقيل: غير ذي لحن. قال الزمخشري: فإن قلت: فهلا قيل مستقيما أو غير معوج؟ قلت: فيه فائدتان: إحدهما: نفى أن يكون فيه عوج قط، كما قال: * (ولم يجعل له عوجا) *. والثاني: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل: المراد بالعوج: الشك واللبس، وأنشد:
* وقد أتاك يقينا غير ذي عوج
*
من الإله وقول غير مكذوب
*
انتهى. ولما ذكر تعالى أنه ضرب في القرآن * (من كل مثل) *: أي محتاج إليه، ضرب هنا مثلا لعابد آلهة كثيرة، ومن يعبد الله وحده، ومثل برجل مملوك اشترك فيه ملاك سيئو الأخلاق، فهو لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم مقصوده، إذ لا يتغاضى بعضهم لبعض لمشاحتهم، وطلب كل منهم أن يقضي حاجته على التمام، فلا يزال في عناء وتعب ولوم من كل منهم. ورجل آخر مملوك جمعيه لرجل واحد، فهو معني بشغله لا يشغله عنه شيء، ومالكه راض عنه إن قد خلص لخدمته وبذل جهده في قضاء حوائجه، فلا يلقى من سيده إلا إحسانا، وتقدم الكلام في نصب المثل وما بعده. وقال الكسائي: انتصب رجلا على إسقاط الخافض، أي مثلا لرجل، أو في رجل فيه، أي في رقه مشتركا، وفيه صلة لشركاء. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والزهري، والحسن: بخلاف عنه؛ والجحدري، وابن كثير وأبو عمرو: سالما اسم فاعل من سلم، أي خالصا من الشركة. وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو رجاء، وطلحة، والحسن: بخلاف عنه؛ وباقي السبعة: سلما بفتح السين واللام. وقرأ ابن جبير: سلما بكسر السين وسكون اللام، وهما مصدر ان وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة. وقرئ: ورجل سالم، برفعهما. وقال الزمخشري: أي وهناك رجل سالم لرجل. انتهى، فجعل الخبر هناك. ويجوز أن يكون ورجل مبتدأ، لأنه موضع تفصيل، إذ قد تقدم ما يدل عليه، فيكون كقول امرئ القيس:
* إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
*
بشق وشق عندنا لم يحول
*
407

وقال الزمخشري: وإنما جعله رجلا ليكون أفطن لما شقى به أو سعد، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. وانتصب مثلا على التمييز المنقول من الفاعل، إذ التقدير: هل يستوي مثلهما؟ واقتصر في التمييز على الواحد، لأنه المقتصر عليه أو لا في قوله: * (ضرب الله مثلا) *، ولبيان الجنس. وقرئ: مثلين، فطابق حال الرجلين. وقال الزمخشري: ويجوز فيمن قرأ مثلين أن يكون الضمير في يستويان للمثلين، لأن التقدير مثل رجل، والمعنى: هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية؟ كما
يقول: كفى بهما رجلين. انتهى. والظاهر أنه يعود الضمير في يستويان إلى الرجلين، فأما إذا جعلته عائدا إلى المثلين اللذين ذكر أن التقدير مثل رجل ورجل، فإن التمييز إذ ذاك يكون قد فهم من المميز الذي هو الضمير، إذ يصير التقدير: هل يستوي المثلان مثلين؟ قل: * (الحمد لله) *: أي الثناء والمدح لله لا لغيره، وهو الذي ثبتت وحدانيته، فهو الذي يجب أن يحمد، * (بل أكثرهم لا يعلمون) *، فيشركون به غيره. ولفظة الحمد لله تشعر بوقوع الهلاك بهم بقوله: * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) *.
ولما لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل الباهرة، أخبر الجميع بأنهم ميتون وصائرون إليه، وأن اختصامكم يكون بين يديه يوم القيامة، وهو الحكم العدل، فيتميز المحق من المبطل، وهو عليه السلام وأتباعه المحقون الفائزون بالظفر والغلبة، والكافرون هم المبطلون. فالضمير في وإنك خطاب للرسول، وتدخل معه أمته في ذلك. والظاهر عود الضمير في * (وإنهم) * على الكفار، وغلب ضمير الخطاب في * (إنك) * على ضمير الغيبة في إنهم، ولذلك جاء * (تختصمون) * بالخطاب، فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت، وكذبوا واجتهدت في الدعوة، ولجوا في العناد. وقال أبو العالية: هم أهل القبلة، يختصمون بينهم يوم القيامة في مظالمهم. وأبعد من ذهب إلى أن هذا الخصام سببه ما كان في قتل عثمان، وما جرى بين علي ومعاوية بسبب ذلك، رضي الله عنهم. وقيل: يختصم الجميع، فالكفار يخاصم بعضهم بعضا حتى يقال لهم: لا تختصموا لدي. والمؤمنون يتلقون الكافرين بالحجج، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. وقرأ ابن الزبير، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وعيسى، واليماني، وابن أبي غوث، وابن أبي عبلة: إنك مائت وإنهم مائتون، وهي تشعر بحدوث الصفة؛ والجمهور: ميت وميتون، وهي تشعر بالثبوت واللزوم كالحي.
2 (* (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جآءه أليس فى جهنم مثوى للكافرين * والذى جآء بالصدق وصدق به أولائك هم المتقون * لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك جزآء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذى عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذى كانوا يعملون * أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذى انتقام * ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون * قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون * من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم * إنآ أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى
408

فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنت عليهم بوكيل * الله يتوفى الا نفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها فيمسك التى قضى عليها الموت ويرسل الا خرى إلى أجل مسمى إن فى ذلك لايات لقوم يتفكرون * أم اتخذوا من دون الله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والا رض ثم إليه ترجعون * وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالا خرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون * قل اللهم فاطر السماوات والا رض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فى ما كانوا فيه يختلفون * ولو أن للذين ظلموا ما فى الا رض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون * وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنمآ أوتيته على علم بل هى فتنة ولاكن أكثرهم لا يعلمون * قد قالها الذين من قبلهم فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هاؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين * أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن فى ذلك لايات لقوم يؤمنون * قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت فى جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هدانى لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لى كرة فأكون من المحسنين * بلى قد جآءتك ءاياتى فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين * ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس فى جهنم مثوى للمتكبرين * وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون * الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل * له مقاليد السماوات والا رض والذين كفروا بأايات الله أولائك هم الخاسرون * قل
409

أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين * وما قدروا الله حق قدره والا رض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون * ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن فى الا رض إلا من شآء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون * وأشرقت الا رض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون * وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هاذا قالوا بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الا رض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين * وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) *))
) *
اشمأز، قال أبو زيد: زعر. قال غيره: تقبض كراهة ونفورا. قال الشاعر:
* إذا عض الثقات بها اشمأزت
*
وولته عشوزية زبونا
*
المقاليد: المفاتيح، قيل: لا واحد لها من لفظها، قاله التبريزي. وقيل: واحدها مقليد، وقيل: مقلاد، ويقال: إقليد وأقاليد، والكلمة أصلها فارسية. الزمر: جمع زمرة، قال أبو عبيد والأخفش: جماعات متفرقة، بعضها إثر بعض. قال:
حتى احزألت زمر بعد زمر
ويقال: تزمر. والحفوف: الإحداق بالشيء، قال الشاعر:
* تحفه جانب ضيق ويتبعه
*
مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد
وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف، وهو الجانب، ومنه قول الشاعر:
*
410

له لحظات عن حفافي سريره
إذا كرها فيها عقاب ونائل
*
* (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس فى جهنم مثوى للكافرين * والذى جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذى عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذى كانوا يعملون * أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله * له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذى انتقام * ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله قل أفرايتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو) *.
* (فمن أظلم ممن كذب على الله) *: هذا تفسير وبيان للذين يكون بينهم الخصومة، وهذا يدل على أن الاختصام السابق يكون بين المؤمنين والكافرين، والمعنى: لا أجد في المكذبين أظلم ممن افترى على الله، فنسب إليه الولد والصاحبة والشريك، وحرم وحلل من غير أمر الله؛ * (وكذب بالصدق) *: وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ * (إذ جاءه) *: أي وقت مجيئه، فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ارتياء ولا نظر، بل وقت مجيئه كذب به. ثم توعدهم توعدا فيه احتقارهم على جهة التوقيف، وللكافرين مما قام فيه الظاهر مقام المضمر، أي مثوى لهم، وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذبيهم، وهو الكفر. * (والذى جاء بالصدق * الله بهاذا فمن أظلم) *. * (وصدق به) * مقابل لقوله: * (وكذب بالصدق) *. والذي جنس، كأنه قال: والفريق الذي جاء بالصدق، ويدل عليه: * (أولئك هم المتقون) *، فجمع. كما أن المراد بقوله: * (فمن أظلم) *، يراد به جمع، ولذلك قال * (مثوى للكافرين) *. وفي قراءة عبد الله: والذي جاؤوا بالصدق وصدقوا به. وقيل: أراد والذين، فحذفت منه النون، وهذا ليس بصحيح، إذ لو أريد الذين بلفظ الذي وحذفت منه النون، لكان الضمير مجموعا كقوله:
وإن الذي حانت بفلح دماؤهم
ألا ترى أنه إذا حذفت النون في المثنى كان الضمير مثنى؟ كقوله:
* أبني كليب أن عمي اللذا
*
قتلا الملوك وفككا الأغلالا
*
وقيل: الذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم). وقال علي، وأبو العالية، والكلبي، وجماعة: الذي جاء بالصدق هو الرسول، والذي صدق به هو أبو
411

بكر. وقال أبو الأسود، ومجاهد، وجماعة: الذي صدق به وهو علي بن أبي طالب. وقال الزمخشري: والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم). جاء بالصدق وآمن به، وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون) *، ولذلك قال: * (أولئك هم المتقون) *، إلا أن هذا في الصفة، وذلك في الاسم. ويجوز أن يريد: والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهو الرسول الذي جاء بالصدق، وصحابته الذين صدقوا به. انتهى. وقوله: وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه. استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه، وإنما هو متصل، فإصلاحه وأراده به ومن تبعه، كما أراده بموسى وقومه: أي لعل قومه يهتدون، إذ موسى عليه السلام مهتد. فالمترجى هداية قومه، لا هدايته، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقودا لا موجودا. وقوله: ويجوز إلخ، فيه توزيع الصلة، والفوج هو الموصول، فهو كقوله: جاء الفريق الذي شرف وشرف. والأظهر عدم التوزيع، بل
المعطوف على الصلة، صلة لمن له الصلة الأولى.
وقرأ الجمهور: * (وصدق) * مشددا؛ وأبو صالح، وعكرمة بن سليمان، ومحمد بن جحازة: مخففا. قال أبو صالح: وعمل به. وقيل: استحق به اسم الصدق. قال ابن عطية: فعلى هذا إسناد الأفعال كلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم)، وكأن أمته في ضمن القول، وهو الذي يحسن * (أولائك * المتقون) *. انتهى. وقال الزمخشري: أي صدق به الناس، ولم يكذبهم به، يعني: أداه إليهم، كما نزل عليه من غير تحريف. وقيل: معناه: وصار صادقا به، أي بسببه، لأن القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يديه، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق، فيصير لذلك صادقا بالمعجزة. وقرئ: وصدق به. انتهى، يعني: مبنيا للمفعول مشددا. وقال صاحب اللوامح: جاء بالصدق من عند الله وصدق بقوله، أي في قوله، أو في مجيئه، فاجتمع له الصفتان من الصدق: من صدقه من عند الله، وصدقه بنفسه، وذلك مبالغة في المدح. انتهى.
* (لهم ما يشاءون) *: عام في كل ما تشتهيه أنفسهم وتتعلق به إرادتهم. و * (ليكفر) *: متعلق بالمحسنين، أي الذين أحسنوا ليكفر، أو بمحذوف، أي يسر ذلك لهم ليكفر، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير. و * (أسوأ الذى عملوا) *: هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام. والتكفير يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه، والجزاء بالأحسن يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه، فقيل: ذلك يكون إذا صدقوا الأنبياء فيما أتوا به. وقال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوي، وهذا قول المرجئة، يقولون: لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان. واحتج بهذه الآية، وقام الظاهر مقام المضمر في المحسنين، أي ذلك جزاؤهم، فنبه بالظاهر على العلة المقتضية لحصول الثواب. والظاهر أن أسوأ أفعل تفضيل، وبه قرأ الجمهور: وإذا كفر أسوأ أعمالهم، فتكفير ما هو دونه أحرى. وقيل: أفعل ليس للتفضيل، وهو كقولك: الأشج أعدل بني مروان، أي عادل، فكذلك هذا، أي سئ الذين عملوا. ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم، وحامد بن يحيى، عن ابن كثير: أسوأ هنا؛ وفي حم السجدة بألف بين الواو والهمزة جمع سوء، ولا تفضيل فيه. والظاهر أن بأحسن أفعل تفضيل فقيل: لينظر إلى أحسن طاعاته فيجزي الباقي في الجزاء على قياسه، وإن تخلف عنه بالتقصير. وقيل: بأحسن ثواب أعمالهم. وقيل: بأحسن من عملهم، وهو الجنة، وهذا ينبو عنه * (بأحسن الذى) *. وقال الزمخشري: أما التفضيل فيؤذن بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرات هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملون هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ، وحسنهم بالأحسن. انتهى، وهو على رأى المعتزلة، ويكون قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم، وأحسن في التفضيل على ما هو عند الله، وذلك توزيع في أفعل التفضيل، وهو خلاف الظاهر.
قالت قريش: لئن لم ينته
412

محمد عن تعييب آلهتنا وتعيينا، لنسلطها عليه فتصيبه بخبل وتعتريه بسوء، فأنزل الله: * (أليس الله بكاف عبده) *: أي شر من يريده بشر، والهمزة الداخلة على النفي للتقرير، أي هو كاف عبده، وفي إضافته إليه تشريف عظيم لنبيه. وقرأ الجمهور: عبده، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقرأ أبو جعفر، ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي: عباده بالجمع، أي الأنبياء والمطيعين من المؤمنين؛ * (ويخوفونك بالذين من دونه) *: وهو الأصنام. ولما بعث خالدا إلى كسر العزى، قال له سادنها: إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقوم لها شيء. فأخذ خالد الفأس، فهشم به وجهها ثم انصرف. وفي قوله: * (ويخوفونك) *، تهكم بهم لأنهم خوفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرر. ونظير هذا التخويف قول قوم هو دله: * (إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء) *. وقرئ: * (على عبده) * على الإضافة، ويكافي عباده مضارع كفى، ونصب عباده فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية، كقولك: يجازي في يجزي، وهو أبلغ من كفى، لبنائه على لفظظ المبالغة، وهو الظاهر لكثرة تردد هذا المعنى في القرآن، كقوله: * (فسيكفيكهم الله) *. ويحتمل أن يكون مهموزا من المكافأة، وهي المجازاة، أي يجزيهم أجرهم.
ولما كان تعالى كافي عبده، كان التخويف بغيره عبثا باطلا. ولما اشتملت الآية على مهتدين وضالين، أخبر أن ذلك كله هو فاعله، ثم قال: * (أليس الله بعزيز) *: أي غالب منيع، * (ذى انتقام) *: وفيه وعيد لقريش، ووعد للمؤمنين. ولما أقروا بالصانع، وهو الله، أخبرهم أنه تعالى هو المتصرف في نبيه بما أراد. فإن تلك الأصنام التي يدعونها آلهة من دونه لا تكشف ضرا ولا تمسك رحمة، أي صحة وسعة في الرزق ونحو ذلك. وأرأيتم هنا جارية على وضعها، تعدت إلى مفعولها الأول، وهو ما يدعون. وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية، وفيها العائد على ما، وهو لفظ هن وأنث تحقيرا لها وتعجيزا وتضعيفا. وكان فيها من سمى تسمية الإناث، كالعزى ومناة واللات، وأضاف إرادة الله الضر إلى نفسه والرحمة إليها، لأنهم خوفوه مضرتها، فاستسلف منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله. ثم استخبرهم عن أصنامهم، هل تدفع شرا وتجلب خيرا؟ وقرأ الجمهور: كاشفات وممسكات على الإضافة؛ وشيبة، والأعرج، وعمرو بن عبيد، وعيسى: بخلاف عنه؛ وأبو عمرو، وأبو بكر؛ بتنوينهما ونصب ما بعدهما. ولما تقرر أنه تعالى كافية، وأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، أمره تعالى أنه يعلم أنه تعالى هو حسبه، أي كافية. والجواب في هذا الاستخبار محذوف، والتقدير: فإنهم سيقولون: لا تقدر على شيء من ذلك. وقال مقاتل: استخبرهم فسكتوا. * (قل ياأهل * قوم * اعملوا) *: تقدم الكلام على نظيرها.
* (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل الله) *.
لما كان عليه السلام يعظم عليه عدم إيمانهم ورجوعهم إلى ما أنزل الله تعالى عليه، سلاه تعالى عن ذلك، وأخبره أنه أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن، مصحوبا بالحق، وهو دين الإسلام، للناس: أي لأجلهم، إذ فيه تكاليفهم. * (فمن اهتدى) *
413

فثواب هدايته إنما هو له، * (ومن ضل) *: فعقاب ضلاله إنما هو عليه، * (وما أنت عليهم بوكيل) *: أي فتجبرهم على الإيمان. قال قتادة: بوكيل: بحفيظ. وقال الزمخشري: للناس: لأجل حاجتهم إليه، ليبشروا وينذروا. فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية، فلا حاجة لي إلى ذلك، فأنا الغني. فمن اختار الهدى، فقد نفع نفسه؛ ومن اختار الضلالة، فقد ضرها، وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى. فإن التكليف مبني على الاختيار دون الإجبار. انتهى، وهو على مذهب المعتزلة.
ولما ذكر تعالى أنه أنزل الكتاب على رسوله بالحق للناس، نبه على أنه من آياته الكبرى يدل على الوحدانية، لا يشركه في ذلك صنم وعلى غيره، فقال: * (الله يتوفى الانفس حين موتها) *، والأنفس هي الأرواح. وقيل: النفس غير الروح، قاله ابن عباس. فالروح لها تدبير عالم الحياة، والنفس لها تدبيه عالم الإحساس. وفرقت فرقة بين نفس التمييز ونفس التخييل. والذي يدل عليه الحديث واللغة أن النفس والروح مترادفان، وأن فراق ذلك من الجسد هو الموت. ومعنى يتوفى النفس: يميتها، والتي: أي والأنفس التي لم تمت في منامها، أي يتوفاها حين تنام، تشبيها للنوام بالأموات. ومنه: * (وهو الذى يتوفاكم باليل) *. فبين الميت والنائم قدر مشترك، وهو كونهما لا يميزان ولا يتصرفان. فيمسك من قضى عليها الموت الحقيقي، ولا يردها في وقتها حية؛ ويرسل النائمة لجسدها إلى أجل ضربه لموتها. وقيل: * (يتوفى الانفس) *: يستوفيها ويقبضها، وهي الأنفس التي يكون معها الحياة والحركة. ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وهي أنفس التمييز، قالوا: فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس. والنائم يتنفس، وكون النفس تقبض، والروح في الجسد حالة النوم، بدليل أنه يتقلب ويتنفس، هو قول الأكثرين. ودل على التغاير وكونها شيئا واحدا هو قول ابن جبير وأحد قولي ابن عباس؛ والخوض في هذا، وطلب إدراك ذلك على جليته عناء ولا يوصل إلى ذلك. * (إن فى ذلك) *: أي في توفي الأنفس مائتة ونائمة، وإمساكها وإسالها إلى أجل، * (لايات) *: لعلامات دالة على قدرة الله وعلمه، * (لقوم) * يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون. وقرأ الجمهور: * (قضى) * مبنيا للفاعل، * (الموت) *: نصبا؛ وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وعيسى، وحمزة، والكسائي: مبنيا للمفعول؛ الموت: رفعا. فأم منقطعة تقدر ببل والهمزة، وهو تقرير وتوبيخ. وكانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عندنا، والشفاعة إنما هي لمن ارتضاه الله وبإذنه تعالى، وهذا مفقود في آلهتهم. وأولو معناه: أيتخذونهم شفعاءهم بهذه المثابة من كونهم لا يعقلون ولا يملكون شيئا، وذلك عام النقص، فكيف يشفع هؤلاء؟ وتقدم لنا الكلام في أولو في سورة البقرة. وقال ابن عطية: متى دخلت ألف الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت معنى التقرير. انتهى. وإذا كانوا لا يملكون شيئا، فكيف يملكون الشفاعة؟ وقال الزمخشري: أي ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئا قط حتى يملكوا الشفاعة، ولا عقل لهم. انتهى. فأتى بقوله: قط، بعد قوله: لا يملكون، وليس بفعل ماض، وقط ظرف يستعمل مع الماضي لا مع غيره، وقد تكرر للزمخشري هذا الاستعمال، وليس باستعمال عربي.
* (قل لله الشفاعة جميعا) *: فهو مالكها، يأذن فيها لمن يشاء ثم أتى بعام وهو: * (له ملك السماوات والارض) *، فاندرج فيه ملك الشفاعة. ولما كانت الشفاعة من غيره موقوفة على إذنه، كانت الشفاعة كلها له. ولما أخبر أنه له ملك السماوات والأرض، هددهم بقوله: * (ثم إليه) *، فيعلمون أنهم لا يشفعون، ويخيب سعيكم في عبادتهم. وقال الزمخشري: معناه له ملك السماوات والأرض اليوم، ثم إليه ترجعون يوم القيامة، فلا يكون الملك في ذلك إلا له، فله ملك الدنيا والآخرة.
* (ترجعون وإذا ذكر الله وحده) *: أي مفردا بالذكر، ولم يذكر مع آلهتهم. وقيل: إذا قيل لا إله إلا الله، * (وإذا ذكر الذين من دونه) *، وهي الأصنام. والاشمئزاز والاستبشار متقابلان غاية، لأن الاشمئزاز: امتلاء القلب غما وغيظا، فيظهر أثره، وهو الانقباض في الوجه، والاستبشار: امتلاؤه سرورا، فيظهر أثره، وهو الانبساط، والتهلل في الوجه. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما العامل في وإذا ذكر؟ قلت: العامل في إذا الفجائية تقديره: وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا الاستبشار. وقال الحوفي: * (إذا هم يستبشرون) *، إذا مضافة إلى الابتلاء والخبر، وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه، والتقدير: إذا كان ذلك هم يستبشرون، فيكون هم يستبشرون
414

العامل في إذا، المعنى: إذا كان ذلك استبشروا. انتهى. أما قول الزمخشري: فلا أعلمه من قول من ينتمي للنحو، وهو أن الظرفين معمولان لعامل واحد، ثم إذا الأولى ينتصب على الظرف، والثانية على المفعول به. وأما قول الحوفي فبعيد جدا عن الصواب، إذ جعل إذا ماضفة إلى الابتداء والخبر، ثم قال: وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه، فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هم يستبشرون؟ وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحدث فيه، وقد تقدم لنا في مواضع إذا التي للمفاجأة جوابا لإذا الشرطية، وقد قررنا في علم النحو الذي كتبناه أن إذا الشرطية ليست مضافة إلى الجملة التي تليها، وإن كان مذهب الأكثرين، وأنها ليست بمعمولة للجواب، وأقمنا الدليل على ذلك، بل هي معمولة للفعل الذي يليها، كسائر أسماء الشرطية الظرفية، وإذا الفجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط، كالفاء؛ وهي معمولة لما بعدها. إن قلنا إنها ظرف، سواء كان زمانا أو مكانا. ومن قال إنها حرف، فلا يعمل فيها شيء، فإذا الأولى معمولة لذكرهم، والثانية معمولة ليستبشرون. ولما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر الله، واستبشارهم بذكر الأصنام، أمره أن يدعو بأسماء الله العظمى من القدرة والعلم ونسبة الحكم إليه، إذ غيره لا قدرة له ولا علم تام ولا حكم، وفي ذلك وصف لحالهم السئ ووعيد لهم وتسلية للرسول عليه السلام. وتقدم الكلام في * (اللهم) * في سورة آل عمران.
* (ولو أن للذين ظلموا) *: تقدم الكلام على تشبيهه في العقود. * (وبدا لهم من الله) *: أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة، حسب ضلالاتهم وتخيلاتهم فيما يعتقدونه. فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة، ظهر لهم خلاف ما كانوا يظنون، وما كان في حسابهم. وقال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء من هذه الآية. * (وحاق بهم ما كانوا) *: أي جزاء ما كانوا وما فيما كسبوا، يحتمل أن تكون بمعنى الذي، أي سيئات أعمالهم، وأن تكون مصدرية، أي سيئات كسبهم. والسيئات: أنواع،
العذاب سميت سيئات، كما قال: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *.
* (فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هى فتنة ولاكن) *.
تقدم في غير آية كون الإنسان إذا مسه الضر التجأ إلى الله، مع اعتقادهم الأوثان وعبادتها. فإذا أصابتهم شدة، نبذوها ودعوا رب السماوات والأرض، وهذا يدل على تناقض آرائهم وشدة اضطرابها. والإنسان جنس وضر مطلق، والنعمة عامة في جميع ما يسر، ومن ذلك إزالة الضر. وقيل: الإنسان معين، وهو حذيفة بن المغيرة. والظاهر أن ما في إنما كافة مهيئة لدخول إن على الجملة الفعلية، وذكر الضمير في * (أوتيته) *، وإن كان عائدا على النعمة، لأن معناها مذكر، وهو الأنعام أو المال، على قول من شرح النعمة بالمال، أو المعنى: شيئا من النعمة، أو لأنها تشتمل على مذكر ومؤنث، فغلب المذكر. وقيل: ما موصولة، والضمير عائد على ما، أي قال: إن الذي أوتيته على علم مني، أي بوجه المكاسب والمتاجر، قاله قتادة، وفيه إعجاب بالنفس وتعاظم مفرط. أو على علم من الله في واستحقاق جزائه عند الله، وفي هذا احتراز الله وعجز ومن على الله. أو على علم مني بأني سأعطاه لما في من فضل واستحقاق، بل هي فتنة إضراب عن دعواه أنه إنما أوتي على علم، بل تلك النعمة فتنة وابتلاء. ذكر أولا في * (أوتيته) * على المعنى، إذ كانت ما مهيئة، ثم عاد إلى اللفظ فأنث في قوله * (بل هى) *، أو تكون هي عادت على الإتيان، أي بل إتيانه النعمة فتنة. وكان العطف هنا بالفاء في فإذا، بالواو في أول السورة لأنها وقعت مسببة عن قوله: * (وإذا ذكر الله) *، أي يشمئزون عند ذكر الله، ويستبشرون بذكر آلهتهم. فإذا مس أحدهم
415

ضر دعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره. ومناسبة السببية أنك تقول: زيد مؤمن، فإذا مسه الضر التجأ إلى الله. فالسبب هنا ظاهر، وزيد كافر، فإذا مسه الضر التجأ إليه، يقيم كفره مقام الإيمان في جعله سببا للالتجاء، يحكي عكس ما فيه الكافر. يقصد بذلك الإنكار والتعجب من فعله المتناقض، حيث كفر بالله ثم التجأ إليه في الشدائد.
وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة، بل ناسبت ما قبلها، فعطفت عليه بالواو، وإذا كانت فإذا متصلة بقوله: * (وإذا ذكر الله وحده) *، كما قلنا، فما بينهما من الآي اعتراض يؤكد به ما بين المتصلين. فدعاء الرسول ربه بأمر منه وقوله: * (أنت تحكم) *، وتعقيبه الوعيد، تأكيد لاشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم. وقوله: * (ولو أن للذين ظلموا) * يتناول لهم، أو لكل ظالم، إن جعل مطلقا أو إياهم خاصة إن عنوا به. انتهى، وهو ملتقط أكثره من كلام الزمخشري، وهو متكلف في ربط هذه الآية بقوله: * (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت) * مع بعدما بينهما من الفواصل. وإذا كان أبو علي الفارسي لا يجيز الاعتراض بجملتين، فكيف يجيزه بهذه الجمل الكثيرة؟ والذي يظهر في الربط أنه لما قال: * (ولو أن للذين ظلموا) * الآية، كان ذلك إشعارا بما ينال الظالمين من شدة العذاب، وأنه يظهر لهم يوم القيامة من العذاب ما لم يكن في حسابهم، أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه، إذ كان إذا مسه دعا ربه، فإذا أحسن إليه، لم ينسب ذلك إليه. ثم إنه بعد وصف تلك النعمة أنها ابتلاء وفتنة، كما بدا له في الآخرة من عمله الذي كان يظنه صالحا ما لم يكن في حسابه من سوء العذاب المترتب على ذلك العمل، ترتب الفتنة على تلك النعمة. * (ولاكن أكثرهم لا يعلمون) *: أي إن ذلك استدراج وامتحان * (قد قالها الذين من قبلهم) *: أي قال مثل مقالتهم * (أوتيته على علم) *. والظاهر أن قائلي ذلك جماعة من الأمم الكافرة الماضية، كقارون في قوله: * (قال إنما أوتيته على علم عندى) *. وقيل: الذين من قبلهم هم قارون وقومه، إذ رضوا بمقالته، فنسب القول إليهم جميعا. وقرئ: قد قاله، أي قال القول أو الكلام. * (فما أغنى عنهم) *: يجوز أن تكون ما نافية، وهو الظاهر. وأن تكون استفهامية، فيها معنى النفي. * (ما كانوا يكسبون) *: أي من الأموال. * (والذين ظلموا من هؤلاء) *: إشارة إلى مشركي قريش، * (سيصيبهم سيئات ما كسبوا) *: جاء بسين الاستقبال التي هي أقل تنفيسا في الزمان من سوف، وهو خبر غيب، أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره. قتل رؤساءهم، وحبس عنه الرزق، فلم يمطروا سبع سنين؛ ثم بسط لهم، فمطروا سبع سنين، فقيل لهم: ألم تعلموا أنه لا قابض ولا باسط إلا الله تعالى؟.
* (قل ياأهل * عبادى * الذين أسرفوا) *: نزلت في وحشي قاتل حمزة، قاله عطاء؛ أو في قوم آمنوا عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما، ففتنتهم قريش، فافتتنوا وظنوا أن لا توبة لهم، فكتب عمر لهم بهذه الآية، قاله عمر والسدي وقتادة وابن إسحاق. وقيل: في قوم كفار من أهل الجاهلية قالوا: وما ينفعنا الإسلام وقد زنينا وقتلنا النف وأتينا كل كبيرة؟ ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما شدد على الكفار وذكر ما أعد لهم من العذاب، وأنهم لو كان لأحدهم ما في الأرض ومثله معه لافتدى به من عذاب الله، ذكر ما في إحسانه من غفران الذنوب إذا آمن العبد ورجع إلى الله. وكثيرا تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف. وهذه الآية عام في كل كافر يتوب، ومؤمن عاص يتوب، تمحو الذنب توبته. وقال عبد الله، وعلي، وابن عامر: هذه أرجى آية في كتاب الله. وتقدم الخلاف في قراءة * (لا تقنطوا) * في الحجر.
* (إن الله يغفر الذنوب جميعا) *: عام يراد به ما سوى الشرك، فهو مقيد أيضا بالمؤمن العاصي غير التائب بالمشيئة. وفي قوله: * (فى عبادى) *، بإضافتهم إليه وندائهم، إقبال وتشريف. و * (أسرفوا على أنفسهم) *: أي بالمعاصي، والمعنى: إن ضرر تلك الذنوب إنما هو عائد عليهم، والنهي عن القنوط يقتضي الأمر بالرجاء، وإضافة الرحمة إلى الله التفات من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب، لأن في إضافتها إليه سعة للرحمة إذا أضيفت إلى الله الذي هو أعظم الأسماء، لأنه العلم المحتوي على معاني جميع الأسماء. ثم أعاد الاسم الأعظم، وأكد الجملة بأن مبالغة في
416

الوعد بالغفران، ثم وصف نفسه بما سبق في الجملتين من الرحمة والغفران بصفتي المبالغة، وأكد بلفظ هو المقتضي عند بعضهم الحصر. وقال الزمخشري: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) *، شرط التوبة. وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرا له فيما لم يذكر فيه، لأن القرآن في حكم كلام واحد،
ولا يجوز فيه التناقض. انتهى، وهو على طريقة المعتزلة في أن المؤمن العاصي لا يغفر له إلا بشرط التوبة.
ولما كانت هذه الآية فيها فسحة عظيمة للمسرف، أتبعها بأن الإنابة، وهي الرجوع، مطلوبة مأمور بها. ثم توعد من لم يتب بالعذاب، حتى لا يبقى المرء كالممل من الطاعة والمتكل على العفران دون إنابة. وقال الزمخشري: وإنما ذكر الإنابة على إثر المغفرة، لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
* (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) *، مثل قوله: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) *، وهو القرآن، وليس المعنى أن بعضا أحسن من بعض، بل كله حسن. * (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة) *، أي فجأة، * (وأنتم لا تشعرون) *: أي وأنتم غافلون عن حلوله بكم، فيكون ذلك أشد في عذابكم.
* (أن تقول نفس ياحسرتى ياحسرتى على ما فرطت فى جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هدانى لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لى كرة فأكون من المحسنين * بلى قد جاءتك ءاياتى فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين * ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس فى جهنم مثوى للمتكبرين * وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون * الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل * له مقاليد السماوات والارض والذين كفروا بئايات الله أولئك هم الخاسرون) *.
روي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق، أتاه إبليس فقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه وأنفق ماله في الفجور. فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: * (أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت) *، وذهب عمري في طاعة الشيطان، وأسخطت ربي، فندم حين لا ينفعه، فأنزل الله خبره. * (أن تقول) *: مفعول من أجله، فقدره ابن عطية: أي أنيبوا من أجل أن تقول. وقال الزمخشري: كراهة أن تقول، والحوفي: أنذرناكم مخافة أن تقول، ونكر نفس لأنه أريد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، أو أريد الكثير، كما قال الأعشى:
* ورب نفيع لو هتفت لنحوه
*
أتاني كريم ينقض الرأسى مغضبا
*
يريد أفواجا من الكرام ينصرونه، لا كريما واحدا؛ أو أريد نفس متميزة من الأنفس بالفجاج الشديد في الكفر، أو بعذاب عظيم. قال هذه المحتملات الزمخشري، والظاهر الأول. وقرأ الجمهور: يا حسرتا، بإبدال ياء المتكلم ألفا، وأبو جعفر: يا حسرتا، بياء الإضافة، وعنه: يا حسرتي، بالألف والياء جمعا بين العوض والمعوض، والياء مفتوحة أو سانة. وقال أبو الفضل الرازي في تصنيفه (كتاب اللوامح): ولو ذهب إلى أنه أراد تثنية الحسرة مثل لبيك وسعديك، لأن معناهما لب بعد لب وسعد بعد سعد، فكذلك هذه الحسرة بعد حسرة، لكثرة حسراتهم يومئذ؛ أو أراد حسرتين فقط من قوت الجنة لدخول النار، لكان مذهبا، ولكان ألف التثنية في تقدير الياء على لغة بلحرث بن كعب. انتهى. وقرأ ابن كثير في الوقف: يا حسرتاه، بهاء السكت. قال سيبويه: ومعنى نداء الحسرة والويل: هذا وقتك فاحضري. والجنب: الجانب، ومستحيل على الله الجارحة، فإضافة الجنب إليه مجاز. قال مجاهد، والسدي: في أمر الله. وقال الضحاك: في ذكره، يعني القرآن والعمل به.
417

وقيل: في جهة طاعته، والجنب: الجهة، وقال الشاعر:
* أفي جنب تكنى قطعتني ملامة
*
سليمى لقد كانت ملامتها ثناء
*
وقال الراجز:
الناس جنب والأمير جنب
ويقال: أنا في جننب فلان وجانبه وناحيته؛ وفلان لين الجنب والجانب. ثم قالوا: فرط في جنبه، يريدون حقه. قال سابق البربري:
* أما تتقين الله في جنب عاشق
*
له كبد حرى عليك تقطع
*
وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه. ألا ترى إلى قوله:
* إن السماحة والمروءة والندى
*
في قبة ضربت على ابن الحشرج
*
ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك، وكذلك فعلت هذا من جهتك. وما في ما فرطت مصدرية، أي على تفريطي في طاعة الله. * (وإن كنت من * الساخرين) *، قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها. وقال الزمخشري: ومحل وإن كنت النصب على الحال، كأنه قال: فرطت وأنا ساخر، أي فرطت في حال سخريتي. انتهى. ويظهر أنه استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا، لا حال. * (أو تقول لو أن الله هدانى) *: أي خلق في الهداية بالإلجاء، وهو خارج عن الحكمة، أو بالألطاف، ولم يكن من أهلها فيلطف به، أو بالوحي، فقد كان، ولكنه أعرض، ولم يتبعه حتى يهتدي. وإنما يقول هذا تحيرا في أمره، وتعللا بما يجدي عليه. كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحوه: لو هدانا الله لهديناكم. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. وانتصب * (فأكون) * على جواب التمني الدال عليه لو، أو على كرة، إذ هو مصدر، فيكون مثل قوله:
* فما لك منها غير ذكرى وحسرة
*
وتسأل عن ركبانها أين يمموا
وقول الآخر:
* للبس عباءة وتقر عيني
*
أحب إلي من لبس الشفوف
*
والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني، كانت أن واجبة الإضمار، وكان الكون مترتبا على حصول المتمني، لا متمني. وإذا كانت للعطف على كرة، جاز إظهار أن وإضمارها، وكان الكون متمني. * (بلى) *: هو حرف جواب لمنفي، أو
418

لداخل عليه همزة التقرير. ولما كان قوله: * (لو أن الله هدانى) * وجوابه متضمنا نفي الهداية، كأنه قال: ما هداني الله، فقيل له: * (بلى قد جاءتك ءاياتى) * مرشدة لك، فكذبت. وقال الزمخشري: رد من الله عليه ومعناه: بلى قد هديت بالوحي. انتهى، جريا على قواعد المعتزلة. وقال ابن عطية: وحق بلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير، وقوله: * (بلى) * جواب لنفي مقدر، كأن النفس قالت: فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر، أو قالت: فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا. انتهى. وليس حق بلى ما ذكر، بل حقها أن تكون جواب نفي. ثم حمل التقرير على النفي، ولذلك لم يحمله عليه بعض العرب، وأجابه بنعم، ووقع ذلك أيضا في كلام سيبويه نفسه أن أجاب التقرير بنعم اتباعا لبعض العرب. وقال الزمخشري: فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله: * (لو أن الله هدانى) *، ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو، إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى. فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن؛ وأما الثاني، فلما فيه من نقض الترتيب، وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية. ثم تمنى الرجعة، فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. انتهى، وهو كلام حسن.
وقرأ الجمهور: * (قد جاءتك) *، بفتح الكاف وفتح تاء ما بعدها، خطابا للكافر ذي النفس. وقرأ ابن يعمر والجحدري، وأبو حيوة، والزعفراني، وابن مقسم، ومسعود بن صالح، والشافعي عن ابن كثير، ومحمد بن عيسى في اختياره وعن نصير، والعبسي: بكسر الكاف والتاء، خطاب للنفس، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة، رضي الله عنهما، وروتهما أم سلمة عن النبي / صلى الله عليه وسلم). وقرأ الحسن، والأعرج، والأعمش: جأتك، بالهمز من غير مد، بوزن بعتك، وهو مقلوب من جاءتك، قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف، كما سقطت في رمت وعرب. ولما ذكر مقالة الكافر، ذكر ما يعرض له يوم القيامة من الإنذار بسوء منقلبة، وفي ضمنه وعيد لمعاصريه، عليه السلام. والرؤية هنا من رؤية البصر، وكذبهم نسبتهم إليه تعالى البنات والصاحبة والولد، وشرعهم ما لم يأذن به الله. والظاهر أنه عام في المكذبين على الله، وخصه بعضهم بمشركي العرب وبأهل الكتابين. وقال الحسن: هم القدرية يقولون: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل. وقال القاضي: يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل. وقال القاضي: يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف الله بما لا يليق به نفيا وإثباتا، فأضاف إليه ما يجب أن لا يضاف إليه، فالكل كذبوا على الله؛ فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة واليهود والنصارى لا يجوز.
وقال الزمخشري: * (كذبوا على الله) *: وصفوه بما لا يجوز عليه، وهو متعال عنه، فأضافوا إليه الولد والشريك، وقالوا: * (شفعاؤنا عند الله) *، وقالوا: * (لو شاء الرحمان ما عبدناهم) *، وقالوا: * (والله أمرنا بها) *، قوم يسفهونه بفعل القبائح. ويجوز أن يخلق خلقا لا لغرض، وقوله: لا لغرض، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئيا مدركا بالحاسة، ويثبتون له يدا وقدما وجنبا مستترين بالبلكفة، ويجعلون له أندادا بإثباتهم معه قدما. انتهى، وكلام من قبله على طريقة المعتزلة. والظاهر أن الرؤية من رؤية البصر، وأن * (وجوههم مسودة) * جملة في موضع الحال، وفيها رد على الزمخشري، إذ زعم أن حذف الواو
من الجملة الاسمية في موضع المفعول الثاني، وهو بعيد، لأن تعلق البصر برؤية الأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلب. وقرئ: وجوههم مسودة بنصبهما، فوجوههم بدل بعض من كل. وقرأ أبي: أجوههم، بإبدال الواو همزة، والظاهر أن الاسوداد حقيقة، كما مر في قوله: * (فأما الذين اسودت وجوههم) *. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز، وعبر بالسواد عن ارتداد وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم.
ولما ذكر تعالى حال الكاذبين على الله، ذكر حال المتقين، أي الكذب على الله وغيره، مما يؤول بصاحبه إلى اسوداد وجهه، وفي ذلك الترغيب في هذا الوصف الجليل الذي هو التقوى. قال السدي
419

* (بمفازتهم) *: بفلاحهم، يقال: فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده، وتفسير المفازة قوله: * (لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) *، كأنه قيل: وما مفازتهم؟ قيل: لا يمسهم السوء، أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم، أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى: * (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) *، أي بمنجاة منه، لأن النجاة من أعظم الفلاح، وسبب منجاتهم العمل الصالح، ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنه المفازة: بالأعمال الحسنة؛ ويجوز بسبب فلاحهم، لأن العمل الصالح سبب الفلاح، وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة، لأنه سببها. فإن قلت: * (لا يمسهم) *، ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت: أما على التفسير الأول فلا محل له، لأنه كلام مستأنف، وأما على الثاني فمحله النصب على الحال. انتهى. وقرأ الجمهور: بمفازتهم على الإفراد، والسلمي، والحسن، والأعرج، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: على الجمع، من حيث النجاة أنواع، والأسباب مختلفة. قال أبو علي: المصادر تجمع إذا اختلفت أجناسها كقوله: * (وتظنون بالله الظنونا) *. وقال الفراء: كلا القراءتين صواب، تقول: قد تبين أمر الناس وأمور الناس. ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد، عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد، فذكر أنه خالق كل شيء، فدل على أعمال العباد لاندراجها في عموم كل شيء، وأنه على كل الأشياء قائم لحفظها وتدبيرها.
* (له مقاليد * السماوات والارض) *: قال ابن عباس: مفاتيح، وهذه استعارة، كما تقول: بيد فلان مفتاح هذا الأمر. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أن المقاليد لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير). وتأويله على هذا: أن لله هذه الكلمات، يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض، من تكلم بها من المتقين أصاب. * (والذين كفروا بئايات الله) * وكلماته توحيده وتمجيده، * (أولائك هم الخاسرون) *. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: * (والذين كفروا) *؟ قلت: بقوله: * (وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم * والذين كفروا * هم الخاسرون) * واعترض بينهما: بأن خالق الأشياء كلها، وهو مهيمن عليها، لا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين منها وما يستحقون عليها من الجزاء، وأن * (له مقاليد * السماوات والارض) *. قال أبو عبد الله الرازي: وهذا عندي ضعيف من وجهين: الأول: أن وقوع الفاصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد. والثاني: أن قوله تعالى: * (وينجى الله الذين اتقوا) *: جملة فعلية، وقوله: * (والذين كفروا) *: جملة اسمية، وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز، والأقرب عندي أن يقال: إنه لما وصف بصفات الإلهية والجلالة، وهو كونه خالق الأشياء كلها، وكونه مالكا لمقاليد السماوات والأرض، وقال: الذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة هم الخاسرون. انتهى، وليس بفاصل كثير. وقوله: وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز، كلام من لم يتأمل لسان العرب، ولا نظر في أبواب الاشتغال. وأما قوله: والأقرب عندي فهو مأخوذ من قول الزمخشري، وقد جعل متصلا بما يليه، على أن كل شيء في السماوات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه، والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك * (أولائك هم الخاسرون) *.
* (قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين * وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة * والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون * ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن فى الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون * وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) *
روي أنه قال للرسول عليه السلام: المشركون استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك، وغير منصوب بأعبد. قال
420

الأخفش: تأمروني ملغاة، وعنه أيضا: أفغير نصب بتأمروني لا بأعبد، لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها، إذ الموصول منه حذف فرفع، كما في قوله:
ألا أيها ذا الزاجري احضر الوغى
والصلة مع الموصول في موضع النصب بدلا منه، أي أفغير الله تأمرونني عبادته؟ والمعنى: أتأمرونني بعبادة غير الله؟ وقال الزمخشري: أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله: * (تأمرونى أعبد) *، لأنه في معنى تعبدون وتقولون لي: اعبده، وأفغير الله تقولون لي اعبد، فكذلك أفغير الله تقولون لي أن اعبده، وأفغير الله تأمروني أن أعبد. والدليل على صحة هذا الوجه قراءات من قرأ أعبد بالنصب، يعني: بنصب الدال بإضمار أن. وقرأ الجمهور: تأمروني، بإدغام النون في نون الوقاية وسكون الياء؛ وفتحها ابن كثير. وقرأ ابن عامر: تأمرنني، بنونين على الأصل؛ ونافع: تأمرني، بنون واحدة مكسورة وفتح الياء. قال ابن عطية: وهذا على حذف النون الواحدة، وهي الموطئة لياء المتكلم، ولا يجوز حذف النون الأولى، وهو لحن، لأنها علامة رفع الفعل. انتهى. وفي المسألة خلاف، منهم من يقول: المحذوفة نون الرفع، ومنهم من يقول: نون الوقاية، وليس بلحن، لأن التركيب متفق عليه، والخلاف جرى في أيهما حذف، وختار أنها نون الرفع.
ولما كان الأمر بعبادة غير الله لا يصدر إلا من غبي جاهل، نادهم بالوصف المقتضي ذلك فقال: * (أيها الجاهلون) *. ولما كان الإشراك مستحيلا على من عصمه
الله، وجب تأويل قوله: * (لئن أشركت) * أيها السامع، ومضى الخطاب على هذا التأويل. ويدل على هذا التأويل أنه ليس براجع الخطاب للرسول، إفرادا لخطاب في * (لئن أشركت) *، إذ لو كان هو المخاطب، لكان التركيب: لئن أشركتما، فيشمل ضمير هو ضمير الذين من قبله، ويغلب الخطاب. وقال الزمخشري: فإن قلت: المومى إليهم جماعة، فكيف قال: * (لئن أشركت) * على التوحيد؟ قلت معناه: لئن أوحى إليك، * (لئن أشركت ليحبطن عملك * وإلى الذين من قبلك * مثله) *، وأوحى إليك وإلى كل واحد منهم * (لئن أشركت) *، كما تقول: كسانا حلة، أي كل واحد منا. فإن قلت: كيف يصح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم؟ قلت: هو على سبيل الفرض والمحالات يصح فرضها ثم ذكر كلاما يوقف عليه في كتابه. ويستدل بهذه الآية على حبوط عمل المرتد من صلاة وغيرها. وأوحى: مبني للمفعول، ويظهر أن الوحي هو هذه الجمل: من قوله: * (لئن أشركت * إلى من * الخاسرين) * وهذا لا يجوز على مذهب البصريين، لأن الجمل لا تكون فاعلة، فلا تقوم مقام الفاعل. وقال مقاتل: أوحى إليك بالتوحيد، والتوحيد محذوف. ثم قال: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *، والخطاب للنبي عليه السلام خاصة. انتهى. فيكون الذي أقيم مقام الفاعل هو الجار والمجرور، وهو إليك، وبالتوحيد فضلة يجوز حذفها لدلالة ما قبلها عليها. وقرأ الجمهور: * (ليحبطن) * مبنيا للفاعل، * (عملك) *: رفع به. وقرئ: ليحبطن بالياء، من أحبط عمله بالنصب، أي ليحبطن الله عملك، أو الإشراك عملك. وقرئ بالنون أي: لنحبطن عملك بالنصب، والجلالة منصوبة بقوله: فاعبد على حد قولهم: زيد فاضرب، وله تقرير في النحو وكيف دخلت هذه الفاء. وقال الفراء: إن شئت نصبه بفعل مضمر قبله، كأنه يقدر: اعبد الله فاعبده.
وقال الزمخشري: * (بل الله فاعبد) *، لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقدم المفعول عوضا منه. انتهى. ولا يكون تقدم المفعول عوضا من الشرط لجواز أن يجيء: زيد فعمرا اضرب. فلو كان عوضا، لم يجز الجمع بينهما. * (وكن من الشاكرين) * لأنعمه التي أعظمها الهداية لدين الله. وقرأ عيسى: بل الله بالرفع، والجمهور: بالنصب. * (وما قدروا الله حق قدره) *: أي ما عرفوه حق معرفته، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره، إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة. وقرأ الأعمش: حق قدره بفتح الدال؛ وقرأ الحسن، وعيسى، وأبو نوفل،
421

وأبو حيوة: وما قدروا بتشديد الدال، حق قدره: بفتح الدال، أي ما عظموه حقيقة تعظيمه. والضمير في قدروا، قال ابن عباس: في كفار قريش، كانت هذه الآية كلها محاورة لهم وردا عليهم. وقيل: نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله وجلاله، فألحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط. وهذه الجملة مذكورة في الأنعام وفي الحج وهنا.
ولما أخبر أنهم ما عرفوه حق معرفته، نبههم على عظمته وجلاله شأنه على طريق التصوير والتخييل فقال: * (والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) *. وقال الزمخشري: والغرض من هذا الكلام، إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعة تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز. انتهى. ويعني: أو جهة مجاز معين، والإخبار: التصوير، والتخييل هو من المجاز. وقال غيره: الأصل في الكلام حمله على حقيقته، فإن قام دليل منفصل على تعذر حمله عليها، تعين صرفه إلى المجاز. فلفظ القبضة واليمين حقيقة في الجارحة، والدليل العقلي قائم على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى، فوجب الحمل على المجاز، وذلك أنه يقال: فلان في قبضة فلان، إذا كان تحت تدبيره وتسخيره، ومنه: * (أو ما ملكت أيمانهم) *، فالمراد كونه مملوكا لهم، وهذه الدار في يد فلان، وقبض فلان كذا، وصار في قبضته، يريدون خلوص ملكه، وهذا كله مجاز مستفيض مستعمل. وقال ابن عطية: اليمين هنا والقبضة عبارة عن القدرة، وما اختلج في الصدر من غير ذلك باطل. وما ذهب إليه القاضي، يعني ابن الطيب، من أنها صفات زائدة على صفات الذات، قول ضعيف، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحصها العلم.
قال عز وجل: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) *: أي منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به. انتهى. وقال القفال: هذا كقول القائل: وما قدرني حق قدري، وأنا الذي فعلت كذا وكذا، أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت، وجب أن لا تخطىء عن قدري ومنزلتي، ونظيره: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) *، أي كيف تكفرون من هذه صفته وحال ملكه؟ فكذا هنا، * (وما قدروا الله حق قدره) *: أي زعموا أن له شركاء، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى، مع أن الأرض والسماوات في قبضة قدرته. انتهى. * (والارض) *: أي والأرضون السبع، ولذلك أكد بقوله: * (جميعا) *، وعطف عليه * (* والسماوات) *، وهو جمع، والموضع موضع تفخيم، فهو مقتض المبالغة. والقبضة: المرة الواحدة من القبض، وبالضم: المقدار المقبوض بالكف، ويقال في المقدار: قبضته بالفتح، تسمية له بالقدر، فاحتمل هنا هذا المعنى. واحتمل أن يراد المصدر على حذف مضاف، أي ذوات قبضة، أي يقبضهن قبضة واحدة، فالأرضون مع سعتها وبسطتها لا يبلغن إلا قبضة كف، وانتصب جميعا على الحال. قال الحوفي: والعامل في الحال ما دل عليه قبضته انتهى. ولا يجوز أن يعمل فيه قبضته، سواء كان مصدرا، أم أريد به المقدار. وقال الزمخشري: ومع القصد إلى الجمع يعني في الأرض، وأنه أريد بها الجمع قال: وتأكيده بالجميع، أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء ذلك الخبر، ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة، ولكن عن الأراضي كلهن. انتهى. ولم يذكر العامل في الحال، ويوم القيامة معمول لقبضته. وقرأ الحسن: قبضته بالنصب. قال ابن خالويه: بتقدير في قبضته، هذا قول الكوفيين. وأما أهل البصرة فلا يجيزون ذلك، كما لا يقال: زيد دارا انتهى. وقال الزمخشري: جعلها ظرفا مشبها للوقت بالمبهم. وقرأ عيسى، والجحدري: مطويات بالنصب على الحال، وعطف والسماوات على الأرض، فهي داخلة في حيز والأرض، فالجميع قبضته. وقد استدل بهذه القراءة الأخفش على جواز: زيد قائما في الدار، إذ أعرب والسماوات مبتدأ، وبيمينه الخبر، وتقدمت الحال والمجرور، ولا حجة
فيه، إذ يكون والسماوات معطوفا على والأرض، كما قلنا، وبيمينه متعلق بمطويات، ومطويات: من الطي الذي هو ضد النشر، كما قال تعالى: * (توعدون يوم نطوى السماء كطى السجل) *، للكتاب وعادة طاوي السجل أن يطويه
422

بيمينه. وقيل: قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع، وبيمينه: وبقدرته.
قال الزمخشري: وقيل: مطويات بيمينه: مفنيات بقسمه، لأنه أقسم أن يفنيها؛ ثم أخذ ينحي على من تأول هذا التأويل بما يوقف عليه في كتابه، وإنما قدر عظمته بما سبق إردافه أيضا بما يناسب من ذلك، إذ كان فيما تقدم ذكر حال الأرض والسماوات يوم القيامة، فقال: * (ونفخ فى الصور) *، وهل النفخ في الصور ثلاث مرات أو نفختان؟ قول الجمهور: فنفخة الفزع هي نفخة الصعق، والصعق هنا الموت، أي فمات من في السماوات ومن في الأرض. قال ابن عطية: والصور هنا: القرن، ولا يتصور هنا غير هذا. ومن يقول: الصور جمع صورة، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث. وروي أن بين النفختين أربعين. انتهى، ولم يعين. وقراءة قتادة، وزيد بن علي هنا: في الصور، بفتح الواو جمع صورة، يعكر على قول ابن عطية، لأنه لا يتصور هنا إلا أن يكون القرن، بل يكون هذا النفخ في الصور مجازا عن مشارفة الموت وخروج الروح. وقرئ: فصعق بضم الصاد، والظاهر أن الاستثناء معناه: * (إلا من شاء الله) *، فلم يصعق: أي لم يمت، والمستثنون: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، أو رضوان خازن الجنة، والحور، ومالك، والزبانية؛ أو المستثنى الله، أقوال آخرها للحسن، وما قبله للضحاك. وقيل: الاستثناء يرجع إلى من مات قبل الصعقة الأولى، أي يموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته، لأنهم كانوا قد ماتوا، وهذا نظير: * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى) * ثم نفخ فيه أخرى، واحتمل أخرى على أن تكون في موضع نصب، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور، كما أقيم في اوول، وأن يكون في موضع رفع مقاما مقام الفاعل، كما صرح به في قوله: * (فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة) *.
* (فإذا هم قيام ينظرون) *: أي أحياء قد أعيدت لهم الأبدان والأرواح، * (ينظرون) *: أي ينتظرون ما يؤمرون، أو ينتظرون ماذا يفعل بهم، أو يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم. والظاهر قيامهم الذي هو ضد القعود لأجل استيلاء الذهن عليهم. وقرأ زيد بن علي: قياما بالنصب على الحال، وخبر المبتدأ الظرف الذي هو إذا الفجائية، وهي حال لا بد منها، إذ هي محط الفائدة، إلا أن يقدر الخبر محذوفا، أي فإذا هم مبعوثون، أي موجودون قياما. وأن نصبت قياما على الحال، فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف. إن قلنا الخبر محذوف، وأن لا عامل، فالعامل هو العامل في الظرف، إن كان إذا ظرف مكان على ما يقتضيه كلام سيبويه، فتقديره: فبالحضرة هم قياما؛ وإن كان ظرف زمان، كما ذهب إليه الرياشي، فتقديره: ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه، هم أي وجودهم، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة؛ وإن كانت إذا حرفا، كما زعم الكوفيون، فلا بد من تقدير الخبر، إلا أن اعتقد أن ينظرون هو الخبر، ويكون ينظرون عاملا في الحال.
وقرأ الجمهور: * (وأشرقت) * مبنيا للفاعل، أي أضاءت؛ وابن عباس، وعبيد بن عمير، وأبو الجوزاء: مبنيا للمفعول من شرقت بالضوء تشرق، إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها الله، كما تقول: ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: وهذا إنما يترتب على فعل يتعدى، فهذا على أن يقال: أشرق البيت وأشرقه السراج، فيكون الفعل مجاوزا وغير مجاوز، كرجع ورجعته ووقف ووقفته. والأرض في هذه الآية: الأرض المبدلة من الأرض المعروفة، ومعنى أشرقت: أضاءت وعظم نورها. انتهى. وقال صاحب اللوامح: وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولا من شرقت الشمس إذا طلعت، فيصير متعديا بالفعل بمعنى: أذهبت ظلمة الأرض، ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت، فإن ذلك لازم، وهذا قد تعدى إلى الأرض لما لم يذكر الفاعل، وأقيمت الأرض مقامه؛ وهذا على معنى ما ذهب إليه بعض المتأخرين من غير أن يتقدم في ذلك، لأن من الأفعال ما يكون متعديا لازما معا على مثال واحد. انتهى.
وفي الحديث الصحيح: (يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس بها علم لأحد بنور ربها). قيل: يخلق الله
423

نورا يوم القيامة، فيلبسه وجه الأرض، فتشرق الأرض به، وقال ابن عباس: النور هنا ليس من نور الشمس والقمر، بل هو نور يخلقه الله فيضيء الأرض. وروي أن الأرض يومئذ من فضة، والمعنى: أشرقت بنور خلقه الله تعالى، أضافه إليه إضافة الملك إلى الملك. وقال الزمخشري: استعار الله النور للحق، والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل، وهذا من ذلك. والمعنى: وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل، وبسط من القسط في الحسنات، ووزن الحسنات والسيئات، وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه، لأنه هو الحق العدل، وإضافة اسمه إلى الأرض، لأنه يزينها حين ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه، ويقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون: أظلمت البلاد بجور فلان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (الظلم ظلمات يوم القيامة)، وكما فتح الآية بإثبات العدل، ختمها بنفي الظلم.
* (ووضع الكتاب) *: أي صحائف الأعمال ووحد، لأنه اسم جنس، وكل أحد له كتاب على حدة، وأبعد من قال: الكتاب هنا اللوح المحفوظ. وروي ذلك عن ابن عباس، ولعله لا يصح، وقد ضعف بأن الآية سيقت مقام التهديد في سياق الخير. * (وجىء بالنبيين) * ليشهدوا على أممهم، * (والشهداء) *، قيل: جمع شاهد، وهم الذين يشهدون على الناس بأعمالهم. وقيل: هم الرسل من الأنبياء. وقيل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم)، يشهدون للرسل. وقال عطاء، ومقاتل، وابن زيد: الحفظة. وقال ابن زيد أيضا: النبيون، والملائكة، وأمة محمد عليه السلام، والجوارح. وقال قتادة: الشهداء جمع شهيد، وليس فيه توعد، وهو مقصود الآية. * (وقضى بينهم) *: أي بين العالم، ولذلك قسموا بعد إلى قسمين: أهل النار وأهل الجنة، * (بالحق) *: أي بالعدل. * (ووفيت كل نفس) *: أي جوزيت مكملا. * (وهو أعلم بما يفعلون) *، فلا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد، وفي ذلك وعيد وزيادة تهديد.
* (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون) *.
ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة على سبيل الإجمال، بين بعد كيفية أحوال الفريقين وما أفضى إليه كل واحد منهما فقال: * (وسيق) *، والسوق يقتضي الحث على المسير بعنف، وهو الغالب فيه. وجواب إذا: * (فتحت أبوابها) *، ودل ذلك على أنه لا يفتح إلا إذا جاءت؛ كسائر أبواب السجون، فإنها لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فيفتح ثم يغلق عليهم. وتقدم ذكر قراءة التخفيف والتشديد في فتحت وأبوابها سبعة، كما ذكر في سورة الحجر. * (وقال لهم خزنتها) *، على سبيل التقريع والتوبيخ، * (ألم يأتكم رسل منكم) *: أي من جنسكم، تفهمون ما ينبئونكم به، وسهل عليكم مراجعتهم. وقرأ ابن هرمز: تأتكم بتاء التأنيث؛ والجمهور: بالياء. * (يتلون عليكم ءايات ربكم) *: أي الكتب المنزلة للتبشير والنذارة، * (وينذرونكم لقاء يومكم هاذا) *: وهو يوم القيامة، وما يلقى فيه المسمى من العذاب، * (قالوا بلى) * أي قد جاءتنا، وتلوا وأنذروا، وهذا اعتراف بقيام الحجة عليهم، * (ولاكن حقت كلمة العذاب) * أي قوله تعالى: * (لاملان جهنم) *. * (على الكافرين) *: وضع الظاهر موضع المضمر، أي علينا، صرحوا بالوصف الموجب لهم العقاب.
ولما فرغت محاورتهم مع
424

الملائكة، أمروا بدخول النار.
* (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) *: عبر عن الإسراع بهم إلى الجنة مكرمين بالسوق، والمسوق دوابهم، لأنهم لا يذهبون إليها إلا راكبين. ولمقابلة قسيمهم ساغ لفظ السوق، إذ لو لم يتقدم لفظ وسيق لعبر بأسرع، وإذا شرطية وجوابها قال الكوفيون: وفتحت، والواو زائدة؛ وقال غيره محذوف. قال الزمخشري: وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة، فدل على أنه شيء لا يحيط به الوصف، وحق موقعه ما بعد خالدين. انتهى. وقدره المبرد بعد خالدين سعدوا. وقيل الجواب: * (وقال لهم خزنتها) *، على زيادة الواو، قيل: * (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) *. ومن جعل الجواب محذوفا، أو جعله: * (وقال لهم) *، على زيادة الواو؛ وجعل قوله: وفتحت جملة حالية، أي وقد فتحت أبوابها لقوله: * (جنات عدن مفتحة لهم الابواب) *. وناسب كونها حالا أن أبواب الأفراح تكون مفتحة لانتظار من تجيء إليها، بخلاف أبواب السجود. * (وقال لهم خزنتها سلام عليكم) *: يحتمل أن يكون تحية منهم عند ملاقاتهم، وأن كون خبرا بمعنى السلامة والأمن. * (طبتم) *: أي أعمالا ومعتقدا ومستقرا وجزاء. * (فادخلوها خالدين) *: أي مقدرين الخلود.
* (وقالوا) *، أي الداخلون، الجنة * (الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الارض) *: أي ملكناها نتصرف فيها كما نشاء، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه. وقيل: ورثوها من أهل النار، وهي أرض الجنة، ويبعد قول من قال هي أرض الدنيا، قاله قتادة وابن زيد والسدي. * (نتبوأ) * منها، * (حيث نشاء) *: أي نتخذ أمكنة ومساكن. والظاهر أن قوله: * (فنعم أجر العاملين) *: أي بطاعة الله هذا الأجر من كلام الداخلين. وقال مقاتل: هو من كلام الله تعالى. * (وترى الملائكة حافين) *: الخطاب للرسول حافين. قال الأخفش: واحدهم حاف. وقال الفراء: لا يفرد. وقيل: لأن الواحد لا يكون حافا، إذ الحفوف: الإحداق بالشيء من حول العرش. قال الأخفش: من زائدة، أي حافين حول العرش؛ وقيل: هي لابتداء الغاية. والظاهر عود الضمير من بينهم على الملائكة، إذ ثوابهم، وإن كانوا معصومين، يكون على حسب تفاضل مراتبهم. فذلك هو القضاء بينهم بالحق؛ وقيل: ضمير * (الحمد لله رب العالمين) *. الظاهر أن قائل ذلك هم من ذوات بينهم المخاطبة من الداخلين الجنة ومن خزنتها، ومن الملائكة الحافين حول العرش، إذ هم في نعم سرمدي منجاة من عذاب الله. وقال الزمخشري: المقضي بينهم، إما جميع العباد، وإما الملائكة، كأنه قيل: * (وقضى بينهم بالحق) *. وقالوا: * (الحمد لله رب العالمين) * على إفضاله وقضائه بيننا بالحق، وأنزل كل منا منزلته التي هي حقه. وقال ابن عطية: وقيل: * (الحمد لله رب العالمين) * خاتمة المجالس المجتمعات في العلم.
425

((سورة غافر))
2 (* (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إلاه إلا هو إليه المصير * ما يجادل فىءايات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم فى البلاد * كذبت قبلهم قوم نوح والا حزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب * وكذالك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار * الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم ومن صلح من ءابآئهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم * وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم * إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون * قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل * ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير * هو الذى يريكم ءاياته وينزل لكم من السمآء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب * فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون * رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشآء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شىء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب * وأنذرهم يوم الا زفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما
426

للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خآئنة الا عين وما تخفى الصدور * والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشىء إن الله هو السميع البصير * أولم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا فى الا رض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق * ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوى شديد العقاب * ولقد أرسلنا موسى بأاياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقشرون فقالوا ساحر كذاب
* فلما جآءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبنآء الذين ءامنوا معه واستحيوا نسآءهم وما كيد الكافرين إلا فى ضلال * وقال فرعون ذرونىأقتل موسى وليدع ربه إنىأخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الا رض الفساد * وقال موسى إنى عذت بربى وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب * وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جآءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب * ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين فى الا رض فمن ينصرنا من بأس الله إن جآءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد * وقال الذىءامن ياقوم إنىأخاف عليكم مثل يوم الا حزاب * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد * وياقوم إنىأخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد * ولقد جآءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم فى شك مما جآءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون فىءايات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين ءامنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار * وقال فرعون ياهامان ابن لى صرحا لعلىأبلغ الا سباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إلاه موسى وإنى لاظنه كاذبا وكذالك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا فى تباب * وقال الذىءامن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد * ياقوم إنما هاذه الحيواة الدنيا
427

متاع وإن الا خرة هى دار القرار * من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب * وياقوم ما لىأدعوكم إلى النجواة وتدعونني ألى النار * تدعوننى لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار * لا جرم أنما تدعونني أليه ليس له دعوة فى الدنيا ولا فى الا خرة وأن مردنآ إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار * فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمرىإلى الله إن الله بصير بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بأال فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب * وإذ يتحآجون فى النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد * وقال الذين فى النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب * قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال * إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا ويوم يقوم الا شهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار * ولقد ءاتينا موسى الهدى وأورثنا بنىإسراءيل الكتاب * هدى وذكرى لا ولى الا لباب * فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والابكار * إن الذين يجادلون فىءايات الله بغير سلطان أتاهم إن فى صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير * لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * وما يستوى الا عمى والبصير والذين ءامنوا وعملوا الصالحات ولا المسىء قليلا ما تتذكرون * إن الساعة لاتية لا ريب فيها ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون * وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين * الله الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولاكن أكثر الناس لا يشكرون * ذلكم الله ربكم خالق كل شىء لا إلاه إلا هو فأنى تؤفكون * كذلك يؤفك الذين كانوا بأايات الله
428

يجحدون * الله الذى جعل لكم الا رض قرارا والسمآء بنآء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين * هو الحى لا إلاه إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين * قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جآءنى البينات من ربى وأمرت أن أسلم لرب العالمين * هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون * هو الذى يحى ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ألم تر إلى الذين يجادلون فىءايات الله أنى يصرفون * الذين كذبوا بالكتاب وبمآ أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون * إذ الا غلال فىأعناقهم والسلاسل يسحبون * فى الحميم ثم فى النار يسجرون * ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين * ذلكم بما كنتم تفرحون فى الا رض بغير الحق وبما كنتم تمرحون * ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون * ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتى بأاية إلا بإذن الله فإذا جآء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون * الله الذى جعل لكم الا نعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة فى صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون * ويريكم ءاياته فأى ءايات الله تنكرون * أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا فى الا رض فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فلما جآءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون) *))
) *
أزف الشيء: قرب، قال الشاعر:
* أزف الترحل غير أن ركابنا
*
لما تزل برحالنا وكأن قد
*
التباب: الخسران، السلسلة معروفة، السحب: الجر، سجرت التنور: ملأنه نارا.
* (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إلاه إلا هو إليه المصير * ما يجادل فىءايات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم فى البلاد * كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف) *.
سبع الحواميم مكيات، قالوا بإجماع. وقيل: في بعض آيات هذه السور مدني. قال ابن عطية: وهو ضعيف. وفي الحديث: (أن الحواميم ديباج القرآن) وفيه: (من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم)، وفيه: (مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب وهذه الحواميم مقصورة على المواغظ والزجر وطرق الآخرة وهي قصار لا تلحق فيها سآمة).
ومناسبة أول هذه السورة لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر ما يؤول إليه حال الكافرين وحال المؤمنين، ذكر هنا أنه تعالى * (غافر الذنب وقابل التوب) *، ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان، وإلى الإقلاع عما هو فيه، وأن باب التوبة مفتوح. وذكر شدة عقابه وصيرورة العالم كلهم فيه ليرتدع عما هو فيه، وأن رجوعه إلى ربه فيجازيه بما يعمل من خير أو شر. وقرئ: بفتح الحاء، اختيار أبي القاسم بن جبارة الهذلي، صاحب كتاب: (الكامل في القرآن)، وأبو السمال: بكسرها على أصل التقاء الساكنين، وابن أبي إسحاق وعيسى: بفتحها، وخرج على أنها حركة التقاء الساكنين، وكانت فتحة طلبا للخفة كأين، وحركة إعراب على انتصابها بفعل مقدر تقديره: اقرأ حم. وفي الحديث: (أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن حم ما هو؟ فقال: أسماء وفواتح سور)، وقال شريح بن أبي أوفى العبسي:
* يذكرني حاميم والرمح شاجر
*
فهلا تلا حاميم قبل التقدم
*
وقال الكميت:
* وجدنا لكم في آل حميم آية
*
تأولها منا تقي ومعرب
*
429

أعربا حاميم، ومنعت الصرف للعلمية، أو العلمية وشبه العجمة، لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب، وإنما وجد ذلك في العجم، نحو: قابيل وهابيل. وتقدم فيما روي في الحديث جمع حم على الحواميم، كما جمع طس على الطواسين. وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه ابن منصور اللغوي أنه قال: من الخطأ أن تقول: قرأت الحوامي، وليس من كلام العرب؛ والصواب أن يقول: قرأت آل حم. وفي حديث ابن مسعود: (إذا وقعت في آل حميم وقعت في روضات دمثات) انتهى. فإن صح من لفظ الرسول أنه قال: (الحواميم كان حجة على من منع ذلك)، وإن كان نقل بالمعنى، أمكن أن يكون من تحريف الأعاجم. ألا ترى لفظ ابن مسعود: (إذا وقعت في آل حميم)، وقول الكميت: وجدنا لكم في آل حاميم؟ وتقدم الكلام على هذه الحروف المقطعة في أول البقرة، وقد زادوا في حاميم أقوالا هنا، وهي مروية عن السلف، غنينا عن ذكرها، لاضطرابها وعدم الدليل على صحة شيء منها.
فإن كانت حم اسما للسورة، كانت في موضع رفع على الابتداء، وإلا فتنزيل مبتدأ، ومن الله الخبر، أو خبر ابتداء، أي هذا تنزيل، ومن الله متعلق بتنزيل. و * (العزيز العليم) *: صفتان دالتان على المبالغة في القدرة والغلبة والعلم، وهما من صفات الذات. وقال الزجاج: غافر وقابل صفتان، وشديد بدل. انتهى. وإنما جعل غافر وقابل صفتين وإن كانا اسمي فاعل، لأنه فهم من ذلك أنه لا يراد بهما التجدد ولا التقييد بزمان، بل أريد بهما الاستمرار والثبوت؛ وإضافتهما محضة فيعرف، وصح أن يوصف بهما المعرفة، وإنما أعرب * (شديد العقاب) * بدلا، لأنه من باب الصفة المشبهة، ولا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة، وقد نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة، إذا أضيف إلى معرفة، جاز أن ينوي بإضافته التمحض، فيتعرف وينعت به المعرفة، إلا ما كان من باب الصفة المشبهة، فإنه لا يتعرف. وحكى صاحب المقنع عن الكوفيين أنهم أجازوا في حسن الوجه وما أشبهه أن يكون صفة للمعرفة، قال: وذلك خطأ عند البصريين، لأن حسن الوجه نكرة، وإذا أردت تعريفه أدخلت فيه أل. وقال أبو الحجاج الأعلم: لا يبعد أن يقصد بحسن الوجه التعريف، لأن الإضافة لا تمنع منه. انتهى، وهذا جنوح إلى مذهب الكوفيين.
وقد جعل بعضهم * (غافر الذنب) * وما بعده أبدالا، اعتبارا بأنها لا تتعرف بالإضافة، كأنه لاحظ في غافر وقابل زمان الاستقبال. وقيل: غافر وقابل لا يراد بهما المضي، فهما يتعرفان بالإضافة ويكونان صفتين، أي إن قضاءه بالغفران وقبول التوب هو في الدنيا. قال الزمخشري: جعل الزجاج * (شديد العقاب) * وحده بدلا بين الصفات فيه نبو ظاهر، والوجه أن يقال: لنا صودف بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة، فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن، فهي محكوم عليها أنها من الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل، ولا نبو في ذلك، لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت هو الأصل. وقوله: فقد آذنت بأن كلها أبدال تركيب غير عربي، لأنه جعل فقد أذنت جواب لما، وليس من كلامهم: لما قام زيد فقد قام عمرو، وقوله: بأن كلها أبدال فيه تكرار الأبدال، أما بدل البدل عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال، وأما بدل كل من كل، وبدل بعض من كل، وبدل اشتمال، فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها، أو منعه، إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر، وذلك في قول الشاعر:
* فإلى ابن أم أناس ارحل ناقتي
*
عمرو فتبلغ ناقتي أو تزحف
*
* ملك إذا نزل الوفود ببابه
*
عرفوا موارد مزنه لا تنزف
*
430

قال: فملك بدل من عمرو، بدل نكرة من معرفة، قال: فإن قلت: لم لا يكون بدلا من ابن أم أناس؟ قلت: لأنه قد أبدل منه عمرو، فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى، لأنه قد طر. انتهى. فدل هذا على أن البدل لا يتكرر، ويتحد المبدل منه؛ ودل على أن البدل من البدل جائز، وقوله: جاءت تفاعيلها، هو جمع تفعال أو تفعول أو تفعول أو تفعيل، وليس شيء من هذه الأوزان يكون معدولا في آخر العروض، بل أجزاؤها منحصرة، ليس منها شيء من هذه الأوزان، فصوابه أن يقول: جاءت أجزاؤها كلها على مستفعلين. وقال سيبويه أيضا: ولقائل أن يقول هي صفات، وإنما حذفت الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا، فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج، حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع. على أن الخليل قال في قولهم: لا يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك، ويحسن بالرجل خير منك أن يفعل، على نية الألف واللام، كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام. ومما يسهل ذلك أمن اللبس وجهالة الموصوف. انتهى. ولا ضرورة إلى اعتقاد حذف الألف واللام من شديد العقاب، وترك ما هو أصل في النحو، وتشبيه بنادر مغير عن القوانين من تثنية الوتر للشفع، وينزه كتاب الله عن ذلك كله.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يقال قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة، وعلى ما لا شيء أدهى منه، وأمر لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. انتهى. وأجاز مكي في غافر وقابل البدل حملا على أنهما نكرتان لاستقبالهما، والوصف حملا على أنهما معرفتان لمضيهما. وقال أبو عبد الله الرازي: لا تزاع في جعل غافر وقابل صفة، وإنما كانا كذلك، لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار، وكذلك شديد العقاب تفيد ذلك، لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد، فمعناه: كونه بحيث شديد عقابه، وهذا المعنى حاصل أبدا، لا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن. انتهى. وهذا كلام من لم يقف على علم النحو، ولا نظر فيه، ويلزمه أن يكون حكيم عليم من قوله: * (من لدن حكيم عليم) *، ومليك مقتدر من قوله: * (عند مليك مقتدر) *، معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد، ولأنها صفات لم تحصل بعد أن لم تكن، ويكون تعريف صفات بأل وتنكيرها سواء، وهذا لا يذهب إليه مبتدىء في علم النحو، فضلا عمن صنف فيه، وقدم على تفسير كتاب الله.
وتلخص من هذا الكلام المطول أن غافر الذنب وما عطف عليه وشديد العقاب أوصاف، لأن المعطوف على الوصف وصف، والجميع معارف على ما تقرر أو أبدال، لأن المعطوف على البدل بدل لتنكير الجميع. أو غافر وقابل وصفان، وشديد بدل لمعرفة ذينك وتنكير شديد. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما بال الواو في قوله: * (وقابل التوب) *؟ قلت: فيها نكتة جليلة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين، بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول. انتهى. وما أكثر تلمح هذا الرجل وشقشقته، والذي أفاد أن الواو وللجمع، وهذا معروف من ظاهر علم النحو. وقال صاحب الغنيان: وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر، وقطع شديد العقاب عنهما فلم يعطف لانفراده. انتهى، وهي نزغة اعتزالية. ومذهب أهل السنة جواز غفران الله للعاصي، وإن لم يتب إلا الشرك. والتوب يحتمل أن يكون كالذنب، اسم جنس؛ ويحتمل أن يكون جمع توبة، كبشر وبشرة، وساع وساعة. والظاهر من قوله: * (وقابل التوب) * أن توبة العاصي بغير الكفر، كتوبة العاصي بالكفر مقطوع بقبولها. وذكروا في القطع بقبول توبة العاصي قولين لأهل السنة.
ولما ذكر تعالى شدة عقابه أردفه بما يطمع في رحمته، وهو قوله: * (ذى الطول) *، فجاء ذلك وعيدا اكتنفه وعدان. قال ابن عباس: الطول: السعة والغنى؛ وقال قتادة: النعم؛ وقال ابن زيد: القدرة، وقوله: طوله، تضعيف
431

حسنات أوليائه وعفوه عن سيئاتهم.
ولما ذكر جملة من صفاته العلا الذاتية والفعلية، ذكر أنه المنفرد بالألوهية، المرجوع إليه في الحشر؛ ثم ذكر حال من جادل في الكتاب، وأتبع بذكر الطائعين من ملائكته وصالحي عباده فقال: * (ما يجادل فىءايات الله إلا الذين كفروا) *، وجدالهم فيها قولهم: مرة سحر، ومرة شعر، ومرة أساطير الأولين، ومرة إنما يعلمه بشر، فهو جدال بالباطل، وقد دل على ذلك بقوله: * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) *. وقال السدي: ما يجادل: أي ما يماري. وقال ابن سلام: ما يجحد. وقال أبو العالية: نزلت في الحرث بن قيس، أحد المستهزئين. وأما ما يقع بين أهل العلم من النظر فيها، واستيضاح معانيها، واستنباط الأحكام والعقائد منها، ومقارعة أهل البدع بها، فذلك فيه الثواب الجزيل. ثم نهى السامع أن يغتر بتقلب هؤلاء الكفار في البلاد وتصرفاتهم فيها، بما أمليت لهم من المساكن والمزارع والممالك
والتجارات والمكاسب، وكانت قريش تتجر في الشأم والمين؛ فإن ذلك وبال عليهم وسبب في إهلاكهم، كما هلك من كان قبلهم من مكذبي الرسل.
وقرأ الجمهور: * (فلا يغررك) *، بالفك، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأ زيد بن علي: وعبيد بن عمير: فلا يغرك، بالإدغام مفتوح الراء، وهي لغة تميم. ولما كان جدال الكفار ناشئا عن تكذيب ما جاء به الرسول، عليه السلام، من آيات الله، ذكر من كذب قبلهم من الأمم السالفة، وما صار إليه حالهم من حلول نقمات الله بهم، ليرتدع بهم كفار من بعث الرسول، عليه السلام، إليهم؛ فبدأ بقوم نوح، إذ كان عليه السلام أول رسول في الأرض، وعطف على قومه الأحزاب، وهم الذين تحزبوا على الرسل. ولم يقبلوا ما جاءوا به من عند الله، ومنهم: عاد وثمود وفرعون وأتباعه، وقدم الهم بالأخذ على الجدال بالباطل، لأن الرسل لما عصمهم الله منهم أن يقتلوهم رجعوا إلى الجدال بالباطل. وقرأ الجمهور: * (* برسولهتم) *؛ وقرأ عبد الله: برسولها، عاد الضمير إلى لفظ أمة. * (برسولهم ليأخذوه) *: ليتمكنوا منه بحبس أو تعذيب أو قتل. وقال ابن عباس: ليأخذوه: ليملكوه، وأنشد قطرب:
* فاما تأخذوني تقتلوني
*
فكم من آخذ يهوى خلودي
*
ويقال للقتيل والأسير: أخيذ. وقال قتادة: * (ليأخذوه) *: ليقتلوه، عبر عن المسبب بالسبب. * (وجادلوا بالباطل) *: أي بما هو مضمحل ذاهب لا ثبات له. وقيل: الباطل: الكفر. وقيل: الشيطان. وقيل: بقولهم: * (ما أنتم إلا بشر مثلنا) *. * (ليدحضوا) *: ليزلقوا، * (به الحق) *: أي الثابت الصدق. * (فأخذتهم) *: فأهلكتهم. * (فكيف كان عقاب) * إياهم، استفهام تعجيب من استصالهم، واستعظام لما حل بهم، وليس استفهاما عن كيفية عقابهم، وكانوا يمرون على مساكنهم ويرون آثار نعمة الله فيهم؛ واجتزأ بالكسر عن ياء الإضافة لأنها فاصلة، والأصل عقابي. * (وكذالك حقت) *: أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة، كونهم من أصحاب النار، من تقدم منهم ومن تأخروا. * (أنهم) *: بدل من * (وأورثنا القوم) *، فهي في موضع رفع، ويجوز أن يكون التقدير لأنهم وحذف لام العلة. والمعنى: كما وجب إهلاك أولئك الأمم، وجب إهلاك هؤلاء، لأن الموجب لإهلاكهم وصف جامع لهم، وهو كونهم من أصحاب النار. وفي مصحف عبد الله: وكذلك سبقت، وهو تفسير معنى، لا قراءة. وقرأ ابن هرمز، وشيبة، وابن القعقاع، ونافع، وابن عامر: كلمات على الجمع؛ وأبو رجاء، وقتادة، وباقي السبعة: على الإفراد.
* (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما (سقط: فاغفر للذين آمنوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، ربن وأدخلعم جنات عدن التي وعدتهم ومن)) *.
432

(سقط: الآية كاملة)
لما ذكر جدال الكفار في آيات الله وعصيانهم، ذكر طاعة هؤلاء المصطفين من خلقه، وهم حمله العرش، * (ومن حوله) *، وهم الحافون به من الملائكة. وذكروا من وصف تلك الجملة وعظم خلقهم، ووصف العرش، ومن أي شيء خلق، والحجب السبعينيات التي اختلفت أجناسها، قالوا: احتجب الله عن العرش وعن حامليه، والله أعلم به على أن قدرته تعالى محتملة لكل ما ذكروه مما لا يقتضي تجسيما، لكنه يحتاج إلى نقل صحيح. وقرأ الجمهور: * (العرش) * بفتح العين؛ وابن عباس وفرقة: بضمها، كأنه جمع عرش، كسقف وسقف، أو يكون لغة في العرش.
* (يسبحون بحمد ربهم) *: أي ينزهونه عن جميع النقائص، * (بحمد ربهم) *: بالثناء عليه بأنه المنعم على الإطلاق. والتسبيح: إشارة إلى الإجلال؛ والتحميد: إشارة إلى الإكرام، فهو قريب من قوله: * (تبارك اسم ربك ذى الجلال والإكرام) *، ونظيره: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق) *؛ وقولهم: ونحن نسبح بحمدك. * (ويؤمنون) *: أي ويصدقون بوجوده تعالى وبما وصف به نفسه من صفاته العلا، وتسبيحهم إياه يتضمن الإيمان. قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة قوله: * (ويؤمنون به) *، ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟ قلت: فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابة بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمالهم الخير بقوله: * (ثم كان من الذين ءامنوا) *، فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى، وهي التبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهد بن معاينين، ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب. ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم، علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في أن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا، وأنه منزه عن صفات الإجرام.
وقد روعي التناسب في قوله: * (ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا) *، كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم، وفيه تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة، وأبعثه على إمحاض الشفقة، وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن، فإنه لا تجانس بين ملك وانسان، ولا بين سماء وأرض قط ثم لما جاء جامع الإيمان، جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض، قال تعالى: * (ويستغفرون لمن فى الارض) *. انتهى، وهو كلام حسن. إلا أن قوله: إن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير فيه نظر، وقوله: * (ويستغفرون للذين ءامنوا) * تخصيص لعموم قوله: * (ويستغفرون لمن فى الارض) *. وقال مطرف بن الشخير: وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة، وأغش العباد للعباد الشياطين، وتلا هذه
الآية. انتهى. وينبغي أن يقال: أنصح العباد للعباد الأنبياء والملائكة. * (ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما) *: أي يقولون: ربنا واحتمل هذا المحذوف بيانا ليستغفرون، فيكون في محل رفع، وأن يكون حالا، فيكون في موضع نصب. وكثيرا ما جاء النداء بلفظ ربنا ورب، وفيه استعطاف العبد لمولاه الذي رباه وقام بمصالحه من لدن نشأته إلى وقت ندائه، فهو جدير بأن لا يناديه إلا بلفظ الرب. وانتصب رحمة وعلما على التمييز، والأصل: وسعت رحمتك كل شيء، وعلمك كل شيء؛ وأسند الوسع إلى صاحبها مبالغة، كأن ذاته هي الرحمة والعلم، وقد وسع كل شيء. وقدم الرحمة، لأنهم بها يستمطرون أحسانه ويتوسلون بها إلى
433

حصول مطلوبهم من سؤال المغفرة.
ولما حكى تعالى عنهم كيفية ثنائهم عليه، وأخبر باستغفارهم، وهو قولهم: * (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) *. وطلب المغفرة نتيجة الرحمة، وللذين تابوا يتضمن أنك علمت توبتهم، فهما راجعان إلى قوله: * (رحمة وعلما) *، و * (اتبعوا * سبيلك) *، وهي سبيل الحق التي نهجتها لعبادك، * (إنك أنت العزيز) *: الذي لا تغالب، * (الحكيم) *: الذي يضع الأشياء مواضعها التي تليق بها. ولما طلب الغفران يتضمن إسقاط العذاب، أرادفوه بالتضرع بوقايتهم العذاب على سبيل المبالغة والتأكيد، فقالوا: * (وقهم عذاب الجحيم) *، وطلب المغفرة، ووقاية العذاب للتأئب الصالح، وقد وعد بذلك الوعد الصادق بمنزلة الشفاعة في زيادة الثواب والكرامة.
ولما سألوا إزالة العقاب، سألوا اتصال الثواب، وكرر الدعاء بربنا فقالوا: * (ربنا وأدخلهم جنات عدن) *. وقرأ الجمهور: جنات جمعا؛ وزيد بن علي، والأعمش: جنة عدن بالإفراد، وكذا في مصحف عبد الله، وتقدم الكلام في إعراب التي في قوله: * (جنات عدن التى وعد الرحمان عباده بالغيب) * في سورة مريم. وقرأ ابن أبي عبلة: صلح بضم اللام، يقال: صلح فهو صليح وصلح فهو صالح. وقرأ عيسى: وذريتهم، بالإفراد؛ والجمهور بالجمع. وعن ابن جبير في تفسير ذلك أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته فيقول: أين أبي؟ أين أمي؟ أين ابني؟ أين زوجتي؟ فيلحقون به لصلاحه ولتنبيهه عليه وطلبه إياهم، وهذه دعوة الملائكة. انتهى. وإذا كان الإنسان في خير، ومعه عشيرته وأهله، كان أبهج عنده وأسر لقلبه. والظاهر عطف ومن على الضمير في وأدخلهم، إذ هم المحدث عنهم والمسؤول لهم. وقال الفراء، والزجاج: نصبه من مكانين: إن شئت على الضمير في * (وأدخلهم) *، وإن شئت على الضمير في * (وعدتهم) *.
* (وقهم السيئات) *: أي امنعهم من الوقوع فيها حتى لا يترتب عليها اجزاؤها، أو وقهم جزاء السيئات التي إجترحوها، فحذف المضاف ولا تكرار في هذا، وقوله: * (وقهم عذاب الجحيم) * لعدم توافق المدعو لهم أن الدعاء الأول للذين تابوا، والثاني أنه لهم ولمن صلح من المذكورين، أو لاختلاف الدعاءين إذا أريد بالسيئات أنفسهم، فذلك وقاية عذاب الجحيم، وهذا وقاية الوقوع في السيئات. والتنوين في بومئذ تنوين العوض، والمحذوف جملة عوض منها التنوين، ولم تتقدم جملة يكون التنوين عوضا منها، كقوله: * (فلولا إذ * بلغت الحلقوم) *، * (وأنتم حينئذ) * أي حين إذ بلغت الحلقوم، فلا بد من تقدير جملة يكون التنوين عوضا منها كقوله، يدل عليها معنى الكلام، وهي * (ومن تق السيئات) *: أي جزاءها يوم إذ يؤاخذ بها * (فقد رحمته) *. ولم يتعرض أحد من المفسرين الذين وقفنا على كلامهم في الآية للجملة التي عوض منها التنوين في يومئذ، وذلك إشارة إلى الغفران. ودخول الجنة ووقاية العذاب هو الفوز بالظفر العظيم الذي عظم خطره وجل صنعه.
ولما ذكر شيئا من أحوال المؤمنين، وذكر شيئا من أحوال الكافرين، وما يجري لهم في الآخرة من اعترافهم بذنوبهم واستحقاقهم العذاب وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا. ونداؤهم، قال السدي: في النار. وقال قتادة: يوم القيامة، والمنادون لهم الزبانية على جهة التوبيخ والتقريع. واللام في * (لمقت) * لام الابتداء ولام القسم، ومقت مصدر مضاف إلى الفاعل، التقدير: لمقت الله إياكم، أو لمقت الله أنفسكم، وحذف المفعول لدلالة ما بعده عليه في قوله: * (أكبر من مقتكم أنفسكم) *. والظاهر أن مقت الله إياهم هو في الدنيا، ويضعف أن يكون في الآخرة، كما قال بعضهم لبقاء إذ تدعون، مفلتا من الكلام، لكونه ليس له عامل تقدم، ولا مفسر لعامل. فإذا كان المقت السابق في الدنيا، أمكن أن يضمر له عامل تقديره: مقتكم إذ تدعون. وقال الزمخشري: وإذ تدعون منصوب بالمقت الأول، والمعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: إن الله مقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفرحين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر، أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار، إذ أوقعتكم فيها بأتباعكم هواهن. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. وأخطأ في قوله: * (وإذ *
434

تدعون) * منصوب بالمقت الأول، لأن المقت مصدر، ومعموله من صلته، ولا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد استيفائه صلته، وقد أخبر عنه بقوله: * (أكبر من مقتكم أنفسكم) *، وهذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تخفي على المبتدئين، فضلا عمي تدعي العجم أنه في العربية شيخ العرب والعجم.
ولما كان الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، لا يجوز قدرنا العامل فيه مضمر، أي مقتكم إذ تدعون، وشبيهة قوله تعالى: * (إنه على رجعه لقادر * يوم تبلى السرائر) *. قدروا العامل برجعه * (يوم تبلى السرائر) * للفصل ب * (لقادر) * بين المصدر ويوم. واختلاف زماني المقتين الأول في الدنيا والآخرة هو قول مجاهد وقتادة وابن يد والآكثرين. * (* وتقدم) *، لنا أن منهم من قال في الآخرة، وهو قول الحسن. قال الزمخشري: وعن الحسن لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا: * (ينادون لمقت الله) *. وقيل: معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض، كقوله تعالى: * (يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) *، * (وإذ * تدعون) * تعليل. انتهى. وكان قوله: * (وإذ * تدعون) * تعليل من كلام الزمخشري. وقال قوم: إذ تدعون معمول، لا ذكر محذوفة، ويتجه ذلك على أن يكون مقت الله إياهم في الآخرة، على قول الحسن، قيل لهم ذلك توبيخا وتقريعا وتنبيها على ما فاتهم من الإيمان والثواب. ويحتمل أن يكون قوله: من مقت أنفسكم، أن كل واحد يمقت نفسه، أو أن بعضكم يمقت بعضا، كما قيل: إن الأتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر، والرؤساء يمقتون الأتباع، وقيل: يمقتون أنفسهم حين قال لهم الشيطان: * (فلا تلومونى ولوموا أنفسكم) *، والمقت أشد البغض، وهو مستحيل في حق الله تعالى، فمعناه: الإنكار والزجر.
* (قالوا ربنا أمتنا اثنتين) *: وجه اتصال هذه بما قبلها أنهم كانوا ينكرون البعث، وعظم مقتهم أنفسهم هذا الإنكار، فلما مقتوا أنفسهم ورأوا حزنا طويلا رجعوا إلى الإقرار بالبعث، فأقروا أنه تعالى أماتهم اثنتين وأحياهم اثنتين تعظيما لقدرته وتوسلا إلى رضاه، ثم أطمعوا أنفسهم بالاعتراف بالذنوب أن يردوا إلى الدنيا، أي إن رجعنا إلى الدنيا ودعينا للإيمان بادرنا، إليه. وقال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وأبو مالك: موتهم كوبهم ماء في الأصلاب، ثم إحياؤهم في الدنيا، ثم موتهم فيها، ثم إحياؤهم يوم القيامة. وقال السدي: إحياؤهم في الدنيا، ثم إماتتهم فيها، ثم إحياؤهم في القبر لسؤال الملكين، ثم إماتتهم فيه، ثم إحياؤهم في الحشر. وقال ابن زيد: إحياؤهم نسما عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم، ثم إماتتهم بعد، ثم إحياؤهم في الدنيا، ثم إماتتهم، ثم إحياؤهم، فعلى هذا والذي قبله تكون ثلاثة إحياآت، وهو خلاف القرآن. وقال محمد بن كعب: الكافر في الدنيا حي الجسد، ميت القلب، فاعتبرت الحالتان، ثم إماتتهم حقيقة، ثم إحياؤهم في البعث، وتقدم الكلام في أول البقرة على الإماتتين والإحياءين في قوله: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) * الآية، وكررنا ذلك هنا لبعد ما بين الموضعين. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح أن يسمي خلقهم أمواتا إماتة؟ قلت: كما صح: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل، وقولك للحفار ضيق فم، الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر، ولا من صغر إلى كبر، ولا من ضيق إلى سعة، ولا من سعة إلى ضيق، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات. والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معا على المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما، وكذلك الضيق والسعة، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين، وهو متمكن منهما على السواء، فقد صرف المصنوع إلى الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه. انتهى. يعني أن خلقهم أمواتا، كأنه نقل من الحياة وهو الجائز الآخر. وظاهر * (فاعترفنا بذنوبنا) * أنه متسبب عن قبولهم.
* (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين * إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون * قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا) * السابقة من إنكار البعث وغيره. * (فهل إلى خروج) *: أي سريع أو بطيء من النار، * (من سبيل) *: وهذا سؤال من يئس من الخروج، ولكنه تعلل وتحير. * (ذالكم) *: الظاهر أن الخطاب للكفار في الآخرة،
435

والإشارة إلى العذاب الذي هم فيه، أو إلى مقتهم أنفسهم، أو إلى المنع من الخروج والزجر والإهانة، احتمالات. مقولة. وقيل: الخطاب المحاضرين رسول الله صلى الله عليه وسلم)، والضمير في فإنه ضمير الشأن. * (إذا دعى الله وحده) *: أي إذا أفرد بالإلهية ونفيت عن سواه، * (كفرتم وإن يشرك به) *: أي ذكرت اللات والعزى وأمثالهما من الأصنام، صدقتم بألوهيتها وسكنت نفوسكم إليها. * (فالحكم) * بعذابكم، * (لله) *، لا لتلك الأصنام التي أشركتموها مع الله، * (العلى) * عن الشرك، * (الكبير) *: العظيم الكبرياء. وقال محمد بن كعب: لأهل النار خمس دعوات، يكلمهم الله في الأربعة، فإذا كانت الخامسة سكتوا. * (قالوا ربنا أمتنا اثنتين) * الآية، وفي إبراهيم: * (ربنا أخرنا) * الآية، وفي السجدة: * (ربنا أبصرنا) * الآية، وفي فاطر: * (ربنا أخرجنا) * الآية، وفي المؤمنون: * (ربنا غلبت علينا شقوتنا) * الآية، فراجعهم اخسؤا فيها ولا تكلمون، قال: فكان آخر كلامهم ذلك.
ولما ذكر تعالى ما يوجب التهديد الشديد في حق المشركين، أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته، ليصير ذلك دليلا على أنه لا يجوز جعل الأحجار المنحوتة والخشب المعبودة شركاء لله، فقال: * (هو الذى يريكم ءاياته) *، أيها الناس، ويشمل آيات قدرته من الريح السحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها من الآثار العلوية، وآيات كتابه المشتمل على الأولين والآخرين، وآيات الإعجاز على أيدي رسله. وهذه الآيات راجعة إلى نور العقل الداعي إلى توحيد الله. ثم قال: * (وينزل لكم من السماء رزقا) *، وهو المطر الذي هو سبب قوام بنية البدن، فتلك الآيات للأديان كهذا الرزق للأبدان. * (وما يتذكر) *: أي يتعظ ويعتبر، وجعله تذكرا لأنه مركوز في العقول دلائل التوحيد، ثم قد يعرض الاشتغال بعبادة غير الله فيمنع من تجلى نور العقل، فإذا تاب إلى الله تذكر.
* (فادعوا الله مخلصين * الدين ولو * ولو كره الكافرون * رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شىء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب * وأنذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور * والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشىء إن الله هو السميع البصير * أولم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا فى الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق * ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوى شديد العقاب) *.
الأمر بقوله: * (فادعوا الله) * للمنيبين المؤمنين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم): أي اعبدوه، * (مخلصين له الدين) * من الشرك على كل حال، حتى في حال غيظ أعدائكم المتمالئين عليكم وعلى استئصالكم. ورفيع: خبر مبتدأ محذوف. وقال الزمخشري: ثلاثة أخبار مترتبة على قوله: * (الذى يريكم) *، أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا. انتهى. أما ترتبها على قوله: * (هو الذى يريكم) *، فبعيد كطول الفصل، وأما كونها أخبارا مبتدأ محذوف، فمبني على جواز تعدد الأخبار، إذا لم تكن في معنى خبر واحد، والمنع اختيار أصحابنا. وقرئ: رفيع بالنصب على المدح، واحتمل أن يكون رفيع للمبالغة على فعيل من رافع، فيكون الدرجات مفعول، أي رافع درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة. وبه فسرا بن سلام، أو عبر بالدرجات عن السماوات، أرفعها سماء، والعرش فوقهن. وبه فسر ابن جبير، واحتمل أن يكون رفيع فعيلا من رفع الشيء علا فهو رفيع، فيكون من باب الصفة المشبهة، والدرجات: المصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، أضيفت إليه دلالة على عزه وسلطانه، أي درجات ملائكته، كما وصفه بقوله: * (ذي المعارج) *، أو يكون ذلك عبارة عن رفعه شأنه وعلو سلطانه. كما أن قوله: * (ذو العرش) * عبارة عن ملكه، وبنحوه فسر ابن زيد قال: عظيم الصفات. و * (الروح) *: النبوة، قاله قتادة والسدي، كما قال: * (روحا من
أمرنا) *؛ وعن قتادة أيضا: الوحي. وقال ابن عباس: القرآن،
436

وقال الضحاك: جبريل يرسله لمن يشاء. وقيل: الرحمة، وقيل: أرواح العباد، وهذان القولان ضعيفان، والأولى الوحي، استعير له الروح لحياة الأديان المرضية به، كما قال: * (أو من كان ميتا فأحييناه) *. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون القاء الروح عامل لكل ما ينعم الله به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة. انتهى. وقال الزجاج: الروح: كل ما به حياة الناس، وكل مهتد حي، وكل ضال ميت. انتهى. وقال ابن عباس: * (من أمره) *: من قضائه. وقال مقاتل: بأمره، وحكى الشعبي من قوله، ويظهر أن من لابتداء الغاية.
وقرأ الجمهور: * (لينذر) * مبنيا للفاعل، * (يوم) * بالنصب، والظاهر أن الفاعل يعود على الله، لأنه هو المحدث عنه. واحتمل يوم أن يكون مفعولا على السعة، وأن يكون ظرفا، والمنذر به محذوف. وقرأ أبي وجماعة: كذلك إلا أنهم رفعوا يوم على الفاعلية مجازا. وقيل: الفاعل في القراءة الأولى ضمير الروح. وقيل: ضمير من. وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح: لينذر مبنيا للمفعول، يوم التلاق، برفع الميم. وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه: لتنذر بالتاء، فقالوا: الفاعل ضمير الروح، لأنها تؤنث، أو فيه ضمير الخطاب الموصول. وقرئ: التلاق والتناد، بياء وبغير ياء، وسمي يوم التلاق لالتقاء الخلائق فيه، قاله ابن عباس. وقال قتادة ومقاتل: يلتقي فيه الخالق والمخلوق. وقال ميمون بن مهران: يلتقي فيه الظالم والمظلوم. وحى الثعلبي: يلتقي المرء بعلمه. وقال السدي: يلاقي أهل السماء أهل الأرض. وقيل: يلتقى العابدون ومعبودهم. * (يوم هم بارزون) *: أي ظاهرون من قبورهم، لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لأن الأرض إذ ذاك قاع صفصف، ولا من ثياب، لأنهم يحشرون حفاة عراة. ويوما بدل من يوم التلاق، وكلاهما ظرف مستقبل. والظرف المستقبل عند سيبويه لا يجوز إضافته إلى الجملة الإسمية، لا يجوز: أجيئك يوم زيد ذاهب، أجراء له مجرى إذا، فكما لا يجوز أن تقول: أجيئك إذا زيد ذاهب، فكذلك لا يجوز هذا. وذهب أبو الحسن إلى جواز ذلك، فيتخرج قوله: * (يوم هم بارزون) * على هذا المذهب. وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا على قلة، والدلائل مذكورة في علم النحو. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون انتصابه على الظرف، والعامل فيه قوله: * (لا يخفى) *، وهي حركة إعراب لا حركة بناء، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن، كيومئذ. وقال الشاعر:
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وكقوله تعالى: * (هاذا يوم ينفع) *. وأما في هذه الآية فالجملة اسم متمكن، كما تقول: جئت يوم زيد أمير، فلا يجوز البناء. انتهى. يعني أن ينتصب على الظرف قوله: * (يوم هم بارزون) *. وأما قوله لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن، فالبناء ليس متحتما، بل يجوز فيه البناء والإعراب. وأما تمثيله بيوم ينفع، فمذهب البصريين أنه لا يجوز فيه إلا الإعراب، ومذهب الكوفيين جواز النباء والإعراب فيه. وأما إذا أضيف إلى جملة سمية، كما مثل من قوله: جئت يوم زيد أمير، فالنقل عن البصريين تحتم الإعراب، كما ذكر، والنقل عن الكوفيين جواز الإعراب والبناء. وذهب إليه بعض أصحابنا، وهو الصحيح لكثرة شواهد البناء على ذلك. ووقع في بعض تصانيف أصحابنا أنه يتحتم فيه البناء، وهذا قول لم يذهب إليه أحد، فهو وهم. * (لا يخفى على الله منهم شىء) *: أي من سرائرهم وبواطنهم. قال ابن عباس: إذا هلك من في السماوات ومن في الأرض، فلم يبق إلا الله قال: * (لمن الملك اليوم) *، فلا يجيبه أحد، فيرد على نفسه: * (لله الواحد القهار) *. وقال ابن مسعود: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد بأرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم به
437

أن ينادي مناد: * (لمن الملك اليوم) *؟ فيجيبوا كلهم: * (لله الواحد القهار) *. روي أنه تعالى يقرر هذا التقرير ويسكت العالم هيبة وجزعا، فيجيب نفسه بقوله: * (لله الواحد القهار) *، فيجيب الناس، وإنما خص التقرير باليوم، وإن كان الملك له تعالى في ذلك اليوم وفي غيره، لظهور ذلك للكفرة والجهلة ووضوحه يوم القيامة.
وإذا تأمل من له مسكة عقل تسخير أهل السماوات الأرض، ونفوذ القضاء فيهم، وتيقن أن لا ملك إلا لله، ومن نتائج ملكه في ذلك اليوم جزاء كل نفس بما كسبت، وانتفاء الظلم، وسرعة الحساب، إن حسابهم في وقت واحد لا يشغله حساب عن حساب. قال ابن عطية: وهذه الآية نص في أن الثواب والعقاب معلق باكتساب العبد. انتهى، وهو على طريقة الأشعرية. وروى أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار. و * (يوم الازفة) *: هو يوم القيامة، يأمر تعالى نبيه أن ينذر العالم ويحذرهم منه ومن أهواله، قاله مجاهد وابن زيد. والآزفة صفة لمحذوف تقديره يوم الساعة الآزفة، أو الطامة الآزفة ونحو هذا. ولما اعتقب كل إنذار نوعا من الشدة والخوف وغيرهما، حسن التكرار في الآزفة القريبة، كما تقدم، وهي مشارفتهم دخول النار، فإنه إذ ذاك تزيغ القلوب عن مقارها من شدة الخوف. وقال أبو مسلم: يوم الآزفة: يوم المنية وحضور الأجل، يدل عليه أنه يعدل وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق، ويوم بروزهم، فوجب أن يكون هذا اليوم غيره، وهذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات، يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب، وأيضا فالصفات المذكورة بعد قوله: * (يوم الازفة) *، لائقة بيوم حضور المنية، لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب لعظم خوفه، يكاد قلبه يبلغ حنجرته من شدة الخوف، ولا يكون له حميم ولا شفيع يرفع عنه ما به من أنواع الخوف.
* (إذ القلوب لدى الحناجر) *، قيل: يجوز أن يكون ذلك يوم القيامة حقيقة، ويبقون أحياء مع ذلك بخلاف حالة الدنيا، فإن من انتقل قلبه إلى حنجرته مات، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن ما يبلغون إليه من شدة الجزع، كما تقول: كادت نفسي أن تخرج، وانتصب كاظمين على الحال. قال الزمخشري: هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى، إذا المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها، ويجوز أن تكون حالا عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها، مع بلوغها
الحناجر. وإنما جمع الكاظم جمع السلامة، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال: * (رأيتهم لى ساجدين) *. وقال: فظلت أعناقهم لها خاضعين، ويعضده قراءة من قرأ: كاظمون، ويجوز أن يكون حالا عن قوله: أي وانذرهم مقدرين. وقال ابن عطية: كاظمين حال، مما أبدل منه قوله تعالى: * (تشخص فيه الابصار * مهطعين) *: أراد تشخص فيه أبصارهم، وقال الحوفي: القلوب رفع بالابتداء، ولدى الحناجر الخبر متعلق بمعنى الاستقرار. وقال أبو البقاء: كاظمين حال من القلوب، لأن المراد أصحابها. انتهى. * (ما للظالمين من حميم) *: أي محب مشفق، ولا شفيع يطاع في موضع الصفة لشفيع، فاحتمل أن يكون في موضع خفض على اللفظ، وفي موضع رفع على الموضع واحتمل أن ينسحب النفي على الوصف فقط، فيكون من شفيع، ولكنه لا يطاع، أي لا تقبل شفاعته، واحتمل أن ينسحب النفي على الموصوف وصفته: أي لا شفيع فيطاع، وهذا هو المقصود في الآية أن الشفيع عند الله إنما يكون من أوليائه تعالى، ولا تكون الشفاعة إلا لمن ارتضاه الله وأيضا فيكون في زيادة التفضل والثواب ولا يمكن شيء من هذا في حق الكافر. وعن الحسن: والله لا يكون لهم شفيع البتة، * (يعلم خائنة الاعين) *، كقوله:
وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
أي الناس الكرام، وجوزوا أن تكون خائنة مصدرا، كالعافية والعاقبة، أي يعلم خيانة الأعين. ولما كانت الأفعال التي يقصد بها التكتم بدنية، فأخفاها خائنة الأعين من كسر جفن وغمز ونظر يفهم معنى
438

ويريد صاحب معنى آخر وقلب، وهو ما تحتوي عليه الضمائر، قسم ما ينكتم به إلى هذين القسمين، وذكر أن علمه متعلق بهما التعلق التام. وقال الزمخشري: ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين، لأن قوله: * (وما تخفى الصدور) * لا يساعد عليه. انتهى، يعني أنه لا يناسب أن يكون مقابل المعنى إلا المعنى، وتقدم أن الظاهر أن يكون التقدير الأعين الخائنة، والظاهر أن قوله: يعلم خائنة الأعين الآية متصل بما قبله، لما أمر بإنكاره يوم الآزفة، وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم، وأن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك، ولا من يشفع له.
ذكر اطلاعه تعالى على جميع ما يصدر من العبد، وأنه مجازي بما عمل، ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا علم أن الله مطلع على أعماله. وقال ابن عطية: يعلم خائنة الأعين متصل بقوله: * (سريع الحساب) *، لأن سرعة حسابه للخلق إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر، ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون. وقالت فرقة: يعلم متصل بقوله: لا يخفي على الله منهم شيء، وهذا قول حسن، يقويه تناسب المعنيين، ويضعفه بعد الآية من الآية وكثرة الحائل. انتهى. وقال الزمخشري: فإن قلت: فإن قلت: بم اتصل قوله: يعلم خائنة الأعين؟ قلت: هو خبر من أخبار هو في قوله: * (هو الذى * يريكم البرق) *، مثل: * (يلقى الروح) *، ولكن من يلقي الروح قد علل بقوله: * (لينذر يوم التلاق) *، ثم أسقط وتذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله: * (ولا شفيع يطاع) *، فبعد لذلك عن إخوانه. انتهى. وفي بعض الكتب المنزلة، انا مرصاد الهمم، انا العالم بحال الفكر وكسر العيون. وقال مجاهد: خائنة الأعين: مسارقة النظر إلى ما لا يجوز؛ ومثل المفسرون خائنة الأعين بالنظر الثاني إلى حرمة غير الناظر، وما تحفي الصدور بالنظر الأول الذي لا يمكن رفعه.
* (والله يقضى بالحق) *: هذا يوجب عظيم الخوف، لأن الحاكم إذا كان عالما بجميع الأحوال لا يقضي إلا بالحق في ما دق وجل خافه الخلق غاية. * (والذين يدعون من دونه لا يقضون بشىء) *: هذا قدح في أصنامهم وتهكم بهم، لأن ما لا يوصف بالقدرة، لا يقال فيه يقضي ولا يقضي. وقرأ الجمهور: * (يدعون) * بياء الغيبة لتناسب الضمائر الغائبة قبل. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، ونافع: بخلاف عنه؛ وهشام: تدعون بتاء الخطاب، أي قل لهم يا محمد. * (إن الله هو السميع البصير) *: تقرير لقوله: * (يعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور) *، وعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعلمون وتعريض بأصنامهم أنها لا تسمع ولا تبصر. * (أو لم * يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم) *: أحال قريشا على الاعتبار بالسير، وجاز أن يكون فينظروا مجزوما عطفا على يسيروا وأن يكون منصوبا على جواب النفي، كما قال:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم
وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة، وحمل الزمخشري هم على أن يكون فصلا ولا يتعين، إذ يجوز أن يكون هم توكيدا لضمير كانوا. وقرأ الجمهور: منهم بضمير الغيبة؛ وابن عامر: منكم بضمير الخطاب على سبيل الالتفات. * (أولم يسيروا فى) *: معطوف على قوة، أي مبانيهم وحصونهم وعددهم كانت في غاية الشدة. * (وتنحتون من الجبال بيوتا) *. وقال الزمخشري: أو أرادوا أكثر آثارا لقوله:
متقلدا سيفا ورمحا
انتهى. أي: ومعتقلا رمحا، ولا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة المعنى بدونه. * (من واق) *: أي وما كان لهم من عذاب الله من ساتر بمنعهم منعه. * (ذالك) *: أي الأخذ، وتقدم تفسير نظير ذلك.
* (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقشرون فقالوا ساحر كذاب * فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين ءامنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا فى ضلال (سقط: وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل فيكم أو أن يظهر في الأرض الفساد، وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا)) *.
439

(سقط: الآية كاملة)
ابتدأ تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، و وعيد القريش أن يحل بهم ما حل بفرعون وقومه من نقمات الله، ووعد للمؤمنين بالظفر والنصر وحسن العاقبة. وآيات موسى عليه السلام كثيرة، والذي تحدى به من المعجز العصا واليد. وقرأ عيسى: وسلطان بضم اللام، والسلطان المبين: الحجة والبرهان الواضح. والظاهر أن قارون هو الذي ذكره تعالى في قوله: * (إن قارون كان من قوم موسى) *، وهو من بني إسرائيل. وقيل: هو غيره، ونص على هامان وقارون لمكانتهما في الكفر، ولأنهما أشهر أتباع فرعون. * (فقالوا ساحر كذاب) *: أي هذا ساحر، لما ظهر على يديه من قلب العصا حية، وظهور النور الساطع على يده، كذاب لكونه ادعى أنه رسول من رب العالمين. * (فلما جاءهم بالحق من عندنا) *: أي بالمعجزات والنبوة والدعاء إلى الإيمان بالله، * (قالوا) *، أي أولئك الثلاثة، * (اقتلوا) *. قال ابن عباس: أي أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا. انتهى. يريد أن هذا غير القتل الأول، وإنما أمروا بقتل أبناء المؤمنين لئلا يتقوى بهم موسى عليه السلام، وباستحياء النساء للاستخدام والاسترقاق، ولم يقع ما أمروا به ولا تم لهم، ولا أعانهم الله عليه. * (وما كيد الكافرين إلا فى ضلال) *: أي في حيرة وتخبط، لم يقع منه شيء، ولا أنجح سعيهم، وكانوا باشروا القتل أولا، فنفذ قضاء الله في إظهار من خافوا هلاكهم على يديه. وقيل: كان فرعون قد كف عن قتل الأبناء، فلما بعث موسى، وأحس أنه قد وقع ما كان يحذره، أعاد القتل عليهم غيظا وحنقا وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين معا.
* (وقال فرعون ذرونى أقتل موسى وليدع ربه) *، قال الزمخشري: بعضه من كلام الحسن، كان إذا هم بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه، هو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقامه إلا ساحر مثله، ويقولون: إن قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة. والظاهر أن فرعون، لعنه الله، كان قد استيقن أنه نبي، وأن ما جاء به آيات وما هو سحر، ولكن الرجل كان فيه خبث وجبروت، وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه، يهدم ملكه؟ ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك. وقوله: * (وليدع ربه) *: شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، كان قوله: * (ذرونى أقتل موسى) * تمويها على قومه وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع. وقال ابن عطية: الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى انهد ركنه واضطربت معتقدات أصحابه، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره، وذلك بين من غير ما موضع في قصتهما، وفي ذلك على هذا دليلان: أحدهما: قوله * (ذرونى) *، فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ أوامرهم. الدليل الثاني: في مقالة المؤمن وما صدع به، وأن مكاشفته لفرعون خير من مساترته، وحكمه بنبوة موسى أظهر من تقريبه في أمره. وأما فرعون، فإنه نحا إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي، ومن ذلك قوله: * (ذرونى أقتل موسى وليدع ربه) *: أي إني لا أبالي من رب موسى، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والخيانة لهم، فقال: * (إنى أخاف أن يبدل دينكم) *، والدين: السلطان، ومنه قول زهير:
440

* لئن حللت بجوفي بني أسد
*
في دين عمرو وحالت بيننا فدك انتهى. وتبديل دينهم هو تغييره، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام، كما قال: * (ويذرك وءالهتك) *. أو أن يظهر الأرض الفساد، وذلك بالتهارج الذي يذهب معه الأمن، وتتعطل المزارع والمكاسب، ويهلك الناس قتلا وضياعا، فأخاف فساد دينكم ودنياكم معا. وبدأ فرعون بخوفه تغيير دينهم على تغيير دنياهم، لأن حبهم لأديانهم فوق حبهم لأموالهم. وقيل: * (ذرونى) * يدل على أنهم كانوا يمنعونه من قتله، إما لكون بعضهم كان مصدقا له فيتحيل في منع قتله، وإما لما روي عن الحسن مما ذكر الزمخشري، وإما الشغل قلب فرعون بموسى حتى لا يتفرغ لهم، ويأمنوا من شره؛ كما يفعلون مع الملك، إذا خرج عليه خارجي شغلوه به حتى يأمنوا من شره. وقرأ الكوفيون: أو أن، بترديد الخوف بين تبديل الدين أو ظهور الفساد. وقرأ باقي السبعة: وأن بانتصاب الخوف عليهما معا. وقرأ أنس بن مالك، وابن المسيب، ومجاهد، وقتادة، وأبو رجاء، والحسن، والجحدري، ونافع، وأبو عمرو، وحفص: * (يظهر) * من أظهر مبنيا للفاعل، * (الفساد) *: نصبا. وقرأ باقي السبعة، والأعرج، والأعمش، وابن وثاب، وعيسى: يظهر من ظهر مبنيا للفاعل، الفساد: رفعا. وقرأ مجاهد: يظهر بشد الظاء والهاء، الفساد: رفعا. وقرأ زيد بن علي: يظهر: بضم الياء وفتح الهاء مبنيا للمفعول، الفساد: رفعا.
*
ولما سمع موسى بمقالة فرعون، استعاذ بالله من شر كل متكبر منكر للمعاد. وقال: * (وربكم) *: بعثا على الاقتداء به، فيعوذون بالله ويعتصمون به ومن كل متكبر يشمل فرعون وغيره من الجبابرة؛ وكان ذكل على طريق التعريض، وكان أبلغ. والتكبر: تعاظم الإنسان في نفسه مع حقارته، لأنه يفعل ولا يؤمن بيوم الحساب، أي بالجزاء، وكان ذلك آكد في جراءته، إذ حصل له التعاظم في نفسه، وعدم المبالاة بما ارتكب. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: عدت بالإدغام؛ وباقي السبعة: بالإظهار. وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، قيل: كان قبطيا ابن عم فرعون، وكان يجري مجرى ولي العهد، ومجرى صاحب الشرطة. وقيل: كان قبطيا ليس من قرابته. وقيل: قيل فيه من آل فرعون، لأنه كان في الظاهر على دينه ودين أتباعه. وقيل: كان إسرائيليا وليس من آل فرعون، وجعل آل فرعون متعلقا بقوله: * (يكتم إيمانه) *، لا في موضع الصفة لرجل، كما يدل عليه الظاهر، وهذا فيه بعد، إذ لم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتجاسر عند فرعون بمثل ما تكلم به هذا الرجل. وقد رد قول من علق من آل فرعون بيكتم، فإنه لا يقال: كتمت من فلان كذا، إنما يقال: كتمت فلانا كذا، قال تعالى: * (ولا يكتمون الله حديثا) *، وقال الشاعر:
* كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا
*
وهمين هما مستكنا وظاهرا
*
* أحاديث نفس تشتكي ما يريبها
*
وورد هموم لن يجدن مصادرا
*
أي: كتمتك أحاديث نفس وهمين. قيل: واسمه سمعان. وقيل: حبيب. وقيل: حزقيل. وقرأ الجمهور: * (رجل) * بضم الجيم. وقرأ عيسى، وعبد الوارث، وعبيد بن عقيل، وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو: بسكون، وهي لغة تميم ونجد. * (أتقتلون رجلا أن يقول) *: أي لأن يقول * (ربى الله) *، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت لهم، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها، وهي قوله: * (ربى الله) *، مع أنه * (قد جاءكم * بالبينات من ربكم) *: أي من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده؟ وهذا استدراج إلى الاعتراف. وقال الزمخشري: ولك أن تقدر مضافا محذوفا، أي وقت أن يقول، والمعنى: أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من
441

غير روية ولا فكر في أمره؟ انتهى. وهذا الذي أجازه من تقدير المضاف المحذوف الذي هو وقت لا يجوز، تقول: جئت صياح الديك، أي وقت صياح الديك، ولا أجيء أن يصيح الديك، نص على ذلك النحاة، فشرط ذلك أن يكون المصدر مصرحا به لا مقدرا، وأن يقول ليس مصدرا مصرحا به. * (بالبينات) *: بالدلائل على التوحيد، وهي التي ذكرها في طه والشعراء حالة محاورته له في سؤاله عن ربه تعالى.
ولما صرح بالإنكار عليهم، غالطهم بعد في أن قسم أمره إلى كذب وصدق، وأدى ذلك في صورة احتمال ونصيحة، وبدأ في التقسيم بقوله: * (وإن يك كاذبا فعليه كذبه) *، مداراة منه وسالكا طريق الإنصاف في القول، وخوفا إذا أنك عليهم قتله أنه ممن يعاضده ويناصره، فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتى يسلم من شره، ويكون ذلك أدنى لتسليمهم. ومعنى * (فعليه كذبه) *: أي لا يتخطاه ضرره. * (وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم) *، وهو يعتقد أنه نبي صادق قطعا، لكنه أتى بلفظ بعض لإلزام الحجة بأسرها في الأمر، وليس فيه نفي أن يصيبهم كل ما يعدهم. وقالت فرقة: يصبكم بعض العذاب الذي يذكر، وذلك كان في هلاكهم، ويكون المعنى: يصبكم القسم الواحد مما يعد به، وذلك هو بعض مما يعد، لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعمة، وإن كفروا بالنقمة. وقالت فرقة: بعض الذي يعدكم عذاب الدنيا، لأنه بعض عذاب الآخرة، ويصيرون بعد ذلك إلى النار. وقال أبو عبيدة وغيره: بعض بمعنى كل، وأنشدوا عمرو بن شسيم القطامي:
* قد يدرك المتأني بعض حاجته
*
وقد يكون مع المستعجل الزلل
*
وقال الزمخشري: وذلك أنه حين فرض صادقا، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه * (يصبكم بعض الذى يعدكم) *، ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه وافيا فضلا أن يتعصب له. فإن قلت: وعن أبي عبيدة أنه قسم البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد وهو:
* تراك أمكنة إذا لم أرضها
*
ويريك من بعض النفوس حمامها
*
قلت: إن صحت الرواية عنه فقد حق في قول المازني في مسألة العافي كان أحفى من أن يفقه ما أقول له. انتهى، ويعني أن أبا عبيدة خطأه الناس في اعتقاده أن بعضا يكون بمعنى كل، وأنشدوا أيضا في كون بعض بمعنى كل قول الشاعر:
* إن الأمور إذا الأحداث دبرها
*
دون الشيوخ في بعضها خللا
*
أي: إذا رأى الأحداث، ولذلك قال دبرها ولم يقل دبروها، راعي المضاف المحذوف. * (إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب) * فيه: إشارة إلى علو شأن موسى
، عليه السلام، وأن من اصطفاه الله للنبوة لا يمكن أن يقع منه إسراف ولا كذب، وفيه تعريض بفرعون، إذ هو غاية الإسراف على نفسه بقتل أبناء المؤمنين، وفي غاية الكذب، إذ ادعى الإلهية والربوبية، ومن هذا شأنه لا يهديه الله. وفي الحديث: (الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس، ومؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب). وفي الحديث: (أنه عليه السلام، طاف بالبيت، فحين فرغ أخذ بمجامع ردائه، فقالوا: له أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال: أنا ذاك، فقام أبو بكر، رضي الله عنه، فالتزمه من ورائه وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم)، رافعا صوته بذلك وعيناه تسفحان بالدموع حتى أرسلوه. وعن جعفر الصادق: أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرا، وأبو بكر قاله ظاهرا. وقال السدي: مسرف بالقتل. وقال قتادة: مسرف بالكفر. وقال صاحب
442

التحرير والتحبير: هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا استدراج المخاطب، وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، والقوم على تكذيبه، أراد الانتصار له بطريق يخفي عليهم بها أنه متعصب له، وأنه من أتباعه، فجاءهم من طريق النصح والملاطفة فقال: * (أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله) *، ولم يذكر اسمه، بل قال رجلا يوهم أنه لا يعرفه ولا يتعصب له، * (أن يقول ربى الله) *، ولم يقل رجلا مؤمنا بالله، أو هو نبي الله، إذ لو قال شيئا من ذلك لعلموا أنه متعصب. ولم يقبلوا قوله، ثم اتبعه بما بعد ذلك، فقدم قوله: * (وإن يك كاذبا) *، موافقة لرأيهم فيه. ثم تلاه بقوله: * (وإن يك صادقا) *، ولو قال هو صادق وكل ما يعدكم، لعلموا أنه متعصب، وأنه يزعم أنه نبي، وأنه يصدقه، فإن الأنبياء لا تخل بشيء مما يقولونه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدق، وهو قوله: * (إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب) *. انتهى.
ثم قال: * (عليه قوم) * نداء متلطف في موعظتهم. * (لكم الملك اليوم ظاهرين) *: أي عالمين: * (فى الارض) *: في أرض مصر، قد غلبتم بني إسرائيل فيها، وقهرتموهم واستعبدتموهم، وناداهم بالملك الذي هو أعظم مراتب الدنيا وأجلها، وهو من جهة شهواتهم، وانتصب ظاهرين على الحال، والعامل فيها هو العامل في الجار والمجرور، وذو الحال هو ضمير لكم. ثم حذرهم أن يفسدوا على أنفسهم بأنه إن جاءهم بأسس الله لم يجدوا ناصرا لهم ولا دافعا، وأدرج نفسه في قوله: * (ينصرنا) *، وجاءنا لأنه منهم في القرابة، وليعلمهم أن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه. وأقوال هذا المؤمن تدل على زوال هيبة فرعون من قلبه، ولذلك استكان فرعون وقال: * (ما * أريكم إلا ما أرى) *: أي ما أشير عليكم إلا بقتله، ولا أستصوب إلا ذلك، وهذا قول من لا تحكم له، وأتى بما وإلا للحصر والتأكيد.
* (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) *، لا ما تقولونه من ترك قتله وقد كذب، بل كان خائفا وجلا، وقد علم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق، ولكنه كان يتجلد، ويرى ظاهره خلاف ما أبطن. وأورد الزمخشري وابن عطية وأبو القاسم الهذلي هنا أن معاذ بن جبل قرأ الرشاد بشد الشين. قال أبو الفتح: وهو اسم فاعل في بنية مبالغة من الفعل الثلاثي رشد، فهو كعباد من عبد. وقال الزمخشري: أو من رشد، كعلام من علم. وقال النحاس: هو لحن، وتوهمه من الفعل الرباعي، ورد عليه أنه لا يتعين أن يكون من الرباعي، بل هو من الثلاثي، على أن بعضهم قد ذهب إلى أنه من الرباعي، فبنى فعال من أفعل، كدراك من أدرك، وسآر من أسأر، وجبار من أجبر، وقصار من أقصر، ولكنه ليس بقياس، فلا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة، وفعال من الثلاثي مقيس فحمل عليه. وقال أبو حاتم: كان معاذ بن جبل يفسرها بسبيل الله. قال ابن عطية: ويبعد عندي على معاذ رضي الله عنه. وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله؟ وتعلق بناء اللفظ على هذا التأويل. انتهى. وإيراد الخلاف في هذا الحرف الذي هو من قول فرعون خطأ، وتركيب قول معاذ عليه خطأ، والصواب أن الخلاف فيه هو قول المؤمن: * (اتبعون أهدكم سبيل الرشاد) *. قال أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح) له من شواذ القراءات ما نصه: معاذ بن جبل سبيل الرشاد، الحرف الثاني بالتشديد، وكذلك الحسن، وهو سبيل الله تعالى الذي أوضح الشرائع، كذلك فسره معاذ بن جبل، وهو منقول من مرشد، كدراك من مدرك، وجباز من مجبر، وقصار من مقصر عن الأمر، ولها نظائر معدودة، فأما قصار فهو من قصر من الثوب قصارة. وقال ابن خالويه، بعد أن ذكر الخلاف في التناد وفي صد عن السبيل ما نصه: سبيل الرشاد بتشديد الشين، معاذ بن جبل. قال ابن خالويه: يعني بالرشاد الله تعالى. انتهى. فهذا لم يذكر الخلاف إلا في قول المؤمن: * (أهدكم سبيل الرشاد) *، فذكر الخلاف فيه في قول فرعون خطأ، ولم يفسر معاذ بن جبل الرشاد أنه الله تعالى إلا في قول المؤمن، لا في قول فرعون. قال ابن عطية: ذلك التأويل من قول فرعون وهم.
* (وقال الذىءامن ياقوم * قوم * إنى أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد * للعباد * وياقوم إنى أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد * ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم فى شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث (سقط: من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب، الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان آتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين)) *.
443

(سقط: الآية كاملة) الجمهور: على أن هذا المؤمن هو الرجل القائل: * (أتقتلون رجلا) *، قص الله أقاويله إلى آخر الآيات. لما رأى ما لحق فرعون من الخور والخوف، أتى بنوع آخر من التهديد، وخوفهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من استئصال الهلاك حين كذبوا رسلهم، وقويت نفسه حتى سرد عليه ما سرد، ولم يهب فرعون. وقالت فرقة: بل كلام ذلك المؤمن قد تم، وإنما أراد تعالى بالذي آمن بموسى، عليه السلام، واحتجوا بقوة كلامه، وأنه جنح معهم بالإيمان، وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك، ولم يكن كلام الأول الاعلانية لهم، وأفرد اليوم، إما لأن المعنى مثل أيام الأحزاب، أو أراد به الجمع، أي مثل أيام الأحزاب لأنه معلوم أن كل حزب كان له يوم. و * (الاحزاب * الذين * عليكم مثل يوم الاحزاب * مثل دأب) *، قال ابن عطية: بدل. وقال الزمخشري: عطف بيان. وقال الزجاج: مثل يوم حزب ودأب عادتهم ودينهم في الكفر والمعاصي. * (وما الله يريد ظلما للعباد) *، أي إن إهلاكه إياهم كان عدلا منه، وفيه مبالغة في نفي الظلم، حيث علقه
بالإرادة. فإذا نفاه عن الإرادة، كأن نفيه عن الوقوع أولى وأحرى. ولما خوفهم أن يحل بهم في الدنيا ما حل بالأحزاب، خوفهم أمر الآخرة فقال، تعطفا لهم بندائهم: * (يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد، وهو يوم الحشر. والتنادي مصدر تنادي القوم: أي نادى بعضهم بعضا. قال الشاعر:
* تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا
*
فقلت أعند الله ذلكم الردى
*
وسمي يوم التنادي، إما لنداء بعضهم لبعض بالويل والثبور، وإما لتنادي أهل الجنة وأهل النار على ما ذكر في سورة الأعراف، وإما لأن الخلق ينادون إلى المحشر، وإما لنداء المؤمن: * (هاؤم اقرؤا كتابيه) *، والكافر: * (فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه) *. وقرأت فرقة: التناد، بسكون الدال في الوصل أجراه مجرى الوقف وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، والكلبي، والزعفراني، وابن مقسم: التناد، بتشديد الدال: من يد البعير إذا هرب. كما قال يوم يفر المرء من أخيه الآية وقال ابن عباس، وغيره: في الثناء خفيفة الدال هو التنادي، أي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا، وأنهم يفرون على وجوههم للفزع التي نالهم، وينادي بعضهم بعضا. وروي هذا التأويل عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم). وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون التذكر بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة. انتهى. قال أمية بن أبي الصلت:
* وبث الخلق فيها إذ دحاها
*
فهم سكانها حتى التنادي
*
444

وفي الحديث: (إن للناس جولة يوم القيامة يندون)، يظنون أنهم يجدون مهربا؛ ثم تلا: * (يوم تولون مدبرين) *، قال مجاهد: معناه فارين. وقال السدي: * (ما لكم من الله من عاصم) * في فراركم حتى تعذبوا في النار. وقال قتادة: ما لكم في الانطلاق إليها من عاصم، أي مانع، يمنعكم منها، أو ناصر. ولما يئس المؤمن من قبولها قال: * (ومن يضلل الله فما له من هاد) *. ثم أخذ يوبخهم على تكذيب الرسل، بأن يوسف قد جاءهم بالبينات. والظاهر أنه يوسف بن يعقوب، وفرعون هو فرعون موسى، وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة. وقيل: بل الجائي إليهم هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب، وأن فرعون هو فرعون، غير فرعون موسى. و * (بالبينات) *: بالمعجزات. فلم يزالوا شاكين في رسالته كافرين، حتى إذا توفى، * (قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا) *. وليس هذا تصديقا لرسالته، وكيف وما زالوا في شك منه، وإنما المعنى: لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق، ففيه نفي الرسول، ونفي بعثته. وقرئ: ألن يبعث، بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرر بعضا على نفي البعثة. * (كذالك) *: أي مثل إضلال الله إياكم، أي حين لم تقبلوا من يوسف، * (يضل الله من هو مسرف مرتاب) *: يعنيهم، إذ هم المسرفون المرتابون في رسالات الأنبياء.
وجوزوا في * (الذين يجادلون) * أن تكون صفة لمن، وبدلا منه: أي معناه جمع ومبتدأ على حذف مضاف، أي جدال الذين يجادلون، حتى يكون الضمير في * (كبر) * عائدا على ذلك أولا، أو على حذف مضاف، والفاعل بكبر ضمير يعود على الجدل المفهوم من قوله: * (يجادلون) *، أو ضمير يعود على من على لفظها، على أن يكون الذين صفة، أو بدلا أعيد أولا على لفظ من في قوله: * (هو مسرف كذاب) *. ثم جمع الذين على معنى من، ثم أفرد في قوله: * (كبر) * على لفظ من. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون * (الذين يجادلون) * مبتدأ وبغير * (سلطان أتاهم) * خبرا، وفاعل * (كبر) * قوله: * (كذالك) *، أي * (كبر مقتا) * مثل ذلك الجدال، و * (يطبع الله * كلام * ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله) * جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه. انتهى، وهذا الذي أجازه لا يجوز أن يكون مثله في كلام فصيح، فكيف في كلام الله؟ لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض، وارتكاب مذهب الصحيح خلافه. أما تفكيك الكلام، فالظاهر أن بغير سلطان متعلق بيجادلون، ولا يتعقل جعله خبرا للذين، لأنه جار ومجرور، فيصير التقدير: * (الذين يجادلون فىءايات الله) *: كائنونن، أو مستقرون، * (بغير سلطان) *، أي في غير سلطان، لأن الباء إذا ذاك ظرفية خبر عن الجثة، وكذلك في قوله يطبع أنه مستأنف فيه تفكيك الكلام، لأن ما جاء في القرآن من * (كذلك يطبع) *، أو نطبع، إنما جاء مربوطا بعضه ببعض، فكذلك هنا. وأما ارتكاب مذهب الصحيح خلافه، فجعل الكاف اسما فاعلا بكبر، وذلك لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش، ولم يثبت في كلام العرب، أعني نثرها: جاءني كزيد، تريد: مثل زيد، فلم تثبت اسميتها، فتكون فاعلة.
وأما قوله: ومن قال لي آخره، فإن قائل ذلك وهو الحوفي، والظن به أنه فسر المعنى ولم يرد الإعراب. وأما تفسير الإعراب أن الفاعل بكبر ضمير يعود على الجدال المفهوم من يجادلون، كما قالوا: من كذب كان شرا له، أي كان هو، أي الكذب المفهوم من كذب. والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر، والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يجادلون، وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه، ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب، لحسن محاورته لهم واستجلاب قلوبهم، وإبراز ذلك في صورة تذكيرهم، ولا يفجأهم بالخطاب. وفي قوله: * (كبر مقتا) * ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم والشهادة على خروجه عن حد إشكاله من الكبائر. * (كذالك) *: أي مثل ذلك الطبع على قلوب المجادلين، * (يطبع الله) *: أي يحتم بالضلالة ويحجب عن الهدى. وقرأ أبو
عمرو بن ذكوان، والأعرج، بخلاف عنه: قلب بالتنوين، وصف القلب بالتكبر والجبروت، لكونه مركزهما ومنبعهما، كما يقولون: رأت العين، وكما قال: * (وإن كنتم على) *، والإثم: الجملة،
445

وأجاز الزمخشري أن يكون على حذف المضاف، أي على كل ذي قلب متكبر، بجعل الصفة لصاحب القلب. انتهى، ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد الحذف. وقرأ باقي السبعة: قلب متكبر بالإضافة، والمضاف فيه العام عام، فلزم عموم متكبر جبار. وقال مقاتل: المتكبر: المعاند في تعظيم أمر الله، والجبار المسلط على خلق الله.
* (وقال فرعون ياأيها * ياهامان ابن لى صرحا) *، أقوال فرعون: * (ذرونى أقتل موسى * ما أريكم إلا ما أرى * فرعون ياهامان ابن لى صرحا) *، حيدة عن محاجة موسى، ورجوع إلى أشياء لا تصح، وذلك كله لما خامره من الجزع والخوف وعدم المقاومة، والتعرف أن هلاكه وهلاك قومه على يد موسى، وأن قدرته عجزت عن التأثير في موسى، هذا على كثرة سفكه الدماء. وتقدم الكلام في الصرح في سورة القصص فأغنى عن إعادته. قال السدي: الأسباب: الطرق. وقال قتادة: الأبواب؛ وقيل: عنى لعله يجد، مع قربه من السماء، سببا يتعلق به، وما أداك إلى شيء فهو سبب، وأبهم أولا الأسباب، ثم أبدل منها ما أوضحها. والإيضاح بعد الإبهام يفيد تفخيم الشيء، إذ في الإبهام تشوق للمراد، وتعجب من المقصود، ثم بالتوضيح بحصل المقصود ويتعين. وقرأ الجمهور: فأطلع رفعا، عطفا على أبلغ، فكلاهما مترجي. وقرأ الأعرج، وأبو حيوة، وزيد بن علي، والزعفراني، وابن مقسم، وحفص: فأطلع، بنصب العين. وقال أبو القاسم بن جبارة، وابن عطية: على جواب التمني. وقال الزمخشري: على جواب الترجي، تشبيها للترجي بالتمني. انتهى. وقد فرق النحاة بين التمني والترجي، فذكروا أن التمني يكون في الممكن والممتنع، والترجي يكون في الممكن. وبلوغ أسباب السماوات غير ممكن، لكن فرعون أبرز ما لا يمكن في صورة الممكن تمويها على سامعيه. وأما النصب بعد الفاء في جواب الترجي فشئ أجازه الكوفيون ومنعه البصريون، واحتج الكوفيون بهذه القراءة وبقراءة عاصم، فتنفعه الذكرى في سورة عبس، إذ هو جواب الترجي في قوله: * (لعله * يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى) *. وقد تأولنا ذلك على أن يكون عطفا على التوهم، لأن خبر لعل كثيرا جاء مقرونا بأن في النظم كثيرا، وفي النثر قللا. فمن نصب، توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبرا كان منصوبا بأن، والعطف على التوهم كثير، وإن كان لا ينقاس، لكن إن وقع شيء وأمكن تخريجه عليه خرج، وأما هنا، فأطلع، فقد جعله بعضهم جوابا للأمر، وهو قوله: * (ابن لى صرحا) *، كما قال الشاعر:
* يا ناق سيري عنقا فسيحا
*
إلى سليمان فنستريحا
*
ولما قال: * (فأطلع إلى إلاه موسى) *، كان ذلك إقرارا بإله موسى، فاستدرك هذا الإقرار بقوله: * (وإنى لاظنه كاذبا) *: أي في ادعاء الإلهية، كما قال في القصص: * (لعلى أطلع إلى إلاه موسى وإنى لاظنه من الكاذبين) *. * (وكذالك) * أي مثل ذلك التزيين في إيهام فرعون أنه يطلع إلى إله موسى. * (زين لفرعون سوء عمله) *. وقرأ الجمهور: * (زين لفرعون) * مبنيا للمفعول؛ وقرئ: زين مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور: * (وصد) * مبنيا للفاعل: أي وصد فرعون؛ والكوفيون: بضم الصاد مناسبا لزين مبنيا للمفعول؛ وابن وثاب: بكسر الصاد، أصله صدد، نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها؛ وابن إسحاق، وعبد الرحمن بن أبي بكرة، بفتح الصاد وضم الدال، منونة عطفا على * (سوء عمله) *. والتباب: الخسران، خسر ملكه في الدنيا فيها بالغرق، وفي الآخرة بخلود النار، وتكرر وعظ المؤمن إثر كلام فرعون بندائه قومه مرتين، متبعا كل نداء بما فيه زجر واتعاظ لو وجد من يقبل، وأمر هنا باتباعه لأن يهديهم سبيل الرشاد. وقرأ معاذ بن جبل: بشد الشين، وتقدم الكلام على ذلك. والرد على من جعل هذه القراءة في كلام فرعون، وأجمل أولا في قوله: * (سبيل الرشاد) *، وهو سبيل الإيمان بالله واتباع شرعه. ثم فسر، فافتتح بذم الدنيا وبصغر شأنها، وأنها متاع زائل، هي ومن تمتع بها، وأن الآخرة هي دار القرار التي لا انفكاك منها، إما إلى جنة، وإما إلى نار. وكذلك قال: * (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها) *. وقرأ أبو رجاء، وشيبة، والأعمش، والإخوان،
446

والصاحبان، وحفص: * (يدخلون) * مبنيا للفاعل، وباقي السبعة، والأعرج، والحسن، وأبو جعفر، وعيسى: مبنيا للمفعول.
* (ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار، تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار، لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار، فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد، فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب، النار يعرضون عليها غدا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء الذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار، قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد، وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب، قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
بدأ المؤمن بذكر المتسبب عن دعوتهم، وأبدى التفاضل بينهما. ولما ذكر المسببين، ذكر سببهما، وهو دعاؤهم إلى الكفر والشرك، ودعاؤه إياهم إلى الإيمان والتوحيد. وأتى بصيغة العزيز، وهو الذي لا نظير له، والغالب الذي العالم كلهم في قبضته يتصرف فيهم كما يشاء، الغفار لذنوب من رجع إليه وآمن به، وأوصل سبب دعائهم بمسببه، وهو الكفر والنار، وأخر سبب مسببه ليكون افتتاح كلامه واختتامه بما يدعو إلى الخير. وبدأ أولا بجملة اسمية، وهو استفهام المتضمن التعجب من حالتهم،
وختم أيضا بجملة اسمية ليكون أبلغ في توكيد الأخبار. وجاء في حقهم * (وتدعونني) * بالجملة الفعلية التي لا تقتضي توكيدا، إذ دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، فتؤكد. و * (ما ليس لى به علم) * هي الأوثان، أي لم يتعلق به علمي، إذ ليس لها مدخل في الألوهية ولا لفرعون. قال الزمخشري: فإن قلت: لم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت: لأن الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. انتهى. وتقدم الكلام على لا جرم.
وقال الزمخشري هنا، وروي عن العرب: لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء، يريد لا بد، وفعل وفعل أخوان، كرشد ورشد، وعدم وعدم. * (إنما) *: أي أن الذي تدعونني إليه، أي إلى عبادته، * (ليس له دعوة) *، أي قدر وحق يجب أن يدعى إليه، أوليس له دعوة إلى نفسه، لأن الجماد لا يدعو، والمعبود بالحق يدعو العباد إلى طاعته، ثم يدعو العباد إليها إظهارا لدعوة ربهم. وقال الزجاج: المعنى ليس له استجابة دعوة توجب الألوهية في الدنيا ولا في الآخرة، أو دعوة مستجابة جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة كلا دعوة، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة، كما سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قوله: كما تدين تدان. وقال الكلبي: ليست له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة، وكان فرعون أولا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، ثم دعاهم إلى عبادة البقر، وكانت تعبد ما دامت شابة، فإذا هزلت أمر بذبحها ودعا بأخرى لتعبد. فلما طال عليه الزمان قال: * (أنا ربكم الاعلى) *. ولما ذكر انتفاء دعوة ما عبد من دون الله وذكر أن مرد الجميع إلى الله، أي إلى جزائه، * (وأن المسرفين) *: وهم المشركون في قول قتادة، والسفاكون للدماء بغير حلها في قول ابن مسعود ومجاهد. وقيل: من غلب شره خيره هو المسرف. وقال عكرمة: هم الجبارون المتكبرون. وختم المؤمن كلامه بخاتمة لطيفة توجب التخويف والتهديد وهي قوله: * (فستذكرون ما أقول لكم) *: أي إذا حل بكم عقاب الله. * (وأفوض أمرى) * إلى قضاء الله وقدره، لا إليكم ولا إلى أصنامكم، وكانوا قد توعدوه. ثم ذكر ما يوجب التفويض، وهو كونه تعالى بصيرا بأحوال العباد وبمقادير حاجاتهم.
447

قال مقاتل: لما قال هذه الكلمات، قصدوا قتله؛ فهرب هذا المؤمن إلى الجبل، فلم يقدروا عليه. وقيل: لما أظهر إيمانه، بعث فرعون في طلبه ألف رجل؛ فمنهم من أدركه، فذب السباع عنه وأكلتهم السباع، ومنهم من مات في الجبال عطشا، ومنهم من رجع إلى فرعون خائبا، فاتهمه وقتله وصلبه. وقيل: تجامع موسى في البحر، وفر في جملة من فر معه. * (فوقاه الله سيئات ما مكروا) *: أي شدائد مكرهم التي تسوؤه، وما هموا به من أنواع العذاب لمن خالفهم. * (وحاق بئال فرعون سوء العذاب) *، قال ابن عباس: هو ما حاق بالألف الذين بعثهم فرعون في طلب المؤمن، من أكل السباع، والموت بالعطش، والقتل والصلب، كما تقدم. وقيل: * (سوء العذاب) *: هو الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. * (النار) * بدل من * (سوء العذاب) *، أو خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: ما سوء العذاب: قيل: النار، أو مبتدأ خبره * (يعرضون) *، ويقوي هذا الوجه قراءة من نصب، أي تدخلون النار يعرضون عليها. وقال الزمخشري: ويجوز أن ينصب على الاختصاص.
والظاهر أن عرضهم على النار مخصوص بهذين الوقتين، ويجوز أن يراد بذكر الطرفين الدوام في الدنيا، والظاهر أن العرض خلاف الإحراق. وقال الزمخشري: عرضهم عليها: إحراقهم بها، يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به. انتهى، والظاهر أن العرض هو في الدنيا. وروي ذلك عن الهذيل بن شرحبيل، وعن ابن مسعود والسدي: أن أرواحهم في جوف طيور سود، تروح بهم وتغدوا إلى النار. وقال رجل للأوزاعي: رأيت طيورا بيضا تغدوا من البحر، ثم تروح بالعشي سودا مثلها، فقال الأوزاعي: تلك التي في حواصلها أرواح آل فرعون، يحرق رياشها وتسود بالعرض على النار. وقال محمد بن كعب وغيره: أراد أنهم يعرضون في الآخرة على تقدير ما بين الغدو والعشي، إذ لا غدو ولا عشي في الآخرة، وإنما ذلك على التقدير بأيام الدنيا. وعن ابن مسعود: تعرض أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار على النار بالغداة والعشي، يقال: هذه داركم.
وفي صحيح البخاري، ومسلم، من حديث ابن عمران، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة). واستدل مجاهد ومحمد بن كعب وعكرمة ومقاتل بقوله: * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) *: أي عند موتهم على عذاب القبر في الدنيا. والظاهر تمام الجملة عند قوله: * (وعشيا) *، وأن يوم القيامة معمول لمحذوف على إضمار القول، أي ويوم القيامة يقال لهم: ادخلوا. وقيل: ويوم معطوف على وعشيا، فالعامل فيه يعرضون، وأدخلوا على إضمار الفعل. وقيل: العامل في يوم أدخلوا. وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش، وابن وثاب، وطلحة، ونافع، وحمزة، والكسائي، وحفص: أدخلوا، أمرا للخزنة من أدخل. وعلي، والحسن، وقتادة، وابن كثير، والعربيان، وأبو بكر: أمرا من دخل آل فرعون أشد العذاب. قيل: وهو الهاوية. قال الأوزاعي: بلغنا أنهم ألفا ألف وستمائة ألف.
* (وإذ يتحاجون فى النار) *: الظاهر أن الضمير عائد على فرعون. وقال ابن عطية: والضمير في قوله: * (يتحاجون) * لجميع كفار الأمم، وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون، والعامل في إذ فعل مضمر تقديره واذكروا. وقال الطبري: وإذ هذه عطف على قوله: * (إذ القلوب لدى الحناجر) *، وهذا بعيد. انتهى، والمحاجة: التحاور بالحجة والخصومة. والضعفاء: أي في القدر والمنزلة في الدنيا. والذين استكبروا: أي عن الإيمان واتباع الرسل. * (إنا كنا لكم تبعا) *: أي ذوي تبع، فتبع مصدر أو اسم جمع لتابع، كآيم وأيم، وخادم وخدم، وغائب وغيب. * (فهل أنتم مغنون عنا) *: أي حاملون عنا؟ فأجابوهم: * (إنا كل فيها) *، وأن حكم الله قد نفذ فينا وفيكم، إنا مستمرون في النار. وقرأ ابن المسيقع، وعيسى بن عمران: كلا بنصب كل. وقال الزمخشري، وابن عطية: على التوكيد
448

لاسم إن، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، يريد: إنا كلنا فيها. انتهى. وخبر إن هو فيها، ومن رفع كلا فعلى الابتداء، وخبره فيها، والجملة خبر إن. وقال ابن مالك في تصنيفه (تسهيل الفوائد): وقد تكلم على كل، ولا يستغنى بنية إضافته، خلافا للفراء والزمخشري. انتهى، وهذا المذهب منقول عن الكوفيين، وقد رد ابن مالك على هذا المذهب بما قرره في شرحه (التسهيل). وقال الزمخشر: فإن قلت: هل يجوز أن يكون كلا حالا قد عمل فيها فيها؟ قلت: لا، لأن الظرف لا يعمل، والحال متقدمة، كما يعمل في الظرف متقدما، تقول: كل يوم لك ثوب، ولا تقول: قائما في الدار زيد. انتهى. وهذا الذي منعه أجازه الأخفش إذا توسطت الحال، نحو: زيد قائما في الدار، وزيد قائما عندك، والتمثيل الذي ذكره ليس مطابقا في الآية، لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم، وهو اسم إن، وتوسطت الحال إذا قلنا إنها حال، وتأخر العامل فيها، وأما تمثيله بقوله: ولا تقول قائما في الدار زيد، تأخر فيه المسند والمسند إليه، وقد ذكر بعضهم أن المنع في ذلك إجماع من النحاة. وقال ابن مالك: والقول المرضي عندي أن كلا في القراءة المذكورة منصوب على أن الضمير المرفوع المنوي في فيها، وفيها هو العامل، وقد تقدمت الحال عليه مع عدم تصرفه، كما قدمت في قراءة من قرأ: * (والسماوات مطويات بيمينه) *. وفي قول النابغة الذبياني:
* رهط ابن كوز محقبي أدراعهم
*
فيهم ورهط ربيعة بن حذار
*
وقال بعض الطائيين:
* دعا فأجبنا وهو بادي ذلة
*
لديكم فكان النصر غير قريب
*
انتهى. وهذا التخريج هو على مذهب الأخفش، كما ذكرناه، والذي أختاره في تخريج هذه القراءة أن كلا بدل من اسم إن، لأن كلا يتصرف فيهما بالابتداء ونواسخه وغير ذلك، فكأنه قال: إن كلا بدل من اسم إن، لأن كلا فيها: وإذا كانوا قد تأولوا حولا أكتعا ويوما أجمعا على البدل، مع أنهما لا يليان العوامل، فإن يدعى في كل البدل أولى، وأيضا فتنكير كل ونصبه حالا في غاية الشذوذ، والمشهور أن كلا معرفة إذا قطعت عن الإضافة. حكى: مررت بكل قائما، وببعض جالسا في الفصيح الكثير في كلامهم، وقد شذ نصب كل على الحال في قولهم: مررت بهم كلا، أي جميعا. فإن قلت: كيف يجعله بدلا، وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم، وهو لا يجوز على مذهب البصريين؟ قلت: مذهب الأخفش والكوفيين جوازه، وهو الصحيح، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف، بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة، جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب، لا نعلم خلافا في ذلك، كقوله تعالى: * (تكون لنا عيدا لاولنا وءاخرنا) *، وكقولك: مررت بكم صغيركم وكبيركم، معناه: مررت بكم كلكم، وتكون لنا عيدا كلنا. فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة، فجوازه فيما دل على الإحاطة، وهو كل أولى، ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه، لأنه بدل من ضمير المتكلم، لأنه لم يتحقق مناط الخلاف.
ولما أجاب الضعفاء المستكبرونن قالوا جميعا: * (لخزنة جهنم) *، وأبرز ما أضيف إليه الخزنة، ولم يأت ضميرا، فكان يكون التركيب لخزنتها، لما في ذكر جهنم من التهويل، وفيها أطغى الكفار وأعتاهم. ولعل الكفار توهموا أن ملائكة جهنم الموكلين بعذاب تلك الطغاة هم أقرب منزلة عند الله من غيرهم من الملائكة الموكلين ببقية دركات النار، فرجوا أن يجيبوهم ويدعوا لهم بالتخفيف، فراجعتهم الخزنة على سبيل التوبيخ لهم والتقرير: * (أو لم * تك تأتيكم رسلكم بالبينات) *، فأجابوا بأنهم أتتهم، * (قالوا) *: أي الخزنة، * (فادعوا) * أنتم على معنى الهزء بهم، أو فادعوا أنتم، فإنا لا نجترىء على
449

ذلك. والظاهر أن قوله: * (وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال) * من كلام الخزنة: أي دعاؤكم لا ينفع ولا يجدي. وقيل: هو من كلام الله تعالى إخبارا منه لمحمد صلى الله عليه وسلم). وجاءت هذه الأخبار معبرا عنها بلفظ الماضي الواقع لتيقن وقوعها.
ثم ذكر تعالى أنه ينصر رسله ويظفرهم بأعدائهم، كما فعل بموسى عليه السلام، حيث أهلك عدوه فرعون وقومه، وفيه تبشير للرسول عليه السلام بنصره على قومه، * (وقال إنما اتخذتم) *، العاقبة الحسنة لهم، * (ويوم يقوم الاشهاد) *: وهو يوم القيامة. قال ابن عباس: ينصرهم بالغلبة، وفي الآخرة بالعذاب. وقال السدي: بالانتقام من أعدائهم. وقال أبو العالية: بإفلاح حجتهم. وقال السدي أيضا: ما قتل قوم قط نبيا أو قوما من دعاة الحق إلا بعث الله من ينتقم لهم، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا. انتهى. ألا ترى إلى قتلة الحسين، رضي الله عنه، كيف سلط الله عليهم المختار بن عبيد يتبعهم واحدا واحدا حتى قتلهم؟ وبختنصر تتبع اليهود حين قتلوا يحيى بن زكريا، عليهما السلام؟ وقيل: والنصر خاص بمن أظهره الله تعالى على أمته، كنوح وموسى ومحمد عليهم السلام، لأنا نجد من الأنبياء من قتله قومه، كيحيى، ومن لم ينصر عليهم. وقال السدي: الخبر عام، وذلك أن نصرة الرسل والأنبياء واقعة ولا بد إما في حياة الرسول المنصور، كنوح وموسى عليهما السلام، وإما بعد موته. ألا ترى إلى ما صنع الله تعالى ببني إسرائيل بعد قتلهم يحيى عليه السلام من تسليط بختنصر حتى انتصر ليحيى عليه السلام؟ وقرأ الجمهور: يقوم بالياء؛ وابن هرمز، وإسماعيل، والمنقري عن أبي عمرو: بتاء التأنيث. الجماعة والأشهاد، جمع شهيد، كشريف وأشراف، أو جمع شاهد، كصاحب وأصحاب،
كما قال تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) *. وقال: * (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) *، والظاهر أنه من الشهادة. وقيل: من المشاهدة، بمعنى الحضور. * (يوم لا ينفع) *: بدل من يوم * (ياقوم) *. وقرئ: تنفع بالتاء وبالياء، وتقدم ذكر الخلاف في ذلك في آخر الروم، ويحتمل أنهم يعتذرون ولا تقبل معذرتهم، أو أنهم لا معذرة لهم فتقبل. * (ولهم اللعنة) * والإبعاد من الله. * (ولهم سوء الدار) *: سوء عاقبة الدار.
* (ولقد ءاتينا موسى الهدى بنى إسراءيل الكتاب * هدى وذكرى لاولى الالباب * فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والابكار * إن الذين يجادلون فىءايات الله بغير سلطان أتاهم إن فى صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله) *.
ولما ذكر ما حل بآل فرعون، واستطرد من ذلك إلى ذكر شيء من أحوال الكفار في الآخرة، عاد إلى ذكر ما منح رسوله موسى عليه السلام فقال: * (ولقد ءاتينا موسى الهدى) * تأنيسا لمحمد عليه السلام، وتذكيرا لما كانت العرب تعرفه من قصة موسى عليه السلام. والهدى، يجوز أن يكون الدلائل التي أوردها على فرعون وقومه، وأن يكون النبوة، وأن يكون التوراة. * (وأورثنا بنى إسراءيل الكتاب) *: الظاهر أنه التوراة، توارثوها خلف عن سلف، ويجوز أن يكون الكتاب أريد به: ما أنزل على بني إسرائيل من كتب أنبيائهم، كالتوراة والزبور والإنجيل، * (هدى) * ودلالة على الشيء المطلوب، * (وذكرى) * لما كان منسيا فذكر به تعالى في كتبه. وانتصب * (هدى وذكرى) * على أنهما مفعولان له، أو على أنهما مصدران في موضع الحال.
ثم أمر
450

تعالى نبيه بالصبر فقال: * (فاصبر إن وعد الله حق) *، من قوله: * (إنا لننصر رسلنا) *، فلا بد من نصرك على أعدائك. وقال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف. * (واستغفر لذنبك) *، قال ابن عطية: يحتمل أن يكون قبل إعلام الله تعالى إياه أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لأن آية هذه السورة مكية، وآية سورة الفتح مدنية متأخرة، ويحتمل أن يكون الخطاب له في هذه الآية، والمراد أنه إذا أمر هو بهذا فغيره أحرى بامتثاله. وقال أبو عبد الله الرازي: محمول على التوبة من ترك الأفضل والأولى. وقيل: المقصود منه محض تعبد، كما في قوله تعالى: * (ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك) *، فإن إيتاء ذلك الشيء واجب، ثم إنه أمرنا بطلبه. وقيل: * (لذنبك) *: لذنب أمتك في حقك. قيل: فأضاف المصدر للمفعول، ثم أمره بتنزيهه تعالى في هذين الوقتين اللذين الناس مشتغلون فيهما بمصالحهم المهمة. ويجوز أن يكون المراد سائر الأوقات، وعبر بالظرفين عن ذلك. وقال ابن عباس: أراد بذلك الصلوات الخمس. وقال قتادة: صلاة الغداة، وصلاة العصر. وقال الحسن: ركعتان قبل أن تفرض الصلاة. وعنه أيضا: صلاة العصر، وصلاة الصبح. والظاهر أن المجادلين في آيات الله، وهي دلائله التي نصبها على توحيده وكتبه المنزلة، وما أظهر على يد أنبيائه من الخوارق، هم كفار قريش والعرب. * (بغير سلطان) *: أي حجة وبرهان. * (فى صدورهم إلا كبر) *: أي تكبر وتعاظم، وهو إرادة التقدم والرياسة، وذلك هو الحامل على جدالهم بالباطل، ودفعهم ما يجب لك من تقدمك عليهم، لما منحك من النبوة وكلفك من أعباء الرسالة. * (ما هم ببالغيه) *: أي ببالغي موجب الكبر ومقتضيه من رياستهم وتقدمهم، وفي ذلك إشارة إلى أنهم لا يرأسون، ولا يحصل لهم ما يؤملونه. وقال الزجاج: المعنى على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر عليك، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر، لأن الله أذلهم وقال ابن عطية: تقديره مبالغي إرادتهم فيه. وقال مقاتل: هي في اليهود.
قال مقاتل: عظمت اليهود الدجال وقالوا: إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان وله سلطان، فقال تعالى: * (إن الذين يجادلون فىءايات الله) *، لأن الدجال من آياته، * (بغير سلطان) *: أي حجة، * (فاستعذ بالله) * من فتنة الدجال. والمراد بخلق الناس الدجال، وإلى هذا ذهب أبو العالية، وهذا القول أصح. وقال الزمخشري: وقيل المجادلون هم اليهود، وكانوا يقولون: يخرج صاحبنا المسيح بن داود، يريدون الدجال، ويبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله، فيرجع إلينا الملك، فسمى الله تمنيتهم ذلك كبرا، ونفى أن يبلغوا متمناهم. انتهى. وكان رئيس اليهود في زمانه في مصر موسى بن ميمون الأندلسي القرطبي قد كتب رسالته إلى يهود اليمن أن صاحبهم يظهر في سنة كذا وخمسمائة، وكذب عدو الله. جاءت تلك السنة وسنون بعدها كثيرة، ولم يظهر شيء مما قاله، لعنه الله. وكان هذا اليهودي قد أظهر الإسلام، حتى استسلم اليهود بعض ملوك المغرب، ورجل من الأندلس. فيذكر أنه صلى بالناس التراويح وهم على ظهر السفينة في رمضان، إذ كان يحفظ القرآن. فلما قدم مصر، وكان ذلك في دولة العبيديين، وهم لا يتقيدون بشريعة، رجع إلى اليهودية وأخبر أنه كان مكرها على الإسلام، فقبل منه ذلك، وصنف لهم تصانيف، ومنها: (كتاب دلالة الحائرين)، وإنما استفاد ما استفاد من مخالطة علماء الأندلس وتودده لهم، والرياسة إلى الآن بمصر لليهود في كل من كان من ذريته. * (فاستعذ بالله) *: أي التجيء إليه من كيد من يحسدك. * (إنه هو السميع) * لما تقول ويقولون، * (البصير) * بما تعمل ويعملون) *، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم.
ثم نبه تعالى أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ولا يتكبر الانسان بقوله لخلق السماوات والأرض من خلق الناس أي إن المخلوقات أكبر واجل من خلق البشر من لأحد يجادل ويتكبر على خلقه قال الزمخشري وجادلتهم في آية الله كان مشتملا على انكار البعث وهو أصل المجادلة ومدارها بخلق السماوات والأرض لأنهم كانوا مقرنين بأن الله خلقها لا يقدر قدره
451

بالقياس إليه شيء قليل مهين ممن قدر على خلقها مع عظمها على خلق الإنسان مهانته وهو بلغ من الإجتهاد بخلق مثله انتهى.
ولما بعد، قسم الذين آمنوا بطول صلة الموصول، كرر لا توكيدا، وقدم * (*) *، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم.
ثم نبه تعالى أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ولا يتكبر الانسان بقوله لخلق السماوات والأرض من خلق الناس أي إن المخلوقات أكبر واجل من خلق البشر من لأحد يجادل ويتكبر على خلقه قال الزمخشري وجادلتهم في آية الله كان مشتملا على انكار البعث وهو أصل المجادلة ومدارها بخلق السماوات والأرض لأنهم كانوا مقرنين بأن
الله خلقها لا يقدر قدره بالقياس إليه شيء قليل مهين ممن قدر على خلقها مع عظمها على خلق الإنسان مهانته وهو بلغ من الإجتهاد بخلق مثله انتهى.
ولما بعد، قسم الذين آمنوا بطول صلة الموصول، كرر لا توكيدا، وقدم * (والذين ءامنوا) * المجاورة قوله: * (والبصير) *، وهما طريقان، أحدهما: أن يجاور المناسب هكذا، والآخر: أن يتقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر، كقوله تعالى: * (وما يستوى الاعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور) *، وقد يتأخر المتماثلان، كقوله تعالى: * (مثل الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع) *، وكل ذلك تفنن في البلاغة وأساليب الكلام. ولما كان قد تقدم: * (ولاكن أكثر الناس لا يعلمون) *، فكان ذلك صفة ذم ناسب أن يبدأ في ذكر التساوي بصفة الذم، فبدأ بالأعمى. وقرأ قتادة، وطلحة، وأبو عبد الرحمن، وعيسى، والكوفيون: تتذكرون بتاء الخطاب؛ والجمهور، والأعرج، والحسن، وأبو جعفر، وشيبة: بالياء على الغيبة. ثم أخبر بما يدل على البعث من إتيان الساعة، وأنه لا ريب في وقوعها، وهو يوم القيامة، حيث الحساب وافتراق الجمع إلى الجنة طائعهم، وإلى النار كافرهم ومن أراد الله تعذيبه من العصاة بغير الكفر. والظاهر حمل الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، إلا أن الاستجابة مقيدة بمشيئة الله.
قال السدي: اسألوني أعطكم؛ وقال الضحاك: أطيعوني آتكم؛ وقالت فرقة منهم مجاهد: ادعوني، اعبدوني وأستجب لكم، آتيكم على العبادة. وكثيرا جاء الدعاء في القرآن بمعنى العبادة، ويقوي هذا التأويل قوله: * (إن الذين يستكبرون عن عبادتى) *. وما روى النعمان بن بشير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (الدعاء هو العبادة)، وقرأ هذه الآية. وقال ابن عباس: وحدوني أغفر لكم؛ وقيل للثوري: ادع الله تعالى، فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء. وقال الحسن، وقد سئل عن هذه الآية: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم): (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شح نعله). * (إن الذين يستكبرون عن عبادتى) *: أي عن دعائي. وقرأ جمهور السبعة، والحسن، وشيبة: سيدخلون مبنيا للفاعل؛ وزيد بن علي، وابن كثير، وأبو جعفر: مبنيا للمفعول؛ واختلف عن عاصم وأبي عمرو. داخرين: ذليلين.
* (الله الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) *: تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في سورة يونس. و * (لذو فضل * أبلغ * من * فى نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم) * لما علمناه * (لينفق ذو سعة من سعته) *، * (والله ذو الفضل العظيم) *، لما يؤدي إليه من كونه صاحبه ومتمكنا منه، بخلاف أن يؤتي بالصفة، فإنه قد يدل على غير الله بالاتصاف به في وقت ما، لا دائما، وذكر عموم فضله وسوغه على الناس، ثم قال: * (ولاكن أكثر الناس) *، فأتى به ظاهرا، ولم يأت التركيب: ولكن أكثرهم. قال الزمخشري: في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه، كقوله: * (إن الإنسان لكفور) *، * (إن الإنسان لربه لكنود) *،
452

* (إن الإنسان لظلوم كفار) *. انتهى. * (ذالكم) *: أي المخصوص بتلك الصفات المتميز بها من استجابته لدعائكم، ومن جعل الليل والنهار كما ذكر، ومن تفضله عليكم. * (الله ربكم) *: الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية، وإنشاء الأشياء والوحدانية. فكيف تصرفون عن عبادة من هذه أوصافه إلى عبادة الأوثان؟ وقرأ زيد بن علي: خالق بنصب القاف، وطلحة في رواية: يؤفكون بياء الغيبة والجمهور: بضم القاف وتاء الخطاب. قال الزمخشري: خالق نصبا على الاختصاص كذلك، أي مثل ذلك الصرف صرف الله قلوب الجاحدين بآيات الله من الأمم على طريق الهدى.
ولما ذكر تعالى ما امتن به من الليل والنهار، ذكر أيضا ما امتن به من جعل الأرض مستقرا والسماء بناء، أي قبة، ومنه أبنية العرب لمضاربهم، لأن السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض. وقرأ الجمهور: صوركم بضم الصاد، والأعمش، وأبو رزين: بكسرها فرارا من الضمة قبل الواو استثقالا، وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسرها شاذ، وقالوا قوة وقوي بكسر القاف على الشذوذ أيضا قيل: لم يخلق حيوانا أحسن صورة من الإنسان. وقيل: لم يخلقهم منكوسين كالبهائم، كقوله: * (فى أحسن تقويم) *. وقرأت فرقة: صوركم بضم الصاد وإسكان الواو، على نحو بسرة وبسر، * (ورزقكم من الطيبات) *: امتن عليهم بما يقوم بأود صورهم والطيبات المستلذات طعما ولباسا ومكاسب. وقال ابن عباس: من قال: لا إله إلا الله، فليقل على أثرها: * (الحمد لله رب العالمين) *. وقال نحوه سعيد بن جبير، ثم قرأ الآية.
* (قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءنى البينات من ربى وأمرت أن أسلم لرب) *.
أمر الله تعالى نبيه، عليه السلام، أن يخبرهم بأنه نهى أن يعبد أصنامهم، لما جاءته البينات من ربه، فهذا نهي بالسمع، وإن كان منهيا بدلائل العقل، فتظافرت أدلة السمع وأدلة العقل على النهي عن عبادة الأوثان. فمن أدلة السمع قوله تعالى: * (أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون) * إلى غير ذلك، وذكره أنه نهى بالسمع لا يدل على أنه كان منهيا بأدلة العقل. ولما نهى عن عبادة الأوثان، أخبر أنه أمر بالاستسلام لله تعالى، ثم بين أمر الوحدانية والألوهية التي أصنامهم عارية عن شيء منهما، بالاعتبار في تدريج ابن آدم بأن ذكر مبدأه الأول، وهو من تراب. ثم أشار إلى التناسل بخلقه من نطفة، والطفل اسم جنس، أو يكون المعنى: * (ثم يخرجكم) *، أي كل واحد منكم طفلا) *، وتقدم الكلام على بلوغ الأشد. و * (*) *، وتقدم الكلام على بلوغ الأشد. و * (من قبل) *، قال مجاهد: من قبل أن يكون شيخا، قيل: ويجوز أن يكون من قبل هذه الأحوال، إذا خرج سقطا،
453

وقيل: عبارة بتردده في التدريج المذكور، ولا يختص بما قبل الشيخ، بل منهم من يموت قبل أن يخرج طفلا، وآخر قبل الأشد، وآخر قبل الشيخ. * (ولتبلغوا) *: متعلق بمحذوف، أي يبقيكم لتبلغوا، أي ليبلغ كل واحد منكم أجلا مسمى لا يتعداه. قال مجاهد: يعني موت الجميع، وقيل: هو يوم القيامة. و * (لعلكم تعقلون) * ما في ذلك من العبرة والحجج، إذا نظرتم في ذلك وتدبرتم.
ولما ذكر، رتب الإيجاد، ذكر أنه المتصف بالإحياء والإمانة، وأنه متى تعلقت إرادته بإيجاد شيء أوجده من غير تأخر، وتقدم الكلام على مثل هذه الجمل. ثم قال بعد ظهور هذه الآيات: ألا تعجب إلى المجادل في رسالة الرسول عليه السلام والكتاب الذي جاء به بدليل قوله: * (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا) *، ثم هددهم بقوله: * (فسوف تعلمون) *، وهذا قول الجمهور. وقال محمد بن سيرين وغيره: هي إشارة إلى أهل الأهواء من الأمة، ورووا في نحو هذا حديثا وقالوا: هي في أهل القدر ومن جرى مجراهم، ويلزم قائلي هذه المقالة أن يجعل قوله: * (الذين كذبوا) * كلاما مستأنفا في الكفار، ويكون * (الذين كذبوا) * مبتدأ، وخبره: * (فسوف يعلمون) *. وأما على الظاهر، فالذين بدل من الذين، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوبا على الذم، وإذ ظرف لما مضى، فلا يعمل فيه المستقبل، كما لا يقول: سأقوم أمس، فقيل: إذا يقع موقع إذ، وأن وقعها على سبيل المجاز، فيكون إذ هنا بمعنى إذا، وحسن ذلك تيقن وقوع الأمر، وأخرج في صيغة الماضي، وإن كان المعنى على الاستقبال. قال النخعي: لو أن غلا من أغلال جهنم وضع على جبل، لا رحضة حتى يبلغ إلى الماء الأسود. وقرأ: والسلاسل عطفا على الأغلال، يسحبون مبنيا للمفعول. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن علي، وابن وثاب، والمسيء في اختياره: والسلاسل بالنصب على المفعول، يسحبون مبنيا للفاعل، وهو عطف جملة فعلية على جملة اسمية. وقرأت فرقة منهم ابن عباس: والسلاسل، بجر اللام. قال ابن عطية: على تقدير، إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل، فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ، إذ ترتيبه فيه قلب، وهو على حد قول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي، وفي مصحف أبي: وفي السلاسل يسحبون. وقال الزمخشري: ووجهه أنه لو قيل: إذ أعناقهم في الأغلال، مكان قوله: * (إذ الاغلال فى أعناقهم) *، لكان صحيحا مستقيما. فلما كانتا عبارتين معتقبتين، حمل قوله: * (والسلاسل) * على لعبارة الأخرى، ونظيره قول الشاعر:
* مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة
*
ولا ناعبا إلا ببين غرابها
*
كأنه قيل: بمصلحين. وقرئ: وبالسلاسل، انتهى، وهذا يسمى العطف على التوهم، ولكن توهم إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها، ونظير ذلك قول الشاعر:
* أحدك لن ترى بثعيلبات
*
ولا بيداء ناجية زمولا
*
* ولا متدارك والليل طفل
*
ببعض نواشع الوادي حمولا
*
التقدير: لست براء ولا متدارك. وهذا الذي قاله ابن عطية والزمخشري سبقهما إليه الفراء، قال: من جر السلاسل حمله على المعنى، لأن المعنى: أعناقهم في الأغلال والسلاسل. وقال الزجاج: من قرأ بحفص والسلاسل،
454

فالمعنى عنده: وفي السلاسل يسحبون. وقال ابن الأنباري: والخفض على هذا المعنى غير جائز، لو قلت: زيد في الدار، لم يحسن أن تضمر في فتقول: زيد الدار، ثم ذكر تأويل الفراء، وخرج القراءة ثم قال: كما تقول: خاصم عبد الله زيدا العاقلين، بنصب العاقلين ورفعه، لأن أحدهما إذا خاصمه صاحبه فقد خاصمه الآخر. انتهى، وهذه المسألة لا تجوز عند البصريين، وهي منقول جوازها عن محمد بن سعفان الكوفي، قال: لأن كل واحد منهما فاعل مفعول، وقرئ: وبالسلاسل يسحبون، ولعل هذه القراءة حملت الزجاج على أن تأول الخفض على إضمار حرف الجر، وهو تأويل شذوذ. وقال ابن عباس: في قراءة من نصب والسلاسل، وفتح ياء يسحبون إذا كانوا يجرونها، فهو أشد عليهم، يكلفون ذلك وهم لا يطيقون. وقال مجاهد: * (يسجرون) *: يطرحون فيها، فيكونون وقودا لها. وقال السدي: يسجرون: يحرقون.
ثم أخبر تعالى أنهم يوقفون يوم القيامة من جهة التوبيخ والتقريع، فيقال لهم: أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا؟ فيقولون: * (ضلوا عنا) *: أي تلفوا منا وغابوا واضمحلوا، ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب فيقولون: * (بل لم نكن * نعبد * شيئا) *، وهذا من أشد الاختلاط في الذهن والنظر.
ولما تبين لهم أنهم لم يكونوا شيئا، وما كانوا يعبدون بعبادتهم شيئا، كما تقول: حسبت أن فلانا شيء، فإذا هو ليس بشيء إذا اختبرته، فلم تر عنده جزاء، وقولهم: * (ضلوا عنا) *، مع قوله: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) *، يحتمل أن يكون ذلك عند تقريعهم، فلم يكونوا معهم إذ ذاك، أو لما لم ينفعوهم قالوا: * (ضلوا عنا) *، وإن كانوا معهم. * (كذالك) *: أي مثل هذه الصفة وبهذا الترتيب، * (يضل الله الكافرين) *، وقال الزمخشري: أي مثل ضلال آلهتهم
عنهم، يضلهم عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا. ذلكم الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح، * (* بغيرالحق) *: وهو الشرك عبادة الأوثان. وقال ابن عطية: ذلك العذاب الذي أنتم فيه مما كنتم تفرحون في الأرض بالمعاصي والكفر. انتهى. و * (كنتم تمرحون) *، قال ابن عباس: الفخر والخيلاء؛ وقال مجاهد: الأشر والبطر. انتهى، فقال لهم ذلك توبيخا أي إيمانا لكم هذا بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعاصي وكثرة المال والاتباع والصحة. وقال الضحاك: الفرح والسرور، والمرح: العدوان، وفي الحديث: (إن الله يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين). وتفرحون وتمرحون من باب تجنيس التحريف المذكور في علم البديع، وهو أن يكون الحرف فرقا بين الكلمتين.
* (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها) *: الظاهر أنه قيل لهم: ادخلوا بعد المحاورة السابقة، وهم قد كانوا في النار، ولكن هذا أمر يقيد بالخلود، وهو الثواء الذي لا ينقطع، فليس أمرا بمطلق الدخول، أو بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا سبعة أبواب التي لكل باب منها جزء مقسوم من الكفار، فكان ذلك أمرا بالدخول يفيد التجزئة لكل باب. وقال ابن عطية: وقوله تعالى: * (أدخلوا) * معناه: يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا، لأن هذه المخاطبة إنما هي بعد دخولهم، وفي الوقت الذي فيه الأغلال في أعناقهم. وأبواب جهنم: هي السبعة المؤدية إلى طبقاتها وأدراكها السبعة. انتهى. وخالدين: حال مقدرة، ودلت على الثواء الدائم، فجاء التركيب: * (فبئس مثوى المتكبرين) *: فبئس مدخل المتكبرين، لأن نفس الدخول لا يدوم، فلم يبالغ في ذمه، بخلاف الثواء الدائم.
* (فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون * ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتى (سقط: الآية كاملة)) *.
455

(سقط: يسيروا في الأرض فينظروا إلى نهاية الآية)
أمر تعالى نبيه بالصبر تأنيسا له، وإلا فهو، عليه السلام، في غاية الصبر، وأخبر بأن ما وعده من النصر والظفر وإعلاء كلمته وإظهار دينه حق. قيل: وجواب * (فإما نرينك) * محذوف لدلالة المعنى عليه، أي فيقر عينك، ولا يصح أن يكون * (فإلينا يرجعون) * جوابا للمعطوف عليه والمعطوف، لأن تركيب * (فإما نرينك) * بعض الموعود في حياتك، * (فإلينا يرجعون) * ليس بظاهر، وهو يصح أن يكون جواب، * (أو نتوفينك) *: أي * (فإلينا يرجعون) *، فننتقم منهم ونعذبهم لكونهم لم يتبعوك. ونظير هذه الآية قوله: * (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذى وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون) *، إلا أنه هنا صرح بجواب الشرطين. وقال الزمخشري: * (فإلينا يرجعون) * متعلق بقوله: * (نتوفينك) *، وجزاء * (نرينك) * محذوف تقديره: فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب، وهو القتل يوم بدر فذاك، أو أن نتوفينك قبل يوم بدر، فإلينا يرجعون يوم القيامة، فننتقم منهم أشد الانتقام. وقد تقدم للزمخشري نحو هذا البحث في سورة يونس في قوله: * (وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم) *، ورددنا عليه، فيطالع هناك. وقال الزمخشري أيضا: * (فإما نرينك) * أصله فإن نرك، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل. ألا تراك لا تقول: إن تكرمني أكرمك، ولكن أما تكرمني أكرمك؟ انتهى. وما ذهب إليه من تلازم ما لمزيده، ونون التوكيد بعد أن الشرطية هو مذهب المبرد والزجاج. وذهب سيبويه إلى أنك إن شئت أتيت بما دون النون، وإن شئت أتيت بالنون دون ما. قال سيبويه في هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون؛ كما أنك إذا جئت لم تجىء بما، يعني لم تقحم النون مع مجيئك بما، ولم تجىء بما مع مجيئك بالنون. وقرأ الجمهور: يرجعون بياء الغيبة مبنيا للمفعول؛ وأبو عبد الرحمن، ويعقوب: بفتح الياء؛ وطلحة بن مطرف، ويعقوب في رواية الوليد بن حسان: بفتح تاء الخطاب.
ثم رد تعالى على العرب في إنكارهم بعثة الرسل، وفي عدد الرسل اختلاف. روي أنه ثمانية آلاف من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من غيرهم. وروي: بعث الله أربعة آلاف نبي، * (منهم من قصصنا عليك) *: أي من أخبرناك به، أما في القرآن فثمانية عشر. * (ومنهم من لم نقصص عليك) *، وعن علي، وابن عباس: أن الله بعث نبيا أسود في الحبش، فهو ممن لم يقصص عليه. * (وما كان لرسول أن يأتى بئاية إلا بإذن الله) *: أي ليس ذلك راجعا إليهم، لما اقترحوا على الرسل قال: ليس ذلك إلى لا تأتي آية إلا إن شاء الله، * (فإذا جاء أمر الله) *: رد ووعيد بإثر اقتراحهم الآيات، وأمر الله: لقيامة. والمبطلون: المعاندون مقترحون الآيات، وقد أتتهم الآيات، فأنكروها وسموها سحرا، أو * (فإذا جاء أمر الله) *: أي أراد إرسال رسول وبعثة نبي، قضي ذلك
456

وأنفذه * (بالحق) *، وخسر كل مبطل، وحصل على فساد آخرته، أو * (فإذا جاء أمر الله) *: وهو القتل ببدر.
ثم ذكر تعالى آيات اعتبار وتعداد نعم فقال: * (الله الذى جعل لكم الانعام) *، وهي ثمانية الأزواج، ويضعف قول من أدرج فيها الخيل والبغال والحمير وغير ذلك مما ينتفع به من البهائم، وقول من خصها بالإبل وهو الزجاج. * (لتركبوا منها) *: وهي الإبل، إذ لم يعهد ركوب غيرها. * (ومنها تأكلون) *: عام في ثمانية الأزواج، ومن الأولى للتبعيض. وقال ابن عطية: ومن الثانية لبيان الجنس، لأن الجمل منها يؤكل. انتهى، ولا يظهر كونها لبيان الجنس، ويجوز أن تكون فيه للتبعيض ولابتداء الغاية. ولما كان الركوب منها هو أعظم منفعة، إذ فيه منفعة الأكل والركوب. وذكر إيضا أن في الجميع منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك، أكد منفعة الركوب بقوله: * (ولتبلغوا عليها حاجة فى صدوركم) * من بلوغ الأسفار الطويلة، وحمل الأثقال إلى البلاد الشاسعة، وقضاء فريضة الحج، والغزو، وما أشبه ذلك من المنافع الدينية والدنيوية. ولما كان الركوب وبلوغ الحاجة المترتبة عليه قد يتوصل به إلى الانتقال لأمر واجب، أو مندوب كالحج وطلب العلم، دخل حرف التعليل على الركوب وعلى المترتب عليه من بلوغ الحاجات، فجعل ذلك علة لجعل الأنعام لنا. ولما كان الأكل وإصابة المنافع من جنس المباحات، لم يجعل ذلك علة في الجعل، بل ذكر أن منها نأكل، ولنا فيها منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك، كما أدخل لام التعليل في لتركبوها، ولم يدخلها على الزينة في قوله: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) *.
ولما ذكر تعالى ما امتن به من منة الركوب للإبل في البر، ذكر ما امتن به من نعمة الركوب في البحر فقال: * (وعليها وعلى الفلك تحملون) *. ولما كان الفلك يصح أن يقال فيه: حمل في الفلك، كقوله: * (احمل فيها) *، ويصح أن يقال فيه حمل على الفلك، اعتبر لفظ على لمناسبة قوله: * (وعليها) *، وإن كان معنى في صحيحا * (ويريكم ءاياته) *: أي حججه وأدلته على وحدانيته. * (ويريكم ءاياته فأى ءايات) *: أي إنها كثيرة، فأيها ينكر؟ أي لا يمكن إنكار شيء منها في العقول، * (ويريكم ءاياته فأى) * منصوب بتنكرون. قال الزمخشري: * (ويريكم ءاياته) * جاءت على اللغة المستفيضة، وقولك: فأية آيات الله قليل، لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو: حمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لإبهامه. انتهى، ومن قلة تأنيث: أي قوله:
* بأي كتاب أم بأية سنة
*
ترى حبهم عارا علي وتحسب
*
وقوله: وهي في أي أغرب، إن عنى أيا على الإطلاق فليس بصحيح، لأن المستفيض في النداء أن يؤنث نداء المؤنث لقوله تعالى: * (أحد يأيتها النفس المطمئنة) *، ولا يعلم من يذكرها فيه فيقول: يا أيها المرأة، إلا صاحب كتاب البديع في النحو. وإن عنى غير المناداة، فكلامه صحيح، فقل تأنيثها في الاستفهام وموصولة، وما في قوله: * (فما أغنى) * نافية شرطية واستفهامية في معنى النفي، وما فيما كانوا مصدرية، أو بمعنى الذي، وهي في موضع رفع، والضمير في * (جاءتهم) * عائد على * (الذين من قبلهم) *. وجاء قوله: * (من العلم) * على جهة التهكم بهم، أي في الحقيقة لا علم لهم، وإنما لهم خيالات واستبعادات لما جاءت به الرسل، وكانوا يدفعون ما جاءت به الرسل بنحو قولهم: * (ولئن رددت إلى ربى لاجدن خيرا منها منقلبا) *، أو اعتقدوا أن عندهم علما يستغنون به عن علم الأنبياء، كما تزعم الفلاسفة. والدهريون كانوا إذا سمعوا بوحي الله، دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. ولما سمع سقراط، لعنه الله، بموسى، صلوات الله على نبينا وعليه، قيل له: لو هاجرت إليه، فقال: نحن قوم مهذبون، فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. وعلى هذين القولين تكون الضمائر متناسقة عائدة على مدلول واحد. وقيل: الضمير في * (فرحوا) *، وفي * (بما عندهم) * عائد على الرسل، أي فرحت الرسل بما أوتوا من العلم، وشكروا الله عليه، لما رأوا جهل من أرسلوا إليهم واستهزاءهم بالحق، وعلموا سوء عاقبتهم. وقيل: الضمير في * (فرحوا) * عائد على الأمم، وفي * (بما عندهم) * عائد على الرسل، أي فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء. وقال
457

الزمخشري: ومنها، أي من الوجوه التي في الآية في قوله: * (فرحوا بما عندهم من العلم) *، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والسرور في تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلم. انتهى. ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام، نحو قولهم: شر أهر ذا ناب، على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإيتاء المحصور جاز. وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل، لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة، فلا يوثق بشيء منها.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد * (فرحوا بما عندهم من العلم) *: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى: * (يعلمون ظاهرا من الحيواة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون) * ذلك مبلغهم من العلم، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات، وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات، لم يلتفتوا إليها، وصغروها واستهزؤوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به. انتهى، وهو توجيه حسن، لكن فيه إكثار وشقشقة. * (بأسنا) *: أي عذابنا الشديد، حكى حال من آمن بعد تلبيس العذاب به، وأن ذلك لم يك نافعا، وفي ذلك حض على المبادرة إلى الإيمان، وتخويف من التأني. فأما قوم يونس، فإنهم رأوا العذاب لم يلتبس بهم، وتقدمت قصتهم. وإيمانهم مرفوع بيك اسما لها، أو فاعل ينفعهم. وفي يك ضمير الشأن على الخلاف الذي في: كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون، لا على النفي، لأنه يؤدي إلى نفي الصحة، إي لم يصح ولم يستقم لقوله: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) *. وترادف هذه الفاءات، أما في * (فما أغنى) *، فلأنه كان نتيجة قوله: * (كانوا أكثر منهم * ولما * جاءتهم رسلهم) *، جار مجرى البيان والتفسير لقوله: * (فما أغنى عنهم) *. و * (فما * رأوا بأسنا) * تابع لقوله: * (فما * جاءتهم) *، كأنه قال: فكفروا به فلما رأوا بأسنا آمنوا ولم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله، وانتصب سنة على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، أي أن ما فعل بهم هي سنة الله التي قد مضت وسبقت في عباده من إرسال الرسل والإعزاز بهم، وتعذيب من كذبهم واستهانتهم واستئصالهم بالهلاك، وعدم الانتفاع بالإيمان حالة تلبس العذاب بهم. وهنالك ظرف مكان استعير للزمان، أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون. وقيل: سنة منصوب على التحذير، أي احذروا سنة الله يا أهل مكة في إعداد الرسل.
458

((سورة فصلت))
2 (* (حم * تنزيل من الرحمان الرحيم * كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا فىأكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون * قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكواة وهم بالا خرة هم كافرون * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون * قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها فىأربعة أيام سوآء للسآئلين * ثم استوى إلى السمآء وهى دخان فقال لها وللا رض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين * فقضاهن سبع سماوات فى يومين وأوحى فى كل سمآء أمرها وزينا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز
العليم * فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود * إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شآء ربنا لانزل ملائكة فإنا بمآ أرسلتم به كافرون * فأما عاد فاستكبروا فى الا رض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بأاياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فىأيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ولعذاب الا خرة أخزى وهم لا ينصرون * وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون * ونجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون * ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم
459

شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولاكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون * وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين * فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين * وقيضنا لهم قرنآء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول فىأمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين * وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون * فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذى كانوا يعملون * ذلك جزآء أعدآء الله النار لهم فيها دار الخلد جزآء بما كانوا بأاياتنا يجحدون * وقال الذين كفروا ربنآ أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الا سفلين * إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون * نحن أوليآؤكم فى الحيواة الدنيا وفى الا خرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم * ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين * ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم * ومن ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن إن كنتم إياه تعبدون * فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون * ومن ءاياته أنك ترى الا رض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذىأحياها لمحى الموتى إنه على كل شىء قدير * إن الذين يلحدون فىءاياتنا لا يخفون علينآ أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتىءامنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير * إن الذين كفروا بالذكر لما جآءهم وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد * ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم * ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاياته ءاعجمى وعربى قل هو للذين ءامنوا
460

هدى وشفآء والذين لا يؤمنون فىءاذانهم وقر وهو عليهم عمى أولائك ينادون من مكان بعيد * ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب * من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها وما ربك بظلام للعبيد * إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركآئى قالوا ءاذناك ما منا من شهيد * وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص * لا يسأم الانسان من دعآء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط * ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرآء مسته ليقولن هاذا لى ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربىإن لى عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ * وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض * قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو فى شقاق بعيد * سنريهم ءاياتنا فى الا فاق وفىأنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد * ألا إنهم فى مرية من لقآء ربهم ألا إنه بكل شىء محيط) *))
) *
الصرصر: الريح الباردة المحرقة، كما تحرق النار، قاله الفراء والزجاج، ويأتي أقوال المفسرين فيه. النحس المشؤوم: نقيض السعد، قال الشاعر:
* سواء عليه أي حين أتيته
*
أساعة نحس تتقي أم بأسعد
*
وأنشد الفراء:
* أبلغ جذاما ولخما أن إخوتهم
*
طيا وبهراء قوم نصرهم نحس
*
التقييض: تهيئة الشيء وتيسيره، وهذان ثوبان قيضان، إذا كانا متكافئين في الثمن، وقايضني بهذا الثوب: أي خذه وأعطني به بدله، والمقايضة: المعارضة. الأكمام، واحدها كم، قال الزمخشري: بكسر الكاف، وقال المبرد: هو ما يغطي الثمرة لجف الطلعة، ومن قال في الجمع أكمه، فالواحد كمام. الآفاق: النواحي، واحدها أفق، قال الشاعر:
461

* لو نال حي من الدنيا بمنزلة
*
أفق السماء لنالت كفه الأفقا
*
* (حم * تنزيل من الرحمان الرحيم * كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون * قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلاهكم إلاه واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكواة وهم بالاخرة هم كافرون * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون * قل * أئنكم * لتكفرون بالذى خلق الارض فى يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها فى أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع * سماوات * فى يومين وأوحى فى كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) *.
هذه السورة مكية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها، أنه قال في آخر ما قبلها: * (أفلم يسيروا فى الارض) * إلى آخرها، فضمن وعيدا وتهديدا وتقريعا لقريش، فأتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر، فذكر أنه نزل كتابا مفصلا آياته، بشيرا لمن اتبعه، ونذيرا لمن أعرض عنه، وأن أكثر قريش أعرضوا عنه. ثم ذكر قدرة الإله على إيجاد العالم العلوي والسفلي. ثم قال: * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة) *، فكان هذا كله مناسبا لآخر سورة المؤمن من عدم انتفاع مكذبي الرسل حين التبس بهم العذاب، وكذلك قريش حل بصناديدها من القتل والأسر والنهب والسبي، واستئصال أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم) ما حل بعاد وثمود من استئصالهم.
روي أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه، وليقبح عليه فيما بينه وبينه، وليبعد ما جاء به. فلما تكلم عتبة، قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم): * (حم) *، ومر في صدرها حتى انتهى إلى قوله: * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) *، فأرعد الشيخ ووقف شعره، فأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم) بيده، وناشده بالرحم أن يمسك، وقال حين فارقه: والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي. * (تنزيل) *، رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا تنزيل عند الفراء، أو مبتدأ خبره * (كتاب فصلت) *، عند الزجاج والحوفي، وخبر * (حم) * إذا كانت اسما للسورة، وكتاب على قول الزجاج بدل من تنزيل. قيل: أو خبر بعد خبر. * (فصلت ءاياته) *، قال السدي: بينت آياته، أي فسرت معانيه، ففصل بين حرامه وحلاله، وزجره وأمره، ووعده ووعيده. وقيل: فصلت في التنزيل: أي لم تنزل جملة واحدة. قال الحسن: بالوعد والوعيد. وقال سفيان: بالثواب والعقاب. وقال ابن زيد: بين محمد صلى الله عليه وسلم)، ومن خالفه. وقيل: فصلت بالمواقف وأنواع، أو آخر الآي، ولم يكن يرجع إلى قافية ولا نحوها، كالشعر والسجع.
وقال أبو عبد الله الرازي: ميزت آياته، وجعل تفاصيل معان مختلفة، فبعضها في وصف ذات الله تعالى، وشرح صفات التنزيه والتقديس، وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، وعجائب أحوال خلقه السماوات والكواكب، وتعاقب الليل والنهار، وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان؛ وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلب ونحو الجوارح، وبعضها في الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، ودرجات أهل الجنة ودركات أهل النار؛ وبعضها في المواعظ والنصائح؛ وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس؛ وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين. وبالجملة، فمن أنصف، علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن. انتهى.
وقرئ: فصلت، بفتح الفاء والصاد
462

مخففة، أي فرقت بين الحق والباطل؛ أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قوله: * (فصلت) *: أي انفصلت، وفصل من البلد: أي انفصل منه، وانتصب * (جعلناه قرءانا) * على أنه حال بنفسه، وهي مؤكدة، لأنها لا تنتقل، أو توطئة للحال بعده، وهي * (عربيا) *، أو على المصدر، أي يقرؤه قرآنا عربيا، أو على الاختصاص والمدح. ومن جعله حالا فقيل: ذو الحال آياته، وقيل: كتاب، لأنه وصف بقوله: * (فصلت ءاياته) *، أو على إضمار فعل تقديره: فصلناه قرآنا، أو مفعول ثان لفصلت، أقوال ستة آخرها للأخفش. و * (لقوم) * متعلق بفصلت، أي يعلمون الأشياء، ويعقلون الدلائل، فكأنه فصل لهؤلاء، إذ هم ينتفعون به فخصوا بالذكر تشريفا، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له ويبعد أن يتعلق بتنزيل لكونه وصف في أحد متعلقيه، إن كان من الرحمن في موضع الصفة، أو أبدل منه كتاب، أو كان خبر التنزيل، فيكون في ذلك البدل من الموصول، والإخبار عنه قبل أخذه متعلقه، وهو لا يجوز، وقيل: لقوم في موضع الصفة لقوله: * (عربيا) *، أي كائنا لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنه لم يخرج عن نمط كلامهم، وكأنه رد على من زعم أن في القرآن ما ليس من كلام العرب. وانتصب * (بشيرا ونذيرا) * على النعت لقرآنا عربيا، وقيل: حال من آياته. وقرأ زيد بن علي: بشير ونذير برفعهما على الصفة لكتاب، أو على خبر مبتدأ محذوف، وبشارته بالجنة لمن آمن، ونذارته بالنار لمن كفر. * (فأعرض أكثرهم) *: أي أكثر أولئك القوم، أي كانوا من أهل العلم ولكن لم ينظروا النظر التام، بل أعرضوا، * (فهم لا يسمعون) * لإعراضهم عن ما احتوى عليه من الحجج والبراهين، أو لما لم ينتفع به ولم يقبله جعل كأنه لم يسمعه.
ثم أخبر تعالى عنهم بالمقالة الدالة على امتناع قلوبهم، والناس من رجوعهم إليه ومن سماعهم لما يتلوه، وهو قوله تعالى، حكاية عنهم: * (وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر) *، تقدم الكلام على شبه ذلك في الأنعام. وقرأ طلحة: وقر بكسر الواو، وهذه تمثيلات لامتناع قبول الحق، كأن قلوبهم في غلاف، كما قالوا: * (وقالوا قلوبنا غلف) *، وكأن أسماعهم عند ذكر كلام الله بها صم. والحجاب: الستر المانع من الإجابة، وهو خلاف في الدين، لأنه يعبد الله وهم يعبدون الأصنام، قال معناه الفراء وغيره. ويروى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال: يا محمد، بيننا وبينك حجاب، استهزاء منه. وقيل: تمثيل بعدم الإجابة. وقيل: عبارة عن العداوة. ومن في * (مما تدعونا) * إليه لابتداء الغاية، وكذا في * (ومن بيننا) *. فالمعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب، لا فراغ فيها، ولو لم يأت بمن لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين، والمقصود المبالغة بالتباين المفرط، فلذلك جيء بمن. وقال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل: * (وقالوا قلوبنا فى) *، ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت: هو على نمط واحد، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك: * (قلوبنا فى أكنة) *، والدليل عليه قوله تعالى: * (إنا جعلنا على قلوبهم) *. ولو قيل: إنا جعلنا قلوبهم في أكنة، لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني، وتقول: إن في أبلغ في هذا الموضع من على، لأنهم قصدوا إفراط عدم القبول، لحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف، فلا يمكن أن يصل إليها شيء. كما تقول: المال في الكيس، بخلاف قولك: على المال كيس، فإنه لا يدل على الحصر، وعدم الحصول دلالة الوعاء. وأما في قوله: * (أنا * قد خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون * حم * تنزيل من الرحمان الرحيم * كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) *، قال الكلبي: في هلاكنا إنا عاملون في هلاكك. وقال
463

مقاتل: اعمل لإلهك الذي أرسلك، فإننا عاملون لآلهتنا التي نعبدها. وقال الفراء: اعمل على مقتضى دينك، ونحن نعمل على مقتضى ديننا، وذكر الماوردي: اعمل لآخرتك، فإنا نعمل لدنيانا. ولما كان القلب محل المعرفة، والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف، ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول شيء. واحتمل قولهم: * (فاعمل إننا عاملون) *، أي تكون متاركة محضة، وأن يكون استخفافا. * (قل إنما يوحى إلى) *، وقرأ الجمهور: قل على الأمر، وابن وثاب والأعمش: قال فعلا ماضيا، وهذا صدع بالتوحيد والرسالة. وقرأ النخعي والأعمش: يوحى بكسر الحاء؛ والجمهور: بفتحها، وأخبر أنه بشر مثلهم لا ملك، لكنه أوحى إليه دونهم. وقال الحسن: علمه تعالى التواضع، وأنه ما أوحى إليه توحيد الله ورفض آلهتكم. * (فاستقيموا إليه) *: أي له بالتوحيد الذي هو رأس الدين والعمل، * (واستغفروه) *: واسألوه المغفرة، إذ هي رأس العمل الذي بحصوله تزول التبعات. وضمن استقيموا معنى التوجه، فلذلك تعدى بإلى، أي وجهوا استقامتكم إليه، ولما كان العقل ناطقا بأن السعادة مربوطة بأمرين: التعظيم لله والشفقة على خلقه، ذكر أن الويل والثبور والحزن للمشركين الذين لم يعظموا الله في توحيده، ونفي الشريك، ولم يشفقوا على خلقه بإيصال الخير إليهم، وأضافوا إلى ذلك إنكار البعث. والظاهر أن الزكاة على ظاهرها من زكاة الأموال، قاله ابن السائب، قال: كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون. وقال الحسن وقتادة: وقيل: كانت قريش تطعم الحاج وتحرم من آمن منهم. وقال الحسن وقتادة أيضا: المعنى لا يؤمنون بالزكاة، ولا يقرون بها. وقال مجاهد والربيع: لا يزكون أعمالهم. وقال ابن عباس والجمهور: الزكاة هنا لا إله إلا الله التوحيد، كما قال موسى عليه السلام لفرعون: * (هل لك إلى أن تزكى) *، ويرجح هذا التأويل أن الآية من أول المكي، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة، قاله ابن عطية، قال: وإنما هذه زكاة القلب والبدن، أي تطهير من الشرك والمعاصي، وقاله مجاهد والربيع. وقال الضحاك ومقاتل: الزكاة هنا النفقة في الطاعة. انتهى. وإذا كانت الزكاة المراد بها إخراج المال، فإنما قرن بالكفر، لكونها شاقة بإخراج المال الذي هو محبوب الطباع وشقيق الأرواح حثا عليها. قال بعض الأدباء:
* وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ
*
به فأجبت المال خير من الروح
*
*
أرى حفظه يفضي بتحسين حالتي
وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح
*
* (إن الذين ءامنوا) *، قال السدي: نزلت في المرضى والزمني إذا عجزوا عن إكمال الطاعات، كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون. والممنون: المنقوص، قاله ابن عباس، رضي الله عنه. قال ذو الأصبغ العدواني:
* إني لعمرك ما بابي بذي غلق
*
على الصديق ولا خيري بممنون
*
وقال مجاهد: غير محسوب، وقيل: غير مقطوع، قال الشاعر:
* فضل الجواد على الخيل البطاء فلا
*
يعطى بذلك ممنونا ولا نزقا
*
وقيل: لا يمن به لأن أعطيات الله تشريف، والمن إنما يدخل أعطيات البشر. وقيل: لا يمن به لأنه إنما بمن
464

التفضيل، فأما الآخر فحق أداؤه، نقله الزمخشري، وفيه دسيسة الاعتزال. * (قل * أئنكم * لتكفرون) *: استفهام توبيخ وتشنيع عليهم، يكفر من أوجد العالم سفليه وعلويه، ووصف صورة خلق ذلك ومدته، والحكمة في الخلق في مدة هو قادر على أن يوجد ذلك دفعة واحدة. فذكر تعالى إيجاد ذلك مرتبا، وتقدم الكلام في الخلق في مدة هو قادر على أن يوجد ذلك دفعة واحدة. فذكر تعالى إيجاد ذلك مرتب، وتقدم الكلام في أول ما ابتدىء فيه الخلق، وما خلق مرتبا. ومعنى * (فى يومين) *: في مقدار يومين. * (وتجعلون له أندادا) *: أي أشباها وأمثالا من الملائكة والجن والأصنام يعبدونها دونه. وقال السدي: أكفاء من الرجال يطيعونهم، وتجعلون معطوف على لتكفرون، فهو داخل في حيز الاستفهام المقتضي الإنكار والتوبيخ، * (ذالك) * أي موجد الأرض ومخترعها، * (رب العالمين) * من الأنداد التي جعلتم له وغيرهم.
* (وجعل فيها رواسى) *: إخبار مستأنف، وليس من الصلة في شيء، بل هو معطوف على قوله: * (لتكفرون) *. * (وبارك فيها) *: أكثر فيها خيرها. * (وقدر فيها أقواتها) *: أي أرزاق ساكنيها ومعايشهم، وأضافهما إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها برزت، قاله السدي. وقال قتادة: أقواتها من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن، والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها. وقال مجاهد: أقواتها من المطر والمياه. وقال عكرمة والضحاك ومجاهد أيضا: خصائصها التي قسمها في البلاد مما خص به كل إقليم، فيحتاج بعضها إلى بعض في التفوت من الملابس والمطاعم والنبات. * (فى أربعة أيام) *: أي في تمام أربعة أيام باليومين المتقدمين. وقال الزمخشري * (فى أربعة أيام) *، فذلكة لمدة خلق الله وما فيها، كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. وقال الزجاج: في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين. انتهى، وهذا كما تقول: بنيت جدار بيتي في يوم، وأكملت جميعه في يومين، أي بالأول.
وقال أبو عبد الله الرازي: ويفقه من كلام الزمخشري في أربعة أيام فائدة زائدة على قوله في يومين، لأن قوله في يومين لا يقتضي الاستغراق لذلك العمل. أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال في أربعة أيام سواء، دل على أن هذه الأيام مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ونقصان. انتهى. ولا فرق بين يومين وأربعة أيام بالنسبة إلى الاستغراق، فإن كانت أربعة تقتضي الاستغراق، وكذلك اليومين يقتضيانه، ومتى كان الظرف معدودا، كان العمل في جميعه، إما على سبيل التعميم، نحو: سرت يومين، وقد يكون في بعض كل يوم منها، نحو: تهجدت ليلتين، فاحتمل الاستغراق، واحتمل في بعض كل واحد من الليلتين؛ وإذا كان كذلك، احتمل أن يكون وقع الخلق للأرض في بعض كل واحد من اليومين، واحتمل أن يكون اليومين مستغرقين لخلقها، فكذلك في أربعة أيام يحتمل الاستغراق، وأن يكون خلق الأرض والجبال والبركة وتقدير الأقوات وقع في بعض كل يوم من الأربعة، فما قاله أبو عبد الله الرازي لم تظهر به فائدة زائدة.
وقرأ الجمهور: سواء بالنصب على الحال؛ وأبو جعفر بالرفع: أي هو سواء، وزيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب: بالخفض نعتا لأربعة أيام. قال قتادة والسدي: معناه سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة منه، فإنه يجده كما قال تعالى. وقال ابن زيد وجماعة: معناه متسو مهيأ. أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر، فعبر بالسائلين عن الطالبين لأنهم من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به، إذ هم بحال حاجة. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق قوله: * (للسائلين) *؟ قلت: بمحذوف، كأنه قيل هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها، أو يقدر، أو قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين. انتهى، وهو راجع لقول المفسرين المتقدمين.
ولما شرح تخليق الأرض وما فيها، أتبعه بتخليق السماء فقال: * (ثم استوى إلى السماء) *: أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها، والمعنى: إلى خلق السماء. والظاهر أن المادة التي خلقت منها السماء كانت دخانا. وفي أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة إن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض، فأحدث الله في ذلك سخونة، فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فبقي على وجه الماء، فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض؛ وأما الدخان فارتفع وعاد فخلق الله منه السماوات. وفيه أيضا أنه خلق السماء من أجزاء مظلمة. انتهى. وروي أنها كانت جسما رخوا كالدخان أو البخار. قال ابن عطية: هنا لفظ
465

متروك يدل عليه الظاهر، وتقديره: فأوجدها وأتقنها وأكمل أمورها، وحينئذ * (قال * لها وللارض ائتيا) *. ورجح قول من ذهب إلى أنهما نطقتا نطقا حقيقيا، وجعل الله لهما حياة وإدراكا يقتضي نطقهما، بعد أن ذكر أن المفسرين منهم من ذهب إلى أن ذلك مجاز، وأنه ظهر منهما عن اختيار الطاعة والتذلل والخضوع ما هو بمنزلة القول، قال: والقول الأول أحسن، لأنه لا شيء يدفعه، وأن العبرة فيه أتم، والقدرة فيه أظهر. انتهى.
وقال الزمخشري: ويعني أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما، فلم يمتنعا عليه، ووجدنا كما أرادهما، وجاءتا في ذلك كالمأمور المطيع، إذ أورد عليه فعل الآمر فيه. على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما: * (ائتيا) *، شئتما ذلك أو أبيتما، فقالتا: آتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير
أثر قدرته في المقدورات لا غيره، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب، ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال الوتد: سل من يدقني، فلم يتركني وراء الحجر الذي ورائي. فإن قلت: لم ذكر السماء مع الأرض وانتظمهما في الأمر بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت: قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال: * (والارض بعد ذلك دحاها) *، فالمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف؛ ائت يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك، وائت يا سماء مقببة سقفا لهم. ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع، كما يقول: أتى عمله مرضيا مقبولا. ويجوز أن يكون المعنى: لتأت كل واحدة صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة، والتدبير من كون الأرض قرارا للسماء، وكون السماء سقفا للأرض، وينصره قراءة من قرأ: أتيا وأتينا من المواتاة، وهي الموافقة، أي لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها، قالتا: وافقنا وساعدنا. ويحتمل وافقا أمري ومشيئتي ولا تمتنعا. فإن قلت: ما معنى طوعا أو كرها؟ قلت: هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال، كما يقول الجبار لمن يحب بلوه: لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعا أو كرها. وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين. فإن قلت: هلا قيل طائعتين على اللفظ أو طائعتان على المعنى لأنهما سماوات وأرضون؟ قلت: لما جعلت مخاطبات ومجيبات، ووصفت بالطوع والكره، قيل: طائعين في موضع طائعات نحو قوله: ساجدين. انتهى. وقرأ الجمهور: ائتيا من الإتيان، أي ائتيا أمري وإرادتي. وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد: أتيا على وزن فعلا، قالتا: أتينا على وزن فعلنا، من آتى يؤتى، كذا قال ابن عطية، قال: وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما، والإشارة بهذا كله إلى تسخيرها وما قدره الله من أعمالها. انتهى. وتقدم في كلام الزمخشري أنه جعل هذه القراءة من المواتاة، وهي الموافقة، فيكون وزن آتيا: فاعلا، وآتينا: فاعلنا، وتقدمه إلى ذلك أبو الفضل الرازي قال: آتينا بالمد على فاعلنا من المواتاة، ومعناه: سارعنا على حذف المفعول منه، ولا يجوز أن يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوله. انتهى. وقرأ الأعمش: أو كرها بضم الكاف، والأصح أنه لغة في الإكراه على الشيء الموقوع التخيير بينه وبين الطواعية، والأكثر أن الكره بالضم معناه المشقة. قال ابن عطية: وقوله قالتا، أراد الفرقتين المذكورتين: جعل السماوات سماء، والأرضين أرضا، وهذا نحو قول الشاعر:
* ألم يحزنك أن حبال قومي
*
وقومك قد تباينتا انقطاعا
*
وعبر عنها بتباينتا. انتهى. هذا وليس كما ذكر، لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفرد لحسن التعبير عنهما بالتثنية، والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية، كأنه قال: ألم يحزنك أن حبلي قومي وقومك؟ ولذلك ثنى في قوله: تباينتا، وأنث على معنى الحبل، لأنه لا يريد به الحبل حقيقة، إنما عنى به الذمة والمودة التي كانت بين قومهما.
والظاهر من هذه الآية أنه خلق الأرض وجعل فيها الرواسي وبارك فيها، ثم أوجد السماء من الدخان فسواها سبع سماوات، فيكون خلق الأرض
466

متقدما على خلق السماء، ودحو الأرض غير خلقها، وقد تأخر عن خلق السماء، وقد أورد على هذا أن جعل الرواسي فيها والبركة. وتقدير الأقوات لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض موجودة. وقوله: * (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها) * مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها، ولا يمكن ذلك إلا بعد صيرورتها منبسطة. ثم قال بعد: * (ثم استوى إلى السماء) *، فاقتضى خلق السماء بعد خلق الأرض ودحوها. وأورد أيضا أن قوله تعالى للسماء وللأرض: * (ائتيا طوعا أو كرها) *، كناية عن إيجادهما، فلو سبق إيجاد الأرض على إيجاد السماء لاقتضى إيجاد الموجود بأمره للأرض بالإيجاد، وهو محال، وقد انتهى هذا الإيراد.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال: خلق الله السماء قبل الأرض، وتأول قوله: * (ثم استوى إلى السماء وهى دخان) * قبل أن يخلق الأرض، فأضمر فيه كان، كما قال تعالى: * (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) * معناه: إن يكن سرق. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي: فقدر ثم كان قد استوى جمع بين ضدين، لأن ثم تقتضي التأخر، وكان تقتضي التقدم، فالجمع بينهما يفيد التناقض، ونظيره: ضربت زيدا اليوم، ثم ضربت عمرا أمس. فكما أن هذا باطل، فكذلك ما ذكر يعني من تأويل ثم كان قد استوى، قال: والمختار عندي أن يقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض. وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين، والإيجاد يدل عليه قوله: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) *، وهذا محال، لا يقال للشيء الذي وجد كن، بل الخلق عبارة عن التقدير، وهو في حقه تعالى حكمه أن سيوجد، وقضاؤه بذلك بمعنى خلق الأرض في يومين، وقضاؤه بأن سيحدث كذا، أي مدة كذا، لا يقتضي حدوثه ذلك في الحال، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء. انتهى.
والذي نقوله: أن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني، وأن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان، والمهلة كأنه قال: فالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء، فلا تعرض في الآية لترتيب، أي ذلك وقع الترتيب الزماني له. ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض، ألف الأخبار فيه بثم، فصار كقوله: * (ثم كان من الذين ءامنوا) * بعد قوله: * (فلا اقتحم العقبة) *. ومن ترتيب الأخبار * (ثم ءاتينا موسى الكتاب) * بعد قوله: * (قل تعالوا أتل * ويكون * قوله * تعالى * فقال لها وللارض) *، بعد إخباره
بما أخبر به، تصويرا لخلقهما على وفق إرادته تعالى، كقولك: أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت إنك عالم صالح؟ فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له. فكذلك أخبر بأنه خلق كيت وكيت، فحد ذلك إيجادا لم يتخلف عن إرادته. ويدل على أنه المقصود الإخبار بوقوع هذه الأشياء من غير ترتيب زماني قوله في الرعد: * (الله الذى رفع * السماوات * بغير عمد ترونها) * الآية، ثم قال بعد: * (وهو الذى مد الارض وجعل فيها رواسى وأنهارا) * الآية. وظاهر الآية التي نحن فيها جعل الرواسي، وتقدير الأقوات قبل الاستواء إلى السماء وخلقها، ولكن المقصود في الآيتين الإخبار بصدور ذلك منه تعالى من غير تعرض لترتيب زماني، وما جاء من ذلك مقصورا على يومين أو أربعة أو ستة إنما المعنى في مقدار ذلك عندكم، لا أنه كان وقت إيجاد ذلك زمان. * (فقضاهن سبع * سماوات) *: أي صنعهن وأوجدهن، كقول ابن أبي ذؤيب:
* وعليهما مسرودتان قضاهما
*
داود أو صنع السوابغ تبع
*
وعلى هذا انتصب سبع على الحال. وقال الحوفي: مفعول ثان، كأنه ضمن قضاهن معنى صيرهن فعداه إلى مفعولين، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميرا مبهما سبع سماوات على التمييز. ويعني بقوله مبهما،
467

ليس عائدا على السماء، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، بخلاف الحال أو المفعول الثاني، فإنه عائد على السماء على المعنى. * (وأوحى فى كل سماء أمرها) *، قال مجاهد وقتادة: وأوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها ما شاء تعالى من الأمور التي هي قوامها وصلاحها، وقاله السدي وقتادة: ومن الأمور التي هي بغيرها مثل ما فيها من جبال البرد ونحوها، وأضاف الأمر إليها من حيث هو فيها. وقال الزمخشري: أمرها ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك. * (وحفظا) *: أي وحفظناها حفظا من المسترقة بالثواقب، ويجوز أن يكون مفعولا له على المعنى، كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظا انتهى. ولا حاجة إلى هذا التقدير الثاني، وتكلفه مع ظهور الأول وسهولته ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر، أي أوجده بقدرته وعزه وعلمه.
* (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود * إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن * خلقهم * أن لا تعبدوا إلا الله * قالوا لو شاء ربنا لانزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون * فأما عاد فاستكبروا فى الارض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم * لم * يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بئاياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ولعذاب الاخرة أخزى وهم لا ينصرون) *.
* (فإن أعرضوا) *: التفات خرج من ضمير الخطاب في قوله: * (أئنكم * لتكفرون) * إلى ضمير الغيبة إعراضا عن خطابهم، إذ كانوا قد ذكروا بما يقتضي إقبالهم وإيمانهم من الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة، * (فقل أنذرتكم) *: أي أعلمتكم، * (صاعقة) * أي حلول صاعقة. قال قتادة: عذابا مثل عذاب عاد وثمود. وقال الزمخشري: عذابا شديد الوقع، كأنه صاعقة. وقرأ الجمهور: * (صاعقة مثل صاعقة) *، وابن الزبير، والسلمي، والنخعي، وابن محيصن: بغير ألف فيهما وسكون العين، وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة. والصعقة: المرة، يقال: صعقته الصاعقة فصعق، وهو من باب فعلت بفتح العين، ففعل بكسرها نحو: خدعته فخدع، وإذ معمولة لصاعقة لأن معناها العذاب.
* (من بين أيديهم ومن خلفهم) *، قال ابن عباس: أي قبلهم وبعدهم، أي قبل هود وصالح وبعدهما. وقيل: من أرسل إلى آبائهم ومن أرسل إليهم؛ فيكون * (من بين أيديهم) * معناه: من قبلهم، * (ومن خلفهم) * معناه: الرسل الذين بحضرتهم. فالضمير في من خلقهم عائد على الرسل، قاله الضحاك، وتبعه الفراء، وسيأتي عن الطبري نحو من هذا القول. وقال ابن عطية: * (من بين أيديهم) *: أي تقدموا في الزمن واتصلت نذارتهم إلى عمار عاد وثمود، وبهذا الاتصال قامت الحجة. * (ومن خلفهم) *: أي جاءهم رسول بعد تقدم وجودهم في الزمن، وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمتهم خبر ومباشرة. انتهى، وهو شرح كلام ابن عباس. وقال الزمخشري: * (من بين أيديهم ومن خلفهم) *: أي آتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض. كما حكى الله عن الشيطان: * (لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) *: أي لآتينهم من كل جهة، ولأعملن فيهم كل حيلة. وعن الحسن: أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة، لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم. انتهى. وقال الطبري: الضمير في قوله: * (ومن) * عائد على الرسل، وفي: * (وجعلنا من بين أيديهم) * عائد على الأمم، وفيه خروج عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى، إذ يصير التقدير: جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل، أي من خلف أنفسهم، وهذا معنى لا يتعقل إلا إن كان الضمير يعود في
468

خلفهم على الرسل لفظا، وهو يعود على رسل أخرى معنى، فكأنه قال: جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين، فيكون كقولهم: عندي درهم ونصفه، أي ونصف درهم آخر، وهذا فيه بعد. وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما، ولوقوعهم على بلادهم في اليمن وفي الحجر، وقال الأفوه الأودي:
* أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته
*
إذ أهلكت بالذي سدى لها عاد
*
* أو بعده كقدار حين تابعه
*
على الغواية أقوام فقد بادوا
*
* (أن لا تعبدوا) *: يصح أن تكون أن تفسيرية، لأن مجيء الرسل إليهم يتضمن معنى القول، أي جاءتهم مخاطبة؛ وأن تكون مخففة من الثقيلة، أي بأنه لا تعبدوا، والناصبة للمضارع، ووصلت بالنهي كما توصل بإلا، وفي نحو: * (أن طهرا) *، وكتبت إليه بأن قم، ولا في هذه إلا وجه للنهي. ويجوز على بعد أن تكون لا نافية، وأن ناصبة للفعل، وقاله الحوفي ولم يذكر غيره. ومفعول شاء محذوف، وقدره الزمخشري: لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة. انتهى. وتتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفا إلا من جنس الجواب، نحو قوله تعالى: * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) *: أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه، وكذلك: * (لو نشاء لجعلناه حطاما) *، لو نشاء جعلناه أجاج) *، * (*) *، * (ولو شاء ربك لآمن) *، * (ولو شاء ربك ما فعلوه) *، * (لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شىء) *. قال الشاعر:
* فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد
*
ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد
*
وقال الراجز:
* واللذ لو شاء لكنت صخرا
*
أو جبلا أشم مشمخرا
*
فعلى هذا الذي تقرر، لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري، وإنما التقدير: لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر، إذ علقوا ذلك بأقوال الملائكة، وهو لم يشأ ذلك، فكيف يشاء ذلك في البشر؟ * (فإنما * بما أرسلتم به كافرون) *: خطاب لهود وصالح ومن دعا من الأنبياء إلى الإيمان، وغلب الخطاب على الغيبة، نحو قولك: أنت وزيد تقومان. وما مصدرية، أي بإرسالكم، وبه توكيد لذلك. ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي، والضمير في به عائد عليه، وإذا كفروا بما تضمنه الإرسال، كان كفرا بالإرسال. وليس قوله: * (بما أرسلتم) * إقرارا بالإرسال، بل هو على سبيل التهكم، أي بما أرسلتم على زعمكم، كما قال فرعون: * (إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون) *.
ولما بين تعالى كفر عاد وثمود على الإجمال، فصل بعد ذلك، فذكر خاصية كل واحدة من الطائفتين. فقال: * (فأما عاد فاستكبروا) *: أي تعاظموا عن امتثال أمر الله وعن ما جاءتهم به الرسل، * (بغير الحق) *: أي بغير ما يستحقون. ولما ذكر لهم هذا الذنب العظيم، وهو الاستكبار، وكان فعلا قلبيا، ذكر ما ظهر عليهم من الفعل اللساني المعبر عن ما في القلب، * (وقالوا من أشد منا قوة) *: أي لا أحد أشد منا، وذلك لما أعطاهم الله من عظم الخلق وشدة البطش. فرد الله تعالى عليهم بأن الذي أعطاهم ذلك هو أشد منهم قوة، ومع علمهم بآيات الله، كانوا يجحدونها ولا يعترفون بها، كما يجحد المودع الوديعة من طالبها مع معرفته بها. ولفظه كان في كثير من الاستعمال تشعر بالمداومة، وعبر بالقوة عن القدرة، فكما يقال: الله أقدر منهم، يقال: الله أقوى منهم. فالقدرتان بينهما قدر مشترك، وإن تباينت القدرتان بما لكل منهما من الخاصة.
469

كما يوصف الله تعالى بالعلم، ويوصف الإنسان بالعلم.
ثم ذكر تعالى ما أصاب به عادا فقال: * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا) * في الحديث: (أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم، ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا). وروي أنها كانت تحمل العير بأوقادها، فترميهم في البحر. والصرصر، قال مجاهد: شديدة السموم. وقال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والسدي: من الصر، أي باردة. وقال السدي أيضا، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والطبري، وجماعة: من صرصر إذا صوت. وقال ابن الكسيت: صرصر، يجوز أن يكون من الصرة، وهي الصيحة، ومنه: * (فأقبلت امرأته فى صرة) *. وصرصر: نهر بالعراق. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، والنخعي، وعيسى، والأعرج نحسات، بسكون الحاء، فاحتمل أن يكون مصدرا وصف به وتارة يضاف إليه، واحتمل أن يكون مخففا من فعل. وقال الطبري: نحس ونحس: مقت. وقال
الزمخشري: مخفف نحس، أو صفة على فعل، أو وصف بمصدر. انتهى. وتتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم فلم يذكروا فيه فعلا بسكون العين، قالوا: يأتي على فعل كفرح وهو فرح، وعلى أفعل حور فهو أحور، وعلى فعلان شبع فهو شبعان، وقد يجيء على فاعل سلم فهو سالم، وبلى فهو بال. وقرأ قتادة، وأبو رجاء، والجحدري، وشيبة، وأبو جعفر، والأعمش، وباقي السبعة: بكسر الحاء وهو القياس، وفعله نحس على فعل بكسر العين، ونحسات صفة لأيام جمع بألف وتاء، لأنه جمع صفة لما لا يعقل. قال مجاهد، وقتادة، والسدي: مشائيم من النحس المعروف. وقال الضحاك: شديدة البرد، وحتى كان البرد عذابا لهم. وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد:
* كأن سلافة عرضت بنحس
*
يخيل شقيقها الماء الزلالا
*
وقيل: سميت بذلك لأنها ذات غبار، ومنه قول الراجز:
* قد اغتدي قبل طلوع الشمس
*
للصيد في يوم قليل النحس
*
يريد: قليل الغبار. وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: متتابعات كانت آخر شوال من أربعاء إلى أربعاء. وقال السدي: أولها غداة يوم الأحد. وقال الربيع بن أنس: يوم الجمعة. وقال يحيى بن سلام: يوم الأحد. * (لنذيقهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا) *: وهو الهلاك. وقرئ: لتذيقهم بالتاء. وقال الزمخشري: على الإذاقة للريح، أو للأيام النحسات. وأضاف العذاب إلى الخزي إضافة الموصوف إلى صفته لم يأت بلفظة أخرى التي تقتضي المشاركة والتفصيل خبرا عن قوله: * (ولعذاب الاخرة) *، وهو إسناد مجازي، أو وصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به. ألا ترى تفاوت ما بين قولك: هو شاعر، وقوله: له شعر شاعر؟ وقابل استكبارهم بعذاب الخزي، وهو الذل والهوان. وبدأ بقصة عاد، لأنها أقدم زمانا، ثم ذكر ثمود فقال: * (وأما ثمود) *. وقرأ الجمهور: بالرفع ممنوع من الصرف؛ وابن وثاب، والأعمش، وبكر بن حبيب: مصروفا، وهي قراءة ابن وثاب، والأعمش في ثمود بالتنوين في جميع القرآن إلا قوله: * (وما منعنا أن) *، لأنه في المصحف بغير ألف. وقرئ: ثمود بالنصب ممنوعا من الصرف، والحسن، وابن أبي إسحاق، والأعمش: ثمودا منونة منصوبة. وروى المفضل عن عاصم الوجهين. انتهى. * (فهديناهم) *، قال ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن زيد: بينا لهم. قال ابن عطية: وليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد. وقال الفراء، وتبعه الزمخشري: فهديناهم: فذللناهم على طريق الضلالة والرشد، كقوله تعالى: * (وهديناه النجدين) *.
* (فاستحبوا العمى على
470

الهدى) *: فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد. فإن قلت: أليس معنى هديته: حصلت فيه الهدى، الدليل عليه قولك: هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها؟ كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت: للدلالة على أنه منكنهم وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذر ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. وقال سفيان: دعوناهم. وقال ابن زيد: أعلمناهم الهدى من الضلال. وقال ابن عطية: فاستحبوا عبارة عن تكسبهم في العمى، وإلا فهو بالاختراع الله، ويدلك على أنها إشارة إلى تكسبهم قوله: * (بما كانوا يكسبون) *. انتهى. والهون: الهوان، وصف العذاب بالمصدر أو أبدل منه.. وقرأ ابن مقسم: عذاب الهوان، بفتح الهاء وألف بعد الواو. وقال الزمخشري: ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم) وكفى به شاهدا إلا هذه، لكفى بها حجة. انتهى، على عادته في سب أهل السنة. ثم ذكر قريشا بنجاة من آمن واتقى. قيل: وكان من نجا من المؤمنين ممن استجاب هود وصالح مائة وعشرة أنفس.
* (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما) *.
لما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا، أردفه بكيفية عقوبة الكفار أولئك وغيرهم. وانتصب يوم باذكر. وقرأ الجمهور: * (يحشر) * مبنيا للمفعول، * (* وأعداء) * رفعا، وزيد بن علي، ونافع، والأعرج، وأهل المدينة: بالنون أعداء نصبا، وكسر الشين الأعرج؛ وتقدم معنى * (فهم يوزعون) * في النمل، و * (حتى) *: غاية ليحشروا، * (أعداء الله) *: هم الكفار من الأولين والآخرين، وما بعد إذا زائدة للتأكيد. وقال الزمخشري: ومعنى التأكيد فيها أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم، ولا وجه لأن يخلو منها ومثله قوله: * (أثم إذا ما وقع ءامنتم به) *: أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به. انتهى. ولا أدري أن معنى زيادة ما بعد إذ التوكيد فيها، ولو كان التركيب بغير ما، كان بلا شك حصول الشرط من غير تأخر، لأن أداة الشرط ظرف، فالشهادة واقعة فيه لا محالة، وفي الكلام حذف، التقدير: * (حتى إذا ما جاءوها) *، أي النار، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا، * (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم)
* بما اكتسبوا من الجرائم، وكانوا حسبوا أن لا شاهد عليهم. ففي الحديث: (أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى، ثم تنطق الجوارح فيقول: تبا لك، وعنك كنت أدافع).
ولما كانت الحواس خمسة: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وكان الذوق مندرجا في اللمس، إذ بمماسة جلدة اللسان والحنك للمذوق يحصل إدراك المذوق، وكان حسن الشم ليس فيه تكليف ولا أمر ولا نهي، وهو ضعيف، اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس، إذ هذه هي التي جاء فيها التكليف، ولم يذكر حاسة الشم لأنه لا تكليف فيه، فهذه والله أعلم حكمة الاقتصار على هذه الثلاثة. والظاهر أن الجلود هي المعروفة. وقيل: هي الجوارح كنى بها عنها. وقيل: كنى بها عن الفروج. قيل: وعليه أكثر المفسرين، منهم ابن
471

عباس، كما كنى عن النكاح بالسر. * (بما كانوا يعملون) * من الجرائم. ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم، فلم تذكر سببا غير أن الله تعالى أنطقها.
ولما صدر منها ما صدر من العقلاء، وهي الشهادة، خاطبوها بقولهم: * (لم شهدتم) *؟ مخاطبة العقلاء. وقرأ زيد بن علي: لم شهدتن؟ بضمير المؤنثات؟ و * (كل شىء) *: لا يراد به العموم، بل المعنى: كل ناطق بما ذلك له عادة، أو كان ذلك فيه خرق عادة. وقال الزمخشري: أراد بكل شيء: كل شيء من الحيوان، كما أراد به في قوله: * (والله على كل شيء قدير) *، من المقدورات. والمعنى: أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان، وعلى خلقكم وإنشائكم، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه، وإنما قالوا لهم: * (لم شهدتم علينا) * لتعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم. وقال الزمخشري أيضا: فإن قلت: كيف تشهد عليهم أبصارهم وكيف تنطق؟ قلت: الله عز وجل ينطقها، كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلام. انتهى، وهذا الرجل مولع بمذهبه الاعتزالي، يدخله في كل ما يقدر أنه يدخل. وإنما أشار بقوله: كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاما إلى أن الله تعالى لم يكلم موسى حقيقة، وإنما الشجرة هي التي سمع منها الكلام بأن يخلق الله فيها كلاما خاطبته به عن الله تعالى. والظاهر أن قوله: وما كنتم تستترون من كلام الجوارح، قيل: ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى توبيخا لهم، أو من كلام ملك يأمره تعاليه. و * (أن يشهد) *: يحتمل أن يكون معناه: خيفة أو لأجل أن يشهد إن كنتم غير عالمين بأنها تشهد، * (ولاكن ظننتم أن الله لا يعلم) *، فانهمكتم وجاهدتم، وإلى هذا نحا مجاهد، والستر يأتي في هذا المعنى، كما قال الشاعر:
* والستر دون الفاحشات وما
*
يلقاك دون الخير من ستر
*
ويحتمل أن يكون معناه: عن أن يشهد، أي وما كنتم تمتنعون، ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد من الشهادة عليكم، وإلى هذا نحا السدي، أو ما كنتم تتوقعون بالاختفاء والستر أن يشهد عليكم، لأن الجوارح لزيمة لكم. وعبر قتادة عن تستترون بتظنون، أي وما كنتم تظنون أن يشهد، وهذا تفسير من حيث المعنى لا من حيث مرادفة اللفظ، * (ولاكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا) *، وهو الخفيات من أعمالكم، وهذا الظن كفر وجهل بالله وسوء معتقد يؤدي إلى تكذيب الرسل والشك في علم الإله. * (وذلكم) *: إشارة إلى ظنهم أن الله لا يعلم كثيرا من أعمالهم، وهو مبتدأ خبره * (أرداكم) *، و * (ظنكم) * بدل من * (ذالكم) * أي وظنكم بربكم ذلكم أهلككم. وقال الزمخشري: وظنكم وأرداكم خبران. وقال ابن عطية: أرداكم يصلح أن يكون خبرا بعد خبر. انتهى. ولا يصح أن يكون ظنكم بربكم خبرا، لأن قوله: * (وذلكم) * إشارة إلى ظنهم السابق، فيصير التقدير: وظنكم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم، فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ، وهو لا يجوز؛ وصار نظير ما منعه النحاة من قولك: سيد الجارية مالكها. وقال ابن عطية: وجوز الكوفيون أن يكون معنى أرداكم في موضع الحال، والبصريون لا يجيزون وقوع الماضي حالا إلا إذا اقترن بقد، وقد يجوز تقديرها عندهم إن لم يظهر. انتهى. وقد أجاز الأخفش من البصريين وقوع الماضي حالا بغير تقدير قد وهو الصحيح، إذ كثر ذلك في لسان العرب كثرة توجب القياس، ويبعد فيها التأويل، وقد ذكرنا كثرة الشواهد على ذلك في كتابنا المسمى (بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل).
* (فان) *: خطاب للنبي عليه السلام، قيل: وفي الكلام حذف تقديره: أولا يصبروا، كقوله: * (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم) *، وذلك في يوم القيامة. وقيل: التقدير: فإن يصبروا على ترك دينك واتباع أهوائهم، * (فالنار مثوى لهم) *: أي مكان إقامة. وقرأ الجمهور: * (وإن يستعتبوا) * مبنيا للفاعل، * (فما هم من المعتبين) *: اسم مفعول. قال الضحاك: إن يعتذروا فما هم من المعذورين؛ وقيل: وإن طلبوا العتبى، وهي الرضا، فما هم ممن يعطاها ويستوجبها. وقرأ الحسن، وعمرو بن عبيد،
472

وموسى الأسواري: وإن يستعتبوا: مبنيا للمفعول، فما هم من المعتبين: اسم فاعل، أي طلب منهم أن يرضوا ربهم، فما هم فاعلون، ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال، كما قال صلى الله عليه وسلم): (ليس بعد الموت مستعتب). وقال أبو ذؤيب:
* أمن المنون وريبها تتوجع
*
والدهر ليس بمعتب من يجزع
*
ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
ولما ذكر تعالى الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفرة، أردفه بذكر السبب الذي أوقعهم في الكفر فقال: * (وقيضنا لهم قرناء) *: أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا. وقيل: سلطنا ووكلنا عليهم. وقيل: قدرنا لهم. وقرناء: جمع قرين، أي قرناء سوء من غواة الجن والإنس؛ * (فزينوا لهم) *: أي حسنوا وقد روا في أنفسهم؛ * (ما بين أيديهم) *، قال ابن عباس: من أمر الآخرة، أنه لا جنة ولا نار ولا بعث. * (وما) *، قال ابن عباس: من أمر الدنيا، من الضلالة والكفر ولذات الدنيا. وقال الكلبي: * (يعلم ما بين أيديهم) *: أعمالهم التي يشاهدونها، * (وما خلفهم) *: ما هم عاملوه في المستقبل. وقال ابن عطية: * (ما بين أيديهم) *، من معتقدات السوء في الرسل والنبوات ومدح عبادة الأصنام واتباع فعل الآباء، * (ومن خلفهم) *: ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والمعاد. انتهى، ملخصا، وهو شرح قول الحسن، قال: * (ما بين أيديهم) * من أمر الدنيا، * (وما خلفهم) * من أمر الآخرة. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت: معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين، والدليل عليه: * (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا) *. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. * (وحق عليهم القول) *: أي كلمة العذاب، وهو القضاء المختم، بأنهم معذبون. * (فى أمم) *: أي في جملة أمم، وعلى هذا قول الشاعر:
* إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو
*
كا ففي آخرين قد أفكوا
*
أي: فأنت في جملة آخرين، أو فأنت في عدد آخرين، لست في ذلك بأوحد. وقيل: في بمعنى مع، ولا حاجة للتضمين مع صحة معنى في. وموضع في * (أمم) * نصب على الحال، أي كائنين في جملة أمم، وذو الحال الضمير في عليهم. * (إنهم كانوا خاسرين) *: الضمير لهم وللأمم، وهذا تعليل لاستحقاقهم العذاب.
* (وقال الذين كفروا لا تسمعوا) *: أي لا تصغوا، * (لهاذا القرءان والغوا فيه) *: إذا تلاه محمد صلى الله عليه وسلم). قال أبو العالية: وقعوا فيه وعيبوه. وقال غيره: كان الرسول عليه السلام إذا قرأ في المسجد أصغى إليه الناس من مؤمن وكافر، فخشي الكفار استمالة القلوب بذلك فقالوا: متى قرأ محمد صلى الله عليه وسلم)، فلنلغط نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأرجاز حتى يخفى صوته، وهذا الفعل هو اللغو. وقرأ الجمهور والفراء: بفتح الغين مضارع لغى بكسرها؛ وبكر بن حبيب السهمي كذا في كتاب ابن عطية، وفي كتاب اللوامح. وأما في كتاب ابن خالويه، فعبد الله بن بكر السهمي وقتادة وأبو حيوة والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى: بخلاف عنهما، بضم الغين مضارع لغى بفتحها، وهما لغتان، أي ادخلوا فيه اللغو، وهو اختلاف القول بما لا فائدة فيه. وقال الأخفش: يقال لغا يلغى بفتح الغين وقياسه الضم، لكنه فتح لأجل حرف الحلق، فالقراءة الأولى من يلغى. والثانية من يلغو. وقال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغى به إذا رمى به، فيكون فيه بمعنى به، أي ارموا به وانبذوه. * (لعلكم تغلبون) *: أي تطمسون أمره وتميتون ذكره.
* (وقال الذين كفروا) *: وعيد شديد لقريش، والعذاب الشديد في الدنيا كوقعة بدر وغيرها، والأسوأ يوم القيامة. أقسم تعالى على الجملتين، وشمل الذين كفروا القائلين والمخاطبين في قوله: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا) *. * (ذالك) *: أي جزاؤهم في الآخرة، فالنار بدل أو خبر مبتدأ محذوف
473

وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر ذلك، وجزاء مبتدأ والنار خبره. * (فيها دار الخلد) *: أي فكيف قيل فيها؟ والمعنى أنها دار الخلد، كما قال تعالى: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة) *، والرسول نفسه هو الأسوة، وقال الشاعر:
* وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل) *
*
والمعنى أن الله هو الحكم العدل، ومجاز ذلك أنه قد يجعل الشيء ظرفا لنفسه، باعتبار متعلقه على سبيل المبالغة، كأن ذلك المتعلق صار الشيء مستقرا له، وهو أبلغ من نسبة ذلك المتعلق إليه على سبيل الإخبارية عنه. * () *
*
والمعنى أن الله هو الحكم العدل، ومجاز ذلك أنه قد يجعل الشيء ظرفا لنفسه، باعتبار متعلقه على سبيل المبالغة، كأن ذلك المتعلق صار الشيء مستقرا له، وهو أبلغ من نسبة ذلك المتعلق إليه على سبيل الإخبارية عنه. * (جزاء أعداء الله النار لهم) *، قال الزمخشري: إن جزاءهم بما كانوا يلغون فيها، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو. ولما رأى الكفار عظم ما حل بهم من عذاب النار، سألوا من الله تعالى أن يريهم من كان سبب إغوائهم وإضلالهم. والظاهر أن * (اللذين) * يراد بهما الجنس، أي كل مغو من هذين النوعين، وعن علي وقتادة: أنهما إبليس وقابيل، إبليس سن الكفر، وقابيل سن القتل بغير حق. قيل: وهل يصح هذا القول؟ عن علي: وقابيل مؤمن عاص، وإنما طلبوا المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود، وقد أصلح هذا القول بأن قال: طلب قابيل كل عاص من أهل الكبائر، وطلب إبليس كل كافر، ولفظ الآية ينبو عن هذا القول وعن إصلاحه، وتقدم الخلاف في قراءة * (أرنا) * في قوله: * (وأرنا مناسكنا * سكنا) *. وقال الزمخشري: حكوا عن الخليل
أنك إذا قلت: أرني ثوبك بالكسر، فالمعنى: بصرنيه، وإذا قلته بالسكون، فهو استعطاء معناه: أعطني ثوبك؛ ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء، وأصله الإحضار. انتهى. * (نجعلهما تحت أقدامنا: يريدون في أسفل طبقة من النار، وهي أشد عذابا، وهي درك المنافقين. وتشديد النون في اللذين واللتين وهذين وهاتين حالة كونهما بالياء لا تجيزه البصريون، والقراءة بذلك في السبعة حجة عليهم.
* (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نزلا من غفور رحيم، ومن أحسن قوفلا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وإما ينزغنك من الشيطان فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا ستجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون، فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون، ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير) *.
قال ابن عباس: نزلت في الصديق، قال المشركون: ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عنده. واليهود: ربنا الله، والعزير ابنه، ومحمد ليس بنبي، فلم يستقيما، والصديق قال: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد عبده ورسوله، فاستقام. ولما أطنب تعالى في وعيد الكفار، أردفه بوعيد المؤمنين؛ وليس المراد التلفظ بالقول فقط، بل لا بد من الاعتقاد المطابق للقول اللساني. وبدأ أولا بالذي هو أمكن في الإسلام، وهو العلم بربوبية الله، ثم أتبعه بالعمل الصالح، وهو
474

الاستقامة. وعن سفيان بن عبد الله الثقفي، قلت للنبي / صلى الله عليه وسلم): أخبرني بأمر أعتصم به، قال: (قل ربي الله ثم استقم) قلت: ما أخوف ما تخاف علي، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم) بلسان نفسه وقال: (هذا) وعن الصديق: ثم استقاموا على التوحيد، لم يضطرب إيمانهم. وعن عمر: استقاموا لله بطاعته لم يرو غوار وغان الثعالب. وعن عثمان: أخلصوا العمل. وعن علي: أدوا الفرائض. وقال أبو العالية، والسدي: استقاموا على الإخلاص والعمل إلى الموت. وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. وقال الفضل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. وقال الربيع: أعرضوا عن ما سوى الله تعالى. وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا. وعن الحسن وقتادة وجماعة: استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي. قال الزمخشري: وثم لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة وفضلها عليه، لأن الاستقامة لها الشأن كله، ونحوه قوله تعالى: * (إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) *، والمعنى: ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته. وعن الصديق رضي الله عنه أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا، قال: حملتم الأمر على أشده، قالوا: فما تقول؟ قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. انتهى.
* (تتنزل عليهم الملئكة) *، قال مجاهد والسدي: عند الموت. وقال مقاتل: عند البعث. وقيل: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث. وأن ناصبة للمضارع، أي بانتفاء خوفكم وحزنكم، قال معناه الحوفي وأبو البقاء. وقال الزمخشري: بمعنى أي أو المخففة من الثقيلة، وأصله بأنه لا تخافوا، والهاء ضمير الشأن. انتهى. وعلى هذين التقديرين يكون الفعل مجزوما بلا الناهية، وهذه آية عامة في كل هم مستأنف وتسلية تامة عن كل فائت ماض، ولذلك قال مجاهد: لا تخافوا ما تقدرون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم. وقال عطاء بن أبي رباح: * (لا * تخافوا) * رد ثوابكم، فإنه مقبول؛ * (ولا تحزنوا) * على ذنوبكم، فإني أغفرها لكم. وفي قراءة عبد الله: لا تخافوا، بإسقاط أن، أي تتنزل عليهم الملائكة قائلين: لا تخافوا ولا تحزنوا. ولما كان الخوف مما يتوقع من المكروه أعظم من الحزن على الفائت قدمه، ثم لما وقع الأمن لهم، بشروا بما يؤولون إليه من دخول الجنة، فحصل لهم من الأمن التام والسرور العظيم بما سيفعلون من الخير.
* (نحن أولياؤكم) *: الظاهر أنه من كلام الملائكة، أي يقولون لهم. وفي قراءة عبد الله: يكون من جملة المقول قبل، أي نحن كنا أولياءكم في الدنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة. لما كان أولياء الكفار قرناؤهم من الشياطين، كان أولياء المؤمنين الملائكة. وقال السدي: نحن حفظتكم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة. وقيل: * (نحن أولياؤكم) * من كلام الله تعالى، أولياؤكم بالكفاية والهداية، * (ولكم فيها) *: الضمير عائد على الآخرة، قاله ابن عطية. وقال الحوفي: على الجنة، * (ما تشتهى أنفسكم) * من الملاذ، * (ولكم فيها ما تدعون) *. قال مقاتل: ما تتمنون. وقيل: ما تريدون. وقال ابن عيسى: ما تدعي أنه لك، فهو لك بحكم ربك. قال ابن عطية: ما تطلبون. * (نزلا من غفور رحيم) * النزل: الرزق المقدم للنزيل وهو الضيف، قال معناه ابن عطاء، فيكون نزلا حالا، أي تعطون ذلك في حال كونه نزولا لا نزلا، وجعله بعضهم مصدرا لأنزل. وقيل نزل جمع نازل، كشارف وشرف، فينتصب على الحال، أي نازلين، وذو الحال الضمير المرفوع في يدعون. وقال الحسن: معنى نزلا منا، وقيل: ثوابا. وقرأ أبو حيوة: نزلا بإسكان الزاي.
ولما تقدم قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) *، ذكر من دعا إلى ذلك فقال: * (ومن أحسن قولا) *: أي لا أحد أحسن قولا ممن يدعو إلى توحيد الله، ويعمل العمل الصالح، ويصرح أنه من المستسلمين لأمر الله المنقادين له، والظاهر العموم في كل داع إلى الله، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة. وقيل بالخصوص، فقال ابن عباس: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم)، دعا إلى الإسلام، وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نحلة. وعنه أيضا: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقالت عائشة، وقيس بن أبي حازم، وعكرمة، ومجاهد: نزلت في المؤذنين، وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم
475

داخلون في الآية، وإلا فالسورة بكمالها مكية بلا خلاف. ولم يكن الأذان بمكة، إنما شرع بالمدينة، والدعاء إلى الله يكون بالدعاء إلى الإسلام وبجهاد الكفار وكف الظلمة. وقال زيد بن علي: دعا إلى الله بالسيف، وهذا، والله أعلم، هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أمية. وكان زيد هذا عالما
بكتاب الله، وقد وقفت على جملة من تفسيره كتاب الله وإلقائه على بعض النقلة عنه وهو في حبس هشام بن عبد الملك، وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر، يقال: إنه كان إذا تناظر هو وأخوه محمد الباقر اجتمع الناس بالمحابر يكتبون ما يصدر عنهما من العلم، رحمهما الله ورضي عنهما. وقال أبو العالية: * (وعمل صالحا) *: صلى بين الأذان والإقامة. وقال عكرمة: صلى وصام. وقال الكلبي: أدى الفرائض. وقال مجاهد: هي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاثة أن يكون موحدا معتقدا لدين الإسلام، عاملا بالخير داعيا إليه، ومآلهم إلى طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد الدعاة إلى دين الإسلام. انتهى، ويعني بذلك المعتزلة، يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، ويوجد ذلك في أشعارهم، كما قال ابن أبي الحديد المعتزلي، صاحب كتاب (الفلك الدائر في الرد على كتاب المثل السائر)، قال من كلامه: أنشدنا عنه الإمام الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه الله تعالى:
* لولا ثلاث لم أخف صرعتي
*
ليست كما قال فتى العبد
*
* أن أنصر التوحيد والعدل في
*
كل مقام باذلا جهدي
*
* وأن أناجي الله مستمتعا
*
بخلوة أحلى من الشهد
*
* وأن أصول الدهر كبرا على
*
كل لئيم أصعر الخد
*
*
لذاك أهوى لا فتاة ولا
خمر ولا ذي ميعة نهد
*
* (وقال إننى من المسلمين) *: ليس المعنى أنه تكلم بهذا، بل جعل الإسلام معتقده. كما تقول: هذا قول الشافعي، أي مذهبه. وقرأ ابن أبي عبلة، وإبراهيم بن نوح عن قتيبة الميال: وقال إني، بنون مشددة واحدة؛ والجمهور: إنني بها وبنون الوقاية. وقال أبو بكر بن العربي: لم يشترط إلا إن شاء الله، ففيه رد على من يقول: أنا مسلم إن شاء الله. ولما ذكر تعالى أنه لا أحد أحسن ممن دعا إلى الله، ذكر ما يترتب على ذلك من حسن الأخلاق، وأن الداعي إلى الله قد يجافيه المدعو، فينبغي أن يرفق به ويتلطف في إيصال الخير فيه. قيل: ونزلت في أبي سفيان بن حرب، وكان عدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، فصار وليا مصافيا. وقال ابن عباس: الحسنة لا إله إلا الله، والسيئة الشرك. وقال الكلبي: الدعوتان إليهما. وقال الضحاك: الحلم والفحش. وعن علي: حب الرسول وآله وبغضهم. وقيل: الصبر والنفور. وقيل: المداراة والغلظة. وقيل: العفو والاقتصاد، وهذه أمثلة للحسنة والسيئة، لا على طريق الحصر.
ولما تفاوتت الحسنة والسيئة، أمر أن يدفع السيئة بالأحسن، وذلك مبالغة، ولم يقل: ادفع بالحسنة السيئة، لأن من هان عليه الدفع بالأحسن هان عليه الدفع بالحسن، أي وإذا فعلت ذلك، * (فإذا الذى بينك وبينه عداوة) * صار لك كالولي: الصديق الخالص الصداقة، ولا في قوله: * (ولا السيئة) * زائدة للتوكيد، كهي في قوله: * (ولا الظل ولا الحرور) *، لأن استوى لا يكتفي بمفرد، فإن إحدى الحسنة والسيئة جنس لم تكن زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا، إذ يصير المعنى: ولا تستوي الحسنات، إذ هي متفاوتات في أنفسها، ولا السيئات لتفاوتها أيضا. قال ابن عطية: دخلت كأن للتشبيه، لأن الذي عند عداوة لا يعود وليا حميما، وإنما يحسن ظاهره، فيشبه بذلك الولي الحميم، وعن ابن عباس: * (بالتى هى أحسن) *: الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة. وقال مجاهد، وعطاء: السلام عند اللقاء. انتهى، أي هو مبدأ الدفع بالأحسن، لأنه محصور فيه. وعن مجاهد أيضا: أعرض عن أذاهم. وقال أبو فراس الحمداني
476

* يجني علي وأجنو صافحا أبدا
*
لا شيء أحسن من جان على جان
*
* (وما يلقاها) *: الضمير عائد على الفعلة والسجية التي هي الدفع بالأحسن. وقرأ طلحة بن مصرف، وابن كثير في رواية: وما يلاقاها: من الملاقاة. وقرأ الجمهور: من التلقي، وكأن هذه الخصلة الشريفة غائبة، فما يصادفها ويلقيها الله إلا لمن كان صابرا على الطاعات، صارفا عن الشهوات، ذا حظ عظيم من خصال الخير، قاله ابن عباس، فيكون مدحا؛ أو * (ذو حظ عظيم) * من ثواب الآخرة، قاله قتادة، فيكون وعدا. وقيل: إلا ذو عقل. وقيل: ذو خلق حسن، وكرر * (وما يلقاها) * تأكيدا لهذه الفعلة الجميلة الجليلة. وقيل: الضمير في يلقاها عائد على الجنة. وحكى مكي: * (وما يلقاها) *: أي شهادة أن لا إله إلا الله، وفيه بعد.
ولما أمر تعالى بدفع السيئة بالأحسن، كان قد يعرض للمسلم في بعض الأوقات مقابلة من أساء بالسيئة، فأمره، إن عرض له ذلك، أن يستعيذ بالله، فإن ذلك من نزغ الشيطان، وتقدم تفسير نظير هذه الآية في أواخر الأعراف.
ولما بين تعالى أن أحسن الأعمال والأقوال هو نظير هذه الآية الدعوة إلى الله، أردفه بذكر الدلائل العلوية والسفلية، وعلى قدرته الباهرة وحكمته البالغة وحجته القاطعة، فبدأ بذكر الفلكيات بالليل والنهار، وقدم ذكر الليل، قيل تنبيها على أن الظلمة عدم والنور وجود، وناسب ذكر الشمس بعد النهار، لأنها سبب لتنويره ويظهر العالم فيه، ولأنها أبلغ في التنوير من القمر، ولأن القمر فيما يقولون مستفاد نوره من نور الشمس. ثم نهى تعالى عن السجود لهما، وأمر بالسجود للخالق تعالى. وكان ناس يعبدون الشمس، كما جاء في قصة بلقيس وقومها. والضمير في * (خلقهن) * عائد على الليل والنهار والشمس والقمر. قال الزمخشري: لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى، أي الإناث، يقال: الأقلام بريتها وبريتهن. انتهى، يريد ما لا يعقل من الذكر، وكان ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك، فإن الأفصح أن يكون كضمير الواحدة، تقول: الأجذاع انكسرت على الأفصح، والجذوع انكسرن على الأفصح.
والذي تقدم في الآية ليس بجمع قلة، أعني بلفظ واحد، ولكنه ذكر أربعة متعاطفة، فتنزلت منزلة الجمع المعبر عنها بلفظ واحد. وقال الزمخشري: ولما قال: * (ومن ءاياته) *، كن في معنى الآيات، فقيل: * (خلقهن) *. انتهى، يعني أن التقدير والليل والنهار والشمس والقمر آيات من آياته، فعاد الضمير على آيات الجمع المقدر في المجرور. وقيل: يعود على الآيات المتقدم ذكرها. وقيل: على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وجمع ما لا يعقل يؤنث، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي، ساغ أن يعود الضمير مجموعا. * (إن كنتم إياه تعبدون) *: أي إن كنتم موحدين غير مشركين، والسجدة عند الشافعي عند قوله: * (تعبدون) *، وهي رواية مسروق عن عبد الله لذكر لفظ السجدة قبلها، وعند أبي حنيفة عند قوله: * (لا يسئمون) *، لأنها تمام المعنى، وفي التحرير: كان على وابن مسعود يسجدان عند * (تعبدون) *. وقال ابن وهب والشافعي: عند * (يسئمون) *، وبه قال أبو حنيفة، وسجد عندها ابن عباس وابن عمر وأبو وائل وبكر بن عبد الله، وكذلك روي عن مسروق والسلمي والنخعي وأبي صالح وابن سيرين. انتهى ملخصا.
* (فإن استكبروا) *: أي تعاظموا على اجتناب ما نهيت من السجود لهذين المحدثين المربوبين، وامتثال ما أمرت به من السجود للخالق لهن؛ فإن الملائكة الذين هم عند الله بالمكانة والرتبة الشريفة ينزهونه عن ما لا يليق بكبريائه، * (وهم لا يسئمون) *: أي لا يملون ذلك، وهم خير منكم، مع أنه تعالى غني عن عبادتكم وعبادتهم. ولما ذكر شيئا من الدلائل العلوية، ذكر شيئا من الدلائل السفلية فقال: * (ومن ءاياته أنك ترى الارض خاشعة) *: أي غبراء دارسة، كما قال:
ونؤى كجذم الحوض أبلم خاشع
استعير الخشوع لها، وهو التذلل لما ظهر بها من القحط وعدم النبات وسوء العيش عنها، بخلاف أن تكون معشبة وأشجارا مزهرة ومثمرة، فذلك هو حياتها. وقال السدي: خاشعة ميتة يابسة، وتقدم الكلام على قوله: * (فإذا أنزلنا عليها
477

الماء اهتزت وربت) * تفسيرا وقراءة في أوائل سورة الحج. * (إن الذى أحياها * فانظر إلى) *: يرد الأرواح إلى الأجساد، إنه على كل شيء قدير: لا يعجزه شيء تعلقت به إرادته.
* (إن الذين يلحدون فىءاياتنا لا يخفون علينا أفمن * يلقى * إن الذين يلحدون فىءاياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتى * إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد * ما يقال لك إلا ما قد قيل * من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم * ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاياته * أعجمى * ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاياته ءاعجمى وعربى قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون) *.
لما بين تعالى أن الدعاء إلى دين الله أعظم القربات، وأنه يحصل ذلك بذكر دلائل التوحيد والعدل والبعث، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات ويجادل، فقال: * (إن الذين يلحدون فىءاياتنا) *، وتقدم الكلام على الإلحاد في قوله: * (وذروا * والذين * يلحدون فى أسمئه) *، وذكر تعالى أنهم لا يخفون عليه، وفي ذلك تهديد لهم. وقال قتادة: هنا الإلحاد: التكذيب، ومجاهد: المكاء والصفير واللغو. وقال ابن عباس: وضع الكلام غير موضعه. وقال أبو مالك: يميلون عن آياتنا. وقال السدي: يعاندون رسلنا فيما جاءوا فيه من البينات والآيات. ثم استفهم تقريرا: * (أفمن * يلقى * فى النار) *، بإلحاده في آياتنا، * (خير أم من يأتىءامنا) *، ولا اشتراك بين الإلقاء في النار والإتيان آمنا، لكنه، كما قلنا، استفهام تقرير، كما يقرر المناظر خصمه على وجهين، أحدهما فاسد يرجو أن يقع في الفاسد فيتضح
جهله، ونبه بقوله: * (يلقى * فى النار) * على مستقر الأمر، وهو الجنة، وبقوله: * (من) * على خوف الكافر وطول وجله، وهذه الآية، قال ابن بحر: عامة في كل كافر ومؤمن. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان. وقيل: فيه وفي عمار بن ياسر. وقيل: فيه وفي عمر. وقيل: في أبي جهل وحمزة بن عبد المطلب. وقال الكلبي: وأبو جهل والرسول صلى الله عليه وسلم).
ولما تقدم ذكر الإلحاد، ناسب أن يتصل به من التقرير من اتصف به. ولم يكن التركيب: أم من يأتي آمنا يوم القيامة كمن يلقي في النار، كما قدم ما يشبهه في قوله: * (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) *، وكما جاء في سورة القتال: * (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله) *. * (اعملوا ما شئتم) *: وعيد وتهديد بصيغة الأمر، ولذا جاء * (إنه بما * تعلمون * بصير) * فيجازيكم بأعمالكم.
* (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) *: هم قريش ومن تابعهم من الكفار غيرهم، والذكر: القرآن هو بإجماع، وخبر إن اختلفوا فيه أمذكور هو أو محذوف؟ فقيل: مذكور، وهو قوله: * (أولئك ينادون من مكان بعيد) *، وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة. سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال: لم أجد لها نفاذا، فقال له أبو عمرو: وإنه منك لقريب * (أولئك ينادون) *. وقال الحوفي: ويرد على هذا القول كثرة الفصل، وأنه ذكر هناك من تكون الإشارة إليهم، وهو قوله: * (والذين لا يؤمنون فىءاذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون) *. وقيل: محذوف، وخبر إن يحذف لفهم المعنى. وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو: معناه في التفسير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به، وإنه لكتاب، فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان. وقال قوم: تقديره معاندون أو هالكون. وقال الكسائي: قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل إن، وهو قوله: * (أفمن * يلقى * فى النار) *. انتهى، كأنه يريد: دل عليه ما قبله، فيمكن أن يقدر يخلدون في النار. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: * (إن الذين كفروا بالذكر) *؟ قلت
478

هو بدل من قوله: * (إن الذين يلحدون فىءاياتنا) *. انتهى. ولم يتعرض بصريح الكلام في خبر إن أمذكور هو أو محذوف، لكن قد ينتزع من كلامه هذا أنه تكلم فيه بطريق الإشارة إليه، لأنه ادعى أن قوله: * (إن الذين كفروا بالذكر) * بدل من قوله: * (إن الذين يلحدون) *، فالمحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل، فيكون التقدير: * (إن الذين يلحدون فىءاياتنا) *، * (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) *، لا يخفون علينا. وقال ابن عطية: والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر بعد * (حكيم حميد) *، وهو أشد إظهارا، لأن قوله: * (وإنه لكتاب عزيز) * داخل في صفة الذكر المكذب به، فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه. انتهى، وهو كلام حسن.
والذي أذهب إليه أن الخبر مذكور، لكنه حذف منه عائد يعود على اسم إن، وذلك في قوله: * (لا يأتيه الباطل) *: أي الباطل منهم، أي الكافرون به، وحالة هذه لا يأتيه باطلهم، أي متى رامو فيه أن يكون ليس حقا ثابتا من عند الله وإبطالا له لم يصلوا إليه، أو تكون أل عوضا من الضمير على قول الكوفيين، أي لا يأتيه باطلهم، أو يكون الخبر قوله: * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) *، أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك. ولما جئت به مثل ما أوحى إلي من قبلك من الرسل، وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك، وفي الآخرة بالعذاب الدائم. وغاية ما في هذين التوجهين حذف الضمير العائد على اسم إن، وهو موجود، نحو قوله: السمن منوان بدرهم: أي منوان منه والبركر بدرهم: أي كر منه. وعن بعض نحاة الكوفة: الخبر في قوله: * (وإنه لكتاب عزيز) *، وهذا لا يتعقل. * (وإنه لكتاب عزيز) *: جملة حالية، كما تقول: جاء زيد وأن يده على رأسه، أي كفروا به، وهذه حاله وعزته كونه عديم النظير لما احتوى عليه من الإعجاز الذي لا يوجد في غيره من الكتب، أو غالب ناسخ لسائر الكتب والشرائع. وقال ابن عباس: عزيز كريم على الله تعالى. وقال مقاتل: ممتنع من الشيطان. وقال السدي: غير مخلوق. وقيل: وصف بالعزة لأنه لصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه، وهو محفوظ من الله، * (لا يأتيه الباطل) * من جعل خبر إن محذوفا، أو قوله: * (أولئك ينادون) *، كانت هذه الجملة في موضع الصفة على ما اخترناه من أحد الوجهين تكون الجملة في موضع خبر إن، والمعنى أن الباطل لا يتطرق إليه * (من بين يديه ولا من خلفه) *، تمثيل: أي لا يجد الطعن سبيلا إليه من جهة من الجهات، فيتعلق به.
وأما ظهر من بعض الحمقى من الطعن على زعمهم، ومن تأويل بعضهم له، كالباطنية، فقد رد عليهم علماء الإسلام وأظهروا حماقاتهم. وقال قتادة: الباطل الشيطان، واللفظ لا يخص الشيطان. وقال ابن جبير والضحاك: * (من بين يديه) *: أي كتاب من قبله فيبطله، ولا من بعده فيكون على هذا الباطل في معنى المبطل نحو: أورس النبات فهو وارس، أي مورس، أو يكون الباطل بمعنى المبطل مصدرا، فيكون كالعافية. وقيل: * (من بين يديه) *: أي قبل أن يتم نزوله، * (ولا من خلفه) *: من بعد نزوله. وقيل عكس هذا. وقيل: * (من بين يديه) *: قبل أن ينزل، لأن الأنبياء بشرت به، فلم يقدر الشيطان أن يدحض ذلك، * (ولا من خلفه) *: بعد أن أنزل. وقال الطبري: * (من بين يديه) *: لا يقدر ذو باطل أن يكيده بتغيير ولا تبديل، ولا من خلفه: لا يستطيع ذو باطل أن يلحد فيه. * (تنزيل) *: أي هو تنزيل، * (من حكيم) *: أي حاكم أو محكم لمعانية، * (حميد) *: محمود على ما أسدى لعباده من تنزيل هذا الكتاب وغيره من النعم.
* (ما يقال لك) *: يقال مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون القائل الله تعالى، كما تقدم تأويلها فيه، أي ما يوحي إليك الله إلا مثل ما أوحى إلى الرسل في شأن الكفار، كما تأولناه على أحد الوجهين أو في الشرائع. وجوزوا على أن القائل هو الله أن يكون. * (إن ربك) *: تفسير لقوله: * (ما قد قيل) *، فالمقول * (إن ربك لذو * ومغفرة) * للمطائعين، * (وذو عقاب أليم) * للعاصين، وهذا التأويل فيه بعد، لأنه حصر ما أوحى الله إليه وإلى الرسل في قوله: * (إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم) *، وهو تعالى قد أوحى إليه وإليهم أشياء كثيرة. فإذا أحذناه على الشرائع أو على عاقبة المكذبين كان الحصر صحيحا، وكان قوله تعالى: * (إن ربك) * استئناف إخبار عنه تعالى لا تفسير لما قد قيل. ويحتمل أن يكون
479

القائل الكفار، أي ما يقول لك كفار قومك إلا ما قد قال كفار الرسل لهم من الكلام المؤذي والطعن فيما أنزل الله عليهم من الكتب. ثم أخبر تعالى أنه ذو مغفرة وذو عقاب أليم، وفيه الترجئة بالغفران، والزجر بالعقاب، وهو وعظ وتهديد. وقال قتادة: عزى الله نبيه وسلاه بقوله: * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) *، ومثله كذلك: * (ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون) *.
ولما ذكر تعالى الملحدين في آياته، وأنهم لا يخفون عليه، والكافرين بالقرآن ما دل على تعنتهم وما ظهر من تكذيبهم، وقولهم: هل أنزل بلغة العجم؟ فقال: * (ولو جعلناه قرءانا أعجميا) *: أي لا يفصح ولا تبين معانيه لهم لكونه بلغة العجم أو بلغة غير العرب، لم يتركوا الاعتراض، و * (لقالوا لولا * لا * فصلت ءاياته) *: أي بينت لنا، وأوصحت حتى نفهمها. وقرأ الجمهور: آعجمي بهمزة الاستفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي، وقياسها في التخفيف التسهيل بين بين. وقرأ الإخوان، والأعمش، وحفص: بهمزتين، أي وقالوا منكرين: أقرآن أعجمي ورسول عربي؟ أو مرسل إليه عربي؟ وتأوله ابن جبير أن معنى قوله: * (أعجمى) *، ونحن عرب ما لنا وللعجمة. وقال ابن عطية: لأنهم ينكرون ذلك فيقولون: لولا بين أعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن. انتهى. ولا يصح هذا التقسيم لأنه بالنسبة للقرآن، وهم إنما قالوا ما دل عليه قوله تعالى: * (ولو جعلناه قرءانا أعجميا) *، من اقتراحهم أن يكون أعجميا، ولم يقترحوا أن يكون القرآن أعجميا وعربيا. وقرأ الحسن، وأبو الأسود، والجحدري، وسلام، والضحاك، وابن عباس، وابن عامر بخلاف عنهما: أعجمي وعربي دون استفهام وسكون العين، فقيل معناه: أنهم قالوا: أعجمة وأعرب، إن هذا لشاذ. وقال ابن جبير معناه: لولا فصل فصلين، فكان بعضه أعجميا بفهمه العجم، وبعضه عربيا يفهمه العرب. وقال صاحب اللوامح: لأنهم لما قالوا: * (لولا فصلت ءاياته) *، أعادوا القول ثانيا فقالوا: * (أعجمى) *، وأضمر المبتدأ، أي هو أعجمي، والقرآن، أو الكلام، أو نحوها، والذي أتى به، أو الرسول عربي، كأنهم كانوا ينكرون ذلك. وقرأ عمرو بن ميمون: أعجمي بهمزة استفهام وفتح العين أن القرآن لو جاء على طريقة كائنة كانوا تعنتوا، لأنهم لا يطلبون الحق. وقال صاحب اللوامح: والعجمي المنسوب إلى العجم، والياء للنسب على الحقيقة؛ وأما إذا سكنت العين فهو الذي لا يفصح، والياء فيه بلفظ النسب دون معناه، فهو بمنزلة ياء كرسي وبختي، والله أعلم. انتهى، وليست كياء كرسي بنيت الكلمة عليها، وياء أعجمي لم تبن الكلمة عليها. تقول العرب: رجل أعجم ورجل أعجمي، فالياء للنسبة الدالة على المبالغة في الصفة، نحو: أحمري ودواري مبالغة في أحمر ودوار. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابا عجميا كتب إلى قوم من العرب يقول: أكتاب عجمي والمكتوب إليه عربي؟ لأن نسخ الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا على أن المكتوب إليه واحد وجماعة؛ فوجب أن يجرد لما سيق له من الغرض، ولا يوصل به غرضا آخر. ألا تراك تقول: وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة، اللباس طويل واللابس قصير؟ ولو قلت: واللابسة قصيرة، جئت بما هو لكنة وفضول قول، لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته، إنما وقع في غرض وراءهما. انتهى، وهو حسن، إلا أن فيه تكثيرا على عادته في حب الشقشقة والتفهيق.
* (قل هو) *: أي القرآن، * (للذين
480

ءامنوا هدى وشفاء) *، هدى: أي إرشاد إلى الحق، وشفاء: أي لما في الصدور من الظن والشك. والظاهر أن * (والذين لا يؤمنون) * مبتدأ، و * (ولو جعلناه قرءانا) * هو موضع الخبر. وقال الزمخشري: هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ لما أخبر أنه هدى وشفاء للمؤمنين، أخبر أنه وقر وصمم في آذانهم، أي الكافرين، ولا يضطر إلى إضمار هو، فالكلام تام دونه أخبر أن في آذانهم صمما عن سماعهم. ثم أخبر أنه عليهم عمى، يمنعهم من إبصار حكمته والنظر في معانيه والتقرير لآياته، وجاء بلفظ عليهم الدالة على استيلاء العمى عليهم، وجاء في حق المؤمنين باللام الدالة على الاختصاص، وكون والذين في موضع جر عطفا على قوله: * (للذين ءامنوا) *، والتقدير: وللذين لا يؤمنون وقر في آذانهم إعراب متكلف، وهو من العطف على عاملين، وفيه مذاهب كثيرة في النحو، والمشهور منع ذلك. وقرأ الجمهور: عمى بفتح الميم منونا: مصدر عمى. وقرأ ابن عمرو، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وابن هرمز: بكسر الميم وتنوينه. وقال يعقوب القارئ، وأبو حاتم: لا ندري نونوا أم فتحوا الياء، على أنه فعل ماض وبغير تنوين، رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس. والظاهر أن الضمير في * (وهو عليهم) * عائد على القرآن، وقيل: يعود على الوقر. * (أولائك) * إشارة إلى الذين لا يؤمنون، ومن جعله خبرا، لأن الذين كفروا كانت الإشارة إليهم. * (ينادون من مكان بعيد) *، قيل: هو حقيقة. قال الضحاك: ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب. وقال علي ومجاهد: استعارة لقلة فهمهم، شبههم بالرجل ينادي من بعد، فيسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه. وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم: أنت تنادي من بعيد، أي كأنه ينادي من موضع بعيد، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه. وحكى النقاش: كأنما ينادون من السماء.
* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب) * تسلية للرسول في كون قومه اضطربوا فيما جاء به من الذكر، فذكر أن موسى عليه السلام أوتي الكتاب، وهو التوراة؛ فاختلف فيه. وتقدم شرح هذه الآية في أواخر سورة هود عليه السلام، والكلام على نظير * (وما ربك بظلام للعبيد) * في قوله في سورة الحج: * (وأن الله ليس بظلام للعبيد) *.
* (وإليه * يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم) *.
لما ذكر تعالى * (من عمل صالحا) * الآية، كان في ذلك دلالة على الجزاء يوم القيامة، وكأن سائلا قال: ومتى ذلك؟ فقيل: لا يعلمها إلا الله، ومن سئل عنها فليس عنده علم بتعين وقتها، وإنما يرد ذلك إلى الله. ثم ذكر سعة علمه وتعلقه بما لا يعلمه إلا هو تعالى. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، وشيبة، وقتادة، والحسن بخلاف عنه؛ ونافع، وابن عامر، في غير رواية: أي جلية؛ والمفضل، وحفص، وابن مقسم: * (من ثمرات) * على الجمع. وقرأ باقي السبعة، والحسن في رواية طلحة
والأعمش: بالإفراد. ولما كان ما يخرج من أكمام الشجرة وما تحمل الإنات وتضعه هو إيجاد أشياء بعد العدم، ناسب أن يذكر مع علم الساعة، إذ في ذلك دليل على البعث، إذ هو إعادة بعد إعدام،
481

وناسب ذكر أحوال المشركين في ذلك اليوم، وسؤالهم سؤال الوتبيخ فقال: * (ويوم يناديهم أين شركائى) *: أي الذين نسبتموهم إلي وزعمتم أنهم شركاء لي، وفي ذلك تهكم بهم وتقريع. والضمير في يناديهم عام في كل من عبد غير الله، فيندرج فيه عباد الأوثان. * (قالوا ءاذناك) *: أي أعلمناك، قال الشاعر:
* آذنتنا ببينها أسماء
*
رب ثاو يمل منه الثواء
*
وقال ابن عباس: أسمعناك، كأنه استبعد الإعلام لله، لأن أهل القيامة يعلمون أن الله يعلم الأشياء علما واجبا، فالإعلام في حقه محال. والظاهر أن الضمير في قالوا عائد على المنادين، لأنهم المحدث معهم. * (ما منا) * أحد اليوم، وقد أبصرنا وسمعنا. يشهد أن لك شريكا، بل نحن موحدون لك: وما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ. وقيل: الضمير في قالوا عائد على الشركاء، أي قالت الشركاء: * (ما منا من شهيد * بما) * أضافوا إلينا من الشرك، وآذناك معلق لأنه بمعنى الإعلام. والجملة من قوله: * (ما منا من شهيد) * في موضع المفعول. وفي تعليق باب أعلم رأينا خلافه، والصحيح أنه مسموع من كلام العرب. والظاهر أن قولهم: * (ءاذناك) * إنشاء، كقولك: أقسمت لأضربن زيدا، وإن كان إخبارا سابقا، فتكون إعادة السؤال توبيخا لهم. * (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل) *: أي نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة، أو * (وضل عنهم) *: أي تلفت أصنامهم وتلاشت، فلم يجدوا منها نصرا ولا شفاعة، * (وظنوا) *: أي أيقنوا. قال السدي: * (ما لهم من محيص) *: أي من حيدة ورواغ من العذاب. والظاهر أن ظنوا معلقة، والجملة المنفية في موضع مفعولي ظنوا. وقيل: تم الكلام عند قوله: * (وظنوا) *، أي وترجح عندهم أن قولهم: * (ما منا من شهيد) * منجاة لهم، أو أمر يموهون به. والجملة بعد ذلك مستأنفة، أي يكون لهم منجما، أو موضع روغان.
* (لا يسئم الانسان من دعاء الخير) *: هذه الآيات نزلت في كفار، قيل: في الوليد بن المغيرة؛ وقيل: في عتبة بن ربيعة، وكثير من المسلمين يتصفون بوصف أولها من دعاء الخير، أي من طلب السعة والنعمة ودعاء مصدر مضاف للمفعول. وقرأ عبد الله: من دعاء بالخير، بباء داخلة على الخير، وفاعل المصدر محذوف تقديره: من دعاء للخير، وهو وإن مسه الشر، أي الفقر والضيق، * (فيئوس) *: أي فهو يؤوس قنوط، وأتى بهما صيغتي مبالغة. واليأس من صفة القلب، وهو أن يقطع رجاءه من الخير؛ والقنوط: أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر. وبدأ بصيغة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الإنكسار. * (ولئن أذقناه رحمة منا) *: سمي النعمة رحمة، إذ هي من آثار رحمة الله. * (من بعد ضراء مسته ليقولن هاذا لى) *: أي بسعيي واجتهادي، ولا يراها أنها من الله، أو هذا لي لا يزول عني. * (وما أظن الساعة قائمة) *: أي ظننا أننا لا نبعث، وأن ما جاءت به الرسل من ذلك ليس بواقع، كما قال تعالى حكاية عنهم: * (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) *.
* (ولئن رجعت إلى ربى) *: ولئن كان كما أخبرت الرسل، * (إن لى عنده) *: أي عند الله، * (للحسنى) *: أي الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة، كما أنعم علي في الدنيا، وأكدوا ذلك باليمين وبتقديم لي عنده على اسم إن، وتدخل لام التأكيد عليه أيضا، وبصيغة الحسنى يؤنث الأحسن الذي هو أفعل التفضيل. ولم يقولوا للحسنة، أي الحالة الحسنة. وقال الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم: للكافر أمنيتان، أما في الدنيا فهذه * (إن لى عنده للحسنى) *، وأما في الآخرة * (الكافر ياليتنى كنت ترابا) *. * (فلننبئن الذين كفروا بما * علموا) * من الأفعال السيئة، وذلك كناية عن جزائهم بأعمالهم السيئة. * (ولنذيقنهم من عذاب غليظ) * في مقابلة * (إن لى عنده) *. وكني بغليظ: العذاب عن شدته. * (خسارا وإذا أنعمنا) *: تقدم الكلام على نظيره هذه الجملة في * (سبحان) *، إلا أن في أواخر تلك كان يؤوسا، وآخر هذه * (فذو دعاء عريض) *: أي فهو ذو دعاء بإزالة الشر عنه وكشف ضره. والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة. يقال: أطال فلان في الظلم، وأعرض في الدعاء إذا كثر، أي فذو تضرع واستغاثة. وذكر تعالى في هذه الآية نوعا من طغيان الإنسان، إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة، وإذا مسه الشر ابتهل إلى الله وتضرع.
* (قل * قل إن كان) *: أي القرآن، * (من عند الله) *: أبرزه في صورة الاحتمال، وهو
482

من عند الله بلا شك، ولكنه تنزل معهم في الخطاب. والضمير في * (أرءيتم) * لكفار قريش. وتقدم أن معنى أرأيتم: أخبروني عن حالكم إن كان هذا القرآن من عند الله، وكفرتم به وشاققتم في اتباعه. * (من أضل * منكم) *، إذ أنتم المشاقون فيه والمعرضون عنه والمستهزئون بآيات الله. وتقدم أن أرأيتم هذه تتعدى إلى مفعول مذكور، أو محذوف، وإلى ثان الغالب فيه أن يكون جملة استفهامية. فالمفعول الأول محذوف تقديره: أرأيتم أنفسكم، والثاني هو جملة الاستفهام، إذ معناه: من أضل منكم أيها الكفار، إذ مآلكم إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.
ثم توعدهم بما هو كائن لا محالة فقال: * (سنريهم ءاياتنا فى الافاق) *. قال أبو المنهال، والسدي، وجماعة: هو وعيد للكفار بما يفتحه الله على رسوله من الأقطار حول مكة، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر. * (وفى أنفسهم) *: أراد به فتح مكة، وتضمن ذلك الإخبار بالغيب، ووقع كما أخبر. وقال الضحاك، وقتادة: * (
فى الافاق) *: ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما، * (وفى أنفسهم) *: يوم بدر. وقال عطاء، وابن زيد: في آفاق السماء، وأراد الآيات في الشمس والقمر والرياح وغير ذلك، وفي أنفسهم عبرة الإنسان بجمسه وحواسه ويغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك. ونبهوا بهذين القولين عن لفظ سنريهم، لأن هلاك الأمم المكذبة قديما، وآيات الشمس والقمر وغير ذلك، قد كان ذلك كله مريبا لهم، فالقول الأول أرجح.
وأخذ الزمخشري هذا القول وذيله فقال: يعني ما يسر الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، وللخلفاء من بعده، وأنصار دينه في آفاق الدنيا، وبلاد المشرق والمغرب عموما، وفي ناحية العرب خصوصا من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلق الأرض قبلهم، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة، وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعافهم على أقويائهم، وإجرائه على أيديهم أمورا خارجة عن المعهود خارقة للعادة، ونشر دعوة الإسلام في الأقطار المعمورة، وبسط دولته في أقاصيها، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدونة في مشاهد أهله، وأيامهم على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علم من أعلام الله وآية من آياته تقوى معها النفس ويزداد بها الإيمان ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر خبيث مغالط نفسه. انتهى ما كتبناه مقتصرا عليه. * (حتى يتبين لهم أنه) *: أي القرآن، وما تضمنه من الشرع هو الحق، إذ وقع وفق ما أخبر به من الغيب، و * (بربك) *: الباء زائد، التقدير: أو لم يكفك أو يكفهم ربك، و * (أنه على كل شىء شهيد) * بدل من ربك. أما حالة كونه مجرورا بالباء، فيكون بدلا على اللفظ. وأما حالة مراعاة الموضع، فيكون بدلا على الموضع، وقيل: إنه على إضمار الحرف أي أو لم يكف ربك بشهادته، فحذف الحرف، وموضع أن على الخلاف، أهو في موضع نصب أو في موضع جر؟ ويبعد قول من جعل بربك في موضع نصب، وفاعل كفى إن وما بعدها، والتقدير عنده: أو لم يكف ربك شهادته؟ وقرئ: إن بكسر الهمزة على إضمار القول، وألا استفتاح تنبه السامع على ما يقال. وقرأ السلمي والحسن: في مرية بضم الميم، وإحاطته تعالى بالأشياء علمه بها جملة وتفصيلا، فهو يجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم.
483

1 (الشورى) 1 مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (حم * عسق * كذلك يوحىإليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم * له ما فى السماوات وما فى الا رض وهو العلى العظيم * تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الا رض ألا إن الله هو الغفور الرحيم * والذين اتخذوا من دونه أوليآء الله حفيظ عليهم ومآ أنت عليهم بوكيل * وكذلك أوحينآ إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق فى الجنة وفريق فى السعير * ولو شآء الله لجعلهم أمة واحدة ولاكن يدخل من يشآء فى رحمته والظالمون ما لهم من ولى ولا نصير * أم اتخذوا من دونه أوليآء فالله هو الولى وهو يحى الموتى وهو على كل شىء قدير * وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربى عليه توكلت وإليه أنيب * فاطر السماوات والا رض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الا نعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير * له مقليد السماوات والا رض يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه بكل شىء عليم * شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبىإليه من يشآء ويهدىإليه من ينيب * وما تفرقوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفى شك منه مريب * فلذلك فادع واستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم وقل ءامنت بمآ أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير * والذين يحآجون فى الله من
484

بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد * الله الذىأنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب * يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون فى الساعة لفى ضلال بعيد * الله لطيف بعباده يرزق من يشآء وهو القوى العزيز * من كان يريد حرث الا خرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الا خرة من نصيب * أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم * ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى روضات الجنات لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير * ذلك الذى يبشر الله عباده الذين ءامنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور * أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور * وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد * ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الا رض ولاكن ينزل بقدر ما يشآء إنه بعباده خبير بصير * وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولى الحميد * ومن ءاياته خلق السماوات والا رض وما بث فيهما من دآبة وهو على جمعهم إذا يشآء قدير * ومآ أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير * ومآ أنتم بمعجزين فى الا رض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير * ومن ءاياته الجوار فى البحر كالا علام * إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن فى ذلك لايات لكل صبار شكور * أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون فىءاياتنا ما لهم من محيص * فمآ أوتيتم من شىء فمتاع الحيواة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلواة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذآ أصابهم البغى هم ينتصرون * وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولائك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون فى الا رض بغير الحق أولائك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الا مور * ومن
يضلل الله فما له من ولى من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل * وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفى وقال الذين ءامنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين فى عذاب مقيم * وما كان لهم من أوليآء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل * استجيبوا لربكم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير * فإن أعرضوا فمآ أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنآ إذآ أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور * لله ملك السماوات والا رض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير * وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشآء إنه على حكيم * وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا وإنك لتهدىإلى صراط مستقيم * صراط الله الذى له ما فى السماوات وما فى الا رض ألا إلى الله تصير الا مور) *))
) *
ركد الشيء، ثبت في مكانه، وقد قال الشاعر:
* وقد ركدت وسط السماء نجومها
*
ركودا يواري الربرب المتفرق
*
* (عسق كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم له ما فى السماوات وما فى الارض وهو العلى العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الارض ألا إن الله هو
485

الغفور الرحيم والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل وكذلك أوحينا إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق فى الجنة (سقط: إلى آخر الآية)) *.
هذه السورة مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس: مكية إلا أربع آيات من قوله: * (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى) * إلى آخر الأربع آيات، فإنها نزلت بالمدينة. وقال مقاتل: فيها مدني قوله: * (ذلك الذى يبشر الله عباده) * إلى الصدور. ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها أنه قال: * (قل أرءيتم إن كان من عند الله) * الآية، وكان في ذلك الحكم عليهم بالضلال. لما كفروا به قال هنا: * (كذالك) *، أي مثل الإيحاء السابق في القرآن الذي كفر به هؤلاء، * (يوحى إليك) *: أي إن وحيه تعالى إليك متصل غير منقطع، يتعهدك وقتا بعد وقت. وذكر المفسرون في * (* حمعسق) * أقوالا مضطربة لا يصح منها شيء كعادتهم في هذه الفواتح، ضربنا عن ذكرها صفحا. وقرأ الجمهور: يوحي مبنيا للفاعل؛ وأبو حيوة، والأعشى عن أبي بكر، وأبان: نوحي بنون العظمة؛ ومجاهد، وابن وكثير، وعباس، ومحبوب، كلاهما عن أبي عمرو: يوحي مبنيا للمفعول؛ والله مرفوع بمضمر تقديره أوحي، أو بالابتداء، التقدير: الله العزيز الحكيم الموحي؛ وعلى قراءة نوحي بالنون، يكون * (عند الله العزيز الحكيم) * مبتدأ وخبرا. ويوحي، إما في معنى أوجب حتى ينتظم قوله: * (وإلى الذين من قبلك) *، أو يقرأ على موضوعه، ويضمر عامل يتعلق به إلى الذين تقديره: وأوحي إلى الذين من قبلك.
وتقدم الكلام على * (تكاد * السماوات) * في سورة مريم قراءة وتفسيرا. وقال الزمخشري: وروى يونس عن أبي عمر وقراءة عربية: تتفطرن بتاءين مع النون، ونظيرها حرف نادر روي في نوادر ابن الأعرابي: الإبل تتشممن. انتهى. والظاهر أن هذا وهم من الزمخشري في النقل، لأن ابن خالويه ذكر في شواذ القراءات له ما نصب: تفطرن بالتاء والنون، يونس عن أبي عمرو. وقال ابن خالويه: هذا حرف نادر، لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث. لا يقال: النساء تقمن، ولكن يقمن، والوالدات يرضعن. قد كان أبو عمر الزاهد روى في نوادر ابن الأعرابي: الإبل تتشممن، فأنكرناه، فقد قواه، لأن هذا كلام ابن خالويه. فإن كانت نسخ الزمخشري متفقة على قوله بتاءين مع النون فهو وهم، وإن كان في بعضها بتاء مع النون، كان موافقا لقول ابن خالويه، وكان بتاءين تحريفا من النساخ. وكذلك كتبهم تتفطرن وتتشممن بتاءين. والظاهر عود الضمير في * (من فوقهن) * على * (السماوات) *. قال ابن عطية: من أعلاهن. وقال الزمخشري: ينفطرن من علو شأن الله تعالى وعظمته، ويدل عليه مجيئه بعد * (العلى العظيم) *. وقيل: من دعائهم له ولدا، كقوله: * (تكاد * السماوات * يتفطرن منه) *. فإن قلت: لم قال * (من فوقهن) *؟ قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السماوات، وهي العرض والكرسي وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال: * (يتفطرن من فوقهن) *: أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية. وقال جماعة، منهم الحوفي، قال: * (من فوقهن) *، والهاء والنون كناية عن الأرضين. انتهى. * (من فوقهن) * متعلق يتفطرن، ويدل على هذا القول ذكر الأرض قبل. وقال علي بن سليمان الأخفش: الضمير للكفار، والمعنى: من فوق الفرق والجماعات
486

الملحدة، أي من أجل أقوالها. انتهى.
فهذه الآية كالذي في سورة مريم، واستبعد مكي هذا القول، قال: لا يجوز في الذكور من بني آدم، يعني ضمير المؤنث والاستشعار ما ذكره مكي. قال علي بن سليمان: من فوق الفرق والجماعات، وظاهر الملائكة العموم. وقال مقاتل: حملة العرش والتسبيح، قيل: قولهم سبحان الله، وقيل: يهللون؛ والظاهر يستغفرون
طلب الغفران، ولأهل الأرض عام مخصوص بقوله: * (ويستغفرون للذين ءامنوا) *، قاله السدي. وقيل: عام. ومعنى الاستغفار: طلب الهداية المؤدية إلى المغفرة، كأنهم يقولون: اللهم اهد أهل الأرض، فاغفر لهم. ويدل عليه وصفه بالغفران والحرحمة والاستفتاح. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار لهم: طلب الحلم والغفران في قوله: * (إن الله يمسك * السماوات والارض * أن تزولا) *، إلى أن قال: * (إنه كان حليما غفورا) *، وقوله: * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) *، والمراد: الحلم عنهم، وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاما. انتهى. وتكلم أبو عبد الله الرازي في قوله: * (تكاد * السماوات) * كلاما خارجا عن مناحي مفهومات العرب، منتزعا من كلام الفلاسفة ومن جرى مجراهم، يوقف على ذلك في كتابه.
* (والذين اتخذوا من دونه أولياء) *: أي أصناما وأوثانا، * (الله حفيظ عليهم) *: أي على أعمالهم ومجازيهم عليها، * (وما أنت عليهم بوكيل) *: أي بمفوض إليك أمرهم ولا قائم. وما في هذا من الموادعة منسوخ بآية السيف. * (وكذالك) *: أي ومثل هذا الإيحاء والقضاء، إنك لست بوكيل عليهم، * (وكذلك أوحينا إليك قرءانا) *. والظاهر أن * (قرءانا) * مفعول * (أوحينا) *. وقال الزمخشري: الكاف مفعول به، أي أوحيناه إليك، وهو قرآن عربي لا لبس فيه عليك، إذ نزل بلسانك. انتهى. فاستعمل الكاف اسما في الكلام، وهو مذهب الأخفش. * (لتنذر أم القرى) *: مكة، أي أهل جم القرى، وكذلك المفعول الأول محذوف، والثاني هو: * (يوم الجمع) *: أي اجتماع الخلائق، والمنذر به هو ما يقع في يوم الجمع من الجزاء وانقسام الجمع إلى الفريقين، أو اجتماع الأرواح بالأجساد، أو أهل الأرض بأهل السماء، أو الناس بأعمالهم، أقوال أربعة. لينذر بياء الغيبة، أي لينذر القرآن. * (لا ريب فيه) *: أي لا شك في وقوعه. وقال الزمخشري: * (لا ريب فيه) *: اعتراض لا محالة. انتهى. ولا يظهر أنه اعتراض، أعني صناعيا، لأنه لم يقع بين طالب ومطلوب. وقرأ الجمهور: * (فريق) * بالرفع فيهما، أي هم فريق أو منهم فريق. وقرأ زيد بن علي بنصبهما، أي افترقوا، فريقا في كذا، وفريقا في كذا؛ ويدل على الافتراق: الاجتماع المفهوم من يوم الجمع.
* (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) *: يعني من إيمان أو كفر، قال معناه الضحاك، وهو قول أهل السنة، وذلك تسلية للرسول. كما كان يقاسيه من كفر قومه، وتوقيف على أن ذلك راجع إلى مشيئته، ولكن من سبقت له السعادة أدخله في رحمته. وقال الزمخشري: * (لجعلهم أمة واحدة) *: أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه، كقوله: * (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها) *، وقوله: * (ولو شاء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعا) *. والدليل على أن المعنى هو الإيحاء إلى الإيمان قوله: * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) *، وذكر ما ظنه استدلالا على ذلك، وهو على طريق الاعتزال. وقال أنس بن مالك: * (فى رحمته) *: في دين الإسلام. * (أم اتخذوا من دونه أولياء) *، أم بمعنى بل، للانتقال من كلام إلى كلام، والهمزة للإنكار عليهم اتخاذ أولياء من دون الله. وقيل: أم بمعنى الهمزة فقط، وتقدم الكلام على مثل هذا، حيث جاءت أم المنقطعة، والمعنى: اتخذوا أولياء دون الله، وليسوا بأولياء حقيقة، فالله هو الولي، والذي يجب أن يتولى وحده، لا ما لا يضر ولا ينفع من أوليائهم. ولما أخبر أنه هو الولي، عطف عليه هذا الفعل الغريب الذي لا يقدر عليه غيره، وهو إحياء الموتى. ولما ذكر هذا الوصف، ذكر قدرته على كل شيء تتعلق إرادته به. وقال الزمخشري: في قوله: * (فالله هو الولى) *، والفاء في قوله: * (فالله هو الولى) * جواب شرط مقدر، كأنه قيل:
487

بعد إنكار كل ولي سواه، وإن أراد وأوليا بحق، فالله هو الولي بالحق، لا ولي سواه. انتهى. ولا حاجة إلى تقدير شرط محذوف، والكلام يتم بدونه.
* (وما اختلفتم فيه من شىء) *: هذا حكاية لقول الرسول، أي ما اختلفتم فيه أيها الناس من تكذيب أو تصديق وإيمان وكفر وغير ذلك، فالحكم فيه والمجازاة عليه ليس ذلك إلا إلى الله، لا إلي، ولفظة من شيء تدل على العموم. وقيل: من شيء من الخصومات، فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره، كقوله: * (وأن * تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول) *. وقيل: * (من شىء) *: من تأويل آية واشتبه عليكم، فارجعوا في بيانه إلى آي المحكم من كتاب الله، والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: ما وقع منكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم، ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: الله أعلم، كمعرفة الروح. وقال الزمخشري: أي ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاتبة المبطلين. * (ذالكم) *: الحكم بينكم هو * (ربى عليه توكلت) * في رد كيد أعداء الدين، وإليه أرجع في كفاية شرهم. انتهى. وقرأ الجمهور: * (فاطر) * بالرفع، أي هو فاطر، أو خبر بعد خبر كقوله: * (ذالكم) *. وقرأ زيد بن علي: فاطر بالجر، صفة لقوله: * (إلى * لله) *، والجملة بعدها اعتراض بين الصفة والموصوف.
* (جعل لكم من أنفسكم) *: أي من جنس أنفسكم، أي آدميات، * (أزواجا) *: إناثا، أو جعل الخلق لأبينا آدم من ضلعه حواء زوجا له خلقا لنا، * (ومن الانعام أزواجا) *: أي أنواعا كثيرة، ذكورا وإناثا، أو أزواجا إناثا. * (يذرؤكم فيه) *، قال ابن عباس: أي يجعل لكم فيه معيشية تعيشون بها. وقال ابن زيد: يرزقكم فيه، وهو قريب من القول قبله. وقال مجاهد: يخلقكم في بطون الإناث. وقال ابن زيد أيضا: ى ذرأكم فيما خلق من السماوات والأرض. وقال الزجاج: يكثركم به، أي فيه، أي يكثركم في خلقكم أزواجا. وقال علي بن سليمان: ينقلكم من حال إلى حال. وقال ابن عطية: الضمير في فيه للحعل، أي يخلقكم ويكثركم في الجعل، كما تقول: كلمت زيدا كلاما أكرمته فيه، قال: ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق، وهو توالي الطبقات على مر الزمان.
وقال الزمخشري: * (يذرؤكم) *: يكثركم، يقال ذرأ الله الخلق: بثهم وكثرهم، والذرء والذروء والذرواء أخوات في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيه مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين. انتهى. وقوله: وهي من الأحكام ذات العلتين، اصطلاح غريب، ويعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا فتقول: أنت وزيد تقومان؛
والعاقل يغلب على غير العاقل إذا اجتمعا، فتقول: الحيوان وغيرهم يسبحون خالقهم. قال الزمخشري؛ فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبيه كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير؟ كما قال تعالى: * (ولكم في القصاص حيواة) * انتهى. * (ليس كمثله شىء) *، تقول العرب: مثلك لا يفعل كذا، يريدون به المخاطب، كأنهم إذا نفوا الوصف عن مثل الشخص كان نفيا عن الشخص، وهو من باب المبالغة، ومثل الآية قول أوس بن حجر:
* ليس كمثل الفتى زهير
*
خلق يوازيه في الفضائل
*
488

وقال آخر:
وقتلى كمثل جذوع النخيل تغشاهم مسبل منهمر
* سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم
*
ما إن كمثلهم في الناس من أحد
*
فجرت الآية في ذلك على نهج كلام العرب من إطلاق المثل على نفس الشيء. وما ذهب إليه الطبري وغيره من أن مثلا زائدة للتوكيد كالكاف في قوله:
فأصبحت مثل كعصف مأكول
وقوله:
وصاليات ككما يؤثفين
ليس بجيد، لأن مثلا اسم، والأسماء لا تزاد، بخلاف الكاف، فإنها حرف، فتصلح للزيادة. ونظير نسبة المثل إلى من لا مثل له قولك: فلان يده مبسوطة، يريد أنه جواد، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له، كقوله: * (بل يداه مبسوطتان) *. فكما جعلت ذلك كناية عن الجواد فيمن لا يد له، فكذلك جعلت المثل كناية عن الذوات في من لا مثل له. ويحتمل أيضا أن يراد بالمثل الصفة، وذلك سائغ، يطلق المثل بمعنى المثل وهو الصفة، فيكون المعنى: ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره، وهذا محمل سهل، والوجه الأول أغوص. قال ابن قتيبة: العرب تقيم المثال مقام النفس، فيقول: مثلي لا يقال له هذا، أي أنا لا يقال لي هذا. انتهى. فقد صار ذلك كناية عن الذات، فلا فرق بين قولك: ليس كالله شيء، أوليس كمثل الله شيء. وقد أجمع المفسرون على أن الكاف والمثل يراد بهما موضوعهما الحقيقي من أن كلا منهما يراد به التشبيه، وذلك محال، لأن فيه إثبات مثل لله تعالى، وهو محال. * (وهو السميع) * لأقوال الخلق، * (البصير) * لأعمالهم. وتقدم تفسير: * (مقاليد * السماوات والارض) * في سورة الزمر؛ وقرئ: * (ويقدر) *: أي يضيق. * (إنه بكل شىء عليم) *: أي يوسع لمن يشاء، ويضيق على من يشاء. وقال الزمخشري: فإذا علم أن الغنى خير للعبد أغناه لا أفقره. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال.
* (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا) *.
لما عدد تعالى نعمه عليهم الخاصة، أتبعه بذكر نعمه العامة، وهو ما شرع لهم من العقائد المتفق عليها، من توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وبكتبه وباليوم الآخر، والجزاء فيه. ولما كان أول الرسل نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم)، قال: * (ما * وصى به نوحا والذى أوحينا إليك) *، ثم أتبع ذلك ما وصى به إبراهيم، إذ كان أبا العرب، ففي ذلك هزلهم وبعث على ابتاع طريقته
489

وموسى وعيسى صلوات الله عليهم، لأنهما هما اللذان كان أتباعهما موجودين زمان بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم). والشرائع متفقة فيما ذكرنا من العقائد، وفي كثير من الأحكام، كتحريم الزنا والقتل بغير حق. والشرائع مشتملة على عقائد وأحكام؛ ويقال: إن نوحا أول من أتى بتحريم البنات والأمهات وذوات المحارم. وقال ابن عباس: اختار، ويحتمل أن تكون أن مفسرة، لأن قبلها ما هو بمعنى القول، فلا موضع لها من الإعراب. وأن تكون أن المصدرية، فتكون في موضع نصب على البدل من ما؛ وما عطف عليها، أو في موضع رفع، أي ذلك، أو هو إقامة الدين، وهو توحيد الله وما يتبعه مما لا بد من اعتقاده. ثم نهى عن التفرقة فيه، لأن التفرق سبب للهلاك، والاجتماع والألفة سبب للنجاة. * (كبر على المشركين) *: أي عظم وشق، * (ما تدعوهم) * من توحيد الله وترك عباده الأصنام وإقامة الدين. * (إليه الله يجتبى) *: يجتلب ويجمع، * (إليه من يشاء) * هدايته، وهذا تسلية للرسول. وقيل: يجتبي، فيجعله رسولا إلى عباده، * (ويهدى إليه من ينيب) *: يرجع إلى طاعته عن كفره. وقال الزمخشري: * (من يشآء) *: من ينفع فيهم توفيقه ويجري عليهم لطفة. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال.
وقال الحافظ أبو بكر بن العربي: لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه، ولم تفرض، له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، وإنما كان منبها على بعض الأمور، مقتصرا على ضرورات المعاش. واستمر الهدى إلى نوح، فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الأدب في الديانات. ولم يزل ذلك
يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحدا بعد واحد وشريعة إثر شريعة، حتى ختمه الله بخير الملل على لسان أكرم الرسل، فكان المعنى: أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والحج والتقريب بصالح الأعمال، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان، واقتحام الدناءآت وما يعود بخرم المروآت؛ فهذا كله مشروع دينا واحدا، أو ملة متحدة، لم يختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وذلك قوله: * (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) *: أي اجعلوه قائما، يريد دائما مستمرا محفوظا مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب. انتهى. وقال مجاهد: لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة والإقرار بالله وطاعته، فهو إقامة الدين. وقال أبو العالية: إقامة الدين: الإخلاص لله وعبادته، * (ولا تتفرقوا فيه) *، قال أبو العالية: لا تتعادوا فيه. وقال مقاتل: معناه لا تختلفوا، فإن كل نبي مصدق. وقيل: لا تتفرقوا فيه، فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض.
* (وما تفرقوا) *، قال ابن عباس: يعني قرشيا، والعلم: محمد عليه الصلاة والسلام، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي، كما قال: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير) *، يريدون نبيا. وقيل: الضمير يعود على أمم الأنبياء، جاءهم العلم، فطال عليهم الأمد، فآمن قوم وكفر قوم. وقال ابن عباس أيضا: عائد على أهل الكتاب، والمشركين دليله: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من * بعدما * جاءتهم البينة) *، قال المشركون: لم خص بالنبوة، واليهود والنصارى حسدوه. * (ولولا كلمة) *: أي عدة التأخر إلى يوم القيامة، فحينئذ يقع الجزاء، * (لقضي بينهم) *: لجوزوا بأعمالهم في الدنيا؛ لكنه قضى أن ذلك لا يكون إلا في الآخرة. وقال الزجاج: الكلمة قوله: * (بل الساعة موعدهم) *. * (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم) *: هم بقية أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، * (من بعدهم) *: أي من بعد أسلافهم، أو هم المشركون، أورثوا الكتاب من بعدما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل. وقرأ زيد بن علي: ورثوا مبنيا للمفعول مشدد الراء، * (لفى شك منه) *: أي من كتابهم، أو من القرآن، أو مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم)، أو من الدين
490

الذي وصى به نوحا. ولما تقدم شيئان: الأمر بإقامة الدين، وتفرق الذين جاءهم العلم واختلافهم وكونهم في شك، احتمل قوله. * (فلذلك) *، أن يكون إشارة إلى إقامة الدين، أي فادع لدين الله وإقامته، لا تحتاج إلى تقدير اللام بمعنى لأجل، لأن دعا يتعدى باللام، قال الشاعر:
* دعوت لما نابني مسورا
*
فلبى فلبى يدي مسورا
*
واحتمل أن تكون اللام للعلة، أي فلأجل ذلك التفرق. ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا، * (فادع) * إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية، * (واستقم) *: أي دم على الاستقامة، وتقدم الكلام على * (فاستقم كما أمرت) *، وكيفية هذا التشبيه في أواخر هود. * (ولا تتبع أهواءهم) * المختلفة الباطلة، وأمره بأن يصرح أنه آمن بكل كتاب أنزله الله، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض. * (وأمرت لاعدل بينكم) *، قيل: إن المعنى: وأمرت بما أمرت به لأعدل بينكم في ايصال ما أمرت به إليكم، لا أخص شخصا بشيء دون شخص، فالشريعة واحدة، والأحكام مشترك فيها. وقيل: لاعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم. * (لا حجة بيننا وبينكم) *: أي قد وضحت الحجج وقامت البراهين وأنتم محجوجون، فلا حاجة إلى إظهار حجة بعد ذلك. * (الله يجمع بيننا) * وبينكم، أي يوم القيامة، فيفصل بيننا. وما يظهر في هذه الآية من الموادعة منسوخ بآية السيف.
* (والذين يحاجون فى الله) *: أي يخاصمون في دينه، قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومحاجتهم، بل قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم؛ فديننا أفضل، فنزلت الآية في ذلك. وقيل: نزلت في قريش، كانوا يجادلون في هذا المعنى، ويطمعون في رد المؤمنين إلى الجاهلية. واستجيب مبني للمفعول، فقيل: المعنى من بعدما استجاب الناس لله، أي لدينه ودخلوا فيه. وقيل: من بعدما استجاب الله له، أي لرسوله ودينه، بان نصره يوم بدر وظهر دينه. * (حجتهم داحضة) * أي باطلة لا ثبوت لها. ولما ذكر من يحاج في دين الإسلام، صرح بأنه تعالى هو الذي أنزل الكتاب، والكتاب جنس يراد به الكتب الآلهية. * (والميزان) *، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم: هو المعدل؛ وعن ابن مجاهد: هو هنا الميزان الذي بإيدي الناس، وهذا مندرج في العدل.
* (وما يدريك) * أيها المخاطب، * (لعل الساعة قريب) *، ذكر على معنى البعث أو على حذف مضاف: أي لعل مجيء الساعة؛ ولعل الساعة في موضع معمول، وما يدريك، وتقدم الكلام على مثل هذا في قوله في آخر الأنبياء: * (وإن أدرى لعله فتنة لكم) *.
وتوافقت هذه الجملة مع قوله: * (الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان) *. الساعة: يوم الحساب، ووضع الموازين: القسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم. * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون) * بها بطلب وقوعها عاجلة، لأنهم ليسوا موقنين بوقوعها، ليبين عجز من يؤمن بها عندهم، أي هي مما لا يقع عندهم. * (ألا إن الذين يمارون) * ويلحون في أمر الساعة، * (لفى ضلال بعيد) * عن الحق، لأن البعث غير مستعبد من قدرة الله، ودل عليه الكتاب المعجز، فوجب الإيمان به. * (الله لطيف بعباده) *: أي بر بعباده المؤمنين، ومن سبق له الخلود في الدنيا، وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف، إنما هو إملاء، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة والوفاة على الإسلام. وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا. وقال
الزمخشري: يوصل بره إلى جميعهم، * (يرزق من يشاء) *: أي من يشاء يرزقه شيئا خاصا، ويحرم من يشاء من ذلك الشيء الخاص، وكل منهم مرزوق، وإن اختلف الرزق، * (وهو القوى) *: أي البالغ القوة، وهي القدرة * (العزيز) *: الغالب الذي لا يغلب.
ولما ذكر تعالى الرزق، ذكر حديث الكسب. ولما كان الحرث في الأرض أصلا من أصول المكاسب، استعير لكل مكسب أريد به النماء والفائدة، أي من كان يريد عمل الآخرة، وسعى لها سعيها، * (نزد له فى حرثه) *: أي جزاء حرثه أي من جزاء حرثه من تضعيف الحسنات، * (ومن كان يريد
491

حرث الدنيا نؤته منها) *: أي العمل لها لا لآخرته، * (نؤته منها) *: أي نعطه شيئا منها، * (له فى الاخرة من نصيب) *، لأنه لم يعمل شيئا للآخرة. والجملة الأولى وعد منجز، والثانية مقيدة بمشيئته تعالى، فلا يناله إلا رزقه الذي فرغ منه، وكل ما يريده هو. واقتصر في عامل الآخرة على ذكر حظه في الآخرة، كأنه غير معتبر، فلا يناسب ذكر مع ما أعد الله له في الآخرة لمن يشاء ما يشاء. وجعل فعل الشرط ماضيا، والجواب مجزوم لقوله تعالى: * (من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) *، ولا نعلم خلافا في جواز الجزم، فإنه فصيح مختار، إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب، وهو أبو الحكم بن عذرة، عن بعض النحويين، أنه لا يجيء في الكلام الفصيح، وإنما يجيء مع كأن لأنها أصل الأفعال، ولا يجيء مع غيرها من الأفعال. ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص ذلك بكان، بل سائر الأفعال في ذلك مثلها، وأنشد سيبويه للفرزدق:
* دست رسولا بأن القوم إن قدروا
*
عليك يشفوا صدورا ذات توغير
وقال آخر:
* تعال فإن عاهدتني لا تخونني
*
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
*
*
وقرأ الجمهور: نزد ونؤته بالنون فيهما: وابن مقسم، والزعفراني، ومحبوب، والمنقري، كلاهما عن أبي عمرو: بالياء فيهما. وقرأ سلام: نؤته منها برفع الهاء، وهي لغة الحجاز.
* (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم وإن الظالمين) *.
* (أم لهم شركاء) *: استفهام تقرير وتوبيخ. لما ذكر تعالى أنه شرع للناس * (ما وصى به نوحا) * الآية، أخذ ينكر ما شرع غيره تعالى. والشركاء هنا يحتمل أن يراد به شركاؤهم في الكفر، كالشياطين والمغوين من الناس. والضمير في شرعوا عائد على الشركاء، والضمير في لهم عائد على الكفار المعاصرين للرسول؛ ويحتمل أن يراد به الأصنام والأوثان وكل من جعلوه شريكا لله. وأضيف الشركاء إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله، فتارة إليهم بهذه الملابسة، وتارة إلى الله. والضمير في
492

شرعوا يحتمل أن يعود على الشركاء، ولهم عائد على الكفار، لما كانت سببا لضلالهم وافتتانهم جعلت شارعة لدين الكفر، كما قال إبراهيم عليه السلام: * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) *. واحتمل أن يعود على الكفار، ولهم عائد على الشركاء، أي شرع الكفار لأصنامهم ومعبوداتهم، أي رسموا لهم غواية وأحكاما في المعتقدات، كقولهم: إنهم آلهة، وإن عبادتهم تقربهم إلى الله؛ ومن الأحكام البحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك. * (ولولا كلمة الفصل) *: أي العدة بأن الفصل في الآخرة، أو لولا القضاء بذلك لقضي بين المؤمن والكافر، أو بين المشركين وشركائهم. وقرأ الجمهور: * (إن الظالمين) *، بكسر الهمزة على الاستئناف والإخبار، بما ينالهم في الدنيا من القتل والأسر والنهب، وفي الآخرة النار. وقرأ الأعرج، ومسلم بن جندب: وأن بفتح الهمزة عطفا على كلمة الفصل، فهو في موضع رفع، أي ولولا كلمة الفصل وكون الظالمين لهم عذاب في الآخرة، لقضي بينهم في الدنيا وفصل بين المتعاطفين بجواب لولا، كما فصل في قوله: * (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى) *.
* (ترى الظالمين) *: أي تبصر الكافرين لمقابلته بالمؤمنين، * (مشفقين) *: خائفين الخوف الشديد، * (مما كسبوا) * من السيئات، * (وهو) *: أي العذاب، أو يعود على ما كسبوا على حذف مضاف: أي وبال كسبوا من السيئات، أو جزاؤه حال بهم، * (وهو واقع) *: فإشفاقهم هو في هذه الحال، فليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من الساعة. ولما كانت الروضات أحسن ما في الجنات وأنزهها وفي أعلاها، ذكر أن المؤمنين فيها. واللغة الكثيرة تسكين الواو في روضات، ولغة هذيل بن مدركة فتح الواو إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات، ولم يقرأ أحد ممن علمناه بلغتهم. وعند ظرف، قال الحوفي: معمول ليشاءون. وقال الزمخشري: منصوب بالظرف لا يشاءون. انتهى، وهو الصواب. ويعني بالظرف: الجار والمجرور، وهو لهم في الحقيقة غير معمول للعامل في لهم، والمعنى: ما يشاءون من النعيم والثواب، مستقر لهم. * (عند ربهم) *: والعندية عندية المكانة والتشريف، لا عندية المكانة.
وقرأ الجمهور: * (يبشر) * بتشديد الشين، من بشر؛ وعبد الله بن يعمر، وابن أبي إسحق، والجحدري، والأعمش، وطلحة في رواية، والكسائي، وحمزة: يبشر ثلاثيا؛ ومجاهد، وحميد بن قيس: بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر، وهو معدى بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين. وأما بشر بفتحها فتعد، وبشر يالتشديد للتكثير لا للتعدية، لأن المتعدي إلى واحد، وهو مخفف، لا يعدى بالتضعيف إليه؛ فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية. * (ذالك) *: إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة، وهو مبتدأ خبره الموصول والعائد عليه محذوف، أي يبشر الله به عباده. وقال الزمخشري: أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. انتهى. ولا يظهر الوجه، إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشري، ولا ما يدل عليها من تبشير أو شبهه. ومن النحويين من جعل الذي مصدرية، حكاه ابن مالك عن يونس، وتأويل عليه هذه الآية، أي ذلك تبشير الله عباده، وليس بشيء، لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل. وقد ثبتت اسمية الذي، فلا يعدل عن ذلك بشيء لا تقوم به دليل ولا شبهة.
* (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى) *. روي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون محمدا يسأل أجرا على ما يتعاطاه؟ فنزلت. وروي أن الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله، هدانا الله بك، وأنت ابن أختنا، وتعروك حقوق وما لك سعة، فاستعن بهذا على ما ينو بك، فنزلت الآية، فرده. وقيل: الخطاب متوجه إلى قريش حين جمعوا له مالا وأرادوا أن يرشوه عليهم على أن يمسك عن سب آلهتهم، فلم يفعل، ونزلت. فالمعنى: (لا أسألكم مالا ولا رياسة، ولكن أسألكم أن ترعوا حق قرابتي وتصدقوني فيما جئتكم به، وتمسكوا عن أذيتي وأذية من تبعني)، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو مالك والشعبي وغيرهم.
قال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية، فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها، فكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان أوسط الناس في قريش، ليس بطن من بطونهم إلا وقد
493

ولده، فقال الله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في قرابتي منكم، فارعوا ما بيني وبينكم وصدقوني. وقال عكرمة: وكانت قريش تصل أرحامها. وقال الحسن: المعنى إلا أن تتوددوا إلى الله بالتقرب إليه. وقال عبد الله بن القاسم: إلا أن يتودد بعضكم إلى بعض وتصلوا قراباتكم.
روي أن شبابا من الأنصار فاخروا المهاجرين وصالوا بالقول، فنزلت على معنى: أن لا تؤذوني في قرابتي وتحفظوني فيهم. وقال بهذا المعنى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، واستشهد بالآية حين سيق إلى الشام أسيرا، وهو قول ابن جبير والسدي وعمرو بن شعيب، وعلى هذا التأويل قال ابن عباس: قيل يا رسول الله: من قرابتك الذين أمرنا بمودتهم؟ فقال: (علي وفاطمة وابناهما). وقيل: هم ولد عبد المطلب. والظاهر أن قوله: * (إلا المودة) * استثناء منقطع، لأن المودة ليست أجرا. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون استثناء متصلا، أي لا أسألكم عليه أجرا إلا هذا أن تودوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة، لأن قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. وقال: فإن قلت: هلا قيل إلا مودة القربى، أو إلا المودة للقربى؟ قلت: جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها، كقولك: لي في آل فلان مودة، ولي فيهم هوى وحب شديد، تريد: أحبهم وهم مكان حبي ومحله. وليست في صلة للمودة كاللام، إذا قلت إلا المودة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس، وتقديره: إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. انتهى، وهو حسن وفيه تكثير. وقرأ زيد بن علي؛ إلا مودة؛ والجمهور: إلا المودة.
* (ومن يقترف حسنة) *: أي يكتسب، والظاهر عموم الحسنة عموم البدل، فيندرج فيها المودة في القربى وغيرها. وعن ابن عباس والسدي، أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقرأ الجمهور: * (نزد) * بالنون؛ وزيد بن علي، وعبد الوارث عن أبي عمرو، وأحمد بن جبير عن الكسائي: يزد بالياء، أي يزد الله. والجمهور: * (حسنا) * بالتنوين؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو: حسنى بغير تنوين، على وزن رجعي، وزيادة حسنها: مضاعفة أجرها. * (أن الله غفور) *: ساتر عيوب عباده، * (شكور) *: مجاز على الدقيقة، لا يضيع عنده عمل العامل. وقال السدي: غفور لذنوب آل محمد عليه السلام، شكور لحسناتهم.
* (أم يقولون افترى على الله كذبا) *: أضرب عن الكلام المتقدم من غير إبطال، واستفهم استفهام إنكار وتوبيخ على هذه المقالة، أي مثله لا ينسب إليه الكذب على الله، مع اعترافكم له قبل بالصدق والأمانة. * (فإن يشإ الله يختم على قلبك) *، قال مجاهد: يربط على قلبك بالصبر على أذاهم، حتى لا يشق عليك قولهم: إنك مفتر. وقال قتادة وجماعة: * (يختم على قلبك) *: ينسيك القرآن، والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان إبطالها، وذلك كأنه يقول: وكيف يصح أن تكون مغتريات وأنت من الله بمرأى ومسمع وهو قادر: ولو شاء أن يختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك؟ فمقصد اللفظ هذا المعنى، وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصار واقتصار. انتهى. هكذا أو رد هذا التأويل عن قتادة ابن عطية، وفي ألفاظه فظاظة لا تليق أن تنسب للأنبياء. وقال الزمخشري: عن قتادة: ينسيك القرآن وينقطع عنك الوحي، يعني لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك. انتهى. وقال الزمخشري أيضا: فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب، فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله، وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم. ومثال هذا أن يخون بعض الأمناء فيقول: لعل الله خذلني، لعل الله أعمي قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمي القلب، وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم.
ثم قال: ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه أو بقضائه لقوله: * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) *، يعني: لو كان مفتريا، كما يزعمون، لكشف الله افتراءه ومحقه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه. انتهى. وقيل: المعنى لو افتريت على الله، لطبع على قلبك حتى لا تقدر على حفظ القرآن
494

وقيل: لختم على قلبك بالصدق واليقين، وقد فعل ذلك. وذكر القشيري أن المعنى: يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب. انتهى، فيكون التفاتا من الغيبة إلى الخطاب، ومن الجمع إلى الإفراد، أي يختم على قلبك أيها القائل أنه افترى على الله كذبا. * (ويمح الله الباطل) *: استئناف إخبار، أي يمحوه. إما في الدنيا وإما في الآخرة حيث نازله. وكتب ويمح بغير واو، كما كتبوا سندع بغير واو، اعتبارا بعدم ظهورها، لأنه لا يوقف عليها وقف اختيار. ولما سقطت من اللفظ سقطت من الخط. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم. إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك. انتهى. قيل: ويحق الإسلام بكلماته، أي بما أنزل من القرآن.
وتقدم الكلام في شرائط التوبة، يقال: قبلت منه الشيء بمعنى: أخذته منه، لقوله: * (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم) *، أي تؤخذ، أي جعلته مبدأ قبولي ومنشأه، وقبلته عنه: عزلته عنه وأبنته، فمعنى * (عن عباده) *: أي يزيل الرجوع عن المعاصي. * (ويعفوا عن السيئات) *، قال الزمخشري: عن السيئات إذا تيب عنها، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. إن الكبائر لا يعفى عنها إلا بالتوبة، * (ويعلم ما تفعلون) *، فيثيت ويعاقب. وقرأ الجمهور: ما يفعلون بياء الغيبة؛ وعبد الله، وعلقمة، والإخوان، وحفص: بتاء الخطاب. والظاهر أن الذين فاعل، * (ويستجيب) *: أي ويجيب، * (الذين كفروا) * لربهم، كما قال: * (معرضون يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) *، فيكون يستجيب بمعنى يجيب، أو يبقى على بابه من الطلب، أي يستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة. وقال سعيد بن جبير: هذا في فعلهم إذا دعاهم. وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل: ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تجيبوه، ثم قرأ: * (والله يدعوا إلى * دار السلام) *.
* (ويستجيب الذين ءامنوا) *، قال الزجاج: الذين مفعول، واستجاب وأجاب بمعنى واحد، فالمعنى: ويجيب الله الذين آمنوا، أي للذين، كما قال:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي: لم يجبه. وروي هذا المعنى عن معاذ ابن جبل وابن عباس. * (ويزيدهم من فضله) *: أي على الثواب تفضلا. وفي الحديث: (قبول الشفاعات في المؤمنين والرضوان). وقال خباب بن الأرت: نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها، فنزلت: * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الارض) *. وقال عمرو بن حريث: طلب قوم من أهل الصفة من الرسول عليه السلام أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق، فنزلت. أعلم أن الرزق لو جاء على اقتراح البشر، لكان سبب بغيهم وإفسادهم، ولكنه تعالى أعلم بالمصلحة. فرب إنسان لا يصلح ولا يكتفي شره إلا بالفقر، وآخر بالغنى. وفي هذا المعنى والتقسيم حديث رواه أنس وقال: (اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى، فلا تفقرني). ولبغوا، إما من البذخ والكبر، أي لتكبروا في الأرض، ففعلوا ما يتبع الكبر مع الغنى. ألا ترى إلى حال قارون؟ وفي الحديث: (أخوف ما يخاف على أمتي زهرة الدنيا)، وقال الشاعر:
* وقد جعلوا الوسمي ينبت بيننا
*
وبين بني رومان نبعا وشوحطا
*
يعني: أنهم أحبوا، فجذبوا أنفسهم بالبغي والفتن. * (ولاكن ينزل بقدر ما يشاء) *، يقال: قدر بالسكون وبالفتح، أي: يقدر لهم ما هو أصلح لهم. وقرأ الجمهور: * (قنطوا) *، بفتح النون؛ والأعمش، وابن وثاب: بكسرها، * (وينشر رحمته) *: يظهرها من آثار
495

الغيث من المنافع والخصب، والظاهر أن رحمته نشرها أعم مما في الغيث. وقال السدي: رحمته: الغيث، وعدد النعمة بعينها بلفظين. وقيل: الرحمة هنا ظهور الشمس، لأن إذا دام المطر سئم، فتجيء الشمس بعده عظمية الموقع، ذكره المهدوي. * (وهو الولى) *: الذي يتولى عباده، * (الحميد) *: المحمود على ما أسدى من نعمائه وما بث. الظاهر أنه مجرور عطفا على السماوات والأرض. ويجوز أن يكون مرفوعا، عطفا على خلق، على حذف مضاف، أي وخلق ما بث. وفيهما يجوز أن يكون مما نسب فيه دابة إلى المجموع المذكور، وإن كان ملتبسا ببعضه. كما يقال: بنو فلان صنعوا كذا، وإنما صنعه واحد منهم، ومنه يخرج منهما، وإنما يخرج من الملح، أو يكون من الملائكة. بعض يشمي مع الطيران، فيوصف بالدبيب كما يوصف به الأناسي، أو يكون قد خلق السماوات حيوانا يمشي مع مشي الإناس على الأرض، أو يريد الحيوان الذي يكون في السحاب. وقد يقع أحيانا، كالضفادع والسحاب داخل في اسم السماء.
وقال مجاهد: * (وما بث فيهما من دابة) *: هم الناس والملائكة. وقال أبو علي: هو على حذف مضاف، أي وما بث في أحدهما. وقرأ الجمهور: فيهما بالفاء، وكذا هي في معظم المصاحف. واحتمل ما أن تكون شرطية، وهو الأظهر، وأن تكون موصولة، والفاء تدخل في خبر الموصول إذا أجري مجرى الشرط بشرائط ذكرت في النحو، وهي موجودة. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر في رواية، وشيبة: بما بغير فاء، فما موصولة، ولا يجوز أن تكون شرطية؛ وحذفت الفاء لأن ذلك مما يخصه سيبويه بالشعر، وأجازت ذلك الأخفش وبعض نحاة بغداد وذلك على إرادة الفاء. وترتب ما أصاب من المصائب على كسب الأيدي موجود مع الفاء ودونها هنا، والمصيبة: الرزايا والمصائب في الدنيا، وهي مجازاة على ذنوب المرء وتمحيص لخطاياه، وأنه تعالى يعفو عن كثير، ولا يجازي عليه بمصيبة. وفي الحديث: (لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر). وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال؛ إن أحبه إلي أحبه إلى
الله، وهذا مما كسبت يداي. ورؤي على كف شريح قرحة، فقيل: بم هذا؟ فقال: بما كسبت يداي.
وقال الزمخشري: الآية مخصوصة بالمجرمين، ولا يمتنع أن يستوفي الله عقاب المجرم ويعفو عن بعض. فأما من لا جرم له، كالأنبياء والأطفال والمجانين، فهو كما إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره، فللعوض الموفي والمصلحة وعن علي: هذه أرجى آية للمؤمنين. وقال الحسن: * (من مصيبة) *: أي حد من حدود الله، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه، فإنما هي بكسب أيدي كم. * (* ويعفو) * الله * (ويعفوا عن كثير) *، فيستره على العباد حتى لا يحد عليه. * (وما أنتم بمعجزين) *: أنتم في قبضة القدرة. وقيل: ليست المصائب من الأسقام والقحط والغرق وغير ذلك بعقوبات على الذنوب لقوله: * (اليوم * تجزى * كل نفس بما كسبت) *، ولاشتراك الصالح والطالح فيهما، بل أكثر ما يبتلي به الصالحون المتقون. وفي الحديث: (خص بالبلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل). ولأن الدنيا دار التكليف، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار الجزاء، وليس الأمر كذلك. وهذا القول يؤخره نصوص القرآن، كقوله تعالى: * (فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا) * الآية.
* (ومن ءاياته الجوار فى البحر كالاعلام * إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على * رواكد على ظهره إن فى ذلك لايات لكل صبار شكور * أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون فىءاياتنا ما لهم من * محيص * فما أوتيتم من شىء فمتاع الحيواة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلواة
496

وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون * وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون فى الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور * ومن يضلل الله فما له من ولى من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من) *.
لما ذكر تعالى من دلائل وحدانيته أنواعا، ذكر بعدها العالم الأكبر، وهو السماوات والأرض؛ ثم العالم الأصغر، وهو الحيوان. ثم اتبعه بذكر المعاد، أتبعه بذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف يغوص فيه الثقيل، والسفن تشخص بالأجسام الثقيلة الكثيفة، ومع ذلك جعل تعالى للماء قوة يحملها بها ويمنع من الغوص. ثم جعل الرياح سببا لسيرها. فإذا أراد أن ترسو، أسكن الريح، فلا تبرح عن مكانها. والجواري: جمع جارية، وأصله السفن الجواري، حذف الموصوف وقامت صفته مقامه، وحسن ذلك قوله: * (فى البحر) *، فدل ذلك على أنها صفة للسفن، وإلا فهي صفة غير مختصة، فكان القياس أن لا يحذف الموصوف ويقوم مقامه. ويمكن أن يقال: إنها صفة غالبة، كالأبطح، فجاز أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف. وقرئ: الجواري بالياء ودونها، وسمع من العرب الأعراب في الراء، وفي البحر متعلق بالجواري، وكالأعلام في موضع الحال، والأعلام: الجبال، ومنه قول الخنساء أخت صخر ومعاوية:
* وإن صخرا التأتم الهداة به
*
كأنه علم في رأسه نار
*
ومنه:
إذا قطعن علما بدا علم
وقرأ جمهور السبعة: * (الريح) * إفرادا، ونافع: جمعا، وقرأ الجمهور: * (فيظللن) * بفتح اللام، وقرأ قتادة: بكسرها، والقياس الفتح، لأن الماضي بكسر العين، فالكسر في المضارع شاذ. وقال الزمخشري: من ظل يظل ويظل، نحو ضل يضل ويضل. انتهى. وليس كما ذكر، لأن يضل بفتح العين من ضللت بكسرها في الماضي، ويضل بكسرها من ضللت بفتحها في الماضي، وكلاهما مقيس. * (لكل صبار) * على بلائه، * (شكور) * لنعمائه. * (أو يوبقهن) *: يهلكهن، أي الجواري، وهو عطف على يسكن، والضمير في * (كسبوا) * عائد على ركاب السفن، أي بذنوبهم. وقرأ الأعمش: ويعفو بالواو، وعن أهل المدينة: بنصب الواو، والجمهور: ويعف مجزوما عطفا على يوبقهن. فأما قراءة الأعمش، فإنه أخبر تعالى أنه يعفو عن كثير، أي لا يؤاخذ بجميع ما اكتسب الإنسان. وأما النصب، فبإضمار أن بعد الواو، وكالنصب بعد الفاء في قراءة من قرأ: يحاسبكم به الله فيغفر، وبعد الواو في قول الشاعر:
497

* فإن يهلك أبو قابوس يهلك
*
ربيع الناس والشهر الحرام
*
* ونأخذ بعده بذناب عيش
*
أجب الظهر ليس له سنام
*
روي بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه. وفي هذه القراءة يكون العطف على مصدر متوهم، أي يقع إيباق وعفو عن كثير. وأما الجزم فإنه داخل في حكم جواب الشرط، إذ هو معطوف عليه، وهو راجع في المعنى إلى قراءة النصب، لكن هذا عطف فعل على فعل، وفي النصب عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم. وقال القشيري: وقرئ: * (ويعف) * بالجزم، وفيها إشكال، لأن المعنى: إن يشأ يسكن الريح، فتبقى تلك السفن رواكد، أو يهلكها بذنوب أهلها، فلا يحسن عطف ويعف على هذه، لأن المعنى: يعيران شيئا يعف، وليس المعنى ذلك، بل المعنى: الإخبار عن الغيوب عن شرط المشيئة، فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ، لا من حيث المعنى. وقد قرأ قوم: ويعفو بالرفع، وهي جيدة في المعنى. انتهى، وما قاله ليس بجيد، إذ لم يفهم مدلول التركيب. والمعنى: أنه تعالى إن يشأ أهلك ناسا وأنجى ناسا على طريق العفو عنهم. وقال الزمخشري: فإن قلت: على م عطف يوبقهن؟ قلت: على يسكن، لأن المعنى: إن يشأ يسكن الريح فيركدن، أو يعصفها فيغرقن بعصفها. انتهى. ولا يتعين أن يكون التقدير: أو يعصفها فيغرقن، لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح، بل قد يهلكها تعالى بسبب غير الريح، كنزول سطحها بكثرة الثقل، أو انكسار اللوح يكون سببا لإهلاكها، أو يعرض عدو يهلك أهلها. وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع، وابن عامر، وزيد بن علي: * (ويعلم) * بالرفع على القطع. وقرأ الجمهور: ويعلم بالنصب؛ قال أبو علي وحسن: النصب إذا كان قبله شرط وجزاء، وكل واحد منهما غير واجب. وقال الزجاج: على إضمار أن، لأن قبلها جزاء. تقول: ما تصنع أصنع مثله، وأكرمك، وإن أشئت، وأكرمك علي، وأنا أكرمك، وإن شئت، وأكرمك جزما. قال الزمخشري: فيه نظر، لما أورده سيبويه في كتابه قال: واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف، وهو نحو من قوله:
وألحق بالحجاز فاستريحا
فهذا لا يجوز، وليس بحد الكلام ولا وجهه، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا، لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل. فلما ضارع الذي لا يوجبه، كالاستفهام ونحوه، أجازوا فيه هذا على ضعفه. قال الزمخشري: ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه، ولو كانت من هذا الباب، لما أخلى سيبويه منها كتابه، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة. انتهى. وخرج الزمخشري النصب على أنه معطوف على تعليل محذوف، قال تقديره: * (عن كثير ويعلم الذين يجادلون) *، يكره في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن، ومنه قوله تعالى: * (ولنجعلك ءاية للناس) *، وقوله: * (خلق الله السماوات والارض بالحق) *، * (يتأخر كل نفس بما كسبت) *. انتهى. ويبعد تقديره لينتقم منها، لأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم، فلا يحسن لينتقم منهم. وأما الآيتان فيمكن أن تكون اللام متعلقة بفعل محذوف، أي * (ولنجعله ءاية للناس) *، * (يتأخر كل نفس بما كسبت) *. فعلنا ذلك، وكثيرا ما يقدر هذا الفعل محذوفا قبل لام العلة، إذا لم يكن فعل ظاهر يتعلق به.
وذكر الزمخشري أن قوله تعالى: * (ويعلم) * قرىء بالجزم، فإن قلت: فكيف يصح المعنى على جزم ويعلم؟ قلت: كأنه قال: أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور: هلاك قوم، ونجاة قوم، وتحذير آخرين، لأن قوله: * (ويعلم الذين يجادلون فىءاياتنا ما لهم من محيص) * يتضمن تحذيرهم من عقاب
498

الله، * (وما لهم من * محيص) * في موضع نصب، لأن يعلم معلقة، كقولك: علمت ما زيد قائم. وقال ابن عطية في قراءة النصب، وهذه الواو ونحوها التي تسميها الكوفيون واو الصرف، لأن حقيقة واو الصرف التي يريدونها عطف فعل على اسم مقدر، فيقدر أن ليكون مع الفعل بتأويل المصدر، فيحسن عطفه على الاسم. انتهى. وليس قوله تعليلا لقولهم واو الصرف، إنما هو تقرير لمذهب البصريين. وأما الكوفيون فإن واو الصرف ناصبة بنفسها، لا بإضمار أن بعدها. وقال أبو عبيد على الصرف كالذي في آل عمران: * (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) *، ومعنى الصرف أنه كان على جهة، فصرف إلى غيرها، فتغير الإعراب لأجل الصرف. والعطف لا يعين الاقتران في الوجود، كالعطف في الاسم، نحو: جاء زيد وعمرو. ولو نصب وعمرو اقتضى الاقتران؛ وكذلك واو الصرف، ليفيد معنى الاقتران ويعين معنى الاجتماع، ولذلك أجمع على النصب في قوله: * (ويعلم الصابرين) *، أي ويعلم المجاهدين والصابرين معا.
عن علي، رضي الله عنه، اجتمع لأبي بكر رضي الله عنه مال، فتصدق به كله في سبيل الله والخير، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون، فنزلت: * (فما أوتيتم من شىء) *، والظاهر أنه خطاب للناس. وقيل: للمشركين، وما شرطية مفعول ثان لأوتيتم، ومن شيء بيان لما، والمعنى: من شيء من رياش الدنيا ومالها والسعة فيها، والفاء جواب الشرط، أي فهو متاع، أي يستمتع في الحياة. * (وما عند الله) *: أي من ثوابه وما أعد لأوليائه، * (خير وأبقى) * مما أوتيتم، لأنه لا انقطاع له. وتقدم الكلام في الكبائر في قوله: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) *، في النساء. وقرأ الجمهور: * (كبائر) * جمعا هنا، وفي النجم، وحمزة، والكسائي: بالإفراد.
* (والذين يجتنبون) *: عطف على * (الذين كفروا) *، وكذلك ما بعده. ووقع لأبي البقاء وهم في التلاوة، اعتقد أنها الذين يجتنبون بغير واو، فبنى عليه الإعراب فقال: الذين يجتنبون في موضع جر بدلا من الذين آمنوا، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار، أعني: وفي موضع رفع على تقديرهم. انتهى. والعامل في إذا يغفرون، وهي جملة من مبتدأ وخبر معطوف على يجتنبون، ويجوز أن يكون هم توكيدا للفاعل في غضبوا. وقال أبو البقاء: هم مبتدأ، ويغفرون الخبر، والجملة جواب إذا. انتهى، وهذا لا يجوز، لأن الجملة لو كانت جواب إذا لكانت بالفاء، تقول: إذا جاء زيد فعمرو منطلق، ولا يجوز حذف الفاء إلا إن ورد في شعر. وقيل: هم مرفوع بفعل محذوف يفسره يغفرون، ولما حذف، انفصل الضمير، وهذا القول فيه نظر، وهو أن جواب إذا يفسر كما يفسر فعل الشرط بعدها،
نحو: * (إذا السماء انشقت) *، ولا يبعد جواز ذلك على مذهب سيبويه، إذ جاء ذلك في أداة الشرط الجازمة، نحو: إن ينطلق زيد ينطلق، فزيد عنده فاعل بفعل محذوف يفسره الجواب، أي ينطلق زيد، منع ذلك الكسائي والفراء. وقال الزمخشري: هم يغفرون، أي هم الأخصاء بالغفران، في حال الغضب لا يغول الغضب أحلامهم، كماي غول حلوم الناس. والمجيء لهم وإيقاعه مبتدأ، وإسناد يغفرون إليه لهذه الفائدة. انتهى، وفيه حض على كسر الغضب. وفي الحديث: (أوصني، قال: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب).
* (والذين استجابوا لربهم) *، قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله للإيمان به وطاعته فاستجابوا له. وكانوا قبل الإسلام، وقبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم) المدينة، إذا نابهم أمر تشاوروا، فأثنى الله عليهم، لا ينفردون بأمر حتى يجتمعوا عليه. وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم. انتهى. وفي الشورى اجتماع الكلمة والتحاب والتعاضد على الخير. وقد شاور الرسول عليه السلام فيما يتعلق بمصالح الحروب والصحابة بعده في ذلك، كمشاورة عمر للهرمز. وفي الأحكام، كقتال أهل الردة، وميراث الحربي، وعدد مدمني الخمر، وغير ذلك. والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، على حذف مضاف، أي وأمرهم ذو شورى بينهم. و * (هم ينتصرون) *: صلة للذين، وإذا معمولة لينتصرون، ولا يجوز أن يكون * (هم ينتصرون) * جوابا لإذا، والجملة الشرطية وجوابها صلة لما ذكرناه من لزوم الفاء، ويجوز هنا أن يكون هم فاعلا بفعل محذوف على ذلك القول الذي قيل في * (هم يغفرون) *. وقال الحوفي: وإن شئت
499

جعلت هم توكيدا للهاء والميم، يعني في أصابهم، وهو ضمير رفع، وفي هذا نظر، وفيه الفصل بين المؤكد والتوكيد بالفاعل، وهو فعل الظاهر أنه لا يمتنع، والانتصار: أن يقتصر على ما حده الله له ولا يتعدى. وقال النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم، فتجترىء عليهم الفساق، ومن انتصر غير متعد فهو مطيع محمود. وقال مقاتل، وهشام عن عروة: الآية في المجروح ينتصف من الجارح بالقصاص. وقال ابن عباس: تعدى المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعلى أصحابه، وأخرجوهم من مكة، فأذن الله لهم بالخروج في الأرض، ونصرهم على من بغى عليهم. وقال الكيا الطبري: ظاهره أن الانتصار في هذا الموضع أفضل، ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله ولرسوله وإقامة الصلاة؟ فهذا على ما ذكره النخعي، وهذا فيمن تعدى وأصر، والمأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما مقلعا. وقد قال عقيب هذه الآية * (ولمن انتصر بعد ظلمه) * الآية، فيقتضي إباحة الانتصار. وقد عقبه بقوله: * (ولمن صبر وغفر) *، وهذا محمول على القرآن عند غير المصر. فأما المصر على البغي، فالأفضل الانتصار منه بدليل الآية قبلها. وقال ابن بحر: المعنى تناصروا عليه فأزالوه عنهم. وقال أبو بكر بن العربي نحوا من قول الكيا. قال الجمهور: إذا بغى مؤمن على مؤمن، فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه، بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه. وقالت فرقة: له ذلك.
* (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *: هذا بيان للانتصار، أي لا يتعدى فيما يجازي به من بغى عليه. قال ابن أبي نجييج، والسدي: إذا شتم، فله أن يرد مثل ما شتم به دون أن يتعدى، وسمى القصاص سيئة على سبيل المقابلة، أو لأنها تسوء من اقتص منه، كما ساءت الحيض. وظاهر قوله: مثلها المماثلة مطلقا في كل الأحوال، لا فيما خصه الدليل. والفقهاء أدخلوا التخصيص في صور كثيرة بناء على القياس. قال مجاهد، والسدي: إذا قال له أخزاك الله فليقل أخزاك الله، وإذا قذفه قذفا يوجب الحد، بل الحد الذي أمره الله به. * (فمن عفا وأصلح) *: أي بينه وبين خصمه بالعفو، * (فأجره على الله) *: عدة مبهمة لا يقاس عظمها، إذ هي على الله. * (إنه لا يحب الظالمين) *: أي الخائنين، وإذا كان لا يحبه وقد ندب إلى العفو عنه، فالعفو الذي يحبه الله أولى أن يعفي عنه، أو لا يحب الظالمين من تجاوز واعتدى من المجني عليهم، إذا انتصروا خصوصا في حالة الحرب والتهاب الحمية، فربما يظلم وهو لا يشعر. وفي الحديث: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له أجر على الله فليقم، قال: فيقوم خلق، فيقال لهم: ما أجركم على الله؟ فيقولون: نحن عفونا عمن ظلمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة بإذن الله). واللام في * (ولمن انتصر) * لام توكيد. قال الحوفي: وفيها معنى القسم. وقال ابن عطية: لام التقاء القسم يعنيان أنها اللام التي يتلقى بها القسم، فالقسم قبلها محذوف، ومن شرطية، وحمل * (انتصر بعد ظلمه) * على لفظ من، وفأولئك على معنى من، والفاء جواب الشرط، وظلمه مصدر مضاف إلى المفعول. قال الزمخشري: ويفسره قراءة من قرأ: بعد ما ظلم ما عليهم من سبيل، قيل: أي من طريق إلى الحرج؛ وقيل: من سبيل للمعاقب، ولا المعاقب والعاتب، وهذه مبالغة في إباحة الانتصار. * (إنما السبيل) *: أي سبيل الإثم والحرج، * (على الذين يظلمون) *: أي يبتذلون بالظلم، * (ويبغون فى الارض) *: أي يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون. وقيل: ويظلمون الناس: أي يضعون الأشياء غير مواضعها من القتل وأخذ المال والأذى باليد واللسان. والبغي بغير الحق، فهو نوع من أنواع الظلم، خصه بالذكر تنبيها على شدته وسوء حال صاحبه. انتهى. * (ولمن صبر) *: أي على الظلم والأذى، * (وغفر) *، ولم ينتصر. واللام في ولمن يجوز أن تكون اللام الموطئة القسم المحذوف، ومن شرطية، وجواب القسم قوله: * (إن ذالك) *، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه. ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء، ومن موصولة مبتدأ، والجملة المؤكدة بأن في موضع الخبر. وقال الحوفي: من رفع بالابتداء وأضمر الخبر، وجواب الشرط إن وما تعلقت به على حذف الفاء، كما قال الشاعر:
* من يفعل الحسنات الله يشكرها
500

أي: فالله يشكرها. انتهى، وهذا ليس بجيد، لأن حذف الفاء مخصوص بالشعر عند سيبويه. والإشارة بذلك إلى ما يفهم من مصدر صبر وغفر والعائد على الموصول المبتدأ من الخبر محذوف، أي إن ذلك منه لدلالة المعنى عليه: * (لمن عزم الامور) *، إن كان ذلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: * (ولمن صبر وغفر) *، لم يكن في عزم الأمور حذف، وإن كان ذلك إشارة إلى المبتدأ، كان هو الرابط، ولا يحتاج إلى تقدير منه، وكان في * (عزم الامور) *، أي أنه لمن ذوي عزم الأمور. وسب رجل آخر في مجلس الحسن، فكان المسبوب يكظم ويعرق ويمسح العرق، ثم قام فتلا الآية، فقال الحسن: عقلها والله وفهمها، لم هذه ضيعها
الجاهلون. والجملة من قوله: * (إنما السبيل) * اعتراض بين قوله: * (ولمن انتصر) *، وقوله: * (ومن * صبر) *.
*
* (ومن يضلل * الله فما له من ولى من بعده) *: أي من ناصر يتولاه من بعده، أي من بعد إضلاله، وهذا تحقير لأمر الكفرة. * (وترى الظالمين) *: الخطاب للرسول، والمعنى: وترى حالهم وما هم فيه من الحيرة، * (لما رأوا العذاب) *، يقولون: * (هل إلى مرد من سبيل) *: هل سبيل إلى الرد للدنيا؟ وذلك من فظيع ما اطلعوا عليه، وسوء ما يحل بهم. * (وتراهم يعرضون عليها) *: أي على النار، دل عليها ذكر العذاب، * (خاشعين) * متضائلين صاغرين مما يحلقهم، * (من الذل * وقرا * سبيلا * وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل) * متعلق * (ينظرون من طرف خفى) *. قال ابن عباس: ذليل. انتهى. قيل: ووصف بالخفاء لأن نظرهم ضعيف ولحظهم نهاية، قال الشاعر:
* فغض الطرف إنك من نمير وقيل: يحشرون عميا. ولما كان نظرهم بعيون قلوبهم، جعله طرفا خفيا، أي لا يبدو نظرهم، وهذا التأويل فيه تكلف. وقال السدي، وقتادة: المعنى يسارقون النظر لما كانوا فيه من الهم وسوء الحال، لا يستطيعون النظر بجميع العين، وإنما ينظرون من بعضها، فيجوز على هذا التأويل أن يكون الطرف مصدرا، أي من نظر خفي. وقال الزمخشري: * (من طرف خفى) *، أي يبتدئ نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة، كما ترى المصور ينظر إلى السيف، وهكذا نظر الناظر إلى المكاره، ولا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينه منها، كما يفعل في نظره إلى المتحاب.
*
* (وقال الذين ءامنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين فى عذاب مقيم * وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل * استجيبوا لربكم من قبل * من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير (سقط: الآية كاملة)) *.
501

(سقط: لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلا الله تصير الأمور)
الظاهر أن * (وقال) * ماض لفظا ومعنى، أي * (وقال الذين ءامنوا) * في الحياة الدنيا، ويكون يوم القيامة معمولا لخسروا، ويحتمل أن يكون معنى * (وقال) *: ويقول، ويوم القيامة معمول لو يقولوا، أي ويقولوا في ذلك اليوم لما عاينوا ما حل بالكفار وأهليهم. الظاهر أنهم الذين كانوا أهليهم في الدنيا، فإن كانوا معهم في النار فقد خسروهم، أي لا ينتفعون بهم؛ وإن كانوا في الجنة لكونهم كانوا في الجنة لكونهم كانوا مؤمنين، كآسية امرأة فرعون، فهم لا ينتفعون بهم أيضا. وقيل: أهلوهم ما كان أعد لهم من الحور لو كانوا آمنوا، والظاهر أن قوله: * (ألا إن الظالمين فى عذاب مقيم) * من كلام المؤمنين؛ وقيل: استئناف إخبار من الله تعالى.
* (من قبل أن يأتى يوم) *، قيل: هو يوم ورود الموت، والظاهر أنه يوم القيامة. و * (من الله) * متعلق بمحذوف يدل عليه ما مر، أي لا يرد ذلك اليوم من ما حكم الله به فيه. وقال الزمخشري: * (من الله) *: من صلة للأمرد. انتهى، وليس الجيد، إذ لو كان من صلته لكان معمولا له، فكان يكون معربا منونا. وقيل: * (من الله) * يتعلق بقوله: * (يأتى) *، من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده. * (مالكم * من ملجأ) * تلجأون إليه، فتتخلصون من العذاب، ومالكم من إنكار شيء من أعمالكم التي توردكم النار، والنكير مصدر أنكر على غير قياس. قيل: ويحتمل أن يكون اسم فاعل للمبالغة، وفيه بعد، لأن نكر معناه لم يميز. * (فإن أعرضوا) * الآية: تسلية للرسول وتأنيس له، وإزالة لهمه بهم. والإنسان: يراد به الجنس، ولذلك جاء: * (وإن تصبهم سيئة) *. وجاء جواب الشرط * (فإن الإنسان) * ولم يأت فإنه، ولا فأنهم، ليدل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم، كما قال: * (إن الإنسان لظلوم كفار) *، * (إن الإنسان لربه لكنود) *.
ولما ذكر أنه يكفر النعم، أتبع ذلك بأن له ملك العالم العلوي والسفلي، وأنه يفعل ما يريد، ونبه على عظيم قدرته، وأن الكائنات ناشئة عن إرادته، فذكر أنه يهب لبعض إناثا، ولبعض ذكورا، ولبعض الصنفين، ويعقم بعضا فلا يولد له. وقال إسحق بن بشر: نزلت هذه الآية في الأنبياء، ثم عمت. فلوط أبو بنات لم يولد له ذكور، وإبراهيم ضده، ومحمد صلى الله عليه وسلم) وعليهما ولد له الصنفان، ويحي عقيم. انتهى. وذكر أيضا مع لوط شعيب، ومع يحي عيسى، وقدم تعالى هبة البنات تأنيسا لهن وتشريفا لهن، ليهتم بصونهن والإحسان إليهن. وفي الحديث: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له سترا من النار). وقال واثلة بن الأسقع: من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر، لأن الله تعالى بدأ بالإناث. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم قدم الإناث على الذكور مع تقدمهم عليهن، ثم رجع فقدمهم؟ ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث؟ قلت: لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى. وكفران الإنسان: نسيانه الرحمة السابقة عنده.
ثم ذكره بذكر ملكه ومشيئته، وذكر قسمة الأولاد، فقدم الإناث، لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه، لا ما يشاء الإنسان، فكان ذكر الإناث اللائي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم، والأهم أوجب التقديم. والبلاء: الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء، ذكر البلاء وآخر الذكور. فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيره، وهم أحق بالتقديم بتعريفهم، لأن التعريف تنويه وتشهير، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفريقين، الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم. ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير، وعرفان تقديمهن لم يكن لتقدمهن، ولكن لمقتضى آخر فقال: * (ذكرانا وإناثا) *، كما قال: * (إنا خلقناكم من
502

ذكر وأنثى) *، * (فجعل منه الزوجين الذكر والانثى) *. انتهى. وقيل: بدأ بالأنثى ثم ثنى بالذكر، لتنقله من الغم إلى الفرح. وقيل: ليعلم أنه لا اعتراض على الله فيرضى. فإذا وهب له الذكر، علم أنه زيادة وفضل من الله وإحسان إليه. وقيل: قدمها تنبيها على أنه إذا كان العجز والحاجة لهم، كانت عناية الله أكثر. وقال مجاهد: هو أن تلد المرأة غلاما، ثم تلد جارية. وقال محمد بن الحنيفة: أن تلد توأما، غلاما وجارية. وقال أبو بكر بن العربي: أو يزوجهم ذكرانا وإناثا. قال
علماؤنا: يعني آدم، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين، ذكرا وأنثى؛ تزوج ذكر هذا البطن أنثى البطن الآخر. انتهى.
ولما ذكر الهبة في الإناث، والهبة في الذكور، اكتفى عن ذكرها في قوله: * (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) *. ولما كان العقم ليس بمحمود قال: * (ويجعل من يشاء عقيما) *، وهو قسيم لمن يولد له. ولما كانت الخنثى مما يحزن بوجوده، لم يذكره تعالى. قالوا: وكانت الخلقة مستمرة، ذكرا وأنثى، إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى، فسئل فارض العرب ومعمرها عامر بن الظرب عن ميراثه، فلم يدر ما يقوله وأرجأهم. فلما جن عليه الليل، جعل يتقلب وتذهب به الأفكار، وأنكرت خادمه حاله فسألته، فقال: بهرت لأمر لا أدري ما أقول فيه، فقالت له: ما هو؟ فقال: شخص له ذكر وفرج، كيف يكون حاله في الميراث؟ قالت له الأمة: ورثه من حيث يبول، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم، فرضوا بها. وجاء الإسلام على ذلك، وقضى بذلك علي، كرم الله وجهه، إنه عليم بمصالح العباد، قدير على تكوين ما يشاء.
كان من الكفار خوض في معنى تكليم الله موسى، فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم، فنزلت. وقيل: كانت قريش تقول: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا، كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم الرسول عليه السلام: (لم ينظر موسى إلى الله)، فنزلت: * (وما كان لبشر أن يكلمه الله) *، بيانا لصورة تكليم الله عباده أي ما ينبغي ولا يمكن لبشر إلا يوحى إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام. قال مجاهد: أو النفث في القلب. وقال النقاش: أو وحي في المنام. وقال النخعي: كان في الأنبياء من يخط له في الأرض، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزا، كموسى عليه السلام، وهذا معنى * (من وراء حجاب) *: أي من خفاء عن المتكلم، لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه، وليس كالحجاب في المشاهد، أو بأن يرسل إليه ملكا يشافهه بوحي الله تعالى، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: وما صح لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على ثلاثة أوجه:
إما على طريق الوحي، وهو الإلهام والقذف في القلب والمنام، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده. وعن مجاهد: أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره، قال عبيد بن الأبرص:
* وأوحى إلى الله أن قد تأمروا
*
بابن أبي أوفى فقمت على رجل
*
أي: ألهمني وقذف في قلبي.
وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه، لأنه في ذاته غير مرئي. وقوله: * (من وراء حجاب) * مثل، أي: كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه، وهو من وراء حجاب، فيسمع صوته ولا يرى شخصه، وذلك كما كلم الله موسى ويكلم الملائكة.
وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيوحي الملك إليه، كما كلم الأنبياء غير موسى. انتهى، وهو على طريق المعتزلة في استحالة رؤية الله تعالى ونفي الكلام الحقيقي عن الله.
وكل هذه الأقسام الثلاثة يصدق عليها أنها وحي، وخص الأول باسم الوحي هنا، لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام يقع دفعة واحدة، فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى. وقيل: * (وحيا) * كما أوحى إلى الرسل بواسطة
503

الملائكة، أو * (يرسل رسولا) *: أي نبيا، كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم، حكاه الزمخشري، وترك تفسير * (أو من وراء حجاب) *، ومعناه في هذا القول: كما كلم محمدا وموسى صلى الله عليه وسلم). وقرأ الجمهور: * (حجاب) *، مفردا؛ وابن أبي عبلة: حجب جمعا. وقرأ الجمهور: بنصب الفعلين عطف، أو يرسل على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب تقديره: أو يكلمه من وراء حجاب، وهذا المضمر معطوف على وحيا، والمعنى: إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب، أو إرسال رسول فيوحي ذلك الرسول إلى النبي الذي أرسل عنه بإذن الله ما يشاء، ولا يجوز أن يعطف * (أو يرسل) * على * (أن يكلمه الله) * لفساد المعنى. وقال الزمخشري: ووحيا، وأن يرسل، مصدران واقعان موقع الحال، لأن أن يرسل في معنى إرسالا، ومن وراء حجاب ظرف واقع موقع الحال أيضا، كقوله: * (وعلى جنوبهم) *، والتقدير: وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب، أو مرسلا. انتهى. أما وقوع المصدر موقع الحال، فلا ينقاس، وإنما قالته العرب. وكذلك لا يجوز: جاء زيد بكاء، تريد باكيا، وقاس منه المبرد ما كان منه نوعا للفعل، نحو: جاء زيد مشيا أو سرعة، ومنع سيبويه أن يقع أن والفعل المقدر بالمصدر موقع الحال، فلا يجوز، نحو: جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكا الواقع موقع ضاحكا، فجعله وحيا مصدرا في موضع الحال مما لا ينقاس، وأن يرسل في معنى إرسالا الواقع موقع مرسلا ممنوع بنص سيبويه. وقرأ نافع وأهل المدينة: أو يرسل رسولا فيوحي بالرفع فيهما، فخرج على إضمار هو يرسل، أو على ما يتعلق به من وراء، إذ تقديره: أو يسمع من وراء حجاب، ووحيا مصدر في موضع الحال، عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه، أو يرسل والتقدير: إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب، أو مرسلا، وإسناد التكلم إلى الله بكونه أرسل رسولا مجاز، كما تقول: نادى الملك في الناس بكذا، وإنما نادى الريح، الدائر في الأسواق، نزل ما كان بواسطة منزلة ما كان بغير واسطة. قال ابن عطية: وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكلم، وأن الحالف الرسل، كانت إذا حلف أن لا يكلم إنسانا فأرسل إليه، وهو لم ينو المشافهة وقت يمينه. انتهى. * (إنه على) *: أي علي عن صفات المخلوقين، * (حكيم) *: تجري
أفعاله على ما تقتضيه الحكمة، يكلم بواسطة وبغير واسطة.
* (وكذلك أوحينا) *: أي مثل ذلك الإيحاء الفصل أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث: النفث في الروع، والمنام، وتكليم الله له حقيقة ليلة الإسراء، وإرسال رسول إليه، وهو جبريل. وقيل: كما أوحينا إلى الأنبياء قبلك، * (أوحينا إليك روحا من أمرنا) *. قال ابن عباس: النبوة. وقال السدي: الوحي؛ وقال قتادة: رحمة؛ وقال الكلبي: كتابا؛ وقال الربيع: جبريل؛ وقيل: القرآن؛ وسمى ما أوحى إليه روحا، لأن به الحياة من الجهل. وقال مالك بن دينار: يا أهل القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب، كما أن العشب ربيع الأرض. * (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان) *: توقيف على عظم المنة، وهو صلى الله عليه وسلم) أعلم الناس بها، وعطف ولا الإيمان على ما الكتاب، وإنما معناه: الإيمان الذي يدركه السمع، لأن لنا أشياء من الإيمان لا تعلم إلا بالوحي. أما توحيد الله وبراءته عن النقائص، ومعرفة صفاته العلا، فجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عالمون ذلك، معصومون أن يقع منهم زلل في شيء من ذلك، سابق لهم علم ذلك قبل أن يوحي إليهم. وقد أطلق الإيمان على الصلاة في قوله: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) *، إذ هي بعض ما يتناوله الإيمان.
ومن طالع سير الأنبياء من نشأتهم إلى مبعثهم، تحقق عنده أنهم معصومون من كل نقيصة، موحدون لله منذ نشؤوا. قال الله تعالى في حق يحي عليه السلام: * (واتيناه الحكم صبيا) *. قال معمر: كان ابن سنتين أو ثلاث. وعن أبي العالية: ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان. وقال القاضي: * (ولا الإيمان) *: الفرائض والأحكام. قال: وكان قبل مؤمنا بتوحيد الله، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل، فزاد بالتكليف إيمانا. وقال القشيري: يجوز إطلاق الإيمان على تفاصيل الشرع. وقال الحسين بن الفضل: هو على حذف مضاف،
504

أي ولا أهل الإيمان من الذي يؤمن أبو طالب أو العباس أو غيرهما. وقال علي بن عيسى: إذ كنت في المهد. وقيل: ما الكتاب لولا إنعامنا عليك، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك. وقيل: أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الإيمان ولا الكتاب، فتكون أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم. ما الكتاب: جملة استفهامية مبتدأ وخبر، وهي في موضع نصب بتدري، وهي معلقة.
* (ولاكن جعلناه نورا) *: يحتمل أن يعود إلى قوله: * (روحا) *، وإلى * (كتاب) *، وإلى * (الايمان) *، وهو أقرب مذكور. وقال ابن عطية: عائد على الكتاب. انتهى. وقيل: يعود إلى الكتاب والإيمان معا لأن مقصدهما واحد، فهو نظير: * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) *. وقرأ الجمهور: * (لتهدى) *، مضارع هدى مبنيا للفاعل؛ وحوشب: مبنيا للمفعول، إجابة سؤاله عليه الصلاة والسلام: * (اهدنا الصراط المستقيم) *. وقرأ ابن السميقع: لتهدي بضم التاء وكسر الدال؛ وعن الجحدري مثلها ومثل قراءة حوشب. * (صراط مستقيم) *، قال علي: هو القرآن؛ وقيل: الإسلام. * (ألا إلى الله تصير الامور) *: أخبر بالمضارع، والمراد به الديمومة، كقوله: زيد يعطي ويمنع، أي من شأنه ذلك، ولا يراد به حقيقة المستقبل، أي ترد جميع أمور الخلق إليه تعالى يوم القيامة فيقضي بينهم بالعدل، وخص ذلك بيوم القيامة، لأنه لا يمكن لأحد أن يدعي فيه لنفسه شيئا، قاله الفراء.
(
505