الكتاب: تفسير أبي السعود
المؤلف: أبي السعود
الجزء: ٨
الوفاة: ٩٥١
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

تفسير أبي السعود
المسمى إرشاد العقل السليم إلي مزايا القرآن الكريم
لقاضي القضاة الإمام
أبي السعود محمد بن محمد العمادي
المتوفى سنة 951 هجرية
الجزء الثامن
الناشر
دار إحياء التراث العربي
بيروت - لبنان
1

سورة فصلت
مكية وآيها ثلاث أو أربع وخمسون آية
حم إن جعل إسما للسورة فهو إما خبر لمبتدأ محذوف وهو الأظهر لما مر من سره مرارا أو مبتدأ خبره تنزيل وهو على الأول خبر بعد خبر، وخبر لمبتدأ محذوف إن جعل مسرودا على نمط التعديد وقوله تعالى: من الرحمن الرحيم متعلق به مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، أو خبر آخر. أو تنزيل مبتدأ لتخصصه بالصفة خبره كتاب وهو على الوجوه الأول بدل منه أو خبر آخر أو خبر لمحذوف. ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية، واقع بمقتضى الرحمة الربانية حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. فصلت آياته ميزت بحسب النظم والمعنى وجعلت تفاصيل في أساليب مختلفة ومعان متغايرة من أحكام وقصص ومواعظ وأمثال ووعد ووعيد. وقرىء فصلت، أي فرقت بين الحق والباطل، أو فصل بعضها من بعض باختلاف الأساليب والمعاني من قولك فصل من البلد فصولا قرآنا عربيا نصب على المدح أو الحالية من كتاب لتخصصه بالصفة أو من آياته لقوم يعلمون أي معانيه لكونه على لسانهم، وقيل لأهل العلم والنظر، لأنهم المنتفعون به. واللام متعلقة بمحذوف هو صفة أخرى لقرآنا، أي كائنا لقوم الخ، أو بتنزيل على أن من الرحمن الرحيم ليست بصفة له أو بفصلت بشيرا ونذيرا صفتان أخريان لقرآنا أي بشيرا لأهل الطاعة ونذيرا لأهل المعصية، أو حالان من كتاب، أو من آياته. وقرئا بالرفع على الوصفية لكتاب أو الخبرية لمحذوف فأعرض أكثرهم عن تدبره مع كونه على لغتهم فهم لا يسمعون سماع تفكر وتأمل حتى يفهموا جلالة قدره فيؤمنوا به وقالوا أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن قلوبنا في أكنة أي أغطية متكاثفة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر أي صمم، وأصله الثقل. وقرىء بالكسر، وقرىء بفتح القاف ومن بيننا وبينك حجاب غليظ يمنعنا عن التواصل، ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ولم يبق ثمة فراغ أصلا وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ومج أسماعهم له كأن بها صمما وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول عليه الصلاة والسلام.
2

فاعمل أي على دينك وقيل في إبطال أمرنا إننا عاملون أي على ديننا، وقيل في إبطال أمرك والأول هو الأظهر فإن قوله تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد تلقين للجواب عنه أي لست من جنس مغاير لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان، كما ينبىء عنه قولكم. «فاعمل إننا عاملون» بل إنما أنا بشر مثلكم مأمور بما أمرتم به حيث أخبرنا جميعا بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم فإن الخطاب في إلهكم محكي منتظم لكل لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة كما في مثلكم، وقيل المعنى لست ملكا ولا جنيا لا يمكنكم التلقي منه ولا أدعوكم إلى ما تنبو عته العقول والأسماع وإنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل، وقد تدل عليهما دلائل العقل وشواهد النقل. وقيل المعنى إني لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم وقد أوحي إلي دونكم فصحت بالوحي إلي وأنا بشر نبوتي وإذا صحت نبوتي وجب عليكم اتباعي، فتأمل. والفاء في قوله تعالى: فاستقيموا إليه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من إيحاء الوحدانية فإن ذلك موجب لاستقامتهم إليه تعالى بالتوحيد والإخلاص في الأعمال واستغفروه مما كنتم عليه من سوء العقيدة والعمل. وقوله تعالى: وويل للمشركين ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم في التوحيد. ووصفهم بقوله تعالى: الذين لا يؤتون الزكاة لزيادة التحذير والتخويف عن منع الزكاة حيث جعل من أوصاف المشركين وقرن بالكفر بالآخرة، حيث قيل وهم بالآخرة كافرون وهو عطف على لا يؤتون داخل في حيز الصلة، واختلافهما بالفعلية والاسمية لما أن عدم إيتائها متجدد والكفر أمر مستمر. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر لا يؤتون الزكاة بقوله لا يقولون لا إله إلا الله فإنها زكاة الأنفس، والمعنى لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد، وهو مأخوذ من قوله تعالى: ونفس وما سواها وقال الضحاك ومقاتل لا ينفقون في الطاعات ولا يتصدقون وقال مجاهد لا يزكون أعمالهم.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون أي
3

(9 10) لا يمن به عليهم من المن وأصله الثقل أولا يقطع من مننت الحبل قطعته وقيل نزلت في المرضى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعلمونه «قل أئنكم لتكفرون» إنكار وتشنيع لكفرهم وإن واللام إنا لتأكيد الإنكار وتقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة لا لإنكار التأكيد وإما للإشعار بأن كفرهم من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه فيحتاج إلى التأكيد وإنما علق كفرهم بالموصول حيث قيل «بالذي خلق الأرض في يومين» لتفخيم شأنه تعالى واستعظام كفرهم به أي بالعظيم
الشأن الذي قدر وجودها أي حكم بأنها ستوجد في مقدار يومين أو في نوبتين على أن ما يوجد في كل نوبة بأسرع ما يكون وإلا فاليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجودها وتسوية السماوات وإبداع نيراتها وترتيب حركاتها «وتجعلون له أندادا» عطف على تكفرون داخل في حكم الإنكار والتوبيخ وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد أي وتجلعون له أندادا والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد «ذلك» إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في العظمة وإفراد الكاف لما مر مرار من ان المراد ليس تعيين المخاطبين وهو مبتدأ خبره ما بعده أي ذلك العظيم الشأن الذي فعل ما ذكر «رب العالمين» أي خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة فكيف يتصور أن يكون أخس مخلوقاته ندا له وقوله تعالى «وجعل فيها رواسي» عطف على خلق داخل في حكم الصلة والجعل إبداعي وحديث لزوم الفصل بينهما بجملتين خارجيتين عن حيز الصلة مدفوع بأن الأولى متحدة بقوله تعالى تكفرون فهو بمنزلة الإعادة له والثانية اعتراضية مقررة لمضمون الكلام بمنزلة التأكيد فالفصل بهما كلا فصل على ان فيه فائدة التنبيه على ان مجر المعطوف عليه كاف في تحقق ربوبيته للعالمين واستحالة أن يجعل له ند فكيف إذا انضم إليه المعطوفات وقيل هو عطف على مقدر اي خلقها وجعل الخ وقيل هو كلام مستأنف وأيا ما كان فالمراد تقدير الجعل لا الجعل بالفعل وقوله تعلى «من فوقها» متعلق بجعل أو بمضمر هو صفة لرواسي أي كائنة من فوقها مرتفعة عليها لتكون منافعها معرضة لأهلها ويظهر للنظار ما فيها من مراصد الاعتبار ومطارح الأفكار «وبارك فيها» أي قدر أن يكثر خيرها بأن يخلق أنواع الحيوانات التي من جملتها الإنسان وأصناف النبات التي منها معايشهم «وقدر فيها أقواتها» أي حكم بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة وقرئ وقسم فيها أقواتها
4

«في أربعة أيام» متعلق بحصول الأمور المذكورة لا بتقديرها أي قدر حصولها في يومين وإنما قيل في أربعة أيام اي تتمة أربعة تصريحا بالفذلكة «سواء» مصدر مؤكد لمضمر هو صفى لأيام اي استوت سواء أي استواء كما ينبيء عنه القراءة بالجر وقيل هو حال من الضمير في أقواتها أو في فيها وقرئ بالرفع أي هي سواء «للسائلين» متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر للسائيلن عن مدة خلق الأرض وما فيها أو بقدر أي قدر فيها أقواتها لأجل السائلين أي الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين وقوله تعالى «ثم استوى إلى السماء» شروع في بيان كيفية التكوين إثر بيان كفية التقدير ولعل تحصيص البيان بما يتعلق بالأرض وأهلها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين وترتيب مبادى معايشهم قبل خلقهم مما يحملهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان أي ثم قصد نحوها قصدا سويا لا يلوى على غيره «وهي دخان» أي امر ظلماني عبر به عن مادتها أو عن الأجزاء المتصغرة التي ركبت هي منها أو دخان مرتفع من الماء كما سيأتي وإنما خص الاستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معا حسبما ينطق به قوله تعالى «فقال لها وللأرض» اكتفاء بذكر تقديرها وتقدير ما فيها كأنه قيل فقال لها وللأرض التي قدر ووجودها وودود ما فيها «ائتيا» أي كونا واحدثا على وجه معين وفي وقت مقدر لكل منكما وهو عبارة عن تعلق إرادته تعلى بوجودهما تعلقا فعليا بطريق التمثيل بعد تقدير أمرهما من غير أن يكون هناك أمر ومأمور كما في قوله تعالى كن وقوله تعالى «طوعا أو كرها» تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعلى فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما وهما مصدران وقعا موقع الحال أي طائعتين أو كارهتين وقوله تعلى «قالتا أتينا طائعين» أي منقادين تمثيل لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانية وحصولهما كما أمرتا به وتصوير لكون وجوهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة فإن الطوع منبىء عن ذلك والكره موهم لخلافه وإنما قيل طائعين باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب كقوله تعالى ساجدين وقوله تعلى «فقضاهن سبع سماوات» تفسير وتفصيل لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مترتب على تكونيها أي خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة والضمير إما للسماء على المعني أو مبهم وسبع سماوات حال على الأول تميز على الثاني «في يومين» في وقت مقدر بيومين وقد بين مقدار زمان خلق الأرض وخلق ما فيها عند بيان تقديرهما فكان خلق الكل في ستة أيام حسبما نص عليه في مواقع من التنزيل «وأوحى في كل سماء أمرها» عطف على قضاهن أي خلق في كل منها ما فيها من الملائكة
5

والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما قاله قتادة والسدي فالوحي عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كل منها أو أمره وكلفهم ما يليق بهم من التكاليف فهو بمعناه ومطلق عن القيد المذكور، وأيا ما كان فعلى ما قرر من التفصيل لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير والإيجاد. وإما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة فهي وما في سورة البقرة من قوله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات تدلان على تقدم خلق الأرض وما فيها على خلق السماء وما فيها، وعليه إطباق أكثر أهل التفسير وقد رري أن العرش العظيم كان قبل خلق السموات والأرض على الماء ثم إنه تعالى أحدث في الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان فأما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق فيه اليبوسة فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها أرضين، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السموات. وروي أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السموات وما فيهن يوم الخميس ويوم الجمعة وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة منه وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة وقيل إن خلق جرم الأرض مقدم على خلق السموات لكن دحوها وخلق ما فيها مؤخر عنه لقوله تعالى: والأرض بعد ذلك دحاها ولما روي عن الحسن رحمه الله من أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليه دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى: كانتا رتقا ففتقناهما الآية وليس المراد بنظمها مع السماء في سلك الآمر بالإتيان إنشاءها وإحداثها بل إنشاء دحوها وجعلها على وجه خاص يليق بها من شكل معين ووصف مخصوص كأنه قيل ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه ائتي يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك وائتي يا سماء مقببة سقفا لهم. ومعنى الإتيان الحصول على ذلك الوجه كما تبىء عنه قراءة آتيا وآتينا من المواتاة وهي الموافقة. وأنت خبير بأن المذكور قبل الأمر
بالإتيان ليس مجرد خلق جرم الأرض حتى يتأتى ما ذكر بل خلق ما فيها أيضا من الأمور المتأخرة عن دحوها قطعا، فالأظهر أن يسلك مسلك الأولين ويحمل الأمر بالإتيان على تكوينهما متوافقتين على الوجه المذكور وليس من ضرورته أن يكون دحوها مترتبا على ذلك التكوين وإنما اللازم ترتب حصول التوافق عليه، ولا ريب في أن تكوين السماء على الوجه اللائق بها كاف في حصوله، ولا يقدح في ذلك تكوين الأرض على الوجه المذكور قبل ذلك وأن يجعل الأرض في قوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} منصوبا بمضمر قد حذف على شرطية التفسير ويجعل ذلك إشارة إلى ذكر ما ذكر من بناء السماء ورفع سمكها وتسويتها وغيرها لا إلى أنفسها وتحمل البعدية إما على أنه قاصر عن الأول في الدلالة على القدرة القاهرة كما قيل وإما على أنه أدخل في الإلزام لما أن المنافع المنوطة بما في الأرض أكثر وتعلق مصالح الناس بذلك أظهر وإحاطتهم بتفاصيلها أكمل وليس ما روي عن الحسن رضي الله عنه نصا في تأخر دحو الأرض عن خلق السماء فإن بسط الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو فلا دلالة في ذلك على الترتيب قطعا وقد نقل الإمام الواحدي عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها فلا بد من حمل الأمر بإتيانهما حينئذ أيضا على ما ذكر من التوافق والمواتاة ولا يقدح في ذلك تقدم خلق السماء على خلق الأرض كما لم يقدح فيه تقدم خلق الأرض على خلق السماء، هذا كله على تقدير كون كلمة ثم للتراخي الزماني وأما على تقدير كونها للتراخي الرتبي كما جنح إليه الأكثرون فلا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب كما في الوجه الأول وعلى ذلك بني الكلام في تفسير قوله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا الآية وإنما لم يحمل الخلق هناك على معنى التقدير كما حمل عليه ههنا لتوفية مقام الامتنان حقه. وزينا السماء الدنيا بمصابيح من الكواكب فإنها كلها ترى متلألئة عليها كأنها فيها والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بالأمر. وقوله تعالى: وحفظا مصدر مؤكد لفعل معطوف على زينا أي وحفظناها من الآفات أو من المسترقة حفظا وقيل مفعول له على المعنى كأنه قيل وخلقنا المصابيح زينة وحفظا ذلك الذي ذكر بتفاصيله {تقدير العزيز العليم} المبالغ في القدرة والعلم.
6

فإن أعرضوا متصل بقوله تعالى: قل أئنكم الخ أي فإن أعرضوا عن التدبر فيما ذكر من عظائم الأمور الداعية إلى الإيمان أو عن الإيمان بعد هذا البيان فقل لهم أنذرتكم أي أنذركم وصيغة الماضي للدلالة على تحقيق الإندار المنبىء عن تحقيق المنذر به صاعقة أي عذابا هائلا شديد الوقع كأنه صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود وقرىء صعقة مثل صعقة عاد وثمود وهي المرة من الصعق أو الصعق يقال صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا وهو من باب فعلته ففعل إذ جاءتهم الرسل حال من صاعقة عاد ولا سداد لجعله ظرفا لأنذرتكم أو صفة لصاعقة لفساد المعنى وأما جعله صفة لصاعقة عاد أي الكائنة إذ جاءتهم ففيه حذف الموصول مع بعض صلته من بين أيديهم ومن خلفهم متعلق بجاءتهم أي من جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة أو من جهة الزمان الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار ومن جهة المستقبل بالتحذير عما سيحيق بهم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وقيل المعنى جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم فإن هودا وصالحا كانا داعيين لهم إلى الإيمان بهما ويجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم أي من قبلهم وممن يجيء من خلفهم أي من بعدهم فكأن الرسل قد جاءوهم وخاطبوهم بقوله تعالى: ألا تعبدوا إلا الله أي بأن لا تعبدوا على أن أن مصدرية أو أن لا تعبدوا على أنها مفسرة قالوا لو شآء ربنا أي إرسال الرسل
7

إرسال الرسل لا إنزال الملائكة قيل فإنه عن إفادة ما أرادوه من نفي رسالة البشر وقد مر فيما سلف «لأنزل ملائكة» أي لأرسلهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنزال قبل لأنزل «فإنا بما أرسلتم به» أي على زعمكم وفيه ضرب تهكم بهم «كافرون» للما أنكم بشر مثلنا من غير فضل لكم علينا روى أن أبا جهل قال في ملأ من قريش قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجل عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم اتانا ببيان من أمره فقال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا بيان من أمره فقال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر علمت من وعلمت من ذلك علما وما يخفى على فأتاه فقال أنت يا محمد خيرا أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله فبم تشتم آلهتنا وتضللنا فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسا وإن تك بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن أي بنات قريش شئت وإنا كان بك المال جمعنا لك ما تستغنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت فلما فرغ عتبة قال صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم «حم» إلى قوله تعلى مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عتبة على فيه صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قالوا ما نرى عبتة إلا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا يا عبت ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت فغضب ثم قال والله لقد كلمته فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ولما بلغ صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب «فأما عاد فاستكبروا في الأرض» شروع في حكاية ما يخص بكلا واحدة من الطائفتين من الجناية والعذاب إثر حكاية ما يعم الكل من الكفر المطلق أي فتعظموا فيها على أهلها أو استعلوا فيها واستولوا على أهلها «بغير الحق» أي بغير استحقاق للتعظم والولاية «وقالوا» مدلين بشدتهم وقوتهم «من أشد منا قوة» حيث كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من جبل فيقتلعها بيده «أولم يروا» أي اغفلوا أو ألم ينظروا ولم يعلموا علما جليا شبيها بالمشاهدة والعيان «أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة» أي قدرة فإنه تعالى قادر بالذات مقتدر على مالا يتناهى قوى على مالا يقدر عليه غير مفيض للقوى والقدر على كل قوى وقادر وإنما أورد في حيز الصلة خلقهم دون خلق السماوات والأرض لادعائهم الشدة في القوة وفيه ضرب من التهكم بهم «وكانوا بآياتنا» المنزلة على الرسل «يجحدون» أي ينكرونها وهم يعرفون حقيقتها وهو عطف على فاستكبروا كقوله تعالى وقالوا وما بينهما اعتراض للرد على كلمتهم الشنعاء «فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا» أي باردة تهلك وتحرق بشدة
8

بردها من الصر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ويقبض أو عاصفة في هبوبها من الصرير «في أيام نحسات» جمع نحسة من نحس نحسا نقبض سعد سعدا وقرئ بالسكون على التخفيف أو على أنه نعت على فعل أو وصف بمصدر مبالغة قيل كن آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء «لنذيقهم
عذاب الخزي في الحياة الدنيا» وقرئ لتذيقهم على إسناد الإذاقة إلى الريح أو إلى الأيام وأضيف العذاب إلى الخزي الذي هو الذل والاستكانة على أنه وصف له كما يعرب عنه قوله تعالى «ولعذاب الآخرة أخزى» وهو في الحقيقة وصف للمعذب وقد وصف به العذاب للمبالغة «وهم لا ينصرون» بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه «وأما ثمود فهديناهم» فدللناهم على الحق بنصب الآيات التكوينية وإرسال الرسل وإنزال الآيات التشريعية وأزحنا عللهم بالكلية وقد مر تحقيق معنى الهدى في تفسير قوله تعالى هدى للمتقين وقرئ ثمود بالنصب بفعل يفسره ما بعده ومنونا في الحالين وبضم الثاء «فاستحبوا العمى على الهدى» أي اختاروا الضلالة على الهداية «فأخذتهم صاعقة العذاب الهون» داهية العذاب وقارعة العذاب والهون الهوان وصف به العذاب مبالغة أو ابدل منه «بما كانوا يكسبون» من اختيار الضلالة «ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون» من تلك الصاعقة «ويوم يحشر أعداء الله» شروع في بيان عقوباتهم الآجلة إثر بيان عقوباتهم العاجلة والتعبير عنهم بأعداء الله تعالى لذمهم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من ألوان العذاب وقيل المراد بهم الكفار من الأولين والآخرين ويرده ما سيأتي من قوله تعالى في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس وقرئ يحشر على بناء الفاعل ونصب أعداء الله وبنون العظمة وضم الشين وكسرها «إلى النار» أي إلى موقف الحساب إذ هناك تتحقق الشهادة الآتية لا بعدم تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار والتعبير عنه بالنار إما للإيذان بأنها عاقبة حشرهم على شرف دخولها وإما لأن حسابهم يكون على شفيرها ويوم اما منصوب باذكر أو ظرف لمضمر مؤخر قد حذف أيهما لقصور العبارة عن تفصيله كما مر في قوله تعالى يوم يجمع الله الرسل وقيل ظرف لما يدل عليه قوله تعالى «فهم يوزعون» أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وهو عبارة عن كثرتهم وقبل يسلقون ويدفعون إلى النار وقوله تعالى «حتى
9

إذا ما جاؤوها» أي جميعا غاية ليحشر أو ليوزعون أي حتى إذا حضروها. وما مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون في الدنيا من فنون الكفر والمعاصي بأن ينطقها الله تعالى أو يظهر عليها آثار ما اقترفوا بها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بشهادة الجلود شهادة الفروج وهو الأنسب بتخصيص السؤال بها في قوله تعالى وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحا وأجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطهما. وقيل: المراد بالجلود الجوارح أي سألوها سؤال توبيخ، لما روي أنهم قالوا لها فعنكن كنا نناضل، وفي رواية بعدا لكن وسحقا، عنكن كنت أجادل. وصيغة جمع العقلاء في خطاب الجلود وفي قوله تعالى: قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء لوقوعها في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء أي أنطقنا الله الذي أنطق كل ناطق وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم بواسطتنا من القبائح ما كتمناها. وقيل: ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وليس بذاك لما فيه من إيهام الاضطرار في الإخبار. وقيل: سألوها سؤال تعجب فالمعنى حينئذ ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الذي أنطق كل حي. وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون فإن من قدر على خلقكم وإنشائكم أولا وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ثانيا لا يتعجب من إنطاقه لجوارحكم. ولعل صيغة المضارع مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجع لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل مايعمه وما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع على أن فيه مراعاة الفواصل. وقوله تعالى: وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم حكاية لما سيقال لهم يومئذ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقريرا لجواب الجلود أي ما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك كما كنتم تستترون من الناس مخافة الافتضاح عندهم بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء رأسا ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون من القبائح المخفية فلا يظهرها في الآخرة ولذلك اجترأتم على ما فعلتم، وفيه إيذان بأن شهادة
10

الجوارح بإعلامه تعالى حينئذ لا بأنها كانت عالمة بما شهدت به عند صدوره عنهم. عن ابن مسعود رضي الله عنه: كنت مستترا بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر، ثقفيان وقرشي، أو قرشيان وثقفي فقال أحدهم أترون أن الله يسمع ما نقول قال الآخر يسمع إن جهرنا، ولا يسمع أن أخفينا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: وما كنتم تستترون الآية. فالحكم المحكي حينئذ يكون خاصا بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفرة، ولعل الأنسب أن يراد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي وما يجري مجراه من الأعمال المنبئة عنه كما في قوله تعالى: يحسب أن ماله أخلده ليعم ما حكي من الحال جميع أصناف الكفرة فتدبر. وذلكم إشارة إلى ما ذكر من ظنهم، وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلته في الشر والسوء وهو مبتدأ. وقوله تعالى: ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم خبران له ويجوز أن يكون ظنكم بدلا وأرداكم خبرا. فأصبحتم بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم من الخاسرين إذ صار ما منحوا لنيل سعادة الدارين سببا لشقاء النشأتين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم أي محل ثواء وإقامة أبدية لهم بحيث لا براح لهم منها. والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكى سوء حالهم لغيرهم، أو للإشعار بإبعادهم عن حيز الخطاب وإلقائهم في غاية دركات النار. وإن يستعتبوا أي يسألوا العتبى وهو الرجوع إلى ما يحبونه جزعا مما هم فيه. فما هم من المعتبين المجابين إليها، ونظيره قوله تعالى: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقرىء وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين أي إن يسألوا أن يرضوا ربهم، فما هم فاعلون لفوات المكنة.
وقيضنا لهم أي قدرنا وقرنا للفكرة في الدنيا قرناء جمع قرين أي أخدانا من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القيض على البيض وهو القشر وقيل: أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة. فزينوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا واتباع الشهوات وما خلفهم من أمور الآخرة حيث أروهم أن لا بعث ولا حساب ولا مكروه قط. وحق عليهم القول أي ثبت وتقرر عليهم كلمة العذاب وتحقق موجبها ومصداقها، وهو قوله تعالى لإبليس: فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين. وقوله تعالى: لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين كما مر مرارا. في أمم حال من الضمير المجرور أي كائنتين في جملة أمم وقيل: في بمعنى مع، وهذا كما ترى صريح في أن المراد بأعداء الله تعالى فيما سبق المعهودون من عاد وثمود لا الكفار من الأولين والآخرين كما قيل.
قد خلت صفة لأمم، أي مضت من قبلهم من الجن والإنس على الكفر والعصيان كدأب هؤلاء إنهم كانوا خاسرين تعليل لاستحقاقهم العذاب، والضمير للأولين والآخرين.
وقال الذين كفروا من رؤساء المشركين لأعقابهم أو قال
11

بعضهم لبعض «لا تسمعوا لهذا القرآن» أي لا تنصتوا له «والغوا فيه» وعارضوه بالخرافات من الرجز والشعر والتصدية والمكاء أو أرفعوا أصواتكم بها لتشوشوه على القارئ وقريء بضم الغين والمعاني واحد يقال لغى يلغى كلقى يلقي ولغا يلغوا إذا هذى «لعلكم تغلبون» أي تغلبونه على قراءته «فلنذيقن الذين كفروا» أي فوالله لنذيقن هؤلاء القائلين واللاغين أو جميع الكفار وهم داخلون فيهم دخولا أولياء «عذابا شديدا» لا يقادر قدره «ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون» أي جزاء سيئات أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ وقيل إنه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقرئ الأضياف لأنها محبطة بالكفر وعن ابن عباس رضي الله عنهما عذابا شديدا يوم بدر وأسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة «ذلك» مبتدأ وقوله تعالى «جزاء أعداء الله» خبره أي ما ذكر من الجزاء جزاء معدلا لأعدائه وقوله تعالى «النار» عطف بيان للجزاء أو ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك على انه عبارة عن مضمون الجملة لاعن الجزاء وما بعده جملة مستقلة مبينة لما قبلها وقوله تعالى «لهم فيها دار الخلد» جملة مستقلة مقررة لما قبلها أو النار مبتدأ هي خبره أي هي بعينها دار إقامتهم على أن في للتجريد وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله مبالغة لكماله فيها كما يقال في البيضة عشرون منا حديد وقيل وهي على معناها والمراد أن لهم في النار المشتملة على الدركات دارا مخصوصة هم فيها خالدون «جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون» منصوب بفعل مقدر أي يجزون جزاء أو بالمصدر السابق فإن المصدر ينتصب بمثله كما في قوله تعالى فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا والباء الأولى متعلقة بجزاء والثانية بيجحدون قدمت عليه لمراعاة الفواصل أي بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة أو يلغون فيها وذكر الجحود لكونه سببا للغو «وقال الذين كفروا» وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب «ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس» يعنون فريقي شياطين النوعين المقيضين لهم الحاملين لهم على الكفر والمعاصي بالتسويل والتزين وقيل هما إبليس وقابيل فإنهما سنا الكفر والقتل بغير حق وقرئ أرنا تخفيفا كفخذ في فخذ وقيل معناه أعطناهما وقرئ باختلاس كسرة الراء «نجعلهما تحت أقدامنا» أي ندسهما انتقاما منهما وقيل نجعلهما في الدرك الأسفل «ليكونا من الأسفلين» أي ذلا ومهانة أو مكانا «إن»
12

الذين قالوا ربنا الله شروع في بيان حسن أحوال المؤمنين في الدنيا والآخرة بعد بيان سوء حال الكفرة فيهما أي قالوا اعترافا بربوبيته تعالى وإقرارا بوحدانيته «ثم استقاموا» أي ثبتوا على الإقرار ومقتضياته على أن ثم للتراخي في الزمان أو في الرتبة فإن الاستقامة لها الشأن كله وما روى عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم في معناها من الثبات على الإيمان وإخلاص العمل وأداء الفرائض بيان لجزئياتها «تتنزل عليهم الملائكة» من جهته تعالى يمدونهم فيما يعن لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام كما أن الكفرة يغويهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح وقيل تتنزل عند الموت بالبشرى وقيل إذا قاموا من قبورهم وقيل البشرى في مواطن ثلاثة عند الموت وفي القبر وعند البعث والأظهر هو العموم والإطلاق كما ستعرفه «ألا تخافوا» ما تقدمون عليه فإنه الخوف غم يلحق لتوقع المكروه «ولا تحزنوا» على ما خلفتم فإنه غم يحلق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار وقيل المراد نهيهم عن الغموم على الإطلاق والمعنى أن الله تعالى كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه أباد وان إما مفسرة أو مخففة من الثقيلة والأصل بأنها لا تخافوا والهاء ضمير الشأن وقرئ لا تخافوا أي يقولون لا تخافوا على أنه حال من الملائكة أو استئناف «وأبشروا» أي سروا «بالجنة التي كنتم توعدون» في الدنيا على ألسنة الرسل هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة وقوله تعالى «نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا» الخ من بشاراتهم في الدنيا أي أعوانكم في أموركم نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المستمرين على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله تعالى وتأيده لهم بواسطة الملائكة عليهم السلام «وفي الآخرة» نمدكم بالشفاعة ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من التعادى والخصام «ولكم فيها» أي في الآخرة «ما تشتهي أنفسكم» من فنون الطيبات «ولكم فيها ما تدعون» ما نتمنون افتعال من الدعاء بمعنى الطلب أي تدعون لأنفسكم وهو أعم من الأول ولكم في الموضعين خبر وما مبتدأ وفيها حال من ضميره في الخبر وعدم الاكتفاء بعطف ما تدعون على ما تشتهي للإشباع في البشارة والإيذان باستقلال كل منهما «نزلا من غفور رحيم» حال مما تدعون مفيدة لكون ما يتمنونه بالنسبة إلى ما عطون من عظائم الأجور كالنزل للضيف «ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله» أي إلى توحيده تعالى وطاعته عن ابن عباس رضى الله عنهما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإسلام
13

وعنه أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: نزلت في المؤذنين، والحق أن حكمها عام لكل من جمع ما فيها من الخصال الحميدة، وإن نزلت فيمن ذكر وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه وقال إنني من المسلمين ابتهاجا بأنه منهم أو اتخاذا للإسلام دينا ونحلة من قولهم هذا قول فلان أي مذهبه لا أنه تكلم بذلك. وقرىء إني بنون واحدة.
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة جملة مستأنفة سيقت لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد وبين الرب عز وجل ترغيبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر على أذية المشركين، ومقابلة إساءتهم بالإحسان، أي لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الآثار والأحكام. ولا الثانية مزيدة لتأكيد النفي، وقوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن الخ استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة، أي ادفع السيئة حيث اعترضتك من بعض أعاديك بالتي هي أحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات كالإحسان إلى من أساء فإنه أحسن من العفو، وإخراجه مخرج الجواب عن سؤال من قال كيف أصنع للمبالغة ولذلك وضع أحسن موضع الحسنة. وقوله تعالى: فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم بيان لنتيجة الدفع المأمور به، أي فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق وما يلقاها أي ما يلق هذه الخصلة والسجية التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلا الذين صبروا أي شأنهم الصبر وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من الخير وكمال النفس، وقيل: الحظ العظيم: الجنة، وقيل: هو الثواب. قيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار وليا مصافيا وإما ينزغنك من الشيطان نزغ النزغ والنسغ
بمعنى وهو شبه النخس، شبه به وسوسة الشيطان لأنها بعث على الشر، وجعل نازعا على طريقة جد جده، أو أريد: وإما ينزغنك نازغ وصفا للشيطان بالمصدر أي وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره ولا تطعه إنه هو السميع باستعاذتك العليم بنيتك أو بصلاحك. وفي جعل ترك الدفع بالأحسن من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير عنه.
14

ومن آياته الدالة على شؤونه العظيمة الليل والنهار والشمس والقمر كل منها مخلوق من مخلوقاته مسخر لأمره لا تسجدوا للشمس ولا للقمر لأنهما من جملة مخلوقاته المسخرة لأوامره مثلكم واسجدوا لله الذي خلقهن الضمير للأربعة لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث، أو لأنها عبارة عن الآيات. وتعليق الفعل بالكل مع كفاية بيان مخلوقية الشمس والقمر للإيذان بكمال سقوطهما عن رتبة المسجودية بنظمهما في المخلوقية في سلك الأعراض التي لا قيام لها بذاتها، وهو السر في نظم الكل في سلك آياته تعالى إن كنتم إياه تعبدون فإن السجود أقصى مراتب العبادة فلا بد من تخصيصه به سبحانه. وهو موضع السجود عند الشافعي رحمه الله وعندنا آخر الآية الأخرى لأنه تمام المعنى فإن استكبروا عن الامتثال فالذين عند ربك من الملائكة يسبحون له بالليل والنهار أي دائما وهم لا يسأمون لا يفترون ولا يملون. وقرىء لا يسأمون بكسر الياء.
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل فإذا أنزلنا عليها الماء أي المطر اهتزت وربت أي تحركت بالنبات وانتفخت، لأن النبت إذا دنا أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات، وقيل: تزخرفت بالنبات. وقرىء ربأت أي ارتفعت إن الذي أحياها بما ذكر بعد موتها لمحيي الموتى بالبعث إنه على كل شيء من الأشياء التي من جملتها الإحياء قدير مبالغ في القدرة.
إن الذين يلحدون يميلون عن الاستقامة. وقرىء يلحدون في آياتنا بالطعن فيها وتحريفها بحملها على المحامل الباطلة لا يخفون علينا فنجازيهم بإلحادهم. وقوله تعالى: أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة تنبية على كيفية الجزاء اعملوا ما شئتم من الأعمال المؤدية إلى ما ذكر من الإلقاء في النار والإتيان آمنا، وفيه تهديد شديد إنه بما تعملون بصير فيجازيكم بحسب أعمالكم. وقوله تعالى: إن الذين كفروا بالذكر لما جآءهم بدل من قوله تعالى إن الذين يلحدون الخ وخبر إن هو الخبر السابق وقيل: مستأنف وخبرها محذوف وقال الكسائي: سد مسده الخبر السابق، والذكر القرآن. وقوله تعالى وإنه لكتاب عزيز أي كثير المنافع عديم النظير، أو منيع لا تتأتى معارضته. جملة حالية مفيدة لغاية
15

شناعة الكفر به وقوله تعالى «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» أي لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات صفة أخرى لكتاب وقوله تعالى «تنزيل من حكيم حميد» خبر لمبتدأ محذوف أو صفة أخرى لكتاب مفيدة لفحامته الإضافية كما ان الصفتين السابقتان مفيدتان لفخامته الذاتية وقوله تعالى لا يأتيه الخ اعتراض عند من لا يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن وقوله تعلى «ما يقال لك» الخ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يصيبه من أذية الكفار أي ما يقال في شأنك وشأن ما أنزل إليك من القرآن من جهة كفار قومك «إلا ما قد قيل للرسل من قبلك» أي إلا مثل ما قد قيل في حقهم مما لا خير فيه «إن ربك لذو مغفرة» لأنبيائه «وذو عقاب أليم» لأعدائهم وقد نصر من قبلك من الرسل وانتقم من أعدائهم وسيفعل مثل ذلك بك وبأعدائك أيضا «ولو جعلناه قرآنا أعجميا» جواب لقولهم هلا أنزل القرآن بلغة العجم والضمير للذكر «لقالوا لولا فصلت آياته» أي بينت بلسان نفقهه وقوله تعالى «أأعجمي وعربي» إنكار مقرر للتخصيص والأعجمي يقال لكلام لا يفهم وللمتكلم به والياء للمبالغة في الوصف كأحمرى والمعنى أكلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي على أن الإفراد مع كون المرسل إليهم أمة جمة لما أن المراد بيان التنافي والتنافر بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب واحدا أو جمعا وقرئ أعجمي أي أكلام منسوب إلى أمة العجم وقرئ أعجمي على الإخبار بأن القرآن أعجمي والمتكلم والمخاطب عربي ويجوز أن يراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب وأيا ما كان فالمقصود بيان أن آيات الله تعالى على أي وجه جاءتهم وجدوا فيها متعنتا يتعللون به «قل هو للذين آمنوا هدى» يهديهم إلى الحق «وشفاء» لما في الصدور من شبة «والذين لا يؤمنون» مبتدأ خبره «في آذانهم وقر» على أن التقدير هو اي القرآن في آذانهم وقر على ان وقر خبر للضمير المقدر وفي آذانهم متعلق بمحذوف وقع حالا من وقر وهو أوفق لقوله تعالى «وهو عليهم عمى» وقيل خبر الموصول في آذانهم ووقر فاعل الظرف وقيل وقر مبتدأ والظرف خبره والجملة خبر للموصول وقيل التقدير والذين لا يؤمنون في آذانهم منه وقر ومن جوز العطف على عاملين عطف الموصول على الموصول الأول أي هو للأولين هدى وشفاء وللآخرين وقر في آذانهم «أولئك» إشارة إلى
16

الموصول الثاني باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وملاحظة ما أثبت له وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في الشر مع ما فيه من كمال المناسبة للنداء من بعيد أي أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من التصام عن الحق الذي يسمعونه والتعامى عن الآيات الظاهرة التي يشاهدونها «ينادون من مكان بعيد» تمثيل لهم في عدم قبولهم واستماعهم له بمن ينادي من مسافة نائية لا يكاد يسمع من مثلها الأصوات «ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه» كلام مستأنف مسوق لبيان ان الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختص بقومك على منهاج قوله تعالى ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي وبالله لقد آتيناه التوراة فاختلف فيها فمن مصدق لها ومكذب وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن فمن مؤمن به وكافر ولولا كلمة سبقت من ربك في حق أمتك المكذبة وهي العدة بتأخير عذابهم وفصل ما بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله تعالى بل الساعة موعدهم وقوله تعالى ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى «لقضي بينهم» باستئصال المكذبين كما فعل بمكذبي الأمم السالفة «وأنهم» أي الكفار قومك «لفي شك منه مريب» أي من القرآن وجعل الضمير الأول لليهود والثاني للتوراة مما لا وجه له «من عمل صالحا» بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها «فلنفسه» أي فلنفسه يعمله أو فنفعه لنفسه لا لغيره «من عمل صالحا» بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها فلنفسه أي
فلنفسه يعمله أو منفعة لنفسه لا لغيره «ومن أساء فعليها» ضرر لا على غيره «وما ربك بظلام للعبيد» اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله أو إثابة الغير بعمله وتنزيل التعذيب بغير إساءة أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه سبحانه وتعالى وقد مر ما في المقام من التحقيق والتفصيل في سورة آل عمران وسورة الأنفال «إليه يرد علم الساعة» أي إذا سئل عنها يقال الله يعلم أولا يعلمها إلا الله تعالى «وما تخرج من ثمرات من أكمامها» أي من أوعيتها جمع كم بالكسر وهو وعاء الثمرة كجف الطلعة وقريء من ثمره على إرادة الجنس والجمع لاختلاف الأنواع وقد قريء بجمع الضمير أيضا وما نافية ومن الأولى مزيدة للاستغراق واحتمال أن تكون ما موصولة معطوفة على الساعة ومن مبينة بعيد «وما تحمل من أنثى ولا تضع» أي حملها وقوله تعالى «إلا بعلمه» استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي وما يحدث شيء
17

من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع ملابسا بشيء من الأشياء إلا ملابسا بعلمه المحيط «ويوم يناديهم أين شركائي» اي بزعمكم كما نص عليه في قوله تعالى نادوا شركائي الذين زعمتم وفيه تهكم بهم وتقريع لهم ويوم منصوب باذكر أو ظرف لمضمر مؤخر قد ترك إيذانا بقصور البيان عنه كما مر في قوله تعالى «يوم يجمع الله الرسل» قالوا آذناك أي أخبرناك «ما منا من شهيد» من أحد يشهد لهم بالشركة إذا تبرأنا منهم لما عاينا الحال وما منا أحد إلا وهو موحد لك أو ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم حينئذ وقيل هو قول الشركاء أي ما منا من شهيد يشهد لهم بأنهم كانوا محقين وقولهم آذناك إما لأن هذا التوبيخ مسبوق بتوبيخ آخر مجاب بهذا الجواب أو لأن معناه أنك علمت من قلوبنا وعقائدنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه أو لأن معناه الإنشاء لا الإخبار بإيذان قد كان قبل ذلك «وضل عنهم ما كانوا يدعون» أي يعبدون «من قبل» أي غابوا عنهم أو ظهر عدم نفعهم فكان حضورهم كغيبتهم «وظنوا» أي أيقنوا «ما لهم من محيص» مهرب والظن معلق عنه بحرف النفي «لا يسأم الإنسان» أي لا يمل ولا يفتر «من دعاء الخير» من طلب السعة في النعمة وأسباب المعيشة وقريء من دعاء بالخير «وإن مسه الشر» أي العسر والضيقة «فيؤوس قنوط» فيه مبالغة من جهة البناء ومن جهة التكرير ومن جهة ان القنوط عبارة عن يأس مفرط يظهر أثره في الشخص فيتضاءل وينكسر أي مبالغ في قطع الرجاء من فضل الله تعالى ورحمته وهذا وصف للجنس بوصف غالب أفراده لما أن اليأس من رحمته تعالى لا يتأتى إلا من الكافر وسيصرح به «ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته» بتفريجها عنه «ليقولن هذا لي» أي حقي أستحقه لم لي من الفضل والعمل أولى لا لغيري فلا يزول عني أبدا «وما أظن الساعة قائمة» أي تقوم فيما سيأتي «ولئن رجعت إلى ربي» على تقديرها قيامها «إن لي عنده للحسنى» أي للحالة الحسنى من الكرامة وذلك لاعتقاده أن ما أصابه ما نعم الدنيا لاستحقاقه له وأن نعم الآخرة كذلك «فلننبئن الذين كفروا بما عملوا» أي لنعلمنهم حقيقة أعمالهم حين أظهرناها بصورة الحقيقة وقد مر تحقيقه في سورة الأعراف عند قوله تعالى «والوزن يومئذ الحق» وفي قوله تعالى «إنما بغيكم على أنفسكم» من سورة يونس «ولنذيقنهم من عذاب غليظ» لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه
18

«وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض» أي عن الشكر «ونأى بجانبه» أي ذهب بنفسه وتباعد بكليته تكبرا وتعظما والجانب مجاز عن النفس كما في قوله تعالى في جنب الله ويجوز أن يراد به عطفه ويكون عبارة عن الانحراف والازورار كما قالوا ثني عطفه وتولى بركنه «وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض» أي كثير مستعار م مما له عرض متسع للإشعار بكثرته واستمراره وهو أبلغ من الطويل إذ الطول أطول الإمتدادين فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله ولعل هذا شأن بعض غير البعض الذي حكى عنه اليأس والقنوط أو شأن الكل في بعض الأوقات «قل أرأيتم» أي أخبروني «إن كان» أي القرآن «من عند الله ثم كفرتم به» مع تعاضد موجبات الإيمان به «من أضل ممن هو في شقاق بعيد» أي من أضل منكم فوضع الموصول موضع الضمير شرحا لحالهم وتعليلا لمزيد ضلالهم «سنريهم آياتنا» الدالة على حقيقته وكونه من عند الله «في الآفاق» هو ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية ما يسر الله تعالى وله ولخلفائه من الفتوح والظهور على آفاق الدنيا والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب على وجه خارق للعادة «وفي أنفسهم» هو ما ظهر فيما بين أهل مكة وما حل بهم قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآفاق أي منازل الأمم الخالية وآثارهم وفي أنفسهم يوم بدر وقال مجاهد والحسن والسدي في الآفاق ما يفتح الله من القرى عليه عليه الصلاة والسلام والمسلمين وفي أنفسهم فتح مكة وقيل في الآفاق أي في أقطار السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم وما يترتب عليها من الليل والنهار والأضواء والظلال والظلمات ومن النبات والأشجار والأنهار وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة في تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة كقوله تعالى «وفي أنفسكم أفلا تبصرون» واعتذر بأن معنى السين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك أنه تعالى سيطلعهم على تلك الآيات زمانا فزمانا ويزيدهم وقوفا على حقائقها يوما فيوما «حتى يتبين لهم» بذلك «أنه الحق» أي القرآن أو الإسلام والتوحيد «أولم يكف بربك» استئناف وارد لتوبيخهم على ترددهم في شأن القرآن وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألم يغن ولم يكف ربك والباء مزيدة للتأكيد ولا تكاد تزاد إلا مع كفى وقوله تعالى «أنه على كل شيء شهيد» بدل منه أي ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء وقد أخبر بأنه من عنده وقيل معناه إن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه
19

ويشاهدونه فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كل شيء شهيد أي مطلع يستوى عنده غيبه وشهادته فيكفيهم ذلك دليلا على أنه حق وأنه من عنده ولو لم يكن كذلك ما قوى هذه القوة ولما نصر حاملوه هذه النصرة فتأمل وأما ما قيل من أن المعنى أو لم يكفك أنه تعالى على كل شيء شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة فمع إشعاره بما لا يليق بجلالة منصبه عليه السلام من التردد فيما ذكر من تحقيق الموعود يرده قوله تعالى «ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم» أي في شك عظيم من ذلك بالبعث والجزاء فإنه صريح في أن عدم الكفاية ة معتبر بالنسبة إليهم وقرئ مرية بالضم وهو لغة فيها «ألا إنه
بكل شيء محيط» عالم بجميع الأشياء جملها وتفاضيلها وظواهرها بواطنها فلا تحفى عليه خافية منهم وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم ولا محالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة السجدة أعطاه الله تعالى بكل حرف عشر حسنات والله أعلم.
20

سورة الشورى مكية وآياتها ثلاث وخمسون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «حم عسق» اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين وقيل اسم واحد والفصل ليناسب سائر الحواميم وقرئ حم سق فعلى الأول هما خبران لمبتدأ محذوف وقيل حم مبتدأ وعسق خبره وعلى الثاني الكل خبر واحد وقوله تعالى «كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم» كلام مستأنف وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعف سائر الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة في الدعوة إلى التوحيد الإرشاد إلى الحق أو أن إيحاءها مثل إيحائها بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها والكاف في حيز النصب على أنه مفعول ليوحى على الأول وعلى أنه نعت لمصدر مؤكد له على الثاني وذلك على الأول إشارة إلى ما فيها وعلى الثاني إلى إيحائها وما فيه من معنى العبد للإيذان بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل أي مثل ما في هذه السورة من المعاني أو حي إليك في سائر السور والى من قبلك من الرسل في كتبهم على أن مناط المماثلة ما أشير إليه من الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق وما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد أو مثل إيحائها أوحى إليك عند إيحاء سائر السور وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم لا إيحاء مغايرا له كما في قوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح الآية على أن مدار المثلية كونه بواسطة الملك وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية للإيذان باستمرار الوحي وأن إيحاء مثله عادته وفي جعل مضمون السورة أو إيحائها مشبها به من تفخيمها مالا يخفى وكذا في وصفه تعالى بوصفي العزة والحكمة وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل مع ما فيه من التشويق وقرئ يوحى على البناء للمفعول على ان كذلك مبتدأ يوحى خبره المسند إلى ضميره أو مصدر ويوحى مسند إلى إليك والله مرتفع بما دل عليه يوحى كأنه قبل من يوحى فقيل الله والعزيز الحكيم صفتان له أو مبتدأ كما في قراءة نوحى والعزيز وما بعده خبران له أو العزيز الحكيم صفتان له
21

وقوله تعالى «له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم» خبران له وعلى الوجوه السابقة استئناف مقرر لعزته وحكمته «تكاد السماوات» وقرئ بالياء «يتفطرن» يتشققن من عظمة الله تعالى وقيل من دعاء الولد له كما في سورة مريم وقرئ ينفطرن والأول أبلغ لأنه مطاوع فطر وهذا مطاوع فطر وقرئ تتفطرن بالتاء لتأكيد التأنيث وهو نادر «من فوقهن» أي يبتدأ التفطر من جهتهن الفوقانية وتخصيصها على الأول لما أن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال من تلك الجهة وعلى الثان للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى لأن تلك الكلمة الشنعاء الواقعة في الأرض حيث أثرت من جهة الفرق فلأن تؤثر في جهة التحت أولى وقيل الضمير للأرض فإنها في معنى الأرضين «والملائكة يسبحون بحمد ربهم» ينزهونه تعالى عما يليق به ملتبسين بحمده «ويستغفرون لمن في الأرض» بالسعي فيما يستدعى مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وترتيب الأسباب المقربة إلى الطاعة واستدعاء تأخير العقوبة طمعا في إيمان الكافر وتوبة الفاسق وهذا يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد وحيث خص بالمؤمنين كما في قوله تعالى ويستغفرون للذين آمنوا فالمراد به الشفاعة «ألا إن الله هو الغفور الرحيم» إذ ما من مخلوق وله حظ عظيم من رحمته تعالى والآية على الأول زيادة تقرير لعظمته تعالى وعلى الثاني بيان لكمال تقدسه عما نسب إليه وأن ترك معالجتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء بسبب استغفار الملائكة وفرط غفرانه ورحمته ففيها رمز إلى أنه تعالى يقبل استغفارهم ويزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة «والذين اتخذوا من دونه أولياء» شركاء وأندادا «الله حفيظ عليهم» رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها «وما أنت عليهم بوكيل» بموكل بهم أو بموكول إليه أمرهم وإنما وظيفتك الإنذار «وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا» ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا ومحل الكاف النصب على المصدرية وقرآنا عربيا مفعول لأوحينا أي ومثل ذلك الإيحاء البديع البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا لا لبس فيه عليك ولا على قومك وقيل إشارة إلى معنى الآية المتقدمة من أنه تعالى هو الحفيظ عليهم وإنما أنت نذير فحسب فالكاف مفعول به لأوحينا قرآنا عربيا حال من المفعول
22

به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي بين «لتنذر أم القرى» أي أهلها وهي مكة «ومن حولها» من العرب «وتنذر يوم الجمع» أي يوم القيامة لأنه يجمع فيه الخلائق قال تعلى يوم يجمعكم ليوم الجمع وقيل تجمع فيه الأرواح والأشباح وقيل الأعمال والعمال والإنذار يتعدى إلى مفعولين وقد يستعمل ثانيهما بالباء وقد حذف ههنا ثاني مفعولي الأول وأول مفعولي الثان للتهويل وإيهام التعميم وقرئ لينذر بالياء على أن فاعله ضمير القرآن «لا ريب فيه» اعتراض مقرر لما قبله «فريق في الجنة وفريق في السعير» أي بعد جمعهم في الموقف فإنهم يجمعون فيه أولا ثم يفرقون بعد الحساب والتقدير منهم فريق والضمير للمجموعين لدلالة الجمع عليه وقرئا منصوبين على الحالية منهم أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين أي مشارفين للتفرق أو متفرقين في ادرى الثواب والعقاب «ولو شاء الله لجعلهم» أي في لدنيا «أمة واحدة» قيل مهتدين أو ضالين وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس رضي الله عنهما في قوله على دين واحد فمعنى قوله تعالى «ولكن يدخل من يشاء في رحمته» أنه تعالى يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ويدخل في عذابه من يشاء أن يدخله فيه ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعا فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة بل جعلهم فريقين وإنما قيل «والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير» للإيذان بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته تعالى كما في الإدخال في الرحمة لا لما قيل من المبالغة في الوعيد وقيل مؤمنين كلهم وهو ما قاله مقاتل على دين الإسلام كما في قوله تعالى ولو شاء الله لجمهم على الهدى وقوله تعالى «ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها» والمعنى ولو شاء لله مشيئة قدرة لقسرهم على الإيمان ولكنه شاء مشيئة حكمة وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بقوله تعالى يدخل من يشاء وترك الظالمين بغير ولى ولا نصير وأنت خبير بأن فرض جعل الكل مؤمنين يأباه تصدير الاستدراك بإدخال بعضهم في رحمته إذ الكل حينئذ داخلون فيها فكان المناسب حينئذ تصديره بإخراج
بعضهم من بينهم وإدخالهم في عذابه فالذي يقتضيه سياق النظم الكريم وسباقه أن يراد الاتحاد في الكفر كما في قوله تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين الآية على أحد الوجهين بأن يراد بهم الذين هم في فترة إدريس أو في فترة نوح عليهما السلام فالمعنى ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولا لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع وما فيه من ألوان الأهوال فيبقوا على ما هم عيه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته أي شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم ما ذكر فيتأثر بعضهم بالإنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله للإيمان والطاعة ويدخلهم في رحمته ولا يتأثر به الآخرون ويتمادون في غيهم وهم الظالمون فيبقون في الدنيا
23

على ما هم عليه من الكفر ويصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولى يلي أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب «أم اتخذوا من دونه أولياء» جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء أن يكون للظالمين ولى أو نصير وأم منقطعة وما فيها من بل للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه وآكده لا لإنكار الواقع واستقباحه كما قيل إذا المراد بيان أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الأولياء في شيء لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء وهو أظهر الممتنعات أي بل اتخذوا متجاوزين الله أولياء من الأصنام وغيرها هيهات وقوله تعالى «فالله هو الولي» جواب شرط محذوف كأنه قيل بعد إبطال ولاية ما اتخذوه أولياء إن أرادوا وليا في الحقيقة فالله هو الولي لا ولى سواه «وهو يحيي الموتى» أي ومن شانه ذلك «وهو على كل شيء قدير» فهو الحقيق بأن يتخذ وليا فليخصوه بالاتخاذ دون من لا يقدر على شيء «وما اختلفتم فيه من شيء» حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أي وما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين فاختلفتم أنتم وهم «فحكمه» راجع «إلى الله» وهو إثابة المحقين وعقاب المبطلين «ذلكم» الحاكم العظيم الشأن «الله ربي» مالكي عليه توكلت في مجامع أموري خاصة لا على غيره «وإليه أنيب» أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأموة ر لا إلى أحد سواه وحيث كان التوكل أمرا واحدا مستمرا والإنابة متعددة متجددة حسب تجدد موادها أو ثر في الأول صيغة الماضي وفي الثاني صيغة المضارع وقيل وما اختلفتم فيه وتنازعتم في شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره وقيل وما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتعلق تكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا الله أعلم كمعرفة الروح ولا مساغ لحمل هذا على الإجتهاد لعدم جوازه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم «فاطر السماوات والأرض» خبر آخر لذلكم أو خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره «جعل لكم» وقرئ بالجر على أنه بدل من الضمير أو وصف للاسم الجليل في قوله تعالى إلى «الله» وما بينهما اعترضا بين الصفة والموصوف «من أنفسكم» من جنسكم «أزواجا» نساء وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح قد مر سره غيره مرة «ومن الأنعام» أي وجعل للأنعام من جنسها «أزواجا» أو خلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وإناثا «يذرؤكم» يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذرو والذر «فيه» أي
24

فيما ذكر من التدبير فإن جعل الناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد كالمنبع للبث والتكثير «ليس كمثله شيء» اي ليس مثله في شأن من الشؤون التي من جملتها هذا التدبير البديع والمراد من مثله ذاته كما في قولهم مثلك لا يفعل كذا على قصد المبالغة في نفيه عنه فإذا إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له وقيل مثله صفته أي ليس كصفته صفة «وهو السميع البصير» المبالغ في العلم بكل ما يسمع ويبصر «له مقاليد السماوات والأرض» أي خزائنهما «يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر» يوسع ويضيق حسبما تقتضيه مشيئته المؤسسة على الحكم البالغة «إنه بكل شيء عليم» مبالغ في الإحاطة به فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل عليه والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى» وإيذان بأن ما شرع لهم صادر عن كمال العلم والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنبيه على كونه دينا قديما أجمع عليه الرسل والخطاب لأمته عليه الصلاة والسلام أي شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ومن بعده من أرباب الشرائع وأولى العزائم من مشاهير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرهم به أمرا مؤكدا على أن تخصيصهم بالذكر لما ذكر من علو شأنهم ولاستمالة قلوب الكفرة إليه لاتفاق الكل على نبوة بعضهم وتفرد اليهود في شأن موسى عليه السلام وتفرد النصارى في حق عيسى عليه السلام وإلا فما من نبي إلا وهو مأمور بما أمره به وهو عبارة عن التوحيد ودين الإسلام وما يختلف باختلاف الأمم وتبدل الأعصار من أصول الشرائع والأحكام كما ينبئ عنه التوصية فإنها معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به والمراد بإيحائه إليه عله الصلاة والسلام إما ما ذكر في صدر السورة الكريمة وفي قوله تعالى «وكذلك أوحينا» الآية أو ما يعمهما وغيرهما مما وقع في سائر المواقع التي من جملتها قوله تعالى ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وقوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى إنما إلهكم إله واحد وغير ذلك والتعبير عن ذلك عند نسبته إليه عليه الصلاة والسلام بالذي لزيادة تفخيم شأنه من تلك الحيثية وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة ولما في الإيحاء من التصريح برسالته عليه الصلاة والسلام القامع لإنكار الكفرة والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه وهو السر في تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا وتقديم
25

توصية نوح عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينا قديما وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على انه تعالى شرعه لهم على لسانه عليه الصلاة والسلام «أن أقيموا الدين» أي دين الإسلام الذي هو توحيد الله تعالى وطاعته والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون الرجل به مؤمنا والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيف أو المواظبة عليه والتشمر له ومحل أن أقيموا إما النصب على أنه بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليها أو الرفع على انه جواب عن سؤال نشأ من إبهام المشروع كأنه قيل وما ذاك فقيل هو إقامة الدين وقيل بدل من ضمير به وليس بذاك لما أنه مع إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستلزم لكون الخطاب في قوله تعالى «ولا تتفرقوا فيه» للأنبياء المذكورين عليهم الصلاة والسلام وتوجيه النهي إلى أممهم
تمحل ظاهر مع ان الأظهر أنه متوجه إلى أمته صلى الله عليه وسلم وأنهم المتفرقون كما ستحيط به خبرا اي لا تتفرقوا في الدين الذي هو عبارة عما ذكر من الأصول دون الفروع المختلفة حسب اختلاف الأمم باختلاف الأعصار كما ينطق به قوله تعالى «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا» وقوله تعالى «كبر على المشركين» شروع في بيان أحوال بعض من شرع لهم ما شرع من الدين القويم أي عظم وشق عليهم «ما تدعوهم إليه» من التوحيد ورفض عبادة الأصنام واستبعدوه حيث قالوا «أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب» وقوله تعالى «الله يجتبي إليه من يشاء» استئناف وارد لتحقيق الحق وفيه إشعار بأن منهم من يجيب إلى الدعوة أي الله يجتلب إلى ما تدعوهم إليه من يشاء أن يجتبيه إليه وهو من صرف اختياره إلى ما دعى إليه كما ينبئ عنه قوله تعالى «ويهدي إليه من ينيب» أي يقبل إليه حيث يمده بالتوفيق والألطاف وقوله تعالى «وما تفرقوا» شروع في بيان أحوال أهل الكتاب عقيب الإشارة الإجمالية إلى أحوال أهل الشرك قال ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود والنصارى لقوله تعالى وما تفرق الذين أوتو الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة أي وما تفرقوا في الدين الذي دعوا إليه ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم «إلا من بعد ما جاءهم العلم» بحقيته بما شاهدوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن من دلائل الحقية حسبما وجدوه في كتابهم أو العلم بمبعثه صلى الله عليه وسلم وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو من أعم الأوقات أي وما تفرقوا في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا حال مجىء العلم أو إلا وقت مجىء العلم «بغيا بينهم» وحمية وطلبا للرياسة لا لأن لهم في ذلك شبهة «ولولا كلمة سبقت من ربك» وهى العدة بتأخير العقوبة «إلى أجل مسمى» هو يوم القيامة «لقضي بينهم» لأوقع القضاء بينهم باستئصالهم لاستيجاب جناياتهم لذلك قطعا وقوله تعالى «وإن الذين
26

أورثوا الكتاب من بعدهم» الخ بيان لكيفية كفر المشركين بالقرآن إثر بيان كيفية كفر أهل الكتاب وقرئ ورثوا وورثوا أي وإن المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم «لفي شك منه» من القرآن «مريب» موقع في القلق أو في الريبة ولذلك لا يؤمنون به لا لمحض البغي والمكابرة بعد ما علموا بحقيته كدأب أهل الكتابين هذا وأما ما قيل من أن ضمير تفرقوا لأمم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن المراد تفرق كل أمة بعد نبيها مع علمهم بان الفرقة ضلال وفساد وأمر متوعد عليه على السنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيرده قوله تعالى ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وكذا ما قيل من ان الناس كانوا أمة واحدة مؤمنين بعد ما أهلك الله تعالى أهل الأرض بالطوفان فلما مات الآباء اختلف الأبناء فيما بينهم وذلك حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهم العلم وإنما اختلفوا للبغى بينهم فإن مشاهير الأمم المذكور قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار وإمهال على ان مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيدا لوجوب إقامته وتشديدا للزجر عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الإخلال بذلك المرام «فلذلك» أي فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب أو فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون «فادع» أي الناس كافة إلى إقامة ذلك الدين والعمل بموجبه فإن كلا من تفرقهم وكونهم في شك مريب ومن شرع ذلك الدين لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب للدعوة إليه والأمر بها وليس المشار إليه ما ذكر من التوصية والأمر بالإقامة والنهي عن التفرق حتى يتوهم شائبه التكرار وقيل المشار إليه نفس الدين المشروع واللام بمعنى إلى كما في قوله تعالى بأن ربك أوحى لها أي فإلى ذلك الدين فادع «واستقم» عليه وعلى الدعوة إليه «كما أمرت» وأوحى إليك «ولا تتبع أهواءهم» الباطلة «وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب» أي كتاب كان من الكتب المنزلة لا كالذين آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض وفيه تحقيق للحق وبيان لاتفاق الكتب في الأوصل وتأليف لقلوب أهل الكتابين وتعريض بهم وقد مر بيان كيفية الأيمان بها في خاتمة سورة البقرة «وأمرت لأعدل بينكم» في تبليغ الشرائع والأحكام وفصل القضايا عند المحاكمة والخصام وقيل معناه لا سوى بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعمله ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ولا أفرق بين أكابركم وأصاغركم واللام إما على حقيقتها والمأمور به محذوف أي أمرت بذلك لأعدل أو زائدة أي أمرت أن أعدل والباء محذوفة «الله ربنا وربكم» أي خالقنا جميعا ومتولى أمورنا «لنا أعمالنا» لا يتخطانا جزاؤها ثوابا كان
27

أو عقابا «ولكم أعمالكم» لا تجاوزكم آثارها لنستفيد بحسناتكم ونتضرر بسيآتكم «لا حجة بيننا وبينكم» لا محاجة ولا خصومة لأن الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة «الله يجمع بيننا» يوم القيامة «وإليه المصير» فيظهر هناك حالنا وحالكم وهذا كما ترى محاجزة في مواقف المجاوبة لا متاركة في مواطن المحاربة حتى يصار إلى النسخ بآية القتال «والذين يحاجون في الله» أي في دينه «من بعد ما استجيب له» من بعدما استجاب له الناس ودخلوا فيه والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه أو من بعد ما استجاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأيده بنصره أو من بعدما استجاب له أهل الكتاب بأن أقروا بنبوته صلى الله عليه وسلم واستفتحوا به قبل مبعثه صلى الله عليه سلم وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون للمؤمنين كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن خير منكم وأولى بالحق «حجتهم داحضة عند ربهم» زالة زائلة باطلة بل لا حجة لهم أصلا وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة مجاراة معهم على زعمهم الباطل «وعليهم غضب» عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره «ولهم عذاب شديد» لا يقادر قدره «الله الذي أنزل الكتاب» أي جنس الكتاب «بالحق» ملتبسا به في أحكامه وأخباره أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام «والميزان» والشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوى بين الناس أو نفس العدل بأن أنزل الأمر به أو آلة الوزن «وما يدريك» أي شيء يجعلك عالما «لعل الساعة» التي يخبر بمجيئها الكتاب الناطق بالحق «قريب» أي شيء قريب أو قريب مجيئها وقتل القريب بمعنى ذات قرب أو الساعة بمعنى البعث والمعنى أنها على جناح الإتيان فاتبع الكتاب واعمل به وواظب على العدل قبل ان يفاجئك اليوم الذي يوزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها «يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها» استعجال إنكار واستهزاء كانوا يقولون متى هي ليتها قامت حتى يظهر لنا الحق أهو الذي نحن عليه أم الذي عليه محمد وأصحابه «والذين آمنوا مشفقون منها» خائفون منها مع اعتناء بها لتوقع الثواب «ويعلمون أنها الحق» أي الكائن لا محالة «ألا إن الذين يمارون في الساعة» يجادلون فيها من المرية أو من مريت الناقة إذا مسحت صرعها بشدة
للحليب ألأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة «لفي ضلال بعيد» عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات بالمحسوسات فمن لم يهتد إلى تجويزه فهو عن
28

الاهتداء إلى ما وراءه أبعد وأبعد «الله لطيف بعباده» أي بر بليغ البر بهم يفيض عليهم من فنون ألطافه مالا بكاد يناله أيدي الأفكار والظنون «يرزق من يشاء» أن يرزقه كيفما يشاء فيخص كلا من عباده بنوع من البر على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة «وهو القوي» الباهر القدرة الغالب على كل شيء «العزيز» المنيع الذي لا يغلب «من كان يريد حرث الآخرة» الحري في الأصل إلقاء البذر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذور المتضمن لتنبيه الاعمال أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة «نزد له في حرثه» نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها «ومن كان يريد» بأعماله «حرث الدنيا» وهو متاعها وطيباتها «نؤته منها» اي شيئا منها حسبما قسمنا له لا ما يريده ويبتغيه «وما له في الآخرة من نصيب» إذ كانت همته مقصورة على الدنيا وقد مر تفصيله في سورة الإسراء «أم لهم شركاء» أي بل ألهم شركاء من الشياطين والهمزة للتقرير والتقريع «شرعوا لهم» بالتسويل «من الدين ما لم يأذن به الله» كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا وقيل شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم الذين جعلوها شركاء لله تعالى وأستاذ الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم كقوله تعالى إنهن أضللن كثيرا أو تماثيل من سن الضلالة لهم «ولولا كلمة الفصل» أي القضاء السابق بتأخير الجزاء أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة «لقضي بينهم» أي بين الكافرين والمؤمنين أو بين المشركين وشركائهم «وإن الظالمين لهم عذاب أليم» وقرئ بالفتح عطفا على كلمة الفصل أي ولولا كلمة الفصل وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضى بينهم في الدنيا فإن العذاب الأليم غالب في عذاب الآخرة «ترى الظالمين» يوم القيامة والخطاب لكل أحد ممن يصلح له للقصد إلى أن سوء حالهم غير مختص برؤية راء دون راء «مشفقين» خائفين «مما كسبوا» من السيئات «وهو واقع بهم» أي ووباله لاحق بهم لا محالة اشفقوا أو لم يشفقوا أو الجملة حال من ضمير مشفقين أو اعتراض «والذين آمنوا وعملوا
29

الصالحات في روضات الجنات» مستقرون في أطيب بقاعها وأنزهها «لهم ما يشاؤون عند ربهم» أي ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم ظرف للاستقرار العامل في لهم وقيل ظرف ليشاءون «ذلك» إشارة إلى ما ذكر من حال المؤمنين وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه «هو الفضل الكبير» الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ غايته «ذلك» الفضل الكبير هو «الذي يبشر الله عباده» أي يبشرهم به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول كما في قوله تعالى أهذا الذي بعث الله رسولا أو ذلك التبشير الذي يبشره الله تعالى عباده «الذين آمنوا وعملوا الصالحات» وقريء يبشر من أبشر «قل لا أسألكم عليه» روى أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض أترون ان محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا فنزلت أي لا أطلب منكم على ما أنا عليه من التبليغ والبشارة «أجرا» نفعا «إلا المودة في القربى» أي إلا أن تودوني لقرابتي أو تودوا أهل قرابتي وقيل الاستثناء منقطع والمعنى لا أسألكم أجرا قط ولكن أسألكم المودة وفي القربى حال منها أي إلا المودة ثابتة في القربى متمكنة في أهلها أو في حق القرابة والقربى مصدر كالزلفى بمعنى القرابة روى أنها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم قال على وفاطمة وابناهما وعن النبي صلى الله عليه وسلم حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة وقيل القربى التقرب إلى الله أي إلا أن تودوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح وقرئ إلا مودة في القربى «ومن يقترف حسنة» اي يكتسب أي حسنة كانت فتناول مودة ذي القربى تناولا أوليا وعن السدى أنها المرادة وقيل نزلت في الصديق رضى الله عنه ومودته فيهم «نزد له فيها» اي في الحسنة «حسنا» بمضاعفة الثواب وقرئ يزد أي يزد الله وقرئ حسنى «إن الله غفور» لمن أذنب «شكور» لمن أطاع بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة «أم يقولون» بل أيقولون «افترى» محمد «على الله كذبا» بدعوى النبوة وتلاوة القرآن على أن الهمزة للإنكار التوبيخي كأنه قيل أيتما لكون أن ينسبوا مثله عليه السلام وهو هو إلى الافتراء لا سيما الافتراء على الله الذي هو أعظم القرى وأفحشها وقوله تعالى «فإن يشأ الله يختم على قلبك» استشهاد على بطلان ما قالوا ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعا وتحقيقه أن دعوى كون القرآن افتراء عليه تعالى قول منهم بأنه تعالى لا يشاء صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم بل يشاء عدم صدوره
30

عنه ومن ضرورته منعه عنه قطعا فكأنه قيل لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ولم تنطق بحرف من حروفه وحيث لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحي حينا فحينا تبين انه من عند الله تعالى هذا وقيل المعنى إن شاء الله يجعلك من المختوم على قلوبهم فإنه لا يجترىء على الافتراء عليه تعالى إلا من كان كذلك ومؤداه استبعاد الافتراء من مثله عليه السلام وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم وعن قتادة يختم على قلبك ينسك القرآن ويقطع عنك الوحي يعنى لو أفترى على الله الكذب لفعل به ذلك وهذا معنى ما قيل لو كذب على الله لأنساه القرآن وقيل يختم على قلبك يربط عليه بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم «ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته» استئناف مقرر لنفي الافتراء غير معطوف على يختم كما ينبيء عنه إظهار الاسم الجليل وسقوط الواو كما في بعض المصاحف لاتباع اللفظ كما في قوله تعالى ويدع الإنسان بالشر أي ومن عادته تعالى أنه يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه» فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه ودمغه أو عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ويثبت الحق الذي هو عليه بالقرآن أو بقضائه الذي لا مرد له بنصرته عليهم «إنه عليم بذات الصدور» فيجرى عليها أحكامها اللائقة بها من المحو والإثبات «وهو الذي يقبل التوبة عن عباده» التوبة هي الرجوع عن المعاصي بالندم عليها والعزم على ان لا يعاودها أبدا وروى جابر رضي الله عنه أن اعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اللهم اني استغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له على رضي الله عنه يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار
توبة الكذابين وتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة قال اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته «ويعفو عن السيئات» صغيرها وكبيرها لمن يشاء «ويعلم ما تفعلون» كائنا ما كان من خير وشر فيجازي ويتجاوز حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح وقرئ ما تفعلون بالتاء «ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات» أي يستجيب الله لهم فحذف اللام كما في قوله تعالى وإذا كالوهم أي كالوا لهم والمراد إجابة دعوتهم والإثابة على طاعتهم فإنها كدعاء وطلب لما يترتب عليها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم أفضل الدعاء الحمد لله أو يستجيبون الله بالطاعة إذا دعاهم إليها دعاهم إليها وعن إبراهيم بن أدهم قيل له ما بالنا ندعو فلا
31

نجاب قال لأنه دعاكم ولم تجيبوه ثم قرأ «والله يدعو إلى دار السلام» «ويزيدهم من فضله» على ما سألوا واستحقوا بموجب الوعد «والكافرون لهم عذاب شديد» بدل ما للمؤمنين من الثواب والفضل المزيد «ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض» لتكبروا وأفسدوا فيها بطرا أو لعلا بعضهم على بعض با لاستيلاء والاستعلاء كما عليه الجبلة البشرية واصل البغى طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى من حيث الكمية أو الكيفية «ولكن ينزل بقدر» أي بتقدير «ما يشاء» أن ينزله مما تقتضيه مشيئته «إنه بعباده خبير بصير» محيط بخفايا أمورهم وجلاياها فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم ما يليق بشأنهم فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ولو أغناهم جميعا لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا وروى أن أهل الصفة تمنوا الغنى فنزلت وقيل نزلت في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وإذا أجدبوا انتجعوا «وهو الذي ينزل الغيث» اى المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع منه وقرئ ينزل من الإنزال «من بعد ما قنطوا» يئسوا منه وتقييد تنزيله بذلك مع تحققه بدونه أيضا لتذكر كمال النعمة وقرئ بكسر النون «وينشر رحمته» أي بركات الغيث ومنافعه في كل شئ من السهل والجبل والنبات والحيوان أو رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر انتظاما أوليا «وهو الولي» الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة «الحميد» المستحق للحمد على ذلك لا غيره «ومن آياته خلق السماوات والأرض» على ما هما من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه العظيمة «وما بث فيهما» عطف على السماوات أو الخلق «من دابة» من حي على إطلاق اسم المسبب على السبب أو مما يدب على الأرض فإن ما يختص بأحد الشيئين المتجاورين يصح نسبته إليهما كما في قوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من الملح وقد جوز أن يكون للملائكة عليهم السلام مشى مع الطيران فيوصفوا بالدبيب وأن يخلق الله في السماء حيوانا يمشون فيها مشى الأناسى على الأض كما ينبئ عنه قوله تعالى ويخلق ما لا تعلمون وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك العرش العظيم «وهو على جمعهم» أي حشرهم بعد البعث للمحاسبة وقوله تعالى «إذا يشاء» متعلق بما قبله لا بقوله تعالى
32

«قدير» فإن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته وإذا عند كونها بمعنى الوقت كما تدخل الماضي تدخل المضارع «وما أصابكم من مصيبة» أي مصيبة كانت «فبما كسبت أيديكم» اى فهي معاصيكم التي اكتسبتموها والفاء لأن ما شرطة أو متضمنة لمعنى الشرط وقرئ بدونها اكتفاء بما في الباء من معنى السببية «ويعفو عن كثير» من الذنوب فلا يعاقب عليها والآية مخصوصة بالمجرمين فإن ما أصاب غيرهم لأسباب أخرى منها تعريضه للثواب بالصبر عليها «وما أنتم بمعجزين في الأرض» فائتين ما قضى عليكم من المصائب وإن هربتم من أقطارها كل مهرب «وما لكم من دون الله من ولي» يحميكم منها «ولا نصير» يدفعها ويدفعها عنكم «ومن آياته الجوار» السفن الجارية «في البحر» وقرئ الجواري «كالأعلام» أي كالجبال على الإطلاق لا التي عليها النار للاهتداء خاصة «إن يشأ يسكن الريح» التي يجريها وقرئ الرياح «فيظللن رواكد على ظهره» فيبقين ثوابت عل ظهر البحر أي غير جاريات لا غير متحركات أصلا «إن في ذلك» الذي ذكر من السفن اللاتي يجرين تارة ويركدن أخرى على حسب مشيئته تعالى «لآيات» عظيمة في أنفسها كثيرة في العدد دالة على ما ذكر من شؤونه تعالى «لكل صبار شكور» لكل مكن حبس نفسه عن التوجه إلى ما لا ينبغي ووكل همته بالنظر في آيات الله تعالى والتفكر في آلائه أو لكل مؤمن كامل فإن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر «أو يوبقهن بما كسبوا» عطف على يسكن والمعنى إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يرسلها فيغرقن بعصفها وإيقاع الإيباق عليهن مع انه حال أهلهن للمبالغة والتهويل وإجراء حكمه على العفو في قوله تعالى «ويعف عن كثير» لما ان المعنى أو يرسلها فيوبق ناسا وينج آخرين بطريق العفو عنهم وقرءى ويعفوا على الاستئناف «ويعلم الذين يجادلون في آياتنا» عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم وليعلم الخ كما في قوله تعالى ولنجعله آية للناس وقوله ولنعلمه من تأويل الأحاديث ونظائرهما وقرئ بالرفع على الاستئناف وبالجزم عطفا على يعف فيكون المعنى وإن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء قوم وتحذير قوم «ما لهم من محيص» أي من مهرب من العذاب والجملة معلق عنها الفعل
33

«فما أوتيتم من شيء» مما ترغبون وتتنافسون فيه «فمتاع الحياة الدنيا» أي فهو متاعها تتمتعون به مدة حياتكم «وما عند الله» من ثواب الآخرة «خير» ذاتا لخلوص نفعه «وأبقى» زمانا حيث لا يزول ولا يفنى «للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون» لا على غيره أصلا والموصول الأول لما كان متضمنا لمعنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا دخلت جوابها الفاء بخلاف الثاني وعن على رضي الله عنه أنه تصدق أبو بكر رضي الله عنه بماله فلامه جمع من المسلمين فنزلت وقوله تعالى «والذين يجتنبون كبائر الإثم» أي الكبائر من هذا الجنس «والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون» مع ما بعده عطف على الذين آمنوا أو مدح بالنصب أو الرفع وبناء يغفرون على الضمير خبرا له للدلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال الغضب لعزة منالها وقرئ كبير الإثم وعن ابن عباس رضي الله عنهما كبير الإثم الشرك «والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة» نزل في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان فاستجابوا له «وأمرهم» شورى بينهم أي ذو شورى لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليها وكانوا قبل الهجرة وبعدها إذا حزبهم أمر اجتمعوا وتشاوروا «ومما رزقناهم ينفقون» أي في سبيل الخير
ولعل فصله عن قرينه بذكر المشاورة لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» أي ينتقمون ممن بغى عليهم على ما جعله الله تعالى لهم كراهة التذلل وهو وصف لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر مهمات الفضائل وهذا لا ينافي وصفهم بالغفران فإن كلا منهما فضيلة محمودة في موقع نفسه ورذيلة مذمومة في موقع صاحبه فإن الحلم عن العاجز وعوراء الكرام محمود وعن المتغلب ولغواء اللثام مذموم فإنه إغراء على البغى وعليه قول من قال
* إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
* وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
* فوضع الندى في موضع السيف بالعلا
* مضر كوضع السيف في موضع الندى
* وقوله تعالى «وجزاء سيئة سيئة مثلها» بيان لوجه كون الانتصار من الخصال الحميدة مع كونه في نفسه إساءة إلى الغير بالإشارة إلى أن البادىء هو الذي فعله لنفسه فإن الأفعال مستتبعة لأجزيتها حتما إن خيرا فخيرا وإن شرا فشر وفيه تنبيه على حرمة التعدي وإطلاق السيئة على الثانية
34

لأنها تسوء من نزلت به «فمن عفا» عن المسىء إليه «وأصلح» بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء كما في قوله تعالى فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم «فأجره على الله» عدة مبهمة منبئة عن عظم شأن الموعود وخروجه عن الحد المعهود «إنه لا يحب الظالمين» البادئين بالسيئة والمعتدين في الانتقام «ولمن انتصر بعد ظلمه» أي بعد ما ظلم وقد قرىء به «فأولئك» إشارة إلى من باعتبار المعنى كما ان الضميرين لها باعتبار اللفظ «ما عليهم من سبيل» بالمعاتبة أو المعاقبة «إنما السبيل على الذين يظلمون الناس» يبتدئونهم بالإضرار أو يعتدون في الانتقام «ويبغون في الأرض بغير الحق» أي يتكبرون فيها تجبرا وفسادا «أولئك» الموصوفون بما ذكر من الظلم والبغي بغير الحق «لهم عذاب أليم» بسبب ظلمهم وبغيهم «ولمن صبر» على الأذى «وغفر» لمن ظلمه ولم ينتصر وفوض أمره إلى الله تعالى «إن في ذلك» الذي ذكر من الصبر والمغفرة «لمن عزم الأمور» أي إن ذلك منه فحذف ثقة بغاية ظهوره كما في قولهم السمن منوان بدرهم وهذا في المواد التي لا يؤدى العفو إلى الشر كما أشير إليه «ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده» من ناصر يتولاه من بعد خذلانه تعالى إياه «وترى الظالمين لما رأوا العذاب» أي حين يرونه وصيغة الماضي للدلالة على التحقق يعقلون «هل إلى مرد» أي إلى رجعة إلى الدنيا «من سبيل» حتى نؤمن ونعمل صالحا «وتراهم يعرضون عليها» أي على النار المدلول عليها بالعذاب والخطاب في الموضعين لكل من يتأتي منه الرؤية «خاشعين من الذل» متذللين متضائلين مما دهاهم «ينظرون من طرف خفي» أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم ضعيف كالمصبور ينظر إلى السيف «وقال الذين آمنوا إن الخاسرين» أي المتصفين بحقيقة الخسران «الذين خسروا أنفسهم وأهليهم» بالتعريض للعذاب الخالد «يوم القيامة» أما ظرف لخسروا فالقول في
35

الدنيا أو لقال فالقول يوم القيامة أي يقولون حين يرونهم على تلك الحال وصيغة الماضي للدلالة على تحققه وقوله تعالى «ألا إن الظالمين في عذاب مقيم» إما من تمام كلامهم أو تصديق من الله تعالى لهم «وما كان لهم من أولياء ينصرونهم» برفع العذاب عنهم «من دون الله» حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا «ومن يضلل الله فما له من سبيل» يؤدي سلوكه إلى النجاة «استجيبوا لربكم» إذا دعاكم إلى الإيمان على لسان نبيه «من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله» أي لا يرده الله بعد ما حكم به على أن من صلة مرد أو من قبل أن يأتي من الله يوم لا يمكن رده «ما لكم من ملجأ يومئذ» اى مفر تلتجئون إليه «وما لكم من نكير» أي إنكاره لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائف أعمالكم وتشهد عليكم جوار حكم «فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا» تلوين للكلام وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه فما أرسلناك رقيبا ومحاسبا عليهم «إن عليك إلا البلاغ» وقد فعلت «وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة» أي نعمة من الصحة والغنى والأمن «فرح بها» أريد بالإنسان الجنس لقوله تعالى «وإن تصبهم سيئة» أي بلاء من مرض وفقر وخوف «بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور» بليغ الكفر ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويستعظمها ولا يتأمل سببها بل يزعم أنها أصابته بغير استحقاق لها وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص المجرمين لغلبتهم فيما بين الأفراد وتصدير الشرطية الأولى بإذا مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة للتنبيه على ان إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع وأنه مقتضى الذات كما ان تصدير الثانية بأن وإسناد الإصابة إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها وأنها بمعزل عن الانتظام في سلك الإرادة بالذات ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على ان هذا الجنس موسوم بكفران النعم «لله ملك السماوات والأرض» فمن قضيته أن يملك التصرف فيهما وفي كل ما فيهما كيفما يشاء ومن جملته أن يقسم النعمة والبلية حسبما يريده «يخلق ما يشاء» مما تعلمه ومما لا تعلمه «يهب لمن يشاء إناثا» من الأولاد «ويهب لمن يشاء الذكور»
36

منهم من غير أن يكون في ذلك مدخل لأحد «أو يزوجهم» أي يقرن بين الصنفين فيهبهما جميعا «ذكرانا وإناثا» قالوا معنى يزوجهم أن تلد غلاما ثم جارية أو جارية ثم غلاما أو تلد ذكر وأنثى توأمين «ويجعل من يشاء عقيما» والمعنى يجعل أحوال العباد في حق الأولاد مختلفة على ما تقتضيه المشيئة فيهن فيهب لبعض إما صنفا واحدا من ذكر أو أنثى وإما صنفين ويعقم آخرين ولعل تقديم الإناث لأنها أكثر لتكثير النسل أو لان مساق الآية للدلالة على ان الواقع ما تتعلق به مشيئته تعالى لا ما تتعلق به مشيئة الإنسان والإناث كذلك أو لأن الكلام في البلاء والعرب تعدهن أعظم البلايا أو لتطييب قلوب آبائهن أو للمحافظة على الفواصل ولذلك عرف الذكور أو لجبر التأخير وتغيير العاطف في الثالث لان قسيم المشترك بين القسمين ولا حاجة إليه في الرابع لإفصاحه بأنه قسيم المشترك بين القسام المتقدمة وقيل المراد بيان أحوال الأنبياء عليهم السلام حيث وهب لشعيب ولوط إناثا ولإبراهيم ذكورا وللنبي صلى الله عليه وسلم ذكورا وإناثا وجعل يحيى وعيسى عقيمين «إنه عليم قدير» مبالغ في العلم والقدرة
فيفعل ما فيه حكمة مصلحة «وما كان لبشر» أي وما صح لفرد من أفراد البشر «أن يكلمه الله» بوجه من الوجوه «إلا وحيا» أي إلا بأن يوحى إليه ويلهمه ويقذف في قلبه كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليهما السلام في ذبح ولده وقد روى عن مجاهد أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره أو بأن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه وهو المراد بقوله تعالى «أو من وراء حجاب» فإنه تمثيل له بحال الملك المحتجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء الحجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه وذلك كما كلم موسى وكما يكلم الملائكة عليهم السلام أو بأن يكلمه بواسطة الملك وذلك قوله تعالى «أو يرسل رسولا» أي ملكا «فيوحي» ذلك الرسول إلى المرسل اليه الذي هو الرسول البشرى «بإذنه» أي بأمره تعالى وتيسيره «ما يشاء» أن يوحيه إليه وهذا هو الذي يجرى بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في عامة الأوقات من الكلام وقيل قوله تعالى وحيا وقوله تعالى أو يرسل مصدران واقعان موقع الحال قوله تعالى أو من وراء حجاب ظرف واقع موقعها والتقدير وما صح أن يكلم إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا وقرئ أو يرسل بالرفع على إضمار مبتدأ وروى ان اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمت موسى ونظر إليه فإنا لن نؤمن حتى تفعل ذلك فقال عليه السلام لم ينظر موسى عليه السلام إلى الله تعالى فنزلت وعن عائشة رضى الله عنها من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ثم قالت رضى الله عنها
37

أو لم تسمعوا ربكم يقول فتلت هذه الآية «إنه على» متعال عن صفات المخلوقين لا يتأتى جريان المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة «حكيم» يجرى أفعاله على سنن الحكمة فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهاما وإما خطابا «كذلك» أي ومثل ذلك الإيحاء البديع «أوحينا إليك روحا من أمرنا» هو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية وقيل جبريل عليه السلام ومعنى إيحائه إليه عليهما السلام إرساله إليه بالوحي «ما كنت تدري» قبل الوحي «ما الكتاب» أي أي شئ هو «ولا الإيمان» أي الإيمان بتفاصيل ما في تضاعيف الكتاب من الأمور التي لا تهتدى إليها العقول لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر عليه فإن درايته عليه الصلاة والسلام له مما لا ريب فيه قطعا «ولكن جعلناه» أي الروح الذي أوحيناه إليك «نورا نهدي به من نشاء» هدايته «من عبادنا» وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به وقوله تعالى «وإنك لتهدي» تقرير لهدايته تعالى وبيان لكيفيتها ومفعول لتهدى محذوف ثقة بغاية الظهور أي وأنك لتهدي بذلك النور من نشاء هدايته «إلى صراط مستقيم» هو الإسلام وسائر الشرائع والاحكام وقرئ لتهدى أي ليهديك الله وقرئ لتدعوا «صراط الله» بدل من الأول وإضافته إلى الاسم الجليل ثم وصفه بقوله تعالى «الذي له ما في السماوات وما في الأرض» لتفخيم شأنه وتقرير استقامته وتأكيد وجوب سلوكه فإن كون جميع ما فيها من الموجودات له تعالى خلقا وملكا وتصرفا مما يوجب ذلك أتم إيجاب «ألا إلى الله تصير الأمور» أي أمور ما فيهما قاطبة لا إلى غيره ففيه من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم والوعيد للضالين عنه ملا يخفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرأ سورة حم عسق كان ممن تصلى عليه الملائكة ويستغفرون ويسترحمون له.
38

سورة الزخرف مكية وقيل إلا قوله واسأل من أرسلنا وآياتها ستع وثمانون
«بسم الله الرحمن الرحيم» «حم» الكلام فيه كالذي مر في فاتحة سورة يس خلا أن الظاهر على تقدير إسميته كونه اسما للقرآن لا للسورة كما قيل فإن ذلك مخل بجزالة النظم الكريم «والكتاب» بالجر على أنه مقسم به إما ابتداء أو عطفا على حم على تقدير كونه مجرورا بإضمار باء القسم على ان مدار العطف المغايرة في العنوان ومناط تكريم القسم المبالغة في تأكيد مضمون الجملة القسمية «المبين» أي البين لمن انزل عليهم لكونه بلغتهم وعلى أساليبهم أو المبين لطريق الهدى من طريق الضلالة الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة «إنا جعلناه قرآنا عربيا» جواب للقسم لكن لا على ان مرجع التأكيد جعله كذلك كما قيل بل ما هو غايته التي يعرب عنها قوله تعالى «لعلكم تعقلون» فإنها المحتاجة إلى التحقيق والتأكيد لكونها منبئة عن الاعتناء بأمرهم وإتمام النعمة عليهم وإزاحة اعذارهم أي جعنا ذلك الكتاب قرآنا عربيا لكي تفهموه وتحيطوا بما فيه من النظم الرائق والمعنى الفائق وتقفوا على ما يتضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر وتعرفوا حق النعمة في ذلك وتنقطع أعذاركم بالكلية «وإنه في أم الكتاب» أي في اللوح المحفوظ فإنه أصل الكتب السماوية وقرئ إم الكتاب بالكسر «لدينا» أي عندنا «لعلي» رفيع القدر بين الكتب شريف «حكيم» ذو حكمة بالغة أو محكم وهما خبران لأن وما بينهما بيان لمحل الحكم كأنه قيل بعد بيان اتصافه بما ذكر من الوصفين الجليلين هذا في أم الكتاب ولدينا والجملة إما عطف على الجمل المقسم عليها داخله في حكمها ففي الإقسام بالقرآن على علو قدره عنده تعالى براعة بديعة وإيذان بأنه من علو الشأن بحيث لا يحتاج في بيان إلى لاستشهاد عليه بالأقسام بغيره بل هو بذاته كاف في الشهادة على ذلك من حيث الإقسام به كما أنه كاف فيها من حيث إعجازه ورمز إلى انه لا يخطر بالبال عند ذكره شيىء آخر أولى منه بالإقسام به وأما مستأنفة مقررة لعلو شأنه الذي أنبأ عنه الإقسام به على منهاج الاعتراض في قوله تعلى وإنه لقسم لو تعلمون عظيم
39

وبعد ما بين علو شأن القرآن العظيم وحقق أن إنزاله على لغتهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبه عقب ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه فقيل «أفنضرب عنكم الذكر» أي ونبعده عنكم مجاز من قولهم ضرب الغرائب عن الحوض وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجه الذكر إليهم وملازمته لهم كأنه يتهافت عليهم والفاء للعطف على محذوف يقتضيه المقام أي أنهملكم فننحى الذكر عنكم «صفحا» أي إعراضا عنكم على انه مفعول له للمذكور أو مصدر مؤكد لما دل هو عليه فإن التنحية منبئة عن الصفح والإعراض قطعا كأنه قيل أفنصفح عنكم صفحا أو بمعنى الجانب فينتصب على الطرفية أي أفننحيه عنكم جانبا «أن كنتم قوما مسرفين» أي لان كنتم منهمكين في الإسراف مصرين عليه على معنى أن حالكم وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة وتبقوا في العذاب الخالد لكنا لسعة رحمتنا لا تفعل ذلك بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين وإنزال الكتاب المحبين وقرئ إن بالكسر على ان الجملة شطريه مخرجة للمحقق مخرج المشكوك لاستجهالهم والجزاء محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه وقوله تعالى «وكم أرسلنا من نبي في الأولين» «وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون» تقرير لما قبله ببيان أن إسراف الأمم السالفة لم يمنعه تعالى من إرسال الأنبياء إليهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه به وقوله تعالى «فأهلكنا أشد منهم بطشا» أي من هؤلاء القوم المسرفين
عدة له عليه الصلاة والسلام ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين ووصفهم بأشدية البطش لإثبات حكمهم لهؤلاء بطريق الأولوية «ومضى مثل الأولين» أي سلف في القرآن غير مرة ذكر قصتهم التي حقها أن تسير مسير المثل «ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم» أي ليسندن خلقها إلى من هذا شأنه في الحقيقة وفي نفس الأمر لا أنهم يعبرون عنه بهذا العنوان وسلوك هذه الطريقة للإشعار بأن اتصافه تعالى بما سرد من جلائل الصفات والأفعال وبما يستلزمه ذلك من البعث والجزاء أمر بين لا ريب فيه وأن الحجة قائمة عليهم شاؤوا أو أبوا وقد جوز أن يكون ذلك عين عبارتهم قوله تعالى «الذي جعل لكم الأرض مهدا» استئناف من جهته تعالى أي بسطها لكم تستقرون فيها «وجعل لكم فيها سبلا» تسلكونها في أسفاركم «لعلكم
40

تهتدون» أي لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم أو بالتفكر فيها بالتوحيد الذي هو المقصد الأصلي «والذي نزل من السماء ماء بقدر» بمقدار تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح «فأنشرنا به» أي أحيينا بذلك الماء «بلدة ميتا» خاليا عن النماء والنبات بالكلية وقرئ ميتا بالتشديد وتذكيره لأن البلدة في معنى البلد والمكان والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظم خطره «كذلك» أي مثل ذلك الإحياء الذي هو في الحقيقة إخراج النبات من الأرض «تخرجون» أي تبعثون من قبوركم أحياء وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى وعن إحيائها بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث لتقويم سنن الاستدلال وتوضيح منهاج القياس «والذي خلق الأزواج كلها» أي أصناف المخلوقات وعن ابن عباس رضى الله عنهما الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكور والأنثى وقيل كل ما سوى الله تعالى فو زوج كالفوق والتحت واليمين واليسار إلى غير ذلك «وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون» أي ما تركبونه تغليبا للأنعام على الفلك فإن الركوب متعد بنفسه واستعماله في الفلك ونحوها بكلمة في الرمز إلى مكانتها وكون حركتها غير إرادية كما مر في سورة هود عند قوله تعالى وقال اركبوا فيها «لتستووا على ظهوره» أي لتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام والجمع باعتبار المعنى «ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه» أي تذكروها بقلوبكم معترفين بها مستعظمين لها ثم تحمدوا عليها بألسنتكم «وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا» متعجبين من ذلك كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال بسم الله فإذا استوى على الدابة قال الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا إلى قوله تعالى لمنقلبون وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا «وما كنا له مقرنين» أي مطيقين من أقرن الشئ إذا أطاقه وأصله وجده قرينته لأن الصعب لا يكون قرينه للضعيف وقرئ بالتشديد والمعنى واحد وهذا من تمام ذكر نعمته تعالى إذ بدون اعتراف المنعم عليه بالعجز عن تحصيل النعمة لا يعرف قدرها ولا حق المنعم بها «وإنا إلى ربنا لمنقلبون» أي راجعون وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من المسير ويتذكر منه المسافرة العظمى التي هي الانقلاب إلى الله تعالى فيبنى أموره في مسيره ذلك على تلك الملاحظة ولا بخطر بباله في شيء
41

مما يأتي ويذر أمرا ينافيها ومن ضرورته أن يكون ركوبه لأمر مشروع «وجعلوا له من عباده جزءا» متصل بقوله تعالى ولئن سألتهم الخ أي وقد جعلوا له سبحانه بألسنتهم واعتقادهم بعد ذلك الاعتراف من عباده ولدا وإنما عبر عنه بالجزء لمزيد استحالته في حق الواحد الحق من جميع الجهات وقرئ جزؤا بضمتين «إن الإنسان لكفور مبين» ظاهر الكفران مبالغ فيه ولذلك يقولون ما يقولون سبحان الله عما يصفون «أم اتخذ مما يخلق بنات» أم منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من بيان بطلان جعلهم له تعالى ولدا على الإطلاق إلى بيان بطلان جعلهم ذلك الولد من أخس صنفية والهمزة للإنكار والتوبيخ والتعجب من شانهم وقوله تعالى «وأصفاكم بالبنين» غما عطف على اتخذ داخل في حكم الإنكار والتعجيب الخلاف المشهور والالتفات إلى خطابهم لتأكيد الإلزام وتشديد التوبيخ أي بل اتخذ من خلقه أخس أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه على الصنفين وختار لكم أفضلهما على معنى هبوا أنكم اجترأتم على إضافة اتخاذ جنس الولد إليه سبحانه مع ظهور استحالته وامتناعه أما كان لكم شيء من العقل ونبذ من الحياء حتى اجترأتم على التفوه بالعظيمة الخارقة للعقول من ادعاء أنه تعالى أثركم على نفسه بخير الصنفين وأعلاهما وترك له شرهما وأدناهما وتنكير بنات وتعريف البنين لتربية ما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة «وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا» الخ استئناف مقرر لما قبله وقيل حال على معنى أنهم نسبوا إليه ما ذكر ومن حالهم أن أحدهم إذا بشر به اغتم والالتفات للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم أن يعرض عنهم وتحكى لغيرهم تعجيبا منها اى إذا أخبر أحدهم بولادة ما جعله مثلا له سبحانه إذ الولد لابد أن يجانس الوالد ويماثله «ظل وجهه مسودا» أي صار أسود في الغاية من سوء ما بشر به «وهو كظيم» مملوء من الكرب والكآبة والجملة حال وقرئ مسود ومسواد على أن في ظل ضمير المبشر ووجهه مسود جملة وقعت خبرا له «أو من ينشأ في الحلية» تكرير للإنكار تثنية للتوبيخ ومن منصوبة بمضمر معطوف على جعلوا أي أو جعلوا من شأنه أن يربى في الزينة وهو عاجر عن أن يتولى لأمره بنفسه فالهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وقد جوز انتصابها بمضمر معطوف على اتخذ فالهمزة حينئذ لإنكار الوقوع واستبعاده واقحامها بين المعطوفين لتذكير ما في أم منقطعة من الإنكار وتأكيده والعطف للتغاير العنوان أي أو اتخذ من هذه الصفة الذميمة صفته «وهو» مع ما ذكر من القصور «في الخصام» أي الجدال الذي لا يكاد يخلو عنه الإنسان في العادة «غير مبين» غير قادر على تقرير دعواه وإقامة حجته لنقصان عقله وضعف رأيه وإضافة غير لا تمنع عمل ما بعده في الجار المتقدم لأنه بمعنى النفي وقرئ
42

ينشأ ويناشأ من الأفعال والمفاعلة والكل بمعنى واحد ونظيرة غلاه وأغلاه وغالاه «وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا» بيان لتضمين كفرهم المذكور لكفر آخر وتقريع لهم بذلك وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله عز وجل أنقصهم رأيا وأخسهم صنفا وقرئ عبيد الرحمن وقرئ عند الرحمن على تمثيل زلفاهم وقرئ أنثا وهو جمع الجمع «أشهدوا خلقهم» أي أحضروا خلق الله تعالى إياهم فشاهدوهم إناثا حتى يحكموا بأنوثتهم فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة وهو تجهيل لهم وتهكم بهم وقرئ أأشهدوا بهمزتين مفتوحة ومضمومة وآأشهدوا بألف بينهما «ستكتب شهادتهم» هذه في ديوان أعمالهم «ويسألون» عنها يوم القيامة وقرئ سيكتب وسنكتب بالياء والنون وقرئ شهاداتهم وهى قولهم إن لله جزاء وإن له بنات وإنها الملائكة وقرئ يسألون من المسألة للمبالغة «وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم» بيان لفن آخر من كفرهم أي
لو شاء عدم عبادتنا للملائكة مشيئة ارتضاء ما عبدناهم أرادوا بذلك بيان أن ما فعلوه حق مرضى عنده تعالى وأنهم إنما يفعلونه بمشيئته تعالى إياه منهم مع اعترافهم بقبحه حتى ينتهض ذمهم به دليلا للمعتزلة ومبنى كلامهم الباطل على مقدمتين إحداهما إن عبادتهم لهم بمشيئته تعالى والثانية أن ذلك مستلزم لكونها مرضية عنده تعالى ولقد أخطأوا في الثانية حيث جهلوا أن المشيئة عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض كائنا ما كان من غير اعتبار الرضا أو السخط في شيء من الطرفين ولذلك جهلوا بقوله تعالى «ما لهم بذلك» أي بما أرادوا بقولهم ذلك من كون ما فعلوه بمشيئته الارتضاء لا بمطلق المشيئة فإن ذلك محقق ينطق به ما لا يحصى من الآيات الكريمة «من علم» يستند إلى سند ما «إن هم إلا يخرصون» يتمحلون تمحلا باطلا وقد جوز أن يشر بذلك إلى أصل الدعوى كأنه لما أظهر وجوه فسادها وحكى شبههم المزيفة نفى أن يكون لهم بها علم من طريق العقل ثم أضرب عنه إلى أبطال إن يكون لهم سند من جهة النقل فقيل «أم آتيناهم كتابا من قبله» من قبل القرآن أو من قبل ادعائهم ينطق بصحة ما يدعونه «فهم به» بذلك الكتاب «مستمسكون» وعليه معولون «بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون» أي لم يأتوا بحجة عقلية أو نقلية بل اعترفوا بأن لا سند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم والأمة الدين والطريقة التي تأم أي تقصد كالرحلة لما يرحل إليه وقرئ إمة بالكسر وهي الحالة التي يكون عليها الآم أي القاصد وقوله تعالى على آثارهم مهتدون خبران والظرف صله لمهتدون
43

«وكذلك» أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتشبثهم بذيل التقليد وقوله تعالى «ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون» استئناف مبين لذلك دال على التقليد فيما بينهم ضلال قديم ليس لأسلافهم أيضا سند غيره وتخصيص المترفين بتلك المقالة للإيذان بأن التنعم وحب البطالة هو الذي صرفهم عن النظر إلى التقليد «قال» حكاية لما جرى بين المنذرين وبين أممهم عند تعللهم بتقليد آبائهم أي قال كل نذير من أولئك المنذرين لأممهم «أولو جئتكم» أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم «بأهدى» بدين أهدى «مما وجدتم عليه آباءكم» من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء وإنما عبر عنها بذلك مجاراة معهم على مسلك الإنصاف وقرئ قل على انه حكاية أمر ماض أوحى حينئذ إلى كل نذير لا على انه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل لقوله تعالى «قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون» فإنه حكاية عن الأمم قطعا أي قال كل أمة لنذيرها إنا بما أرسلت به الأخ وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز كما مر في قوله تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات وجعله حكاية عن قومه عليه الصلاة والسلام بحمل صيفة الجمع على تغليبه على سائر المنذرين عليهم السلام وتوجيه كفرهم إلى ما أرسل به الكل من التوحيد لإجماعهم عليه كما في نظائر قوله تعالى كذبت عاد المرسلين تمحل بعيد يرده بالكلية قوله تعالى «فانتقمنا منهم» أي بالاستئصال «فانظر كيف كان عاقبة المكذبين» من الأمم المذكورين فلا تكترث بتكذيب قومك «وإذ قال إبراهيم» اى واذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام «لأبيه وقومه» المكبين على التقليد كيف تبرأ مما هم فيه بقوله «إنني براء مما تعبدون» وتمسك بالبرهان ليسلكوا مسلكه في الاستدلال أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد فإنه أشرف آبائهم وبراء مصدر نعت به مبالغة ولذلك يستوى فيه الواحد والمتعدد والمذكور والمؤنث وقرئ بريء وبراء بضم الباء ككريم وكرام وما إما مصدرية أو موصولة حذف عائدها إلى إنني برئ من عبادتكم أو معبودكم «إلا الذي فطرني» استثناء منقطع أو متصل على ان ما تعم أولى العلم وغيرهم وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام أو صفة على ان ما موصوفة أي إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني «فإنه سيهدين» أي سيثبتني على الهداية أو سيهدين إلى ما وراء الذي
44

هداني إليه إلى الآن والأوجه أن السين للتأكيد دون التسويق وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار «وجعلها» أي جعل إبراهيم كلمة التوحيد التي ما تكلم به عبارة عنها «كلمة باقية في عقبه» أي في ذريته حيث وصاهم بها كما نطق به قوله تعالى ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب الآية فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده وقرئ كلمة وفي عقبه على التخفيف «لعلهم يرجعون» علة للجعل أي جعلها باقية في عقله رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعاء الموحد «بل متعت هؤلاء» إضراب عن محذوف ينساق إليه الكلام كأنه قيل جعلها كلمة باقية في عقبه بأن وصى بها بنيه رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعاء الموحد فلم يحصل ما رجاه بل متعت منهم هؤلاء المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم من أهل مكة «وآباءهم» بالمد في العمر والنعمة فاغتروا بالمهلة وانهمكوا في الشهوات وشغلوا بها عن كلمة التوحيد «حتى جاءهم» أي هؤلاء «الحق» اى القرآن «ورسول» أي رسول «مبين» ظاهر الرسالة واضحها بالمعجزات الباهرة أو مبين لتوحيد بآيات البينات والحجج وقرئ متعنا ومتعت بالخطاب على انه تعالى اعترض به على ذاته في قوله تعلى وجعلها كلمة باقية الخ مبالغة في تعبيرهم فإن التمتيع بزيادة النعم يوجب عليهم أن يجعلوه سببا لزيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان فجعله سببا لزيادة الكفر أن أقصى مراتب الكفر والضلالة «ولما جاءهم الحق» لينبههم عما هم فيه من الغفلة ويرشدهم إلى التوحيد ازدادوا كفرا وعتوا وضموا إلى كفرهم السابق معاندة الحق والاستهانة به حيث «قالوا هذا سحر وإنا به كافرون» فسموا القرآن سحرا وكفروا به واسحقروا الرسول صلى الله عليه وسلم «وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين» أي من إحدى القريتين مكة والطائف على نهج قوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان «عظيم» أي بالجاه والمال كالوليد بن المغيرة المخزومي وعروة بن مسعود الثقفي وقيل حبيب بن عمر بن عمر الثقفي وعن مجاهد عيبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل ولم تفوهوا بهذه العظيمة حسدا على نزوله إلى رسول صلى الله عليه وسلم دون من ذكر من عظمائهم مع اعترافهم بقرآنيته بل استدلالا على عدمها بمعنى أنه لو كان قرآنا لنزل إلى أحد هؤلاء بناء على ما زعموا من أن الرسالة منصب جليل لا يليق به إلا من له جلالة من حيث المال والجاه ولم يدروا أنها رتبة روحانية لا يترقى إليها إلا همم الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتحلين بالفضائل الإنسية وأما المتزخرفون بالزخارف الدنيوية المستمتعون بالحظوظ الدنية فهم من استحقاق تلك الرتبة بألف منزل
45

وقوله تعالى «أهم يقسمون رحمة ربك» إنكار فيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمهم والمراد بالرحمة النبوة «نحن قسمنا بينهم معيشتهم» أي أسباب معيشتهم «في الحياة الدنيا» قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح ولم نفوض أمرها إليهم علما منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية «ورفعنا بعضهم فوق بعض» في الرزق وسائر
مبادى المعاش «درجات» متفاوتة بحسب القرب والبعد حسبما تقتضيه الحكمة فمن ضعيف وقوى وفقير وغنى وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم «ليتخذ بعضهم بعضا سخريا» ليصرف بعضهم بعضا في مصالحهم ويستخدموهم في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى مرافقهم لا لكمال في الموسع ولا لنقص في المقتر ولو فرضنا ذلك إلى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا فإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنيئة وهو في طرف الثمام على هذه الحالة فما ظنهم بأنفسهم في تدبير أمر الدين وهو أبعد من مناط العيوق ومن أين لهم البحث عن أمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بأمرها «ورحمة ربك» أي النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين «خير مما يجمعون» من حطام الدنيا الدنيئة الفانية وقوله تعالى «ولولا أن يكون الناس أمة واحدة» استئناف مبين لحقارة متاع الدنيا ودناءة قدره عند الله عز وجل والمعنى أن حقارة شأنه بحيث لولا أن لا يرغب الناس لحبهم الدنيا في الكفر إذا رأوا أهله في سعة وتنعم فيجتمعوا عليه لأعطيناه بحذافيره من هو شر الخلائق وأدناهم منزلة وذلك قوله تعالى «لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة» أي متخذة منها ولبيوتهم بدل اشتمال من لمن وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن أفراد المستكن في يكفر باعتبار لفظها والسقف جمع سقف كرهن جمع رهن وعن الفراء جمع سقيفة كسفن وسفينة وقرئ سقفا بسكون القاف تخفيفا وسقفا اكتفاء بجمع البيوت وسقفا كأنه لغة في سقف وسقوفا «ومعارج» أي جعلنا لهم معرج من فضة أي مصاعد جمع معرج وقرئ معاريج جمع معراج «عليها يظهرون» أي يعلون السطوح والعلالى «ولبيوتهم» أي وجعلنا لبيوتهم «أبوابا وسررا» من فضة «عليها» أي على السرر «يتكئون» ولعل تكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير «وزخرفا» أي زينة عطف على سقفا أو ذهبا عطف على محل من فضة «وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا» أي وما
46

كل ما ذكر من البيوت الموصوفة المفصلة إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا وفي معناه ما قرىء وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا وقرئ بتخفيف ما على أن أن هي المخففة واللام هي الفارقة وقرئ بكسر اللام على أنها لام العلة وما موصولة قد حذف عائدها أي للذي هو متاع الخ كما في قوله تعالى تماما على الذي أحسن «والآخرة» بما فيها من فنون النعم التي يقصر عنها البيان «عند ربك للمتقين» أي عن الكفر والمعاصي وبهذا تبين أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا «ومن يعش» أي يتعام «عن ذكر الرحمن» وهو القرآن وإضافته إلى اسم الرحمن للإيذان بنزوله رحمة للعالمين وقرئ يعش بالفتح أي يعم يقال عشى يعشى إذا كان في بصره آفة وعشا يعشو إذا تعشى بلا آفة كعرج وعرج وقرئ يعشو على من موصولة غير مضمنة معنى الشرط والمعنى ومن يعرض عنه لفرط اشتغاله بزهرة الحياة الدنيا وانهماكه في حظوظها الفانية والشهوات «نقيض له شيطانا فهو له قرين» لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه وقرئ يقيض بالياء على إسناده إلى ضمير الرحمن ومن رفع يعشو فحقه أن يرفع يقيض «وأنهم» أي الشياطين الذين قيض كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو «ليصدونهم» أي قرناءهم فمدار جمع الضميرين اعتبار معنى من كما أن مدار إفراد الضمائر السابقة اعتبار لفظها «عن السبيل» المستبين الذي يدعو إليه القرآن «ويحسبون» أي العاشون «إنهم» أي الشياطين «مهتدون» أي إلى السبيل المستقيم وإلا لما أتبعوهم أو يحسبون أن أنفسهم مهتدون لأن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما والجملة حال من مفعول يصدون بتقدير المبتدأ أو من فاعله أو منهما لاشتمالها على ضميريهما أي وإنهم ليصدونهم عن الطريق الحق وهم يحسبون أنهم مهتدون إليه وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجديدية لقوله تعالى «حتى إذا جاءنا» فإن حتى وإن كانت ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية لكنها تقتضى حتما أن تكون غاية لأمر ممتد كما مر مرار وإفراد الضمير في جاء وما بعده لما أن المراد حكاية مقالة كل واحد واحد من العاشين لقرينه لتهويل الأمر وتفظيع الحال والمعنى يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصدر والحسبان الباطل حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة «قال» مخاطبا له «يا ليت بيني وبينك» في الدنيا «بعد المشرقين» أي بعد المشرق والمغرب أي تباعد كل منهما عن الآخر فغلب المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما «فبئس القرين» أي أنت وقوله تعالى «ولن ينفعكم» الخ حكاية لما سيقال لهم حينئذ من جهة الله عز وجل توبيخا وتقريعا أي لن ينفعكم «اليوم» أي يوم القيامة
47

تمنيكم لمباعدتهم «إذ ظلمتم» اى لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم إياهم في الكفر والمعاصي وقيل إذ ظلمتم بدل من اليوم إي إذ تبين عندكم وعند الناس جميعا أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا وعليه قول من قال إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة أي تبين أنى لم تلدني لئيمة بل كريمة وقوله تعالى «أنكم في العذاب مشتركون» تعليل لنفى النفع أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا ويجوز أن يسند الفعل إليه لكن لا بمعنى لن ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في شدائد الدنيا اشتراكهم فيها لتعاونهم في تحمل أعبائها وتقسمهم لعنائها لأن لكل منهم مالا تبلغه طاقته كما قيل لأن الانتفاع بذلك الوجه ليس مما يخطر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه بل بمعنى لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم ربنا آتهم ضعفين من العذاب ولعنهم لعنا كبيرا وقولكم فآتهم عذابا ضعفا من النار ونظائرهما لتتشفوا بذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبالغ في المجاهدة في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غيا وتعاميا عما يشاهدونه في شواهد النبوة وتصاما عما يسمعونه من بينات القرآن فنزل «أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي» وهو إنكار تعجيب من ان يكون هو الذي يقدر على هدايتهم وهم قد تمرنوا في الكفر واستغرقوا في الضلالة بحيث صار ما بهم من العشى عمى مقرونا بالصمم «ومن كان في ضلال مبين» عطف على العمى باعتبار تغاير الوصفين ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار في اضلال المفرط بحيث لا ارعواء له منه لا توهم القصور من قبل الهادي ففيه رمز إلى انه لا يقدر على ذلك إلا الله تعالى وحده بالقسر والإلجاء «فإما نذهبن بك» أي فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم ونشفي بذلك صدرك وصدور المؤمنين «فإنا منهم منتقمون» لا محالة في الدينا والآخرة فما مزيدة للتأكيد بمنزلة لام القسم في أنها لا تفارق النون المؤكدة «أو نرينك» الأذى «الذي وعدناهم» أي أو أردنا أن نريك العذاب الذي وعدناهم «فإنا عليهم مقتدرون» بحيث لا مناص لهم من تحت ملكتنا وقهرنا ولقد أراه عليه السلام ذلك يوم بدر «فاستمسك بالذي أوحي إليك» من الآيات والشرائع سواء عجلنا لك الموعود أو أخرناه إلى يوم الآخرة وقرئ أوحى على البناء للفاعل وهو الله عز وجل «إنك على صراط مستقيم» تعليل للاستمساك أو للأمر به «وإنه لذكر» لشرف عظيم «لك ولقومك وسوف
تسألون» يوم القيامة عنه وعن قيامكم بحقوقه «واسأل
48

من أرسلنا من قبلك من رسلنا» أي واسأل أممهم وعلماء دينهم كقوله تعالى فاسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك وفائدة هذا المجاز التنبيه على ان المسؤول عنه عين ما نطقت به ألسنة الرسل لا ما يقوله أممهم وعلماؤهم من تلقاء أنفسهم قال الفراء هم إنما يخبرونه عن كتاب الرسل فإذا اسألهم فكأنه سأل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام «أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون» أي هل حكمنا بعبادة الأوثان وهل جاءت في ملة من مللهم والمراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد والتنبيه على انه ليس ببدع ابتدعه حتى يكذب ويعادى «ولقد أرسلنا موسى بآياتنا» ملتبس بها «إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين» أريد باقتصاصه تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستشهاد بدعوة موسى عليه السلام إلى التوحيد إثر ما أشير إلى إجماع جميع الرسل عليهم السلام عليه «فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون» أي فاجؤا وقت ضحكهم منها أي استهزؤا بها أو ما رأوها ولم يتأملوا فيها «وما نريهم من آية» من الآيات «إلا هي أكبر من أختها» إلا وهى بالغة أقصى مراتب الإعجاز بحيث يحسب كل من ينظر إليها أنها أكبر من كل ما يقاس بها من الآيات والمراد وصف الكل بغاية الكبر من غير ملاحظة قصور في شيء منها أو إلا وهى مختصة بضرب من الإعجاز مفضلة بذلك الاعتبار على غيرها «وأخذناهم بالعذاب» كالسنين والطوفان والجراد وغيرها «لعلهم يرجعون» لكي يرجعوا عما هم عليه من الكفر «وقالوا يا أيها الساحر» نادوه بذلك في مثل تلك الحال لغاية عتوهم ونهاية حماقتهم وقيل كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم علم السحر وقرئ أية الساحر بضم الهاء «ادع لنا ربك» ليكشف عنا العذاب «بما عهد عندك» بعهده عندك من النبوة أو من استجابة دعوتك أو من كشف العذاب عمن اهتدى أو بما عهد عندك فوفيت به من الإيمان والطاعة «إننا لمهتدون» أي لمؤمنون على تقدير كشف العذاب عنا بدعوتك كقولهم لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك «فلما كشفنا عنهم العذاب» بدعوته «إذا هم ينكثون» فاجؤا وقت نكث عهدهم بالاهتداء وقد مر تفصيله في الأعراف «ونادى فرعون» بنفسه
49

أو بمناديه «في قومه» في مجمعهم وفيما بينهم بعد أن كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمنوا «قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار» أنها النيل ومعظمها أربعة أنهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس «تجري من تحتي» أي من تحت قصرى أو أمرى وقيل من تحت سريري لارتفاعه وقيل بين يدي في جناني وبساتيني الواو إما عطفة لهذه الأنهار على ملك مصر فتجرى حال منها أو للحال فهذه مبتدأ والأنهار صفتها وتجرى خبر للمتبدأ «أفلا تبصرون» ذلك يريد به استعظام ملكه «أم أنا خير» مع هذه المملكة والبسطة «من هذا الذي هو مهين» ضعيف حقير من المهابة وهي القلة «ولا يكاد يبين» أي الكلام قاله افتراء عليه عليه السلام وتنقيصه عليه السلام في أعين الناس باعتبار ما كان في لسانه عليه السلام من نوع رتة وقد كانت ذهبت عنه لقوله تعالى قد أوتيت سؤلك وأم إما منقطعة والهمزة للتقرير كأنه قال إثر ما عدد أسباب فضله ومبادى خيريته أثبت عندكم واستقر لديكم أنى أنا خير وهذه حالي من هذا الخ وإما متصلة فالمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون خلا أنه وضع قوله أنا خير موضع تبصرون لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء وهذا من باب تنزيل السبب منزلة المسبب ويجوز أن يجعل من تنزيل المسبب منزلة السبب فإن أبصارهم لما ذكر من أسباب فضله سبب على زعمه لحكمهم بخيريته «فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب» أي فهلا ألقى إليه مقاليد الملك إن كان صادقا لما أنهم كانوا إذا سودوا رجلا سوره وطوقوه بطوق من ذهب وأسورة جمع سوار وقرئ أساور جمع أسوار بمعنى السوار على تعويض التاء من ياء أساوير وقد قرىء كذلك وقرئ ألقى عليه أسورة وأساور على البناء للفاعل وهو الله تعالى «أو جاء معه الملائكة مقترنين» مقرونين يعينونه أو يصدقونه من قرنته به فاقترن أو متقارنين من اقتران بمعنى تقارن «فاستخف قومه» فاستفزهم وطلب منهم الخفة في مطاوعته أو فاستخف أحلامهم «فأطاعوه» فيما أمرهم به «إنهم كانوا قوما فاسقين» فذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوى «فلما آسفونا» أي أغضبونا أشد الغضب منقول من أسف إذا أشتد أغضبه «انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين» في اليم «فجعلناهم سلفا» قدوة لمن بعدهم من الكفار يسلكون مسلكهم في استيجاب مثل ما حل بهم من العذاب وهو إما مصدر نعت به أو جمع سالف كخدم جمع خادم وقرئ بضم السين واللام على انه جمع سليف أي فريق قد سلف كرغف أو سالف كصبر أو سلف كأسد وقرئ سلفا بإبدال ضمة اللام
50

فتحة أو على أنه جمع سلفة أي ثلة قد سلفت «ومثلا للآخرين» إلى أي عظة لهم أو قصة عجيبة تسير مسير الأمثال لهم فيقال مثلكم مثل قوم فرعون «ولما ضرب ابن مريم مثلا» أي ضربة ابن الزبعري حين جادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حطب جهنم حيث قال أهذا لنا ولآلهتنا أو جميع الأمم فقال عليه الصلاة والسلام هو لكم ولآهلتكم ولجميع الأمم فقال ألا للعين خصمتك ورب الكعبة أليس النصارى يعبدون المسيح واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرح به قومه وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى «إذا قومك منه» أي من ذلك المثل «يصدون» أي يرتفع لهم جلية وضجيج فرحا وجدلا وقرى يصدون أي من اجل ذلك المثل يعرضون عن الحق أي يثبتون على ما كانوا عليه من الاعتراض أو يزدادون فيه وقيل هو أيضا من الصديد وهما لغتنا فيه نحو يعكف ويعكف وهو الأنسب بمعنى المفاجأة «وقالوا أآلهتنا خير أم هو» حكاية لطرف من المثل المضروب قالوه تمهيدا لما بنوا عليه من الباطل المموه بما يغتربه السفهاء أي ظاهر أن عيسى خير من آلهتنا فحيث كان هو في النار فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها واعلم ان ما نقل عنهم من الفرح ورفع الأصوات لم يكن لما قيل من أنه عليه الصلاة والسلام سكت عند ذلك إلى ان نزل قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية فإن ذلك مع إيهامه لما يجب تنزيه ساحته عليه الصلاة والسلام عنه من شائبة الإفحام من أول الأمر خلاف الواقع كيف لا وقد روى أن قول أبن الزبعري خصمتك ورب الكعبة صدر عنه من أول الأمر عند سماع الآية الكريمة فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله عليه السلام ما أجهلك بغلة قومك أما فهمت أن حالم لا يعقل وإنما لم يخص عليه السلام هذا الحكم بآلهتهم حين سأل الفاجر عن المخصوص والعموم عملا من اختصاص كله ما بغير العقلاء لأن إخراج بعض المعبودين عنه عند الحاجة موهم للرخصة في عبادته في الجملة فعممه عليه السلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الاشتراك في المعبودية من دون الله تعالى ثم بين عليه الصلاة والسلام بقوله بل هم
عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك أن الملائكة والمسيح بمعزل من ان يكونوا معبوديهم كما نطق به قوله تعالى سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون لجن الآية وقد مر تحقيق المقام عند قوله تعالى «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى» الآية بل إنما كان ما أظهروه من الأحوال المنكرة لمحض وقاحتهم وتهالكهم على المكابرة والعناد كما ينطق به قوله تعالى «ما ضربوه لك إلا جدلا» أي ما ضربوا لك وذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره ببيانك «بل هم قوم خصمون» أي لد شداد الخصومة مجبولون على المحك واللجاج وقيلا لما سمعوا قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب قالوا نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة فنزلت فقولهم أآلهتنا خير أم هو حينئذ
51

تفضيل لآلهتهم على عيسى عليه السلام لأن المراد بهم الملائكة ومعنى ما ضربوه الخ ما قالوا هذا القول إلا للجدل وقيل لما نزلت إن مثل عيسى الآية قالوا ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده وأنه يستأهل أن يعبد وإن كان بشرا كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر ومعنى يصدون يضجون ويضجرون والضمير في أم هو لمحمد عليه الصلاة والسلام وغرضهم بالموازنة بينه عليه السلام وبين آلهتهم الاستهزاء به وقد جوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم الملائكة بنات الله تعالى ومن عبادتهم لهم كأنهم قالوا ما قلنا بدعا من القول ولا فعلنا منكر آمن الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله وعبدوه فنحن أشف منهم قولا وفعلا حيث نسبنا إليه الملائكة وهم نسبوا إليه الأناسى فقوله تعالى «إن هو إلا عبد أنعمنا عليه» أي بالنبوة «وجعلناه مثلا لبني إسرائيل» أي أمرا عجيبا حقيقا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة على الوجه الأول استئناف مسوق لتنزيهه عليه السلام عن أن ينسب إليه ما نسب إلى الأصنام بطريق الرمز كما نطق به صريحا قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية وفيه تنبيه على بطلان رأى من رفعه عن رتبة العبودية وتعريض بفساد رأى من يرى رأيهم في شأن الملائكة وعلى الثاني والرابح لبيان أنه قياس باطل بباطل أو بأبطل على زعمهم وما عيسى إلا عبد كسائر العبيد قصارى أمره أنه ممن أنعمنا عليهم بالنبوة وخصصناه ببعض الخواص البديعة بأن خلقناه بوجه بديع وقد خلقنا آدم بوجه أبدع منه فأين هو من رتبة الربوبية ومن أين يتوهم صحة مذهب عبدته حتى يفتخر عبدة الملائكة بكونهم أهدى منهم أو يعتذروا بأن حالهم أشف أو أخف من حالهم وأما على الوجه الثالث فهو لردهم وتكذيبهم في افترائهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أن عيسى في الحقيقة وفيما أوحى إلى الرسول عليهما الصلاة والسلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى عليه السلام بمعبوديته أو كيف يتوهم الرضا بمعبودية نفسه وقوله تعالى «ولو نشاء» الخ لتحقيق أن مثل عيسى عليه السلام ليس ببدع من قدرة الله وأنه تعالى قادر على أبدع من ذلك وأبرع مع التنبيه على سقوط الملائكة أيضا من درجة المعبودية اى قدرتنا بحيث لو نشاء «لجعلنا» أي لخلقنا بطريق التوالد «منكم» وأنتم رجال ليس من شأنكم الولادة «ملائكة» كما خلقناهم بطريق الإبداع «في الأرض» 6 مستقرين فيها كما جعلناهم مستقرين في السماء «يخلفون» أي يخلفونكم مثل أولادكم فيما تأتون وما تذرون ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم مع أن شأنهم التسبيح والتقديس في السماء فمن شأنهم بهذه المثابة بالنسبة إلى القدرة الربانية كيف يتوهم استحقاقهم للمعبودية أو انتسابهم إليه تعالى عن ذلك علوا «وإنه» وإن عيسى «لعلم للساعة» أي إنه بنزوله شرط من أشراطها وتسميته علما لحصوله به
52

أو بحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة وقرئ لعلم أي علامة وقرئ للعلم وقرئ لذكر على تسمية ما يذكر به ذكرا كتسمية ما يعلم به علما وفي الحديث أن عيسى عليه السلام ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها أفيق وعليه نصرتان وبيده حربه وبها يقتل الدجال فأتى بيت المقدس والناس في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلى خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به وقيل الضمير للقرآن لما أن فيه الإعلام بالساعة «فلا تمترن بها» فلا تشكن في وقوعها «واتبعون» أي واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي وقيل هو قول الرسول مأمورا من جهته تعالى «هذا» أي الذي أدعوكم إليه أو القرآن على أن الضمير في أنه له «صراط مستقيم» موصل إلى الحق «ولا يصدنكم الشيطان» عن اتباعي «إنه لكم عدو مبين» بين العداوة حيث أخرج أباكم من الجنة وعرضكم للبلية «ولما جاء عيسى بالبينات» أي بالمعجزات أو بآيات الإنجيل أو بالشرائع الواضحات «قال» لبني إسرائيل «قد جئتكم بالحكمة» أي الإنجيل أو الشريعة «ولأبين لكم» عكف على مقدر ينبئ عنه المجىء بالحكمة كأنه قيل قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم «بعض الذي تختلفون فيه» وهو ما يتعلق بأمور الدين وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فليس بيانه من وظائف الأنبياء عليهم السلام كما قال عليه السلام أنتم أعلم بأمور دنياكم «فاتقوا الله» في مخالفتي «وأطيعون» فيما أبلغه عنه تعالى «إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه» بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع «هذا» أي التوحيد والتعبد بالشرائع «صراط مستقيم» لا يضل سالكه وهو إما من تتمة كلامه عليه السلام أو استئناف من جهته تعالى مقرر لمقالة عيسى عليه السلام «فاختلف الأحزاب» الفرق المتحزبة «من بينهم» أي من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى «فويل للذين ظلموا» من المختلفين «من عذاب يوم أليم» هو يوم القيامة «هل ينظرون» أي ما ينتظر الناس «إلا الساعة أن تأتيهم» أي إلا إتيان الساعة «بغتة» أي فجأة لكن لا عند كونهم مترقبين لها بل غافلين عنها مشتغلين بأمور الدنيا منكرين لها وذلك قوله تعالى «وهم لا يشعرون»
53

«الأخلاء» المتحابون في الدنيا على الإطلاق أو في الأمور الدنيوية «يومئذ» يوم إذ تأتيهم الساعة «بعضهم لبعض عدو» لانقطاع ما بينهم عن علائق الخلة والتحاب لظهور كونها أسبابا للعذاب «إلا المتقين» فإن خلتهم في الدنيا لما كانت في الله تبقى على حالها بل تزداد بمشاهدة كل منهم آثار خلتهم من الثواب ورفع الدرجات والاستثناء على الأول متصل وعلى الثاني منقطع «يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون» حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ تشريفا لهم وتطيبا لقلوبهم «الذين آمنوا بآياتنا» صفة للمنادى أو نصب على المدح «وكانوا مسلمين» أي مخلصين وجوههم لنا جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا وهو حال من واو آمنوا عن مقاتل إذا بعث الله الناس فزع كل أحد فينادى مناد يا عبادي فيرفع الخلائق رؤسهم على الرجاء ثم يتبعها الذين آمنوا
الآية فينكس أهل الأديان الباطلة رؤسهم «ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم» نساؤكم المؤمنات «تحبرون» تسرون سرورا يظهر حباره أي أثره على وجوهكم أو تزينون من الحبرة وهو حسن الهيئة أو تكرمون إكراما بليغا والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل «يطاف عليهم» بعد دخولهم الجنة حسبما أمروا به «بصحاف من ذهب وأكواب» كذلك والصحاف جمع صحفة قيل هي كالقصعة وقيل أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة ثم المكيلة والأكواب جمع كوب وهو كوز لا عروة له «وفيها» أي في الجنة «ما تشتهيه الأنفس» من فنون الملاذ وقرئ ما تشتهى «وتلذ الأعين» أي تستلذه وتقر بمشاهدته وقرئ وتلذه «وأنتم فيها خالدون» إتمام للنعمة وإكمال للسرور فإن كل نعيم له زوال بالآخرة مقارن لخوفه لا محالة والالتفات للتشريف «وتلك الجنة» مبتدأ وخبر «التي أورثتموها» وقرئ ورثتموها «بما كنتم تعلمون» في الدنيا من الأعمال الصالحة شبه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه العامل عليه وقيل تلك الجنة مبتدأ وصفه والموصول مع صلته خبره وقيل هو صفة الجنة كالوجه الأول والخبر بما كنتم تعلمون فتتعلق الباء بمحذوف لا بأورثتموها كما في الأولين «لكم فيها فاكهة كثيرة» بحسب الأنواع والأصناف
54

لا بحسب الأفراد فقط «منها تأكلون» أي بعضها تأكلون في كل نوبة وأما الباقي فعلى الأشجار على الدوام لا ترى فيها شجرة خلت عن ثمرها لحظة فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها وعن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينزع رجل في الحنة من ثمرها إلا نبت مثلاها مكانها «إن المجرمين» أي الراسخين في الإجرام وهم الكفار حسبما ينبيء عنه إيرادهم في مقابلة المؤمنين بالآيات «في عذاب جهنم خالدون» خبر إن أو خالدون هو الخبر وفي متعلقة به «لا يفتر عنهم» أي لا يخفف العذاب عنهم من قولهم فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا والتركيب للضعف «وهم فيه» اى في العذاب وقرئ فيها أي في النار «مبلسون» آيسون من النجاة «وما ظلمناهم» بذلك «ولكن كانوا هم الظالمين» لتعريضهم أنفسهم للعذاب الخالد «ونادوا» خازن النار «يا مالك» وقرئ يا مال على الترخيم بالضم والكسر ولعله رمز إلى ضعفهم وعجزهم عن تأدية اللفظ بتمامه «ليقض علينا ربك» أي ليمتنا حتى نستريح من قضى عليه إذا أماته والمعنى سل ربك أن يقضى علينا وهذا لا ينافي ما ذكر من إبلاسهم لأنه جؤار وتمن للموت لفرط الشدة «قال إنكم ماكثون» أي في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا بغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا يجيبهم إلا بعد ألف سنة وقيل بعد مائة وقيل بعد أربعين سنة «لقد جئناكم بالحق» في الدنيا بإرسال الرسل وانزال الكتب وهو خطاب توبيخ وتقريع من جهة الله تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم وقيل في قال ضمير الله تعالى «ولكن أكثركم للحق» أي حق كان «كارهون» لا يقبلونه وينفرون عنه أما الحق المعهود الذي هو التوحيد أو القرآن فكلهم كارهون له مشمئزون منه «أم أبرموا أمرا» كلام مبتدأ ناع على المشركين ما فعلوا من الكد برسول الله صلى الله عليه وسلم وأم منطقة وما فيها من معنى بل للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء والهمزة للإنكار فإن أريد بالإبرام الأحكام حقيقة فهي لإنكار الوقوع واستبعاده وإن أريد الأحكام صورة فهي لإنكار الواقع واستقباحه أي أابرم مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم «فإنا مبرمون» كيدنا حقيقة لاهم أو فإنا مبرمون كيدنا بهم حقيقة كما أبرموا أكيدهم صورة كقوله تعالى أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون وكانوا يتناجون في أنديتهم ويتشاورون في أموره
55

عليه الصلاة والسلام «أم يحسبون» أي بل أيحسبون «أنا لا نسمع سرهم» وهو ما حدثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال «نجواهم» أي ما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي «بل» نحن نسمعهما ونطلع عليهما «ورسلنا» الذين يحفظون عليهم أعمالهم ويلازمونهم أينما كانوا «لديهم» عندهم «يكتبون» أي يكتبونهما أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما ذكر من سرهم ونجواهم والجملة إما عطف على ما يترجم عنه بلى أو حال أي نسمعها والحال أن رسلنا يكتبون «قل» أي للكفرة تحقيقا للحق وتنبيها لهم على أن مخالفتك لهم بعدم عبادتك لما يعبدونه من الملائكة عليهم السلام ليست لبغضك وعداوتك لهم أو لمعبوديهم بل إنما هو لجزمك باستحالة ما نسبوا إليهم وبنوا عليها عبادتهم من كونهم بنات الله تعالى «إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين» أي له وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بشؤنه تعالى وبما تجوز عليه وبما لا يجوز وأولاهم بمراعاة حقوقه ومن مواجب تعظيم الوالد تعظيم ولده وفيه من الدلالة على انتفاء كونهم كذلك على أبلغ الوجوه وأقواها وعلى كون رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوة يقين وثبات قدم في باب التوحيد ما لا يخفى مع ما فيه من استنزال الكفرة عن رتبة المكابرة حسبما يعرب عنه إيراد أن مكان لو المنبئة عن امتناع مقدم الشرطية وقيل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فانا أول العابدين الموحدين لله تعالى وقيل فأنا أول الآنفين أي المستنكفين منه أو من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه وقيل إن نافية اى ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك وقرئ ولد «سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون» أي يصفونه به من أن يكون له ولد وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها تنبيه على انها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملكوته وربوبيته كيف يتوهم أن يكون شئ منها جزا منه سبحانه وفي تكرير اسم الرب تفخيم لشأن العرش «فذرهم» حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي «يخوضوا» في أباطيلهم «ويلعبوا» في دنياهم فإن ما هم فيه من الأفعال والأقوال ليست إلا من باب الجهل واللعب والجزم في الفعل لجواب الأمر «حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون» من يوم القيامة فإنهم يومئذ يعلمون ما فعلوا وما يفعل بهم «وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله» الظرفان متعلقان بالمعنى الوصفي الذي ينبئ عنه الاسم الجليل من معنى المعبودية بالحق بناء على اختصاصه
56

بالمعبود بالحق كما مر في تفسير البسملة كأنه قيال وهو الذي مستحق لأن يعبد فيهما وقد مر تحقيقه في سورة الأنعام وقرئ وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله والراجع إلى الموصول مبتدأ قد حذف لطول الصلة بمتعلق الخبر والعطف عليه ولا مساغ لكون الجار خبرا مقدما وإله مبتدأ مؤخر للزوم عراء الجملة حينئذ عن العائد نعم يجوز أن يكون صلة للموصول وإله خبرا لمبتدأ محذوف على ان الجملة بيان للصلة وأن كونه في السماء على سبيل الإلهية لا على سبيل الاستقرار وفيه نفى الآلهة السماوية والأرضية وتخصيص لاستحقاق الإلهية به تعالى وقوله تعالى «وهو الحكيم العليم» كالدليل على ما قبله «وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما» إما على الدوام كالهواء أو في بعض الأوقات كالطير «وعنده علم الساعة» أي العلم بالساعة التي فيها تقوم القيامة «وإليه ترجعون» للجزاء والالتفات للتهديد وقرئ
على الغيبة وقرئ تحشرون بالتاء «ولا يملك الذين يدعون» أي يدعونهم وقرئ بالتاء مخففا ومشددا «من دونه الشفاعة» كما يزعمون «إلا من شهد بالحق» الذي هو التوحيد «وهم يعلمون» بما يشهدون به عن بصيرة وإيقان وإخلاص وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن الإفراد أولا باعتبار لفظها والاستثناء إما متصل والموصول عام لكل ما يعبد من دون الله أو منفصل على انه خاص بالأصنام «ولئن سألتهم من خلقهم» أي سألت العابدين والمبعودين «ليقولن الله» لتعذر الإنكار لغاية بطلانه «فأنى يؤفكون» فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره مع اعترافهم بكون الكل مخلوقا له تعالى «وقيله» بالجر إما على أنه عطف على الساعة أي عنده علم الساعة وعلم قوله عليه الصلاة والسلام «يا رب» الخ فإن القول والقيل والقال كلها مصادر أو على ان الواو للقسم قوله تعالى «إن هؤلاء قوم لا يؤمنون» جوابه وفي الإقسام به من رفع شأنه عليه الصلاة والسلام وتفخيم دعائه والتجائه إليه تعالى ما لا يخفي وقرئ بالنصب بالعطف على سرهم أو على محل الساعة أو ضمير أو بإضمار فعله أو بتقدير فهل القسم وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر ما بعده وقد جوز عطفه على علم الساعة «فاصفح عنهم» فأعرض عن دعوتهم واقنط عن إيمانهم «وقل سلام» أي أمرى تسلم منكم ومتاركة «فسوف يعلمون» حالهم البتة وإن تأخر ذلك وهو وعيد من الله تعالى لهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرئ تعلمون على انه داخل
57

في حيز قل. عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أدخلوا الجنة بغير حساب.
سورة الدخان مكية إلا قوله إنا كاشفوا العذاب وآياتها تسع وخمسون آية.
«بسم الله الرحمن الرحيم» «حم» «والكتاب المبين» الكلام فيه كالذي سلف في السورة السابقة «إنا أنزلناه» أي الكتاب المبين الذي هو القرآن «في ليلة مباركة» هي ليلة القدر وقيل ليلة البراءة ابتدىء فيها إنزاله أو أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا من اللوح وأملاه جبريل عليه السلام على السفرة ثم كان ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة كما مر في سورة الفاتحة ووصفها بالبركة لما أن نزول القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وقسم النعمة وفصل الأقضية وفضيلة العبادة وإعطاء تمام الشفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل يزيد في هذه الليلة ماء زمزم زيادة ظاهرة «إنا كنا منذرين» استئناف مبين لما يقضى الإنزال كأنه قيل إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وقيل جواب للقسم وقوله تعالى إنا أنزلناه الخ اعتراض وقيل جواب ثان بغير عاطف «فيها يفرق كل أمر حكيم» استئناف كما قبله فإن كونها مفرق الأمور المحكمة أو الملتبسة بالحكمة الموافقة لها يستدعى أن ينزل فيها القرآن الذي هو من عظائمها وقيل صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض وهذا يدل على أنها ليلة القدر ومعنى يفرق أنه يكتب ويفصل كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم وجمع أمورهم من هذه الليلة إلى الآخرى من السنة القابلة وقيل يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبريل وكذا الزلازل والخسف والصواعق ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت عليهم السلام وقرئ يفرق بالتشديد وقرئ يفرق على البناء للفاعل أي يفرق الله تعالى
58

كل أمر حكيم وقرئ نفرق بنون العظمة «أمرا من عندنا» نصب على الاختصاص أي أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا وهو بيان لفخامة الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية ويجوز كونه حالا من كل أمر لتخصيصه بالوصف أو من ضميره في حكيم وقد جوز أن يراد به نقابل النهي ويجعل مصدرا مؤكدا ليفرق لاتحاد الأمر والفرقان في المعنى أو لفعله المضمر لما أن الفرق به أو حالا منا أحد ضميري أنزلناه اى آمرين أو مأمورا به «إنا كنا منذرين» بدل من إنا كنا منذرين وقيل جواب ثالث وقيل مستأنف وقوله تعالى «رحمة من ربك» غاية للإرسال متأخرة عنه على ان المراد بها الرحمن الواصلة إلى العابد باعث متقدم عليه على أن المراد مبدؤها أي إنا أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لأجل إفاضة رحمتنا عليهم أو لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم ووضع الرب موضع الضمير الإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية مقتضياتها وإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه أو تعليل ليفرق أو لقوله تعالى أمرا على ان قوله تعالى رحمة مفعول للإرسال كما في قوله تعالى وما يمسك فلا مرسل له أي يفرق فيها كل أمر أو تصدر الأوامر من عندنا لأن من عادتنا إرسال رحمتنا ولا ريب في أن كلا من قسمة الأرزاق وغيرها والأوامر الصادرة منه تعالى من باب الرحمة فإن الغاية لتكليف العبادة تعريضهم للمنافع وقرئ رحمة بالرفع اى تلك رحمة وقوله تعالى «إنه هو السميع العليم» تحقيق لربوبيته تعالى وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته «رب السماوات والأرض وما بينهما» بدل من أو بيان أو نعت وقرئ بالرفع على انه خبر آخر أو استئناف على إضمار مبتدأ «إن كنتم موقنين» أي إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم أو إن كنتم موقنين في إقراركم بأنه تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما إذا سئلتم من خلقها فقلتم الله علمتم أن الأمر كما قلنا أو إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك «لا إله إلا هو» جملة مستأنفة مقررة لما قبلها وقيل خبر لقوله رب السماوات الخ وما بينهما اعتراض «يحيي ويميت» مستأنفة كما قبلها وكذا قوله تعالى «ربكم ورب آبائكم الأولين» بإضمار مبتدأ أو بدل من رب السماوات على قراءة الرفع أو بيان أو نعت له وقيل فاعل ليميت وفي يحيى ضمير راجع إلى رب السماوات وقرئ بالجر بدلا من رب السماوات على قراءة الجر «بل هم في شك» مما ذكر من شؤونه تعالى غير موقنين في إقرارهم «يلعبون» لا يقولون ما يقولون عن جد وإذعان بل مخلوطا بهزؤ ولعب
59

والفاء في قوله تعالى «فارتقب» لترتيب الارتقاب أو الأمر به على ما قبلها فإن كونهم في شك مما يوجب ذلك حتما أي فانتظر لهم «يوم تأتي السماء بدخان مبين» أي يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان إما لضعف بصره أو لأن في عام القحط يظلم الهواء لقلة الأمطار وكثرة الغبار أو لأن العرب تسمى الشر الغالب دخانا وذلك أن قريشا لما استعصت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف فأخذتهم سنة
حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان وكان يحدث الرجل يسمع كلامه ولا يراه من الدخان وذلك قوله تعالى «يغشى الناس» أي يحيط بهم «هذا عذاب أليم» أي قائلين ذلك فمشى إليه عليه الصلاة والسلام أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله تعالى والرحم وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا وذلك قوله تعالى «ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون» وهذا قول ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهم وبه أخذ مجاهد ومقاتل وهو اختيار الفراء والزجاج وقيل هو دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة فيدخل في اسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعترى المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أو قد فيه ليس خصاص وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان فتلا الآية وقال يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره والأول هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم قطعا فإن قوله تعالى «أنى لهم الذكرى» الخ رد لكلامهم واستدعائهم الكشف وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان المنبىء عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية أي كيف يتذكرون أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم «وقد جاءهم رسول مبين» أي والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم منه في إيجابها حيث جاءهم رسول عظيم الشأن وبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهره ومعجزات قاهرة تخر لها صم الجبال «ثم تولوا عنه» عن ذلك الرسول وهو هو ريثما شاهدوا منه ما شاهدوا من العظائم الموجبة للإقبال عليه ولم يقتنعوا بالتولى
60

«وقالوا» في حقه «معلم مجنون» أي قالوا تارة يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف وأخرى مجنون أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضغا وإذا شبع طغا وقوله تعالى «إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون» جواب من جهته تعالى عن قولهم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون بطريق الالتفات لمزيد التوبيخ والتهديد وما بينهما اعتراض أي إنا نكشف العذاب المعهود عنكم كشفنا قليلا أو زمانا قليلا إنكم تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتو والإصرار على الكفر وتنسون هذه الحالة وصيغة الفاعل في الفعلين للدلالة على تحققهما لا محالة ولقد وقع كلاهما حيث كشف الله تعالى بدعاء النبي صبي الله عليه وسلم فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من العتق والعناد ومن فسر الدخان بما هو من الأشراط قال إذا جاء الدخان تضور المعذبون به من الكفار والمنافقين وغوثوا وقالوا ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون فيكشفه الله تعالى عنهم بعد أربعين وريثما يكشفه عنهم يرتدون ولا يتمهلون «يوم نبطش البطشة الكبرى» يوم القيامة وقيل يوم بدر وهو ظرف لما دل عليه قوله تعالى «إنا منتقمون» لا لمنتقمون لأن إن مانعة من ذلك أي يومئذ ننتقم إنا منتقمون وقيل هو بدل من يوم تأتي الخ وقريء نبطش أي نحمل الملائكة على أن يبطشوا بهم البطشة الكبرى وهو التناول بعنف وصولة أو نجعل البطشة الكبرى باطشة بهم وقريء نبطش بضم الطاء وهي لغة «ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون» أي امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام أو أوقعناهم في الفتنة بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم وقريء بالتشديد للمبالغة أو لكثرة القوم «وجاءهم رسول كريم» على الله تعالى أو على المؤمنين وفي نفسه لأن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا من سراة قومه وكرامهم «أن أدوا إلي عباد الله» أي بأن أدوا إلي بني إسرائيل وأرسلوهم معي أو بأن أدوا إلي عباد الله حقه من الإيمان وقبول الدعوة وقيل إن مفسرة لأن مجيء الرسول لا يكون إلا برسالة ودعوة وقيل مخففة من الثقيلة أي جاءهم بأن الشام أدوا إلى الخ وقوله تعالى «إني لكم رسول أمين» تعليل للأمر أو لوجوب المأمور به أي رسول غير ظنين قد ائتمنني الله تعالى على وحيه وصدقني بالمعجزات القاهرة «وأن لا تعلوا على الله» أي لا تتكبروا عليه تعالى بالإستهانة بوحيه وبرسوله وأن كالتي سلفت وقوله تعالى «إني آتيكم» أي من جهته تعالى
61

«بسلطان مبين» تعليل للنهي أي آتيكم بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها وآتيكم على صيغة الفاعل أو المضارع وفي إيراد الأداء مع الأمين والسلطان مع العلا من الجزالة مالا يخفي «وإني عذت بربي وربكم» أي التجأت إليه وتوكلت عليه «أن ترجمون» من أن ترجموني أي تؤذوني ضربا أو شتما أو أن تقتلوني قيل لما قال وان لا تعلوا على الله توعدوه بالقتل وقرئ بإدغام الذال في التاء «وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون» أي وإن كابرتم مقتضى العقل ولم تؤمنوا لي فخلوني كفافا لا على ولا لي ولا تتعرضوا بشر ولا أذى فليس ذلك جزاء يدعوكم إلى ما فيه فلا حكم وحمله على معنى فاقطعوا أسباب الوصلة عني فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن يأباه المقام «فدعا ربه» بعد ما تموا على تكذيبه عليه السلام «إن هؤلاء» أي بأن هؤلاء «قوم مجرمين» وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه ولذلك سمى دعاء وقرئ بالكسر على إضمار القول قيل كان دعاؤه اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم وقيل هو قوله ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين «فأسر بعبادي ليلا» بإضمار القول إما بعد الفاء اى فقال ربه أسر بعبادي وإما قبلها كأنه قيل إن كان الأمر كما تقول فأسر بعبادي اي ببني إسرائيل فقد دب الله تعالى أن تتقدموا وقرئ بوصل الهمزة من سرى «إنكم متبعون» أي يتبعكم فرعون وجنوده بعد ما علموا بخروجكم «واترك البحر رهوا» مفتوحا ذا فجوة واسعة أو ساكنا على هيئته بعد ما جاوزته ولا تضربه بعصاك لينطبق ولا تغيره عن حاله ليدخله القبط «إنهم جند مغرقون» وقرئ أنهم بالفتح أي لأنهم «كم تركوا» أي كثيرا تركوا بمصر «من جنات وعيون» «وزروع ومقام كريم» محافل مزينة ومنازل محسنة «ونعمة» أي تنعم «كانوا فيها فاكهين» متنعمين وقرئ فكهين «كذلك» الكاف في حيز النصب وذلك إشارة إلى مصدر يدل عليه تركوا أي مثل ذلك السلب سلبناهم
62

إياها «وأورثناها قوما آخرين» وقيل مثل ذلك الأخراج أخرجناهم منها وقيل في حيز الرفع على الخبرية أي الأمر كذلك فحينئذ يكون أورثناها معطوفا على تركوا وعلى الأولين على الفعل المقدر «فما بكت عليهم السماء والأرض» مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم ولاعتداد بوجودهم فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده فيقال له بكت السماء والأرض ومنه ما ورى أن المؤمن ليبكي عليه مصلاه ومحل عبادته ومصاعد عمله ومهابط رزقه وآثاره في الأرض وقيل تقديره أهل السماء والأرض «وما كانوا» لما جاء وقت هلاكهم «منظرين» ممهلين إلى وقت آخر أو إلى الآخرة بل عجل لهم في الدنيا «ولقد نجينا بني إسرائيل» بأن فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا
«من العذاب المهين» من استعباد فرعون إياهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم على الخسف والضيم «من فرعون» بدل من العذاب إما على جعله نفس العذاب لإفراطه فيه وإما على حذف المضاف أي عذاب فرعون أو حال من المهين أي كائنا من فرعون وقرئ من فرعون على معنى هل تعرفونه من هو في عتوه وتفرعنه وفي إبهام أمره أولا وتبينه بقوله تعالى «إنه كان عاليا من المسرفين» ثانيا من الإفصاح عن كنه أمره في الشر والفساد مالا مزيد عليه وقوله تعالى من المسرفين إما خبر ثان لكان أي كان متكبرا مسرفا أو حال من الضمير في عاليا أي كان رفيع الطبقة من بين المسرفين فائقا لهم بليغا في الإسراف «ولقد اخترناهم» أي بني إسرائيل «على علم» أي عالمين عالمين بأنهم أحقاء بالاختيار أو عالمن بأنهم يزيغون في الأوقات ويكثر منهم الفرطات «على العالمين» جميعا لكثرة الأنبياء فيهم أو على عالمي زمانهم «وآتيناهم من الآيات» كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من عظائم الآيات التي لم يعهد مثلها في غيرهم «ما فيه بلاء مبين» نعمة جلية أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون «إن هؤلاء» يعنى كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على تماثلهم في الإصرار على الضلالة والتحذير عن حلول مثل ما حل بهم «ليقولون» «إن هي إلا موتتنا الأولى» أي ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأوى المزيلة للحياة الدنيوية ولا قصد إلى إثبات موتة أخرى كما في قولك حج زيد
63

الحجة الأولى ومات وقيل لما قيل لهم إنكم تموتون موتة تعقبها حياة كما تقدمتم موتة كذلك قالوا ما هي إلا موتتنا الأولى أي ما الموتة التي تعقبها حياة إلا الموتة الأولى وقيل المعنى ليست الموتة إلا هذه الموتة دون الموتة التي تعقب حياة القبر كما تزعمون «وما نحن بمنشرين» بمبعوثين «فأتوا بآبائنا» حطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين «إن كنتم صادقين» فيما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى ليظهر أنه حق وقيل كانوا يطلبون إليهم أن يدعوا الله تعالى فينشر لهم قصى ابن كلاب ليشاوروه وكان كبيرهم ومفزعهم في المهمات والملمات «أهم خير» رد لقولهم وتهديد لهم اى أهم خير في القوة والمنعة اللتين يدفع بهما أسباب الهلاك «أم قوم تبع» هو تبع الحميري الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى سمرقند وقيل هدمها وكان مؤمنا وقومه كافرين ولذلك ذمهم الله تعالى دونه وكان يكتب في عنوان كتابه بسم الله الذي ملك بحرا وبحرا أي بحارا كثيرة وعن النبي صلى الله عليه وسلم لا نسبوا تبعا فإنه كان قد اسلم وعنه عليه الصلاة والسلام ما ادرى أكان تبع نبيا أو غير نبي وعن ابن عباس رضي الله عنهما انه كان نبيا وقيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون كما يقال لهم الأقيال لأنهم يتقيلون «والذين من قبلهم» عطف على قوم تبع والمراد بهم عادو وثمود وأضرابهم من كل جبار عنيد أولى بأس شديد والاستفهام لتقرير أن أولئك أقوى من هؤلاء وقوله تعالى «أهلكناهم» استئناف لبيان عاقبة أمرهم وقوله تعالى «إنهم كانوا مجرمين» تعليل لإهلاكهم ليعلم أن أولئك حيث أهلكوا بسبب إجرامهم مع ما كانوا في غاية القوة والشدة فلأن يهلك هؤلاء وهم شركاء لهم في الإجرام أضعف منهم في الشدة والقوة وأولى «وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما» أي ما بين الجنسين وقرئ وما بينهن «لاعبين» لاهين من غير أن يكون في خلقهما غرض صحيح وغاية حميدة «ما خلقناهما» وما بينهما «إلا بالحق» استثناء مفرغ من أعم الأموال أو أعم الأسباب أي ما خلقناهما ملتبسا بشئ من الأشياء إلا ملتبسا بالحق أو ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء «ولكن أكثرهم لا يعلمون» أن الأمر كذلك فينكرون البعث والجزاء «ولكن أكثرهم لا يعلمون» أن الأمر كذلك فينكرون البعث والجزاء «إن يوم الفصل» أي فصل الحق عن الباطل وتمييز المحق من المبطل أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبائه «ميقاتهم» وقت موعدهم أجمعين وقرئ بالنصب على انه اسم إن ويوم الفصل خبرها أي إن ميعاد حسابهم وجزاءهم في يوم الفصل
64

«يوم لا يغني» بدل من يوم الفصل أو صفة لميقاتهم أو ظرف لما دل عليه الفصل لا لنفسه «مولى» من قرابة أو غيرها «عن مولى» أي مولى كان «شيئا» أي شيئا من الإغناء «ولا هم ينصرون» الضمير لمولى الأول باعتبار المعنى لأنه عام «إلا من رحم الله» بالعفو عنه وقبول الشفاعة في حقه ومحله الرفع على البدل من الواو أو النصب على لاستثناء «إنه هو العزيز» الذي لا ينصر من أراد تعذيبه «الرحيم» لمن أراد أن يرحمه «إن شجرة الزقوم» وقرئ بكسر الشين وقد مر معنى الزقوم في سورة الصافات «طعام الأثيم» أي الكثير الآثام والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه «كالمهل» وهو ما يمهل في النار حتى يذوب وقيل هو دردى الزيت «يغلي في البطون» وقرئ بالتاء على إسناد الفعل إلى الشجرة «كغلي الحميم» غليانا كغليه «خذوه» على إرادة القول والخطاب للزبانية «فاعتلوه» أي جروه والعتل الأخذ بمجامع الشئ وجره بقهر وعنف وقرئ بضم التاء وهي لغة فيه «إلى سواء الجحيم» أي وسطه «ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم» كان الأصل يصب من فوق رؤسهم الحميم فقيل يصب من فوق رؤسهم عذاب هو الحميم للمبالغة ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف وزيد من للدلالة على ان المصبوب بعض هذا النوع «ذق إنك أنت العزيز الكريم» أي وقولوا ذلك استهزاء به وتقريع له على ما كان يزعمه روى أن ابا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين جبليها أعز ولا أكرم منى فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا وقرئ بالفتح اي لأنك أو عذاب أنك «إن هذا» أي العذاب «ما كنتم به تمترون» تشكون وتمارون فيه والجمع باعتبار المعنى لأن
65

المراد جنس الأثيم «إن المتقين» أي عن الكفر والمعاصي «في مقام» في موضع قيام والمراد المكان على الإطلاق فإنه من الخاص الذي شاع استعماله في معنى العموم وقرئ بضم الميم وهو موضع إقامة «آمين» بأمن صاحبه الآفات والانتقال عنه وهو من الأمن الذي هو ضد الخيانة وصف به المكان بطريق الاستعارة كان المكان المخيف يخون صاحبه لما يلقى فيه من المكاره «في جنات وعيون» بدل من مقام جئ به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب «يلبسون من سندس وإستبرق» إما خبر ثان أو حال من الضمير في الجار أو استئناف والسندس مارق من الحرير والإستبرق ما غلظ منه معرب «متقابلين» في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض «كذلك» أي الأمر كذلك أو كذلك أثبناهم «وزوجناهم بحور عين» على الوصف وقرئ بالإضافة أي قرناهم بهن والحور جمع الحوراء وهي البيضاء والعين جمع العيناء وهي العظيمة العينين واختلاف في أنهن نساء الدنيا أو غيرها «يدعون فيها بكل فاكهة» أي يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه لا يتخصص
شئ منها بمكان ولا زمان «آمنين» من كل ما يسوؤهم «لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى» بل يستمرون على الحياة أبدا والاستثناء منقطع أو متصل على أن المراد بيان استحالة ذوق الموت فيها على الإطلاق كأنه قيل لا يذوقون فيها الموت إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأوى حينئذ «ووقاهم عذاب الجحيم» وقرئ مشددا للمبالغة في الوقاية «فضلا من ربك» أي أعطوا ذلك كله عطاء وتفضيلا منه تعالى وقرئ بالرفع اي ذلك فضل «ذلك هو الفوز العظيم» الذي لا فوز وراءه إذ هو خلاص عن جميع المكاره ونيل لكل المطالب وقوله تعالى «فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون» فذلكة للسورة الكريمة أي إنما أنزلنا الكتاب المبين بلغتك كي يفهمه قومك ويتذكروا ويعلموا بموجب وإذا لم يفعلوا ذلك «فارتقب»
66

فانتظر ما يحل بهم «إنهم مرتقبون» ما يحب بك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أصبح مغفورا له
سورة الجاثية مكية وهي سبع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
«حم» الكلام فيه كما مر في فاتحة سورة المؤمن فإن جعل اسما للسورة فمحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هذا مسمى بحم والإشارة إلى السورة قبل جريان ذكرها قد وقفت على سره مرارا وإن جعل مسرودا على نمط التعديد فلا حظ له من الإعراب وقوله تعالى
«تنزيل الكتاب» على الأول خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على المفعول مبالغة وعلى الثاني خبر لمبتدأ مضمر يلوح به ما قبله أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب وقيل هو خبر لحم أي المسمى به تنزيل الخ وقد مر مرارا أن الذي يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذا لا عهد بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها وأما جعله خبرا له بتقدير يعتد بها تمحل وقوله تعالى
«من الله العزيز الحكيم» كما مر في صدر سورة الزمر على التفصيل وقيل حم مقسم به وتنزيل الكتاب صفته وجواب القسم قوله تعالى
«إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين» وهو على الوجوه المتقدمة كلام مستأنف مسوق للتنبيه على الآيات التكوينية الآفاقية والأنفسية ومحل الآيات إما نفس السماوات والأرض فإنهما منطويتان من فنون الآيات على ما يقصر عنه البيان وإما خلقهما كما في قوله تعالى إن في خلق السماوات والأرض وهو الأوفق بقوله تعالى
«وفي خلقكم» أي من نطفة ثم من علقة متقلبة في أطوار مختلفة إلى تمام الخلق
«وما يبث من دابة» عطف على المضاف دون المضاف إليه اي وفيما ينشره ويفرقه من دابة
«آيات» بالرفع على أنه مبتدأ خبره الظرف المقدم والجمل معطوفة على ما قبلها كم الجملة المصدرة بأن وقيل آيات عطف على ما قبلها من آيات باعتبار المحل عند من يجوزه وقرئ
67

آية التوحيد وقرئ آيات بالنصب عطفا على ما قبلها من اسم إن والخبر كأنه قيل وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات
«لقوم يوقنون» أي من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه
«واختلاف الليل والنهار» بالجر على إضمار الجار المذكور في الآيتين قبله وقد قرئ بذكره والمراد باختلافهما إما تعاقبهما طولا وقصرا
«وما أنزل الله من السماء» عطف على اختلاف
«من رزق» أي من مطر وهو سبب للرزق عبر عنه بذلك تنبيها على كونه آية من جهتي القدرة والرحمة
«فأحيا به الأرض» بأن أخرج منها أصناف الزروع والثمرات والنبات
«بعد موتها» وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها وخلو أشجارها عن الثمار
«وتصريف الرياح» من جهة أخرى ومن حال إلى حال وقرئ بتوحيد الريح وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجود إما للإيذان بأنه آية مستقلة حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة وإما لأن كون التصريف آية ليس لمجرد كونه مبدأ لإنشاء المطر بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار
«آيات لقوم يعقلون» بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من الجار والمجرور والجملة معطوفة على ما قبلها وقرئ بالنصب على الاختصاص وقيل على أنها اسم إن والمجرور المتقدم خبرها بطريق العطف على معمولي عاملين مختلفين هما إن وفي أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في اختلاف والنصب في آيات وتنكير آيات في المواقع الثلاثة للتفخيم كما وكيفا واختلاف الفواصل لاختلاف مراتب الآيات في الدقة والجلاء
«تلك آيات الله» مبتدأ وخبر وقوله تعالى
«نتلوها عليك» حال عاملها معنى الإشارة وقيل هو الخبر وآيات الله بدل أو عطف بيان
«بالحق» حال من فاعل نتلو ومن مفعوله أي نتلوها محقين أو ملتبسة بالحق
«فبأي حديث» من الأحاديث
«بعد الله وآياته» أي بعد آيات الله وتقديم الاسم الجليل لتعظيمها كان في قولهم أعجبني زيد وكرمه أو بعد حديث الله الذي هو القرآن حسبما نطق به قوله تعالى نزل أحسن الحديث وهو المراد بآياته ومناط العطف التغاير العنواني
«يؤمنون» بصيغة الغيبة وقرئ بالتاء
«ويل لكل أفاك» كذاب
«أثيم» كثر الآثام
«يسمع آيات الله» صفة أخرى لأفاك وقيل استئناف وقيل حال من الضمير في أثيم
«تتلى عليه» حال من آيات الله ولا مساغ لجعله مفعولا ثانيا ليسمع لأن شرطه أن يكون ما بعده مما لا يسمع
68

كقوله سمعت زيدا يقرأ
«ثم يصر» أي يقيم على كفره وأصله من إصرار الحمار على العانة
«مستكبرا» عن الإيمان بما سمعه من آيات الله تعالى والإذعان لما تنطق مزدريا لها معجبا بما عنده من الأباطيل وقيل نزلت في النضر بن الحرث وكان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن لكنها وردت بعبارة عامة ناعية عليه وعلى كل من يسير سيرته ما هم فيه من الشر والفساد وكلمة ثم لاستبعاد الإصرار والاستكبار بعد سماع الآيات التي حقها أن تذعن لها القلوب وتخضع لها الرقاب كما في قوله من قال يرى غمرات الموت ثم يزورها
«كأن لم يسمعها» أي كائن لم يسمعها فخفف وحذف ضمير الشأن والجملة حال من يصر أي يصر شبيها بغير السامع
«فبشره بعذاب أليم» على إصراره واستكباره
«وإذا علم من آياتنا شيئا» أي إذا بلغه من آياتنا شيء وعلم أنه من آياتنا لا أنه علمه هو عليه فإنه بمعزل من ذلك العلم وقيل إذا علم منها شيئا يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا فاسدا يتوصل به إلى الطعن والغميزة
«اتخذها» أي الآيات كلها
«هزوا» أي مهزوئا بها لاما سمعه فقط وقيل الضمير للشيء والتأنيث لأنه في معنى الآيات
«أولئك» إشارة إلى كل أفاك من حيث الاتصاف بما ذكر من القبائح والجمع باعتبار الشمول للكل كما في قوله تعالى كل حزب بما لديهم فرحون كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحد واحد
«لهم» بسبب جناياتهم المذكورة
«عذاب مهين» وصف من قدامهم لأنهم متوجهون إلى ما أعد لهم أو من خلفهم لأنهم معرضون عن ذلك مقبلون على الدنيا فإن الوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف وقدام
«ولا يغني عنهم» ولا يدفع
«ما كسبوا» من الأموال والأولاد
«شيئا» من عذاب الله تعالى أو شيئا من الإغناء
«ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء» أي الأصنام وتوسيط حرف النفي بين المعطوفين مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعا مبني على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطعمون في شفاعتهم وفيه تهكم
«ولهم» فيما وراءهم من جهنم
«عذاب عظيم» لا يقادر قدره
«هذا» أي القرآن
«هدى» في غاية الكمال من الهداية كأنه نفسها
«والذين كفروا» أي بالقرآن وإنما وضع موضع ضميره قوله تعالى
«بآيات ربهم» لزيادة تشنيع كفرهم به وتفظيع حالهم
«لهم عذاب من رجز» أي من أشد العذاب
«أليم» بالرفع صفة عذاب وقرئ بالجر على أنه صفة رجز وتنوين عذاب في المواقع الثلاثة للتفخيم ورفعه إما على الابتداء وإما على الفاعلية
69

«الله الذي سخر لكم البحر» بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلل كالأخشاب ولا يمنع الغوص والخرق لميعانه
«لتجري الفلك فيه بأمره» وأنتم راكبوها
«ولتبتغوا من فضله» بالتجارة والغوص والصيد وغيرها
«ولعلكم تشكرون» ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك
«وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض» من الموجودات بأن جعلها مدارا لمنافعكم
«جميعا» إما حال من ما في السماوات والأرض أو توكيد له
«منه» متعلق بمحذوف هو صفة لجميعا أو حال من ما أي جميعا كائنا منه تعالى أو سخر لكم هذه الأشياء كائنة منه مخلوقة له تعالى أو خبر لمحذوف أي هي جميعا منه تعالى وقرئ منة على المفعول له ومنه على أنه فاعل سخر على الإسناد المجازي أو خبر مبتدأ محذوف أي ذلك منه
«إن في ذلك» أي فيما ذكر من الأمور العظائم
«لآيات» عظيمة الشأن كثيرة العدد
«لقوم يتفكرون» في بدائع صنع الله تعالى فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها ويوفقون لشكرها
«قل للذين آمنوا» حذف المقول لدلالة
«يغفروا» عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار نفسه فقط أي قل لهم اغفروا يغفروا
«للذين لا يرجون أيام الله» أي يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى بأعدائه من قولهم أيام العرب لوقائعها وقيل لا يأملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها قيل نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها وقيل نزلت في عمر رضي الله عنه حين شتمه غفاري فهم أن يبطش به وقيل حين قال ابن أبي ما قال وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها المريسيع فأرسل ابن أبي غلامه يستقي فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حسبك قال غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر فقال ابن أبي ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزلها الله تعالى
«ليجزي قوما بما كانوا يكسبون» تعليل للأمر بالمغفرة والمراد بالقوم المؤمنون والتنكير لمدحهم والثناء عليهم أي أمروا بذلك ليجزي يوم القيامة قوما أيما قوم قوما مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم هذا وقد جوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كانوا يكسبون سيئاتهم التي من جملتها ما حكي من الكلمة الخبيثة والتنكير للتحقير وفيه أن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلا للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا يتحقق بعض منه في الدنيا أو بما يصدر عنه تعالى بالذات وفي ذلك من التكلف مالا
70

الجاثية يخفى وأن يراد كلا الفريقين وهو من أكثر تكلفا وأشد تمحلا وقرئ ليجزي قوم وليجزي قوما أي ليجزي الجزاء قوما وقرئ لنجزي بنون العظمة
«من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها» لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله
«ثم إلى ربكم» مالك أموركم
«ترجعون» فيجازيكم على أعمالكم خيرا كان أو شرا
«ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب» أي التوراة
«والحكم» أي الحكمة النظرية والعلمية والفقه في الدين أو فصل الخصومات بين الناس إذ كان الملك فيهم
«والنبوة» حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثر في غيرهم
«ورزقناهم من الطيبات» مما أخل الله تعالى من اللذائذ كالمن والسلوى
«وفضلناهم على العالمين» حيث آتيناهم ما لم يؤت من عداهم من فلق البحر وإضلال الغمام ونظائرها وقيل على عالمي زمانهم
«وآتيناهم بينات من الأمر» دلائل ظاهرة في أمر الدين ومعجزات قاهرة وقال ابن عباس رضي الله عنهما هو العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وما بين لهم من أمره وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ويكون أنصاره أهل يثرب
«فما اختلفوا» في ذلك الأمر
«إلا من بعد ما جاءهم العلم» بحقيقته وحقيته فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبا لرسوخه
«بغيا بينهم» أي عداوة وحسدا لا شكا فيه
«إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة» بالمؤاخذة والجزاء
«فيما كانوا فيه يختلفون» من أمر الدين
«ثم جعلناك على شريعة» أي سنة وطريقة عظيمة الشأن
«من الأمر» أي أمر الدين
«فاتبعها» بإجراء أحكامها في نفسك وفي غيرك من غير إخلال بشيء منها
«ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون» أي آراء الجهلة واعتقاداتهم الزائغة التابعة للشهوات وهم رؤساء قريش كانوا يقولون له عليه الصلاة والسلام ارجع إلى دين آبائك
«إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا» مما أراد بك إن اتبعتهم
«وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض» لا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالما مثلها
«والله ولي المتقين» الذين أنت قدوتهم قدم على ما أنت عليه من توليه خاصة الأعراض عما سواه بالكلية
«هذا» أي القرآن أو اتباع الشريعة
«بصائر للناس»
71

فإن ما فيه من معالم الدين وشعائر الشرائع بمنزلة البصائر في القلوب
«وهدى» من ورطة الضلالة
«ورحمة» عظيمة
«لقوم يوقنون» من شأنهم الإيقان بالأمور
«أم حسب الذين اجترحوا السيئات» استئناف مسوق لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين إثر بيان تباين حالي الظالمين والمتقين وأم منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني والهمزة لإنكار الحسبان لكن لا بطريق إنكار الوقوع ونفيه كما في قوله تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار بل بطريق إنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه والاجتراح الاكتساب
«أن نجعلهم» أي نصيرهم في الحكم والاعتبار وهم على ما هم عليه من مساوئ الأحوال
«كالذين آمنوا وعملوا الصالحات» وهم فيما هم فيه من محاسن الأعمال ونعاملهم معاملتهم في الكرامة ورفع الدرجة
«سواء محياهم ومماتهم» أي محيا الفريقين جميعا ومماتهم حال من الضمير في الظرف والموصول معا لاشتماله على ضميريهما على أن السواء بمعنى المستوى محياهم ومماتهم كلا لا يستوون في شيء منهما فإن هؤلاء في عز الإيمان والطاعة وشرفهما في المحيا وفي رحمة الله تعالى ورضوانه في الممات وأولئك في ذلك الكفر والمعاصي وهو أنهما في المحيا وفي لعنة الله والعذاب الخالد في الممات شتان بينهما وقد قيل المراد إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة لأن المسيئين والمحسنين مستو محياهم في الرزق والصحة وإنما يفترقون في الممات وقرئ محياهم ومماتهم بالنصب على أنهما ظرفان كمقدم الحاج وسواء حاله على حاله أي حال كونهم مستوين في محياهم ومماتهم وقد ذكر في الآية الكريمة وجوه من الإعراب والذي يليق بجزالة التنزيل هو الأول فتدبر وقرئ سواء بالرفع على أنه خبر ومحياهم مبتدأ فقيل الجملة بدل من الكاف وقيل حال وأيا ما كان فنسبة حسبان التساوي إليهم في ضمن الإنكار التوبيخي مع أنهم بمعزل منه جازمون بفضلهم عليه إنكار لحسبان الجزم بالفضل وتوبيخ عليه على أبلغ وجه وآكده
«ساء ما يحكمون» أي ساء حكمهم هذا أو بئس شيئا حكموا به ذلك
«وخلق الله السماوات والأرض بالحق» استئناف مقرر لما سبق من الحكم فإن خلق الله تعالى لهما ولما فيهما بالحق المقتضي للعدل يستدعي لا محالة تفضيل المحسن على المسئ في المحيا والممات وانتصار المظلوم من الظالم وإذا لم يطرد ذلك في المحيا فهو بعد الممات حتما
«ولتجزى كل نفس بما كسبت» عطف على بالحق لأن فيه معنى التعليل إذ معناه خلقها مقرونة بالحكمة والصواب دون البعث والباطل فحاصلة خلقها لأجل ذلك ولتجزى الخ أو على علة
72

محذوفة مثل ليدل بها على قدرته أو ليعدل ولتجزى
«وهم» أي النفوس المدلول عليها بكل نفس
«لا يظلمون» بنقص ثواب أو بزيادة عقاب وتسمية ذلك ظلما مع أنه ليس كذلك على ما عرف قاعدة أهل السنة لبيان غاية تنزه ساحة لطفه تعالى عما ذكر بتنزيله منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه تعالى
«أفرأيت من اتخذ إلهه هواه» تعجب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه عبده أي أنظرت فرأيته فإن ذلك مما يقضي منه العجب وقرئ آلهة هواه لأن أحدهم كان يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه إليه فكأنه اتخذ آلهة شتى
«وأضله الله» وخذله
«على علم» أي عالما بضلاله وتبديله لفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها
«وختم على سمعه وقلبه» بحيث لا يتأثر بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات والنذر
«وجعل على بصره غشاوة» مانعة عن الاستبصار والاعتبار وقرئ بفتح الغين وضمها وقرئ غشوة
«فمن يهديه من بعد الله» أي من بعد إضلاله تعالى إياه بموجب تعاميه عن الهدى وتماديه في الغي
«أفلا تذكرون» أي ألا تلاحظون فلا تذكرون وقرئ تتذكرون على الأصل
«وقالوا» بيان لأحكام ضلالهم المحكي أي قالوا من غاية غيهم وضلالهم
«ما هي» أي ما الحياة
«إلا حياتنا الدنيا» التي نحن فيها «نموت ونحيا» أي يصيبنا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة وقيل نكون نطفا وما قبلها وما بعدها ونحيا بعد ذلك أو نموت
بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا أو يموت بعضنا ويحيا بعضنا وقد جوز أن يريدوا به التناسخ فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان وقرئ نحيا
«وما يهلكنا إلا الدهر» إلا مرور الزمان وهو في الأصل مدة بقاء العالم من دهره أي غلبه وقرئ إلا دهر يمر وكانوا يزعمون أن المؤثر في هلاك الأنفس هو مرور الأيام والليالي وينكرون ملك الموت وقبضه للأرواح بأمر الله تعالى ويضيفون الحوادث إلى الدهر والزمان ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر أي فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر
«وما لهم بذلك» أي بما ذكر من اقتصار الحياة على ما في الدنيا واستناد الحياة والموت إلى الدهر
«من علم» ما مستند إلى عقل أو نقل
«إن هم إلا يظنون» ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم شيء يصح أن يتمسك به في الجملة هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم
«وإذا تتلى عليهم آياتنا» الناطقة بالحق الذي من جملته البعث
«بينات» واضحات الدلالة على ما نطقت به أو مبينات له
«ما كان حجتهم» بالنصب
73

على أنه خبر كان أي ما كان متمسكا لهم شيء من الأشياء
«إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين» في أنا نبعث بعد الموت أي هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون من قبيل الحجة وتسمية حجة إما لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم أو لأنه من قبيل تحية بينهم ضرب وجيع وقرئ برفع حجتهم على أنها اسم كان فالمعنى ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلا هذا القول الباطل
«قل الله يحييكم» ابتداء
«ثم يميتكم» عند انقضاء آجالكم لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر
«ثم يجمعكم» بعد الموت
«إلى يوم القيامة» للجزاء
«لا ريب فيه» أي في جمعكم فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة والوعد المصدق بالآيات الدال على وقوعها حتما والإتيان بآبائهم حيث كان مزاحما للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه
«ولكن أكثر الناس لا يعلمون» استدراك من قوله تعالى لا ريب فيه وهو إما من تمام الكلام المأمور به أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على أن ارتيابهم لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر لا لأن فيه شائبة ريب ما
«ولله ملك السماوات والأرض» بيان لاختصاص الملك المطلق والتصرف الكلي فيهما وفيما بينهما بالله عز وجل إثر بيان تصرفه تعالى في الناس بالإحياء والإماتة والبعث والجمع للمجازاة
«ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون» العامل في يوم يخسر ويومئذ بدل منه
«وترى كل أمة» من الأمم المجموعة
«جاثية» باركة على الركب مستوفزة وقرئ جاذية أي جالسة على أطراف الأصابع والجذو أشد استيفازا من الجثو وعن ابن عباس رضي الله عنهما جاثية مجتمعة وقيل جماعات من الجثو وهي الجماعة
«كل أمة تدعى إلى كتابها» إلى صحيفة أعمالها وقرئ كل بالنصب على أنه بدل من الأول وتدعى صفة أو حال أو مفعول ثان
«اليوم تجزون ما كنتم تعملون» أي يقال لهم ذلك وقوله تعالى
«هذا كتابنا» الخ من تمام ما يقال حينئذ وحيث كان كتاب كل أمة مكتوبا بأمر الله تعالى أضيف إلى نون العظمة تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره فهذا متبدأ وكتابنا خيره وقوله تعالى ينطق عليكم أي يشهد عليكم بالحق من غير زيادة ولا نقص خبر آخر أو حال وبالحق حال من فاعل ينطق وقوله تعالى إنا كنا كنا نستنسخ الخ تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها أي إنا كنا فيما قبل نستكتب الملائكة ما كنتم تعملون في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة
74

وقوله تعالى «فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته» أي في جنته تفصيل لما يفعل بالأمم بعد بيان ما خوطبوا به من الكلام المنطوي على الوعد والوعيد ذلك أي الذي ذكر من الإدخال في رحمته تعالى هو الفوز المبين الظاهر كونه فوزا لا فوز وراءه وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم أي يقال لهم بطريق التوبيخ والتقريع ألم يكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فحذف المعطوف عليه ثقة بدلالة القرينة عليه فاستكبرتم عن الإيمان بها وكنتم قوما مجرمين أي قوما عادتهم الإجرام وإذا قيل إن وعد الله أي ما وعده من الأمور الآتية أو وعده بذلك حق أي واقع لا محالة أو مطابق الواقع والساعة التي هي أشهر ما وعده لا ريب فيها أي في وقوعها وقرئ والساعة بالنصب عطفا على اسم إن وقراءة الرفع للعطف على محل إن واسمها قلتم لغاية عتوكم ما ندري ما الساعة أي أي شيء هي استغرابا لها (إن نظن إلا ظنا) أي ما نفعل
إلا ظنا وقد مر تحقيقه في قوله تعالى إن أتبع إلا ما يوحى إلى وقيل ما نعتقد إلا ظنا أي لا علما
وقيل ما نحن إلا نظن ظنا وقيل ما نظن إلا ظنا ضعيفا ويرده قوله تعالى وما نحن بمستيقنين أي لا مكانه فإن مقابل الإستيقان مطلق الظن لا الضعيف منه ولعل هؤلاء غير القائلين ما هي إلا حياتنا الدنيا وبدا لهم أي ظهر لهم حينئذ سيئات ما عملوا على ما هي عليه من الصورة المنكرة الهائلة وعاينوا وخامة عاقبتها أو جزاءها فإن جزاء السيئة وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون من الجزاء والعقاب وقيل اليوم ننساكم نترككم في العذاب ترك المنسى كما نسيتم في الدنيا لقاء يومكم هذا أي كما تركتم عدته ولم تبالوا به وإضافة اللقاء إلى اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه ومأواكم النار وما لكم من ناصرين أيما أي ما لأحد منكم ناصر واحد يخلصكم منها ذلكم العذاب يأتكم بسبب أنكم «اتخذتم آيات الله هزوا» مهزوا
75

بها ولم ترفعوا لها رأسا وغرتكم الحياة الدنيا فحسبتم أن لا حياة سواها (فاليوم لا يخرجون منها) أي من النار وقرئ يخرجون من الخروج والالتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم أو بنقلهم من مقام الخطاب إلى غيابة النار ولا هم يستعتبون أي يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضون لفوات أوانه فالله الحمد خاصة رب السماوات ورب الأرض رب العالمين فلا يستحق الحمد أحمد سواه وتكرير الرب للتأكيد والإيذان بأن ربوبيته تعالى لكن منها بطريق الأصالة وقرئ برفع الثلاثة على المدح بإضمار هو «وله الكبرياء في السماوات والأرض» لظهور آثارها وأحكامها فيهما وإظهارهما في موقع الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء وهو العزيز الذي لا يغلب الحكيم في كل ما قضي وقدر فاحمدوه وكبره وأطيعون عن النبي صلى الله عيهل وسلم من قرأ حم الجاثية ستر الله تعالى عورته وسكن روعته يوما الحساب
76

سورة الأحقاف مكية وآيها خمس وثلاثون
«بسم الله الرحمن الرحيم» «حم» «تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم» الكلام فيه كالذي مر في مطلع السورة السابقة «ما خلقنا السماوات والأرض» بما فيهما من حيث الجزئية منهما ومن حيث الاستقرار فيهما «وما بينهما» من المخلوقات «إلا بالحق» استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية أو من أعم الأحوال من فاعل خلقنا أو مفعوله أي ما خلقناها في حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق أو حال ملابستها به وفيه من الدلالة على وجود الصانع تعالى وصفات كماله وابتناء أفعاله على حكم بالغة وانتهائها إلى غايات جليلة ما لا يخفى «وأجل مسمى» عطف على الحق بتقدير مضاف أي وبتقدير أجل مسمى ينتهى إليه أمر الكل وهو يوم القيامة يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وقيل هو آخر مدة البقاء المقدر لكل واحد ويأباه قوله تعالى «والذين كفروا عما أنذروا معرضون» فإن ما أنذروه يوم القيامة وما فيه من الطامة التامة والأهوال العامة لا آخر أعمارهم وقد جوز كون ما مصدرية والجملة حالية أي ما خلقنا الخلق إلا بالحق وتقدير الأجل الذي يجاوزون عنده والحال أنهم غير مؤمنين به معرضون عنه وعن الاستعداد له «قل» توبيخا لهم وتبكيتا «أرأيتم» أخبروني وقرئ أرأيتكم «ما تدعون» ما تعبدون «من دون الله» من الأصنام «أروني» تأكيد لأرأيتم «ماذا خلقوا من الأرض» بيان للإبهام في ماذا «أم لهم شرك» أي شركة مع الله تعالى «في السماوات» أي في خلقها أو ملكها وتدبيرها حتى يتوهم أن يكون لهم شائبة استحقاق للمعبودية فإن مالا مدخل له في وجود
77

شئ من الأشياء بوجه من الوجوه فهو بمعزل من ذلك الاستحقاق بالمرة وإن كان من الاحياء العقلاء فما ظنكم بالجماد وقوله تعالى «ائتوني بكتاب» الخ تبكيت لهم بتعجيزهم عن الاتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الاتيان بسند عقلي أي ائتوني بكتاب إلهي كائن «من قبل هذا» الكتاب أي القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم «أو أثارة من علم» أو بقيت من علم بقيت عليكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم للعبادة «إن كنتم صادقين» في دعواكم فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو سلطان نقلي وحيث لم يقم عليها شئ منهما وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل تبين بطلانها وقرئ إثارة بكسر الهمزة أي مناظرة فإنها تثير المعاني وأثرة أي شئ أوثرتم به وخصصتم من علم مطوى من غيركم وأثرة بالحركات الثلاث مع سكون الثاء أما المكسورة فبمعنى الأثرة وأما المفتوحة فهي المرة من أثر الحديث أي رواه وأما المضمومة فاسم ما يؤثر الخطبة التي هي اسم ما يخطب به «ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له» إنكار ونفى لأن يكون أحد يساوى المشركين في الضلال وإن كان سبك التركيب لنفى الأضل منهم من غير تعرض لنفى المساوى كما مر غير مرة أي هم أضل من كل ضال حيث تركوا عبادة خالقهم السميع القادر المجيب الخبير إلى عبادة مصنوعهم العاري عن السمع والقدرة والاستجابة «إلى يوم القيامة» غاية لنفى الاستجابة «وهم عن دعائهم» الضمير الأول لمفعول ويدعو الثاني لفاعله والجمع فيهما باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها «غافلون» لكونهم جمادات وضمائر العقلاء لإجرائهم إياها مجرى العقلاء ووصفها بما ذكر من ترك الاستجابة والغفلة مع ظهور حالها للتهكم بها وبعبدتها كقوله تعالى إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم الآية «وإذا حشر الناس» عند قيام القيامة «كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين» أي مكذبين بلسان الحال أو المقال على ما يروى أنه تعالى يحيى الأصنام فتتبرأ عن عبادتهم وقد جوز أن يراد بهم كل ما يعبد من دون الله من الملائكة والجن والإنس وغيرهم ويبنى إرجاع الضمائر وإسناد العداوة والكفر إليهم على التغليب ويراد بذلك تبرؤهم عنهم وعن عبادتهم وقيل ضمير كانوا للعبدة وذلك قولهم والله ربنا ما كنا مشركين «وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات» واضحات أو مبينات «قال الذين كفروا للحق» أي لأجله وفى شأنه وهو عبارة عن الآيات المتلوة وضع موضع ضميرها تنصيصا على حقيتها ووجوب الإيمان بها كما وضع الموصول موضع ضمير المتلو عليهم تسجيلا عليهم بكمال الكفر والضلالة «لما جاءهم» أي في أول ما جاءهم من غير تدبر وتأمل «هذا سحر مبين» أي ظاهر كونه
78

أم «يقولون افتراه» إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة إلى حكاية ما هو أشنع منها وما في أم من الهمزة للإنكار التوبيخي المتضمن للتعجيب أي بل أيقولون افترى القرآن «قل إن افتريته» على الفرض «فلا تملكون لي من الله شيئا» إذ لا ريب في أنه تعالى يعاجلنى حينئذ بالعقوبة فكيف أجترئ على أن افترى عليه تعالى كذبا فأعرض نفسي للعقوبة التي لا مناص عنها «هو أعلم بما تفيضون فيه» أي تندفعون فيه من القدح في وحى الله والطعن في آياته وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى «كفى به شهيدا بيني وبينكم» حيث يشهد لي بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود وهو وعيد بجزاء إفاضتهم وقوله تعالى «وهو الغفور الرحيم» وعد بالغفران
والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله تعالى عنهم مع عظم جرائمهم «قل ما كنت بدعا من الرسل» البدع بمعنى البديع كالخل بمعنى الخليل وهو ما لا مثل له وقرئ بفتح الدال على أنه صفة كقيم وزيم أو جمع مقدر مضاف أي ذا بدع وقد جوز ذلك في القراءة الأولى أيضا على أنه مصدر كانوا يقترحون عليه الصلاة والسلام آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عنادا ومكابرة فأمر عليه السلام بأن يقول لهم ما كنت بديعا من الرسل قادرا على ما لم يقدروا حتى آتيكم بكل ما تقترحونه وأخبركم بكل ما تسلون عنه من الغيوب فإن من قبلي من الرسل عليهم الصلاة والسلام والسلام ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم الله تعالى من الآيات ولا يخبرونهم إلا بما أوحى إليهم «وما أدري ما يفعل بي ولا بكم» أي أي شئ يصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى وماذا يقدر لنا من القضاياه وعن الحسن رضى الله عنه ما أدرى ما يصير إليه أمرى وأمركم في الدنيا وعن ابن عباس رضى الله عنهما ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة وقال هي منسوخة بقوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وقيل يجوز أن يكون المنفى هي الدراية المفصلة والأظهر الأوفق لما ذكر من سبب النزول أن ما عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية دون ما سيقع في الآخرة فإن العلم بذلك من وظائف النبوة وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين هذا وقد روى عن الكلبي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له عليه السلام وقد ضجروا من أذية المشركين حتى متى نكون على هذا فقال ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم أأترك بمكة أم أومر بالخروج إلى أرض ذات نخيل وشجر قد رفعت لي ورأيتها يعنى في منامه وجوز أن تكون ما موصولة والاستفهامية أقضى لحق مقام التبرؤ عن الدراية وتكرير لا لتذكير النفي المنسحب إليه وتأكيده
79

وقرئ ما يفعل على اسناد الفعل إلى ضميره تعالى «إن أتبع إلا ما يوحى إلي» أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلى على معنى قصر أفعاله عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي لا قصر اتباعه على الوجى كما هو المتسارع إلى الأفهام وقد مر تحقيقه في سورة الأنعام وقرئ يوحى على البناء للفاعل وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه عليه السلام من الغيوب وقيل عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا عن أذية المشركين والأول هو الأوفق لقوله تعالى «وما أنا إلا نذير» أنذركم عقاب الله تعالى حسبما يوحى إلى «مبين» بين الإنذار بالمعجزات الباهرة «قل أرأيتم إن كان» أي ما يوحى إلى من القرآن «من عند الله» لا سحرا ولا مفترى كما تزعمون وقوله تعالى «وكفرتم به» حال بإضمار قد من الضمير في الخبر وسطت بين أجزاء الشرط مسارعة إلى التسجيل عليهم بالكفر أو عطف على كان كما في قوله تعالى قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به لكن لا على أن نظمه في سلك الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه عندهم باعتبار حاله في نفسه بل باعتبار حال المعطوف عليه عندهم فإن كفرهم به أمر محقق عندهم أيضا وإنما ترددهم في أن ذلك كفر بما من عند الله تعالى أم لا وكذا الحال في قوله تعالى «وشهد شاهد من بني إسرائيل» وما بعده من الفعلين فإن الكل أمور محققة عندهم وإنما ترددهم في أنها شهادة وإيمان بما من عند الله تعالى واستكبار عنه أولا والمعنى أخبروني إن كان ذلك في الحقيقة من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد عظيم الشأن من بنى إسرائيل الواقفين على شؤون الله تعالى وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة «على مثله» أي مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة المطابقة لما في القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك فإنها عين ما فيه في الحقيقة كما يعرب عنه قوله تعالى وأنه لفى زبر الأولين وقوله تعالى إن هذا لفى الصحف الأولى والمثلية باعتبار تأديتها بعبارات أخر أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى والمثلية لما ذكر وقيل المثل صلة والفاء في قوله تعالى «فآمن» للدلالة على أنه سارع إلى الإيمان بالقرآن لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق وهو عبد الله بن سلام لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه فنظر إلى وجهه الكريم فعلم أنه ليس بوجه كذاب وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر فقال له إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام أكله أهل الجنة والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه فقال عليه الصلاة والسلام أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما طعام أهل الجنة فزيادة كبد حوت وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته فقال أشهد أنك رسول الله حقا فقام ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فإن علموا بإسلامى قبل أن تسألهم عنى بهتوني عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام أي رجل عبد الله فيكم فقالوا خيرنا
80

وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا قال أرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك فحرج إليهم عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا وانتقصوه قال هذا ما كنت أخاف يا رسول الله واحذر قال سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشى على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله ابن سلام وفيه نزل وشهد شاهد الآية وقيل الشاهد موسى عليه السلام وشهادته بما في التوراة من بعثة النبي عليهما الصلاة السلام وبه قال الشعبي وقال مسروق والله ما نزلت في عبد الله بن سلام فإن آل حم نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بالمدينة وأجاب الكلبي بأن الآية مدنية وإن كانت السورة مكية «واستكبرتم» عطف على شهد شاهد وجواب الشرط محذوف والمعنى أخبروني إن كان من عند الله تعالى وشهد على ذلك أعلم بنى إسرائيل فآمن به من غير تلعثم واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه المرتبة من أضل منكم بقرينة قوله تعالى قال أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد وقوله تعالى «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» فإن عدم الهداية مما ينبئ عن الضلال قطعا ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم فإن تركه تعالى لهدايتهم لظلمهم «وقال الذين كفروا» حكاية لبعض آخر من أقاويلهم الباطلة في حق القرآن العظيم والمؤمنين به أي قال كفار مكة «للذين آمنوا» أي لأجلهم «لو كان» أي ما جاء به عليه الصلاة والسلام من القرآن والدين «خيرا ما سبقونا إليه» فإن معالى الأمور لا ينالها أيدي الأراذل وهم سقاط عامتهم فقراء وموال ورعاة قالوه زعما منهم أن الرياسة الدينية مما ينال بأسباب دنيوية كما قالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وزل عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية وملكات روحانية مبناها الإعراض عن زخازف الدنيا الدنية والإقبال على الآخرة بالكلية وأن من فاز بها فقد حازها بحذافيرها ومن حرمها فماله منها من خلاق وقيل قاله بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم جهينة ومزينة وأسلم وغفار وقيل قالته اليهود حين أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ويأباه أن السورة مكية ولا بد حينئذ من الالتجاء إلى ادعاء أن الآية نزلت بالمدينة «وإذ لم يهتدوا به» ظرف لمحذوف يدل عليه ما قبله ويترتب عليه ما بعده أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن قالوا ما قالوا «فسيقولون» غير مكتفين بنفي خيريته «هذا إفك قديم
» كما قالوا أساطير الأولين وقيل المحذوف ظهر عنادهم وليس بذاك «ومن قبله» أي من قبل القرآن وهو خبر لقوله تعالى «كتاب موسى» قيل والجملة حالية أو مستأنفة وأيا
81

ما كان فهو لرد قولهم هذا إفك قديم وإبطاله فإن كونه مصدقا لكتاب موسى مقرر لحقيته قطعا «إماما ورحمة» حالان من كتاب موسى أي إماما يقتدى به في دين الله تعالى وشرائعه كما يقتدى بالإمام ورحمة من الله تعالى لمن آمن به وعمل بموجبه «وهذا» الذي يقولون في حقه ما يقولون «كتاب» عظيم الشأن «مصدق» أي لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة أو لما من بين يديه من جميع الكتب الإلهية وقد قرئ كذلك «لسانا عربيا» حال من ضمير الكتاب في مصدق أو من نفسه لتخصصه بالصفة وعاملها معنى الإشارة وعلى الأول مصدق وقيل مفعول لمصدق أي يصدق ذا لسان عربى «لينذر الذين ظلموا» متعلق بمصدق وفيه ضمير الكتاب أو الله أو الرسول عليه الصلاة والسلام ويؤيد الأخير القراءة بتاء الخطاب «وبشرى للمحسنين» في حيز النصب عطفا على محل لينذر وقيل في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر أي وبشرى وقيل على انه عطف على مصدق «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا» أي جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في أمور الدين التي هي منتهى العمل وثم للدلالة على تراخى رتبة العمل وتوقف الاعتداد به على التوحيد «فلا خوف عليهم» من لحوق مكروه «ولا هم يحزنون» من فوات محبوب والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط والمراد بيان دوام نفى الحزن لا بيان نفى دوام الحزن كما يوهمه كون الخبر مضارعا وقد مر بيانه مرارا «أولئك» الموصوفون بما ذكر من الوصفين الجليلين «أصحاب الجنة خالدين فيها» حال من المستكن في أصحاب وقوله تعالى «جزاء» منصوب إما بعامل مقدر أي يجزون جزاء أو بمعنى ما تقدم فإن قوله تعالى أولئك أصحاب الجنة في معنى جازيناهم «بما كانوا يعملون» من الحسنات العلمية والعملية «ووصينا الإنسان» بأن يحسن «بوالديه إحسانا» وقرئ حسنا أي بأن يفعل بهما حسنا أي فعلا ذا حسن أو كأنه في ذاته نفس الحسن لفرط حسنه وقرئ بضم السين أيضا وبفتحهما أي بأن يفعل بهما فعل حسنا أو وصيناه إيصاء حسنا «حملته أمه كرها ووضعته كرها» أي ذات كره أو حملا ذا كره وهو المشقة وقرئ بالفتح وهما لغتان كالفقر والفقر وقيل المضموم اسم والمفتوح مصدر «وحمله وفصاله» أي مدة حمله وفصاله وهو الفطام وقرئ ة فصله والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى والمراد
82

به الرضاع التام المنتهى به كما أراد بالأمد المدة من ال كل حي مستكمل مدة العمر ومود إذا انتهى أمده «ثلاثون شهرا» تمضى عليها بمعاناة المشاق ومقاساة الشدائد لأجله وهذا دليل على ان أقل مدة الحمل ستة أشهر لما أنه حط عنه للفصال حولان لقوله تعالى حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة يبقى للحمل ذلك قيل ولعل تعيين أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط النسب والرضاع بهما «حتى إذا بلغ أشده» أي اكتهل واستحكم قوته وعقله «وبلغ أربعين سنة» قيل لم يبعث نبي قبل أربعين وقرئ حتى إذا استوى وبلغ أشده «قال رب أوزعني» أي ألهمني وأصله أولعنى من أوزعته بكذا «أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي» أي نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها «وأن أعمل صالحا ترضاه» التنكير للتفخيم والتكثير «وأصلح لي في ذريتي» أي واجعل الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم كما في قوله يجرح في عراقيبها نصلى قال ابن عباس أجاب الله تعالى دعاء أبى بكر رضى الله عنهم فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال وعامر بن فهيرة ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله تعالى عليه ودعا أيضا فقال وأصلح لي في ذريتي فأجابه الله عز وجل فلم يكن له ولدا إلا أمنوا جميعا فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا فأدرك أبوه أبو قحافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر وابن عبد الرحمن أبو عتيق كلهم أدركوا النبي عليه الصلاة والسلام ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين «إني تبت إليك» عما لا ترضاه أو عما يشغلني عن ذكرك «وإني من المسلمين» الذين أخلصوا لك أنفسهم «أولئك» إشارة إلى الانسان والجمع لأن المراد به الجنس المتصف بالوصف المحكى عنه وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعوت الجليلة «الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا» من الطاعات فإن المباح حسن ولا يثاب عليه «ونتجاوز عن سيئاتهم» وقرئ الفعلان بالياء على إسنادهما إلى الله تعالى وعلى بنائهما للمفعول ورفع أحسن على أنه قائم مقام الفاعل وكذا الجار والمجرور «في أصحاب الجنة» أي كائنين في عدادهم منتظمين في سلكهم «وعد الصدق» مصدر مؤكد لما أن قوله تعالى يتقبل ونتجاوز وعد من الله تعالى لهم بالتقبل والتجاوز «الذي كانوا يوعدون» على ألسنة الرسل «والذي قال لوالديه» عند دعوتهما له إلى الإيمان «أف لكما» هو صوت يصدر عن المرء عند تضجره واللام لبيان المؤفف له كما في هيت لك وقرئ أف بالفتح والكسر بغير تنوين وبالحركات الثلاث مع التنوين والموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول ولذلك أخبر عنه بالمجموع كما سبق قيل هو
83

في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث وعن قتادة هو نعت عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه وما روى من أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما قبل إسلامه يرده ما سيأتي من قوله تعالى أولئك الذين حق عليهم القول الآية فإنه كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم وقد كذبت الصديقة رضى الله عنها من قال ذلك «أتعدانني أن أخرج» أبعث من القبر بعد الموت وقرئ أخرج من الخروج «وقد خلت القرون من قبلي» ولم يبعث منهم أحد «وهما يستغيثان الله» يسألانه أن يغيثه ويوفقه للإيمان «ويلك» إي قائلين له ويلك وهو في الأصل دعاء عليه بالثبور أريد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك «آمن إن وعد الله حق» أي البعث أضافا إليه تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على خطئه في إسناد الوعد إليهما وقرئ أن وعد الله أي آمن بأن وعد الله حق «فيقول» مكذبا لهما «ما هذا» الذي تسميانه وعد الله «إلا أساطير الأولين» أباطيلهم التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة «أولئك» القائلون هذه المقالات «الذين حق عليهم القول» وهو قوله تعالى لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين كما ينبئ عنه قوله تعالى «في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس» وقد مر تفسيره في سورة ألم السجدة «إنهم» جميعا «كانوا خاسرين» قد ضيعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى رؤس أموالهم باتباعهم الشيطان والجملة تعليل للحكم بطريق الاستئناف التحقيقى «ولكل» من الفريقين المذكورين «درجات مما عملوا» مراتب من أجزية ما عملوا من الخير والشر والدرجات غالبة في مراتب المثوبة وإيرادها بطريق التغليب «وليوفيهم أعمالهم»
أي أجزية أعمالهم وقرئ بنون العظمة «وهم لا يظلمون» بنقص ثواب الأولين عقاب الآخرين والجملة إما حال مؤكدة للتوفية أو استئناف مقرر لها واللام متعلقة بمحذوف مؤخر كأنه قيل ليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم فعل ما فعل من تقدير الأجزية على مقادير أعمالهم فجعل الثواب والعقاب دركات «ويوم يعرض الذين كفروا على النار» أي يعذبون بها من قولهم عرض الأسارى على السيف أي قتلوا وقيل يعرض النار عليهم بطريق القلب مبالغة «أذهبتم طيباتكم» أي يقال لهم ذلك وهو الناصب للظرف وقرئ أأذهبتم بهمزتين وبألف بينهما على الاستفهام التوبيخى أي أصبتم أو أخذتم ما كتب لكم من حظوظ الدنيا ولذائذها «في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها» فلم يبق لكم بعد ذلك شئ منها «فاليوم تجزون عذاب
84

الهون» أي الهوان وقد قرئ كذلك «بما كنتم» في الدنيا «تستكبرون في الأرض بغير الحق» بغير استحقاق لذلك «وبما كنتم تفسقون» أي تخرجون عن طاعة الله عز وجل أي بسبب استكباركم وفسقكم المستمرين وقرئ تفسقون بكسر السين «واذكر» أي لكفار مكة «أخا عاد» أي هودا عليه السلام «إذ أنذر قومه» بدل اشتمال منه أي وقت إنذاره إياهم «بالأحقاف» جمع حقف وهو مل مستطيل مرتفع فيه إنحناء من احقوقف الشئ إذا اعوج وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها الشجر من بلاد اليمن وقيل بين عمان ومهرة «وقد خلت النذر» أي الرسل جمع نذير بمعنى المنذر «من بين يديه» أي من قبله «ومن خلفه» أي من بعده والجملة اعتراض مقرر لما قبله مؤكد لوجوب العمل بموجب الإنذار وسط بين أنذر قومه وبين قوله «أن لا تعبدوا إلا الله» مسارعة إلى ما ذكر من التقرير والتأكيد وإيذانا باشتراكهم في العبارة المحكية والمعنى واذكر لقومك إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه قومهم مثل ذلك فاذكرهم وأما جعلها حالا من فاعل أنذر على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أنذرهم وقال لهم لا تعبدوا إلا الله «إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم» وقد أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره فمع ما فيه من تكلف تقدير الأعلام لا بد في نسبة الخلو إلى من بعده من الرسل من تنزيل الآتي منزلة الخالي «قالوا أجئتنا لتأفكنا» أي تصرفنا «عن آلهتنا» عبادتهم «فأتنا بما تعدنا» من العذاب العظيم «إن كنت من الصادقين» في وعدك بنزوله بنا «قال إنما العلم» أي بوقت نزوله أو العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك «عند الله» وحده لا علم لي بوقت نزوله ولا مدخل لي في إتيانه وحلوله وإنما علمه عند الله تعالى فيأتيكم به في وقته المقدر له «وأبلغكم ما أرسلت به» من مواجب الرسالة التي من جملتها بيان نزول العذاب إن لم تنتهوا عن الشرك من غير وقوف على وقت نزوله وقرئ أبلغكم من الإبلاغ «ولكني أراكم قوما تجهلون» حيث تقترحون على ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته والفاء في قوله تعالى «فلما رأوه» فصيحة
85

والضمير إما مبهم يوضحه قوله تعالى «عارضا» إما تمييزا أو حالا أو راجع إلى ما استعجلوه بقولهم فأئتنا بما تعدنا أي فأتاهم فلما رأوه سحابا يعرض في أفق السماء «مستقبل أوديتهم» أي متوجه أوديتهم والإضافة فيه لفظية كما في قوله تعالى «قالوا هذا عارض ممطرنا» ولذلك وقعا وصفين للنكرة «بل هو» أي قال هود وقد قرئ كذلك وقرئ قل وهو رد عليهم أي ليس الأمر كذلك بل هو «ما استعجلتم به» من العذاب «ريح» بدل من ما أو خبر لمبتدأ محذوف «فيها عذاب أليم» صفة لريح وكذا قوله تعالى «تدمر» أي تهلك «كل شيء» من نفوسهم وأموالهم «بأمر ربها» وقرئ يدمر كل شئ من دمر دمارا إذا هلك فالعائد إلى الموصوف محذوف أو هو الهاء في ربها ويجوز ان يكون استئنافا وأرادا لبيان أن لكل ممكن فناء مقضيا منوطا بأمر بارئه وتكون الهاء لكل شئ لكونه بمعنى الأشياء وفى ذكر الأمر والرب والإضافة إلى الريح من الدلالة على عظمة شأنه عز وجل ما لا يخفى والفاء في قوله تعالى «فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» فصيحة أي فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا بحيث لا يرى إلا مساكنهم وقرئ ترى بالتاء ونصب مساكنهم خطابا لكل أحد يتأنى منه الرؤية تنبيها على أن حالهم بحيث لو حضر كل أحد بلادهم لا يرى فيها إلا مساكنهم «كذلك» أي مثل ذلك الجزاء الفظيع «نجزي القوم المجرمين» وقد مر تفصيل القصة في سورة الأعراف وقد روى أن الريح كانت تحمل الفسطاط والظعينة فترفعها في الجو حتى ترى كأنها جرادة قيل أول من أبصر العذاب امرأة منهم قالت رأيت ريحا فيها كشهب النار وروى أن أول ما عرفوا به أنه عذاب ما رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير بها الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم فأمال الله تعالى الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ثم كشفت الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر وروى ان هودا عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين نبع وعن ابن عباس رضى الله عنهما اعتزل هود ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس وإنها لتمر من عاد بالظعن بين بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة «ولقد مكناهم» أي قررنا عادا أو أقدرناهم وما في قوله تعالى «فيما إن مكناكم فيه» موصولة أو موصوفة وإن نافية أي في الذي أو في شئ ما مكناكم فيه من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادى التصرفات كما في قوله تعالى «ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم» ومما يحسن
86

موقع إن ههنا التفصي عن تكرار لفظة ما وهو الداعي إلى قلب ألفها هاء في مهما وجعلها شرطية أو زائدة مما لا يليق بالمقام «وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة» ليستعملوها فيما خلقت له ويعرفوا بكل منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم ويستدلوا بها على شؤون منعهما عز وجل ويداوموا على شكره «فما أغنى عنهم سمعهم» حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل «ولا أبصارهم» حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المنصوبة في صحائف العلم «ولا أفئدتهم» حيث لم يستعملوها في معرفة الله تعالى «من شيء» أي شيئا من الإغناء ومن مزيدة للتأكيد وقوله تعالى «إذ كانوا يجحدون بآيات الله» متعلق بما أغنى وهو ظرف جرى مجرى التعليل من حيث إن الحكم مرتب على ما أضيف إليه فإن قولك أكرمته إذ أكرمني في قوة قولك أكرمته لإكرامه إذا أكرمته وقت إكرامه فإنما أكرمته فيه لوجود إكرامه فيه كذا الحال في حيث «وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون» من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ويقولون فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين «ولقد أهلكنا ما
حولكم» يا أهل مكة «من القرى» كحجر ثمود وقرى قوم لوط «وصرفنا الآيات» كررناها لهم «لعلهم يرجعون» لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي «فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة» القربان ما يتقرب به إلى الله تعالى وأحد مفعولى اتخذوا ضمير الموصول المحذوف والثاني آلهة وقربانا حال والتقدير فهلا نصرهم وخلصهم من العذاب الذين اتخذوهم آلهة حال كونها متقربا بها إلى الله تعالى حيث كانوا يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى هؤلاء شفعاؤنا عند الله وفيه تهكم بهم ولا مساغ لجعل قربانا مفعولا ثانيا آلهة بدلا منه لفساد المعنى فإن البدل وإن كان هو المقصود لكنه لا بد في غير بدل الغلط من صحة المعنى فإن البدل وإن كان هو المقصود فلا بد في غير بدل الغلط من صحة المعنى بدونه ولا ريب في أن قولنا اتخذوهم من دون الله قربانا أي متقربا به ما لا صحة له قطعا لأنه تعالى متقرب إليه لا متقرب به فلا يصح أنهم اتخذوهم قربانا متجاوزين الله في ذلك وقرئ قربانا بضم الراء «بل ضلوا عنهم» أي غابوا عنهم وفيه تهكم آخر بهم كأن عدم نصرهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم أي ظهر ضياعهم عنهم بالكلية وقيل امتنع نصرهم امتناع نصر الغائب عن المنصور «وذلك» أي ضياع آلهتهم عنهم وامتناع نصرهم «إفكهم» أي إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم وقرئ إفكهم وكلاهما مصدر كالحذر والحذر وقرئ إفكهم على صيغة الماضي فذلك إشارة حينئذ إلى الاتخاذ أي وذلك الاتخاذ الذي هو ثمرته وعاقبته صرفهم عن الحق وقرئ إفكهم بالتشديد للمبالغة وآفكهم من الأفعال أي جعلهم آفكين وقرئ آفكهم على صيغة اسم الفاعل مضافا إلى ضميرهم أي قولهم الإفك كما يقال قول كاذب «وما كانوا يفترون» عطف على
87

إفكهم أي وأثر افترائهم على الله أو أثر ما كانوا يفترونه عليه تعالى وقرئ وذلك إفك مما كانوا يفترون أي بعض ما كانوا يفترون من الإفك «وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن» أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك وقرئ صرفنا بالتشديد للتكثير لأنهم جماعة وهو السر في جمع الضمير في قوله تعالى «يستمعون القرآن» وما بعده وهو حال مقدرة من نفرا لتخصصه بالصفة أو صفة أخرى له أي واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفرا كائنا من الجن مقدرا استماعهم القرآن «فلما حضروه» أي القرآن عند تلاوته أو الرسول عند تلاوته له على الالتفات والأول هو الأظهر «قالوا» أي قال بعضهم لبعض «أنصتوا» أي استكنوا لنسمعه «فلما قضى» أتم وفرغ عن تلاوته وقرئ على البناء للفاعل وهو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا يؤيد ضمير حضروه إليه عليه الصلاة والسلام «ولوا إلى قومهم منذرين» مقدرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم وروى أن الجن كانت تسترق السمع فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا ما هذا إلا لنبأ حدث فنهض سبعة نفر أو ستة نفر من أشراف جن نصيبين أو نينوى منهم زوبعة فضربوا حتى بلغو تهامة ثم اندفعوا إلى وادى نخلة فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلى أو في صلاة الفجر فاستمعوا لقراءته وذلك عند منصرفه من الطائف وعن سعيد بن جبير ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما كان يتلوا في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر بهم فأنبأه الله تعالى باستماعهم وقيل بل أمره الله تعالى أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فصرف إليه نفرا منهم جمعهم له فقال عليه الصلاة والسلام إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني قالها ثلاثا فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الجحون خط لي خطا فقال لا تخرج منه حتى أعود إليك ثم افتتح القرآن وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته عليه الصلاة والسلام ثم انقطعوا كقطع السحاب فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت شيئا قلت نعم رجالا سودا مستشعرى ثياب بيض فقال أولئك جن نصيبين وكانوا إثنى عشر ألفا والسورة التي قراها عليهم اقرأ باسم ربك «قالوا» أي عند رجوعهم إلى قومهم «يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى» قيل قالوه لأنهم كانوا على اليهودية وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام «مصدقا لما بين يديه» أرادوا به التوراة «يهدي إلى الحق» من العقائد الصحيحة «وإلى طريق مستقيم» موصل إليه وهو الشرائع والأعمال الصالحة
88

«يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به» أرادوا به ما سمعوه من الكتاب وصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعدما وصفوه بالهداية إلى الحق والصراط المستقيم لتلازمهما دعوهم إلى ذلك بعد بيان حقيته واستقامته ترغيبا لهم في الإجابة ثم أكدوه بقولهم «يغفر لكم من ذنوبكم» أي بعض ذنوبكم وهو ما كان في خالص حق الله تعالى فإن حقوق العباد لا تغفر بالإيمان «ويجركم من عذاب أليم» معد للكفرة واختلف في أن لهم أجرا غير هذا أولا والأظهر أنهم في حكم بن آدم ثوابا وعقابا وقوله تعالى «ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض» إيجاب للإجابة بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب وتحقيق لكونهم منذرين وإظهار دعى الله من غير اكتفاء بأحد الضميرين للمبالغة في الإيجاب بزيادة التقرير وتربية المهابة وإدخال الروعة وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض لتوسيع الدائرة أي فليس بمعجز له تعالى بالهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها أو دخل في أعماقها وقوله تعالى «وليس له من دونه أولياء» بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه وجمع الأولياء باعتبار معنى من فيكون من بابا مقابلة الجمع بالجمع لانقسام الآحاد إلى الآحاد كما منا أن الجمع في ق تعالى «أولئك» بذلك الاعتبار أي أولئك الموصوفون بعدم إجابة داعى الله «في ضلال مبين» أي ظاهر كونه ضلالا بحيث لا يخفى على أحد أعرضوا عن إجابة من هذا شانه «أولم يروا» الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يستدعيه المقام والرؤية قلبية اى ألم يتفكروا ولم يعلموا علما جازما متاخما للمشاهدة والعيان «أن الله الذي خلق السماوات والأرض» ابتداء من غير مثال يجتذيه ولا قانون بنتحيه «ولم يعي بخلقهن» أي لم يتعب ولم ينصب بذلك أصلا أو لم يعجز عنه يقال عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه وقوله تعالى «بقادر» في حيز الرفع لأنه خبر إن كما ينبئ عنه القراءة بغير باء ووجه دخولها في القراءة الأولى اشتمال النفي الوارد في صدر الآية على ان وما في حيزها كأنه قيل أو ليس الله بقادر «على أن يحيي الموتى» ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى «بلى إنه على كل شيء قدير» تقريرا للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود
89

«ويوم يعرض الذين كفروا على النار» ظرف عامله قول مضمر مقولة «أليس هذا بالحق» على أن الإشارة إلى ما يشاهدونه حينئذ من حيث هو من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه إذ هو اللائق بتهويله وتفخيمه وقد مر في سورة الأحزاب وقيل هي إلى العذاب وفيه تهكم بهم وتوبيخ لهم على استهزائهم
بوعد الله ووعيده وقولهم وما نحن بمعذبين «قالوا بلى وربنا» أكد جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقيتها كما في الدنيا وأنى لهم ذلك «قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون» بها في الدنيا ومعنى الأمر الإهانة بهم والتوبيخ لهم والفاء في قوله تعالى «فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل» جواب شرط محذوف أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم كما صبر أولوا الثبات والحزم من الرسل فإنك من جملتهم بل من عليتهم ومن للتبيين والمراد بأولى العزم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها ومشاهيرهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وقيل هم الصابرون على بلاء الله كنوح صبر على أذية قومه كانوا يضربونه حتى يغشى عليه وإبراهيم صبر على النار وعلى ذبح ولده والذبيح على الذبح ويعقوب على فقد الولد والبصر ويوسف على الجب والسجن وأيوب على الضر وموسى قال له قومه إنا لمدركون قال كلا إن معي ربى سيهدين وداود بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى لم يضع لبنة على لبنة صلوات الله تعالى عليهم أجمعين «ولا تستعجل لهم» أي لكفار مكة بالعذاب فإنه على شرف النزول بهم «كأنهم يوم يرون ما يوعدون» من العذاب «لم يلبثوا» في الدنيا «إلا ساعة» يسيرة «من نهار» لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته وقوله تعالى «بلاغ» خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة أو تبليغ من الرسول ويؤيده أنه قرئ بلغ وقرئ بلاغا أي بلغوا بلاغا «فهل يهلك إلا القوم الفاسقون» أي الخارجون عن الاتعاظ به أو عن الطاعة وقرئ بفتح الياء وكسر اللام وبفتحهما من هلك وهلك وبنون العظمة من الاهلاك ونصب القوم ووصفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا
90

سورة محمد صلى الله عليه وسلم وتسمى سورة القتال وهى مدنية وقيل مكية وآياتها ثمان وثلاثون «بسم الله الرحمن الرحيم» «الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله» أي أعرضوا عن الاسلام وسلوك طريقه من صد صدودا أو منعوا الناس عن ذلك من صده صدا كالمطعمين يوم بدر وقيل هم إثنا عشر رجلا من أهل الشرك كانوا يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر وقيل أهل الكتاب الذين كفروا وصدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام وقيل هو عام في كل من كفر وصد «أضل أعمالهم» أي أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها أصلا لكن لا بمعنى أنه أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها أصلا لكن لا بمعنى أنه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنه حكم ببطلانها وضياعها فإن ما كانوا يعملون من أعمال البر كصلة الأرحام وقرى الأضياف وفك الأسارى وغيرها من المكارم ليس لها أثر من أصلها لعدم مقارنتها للإيمان أو أبطل ما عملوا من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبيله بنصر رسوله وإظهار دينه على الدين كله وهو الأوفق لما سيأتي قوله تعالى فتعسا لهم وأضل أعمالهم وقوله فإذا لقيتم الخ «والذين آمنوا وعملوا الصالحات» قيل هم ناس من قريش وقبل من الأنصار وقيل هم مؤمنوا أهل الكتاب وقيل عام للكل «وآمنوا بما نزل على محمد» خص بالذكر الإيمان بذلك مع اندراجه فيما قبله تنويها بشأنه وتنبيها على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به وأنه الأصل في الكل ولذلك أكد بقوله تعالى «وهو الحق من ربهم» بطريق حصر الحقية فيه وقيل حقيته بكونه ناسخا غير منسوخ فالحق على هذا مقابل الزائل وعلى الأول مقابل الباطل وأيا ما كان فقوله تعالى من ربهم حال من ضمير الحق وقرئ نزل على البناء للفاعل وأنزل على البناءين ونزل بالتخفيف «كفر عنهم سيئاتهم» أي سترها بالإيمان والعمل الصالح «وأصلح بالهم» أي حال في الدين والدنيا بالتأييد والتوفيق «ذلك» إشارة إلى ما مر من إضلال الأعمال وتكفير السيئات وإصلاح البال وهو مبتدأ
91

خبره قوله تعالى «بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم» أي ذلك كائن بسبب أن الأولين اتبعوا الشيطان كما قاله مجاهد ففعلوا ما فعلوا من الكفر والصد فبيان سببية اتباعه للإضلال المذكور متضمن لبيان سببيتهما له لكونه أصلا مستتبعا لهما قطعا وبسبب أن الآخرين اتبعوا الحق الذي لا محيد عنه كائنا من ربهم ففعلوا ما فعلوا من الإيمان به وبكتابه ومن الأعمال الصالحة فبيان سببية اتباعه لما ذكر من التكفير والإصلاح بعد الاشعار بسببية الايمان والعمل الصالح له متضمن لبيان سببيتهما له لكونه مبدأ ومنشأ لهما حتما فلا تدافع بين الإشعار والتصريح في شئ من الموضعين ويجوز أن يحمل الباطل ما يقابل الحق وهو الزائل الذاهب الذي لا أصل له أصلا فالتصريح بسببية اتباعه لإضلال أعمالهم وإبطالها لبيان أن إبطالها لبطلان مبناها وزواله وأما حمله على ما لا ينتفع به فليس كما ينبغي لما أن الكفر والصد أفحش منه فلا وجه للتصريح بسببيته لما ذكر من إضلال أعمالهم بطريق القصر بعد الإشعار بسببيتهما له فتدبر ويجوز أن يراد بالباطل نفس الكفر والصد وبالحق نفس الإيمان والأعمال الصالحة فيكون التنصيص على سببيتهما لما ذكر من الإضلال ومن التفكير والإصلاح تصريحا بالسببية المشعر بها في الموقعين «كذلك» أي مثل ذلك الضرب البديع «يضرب الله» أي يبين «للناس أمثالهم» أي أحوال الفريقين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال وهى اتباع الأولين الباطل وخيبتهم وخسرانهم واتباع الآخرين الحق وفوزهم والفاء في قوله تعالى «فإذا لقيتم الذين كفروا» لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها فإن ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق من الأحكام أي فإذا كان الأمر كما ذكر فإذا لقيتموهم في المحاربة «فضرب الرقاب» أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدم المصدر وأنيب منابه مضافا إلى المفعول وفيه اختصار وتأكيد بليغ والتعبير به عن القتل تصوير له بأشنع صورة وتهويل لأمره وإرشاده للغزاة إلى أيسر ما يكون منه «حتى إذا أثخنتموهم» أي أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الشئ الثخين وهو الغليظ أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض «فشدوا الوثاق» فأسروهم واحفظوهم والوثاق اسم لما يوثق به وكذا الوثاق بالكسر وقد قرئ بذلك «فإما منا بعد وإما فداء» أي فإما تمنون منا بعد ذلك أو تفدون فداء والمعنى التخيير بين القتل والاسترقاق والمن والفداء وهذا ثابت عند الشافعي رحمه الله تعالى وعندنا منسوخ قالوا نزل ذلك يوم بدر ثم نسخ والحكم إما القتل أو الاسترقاق وعن مجاهد ليس اليوم من ولا فداء إنما هو الاسلام أو ضرب العنق وقرئ فدا كعصا «حتى تضع الحرب أوزارها» أوزار الحرب آلاتها وأثقالها التي
92

لا تقوم إلا بها من السلاح والكراع وأسند وضعها إليها وهو لأهلها إسنادا مجازيا وحتى غاية عند الشافعي لأحد الأمور الأربعة أو للمجموع والمعنى أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن لا يكون مع المشركين حربا بأن لا تبقى لهم شوكة وقيل بأن ينزل عيسى عليه السلام وأما عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى فإن حمل الحرب على حرب
بدر فهي غاية للمن والفداء والمعنى يمنى عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها وإن حملت على الجنس فهي غاية للضرب والشد والمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى يضع جنس الحرب أوزارها بأن لا يبقى للمشركين شوكة وقيل أوزارها أثامها أي حتى يترك المشركون شركهم ومعاصيهم بأن أسلموا «ذلك» أي الأمر ذلك أو فعلوا ذلك «ولو يشاء الله لانتصر منهم» لا تنقم منهم ببعض أسبابا الهلكة والاستئصال «ولكن» لم يشأ لذلك «ليبلو بعضكم ببعض» فأمركم بالقتال وبلاكم بالكافرين لتجاهدوهم فتستوجيبوا الثواب العظيم بموجب الوعد والكافرين بكم ليعاجلهم على أيديكم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر «والذين قتلوا في سبيل الله» أي استشهدوا وقرئ قاتلوا أي جاهدوا وقتلوا وقتلوا «فلن يضل أعمالهم» أي فلن يضيعها وقرى يضل أعماله على البناء للمفعول ويضل أعمالهم من ضل وعن قتادة أنها نزلت في يوم أحد «سيهديهم» في الدنيا إلى أرشد الأمور وفى الآخرة إلى الثواب أو سيثبت هدايتهم «ويصلح بالهم» «ويدخلهم الجنة عرفها لهم» في الدنيا بذكر أوصافها بحيث اشتاقوا إليها أو بينها لهم بحيث يعلم كل أحد منزله ويهتدى إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق وعن مقاتل أن الملك الموكل بعمله في الدنيا يمشى بين يديه فيعرفه كل شئ أعطاه الله تعالى أو طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة أو حددها لهم وأفرزها من عرف الدار فجنة كل منهم محددة مفرزة والجملة إما مستأنفة أو حال بإضمار قد أو بدونه «يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله» أي دينه ورسوله «ينصركم» على أعدائكم ويفتح لكم «ويثبت أقدامكم» في مواطن الحرب ومواقفها أو على محجة الإسلام «والذين كفروا فتعسا لهم» التعس الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط ورجل تاعس وتعس وانتصابه بفعله الواجب حذفه سماعا أي فقال تعسا لهم أو فقضى تعسا لهم وقوله تعالى «وأضل أعمالهم» عطف عليه داخل معه في حيز الخبرية للموصول «ذلك» أي ما ذكر من التعس وإضلال الأعمال «بأنهم» بسبب أنهم «كرهوا ما أنزل الله» من القرآن
93

لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء «فأحبط» لأجل ذلك «أعمالهم» التي لو كانوا عملوها مع الايمان لأثيبوا عليها «أفلم يسيروا في الأرض» أي أقعدوا في أماكنهم فلم يسيروا فيها «فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم» من الأمم المكذبة فإن آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم وقوله تعالى «دمر الله عليهم» استئناف مبنى على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل كيف كانت عاقبتهم فقيل استأصل الله تعالى عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم يقال دمره أهلكه ودمر عليه أهلك عليه ما يختص به «وللكافرين» أي ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرتهم «أمثالها» أمثال عواقبهم أو عقوباتهم لكن لا على أن لهؤلاء أمثال مالأولئك وأضعافه بل مثله وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذبة وقيل يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين وقد قتلوا وأسروا بأيدي من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم والقتل بيد المثل أشد ألما من الهلاك بسبب عام وقيل المراد بالكافرين المتقدمون بطريق وضع الظاهر موضع الضمير كأنه قيل دمر الله عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها «ذلك» إشارة إلى ثبوت أمثال عقوبة الأمم السالفة لهؤلاء «بأن الله مولى الذين آمنوا» أي ناصرهم على أعدائهم وقرئ ولى الذين «وأن الكافرين لا مولى لهم» فيدفع عنهم ما حل بهم من العقوبة والعذاب ولا يخالف هذا قوله تعالى ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق فإن المولى هناك بمعنى المالك «إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار» بيان لحكم ولايته تعالى لهم وثمرتها الأخروية «والذين كفروا يتمتعون» أي ينتفعون في الدنيا بمتاعها «ويأكلون كما تأكل الأنعام» غافلين عن عواقبهم «والنار مثوى لهم» أي منزل ثواء وإقامة والجملة إما حال مقدرة من واو يأكلون أو استئناف «وكأين» كلمة مركبة من الكاف وأي بمعنى كم الخبرية ومحلها الرفع بالابتداء وقوله تعالى «من قرية» تمييز لها وقوله تعالى «هي أشد قوة من قريتك» صفة لقرية كما أن قوله تعالى «التي أخرجتك» صفة لقريتك وقد حذف عنهما المضاف وأجرى أحكامه عليهما كما يفصح عنه الخبر الذي قوله تعالى «أهلكناهم» أي وكم من أهل قرية هم أشد
94

قوة من أهل قريتك الذين كانوا سببا لخروجك من بينهم ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة والسلام للايذان بأولويتها به لقوة جنايتها وعلى طريقته قول النابغة
* كليب لعمري كان أكثر ناصرا
* وأيسر جرما منك ضرج بالدم
* وقوله تعالى «فلا ناصر لهم» بيان لعدم خلاصهم من العذاب بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وهو حكاية حال ماضية «أفمن كان على بينة من ربه» تقرير لتباين حالي فريقى المؤمنين والكافرين وكون الأوليين في أعلى عليين والآخرين في أسفل سافلين وبيان لعلة ما لكل منهما من الحال والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرئ بدونها ومن عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين وجعلها عبارة عن النبي عليه الصلاة والسلام أو عنه وعن المؤمنين لا يساعده النظم الكريم على أن الموازنة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم مما يأباه منصبه الجليل والتقدير أليس الأمر كما ذكر فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن الكريم وسائر المعجزات والحجج العقلية «كمن زين له سوء عمله» من الشرك وسائر المعاصي مع كونه في نفسه أقبح القبائح «واتبعوا» بسبب ذلك التزيين «أهواءهم» الزائغة وانهمكوا في فنون الضلالات من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما تم عليه فضلا عن حجة تدل عليه وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى من كما أن إفراد الأولين باعتبار لفظها «مثل الجنة التي وعد المتقون» استئناف مسوق لشرح محاسن الجنة الموعودة آنفا للمؤمنين وبيان كيفية أنهارها التي أشير إلى جريانها من تحتها وعبر عنهم بالمتقين إيذانا بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك السيئات عن آ خرها ومثلها وصفها العجيب الشأن وهو مبتدأ محذوف الخبر فقدره النضر بن شميل مثل الجنة ما تسمعون وقوله تعالى «فيها أنهار» الخ مفسر له وقدره سيبويه فيما يتلى عليكم مثل الجنة والأول هو الأنسب لصدر النظم الكريم وقيل المثل زائدة كزيادة الاسم في قول
من قال
* إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
* والجنة مبتدأ خبره فيها أنهار الخ «من ماء غير آسن» غير متغير الطعم والرائحة وقرئ غير آسن «وأنهار من لبن لم يتغير طعمه» بأن صار قارصا ولا خازرا كألبان الدنيا «وأنهار من خمر لذة للشاربين» لذيذة ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر ولا خمار وإنما هي تلذذ محض ولذة إما تأنيث لذ بمعنى لذيذ أو مصدر نعت
95

به مبالغة وقرئ لذة بالرفع على انها صفة انهار وبالنصب على العلة أي لأجل لذة الشاربين «وأنهار من عسل مصفى» لا يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها وفى هذا تمثيل لما يجرى مجرى الأشربة في الجنة بأنواع ما يستطاب منها ويستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينغصها وينقصها والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها «ولهم فيها» مع ما ذكر من فنون الأنهار «من كل الثمرات» أي صنف من كل الثمرات «ومغفرة» أي ولهم مغفرة عظيمة لا يقادر قدرها وقوله تعالى «من ربهم» متعلق بمحذوف هو صفة لمغفرة مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة من ربهم وقوله تعالى «كمن هو خالد في النار» خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى والنار مثوى لهم وقيل هو خبر لمثل الجنة على ان في الكلام حذفا تقديره أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار أو أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد في النار فعرى عن حرف الانكار وحذف ما حذف تصويرا لمكابرة من يسوى بين المتمسك بالبينة وبين التابع للهوى بمكابرة من سوى بين الجنة الموصوفة بما فصل من الصفات الجليلة وبين النار «وسقوا ماء حميما» مكان تلك الأشربة «فقطع أمعاءهم» من فرط الحرارة قيل إذا دنا منهم شوى وجوههم وانمارت فروة رؤسهم فإذا شربوه قطع أمعاءهم «ومنهم من يستمع إليك» هم المنافقون وإفراد الضمير باعتبار لفظ من كما أن جمعه فيما سيأتي باعتبار معناها كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاونا منهم «حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم» من الصحابة رضى الله عنهم «ماذا قال آنفا» أي ما الذي قال الساعة على طريقة الاستهزاء وإن كان بصورة الاستعلام وآنفا من قولهم أنف الشئ لما تقدم منه مستعار من الجارحة ومنه استأنف الشئ وائتنف وهو ظرف بمعنى وقتا مؤتنفا أو حال من الضمير في قال وقرئ أنفا «أولئك» اوصفون بما ذكر «الذين طبع الله على قلوبهم» لعدم توجههم نحو الخير أصلا «واتبعوا أهواءهم» الباطلة فلذلك فعلوا ما فعلوا مما لا خير فيه «والذين اهتدوا» إلى طريق الحق «زادهم» أي الله تعالى «هدى» بالتوفيق والإلهام «وآتاهم تقواهم» أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزاءها أو بين لهم ما يتقون «فهل ينظرون إلا الساعة» أي القيامة وقوله تعالى «أن تأتيهم بغتة» أي تباغتهم بغتة وهى المفاجأة بدل اشتمال من
96

الساعة والمعنى أنهم لا يتذكرون بذكر أهوال الأمم الخالية ولا بالاخبار بإتيان الساعة وما فيها من عظائم الأهوال وما ينتظرون للتذكر إلا اتيان نفس الساعة بغتة وقرئ بغتة بفتح الغين وقوله تعالى «فقد جاء أشراطها» تعليل لمفاجأتها لا لإتيانها مطلقا على معنى أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مبادى إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة والأشراط جمع شرط بالتحريك وهى العلامة والمراد بها مبعثه صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر ونحوهما وقوله تعالى «فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم» حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذ كقوله تعالى يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى أي وكيف لهم ذكراهم إذا جاءتهم على أن أنى خبر مقدم وذكراهم مبتدأ وإذا جاءتهم اعتراض وسط بينهما رمزا إلى غاية سرعة مجيئها وإطلاق المجىء عن قيد البغتة لما أن مدار استحالة نفع التذكر كونه عند مجيئه مطلقا لا مقيدا بقيد البغتة وقرئ إن تأتيهم على انه شرط مستأنف جزاؤه فأنى لهم الخ والمعنى إن تأتهم الساعة بغتة لأنه قد ظهر أماراتها فكيف لهم تذكرهم واتعاظهم إذا جاءتهم «فاعلم أنه لا إله إلا الله» إي إذا علمت أن مدار السعادة هو التوحيد والطاعة ومناط الشقاوة هو الإشراك والعصيان فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية والعمل بموجبه «واستغفر لذنبك» وهو الذي ربما يصدر عنه عليه الصلاة والسلام من ترك الأولى عبر عنه بالذنب نظرا إلى منصبه الجليل كيف لا وحسنات الأبرار سيئات المقربين وإرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى التواضع وهضم النفس واستقصار العمل «وللمؤمنين والمؤمنات» إي لذنوبهم بالدعاء لهم وترغيبهم فيما يستدعى غفرانهم وفى إعادة صلة الاستغفار تنبيه على اختلاف متعلقيه جنسا وفى حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إشعار بعراقتهم في الذنب وفرط افتقارهم إلى الاستغفار «والله يعلم متقلبكم» في الدنيا فإنها مراحل لا بد من قطعها لا محالة «ومثواكم» في العقبى فإنها مواطن إقامتكم فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما فبادروا إلى الامتثال بما امركم به فإنه المهم لكم في المقامين وقيل يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه شئ منها «ويقول الذين آمنوا» حرصا منهم على الجهاد «لولا نزلت سورة» أي هلا نزلت سورة تؤمر فيها بالجهاد «فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال» بطريق الأمر به أي سورة مبينة لا تشابه ولا احتمال فيها لوجه آخر سوى وجوب القتال عن قتادة كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة لم تنسخ وقرئ فإذا نزلت
97

سورة وقرئ وذكر على إسناد الفعل إلى ضميره تعالى ونصب القتال «رأيت الذين في قلوبهم مرض» أي ضعف في الدين وقيل نفاق وهو الأظهر الأوفق لسياق النظم الكريم «ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت» أي تشخص أبصارهم جبنا وهلعا كدأب من أصابته غشية الموت «فأولى لهم» أي فويل لهم أي فويل لهم وهو أفعل من الولي وهو القرب وقيل من آل ومعناه الدعاء بأن يليهم المكروه أو يؤول إليه أمرهم وقيل هو مشتق من الويل وأصله أويل نقلت العين إلى ما بعد اللام فوزنه أفلع «طاعة وقول معروف» كلام مستأنف أي أمرهم ألخ أو طاعة وقول معروف خير لهم أو حكاية لقولهم ويؤيده قراءة أبى يقولون طاعة وقول معروف أي أمرنا ذلك «فإذا عزم الأمر» أسند العزم وهو الجد إلى الأمر وهو لأصحابه مجازا كما في قوله تعالى إن ذلك من عزم الأمور وعامل الظرف محذوف أي خالفوا وتخلفوا وقيل
ناقضوا وقيل كرهوا وقيل هو قوله تعالى «فلو صدقوا الله» على طريقة قولك إذا حضرني طعام فلو جئتني لأطعمتك أي فلو صدقوه تعالى فيما قالوا من الكلام المنبىء عن الحرص على الجهاد بالجري على موجبه «لكان» أي الصدق «خيرا لهم» وفيه دلالة على اشتراك الكل فيما حكى عنهم من قوله تعالى لولا نزلت سورة وقيل فلو صدقوه في الإيمان وواطأت قلوبهم في ذلك ألسنتهم وأيا ما كان فالمراد بهم الذين في قلوبهم مرض وهم المخاطبون بقوله تعالى «فهل عسيتم» الخ بطريق الالتفات لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع أي هل يتوقع منكم «إن توليتم» أمور الناس وتأمرتم عليهم «أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم» تناحرا على الملك وتهالكا على الدنيا فإن من شاهد أحوالكم الدالة على الضعف في الدين والحرص على الدنيا حين أمرتم بالجهاد الذي هو عبارة عن إحراز كل خير وصلاح ودفع كل شر وفساد وأنتم مأمورون شأنكم الطاعة والقول المعروف يتوقع منكم إذا أطلقت أعنتكم وصرتم آمرين ما ذكر من الإفساد وقطع الأرحام وقيل إن أعرضتم عن الإسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات وفيه أن الواقع في جيز الشرط في مثل هذا المقام لابد أن تكون محذوريته باعتبار ما يستتبعه من المفاسد لا باعتبار ذاته ولا ريب في ان الإعراض عن الإسلام رأس كل شر وفساد فحقه أن يجعل عمدة في التوبيخ لا وسيلة للتوبيخ بما دونه من المفاسد وقرئ وليتم على البناء للمعفول أي جعلتم ولاة وقرئ توليتم أي تولاكم ولاة جور خرجتم معهم وساعدتموهم في الإفساد وقطيعة الرحم وقرئ وتقطعوا من التقطع بحذف إحدى التاءين فانتصاب أرحامكم حينئذ على نزع الجار اى في أرحامكم وقرئ وتقطعوا من القطع وإلحاق الضمير بعسى لغة أهل الحجاز وأما بنو
98

تميم فيقولون عسى أن تفعل وعسى أن تفعلوا «أولئك» إشارة إلى المخاطبين بطريق الالتفات إيذانا بأن ذكر هناتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم وهو مبتدأ خبره «الذين لعنهم الله» أي أبعدهم من رحمته «فأصمهم» عن استماع الحق لتصامهم عنه بسوء اختيارهم «وأعمى أبصارهم» لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق «أفلا يتدبرون القرآن» أي ألا يلاحظونه ولا يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات «أم على قلوب أقفالها» فلا يكاد يصل إليها ذكر أصلا وأم منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من التوبيخ بعدم التدبر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة لا تقبل التدبر والتفكر والهمزة للتقرير وتنكير القلوب إما لتهويل حالها وتفظيع شأنها بإيهام أمرها في القساوة والجهالة كأنه قيل على قلوب منكرة لا يعرف حالها ولا يقادر قدرها في القساوة وإما لأن المراد بها قلوب بعض منهم وهم المنافقون وإضافة الاقفال إليها للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها مناسبة لها غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة وقرئ أقفالها وأقفالها الذين «إن الذين ارتدوا على أدبارهم» أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وهم المنافقون وصفوا فيما سلف بمرض القلوب وغيره من قبائح الأفعال والأحوال فإنهم قد كفروا به عليه الصلاة والسلام «من بعد ما تبين لهم الهدى» بالدلائل الظاهرة والمعجزات القاهرة وقيل هم اليهود وقيل أهل الكتابين جميعا كفروا به عليه الصلاة والسلام بعد ما وجدوا نعته في كتابهم وعرفوا أنه المنعوت بذلك وقوله تعالى «الشيطان سول لهم» جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبر لأن أي سهل لهم ركوب العظائم من السول وهو الاسترخاء وقيل من السول المخفف من السؤال لاستمرار القلب فمعنى سول له أمرا حينئذ أوقعه في أمنيته فإن السؤل الأمنية وقرئ سول مبنيا للمفعول على حذف المضاف أي كيد الشيطان «وأملي لهم» وعد لهم في الأماني والآمال وقيل أمهلهم الله تعالى ولم يعاجلهم بالعقوبة وقرئ وأملى لم على صيغة المتكلم فالمعنى أن الشيطان يغويهم وأنا أنظرهم قالوا أو للحال أو للاستئناف وقرئ أملى لهم على البناء للمفعول أي أمهلوا ومد في عمرهم «ذلك» إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم لا إلى الإملاء كما نقل عن الواحدي ولا إلى التسويل كما قيل لأن شيئا منهما ليس مسببا عن القول الآتي وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «بأنهم» اى بسبب أنهم «قالوا» يعنى المنافقين المذكورين لا لليهود الكافرين به عليه الصلاة والسلام بعد ما وجدوا نعته في التوراة كما قيل
99

فإن كفرهم به ليس بسبب هذا القول ولو فرض صدوره عنهم سواء كان المقول لهم المنافقين أو المشركين على رأى القائل بل من حين بعثته عليه الصلاة والسلام «للذين كرهوا ما نزل الله» أي لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عملهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا في نزوله عليهم لا للمشركين كما قيل فإن قوله تعالى «سنطيعكم في بعض الأمر» عبارة قطعا عما حكى عنهم بقوله تعالى ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم وهم بنو قريظة والنضير الذين كانوا يوالونهم ويوادونهم وأرادوا بالبعض الذي أشاروا إلى عدم إطاعتهم فيه إظهار كفرهم وإعلان أمرهم بالفعل قبل قتالهم وإخراجهم من ديارهم فإنهم كانوا يأبون ذلك قبل مساس الحاجة الضرورية الداعية إليه لما كان لهم في إظهار الإيمان من المنافع الدنيوية وإنما كانوا يقولون لهم ما يقولون سرا كما يعرب عنه قوله تعالى «والله يعلم إسرارهم» أي إخفاءهم لما يقولونه لليهود وقرئ أسرارهم أي جميع أسرارهم التي من جملتها قولهم هذا والجملة اعتراض مقرر لما قبله متضمن للإفشاء في الدنيا والتعذيب في الآخرة والفاء في قوله تعالى «فكيف إذا توفتهم الملائكة» لترتيب ما بعدها على ما قبلها وكيف منصوب بفعل محذوف هو العامل في الظروف كأنه قيل يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيل فكيف يفعلون إذا توفتهم الملائكة وقيل مرفوع على انه خبر لمبتدأ محذوف أي فكيف حالهم أو حيلهم إذا توفتهم الخ وقرئ توفاهم على انه إما ماض أو مضارع قد حذف إحدى تاءيه «يضربون وجوههم وأدبارهم» حال من فاعل توفتهم أو من مفعوله وهو تصوير لتوفيهم على أهوال الوجوه وأفظعها وعن ابن عباس رضى الله عنهما لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب الملائكة وجهه ودبره «ذلك» التوفى الهائل «بأنهم» أي بسبب أنهم «اتبعوا ما أسخط الله» من الكفر والمعاصي «وكرهوا رضوانه» أي ما يرضاه من الإيمان والطاعة حيث كفروا بعد الإيمان وخرجوا عن الطاعة بما صنعوا من المعاملة مع اليهود «فأحبط» لأجل ذلك «أعمالهم» التي عملوها حال إيمانهم من الطاعات أو بعد ذلك من أعمال البر التي لو عملوها حال الإيمان لا نتفعوا بها «أم حسب الذين في قلوبهم مرض» هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم الشنيعة وصفوا بوصفهم السابق لكونه مدار لما نعى عليهم بقوله تعالى «أن لن يخرج الله أضغانهم» فأم منقطعة وأن مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف ولن بما في حيزها
خبرها والأضغان جمع ضعن وهو الحقد أي بل أحسب الذين في قلوبهم حقدا وعداوة للمؤمنين أنه لن يخرج الله أحقادهم
100

ولن يبرزها لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين فتبقى أمورهم مستورة والمعنى أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال «ولو نشاء» إراءتهم «لأريناكهم» لعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة متاخمة للرؤية والالتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بالإارءة «فلعرفتهم بسيماهم» بعلامتهم التي نسمهم بها وعن أنس رضى الله عنه ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كل واحد منهم مكتوب هذا منافق واللام لام الجواب كررت في المعطوف للتأكيد والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة وأما ما في قوله تعالى «ولتعرفنهم في لحن القول» فلجواب قسم محذوف ولحن القول نحوه وأسلوبه أو إمالته إلى جهة تعريض وتورية ومنه قيل للمخطىء لاحن لعدله بالكلام عن سمت الصواب «والله يعلم أعمالكم» فيجازيكم بحسب قصدكم وهذا وعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين «ولنبلونكم» بالأمر بالجهاد ونحوه من التكاليف الشاقة «حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين» على مشاق الجهاد علما فعليا يتعلق به الجزاء «ونبلوا أخباركم» ما يخبر به عن أعمالكم فيظهر حسنها وقبيحها وقرئ ويبلو بالياء وقرئ نبلو بسكون الواو على ونحن نبلو «إن الذين كفروا وصدوا» الناس «عن سبيل الله وشاقوا الرسول» وعادوه «من بعد ما تبين لهم الهدى» بما شاهدوا نعته عليه الصلاة والسلام في التوراة وبما ظهر على يديه من المعجزات ونزل عليه من الآيات وهم قريظة والنضير أو المطعمون يوم بدر «لن يضروا الله» بكفرهم وصدهم «شيئا» من الأشياء أو شيئا من الضرر أو لن يضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاقته شيئا وقد حذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته «وسيحبط أعمالهم» أي مكايدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى ومشاقة رسوله عليه الصلاة والسلام فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل ولا تثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم» بما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق والعجب والرياء والمن والأذى ونحوها وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر
101

«إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم» حكم يعم كل من مات على الكفر وإن صح نزوله في أصحاب القليب «فلا تهنوا» أي لا تضعفوا «وتدعوا إلى السلم» أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح خورا فأن ذلك إعطاء الدنية ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن على جواب النهى وقرئ ولا تدعوا من أدعى القوم تداعوا نحو ارتموا الصيد وتراموه ومنه تراءوا الهلال فإن صيغة التفاعل قد يراد بها صدور الفعل عن المتعدد من غير اعتبار وقوعه عليه ومنه قوله تعالى عم يتساءلون على أحد الوجهين والفاء لترتيب النهى على ما سبق من الأمر بالطاعة وقوله تعالى «وأنتم الأعلون» جملة حالية مقررة لمعنى النهى مؤكدة لوجوب الانتهاء وكذا قوله تعالى «والله معكم» فإن كونهم الأعلين وكونه عز وجل ناصرهم من أقوى موجبات الاجتناب عما يوهم الذل والضراعة وكذا نوفيته تعالى لأجور الأعمال حسبما يعرب عنه قوله تعالى «ولن يتركم أعمالكم» أي ولن يضيعها من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم فأفردته عنه من الوتر الذي هو الفرد وعبر عن ترك الإثابة في مقابلة الأعمال بالوتر الذي هو إضاعة شئ معتد به من الأنفس والأموال مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السنة إبراز لغاية اللطف بتصوير الثواب بصورة الحق المستحق وتنزيل ترك الإثابة منزلة إضاعة أعظم الحقوق وإتلافها وقد مر في قوله تعالى فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عامل منكم «إنما الحياة الدنيا لعب ولهو» لاثبات لها ولا اعتداد بها «وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم» اى ثواب إيمانكم وتقواكم من الباقيات الصالحات التي يتنافس فيها المتنافسون «ولا يسألكم أموالكم» بحيث يخل أداؤها بمعاشكم وإنما اقتصر على نزر يسير منها هو ربع العشر تؤدونها إلى فقرائكم «إن يسألكموها» أي أموالكم «فيحفكم» أي يجهدكم بطلب الكل فإن الإحفاء والإلحاف المبالغة وبلوغ الغاية يقال أحفى شاربه إذا إستأصله «تبخلوا» فلا تعطوا «ويخرج أضغانكم» أي أحقادكم وضمير يخرج لله تعالى ويعضده القراءة بنون العظمة أو للبخل لأنه سبب الأضعان وقرئ يخرج من الخروج بالياء والتاء مسند إلى الأضعان «ها أنتم هؤلاء» أي أنتم أيها المخاطبون
102

هؤلاء الموصوفون وقوله تعالى (تدعون لتنفقوا في سبيل الله) استئناف مقرر لذلك أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين أي ها أنتم الذين تدعون ففيه توبيخ عظيم وتحقير من شأنهم والإنفاق في سبيل الله يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرهما (فمنكم من يبخل) أي ناس يبخلون وهو في حيز الدليل على الشرطية السابقة (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) فإن كلا من نفع الإنفاق وضرر البخل عائد إليه والبخل يستعمل بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدى (والله الغنى) دون من عداه (وأنتم الفقراء) فما يأمركم به فهو لاحتياجكم إلى ما فيه من المنافع فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم وقوله تعالى (وإن تتولوا) عطف على إن تؤمنوا أي وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى (يستبدل قوما غيركم) يخلف مكانكم قوما آخرين (ثم لا يكونوا أمثالكم) في التولى عن الإيمان والتقوى بل يكونوا راغبين فيهما قيل هم الأنصار وقيل الملائكة وقيل أهل فارس لما روى أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه فقال هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس وقيل كندة والنخع وقيل العجم وقيل الروم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة محمد كان حقا على الله عز وجل أن يسقيه من أنهار الجنة.
(سورة الفتح مدنية نزلت في مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية وآياتها تسع وعشرون)
«بسم الله الرحمن الرحيم» «إنا فتحنا لك» فتح البلد عبارة عن الظفر به عنوة أو صلحا بحراب أو بدونه فإنه ما لم يظفر به منغلق مأخوذ من فتح باب الدار وإسناده إلى نون العظمة لاستناد أفعال العباد إليه تعالى خلقا وإيجادا والمراد به فتح مكة شرفها الله وهو المروى عن أنس رضي الله عنه بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من الحديبية والتعبير عنه بصيغة الماضي على سنن سائر الأخبار الربانية لللإيذان بتحققه لا محالة تأكيدا للتبشير كما أن تصدير الكلام بحرف التحقيق لذلك
وفيه من الفخامة المنبئة عن عظمة شان المخبر جل جلاله وعز سلطانه ما لا يخفى وقيل هو ما أتيح له عليه الصلاة والسلام في تلك السنة من فتح خيبر وهو المروى عن مجاهد وقيل هو صلح الحديبية فإنه وإن لم يكن فيه حراب شديد بل ترام بين الفريقين بسهام وحجارة لكن لما كان الظهور للمسلمين حيث سألهم المشركون الصلح كان فتحا بلا ريب وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم وعن الكلى ظهروا عليهم حتى سألوا الصلح وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام حين
103

بلغه أن رجلا قال ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا قال بل هو أعظم الفتوح وقد رضى المشركون أن يدفعوكم بالراح ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما يكرهون وعن الشعبي نزلت بالحديبية وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة حيث أصاب أن بويع بيعة الرضوان وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وبلغ الهدى محله وأطعموا نخل خيبر وظهرت الروم على فارس ففرح به المسلمون وكان في فتح الحديبية آية عظيمة هي أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه وشبع وقيل فجاش الماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد وقيل هو جميع ما فتح له عليه الصلاة والسلام من الفتوح وقيل هو ما فتح الله له عليه الصلاة والسلام من الإسلام والنبوة والدعوة بالحجة والسيف ولا فتح أبين منه وأعظم وهو رأس الفتوح كافة إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو شعبة من شعبه وفرع من فروعه وقيل الفتح بمعنى القضاء ومنه الفتاحة للحكومة والمعنى قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل وهو المروى عن قتادة رضى الله عنه وأيا ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأن مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه سبحانه لا خصوصية المفتوح «فتحا مبينا» بينا ظاهر الأمر مكشوف الحال أو فارقا بين الحق والباطل وقوله تعالى «ليغفر لك الله» غاية للفتح من حيث أنه مترتب على سعيه عليه الصلاة والسلام في إعلاء كلمة الله تعالى بمكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب والالتفات إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات للإشعار بأن كل واحد مما انتظم في سلك الغاية من أفعاله تعالى صادر عنه تعالى من حيثية غير حيثية الآخر مترتبة على صفة من صفاته تعلى «ما تقدم من ذنبك وما تأخر» أي جميع ما فرط منك من ترك الأولى وتسميته ذنبا بالنظر إلى منصبه الجليل «ويتم نعمته عليك» بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوة وغيرهما مما أفاضه عليه من النعم الدينية والدنيوية «ويهديك صراطا مستقيما» في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرياسة وأصل الاستقامة وإن كانت حاصلة قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلا قبل «وينصرك الله» إظهار الاسم الجليل لكونه خاتمة الغايات ولإظهار كمال العناية بشأن النصر كما يعرب عنه تأكيده بقوله تعالى «نصرا عزيزا» أي نصرا فيه عزة ومنعة أو قويا منيعا على وصف المصدر بوصف صاحبه مجازا للمبالغة أو عزيزا صاحبه «هو الذي أنزل السكينة»
104

بيان لما أفاض عليهم من مبادئ الفتح من الثبات والطمأنينة أي أنزلها «في قلوب المؤمنين» بسبب الصلح والأمن إظهارا لفضله تعالى عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف «ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم» أي يقينا منضما إلى يقينهم أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به عليه والصلاة والسلام من الشرائع ليزدادوا إيمانا بها مقرونا مع إيمانهم بالوحدانية واليوم الاخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد ثم الصلاة والزكاة ثم الحج والجهاد فازدادوا إيمانا مع إيمانهم أو أنزل فيها الوقار والعظمة لله تعالى ولرسوله ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانا إلى إيمانهم «ولله جنود السماوات والأرض» يدبر امرها كيفما يريد يسلط بعضها على بعض تارة ويوقع بينهما السلم أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح «وكان الله عليما» مبالغا في العلم بجميع الأمور «حكيما» في تقديره وتدبيره وقوله تعالى «ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها» متعلق بما يدل عليه ما ذكر من كون جنود السماوات والأرض له تعالى من معنى التصرف والتدبير أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله في ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة «ويكفر عنهم سيئاتهم» أي يغطيها ولا يظهرها وتقديم الإدخال في الذكر على التكفير مع ان الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى «وكان ذلك» أي ما ذكر من الإدخال والتكفير «عند الله فوزا عظيما» لا يقادر قدره لأنه منتهى ما يمتد إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر وعند الله حال من فوزا لأنه صفته في الأصل فلما قدم عليه صار حالا أي كائنا عند الله اى في علمه تعالى وقضائه والجملة اعتراض مقرر لما قبله «ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات» عطف على يدخل وفي تقديم المنافقين على المشركين مالا يخفى من الدلالة على أنهم أحق منهم بالعذاب «الظانين بالله ظن السوء» أي ظن الأمر السوء وهو أن لا ينصر رسوله والمؤمنين «عليهم دائرة السوء» أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم وقرئ دائرة السوء بالضم وهما لغتان من ساء كالكره والكره خلا أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء وأما المضموم فجار مجرى الشر «وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم» عطف على ما استحقوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدينا والواو في الأخيرين مع أن حقهما الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان باستقلال كل منهما في الوعيد وأصالته من غير اعتبار استتباع بعضها لبعض «وساءت مصيرا» أي جهنم
105

«ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما» إعادة لما سبق قالوا فائدتها التنبيه على ان لله تعالى جنود الرحمة وجنود العذاب وأن المراد ههنا جنود العذاب كما ينبئ عنه التعرض لوصف العزة «إنا أرسلناك شاهدا» أي على أمتك لقوله تعالى ويكون الرسول عليكم شهيدا «ومبشرا» على الطاعة «ونذيرا» على المعصية «لتؤمنوا بالله ورسوله» الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ولأمته «وتعزروه» وتقووه بتقوية دينه ورسوله «وتوقروه» وتعظموه «وتسبحوه» وتنزهوه أو تصلوا له من السبحة «بكرة وأصيلا» غدوة وعشيا عن ابن عباس رضي الله عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر وقرئ الأفعال الأربعة بالياء التحتانية وقرئ وتعزروه بضم التاء وتخفيف الزاي المكسورة وقرئ بفتح التاء وضم الزاي وكسرها وتعززوه بزاءين وتوقروه من أوقره بمعنى وقره «إن الذين يبايعونك» أي على قتال
قريش تحت الشجرة وقوله تعالى «إنما يبايعون الله» خبران يعنى ان مبايعتك هي مبايعة الله عز وجل لأن المقصود توثيق العهد بمراعاة أوامره ونواهيه وقوله تعالى «يد الله فوق أيديهم» حال أو استئناف مؤكد له على طريقة التخييل والمعنى أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما كقوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله وقرئ إنما يبايعون الله اى لأجله ولوجهه «فمن نكث فإنما ينكث على نفسه» أي فمن نقض عهده فإنما يعود ضرر نكثه على نفسه وقرئ بكسر الكاف «ومن أوفى بما عاهد عليه الله» بضم الهاء فإنه أبقى بعد حذف الواو توسلا بذلك إلى تفخيم لامن الجلالة وقرئ بكسرها أي ومن وفى بعهده «فسيؤتيه أجرا عظيما» هو الجنة وقرئ بما عهد وقريء فسنؤتيه بنون العظمة «سيقول لك المخلفون من الأعراب» هم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استنفر من
106

حول المدينة من الإعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه عند إرادته المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا حذرا من قريش أن يتعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت وأحرم عليه الصلاة والسلام وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد الحرب وتثاقلوا عن الخروج وقالوا نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم فأوحى الله تعالى اليه عليه الصلاة والسلام بأنهم سيعتلون ويقولون «شغلتنا أموالنا وأهلونا» ولم يكن لنا من يخلفنا فيهم ويقوم بمصالحهم ويحميهم من الضياع وقرئ شغلتنا بالتشديد للتكثير «فاستغفر لنا» الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك حيث لم يكن ذلك باختيار بل عن اضطرار «يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم» بدل من سيقول أو استئناف لتكذيبهم في الاعتذار والاستغفار «قل» ردا لهم عند اعتذارهم إليك بأباطيلهم «فمن يملك لكم من الله شيئا» أي فمن يقدر لأجلكم من مشيئته الله تعالى وقضائه على شئ من النفع «إن أراد بكم ضرا» أي ما يضركم من هلاك الأهل والمال وضياعهما حتى تتخلفوا عن الخروج لحفظهما ودفع الضرر عنهما وقرئ ضرا بالضم «أو أراد بكم نفعا» أي ومن يقدر على شيء من الضرر إن أراد بكم ما ينفعكم من حفظ أموالكم وأهليكم فأي حاجة إلى التخلف لأجل القيام بحفظهما وهذا تحقيق للحق ورد لهم بموجب ظاهر مقالتهم الكاذبة وتعميم الضر والنفع لما يتوقع على تقدير الخروج من القتل والهزيمة والظفر والغنيمة يرده قوله تعلى «بل كان الله بما تعملون خبيرا» فإنه إضراب عما قالوا وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه أي ليس الأمر كما تقولون بل كان الله خبيرا بجميع ما تعملون من الأعمال التي من جملتها تخلفكم وما هو من مباديه وقوله تعالى «بل ظننتم» الخ بدل من كان الخ مفسر لما فيه من الإبهام أي بل ظننتم «أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا» بأن يستأصلهم المشركون بالمرة فخشيتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ما أصابهم فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة والأهلون جمع أهل وقد يجمع على أهلات كأرضات على تقديره تاء التأنيث وأما الأهالي فاسم جمع كالليالى وقرئ إلى أهلهم «وزين ذلك في قلوبكم» وقبلتموه واشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بهم وقرئ زين على البناء للفاعل بإسناده إلى الله سبحانه أو إلى الشيطان «وظننتم ظن السوء» المراد به إما الظن الأول والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة التي من جملتها الظن بعدم صحة رسالته عليه الصلاة والسلام فإن الجازم بصحتها لا يحوم حول فكره ما ذكر من الاستئصال «وكنتم قوما بورا» أي هالكين عند الله مستوجبين لسخطه وعقابه على أنه جمع بائر كعائذ وعوذ أو فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم وقيل البور من بار كالهلك من ملك بناء ومعنى لذلك وصف به الواحد والجمع المذكر والمؤنث
107

«ومن لم يؤمن بالله ورسوله» كلام مبتدأ من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن مقرر لبوارهم ومبين لكيفيته أي ومن لم يؤمن بهما كدأب هؤلاء المخلفين «فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا» أي لهم وإنما وضع موضع الضمير الكافرون إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر وأنه مستوجب للسعير بكفره وتنكير سعيرا للتهويل أو لأنها نار مخصوصة «ولله ملك السماوات والأرض» وما فيهما يتصرف في الكل كيف يشاء «يغفر لمن يشاء» أن يغفر له «ويعذب من يشاء» أن يعذبه من غير دخل لاحد في شيء منهما وجودا وعدما وفيه حسم لأطماعهم الفارغة في استغفاره عليه الصلاة والسلام لهم «وكان الله غفورا رحيما» مبالغا في المغفرة والرحمة لمن يشاء ولا يشاء إلا لمن تقتضى الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله وأما من عداه من الكافرين فهم بمعزل من ذلك قطعا «سيقول المخلفون» أي المذكورون وقوله تعالى «إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها» ظرف لما قبله لا شرط لما بعده أي سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر لتحوزوها حسبما وعدكم إياها وخصكم بها عوضا مما فاتكم من غنائم مكة «ذرونا نتبعكم» إلى خيبر ونشهد معكم قتال أهلها «يريدون أن يبدلوا كلام الله» بأن يشاركوا في الغنائم التي خصها باهل الحديبية فإنه عليه الصلاة والسلام رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم من سنة سبع ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالا كثيرة فخصها بهم حسبما أمره الله عز وجل وقرئ كلم الله وهو جمع كلمة وأياما كان فالمراد ما ذكر من وعده تعالى غنائم خيبر لأهل الحديبية خاصة لا قوله تعالى لن تخرجوا معي أبدا فإن ذلك في غزوة تبوك «قل» إقناطا لهم «لن تتبعونا» أي لا تتبعونا فإنه نفي معنى النهى للمبالغة «كذلكم قال الله من قبل» أي عند الانصراف من الحديبية «فسيقولون» للمؤمنين عند سماع هذا النهى «بل تحسدوننا» أي ليس ذلك النهى حكم الله بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائم وقرئ تحسدوننا بكسر السين وقوله تعالى «بل كانوا لا يفقهون» أي لا يفقهون «إلا قليلا» إلا فهما قليلا وهم فطنتهم لأمور الدينا رد لقولهم الباطل ووصف لهم بما هو أعظم من الحسد وأطم من الجهل
108

المفرط وسوء الفهم في أمور الدين «قل للمخلفين من الأعراب» كرر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة في ذمهم «ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد» هم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب أو غيرهم ممن ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المشركون لقوله تعالى «تقاتلونهم أو يسلمون» أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أبدا أو الإسلام لا غير كما يفصح عنه قراءة أو يسلموا وأما من عداهم فينتهى قتالهم بالجزية كما ينتهي بالإسلام وفيه دليل على أمامة أبي بكر رضي الله عنه إذ لم تتفق هذه الدعوة لغيره إلا إذا صح أنهم ثقيف وهوازن فإن ذلك كان في عهد النبوة فيخص دوام نفى الاتباع بما في غزوة خيبر كما قاله محيى السنة وقيل هم فارس والروم ومعنى
يسلمون ينقادون فإن الروم نصارى وفارس مجوس يقبل منهم الجزية «فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا» هو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة «وإن تتولوا» عن الدعوة «كما توليتم من قبل» في الحديبية «يعذبكم عذابا أليما» لتضاعف جرمكم «ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج» أي في التخلف عن الغزو لما بهم من العذر والعاهة فإن التكلف يدور على الاستطاعة وفي نفى الحرج عن كل من الطوائف المعدودة مزيد اعتناء بأمرهم وتوسيع لدائرة الرخصة «ومن يطع الله ورسوله» فيما ذكر من الأوامر النواهي «يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار» وقرئ ندخله بنون العظمة «ومن يتول» أي عن الطاعة «يعذبه» وقرئ بالنون «عذابا أليما» لا يقدر قدره «لقد رضي الله عن المؤمنين» هم الذين ذكر شأن مبايعتهم وبهذه الآية سميت بيعة الرضوان وقوله تعالى «إذ يبايعونك تحت الشجرة» منصوب برضى وصيغة المضارع لاستحضار صورتها وتحت الشجرة متعلق به أو بمحذوف هو حال من مفعوله روى أنه عليه الصلاة والسلام لما نزل الحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة فهموا به فمنعه الأحابيش فرجع فبعث عثمان بن عفان رضى الله عنه فأخبرهم أنه عليه الصلاة والسلام لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته فوقروه وقالوا إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبس عندهم فأرجف بأنهم قتلوه فقال عليه الصلاة والسلام لا نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة وكانت
109

سمرة وقيل سدرة على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا وروى على الموت دونه وأن لا يفروا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم اليوم خير أهل الأرض وكانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين وقيل ألفا وأربعمائة وقيل ألفا وثلاثمائة وقوله تعالى «فعلم ما في قلوبهم» عطف على يبايعونك لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك لاعلى رضى فإن رضاه تعالى عنهم مترتب على علمه تعالى بما في قلوبهم من الصدق والإخلاص عند مبايعتهم له صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى «فأنزل السكينة عليهم» عطف على رضى أي فأنزل عليهم الطمأنينة والأمن وسكون النفس بالربط على قلوبهم وقيل بالصلح «وأثابهم فتحا قريبا» هو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما مر تفصيله وقرئ وآتاهم «ومغانم كثيرة يأخذونها» أي مغانم خيبر والالتفات إلى الخطاب على قراءة الأعمش وطلحة ونافع لتشريفهم في مقام الامتنان «وكان الله عزيزا» غالبا «حكيما» مراعيا لمقتضى الحكمة في أحكامه وقضاياه «وعدكم الله مغانم كثيرة» هي ما يفيؤه على المؤمنين إلى يوم القيامة «تأخذونها» في أوقاتها المقدرة لكل واحدة منها «فعجل لكم هذه» أي غنائم خيبر «وكف أيدي الناس عنكم» أي أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بنى أسد وغطفان حيث جاءوا لنصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا وقيل أيدي أهل مكة بالصلح «ولتكون آية للمؤمنين» أمارة يعرفون بها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية ما ذكر من المغانم وفتح مكة ودخول المسجد الحرام واللام متعلقة إما بمحذوف مؤخر أي ولتكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف أو بما تعلق به علة أخرى محذوفة من أحد الفعلين أي فعجل لكم هذه أو كف أيدي الناس لتغتنموها ولتكون الخ فالواو على الأول اعتراضية وعلى الثانية عاطفة «ويهديكم» بتلك الآية «صراطا مستقيما» هو الثقة بفضل الله تعالى والتوكل عليه في كل ما تأتون وما تذرون «وأخرى» عطف على هذه أي فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى «لم تقدروا عليها» وهى مغانم هوازن في غزوة حنين ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجولة قبل ذلك لزيادة ترغيبهم فيها وقوله تعالى «قد أحاط الله بها» صفة أخرى لأخرى مفيدة لسهولة تأتيها بالنسبة إلى قدرته تعالى بعد بيان صعوبة منالها بالنظر إلى قدرتهم أي قد قدر الله عليها واستولى وأظهركم عليها وقيل حفظها لكم ومنعها من غيركم هذا وقد قيل إن أخرى منصوب بمضمر يفسره قد أحاط الله بها أي وقضى الله أخرى ولا ريب في أن الاخبار بقضاء الله إياها بعد اندراجها في جملة المغانم الموعودة بقوله تعالى وعدكم مغانم كثيرة تأخذونها ليس فيه مزيد فائدة وإنما الفائدة
110

في بيان تعجيلها «وكان الله على كل شيء قديرا» لأن قدرته تعالى ذاتية لا تختص بشئ دون شئ «ولو قاتلكم الذين كفروا» أي أهل مكة ولم يصالحوكم وقيل حلفاء خيبر «لولوا الأدبار» منهزمين «ثم لا يجدون وليا» يحرسهم «ولا نصيرا» ينصرهم «سنة الله التي قد خلت من قبل» أي سن الله غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم «ولن تجد لسنة الله تبديلا» أي تغييرا «وهو الذي كف أيديهم» أي أيدي سفار مكة «عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة» أي في داخلها «من بعد أن أظفركم عليهم» وذلك أن عكرمة بن أبى جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد وقيل كان يوم الفتح وبه استشهد أبو حنيفة على أن مكة فتحت عنوة لا صلحا «وكان الله بما تعملون» من مقاتلتهم وهزمهم أولا والكف عنهم ثانيا لتعظيم بيته الحرام وقرئ بالياء «بصيرا» فيجازيكم بذلك أو يجازيهم «هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي» بالنصب عطفا على الضمير المنصوب في صدوركم وقرئ بالجر عطفا على المسجد بحذف المضاف أي ونحر الهدى وبالرفع على وصد الهدى وقوله تعالى «معكوفا» حال من الهدى أي محبوسا وقوله تعالى «أن يبلغ محله» بدل اشتمال من الهدى أو منصوب بنزع الخافض أي محبوسا من ان يبلغ مكانه الذي يحل فيه نحره وبه استدل أبو حنيفة رحمه الله تعالى على أن المحصر محل هديه الحرم قالوا بعض الحديبية من الحرم وروى أن خيامه صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ومصلاه في الحرم وهناك نحرت هداياه صلى الله عليه وسلم والمراد صدها عن محلها المعهود الذي هو منى «ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم» لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم وهو صفة لرجال ونساء وقوله تعالى «أن تطؤوهم» أي توقعوا بهم وتهلكوهم بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في تعلموهم «فتصيبكم منهم» أي من جهتهم «معرة» أي مشقة ومكروه كوجوب الدية أو الكفارة بقتلهم والتأسف عليهم وتعيير الكفار وسوء قالتهم والإثم بالتقصير في البحث عنهم وهى مفعلة من عره إذا عراه ودهاه ما يكرهه «بغير علم» متعلق بأن تطؤهم أي غير عالمين بهم وجواب لولا
111

محذوف لدلالة الكلام عليه والمعنى لولا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين الكافرين غير عالمين بهم فيصيبكم بذلك مكروه لما كف أيديكم عنهم وقوله تعالى «ليدخل الله في رحمته» متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف كأنه قيل عقيبة لكن كفها عنهم ليدخل بذلك الكف المؤدى إلى الفتح بلا محذور في رحمته الواسعة بقسميها «من يشاء»
وهم المؤمنون فإنهم كانوا خارجين من الرحمة الدنيوية التي من جملتها الأمن مستضعفين تحت أيدي الكفرة وأما الرحمة الأخروية فهم وإن كانوا غير محرومين منها بالمرة لكنهم كانوا قاصرين في إقامة مراسم العبادة كما ينبغي فتوفيقهم لإقامتها على الوجه الأتم إدخال لهم في الرحمة الأخروية وقد جوز أن يكون من يشاء عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين ويأباه قوله تعالى «لو تزيلوا» الخ فإن فرض التزيل وترتيب التعذيب عليه يقتضى تحقق الباينة بين الفريقين بالإيمان والكفر قبل التزيل حتما أي لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض وقرئ لو تزايلوا «لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما» بقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها «إذ جعل الذين كفروا» منصوب باذكر على المفعولية أو بعذبنا على الظرفية وقيل بمضمر هو أحسن الله إليكم وأيا ما كان فوضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة وتعليل الحكم به والجعل إما بمعنى الإلقاء فقوله تعالى «في قلوبهم الحمية» أي الأنفة والتكبر متعلق به أو بمعنى التصيير فهو متعلق بمحذوف هو مفعول ثان له أي جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم «حمية الجاهلية» بدل من الحمية أي حمية الملة الجاهلية أو الحمية الناشئة من الجاهلية وقوله تعالى «فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين» على الأول عطف على جعل والمراد تذكير حسن صنيع الرسول صلى الله عله وسلم والمؤمنين بتوفيق الله تعالى وسوء صنيع الكفرة وعلى الثاني على ما يدل عليه الجملة الامتناعية كأنه قيل لم يتزيلوا فلم نعذب فأنزل الخ وعلى الثالث على المضمر تفسير له والسكينة الثبات والوقار يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث قريش سهيل بن عمرو القرشي وحويطب بن عبد العزى ومكرز ابن حفص بن الأحنف عل ان يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلى له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ففعل ذلك وكتبوا بينهم كتابا فقال عليه الصلاة والسلام لعلى رضى الله عنه اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا ما نعرف ما هذا اكتب باسمك اللهم ثم قال اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة فقالوا لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك أكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة فقال صلى الله عليه وسلم اكتب ما يريدون فهم المؤمنون ان يأبوا ذلك ويبطشوا بهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقروا وحلموا «وألزمهم كلمة التقوى» أي كلمة الشهادة أو بسم الله الرحمن الرحيم أو محمد رسول الله وقيل كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد والثبات عليه وإضافتها إلى التقوى لأنها سبب التقوى وأساسها أو كلمة أهلها «وكانوا
112

أحق بها» متصفين بمزيد استحقاق لها على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقا وقيل أحق بها من الكفار «وأهلها» اى المستأهل لها «وكان الله بكل شيء عليما» فيعلم حق كل شيء فيسوقه إلى مستحقه «لقد صدق الله رسوله الرؤيا» رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا رؤسهم وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبي وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت أي صدقه صلى الله عليه وسلم في رؤياه كما في قولهم صدقني سن بكره وتحقيقه أراه الرؤيا الصادقة وقوله تعالى «بالحق» إما صفة لمصدر مؤكد محذوف أي صدقا ملتبسا بالحق أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة اليت هي التمييز بين الراسخ في الإيمان والمتزلزل فيه أو حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام وقد جوز أن يكون قسما بالحق الذي هو من أسماء الله تعالى أو بنقيض الباطل وقوله تعالى «لتدخلن المسجد الحرام» جوابه وهو على الأولين جواب قسم محذوف أي والله لتدخلن الخ وقوله تعالى «إن شاء الله» تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخلونه لموت أو غيبة أو غير ذلك أو هي حكاية لما قاله ملك الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أول لما قاله عليه الصلاة والسلام لأصحابه «آمنين» حال من فاعل لتدخلن والشرط معترض وكذا قوله تعالى «محلقين رؤوسكم ومقصرين» أي محلقا بعضكم ومقصرا آخرون وقيل محلقين حال من ضمير آمنين فتكون متداخلة «لا تخافون» حال مؤكدة من فاعل لتدخلن أو آمنين أو محلقين أو مقصرين أو استئناف أي لا تخافون بعد ذلك «فعلم ما لم تعلموا» عطف على صدق والمراد بعلمه تعالى العلم الفعلي المتعلق بأمر حادث بعد المعطوف عليه أي فعلم عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة ما لم تعلموا من الحكمة الداعية إلى تقديم ما يشهد بالصدق علما فعليا «فجعل» لأجله «من دون ذلك» أي من دون تحقق مصداق ما رآه من دخول المسجد الحرام الخ «فتحا قريبا» وهو فتح خيبر والمراد بجعله وعده وإنجازه من غير تسويف ليستدل به على صدق الرؤيا حسبما قال ولتكون آية للمؤمنين وأما جعل ما في قوله تعالى ما لم تعلموا عبارة عن الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل كما جنح إليه الجمهور فتأباه الفاء فإن علمه تعالى بذلك متقدم على إراءة الرؤيا قطعا «هو الذي أرسل رسوله بالهدى» أي ملتبسا به أو بسببه ولأجله «ودين الحق» وبدين الإسلام «ليظهره على الدين كله» ليعليه على جنس الدين بجميع أفراده التي هي الأديان المختلفة بنسخ ما كان حقا من بعض
113

الأحكام المتبدلة بتبدل الأعصار وإظهار بطلان ما كان باطلا أو بتسليط المسلمين على أهل سائر الأديان إذ ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون وفيه فضل تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على انه سبحانه سيفتح لهم من البلاد ويتيح لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه فتح مكة «وكفى بالله شهيدا» على ان ما وعده كائن لا محالة أو على نبوته عليه الصلاة والسلام بإظهار المعجزات «محمد» خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى «رسول الله» بدل أو بيان أو نعت أي ذلك الرسول المرسل بالهدى ودين الحق محمد رسول الله وقيل محمد مبتدأ رسول الله خبره والجملة مبينة للمشهود به وقوله تعالى «والذين معه» مبتدأ خبره «أشداء على الكفار رحماء بينهم» وأشداء جمع شديد ورحماء جمع رحيم والمعنى أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة ولمن وافقهم في الدين الرحمة والرأفة كقوله تعالى أذلة على المؤمنين أعزه على الكافرين وقرئ أشداء ورحماء بالنصب على المدح أو على الحال من المستكن في معه لوقوعه صلة فالخبر حينئذ قوله تعالى «تراهم ركعا سجدا» أي تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين لمواظبتهم على الصلوات وهو على الأول خبر آخر أو استئناف وقوله تعالى «يبتغون فضلا من الله ورضوانا» أي ثوابا ورضا إما خبر آخر أو حال من ضمير تراهم أو من المستتر في ركعا سجدا أو استئنافا مبنى على سؤال نشأ من بيان مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل ماذا يريدون بذلك فقيل يبتغون فضلا من الله الخ «سيماهم» أي سمتهم وقرئ سيمياؤهم بالياء بعد الميم والمد وهما لغتان وفيها لغة ثالثة هي السيماء بالمد وهو مبتدأ خبره «في وجوههم»
أي في جباههم وقوله تعالى «من أثر السجود» حال من المستكن في الجار أي من التأثير الذي يؤثره كثرة السجود وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله عليه الصلاة والسلام لا تعبدوا صوركم أي لا تسموها إنما هو فيما إذا اعتمد بجبهته على الأرض ليحدث فيها تلك السمة وذلك محض رياء ونفاق والكلام فيما حدث في جبهة السجاد الذي لا يسجد إلا خالصا لوجه الله عز وجل كان الإمام زين العابدين وعلى بن عبد الله بن العباس رضى عنهما يقال لهما ذو الثفنات لما أحدثت كثرة سجودهما في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير قال قائلهم ديار على والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفنات وقيل صفرة الوجه من خشية الله تعالى وقيل ندى الطهور وتراب الأرض وقيل استنارة وجوههم من طول ما صلوا بالليل قال عليه الصلاة والسلام من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وقرئ من آثار السجود ومن إثر السجود بكسر الهمزة «ذلك» إشارة إلى ما ذكر
114

من نعوتهم الجليلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شانه وبعد منزلته في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «مثلهم» أي وصفهم العجيب الشأن الجاري في الغرابة مجرى الأمثال وقوله تعالى «في التوراة» حال من مثلهم والعامل معنى الإشارة وقوله تعالى «ومثلهم في الإنجيل» عطف على مثلهم الأول كأنه قيل ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل وتكرير مثلهم لتأكيد غرابته وزيادة تقريرها وقوله تعالى «كزرع أخرج شطأه» الخ تمثيل مستأنف أي هم كزرع أخرج فراخه وقيل هو تفسير لذلك على انه إشارة مبهمة وقيل خبر لقوله تعالى ومثلهم في الإنجيل على ان الكلام قد تم عند قوله تعالى مثلهم في التوراة وقرئ شطأه بفتحات وقرئ شطاه بفتح الطاء وتخفيف الهمزة وشطاءه بالمد وشطه بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها وشطوه بقلبها واو «فآزره» فقواه من المؤازرة بمعنى المعاونة أو من الإيزار وهى الإعانة وقرئ فأزره بالتخفيف وأزره بالتشديد أي شد أزره وقوله تعالى «فاستغلظ» فصار غليظا بعد ما كان دقيقا «فاستوى على سوقه» فاستقام على قصبه جمع ساق وقرئ سؤقه بالهمزة «يعجب الزراع» بقوته وكثافته وغلطة وحسن منظره وهو مثل ضربه الله عز وجل لأصحابه عليه الصلاة والصلام قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم يوما فيوما بحيث أعجب الناس وقيل مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقوله تعالى «ليغيظ بهم الكفار» علة لما يعرب عنه الكلام من تشبههم بالزرع في زكائه واستحكامه أو لما بعده من قوله تعالى «وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما» فإن الكفار إذا سمعوا بما أعد للمؤمنين في الآخرة مع ما لهم في الدنيا من العزة غاظهم ذلك أشد غيظ ومنهم للبيان عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة $ سورة الحجرات مدنية وآياتها ثماني عشرة $ «بسم الله الرحمن الرحيم» «يا أيها الذين آمنوا» تصدير الخطاب بالنداء لتنبيه المخاطبين على أن ما في حيزه أمر خطير يستدعى مزيد اعتنائهم بشأنه وفرط اهتمامهم بتقليه ومراعاته ووصفه بالايمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به «لا تقدموا» أي لا تفعلوا التقديم على أن ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلقه بأمر من الأمور على طريقة قولهم
115

فلان يعطى ويمنع أي يفعل الإعطاء والمنع أو لا تقدموا أمرا من الأمور على أن حذف المفعول للقصد إلى تعميمه والأول أو في بحق المقام لإفادته النهى عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكلية المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهاني وقد جوز أن يكون التقديم بمعنى التقدم ومنه مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة ويعضده قراءة من قرأ لا تقدموا بحذف إحدى التاءين من تتقدموا وقرئ لا تقدموا من القدوم وقوله تعالى «بين يدي الله ورسوله» مستعار مما بين الجهتين المسامتتين ليدى الإنسان تهجينا لما نهوا عنه والمعنى لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به وقيل المراد بين يدي رسول الله وذكر الله تعالى لتعظيمه والإيذان بجلالة محله عنده عز وجل وقيل نزل فيما جرى بين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما لدى النبي صلى الله عليه وسلم في تأمير الأقرع بن حابس أو القعقاع بن معبد «واتقوا الله» في كل ما تأتون وما تذرون من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما نحن فيه «إن الله سميع» لأقوالكم «عليم» بأفعالكم فمن حقه أن يتقى ويراقب «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي» شروع في النهى عن التجاوز في كيفية القول عند النبي عليه الصلاة والسلام بعد النهى عن التجاوز في نفس القول والفعل وإعادة النداء مع قرب العهد به للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أي لا تبلغوا بأصواتكم وراء حد يبلغه عليه الصلاة والسلام بصوته وقرئ لا ترفعوا بأصواتكم على أن الباء زائدة «ولا تجهروا له بالقول» إذا كلمتموه «كجهر بعضكم لبعض» أي جهرا كائنا كالجهر الجاري فيما بينكم بل اجعلوا صوتكم أخفض من صوته عليه الصلاة والسلام وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وقيل معنى لا لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض لا تقولوا له يا محمد يا أحمد وخاطبوه بالنبوة قال ابن عباس رضى الله عنهما لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر يا رسول الله والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله تعالى وعن عمر رضى الله عنه أنه كان يكلمه عليه الصلاة والسلام كأخى السرار لا يسمعه حتى يستفهمه وكان أبو بكر رضى الله عنه إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفود أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى «أن تحبط أعمالكم» إما علة للنهي أي لا تجهروا خشية أن تحبط أو كراهة أن تحبط كما في قوله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا أو للمنهى أي لا تجهروا لأجل الحبوط فإن الجهر حيث كان بصدد الأداء إلى الحبوط فكأنه فعل لأجله على طريقة التمثيل كقوله تعالى ليكون لهم عدوا أو حزنا وليس المراد بما نهى عنه من الرفع والجهر ما يقارنه الاستخفاف والاستهانة فإن ذلك كفر بل ما يتوهم أن يؤدي إلى مما يجرى بينهم في أثناء المحاوره من الرفع والجهر حسبما يعرب عنه قوله تعالى كجهر بعضكم
116

لبعض خلا أن رفع الصوت فوق صوته عليه الصلاة والسلام لما كان منكرا محضا لم يقيد بشئ ولا ما يقع منهما في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو نحو ذلك وعن ابن عباس رضى الله عنهما نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذنه وقر وكان جهوري الصوت وربما كان يكلم رسول الله صلى الله عل وسلم فيتأذى
بصوته وعن أنس رضى الله عنه أنه لما نزلت الآية فقد ثابت وتفقده عليه الصلاة والسلام فأخبر بشأنه فدعاه فسأله فقال يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط فقال له عليه الصلاة والسلام لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة وأماما يروى عن الحسن من انها نزلت في بعض المنافقين الذين كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته عليه الصلاة والسلام فقد قيل محمله أن نهيهم مندرج تحت نهى المؤمنين بدلالة النص «وأنتم لا تشعرون» حال من فاعل تحبط أي والحال أنكم لا تشعرون بحبوطها وفيه مزيد تحذير مما نهوا عنه وقوله تعالى «إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله» الخ ترغيب في الانتهاء عما نهوا عنه بعد الترهيب عن الإخلال به أي يخفضونها مراعاة للأدب أو خشية من مخالفة النهى «أولئك» إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرار من تفخيم شانه وهو مبتدأ خبره «الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى» أي جربها للتقوى ومرنها عليها أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها فإن الامتحان سبب المعرفة واللام صلة لمحذوف أو للفعل باعتبار الأصل أو ضرب قلوبهم بضروب المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى فإنها لا تظهر إلا بالإصطبار عليها أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه وعن عمر رضى الله عنه أذهب عنها الشهوات «لهم» في الآخرة «مغفرة» عظيمة لذنوبهم «وأجر عظيم» لا يقادر قدره والجملة إما خبر آخر لأن كالمجملة المصدرة باسم الإشارة أو استئناف لبيان جزائهم إحمادا لحالهم وتعريضا بسوء حال من ليس مثلهم «إن الذين ينادونك من وراء الحجرات» أي من خارجها من خلفها أو قدامها ومن ابتدائية دالة على ان المناداة نشأت من جهة الوراء وأن المنادى داخل الحجرة لوجوب اختلاف المبدأ والمنتهى بحسب الجهة بخلاف ما لو قيل ينادونك وراء الحجرات وقرئ الحجرات بفتح الجيم وبسكونها وثلاثتها جمع حجرة وهى القطعة من الأرض المحجورة بالحائط ولذلك يقال لحظيرة الإبل حجرة وهي فعلة من الحجر بمعنى مفعول كالغرفة والقبضة والمراد بها حجرات أمهات المؤمنين ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه عليه الصلاة والسلام من ورائها أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له عليه الصلاة والسلام فنادوه
117

بعض من وراء هذه وبعض من وراء تلك فأسند فعل الأبعاض إلى الكل وقد جوز أن يكونوا قد نادوه من وراء الحجرة التي كان عليه الصلاة والسلام فيها ولكنها جمعت إجلال له عليه الصلاة والسلام وقيل إن الذي ناداه عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا من بنى تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا يا محمد أخرج إلينا وإنما أسند النداء إلى الكل لأنهم رضوا بذلك أو أمروا به لأنه وجد فيما بينهم «أكثرهم لا يعقلون» إذ لو كان لهم عقل لما تجاسروا على هذه المرتبة من سوء الأدب «ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم» أي ولو تحقق صبرهم وانتظارهم حتى تخرج إليهم فإن أن وإن دلت بما في حيزها على المصدر لكنها تفيد بنفسها التحقق والثبوت الفرق البين بين قولك بلغني قيامك وبلغني أنك قائم وحتى تفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مغيا بخروجه عليه الصلاة والسلام فإنها مختصة بما هو غاية للشئ في نفسه ولذلك تقول أكلت السمكة حتى رأسها ولا تقول حتى نصفها أو ثلثها بخلاف إلى فإنها عامة وفى إليهم إشعار بأنه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم «لكان» أي الصبر المذكور «خيرا لهم» من الاستعجال لما فيه من رعاية حسن الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثناء والثواب والإسعاف بالمسؤل إذ روى أنهم وفدوا شافعين في أسارى بنى العنبر فأطلق النصف وفادى النصف «والله غفور رحيم» بليغ المغفرة والرحمة واسعهما فلن يضيق ساحتهما عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» أي فتعرفوا وتفحصوا روى أنه عليه الصلاة والسلام بعث الوليد ابن عقبة أخا عثمان رضى الله عنه لأمه مصدقا إلى بنى المصطلق وكان بينه وبينهم أحنة فلما سمعوا به استقبلوه فحسب أنهم مقاتلوه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهم عليه الصلاة والسلام بقتالهم فنزلت وقيل بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع وفى ترتيب الأمر بالتبين على فسق المخبر إشارة إلى قبول خبر الواحد العدل في بعض المواد وقرئ فتثبتوا أي توقفوا إلى أن يتبين لكم الحال «أن تصيبوا» حذارا أن تصيبوا «قوما بجهالة» ملتبسين بجهالة حالهم «فتصبحوا» بعد ظهور براءتهم عما أسند إليهم «على ما فعلتم» في حقهم «نادمين» مغتمين غما لازما متمنين أنه لم يقع فإن تركيب هذه الأحرف الثلاثة يدور مع الدوام «واعلموا
118

أن فيكم رسول الله» أن بما في حيزها ساد مسد مفعولى اعلموا باعتبار ما بعده من قوله تعالى «لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم» فإنه حال من أحد الضميرين في فيكم والمعنى أن فيكم رسول الله كائنا على حالة يجب عليكم تغييرها أو كائنين على حالة الخ وهى أنكم تريدون أن يتبع عليه الصلاة والسلام رأيكم في كثير من الحوادث ولو فعل ذلك لوقعتم في الجهد والهلاك وفيه إيذان بأن بعضهم زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببنى المصطلق تصديقا لقول الوليد أنه عليه الصلاة والسلام لم يطع رأيهم وأما صيغة المضارع فقد قيل أنها للدلالة على أن امتناع عنتهم لامتناع استمرار طاعته عليه الصلاة والسلام لهم لأن عنتهم إنما يلزم من استمرار الطاعة فيما يعن لهم من الأمور إذ فيه اختلال أمر الإبالة وانقلاب الرئيس مرؤسا لا من إطاعته في بعض ما يرونه نادرا بل فيها استمالتهم بلا معرة وقيل إنها للدلالة على أن امتناع عنتهم لاستمرار امتناع طاعته عليه الصلاة والسلام لهم في ذلك فإن المضارع المنفى قد يدل على استمرار النفي بحسب المقام كما في نظائر قوله تعالى ولا هم يحزنون والتحقيق أن الاستمرار الذي تفيده صيغة المضارع يعتبر تارة بالنسبة إلى ما يتعلق بالفعل من الأمور الزمانية المتجددة وذلك بأن يعتبر الاستمرار في نفس الفعل على الإبهام ثم يعتبر تعليق ما يتعلق به بيانا لما فيه الاستمرار وأخرى بالنسبة إلى ما يتعلق به من نفس الزمان المتجدد وذلك إذا اعتبر تعلقه بما يتعلق به أولا ثم اعتبر استمراره فيتعين أن يكون ذلك بحسب الزمان فإن أريد باستمرار الطاعة استمرارها وتجددها بحسب تجدد مواقعها الكثيرة التي يفصح عنها قوله تعالى في كثير من الأمر فالحق هو الأول ضرورة أن مدار امتناع العنت هو امتناع ذلك الاستمرار سواء كان ذلك الامتناع بعدم وقوع الطاعة في أمر ما من تلك الأمور الكثيرة أصلا أو بعدم وقوعها كلها مع وقوعها في بعض يسير منها حتى لو لم يمتنع ذلك الاستمرار بأحد الوجهين المذكورين بل وقعت الطاعة فيما ذكر من كثير من الأمر في وقت من الأوقات وقع العنت
قطعا وإن أريد به استمرار الطاعة الواقعة في الكل وتجددها بحسب تجدد الزمان واستمراره فالحق هو الثاني فإن مناط امتناع العنت حينئذ ليس امتناع استمرار الطاعة المذكورة ضرورة أنه موجب لوقوع العنت بل هو الاستمرار الزماني لامتناع تلك الطاعة الواقعة في تلك الأمور الكثيرة بأحد الوجهين المذكورين حتى لو لم يستمر امتناعها بأن وقعت تلك الطاعة في وقت من الأوقات وقع العنت حتما واعلم أن الأحق بالاختيار والأولى بالاعتبار هو الوجه الأول لأنه أوفق بالقياس المقتضى لاعتبار الامتناع واردا على الاستمرار حسب ورود كلمة لو المفيدة للأول على صيغة المضارع المفيدة للثاني على أن اعتبار الاستمرار ارودا على النفي على خلاف القياس بمعونة المقام إنما يصار إليه إذا تعذر الجريان على موجب القياس أو لم يكن فيه مزيد مزية كما في مثل قوله تعالى ولا هم يحزنون حيث حمل على استمرار نفى الحزن عنهم إذ ليس في نفى استمرار الحزن مزيد فائدة واما إذا انتظم الكلام مع مراعاة موجب القياس حق الانتظام فالعدول عنه تمحل لا يخفى وقوله تعالى «ولكن الله حبب إليكم الإيمان» الخ تجريد للخطاب وتوجيه له إلى بعضهم بطريق الاستدراك بيانا لبراءتهم عن أوصاف الأولين وإحمادا لأفعالهم أي ولكنه تعالى جعل الإيمان
119

محبوبا لديكم «وزينه في قلوبكم» حتى رسخ خبه فيها ولذلك أتيتم بما يليق به من الأقوال والأفعال «وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان» ولذلك اجتنبتم عما يليق بها مما لا خير فيه من آثارها وأحكامها ولما كان في التحبيب والتكريه معنى إنهاء المحبة والكراهة وإيصالها إليهم استعملا بكلمة إلى وقيل هو استدراك ببيان عذر الأولين كأنه قيل لم يكن ما صدر عنكم في حق بنى المصطلق من خلل في عقيدتكم بل من فرط حبكم للإيمان وكراهتكم للكفر والفسوق والعصيان والأول هو الأظهر لقوله تعالى «أولئك هم الراشدون» أي السالكون إلى الطريق السوى الموصل إلى الحق والالتفات إلى الغيبة كالذي في قوله تعالى وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون «فضلا من الله ونعمة» أي وانعاما تعليل لحبب أو كره وما بينهما اعتراض وقيل نصبهما بفعل مضمر أي جرى ذلك فضلا وقيل يبتغون فضلا «والله عليم» مبالغ في العلم فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل «حكيم» يفعل كل مل يفعل بموجب الحكمة «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» أي تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى «فأصلحوا بينهما» بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى «فإن بغت» أي تعدت «إحداهما على الأخرى» ولم تتأثر بالنصيحة «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء» أي ترجع «إلى أمر الله» إلى حكمه أو إلى ما أمر به «فإن فاءت» إليه وأقلعت عن القتال حذارا من قتالكم «فأصلحوا بينهما بالعدل» بفصل ما بينهما على حكم الله تعالى ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر وتقييد الإصلاح بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة وقد أكد ذلك حيث قيل «وأقسطوا» أي وأعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون «إن الله يحب المقسطين» فيجازيهم أحسن الجزاء والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالعسف والنعال وفيها دلالة على أن الباغي لا يخرج بالبغى عن الإيمان وأنه إذا أمسك عن الحرب ترك لأنه فىء إلى أمر الله تعالى وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة «إنما المؤمنون إخوة» استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح أي أنهم منتسبون إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للحياة الأبدية والفاء في قوله تعالى «فأصلحوا بين أخويكم» للإيذان بأن الآخرة الدينية موجبة للإصلاح ووضع المظهر مقام المضمر مضافا إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه وتخصيص
120

الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بالطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج وقرئ بين أخوتكم وإخوانكم «واتقوا الله» في كل ما تأتون وما تذرون ومن الأمور التي من جملتها ما أمرتم به من الإصلاح «لعلكم ترحمون» راجين أن ترحموا على تقواكم «يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم» أي منكم «من قوم» آخرين أيضا منكم وقوله تعالى «عسى أن يكونوا خيرا منهم» تعليل للنهي أو لموجبه أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين والقوم مختص بالرجال لأنهم القوام على النساء وهو في اللأصل إما جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر أو مصدر نعت به فشاع في الجمع وأما تعميمه للفريقين في مثل قوم عاد وقوم فرعون فإما للتغليب أو لأنهن توابع واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجمع والتنكير إما للتعميم أو للقصد إلى نهى بعضهم عن سخرية بعض لما أنها مما يجرى بين بعض وبعض «ولا نساء» أي ولا تسخر نساء من المؤمنات «من نساء» منهن «عسى أن يكن» أي المسخور منهن «خيرا منهن» أي من الساخرات فإن مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالبا بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب فلا يجترئ أحد على استحقار أحد فلعله أجمع منه لما نيط به الخيرية عند الله تعالى فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى والاستهانة بمن عظمه الله تعالى وقرئ عسوا أن يكونوا وعسين أن يكن فعسى حينئذ هي ذات الخبر كما في قوله تعالى فهل عسيتم وأما على الأول فهي التي لا خبر لها «ولا تلمزوا أنفسكم» أي ولا يعب بعضكم بعضا فإن المؤمنين كنفس واحدة أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه واللمز الطعن باللسان وقرئ بضم الميم «ولا تنابزوا بالألقاب» أي ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء فإن النبز مختص به عرفا «بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان» أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم الإيمان أو اشتهارهم به فإن الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسوق إلى المؤمنين خصوصا إذ روى أن الآية نزلت في صفية بنت حيي أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال عليه الصلاة والسلام هلا قلت إن أبى هارون وعمى موسى وزوجي محمد عليهم السلام أو الدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإيمان قبيح «ومن لم يتب» عما نهى عنه «فأولئك هم الظالمون» بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض
121

النفس للعذاب «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن» أي كونوا على جانب منه وإبهام الكثير لإيجاب الاحتياط والتأمل في كل ظن ظن حتى يعلم أنه من أي قبيل فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله تعالى ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين ومنه ما يباح كالظن في الأمور المعاشية «إن بعض الظن إثم» تعليل للأمر بالاجتناب أو لموجبه بطريق الاستئناف التحقيقى والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة
عليه وهمزته منقلبة من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها «ولا تجسسوا» أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين تفعل من الجس لما فيه من معنى الطلب كما أن التلمس بمعنى التطلب لما في اللمس من الطلب وقد جاء بمعنى الطلب في قوله تعالى وأنا لمسنا السماء وقرئ بالحاء من الحس الذي هو إثر الجس وغايته ولتقاربهما يقال للمشاعر الحواس بالحاء والجيم وفى الحديث لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته «ولا يغتب بعضكم بعضا» أي لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال أن تذكر أخاك بما يكره فإن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته وعن ابن عباس رضى الله عنهما الغيبة إدام كلاب الناس «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا» تمثيل وتصوير لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى الاستفهام التقريرى وإسناد الفعل إلى أحد إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان وجعل المأكول أخا للآكل وميتا وإخراج تماثلها مخرج أمر بين غنى عن الإخبار به وقرئ ميتا بالتشديد وانتصابه على الحالية من اللحم وقيل من الأخ والفاء في قوله تعالى «فكرهتموه» لترتيب ما بعدها على ما قبلها من التمثيل كأنه قيل وحيث كان الأمر كما ذكر فقد كرهتموه وقرى كرهتموه أي جبلتم على كراهته «واتقوا الله» بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما صدر عنكم من قبل «إن الله تواب رحيم» مبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة حيث يجعل التائب كمن لم يذنب ولا يخص ذلك بتائب دون تائب بل يعم الجميع وإن كثرت ذنوبهم روى أن رجلين من الصحابة رضى الله عنهم بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغى لهما إداما وكان أسامة على طعامه عليه الصلاة والسلام فقال ما عندي شئ فأخبرهما سلمان فقالا لو بعثنا سليمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا ما تناولنا لحما فقال عليه الصلاة والسلام إنكما قد اغتبتما
122

فنزلت «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى» من آدم وحواء أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب وقد جوز أن يكون تأكيدا للنهي السابق بتقرير الأخوة المانعة من الاغتياب «وجعلناكم شعوبا وقبائل» الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهو بجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائر والعمارة تجمع البطون والبطن بجمع الأفخاذ والفخذ يجمع الفصائل فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصى بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وقيل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب «لتعارفوا» ليعرف بعضكم بعضا بحسب الأنساب فلا يعتزى أحد إلى غير آبائه لا لتتفاخروا بالآباء والقبائل وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب وقرئ لتتعارفوا على الأصل ولتعارفوا بالإدغام ولتعرفوا «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف التحقيقى كأنه قيل إن الأكرم عنده تعالى هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى وقرئ بان المفتوحة على حذف لام التعليل كأنه قيل لم لا تتفاخروا بالأنساب فقيل لأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بالتقوى قال عليه الصلاة والسلام من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله وقال عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقى كريم على الله تعالى وفاجر شقى هين على الله تعالى وعن ابن عباس رضى الله عنهما كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى «إن الله عليم» بكم وبأعمالكم «خبير» ببواطن أحوالكم «قالت الأعراب آمنا» نزلت في نفر من بنى أسد قدموا المدينة في سنة جدب فأظهروا الشهادتين وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون عليه عليه الصلاة والسلام ما فعلوا «قل» ردا لهم «لم تؤمنوا» إذ الإيمان هو التصديق المقارن للثقة وطمأنينة القلب ولم يحصل لكم ذلك وإلا لما مننتم على ما ذكرتم كما ينبئ عنه آخر السورة «ولكن قولوا أسلمنا» فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادة وترك المحاربة مشعر به وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم للاحتراز من النهى عن التلفظ بالإيمان وللتفادى عن إخراج قولهم مخرج التسليم والاعتداد به مع كونه تقولا محضا «ولما يدخل الإيمان في قلوبكم» حال من ضمير قولوا أي ولكن قولوا أسلمنا حال عدم مواطأة قلوبكم لألسنتكم وما في لما من معنى التوقع مشعر بأن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد «وإن تطيعوا الله ورسوله»
123

بالإخلاص وترك النفاق «لا يلتكم من أعمالكم» لا ينقصكم «شيئا» من أجورها من لات يليت ليتا إذا نقص وقرئ لا يألتكم من الألت وهى لغة غطفان أو شيئا من النقص «إن الله غفور» لما فرط من المطيعين «رحيم» بالتفضل عليهم «إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا» لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة وفيه إشارة إلى أن فيهم ما يوجب نفى الإيمان عنهم وثم للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس في حال إنشائه فقط بل وفيما يستقبل فهي كما في قوله تعالى ثم استقاموا «وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله» في طاعته على تكثر فنونها من العبادات البدنية المحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليها معا كالحج والجهاد «أولئك» الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الحميلة «هم الصادقون» أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا غيرهم روى أنه لما نزلت الآية جاؤوا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قوله تعالى «قل أتعلمون الله بدينكم» أي أتخبرونه بذلك بقولكم آمنا والتعبير عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم «والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض» حال من مفعول تعلمون مؤكدة لتشنيعهم وقوله تعالى «والله بكل شيء عليم» تذييل مقرر لما قبله اى مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان وفيه مزيد تجهيل وتوبيخ لهم «يمنون عليك أن أسلموا» أي يعدون إسلامهم منة عليك وهي النعمة التي لا يطلب موليها ثوابا ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته وقيل النعمة الثقيلة من المن «قل لا تمنوا علي إسلامكم» اى لا تعدوا إسلامكم منة على أو لا تمنوا على بإسلامكم فنصب بنزع الخافض «بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان» على ما زعمتم مع أن الهداية لا تستلزم الاهتداء وقريء أن هداكم وإذ هداكم «إن كنتم صادقين» في ادعاء الإيمان وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم وفي سياق النظم الكريم من اللطف مالا يخفي فإنهم لما سموا
ما صدر عنهم إيمانا ومنوا به فنفى كونه إيمانا وسمى إسلاما قيل يمنون عليك بما هو في الحقيقة إسلام وليس بجدير بالمن بل لو صح ادعاؤهم للإيمان فلله المنة عليهم بالهداية إليه لا لهم «إن الله يعلم غيب السماوات والأرض» أي ما غاب فيهما «والله بصير بما تعملون» في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه
124

ما في ضمائركم وقرئ بالياء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرا سورة الحجرات أعطى من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه.
بسم الله الرحمن الرحيم «ق والقرآن المجيد» أي ذي المجد والشرف على سائر الكتب أو لأنه كلام المجيد أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله تعالى وعند الناس والكلام فيه كالذي فصل في مطلع سورة ص قوله تعالى «بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم» أي لأن جاءهم منذر من جنسهم لا من حنس الملك أو من جلدتهم إضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف كأنه قيل والقرآن المجيد أنزلناه إليك لتنذر به الناس حسبما ورد في صدر سورة الأعراف كأنه قيل بعد ذلك لم يؤمنوا به بل جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للنكير والتعجيب مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول وأقربه إلى التلقي بالقبول وقيل التقدير والقرآن المجيد إنك لمنذر ثم قيل بعده إنهم شكوا فيه ثم أضرب عنه وقيل بل عجبوا أي لم يكتفوا بالشك والرد بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة وقيل هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد كأنه قيل ليس سبب امتناعهم من الإيمان بالقرآن أنه لا مجد له ولكن لجهلهم «فقال الكافرون هذا شيء عجيب» تفسير لتعجيبهم وبيان لكونه مقارنا لغاية الإنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذرا بالقرآن وإضمارهم أولا للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم وإظهارهم ثانيا للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه أو عطف لتعجبهم من البعثة على ان هذا إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية ووضع المظهر موضع المضمر إما لسبق اتصافهم بما يوجب كفرهم وإما للإيذان بأن تعجبهم من البعث لدلالته على استقصارهم لقدرة الله سبحانه عنه مع معاينتهم لقدرته تعالى على ما هو أشق منه في قياس العقل من مصنوعاته البديعة أشنع من الأول وأعرق في كونه كفرا «أئذا متنا وكنا ترابا» تقرير للتعجيب وتأكيد للإنكار
125

والعامل في مضمر غنى عن البيان لغاية شهرته مع دلالة ما بعده عليه أي أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما ينطق به النذير والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذ وقرئ إذا متنا على لفظ الخبر أو على حذف أداة الإنكار «ذلك» إشارة إلى محل النزاع «رجع بعيد» أي عن الأوهام أو العادة أو الإمكان وقيل الرجع بمعنى المرجوع الذي هو الجواب فناصب الظرف حينئذ ما ينبئ عنه المنذر من البعث «قد علمنا ما تنقص الأرض منهم» زد لاستبعادهم وإزاحة له فإن من عم علمه ولطف حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا عن النبي صلى الله عليه وسلم كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب وقيل ما تنقص الأرض منهم ما يموت فيدفن في الأرض منهم «وعندنا كتاب حفيظ» حافظ لتفاصيل الأشياء كلها أو محفوظ من التغير والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شئ أو تأكيد لعلمه تعالى بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده «بل كذبوا بالحق» إضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة إلى بيان ما هو أشنع منه وافظع وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة «لما جاءهم» من غير تأمل وتفكر وقرئ لما جاءهم بالكسر على ان اللام للتوقيت أي وقت مجيئه إياهم وقيل الحق القرآن أو الإخبار بالبعث «فهم في أمر مريج» أي مضطرب لا قرارا له من مرج الخاتم في أصبعه حيث يقولون تارة إنه شاعر وتارة ساحر وأخرى كاهن «أفلم ينظروا» أي أغفلوا أو أعموا فلم ينظروا «إلى السماء فوقهم» بحيث يشاهدونها كل وقت «كيف بنيناها» أي رفعناها بغير عمد «وزيناها» بما فيها من الكواكب المرتبة على نظام بديع «وما لها من فروج» من فتوق لملاستها وسلامتها من كل عيب وخلل ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل «والأرض مددناها» أي بسطناها «وألقينا فيها رواسي» جبالا ثوابت من رسا الشيء إذا ثبت والتعبير عنها بهذا الوصف للإيذان بأن إلقاءها بإرساء الأرض بها «وأنبتنا فيها من كل زوج» من كل صنف «بهيج» حسن «تبصرة وذكرى» علتان للأفعال المذكورة معنى وإن انتصبتا بالفعل الأخير أو لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ما فعلنا تبصيرا وتذكيرا «لكل عبد منيب» أي راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنائعه
126

وقوله تعالى «ونزلنا من السماء ماء مباركا» أي كثير المنافع شروع في بيان كيفية إنبات ما ذكر من كل زوج بهيج وهو عطف على أنبتنا وما بينهما على الوجه الأخير اعتراض مقرر لما قبله ومنبه على ما بعده «فأنبتنا به» أي بذلك الماء «جنات» كثيرة أي أشجارا ذوات ثمار «وحب الحصيد» أي حب الزرع الذي شانه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات «والنخل» عطف على جنات وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية مع ما فيها من مراعاة الفواصل «باسقات» أي طوالا أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من باب أفعل فهو فاعل وقرئ باصقات لأجل القاف «لها طلع نضيد» أي منضود بعضه فوق بعض والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر والجملة حال من النخل كباسقات بطريق الترادف أو من ضميرها في باسقات على التداخل أو الحال هو الجار والمجرور وطلع مرتفع به على الفاعلية وقوله تعالى «رزقا للعباد» أي لنرزقهم علة لقوله تعالى فأنبتنا وفي تعليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة والتذكير تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أهم وأقدم من تمتعه به من حيث الرزق وقيل رزقا مصدر من معنى أنبتنا لأن الإنبات رزق «وأحيينا به» أي بذلك الماء «بلدة ميتا» أرضا جدبه لا نماء فيها أصلا بأن جعلناها بحيث ربت وأنبتت أنواع النبات والأزهار فصارت تهتز بها بعدما كانت جامدة هامدة وتذكير ميتا لأن البلدة بمعنى البلد والمكان «كذلك الخروج» جملة قدم فيها الخبر للقصد إلى القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد رتبتها أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا شيء مخالف لها وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالأحياء وعن حياة الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى أفهام الناس وقوله تعالى «كذبت قبلهم قوم نوح» الخ استئناف وارد لتقرير حقية البعث ببيان كافة الرسل عليهم السلام عليها وتعذيب منكريها «وأصحاب الرس» قيل هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام وقيل وقيل كما مر في سورة الفرقان على التفصيل «وثمود» «وعاد
وفرعون» أي هو وقومه ليلائم ما قبله وما بعده
127

«وإخوان لوط» قيل كانوا من أصهاره عليه الصلاة والسلام «وأصحاب الأيكة» هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين «وقوم تبع» سبق شرح حالهم في سورة الدخان «كل كذب الرسل» أي فيما أرسلوا به من الشرائع التي من جملتها البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة أي كل قوم من الأقوام المذكورين كذبوا رسولهم أو كذب جميعهم جميع الرسل بالمعنى المذكور وإفراد الضمير باعتبار لفظ الكل أو كل واحد منهم كذب جمع الرسل لاتفاقهم على الدعوة إلى التوحيد والإنذار بالبعث والحشر فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل وهذا على تقدير رسالة تبع ظاهر وأما على تقدير عدمها وهو الأظهر فمعنى تكذيب قومه الرسل تكذيبهم بمن قبلهم من الرسل المجمعين على التوحيد والبعث وإلى ذلك كان يدعوهم تبع «فحق وعيد» أي فوجب وحل عليهم وعيدى وهي كلمة العذاب وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم «أفعيينا بالخلق الأول» استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة والعى بالأمر العجز عنه يقال عى بالأمر وعى به إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينبئ عنه العى من القصد والمباشرة كأنه قيل أقصدنا الخلق الأول فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة «بل هم في لبس من خلق جديد» عطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل هم غير منكرين لقدرتنا على خلق الأول بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة وتنكير خلق لتفخيم شأنه والاشعار بخروجه عن حدود العادات والإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه ويهتم بمعرفته «ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه» أي ما تحدثه به نفسه وهو يخطر بالبال والوسوسة الصوت الخفي ومنه وسواس الحلى والضمير لما إن جعلت موصولة والباء كما في صوت بكذا أو للإنسان وإن جعلت مصدرية والباء للتعدية «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» أعلم بحاله ممن كان أقرب إليه من حبل الوريد عبر عن قرب العلم بقرب الذات تجوزا لأنه موجب له وحبل الوريد مثل في فرط القرب والحبل العرق وإضافته بيانية والوريدان عرقان مكتنفان بصفحتى العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه وقيل سمى وريدا لأن الروح ترده «إذ يتلقى المتلقيان» منصوب بما في أقرب من معنى الفعل والمعنى أنه لطيف يتوصل علمه إلى ما لا شيء أخفى منه وهو أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى ويتلقن الحفيظان ما يتلفظ به وفيه إيذان بأنه تعالى غنى عن استحفاظها لإحاطة علمه بما يخفى عليهما وإنما ذلك لما كتبتها وحفظهما لأعمال العبد وعرض صحائفهما يوم يقوم الأشهاد وعلم العبد بذلك مع علمه
128

بإحاطته تعالى بتفاصيل أحواله خبرا من زيادة لطف له في الكف عن السيئات والرغبة في الحسنات وعنه عليه الصلاة والسلام أن مقعد ملكيك على ثنيتيك ولسانك قلبهما وريقك مدادهما وأنت تجرى فيما لا يعنيك لا تستحى من الله ولا منهما وقد جوز أن يكون تلقى الملكين بيانا للقرب على معنى أنا أقرب إليه مطلعون على أعماله لأن حفظتنا وكتبتنا موكلون به «عن اليمين وعن الشمال قعيد» أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد أي مقاعد كالجليس بمعنى المجالس لفظا ومعنى فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قول من قال
[رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريئا ومن أجل الطوى رماني]
وقيل يطلق الفعيل على الواحد والمتعدد كما في قوله تعالى والملائكة بعد ذلك ظهير «ما يلفظ من قول» ما يرمى به من فيه من خير أو شر وقرئ ما يلفظ على البناء للمفعول «إلا لديه رقيب» ملك يرقب قوله ويكتبه فإن كان خيرا فهو صاحب اليمين بعينه وإلا فهو صاحب الشمال ووجه تغيير العنوان غنى عن البيان والإفراد مع وقوفهما معا على ما صدر عنه لما أن كلا منهما رقيب لما فوض إليه لا لما فوض إلى صاحبه كما ينبأ عنه قوله تعالى «عتيد» أي معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر ومن لم ينتبه له توهم ان معناه رقيبان عتيدان وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص واختلاف فيما يكتبانه فقيل يكتبان كل شئ حتى أنينه في مرضه وقيل إنما يكتبان ما فيه من أجر أو وزر وهو الأظهر كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر «وجاءت سكرة الموت بالحق» بعدما ذكر استبعادهم للبعث والجزاء وأزيح ذلك بتحقيق قدرته تعالى وعلمه وبين أن جميع أعمالهم محفوظة مكتوبة عليهم اتبع ذلك ببيان ما يلاقونه لا محالة من الموت والبعث وما يتفرع عليه من الأحوال والأهوال وقد عبر عن وقوع كل منها بصيغة الماضي إيذانا بتحقيقها وغاية اقترابها وسكرة الموت شدته الذاهبة بالعقل والباء إما للتعدية كما في قولك جاء الرسول بالخبر والمعنى أحضره سكرة الموت حقيقة الامر الذي نطقت به كتب الله ورسله أو حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته وقيل الحق الذي لابد أن يكون لا محالة من الموت أو الجزاء فإن الإنسان خلق له وإما للملابسة كالتي في قوله تعالى تنبت بالدهن أي ملتبسة بالحق أي بحقيقة الامر أو بالحكمة والغاية الجميلة وقرئ سكرة الحق بالموت والمعنى أنها السكرة التي كتبت على الإنسان بموجب الحكمة وأنها لشدتها توجب زهوق الروح أو تستعقبه وقيل الباء بمعنى مع وقيل سكرة الحق سكرة الله تعالى على أن الإضافة للتهويل
129

وقرئ سكرات الموت «ذلك» اى الموت «ما كنت منه تحيد» أي تميل وتنفر عنه والخطاب للإنسان فإن النفرة عنه شاملة لكل فرد من أفراده طبعا «ونفخ في الصور» هي النفخة الثانية «ذلك» أي وقت ذلك النفخ على حذف المضاف «يوم الوعيد» اى يوم إنجاز الوعيد الواقع في الدنيا أي يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود وقيل ذلك إشارة إلى الزمان المفهوم من نفخ فإن الفعل كما يدل على الحدث يدل على الزمان وتخصيص الوعيد بالذكر مع انه يوم الوعد أيضا لتهويله ولذلك بدىء ببيان حال الكفرة «وجاءت كل نفس» من النفوس البرة والفاجرة «معها سائق وشهيد» وإن اختلفت كيفية السوق والشهادة حسب اختلاف النفوس عملا أي معها ملكان أحدهما يسوقها إلى المحشر والآخر يشهد بعملها أو ملك جامع بين الوصفين كأنه قيل معها ملك يسوقها ويشهد عليها وقيل السائق كاتب السيئات والشهيد كاتب الحسنات وقيل السائق نفسه أو قرينه والشهيد جوارحه أو أعماله ومحل معها النصب على الحالية من كل لإضافته إلى ما هو في حكم المعرفة كأنه قيل كل النفوس أو
الجر على أنه وصف لنفس أو الرفع على أنه وصف لكل وقوله تعالى «لقد كنت في غفلة من هذا» محكى بإضمار قول هو إما صفة أخرى لنفس أو حال أخرى منها أو استئناف مبنى على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فماذا يفعل بها فقيل يقال لقد كنت في غفلة الخ وخطاب الكل بذلك لما أنه ما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة وقيل الخطاب للكافر وقرئ كنت بكسر التاء على اعتبار تأنيث النفس والتذكير على القراءة المشهورة بتأويل الشخص كما في قول جبلة بن حريث
* يا نفس إنك باللذات مسرورا
* فاذكر فهل ينفعك اليوم تذكير
* «فكشفنا عنك غطاءك» الغطاء الحجاب المغطى لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والألف بها وقصر النظر عليها «فبصرك اليوم حديد» نافذ لزوال المانع للإبصار وقرئ بكسر الكاف المواضع الثلاثة «وقال قرينه» اى الشيطان المقيض له مشيرا إليه «هذا ما لدي عتيد» أي هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم قد هيأته لها بإغوائي وإضلالي وقيل قال الملك الموكل به مشيرا إلى ما معه من كتاب عمله هذا مكتوب عندي عتيد مهيأ للعرض وما إن جعلت موصوفة فعتيد صفتها وإن جعلت موصولة فهي بدل منها أو خبر بعد خبر أو خبر لمبتدأ محذوف «ألقيا في جهنم كل كفار» خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد أو للملكين من خزنة النار
130

أو لواحد على تنزيل تثنية الفاعل تثنية الفعل وتكريره كقول من قال
[فإن تزجرانى يا ابن عفان أنزجر * وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا]
أو على أن الألف بدل من نون التأكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف ويؤيده أنه قرىء ألقين بالنون الخفية «عنيد» معاند للحق «مناع للخير» كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضة وقيل المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه منه «معتد» ظالم متخط للحق «مريب» شاك في الله وفي دينه «الذي جعل مع الله إلها آخر» مبتدأ متضمن لمعنى الشرط خبره «فألقياه في العذاب الشديد» أو بدل من كل كفار وقوله تعالى فألقياه تكرير للتوكيد أو مفعول لمضمر يفسره فألقياه «قال قرينه» أي الشيطان المقيض له وإنما استؤنف استئناف الجمل الواقعة في حكاية المقاولة لما أنه جواب لمحذوف دل عليه قوله تعالى «ربنا ما أطغيته» فإنه منبىء عن سابقة كلام اعتذر به الكافر كأنه قال هو أطغاني فأجاب قرينه بتكذيبه وإسناد الطغيان إليه بخلاف الجملة الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها دلالة على أن الجمع بين مفهوميهما في الحصول أعنى مجىء كل نفس مع الملكين وقول قرينه «ولكن كان» هو بالذات «في ضلال بعيد» من الحق فأعنته عليه بالإغواء والدعوة إليه من غير فسر وإلجاء كما في قوله تعالى وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي «قال» استئناف مبنى على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فماذا قال الله تعلى فقيل قال «لا تختصموا لدي» أي في موقف الحساب والجزاء إذ لا فائدة في ذلك «وقد قدمت إليكم بالوعيد» على الطغيان في دار الكسب في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلا تطعموا في الخلاص عنه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة والجملة حال فيها تعليل للنهي على معنى لا تختصموا وقد صح عندكم أنى قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجميعن فاتبعوه معرضين عن الحق فلا وجه للاختصام في هذا الوقت والباء مزيدة أو معدية على ان قدم بمعنى تقدم وقد جوز أن يكون قدمت واقعا على قوله تعالى «ما يبدل القول لدي» الخ ويكون الوعيد متعلقا بمحذوف هو حال من المفعول أو الفاعل أي وقد قدمت إليكم هذا القول ملتبسا بالوعيد مقترنا به أو قدمته إليكم موعدا لكم به فلا تطمعوا أن أبدل وعيدى والعفو عن بعض المذنبين لأسباب داعية إليه ليس بتبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد وقوله تعالى «وما أنا بظلام للعبيد» وارد لتحقيق الحق على الوجه
131

الكلى وتبين أن عدم تبديل القول وتحقيق موجب الوعيد ليس من جهته تعالى من غير استحقاق له منهم بل إنما ذلك بما صدر عنهم من الجنايات الموجبة له حسبما أشير إليه آنفا أي وما انا بمعذب للعبيد بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظلما مفرطا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم وقيل هي لرعاية جميعه العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده على أنها مبالغة كما لا كيف «يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد» سؤال وجواب جيء بهما على منهاج التمثيل والتخييل لتهويل أمرها ولمعنى أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها تطرح فيها من الجنة والناس فوجا بعد فوج حتى تمتلئ أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد محل فارغ أو انها لغيظها عى العصاة تطلب زيادتهم وقرئ يقول بالياء والمزيد إما مصدر كالمحيد والمجيد أو مفعول كالمبيع ويوم إما منصوب باذكر أو أنذر أو ظرف لنفخ فتكون ذلك حينئذ إشارة إليه من غير حاجة إلى تقرير مضاف أو لمقدر مؤخر اى يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال «وأزلفت الجنة للمتقين» شروع في بيان حال المؤمنين بعد النفخ ومجئ النفوس إلى موقف الحساب وقد مر سر تقديم حال الكفرة عليه وهو عطف على نفخ أي قربت للمتقين عن الكفر والمعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيبتهجون بأنهم محشورون إليها فائزون بها وقوله تعالى «غير بعيد» تأكيد للإزلاف أي مكانا غير بعيد بحيث يشاهدونها أو حال كونها غير بعيد أي شيئا غير بعيد ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر الذي يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث أو لتأويل الجنة بالبستان «هذا ما توعدون» إشارة إلى الجنة والتذكير لما أن المشار إليه هو المسمى من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ العربي كما مر في قوله تعالى فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي وقوله تعالى ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ويجوز أن يكون ذلك لتذكير الخبر وقيل هو إشارة إلى ثواب وقيل إلى مصدر أزلفت وقرئ يوعدون والجملة إما اعتراض بين البدل والمبدل منه وإما مقدر بقول هو حال من المتقين أو من الجنة والعامل أزلفت أي مقولا لهم أو مقولا في حقها هذا ما توعدون «لكل أواب» أي رجاع إلى الله تعالى بدل من المتقين بإعادة الجار «حفيظ» حافظ لتوبته من
النقص وقيل هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها وقيل هو الحافظ لأوامر الله تعالى وقيل لما استودعه الله تعالى من حقوقها
132

«من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب» بدل بعد بدل أو بدل من موصوف أواب ولا يجوز أن يكون في حكمه لأن من لا يوصف به ولا يوصف إلا بالذي أو مبتدأ خبره «ادخلوها» بتأويل يقال لهم ادخلوها والجمع باعبتار معنى من قوله تعالى بالغيب متعلق بمحذوف هو حال من فاعل خشي أو مفعوله أو صفة لمصدره أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب عن الأعين لا يراه أحد والتعرض لعنوان الرحمانية للإشارة بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته أو بان علمهم بسعة رحمته تعالى لا يصدهم عن خشيته تعالى وأنهم عاملون بموجب قوله تعالى نبىء عبادي أنى أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ووصف القلب بالإنابة لما أن العبرة برجوعه إلى الله تعالى «بسلام» متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادخلوها أي ملتبسين بسلامة من العذاب وزوال النعم أو بسلام من جهة الله تعالى وملائكته «ذلك» إشارة إلى الزمان الممتد الذي وقع في بعض منه ما ذكر من الأمور «يوم الخلود» إذ لا انتهاء له أبدا «لهم ما يشاؤون» من فنون المطالب كائنا ما كان «فيها» متعلق بيشاؤن وقيل بمحذوف هو حال من الموصول أو من عائده المحذوف من صلته «ولدينا مزيد» هو مالا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالى الكرامات التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقيل إن السحاب تمر باهل الجنة فتمطرهم الحور فتقول نحن المزيد الذي قال تعالى ولدينا مزيد «وكم أهلكنا قبلهم» أي قبل قومك «من قرن هم أشد منهم بطشا» أي قوة كعاد وأضرابها «فنقبوا في البلاد» أي خرقوا فيها ودوخوا وتصرفوا في أقطارها أو جالوا في أكناف الأرض كل مجال حذار الموت واصل التنقيب والنقب التنقير عن الأمر والبحث والطلب والفاء للدلالة على ان شدة بطشهم أقدرتهم على التنقيب قيل هي عاطفة في المعنى كأنه قيل أشتد بطشهم فنقبوا الخ وقرئ بالتخفيف «هل من محيص» أي هل لهم من مخلص من أمر الله تعالى والجملة إما على إضمار قول هو حال من واو نقبوا أي فنقبوا في البلاد قائلين هل من محيص أو على إجراء التنقيب لما فيه من معنى التتبع والتفتيش مجرى القول أو هو كلام مستأنف وارد لنفى أن يكون لهم محيص وقيل ضمير نقبوا لأهل مكة أي ساروا في مسايرهم وأسفارهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم ويعضده القراءة على صيغة الأمر وقرئ فنقبوا بكسر القاف من النقب وهو أن ينتقب خف البعير أي أكثروا السير حتى نقبت أقدامهم أو أخفاف إبلهم
133

«إن ذلك» أي فيما ذكر من قصتهم وقيل فيما ذكر في السورة «لذكري» لتذكرة وعظة «لمن كان له قلب» أي قلب سليم يدرك به كنه ما يشاهده من الأمور ويتفكر فيها كما ينبغي فإن من كان له ذلك يعلم أن مدار دمارهم هو الكفر فيرتدع عنه بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير «أو ألقى السمع» أي إلى ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم فإن من فعله يقف على جلية الأمر فيزجر عما يؤدى إليه من الكفر فكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع فإن إلقاء السمع لا يجدى بدون سلامة القلب كما يلوح به قوله تعالى «وهو شهيد» أي حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب وتجريد القلب عما ذكر من الصفات للإيذان بأن من عرى قلبه عنها كمن لا قلب له أصلا «ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما» من أصناف المخلوقات «في ستة أيام وما مسنا» بذلك مع كونه مما لا يفي به القوى والقدر «من لغوب» من إعياء ما ولا تعب في الجملة وهذا رد على جهلة اليهود في زعمهم أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا «فاصبر على ما يقولون» أي ما يقوله المشركون في شأن البعث من الأباطيل المبنية على الإنكار والاستبعاد فإن من فعل هذه الأفاعيل بلا فتور قادر على بعثهم والانتقام منهم أو ما يقوله اليهود من مقالات الكفر والتشبيه «وسبح بحمد ربك» أي نزهه تعالى عن العجز عما يمكن وعن وقوع الخلف في إخباره التي من جملتها الإخبار بوقوع البعث وعن وصفه تعالى بما يوجب التشبيه حامدا له تعالى على ما أنعم به عليك من إصابة الحق وغيرها «قبل طلوع الشمس وقبل الغروب» هما وقت الفجر والعصر وفضيلتهما مشهورة «ومن الليل فسبحه» وسبحه بعض الليل «وأدبار السجود» وأعقاب الصلوات جمع دبر وقرئ بالكسر من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت ومعناه وقت انقضاء السجود وقيل المراد بالتسبيح الصلوات فالمراد بما قبل الطلوع صلاة الفجر وبما قبل الغروب الظهر والعصر وبما من الليل العشاءان والتهجد وما يصلى بأدبار السجود النوافل بعد المكتوبات «واستمع» أي لما يوحى إليك من أحوال القيامة وفيه تهويل وتفظيع للمخبر به «يوم يناد المناد» أي إسرافيل أو جبريل عليهما السلام فيقول أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادى بالحشر «من مكان قريب» بحيث يصل
134

نداؤه إلى الكل على سواء وقيل من صخرة بيت المقدس وقيل من تحت أقدامهم وقيل من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة ولعل ذلك في الإعادة مثل كن في البدء «يوم يسمعون الصيحة» بدل من يوم ينادى الخ وهى النفخة الثانية «بالحق» متعلق بالصيحة والعامل في الظرف ما يدل عليه قوله تعالى «ذلك يوم الخروج» أي يوم يسمعون الصيحة ملتبسة بالحق الذي هو البعث يحرجون من القبور «إنا نحن نحيي ونميت» في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد «وإلينا المصير» للجزاء في الآخرة لا إلى غيرنا لا استقلا ولا اشتراكا «يوم تشقق الأرض عنهم» بحذف إحدى التاءين من تتشقق وقرئ بتشديد الشين وتشقق على البناء للمفعول من التفعيل وتنشق «سراعا» مسرعين «ذلك حشر» بعث وجمع وسوق «علينا يسير» أي هين وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به تعالى «نحن أعلم بما يقولون» من نفى البعث وتكذيب الآيات الناطقة به وغير ذلك مما لا خير فيه «وما أنت عليهم بجبار» بمتسلط تقسرهم على الإيمان أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت مذكر «فذكر بالقرآن من يخاف وعيد» وأما من عداهم فنحن نفعل بهم ما توحيه أقوالهم وتستدعيه أعمالهم من ألوان العقاب وفنون العذاب عن النبي عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة ق هون الله عليه ثأرات الموت وسكراته
135

«بسم الله الرحمن الرحيم» «والذاريات ذروا» أي الرياح التي تذرو التراب وغيرها وقرئ بإدغام التاء في الذال «فالحاملات وقرا» أي السحب الحاملة للمطر أو الرياح الحاملة للسحاب وقرئ وقرا على تسمية المحمول بالمصدر «فالجاريات يسرا» أي السفن الجارية في البحر أو الرياح الجارية في مهابها أو السحب الجارية في
الجو بسوق الرياح أو الكواكب الجارية في مجاريها ومنازلها ويسرا صفة لمصدر محذوف أي جريا ذا يسر «فالمقسمات أمرا» أي الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها أو السحب التي يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد وقد جوز أن يراد بالكل الرياح تنزيلا لاختلاف العنوان منزلة اختلاف الذات فإنها كما تذر وما تذروه تثير السحاب وتحمله وتجرى في الجو جريا سهلا وتقسم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار فإن حملت الأمور المقسم بها على ذوات مختلفة فالفاء لترتيب الأقسام باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة وإلا فهي لترتيب ما صدر عن الريح من الأفاعيل فإنها تذر الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحابا فتجرى به باسطة له إلى ما أمرت به فتقسم المطر وقوله تعالى «إنما توعدون لصادق» «وإن الدين لواقع» جواب للقسم وفى تحصيص الأمور المذكورة بالأقسام بها رمز إلى شهادتها بتحقق مضمون الجملة المقسم عليها من حيث أنها أمور بديعة مخالفة لمقتضى الطبيعة فمن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود وما موصولة أو مصدرية ووصف الوعد بالصدق كوصف العيشة بالرضا والدين الجزاء ووقوعه حصوله
136

«والسماء ذات الحبك» قال ابن عباس وقتادة وعكرمة ذات الخلق المستوى وقال سعيد بن جبير ذات الزينة وقال مجاهد هي المتقنة البنيان وقال مقاتل والكلبي والضحاك ذات الطرائق والمراد إما الطرائق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو المعقولة التي يسلكها النظار أو النجوم فإن لها طرائق وعن الحسن حبكها نجومها حيث تزينها كما تزين الموشى طرائق الوشى وهى إما جمع حباك أو حبيكة كمثال ومثل وطريقة وطرق وقرئ الحبك بوزن السلك والحبك كالجبل والحبك كالبرق والحبك كالنعم والحبك كالإبل «إنكم لفي قول مختلف» أي متخالف متناقض وهو قولهم في حقه عليه الصلاة والسلام تارة شاعر وأخرى ساحر وأخرى مجنون وفى شأن القرآن الكريم تارة شعر وأخرى سحر وأخرى أساطير وفى هذا الجواب تأييد ليكون الحبك عبارة عن الاستواء كما يلوح به ما نقل عن الضحاك من ان قول الكفرة لا يكون مستويا إنما هو متناقض مختلف وقيل النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافى أغراضها بطرائق السماوات في تباعدها واختلاف غاياتها وليس بذاك «يؤفك عنه من أفك» أي يصرف عن القرآن أو الرسول عليه الصلاة والسلام من صرف إذ لا صرف أفظع منه وأشد وقيل يصرف عنه من صرف في علم الله تعالى وقضائه ويجوز أن يكون الضمير للقول المختلف على معنى يصدر إفك من أفك عن ذلك القول وقريء من إفك عن ذلك القول وقرئ من افك أي من أفك الناس وهم قريش حيث كانوا يصدون الناس عن الإيمان «قتل الخراصون» دعاء عليهم كقوله تعالى قتل الإنسان ما أكفره وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ثم جرى مجرى لعن والخراصون الكذابون المقدرون ما لا صحة له وهم أصحاب القول المختلف كأنه قيل قتل هؤلاء الخراصون وقرئ قتل الخراصين أي قتل الله «الذين هم في غمرة» من الجهل والضلال «ساهون» غافلون عما أمروا به «يسألون أيان يوم الدين» أي متى وقوع يوم الجزاء لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة بل بطريق الاستعجال استهزاء وقرئ إيان بكسر الهمزة «يوم هم على النار يفتنون» جواب للسؤال أي يقع يوم هم على النار يحرقون
137

ويعذبون ويجوز أن يكون يوم خبرا لمبتدأ محذوف أي هو يوم هم الخ والفتح لإضافة إلى غير متمكن ويؤيده أنه قرىء بالرفع «ذوقوا فتنتكم» أي مقولا لهم هذا القول وقوله تعالى «هذا الذي كنتم به تستعجلون» جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر أي هذا ما كنتم تستعجلون به بطريق الاستهزاء ويجوز أن يكون هذا بدلا من فتنتكم بتأويل العذاب والذي صفته «إن المتقين في جنات وعيون» لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها «آخذين ما آتاهم ربهم» أي قابلين لما أعطاهم راضين به على معنى أن كل ما آتاهم حسن مرضى يتلقى بحسن القبول «إنهم كانوا قبل ذلك» في الدنيا «محسنين» أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك نالوا ما نالوا من الفوز العظيم ومعنى الإحسان بالإجمال ما أشار إليه عليه الصلاة والسلام بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وقد فسر بقوله تعالى «كانوا قليلا من الليل ما يهجعون» أي كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل على أن قليلا ظرف أو كانوا يهجعون هجوعا قليلا على أنه صفة للمصدر وما مزيدة في الوجهين ويجوز أن تكون مصدرية أو موصولة مرتفعة بقليلا على الفاعلية أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم أو ما يهجعون فيه وفيه للمبالغات في تقليل نومهم واسراحتهم ذكر القليل والليل الذي هو وقت الراحة والهجوع الذي هو الغرار من النوم وزيادة ما ولا مساغ لجعل ما نافية على معنى أنهم لا يهجعون من الليل قليلا بل يحيونه كله لما أن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها «وبالأسحار هم يستغفرون» أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا ليلهم باقتراف الجرائم وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه «وفي أموالهم حق» أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى واشفاقا على الناس «للسائل والمحروم» للمستجدى والمتعفف الذي يحسبه الناس غنيا فيحرم الصادقة «وفي الأرض آيات للموقنين» أي دلائل واضحة على شؤونه تعالى على التفاصيل من حيث أنها مدحوة
138

كالبساط الممهد وفيها مسالك وفجاج للمتقلبين في أقطارها والسالكين في مناكبها وفيها سهل وجبل وبر وبحر وقطع متجاورات وعيون متفجرة ومعادن مفتنة وأنها تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار وأصناف الثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح وفيها دواب منبثة قد رتب كلها ودبر لمنافع ساكنها ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم «وفي أنفسكم» أي وفي أنفسكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي الأنفس له نظير يدل دلالته على ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة «أفلا تبصرون» اى ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة «وفي السماء رزقكم» أي أسباب رزقكم أو تقديره وقيل المراد بالسماء السحاب وبالرزق المطر فإنه سبب الأقوات «وما توعدون» من الثواب لأن الجنة في السماء السابعة أو لأن الأعمال وثوابها مكتوبة مقدرة في السماء وقيل إنه مبتدأ خبره قوله تعالى «فورب السماء والأرض إنه لحق» على أن الضمير لما وأما على الأول فأماله وأما لما ذكر من أمر الآيات والرزق على انه مستعار لاسم الإشارة «مثل ما أنكم تنطقون» أي كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقيته ونصبه على الحالية من المستكن في لحق أو على انه وصف لمصدر محذوف اى أنه لحق حقا مثل نطقكم وقيل إنه مبنى على الفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت عبارة عن شيء وأن
بما في حيزها إن جعلت زائدة ومحله الرفع على انه صفة لحق ويؤيده القراءة بالرفع «هل أتاك حديث ضيف إبراهيم» تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير طريق الوحي والضيف في الأصل مصدر ضافه ولذلك يطلق على الواحد والجماعة كالزور والصوم وكانوا اثنى عشر ملكا وقيل تسعة عاشرهم جبريل وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وملك آخر معهما عليهم السلام وتسميتهم ضيفا لأنهم كانوا في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم عليه السلام أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك «المكرمين» أي المكرمين عند الله تعالى أو عند إبراهيم حيث خدمهم بنفسه وبزوجته «إذ دخلوا عليه» طرف للحديث أو لما في الضيف من معنى الفعل أو المكرمين إن فسر بإكرام إبراهيم «فقالوا سلاما» أي نسلم عليك سلاما «قال» اى إبراهيم «سلام» أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء للقصد إلى الثبات والدوام حتى تكون تحيته عليه الصلاة والسلام
139

أحسن من تحيتهم وقرئا مرفوعين وقرئ سلم وقرئ منصوبا والمعنى واحد «قوم منكرون» أنكرهم عليه الصلاة والسلام للسلام الذي هو علم للإسلام أو لأنهم ليسوا ممن عهدهم من الناس أو لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس ولعله عليه الصلاة والسلام إنما قاله في نفسه من غير أن يشعرهم بذلك لا أنه خاطبهم به جهرا أو سألهم أن يعرفوه أنفسهم كما قيل وإلا لكشفوا أحوالهم عند ذلك ولم يتصد عليه الصلاة والسلام لمقدمات الضيافة «فراغ إلى أهله» أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه فإن من أدب المضيف أن يبادره بالقرى ويبادر به حذارا من ان يكفه ويعذره أو يصير منتظرا والفاء في قوله تعالى «فجاء بعجل سمين» فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بكمال سرعة المجىء بالطعام كما في قوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق أي فذبح عجلا فحنذه فجاء به «فقربه إليهم» بأن وضعه لديهم حسبما هو المعتاد «فقال ألا تأكلون» إنكارا لعدم تعرضهم للأكل «فأوجس منهم» أضمر في نفسه «خيفة» لتوهم أنهم جاؤوا للشر وقيل وقع في قلبه أنهم ملائكة جاؤوا للعذاب «قالوا لا تخف» قيل مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يندرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم «وبشروه» وفي سورة الصافات وبشرناه أي بواسطتهم «بغلام» هو إسحاق عليه السلام «عليم» عنه بلوغه واستوائه «فأقبلت امرأته» سارة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم «في صرة» في صيحة من الصرير ومحله النصب على الحالية أو المفعولية إن جعل أقبلت بمعنى أخذت كما يقال أقبل يشتمني «فصكت وجهها» أي لطمته من الحياء لما أنها وجدت حرارة دم الطمث وقيل ضربت بأطراف أصابعها جبينها كما يفعله المتعجب «وقالت عجوز عقيم» أي أنا عجوز عاقر فكيف ألد «قالوا كذلك» مثل ذلك القول الكريم «قال ربك» وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه تعالى لا أنا نقوله من تلقاء أنفسنا «إنه هو الحكيم العليم» فيكون قوله حقا وفعله متقنا لا محالة روي أن جبريل عليه السلام قال لها انظري إلى سقف بيتك فنظرت فذا جذوعه مورقة مثمرة ولم تكن هذه المفاوضة مع سارة فقط بل مع إبراهيم عليه السلام أيضا حسبما شرح في سورة الحجر وإنما يذكر ههنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاء بما ذكر ههنا وفي سورة هود قال
140

أي إبراهيم عليه السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر «فما خطبكم» أي ما شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة «أيها المرسلون» «قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين» يعنون قوم لوط «لنرسل عليهم» أي بعد ما قلبنا قراهم وجعلنا عاليها سافلها حسبما فصل في سائر السور الكريمة «حجارة من طين» أي طين متحجر هو السجيل «مسومة» مرسلة من أسمت الماشية أي أرسلتها أو معلمة من المسومة وهى العلامة وقد مر تفصيله في سورة هود «عند ربك للمسرفين» المجاوزين الحد في الفجور وقوله تعالى «فأخرجنا» الخ حكاية من جهته تعالى لما جرى على قوم لوط عليه السلام بطريق الإجمال بعد حكاية ما جرى بين الملائكة وبين إبراهيم عليه السلام من الكلام والفاء فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بذكرها في مواضع أخر كأنه قيل فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا فأسر بأهلك الخ «من كان فيها» أي في قرى قوم لوط وإضمارها بغير ذكر لشهرتها «من المؤمنين» ممن آمن بلوط «فما وجدنا فيها غير بيت» أي غير أهل بيت «من المسلمين» قيل هم قوم لوط وابنتاه وقيل كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر «وتركنا فيها» آي في القرية «آية» أي علامة دالة على ما أصابهم من العذاب قيل هي تلك الأحجار أو صخر منضود فيها أو ماء منتن «للذين يخافون العذاب الأليم» أي من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوى القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها ولا يعدونها آية «وفي موسى» عطف على قوله تعالى وفى الأرض أو على قوله تعالى وتركنا فيها آية على معنى وجعلنا في موسى أية كقول من قال علفتها تبنا وماءا باردا «إذ أرسلنا» قيل هو منصوب بآية وقيل بمحذوف أي كائنة وقت إرسالنا وقيل بتركنا «إلى فرعون بسلطان مبين» هو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة «فتولى بركنه» أي فأعرض عن الإيمان به وأزور كقوله تعالى ونأى بجانبه
141

وقيل فتولى بما يتقوى به من ملكه وعساكره فإن الركن اسم لما يركن إليه الشيء وقرئ بركنه بضم الكاف «وقال ساحر» أي هو ساحر «أو مجنون» كأنه نسب ما ظهر على يديه عليه الصلاة والسلام من الخوارق العجيبة إلى الجن وتردد في أنه حصل باختياره وسعيه أو بغيرهما «فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم» وفيه امن الدلالة على غاية عظم شأن القدرة الربانية ونهاية قمأة فرعون وقومه «وهو مليم» أي آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان والجملة حال من الضمير في فأخذناه «وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم» وصفت بالعقم لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم أو لأنها لم تتضمن خيرا ما من إنشاء مطر أو إلقاح شجر وهي النكباء أو الدبور أو الجنوب «ما تذر من شيء أتت عليه» اى جرت عليه «إلا جعلته كالرميم» هو كل مارم وبلي وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك «وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين» وهو قوله تعالى تمتعوا في داركم ثلاثة أيام قيل قال لهم صالح عليه السلام تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب «فعتوا عن أمر ربهم» أي فاستكبروا عن الامتثال به «فأخذتهم الصاعقة» قيل لما رأوا العلامات إلي بينها صالح عليه السلام من اصفرار وجوههم واحمرارها واسودادها عمدوا إلى قتله عليه السلام فنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصيحة فهلكوا وقرئ الصعقة وهي المرة من الصعق «وهم ينظرون» إليها ويعاينونها «فما استطاعوا من قيام» كقوله تعالى فأصبحوا في دارهم جاثمين «وما كانوا منتصرين» بغيرهم كما لم يمتنعوا بأنفسهم «وقوم نوح
» أي وأهلكنا قوم نوح فإن ما قبله يدل عليه أو واذكر ويجوز أن يكون معطوفا على محل عاد ويؤيده القراءة بالجر وقيل هو معطوف على مفعول فأخذناه «من قبل» أي من قبل هؤلاء المهلكين «إنهم كانوا قوما فاسقين» خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي «والسماء بنيناها بأيد» أي بقوة «وإنا لموسعون»
142

لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة والموسع القادر على الإنفاق أو لموسعون السماء أو ما بينها وبين الأرض أو الرزق «والأرض فرشناها» مهدناها وبسطناها ليستقروا عليها «فنعم الماهدون» أي نحن «ومن كل شيء» أي من الأجناس «زوجين» أي نوعين ذكرا وأنثى متقابلين السماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر ونحو ذلك «لعلكم تذكرون» أي فعلنا ذلك كله كي تتذكروا فتعرفوا أنه خالق الكل ورازقه وأنه المستحق للعبادة وأنه قادر على إعادة الجميع فتعملوا بمقتضاه وقوله تعالى «ففروا إلى الله» مقدر لقول خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين والفاء إما لترتيب الأمر على ما حكى من أثار غضبه الموجبة للفرار منها ومن أحكام رحمته المستدعية للفرار إليها كأنه قيل قل لهم إذا كان الأمر كذلك فاهربوا إلى الله الذي هذه شؤونه بالإيمان والطاعة كي تنجوا من عقابه وتفوزوا بثوابه وإما للعطف على جملة مقدرة مترتبة على قوله تعالى لعلكم تذكرون كأنه قيل قل لهم فتذكروا ففروا إلى الله الخ وقوله تعالى «إني لكم منه نذير مبين» تعليل للأمر بالفرار إليه تعالى أو لوجوب الامتثال به فإن كونه عليه الصلاة والسلام منذرا منه تعالى موجب عليه عليه الصلاة والسلام أن يأمرهم بالفرار إليه وعليهم أن يمتثلوا به أي إني لكم من جهته تعالى منذر بين كونه منذرا أو مظهر لما يجب إظهاره من العذاب المنذر به وفي أمره تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم بان يأمرهم بالهرب إليه تعالى من عقابه وتعليله بأنه عليه الصلاة والسلام ينذرهم من جهته تعالى لا من تلقاء نفسه وعد كريم بنجاتهم من المهروب وفوزهم بالمطلوب وقوله تعالى «ولا تجعلوا مع الله إلها آخر» نهى موجب للفرار من سبب العقاب بعد الأمر بالفرار من نفسه كما يشعر به قوله تعالى إني لكم منه أي من الجعل المنهى عنه «نذير مبين» فإن تعلق كلمة من بالإنذار مع كون صلته الباء بتضمينه معنى الإفرار يقال فر منه أي هرب وأفره غيره كأنه قيل وفروا من أن تجعلوا معه تعالى اعتقادا أو قولا إلها آخر وفيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى لكن لا بطريق التكرير كما قيل بل بالنهى عن سببه وإيجاب الفرار «كذلك» أي الأمر مثل ما ذكر من تكذيبهم الرسول وتسميتهم له ساحرا أو مجنونا وقوله تعالى «ما أتى الذين من قبلهم» الخ تفسير له أي ما أتاهم «من رسول» من رسل الله «إلا قالوا» في حقه «ساحر أو مجنون» ولا سبيل إلى انتصاب الكاف بأتى لامتناع عمل ما بعد
143

ما النافية فيما قبلها «أتواصوا به» إنكار وتعجيب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء فضلا عن التفوه بها أي أوصى بهذا القول بعضهم بعضا حتى اتفقوا عليه وقوله تعالى «بل هم قوم طاغون» إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك وإثبات لكونه أمرا أقبح من التواصى وأشنع منه من الطغيان الشامل للكل الدال على ان صدور تلك الكلمة الشنيعة عن كل واحد منهم بمقتضى جبلته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك من غير أن يكون ذلك مقتضى طباعهم «فتول عنهم» فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الإباء «فما أنت بملوم» على التولي بعد ما بذلت المجهود وجاوزت في الإبلاغ كل حد معهود «وذكر» أي أفعل التذكير والموعظة ولا تدعهما بالمرة أو فذكرهم وقد حذف الضمير لظهور الأمر «فإن الذكرى تنفع المؤمنين» أي الذين قدر الله تعالى إيمانهم أو الذين آمنوا بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن كون خلقهم مغيا بعبادته تعالى مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ ولعل تقديم خلق الجن في الذكر لتقدمه على خلق الإنس في الوجود ومعنى خلقهم لعبادته تعالى خلقهم مستعدين لها ومتمكنين منها أتم استعداد وأكمل تمكن مع كونها مطلوبة منهم بتنزيل ترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات جليلة مما لا نزاع فيه قطعا كيف لا وهى رحمة منه تعالى وتفضل على عباده وإنما الذي لا يليق بجنابه عز وجل تعليلها بالغرض بمعنى الباعث على الفعل بحيث لولاه لم يفعله لإفضائه إلى استكماله بفعله وهو الكامل بالفعل من كل وجه واما بمعنى نهاية كمالية يفضى إليها فعل الفاعل الحق فغير منفى من أفعاله تعالى بل كلها جارية على المنهاج وعلى هذا الاعتبار يدور وصفه تعالى بالحكمة ويكفى في تحقق معنى التعليل على ما يقوله الفقهاء ويتعارفه أهل اللغة هذا المقدار وبه يتحقق مدلول اللام وأما إرادة الفاعل لها فليست من مقتضيات اللام حتى يلزم من عدم صدور العبادة عن البعض تخلف المراد عن الإرادة فإن تعوق البعض عن الوصول إلى الغاية مع تعاضد المبادئ وتآخذ المقدمات الموصلة إليها لا يمنع كونها غاية كما في قوله تعالى كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ونظائره وقيل المعنى إلا ليؤمروا بعبادتي كما في قوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا وقيل المراد سعداء الجنسين كما أن المراد
144

بقوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس أشقياؤهما ويعضده قراءة من قرأ وما خلقت الجن والأنس من المؤمنين وقال مجاهد واختاره البغوي معناه إلا ليعرفوه ومداره قوله صلى الله عليه وسلم فيما يحيكه عن رب العزة كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لأعرف ولعل السر في التعبير عن المعرفة بالعبادة على طريق إطلاق اسم السبب على المسبب التنبيه على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة «ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون» بيان لكون شأنه تعالى مع عباده متعاليا عن أن يكون كشأن السادة مع عبيدهم حيث يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وتهيئة ارزاقهم أي ما أريد أن اصرفهم في تحصيل رزقي ولا رزقهم بل أتفضل عليهم برزقهم وبما يصلحهم ويعيشهم من عندي فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي «إن الله هو الرزاق» الذي يرزق كل ما يفتقر إلى الرزق وفه تلويح بأنه غنى عنه وقرئ إني انا الرزاق «ذو القوة المتين» بالرفع على أنه نعت للرزاق أو لذو أو خبر بعد خبر أو خبر لمضمر وقرئ بالجر على أنه وصف للقوة على تأويل الاقتدار أو الأيد «فإن للذين ظلموا» أي ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وضعوا مكان التصديق تكذيبا وهم أهل مكة «ذنوبا» أي نصيبا وافرا من العذاب «مثل ذنوب أصحابهم» مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكية وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب وهو الدلو العظيم المملوء «فلا يستعجلون» أي لا يطلبوا منى أن أعجل في المجىء به يقال استعجله أي حثه على العجلة وأمره بها ويقال استعجله أي
طلب وقوعه بالعجلة ومنه قوله تعالى أتى أمر الله فلا تستعلجوه وهو جواب لقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين «فويل للذين كفروا» وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وإشعارا بعلة الحكم والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذابا عظيما كما ان الفاء الأولى لترتيب النهى عن الاستعجال على ذلك ومن في قوله تعالى «من يومهم الذي يوعدون» للتعليل أي يوعدونه من يوم بدر وقيل يوم القيامة وهو الأنسب بما في صدر السورة الكريمة الآتية والأول هو الأوفق لما قبله من حيث أنهما من العذاب الدنيوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ والذاريات أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا
145

«بسم الله الرحمن الرحيم» «والطور» الطور بالسريانية الجبل والمراد به طور سنين وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه السلام كلام الله تعالى «وكتاب مسطور» مكتوب على وجه الانتظام فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة والمراد بن القرآن أو ألواح موسى عليه السلام وهو الأنسب بالطور أو ما يكتب في اللوح أو ما يكتبه الحفظة «في رق منشور» الرق الجلد الذي يكتب فيه استعير لما يكتب فيه الكتاب من الصحيفة وتنكيرهما للتفخيم أو للإشعار بأنهما ليسا مما يتعارفه الناس «والبيت المعمور» أي الكعبة وعمارتها بالحجاج والعمار والمجاورين أو الضراح وهو في السماء الرابعة وعمرانه كثرة غاشيته من الملائكة «والسقف المرفوع» أي السماء ولا يخفى حسن موقع العنوان المذكور «والبحر المسجور» أي المملوء وهو البحر المحيط أو الموقد من قوله تعالى وإذا البحار سجرت فالمراد به الجنس روى أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة نارا يسجر بها نار جهنم «إن عذاب ربك لواقع» أي لنازل حتما جواب للقسم وقوله تعالى «ما له من دافع» إما خبر ثان لأن أو صفة لواقع ومن دافع إما مبتدأ للظرف أو مرتفع به على الفاعلية ومن مزيدة للتأكيد وتخصيص هذه الأمور بالإقسام بها لما انها أمر عظام تنبىء عن عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته الدالة على إحاطته تعالى بتفاصيل
146

أعمال العباد وضبطها الشاهدة بصدق أخباره التي من جملتها الجملة المقسم عليها وقوله تعالى «يوم تمور السماء مورا» ظرف لواقع مبين لكيفية الوقوع منبىء عن كمال هوله وفظاعته والمور الاضطراب والتردد ف المجىء والذهاب وقيل هو تحرك في تموج قيل تدور السماء كما تدور الرحا وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وقيل تختلف أجزاؤها «وتسير الجبال سيرا» أي تزول عن وجه الأرض فتصير هباء وتأكيد الفعلين بمصدريهما للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي مورا عجيبا وسيرا بديعا لا يدرك كنههما «فويل يومئذ للمكذبين» أي إذا وقع ذلك أو إذا كان الأمر كما ذكر فويل يوم إذ يقع ذلك لهم «الذين هم في خوض» أي اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب «يلعبون» يلهون «يوم يدعون إلى نار جهنم دعا» أي يدفعون إليها دفعا عنيفا شديدا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى اقدامهم فيدفعون إلى النار وقرئ يدعون من الدعاء فيكون دعا حالا بمعنى مدعوعين ويوم إما بدل من يوم تمور أو ظرف لقول مقدر قبل قوله تعالى «هذه النار التي كنتم بها تكذبون» أي يقال لهم ذلك ومعنى التكذيب بها تكذيبهم بالوحي الناطق بها وقوله تعالى «أفسحر هذا» توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحرا كأنه قيل كنتم تقولون للقرآن الناطق بهذا سحر فهذا أيضا سحر وتقديم الخبر لأنه محط الإنكار ومدار التوبيخ «أم أنتم لا تبصرون» أي أم أنتم عمى عن المخبر عنه كما كنتم عميا عن الخبر أو أم سدت أبصاركم كما سدت في الدنيا على زعمكم حيث كنتم تقولون إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون «اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا» أي ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه «سواء عليكم» أي الأمران في عدم النفع لا بدفع العذاب ولا بتخفيفه وقوله تعالى «إنما تجزون ما كنتم تعملون» تعليل للاستواء فإن الجزاء حيث كان واجب الوقوع
147

حتما كان الصبر وعدمه سواء في عدم النفع «إن المتقين في جنات ونعيم» أي في أية جنات وأي نعيم على أن التنوين للتفخيم أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين على انه للتنويع «فاكهين» ناعمين متلذذين «بما آتاهم ربهم» وقرئ فكهين وفاكهون على أنه الخبر والظرف لغو متعلق بالخبر أو خبر آخر «ووقاهم ربهم عذاب الجحيم» عطف على آتاهم على أن ما مصدرية أو على خبر إن أو حال بإضمار قد إما من المستكن في الخبر أو في الحال وإما من فاعل آتى أو من مفعوله أو منهما وإظهار الرب في موقع الإضمار مضافا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل «كلوا واشربوا» أي يقال لهم كلوا واشربوا أكلا وشرابا «هنيئا» أو طعاما وشرابا هنيئا وهو الذي لا تنغيص فيه «بما كنتم تعملون» بسببه أو بمقابلته وقيل الباء زائدة وما فاعل هنيئا أي هناكم ما كنتم تعملون أي جزاؤه «متكئين على سرر مصفوفة» مصطفة «وزوجناهم بحور عين» وقرئ بحور عين على إضافة الموصوف إلى صفته بالتأويل المشهور وقرئ بعين عين والباء مع أن التزويج مما يتعدى إلى مفعولين لما فيه من معنى الوصل والإلصاق أو للسببيه إذ المعنى صيرناهم أزواجا بسببهن فإن الزوجية لا تتحقق بدون أنضمامهن إليهم وقوله تعالى «والذين آمنوا» الخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذين شاركتهم ذريتهم في الإيمان وهو مبتدأ خبره ألحقناهم وقوله تعالى «واتبعتهم ذريتهم» عطف على آمنوا وقيل اعتراض وقوله تعالى «بإيمان» متعلق بالاتباع أي اتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن ربته إيمان الآباء واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقا وقرئ ذرياتهم للمبالغة في الكثرة وذرياتهم بكسر الذال وقرئ وأتبعناهم ذرياتهم أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان وقرئ اتبعتهم «ألحقنا بهم ذريتهم» أي في الدرجة كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال إنه تعالى يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية «وما ألتناهم» وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق «من عملهم» من ثواب عملهم «من شيء» بأن أعطينا بعض مثوباتهم أباءهم فتنقص مثوبتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان وقرئ
148

ألتناهم بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم والأول كضرب يضرب ولتناهم من لات يليت وآلتناهم من ألت يؤلت وولتناهم من ولت يلت والكل بمعنى واحد هذا وقد قيل الموصول معطوف على حور والمعنى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين وقوله
تعالى واتبعتهم عطف على زوجناهم وقوله تعالى بإيمان متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم أو بسبب إيمان دانى المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل بشئ من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم «كل امرئ بما كسب رهين» قيل هو فعيل بمعنى مفعول والمعنى كل امرئ مرهون عند الله تعالى بالعمل الصالح فإن عمله فكه وإلا أهلكه وقيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرئ بما كسب راهن أي دائم ثابت وهذا أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء فالجملة تعليل لما قبلها «وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون» وزدناهم على ما كان لهم من مبادئ التنعم وقتا فوقتا ما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء «يتنازعون فيها» أي يتعاطون فيها هم وجلساؤهم بكمال رغبة واشتياق كما ينبئ عنه التعبير عن ذلك بالتنازع «كأسا» أي خمرا تسمية لها باسم محلها «لا لغو فيها» أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام «ولا تأثيم» ولا يفعلون ما يؤثم به فاعلة أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف كما هو ديدن المنادمين في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام وقرئ لا لغو فيها ولا تأثيم بالفتح «ويطوف عليهم» اى بالكأس «غلمان لهم» اى مماليك مخصوصون بهم وقيل هم أولادهم الذين سبقوهم «كأنهم لؤلؤ مكنون» مصون في الصدف من بياضهم وصفائهم أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة قيل لقتادة هذا الخادم فكيف المخدوم فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعنه عليه الصلاة والسلام إن أدنى أهل الجنة منزله من ينادى الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك «وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أحواله وأعماله فيكون كل بعض سائلا ومسؤلا لا أنه يسأل بعض معين منهم بعضا آخر معينا
149

«قالوا» اى المسؤولون وهم كل واحد منهم في الحقيقة «إنا كنا قبل» أي في الدنيا «في أهلنا مشفقين» أرقاء القلوب خائفين من عصيان الله تعالى معتنين بطاعته أو وجلين من العاقبة «فمن الله علينا» بالرحمة أو التوفيق للحق «ووقانا عذاب السموم» عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم وقرئ ووقانا بالتشديد «إنا كنا من قبل» أي نعبده أو نسأله الوقاية «إنه هو البر» المحسن «الرحيم» الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب وقرئ أنه بالفتح بمعنى لأنه «فذكر» فاثبت على ما أنت عليه من التذكير من التذكير بما أنزل إليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل «فما أنت بنعمة ربك» بحمده وإنعامه بصدق النبوة ورجاحة العقل «بكاهن ولا مجنون» كما يقولون قاتلهم الله انى يؤفكون «أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون» وهو ما يقلق النفوس ويشخص بها من حوادث الدهر وقيل المنون الموت وهو في الأصل فعول من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع أي بل أيقولون ننتظر به نوائب الدهر «قل تربصوا فإني معكم من المتربصين» أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكى وفيه عدة كريمة بإهلاكهم «أم تأمرهم أحلامهم» أي عقولهم «بهذا» أي بهذا التناقض في المقال فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر في الأمور والمجنون المغطى عقله مختل فكرة والشاعر ذو كلام موزون متسق مخيل فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد وأمر الأحلام بذلك مجاز عن أدائها إليه «أم هم قوم طاغون» مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد لا يحرمون الرشد والسداد ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب الخارجة عن دائرة العقول والظنون وقرئ بل هم «أم يقولون تقوله» أي اختلقة من تلقاء نفسه «بل لا يؤمنون» فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه الأباطيل التي لا يخفى على أحد بطلانها كيف لا وما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واحد من العرب فكيف أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم
150

«فليأتوا بحديث مثله» مثل القرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم ومن حيث المعنى «إن كانوا صادقين» فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعى قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه الصلاة والسلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ولا ريب في أن القدرة على الشيء من وموجبات الإتيان به ودواعي الأمر بذلك «أم خلقوا من غير شيء» أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير محدث ومقدر وقيل أم خلقوا من أجل لا شئ من عبادة وجزاء «أم هم الخالقون» لأنفسهم فلذلك لا يعبدون الله سبحانه «أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون» أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السماوات والأرض قالوا الله وهم غير موقنين بما قالوا وإلا لما أعرضوا عن عبادته «أم عندهم خزائن ربك» أي خزائن رزقه ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا ويمسكوها عمن شاؤوا أو عندهم خزائن علمه وحكمته حتى يختاروا لها من اقتضت الحكمة اختياره «أم هم المصيطرون» أي الغالبون على الأمور يدبرونها كيفما شاؤوا حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم وقرئ المصيطرون بالصاد لمكان الطاء «أم لهم سلم» منصوب إلى السماء «يستمعون فيه» صاعدين إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من الأمور التي يتقولون فيها رجما بالغيب ويعلقون بها أطماعهم الفارغة «فليأت مستمعهم بسلطان مبين» بحجة واضحة تصدق استماعه «أم له البنات ولكم البنون» تسفيه لهم وتركيك لعقولهم وإيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعد من العقلاء فضلا عن الترقي إلى عالم الملكوت والتطلع على الأسرار الغيبية والالتفات إلى الخطاب لتشديد ما في أم المنقطعة من الإنكار والتوبيخ «أم تسألهم أجرا» رجوع إلى خطابه عليه الصلاة والسلام وإعراض عنهم أي بل أتسالهم أجرا على تبليغ الرسالة «فهم» لذلك «من مغرم» من الالتزام غرامة فادحة «مثقلون» محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك
151

«أم عندهم الغيب» أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب «فهم يكتبون» ما فيه حتى يتكلموا في ذلك بنفي أو إثبات «أم يريدون كيدا» هو كيدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة «فالذين كفروا» هم المذكورون ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وتعليل الحكم به أو جميع الكفرة وهم داخلون فيهم دخولا أوليا «هم المكيدون» أي هم الذين يحيق بهم كيدهم أو يعود عليهم وباله لا من أرادوا أن يكيدوه وهو ما أصابهم يوم بدر أو هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته «أم لهم إله غير الله» يعينهم ويحرسهم من عذابه «سبحان الله عما يشركون» أي عن إشراكهم أو عن شركة ما يشركونه «وإن يروا كسفا»
قطعة «من السماء ساقطا» لتعذيبهم «يقولوا» من فرط طغيانهم وعنادهم «سحاب مركوم» أي هم في الطغيان بحيث لو أسقطناه عليهم حسبما قالوا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا لقالوا هذا سحاب تراكم بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقطا للعذاب «فذرهم حتى يلاقوا» وقرئ حتى يلقوا «يومهم الذي فيه يصعقون» على البناء للمفعول من صعقته الصاعقة أو من أصعقته وقرئ يصعقون بفتح الياء والعين وهو يوم يصيبهم الصعقة بالقتل يوم بدر لا النفخة الأولى كما قيل إذ لا يصعق بها إلا من كان حيا حينئذ ولأن قوله تعالى «يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا» أي شيئا من الإغناء بدل من يومهم ولا يخفى أن التعرض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعى إستعمالهم له طمعا في الانتفاع به وليس ذلك إلا ما دبروه في امره صلى الله عليه وسلم من الكيد الذي من جملته مناصبتهم يوم بدر وأما النفخة الأولى فليست مما يجرى في مدافعته الكيد والحيل وقيل هو يوم موتهم وفيه ما فيه مع ما تأباه الإضافة المنبئة عن اختصاصه بهم «ولا هم ينصرون» من جهة الغير في دفع العذاب عنهم «وإن للذين ظلموا» أي لهم ووضع الموصول موضع الضمير لما ذكر من قبل أي وإن لهؤلاء الظلمة «عذابا» آخر «دون ذلك» دون ما لاقوه من القتل أي قبله وهو القحط الذي أصابهم سبع سنين أو وراءه كما في قوله
* تريك القذى من دونها
152

وهو دونها
* وهو عذاب القبر وما بعده من فنون عذاب الآخرة وقرئ دون ذلك قريبا «ولكن أكثرهم لا يعلمون» أن الأمر كما ذكر وفيه إشارة إلى ان فيهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عنادا أولا يعلمون شيئا أصلا «واصبر لحكم ربك» بإمامهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان ومعاناة الهموم «فإنك بأعيننا» أي في حفظنا وحمايتنا بحيث نراقبك ونكلؤك وجمع العين لجمع الضمير والإيذان بغاية الاعتناء بالحفظ «وسبح» أي نزهه تعالى عما لا يليق به ملتبسا «بحمد ربك» على نعمائه الفائتة للحصر «حين تقوم» من اى مكان قمت قال سعيد بن جبير وعطاء أي قل حين تقوم من مجلسك سبحانك اللهم وبحمدك وقال ابن عباس رضى الله عنهما معناه صل لله حين تقوم من منامك وقال الضحاك والربيع إذا قمت إلى الصلاة فقل سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك وقوله تعالى «ومن الليل فسبحه» إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل «وإدبار النجوم» أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح وقيل التسبيح من الليل صلاة العشاءين وإدبار النجوم صلاة الفجر وقرئ وأدبار النجوم بالفتح أي في أعقابها إذا غربت أو خفيت عن النبي عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة الطور كان حقا على الله تعالى ان يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته
153

بسم الله الرحمن الرحيم «والنجم إذا هوى» المراد بالنجم إما الثرية فإنه اسم غالب له أو جنس النجوم وبهويه غروبه وقيل طلوعه يقال هوى هويا بوزن قبول إذا غرب وهويا بوزن دخول إذا علا وصعد وأما النجم من نجوم القرآن فهوية نزوله والعامل في إذا فعل القسم بذلك فإنه بمعنى مطلق الوقت منسلخ من معنى الاستقبال كما في قولك آتيك إذا حمر البسر وفي الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة والسلام عن شائبة الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع مالا غاية وراءه أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدى به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قبل والنجم الذي يهتدى به السابلة إلى سواء السبيل «ما ضل صاحبكم» أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة «وما غوى» أي وما اعتقد باطلا قط أي هو في غاية الهدى والرشد وليس مما تتوهمونه من الضلال والغواية في شيء أصلا وأما على الثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن كما أشير إليه في مطلع سورة يس وسورة الزخرف وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة والسلام ومدار رشاده كأنه قيل والقرآن الذي هو علم في الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق ما ضل عنها محمد عليه الصلاة والسلام وما غوى والخطاب لقريش وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان صاحبيته لهم وللإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة وإحاطتهم خبرا ببراءته عليه الصلاة والسلام مما نفى عنه بالكلية واتصافه عليه الصلاة والسلام بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له عليه الصلاة والسلام ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتما وتقييد القسم بوقت الهوى على الوجه الأخير ظاهر وأما على الأولين فلأن النجم لا يهتدى به الساري عند كونه في وسط السماء ولا يعلم المشرق من المغرب والا الشمال من الجنوب وإنما يهتدى به عند هبوطه أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكي من تدلى جبريل من الأفق الأعلى ودنوه منه عليهما السلام هذا هو اللائق بشأن التنزيل الجليل وأما حمل هويه على انتثاره يوم القيامة أو على انقضا النجم الذي يرجم به أو حمل النجم على النبات وحمل هويه على سقوطه على الأرض أو
154

على ظهوره منها فمما لا يناسب المقام «وما ينطق عن الهوى» أي وما يصدر نطقه بالقرآن عن هواه ورأيه أصلا فإن المراد استمرار نفى النطق عن الهوى لا نفى استمرار النطق عنه كما مر مرار «إن هو» أي ما الذي ينطق به من القرآن «إلا وحي» من الله تعالى وقوله تعالى «يوحى» صفة مؤكده لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددي «علمه شديد القوى» أي ملك شديد قواه وهو جبريل عليه السلام فإنه الواسطة في إبداء الخوارق وناهيك دليلا على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي هو تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في اسرع من رجعة الطرف «ذو مرة» أي حصافة في عقله ورأيه ومتانة في دينه «فاستوى» عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى ما أوحى بيان لكيفية التعليم اى فاستقام على صورته التي خلقه الله تعالى عليها دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء فطلع له جبريل عليه السلام من المشرق فسد الأرض من المغرب وملأ الأفق فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل على السلام في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه قيل ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير النبي عليه الصلاة والسلام فإنه رآه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء وقيل استوى بقوته على ما جعل له من الأمر وقوله تعالى «وهو بالأفق الأعلى» أي أفق الشمس
حال من فاعل استوى «ثم دنا» أي أراد الدنو من النبي عليهما الصلاة والسلام «فتدلى» أي استرسل من الأفق الأعلى مع تعلق به فدنا من النبي يقال تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير وأدلى دلوه والدوالي الثمر المعلق «فكان» أي مقدار امتداد ما بينهما «قاب قوسين» اى مقدارهما فإن ألقاب والقيب والقادر والقيد والقيس
155

المقدار وقيل فكان جبريل عليه السلام كما في قولك هو منى معقد الإزار «أو أدنى» أي على تقديركم كما في قوله تعالى أو يزيدون والمراد تمثيل ملكة الاتصال وتحقق استماعه لما أوحى إليه بنفي البعد الملبس «فأوحى» أي جبريل عليه السلام «إلى عبده» عبد الله تعالى وإضماره قبل الذكر لغاية ظهوره كما في قوله تعالى ما ترك على ظهرها «ما أوحي» أي من الأمور العظيمة التي لا تفي بها العبارة أو فأوحى الله تعالى حينئذ بواسطة جبريل ما أوحى قيل أوحى إليه ان الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك «ما كذب الفؤاد» أي فؤاد محمد عليه الصلاة والسلام «ما رأى» أي ما أراه ببصره من صورة جبريل عليهما السلام أي ما قال فؤداه لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك لكنا كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره وقرئ ما كذب أي صدقه ولم يشك أن جبريل بصورته «أفتمارونه على ما يرى» اى أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة أو ابعد ما ذكر من أحواله المنافية للمماراة تمارونه من المراء وهو الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مري الناقة كأن كلا من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه وقرئ أفتمرونه أي أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته ولما فيه من معنى الغلبة عدى بعلى كما يقال غلبته على كذا وقيل أفتمرونه أفتجحدونه من مراه حقه إذا جحده «ولقد رآه نزلة أخرى» أي وبالله لقد رأى جبريل في صورته مرة أخرى من النزول نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها وقيل تقديره ولقد رآه نازلا نزلة أخرى فنصبها على المصدر «عند سدرة المنتهى» هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ثمرها كقلال هجر وورقها كأذان الفيول تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه يسير الراكب في ظلها سبعين عما لا يقطعها والمنتهى موضع الانتهاء أو الانتهاء كأنها في منتهى الجنة وقيل إليها ينتهي علم الخلائق وأعمالهم ولا يعلم أحد ما وراءها وقيل ينتهى إليها أرواح الشهداء وقيل ينتهى إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها قيل إضافة السدرة إلى المنتهى إما أضافة الشيء إلى مكانه كقولك شجر البستان وإضافة المحل إلى الحال كقولك كتاب الفقه والتقدير سدرة عندها منتهى علوم الخلائق أو إضافة الملك إلى المالك على حذف الجار والمجرور أي سدرة المنتهى إليه هو الله عز وجل قال تعالى إلى ربك المنتهى
156

«عندها جنة المأوى» اى الجنة التي يأوى إليها المتقون أو أرواح الشهداء والجملة حالية وقيل الأحسن أن يكون الحال هو الظرف وجنة المأوى مرتفع به على الفاعلية وقوله تعالى «إذ يغشى السدرة ما يغشى» ظرف زمان لرآه لا لما بعده من الجملة المنفية كما قيل فإن ما النافية لا يعمل بعدها فيما قبلها والغشيان بمعنى التغطية والستر ومنه الغواشي أو بمعنى الإتيان يقال فلان يغشاني كل حين أي يأتين والأول هو الأليق بالمقام وفي إبهام ما يغشى من التفخيم مالا يخفى وتأخيره عن المفعول للتشويق إليه أي ولقد رآه عند السدرة وقت ما غشيها مما لا يكتنهه الوصف ولا يفي به البيان كيفا ولا كما وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها البديعة وللإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد وقيل يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله تعالى عندها وقيل يزورونها متبركين بها كما يزور الناس الكعبة وقيل يغشاها سبحات أنوار الله عز وجل حين يتجلى لها كما يتجلى للجبل لكنها أقوى من الجبل وأثبت حيث لم يصبها ما اصابه من ألدك وقيل يغشاها فراش أو جراد من ذهب وهو قول ابن عباس وابن مسعود والضحاك وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى وعنه عليه الصلاة والسلام يغشاها رفرف من طير خضر «ما زاغ البصر» أي ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه «وما طغى» وما تجاوزه مع ما شاهده هناك من الأمور العجيبة المذهلة مالا يحصى بل أثبته إثباتا صحيحا متيقنا أوما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها وما جاوزها «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» أي والله لقد رأى الآيات التي هي كبراها وعظماها حين عرج به إلى السماء فأرى عجائب الملك والملكوت مالا يحيط به نطاق العبارة ويجوز ان تكون الكبرى صفة للآيات والمفعول محذوف أي شيئا عظيما من آيات ربه وأن تكون من مزيدة «أفرأيتم اللات والعزى» «ومناة الثالثة الأخرى» هي أصنام كانت لهم فاللات كانت لثقيف بالطائف وقيل لقريش بنخلة وهي فعله من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويطوفون بها وقرئ بتشديد التاء على انه اسم فاعل اشتر به رجل كان يلت السمن بالزيت ويطعمه
157

الحاج وقيل كان يلت السويق بالطائف ويطعمه الحاج فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه وقيل كان يجلس على حجر فلما مات سمى الحجر باسمه وعبد من دون الله وقيل كان الحجر على صورته والعزى تأنيث الأعز كانت لغطفان وهى سمرة كانوا يعبدونها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانه ناشرة شعرها واضعة يدها على رأسها وهي تولول فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تلك العزى ولن تعبد أباد ومناة صخرة لهذيل وخزاعة وقيل لثقيف وكأنها سميت مناة لأن دماء النسائك تمنى عندها أي تراق وقرئ ومناءة وهي مفعلة من النواء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها والأخرى صفة ذم لها وهي المتأخرة الوضيعة المقدار وقد جوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى ثم أنهم كانوا مع ما ذكر من عبادتهم لها يقولون إن الملائكة وتلك الأصنام بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم توبيخا وتبكيتا أفرأيتم الخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤون الله تعالى المنافية لها غاية المنافاة وهي قلبية ومفعولها الثاني محذوف لدلالة الحال عليه فالمعنى عقيب ما سمعتم من اثار كمال عظمة الله عز وجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وأحكام قدرته ونفاذ امره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها وقماءتها بنات له تعالى وقيل المعنى أفرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء الله تعالى مع ما تقدم من عظمته وقيل أخبروني عن آلهتكم هل لها شئ من القدرة والعظمة الت وصف بها رب العزة في الآي السابقة وقيل المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونها تنفعكم وقيل أظننتم أنها تشفع لكم في الآخرة وقيل أفرأيتم إلى هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم والأول هو الحق كما يشهد به قوله تعالى «ألكم الذكر وله الأنثى» شهادة بينة فإنه توبيخ مبني على التوبيخ الأول وحيث كان مداره تفضيل جانب أنفسهم على
جنابه تعالى بنسبتهم إليه تعالى الإناث مع اختيارهم لأنفسهم الذكور وجب أن يكون مناط الأول نفس تلك النسبة حتى يتسنى بناء التوبيخ الثان وعليه ظاهر ان ليس في شيء من التقديرات المذكورة من تلك النسبة عين ولا أثر وأما ما قيل من أن هذه الجملة مفعول ثاني للرؤية وخلوها عن العائد إلى المفعول الأول لما أن الأصل أخبروني ان اللات والعزى ومناة ألكم الذكر وله هن أي تلك الأصنام فوضع موضع الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ فمع ما فهي من التمحلات التي ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثالها يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير على جناب الله العزيز الجليل من غير تعرض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه «تلك» إشارة إلى القسمة المنفهمة من الجملة الاستفهامية «إذا قسمة ضيزى» أي جائرة حيث جعلتم له تعالى ما تستنكرون
158

منه وهى فعلى من الضيز وهو الجور لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء كما فعل في بيض فإن فعلى بالكسر لم يأت في الوصف وقرئ ضئزى بالهمزة من ضأزه إذا ظلمه على انه مصدر نعت به وقرئ ضيزى إما على انه مصدر وصف به كدعوى أو على أنه صفة كسكرى وعطشى «إن هي» الضمير للأصنام أي ما الأصنام باعتبار الأولوهية التي يدعونها «إلا أسماء» محضة ليس تحتها مما تنبىء هي عنه من معنى الأولوهية شئ ما أصلا وقوله تعالى «سميتموها» صفة لأسماء وضميرها لها لا للأصنام والمعنى جعلتموها أسماء لا جعلتم لها أسماء فإن التسمية نسبة بين الاسم والمسمى فإذا قيست إلى الاسم فمعناها جعله اسما للمسمى وإن قيست إلى المسمى فمعناها جعله مسمى للاسم وإنما اختير ههنا المعنى الأول من غير تعرض للمسمى لتحقيق أن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة ليس لها مسميات قطعا كما في قوله تعالى ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها الآية لا أن هناك مسميات لكنها لا تستحق التسمية وقيل هي للأسماء الثلاثة المذكورة حيث كانوا يطلقونها على تلك الأصنام لاعتقادهم أنها تستحق العكوف على عبادتها والإعزاز والتقرب إليها بالقرابين وأنت خبير بأنه لو سلم دلالة الأسماء المذكورة على ثبوت تلك المعاني الخاصة للأصنام فليس في سلبها عنها مزيد فائدة بل إنما هي في سلب الألوهية عنها كما هو زعمهم المشهور في حق جميع الأصنام على وجه برهاني فإن انتفاء الموصوف يقتضي انتفاء الوصف بطريق الأولوية أي ما هي إلا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها أنتم ولا آباؤكم $» بمقتضى أهوائكم الباطلة «ما أنزل الله بها من سلطان $» برهان تتعلقون به إن يتبعون $» التفات إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الأعراض عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم أي ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها إلا الظن $» إلا توهم أن ما هم عليه حق توهما باطلا وما تهوى الأنفس $» أي تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء ولقد جاءهم من ربهم الهدى $ قيل هي حال من فاعل يتبعون أو اعتراض وأيا ما كان ففيه تأكيد لبطلان اتباع الظن وهو النفس وزيادة تقبيح لحالهم فإن اتباعهما من اي شخص كان قبيح وممن هداه الله تعالى بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال الكتاب أقبح أم للإنسان ما تمنى $ أم منقطعة وما فيها من بل للانتقال من بيان أن ما هم عليه مستند إلا إلى توهمهم وهى أنفسهم إلى بيان ان ذلك مما لا يجدى نفعا أصلا والهمزة للإنكار والنفي أي ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة في شفاعة الآلهة ونظائرها التي لا تكاد تدخل تحت الوجود «فلله الآخرة والأولى» تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما يتمناه حتما فإن اختصاص
159

أمور الآخرة والأولى جميع به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون له أمر من الأمور وقوله تعالى «وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا» إقناط لهم عما علقوا به أطماعهم من شفاعة الملائكة لهم موجب لإقناطهم من شفاعة الأصنام بطريق الأولوية وكم خبرية مفيده للتكثير محلها الرفع على الابتداء والخبر هي الجملة المنفية وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغنى شفاعتهم عند الله تعالى شيئا من الإغناء في وقت من الأوقات «إلا من بعد أن يأذن الله» لهم في الشفاعة «لمن يشاء» أن يشفعوا له «ويرضى» ويراه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن الله تعالى بمعزل ومن الشفاعة ألف منزل فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام «إن الذين لا يؤمنون بالآخرة» وبما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي «ليسمون الملائكة» المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق يسمون كل واحد منهم «تسمية الأنثى» فإن قولهم الملائكة بنات الله قول منهم بأن كلا منهم بنته سبحانه وهي التسمية بالأنثى وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترىء عليها إلا من يؤمن بها رأسا وقوله تعالى «وما لهم به من علم» حال من فاعل يسمون أي يسمونه والحال أنه لا علم لهم بما يقولون أصلا وقرئ بها أي بالملائكة أو بالتسمية «إن يتبعون» في ذلك «إلا الظن» الفاسد «وإن الظن» أي جنس الظن كما يلوح به الإظهار في موقع الإضمار «لا يغني من الحق شيئا» من الأغناء فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشئ لا يدرك إلا بالعلم والظن لا اعتداد به في شأن المعارف الحقيقية وإنما يعتد به في العمليات وما يؤدي إليها «فأعرض عن من تولى عن ذكرنا» أي عنهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز صلته من الأوصاف القبيحة وتعليل الحكم بها أي فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني وهو القرآن المنطوى على علوم الأولين والآخرين المذكر لأمور الآخرة أو عن ذكرنا كما ينبغي فإن ذلك مستتبع لذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها «ولم يرد إلا الحياة الدنيا» راضيا بها قاصرا نظره عليها والمراد النهى عن دعوته والاعتناء بشأنه قال من أعرض عما ذكر وانهمك في الدنيا بحيث كانت هي منتهى همته وقصارى سعيه
160

لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عنادا وإصرارا على الباطل «ذلك» اى ما أداهم إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا «مبلغهم من العلم» لا يكادون يجاوزونه إلى غيره حتى تجديهم الدعوة والإرشاد وجمع الضمير في مبلغهم باعتبار معنى من كما أن إفراده فيما سبق باعتبار لفظها والمراد بالعلم مطلق الإدراك المنتظم للظن الفاسد والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا وقوله تعالى «إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى» تعليل للأمر بالإعراض وتكرير قوله تعالى هو أعلم لزيادة التقرير والايذان بكمال تباين المعلومين والمراد بمن ضل من أصر عليه ولم يرجع إلى الهدى أصلا وبمن اهتدى من من شأنه الاهتداء في الجملة أي هو المبالغ في العلم بمن لا يرعوى عن الضلال أبدا وبمن يقبل الاهتداء في الجملة لا غيره فلا تتعب نفسك في دعوتهم فإنه من القبيل
الأول وفي تعليل الأمر بإعراضه عليه السلام عن الاعتناء بأمرهم باقتصار العلم بأحوال الفريقين عليه تعالى رمز إلى انه تعالى يعاملهم بموجب علمه بهم فيجزي كلا منهم بما يليق به من الجزاء ففيه وعيد ووعد ضمنا كما سيأتي صريحا «ولله ما في السماوات وما في الأرض» أي خلقا وملكا لا لغيره أصلا لا استقلال ولا اشتراكا وقوله تعالى «ليجزي» الخ متعلق بما دل عليه أعلم الخ وما بينهما اعتراض مقرر لما قبله فإن كون الكل مخلوقا له تعالى مما يقرر علمه تعالى بأحوالهم ألا يعلم من خلق كأنه قيل فيعلم ضلال من ضل واهتداء من اهتدى ويحفظهما ليجزى «الذين أساؤوا بما عملوا» أي بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر عنه بالإساءة بيانا لحاله أو بسبب ما عملوا «ويجزي الذين أحسنوا» أي اهتدوا «بالحسنى» اى بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة أو بسبب أعمالهم الحسنى وقيل متعلق بما دل عليه قوله تعالى ولله ما في السماوات وما في الأرض كأنه قيل خلق ما فيهما ليجزى الخ وقيل متعلق بضل واهتدى على أن اللام للعاقبة أي هو أعلم بمن ضل ليؤول أمره إلى ان يجزيه الله تعالى بعمله وبمن اهتدى ليؤول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى وفيه من البعد مالا يخفى وتكرير الفعل لإبراز كمال الاعتناء بأمر الجزاء والتنبيه على تباين الجزاءين
161

«الذين يجتنبون كبائر الإثم» بدل من الموصول الثان وصيغة الاستقبال في صلته للدلالة على تجدد الاجتناب أو استمراره أو بيان أو نعت أو منصوب على المدح وكبائر الإثم ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه وقرئ كبير الإثم على إرادة الجنس أو الشرك «والفواحش» وما فحش من الكبائر خصوصا «إلا اللمم» أي إلا ما قل وصغر فإنه مغفور ممن يجتنب الكبائر قيل هي النظرة والغمزة والقبلة وقيل هي الخطرة من الذنب وقيل كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا ولا عذابا وقيل عادة النفس الحين بعد الحين والاستثناء منقطع «إن ربك واسع المغفرة» حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر فالجملة تعليل لاستثناء اللمم وتنبيه على ان إخراجه عن حكم المؤاخذة به ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية وقيل المعنى له أن يغفر لمن يشاء من المؤمنين ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها لعل تعقيب وعد المسييئين ووعد المحسنين بذلك حينئذ لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته تعالى ولا يتوهم وجوب العقاب عليه تعالى «هو أعلم بكم» أي بأحولكم يعلمها «إذ أنشأكم» في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام «من الأرض» إنشاء إجماليا حسبما مر تقريره مرارا «وإذ أنتم أجنة» أي وقت كونكم أجنة «في بطون أمهاتكم» على أطوار مخلتفة مترتبة لا يخفى عليها حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لولا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله فالجملة استئناف مقرر لما قبلها والفاء في قوله تعالى «فلا تزكوا أنفسكم» لترتيب النهى عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه بصدوره عنكم أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا عليها بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بما يستلزمها من زكاء العمل ونماء الخير بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته «هو أعلم بمن اتقى» المعاصي جميعا وهو استئناف مقرر للنهي ومشعر بان فيهم من يتقيها بأسرها وقيل كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا فنزلت وهذا إذا كان بطريق الإعجاب أو الرياء فأما من اعتقد أن ما عمله من الأعمال الصالحة من الله تعالى وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح لم يكن من المزكين أنفسهم فإن المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر «أفرأيت الذي تولى» أي عن اتباع الحق والثبات عليه «وأعطى قليلا» أي شيئا قليلا أو إعطاء قليلا «وأكدى» أي قطع العطاء
162

من قولهم أكدى الحافر إذا بلغ الكدية أي الصلابة كالصخرة فلا يمكنه أن يحفر قالوا نزلت في الوليد ابن المغيرة كان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بعض المشركين وقال له تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال أخشى عذاب الله فضمن أن يتحمل عنه العذاب إن أعطاه بعض ماله فارتد وأعطاه بعض المشروط وبخل بالباقي وقيل نزلت في العاص بن وائل السهمي لما كان يوافق النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأمور وقيل في أبي جهل كان ربما يوافق الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض الأمور وكان يقول والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق وذلك قوله تعالى وأعطى قليلا وأكدى والأول هو الأشهر المناسب لما بعده من قوله تعالى «أعنده علم الغيب فهو يرى» الخ أي أعنده علم بالأمور الغيبية التي من جملتها تحمل صاحبه عنه يوم القيامة «أم لم ينبأ بما في صحف موسى» «وإبراهيم الذي وفى» اى وفر وأتم ما ابتلى به من الكلمات أو أمر به أو بالغ في الوفاء بما عاهد الله وتخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمله غيره كالصبر على نار نمروذ حتى إذا أنه أتاه جبريل عليه السلام حين يلقى في النار فقال ألك حاجة فقال أما إليك فلا وعلى ذبح الولد ويروى انه كان يمشى كل يوم فرسخا يرتاد ضيفا فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم وتقديم موسى لما ان صحفه التي هي التوراة أشهر عندهم وأكثر «ألا تزر وازرة وزر أخرى» أي أنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى على أن أن هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما في صحف موسى أو الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل ما في صحفهما فقيل هو ان لا تزر الخ والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني عن عقابه ولا يقدح في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره وقوله تعالى «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى» بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره من حيث جلب النفع إليه إثر بيان عدم انتفاعه به من حيث دفع الضرر عنه وأما شفاعة الأنبياء عليهم السلام واستغفار الملائكة عليهم السلام ودعاء الأحياء للأموات وصدقتهم عنهم وغير ذلك مما لا يكاد يحصى من الأمور النافعة للإنسان مع انها ليست من عمله قطعا فحيث كان مناط منفعة كل منها عمله الذي هو الإيمان والصلاح ولم يكن لشئ منها نفع ما بدونه جعل النافع نفس عمله وإن
163

كان بانضمام عمل غيره إليه وأن مخففة كأختها معطوفة عليها وكذا قوله تعالى «وأن سعيه سوف يرى» أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه من أريته الشئ «ثم يجزاه» أي يجزى الإنسان سعيه يقال جزاه الله بعمله وجزاه على عمله وجزاه عمله بحذف الجار وإيصال الفعل ويجوز أن يجعل الضمير للجزاء ثم يفسر بقوله تعالى «الجزاء الأوفى» أو يبدل هو عنه كما في قوله تعالى وأسروا النجوى الذين ظلموا «وأن إلى ربك المنتهى» أي انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره استقلالا ولا اشتراكا وقرئ بكسر إن على الابتداء «وأنه هو أضحك وأبكى» أي هو خلق قوتى الضحك والبكاء «وأنه هو أمات وأحيا» لا يقدر على الإماتة
والإحياء غيره فإن أثر القاتل نقض البنية وتفريق الاتصال وإنما يحصل الموت عنده بفعل الله تعالى على العادة «وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى» «من نطفة إذا تمنى» تدفق في الرحم أو تخلق أو يقدر منها الولد من منى بمعنى قدر «وأن عليه النشأة الأخرى» اى الإحياء بعد الموت وفاء بوعده وقرئ النشاءة بالمد وهي أيضا مصدر نشأة «وأنه هو أغنى وأقنى» وأعطى القنية وهي ما يتأثل من الأموال وأفردها بالذكر لأنها أشرف الأموال أو ارضى وتحقيقه جعل الرضا له قنية «وأنه هو رب الشعرى» أي رب معبودهم وهي العبور وهي أشد ضياء من الغميصاء وكانت خزاعة تعبدها سن لهم ذلك أبو كبشة رجل من اشرافهم وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبو كبشة تشبيها له عليه الصلاة والسلام به لمخالفته إياهم في دينهم «وأنه أهلك
164

عادا الأولى» هي قوم هود عليه السلام وعاد الأخرى إرم وقيل الأولى القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح وقرئ عاد الأولى بحذف الهمزة ونقل ضمتها إلى اللام وعاد لولى بادغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى وثقل حركتها إلى لام التعريف «وثمود» عطف على عادا لأن ما بعده لا يعمل فيه وقرئ وثمودا بالتنوين «فما أبقى» أي أحدا من الفريقين «وقوم نوح» عطف عليه أيضا «من قبل» أي من قبل إهلاك عاد وثمود «إنهم كانوا هم أظلم وأطغى» من الفريقين حيث كانوا يؤذونه وينفرون الناس عنه وكانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه وكانوا يضربونه عليه الصلاة والسلام حتى لا يكون به حراك وما أثر فيهم دعاؤه قريبا من ألف سنة «والمؤتفكة» هي قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها أي انقلبت بهم «أهوى» أي أسقطها إلى الأرض بعد ان رفعها على جناح جبريل عليه السلام إلى السماء «فغشاها ما غشى» من فنون العذاب وفيه من التهويل والتفظيع مالا غاية وراءه «فبأي آلاء ربك تتمارى» تتشكك والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام على طريقة قوله تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك أو لكل أحد وإسناد فعل التمارى إلى الواحد باعتبار تعدده بحسب تعدد متعلقة فإن صيغة التفاعل وإن كانت موضوعه لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يكون كل من ذلك فاعلا ومفعولا معا لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني فيراد بها المعنى الأول فقط كما في يتداعونهم اى يدعونهم وقد تجرد عنهم أيضا فيكتفى بتعدد الفعل بتعدد متعلقة كما فيما نحن فيه فإن المراء متعدد بتعدد الآلاء فتدبر وتسمية الأمور المعدودة آلاء مع أن بعضها نقم لما انها أيضا نعم من حيث إنها نصرى للأنبياء والمؤمنين وانتقام لهم وفيها عظات وعبر للمعتبرين «هذا نذير من النذر الأولى» هذا إما إشارة إلى القرآن والنذير مصدر أو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والنذير بمعنى المنذر وأيا ما كان فالتنوين للتفخيم ومن متعلقة بمحذوف هو نعت لنذير مقرر له ومتضمن للوعيد اى هذا القرآن الذي تشاهدونه نذير من قبيل الإنذارات المتقدمة التي سمعتم عاقبتها أو هذا الرسول منذر من جنس المنذرين الأولين والأولى على تأويل الجماعة لمراعاة الفواصل وقد علمتم أحوال قومهم المنذرين وفي
165

تعقيبه بقوله تعالى «أزفت الآزفة» إشعار بان تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة أي دنت الساعة الموصوفة بالدنو في نحو قوله تعالى اقتربت الساعة «ليس لها من دون الله كاشفة» أي ليس لها نفس قادرة على كشفها عند وقوعها إلا الله تعالى لكنه لا يكشفها أو ليس لها الآن نفس كاشفة بتأخيرها إلا الله تعالى فإنه المؤخر لها أو ليس لها كاشفة لوقتها إلا الله تعالى كقوله تعالى لا يجليها لوقتها إلا هو أو ليس لها من غير الله تعالى كشف على أن كاشفة مصدر كالعافية «أفمن هذا الحديث» أي القرآن «تعجبون» إنكارا «وتضحكون» استهزاء مع كونه أبعد شيء من ذلك «ولا تبكون» حزنا على ما فرطتم في شانه وخوفا من ان يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة «وأنتم سامدون» أي لاهون أو مستكبرون من سمد البعير إذا رفع رأسه أو مغنون لتشغلوا الناس عن استماعه من السمود بمعنى الغناء على لغة حمير أو خاشعون جامدون من السمود بمعنى الجمود والخشوع كما في قول من قال
[رمى الحدثان نسوة آل سعد * بمقدار سمدن له سجودا]
[فرد شعورهن السود بيضا * ورد وجوههن البيض سودا]
* والجملة حال من فاعل لا تبكون خلا أن مضمونها على الوجه الأخير قيد للمنفى والإنكار وارد على نفى البكاء والسمود معا وعلى الوجوه الأول قيد للنفي والإنكار متوجه إلى نفى البكاء ووجود السمود والأول أوفى بحق المقام فتدبر والفاء في قوله تعالى «فاسجدوا لله واعبدوا» لترتيب الأمر أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالإنكار والاستهزاء ووجوب تلقيه بالإيمان مع كمال الخضوع والخشوع أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله الذي أنزله واعبدوا عن النبي عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة النجم أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة شرفها الله تعالى
166

بسم الله الرحمن الرحيم «اقتربت الساعة وانشق القمر» وروى أن الكفار سألوا رسول الله صلى اله عليه وسلم آية فانشق القمر قال ابن عباس رضى الله عنهما انفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت وقال ابن مسعود رأيت حراء بين فلتقى القمر وعن عثمان بن عطاء عن أبيه أن معناه سينشق يوم القيامة ويرده قوله تعالى «وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر» فإنه ناطق بأنه قد وقع وأنهم قد شاهدوه بعد مشاهدة نظائره وقرئ وقد انشق القمر اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد أنشق ومعنى الاستمرار الاطراد أو الاستحكام أي وإن يروا آية من آيات الله يعرضوا عن التأمل فيها ليقفوا على حقيتها وعلو طبقتها ويقولوا سحر مطرد دائم يأت به محمد على مر الزمان لا يكاد يختلف بحال كسائر أنواع السحر أو قوي مستحكم لا يمكن إزالته وقيل مستمر ذاهب يزول ولا يبقى تمنية لأنفسهم وتعليلا وهو الأنسب بغلوهم في العناد والمكابرة ويؤيده ما سيأت لرده وقرئ وإن يروا على البناء للمفعول من الإراءة «وكذبوا» أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوه مما أظهر الله تعالى على يده من المعجزات «واتبعوا أهواءهم» التي زينها الشيطان لهم أو كذبوا الآية التي هي انشقاق القمر واتبعوا أهواءهم وقالوا سحر القمر أو سحر أعيننا والقمر بحاله وصنيعة الماضي للدلالة على التحقق وقوله تعالى «وكل أمر مستقر» استئناف مسوق لإقناطهم عما علقوا به أما نيهم الفارغة من عدم استقرار أمره عليه الصلاة والسلام حسبما قالوا سحر مستمر ببيان ثباته ورسوخه أي وكل امر من الأمور مستقر أي منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ومن جملتها أمر النبي صلى الله عليه وسلم
فسيصير إلى غاية يتبين عندها حقيته وعلو شأنه وإبهام المستقر عليه للتنبيه على كمال ظهور الحال وعدم الحاجة إلى التصريح به وقيل المعنى كل امر من أمرهم وأمره عليه الصلاة والسلام مستقر أي سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا وشقاوة أو سعادة في الآخرة وقرئ بالفتح على أنه مصدر أو اسم مكان أو اسم زمان أي ذو استقرار أو ذو موضع استقرار أو ذو زمان استقرار
167

وبالكسر والجر على انه صفة أمر وكل عطف على الساعة أي اقتربت الساعة وكل أمر مستقر «ولقد جاءهم» أي في القرآن وقوله تعالى «من الأنباء» اى أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة متعلق بمحذوف هو حال مما بعده أي وبالله لقد جاءهم كائنا من الأنباء «ما فيه مزدجر» أي ازدجار من تعذيب أو وعيد أو موضع ازدجار على ان تجريدية والمعنى أنه في نفسه موضع ازدجار وتاء الافتعال تقلب دالا مع الدال والذال والزاي للتناسب وقرئ مزجر بقلبها زاء وإدغامها «حكمة بالغة» غايتها لا خلل فيها وهي بدل ما أو خبر لمحذوف وقرئ بالنصب حالا منها فإنها موصوله أو موصوفة تخصصت بصفتها فساغ نصب الحال عنها «فما تغن النذر» نفى للإغناء أو إنكار له والفاء لترتيب عدم الأغناء على مجىء الحكمة البالغة مع كونه مظنة للإغناء وصيغة المضارع للدلالة على تجدد عدم الإغناء واستمراره حسب تجدد مجىء الزواجر واستمراره وما على الوجه الثاني منصوبة أي فأي إغناء تغنى النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر أو مصدر بمعنى الإنذار «فتول عنهم» لعلمك بان الإنذار لا يؤثر فيهم البتة «يوم يدع الداع» منصوب بيخرجون أو باذكر والداعي إسرافيل عليه السلام ويجوز ان يكون الدعاء فيه كالأمر في قوله تعالى كن فيكون وإسقاطا لياء للاكتفاء بالكسر تخفيفا «إلى شيء نكر» أي منكر فظيع تنكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة وقرئ نكر بالتخفيف ونكر بمعنى أنكر «خشعا أبصارهم» حال من فاعل «يخرجون» والتقديم لأن العامل متصرف أي يخرجون «من الأجداث» أذلة أبصارهم من شدة الهول وقرئ خاشعا والإفراد والتذكير لأن فاعله ظاهر غير حقيقي التأنيث وقرئ خاشعة على الأصل وقرئ خشع أبصارهم على الابتداء والخبر على ان الجملة حال «كأنهم جراد منتشر» في الكثرة والتموج والتفرق في الأقطار «مهطعين إلى الداع» مسرعين مادي أعناقهم إليه أو ناظرين إليه «يقول الكافرون» استئناف وقع جوابا عما نشأ من وصف اليوم والأهوال وأهله بسوء الحال كأنه قيل فماذا يكون حينئذ فقيل يقول الكافرون «هذا يوم عسر» أي صعب شديد وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأن المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة من الشدة «كذبت قبلهم قوم نوح» شروع
168

في تعداد بعض ما ذكر من الأنباء الموجبة للإزدجار ونوع تفصيل لها وبيان لعدم تأثرهم بها تقريرا لفحوى قوله تعالى فما تغنى النذر أي فعل التكذيب قبل تكذيب قومك قوم نوح وقوله تعالى «فكذبوا عبدنا» تفسيرا لذلك التكذيب المبهم كما في قوله تعالى ونادى نوح ربه فقال رب الخ وفيه مزيدة تقرير وتحقيق للتكذيب وقيل معناه كذبوه تكذيبا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقيبه قرن آخر مكذب مثله وقيل كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا لأنه من جملتهم وفي ذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه الصلاة السلام ورفع لمحله وزيادة تشنيع لمكذبيه «وقالوا مجنون» أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون «وازدجر» عطف على قالوا اى وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية وقيل هو من جملة ما قالوه أي هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته «فدعا ربه أني» أي بأني وقرئ بالكسر على إرادة القول «مغلوب» أي من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم «فانتصر» اى فانتقم لي منهم وذلك بعد تقرر يأسه منهم بعد اللتيا والتي فقد روى أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون «ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر» منصب وهو تمثيل لكثرة الأمطار وشدة انصبابها وقرئ ففتحنا بالتشديد لكثرة الأبواب «وفجرنا الأرض عيونا» أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله بالتشديد وفجرنا عيون الأرض فغير قضاء لحق المقام «فالتقى الماء» أي ماء السماء وماء الأرض والإفراد لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة والتقارب بل بطريق الاختلاط والاتحاد وقرئ الماءان لاختلاف النوعين والماوان بقلب الهمزة واو «على أمر قد قدر» أي كائنا على حال قد قدرها الله تعالى من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهو أن قدر ما أنزل على قدر ما اخرج أو على أمر قدره الله تعالى وهو هلاك قوم نوح بالطوفان «وحملناه» أي نوحا عليه السلام «على ذات ألواح» أي أخشاب عريضة «ودسر» ومسامير جمع دسار من الدسر وهو الدفع وهي صفة للسفينة أقيمت مقامها من حيث أنها كالشرح لها تؤدي مؤداها «تجري بأعيننا» بمر أي منا أي محفوظة بحفظنا
169

«جزاء لمن كان كفر» أي فعلنا ذلك جزاء لنوح عليه السلام لأنه كان نعمة كفروها فإن كل نبي نعمة من الله تعالى على أمته ورحمة وأي نعمة وأي رحمة وقد جوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير واستتاره في الفعل بعد انقلابه مرفوعا وقرئ لمن كفر أي للكافرين «ولقد تركناها» أي السفينة أو الفعلة «آية» يعتبر بها من يقف على خبرها وقال قتادة أبقاها الله تعالى بأرض الجزيرة وقيل على الجودى دهرا طويلا حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة «فهل من مدكر» أي معتبر بتلك الآية الحقيقة بالاعتبار وقرئ مذتكر على الأصل ومذكر بقلب التاء ذالا والإدغام فيها «فكيف كان عذابي ونذر» استفهام تعظيم وعجيب أي كانا على كفية هائلة لا يحيط بها الوصف والنذر جمع نذير بمعنى الإنذار «ولقد يسرنا القرآن» الخ جملة قسمية وردت في أواخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمه بالغة فما تغنى النذر وتنبيها على ان كل قصة منها مستقلة بإيجاب الأدكار كافية في الازدجار ومع ذلك لم تقع واحدة في حيز الاعتبار أي وبالله ولقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحناه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد «للذكر» أي للتذكر والاتعاظ «فهل من مدكر» إنكارا ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكده حيث يدل على انه لا يقدر أحد يجيب المستفهم بنعم وحمل تيسيره على تسهيل حفظه بجزالة نظمه وعذوبة ألفاظه وعباراته مما لا يساعده المقام «كذبت عاد» أي هودا عليه السلام ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له روما للاختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب وقوله تعالى «فكيف كان عذابي ونذر» لتوجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما قلبه وما بعده كأنه
قيل كذبت عاد فهل سمعتم أو فاسمعوا كيف كان عذابي وإنذاراتي لهم وقوله تعالى «إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا» استئناف ببيان ما أجمل أولا أي أرسلنا عليهم ريحا باردة أو شديدة الصوت «في يوم نحس» شؤم «مستمر» أي شؤمه أو مستمر عليهم إلى أن أهلكهم أو شامل لجميعهم كبيرهم وصغيرهم أو مشتد مرارته وكان يوم الأربعاء آخر الشهر
170

«تنزع الناس» تقلعهم روى أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح وصرعتهم موتى «كأنهم أعجاز نخل منقعر» أي منقلع عن مغارسه قيل شبهوا بأعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لأن الريح كانت تقلع رؤسهم فتبقى أجسادا وجثثا بلا رؤس وتذكير صفى النخل للنظر إلى اللفظ كما أن تأنيثها في قوله تعالى اعجاز نخل خاوية للنظر إلى المعنى وقوله تعالى «فكيف كان عذابي ونذر» تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما فليس فيه شائبة تكرار وما قيل من ان الأول لما حاق بهم في الدنيا والثاني لما يحيق بهم في الآخرة يرده ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» الكلام فيه كالذي مر فيما سبق «كذبت ثمود بالنذر» أي الإنذارات والمواعظ التي سمعوها من صالح أو بالرسل عليهم السلام فإن تكذيب أحدهم تكذيب لكل لاتفاقهم على أصول الشرائع «فقالوا أبشرا منا» اى كائنا من جنسنا وانتصابه بفعل يفسره ما بعده «واحدا» أي منفردا لا تبع له أو واحدا من آحادهم لا من أشرافهم وهو صفة أخرى لبشرا وتأخيره عن الصفة المؤولة للتنبيه على ان كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدم عليها لفاتت هذه النكتة وقرئ أبشر منا واحد من على الابتداء وقوله تعالى «نتبعه» خبره والأول أوجه للاستفهام «إنا إذا» اى على تقدير اتباعنا له وهو منفرد ونحن أمة جمة «لفي ضلال» عن الصواب «وسعر» أي جنون فإن ذلك بمعزل من مقتضى العقل وقيل كان يقول لهم إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر أي نيران جمع سعير فعكسوا عليه عليه السلام لغاية عتوهم فقالوا إن اتبعناك كنا إذن كما تقول «أألقي الذكر» أي الكتاب والوحي «عليه من بيننا» وفينا من هو أحق منه بذلك «بل هو كذاب أشر» أي ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله بطره على الترفع علينا بما ادعاه وقوله تعالى «سيعلمون غدا من الكذاب الأشر» حكاية لما قاله تعالى لصالح عليه السلام وعدا له ووعيدا لقومه والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده والمراد
171

بالغد وقت نزول العذاب أي سيعلمون البتة عن قريب من الكذاب الأشر الذي حمله أشره وبطره على الترفع أصالح هو أم من كذبه وقرئ ستعلمون على الالتفات لتشديد التوبيخ أو على حكاية ما أجابهم به صالح وقرئ الأشر كقولهم حذر في حذر وقرئ الأشر أي الأبلغ في الشرارة وهو أصل مرفوض كالأخير وقيل المراد بالغد ويأباه قوله تعالى «إنا مرسلوا الناقة» الخ فإنه استئناف مسوق لبيان مبادئ الموعود حتما أي مخرجوها من الهضبة حسبما سألوا «فتنة لهم» اى امتحانا «فارتقبهم» اى فانتظرهم وتبصر ما يصنعون «واصطبر» على أذيتهم «ونبئهم أن الماء قسمة بينهم» مقسوم لها يوم ولهم يوم وبينهم لتغليب العقلاء «كل شرب محتضر» يحضره صاحبه في نوبته «فنادوا صاحبهم» هو قدار بن سلف أحيمر ثمود «فتعاطى فعقر» فاجترأ على تعاطى الأمر العظيم غير مكترث له فأحدث العقر بالناقة وقيل فتعاطي الناقة فعقرها أو فتعاطى السيف فقتلها والتعاطي تناول الشئ بتكلف «فكيف كان عذابي ونذر» الكلام فيه كالذي مر في صدر قصة عاد «إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة» هي صيحة جبريل عليه السلام «فكانوا» اى فصاروا «كهشيم المحتظر» أي كالشجر اليابس الذي يتخذه من يعمل الحظيرة لأجلها أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء وقرئ بفتح الظاء اى كهشيم الحظيرة أو الشجرة المتخذ لها «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» «كذبت قوم لوط بالنذر» «إنا أرسلنا عليهم حاصبا» أي ريحا تحصبهم أي ترميهم بالحصباء «إلا آل لوط نجيناهم بسحر» في سحر وهو آخر الليل وقيل هو السدس الأخير منه أي ملتبسين بسحر «نعمة
172

من عندنا» أي إنعاما منا وهو علة لنجينا «كذلك» أي مثل ذلك الجزاء العجيب «نجزي من شكر» نعمتنا بالإيمان والطاعة «ولقد أنذرهم» لوط عليه السلام «بطشتنا» أي أخذتنا الشديدة بالعذاب «فتماروا» فكذبوا «بالنذر» متشاكين «ولقد راودوه عن ضيفه» قصدوا الفجور بهم «فطمسنا أعينهم» فمسحناها وسويناها كسائر الوجه روى أنه لما دخلوا داره عنوة صفقهم جبريل عليه السلام صفقة فتركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط عليه السلام «فذوقوا عذابي ونذر» أي فقلنا لهم ذوقوا على ألسنة الملائكة أو ظاهر الحال والمراد به الطمس فإنه من جملة ما أنذروه من العذاب «ولقد صبحهم بكرة» وقرئ بكرة غير مصروفة على أن المراد بها أول نهار مخصوصة «عذاب مستقر» لا يفارقهم حتى يسلموا إلى النار وفي وصفه بالاستقرار إيماء إلى أن ما قبله من عذاب الطمس ينتهي إليه «فذوقوا عذابي ونذر» حكاية لما قيل حينئذ من جهته تعالى تشديدا للعذاب «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» مر ما فيه من الكلام «ولقد جاء آل فرعون النذر» صدرت قصتهم بالتوكيد القسمي لإبراز كمال الاعتناء بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها وهول ما لاقوه من العذاب وقوة إيجابها للاتعاظ والاكتفاء بذكر آل فرعون للعلم بان نفسه أولى بذلك أي وبالله لقد جاءهم الإنذارات وقوله تعالى «كذبوا بآياتنا» استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجىء النذر كأنه قيل فماذا فعلوا حينئذ فقيل كذبوا بجميع آياتنا وهي الآيات التسع «فأخذناهم أخذ عزيز» لا يغالب «مقتدر» لا يعجزه شئ «أكفاركم» يا معشر العرب «خير» قوة وشدة وعدة وعدة أو مكانه «من أولئكم» الكفار المعدودين والمعنى أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم فيما ذكر
173

من الأمور فهل تطمعون أن لا يصيبكم مثل ذلك وأنتم شر منهم مكانا وأسوأ حالا وقوله تعالى «أم لكم براءة في الزبر» إضراب وانتقال من التبكيت بوجه آخر أي بل ألكم براءة وأمن من تبعات ما تعملون من الكفر والمعاصي وغوائلهما في الكتب السماوية فلذلك تصرون على ما أنتم عليه وقوله تعالى «أم يقولون نحن جميع منتصر» إضراب من التبكيت والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن أولو حزم ورأى أمرنا مجتمع لا نرام ولا نضام أو منتصر من الأعداء لا نغلب أو متناصر ينصر بعضنا بعضا والإفراد باعتبار لفظ الجميع وقوله تعالى «سيهزم الجمع» رد وإبطال لذلك والسين للتأكيد أي يهزم جمعهم البتة «ويولون الدبر» أي الأدبار وقد قرىء كذلك والتوحيد لإرادة الجنس أو إرادة أن كل واحد منهم يولى دبره وقد كان
كذلك يوم بدر قال سعيد بن المسيب سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول لما نزلت سيهزم الجمع ويولون الدبر كنت لا ادرى أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الدرع ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر فعرفت تأويلها وقرئ سيهزم الجمع أي الله عز وعلا «بل الساعة موعدهم» أي ليس هذا تمام عقوبتهم بل الساعة موعد أصل عذابهم وهذا من طلائعه «والساعة أدهى وأمر» أي في أقصى غاية من الفظاعة والمرارة والداهية الأمر الفظيع الذي لا يهتدي إلى الخلاص عنه وإظهار الساعة في موقع إضمارها لتربية تهويلها «إن المجرمين» من الأولين والآخرين «في ضلال وسعر» أي في هلاك ونيران مسعرة وقيل في ضلال عن الحق في الدنيا ونيران في الآخرة وقوله تعالى «يوم يسحبون» الخ منصوب إما بما يفهم من قوله تعالى في ضلال أي كائنون في ضلال وسعر يوم يجرون «في النار على وجوههم» وإما يقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم «ذوقوا مس سقر» أي قاسوا حرها وألمها وسقر علم جهنم ولذلك لم يصرف من سقرته النار وصقرته إذا لوحته والقول المقدر على الوجه الأول حال من ضمير يسحبون «إنا كل شيء» من الأشياء «خلقناه بقدر» أي ملتبسا بقدر معين اقتضته الحكمة التي عليها يدور
174

أمر التكوين أو مقدرا مكتوبا في اللوح قبل وقوعه وكل شيء منصوب بفعل يفسره ما بعده وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ وخلقناه خبره «وما أمرنا إلا واحدة» أي كلمة واحدة سريعة التكوين وهو قوله تعالى كن أو إلا فعلة واحدة هو الإيجاد بلا معالجة «كلمح بالبصر» في اليسر والسرعة وقيل معناه قوله تعالى وما أمر الساعة إلا كلمح البصر «ولقد أهلكنا أشياعكم» أي أشباهكم في الكفر من الأمم وقيل أتباعكم «فهل من مدكر» يتعظ بذلك «وكل شيء فعلوه» من الكفر والمعاصي مكتوب على التفصيل «في الزبر» أي في ديوان الحفظة «وكل صغير وكبير» من الأعمال «مستطر» مسطور في اللوح المحفوظ بتفاصيله ولما كان بيان سوء حال الكفرة بقوله تعالى إن المجرمين مما يستدعى بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين ما لهم من حسن الحال بطريق الإجمال فقيل «إن المتقين» أي من الكفر والمعاصي «في جنات» عظيمة الشأن «ونهر» أي أنهار كذلك والأفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل وقرئ نهر جمع نهر كأسد وأسد «في مقعد صدق» في مكان مرضى وقرئ في مقاعد صدق «عند مليك مقتدر» أي مقربين عند مليك لا يقادر قدر ملكه وسلطانه فلا شيء إلا وهو تحت ملكوته سبحانه ما أعظم شأنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله تعالى يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة بدر
175

بسم الله الرحمن الرحيم لما عد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عز وجل وبين عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لحمل الناس على التذكر والاتعاظ ونعى عليهم اعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية ولآفاقية وأنكر عليهم أثر كل فن منها إخلالهم بمواجب شكرها وبدىء بتعليم القرآن فقيل «الرحمن» «علم القرآن» لأنه أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية عيار على سائر الكتب السماوية ما من مرصد يرنو إليه أحداق الأمم إلا وهو منشؤه ومناطه ولا مقصد يمتد إليه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه وإسناد تعليمه إلى اسم الرحمن للإيذان بأنه من آثا الرحمة الواسعة وأحكامها وقد اقتصر على ذكره تنبيها على أصالته وجلالة قدره ثم قيل «خلق الإنسان» «علمه البيان» تعيينا للمعلم وتبيينا لكيفية التعليم والمراد بخلق الإنسان إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة والبيان هو التعبير عما في الضمير وليس المراد بتعليمه مجرد تمكين الإنسان من بيان نفسه بل منه ومن فهم بيان غيره أيضا إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن والجمل الثلاث أخبار مترادفة للرحمن وإخلاء الأخيرتين عن العاطف لورودها على منهاج التعديد «الشمس والقمر بحسبان» اى يجريان بحساب مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات وتعلم السنون الحساب
176

«والنجم» أي النبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له «والشجر» أي الذي له ساق «يسجدان» أي ينقادان له تعالى فيما يريد بهما طبعا انقياد الساجدين من المكلفين طوعا والجملتان خبران آخران للرحمن جردتا عن الرابط اللفظي تعويلا على كمال قوة الارتباط المعنوي إذ لا يتوهم ذهاب الوهم إلى كون حال الشمس والقمر بتسخير غيره تعالى ولا إلى كون سجود النجم والشجر لما سواه تعالى كأنه قيل الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان له وإخلاء الجملة الأولى عن العاطف لما ذكر من قبل وتوسيط العاطف بينها وبين الثانية لتناسبهما من حيث التقابل لما أن الشمس والقمر علويان والنجم والشجر سفليان ومن حيث إن كلا من حال العلويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله عز وجل «والسماء رفعها» أي خلقها مرفوعة محلا ورتبة حيث جعلها منشأ أحكامه وقضاياه ومتنزل أوامره ومحل ملائكته وفيه من التنبيه على كبرياء شأنه وعظم ملكه وسلطانه مالا يخفى وقرئ بالرفع على الابتداء «ووضع الميزان» اى شرع العدل وأمر به بأن وفر كل مستحق ما استحقه ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم به أمر العالم واستقام كما قال عليه الصلاة والسلام بالعدل قامت السماوات والأرض قيل فعلى هذا الميزان القرآن وهو قول الحسين بن الفضل كما في قوله تعالى وأنزلنا معهم الكتاب والميزان وقيل هو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما وهو قول الحسن وقتادة والضحاك فالمعنى خلقه موضوعا مخوضا على الأرض حيث علق به احكام عبادة وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم «ألا تطغوا في الميزان» أي لئلا تطغوا فيه على ان أن ناصبة ولا نافيه ولام العلة مقدرة متعلقة بقوله تعالى ووضع الميزان أو أي لا تطغوا على أنها مفسرة لما في الشرع من معنى القول ولا ناهية أي لا تعتدوا ولا تتجاوزوا الإنصاف وقرئ لا تطغوا على إرادة القول «وأقيموا الوزن بالقسط» قوموا وزنكم بالعدل وقيل أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل وقيل الإقامة باليد والقسط بالقلب «ولا تخسروا الميزان» أي لا تنقصوه أمر أولا بالتسوية ثم نهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة ثم عن الخسران إلى هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به وتأكيدا للأمر باستعماله والحث عليه وقرئ ولا تخسروا بفتح التاء وضم السين وكسرها يقال خسر الميزان يخسر ويخسره وبفتح السين أيضا على أن الأصل ولا تخسروا
177

في الميزان فحذف الجار وأوصل الفعل «والأرض وضعها» أي خفضها مدحوة على الماء «للأنام» أي الخلق قيل المراد به كل ذي روح وقيل كل ما على ظهر الأرض من دابة وقيل الثقلان وقوله تعالى «فيها فاكهة» الخ استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة من كون الأرض موضوعة لمنافع الأنام وتفصيل المنافع العائدة إلى البشر وقيل حال مقدرة من الأرض فالأحسن حينئذ أن يكون الحال هو الجار والمجرور وفاكهة رفع على الفاعلية أي فيها ضروب كثيرة مما يتفكه به «والنخل ذات الأكمام» هي أوعية الثمر جمع كم أو كل ما يكم أي يغطي من ليف وسعف وكفرى فإنه مما ينتفع به كالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه «والحب» هو ما يتغذى به كالحنطة والشعير «ذو العصف» هو ورق الزرع وقيل التبن «والريحان» قيل هو الرزق أريد به اللب أي فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التلذذ والتغذي وهو ثمر النخل وما يتغذى به وهو الحب الذي له عصف هو علف الأنعام وريحان هو مطعم الناس وقرئ والحب ذا العصف والريحان أي خلق الحب والريحان أو أخص ويجوز ان يرادو ذا الريحان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والريحان إما فعيلان من روح فقلبت الواو ياء وأدغم ثم خفف أو فعلان قلبت واوه ياء للتخفيف أو للفرق بينه وبين الروحان وهو ماله روح قاله القرطبي «فبأي آلاء ربكما تكذبان» الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى للأنام وسينطق به قوله تعالى أيها الثقلان والفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصل من فنون النعماء وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ ومعنى تكذيبهم بآلائه تعالى كفرهم بها إما بإنكار كونه نعمة في نفسه كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية وإما بإنكار كونه من الله تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى استقلال أو اشتراكا صريحا أو دلالة فإن إشراكهم لآلهتم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك فكفرهم بها تكذيب بها لا محالة أي فإذا كان الأمر كما فصل فبأي فرد من أفراد آلاء ما لككما ومربيكما بتلك الآلاء تكذبان مع أن كلا منها ناطق بالحق شاهد بالصدق
178

«خلق الإنسان من صلصال كالفخار» تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين والصلصال الطين اليابس الذي له صلصال والفخار الخزف وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصال فلا تنافى بين الآية الناطقة بأحدها وبين ما نطق بأحد الآخرين «وخلق الجان» أي الجن أو أبا الجن «من مارج» من لهب صاف «من نار» بيان لمارج فإنه في الأصل للمضطرب من مرج إذا اضطرب «فبأي آلاء ربكما تكذبان» مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم «رب المشرقين ورب المغربين» بالرفع على خبرية مبتدأ محذوف أي الذي فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة رب مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما ومن قضيته أن يكون رب ما بينهما من الموجودات قاطبة وقيل على الابتداء والخبر قوله تعالى مرج الخ وقرئ بالجر على انه بدل من ربكما «فبأي آلاء ربكما تكذبان» مما في ذلك من فوائد لا تحصى من اعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته إلى غير ذلك «مرج البحرين» أي أرسلهما من مرجت الدابة إذا أرسلتها والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب «يلتقيان» أي يتجاوران ويتماس سطوحهما لا فصل بينهما في مرأى العين وقيل أرسل بحرى فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان يتشعبان منه «بينهما برزخ» أي حاجز من قدرة الله عز وجل أو من الأرض «لا يبغيان» أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وليس منهما شئ يقبل التكذيب «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان»
179

اللؤلؤ الدر والمرجان الخرز الأحمر المشهور وقيل اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره فنسبة خروجهما حينئذ إلى البحرين مع انهما إنما يخرجان من الملح على ما قالوا لما قيل أنهما لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب أو لأنهما لما التقيا وصارا كالشئ الواحد ساغ أن يقال يخرجان من البحر مع أنهما لا يخرجان من جمع البحر ولكن من بعضه وهو الأظهر وقرئ يخرج مبنيا للمفعول من الإخراج ومبنيا للفاعل بنصب اللؤلؤ والمرجان وبنون العظمة «فبأي آلاء ربكما تكذبان» «وله الجوار» أي السفن جمع جارية وقرئ برفع الراء وبحذف الياء كقول من قال لها ثنايا أربع حسان وأربع فكلها ثمان «المنشآت» المرفوعات الشرع أو المصنوعات وقرئ بكسر الشين أي الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج يجريهن «في البحر كالأعلام» كالجبال الشاهقة جمع علم وهو الجبل الطويل «فبأي آلاء ربكما تكذبان» من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه «كل من عليها» أي على الأرض من الحيوانات أو المركبات ومن التغليب أو من الثقلين «فإن» هالك لا محالة «ويبقى وجه ربك» أي ذاته عز وجل «ذو الجلال والإكرام» أي ذو الاستغناء المطبق والفضل التام وقيل الذي عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده وهذه من عظائم صفاته تعالى ولقد قال صلى الله عليه وسلم ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام وعنه عليه الصلاة والسلام أنه برجل وهو يصلى ويقول يا ذا الجلال والإكرام فقال استجيب لك وقرئ ذي الجلال والإكرام على أنه صفة ربك وأيا ما كان ففي وصفه تعالى بذلك بعد ذكر فناء الخلق وبقائه تعالى إيذان يفيض عليهم بعد فنائهم أيضا أثار لطفه وكرمه حسبما ينبئ عنه قوله تعالى «فبأي آلاء ربكما تكذبان» فإن إحياؤهم بالحياة الأبدية وإثابتهم بالنعيم المقيم أجل النعماء وأعظم الآلاء «يسأله من في السماوات والأرض» قاطبة ما يحتاجون
180

إليه في ذواتهم ووجوداتهم حدوثا وبقاء سائر أحوالهم سؤالا مستمرا بلسان المقال أو بلسان الحال فإنهم كافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشموا رائحة الوجود أصلا فهم في كل آن مستمرون على الاستدعاء والسؤال وقد مر في تفسير قوله تعالى «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» من سورة إبراهيم عليه السلام «كل يوم» أي كل وقت من الأوقات «هو في شأن» من الشؤون التي من جملتها إعطاء ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشئ أشخاصا ويغني آخرين ويأتي بأحوال ويذهب بأحوال حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة وفي الحديث من
شانه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين قيل وفيه رد على اليهود حيث يقولون إن الله لا يقضى يوم السبت شيئا «فبأي آلاء ربكما تكذبان» مع مشاهدتكم لما ذكر من إحسانه «سنفرغ لكم» أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم وذلك يوم القيامة عند انتهاء شؤون الخلق المشار إليها بقوله تعالى كل يوم هو في شأن فلا يبقى حينئذ إلا شأن واحد هو الجزاء فعبر عنه بالفراغ لهم بطريق التمثيل وقيل هو مستعار من قول المتهدد لصاحبه سأفرغ لك اى سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه وقريء سيفرغ مبنيا للفاعل وللمفعول قرىء سنفرغ إليكم اى سنقصد إليكم «أيها الثقلان» هما الإنس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض أو لرزانة آرائهما أو لأنهما مثقلان بالتكليف «فبأي آلاء ربكما» التي من جملتها التنبيه على ما سيلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب «تكذبان» بأقوالكما وأعمالكما «يا معشر الجن والإنس» هما الثقلان خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة فخوطبوا بما ينبئ عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه «إن استطعتم» أن قدرتم على «أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض» أي أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكوتي ومن أقطار سمواتى وأرضى «فانفذوا» منها وخلصوا أنفسكم من عقابي «لا تنفذون» لا تقدرون على النفوذ «إلا بسلطان» أي بقوة وقهر وأنتم من ذلك بمعزل بعيد روى أن الملائكة تنزل فتحيط بالخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها
181

إلا وجدوا الملائكة أحاطت به «فبأي آلاء ربكما تكذبان» أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على القوبة «يرسل عليكما شواظ» قيل هو اللهب الخالص وقيل المختلط بالدخان وقيل اللهب الأحمر وقيل اللهب الأخضر المنقطع من النار وقيل هو الدخان الخارج من اللهب وقيل هو النار والدخان جميعا وقرئ شواظ بكسر الشين «من نار» متعلق بيرسل أو بمضمر هو صفة لشواظ أي كائن من نار والتنوين للتفخيم «ونحاس» اى دخان وقيل صفر مذاب يصب على رؤسهم وقرئ بكسر النون وقرئ بالجر عطفا على نار وقرئ نرسل بنون العظمة ونصب شواظا ونحاسا وقرئ نحس جمع نحاس مثل لحاف ولحف وقرئ ونحس اى نقتل بالعذاب «فلا تنتصران» أي لا تمتنعان «فبأي آلاء ربكما تكذبان» فإن بيان عاقبة ما هم عليه من الكفر والمعاصي لطف وأي لطف ونعمة وأي نعمة «فإذا انشقت السماء» اى انصدعت يوم القيامة «فكانت وردة» كوردة حمراء وقرئ وردة بالرفع على أن كان تامة أي حصلت سماء وردة فيكون من باب التجريد كقول من قال
[ولئن بقيت لأرحلن بغزوة * تحوى الغنائم أو يموت كريم]
«كالدهان» خبر ثان لكانت أو نعت لوردة أو حال من اسم كانت أي كدهن الزيت وهو إما جمع دهن أو اسم لما يدهن به كالحزام والإدام وقيل هو الأديم الأحمر وجواب إذا محذوف أي يكون من الأحوال والأهوال مالا يحيط به دائرة المقال «فبأي آلاء ربكما تكذبان» مع عظم شأنها «فيومئذ» أي يوم إذ تنشق السماء حسبما ذكر «لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان» لأنهم يعرفون بسيماهم وذلك أول ما يخرجون من القبور ويحشرون إلى الموقف ذودا ذودا على اختلاف مراتبهم وأما قوله تعالى فوربك لنسألنهم أجميعن ونحوه ففي موقف المناقشة والحساب وضمير ذنبه للإنس لتقدمه رتبة وإفراده لما ان المراد فرد من الإنس كأنه قيل لا يسأل ذنبه إنسي ولا جنى «فبأي آلاء ربكما تكذبان» مع كثرة منافعها فإن الإخبار بما ذكر مما يزجركم عن
182

الشر المؤدي إليه وأما ما قيل مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم فلا تعلق له بالمقام وقوله تعالى «يعرف المجرمون بسيماهم» استئناف يجري مجرى التعليل لعدم السؤال قيل يعرفون بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل بما يعلوهم من الكآبة والحزن «فيؤخذ بالنواصي والأقدام» الجار والمجرور هو القائم مقام الفاعل يقال أخذه إذا كان المأخوذ مقصودا بالأخذ ومنه قوله تعالى خذوا حذركم ونحوه وأخذ به إذا كان المأخوذ شيئا من ملابسات المقصود بالأخذ ومنه قوله تعالى لا تأخذ بلحيتي ولا برأسى وقول المستغيث خذ بيدي أخذ الله بيدك أي يجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم وقيل تسحبهم الملائكة تارة تأخذ بالنواصي وتارة تأخذ بالأقدام «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون» على إرادة القول أي يقال لهم ذلك بطريق التوبيخ على أن الجملة إما استئناف وقع جوابا عن سؤال ناشئ من حكاية الأخذ بالنواصي والأقدام كأنه قيل فماذا يفعل بهم عند ذلك فقيل يقال الخ أو حال من أصحاب النواصي والاقدام لأن الألف واللام عوض عن المضاف إليه وما بينهما اعتراض «يطوفون» أي بين النار يحرقون بها «وبين حميم آن» ماء بالغ من الحرارة أقصاها يصب عليهم أو يسقون منه وقيل إذا استغاثوا من النار أغيثوا بالحميم «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقد أشير إلى سر كون بيان أمثال هذه الأمور من قبيل الآلاء مرارا «ولمن خاف مقام ربه» شروع في تعداد الآلاء الفائضة عليهم في الآخرة بعد تعداد ما وصل إليهم في الدنيا من الآلاء الدينية والدنيوية واعلم أن ما عدد فيما بين هذه الآية وبين خاتمة السورة الكريمة من فنون الكرامات كما أن أنفسها آلاء جليلة واصلة إليهم في الآخرة كذلك حكاياتها الواصلة إليهم في الدنيا آلاء عظيمة لكونها داعية لهم إلى السعي في تحصيل ما يؤدى إلى نيلها من الإيمان والطاعة وأن ما فصل من فاتحة السورة الكريمة إلى قوله تعالى كل يوم هو في شأن من النعم الدينية والدنيوية الأنفسية والآفاقية آلاء جليلة واصلة إليهم في الدنيا وكذلك حكاياتها من حيث إيجابها للشكر والمثابرة على
183

ما يؤدى إلى استدامتها واما ما عدد فيما بين قوله تعالى سنفرغ لكم وبين هذه الآية من الأحوال الهائلة التي ستقع في الآخرة فليست هي من قبيل الآلاء وإنما الآلاء حكاياتها الموجبة للانزجار عما يؤدى على الابتلاء بها من الكفر والمعاصي كما أشير إليه في تضاعيف تعدادها ومقامه تعالى موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم يقوم الناس لرب العالمين أو قيامه تعالى على أحواله من قام عليه إذا راقبه أو مقام الخائف عند ربه للحساب بأحد المعنيين وإضافته إلى الرب للتفخيم والتهويل أو مقحم للتعظيم «جنتان» جنة للخائف الإنسى وجنة للخائف الجنى فإن الخطاب للفريقين فالمعنى لكل خائفين منكما أو لكل واحد جنة لعقيدته وأخرى لعمله أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصي أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه أو روحانية وجسمانية وكذا ما جاء مثنى بعد «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «ذواتا أفنان» صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيها على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ والأفنان إما جمع فن أي ذواتا أنواع من الأشجار
والثمار أو جمع فنن أي ذواتا أغصان متشعبة من فروع الشجر وتخصيصها بالذكر لأنها التي تورق وتثمر وتمد الظل «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وليس فيها شئ يقبل التكذيب «فيهما عينان تجريان» صفة أخرى لجنتان أي في كل واحدة عين تجرى كيف يشاء صاحبها في الأعالي والأسافل وقيل تجريان من جبل من مسك وعن ابن عباس والحسن تجريان بالماء الزلال إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل وقيل أحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين قال أبو بكر الوراق فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «فيهما من كل فاكهة زوجان» أي صنفان معروف وغريب أو رطب ويابس صفة أخرى لجنتان وتوسيط الاعتراض بين الصفات لما مر آنفا «فبأي آلاء ربكما تكذبان»
184

وقوله تعالى «متكئين» حال من الخائفين لأن من خاف في معنى الجمع أو نصب على المدح «على فرش بطائنها من إستبرق» من ديباج ثخين وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظهائرها وقيل ظهائرها من سندس وقيل من نور «وجنى الجنتين دان» أي ما يجتنى من أشجارها من الثمار قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع قال ابن عباس رضى الله عنهما تدنو الشجرة حتى تجتنيها ولى الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا وقرئ بكسر الجيم «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «فيهن» أي في الجنان المدلول عليه بقوله تعالى جنتان لما عرفت أنهما لكل خائفين من الثقلين أو لكل خائف حسب تعدد عمله وقد اعتبر الجمعية في قوله تعالى متكئين وقيل فيهما من الأماكن والقصور وقيل في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والفاكهة والفرش «قاصرات الطرف» نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم «لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان» أي لم يمس الإنسيات أحد من الإنس ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن المدلول عليهم بقاصرات الطرف وقيل بقوله تعالى متكئين وفيه دليل على أن الجن يطمثون وقرئ يطمثهن بضم الميم والجملة صفة لقاصرات الطرف لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصصها بالإضافة «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «كأنهن الياقوت والمرجان» إما صفة لقاصرات الطرف أو حال منها كالتي قبلها أي مشبهات بالياقوت في حمرة الوجنة والمرجان أي صغار الدر في بياض البشر وصفائها فإن صغار الدر أنصع بياضا من كباره قيل إن الحوراء تلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» استئناف مقرر لمضمون ما فصل قبله أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب
185

«فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «ومن دونهما جنتان» مبتدأ وخبر أي ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين جنتان أخريان لمن دونهن من أصحاب اليمين «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «مدهامتان» صفة لجنتان وسط بينهما الاعتراض لما ذكر من التنبيه على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار والتوبيخ أي خضراوان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة وفيه إشعار بأن الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض وعلى الأولين الأشجار والفواكه «فبأي آلاء ربكما تكذبان» «فيهما عينان نضاختان» أي فوارتان بالماء والنضح أكثر من النضح بالحاء المهملة وهو الرش «فبأي آلاء ربكما تكذبان» «فيهما فاكهة ونخل ورمان» عطف الأخيران على الفاكهة عطف جبريل وميكال على الملائكة بيانا لفضلهما فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء والرمان فاكهة ودواء وعن هذا قال أبو حنيفة رحمه الله من حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «فيهن خيرات» صفة أخرى لجنتان كالجملة التي قبلها والكلام في جميع الضمير كالذي مر فيما مر وخيرات مخففة من خيرات لأن خيرا الذي بمعنى أخير لا يجمع وقد قرئ على الأصل «حسان» أي حسان الخلق والخلق
186

«فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «حور» بدل من خيرات «مقصورات في الخيام» قصرن في خدورهن يقال امرأة قصيرة وقصورة أي مخدرة أو مقصورات الطرف على أزواجهن وقيل إن الخيمة من خيامهن درة مجوفة «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان» كالذي مر في نظيره من جميع الوجوه «فبأي آلاء ربكما تكذبان» «متكئين» نصب على الاختصاص «على رفرف خضر» الرفرف إما اسم جنس أو اسم جمع واحده رفرفة قيل هو ما تدلى من الأسرة من أعالي الثياب وقيل هو ضرب من البسط أو البسط وقيل الوسائد وقيل النمارق وقيل كل ثوب عريض رفرف وقيل لأطراف البسط وفضول الفسطاط رفارف ورفرف السحاب هيدبه «وعبقري حسان» العبقري منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبون إليه كل شيء عجيب والمراد به الجنس ولذلك وصف بالجمع حملا على المعنى كما في رفرف على أحد الوجهين وقرئ على رفارف خضر بضمتين وعباقري كمدائني نسبة إلى عباقر في اسم البلد «فبأي آلاء ربكما تكذبان» وقوله تعالى «تبارك اسم ربك» تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم الرحمن المنبىء عن إفاضته الآلاء المفصلة وارتفع عما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها وإذا كان حال اسمه بملامسة دلالته عليه فما ظنك بذاته الأقدس الأعلى وقيل الاسم بمعنى الصفة وقيل مقحم كما في قول من قال
* إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
* «ذي الجلال والإكرام» وصف به الرب تكميلا لما ذكر من التنزيه والتقرير وقرئ ذو الجلال على أنه نعت للاسم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سروة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله عليه
187

«بسم الله الرحمن الرحيم» «إذا وقعت الواقعة» أي إذا قامت القيامة وذلك عند النفخة الثانية والتعبير عنها بالواقعة للإيذان بتحقق وقعها لا محالة كأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الوقوع الواقع في حيز الشرط كأنه قيل كانت الكائنة وحدثت الحادثة وانتصاب إذا بمضمر ينبئ عن الهول والفظاعة كأنه قيل إذا وقعت الواقعة يكون من الأهوال مالا يفي به المقال وقيل بالنفي المفهوم من قوله تعالى «ليس لوقعتها كاذبة» اى لا يكون عند وقوعها نفس تكذب على الله تعالى أو تكذب في نفيها كما تكذب
اليوم واللام كهي في قوله تعالى يا ليتني قدمت لحياتي وهذه الجملة على الوجه الأول اعتراض مقرر لمضمون الشرط على أن الكاذبة مصدر كالعافية أي ليس لأجل وقعتها وفي حقها كذب أصلا بل كل ما ورد في شأنها من الأخبار حق صادق لا ريب فيه وقوله تعالى «خافضة رافعة» خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة لأقوام رافعة لآخرين وهو تقرير لعظمتها وتهويل لأمرها فإن الوقائع العظام شأنها كذلك أو بيان لما يكون يؤمئذ من حط الأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى الدرجات ومن زلزلة الأشياء وإزالة الأجرام عن مقارها بنثر الكواكب وإسقاط السماء كسفا وتسيير الجبال في الجو كالسحاب وتقديم الخفض على الرفع للتشديد في التهويل وقرئ خافضة رافعة بالنصب على الحال من الواقعة وقوله تعالى «إذا رجت الأرض رجا» أي زلزلت زلزالا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل متعلق بخافضة رافعة أي تخفض وترفع وقت رج الأرض إذ عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض أو بدل من إذا وقعت «وبست الجبال بسا» أي فتت حتى صارت
188

مثل السويق الملتوت من بس السويق إذا لته أو سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها كقوله تعالى وسيرت الجبال وقرئ رجت وبست أي ارتجت وذهبت «فكانت» أي فصارت بسبب ذلك «هباء» غبارا «منبثا» منتشرا «وكنتم» إما خطاب للأمة الحاضرة والأمم السالفة تغليبا أو للحاضرة «أزواجا» أي أصنافا «ثلاثة» فكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو في الذكر فهو زوج وقوله تعالى «فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة» وأصحاب المشامة ما أصحاب المشأمة تقسيم وتنويع للأزواج الثلاثة مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها فقوله تعالى فأصحاب الميمنة مبتدأ وقوله ما أصحاب الميمنة خبره على ان ما الإستفهامية مبتدأ ثان ما بعده خبره والجملة خبر الأول والأصل ما هم أي أي شيء هم في حالهم وصفتهم فإن ما وإن شاعت في طلب مفهوم الاسم والحقيقة لكنها قد يطلب بها الصفة والحال تقول ما زيد فيقال عالم أو طبيب فوضع الظاهر موضع الضمير لكونه أدخل في التفخيم وكذا الكلام في وقوله تعالى وأصحاب المشامة ما أصحاب المشامة والمراد تعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال وأصحاب المشأمة في نهاية سوء الحال وتكلموا في الفريقين فقيل أصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذا من تيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل وقيل الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم وقيل الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة والذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار وقيل أصحاب اليمين وأصحاب الشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم عليها بمعاصيهم وقوله تعالى «والسابقون السابقون» هو القسم الثالث من الأزواج الثلاثة ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأقسام وأقدمهم في الفضل ليقترن ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم على أن يرادهم بعنوان السبق مطلقا معرب عن إحرازهم لقصب السبق من جميع الوجوه وتكلموا فيهم أيضا فقيل هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان وقيل الذين سبقوا في حيازة الفضائل والكمالات وقيل هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى والسابقون الأولين من المهاجرين والأنصار وقيل هم السابقون إلى صلوات الخمس وقيل المسارعون في الخيرات وأيا ما كان فالجملة مبتدأ وخبر
189

والمعنى والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت محاسنهم كقول أبى النجم
[أنا أبو النجم وشعرى شعري]
وفيه تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم واستغنائهم عن الوصف بالجميل مالا يخفى وقيل والسابقون إلى طاعة الله تعالى السابقون إلى رحمته أو السابقون إلى الخير والسابقون إلى الجنة وقوله تعالى «أولئك» إشارة إلى السابقين وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل ومحله الرفع على الابتداء خبره ما بعده أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل «المقربون» أي الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم وأعليت مراتبهم ورقيت إلى حظائر القدس نفوسهم الزكية هذا اظهر ما ذكر في إعراب هذه الجمل وأشهره والذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى فأصحاب الميمنة خبر مبتدأ محذوف وكذا قوله تعالى وأصحاب المشأمة وقوله تعالى والسابقون فإن المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام الثلاثة وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذ ذلك بإسنادها إليها والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كل منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عن ترامى أحوالهما في الخير والشر إنباء إجماليا مشعرا بان لأحوال كل منهما تفصيلا مترقبا لكن لا على أن ما الاستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على ما رآه سيبويه في أمثاله بل على أنها خبر لما بعدها فإن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون ما خبر إلا بيان أن أمرا بديعا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال في أصحاب المشأمة وأما القسم الأخير فحيث قرن بيان محاسن أحواله بذكره لم يحتج فيه إلى تقديم إلا نموذج فقوله تعالى السابقون مبتدأ والإظهار في مقام الإضمار للتفخيم وأولئك مبتدأ ثان أو بدل من الأول وما بعده خبر له أو الثاني والجملة خبر للأول وقوله تعالى «في جنات النعيم» متعلق بالمقربون أو بمضمر هو حال من ضميره أي كائنين في جنات النعيم وقيل خبر ثان لاسم الإشارة وفيه أن الأخبار بكونهم مقربين ليس فيه مزيد مزية وقرئ في جنة النعيم وقوله تعالى «ثلة من الأولين» خبر مبتدأ محذوف أي هم أمة جمة من الأولين وهم الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى بينهما من الأنبياء العظام «وقليل من الآخرين» أي من هذه الأمة ولا يخالفه قوله عليه الصلاة والسلام إن أمتي يكثرون
190

سائر الأمم فإن أكثرية سابقى الأمم السالفة من سابقى هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك ولا يرده قوله تعالى في أصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين لأن كثرة كل من الفريقين في أنفسهما لا تنافى أكثرية أحدهما من الآخر وسيأتي أن الثلثين من هذه الأمة وقد روى مرفوعا أن الأولين والآخرين ههنا أيضا متقدمو هذه الأمة ومتأخروهم واشتقاق الثلة من الثل وهو الكسر «على سرر موضونة» حال أخرى من المقربين أو من ضميرهم في الحال الأولى وقيل خبر آخر للضمير والموضونة المنسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت أو المتواصلة من الوضن وهو النسج «متكئين عليها متقابلين» حالان من الضمير المستكن فيما تعلق به على سرر أي مستقرين على سرر متكئين عليها متقابلين لا ينظر بعضهم من أقفاء بعض وهو وصف لهم بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب «يطوف عليهم» حال
أخرى أو استئناف أي يدور حولهم للخدمة «ولدان مخلدون» أي مبقون أبدا على شكل الولدان وطراوتهم لا يتحولون عنها وقيل مقرطون والخلد القرط قيل هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها روى ذلك عن على رضى الله عنه وعن الحسن رحمه الله وفى الحديث أولاد الكفار خدام أهل الجنة «بأكواب» بآنية لا عرى لها ولا خراطيم «وأباريق» أي آنية ذات عرى وخراطيم «وكأس من معين» أي خمر جارية من العيون قيل إنما أفرد الكأس لأنها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت مملوءة «لا يصدعون عنها» أي بسببها وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها وقرئ لا يصدعون أي لا يتصدعون ولا يتفرقون كقوله تعالى يومئذ يصدعون وقرئ لا يصدعون أي لا يفرق بعضهم بعضا «ولا ينزفون» أي لا يسكرون من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه «وفاكهة مما يتخيرون» أي يختارونه ويأخذون خبره وأفضله «ولحم طير مما يشتهون» أي يتمنون وقرئ ولحوم طير
191

«وحور عين» بالرفع عطف على ولدان أو مبتدأ محذوف الخبر أي وفيها أولهم حور وقرئ بالجر عطفا على جنات النعيم كأنه قيل هم في جنات وفاكهة ولحم ومصاحبة حور أو على أكواب لأن معنى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بأكواب وبالنصب أي ويؤتون حورا «كأمثال اللؤلؤ المكنون» صفة لحور أو حال «جزاء بما كانوا يعملون» مفعول له أي يفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم أو مصدر مؤكد أي يجزون جزاء «لا يسمعون فيها لغوا» أي باطلا «ولا تأثيما» أي ولا نسبة إلى الإثم أي لا لغو فيها ولا تأثيم ولا سماع كقوله
* ولا ترى الضب بها ينجحر
* «إلا قيلا» أي قولا «سلاما سلاما» بدل من قيلا كقوله تعالى لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما أو صفته أو مفعوله بمعنى لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاما سلاما والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلمون سلاما بعد سلام أو لا يسمع كل من المسلم والمسلم عليه الإسلام الآخر بدءا أو ردا وقرئ سلام سلام على الحكاية وقوله تعالى «وأصحاب اليمين» شروع في تفصيل ما أجمل عند تقسيم من شؤنهم الفاضلة إثر تفصيل شؤون السابقين وهو مبتدأ وقوله تعالى «ما أصحاب اليمين» جملة استفهامية مسوقة لتفخيمهم والتعجيب من حالهم وقد عرفت كيفية سبكها محلها إما الرفع على أنها خبر للمبتدأ أو معترضة لا محل لها والخبر قوله تعالى «في سدر مخضود» وهو على الأول خبر ثان للمبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف والجملة استئناف لبيان ما أبهم في قوله تعالى ما أصحاب اليمين من علو الشأن هم في سدر غير ذي شوك لا كسدر الدنيا وهو شجر النبق كأنه خضد شوكه أي قطع وقيل مخضود أي مثنى أغصانه لكثرة حمله من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب «وطلح منضود» قد نضد حمله من أسفله إلى أعلاه ليست له ساق بارزة وهو شجر
192

الموز وأم غيلان وله أنوار كثيرة منتظمة طيبة الرائحة وعن السدى شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل وعن على رضى الله عنه أنه قرأ وطلع وما شأن الطلح وقرأ قوله تعالى لها طلع نضيد فقيل أو نحو لها قال آي القرآن لا تهاج ولا تحول وعن ابن عباس نحوه «وظل ممدود» ممتد منبسط لا يتقلص ولا يتعاون كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس «وماء مسكوب» يسكب لهم أينما شاؤوا وكيفما أرادوا بلا تعب أو مصبوب سائل يجرى على الأرض في غير أخدود كأنه مثل حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن وقال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي إيذان بالتعاون بين الحالين «وفاكهة كثيرة» بحسب الأنواع والأجناس «لا مقطوعة» في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا «ولا ممنوعة» من متناوليها بوجه من الوجوه لا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا وقرئ فاكهة كثيرة بالرفع على وهناك فاكهة الخ كقوله تعالى وحور عين «وفرش مرفوعة» أي رفيعة القدر أو منضدة مرتفعة أو مرفوعة على الأسرة وقيل الفرش النساء حيث يكنى بالفراش عن المرأة وارتفاعها كونهن على الأرائك قال تعالى هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون ويدل عليه قوله تعالى «إنا أنشأناهن إنشاء» وعلى التفسير الأول أضمر لهن لدلالة ذكر الفرش التي هي المضاجع عليهن دلالة بينة والمعنى ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدا أو أبدعناهن من غير ولاد إبداء أو إعادة وفى الحديث هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا جعلهن الله تعالى بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا وقوله تعالى «فجعلناهن أبكارا» وقوله تعالى «عربا»
193

جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل وقرئ عربا بسكون الراء «أترابا» مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن واللام في قوله تعالى «لأصحاب اليمين» متعلقة بأنشأنا أو جعلنا أو بأترابا كقولك هذا ترب لهذا أي مساو له السن وقيل بمحذوف هو صفة لأبكار أي كائنات لأصحاب اليمين أو خبر متبدأ محذوف أي هن لأصحاب اليمين وقيل خبر لقوله تعالى «ثلة من الأولين» «وثلة من الآخرين» وهو بعيد بل هو خبر مبتدأ محذوف ختمت به قصة أصحاب اليمين أي هم أمة من الأولين وأمة من الآخرين وقد مر الكلام فيهما وعن أبي العالية ومجاهد وعطاء والضحاك ثلة من الأولين أي من سابقي هذه الأمة وثلة من الآخرين من هذه الأمة في آخر الزمان وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما في هذه الآية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم جميعا من أمتي «وأصحاب الشمال» شروع في تفصيل أحوالهم التي أشير عند التنويع إلى هولها وفظاعتها بعد تفصيل حسن حال أصحاب اليمين والكلام في قوله تعالى «ما أصحاب الشمال» عين ما فصل في نظيره وكذا في قوله تعالى «في سموم وحميم» والسموم حر نار ينفذ في المسام والحميم الماء المتناهي في الحرارة «وظل من يحموم» من دخان أسود بهيم «لا بارد» كسائر الظلام «ولا كريم» فيه خير ما في الجملة سمى ذلك ظلا ثم نفى عنه وصفاه البرد والكرم عبر به عن دفع أذى الحر لتحقيق أنه ليس بظل وقرئ لا بارد ولا كريم بالرفع أي لا هو بارد ولا كريم وقوله تعالى «إنهم كانوا قبل ذلك مترفين» تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب أي إنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم عذبوا
194

بنقائضها «وكانوا يصرون على الحنث العظيم» أي الذنب العظيم الذي هو الشرك ومنه قولهم بلغ
الغلام الحنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب (وكانوا يقولون) لغاية عتوهم وعنادهم (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما) أي كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ترابا وبعضها عظاما نخرة وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية وإذا متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى (أئنا لمبعوثون) لا نفسه لأن ما بعد إن واللام والهمزة لا يعمل فيها قبلها وهو نبعث وهو المرجع للإنكار وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له بالكلية وتكرير الهمزة لتأكيد النكير وتحلية الجملة بان لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما عسى يتوهم من ظاهر النظم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة كما في مثل قوله أفلا تعقلون على رأى الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيب الإنكار لا إنكار التعقيب كما هو المشهور وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونهم ترابا وعظاما بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة وفيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال مالا مزيد عليه وتكرير الهمزة في قوله تعالى أو آباؤنا الأولون» لتأكيد النكير والواو للعطف على المستكن في لمبعوثون وحسن ذلك الفضل بالهمزة يعنون أن بعث آبائهم الأولين أبعد من الوقوع وقرئ أو آباؤنا قل» ردا الإنكارهم وتحققا للحق إن الأولين والآخرين» من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم وفي تقديم الأولين مبالغة في الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي / لمجموعة / بعد البعث وقرئ لمجموعون «إلى ميقات يوم معلوم» إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم والإضافة بمعنى من كخاتم «ثم إنكم أيها الضالون» عطف على أن الأولين داخل تحت القول وثم للتراخى زمانا أو رتبة المكذبون» أي بالبعث والخطاب لأهل مكة وأضرابهم
195

«لآكلون» بعد البعث والجمع ودخول جهنم «من شجر من زقوم» من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسيره أي مبتدئون الأكل من شجر هو زقوم وقيل من الثانية متعلقة بمضمر هو وصف لشجر أي كائن من زقوم «فمالئون منها البطون» اى بطونكم من شدة الجوع «فشاربون عليه» عقيب ذلك بلا ريث «من الحميم» أي الماء الحار في الغاية وتأنيث ضمير الشجر أولا وتذكيره ثانيا باعتبار المعنى واللفظ وقرئ من شجرة فضمير عليه حينئذ للزقوم وقيل للآكل وقوله تعالى «فشاربون شرب الهيم» كالتفسير لما قبله على طريقة قوله تعالى فكذبوا عبدنا أي لا يكون شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم وهي الإبل التي بها الهيام وهو داء يصيبها فتشرب ولا تروى جمع أهيم وهيماء وقيل الهيم الرمال على أنه جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل إلي لا يتماسك جمع على فعل كسحاب وسحب ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع والتهاب النار في أحشائهم ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل فإذا ملؤا منه بطونهم وهو في غاية الحرارة والمرارة سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربون شرب الهيم وقرئ شرب الهيم بالفتح وهو أيضا مصدر وقرئ بالكسر على أنه اسم المشروب «هذا» الذي ذكر من أنواع العذاب «نزلهم يوم الدين» أي يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يعد للنازل مما حضر فما ظنك بما لهم بعد ما استقر لهم القرار واطمأنت بهم الدار في النار وفيه من التهكم بهم مالا يخف وقرء نزلهم بسكون الزاي تخفيفا والجملة مسوقة من جهته تعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول وقوله تعالى «نحن خلقناكم فلولا تصدقون» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة بطريق الإلزام والتبكيت والفاء لترتيب التحضيض على ما قبلها أي فهلا تصدقون بالخلق فإن مالا يحققه العلم ولا يساعده بل ينبئ عن خلافه ليس من التصديق في شيء وقيل بالبعث استدلالا عليه بالإنشاء فإن من قدر عليه قدر على الإعادة حتما والأول هو الوجه كما ستحيط به خبرا
196

«أفرأيتم ما تمنون» أي تقذفون في الأرحام من النطف وقرئ بفتح التاء من منى النطفة بمعنى أمناها «أأنتم تخلقونه» أي تقدرونه وتصورونه بشرا سويا «أم نحن الخالقون» له من غير دخل شيء فيه وأم قيل منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى بل أنحن الخالقون على أن الاستفهام للتقرير وقيل متصلة ومجىء الخالقون بعد نحن بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة «نحن قدرنا بينكم الموت» أي قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة وقرئ قدرنا مخففة «وما نحن بمسبوقين» أي إنا قادرون «على أن نبدل أمثالكم» لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق «وننشئكم في ما لا تعلمون» من الخلق والأطوار ولا تعهدون بمثلها قال الحسن رحمه الله أي نجعلكم قردة وخنازير وقيل المعنى وننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا فمن هذا شانه كيف يعجز عن إعادتكم وقيل المعنى وما يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته وعلى ان نبدل الخ إما حال من فاعل قدرنا أو علة للتقدير وعلى بمعنى اللام وما بينهما اعتراض «ولقد علمتم النشأة الأولى» هي خلقهم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وقيل هي فطرة آدم عليه السلام من التراب «فلولا تذكرون» فهلا تتذكرون أن من قدر عليها قدر على النشأة الأخرى حتما فإنه أقل صنعا لحصول المواد وتخصص الأجزاء وسبق المثال وفيه دليل على صحة القياس وقرئ فلولا تذكرون من الثلاثي وفي الخبر عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور «أفرأيتم ما تحرثون» أي تبذرون حبه وتعملون في أرضه «أأنتم تزرعونه» تنبتونه وتردونه نباتا يرف «أم نحن الزارعون» أي المنبتون لا أنتم والكلام في أم كما مر آنفا «لو نشاء لجعلناه حطاما» هشيما متكسرا متفتتا بعد ما أنبتناه وصار بحيث طمعتم في حيازة غلاله
197

«فظلتم» بسبب ذلك «تفكهون» تتعجبون من سوء حالة إثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال أو تندمون على ما تعبتم فيه وأنفقتم عليه أو على ما اقترفتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه والتفكه التنقل بصنوف الفاكهة وقد استعير للتنقل بالحديث وقرئ تفكنون أي تتندمون وقرئ فظلتم بالكسر وفظللتم على الأصل «إنا لمغرمون» أي لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون بهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك وقرئ أننا على الاستفهام والجملة على القراءتين مقدرة بقول هو في حيز النصب على الحالية من فاعل تفكهون أي قائلين أو تقولون إنا لمغرمون «بل نحن محرومون» حرمنا رزقنا أو محارفون محدودون لاحظ لنا ولا بخت لا مجدودون «أفرأيتم الماء الذي تشربون» عذبا فراتا وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعه لأن الشرب أهم المقاصد المنوطة به «أأنتم أنزلتموه من المزن» أي من السحاب واحده
مزنة وقيل هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب «أم نحن المنزلون» له بقدرتنا «لو نشاء جعلناه أجاجا» ملحا زعاقا لا يمكن شربه وحذف اللام ههنا مع إثباتها في الشرطية الأولى للتعويل على علم السامع أو الفرق بين المطعوم والمشروب في الأهمية وصعوبة الفقد والشرطيتان مستأنفتان مسوقتان لبيان أن عصمته تعالى للزرع والماء عما يخل بالتمتع بهما نعمة أخرة بعد نعمة الإنبات والإنزال مستوجبة للشكر فقوله تعالى «فلولا تشكرون» تحضيض على شكر الكل «أفرأيتم النار التي تورون» أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد «أأنتم أنشأتم شجرتها» التي منها الزناد وهي المرخ والعفار «أم نحن المنشئون» لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها بالإنشاء المنبىء عن بديع الصنع المعرب عن كمال القدرة والحكمة لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الشجر التي لا تخلو عن النار حتى قيل في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار كما ان التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله تعالى ثم أنشأناه خلقا آخر لذلك
198

وقوله تعالى «نحن جعلناها تذكرة» استئناف مبين لمنافعها أي جعلناها تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا ما أعدوا به من نار جهنم أو تذكرة وأنموذجا من نار جهنم لما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم وقيل تبصرة في امر البعث فإنه ليس بأبدع من إخراج النار من الشئ الرطب «ومتاعا» ومنفعة «للمقوين» للذين ينزلون القواء وهى القفر وتخصيصهم بذلك لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد وقد جوز أن يراد بالمقوين الذين خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام وهو بعيد لعدم انحصار ما يهمهم ويسد خللهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروى والفاء في قوله تعالى «فسبح باسم ربك العظيم» لترتيب ما بعده على ما عدد من بدائع صنعه تعالى وروائع نعمه الموجبة لتسبيحه تعالى إما تنزيها له تعالى عما يقوله الجاحدون بوحدانيته الكافرون بنعمته مع عظمها وكثرتها أو تعجبا من أمرهم في غمط تلك النعم الباهرة مع جلالة قدرها وظهور أمرها أو شكرا على تلك النعم السابقة اى فأحدث التسبيح بذكر اسمه تعالى أو بذكره فإن إطلاق الاسم للشئ ذكر له والعظيم صفة للاسم أو الرب «فلا أقسم» أي فأقسم ولا مزيدة للتأكيد كما في قوله تعالى لئلا يعلم أو فلأنا أقسم فحذف المبتدأ وأشبع فتحة لام الابتداء ويعضده قراءة من قرأ فلا أقسم أو فلا راد لكلام يخالف المقسم عليه واما ما قيل من المعنى فلا أقسم إذ الأمر أوضح من ان يحتاج إلى قسم فيأباه تعيين المقسم به وتفخيم شأن القسم به «بمواقع النجوم» أي بمساقطها وهى مغاربها وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير أو لأن ذلك وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه تعالى وأوان نزول الرحمة والرضوان عليهم أو بمنازلها ومجاريها فإن له تعالى في ذلك من الدليل على عظم قدرته وكمال حكمته مالا يحيط به البيان وقيل النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها وقوله تعالى «وإنه لقسم لو تعلمون عظيم» اعتراض في اعتراض قصد به المبالغة في تحقيق مضمون الجملة القسمية وتأكيده حيث اعترض بقوله وإنه لقسم بين القسم وجوابه الذي هو قوله تعالى «إنه لقرآن كريم»
199

أي كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد أو حسن مرضى أو كريم عند الله تعالى وبقوله تعالى لو تعلمون بين الموصوف وصفته وجواب لو إما متروك أريد به نفى علمهم أو محذوف ثقة بظهوره أي لعظمتموه أو لعملتم بموجبه «في كتاب مكنون» أي مصون من غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم وهو اللوح «لا يمسه إلا المطهرون» إما صفة أخرى لكتاب فالمراد بالمطهرين الملائكة المنزهون عن الكدورات الجسمانية وأوضار الأوزار أو للقرآن فالمراد بهم المطهرون من الأحداث فيكون نفيا بمعنى النهى أي لا ينبغي أن يمسه إلا من كان على طهارة من الناس على طريقة قوله عليه الصلاة والسلام المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه أي لا ينبغي له أن يظلمه وقيل لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر وقرئ المتطهرون والمطهرون بالإدغام والمطهرون من أطهره بمعنى طهره والمطهرون أي أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار أو غيره «تنزيل من رب العالمين» صفة أخرى للقرآن وهو مصدر نعت به حتى جرى مجرى اسمه وقرئ تنزيلا «أفبهذا الحديث» الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله وهو القرآن الكريم «أنتم مدهنون» أي متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به «وتجعلون رزقكم» أي شكر رزقكم «أنكم تكذبون» أي تضعون التكذيب موضع الشكر وقرئ وتجعلون شكركم أنكم تكذبون أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به وقيل الرزق المطر والمعنى وتجعلون شكر ما يرزقكم الله تعالى من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء والأول هو الأوفق لسباق النظم الكريم وسياقه فإن قوله عز وجل «فلولا إذا بلغت الحلقوم» الخ تبكيت مبنى على تكذيبهم بالقرآن فيما نطق به قوله تعالى نحن خلقناكم إلى هنا من القوارع الدالة على كونهم تحت ملكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم كما ستقف عليه ولولا للتحضيض لإظهار عجزهم وإذا ظرفية أي فهلا إذا بلغت النفس أي الروح وقيل
200

نفس الحلقوم وتداعت إلى الخروج «وأنتم حينئذ» أيها الحاضرون حول صاحبها «تنظرون» إلى ما هو من الغمرات «ونحن أقرب إليه» علما وقدرة وتصرفا «منكم» حيث لا تعرفون من حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدة من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها ولا أن تقدروا على دفع أدنى شيء منها ونحن المتولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت «ولكن لا تبصرون» لا تدركون ذلك لجهلكم بشؤننا وقوله تعالى «فلولا إن كنتم غير مدينين» أي غير مربوبين من دان السلطان رعيته إذا ساسهم واستعبدهم ناظر إلى قوله تعالى نحن خلقناكم فلولا تصدقون فإن التحضيض يستدعى عدم المحضض عليه حتما وقوله تعالى «ترجعونها» أي النفس إلى مقرها هو العامل في إذا والمحضض عليه بلولا الأولى والثانية مكررة للتأكيد وهي مع ما في حيزها دليل جواب الشرط والمعنى إن كنتم غير مربوبين كما ينبئ عنه عدم تصديقكم بخلقنا إياكم فهلا ترجعون النفس إلى مقرها عند بلوغها الحلقوم «إن كنتم صادقين» في اعتقادكم فإن عدم تصديقهم بخالقيته تعالى لهم عبارة عن تصديقهم بعدم خالقيته تعالى بموجب مذهبهم وقوله تعالى «فأما إن كان من المقربين» الخ شروع في بيان حال المتوفى بعد الممات إثر بيان حاله عند الوفاة أي فأما إن كان الذي بين حاله من السابقين من الأزواج الثلاثة عبر عنهم بأجل أوصافهم «فروح» أي فله استراحة وقرئ فروح بضم الراء وفسر بالرحمة لأنها سبب لحياة المرحوم وبالحياة
الدائمة «وريحان» وزرق «وجنة نعيم» أي ذات تنعم «وأما إن كان من أصحاب اليمين» عبر عنهم بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيا سبق وصف واحد ينبئ عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الآخرين
201

وقوله تعالى «فسلام لك من أصحاب اليمين» إخبار من جهته تعالى بتسليم بعضهم على بعض كما يفصح عنده اللام لا حكاية إنشاء سلام بعضهم على بعض وإلا لقيل عليك والالتفات إلى خطاب كل وحد منهم للتشريف «وأما إن كان من المكذبين الضالين» وهم أصحاب الشمال عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ذما لهم بذلك وإشعارا بسبب ما ابتلوا به من العذاب «فنزل» أي فله نزل كائن «من حميم» يشرب بعد أكل الزقوم كما فصل فيما قبل «وتصلية جحيم» أي إدخال في النار وقيل إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وقيل ذلك ما يجده في القبر من سموم النار ودخانها «إن هذا» أي الذي ذكر في السورة الكريمة «لهو حق اليقين» اى حق الخبر اليقين وقيل الحق الثابت من اليقين والفاء في قوله تعالى «فسبح باسم ربك العظيم» لترتيب التسبيح أو الأمر به على ما قبلها فإن حقية ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل من الأمور التي من جملتها الإشراك به والتكذيب بآياته الناطقة بالحق عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرا سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة ابدا
202

«بسم الله الرحمن الرحيم» «سبح لله ما في السماوات والأرض» التسبيح تنزيه الله تعالى اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه من سبح في الأرض والماء إذا ذهب وأبعد فيهما وحيث أسند ههنا إلى غير العقلاء أيضا فإن ما في السماوات والأرض يعم جميع ما فيهما سواء كان مستقرا فيهما أو جزءا منهما كما مر في آية الكرسي أريد به معنى عام مجازى شامل لما نطق به لسان المقال كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين ولسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل فرد من افراد الموجودات يدل بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود المتصف بالكمال المنزه عن النقصان وهو المراد بقوله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده وهو متعد بنفسه كما في قوله تعالى وسبحوه واللام إما مزيده للتأكيد كما في نصحت له وشكرت له أو للتعليل أي فعل التسبيح لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه ومجيئه في بعض الفواتح ماضيا وفي البعض مضارعا للإيذان بتحققه في جميع الأوقات وفيه تنبيه على ان حق من شانه التسبيح الاختياري أن يسبحه تعالى في جميع أوقاته كما عليه الملأ الأعلى حيث يسبحون الليل والنهار لا يفترون «وهو العزيز» القادر الغالب الذي لا يمانعه ولا ينازعه شيء «الحكيم» الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشعر بعلة الحكم وكذا قوله تعالى «له ملك السماوات والأرض» أي التصرف الكلى فيهما وفيما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والأعدام وسائر التصرفات مما نعلمه ومالا نعلمه وقوله تعالى «يحيي ويميت» استئناف مبين لبعض أحكام الملك والتصرف وجعله حالا من ضمير له ليس كما ينبغي «وهو على كل شيء» من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة «قدير» مبالغ في القدرة «هو الأول» السابق على سائر الموجودات لما أنه مبدئها ومبدعها «والآخر» الباقي بعد فنائها حقيقة أو نظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها فهي فانية «والظاهر» وجودا لكثرة
203

دلائله الواضحة «والباطن» حقيقة فلا تحوم حوله العقول والواو الأولى والأخيرة للجمع بين الوصفين المكتنفين بهما والوسطى للجمع بين المجموعين فهو متصف باستمرار الوجود في جميع الأوقات والظهور والخفاء «وهو بكل شيء عليم» لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفي «هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش» بيان لبعض أحكام ملكهما وقد مر تفسيره مرارا «يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها» مر بيانه في سورة سبأ «وهو معكم أين ما كنتم» تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما داروا وقوله تعالى «والله بما تعملون بصير» عبارة عن إحاطته باعمالهم فتأخيره عن الخلق لما أن المراد به ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم لا لما قيل من أنه دليل عليه وقوله تعالى «له ملك السماوات والأرض» تكرير للتأكيد وتمهيد لقوله تعالى «وإلى الله ترجع الأمور» أي إليه وحده لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا ترجع جميع الأمور على البناء للمفعول من رجع رجعا وقرئ على البناء للفاعل من رجع رجوعا «يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل» مر تفسيره مرارا وقوله تعالى «وهو عليم» أي مبالغ في العلم «بذات الصدور» أي بمكنوناتها اللازمة لها بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها «آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه» أي جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة عبر عما بأيديهم من الأموال والأرزاق بذلك تحقيقا للحق وترغيبا لهم في الإنفاق فإن من علم أنها لله عز وجل وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله تعالى من المصارف هان عليه الإنفاق أو جعلكم خلفاء ممن قبلكم فيما كان بأيديهم بتوريثه إياكم فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم وسينتقل منكم إلى من بعدكم فلا تبخلوا به «فالذين آمنوا منكم وأنفقوا» حسبما أمروا به «لهم» بسبب ذلك «أجر كبير» وفيه من المبالغات مالا يخفى حيث
204

جعل الجملة الأسمية وأعيد ذكر الإيمان والإنفاق وكرر الإسناد وفخم الأجر بالتنكير ووصف بالكبير وقوله عز وجل «وما لكم لا تؤمنون بالله» استئناف مسوق لتوبيخهم على ترك الإيمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم في ذلك عذر ما في الجملة على ان لا تؤمنون حال من الضمير في لكم والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أي شيء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب لا إلى السبب والمسبب جميعا كما في قوله تعالى وما لي لا أعبد الذي فطرني فإن همزة الاستفهام كما تكون تارة لإنكار الواقع كما في أتضرب أباك وأخرى لإنكار الوقوع كما في أأضرب أبي كذلك ما الاستفهامية قد تكون لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط كما فيما نحن فيه وفي قوله تعالى مالكم لا ترجون لله وقارا فيكون مضمون الجملة الحالية محققا فإن كلا من عدم الإيمان وعدم الرجاء امر محقق قد أنكر ونفى سببه وقد تكون لإنكار سبب الوقوع ونفيه فيسريان إلى المسبب أيضا كما في قوله تعالى وما لي لا أعبد إلى آخره فيكون مضمون الجملة الحالية مفروضا قعا فإن عدم العبادة أمر مفروض حتما قد انكر ونفى سببه فانتفى نفسه أيضا وقوله تعالى «والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم» حال من ضمير لا تؤمنون مفيدة لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه أي وأي عذر في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه وقوله تعالى «وقد أخذ ميثاقكم» حال من مفعول
يدعوكم أي وقد أخذ الله تعالى ميثاقكم بالإيمان من قبل وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وقرئ وقد اخذ مبنيا للمفعول برفع ميثاقكم «إن كنتم مؤمنين» الموجب ما فإن هذا موجب لا موجب وراءه «هو الذي ينزل على عبده» حسبما يعن لكم من المصالح «آيات بينات» واضحات «ليخرجكم» اى الله تعالى أو العبد بها «من الظلمات إلى النور» من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان «وإن الله بكم لرؤوف رحيم» حيث يهديكم إلى سعادة الدارين بإرسال الرسول وتنزيل الآيات بعد نصب الحجج العقلية وقوله تعالى «وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله» توبيخ لهم على ترك
205

الإنفاق المأمور به بعد توبيخهم على ترك الإيمان بإنكار أن يكون لهم في ذلك أيضا عذر من الأعذار وحذف المفعول لظهور أنه الذي بين حاله فيما سبق وتعيين المنفق فيه لتشديد التوبيخ أي وأي شيء لكم في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عينه من المصارف وقوله تعالى «ولله ميراث السماوات والأرض» حال من فاعل لا تنفقوا ومفعوله مؤكدة للتوبيخ فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الإنفاق أشد في القبح وأدخل في الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما في السماوات والأرض من الأموال بالآخرة لله عز وجل من غير أن يبقى من أصحابها أحد أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من بيان انها لله تعالى في الحقيقة وهم خلفاؤه في التصرف فيها كأنه قيل وما لكم في ترك إنفاقها في سبيل الله والحال أنه لا يبقى لكم منها شيء بل يبقى كلها لله تعالى وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لزيادة التقرير وتربية المهابة وقوله تعالى «لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل» بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق بعد بيان أن لهم أجرا كبيرا على الإطلاق حثا لهم على تحرى الأفضل وعطف القتال على الإنفاق للإيذان بأنه من أهم مواد الإنفاق مع كونه في نفسه من أفضل العبادات وانه لا يخلو من الإنفاق أصلا وقسيم من أنفق محذوف لظهوره ودلالة ما بعده عليه وقرئ قبل الفتح بغير من والفتح فتح مكة «أولئك» إشارة إلى من أنفق والجمع بالنظر إلى معنى من كما أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار ببعد منزلتهم وعلو طبقتهم في الفضل ومحله الرفع على الابتداء أي أولئك المنعوتون بذينك النعتين الجميلين «أعظم درجة» وأرفع منزلة «من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا» لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا من الإنفاق والقتال قبل عزة الإسلام وقوة أهله عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وهؤلاء فعلوا ما فعلوا بعد ظهور الدين ودخول الناس فيه أفواجا وقلة الحاجة إلى الإنفاق والقتال «وكلا» أي وكل واحد من الفريقين «وعد الله الحسنى» أي المثوبة الحسنى وهي الجنة لا الأولين فقط وقرئ وكل بالرفع على الابتداء أي وكل وعده الله تعالى «والله بما تعملون بصير» بظواهره وبواطنه فيجازيكم بحسبه وقيل نزلت الآية في أبي بكر رضى الله تعالى عنه فإنه أول من آمن وأول من انفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا أشرف به على الهلاك وقوله تعالى «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا» ندب بليغ من الله تعالى إلى الأنفاق في سبيله بعد الأمر به والتوبيخ على تركه وبيان درجات المنفقين أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيله تعالى رجاء أن يعوضه فإنه كمن يقرضه وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه وتحرى أكرم المال وأفضل الجهات «فيضاعفه له» بالنصب على جواب الاستفهام باعتبار المعنى كأنه قيل أيقرض الله أحد فيضاعفه له أي فيعطيه أجره أضعافا «وله أجر كريم» اى
206

وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون وإن لم يضاعف فكيف وقد ضوعف أضعافا كثيرة وقرئ بالرفع عطفا على يقرض أو حملا على تقدير مبتدأ أي فهو يضاعفه وقرئ يضعفه بالرفع والنصب «يوم ترى المؤمنين والمؤمنات» ظرف لقوله تعالى وله أجر كريم أو لقوله تعالى فيضاعفه أو منصوب باضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم وقوله تعالى «يسعى نورهم» حال من مفعول ترى قيل نورهم الضياء الذي يرى «بين أيديهم وبأيمانهم» وقيل هو هداهم وبأيمانهم كتبهم أي يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم وف أيمانهم كتب أعمالهم وقيل هو القرآن وعن ابن مسعود رضى الله عنه يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهام رجله ينطفئ تارة ويلمع أخرى قال الحسن يستضيئون به على الصراط وقال مقاتل يكون لهم دليلا إلى الجنة «بشراكم اليوم جنات» مقدر بقول هو حال أو استئناف أي يقال لهم بشراكم أي ما تبشرون به جنات أو بشراكم دخول الجنة «تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك» أي ما ذكر من النور والبشرى بالجنات المخلدة «هو الفوز العظيم» الذي لا غاية وراءه وقرئ ذلك الفوز العظيم «يوم يقول المنافقون والمنافقات» بدل من يوم ترى «للذين آمنوا انظرونا» أي انتظرونا يقولون ذلك لما أن المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف على ركاب تزف بهم وهؤلاء مشاة أو انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بالنور الذي بين أيديهم وقرئ أنظرونا من النظرة وهي الإمهال جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارا لهم «نقتبس من نوركم» أي نستضيء منه واصله اتخاذ القبس «قيل» طردا لهم وتهكما بهم من جهة المؤمنين أو من جهة الملائكة «ارجعوا وراءكم» أي إلى الموقف «فالتمسوا نورا» فإنه من ثم يقتبس أو إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل مباديه من الإيمان والأعمال الصالحة أو ارجعوا خائبين خاسئين فالتمسوا نورا آخر وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما قالوه تخييبا لهم أو أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكثيفة تهكما بهم «فضرب بينهم» بين الفريقين «بسور» أي حائط والباء زائدة «له باب باطنه» أي باطن السور أو الباب وهو الجانب الذي يلي الجنة «فيه الرحمة وظاهره» وهو الطرف الذي يلي النار «من قبله» من جهته «العذاب» وقرئ فضرب على البناء للفاعل
207

«ينادونهم» استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب فقيل ينادونهم «ألم نكن» في الدنيا «معكم» يريدون به موافقتهم لهم في الظاهر «قالوا بلى» كنتم معنا بحسب الظاهر «ولكنكم فتنتم أنفسكم» محنتموها بالنفاق وأهكلتموها «وتربصتم» بالمؤمنين الدوائر «وارتبتم» في امر الدين «وغرتكم الأماني» الفارغة التي من جملتها الطمع في انتكاس أمر الإسلام «حتى جاء أمر الله» أي الموت «وغركم بالله» الكريم «الغرور» أي غركم الشيطان بان الله عفو كريم لا يعذبكم وقرئ الغرور بالضم «فاليوم لا يؤخذ منكم فدية» فداء وقرئ تؤخذ بالتاء «ولا من الذين كفروا» أي ظاهرا وباطنا «مأواكم النار» لا
تبرحونها ابدا «هي مولاكم» أي أولى بكم وحقيقته مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما يقال هو مئنة الكرم اى مكان لقول القائل إنه لكريم أو مكانكم عن قريب من الولي وهو القرب أو ناصركم على طريقة قوله
* تحية بينهم ضرب وجيع
* أو متوليكم تتولاكم كما توليتم موجباتها «وبئس المصير» أي النار «ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله» استئناف ناع عليهم تثاقلهم في أمور الدين ورخاوة عقدهم فيها واستبطاء
لانتدابهم لما ندبوا إليه بالترغيب والترهيب وروى أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة وفتروا عما كانوا عليه فنزلت وعن ابن مسعود رضى الله عنه ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين وعن ابن عباس رضى الله عنهما ان الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن أي ألم نجىء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره تعالى وتطمئن به ويسارعوا إلى طاعته بالامتثال بأوامره والانتهاء عما نهوا عنه من غير توان ولا فتور من أنى الأمر إذا جاء إناه أي وقته وقرئ ألم يئن من آن يئين بمعنى أني وقرئ ألما بان وفيه دلالة على ان المنفى «وما نزل من الحق» أي القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضا فالعطف لتغاير العنوانين فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا فالعطف كما في قوله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ومعنى الخشوع له الانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام التي من جملتها ما سبق وما لحق من الإنفاق في
208

سبيل الله تعالى وقرئ نزل من التنزيل مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل وأنزل «ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل» عطف على تخشع وقرئ بالتاء على الالتفات للاعتناء بالتحذير وقيل هو نهى عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد ان وبخوا وذلك أن بنى إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم «فطال عليهم الأمد» أي الأجل وقرئ الأمد بتشديد الدال أي الوقت الأطول وغلبهم الجفاء وزالت عنهم الروعة التي كانت تأتيهم من الكتابين «فقست قلوبهم» فهي كالحجارة أو أشد قسوة «وكثير منهم فاسقون» أي خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية «اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها» تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة «قد بينا لكم الآيات» التي من جملتها هذه الآيات «لعلكم تعقلون» كي تعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين «إن المصدقين والمصدقات» أي المتصدقين والمتصدقات وقدر قرىء كذلك وقرئ بتخفيف الصاد من التصديق أي الذين صدقوا الله ورسوله «وأقرضوا الله قرضا حسنا» قيل هو عطف على ما في المصدقين من معنى الفعل فإنه حكم الذين اصدقوا أو صدقوا على القراءتين وعقب بان فيه فصلا بين أجزاء الصلة بأجنبي وهو المصدقات وأجيب بان المعنى أن الناس الذين تصدقوا وتصدقن وأقرضوا فهو عطف على الصلة من حيث المعنى من غير فصل وقيل إن المصدقات ليس بعطف على المصدقين بل هو منصوب على الاختصاص كأنه قيل إن المصدقين على العموم تغليبا وأخص المصدقات من بينهم كما تقول إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا الصالحات لهم كذا لكن لا على أن مدار التخصيص مزيد استحقاقهن لمضاعفة الأجر كما في المثال المذكور بل زيادة احتياجهن إلى التصدق الداعية إلى الاعتناء بحثهن على التصدق لما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار وقيل هو صلة لموصول محذوف معطوف على المصدقين كأنه قيل والذين أقرضوا القرص الحسن عبارة عن التصدق من الطيب عن طيبة النفس وخلوص النية على المستحق للصدقة «يضاعف لهم» على البناء للمفعول مسندا إلى ما بعده من الجار والمجرور وقيل إلى مصدر ما في حيز الصلة على حذف مضاف أي ثواب التصدق وقرئ على البناء للفاعل أي يضاعف الله تعالى وقرئ يضعف بتشديد العين وفتحها «ولهم أجر كريم» مر ما فيه من الكلام «والذين آمنوا بالله ورسله»
209

كافة وقد مر بيان كيفية الإيمان بهم في خاتمة سورة البقرة «أولئك» إشارة إلى الموصول الذي هو مبتدأ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه قد مر سره مرارا وهو مبتدأ ثان وقوله تعالى «هم» مبتدأ ثالث خبره «الصديقون والشهداء» وهو مع خبره خبر للثاني وهو مع خبره خبر للأول أو هم ضمير الفصل وما بعده خبر لأولئك والجملة خبر للموصول أي أولئك «عند ربهم» بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله تعالى أو هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخباره تعالى ورسله والقائمون بالشهادة لله تعالى بالوحدانية ولهم بالإيمان أو على الأمم يوم القيامة وقوله تعالى «لهم أجرهم ونورهم» بيان لثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال على أنه جملة من مبتدأ وخبر محلها الرفع على أنه خبر ثان للموصول أو الخبر هو الجار وما بعده مرتفع به على الفاعلية والضمير الأول على الوجه الأول للموصول والأخيران للصديقين والشهداء أي مثل أجرهم ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك حيث قيل هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور وبين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الأضعاف وأما على الوجه الثاني فمرجع الكل واحد والمعنى لهم الأجر والنور الموعودان لهم أجرهم الخ «والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك» الموصوفون بتلك الصفة القبيحة «أصحاب الجحيم» بحيث لا يفارقونها أبدا «اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد» بعدما بين حال الفريقين في الآخرة شرح حال الحياة الدنيا التي اطمأن بها الفريق الثاني وأشير إلى أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عن الاطمئنان بها وأنها مع ذلك سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال حيث قيل «كمثل غيث أعجب الكفار» أي الحراث «نباته» 6 أي النبات الحاصل به «ثم يهيج» أي يجف بعد خضرته ونضارته «فتراه مصفرا» بعد ما رأيته ناضرا مونقا وقرئ مصفارا وإنما لم يقل فيصفر إيذانا بأن اصفراره مقارن لجفافه وإنما المترتب عليه رؤيته كذلك «ثم يكون حطاما» هشيما متكسرا ومحل الكاف قيل النصب على الحالية من الضمير في لعب لأنه في
معنى الوصف وقيل الرفع على انه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف أي مثل الحياة الدنيا كمثل الخ وبعد ما بين حقارة أمر الدنيا تزهيدا فيها وتنفيرا عن العكوف عليها أشير إلى فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيبا في تحصيل نعيمها المقيم وتحذيرا
210

من عذابها الأليم وقد ذكر العذاب فقيل «وفي الآخرة عذاب شديد» لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا «ومغفرة» عظيمة «من الله ورضوان» عظيم لا يقادر قدره «وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور» أي لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة إلى الآخرة عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن الهتك عن طلب الآخرة فاما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى فنعم المتاع ونعم الوسيلة «سابقوا» أي سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار «إلى مغفرة» عظيمة كائنة «من ربكم» أي إلى موجباتها من الأعمال الصالحة «وجنة عرضها كعرض السماء والأرض» أي كعرضهما جميعا وإذا كان عرضها كذلك فما ظنك بطولها وقيل المراد بالعرض البسطة وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية «أعدت للذين آمنوا بالله ورسله» فيه دليل على أن الجنة مخلوقة بالفعل وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها «ذلك» الذي وعد من المغفرة والجنة «فضل الله» عطاؤه «يؤتيه» تفضلا وإحسانا «من يشاء» إيتاءه إياه من غير إيجاب «والله ذو الفضل العظيم» ولذلك يؤتى من يشاء مثل ذلك الفضل الذي لا غاية وراءه «ما أصاب من مصيبة في الأرض» كجدب وعاهة في الزروع والثمار «ولا في أنفسكم» كمرض وآفة «إلا في كتاب» أي إلا مكتوبة مثبتة في علم الله تعالى أو في اللوح «من قبل أن نبرأها» اى نخلق الأنفس أو المصائب أو الأرض «إن ذلك» أي إثباتها في كتاب «على الله يسير» لاستغنائه فيه عن العدة والمدة «لكي لا تأسوا» أي أخبرناكم بذلك لئلا تحزنوا «على ما فاتكم» من نعم الدنيا «ولا تفرحوا بما آتاكم» أي أعطاكم الله تعالى منها فإن من علم أن الكل مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتي ما قدر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت وقرئ بما آتاكم من الاتيان وفي القراءة الأولى إشعار بأن فوات النعم يلحقها إذا خليت وطباعها وأما حصولها وبقاؤها فلا بد لهما من سبب يوجدها ويبقيها وقرئ بما أوتيتم والمراد به نفى الأسى المانع عن التسليم لأمر الله تعالى والفرح الموجب للبطر ولاختيال ولذلك عقب بقوله تعالى «والله لا يحب كل مختال فخور» فإن من فرح بالحظوظ الدنيوية وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها لا محالة وفي تخصيص التذييل بالنهى عن الفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى
211

«الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل» بدل من كل مختال فإن المختال بالمال يضن به غالبا ويأمر غيره به أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه قوله تعالى «ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد» فإن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله عني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الأعراض عن شكره بالتقرب إليه بشئ من نعمه وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق وقرئ فإن الله الغنى «لقد أرسلنا رسلنا» أي الملائكة إلى الأنبياء أو الأنبياء إلى الأمم وهو الأظهر «بالبينات» اى الحجج والمعجزات «وأنزلنا معهم الكتاب» أي جنس الكتاب الشامل للكل «والميزان ليقوم الناس بالقسط» أي بالعدل روى أن جبريل عليه السلام نزل الميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال مر قومك يزنوا به وقيل أريد به العدل ليقام به السياسة ويدفع به العدوان «وأنزلنا الحديد» قيل نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة وروى ومعه المر والمسحات وعن الحسن وأنزلنا الحديد خلقناه كقوله تعالى وأنزل لكم من الأنعام وذلك ان أوامره تعالى وقضاياه وأحكامه تنزل من السماء وقوله تعالى «فيه بأس شديد» لأن آلات الحرب إنما تتخذ منه «ومنافع للناس» إذ ما من صنعة إلا والحديد أو ما يعمل بالحديد آلتها والجملة حال من الحديد وقوله تعالى «وليعلم الله من ينصره ورسله» عطف على محذوف يدل عليه ما قبله فإنه حال متضمنة للتعليل كأنه قيل ليستعملوه وليعلم الله علما يتعلق به الجزاء من ينصره ورسوله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة في مجاهدة أعدائه أو متعلق بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم الله من ينصره ورسله أنزله وقيل عطف على قوله تعالى ليقوم الناس بالقسط وقوله تعالى «بالغيب» حال من فاعل ينصر أو مفعوله أي غائبا عنهم أو غائبين عنه وقوله تعالى «إن الله قوي عزيز» اعتراض تذييلى جئ به تحقيقا للحق وتنبيها على ان تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو غنى بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريده «ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم» نوع تفصيل لما أجمل في قوله
212

تعالى لقد أرسلنا رسلنا الخ وتكرير القسم لإظهار مزيد الاعتناء بالأمر أي وبالله لقد أرسلناهما «وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب» بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب وقيل المراد بالكتاب الخط بالقلم «فمنهم» أي من الذرية أو من المرسل إليهم المدلول عليهم بذكر الإرسال والمرسلين «مهتد» إلى الحق «وكثير منهم فاسقون» خارجون عن الطريق المستقيم والعدول عن سنن المقابلة للمبالغة في الذم والإيذان بغلبة الضلال وكثرتهم «ثم قفينا على آثارهم برسلنا» أي ثم أرسلنا بعدهم رسلنا «وقفينا بعيسى ابن مريم» أي أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم عليه السلام والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم أو من عاصرهم من الرسل لا للذرية فإن الرسل المقفى بهم من الذرية «وآتيناه الإنجيل» وقرئ بفتح الهمزة فإنه أعجمي لا يلزم فه مراعاة أبنية العرب «وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة» وقرئ رآفة على فعالة «ورحمة» أي وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم ونحوه في شأن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام رحماء بينهم «ورهبانية» منصوب إما بعفل مضمر يفسره والظاهر أي وابتدعوا رهبانية «ابتدعوها» وأما بالعطف على ما قبلها وابتدعوها صفة لها أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم أي ووفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها وهي المبالغة في العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس ومعناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي وقرئ بضم الراء كأنها نسبة إلى الرهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان وسبب ابتداعهم إياها أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السلام فقاتلوهم ثلاث مرات فقاتلوا حتى لم يبق منهم إلا قليل فخافوا أن يفتتنوا في دينهم فاختاروا الرهبانية في قلل الجبال فارين بدينهم مخلصين أنفسهم للعبادة وقوله تعالى «ما كتبناها عليهم» جملة مستأنفة وقيل صفة أخرى لرهبانية والنفي على الوجه الأول متوجه إلى أصل الفعل وقوله تعالى «إلا ابتغاء رضوان الله»
استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأسا ولكنهم رأسا ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فذمهم حينئذ بقوله تعالى «فما رعوها حق رعايتها» من حيث إن النذر عهد مع الله لا يحل نكثه لا سيما إذا قصد به رضاه تعالى وعلى الوجه الثاني متوجه إلى قيده لا إلى نفسه ولاستثناء متصل من أعم العلل أي ما كتبناها عليهم بأن وفقناهم لا بتداعها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب ومن ضرورة ذلك ان يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعاها كلهم بل بعضهم «فآتينا الذين آمنوا منهم» إيمانا صحيحا وهو الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رعاية رهبانيتهم لا مجرد رعايتها فإنها بعد البعثة لغو محض
213

وكفر بحت وأنى لها استتباع الأجر «أجرهم» أي ما يخص بهم من الأجر «وكثير منهم فاسقون» خارجون عن حد الاتباع وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة من غير تعرض لإيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام «يا أيها الذين آمنوا» أي بالرسل المتقدمة «اتقوا الله» فيما نهاكم عنه «وآمنوا برسوله» أي بمحمد عليه الصلاة والسلام وفي إطلاقه إيذان بأنه علم فرد في الرسالة لا يذهب الوهم إلى غيره «يؤتكم كفلين» نصيبين «من رحمته» لإيمانكم بالرسول وبمن قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام لكن لا على معنى أن شريعتهم باقية بعد البعثة بل على أنها كانت حقة قبل النسخ «ويجعل لكم نورا تمشون به» يوم القيامة حسبما نطق به قوله تعالى يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم «ويغفر لكم» ما أسلفتم من الكفر والمعاصي «والله غفور رحيم» أي مبالغ في المغفرة والرحمة وقوله تعالى «لئلا يعلم أهل الكتاب» متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير أن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم الذين لم يسلموا من أهل الكتاب أي ليعلموا ولا مزيدة كما ينبئ عنه قراءة ليعلم ولكي يعلم ولأن يعلم بإدغام النون في الياء وأن في قوله تعالى «ألا يقدرون على شيء من فضل الله» مخففة من الثقيلة واسمها الذي هو ضمير الشأن محذوف والجملة في حيز النصب على انها مفعول يعلم اى ليعلموا انه لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الإيمان برسوله وقوله تعالى «وأن الفضل بيد الله» عطف على أن لا يقدرون وقوله تعالى «يؤتيه من يشاء» خبر ثان لأن وقيل هو الخبر والجار حال لازمة وقوله تعالى «والله ذو الفضل العظيم» اعتراض تذييلى لمضمون ما قبله وقد جوز أن يكون الأمر بالتقوى والإيمان لغير أهل الكتاب فالمعنى اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله تعالى أولئك يؤتون اجرهم مرتين ولا ينقصكم من مثل أجرهم لأنكم مثلهم في الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله وروى أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على سائر المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادعوا الفضل عليهم فنزلت وقرئ ليلا بقلب الهمزة ياء لانفتاحها بعد كسرة وقرئ بسكون الياء وفتح اللام كاسم المرأة وبكسر اللام مع سكون الياء وقرئ أن لا يقدروا هذا وقد قيل لا غير مزيدة وضمير لا يقدرون للنبي عليه
214

الصلاة والسلام وأصحابه والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون به على شيء من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم عليه فيكون قوله تعالى وأن الفضل بيد الله الخ عطفا على ان لا يعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله «بسم الله الرحمن الرحيم» «قد سمع الله» بإظهار الدال وقرئ بادغامها في السين «قول التي تجادلك في زوجها» أي تراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من الظهار وقرئ تحاورك وتحاولك أي تسائلك «وتشتكي إلى الله» عطف على تجادلك أي تتضرع إليه تعالى وقيل حال أي من فاعله تجادلك وهى متضرعة إليه تعالى وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك بن خرامة الخزرجية ظاهر عنها زوجها أوس بن الصامت أخو عبادة ثم ندم على ما قال فقال لها ما أظنك إلا قد حرمت على فشق عليها ذلك فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرمت عليه فقالت يا رسول الله ما ذكر طلاقا فقال حرمت عليه وفي رواية ما أراك إلا قد حرمت عليه في المرار كلها فقالت أشكوا إلى الله فاقتي ووجدى وجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلما قال عليه الصلاة والسلام حرمت عليه هتفت وشكت إلى الله تعالى فنزلت وفي كلمة قد أشعار بان الرسول عليه الصلاة والسلام والمجادلة كانا يتوقعان أن ينزل الله تعالى حكم الحادثة ويفرج عنها كربها كما يلوح به ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لها عند استفتائها ما عندي في أمرك شيء وانها كانت ترفع رأسها إلى السماء وتقول أشكو إليك فأنزل على لسان نبيك ومعنى سمعه تعالى لقولها إجابة دعائها لا مجرد علمه تعالى بذلك كما هو المعنى بقوله تعالى «والله يسمع تحاوركما» أي يعلم تراجعكما الكلام وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده وفي نظمها في سلك الخطاب تغليبا تشريف لها من جهتين والجملة استئناف مجرى التعليل لما قبله فإن إلحافها في المسألة ومبالغتها في التضرع إلى الله تعالى ومدافعته عليه الصلاة والسلام إياها بجواب منبىء عن التوقف وترقب الوحي وعلمه تعالى بحالها من دواعي الإجابة وقيل
215

هي حال وهو بعيد وقوله عز وجل «إن الله سميع بصير» تعليل لما قبله بطريق التحقيق أي مبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات ومن قضيته أن يسمع تحاورهما ويرى ما يقارنه من الهيئات إلي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع وإظهار الاسم الجليل في الموقعين لتربية المهابة وتعليل الحكم بوصف الألوهية وتأكد استقلال الجملتين وقوله تعالى «الذين يظاهرون منكم من نسائهم» شروع في بيان شأن الظهار في نفسه وحكمه المترتب عليه شرعا بطريق الاستئناف والظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي مشتق من الظهر وقد مر تفصيله في الأحزاب وألحق به الفقهاء تشبيهها بجزء محرم وفي منكم مزيد توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم فيه فإن كان من إيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم وقرئ يظاهرون ويظهرون وقوله تعالى «ما هن أمهاتهم» خبر للموصول أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فهو كذب بحت وقرئ أمهاتهم بالرفع على لغة تميم وبأمهاتهم «إن أمهاتهم» أي ما هن «إلا اللائي ولدنهم» فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الشرع بهن من المرضعات وأزواج النبي عليه الصلاة والسلام فدخلن بذلك في حكم الأمهات وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة «وإنهم ليقولون» بقولهم ذلك «منكرا من القول» على ان مناط التأكيد ليس صدور القول عنهم فإنه امر محقق بل كونه منكرا أي عند الشرع وعند العقل والطبع أيضا كما يشعر به تنكيره ونظيره قوله تعالى إنكم لتقولون
قولا عظيما «وزورا» أي محرفا عن الحق «وإن الله لعفو غفور» أي مبالغ في العفو والمغفرة فيغفر لما سلف منه على الإطلاق أو بالمتاب عنه وقوله تعالى «والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا» تفصيل لحكم الظهار بعد بيان كونه امرا منكرا بطريق التشريع الكلى المنتظم لحكم الحادثة انتظاما أوليا أي والذين يقولون ذلك القول المنكر ثم يعودون لما قالوا أي إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي لا بالتقرير والتكرير كما في قوله تعالى أن تعودوا لمثله أبدا فإن اللام والى تتعاقبان كثيرا كما في قوله تعالى هدانا لهذا وقوله تعالى بأن ربك أوحى لها وقوله تعالى وأوحى إلى نوح «فتحرير رقبة» اى فتداركه أو فعليه أو فالواجب إعتاق رقبة أي رقبة كانت وعند الشافعي رحمه الله تعالى يشترط الإيمان والفاء للسببية ومنه فوائدها الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار وقيل ما قالوا عبارة عما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلا للقول منزلة المقول فيه كما ذكر في قوله تعالى ونرثه ما يقول أي المقول فيه من المال والولد فالمعنى ثم يريدون العود للاستمتاع فتحرير
216

رقبة «من قبل أن يتماسا» أي من قبل أن يستمتع كل من المظاهر والمظاهر منها بالآخر جماعا ولمسا ونظرا إلى الفرج شهوة وإن وقع شيء من ذلك قبل التكفير يجب عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر وإن أعتق بعض الرقبة ثم مس عليه أن يستأنف عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى «ذلكم» إشارة إلى الحكم المذكور وهو مبتدأ خبره «توعظون به» أي تزجرون به عن ارتكاب المنكر المذكور فإن الغرامات مزاجر عن تعاطي الجنايات والمراد بذكره بيان أن المقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواب بمباشرتكم لتحرير الرقبة الذي هو علم في استباع الثواب العظيم بل هو ردعكم وزجركم عن مباشرة ما يوجبه «والله بما تعملون» من الأعمال إلي من جملتها التكفير وما يوجبه من جناية الظهار «خبير» أي عالم بظواهرها وبواطنها ومجازيكم بها فحافظوا على حدود ما شرع لكم ولا تخلوا بشيء منها «فمن لم يجد» أي الرقبة «فصيام شهرين» أي فعليه صيام شهرين «متتابعين من قبل أن يتماسا» ليلا أو نهارا عمادا أو خطأ «فمن لم يستطع» اى الصيام لسبب من الأسباب «فإطعام ستين مسكينا» لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من غيره ويجب تقديمه على المسيس لكن لا يستأنف إن مس في خلال الإطعام «ذلك» إشارة إلى ما مر من البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها وما فيه من معنى البعد قد مر سرده مرارا وملحه إما الرفع على الابتداء أو النصب بمضمر معلل بما بعده أي ذلك واقع أو فعلنا ذلك «لتؤمنوا بالله ورسوله» وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم «وتلك» إشارة إلى الأحكام المذكورة وما فيه من معنى البعد لتعظيمها كما مر غير مرة «حدود الله» التي لا يجوز تعديها «وللكافرين» أي الذين لا يعملون بها «عذاب أليم» عبر عنه بذلك للتغليظ على طريقة قوله تعالى ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين «إن الذين يحادون الله ورسوله» أي يعادونهما ويشاقونهما فإن كلا من المتعاديين كما انه يكون في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه كذلك يكون في حد غير حد الآخر غير أن لورود المحادة في أثناء ذكر حدود الله دون المعاداة والمشاقة من حسن الموقع مالا غاية وراءه «كبتوا» أي أخزوا وقيل خذلوا وقيل أذلوا وقيل أهلكوا وقيل لعنوا وقيل غيظوا وهو ما وقع يوم الخندق قالوا معنى كبتوا سيكبتون على طريقة قوله تعالى أتى أمر الله وقيل أصل الكبت الكب «كما كبت الذين من قبلهم» من كفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم
217

الصلاة والسلام «وقد أنزلنا آيات بينات» حال من واو كبتوا أي كبتوا لمحادتهم والحال أن قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسوله ممن قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم وقيل آيات تدل على صدق وصحة ما جاء به «وللكافرين» أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فيدخل فيه تلك الآيات دخولا أوليا «عذاب مهين» يذهب بعزهم وكبرهم «يوم يبعثهم الله» منصور بما تعلق به اللام من الاستقرار أو بمهين أو بإضمار اذكر تعظيما لليوم وتهويلا له «جميعا» أي كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث أو مجتمعين في حالة واحدة «فينبئهم بما عملوا» من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها في تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الاشهاد تخجيلا لهم وتشهيرا بحالهم وتشديدا لعذابهم وقوله تعالى «أحصاه الله» استئناف وقع جوابا عما نشا مما قبيله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه قيل كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراض مقتضية متلاشية فقيل أحصاه الله عددا لم يفته منه شيء فقوله تعالى «ونسوه» حينئذ حال من مفعول أحصى بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أو قيل لم ينبئهم بذلك فقيل أحصاه الله ونسوه فينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من العذاب إنما حاق بهم لأجله وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل والتشهير «والله على كل شيء شهيد» لا يغيب عنه امر من الأمور قط والجملة اعتراض تذييلي مقرر لإحصائه تعالى وقوله تعالى «ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض» استشهاد على شمول شهادته تعالى كما في قوله تعالى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه وفي قوله تعالى ألم تر أنهم في كل واد يهيمون أي ألم تعلم علما يقينا متاخما للمشاهدة بأنه تعالى يعلم ما فيهما من الموجودات سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما وقوله تعالى «ما يكون من نجوى ثلاثة» الخ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه تعالى ومبين لكيفيته ويكون من كان التامة وقرئ تكون بالتاء اعتبارا لتأنيث النجوى وإن كان غير حقيقي أي ما يقع من تناجي ثلاثة نفر أي من مسارتهم على أن نجوى مضافة إلى ثلاثة أو على انها موصوفة بها إما بتقدير مضاف أي من أهل نجوى ثلاثة أو بجعلهم نجوى في أنفسهم «إلا هو» أي الله عز وجل «رابعهم» أي جاعلهم أربعة من حيث إنه تعالى يشاركهم في الاطلاع عليها وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال «ولا خمسة» ولا نجوى خمسة «إلا هو سادسهم» وتخصيص العددين بالذكر إما الخصوص الواقعة فإن الآية نزلت في تناجى المنافقين وإما لبناء الكلام على أغلب عادات المتناجين وقد عمم الحكم بعد
218

ذلك فقيل «ولا أدنى من ذلك» أي مما ذكر كالواحد والاثنين «ولا أكثر» كالستة وما فوقها «إلا هو معهم» يعلم ما يجرى بينهم وقرئ ولا أكثر بالرفع عطفا على محل من نجوى أو محل ولا أدنى بأن جعل لا لنفى الجنس «أين ما كانوا» من الأماكن ولو كانوا تحت الأرض فإن علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قربا وبعدا «ثم ينبئهم» وقرئ ينبئهم بالتخفيف «بما عملوا يوم القيامة» تفضيحا لهم وإظهارا لما يوجب عذابهم «أن الله بكل شيء عليم» لأن نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل سواء «ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه» نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعيانهم إذا رأوا المؤمنين فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عادوا لمثل فعلهم والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والهمزة للتعجيب من حالهم وصيغة المضارع للدلالة
على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة وقوله تعالى «ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول» عطف عليه داخل في حكمه أي بما هو إثم في نفسه وعدوان للمؤمنين وتواصى بمعصية الرسول عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين إليه عليه الصلاة والسلام لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم وقرئ وينتجون بالإثم والعدوان بكسر العين ومعصيات الرسول «وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله» فيقولون السام عليك أو أنعم صباحا والله سبحانه يقول وسلام على المرسلين «ويقولون في أنفسهم» أي فيما بينهم «لولا يعذبنا الله بما نقول» أي هلا يعذبنا الله بذلك لو كان محمد نبيا «حسبهم جهنم» عذابا «يصلونها» يدخلونها «فبئس المصير» أي جهنم «يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم» في أنديتكم وفى خلواتكم «فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول» كما يفعله المنافقون وقرئ فلا تنتجوا وفلا تناجوا بحذف إحدى التاءين «وتناجوا بالبر والتقوى» أي بما يتضمن خير المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول عليه الصلاة والسلام «واتقوا الله الذي إليه تحشرون» وحده إلى غيره استقلال أو اشتراكا فيجازيكم بكل ما تأتون وما تذرون «إنما النجوى»
219

المعهودة التي هي التناجى بالإثم والعداون «من الشيطان» لا من غيره فإنه المزين لها والحامل عليها وقوله تعالى «ليحزن الذين آمنوا» خبر آخر أي إنما هي ليحزن المؤمنين بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم «وليس بضارهم» أي الشيطان أو التناجى بضار المؤمنين «شيئا» من الأشياء أو شيئا من الضرر «إلا بإذن الله» أي بمشيئته «وعلى الله فليتوكل المؤمنون» ولا يبالوا بنجواهم فإنه تعالى يعصمهم من شره «يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا» أي توسعوا وليفسح بعضكم عن بعض ولا تتضاموا من قولهم افسح عنى أي تنح وقرئ تفاسحوا وقوله تعالى «في المجالس» متعلق بقيل وقرئ في المجلس على ان المراد به الجنس وقيل مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام وكانوا يتضامون تنافسا في القرب منه عليه الصلاة والسلام وحرصا على استماع كلامه وقيل هو المجلس من مجالس القتال وهي مراكز الغزاة كقوله تعالى مقاعد للقتال قيل كان الرجل يأتي الصف ويقول تفسحوا فيأبون لحرصهم على الشهادة وقرئ في المجلس بفتح اللام فهو متعلق بتفسحوا قطعا أي توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه «فافسحوا يفسح الله لكم» أي في كل ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق والصدر والقبر وغيرها «وإذا قيل انشزوا» أي انهضوا للتوسعة على المقبلين أو لما أمرتم به من صلاة أو جهاد أو غيرهما من أعمال الخير «فانشزوا» فانهضوا ولا تتثبطوا ولا تفرطوا وقرئ بكسر الشين «يرفع الله الذين آمنوا منكم» بالنصر وحسن الذكر في الدنيا والإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة «والذين أوتوا العلم» منهم خصوصا «درجات» عالية بما جمعوا من أثرتى العلم والعمل فإن العلم مع علو رتبته يقتضى العمل المقرون به مزيد رفعة لا يدرك شأوه العمل العاري عنه وإن كان في غاية الصلاح ولذلك يقتدى بالعالم في أفعاله ولا يقتدي بغيره وفي الحديث فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب «والله بما تعملون بصير» تهديد لمن لم يتمثل بالأمر وقرئ يعملون بالياء التحتانية «يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول» في بعض شؤنكم المهمة الداعية إلى مناجاته عليه الصلاة والسلام «فقدموا بين يدي نجواكم صدقة» أي فتصدقوا قبلها مستعار ممن له يدان وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وانفاع الفقراء والزجر عن الإفراط في السؤال والتمييز بين المخلص والمنافق
220

ومحب الآخرة ومحب الدنيا واختلف في أنه للندب أو للوجوب لكنه نسخ بقوله تعالى أأشفقتم وهو وإن كان متصلا به تلاوة لكنه متراخ عنه نزولا وعن على رضى الله عنه إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد غيرى كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته عليه الصلاة والسلام تصدقت بدرهم وهو على القول بالوجوب محمول على أنه لم ينفق للأغنياء مناجاة في مدة بقائه إذ روى أنه لم يبق إلا عشرا وقيل إلا ساعة «ذلك» أي التصدق «خير لكم وأطهر» أي لأنفسكم من الريبة وحب المال وهذا يشعر بالندب لكن قوله تعالى «فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم» منبئ عن الوجوب لأنه ترخيص إن لم يجد في المناجاة بلا تصدق «أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات» أي أخفتم الفقر من تقديم الصدقات أو أخفتم التقديم لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر وجمع الصدقات لجمع المخاطبين «فإذ لم تفعلوا» ما أمرتم به وشق عليكم ذلك «وتاب الله عليكم» بأن رخص لكم أن لا تفعلوه وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه لما رأى منهم من الانفعال ما قام مقام توبتهم وإذ على بابها من المضي وقيل بمعنى إذا كما في قوله تعالى إذ الاغلال في أعناقهم وقيل بمعنى إن «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» أي فإذ فرطتم فيما أمرتم به من تقديم الصدقات فتداركوه بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة «وأطيعوا الله ورسوله» في سائر الأوامر فإن القيام بها كالجابر لما وقع في ذلك من التفريط «والله خبير بما تعملون» ظاهرا وباطنا «ألم تر» تعجيب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين أي ألم تنظر «إلى الذين تولوا» أي والوا «قوما غضب الله عليهم» وهم اليهود كما أنبأ عنه قوله تعالى من لعنه الله وغضب عليه «ما هم منكم ولا منهم» لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك والجملة مستأنفة أو حال من فاعل تولوا «ويحلفون على الكذب» أي يقولون والله إنا لمسلمون وهو عطف على تولوا داخل في حكم التعجيب وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف وتجدده حسب تكرر ما يقتضيه وقوله تعالى «وهم يعلمون» حال من فاعل يحلفون مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما لم يعلم أنه كذب في غاية القبح وفيه دلالة على ان الكذب يعم ما يعلم المخبر عدم مطابقته للواقع وما لا يعلمه روى أنه عليه الصلاة والسلام كان في حجرة من حجراته فقال يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان فدخل عبد الله بن نبتل المنافق وكان أزرق فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال عليه الصلاة والسلام فعلت
221

فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت «أعد الله لهم» بسبب ذلك «عذابا شديدا» نوعا من العذاب متفاقما «إنهم ساء ما كانوا يعملون» فيما مضى من الزمان المتطاول فتمرنوا على سوء العمل وضروا به وأصروا عليه «اتخذوا أيمانهم» الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة وقرئ بكسر الهمزة أي إيمانهم الذي أظهروه لأهل الإسلام «جنة» وقاية وسترة دون دمائهم وأموالهم فالاتخاذ على هذه القراءة عبارة عن التستر بما أظهروه بالفعل وأما على القراءة الأولى فهو عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية والخيانة
واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضا كما يعرب عنه الفاء في قوله تعالى «فصدوا» أي الناس «عن سبيل الله» في خلال أمنهم بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم «فلهم عذاب مهين» وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم وقيل الأول عذاب القبر أو عذاب الآخرة «لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله» أي من عذابه تعالى «شيئا» من الإغناء روى أن رجلا منهم قال لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا «أولئك» الموصوفون بما ذكر من الصفات القبيحة «أصحاب النار» أي ملازموها ومقارنوها «هم فيها خالدون» لا يخرجون منها أبدا «يوم يبعثهم الله جميعا» قيل هو ظرف لقوله تعالى لهم عذاب مهين «فيحلفون له» أي لله تعالى يومئذ على انهم مسلمون «كما يحلفون لكم» في الدنيا «ويحسبون» في الآخرة «إنهم» بتلك الأيمان الفاجرة «على شيء» من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون بها عن أرواحهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية «ألا إنهم هم الكاذبون» المبالغون في الكذب إلى غاية لا مطمح وراءها حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه كما تروجه عن الغافلين
222

«استحوذ عليهم الشيطان» أي استولى عليهم من حذت الإبل إذا استوليت عليها وجمعتها وهو مما جاء على الأصل كاستصوب واستنوق أي ملكهم «فأنساهم ذكر الله» بحيث لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم «أولئك» الموصوفون بما ذكر من القبائح حزب الشيطان وجنوده وأتباعه «ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون» أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله من العذاب الأليم وفى تصدير الجملة بحرفى التنبيه والتحقيق وإظهار المضافين معا في موقع الإضمار بأحد الوجهين وتوسيط ضمير الفصل من فنون التأكيد ما لا يخفى «إن الذين يحادون الله ورسوله» استئناف مسوق لتعليل ما قبله من خسران حزب الشيطان عبد عنهم بالموصول للتنبيه بما في حيز الصلة على أن موادة من حاد الله ورسوله محادة لهما والإشعار بعلة الحكم «أولئك» بما فعلوا من التولي والموادة «في الأذلين» أي في جملة من هو أذل خلق الله من الأولين والآخرين لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث كانت عزة الله عز وجل غير متناهية كانت ذلة من يحاده كذلك «كتب الله» استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي قضى وثبت في اللوح وحيث جرى ذلك مجرى القسم أجيب بما يجاب به فقيل «لأغلبن أنا ورسلي» أي بالحجة والسيف وما يجرى مجراه أو بأحدهما ونظيره قوله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وقرئ ورسلي بفتح الياء «إن الله قوي» على نصر أنبيائه «عزيز» لا يغلب عليه في مراده «لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر» الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد وتجد إما متعد إلى اثنين فقوله تعالى «يوادون من حاد الله ورسوله» مفعوله الثاني أو إلى واحد فهو حال من مفعوله لتخصصه بالصفة وقيل صفة أخرى له أي قوما جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين موادة أعداء الله ورسوله والمراد
223

ينفى الوجدان لنفى الموادة على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال وإن جد في طلبه كل أحد «ولو كانوا» أي من حاد الله ورسوله والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها «آباءهم» آباء الموادين «أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم» فإن قضية الإيمان بالله تعالى أن يهجر الجميع بالمرة والكلام في لو قد مر على التفصيل مرارا «أولئك» إشارة إلى الذين لا يوادونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمس رحما وما فيه من معنى البعد لرفعة درجتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره «كتب في قلوبهم الإيمان» أي أثبته فيها وفيه قطعا ولا شئ من أعمال الجوارح يثبت فيه «وأيدهم» أي قواهم «بروح منه» أي من عند الله تعالى وهو نور القلب أو القرآن أو النصر على العدو وقيل الضمير للإيمان الحياة القلوب به فمن تجريدية وقوله تعالى «ويدخلهم» الخ بيان لآثار رحمته الأخروية إثر بيان ألطافه الدنيوية أي ويدخلهم في الآخرة «جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها» أبد الآبدين وقوله تعالى «رضي الله عنهم» استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض عليهم من آثار رحمته العاجلة والآجلة وقوله تعالى «ورضوا عنه» بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا وقوله تعالى «أولئك حزب الله» تشريف لهم ببيان اختصاصهم به عز وجل وقوله تعالى «ألا إن حزب الله هم المفلحون» بيان لاختصاصهم بالفوز بسعادة الدارين والفوز بسعادة النشأتين والكلام في تحلية الجملة بفنون التأكيد كما مر في مثلها عن النبي عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة $ سورة الحشر $ «بسم الله الرحمن الرحيم» «سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم» مر ما فيه من الكلام في صدر سورة الحديد وقد كرر الموصول ههنا لزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح روى أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة صالح بنى النضير وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام نزلوا المدينة في فتن بنى إسرائيل انتظارا لبعثة النبي عليه الصلاة والسلام وعاهدهم أن لا يكونوا له ولا عليه فلما ظهر عليه الصلاة والسلام يوم بدر قالوا هو النبي الذي
224

نعته في التوراة لا ترد له راية فلما كان يوم أحد ما كان ارتابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا قريشا إلى الكعبة على قتاله عليه الصلاة والسلام سقط فأمر عليه الصلاة والسلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة وكان أخاه من الرضاعة ثم صبحهم بالكتاب فقال لهم اخرجوا من المدينة فاستمهلوه عليه الصلاة والسلام عشرة أيام ليتجهزوا للخروج فدس عبد الله بن أبى المنافق وأصحابه إليهم لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها فحاصرهم النبي عليه الصلاة والسلام إحدى وعشرين ليلة فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم فجلوا إلى الشأم إلى أريحا وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة فأنزل الله تعالى سبح لله ما في السماوات إلى قوله والله على كل شيء قدير وقوله تعالى «هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم» بيان لبعض آثار عزته تعالى واحكام حكمته إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق والضمير راجع إليه تعلى بذلك العنوان إما بناء على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام أو على جعله مستعارا لاسم الإشارة كما في قوله تعالى قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به أي بذلك وعليه قول رؤبة بن العجاج
* كأنه في الجلد توليع البهق
* كما هو المشهور كأنه قيل ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج الخ ففيه إشعار بأن في الإخراج حكمة باهرة وقوله تعالى «لأول الحشر» أي في أول حشرهم إلى الشام وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط وهم أول من أخرج من جزيرة العرب إلى الشام أو هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضى الله عنه إياهم من خيبر إلى الشام وقيل آخر حشرهم حشر يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام «ما ظننتم» أيها المسلمون «أن يخرجوا» من ديارهم بهذا الذل والهوان لشدة بأسهم وقوة منعتهم «وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله» اى ظنوا أن حصونهم تمنعهم أو ما نعتهم من بأس الله تعالى وتغيير النظم بتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على كمال وثوقهم بحصانة حصونهم واعتقادهم في أنفسهم أنهم في غرة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ويجوز ان يكون ما نعتهم خبرا لأن وحصونهم مرتفعا على الفاعلية «فآتاهم الله» أي أمر الله تعالى وقدره المقدور لهم «من حيث لم يحتسبوا» ولم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه
225

مما أضعف قوتهم وفل شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة وقيل الضمير في أتاهم ولم يحتسبوا للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله وقرئ فتاهم أي فآتاهم الله العذاب أو النصر «وقذف في قلوبهم الرعب» أي أثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها «يخربون بيوتهم بأيديهم» ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين ولينقلوا معهم بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل «وأيدي المؤمنين» حيث كانوا يخربونها إزالة لمتحصنهم ومتمنعهم وتوسعا لمجال القتال ونكاية لهم وإسناد هذا إليهم لما أنهم السبب فيه فكأنهم كلفوهم إياه وأمروهم به قيل الجملة حال أو تفسير للرعب وقرئ يخربون بالتشديد للتكثير وقيل الإخراب التعطيل أو ترك الشئ خرابا والتخريب النقض والهدم «فاعتبروا يا أولي الأبصار» فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا يكاد يهتدى إليه الأفكار واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي أو انتقلوا من حال الفريقين إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب بل توكلوا على الله عز وجل وقد استدل به على حجية القياس كما فصل في موقعه «ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء» أي الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع «لعذبهم في الدنيا» بالقتل والسبي كما فعل ببنى قريظة «ولهم في الآخرة عذاب النار» استئناف غير متعلق بجواب لولا جئ به لبيان أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا بكتابة الجلاء لا نجاة لهم من عذاب الآخرة «ذلك» أي ما حاق بهم وما سيحيق «بأنهم» بسبب أنهم «شاقوا الله ورسوله» وفعلوا ما فعلوا مما حكى عنهم من القبائح «ومن يشاق الله» وقرئ يشاقق الله كما في الأنفال والاقتصار على ذكر مشاقته تعالى لتضمنها لمشاقته عليه الصلاة والسلام وليوافق قوله تعالى «فإن الله شديد العقاب» وهو إما نفس الجزاء قد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب وأياما كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل ذلك الذي حاق بهم من العقاب العاجل والآجل بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله وكل من يشاق الله كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذن لهم عقاب شديد «ما قطعتم من لينة» أي أي شيء قطعتم من نخلة وهى فعلى من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسرة ما قبلها كديمة وتجمع على ألوان وقيل من اللين وتجمع على لين وهي النخلة الكريمة «أو تركتموها» الضمير لما وتأنيثه لتفسيره باللينة كما في قوله تعالى ما يفتح الله للناس من رحمة فلا يمسك لها «قائمة على أصولها» كما كانت من غير أن تتعرضوا لها بشئ ما وقرئ على أصلها
226

إما على الاكتفاء من الواو بالضم أو على أنه جمع كرهن وقرئ قائما على أصوله ذهابا إلى لفظ ما «فبإذن الله» فذاك أي قطعها وتركها بأمر الله تعالى «وليخزي الفاسقين» أي وليذل اليهود ويغيظهم إذن في قطعها وتركها لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف أحبوا ويتصرفون فيها حسبما شاؤوا من القطع والترك يزدادون غيظا ويتضاعفون حسرة واستدل به على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم وتخصيص اللينة بالقطع إن كانت من الألوان لاستبقاء العجوة والبرنية اللتين هما كرام النخيل وإن كانت هي الكرام ليكون غيظهم أشد وقوله تعالى «وما أفاء الله على رسوله» شروع في بيان حال ما أخذ من أموالم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والأجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده إليه من ما لهم وفيه إشعار بأنه كان حقيقا بأن يكون له عليه الصلاة والسلام وإنما وقع في أيديهم بغير حق فرجعه الله تعالى إلى مستحقه لأنه تعالى خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين «منهم» أي من بنى النضير «فما أوجفتم عليه» أي فما أجريتم على تحصيله وتغنمه من الوجيف وهو سرعة السير «من خيل ولا ركاب» هي ما يركب من الإبل خاصة كما ان الراكب عندهم راكبها لا غير وأما راكب الفرس فإنما يسمونه فارسا ولا واحد لها من لفظها وإنما الواحدة منها راحلة والمعنى ما قطعتم لها شقة بعيدة ولا لقيتم مشقة شديدة ولا قتالا شديدا وذلك لأنه كانت قراهم على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشيا وما كان فيهم راكب إلا النبي عليه الصلاة والسلام فافتحها صلحا من غير ان يجري بينهم مسابقة كأنه قيل وما أفاء الله على رسوله منهم فما حصلتموه بكد اليمين وعرق الجبين «ولكن الله يسلط رسله على من يشاء» أي سنته تعالى جارية على أن يسلطهم على من يشاء من أعدائهم تسليطا خاصا وقد سلط النبي عليه الصلاة والسلام على هؤلاء تسليطا غير معتاد من غير أن تقتحموا مضايق الخطوب وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم «والله على كل شيء قدير» فيفعل ما يشاء كما يشاء تارة على الوجوه المعهودة وأخرى على غيرها وقوله تعالى «ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى» بيان لمصارف الفىء بعد بيان إفاءته عليه الصلاة والسلام من غير أن يكون للمقاتلة فيه حق وإعادة عين العبارة الأولى لزيادة التقرير ووضع أهل القرى موضع ضميرهم للإشعار بشمول
227

ما لعقاراتهم أيضا «فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل» اختلف في قسمة الفىء فقيل يسدس لظاهر الآية ويصرف سهم الله إلى الكعبة وسائر المساجد وقيل يخمس لأن ذكر الله للتعظيم ويصرف الآن سهم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الإمام على قول وإلى العساكر والثغور على قول وإلى مصالح المسلمين على قول وقيل يخمس خمسة كالغنيمة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يقسم الخمس كذلك ويصرف الأخماس الأربعة كما يشاء والآن على الخلاف المذكور «كي لا يكون
» أي الفىء الذي حقه أن يكون للفقراء يعيشون به «دولة» بضم الدال وقرئ بفتحها وهي ما يدول الإنسان أي يدور من الغنى والجد والغلبة وقيل الدولة بالفتح من الملك بكسرها أو بالضم في المال وبالفتح في النصرة أي كيلا يكون جدا «بين الأغنياء منكم» يتكاثرون به أو كيلا يكون دولة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ويقولون من عز بز وقيل الدولة بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف فالمعنى كيلا يكون الفىء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعارونه فلا يصيب الفقراء والداولة بالفتح بمعنى التداول فالمعنى كيلا يكون ذا تداول بينهم أو كيلا يكون إمساكه تداولا بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء وقرئ دولة بالرفع على أن كان تامة أي كيلا يقع دولة على ما فصل من المعاني «وما آتاكم الرسول» أي ما أعطاكموه من الفىء أو من الأمر «فخذوه» فإنه حقكم أو فتمسكوا به فإنه واجب عليكم «وما نهاكم عنه» عن أخذه أو عن تعاطيه «فانتهوا» عنه «واتقوا الله» في مخالفته عليه الصلاة والسلام «أن الله شديد العقاب» فيعاقب من يخالف أمره ونهيه «للفقراء المهاجرين» بدل من الذي القربى وما عطف عليه فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يسمى فقيرا ومن أعطى أغنياء ذوى القربى خص الإبدال بما بعده واما تخصيص اعتبار الفقر بفىء بنى النضير فتعسف ظاهر «الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم» حيث أضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى الخروج وكانوا مائة رجل فخرجوا منها «يبتغون فضلا من الله ورضوانا» اى طالبين منه تعالى رزقا في الدنيا ومرضاة في الآخرة وصفوا أولا بما يدل على استحقاقهم للفىء من الإخراج من الديار والأموال وقيد ذلك ثانيا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده «وينصرون الله ورسوله» عطف على يبتغون فهي حال مقدرة اى ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة «أولئك» الموصوفون بما فصل من الصفات الحميدة «هم الصادقون» الراسخون في الصدق حيث ظهر ذلك بما فعلوا ظهورا بينا «والذين تبوؤوا الدار والإيمان» كلام مستأنف مسوق
228

لمدح الأنصار بخصال حميدة من جملتها محبتهم للمهاجرين ورضاهم باختصاص الفئ بهم أحسن رضا وأكمله ومعنى تبوئهم الدار أنهم اتخذوا المدينة والإيمان مباءة وتمكنوا فيهما أشد تمكن على تنزيل الحال منزلة المكان وقيل ضمن التبوؤ ومعنى اللزوم وقيل تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان كقول من قال
* علفتها تبنا وماءا باردا
* وقيل المعنى تبوؤا دار الهجرة ودار الإيمان فحذف المضاف إليه من الأول وعوض منه اللام وقيل سمى المدينة بالإيمان لكونها مظهره ومنشأه «من قبلهم» أي من قبل هجرة المهاجرين على المعاني الأول ومن قبل تبوؤ المهاجرين على الأخيرين ويجوز أن يجعل اتخاذ الإيمان مباءة ولزومه وإخلاصه على المعاني الأول عبارة عن إقامة كافة حقوقه التي من جملتها إظهار عامة شعائره وأحكامه ولا ريب في تقدم الأنصار في ذلك على المهاجرين لظهور عجزهم عن إظهار بعضها لا عن إخلاصه قلبا واعتقادا إذ لا يتصور تقدمهم عليهم في ذلك «يحبون من هاجر إليهم» خبر للموصول أي يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان «ولا يجدون في صدورهم» أي في نفوسهم «حاجة» أي شيئا محتاجا إليه يقال خذ منه حاجتك أي ما تحتاج إليه وقيل إثر حاجة كالطلب والحرازة والحسد والغيظ «مما أوتوا» أي مما أوتى المهاجرون من الفئ وغيره «ويؤثرون» أي يقدمون المهاجرين «على أنفسهم» في كل شئ من أسباب المعاش حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم «ولو كان بهم خصاصة» أي حاجة وخلة وأصلها خصاص البيت وهى فرجه والجملة في حيز الحال وقد عرفت وجهه مرارا وكان النبي عليه الصلاة والسلام قسم أموال بنى النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة وقال لهم إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شئ من الغنيمة فقالت الأنصار بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فنزلت وهذا صريح في ان قوله تعالى والذين تبوؤا الخ مستأنف غير معطوف على الفقراء أو المهاجرين نعم يجوز عطفه على أولئك فإن ذلك إنما يستدعى شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق دون الفىء فيكون قوله تعالى يحبون وما عطف عليه استئنافا مقررا لصدقهم أو حالا من ضمير تبوؤا «ومن يوق شح نفسه» الشح بالضم والكسر وقد قرئ به أيضا اللؤم وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها مقتضية للحرص على المنع الذي هو البخل أي ومن يوق بتوفيق الله تعالى شحها حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق «فأولئك» إشارة إلى من باعتبار معناها العام المنتظم للمذكورين انتظاما أوليا «هم المفلحون» الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم وقرئ يوق بالتشديد «والذين جاؤوا من بعدهم» هم الذين
229

هاجروا بعد ما قوى الإسلام أو التابعون بإحسان وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ولذلك قيل إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين وأيا ما كان فالموصول مبتدأ وخبره «يقولون» الخ والجملة مسوقة لمدحهم بمحبتهم لمن تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه من الجملة السابقة لمدح الأنصار أي يدعون لهم «ربنا اغفر لنا ولإخواننا» أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب «الذين سبقونا بالإيمان» وصفوهم بذلك اعترافا بفضلهم «ولا تجعل في قلوبنا غلا» وقرئ غمرا وهما الحقد «للذين آمنوا» على الإطلاق «ربنا إنك رؤوف رحيم» أي مبالغ في الرأفة والرحمة فحقيق بأن تجيب دعاءنا «ألم تر إلى الذين نافقوا» حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة وتعجيب منها بعد حكاية محاسن أحوال المؤمنين وأقوالهم على اختلاف طبقاتهم والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب وقوله تعالى «يقولون» الخ استئناف لبيان المتعجب منه وصيغة المضارع للدلالة على استمرارا قولهم أو لاستحضار صورته واللام في قوله تعالى «لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب» للتبليغ والمراد بإخوتهم إما توافقهم في الكفر أو صداقتهم وموالاتهم واللام في قوله تعالى «لئن أخرجتم» أي من دياركم قسرا موطئة للقسم وقوله تعالى «لنخرجن معكم» جواب القسم أي والله لئن أخرجتم لنخرجن معكم البتة ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم «ولا نطيع فيكم» أي في شأنكم «أحدا» يمنعنا من الخروج معكم «أبدا» وإن طال الزمان وقيل لا نطيع في قتالكم
أو خذلانكم وليس بذاك لأن تقدير القتال مترقب بعد ولأن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليس مجرد عدم طاعتهم لمن يدعوهم إلى قتالهم بل نصرتهم عليه كما ينطق به قوله تعالى «وإن قوتلتم لننصرنكم» أي لنعاوننكم على عدوكم على أن دعوتهم إلى خذلان اليهود مما لا يمكن صدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين حتى يدعوا عدم طاعتهم فيها ضرورة أنها لو كانت لكانت عند استعدادهم لنصرتهم وإظهار كفرهم ولا ريب في أن ما يفعله عليه الصلاة والسلام عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إلى ترك نصرتهم وإما الخروج معهم فليس بهذه المرتبة من إظهار الكفر لجواز أن يدعوا أن خروجهم معهم لما بينهم من الصداقة الدنيوية لا للموافقة في الدين «والله يشهد إنهم لكاذبون» في مواعيدهم المؤكدة بالإيمان الفاجرة وقوله تعالى «لئن أخرجوا لا يخرجون معهم» الخ تكذيب لهم في كل واحد
230

من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال «ولئن قوتلوا لا ينصرونهم» وكان الأمر كذلك فإن ابن أبى وأصحابه أرسلوا إلى بنى النضير ذلك سرا ثم أخلفوهم وفيه حجة بينة لصحة النبوة وإعجاز القرآن «ولئن نصروهم» على الفرض والتقدير «ليولن الأدبار» فرارا «ثم لا ينصرون» اى المنافقون بعد ذلك اى يهلكهم الله ولا ينفهم نفاقهم لظهور كفرهم أو ليهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافين بعد ذلك «لأنتم أشد رهبة» أي أشد مرهوبية على أنها مصدر من المبنى للمفعول «في صدورهم من الله» أي رهبتهم منكم في السر أشد مما يظهرونه لكم من رهبة الله فإنهم كانوا يدعون عندهم رهبة عظيمة من الله تعالى «ذلك» أي ما ذكر من كون رهبتهم منكم أشد من رهبة الله «بأنهم» بسبب أنهم «قوم لا يفقهون» أي شيئا حتى يعلموا عظمة الله تعالى فيخشوه حق خشيته «لا يقاتلونكم» أي اليهود والمنافقون بمعنى لا يقدرون على قتالكم «جميعا» اى مجتمعين متفقين في موطن من المواطن «إلا في قرى محصنة» بالدروب والخنادق «أو من وراء جدر» دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم لفرط رهبتهم وقرئ جدر بالتخفيف وقرئ جدار وبإمالة فتحة الدال وجدر وجدر وهما الجدار «بأسهم بينهم شديد» استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة إليكم بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب «تحسبهم جميعا» مجتمعين متفقين «وقلوبهم شتى» متفرقة لا ألفة بينها «ذلك» اى ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم «قوم لا يعقلون» أي لا يعقلون شيئا حتى يعرفوا الحق ويتبعوه وتطمئن به قلوبهم وتتحد كلمتهم ويرموا عن قوس واحدة فيقعون في تيه الضلال وتتشتت قلوبهم حسب تشتت طرقه وتفرق فنونه وأما ما قيل من أن المعنى لا يعقلون أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم فبمعزل من السداد وقوله تعالى «كمثل الذين من قبلهم» خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين من اليهود والمنافقين كمثل أهل بدر أو بنى قينقاع على ما قيل إنهم أخرجوا قبل بني النضير «قريبا» في زمان قريب وانتصابه بمثل ذا التقدير كوقوع مثل الخ «ذاقوا وبال أمرهم» أي سوء عاقبة كفرهم في الدنيا «ولهم» في الآخرة «عذاب أليم» لا يقادر قدره والمعنى أن حال هؤلاء كحال أولئك في الدنيا والآخرة لكن لا على أن حال كلهم كحالهم بل حال بعضهم الذين هم اليهود كذلك واما حال المنافقين فهي ما نطق به
231

قوله تعالى «كمثل الشيطان» فإنه خبر ثان للمبتدأ المقدر مبين لحالهم متضمن لحال أخرى لليهود وهى اغترارهم بمقابلة المنافقين أولا وخيبتهم آخرا وقد أجمل في النظم الكريم حيث أسند كل من الخبرين إلى المقدر المضاف إلى ضمير الفريقين من غير تعيين ما أسند إليه بخصوصه ثقة بأن السامع يرد كلا من المثلين إلى ما يماثله كأنه قيل مثل اليهود في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم الخ ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما نقل عنهم كمثل الشيطان «إذ قال للإنسان اكفر» أي أغراه على الكفر إغراء الآمر الأمور على المأمور به «فلما كفر قال إني بريء منك» وقرئ أنا برئ منك إن أريد بالإنسان الجنس فهذا التبرؤ من الشيطان يكون يوم القيامة كما ينبئ عنه قوله تعالى «إني أخاف الله رب العالمين» وإن أريد به أبو جهل فقوله تعالى اكفر عبارة عن قول إبليس يوم بدر لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم وتبرؤه قوله يومئذ إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله الآية «فكان عاقبتهما» بالنصب على أنه خبر كان واسمها «أنهما في النار» وقرئ بالعكس وقد مر أنه أوضح «خالدين فيها» وقرئ خالدان فيها على أنه خبر أن وفى النار لغو «وذلك جزاء الظالمين» أي الخلود في النار جزاء الظالمين على الإطلاق دون هؤلاء خاصة «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله» أي في كل ما تأتون وما تذرون «ولتنظر نفس ما قدمت لغد» أي أي شئ قدمت من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غده وتنكيره لتفخيمه وتهويله كأنه قيل لغد لا يعرف كنهه لغاية عظمه وأما تنكير نفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمن لذلك اليوم الهائل كأنه قيل ولتنظر نفس واحدة ذلك «واتقوا الله» تكرير للتأكيد أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل وهذا ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد بقوله تعالى «إن الله خبير بما تعملون» أي من المعاصي «ولا تكونوا كالذين نسوا الله» أي نسوا حقوقه تعالى وما قدروه حق قدره ولم يراعوا مواجب أوامره ونواهيه حق رعايتها «فأنساهم» بسبب ذلك «أنفسهم» أي جعلهم ناسين لها حتى لم يسمعوا ما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها أو أراهم يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم «أولئك»
232

هم «الفاسقون» الكاملون في الفسوق «لا يستوي أصحاب النار» الذين نسوا الله تعالى فاستحقوا الخلود في النار «وأصحاب الجنة» الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن المقصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص وعليه قوله تعالى هل يستوى الأعمى والبصير أم هل يستوى الظلمات والنور إلى غير ذلك من المواقع وأما قوله تعالى هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول والأعدام مسبوقة بملكاتها ولا دلالة في الآية الكريمة على ان المسلم لا يقتص بالكافرون وان الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر لأن المراد عدم الاستواء في الأخروية كما ينبئ عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبتيه الجنة وكذا قوله تعالى «أصحاب الجنة هم الفائزون» فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بين الفريقين أي هم الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه «لو أنزلنا هذا القرآن» العظيم الشأن المنطوى على فنون القوارع «على جبل» من الجبال «لرأيته» مع
كونه علما في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه «خاشعا متصدعا من خشية الله» أي متشققا منها وقرئ مصدعا بالإدغام وهذا تمثيل وتخييل لعلو شان القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ كما ينطق به قوله تعالى «وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون» أريد به توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تخشعه عند تلاوته وقلة تدبره فيه «هو الله الذي لا إله إلا هو» وحده «عالم الغيب والشهادة» أي ما غاب عن الحس من الجواهر القدسية وأحالها وما حضر له من الأجرام وأعراضها وتقديم الغيب على الشهادة لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به أو المعدوم والموجود أو السر والعلانية «هو الرحمن الرحيم» «هو الله الذي لا إله إلا هو» كرر لإبراز الاعتناء بأمر التوحيد «الملك القدوس» البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانا وقرئ بالفتح وهي
233

لغة فيه «السلام» ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة «المؤمن» واهب الأمن وقرئ بالفتح بمعنى المؤمن به على حذف الجار «المهيمن» الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن بقلب همزته هاء «العزيز» الغالب «الجبار» الذي جبر خلقه على ما أراد أو جبر أحوالهم أي أصلحها «المتكبر» الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا أو البليغ الكبرياء والعظمة «سبحان الله عما يشركون» تنزيه له تعالى عما يشركونه به تعالى أو عن إشراكهم به تعالى إثر تعداد صفاته التي لا يمكن أن يشاركه تعالى في شيء منها شيء ما أصلا «هو الله الخالق» المقدر للأشياء على مقتضى حكمته «البارئ» الموجد لها بريئا من التفاوت وقيل المميز بعضها من بعض بالأشكال المختلفة «المصور» الموجد لصورها وكيفيتها كما أراد «له الأسماء الحسنى» لدلاتها على المعاني الحسنة «يسبح له ما في السماوات والأرض» ينطق بتنزهه تعالى عن جميع النقائض تنزها ظاهرا «وهو العزيز الحكيم» الجامع للكمالات كافة فإنها مع تكثرها وتشعبها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم عن النبي عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
234

«بسم الله الرحمن الرحيم» «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء» نزلت في حاطب ابن أبى بلتعة وذلك انه لما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الفتح كتب إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم وأرسله مع سارة مولاة بنى المطلب فنزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وعمارا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتب حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها ثمة فجحدت فسل على سيفه فأخرجته من عقاصها فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال ما حملك على هذا فقال يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش وليس لي فيهم من يحمى أهلي فأردت أن آخذ عندهم يدا وقد علمت أن كتابي لن يغنى عنهم شيئا فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل عذره «تلقون إليهم بالمودة» أي توصلون إليهم على أن الباء زائدة كما في قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أو تلقون إليهم أخبار النبي عليه الصلاة والسلام بسبب المودة التي بينكم وبينهم والجملة إما حال من فاعل لا تتخذوا أو صفة لأولياء وإبراز الضمير في الصفات الجارية على غير من هي له إنما يشترط في الاسم دون الفعل أو استئناف «وقد كفروا بما جاءكم من الحق» حال من فاعل تلقون وقيل من فعل لا تتخذوا وقرئ لما جاءكم أي كفروا لأجل ما جاءكم بمعنى جعل ما هو سبب الإيمان سببا للكفر «يخرجون الرسول وإياكم» أي من مكة وهو إما حال من فاعل كفروا أو استئناف مبين لكفرهم وصيغة المضارع لاستحضار الصورة وقوله تعالى «أن تؤمنوا بالله ربكم» تعليل للإخراج فيه تغليب المخاطب على الغائب والتفات من التكلم إلى الغيبة للإشعار بما يوجب الإيمان من الألوهية والربوبية
235

«إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي» متعلق بلا تتخذوا كأنه قيل لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي وقوله تعالى «تسرون إليهم بالمودة» استئناف وارد على نهج العتاب والتوبيخ أي تسرون إليهم المودة أو الأخبار بسبب المودة «وأنا أعلم» أي والحال أنى اعلم منكم «بما أخفيتم وما أعلنتم» ومطلع رسولي على ما تسرون فأي طائل لكم في الأسرار وقيل أعلم مضارع والباء مزيدة وما موصلة أو مصدرية وتقديم الإخفاء على الإعلان قد مر وجهه في قوله تعالى يعلم ما يسرون وما يعلنون «ومن يفعله منكم» أي الاتخاذ «فقد ضل سواء السبيل» فقد أخطأ طريق الحق والصواب «إن يثقفوكم» أي إن يظفر وا بكم «يكونوا لكم أعداء» اى يظهروا ما في قلوبهم من العداوة ويرتبوا عليها أحكامها «ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء» بما يسوؤكم من القتل والأسر والشتم «وودوا لو تكفرون» أي تمنوا ارتدادكم وصيغة الماضي للإيذان بتحقيق ودادتهم قبل أن يثقفوهم أيضا «لن تنفعكم أرحامكم» قرباتكم «ولا أولادكم» الذين توالون المشركين لأجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم «يوم القيامة» بجلب نفع أو دفع ضر «يفصل بينكم» استئناف لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد يومئذ أي يفرق الله بينكم بما اعتراكم من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه الآية فمالكم ترفضون حق الله تعالى لمراعاة حق من هذا شأنه وقرئ يفصل ويفصل مبينا للمفعول ويفصل يفصل مبينا للفاعل وهو الله تعالى ونفصل ونفصل بالنون «والله بما تعملون بصير» فيجازيكم به «قد كانت لكم أسوة حسنة» أي خصلة حميدة حقيقة بأن يؤتسى ويقتدى بها وقوله تعالى «في إبراهيم والذين معه» أي من أصحابه المؤمنين صفة ثانية لأسوة أو خبر لكان ولكم للبيان أو حال من المستكن في حسنة أو صلة لها لا لأسوة عند من لا يجوز العمل بعد الوصف «إذ قالوا»
236

ظرف لخبر كان «لقومهم إنا برآء منكم» جمع برئ كظريف وظرفاء وقرئ براء كظراف وبراء كرخال وبراء على الوصف بالمصدر مبالغة «ومما تعبدون من دون الله» من الأصنام «كفرنا بكم» أي بدينكم أو بمعبودكم أو بكم وبه فلا نعتد بشأنكم وبآلهتكم «وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا» أي هذا دأبنا معكم لا نتركه «حتى تؤمنوا بالله وحده» وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة حينئذ ولاية والبغضاء محبة «إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك» استثناء من قوله تعالى أسوة حسنة فإن استغفاره عليه الصلاة والسلام لأبيه الكافر وإن كان جائزا عقلا وشرعا لوقوعه قبل تبين أنه من أصحاب الجحيم كما نطق به النص لكنه ليس مما ينبغي أن يؤتسى به أصلا إذ المراد به ما يجب الائتساء به حتما لورود الوعيد على الإعراض عنه بما سيأتي من قوله تعالى ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد فاستثناؤه من الأسوة إنما يفيد
عدم وجوب استدعاء الإيمان والمغفرة للكافر المرجو إيمانه وذلك مما لا يرتاب فيه عاقل وأما عدم وأما عدم جوازه فلا دلالة للاستثناء عليه قطعا هذا وأما تعليل عدم كون استغفاره عليه الصلاة والسلام لأبيه الكافر مما ينبغي أن يؤتسى به بأنه كان قبل النهى أو لموعدة وعدها إياه فبمعزل من السداد بالكلية لابتنائه على تناول النهى لاستغفاره عليه الصلاة والسلام له وإنبائه عن كونه مؤتسى به لو لم ينه عنه وكلاهما بين البلان لما أن مورد النهى هو الاستغفار للكافر بعد تبين أمره وقد عرفت أن استغفاره عليه الصلاة والسلام لأبيه كان قبل ذلك قطعا وأن ما يؤتسى به ما يجب الائتساء به لا ما يجوز فعله في الجملة وتجويز أن يكون استغفاره عليه الصلاة والسلام له بعد النهى كما هو المفهوم من ظاهر قوله أو لموعدة وعدها إياه مما لا مساغ له وتوجيه الاستثناء إلى العدة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفار بقوله اغفر لأبى الآية لأنها كانت هي الحاملة له عليه الصلاة والسلام على الاستغفار وتخصيص هذه العدة بالذكر دون ما وقع في سورة مريم من قوله تعالى سأستغفر لك ربى لورودها على طريق التوكيد القسمي وأما جعل الاستغفار دائرا عليها وترتيب التبرؤ على تبين الأمر فقد مر تحقيقه في سورة التوبة وقوله تعالى «وما أملك لك من الله من شيء» من تمام القول المستثنى محله النصب على أنه حال من فاعل لأستغفرن لك أي أستغفر لك وليس في طاقتى إلا الاستغفار فمورد الاستثناء نفس الاستغفار لا قيده الذي هو في نفسه من خصال الخير لكونه إظهارا للعجز وتفويضا للأمر إلى الله تعالى وقوله تعالى «ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير» الخ من تمام ما نقل عن إبراهيم عليه السلام ومن معه من الأسوة الحسنة وتقديم الجار والمجرور لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله تعالى قالوه بعد المجاهرة وقشر العصا التجاء إلى الله تعالى في جميع أمورهم لا سيما في مدافعة الكفرة وكفاية شرورهم كما ينطق به قوله تعالى «ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا» بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نطيقه «واغفر لنا» ما فرط منا من العذاب «ربنا إنك أنت العزيز» الغالب الذي لا يذل
237

من التجأ إليه ولا يخيب رجاء من توكل عليه «الحكيم» الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة وتكرير النداء للمبالغة في التضرع والجؤار هذا وأما جعل الآيتين تلقينا للمؤمنين من جهته تعالى وأمرا لهم بأن يتوكلوا عليه وينيبوا إليه ويستعيذوا به من فتنة الكفرة ويستغفروا مما فرط منهم تكملة لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفرة فلا يساعده النظم الكريم «لقد كان لكم فيهم» أي في إبراهيم ومن معه «أسوة حسنة» تكرير للمبالغة في الحث على الائتساء به عليه الصلاة والسلام ولذلك صدر بالقسم وقوله تعالى «لمن كان يرجو الله واليوم الآخر» بدل من لكم فائدته الإيذان بأن من يؤمن بالله واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم وأن تركه من مخايل عدم الإيمان بهما كما ينبئ عنه قوله تعالى «ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد» فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة «عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم» أي من أقاربكم المشركين «مودة» بأن يوافقكم في الدين وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم من التصلب في الدين والتشدد لله في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهم ومقاطعتهم إياهم بالكلية تطيبا لقلوبهم ولقد أنجز وعده الكريم حين أتاح لهم الفتح فأسلم قومهم فتم بينهم من التحاب والتصافى ما تم «والله قدير» أي مبالغ في القدرة فيقدر على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة «والله غفور رحيم» فيغفر لمن أسلم من المشركين ويرحمهم وقيل غفور لما فرط منكم في موالاتهم من قبل ولما بقي في قلوبكم من ميل الرحم «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم» أي لا ينهاكم عن البر بهؤلاء فإن قوله تعالى «أن تبروهم» بدل من الموصول «وتقسطوا إليهم» أي تفضوا إليهم بالقسط أي العدل «إن الله يحب المقسطين» أي العادلين روى أن قتيلة بنت عبد العزى قدمت مشركة على بنتها أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنه بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول فنزلت فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها وقيل المراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه «إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم» وهم عتاة أهل مكة
238

«وظاهروا على إخراجكم» وهم سائر أهلها «أن تولوهم» بدل اشتمال من الوصول أي إنما ينهاكم عن تتولهم «ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون» لوضعهم الولاية في موضع العداوة أو هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب «يا أيها الذين آمنوا» بيان لحكم من يظهر الإيمان بعد بيان حكم فريقي الكافرين «إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات» من بين الكفار «فامتحنوهن» فاختبروهم بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن للسانهن في الإيمان يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للتي يمتحنها بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج بالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض بالله ما خرجت التماس دنيا بالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله «الله أعلم بإيمانهن» لأنه المطلع على ما في قلوبهن والجملة اعتراض «فإن علمتموهن» بعد الامتحان «مؤمنات» علما يمكنكم تحصيله وتبلغه طاقتكم بعد اللتيا والتي من الاستدلال بالعلائم والدلائل والاستشهاد بالأمارات والمخايل وهو الظن الغالب وتسميته علما للإيذان بأنه جار مجرى العلم في وجوب العمل به «فلا ترجعوهن إلى الكفار» أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله تعالى «لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن» فإنه تعليل للنهي عن رجعهن إليهم والتكرير إما لتأكيد الحرمة أو لأن الأول لبيان زوال النكاح الأول والثاني لبيان امتناع النكاح الجديد «وآتوهم ما أنفقوا» أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور وذلك أن صلح الحديبية كان على أن من جاءنا منكم ورددناه فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي عليه الصلاة والسلام بالحديبية فأقبل زوجها مسافر المخزومي وقيل صيفي بن الراهب فقال يا محمد أردد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا فنزلت لبيان أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق وتزوجها عمر رضى الله عنه «ولا جناح عليكم أن تنكحوهن» فإن إسلامهن حال بينهن وبين أزواجهن الكفار «إذا آتيتموهن أجورهن» شرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذانا بان ما أعطى أزواجهن لا يقوم مقام المهر «ولا تمسكوا بعصم الكوافر» جمع عصمة وهى ما يعتصم به من عقد وسبب أي لا يكن بينكم وبين المشركات ولا علقة زوجية قال ابن عباس رضى الله عنهما من كانت له امرأة كافرة بمكة ة فلا يعتدن بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه وعن النخعي رحمه الله هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر وعن مجاهد أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن وقرئ ولا تمسكوا بالتشديد ولا تمسكوا بحذف إحدى
239

التاءين من تتمسكوا «واسألوا ما أنفقتم» من مهور نسائكم للاحقات بالكفار «وليسألوا ما أنفقوا» من مهور أزواجهم المهاجرات «ذلكم» الذي ذكر «حكم الله» وقوله تعالى «يحكم بينكم» كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف الضمير أي يحكمه الله أو جعل لكم حاكما على المبالغة «والله عليم حكيم» يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة روى أنه لما نزلت الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن المشركين وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين فنزل قوله تعالى «وإن فاتكم» أي سبقكم وانفلت منكم «شيء من أزواجكم إلى الكفار» أي أحد من أزواجكم وقد قرىء كذلك وإيقاع شيء موقعه للتحقير والإشباع في التعميم أو شيء من مهور أزواجكم «فعاقبتم» أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقبون في الركوب وغيره «فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا» من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ولا تؤتوه زوجها الكافر وقيل معناه إن فاتكم فأصبتم من الكفار عقبى هي الغنيمة فآتوا بدل الفائت من الغنيمة وقرئ فأعقبتم وفعقبتم بالتشديد وفعقبتم بالتخفيف وفتح القاف وبكسرها قيل جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان وفاطمة بنت أمية وبروع بنت عقبة وعبده بنت عبد العزى وهند بنت أبي جهل كلثوم بنت جرول «واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون» فإن الإيمان به تعالى يقتضى التقوى منه تعالى «يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك» أي مبايعات لك أي قاصدات للمبايعة نزلت يوم الفتح فإنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من بيعة الرجال شرع في بيعة النساء «على أن لا يشركن بالله شيئا» أي شيئا من الأشياء أو شيئا من الإشراك «ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن» أريد به وأد البنات وقرئ ولا يقتلن بالتشديد «ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن» كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدى منك كنى عنه بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها لأن بطنها الذي تحمله فيه بين يديها ومخرجه بين رجليها «ولا يعصينك في معروف» اى فيما تأمرهن به من معروف وتنهاهن عنه من منكر والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى الله عله وسلم لا يأمر إلا به للتنبيه على انه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق
240

وتخصيص الأمر المعدودة بالذكر في حقهن لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن «فبايعهن» اى على ما ذكر وما لم يذكر لوضوح أمره وظهور أصالته في المبايعة من الصلاة والزكاة وسائر أركان الدين وشعائر الإسلام وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها «واستغفر لهن الله» زيادة على ما في ضمن المبايعة فإنها عبارة عن ضمان الثواب من قبله عليه الصلاة والسلام بمقابله الوفاء بالأمور المذكورة من قبلهن «إن الله غفور رحيم» أي مبالغ في المغفرة والرحمة فيغفر لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه واختلف في كيفية مبايعته عليه الصلاة والسلام لهن يومئذ فروى أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا ومعه عمر رضى الله عنه أسفل منه فجعل عليه الصلاة والسلام يشترط عليهن البيعة وعمر يصافحهن وروى أنه كلف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهن وقيل دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده ثم غمسن أيديهن وروى أنه علية الصلاة والسلام بايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب قطري والأظهر الأشهر ما قالت عائشة رضى الله عنها والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمر الله تعالى وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط وكان يقول إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلاما وكان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن يقول الله عز وجل يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات إلى آخر الآية فإذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن انطلقن فقد بايعتكن «يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم» هم عامة الكفرة وقيل اليهود لما روى أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم «قد يئسوا من الآخرة» لكفرهم بها أو لعلهم بأنه لا خلاق لهم فيها لعنادهم الرسول المنعوت في التوراة المجيد بالآيات «كما يئس الكفار من أصحاب القبور» اى كما يئس منها الذين ماتوا منهم لأنهم وقفوا على حقيقة الحال وشاهدوا حرمانهم من نعيمها المقيم وابتلاءهم بعذابها الأليم والمراد وصفهم بكمال اليأس منها وقيل المعنى كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا إلى الدنيا أحياء والإظهار في موقع الإضمار للإشعار بعلة بأسهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة
241

«بسم الله الرحمن الرحيم» «سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم» الكلام فيه كالذي مر في نظيره «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون» روى أن المسلمين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فلما نزل الجهاد كرهوه فنزلت وما قيل من ان النازل قوله تعالى إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا بين الاختلال وروى أنهم قالوا يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فنزلت هل أدلكم على تجارة إلى قوله تعالى وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم فولوا يوم أحد وفيه التزام أن ترتيب الآيات الكريمة ليس على ترتيب النزول وقيل لما أخبر الله تعالى بثواب شهداء بدر قالت الصحابة اللهم أشهد لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فنزلت وقيل إنها نزلت فيمن يمتدح كاذبا حيث كان الرجل يقول قتلت ولم يقتل ولم يطعن وهكذا وقيل كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ونكى فيهم فقتله صهيب وانتحل قتله آخر فنزلت في المنتحل وقيل نزلت في المنافقين ونداؤهم بالإيمان تهكم وبإيمانهم وليس بذلك كما ستعرفه ولم مركبة من اللام الجارة وما الاستفهامية قد حذفت ألفها تخفيفا لكثرة استعمالها معا كما في عم وفيما نظائرهما معناها لأي شيء تقولون نفعل مالا تفعلون من الخير والمعروف على أن مدار التعبير والتوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم وإنما وجها إلى قولهم تنبيها على تضاعف معصيتهم ببيان ان المنكر ترك وليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد به أيضا وقد كانوا يحسبونه معروفا ولو قيل لم لا تفعلوا ما تقولون لفهم منه ان المنكر هو ترك الموعود «كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون» بيان لغاية قبح ما فعلوه وفرط سماجته وكبر من باب نعم وبئس فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده وأن تقولوا هو المخصوص بالذم وقيل قصد فيه التعجب من غير لفظه وأسند إلى أن تقولوا ونصب مقتا على تفسيره دلالة على أن قولهم مالا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه كبر عند من يحقر دونه كل عظيم
242

وقوله تعالى «إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا» بيان لما هو مرضى عنده تعالى بعد بيان ما هو ممقوت عنده وهذا صريح في أن ما قالوه عبارة عن الوعد
بالقتال لا عما تقوله المتمدح أو انتحله المنتحل أو أعاده المنافق وأن مناط التعبير والتوبيخ هو إخلافهم لا وعدهم كما أشير إليه وقرئ يقاتلون بفتح التاء ويقاتلون وصفا مصدر وقع موقع الفاعل أو المفعول نصبه على الحالية من فاعل يقاتلون أي صافين أنفسهم أو مصفوفين وقوله تعالى «كأنهم بنيان مرصوص» حال من المستكن في حال الأولى أي مشبهين في تراصهم من غير فرجة وخلل ببنيان رص بعضه إلى بعض ورصف حتى صار شيئا واحدا وقوله تعالى «وإذ قال موسى لقومه» كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال وإذ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين أي واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسربن فلم يمتثلوا بأمره وعصوه أشد عصيان حيث قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون إلى قوله تعالى فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون وأصروا على ذلك وآذوه عليه الصلاة والسلام كل الأذية «يا قوم لم تؤذونني» اى بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم به وقوله تعالى «وقد تعلمون أني رسول الله إليكم» جملة حالية مؤكدة لانكار الإيذاء ونفى سببه وقد لتحقيق العلم وصيغة المضارع للدلالة على استمراره أي والحال أنكم تعلمون علما قطعيا مستمرا بمشاهدة ما ظهر بيدي من المعجزات القاهرة التي معظمها إهلاك عدوكم وإنجاؤكم من ملكته أنى رسول الله إليكم لأرشدكم إلى خير الدنيا والآخرة ومن قضية علمكم بذلك أن تبالغوا في تعاظيمى وتسارعوا إلى طاعتي «فلما زاغوا» أي أصروا على الزيغ عن الحق الذي جاء به موسى عليه السلام واستمروا عليه «أزاغ الله قلوبهم» أي صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو الغى والضلال وقوله تعالى «والله لا يهدي القوم الفاسقين» اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغة ومؤذن بعلته أي لا يهدى القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى ما يوصل إليها فإنها شاملة للكل والمراد بهم إما المذكورون خاصة والإظهار في موقع الإضمار لذمهم بالفسق وتعليل عدم الهدية به أو جنس الفاسقين وهم داخلون ف حكمه دخولا أوليا وأيا ما كان فوصفهم بالفسق ناظر إلى ما في قوله تعالى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين هذا هو الذي تقتضيه جزالة النظم
243

الكريم ويرتضيه الذوق السليم وأما ما قيل بصدد بيان أسباب الأذية من انهم كانوا يؤذونه عليه الصلاة والسلام بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه في نفسه وجحود آياته وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه وعبادتهم البقر وطلبهم رؤية الله جهرة والتكذيب الذي هو تضييع حق الله وحقه فمما لا تعلق له بالمقام وقوله تعالى «وإذ قال عيسى ابن مريم» إما معطوف على إذ الأولى معمول لعاملها وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها «يا بني إسرائيل» ناداهم بذلك استمالة لقلوبهم إلى تصديقه في قوله «إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة» فإن تصديقه عيه الصلاة والسلام إياها من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إياه وقوله تعالى «ومبشرا برسول يأتي من بعدي» معطوف على مصدقا داع إلى تصديقه عليه الصلاة والسلام مثله من حيث إن البشارة به واقعة في التوراة والعامل فيهما ما في الرسول من معنى الإرسال لا الجار فإنه صلة للرسول والصلات بمعزل من تضمن معنى الفعل وعليه يدور العمل أي أرسلت إليكم حال كونى مصدقا لما تقدمني من التوراة ومبشرا بمن يأتي من بعدى من رسول «اسمه أحمد» أي محمد صلى الله عليه وسلم يريد أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعا ممن تقدم وتأخر وقرئ من بعدى بفتح الياء «فلما جاءهم بالبينات» أي بالمعجزات الظاهرة «قالوا هذا سحر مبين» مشيرين إلى ما جاء به أو إليه عليه الصلاة والسلام وتسميته سحرا للمبالغة ويؤيده قراءة من قرأ هذا ساحر «ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام» أي أي الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الاسلام الذي ويوصله إلى سعادة الدارين فيضع موضع الإجابة الافتراء على الله عز وجل بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق هذا سحر أي هو أظلم من كل ظالم وإن لم يتعرض ظاهر الكلام لنفى المساوى وقد مر بيانه غير مرة وقرئ يدعى يقال دعاه وادعاه مثل لمسه والتمسه «والله لا يهدي القوم الظالمين» أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم لعدم توجههم إليه «يريدون ليطفئوا نور الله» أي يريدون أن يطفئوا دينه أو كتابه أو حجته النيرة واللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيدا لها كما زيدت لما فيها من معنى الإضافة تأكيدا لها في لا أبالك أو يريدون لافتراء ليطفئوا نور الله «بأفواههم» بطعنهم فيه مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه «والله متم نوره» أي مبلغه إلى غايته بنشره في الآفاق وإعلائه وقرئ متم نوره بلا إضافة «ولو كره الكافرون» أي إرغاما
244

لهم والجملة في حيز الحال على ما بين مرارا «هو الذي أرسل رسوله بالهدى» بالقرآن أو بالمعجزة «ودين الحق» والملة الحنيفة «ليظهره على الدين كله» ليعليه على جميع الأديان المخالفة له ولقد أنجز الله عز وجل وعلا وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام «ولو كره المشركون» ذلك وقرئ هو الذي أرسل نبيه «يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم» وقرئ تنجيكم بالتشديد وقوله تعالى «تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم» استئناف وقع جوابا عما نشأ مما قبله كأنهم قالوا كيف نعمل أو ماذا نصنع فقيل تؤمنون بالله الخ وهو خبر في معنى الأمر جئ للإيذان بوجوب الامتثال فكان فقد وقع فأخبر بوقوعه ويؤيده قراءة من قرأ آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا وقرئ تؤمنوا وتجاهدوا على إضمار لام الأمر «ذلكم» إشارة إلى ما ذكر من الإيمان والجهاد بقسميه وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة «خير لكم» على الإطلاق أو من أموالكم أو أنفسكم «إن كنتم تعلمون» أي إن كنتم من أهل العلم فإن الجهلة لا يعتد بأفعالهم أو إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتفدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق مال تحبون أنفسكم وأموالكم فتخلصون وتفلحون «يغفر لكم ذنوبكم» جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر أو لشرط أو استفهام دل عليه الكلام تقديره إن تؤمنوا وتجاهدوا أو هل تقبلون أن أدلكم يغفر لكم وجعله جوابا لهل أدلكم بعيد لأن مجرد الدلالة لا يوجب المغفرة «ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك» أي ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنات الموصوفة بما ذكر من الأوصاف الجليل «الفوز العظيم» الذي لا فوز وراءه «وأخرى» ولكم إلى هذه النعم العظيمة نعمة أخرى عاجلة «تحبونها» وترغبون فيه وفيه تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل وقيل أخرى منصوبة بإضمار يعطكم أو تحبون أو مبتدأ خبره «نصر من الله» وهو على الأول
بدل أو بيان وعلى تقدير النصب خبر مبتدأ محذوف «وفتح قريب» أي عاجل عطف على
245

نصر على الوجوه المذكورة وقرئ نصرا وفتحا قريبا على الاختصاص أو على المصدر أي تنصرون نصرا ويفتح لكم فتحا أو على البدلية من أخرى على تقدير نصبها أي يعطكم نعمة أخرى نصرا وفتحا «وبشر المؤمنين» عطف على محذوف مثل قل يا أيها الذين وبشر أو على تؤمنون فإنه في معنى آمنوا كأنه قيل آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون وبشرهم يا أيها الرسول بما وعدتهم على ذلك عاجلا وآجلا «يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله» وقرئ أنصار الله بلا إضافة لأن المعنى كونوا بعض أنصار الله وقرئ كونوا أنتم أنصار الله «كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله» أي من جندي متوجها إلى الله كما يقتضه قوله تعالى «قال الحواريون نحن أنصار الله» والإضافة الأولى أضافة أحد المتشاركين إلى الآخر لما بينهما من الاختصاص والثانية إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصاره حين قال لهم عيسى من أنصارى إلى الله أو قل لهم كونوا كما قال عيسى للحواريين والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن به وكانوا إثنى عشر رجلا «فآمنت طائفة من بني إسرائيل» أي بعيسى وأطاعوه فيما أمرهم من نصرة الدين «وكفرت طائفة» أخرى به وقاتلوهم «فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم» أي قويناهم بالحجة أو بالسيف وذلك بعد رفع عيسى عليه السلام «فأصبحوا ظاهرين» غالبين عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الصف كان عيسى مصليا عليه مستغفرا له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه
246

«بسم الله الرحمن الرحيم» «يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض» تسبيحا مستمرا «الملك القدوس العزيز الحكيم» وقد قرىء الصفات الأربع بالرفع على المدح «هو الذي بعث في الأميين» اى في العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرءون قيل بدئت الكتابة بالطائف أخذوها من أهل الحيرة وهم من أهل الأنبار «رسولا منهم» أي كائنا من جملتهم أميا مثلهم «يتلو عليهم آياته» مع كونه أميا مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم «ويزكيهم» صفة أخرى لرسولا معطوفة على يتلو اى يحملهم على ما يصيرون به أزكياء من خبائث العقائد والأعمال «ويعلمهم الكتاب والحكمة» صفة أخرى لرسولا مترتبة في الوجود على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرغ وعلى تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بان كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر فلو روعى ترتيب الوجود لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة كما مر في سورة البقرة وهو السر في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزا إلى انه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة ولا يقدح فيه شمول الحكمة لما في تضاعيف الأحاديث النبوية من الأحكام والشرائع «وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» من الشرك وخبث الجاهلية وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم وإزاحة لما عسى يتوهم من تعلمه علية الصلاة والسلام من الغير وإن هي المخففة واللام في الفارقة «وآخرين منهم» عطف على الأميين أو على المنصوب في يعلمهم ويعلم آخرين منهم أي من الأميين وهم الذين جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين فإن دعوته عليه الصلاة والسلام وتعليمه يعمم الجميع «لما يلحقوا بهم» صفة لآخرين أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون «وهو العزيز الحكيم» المبالغ في العزة والحكمة ولذلك مكن رجلا أميا من ذلك الأمر
247

العظيم واصطفاه من بين كافة البشر «ذلك» الذي امتاز به من بين سائر الأفراد «فضل الله» وإحسانه «يؤتيه من يشاء» تفضيلا وعطية «والله ذو الفضل العظيم» الذي يستحقر دونه نعيم الدنيا ونعيم الآخرة «مثل الذين حملوا التوراة» أي علموها وكلفوا العمل بها «ثم لم يحملوها» أي لم يعملوا بما في تضاعيفها من الآيات التي من جملتها الآيات الناطقة بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم «كمثل الحمار يحمل أسفارا» أي كتبا من العلم يتعب بحملها ولا ينتفع بها ويحمل إما حال والعامل فيها معنى المثل أو صفة للحمار إذ ليس المراد به معينا فهو في حكم النكرة كما في قول من قال
* ولقد أمر على اللئيم يسبني
* «بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله» أي بئس مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله على أن التمييز محذوف والفاعل المفسر به مستتر ومثل القوم هو المخصوص بالذم والموصول صفة للقوم أو بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا الخ على أن مثل القوم فاعل بئس والمخصوص بالذم محذوف وهم اليهود الذين كذبوا بما في التوراة من الآيات الشاهدة بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم «والله لا يهدي القوم الظالمين» الواضعين للتكذيب في موضع التصديق أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد «قل يا أيها الذين هادوا» أي تهودوا «إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس» كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ويدعون أن الدار الآخرة لهم عند الله خالصة ويقولون لن يدخل الجنة إلا من كان هودا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إظهارا لكذبهم إن زعمتم ذلك «فتمنوا الموت» أي فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى دار الكرامة «إن كنتم صادقين» جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت فإن من أيقن بأنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التي هي قرارة الأكدار «ولا يتمنونه أبدا» إخبار بما سيكون منهم والبناء في قوله تعالى «بما قدمت أيديهم» متعلقة بما يدل عليه النفي أي يأبون التمني بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي الموجبة لدخول النار ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفاعيله عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة «والله عليم بالظالمين» أي بهم وإيثار الإظهار على الإظهار
248

لذمهم والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون في كل ما يأتون وما يذرون من الأمور التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل والجملة تذييل لما قبلها مقررة لمضمونه أي عليم بهم وبما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصي المفضية إلى أفانين العذاب وبما سيكون منهم من الاحتراز عما يؤدي إلى ذلك فوقع الأمر كما ذكر فلم يتمن منهم موته أحد كما يعرب عنه قوله تعالى «قل إن الموت الذي تفرون منه» فإن ذلك إنما يقال لهم بعد ظهور فرارهم من التمني وقد قال عليه الصلاة والسلام لو تمنوا لما توا من ساعتهم وهذه إحدى المعجزات أي إن الموت الذي تفرون منه ولا تجسرون على ان تتمنوه مخافة ان تؤخذوا بوبال كفركم «فإنه ملاقيكم» البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف
يثنيه والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف وقرئ بدونها وقرئ تفرون منه ملاقيكم «ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة» الذي لا تخفى عليه خافية «فينبئكم بما كنتم تعملون» من الكفر والمعاصي بأن يجازيكم بها «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة» أي فعل النداء لها أي أذن لها «من يوم الجمعة» بيان لإذا وتفسير لها وقيل من بمعنى في كما في قوله تعالى أروني ماذا خلقوا من الأرض أي في الأرض وإنما سمى جمعة لاجتماع الناس منه للصلاة وقيل أول من سماها جمعة كعب بن لؤي وكانت العرب تسميه العروبة وقيل إن الأنصار قالوا قبل الهجرة لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلموا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصلى فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلى بهم ركعتين وذكر هم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه فأنزل الله آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام وأما أول جمعه جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أنه لما قدم مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن وادلهم فحطب وصلى الجمعة «فاسعوا إلى ذكر الله» أي امشوا واقصدوا إلى الخطبة والصلاة «وذروا البيع» واتركوا المعاملة «ذلكم» أي السعي إلى ذكر الله وترك البيع «خير لكم» من مباشرته فإن نفع الآخرة أجل وأبقى «إن كنتم تعلمون» أي الخبر والشر الحقيقيين أو إن كنتم أهل العلم «فإذا قضيت الصلاة»
249

أي أديت وفرغ منها «فانتشروا في الأرض» لإقامة مصالحكم «وابتغوا من فضل الله» أي الربح فالأمر للإطلاق بعد الحظر وعن ابن عباس رضى الله عنهما لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله وعن الحسن وسعيد بن المسيب طلب العلم وقيل صلاة التطوع «واذكروا الله كثيرا» ذكرا كثيرا أو زمانا كثيرا ولا تخصوا ذكره تعالى بالصلاة «لعلكم تفلحون» كي تفوزوا بخير الدارين «وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها» روى أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة فقاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه فما بقي معه عليه الصلاة والسلام إلا ثمانية وقيل أحد عشر وقيل إثنا عشر وقيل أربعون فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق وهو المراد باللهو وتخصيص التجارة برجع الضمير لأنه المقصودة أو لأن الإنفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموما فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو المذموم في نفسه وقيل تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا أنفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأول عليه وقرئ إليهما «وتركوك قائما» أي على المنبر «قل ما عند الله» من الثواب «خير من اللهو ومن التجارة» فإن ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم «والله خير الرازقين» فإليه اسعوا ومنه اطلبوا الرزق عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الجمعة أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين
250

«بسم الله الرحمن الرحيم» «إذا جاءك المنافقون» أي حضروا مجلسك «قالوا نشهد إنك لرسول الله» مؤكدين كلامهم بان واللام للإيذان بأن شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم وخلوص اعتقادهم ووفور رغبتهم ونشاطهم وقوله تعالى «والله يعلم إنك لرسوله» اعتراض مقرر لمنطوق كلامهم وسط بينه وبين قوله تعالى «والله يشهد إن المنافقين لكاذبون» تحقيقا وتعيينا لما نيط به التكذيب من أنهم قالوه عن اعتقاد كما أشير إليه وإماطة من أول الأمر لما عسى يتوهم من توجه التكذيب إلى منطوق كلامهم أي والله يشهد إنهم لكاذبون فيما ضمنوا مقالتهم من أنها صادرة عن اعتقاد وطمأنينة قلب وا لإظهار في موقع الاضمار لذمهم والإشعار بعلة الحكم «اتخذوا أيمانهم» الفاجرة التي من جملتها ما حكى عنهم «جنة» أي وقاية عما يتوجه إليهم من مؤاخذة بالقتل والسبي أو غير ذلك واتخاذها جنة عبارة عن أعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضا كما يفصح عنه الفاء في قوله تعالى «فصدوا عن سبيل الله» أي فصدوا من أراد الدخول في الإسلام بأنه عليه الصلاة والسلام ليس برسول ومن أراد الإنفاق في سبيل الله بالنهى عنه كما سيحكى عنهم ولا ريب في أن هذا الصد منهم متقدم على حلفهم بالفعل وقرئ إيمانهم أي ما ظهوره على ألسنتهم فاتخاذه جنة عبارة عن استعماله بالفعل فإنه وقاية دون دمائهم وأموالهم فمعنى قوله تعالى فصدوا حينئذ فاستمروا على ما كانوا عليه من الصد والإعراض عن سبيله تعالى «إنهم ساء ما كانوا يعملون» من النفاق والصد وفي ساء معنى التعجب وتعظيم أمرهم عند السامعين «ذلك» ذلك إشارة إلى ما تقدم من القول
251

الناعي عليهم أنهم أسوأ الناس أعمالا أو إلى ما وصف حالهم في النفاق والكذب والاستتار بالإيمان الصوري وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد المشار إليه لما مر مرارا من الإشعار ببعد منزلته في الشر «بأنهم» أي بسبب أنهم «آمنوا» أي نطقوا بكلمة الشهادة كسائر من يدخل في الإسلام «ثم كفروا» أي ظهر كفرهم بما شوهد منهم من شواهد الكفر ودلائله أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم «فطبع على قلوبهم» حتى تمرنوا على الكفر واطمأنوا به وقرئ على البناء للفاعل وقرئ فطبع الله «فهم لا يفقهون» حقيقة الإيمان ولا يعرفون حقيقته أصلا «وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم» لضخامتها ويروقك منظرهم لصباحة وجوههم «وإن يقولوا تسمع لقولهم» لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم وكان ابن أبي جسيما فصيحا يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أمثاله وهم رؤساء المدينة وكان عليه الصلاة والسلام ومن معه يعجبون بها كلهم ويسمعون إلى كلامهم وقيل الخطاب لكل أحد ممن يصلح للخطاب ويؤيده قراءة يسمع على البناء للمفعول وقوله تعالى «كأنهم خشب مسندة» في حيز الرفع على انه خبر مبتدأ محذوف أو كلام مستأنف لا محل له شبهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين فيها بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن العلم والخير وقرئ خشب على انه جمع خشبة كبدن جمع بدنة وقيل هو جمع خشباء وهي الخشبة التي دعر جوفها أي فسد شبهوا بها في نفاقهم وفساد بواطنهم وقرئ خشب كمدرة ومدر «يحسبون كل صيحة عليهم» أي واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم واستقرار الرعب في قلوبهم وقيل كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم «هم العدو» أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن
أعدى الأعادى العدو المكاشر الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوى والجملة مستأنفة وجعلها مفعولا ثانيا للحسبان مما لا يساعده النظم الكريم أصلا فإن الفاء في قوله تعالى «فاحذرهم» لترتيب الأمر بالحذر على كونهم أعدى الأعداء «قاتلهم الله» دعاء عليهم وطلب من ذاته تعالى أن يلعنهم ويخزيهم أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك وقوله تعلى «أنى يؤفكون» تعجيب من حالهم أي كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر الضلال «وإذا قيل لهم» عند ظهور جنايتهم بطريق النصيحة «تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم» أي عطفوها استكبارا «ورأيتهم يصدون» يعرضون عن القائل أو عن الاستغفار «وهم مستكبرون»
252

عن ذلك «سواء عليهم استغفرت لهم» كما إذا جاءوك معتذرين من جناياتهم وقرئ استغفرت بحذف حرف الاستفهام ثقة بدلالة أم عليه وقرئ آستغفرت بإشباع همزة الاستفهام لا بقلب همزة الوصل ألفا «أم لم تستغفر لهم» كما إذا أصروا على قبائحهم واستكبروا عن الاعتذار والاستغفار «لن يغفر الله لهم» ابدا لإصرارهم على الفسق ورسوخهم في الكفر «إن الله لا يهدي القوم الفاسقين» الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين في الكفر والنفاق والمراد إما هم بأعيانهم والأظهار في موقع الإضمار لبيان غلوهم في الفسق أو الجنس وهم داخلون في زمرتهم دخولا أوليا وقوله تعالى «هم الذين يقولون» أي للأنصار «لا تنفقوا على من عند رسول الله» صلى الله عليه وسلم «حتى ينفضوا» يعنون فقراء المهاجرين استئناف جار مجرى التعليل لفسقهم أو لعدم مغفرته تعالى لهم وقرئ حتى ينفضوا من انفض القوم إذا فنيت أزوادهم وحقيقته حان لهم ان ينفضوا مزاودهم وقوله تعالى «ولله خزائن السماوات والأرض» رد وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم يؤدي إلى انفضاض الفقراء من حوله صلى الله عليه وسلم ببيان ان خزائن الأرزان بيد الله تعالى خاصة يعطى من يشاء ويمنع من يشاء «ولكن المنافقين لا يفقهون» ذلك لجهلهم بالله تعالى وبشئونه ولذلك يقولون من مقالات الكفر ما يقولون «يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» روى أن جهجاه بن سعيد أجير عمر رضى الله عنه نازع سنانا الجهني حليف ابن أبى واقتتلا فصرخ جهجاه ياللمهاجرين وسنان بالأنصار فاعان جهجاها جعال من فقراء المهاجرين ولطم سنان فاشتكى إلى اين أبى فقال للأنصار لا تنفقوا الخ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الذل عنى بالأعز نفسه وبالأذل جانب المؤمنين وإسناد القول المذكور إلى المنافقين لرضاهم به فرد عليهم ذلك بقوله تعالى «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» أي ولله الغالبة والقوة ولمن أعزه من رسوله والمؤمنين لا لغيرهم «ولكن المنافقين لا يعلمون» من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون روى أن عبد الله بن أبى لما أراد أن يدخل المدينة اعترضه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان مخلصا وقال لئن لم تقر لله ولرسوله بالعز لأضربهم عنقك فلما
253

رأى منه الجد قال أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا «يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله» أي لا يشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها والاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الاشتغال بذكره عز وجل من الصلاة وسائر العبادات المذكورة للمعبود والمراد نهيهم عن التلهي بها وتوجيه النهي إليها للمبالغة كما في قوله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم الخ «ومن يفعل ذلك» أي التلهي بالدنيا من الدين «فأولئك هم الخاسرون» اى الكاملون في الخسران حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني «وأنفقوا من ما رزقناكم» أي بعض ما أعطيناكم تفضلا من غير أن يكون حصوله من جهتكم ادخارا للآخرة «من قبل أن يأتي أحدكم الموت» بأن يشاهد دلائله ويعاين أماراته ومخايله وتقديم المفعول على الفاعل لما مر مرارا من الاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر «فيقول» عند تيقنه بحلوله «رب لولا أخرتني» أي أمهلتني «إلى أجل قريب» أي أمد قصير «فأصدق» بالنصب على جواب التمني وقرئ فأتصدق «وأكن من الصالحين» بالجزم عطفا على محل فأصدق كأنه قيل إن أخرتني أصدق وأكن وقرئ وأكون بالنصب عطفا على لفظه وقرئ وأكون بالرفع أي وأنا أكون عدة منه بالصلاح «ولن يؤخر الله نفسا» أي ولن يمهلها «إذا جاء أجلها» أي آخر عمرها أو انتهى إن أريد بالأجل الزمان الممتد من أول العمر إلى آخره «والله خبير بما تعملون» فمجاز لكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر فسارعوا في الخيرات واستعدوا لما هو آت وقرئ يعملون بالياء التحتانية عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة المنافقين برى من النفاق
254

«بسم الله الرحمن الرحيم» «يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض» أي ينزهه سبحانه جميع ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه تنزيها مستمرا «له الملك وله الحمد» لا لغيره وإذ هو المبدىء لكل شئ وهو القائم به والمهيمن عليه وهو المولى لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره فاسترعاء من جنابه وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده «وهو على كل شيء قدير» لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكل سواء «هو الذي خلقكم» خلقا بديعا حاويا لجميع مبادئ الكمالات العلمية والعملية ومع ذلك «فمنكم كافر» اى فبعضكم أو فبعض منكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته «ومنكم مؤمن» مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليها من سائر النعم فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبا وتفرقتم فرقا وتقديم الكفر لأنه الأغلب فيما بينهم والأنسب بمقام التوبيخ وحمله على معنى فمنكم كافر مقدرة كفره موجه اليه ما يحمله عليه ومنكم مؤمن مقدر إيمانه موفق لما يدعوه إليه مما لا يلائم المقام «والله بما تعملون بصير» فيجازيكم بذلك فاختاروا منه ما يجديكم من الإيمان والطاعة وإياكم وما يرديكم من الكفر والعصيان «خلق السماوات والأرض بالحق» بالحكمة البالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية «وصوركم فأحسن صوركم» حيث يراكم في أحسن تصوير وأودع فيكم من القوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط بها عن الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة «وإليه المصير» في النشأة الأخرى لا إلى غيره استلالا أو اشتراكا فأحسنوا سرائركم باستعمال تلك القوى والمشاعر فيا خلقن له «يعلم ما في السماوات والأرض» من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية
255

«ويعلم ما تسرون وما تعلنون» أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور والتصريح به مع اندراجه فيما قبله لأنه الذي يدور عليه الجزاء ففيه تأكيد للوعد
والوعيد وتشديد لهما وقوله تعالى «والله عليم بذات الصدور» اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من شمول علمه تعالى لسرهم وعلنهم أي هو محيط بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه ما يسرونه وما يعلنونه وإظهار الجلالة للإشعار بعلة الحكم وتأكيدا استقلال الجملة قيل وتقديم تقرير القدرة على تقرير العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته بالذات وعلى علمه بما فيه من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء «ألم يأتكم» أيها الكفرة «نبأ الذين كفروا من قبل» كقوم نوح ومن بعدهم من الأمم المصرة على الكفر «فذاقوا وبال أمرهم» عطف على كفروا والوبال الثقل والشدة المترتبة على امر من الأمور وأمرهم كفرهم عبر عنه بذلك للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة أي ألم يأتكم خبر الذين كفروا من قبل فذاقوا من غير مهلة ما يستتبعه كفرهم في الدنيا «ولهم» في الآخرة «عذاب أليم» لا يقادر قدره «ذلك» أي ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة «بأنه» بسبب أن الشأن «كانت تأتيهم رسلهم بالبينات» أي بالمعجزات الظاهرة «فقالوا» عطف على كانت «أبشر يهدوننا» أي قال كل قوم من المذكورين في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات منكرين لكون الرسول من جنس البشر متعجبين من ذلك ابشر يهدينا كما قالت ثمود أبشرا منا واحدا نتبعه وقد أجمل في الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام وأريد بالبشر الجنس فوصف بالجمع كما أجمل الخطاب والأمر في قوله تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا «فكفروا» اى بالرسل «وتولوا» عن التدبر فيما أتوا به من البينات وعن الإيمان بهم «واستغنى الله» اى أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم حيث أهلكهم وقطع دابرهم ولولا غناه تعالى عنهما لما فعل ذلك «والله غني» عن العالمين فضلا عن إيمانهم وطاعتهم «حميد» يحمده كل مخلوق بلسان الحال أو مستحق للحمد بذاته وإن لم يحمده حامد «زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا» الزعم ادعاء العلم يتعدى إلى مفعولين وقد قام مقامهما أن المخففة مع ما في حيزها والمراد بالموصول كفار مكة أي زعموا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم أباد «قل» ردا عليهم وأبطالا لزعمهم بإثبات ما نفوه «بلى» أي تبعثون قوله «وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم» أي لتحاسبن ولتجزون بأعمالكم جملة
256

مستقلة داخلة تحت الأمر واردة لتأكيد ما افاده كلمة بلى من إثبات البعث وبيان تحقق أمر آخر متفرع عليه منوط ففيه تأكيد لتحقق البعث بوجهين «وذلك» أي ما ذكر من البعث والجزاء «على الله يسير» لتحقق القدرة التامة وقبول المادة والفاء في قوله تعالى «فآمنوا» فصيحة مفصحة عن شرط قد حذف ثقة ظهوره أي إذا كان الأمر كذلك فآمنوا «بالله ورسوله» محمد صلى الله عليه وسلم «والنور الذي أنزلنا» وهو القرآن فإنه بإعجازه بين بنفسه مبين لغيره كما ان النور كذلك والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية بأمر الإنزال «والله بما تعملون» من الامتثال بالأمر وعدمه «خبير» فمجاز لكم عليه والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من الأمر موجب للإمتثال به بالوعد والوعيد والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتأكيدا استقلال الجملة «يوم يجمعكم» ظرف لتنبؤن وقيل لخبير لما فيه من معنى الوعيد كأنه قيل والله مجازيكم ومعاقبتكم يوم يجمعكم أو مفعول لا ذكر وقرئ نجمعكم بنون العظمة «ليوم الجمع» ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون أي لأجل ما فيه من الحساب والجزاء «ذلك يوم التغابن» أي يوم غبن بعض الناس بعضا بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس وفي الحديث ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة وتخصيص التغابن بذلك اليوم للإيذان بأن التغابن في الحقيقة هو الذي يقع فيه لا ما يقع في أمور الدنيا «ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا» أي عملا صالحا «يكفر» أي الله عز وجل وقرئ بنون العظمة «عنه سيئاته» يوم القيامة «ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا» وقرئ ندخله بنون «ذلك» أي أي ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات «الفوز العظيم» الذي لا فوز وراءه لا نطوائه على النجاة من أعظم الهلكات والظفر بأجل الطلبات «والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير» أي النار كان هاتين الآيتين الكريمتين بيان لكيفية التغابن «ما أصاب من مصيبة» فمن المصائب الدنيوية «إلا بإذن الله» أي تقديره وأرادته كأنها بذاتها متوجهة إلى الإنسان متوقفة على إذنه تعالى «ومن يؤمن بالله يهد قلبه» عند إصابتها للثبات والاسترجاع وقيل يهد قلبه حتى يعلم
257

أن ما أصابه لم يكن لخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وقيل يهد قلبه أي يلطف به ويشرحه لازدياد الطاعة والخير وقرئ يهد قلبه على البناء للمفعول ورفع قلبه وقرئ بنصبه على نهج سفه نفسه وقرئ يهدأ قلبه بالهمزة أي يسكن «والله بكل شيء» من الأشياء التي من جملتها القلوب وأحوالها «عليم» فيعلم إيمان المؤمن ويهدى قلبه إلى ما ذكر «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول» كرر الأمر للتأكيد والإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفية وتوضيح مورد التولي في قوله تعالى «فإن توليتم» أي عن إطاعة الرسول وقوله تعالى «فإنما على رسولنا البلاغ المبين» تعليل للجواب المحذوف أي فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ المبين وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه وإظهار الرسول مضافا إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه عليه الصلاة والسلام والإشعار بمدار الحكم الذي هو كون وظيفته عليه الصلاة والسلام محض البلاغ ولزيادة تشنيع التولي عنه «الله لا إله إلا هو» جملة من مبتدأ وخبر أي هو المستحق للمعبودية لا غيره وفي إضمار خبر لا مثل في الوجود أو يصح أن يوجد خلاف للنحاة معروف «وعلى الله» أي عليه تعالى خاصة دون غيره لا استقلالا ولا اشتراكا «فليتوكل المؤمنون» وإظهار الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة التوكل والأمر به فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية وقطع التعلق عما سواه بالمرة «يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم» يشغلونكم عن طاعة الله تعالى أو يخاصمونكم في أمور الدين أو الدنيا «فاحذروهم» الضمير للعدو فإنه يطلق على الجمع نحو قوله تعالى فإنهم عدو لي أو للأزواج والأولاد جميعا فالمأمور به على الأول الحذر عن الكل وعلى الثاني إما الحذر عن البعض لأن منهم من ليس بعدو وإما الحذر عن مجموع الفريقين لاشتمالهم على العدو «وأن تعفوا» عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا أو بأمور الدين لكن مقارنة للتوبة «وتصفحوا» بترك التثريب والتعيير «وتغفروا» بإخفائها وتمهيد عذرها «فإن الله غفور رحيم» يعاملكم ويتفضل عليكم وقيل إن ناسا من المؤمنين أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا تنطلقوا وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا فلما هاجروا بعد ذلك ورأو المهاجرين الأولين قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فزين لهم العفو وقيل قالوا لهم اين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم فغضبوا عليهم
وقالوا لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير فلما هاجروا ومنعوهم الخير فحثوا على أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة
258

«أنما أموالكم وأولادكم فتنة» بلاء ومحنة يوقعونكم في الاثم من حيث لا تحتسبون «والله عنده أجر عظيم» لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي في تدبير مصالحهم «فاتقوا الله ما استطعتم» اى أبذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم «واسمعوا» مواعظه «وأطيعوا» أوامره «وأنفقوا» مما رزقكم في الوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها خالصا لوجهه «خيرا لأنفسكم» أي ائتوا خيرا لأنفسكم وافعلوا ما هو خير لها وانفع وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان لكون الأمور المذكورة خيرا لأنفسهم ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي إنفاقا خيرا أو خبرا لكان مقدرا جوابا الأوامر أي يكن خيرا لأنفسكم «ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» الفائزون بكل مرام «إن تقرضوا الله» بصرف أموالكم إلى المصارف التي عينها «قرضا حسنا» مقرونا بالإخلاص وطيب النفس «يضاعفه لكم» بالواحد عشرة إلى سبعمائة وأكثر وقرئ يضعفه لكم «ويغفر لكم» ببركة الإنفاق ما فرط منكم من بعض الذنوب «والله شكور» يعطى الجزيل بمقابلة النزر القليل «حليم» لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم «عالم الغيب والشهادة» لا يخفى عليه خافية «العزيز الحكيم» المبالغ في القدرة والحكمة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة
259

«بسم الله الرحمن الرحيم» «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء» تخصيص النداء به عليه الصلاة والسلام مع عموم الخطاب لأمته أيضا لتشريفه عليه الصلاة والسلام وإظهار جلالة منصبه وتحقيق أنه المخاطب حقيقة ودخولهم في الخطاب بطريق استتباعه عليه الصلاة والسلام إياهم وتغليبه عليهم لا لأن نداءه كندائهم فإذ ذلك الاعتبار لو كان في حيز الرعاية لكان الخطاب هو الأحق به لشمول حكمه للكل قطعا والمعنى إذا أردتم تطليقهن وعزمتم عليه كما في قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة «فطلقوهن لعدتهن» أي مستقبلات لها كقولك أتيته ليلة خلت من شهر كذا فإن المرأة إذا طلقت في طهر يعقبه القرء الأول من إقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها والمراد أن يطلقن فيطهر لم يقع فيه جماع ثم يخلين حتى تنقضى عدتها وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة «وأحصوا العدة» واضبطوها وأكملوها ثلاثة إقراء كوامل «واتقوا الله ربكم» في تطويل العدة عليهم والإضرار بهن وفي وصفه تعالى بربوبيته لهم تأكيد للأمر ومبالغة في إيجاب الاتقاء «لا تخرجوهن من بيوتهن» من مساكنهن عند الفراق إلى ان تنقضى عدتهن وإضافتها إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهى ببيان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها أملاكهن «ولا يخرجن» ولو بإذن منكم فإن الإذن بالخروج في حكم الإخراج وقيل المعنى لا يخرجن باستبداد منهن أما إذا اتفقا على الخروج جاز إذ الحق لا يعدوهما «إلا أن يأتين بفاحشة مبينة» استثناء من الأول قيل هي الزنا فيخرجن لإقامة الحد عليهن وقيل إلا أن يبذون على الأزواج فيحل حينئذ إخراجهن ويؤيده قراءة إلا أن يفحشن عليكم أو من الثاني للمبالغة في النهى عن الخروج ببيان ان خروجها فاحشة «تلك» إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما في اسم الإشارة من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو درجتها وبعد منزلتها «حدود الله» التي عينها لعباده «ومن يتعد حدود الله» أي حدوده المذكورة بأن أخل بشيء منها على أن الإظهار في حيز الإضمار لتهويل أمر التعدي والإشعار بعلة الحكم في قوله تعالى «فقد ظلم نفسه» اى اضربها وتفسير الظلم بتعريضها للعقاب يأباه
260

قوله تعالى «لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا» فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية وقد قالوا إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدى إلى خلافه فلا بد ان يكون الظلم عبارة عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ولا يمكن تداركه أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي ويخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز الناس منه أشد واهتمامهم بدفعة أوقى وقوله تعالى لا تدرى خطاب للمتعدى بطريق الالتفات لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي عليه الصلاة والسلام كما توهم فالمعنى ومن يتعد حدود الله فقد أضر بنفسه فإنك لا تدري أيها المتعدى عاقبة الأمر لعل الله يحدث في قلبك بعد ذلك الذي فعلت من التعدي أمرا يقتضى خلاف ما فعلته فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالا إليها ويتسنى تلافيه رجعه أو استئناف نكاح «فإذا بلغن أجلهن» شارفن آخر عدتهن «فأمسكوهن» فراجعوهن «بمعروف» بحسن معاشرة وإنفاق لائق «أو فارقوهن بمعروف» بإيفاء الحق واتقاء الضرار بأن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة «وأشهدوا ذوي عدل منكم» عند الرجعة والفرقة قطعا للتنازع وهذا أمر ندب كما في قوله تعالى واشهدوا إذا تبايعتم ويروى عن الشافعي أنه للوجوب في الرجعة «وأقيموا الشهادة لله» أيها الشهود عند الحاجة خالصا لوجهه تعالى «ذلكم» إشارة إلى الحث على الإشهاد والإقامة أو على جميع ما في الآية «يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر» إذ هو المنتفع به والمقصود تذكيره وقوله تعالى «ومن يتق الله» الخ جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من وجوب مراعاة حدود الله تعالى بالوعد على الاتقاء عن تعديها كما أن ما تقدم من قوله تعالى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه مؤكد له بالوعيد على تعديها فالمعنى ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط في الإشهاد وغيره من الأمور «يجعل له مخرجا» مما عسى يقع في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب «ويرزقه من حيث لا يحتسب» أي من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه ويجوز أن يكون كلاما جئ به على نهج الاستطراد عند ذكر قوله تعالى ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله إلى آخره فالمعنى ومن يتق الله في كل ما يأتي وما يدر يجعل له مخرجا ومخلصا من غموم الدنيا والآخرة فيندرج فيه ما نحن فيه اندراجا أوليا عن النبي عله الصلاة والسلام أنه قرأها فقال مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد
261

يوم القيامة وقال عليه الصلاة والسلام إني لأعلم أخذ الناس بها لكفتهم ومن يتق الله فما زال يقرؤها ويعيدها وروى أن عوف بن الأشجعي أسر المشركون ابنه سالما فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أسر ابني وشكا إليه الفاقة فقال عليه الصلاة والسلام اتق الله وأكثر قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ففعل فبينا في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها فنزلت «ومن يتوكل على الله فهو حسبه» أي كافيه في جميع أموره «إن الله بالغ أمره» بالإضافة اى منفذ أمره وقرئ بتنوين بالغ ونصب أمره أي يريده لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب وقرئ برفع امره على أنه مبتدأ وبالغ خبر مقدم والجملة خبر إن أو بالغ خبر إن وأمره
مرتفع به على الفاعلية أي نافذ امره وقرئ بالغا أمره على أنه حال وخبر إن قوله تعالى «قد جعل الله لكل شيء قدرا» أي تقدير وتوقيتا أو مقدار وهو بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى لا يبقى إلا التسليم للقدر والتوكل على الله تعالى «واللائي يئسن من المحيض من نسائكم» لكبرهن وقد قدروه بستين سنة ويخمس وخمسين «إن ارتبتم» أي شككتم وجهلتم كيف عدتهن «فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن» بعد لصغرهن أي فعدتهن أيضا كذلك فحذف ثقة بدلالة ما قبله عليه «وأولات الأحمال أجلهن» أي منتهى عدتهن «أن يضعن حملهن» سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن وقد نسخ به عموم قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا لتراخى نزوله عن ذلك لما هو المشهور من قول ابن مسعود رضى الله عنه من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في سورة البقرة وقد صح أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها قد حللت فتزوجى «ومن يتق الله» في شأن أحكامه ومراعاة حقوقها «يجعل له من أمره يسرا» أي يسهل عله أمره ويوفقه للخير «ذلك» إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في الفضل وإفراد الكاف مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عن قوله تعالى «أمر الله أنزله إليكم» لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضى لا لتعين خصوصية المخاطبين وقد مر في قوله تعالى ذلك بوعظ به كان منكم يؤمن بالله من سورة البقرة «ومن يتق الله» بالمحافظة على أحكامه «يكفر عنه سيئاته» فإن الحسنات يذهبن السيئات «ويعظم له أجرا» بالمضاعفة
262

وقوله تعالى «أسكنوهن من حيث سكنتم» استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله من الحث على التقوى كأنه قيل كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات فقيل اسكنوهن مسكنا من حيث سكنتم أي بعض مكان سكناكم وقوله تعالى «من وجدكم» أي من وسعكم أي مما تطيقونه عطف بيان لقوله من حيث سكنتم وتفسير له «ولا تضاروهن» أي في السكنى «لتضيقوا عليهن» وتلتجئوهن إلى الخروج «وإن كن» أي المطلقات «أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن» فيخرجن من العدة أما المتوفى عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن «فإن أرضعن لكم» بعد ذلك «فآتوهن أجورهن» على الإرضاع «وأتمروا بينكم بمعروف» أي تشاوروا وحقيقته ليأمر بعضكم بعضا بجميل في الأرضاع والأجر ولا يكون من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة «وإن تعاسرتم» أي تضايقتم «فسترضع له أخرى» أي فستوجد ولا تعوز مرضعه أخرى وفيه معاتبة للأم على المعاسرة «لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله» وإن قل أي لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه «لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها» جل أو قل فإنه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وفيه تطييب لقلب المعسر وترغيب له في بذل مجهود وقد أكد ذلك بالوعد حيث قيل «سيجعل الله بعد عسر يسرا» أي عاجلا أو آجلا «وكأين من قرية» أي كثير من أهل قرية «عتت» أي أعرضت «عن أمر ربها ورسله» بالعتو والتمرد والعناد «فحاسبناها حسابا شديدا» بالاستقصاء والتنقير والمناقشة في كل نقير وقطمير «وعذبناها عذابا نكرا» اى منكرا عظيما وقرئ نكرا والمراد حساب الآخرة وعذابها والتعبير عنهما بلفظ الماضي للدلالة على تحقيقها كما في قوله تعالى ونادى أصحاب الجنة «فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا» هائلا لا خسر وراءه
263

«أعد الله لهم عذابا شديدا» تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقبا كأنه قيل أعد الله لهم هذا العذاب «فاتقوا الله يا أولي الألباب» ويجوز أن يراد بالحساب استقصاء ذنوبهم وإثباتها في صحائف الحفظة وبالعذاب ما أصابهم عاجلا وقد جوز أن يكون عتت وما عطف عليه صفة عليه صفة للقرية وأعد الله لهم جوابا لقوله تعالى كأي «الذين آمنوا» منصوب بإضمار أعنى بيانا للمنادى أو عطف بيان له أو نعت وفي إبداله منه ضعف لتعذر حلوله محله «قد أنزل الله إليكم ذكرا» هو جبريل عليه السلام سمى به لكثرة ذكره أو لنزوله بالذكر الذي هو القرآن كما ينبئ عنه إبدال قوله تعالى «رسولا» منه أو لأنه مذكور في السماوات وفي الأمم أو أريد بالذكر الشرف كما في قوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك كأنه في نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله تعالى كقوله تعالى عند ذي العرش مكين أو هو النبي عليه الصلاة والسلام وعليه الأكثر عبر عنه بالذكر لمواظبته على تلاوة القرآن أو تبليغه والتذكير به وعبر عن إرساله بالإنزال بطريق الترشيح أو لأنه مسبب عن إنزال الوحي إليه وأبدل منه رسولا للبيان أو هو القرآن ورسولا منصوب بمقدر مثل أرسل أو بذكرا على أعمال المصدر المنون أو بدل منه على أنه بمعنى الرسالة وقوله تعالى «يتلو عليكم آيات الله مبينات» نعت لرسولا وآيات الله القرآن وبينات حال منها اى حال كونها مبينات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام وقرئ مبينات أي بينها الله تعالى لقوله تعالى قد بينا لكم الآيات واللام في قوله تعالى «ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات» متعلقة بيتلوا أو بأنزل وفاعل يخرج على الأول ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام أو ضمير الجلالة والموصول عبارة عن المؤمنين بعد إنزاله أي ليحصل لهم الرسول أو الله عز وعلا ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح أو ليخرج من علم أو قدر انه سيؤمن «من الظلمات إلى النور» من الضلالة إلى الهدى «ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا» حسبما بين في تضاعيف ما أنزل من الآيات المبينات «يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار» وقرئ ندخله بالنون وقوله تعالى «خالدين فيها أبدا» حال من مفعول يدخله والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها وقوله تعالى «قد أحسن الله له رزقا» حال أخرى منه أو من الضمير في خالدين بطريق التداخل وإفراد ضمير له قد مر وجهه وفيه معنى التعجب والتعظيم لما رزقه الله المؤمنين من الثواب
264

«الله الذي خلق سبع سماوات» مبتدأ وخبر «ومن الأرض مثلهن» أي خلق من الأرض مثلهن في العدد وقرئ مثلهن بالرفع على أنه مبتدأ ومن الأرض خبره واختلف في كيفية طبقات الأرض قالوا الجمهور على أنها سبع أراضين طباقا بعضها فوق بعض بين كل أرض وارض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كل أرض سكان من خلق الله تعالى وقال الضحاك مطبقة بعضها فوق من غير فتوق بخلاف السماوات قال القرطبي والأول أصح لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره من أن كعبا حلف بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها وعن ابن
عباس رضى الله عنهما أن نافع بن الأزرق سأله عن تحت الأرضين خلق قال نعم قال فما الخلق قال إما ملائكة أو جن قال الماوردي وعلى هذا تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا دون من عداهم وإن كان فيهن من يعقل من خلق وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان أحدهما أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها والثاني أنهم لا يشاهدون السماء وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه وحكى الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها سبع أرضين متفرقة بالبحار وتظل الجميع السماء «يتنزل الأمر بينهن» أي يجرى أمره وقضاؤه بينهن وينفذ ملكه فيهن وعن قتادة في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه وقيل هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره وقرئ ينزل الأمر «لتعلموا أن الله على كل شيء قدير» متعلق بخلق أو بيتنزل أو بمضمر يعمهما أي فعل ذلك لتعلموا أن من قدر على ما ذكر قادر على كل شئ «وأن الله قد أحاط بكل شيء علما» لاستحالة صدور الأفاعيل المذكورة ممن ليس كذلك ويجوز أن يكون العامل في اللام بيان ما ذكر من الخلق وتنزل الأمر أي أوحى ذلك وبينه لتعلموا بما ذكر من الأمور التي تشاهدونها والتي تتلقونها من الوحي من عجائب المصنوعات أنه لا يخرج عن قدرته وعلمه شيء ما أصلا وقرئ ليعلموا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرا سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
265

«بسم الله الرحمن الرحيم» «يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك» روى أن النبي عليه الصلاة والسلام خلا بمارية في يوم عائشة وعلمن بذلك حفصة فقال لها اكتمى على فقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدى أمر أمتي فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين وقيل خلا بها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه فنزل جبريل عله السلام فقال راجعها فإنها صوامة قوامة وإنها لمن نسائك في الجنة وروى أنه عليه الصلاة والسلام شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا نشم منك ريح المغافير وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره التفل فحرم العسل فنزلت فمعناه لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل «تبتغي مرضات أزواجك» إما تفسير لتحرم أو حال من فاعلة أو استئناف ببيان ما دعاه إليه مؤذن بعد صلاحيتك لذلك «والله غفور» مبالغ في الغفران قد غفر لك هذه الزلة «رحيم» قد رحمك ولم يؤاخذك به وإنما عاتبك محاماه على عصمتك «قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم» أي شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقده بالكفارة أو بالاستثناء متصلا حتى لا يحنث والأول هو المراد ههنا «والله مولاكم» سيدكم ومتولى أموركم «وهو العليم» بما يصلحكم فيشرعه لكم «الحكيم» المتقن في أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا حسبما تقتضيه الحكمة ة «وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه» وهي حفصة «حديثا» أي حديث تحريم مارية أو العسل أو أمر الخلافة «فلما نبأت به» أي أخبرت حفصة عائشة بالحديث وأفشته إليها وقرئ أنبأت به «وأظهره الله عليه» اى أطلع الله تعالى النبي عليه الصلاة والسلام على إفشاء حفصة «عرف» أي النبي عليه الصلاة والسلام حفصة «بعضه» بعض الحديث الذي أفشته قيل هو حديث الإمامة وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال لها ألم أقل لك أكتمى على قالت والذي بعثك بالحق ما ملكت
266

نفسي فرحا بالكرامة التي خص الله تعالى بها أباها «وأعرض عن بعض» أي عن تعريف بعض تكرما قيل هو حديث مارية «فلما نبأها به» أي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام حفصة بما عرفه من الحديث «قالت من أنبأك هذا» أي إفشاءها للحديث «قال نبأني العليم الخبير» الذي لا تخفى عليه خافية «إن تتوبا إلى الله» خطاب لحفصة وعائشة على الالتفات للمبالغة في العتاب «فقد صغت قلوبكما» الفاء للتعليل كما في قوله اعبد ربك فالعبادة حق أي فقد وجد منكما ما يوجب التوبة من ميل قلوبكما عما يجب عليكما من مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه وقرئ فقد زاغت «وإن تظاهرا عليه» بإسقاط إحدى التاءين وقرئ على الأصل وبتشديد الظاء وتظهرا أي تتعاونا عليه بما يسوؤه من الإفراط في الغير وإفشاء سره «فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين» أي فلن يعدم من يظاهره فإن الله هو ناصره وجبريل رئيس الكروبيين قرينه ومن صلح من المؤمنين أتباعه وأعوانه قال ابن عباس رضى تعالى عنهما أراد بصالح المؤمنين أبا بكر وعمر رضى الله عنهما وقد روى ذلك مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وبه قال عكرمة ومقاتل وهو اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وإن جبريل ظهير له عليهما السلام يؤيده بالتأييدات الإلهية وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة ولأن بيان مظاهرتهما له عليه الصلاة والسلام أشد تأثيرا في قلوب بنتيهما وتوهينا لأمرهما فكان حقيقا بالتقديم بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين كما هو المشهور «والملائكة» مع تكاثر عددهم وامتلاء السماوات من جموعهم «بعد ذلك» قيل أي بعد نصرة الله عز وجل وناموسه الأعظم وصالح المؤمنين «ظهير» اى فوج مظاهر له كأنهم يد واحدة على من يعاديه فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه وما ينبئ عنه قوله تعالى بعد ذلك من فضل نصرتهم على نصرة غيرهم من حيث إن نصرة الكل نصرة الله تعالى وإن نصرته تعالى بهم وبمظاهرتهم أفضل من سائر وجوه نصرته هذا ما قالوه ولعل الأنسب أن يجعل ذلك إشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة ويكون بيان بعديه مظاهرة الملائكة تداركا لما يوهمه الترتيب الذكرى من أفضلية المقدم فكأنه قيل بعد ذكر مظاهرة صالح المؤمنين وسائر الملائكة بعد ذلك ظهير له عليه الصلاة والسلام إيذانا بعلو رتبة مظاهرتهم وبعد منزلتها وجبرا لفصلها عن مظاهرة جبريل عليه السلام «عسى ربه إن طلقكن أن يبدله» أي يعطيه عليه السلام بدلكن
267

«أزواجا خيرا منكن» على التغليب أو تعميم الخطاب وليس فيه ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا منهن فإن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة وما علق بما لم يقع لا يجب وقوعه وقرئ أن يبدله بالتشديد «مسلمات مؤمنات» مقرات مخلصات أو منقادات مصدقات «قانتات» مصليات أو مواظبات على الطاعة «تائبات» من الذنوب «عابدات» متعبدات أو متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم «سائحات» صائمات سمى الصائم سائحا لأنه يسيح في النهار بلا زاد أو مهاجرات وقرئ سيحات «ثيبات وأبكارا» وسط بينهما العاطف لتنافيهما «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم» بترك المعاصي وفعل الطاعات «وأهليكم
» بان تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم وقرئ أهلكوا عطفا على واوقوا فيكون أنفسكم عبارة عن أنفس الكل على تغليب المخاطبين أي قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم «نارا وقودها الناس والحجارة» أي نارا تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب وأمر المؤمنين باتقاء هذه النار المعدة للكافرين كما نص عليه في سورة البقرة للمبالغة في التحذير «عليها ملائكة» أي تلى أمرها وتعذيب أهلها وهم الزبانية «غلاظ شداد» غلاظ الأقوال شداد الأفعال أو غلاظ الخلق شداد الخلق وأقوياء على الأفعال الشديدة «لا يعصون الله ما أمرهم» أي أمره على انه بدل اشتمال من الله أو فيما أمرهم به على نزع الخافض أي لا يمتنعون من قبول الأمر ويلتزمونه «ويفعلون ما يؤمرون» أي ويؤدون ما يؤمرون به غير تثاقل ولا توان وقوله تعالى «يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم» مقول لقول قد حذف ثقة بدلالة الحال عليه أي يقال لهم ذلك عند إدخال الملائكة إياهم النار حسبما أمروا به «إنما تجزون ما كنتم تعملون» في الدنيا من الكفر والمعاصي بعد ما نهيتم عنهما أشد النهى وأمرتم بالإيمان والطاعة فلا عذر لكم قطعا «يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا» أي بالغة في النصح وصفت التوبة بذلك على الإسناد المجازى وهو وصف التائبين وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فيأتوا بها على طريقتها وذلك أن يتوبوا عن القبائح لقبحاها نادمين عليها مغتمين أشد الاغتمام لارتكابها عازمين على انهم لا يعودون في قبيح من القبائح موطنين أنفسهم على ذلك بحيث لا يلويهم عنه صارف أصلا
268

عن علي رضى الله عنه أن التوبة يجمعها ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة وللفرائض الإعادة ورد المظالم واستحلال الخصوم وأن تعزم على أن لا تعود وأن تذيب نفسك في طاعة الله تعالى كما ربيتها في المعصية وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية وعن شهر بن حوشب أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار وقيل نصوحا من نصاحة الثوب أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك وقيل خالصة من قولهم عسل ناصح إذا خلص من الشمع ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها واستعماله الجد والعزيمة في العمل بمقتضياتها وقرئ توبا نصوحا وقرئ نصوحا وهو مصدر نصح فإن النصح والنصوح كالشكر والشكور أي ذات النصح أو تنصح نصوحا أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له «عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار» ورود صيغة الأطماع للجرى على سنن الكبرياء والإشعار بأنه تفضل والتوبة غير موجبة له وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء وإن بالغ في إقامة وظائف العبادة «يوم لا يخزي الله النبي» ظرف ليدخلكم «والذين آمنوا معه» عطف على النبي وفيه تعريض بمن أخزاهم الله تعالى من أهل الكفر والفسوق واستحماد إلى المؤمنين على انه عصمهم من مثل حالهم وقيل هو مبتدأ خبره قوله تعالى «نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم» أي عل الصراط وهو على الأول استئناف أو حال وكذا قوله تعالى «يقولون» الخ وعلي الثاني خبر آخر للموصول أي يقولون إذا طفىء نور المنافقين «ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير» وقيل يدعون تقربا إلى الله مع تمام نورهم وقيل تفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم فيسألون إتمامه تفضلا وقيل السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط وبعضهم كالريح وبعضهم حبوا وزحفا وأولئك الذين يقولون ربنا أتمم لنا نورنا «يا أيها النبي جاهد الكفار» بالسيف «والمنافقين» بالحجة «واغلظ عليهم» واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما من القتال والمحاجة «ومأواهم جهنم» سيرون فيها عذابا غليظا «وبئس المصير» أي جهنم أو مصيرهم «ضرب الله مثلا للذين كفروا» ضرب المثل في أمثال هذه المواقع عبارة عن إيراد حالة غريبة ليعرف بها حالة أخرى مشاكلة في الغرابة اى جعل الله مثلا لحال هؤلاء الكفرة حالا ومآلا على ان مثلا مفعول ثان لضرب واللام متعلقة به وقوله تعالى «امرأة نوح وامرأة لوط» أي حالهما مفعولة الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرح وتفصيل لحالهما ويتضح بذلك حال هؤلاء فقوله تعالى «كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين» بيان لحالهما الداعية لها إلى الخير والصلاح أي كانتا في عصمة نبيين عظيمي الشأن متمكنين من تحصيل خيري الدنيا والآخرة وحيازه سعادتيهما وقوله تعالى «فخانتاهما»
269

بيان لما صدر عنهما من الجناية العظيمة مع تحقيق ما ينفيها من صحبة النبي أي خانتاهما بالكفر والنفاق وهذا تصوير لحالهما المحاكية لحال هؤلاء الكفرة في خيانتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر والعصيان مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة وقوله تعالى «فلم يغنيا» الخ بيان لما أدى إليه خيانتهما أي فلم يغن النبيان «عنهما» بحق الزواج «من الله» أي من عذابه تعالى «شيئا» أي شيئا من الإغناء «وقيل» لهما عند موتهم أو يوم القيامة «ادخلا النار مع الداخلين» أي مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام «وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون» أي جعل حالها مثلا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضرهم حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله وهي في أعلى غرف الجنة وقوله تعالى «إذ قالت» ظرف لمحذوف أشير إليه أي ضرب الله مثلا للمؤمنين حالها إذ قالت «رب ابن لي عندك بيتا في الجنة» قريبا من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين روى أنها لما قالت ذلك أريت بيتها في الجنة ردة وانتزع روحها «ونجني من فرعون وعمله» أي من نفسه الخبيثة وعمله السيء «ونجني من القوم الظالمين» من القبط التابعين له في الظلم «ومريم ابنة عمران» عطف على امرأة فرعون تسلية للأرامل أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا حالها وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العاملين مع كون قومها كفارا «التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه» وقرئ فيها أي مريم «من روحنا» من روح خلقناه بلا توسط أصلا «وصدقت بكلمات ربها» بصحفة المنزلة أو بما أوحى إلى أنبيائه «وكتبه» بجميع كتبه المنزلة وقرئ بكلمة الله وكتابه أي بعيسى وبالكتاب المنزل عليه وهو الإنجيل «وكانت من القانتين» اى من عداد المواظبين على الطاعة والتذكير للتغليب والإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعات الرجال حتى عدت من جملتهم أو من نسلهم لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلوات الله عليه وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وعن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحا.
(تم الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع وأوله سورة الملك)
270