الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٢٥
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

التفسير الكبير
للإمام
الفخر الرازي
الجزء الخامس والعشرون
1

قوله تعالى
* (إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشآء وهو أعلم بالمهتدين * وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنآ أولم نمكن لهم حرما ءامنا يجبى إليه ثمرات كل شىء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) *.
إعلم أن في قوله تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) * مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية لا دلالة في ظاهرها على كفر أبي طالب ثم قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وذلك أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بني عبد مناف أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا، فقال عليه السلام " يا عم تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك! قال فما تريد يا ابن أخي؟ قال أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله تعالى، قال يا أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصحك، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف ".
المسألة الثانية: أنه تعالى قال في هذه الآية: * (إنك لا تهدي من أحببت) * وقال في آية أخرى: * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * (الشورى: 52) ولا تنافي بينهما فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والبيان والذي نفى عنه هداية التوفيق، وشرح الصدر وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال سبحانه: * (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا) * (الأنعام: 122) الآية.
المسألة الثالثة: احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال، فقالوا: قوله * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) * يقتضي أن تكون الهداية في الموضعين بمعنى واحد لأنه لو كان المراد من الهداية في قوله: * (إنك لا تهدي) * شيئا وفي قوله: * (ولكن الله يهدي من يشاء) * شيئا آخر لاختل النظم، ثم إما أن يكون المراد من الهداية بيان الدلالة أو الدعوة إلى الجنة أو تعريف
2

طريق الجنة أو خلق المعرفة في القلوب على سبيل الإلجاء أو خلق المعرفة في القلوب لا على سبيل الإلجاء لا جائز أن يكون المراد بيان الأدلة لأنه عليه السلام هدى الكل بهذا المعنى فهي غير الهداية التي نفى الله عمومها، وكذا القول في الهداية بمعنى الدعوة إلى الجنة، وأما الهداية بمعنى تعريف طريق الجنة فهي أيضا غير مرادة من الآية لأنه تعالى علق هذه الهداية على المشيئة وتعريف طريق الجنة غير معلق على المشيئة لأنه واجب على الله تعالى والواجب لا يكون معلقا على المشيئة فمن وجب عليه أداء عشرة دنانير، لا يجوز أن يقول إني أعطي عشرة دنانير إن شئت، وأما الهداية بمعنى الإلجاء والقسر فغير جائز لأن ذلك عندهم قبيح من الله تعالى في حق المكلف وفعل القبيح مستلزم للجهل أو الحاجة وهما محالان ومستلزم المحال محال فذلك محال من الله تعالى والمحال لا يجوز تعليقه في المشيئة، ولما بطلت الأقسام لم يبق إلا أن المراد أنه تعالى يخص البعض بخلق الهداية والمعرفة ويمنع البعض منها، ولا يسأل عما يفعل، ومتى أوردت الكلام على هذا الوجه سقط كل ما أورده القاضي عذرا عن ذلك.
أما قوله: * (وهو أعلم بالمهتدين) * فالمعنى أنه المختص بعلم الغيب فيعلم من يهتدي بعد ومن لا يهتدي، ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر شبههم وأجاب عنها بالأجوبة الواضحة، وبين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله تعالى، حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم: * (إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) * (القصص: 57) قال المبرد: الخطف، الانتزاع بسرعة، روى أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن الذي تقوله حق، ولكن يمنعنا من ذلك تخطفنا من أرضنا، أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا من أرضنا، فأجاب الله سبحانه وتعالى عنها من وجوه الأول: قوله: * (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) * أي أعطيناكم مسكنا لا خوف لكم فيه، إما لأن العرب كانوا يحترمون الحرم وما كانوا يتعرضون البتة لسكانه، فإنه يروى أن العرب خارج الحرم كانوا مشتغلين بالنهب والغارة، وما كانوا يتعرضون البتة لسكان الحر، أو لقوله تعالى: * (ومن دخله كان آمنا) * (آل عمران: 97) وأما قوله: * (يجبى إليه ثمرات كل شيء) * فهو تعالى كما بين كون ذلك الموضع خاليا عن المخاوف والآفات بين كثرة النعم فيه، ومعنى: * (يجبى) * يجمع من قولهم: جبيت الماء في الحوض إذا جمعته، قرأ أهل المدينة تجبى بالتاء، وأهل الكوفة، وأبو عمرو بالياء، وذلك أن تأنيث الثمرات تأنيث جمع وليس بتأنيث حقيقي، فيجوز تأنيثه على اللفظ وتذكيره على المعنى، ومعنى الكلية الكثرة كقوله: * (وأوتيت من كل شيء) * (النمل: 23) وحاصل الجواب: أنه تعالى لما جعل الحرم آمنا وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان، فلو آمنوا لكان بقاء هذه الحالة أولى، قال القاضي: ولو أن الرسول قال لهم إن الذي ذكرتم من التخطف لو كان حقا لم يكن عذرا لكم في أن لا تؤمنوا وقد ظهرت الحجة لانقطعوا، أو قال لهم إن تخطفهم لكن بالقتل وغيره، وقد آمنتم كالشهادة لكم فهو
3

نفع عائد علكيم لانقطعوا أيضا، ولو قال لهم ما قدر مضرة التخطف في جنب العقاب الدائم الذي أخوفكم منه إن بقيتم على كفركم لانقطعوا، لكنه تعالى احتج بما هو أقوى
من حيث بين كذبهم في أنهم يتخطفون من حيث عرفوا من حال البقعة بالعادة، أن ذلك لا يجري إن آمنوا، ومثل ذلك إذا أمكن بيانه للخصم فهو أولى من سائر ما ذكرنا، فلذلك قدمه الله تعالى، والآية دالة على صحة الحجاج الذي يتوصل به إلى إزالة شبهة المبطلين. بقي ههنا بحثان:
الأول: قال صاحب " الكشاف " في انتصاب رزقا إن جعلته مصدرا جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله، لأن معنى يجبى إليه ثمرات كل شيء، ويرزق ثمرات كل شيء واحد، وأن يكون مفعولا له، وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالا من الثمرات لتخصيصها بالإضافة، كما ينتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة.
الثاني: احتج الأصحاب بقوله: * (رزقا من لدنا) * في أن فعل العبد خلق الله تعالى، وبيانه أن تلك الأرزاق إنما كانت تصل إليهم، لأن الناس كانوا يحملونها إليهم فلو لم يكن فعل العبد خلقا لله تعالى لما صحت تلك الإضافة، فإن قيل سبب تلك الإضافة أنه تعالى هو الذي ألقى تلك الدواعي في قلوب من ذهب بتلك الأرزاق إليهم، قلنا تلك الدواعي إن اقتضت الرجحان، فقد بينا في غير موضع أنه متى حصل الرجحان، فقد حصل الوجوب وحينئذ يحصل المقصود، وإن لم يحصل الرجحان انقطعت الإضافة بالكلية. واعلم أنه تعالى إنما بين أن تلك الأرزاق ما وصلت إليهم إلا من الله تعالى، لأجل أنهم متى علموا ذلك صاروا بحيث لا يخافون أحدا سوى الله تعالى ولا يرجون أحدا غير الله تعالى، فيبقى نظرهم منقطعا عن الخلق متعلقا بالخالق، وذلك يوجب كمال الإيمان والإعراض بالكلية عن غير الله تعالى والإقبال بالكلية على طاعة الله تعالى.
قوله تعالى
* (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين * وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث فى أمها رسولا يتلو عليهم ءاياتنا وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون) *.
4

اعلم أن هذا هو الجواب الثاني: عن تلك الشبهة، وذلك لأنه تعالى لما بين لأهل مكة ما خصوا به من النعم أتبعه بما أنزله الله تعالى بالأمم الماضية الذين كانوا في نعم الدنيا، فلما كذبوا الرسل أزال الله عنهم تلك النعم والمقصود أن الكفار لما قالوا إنا لا نؤمن خوفا من زوال نعمة الدنيا، فالله تعالى بين لهم أن الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم، لا الإقدام على الإيمان، قال صاحب " الكشاف ": البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه وانتصبت معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كقوله: * (واختار موسى قومه) * (الأعراف: 155) أو بتقدير حذف الزمان المضاف وأصله بطرت أيام معيشتها، وإما تضمين بطرت معنى كفرت.
فأما قوله: * (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا) * ففي هذا الاستثناء وجوه أحدها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوما أو ساعة. وثانيها: يحتمل أن شؤم معاصي المهلكين بقي أثره في ديارهم، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلا وكنا نحن الوارثين لها بعد هلاك أهلها، وإذا لم يبق للشيء مالك معين قيل إنه ميراث الله لأنه الباقي بعد فناء خلقه، ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه أهلك تلك القرى بسبب بطر أهلها، فكأن سائلا أورد السؤال من وجهين الأول: لماذا ما أهلك الله الكفار قبل محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا مستغرقين في الكفر والعناد؟ الثاني: لماذا ما أهلكهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم مع تمادي القوم في الكفر بالله تعالى والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب عن السؤال الأول بقوله: * (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا) * وحاصل الجواب أنه تعالى قدم بيان أن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم، فوجب أن لا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة، ثم ذكر المفسرون وجهين أحدهما: * (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا) * أي في القرية التي هي أمها وأصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها رسولا لإلزام الحجة وقطع المعذرة الثاني: وما كان ربك مهلك القرى التي في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعني مكة رسولا وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ومعنى: * (يتلو عليهم آياتنا) * يؤدي ويبلغ، وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: * (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) * أنفسهم بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فإن بعضهم قد آمن وبعضهم علم الله منهم أنهم سيؤمنون وبعض آخرون علم الله أنهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يكون مؤمنا.
قوله تعالى * (ومآ أوتيتم من شىء فمتاع الحيوة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى
5

أفلا تعقلون * أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحيوة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين) *.
اعلم أن هذا هو الجواب الثالث: عن تلك الشبهة لأن حاصل شبهتهم أن قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى، أما أنه خير فلوجهين أحدهما: أن المنافع هناك أعظم وثانيهما: أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار فيها أكثر، وأما أنها أبقى فلأنها دائمة غير منقطعة ومنافع الدنيا منقطعة ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدما فكيف ونصيب كل أحد بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر، فظهر من هذا أن منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة البتة فكان من الجهل العظيم ترك منافع الآخرة لاستبقاء منافع الدنيا ولما نبه سبحانه على ذلك قال: * (أفلا تعقلون) * يعني أن من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجا عن حد العقل، ورحم الله الشافعي حيث قال: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى، لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بالطاعة فكأنه رحمه الله إنما أخذه من هذه الآية، ثم إنه تعالى أكد هذا الترجيح من وجه آخر وهو أنا لو قدرنا أن نعم الله كانت تنتهي إلى الانقطاع والفناء وما كانت تتصل بالعذاب الدائم لكان صريح العقل يقتضي ترجيح نعم الآخرة على نعم الدنيا فكيف إذا اتصلت نعم الدنيا بعقاب الآخرة فأي عقل يرتاب في أن نعم الآخرة راجحة عليها، وهذا هو المراد بقوله: * (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه) * (الصافات: 57) فهو يكون كمن أعطاه الله قدرا قليلا من متاع الدنيا ثم يكون في الآخرة من المحضرين للعذاب، والمقصود أنهم لما قالوا تركنا الدين للدنيا فقال الله لهم
لو لم يحصل عقيب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقتضي ترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا، فكيف وهذه الدنيا يحصل بعدها العقاب الدائم، وأورد هذا الكلام على لفظ الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بالترجيح وتخصيص لفظ المحضرين بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن قال تعالى: * (لكنت من المحضرين) * (الصافات: 57) * (فإنهم لمحضرون) * (الصافات: 127) وفي لفظه إشعار به لأن الإحضار مشعر بالتكليف والإلزام، وذلك لا يليق بمجالس اللذة إنما يليق بمجالس الضرر والمكاره.
قوله تعالى
* (ويوم يناديهم فيقول أين شركآئى الذين كنتم تزعمون * قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينآ أغويناهم كما غوينا تبرأنآ إليك ما كانوا إيانا يعبدون * وقيل ادعوا
6

شركآءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون * ويوم يناديهم فيقول ماذآ أجبتم المرسلين * فعميت عليهم الانبآء يومئذ فهم لا يتسآءلون) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية أنه يسأل الكفار يوم القيامة عن ثلاثة أشياء أحدها: قوله: * (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) * لما ثبت أن الكفار يوم القيامة قد عرفوا بطلان ما كانوا عليه وعرفوا صحة التوحيد والنبوة بالضرورة فيقول لهم أين ما كنتم تعبدونه وتجعلونه شريكا في العبادة وتزعمون أنه يشفع؟ أين هو لينصركم ويخلصكم من هذا الذي نزل بكم. ثم بين تعالى ما يقوله من حق عليه القول، والمراد من القول هو قوله: * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * (هود: 119) ومعنى حق عليه القول أي حق عليه مقتضاه، واختلفوا في أن الذين حق عليهم هذا القول من هم؟ فقال بعضهم الرؤساء الدعاة إلى الضلال، وقال بعضهم الشياطين قوله: * (ربنا هؤلاء الذين أغوينا) * هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والراجع إلى الموصوف محذوف وأغويناهم الخبر والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا والمراد كما أن غينا باختيارنا فكذا غيهم باختيارهم يعني أن أغواءنا لهم ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين بالإقدام على تلك العقائد والأعمال، وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال: * (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * وقال تعالى لإبليس: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) * (إبراهيم: 22) فقوله: * (إلا من اتبعك) * (الحجر: 42) يدل على أن ذلك الاتباع لهم من قبل أنفسهم لا من قبل إلجاء الشيطان إلى ذلك، ثم قال تبرأنا إليك منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أهواءهم، والحاصل أنهم يتبرءون منهم كما قال تعالى: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) * (البقرة: 166) وأيضا فلا يمتنع في قوله تعالى: * (أين شركائي) * (النحل: 27) أن يريد به هؤلاء الرؤساء والشياطين فإنهم لما أطاعوهم فقد صيروهم لمكان الطاعة بمنزله الشريك لله تعالى، وإذا حمل الكلام على هذا الوجه كان جوابهم أن يقولوا إلهنا هؤلاء ما عبدونا إنما عبدوا أهواءهم الفاسدة
7

وثانيها: قوله تعالى: * (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) * والأقرب أن هذا على سبيل التقرير لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم لهم، فالمراد أنهم لو دعوهم لم يوجد منهم إجابة في النصرة وأن العذاب ثابت فيهم، وكل ذلك على وجه التوبيخ، وفي ذكره ردع وزجر في دار الدنيا، فأما قوله تعالى: * (لو أنهم كانوا يهتدون) * فكثير من المفسرين زعموا أن جواب لو محذوف وذكروا فيه وجوها أحدها: قال الضحاك ومقاتل يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة وثانيها: لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أن العذاب حق وثالثها: ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون ورابعها: لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب وخامسها: قد آن لهم أن يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذا رأوا العذاب ويؤكد ذلك قوله تعالى: * (لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم) * (الشعراء: 201) وعندي أن الجواب غير محذوف وفي تقريره وجوه أحدها: أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله: * (ادعوا شراءكم) * فههنا يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار ويصيرون بحيث لا يبصرون شيئا فقال تعالى: * (ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) * شيئا أما لما صاروا من شدة الخوف بحيث لا يبصرون شيئا لا جرم ما رأوا العذاب وثانيها: أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الأصنام أنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم * (ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) * أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين ولكنها ليست كذلك فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل قوله: * (ورأوا العذاب) * ضمير لا يليق إلا بالعقلاء فكيف يصح عوده إلى الأصنام؟ قلنا هذا كقوله: * (فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) * وإنما ورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا ههنا وثالثها: أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك النظم من الآية الأمر الثالث: من الأمور التي يسأل الله الكفار عنها قوله: * (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين * فعميت عليهم الأنباء) * (القصص: 65، 66) أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعا لا تهتدي إليهم فهم لا يتساءلون لا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات لأنهم يتساوون جميعا في عمي الأنباء عليهم والعجز عن الجواب، وقرئ فعميت وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك يتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال، ويفوضون الأمر إلى علم الله وذلك قوله تعالى: * (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم، قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) * (المائدة: 109) فما ظنك بهؤلاء الضلال، قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان القول بالجبر لأن فعلهم لو كان خلقا من الله تعالى ويجب وقوعه بالقدرة والإرادة لما عميت عليهم الأنباء ولقالوا إنما أتينا في تكذيب الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم والقدرة الموجبة لذلك، فكانت حجتهم على الله تعالى طاهرة وكذلك القول فيما تقدم لأن الشيطان كان له أن يقول إنما أغويت بخلقك في الغواية، وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك
8

فتكون الحجة لهم في ذلك قوية والعذر ظاهرا والجواب: أن القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والثواب والعقاب إلا ويعيد استدلاله بها، وكما أن
وجه استدلاله في الكل هذا الحرف فكذا وجه جوابنا حرف واحد وهو أن علم الله تعالى بعدم الإيمان مع وقوع الإيمان متنافيان لذاتيهما فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمر بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمر بالجمع بين الضدين، والذي اعتمد القاضي عليه في دفع هذا الحرف في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن بل الواجب السكوت ولو أورد الكافر هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت، فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهرا فثبت أن الإشكال مشترك والله أعلم.
قوله تعالى
* (فأما من تاب وءامن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين * وربك يخلق ما يشآء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون * وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون * وهو الله لا إله إلا هو له الحمد فى الاولى والاخرة وله الحكم وإليه ترجعون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين حال المعذبين من الكفار وما يجري عليهم من التوبيخ أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيبا في التوبة وزجرا عن الثبات على الكفر فقال: * (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين) * وفي عسى وجوه: أحدها: أنه من الكرام تحقيق والله أكرم الأكرمين وثانيها: أن يراد ترجي التائب وطمعه كأنه قال فليطمع في الفلاح وثالثها: عسى أن يكونوا كذلك إن داموا على التوبة والإيمان لجواز أن لا يدوموا، واعلم أن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى ويقولون: * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) يعنون الوليد بن المغيرة أو أبا مسعود الثقفي، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (وربك يخلق ما يشاء ويختار) * والمراد أنه المالك المطلق وهو منزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء لا اعتراض عليه البتة، وعلى طريقة المعتزلة لما ثبت أنه حكيم مطلق علم أنه كل ما فعله كان حكمة وصوابا فليس لأحد أن يعترض عليه وقوله: * (ما كان لهم الخيرة) * والخيرة اسم من الاختيار قام مقام المصدر
9

والخيرة أيضا اسم للمختار يقال محمد خيرة الله في خلقه إذا عرفت هذا فنقول في الآية وجهان: الأول: وهو الأحسن أن يكون تمام الوقف على قوله: * (ويختار) * ويكون ما نفيا، والمعنى: * (وربك يخلق ما يشاء ويختار) * ليس لهم الخيرة إذ ليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل والثاني: أن يكون ما بمعنى الذي فيكون الوقف عند قوله: * (وربك يخلق ما يشاء) * ثم يقول: * (ويختار) * ما كان لهم الخيرة، قال أبو القاسم الأنصاري وهذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه، وأي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله، فإن قيل لما كلفه استوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا إذا علم قطعا إنه لا يحصل ذلك الأفضل فتوريطه في العقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة، ثم قولهم المستحق خير من المتفضل به جهل لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله، أما الذي ما حصل الذات والصفات إلا بخلقه وبفضله وإحسانه فكيف يستنكف من تفضله، ثم قال: * (سبحان الله وتعالى عما يشركون) * والمقصود أن يعلم أن الخلق والاختيار والاعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة ثم أكد ذلك بأنه يعلم ما تكن صدورهم من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يعلنون من مطاعنهم فيه وقولهم هلا اختير غيره في النبوة، ولما بين علمه بما هم عليه من الغل والحسد والسفاهة قال: * (وهو الله لا إلا هو) * وفيه تنبيه على كونه قادرا على كل الممكنات، وعالما بكل المعلومات، منزها عن النقائص والآفات يجازي المحسنين على طاعتهم ويعاقب العصاة على عصيانهم وفيه نهاية الزجر والردع للعصاة ونهاية تقوية القلب للمطيعين، ويحتمل أيضا أن لما بين فساد طريق المشركين من قوله: * (يوم يناديهم) * فيقول: * (أين شركائي) * (النحل: 27) ختم الكلام في ذلك بإظهار هذا التوحيد وبيان أن الحمد والثناء لا يليق إلا به.
أما قوله: * (له الحمد في الأولى والآخرة) * فهو ظاهر على قولنا لأن الثواب غير واجب عليه بل هو سبحانه يعطيه فضلا وإحسانا فله الحمد في الأولى والآخرة، ويؤكد ذلك قول أهل الجنة * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) * (فاطر: 34) * (الحمد لله الذي صدقنا وعده) * (الزمر: 74) * (آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (يونس: 10) أما المعتزلة فعندهم الثواب مستحق فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة، وأما أهل النار فما أنعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم، قال القاضي إنه يستحق الحمد والشكر من أهل النار أيضا بما فعله بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والإلطاف وسائر النعم، لأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله عليهم من أن يوجب الشكر، وهذا فيه نظر، لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا بالضرورة أن التوبة عن القبائح يجب على الله قبولها وعلموا بالضرورة أن الاشتغال بالشكر الواجب عليهم يوجب على الله الثواب وهم قادرون على ذلك وعالمون بأن بذلك مما يخلصهم عن العذاب ويدخلهم في استحقاق الثواب أفترى أن الإنسان مع العلم بذلك والقدرة عليه يترك هذه التوبة؟ كلا، بل لا بد أن يتوبوا وأن يشتغلوا بالشكر، ومتى فعلوا ذلك فقد بطل العقاب.
10

أما قوله: * (وله الحكم) * فهو إما في الدنيا أو في الآخرة فأما في الدنيا فحكم كل أحد سواه إنما نفذ بحكمه، فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده ولا على الزوجة حكم زوجها ولا على الابن حكم أبيه ولا على الرعية حكم سلطانهم ولا على الأمة حكم الرسول، فهو الحاكم في الحقيقة، وأما في الآخرة فلا شك أنه هو الحاكم، لأنه الذي يتولى الحكم بين العباد في الآخرة، فينتصف للمظلومين من الظالمين.
أما قوله: * (وإليه ترجعون) * فالمعنى وإلى محل حكمه وقضائه ترجعون، فإن كلمة إلى لانتهاء الغاية وهو تعالى منزه من المكان والجهة.
قوله تعالى
* (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضيآء أفلا تسمعون * قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين من قبل استحقاقه للحمد على وجه الإجمال بقوله: * (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون) * (
القصص: 70) فصل عقيب ذلك ببعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه فقال لرسوله: * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة) * فنبه على أن الوجه في كون الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان، لأن المرء في الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار، ولأجله يحصل الاجتماع فيمكن المعاملات ومعلوم أن ذلك لا يتم لولا الراحة والسكون بالليل فلا بد منهما والحالة هذه، فأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات، فبين تعالى أنه لا قادر على ذلك إلا الله تعالى، وإنما قال: * (أفلا تسمعون) *
11

* (أفلا تبصرون) * لأن الغرض من ذلك الانتفاع بما يسمعون ويبصرون من جهة التدبر فلما لم ينتفعوا نزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر قال الكلبي قوله: * (أفلا تسمعون) * معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك وقوله: * (أفلا تبصرون) * معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال، قال صاحب " الكشاف " السرمد الدائم المتصل من السرد وهو المتابعة، ومنه قولهم في الأشهر الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد، فإن قيل هلا قال: بنهار تتصرفون فيه، كما قيل: بليل تسكنون فيه؟ قلنا ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة، وإنما قرن بالضياء أفلا تسمعون، لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل أفلا تبصرون لأن غيرك يدرك من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه، ومن رحمته زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة لتسكنوا في أحدهما وهو الليل، ولتبتغوا من فضله في الآخر وهو النهار ولأداء الشكر على المنفعتين معا.
واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكنا وابتغاء فضل الله بالليل ممكنا إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره الله تعالى به فلهذا خصه به.
* (ويوم يناديهم فيقول أين شركآئي الذين كنتم تزعمون * ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون) *.
اعلم أنه سبحانه لما هجن طريقة المشركين، أولا ثم ذكر التوحيد ودلائله، ثانيا عاد إلى تهجين طريقتهم مرة أخرى وشرح حالهم في الآخرة فقال: * (ويوم يناديهم) * أي القيامة فيقول: * (أين شركائي الذين كنتم تزعمون) * والمعنى أين الذين ادعيتم إلهيتهم لتخلصكم، أو أين قولكم تقربنا إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله فيكون ذلك زائدا في غمهم إذا خوطبوا بهذا القول.
أما قوله: * (ونزعنا من كل أمة شهيدا) * فالمراد ميزنا واحدا ليشهد عليهم، ثم قال بعضهم هم الأنبياء يشهدون بأنهم بلغوا القوم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زائدا في غمهم، وقال آخرون بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب لأنه تعالى عم كل أمة وكل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه الأحوال التي لم يوجد فيها النبي وهي أزمنة الفترات والأزمنة التي حصلت بعد
12

محمد صلى الله عليه وسلم فعلموا حينئذ أن الحق لله ولرسله * (وضل عنهم) * غاب عنهم غيبة الشئ الضائع * (ما كانوا يفترون) * من الباطل والكذب.
قوله تعالى
* (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وءاتيناه من الكنوز مآ إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيمآ ءاتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كمآ أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الارض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنمآ أوتيته على علم عندى أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) *.
اعلم أن نص القرآن يدل على أن قارون كان من قوم موسى عليه السلام، وظاهر ذلك يدل على أنه كان ممن قد أمن به ولا يبعد أيضا حمله على القرابة، قال الكلبي: إنه كان ابن عم موسى عليه السلام، لأنه كان قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي، وموسى بن عمران بن قاهث بن لاوي وقال محمد بن إسحاق إنه كان عم موسى عليه السلام، لأن موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث وقارون بن يصهر بن قاهث. وعن ابن عباس أنه كان ابن خالته، ثم قيل إنه كان يسمى المنور لحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة، إلا أنه نافق كما نافق السامري.
أما قوله: * (فبغى عليهم) * ففيه وجوه أحدها: أنه بغى بسبب ماله، وبغيه أنه استخف بالفقراء ولم يرع لهم حق الإيمان ولا عظمهم مع كثرة أمواله والثاني: أنه من الظلم، قيل ملكه فرعون على
13

بني إسرائيل فظلمهم الثالث: قال القفال: بغى عليهم، أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده الرابع: قال الضحاك: طغى عليهم واستطال عليهم فلم يوفقهم في أمر الخامس: قال ابن عباس: تجبر وتكبر عليهم وسخط عليهم السادس: قال شهر بن حوشب: بغيه عليهم أنه زاد عليهم في الثياب شبرا، وهذا يعود إلى التكبر السابع: قال الكلبي: بغيه عليهم أنه حسد هارون على الحبورة، يروى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر وأغرق الله تعالى فرعون جعل الحبورة لهارون، فحصلت له النبوة والحبورة وكان صاحب القربان والمذبح، وكان لموسى الرسالة، فوجد قارون من ذلك في نفسه، فقال يا موسى لك الرسالة، ولهرون الحبورة، ولست في شيء ولا أصبر أنا على هذا، فقال موسى عليه السلام: والله ما صنعت ذلك لهارون ولكن الله جعله له، فقال والله لا أصدقك أبدا حتى تأتيني بآية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهارون، قال فأمر موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل أن يجئ كل رجل منهم بعصاه، فجاءوا بها، فألقاها موسى عليه السلام في قبة له، وكان ذلك بأمر الله تعالى، فدعا ربه أن يريهم بيان ذلك، فباتوا يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز، فقال موسى: يا قارون أما ترى ما صنع الله لهارون! فقال والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، فاعتزل قارون ومعه ناس كثير، وولى هارون الحبورة والمذبح والقربان، فكان بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هارون فيضعها في المذبح وتنزل النار من السماء فتأكلها، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل، فما كان يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه، وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان قارون من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى ".
أما قوله: * (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة) * ففيه أبحاث:
الأول: قال الكعبي: ألستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف الله مال قارون إلى نفسه بقوله: * (وآتيناه) * وأجاب بأنه لا حجة في أنه كان حراما، ويجوز أن من تقدمه من الملوك جمعوا وكنزوا فظفر قارون بذلك، وكان هذا الظفر طريق التملك، أو وصل إليه بالإرث من جهات، ثم بالتكسب من جهة المضاربات وغيرها وكان الكل محتملا.
البحث الثاني: المفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به، وقيل هي الخزائن وقياس واحدها مفتح بفتح الميم، ويقال ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله، والعصبة الجماعة الكثيرة والعصابة مثلها، فالعشرة عصبة بدليل قوله تعالى في إخوة يوسف عليه السلام: * (ونحن عصبة) * (يوسف: 8) وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم.
إذا عرفت معنى الألفاظ فنقول: ههنا قولان أحدهما: أن المراد بالمفاتح المفاتيح وهي التي يفتح بها الباب، قالوا كانت مفاتيحه من جلود الإبل وكل مفتاح مثل إصبع، وكان لكل خزانة مفتاح، وكان إذا ركب قارون حملت المفاتيح على ستين بغلا، ومن الناس من طعن في هذا القول
14

من وجهين الأول: أن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ، ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح الثاني: أن الكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض، فلا يجوز أن يكون لها مفاتيح والجواب: عن الأول أن المال إذا كان من جنس العروض، لا من جنس النقد جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد، وأيضا فهذا الذي يقال إن تلك المفاتيح بلغت ستين حملا، ليس مذكورا في القرآن فلا تقبل هذه الرواية، وتفسير القرآن أن تلك المفاتيح كانت كثيرة، وكان كل واحد منها معينا لشيء آخر، فكان يثقل على العصبة ضبطها ومعرفتها بسبب كثرتها، وعلى هذا الوجه يزول الاستبعاد، وعن الثاني أن ظاهر الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق القول الثاني: وهو اختيار ابن عباس والحسن أن تحمل المفاتح على نفس المال وهذا أبين وعن الشبهة أبعد. قال ابن عباس: كانت خزائنه يحملها أربعون رجلا أقوياء، وكانت خزائنه أربعمائة ألف فيحمل كل رجل عشرة آلاف القول الثالث: وهو اختيار أبي مسلم: أن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله: * (وعنده مفاتح الغيب) * (الأنعام: 59) والمراد آتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أولي القوة والهداية، أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها والقائمين عليها أن يحفظوها، ثم إنه تعالى بين أنه كان في قومه من وعظه بأمور أحدها: قوله: * (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) * والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة أصلا، وقال بعضهم: إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها، فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح بها وما أحسن ما قال المتنبي:
أشد الغم عندي في سرور * تيقن عنه صاحبه انتقالا
وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى: * (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) * (الحديد: 23) قال ابن عباس: كان فرحه ذلك شركا، لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى وثانيها: قوله: * (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) * والظاهر أنه كان مقرا بالآخرة، والمراد أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة ويسلك طريقة التواضع وثالثها: قوله: * (ولا تنس نصيبك من الدنيا) * وفيه وجوه أحدها: لعله كان مستغرق الهم في طلب الدنيا فلأجل ذلك ما كان يتفرغ للتنعم والالتذاذ فنهاه الواعظ عن ذلك وثانيها: لما أمره الواعظ بصرف المال إلى الآخرة بين له بهذا الكلام أنه لا بأس بالتمتع بالوجوه المباحة وثالثها: المراد منه الإنفاق في طاعة الله فإن ذلك هو نصيب المرء من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب قال عليه السلام: " فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار " ورابعها: قوله: * (وأحسن كما أحسن الله إليك) * لما أمره
15

بالإحسان بالمال أمره بالإحسان مطلقا ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر، وإنما قال: * (كما أحسن الله إليك) * تنبيها على قوله: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * (إبراهيم: 7) وخامسها: قوله: * (ولا تبغ الفساد في الأرض) * والمراد ما كان عليه من الظلم والبغي وقيل إن هذا القائل هو موسى عليه السلام، وقال آخرون بل مؤمنو قومه، وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما لو قيل لم يكن عليه مزيد، لكنه أبى أن يقبل بل زاد عليه بكفر النعمة فقال: إنما أوتيته على علم عندي وفيه وجوه: أحدها: قال قتادة ومقاتل والكلبي: كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال: إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك وثانيها: قال سعيد بن المسيب والضحاك: كان موسى عليه السلام أنزل عليه علم الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وكالب ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة والنحاس فيجعله ذهبا وثالثها: أراد به علمه بوجوه المكاسب والتجارات ورابعها: أن يكون قوله: * (إنما أوتيته على علم عندي) * أي الله أعطاني ذلك مع كونه عالما بي وبأحوالي فلو لم يكن ذلك مصلحة لما فعل وقوله: * (عندي) * أي عندي أن الأمر كذلك، كما يقول المفتى عندي أن الأمر كذلك أي مذهبي واعتقادي ذلك، ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله: * (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا) * وفيه وجهان: الأول: يجوز أن يكون هذا إثباتا لعلمه بأن الله تعالى قد أهلك قبله من القرون من هو أقوى منه وأغنى لأنه قد قرأه في التوراة وأخبر به موسى عليه السلام وسمعه من حفاظ التواريخ كأنه قيل له: أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته الثاني: يجوز أن يكون نفيا لعلمه بذلك كأنه لما قال أوتيته على علم عندي فتصلف بالعلم وتعظم به، قيل أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه، ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين؟.
أما قوله: * (وأكثر جمعا) * فالمعنى أكثر جمعا للمال أو أكثر جماعة وعددا، وحاصل الجواب أن اغتراره بماله وقوته وجموعه من الخطأ العظيم، وأنه تعالى إذا
أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك ولا ما يزيد عليه أضعافا.
فأما قوله: * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) * فالمراد أن الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها، لأنه تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة به إلى السؤال، فإن قيل كيف الجمع بينه وبين قوله: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) * (الحجر: 92) قلنا يحمل ذلك على وقتين على ما قررناه، وذكر أبو مسلم وجها آخر فقال: السؤال قد يكون للمحاسبة، وقد يكون للتقرير والتبكيت، وقد يكون للاستعتاب، وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله: * (ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) * (النحل: 84) * (هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * (المرسلات 35، 36).
16

قوله تعالى
* (فخرج على قومه فى زينته قال الذين يريدون الحيوة الدنيا يا ليت لنا مثل مآ أوتى قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحا ولا يلقاهآ إلا الصابرون * فخسفنا به وبداره الارض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) *.
أما قوله: * (فخرج على قومه في زينته) * فيدل على أنه خرج بأظهر زينة وأكملها وليس في القرآن إلا هذا القدر، إلا أن الناس ذكروا وجوها مختلفة في كيفية تلك الزينة، قال مقاتل خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف فارس على الخيول وعليها الثياب الأرجوانية ومعه ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب، وقال بعضهم: بل خرج في تسعين ألفا هكذا، وقال آخرون بل على ثلثمائة. والأولى ترك هذه التقريرات لأنها متعارضة، ثم إن الناس لما رأوه على تلك الزينة قال من كان منهم يرغب في الدنيا * (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون) * من هذه الأمور والأموال، والراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبون الدنيا، وأما العلماء وأهل الدين فقالوا للذين تمنوا هذا ويلكم ثواب الله خير من هذه النعم، لأن للثواب منافع عظيمة وخالصة عن شوائب المضار ودائمة، وهذه النعم العاجلة على الضد من هذه الصفات الثلاث، قال صاحب " الكشاف ": ويلك أصله الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى.
أما قوله: * (ولا يلقاها إلا الصابرون) * فقال المفسرون: لا يوفق لها والضمير في يلقاها إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان أحدهما: إلى ما دل عليه قوله: * (آمن وعمل صالحا) * يعني هذه الأعمال لا يؤتاها إلا الصابرون والثاني: قال الزجاج: يعني، ولا يلقى هذه الكلمة وهي قولهم ثواب الله خير إلا الصابرون على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرمات، وعلى الرضا بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار.
17

وأما قوله: * (فخسفنا به وبداره الأرض) * ففيه وجهان أحدهما: أنه لما أشر وبطر وعتا خسف الله به وبداره الأرض جزاء على عتوه وبطره، والفاء تدل على ذلك، لأن الفاء تشعر بالعلية وثانيها: قيل إن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم فحسبه فاستكثره فشحت نفسه فجمع بني إسرائيل، وقال: إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت سيدنا وكبيرنا فمرنا بما شئت، قال: نبرطل فلانة البغي حتى تنسبه إلى نفسها فيرفضه بنو إسرائيل فجعل لها طستا من ذهب مملوءا ذهبا فلما كان يوم عيد قام موسى فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن زنى وهو (غير) محصن جلدناه وإن أحصن رجمناه، فقال قارون وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل يقولون إنك فجرت بفلانة فأحضرت فناشدها موسى بالله الذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله تعالى، فقالت: كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فخر موسى ساجدا يبكي، وقال: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى الله عز وجل إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك، فقال: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعا غير رجلين، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم، وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه، ثم قال: خذيهم فانطبقت الأرض عليهم فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام ما أفظك استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم، أما وعزتي لودعوني مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله، ثم إن قارون يخسف به كل يوم مائة قامة، قال القاضي: إذا هلك بالخسف فسواء نزل عن ظاهر الأرض إلى الأرض السابعة أو دون ذلك فإنه لا يمتنع ما روى على وجه المبالغة في الزجر، وأما قولهم إنه تعالى قال لو استغاث بي لأغثته، فإن صح حمل على استغاثة مقرونة بالتوبة فأما وهو ثابت على ما هو عليه مع أنه تعالى هو الذي حكم بذلك الخسف لأن موسى عليه السلام ما فعله إلا عن أمره فبعيد، وقولهم إنه يتجلجل في الأرض أبدا فبعيد لأنه لا بد له من نهاية وكذا القول فيما ذكر من عدد القامات، والذي عندي في أمثال هذه الحكايات أنها قليلة الفائدة لأنها من باب أخبار الآحاد فلا تفيد اليقين، وليست المسألة مسألة عملية حتى يكتفى فيها بالظن، ثم إنها في أكثر الأمر متعارضة مضطربة فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب.
أما قوله: * (وما كان من المتنصرين) * فالمراد من المنتقمين من موسى أو من الممتنعين من عذاب
18

الله تعالى يقال نصره من عدوه فانتصر، أي منعه منه فامتنع.
قوله تعالى
* (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالامس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون * تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) *.
اعلم أن القوم الذين شاهدوا قارون في زينته لما شاهدوا ما نزل به من الخسف صار ذلك زاجرا لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى عليه السلام وداعيا إلى الرضا بقضاء الله تعالى وقسمته وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبياء الله ورسله.
أما قوله: * (ويكأن الله) * فاعلم أن وي كلمة مفصولة عن كأن وهي كلمة مستعملة عند التنبه للخطأ وإظهار التندم، فلما قالوا: * (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون) * (القصص: 79) ثم شاهدوا الخسف تنبهوا لخطئهم فقالوا: وي ثم قالوا: كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه، ويضيق على من يشاء لا لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وقضائه ابتلاء وفتنة قال سيبويه: سألت الخليل عن هذا الحرف فقال إن وي مفصولة من كان وأن القوم تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم وي. وذكر الفراء وجهين أحدهما: أن المعنى ويلك فحذف اللام وإنما جاز هذا الحذف لكثرتها في الكلام وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال ويلك اعلم أن الله، وهذا قول قطرب حكاه عن يونس الثاني: وي منفصلة من كأن وهو للتعجب يقول الرجل لغيره وي أما ترى ما بين يديك فقال الله وي ثم استأنف كان الله يبسط فالله تعالى إنما ذكرها تعجيبا لخلقه، قال الواحدي: وهذا وجه مستقيم غير أن العرب لم تكتبها منفصلة ولو كان على ما قالوه لكتبوها منفصلة، وأجاب الأولون بأن خط المصحف لا يقاس عليه، ثم قالوا: * (لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون) * وهذا تأكيد لما قبله.
أما قوله: * (تلك الدار الآخرة) * فتعظيم لها وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما، وعن علي
19

عليه السلام: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها، قال صاحب " الكشاف ": ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون لقوله: * (إن فرعون علا في الأرض) * (القصص: 4) والفساد لقارون لقوله: * (ولا تبغ الفساد في الأرض) * (القصص: القصص: 77) ويقول من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله: * (والعاقبة للمتقين) * كما تدبره علي بن أبي طالب عليه السلام.
قوله تعالى
* (من جآء بالحسنة فله خير منها ومن جآء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون * إن الذى فرض عليك القرءان لرآدك إلى معاد قل ربى أعلم من جآء بالهدى ومن هو فى ضلال مبين * وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين * ولا يصدنك عن ءايات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين * ولا تدع مع الله إلها ءاخر لا إله إلا هو كل شىء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علوا في الأرض ولا فسادا، بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل لهم فقال: * (من جاء بالحسنة فله خير منها) * وفيه وجوه أحدهما: المعنى من جاء بالحسنة حصل له من تلك الكلمة خير وثانيها: حصل له شيء هو أفضل من تلك الحسنة، ومعناه أنهم يزادون على ثوابهم وقد مر تفسيره في آخر النمل، وأما قوله: * (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون) * فظاهره أن لا يزادوا على ما يستحقون.
20

وإذا صح ذلك في السيئات دل أن المراد في الحسنات بما هو خير منها ما ذكرناه من مزيد الفضل على الثواب، قال صاحب " الكشاف " تقدير الآية: ومن جاء بالسيئة فلا يجزون إلا ما كانوا يعملون، لكنه كرر ذلك لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكررا فضل تهجين لحالهم وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين، وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها، وههنا سؤالان:
السؤال الأول: قال تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) كرر ذلك الإحسان واكتفى بذكر الإساءة بمرة واحدة، وفي هذه الآية كرر ذكر الإساءة مرتين واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة، فما السبب؟ الجواب: لأن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة، فكانت المبالغة في الزجر عن المعصية لائقة بهذا الباب، لأن المبالغة في الزجر عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة. وأما الآية الآخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى.
السؤال الثاني: كيف قال: لا تجزي السيئة إلا بمثلها؟ مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد والجواب: لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبدا لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه. قال الجبائي: وهذا يدل على بطلان مذهب من يجوز على الله تعالى أن يعذب الأطفال عذابا دائما بغير جرم، قلنا لا يجوز أن يفعله وليس في الآية ما يدل عليه، ثم إنه سبحانه لما شرح لرسوله أمر القيامة واستقصى في ذلك، شرح له ما يتصل بأحواله فقال: * (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) * قال أبو علي: الذي فرض عليك أحكامه وفرائضه لرادك بعد الموت إلى معاد، وتنكير المعاد لتعظيمه، كأنه قال إلى معاد وأي معاد، أي ليس لغيرك من البشر مثله. وقيل المراد به مكة، ووجهه أن يراد برده إليها يوم الفتح، ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن عظيم لاستيلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وقهره لأهلها وإظهار عز الإسلام وإذلال حزب الكفر والسورة مكية، فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهرا ظافرا. وقال مقاتل: إنه عليه السلام خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل عليه السلام وقال: تشتاق إلى بلدك ومولدك، فقال عليه السلام: نعم، فقال جبريل عليه السلام: فإن الله تعالى يقول: * (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) * يعني إلى مكة ظاهرا عليهم وهذا أقرب، لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل العود، وذلك لا يليق إلا بمكة، وإن كان سائر الوجوه محتملا لكن ذلك أقرب، قال أهل التحقيق: وهذا أحد ما يدل على نبوته، لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزا، ثم قال * (قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين) * ووجه تعلقه بما قبله أن
21

الله تعالى وعد رسوله الرد إلى معاد، قال: * (قل) * للمشركين * (ربي أعلم من جاء بالهدى) * يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة * (ومن هو في ضلال مبين) * يعنيهم وما يستحقون من العقاب في معادهم، ثم قال لرسوله * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) * ففي كلمة إلا وجهان أحدهما: أنها للاستثناء، ثم قال صاحب " الكشاف ": هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل: (وما ألقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) ويمكن أيضا إجراؤه على ظاهره، أي وما كنت ترجو إلا أن يرحمك الله برحمته فينعم عليك بذلك، أي ما كنت ترجو إلا على هذا والوجه الثاني: أن إلا بمعنى لكن للاستدراك، أي ولكن رحمة من ربك ألقى إليك ونظيره قوله: * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك) * (القصص: 46) خصصك به، ثم إنه كلفه بأمور أحدها: كلفه بأن لا يكون مظاهرا للكفار فقال: * (فلا تكونن ظهيرا للكافرين) * وثانيها: أن قال: * (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك) * الميل إلى المشركين، قال الضحاك وذلك حين دعوه إلى دين آبائه ليزوجوه ويقاسموه شطرا من مالهم، أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله وثالثها: قوله: * (وادع إلى ربك) * أي: إلى دين ربك، وأراد التشدد في دعاء الكفار والمشركين، فلذلك قال: * (ولا تكونن من المشركين) * لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم ورابعها: قوله: * (ولا تدع مع الله إلها آخر) * وهذا وإن كان واجبا على الكل إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصا لأجل التعظيم، فإن قيل الرسول كان معلوما منه أن لا يفعل شيئا من ذلك البتة فما فائدة هذا النهي؟ قلنا لعل الخطاب معه ولكن المراد غيره، ويجوز أن يكون المعنى لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلا في أمورك، فإن من وثق بغير الله تعالى فكأنه لم يكمل طريقه في التوحيد، ثم بين أنه لا إله إلا هو، أي لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو، كقوله: * (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا) * (المزمل: 9) فلا يجوز اتخاذ إله سواء، ثم قال: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في قوله: * (كل شيء هالك) * فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم، والمعنى أن الله تعالى يعدم كل شيء سواه، ومنهم من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعا به، إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء، وإن كانت أجزاؤه باقية، فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريدون به فناء أجزائه، بل خروجه عن كونه منتفعا به، ومنهم من قال: معنى كونه هالكا كونه قابلا للهلاك في ذاته، فإن كل ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكن الوجود كان قابلا للعدم فكان قابلا للهلاك، فأطلق عليه اسم الهلاك نظرا إلى هذا الوجه.
واعلم أن المتكلمين لما أرادوا إقامة الدلالة على أن كل شيء سوى الله تعالى يقبل العدم والهلاك قالوا: ثبت أن العالم محدث، وكل ما كان محدثا فإن حقيقته قابلة للعدم والوجود، وكل ما كان كذلك وجب أن يبقى على هذه الحالة أبدا، لأن الإمكان من لوازم الماهية، ولازم الماهية
22

لا يزول قط، إلا أنا لما نظرنا في هذه الدلالة ما وجدناها وافية بهذا الغرض، لأنهم إنما أقاموا الدلالة على حدوث الأجسام والأعراض، فلو قدروا على إقامة الدلالة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز أو قائم بالمتحيز لتم غرضهم، إلا أن الخصم يثبت موجودات لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز، فالدليل الذي يبين حدوث المتحيز والقائم بالمتحيز لا يبين حدوث كل ما سوى الله تعالى إلا بعد قيام الدلالة على نفي ذلك القسم الثالث، ولهم في نفي هذا القسم الثالث طريقان أحدهما: قولهم لا دليل عليه فوجب نفيه وهذه طريقة ركيكة بينا سقوطها في الكتب الكلامية والثاني: قولهم لو وجد موجود هكذا لكان مشاركا لله تعالى في نفي المكان والزمان والإمكان، ولو كان كذلك لصار مثلا لله تعالى وهو ضعيف، لاحتمال أن يقال إنهما وإن اشتركا في هذا السلب إلا أنه يتميز كل واحد منهما عن الآخر بماهية وحقيقة، وإذا كان كذلك ظهر أن دليلهم العقلي لا يفي بإثبات أن كل شيء هالك إلا وجهه، والذي يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول ثبت أن صانع العالم واجب الوجود لذاته فيستحيل وجود موجود آخر واجب لذاته، وإلا لاشتركا في الوجوب وامتاز كل واحد منهما عن الآخر بخصوصيته، وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركبا عما به المشاركة وعما به الممايزة وكل مركب ممكن مفتقر إلى جزئه، ثم إن الجزأين إن كانا واجبين كانا مشتركين في الوجوب ومتمايزين باعتبار آخر فيلزم تركب كل واحد منهما أيضا ويلزم التسلسل وهو محال، وإن لم يكونا واجبين فالمركب عنهما المفتقر إليهما أولى أن لا يكون واجبا، فثبت أن واجب الوجود واحد وأن كل ما عداه فهو ممكن وكل ممكن فلا بد له من مرجح، وافتقاره إلى المرجح، إما حال عدمه أو حال وجوده، فإن كان الأول ثبت أنه محدث، وإن كان الثاني فافتقار الموجود إلى المؤثر، إما حال حدوثه أو حال بقائه، والثاني باطل لأنه يلزم إيجاد الموجود وهو محال فثبت أن الافتقار لا يحصل إلا حال الحدوث، وثبت أن كل ما سوى الله تعالى محدث سواء كان متحيزا أو قائما بالمتحيز أو لا متحيزا ولا قائما بالمتحيز، فإن نقضت هذه الدلالة بذات الله وصفاته، فاعلم أن هناك فرقا قويا وإذا ثبت حدوث كل ما سواه وثبت أن كل ما كان محدثا كان قابلا للعدم ثبت بهذا البرهان الباهر أن كل شيء هالك إلا وجهه، بمعنى كونه قابلا للهلاك والعدم، ثم إن الذين فسروا الآية بذلك قالوا هذا أولى وذلك لأنه سبحانه حكم بكونها هالكة في الحال، وعلى ما قلناه فهي هالكة في الحال، وعلى ما قلتموه أنها ستهلك لا إنها هالكة في الحال، فكان قولنا أولى وأيضا فالممكن إذا وجد من حيث هو لم يكن مستحقا لا للوجود ولا للعدم من ذاته، فهذه الاستحقاقية مستحقة له من ذاته، وأما الوجود فوارد عليه من الخارج فالوجود له كالثوب المستعار له وهو من حيث هو هو كالإنسان الفقير الذي استعار ثوبا من رجل غني، فإن الفقير لا يخرج بسبب ذلك عن كونه فقيرا كذا الممكنات عارية عن الوجود من حيث هي هي، وإنما الوجود ثوب حصل لها بالعارية فصح أنها أبدا هالكة من حيث هي هي، أما الذين حملوه على أنها
23

ستعدم فقد احتجوا بأن قالوا: الهلاك في اللغة له معنيان أحدهما: خروج الشيء عن أن يكون منتفعا به الثاني: الفناء والعدم لا جائز حمل اللفظ على الأول لأن هلاكها بمعنى خروجها عن حد الانتفاع محال، لأنها وإن تفرقت أجزاؤها فإنها منتفع بها لأن النفع المطلوب كونها بحيث يمكن أن يستدل بها على وجود الصانع القديم، وهذه المنفعة باقية سواء بقيت متفرقة أو مجتمعة، وسواء بقيت موجودة أو صارت معدومة. وإذا تعذر حمل الهلاك على هذا الوجه وجب حمله على الفناء. أجاب من حمل
الهلاك على التفرق قال: هلاك الشيء خروجه عن المنفعة التي يكون الشيء مطلوبا لأجلها، فإذا مات الإنسان قيل هلك لأن الصفة المطلوبة منه حياته وعقله، وإذا تمزق الثوب قيل هلك، لأن المقصود منه صلاحيته للبس، فإذا تفرقت أجزاء العالم خرجت السماوات والكواكب والجبال والبحار عن صفاتها التي لأجلها كانت منتفعا بها انتفاعا خاصا، فلا جرم صح إطلاق اسم الهالك عليها فأما صحة الاستدلال بها على الصانع سبحانه فهذه المنفعة ليست منفعة خاصة بالشمس من حيث هي شمس والقمر من حيث هو قمر، فلم يلزم من بقائها أن لا يطلق عليها اسم الهالك ثم احتجوا على بقاء أجزاء العالم بقوله: * (يوم تبدل الأرض غير الأرض) * (إبراهيم: 48) وهذا صريح بأن تلك الأجزاء باقية إلا أنها صارت متصفة بصفة أخرى فهذا ما في هذا الموضع.
المسألة الثانية: احتج أهل التوحيد بهذه الآية على أن الله تعالى شيء، قالوا لأنه استثنى من قوله: * (كل شيء) * استثناء يخرج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت اللفظ، فوجب كونه شيئا يؤكده ما ذكرناه في سورة الأنعام، وهو قوله: * (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله) * (الأنعام: 19) واحتجاجهم على أنه ليس بشيء بقوله: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) والكاف معناه المثل فتقدير الآية ليس مثل مثله شيء ومثل مثل الله هو الله فوجب أن لا يكون الله شيئا، جوابه: أن الكاف صلة زائدة.
المسألة الثالثة: استدلت المجسمة بهذه الآية على أن الله تعالى جسم من وجهين الأول: قالوا الآية صريحة في إثبات الوجه وذلك يقتضي الجسمية والثاني: قوله: * (وإليه ترجعون) * وكلمة إلى لانتهاء الغاية وذلك لا يعقل إلا في الأجسام والجواب: لو صح هذا الكلام يلزم أن يفنى جميع أعضائه وأن لا يبقى منه إلا الوجه، وقد التزم ذلك بعض المشبهة من الرافضة. وهو بيان ابن سمعان وذلك لا يقول به عاقل، ثم من الناس من قال الوجه هو الوجود والحقيقة يقال وجه هذا الأمر كذا أي حقيقته، ومنهم من قال الوجه صلة، والمراد كل شيء هالك إلا هو، وأما كلمة إلى فالمعنى وإلى موضع حكمه وقضائه ترجعون.
المسألة الرابعة: استدلت المعتزلة به على أن الجنة والنار غير مخلوقتين، قالوا لأن الآية تقتضي فناء الكل فلو كانتا مخلوقتين لفنيتا، وهذا يناقض قوله تعالى في صفة الجنة: * (أكلها دائم) * (الرعد: 35) والجواب: هذا معارض بقوله تعالى في صفة الجنة: * (أعدت للمتقين) * (آل عمران: ت 133) وفي صفة النار * (وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) * (البقرة: 24) ثم إما أن يحمل قوله: * (كل شيء هالك) * على الأكثر، كقوله:
* (وأوتيت من كل شيء) * (النمل: 23) أو يحمل قوله: * (أكلها دائم) * على أن زمان فنائهما لما كان قليلا بالنسبة إلى زمان بقائهما لا جرم أطلق لفظ الدوام عليه.
المسألة الخامسة: قوله: * (كل شيء هالك) * يدل على أن الذات ذات بالفعل، لأنه حكم بالهلاك على الشيء فدل على أن الشيء في كونه شيئا قابل للهلاك، فوجب أن لا يكون المعدوم شيئا والله أعلم. والحمد لله رب العالمين.
24

سورة العنكبوت
مكية وقيل مدنية وقيل نزلت من أولها إلى رأس عشر بمكة وباقيها بالمدينة أو نزل إلى آخر العشر بالمدينة وباقيها بمكة وبالعكس، وهي سبعون أو تسع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون) *.
المسألة الأولى: في تعلق أول هذه السورة بما قبلها وفيه وجوه الأول: لما قال الله تعالى قبل هذه السورة: * (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) * (القصص: 85) وكان المراد منه أن يرده إلى مكة ظاهرا غالبا على الكفار ظافرا طالبا للثأر، وكان فيه احتمال مشاق القتال صعب على البعض ذلك فقال الله تعالى: * (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا) * ولا يؤمروا بالجهاد الوجه الثاني: هو أنه تعالى لما قال في أواخر السورة المتقدمة * (وادع إلى ربك) * (القصص: 87) وكان في الدعاء إليه الطعان والحراب والضراب، لأن النبي عليه السلام وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن الكفار بمجرد الدعاء فشق على البعض ذلك فقال: * (أحسب الناس أن يتركوا) * الوجه الثالث: هو أنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) ذكر بعده ما يبطل قول المنكرين للحشر فقال: * (له الحكم وإليه ترجعون) * يعني ليس كل شيء هالكا من غير رجوع بل كل هالك وله رجوع إلى الله. إذا تبين هذا، فاعلم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف فإنها مشاق في الحال ولا فائدة لها في المآل إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوال، فلا فائدة فيها. فلما بين الله أنهم إليه يرجعون بين أن الأمر ليس على ما حسبوه، بل حسن التكليف ليثيب
25

الشكور ويعذب الكفور فقال: * (أحسب الناس أن يتركوا) * غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم.
المسألة الثانية: في حكمة افتتاح هذه السورة بحروف من التهجي، ولنقدم عليه كلاما كليا في افتتاح السور بالحروف فنقول: الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال يقدم على الكلام المقصود شيئا غيره ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود. إذا ثبت هذا فنقول ذلك المقدم على المقصود قد يكون كلاما له معنى مفعوم، كقول القائل اسمع، واجعل بالك إلى، وكن لي، وقد يكون شيئا هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل أزيد ويا زيد وألا يا زيد، وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتا غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه. ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم، كان المقدم على المقصود أكثر. ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال أزيد والبعيد بيا فيقال يا زيد، والغافل ينبه أولا فيقال ألا يا زيد. إذا ثبت هذا فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن فكان يحسن من الحكيم
أن يقدم على الكلام المقصود حروفا هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى، لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك فإذا كان ذلك المقدم كلاما منظوما وقولا مفهوما فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه. أما إذا سمع منه صوتا بلا معنى يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود، فاذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في الوضع على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة، فإن قال قائل فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف؟ فنقول عقل البشر عن إدراك الأشياء الجزئية على تفاصيلها عاجز والله أعلم بجميع الأشياء، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كقوله تعالى: * (ألم * ذلك الكتاب) * (البقرة: 1، 2) * (ألم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب) * (آل عمران: 1 - 3)، * (المص * كتاب أنزل إليك) * (الأعراف: 1، 2)، * (يس * والقرآن) * (يس: 1، 2)، * (ص والقرآن) * (ص: 1) * (ق والقرآن) * (ق: 1)، * (ألم * تنزيل الكتاب) * (السجدة: 1، 2)، * (حم * تنزيل الكتاب) * (الجاثية: 1، 2) إلا ثلاث سور * (كهعيص) * (مريم: 1)، * (ألم * أحسب الناس) *، * (ألم * غلبت الروم) * (الروم: 1، 2) والحكمة في افتتاح السور التي فيها القرآن أو التنزيل أو الكتاب بالحروف هي أن القرآن عظيم والإنزال له ثقل والكتاب له عبء كما قال تعالى: * (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) * (المزمل: 5) وكل سورة في أولها ذكر القرآن والكتاب والتنزيل قدم عليها منبه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه، لا يقال كل سورة قرآن واستماعه استماع القرآن سواء كان فيها ذكر القرآن لفظا أو لم يكن، فكان الواجب أن يكون في أوائل كل سورة منبه، وأيضا فقد وردت
26

سورة فيها ذكر الإنزال والكتاب ولم يذكر قلبها حروف كقوله تعالى: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) * (الكهف: 1) وقوله: * (سورة أنزلناها) * (النور: 1) وقوله: * (تبارك الذي نزل الفرقان) * (الفرقان: 1) وقوله: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) لأنا نقول جوابا عن الأول لا ريب في أن كل سورة من القرآن لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب مع أنها من القرآن تنبه على كل القرآن فإن قوله تعالى: * (طه * ما أنزلنا عليك القرآن) * (ط: 1، 2) مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن فيصير مثاله مثال كتاب يرد من ملك على مملوكه فيه شغل ما، وكتاب آخر يرد منه عليه فيه: إنا كتبنا إليك كتبا إليك كتبا فيها أوامرنا فامتثلها، لا شك أن عبء الكتاب الآخر أكثر من ثقل الأول وعن الثاني أن قوله: * (الحمد الله، وتبارك الذي) * تسبيحات مقصودة وتسبيح الله لا يغفل عنه العبد فلا يحتاج إلى منبه بخلاف الأوامر والنواهي، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمة من له التسبيح * (وسورة أنزلناها) * قد بينا أنها من القرآن فيها ذكر انزالها وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم في النفس وأثقل.
وأما قوله تعالى: * (إنا أنزلناه) * فنقول هذا ليس واردا على مشغول القلب بشيء غيره بدليل أنه ذكر الكناية فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم وقوله: * (إنا أنزلناه) * الهاء راجع إلى معلوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فكان متنبها له فلم ينبه، واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كما في قوله تعالى: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم) * (الحج: 1) وقوله * (يا أيها النبي اتق الله) * (الأحزاب: 1) * (يا أيها النبي لم تحرم) * (التحريم: 1) لأنها أشياء هائلة عظيمة، فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها تنبيها، وأما هذه السورة افتتحت بالحروف وليس فيها الابتداء بالكتاب والقرآن، وذلك لأن القرآن ثقله وعبئه بما فيه من التكاليف والمعاني، وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال: * (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا) * يعني لا يتركون بمجرد ذلك بل يؤمرون بأنواع من التكاليف فوجد المعنى الذي في السور التي فيها ذكر القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي فإن قيل مثل هذا الكلام، وفي معناه ورد في سورة التوبة وهو قوله تعالى: * (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) * (التوبة: 16) ولم يقدم عليه حروف التهجي فنقول الجواب عنه في غاية الظهور، وهو أن هذا ابتداء كلام، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة فقال * (أحسب) * وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام بأم والتنبيه يكون في أول الكلام لا في أثنائه، وأما * (ألم * غلب الروم) * (الروم: 1، 2) فسيجئ في موضعه إن شاء الله تعالى هذا تمام الكلام في الحروف.
المسألة الثالثة: في إعراب * (ألم) * وقد ذكر تمام ذلك في سورة البقرة مع الوجوه المنقولة في تفسيره ونزيد ههنا على ما ذكرناه أن الحروف لا إعراب لها لأنها جارية مجرى الأصوات المنبهة.
المسألة الرابعة: في سبب نزول هذه الآيات وفيه أقوال: الأول: أنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة الثاني:
27

أنها نزلت في أقوام بمكة هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون الثالث أنها نزلت في مهجع بن عبد الله قتل يوم بدر.
المسألة الخامسة: في التفسير قوله: * (أحسب الناس أن يتركوا) * يعني أظنوا أنهم يتركون بمجرد قولهم * (آمنا وهم لا يفتنون) * لا يبتلون بالفرائض البدنية والمالية، واختلف أئمة النحو في قوله: * (أن يقولوا) * فقال بعضهم: أن يتركوا بأن يقولوا، وقال بعضهم: أن يتركوا يقولون آمنا، ومقتضى ظاهر هذا أنهم يمنعون من قولهم آمنا، كما يفهم من قول القائل تظن أنك تترك أن تضرب زيد أن تمنع من ذلك، وهذا بعيد فإن الله لا يمنع أحدا من أن يقول آمنت، ولكن مراد هذا المفسر هو أنهم لا يتركون يقولون آمنا من غير ابتلاء فيمنعون من هذا المجموع بإيجاب الفرائض عليهم.
المسألة السادسة: في الفوائد المعنوية وهي أن المقصود الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى في العبادة حصول محبة الله كما ورد في الخبر " لا يزال العبد يتقرب
إلي بالعبادة حتى أحبه وكل من كان قلبه أشد امتلأ من محبة الله فهو أعظم درجة عند الله، لكن للقلب ترجمان وهو اللسان، وللسان مصدقات هي الأعضاء، ولهذه المصدقات مزكيات فإذا قال الإنسان آمنت باللسان فقد ادعى محبة الله في الجنان، فلا بد له من شهود فإذا استعمل الأركان في الاتيان بما عليه بنيان الإيمان حصل له على دعواه شهود مصدقات فإذا بذل في سبيل الله نفسه وماله، وزكى بترك ما سواه أعماله، زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله، فيحرر في جرائد المحبين اسمه، ويقرر في أقسام المقربين قسمه، وإليه الإشارة بقوله: * (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا) * يعني أظنوا أن تقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهودهم بلا مزكين، بل لا بد من ذلك جميعه ليكونوا من المحبين.
فائدة ثانية: وهي أن أدنى درجات العبد أن يكون مسلما فإن ما دونه دركات الكفر، فالإسلام أول درجة تحصل للعبد فإذا حصل له هذه المرتبة كتب اسمه وأثبت قسمه، لكن المستخدمين عند الملوك على أقسام منهم من يكون ناهضا في شغله ماضيا في فعله، فينقل من خدمة إلى خدمة أعلى منها مرتبة، ومنهم من يكون كسلانا متخلفا فينقل من خدمة إلى خدمة أدنى منها، ومنهم من يترك على شغله من غير تغيير، ومنهم من يقطع رسمه ويمحى من الجرائد اسمه، فكذلك عباد الله قد يكون المسلم عابدا مقبلا على العبادة مقبولا للسعادة فينقل من مرتبة المؤمنين إلى درجة الموقنين وهي درجة المقربين ومنهم من يكون قليل الطاعة مشتغلا بالخلاعة، فينقل إلى مرتبة دونه وهي مرتبة العصاة ومنزلة القساة، وقد يستصغر العيوب ويستكثر الذنوب فيخرج من العبادة محروما ويلحق بأهل العناد مرجوما، ومنهم من يبقى في أول درجة الجنة وهم البله، فقال الله بشارة للمطيع الناهض * (أحسب الناس أن يتركوا) * يعني أظنوا أنهم يتركون في أول المقامات لا، بل ينقلون إلى أعلى الدرجات كما قال تعالى: * (والذين أوتوا العلم درجات) * (المجادلة: 11) * (فضل الله المجاهدين... على القاعدين درجة) * (النساء: 95). وقال بضده للكسلان * (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا) * يعني إذا قال آمنت ويتخلف
28

بالعصيان يترك ويرضى منه، لا بل ينقل إلى مقام أدنى وهو مقام العاصي أو الكافر.
قوله تعالى
* (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) *.
ذكر الله ما يوجب تسليتهم فقال: كذلك فعل الله بمن قبلكم ولم يتركهم بمجرد قولهم * (آمنا) * بل فرض عليهم الطاعات وأوجب عليهم وفي قوله: * (فليعلمن الله الذين صدقوا) * وجوه: الأول: قول مقاتل فليرين الله الثاني: فليظهرن الله الثالث: فليميزن الله، فالحاصل على هذا هو أن المفسرين ظنوا أن حمل الآية على ظاهرها يوجب تجدد علم الله والله عالم بالصادق والكاذب قبل الامتحان، فكيف يمكن أن يقال بعلمه عند الامتحان فنقول الآية محمولة على ظاهرها وذلك أن علم الله صفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع، فقبل التكليف كان الله يعلم أن زيدا مثلا سيطيع وعمرا سيعصي، ثم وقت التكليف والاتيان يعلم أنه مطيع والآخر عاص وبعد الاتيان يعلم أنه أطاع والآخر عصى ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال، وإنما المتغير المعلوم ونبين هذا بمثال من الحسيات ولله المثل الأعلى، وهو أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت من موضع وقوبل بوجهها جهة ولم تحرك ثم عبر عليها زيد لابسا ثوبا أبيض ظهر فيها زيد في ثوب أبيض، وإذا عبر عليها عمرو في لباس أصفر يظهر فيها كذلك فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديدا تغيرت، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت، أو يذهب فهمه إلى أنها في صقالتها اختلفت أو يخطر بباله أنها عن سكانها انتقلت، لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير الخارجات، فافهم علم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال، فإن المرآة ممكنة التغير وعلم الله غير ممكن عليه ذلك فقوله: * (فليعلمن الله الذين صدقوا) * يعني يقع ممن يعلم الله أن يطيع الطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم * (وليعلمن الكاذبين) * يعني من قال أنا مؤمن وكان صادقا عند فرض العبادات يظهر منه ذلك ويعلم ومن قال ذلك وكان منافقا كذلك يبين، وفي قوله: * (الذين صدقوا) * بصيغة الفعل وقوله * (الكاذبين) * باسم الفاعل فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة، وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال فلان شرب الخمر وفلان شارب الخمر وفلان نفذ أمره وفلان نافذ الأمر فإنه لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ، ومن اسم الفاعل يفهم ذلك إذا ثبت هذا فنقول وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أوائل ايجاب التكاليف وعن قوم مستديمين للكفر مستمرين عليه فقال في حق المؤمنين * (الذين صدقوا) * بصيغة الفعل أي وجد منهم الصدق وقال في حق الكافر * (الكاذبين) * بالصيغة المنبئة عن الثبات والدوام ولهذا قال: * (يوم ينفع الصادقين صدقهم) * (المائدة: 119) بلفظ اسم الفاعل، وذلك لأن في اليوم المذكور الصدق قد يرسخ في قلب
29

المؤمن وهو اليوم الآخر ولا كذلك في أوائل الإسلام.
قوله تعالى
* (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا سآء ما يحكمون * من كان يرجو لقآء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم) *.
لما بين حسن التكليف بقوله: * (أحسب الناس أن يتركوا) * بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الاستقبال ولا يفوت الله شيء في الحال ولا في المآل، وهذا إبطال مذهب من يقول التكاليف إرشادات والإيعاد عليه ترغيب وترهيب ولا يوجد من الله تعذيب ولو كان يعذب ما كان عاجزا عن العذاب عاجلا فلم كان يؤخر العقاب فقال تعالى: * (أم حسب الذين يعلمون السيئات أن يسبقونا) * يعني ليس كما قالوا بل يعذب من يعذب ويثيب من يثيب بحكم الوعد والإيعاد والله لا يخلف الميعاد، وأما الإمهال فلا يفضي إلى الإهمال والتعجيل في جزاء الأعمال شغل من يخاف الفوت لولا الاستعجال.
ثم قال تعالى: * (ساء ما يحكمون) * يعني حكمهم بأنهم يعصون ويخالفون أمر الله ولا يعاقبون حكم سئ فإن الحكم الحسن لا يكون إلا حكم العقل أو حكم الشرع
والعقل لا يحكم على الله بذلك فإن الله له أن يفعل ما يريد والشرع حكمه بخلاف ما قالوه، فحكمهم حكم في غاية السوء والرداءة.
ثم قال: * (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم) *.
لما بين بقوله: أحسب الناس أن العبد لا يترك في الدنيا سدى، وبين في قوله: * (أم حسب الذين يعملون السيئات) * أن من ترك ما كلف به يعذب كذا بين أن يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله ولا يخيب أمله، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنا ذكرنا في مواضع أن الأصول الثلاثة وهي الأول وهو الله تعالى ووحدانيته والأصل الآخر وهو اليوم الآخر والأصل المتوسط وهو النبي المرسل من الأول الموصل إلا الآخر لا يكاد ينفصل في الذكر الإلهي بعضها عن بعض، فقوله: * (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا) * (العنكبوت: 2) فيه إشارة إلى الأصل الأول يعني أظنوا أنه يكفي الأصل الأول وقوله * (وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم) * (العنكبوت: 2، 3) يعني بإرسال الرسل وإيضاح السبل فيه إشارة إلى الأصل الثاني وقوله: * (أم حسب الذين يعملون السيئات) * مع قوله: * (من كان يرجو لقاء الله) * فيه إشارة إلى الأصل الثالث وهو الآخر.
المسألة الثانية: ذكر بعض المفسرين في تفسير لقاء الله أنه الرؤية وهو ضعيف فإن اللقاء والملاقاة بمعنى وهو في اللغة بمعنى الوصول حتى أن جمادين إذا تواصلا فقد لاقى أحدهما الآخر.
30

المسألة الثالثة: قال بعض المفسرين المراد من الرجاء الخوف والمعنى من قوله: * (من كان يرجو لقاء الله) * من كان يخاف الله وهو أيضا ضعيف، فإن المشهور في الرجاء هو توقع الخير لا غير ولأنا أجمعنا على أن الرجاء ورد بهذا المعنى يقال أرجو فضل الله ولا يفهم منه أخاف فضل الله، وإذا كان واردا لهذا لا يكون لغيره دفعا للاشتراك.
المسألة الرابعة: يمكن أن يكون المراد بأجل الله الموت ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بالحشر، فإن كان هو الموت فهذا ينبئ عن بقاء النفوس بعد الموت كما ورد في الأخبار وذلك لأن القائل إذا قال من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل يفهم منه أن متصلا بوصول السلطان يكون هو الخير حتى أنه لو وصل هو وتأخر الخير يصح أن يقال للقائل، أما قلت ما قلت ووصل السلطان ولم يظهر الخير، فلو لم يحصل اللقاء عند الموت لما حسن ذلك كما ذكرنا في المثال، وإذا تبين هذا فلولا البقاء لما حصل اللقاء.
المسألة الخامسة: قوله: * (من كان يرجو) * شرط وجزاؤه * (فإن أجل الله لآت) * والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتيا له، وهذا باطل فما الجواب عنه؟ نقول المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما بعده من الثواب، يعني من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت بثواب الله يثاب على طاعته عنده ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتيا على وجه يثاب هو.
المسألة السادسة: قال: * (وهو السميع العليم) * ولم يذكر صفة غيرهما كالعزيز الحكيم وغيرهما، وذلك لأنه سبق القول في قوله: * (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا) * وسبق الفعل بقوله: * (وهم لا يفتنون) * وبقوله: * (فليعلمن الله الذين صدقوا) * وبقوله: * (أم حسب الذين يعملون السيئات) * ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما لا يدرك بالبصر ومنه ما يدرك به كالقصود والعلم يشملهما وهو السميع يسمع ما قالوه وهو العليم يعلم من صدق فيما قال: ممن كذب وأيضا عليم يعلم ما يعمل فيثيب ويعاقب وههنا لطيفة وهي أن العبد له ثلاثة أمور هي أصناف حسناته أحدها: عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع، وإنما يعلم وعمل لسانه وهو يسمع وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيه ما لا عين رأت، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد، كما وصف في الخبر في وصف الجنة.
قوله تعالى
* (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغنى عن العالمين) *.
لما بين أن التكليف حسن واقع وأن عليه وعدا وإيعادا ليس لهما دافع، بين أن طلب الله ذلك
31

من المكلف ليس لنفع يعود إليه فإنه غني مطلقا ليس شيء غيره يتوقف كما له عليه ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى: * (من عمل صالحا فلنفسه) * (فصلت: 46) وقوله تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) * (الإسراء: 7 وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الآية السابقة مع هذه الآية يوجبان إكثار العبد من العمل الصالح وإتقانه له، وذلك لأن من يفعل فعلا لأجل ملك ويعلم أن الملك يراه ويبصره يحسن العمل ويتقنه، وإذا علم أن نفعه له ومقدر بقدر عمله يكثر منه، فإذا قال الله إنه سميع عليم فالعبد يتقن عمله ويخلصه له وإذا قال بأن جهاده لنفسه يكثر منه.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول هذا يدل على أن الجزاء على العمل لأن الله تعالى لما قال: * (من جاهد فإنما يجاهد لنفسه) * فهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح فنقول هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق، وبيانه هو أن الله تعالى لما بين أن المكلف إذا جاهد يثيبه فإذا أتى به هو يكون جهادا نافعا له ولا نزاع فيه، وإنما النزاع في أن الله يجب عليه أن يثيب على العمل لولا الوعد، ولا يجوز أن يحسن إلى أحد إلا بالعمل ولا دلالة للآية عليه.
المسألة الثالثة: قوله: * (فإنما) * يقتضي الحصر فينبغي أن يكون جهاد المرء لنفسه فحسب ولا ينتفع به غيره وليس كذلك فإن من جاهد ينتفع به ومن يريد هو نفعه، حتى أن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعان فنقول ذلك نفع له فإن انتفاع الولد انتفاع للأب والحصر ههنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع ويدل عليه قوله تعالى: * (إن الله لغني عن العالمين) * وفيه مسائل: الأولى: تدل الآية على أن رعاية الأصلح لا يجب على الله لأنه بالأصلح لا يستفيد فائدة وإلا لكان مستكملا بتلك
الفائدة وهي غيره وهي من العالم فيكون مستكملا بغيره فيكون محتاجا إليه وهو غني عن العالمين، وأيضا أفعاله غير معللة لما بينا.
المسألة الثانية: تدل الآية على أنه ليس في مكان وليس على العرش على الخصوص فإنه من العالم والله غني عنه والمستغني عن المكان لا يمكن دخوله في مكان لأن الداخل في المكان يشار إليه بأنه ههنا أو هناك على سبيل الاستقلال، وما يشار إليه بأنه ههنا أو هناك يستحيل أن لا يوجد لا ههنا ولا هناك وإلا لجوز العقل إدراك جسم لا في مكان وإنه محال.
المسألة الثالثة: لو قال قائل ليست قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم وإلا لكان هو في قادريته محتاجا إلى قدرة هي غيره وكل ما هو غيره فهو من العالم فيكون محتاجا وهو غني، نقول لم قلتم إن قدرته من العالم وهذا لأن العالم كل موجود سوى الله بصفاته أي كل موجود هو خارج عن مفهوم الإله الحي القادر المريد العالم السميع البصير المتكلم والقدرة ليست خارجة عن مفهوم القادر، والعلم ليس خارجا عن مفهوم العالم.
المسألة الرابعة: الآية فيها بشارة وفيها إنذار، أما الإنذار فلأن الله إذا كان غنيا عن
32

العالمين فلو أهلك عباده بعذابه فلا شيء عليه لغناه عنهم وهذا يوجب الخوف العظيم، وأما البشارة فلأنه إذا كان غنيا، فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده لا شيء عليه لاستغنائه عنه، وهذا يوجب الرجاء التام.
قوله تعالى
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون) *.
لما بين إجمالا أن من يعمل صالحا فلنفسه بين مفصلا بعض التفصيل أن جزاء المطيع الصالح عمله فقال: * (والذين آمنوا) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنها تدل على أن الأعمال مغايرة للإيمان لأن العطف يوجب التغاير.
المسألة الثانية: أنها تدل على أن الأعمال داخلة فيما هو المقصود من الإيمان لأن تكفير السيئات والجزاء بالأحسن معلق عليها وهي ثمرة الإيمان، ومثال هذا شجرة مثمرة لا شك في أن عروقها وأغصانها منها، والماء الذي يجري عليها والتراب الذي حواليها غير داخل فيها لكن الثمرة لا تحصل إلا بذلك الماء والتراب الخارج فكذلك العمل الصالح مع الإيمان وأيضا الشجرة لو احتفت بها الحشائش المفسدة والأشواك المضرة ينقص ثمرة الشجرة وإن غلبتها عدمت الثمرة بالكلية وفسدت فكذلك الذنوب تفعل بالإيمان.
المسألة الثالثة: الإيمان هو التصديق كما قال: * (وما أنت بمؤمن لنا) * (يوسف: 17) أي بمصدق واختص في استعمال الشرع بالتصديق بجميع ما قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التفصيل إن علم مفصلا أنه قول الله أو قول الرسول أو على سبيل الإجمال فيما لم يعلم، والعمل الصالح عندنا كل ما أمر الله به صار صالحا بأمره، ولو نهى عنه لما كان صالحا فليس الصلاح والفساد من لوازم الفعل في نفسه، وقالت المعتزلة ذلك من صفات الفعل ويترتب عليه الأمر والنهي، فالصدق عمل صالح في نفسه ويأمر الله به لذلك، فعندنا الصلاح والفساد والحسن والقبح يترتب على الأمر والنهي، وعندهم الأمر والنهي يترتب على الحسن والقبح والمسألة بطولها في (كتب) الأصول.
المسألة الرابعة: العمل الصالح باق لأن الصالح في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف، يقال فسدت الزروع إذا هلكت أو خرجت عن درجة الانتفاع ويقال هي بعد صالحة أي باقية على ما ينبغي. إذا علم هذا فنقول العمل الصالح لا يبقى بنفسه لأنه عرض، ولا يبقى بالعامل أيضا لأنه هالك كما قال تعالى: * (كل شيء هالك) * فبقاؤه لا بد من أن يكون بشيء باق، لكن الباقي هو وجه الله
33

لقوله: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) فينبغي أن يكون العمل لوجه الله حتى يبقى فيكون صالحا، وما لا يكون لوجهه لا يبقى لا بنفسه ولا بالعامل ولا بالمعمول له فلا يكون صالحا، فالعمل الصالح هو الذي أتى به المكلف مخلصا لله.
المسألة الخامسة: هذا يقتضي أن تكون النية شرطا في الصالحات من الأعمال وهي قصد الإيقاع لله، ويندرج فيها النية في الصوم خلافا لزفر، وفي الوضوء خلافا لأبي حنيفة رحمه الله.
المسألة السادسة: العمل الصالح مرفوع لقوله تعالى: * (العمل الصالح يرفعه) * (فاطر: 10) لكنه لا يرتفع إلا بالكلم الطيب فإنه يصعد بنفسه كما قال تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب) * (فاطر: 10) وهو يرفع العمل فالعمل من غير المؤمن لا يقبل، ولهذا قدم الإيمان على العمل، وههنا لطيفة، وهي أن أعمال المكلف ثلاثة عمل قلبه وهو فكره واعتقاده وتصديقه، وعمل لسانه وهو ذكره وشهادته، وعمل جوارحه وهو طاعته وعبادته. فالعبادة البدنية لا ترتفع بنفسها وإنما ترتفع بغيرها، والقول الصادق يرتفع بنفسه كما بين في الآية، وعمل القلب وهو الفكر ينزل إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ويقول هل من تائب " والتائب النادم بقلبه، وكذلك قوله عليه السلام: " يقول الله عز وجل أنا عند المنكسرة قلوبهم " يعني بالفكرة في عجزه وقدرتي وحقارته وعظمتي ومن حيث العقل من تفكر في آلاء الله وجد الله وحضر ذهنه، فعلم أن لعمل القلب يأتي الله وعمل اللسان يذهب إلى الله وعمل الأعضاء يوصل إلى الله، وهذا تنبيه على فضل عمل القلب.
المسألة السابعة: ذكر الله من أعمال العبد نوعين: الإيمان والعمل الصالح، وذكر في مقابلتهما من أفعال الله أمرين تكفير السيئات والجزاء بالأحسن حيث قال: * (لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن) * فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، وهذا يقتضى أمورا الأول: المؤمن لا يخلد في النار لأن بإيمانه تكفر سيئاته فلا يخلد في العذاب الثاني: الجزاء الأحسن المذكور ههنا غير الجنة، وذلك لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة إذ تكفر سيئاته ومن كفرت
سيئاته أدخل الجنة، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا يبعد أن يكون هو الرؤية.
الأمر الثالث: هو أن الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا فيستر الله عيوبه في الأخرى، والعمل الصالح يحسن حال الصالح في الدنيا فيجزيه الله الجزاء الأحسن في العقبى، فالإيمان إذن لا يبطله العصيان بل هو يغلب المعاصي ويسترها ويحمل صاحبها على الندم، والله أعلم.
المسألة الثامنة: قوله: * (لنكفرن عنهم سيئاتهم) * يستدعي وجود السيئات حتى تكفر * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) * بأسرها من أين يكون لهم سيئة؟ فنقول: الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء، مثاله: إذا قال الملك لأهل بلد إذا أطعتموني أكرم آباءكم واحترم أبناءكم وأنعم عليكم وأحسن
34

إليكم، لا يقتضي هذا أنه يكرم آباء من توفى أبوه، أو يحترم ابن من لم يولد له ولد، بل مفهومه أنه يكرم أب من له أب، ويحترم ابن من له ابن، فكذلك يكفر سيئة من له سيئة الجواب الثاني: ما من مكلف إلا وله سيئة أما غير الأنبياء فظاهر، وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم، ولهذا قال تعالى: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * (التوبة: 43).
المسألة التاسعة: قوله: * (ولنجزينهم أحسن) * يحتمل وجهين أحدهما: لنجزينهم بأحسن أعمالهم وثانيهما: لنجزينهم أحسن من أعمالهم. وعلى الوجه الأول معناه نقدر أعمالهم أحسن ما تكون ونجزيهم عليها لا أنه يختار منها أحسنها ويجزى عليه ويترك الباقي، وعلى الوجه الثاني: معناه قريب من معنى قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (الأنعام: 160) وقوله: * (فله خير منها) * (النمل: 89).
المسألة العاشرة: ذكر حال المسئ مجملا بقوله: * (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) * إشارة إلى التعذيب مجملا. وذكر حال المحسن مجملا بقوله: * (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) * ومفصلا بهذه الآية، ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه وفضله أعم من عدله.
قوله تعالى
* (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهمآ إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) *.
الأولى: ما وجه تعلق الآية بما قبلها؟ نقول: لما بين الله حسن التكاليف ووقوعها، وبين ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها تحريضا للمكلف على الطاعة، ذكر المانع ومنعه من أن يختار اتباعه، فقال الإنسان إن انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه، ومع هذا لو أمراه بالمعصية لا يجوز اتباعهما فضلا عن غيرهما فلا يمنعن أحدكم شيء من طاعة الله ولا يتبعن أحد من يأمر بمعصية الله.
المسألة الثانية: في القراءة قرىء حسنا وإحسانا وحسنا أظهر ههنا، ومن قرأ إحسانا فمن قوله تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) * البقرة: 83) والتفسير على القراءة المشهورة هو أن الله تعالى وصى الإنسان بأن يفعل مع والديه حسن التأبي بالفعل والقول، ونكر حسنا ليدل على الكمال، كما يقال إن لزيد مالا.
المسألة الثالثة: في قوله: * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) * دليل على أن متابعتهم في الكفر لا يجوز، وذلك لأن الإحسان بالوالدين وجب بأمر الله تعالى فلو ترك العبد عبادة الله تعالى بقول الوالدين لترك طاعة الله تعالى فلا ينقاد لما وصاه به فلا يحسن إلى الوالدين، فاتباع العبد أبويه
35

لأجل الإحسان إليهم يفضي إلى ترك الإحسان إليهما، وما يفضي وجوده إلى عدمه باطل فالاتباع باطل، وأما إذا امتنع من الشرك بقي على الطاعة والإحسان إليهما من الطاعة فيأتي به فترك هذا الإحسان صورة يفضي إلى الإحسان حقيقة.
المسألة الرابعة: الإحسان بالوالدين مأمور به، لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة فهما سبب مجازا، والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه، ثم قال تعالى: * (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) * فقوله: * (ما ليس لك به علم) * يعني التقليد في الإيمان ليس بجيد فضلا عن التقليد في الكفر، فإذا امتنع الإنسان من التقليد فيه ولا يطيع بغير العلم لا يطيعهما أصلا، لأن العلم بصحة قولهما محال الحصول، فإذا لم يشرك تقليدا ويستحيل الشرك مع العلم، فالشرك لا يحصل منه قط.
ثم قال تعالى: * (إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) * يعني عاقبتكم ومآلكم إلي، وإن كان اليوم مخالطتكم ومجالستكم مع الآباء والأولاد والأقارب والعشائر، ولا شك أن من يعلم أن مجالسته مع واحد خالية منقطعة، وحضوره بين يدي غيره دائم غير منقطع لا يترك مراضي من تدوم معه صحبته لرضا من يتركه في زمان آخر.
ثم قوله تعالى: * (فأنبئكم) * فيه لطيفة وهي أن الله تعالى يقول لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتمادا على غيبتي وعدم علمي بمخالفتكم إياي فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ولا أنسى فأنبئكم بجميعه.
قوله تعالى
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم فى الصالحين) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما الفائدة في إعادة * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * مرة أخرى؟ نقول: الله تعالى ذكر من المكلفين قسمين مهتديا وضالا بقوله: * (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) * (العنكبوت: 3) وذكر حال الضال مجملا وحال المهتدي مفصلا بقوله: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم) * ولما تمم ذلك ذكر قسمين آخرين هاديا ومضلا فقوله: * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) * (العنكبوت: 8) يقتضي أن يهتدي بهما وقوله: * (وإن جاهداك
لتشرك) * بيان إضلالهما وقوله: * (إلي مرجعكم فأنبئكم) * بطريق الإجمال تهديد المضل وقوله: * (والذين آمنوا) * على سبيل التفصيل وعد الهادي فذكر * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * مرة لبيان حال المهتدي، ومرة أخرى لبيان حال الهادي والذي يدل عليه هو أنه قال أولا: * (لنكفرن عنهم سيئاتهم) *، وقال ثانيا: * (لندخلنهم في الصالحين) * والصالحون هم الهداة لأنه مرتبة الأنبياء ولهذا قال كثير من الأنبياء * (ألحقني بالصالحين) * (يوسف: 101).
36

المسألة الثانية: قد ذكرنا أن الصالح باق والصالحون باقون وبقاؤهم ليس بأنفسهم بل بأعمالهم الباقية فأعمالهم باقية والمعمول له وهو وجه الله باق، والعاملون باقون ببقاء أعمالهم وهذا على خلاف الأمور الدنيوية، فإن في الدنيا بقاء الفعل بالفاعل وفي الآخرة بقاء الفاعل بالفعل.
المسألة الثالثة: قيل في معنى قوله: * (لندخلنهم في الصالحين) * لندخلنهم في مقام الصالحين أو في دار الصالحين والأولى أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل يدخلهم في الصالحين أي يجعلهم منهم ويدخلهم في عدادهم كما يقال الفقيه داخل في العلماء.
المسألة الرابعة: قال الحكماء عالم العناصر عالم الكون والفساد وما فيه يتطرق إليه الفساد فإن الماء يخرج عن كونه ماء ويفسد ويتكون منه هواء، وعالم السماوات لا كون فيه ولا فساد بل يوجد من عدم ولا يعدم ولا يصير الملك ترابا بخلاف الإنسان فإنه يصير ترابا أو شيئا آخر وعلى هذا فالعالم العلوي ليس بفاسد فهو صالح فقوله: تعالى لندخلهم في الصالحين) * أي في المجردين الذين لا فساد لهم.
قوله تعالى
* (ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذآ أوذى فى الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جآء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما فى صدور العالمين * وليعلمن الله الذين ءامنوا وليعلمن المنافقين) *.
نقول أقسام المكلفين ثلاثة مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده، وكافر مجاهر بكفره وعناده، ومذبذب بينهما يظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده، والله تعالى لما بين القسمين بقوله تعالى: * (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) * (العنكبوت: 3) وبين أحوالهما بقوله: * (أم حسب الذين يعملون السيئات) * (العنكبوت: 4) إلى قوله: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (العنكبوت: 7) بين القسم الثالث وقال: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال: * (ومن الناس من يقول آمنا) * ولم يقل آمنت مع أنه وحد الأفعال التي بعده كقوله تعالى: * (فإذا أوذي في الله) * وقوله: * (جعل فتنة الناس) * وذلك لأن المنافق كان يشبه
37

نفسه بالمؤمن، ويقول إيماني كإيمانك فقال: * (آمنا) * يعني أنا والمؤمن حقا آمنا، إشعارا بأن إيمانه كإيمانه، وهذا كما أن الجبان الضعيف إذا خرج مع الأبطال في القتال، وهزموا خصومهم يقول الجبان خرجنا وقاتلناهم وهزمناهم، فيصح من السامع لكلامه أن يقول وماذا كنت أنت فيهم حتى تقول خرجنا وقاتلنا؟ وهذا الرد يدل على أنه يفهم من كلامه أن خروجه وقتاله كخروجهم وقتالهم، لأنه لا يصح الإنكار عليه في دعوى نفس الخروج والقتال، وكذا قول القائل أنا والملك ألفينا فلانا واستقبلناه ينكر، لأن المفهوم منه المساواة فهم لما أرادوا إظهار كون إيمانهم كإيمان المحقين كان الواحد يقول: * (آمنا) * أي أنا والمحق.
المسألة الثانية: قوله: * (فإذا أوذي في الله) * هو في معنى قوله: * (وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي) * (آل عمران: 195) غير أن المراد بتلك الآية الصابرون على أذية الكافرين والمراد ههنا الذين لم يصبروا عليها فقال هناك: * (وأوذوا في سبيلي) * (آل عمران: 195) وقال ههنا: * (أوذي في الله) * ولم يقل في سبيل الله واللطيفة فيه أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر وخسة المنافق الكافر فقال هناك أوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه، وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم إن بلغ الإيذاء إلى حد الإكراه، ويكون قلبه مطمئنا بالإيمان فلا يترك الله، ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية، والمؤمن أوذي ولم يترك سبيل الله بل أظهر كلمتي الشهادة وصبر على الطاعة والعبادة.
المسألة الثالثة: قوله: * (جعل فتنة الناس كعذاب الله) * قال الزمخشري: جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف عن الكفر، وقيل جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله، وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم حتى ترددوا في الأمر، وقالوا إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد عليه الصلاة والسلام، واختاروا الاحتراز عن التأذي العاجل ولا يكون التردد إلا عند التساوي ومن أين إلى أين تعذيب الناس لا يكون شديدا، ولا يكون مديدا لأن العذاب إن كان شديدا كعذاب النار وغيره يموت الإنسان في الحال فلا يدوم التعذيب، وإن كان مديدا كالحبس والحصر لا يكون شديدا وعذاب الله شديد وزمانه مديد، وأيضا عذاب الناس له دافع وعذاب الله ماله من دافع، وأيضا عذاب الناس عليه ثواب عظيم، وعذاب الله بعده عذاب أليم، والمشقة إذا كانت مستعقبة للراحة العظيمة تطيب ولا تعد عذابا كما تقطع السلعة المؤذية ولا تعد عذابا.
المسألة الرابعة: قال: * (فتنة الناس) * ولم يقل عذاب الناس لأن فعل العبد ابتلاء وامتحان من الله وفتنته تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فتبين منزلته كما جعل التكاليف ابتلاء وامتحانا وهذا إشارة إلى أن الصبر على البلية الصادرة ابتلاء وامتحانا من الإنسان كالصبر على العبادات.
38

المسألة الخامسة: لو قال قائل هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه، لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه احترازا عن التعذيب العاجل يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله، فنقول ليس كذلك، لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله، لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهرا وباطنا، وهذا المؤمن المكره لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله، بحيث يترك ما يعذب عليه ظاهرا وباطنا، بل في باطنه الإيمان، ثم قال تعالى: * (ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم) * (العنكبوت: 10) يعني دأب المنافق أنه إن رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر وأظهر المعية وادعى التبعية، وفيه فوائد نذكرها في مسائل:
المسألة الأولى: قال: * (ولئن جاء نصر من ربك) * ولم يقل من الله، مع أن ما تقدم كان كله بذكر الله كقوله: * (أوذي في الله) * وقوله: * (كعذاب الله) * وذلك لأن الرب اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة، والله اسم مدلوله الهيبة والعظمة، فعند النصر ذكر اللفظ الدال على الرحمة والعاطفة، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة.
المسألة الثانية: لم يقل ولئن جاءكم أو جاءك بل قال: * (ولئن جاء نصر من ربك) * والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون: * (إنا كنا معكم) * وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين: إنا معكم إذا جاء نصر سواء جاءهم أو جاء المؤمنين، فنقول هذا الكلام يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء النصر، لكن النصر لا يجئ إلا للمؤمن، كما قال تعالى: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * (الروم: 47) ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر، لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة بدليل أن أحد الجيشين إن انهزم في الحال ثم كر المنهزم كرة أخرى وهزموا الغالبين، لا يطلق اسم المنصور إلا على من كان له العاقبة، فكذلك المسلم وإن كسر في الحال فالعاقبة للمتقين، فالنصر لهم في الحقيقة.
المسألة الثالثة: في ليقولن قراءتان إحداهما: الفتح حملا على قوله: * (من يقول آمنا) * يعني من يقول آمنا إذا أوذي يترك ذلك القول، وإذا جاء النصر يقول إنا كنا معكم وثانيتهما: الضم على الجمع إسنادا للقول إلى الجميع الذين دل عليهم المفهوم فإن المنافقين كانوا جماعة، ثم بين الله تعالى أنهم أرادوا التلبيس ولا يصح ذلك لهم لأن التلبيس إنما يكون عندما يخالف القول القلب، فالسامع يبني الأمر على قوله ولا يدري ما في قلبه فيلتبس الأمر عليه وأما الله تعالى فهو عليم بذات الصدور، وهو أعلم بما في صدر الإنسان من الإنسان فلا يلتبس عليه الأمر، وهذا إشارة إلى أن الاعتبار بما في القلب، فالمنافق الذي يظهر الإيمان ويضمر الكفر كافر، والمؤمن المكره الذي يظهر الكفر ويضمر الإيمان مؤمن والله أعلم بما في صدور العالمين، ولما بين أنه أعلم بما في قلوب العالمين، بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم، والمنافق وإن تكلم فقال: * (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) * وقد سبق تفسيره، لكن فيه مسألة واحدة وهي أن الله قال هناك: * (فليعلمن الله الذين صدقوا) * وقال ههنا: * (وليعلمن الله الذي آمنوا) * فنقول لما كان الذكر هناك للمؤمن
39

والكافر، والكافر في قوله كاذب، فإنه يقول: الله أكثر من واحد، والمؤمن في قوله صادق فإنه كان يقول الله واحد، ولم يكن هناك ذكر من يضمر خلاف ما يظهر، فكان الحاصل هناك قسمين صادقا وكاذبا وكان ههنا المنافق صادقا في قوله فإنه كان يقول الله واحد، فاعتبر أمر القلب في المنافق فقال: * (وليعلمن المنافقين) * واعتبر أمر القلب في المؤمن وهو التصديق فقال: * (وليعلمن الله الذين آمنوا) *.
قوله تعالى
* (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شىء إنهم لكاذبون) *.
لما بين الله تعالى الفرق الثلاثة وأحوالهم، وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة، وبين أن عذاب الله فوقها، وكان الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل وعلى الإيذاء لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا؟ فكان جواب المؤمن أن يقول خوفا من عذاب الله على خطيئة مذهبكم، فقالوا لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطيئة فعلينا، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ولنحمل صيغة أمر، والمأمور غير الآمر، فكيف يصح أمر النفس من الشخص؟ فنقول الصيغة أمر والمعنى شرط وجزاء، أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم، قال صاحب " الكشاف ": هو في معنى قول من يريد اجتماع أمرين في الوجود، فيقول ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء، فقوله ولنحمل، أي ليكن منا الحمل وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب.
المسألة الثانية: قال: * (وما هم بحاملين من خطاياهم) * وقال بعد هذا: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) * (العنكبوت: 13) فهناك نفى الحمل، وههنا أثبت الحمل، فكيف الجمع بينهما، فنقول قول القائل: فلان حمل عن فلان يفيد أن حمل فلان خف، وإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئا، فكذلك ههنا ما هم بحاملين من خطاياهم يعني لا يرفعون عنهم خطيئة وهم يحملون أوزارا بسبب إضلالهم ويحملون أوزارا بسبب ضلالتهم، كما قال النبي عليه السلام: " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء ".
المسألة الثالثة: الصيغة أمر، والأمر لا يدخله التصديق والتكذيب، فكيف يفهم قوله: * (إنهم لكاذبون) * نقول قد تبين أن معناه شرط وجزاء، فكأنهم قالوا: إن تتبعونا نحمل خطاياكم وهم كذبوا في هذا فإنهم لا يحملون شيئا.
40

ثم قال تعالى
* (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) *.
في الذي كانوا يفترونه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: كان قولهم: * (ولنحمل خطاياكم) * (العنكبوت: 12) صادرا لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر، ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك فيسألون عن ذلك الافتراء وثانيها: أن قولهم: * (ولنحمل خطاياكم) * كان عن اعتقاد أن لا حشر، فإذا جاء يوم القيامة ظهر لهم خلاف ذلك فيسألون ويقال لهم أما قلتم أن لا حشر وثالثها: أنهم لما قالوا إن تتبعونا نحمل يوم القيامة خطاياكم، يقال لهم فاحملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون ويقال لهم لم افتريتم.
قوله تعالى
* (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) *.
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما بين التكليف وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم، وكان قد ذكر أن هذا التكليف ليس مختصا بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم ذلك، بل قبله كان كذلك كما قال تعالى: * (ولقد فتنا الذين من قبلهم) * (العنكبوت: 3) ذكر من جملة من كلف جماعة منهم نوح النبي عليه السلام وقومه ومنهم إبراهيم عليه السلام وغيرهما، ثم قال تعالى: * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما الفائدة في ذكر مدة لبثه؟ نقول كان النبي عليه السلام يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام وإصرارهم على الكفر فقال إن نوحا لبث ألف سنة تقريبا في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل، وصبر وما ضجر فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك، وأيضا كان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر ومع ذلك ما نجوا فبهذا المقدار من التأخير لا ينبغي أن يغتروا فإن العذاب يلحقهم.
المسألة الثانية: قال بعض العلماء الاستثناء في العدد تكلم بالباقي، فإذا قال القائل لفلان علي عشرة إلا ثلاثة، فكأنه قال علي سبعة، إذا علم هذا فقوله: * (ألف سنة إلا خمسين عاما) * كقوله تسعمائة وخمسين سنة، فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها؟ فنقول قال الزمخشري فيه فائدتان إحداهما: أن الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب فإن من قال:
41

عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أن يقول: ألف سنة تقريبا لا تحقيقا، فإذا قال إلا شهرا أو إلا سنة يزول ذلك التوهم ويفهم منه التحقيق الثانية: هي أن ذكر لبث نوح عليه السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيرا فالنبي عليه السلام أولى بالصبر مع قصر مدة دعائه وإذا كان كذلك فذكر العدد الذي في أعلى مراتب الأعداد التي لها اسم مفرد موضوع، فإن مراتب الأعداء هي الآحاد إلى العشرة والعشرات إلى المائة والمئات إلى الألف، ثم بعد ذلك يكون التكثير بالتكرير فيقال عشرة آلاف، ومائة ألف، وألف ألف.
المسألة الثالثة: قال بعض الأطباء العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة والآية تدل على خلاف قولهم، والعقل يوافقها فإن البقاء على التركيب الذي في الإنسان ممكن لذاته، وإلا لما بقي، ودوام تأثير المؤثر فيه ممكن لأن المؤثر فيه إن كان واجب الوجود فظاهر الدوام وإن كان غيره فله مؤثر، وينتهي إلى الواجب وهو دائم، فتأثيره يجوز أن يكون دائما فأذن البقاء ممكن في ذاته، فإن لم يكن فلعارض لكن العارض ممكن العدم وإلا لما بقي هذا المقدار لوجوب وجود العارض المانع فظهر أن كلامهم على خلاف العقل والنقل (ثم نقول) لا نزاع بيننا وبينهم لأنهم يقولون العمر الطبيعي لا يكون أكثر من مائة وعشرين سنة ونحن نقول هذا العمر ليس طبيعيا بل هو عطاء إلهي، وأما العمر الطبيعي فلا يدوم عندنا ولا لحظة، فضلا عن مائة أو أكثر.
قوله تعالى: * (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) *.
فيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم وإلا لعذب من ظلم وتاب، فإن الظلم وجد منه، وإنما يعذب على الإصرار على الظلم، فقوله: * (وهم ظالمون) * يعني أهلكهم وهم على ظلمهم، ولو كانوا تركوه لما أهلكهم.
قوله تعالى
* (فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناهآ ءاية للعالمين) *.
في الراجع إليه الهاء في قوله: * (جعلناها) * وجهان أحدهما: أنها راجعة إلى السفينة المذكورة وعلى هذا ففي كونها آية وجوه أحدها: أنه اتخذت قبل ظهور الماء ولولا إعلام الله نوحا وإنباؤه إياه به لما اشتغل بها فلا تحصل لهم النجاة وثانيها: أن نوحا أمر بأخذ قوم معه ورفع قدر من القوت والبحر العظيم لا يتوقع أحد نضوبه، ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة وثالثها: أن الله تعالى كتب سلامة السفينة عن الرياح المرجفة والحيوانات المؤذية، ولولا ذلك لما حصلت النجاة والثاني: أنها راجعة إلى
42

الواقعة أو إلى النجاة أي جعلنا الواقعة أو النجاة آية للعالمين.
قوله تعالى
* (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) *.
لما فرغ من الإشارة إلى حكاية نوح ذكر حكاية إبراهيم وفي إبراهيم وجهان من القراءة أحدهما: النصب وهو المشهور، والثاني: الرفع على معنى ومن المرسلين إبراهيم، والأول: فيه وجهان أحدهما: أنه منصوب بفعل غير مذكور وهو معنى أذكر إبراهيم، والثاني: أنه منصوب بمذكور وهو قوله: * (ولقد أرسلنا) * (العنكبوت: 14) فيكون كأنه قال وأرسلنا إبراهيم، وعلى هذا ففي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (إذ قال لقومه) * ظرف أرسلنا أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه لكن قوله: * (لقومه اعبدوا الله) * دعوة والإرسال يكون قبل الدعوة فكيف يفهم قوله، وأرسلنا إبراهيم حين قال لقومه مع أنه يكون مرسلا قبله؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن الإرسال أمر يمتد فهو حال قوله لقومه اعبدوا الله كان مرسلا، وهذا كما يقول القائل وقفنا للأمير إذ خرج من الدار وقد يكون الوقوف قبل الخروج، لكن لما كان الوقوف ممتدا إلى ذلك الوقت صح ذلك الوجه الثاني: هو أن إبراهيم بمجرد هداية الله إياه كان يعلم فساد قول المشركين وكان يهديهم إلى الرشاد قبل الإرسال، ولما كان هو مشتغلا بالدعاء إلى الإسلام أرسله الله تعالى وقوله: * (اعبدوا الله واتقوه) * إشارة إلى التوحيد لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره فقوله: * (اعبدوا الله) * إشارة إلى الاثبات، وقوله: * (واتقوه) * إشارة إلى نفي
الغير لأن من يشرك مع الملك غيره في ملكه يكون قد أتى بأعظم الجرائم، ويمكن أن يقال: * (اعبدوا الله) * إشارة إلى الاتيان بالواجبات، وقوله: * (واتقوه) * إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ويدخل في الأول الاعتراف بالله، وفي الثاني الامتناع من الشرك، ثم قوله: * (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) * يعني عبادة الله وتقواه خير، والأمر كذلك لأن خلاف عبادة الله تعالى تعظيم وخلاف تقواه تشريك وكلاهما شر عقلا واعتبارا، أما عقلا فلأن الممكن لا بد له من مؤثر لا يكون ممكنا قطعا للتسلسل وهو واجب الوجود فلا تعطيل إذ لنا إله، وأما التشريك فبطلانه عقلا وكون خلافه خيرا وهو أن شريك الواجب إن لم يكن واجبا فكيف يكون شريكا وإن كان واجبا لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويتباينان في الإلهية، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين فيلزم التعطيل، وأما اعتبارا فلأن الشرف لن يكون ملكا أو قريب ملك، لكن الإنسان لا يكون ملكا للسموات والأرضين
43

فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك لكن القربة بالعبادة كما قال تعالى: * (واسجد واقترب) * (العلق: 19). وقال: " لن يتقرب المتقربون إلى بمثل أداء ما افترضت عليهم " وقال: " لا يزال العبد يتقرب بالعبادة إلي " فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتقاده بملك فلا مرتبة له أصلا، وأما التشريك فلأن من يكون سيده لا نظير له يكون أعلى رتبة ممن يكون سيده له شركاء خسيسة، فإذن من يقول إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول سيدي صنم منحوت عاجز مثله، فثبت أن عبادة الله وتقواه خير وهو خير لكم أي خير للناس إن كانوا يعلمون ما ذكرناه من الدلائل والاعتبارات.
قوله تعالى
* (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) *.
ذكر بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور، إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه سواء أطعمه من الجوع أو منعه من الهجوع، وإما لكونه نافعا في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة، وإما لكونه نافعا في المستقبل كمن يخدم غيره متوقعا منه أمرا في المستقبل، وإما لكونه خائفا منه. فقال إبراهيم: * (إنما تعبدون من دون الله أوثانا) * إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها لكونها أوثانا لا شرف لها.
قوله تعالى: * (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) *.
إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل، وهذا لأن النفع، إما في الوجود، وإما في البقاء لكن ليس منهم نفع في الوجود، لأن وجودهم منكم حيث تخلقونها وتنحتونها، ولا نفع في البقاء لأن ذلك بالرزق، وليس منهم ذلك، ثم بين أن ذلك كله حاصل من الله فقال: * (فابتغوا عند الله الرزق) * فقوله: * (الله) * إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته وقوله: * (الرزق) * إشارة إلى حصول النفع منه عاجلا وآجلا وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال: * (لا يملكون لكم رزقا) * نكرة، وقال: * (فابتغوا عند الله الرزق) * معرفا فما الفائدة؟ فنقول قال الزمخشري قال: * (لا يملكون لكم رزقا) * نكرة في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلا، وقال معرفة عند الإثبات عند الله أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه، وفيه وجه آخر وهو أن الرزق من الله معروف بقوله: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * (هود: 6) والرزق
44

من الأوثان غير معلوم فقال: * (لا يملكون لكم رزقا) * لعدم حصول العلم به وقال: * (فابتغوا عند الله الرزق) * الموعود به، ثم قال: * (فاعبدوه) * أي اعبدوه لكونه مستحقا للعبادة لذاته واشكروا له أي لكونه سابق النعم بالخلق وواصلها بالرزق * (وإليه ترجعون) * أي اعبدوه لكونه مرجعا منه يتوقع الخير لا غير.
قوله تعالى
* (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين) *.
لما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد فقال: * (وإن تكذبوا) * وفي المخاطب في هذه الآية وجهان: أحدهما: أنه قوم إبراهيم والآية حكاية عن قوم إبراهيم كأن إبراهيم قال لقومه: * (إن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم) * وأنا أتيت بما علي من التبليغ فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ والبيان والثاني: أنه خطاب مع قوم محمد عليه السلام ووجهه أن الحكايات أكثرها إنما تكون لمقاصد لكنها تنسى لطيب الحكاية ولهذا كثيرا ما يقول الحاكي لأي شيء حكيت هذه الحكاية فالنبي عليه السلام كان مقصوده تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا من التكذيب ويرتدعوا خوفا من التعذيب، فقال في أثناء حكايتهم يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام وأهلكوا فإن كذبتم أخاف عليكم ما جاء على غيركم، وعلى الوجه الأول في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أن قوله: * (فقد كذب أمم) * كيف يفهم، مع أن إبراهيم لم يسبقه إلا قوم نوح وهم أمة واحدة؟ والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن قبل نوح كان أقوام كقوم إدريس وقوم شيث وآدم والثاني: أن نوحا عاش ألفا وأكثر وكان القرن يموت ويجيء أولاده والآباء يوصون الأبناء بالامتناع عن الاتباع فكفى بقوم نوح أمما.
المسألة الثانية: ما * (البلاغ) * وما * (المبين) *؟ فنقول البلاغ هو ذكر المسائل، والإبانة هي إقامة البرهان عليه.
المسألة الثالثة: الآية تدل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن الرسول إذا بلغ شيئا ولم يبينه فإنه لم يأت بالبلاغ المبين، فلا يكون آتيا بما عليه.
قوله تعالى
* (أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير) *.
لما بين الأصل الأول وهو التوحيد وأشار إلى الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله: * (وما على
45

الرسول إلا البلاغ المبين) * شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر، وقد ذكرنا مرارا أن الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها عن بعض في الذكر الإلهي، فأينما يذكر الله تعالى منها اثنين يذكر الثالث. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الإنسان متى رأى بدء الخلق حتى يقال: * (أو لم يروا كيف يبدئ الله) *؟ فنقول المراد العلم الواضح الذي كالرؤية والعاقل بعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق وإلا لما كان الخلق الأول خلقا أول، فهو من الله هذا إن قلنا إن المراد إثبات نفس الخلق، وإن قلنا إن المراد بالبدء خلق الآدمي أولا وبالإعادة خلق ثانيا، فنقول العاقل لا يخفى عليه أن خالق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام، ويخلقه من نطفة في غاية الإتقان والإحكام، فذلك الذي خلق أولا معلوم ظاهر فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية، وقال: * (أو لم يروا) * أي ألم يعلموا علما ظاهرا واضحا * (كيف يبدئ الله الخلق) * يخلقه من تراب يجمعه فكذبك يجمع أجزاءه من التراب ينفخ فيه روحه بل هو أسهل بالنسبة إليكم، فإن من نحت حجارات ووضع شيئا بجنب شيء ففرقه أمر ما فإنه يقول وضعه شيئا بجنب شيء في هذه النوبة أسهل علي لأن الحجارات منحوتة، ومعلوم أن آية واحدة منها تصلح لأن تكون بجنب الأخرى، وعلى هذا المخرج خرج كلام الله في قوله * (وهو أهون) * (الروم: 27) وإليه الإشارة بقوله: * (إن ذلك على الله يسير) *.
المسألة الثانية: قال: * (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق) * علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق وما قال: أو لم يروا أن الله خلق، أو بدأ الخلق، والكيفية غير معلومة؟ فنقول هذا القدر من الكيفية معلوم، وهو أنه خلقه ولم يكن شيئا مذكورا، وأنه خلقه من نطفة هي من غذاء هو من ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة فإن الإعادة مثله.
المسألة الثالثة: لم قال: * (ثم يعيده إن ذلك على الله يسير) * فأبرز اسمه مرة أخرى، ولم يقل إن ذلك عليه يسير كما قال ثم يعيده من غير إبراز؟ نقول مع إقامة البرهان على أنه يسير فأكده بإظهار اسمه فإنه يوجب المعرفة أيضا بكون ذلك يسيرا، فإن الإنسان إذا سمع لفظ الله وفهم معناه أنه الحي القادر، بقدرة كاملة، لا يعجزه شيء، العالم بعلم محيط بذرات كل جسم، نافذ الإرادة لا راد لما أراده، يقطع بجواز الإعادة.
قوله تعالى
* (قل سيروا فى الارض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الاخرة
46

إن الله على كل شىء قدير) *.
الآية المتقدمة كانت إشارة إلى العلم الحدسي وهو الحاصل من غير طلب فقال * (أو لم يروا) * على سبيل الاستفهام بمعنى استبعاد عدمه، وقال في هذه الآية إن لم يحصل لكم هذا العلم فتفكروا في أقطار الأرض لتعلموا بالعلم الفكري، وهذا لأن الإنسان له مراتب في الإدراك بعضهم يدرك شيئا من غير تعليم وإقامة برهان له، وبعضهم لا يفهم إلا بإبانة وبعضهم لا يفهمه أصلا فقال: إن كنتم لستم من القبيل الأول فسيروا في الأرض، أي سيروا فكركم في الأرض وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم لتعلموا بدء الخلق وفي الآية مسائل:
الأولى: قال في الآية الأولى بلفظ الرؤية وفي هذه بلفظ النظر ما الحكمة فيه؟ نقول العلم الحدسي أتم من العلم الفكري كما تبين، والرؤية أتم من النظر لأن النظر يفضي إلى الرؤية، يقال نظرت فرأيت والمفضي إلى الشيء دون ذلك الشيء، فقال في الأول أما حصلت لكم الرؤية فانظروا في الأرض لتحصل لكم الرؤية.
المسألة الثانية: ذكر هذه الآية بصيغة الأمر وفي الآية الأولى بصيغة الاستفهام لأن العلم الحدسي إن حصل فالأمر به تحصيل الحاصل، وإن لم يحصل فلا يحصل إلا بالطلب لأن بالطلب يصير الحاصل فكريا فيكون الأمر به تكليف ما لا يطاق، وأما العلم الفكري فهو مقدور فورد الأمر به.
المسألة الثالثة: أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء حيث قال: * (كيف يبدئ الله) * وأضمره عند الإعادة وفي هذه الآية أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة حيث قال: * (ثم الله ينشئ) * لأن في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البدء فقال: * (كيف يبدئ الله) * ثم قال: * (ثم يعيده) * كما يقول القائل ضرب زيد عمرا ثم ضرب بكرا ولا يحتاج إلى إظهار اسم زيد اكتفاء بالأول، وفي الآية الثانية كان ذكر البدء مسندا إلى الله فاكتفى به ولم يبرزه كقول القائل أما علمت كيف خرج زيد، اسمع مني كيف خرج، ولا يظهر اسم زيد، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانيا حيث قال: * (ثم الله ينشئ) * مع أنه كان يكفي أن يقول: ثم ينشئ النشأة الآخرة، فلحكمة بالغة وهي ما ذكرنا أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسما من يفهم المسمى به بصفات كماله ونعوت جلاله يقطع بجواز الإعادة فقال الله مظهرا مبرزا ليقع في ذهن الإنسان من اسمه كمال قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته ويعترف بوقوع بدئه وجواز إعادته، فإن قيل فلم لم يقل ثم الله يعيده لعين ما ذكرت من الحكمة والفائدة؟ نقول لوجهين أحدهما: أن الله كان مظهرا مبرزا بقرب منه وهو في قوله: * (كيف يبدئ الله الخلق) * ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق وأما ههنا فلم يكن
47

مذكورا عند البدء فأظهره وثانيهما: أن الدليل ههنا تم على جواز الإعادة لأن الدلائل منحصرة في الآفاق وفي الأنفس، كما قال تعالى: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * (فصلت: 53) وفي الآية الأولى أشار إلى الدليل النفسي الحاصل لهذا الإنسان من نفسه، وفي الآية الثانية أشار إلى الدليل الحاصل من الآفاق بقوله: * (قل سيروا في الأرض) * وعندهما تم الدليلان، فأكده بإظهار اسمه، وما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني، فلم يقل ثم الله يعيده.
المسألة الرابعة: في الآية الأولى ذكر بلفظ المستقبل فقال: * (أو لم يروا كيف يبدئ) * وههنا قال بلفظ الماضي فقال: * (فانظروا كيف بدأ) * ولم يقل كيف يبدأ، فنقول الدليل الأول هو الدليل النفسي الموجب للعلم الحدسي وهو في كل حال يوجب العلم ببدء الخلق، فقال إن كان ليس لكم علم بأن الله في كل حال يبدأ خلقا فانظروا
إلى الأشياء المخلوقة ليحصل لكم علم بأن الله بدأ خلقا، ويحصل المطلوب من هذا القدر فإنه ينشئ كما بدأ ذلك. المسألة الخامسة: قال في هذه الآية * (إن الله على كل شيء قدير) * وقال في الآية الأولى * (إن ذلك على الله يسير) * وفيه فائدتان إحداهما: أن الدليل الأول هو الدليل النفسي، وهو وإن كان موجبه العلم الحدسي التام ولكن عند انضمام دليل الآفاق إليه يحصل العلم العام، لأنه بالنظر في نفسه علم نفسه وحاجته إلى الله ووجوده منه، وبالنظر إلى الآفاق علم حاجة غيره إليه ووجوده منه، فتم علمه بأن كل شيء من الله فقال عند تمام ذكر الدليلين * (إن الله على كل شيء قدير) * وقال عند الدليل الواحد * (إن ذلك) * وهو إعادته * (على الله يسير) * الثانية: هي أنا بينا أن العلم الأول أتم وإن كان الثاني أعم وكون الأمر يسيرا على الفاعل أتم من كونه مقدورا له بدليل أن القائل يقول في حق من يحمل مائة من أنه قادر عليه ولا يقول إنه سهل عليه، فإذا سئل عن حمله عشرة أمنان يقول إن ذلك عليه يسير، فنقول قال الله تعالى إن لم يحصل لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور، ونفس كونه مقدورا كاف في إمكان الإعادة.
قوله تعالى
* (يعذب من يشآء ويرحم من يشآء وإليه تقلبون * ومآ أنتم بمعجزين فى الارض ولا فى السمآء وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) *.
لما ذكر النشأة الآخرة ذكر ما يكون فيه وهو تعذيب أهل التكذيب عدلا وحكمة، وإثابة أهل الإنابة فضلا ورحمة، وفي الآية مسائل:
48

المسألة الأولى: قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه السلام حاكيا عنه " سبقت رحمتي غضبي " فنقول ذلك لوجهين أحدهما: أن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقيه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة، وكما ذكر، بعد إثبات الأصل الأول وهو التوحيد - التهديد بقوله: * (وإن تكذبوا فقد كذب أمم) * (العنكبوت: 18) وأهلكوا بالتكذيب كذلك ذكر بعد إثبات الأصل الآخر التهديد بذكر التعذيب، وذكر الرحمة وقع تبعا لئلا يكون العذاب مذكورا وحده وهذا يحقق قوله: (سبقت رحمتي غضبي) وذلك لأن الله حيث كان المقصود ذكر العذاب لم يمحضه في الذكر بل ذكر الرحمة معه.
المسألة الثانية: إذا كان ذكر هذا لتخويف العاصي وتفريح المؤمن فلو قال يعذب الكافر ويرحم المؤمن لكان أدخل في تحصيل المقصود وقوله: * (يعذب من يشاء) * لا يزجر الكافر لجواز أن يقول لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابه، فنقول: هذا أبلغ في التخويف، وذلك لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته إذا أراد تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع، ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه شاء تعذيب أهل العناد، فلزم منه الخوف التام بخلاف ما لو قال يعذب العاصي، فإنه لا يدل على كمال مشيئته، لأنه لا يفيد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه، فإذا لم يفد هذا فيقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن يحصل في صورة أخرى، ولنضرب له مثلا فنقول: إذا قيل إن الملك يقدر على ضرب كل من في بلاده وقال من خالفني أضربه يحصل الخوف التام لمن يخالفه، وإذا قيل إنه قادر على ضرب المخالفين ولا يقدر على ضرب المطيعين، فإذا قال من خالفني أضربه يقع في وهم المخالف أنه لا يقدر على ضرب فلان المطيع، فلا يقدر علي أيضا لكوني مثله، وفي هذا فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام، لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصيا.
المسألة الثالثة: قال: * (ثم إليه تقلبون) * مع أن هذه المسألة قد سبق إثباتها وتقريرها فلم أعادها؟ فنقول لما ذكر الله التعذيب والرحمة وهما قد يكونان عاجلين، فقال تعالى: فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات، فإن إليه إيابكم وعليه حسابكم وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم، ولهذا قال بعدها * (وما أنتم بمعجزين) * يعني لا تفوتون الله بل الانقلاب إليه ولا يمكن الإنفلات منه، وفي تفسير هذه الآية لطائف إحداها: هي إعجاز المعذب عن التعذيب إما بالهرب منه أو الثبات له والمقاومة معه للدفع، وذكر الله القسمين فقال: * (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء) * يعني بالهرب لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله فلا مطمع في الإعجاز بالهرب، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع ولا يمكن للمعذب مخالفته فيفوته المعذب ويعجز عنه أو بالانتصار بقوم يقوم معه بالدفع وكلاهما محال، فإنكم مالكم من دون الله ولي يشفع ولا نصير يدفع فلا إعجاز
49

لا بالهروب ولا بالثبات الثانية: قال: * (وما أنتم بمعجزين) * ولم يقل لا تعجزون بصيغة الفعل، وذلك لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحية، فإن من قال إن فلانا لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه قوله إنه ليس بخياط الثالثة: قدم الأرض على السماء، والولي على النصير، لأن هربهم الممكن في الأرض، فإن كان يقع منهم هرب يكون في الأرض، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيكون لهم صعود في السماء، وأما الدفع فإن العاقل ما أمكنه الدفع بأجمل الطرق فلا يرتقي إلى غيره، والشفاعة أجمل. ولأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك ولا يكون كل أحد له ناصر يعادي الملك لأجله.
قوله تعالى
* (والذين كفروا بايات الله ولقآئه أولئك يئسوا من رحمتى وأولئك لهم عذاب أليم) *.
لما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان وهدد من خالفه على سبيل التفصيل فقال: * (والذين كفروا بآيات الله ولقائه) * إشارة إلى الكفار بالله، فإن لله في كل شيء آية دالة على وحدانيته، فإذا أشرك كفر بآيات الله وإشارة إلى المنكر للحشر فإن من أنكره كفر بلقاء الله فقال: * (أولئك يئسوا من رحمتي) * لما أشركوا أخرجوا أنفسهم عن محل الرحمة لأن من يكون له جهة واحدة تدفع حاجته لا غير يرحم، وإذا كان له جهات متعددة لا يبقى محلا للرحمة، فإذا جعلوا لهم آلهة لم يعترفوا بالحاجة إلى طريق متعين فييأسوا من رحمة الله، ولما أنكروا الحشر وقالوا لا عذاب فناسب تعذيبهم تحقيقا للأمر عليهم، وهذا كما أن الملك إذا قال أعذب من يخالفني فأنكره بعيد عنه وقال هو لا يصل إلي، فإذا أحضر بين يديه يحسن منه أن يعذبه ويقول هل قدرت وهل عذبت أم لا، فإذن تبين أن عدم الرحمة يناسب الإشراك، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر. ثم إن في الآية فوائد إحداها: قوله: * (أولئك يئسوا) * حتى يكون منبئا عن حصر الناس فيهم وقال أيضا * (أولئك لهم عذاب
أليم) * لذلك، ولو قال: أولئك الذين كفروا بآيات الله ولقائه يئسوا من رحمتي ولهم عذاب أليم، ما كان يحصل هذه الفائدة فإن قال قائل لو اكتفي بقوله * (أولئك) * مرة واحدة كان يكفي في إفادة ما ذكر، ثم قلنا لا وذلك لأنه لو قال أولئك يئسوا ولهم عذاب، كان يذهب وهم أحد إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم، فلا يوجد المجموع إلا فيهم ولكن واحدا منهما وحده يمكن أن يوجد في غيرهم، فإذا قال أولئك يئسوا وأولئك لهم عذاب أفاد أن كل واحد لا يوجد إلا فيهم الثانية: عند ذكر الرحمة أضافها إلى نفسه فقال رحمتي وعند العذاب لم يضفه لسبق رحمته وإعلاما لعباده بعمومها لهم ولزومها له الثالثة: أضاف اليأس إليهم
50

بقوله: * (أولئك يئسوا) * فحرمها عليهم ولو طمعوا لأباحها لهم، فلو قال قائل ما ذكرت من مقابلة الأمرين وهما اليأس والعذاب بأمرين وهما الكفر بالآيات والكفر باللقاء يقتضي أن لا يكون العذاب الأليم لمن كفر بالله واعترف بالحشر، أو لا يكون اليأس لمن كفر بالحشر وآمن بالله فنقول: معنى الآية أنهم يئسوا ولهم عذاب أليم زائد بسبب كفرهم بالحشر، ولا شك أن التعذيب بسبب الكفر بالحشر لا يكون إلا للكافر بالحشر، وأما الآخر فالكافر بالحشر لا يكون مؤمنا بالله لأن الإيمان به لا يصح إلا إذا صدقه فيما قاله والحشر من جملة ذلك.
قوله تعالى
* (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو احرقوه فأنجاه الله من النار إن فى ذلك لايات لقوم يؤمنون) *.
لما أتى إبراهيم عليه السلام ببيان الأصول الثلاثة وأقام البرهان عليه، بقي الأمر من جانبهم إما الإجابة أو الإتيان بما يصلح أن يكون جوابه فلم يأتوا إلا بقولهم * (اقتلوه أو حرقوه) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: كيف سمى قولهم * (اقتلوه) * جوابا مع أنه ليس بجواب؟ فنقول (الجواب عنه) من وجهين أحدهما: أنه خرج منهم مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف، مع أن السيف ليس بجواب، وإنما معناه لا أقابله بالجواب، وإنما أقابله بالسيف فكذلك قالوا لا تجيبوا عن براهينه واقتلوه أو حرقوه * (الثاني) * هو أن الله أراد بيان ضلالهم وهو أنهم ذكروا في معرض الجواب هذا مع أنه ليس بجواب، فتبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلا وذلك لأن من لا يجيب غيره ويسكت، لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات، أما إذا أجاب بجواب فاسد، علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه.
المسألة الثانية: القائلون الذين قالوا اقتلوه هم قومه والمأمورون بقولهم اقتلوه أيضا هم، فيكون الآمر نفس المأمور؟ فنقول الجواب عنه: من وجهين أحدهما: أن كل واحد منهم قال لمن عداه اقتلوه، فحصل الأمر من كل واحد وصار المأمور كل واحد ولا اتحاد، لأن كل واحد أمر غيره وثانيهما: هو أن الجواب لا يكون إلا من الأكابر والرؤساء، فإذا قال أعيان بلد كلاما يقال اتفق أهل البلدة على هذا ولا يلتفت إلى عدم قول العبيد والأرذال، فكان جواب قومه وهم الرؤساء أن قالوا لأتباعهم وأعوانهم اقتلوه، لأن الجواب لا يباشره إلا الأكابر والقتل لا يباشره إلا الأتباع.
المسألة الثالثة: * (أو) * يذكر بين أمرين الثاني منهما ينفك عن الأول كما يقال زوج أو فرد، ويقال هذا إنسان أو حيوان، يعني إن لم يكن إنسانا فهو حيوان، ولا يصح أن يقال هذا حيوان
51

أو إنسان إذ يفهم منه أنه يقول هو حيوان فإن لم يكن حيوانا فهو إنسان وهو محال لكن التحريق مشتمل على القتل فقوله اقتلوه أو حرقوه كقول القائل حيوان أو إنسان، الجواب عنه: من وجهين أحدهما: أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع ويكون * (أو) * مستعملا في موضع بل، كما يقول القائل أعطيته دينارا أو دينارين، وكما يقول القائل أعطه دينارا بل دينارين قال الله تعالى: * (قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه) * (المزمل: 2 - 4) فكذلك ههنا اقتلوه أو زيدوا على القتل وحرقوه الجواب الثاني: هو أنا نسلم ما ذكرتم والأمر هنا كذلك، لأن التحريق فعل مفض إلى القتل وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقى غيره في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حيا يصح أن يقال احترق فلان وأحرقه فلان وما مات، فكذلك ههنا قالوا اقتلوه أو لا تعجلوا قتله وعذبوه بالنار، وإن ترك مقالته فخلوا سبيله وإن أصر فخلوا في النار مقيله.
ثم قال تعالى: * (فأنجاه الله من النار) * اختلف العقلاء في كيفية الإنجاء، بعضهم قال برد النار وهو الأصح الموافق لقوله تعالى: * (يا نار كوني بردا) * (الأنبياء: 69) وبعضهم قال خلق في إبراهيم كيفية استبرد معها النار وقال بعضهم ترك إبراهيم على ما هو عليه والنار على ما كانت عليه ومنع أذى النار عنه، والكل ممكن والله قادر عليه، وأنكر بعض الأطباء الكل، أما سلب الحرارة عن النار، قالوا الحرارة في النار ذاتية كالزوجية في الأربعة لا يمكن أن تفارقها، وأما خلق كيفية تستبرد النار فلأن المزاج الإنساني له طرفا تفريط وإفراط، فلو خرج عنهما لا يبقى إنسانا أو لا يعيش. مثلا المزاج إن كان البارد فيه عشرة أجزاء يكون إنسانا فإن صار أحد عشر لا يكون إنسانا وإن صارت الأجزاء الباردة خمسة يبقى إنسانا فإذا صارت أربعة لا يبقى إنسانا لكن البرودة التي يستبرد معها النار مزاج السمندل فلو حصل في الإنسان لمات أو لكان ذلك فإن النفس تابعة للمزاج، وأما الثالث فمحال أن تكون القطنة في النار والنار كما هي، والقطنة كما هي ولا تحترق، فنقول الآية رد عليهم والعقل موافق للنقل، أما الأول فلوجهين أحدهما: أن الحرارة في النار تقبل الاشتداد والضعف، فإن النار في الفحم إذا نفخ فيه يشتد حتى يذيب الحديد وإن لم ينفخ لا يشتد لكن الضعف هو عدم بعض من الحرارة التي كانت في النار، فإذا أمكن عدم البعض جاز عدم بعض آخر من ذلك عليها إلى أن ينتهي إلى حد لا يؤذي الإنسان، ولا كذلك الزوجية فإنها لا تشتد ولا تضعف والثاني: وهو أن في أصول الطب ذكر أن النار لها كيفية حارة كما أن الماء له كيفية باردة لكن رأينا أن الماء تزول عنه البرودة وهو ماء فكذلك النار تزول عنها الحرارة وتبقى نارا وهو نور غير محرق، وأما الثاني فأيضا ممكن وقولهم مدفوع من وجهين أحدهما: منع أصلهم من كون النفس تابعة للمزاج بل الله قادر على أن يخلق النفس الإنسانية في المزاج الذي مثل مزاج الجمد وثانيهما: أن نقول على أصلكم لا يلزم المحال لأن الكيفية التي
ذكرناها تكون في ظاهر كالأجزاء الرشية عليه ولا يتأدى إلى القلب والأعضاء الرئيسة، ألا ترى أن الإنسان
52

إذا مس الجمد زمانا ثم مس جمرة نار لا تؤثر النار في إحراق يده مثل ما تؤثر في إحراق يد من أخرج يده من جيبه، ولهذا تحترق يده قبل يد هذا. فإذا جاز وجود كيفية في ظاهر جلد الإنسان تمنع تأثير النار فيه بالإحراق زمانا فيجوز أن تتجدد تلك الكيفية لحظة فلحظة حتى لا تحترق، وأما الثالث: فمجرد استبعاد بيان عدم الاعتياد ونحن نسلم أن ذلك غير معتاد لأنه معجز والمعجز ينبغي أن يكون خارقا للعادة.
ثم قال تعالى: * (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) * يعني في إنجائه من النار لآيات، وهنا مسائل:
المسألة الأولى: قال في إنجاء نوح وأصحاب السفينة * (جعلناها آية) * (العنكبوت: 15) وقال ههنا * (لآيات) * بالجمع لأن الإنجاء بالسفينة شيء تتسع له العقول فلم يكن فيه من الآية إلا بسبب إعلام الله إياه بالاتخاذ وقت الحاجة، فإنه لولاه لما اتخذه لعدم حصول علمه بما في الغيب، وبسبب أن الله صان السفينة عن المهلكات كالرياح العاصفة، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه آيات.
المسألة الثانية: قال هناك * (آية للعالمين) * (الأنبياء: 91) وقال ههنا * (لقوم يؤمنون) * خص الآيات بالمؤمنين لأن السفينة بقيت أعواما حتى مر عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد، وأما تبريد النار (فإنه) لم يبق فلم يظهر لمن يعده إلا بطريق الإيمان به والتصديق، وفيه لطيفة: وهي أن الله لما برد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه، وقد قال الله للمؤمنين بأن لهم أسوة حسنة في إبراهيم، فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله يبرد عليهم النار يوم القيامة، فقال إن في ذلك التبريد لآيات لقوم يؤمنون.
المسألة الثالثة: قال هناك * (جعلناها) * وقال ههنا * (جعلناه) * لأن السفينة ما صارت آية في نفسها ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح سفها، فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية، وأما تبريد النار فهو في نفسه آية إذا وجدت لا تحتاج إلى أمر آخر كخلق الطوفان حتى يصير آية.
* (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحيوة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) *.
لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار وبيان فساد ما هم عليه، وقال إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب ولا ترجعون عنه، فليس هذا إلا تقليدا، فإن بين بعضكم وبعض مودة
53

فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة أو بينكم وبين آبائكم مودة فورثتموهم وأخذتم مقالتهم ولزمتم ضلالتهم وجهالتهم فقوله: * (إنما اتخذتم... مودة بينكم) * يعني ليس بدليل أصلا وفيه وجه آخر وهو تحقيق دقيق، وهو أن يقال قوله: * (إنما اتخذتم... مودة بينكم) * أي مودة بين الأوثان وبين عبدتها، وتلك المودة هي أن الإنسان مشتمل على جسم وعقل، ولجسمه لذات جسمانية ولعقله لذات عقلية، ثم إن من غلبت فيه الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية، ومن غلبت عليه العقلية لا يلتفت إلى اللذات الجسمانية، كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين قوم من الأكابر في مجمع يحصل ما فيه لذة جسمه من الأكل وإراقة الماء وغيرهما ولا يلتفت إلى اللذة العقلية من حسن السيرة وحمد الأوصاف ومكرمة الأخلاق. والعاقل يحمل الألم الجسماني ويحصل اللذة العقلية، حتى لو غلبت قوته الدافعة على قوته الماسكة وخرج منه ريح أو قطرة ماء يكاد يموت من الخجالة والألم العقلي. إذا ثبت هذا فهم كانوا قليلي العقل غلبت الجسمية عليهم فلم يتسع عقلهم لمعبود لا يكون فوقهم ولا تحتهم، ولا يمينهم ولا يسارهم، ولا قدامهم ولا وراءهم، ولا يكون جسما من الأجسام، ولا شيئا يدخل في الأوهام، ورأوا الأجسام المناسبة للغالب فيهم مزينة بجواهر فودوها فاتخاذهم الأوثان كان مودة بينهم وبين الأوثان، ثم قال تعالى: * (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض) * يعني يوم يزول عمى القلوب وتتبين الأمور للبيب والغفول يكفر بعضكم ببعض ويعلم فساد ما كان عليه فيقول العابد ما هذا معبودي، ويقول المعبود ما هؤلاء عبدتي ويلعن بعضكم بعضا، ويقول هذا لذاك أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني، ويقول ذاك لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك، ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون، بل هم مجتمعون في النار كما كانوا مجتمعين في هذه الدار كما قال تعالى: * (ومأواكم النار) * ثم قال تعالى: * (وما لكم من ناصرين) * يعني ليس تلك النار مثل ناركم التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره فأنتم في النار ولا ناصر لكم، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال قبل هذا * (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) * (التوبة: 116) على لفظ الواحد، وقال ههنا على لفظ الجمع * (وما لكم من ناصرين) * والحكمة فيه أنهم لما أرادوا إحراق إبراهيم عليه السلام قالوا نحن ننصر آلهتنا كما حكى الله تعالى عنهم * (حرقوه وانصروا آلهتكم) * (الأنبياء: 68) فقال أنتم ادعيتم أن لهؤلاء ناصرين فما لكم ولهم، أي للأوثان وعبدتها من ناصرين، وأما هناك ما سبق منهم دعوى الناصرين فنفى الجنس بقوله: * (ولا نصير) *.
المسألة الثانية: قال هناك * (مالكم من دون الله من ولي ولا نصير) * وما ذكر الولي ههنا فنقول: قد بينا أن المراد بالولي الشفيع يعني ليس لكم شافع ولا نصير دافع، وههنا لما كان الخطاب دخل فيه الأوثان أي ما لكم كلكم لم يقل شفيع لأنهم كانوا معترفين أن كلهم ليس لهم شافع لأنهم كانوا يدعون أن آلهتهم شفعاء، كما قال تعالى عنهم: * (هؤلاء شفعاؤنا) * (يونس: 18) والشفيع لا يكون
54

له شفيع، فما نفى عنهم الشفيع لعدم الحاجة إلى نفيه لاعترافهم به، وأما هناك فكان الكلام معهم وهم كانوا يدعون أن لأنفسهم شفعاء فنفى.
المسألة الثالثة: قال هناك * (ما لكم من دون الله) * فذكر على معنى الاستثناء فيفهم أن لهم ناصرا ووليا هو الله وليس لهم غيره ولي وناصر وقال ههنا * (ما لكم من ناصرين) * من غير استثناء فنقول كان ذلك واردا على أنهم في الدنيا فقال لهم في الدنيا، لا تظنوا أنكم تعجزون الله فما لكم أحد ينصركم، بل الله تعالى ينصركم إن تبتم، فهو ناصر معد لكم متى أردتم استنصرتموه بالتوبة وهذا يوم القيامة كما قال تعالى: * (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض) * وعدم الناصر عام لأن التوبة في ذلك
اليوم لا تقبل فسواء تابوا أو لم يتوبوا لا ينصرهم الله ولا ناصر لهم غيره فلا ناصر لهم مطلقا.
قوله تعالى
* (فامن له لوط وقال إنى مهاجر إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم) *.
يعني لما رأى لوط معجزته آمن وقال إبراهيم * (إني مهاجر إلى ربي) * أي إلى حيث أمرني بالتوجه إليه * (إنه هو العزيز الحكيم) * عزيز يمنع أعدائي عن إيذائي بعزته، وحكيم لا يأمرني إلا بما يوافق لكمال حكمته، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (فآمن له لوط) * أي بعد ما رأى منه المعجز القاهر ودرجة لوط كانت عالية، وبقاؤه إلى هذا الوقت مما ينقص من الدرجة ألا ترى أن أبا بكر لما قبل دين محمد صلى الله عليه وسلم وكان نير القلب قبله قبل الكل، من غير سماع تكلم الحصى ولا رؤية انشقاق القمر، فنقول إن لوطا لما رأى معجزته آمن برسالته، وإما بالوحدانية فآمن حيث سمع حسن مقالته، وإليه أشار بقوله: * (فآمن له لوط) * وما قال فآمن لوط.
المسألة الثانية: ما تعلق قوله وقال: * (إني مهاجر إلى ربي) * بما تقدم؟ فنقول بما بالغ إبراهيم في الإرشاد ولم يهتد قومه، وحصل اليأس الكلي حيث رأى القوم الآية الكبرى: * (ولم يؤمنوا) * وجبت المهاجرة، لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسدة لأنه إن دام على الإرشاد كان اشتغالا بما لا ينتفع به مع علمه فيصير كمن يقول للحجر صدق وهو عبث أو يسكت والسكوت دليل الرضا فيقال بأنه صار منا ورضي بأفعالنا، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة. المسألة الثالثة: قال: * (مهاجر إلى ربي) * ولم يقل مهاجر إلى حيث أمرني ربي مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة، فنقول قوله: * (مهاجر) * إلى حيث أمرني ربي ليس في الاخلاص كقوله: * (إلى ربي) * لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى الموضع الفلاني، ثم إن واحدا منهم سافر إليه لغرض (في) نفسه يصيبه فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصا لوجهه فقال: * (مهاجر إلى ربي) * يعني توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلبا للجهة إنما هو طلب لله.
55

ثم قال تعالى
* (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب وءاتيناه أجره فى الدنيا وإنه فى الاخرة لمن الصالحين) *.
قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم) * (العنكبوت: 7) أن أثر رحمة الله في أمرين في الأمان من سوء العذاب والامتنان بحسن الثواب وهو واصل إلى المؤمن في الدار الآخرة قطعا بحكم وعد الله نفي العذاب عنه لنفيه الشرك وإثبات الثواب لإثباته الواحد، ولكن هذا ليس بواجب الحصول في الدنيا، فإن كثيرا ما يكون الكافر في رغد والمؤمن جائع في يومه متفكر في أمر غده لكنهما مطلوبان في الدنيا، أما دفع العذاب العاجل فلأنه ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، قوله: " وقنا عذاب الفقر والنار " فعذاب الفقر إشارة إلى دفع العذاب العاجل، وأما الثواب العاجل ففي قوله: * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) * (البقرة: 201) إذا علم هذا فنقول إن إبراهيم عليه السلام لما أتى ببيان التوحيد أولا دفع الله عنه عذاب الدنيا وهو عذاب النار، ولما أتى به مرة بعد مرة مع إصرار القوم على التكذيب وإضرارهم به بالتعذيب، أعطاه الجزاء الآخر، وهو الثواب العاجل وعدده عليه بقوله: * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) * وفي الآية لطيفة: وهي أن الله بدل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذيبه بالنار وكان وحيدا فريدا فبدل وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته، ولما كان أولا قومه وأقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم آزر، بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذريته الذين جعل الله فيهم النبوة والكتاب، وكان أولا لا جاه له ولا مال وهما غاية اللذة الدنيوية آتاه الله أجره من المال والجاه، فكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدده، حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب، وأما الجاه فصار بحيث يقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، فصار معروفا بشيخ المرسلين بعد إن كان خاملا، حتى قال قائلهم: * (سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) * (الأنبياء: 60) وهذا الكلام لا يقال إلا في مجهول بين الناس، ثم إن الله تعالى قال: * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) * يعني ليس له هذا في الدنيا فحسب كما يكون لمن قدم له ثواب حسناته أو أملى له استدراجا ليكثر من سيئاته بل هذا له عجالة وله في الآخرة ثواب الدلالة والرسالة وهو كونه من الصالحين، فإن كون العبد صالحا أعلى مراتبه، لما بينا أن الصالح هو الباقي على ما ينبغي، يقال الطعام بعد صالح، أي هو باق على ما ينبغي، ومن بقي على ما ينبغي لا يكون في عذاب، ويكون له كل ما يريد من حسن ثواب وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى: أن إسماعيل كان من أولاده الصالحين، وكان قد أسلم لأمر الله بالذبح وانقاد
56

لحكم الله، فلم لم يذكر؟ فيقال هو مذكور في قوله: * (وجعلنا في ذريته النبوة) * ولكن لم يصرح باسمه لأنه كان غرضه تبيين فضله عليه بهبة الأولاد والأحفاد، فذكر من الأولاد واحدا وهو الأكبر، ومن الأحفاد واحدا وهو الأظهر كما يقول القائل إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء الملك الفلاني والأمير الفلاني ولا يعدد الكل لأن ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصيته ولو ذكر غيره لفهم منه التعديد واستيعاب الكل بالذكر، فيظن أنه ليس معه غير المذكورين.
المسألة الثانية: أن الله تعالى جعل في ذريته النبوة إجابة لدعائه والوالد يستحب منه أن يسوى بين ولديه، فكيف صارت النبوة في أولاد إسحاق أكثر من النبوة في أولاد إسماعيل؟ فنقول: الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى القيامة قسمين والناس أجمعين، فالقسم الأول من الزمان بعث الله فيه أنبياء فيهم فضائل جمة وجاؤا تترى واحدا بعد واحد، ومجتمعين في عصر واحد كلهم من ورثة إسحاق عليه السلام، ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده الآخر وهو إسماعيل واحدا جمع فيه ما كان فيهم وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد صلى الله عليه وسلم وجعله خاتم النبيين، وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة فلا يبعد أن
يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار.
قوله تعالى
* (ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين * قال رب انصرنى على القوم المفسدين) *.
الإعراب في لوط، والتفسير كما ذكرنا في قوله: * (وإبراهيم إذ قال لقومه) * (العنكبوت: 16) وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال إبراهيم لقومه * (اعبدوا الله) * وقال عن لوط ههنا أنه قال لقومه * (لتأتون الفاحشة) * فنقول لما ذكر الله لوطا عند ذكر إبراهيم وكان لوط في زمان إبراهيم لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالتوحيد مع أن الرسول لا بد من أن يقول ذلك فنقول حكاية لوط وغيرها
57

ههنا ذكرها الله على سبيل الاختصار، فاقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة، ولم يذكر عنه الأمر بالتوحيد وإن كان قاله في موضع آخر حيث قال: * (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) * (الأعراف: 59) لأن ذلك كان قد أتى به إبراهيم وسبقه فصار كالمختص به ولوط يبلغ ذلك عن إبراهيم. وأما المنع من عمل قوم لوط كان مختصا بلوط، فإن إبراهيم لم يظهر ذلك (في زمنه) ولم يمنعهم منه فذكر كل واحد بما اختص به وسبق به غيره.
المسألة الثانية: لم سمى ذلك الفعل فاحشة؟ فنقول الفاحشة هو القبيح الظاهر قبحه، ثم إن الشهوة والغضب صفتا قبح لولا مصلحة ما كان يخلقهما الله في الإنسان، فمصلحة الشهوة الفرجية هي بقاء النوع بتوليد الشخص، وهذه المصلحة لا تحصل إلا بوجود الولد وبقائه بعد الأب، فإنه لو وجد ومات قبل الأب كان يفنى النوع بفناء القرن الأول، لكن الزنا قضاء شهوة ولا يفضي إلى بقاء النوع، لأنا بينا أن البناء بالوجود وبقاء الولد بعد الأب لكن الزنا وإن كان يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه، لأن المياه إذا اشتبهت لا يعرف الوالد ولده فلا يقوم بتربيته والإنفاق عليه فيضيع ويهلك، فلا يحصل مصلحة البقاء، فاذن الزنا شهوة قبيحة خالية عن المصلحة التي لأجلها خلقت، فهو قبيح ظاهر قبحه حيث لا تستره المصلحة فهو فاحشة، وإذا كان الزنا فاحشة مع أنه يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه، فاللواطة التي لا تفضي إلى وجوده أولى بأن تكون فاحشة.
المسألة الثالثة: الآية دالة على وجوب الحد في اللواطة، لأنها مع الزنا اشتركت في كونهما فاحشة حيث قال الله تعالى: * (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة) * (الإسراء: 32) واشتراكهما في الفاحشة يناسب الزجر عنه، فما شرع زاجرا هناك يشرع زاجرا ههنا، وهذا وإن كان قياسا إلا أن جامعه مستفاد من الآية، ووجه آخر، وهو أن الله جعل عذاب من أتى بها إمطار الحجارة حيث أمطر عليهم حجارة عاجلا، فوجب أن يعذب من أتى به بإمطار الحجارة به عاجلا وهو الرجم، وقوله: * (ما سبقكم بها من أحد) * يحتمل وجهين أحدهما: أن قبلهم لم يأت أحد بهذا القبيح وهذا ظاهر، والثاني: أن قبلهم ربما أتى به واحد في الندرة لكنهم بالغوا فيه، فقال لهم ما سبقكم بها من أحد، كما يقال إن فلانا سبق البخلاء في البخل، وسبق اللئام في اللؤم إذا زاد عليهم، ثم قال تعالى: * (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل) * بيانا لما ذكرنا، يعنى تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء المشتمل على المصلحة التي هي بقاء النوع، حتى يظهر أنه قبيح لم يستر قبحه مصلحة، وحينئذ يصير هذا كقوله تعالى: * (أتأتون الرجال شهوة من دون النساء) * () يعنى إتيان النساء شهوة قبيحة مستترة بالمصلحة فلكم دافع لحاجتكم لا فاحشة فيه وتتركونه وتأتون الرجال شهوة مع الفاحشة وقوله: * (وتأتون في ناديكم المنكر) * يعني ما كفاكم قبح فعلكم حتى تضمون إليه قبح الإظهار، وقوله: * (فما كان جواب قومه) * في التفسير، كقوله في قصة إبراهيم * (وما كان جواب قومه) * وفي الآية مسائل:
58

المسألة الأولى: قال قوم إبراهيم * (اقتلوه أو حرقوه) * (العنكبوت: 24) وقال قوم لوط * (ائتنا بعذاب الله) * وما هددوه، مع أن إبراهيم كان أعظم من لوط، فإن لوطا كان من قومه، فنقول إن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم بتعديد صفات نقصهم بقوله: لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغنى والقدح في الدين صعب، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين، فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم قول إبراهيم، فقالوا إنك تقول إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول لا يعذب، فإن كنت صادقا فأتنا بالعذاب، فإن قيل إن الله تعالى قال في موضع آخر * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم) * (النمل: 56) وقال ههنا * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا) * فكيف الجمع؟ فنقول لوط كان ثابتا على الإرشاد مكررا عليهم التغيير والنهي والوعيد، فقالوا أولا ائتنا، ثم لما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا أخرجوا، ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة من الله وذكرهم بما لا يحب الله * (فقال رب انصرني على القوم المفسدين) * فإن الله لا يحب المفسدين، حتى ينجز النصر.
واعلم أن نبيا من الأنبياء ما طلب هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم، كما قال نوح: * (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * (نوح: 27) يعني المصلحة إما فيهم حالا أو بسببهم مآلا ولا مصلحة فيهم، فإنهم يضلون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون الأولاد من صغرهم بالامتناع من الاتباع، فكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال واشتغلوا بما لا يرجى معه منهم ولد صالح يعبد الله، بطلت المصلحة حالا ومآلا، فعدمهم صار خيرا، فطلب العذاب.
قوله تعالى
* (ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين) *.
لما دعا لوط على قومه بقوله: * (رب انصرني) * استجاب الله دعاءه، وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين، فجاءوا إبراهيم وبشروه بذرية طيبة وقالوا
: * (إنا مهلكوا أهل هذه القرية) * يعني أهل سدوم، وفي الآية لطيفتان: إحداهما: أن الله جعلهم مبشرين ومنذرين،
59

لكن البشارة أثر الرحمة والإنذار بالإهلاك أثر الغضب، ورحمته سبقت غضبه، فقدم البشارة على الإنذار. وقال: * (جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) * ثم قال: * (إنا مهلكوا) * الثانية: حين ذكروا البشرى ما عللوا وقالوا إنا نبشرك لأنك رسول، أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل، وحين ذكروا الإهلاك عللوا، وقالوا: * (إن أهلها كانوا ظالمين) * لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض، والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لو قال قائل أي تعلق لهذه البشرى بهذا الإنذار، نقول لما أراد الله إهلاك قوم وكان فيه إخلاء الأرض عن العباد قدم على ذلك إعلام إبراهيم بأنه تعالى يملأ الأرض من العباد الصالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه.
المسألة الثانية: قال في قوم نوح * (فأخذهم الطوفان) * (العنكبوت: 14) وقد قلت إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم، ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين، وههنا قال: * (إن أهلها كانوا ظالمين) * ولم يقل وإنهم ظالمون، فنقول لا فرق في الموضعين في كونهم مهلكين وهم مصرون على الظلم، لكن هناك الإخبار من الله وعن الماضي حيث قال: * (فأخذهم) * وكانوا ظالمين، فقال أخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون، وههنا الإخبار من الملائكة وعن المستقبل حيث قالوا: إنا مهلكوا فالملائكة ذكروا ما يحتاجون إليه في إبانة حسن الأمر من الله بالإهلاك، فقالوا: * (إنا مهلكوهم) * لأن الله أمرنا، وحال ما أمرنا به كانوا ظالمين، فحسن أمر الله عند كل أحد، وأما نحن فلا نخبر بما لا حاجة لنا إليه، فإن الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب، فنحن ما احتجنا إلا إلى هذا القدر، وهو أنهم كانوا ظالمين حيث أمرنا الله باهلاكهم بيانا لحسن الأمر، وأما أنهم ظالمون في وقتنا هذا أو يبقون كذلك فلا حاجة لنا إليه، ثم إن إبراهيم لما سمع قولهم قال لهم إن فيها لوطا إشفاقا عليه ليعلم حاله، أو لأن الملائكة لما قالوا: * (إنا مهلكوا) * وكان إبراهيم يعلم أن الله لا يهلك قوما وفيهم رسوله، فقال تعجبا إن فيهم لوطا فكيف يهلكون، فقالت الملائكة نحن أعلم بمن فيها، يعني نعلم أن فيهم لوطا فلننجينه وأهله ونهلك الباقين، وههنا لطيفة: وهو أن الجماعة كانوا أهل الخير، أعني إبراهيم والملائكة، وكل واحد كان يزيد على صاحبه في كونه خيرا. أما إبراهيم فلما سمع قوله الملائكة * (إنا مهلكوا) * أظهر الاشفاق على لوط ونسي نفسه وما بشروه ولم يظهر بها فرحا، وقال: * (إن فيها لوطا) * (العنكبوت: 32) ثم إن الملائكة لما رأوا ذلك منه زادوا عليه، وقالوا إنك ذكرت لوطا وحده ونحن ننجيه وننجي معه أهله، ثم استثنوا من الأهل امرأته، وقالوا: * (إلا امرأته كانت من الغابرين) * أي من المهلكين، وفي استعمال الغابر في المهلك وجهان، وذلك لأن الغابر لفظ مشترك في الماضي، وفي الباقي يقال فيما غبر من الزمان أي فيما مضى ويقال الفعل ماض وغابر أي باق، وعلى الوجه الأول نقول إن ذكر الظالمين سبق في قولهم: * (إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين) * ثم جرى ذكر لوط بتذكير إبراهيم وجواب الملائكة، فقالت الملائكة إنها
60

من الغابرين أي الماضي ذكرهم لا من الذين ننجي منهم، أو نقول المهلك يفنى ويمضي زمانه والناجي هو الباقي فقالوا إنها من الغابرين أي من الرائحين الماضين لا من الباقين المستمرين، وأما على الوجه الثاني فنقول لما قضى الله على القوم بالإهلاك كان الكل في الهلاك إلا من ننجي منه فقالوا إنا ننجي لوطا وأهله، وأما امرأته فهي من الباقين في الهلاك.
قوله تعالى
* (ولمآ أن جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين * إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السمآء بما كانوا يفسقون * ولقد تركنا منهآ ءاية بينة لقوم يعقلون) *.
ثم إنهم جاؤوا من عند إبراهيم إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشرا فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا على أحسن صورة خلق الله والقوم كما عرف حالهم فسيء بهم أي جاءه ما ساءه وخاف ثم عجز عن تدبيرهم فحزن وضاق بهم ذرعا كناية عن العجز في تدبيرهم، قال الزمخشري يقال طال ذرعه وذراعه للقادر وضاق للعاجز، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجها معقولا غير ذلك، وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضا والقلب هو المعتبر من الإنسان، فكان الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق، ويقال في الحزين ضاق ذرعه والغضب والفرح يوجبان انبساط الروح فينبسط مكانه وهو القلب ويتسع فيقال اتسع ذرعه، ثم إن الملائكة لما رأوا خوفه في أول الأمر وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا لا تخف علينا ولا تحزن بسبب التفكر في أمرنا ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه فإن مجرد قول القائل لا تخف لا يوجب زوال الخوف فقالوا معرضين بحالهم: * (إنا منجوك وأهلك) * وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه ويزول روعه وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى قال من قبل: * (ولما جاءت رسلنا إبراهيم) * (العنكبوت: 31) وقال ههنا: * (ولما أن جاءت رسلنا) * فما الحكمة فيه؟ فنقول حكمة بالغة وهي أن الواقع في وقت المجئ هناك قول
61

الملائكة * (إنا مهلكوا) * وهو لم يكن متصلا بمجيئهم لأنهم بشروا أولا ولبثوا، ثم قالوا: إنا مهلكوا وأيضا فالتأني واللبث بعد المجئ ثم الإخبار بالإهلاك حسن فإن من جاء ومعه خبر هائل يحسن منه أن لا يفاجئ به، والواقع ههنا هو خوف لوط عليهم، والمؤمن حين ما يشعر بمضرة تصل بريئا من الجناية ينبغي أن يحزن ويخاف عليه من غير تأخير، إذا علم هذا فقوله ههنا: * (ولما أن جاءت رسلنا) * يفيد الاتصال يعني خاف حين المجئ، فإن قلت هذا باطل بما أن هذه الحكاية جاءت في سورة هود، وقال: * (ولما جاءت رسلنا لوطا) * من غير أن، فنقول هناك جاءت حكاية إبراهيم بصيغة أخرى حيث قال هناك: * (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) * فقوله هنالك: * (ولقد جاءت) * لا يدل على أن قولهم: * (إنا أرسلنا) * كان في وقت المجئ. وقوله: * (ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم) * دل على أن
حزنه كان وقت المجئ. إذا علم هذا فنقول: هناك قد حصل ما ذكرنا من المقصود بقوله في حكاية إبراهيم: * (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) * ثم جرى أمور من الكلام وتقديم الطعام، ثم قالوا: * (لا تخف) * ولا تحزن * (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) * فحصل تأخير الإنذار، وبقوله في حكاية لوط * (ولما جاءت رسلنا) * حصل بيان تعجيل الحزن، وأما هنا لما قال في قصة إبراهيم * (ولما جاءت) * قال في حكاية لوط * (ولما أن جاءت) * لما ذكرنا من الفائدة.
المسألة الثانية:: قال هنا * (إنا منجوك وأهلك) * وقال لإبراهيم * (لننجينه) * بصيغة الفعل فهل فيه فائدة؟ قلنا ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها، وما أوتي البشر من العلم إلا قليلا، والذي يظهر لعقل الضعيف أن هناك لما قال لهم إبراهيم: * (إن فيها لوطا) * وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم، وههنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة أخرى قالوا: * (إنا منجوك) * أي ذلك واقع منا كقوله تعالى: * (إنك ميت) * (الزمر: 30) لضرورة وقوعه.
المسألة الثالثة: قولهم: * (لا تخف ولا تحزن) * لا يناسبه * (إنا منجوك) * لأن خوفه ما كان على نفسه، نقول بينهما مناسبة في غاية الحسن، وهي أن لوطا لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا له لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة، ثم قالوا له: يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا، ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا: * (إنا منجوك وأهلك) *.
المسألة الرابعة: القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم؟ فنقول الدال على الشر له نصيب كفاعل الشر، كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم، فبالدلالة صارت واحدة منهم، ثم إنهم بعد بشارة لوط بالتنجية ذكروا أنهم منزلون على أهل هذه القرية العذاب فقالوا: * (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء) * واختلفوا في ذلك، فقال بعضهم حجارة
62

وقيل نار وقيل خسف، وعلى هذا فلا يكون عينه من السماء وإنما يكون الأمر بالخسف من السماء أو القضاء به من السماء، ثم اعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم قدموا البشارة على الإنذار حيث قالوا: * (إنا منجوك) * ثم قالوا: * (إنا منزلون على أهل هذه القرية) * ولم يعللوا التنجية، فما قالوا إنا منجوك لأنك نبي أو عابد، وعللوا الإهلاك بقولهم: * (بما كانوا يفسقون) * وقالوا بما كانوا، كما قالوا هناك: * (إن أهلها كانوا ظالمين) * (العنكبوت: 31) ثم قال تعالى: * (ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون) * أي من القرية فإن القرية معلومة وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك وفيها مسائل:
المسألة الأولى: جعل الله الآية في نوح وإبراهيم بالنجاة حيث قال: * (فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية) * (العنكبوت: 15) وقال: * (فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات) * (العنكبوت: 24) وجعل ههنا الهلاك آية فهل عندك فيه شيء؟ نقول نعم، أما إبراهيم فلأن الآية كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي، وما به النجاة وهو السفينة كان باقيا، والغرق لم يبق لمن بعده أثره فجعل الباقي آية، وأما ههنا فنجاة لوط لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي وهو ههنا البلاد وهناك السفينة وههنا لطيفة: وهي أن الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة.
المسألة الثانية: قال في السفينة: * (وجعلناها آية) * ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة نقول لأن الإنجاء بالسفينة أمر يتسع له كل عقل وقد يقع في وهم جاهل أن الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر، وأما الآية ههنا الخسف وجعل ديار معمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد، وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان، فهي بينة لا يمكن لجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة النجاة بها أمر يكون كذلك إلى أن يقال له فمن أين علم أنه يحتاج إليها ولو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كان يحصل لهم النجاة؟ ولو سلط الله عليهم الريح العاصفة كيف يكون أحوالهم؟.
المسألة الثالثة: قال هناك للعالمين وقال ههنا: * (لقوم يعقلون) * قلنا لأن السفينة موجودة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال لسفينة نوح يتذكرون بها حاله، وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة ولا يثق أحد بمجرد السفينة، بل يكون دائما مرتجف القلب متضرعا إلى الله تعالى طلبا للنجاة، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من يمر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله المريد، بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان بعد زمان.
63

ثم قال تعالى
* (وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الاخر ولا تعثوا فى الارض مفسدين * فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين) *.
لما أتم الحكاية الثانية على وجه الاختصار لفائدة الاعتبار شرع في الثالثة وقال: * (وإلى مدين أخاهم) * واختلف المفسرون في مدين، فقال بعضهم إنه اسم رجل في الأصل وحصل له ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما، وقال بعضهم اسم ماء نسب القوم إليه، واشتهر في القوم، والأول كأنه أصح وذلك لأن الله أضاف الماء إلى مدين حيث قال: * (ولما ورد ماء مدين) * (القصص: 23) ولو كان اسما للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقة والأصل في الإضافة التغاير حقيقة، وقوله: * (أخاهم) * قيل لأن شعيبا كان منهم نسبا، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الله تعالى في نوح: * (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) * (العنكبوت: 14) قدم نوحا في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم ولوط، وههنا ذكر القوم أولا وأضاف إليهم أخاهم شعيبا، فنقول الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن المرسل لا يبعث رسولا إلى غير معين، وإنما يحصل قوم أو شخص يحتاجون إلى إنباء من المرسل فيرسل إليهم من يختاره غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون
بها، فعرفوا بالنبي فقيل قوم نوح وقوم لوط، وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله وقال الله: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا) * وقال: * (وإلى عاد أخاهم هودا) * (الأعراف: 65).
المسألة الثانية: لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن شعيب ذلك؟ قلنا قد ذكرنا أن لوطا كان له قوم وهو كان من قوم إبراهيم وفي زمانه، وإبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يذكره عن لوط وإنما ذكر منه ما اختص به من المنع عن الفاحشة وغيرها، وإن كان هو أيضا يأمر بالتوحيد، إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد، وأما شعيب فكان بعد انقراض القوم فكان هو أصلا أيضا في التوحيد فدأبه وقال: * (اعبدوا الله) *.
المسألة الثالثة: الإيمان لا يتم إلا بالتوحيد، والأمر بالعبادة لا يفيده لأن من يعبد الله
64

ويعبد غيره فهو مشرك فكيف اقتصر على قوله: * (اعبدوا الله) *؟ فنقول: هذا الأمر يفيد التوحيد، وذلك لأن من يرى غيره يخدم زيدا وعمرو هناك وهو أكبر أو هو سيد زيد، فإذا قال له أخدم عمرا يفهم منه أنه يأمره بصرف الخدمة إليه، وكذا إذا كان لواحد دينار واحد، وهو يريد أن يعطيه زيدا، فإذا قيل له أعطه عمرا يفهم منه لا تعطه زيدا، فنقول هم كانوا مشتغلين بعبادة غير الله والله مالك ذلك الغير فقال لهم شعيب: * (اعبدوا الله) * ففهموا منه ترك عبادة غيره أو نقول لكل واحد نفس واحدة ويريد وضعها في عبادة غير الله فقال لهم شعيب ضعوها في موضعها وهو عبادة الله ففهم منه التوحيد، ثم قال: * (وارجوا اليوم الآخر) * قال الزمخشري: معناه افعلوا ما ترجون به العاقبة إذ قد يقول القائل لغيره كن عاقلا، ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلا، وقوله: * (وارجوا اليوم الآخر) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا يدل على صحة مذهبنا، فإن عندنا من عبد الله طول عمره يثيبه الله تفضلا ولا يجب عليه ذلك لأن العابد قد وصل إليه من النعم ما لو زاد على ما أتى به لما خرج عن عهدة الشكر، ومن شكر المنعم على نعم سبقت لا يلزم المنعم أن يزيده، وإن زاده يكون إحسانا منه إليه وإنعاما عليه، فنقول قوله: * (وارجوا اليوم) * بعد قوله: * (اعبدوا الله) * يدل على التفضل لا على الوجوب فإن الفضل يرجى والواجب من العادل يقطع به.
المسألة الثانية: قال: * (وارجوا اليوم الآخر) * ولم يقل وخافوه مع أن ذلك اليوم مخوف عند الكل وغير مرجو عند كثير من الناس، لفسقه وفجوره ومحبته الدنيا ولا يرجوه إلا قليل من عباده، فنقول لما ذكر التوحيد بطريق الإثبات وقال: * (اعبدوا) * ولم يذكره بطريق النفي وما قال ولا تعبدوا غيره قال بلفظ الرجاء لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين، وفيه وجه آخر وهو أن الله حكى في حكاية إبراهيم أنه قال إنكم اتخذتم الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فتكفرون بها، وقال ههنا لا تكونوا كالذين سبق ذكرهم لم يرجوا اليوم الآخر، فاقتصروا على مودة الحياة الدنيا، وارجوا اليوم الآخر واعملوا له، ثم قال: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * يمكن أن يقال نصب مفسدين على المصدر كما يقال قم قائما أي قياما ويكون قوله: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * كقول القائل إجلس قعودا لأن العيث والفساد بمعنى، وجمع الأوامر والنواهي في قوله: * (اعبدوا الله) * وقوله: * (ولا تعثوا) * ثم إن قومه كذبوه بعدما بلغ وبين، فحكى الله عنهم ذلك بقوله: * (فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما حكي عن شعيب أمر ونهي والأمر لا يصدق ولا يكذب، فإن من قال لغيره قم لا يصح أن يقول له كذبت، فنقول كان شعيب يقول الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه، وهذه الأشياء فيها إخبارات فكذبوه فيما أخبرهم به.
65

المسألة الثانية: قال ههنا وفي الأعراف: * (فأخذتهم الرجفة) * وقال في هود: * (فأخذتهم الصيحة) * (الحجر: 73) والحكاية واحدة، نقول لا تعارض بينهما فإن الصيحة كانت سببا للرجفة، إما لرجفة الأرض إذ قيل إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته، وإما لرجفة الأفئدة فإن قلوبهم ارتجفت منها، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب، إذ يصح أن يقال روى فقوي، وأن يقال شرب فقوي في صورة واحدة.
المسألة الثالثة: حيث قال: * (فأخذتهم الصيحة) * قال: * (في ديارهم) * وحيث قال: * (فأخذتهم الرجفة) * قال: * (في دارهم) * فنقول المراد من الدار هو الديار، والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع، وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمن الالتباس، وإنما اختلف اللفظ للطيفة، وهي أن الرجفة هائلة في نفسها فلم يحتج إلى مهول، وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها لكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع، حتى تعلم هيبتها والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يحتج إلى معظم لأمرها، وقيل إن الصيحة كانت أعم حيث عمت الأرض والجو، والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هناك غير أن هذا ضعيف لأن الدار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة، فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم.
* (وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين * وقارون وفرعون وهامان ولقد جآءهم موسى بالبينات فاستكبروا فى الارض وما كانوا سابقين) *.
ثم قال تعالى: * (وعادا وثمود) * أي وأهلكنا عادا وثمود لأن قوله تعالى: * (فأخذتهم الرجفة) * دل على الإهلاك * (وقد تبين لكم من مساكنهم) * الأمر وما تعتبرون منه، ثم بين سبب ما جرى عليهم فقال: * (وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل) * فقوله: * (وزين لهم الشيطان أعمالهم) * يعني عبادتهم لغير الله * (وصدهم عن السبيل) * يعني عبادة الله * (وكانوا مستبصرين) * يعني بواسطة الرسل يعني فلم يكن لهم في ذلك عذر فإن الرسل أوضحوا السبل. ثم قال تعالى: * (وقارون وفرعون وهامان) * عطفا عليهم أي: وأهلكنا قارون وفرعون وهامان.
66

ثم قال تعالى: * (ولقد جاءهم موسى بالبينات) * كما قال في عاد وثمود: * (وكانوا مستبصرين) * أي بالرسل، ثم قال تعالى: * (فاستكبروا) * أي عن عبادة
الله وقوله: * (في الأرض) * إشارة إلى ما يوضح قلة عقلهم في استكبارهم، وذلك لأن من في الأرض أضعف أقسام المكلفين، ومن في السماء أقواهم، ثم إن من في السماء لا يستكبر على الله وعن عبادته، فكيف (يستكبر) من في الأرض. ثم قال تعالى: * (وما كانوا سابقين) * أي ما كانوا يفوتون الله لأنا بينا في قوله تعالى: * (وما أنتم
بمعجزين في الأرض) * (العنكبوت: 22) أن المراد أن أقطار الأرض في قبضة قدرة الله.
* (فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الارض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
ذكر الله أربعة أشياء العذاب بالحاصب، وقيل إنه كان بحجارة محماة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر، وفيه إشارة إلى النار والعذاب بالصيحة وهو هواء متموج، فإن الصوت قيل سببه تموج الهواء ووصوله إلى الغشاء الذي على منفذ الأذن وهو الصماخ فيقرعه فيحس، والعذاب بالخسف وهو الغمر في التراب، والعذاب بالإغراق وهو بالماء. فحصل العذاب بالعناصر الأربعة والإنسان مركب منها وبها قوامه وبسببها بقاؤه ودوامه، فإذا أراد الله هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سببا لعدمه، وما به بقاؤه سببا لفنائه، ثم قال تعالى: * (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * يعني لم يظلمهم بالهلاك، وإنما هم ظلموا أنفسهم بالإشراك وفيه وجه آخر ألطف وهو أن الله ما كان يظلمهم أي ما كان يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة كما قال تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * (الإسراء: 70) لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته.
* (مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) *.
لما بين الله تعالى أنه أهلك من أشرك عاجلا وعذب من كذب آجلا، ولم ينفعه في الدارين معبوده ولم يدفع ذلك عنه ركوعه وسجوده، مثل اتخاذه ذلك معبودا باتخاذ العنكبوت بيتا لا يجير آويا ولا يريح ثاويا، وفي الآية لطائف نذكرها في مسائل:
المسألة الأولى: ما الحكمة في اختيار هذا المثل من بين سائر الأمثال؟ فنقول فيه وجوه
67

الأول: أن البيت ينبغي أن يكون له أمور: حائط حائل، وسقف مظل، وباب يغلق، وأمور ينتفع بها ويرتفق، وإن لم يكن كذلك فلا بد من أحد أمرين. إما حائط حائل يمنع من البرد وإما سقف مظل يدفع عنه الحر، فإن لم يحصل منهما شيء فهو كالبيداء ليس ببيت لكن بيت العنكبوت لا يجنها ولا يكنها وكذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق وجر المنافع وبه دفع المضار، فإن لم تجتمع هذه الأمور فلا أقل من دفع ضر أو جر نفع، فإن من لا يكون كذلك فهو والمعدوم بالنسبة إليه سواء، فإذن كما لم يحصل للعنكبوت باتخاذ ذلك البيت من معاني البيت شيء، كذلك الكافر لم يحصل له باتخاذ الأوثان أولياء من معاني الأولياء شيء الثاني: هو أن أقل درجات البيت أن يكون للظل فإن البيت من الحجر يفيد الاستظلال ويدفع أيضا الهواء والماء والنار والتراب، والبيت من الخشب يفيد الاستظلال ويدفع الحر والبرد ولا يدفع الهواء القوي ولا الماء ولا النار، والخباء الذي هو بيت من الشعر أو الخيمة التي هي من ثوب إن كان لا يدفع شيئا يظل ويدفع حر الشمس لكن بيت العنكبوت لا يظل فإن الشمس بشعاعها تنفذ فيه، فكذلك المعبود أعلى درجاته أن يكون نافذ الأمر في الغير، فإن لم يكن كذلك فيكون نافذ الأمر في العابد، فإن لم يكن فلا أقل من أن لا ينفذ أمر العابد فيه لكن معبودهم تحت تسخيرهم إن أرادوا أجلوه وإن أحبوا أذلوه الثالث: أدنى مراتب البيت أنه إن لم يكن سبب ثبات وارتفاق لا يصير سبب شتات وافتراق، لكن بيت العنكبوت يصير سبب انزعاج العنكبوت، فإن العنكبوت لو دام في زاوية مدة لا يقصد ولا يخرج منها، فإذا نسج على نفسه واتخذ بيتا يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه والمسح بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت، فكذلك العابد بسبب العبادة ينبغي أن يستحق الثواب، فإن لم يستحقه فلا أقل من أن لا يستحق بسببها العذاب، والكافر يستحق بسبب العبادة العذاب.
المسألة الثانية: مثل الله اتخاذهم الأوثان أولياء باتخاذ العنكبوت نسجه بيتا ولم يمثله بنسجه وذلك لوجهين أحدهما: أن نسجه فيه فائدة له، لولاه لما حصل وهو اصطيادها الذباب به من غير أن يفوته ما هو أعظم منه، واتخاذهم الأوثان وإن كان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا، لكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت الوجه الثاني: هو أن نسجه مفيد لكن اتخاذها ذلك بيتا أمر باطل فكذلك هم لو اتخذوا الأوثان دلائل على وجود الله وصفات كماله وبراهين على نعوت إكرامه وأوصاف جلاله لكان حكمة، لكنهم اتخذوها أولياء كجعل العنكبوت النسج بيتا وكلاهما باطل.
المسألة الثالثة: كما أن هذا المثل صحح في الأول فهو صحيح في الآخر، فإن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباء منثورا، فكذلك أعمالهم للأوثان كما قال تعالى: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) * (الفرقان: 23).
المسألة الرابعة: قال: * (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء) * ولم يقل آلهة إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضا، فإن من عبد الله رياء لغيره فقد اتخذ وليا غيره فمثله مثل العنكبوت يتخذ نسجه بيتا.
68

ثم إنه تعالى قال: وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
إشارة إلى ما بينا أن كل بيت ففيه إما فائدة الاستظلال أو غير ذلك، وبيته يضعف عن إفادة ذلك لأنه يخرب بأدنى شيء ولا يبقى منه عين ولا أثر * (فكذلك عملهم لو كانوا يعلمون) *.
قوله تعالى
* (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شىء وهو العزيز الحكيم) *.
قال الزمخشري: هذا زيادة توكيد على التمثيل حيث إنهم لا يدعون من دونه من شيء، بمعنى ما يدعون ليس بشيء وهو عزيز حكيم فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلا، وهذا يفهم منه أنه جعل ما نافية، وهو صحيح، والعلم يتعلق بالجملة كما يقول القائل: إني أعلم أن الله واحد حق، يعني أعلم هذه الجملة، وإن كنا نجعل ما خبرية فيكون معناه ما يدعون من شيء فالله يعلمه وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم، لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة، ومن ههنا يكون الخطاب مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا لو قال قائل ما وجه تعلق هذه الآية بالتمثيل السابق؟ فنقول لما قال إن مثلهم كمثل العنكبوت، فكان للكافر أن يقول أنا لا أعبد هذه الأوثان التي أتخذها وهي تحت تسخيري، وإنما هي صورة كوكب أنا تحت تسخيره ومنه نفعي وضري وخيري وشري ووجودي ودوامي فله سجودي وإعظامي، فقال الله تعالى: الله يعلم أن كل ما يعبدون من دون الله هو مثل بيت العنكبوت لأن الكوكب والملك وكل ما عدا الله لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله فعبادتكم للغائب كعبادتكم للحاضر ولا معبود إلا الله ولا إله سواه.
* (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون) *.
قال الكافرون كيف يضرب خالق الأرض والسماوات الأمثال بالهوام والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت؟ فيقال الأمثال تضرب للناس إن لم تكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نفرتكم مما أنتم فيه وذلك لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيرا مثل تأثير الدليل، فإذا قال الحكيم لمن يغتاب إنك بالغيبة كأنك تأكل لحم ميت لأنك وقعت في هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب كمن يقع في ميت يأكل منه وهو لا يعلم ما يفعله ولا يقدر على دفعه إن كان يعلمه فينفر طبعه منه كما ينفر إذا قال له إنه يوجب العذاب ويورث العقاب.
69

ثم قال تعالى: * (وما يعقلها إلا العالمون) *.
يعني حقيقتها وكون الأمر كذلك لا يعلمه إلا من حصل له العلم ببطلان ما سوى الله وفساد عبادة ما عداه، وفيه معنى حكمي وهو أن العلم الحدسي يعلمه العاقل والعلم الفكري الدقيق يعقله العالم، وذلك لأن العاقل إذا عرض عليه أمر ظاهر أدركه كما هو بكنهه لكون المدرك ظاهرا وكون المدرك عاقلا، ولا يحتاج إلى كونه عالما بأشياء قبله، وأما الدقيق فيحتاج إلى علم سابق فلا بد من عالم، ثم إنه قد يكون دقيقا في غاية الدقة فيدركه ولا يدركه بتمامه ويعقله إذا كان عالما. إذا علم هذا فقوله: * (وما يعقلها إلا العالمون) * يعني هو ضرب للناس أمثالا وحقيقتها وما فيها من الفوائد بأسرها فلا يدركها إلا العلماء.
ثم إنه تعالى لما أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان ولم يأت الكفار بما أمرهم به وقص عليهم قصصا فيها عبر، وأنذرهم على كفرهم بإهلاك من غبر، وبين ضعف دليلهم بالتمثيل، ولم يهتدوا بذلك إلى سواء السبيل، وحصل يأس الناس عنهم سلى المؤمنين بقوله:
* (خلق الله السماوات والارض بالحق إن فى ذلك لآية للمؤمنين) *.
يعني إن لم يؤمنوا هم لا يورث كفرهم شكا في صحة دينكم، ولا يؤثر شكهم في قوة يقينكم، فإن خلق الله السماوات والأرض بالحق للمؤمنين بيان ظاهر، وبرهان باهر، وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر، وفي الآية مسألة يتبين بها تفسير الآية، وهي أن الله تعالى كيف خص الآية في خلق السماوات والأرض بالمؤمنين مع أن في خلقهما آية لكل عاقل كما قال الله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25) وقال الله تعالى: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - إلى أن قال - لآيات لقوم يعقلون) * (البقرة: 164) فنقول خلق السماوات والأرض آية لكل عاقل وخلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب، وبيانه من حيث النقل والعقل، أما النقل فقوله تعالى: * (ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) * (الدخان: 39) أخرج أكثر الناس عن العلم يكون خلقهما بالحق مع أنه أثبت علم الكل بأنه خلقهما حيث قال: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات الأرض ليقولن الله) * وأما العقل فهو أن العاقل أول ما ينظر إلى خلق السماوات والأرض ويعلم أن لهما خالقا وهو الله ثم من يهديه الله لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك، بل يقول إنه خلقهما متقنا محكما وهو المراد بقوله * (بالحق) *، لأن ما لا يكون على وجه الإحكام يفسد ويبطل فيكون باطلا، وإذا علم أنه خلقهما متقنا يقول إنه قادر كامل حيث خلق وعالم علمه شامل حيث أتقن
70

فيقول لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض ولا في السماوات ولا يعجز عن جمعها كما جمع أجزاء الكائنات والمبدعات، فيجوز بعث من في القبور وبعثة الرسول، ويعلم وحدانية الله لأنه لو كان أكثر من واحد لفسدتا ولبطلتا وهما بالحق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه، من خلق ما خلقه على أحسن نظامه، ثم إن الله تعالى لما سلى المؤمنين بهذه الآية سلى رسوله
قوله تعالى
* (تل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلوة إن الصلوة تنهى عن الفحشآء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) *.
يعني إن كنت تأسف على كفرهم فاتل ما أوحي إليك لتعلم أن نوحا ولوطا وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ولهذا قال: * (أتل) * وما قال عليهم، لأن التلاوة ما كانت بعد اليأس منهم إلا لتسلية قلب محمد عليه الصلاة والسلام وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أن الرسول إذا كان معه كتاب وقرأ كتابه مرة ولم يسمع لم يبق له فائدة في قراءته لنفسه فنقول الكتاب المنزل مع النبي المرسل ليس كذلك، فإن الكتب المسيرة مع الرسل على قسمين قسم يكون فيه سلام وكلام، مع واحد يحصل بقراءته مرة تمام المرام، وقسم يكون فيه قانون كلي تحتاج إليه الرعية في جميع الأوقات كما إذا كتب الملك كتابا فيه إنا رفعنا عنكم البدعة الفلانية ووضعنا فيكم السنة الفلانية وبعثنا إليكم هذا الكتاب فيه جميع ذلك فليكن ذلك كمنوال ينسج عليه وال بعد وال، فمثل هذا
الكتاب لا يقرأ ويترك بل يعلق من مكان عال، وكثيرا ما تكتب نسخته على لوح ويثبت فوق المحاريب، ويكون نصب الأعين، فكذلك كتاب الله مع رسوله محمد قانون كلي فيه شفاء للعالمين فوجب تلاوته مرة بعد مرة ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم ويثبت في الصدور على مرور الدهور الوجه الثاني: هو أن الكتب على ثلاثة أقسام كتاب لا تكره قراءته إلا للغير كالقصص فإن من قرأ حكاية مرة لا يقرؤها مرة أخرى إلا لغيره، ثم إذا سمعه ذلك الغير لا يقرؤها إلا لآخر لم يسمعه ولو قرأه عليه لسئموه، وكتاب لا يكرر عليه إلا للنفس كالنحو والفقه وغيرهما وكتاب يتلى مرة بعد مرة للنفس وللغير كالمواعظ الحسنة فإنها تكرر للغير وكلما سمعها يلتذ بها ويرق لها قلبه ويستعيدها وكلما تدخل السمع يخرج الوسواس مع الدمع وتكرر أيضا لنفس المتكلم فإن كثيرا ما يلتذ المتكلم بكلمة طيبة وكلما يعيدها يكون أطيب وألذ وأثبت في القلب وأنفذ
71

حتى يكاد يبكي من رقته دما ولو أورثه البكاء عمى، إذا علم هذا فالقرآن من القبيل الثالث مع أن فيه القصص والفقه والنحو فكان في تلاوته في كل زمان فائدة.
المسألة الثانية: لم خصص بالأمر هذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة؟ فنقول لوجهين أحدهما: أن الله لما أراد تسلية قلب محمد عليه السلام قال له الرسول واسطة بين طرفين من الله إلى الخلق، فإذا لم يتصل به الطرف الواحد ولم يقبلوه فالطرف الآخر متصل، ألا ترى أن الرسول إذا لم تقبل رسالته توجه نحو مرسله، فإذا تلوت كتابك ولم يقبلوك فوجه وجهك إلى وأقم الصلاة لوجهي الوجه الثاني: هو أن العبادات المختصة بالعبد ثلاثة: وهي الاعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية خارجية وهي العمل الصالح، لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن من اعتقد شيئا لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمرا والنبي عليه السلام كان ذلك حاصلا له عن عيان أكمل مما يحصل عن بيان، فلم يؤمر به لعدم إمكان تكراره، لكن الذكر ممكن التكرار، والعبادة البدنية كذلك فأمره بهما فقال: أتل الكتاب وأقم الصلاة.
المسألة الثالثة: كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر؟ نقول قال بعض المفسرين المراد من الصلاة القرآن وهو ينهى أي فيه النهي عنهما وهو بعيد لأن إرادة القرآن من الصلاة في هذا الموضع الذي قال قبله * (أتل ما أوحي إليك) * بعيد من الفهم، وقال بعضهم أراد به نفس الصلاة وهي تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة، لأنه لا يمكنه الاشتغال بشيء منهما، فنقول هذا كذلك لكن ليس المراد هذا وإلا لا يكون مدحا كاملا للصلاة، لأن غيرها من الأشغال كثيرا ما يكون كذلك كالنوم في وقته وغيره فنقول: المراد أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر مطلقا وعلى هذا قال بعض المفسرين الصلاة هي التي تكون مع الحضور وهي تنهى، حتى نقل عنه صلى الله عليه وسلم " من لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد بها إلا بعدا " ونحن نقول الصلاة الصحيحة شرعا تنهى عن الأمرين مطلقا وهي التي أتى بها المكلف لله حتى لو قصد بها الرياء لا تصح صلاته شرعا وتجب عليه الإعادة، وهذا ظاهر فإن من نوى بوضوئه الصلاة والتبرد قيل لا يصح فكيف من نوى بصلاته الله وغيره إذا ثبت هذا فنقول الصلاة تنهى من وجوه الأول: هو أن من كان يخدم ملكا عظيم الشأن كثير الإحسان ويكون عنده بمنزلة، ويرى عبدا من عباده قد طرده طردا لا يتصور قبوله، وفاته الخبر بحيث لا يرجى حصوله، يستحيل من ذلك المقرب عرفا أن يترك خدمة الملك ويدخل في طاعة ذلك المطرود فكذلك العبد إذا صلى لله صار عبدا له، وحصل له منزلة المصلي يناجي ربه، فيستحيل منه أن يترك عبادة الله ويدخل تحت طاعة الشيطان المطرود، لكن مرتكب الفحشاء والمنكر تحت طاعة الشيطان فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر الثاني: هو أن من يباشر القاذورات كالزبال والكناس يكون له لباس نظيف إذا لبسه لا يباشر معه القاذورات وكلما كان ثوبه أرفع يكون امتناعه وهو لابسه عن القاذورات أكثر فإذا لبس واحد منهم ثوب ديباج
72

مذهب يستحيل منه مباشرة تلك الأشياء عرفا، فكذلك العبد إذا صلى لبس لباس التقوى لأنه واقف بين يدي الله واضع يمينه على شماله؛ على هيئة من يقف بمرأى ملك ذي هيبة، ولباس التقوى خير لباس يكون نسبته إلى القلب أعلى من نسبة الديباج المذهب إلى الجسم، فإذن من لبس هذا اللباس يستحيل منه مباشرة قاذورات الفحشاء والمنكر. ثم إن الصلوات متكررة واحدة بعد واحدة فيدوم هذا اللبس فيدوم الامتناع الثالث: من يكون أمير نفسه يجلس حيث يريد فإذا دخل في خدمة ملك وأعطاه منصبا له مقام خاص لا يجلس صاحب ذلك المنصب إلا في ذلك الموضع، فلو أراد أن يجلس في صف النعال لا يترك فكذلك العبد إذا صلى دخل في طاعة الله ولم يبق بحكم نفسه وصار له مقام معين، إذ صار من أصحاب اليمين، فلو أراد أن يقف في غير موضعه وهو موقف أصحاب الشمال لا يترك، لكن مرتكب الفحشاء والمنكر من أصحاب الشمال وهذا الوجه إشارة إلى عصمة الله يعني من صلى عصمه الله عن الفحشاء والمنكر الرابع: وهو موافق لما وردت به الأخبار وهو أن من يكون بعيدا عن الملك كالسوقي والمنادي والمتعيش لا يبالي بما فعل من الأفعال يأكل في دكان الهراس والرواس ويجلس مع أحباش الناس، فإذا صارت له قربة يسيرة من الملك كما إذا صار واحدا من الجندارية والقواد والسواس عند الملك لا تمنعه تلك القربة من تعاطي ما كان يفعله، فإذا زادت قربته وارتفعت منزلته حتى صار أميرا حينئذ تمنعه هذه المنزلة عن الأكل في ذلك المكان والجلوس مع أولئك الخلان، كذلك العبد إذا صلى وسجد صار له قربة ما لقوله تعالى: * (واسجد واقترب) * (العلق: 19) فإذا كان ذلك القدر من القربة يمنعه من المعاصي والمناهي، فبتكرر الصلاة والسجود تزداد مكانته، حتى يرى على نفسه من آثار الكرامة ما يستقذر معه من نفسه الصغائر فضلا عن الكبائر، وفي الآية وجه آخر معقول يؤكده المنقول وهو أن المراد من قوله: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * هو أنها تنهى عن التعطيل والإشراك، والتعطيل هو إنكار وجود الله، والإشراك إثبات ألوهية لغير الله. فنقول التعطيل عقيدة فحشاء لأن الفاحش هو القبيح الظاهر القبح، لكن وجود الله أظهر من الشمس وما من شيء إلا وفيه آية على الله ظاهرة وإنكار الظاهر ظاهر الإنكار، فالقول بأن لا إله قبيح والإشراك منكر، وذلك لأن الله تعالى لما أطلق اسم المنكر على من نسب نفسا إلى غير الوالد مع جواز أن يكون له ولد حيث قال: * (إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول) * (المجادلة: 2) فالمشرك الذي يقول الملائكة بنات الله وينسب إلى من لم يلد، ولا يجوز أن يكون له ولد، ولدا كيف لا يكون قوله منكرا؟ فالصلاة تنهى عن هذه الفحشاء، وهذا المنكر وذلك لأن العبد أول ما يشرع في الصلاة يقول الله أكبر، فبقوله الله ينفي التعطيل وبقوله أكبر ينفي التشريك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك، فإذا قال
بسم الله نفى التعطيل، وإذا قال الرحمن الرحيم نفى الإشراك، لأن الرحمن من يعطي الوجود بالخلق بالرحمة، والرحيم من
73

يعطي البقاء بالرزق بالرحمة، فإذا قال الحمد لله رب العالمين، أثبت بقوله الحمد لله خلاف التعطيل وبقوله: * (رب العالمين) * خلاف الإشراك، فإذا قال: * (إياك نعبد) * بتقديم إياك نفى التعطيل والإشراك وكذا بقوله: * (وإياك نستعين) * فإذا قال: * (إهدنا الصراط) * نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد والمعطل لا مقصد له، وبقوله: * (المستقيم) * نفى الإشراك لأن المستقيم هو الأقرب والمشرك يعبد الأصنام حتى يعبد صورة صورها إله العالمين، ويظنون أنهم يشفعون لهم وعبادة الله من غير واسطة أقرب، وعلى هذا إلى آخر الصلاة يقول فيها أشهد أن لا إله إلا الله فينفي الإشراك والتعطيل، وههنا لطيفة وهي أن الصلاة أولها لفظة الله وآخرها لفظة الله في قوله: أشهد أن لا إله إلا الله ليعلم المصلي أنه من أول الصلاة إلى آخرها مع الله، فإن قال قائل فقد بقي من الصلاة قوله وأشهد أن محمدا رسول الله والصلاة على الرسول والتسليم، فنقول هذه الأشياء في آخرها دخلت لمعنى خارج عن ذات الصلاة، وذلك لأن الصلاة ذكر الله لا غير، لكن العبد إذا وصل بالصلاة إلى الله وحصل مع الله لا يقع في قلبه أنه استقل واستبد واستغنى عن الرسول، كمن تقرب من السلطان فيغتر بذلك ولا يلتفت إلى النواب والحجاب، فقال أنت في هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى الله عليه وسلم وغير مستغن عنه فقل مع ذكرى محمد رسول الله، ثم إذا علمت أن هذا كله ببركة هدايته فاذكر إحسانه بالصلاة عليه، ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغهم سلامي كما هو ترتيب المسافرين، واعلم أن هيئة الصلاة هيئة فيها هيبة فإن أولها وقوف بين يدي الله كوقوف المملوك بين يدي السلطان، ثم إن آخرها جثو بين يدي الله كما يجثو بين يدي السلطان من أكرمه بالإجلاس، كأن العبد لما وقف وأثنى على الله أكرمه الله وأجلسه فجثا، وفي هذا الجثو لطيفة وهي أن من جثا في الدنيا بين يدي ربه هذا الجثو لا يكون له جثو في الآخرة، ولا يكون من الذين قال الله في حقهم * (ونذر الظالمين فيها جثيا) * (مريم: 72).
ثم قال تعالى: * (ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) *.
لما ذكر أمرين وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة بين ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم، فقال: * (ولذكر الله أكبر) * وأنتم إذا ذكرتم آباءكم بما فيهم من الصفات الحسنة تنبشوا لذلك وتذكروهم بملء أفواهكم وقلوبكم، لكن ذكر الله أكبر، فينبغي أن يكون على أبلغ وجوه التعظيم، وأما الصلاة فكذلك لأن الله يعلم ما تصنعون، وهذا أحسن صنعكم فينبغي أن يكون على وجه التعظيم، وفي قوله: * (ولذكر الله أكبر) * مع حذف بيان ما هو أكبر منه لطيفة وهي أن الله لم يقل أكبر من ذكر فلان لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة، إذا لا يقال الجبل أكبر من خردلة، وإنما يقال هذا الجبل أكبر من ذلك الجبل فأسقط المنسوب كأنه قال ولذكر
74

الله له الكبر لا لغيره، وهذا كما يقال في الصلاة الله أكبر أي له الكبر لا لغيره.
قوله تعالى
* (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون * وكذلك أنزلنآ إليك الكتاب فالذين ءاتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد باياتنآ إلا الكافرون) *.
لما بين الله طريقة إرشاد المشركين ونفع من انتفع وحصل اليأس ممن امتنع بين طريقة إرشاد أهل الكتاب فقال: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) * قال بعض المفسرين المراد منه لا تجادلوهم بالسيف، وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا وحاربوا، أي إذا ظلموا زائدا على كفرهم، وفيه معنى ألطف منه وهو أن المشرك جاء بالمنكر على ما بيناه فكان اللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه، ولهذا قال تعالى في حقهم * (صم بكم عمي) * (البقرة: 18) وقال: * (لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها) * (الأعراف: 179) إلى غير ذلك. وأما أهل الكتاب فجاءوا بكل حسن إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل والحشر، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن ولا تستخف آراؤهم ولا ينسب الضلال آباؤهم، بخلاف المشرك، ثم على هذا فقوله: * (إلا الذين ظلموا) * تبيين له حسن آخر، وهو أن يكون المراد إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة فإنهم ضاهوهم في القول المنكر فهم الظالمون، لأن الشرك ظلم عظيم، فيجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم، ثم إنه تعالى بين ذلك الأحسن فقدم محاسنهم بقوله: * (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) * فيلزمنا اتباع ما قاله لكنه بين رسالتي في كتبكم فهو دليل مضيء، ثم بعد ذلك ذكر دليلا قياسيا فقال: * (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب) * يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وهذا قياس، ثم قال: * (فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) * لوجود النص ومن هؤلاء كذلك، واختلف المفسرون فقال بعضهم: المراد بالذين آتيناهم الكتاب من آمن بنبينا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره وبقوله: * (ومن هؤلاء) * أي من أهل مكة وقال بعضهم: المراد بالذين
75

آتيناهم الكتاب هم الذين سبقوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا من أهل الكتاب، ومن هؤلاء الذين هم في زمان محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وهذا أقرب، فإن قوله: * (هؤلاء) * صرفه إلى أهل الكتاب أولى، لأن الكلام فيهم ولا ذكر للمشركين ههنا، إذ كان هذا الكلام بعد الفراغ من ذكرهم والإعراض عنهم لإصرارهم على الكفر، وههنا وجه آخر أولى وأقرب إلى العقل والنقل، وأقرب إلى الأحسن من الجدال المأمور به، وهو أن نقول المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الأنبياء وبقوله: * (ومن هؤلاء) * أي من أهل الكتاب وهو أقرب، لأن الذين آتاهم الكتاب في الحقيقة هم الأنبياء، فإن الله ما آتي الكتاب إلا للأنبياء، كما قال تعالى: * (أولئك الذين آتيناهم الكتاب) * (الأنعام: 89) وقال: * (وآتينا داود زبورا) * (النساء: 163) وقال: * (وآتاني الكتاب) * (مريم: 30) وإذا حملنا الكلام على هذا لا يدخله التخصيص، لأن كل الأنبياء آمنوا بكل الأنبياء، وإذا قلنا بما قالوا به يكون المراد من الذين آتيناهم الكتاب عبد الله بن سلام واثنين أو ثلاثة معه أو عددا قليلا،
ويكون المراد بقوله: * (ومن هؤلاء) * غير المذكورين، وعلى ما ذكرنا يكون مخرج الكلام كأنه قسم القوم قسمين أحدهما المشركين وتكلم فيهم وفرغ منهم والثاني أهل الكتاب وهو بعد في بيان أمرهم، والوقت وقت جريان ذكرهم، فإذا قال هؤلاء يكون منصرفا إلى أهل الكتاب الذين هم في وصفهم، وإذا قال أولئك يكون منصرفا إلى المشركين الذين سبق ذكرهم وتحقق أمرهم، وعلى هذا التفسير يكون الجدال على أحسن الوجوه، وذلك لأن الخلاف في الأنبياء والأئمة قريب من الخلاف في فضيلة الرؤساء والملوك، فإذا اختلف حزبان في فضيلة ملكين أو رئيسين، وأدى الاختلاف إلى الاقتتال يكون أقوى كلام يصلح بينهم أن يقال لهم هذان الملكان متوافقان متصادقان، فلا معنى لنزاعكم فكذلك ههنا قال النبي صلى الله عليه وسلم نحن آمنا بالأنبياء وهم آمنوا بي فلا معنى لتعصبكم لهم وكذلك أكابركم وعلماؤكم آمنوا، ثم قال تعالى: * (وما يجحد بآياتنا إلى الكافرون) * تنفيرا لهم عما هم عليه، يعني أنكم آمنتم بكل شيء، وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة، إلا هذه المسألة الواحدة، وبإنكارها تلتحقون بهم وتبطلون مزاياكم، فإن الجاحد بآية يكون كافرا.
قوله تعالى
* (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل هو ءايات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد باياتنآ إلا الظالمون) *.
76

ثم قال تعالى: * (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) * هذه درجة أخرى بعد ما تقدم على الترتيب، وذلك لأن المجادل إذا ذكر مسألة مختلفا فيها كقول القائل: الزكاة تجب في مال الصغير، فإذا قيل له لم؟ فيقول كما تجب النفقة في ماله، ولا يذكر أولا الجامع بينهما، فإن قنع الطالب بمجرد التشبيه وأدرك من نفسه الجامع فذاك، وإن لم يدرك أو لم يقنع يبدي الجامع، فيقول كلاهما مال فضل عن الحاجة فيجب فكذلك ههنا ذكر أولا التمثيل بقوله: * (وكذلك أنزلنا إليك) * (العنكبوت: 47) ثم ذكر الجامع وهو المعجزة، فقال ما علم كون تلك الكتب منزلة إلا بالمعجزة، وهذا القرآن ممن لم يكتب ولم يقرأ عين المعجزة، فيعرف كونه منزلا، وقوله تعالى: * (إذا لارتاب المبطلون) * فيه معنى لطيف، وهو أن النبي إذا كان قارئا كاتبا ما كان يوجب كون هذا الكلام كلامه، فإن جميع كتبة الأرض وقرائها لا يقدرون عليه، لكن على ذلك التقدير يكون للمبطل وجه ارتياب، وعلى ما هو عليه لا وجه لارتيابه فهو أدخل في الإبطال وهذا كقوله تعالى: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) * (البقرة: 23) أي من مثل محمد عليه السلام وكقوله: * (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه) * (البقرة: 1، 2).
ثم قال تعالى: * (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) * قوله في صدور الذين أوتوا العلم إشارة إلى أنه ليس من مخترعات الآدميين، لأن من يكون له كلام مخترع يقول هذا من قلبي وخاطري، وإذا حفظه من غيره يقول إنه في قلبي وصدري، فإذا قال: * (في صدور الذين أوتوا العلم) * لا يكون من صدر أحد منهم، والجاهل يستحيل منه ذلك ظهور له من الصدور ويلتحقون عنده هذه الأمة بالمشركين، فظهوره من الله.
ثم قال تعالى: * (وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون) * قال ههنا الظالمون، ومن قبل قال الكافرون، مع أن الكافر ظالم ولا تنافي بين الكلامين وفيه فائدة، وهي أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين، فلفظ الكافر هناك كان بليغا يمنعهم من ذلك لاستنكافهم عن الكفر، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أول الأمر بالمشركين حكما، وتلتحقون عند هذه الآية بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين، أي مشركين، كما بينا أن الشرك ظلم عظيم، فهذا اللفظ ههنا أبلغ وذلك اللفظ هناك أبلغ.
قوله تعالى
* (وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربه قل إنما الايات عند الله وإنمآ أنا نذير مبين) *.
77

لما فرغ من ذكر دليل من جانب النبي عليه السلام ذكر شبهتهم وهي بذكر الفرق بين المقيس عليه والمقيس، فقالوا إنك تقول إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى، وليس كذلك لأن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئا منها، ثم إن الله تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة منها قوله: * (إنما الآيات عند الله) * ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ادعى الرسالة وليس من شرط الرسالة الآية المعجزة، لأن الرسول يرسل أولا ويدعو إلى الله، ثم إن توقف الخلق في قبوله أو طلبوا منه دليلا، فالله إن رحمهم بين رسالته وإن لم يرحمهم لا يبين، فقال أنا الساعة رسول وأما الآية فالله إن أراد ينزلها وإن لم يرد لا ينزلها وهذا لأن ما هو من ضرورات الشيء إذا خلق الله الشيء لا بد من أن يخلقها كالمكان من ضرورات الإنسان فلا يخلق الله إنسانا إلا ويكون قد خلق مكانا أو يخلقه معه، لكن الرسالة والمعجزة ليستا كذلك فالله إذا خلق رسولا وجعله رسولا ليس من ضروراته أن تعلم له معجزة، ولهذا علم وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب ولم تعلم لهم معجزة فإن قيل علم رسالتهم، نقول من ثبتت رسالته بلا معجزة فنبينا كذلك لا حاجة له إلى معجزة لأن رسالته علمت بقول موسى وعيسى فتبين بطلان قولهم لم لم ينزل عليه آية؟ وهذا لأنهم طلبوا سبق الآية وليست شرطا حتى تسبقها، بلى إن كان لهم سؤال فطريقه أن يقولوا يا أيها المدعي نحن لا نكذبك ولا نصدقك لكنا نريد أن يبين الله لنا آية تخلصنا من تصديق المتنبي وتكذيب النبي ونعلم بها كونك نبيا ونؤمن بك، فبعد ذلك ما كان يبعد من رحمة الله أن ينزل آية.
ثم قوله: * (وإنما أنا نذير مبين) * معناه أن الآية عند الله ينزلها أو لا ينزلها لا تتعلق بي ما أنا إلا نذير وليس لي عليه حكم بشيء ثم إنه بعد بيان فساد شبهتهم من وجه بين فسادها من وجه آخر، وقال هب أن إنزال الآية شرط لكنه وجد وهو في نفس الكتاب.
* (أو لم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن فى ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون * قل كفى بالله بينى وبينكم شهيدا يعلم ما فى السماوات والارض والذين ءامنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) *.
فقال تعالى: * (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) * يعني إن كان إنزال الآية شرطا
78

فلا يشترط إلا إنزال آية وقد أنزل وهو القرآن فإنه معجزة ظاهرة باقية وقوله: * (أو لم يكفهم) * عبارة تنبئ عن كون القرآن آية فوق الكفاية، وذلك لأن القائل إذا قال أما يكفي للمسئ أن لا يضرب حتى يتوقع الإكرام ينبئ عن أن ترك الضرب في حقه كثير فكذلك قوله: * (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب) * وهذا لأن القرآن معجزة أتم من كل معجزة تقدمتها لوجوه: أحدهما: أن تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعبانا وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر، فلو لم يكن واحد يؤمن بكتب الله ويكذب بوجود هذه الأشياء لا يمكن إثباتها معه بدون الكتاب وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فنقول له فأت بآية من مثله الثاني: هو أن قلب العصا ثعبانا كان في مكان واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، وههنا لطيفة وهي أن آيات النبي عليه السلام كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان لأن من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض، لأن الخسوف إذا وقع عم وذلك لأن نبوته كانت عامة لا تختص بقطر دون قطر وغاضت بحيرة ساوة في قطر وسقط إيوان كسرى في قطر وانهدت الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاما بأنه يكون أمر عام الثالث: هو أن غير هذه المعجزة الكافر المعاند يقول إنه سحر عمل بدواء، والقرآن لا يمكن هذا القول فيه.
ثم إنه تعالى قال: * (إن في ذلك لرحمة) * إشارة إلى أنا جعلناه معجزة رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق، وهذا لأنا بينا أن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من الله، وكان له أن لا يظهر فيبقى الخلق في ورطة تكذيب الصادق أو تصديق الكاذب، لأن النبي لا يتميز عن المتنبي لولا المعجزة، لكن الله له ذلك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وقوله: * (وذكرى) * إشارة إلى أنه معجزة باقية يتذكر بها كل من يكون ما بقي الزمان.
ثم قال تعالى: * (لقوم يؤمنون) * يعني هذه الرحمة مختصة بالمؤمنين لأن المعجزة كانت غضبا على الكافرين لأنها قطعت أعذارهم وعطلت إنكارهم.
ثم قال تعالى: * (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا) * لما ظهرت رسالته وبهرت دلالته ولم يؤمن به المعاندون من أهل الكتاب قال كما يقول الصادق إذا كذب وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدق الله يعلم صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينكم، كل ذلك إنذار وتهديد يفيده تقريرا وتأكيدا، ثم بين كونه كافيا بكونه عالما بجميع الأشياء. فقال: * (يعلم ما في السماوات والأرض) * وههنا مسألة: وهي أن الله تعالى قال في آخر الرعد * (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) * (الرعد: 43) فأخر شهادة أهل الكتاب، وفي هذه السورة قدمها حيث قال: * (فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) * (العنكبوت: 47) ومن هؤلاء من يؤمن به أي من أهل الكتاب فنقول الكلام هناك مع المشركين، فاستدل عليهم بشهادة غيرهم ثم
79

إن شهادة الله أقوى في إلزامهم من شهادة غير الله، وههنا الكلام مع أهل الكتاب، وشهادة المرء على نفسه هو إقراره وهو أقوى الحجج عليه فقدم ما هو ألزم عليهم.
ثم إنه تعالى لما بين الطريقين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد إلى الكلام الشامل لهما والانذار العام فقال تعالى: * (والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) * أي الذين آمنوا بما سوى الله لأن ما سوى الله باطل لأنه هالك بقوله: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) وكل ما هلك فقد بطل فكل هالك باطل وكل ما سوى الله باطل، فمن آمن بما سوى الله فقد آمن بالباطل، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (أولئك هم الخاسرون) * يقتضي الحصر أي من أتى بالإيمان بالباطل والكفر بالله فهو خاسر فمن يأتي بأحدهما دون الآخر ينبغي أن لا يكون خاسرا فنقول يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتيا بالآخر، أما الآتي بالإيمان بما سوى الله فلأنه أشرك بالله فجعل غير الله مثل غيره لكن غيره عاجز جاهل ممكن باطل فيكون الله كذلك فيكون إنكارا لله وكفرا به، وأما من كفر به وأنكره فيكون قائلا بأن العالم ليس له إله موجد فوجود العالم من نفسه، فيكون قائلا بأن العالم واجب والواجب إله، فيكون قائلا بأن غير الله إله فيكون إثباتا لغير الله وإيمانا به.
المسألة الثانية: إذا كان الإيمان بما سوى الله كفرا به، فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله، فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي هو في قول القائل قم ولا تقعد وأقرب مني ولا تبعد؟ نقول نعم فيه فائدة غيرها، وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل أتقول بالباطل وتترك الحق لبيان أن القول باطل قبيح.
المسألة الثالثة: هل يتناول هذا أهل الكتاب أي هل هم آمنوا بالباطل وكفروا بالله؟ نقول نعم، لأنهم لما صح عندهم أن معجزة النبي من عند الله وقطعوا بها وعاندوا وقالوا إنها من عند غير الله، يكون كمن رأى شخصا يرمي حجارة، فقال إن رامي الحجارة زيد يقطع بأنه قائل بأن هذا الشخص زيد حتى لو سئل عن عين ذلك الشخص وقيل له من هذا الرجل يقول زيد، فكذلك هم لما قطعوا بأن مظهر المعجزة هو الله وقالوا بأن محمدا مظهر هذا يلزمهم أن يقولوا محمد هو الله تعالى فيكون إيمانا بالباطل، وإذا قالوا بأن من أظهر المعجزة ليس بإله مع أنهم قطعوا بخصوص مظهر المعجزة يكونون قائلين بأن ذلك المخصوص الذي هو الله ليس بإله فيكون كفرا به، وهذا لا يرد علينا فيمن يقول فلعل العبد مخلوق الله تعالى أو مخلوق العبد، فإنه أيضا ينسب فعل الله إلى الغير، كما أن المعجزة فعل الله وهم نسبوها إلى غيره لأن هذا القائل جهل النسبة، كمن يرى حجارة رميت ولم ير عين راميها، فيظن أن راميها زيد فيقول زيد هو رامي هذه الحجارة، ثم إذا رأى راميها بعينه ويكون غير زيد لا يقطع بأن يقول هو زيد، وأما إذا رأى عينه ورميه للحجارة وقال رامي الحجارة زيد، يقطع بأنه يقول هذا الرجل زيد فظهر الفرق من
80

حيث إنهم كانوا معاندين عالمين بأن الله مظهر تلك المعجزة، ويقولون بأنها من عند غير الله.
ثم قوله: * (هم الخاسرون) * كذلك بأتم وجوه الخسران، وهذا لأن من يخسر رأس المال ولا تركبه ديون يطالب بها دون من يخسر رأس المال وتركبه تلك الديون، فهم لما عبدوا غير الله أفنوا العمر ولم يحصل لهم في مقابلته شيء ما أصلا من المنافع، واجتمع عليهم ديون ترك الواجبات يطالبون بها حيث لا طاقة لهم بها.
قوله تعالى
* (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون) *.
لما أنذرهم الله بالخسران وهو أتم وجوه الإنذار لأن من خسر لا يحصل له في مقابلة قدر الخسران شيء من المنافع وإلا لما كان الخسران ذلك القدر بل دونه، مثاله إذا خسر واحد من العشرة درهما لا ينبغي أن يكون حصل له في مقابلة الدرهم ما يساوي نصف درهم، وإلا لا يكون الخسران درهما بل نصف درهم، فإذن هم لما خسروا أعمارهم لا تحصل لهم منفعة تخفيف عذاب وإلا يكون ذلك القدر من العمر له منفعة فيكون للخاسر عذاب أليم، فقوله: * (وأولئك هم الخاسرون) * تهديد عظيم فقالوا إن كان علينا عذاب فأتنا به، إظهارا لقطعهم بعدم العذاب، ثم إنه أجاب بأن العذاب لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجل باستعجالكم، لأنه أجله الله لحكمة ورحمة فلكونه حكيما لا يكون متغيرا منقلبا، ولكونه رحيما لا يكون غضوبا منزعجا، ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته وارتضته رحمته لما كان له رحمة وحكمة، فيكون غضوبا منقلبا فيتأثر باستعجالكم ويتغير من سؤالكم فيعجل وليس كذلك فلا يأتيكم بالعذاب وأنتم تسألونه ولا يدفع عنكم بالعذاب حين تستعيذون به منه، كما قال تعالى: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) * (الحج: 22).
ثم قال تعالى: * (وليأتينهم بغتة) * اختلف المفسرون فيه، فقال بعضهم ليأتينهم العذاب بغتة، لأن العذاب أقرب المذكورين، ولأن مسئولهم كان العذاب، فقال إنه ليأتينهم، وقال بعضهم ليأتينهم بغتة أي الأجل، لأن الآتي بغتة هو الأجل وأما العذاب بعد الأجل يكون معاينة، وقد ذكرنا أن في كون العذاب أو الأجل آتيا بغتة حكمة، وهي أنه لو كان وقته معلوما، لكان كل أحد يتكل على بعده وعلمه بوقته فيفسق ويفجر معتمدا على التوبة قبل الموت.
قوله تعالى: * (وهم لا يشعرون) * يحتمل وجهين أحدهما: تأكيد معنى قوله بغتة كما يقول القائل أتيته على غفلة منه بحيث لم يدر، فقوله بحيث لم يدر أكد معنى الغفلة والثاني: هو كلام
81

يفيد فائدة مستقلة، وهي أن العذاب يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون هذا الأمر، ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلا.
قوله تعالى
* (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين * يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون) *.
ذكر هذا للتعجب، وهذا لأن من توعد بأمر فيه ضرر يسير كلطمة أو لكمة، فيرى من نفسه الجلد ويقول باسم الله هات، وأما من توعد بإغراق أو إحراق ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد، لا يخطر ببال العاقل أن يقول له هات ما تتوعدني به، فقال ههنا * (يستعجلونك بالعذاب) * والعذاب بنار جهنم المحيطة بهم، فقوله: * (ويستعجلونك) * أولا إخبار عنهم وثانيا تعجب منهم، ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم.
فقال تعالى: * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعلمون) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لم خص الجانبين بالذكر ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدام؟ فنقول لأن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربع، فإن من دخلها تكون الشعلة خلفه وقدامه ويمينه ويساره وأما النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة العاجلة وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة التي تحت القدم، ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفئ بالدوس موضع القدم.
المسألة الثانية: قال: * (من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * ولم يقل من فوق رؤوسهم، ولا قال من فوقهم ومن تحتهم، بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت ولم يذكره عند ذكر فوق، فنقول لأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرؤوس وسواء كان من موضع آخر عجيب، فلهذا لم يخصه بالرأس، وأما بقاء النار تحت القدم فحسب عجيب، وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا يكون شعل وهي تحت فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدوس وما فوق على الإطلاق.
ثم قال تعالى: * (ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون) * لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة ذوقوا عذاب ما كنتم تعملون، وجعل ذلك عين ما كانوا يعملون للمبالغة بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن عملهم كان سببا لجعل الله إياه سببا لعذابهم، وهذا كثير النظير في الاستعمال.
82

ثم قال تعالى
* (يا عبادى الذين ءامنوا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون) *.
وجه التعلق هو أن الله تعالى لما ذكر حال المشركين على حدة وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار وجعلهما من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعوهم من العبادة فقال مخاطبا للمؤمنين * (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) * إن تعذرت العبادة عليكم في بعضها فهاجروا ولا تتركوا عبادتي بحال، وبهذا علم أن الجلوس في دار الحرب حرام والخروج منها واجب، حتى لو حلف بالطلاق أنه لا يخرج لزمه الخروج، و (ر) دع حتى يقع الطلاق ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: * (يا عبادي) * لم يرد إلا المخاطبة مع المؤمنين مع أن الكافر داخل في قوله: * (يا عبادي) * نقول ليس داخلا في قوله: * (يا عبادي) * نقول ليس داخلا فيه لوجوه: أحدها: أن من قال في حقه * (عبادي) * ليس للشيطان عليهم سلطان بدليل قوله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * (الحجر: 42) والكافر تحت سلطنة الشيطان فلا يكون داخلا في قوله * (يا عبادي) * الثاني: هو أن الخطاب بعبادي أشرف منازل المكلف، وذلك لأن الله تعالى لما خلق آدم آتاه اسما عظيما وهو اسم الخلافة كما قال تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (البقرة: 30) والخليفة أعظم الناس مقدارا وأتم ذوي البأس اقتدارا، ثم إن إبليس لم يرهب من هذا الاسم ولم ينهزم، بل أقدم عليه بسببه وعاداه وغلبه كما قال تعالى: * (فأزلهما الشيطان) * (البقرة: 36) ثم إن من أولاده الصالحين من
سمى بعبادي فانخنس عنهم الشيطان وتضاءل، كما قال تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * (الحجر: 42) وقال هو بلسانه * (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك) * فعلم أن المكلف إذا كان عبدا لله يكون أعلى درجة مما إذا كان خليفة لوجه الأرض ولعل آدم كداود الذي قال الله تعالى في حقه * (إنا جعلناك خليفة في الأرض) * (ص: 26) لم يتخلص من يد الشيطان إلا وقت ما قال الله تعالى في حقه عبدي وعندما ناداه بقوله: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * (الأعراف: 23) واجتباه بهذا النداء، كما قال في حق داود * (واذكر عبدنا داود ذا الأيد) * (ص: 17) إذا علم هذا فالكافر لا يصلح للخلافة فكيف يصلح لما هو أعظم من الخلافة؟ فلا يدخل في قوله * (يا عبادي) * إلا المؤمن. الثالث: هو أن هذا الخطاب حصل للمؤمن بسعيه بتوفيق الله، وذلك لأن الله تعالى قال: * (ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) فالمؤمن دعا ربه بقوله: * (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) * (الزمر: 53) فأجابه الله تعالى بقوله: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) * فالإضافة بين الله وبين العبد بقول العبد إلهي وقول الله عبدي تأكدت بدعاء العبد، لكن الكافر لم يدع فلم يجب، فلا يتناول يا عبادي غير المؤمنين.
المسألة الثانية: إذا كان عبادي لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله: * (الذين آمنوا) *
83

مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف، كما يقال يا أيها المكلفون المؤمنون، ويا أيها الرجال العقلاء تمييزا عن الكافرين والجهال، فنقول الوصف يذكر لا للتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال الأنبياء المكرمون والملائكة المطهرون، مع أن كل نبي مكرم وكل ملك مطهر، وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة، ومثل هذا قولنا الله العظيم وزيد الطويل، فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون.
المسألة الثالثة: إذ قال * (يا عبادي) * فهم يكونون عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة بقوله فاعبدون؟ فنقول فيه فائدتان إحداهما: المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل الثانية: الإخلاص أي يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري.
المسألة الرابعة: الفاء في قوله: * (فإياي) * تدل على أنه جواب لشرط فما ذلك؟ فنقول قوله: * (إن أرضي واسعة) * إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني، وأما الفاء في قوله تعالى: * (فاعبدون) * فهو لترتيب المقتضى على المقتضى كما يقال هذا عالم فأكرموه فكذلك ههنا لما أعلم نفسه بقوله: * (فإياي) * وهو لنفسه يستحق العبادة قال فاعبدون.
المسألة الخامسة: قال العبد مثل هذا في قوله: * (إياك نعبد) * وقال عقيبه: * (وإياك نستعين) * والله تعالى وافقه في قوله: * (فإياي فاعبدون) * ولم يذكر الإعانة نقول بل هي مذكورة في قوله * (يا عبادي) * لأن المذكور بعبادي لما كان الشيطان مسدود السبيل عليه مسدود القبيل عنه كان في غاية الإعانة.
المسألة السادسة: قدم الله الإعانة وأخر العبد الاستعانة، قلنا لأن العبد فعله لغرض وكل فعل لغرض، فإن الغرض سابق على الفعل في الإدراك، وذلك لأن من يبني بيتا للسكنى يدخل في ذهنه أولا فائدة السكنى فيحمله على البناء، لكن الغرض في الوجود لا يكون إلا بعد فعل الواسطة، فنقول الاستعانة من العبد لغرض فهي سابقة في إدراكه، وأما الله تعالى فليس فعله لغرض فراعى ترتيب الوجود، فإن الإعانة قبل العبادة.
* (كل نفس ذآئقة الموت ثم إلينا ترجعون) *.
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان، فقال لهم إن ما تكرهون لا بد من وقوعه فإن كل نفس ذائقة الموت والموت مفرق الأحباب فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فإن إلى الله مرجعكم، وفيه وجه أرق وأدق، وهو أن الله تعالى قال: كل نفس إذا كانت غير متعلقة بغيرها فهي للموت، ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى: * (لا يذوقون فيها الموت) * (الدخان: 56) إذا ثبت هذا فمن يريد ألا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن
84

النفس ذائقته بل يتعلق بغيره وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت ومورد الهلاك بقوله: * (كل نفس ذائقة الموت) * * (وكل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) فإذا التعلق بالله يريح من الموت فقال تعالى * (فإياي فاعبدون) * أي تعلقوا بي، ولا تتبعوا النفس فإنها ذائقة الموت * (ثم إلينا ترجعون) * (العنكبوت: 57) أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما قال تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء) * (آل عمران: 169) وقال عليه السلام: " المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار " فعلى هذا الوجه أيضا يتبين وجه التعليق.
قوله تعالى
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها نعم أجر العاملين) *.
بين ما يكون للمؤمنين وقت الرجوع إليه كما بين من قبل ما يكون للكافرين بقوله: * (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) * (العنكبوت: 54) فبين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما أن للكافرين النيران، وبين أن فيها غرفا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بين أن تحت الكافرين النار، وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله تعالى: * (نعم أجر العاملين) * في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله تعالى: * (نعم أجر العاملين) * في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله: * (ذوقوا ما كنتم تعملون) * (العنكبوت: 55) ثم في الآيتين اختلافات فيها لطائف منها أنه تعالى ذكر في العذاب أن فوقهم عذابا أي نارا، ولم يذكر ههنا فوقهم شيئا، وإنما ذكر ما فوق من غير إضافة وهو الغرف، وذلك لأن المذكور في الموضعين العقاب والثواب الجسمانيان، لكن الكافر في الدرك الأسفل من النار، فيكون فوقه طبقات من النار، فأما المؤمنون فيكونون في أعلى عليين، فلم يذكر فوقهم شيئا إشارة إلى علو مرتبتهم وارتفاع منزلتهم.
وأما قوله تعالى: * (لهم غرف من فوقها غرف) * (الزمر: 20) لا ينافي لأن الغرف فوق الغرف لا فوقهم والنار فوق النار وهي فوقهم، ومنها أن هناك ذكر من
تحت أرجلهم النار، وههنا ذكر من تحت غرفهم الماء، وذلك لأن النار لا تؤلم إذا كانت تحت مطلقا ما لم تكن في مسامتة الأقدام ومتصلة بها، أما إذا كان الشعلة مائلة عن سمت القدم وإن كانت تحتها، أو تكون مسامتة ولكن تكون غير ملاصقة بل تكون أسفل في وهدة لا تؤلم، وأما الماء إذا كان تحت الغرفة في أي وجه كان وعلى أي بعد كان يكون ملتذا به، فقال في النار من تحت أرجلهم ليحصل الألم بها، وقال ههنا من تحت الغرف لحصول اللذة به كيف كان، ومنها أن هناك قال ذوقوا الإيلام قلوبهم بلفظ الأمر وقال ههنا * (نعم أجر العاملين) * لتفريح قلوبهم لا بصيغة الأمر وذلك لأن لفظ الأمر يدل على انقطاع التعلق
85

بعده، فإن من قال لأجيره خذ أجرتك يفهم منه أن بذلك ينقطع تعلقه عنه، وأما إذا قال ما أتم أجرتك عندي أو نعم مالك من الأجر يفهم منه أن ذلك عنده ولم يقل ههنا خذوا أجرتكم أيها العاملون وقال هناك: * (ذوقوا ما كنتم تعملون) * فإن قال قائل ذوقوا إذا كان يفهم منه الانقطاع فعذاب الكافر ينقطع، قلنا ليس كذلك لأن الله إذا قال ذوقوا دل على أنه أعطاهم جزاءهم وانقطع ما بينه وبينهم لكن يبقى عليهم ذلك دائما ولا ينقص ولا يزداد، وأما المؤمن إذا أعطاه شيئا فلا يتركه مع ما أعطاه بل يزيد له كل يوم في النعم وإليه الإشارة بقوله: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * (يونس: 26) أي الذي يصل إلى الكافر يدوم من غير زيادة والذي يصل إلى المؤمن يزداد على الدوام، وأما الخلود وإن لم يذكره في حق الكافر لكن ذلك معلوم بغيره من النصوص.
* (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون * وكأين من دآبة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم) *.
ذكر أمرين الصبر والتوكل لأن الزمان ماض وحاضر ومستقبل لكن الماضي لا تدارك له ولا يؤمر العبد فيه بشيء، بقي الحاضر واللائق به الصبر والمستقبل واللائق به التوكيل، فيصبر على ما يصيبه من الأذى في الحال، ويتوكل فيما يحتاج إليه في الاستقبال.
واعلم أن الصبر والتوكل صفتان لا يحصلان إلا مع العلم بالله والعلم بما سوى الله، فمن علم ما سواه علم أنه زائل فيهون عليه الصبر إذ الصبر على الزائل هين، وإذا علم الله علم أنه باق يأتيه بأرزاقه فإن فاته شيء فإنه يتوكل على حي باق، وذكر الصبر والتوكل ههنا مناسب، فإن قوله: * (يا عبادي) * كان لبيان أنه لا مانع من العبادة، ومن يؤذى في بقعة فليخرج منها. فحصل الناس على قسمين قادر على الخروج وهو متوكل على ربه، يترك الأوطان ويفارق الأخوان، وعاجز وهو صابر على تحمل الأذى ومواظب على عبادة الله تعالى. ثم قال تعالى: * (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم) *.
لما ذكر الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئا لغد، ويأتيها كل يوم برزق رغد. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كأين لغات أربع (لا) غير هذه (و) كائن على وزن راع وكأين على وزن ريع وكي على دع ولم يقرأ إلا كأين وكائن قراءة ابن كثير.
المسألة الثانية: كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي التي تستعمل استعمال من وما ركبتا وجعل المركب بمعنى كم، ولم تكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب، لأن كأي
86

يستعمل غير مركب كما يقول القائل رأيت رجلا لا كأي رجل يكون، فقد حذف المضاف إليه ويقال رأيت رجلا لا كأي رجل، وحينئذ لا يكون كأي مركبا، فإذا كان كأي ههنا مركبا كتبت بالنون للتمييز كما تكتب معد يكرب وبعلبك موصولا للفرق. وكما تكتب ثمة بالهاء تمييزا بينها وبين ثمت.
المسألة الثالثة: كأين بمعنى كم لم تستعمل مع من إلا نادرا وكم يستعمل كثيرا من غير من، يقال كم رجلا وكم من رجل، وذلك لما بينا من الفرق بين كأين بمعنى كم وكأي التي ليست مركبة، وذلك لأن كأي إذا لم تكن مركبة لا يجوز إدخال من بعدها إذ لا يقال رأيت رجلا لا كأي من رجل، والمركبة بمعنى كم يجوز ذلك فيها فالتزم للفرق. قوله تعالى: * (لا تحمل رزقها) * قيل: لا تحمل لضعفها وقيل هي كالقمل والبرغوث والدود وغيرها وقيل لا تدخر * (الله يرزقها وإياكم) * بطريق القياس أي لا شك في أن رزقها ليس إلا بالله فكذلك يرزقكم فتوكلوا، فإن قال قائل من قال بأن الله يرزق الدواب بل النبات في الصحراء مسبب والحيوان يسعى إليه ويرعى، فنقول الدليل عليه من ثلاثة أوجه نظرا إلى الرزق وإلى المرتزق وإلى مجموع الرزق والمرتزق، أما بالنظر إلى الرزق فلأن الله تعالى لو لم يخلق النبات لم يكن للحيوان رزق، وأما بالنظر إلى المرتزق فلأن الاغتذاء ليس بمجرد الابتلاع بل لا بد من تشبثه بالأعضاء حتى يصير الحشيش عظما ولحما وشحما، وما ذاك إلا بحكمة الله تعالى حيث خلق فيه جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة وغيرها من القوى وبمحض قدرة الله وإرادته فهو الذي يرزقها، وأما بالنظر إلى المرتزق والرزق، فلأن الله لو لم يهد الحيوان إلى الغذاء ليعرفه من الشم ما كان يحصل له اغتذاء، ألا ترى أن من الحيوان ما لا يعرف نوعا من أنواع الغذاء حتى يوضع في فمه بالشدة ليذوق فيأكله بعد ذلك، فإن كثيرا ما يكون البعير لا يعرف الخمير ولا الشعير حتى يلقم مرتين أو ثلاثة فيعرفه فيأكله بعد ذلك، فإن قال قائل كيف يصح قياس الإنسان على الحيوان فيما يوجب التوكل والحيوان رزقه لا يتعرض إليه إذا أكل منه اليوم شيئا وترك بقية يجدها غدا، ما مد إليه أحد يدا، والإنسان إن لم يأخذ اليوم لا يبقى له غدا شيء؟ وأيضا حاجات الإنسان كثيرة فإنه يحتاج إلى أجناس اللباس وأنواع الأطعمة ولا كذلك الحيوان وأيضا قوت الحيوان مهيأ وقوت الإنسان يحتاج إلى كلف كالزرع والحصاد والطحن والخبز فلو لم يجمعه قبل الحاجة ما كان يجده وقت الحاجة، فنقول نحن لا نقول إن الجمع يقدح في التوكل، بل قد يكون الزارع الحاصد متوكلا والراكع الساجد غير متوكل، لأن من يزرع يكون اعتماده على الله واعتقاده في الله أنه إن كان يريد يرزق من غير زرع، وإن كان يريد لا يرزق من ذلك الزرع فيعمل وقلبه مع الله هو متوكل حق التوكل، ومن يصلي وقلبه مع ما في يد زيد وعمرو هو غير متوكل. وأما قوله: حاجات الإنسان كثيرة، فنقول مكاسبه كثيرة أيضا، فإنه يكتسب بيده كالخياط والنساج وبرجله كالساعي وغيره، وبعينه كالناطور وبلسانه كالحادي والمنادي، وبفهمه كالمهندس والتاجر،
87

وبعلمه كالطبيب والفقيه، وبقوة جسمه كالعتال والحمال، والحيوان لا مكاسب له، فالرغيف الذي يحتاج إليه الإنسان غدا أو بعد غد، بعيد أن لا يرزقه الله مع هذه المكاسب، فهو أولى بالتوكل. وأيضا الله تعالى خلق الإنسان بحيث يأتيه الرزق وأسبابه، فإن الله ملك الإنسان عمائر الدنيا وجعلها بحيث تدخل في ملكه شاء أم أبى،
حتى أن نتاج الأنعام وثمار الأشجار تدخل في الملك وإن لم يرده مالك النعم والشجر، وإذا مات قرن ينتقل ذلك إلى قرن آخر قهرا شاؤوا أم أبوا، وليس كذلك حال الحيوان أصلا، فإن الحيوان إن لم يأت الرزق لا يأتيه رزقه، فإذن الإنسان لو توكل كان أقرب إلى العقل من توكل الحيوان، ثم قال: * (وهو السميع العليم) * سميع إذا طلبتم الرزق، يسمع ويجيب، عليم إن سكتم، لا تخفى عليه حاجتكم ومقدار حاجتكم.
ثم قال تعالى
* (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون) *.
نقول لما بين الله الأمر للمشرك مخاطبا معه ولم ينتفع به وأعرض عنه وخاطب المؤمن بقوله: * (يا عبادي الذي آمنوا) * (العنكبوت: 56) وأتم الكلام معه ذكر معه ما يكون إرشادا للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن، فإن السيد إذا كان له عبدان، أو الوالد إذا كان له ولدان وأحدهما رشيد والآخر مفسد، ينصح أولا المفسد، فإن لم يسمع يقول معرضا عنه، ملتفتا إلى الرشيد، إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع أنت ولا تكن مثل هذا المفسد، فيتضمن هذا الكلام نصيحة المصلح وزجر المفسد، فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب يوجب نكاية في قلبه، ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه، إن هذا أخاك العجيب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف الفساد من الصلاح وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده، يكون هذا الكلام أيضا داعيا له إلى سبيل الرشاد مانعا له من ذلك الفساد، فكذلك الله تعالى قال مع المؤمن العجيب منهم أنهم إن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ثم لا يؤمنون، وفي الآية لطائف إحداها: ذكر في السماوات والأرض الخلق، وفي الشمس والقمر التسخير، وذلك لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة، فإن الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل والنهار ولا الصيف ولا الشتاء، فإذا الحكمة في تحريكهما وتسخيرهما الثانية: في لفظ التسخير، وذلك لأن التحريك يدل على مجرد الحركة وليس مجرد الحركة كافيا، لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك بألوف من السنين، فالحكمة في تسخيرهما تحركهما في قدر ما يتنفس الإنسان
88

آلافا من الفراسخ، ثم لم يجعل لهما حركة واحدة بل حركات، إحداها حركتها من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة، والأخرى حركتها من المغرب إلى المشرق، والدليل عليها أن الهلال يرى في جانب الغرب على بعد مخصوص من الشمس، ثم يبعد منه إلى جانب الشرق حتى يرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشمس، والشمس على أفق المغرب، والقمر على أفق المشرق، وحركة أخرى حركة الأوج وحركة المائل والتدوير في القمر، ولولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول، ثم اعلم أن أصحاب الهيئة قالوا الشمس في الفلك مركوزة والفلك يديرها بدورانه وأنكره المفسرون الظاهريون، ونحن نقول لا بعد في ذلك إن لم يقولوا بالطبيعة، فإن الله تعالى فاعل مختار إن أراد أن يحركهما في الفلك والفلك ساكن يجوز، وإن أراد أن يحركهما بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطع أو ظاهر، وسنذكر تمام البحث في قوله تعالى: * (وكل في فلك يسبحون) * الثالثة: ذكر أمرين أحدهما خلق السماوات والأرض والآخر تسخير الشمس والقمر، لأن الإيجاد قد يكون للذوات وقد يكون للصفات، فخلق السماوات والأرض إشارة إلى إيجاد الذوات، وتسخير الشمس والقمر إشارة إلى إيجاد الصفات وهي الحركة وغيرها، فكأنه ذكر من القبيلين مثالين، ثم قال تعالى: * (فأنى يؤفكون) * يعني هم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة الله، مع أن من علمت عظمته وجبت خدمته، ولا عظمة فوق عظمة خالق السماوات والأرض، ولا حقارة فوق حقارة الجماد، لأن الجماد دون الحيوان، والحيوان دون الإنسان، والإنسان دون سكان السماوات فكيف يتركون عبادة أعظم الوجودات ويشتغلون بعبادات أخس الموجودات.
* (الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له إن الله بكل شىء عليم) *.
قوله تعالى: * (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده) * لما بين الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الإنسان بالرزق، فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاقه العبادة، وهذه الأصنام ليست كذلك والله مستحقها، وإما لكونه على الشأن والله الذي خلق السماوات على الشأن جلي البرهان فله العبادة، وإما لكونه ولي الإحسان والله يرزق الخلق فله الطول والإحسان والفضل والامتنان فله العبادة من هذا الوجه أيضا قوله: * (لمن يشاء) * إشارة إلى كمال الإحسان، وذلك لأن الملك إذا أمر الخازن بإعطاء شخص شيئا، فإذا أعطاه يكون له منة ما يسيرة حقيرة، لأن الآخذ يقول هذا ليس بإرادته وإنما هو بأمر الملك، وأما إن كان مختارا بأن قال له الملك إن شئت فأعطه وإن شئت فلا تعطه، فإن أعطاه يكون له منة جليلة لا قليلة، فقال الله تعالى الرزق منه وبمشيئته فهو إحسان تام يستوجب شكرا تاما وقوله تعالى: * (ويقدر له) * أي يضيق له إن أراد، ثم قال تعالى:
89

* (إن الله بكل شيء عليم) * أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق وفي إثبات العلم ههنا لطائف إحداها: أن الرازق الذي هو كامل المشيئة إذا رأى عبده محتاجا وعلم جوعه لا يؤخر عنه الرزق، ولا يؤخر الرازق الرزق إلا لنقصان في نفوذ مشيئته كالملك إذا أراد الاطعام والطعام لا يكون بعد قد استوى، أو لعدم علمه بجوع العبيد الثانية: وهي أن الله بإثبات العلم استوعب ذكر الصفات التي هي صفات الإله ومن أنكرها كفر وهي أربعة الحياة والقدرة والإرادة والعلم وأما السمع والبصر والكلام القائم به من ينكرها يكون مبتدعا لا كافرا، وقد استوفى الأربع، لأن قوله: * (خلق السماوات والأرض) * إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: * (يبسط الرزق لمن يشاء) * إشارة إلى نفوذ مشيئته وإرادته، وقوله: * (إن الله بكل شيء عليم) * إشارة إلى شمول علمه، والقادر المريد العالم لا يتصور إلا حيا، ثم إنه تعالى لما قال: * (الله يبسط الرزق) * ذكر اعترافهم بذلك فقال:
* (ولئن سألتهم من نزل من السمآء مآء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) *.
يعني هذا سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب، فالرزق من الله، ثم قال تعالى: * (وقل الحمد لله) * وهو يحتمل وجوها أحدها: أن يكون كلاما معترضا في
أثناء كلام كأنه قال: فأحيا به الأرض من بعد موتها * (بل أكثرهم لا يعقلون) * فذكر في أثناء هذا الكلام * (الحمد) * لذكر النعمة، كما قال القائل: إن الثمانين وبلغتها * قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
الثاني: أن يكون المراد منه كلاما متصلا، وهو أنهم يعرفون بأن ذلك من الله ويعترفون ولا يعملون بما يعلمون، وأنت تعلم وتعمل فكذلك المؤمنون بك فقل الحمد لله وأكثرهم لا يعقلون أن الحمد كله لله فيحمدون غير الله على نعمة هي من الله الثالث: أن يكون المراد أنهم يقولون إنه من الله ويقولون بإلهية غير الله فيظهر تناقض كلامهم وتهافت مذهبهم * (فقل الحمد لله) * على ظهور تناقضهم * (وأكثرهم لا يعقلون) * هذا التناقض أو فساد هذا التناقض.
قوله تعالى
* (وما هذه الحيوة الدنيآ إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهى الحيوان
90

لو كانوا يعلمون) *.
لما بين أنهم يعترفون بكون الله هو الخالق وكونه هو الرزاق وهم يتركون عبادته ولا يتركونها إلا لزينة الحياة الدنيا بين أن ما يميلون إليه ليس بشيء بقوله: * (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما الفرق بين اللهو واللعب، حتى يصح عطف أحدهما على الآخر؟ فنقول الفرق من وجهين أحدهما: أن كل شغل يفرض، فإن المكلف إذا أقبل عليه لزمه الإعراض عن غيره ومن لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى، فالذي يقبل على الباطل للذة يسيرة زائلة فيه يلزمه الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو، فالدنيا لعب أي إقبال على الباطل، ولهو أي إعراض عن الحق الثاني: هو أن المشتغل بشيء يرجح ذلك الشيء على غيره لا محالة حتى يشتغل به، فإما أن يكون ذلك الترجيح على وجه التقديم بأن يقول أقدم هذا وذلك الآخر آتي به بعده أو يكون على وجه الاستغراق فيه والإعراض عن غيره بالكلية فالأول لعب والثاني لهو، والدليل عليه هو أن الشطرنج والحمام وغيرهما مما يقرب منهما لا تسمى آلات الملاهي في العرف، والعود وغيره من الأوتار تسمى آلات الملاهي لأنها تلهي الإنسان عن غيرها لما فيها من اللذة الحالية، فالدنيا للبعض لعب يشتغل به ويقول بعد هذا الشغل أشتغل بالعبادة والآخرة، وللبعض لهو يشتغل به وينسى الآخرة بالكلية.
المسألة الثانية: قال الله تعالى في سورة الأنعام: * (وما الحياة الدنيا) * (آل عمران: 185) ولم يقل وما هذه الحياة وقال ههنا: * (وما هذه) * فنقول لأن المذكور من قبل ههنا أمر الدنيا، حيث قال تعالى: * (فأحيا به الأرض من بعد موتها) * (البقرة: 164) فقال هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال: * (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) * (الأنعام: 31) فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال: * (وما الحياة الدنيا) *.
المسألة الثالثة: قال هناك: * (إلا لعب ولهو) * وقال ههنا: * (إلا لهو ولعب) * فنقول لما كان المذكور هناك من قبل الآخرة وإظهارهم للحسرة، ففي ذلك الوقت يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخر الأبعد، وأما ههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها، اللهم إلا لمانع يمنعه من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها، ولعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلا، فكان ههنا الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو.
المسألة الرابعة: قال هناك: * (وللدار الآخرة خير) * (الأنعام: 32) وقال ههنا: * (وإن الدار الآخرة
91

لهي الحيوان) * فنقول لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى رادع قوي فقال الآخرة خير، ولما كان ههنا الحال حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى رادع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة، وهذا كما أن العاقل إذا عرض عليه شيئان فقال في أحدهما هذا خير من ذلك يكون هذا ترجيحا فحسب، ولو قال هذا جيد وهذا الآخر ليس بشيء يكون ترجيحا مع المبالغة فكذلك ههنا بالغ لكون المكلف متوغلا فيها.
المسألة الخامسة: قال هناك: * (خير للذين يتقون) * (الأعراف: 169) ولم يقل ههنا إلا لهي الحيوان، لأن الآخرة خير للمتقي فحسب أي المتقي عن الشرك، وأما الكافر فالدنيا جنته فهي خير له من الآخرة، وأما كون الآخرة باقية فيها الحياة الدائمة فلا يختص بقوم دون قوم.
المسألة السادسة: كيف أطلق الحيوان على الدار الآخرة مع أن الحيوان نام مدرك؟ فنقول الحيوان مصدر حي كالحياة لكن فيها مبالغة ليست في الحياة والمراد بالدار الآخرة هي الحياة الثانية، فكأنه قال الحياة الثانية هي الحياة المعتبرة أو نقول لما كانت الآخرة فيها الزيادة والنمو كما قال تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * (يونس: 26) وكانت هي محل الإدراك التام الحق كما قال تعالى: * (يوم تبلى السرائر) * (الطارق: 9) أطلق عليها الاسم المستعمل في النامي المدرك.
المسألة السابعة: قال في سورة الأنعام: * (أفلا تعقلون) * (البقرة: 76) وقال ههنا: * (لو كانوا يعلمون) * وذلك لأن المثبت هناك كون الآخرة خيرا وأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت ههنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة، وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع.
* (فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) *.
إشارة إلى أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا، وبيان ذلك هو أنهم إذا انقطع رجاؤهم عن الدنيا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا، فإذا أنجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا.
* (ليكفروا بمآ ءاتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون) *.
ثم قال تعالى: * (ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون) * وفيه وجهان أحدهما: أن اللام لام كي، أي يشركون ليكون إشراكهم كفرا بنعمة الإنجاء، وليتمتعوا
بسبب الشرك فسوف يعلمون بوبال عملهم حين زوال أملهم والثاني:: أن تكون اللام لام الأمر ويكون المعنى ليكفروا على التهديد. كما قال تعالى: * (اعملوا ما شئتم) * (فصلت: 40) وكما قال: * (اعملوا على مكانتكم إني عامل
92

فسوف تعلمون) * (الأنعام: 135) فساد ما تعملون.
* (أو لم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) *.
التفسير ظاهر، وإنما الدقيق وجه تعلق الآية بما قبلها، فنقول الإنسان في البحر يكون على أخوف ما يكون وفي بيته يكون على آمن ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر الله المشركين حالهم عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله تعالى ذكرهم حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم وفيها سكناهم ومولدهم، وهي حصين بحصن الله حيث كل من حولها يمتنع من قتال من حصل فيها، والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس ويكفها يعني أنكم في أخوف ما كنتم دعوتم الله وفي آمن ما حصلتم عليه كفرتم بالله، وهذا متناقض لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير فهذه النعمة العظيمة التي حصلت وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله كيف تكفرون بها؟ والأصنام التي قطعتم في حال الخوف أن لا أمن منها كيف آمنتم بها في حال الأمن؟.
* (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جآءه أليس فى جهنم مثوى للكافرين) *.
لما بين الله الأمور على الوجه المذكور ولم يؤمن به أحد بين أنهم أظلم من يكون، لأن الظلم على ما بين وضع الشيء في غير موضعه، فإذا وضع واحد شيئا في موضع ليس هو موضعه يكون ظالما فإذا وضعه في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول، لأن كل ما لا يمكن لا يحصل وليس كل ما لا يحصل لا يمكن، فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك وجعلوا له شريكا فلو كان ذلك في حق ملك مستقل في الملك لكان ظلما يستحق من الملك العقاب الأليم فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك، وأيضا من كذب صادقا يجوز عليه الكذب يكون ظلما فمن يكذب صادقا لا يجوز عليه الكذب كيف يكون حاله؟ فإذا ليس أظلم ممن يكذب على الله بالشرك ويكذب الله في تصديق نبيه والنبي في رسالة ربه والقرآن المنزل من الله إلى الرسول، والعجب من المشركين أنهم قبلوا المتخذ من خشب منحوت
93

بالإلهية، ولم يقبلوا ذا حسب منعوت بالرسالة، والآية تحتمل وجها آخر وهو أن الله تعالى لما بين التوحيد والرسالة والحشر وقرره ووعظ وزجر قال لنبيه ليقول للناس: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * أي إني جئت بالرسالة وقلت إنها من الله وهذا كلام الله، وأنتم كذبتموني فالحال دائر بين أمرين، أما أنا مفتر متنبئ إن كان هذا من عند غير الله أو أنتم مكذبون بالحق إن كان من عنده لكني معترف بالعذاب الدائم عارف به فلا أقدم على الافتراء لأن * (جهنم مثوى للكافرين) * (الزمر: 32) والمتنبئ كافر، وأنتم كذبتموني فجهنم مثواكم إذ هي مثوى للكافرين، وهذا حيئنذ يكون كقوله تعالى: * (وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) * (سبأ: 24).
ثم قال تعالى
* (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) *.
لما فرغ من التقرير والتقريع ولم يؤمن الكفار سلى قلوب المؤمنين بقوله: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * أي من جاهد بالطاعة هداه سبل الجنة * (وإن الله لمع المحسنين) * إشارة إلى ما قال: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * فقوله: * (لنهدينهم) * إشارة إلى الحسنى وقوله: * (وإن الله لمع المحسنين) * إشارة إلى المعية والقربة التي تكون للمحسن زيادة على حسناته، وفيه وجه آخر حكمي وهو أن يكون المعنى * (والذين جاهدوا فينا) * أي الذين نظروا في دلائلنا * (لنهدينهم سبلنا) * أي لنحصل فيهم العلم بنا. ولنبين هذا فضل بيان، فنقول أصحابنا المتكلمون قالوا إن النظر كالشرط للعلم الاستدلالي والله يخلق في الناظر علما عقيب نظره ووافقهم الفلاسفة على ذلك في المعنى وقالوا النظر معد للنفس لقبول الصورة المعقولة، وإذا استعدت النفس حصل لها العلم من فيض واهب الصور الجسمانية والعقلية، وعلى هذا يكون الترتيب حسنا، وذلك لأن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم تفدهم العلم والإيمان قال: إنهم لم ينظروا فلم يهتدوا وإنما هو هدى للمتقين الذين يتقون التعصب والعناد فينظرون فيهديهم وقوله: * (وإن الله لمع المحسنين) * إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأنه تعالى قال من الناس من يكون بعيدا لا يتقرب وهم الكفار، ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم ويقربهم ومنهم من يكون الله معه ويكون قريبا منه يعلم الأشياء منه ولا يعلمه من الأشياء، ومن يكون مع الشيء كيف يطلبه فقوله: * (ومن أظلم) * إشارة إلى الأول وقوله: * (والذين جاهدوا فينا) * إشارة إلى الثاني وقوله: * (وإن الله لمع المحسنين) * إشارة إلى الثالث.
والله أعلم بأسرار كتابه، والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
94

سورة الروم
ستون آية مكية (إلا آية 17 فمدنية، نزلت بعد الانشقاق
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ألم * غلبت الروم * فى أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين)
وجه تعلق أول هذه السورة بما قبلها يتبين منه سبب النزول، فنقول لما قال الله تعالى في السورة المتقدمة * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) * (العنكبوت: 46) وكان يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل كما في قوله: * (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) * (البقرة: 171) وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله كما قال: * (وإلهنا وإلهكم واحد) * (العنكبوت: 46) وكانوا يؤمنون بكثير مما يقوله بل كثير منهم كانوا مؤمنين به كما قال: * (والذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) * (العنكبوت: 47) أي أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور، فلما وقعت الكرة عليهم حين قاتلهم الفرس المجوس فرح المشركون بذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق، بل الله تعالى قد يريد مزيد ثواب في المحب فيبتليه ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر قبل يوم الميعاد للمعادي، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما الحكمة في افتتاح هذه السورة بحروف التهجي؟ فنقول قد سبق منا أن كل سورة افتتحت بحروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كما في قوله تعالى: * (ألم ذلك الكتاب) * (البقرة: 1، 2)، * (المص كتاب) * (الأعراف: 1)، * (طه ما أنزلنا عليك القرآن) * (طه: 1، 2)، * (ألم تنزيل الكتاب) * * (حم تنزيل من الرحمن الرحيم) * (فصلت: 2)، * (يس والقرآن) * (يس: 1، 2)، * (ص والقرآن) * (ص: 1) إلا هذه السورة وسورتين أخريين ذكرناهما في العنكبوت وقد ذكرنا ما الحكمة فيهما في موضعهما فنقول ما يتعلق بهذه السور وهو أن السورة التي في أوائلها التنزيل والكتاب والقرآن في أوائلها ذكر ما هو معجزة فقدمت عليها الحروف على ما تقدم بيانه في العنكبوت وهذه ذكر في أولها ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب، فقدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع، ثم ترد عليه المعجزة وتقرع الأسماع.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (في أدنى الأرض) * أي أرض العرب، لأن الألف واللام
95

للتعريف والمعهود عندهم أرضهم وقوله تعالى: * (وهم من بعد غلبهم) * أية فائدة في ذكره مع أن قوله: * (سيغلبون) * بعد قوله: * (غلبت الروم) * لا يكون إلا من بعد الغلبة؟ فنقول الفائدة فيه إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفا، فلو كان غلبتهم لشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعدما غلبوا، دل على أن ذلك بأمر الله، فذكر من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بزحفهم، وإنما ذلك بأمر الله تعالى وقوله: * (في أدنى الأرض) * لبيان شدة ضعفهم، أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك الرومية لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإذن الله.
المسألة الثالثة: قال تعالى: * (في بضع سنين) * قيل هي ما بين الثلاثة والعشرة، أبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم فنقول السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله تعالى وبينها لنبيه وما أذن له في إظهارها لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في كلامه ولما وردت الآية ذكر أبو بكر رضي الله عنه أن الروم ستغلب وأنكره أبي بن خلف وغيره، وناحبوا أبا بكر أي خاطروه على عشرة قلائص إلى ثلاث سنين فقال عليه السلام لأبي بكر البضع ما بين الثلاثة والعشرة فزايده في الإبل ومادة في الأجل فجعلا القلائص مائة والأجل سبعا، وهذا يدل على علم النبي عليه السلام بوقت الغلبة.
(قوله تعالى: * (لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون) *).
ثم قال تعالى: * (لله الأمر من قبل ومن بعد) * أي من قبل الغلبة ومن بعدها أو من قبل هذه المدة ومن بعدها، يعني إن أراد غلبهم غلبهم قبل بضع سنين وإن أراد غلبهم غلبهم بعدها، وما قدر هذه المدة لعجز وإنما هي إرادة نافذة، وبنيا على الضم لما قطعا عن الإضافة لأن غير الضمة من الفتحة والكسرة يشتبه بما يدخل عليهما وهو النصب والجر، أما النصب ففي قولك جئت قبله أو بعده، وأما الجر ففي قولك من قبله ومن بعده فنيا على الضم لعدم دخول مثلهما عليه في الإعراب وهو الرفع * (ويومئذ يفرح المؤمنون) * قيل يفرحون بغلبة الروم على الفرس كما فرح المشركون بغلبة الفرس على الروم، والأصح أنهم يفرحون بغلبتهم المشركين وذلك لأن غلبة الروم كانت يوم غلبة المسلمين المشركين ببدر، ولو كان المراد ما ذكروه لما صح لأن في ذلك اليوم بعينه لم يصل إليهم خبر الكسر فلا يكون فرحهم يومئذ بل الفرح يحصل بعده.
96

* (بنصر الله ينصر من يشآء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحيوة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون) *.
ثم قال تعالى (بنصر الله ينصر من يشاء (وهو العزيز الرحيم، وعد الله لا يخلف الله وعده
ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون).
قوله تعالى: * (بنصر الله ينصر من يشاء) * قدم المصدر على الفعل حيث قال: * (بنصر الله ينصر) * (الأنفال: 62) وقدم الفعل على المصدر في قوله: * (وأيدك بنصره) * وذلك لأن المقصود ههنا بيان أن النصرة بيد الله إن أراد نصر وإن لم يرد لا ينصر، وليس المقصود النصرة ووقوعها والمقصود هناك إظهار النعمة عليه بأنه نصره، فالمقصود هناك الفعل ووقوعه فقدم هناك الفعل، ثم بين أن ذلك الفعل مصدره عند الله، والمقصود ههنا كون المصدر عند الله إن أراد فعل فقدم المصدر.
ثم قال تعالى: * (وهو العزيز الرحيم) * ذكر من أسمائه هذين الإسمين لأنه إن لم ينصر المحب بل سلط العدو عليه فذلك لعزته وعدم افتقاره، وإن نصر المحب فذلك لرحمته عليه، أو نقول إن نصر الله المحب فلعزته واستغنائه عن العدو ورحمته على المحب، وإن لم ينصر المحب فلعزته واستغنائه عن المحب ورحمته في الآخرة واصلة إليه.
ثم قال تعالى: * (وعد الله لا يخلف الله وعده) * يعني سيغلبون وعدهم الله وعدا ووعد الله لا خلف فيه، قوله تعالى: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * أي لا يعلمون وعده وأنه لا خلف في وعده.
ثم قال تعالى: * (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) * يعني علمهم منحصر في الدنيا وأيضا لا يعلمون الدنيا كما هي وإنما يعلمون ظاهرها وهي ملاذها وملاعبها، ولا يعلمون باطنها وهي مضارها ومتاعبها ويعلمون وجودها الظاهر، ولا يعلمون فناءها * (وهم عن الآخرة هم غافلون) * والمعنى هم عن الآخرة غافلون، وذكرت هم الثانية لتفيد أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكر حاصلة وهذا كما يقول القائل لغيره غفلت عن أمري، فإذا قال هو شغلني فلان فيقول ما شغلك ولكن أنت اشتغلت.
قوله تعالى: * (أولم يتفكروا في أنفسهم) * (ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق
97

وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون).
قوله) تعالى (أولم يتفكروا في أنفسهم) لما صدر من الكفار الإنكار بالله عند إنكار وعد الله وعدم الخلف فيه كما قال تعالى: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * (الأعراف: 187) والإنكار بالحشر كما قال تعالى: * (وهم عن الآخرة هم غافلون) * (الروم: 7) بين أن الغفلة وعدم العلم منهم بتقدير الله وإلا فأسباب التذكر حاصلة وهو (أن) أنفسهم لو تفكروا فيها لعلموا وحدانية الله وصدقوا بالحشر، أما الوحدانية فلأن الله خلقهم على أحسن تقويم، ولنذكر من حسن خلقهم جزأ من ألف ألف جزء وهو أن الله تعالى خلق للإنسان معدة فيها ينهضم غذاؤه لتقوى به أعضاؤه ولها منفذان أحدهما لدخول الطعام فيه، والآخر لخروج الطعام منه، فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرة ولا بالرشح، وتمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجا صالحا، ثم يخرج من المنفذ الآخر، وخلق تحت المعدة عروقا دقاقا صلابا كالمصفاة التي يصفى بها الشيء فينزل منها الصافي إلى الكبد وينصب الثفل إلى معي مخلوق تحت المعدة مستقيم متوجها إلى الخروج، وما يدخل في الكبد من العروق المذكورة يسمى الماساريقا بالعبرية، والعبرية عربية مفسودة في الأكثر، يقال لموسى ميشا وللاله إيل إلى غير ذلك، فالماساريقا معناها ماساريق اشتمل عليه الكبد وأنضجه نضجا آخر، ويكون مع الغذاء المتوجه من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقق وينذرق في العروق الدقاق المذكورة، وفي الكبد يستغني عن ذلك الماء فيتميز عنه ذلك الماء وينصب من جانب حدبة الكبد إلى الكلية ومعه دم يسير تغتذي به الكلية وغيرها، ويخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير، ثم يتشعب ذلك النهر إلى جداول، والجداول إلى سواق، والسواقي إلى رواضع ويصل فيها إلى جميع البدن، فهذه حكمة واحدة في خلق الإنسان، وهذه كفاية في معرفة كون الله فاعلا مختارا قادرا كاملا عالما شاملا علمه، ومن يكون كذلك يكون واحدا وإلا لكان عاجزا عند إرادة شريكه ضد ما أراده. وأما دلالة الإنسان على الحشر فذلك لأنه إذا تفكر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال، وأجزاءه مائلة إلى الانحلال فله فناء ضروري، فلو لم يكن له حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه للفناء عبثا، وإليه أشار بقوله: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) * (المؤمنون: 115) وهذا ظاهر، لأن من يفعل شيئا للعبث فلو بالغ في إحكامه وإتقانه يضحك منه، فإذا خلقه للبقاء ولا بقاء دون اللقاء فالآخرة لا بد منها، ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الآفاق فقال: * (ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى) * (الروم: 8) فقوله: * (إلا بالحق) * إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية، وقد بينا ذلك في قوله: * (خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين) * (العنكبوت: 44) ونعيده فإن التكرير في الذهن يفيد التقرير لذي الذهن، فنقول إذا كان بالحق لا يكون فيها بطلان
98

فلا يكون فيها فساد لأن كل فاسد باطل وإذا لم يكن فيها فساد لا تكون آلهة وإلا لكان فيها فساد كما قال تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) وقوله: * (وأجل مسمى) * يذكر بالأصل الآخر الذي أنكروه.
ثم قال تعالى: * (وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون) * يعني لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء إما في إسعاد أو شقاء، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قدم ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق، وفي قوله تعالى: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * (فصلت: 53) قدم دلائل الآفاق، وذلك لأن المفيد إذا أفاد فائدة يذكرها على وجه جيد يختاره فإن فهمه السامع المستفيد فذلك وإلا يذكرها على وجه أبين منه وينزل درجة فدرجة، وأما المستفيد فإنه يفهم أولا الأبين، ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخرا، فالمذكور من المفيد آخرا مفهوم عند السامع أولا، إذا علم هذا فنقول ههنا الفعل كان منسوبا إلى السامع حيث قال: * (أولم يتفكروا في أنفسهم) * يعني فيما فهموه أولا ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانيا، وأما في قوله: * (سنريهم) * الأمر منسوب إلى المفيد المسمع فذكر أولا: الآفاق فإن لم يفهموه فالأنفس لأن دلائل الأنفس لا ذهول للإنسان عنها، وهذا الترتيب مراعى في قوله تعالى: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * (آل عمران: 191) أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) * بدلائل الآفاق.
المسألة الثانية: وجه دلالة الخلق بالحق على الوحدانية ظاهر، وأما وجه دلالته على الحشر فكيف هو؟ فنقول وقوع تخريب السماوات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع، لأن الله قادر على إبقاء الحادث أبدا كما أنه يبقى الجنة والنار بعد إحداثهما أبدا، والخلق دليل إمكان العدم، لأن المخلوق لم يجب له القدم فجاز عليه العدم، فإذا أخبر الصادق عن أمر له إمكان وجب على العاقل التصديق والإذعان، ولأن العالم لما كان خلقه بالحق فينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست إلا لعبا ولهوا كما بين بقوله تعالى: * (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) * (العنكبوت: 64) وخلق السماوات والأرض للهو
واللعب عبث، والعبث ليس بحق وخلق السماوات والأرض بالحق فلا بد من حياة بعد هذه.
المسألة الثالثة: قال ههنا: * (كثيرا من الناس) * وقال من قبل: * (ولكن أكثر الناس) * وذلك لأنه من قيل لم يذكر دليلا على الأصلين، وههنا قد ذكر الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل، فبعد الدلائل لا بد من أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل * (وإن كثيرا) * وقبله * (ولكن أكثرهم) * ثم بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه، والدليل الذي لا يقع الذهول عنه وإن أمكن هو السماوات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته، ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم وحكاية أشكالهم.
99

* (أولم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروهآ أكثر مما عمروها وجآءتهم رسلهم با البينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
فقال تعال (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد
منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله
ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
وقال في الدليلين المتقدمين: * (أولم يروا) * ولم يقل: * (أولم يسيروا) * إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض وقال ههنا: * (أولم يسيروا فينظروا) * ذكرهم بحال أمثالهم ووبال أشكالهم، ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدم من عاد وثمود كانوا أشد منهم قوة ولم تنفعهم قواهم وكانوا أكثر مالا وعمارة، ولم يمنع عنهم الهلاك أموالهم وحصونهم، واعلم أن اعتماد الإنسان على ثلاثة أشياء قوة جسمية فيه أو في أعوانه إذ بها المباشرة وقوة مالية إذ بها التأهب للمباشرة، وقوة ظهرية يستند إليها عند الضعف والفتور وهي بالحصون والعمائر، فقال تعالى: كانوا أشد منهم قوة في الجسم وأكثر منهم مالا لأنهم أثاروا الأرض أي حرثوها، ومنه بقرة تثير الأرض، وقيل منه سمي ثورا، وأنتم لا حراثة لكم فأموالهم كانت أكثر، وعمارتهم كانت أكثر لأن أبنيتهم كانت رفيعة وحصونهم منيعة، وعمارة أهل مكة كانت يسيرة ثم هؤلاء جاءتهم رسلهم بالبينات وأمروهم ونهوهم، فلما كذبوا أهلكوا فكيف أنتم، وقوله: * (فما كان الله ليظلمهم) * يعني لم يظلمهم بالتكليف، فإن التكليف شريف لا يؤثر له إلا محل شريف ولكن هم ظلموا أنفسهم بوضعها في موضع خسيس، وهو عبادة الأصنام واتباع إبليس، فكأن الله بالتكليف وضعهم فيما خلقوا له وهو الربح، لأنه تعالى قال خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم، والوضع في (أي) موضع كان الخلق له ليس بظلم، وأما هم فوضعوا أنفسهم في مواضع الخسران ولم يكونوا خلقوا إلا للربح فهم كانوا ظالمين، وهذا الكلام منا وإن كان في الظاهر يشبه كلام المعتزلة لكن العاقل يعلم كيف يقوله أهل السنة، وهو أن هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته، لكنه كان منهم ومضافا إليهم.
* (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءىا أن كذبوا بايات الله وكانوا بها يستهزئون) *.
ثم قال تعالى: * (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون) *
100

الله يبدؤ الخلق ثم يعيده إليه ترجعون ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين
كما قال: * (للذين أحسنوا الحسنى) * (يونس: 26) وقوله تعالى: * (أن كذبوا) * قيل معناه بأن كذبوا أي كان عاقبتهم ذلك بسبب أنهم كذبوا، وقيل معناه أساءوا وكذبوا فكذبوا يكون تفسيرا لأساؤا وفي هذه الآية لطائف إحداها: قال في حق الذين أحسنوا: * (للذين أحسنوا الحسنى) * وقال في حق من أساء: * (ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوآى) * إشارة إلى أن الجنة لهم من ابتداء الأمر فإن الحسنى اسم الجنة والسوآى اسم النار، فإذا كانت الجنة لهم ومن الابتداء، ومن له شيء كلما يزداد وينمو فيه فهو له، لأن ملك الأصل يوجب ملك الثمرة، فالجنة من حيث خلقت تربو وتنمو للمحسنين، وأما الذين أساؤا، فالسوآى وهي جهنم في العاقبة مصيرهم إليها الثانية: ذكر الزيادة في حق المحسن ولم يذكر الزيادة في حق المسئ لأن جزاء سيئة سيئة مثلها الثالثة: لم يذكر في المحسن أن له الحسنى بأنه صدق، وذكر في المسئ أن له السوأى بأنه كذب، لأن الحسنى للمحسنين فضل والمتفضل لو لم يكن تفضله لسبب يكون أبلغ، وأما السوآى للمسئ عدل والعادل إذا لم يكن تعذيبه لسبب لا يكون عدلا فذكر السبب في التعذيب وهو الإصرار على التكذيب، ولم يذكر السبب في الثواب.
* (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) *.
لما ذكر أن عاقبتهم إلى الجحيم وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال يبدأ الخلق، يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة فإليه ترجعون، ثم بين ما يكون وقت الرجوع إليه فقال:
* (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون * ولم يكن لهم من شركآئهم شفعاء وكانوا بشركآئهم كافرين) *.
في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم، والإبلاس يأس مع حيرة، يعني يوم تقوم الساعة يكون للمجرم يأس محير لا يأس هو إحدى الراحتين، وهذا لأن الطمع إذا انقطع باليأس فإذا كان المرجو أمرا غير ضروري يستريح الطامع من الانتظار وإن كان ضروريا بالإبقاء له بوونه ينفطر فؤاده أشد انفطار، ومثل هذا اليأس هو الإبلاس ولنبين حال المجرم وإبلاسه بمثال، وهو أن نقول مثله مثل من يكون في بستان وحواليه الملاعب والملاهي، ولديه ما يفتخر به ويباهي، فيخبره صادق بمجيء عدو لا يرده راد، ولا يصده صاد، إذا جاءه لا يبلعه ريقا، ولا يترك له إلى الخلاص طريقا، فيتحتم عليه الاشتغال بسلوك طريق الخلاص فيقول له طفل أو
101

ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فاما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا
ولقاء الاخر فأولئك في العذاب محضرون
مجنون إن هذه الشجرة التي أنت تحتها لها من الخواص دفع الأعادي عمن يكون تحتها، فيقبل ذلك الغافل على استيفائه ملاذه معتمدا على الشجرة بقول ذلك الصبي فيجيئه العدو ويحيط به، فأول ما يريه من الأهوال قلع تلك الشجرة فيبقى متحيرا آيسا، مفتقرا، فكذلك المجرم في دار الدنيا أقبل على استيفاء اللذات وأخبره النبي الصادق بأن الله يجزيه، ويأتيه عذاب يخزيه، فقال له الشيطان والنفس الأمارة بالسوء إن هذه الأخشاب التي هي الأوثان دافعة عنك كل بأس، وشافعة لك عند خمود الحواس، فاشتغل بما هو فيه واستمر على غيه حتى إذا جاءته الطامة الكبرى فأول ما أرته إلقاء الأصنام في النار فلا يجد إلى الخلاص من طريق، ويحق عليه عذاب الحريق، فييأس حينئذ أي إياس ويبلس أشد إبلاس. وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين) * (الروم: 13) يعني يكفرون بهم ذلك اليوم.
* (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) *.
ثم بين أمرا آخر يكون في ذلك اليوم وهو الافتراق كما قال تعالى في آية أخرى: * (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) * فكأن هذه الحالة مترتبة على الإبلاس، فكأنه أولا يبلس ثم يميز ويجعل فريق في الجنة وفريق في السعير، وأعاد قوله: * (ويوم تقوم الساعة) * لأن قيام الساعة أمر هائل فكرره تأكيدا للتخويف، ومنه اعتاد الخطباء تكرير يوم القيامة في الخطب لتذكير أهواله.
* (فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم فى روضة يحبرون) *.
ثم بين كيفية التفرق فقال تعالى: * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون) * أي في جنة يسرون بكل مسرة.
* (وأما الذين كفروا وكذبوا باياتنا ولقآء الاخرة فأولئك فى العذاب محضرون) *.
يعني لا غيبة لهم عنه ولا فتور له عندهم كما قال تعالى: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) * وقال: * (لا يخفف عنهم العذاب) * (آل عمران: 88) وفي الآيتين مسائل فيها لطائف:
المسألة الأولى: بدأ بذكر حال الذين آمنوا مع أن الموضع موضع ذكر المجرمين، وذلك لأن المؤمن يوصل إليه الثواب قبل أن يوصل إلى الكافر العقاب حتى يرى ويتحقق أن المؤمن وصل إلى الثواب قبل أن يوصل إلى الكافر العقاب حتى يرى ويتحقق أن المؤمن وصل إلى الثواب فيكون أنكى، ولو أدخل الكافر النار أولا لكان يظن أن الكل في العذاب مشتركون، فقدم ذلك زيادة في إيلامهم.
102

فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيى الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون
المسألة الثانية: ذكر في المؤمن العمل الصالح ولم يذكر في الكافر العمل السئ، لأن العمل الصالح معتبر مع الإيمان، فإن الإيمان المجرد مفيد للنجاة دون رفع الدرجات ولا يبلغ المؤمن الدرجة العالية إلا بإيمانه وعمله الصالح، وأما الكافر فهو في الدركات بمجرد كفره فلو قال: والذين كفروا وعملوا السيئات في العذاب محضرون، لكان العذاب لمن يصدر منه المجموع، فإن قيل فمن يؤمن ويعمل السيئات غير مذكور في القسمين، فنقول له منزلة بين المنزلتين لا على ما يقوله المعتزلة، بل هو في الأول في العذاب ولكن ليس من المحضرين دوام الحضور، وفي الآخرة هو في الرياض ولكنه ليس من المحبورين غاية الحبور كل ذلك بحكم الوعد.
المسألة الثالثة: قال في الأول * (في روضة) * على التنكير، وقال في الآخر في العذاب على التعريف، لتعظيم الروضة بالتنكير، كما يقال لفلان مال وجاه، أي كثير وعظيم.
المسألة الرابعة: قال في الأول: * (يحبرون) * بصيغة الفعل ولم يقل محبورون، وقال في الآخر: * (محضرون) * بصيغة الاسم ولم يقل يحضرون، لأن الفعل ينبئ عن التجدد والاسم لا يدل عليه فقوله: * (يحبرون) * يعني يأتيهم كل ساعة أمر يسرون به. وأما الكفار فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين.
* (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد فى السماوات والارض وعشيا وحين تظهرون * يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحى الارض بعد موتها وكذلك تخرجون) *.
لما بين الله تعالى عظمته في الابتداء بقوله: * (ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) * (الروم: 8) وعظمته في الانتهاء، وهو حين تقوم الساعة ويفترق الناس فريقين، ويحكم على البعض بأن هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، أمر بتنزيهه عن كل سوء ويحمده على كل حال فقال: * (فسبحان الله) * أي سبحوا الله تسبيحا، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في معنى سبحان الله ولفظه، أما لفظه ففعلان اسم للمصدر الذي هو التسبيح، سمي التسبيح بسبحان وجعل علما له. وأما المعنى فقال بعض المفسرين: المراد منه الصلاة، أي صلوا، وذكروا أنه أشار إلى الصلوات الخمس، وقال بعضهم أراد به التنزيه، أي نزهوه عن
103

صفات النقص وصفوه بصفات الكمال، وهذا أقوى والمصير إليه أولى، لأنه يتضمن الأول وذلك لأن التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب، وهو الاعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك، وهو الذكر الحسن وبالأركان معهما جميعا وهو العمل الصالح، والأول هو الأصل، والثاني ثمرة الأول والثالث ثمرة الثاني، وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه، وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحواله وأفعاله، واللسان ترجمان الجنان والأركان برهان اللسان، لكن الصلاة أفضل أعمال
الأركان، وهي مشتملة على الذكر باللسان والقصد بالجنان، وهو تنزيه في التحقيق، فإذا قال نزهوني، وهذا نوع من أنواع التنزيه، والأمر المطلق لا يختص بنوع دون نوع فيجب حمله على كل ما هو تنزيه فيكون أيضا هذا أمرا بالصلاة، ثم إن قولنا يناسب ما تقدم، وذلك لأن الله تعالى لما بين أن المقام الأعلى والجزاء الأوفى لمن آمن وعمل الصالحات حيث قال: * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون) * (الروم: 15) قال: إذا علمتم أن ذلك المقام لمن آمن وعمل الصالحات والإيمان تنزيه بالجنان وتوحيد باللسان والعمل الصالح استعمال الأركان والكل تنزيهات وتحميدات، فسبحان الله أي فأتوا بذلك الذي هو الموصل إلى الحبور في الرياض، والحضور على الحياض.
المسألة الثانية: خص بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح وذلك لأن أفضل الأعمال أدومها، لكن أفضل الملائكة ملازمون للتسبيح على الدوام كما قال تعالى: * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * (الأنبياء: 20) والإنسان ما دام في الدنيا لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح، لكونه محتاجا إلى أكل وشرب وتحصيل مأكول ومشروب وملبوس ومركوب فأشار الله تعالى إلى أوقات إذا أتى العبد بتسبيح الله فيها يكون كأنه لم يفتر وهي الأول والآخر والوسط أول النهار وآخره ووسطه فأمر بالتسبيح في أول الليل ووسطه، ولم يأمر بالتسبيح في آخر الليل لأن النوم فيه غالب والله من على عباده بالاستراحة بالنوم، كما قال: * (ومن آياته منامكم بالليل) * (الروم: 23) فإذا صلى في أول النهار تسبيحتين وهما ركعتان حسب له صرف ساعتين إلى التسبيح، ثم إذا صلى أربع ركعات وقت الظهر حسب له صرف أربع ساعات أخر فصارت ست ساعات، وإذا صلى أربعا في أواخر النهار وهو العصر حسب له أربع أخرى فصارت عشر ساعات، فإذا صلى المغرب والعشاء سبع ركعات أخر حصل له صرف سبع عشرة ساعة إلى التسبيح وبقي من الليل والنهار سبع ساعات وهي ما بين نصف الليل وثلثيه لأن ثلثيه ثمان ساعات ونصفه ست ساعات وما بينهما السبع، وهذا القدر لو نام الإنسان فيه لكان كثيرا وإليه أشار تعالى بقوله: * (قم الليل إلا قليلا * نصفه أو أنقص منه قليلا * أو زد عليه) * (المزمل: 2 - 4) وزيادة القليل على النصف هي ساعة فيصير سبع ساعات مصروفة إلى النوم والنائم مرفوع عنه القلم، فيقول الله عبدي صرف جميع أوقات تكليفه في تسبيحي فلم يبق لكم أيها الملائكة عليهم المزية التي ادعيتم بقولكم: * (نحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * (البقرة: 30) على سبيل الانحصار بل هم مثلكم
104

فمقامهم مثل مقامكم في أعلى عليين، واعلم أن في وضع الصلاة في أوقاتها وعدد ركعاتها واختلاف هيئاتها حكمة بالغة، أما في عدد الركعات فما تقدم من كون الإنسان يقظان في سبع عشرة ساعة ففرض عليه سبع عشرة ركعة، وأما على مذهب أبي حنيفة حيث قال بوجوب الوتر ثلاث ركعات وهو أقرب للتقوى، فنقول هو مأخوذ من أن الإنسان ينبغي أن يقلل نومه فلا ينام إلا ثلث الليل مأخوذا من قوله تعالى: * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) * ويفهم من هذا أن قيام ثلثي الليل مستحسن مستحب مؤكد باستحباب ولهذا قال عقيبه: * (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) * (المزمل: 20) ذكر بلفظ التوبة، وإذا كان كذلك يكون الإنسان يقظان في عشرين ساعة فأمر بعشرين ركعة، وأما النبي عليه السلام فلما كان من شأنه أن لا ينام أصلا كما قال: " تنام عيناي ولا ينام قلبي " جعل له كل الليل كالنهار فزيد له التهجد فأمر به، وإلى هذا أشار تعالى في قوله: * (ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) * (الإنسان: 26) أي كل الليل لك للتسبيح فصار هو في أربع وعشرين ساعة مسبحا، فصار من الذين لا يفترون طرفة عين، وأما في أوقاته فما تقدم أيضا أن الأول والآخر والوسط هو المعتبر فشرع التسبيح في أول النهار وآخره، وأما الليل فاعتبر أوله ووسطه كما اعتبر أول النهار ووسطه، وذلك لأن الظهر وقته نصف النهار والعشاء وقته نصف الليل لأنا بينا أن الليل المعتبر هو المقدار الذي يكون الإنسان فيه يقظان وهو مقدار خمس ساعات فجعل وقته في نصف هذا القدر وهو الثلاثة من الليل، وأما أبو حنيفة لما رأى وجوب الوتر كان زمان النوم عنده أربع ساعات وزمان اليقظة بالليل ثمان ساعات وأخر وقت العشاء الآخرة إلى الرابعة والخامسة، ليكون في وسط الليل المعتبر، كما أن الظهر في وسط النهار، وأما النبي صلى الله عليه وسلم لما كان ليله نهارا ونومه انتباها قال: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وتأخير العشاء إلى نصف الليل " ليكون الأربع في نصف الليل كما أن الأربع في نصف النهار، وأما التفصيل فالذي يتبين لي أن النهار اثنتا عشرة ساعة زمانية والصلاة المؤداة فيها عشر ركعات فيبقى على المكلف ركعتان يؤديهما في أول الليل ويؤدي ركعة من صلاة الليل ليكون ابتداء الليل بالتسبيح كما كان ابتداء النهار بالتسبيح، ولما كان المؤدى من تسبيح النهار في أوله ركعتين كان المؤدى من تسبيح الليل في أوله ركعة لأن سبح النهار طويل مثل ضعف سبح الليل، لأن المؤدى في النهار عشرة والمؤدى في الليل من تسبيح الليل خمس.
المسألة الثانية: في فضيلة السبحلة والحمدلة في المساء والصباح، ولنذكرها من حيث النقل والعقل، أما النقل فأخبرني الشيخ الورع الحافظ الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بحلب مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبعض أصحابه: " أتعجز عن أن تأتي وقت النوم بألف حسنة؟ فتوقف فقال النبي عليه السلام: قل سبحان الله والحمد لله والله أكبر مائة مرة يكتب لك بها ألف حسنة " وسمعته يقول رحمه الله مسندا " من قال خلف كل صلاة مكتوبة عشر مرات سبحان الله وعشر
105

مرات الله أكبر أدخل الجنة " وأما العقل فهو أن الله تعالى له صفات لازمة لا من فعله وصفات ثابتة له من فعله، أما الأولى فهي صفات كمال وجلال خلافها نقص، فإذا أدرك المكلف الله بأنه لا يجوز أن يخفي عليه شيء لكونه عالما بكل شيء فقد نزهه عن الجهل ووصفه بضده، وإذا عرفه بأنه لا يعجز عن شيء لكونه قادرا على كل شيء فقد نزهه عن العجز، وإذا علم أنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء لكونه مريدا لكل كائن فقد وصفه ونزهه، وإذا ظهر له أنه لا يجوز عليه الفناء لكونه واجب البقاء فقد نزهه، وإذا بان له أنه لا يسبقه العدم لاتصافه بالقدم فقد نزهه، وإذا لاح له أنه لا يجوز أن يكون عرضا أو جسما أو في مكان لكونه واجبا بريئا عن جهات الإمكان فقد نزهه. لكن صفاته السلبية والإضافية لا يعدها عاد ولو اشتغل بها واحد لأفنى فيها عمره ولا يدرك كنهها. فإذا قال قائل مستحضرا بقلبه سبحان الله متنبها لما يقوله من كونه منزها له عن كل نقص فإتيانه بالتسبيح على هذا الوجه من الإجمال يقوم مقام إتيانه به على سبيل التفصيل، لكن لا ريب في أن من أتى بالتسبيح عن كل واحد على حدة مما لا يجوز على الله يكون قد أتى بما لا تفي به الأعمار، فيقول هذا العبد أتى بتسبيحي طول عمره ومدة بقائه فأجازيه بأن أطهره عن كل ذنب وأزينه
بخلع الكرامة وأنزله بدار المقامة مدة لا انتهاء لها، وكما أن العبد ينزه الله في أول النهار وآخره ووسطه، فإن الله تعالى يطهره في أوله وهو دنياه وفي آخره وهو عقباه وفي وسطه وهو حالة كونه في قبره الذي يحويه إلى أوان حشره وهو مغناه. وأما الثانية وهو صفات الفعل فالإنسان إذا نظر إلى خلق الله السماوات يعلم أنها نعمة وكرامة فيقول الحمد لله، فإذا رأى الشمس فيها بازغة فيعلم أنها نعمة وكرامة فيقول الحمد لله، وكذلك القمر وكل كوكب والأرض وكل نبات وكل حيوان يقول الحمد لله، لكن الإنسان لو حمد الله على كل شيء على حدة لا يفي عمره به، فإذا استحضر في ذهنه النعم التي لا تعد كما قال تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34) ويقول الحمد لله على ذلك فهذا الحمد على وجه الإجمال يقوم منه مقام الحمد على سبيل التفصيل، ويقول عبدي استغرق عمره في حمدي وأنا وعدت الشاكر بالزيادة فله علي حسنة التسبيح الحسنى وله على حمده الزيادة ثم إن الإنسان إذا استغرق في صفات الله قد يدعوه عقله إلى التفكر في الله تعالى بعد التفكر في آلاء الله، فكل ما يقع في عقله من حقيقته فينبغي أن يقول الله أكبر مما أدركه، لأن المدركات وجهات الإدراكات لا نهاية لها، فإن أراد أن يقول على سبيل التفصيل الله أكبر من هذا الذي أدركته من هذا الوجه وأكبر مما أدركته من ذلك الوجه وأكبر مما أدركته من وجه آخر يفني عمره ولا يفي بإدراك جميع الوجوه التي يظن الظان أنه مدرك لله بذلك الوجه، فإذا قال مع نفسه الله أكبر أي من كل ما أتصوره بقوة عقلي وطاقة إدراكي يكون متوغلا في العرفان وإليه الإشارة بقوله: العجز عن درك الإدراك إدراك
فقول القائل المستيقظ: " سبحان الله والحمد لله والله أكبر " مفيد لهذه الفوائد، لكن شرطه
106

ومن آياته أن خلقكم تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون
أن يكون كلاما معتبرا وهو الذي يكون من صميم القلب لا الذي يكون من طرف اللسان.
المسألة الرابعة: قوله: * (وعشيا) * عطف على * (حين) * أي سبحوه حين تمسون وحين تصبحون وعشيا، وقوله: * (وله الحمد في السماوات والأرض) * كلام معترض بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه لطيفة وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه بين لهم أن تسبيحهم الله لنفعهم لا لنفع يعود على الله فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه وهذا كما في قوله تعالى: * (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) * (الحجرات: 17).
المسألة الخامسة: قدم الإمساء على الإصباح ههنا وأخره في قوله: * (وسبحوه بكرة وأصيلا) * (الأحزاب: 42) وذلك لأن ههنا أول الكلام ذكر الحشر والإعادة من قوله: * (الله يبدأ الخلق ثم يعيده) * (الروم: 11) إلى قوله: * (فأولئك في العذاب محضرون) * (الروم: 16) وآخر هذه الآية أيضا ذكر الحشر والإعادة بقوله: * (وكذلك تخرجون) * والإمساء آخر فذكر الآخر ليذكر الآخرة.
المسألة السادسة: في تعلق إخراج الحي من الميت والميت من الحي بما تقدم عليه هو أن عند الإصباح يخرج الإنسان من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة، وعند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم، واختلف المفسرون في قوله: * (يخرج الحي من الميت) * فقال أكثرهم: يخرج الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، وكذلك الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان، وقال بعضهم المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، ويمكن أن يقال المراد: * (يخرج الحي من الميت) * أي اليقظان من النائم والنائم من اليقظان، وهذا يكون قد ذكره للتمثيل أي إحياء الميت عنده وإماتة الحي كتنبيه النائم وتنويم المنتبه.
ثم قال تعالى: * (ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون) * وفي هذا معنى لطيف وهو أن الإنسان بالموت تبطل حيوانيته وأما نفسه الناطقة فتفارقه وتبقى بعده كما قال تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) * (آل عمران: 169) لكن الحيوان نام متحرك حساس لكن النائم لا يتحرك ولا يحس والأرض الميتة لا يكون فيها نماء، ثم إن النائم بالانتباه يتحرك ويحس والأرض الميتة بعد موتها تنمو بنباتها فكما أن تحريك ذلك الساكن وإنماء هذا الواقف سهل على الله تعالى كذلك إحياء الميت سهل عليه وإلى هذا أشار بقوله: * (وكذلك تخرجون) *.
* (ومن ءاياته أن خلقكم من تراب ثم إذآ أنتم بشر تنتشرون) *.
لما أمر الله تعالى بالتسبيح عن الأسواء وذكر أن الحمد له على خلق جميع الأشياء وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله: * (فسبحان الله) * إلى قوله: * (وكذلك تخرجون) * (الروم: 16 - 20) ذكر ما هو حجة ظاهرة وآية
107

باهرة على ذلك ومن جملتها خلق الإنسان من تراب وتقريره هو أن التراب أبعد الأشياء عن درجة الأحياء، وذلك من حيث كيفيته فإنه بارد يابس والحياة بالحرارة والرطوبة، ومن حيث لونه فإنه كدر والروح نير، ومن حيث فعله فإنه ثقيل والأرواح التي بها الحياة خفيفة، ومن حيث السكون فإنه بعيد عن الحركة والحيوان يتحرك يمنة ويسرة وإلى خلف وإلى قدام وإلى فوق وإلى أسفل، وفي الجملة فالتراب أبعد من قبول الحياة عن سائر الأجسام لأن العناصر أبعد من المركبات لأن المركب بالتركيب أقرب درجة من الحيوان والعناصر أبعدها التراب لأن الماء فيه الصفاء والرطوبة والحركة وكلها على طبع الأرواح والنار أقرب لأنها كالحرارة الغريزية منضجة جامعة مفرقة ثم المركبات وأول مراتبها المعدن فإنه ممتزج، وله مراتب أعلاها الذهب وهو قريب من أدنى مراتب النبات وهي مرتبة النبات الذي ينبت في الأرض ولا يبرز ولا يرتفع، ثم النباتات وأعلى مراتبها وهي مرتبة الأشجار التي تقبل التعظيم، ويكون لثمرها حب يؤخذ منه مثل تلك الشجرة كالبيضة من الدجاجة والدجاجة من البيضة قريبة من أدنى مراتب الحيوانات وهي مرتبة الحشرات التي ليس لها دم سائل ولا هي إلى المنافع الجليلة وسائل كالنباتات، ثم الحيوان وأعلى مراتبها قريبة من مرتبة الإنسان فإن الأنعام ولا سيما الفرس تشبه العتال والحمال والساعي، ثم الإنسان، وأعلى مراتب الإنسان قريبة من مرتبة الملائكة المسبحين لله الحامدين له فالله الذي خلق من أبعد الأشياء عن مرتبة الأحياء حيا هو في أعلى المراتب لا يكون إلا منزها عن العجز والجهل، ويكون له الحمد على إنعام الحياة،
ويكون له كمال القدرة ونفوذ الإرادة فيجوز منه الإبداء والإعادة، وفي الآية لطيفتان إحداهما: قوله: * (إذا) * وهي للمفاجأة يقال خرجت فإذا أسد بالباب وهو إشارة إلى أن الله تعالى خلقه من تراب بكن فكان لا أنه صار معدنا ثم نباتا ثم حيوانا ثم إنسانا وهذا إشارة إلى مسألة حكمية، وهي أن الله تعالى يخلق أولا إنسانا فينبهه أنه يحيي حيوانا وناميا وغير ذلك لا أنه خلق أولا حيوانا، ثم يجعله إنسانا فخلق الأنواع هو المراد الأول، ثم تكون الأنواع فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى، فالله تعالى جعل المرتبة الأخيرة في الشيء البعيد عنها غاية من غير انتقال من مرتبة إلى مرتبة من المراتب التي ذكرناها اللطيفة الثانية: قوله: * (بشر) * إشارة إلى القوة المدركة لأن البشر بشر لا بحركته، فإن غيره من الحيوانات أيضا كذلك وقوله: * (تنتشرون) * إلى القوة المحركة وكلاهما من التراب عجيب، أما الإدراك فلكثافته وجموده، وأما الحركة فلثقله وخموده وقوله: * (تنتشرون) * إشارة إلى أن العجيبة غير مختص بخلق الإنسان من التراب بل خلق الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب فضلا عن خلق البشر، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: وهي أن الله خلق آدم من تراب وخلقنا منه فكيف قال: * (خلقكم من تراب) * نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: ما قيل إن المراد من قوله: * (خلقكم) * أنه خلق أصلكم والثاني: أن نقول: إن كل بشر مخلوق من التراب، أما آدم فظاهر، وأما نحن فلأنا خلقنا من
108

نطفة والنطفة من صالح الغذاء الذي هو بالقوة بعض من الأعضاء، والغذاء إما من لحوم الحيوانات وألبانها وأسمانها، وإما من النبات والحيوان أيضا له غذاء هو النبات لكن النبات من التراب، فإن الحبة من الحنطة والنواة من الثمرة لا تصير شجرة إلا بالتراب وينضم إليها أجزاء مائية ليصير ذلك النبات بحيث يغذو.
المسألة الثانية: قال تعالى في موضع آخر: * (خلق من الماء بشرا) * (الفرقان: 2) وقال: * (من ماء مهين) * (المرسلات: 20) وههنا قال من: * (تراب) * فكيف الجمع؟ قلنا أما على الجواب الأول: فالسؤال زائل، فإن المراد منه آدم، وأما على الثاني: فنقول ههنا قال ما هو أصل أول، وفي ذلك الموضع قال ما هو أصل ثان لأن ذلك التراب الذي صار غذاء يصير مائعا وهو المني، ثم ينعقد ويتكون بخلق الله منه إنسانا أو نقول الإنسان له أصلان ظاهران الماء والتراب فإن التراب لا ينبت إلا بالماء ففي النبات الذي هو أصل غذاء الإنسان تراب وماء فإن جعل التراب أصلا والماء لجمع أجزائه المتفتتة فالأمر كذلك وإن جعل الأصل هو الماء والتراب لتثبيت أجزائه الرطبة من السيلان فالأمر كذلك، فإن قال قائل الله تعالى يعلم كل شيء فهو يعلم أن الأصل ماذا هو منهما، وإنما الأمر عندنا مشتبه يجوز هذا وذاك، فإن كان الأصل هو التراب فكيف قال: * (من الماء بشرا) * وإن كان الماء فكيف قال: * (خلقكم من تراب) * وإن كانا هما أصلين فلم لم يقل خلقكم منهما فنقول فيه لطيفة، وهي أن كون التراب أصلا والماء أصلا والماء ليس لذاتيهما، وإنما هو يجعل الله تعالى فإن الله نظرا إلى قدرته كان له أن يخلق أول ما يخلق الإنسان ثم يفنيه ويحصل منه التراب ثم يذوبه ويحصل منه الماء، لكن الحكمة اقتضت أن يكون الناقص وسيلة إلى الكامل لا الكامل يكون وسيلة إلى الناقص فخلق التراب والماء أولا، وجعلهما أصلين لمن هو أكمل منهما بل للذي هو أكمل من كل كائن وهو الإنسان، فإن كان كونهما أصلين ليس أمرا ذاتيا لهما بل بجعل جاعل فتارة جعل الأصل التراب وتارة الماء ليعلم أنه بإرادته واختياره، فإن شاء جعل هذا أصلا وإن شاء جعل ذلك أصلا، وإن شاء جعلهما أصلين.
المسألة الثالثة: قال الحكماء: إن الإنسان مركب من العناصر الأربعة وهي التراب والماء والهواء والنار، وقالوا التراب فيه لثباته، والماء لاستمساكه، فإن التراب يتفتت بسرعة، والهواء لاستقلاله كالزق المنفوخ يقوم بالهواء ولولاه لما كان فيه استقلال ولا انتصاب، والنار للنضج والالتئام بين هذه الأشياء، فهذا هذا صحيح أم لا؟ فإن كان صحيحا فكيف اعتبر الأمرين فحسب ولم يقل في موضع آخر إنه خلقكم من نار ولا من ريح؟ فنقول أما قولهم فلا مفسدة فيه من حيث الشرع فلا ننازعهم فيه إلا إذا قالوا بأنه بالطبيعة كذلك، وأما إن قالوا بأن الله بحكمته خلق الإنسان من هذه الأشياء فلا ننازعهم فيه، وأما الآيات فنقول ما ذكرتم لا يخالف هذا لأن الهواء جعلتموه للاستقلال والنار للنضج فهما يكونان بعد امتزاج الماء بالتراب، فالأصل الموجود أولاهما لا غير
109

ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون
فلذلك خصهما ولأن المحسوس من العناصر في الغالب هو التراب والماء ولا سيما كونهما في الإنسان ظاهر لكل أحد فخص الظاهر المحسوس بالذكر.
ثم قال تعالى
* (ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لأيات لقوم يتفكرون) *.
لما بين الله خلق الإنسان بين أنه لما خلق الإنسان ولم يكن من الأشياء التي تبقى وتدوم سنين متطاولة أبقى نوعه بالأشخاص وجعله بحيث يتوالد، فإذا مات الأب يقوم الابن مقامه لئلا يوجب فقد الواحد ثلمة في العمارة لا تنسد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (خلق لكم) * دليل على أن النساء خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع، كما قال تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض) * (البقرة: 29) وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف فنقول خلق النساء من النعم علينا وخلقهن لنا وتكليفهن لإتمام النعمة علينا لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا وذلك من حيث النقل والحكم والمعنى، أما النقل فهذا وغيره، وأما الحكم فلأن المرأة لم تكلف بتكاليف كثيرة كما كلف الرجل بها، وأما المعنى فلأن المرأة ضعيفة الخلق سخيفة فشابهت الصبي لكن الصبي، لم يكلف فكان يناسب أن لا تؤهل المرأة للتكليف، لكن النعمة علينا ما كانت تتم إلا بتكليفهن لتخاف كل واحدة منهن العذاب فتنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم، ولولا ذلك لظهر الفساد. المسألة الثانية: قوله: * (من أنفسكم) * بعضهم قال: المراد منه أن حواء خلقت من جسم آدم والصحيح أن المراد منه من جنسكم كما قال تعالى: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * (التوبة: 128) ويدل عليه قوله: * (لتسكنوا إليها) * (الروم: 21) يعني أن الجنسين الحيين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر أي لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه.
المسألة الثالثة: يقال سكن إليه للسكون القلبي ويقال سكن عنده للسكون الجسماني، لأن كلمة عند جاءت لظرف المكان وذلك للأجسام وإلى للغاية وهي للقلوب.
المسألة الرابعة: قوله: * (وجعل بينكم مودة ورحمة) * فيه أقوال قال بعضهم: مودة بالمجامعة ورحمة بالولد تمسكا بقوله تعالى: * (ذكر رحمة ربك عبده زكريا) * (مريم: 2) وقال بعضهم محبة حالة حاجة نفسه، ورحمة حالة حاجة صاحبه إليه، وهذا لأن الإنسان يحب مثلا ولده، فإذا رأى عدوه في شدة من جوع وألم قد يأخذ من ولده ويصلح به حال ذلك، وما ذلك لسبب المحبة وإنما هو لسبب
110

ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لايات للعالمين
الرحمة ويمكن أن يقال ذكر من قبل أمرين أحدهما: كون الزوج من جنسه والثاني: ما تفضي إليه الجنسية وهو السكون إليه فالجنسية توجب السكون وذكر ههنا أمرين أحدهما: يفضي إلى الآخر فالمودة تكون أولا ثم إنها تفضي إلى الرحمة، ولهذا فإن الزوجة قد تخرج عن محل الشهوة بكبر أو مرض ويبقى قيام الزوج بها وبالعكس وقوله: * (إن في ذلك) * يحتمل أن يقال المراد إن في خلق الأزواج لآيات، ويحتمل أن يقال في جعل المودة بينهم آيات أما الأول: فلا بد له من فكر لأن خلق الإنسان من الوالدين يدل على كمال القدرة ونفوذ الإرادة وشمول العلم لمن يتفكر ولو في خروج الولد من بطن الأم، فإن دون ذلك لو كان من غير الله لأفضى إلى هلاك الأم وهلاك الولد أيضا لأن الولد لو سل من موضع ضيق بغير إعانة الله لمات وأما الثاني: فكذلك لأن الإنسان يجد بين القرينين من التراحم ما لا يجده بين ذوي الأرحام وليس ذلك بمجرد الشهوة فإنها قد تنتفي وتبقى الرحمة فهو من الله ولو كان بينهما مجرد الشهوة والغضب كثير الوقوع وهو مبطل للشهوة والشهوة غير دائمة في نفسها لكان كل ساعة بينهما فراق وطلاق فالرحمة التي بها يدفع الإنسان المكاره عن حريم حرمه هي من عند الله ولا يعلم ذلك إلا بفكر.
* (ومن ءاياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذلك لأيات للعالمين) *.
لما بين دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق وأظهرها خلق السماوات والأرض، فإن بعض الكفار يقول في خلق البشر وغيره من المركبات إنه بسبب ما في العناصر من الكيفيات وما في السماوات من الحركات وما فيها من الاتصالات فإذا قيل له فالسماء والأرض لم تكن لامتزاج العناصر واتصالات الكواكب فلا يجد بدا من أن يقول ذلك بقدرة الله وإرادته ثم لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بالاختلاف الذي بين ألوان الإنسان فإن واحدا منهم مع كثرة عددهم وصغر حجم خدودهم وقدودهم لا يشتبه بغيره والسماوات مع كبرها وقلة عددها مشتبهات في الصورة والثاني: اختلاف كلامهم فإن عربيين هما أخوان إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر حتى أن من يكون محجوبا عنهما لا يبصرهما يقول هذا صوت فلان وهذا صوت فلان الآخر وفيه حكمة بالغة وذلك لأن الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه، وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه، وذلك قد يكون بالبصر فخلق
111

ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لايات لقوم يسمعون
اختلاف الصور وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات، وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع بها التمييز، ومن الناس من قال المراد اختلاف اللغة كالعربية والفارسية والرومية وغيرها والأول أصح، ثم قال تعالى: * (لآيات للعالمين) * لما كان خلق السماوات والأرض لم يحتمل الاحتمالات البعيدة التي يقولها أصحاب الطبائع واختلاف الألوان كذلك واختلاف الأصوات كذلك قال: * (للعالمين) * لعموم العلم بذلك.
* (ومن ءاياته منامكم با اليل والنهار وابتغآؤكم من فضله إن فى ذلك لايات لقوم يسمعون) *.
لما ذكر بعض العرضيات اللازمة وهو اختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة طلبا للرزق بالنهار، فذكر من اللوازم أمرين، ومن المفارقة أمرين، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (منامكم بالليل والنهار) * قيل أراد به النوم بالليل والنوم بالنهار وهي القيلولة: ثم قال: * (وابتغاؤكم) * أي فيهما فإن كثيرا ما يكتسب الإنسان بالليل، وقيل أراد منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف البعض بالبعض، ويدل عليه آيات أخر. منها قوله تعالى: * (وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا) * (الإسراء: 12) وقوله: * (وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا) * (النبأ: 10، 11) ويكون التقدير هكذا: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله، فأخر الابتغاء وقرته في اللفظ بالفعل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه، بل يرى كل ذلك من فضل ربه، ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع، منها قوله تعالى: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) * (الجمعة: 10) وقوله: * (ولتبتغوا من فضله) * (النحل: 14).
المسألة الثانية: قدم المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر، لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة، فلا يتعب إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل.
المسألة الثالثة: قال: * (آيات لقوم يسمعون) * وقال من قبل: * (لقوم يتفكرون) * وقال: * (للعالمين) * فنقول المنام بالليل والابتغاء من فضله يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله فلم يقل آيات للعالمين ولأن الأمرين الأولين وهو اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان، فإنهما يدومان بدوام الإنسان
112

ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء فيحيى به الأرض بعد موتها إن في ذلك لايات لقوم يعقلون
فجعلهما آيات عامة، وأما قوله: * (لقوم يتفكرون) * فاعلم أن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر، ومنها ما يكفي فيه مجرد الفكرة، ومنها ما لا يخرج بالفكر بل يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه، فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد، ومنها ما يحتاج إلى بعض الناس في تفهمه إلى أمثلة حسية كالأشكال الهندسية لكن خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكر خامد الذكر، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية، وأما المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد، وقد يحتاج إلى مرشد بغير فكرة، فقال: * (لقوم يسمعون) * ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد.
* (ومن ءاياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السمآء مآء فيحى به الارض بعد موتها إن فى ذلك لايات لقوم يعقلون) *.
لما ذكر العرضيات التي للأنفس اللازمة والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق، وقال: * (يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: لما قدم دلائل الأنفس ههنا قدم العرضيات التي للأنفس وأخر العرضيات التي للآفاق كما أخر دلائل الآفاق، بقوله: * (ومن آياته خلق السماوات والأرض) * (الروم: 22).
المسألة الثانية: قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة حيث ذكر أولا اختلاف الألسنة والألوان ثم المنام والابتغاء، وقدم في الآفاق العوارض المفارقة على اللوازم حيث قال: * (يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل) * وذلك لأن الإنسان متغير الحال والعوارض له غير بعيدة، وأما اللوازم فيه فقريبة. وأما السماوات والأرض فقليلة التغير فالعوارض فيها أغرب من اللوازم، فقدم ما هو أعجب لكونه أدخل في كونه آية ونزيده بيانا فنقول: الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم وله صوت يعرف به لا يتغير وله لون يتميز عن غيره، وهو يتغير في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة، والسماء والأرض ثابتان لا يتغيران، ثم يرى في بعض الأحوال أمطار هاطلة وبروق هائلة، والسماء كما كانت والأرض كذلك، فهو آية دالة على فاعل مختار يديم أمرا مع تغير المحل ويزيل أمرا مع ثبات المحل.
المسألة الثالثة: كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء.
المسألة الرابعة: كما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع، كذلك في تقدم البرق والرعد على المطر منفعة، وذلك لأن البرق إذا لاح، فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال
113

ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون
فيستعد له، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء أو زرع يسوي مجاري الماء، وأيضا العرب من أهل البوادي فلا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب، واعلم أن فوائد البرق وإن لم تظهر للمقيمين بالبلاد فهي ظاهرة للبادين ولهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة، وآية، وأما كونه آية فظاهر فإن في السحاب ليس إلا ماء وهواء وخروج النار منها بحيث تحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق هو الله، قالت الفلاسفة السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء والماء. فالهواء ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت ريح قوية تخرق السحاب بعنف فيحدث صوت الرعد ويخرج منه النار كمساس جسم جسما بعنف، وهذا كما أن النار تخرج من وقوع الحجر على الحديد فإن قال قائل الحجر والحديد جسمان صلبان والسحاب والريح جسمان رطبان، فيقولون لكن حركة يد الإنسان ضعيفة وحركة الريح قوية تقلع الأشجار، فنقول لهم البرق والرعد أمران حادثان لا بد لهما من سبب، وقد علم بالبرهان كون كل حادث من الله فهما من الله، ثم إنا نقول هب أن الأمر كما تقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة لا بد من سبب وينتهي إلى واجب الوجود، فهو آية للعاقل على قدرة الله كيفما فرضتم ذلك.
المسألة الخامسة: قال ههنا: * (لقوم يعقلون) * لما كان حدوث الولد من الوالد أمرا عاديا مطردا قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أن ذلك بالطبيعة، لأن المطرد أقرب إلى الطبيعة من المختلف، لكن البرق والمطر ليس أمرا مطردا غير متخلف إذ يقع ببلدة دون بلدة وفي وقت دون وقت وتارة تكون قوية وتارة تكون ضعيفة فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار، فقال هو آية لمن له عقل إن لم يتفكر تفكرا تاما.
* (ومن ءاياته أن تقوم السمآء والارض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذآ أنتم تخرجون) *.
لما ذكر من العوارض التي للسماء والأرض بعضها، ذكر من لوازمها البعض وهي قيامها، فإن الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد، وهذا من اللوازم، فإن الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه والسماء كذلك لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه فإن قيل إنها تتحرك في مكانها كالرحى ولكن اتفق العقلاء على أنها في مكانها لا تخرج عنه، وهذه آية ظاهرة لأن كونهما في الموضع الذي هما فيه وعلى الموضع
114

الذي هما عليه من الأمور الممكنة، وكونهما في غير ذلك الموضع جائز، فكان يمكن أن يخرجا منه فلما لم يخرجا كان ذلك ترجيحا للجائز على غيره، وذلك لا يكون إلا بفاعل مختار، والفلاسفة قالوا كون الأرض في المكان الذي هي فيه طبيعي لها لأنها أثقل الأشياء والثقيل يطلب المركز والخفيف يطلب المحيط والسماء كونها في مكانها إن كانت ذات مكان فلذاتها فقيامهما فيهما بطبعهما، فنقول قد تقدم مرارا أن القول بالطبيعة باطل، والذي نزيده ههنا أنكم وافقتمونا بأن ما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر، لكن مقعر الفلك لا يخالف محدبة في الطبع فيجوز حصول مقعره في موضع محدبة، وذلك بالخروج والزوال فإذن الزوال عن المكان ممكن لا سيما على السماء الدنيا فإنها محددة الجهات على مذهبكم أيضا والأرض كانت تجوز عليها الحركة الدورية، كما تقولون على السماء فعدمها وسكونها ليس إلا بفاعل مختار وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكر الله من كل باب أمرين، أما من الأنفس فقوله: * (خلق لكم) * استدل بخلق الزوجين ومن الآفاق السماء والأرض في قوله: * (خلق السماوات
والأرض) * ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارضه المنام والابتغاء ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار ومن لوازمها قيام السماء وقيام الأرض، لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني: يفيد الاستقرار بالحق، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين فإن قول أحدهما يفيد الظن وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: * (بلى ولكن ليطمئن قلبي) * (البقرة: 260).
المسألة الثانية: قوله: * (بأمره) * أي بقوله: قوما أو بإرادته قيامهما، وذلك لأن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة، وعندنا ليس كذلك ولكن النزاع في الأمر الذي للتكليف لا في الأمر الذي للتكوين، فإنا لا ننازعهم في أن قوله: * (كن) * و * (كونوا) * * (يا نار كوني) * موافق للإرادة.
المسألة الثالثة: قال ههنا: * (ومن آياته أن تقوم) * وقال قبله: * (ومن آياته يريكم) * ولم يقل أن يريكم، وإن قال بعض المفسرين إن أن مضمرة هناك معناه من آياته أن يريكم ليصير كالمصدر بأن، وذلك لأن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل وجعله مصدرا، لأن المستقبل ينبئ عن التجدد، وفي البرق لما كان ذلك من الأمور التي تتجدد في زمان دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه شيئا من الحروف المصدرية.
المسألة الرابعة: ذكر ستة دلائل، وذكر في أربعة منها إن في ذلك لآيات، ولم يذكر في الأول وهو قوله: * (ومن آياته أن خلقكم من تراب) * (الروم: 20) ولا في الآخر وهو قوله: * (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض) * (الروم: 25) أما في الأول فلأن قوله بعده: * (ومن آياته أن خلق لكم) * أيضا دليل الأنفس، فخلق الأنفس وخلق الأزواج من باب واحد، على ما بينا، غير أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير بالتكرير، فإذا قال: * (إن في ذلك لآيات) * كان عائدا إليهما، وأما في قيام السماء والأرض فنقول في الآيات السماوية ذكر أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون لظهورها
115

وله من في السماوات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدو الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الاعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم
فلما كان في أول الأمر ظاهرا ففي آخر الأمر بعد سرد الدلائل يكون أظهر، فلم يميز أحدا عن أحد في ذلك، وذكر ما هو مدلوله وهو قدرته على الإعادة، وقال: * (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون) * وفيها مسائل:
المسألة الأولى: ما وجه العطف يتم، وبم تعلق ثم؟ فنقول معناه والله أعلم إنه تعالى إذا بين لكم كمال قدرته بهذه الآيات بعد ذلك يخبركم ويعلمكم أنه إذا قال للعظام الرميمة اخرجوا من الأجداث يخرجون أحياء.
المسألة الثانية: قول القائل دعا فلان فلانا من الجبل يحتمل أن يكون الدعاء من الجبل كما يقول القائل يا فلان إصعد إلى الجبل، فيقال دعاه من الجبل ويحتمل أن يكون المدعو يدعى من الجبل كما يقول القائل يا فلان انزل من الجبل، فيقال دعاه من الجبل، ولا يخفى على العاقل أن الدعاء لا يكون من الأرض إذا كان الداعي هو الله، فالمدعو يدعى من الأرض يعني أنتم تكونون في الأرض فيدعوكم منها فتخرجون.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (إذا أنتم) * قد بينا أنه للمفاجأة يعني يكون ذلك بكن فيكون.
المسألة الرابعة: قال ههنا إذا أنتم تخرجون، وقال في خلق الإنسان أولا: * (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) * (الروم: 20) فنقول هناك يكون خلق وتقدير وتدريج وتراخ حتى يصير التراب قابلا للحياة فينفخ فيه روحه، فإذا هو بشر، وأما في الإعادة لا يكون تدريج وتراخ بل يكون نداء وخروج، فلم يقل ههنا ثم.
* (وله من فى السماوات والارض كل له قانتون * وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى فى السماوات والارض وهو العزيز الحكيم) *.
لما ذكر الآيات وكان مدلولها القدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر، والوحدانية التي هي الأصل الأول، أشار إليها بقوله: * (وله من في السماوات والأرض) * يعني لا شريك له أصلا لأن كل من في السماوات وكل من في الأرض، ونفس السماوات والأرض له وملكه، فكل له منقادون قانتون، والشريك يكون منازعا مماثلا، فلا شريك له أصلا ثم ذكر المدلول الآخر، فقال تعالى: * (وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) * أي في نظركم الإعادة أهون من الإبداء
116

لأن من يفعل فعلا أولا يصعب عليه، ثم إذا فعل بعد ذلك مثله يكون أهون، وقيل المراد هو هين عليه كما قيل في قول القائل الله أكبر أي كبير، وقيل المراد هو أهون عليه أي الإعادة أهون على الخالق من الإبداء لأن في البدء يكون علقة ثم مضغة ثم لحما ثم عظما ثم يخلق بشرا ثم يخرج طفلا يترعرع إلى غير ذلك فيصعب عليه ذلك كله، وأما في الإعادة فيخرج بشرا سويا بكن فيكون أهون عليه، والوجه الأول أصح وعليه نتكلم فنقول هو أهون يحتمل أن يكون ذلك لأن في البدء خلق الأجزاء وتأليفها والإعادة تأليف ولا شك أن الأمر الواحد أهون من أمرين ولا يلزم من هذا أن يكون غيره فيه صعوبة، ولنبين هذا فنقول الهين هو ما لا يتعب فيه الفاعل، والأهون ما لا يتعب فيه الفاعل بالطريق الأولى، فإذا قال قائل إن الرجل القوي لا يتعب من نقل شعيرة من موضع إلى موضع وسلم السامع له ذلك، فإذا قال فكونه لا يتعب من نقل خردلة يكون ذلك كلاما معقولا مبقي على حقيقته.
ثم قال تعالى: * (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) * أي قولنا هو أهون عليه يفهم منه أمران أحدهما: هو ما يكون في الآخر تعب كما يقال إن نقل الخفيف أهون من نقل الثقيل والآخر: هو ما ذكرنا من الأولوية من غير لزوم تعب في الآخر فقوله: * (وله المثل الأعلى) * إشارة إلى أن كونه أهون بالمعنى الثاني لا يفهم منه الأول وههنا فائدة ذكرها صاحب " الكشاف " وهي أن الله تعالى قال في موضع آخر: * (هو علي هين) * (مريم: 21) وقال ههنا: * (هو أهون عليه) * فقدم هناك كلمة على وأخرها هنا، وذلك لأن المعنى الذي قال هناك إنه هين هو خلق الولد من العجوز وأنه صعب على غيره وليس بهين إلا عليه فقال: * (هو علي هين) * يعني لا على غيري، وأما ههنا المعنى الذي ذكر أنه أهون هو الإعادة والإعادة على كل مبدئ أهون فقال: وهو أهون عليه لا على سبيل الحصر، فالتقديم هناك كان للحصر، وقوله تعالى: * (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض) * على الوجه الأول وهو قولنا أهون عليه بالنسبة إليكم له معنى
وعلى الوجه الذي ذكرناه له معنى أما على الوجه الأول فلما قال: * (وله المثل الأعلى) * وكان ذلك مثلا مضروبا لمن في الأرض من الناس فيفيد ذلك أن له المثل الأعلى من أمثلة الناس وهم أهل الأرض ولا يفيد أن له المثل الأعلى من أمثلة الملائكة فقال: * (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض) * يعني هذا مثل مضروب لكم * (وله المثل الأعلى) * من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السماوات، وأما على الوجه الثاني فمعناه أن له المثل الأعلى أي فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به، لكن ذاته ليس كمثله شيء فله المثل الأعلى وهو منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقيل المثل الأعلى أي الصفة العليا وهي لا إله إلا الله، وقوله تعالى: * (وهو العزيز الحكيم) * أي كامل القدرة على الممكنات، شامل العلم بجميع الموجودات، فيعلم الأجزاء في الأمكنة ويقدر على جمعها وتأليفها.
117

* (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء فى ما رزقناكم فأنتم فيه سوآء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الايات لقوم يعقلون) *.
ثم قال تعالى (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيها رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون
لما بين الإعادة والقدرة عليها بالمثل بعد الدليلين بين الوحدانية أيضا بالمثل بعد الدليل، ومعناه أن يكون له مملوك لا يكون شريكا له في ماله ولا يكون له حرمة مثل حرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة الله تعالى حتى يعبدوا، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: ينبغي أن يكون بين المثل والممثل به مشابهة ما، ثم إن كان بينهما مخالفة فقد يكون مؤكدا لمعنى المثل وقد يكون موهنا له وههنا وجه المشابهة معلوم، وأما المخالفة فموجودة أيضا وهي مؤكدة وذلك من وجوه أحدها: قوله: * (من أنفسكم) * يعني ضرب لكم مثلا من أنفسكم مع حقارتها ونقصانها وعجزها، وقاس نفسه عليكم مع عظمها وكمالها وقدرتها وثانيها: قوله: * (مما ملكت أيمانكم) * يعني عبدكم لكم عليهم ملك اليد وهو طار (ىء) قابل للنقل والزوال، أما النقل فبالبيع وغيره والزوال بالعتق ومملوك الله لا خروج له من ملك الله بوجه من الوجوه، فإذا لم يجز أن يكون مملوك يمينكم شريكا لكم مع أنه يجوز أن يصير مثلكم من جميع الوجوه، بل هو في الحال مثلكم في الآدمية حتى أنكم ليس لكم تصرف في روحه وآدميته بقتل وقطع وليس لكم منعهم من العبادة وقضاء الحاجة، فكيف يجوز أن يكون مملوك الله الذي هو مملوكه من جميع الوجوه شريكا له وثالثها: قوله: * (من شركاء فيما رزقناكم) * يعني الذي لكم هو في الحقيقة ليس لكم بل هو من الله ومن رزقه والذي من الله فهو في الحقيقة له فإذا لم يجز أن يكون لكم شريك في مالكم من حيث الاسم، فكيف يجوز أن يكون له شريك فيما له من حيث الحقيقة وقوله: * (فأنتم فيه سواء) * أي هل أنتم ومماليككم في شيء مما تملكون سواء ليس كذلك فلا يكون لله شريك في شيء مما يملكه، لكن كل شيء فهو لله فما تدعون إلهيته لا يملك شيئا أصلا ولا مثقال ذرة من خردل فلا يعبد لعظمته ولا لمنفعة تصل إليكم منه، وأما قولكم هؤلاء شفعاؤنا فليس كذلك، لأن المملوك هل له عندكم حرمة كحرمة الأحرار وإذا لم يكن للملوك مع مساواته إياكم في الحقيقة والصفة عندكم حرمة، فكيف يكون حال المماليك الذين لا مساواة بينهم وبين المالك بوجه من
118

بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من
ناصرين فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها
لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون
الوجوه وإلى هذا أشار بقوله: * (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) * (الروم: 28).
المسألة الثانية: بهذا نفى جميع وجوه حسن العبادة عن الغير لأن الأغيار إذا لم يصلحوا للشركة فليس لهم ملك ولا ملك، فلا عظمة لهم حتى يعبدوا لعظمتهم ولا يرتجى منهم منفعة لعدم ملكهم حتى يعبدوا لنفع وليس لهم قوة وقدرة لأنهم عبيد والعبد المملوك لا يقدر على شيء فلا تخافوهم كما تخافون أنفسكم، فكيف تخافونهم خوفا أكثر من خوفكم بعضا من بعض حتى تعبدوهم للخوف.
ثم قال تعالى: * (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) * أي نبينها بالدلائل والبراهين القطعية والأمثلة والمحاكيات الاقناعية لقوم يعقلون، يعني لا يخفى الأمر بعد ذلك إلا على من لا يكون له عقل.
* (بل اتبع الذين ظلموا أهوآءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين) *.
ثم قال تعالى: * (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين) * أي لا يجوز أن يشرك بالمالك مملوكه ولكن الذين أشركوا اتبعوا أهواءهم من غير علم وأثبتوا شركاء من غير دليل، ثم بين أن ذلك بإرادة الله بقوله: * (فمن يهدي من أضل الله) * أي هؤلاء أضلهم الله فلا هادي لهم، فينبغي أن لا يحزنك قولهم، وههنا لطيفة وهي أن قوله: * (فمن يهدي من أضل الله) * مقو لما تقدم وذلك لأنه لما قال لأن الله لا شريك له بوجه ما ثم قال تعالى بل المشركون يشركون من غير علم، يقال فيه أنت أثبت لهم تصرفا على خلاف رضاه والسيد العزيز هو الذي لا يقدر عبده على تصرف يخالف رضاه، فقال: إن ذلك ليس باستقلاله بل بإرادة الله وما لهم من ناصرين، لما تركوا الله تركهم الله ومن أخذوه لا يغني عنهم شيئا فلا ناصر لهم.
* (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
ثم قال تعالى: * (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) * أي إذا تبين الأمر وظهرت الوحدانية ولم يهتد المشرك فلا تلتفت أنت إليهم وأقم وجهك للدين، وقوله: * (فأقم وجهك للدين) * أي أقبل بكلك على الدين عبر عن الذات بالوجه كما قال تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) أي ذاته بصفاته، وقوله: * (حنيفا) * أي مائلا عن كل ما عداه أي أقبل على الدين ومل عن كل شيء أي لا يكون في قلبك شيء آخر فتعود إليه، وهذا قريب من معنى قوله: * (ولا تكونوا من المشركين) * (الروم: 31) ثم قال الله تعالى: * (فطرت الله) * أي الزم فطرة الله وهي التوحيد
119

منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين
من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون
فإن الله فطر الناس عليه حيث أخذهم من ظهر آدم وسألهم * (ألست بربكم) * (الأعراف: 172) فقالوا: بلى، وقوله تعالى: * (لا تبديل لخلق الله) * فيه وجوه، قال بعض المفسرين هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن حيث لم يؤمن قومه فقال هم خلقوا للشقاوة ومن كتب شقيا لا يسعد، وقيل: * (لا تبديل لخلق الله) * أي الوحدانية مترسخة فيهم لا تغير لها حتى إن سألتهم من خلق السماوات والأرض يقولون الله، لكن الإيمان الفطري غير كاف. ويحتمل أن يقال خلق الله الخلق لعبادته وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا لإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية، وهذا لبيان فساد قول من يقول العبادة لتحصيل الكمال والعبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف، وقول المشركين: إن الناقص لا يصلح لعبادة الله، وإنما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله، وقول النصارى إن عيسى كان يحل الله فيه وصار إلها فقال: * (لا تبديل لخلق الله) * بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك.
ثم قال تعالى: * (ذلك الدين القيم) * الذي لا عوج فيه * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * أن ذلك هو الدين المستقيم.
* (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلوة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) *.
لما قال حنيفا أي مائلا عن غيره قال: * (منيبين إليه) * أي مقبلين عليه، والخطاب في قوله: * (فأقم وجهك) * مع النبي والمراد جميع المؤمنين، وقوله: * (واتقوه) * يعني إذا أقبلتم عليه وتركتم الدنيا فلا تأمنوا فتتركوا عبادته بل خافوه وداوموا على العبادة وأقيموا الصلاة أي كونوا عابدين عند حصول القربة كما قلتم قبل ذلك، ثم إنه تعالى قال: * (ولا تكونوا من المشركين) * قال المفسرون يعني ولا تشركوا بعد الإيمان أي ولا تقصدوا بذلك غير الله، وههنا وجه آخر وهو أن الله بقوله: * (منيبين) * أثبت التوحيد الذي هو مخرج عن الإشراك الظاهر وبقوله: * (ولا تكونوا من المشركين) * أراد إخراج العبد عن الشرك الخفي أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله ولا تطلبوا به إلا رضاء الله فإن الدنيا والآخرة تحصيل وإن لم تطلبوها إذا حصل رضا الله وعلى هذا فقوله: * (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) * يعني لم يجتمعوا على الإسلام، وذهب كل أحد إلى مذهب، ويحتمل أن يقال وكانوا شيعا يعني بعضهم عبد الله للدنيا وبعضهم للجنة وبعضهم
120

وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون
للخلاص من النار، وكل واحد بما في نظره فرح، وأما المخلص فلا يفرح بما يكون لديه، وإنما يكون فرحه بأن يحصل عند الله ويقف بين يديه وذلك لأن كل ما لدينا نافد لقوله تعالى: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) * (النحل: 96) فلا مطلوب لكم فيما لديكم حتى تفرحوا به وإنما المطلوب ما لدى الله وبه الفرح كما قال تعالى: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 169) * (فرحين بما آتاهم الله من فضله) * (آل عمران: 170) جعلهم فرحين بكونهم عند ربهم ويكون ما أوتوا من فضله الذي لا نفاد له، ولذلك قال تعالى: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) * (يونس: 58) لا بما عندهم فإن كل ما عند العبد فهو نافد، أما في الدنيا فظاهر، وأما في الآخرة فلأن ما وصل إلى العبد من الالتذاذ بالمأكول والمشروب فهو يزول، ولكن الله يجدد له مثله إلى الأبد من فضله الذي لا نفاد له فالذي لا نفاد له هو فضله.
* (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذآ أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) *.
لما بين التوحيد بالدليل وبالمثل، بين أن لهم حالة يعرفون بها، وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدة، فإن عند انقطاع رجائه عن الكل يرجع إلى الله، ويجد نفسه محتاجة إلى شيء ليس كهذه الأشياء طالبة به النجاة * (ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) * يعني إذا خلصناه يشرك بربه ويقول تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني بفلان، وبسبب الصنم الفلاني، لا، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه تخلص بسبب فلان إذا كان ظاهرا فإنه شرك خفي، مثاله رجل في بحر أدركه الغرق فيهئ له لوحا يسوقه إليه ريح فيتعلق به وينجو، فيقول تلخصت بلوح، أو رجل أقبل عليه سبع فيرسل الله إليه رجلا فيعينه فيقول خلصني زيد، فهذا إذا كان عن اعتقاد فهو شرك خفي، وإن كان بمعنى أن الله خلصني على يد زيد فهو أخفى، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (أذاقهم) * فيه لطيفة وذلك لأن الذوق يقال في القليل فإن العرف (أن) من أكل مأكولا كثيرا لا يقول ذقت، ويقال في النفي ما ذقت في بيته طعاما نفيا للقليل ليلزم نفي الكثير بالأولى، ثم إن تلك الرحمة لما كانت خالية منقطعة ولم تكن مستمرة في الآخرة إذ لهم في الآخرة عذاب قال أذاقهم ولهذا قال في العذاب: * (ذوقوا مس سقر) * (القمر: 48) * (ذوقوا ما كنتم تعملون) * (العنكبوت: 55) * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49) لأن عذاب الله الواصل إلى العبد بالنسبة إلى الرحمة الواصلة إلى عبيد آخرين في غاية القلة.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (منه) * أي من الضر في هذا التخصيص ما ذكرناه من الفائدة وهي أن الرحمة غير مطلقة لهم إنما هي عن ذلك الضر وحده، وأما الضر المؤخر فلا يذوقون منه رحمة.
121

ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون
المسألة الثالثة: قال ههنا * (إذا فريق منهم) * وقال في العنكبوت: * (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) * (العنكبوت: 65) ولم يقل فريق وذلك لأن المذكور هناك ضر معين، وهو ما يكون من هول البحر والمتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل، والذي لا يشرك به بعد الخلاص فرقة منهم في غاية القلة فلم يجعل المشركين
فريقا لقلة من خرج من المشركين، وأما المذكور ههنا الضر مطلقا فيتناول ضر البر والبحر والأمراض والأهون والمتخلص من أنواع الضر خلق كثير بل جميع الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما وتخلصوا منه، والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركا من جميع الأنواع إذا جمع فهو خلق عظيم، وهو جميع المسلمين فإنهم تخلصوا من ضر ولم يبقوا مشركين، وأما المسلمون فلم يتخلصوا من ضر البحر بأجمعهم، فلما كان الناجي من الضر من المؤمنين جمعا كثيرا، جعل الباقي فريقا.
* (ليكفروا بمآ ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون * أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) *.
قوله تعالى: * (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) * قد تقدم تفسيره في العنكبوت بقي بيان فائدة الخطاب ههنا في قوله: * (فتمتعوا) * وعدمه هناك في قوله: * (وليتمتعوا فسوف يعلمون) * فنقول لما كان الضر المذكور هناك ضرا واحدا جاز أن لا يكون في ذلك الموضع من المخلصين من ذلك الضر أحد، فلم يخاطب ولما كان المذكور ههنا مطلق الضر ولا يخلو موضع من المخلصين عن الضر، فالحاضر يصح خطابه بأنه منهم فخاطب.
ثم قال تعالى: * (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) * لما سبق قوله تعالى: * (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم) * (الروم: 29) أي المشركون يقولون ما لا علم لهم به بل هم عالمون بخلافه فإنهم وقت الضر يرجعون إلى الله حقق ذلك بالاستفهام بمعنى الانكار، أي ما أنزلنا بما يقولون سلطانا، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أم للاستفهام ولا يقع إلا متوسطا، كما قال قائلهم:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل * وبين النقا آأنت أم أم سالم
فما الاستفهام الذي قبله؟ فنقول تقديره إذا ظهرت هذه الحجج على عنادهم فماذا نقول، أهم يتبعون الأهواء من غير علم؟ أم لهم دليل على ما يقولون؟ وليس الثاني فيتعين الأول.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (فهو يتكلم) * مجاز كما يقال إن كتابه لينطق بكذا، وفيه معنى لطيف
122

وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت
أيديهم إذا هم يقنطون أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون
وهو أن المتكلم من غير دليل كأنه لا كلام له، لأن الكلام هو المسموع وما لا يقبل فكأنه لم يسمع فكأن المتكلم لم يتكلم به، وما لا دليل عليه لا يقبل، فإذا جاز سلب الكلام عن المتكلم عند عدم الدليل وحسن جاز إثبات التكلم للدليل وحسن.
* (وإذآ أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون * أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن فى ذلك لأيات لقوم يؤمنون) *.
قوله تعالى: * (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها) * لما بين حال المشرك الطاهر شركه بين حال المشرك الذي دونه وهو من تكون عبادته الله للدنيا، فإذا آتاه رضي وإذا منعه سخط وقنط ولا ينبغي أن يكون العبد كذلك، بل ينبغي أن يعبد الله في الشدة والرخاء، فمن الناس من يعبد الله في الشدة كما قال تعالى: * (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم) * (الروم: 33) ومن الناس من يعبده إذا آتاه نعمة كما قال تعالى: * (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها) * والأول كالذي يخدم مكرها مخافة العذاب والثاني كالذي يخدم أجيرا لتوقع الأجر وكلاهما لا يكون من الثبتين في ديوان المرتبين في الجرائد الذين يأخذون رزقهم سواء كان هناك شغل أو لم يكن، فكذلك القسمان لا يكونان من المؤمنين الذين لهم رزق عند ربهم، وفيه مسألة: وهي أن قوله تعالى: * (فرحوا بها) * إشارة إلى دنو همتهم وقصور نظرهم فإن فرحهم يكون بما وصل إليهم لا بما وصل منه إليهم، فإن قال قائل الفرح بالرحمة مأمور به في قوله تعالى: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فيفرحوا) * (يونس: 58) وههنا ذمهم على الفرح بالرحمة، فكيف ذلك؟ فنقول هناك قال: فرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى وههنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من الله، وهو كما أن الملك لو حط عند أمير رغيفا على السماط أو أمر الغلمان بأن يحطوا عنده زبدية طعام يفرح ذلك الأمير به، ولو أعطى الملك فقيرا غير ملتفت إليه رغيفا أو زبدية طعام أيضا يفرح لكن فرح الأمير بكون ذلك من الملك وفرح الفقير بكون ذلك رغيفا وزبدية.
ثم قال تعالى: * (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم) * لم يذكر عند النعمة سببا لها لتفضله بها وذكر عند العذاب سببا لأن الأول يزيد في الإحسان والثاني يحقق العدل. قوله * (إذا هم يقنطون) * إذا للمفاجأة أي لا يصبرون على ذلك قليلا لعل الله يفرج عنهم وإنه يذكرهم به.
ثم قال تعالى: * (أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) *.
123

فأت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون
أي لم يعلموا أن الكل من الله فالمحقق ينبغي أن لا يكون نظره على ما يوجد بل إلى من يوجد وهو الله، فلا يكون له تبدل حال، وإنما يكون عنده الفرح الدائم، ولكن ذلك مرتبة المؤمن الموحد المحقق، ولذلك قال: * (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) *.
* (فات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون) *.
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما بين أن العبادة لا ينبغي أن تكون مقصورة على حالة الشدة بقوله: * (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم) * (الروم: 33) ولا أن تكون مقصورة على حالة أخذ شيء من الدنيا كما هو عادة المدوكر المتسلسل يعبد الله إذا كان في الخوانق والرباطات للرغيف والزبدية وإذا خلا بنفسه لا يذكر الله، بقوله: * (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها) * وبين أنه ينبغي أن يكون، في حالة بسط الرزق وقدره عليه، نظره على الله الخالق الرازق ليحصل الإرشاد إلى
تعظيم الله والإيمان قسمان تعظيم لأمر الله وشفقة على خلق الله فقال بعد ذلك فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل، وفيه وجه آخر هو أن الله تعالى لما بين أن الله يبسط الرزق ويقدر، فلا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان فإن الله إذا بسط الرزق لا ينقص بالانفاق، وإذا قدر لا يزداد بالإمساك، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تخصيص الأقسام الثلاثة بالذكر دون غيرهم مع أن الله ذكر الأصناف الثمانية في الصدقات فنقول أراد ههنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال سواء كان زكويا أو لم يكن، وسواء كان بعد الحول أو قبله لأن المقصود ههنا الشفقة العامة، وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للمحسن مال زائد، أما القريب فتجب نفقته وإن كان لم تجب عليه زكاة كعقار أو مال لم يحل عليه الحول والمسكين كذلك فإن من لا شيء له إذا بقي في ورطة الحاجة حتى بلغ الشدة يجب على من له مقدرة دفع حاجته، وإن لم يكن عليه زكاة، وكذلك من انقطع في مفازة ومع آخر دابة يمكنه بها إيصاله إلى مأمن يلزمه ذلك، وإن لم تكن عليه زكاة والفقير داخل في المسكين لأن من أوصى للمساكين شيئا يصرف إلى الفقراء أيضا، وإذا نظرت إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وجبت الزكاة عليهم
124

واعتبر ذلك في العامل والمكاتب والمؤلفة والمديون، ثم اعلم أن على مذهب أبي حنيفة رحمه الله حيث قال: المسكين من له شيء ما فنقول، وإن كان الأمر كذلك لكن لا نزاع في أن إطلاق المسكين على من لا شيء له جائز فيكون الاطلاق هنا بذلك الوجه، والفقير يدخل في ذلك بالطريق الأولى.
المسألة الثانية: في تقدم البعض على البعض فنقول لما كان دفع حاجة القريب واجبا سواء كان في شدة ومخمصة، أو لم يكن كان مقدما على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة، ولما كان المسكين حاجته ليست مختصة بموضع كان مقدما على من حاجته مختصة بموضع دون موضع.
المسألة الثالثة: ذكر الأقارب في جميع المواضع كذا اللفظ وهو ذو القربى، ولم يذكر المسكين بلفظ ذي المسكنة، وذلك لأن القرابة لا تتجدد فهي شيء ثابت، وذو كذا لا يقال إلا في الثابت، فإن من صدر منه رأي صائب مرة أو حصل له جاه يوما واحدا أو وجد منه فضل في وقت يقال ذو رأي وذو جاه وذو فضل، وإذا دام ذلك له أو وجد منه ذلك كثيرا يقال له ذو الرأي وذو الفضل، فقال * (ذا القربى) * إشارة إلى أن هذا حق متأكد ثابت، وأما المسكنة فتطرأ وتزول ولهذا المعنى قال: * (مسكينا ذا متربة) * (البلد: 16) فإن المسكين يدوم له كونه ذا متربة ما دامت مسكنته أو يكون كذلك في أكثر الأمر.
المسألة الرابعة: قال: * (فآت ذا القربى حقه) * ثم عطف المسكين وابن السبيل ولم يقل فآت ذا القربى والمسكين وابن السبيل حقهم، لأن العبارة الثانية لكون صدور الكلام أولا للتشريك والأولى لكون التشريك واردا على الكلام، كأنه يقول أعط ذا القربى حقه ثم يذكر المسكين وابن السبيل بالتبعية ولهذا المعنى إذا قال الملك خل فلان يدخل، وفلانا أيضا يكون في التعظيم فوق ما إذا قال خل فلانا وفلانا يدخلان، وإلى هذا أشار النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: " بئس خطيب القوم أنت " حيث قال الرجل من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى، ومن عصاهما فقد غوى ولم يقل ومن عصى الله ورسوله.
المسألة الخامسة: قوله: * (ذلك خير) * يمكن أن يكون معناه ذلك خير من غيره ويمكن أن يقال ذلك خير في نفسه، وإن لم يقس إلى غيره لقوله تعالى: * (وافعلوا الخير) * (الحج: 77) * (فاستبقوا الخيرات) * (البقرة: 148) والثاني أولى لعدم احتياجه إلى إضمار ولكونه أكثر فائدة لأن الخير من الغير قد يكون نازل الدرجة، عند نزول درجة ما يقاس إليه، كما يقال السكوت خير من الكذب، وما هو خير في نفسه فهو حسن ينفع وفعل صالح يرفع.
المسألة السادسة: قوله تعالى: * (للذين يريدون وجه الله) * إشارة إلى أن الاعتبار بالقصد لا بنفس الفعل، فإن من أنفق جميع أمواله رياء الناس لا ينال درجة من يتصدق برغيف لله، وقوله: * (وجه الله) * أي يكون عطاؤه لله لا غير، فمن أعطى للجنة لم يرد به وجه الله، وإنما أراد مخلوق الله.
المسألة السابعة: كيف قال: * (وأولئك هم المفلحون) * مع أن للإفلاح شرائط أخر، وهي
125

وما ءاتيتم من ربا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وماء اتيتم من
زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون
المذكورة في قوله: * (قد أفلح المؤمنون) * (المؤمنون: 1) فنقول كل وصف مذكور هناك يفيد الإفلاح، فقوله * (والذين هم للزكاة فاعلون) * (المؤمنون: 4) وقوله: * (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) * (المؤمنون: 8 المعارج: 32) إلى غير ذلك عطف على المفلح أي هذا مفلح، وذاك مفلح، وذاك الآخر مفلح لا يقال لا يحصل الإفلاح لمن يتصدق ولا يصلي، فنقول هذا كقول القائل العالم مكرم أي نظرا إلى علمه ثم إذا حد في الزنا على سبيل النكال وقطعت يده في السرقة لا يبطل ذلك القول حتى يقول القائل، إنما كان ذلك لأنه أتى بالفسق، فكذلك إيتاء المال لوجه الله يفيد الإفلاح، اللهم إلا إذا وجد مانع من ارتكاب محظور أو ترك واجب.
المسألة الثامنة: لم لم يذكر غيره من الأفعال كالصلاة وغيرها؟ فنقول الصلاة مذكورة من قبل لأن الخطاب ههنا بقوله: * (فآت) * مع النبي صلى الله عليه وسلم وغيره تبع، وقد قال له من قبل * (فأقم وجهك للدين حنيفا) * (الروم: 30) وقال: * (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة) * (الروم: 31).
المسألة التاسعة: قوله تعالى: * (وأولئك هم المفلحون) * (البقرة: 5) يفهم منه الحصر وقد قال في أول سورة البقرة: * (وأولئك هم المفلحون) * إشارة إلى من أقام الصلاة وآتى الزكاة، وآمن بما أنزل على رسوله وبما أنزل من قبله وبالآخرة، فلو كان المفلح منحصرا في أولئك المذكورين في سورة البقرة فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحا؟ فنقول هذا هو ذاك لأنا بينا أن قوله: * (فأقم وجهك للدين) * متصل بهذا الكلام فإذا أتى بالصلاة وآتى المال وأراد وجه الله، فقد ثبت أنه مؤمن مقيم للصلاة مؤت للزكاة معترف بالآخرة فصار مثل المذكور في البقرة.
* (ومآ ءاتيتم من ربا ليربوا فى أموال الناس فلا يربوا عند الله ومآ ءاتيتم من زكوة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) *.
ذكر هذا تحريضا يعني أنكم إذا طلب منكم واحد باثنين ترغبون فيه وتؤتونه وذلك لا يربوا عند الله والزكاة تنمو عند الله كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: " إن الصدقة تقع في يد الرحمن فتربوا حتى تصير مثل الجبل " فينبغي أن يكون إقدامكم على الزكاة أكثر. وقوله تعالى: * (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) * أي أولئك ذوو الأضعاف كالموسر لذي اليسار وأقل ذلك عشرة أضعاف كل مثل لما آتى في كونه حسنة لا في المقدار فلا يفهم أن من أعطى رغيفا يعطيه الله عشرة أرغفة بل معناه أن ما يقتضيه فعله من الثواب على وجه الرحمة يضاعفه الله عشرة مرات على وجه التفضل، فبالرغيف الواحد يكون له قصر في الجنة فيه من كل شيء ثوابا
126

الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائهم من يفعل من ذلكم من شئ سبحانه وتعالى عما يشركون
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون
نظرا إلى الرحمة، وعشر قصور مثله نظرا إلى الفضل. مثاله في الشاهد، ملك عظيم قبل من عبده هدية قيمتها درهم لو عوضه بعشرة دراهم لا يكون كرما، بل إذا جرت عادته بأنه يعطي على مثل ذلك ألفا، فإذا أعطى له عشرة آلاف فقد ضاعف له الثواب.
* (الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركآئكم من يفعل من ذلكم من شىء سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
قوله تعالى: * (الله الذي خلقكم) * أي أوجدكم * (ثم رزقكم) * أي أبقاكم، فإن العرض مخلوق وليس بمبقي * (ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء) * جمع في هذه الآية بين إثبات الأصلين الحشر والتوحيد، أما الحشر فبقوله: * (ثم يحييكم) * والدليل قدرته على الخلق ابتداء، وأما التوحيد فبقوله * (هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء) *. ثم قال تعالى: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * فقوله سبحانه أي سبحوه تسبيحا أي نزهوه ولا تصفوه بالإشراك، وقوله: * (وتعالى) * أي لا يجوز عليه ذلك وهذا لأن من لا يتصف بشيء قد يجوز عليه فإذا قال سبحوه أي لا تصفوه بالإشراك، وإذا قال وتعالى فكأنه قال ولا يجوز عليه ذلك.
* (ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون) *.
وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) وإذا كان الشرك سببه جعل الله إظهارهم الشرك مورثا لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم: * (لفسدت السماوات والأرض) * (المؤمنون: 71) كما قال تعالى: * (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) * (مريم: 90) وإلى هذا أشار بقوله تعالى: * (ليذيقهم بعض الذي عملوا) * واختلفت الأقوال في قوله: * (في البر والبحر) * فقال بعض المفسرين: المراد خوف الطوفان في البر والبحر، وقال بعضهم عدم إنبات بعض الأراضي وملوحة مياه البحار، وقال آخرون: المراد من البحر المدن، فإن العرب تسمى المدائن بحورا لكون مبنى عمارتها على الماء ويمكن أن يقال
127

قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين
إن ظهور الفساد في البحر قلة مياه العيون فإنها من البحار، واعلم أن كل فساد يكون فهو بسبب الشرك لكن الشرك قد يكون في العمل دون القول والاعتقاد فيسمى فسقا وعصيانا وذلك لأن المعصية فعل لا يكون لله بل يكون للنفس، فالفاسق مشرك بالله بفعله، غاية ما في الباب أن الشرك بالفعل لا يوجب الخلود لأن أصل المرء قلبه ولسانه، فإذا لم يوجد منهما إلا التوحيد يزول الشرك البدني بسببهما، وقوله تعالى: * (ليذيقهم بعض الذي عملوا) * قد ذكرنا أن ذلك ليس تمام جزائهم وكل موجب افترائهم، وقوله: * (لعلهم يرجعون) * يعني كما يفعله المتوقع رجوعهم مع أن الله يعلم أن من أضله لا يرجع لكن الناس يظنون أنه لو فعل بهم شيء من ذلك لكان يوجد منهم الرجوع، كما أن السيد إذا علم من عبده أنه لا يرتدع بالكلام، فيقول القائل لماذا لا تؤدبه بالكلام؟ فإذا قال لا ينفع ربما يقع في وهمه أنه لا يبعد عن نفع، فإذا زجره ولم يرتدع يظهر له صدق كلام السيد ويطمئن قلبه.
* (قل سيروا فى الارض فا انظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين) *.
لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم هلاك أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم فقال: * (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) * أي قوم نوح وعاد وثمود، وهذا ترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه في وقت الامتنان والإحسان قال: * (الله الذي خلقكم ثم رزقكم) * (مريم: 40) أي آتاكم الوجود ثم البقاء ووقت الخذلان بالطغيان قال: * (ظهر الفساد في البر والبحر) * (الروم: 41) أي قلل رزقكم، ثم قال تعالى: * (سيروا في الأرض) * أي هو أعدمكم كم أعدم من قبلكم، فكأنه قال أعطاكم الوجود والبقاء، ويسلب منكم الوجود والبقاء، وأما سلب البقاء فبإظهار الفساد، وأما سلب الوجود فبالإهلاك، وعند الإعطاء قدم الوجود على البقاء، لأن الوجود أولا ثم البقاء، وعند السلب قدم البقاء، وهو الاستمرار ثم الوجود.
وقوله: * (كان أكثرهم مشركين) * يحتمل وجوها ثلاثة أحدها: أن الهلاك في الأكثر كان بسبب الشرك الظاهر وإن كان بغيره أيضا كالإهلاك بالفسق والمخالفة كما كان على أصحاب السبت الثاني: أن كل كافر أهلك لم يكن مشركا بل منهم من كان معطلا نافيا لكنهم قليلون، وأكثر الكفار مشركون الثالث: أن العذاب العاجل لم يختص بالمشركين حين أتى، كما قال تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * (الأنفال: 25) بل كان على الصغار والمجانين، ولكن أكثرهم كانوا مشركين.
128

* (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون * من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) *.
ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين
ثم قال تعالى (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون، من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون.
لما نهى الكافر عما هو عليه، أمر المؤمن بما هو عليه وخاطب النبي عليه السلام ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء، وللمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء كما قال عليه الصلاة والسلام: " إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين " وقد ذكرنا معناه، وقوله: * (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) * يحتمل وجهين الأول: أن يكون قوله: * (من الله) * متعلقا بقوله: * (يأتي) * والثاني: أن يكون المراد * (لا مرد له من الله) * أي الله لا يرد وغيره عاجز عن رده فلا بد من وقوعه * (يومئذ يصدعون) * أي تفرقون. ثم أشار إلى التفرق بقوله: * (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال: * (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا) * ولم يقل ومن آمن وذلك لأن العمل الصالح به يكمل الإيمان فذكره تحريضا للمكلف عليه، وأما الكفر إذا جاء فلا زنة للعمل معه، ووجه آخر: وهو أن الكفر قسمان: أحدهما: فعل وهو الاشراك والقول به، والثاني: ترك وهو عدم النظر والإيمان فالعاقل البالغ إذا كان في مدينة الرسول ولم يأت بالإيمان فهو كافر سواء قال بالشرك أو لم يقل، لكن الإيمان لا بد معه من العمل الصالح، فإن الاعتقاد الحق عمل القلب، وقول لا إله إلا الله عمل اللسان وشئ منه لا بد منه.
المسألة الثانية: قال: * (فعليه) * فوحد الكناية وقال: * (فلأنفسهم) * جمعها إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته، أما الغضب فمسبوق بالرحمة، لازم لمن أساء.
المسألة الثالثة: قال: * (فعليه كفره) * ولم يبين وقال في المؤمن * (فلأنفسهم يمهدون) * تحقيقا لكمال الرحمة فإنه عند الخير بين وفصل بشارة، وعند غيره أشار إليه إشارة.
* (ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين) *.
ذكر زيادة تفصيل لما يمهده المؤمن لفعله الخير وعمله الصالح، وهو الجزاء الذي يجازيه به الله
129

والملك إذا كان كبيرا كريما، ووعد عبدا من عباده بأني أجازيك يصل إليه منه أكثر مما يتوقعه ثم أكده بقوله: * (من فضله) * يعني أنا المجازي فكيف يكون الجزاء، ثم إني لا أجازيك من العدل وإنما أجازيك من الفضل فيزداد الرجاء، ثم قال تعالى: * (إنه لا يحب الكافرين) * أوعدهم بوعيد ولم يفصله لما بينا وإن كان عند المحقق هذا الإجمال فيه كالتفصيل، فإن عدم المحبة من الله غاية العذاب، وأفهم ذلك ممن يكون له معشوق فإنه إذا أخبر العاشق بأنه وعدك بالدراهم والدنانير كيف تكون مسرته، وإذا قيل له إنه قال إني أحب فلانا كيف يكون سروره.
وفيه لطيفة وهي أن الله عندما أسند الكفر والإيمان إلى العبد قدم الكافر فقال: * (من كفر فعليه كفره) * (الروم: 44) وعندما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن فقال: * (ليجزي الذين آمنوا) * ثم قال تعالى: * (إنه لا يحب الكافرين) * لأن قوله * (من كفر) * في الحقيقة لمنع الكافر عن الكفر بالوعيد ونهيه عن فعله بالتهديد وقوله: * (من عمل صالحا) * لتحريض المؤمن فالنهي كالإيعاد والتحريض للتقرير والإيعاد مقدم عند الحكيم الرحيم، وأما عندما ذكر الجزاء بدأ بالإحسان إظهارا للكرم والرحمة، فإن قال قائل هذا إنما يصح أن لو كان الذكر في كل موضع كذلك وليس كذلك فإن الله كثير من المواضع قدم إيمان المؤمن على كفر الكافر وقدم التعذيب على الإثابة، فنقول إن كان الله يوفقنا لبيان ذلك نبين ما اقتضى تقديمه، ونحن نقول بأن كل كلمة وردت في القرآن فهي لمعنى وكل ترتيب وجد فهو لحكمة، وما ذكر على خلافه لا يكون في درجة ما ورد به القرآن فلنبين من جملته مثالا وهو قوله تعالى: * (يومئذ يتفرقون * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة) * (الروم: 14، 15) قدم المؤمن على الكافر، وههنا ذكر مثل ذلك المعنى في قوله: * (يومئذ يصدعون) * (الروم: 43) أي يتفرقون فقدم الكافر على المؤمن فنقول هناك أيضا قدم الكافر في الذكر لأنه قال من قبل: * (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) * (الروم: 12) فذكر الكافر وإبلاسه، ثم قال تعالى: * (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) * (الروم: 14) فكان ذكر المؤمن وحده لا بد منه ليبين كيفية التفرق بمجموع قوله: * (يبلس المجرمون) * وقوله في حق المؤمن: * (في روضة يحبرون) * لكن الله تعالى أعاد ذكر المجرمين مرة أخرى للتفصيل فقال: * (وأما الذين كفروا) *.
* (ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *.
قوله تعالى: * (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) * لما ذكر أن ظهور الفساد والهلاك
130

ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون
بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح، لما ذكرنا غير مرة أن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضا، ويذكر لأضراره سببا لئلا يتوهم به الظلم فقال: * (يرسل الرياح مبشرات) * قيل بالمطر كما قال تعالى: * (بشرا بين يدي رحمته) * (الأعراف: 57) أي قبل المطر ويمكن أن يقال مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد.
ثم قال تعالى: * (وليذيقكم من رحمته) * عطف على ما ذكرنا، أي ليبشركم بصلاح الهواء وصحة الأبدان * (وليذيقكم من رحمته) * بالمطر، وقد ذكرنا أن الإذاقة تقال في القليل، ولما كان أمر الدنيا قليلا وراحتها نزر قال: * (وليذيقكم) *، وأما في الآخرة فيرزقهم ويوسع عليهم ويديم لهم * (ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من
فضله ولعلكم تشركون) * لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله: * (بأمره) * أي الفعل ظاهرا عليه ولكنه بأمر الله، ولذلك لما قال: * (ولتبتغوا) * مسندا إلى العباد ذكر بعده * (من فضله) * أي لا استقلال لشيء بشيء وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في الترتيب فنقول في الرياح فوائد، منها إصلاح الهواء، ومنها إثارة السحاب، ومنها جريان الفلك بها فقال: * (مبشرات) * بإصلاح الهواء فإن إصلاح الهواء يوجد من نفس الهبوب ثم الأمطار بعده، ثم جريان الفلك فإنه موقوف على اختبار من الآدمي بإصلاح السفن وإلقائها على البحر ثم ابتغاء الفضل بركوبها.
المسألة الثانية: قال في قوله تعالى: * (ظهر الفساد... ليذيقهم بعض الذي عملوا) * (الروم: 41) وقال ههنا * (وليذيقكم من رحمته) * فخاطب ههنا تشريفا * (وإن رحمته قريب من المحسنين) * فالمحسن قريب فيخاطب والمسئ بعيد فلم يخاطبهم، وأيضا قال هناك بعض الذي علموا وقال ههنا * (من رحمته) * فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته وفيه معنيان: أحدهما: ما ذكرنا أن الكريم لا يذكر لإحسانه ورحمته عوضا، وإن وجد فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني. وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي وثانيهما: أن ما يكون بسبب فعل العبد قليل، فلو قال أرسلت الرياح بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال * (من رحمته) * كان غاية البشارة، ومعنى ثالث وهو أنه لو قال بما فعلتم لكان ذلك موهما لنقصان ثوابهم في الآخرة، وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم ينبئ عن نقصان عقابهم وهو كذلك.
المسألة الثالثة: قال هناك * (لعلهم يرجعون) * وقال ههنا * (ولعلكم تشكرون) * قالوا وإشارة إلى أن توفيقهم للشكر من النعم فعطف على النعم.
المسألة الرابعة: إنما أخر هذه الآية لأن في الآيات التي قد سبق ذكرها قلنا إنه ذكر من كل باب آيتين فذكر من المنذرات * (يريكم البرق) * والحادث في الجو في أكثر الأمر نار وريح فذكر الرياح ههنا تذكيرا وتقريرا للدلائل، ولما كانت الريح فيها فائدة غير المطر وليس في البرق فائدة إن لم يكن مطر ذكر هناك خوفا وطمعا، أي قد يكون وقد لا يكون وذكر ههنا * (مبشرات) *
131

ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من
الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين الله الذي يرسل الرياح
فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج
من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون
لأن تعديل الهواء أو تصفيته بالريح أمر لازم، وحكمه به حكم جازم.
* (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجآءوهم با البينات فا انتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين) *.
لما بين الأصلين ببراهين ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال: * (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا) * أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شغل غير شغلك، ولم يظهر عليهم غير ما ظهر عليك ومن كذبهم أصابهم البوار ومن آمن بهم كان لهم الانتصار وله وجه آخر يبين تعلق الآية بما قبلها وهو أن الله لما بين البراهين ولم ينتفع بها الكفار سلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم وقال حال من تقدمك كان كذلك وجاءوا أيضا بالبينات، وكان في قومهم كافر ومؤمن كما في قومك فانتقمنا من الكافرين ونصرنا المؤمنين، وفي قوله تعالى: * (وكان حقا) * وجهان: أحدهما: فانتقمنا، وكان الانتقام حقا واستأنف وقال علينا نصر المؤمنين وعلى هذا يكون هذا بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أي علينا نصركم أيها المؤمنون والوجه الثاني: * (وكان حقا علينا) * أي نصر المؤمنين كان حقا علينا وعلى الأول لطيفة وعلى الآخر أخرى، أما على الأول فهو أنه لما قال فانتقمنا بين أنه لم يكن ظلما وإنما كان عدلا حقا، وذلك لأن الانتقام لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلا زيادة الإثم وولادة الكافر الفاجر وكان عدمهم خيرا من وجودهم الخبيث، وعلى الثاني تأكيد البشارة. لأن كلمة على تفيد معنى اللزوم يقال على فلان كذا ينبئ عن اللزوم، فإذا قال حقا أكد ذلك المعنى، وقد ذكرنا أن النصر هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة، فإن إحدى الطائفتين إذا انهزمت أولا، ثم عادت آخرا لا يكون النصر إلا للمنهزم، وكذلك موسى وقومه لما انهزموا من فرعون ثم أدركه الغرق لم يكن انهزامهم إلا نصرة، فالكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له.
ثم قال تعالى (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا
فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون، وإن كانوا من
132

وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار
رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك المحي الموتى وهو على كل شئ
قدير ولئن أرسلنا ريحا فراوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون
فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين
قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين، فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن
ذلك لمحي الموتى وهو على كل شئ قدير.
بين دلائل الرياح على التفصيل الأول في إرسالها قدرة وحكمة. أما القدرة فظاهرة فإن الهواء اللطيف الذي يشقه الودق يصير بحيث يقلع الشجر وهو ليس بذاته كذلك فهو
بفعل فاعل مختار، وأما الحكمة ففي نفس الهبوب فيما يفضي إليه من إثارة السحب، ثم ذكر أنواع السحب فمنه ما يكون متصلا ومنه ما يكون منقطعا، ثم المطر يخرج منه والماء في الهواء أعجب علامة للقدرة، وما يفضي إليه من إنبات الزرع وإدرار الضرع حكمة بالغة، ثم إنه لا يعم بل يختص به قوم دون قوم وهو علامة المشيئة. وقوله تعالى: * (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله) * اختلف المفسرون فيه، فقال بعضهم هو تأكيد كما في قوله تعالى: * (فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها) * وقال بعضهم من قبل التنزيل من قبل المطر، والأولى أن يقال من قبل أن ينزل عليهم من قبله، أي من قبل إرسال الرياح، وذلك لأن بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس، فقبل المطر إذا هبت الريح لا يكون مبلسا، فلما قال من قبل أن ينزل عليهم لم يقل إنهم كانوا مبلسين، لأن من قبله قد يكون راجبا غالبا على ظنه المطر برؤية السحب وهبوب الرياح فقال من قبله، أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب، ثم لما فصل قال: * (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى) * لما ذكر الدلائل قال لمحيي باللام المؤكدة وباسم الفاعل، فإن الإنسان إذا قال إن الملك يعطيك لا يفيد ما يفيد قوله إنه معطيك، لأن الثاني يفيد أنه أعطاك فكان وهو معط متصفا بالعطاء، والأول يفيد أنه سيتصف به ويتبين هذا بقوله إنك ميت فإنه آكد من قوله إنك تموت * (وهو على كل شيء قدير) * تأكيد لما يفيد الاعتراف.
133

وما أنت بهاد العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون
وما أنت بهاد العمى عن ضلالتهم إن تسمع من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون
لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مبلسين آيسين، وعند ظهوره يكونون مستبشرين، بين أن تلك الحالة أيضا لا يدومون عليها، بل لو أصاب زرعهم ريح مصفر لكفروا فهم منقلبون غير ثابتين لنظرهم إلى الحال لا إلى المآل، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال في الآية الأولى * (يرسل الرياح) * على طريقة الإخبار عن الإرسال، وقال ههنا * (ولئن أرسلنا) * لا على طريقة الإخبار عن الإرسال، لأن الرياح من رحمته وهي متواترة، والريح من عذابه وهو تعالى رؤوف بالعباد يمسكها، ولذلك نرى الرياح النافعة تهب في الليالي والأيام في البراري والآكام، وريح السموم لا تهب إلا في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة.
المسألة الثانية: سمى النافعة رياحا والضارة ريحا لوجوه أحدها: النافعة كثيرة الأنواع كثيرة الأفراد فجمعها، فإن كل يوم وليلة تهب نفحات من الرياح النافعة، ولا تهب الريح الضارة في أعوام، بل الضارة في الغالب لا تهب في الدهور الثاني: هو أن النافعة لا تكون إلا رياحا فإن ما يهب مرة واحدة لا يصلح الهواء ولا ينشئ السحاب ولا يجري السفن، وأما الضارة بنفحة واحدة تقتل كريح السموم الثالث: هو أن الريح المضرة إما أن تضر بكيفيتها أو بكميتها، أما الكيفية فهي إذا كانت حارة أو متكيفة بكيفية سم، وهذا لا يكون للريح في هبوبها وإنما يكون بسبب أن الهواء الساكن في بقعة فيها حشائش رديئة أو في موضع غائر وهو حار جدا، أو تكون متكونة في أول تكونها كذلك وكيفما كان فتكون واحدة، لأن ذلك الهواء الساكن إذا سخن ثم ورد عليه ريح تحركه وتخرجه من ذلك المكان فتهب على مواضع كاللهيب، ثم ما يخرج بعد ذلك من ذلك المكان لا يكون حارا ولا متكيفا، لأن المكث الطويل شرط التكيف، ألا ترى أنك لو أدخلت إصبعك في نار وأخرجتها بسرعة لا تتأثر، والحديد إذا مكث فيها يذوب، فإذا تحرك ذلك الساكن وتفرق لا يوجد في ذلك الوقت غيره من جنسه، وأما المتولدة كذلك فنادرة وموضع ندرتها واحد. وأما الكمية فالرياح إذا اجتمعت وصارت واحدة صارت كالخلجان، ومياه العيون إذا اجتمعت تصير نهرا عظيما لا تسده السدود ولا يرده الجلمود، ولا شك أن في ذلك تكون واحدة مجتمعة من كثير، فلهذا قال في المضرة ريح وفي النافعة رياح.
ثم إنه تعالى لما علم رسوله أنواع الأدلة وأصناف الأمثلة ووعد وأوعد ولم يزدهم دعاؤه إلا
134

الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل
من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير
فرارا، وإنباؤه إلا كفرا وإضرارا، قال له: * (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الترتيب فنقول إرشاد الميت محال، والمحال أبعد من الممكن، ثم إرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم ما يفهمه بالإشارة لا غير، والإفهام بالإشارة صعب، ثم إرشاد الأعمى أيضا صعب، فإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه، لكنه لا يبقى عليه بل يحيد عن قريب وإرشاد الأصم أصعب، فلهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع شيئا، لأن غاية الإفهام بالكلام، فإن ما لا يفهم بالإشارة يفهم بالكلام وليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة، فإن المعدوم والغائب لا إشارة إليهما فقال أولا لا تسمع الموتى، ثم قال ولا الأصم ولا تهدي الأعمى الذي دون الأصم.
المسألة الثانية: قال في الصم * (إذا ولوا مدبرين) * ليكون أدخل في الامتناع، وذلك لأن الأصم وإن كان يفهم فإنما يفهم بالإشارة، فإذا ولى ولا يكون نظره إلى المشير فإنه يسمع ولا يفهم. المسألة الثالثة: قال في الأصم * (لا تسمع الصم الدعاء) * ولم يقل في الموتى ذلك لأن الأصم قد يسمع الصوت الهائل كصوت الرعد القوي ولكن صوت الداعي لا يبلغ ذلك الحد فقال إنك داع لست بملجئ إلى الإيمان والداعي لا يسمع الأصم الدعاء.
المسألة الرابعة: قال: * (وما أنت بهادي العمى) * أي ليس شغلك هداية العميان كما يقول القائل فلان ليس بشاعر وإنما ينظم بيتا وبيتين، أي ليس شغله ذلك فقوله: * (إنك لا تسمع الموتى) * نفى ذلك عنه، وقوله: * (وما أنت بهادي العمي) * يعني ليس شغلك ذلك، وما أرسلت له.
ثم قال تعالى: * (إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) * (النمل: 81) لما نفى إسماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حيا
سميعا وهو كذلك لأن المؤمن ترد على قلبه أمطار البراهين فتنبت في قلبه العقائد الحقة، ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة، وهذا يدل على خلاف مذهب المعتزلة فإنهم قالوا الله يريد من الكل الإيمان، غير أن بعضهم يخالف إرادة الله، وقوله: * (إن تسمع إلا من يؤمن) * دليل على أنه يؤمن فيسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ما يجب أن يفعل فهم مسلمون مطيعون كما قال تعالى عنهم: * (قالوا سمعنا وأطعنا) * (البقرة: 285).
135

ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون
لما أعاد من الدلائل التي مضت دليلا من دلائل الآفاق وهو قوله: * (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا) * (الروم: 48) وذكر أحوال الريح من أوله إلى آخره أعاد دليلا من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله، فقال: * (خلقكم من ضعف) * أي مبناكم على الضعف كما قال تعالى: * (خلق الإنسان من عجل) * (الأنبياء: 37) ومن ههنا كما تكون في قول القائل فلان زين فلانا من فقره وجعله غنيا أي من حالة فقره، ثم قال تعالى: * (ثم جعل من بعد ضعف قوة) * فقوله من ضعف إشارة إلى حالة كان فيها جنينا وطفلا مولودا ورضيعا ومفطوما فهذه أحوال غاية الضعف، وقوله: * (ثم جعل من بعد ضعف قوة) * إشارة إلى حالة بلوغه وانتقاله وشبابه واكتهاله، وقوله: * (ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) *.
إشارة إلى ما يكون بعد الكهولة من ظهور النقصان والشيبة هي تمام الضعف، ثم بين بقوله * (يخلق ما يشاء) * إن هذا ليس طبعا بل هو بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى في دلائل الآفاق * (فيبسطه في السماء كيف يشاء) * (الروم: 48) * (هو العليم القدير) * لما قدم العلم على القدرة؟ وقال من قبل * (وهو العزيز الحكيم) * (الروم: 27) فالعزة إشارة إلى تمام القدرة والحكمة إلى العلم، فقدم القدرة هناك وقدم العلم على القدرة ههنا فنقول هناك المذكور الإعادة بقوله: * (وهو أهون عليه، وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) * (الروم: 27) لأن الإعادة تكون بكن فيكون، فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الابداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم ههنا أظهر، ثم إن قوله تعالى: * (وهو العليم القدير) * تبشير وإنذار لأنه إذا كان عالما بأعمال الخلق كان عالما بأحوال المخلوقات فإن عملوا خيرا علمه وإن عملوا شرا علمه، ثم إذا كان قادرا فإذا علم الخير أثاب وإذا علم الشر عاقب، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب الذين هما بالقدرة قدم العلم، وأما في الآخرة فالعلم بتلك الأحوال مع العقاب فقال: * (وهو العليم الحكيم) * وإلى مثل هذا مثل هذا أشار في قوله: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14) عقيب خلق الإنسان، فنقول أحسن إشارة إلى العلم لأن حسن الخلق بالعلم، والخلق المفهوم من قوله: * (الخالقين) * إشارة إلى القدرة، ثم لما بين ذكر الابداء والإعادة كالابداء ذكره بذكر أحوالها وأوقاتها.
* (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون) *.
قيل ما لبثوا في الدنيا غير ساعة. وقيل ما لبثوا في القبور، وقيل ما لبثوا من وقت فناء الدنيا إلى وقت النشور * (كذلك كانوا يؤفكون) * يصرفون من الحق إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب.
136

وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون
فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولاهم يستعتبون ولقد ضربنا للناس في هذا القران من كل مثل ولئن جئتهم باية ليقولن الذين
كفروا إن أنتم إلا مبطلون
قوله: * (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان) * من الملائكة وغيرهم * (لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) * ونحن نبين ما هو المعنى اللطيف في هاتين الآيتين، فنقول الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله، والموعد بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها، لكن المجرم إذا حشر علم أن مصيره إلى النار فيستقل مدة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر، والمؤمن إذا حشر علم أن مصيره إلى الجنة فيستكثر المدة ولا يريد التأخير فيختلف الفريقان ويقول أحدهما إن مدة لبثنا قليل وإليه الإشارة بقوله: * (يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) * ويقول الآخر لبثنا مديدا وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) * يعني كان في كاتب الله ضرب الأجل إلى يوم البعث ونحن صبرنا إلى يوم البعث * (فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) * يعني طلبكم التأخير، لأنكم كنتم لا تعلمون البعث ولا تعترفون به، فصار مصيركم إلى النار فتطلبون التأخير.
* (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون) *.
أي لا يطلب منهم الإعتاب وهو إزالة العتب يعني التوبة التي تزيل آثار الجريمة لا تطلب منهم لأنها لا تقبل منهم.
* (ولقد ضربنا للناس فى هذا القرءان من كل مثل ولئن جئتهم باية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون) *.
قوله: * (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من مثل) * إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار، وإلى أنه لم يبق من جانب الرسول تقصير، فإن طلبوا شيئا آخر فذلك عناد ومن هان عليه تكذيب دليل لا يصعب عليه تكذيب الدلائل، بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل
137

كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون
آخر بعد ما ذكر دليلا جيدا مستقيما ظاهرا لا غبار عليه وعانده الخصم، لأنه إما أن يعترف بورود سؤال الخصم عليه أو لا يعترف، فإن اعترف يكون انقطاعا وهو يقدح في الدليل أو المستدل، إما بأن الدليل فاسد، وإما بأن المستدل جاهل بوجه الدلالة والاستدلال، وكلاهما لا يجوز الاعتراف به من العالم فكيف من النبي عليه الصلاة والسلام، وإن لم يعترف يكون الشروع في غيره موهما أن الخصم ليس معاندا فيكون اجتراؤه على العناد في الثاني أكثر لأنه يقول العناد أفاد في الأول حيث التزم ذكر
دليل آخر. فإن قيل فالأنبياء عليهم السلام ذكروا أنواعا من الدلائل، نقول سردوها سردا، ثم قرروها فردا فردا، كمن يقول الدليل عليه من وجوه: الأول كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، وفي مثل هذا الواجب عدم الالتفات إلى عناد المعاند لأنه يزيده بعناده حتى يضيع الوقت فلا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدلائل فتنحط درجته فاذن لكل مكان مقال. وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله تعالى: * (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون) * وفي توحيد الخطاب بقوله: * (ولئن جئتهم) * والجمع في قوله: * (إن أنتم) * لطيفة وهي أن الله تعالى قال: * (ولئن جئتهم بكل آية) * جاءت بها الرسل ويمكن أن يجاء بها يقولون أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مبطلون. ثم بين تعالى أن ذلك بطبع الله على قلوبهم بقوله: * (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) * فإن قيل من لا يعلم شيئا أية فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه؟ نقول المعنى هو أن من لا يعلم الآن فقد طبع الله على قلبه من قبل، ثم إنه تعالى سلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: * (فاصبر إن وعد الله حق) * أي أن صدقك يبين وقوله: * (ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) * إشارة إلى وجوب مداومة النبي عليه الصلاة والسلام على الدعاء إلى الإيمان فإنه لو سكت لقال الكافر إنه متقلب الرأي، لا ثبات له. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين.
138

سورة لقمان
عليه السلام مكية كلها إلا آيتين نزلنا بالمدينة وهما * (ولو أن ما في الأرض من شجرة) * الآيتين وإلا آية نزلت بالمدينة وهي * (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) * لأن الصلاة والزكاة نزلتا بالمدينة وهي ثلاث وقيل أربع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ألم، تلك آيات الكتاب الحكيم) *.
وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر ما قبلها هو أن الله تعالى لما قال: * (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) * (الروم: 58) إشارة إلى كونه معجزة وقال: * (ولئن جئتهم بآية) * (الروم: 58) إشارة إلى أنهم يكفرون بالآيات بين ذلك بقوله: * (ألم تلك آيات الكتاب الحكيم) * ولم يؤمنوا بها، وإلى هذا أشار بعد هذا بقوله: * (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا) * (لقمان: 7).
قوله تعالى
* (تلك ءايات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين * الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم بالاخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) *.
فقوله * (هدى) * أي بيانا وفرقانا، وأما التفسير فمثل تفسير قوله تعالى: * (ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى) * (البقرة: 1 و 2) وكما قيل هناك إن المعنى بذلك هذا، كذلك قيل بأن المراد بتلك هذه، ويمكن أن يقال كما قلنا هناك إن تلك إشارة إلى الغائب معناها آيات القرآن آيات الكتاب الحكيم وعند إنزال هذه الآيات التي نزلت مع * (ألم تلك آيات الكتاب الحكيم) * لم تكن جميع الآيات نزلت فقال تلك إشارة إلى الكل أي آيات القرآن تلك آيات، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال في سورة البقرة * (ذلك الكتاب) * (البقرة: 1) ولم يقل الحكيم، وههنا قال * (الحكيم) * فلما زاد ذكر وصف الكتاب زاد ذكر أمر في أحواله فقال: * (هدى ورحمة) * وقال هناك
139

* (هدى للمتقين) * (البقرة: 1) فقوله: * (هدى) * في مقابلة قوله: * (الكتاب) * وقوله: * (ورحمة) * في مقابلة قوله: * (الحكيم) * ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذي الحكم كقوله تعالى: * (في عيشة راضية) * (الحاقة: 21) أي ذات رضا.
المسألة الثانية: قال هناك * (للمتقين) * وقال ههنا * (للمحسنين) * لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئا آخر قال: * (للمتقين) * أي يهتدي به من يتقي الشرك والعناد والتعصب، وينظر فيه من غير عناد، ولما زاد ههنا رحمة قال: * (للمحسنين) * أي المتقين الشرك والعناد الآتين بكلمة الإحسان فالمحسن هو الآتي بالإيمان والمتقي هو التارك للكفر، كما قال تعالى: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * (النحل: 128) ومن جانب الكفر كان متقيا وله الجنة، ومن أتى بحقيقة الإيمان كان محسنا وله الزيادة لقوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * (يونس: 26) ولأنه لما ذكر أنه رحمة قال: * (للمحسنين) * لأن رحمة الله قريب من المحسنين.
المسألة الثالثة: قال هناك * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) * (البقرة: 3) وقال ههنا * (الذين يقيمون الصلاة) * ولم يقل يؤمنون لما بينا أن المتقي هو التارك للكفر ويلزمه أن يكون مؤمنا والمحسن هو الآتي بحق الإيمان، ويلزمه أن لا يكون كافرا، فلما كان المتقي دالا على المؤمن في الالتزام صرح بالإيمان هناك تبيينا ولما كان المحسن دالا على الإيمان بالتنصيص لم يصرح بالإيمان وقوله تعالى: * (الذين يقيمون الصلاة) * قد ذكرنا ما في الصلاة وإقامتها مرارا وما في الزكاة والقيام بها، وذكرنا في تفسير الأنفال في أوائلها أن الصلاة ترك التشبه بالسيد فإنها عبادة صورة وحقيقة والله تعالى تجب له العبادة ولا تجوز عليه العبادة، وترك التشبه لازم على العبد أيضا في أمور فلا يجلس عند جلوسه ولا يتكئ عند اتكائه، والزكاة تشبه بالسيد فإنها دفع حاجة الغير والله دافع الحاجات، والتشبه لازم على العبد أيضا في أمور، كما أن عبد العالم لا يتلبس بلباس الأجناد، وعبد الجندي لا يتلبس بلباس الزهاد، وبهما تتم العبودية.
* (ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) *.
لما بين أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكمية بين من حال الكفار أنهم يتركون ذلك ويشتغلون بغيره، ثم إن فيه ما يبين سوء صنيعهم من وجوه الأول: أن ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح الثاني: هو أن الحديث إذا كان لهوا لا فائدة فيه كان أقبح
140

الثالث: هو أن اللهو قد يقصد به الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " روحوا القلوب ساعة فساعة " رواه الديلمي عن أنس مرفوعا ويشهد له ما في مسلم " يا حنظلة ساعة وساعة " والعوام يفهمون منه الأمر بما يجوز من المطايبة، والخواص يقولون هو أمر بالنظر إلى جانب الحق فإن الترويح به لا غير فلما لم يكن قصدهم إلا الإضلال لقوله: * (ليضل عن سبيل الله) * كان فعله أدخل في القبح.
ثم قال تعالى: * (بغير علم) * عائد إلى الشراء أي يشتري بغير علم ويتخذها أي يتخذ السبيل * (أولئك لهم عذاب مهين) * قوله: * (مهين) * إشارة إلى أمر يفهم منه الدوام، وذلك لأن الملك إذا أمر بتعذيب عبد من عبيده، فالجلاد إن علم أنه ممن يعود إلى خدمة الملك ولا يتركه الملك في الحبس يكرمه ويخفف من تعذيبه، وإن علم أنه لا يعود إلى ما كان عليه وأمره قد انقضى، فإنه لا يكرمه. فقوله: * (عذاب مهين) * إشارة إلى هذا وبه يفرق بين عذاب المؤمن وعذاب الكافر، فإن عذاب المؤمن ليطهر فهو غير مين.
قوله تعالى
* (وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم) *.
أي يشتري الحديث الباطل، والحق الصراح يأتيه مجانا يعرض عنه، وإذا نظرت فيه فهمت حسن هذا الكلام من حيث إن المشتري يطلب المشترى مع أنه يطلبه ببذل الثمن، ومن يأتيه الشيء لا يطلبه ولا يبذل شيئا، ثم إن الواجب أن يطلب العاقل الحكمة بأي شيء يجده ويشتريها، وهم ما كانوا يطلبونها، وإذا جاءتهم مجانا ما كانوا يسمعونها، ثم إن فيه أيضا مراتب الأولى: التولية عن الحكمة وهو قبيح والثاني: الاستكبار، ومن يشتري حكاية رستم وبهرام ويحتاج إليها كيف يكون مستغنيا عن الحكمة حتى يستكبر عنها؟ وإنما يستكبر الشخص عن الكلام وإذا كان يقول أنا أقول مثله، فمن لا يقدر يصنع مثل تلك الحكايات الباطلة كيف يستكبر على الحكمة البالغة التي من عند الله؟ الثالث: قوله تعالى: * (كأن لم يسمعها) * شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنها غافلة الرابع: قوله: * (كأن في أذنيه وقرا) * أدخل في الإعراض. ثم قال تعالى: * (فبشره بعذاب أليم) * أي له عذاب مهين بشره أنت به وأوعده، أو يقال إذا كان حاله هذا * (فبشره بعذاب أليم) *.
141

قوله تعالى
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم * خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم) *.
لما بين حال من إذا تتلى عليه الآيات ولى، بين حال من يقبل على تلك الآيات ويقبلها وكما أن ذلك له مراتب من التولية والاستكبار، فهذا له مراتب من الإقبال والقبول والعمل به، فإن من سمع شيئا وقبله قد لا يعمل به فلا تكون درجته مثل من يسمع ويطيع ثم إن هذا له جنات النعيم ولذلك عذاب مهين وفيه لطائف: إحداها: توحيد العذاب وجمع الجنات إشارة إلى أن الرحمة واسعة أكثر من الغضب الثانية: تنكير العذاب وتعريف الجنة بالإضافة إلى المعرف إشارة إلى أن الرحيم يبين النعمة ويعرفها إيصالا للراحة إلى القلب، ولا يبين النقمة، وإنما ينبه عليها تنبيها الثالثة: قال عذاب، ولم يصرح بأنهم فيه خالدون، وإنما أشار إلى الخلود بقوله: * (مهين) * وصرح في الثواب بالخلود بقوله: * (خالدين فيها) *، الرابعة: أكد ذلك بقوله: * (وعد الله حقا) * ولم يذكره هناك الخامسة: قال هناك لغيره * (فبشره بعذاب) * وقال ههنا بنفسه * (وعد الله) *، ثم لم يقل أبشركم به لأن البشارة لا تكون إلا بأعظم ما يكون، لكن الجنة دون ما يكون للصالحين بشارة من الله، وإنما تكون بشارتهم منه برحمته ورضوانه كما قال تعالى: * (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم) * (التوبة: 21) ولولا قوله: * (منه) * لما عظمت البشارة، ولو كانت * (منه) * مقرونة بأمر دون الجنة لكان ذلك فوق الجنة من غير إضافة فإن قيل فقد بشر بنفس الجنة بقوله: * (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) * (فصلت: 30) نقول البشارة هناك لم تكن بالجنة وحدها، بل بها وبما ذكر بعدها إلى قوله تعالى: * (نزلا من غفور رحيم) * والنزل ما يهيأ عند النزول والإكرام العظيم بعده * (وهو العزيز الحكيم) * كامل القدرة يعذب المعرض ويثيب المقبل، كامل العلم يفعل الأفعال كما ينبغي، فلا يعذب من يؤمن ولا يثيب من يكفر.
قوله تعالى
* (خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى فى الارض رواسى أن تميد بكم وبث فيها من كل دآبة وأنزلنا من السمآء مآء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) *.
ثم قال تعالى: * (خلق السماوات بغير عمد ترونها) *.
بين عزته وحكمته بقوله: * (خلق السماوات بغير عمد) * اختلف قول العلماء في السماوات فمنهم من قال إنها مبسوطة كصفيحة مستوية، وهو قول أكثر المفسرين ومنهم من قال إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين، والغزالي رحمه الله قال نحن نوافقهم في ذلك فإن لهم عليها دليلا من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز، وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله، فضلا من أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحا، بل فيه ما يدل على الاستدارة كما قال تعالى: * (كل في فلك
142

يسبحون) * (الأنبياء: 33) والفلك اسم لشيء مستدير، بل الواجب أن يقال بأن السماوات سواء كانت مستديرة أو مصفحة فهي مخلوقة بقدرة الله لا موجودة بإيجاب وطبع، وإذا علم هذا فنقول السماء في مكان وهو فضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس إلا بقدرة مختارة وإليه الإشارة بقوله: * (بغير عمد) * أي ليس على شيء يمنعها الزوال من موضعها وهي لا تزول إلا بقدرة الله تعالى وقال بعضهم المعنى أن السماوات بأسرها ومجموعها لا مكان لها لأن المكان ما يعتمد عليه
ما فيه فيكون متمكنا والحيز ما يشار إلى ما فيه بسببه يقال ههنا وهناك على هذا قالوا إن من يقع من شاهق جبل فهو في الهواء في حيز إذ يقال له هو ههنا وهناك، وليس في مكان إذ لا يعتمد على شيء، فإذا حصل على الأرض حصل في مكان، إذا علم هذا فالسماوات ليس في مكان تعتمد عليه فلا عمد لها وقوله: * (ترونها) * فيه وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى السماوات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد والثاني: أنه راجع إلى العمد أي بغير عمد مرئية، وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته.
ثم قال تعالى: * (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) *.
أي جبالا راسية ثابتة * (أن تميد) * أي كراهية أن تميد وقيل المعنى أن لا تميد، واعلم أن الأرض ثباتها بسبب ثقلها، وإلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح، ولو خلقها مثل الرمل لما كانت تثبت للزراعة كما نرى الأراضي الرملة ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع، ثم قال تعالى: * (وبث فيها من كل دابة) * أي سكون الأرض فيه مصلحة حركة الدواب أمسكنا الأرض وحركنا الدواب ولو كانت الأرض متزلزلة وبعض الأراضي يناسب بعض الحيوانات لكانت الدابة التي لا تعيش في موضع تقع في ذلك الموضع فيكون فيه هلاك الدواب، أما إذا كانت الأرض ساكنة والحيوانات متحركة تتحرك في المواضع التي تناسبها وترعى فيها وتعيش فيها، ثم قال تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء) * هذه نعمة أخرى أنعمها الله على عباده، وتمامها بسكون الأرض لأن البذر إذا لم يثبت إلى أن ينبت لم يكن يحصل الزرع ولو كانت أجزاء الأرض متحركة كالرمل لما حصل الثبات ولما كمل النبات، والعدول من المغايبة إلى النفس فيه فصاحة وحكمة، أما الفصاحة فمذكورة في باب الالتفات من أن السامع إذا سمع كلاما طويلا من نمط واحد، ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه ألا ترى أنك إذا قلت قال زيد كذا وكذا، وقال خالد كذا وكذا، وقال عمرو كذا ثم إن
143

بكرا قال قولا حسنا يستطاب لما قد تكرر القول مرارا. وأما الحكمة فمن وجهين أحدهما: أن خلق الأرض ثقيل، والسماء في غير مكان قد يقع لجاهل أنه بالطبع، وبث الدواب يقع لبعضهم أنه باختيار الدابة، لأن لها اختيار، فنقول الأول طبيعي والآخر اختياري للحيوان، ولكن لا يشك أحد في أن الماء في الهواء من جهة فوق ليس طبعا فإن الماء لا يكون بطبعه فوق ولا اختيارا، إذ الماء لا اختيار له فهو بإرادة الله تعالى، فقال: * (وأنزلنا من السماء) * الثاني: هو أن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل زمان، متكثرة في كل مكان، فأسنده إلى نفسه صريحا ليتنبه الإنسان لشكر نعمته فيزيد له من رحمته، وقوله تعالى: * (فأنبتنا فيها من كل زوج) * أي من كل جنس، وكل جنس فتحته زوجان، لأن النبات إما أن يكون شجرا، وإما أن يكون غير شجر، والذي هو الشجر إما أن يكون مثمرا، وإما أن يكون غير مثمر، والمثمر كذلك ينقسم قسمين، وقوله تعالى: * (كريم) * أي ذي كرم، لأنه يأتي كثيرا من غير حساب أو مكرم مثل بغض للمبغض.
* (هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون فى ضلال مبين) *.
قوله تعالى: * (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) * يعني الله خالق وغيره ليس بخالق فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق. ثم قال تعالى: * (بل الظالمون في ضلال مبين) * أي بين أو مبين للعاقل أنه ضلال، وهذا لأن ترك الطريق والحيد عنه ضلال، ثم إن كان الحيد يمنة أو يسرة فهو لا يبعد عن الطريق المستقيم مثل ما يكون المقصد إلى وراء فإنه يكون غاية الضلال، فالمقصد هو الله تعالى، فمن يطلبه ويلتفت إلى غيره من الدنيا وغيرها فهو ضال، لكن من وجهه إلى الله قد يصل إلى المقصود ولكن بعد تعب وطول مدة، ومن يطلبه ولا يلتفت إلى ما سواه يكون كالذي على الطريق المستقيم يصل عن قريب من غير تعب. وأما الذي تولى لا يصل إلى المقصود أصلا، وإن دام في السفر، والمراد بالظالمين المشركون الواضعون لعبادتهم في غير موضعها أو الواضعون أنفسم في عبادة غير الله.
قوله تعالى
* (ولقد ءاتينا لقمان الحكمة أن شكر الله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد) *.
قوله تعالى: * (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله) * لما بين الله فساد اعتقادهم بسبب عنادهم
144

بإشراك من لا يخلق شيئا بمن خلق كل شيء بقوله: * (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) * وبين أن المشرك ظالم ضال، ذكر ما يدل على أن ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة وإن لم يكن هناك نبوة وهذا إشارة إلى معنى، وهو أن اتباع النبي عليه السلام لازم فيما لا يعقل معناه إظهارا للتعبد فكيف ما لا يختص بالنبوة، بل يدرك بالعقل معناه وما جاء به النبي عليه السلام مدرك بالحكمة وذكر حكاية لقمان وأنه أدركه بالحكمة وقوله: * (ولقد آتينا لقمان الحكمة) * عبارة عن توفيق العمل بالعلم، فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة، وإن أردنا تحديدها بما يدخل فيه حكمة الله تعالى، فنقول حصول العمل على وفق المعلوم، والذي يدل على ما ذكرنا أن من تعلم شيئا ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيما وإنما يكون مبخوتا، ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ووقع على موضع فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال إنه حكيم، وإن ظهر لفعله مصلحة وخلو عن مفسدة، لعدم علمه به أولا، ومن يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس ويلقي نفسه من ذلك المكان وتنكسر أعضاؤه لا يقال إنه حكيم وإن علم ما يكون في فعله، ثم الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: * (أن أشكر لله) * فإن أن في مثل هذا تسمى المفسرة ففسر الله إيتاء الحكمة بقوله: * (أن أشكر لله) * وهو كذلك، لأن من جملة ما يقال إن العمل موافق للعلم، لأن الإنسان إذا علم أمرين أحدهما أهم من الآخر، فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وكان حكمة، وإن أهمل الأهم كان مخالفا للعلم ولم يكن من الحكمة في شيء، لكن شكر الله أهم الأشياء فالحكمة أول ما تقتضي، ثم إن الله تعالى بين أن بالشكر لا ينتفع إلا الشاكر بقوله: * (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) * وبين أن بالكفران لا يتضرر غير الكافر بقوله: * (ومن كفر فإن الله غني حميد) * أي الله
غير محتاج إلى شكر حتى يتضرر بكفران الكافر وهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه، وفي الآية مسائل ولطائف الأولى: فسر الله إيتاء الحكمة بالأمر بالشكر، لكن الكافر والجاهل مأموران بالشكر فينبغي أن يكون قد أوتي الحكمة والجواب: أن قوله تعالى: * (أن أشكر لله) * أمر تكوين معناه آتيناه الحكمة بأن جعلناه من الشاكرين، وفي الكافر الأمر بالشكر أمر تكليف.
المسألة الثانية: قال في الشكر ومن يشكر بصيغة المستقبل، وفي الكفران ومن كفر فإن الله غني، وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد، كقول القائل: من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر، فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران، ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله، بل أبدا يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر إدخاله في الوجود، كما قال: * (رب أوزعني أن أشكر نعمتك) * (النمل: 19) وكما قال تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (النحل: 18) فأشار إليه بصيغة المستقبل تنبيها على أن الشكر بكماله لم يوجد وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام، فقال بصيغة الماضي.
145

المسألة الثالثة: قال تعالى هنا: * (ومن يشكر فإنما يشكره لنفسه ومن كفر) * بتقديم الشكر على الكفران، وقال في سورة الروم: * (ومن كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) * (الروم: 44) فنقول هناك كان الذكر للترهيب لقوله تعالى من قبل: * (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون) * (الروم: 43) وههنا الذكر للترغيب، لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد، وقوله: * (ومن عمل صالحا) * يحقق ما ذكرنا أولا، لأن المذكور في سورة الروم لما كان بعد اليوم الذي لا مرد له تكون الأعمال قد سبقت فقال بلفظ الماضي ومن عمل، وههنا لما كان المذكور في الابتداء قال * (ومن يشكر) * بلفظ المستقبل وقوله: * (ومن كفر فإن الله غني) * عن حمد الحامدين، حميد في ذاته من غير حمدهم، وإنما الحامد ترتفع مرتبته بكونه حامدا لله تعالى.
* (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) *.
عطف على معنى ما سبق وتقديره آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا في نفسه وحين جعلناه واعظا لغيره وهذا لأن علو مرتبة الإنسان بأن يكون كاملا في نفسه ومكملا لغيره فقوله: * (أن أشكر) * إشارة إلى الكمال وقوله: * (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه) * إشارة إلى التكميل، وفي هذا لطيفة وهي أن الله ذكر لقمان وشكر سعيه حيث أرشد ابنه ليعلم منه فضيلة النبي عليه السلام الذي أرشد الأجانب والأقارب فإن إرشاد الولد أمر معاد، وأما تحمل المشقة في تعليم الأباعد فلا، ثم إنه في الوعظ بدأ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال: * (إن الشرك لظلم عظيم) * أما أنه ظلم فلأنه وضع للنفس الشريف المكرم بقوله تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * (الإسراء: 70) في عبادة الخسيس أو لأنه وضع العبادة في غير موضعها وهي غير وجه الله وسبيله، وأما أنه عظيم فلأنه وضع في موضع ليس موضعه، ولا يجوز أن يكون موضعه، وهذا لأن من يأخذ مال زيد ويعطي عمرا يكون ظلما من حيث إنه وضع مال زيد في يد عمرو، ولكن جائز أن يكون ذلك ملك عمرو أو يصير ملكه ببيع سابق أو بتمليك لاحق، وأما الإشراك فوضع المعبودية في غير الله تعالى ولا يجوز أن يكون غيره معبودا أصلا.
* (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله فى عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير) *.
لما منعه من العبادة لغير الله والخدمة قريبة منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة، بل هي واجبة
146

لغير الله في بعض الصور مثل خدمة الأبوين، ثم بين السبب فقال: * (حملته أمه) * يعني لله على العبيد نعمة الإيجاد ابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق وجعل بفضله لأم ما له صورة ذلك وإن لم يكن لها حقيقة فإن الحمل به يظهر الوجود، وبالرضاع يحصل التربية والبقاء فقال حملته أمه أي صارت بقدرة الله سبب وجوده وفصاله في عامين، أي صارت بقدرته أيضا سبب بقائه، فإذا كان منها ما له صورة الوجود والبقاء وجب عليه ما له شبه العبادة من الخدمة، فإن الخدمة لها صورة العبادة، فإن قال قائل وصى الله بالوالدين وذكر السبب في حق الأم فنقول خص الأم بالذكر وفي الأب ما وجد في الأم فإن الأب حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ وقوله: * (أن أشكر لي ولوالديك) * لما كان الله تعالى بفضله جعل من الوالدين صورة ما من الله، فإن الوجود في الحقيقة من الله وفي الصورة يظهر من الوالدين جعل الشكر بينهما فقال: * (أن أشكر لي ولوالديك) * ثم بين الفرق وقال: * (إلي المصير) * يعني نعمتهما مختصة بالدنيا ونعمتي في الدنيا والآخرة، فإن إلي المصير أو نقول لما أمر بالشكر لنفسه وللوالدين قال الجزاء على وقت المصير إلي.
* (وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) *.
يعني أن خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة الله، أما إذا أفضى إليه فلا تطعهما، وقد ذكرنا تفسير الآية في العنكبوت، وقال ههنا * (واتبع سبيل من أناب إلي) *، يعني صاحبهما بجسمك فإن حقهما على جسمك، واتبع سبيل النبي عليه السلام بعقلك، فإنه مربي عقلك، كما أن الوالد مربي جسمك.
* (يا بنى إنهآ إن تك مثقال حبة من خردل فتكن فى صخرة أو فى السماوات أو فى الارض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) *.
لما قال: * (فأنبئكم بما كنتم تعملون) * وقع لابنه أن ما يفعل في خفية يخفي فقال: * (يا بني إنها) * أي الحسنة والسيئة إن كانت في الصعر مثل حبة خردل وتكون مع ذلك الصغر في موضع حريز كالصخرة لا تخفي على الله، وفيه مسائل:
147

المسألة الأولى: قوله: * (فتكن) * بالفاء لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون خفية في موضع حريز كالصخرة لا تخفى على الله لأن الفاء للاتصال بالتعقيب.
المسألة الثانية: لو قيل الصخرة لا بد من أن تكون في السماوات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها؟ ولأن القائل لو قال هذا رجل أو امرأة أو ابن عمرو لا يصح هذا
الكلام لكون ابن عمرو داخلا في أحد القسمين فكيف يفهم هذا، فنقول الجواب عنه من أوجه أحدها: ما قاله بعض المفسرين وهو أن المراد بالصخرة صخرة عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء والثاني: ما قاله الزمخشري وهو أن فيه إضمارا تقديره فتكن في صخرة أو في موضع آخر في السماوات أو في الأرض والثالث: أن نقول تقديم الخاص وتأخير العام في مثل هذا التقسيم جائز وتقديم العام وتأخير الخاص غير جائز، أما الثاني فلما بينتم أن من قال هذا في دار زيد أو في غيرها أو في دار عمرو لا يصح لكون دار عمرو داخلة في قوله أو في غيرها، وأما الأول فلأن قول القائل هذا في دار زيد أو في دار عمرو أو في غيرها صحيح غير قبيح فكذلك ههنا قدم الأخص أو نقول خفاء الشيء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصغر ومنها أن يكون بعيدا، ومنها أن يكون في ظلمة، ومنها أن يكون من وراء حجاب، فإن انتفت الأمور بأسرها بأن يكون كبيرا قريبا في ضوء من غير حجاب فلا يخفى في العبادة، فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط فقوله: * (إنها إن تك مثقال حبة) * إشارة إلى الصغر وقوله: * (فتكن في صخرة) * إشارة إلى الحجاب وقوله: * (أو في السماوات) * إشارة إلى البعد فإنها أبعد الأبعاد وقوله: * (أو في الأرض) * إشارة إلى الظلمات فإن جوف الأرض أظلم الأماكن وقوله: * (يأت بها الله) * أبلغ من قول القائل يعلمها الله لأن من يظهر له الشيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره فقوله: * (يأت بها الله) * أي يظهرها الله للإشهاد وقوله: * (إن الله لطيف) * أي نافذ القدرة * (خبير) * أي عالم ببواطن الأمور.
* (يا بنى أقم الصلوة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على مآ أصابك إن ذلك من عزم الامور) *.
لما منعه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بما يلزمه من التوحيد وهو الصلاة وهي العبادة لوجه الله مخلصا، وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئتها اختلفت.
ثم قال تعالى: * (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) * أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل
148

غيرك، فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم، فإن قال قائل كيف قدم في وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر، وقبل قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فإنه أول ما قال * (يا بني لا تشرك) * ثم قال: * (يا بني أقم الصلاة) * فنقول هو كان يعمل من ابنه أنه معترف بوجود الله فما أمره بهذا المعروف ونهاه عن المنكر الذي يترتب على هذا المعروف، فإن المشرك بالله لا يكون نافيا لله في الاعتقاد وإن كان يلزمه نفيه بالدليل فكان كل معروف في مقابلته منكر والمعروف في معرفة الله اعتقاد وجوده والمنكر اعتقاد وجود غيره معه، فلم يأمره بذلك المعروف لحصوله ونهاه عن المنكر لأنه ورد في التفسير أن ابنه كان مشركا فوعظه ولم يزل يعظه حتى أسلم، وأما ههنا فأمر أمرا مطلقا والمعروف مقدم على المنكر ثم قال تعالى: * (واصبر على ما أصابك) * يعني أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذي فأمره بالصبر عليه، وقوله: * (إن ذلك من عزم الأمور) * أي من الأمور الواجبة المعزومة أي المقطوعة ويكون المصدر بمعنى المفعول، كما تقول أكلي في النهار رغيف خبز أي مأكولي.
* (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش فى الارض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور) *.
لما أمره أمره بأن يكون كاملا في نفسه مكملا لغيره وكان يخشى بعدهما من أمرين أحدهما: التكبر على الغير بسبب كونه مكملا له والثاني: التبختر في النفس بسبب كونه كاملا في نفسه فقال: * (ولا تصعر خدك للناس) * تكبرا * (ولا تمش في الأرض مرحا) * تبخترا * (إن الله لا يحب كل مختال) * يعني من يكون به خيلاء وهو الذي يرى الناس عظمة نفسه وهو التكبر * (فخور) * يعني من يكون مفتخرا بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه، وفي الآية لطيفة وهو أن الله تعالى قدم الكمال على التكميل حيث قال * (أقم الصلاة) * ثم قال: * (وأمر بالمعروف) * وفي النهي قدم ما يورثه التكميل على ما يورثه الكمال حيث قال: * (ولا تصعر خدك) * ثم قال: * (ولا تمش في الأرض مرحا) * لأن في طرف الإثبات من لا يكون كاملا لا يمكن أن يصير مكملا فقدم الكمال، وفي طرف النفي من يكون متكبرا على غيره متبخترا لأنه لا يتكبر على الغير إلا عند اعتقاده أنه أكبر منه من وجه، وأما من يكون متبخترا في نفسه لا يتكبر، ويتوهم أنه يتواضع للناس فقدم نفي التكبر ثم نفي التبختر، لأنه لو قد نفي التبختر للزم منه نفي التكبر فلا يحتاج إلى النهي عنه. ومثاله أنه لا يجوز أن يقال لا تفطر ولا تأكل، لأن من لا يفطر لا يأكل، ويجوز أن يقال لا تأكل
149

ولا تفطر، لأن من لا يأكل قد يفطر بغير الأكل، ولقائل أن يقول إن مثل هذا الكلام يكون للتفسير فيقول لا تفطر ولا تأكل أي لا تفطر بأن تأكل ولا يكون نهيين بل واحدا.
قوله تعالى
* (واقصد فى مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الاصوات لصوت الحمير) *.
لما قال: * (ولا تمش في الأرض مرحا) * وعدم ذلك قد يكون بضده وهو الذي يخالف غاية الاختلاف، وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهدا فقال: * (واقصد في مشيك) * أي كن وسطا بين الطرفين المذمومين، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: هل للأمر بالغض من الصوت مناسبة مع الأمر بالقصد في المشي؟ فنقول: نعم سواء علمناها نحن أو لم نعلمها وفي كلام الله من الفوائد ما لا يحصره حد ولا يصيبه عد، ولا يعلمه أحد والذي يظهر وجوه الأول: هو أن الإنسان لما كان شريفا تكون مطالبه شريفة فيكون فواتها خطرا فأقدر الله الإنسان على تحصيلها بالمشي، فإن عجز عن إدراك مقصوده ينادي مطلوبه فيقف له أو يأتيه مشيا إليه فإن عجز عن إبلاغ كلامه إليه، وبعض الحيوانات يشارك الإنسان في تحصيل المطلوب
بالصوت كما أن الغنم تطلب السخلة والبقرة العجل والناقة الفصيل بالثغاء والخوار والرغاء ولكن لا تتعدى إلى غيرها، والإنسان يميز البعض عن البعض فإذا كان المشي والصوت مفضيين إلى مقصود واحد لما أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر الثاني: هو أن الإنسان له ثلاثة أشياء عمل بالجوارح يشاركه فيه الحيوانات فإنه حركة وسكون، وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره وعزم بالقلب وهو لا اطلاع عليه إلا لله، وقد أشار إليه بقوله: * (إنها إن تك مثقال حبة من خردل) * أي أصلح ضميرك فإن الله خبير، بقي الأمران فقال: * (واقصد في مشيك واغضض من صوتك) * إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال الثالث: هو أن لقمان أراد إرشاد ابنه إلى السداد في الأوصاف الإنسانية والأوصاف التي هي للملك الذي هو أعلى مرتبة منه، والأوصاف التي للحيوان الذي هو أدنى مرتبة منه. فقوله: * (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) * إشارة إلى المكارم المختصة بالإنسان فإن الملك لا يأمر ملكا آخر بشيء ولا ينهاه عن شيء. وقوله: * (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا) * الذي هو إشارة إلى عدم التكبر والتبختر إشارة إلى المكارم التي هي صفة الملائكة فإن عدم التكبر والتبختر صفتهم. وقوله: * (واقصد في مشيك واغضض من صوتك) * إشارة إلى المكارم التي هي صفة الحيوان ثم قال تعالى: * (إلي أنكر الأصوات لصوت الحمير) * وفيه مسائل:
150

المسألة الأولى: لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي، نقول أما على قولنا إن المشي والصوت كلاهما موصلان إلى شخص مطلوب إن أدركه بالمشي إليه فذاك، وإلا فيوقفه بالنداء، فنقول رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن. وأما السرعة في المشي فلا تؤذي أو إن كانت تؤذي فلا تؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين واليسار، ولأن المشي يؤذي آلة المشي والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب، فإن الكلام ينتقل من السمع إلى القلب ولا كذلك المشي، وأما على قولنا الإشارة بالشيء والصوت إلى الأفعال والأقوال فلأن القول قبيحة أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان ترجمان القلب والاعتبار يصحح الدعوى.
المسألة الثانية: كيف يفهم كونه أنكر مع أن مس المنشار بالمبرد وحت النحاس بالحديد أشد تنفيرا؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن المراد أن أنكر أصوات الحيوانات صوت الحمير فلا يرد ما ذكرتم وما ذكرتم في أكثر الأمر لمصلحة وعمارة فلا ينكر، بخلاف صوت الحمير وهذا وهو الجواب الثاني.
المسألة الثالثة: أنكر هو أفعل التفضيل فمن أي باب هو؟ نقول يحتمل أن يكون من باب أطوع له من بنانه، بمعنى أشدها طاعة فإن أفعل لا يجئ في مفعل ولا في مفعول ولا في باب العيوب إلا ما شذ، كقولهم أطوع من كذا للتفضيل على المطيع، وأشغل من ذات النحيين للتفضيل على المشغول، وأحمق من فلان من باب العيوب، وعلى هذا فهو في باب أفعل كأشغل في باب مفعول فيكون للتفضيل على المنكر، أو نقول هو من باب أشغل مأخوذا من نكر الشيء فهو منكر، وهذا أنكر منه، وعلى هذا فله معنى لطيف، وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو غير ذلك، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح، وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق فصوته منكور، ويمكن أن يقال هو من نكير كأجدر من جدير.
قوله تعالى
* (ألم تروا أن الله سخر لكم ما فى السماوات وما فى الارض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) *.
لما استدل بقوله تعالى: * (خلق السماوات بغير عمد) * على الوحدانية، وبين بحكاية لقمان أن
151

معرفة ذلك غير مختصة بالنبوة بل ذلك موافق للحكمة، وما جاء به النبي عليه السلام من التوحيد والصلاة ومكارم الأخلاق كلها حكمة بالغة، ولو كان تعبدا محضا للزم قبوله، فضلا عن أنه على وفق الحكمة، استدل على الوحدانية بالنعمة لأنا بينا مرارا أن الملك يخدم لعظمته، وإن لم ينعم ويخدم لنعمته أيضا، فلما بين أنه المعبود لعظمته بخلقه السماوات بلا عمد وإلقائه في الأرض الرواسي. وذكر بعض النعم بقوله: * (وأنزلنا من السماء ماء) * (المؤمنون: 18) ذكر بعده عامة النعم فقال: * (سخر لكم ما في السماوات) * أي سخر لأجلكم ما في السماوات، فإن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر الله وفيها فوائد لعباده، وسخر ما في الأرض لأجل عباده، وقوله: * (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة) * وهي ما في الأعضاء من السلامة * (وباطنة) * وهي ما في القوى فإن العضو ظاهر وفيه قوة باطنة، ألا ترى أن العين والأذن شحم وغضروف ظاهر، واللسان والأنف لحم وعظم ظاهر، وفي كل واحد معنى باطن من الأبصار والسمع والذوق والشم، وكذلك كل عضو، وقد تبطل القوة ويبقى العضو قائما، وهذا أحسن مما قيل فإن على هذا الوجه يكون الاستدلال بنعمة الآفاق وبنعمة الأنفس فقوله: * (ما في السماوات وما في الأرض) * يكون إشارة إلى النعم الآفاقية، وقوله: * (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) * يكون إشارة إلى النعم الأنفسية، وفيهما أقوال كثيرة مذكورة في جميع كتب التفاسير، ولا يبعد أن يكون ما ذكرناه مقولا منقولا، وإن لم يكن فلا يخرج من أن يكون سائغا معقولا. ثم قال تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله) * يعني لما ثبت الوحدانية بالخلق والإنعام فمن الناس من يجادل في الله ويثبت غيره، إما إلها أو منعما * (بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) * هذه أمور ثلاثة مرتبة العلم والهدى والكتاب، والعلم أعلى من الهدى والهدى من الكتاب، وبيانه هو أن العلم تدخل فيه الأشياء الواضحة اللائحة التي تعلم من غير هداية هاد، ثم الهدى يدخل فيه الذي يكون في كتاب والذي يكون من إلهام ووحي، فقال تعالى: * (يجادل) * ذلك المجادل لا من علم واضح، ولا من هدى أتاه من هاد، ولا من كتاب وكأن الأول إشارة إلى من أوتي من لدنه علما كما قال تعالى: * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * (النساء: 113) والثاني: إشارة إلى مرتبة من هدى إلى صراط مستقيم بواسطة كما قال تعالى: * (علمه شديد القوى) * (النجم: 5) والثالث: إشارة إلى مرتبة من اهتدى بواسطتين ولهذا قال تعالى: * (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) * (البقرة: 2) وقال في هذه السورة: * (هدى ورحمة للمحسنين) * (لقمان: 3) وقال في السجدة: * (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل) * (الإسراء: 2) فالكتاب هدى لقوم النبي عليه السلام، والنبي هداه من الله تعالى من غير واسطة أو بواسطة الروح الأمين، فقال تعالى: يجادل من يجادل لا بعلم آتيناه من لدنا كشفا،
ولا بهدى أرسلناه إليه وحيا، ولا بكتاب يتلى عليه وعظا. ثم فيه لطيفة أخرى وهو أنه تعالى قال في الكتاب: * (ولا كتاب منير) * لأن المجادل منه من كان يجادل من كتاب ولكنه محرف مثل التوراة بعد التحريف، فلو قال
152

ولا كتاب لكان لقائل أن يقول لا يجادل من غير كتاب، فإن بعض ما يقولون فهو في كتابهم ولأن المجوس والنصارى يقولون بالتثنية والتثليث عن كتابهم، فقال: * (ولا كتاب منير) * فإن ذلك الكتاب مظلم، ولما لم يحتمل في المرتبة الأولى والثانية التحريف والتبديل لم يقل بغير علم ولا هدى منير أو حق أو غير ذلك.
قوله تعالى
* (وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ءابآءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير * ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الامور) *.
قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) * بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القبح فإن النبي عليه السلام يدعوهم إلى كلام الله، وهم يأخذون بكلام آبائهم، وبين كلام الله تعالى وكلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهلاء ثم إن ههنا شيئا آخر وهو أنهم قالوا: * (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) * يعني نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل، والقول أدل من الفعل لأن الفعل يحتمل أن يكون جائزا، ويحتمل أن يكون حراما، وهم تعاطوه، ويحتمل أن يكون واجبا في اعتقادهم والقول بين الدلالة، فلو سمعنا قول قائل افعل ورأينا فعله يدل على خلاف قوله، لكان الواجب الأخذ بالقول، فكيف والقول من الله والفعل من الجهال، ثم قال تعالى: * (أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) * استفهاما على سبيل التعجب في الإنكار يعني الشيطان يدعوهم إلى العذاب والله يدعو إلى الثواب، وهم مع هذا يتبعون الشيطان. ثم قال تعالى: * (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى، وإلى الله عاقبة الأمور) * لما بين حال المشرك والمجادل في الله بين حال المسلم المستسلم لأمر الله فقوله: * (ومن يسلم وجهه إلى الله) * إشارة إلى الإيمان وقوله: * (وهو محسن) * إشارة إلى العمل الصالح فتكون الآية في معنى قوله تعالى: * (من آمن وعمل صالحا) * وقوله: * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * أي تمسك بحبل لا انقطاع له وترقى بسببه إلى أعلى المقامات وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال ههنا: * (ومن يسلم وجهه إلى الله) * وقال في سورة البقرة: * (بلى من أسلم وجهه لله) * فعدى ههنا بإلى وهناك باللام، قال الزمخشري معنى قوله: * (أسلم لله) * أي جعل نفسه لله سالما أي خالصا
153

ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فنبئهم بما عملوا إن الله
عليم بذات الصدور (23) نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ (24)
والوجه بمعنى النفس والذات، ومعنى قوله: * (يسلم وجهه إلى الله) * يسلم نفسه إلى الله كما يسلم واحد متاعا إلى غيره ولم يزد على هذا، ويمكن أن يزاد عليه ويقال من أسلم لله أعلى درجة ممن يسلم إلى الله، لأن إلى للغاية واللام للاختصاص، يقول القائل أسلمت وجهي إليك أي توجهت نحوك وينبئ هذا عن عدم الوصول لأن التوجه إلى الشيء قبل الوصول وقوله أسلمت وجهي لك يفيد الاختصاص ولا ينبئ عن الغاية التي تدل على المسافة وقطعها للوصول، إذا علم هذا فنقول في البقرة قالت اليهود والنصارى: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * (البقرة: 111) فقال الله ردا عليهم: * (تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم) * (البقرة: 111) ثم بين فساد قولهم بقوله تعالى: * (بلى من أسلم وجهه لله) * أي أنتم مع أنكم تتركون الله للدنيا وتولون عنه للباطل وتشترون بآياته ثمنا قليلا تدخلون (النار) ومن كان بكليته لله لا يدخلها، هذا كلام باطل فأورد عليهم من أسلم لله ولا شك أن النقض بالصورة التي هي ألزم أولى فأورد عليهم المخلص الذي ليس له أمر إلا الله وقال: أنتم تدخلون الجنة وهذا لا يدخلها، ثم بين كذبهم وقال: بلى وبين أن له فوق الجنة درجة وهي العندية بقوله: * (فله أجره عند ربه) * وأما ههنا أراد وعد المحسن بالثواب والوصول إلى الدرجة العالية فوعد من هو دونه ليدخل فيه من هو فوقه بالطريق الأولى ويعم الوعد وهذا من الفوائد الجليلة. ثم قال تعالى: * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * أوثق العرى جانب الله لأن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له، ثم قال تعالى: * (وإلى الله عاقبة الأمور) * يعني استمسك بعروة توصله إلى الله وكل شيء عاقبته إليه فإذا حصل في الحال ما إليه عاقبته في عاقبته في غاية الحسن وذلك لأن من يعلم أن عاقبة الأمور إلى واحد ثم يقدم إليه الهدايا قبل الوصول إليه يجد فائدته عند القدوم عليه، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله: * (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) * (البقرة: 110).
ثم قال تعالى (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فنبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات
الصدور ونمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ)
لما بين حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر فقال (ومن كفر فلا يحزنك) أي لا تحزن إذا
كفر كافر فان من يكذب وهو قاطع بأن صدقه يتبين عن قريب لا يحزن، بل قد يؤنب (1) المكذب
على الزيادة في التكذيب إذا لم يكن من الهداة ويكون المكذب من العداة ليخجله غاية التخجيل،
وأما إذا كان لا يرجو ظهور صدقه يتألم من التكذيب، فقال فلا يحزنك كفره، فان المرجع إلى
فأنبئهم بما عملوا فيخجلون وقوله (إن الله عليم بذات الصدور) أي لا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم
* (هامش) *
(1) في الطبعة الأميرية بل قد يوئب وما أثبته الأقرب إلى المعنى والأظهر إن شاء الله. (*)
154

* (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) *.
فينبئهم بما أضمرته صدورهم، وذات الصدور هي الهلك، ثم إن الله تعالى فصل ما ذكرنا وقال
(نمتعهم قليلا) أي بقاؤهم مدة قليلة ثم بين لهم وبال تكذيبهم وكفرهم بقوله (ثم نضطرهم) أي
نسلط عليهم أغلظ عذاب حتى يدخلوا بأنفسهم عذابا غليظا فيضطرون إلى عذاب النار فرارا من
الملائكة الغلاط الشداد الذين يعذبونهم، بمقامع من نار، وفيه وجه آخر لطيف وهو أنهم لما كذبوا
الرسل ثم تبين لهم الامر وقع عليهم من الخجالة ما يدخلون النار ولا يختارون الوقوف بين يدي
ربهم بمحضر الأنبياء، وهو يتحقق بقوله تعالى (فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فنبئهم بما عملوا).
ثم قال تعالى (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم
لا يعلمون)
الآية متعلقة بما قبلها من وجهين أحدهما: أنه تعالى لما استدل بخلق السماوات بغير عمد وبنعمه الظاهرة والباطنة بين أنهم معترفون بذلك غير منكرين له وهذا يقتضي أن يكون الحمد كله لله، لأن خالق السماوات والأرض يحتاج إليه كل ما في السماوات والأرض، وكون الحمد كله لله يقتضي أن لا يعبد غيره، لكنهم لا يعلمون هذا والثاني: أن الله تعالى لما سلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: * (فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم) * أي لا تحزن على تكذيبهم فإن صدقك وكذبهم يتبين عن قريب عند رجوعهم إلينا، قال وليس لا يتبين إلا ذلك اليوم بل هو يتبين قبل يوم القيامة لأنهم معترفون بأن خلق السماوات والأرض من الله، وهذا يصدقك في دعوى الوحدانية ويبين كذبهم في الإشراك * (فقل الحمد لله) * على ظهور صدقك وكذب مكذبيك * (بل أكثرهم لا يعلمون) * أي ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك وعلى هذا يكون لا يعلمون استعمالا للفعل مع القطع عن المفعول بالكلية كما يقول القائل فلأن يعطي ويمنع ولا يكون في ضميره من يعطي بل يريد أن له عطاء ومنعا فكذلك ههنا قال لا يعلمون أي ليس لهم علم وعلى الأول يكون لا يعلمون له مفعول مفهوم وهو أنهم لا يعلمون أن الحمد كله لله، والثاني أبلغ لأن قول القائل: فلان لا علم له بكذا، دون قوله فلان لا علم له، وكذا قوله فلان: لا ينفع زيدا ولا يضره، دون قوله: فلان لا يضر ولا ينفع.
ثم قال تعالى
* (لله ما فى السماوات والارض إن الله هو الغنى الحميد) *.
155

ذكر بما يلزم منه، وهو أنه يكون له ما فيهما والأمر كذلك عقلا وشرعا، أما عقلا فلأن ما في السماوات المخلوقة مخلوق وإضافة خلقه إلى من منه خلق السماوات والأرض لازم عقلا لأنها ممكنة، والممكن لا يقع ولا يوجد إلا بواجب من غير واسطة كما هو مذهب أهل السنة أو بواسطة كما يقوله غيرهم، وكيفما فرض فكله من الله لأن سبب السبب سبب، وأما شرعا فلأن من يملك أرضا وحصل منها شيء ما يكون ذلك لمالك الأرض فكذلك كل ما في السماوات والأرض حاصل فيهما ومنهما فهو لمالك السماوات والأرض وإذا كان الأمر كذلك تحقق أن الحمد كله لله. ثم قوله تعالى: * (إن الله هو الغني الحميد) * فيه معان لطيفة أحدها: أن الكل لله وهو غير محتاج إليه غير منتفع به وفيها منافع فهي لكم خلقها فهو غني لعدم حاجته حميد مشكور لدفعه حوائجكم بها وثانيها: أن بعد ذكر الدلائل على أن الحمد كله لله ولا تصلح العبادة إلا لله افترق المكلفون فريقين مؤمن وكافر، والكافر لم يحمد الله والمؤمن حمده فقال إنه عني عن حمد الحامدين فلا يلحقه نقص بسبب كفر الكافرين، وحميد في نفسه فيتبين به إصابة المؤمنين وتكمل بحمده الحامدون وثالثها: هو أن السماوات وما فيها والأرض وما فيها إذا كانت لله ومخلوقة له فالكل محتاجون فلا غني إلا الله فهو الغني المطلق وكل محتاج فهو حامد، لاحتياجه إلى من يدفع حاجته فلا يكون الحميد المطلق إلا الغني المطلق فهو الحميد، وعلى هذا (يكون) الحميد بمعنى المحمود، والله إذا قيل له الحميد لا يكون معناه إلا الواصف، أي وصف نفسه أو عباده بأوصاف حميدة، والعبد إذا قيل له حامد يحتمل ذلك المعنى، ويحتمل كونه عابدا شاكرا له.
ثم قال تعالى
* (ولو أنما فى الارض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم * ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) *.
لما قال تعالى: * (لله ما في السماوات والأرض) * وكان ذلك موهما لتناهي ملكه لانحصار ما في السماوات وما في الأرض فيهما، وحكم العقل الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها فقال: * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) * ويكتب بها والأبحر مداد لا تفني عجائب صنع الله، وعلى هذا فالكلمة مفسرة بالعجيبة، ووجهها أن العجائب بقوله كن وكن كلمة وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز. يقول الشجاع لمن يبارزه أنا موتك، ويقال للدواء في حق المريض
156

هذا شفاؤك، ودليل صحة هذا هو أن الله تعالى سمى المسيح كلمة لأنه كان أمرا عجيبا وصنعا غريبا لوجوده من غير أب، فإن قال قائل الآية واردة في اليهود حيث قالوا الله ذكر كل شيء في التوراة ولم يبق شيء لم يذكره، فقال الذي في التوراة بالنسبة إلى كلام الله تعالى ليس إلا قطرة من بحار وأنزل هذه الآية، وقيل أيضا إنها نزلت في واحد قال للنبي عليه السلام إنك تقول: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسراء: 85) وتقول: * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * (البقرة:
269) فنزلت الآية دالة على أنه خير كثير بالنسبة إلى العباد، وبالنسبة إلى الله وعلومه قليل، وقيل أيضا إنها نزلت ردا على الكفار حيث قالوا بأن ما يورده محمد سينفد، فقال إنه كلام الله وهو لا ينفد. وما ذكر من أسباب النزول ينافي ما ذكرتم من التفسير، لأنها تدل على أن المراد الكلام، فنقول ما ذكرتم من اختلاف الأقوال فيه يدل على جواز ما ذكرنا، لأنه إذا صلح جوابا لهذه الأشياء التي ذكرتموها وهي متباينة علم أنها عامة وما ذكرنا لا ينافي هذا، لأن كلام الله عجيب معجز لا يقدر أحد على الإتيان بمثله، وإذا قلنا بأن عجائب الله لا نهاية لها دخل فيها كلامه، لا يقال إنك جعلت الكلام مخلوقا، لأنا نقول المخلوق هو الحرف والتركيب وهو عجيب، وأما الكلمات فهي من صفات الله تعالى واعلم أن الآية وإن كانت نازلة على ترتيب غير الذي هو مكتوب، ولكن الترتيب المكتوب عليه القرآن بأمر الله، فإنه بأمر الرسول كتب كذلك، وأمر الرسول من أمر الله وذلك محقق متيقن من سنن الترتيب الذي فيه، ثم إن الآية فيها لطائف الأولى: قال: * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) * وحد الشجرة وجمع الأقلام ولم يقل ولو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام ولا قال ولو أن ما في الأرض من شجرة قلم إشارة إلى التكثير، يعني ولو أن بعدد كل شجرة أقلاما الثانية: قوله والبحر يمده تعريف البحر باللام لاستغراق الجنس وكل بحر مداد، ثم قوله: * (يمده من بعده سبعة أبحر) * إشارة إلى بحار غير موجودة، يعني لو مدت البحار الموجودة بسبعة أبحر أخر وقوله: * (سبعة) * ليس لانحصارها في سبعة، وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر، والسبعة خصصت بالذكر من بين الأعداد، لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة، والذي يدل عليه وجوه الأول: هو أن ما هو معلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان، لأن المكان فيه الأجسام والزمان فيه الأفعال، لكن المكان منحصر في سبعة أقاليم والزمان في سبعة أيام، ولأن الكواكب السيارة سبعة، وكان المنجمون ينسبون إليها أمورا، فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير الثاني: هو أن الآحاد إلى العشرة وهي العقد الأول وما بعده يبتدئ من الآحاد مرة أخرى فيقال أحد عشر واثنا عشر، ثم المئات من العشرات والألوف من المئات، إذا علم هذا فنقول أقل ما يلتئم منه أكثر المعدودات هو الثلاثة، لأنه يحتاج إلى طرفين مبدأ ومنتهى ووسط، ولهذا يقال أقل ما يكون الاسم والفعل منه هو ثلاثة أحرف، فإذا كانت الثلاثة هو القسم الأول من العشرة التي هو العدد الأصلي تبقى
157

السبعة القسم الأكثر، فإذا أريد بيان الكثرة ذكرت السبعة، ولهذا فإن المعدودات في العبادات من التسبيحات في الانتقالات في الصلوات ثلاثة، والمرار في الوضوء ثلاثة تيسيرا للأمر على المكلف اكتفاء بالقسم الأول، إذا ثبت هذا فنقول قوله عليه السلام: " المؤمن يأكل في معي والكافر يأكل في سبعة أمعاء " إشارة إلى قلة الأكل وكثرته من غير إرادة السبعة بخصوصها، ويحتمل أن يقال إن لجهنم سبعة أبواب بهذا التفسير، ثم على هذا فقولنا للجنة ثمانية أبواب إشارة إلى زيادتها فإن فيها الحسنى وزيادة فلها أبواب كثيرة وزائدة على كثرة غيرها، والذي يدل على ما ذكرنا في السبعة أن العرب عند الثامن يزيدون واوا، يقول الفراء إنها واو الثمانية وليس ذلك إلا للاستئناف لأن العدد بالسبعة يتم في العرف، ثم بالثامن استئناف جديد اللطيفة الثالثة: لم يقل في الأقلام المدد لوجهين أحدهما: هو أن قوله: * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) * بينا أن المراد منه هو أن يكون بعدد كل شجرة موجودة أقلام فتكون الأقلام أكثر من الأشجار الموجودة وقوله في البحر: * (والبحر يمده سبعة أبحر) * إشارة إلى أن البحر لو كان أكثر من الموجود لاستوى القلم والبحر في المعنى والثاني: هو أن النقصان بالكتابة يلحق المداد أكثر فإنه هو النافذ والقلم الواحد يمكن أن يكتب به كتب كثيرة فذكر المدد في البحر الذي هو كالمداد.
ثم قال تعالى: * (إن الله عزيز حكيم) * لما ذكر أن ملكوته كثيرا أشار إلى ما يحقق ذلك فقال: * (إنه عزيز حكيم) * أي كامل القدرة فيكون له مقدورات لا نهاية لها وإلا لانتهت القدرة إلى حيث لا تصلح للإيجاد وهو حكيم كامل العلم ففي علمه ما لا نهاية له فتحقق أن البحر لو كان مدادا لما نفد ما في علمه وقدرته.
ثم قال تعالى: * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) * لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم للمعشر وقال: * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) * ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتى كونوا فيكونوا.
ثم قال تعالى: * (إن الله سميع بصير) * سميع لما يقولون بصير بما يعملون فإذا كونه قادرا على البعث ومحيطا بالأقوال والأفعال يوجب ذلك الاجتناب التام والاحتراز الكامل.
ثم قال تعالى
* (ألم تر أن الله يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير) *.
158

يحتمل أن يقال: إن وجه الترتيب هو أن الله تعالى لما قال: * (ألم تر أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) * على وجه العموم ذكر منها بعض ما هو فيهما على وجه الخصوص بقوله: * (يولج الليل في النهار) * وقوله: * (وسخر الشمس والقمر) * إشارة إلى ما في السماوات، وقوله بعد هذا: * (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله) * إشارة إلى ما في الأرض. ويحتمل أن يقال إن وجهه هو أن الله تعالى لما ذكر البعث وكان من الناس من يقول: * (وما يهلكنا إلا الدهر) * (الجاثية: 24) والدهر هو الليالي والأيام، قال الله تعالى هذه الليالي والأيام التي تنسبون إليها الموت والحياة هي بقدرة الله تعالى فقال: * (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) * ثم إن قائلا لو قال إن ذلك اختلاف مسير الشمس تارة تكون القوس التي هي فوق الأرض أكثر من التي تحت الأرض فيكون الليل أقصر والنهار أطول وتارة تكون بالعكس وتارة يتساويان فيتساويان فقال تعالى: * (وسخر الشمس والقمر) * يعني إن كنتم لا تعترفون بأن هذه الأشياء كلها في أوائلها من الله فلا بد من الاعتراف بأنها بأسرها عائدة إلى الله تعالى، فالآجال إن كانت بالمدد والمدد بسير الكواكب فسير الكواكب ليس إلا بالله وقدرته، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: إيلاج الليل في النهار يحتمل وجهين أحدهما: أن يقال المراد إيلاج الليل في زمان النهار أي يجعل في الزمان الذي كان فيه النهار الليل، وذلك لأن الليل إذا كان مثلا اثنتي عشرة ساعة ثم يطول يصير الليل موجودا في زمان كان فيه النهار وثانيهما: أن يقال المراد إيلاج زمان الليل في النهار أي يجعل زمان الليل في النهار وذلك لأن الليل إذا كان كما ذكرنا اثنتي عشرة ساعة إذا قصر صار زمان الليل موجودا في النهار ولا يمكن غير هذا لأن إيلاج الليل في النهار محال الوجود فما ذكرنا من الإضمار لا بد منه لكن الأول أولى لأن الليل والنهار أفعال والأفعال في الأزمنة لأن الزمان ظرف فقولنا الليل في زمان النهار أقرب من قولنا زمان الليل في النهار لأن الثاني يجعل الظرف مظروفا. إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى: * (يولج الليل في النهار) * أي يوجده في وقت كان فيه النهار والله تعالى قدم إيجاد الليل على إيجاد النهار في كثير من المواضع كما في قوله تعالى: * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) * (الإسراء: 12) وقوله: * (وجعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1) وقوله: * (واختلاف الليل والنهار) * (الجاثية: 5) ومن جنسه قوله: * (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * (الجاثية: 5) وهذا إشارة إلى مسألة حكمية، وهي أن الظلمة قد يظن بها أنها عدم النور والليل عدم النور والليل عدم النهار والحياة عدم الموت وليس كذلك إذ في الأزل لم يكن نهار ولا نور ولا حياة لممكن ولا يمكن أن يقال كان فيه موت أو ظلمة أو ليل فهذه الأمور كالأعمى والأصم فالعمي والصمم ليس مجرد عدم البصر وعدم السمع إذ الحجر والشجر لا بصر لهما ولا سمع ولا يقال لشيء منهما إنه أصم أو أعمى إذا علم هذا فنقول ما يتحقق فيه العمى والصمم لا بد من أن يكون فيه اقتضاء لخلافهما وإلا لما كان يقال له أعمى وأصم وما يكون فيه اقتضاء شيء، ويترتب عليه مقتضاه
159

لا تطلب النفس له سببا، لأن من يرى المتعيش في السوق، لا يقول لم دخل السوق وما يثبت على خلاف المقتضى تطلب النفس له سببا، كمن يرى ملكا في السوق يقول لم دخل، فإذن سبب العمى والصمم يطلبه كل واحد فيقول لم صار فلان أعمى ولا يقول لم صار فلان بصيرا، وإذا كان كذلك قدم الله تعالى ما تطلب النفس سببه وهو الليل الذي هو على وزان العمى والظلمة والموت لكون كل واحد طالبا سببه ثم ذكر بعده الأمر الآخر.
المسألة الثانية: قال: * (يولج) * بصيغة المستقبل وقال في الشمس والقمر سخر بصيغة الماضي لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل فصل بل كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى: * (حتى عاد كالعرجون القديم) * (يس: 39).
المسألة الثالثة: قدم الشمس على القمر مع تقدم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لما بينا أن تقديم الليل كان لأن الأنفس تطلب سببه أكثر مما تطلب سبب النهار، وههنا كذلك، لأن الشمس لما كانت أكبر وأعظم كانت أعجب، والنفس تطلب سبب الأمر العجيب أكثر مما تطلب سبب الأمر الذي لا يكون عجيبا. المسألة الرابعة: ما تعلق قوله تعالى: * (وأن الله بما تعملون خبير) * بما تقدم؟ نقول لما كان الليل والنهار محل الأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى على الله.
المسألة الخامسة: قوله تعالى: * (ألم تر) * يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه الأكثرون، وكأنه ترك الخطاب مع غيره، لأن من هو غيره من الكفار لا فائدة للخطاب معهم لإصرارهم، ومن هو غيره من المؤمنين فهم مؤتمرون بأمر النبي عليه الصلاة والسلام ناظرون إليه الوجه الثاني: أن يقال المراد منه الوعظ والواعظ يخاطب ولا يعين أحدا فيقول لجمع عظيم: يا مسكين إلى الله مصيرك، فمن نصيرك، ولماذا تقصيرك. فقوله: * (ألم تر) * يكون خطابا من ذلك القبيل أي يا أيها الغافل ألم تر هذا الأمر الواضح.
* (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلى الكبير) *.
ولما ذكر تعالى أوصاف الكمال بقوله: * (إن الله هو الغني الحميد) * (لقمان: 26) وقوله: * (إن الله عزيز حكيم) * (البقرة: 220) وقوله: * (إن الله سميع بصير) * (المجادلة: 1) وأشار إلى الإرادة والكمال بقوله: * (ما نفدت كلمات الله) * (لقمان: 27) وبقوله: * (يولج الليل في النهار) * وعلى الجملة فقوله: * (هو الغني) * إشارة إلى كل صفة سلبية فإنه إذا كان غنيا لا يكون عرضا محتاجا إلى الجوهر في القوام، ولا جسما محتاجا إلى الحيز في الدوام، ولا شيئا من
160

الممكنات المحتاجة إلى الموجد، وذكر بعده جميع الأوصاف الثبوتية صريحا وتضمنا، فإن الحياة في ضمن العلم والقدرة قال ذلك بأن الله هو الحق أي ذلك الاتصاف بأنه هو الحق والحق هو الثبوت والثابت الله وهو الثابت المطلق الذي لا زوال له وهو الثبوت، فإن المذهب الصحيح أن وجوده غير حقيقته فكل ما عداه فله زوال نظرا إليه والله له الثبوت والوجود نظرا إليه فهو الحق وما عداه الباطل لأن الباطل هو الزائل يقال بطل ظله إذا زال وإذا كان له الثبوت من كل وجه يكون تاما لا نقص فيه.
ثم اعلم أن الحكماء قالوا الله تام وفوق التمام وجعلوا الأشياء على أربعة أقسام ناقص ومكتف وتام وفوق التمام (فالناقص) ما ليس له ما ينبغي أن يكون له كالصبي والمريض والأعمى (والمكتفي) وهو الذي أعطى ما يدفع به حاجته في وقته كالإنسان والحيوان الذي له من الآلات ما يدفع به حاجته في وقتها لكنها في التحلل والزوال (والتام) ما حصل له كل ما جاز له، وإن لم يحتج إليه كالملائكة المقربين لهم درجات لا تزداد ولا ينقص الله منها لهم شيئا كما قال جبريل عليه السلام " لو دنوت أنملة لاحترقت " لقوله تعالى: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) (وفوق التمام) هو الذي حصل له ما جاز له وحصل لما عداه ما جاز له أو احتاج إليه لكن الله تعالى حاصل له كل ما يجوز له من صفات الكمال ونعوت الجلال، فهو تام وحصل لغيره كل ما جاز له أو احتاج إليه فهو فوق التمام إذا ثبت هذا فنقول قوله: * (هو الحق) * إشارة إلى التمام وقوله: * (وأن الله هو العلي الكبير) * أي فوق التمام وقوله: * (وهو العلي) * أي في صفاته وقوله: * (الكبير) * أي في ذاته وذلك ينافي أن يكون جسما في مكان لأنه يكون حينئذ جسدا مقدرا بمقدار فيمكن فرض ما هو أكبر منه فيكون صغيرا بالنسبة إلى المفروض لكنه كبير
من مطلقا أكبر من كل ما يتصور.
* (ألم تر أن الفلك تجرى فى البحر بنعمت الله ليريكم من ءاياته إن فى ذلك لايات لكل صبار شكور) *.
ثم قال تعالى: * (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته) * لما ذكر آية سماوية بقوله: * (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر) * (لقمان: 29) وأشار إلى السبب والمسبب ذكر آية أرضية، وأشار إلى السبب والمسبب فقوله: * (الفلك تجري) * إشارة إلى المسبب وقوله: * (بنعمت الله) * إشارة إلى السبب أي إلى الريح التي هي بأمر الله * (ليريكم من آياته) * يعنى يريكم بإجرائها بنعمته * (من آياته) * أي بعض آياته، ثم قال تعالى: * (إن في ذلك لآيات لكل
161

صبار شكور) * صبار في الشدة شكور في الرخاء، وذلك لأن المؤمن متذكر عند الشدة والبلاء عند النعم والآلاء فيصبر إذا أصابته نقمة ويشكر إذا أتته نعمة وورد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم " الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر " إشارة إلى أن التكاليف أفعال وتروك والتروك صبر عن المألوف كما قال عليه الصلاة والسلام " الصوم صبر والأفعال شكر على المعروف ".
ثم قال تعالى
* (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد باياتنآ إلا كل ختار كفور) *.
لما ذكر الله أن في ذلك لآيات ذكر أن الكل معترفون به غير أن البصير يدركه أولا ومن في بصره ضعف لا يدركه أولا، فإذا غشيه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل من الله ودعاه مخلصا أي يترك كل من عداه وينسى جميع من سواه، فإذا نجاه من تلك الشدة قد بقي على تلك الحالة وهو المراد بقوله: * (فمنهم مقتصد) * وقد يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله: * (وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (موج كالظلل) * وحد الموج وجمع الظلل، وقيل في معناه كالجبال، وقيل كالسحاب إشارة إلى عظم الموج، ويمكن أن يقال الموج الواحد العظيم يرى فيه طلوع ونزول وإذا نظرت في الجرية الواحدة من النهر العظيم تبين لك ذلك فيكون ذلك كالجبال المتلاصقة.
المسألة الثانية: قال في العنكبوت * (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله) * (العنكبوت: 65) ثم قال: * (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) * (العنكبوت: 65) وقال ههنا * (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) * فنقول لما ذكر ههنا أمرا عظيما وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار، أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عنده أثر.
المسألة الثالثة: قوله: * (وما يجحد بآياتنا) * في مقابلة قوله تعالى: * (إن في ذلك لآيات) * يعني يعترف بها الصبار الشكور، ويجحدها الختار الكفور والصبار في موازنة الختار لفظا، ومعنى والكفور في موازنة الشكور، أما لفظا فظاهر، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر أو الشديد الغدر، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر، لأن الصبور إن لم يكن يعهد مع أحد لا يعهد منه الأضرار، فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله وأما الغدار فيعهد ولا يصبر على
162

العهد فينقضه، وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى فظاهر.
ثم قال تعالى
* (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيوة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) *.
لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى لأنه تعالى لما كان واحدا أوجب التقوى البالغة فإن من يعلم أن الأمر بيد اثنين لا يخاف أحدهما مثل ما يخاف لو كان الأمر بيد أحدهما لا غير، ثم أكد الخوف بذكر اليوم الذي يحكم الله فيه بين العباد، وذلك لأن الملك إذا كان واحدا ويعهد منه أنه لا يعلم شيئا ولا يستعرض عباده، لا يخاف منه مثل ما يخاف إذا علم أن له يوم استعراض واستكشاف، ثم أكده بقوله: * (لا يجزي والد عن ولده) * وذلك لأن المجرم إذا علم أن له عند الملك من يتكلم في حقه ويقضي ما يخرج عليه برفد من كسبه لا يخاف مثل ما يخاف إذا علم أنه ليس له من يقضي عنه ما يخرج عليه، ثم ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليستدل بالأدنى على الأعلى، وذكر الولد والوالد جميعا فيه لطيفة، وهي أن من الأمور ما يبادر الأب إلى التحمل عن الولد كدفع المال وتحمل الآلام والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد مثل ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد، ومنها ما يبادر الولد إلى تحمله عن الوالد ولا يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد كالإهانة، فإن من يريد إحضار والد أحد عند وال أو قاض يهون على الابن أن يدفع الإهانة عن والده ويحضر هو بدله، فإذا انتهى الأمر إلى الإيلام يهون على الأب أن يدفع الإيلام عن ابنه ويتحمله هو بنفسه فقوله: * (لا يجزي والد عن ولده) * في دفع الآلام * (ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) * في دفع الاهانة، وفي قوله: * (لا يجزي) * وقوله: * (ولا مولود هو جاز) * (لطيفة أخرى) وهي أنا ذكرنا أن الفعل يتأتى وإن كان ممن لا ينبغي ولا يكون من شأنه لأن الملك إذا كان يخيط شيئا يقال إنه يخيط ولا يقال هو خياط، وكذلك من يحيك شيئا ولا يكون ذلك صنعته يقال هو يحيك ولا يقال هو حائك، إذا علمت هذا فنقول الابن من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما له عليه من الحقوق والوالد يجزي لما فيه من الشفقة وليس بواجب عليه ذلك فقال في الوالد لا يجزي وقال في الولد * (ولا مولود هو جاز) *.
ثم قال تعالى: * (إن وعد الله حق) * وهو يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون تحقيقا لليوم يعني
163

أخشوا يوما هذا شأنه وهو كائن لوعد الله به ووعده حق والثاني: أن يكون تحقيقا لعدم الجزاء يعني: * (لا يجزي والد عن ولده) * لأن الله وعد ب * (ألا تزر وازرة وزر أخرى) * (النجم: 38) ووعد الله حق، فلا يجزي والأول أحسن وأظهر.
ثم قال تعالى: * (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) * يعني إذا كان الأمر كذلك فلا تغتروا بالدنيا فإنها زائلة لوقوع (ذلك) اليوم المذكور بالوعد الحق.
ثم قال تعالى: * (ولا يغرنكم بالله الغرور) * يعني الدنيا لا ينبغي أن تغركم بنفسها ولا ينبغي أن تغتروا (بها) وإن حملكم على محبتها غار من نفس أمارة أو شيطان فكان الناس على أقسام منهم من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويؤمله ويقول إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة، فنهاهم عن الأمرين وقال كونوا قسما ثالثا، وهم الذين لا يلتفتون إلى الدنيا ولا إلى من يحسن الدنيا في الأعين.
* (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما فى الارحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير) *.
يقول بعض المفسرين إن الله تعالى نفى علم أمور خمسة بهذه الآية عن غيره وهو كذلك لكن المقصود ليس ذلك، لأن الله يعلم الجوهر الفرد الذي كان في كثيب رمل في زمان الطوفان ونقله الريح من المشرق إلى المغرب كم مرة، ويعلم أنه أين هو ولا يعلمه غيره، ولأن يعلم أنه يوجد بعد هذه السنين ذرة في برية لا يسلكها أحد ولا يعلمه غيره، فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنما الحق فيه أن نقول لما قال الله: * (أخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده) * وذكر أنه كائن بقوله: * (إن وعد الله حق) * كأن قائلا قال فمتى يكون هذا اليوم فأجيب بأن هذا العلم ما لم يحصل لغير الله ولكن هو كائن، ثم ذكر الدليلين الذين ذكرناهما مرارا على البعث أحدهما: إحياء الأرض بعد موتها كما قال تعالى: * (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قلبه لمبلسين * فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى) * (الروم: 49، 50) وقال تعالى: * (ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون) * (الروم: 19) وقال ههنا يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله قادر عليها كما هو قادر على إحياء الأرض حيث قال * (وهو الذي ينزل الغيث) * (الشورى: 28) وقال: * (ويحيي الأرض) * (الروم: 19)
164

وثانيهما: الخلق ابتداء كما قال: * (وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده) * (الروم: 27) وقال تعالى: * (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة) * (العنكبوت: 20) إلى غير ذلك فقال ههنا * (ويعلم ما في الأرحام) * إشارة إلى أن الساعة وإن كنت لا تعلمها لكنها كائنة والله قادر عليها، وكما هو قادر على الخلق في الأرحام كذلك يقدر على الخلق من الرخام، ثم قال لذلك الطالب علمه: يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها، فلك أشياء أهم منها لا تعلمها، فإنك لا تعلم معاشك ومعادك، ولا تعلم ماذا تكسب غدا مع أنه فعلك وزمانك، ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك، فكيف تعلم قيام الساعة متى تكون، فالله ما أعلمك كسب غدك مع أن لك فيه فوائد تبنى عليها الأمور من يومك، ولا أعلمك أين تموت مع أن لك فيه أغراضا تهيئ أمورك بسبب ذلك العلم وإنما لم يعلمك لكي تكون في وقت بسبب الرزق راجعا إلى الله تعالى متوكلا على الله ولا أعلمك الأرض التي تموت فيها كي لا تأمن الموت وأنت في غيرها، فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه، وهي الساعة، وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمت الله على لسان أنبيائه.
ثم قال تعالى: * (إن الله عليم خبير) * لما خصص أولا علمه بالأشياء المذكورة، بقوله: * (إن الله عنده علم الساعة) * ذكر أن علمه غير مختص بها، بل هو عليم مطلقا بكل شيء، وليس علمه علما بظاهر الأشياء فحسب، بل خبير علمه واصل إلى بواطن الأشياء، والله أعلم بالصواب.
165

سورة السجدة
وتسمى سورة المضاجع مكية عند أكثرهم وهي تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ألم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) *.
لما ذكر الله تعالى في السورة المتقدمة دليل الوحدانية وذكر الأصل وهو الحشر وختم السورة بهما بدأ ببيان الرسالة في هذه السورة فقال: * (ألم، تنزيل الكتاب لا ريب فيه) * وقد علم ما في قوله: * (ألم) * وفي قوله: * (لا ريب فيه) * من سورة البقرة وغيرها غير أن ههنا قال: * (من رب العالمين) * وقال من قبل * (هدى ورحمة للمحسنين) * (لقمان: 3) وقال في البقرة: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) وذلك لأن من يرى كتابا عند غيره، فأول ما تصير النفس طالبة تطلب ما في الكتاب فيقول ما هذا الكتاب؟ فإذا قيل هذا فقه أو تفسير فيقول بعد ذلك تصنيف من هو؟ ولا يقال أولا: هذا الكتاب تصنيف من؟ ثم يقول فيماذا هو؟ إذا علم هذا فقال أولا هذا الكتاب هدى ورحمة، ثم قال ههنا هو كتاب الله تعالى وذكره بلفظ رب العالمين لأن كتاب يكون من رب العالمين يكون فيه عجائب العالمين فتدعو النفس إلى طاعته.
قوله تعالى
* (أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) *.
يعني أتعترفون به أم تقولون هو مفترى، ثم أجاب وبين أن الحق أنه حق من ربه ثم بين فائدة التنزيل وهو الإنذار، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: كيف قال * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير) * مع أن النذر سبقوه الجواب: من وجهين أحدهما: معقول والآخر منقول، أما المنقول فهو أن قريشا كانت أمة أمية لم يأتيهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم وهو بعيد، فإنهم كانوا من أولاد إبراهيم وجميع
166

أنبياء بني إسرائيل من أولاد أعمامهم وكيف كان الله يترك قوما من وقت آدم إلى زمان محمد بلا دين ولا شرع؟ وإن كنت تقول بأنهم ما جاءهم رسول بخصوصهم يعني ذلك القرن فلم يكن ذلك مختصا بالعرب بل أهل الكتاب أيضا لم يكن ذلك القرن قد أتاهم رسول وإنما أتى الرسل آباءهم، وكذلك العرب أتى الرسل آباءهم كيف والذي عليه الأكثرون أن آباء محمد عليه الصلاة والسلام كانوا كفارا ولأن النبي أوعدهم وأوعد آباءهم بالعذاب، وقال تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسراء: 15) وأما المعقول وهو أن الله تعالى أجرى عادته على أن أهل عصر إذا ضلوا بالكلية ولم يبق فيهم من يهديهم يلطف بعباده ويرسل رسولا، ثم إنه إذا أراد طهرهم بإزالة الشرك والكفر من قلوبهم وإن أراد طهر وجه الأرض باهلاكهم، ثم أهل العصر ضلوا بعد الرسل حتى لم يبق على وجه الأرض عالم هاد ينتفع بهدايته قوم وبقوا على ذلك سنين متطاولة فلم يأتهم رسول قبل محمد عليه الصلاة والسلام فقال: * (لتنذر قوما ما أتاهم) * أي بعد الضلال الذي كان بعد الهداية لم يأتهم نذير.
المسألة الثانية: لو قال قائل التخصيص بالذكر يدل على نفي ما عداه فقوله: * (لتنذر قوما ما أتاهم) * يوجب أن يكون إنذاره مختصا بمن لم يأته نذير لكن أهل الكتاب قد أتاهم نذير فلا يكون الكتاب منزلا إلى الرسول لينذر أهل الكتاب فلا يكون رسولا إليهم نقول هذا فاسد من وجوه أحدها: أن التخصيص لا يوجب نفي ما عداه والثاني: أنه وإن قال به قائل لكنه وافق غيره في أن التخصيص إن كان له سبب غير نفي ما عداه لا يوجب نفي ما عداه، وههنا وجد ذلك لأن إنذارهم كان أولى، ألا ترى أنه تعالى قال: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (العراء: 214) ولم يفهم منه أنه لا ينذر غيرهم أو لم يأمر بإنذار غيرهم وإنذار المشركين كان أولى، لأن إنذارهم كان بالتوحيد والحشر وأهل الكتاب لم ينذروا إلا بسبب إنكارهم الرسالة فكانوا أولى بالذكر فوقع التخصيص لأجل ذلك الثالث: هو أن على ما ذكرنا لا يرد ما ذكره أصلا، لأن أهل الكتاب كانوا قد ضلوا ولم يأتهم نذير من قبل محمد بعد ضلالهم فلزم أن يكون مرسلا إلى الكل على درجة سواء، وبهذا يتبين حسن ما اخترناه، وقوله: * (لعلهم يهتدون) * يعني تنذرهم راجيا أنت اهتداءهم.
ثم قال تعالى
* (الله الذى خلق السماوات والارض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) *.
لما ذكر الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل، فقال: * (الله الذي
167

خلق السماوات والأرض) * الله مبتدأ وخبره الذي خلق، يعني الله هو الذي خلق السماوات والأرض ولم يخلقهما إلا واحد فلا إله إلا واحد، وقد ذكرنا أن قوله تعالى: * (في ستة أيام) * إشارة إلى ستة أحوال في نظر الناظرين وذلك لأن السماوات والأرض وما بينهما ثلاثة أشياء ولكل واحد منها ذات وصفة فنظرا إلى خلقه ذات السماوات حالة ونظرا إلى خلقه صفاتها أخرى ونظرا إلى ذات الأرض وإلى صفاتها كذلك ونظرا إلى ذوات ما بينهما وإلى صفاتها كذلك فهي ستة أشياء على ستة أحوال وإنما ذكر الأيام لأن الإنسان إذا نظر إلى الخلق رآه فعلا والفعل ظرفه الزمان والأيام أشهر الأزمنة، وإلا فقبل السماوات لم يكن ليل ولا نهار وهذا مثل ما يقول القائل لغيره: إن يوما ولدت فيه * كان يوما مباركا
وقد يجوز أن يكون ذلك قد ولد ليلا ولا يخرج عن مراده، لأن المراد هو الزمان الذي هو ظرف ولادته. ثم قال تعالى: * (ثم استوى على العرش) * اعلم أن مذهب العلماء في هذه الآية وأمثالها على وجهين أحدهما: ترك التعرض إلى بيان المراد وثانيهما: التعرض إليه والأول أسلم والى الحكمة أقرب، أما أنه أسلم فذلك لأن من قال أنا لا أتعرض إلى بيان هذا ولا أعرف المراد من هذا، لا يكون حاله إلا حال من يتكلم عند عدم وجوب الكلام أو لا يعلم شيئا لم يجب عليه أن يعلمه، وذلك لأن الأصول ثلاثة التوحيد والقول بالحشر والاعتراف بالرسل لكن الحشر أجمعنا واتفقنا أن العلم به واجب والعلم بتفصيله أنه متى يكون غير وأحب، ولهذا قال تعالى في آخر السورة المتقدمة * (إن الله عنده علم الساعة) * (لقمان: 34) فكذلك الله يجب معرفة وجوده ووحدانيته واتصافه بصفات الجلال ونعوت الكمال على سبيل الإجمال وتعاليه عن وصمات الإمكان وصفات النقصان، ولا يجب أن يعلم جميع صفاته كما هي، وصفة الاستواء مما لا يجب العلم بها فمن ترك التعرض إليه لم يترك واجبا، وأما من يتعرض إليه فقد يخطئ فيه فيعتقد خلاف ما هو عليه فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم، والثاني يكاد أن يقع في أن يكون جاهلا مركبا وعدم العلم الجهل المركب كالسكوت والكذب ولا يشك أحد في أن السكوت خير من الكذب، وأما إنه أقرب إلى الحكمة فذلك لأن من يطالع كتابا صنفه إنسان وكتب له شرحا والشارح دون المصنف فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف، ولهذا كثيرا ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلامه ويقول لم يرد المصنف هذا وإنما أراد كذا وكذا وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب عن علم قاصر كذلك، فما ظنك بالكتاب العزيز الذي فيه كل حكمة يجوز أن يدعي جاهل أني علمت كل سر في هذا الكتاب، وكيف ولو ادعى عالم اني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليه الكتاب الفلاني يستقبح منه ذلك، فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله؟ ثم ليس لقائل أن يقول بأن الله تعالى بين كل ما أنزله لأن تأخير البيان إلى
168

وقت الحاجة جائز ولعل القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غير نبيه فبين له لا لغيره، إذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم، وهذا أقرب إلى ذلك الذي لا يعلم، للتشابه البالغ الذي فيه، لكن هذا المذهب له شرط وهو أن ينفي بعض ما يعلمه قطعا أنه ليس بمراد، وهذا لأن قائلا إذا قال إن هذه الأيام أيام قرء فلانة يعلم أنه لا يريد أن هذه الأيام أيام موت فلانة ولا يريد أن هذه الأيام أيام سفر فلانة، وإنما المراد منحصر في الطهر أو الحيض فكذلك ههنا يعلم أن المراد ليس ما يوجب نقصا في ذاته لاستحالة ذلك، والجلوس والاستقرار المكاني من ذلك الباب فيجب القطع بنفي ذلك والتوقف فيما يجوز بعده والمذهب الثاني: خطر ومن يذهب إليه فريقان أحدهما: من يقول المراد ظاهره وهو القيام والانتصاب أو الاستقرار المكاني وثانيهما: من يقول المراد الاستيلاء والأول جهل محض والثاني يجوز أن يكون جهلا والأول مع كونه جهلا هو بدعة وكاد يكون كفرا، والثاني وإن كان جهلا فليس بجهل يورث بدعة، وهذا كما أن واحدا إذا اعتقد أن الله يرحم الكفار ولا يعاقب أحدا منهم يكون جهلا وبدعة
وكفرا، وإذا اعتقد أنه يرحم زيدا الذي هو مستور الحال لا يكون بدعة، غاية ما يكون أنه اعتقاد غير مطابق، ومما قيل فيه: إن المراد منه استوى على ملكه، والعرش يعبر به عن الملك، يقال الملك قعد على سرير المملكة بالبلدة الفلانية وإن لم يدخلها وهذا مثل قوله تعالى: * (وقالت اليهود يد الله مغلولة) * (المائدة: 64) إشارة إلى البخل، مع أنهم لم يقولوا بأن على يد الله غلا على طريق الحقيقة، ولو كان مراد الله ذلك لكان كذبا جل كلام الله عنه، ثم لهذا فضل تقرير وهو أن الملوك على درجات، فمن يملك مدينة صغيرة أو بلادا يسيرة ما جرت العادة بأن يجلس أول ما يجلس على سرير، ومن يكون سلطانا يملك البلاد الشاسعة والديار الواسعة وتكون الملوك في خدمته يكون له سرير يجلس عليه، وقدامه كرسي يجلس عليه وزيره، فالعرش والكرسي في العادة لا يكون إلا عند عظمة المملكة، فلما كان ملك السماوات والأرض في غاية العظمة، عبر بما ينبئ في العرف عن العظمة، ومما ينبهك لهذا قوله تعالى: * (إنا خلقنا) * (الإنسان: 2) * (إنا زينا) * (الصافات: 6) * (نحن أقرب) * (ق: 16) * (نحن نزلنا) * (الحجر: 9) أيظن أو يشك مسلم في أن المراد ظاهره من الشريك وهل يجد له محملا، غير أن العظيم في العرف لا يكون واحدا وإنما يكون معه غيره، فكذلك الملك العظيم في العرف لا يكون إلا ذا سرير يستوي عليه فاستعمل ذلك مريدا للعظمة، ومما يؤيد هذا أن المقهور المغلوب المهزوم يقال له ضاقت به الأرض حتى لم يبق له مكان، أيظن أنهم يريدون به أنه صار لا مكان له وكيف يتصور الجسم بلا مكان، ولا سيما من يقول بأن إلهه في مكان كيف يخرج الإنسان عن المكان؟ فكما يقال للمقهور الهارب لم يبق له مكان مع أن المكان واجب له، يقال للقادر القاهر هو متمكن وله عرش، وإن كان التنزه عن المكان واجبا له، وعلى هذا كلمة ثم معناها خلق السماوات والأرض، ثم القصة أنه استوى على الملك، وهذا كما يقول القائل: فلان أكرمني وأنعم علي مرارا، ويحكي عنه أشياء، ثم يقول إنه ما كان يعرفني ولا كنت فعلت معه ما يجازيني
169

بهذا، فنقول ثم للحكاية لا للمحكي الوجه الآخر: قيل استوى جاء بمعنى استولى على العرش، واستوى جاء بمعنى استولى نقلا واستعمالا. أما النقل فكثير مذكور في " كتاب اللغة " منها ديوان الأدب وغيره مما يعتبر النقل عنه. وأما الاستعمال فقول القائل:
قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق
وعلى هذا فكلمة ثم، معناها ما ذكرنا كأنه قال خلق السماوات والأرض، ثم ههنا ما هو أعظم منه استوى على العرش، فإنه أعظم من الكرسي والكرسي وسع السماوات والأرض والوجه الثالث: قيل إن المراد الاستقرار وهذا القول ظاهر ولا يفيد أنه في مكان، وذلك لأن الإنسان يقول استقر رأي فلان على الخروج ولا يشك أحد أنه لا يريد أن الرأي في مكان وهو الخروج، لما أن الرأي لا يجوز فيه أن يقال إنه متمكن أو هو مما يدخل في مكان إذا علم هذا فنقول فهم التمكن عند استعمال كلمة الاستقرار مشروط بجواز التمكن، حتى إذا قال قائل استقر زيد على الفلك أو على التخت يفهم منه التمكن وكونه في مكان، وإذا قال قائل استقر الملك على فلان لا يفهم أن الملك في فلان، فقول القائل الله استقر على العرش لا ينبغي أن يفهم كونه في مكان ما لم يعلم أنه مما يجوز عليه أن يكون في مكان أو لا يجوز، فإذن فهم كونه في مكان من هذه اللفظة مشروط بجواز أن يكون في مكان، فجواز كونه في مكان إن استفيد من هذه اللفظة يلزم تقدم الشيء على نفسه وهو محال، ثم الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون على العرش بمعنى كون العرش مكانا له وجوه من القرآن أحدها: قوله تعالى: * (وإن الله لهو الغني) * (الحج: 64) وهذا يقتضي أن يكون غنيا على الإطلاق، وكل ما هو في مكان فهو في بقائه محتاج إلى مكان، لأن بديهة العقل حاكمة بأن الحيز إن لم يكن لا يكون المتحيز باقيا، فالمتحيز ينتفي عند انتفاء الحيز، وكل ما ينتفي عند انتفاء غيره فهو محتاج إليه في استمراره، فالقول باستقراره يوجب احتياجه في استمراره وهو غنى بالنص الثاني: قوله تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) فالعرش يهلك وكذلك كل مكان فلا يبقى وهو يبقى، فاذن لا يكون في ذلك الوقت في مكان، فجاز عليه أن لا يكون في مكان، وما جاز له من الصفات وجب له فيجب أن لا يكون في مكان الثالث: قوله تعالى: * (وهو معكم) * (الحديد: 4) ووجه التمسك به هو أن على إذا استعمل في المكان يفهم كونه عليه بالذات كقولنا فلان على السطح وكلمة مع إذا استعملت في متمكنين يفهم منها اقترانهما بالذات كقولنا زيد مع عمرو إذا استعمل هذا فإن كان الله في مكان ونحن متمكنون، فقوله: * (إن الله معنا) * وقوله: * (وهو معكم) * كان ينبغي أن يكون للاقتران وليس كذلك، فإن قيل كلمة مع تستعمل لكون ميله إليه وعلمه معه أو نصرته يقال الملك الفلاني مع الملك الفلاني، أي بالإعانة والنصر، فنقول كلمة على تستعمل لكون حكمه على الغير، يقول القائل لولا فلان على فلان لأشرف في الهلاك ولأشرف على الهلاك، وكذلك يقال لولا فلان على أملاك فلان أو على أرضه لما حصل له شيء منها ولا أكل
170

حاصلها بمعنى الإشراف والنظر، فكيف لا نقول في استوى على العرش إنه استوى عليه بحكمه كما نقول هو معناه بعلمه الرابع: قوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * (الأنعام: 103) ولو كان في مكان لأحاط به المكان وحينئذ فإما أن يرى وإما أن لا يرى، لا سبيل إلى الثاني بالاتفاق لأن القول بأنه في مكان ولا يرى باطل بالإجماع، وإن كان يرى فيرى في مكان أحاط به فتدركه الأبصار. وأما إذا لم يكن في مكان فسواء يرى أو لا يرى لا يلزم أن تدركه الأبصار. أما إذا لم ير فظاهر. وأما إذا رؤي فلأن البصر لا يحيط به فلا يدركه. وإنما قلنا إن البصر لا يحيط به لأن كل ما أحاط به البصر فله مكان يكون فيه وقد فرضنا عدم المكان، ولو تدبر الإنسان القرآن لوجده مملوءا من عدم جواز كونه في مكان، كيف وهذا الذي يتمسك به هذا القائل يدل على أنه ليس على العرش بمعنى كونه في المكان، وذلك لأن كلمة ثم للتراخي فلو كان عليه بمعنى المكان لكان قد حصل عليه بعد ما لم يكن عليه فقبله إما أن يكون في مكان أو لا يكون، فإن كان يلزم محالان أحدهما: كون المكان أزليا، ثم إن هذا القائل يدعى مضادة الفلسفي فيصير فلسفيا يقول بقدم سماء من السماوات والثاني: جواز الحركة والانتقال على الله تعالى وهو يفضي إلى حدوث الباري أو يبطل دلائل حدوث الأجسام، وإن لم يكن مكان وما حصل في مكان يحيل العقل وجوده بلا مكان، ولو جاز لما أمكن أن يقال بأن الجسم لو كان أزليا، فإما أن يكون في الأزل ساكنا أو متحركا لأنهما فرعا الحصول في مكان، وإذا كان كذلك فيلزمه القول بحدوث الله أو عدم القول بحدوث العالم، لأنه إن سلم أنه قبل
المكان لا يكون فهو القول بحدوث الله تعالى وإن لم يسلم فيجوز أن يكون الجسم في الأزل لم يكن في مكان ثم حصل في مكان فلا يتم دليله في حدوث العالم، فيلزمه أن لا يقول بحدوثه، ثم إن هذا القائل يقول إنك تشبه الله بالمعدوم فإنه ليس في مكان ولا يعلم أنه جعله معدوما حيث أحوجه إلى مكان، وكل محتاج نظرا إلى عدم ما يحتاج إليه معدوم ولو كتبنا ما فيها لطال الكلام.
ثم قال تعالى: * (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) * لما ذكر أن الله خالق السماوات والأرض، قال بعضهم نحن معترفون بأن خالق السماوات والأرض واحد هو إله السماوات، وهذه الأصنام صور الكواكب منها نصرتنا وقوتنا، وقال آخرون هذه صور الملائكة عند الله هم شفعاؤنا فقال الله تعالى لا إله غير الله، ولا نصرة من غير الله ولا شفاعة إلا بإذن الله فعبادتكم لهم لهذه الأصنام باطلة ضائعة لا هم خالقوكم ولا ناصروكم ولا شفعاؤكم، ثم قال تعالى: * (أفلا تتذكرون) * ما علمتموه من أنه خالق السماوات والأرض وخلق هذه الأجسام العظام لا يقدر عليه مثل هذه الأصنام حتى تنصركم والملك العظيم لا يكون عنده لهذه الأشياء الحقيرة احترام وعظمة حتى تكون لها شفاعة.
171

ثم قال تعالى
* (يدبر الامر من السمآء إلى الارض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) *.
لما بين الله تعالى الخلق بين الأمر كما قال تعالى: * (ألا له الخلق والأمر) * (الأعراف: 54) والعظمة تتبين بهما فإن من يملك مماليك كثيرين عظماء تكون له عظمة، ثم إذا كان أمره نافذا فيهم يزداد في أعين الخلق، وإن لم يكن له نفاذ أمر ينقص من عظمته، وقوله تعالى: * (ثم يعرج إليه) * معناه والله أعلم أن أمره ينزل من السماء على عباده وتعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر، فإن العمل أثر الأمر. وقوله تعالى: * (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) * فيه وجوه أحدها: أن نزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون وهو في يوم فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة فينزل في مسيرة خمسمائة سنة، ويعرج في مسيرة خمسمائة سنة، فهو مقدار ألف سنة ثانيها: هو أن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر، وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة فقوله تعالى: * (في يوم كان مقداره ألف سنة) * يعني * (يدبر الأمر) * في زمان يوم منه ألف سنة، فكم يكون شهر منه، وكم تكون سنة منه، وكم يكون دهر منه، وعلى هذا الوجه لا فرق بين هذا وبين قوله مقداره خمسين ألف سنة لأن تلك إذا كانت إشارة إلى دوام نفاذ الأمر، فسواء يعبر بالألف أو بالخمسين ألفا لا يتفاوت إلا أن المبالغة تكون في الخمسين أكثر وتبين فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى: (وفي هذه لطيفة) وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق، وأشار إلى عظمة الملك، وذكر في هذه الآية عالم الأرواح والأمر بقوله: * (يدبر الأمر) * والروح من عالم الأمر كما قال تعالى: * (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 15) وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان والمراد دوام البقاء كما يقال في العرف طال زمان فلان والزمان لا يطول، وإنما الواقع في الزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة فيطول ذلك فيأخذ أزمنة كثيرة، فأشار هناك إلى عظمة الملك بالمكان وأشار إلى دوامه ههنا بالزمان فالمكان من خلقه وملكه والزمان بحكمه وأمره. واعلم أن ظاهر قوله: * (يدبر الأمر) * في يوم يقتضي أن يكون أمره في يوم واليوم له ابتداء وانتهاء فيكون أمره في زمان حادث فيكون حادثا وبعض من يقول بأن الله على العرش استوى يقول بأن أمره قديم حتى الحروف، وكلمة كن فكيف فهم من كلمة على كونه في مكان، ولم يفهم من كلمة في كون أمره في زمان ثم بين أن هذا الملك العظيم النافذ الأمر غير غافل، فإن الملك إذا كان آمرا ناهيا يطاع في أمره ونهيه، ولكن يكون
172

غافلا لا يكون مهيبا عظيما كما يكون مع ذلك خبيرا يقظا لا تخفى عليه أمور الممالك والمماليك فقال: * (ذلك عالم الغيب والشهادة) * ولما ذكر من قبل عالم الأشباح بقوله: * (خلق السماوات) * وعالم الأرواح بقوله: * (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) * قال: * (عالم الغيب) * يعلم ما في الأرواح * (والشهادة) * يعلم ما في الأجسام أو نقول قال: * (عالم الغيب) * إشارة إلى ما لم يكن بعد * (والشهادة) * إشارة إلى ما وجد وكان وقدم العلم بالغيب لأنه أقوى وأشد إنباء عن كمال العلم، ثم قال تعالى: * (العزيز الرحيم) * لما بين أنه عالم ذكر أنه عزيز قادر على الانتقام من الكفرة رحيم واسع الرحمة على البررة، ثم قال تعالى: * (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) * لما بين الدليل الدال على الوحدانية من الآفاق بقوله: * (خلق السماوات والأرض وما بينهما) * وأتمه بتوابعه ومكملاته ذكر الدليل الدال عليها من الأنفس بقوله: * (الذي أحسن كل شيء) * يعني أحسن كل شيء مما ذكره وبين أن الذي بين السماوات والأرض خلقه وهو كذلك لأنك إذا نظرت إلى الأشياء رأيتها على ما ينبغي صلابة الأرض للنبات وسلاسة الهواء للاستنشاق وقبول الانشقاق لسهولة الاستطراق وسيلان الماء لنقدر عليه في كل موضع وحركة النار إلى فوق، لأنها لو كانت مثل الماء تتحرك يمنة ويسرة لاحترق العالم فخلقت طالبة لجهة فوق حيث لا شيء هناك يقبل الاحتراق وقوله: * (وبدأ خلق الإنسان من طين) * قيل المراد آدم عليه السلام فإنه خلق من طين، ويمكن أن يقال بأن الطين ماء وتراب مجتمعان والآدمي أصله منى والمنى أصله غذاء، والأغذية إما حيوانية، وإما نباتية، والحيوانية بالآخرة ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو طين.
* (ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون) *.
وقوله تعالى: * (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) * على التفسير الأول ظاهر لأن آدم كان من طين ونسله من سلالة من ماء مهين هو النطفة، وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من الطين، ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي من ماء مهين، فإن قال قائل التفسير الثاني غير صحيح لأن قوله: * (بدأ خلق الإنسان) * ثم جعل
نسله دليل على أن جعل النسل بعد خلق الإنسان من طين فنقول لا بل التفسير الثاني أقرب إلى الترتيب اللفظي فإنه تعالى بدأ بذكر الأمر من الابتداء في خلق الإنسان فقال بدأه من طين ثم جعله سلالة ثم سواه ونفخ فيه من روحه وعلى ما ذكرتم
173

يبعد أن يقال: * (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) * عائد إلى آدم أيضا لأن كلمة ثم للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة، وذلك بعد خلق آدم، واعلم أن دلائل الآفاق أدل على كمال القدرة كما قال تعالى: * (لخلق السماوات والأرض أكبر) * (غافر: 57) ودلائل الأنفس أدل على نفاذ الإرادة فإن التغيرات فيها كثيرة وإليه الإشارة بقوله: * (ثم جعل نسله * ثم سواه) * أي كان طينا فجعله منيا ثم جعله بشرا سويا، وقوله تعالى: * (ونفخ فيه من روحه) * إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف، واعلم أن النصارى يفترون على الله الكذب ويقولون بأن عيسى كان روح الله فهو ابن ولا يعلمون أن كل أحد روحه روح الله بقوله: * (ونفخ فيه من روحه) * أي الروح التي هي ملكه كما يقول القائل داري وعبدي، ولم يقل أعطاه من جسمه لأن الشرف بالروح فأضاف الروح دون الجسم على ما يترتب على نفخ الروح من السمع والبصر والعلم فقال تعالى: * (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال وجعل لكم مخاطبا ولم يخاطب من قبل وذلك لأن الخطاب يكون مع الحي فلما قال: * (ونفخ فيه من روحه) * خاطبه من بعده وقال جعل لكم، فإن قيل الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى: * (ومن آياته أن خلقكم من تراب) * (الروم: 20) فنقول هناك لم يذكر الأمور المرتبة وإنما أشار إلى تمام الخلق، وههنا ذكر الأمور المرتبة وهي كون الإنسان طينا ثم ماء مهينا ثم خلقا مسوى بأنواع القوى مقوي فخاطب في بعض المراتب دون البعض.
المسألة الثانية: الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة، وذلك لأن الإنسان يسمع أولا من الأبوين أو الناس أمورا فيفهمها ثم يحصل له بسبب ذلك بصيرة فيبصر الأمور ويجريها ثم يحصل له بسبب ذلك إدراك تام وذهن كامل فيستخرج الأشياء من قبله ومثاله شخص يسمع من أستاذ شيئا ثم يصير له أهلية مطالعة الكتب وفهم معانيها، ثم يصير له أهلية التصنيف فيكتب من قلبه كتابا، فكذلك الإنسان يسمع ثم يطالع صحائف الموجودات ثم يعلم الأمور الخفية.
المسألة الثالثة: ذكر في السمع المصدر وفي البصر والفؤاد الاسم، ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع، لأن المصدر لا يجمع وذلك لحكمة وهو أن السمع قوة واحدة ولها فعل
174

واحد فإن الإنسان لا يضبط في زمان واحد كلامين، والأذن محله ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة لها على تخصيص القوة بإدراك البعض دون البعض، وأما الإبصار فمحله العين ولها فيه شبه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب مرئي دون آخر وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريد دون غيره وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير والقوة مستبدة، فذكر القوة في الأذن وفي العين والفؤاد للمحل نوع اختيار، فذكر المحل لأن الفعل يسند إلى المختار، ألا ترى أنك تقول سمع زيد ورأى عمرو ولا تقول سمع أذن زيد ولا رأى عين عمرو إلا نادرا، لما بينا أن المختار هو الأصل وغيره آلته، فالسمع أصل دون محله لعدم الاختيار له، والعين كالأصل وقوة الأبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة وفي الأبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة ولأن السمع له قوة واحدة ولها فعل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويدرك في زمان واحد صورتين وأكثر ويستبينهما.
المسألة الرابعة: لم قدم السمع ههنا والقلب في قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) * (البقرة: 7) فنقول ذلك يحقق ما ذكرنا، وذلك لأن عند الإعطاء ذكر الأدنى وارتقى إلى الأعلى فقال أعطاكم السمع ثم أعطاكم ما هو أشرف منه وهو القلب وعند السلب قال ليس لهم قلب يدركون به ولا ما هو دونه وهو السمع الذي يسمعون به ممن له قلب يفهم الحقائق ويستخرجها، وقد ذكرنا هناك ما هو السبب في تأخير الأبصار مع أنها في الوسط فيما ذكرنا من الترتيب وهو أن القلب والسمع سلب قوتهما بالطبع فجمع بينهما وسلب قوة البصر بجعل الغشاوة عليه فذكرها متأخرة.
ثم قال تعالى
* (وقالوا أءذا ضللنا فى الارض أءنا لفى خلق جديد بل هم بلقآء ربهم كافرون) *.
لما قال: * (قليلا ما تشكرون) * بين عدم شكرهم بإتيانهم بضده وهو الكفر وإنكار قدرته على إحياء الموتى وقد ذكرنا أن الله تعالى، في كلامه القديم، كلما ذكر أصلين من الأصول الثلاثة لم يترك الأصل الثالث وههنا كذلك لما ذكر الرسالة بقوله: * (تنزيل الكتاب) * إلى قوله: * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) * وذكر الوحدانية بقوله: * (الله الذي خلق) * إلى قوله: * (وجعل لكم السمع والأبصار) * ذكر الأصل الثالث وهو الحشر بقوله تعالى: * (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض) * وفيه مسائل:
175

المسألة الأولى: الواو للعطف على ما سبق منهم فإنهم قالوا محمد ليس برسول والله ليس بواحد وقالوا الحشر ليس بممكن.
المسألة الثانية: أنه تعالى قال في تكذيبهم الرسول في الرسالة أم يقولون بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم إياه في الحشر، وقالوا بلفظ الماضي، وذلك لأن تكذيبهم إياه في رسالته لم يكن قبل وجوده وإنما كان ذلك حالة وجوده فقال يقولون يعني هم فيه، وأما إنكارهم للحشر كان سابقا صادرا منهم ومن آبائهم فقال وقالوا.
المسألة الثالثة: أنه تعالى صرح بذكر قولهم في الرسالة حيث قال: * (أم يقولون) * وفي الحشر حيث قال: * (وقال أئذا) * ولم يصرح بذكر قولهم في الوحدانية، وذلك لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسول، وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في المعنى، ألا ترى أن الله تعالى قال: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25) فلم يقل قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر.
المسألة الرابعة: لو قال قائل لما ذكر الرسالة ذكر من قبل دليلها وهو التنزيل الذي لا ريب فيه ولما ذكر الوحدانية ذكر دليلها وهو خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان من طين، ولما ذكر إنكارهم الحشر لم يذكر الدليل، نقول في الجواب: ذكر دليله أيضا وذلك لأن خلق الإنسان ابتداء دليل على قدرته على إعادته، ولهذا استدل الله على إمكان الحشر بالخلق الأول كما قال: * (ثم يعيده وهو أهون عليه) * (الروم: 27) وقوله: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * (يس: 79) وكذلك خلق السماوات كما قال تعالى: * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم * بلى) * (يس: 81، 82).
وقوله تعالى: * (أئنا لفي خلق جديد) * أي أئنا كائنون في خلق جديد أو واقعون فيه * (بل هم بلقاء ربهم كافرون) * إضراب عن الأول يعني ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانيا بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب، أو نقول معناه لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم، فإنهم أنكروه فأنكروا المفضى إليه، ثم بين ما يكون لهم من الموت إلى العذاب.
ثم قال تعالى
* (قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) *.
يعني لا بد من الموت ثم من الحياة بعده وإليه الإشارة بقوله: * (ثم إلى ربكم ترجعون) * وقوله: * (الذي وكل بكم) * إشارة إلى أنه لا يغفل عنكم وإذا جاء أجلكم لا يؤخركم إذ لا شغل له إلا هذا وقوله: * (يتوفاكم ملك الموت) * ينبئ عن بقاء الأرواح فإن التوفي الاستيفاء والقبض هو الأخذ والإعدام المحض ليس بأخذ، ثم إن الروح الزكي الطاهر يبقى عند الملائكة مثل الشخص بين أهله
176

المناسبين له والخبيث الفاجر يبقى عندهم كأسير بين قوم لا يعرفهم ولا يعرف لسانهم، والأول ينمو ويزيد ويزداد صفاؤه وقوته والآخر يذبل ويضعف ويزداد شقاؤه وكدورته، والحكماء يقولون إن الأرواح الطاهرة تتعلق بجسم سماوي خير من بدنها وتكمل به، والأرواح الفاجرة لا كمال لها بعد التعلق الثاني فإن أرادوا ما ذكر بها فقد وافقونا وإلا فيغير النظر في ذلك بحسب إرادتهم فقد يكون قولهم حقا وقد يكون غير حق، فإن قيل هم أنكروا الإحياء والله ذكر الموت وبينهما مباينة نقول فيه وجهان أحدهما: أن ذلك دليل الإحياء ودفع استبعاد ذلك فإنهم قالوا: ما عدم بالكلية كيف يكون الموجود عين ذلك؟ فقال: الملك يقبض الروح والأجزاء تتفرق فجمع الأجزاء لا بعد فيه، وأمر الملك برد ما قبضه لا صعوبة فيه أيضا، فقوله: * (قل يتوفاكم ملك الموت) * أي الأرواح معلومة فترد إلى أجسادها.
ثم قال تعالى
* (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) *.
لما ذكر أنهم يرجعون إلى ربهم بين ما يكون عند الرجوع على سبيل الإجمال بقوله: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم) * يعني لو ترى حالهم وتشاهد استخجالهم لترى عجبا، وقوله: * (ترى) * يحتمل أن يكون خطابا مع الرسول صلى الله عليه وسلم تشفيا لصدره فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب، ويحتمل أن يكون عاما مع كل أحد كما يقول القائل إن فلانا كريم إن خدمته ولو لحظة يحسن إليك طول عمرك ولا يريد به خاصا، وقوله: * (عند ربهم) * لبيان شدة الخجالة لأن الرب إذا أساء إليه المربوب، ثم وقف بين يديه يكون في غاية الخجالة.
ثم قال تعالى: * (ربنا أبصرنا وسمعنا) * يعني يقولون أو قائلين * (ربنا أبصرنا) * وحذف يقولون إشارة إلى غاية خجالتهم لأن الخجل العظيم الخجالة لا يتكلم، وقوله: * (ربنا أبصرنا وسمعنا) * أي أبصرنا الحشر وسمعنا قول الرسول فارجعنا إلى دار الدنيا لنعمل صالحا، وقولهم: * (إنا موقنون) * معناه إنا في الحال آمنا ولكن النافع الإيمان والعمل الصالح، ولكن العمل الصالح لا يكون إلا عند التكليف به وهو في الدنيا فارجعنا للعمل، وهذا باطل منهم فإن الإيمان لا يقبل في الآخرة كالعمل الصالح أو نقول المراد منه أنهم ينكرون الشرك كما قالوا: * (وما كنا مشركين) * فقالوا إن هذا الذي جرى علينا ما جرى إلا بسبب ترك العمل الصالح وأما الإيمان فإنا موقنون وما أشركنا.
177

ثم قال تعالى: * (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها، ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * جوابا عن قولهم: * (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا) * وبيانه هو أنه تعالى قال: إني لو أرجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت وما شئت إيمانكم فلا أردكم، وقوله: * (ولو شئنا لآتينا) * صريح في أن مذهبنا صحيح حيث نقول إن الله ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر، ثم قال تعالى: * (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم) * أي وقع القول وهو قوله تعالى لإبليس: * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك) * (ص: 85) هذا من حيث النقل وله وجه في العقل وهو أن الله تعالى لم يفعل فعلا خاليا عن حكمة وهذا متفق عليه والخلاف في أنه هل قصد الفعل للحكمة أو فعل الفعل ولزمته الحكمة لا بحيث تحمله تلك الحكمة على الفعل؟ وإذا علم أن فعله لا يخلو عن الحكمة فقال الحكماء حكمة أفعاله بأمرها لا تدرك على سبيل التفصيل لكن تدرك على سبيل الإجمال، فكل ضرب يكون في العالم وفساد فحكمته تخرج من تقسيم عقلي وهو أن الفعل إما أن يكون خيرا محضا أو شرا محضا أو خيرا مشوبا بشر وهذا القسم على ثلاثة أقسام قسم خيره غالب وقسم شره غالب وقسم خيره وشره مثلان، إذا علم هذا فخلق الله عالما فيه الخير المحض وهو عالم الملائكة وهو العالم العلوي وخلق عالما فيه خير وشر وهو عالمنا وهو العالم السفلي ولم يخلق عالما فيه شر محض، ثم إن العالم السفلي الذي هو عالمنا، وإن كان الخير والشر موجودين فيه لكنه من القسم الأول الذي خيره غالب، فإنك إذا قابلت المنافع بالمضار والنافع بالضار، تجد المنافع أكثر، وإذا قابلت الشرير بالخير تجد الخير أكثر، وكيف لا والمؤمن يقابله الكافر، ولكن المؤمن قد يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه شر أصلا من أول عمره إلى آخره كالأنبياء عليهم السلام والأولياء، والكافر لا يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه خير أصلا غاية ما في الباب أن الكفر يحبط خيره ولا ينفعه، إنما يستحيل نظرا إلى
العادة أن يوجد كافر لا يسقي العطشان شربة ماء ولا يطعم الجائع لقمة خبز ولا يذكر ربه في عمره، وكيف لا وهو في زمن صباه كان مخلوقا على الفطرة المقتضية للخيرات، إذا ثبت هذا فنقول قالوا: لولا الشر في هذا العالم لكانت مخلوقات الله تعالى منحصرة في الخير المحض ولا يكون قد خلق القسم الذي فيه الخير الغالب والشر القليل ثم إن ترك خلق هذا القسم إن كان لما فيه من الشر فترك الخير الكثير لأجل الشر القليل لا يناسب الحكمة، ألا ترى أن التاجر إذا طلب منه درهم بدينار، فلو امتنع وقال في هذا شر وهو زوال الدرهم عن ملكي فيقال له لكن في مقابلته خير كثير وهو حصول الدينار في ملكك وكذلك
178

الإنسان لو ترك الحركة اليسيرة لما فيها من المشقة مع علمه بأنه تحصل له راحة مستمرة ينسب إلى مخالفة الحكمة فإذا نظر إلى الحكمة كان وقوع الخير الكثير المشوب بالشر القليل من اللطف فخلق العالم الذي يقع فيه الشر وإلى هذا أشار بقوله: * (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * (البقرة: 30) فقال الله تعالى في جوابهم: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * (البقرة: 30) أي أعلم أن هذا القسم يناسب الحكمة لأن الخير فيه كثير، ثم بين لهم خيره بالتعليم، كما قال تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * (البقرة: 31) يعني أيها الملائكة خلق الشر المحض والشر الغالب والشر المساوي لا يناسب الحكمة. وأما الخير الكثير المشوب بالشر القليل مناسب، فقوله تعالى: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * إشارة إلى الشر، وأجابهم الله بما فيه من الخير بقوله: * (وعلم آدم الأسماء) * فإن قال قائل فالله تعالى قادر على تخليص هذا القسم من الشر بحيث لا يوجد فيه شر فيقال له ما قاله الله تعالى: * (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) * (السجدة: 13) يعني لو شئنا لخلصنا الخير من الشر، لكن حينئذ لا يكون الله تعالى خلق الخير الكثير المشوب بالشر القليل وهو قسم معقول، فما كان يجوز تركه للشر القليل وهو لا يناسب الحكمة، لأن ترك الخير الكثير للشر القليل غير مناسب للحكمة، وإن كان لا كذلك فلا مانع من خلقه فيخلقه لما فيه من الخير الكثير، وهذا الكلام يعبر عنه من يقول برعاية المصالح إن الخير في القضاء والشر في القدر، فالله قضى بالخير ووقع الشر في القدر بفعله المنزه عن القبح والجهل، وقوله: * (من الجنة والناس) * لأنه تعالى قال لإبليس: * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك) * (ص: 85) وهذا إشارة إلى أن النار لمن في العالم السفلي، والذين في العالم العلوي مبرءون عن دخول النار وهم الملائكة، وهذا يقتضي أن لا يكون إبليس من الملائكة وهو الصحيح. وقوله: * (أجمعين) * يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون تأكيدا وهو الظاهر والثاني: أن يكون حالا، أي مجموعين، فإن قيل كيف جعل جميع الإنس والجن مما يملأ بهم النار؟ نقول هذا لبيان الجنس، أي جهنم تملأ من الجن والإنس لا غير أمنا للملائكة، ولا يقتضي ذلك دخول الكل كما يقول القائل ملأت الكيس من الدراهم لا يلزم أن لا يبقى درهم خارج الكيس، فإن قيل فهذا يقتضي أن تكون جهنم ضيقة تمتلئ ببعض الخلق نقول هو كذلك وإنما الواسع الجنة التي هي من الرحمة الواسعة والله أعلم. ولما بين الله تعالى بقوله: * (ولو شئنا لآتينا) * أنهم لا رجوع لهم قال لهم إذا علمتم أنكم لا رجوع لكم.
قوله تعالى
* (فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هذآ إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون) *.
179

وفى الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (فذوقوا بما نسيتم لقاء) * لقاء يحتمل أن يكون منصوبا بذوقوا، أي ذوقوا لقاء يومكم بما نسيتم، وعلى هذا يحتمل أن يكون المنسي هو الميثاق الذي أخذ منهم بقوله: * (ألست بربكم قالوا بلى) * (الأعراف: 172) أو بما في الفطرة من الوحدانية فينسى بالإقبال على الدنيا والاشتغال بها ويحتمل أن يكون منصوبا بقوله: * (نسيتم) * أي بما نسيتم لقاء هذا اليوم ذوقوا، وعلى هذا لو قال قائل النسيان لا يكون إلا في المعلوم أولا إذا جهل آخرا نقول لما ظهرت براهينه فكأنه ظهر وعلم، ولما تركوه بعد الظهور ذكر بلفظ النسيان إشارة إلى كونهم منكرين لأمر ظاهر كمن ينكر أمرا كان قد علمه.
المسألة الثانية: قوله تعالى هذا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون إشارة إلى اليوم، أي فذوقوا بما نسيتم لقاء هذا اليوم وثانيها: أن يكون إشارة إلى لقاء اليوم، أي فذوقوا بما نسيتم هذا اللقاء وثالثها: أن يكون إشارة إلى العذاب، أي فذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم، ثم قال إنا نسيناكم، أي تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعله الناسي قطعا لرجائكم، ثم ذكر ما يلزم من تركه إياهم كما يترك الناسي وهو خلود العذاب، لأن من لا يخلصه الله فلا خلاص له، فقال: * (وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون) *.
قوله تعالى
* (إنما يؤمن باياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) *.
إشارة إلى أن الإيمان بالآيات كالحاصل، وإنما ينساه البعض فإذا ذكر بها خر ساجدا له، يعني انقادت أعضاؤه له، وسبح بحمده، يعني ويحرك لسانه بتنزيهه عن الشرك، وهم لا يستكبرون، يعني وكان قلبه خاشعا لا يتكبر ومن لا يستكبر عن عبادته فهو المؤمن حقا.
ثم قال تعالى
* (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون) *.
يعني بالليل قليلا ما يهجعون وقوله: * (يدعون ربهم) * أي يصلون، فإن الدعاء والصلاة من باب واحد في المعنى أو يطلبونه وهذا لا ينافي الأول لأن الطلب قد يكون بالصلاة، والحمل على الأول أولى
180

لأنه قال بعده: * (ومما رزقناهم ينفقون) * وفي أكثر المواضع التي ذكر فيها الزكاة ذكر الصلاة قبلها كقوله تعالى: * (ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) * (
البقرة: 3) وقوله: * (خوفا وطمعا) * يحتمل أن يكون مفعولا له ويحتمل أن يكون حالا، أي خائفين طامعين كقولك جاؤني زورا أي زائرين، وكأن في الآية الأولى إشارة إلى المرتبة العالية وهي العبادة لوجه الله تعالى مع الذهول عن الخوف والطمع بدليل قوله تعالى: * (إذا ذكروا بها خروا) * (السجدة: 15) فإنه يدل على أن عند مجرد الذكر يوجد منهم السجود وإن لم يكن خوف وطمع. وفي الآية الثانية إشارة إلى المرتبتين الأخيرتين وهي العبادة خوفا كمن يخدم الملك الجبار مخافة سطوته أو يخدم الملك الجواد طمعا في بره، ثم بين ما يكون لهم جزاء فعلهم.
ثم قال تعالى
* (فلا تعلم نفس مآ أخفى لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون) *.
يعني مما تقر العين عنده ولا تلتفت إلى غيره يقال إن هذا لا يدخل في عيني، يعني عيني تطلع إلى غيره، فإذا لم يبق تطلع للعين إلى شيء آخر لم يبق للعين مسرح إلى غيره فتقر جزاء بحكم الوعد، وهذا فيه لطيفة وهي أن من العبد شيئا وهو العمل الصالح، ومن الله أشياء سابقة من الخلق والرزق وغيرهما وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام، فلله تعالى أن يقول جزاء الإحسان إحسان، وأنا أحسنت أولا والعبد أحسن في مقابلته، فالثواب تفضل ومنحة من غير عوض، وله أن يقول جعلت الأول تفضلا لا أطلب عليه جزاء، فإذا أتى العبد بالعمل الصالح فليس عليه شيء لأني أبرأته مما عليه من النعم فكان هو آتيا بالحسنة ابتداء، وجزاء الإحسان إحسان، فأجعل الثواب جزاء كلاهما جائز، لكن غاية الكرم أن يجعل الأول هبة ويجعل الثاني مقابلا وعوضا لأن العبد ضعيف لو قيل له بأن فعلك جزاء فلا تستحق جزاء، وإنما الله يتفضل يثق ولكن لا يطمئن قلبه، وإذا قيل له الأول غير محسوب عليك والذي أتيت به أنت به باد ولك عليه استحقاق ثواب يثق ويطمئن ثم إذا عرف أن هذا من فضل الله فالواجب من جانب العبد أن يقول فعلى جزاء نعم الله السابقة ولا أستحق به جزاء، فإذا أثابه الله تعالى يقول الذي أتيت به كان جزاء، وهذا ابتداء إحسان من الله تعالى يستحق حمدا وشكرا فيأتي بحسنة فيقول الله إني أحسنت إليه جزاء فعله الأول وما فعلت أولا لا أطلب له جزاء فيجازيه ثالثا فيشكر العبد ثالثا فيجازيه رابعا وعلى هذا لا تنقطع المعاملة بين العبد والرب، ومثله في الشاهد اثنان تحابا فأهدى أحدهما إلى الآخر هدية ونسيها والمهدي إليه يتذكرها فأهدى إلى المهدي عوضا فرآه المهدي الأول ابتداء لنسيانه ما أهداه إليه فجازاه بهدية فقال المحب الآخر ما أهديته كان جزاء لهديته السابقة، وهذه هدية ما عوضتها فيعوض ويعوض
181

عنه المحب الآخر ويتسلسل الأمر بينهما ولا ينقطع التهادي والتحاب، بخلاف من أرسل إلى واحد هدية وهو يتذكرها فإذا بعث إليه المهدي إليه عوضا يقول المهدي هذا عوض ما أهديت إليه فيسكت ويترك الإهداء فينقطع، واعلم أن التكاليف يوم القيامة، وإن ارتفعت لكن الذكر والشكر والعبادة لا ترتفع بل العبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما يعبده في الدنيا، وكيف لا وقد صار حاله مثل حال الملائكة الذين قال في حقهم * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * (الأنبياء: 20) غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي بمقتضى الطبع ومن جملة الأسباب الموجبة لدوام نعيم الجنة هذا وكيف لا وخدمة الملوك لذة وشرف فلا تترك وإن قرب العبد منه بل تزداد لذتها.
قوله تعالى
* (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) *.
لما بين حال المجرم والمؤمن قال للعاقل هل يستوي الفريقان، ثم بين أنهما لا يستويان، ثم بين عدم الاستواء على سبيل التفصيل، فقال: * (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى) * إشارة إلى ما ذكرنا أن الله أحسن ابتداء لا لعوض فلما آمن العبد وعمل صالحا قبله منه كأنه ابتداء فجازاه بأن أعطاه الجنة ثم قال تعالى: * (نزلا) * إشارة إلى أن بعدها أشياء لأن النزل ما يعطي الملك النازل، وقت نزوله قبل أن يجعل له راتبا أو يكتب له خبزا وقوله: * (بما كانوا يعملون) * يحقق ما ذكرنا وقوله تعالى: * (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها) * إشارة إلى حال الكافر، وقد ذكرنا مرارا أن العمل الصالح له مع الإيمان أثر أما الكفر إذا جاء فلا التفات إلى الأعمال، فلم يقل وأما الذين فسقوا وعملوا السيئات لأن المراد من فسقوا كفروا ولو جعل العقاب في مقابلة الكفر والعمل، لظن أن مجرد الكفر لا عقاب عليه، وقوله في حق المؤمنين * (لهم) * بلام التمليك زيادة إكرام لأن من قال لغيره أسكن هذه الدار يكون ذلك محمولا على العارية وله استرداده، وإذا قال هذه الدار لك يكون ذلك محمولا على نسبة الملكية إليه وليس
182

له استرداده بحكم قوله وكذلك في قوله: * (لهم جنات) * ألا ترى أنه تعالى لما أسكن آدم الجنة وكان في علمه أنه يخرجه منها قال: * (أسكن أنت وزوجك الجنة) * (البقرة: 35) ولم يقل لكما الجنة وفي الآخرة لما لم يكن للمؤمنين خروج عنها قال: * (لكم الجنة) * و * (لهم جنات) * وقوله: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا) * إشارة إلى معنى حكمي، وهو أن المؤلم إذا تمكن والألم إذا امتد لم يبق به شعور تام ولهذا قال الأطباء إن حرارة حمى الدق بالنسبة إلى حرارة الحمى البلغمية نسبة النار إلى الماء المسخن، ثم إن المدقوق لا يحس من الحرارة بما يحس به من به الحمى البلغمية لتمكن الدق وقرب العهد بظهور حرارة الحمى البلغمية، وكذلك الإنسان إذا وضع يده في ماء بارد يتألم من البرد، فإذا صبر زمانا طويلا تثلج يده ويبطل عنه ذلك الألم الشديد مع فساد مزاجه، إذا علمت هذا فقوله: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) * إشارة إلى أن الإله لا يسكن عنهم بل يرد عليهم في كل حال أمر مؤلم يجدد وقوله: * (ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) * يقرر ما ذكرنا ومعناه أنهم في الدنيا كانوا يكذبون بعذاب النار، فلما ذاقوه كان أشد إيلاما لأن من لا يتوقع شيئا فيصيبه يكون أشد تأثيرا، ثم إنهم في الآخرة كما في الدنيا يجزمون أن لا عذاب إلا وقد وصل إليهم ولا يتوقعون شيئا آخر من العذاب فيرد عليهم عذاب أشد من الأول، وكانوا يكذبون به بقولهم لا عذاب فوق
ما نحن فيه فاذن معنى قوله تعالى: * (ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) * ليس مقتصرا على تكذيبهم الذي كان في الدنيا بل * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) * وقيل لهم ذوقوا عذابا كذبتم به من قبل، أما في الدنيا بقولكم لا عذاب في الآخرة، وأما في الآخرة فبقولكم لا عذاب فوق ما نحن فيه.
ثم قال تعالى
* (ولنذيقنهم من العذاب الادنى دون العذاب الاكبر لعلهم يرجعون) *.
يعني قبل عذاب الآخرة نذيقهم عذاب الدنيا فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة لأن عذاب الدنيا لا يكون شديدا، ولا يكون مديدا فإن العذاب الشديد في الدنيا يهلك فيموت المعذب ويستريح منه فلا يمتد، وإن أراد المعذب أن يمتد عذاب المعذب لا يعذبه بعذاب في غاية الشدة، وأما عذاب الآخرة فشديد ومديد، وفي الآية مسألتان: إحداهما: قوله تعالى: * (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى) * في مقابلته العذاب الأقصى والعذاب الأكبر في مقابلته العذاب الأصغر، فما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر؟ فنقول حصل في عذاب الدنيا أمران: أحدهما: أنه قريب والآخر أنه قليل صغير وحصل في عذاب الآخرة أيضا أمران أحدهما: أنه بعيد والآخر أنه عظيم كثير، لكن القرب في عذاب الدنيا هو الذي يصلح
183

للتخويف به، فإن العذاب العاجل وإن كان قليلا قد يحترز منه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلا، وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس ويستبعد الثواب العظيم الآجل، وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير لا البعيد لما بينا فقال في عذاب الدنيا * (العذاب الأدنى) * ليحترز العاقل عنه ولو قال: (لنذيقنهم من العذاب الأصغر) ما كان يحترز عنه لصغره وعدم فهم كونه عاجلا وقال في عذاب الآخرة الأكبر لذلك المعنى، ولو قال دون العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به مثل ما يحصل بوصفه بالكبر، وبالجملة فقد اختار الله تعالى في العذابين الوصف الذي هو أصلح للتخويف من الوصفين الآخرين فيهما لحكمة بالغة.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (لعلهم يرجعون) * لعل هذه الترجي والله تعالى محال ذلك عليه فما الحكمة فيه؟ نقول فيه وجهان أحدهما: معناه لنذيقنهم إذاقة الراجين كقوله تعالى: * (إنا نسيناكم) * (السجدة: 14) يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلا، فكذلك ههنا نذيقهم على الوجه الذي يفعل بالراجي من التدريج وثانيهما: معناه نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل لعلهم يرجعون بسببه، ونزيد وجها آخر من عندنا، وهو أن كل فعل يتلوه أمر مطلوب من ذلك الفعل يصح تعليل ذلك الفعل بذلك الأمر، كما يقال فلان أتجر ليربح، ثم إن هذا التعليل إن كان في موضع لا يحصل الجزم بحصول الأمر من الفعل نظرا إلى نفس الفعل وإن حصل الجزم والعلم بناء على أمر من خارج فإنه يصح أن يقال يفعل كذا رجاء كذا، كما يقال يتجر رجاء أن يربح، وإن حصل للتاجر جزم بالربح لا يقدح ذلك في صحة قولنا يرجو لما أن الجزم غير حاصل نظرا إلى التجارة وإن كان الجزم حاصلا نظرا إلى الفعل، لا يصح أن يقال يرجو وإن كان ذلك الجزم يحتمل خلافه كقول القائل فلان حز رقبة عدوه رجاء أن يموت، لا يصح لحصوله الجزم بالموت عقيب الحز نظرا إليه وإن أمكن أن لا يموت نظرا إلى قدرة الله تعالى، ويصحح قولنا قوله تعالى في حق إبراهيم * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي) * (الشعراء: 82) مع أنه كان عالما بالمغفرة لكن لما لم يكن الجزم حاصلا من نفس الفعل أطلق عليه الطمع وكذلك قوله تعالى: * (وارجوا اليوم الآخر) * (العنكبوت: 36) مع أن الجزم به لازم إذا علم ما ذكرنا فنقول في كل صورة قال الله تعالى: * (لعلهم) * فإن نظرنا إلى الفعل لا يلزم الجزم، فإن من التعذيب لا يلزم الرجوع لزوما بينا فصح قولنا يرجو وإن كان علمه حاصلا بما يكون غاية ما في الباب أن الرجاء في أكثر الأمر استعمل فيما لا يكون الأمر معلوما فأوهم أن لا يجوز الإطلاق في حق الله تعالى وليس كذلك بل الترجي يجوز في حق الله تعالى، ولا يلزم منه عدم العلم، وإنما يلزم عدم الجزم بناء على ذلك الفعل وعلم الله ليس مستفادا من الفعل فيصح حقيقة الترجي في حقه على ما ذكرنا من المعنى.
184

ثم قال تعالى
* (ومن أظلم ممن ذكر بايات ربه ثم أعرض عنهآ إنا من المجرمين منتقمون * ولقد ءاتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقآئه وجعلناه هدى لبنى إسراءيل * وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا باياتنا يوقنون) *.
قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها) * يعني لنذيقنهم ولا يرجعون فيكونون قد ذكروا بآيات الله من النعم أولا والنقم ثانيا ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم أحد، لأن من يكفر بالله ظالم فإن الله لذوي البصائر ظاهر لا يحتاج المستنير الباطن إلى شاهد يشهد عليه بل هو شهيد على كل شيء كما قال تعالى: * (أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) * (فصلت: 53) أي دليلك الله لا يحتاج المستنير الباطن إلى دليل على الله، ولهذا قال بعض العارفين رأيت الله قبل كل شيء فمن لم يكفه الله فسائر الموجودات سواء، كان فيها نفع أو ضر كاف في معرفة الله كما قال تعالى: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * (فصلت: 53) فإن لم يكفهم ذلك فبسبغه عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، فالأول الذي لا يحتاج إلى غير الله هو عدل والثاني الذي يحتاج إلى دليل فهو متوسط والثالث الذي لم تكفه الآفاق ظالم والرابع الذي لم تقنعه النعم أظلم من ذلك الظالم وقد يكون أظلم منه آخر، وهو الذي إذا أذيق العذاب لا يرحع عن ضلالته، فإن الأكثر كان من صفتهم أنهم إذا مسهم ضر دعوا ربهم منيبين إليه فهذا لما عذب ولم يرجع فلا أظلم منه أصلا فقال: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها) *.
ثم قال تعالى: * (إنا من المجرمين منتقمون) * أي لما لم ينفعهم العذاب الأدنى فأنا منتقم منهم بالعذاب الأكبر.
ثم قال تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب) * لما قرر الأصول الثلاثة على ما بيناه عاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله: * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير) * (القصص: 46) وقال: * (قل ما كنت بدعا من الرسل) * (الأحقاف: 9) بل كان قبلك رسل مثلك واختار من بينهم موسى لقربه من النبي
صلى الله عليه وسلم ووجود من كان على دينه إلزاما لهم، وإنما لم يختر عيسى عليه السلام للذكر والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوة موسى عليه السلام فتمسك
185

بالمجمع عليه، وقوله: * (فلا تكن في مرية من لقائه) * قيل معناه فلا تكن في شك من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه، وقيل بأنه رآه ليلة المعراج وقيل معناه فلا تكن في شك من لقاء الكتاب فإنك تلقاه كما لقي موسى الكتاب ويحتمل أن تكون الآية واردة لا للتقرير بل لتسلية النبي عليه السلام فإنه لما أتى بكل آية وذكر بها وأعرض عنها قومه حزن عليهم، فقيل له تذكر حال موسى ولا تحزن فإنه لقي ما لقيت وأوذي كما أوذيت، وعلى هذا فاختيار موسى عليه السلام لحكمة، وهي أن أحدا من الأنبياء لم يؤذه قومه إلا الذين لم يؤمنوا به، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى فإن لم يؤمن به آذاه مثل فرعون وغيره ومن آمن به من بني إسرائيل أيضا آذاه بالمخالفة وطلب أشياء منه مثل طلب رؤية الله جهرة ومثل قوله: * (اذهب أنت وربك فقاتلا) * (المائدة: 24) ثم بين له أن هدايته غير خالية عن المنفعة كما أنه لم تخل هداية موسى، فقال: * (وجعلناه هدى لنبي إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا) * فحيث جعل الله كتاب موسى هدى وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل كتابك هدى ويجعل من أمتك صحابة يهدون كما قال عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ثم بين أن ذلك يحصل بالصبر، فقال: * (لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) * فكذلك اصبروا وآمنوا بأن وعد الله حق.
ثم قال تعالى
* (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك لايات أفلا يسمعون) *.
قوله: * (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * هذا يصلح جوابا لسؤال: وهو أنه لما قال تعالى: * (وجعلنا منهم أئمة يهدون) * كان لقائل أن يقول كيف كانوا يهدون وهم اختلفوا وصاروا فرقا وسبيل الحق واحد، فقال فيهم هداة والله بين المبتدع من المتبع كما يبين المؤمن من الكافر يوم القيامة، وفيه وجه آخر، وهو أن الله تعالى بين أنه يفصل بين المختلفين من أمة واحدة كما يفصل بين المختلفين من الأمم فينبغي أن لا يأمن من آمن وإن لم يجتهد، فإن المبتدع معذب كالكافر، غاية ما في الباب، أن عذاب الكافر أشد وآلم وأمد وأدوم.
ثم قال تعالى: * (أو لم يهد لهم كما أهلكنا من قبلهم من القرون) * قد ذكرنا أن قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب) * تقرير لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإعادة لبيان ما سبق في قوله: * (لتنذر قوما ما أتاهم
186

من نذير من قبلك) * (القصص: 46) ولما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد، فقال تعالى: * (أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم) * وقوله: * (يمشون في مساكنهم) * زيادة إبانة، أي مساكن المهلكين دالة على حالهم وأنتم تمشون فيها وتبصرونها، وقوله تعالى: * (إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون) * اعتبر فيه السمع، لأنهم ما كان لهم قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم، فقال أفلا يسمعون، يعني ليس لهم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه.
ثم قال تعالى
* (أو لم يروا أنا نسوق المآء إلى الارض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون * ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين) *.
قوله تعالى: * (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز) * لما بين الإهلاك وهو الإماتة بين الإحياء ليكون إشارة إلى أن الضر والنفع بيد الله، والجرز الأرض اليابسة التي لا نبات فيها والجرز هو القطع وكأنها المقطوع عنها الماء والنبات. ثم قال تعالى: * (فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم) * قدم الأنعام على الأنفس في الأكل لوجوه أحدها: أن الزرع أول ما ينبت يصلح للدواب ولا يصلح للإنسان والثاني: وهو أن الزرع غذاء الدواب وهو لا بد منه. وأما غذاء الإنسان فقد يحصل من الحيوان، فكأن الحيوان يأكل الزرع، ثم الإنسان يأكل من الحيوان الثالث: إشارة إلى أن الأكل من ذوات الدواب والإنسان يأكل بحيوانيته أو بما فيه من القوة العقلية فكماله بالعبادة. ثم قال تعالى: * (أفلا يبصرون) * لأن الأمر يرى بخلاف حال الماضين، فإنها كانت مسموعة، ثم لما بين الرسالة والتوحيد بين الحشر بقوله تعالى: * (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين) * إلى آخر السورة، فصار ترتيب آخر السورة كترتيب أولها حيث ذكر الرسالة في أولها بقوله: * (لتنذر قوما) * (القصص: 46) وفي آخرها بقوله: * (ولقد آتينا موسى الكتاب) * (البقرة: 87) وذكر التوحيد بقوله: * (الذي خلق السماوات والأرض) * وقوله: * (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) * وفي آخر السورة ذكره بقوله: * (أو لم يهد لهم) * وقوله: * (أو لم يروا أنا نسوق) * وذكر الحشر في أولها بقوله: * (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض) * (السجدة: 10) وفي آخرها بقوله: * (ويقولون متى هذا الفتح) *.
187

قوله تعالى: * (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) * أي لا يقبل إيمانهم في تلك الحالة، لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا، ولا ينظرون، أي لا يمهلون بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا فيقبل إيمانهم، ثم لما بين المسائل وأتقن الدلائل ولم ينفعهم. قال تعالى: * (فأعرض عنهم) * أي لا تناظرهم بعد ذلك وإنما الطريق بعد هذا القتال. وقوله: * (وانتظر إنهم منتظرون) * يحتمل وجوها أحدها: وانتظر هلاكهم فإنهم ينتظرون هلاكك، وعلى هذا فرق بين الانتظارين، لأن انتظار النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى بعد وعده وانتظارهم بتسويل أنفسهم والتعويل على الشيطان وثانيها: وانتظر النصر من الله فإنهم ينتظرون النصر من آلهتهم وفرق بين الانتظارين وثالثها: وانتظر عذابهم بنفسك فإنهم ينتظرونه بلفظهم استهزاء، كما قالوا: * (فأتنا بما تعدنا) * (الأعراف: 70) وقالوا * (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * (النمل: 71) إلى غير ذلك، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين.
188

سورة الأحزاب
سبعون وثلاث آيات وهي مدنية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يا أيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما) *.
قوله تعالى: * (يا أيها النبي إتق الله) *. في تفسير الآية مسائل:
الأولى: في الفرق بين النداء والمنادى بقوله يا رجل ويا أيها الرجل، وقد قيل فيه ما قيل ونحن نقول قول القائل يا رجل يدل على النداء وقوله يا أيها الرجل يدل على ذلك أيضا وينبئ عن خطر خطب المنادي له أو غفلة المنادى أما الثاني: فمذكور وأما الأول: فلأن قوله: (يا أي) جعل المنادى غير معلوم أولا فيكون كل سامع متطلعا إلى المنادى فإذا خص واحدا كان في ذلك إنباء الكل لتطلعهم إليه، وإذا قال يا زيد أو يا رجل لا يلتفت إلى جانب المنادى إلا المذكور إذا علم هذا فنقول * (يا أيها) * لا يجوز حمله على غفلة النبي لأن قوله * (النبي) * ينافي الغفلة لأن النبي عليه السلام خبير فلا يكون غافلا فيجب حمله على خطر الخطب.
المسألة الثانية: الأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به إذ لا يصلح أن يقال للجالس اجلس وللساكت اسكت والنبي عليه السلام كان متقيا فما الوجه فيه؟ نقول فيه وجهان: أحدهما: منقول وهو أنه أمر بالمداومة فإنه يصح أن يقول القائل للجالس اجلس ههنا إلى أن أجيئك، ويقول القائل للساكت قد أصبت فاسكت تسلم، أي دم على ما أنت عليه والثاني: وهو معقول لطيف، وهو أن الملك يتقي منه عباده على ثلاثة أوجه بعضهم يخاف من عقابه وبعضهم يخاف من قطع ثوابه وثالث يخاف من احتجابه فالنبي لم يؤمر بالتقوى بالمعنى الأول ولا بالمعنى الثاني، وأما الثالث فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا. وكيف والأمور الدنيوية شاغلة والآدمي في الدنيا تارة مع الله، وأخرى مقبل على ما لابد منه، وإن كان معه الله وإلى هذا إشارة بقوله: * (إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي) * (فصلت: 6) يعني يرفع الحجاب عني وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم فالأمر بالتقوى يوجب استدامة الحضور الوجه الثاني: هو أن النبي عليه الصلاة والسلام كل لحظة كان يزداد علمه ومرتبته حتى كان حاله فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه تركا للأفضل، فكان له في كل ساعة تقوى متجددة فقوله: * (اتق الله) * على هذا أمر بما ليس فيه وإلى هذا أشار عليه الصلاة والسلام بقوله:
189

" من استوى يوماه فهو مغبون " ولأنه طلب من ربه بأمر الله إياه به زيادة العلم حيث قال: * (وقل رب زدني علما) * (طه: 114) وأيضا إلى هذا وقعت الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: " إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة " يعني يتجدد له مقام يقول الذي أتيت به من الشكر والعبادة لم يكن شيئا، إذا علم هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم بحكم * (إنما أنا بشر مثلكم) * (فصلت: 6) كان قد وقع له خوف ما يسير من جهة ألسنة الكفار والمنافقين ومن أيديهم بدليل قوله تعالى: * (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) * (الأحزاب: 37) فأمره الله بتقوى أخرى فوق ما يتقيه بحيث تنسيه الخلق ولا يريد إلا الحق وزاد الله به درجته فكان ذلك بشارة له، في * (يا أيها النبي) * أنت ما بقيت في الدرجة التي يقنع منك بتقوى، مثل تقوى الآحاد أو تقوى الأوتاد بل لا يقنع منك إلا بتقوى تنسيك نفسك ألا ترى أن الإنسان إذا كان يخاف فوت مال إن هجم عليه غاشم يقصد قتله يذهل عن المال ويهرب ويتركه، فكذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمر بمثل هذه التقوى ومع هذه التقوى لا يبقى الخوف من أحد غير الله وخرج هذا مخرج قول القائل لمن يخاف زيد أو عمرا خف عمرا فإن زيدا لا يقدر عليك إذا كان عمرو معك فلا يكون ذلك أمرا بالخوف من عمرو فإنه يخاف وإنما يكون ذلك نهيا عن الخوف من زيد في ضمن الأمر بزيادة الخوف من عمرو حتى ينسيه زيدا.
ثم قوله تعالى: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) * يقرر قولنا أي اتق الله تقوى تمنعك من طاعتهم.
المسألة الثالثة: لم خص الكافرين والمنافقين بالذكر مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن لا يطيع أحدا غير الله؟ نقول لوجهين أحدهما: أن ذكر الغير لا حاجة إليه لأن غيرهما لا يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام الاتباع، ولا يتوقع أن يصير النبي عليه السلام مطيعا له بل يقصد اتباعه ولا يكون عنده إلا مطاعا والثاني: هو أنه تعالى لما قال: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) * منعه من طاعة الكل لأن كل من طلب من النبي عليه الصلاة والسلام طاعته فهو كافر أو منافق لأن من يأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأمر أمر إيجاب معتقدا على أنه لو لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافرا.
ثم قال تعالى: * (إن الله كان عليما حكيما) * إشارة إلى أن التقوى ينبغي تكون عن صميم قلبك لا تخفى في نفسك تقوى غير الله كما يفعله الذي يرى من نفسه الشجاعة حيث يخاف في نفسه ويتجلد فإن التقوى من الله وهو عليم، وقوله: * (حكيما) * إشارة إلى دفع وهم متوهم وهو أن متوهما لو قال إذا قال الله شيئا وقال جميع الكافرين والمنافقين مع أنهم أقارب النبي عليه الصلاة والسلام شيئا آخر ورأوا المصلحة فيه وذكروا وجها معقولا فاتباعهم لا يكون إلا مصلحة فقال الله
190

تعالى إنه حكيم ولا تكون المصلحة إلى في قول الحكيم، فإذا أمرك الله بشيء فاتبعه ولو منعك أهل العالم عنه.
قوله تعالى
* (واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا * وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا * ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل) *.
يقرر ما ذكرنا من أنه حكيم فاتباعه هو الواجب، ثم قال تعالى: * (إن الله كان بما تعملون خبيرا) * لما قال إنه عليم بما في قلوب العباد بين أنه عالم خبير بأعمالكم فسووا قلوبكم وأصلحوا أعمالكم. ثم قال تعالى: * (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) * يعني اتق الله وإن توهمت من أحد فتوكل على الله فإنه كفى به دافعا ينفع ولا
يضر معه شيء وإن ضر لا ينفع معه شيء.
ثم قال تعالى: * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) * قال بعض المفسرين الآية نزلت في أبي معمر كان يقول لي قلبان أعلم وأفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد فرد الله عليه بقوله: * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) *، وقال الزمخشري قوله: * (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) * أي ما جعل لرجل قلبين كما لم يجعل لرجل أمين ولا لابن أبوين، وكلاهما ضعيف بل الحق أن يقال إن الله لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله: * (يا أيها النبي اتق الله) * فكان ذلك أمرا له بتقوى لا يكون فوقها تقوى ومن يتقي ويخاف شيئا خوفا شديدا لا يدخل في قلبه شيء آخر ألا ترى أن الخائف الشديد الخوف ينسى مهماته حالة الخوف فكأن الله تعالى قال يا أيها النبي اتق الله حق تقاته، ومن حقها أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله فإن المرء ليس له قلبان حي يتقي بأحدهما الله وبالآخرة غيره فإن اتقى غيره فلا يكون ذلك إلا بصرف القلب عن جهة الله إلى غيره وذلك لا يليق بالمتقي الذي يدعي أنه يتق الله حق تقاته، ثم ذكر للنبي عليه الصلاة والسلام أنه لا ينبغي أن يتقي أحدا ولا مثل ما اتقيت في حكاية زينب زوجة زيد حيث قال الله تعالى: * (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) * (الأحزاب: 37) يعني مثل تلك التقوى لا ينبغي أن تدخل في
191

قلبك ثم لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام بتلك الحالة ذكر ما يدفع عنه السوء. فقال: * (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) * أي وما جعل الله دعي المرء ابنه ثم قدم عليه ما هو دليل قوي على اندفاع القبح وهو قوله: * (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) * أي إنكم إذا قلتم لأزواجكم أنت علي كظهر أمي فلا تصير هي أما بإجماع الكل، أما في الإسلام فلأنه ظهار لا يحرم الوطء، وأما في الجاهلية فلأنه كان طلاقا حتى كان يجوز للزوج أن يتزوج بها من جديد، فإذا كان قول القائل لزوجته أنت أمي أو كظهر أمي لا يوجب صيرورة الزوجة أما كذلك قول القائل للدعي أنت أبي لا يوجب كونه ابنا فلا تصير زوجته زوجة الابن فلم يكن لأحد أن يقول في ذلك شيئا فلم يكن خوفك من الناس له وجه كيف ولو كان أمرا مخوفا ما كان يجوز أن تخاف غير الله أو ليس لك قلبان وقلبك مشغول بتقوى الله فما كان ينبغي أن تخاف أحدا.
ثم قال تعالى: * (ذلكم قولكم بأفواهكم) * فيه لطيفة وهو أن الكلام المعتبر على قسمين أحدهما: كلام يكون عن شيء كان فيقال: والثاني: كلام يقال فيكون كما قيل والأول كلام الصادقين الذين يقولون ما يكون والآخر كلام الصديقين الذين إذا قالوا شيئا جعله الله كما قالوه وكلاهما صادر عن قلب والكلام الذي يكون بالفم فحسب هو مثل نهيق الحمار أو نباح الكلب، لأن الكلام المعتبر هو الذي يعتمد عليه والذي لا يكون عن قلب وروية لا اعتماد عليه، والله تعالى ما كرم ابن آدم وفضله على سائر الحيوانات ينبغي أن يحترز من التخلق بأخلاقها، فقول القائل: هذا ابن فلان مع أنه ليس ابنه ليس كلاما فإن الكلام في الفؤاد وهذا في الفم لا غير، واللطيفة هي أن الله تعالى ههنا قال: * (ذلكم قولكم بأفواهكم) * وقال في قوله: * (وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم) * (التوبة: 30) يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضا في قلب فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم. ثم قال تعالى: * (والله يقول الحق) * إشارة إلى معنى لطيف وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل أو عن شرع فإذا قال فلان ابن فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو يكون عن شرع بأن يكون ابنه شرعا وإن لم يعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدا وكانت الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني فلقيام الفراش ونقول إنه ابنه وفي الدعي لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق لأن أباه مشهور ظاهر ووجه آخر فيه وهو أنهم قالوا هذه زوجة الابن فتحرم وقال الله تعالى هي لك حلال، وقولهم لا اعتبار به فإنه بأفواههم كأصوات البهائم، وقول الله حق فيجب اتباعه وقوله: * (وهو يهدي السبيل) * يؤكد قوله: * (والله يقول الحق) * يعني يجب اتباعه لكونه حقا ولكونه هاديا وقوله تعالى: * (ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق) * فيه لطيفة وهو أن الكلام الذي بالفم فحسب يشبه صوت البهائم الذي يوجد لا عن قلب، ثم إن الكلام الذي بالقلب قد
192

يكون حقا وقد يكون باطلا، لأن من يقول شيئا عن اعتقاد قد يكون مطابقا فيكون حقا، وقد لا يكون فيكون باطلا، فالقول الذي بالقلب وهو المعتبر من أقوالكم قد يكون حقا وقد يكون باطلا لأنه يتبع الوجود، وقول الله حق لأنه يتبعه الوجود فإنه يقول عما كان أو يقول فيكون، فإذن قول الله خير من أقوالكم التي عن قلوبكم فكيف تكون نسبته إلى أقوالكم التي بأفواهكم، فإذن لا يجوز أن تأخذوا بقولكم الكاذب اللاغي وتتركوا قول الله الحق فمن يقول بأن تزوج النبي عليه الصلاة والسلام بزينب لم يكن حسنا يكون قد ترك قول الله الحق وأخذ بقول خرج عن الفم.
ثم قال تعالى: * (وهو يهدي السبيل) * إشارة إلى أن اتباع ما أنزل الله خير من الأخذ بقول الغير.
قوله تعالى
* (ادعوهم لابآئهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا ءاباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما) *.
ثم بين الهداية وقال: * (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما) *.
قوله تعالى: * (ادعوهم لآبائهم) * أرشد وقال: * (هو أقسط عند الله) * أي أعدل فإنه وضع الشيء في موضعه وهو يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون ترك الإضافة للعموم أي أعدل كل كلام كقول القائل الله أكبر وثانيهما: أن يكون ما تقدم منويا كأنه قال ذلك أقسط من قولكم هو ابن فلان ثم تمم الإرشاد وقال: * (فإن لم
تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) * يعني قولوا لهم إخواننا وأخو فلان فإن كانوا محررين فقولوا مولى فلان، ثم قال تعالى: * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) * يعني قول القائل لغيره يا بني بطريق الشفقة، وقول القائل لغيره يا أبي بطريق التعظيم، فإنه مثل الخطأ ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان فكذلك سبق اللسان في قول القائل ابني والسهو في قوله ابني من غير قصد إلى إثبات النسب سواء، وقوله: * (ولكن ما تعمدت قلوبكم) * مبتدأ خبره محذوف يدل عليه ما سبق وهو الجناح يعني ما تعمدت قلوبكم فيه جناح * (وكان الله غفورا رحيما) * يغفر الذنوب ويرحم المذنب وقد ذكرنا كلاما شافيا في المغفرة والرحمة في مواضع، ونعيد بعضها ههنا فنقول المغفرة هو أن يسترد القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته حتى أن العبد إذا ستر عيب سيده مخافة عقابه لا يقال إنه غفر له، والرحمة هو أن يميل إليه بالإحسان لعجز المرحوم إليه لا لعوض فإن من مال إلى إنسان قادر كالسلطان لا يقال رحمه، وكذا من أحسن إلى غيره رجاء في خيره أو عوضا عما صدر منه آنفا من الإحسان لا يقال رحمه، إذا علم هذا
193

فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة يكون معناها أنه ستر عيبه ثم رآه مفلسا عاجزا فرحمه وأعطاه ما كفاه، وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة وهو قليل يكون معناها أنه مال إليه لعجزه فترك عقابه ولم يقتصر عليه بل ستر ذنوبه.
قوله تعالى
* (النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليآئكم معروفا كان ذلك فى الكتاب مسطورا) *.
قوله تعالى: * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) * تقرير لصحة ما صدر منه عليه الصلاة والسلام من التزوج بزينب وكأن هذا جواب عن سؤال وهو أن قائلا لو قال هب أن الأدعياء ليسوا بأبناء كما قلت لكن من سماه غيره ابنا إذا كان لدعيه شيء حسن لا يليق بمروءته أن يأخذه منه ويطعن فيه عرفا فقال الله تعالى * (النبي أولى بالمؤمنين) * جوابا عن ذلك السؤال وتقريره هو أن دفع الحاجات على مراتب؛ دفع حاجة الأجانب ثم دفع حاجة الأقارب الذين على حواشي النسب ثم دفع حاجة الأصول والفصول ثم دفع حاجة النفس، والأول عرفا دون الثاني وكذلك شرعا فإن العاقلة تتحمل الدية عنهم ولا تتحملها عن الأجانب والثاني دون الثالث أيضا وهو ظاهر بدليل النفقة والثالث دون الرابع فإن النفس تقدم على الغير وإليه أشار النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " إذا علمت هذا فالإنسان إذا كان معه ما يغطي به إحدى الرجلين أو يدفع به حاجة عن أحد شقي بدنه، فلو أخذ الغطاء من أحدهما وغطى به الآخر لا يكون لأحد أن يقول له لم فعلت فضلا عن أن يقول بئسما فعلت، اللهم إلا أن يكون أحد العضوين أشرف من الآخر مثل ما إذا وقى الإنسان عينه بيده ويدفع البرد عن رأسه الذي هو معدن حواسه ويترك رجله تبرد فإنه الواجب عقلا، فمن يعكس الأمر يقال له لم فعلت، وإذا تبين هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمن من نفسه فلو دفع المؤمن حاجة نفسه دون حاجة نبيه يكون مثله مثل من يدهن شعره ويكشف رأسه في برد مفرط قاصدا به تربية شعره ولا يعلم أنه يؤذي رأسه الذي لا نبات لشعره إلا منه، فكذلك دفع حاجة النفس فراغها إلى عبادة الله تعالى ولا علم بكيفية العبادة إلا من الرسول عليه الصلاة والسلام، فلو دفع الإنسان حاجته لا للعبادة فهو ليس
194

دفعا للحاجة لأن دفع الحاجة ما هو فوق تحصيل المصلحة وهذا ليس فيه مصلحة فضلا عن أن يكون حاجة وإذا كان للعبادة فترك النبي الذي منه يتعلم كيفية العبادة في الحاجة ودفع حاجة النفس مثل تربية الشعر مع إهمال أمر الرأس، فتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد شيئا حرم على الأمة التعرض إليه في الحكمة الواضحة.
ثم قال تعالى: * (وأزواجه أمهاتهم) * تقريرا آخر، وذلك لأن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ما جعلها الله تعالى في حكم الأم إلا لقطع نظر الأمة عما تعلق به غرض النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا تعلق خاطره بامرأة شاركت الزوجات في التعلق فحرمت مثل ما حرمت أزواجه على غيره، فلو قال قائل كيف قال: * (وأزواجه أمهاتهم) * وقال من قبل: * (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) * إشارة إلى أن غير من ولدت لا تصير أما بوجه، ولذلك قال تعالى في موضع آخر: * (إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) * فنقول قوله تعالى في الآية المتقدمة: * (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) * جواب عن هذا معناه أن الشرع مثل الحقيقة، ولهذا يرجع العاقل عند تعذر اعتبار الحقيقة إلى الشريعة. كما أن امرأتين إذا ادعت كل واحدة ولدا بعينه ولم يكن لهما بينة وحلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد، وإن تبين أن التي حلفت دون البلوغ أو بكر ببينة لا يحكم لها بالولد، فعلم أن عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشرع، لا بل في بعض المواضع على الندور تغلب الشريعة الحقيقة، فإن الزاني لا يجعل أبا لولد الزنا. إذا ثبت هذا فالشارع له الحكم فقول القائل هذه أمي قول يفهم لا عن حقيقة ولا يترتب عليه حقيقة. وأما قول الشارع (فهو) حق والذي يؤيده هو أن الشارع به الحقائق حقائق فله أن يتصرف فيها، ألا ترى أن الأم ما صارت أما إلا بخلق الله الولد في رحمها، ولو خلقه في جوف غيرها لكانت الأم غيرها، فإذا كان هو الذي يجعل الأم الحقيقية أما فله أن يسمى امرأة أما ويعطيها حكم الأمومة، والمعقول في جعل أزواجه أمهاتنا هو أن الله تعالى جعل زوجة الأب محرمة على الابن، لأن الزوجة محل الغيرة والتنازع فيها، فإن تزوج الابن بمن كانت تحت الأب يفضي ذلك إلى قطع الرحم والعقوق، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أشرف وأعلى درجة من الأب وأولى بالإرضاء، فإن الأب يربي في الدنيا فحسب، والنبي عليه الصلاة والسلام يربي في الدنيا والآخرة، فوجب أن تكون زوجاته مثل زوجات الآباء، فإن قال قائل: فلم لم يقل إن النبي أبوكم ويحصل هذا المعنى، أو لم يقل إن أزواجه أزواج أبيكم فنقول لحكمة، وهي أن النبي لما بينا أنه إذا أراد زوجة واحد من الأمة وجب عليه تركها ليتزوج بها النبي عليه الصلاة والسلام، فلو قال أنت أبوهم لحرم عليه زوجات المؤمنين على التأبيد، ولأنه لما جعله أولى بهم من أنفسهم والنفس مقدم على الأب لقوله عليه الصلاة والسلام: " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " ولذلك فإن المحتاج إلى القوت لا يجب عليه صرفه إلى الأب، ويجب عليه صرفه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إن أزواجه لهم حكم زوجات
195

الأب حتى لا تحرم أولادهن على المؤمنين ولا أخواتهن ولا أمهاتهن، وإن كان الكل يحرمن في الأم الحقيقية والرضاعية.
ثم قال تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا) * إشارة إلى الميراث، وقوله: * (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) * إشارة إلى الوصية، يعني إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم، فإن قيل فعلى هذا أي تعلق للميراث والوصية بما ذكرت نقول تعلق قوي خفي لا يتبين إلا لمن هداه الله بنوره، وهو أن غير النبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته لا يصير له مال الغير، وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته، والنبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أراده ولا يصير ماله لورثته بعد وفاته كأن الله تعالى عوض النبي عليه الصلاة والسلام عن قطع ميراثه بقدرته على تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه يرجع إليهم، حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد شيئا يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت عليهم ولا يرجع إليهم فقال تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) * يعني بينكم التوارث فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم الثاني: هو أن الله تعالى ذكر دليلا على أن النبي عليه الصلاة والسلام أولي بالمؤمنين وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض، ثم إذا أراد أحد برا مع صديق فيوصي له بشيء فيصير أولى من قريبه وكأنه بالوصية قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا إلى من أريده، فكذلك الله تعالى جعل لصديقه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره وقوله: " كان ذلك في الكتاب مسطورا " فيه وجهان أحدهما: في القرآن وهو آية المواريث والوصية والثاني: في اللوح المحفوظ.
قوله تعالى
* (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) *.
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله: * (يا أيها النبي اتق الله) * (الأحزاب: 1) وأكده بالحكاية التي خشى فيها الناس لكي لا يخشى فيها أحدا غيره وبين أنه لم يرتكب أمرا يوجب الخشية بقوله: * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) * (الأحزاب: 6) أكده بوجه آخر وقال: * (وإذ أخذنا من النبيين) * كأنه قال اتق الله ولا تخف أحدا واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع وفيه مسائل:
196

المسألة الأولى: المراد من الميثاق المأخوذ من النبيين إرسالهم وأمرهم بالتبليغ.
المسألة الثانية: خص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمة فذكرهما احتجاجا على قومهما، وإبراهيم كان العرب يقولون بفضله وكانوا يتبعونه في الشعائر بعضها، ونوحا لأنه كان أصلا ثانيا للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان، وعلى هذا لو قال قائل فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الإرشاد للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب، وأما نوح فكان مخلوقا للنبوة وأرسل للإنذار ولهذا أهلك قومه وأغرقوا.
المسألة الثالثة: في كثير من المواضع يقول الله: * (عيسى ابن مريم) * (البقرة: 87) * (المسيح ابن مريم) * (المائدة: 17) إشارة إلى أنه لا أب له إذ لو كان لوقع التعريف به، وقوله: * (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) * غلظ الميثاق هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال تعالى: * (ولنسألن المرسلين) * (الأعراف: 6) وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولا وأمره بشيء وقبله فهو ميثاق، فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون ذلك تغليظا للميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة، وعلى هذا يمكن أن يقال بأن المراد من قوله تعالى: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * (النساء: 21) هو الإخبار بأنهم مسؤلون عنها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " وكما أن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء جعل الأنبياء قائمين بأمور أمتهم وإرشادهم إلى سبيل الرشاد.
* (ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما) *.
يعني أرسل الرسل وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب، لأن الصادق محاسب والكافر معذب، وهذا كما قال علي عليه السلام: " الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب " وهذا مما يوجب الخوف العام فيتأكد قوله: * (يا أيها النبي اتق الله) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جآءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ
197

زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) *.
تحقيقا لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معه خوف من أحد وذلك لأن واقعة اجتماع الأحزاب واشتداد الأمر على الأصحاب حيث اجتمع المشركون بأسرهم واليهود بأجمعهم ونزلوا على المدينة وعمل النبي عليه السلام الخندق، كان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغا إلى الغاية والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمنهم من الخوف فينبغي أن لا يخاف العبد غير ربه فإنه كاف أمره ولا يأمن مكره فإنه قادر على كل ممكن فكان قادرا على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم كانوا ضعفاء كما قهر الكافرين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم، وقوله: * (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) * إشارة إلى ما فعل الله بهم من إرسال ريح باردة عليهم في ليلة شاتية وإرسال الملائكة وقذف الرعب في قلوبهم حتى كان البعض يلتزق بالبعض من خوف الخيل في جوف الليل والحكاية مشهورة، وقوله: * (وكان الله بما تعملون بصيرا
) * إشارة إلى أن الله علم التجاءكم إليه ورجاءكم فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداء، وهذا تقرير لوجوب الخوف وعدم جواز الخوف من غير الله فإن قوله: * (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) * أي الله يقضي حاجتكم وأنتم لا ترون، فإن كان لا يظهر لكم وجه الأمن فلا تلتفتوا إلى عدم ظهوره لكم لأنكم لا ترون الأشياء فلا تخافون غير الله والله بصير بما تعملون فلا تقولوا بأنا نفعل شيئا وهو لا يبصره فإنه بكل شيء بصير وقوله: * (إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم) * بيان لشدة الأمر وغاية الخوف، وقيل: * (من فوقكم) * أي من جانب الشرق * (ومن أسفل منكم) * من جانب الغرب وهم أهل مكة وزاغت الأبصار أي مالت عن سننها فلم تلتفت إلى العدو لكثرته * (وبلغت القلوب الحناجر) * كناية عن غاية الشدة، وذلك لأن القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص فيلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مجرى النفس لا يقدر المرء يتنفس ويموت من الخوف ومثله قوله تعالى: * (حتى إذا بلغت الحلقوم) * (الواقعة: 83) وقوله: * (وتظنون بالله الظنونا) * الألف واللام يمكن أن يكونا بمعنى الاستغراق مبالغة يعني تظنون كل ظن لأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئا ويمكن أن يكون المراد ظنونهم المعهودة، لأن المعهود من المؤمن ظن الخير بالله كما قال عليه السلام: " ظنوا بالله خيرا " ومن الكافر الظن السوء كما قال تعالى: * (ذلك ظن الذين كفروا) * (ص: 27) وقوله: * (إن يتبعون إلا الظن) * (النجم: 23) فإن قال قائل المصدر لا يجمع، فما الفائدة في جمع الظنون؟ فنقول لا شك في أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل مصدرا كما يقال ضربته سياطا وأدبته مرارا فكأنه قال ظننتم ظنا بعد ظن أي ما ثبتم على ظن فالفائدة هي أن الله تعالى لو قال: تظنون ظنا، جاز أن يكونوا مصيبين فإذا قال: ظنونا، تبين أن فيهم من كان ظنه كاذبا لأن الظنون قد تكذب كلها
198

وقد يكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد مثاله إذا رأى جمع من بعيد جسما وظن بعضهم أنه زيد وآخرون أنه عمرو وقال ثالث إنه بكر، ثم ظهر لهم الحق قد يكون الكل مخطئين والمرئي شجر أو حجر. وقد يكون أحدهم مصيبا ولا يمكن أن يكونوا كلهم مصيبين فقوله: * (الظنونا) * أفاد أن فيهم من أخطأ الظن، ولو قال تظنون بالله ظنا ما كان يفيد هذا.
ثم قال تعالى
* (هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) *.
أي عند ذلك امتحن الله المؤمنين فتميز الصادق عن المنافق، والامتحان من الله ليس لاستبانة الأمر له بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد إظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء، كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة وعزم على معاقبته على مخالفته وعنده غيره من العبيد وغيرهم فيأمره بأمر عالما بأنه يخالفه فيبين الأمر عند الغير فتقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنها بظلم أو من قلة حلم وقوله: * (وزلزلوا) * أي أزعجوا وحركوا فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وبذكر الله تطمئن مرة أخرى، وهم المؤمنون حقا.
ثم قال تعالى
* (وإذ يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طآئفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبى يقولون إن بيوتنا عورة وما هى بعورة إن يريدون إلا فرارا) *.
فسر الظنون وبينها، فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زورا ووعدهما كان غرورا حيث قطعوا بأن الغلبة واقعة وقوله: * (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم) * أي لا وجه لإقامتكم مع محمد كما يقال لا إقامة على الذل والهوان أي لا وجه لها ويثرب اسم للبقعة التي هي المدينة فارجعوا أي عن محمد، واتفقوا مع الأحزاب تخرجوا من الأحزان ثم السامعون عزموا على الرجوع واستأذنوه وتعللوا بأن بيوتنا عورة أي فيها خلل لا يأمن صاحبها السارق على متاعه والعدو على أتباعه ثم بين الله كذبهم بقوله: * (وما هي بعورة) * وبين قصدهم وما تكن صدورهم وهو الفرار وزوال القرار بسبب الخوف.
199

ثم قال تعالى
* (ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بهآ إلا يسيرا) *.
إشارة إلى أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلا لغرض، فإذا فاته الغرض لا يفعله، كمن يبذل المال لكي لا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله فقال الله تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضا، وليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة، وقوله: * (ولو دخلت عليهم) * احتمل أن يكون المراد المدينة واحتمل أن يكون البيوت، وقوله: * (وما تلبثوا بها) * يحتمل أن يكون المراد الفتنة * (إلا يسيرا) * فإنها تزول وتكون العاقبة للمتقين، ويحتمل أن يكون المراد المدينة أو البيوت أي ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيرا فإن المؤمنين يخرجونهم.
ثم قال تعالى
* (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسئولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا) *.
بيانا لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذرا وندما، وذكروا أن القتال لا يزال لهم قدما ثم هددهم بقوله: * (وكان عهد الله مسؤولا) * وقوله: * (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل) * إشارة إلى أن الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما وقع عليه القرار، وما قدره الله كائن فمن أمر بشيء إذا خالفه يبقى في ورطة العقاب آجلا ولا ينتفع بالمخالفة عاجلا، ثم قال تعالى: * (وإذا لا تمتعون إلا قليلا) * كأنه يقول ولو فررتم منه في يومكم مع أنه غير ممكن لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلا فالعاقل لا يرغب في شيء قليل مع أنه يفوت عليه شيئا كثيرا، فلا فرار لكم ولو كان لما متعتم بعد الفرار إلا قليلا.
ثم قال تعالى
* (قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) *.
200

بيانا لما تقدم من قوله: * (لن ينفعكم الفرار) * وقوله: * (ولا يجدون لهم من دون الله) * تقرير لقوله: * (من ذا الذي يعصمكم) * أي ليس لكم ولي يشفع لمحبته إياكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم.
ثم قال تعالى
* (قد يعلم الله المعوقين منكم والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا) *.
أي الذين يثبطون المسلمين ويقولون تعالوا إلينا ولا تقاتلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم وفيه وجهان أحدهما: أنهم المنافقون الذين كانوا يقولون للأنصار لا تقاتلوا وأسلموا محمدا إلى قريش وثانيهما: اليهود الذين كانوا يقولون لأهل المدينة تعالوا إلينا وكونوا معنا وهلم بمعنى تعال أو أحضر ولا تجمع في لغة الحجاز وتجمع في غيرها فيقال للجماعة هلموا وللنساء هلمن، وقوله: * (ولا يأتون البأس إلا قليلا) * يؤيد الوجه الأول وهو أن المراد منهم المنافقون وهو يحتمل وجهين أحدهما: * (لا يأتون البأس) * بمعنى يتخلفون عنكم ولا يخرجون معكم وحينئذ قوله تعالى: * (أشحة عليكم) * أي بخلاء حيث لا ينفقون في سبيل الله شيئا وثانيهما: لا يأتون البأس بمعنى لا يقاتلون معكم ويتعللون عن الاشتغال بالقتال وقت الحضور معكم، وقوله: * (أشحة عليكم) * أي بأنفسهم وأبدانهم.
ثم قال تعالى
* (أشحة عليكم فإذا جآء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا) *.
إشارة إلى غاية جبنهم ونهاية روعهم، واعلم أن البخل شبيه الجبن، فلما ذكر البخل بين سببه وهو الجبن والذي يدل عليه هو أن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر
201

فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل له فيتوقف فيه، وأما الشجاع فيتيقن الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعا فيما هو أضعاف ذلك، وأما بالنفس والبدن فكذلك فإن الجبان يخاف قرنه ويتصور الفشل فيجبن ويترك الإقدام، وأما الشجاع فيحكم بالغلبة والنصر فيقدم، وقوله تعالى: * (فإذا ذهب الخوف سلقوكم) * أي غلبوكم بالألسنة وآذوكم بكلامهم يقولون نحن الذين قاتلنا وبنا انتصرتم وكسرتم العدو وقهرتم ويطالبونكم بالقسم الأوفر من الغنيمة وكانوا من قبل راضين من الغنيمة بالإياب، وقوله: * (أشحة على الخير) * قيل الخير المال ويمكن أن يقال معناه أنهم قليلو الخير في الحالتين كثيرو الشر في الوقتين في الأول يبخلون، وفي الآخر كذلك.
ثم قال تعالى: * (أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا) * يعني لم يؤمنوا حقيقة وإن أظهروا الإيمان لفظا فأحبط الله أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين وقوله: * (وكان ذلك على الله يسيرا) * إشارة إلى ما يكون في نظر الناظر كما في قوله تعالى: * (وهو أهون عليه) * (الروم: 27) وذلك لأن الإحباط إعدام وإهدار، وإعدام الأجسام إذا نظر الناظر يقول الجسم بتفريق أجزائه، فإن من أحرق شيئا يبقى منه رماد، وذلك لأن الرماد إن فرقته الريح يبقى منه ذرات، وهذا مذهب بعض الناس والحق هو أن الله يعدم الأجسام ويعيد ما يشاء منها، وأما العمل فهو في العين معدوم وإن كان يبقى يبقى بحكمه وآثاره، فإذا لم يكن له فائدة واعتبار فهو معدوم حقيقة وحكما فالعمل إذا لم يعتبر فهو معدوم في الحقيقة بخلاف الجسم.
* (يحسبون الاحزاب لم يذهبوا وإن يأت الاحزاب يودوا لو أنهم بادون فى الاعراب يسألون عن أنبآئكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا * لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا) *.
أي من غاية الجبن عند ذهابهم كانوا يخافونهم وعند مجيئهم كانوا يودون لو كانوا في البوادي ولا يكونون بين المقاتلين مع أنهم عند حضورهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كما قال تعالى:
202

* (ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا) *.
قوله تعالى
* (ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) *.
لما بين حال المنافقين ذكر حال المؤمنين وهو أنهم قالوا هذا ما وعدنا الله من الابتلاء ثم قالوا: * (وصدق الله ورسوله) * في مقابلة قولهم: * (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) * (الأحزاب: 12) وقولهم: * (وصدق الله ورسوله) * ليس إشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله قبل الوقوع وإنما هي إشارة إلى بشارة وهو أنهم قالوا: * (هذا ما وعدنا الله) * وقد وقع وصدق الله في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس وقوله: * (ما زادهم إلا إيمانا) * بوقوعه وتسليما عند وجوده.
* (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شآء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما * ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) *.
إشارة إلى وفائهم بعهدهم الذي عاهدوا الله أنهم لا يفارقون نبيه إلا بالموت فمنهم من قضى نحبه أي قاتل حتى قتل فوفى بنذره والنحب النذر، ومنهم من هو بعد في القتال ينتظر الشهادة وفاء بالعهد وما بدلوا تبديلا بخلاف المنافقين فإنهم قالوا لا نولي الأدبار فبدلوا قولهم وولوا أدبارهم وقوله: * (ليجزي الله الصادقين بصدقهم) * أي بصدق ما وعدهم في الدنيا والآخرة كما صدقوا مواعيدهم ويعذب المنافقين الذين كذبوا وأخلفوا وقوله: * (إن شاء) * ذلك فيمنعهم من الإيمان
203

أو يتوب عليهم إن أراد، وإنما قال ذلك حيث لم يكن قد حصل يأس النبي عليه الصلاة والسلام عن إيمانهم وآمن بعد ذلك ناس منهم وقوله: * (وكان الله غفورا) * حيث ستر ذنوبهم و * (رحيما) * حيث رحمهم ورزقهم الإيمان فيكون هذا فيمن آمن بعده أو نقول: * (ويعذب المنافقين) * مع أنه كان غفورا رحيما لكثرة ذنبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم ثم بين بعض ما جازاهم الله به على صدقهم فقال: * (ورد الله الذين كفروا بغيظهم) * أي مع غيظهم لم يشفوا صدرا ولم يحققوا أمرا * (وكفى الله المؤمنين القتال) * أي لم يحوجهم إلى قتال * (وكان الله قويا) * غير محتاج إلى قتالهم عزيزا قادرا على استئصال الكفار وإذلالهم.
* (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف فى قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا) *.
أي عاونوهم من أهل الكتاب وهم بنو قريظة من صياصيهم من قلاعهم وقذف في قلوبهم الرعب حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونسائهم للسبي فريقا تقتلون وهم الرجال، وتأسرون فريقا وهم الصبيان والنسوان، فإن قيل هل في تقديم المفعول حيث قال فريقا تقتلون وتأخيره حيث قال: * (وتأسرون فريقا) * فائدة؟ قلت قد أجبنا أن ما من شيء من القرآن إلا وله فوائد منها ما يظهر ومنها ما لا يظهر، والذي يظهر من هذا والله أعلم أن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأعرف فالأعرف والأقرب فالأقرب، والرجال كانوا مشهورين فكان القتل واردا عليهم والأسرى كانوا هم النساء والصغار ولم يكونوا مشهورين والسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلين ما هو أشهر على الفعل القائم به وما هو أشهر من الفعلين قدمه على المحل الأخفى، وإن شئنا نقول بعبارة توافق المسائل النحوية فنقول قوله: * (فريقا تقتلون) * فعل ومفعول والأصل في الجمل الفعلية تقديم الفعل على المفعول والفاعل، أما أنها جملة فعلية فلأنها لو كانت إسمية لكان الواجب في فريق الرفع وكان يقول فريق منهم تقتلونهم فلما نصب كان ذلك بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره تقتلون فريقا تقتلون والحامل على مثل هذا الكلام شدة الاهتمام ببيان المفعول، وههنا كذلك لأنه تعالى لما ذكر حال الذين ظاهروهم وأنه قذف في قلوبهم الرعب فلو قال تقتلون إلى أن يسمع السامع مفعول تقتلون يكون زمان وقد يمنعه مانع فيفوته فلا يعلم أنهم هم المقتولون، فأما إذا قال فريقا مع سبق في قلوبهم الرعب إلى سمعه يستمع إلى تمام الكلام وإذا كان الأول فعلا ومفعولا قدم المفعول لفائدة عطف الجملة الثانية عليها على
204

الأصل فعدم تقديم الفعل لزوال موجب التقديم إذا عرف حالهم وما يجئ بعده يكون مصروفا إليهم، ولو قال بعد ذلك وفريقا تأسرون فمن سمع فريقا ربما يظن أن يقال فيهم يطلقون، أو لا يقدرون عليهم فكان تقديم الفعل ههنا أولى، وكذلك الكلام في قوله: * (وأنزل الذين ظاهروهم) * وقوله: * (وقذف) * فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبب الإنزال، ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر، قدم الإنزال على قذف الرعب والله أعلم.
ثم قال تعالى
* (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شىء قديرا) *.
فيه ترتيب على ما كان، فإن المؤمنين أولا تملكوا أرضهم بالنزول فيها والاستيلاء عليها ثم تملكوا ديارهم بالدخول عليهم وأخذ قلاعهم ثم أموالهم التي كانت في بيوتهم وقوله: * (وأرضا لم تطئوها) * قيل المراد القلاع وقيل المراد الروم وأرض فارس وقيل كل ما يؤخذ إلى يوم القيامة: * (وكان الله على كل شيء قديرا) * هذا يؤكد قول من قال إن المراد من قولهم: * (وأرضا لم تطئوها) * هو ما سيؤخذ بعد بني قريظة، ووجهه هو أن الله تعالى لما ملكهم تلك البلاد ووعدهم بغيرها دفع استبعاد من لا يكون قوي الاتكال على الله تعالى وقال أليس الله ملككم هذه فهو على كل شيء قدير يملككم غيرها.
ثم قال تعالى
* (يا أيها النبى قل لازواجك إن كنتن تردن الحيوة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الاخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) *.
وجه التعلق هو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله: " الصلاة وما ملكت أيمانكم " ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله: * (يا أيها النبي اتق الله) * (الأحزاب: 1) ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولهذا قدمهن في النفقة، وفي الآية مسائل فقهية منها أن التخيير
205

هل كان واجبا على النبي عليه السلام أم لا؟ فنقول التخيير قولا كان واجبا من غير شك لأنه إبلاغ الرسالة، لأن الله تعالى لما قال له قل لهم صار من الرسالة، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا؟ والظاهر أنه للوجوب، ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقا والظاهر أنه لا يصير فراقا وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: * (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا) * ومنها أن واحدة منهن إن اختارت نفسها وقلنا بأنها لا تبين إلا بإنابة من جهة النبي عليه السلام فهل كان يجب على النبي عليه السلام الطلاق أم لا؟ الظاهر نظرا إلى منصب النبي عليه السلام أنه كان يجب، لأن الخلف في الوعد من النبي غير جائز بخلاف واحد منا، فإنه لا يلزمه شرعا الوفاء بما يعد ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا، والظاهر أنها لا تحرم، وإلا لا يكون التخيير ممكنا لها من التمتع بزينة الدنيا، ومنها أن من اختارت الله ورسوله كان يحرم على النبي عليه الصلاة والسلام طلاقها أم لا
؟ الظاهر الحرمة نظرا إلى منصب الرسول عليه الصلاة والسلام على معنى أن النبي عليه السلام لا يباشره أصلا، بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب، وفيها لطائف لفظية منها تقديم اختيار الدنيا، إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام غير ملتفت إلى جانبهن غاية الالتفات وكيف وهو مشغول بعبادة ربه، ومنها قوله عليه السلام: * (أسرحكن سراحا جميلا) * إشارة إلى ما ذكرنا، فإن السراح الجميل مع التأذي القوي لا يجتمع في العادة، فعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يتأثر من اختيارهن فراقه بدليل أن التسريح الجميل منه، ومنها قوله: * (وإن كنتن تردن الله) * إعلاما لهن بأن في اختيار النبي عليه السلام اختيار الله ورسوله والدار الآخرة وهذه الثلاثة هي الدين وقوله: * (أعد للمحسنات منكن) * أي لمن عمل صالحا منكن، وقوله: * (تردن الله ورسوله والدار الآخرة) * فيه معنى الإيمان، وقوله: * (للمحسنات) * لبيان الإحسان حتى تكون الآية في المعنى، كقوله تعالى: * (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن) * (لقمان: 22) وقوله تعالى: * (من آمن وعمل صالحا) * (الكهف: 88) وقوله: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (البقرة: 82) والأجر العظيم الكبير في الذات الحسن في الصفات الباقي في الأوقات، وذلك لأن العظيم في الأجسام لا يطلق إلا على الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق، حتى لو كان زائدا في الطول يقال له طويل، ولو كان زائدا في العرض يقال له عريض، وكذلك العميق، فإذا وجدت الأمور الثلاثة قيل عظيم، فيقال جبل عظيم إذا كان عاليا ممتدا في الجهات، وإن كان مرتفعا فحسب يقال جبل عال، إذا عرفت هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن جهة قبح، لما في مأكوله من الضرر والثقل، وكذلك في مشروبه وغيره من اللذات وغير دائم، وأجر الآخرة كثير خال عن جهات القبح دائم فهو عظيم.
206

ثم قال تعالى
* (يا نسآء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا) *.
لما خيرهن النبي صلى الله عليه وسلم واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن للتوقي عما يسوء النبي عليه السلام ويقبح بهن من الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان إحداهما: أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك ولإيذاء قلبه والإزراء بمنصبه، وعلى هذا بنات النبي عليه السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي صلى الله عليه وسلم وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي عليه السلام، ويكون ذلك الغير خيرا عندها من النبي وأولى، والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير، فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين ثانيتهما: أن هذا إشارة إلى شرفهن، لأن الحرة عذابها ضعف عذاب الأمة إظهارا لشرفها، ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم، فكذلك زوجاته وقرائبه اللاتي هن أمهات المؤمنين، وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة، وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته، فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأمة بالنسبة إلى الحرة، واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر، ولا يقع في بعض الصور جزما وفي بعض يقع جزما من مات فقد استراح، وفي البعض يتردد السامع في الأمرين، فقوله تعالى: * (من يأت منكن بفاحشة) * عندنا من القبيل الأول، فإن الأنبياء صان الله زوجاتهم عن الفاحشة، وقوله تعالى: * (وكان ذلك على الله يسيرا) * أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكن شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن، وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم أو شفعائهم وإخوانهم.
ثم قال تعالى
* (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتهآ أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما) *.
قوله تعالى: * (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا) * بيانا لزيادة ثوابهن، كما بين
207

زيادة عقابهن * (نؤتها أجرها مرتين) * في مقابلة قوله تعالى: * (يضاعف لها العذاب ضعفين) * مع لطيفة وهي أن عند إيتاء الأجر ذكر المؤتي وهو الله، وعند العذاب لم يصرح بالمعذب فقال: * (يضاعف) * إشارة إلى كمال الرحمة والكرم، كما أن الكريم الحي عند النفع يظهر نفسه وفعله، وعند الضر لا يذكر نفسه، وقوله تعالى: * (واعتدنا لها رزقا كريما) * وصف رزق الآخرة بكونه كريما، مع أن الكريم لا يكون إلا وصفا للرزاق إشارة إلى معنى لطيف، وهو أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس، التاجر يسترزق من السوقة، والمعاملين والصناع من المستعملين، والملوك من الرعية والرعية منهم، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه، وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار. وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه، فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرزاق، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق.
قوله تعالى
* (يا نسآء النبى لستن كأحد من النسآء إن تقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض وقلن قولا معروفا) *.
ثم قال تعالى: * (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) * لما ذكر أن عذابهن ضعف عذاب غيرهن وأجرهن مثلا أجر غيرهن صرن كالحرائر بالنسبة إلى الإماء، فقال: * (لستن كأحد) * ومعنى قول القائل ليس فلان كآحاد الناس، يعني ليس فيه مجرد كونه إنسانا، بل وصف أخص موجود فيه، وهو كونه عالما أو عاملا أو نسيبا أو حسيبا، فإن الوصف الأخص إذا وجد لا يبقى التعريف بالأعم، فإن من عرف رجلا ولم يعرف منه غير كونه رجلا يقول رأيت رجلا فإن عرف علمه يقول رأيت زيدا أو عمرا، فكذلك قوله تعالى: * (لستن كأحد من النساء) * يعني فيكن غير ذلك أمر لا يوجد في غيركن وهو كونكن أمهات جميع المؤمنين وزوجات خير المرسلين،
وكما أن محمدا عليه السلام ليس كأحد من الرجال، كما قال عليه السلام: " لست كأحدكم " كذلك قرائبه اللاتي يشرفن به وبين الزوجين نوع من الكفاءة.
ثم قوله تعالى: * (إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول) * يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون متعلقا بما قبله على معنى لستن كأحد إن اتقيتن فإن الأكرم عند الله هو الأتقى وثانيهما: أن يكون متعلقا بما بعده على معنى إن اتقيتن فلا تخضعن والله تعالى لما منعهن من الفاحشة وهي الفعل القبيح منعهن من مقدماتها وهي المحادثة مع الرجال والانقياد في الكلام للفاسق. ثم قوله تعالى: * (فيطمع الذي في قلبه مرض) * أي فسق وقوله تعالى: * (وقلن قولا معروفا) * أي ذكر الله، وما تحتجن إليه
208

من الكلام والله تعالى لما قال: * (فلا تخضعن بالقول) * ذكر بعده * (وقلن) * إشارة إلى أن ذلك ليس أمرا بالإيذاء والمنكر بل القول المعروف وعند الحاجة هو المأمور به لا غيره.
ثم قال تعالى
* (وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلوة وءاتين الزكوة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *.
قوله تعالى: * (وقرن في بيوتكن) * من القرار وإسقاط أحد حرفي التضعيف كما قال تعالى: * (فظلتم تفكهون) * وقيل بأنه من الوقار كما يقال وعد يعد عد وقول: * (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) * قيل معناه لا تتكسرن ولا تتغنجن، ويحتمل أن يكون المراد لا تظهرن زينتكن وقوله تعالى: * (الجاهلية الأولى) * فيه وجهان أحدهما: أن المراد من كان في زمن نوح والجاهلية الأخرى من كان بعده وثانيهما: أن هذه ليست أولى تقتضي أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة كقول القائل: أين الأكاسرة الجبابرة الأولى.
ثم قال تعالى: * (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله) * يعني ليس التكليف في النهي فقط حتى يحصل بقوله تعالى: * (لا تخضعن، ولا تبرجن) * بل فيه وفي الأوامر * (فأقمن الصلاة) * التي هي ترك التشبه بالجبار المتكبر * (وآتين الزكاة) * التي هي تشبه بالكريم الرحيم * (وأطعن الله) * أي ليس التكليف منحصرا في المذكور بل كل ما أمر الله به فأتين به وكل ما نهى الله عنه فانتهين عنه.
ثم قال تعالى: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *.
يعني ليس المنتفع بتكليفكن هو الله ولا تنفعن الله فيما تأتين به. وإنما نفعه لكن وأمره تعالى إياكن لمصلحتكن، وقوله تعالى: * (ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم) * فيه لطيفة وهي أن الرجس قد يزول عينا ولا يطهر المحل فقوله تعالى: * (ليذهب عنكم الرجس) * أي يزيل عنكم الذنوب ويطهركم أي يلبسكم خلع الكرامة، ثم إن الله تعالى ترك خطاب المؤنثات وخاطب بخطاب المذكرين بقوله: * (ليذهب عنكم الرجس) * ليدخل فيه نساء أهل بيته ورجالهم، واختلفت الأقوال في أهل البيت، والأولى أن يقال هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبي عليه السلام وملازمته للنبي.
209

ثم قال تعالى
* (واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من ءايات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا) *.
ثم قال تعالى: * (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) * أي القرآن * (والحكمة) * أي كلمات النبي عليه السلام إشارة إلى ما ذكرنا من أن التكاليف غير منحصرة في الصلاة والزكاة، وما ذكر الله في هذه الآية فقال: * (واذكرن ما يتلى) * ليعلمن الواجبات كلها فيأتين بها، والمحرمات بأسرها فينتهين عنها.
(وقوله): * (إن الله كان لطيفا خبيرا) * إشارة إلى أنه خبير بالبواطن، لطيف فعلمه يصل إلى كل شيء ومنه اللطيف الذي يدخل في المسام الضيقة ويخرج من المسالك المسدودة.
* (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) *.
ثم قال تعالى: * (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) * لما أمرهن ونهاهن وبين ما يكون لهن وذكر لهن عشر مراتب الأولى: الإسلام والانقياد لأمر الله والثانية: الإيمان بما يرد به أمر الله، فإن المكلف أولا يقول كل ما يقوله أقبله فهذا إسلام، فإذا قال الله شيئا وقبله صدق مقالته وصحح اعتقاده فهو إيمان ثم اعتقاده يدعوه إلى الفعل الحسن والعمل الصالح فيقنت ويعبد وهو المرتبة الثالثة: المذكورة بقوله: * (والقانتين والقانتات) * ثم إذا آمن وعمل صالحا كمل فيكمل غيره ويأمر بالمعروف وينصح أخاه فيصدق في كلامه عند النصيحة وهو المراد بقوله: * (والصادقين والصادقات) * ثم إن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يصيبه أذى فيصبر عليه كما قال تعالى: * (والصابرين والصابرات) * ثم إنه إذا كمل وكمل قد يفتخر بنفسه ويعجب بعبادته فمنعه منه بقوله: * (والخاشعين والخاشعات) * أو نقول لما ذكر هذه الحسنات أشار إلى ما يمنع منها وهو إما حب الجاه أو حب المال من الأمور الخارجية أو الشهوة من الأمور الداخلة، والغضب منهما يكون لأنه يكون بسبب نقص جاه أو فوت مال أو منع من أمر مشتى فقوله: * (والخاشعين والخاشعات) * أي المتواضعين الذين لا يميلهم الجاه عن العبادة، ثم قال تعالى: * (والمتصدقين والمتصدقات) * أي الباذلين الأموال الذين لا يكنزونها لشدة محبتهم إياها. ثم قال تعالى: * (والصائمين والصائمات) * إشارة إلى الذين لا تمنعهم الشهوة البطنية من عبادة الله. ثم قال تعالى: * (والحافظين فروجهم والحافظات) * أي الذين لا تمنعهم الشهوة الفرجية.
210

ثم قال تعالى: * (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) * يعني هم في جميع هذه الأحوال يذكرون الله ويكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصبرهم وخشوعهم
وصدقتهم وصومهم بنية صادقة لله، واعلم أن الله تعالى في أكثر المواضع حيث ذكر الذكر قرنه بالكثرة ههنا، وفي قوله بعد هذا * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) * (الأحزاب: 41) وقال من قبل: * (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) * (الأحزاب: 21) لأن الإكثار من الأفعال البدنية غير ممكن أو عسر فإن الإنسان أكله وشربه وتحصيل مأكوله ومشروبه يمنعه من أن يشتغل دائما بالصلاة ولكن لا مانع له من أن يذكر الله تعالى وهو آكل ويذكره وهو شارب أو ماش أو بائع أو شار، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * (آل عمران: 191) ولأن جميع الأعمال بذكر الله تعالى وهي النية.
ثم قال تعالى: * (أعد الله لهم مغفرة) * تمحو ذنوبهم وقوله: * (وأجرا عظيما) * ذكرناه فيما تقدم.
* (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) *.
قيل بأن الآية نزلت في زينب حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم تزويجها من زيد بن حارثة فكرهت إلا النبي عليه السلام وكذلك أخوها امتنع فنزلت الآية فرضيا به، والوجه أن يقال إن الله تعالى لما أمر نبيه بأن يقول لزوجاته إنهن مخيرات فهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ضرر الغير فمن كان ميله إلى شيء يمكنه النبي عليه السلام من ذلك، ويترك النبي عليه السلام حق نفسه لحظ غيره، فقال في هذه الآية لا ينبغي أن يظن ظان أن هوى نفسه متبعه وأن زمام الاختيار بيد الإنسان كما في الزوجات، بل ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله فما أمر الله هو المتبع وما أراد النبي هو الحق ومن خالفهما في شيء فقد ضل ضلالا مبينا، لأن الله هو المقصد والنبي هو الهادي الموصل، فمن ترك المقصد ولم يسمع قول الهادي فهو ضال قطعا.
ثم قال تعالى
* (وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى
211

فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيآئهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) *.
وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام * (وأنعمت عليه) * بالتحرير والإعتاق * (أمسك عليك زوجك) * هم زيد بطلاق زينب فقال له النبي أمسك أي لا تطلقها * (واتق الله) * قيل في الطلاق، وقيل في الشكوى من زينب، فإن زيدا قال فيها إنها تتكبر علي بسبب النسب وعدم الكفاءة * (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) * من أنك تريد التزوج بزينب * (وتخشى الناس) * من أن يقولوا أخذ زوجة الغير أو الابن * (والله أحق أن تخشاه) * ليس إشارة إلى أن النبي خشي الناس ولم يخش الله بل المعنى الله أحق أن تخشاه وحده ولا تخش أحدا معه وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضا، فاجعل الخشية له وحده كما قال تعالى: * (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) * (الأحزاب:).
ثم قال تعالى: * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) * أي لما طلقها زيد وانقضت عدتها وذلك لأن الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها، فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن وكذلك إذا كان في العدة له بها تعلق لإمكان شغل الرحم فلم يقض منها بعد وطره، وأما إذا طلق وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فيقضي منها الوطر وهذا موافق لما في الشرع لأن التزوج بزوجة الغير أو بمعتدته لا يجوز فلهذا قال: * (فلما قضى) * وكذلك قوله: * (لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا) * أي إذا طلقوهن وانقضت عدتهن، وفيه إشارة إلى أن التزويج من النبي عليه السلام لم يكن لقضاء شهوة النبي عليه السلام بل لبيان الشريعة بفعله فإن الشرع يستفاد من فعل النبي وقوله: * (وكان أمر الله مفعولا) * أي مقضيا ما قضاه كائن.
ثم بين أن تزوجه عليه السلام بها مع أنه كان مبينا لشرع مشتمل على فائدة كان خاليا من المفاسد فقال:
* (ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له سنة الله فى الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا) *.
* (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله
212

قدرا مقدورا) * يعني كان شرع من تقدمه كذلك، كان يتزوج الأنبياء بنسوة كثيرة أبكار ومطلقات الغير * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) * أي كل شيء بقضاء وقدر والقدر التقدير وبين المفعول والمقدور فرق مقول بين القضاء والقدر، فالقضاء ما كان مقصودا في الأصل والقدر ما يكون تابعا له، مثاله من كان يقصد مدينة فنزل بطريق تلك المدينة بخان أو قرية يصح منه في العرف أن يقول في جواب من يقول لم جثت إلى هذه القرية؟ إني ما جئت إلى هذه وإنما قصدت المدينة الفلانية وهذه وقعت في طريقي وإن كان قد جاءها ودخلها وإذا عرفت هذا فإن الخير كله بقضاء وما في العالم من الضرر بقدر، فالله تعالى خلق المكلف بحيث يشتهي ويغضب، ليكون اجتهاده في تغليب العقل والدين عليهما مثابا عليه بأبلغ وجه فأفضى ذلك في البعض إلى أن زنى وقتل فالله لم يخلقهما فيه مقصودا منه القتل والزنا وإن كان ذلك بقدر الله إذا علمت هذا ففي قوله تعالى أولا * (وكان أمر الله مفعولا) * وقوله ثانيا * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) * لطيفة وهي أنه تعالى لما قال * (زوجناكها) * قال * (وكان أمر الله مفعولا) * أي تزويجنا زينب إياك كان مقصودا متبوعا مقضيا مراعى، ولما قال: * (سنة الله في الذين خلوا) * إشارة إلى قصة داود عليه السلام حيث افتتن بامرأة أوريا قال: * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) * أي كان ذلك حكما تبعيا، فلو قال قائل هذا قول المعتزلة بالتوليد والفلاسفة بوجوب كون الأشياء على وجوه مثل كون النار تحرق حيث قالوا الله تعالى أراد أن يخلق ما ينضج الأشياء وهو لا يكون إلا محرقا بالطبع فخلق النار للنفع فوقع اتفاق أسباب أوجبت احتراق دار زيد أو دار عمرو، فنقول معاذ الله أن نقول بأن الله غير مختار في أفعاله أو يقع شيء لا باختياره، ولكن أهل السنة يقولون أجرى الله عادته بكذا أي وله أن يخلق
النار بحيث عند حاجة إنضاج اللحم تنضج وعند مساس ثوب العجوز لا تحرق، ألا ترى أنها لم تحرق إبراهيم عليه السلام مع قوتها وكثرتها لكن خلقها على غير ذلك الوجه بمحض إرادته أو لحكمة خفية ولا يسأل عما يفعل، فنقول ما كان في مجرى عادته تعالى على وجه تدركه العقول البشرية نقول بقضاء، وما يكون على وجه يقع لعقل قاصر أن يقول لم كان ولماذا لم يكن على خلافه نقول بقدر، ثم بين الذين خلوا بقوله:
* (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا) *.
يعني كانوا هم أيضا مثلك رسلا، ثم ذكره بحالهم أنهم جردوا الخشية ووحدوها بقوله: * (ولا يخشون أحدا إلا الله) * فصار كقوله: * (فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90) وقوله: * (وكفى بالله حسيبا) * أي محاسبا
213

فلا تخش غيره أو محسوبا فلا تلتفت إلى غيره ولا تجعله في حسابك.
ثم قال تعالى
* (ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شىء عليما) *.
لما بين الله ما في تزوج النبي عليه السلام بزينب من الفوائد بين أنه كان خاليا من وجوه المفاسد، وذلك لأن ما كان يتوهم من المفسدة كان منحصرا في التزوج بزوجة الابن فإنه غير جائز فقال الله تعالى إن زيدا لم يكن ابنا له لا بل أحد الرجال لم يكن ابن محمد، فإن قائل النبي كان أبا أحد من الرجال لأن الرجل اسم الذكر من أولاد آدم قال تعالى: * (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء) * (النساء: 176) والصبي داخل فيه، فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن الرجل في الاستعمال يدخل في مفهومه الكبر والبلوغ ولم يكن للنبي عليه السلام ابن كبير يقال إنه رجل والثاني: هو أنه تعالى قال: * (من رجالكم) * ووقت الخطاب لم يكن له ولد ذكر، ثم إنه تعالى لما نفى كونه أبا عقبه بما يدل على ثبوت ما هو في حكم الأبوة من بعض الوجوه فقال: * (ولكن رسول الله) * فإن رسول الله كالأب للأمة في الشفقة من جانبه، وفي التعظيم من طرفهم بل أقوى فإن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والأب ليس كذلك، ثم بين ما يفيد زيادة الشفقة من جانبه والتعظيم من جهتهم بقوله: * (وخاتم النبيين) * وذلك لأن النبي الذي يكون بعده نبي إن ترك شيئا من النصيحة والبيان يستدركه من يأتي بعده، وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم وأجدى، إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد وقوله: * (وكان الله بكل شيء عليما) * يعني علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد صلى الله عليه وسلم بتزوجه بزوجة دعيه تكميلا للشرع وذلك من حيث إن قول النبي صلى الله عليه وسلم يفيد شرعا لكن إذا امتنع هو عنه يبقى في بعض النفوس نفرة، ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حل أكل الضب ثم لما لم يأكله بقي في النفوس شيء ولما أكل لحم الجمل طاب أكله مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب.
* (يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) *.
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن السورة أصلها ومبناها على تأديب النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا أن الله تعالى بدأ بذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبي عليه السلام مع الله وهو التقوى وذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبي عليه السلام مع أهله وأقاربه بقوله: * (يا أيها النبي قل لأزواجك) * (الأحزاب: 28) والله تعالى يأمر
214

عباده المؤمنين بما يأمر به أنبياءه المرسلين فأرشد عباده كما أدب نبيه وبدأ بما يتعلق بجانبه من التعظيم فقال: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) * كما قال لنبيه: * (يا أيها النبي اتق الله) * (الأحزاب: 1).
ثم ههنا لطيفة وهي أن المؤمن قد ينسى ذكر الله فأمر بدوام الذكر، أما النبي لكونه من المقربين لا ينسى ولكن قد يغتر المقرب من الملك بقربه منه فيقل خوفه فقال: * (اتق الله) * فإن المخلص على خطر عظيم وحسنة الأولياء سيئة الأنبياء وقوله: * (ذكرا كثيرا) * قد ذكرنا أن الله في كثير من المواضع لما ذكر وصفه بالكثرة إذ لا مانع من الذكر على ما بينا.
* (وسبحوه بكرة وأصيلا) *.
أي إذا ذكرتموه فينبغي أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء وهو المراد بالتسبيح وقيل المراد منه الصلاة وقيل للصلاة تسبيحه بكرة وأصيلا إشارة إلى المداومة وذلك لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله عليه السلام " لو أن أولكم وآخركم " ولم يذكر وسطكم ففهم منه المبالغة في العموم.
* (هو الذى يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما) *.
يعني هو يصلي عليكم ويرحمكم وأنتم لا تذكرونه فذكر صلاته تحريضا للمؤمنين على الذكر والتسبيح * (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) * يعني يهديكم برحمته والصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار فقيل بأن اللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معا وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز وينسب هذا القول إلى الشافعي رضي الله عنه وهو غير بعيد فإن أريد تقريبه بحيث يصير في غاية القرب نقول الرحمة والاستغفار يشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له والمراد هو القدر المشترك فتكون الدلالة تضمنية لكون العناية جزأ منهما * (كان بالمؤمنين رحيما) * بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن قوله * (يصلي عليكم) * غير مختص بالسامعين وقت الوحي.
* (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما) *.
ثم قال تعالى: * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * لما بين الله عنايته في الأولى بين عنايته في الآخرة وذكر السلام لأنه هو الدليل على الخيرات فإن من لقي غيره وسلم عليه
دل على المصافاة بينهما وإن لم يسلم دل على المنافاة وقوله: * (يوم يلقونه) * أي يوم القيامة وذلك لأن الإنسان في دنياه غير مقبل بكليته على الله وكيف وهو حالة نومه غافل عنه وفي أكثر أوقاته مشغول بتحصيل رزقه، وأما في الآخرة فلا شغل لأحد يلهيه عن ذكر الله فهو حقيقة اللقاء.
215

ثم قال تعالى: * (وأعد لهم أجرا كريما) * لو قائل قائل الإعداد إنما يكون ممن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه، وأما الله تعالى فلا حاجة ولا عجز فحيث يلقاه الله يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الاعداد من قبل فنقول الإعداد للإكرام لا للحاجة وهذا كما أن الملك إذا قيل له فلان واصل، فإذا أراد إكرامه يهيئ له بيتا وأنواعا من الإكرام ولا يقول بأنه إذا وصل نفتح باب الخزانة ونؤتيه ما يرضيه فكذلك الله لكمال الإكرام أعد للذاكر أجرا كريما والكريم قد ذكرناه في الرزق أي أعد له أجرا يأتيه من غير طلبه بخلاف الدنيا فإنه يطلب الرزق ألف مرة ولا يأتيه إلا بقدر. وقوله: * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * مناسب لحالهم لأنهم لما ذكروا الله في دنياهم حصل لهم معرفة ولما سبحوه تأكدت المعرفة حيث عرفوه كما ينبغي بصفات الجلال ونعوت الكمال والله يعلم حالهم في الدنيا فأحسن إليهم بالرحمة، كما قال تعالى: * (هو الذي يصلى عليكم) * وقال: * (وكان بالمؤمنين رحيما) * (الأحزاب: 43) والمتعارفان إذا التقيا وكان أحدهما شفيقا بالآخر والآخر معظما له غاية التعظيم لا يتحقق بينهما إلا السلام وأنواع الإكرام.
* (يا أيها النبى إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) *.
قد ذكرنا أن السورة فيها تأديب للنبي عليه السلام من ربه فقوله في ابتدائها: * (يا أيها النبي اتق الله) * إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع ربه وقوله: * (يا أيها النبي قل لأزواجك) * إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله وقوله: * (يا أيها النبي إنا أرسلناك) * إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع عامة الخلق وقوله تعالى: * (شاهدا) * يحتمل وجوها أحدهما: أنه شاهد على الخلق يوم القيامة كما قال تعالى: * (ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقر: 143) وعلى هذا فالنبي بعث شاهدا أي متحملا للشهادة ويكون في الآخرة شهيدا أي مؤديا لما تحمله ثانيها: أنه شاهد أن لا إله إلا الله، وعلى هذا لطيفة وهو أن الله جعل النبي شاهدا على الوحدانية والشاهد لا يكون مدعيا فالله تعالى لم يجعل النبي في مسئلة الوحدانية مدعيا لها لأن المدعى من يقول شيئا على خلاف الظاهر والوحدانية أظهر من الشمس والنبي عليه السلام كان ادعى النبوة فجعل الله نفسه شاهدا له في مجازاة كونه شاهدا لله فقال تعالى: * (والله يعلم إنك لرسوله) * (المنافقون: 1) وثالثها: أنه شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا بالطاعة والمعصية والصلاح والفساد وقوله: * (ومبشرا ونذيرا وداعيا) * فيه ترتيب حسن وذلك من حيث إن النبي عليه السلام أرسل شاهدا بقوله لا إله إلا الله ويرغب في ذلك بالبشارة فإن لم يكف
216

ذلك يرهب بالإنذار ثم لا يكتفي بقولهم لا إله إلا الله بل يدعوهم إلى سبيل الله كما قال تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك) * (النحل: 125) وقوله: * (وسراجا منيرا) * أي مبرهنا على ما يقول مظهرا له بأوضح الحجج وهو المراد بقوله تعالى: * (بالحكمة والموعظة الحسنة) * (النحل: 125).
وفيه لطائف إحداها: قوله تعالى: * (وداعيا إلى الله بإذنه) * حيث لم يقل وشاهدا باذنه ومبشرا وعند الدعاء قال وداعيا باذنه، وذلك لأن من يقول عن ملك إنه ملك الدنيا لا غيره لا يحتاج فيه إلى إذن منه فإنه وصفه بما فيه وكذلك إذا قال من يطيعه يسعد ومن يعصه يشقى يكون مبشرا ونذيرا ولا يحتاج إلى إذن من الملك في ذلك، وأما إذا قال تعالوا إلى سماطه، واحضروا على خوانه يحتاج فيه إلى إذنه فقال تعالى: * (وداعيا إلى الله باذنه) * ووجه آخر وهو أن النبي يقول إني أدعو إلى الله والولي يدعو إلى الله، والأول لا إذن له فيه من أحد، والثاني مأذون من جهة النبي عليه السلام كما قال تعالى: * (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) * (يوسف: 108) وقال عليه الصلاة والسلام: " رحم الله عبدا سمع مقالتي فأداها كما سمعها " والنبي عليه السلام هو المأذون من الله في الدعاء إليه من غير واسطة.
اللطيفة الثانية: قال في حق النبي عليه السلام سراجا ولم يقل إنه شمس مع أنه أشد إضاءة من السراج لفوائد منها، أن الشمس نورها لا يؤخذ منه شيء والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة فإذا انطفأ الأول يبقى الذي أخذ منه، وكذلك إن غاب والنبي عليه السلام كان كذلك إذ كل صحابي أخذ منه نور الهداية كما قال عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وفي الخبر لطيفة وإن كانت ليست من التفسير ولكن الكلام يجر الكلام وهي أن النبي عليه السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه نور بل له في نفسه نور إذا غرب هو لا يبقى نور مستفاد منه، وكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنو النبي عليه السلام ولا يأخذ منه إلا قول النبي عليه السلام وفعله، فأنوار المجتهدين كلهم من النبي عليه السلام ولم جعلهم كالسرج والنبي عليه السلام أيضا سراج كان للمجتهد أن يستنير بمن أراد منهم ويأخذ النور ممن اختار، وليس كذلك فإن مع نص النبي عليه السلام لا يعمل بقول الصحابي فيؤخذ من النبي النور ولا يؤخذ من الصحابي فلم يجعله سراجا وهذا يوجب ضعفا في حديث سراج الأمة والمحدثون ذكروه وفي تفسير السراج وجه آخر وهو أن المراد منه القرآن وتقديره إنا أرسلناك، وسراجا منيرا عطفا على محل الكاف أي وأرسلنا سراجا منيرا وعلى قولنا إنه عطف على مبشرا ونذيرا يكون معناه وذا سراج لأن الحال لا يكون إلا وصفا للفاعل أو المفعول، والسراج ليس وصفا لأن النبي عليه السلام لم يكن سراجا حقيقة أو يكون كقول القائل رأيته أسدا أي شجاعا فقوله سراجا أي هاديا مبينا كالسراج يرى الطريق ويبين الأمر.
217

وقوله تعالى: * (وبشر المؤمنين) * عطف على مفهوم تقديره إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا فاشهد وبشر ولم يذكر فاشهد للاستغناء عنه، وأما البشارة فإنها ذكرت إبانة للكرم ولأنها غير واجبة لولا الأمر. وقوله تعالى: * (بأن لهم من الله فضلا كبيرا) * هو مثل قوله: * (وأعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) * (الأحزاب: 35) فالعظيم والكبير متقاربان وكونه من الله كبير فكيف إذا كان مع ذلك كبارة أخرى.
وقوله
* (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) *.
إشارة إلى الإنذار يعني خالفهم وورد عليهم وعلى هذا فقوله تعالى: * (ودع أذاهم) * أي دعه إلى الله فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار، ويبين هذا قوله تعالى: * (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) * أي الله كاف عبده، قال بعض المعتزلة لا يجوز تسمية الله بالوكيل لأن الوكيل أدون من الموكل وقوله تعالى: * (وكفى بالله وكيلا) * حجة عليه وشبهته واهية من حيث إن الوكيل قد يوكل للترفع وقد يوكل للعجز والله وكيل عباده لعجزهم عن التصرف، وقوله تعالى: * (وكفى بالله وكيلا) * يتبين إذا نظرت في الأمور التي لأجلها لا يكفي الوكيل الواحد منها أن لا يكون قويا قادرا على العمل كالملك الكثير الأشغال يحتاج إلى وكلاء لعجز الواحد عن القيام بجميع أشغاله، ومنها أن لا يكون عالما بما فيه التوكيل، ومنها أن لا يكون غنيا، والله تعالى عالم قادر وغير محتاج فيكفي وكيلا.
* (يا أيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا) *.
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى في هذه السورة ذكر مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما ذكرناه، لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل فكلما ذكر للنبي مكرمة وعلمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه، فكما بدأ الله في تأديب النبي عليه الصلاة والسلام بذكر ما يتعلق بجانب الله بقوله: * (يا أيها النبي اتق الله) * (الأحزاب: 1) وثنى بما يتعلق بجانب من تحت يده من أزواجه بقوله بعد: * (يا أيها النبي قل لأزواجك) * (الأحزاب: 28) وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله: * (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا) * (الأحزاب: 45)
218

كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) * (الأحزاب: 41) ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات) * ثم كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيهم، فقال بعد هذا: * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) * (الأحزاب: 53) وبقوله: * (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه) * (الأحزاب: 56) وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: إذا كان الأمر على ما ذكرت من أن هذا إرشاد إلى ما يتعلق بجانب من هو من خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس بالذكر؟ فنقول هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها وبيانه هو أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد، ولهذا قال الله تعالى في حق الممسوسة * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * (النساء: 21) وإذا أمر الله بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما والقرآن في الحجم صغير ولكن لو استنبطت معانيه لا تفي بها الأقلام ولا تكفي لها الأوراق، وهذا مثل قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف) * (الإسراء: 23) لو قال لا تضربهما أو لا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص بالضرب أو الشتم، أما إذا قال لا تقل لهما أف علم منه معان كثيرة وكذلك ههنا لما أمر بالإحسان مع من لا مودة معها علم منه الإحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق بعد ومن ولدت عنده منه. وقوله: * (إذا نكحتم المؤمنات) * التخصيص بالذكر إرشاد إلى أن المؤمن ينبغي أن ينكح المؤمنة فإنها أشد تحصينا لدينه، وقوله: * (ثم طلقتموهن) * يمكن التمسك به في أن تعليق الطلاق بالنكاح، لا يصح لأن التطليق حينئذ لا يكون إلا بعد النكاح والله تعالى ذكره بكلمة ثم، وهي للتراخي وقوله: * (فما لكم عليهن من عدة) * بين أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يسقط بإسقاطه لما فيه من حق الله تعالى، وقوله: * (تعتدونها) * أي تستوفون أنتم عددها * (فمتعوهن) * قيل بأنه مختص بالمفوضة التي لم يسم لها إذا طلقت قبل المسيس وجب لها المتعة، وقيل بأنه عام وعلى هذا فهو أمر وجوب أو أمر ندب اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال للوجوب فيجب مع نصف المهر المتعة أيضا، ومنهم من قال للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء، وقوله تعالى: * (وسرحوهن سراحا جميلا) * الجمال في التسريح أن لا يطالبها بما آتاها.
ثم قال تعالى
* (يا أيها النبى إنآ أحللنا لك أزواجك اللاتى ءاتيت أجورهن وما ملكت يمينك
219

ممآ أفآء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتى هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم فى أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما) *.
ذكر للنبي عليه السلام ما هو الأولى فإن الزوجة التي أوتيت مهرها أطيب قلبا من التي لم تؤت، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنها لا يدري كيف حالها، ومن هاجرت من أقارب النبي عليه السلام معه أشرف ممن لم تهاجر، ومن الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولا، وذلك لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها والنبي عليه السلام ما كان يستوفي ما لا يجب له، والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان كان حلالا لنا وكيف والنبي عليه السلام إذا طلب شيئا حرم الامتناع عن المطلوب والظاهر أن الطالب في المرة الأولى، إنما يكون هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي عليه السلام من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهذا محال ولا كذلك أحدنا، وقال ويؤكد هذا قوله تعالى: * (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) * يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها، وقوله تعالى: * (إن أراد النبي أن يستنكحها) * إشارة إلى أن هبتها نفسها لا بد معها من قبول وقوله تعالى: * (خالصة لك من دون المؤمنين) * قال الشافعي رضي الله عنه معناه إباحة الوطء بالهبة وحصول التزوج بلفظها من خواصك، وقال أبو حنيفة تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة ومن أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبدا، والترجيح يمكن أن يقال بأن على هذا فالتخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له وعلى ما ذكرنا يتبين للتخصيص فائدة وقوله: * (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم) * معناه أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك وأما حكم
أمتك فعندنا علمه ونبينه لهم وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام فإن له في النكاح خصائص ليست لغيره وكذلك في السراري. وقوله تعالى: * (لكيلا يكون عليك حرج) * أي تكون في فسحة من الأمر فلا يبقى لك شغل قلب فينزل الروح الأمين بالآيات على قلبك الفارغ وتبلغ رسالات ربك بجدك واجتهادك، وقوله
220

تعالى: * (وكان الله غفورا رحيما) * يغفر الذنوب جميعا ويرحم العبيد.
ثم قال تعالى
* (ترجى من تشآء منهن وتؤوى إليك من تشآء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بمآ ءاتيتهن كلهن والله يعلم ما فى قلوبكم وكان الله عليما حليما) *.
ثم قال تعالى: * (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) *.
لما بين أنه أحل له ما ذكرنا من الأزواج بين أنه أحل له وجوه المعاشرة بهن حتى يجتمع كيف يشاء ولا يجب عليه القسم، وذلك لأن النبي عليه السلام بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع والرجل وإن لم يكن نبيا فالزوجة في ملك نكاحه والنكاح عليها رق، فكيف زوجات النبي عليه السلام بالنسبة إليه، فإذن هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات، والإرجاء التأخير والإيواء الضم * (ومن ابتغيت ممن عزلت) * يعني إذا طلبت من كنت تركتها فلا جناح عليك في شيء من ذلك ومن قال بأن القسم كان واجبا مع أنه ضعيف بالنسبة إلى المفهوم من الآية قال المراد: * (ترجي من تشاء) * أي تؤخرهن إذا شئت إذ لا يجب القسم في الأول وللزوج أن لا ينام عند أحد منهن، وإن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك فابدأ بمن شئت وتمم الدور والأول أقوى.
ثم قال تعالى: * (ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن) *.
يعني إذا لم يجب عليك القسم وأنت لا تترك القسم * (تقر أعينهن) * لتسويتك بينهن ولا يحزن بخلاف ما لو وجب عليك ذلك، فليلة تكون عند إحداهن تقول ما جاءني لهوى قلبه إنما جاءني لأمر الله وإيجابه عليه * (ويرضين بما آتيتهن) * من الإرجاء والإيواء إذ ليس لهن عليك شيء حتى لا يرضين.
ثم قال تعالى: * (والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما) *.
أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم، فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل.
ثم قال تعالى
* (لا يحل لك النسآء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن
221

إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شىء رقيبا) *.
لما لم يوجب الله على نبيه القسم وأمره بتخييرهن فاخترن الله ورسوله ذكر لهن ما جازاهن به من تحريم غيرهن على النبي عليه السلام ومنعه من طلاقهن بقوله: * (ولا أن تبدل بهن) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (لا يحل لك النساء من بعد) * قال المفسرون من بعدهن والأولى أن يقال لا يحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما يؤتيهن من الوصل والهجران والنقص والحرمان.
المسألة الثانية: قوله: * (ولا أن تبدل بهن) * يفيد حرمة طلاقهن إذ لو كان جائزا لجاز أن يطلق الكل، وبعدهن إما أن يتزوج بغيرهن أولا يتزوج فإن لم يتزوج يدخل في زمرة العزاب والنكاح فضيلة لا يتركها النبي، وكيف وهو يقول: " النكاح سنتي " وإن تزوج بغيرهن يكون قد تبدل بهن وهو ممنوع من التبدل.
المسألة الثالثة: من المفسرين من قال بأن الآية ليس فيها تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهن بل المعنى أن لا يحل لك النساء غير اللاتي ذكرنا لك من المؤمنات المهاجرات من بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك، وأما غيرهن من الكتابيات فلا يحل لك التزوج بهن وقوله: * (ولا أن تبدل بهن) * منع من شغل الجاهلية فإنهم كانوا يبادلون زوجة بزوجة فينزل أحدهم عن زوجته وبأخذ زوجة صديقه ويعطيه زوجته، وعلى التفسيرين وقع خلاف في مسألتين إحداهما: حرمة طلاق زوجاته والثانية: حرمة تزوجه بالكتابيات فمن فسر على الأول حرم الطلاق ومن فسر على الثاني حرم التزوج بالكتابيات.
المسألة الرابعة: قوله: * (ولو أعجبك حسنهن) * أي حسن النساء قال الزمخشري قوله: * (ولو أعجبك) * في معنى الحال، ولا يجوز أن يكون ذو الحال قوله: * (من أزواج) * لغاية التنكير فيه ولكون ذي الحال لا يحسن أن يكون نكرة فإذن هو النبي عليه السلام، يعني لا يحل لك النساء ولا أن تبدل بهن من أزواج وأنت معجب بحسنهن.
المسألة الخامسة: ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه موقعا كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها، وهذه المسألة حكمية وهي أن النبي عليه السلام وسائر الأنبياء في أول النبوة تشتد عليهم برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع، ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغا لقلبه وتوسيعا لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله، ثم لما استأنس بالوحي وبمن على لسانه الوحي نسخ ذلك، إما لقوته عليه السلام للجمع بين الأمرين، وإما أنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوف من أمور الدنيا، فلم يبق له التفات إلى غير الله، فلم يبق له حاجة إلى إحلال التزوج بمن وقع بصره عليها.
222

المسألة السادسة: اختلف العلماء في أن تحريم النساء عليه هل نسخ أم لا؟ فقال الشافعي نسخ وقد قالت عائشة ما مات النبي إلا وأحل له النساء، وعلى هذا فالناسخ قوله تعالى: * (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) * (الأحزاب: 50) إلى أن قال: * (وبنات عمك) * وقال: * (وامرأة مؤمنة) * على قول من يقول لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد إذ الناسخ غير متواتر إن كان خبرا.
ثم قال تعالى: * (إلا ما ملكت يمينك) * لم يحرم عليه المملوكات لأن الإيذاء لا يحصل بالمملوكة، ولهذا لم يجز للرجل أن يجمع بين ضرتين في بيت لحصول التسوية بينهما وإمكان المخاصمة، ويجوز أن يجمع الزوجة وجمعا من المملوكات لعدم التساوي بينهن ولهذا لا قسم لهن على أحد.
ثم قال تعالى: * (وكان الله على كل شيء رقيبا) * أي حافظا عالما بكل شيء قادرا عليه، لأن الحفظ لا يحصل إلا بهما.
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذى النبى فيستحيى منكم والله لا يستحى من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسالوهن من ورآء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) *.
ثم قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) *.
لما ذكر الله تعالى في النداء الثالث * (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا) * (الأحزاب: 45) بيانا لحاله مع أمته العامة قال للمؤمنين في هذا النداء لا تدخلوا إرشادا لهم وبيانا لحالهم مع النبي عليه السلام من الاحترام ثم إن حال الأمة مع النبي على وجهين أحدهما: في حال الخلوة والواجب هناك عدم إزعاجه وبين ذلك بقوله: * (لا تدخلوا بيوت النبي) * وثانيهما: في الملأ والواجب هناك إظهار التعظيم كما قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) * (الأحزاب: 56) وقوله: * (إلى طعام غير ناظرين إناه) * أي لا تدخلوا بيوت النبي إلى طعام إلا أن يؤذن لكم.
ثم قال تعالى: * (ولكن إذا دعيتم فأدخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيى من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من
223

وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) *.
لما بين من حال النبي أنه داع إلى الله بقوله: * (وداعيا إلى الله) * قال ههنا لا تدخلوا إلا إذا دعيتم يعني كما أنكم ما دخلتم الدين إلا بدعائه فكذلك لا تدخلوا عليه إلا بعد دعائه وقوله: * (غير ناظرين) * منصوب على الحال. والعامل فيه على ما قاله الزمخشري لا تدخلوا قال وتقديره ولا تدخلوا بيوت النبي إلا مأذونين غير ناظرين، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) * إما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم، فلا يكون منعا من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن، وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطا بكونه إلى الطعام فإن لم يؤذن لكم إلى طعام فلا يجوز الدخول فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام لا يجوز، نقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول، وأما قوله فلا يجوز إلا بالإذن الذي إلى طعام، نقول: قال الزمخشري الخطاب مع قوم كانوا يجيئون حين الطعام ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقته بغير إذن، والأولى أن يقال المراد هو الثاني لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل وقوله: * (إلى طعام) * من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه، لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه جاز دخوله إلى غير طعامه بإذنه، فإن غير الطعام ممكن وجوده مع الطعام، فإن من الجائز أن يتكلم معه وقتما يدعوه إلى طعام ويستقضيه في حوائجه ويعلمه مما عنده من العلوم مع زيادة الإطعام، فإذا رضي بالكل فرضاه بالبعض أقرب إلى الفعل فيصير من باب * (ولا تقل لهما أف) * (الإسراء: 23) وقوله: * (غير ناظرين) * يعني أنتم لا تنتظروا وقت الطعام فإنه ربما لا يتهيأ.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (ولكن إذا دعيتم فأدخلوا) * فيه لطيفة وهي أن العادة إذا قيل لمن كان يعتاد دخول دار من غير إذن لا تدخلها إلا بإذن يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلا لا بالدعاء ولا بالدعاء، فقال لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون بل كونوا طائعين سامعين إذا قيل لكم لا تدخلوا لا تدخلوا وإذا قيل لكم ادخلوا فأدخلوا، وإناه قيل وقته وقيل استواؤه وقوله: * (إلا أن يؤذن) * يفيد الجواز وقوله: * (ولكن إذا دعيتم فأدخلوا) * يفيد الوجود فقوله: * (ولكن إذا دعيتم) * ليس تأكيدا بل هو يفيد فائدة جديدة.
المسألة الثالثة: لا يشترط في الإذن التصريح به، بل إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قال: * (إلا أن يؤذن) * من غير بيان فاعل، فالآذن إن كان الله أو النبي أو العقل المؤيد بالدليل
224

جاز والنقل دال عليه حيث قال تعالى: * (أو صديقكم) * وحد الصداقة لما ذكرنا، فلو جاء أبو بكر وعلم أن لا مانع في بيت عائشة من بيوت النبي عليه السلام من تكشف أو حضور غير محرم عندها أو علم خلو الدار من الأهل أو هي محتاجة إلى إطفاء حريق فيها أو غير ذلك، جاز الدخول.
المسألة الرابعة: قوله: * (فإذا طعمتم فانتشروا) * كأن بعض الصحابة أطال المكث يوم وليمة النبي عليه السلام في عرس زينب، والنبي عليه السلام لم يقل له شيئا، فوردت الآية جامعة لآداب، منها المنع من إطالة المكث في بيوت الناس، وفي معنى البيت موضع مباح اختاره شخص لعبادته أو اشتغاله بشغل فيأتيه أحد ويطيل المكث عنده، وقوله: * (ولا مستأنسين لحديث) * قال الزمخشري هو عطف على * (غير ناظرين) * مجرور، ويحتمل أن يكون منصوبا عطفا على المعنى، فإن
معنى قوله تعالى: * (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) * لا تدخلوها هاجمين، فعطف عليه * (ولا مستأنسين) * ثم إن الله تعالى بين كون ذلك أدبا وكون النبي حليما بقوله: * (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق) * إشارة إلى أن ذلك حق وأدب، وقوله كان إشارة إلى تحمل النبي عليه السلام، ثم ذكر الله أدبا آخر وهو قوله: * (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) * لما منع الله الناس من دخول بيوت النبي عليه السلام، وكان في ذلك تعذر الوصول إلى الماعون، بين أن ذلك غير ممنوع منه فليسأل وليطلب من وراء حجاب، وقوله * (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) * يعني العين روزنة القلب، فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب. أما إن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر، ثم إن الله تعالى لما علم المؤمنين الأدب أكده بما يحملهم على محافظته، فقال: * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) * وكل ما منعتم عنه مؤذ فامتنعوا عنه، وقوله تعالى: * (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) * قيل سبب نزوله أن بعض الناس قيل هو طلحة بن عبيد الله، قال لئن عشت بعد محمد لأنكحن عائشة، وقد ذكرنا أن اللفظ العام لا يغير معناه سبب النزول، فإن المراد أن إيذاء الرسول حرام، والتعرض لنسائه في حياته إيذاء فلا يجوز، ثم قال لا بل ذلك غير جائز مطلقا، ثم أكد بقوله: * (إن ذلكم كان عند الله عظيما) * أي إيذاء الرسول.
* (إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شىء عليما) *.
يعني إن كنتم لا تؤذونه في الحال وتعزمون على إيذائه أو نكاح أزواجه بعده، فالله عليم بذات الصدور.
* (لا جناح عليهن فى ءابآئهن ولا أبنآئهن ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخواتهن ولا نسآئهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شىء شهيدا) *.
225

ثم إن الله تعالى لما أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله: * (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في الحجاب أوجب السؤال من وراء الحجاب على الرجال، فلم لم يستثن الرجال عن الجناح، ولم يقل لا جناح على آبائهن؟ فنقول قوله تعالى: * (فاسألوهن من وراء حجاب) * (الأحزاب: 53) أمر بسدل الستر عليهن وذلك لا يكون إلا بكونهن مستورات محجوبات وكان الحجاب وجب عليهن، ثم أمر الرجال بتركهن كذلك، ونهوا عن هتك أستارهن فاستثنين عند الآباء والأبناء وفيه لطيفة: وهي أن عند الحجاب أمر الله الرجل بالسؤال من وراء حجاب، ويفهم منه كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى، وعند الاستثناء قال تعالى: * (لا جناح عليهن) * عند رفع الحجاب عنهن، فالرجال أولى بذلك.
المسألة الثانية: قدم الآباء لأن اطلاعهم على بناتهن أكثر، وكيف وهم قد رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن، ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر. إنما الكلام في بني الإخوة حيث قدمهم الله تعالى على بني الأخوات، لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم إنما هم أزواج خالات أبنائهم، وبني الأخوة آباؤهم محارم أيضا، ففي بني الأخوات مفسدة ما وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك بنو الإخوة.
المسألة الثالثة: لم يذكر الله من المحارم الأعمام والأخوال، فلم يقل ولا أعمامهن ولا أخوالهن لوجهين أحدهما: أن ذلك علم من بني الإخوة وبني الأخوات، لأن من علم أن بني الأخ للعمات محارم علم أن بنات الأخ للأعمام محارم، وكذلك الحال في أمر الخال ثانيهما: أن الأعمام ربما يذكرون بنات الأخ عند أبنائهم وهم غير محارم، وكذلك الحال في ابن الخال.
المسألة الرابعة: * (ولا نسائهن) * مضافة إلى المؤمنات حتى لا يجوز التكشف للكافرات في وجه.
المسألة الخامسة: * (ولا ما ملكت أيمانهن) * هذا بعد الكل، فإن المفسدة في التكشف لهم ظاهرة، ومن الأئمة من قال المراد من كان دون البلوغ.
226

ثم قوله تعالى: * (واتقين الله) * عند المماليك دليل على أن التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور. وقوله: * (إن الله كان على كل شيء شهيدا) * في غاية الحسن في هذا الموضع، وذلك لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم، فقال إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض، فخلوتكم مثل ملئكم بشهادة الله تعالى فاتقوا.
* (إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) *.
ثم قال تعالى: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراما كمل بيان حرمته، وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين حالة خلواته، وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله * (لا تدخلوا بيوت النبي) * وحالة يكون في ملأ. والملأ إما الملأ الأعلى، وإما الملأ الأدنى، ما في الملأ الأعلى فهو محترم، فإن الله وملائكته يصلون عليه. وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الصلاة الدعاء يقال في اللغة صلى عليه، أي دعا له، وهذا المعنى غير معقول في حق الله تعالى فإنه لا يدعو له، لأن الدعاء للغير طلب نفعه من ثالث. فقال الشافعي رضي الله عنه استعمل اللفظ بمعان، وقد تقدم في تفسير قوله: * (هو الذي يصلي عليكم وملائكته) * (الأحزاب: 43) والذي نزيده ههنا هو أن الله تعالى قال هناك: * (هو الذين يصلي عليكم وملائكته) * جعل الصلاة لله وعطف الملائكة على الله، وههنا جمع نفسه وملائكته وأسند الصلاة إليهم فقال: * (يصلون) * وفيه تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا لأن إفراد الواحد بالذكر وعطف الغير عليه يوجب تفضيلا للمذكور على المعطوف، كما أن الملك إذا قال يدخل فلان
وفلان أيضا يفهم منه تقديم لا يفهم لو قال فلان وفلان يدخلان، إذا علمت هذا، فقال في حق النبي عليه السلام إنهم يصلون إشارة إلى أنه في الصلاة على النبي عليه السلام كالأصل وفي الصلاة على المؤمنين الله يرحمهم، ثم إن الملائكة يوافقونه فهم في الصلاة على النبي عليه السلام يصلون بالإضافة كأنها واجبة عليهم أو مندوبة سواء صلى الله عليه أو لم يصل وفي المؤمنين ليس كذلك.
المسألة الثانية: هذا دليل على مذهب الشافعي لأن الأمر للوجوب فتجب الصلاة على النبي عليه السلام ولا تجب في غير التشهد فتجب في التشهد.
المسألة الثالثة: سئل النبي عليه السلام كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال: " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد
227

كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ".
المسألة الرابعة: إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة إلى صلاتنا؟ نقول الصلاة عليه ليس لحاجته إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه، وإنما هو لإظهار تعظيمه، كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه ولا حاجة له إليه، وإنما هو لإظهار تعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه، ولهذا قال عليه السلام: " من صلى علي مرة صلي الله عليه عشرا ".
المسألة الخامسة: لم يترك الله النبي عليه السلام تحت منة أمته بالصلاة حتى عوضهم منه بأمره بالصلاة على الأمة حيث قال: * (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) * (التوبة: 103) وقوله: * (وسلموا تسليما) * أمر فيجب ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها وهو قولنا السلام عليك أيها النبي في التشهد وهو حجة على من قال بعدم وجوبه وذكر المصدر للتأكيد ليكمل السلام عليه ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد لأنها كانت مؤكدة بقوله: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) *.
* (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والاخرة وأعد لهم عذابا مهينا) *.
فصل الأشياء بتبيين بعض أضدادها، فبين حال مؤذي النبي ليبين فضيلة المسلم عليه واللعن أشد المحذورات لأن البعد من الله لا يرجى معه خير بخلاف التعذيب بالنار وغيره. ألا ترى أن الملك إذا تغير على مملوك إن كان تأذيه غير قوي يزجره ولا يطرده ولو خير المجرم (بين) أن يضرب أو يطرد عندما يكون الملك في غاية العظمة والكرم يختار الضرب على الطرد، ولا سيما إذا لم يكن في الدنيا ملك غير سيده، وقوله: * (في الدنيا والآخرة) * إشارة إلى بعد لا رجاء للقرب معه، لأن المبعد في الدنيا يرجو القربة في الآخرة، فإذا أبعد في الآخرة فقد خاب وخسر، لأن الله إذا أبعده وطرده فمن الذين يقربه يوم القيامة القيامة، ثم إنه تعالى لم يحصر جزاءه في الإبعاد بل أوعده بالعذاب بقوله: * (وأعد لهم عذابا مهينا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكر إيذاء الله وإيذاء الرسول وذكر عقيبه أمرين اللعن والتعذيب فاللعن جزاء الله، لأن من آذى الملك يبعده عن بابه إذا كان لا يأمر بعذابه، والتعذيب جزاء إيذاء الرسول لأن الملك إذا آذى بعض عبيده كبير يستوفي منه قصاصه، لا يقال فعلى هذا من يؤذي الله ولا يؤذي الرسول لا يعذب، لأنا نقول انفكاك أحدهما على هذا الوجه عن الآخر محال لأن من آذى الله فقد آذى الرسول، وأما على الوجه الآخر وهو أن من يؤذي النبي عليه السلام ولا يؤذي الله كمن عصى من غير إشراك، كمن فسق أو فجر من غير ارتداد وكفر، فقد آذى النبي عليه السلام غير أن الله
228

تعالى صبور غفور رحيم فيجزيه بالعذاب ولا يلعنه بكونه يبعده عن الباب.
المسألة الثانية: أكد العذاب بكونه مهينا لأن من تأذى من عبده وأمر بحبسه وضربه فإن أمر بحبسه في موضع مميز، أو أمر بضربه رجلا كبيرا يدل على أن الأمر هين، وإن أمر بضربه على ملأ وحبسه بين المفسدين ينبئ عن شدة الأمر، فمن آذى الله ورسوله من المخلدين في النار فيعذب عذابا مهينا، وقوله: * (أعد لهم) * للتأكيد لأن السيد إذا عذب عبده حالة الغضب من غير إعداد يكون دون ما إذا أعد له قيدا وغلا، فإن الأول يمكن أن يقال هذا أثر الغضب فإذا سكت الغضب يزول ولا كذلك الثاني.
قوله تعالى
* (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) *.
لما كان الله تعالى مصليا على نبيه لم ينفك إيذاء الله عن إيذانه، فإن من آذى الله فقد آذى الرسول فبين الله للمؤمنين أنكم إن أتيتم بما أمرتكم وصليتم على النبي كما صليت عليه، لا ينفك إيذاؤكم عن إيذاء الرسول فيأثم من يؤذيكم لكون إيذائكم إيذاء الرسول، كما أن إيذائي إيذاؤه وبالجملة لما حصلت الصلاة من الله والملائكة والرسول والمؤمنين صار لا يكاد ينفك إيذاء أحد منهم عن إيذاء الآخر كما يكون حال الأصدقاء الصادقين في الصداقة، وقوله: * (بغير ما اكتسبوا) * احتراز عن الأمر بالمعروف من غير عنف زائد، فإن من جلد مائة على شرب الخمر أو حد أربعين على لعب النرد آذى بغير ما اكتسب أيضا، ومن جلد على الزنا أو حد الشرب لم يؤذ بغير ما اكتسب، ويمكن أن يقال لم يؤذ أصلا لأن ذلك إصلاح حال المضروب، وقوله: * (فقد احتملوا بهتانا) * البهتان هو الزور وهو لا يكون إلا في القول والإيذاء قد يكون بغير القول فمن آذى مؤمنا بالضرب أو أخذ ماله لا يكون قد احتمل بهتانا، فنقول: المراد والذين يؤذون المؤمنين بالقول. وهذا لأن الله تعالى أراد إظهار شرف المؤمن، فلما ذكر أن من آذى الله ورسوله لعن، وإيذاء الله بأن ينكر وجود الله بعد معرفة دلائل وجوده أو يشرك به من لا يبصر ولا يسمع أو من لا يقدر ولا يعلم أو من هو محتاج في وجوده إلى موجد وهو قول ذكر إيذاء المؤمن بالقول، وعلى هذا خص الأنبياء بالقول بالذكر لأنه أعم وأتم، وذلك لأن الإنسان لا يقدر أن يؤذي الله بما يؤلمه من ضرب أو أخذ ما يحتاج إليه فيؤذيه بالقول، ولأن الفقير الغائب لا يمكن إيذاؤه بالفعل، ويمكن إيذاؤه بالقول بأن يقول فيه ما يصل إليه فيتأذى،
والوجه الثاني في
229

الجواب هو أن نقول قوله بعد ذلك: * (وإثما مبينا) * مستدرك فكأنه قال احتمل بهتانا إن كان بالقول وإثما مبينا كيفما كان الإيذاء، وكيفما كان فإن الله خص الإيذاء القولي بالذكر لما بينا أنه أعم ولأنه أتم لأنه يصل إلى القلب، فإن الكلام يخرج من القلب واللسان دليله ويدخل في القلب والآذان سبيله.
* (يا أيها النبى قل لازواجك وبناتك ونسآء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما) *.
لما ذكر أن من يؤذي المؤمنين يحتمل بهتانا وكان فيه منع المكلف عن إيذاء المؤمن، أمر المؤمن باجتناب المواضع التي فيها التهم الموجبة للتأذي لئلا يحصل الإيذاء الممنوع منه. ولما كان الإيذاء القولي مختصا بالذكر اختص بالذكر ما هو سبب الإيذاء القولي وهو النساء فإن ذكرهن بالسوء يؤذي الرجال والنساء بخلاف ذكر الرجال فإن من ذكر امرأة بالسوء تأذت وتأذى أقاربها أكثر من تأذيها، ومن ذكر رجلا بالسوء تأذى ولا يتأذى نساؤه، وكان في الجاهلية تخرج الحرة والأمة مكشوفات يتبعهن الزناة وتقع التهم، فأمر الله الحرائر بالتجلبب.
وقوله: * (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) * قيل يعرفن أنهن حرائر فلا يتبعن ويمكن أن يقال المراد يعرفن أنهن لا يزنين لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها فيعرفن أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن. وقوله: * (وكان الله غفورا رحيما) * يغفر لكم ما قد سلف برحمته ويثيبكم على ما تأتون به راحما عليكم.
* (لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا) *.
لما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله، والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين، ذكر حال المسر الذي يظهر الحق ويضمر الباطل وهو المنافق، ولما كان المذكور من قبل أقواما ثلاثة نظرا إلى اعتبار أمور ثلاثة: وهم المؤذون الله، والمؤذون الرسول، والمؤذون المؤمنين، ذكر من المسرين ثلاثة نظرا إلى اعتبار أمور ثلاثة أحدها: المنافق الذي يؤذي الله سرا والثاني: الذي
230

قلبه مرض الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه والثالث: المرجف الذي يؤذي النبي عليه السلام بالإرجاف بقوله غلب محمد وسيخرج من المدينة وسيؤخذ، وهؤلاء وإن كانوا قوما واحدا إلا أن لهم ثلاث اعتبارات وهذا في مقابلة قوله تعالى: * (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) * (الأحزاب: 35) حيث ذكر أصنافا عشرة وكلهم يوجد في واحد فهم واحد بالشخص كثير بالاعتبار وقوله: * (لنغرينك بهم) * أي لنسلطنك عليهم ولنخرجنهم من المدينة، ثم لا يجاوزونك وتخلو المدينة منهم بالموت أو الإخراج، ويحتمل أن يكون المراد لنغرينك بهم، فإذا أغريناك لا يجاورونك، والأول: كقول القائل يخرج فلان ويقرأ إشارة إلى أمرين والثاني: كقوله يخرج فلان ويدخل السوق ففي الأول يقرأ وإن لم يخرج وفي الثاني لا يدخل إلا إذا خرج. والاستثناء فيه لطيفة وهي أن الله تعالى وعد النبي عليه السلام أنه يخرج أعداءه من المدينة وينفيهم على يده إظهارا لشوكته، ولو كان النفي بإرادة الله من غير واسطة النبي لأخلي المدينة عنهم في ألطف آن (بقوله) كن فيكون، ولكن لما أراد الله أن يكون على يد النبي لا يقع ذلك إلا بزمان وإن لطف فقال: * (ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا) * وهو أن يتهيؤا ويتأهبوا للخروج.
* (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) *.
أي في ذلك القليل الذي يجاورونك فيه يكونون ملعونين مطرودين من باب الله وبابك وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة، ولا يجدون ملجأ بل أينما يكونون يطلبون ويؤخذون ويقتلون.
* (سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) *.
يعني هذا ليس بدعا بكم بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين * (ولن تجد لسنة الله تبديلا) * أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام، أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ.
* (يسالك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) *.
لما بين حالهم في الدنيا أنهم يلعنون ويهانون ويقتلون أراد أن يبين حالهم في الآخرة فذكرهم بالقيامة وذكر ما يكون لهم فيها فقال: * (يسألك الناس عن الساعة) * أي عن وقت القيامة * (قل إنما علمها عند الله) * لا يتبين لكم، فإن الله أخفاها لحكمة هي امتناع المكلف عن الاجتراء وخوفهم منها في كل وقت.
231

ثم قال تعالى: * (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) * إشارة إلى التخويف، وذلك لأن قول القائل الله يعلم متى يكون الأمر الفلاني ينبئ عن إبطاء الأمر، ألا ترى أن من يطالب مديونا بحقه فإن استمهله شهرا أو شهرين ربما يصبر ذلك، وإن قال له اصبر إلى أن يقدم فلان من سفره يقول الله يعلم متى يجئ فلان، ويمكن أن يكون مجئ فلان قبل انقضاء تلك المدة فقال ههنا: * (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) * يعني هي في علم الله فلا تستبطئوها فربما تقع عن قريب والقريب فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث، قال تعالى: * (إن رحمة الله قريب من المحسنين) * (الأعراف: 56) ولهذا لم يقل لعل الساعة تكون قريبة.
* (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا * خالدين فيهآ أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا) *.
ثم قال تعالى: * (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا) * يعني كما أنهم ملعونون في الدنيا عندكم فكذلك ملعونون عند الله * (وأعد لهم سعيرا) * كما قال تعالى: * (لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) * (الأحزاب: 57) * (خالدين فيها أبدا) * (المائدة: 119) مطيلين المكث فيها مستمرين لا أمد لخروجهم.
وقوله: * (لا يجدون وليا ولا نصيرا) * لما ذكر خلودهم بين تحقيقه وذلك لأن المعذب لا يخلصه من العذاب إلا صديق يشفع له أو ناصر يدفع عنه، ولا ولي لهم يشفع ولا نصير يدفع.
* (يوم تقلب وجوههم فى النار يقولون يا ليتنآ أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا * ربنآ ءاتهم ضعفين من العذاب ولعنهم لعنا كبيرا) *.
لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب بين أن بعض أعضائهم أيضا لا يدفع العذاب عن البعض بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة اتقاء بيده فإن من يقصد رأسه ووجهه تجده يجعل يده جنة أو يطأطئ رأسه كي لا يصيب وجهه، وفي الآخرة * (تقلب وجوههم في النار) * فما ظنك بسائر أعضائهم التي تجعل جنة للوجه ووقاية له * (يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) * فيتحسرون ويندمون حيث لا تغنيهم الندامة والحسرة، لحصول علمهم بأن الخلاص ليس إلا للمطيع. ثم يقولون: * (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا) * يعني بدل طاعة الله تعالى أطعنا السادة وبدل طاعة الرسول أطعنا الكبراء وتركنا طاعة سيد السادات وأكبر الأكابر
232

فبدلنا الخير بالشر، فلا جرم فاتنا خير الجنان وأوتينا شر النيران، ثم إنهم يطلبون بعض التشفي بتعذيب المضلين ويقولون: * (ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا) * أي بسبب ضلالهم وإضلالهم وفي قوله تعالى: * (ضعفين والعنهم لعنا كثيرا) * معنى لطيف وهو أن الدعاء لا يكون إلا عند عدم حصول الأمر المدعو به والعذاب كان حاصلا لهم واللعن كذلك فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب بقولهم: * (ضعفين) * وزيادة اللعن بقولهم: * (لعنا كبيرا) *.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) *.
لما بين الله تعالى أن من يؤذي الله ورسوله يلعن ويعذب وكان ذلك إشارة إلى إيذاء هو كفر، أرشد المؤمنين إلى الامتناع من إيذاء هو دونه وهو لا يورث كفرا، وذلك مثل من لم يرض بقسمة النبي عليه السلام وبحكمه بالفيء لبعض وغير ذلك فقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى) * وحديث إيذاء موسى مختلف فيه، قال بعضهم هو إيذاؤهم إياه بنسبته إلى عيب في بدنه، وقال بعضهم: (إن) قارون قرر مع امرأة فاحشة حتى تقول عند بني إسرائيل إن موسى زنى بي فلما جمع قارون القوم والمرأة حاضرة ألقى الله في قلبها أنها صدقت ولم تقل ما لقنت وبالجملة الإيذاء المذكور في القرآن كاف وهو أنهم قالوا له: * (اذهب أنت وربك فقاتلا) * (المائدة: 24) وقولهم: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * (البقرة: 55) وقولهم: * (لن نصبر على طعام واحد) * (البقرة: 61) إلى غير ذلك فقال للمؤمنين لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول إلى القتال أي لا تقولوا: * (اذهب أنت وربك فقاتلا) * ولا تسألوا ما لم يؤذن لكم فيه: " وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم " وقوله: * (فبرأه الله مما قالوا) * على الأول ظاهر لأنه أبرز جسمه لقومه فرأوه وعلموا فساد اعتقادهم ونطقت المرأة بالحق وأمر الملائكة حتى عبروا بهارون عليهم فرأوه غير مجروح فعلموا براءة موسى عليه السلام عن قتله الذي رموه به، وعلى ما ذكرنا * (فبرأه الله مما قالوا) * أي أخرجه عن عهدة ما طلبوا بإعطائه البعض إياهم وإظهاره عدم جواز البعض وبالجملة قطع الله حجتهم ثم ضرب عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم، وقوله: * (وكان عند الله وجيها) * أي ذا وجاهة ومعرفة، والوجيه هو الرجل الذي يكون له وجه أي يكون معروفا بالخير، وكل أحد وإن كان عند الله معروفا لكن المعرفة المجردة لا تكفي في الوجاهة، فإن من عرف غيره لكونه خادما له وأجيرا عنده لا يقال هو وجيه عند فلان، وإنما الوجيه من يكون له خصال حميدة تجعل من شأنه أن يعرف ولا ينكر وكان كذلك.
233

ثم قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم) * أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر منهم من الأفعال والأقوال، أما الأفعال فالخير، وأما الأقوال فالحق لأن من أتى بالخير وترك الشر فقد اتقى الله ومن قال الصدق قال قولا سديدا، ثم وعدهم على الأمرين بأمرين: على الخيرات بإصلاح الأعمال فإن بتقوى الله يصلح العمل والعمل الصالح يرفع ويبقى فيبقى فاعله خالدا في الجنة، وعلى القول السديد بمغفرة الذنوب.
ثم قال تعالى: * (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) * فطاعة الله هي طاعة الرسول، ولكن جمع بينهما لبيان شرف فعل المطيع فإنه يفعله الواحد اتخذ عند الله عهدا وعند الرسول يدا وقوله: * (فقد فاز فوزا عظيما) * جعله عظيما من وجهين أحدهما: أنه من عذاب عظيم والنجاة من العذاب تعظم بعظم العذاب، حتى أن من أراد أن يضرب غيره سوطا ثم نجا منه لا يقال فاز فوزا عظيما، لأن العذاب الذي نجا منه لو وقع ما كان يتفاوت الأمر تفاوتا كثيرا والثاني: أنه وصل إلى ثواب كثير وهو الثواب الدائم الأبدي.
ثم قال تعالى
* (إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) *.
لما أرشد الله المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وأدب النبي عليه السلام بأحسن الآداب، بين أن التكليف الذي وجهه الله إلى الإنسان أمر عظيم فقال: * (إنا عرضنا الأمانة) * أي التكليف وهو الأمر بخلاف ما في الطبيعة، واعلم أن هذا النوع من التكليف ليس في السماوات ولا في الأرض لأن الأرض والجبل والسماء كلها على ما خلقت عليه؛ الجبل لا يطلب منه السير والأرض لا يطلب منها الصعود ولا من السماء الهبوط ولا في الملائكة لأن الملائكة وإن كانوا مأمورين منهيين عن أشياء لكن ذلك لهم كالأكل والشرب لنا فيسبحون الليل والنهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في الأمانة وجوه كثيرة منها من قال هو التكليف وسمي أمانة لأن من قصر فيه
234

فعليه الغرامة، ومن وفر فله الكرامة. ومنهم من قال هو قول لا إله إلا الله وهو بعيد فإن السماوات والأرض والجبال بألسنتها ناطقة بأن الله واحد لا إله إلا هو، ومنهم
من قال الأعضاء فالعين أمانة ينبغي أن يحفظها والأذن كذلك واليد كذلك، والرجل والفرج واللسان، ومنهم من قال معرفة الله بما فيها والله أعلم.
المسألة الثانية: في العرض وجوه منهم من قال المراد العرض ومنهم من قال الحشر ومنهم من قال المقابلة أي قابلنا الأمانة على السماوات فرجحت الأمانة على أهل السماوات والأرض.
المسألة الثالثة: * (في السماوات والأرض) * وجهان أحدهما: أن المراد هي بأعيانها، والثاني: المراد أهلوها، ففيه إضمار تقديره: إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات والأرض.
المسألة الرابعة: قوله: * (فأبين أن يحملنها) * لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى: * (أبى أن يكون مع الساجدين) * (الحجر: 31) من وجهين أحدهما: أن هناك السجود كان فرضا، وههنا الأمانة كانت عرضا وثانيهما: أن الإباء كان هناك استكبارا وههنا استصغارا استصغرن أنفسهن، بدليل قوله: * (وأشفقن منها) *.
المسألة الخامسة: ما سبب الإشفاق؟ نقول الأمانة لا تقبل لوجوه أحدها: أن يكون عزيزا صعب الحفظ كالأواني من الجواهر التي تكون عزيزة سريعة الانكسار، فإن العاقل يمتنع عن قبولها ولو كانت من الذهب والفضة لقبلها ولو كانت من الزجاج لقبلها، في الأول لأمانه من هلاكها، وفي الثاني لكونها غير عزيزة الوجود والتكليف كذلك والثاني: أن يكون الوقت زمان شهب وغارة فلا يقبل العاقل في ذلك الوقت الودائع، والأمر كان كذلك لأن الشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين إذ الغرض كان بعد خروج آدم من الجنة الثالث: مراعاة الأمانة والإتيان بما يجب كإيداع الحيوانات التي تحتاج إلى العلف والسقي وموضع مخصوص يكون برسمها، فإن العاقل يمتنع من قبولها بخلاف متاع يوضع في صندوق أو في زاوية بيت والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية.
المسألة السادسة: كيف حملها الإنسان ولم تحملها هذه الأشياء؟ فيه جوابان أحدهما: بسبب جهله بما فيها وعلمهن، ولهذا قال تعالى: * (إنه كان ظلوما جهولا) *. والثاني: أن الأشياء نظرت إلى أنفسهن فرأين ضعفهن فامتنعن، والإنسان نظر إلى جانب المكلف، وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها، وقال: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * (الفاتحة: 5). المسألة السابعة: قوله تعالى: * (إنه كان ظلوما جهولا) * فيه وجوه أحدها: أن المراد منه آدم ظلم نفسه بالمخالفة ولم يعلم ما يعاقب عليه من الإخراج من الجنة ثانيها: المراد الإنسان يظلم بالعصيان ويجهل ما عليه من العقاب ثالثها: إنه كان ظلوما جهولا، أي كان من شأنه الظلم والجهل
235

يقال فرس شموس ودابة جموح وماء طهور أي من شأنه ذلك، فكذلك الإنسان من شأنه الظلم والجهل فلما أودع الأمانة بقي بعضهم على ما كان عليه وبعضهم ترك الظلم كما قال تعالى: * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * (الأنعام: 82) وترك الجهل كما قال تعالى في حق آدم عليه السلام: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * (البقرة: 31) وقال في حق المؤمنين عامة: * (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) * (آل عمران: 7) وقال تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) رابعها: * (إنه كان ظلوما جهولا) * في ظن الملائكة حيث قالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * (البقرة: 30) وبين علمه عندهم حيث قال تعالى: * (أنبئوني بأسماء هؤلاء) * (البقرة: 31) وقال بعضهم في تفسير الآية إن المخلوق على قسمين مدرك وغير مدرك، والمدرك منه من يدرك الكلي والجزئي مثل الآدمي، ومنه من يدرك الجزئي كالبهائم ثم تدرك الشعير الذي تأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل والبراهين، ومنه من يدرك الكلي ولا يدرك الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل، قالوا وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: * (ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) * (البقرة: 31) فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات والتكليف لم يكن إلا على مدرك الأمرين إذ له لذات بأمور جزئية، فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية هي مثل لذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته، وأما غيره فإن كان مكلفا يكون مكلفا لا بمعنى الأمر بما فيه عليهم كلفة ومشقة بل بمعنى الخطاب فإن المخاطب يسمى مكلفا لما أن المكلف مخاطب فسمي المخاطب مكلفا وفي الآية لطائف الأولى: الأمانة كان عرضها على آدم فقبلها فكان أمينا عليها والقول قول الأمين فهو فائز، بقي أولاده أخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس بمؤتمن، ولهذا وارث المودع لا يكون القول قوله ولم يكن له بد من تجديد عهد وائتمان، فالمؤمن اتخذ عند الله عهدا فصار أمينا من الله فصار القول قوله فكان له ما كان لآدم من الفوز. ولهذا قال تعالى: * (ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات) * (الأحزاب: 73) أي كما تاب على آدم في قوله تعالى: * (فتاب عليه) * (البقرة: 37) والكافر صار آخذا للأمانة من المؤتمن فبقي في ضمانه، ثم إن المؤمن إذا أصاب الأمانة في يده شيء بقضاء الله وقدره كان ذلك من غير تقصير منه والأمين لا يضمن ما فات بغير تقصير، والكافر إذا أصاب الأمانة في يده شيء ضمن وإن كان بقضاء الله وقدره، لأنه يضمن ما فات وإن لم يكن بتقصير اللطيفة الثانية: خص الأشياء الثلاثة بالذكر لأنها أشد الأمور وأحملها للأثقال، وأما السماوات فلقوله تعالى: * (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) * (النبأ: 12) والأرض والجبال لا تخفى شدتها وصلابتها، ثم إن هذه الأشياء لما كانت لها شدة وصلابة عرض الله تعالى الأمانة عليها واكتفى بشدتهن وقوتهن فامتنعن، لأنهن وإن كن أقوياء إلا أن أمانة الله تعالى فوق قوتهن، وحملها الإنسان مع ضعفه الذي قال الله تعالى فيه: * (وخلق الإنسان ضعيفا) * (النساء: 28) ولكن وعده بالإعانة على حفظ الأمانة بقوله: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * (الطلاق: 3) فإن قيل فالذي يعينه الله تعالى كيف يعذب فلم يعذب الكافر؟ نقول قال الله تعالى: " أنا أعين من يستعين بي ويتوكل علي " والكافر لم يرجع إلى الله تعالى فتركه مع نفسه فيبقى في عهدة الأمانة اللطيفة الثالثة: قوله
236

تعالى: * (فأبين أن يحملنها) * وقوله تعالى: * (وحملها الإنسان) * إشارة إلى أن فيه مشقة بخلاف ما لو قال فأبين أن يقبلنها وقبلها الإنسان، ومن قال لغيره افعل هذا الفعل فإن لم يكن في الفعل تعب يقابل بأجرة فإذا فعله لا يستحق أجرة فقال تعالى: * (وحملها) * إشارة إلى أنه مما يستحق الأجر عليه أي على مجرد حمل
الأمانة، وإما على رعايتها حق الرعاية فيستحق الزيادة فإن قيل فالكل حملوها، غاية ما في الباب أن الكافر لم يأت بشيء زائد على الحمل فينبغي أن يستحق الأجر على الحمل فنقول الفعل إذا كان على وفق الإذن من المالك الآمر يستحق الفاعل الأجرة، ألا ترى أنه لو قال احمل هذا إلى الضيعة التي على الشمال فحمل ونقلها إلى الضيعة التي على الجنوب لا يستحق الأجرة ويلزمه ردها إلى الموضع الذي كان فيه كذلك الكافر حملها على غير وجه الإذن فغرم وزالت حسناته التي عملها بسببه.
ثم قال تعالى
* (ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما) *.
أي حملها الإنسان ليقع تعذيب المنافق والمشرك، فإن قال قائل لم قدم التعذيب على التوبة نقول لما سمى التكليف أمانة والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة فكان التعذيب على الخيانة كاللازم والأجر على الحفظ إحسان والعدل قبل الإحسان وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لم عطف المشرك على المنافق، ولم يعد اسمه تعالى فلم يقل ويعذب الله المشركين وعند التوبة أعاد اسمه وقال ويتوب الله ولو قال ويتوب على المؤمنين كان المعنى حاصلا؟ نقول أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف ويجب هناك ذلك الفاعل فقال: * (ويتوب الله) * ويحقق هذا قراءة من قرأ ويتوب الله بالرفع.
المسألة الثانية: ذكر الله في الإنسان وصفين الظلوم والجهول وذكر من أوصافه وصفين فقال: * (وكان الله غفورا رحيما) * أي كان غفورا للظلوم ورحيما على الجهول، وذلك لأن الله تعالى وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعا إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك كما قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) وأما الوعد فقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) وأما الرحمة على الجهل فلأن الجهل محل الرحمة ولذلك يعتذر المسئ بقوله ما علمت.
وههنا لطيفة: وهي أن الله تعالى أعلم عبده بأنه غفور رحيم، وبصره بنفسه فرآه ظلوما جهولا ثم عرض عليه الأمانة فقبلها مع ظلمه وجهله لعلمه فيما يجبرها من الغفران والرحمة والله أعلم.
237

سورة سبأ
مكية وقيل فيها آية مدنية وهي * (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك الآية) *
وهي أربع وقيل خمس وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الارض وله الحمد في الآخرة
وهو الحكيم الخبير " 1 "
بسم الله الرحمن الرحيم
* (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الارض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير) *.
السور المفتتحة بالحمد خمس سور سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في الأخير وهما هذه السورة وسورة الملائكة والخامسة وهي فاتحة الكتاب تقرأ مع
النصف الأول ومع النصف الأخير والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها
منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء، فإن الله تعالى خلقنا أولا برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما يدوم فلنا حالتان الابتداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول:
(الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) * إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ويدل
عليه قوله تعالى فيه: * (هو الذي خلقكم من طين) * إشارة إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية وهي الكهف * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما) * إشارة إلى الشكر على نعمة الإبقاء، فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع ينقاد له الخلق لا تبع كل واحد هواه ولو وقعت المنازعات في المشتبهات وأدى إلى التقاتل والتفاني، ثم قال في هذه السورة * (الحمد لله) * إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني ويدل عليه قوله تعالى: * (وله الحمد في الآخرة) * وقال في الملائكة: * (الحمد
لله)
إشارة إلى نعمة الإبقاء ويدل عليه قوله تعالى: جاعل الملائكة رسلا والملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلا إلى يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين كما قال تعالى: (وتتلقاهم الملائكة) وقال تعالى عنهم (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر النعمتين بقوله تعالى
(الحمد لله رب العالمين) إشارة إلى النعمة العاجلة وقوله: (مالك يوم الدين) إشارة إلى النعمة
238

يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج
فيها وهو الرحيم الغفور " 2 "
الآجلة قرئت في الافتتاح وفي الاختتام، ثم في مسائل:
(المسألة الأولى) الحمد شكر والشكر على النعمة والله تعالى جعل ما في السماوات وما في
الأرض لنفسه بقوله: * (له ما في السماوات وما في الأرض) * ولم يبين أنه لنا حتى يجب الشكر نقول
جوابا عنه الحمد يفارق الشكر في معنى وهو أن الحمد أعم فيحمد من فيه صفات حميدة وإن لم ينعم على الحامد أصلا، فإن الإنسان يحسن منه أن يقول في حق عالم لم يجتمع به أصلا أنه عالم عامل بارع
كامل فيقال له إنه يحمد فلانا ولا يقال إنه يشكره إلا إذا ذكر نعمه أو ذكره على نعمه فالله تعالى محمود في الأزل لاتصافه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال ومشكور ولا يزال على ما أبدى من
الكرم وأسدى من النعم فلا يلزم ذكر النعمة للحمد بل يكفي ذكر العظمة وفي كونه مالك ما في السماوات وما في الأرض عظمة كاملة فله الحمد على أنا نقول قوله: * (له ما في السماوات وما في الأرض) * يوجب شكرا أتم مما يوجبه قوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض) * وذلك لأن
ما في السماوات والأرض إذا كان لله ونحن المنتفعون به لا هو، يوجب ذلك شكرا لا يوجبه
كون ذلك لنا.
(المسألة الثانية) قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعمة التي في الآخرة، فلم ذكر الله
السماوات والأرض؟ فنقول نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السماوات
وما في الأرض، ثم قال: * (وله الحمد في الآخرة) * ليقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها
وفناء العاجلة ولهذا قال: * (وهو الحكيم الخبير) * إشارة إلى أن خلق هذه الأشياء بالحكمة والخير، والحكمة صفة ثابتة لله لا يمكن زوالها فيمكن منه إيجاد أمثال هذه مرة أخرى في الآخرة.
(المسألة الثالثة) الحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمرا ولم يأت بما
يناسب علمه لا يقال له حكيم، فالفاعل الذي فعله على وفق العلم هو الحكيم، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها فقوله: * (حكيم) * أي في الابتداء يخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ماذا يصدر من المخلوق وما لا يصدر إلى ماذا يكون مصير كل أحد فهو حكيم في الابتداء خبير
في الانتهاء.
ثم بين الله تعالى كما أخبره بقوله: * (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) *.
ما يلج في الأرض من الحبة والأموات ويخرج منها من السنابل والأحياء وما ينزل من السماء
239

وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى أو ربى لتأتينكم عالم الغيب لا
يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض ولا أصغر من ذلك ولا
أكبر إلا في كتاب مبين * ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك
لهم مغفرة ورزق كريم " 4 ".
من أنواع رحمته منها المطر ومنها الملائكة ومنها القرآن، وما يعرج فيها منها الكلم الطيب لقوله تعالى:
(إليه يصعد الكلم الطيب) ومنها الأرواح ومنها الأعمال الصالحة لقوله: (والعمل الصالح يرفعه) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) قدم ما يلج في الأرض على ما ينزل من السماء، لأن الحبة تبذر أولا ثم
تسقى ثانيا.
(المسألة الثانية) قال وما يعرج فيها ولم يقل يعرج إليها إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة
ومرتبة النفوس الزكية وهذا لأن كلمة إلى للغاية، فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند
السماوات فقال: * (وما يعرج فيها) * ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب: (إليه
يصعد الكلم الطيب) لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه، وأما السماء فهي دنيا
وفوقها المنتهى.
(المسألة الثالثة) قال: * (وهو الرحيم الغفور) * رحيم بالإنزال حيث ينزل الرزق من السماء، غفور عندما تعرج إليه الأرواح والأعمال فرحم أولا بالإنزال وغفر ثانيا عند العروج.
ثم بين أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد وهي نعمة الآخرة أنكرها قوم فقال تعالى:
(وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة) * ثم رد عليهم وقال: * (قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب
مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم).
أخبر بإتيانها وأكده باليمين، قال الزمخشري رحمه الله: لو قال قائل كيف يصح التأكيد باليمين
مع أنهم يقولون لا رب وإن كانوا يقولون به، لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين وأجاب عنه بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وبيان
كونه دليلا هو أن المسئ قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في دار الدنيا في الآلام الشديدة مدة ويموت فيها، فلولا دار تكون الأجزية فيها لكان
240

الأمر على خلاف الحكمة، والذي أقوله أنا هو أن الدليل المذكور في قوله: * (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة) * أظهر، وذلك لأنه إذا كان عالما بجميع الأشياء يعلم أجزاء الأحياء ويقدر على جمعها فالساعة ممكنة القيام، وقد أخبر عنها الصادق فتكون واقعة، وعلى هذا فقوله تعالى: * (في السماوات ولا في الأرض) * فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح والأجسام أجزاؤها في
الأرض والأرواح في السماء فقوله: * (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات) * إشارة إلى علمه بالأرواح وقوله: * (ولا في الأرض) * إشارة إلى علمه بالأجسام، وإذا علم الأرواح والأشباح وقدر على جمعها لا يبقى استبعاد في المعاد. وقوله: * (ولا أصغر من ذلك) * إشارة إلى أن ذكر مثقال الذرة
ليس للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب، وعلى هذا فلو قال قائل فأي حاجة إلى ذكر الأكبر،
فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد من أن يعلم الأكبر؟ فنقول لما كان الله تعالى أراد بيان
إثبات الأمور في الكتاب، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر، لكونها محل النسيان، أما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته، فقال الإثبات في الكتاب ليس كذلك فإن
الأكبر أيضا مكتوب فيه، ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جمع ذلك وإثباته للجزاء
فقال: * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم) * ذكر فيهم أمرين الإيمان والعمل الصالح، وذكر لهم أمرين المغفرة والرزق الكريم، فالمغفرة جزاء الإيمان
فكل مؤمن مغفور له ويدل عليه قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * وقوله عليه السلام فيما أخبرنا به تاج الدين عيسى بن أحمد بن الحاكم البندهي قال: أخبرني والدي عن جدي عن محيي السنة عن عبد الواحد المليجي عن أحمد بن عبد الله النعيمي عن
محمد بن يوسف الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان " والرزق الكريم من العمل الصالح وهو مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملا، فعند فراغه من العمل لا بد من أن ينعم عليه إنعاما ويطعمه طعاما، ووصف الرزق بالكريم قد ذكرنا أنه بمعنى ذي كرم أو مكرم، أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا، فإنه ما لم يطلب ويتسبب فيه لا يأتي، وفي التفسير مسائل:
(المسألة الأولى) قوله: * (أولئك له مغفرة ورزق كريم) * يحتمل وجهين (أحدهما): أن
يكون لهم ذلك جزاء فيوصله إليهم لقوله: * (ليجزي الذين آمنوا) *، وثانيهما: أن يكون ذلك لهم
والله يجزيهم بشيء آخر لأن قوله: * (أولئك لهم) * جملة تامة اسمية، وقوله تعالى: * (ليجزي الذين آمنوا) * جملة فعلية مستقلة، وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل. ليجزي الذين آمنوا رزقا.
(المسألة الثانية): اللام في ليجزي للتعليل، معناه الآخرة للجزاء، فإن قال قائل: فما وجه المناسبة؟ فنقول: الله تعالى أراد أن لا ينقطع ثوابه فجعل للمكلف دارا باقية ليكون ثوابه واصلا إليه دائما أبدا، وجعل قبلها دارا فيها الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلف مقدار ما يكون
241

والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم. " 5 "
فيه في الآخرة إذا نسبه إلى ما قبلها وإذا نظر إليه في نفسه.
المسألة الثالثة: ميز الرزق بالوصف بقوله كريم ولم يصف المغفرة واحدة هي للمؤمنين
والرزق منه شجرة الزقوم والحميم، ومنه الفواكه والشراب الطهور، فميز الرزق لحصول الانقسام فيه، ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها.
ثم قال تعلى (والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم).
لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين، وقوله: * (والذين سعوا في آياتنا) * أي
بالإبطال، ويكون معناه الذين كذبوا بآياتنا وحينئذ يكون هذا في مقابلة ما تقدم لأن قوله تعالى
* (آمنوا) * معناه صدقوا وهذا معناه كذبوا فإن قيل من أين علم كون سعيهم في الإبطال مع أن المذكور مطلق السعي؟ فنقول فهم من قوله تعالى: * (معاجزين) *
وذلك لأنه حال معناه سعوا فيها وهم يريدون
التعجيز وبالسعي في التقرير والتبليغ لا يكون الساعي معاجزا لأن القرآن وآيات الله معجزة في نفسها
لا حاجة لها إلى أحد، وأما المكذب فهو آت بإخفاء آيات بينات فيحتاج إلى السعي العظيم والجد البليغ ليروج كذبه لعله يعجز المتمسك به، وقيل بأن المراد من قوله: * (معاجزين) * أي ظانين أنهم يفوتون الله، وعلى هذا يكون كون الساعي ساعيا بالباطل في غاية الظهور، ولهم عذاب في مقابلة لهم رزق، وفي الآية لطائف الأولى: قال ههنا: * (لهم عذاب) * ولم يقل يجزيهم الله، وقد تقدم القول منا أن قوله تعالى: * (ليجزي الذين آمنوا) * يحتمل أن يكون الله يجزيهم بشيء آخر، وقوله
* (أولئك لهم مغفرة) * إخبار عن مستحقهم المعد لهم، وعلى الجملة فاحتمال الزيادة هناك قائم نظرا إلى
قوله: * (ليجزي) * وههنا لم يقل ليجازيهم فلم يوجد ذلك الثانية: قال هناك لهم مغفرة ثم زادهم فقال * (ورزق كريم) * وههنا لم يقل إلا لهم عذاب من رجز أليم، والجواب تقدم في مثله الثالثة
قال هناك: * (لهم مغفرة ورزق كريم) * ولم يقلله بمن التبعيضية فلم يقل لهم نصيب من رزق ولا رزق من جنس كريم، وقال ههنا: * (لهم عذاب من رجز أليم) * بلفظة صالحة للتبعيض وكل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وقلة الغضب بالنسبة إليها والرجز قيل أسوأ العذاب، وعلى هذا * (من) * لبيان الجنس كقول القائل خاتم من فضة، وفي الأليم قراءتان الجر والرفع فالرفع على أن الأليم وصف العذاب كأنه قال عذاب أليم من أسوأ العذاب والجر على أنه وصف للرجز والرفع أقرب نظرا
إلى المعنى، والجر نظرا إلى اللفظ، فإن قيل فلم تنحصر الأقسام في المؤمن الصالح عمله والمكذب الساعي المعجز لجواز أن يكون أحد مؤمنا ليس له عمل صالح أو كافر متوقف، فنقول إذا علم حال الفريقين المذكورين يعلم أن المؤمن قريب الدرجة ممن تقدم أمره والكافر قريب الدرجة ممن
سبق ذكره وللمؤمن مغفرة ورزق كريم، وإن لم يكن في الكرامة مثل رزق الذي عمل صالحا
242

ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ز يهدي
إلى صراط العزيز الحميد " 6 " وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل
ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد " 7 "
وللكافر غير المعاند عذاب وإن لم يكن من أسوأ الأنواع التي للمكذبين المعاندين.
* (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدى إلى صراط
العزيز الحميد) *.
لما بين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سعيه باطل فإن
من أوتي علما لا يغتر بتكذيبه ويعلم أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم حق وصدق، وقوله: هو الحق يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك، وأما قول المكذب فباطل، بخلاف ما إذا تنازع خصمان، والنزاع لفظي فيكون قول كل واحد حقا في المعنى، وقوله تعالى: * (ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) * يحتمل أن يكون بيانا لكونه هو الحق فإنه هاد إلى هذا الصراط، ويحتمل أن
يكون بيانا لفائدة أخرى، وهي أنه مع كونه حقا هاديا والحق واجب القبول فكيف إذا كان فيه
فائدة في الاستقبال وهي الوصول إلى الله، وقوله: * (العزيز الحميد) * يفيد رغبة ورهبة، فإنه إذا كان
عزيزا يكون ذا انتقام ينتقم من الذي يسعى في التكذيب، وإذا كان حميدا يشكر سعي من يصدق ويعمل صالحا، فإن قيل كيف قدم الصفة التي للهيبة على الصفة التي للرحمة مع أنك أبدا تسعى في بيان تقديم جانب الرحمة؟ نقول كونه عزيزا تام الهيبة شديد الانتقام يقوي جانب الرغبة لأن
رضا الجبار العزيز أعز وأكرم من رضا من لا يكون كذلك، فالعزة كما تخوف ترجى أيضا، وكما ترغب عن التكذيب ترغب في التصديق ليحصل القرب من العزيز.
* (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم
لفي خلق جديد) *.
وجه الترتيب: هو أن الله تعالى لما بين أنهم أنكروا الساعة ورد عليهم بقوله: * (قل
بلى وربي لتأتينكم) * (سبأ: 3) وبين ما يكون بعد إتيانها من جزاء المؤمن على عمله الصالح وجزاء
الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب على السيئات، بين حال المؤمن والكافر بعد قوله
* (قل بلى وربى لتأتينكم) * فقال المؤمن: هو الذي يقول الذي أنزل إليك الحق وهو يهدي، وقال الكافر هو الذي يقول هو باطل، ومن غاية اعتقادهم وعنادهم في إبطال ذلك قالوا على سبيل التعجب: * (هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد؟) * وهذا كقول القائل في الاستبعاد، جاء رجل يقول: إن الشمس تطلع من المغرب إلى غير ذلك من المحالات.
243

* (أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب
والضلال البعيد) * " 8 ". أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء
والارض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء
ثم قال تعالى: * (أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب
والضلال البعيد) * هذا يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون تمام قول الذين كفروا أولا أعني
هو من كلام من قال: * (هل ندلكم) * ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال: * (هل ندلكم) *
كأن السامع لما سمع قول القائل: * (هل ندلكم على رجل) * قال له: أهو يفتري على الله كذبا؟ إن كان
يعتقد خلافه، أم به جنة (أي) جنون؟ إن كان لا يعتقد خلافه وفي هذا لطيفة: وهي أن الكافر لا يرضى
بأن يظهر كذبه، ولهذا قسم ولم يجزم بأنه مفتر، بل قال مفتر أو مجنون، احترازا من أن يقول قائل كيف يقول بأنه مفتر، مع أنه جائز أن يظن أن الحق ذلك فظن الصدق يمنع تسمية القائل مفتريا وكاذبا في بعض المواضع، ألا ترى أن من يقول جاء زيد، فإذا تبين أنه لم يجئ وقيل له كذبت، يقول ما كذبت، وإنما سمعت من فلان أنه جاء، فظننت أنه صادق فيدفع الكذب عن
نفسه بالظن، فهم احترزوا عن تبين كذبهم، فكل عاقل ينبغي أن يحترز عن ظهور كذبه عند
الناس، ولا يكون العاقل أدنى درجة من الكافر، ثم إنه تعالى أجابهم مرة أخرى وقال: * (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب) * في مقابلة قولهم: * (أفترى على الله كذبا) * وقوله: * (والضلال البعيد في مقابلة قولهم: * (به جنة) * وكلاهما مناسب. أما العذاب فلأن نسبة الكذب إلى الصادق مؤذية، لأنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوه إلى الكذب. وأما الجنون
فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء، لأنه لا يشهد عليه بأنه يعذب، ولكن ينسبه إلى
عدم الهداية فبين أنهم هم الضالون، ثم وصف ضلالهم بالبعد، لأن من يسمي المهتدي ضالا يكون هو الضال، فمن يسمي الهادي ضالا يكون أضل، والنبي عليه الصلاة والسلام كان هادي كل مهتد.
ثم قال تعالى: * (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف
بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء) * لما ذكر الدليل بكونه عالم الغيب وكونه جازيا
على السيئات والحسنات ذكر دليلا آخر وذكر فيه تهديدا. أما الدليل فقوله: * (من السماء والأرض) *
فإنهما يدلان على الوحدانية كما بيناه مرارا، وكما قال تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25) ويدلان على الحشر لأنهما يدلان على كمال قدرته ومنها الإعادة، وقد
ذكرناه مرارا، وقال تعالى: * (أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم
244

إن في ذلك لآية لكل عبد منيب " 9 " ولقد آتينا داوود منا فضلا يا جبال
أوبي معه والطير وألنا له الحديد " 10 "
وأما التهديد فبقوله: * (إن نشأ نخسف بهم الأرض) * يعني نجعل عين نافعهم ضار هم بالخسف والكسف.
ثم قال تعالى: * (إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) * أي لكل من يرجع إلى الله ويترك التعصب
ثم إن الله تعالى لما ذكر من ينيب من عباده، ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم داود كما
قال تعالى عنه: * (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) * (ص: 24) وبين ما أتاه الله على إنابته فقال:
* (ولقد آتينا داوود منا فضلا يا جبال أوبى معه والطير وألنا له الحديد) *. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (منا) * إشارة إلى بيان فضيلة داود عليه السلام، وتقريره هو أن
قوله: * (ولقد آتينا داوا منا فضلا) * مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل: آتي الملك زيدا خلعة، فإذا قال القائل آتاه منه خلعة يفيد أنه كان من خاص ما يكون له، فكذلك إيتاء الله الفضل عام
لكن النبوة من عنده خاص بالبعض، ومثل هذا قوله تعالى: * (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان) * (التوبة: 21) فإن رحمة الله واسعة تصل إلى كل أحد في الدنيا لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من
عنده لخواصه فقال: * (يبشرهم ربهم برحمة منه) *.
المسألة الثانية: في قوله: * (يا جبال أوبي معه) * قال الزمخشري: * (يا جبال) * بدل من قوله: * (فضلا) *
معناه آتيناه فضلا قولنا يا جبال، أو من آتينا ومعناه قلنا يا جبال.
المسألة الثالثة: قرئ أوبي بتشديد الواو من التأويب وبسكونها وضم الهمزة أوبي من
الأوب وهو الرجوع والتأويب الترجيع، وقيل بأن معناه سيرى معه، وفي قوله: * (يسبحن) *
قالوا: هو من السباحة وهي الحركة المخصوصة.
المسألة الرابعة: قرئ * (والطير) * بالنصب حملا على محل المنادى والطير بالرفع حملا على لفظه.
المسألة الخامسة: لم يكن الموافق له في التأويب منحصرا في الجبال والطير ولكن ذكر
الجبال، لأن الصخور للجمود والطير للنفور تستبعد منهما الموافقة، فإذا وافقه هذه الأشياء
فغيرها أولى، ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة من الحجارة.
المسألة السادسة: قوله: * (وألنا له الحديد) * عطف، والمعطوف عليه يحتمل أن يكون قلنا
المقدر في قوله يا جبال تقديره قلنا: * (يا جبال) * أوبي وألنا، ويحتمل أن يكون عطفا على آتينا تقديره
آتيناه فضلا وألنا له.
المسألة السابعة: ألان الله له الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير، فإنه
يلين بالنار وينحل حتى يصير كالمداد الذي يكتب به، فأي عاقل يستبعد ذلك من قدرة الله، قيل
245

أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون
بصير " 11 " ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين
القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه
من عذاب السعير " 12 "
إنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان له الحديد وعلمه صنعة اللبوس وهي
الدروع، وإنما اختار الله له ذلك، لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وسعى في حفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل، فالزراد خير من القواس والسياف وغيرهما.
ثم قال تعالى * (أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير) *.
قيل إن أن ههنا للتفسير فهي مفسرة، بمعنى أي اعمل سابغات وهو تفسير * (ألنا) * وتحقيقه لأن يعمل، يعني ألنا له الحديد ليعمل سابغات ويمكن أن يقال ألهمناه أن اعمل وأن مع الفعل
المستقبل للمصدر فيكون معناه: ألنا له الحديد وألهمناه عمل سابغات وهي الدروع الواسعة ذكر الصفة ويعلم منها الموصوف وقدر في السرد، قال المفسرون: أي لا تغلظ المسامير فيتسع الثقب ولا توسع الثقب فتقلقل المسامير فيها، ويحتمل أن يقال السرد هو عمل الزرد، وقوله: * (وقدر في السرد) * أي الزرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب يكون
بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب
بل حصل به القوت فحسب، ويدل عليه قوله تعالى: * (واعملوا صالحا) * أي لستم مخلوقين إلا للعمل
الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه، والكسب قدروا فيه، ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله: * (إني بما تعملون بصير) * وقد ذكرنا مرارا أن من يعمل لملك شغلا ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن
العمل ويتقنه ويجتهد فيه، ثم لما ذكر المنيب الواحد ذكر منيبا آخر وهو سليمان، كما قال تعالى
* (وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) * (ص: 34).
وذكر ما استفاد هو بالإنابة فقال: * (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له
عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرئ * (ولسليمان الريح) * بالرفع وبالنصب وجه الرفع * (ولسليمان الريح) *
مسخرة أو سخرت * (لسليمان الريح) * ووجه النصب * (ولسليمان) * سخرنا * (الريح) * وللرفع وجه آخر
246

وهو أن يقال معناه: * (ولسليمان الريح) * كما يقال لزيد الدار، وذلك لأن الريح كانت له كالمملوك المختص به يأمرها بما يريد حيث يريد.
المسألة الثانية: الواو للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفا لجملة اسمية على جملة فعلية وهو
لا يجوز أولا يحسن فكيف هذا فنقول لما بين حال داود كأنه تعالى قال ما ذكرنا لداود ولسليمان
الريح، وأما على النصب فعلى قولنا: * (وألنا له الحديد) * كأنه قال: وألنا لداود الحديد وسخرنا لسليمان الريح.
المسألة الثالثة: المسخر لسليمان كانت ريحا مخصوصة لا هذه الرياح، فإنها المنافع عامة
في أوقات الحاجات ويدل عليه أنه لم يقرأ إلا على التوحيد فما قرأ أحد الرياح.
المسألة الرابعة: قال بعض الناس: المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت
تسبح كما يسبح كل شيء * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) *، وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحها فيسبح، ومن تسخير الريح أنه راض الخيل وهي كالريح وقوله: * (غدوها شهر) * ثلاثون فرسخا لأن
من يخرج للتفرج في أكثر الأمر لا يسير أكثر من فرسخ ويرجع كذلك، وقوله في حق داود
* (وألنا له الحديد) * وقوله في حق سليمان: * (وأسلنا له عين القطر) * أنهم استخرجوا تذويب الحديد والنحاس بالنار واستعمال الآلات منهما والشياطين أي أناسا أقوياء وهذا كله فاسد حمله على هذا ضعف اعتقاده (و) عدم اعتماده على قدرة الله والله قادر على كل ممكن وهذه أشياء ممكنة.
المسألة الخامسة: أقول قوله تعالى: * (وسخرنا مع داود الجبال) * وقوله: * (ولسليمان الريح
عاصفة) * لو قال قائل ما الحكمة في أن الله تعالى قال في الأنبياء: * (وسخرنا مع داود الجبال) * وفي هذه السورة قال: * (يا جبال أوبي معه) * وقال في الريح هناك وههنا: * (ولسليمان) * تقول الجبال لما سبحت شرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحف، والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة له وهذا حسن وفيه أمر آخر معقول يظهر لي وهو أن على قولنا * (أوبي معه) * سيري فالجبل في السير ليس أصلا بل هو يتحرك معه تبعا، والريح لا تتحرك مع
سليمان بل تحرك سليمان مع نفسها، فلم يقل الريح مع سليمان، بل سليمان كان مع الريح * (وأسلنا له عين
القطر) * أي النحاس * (ومن الجن) * أي سخرنا له من الجن، وهذا ينبئ عن أن جميعهم ما كانوا تحت أمره وهو الظاهر.
واعلم أن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق داود وثلاثة في حق سليمان عليهما الصلاة والسلام فالجبال المسخرة لداود من جنس تسخير الريح لسليمان، وذلك لأن الثقيل مع ما هو أخف منه
إذا تحركا يسبق الخفيف الثقيل ويبقى الثقيل مكانه، لكن الجبال كانت أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح فقدر الله أن سار الثقيل مع الخفيف أي الجبال مع داود على ما قلنا: * (أوبي) * أي سيري وسليمان وجنوده مع الريح الثقيل مع الخفيف أيضا، والطير من جنس تسخير الجن لأنهما
247

يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور
راسيات إعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور " 13 ".
لا يجتمعان مع الإنسان؛ الطير لنفوره من الإنس والإنس لنفوره من الجن، فإن الإنسان يتقي مواضع الجن، والجن يطلب أبدا اصطياد الإنسان والإنسان يطلب اصطياد الطير فقدر الله أن
صار الطير لا ينفر من داود بل يستأنس به ويطلبه، وسليمان لا ينفر من الجن بل يسخره ويستخدمه
وأما القطر والحديد فتجانس هما غير خفي وههنا لطيفة: وهي أن الآدمي ينبغي أن يتقي الجن
ويجتنبه والاجتماع به يفضي إلى المفسدة ولهذا قال تعالى: * (أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) * فكيف طلب سليمان الاجتماع بهم فنقول قوله تعالى: * (من يعمل بين يديه بإذن ربه) * إشارة إلى أن ذلك الحضور لم يكن فيه مفسدة ولطيفة أخرى: وهي أن الله تعالى قال ههنا: * (بإذن ربه) * بلفظ الرب وقال: * (ومن يزغ منهم عن أمرنا) * ولم يقل عن أمر ربه، وذلك لأن
الرب لفظ ينبئ عن الرحمة، فعندما كانت الإشارة إلى حفظ سليمان عليه السلام قال: * (ربه) * وعند ما
كانت الإشارة إلى تعذيبهم قال: * (عن أمرنا) * بلفظ التعظيم الموجب لزيادة الخوف وقوله تعالى * (نذقه
من عذاب السعير) * فيه وجهان أحدهما: أن الملائكة كانوا موكلين بهم وبأيديهم مقارع من
نار فالإشارة إليه وثانيهما: أن السعير هو ما يكون في الآخرة فأوعدهم بما في الآخرة من العذاب.
ثم قال تعالى * (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور) *.
المحاريب إشارة إلى الأبنية الرفيعة ولهذا قال تعالى: * (إذ تسوروا المحراب) * والتماثيل ما يكون فيها من النقوش، ثم لما ذكر البناء الذي هو المسكن بين ما يكون في المسكن من ماعون الأكل
فقال: * (وجفان كالجواب) * جمع جابية وهي الحوض الكبير الذي يجبي الماء أي يجمعه وقيل كان يجتمع على جفنة واحدة ألف نفس * (وقدور راسيات) * ثابتات لا تنقل لكبرها، وإنما يغرف منها
في تلك الجفان، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قدم المحاريب على التماثيل لأن النقوش تكون في الأبنية وقدم * (الجفان) *
في الذكر على * (القدور) * مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل،
فنقول: لما بين الأبنية الملكية أراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيه، وأما القدور فلا تكون فيه، ولا تحضر هناك، ولهذا
قال: * (راسيات) * أي
غير منقولات، ثم لما بين حال الجفان العظيمة، كان يقع في النفس أن الطعام الذي يكون
فيها في أي شيء يطبخ، فأشار إلى القدور المناسبة للجفان.
248

فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الارض تأكل منسأته
(المسألة الثانية) ذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب، وفي حق سليمان بحالة السلم وهي المساكن والمآكل وذلك لأن سليمان كان ولد داود، وداود قتل جالوت والملوك الجبابرة، واستوى داود على الملك، فكان سليمان كولد ملك يكون أبوه قد سوى على ابنه الملك وجمع له المال فهو يفرقه
على جنوده، ولأن سليمان لم يقدر أحد عليه في ظنه فتركوا الحرب معه وإن حاربه أحد كان
زمان الحرب يسيرا لإدراكه إياه بالريح فكان في زمانه العظمة بالإطعام والإنعام.
(المسألة الثالثة) لما قال عقيب قوله تعالى: * (أن اعمل سابغات) * اعملوا صالحا، قال عقيب
ما يعمله الجن: * (اعملوا آل داود شكرا) * إشارة إلى ما ذكرنا أن هذه الأشياء حالية لا ينبغي أن يجعل
الإنسان نفسه مستغرقة فيها وإنما الواجب الذي ينبغي أن يكثر منه هو العمل الصالح الذي يكون شكرا، وفيه إشارة إلى عدم الالتفات إلى هذه الأشياء، وقلة الاشتغال بها كما في قوله: * (وقدر في السرد) * أي اجعله بقدر الحاجة.
(المسألة الرابعة) انتصاب شكرا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون مفعولا له كقول
القائل جئتك طمعا وعبدت الله رجاء غفرانه وثانيها: أن يكون مصدرا كقول القائل شكرت
الله شكرا ويكون المصدر من غير لفظ الفعل كقول القائل جلست قعودا، وذلك لأن العمل شكر
فقوله: * (اعملوا) * يقوم مقام قوله: * (اشكروا) * وثالثها: أن يكون مفعولا به كقولك اضرب زيدا
كما قال تعالى: * (واعملوا صالحا) * لأن الشكر صالح.
(المسألة الخامسة) قوله: * (وقليل من عبادي الشكور) * إشارة إلى أن الله خفف الأمر على
عباده، وذلك لأنه لما قال: * (اعملوا آل داود شكرا) * فهم منه أن الشكر واجب لكن شكر نعمه كما ينبغي لا يمكن، لأن الشكر بالتوفيق وهو نعمة تحتاج إلى شكر آخر وهو بتوفيق آخر، فدائما
تكون نعمة الله بعد الشكر خالية عن الشكر، فقال تعالى: إن كنتم لا تقدرون على الشكر التام
فليس عليكم في ذلك حرج، فإن عبادي قليل منهم الشكور ويقوي قولنا أنه تعالى أدخل الكل في
قوله: * (عبادي) * مع الإضافة إلى نفسه، وعبادي بلفظ الإضافة إلى نفس المتكلم لم ترد في القرآن إلا في حق الناجين، كقوله تعالى: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) * وقوله
* (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * فإن قيل على ما ذكرتم شكر الله بتمامه لا يمكن وقوله: * (قليل) *
يدل على أن في عباده من هو شاكر لأنعمه، نقول الشكر بقدر الطاقة البشرية هو الواقع وقليل فاعله، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، أو نقول الشاكر التام ليس إلا من رضي الله عنه، وقال له: يا عبدي ما أتيت به من الشكر القليل قبلته منك وكتبت لك أنك شاكر لأنعمي بأسرها، وهذا القبول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها.
ثم قال تعالى (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الارض تأكل منسأته
249

فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين " 14 "
لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق
ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور " 15 "
فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين)
لما بين عظمة سليمان وتسخير الريح والروح له بين أنه لم ينج من الموت، وأنه قضى عليه الموت، تنبيها للخلق على أن الموت لا بد منه، ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة منه، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: كان سليمان عليه السلام يقف في عبادة الله ليلة كاملة ويوما تاما وفي بعض
الأوقات يزيد عليه، وكان له عصا يتكئ عليها واقفا بين يدي ربه، ثم في بعض الأوقات كان واقفا على عادته في عبادته إذ توفي، فظن جنوده أنه في العبادة وبقي كذلك أياما وتمادى شهورا، ثم أراد الله إظهار الأمر لهم، فقدر أن أكلت دابة الأرض عصاه فوقع وعلم حاله.
وقوله تعالى: * (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) *
كانت الجن تعلم ما لا يعلمه الإنسان فظن أن ذلك القدر علم الغيب وليس كذلك، بل الإنسان لم
يؤت من العلم إلا قليلا فهو أكثر الأشياء الحاضرة لا يعلمه، والجن لم تعلم إلا الأشياء الظاهرة
وإن كانت خفية بالنسبة إلى الإنسان، وتبين لهم الأمر بأنهم لا يعلمون الغيب إذ لو كانوا يعلمونه
لما بقوا في الأعمال الشاقة ظانين أن سليمان حي. وقوله: * (ما لبثوا في العذاب المهين) * دليل على أن
المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير، لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين.
ثم قال تعالى: * (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم
واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) *.
لما بين الله حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان بين حال الكافرين بأنعمه، بحكاية أهل
سبأ، وفي سبأ قراءتان بالفتح على أنه اسم بقعة وبالجر مع التنوين على أنه اسم قبيلة وهو
الأظهر، لأن الله جعل الآية لسبأ وألفا هم هو العاقل لا المكان فلا يحتاج إلى إضمار
الأهل وقوله: * (آية) * أي من فضل ربهم، ثم بينها بذكر بدله بقوله: * (جنتان عن يمين
وشمال) * قال الزمخشري أية آية في جنتين، مع أن بعض بلاد العراق فيها آلاف من الجنان؟ وأجاب بأن المراد لكل واحد جنتان أو عن يمين بلدهم وشمالها جماعتان من الجنات، ولاتصال بعضها ببعض جعلها جنة واحدة، قوله: * (كلوا من رزق ربكم) * إشارة إلى تكميل النعم عليهم
250

فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل
خمط وأثل وشئ من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازى
إلا الكفور " 17 "
حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض، وقوله: * (واشكروا له) * بيان أيضا لكمال النعمة، فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة، ثم لما بين حالهم في مساكنهم وبساتينهم وأكلهم أتم بيان النعمة بأن بين أن لا غائلة عليه ولا تبعة في المآل في الدنيا، فقال: * (بلدة طيبة) * أي طاهرة عن
المؤذيات لا حية فيها ولا عقرب ولا وباء ولا وخم، وقال: * (ورب غفور) * أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة، فعند هذا بان كمال النعمة حيث كانت لذة حالية خالية عن المفسد المالية.
ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال: * (فأعرضوا فأرسلنا عليهم
سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) *.
فبين كمال ظلمهم بالإعراض بعض إبانة الآية كما قال تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها) * ثم بين كيفية الانتقام منهم كما قال: * (إنا من المجرمين منتقمون) * وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلا غرق أموالهم وخرب دورهم، وفي العرم وجوه أحدها: أنه الجرذ الذي سبب خراب السكر، وذلك من حيث إن بلقيس كانت قد عمدت إلى جبال بينها شعب فسدت الشعب
حتى كانت مياه الأمطار والعيون تجتمع فيها وتصير كالبحر وجعلت لها أبوابا ثلاثة مرتبة
بعضها فوق بعض وكانت الأبواب يفتح بعضها بعد بعض. فنقب الجرذ السكر، وخرب السكر بسببه وانقلب البحر عليهم وثانيها: أن العرب اسم السكر وهو جمع العرمة وهي الحجارة
(ثالثها) اسم للوادي الذي خرج منه الماء وقوله: * (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط) * بين به
دوام الخراب، وذلك لأن البساتين التي فيها الناس يكون فيها الفواكه الطيبة بسبب العمارة فإذا
تركت سنين تصير كالغيضة والأجمة تلتف الأشجار بعضها ببعض وتنبت المفسدات فيها فتقل الثمار وتكثر الأشجار، والخمط كل شجرة لها شوك أو كل شجرة ثمرتها مرة، أو كل شجرة ثمرتها لا تؤكل، والأثل نوع من الطرفاء ولا يكون عليه ثمرة إلا في بعض الأوقات، يكون عليه شيء كالعفص أو أصغر منه في طعمه وطبعه، والسدر معروف وقال فيه قليل لأنه كان أحسن أشجارهم فقلله الله، ثم بين الله أن ذلك كان مجازاة لهم على كفرانهم فقال: * (ذلك جزيناهم بما كفروا
وهل نجازي) * أي لا نجازي بذلك الجزاء * (إلا الكفور) * قال بعضهم المجازاة تقال في النقمة والجزاء
251

وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير
سيروا فيها ليالي وأياما آمنين * فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم
فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " 19 "
في النعمة لكن قوله تعالى: * (ذلك جزيناهم) * يدل على أن الجزاء يستعمل في النقمة، ولعل من قال ذلك أخذه من أن المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر تكون بين اثنين، يأخذ من كل واحد
جزاء في حق الآخر. وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله تعالى مبتدئ بالنعم.
ثم قال تعالى (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة: وقدرنا فيها السير
سيروا فيها ليالي وأياما آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث
ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور).
أي بينهم وبين الشام فإنها هي البقعة المباركة. وقرى ظاهرة أي يظهر بعضها لبعضها يرى
سواد القرية من القرية الأخرى، فإن قال قائل: هذا من النعم والله تعالى قد شرع في بيان تبديل نعمهم قوله: * (وبدلناهم بجنتيهم جنتين) * فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النقمة؟ فنقول ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل، ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمارتها
بكثرة القرى، ثم ذكر تبديله ذلك بالمفاوز والبيادي والبراري بقوله: * (ربنا باعد بين أسفارنا) * وقد فعل ذلك، ويدل عليه قراءة من قرأ ربنا بعد على المبتدأ والخبر، وقوله: * (وقدرنا فيها السير) * الأماكن المعمورة تكون منازلها معلومة مقدرة لا تتجاوز، فلما كان بين كل قرية مسيرة نصف
نهار، وكانوا يغدون إلى قرية ويروحون إلى أخرى ما أمكن في العرف تجاوزها، فهو المراد بالتقدير
والمفاوز لا يتقدر السير فيها بل يسير السائر فيها بقدر الطاقة جادا حتى يقطعها، وقوله: * (سيروا فيها ليالي وأياما) * أي كان بينهم ليال وأيام معلومة، وقوله: * (آمنين) * إشارة إلى كثرة العمارة، فإن خوف قطاع الطريق والانقطاع عن الرقيق لا يكون في مثل هذه الأماكن، وقيل بأن معنى
قوله * (ليالي وأياما) * تسيرون فيه إن شئتم ليالي وإن شئتم أياما لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة
فإن بعضها يسلك ليلا، لئلا يعلم العدو بسيرهم، وبعضها يسلك نهارا لئلا يقصدهم العدو، إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة، وقوله تعالى: * (قالوا ربنا باعد بين أسفارنا) * قيل بأنهم طلبوا ذلك
وهو يحتمل وجهين أحدهما: أن يسألوا بطرا كما طلبت اليهود الثوم والبصل، ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتمادهم على أن ذلك لا يقدر كما يقول القائل لغيره إضربني إشارة إلى
أنه لا يقدر عليه. ويمكن أن يقال: * (قالوا ربنا بعد) * بلسان الحال، أي لما كفروا فقد طلبوا أن يبعد
252

ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما
كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك
وربك على كل شىء حفيظ " 21 "
بين أسفارهم ويخرب المعمور من ديارهم، وقوله: * (وظلموا أنفسهم) * يكون بيانا لذلك، وقوله
* (فجعلناهم أحاديث) * أي فعلنا بهم ما جعلناهم به مثلا، يقال: تفرقوا أيدي سبا، وقوله: * (ومزقناهم
كل ممزق) * بيان لجعلهم أحاديث، وقوله تعالى: * (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) * أي فيما ذكرناه من حال الشاكرين ووبال الكافرين.
ثم قال تعالى: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) * أي ظنه أنه يغويهم كما قال: * (فبعزتك لأغوينهم) * وقوله: * (فاتبعوه) * بيان لذلك أي أغواهم، فاتبعوه * (إلا فريقا من المؤمنين) *
قال تعالى في حقهم: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * ويمكن أن يقال صدق عليهم ظنه في أنه خير منه كما قال تعالى عنه: * (أنا خير منه) * ويتحقق ذلك في قوله فاتبعوه، لأن المتبوع خير من التابع وإلا لا يتبعه العاقل والذي يدل على أن إبليس خير من الكافر، هو إن إبليس امتنع من عبادة غير الله لكن لما كان في امتناعه ترك عبادة الله عنادا كفر، والمشرك يعبد غير الله فو كفر
بأمر أقرب إلى التوحيد، وهم كفروا بأمر هو الإشراك، ويؤيد هذا الذي اخترناه الاستثناء، وبيانه هو أنه وإن لم يظن أنه يغوي الكل، بدليل أنه تعالى قال عنه: * (إلا عبادك منهم المخلصين) * فما ظن
أنه يغوي المؤمنين فما ظنه صدقه ولا حاجة إلى الاستثناء، وأما في قوله: * (أنا خير منه) * اعتقد الخيرية بالنسبة إلى جميع الناس بدليل تعليله بقوله: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) * وقد كذب في ظنه في حق المؤمنين، ويمكن الجواب عن هذا في الوجه الأول، وهو أنه وإن لم يظن
إغواء الكل وعلم أن البعض ناج، لكن ظن في كل واحد أنه ليس هو ذلك الناجي، إلى أن تبين له فظن أنه يغويه فكذب في ظنه في حق البعض وصدق في البعض.
ثم قال تعالى (وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك
وربك على كل شئ حفيظ).
قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) * أن علم الله من
الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالما لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه، فإن العلم صفة كاشفة يظهر بها كل ما في نفس الأمر فعلم الله في الأزل أن العالم سيوجد، فإذا
وجد علمه موجودا بذلك العلم، وإذا عدم يعلمه معدوما بذلك، مثاله: أن المرآة المصقولة فيها الصفاء
253

قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات
ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع
الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم
قالوا الحق وهو العلى الكبير " 23 "
فيظهر فيها صورة زيد إن قابلها، ثم إذا قابلها عمرو يظهر فيها صورته، والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا
تبدلت في صفاتها، وإنما التغير في الخارجات فكذلك ههنا قوله: * (إلا لنعلم) * أي ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر والإيمان من المؤمن وكان قبله فيه أنه سيكفر زيد ويؤمن عمرو.
وقوله: * (وما كان له عليهم من سلطان) * إشارة إلى أنه ليس بملجئ وإنما هو آية، وعلامة
خلقها لله لتبيين ما هو في علمه السابق، وقوله: * (وربك على كل شيء حفيظ) * يحقق ذلك أي الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع، فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز.
ثم قال تعالى (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا
في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له
حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير).
لما بين الله تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بمن مضى عاد إلى خطابهم وقال
لرسوله صلى الله عليه وسلم قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم من دون الله ليكشفوا عنكم الضر على سبيل التهكم
ثم بين أنهم لا يملكون شيئا بقوله: * (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض) *.
واعلم أن المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة أحدها: قول من يقول الله تعالى خلق السماء والسماويات وجعل الأرض والأرضيات في حكمهم، ونحن من جملة الأرضيات فنعبد الكواكب والملائكة التي في السماء فهم آلهتنا والله إلههم، فقال الله تعالى في إبطال قولهم: إنهم لا يملكون في السماوات شيئا كما اعترفتم، قال ولا في الأرض على خلاف ما زعمتم وثانيها: قول من يقول السماوات من الله على سبيل الاستبداد والأرضيات منه ولكن بواسطة الكواكب فإن الله خلق
العناصر والتركيبات التي فيها بالإتصالات والحركات والطوالع فجعلوا لغير الله معه شركا في الأرض
والأولون جعلوا الأرض لغيره والسماء له، فقال في إبطال قولهم: * (وما لهم فيهما من شرك) * أي الأرض
كالسماء لله لا لغيره، ولا لغيره فيها نصيب وثالثها: قول من قال: التركيبات والحوادث كلها من
254

الله تعالى لكن فوض ذلك إلى الكواكب، وفعل المأذون ينسب إلى الآذن ويسلب عن المأذون
فيه، مثاله إذا ملك لمملوكه اضرب فلانا فضربه يقال في العرف الملك ضربه ويصح عرفا قول القائل ما ضرب فلان فلانا، وإنما الملك أمر بضرب فضرب، فهؤلاء جعلوا السماويات معينات
لله فقال تعالى في إبطال قولهم: * (وما له منهم من ظهير) * ما فوض إلى شيء شيئا، بل هو على كل شيء
حفيظ ورقيب ورابعها: قول من قال إنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا
فقال تعالى في إبطال قولهم * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) * فلا فائدة لعبادتكم غير الله
فإن الله لا يأذن في الشفاعة لمن يعبد غيره فبطلبكم الشفاعة تفوتون على أنفسكم الشفاعة وقوله * (حتى
إذا فزع عن قلوبهم) * أي أزيل الفزع عنهم، يقال قرد البعير إذا أخذ منه القراد ويقال لهذا تشديد السلب، وفي قوله تعالى: * (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق) * وجوه أحدها الفزع الذي عند الوحي فإن الله عندما يوحي يفزع من في السماوات، ثم يزيل الله عنهم الفزع فيقولون لجبريل عليه السلام ماذا قال الله؟ فيقول قال الحق أي الوحي وثانيها: الفزع الذي من الساعة وذلك لأن الله تعالى لما أوحى إلى محمد عليه السلام * (فزع من في السماوات) * من القيامة
لأن إرسال محمد عليه السلام من أشراط الساعة، فلما زال عنهم ذلك الفزع قالوا ماذا قال الله
قال جبريل * (الحق) * أي الوحي وثالثها: هو أن الله تعالى يزيل الفزع وقت الموت عن القلوب فيعترف كل أحد بأن ما قال الله تعالى هو الحق فينفع ذلك القول من سبق ذلك منه، ثم يقبض
روحه على الإيمان المتفق عليه بينه وبين الله تعالى، ويضر ذلك القول من سبق منه خلافه فيقبض روحه على الكفر المتفق بينه وبين الله تعالى: إذا علمت هذا فنقول على القولين الأولين قوله
تعالى: * (حتى) * غاية متعلقة بقوله تعالى: * (قل) * لأنه بينه بالوحي لأن قول القائل قل لفلان للإنذار حتى يسمع المخاطب ما يقوله، ثم يقول بعد هذا الكلام ما
يجب قوله فلما قال: * (قل) * فزع من في السماوات، ثم أزيل عنه الفزع، وعلى الثالث متعلق بقوله تعالى: * (زعمتم) * أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع، ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق، وعلى القولين الأولين فاعل قوله تعالى: * (قالوا ماذا) * هو الملائكة السائلون من جبريل، وعلى الثالث الكفار السائلون من الملائكة والفاعل في
قوله: * (الحق) * على القولين الأولين هم الملائكة، وعلى الثالث هم المشركون.
واعلم أن الحق هو الموجود ثم إن الله تعالى لما كان وجوده لا يرد عليه عدم كان حقا مطلقا
لا يرتفع بالباطل الذي هو العدم والكلام الذي يكون صدقا يسمى حقا، لأن الكلام له متعلق في الخارج بواسطة أنه متعلق بما في الذهن، والذي في الذهن متعلق بما في الخارج فإذا قال القائل
جاء زيد يكون هذا اللفظ تعلقه بما في ذهن القائل وذهن القائل تعلقه بما في الخارج لكن للصدق متعلق يكون في الخارج فيصير له وجود مستمر وللكذب متعلق لا يكون في الخارج، وحينئذ
إما أن لا يكون له متعلق في الذهن فيكون كالمعدوم من الأول وهو الألفاظ التي تكون صادرة
255

قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى
أو في ضلال مبين " 24 "
عن معاند كاذب، وإما أن يكون له متعلق في الذهن على خلاف ما في الخارج فيكون اعتقادا
باطلا جهلا أو ظنا لكن لما لم يكن لمتعلقه متعلق يزول ذلك الكلام ويبطل، وكلام الله لا بطلان
له في أول الأمر كما يكون كلام الكاذب المعاند ولا يأتيه الباطل كما يكون كلام الظان، وقوله
تعالى: * (وهو العلي الكبير) * قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون
من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير) * أن * (الحق) * إشارة إلى أنه كامل لا نقص فيه فيقبل
نسبة العدم، وفوق الكاملين لأن كل كامل فوقه كامل فقوله: * (وهو العلي الكبير) * إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته، وهذا يبطل القول بكونه جسما وفي حيز، لأن كل من كان في حيز فإن العقل يحكم بأنه مشار إليه وهو مقطع الإشارة لأن الإشارة لو لم تقع إليه لما كان المشار إليه
هو، وإذا وقعت الإشارة إليه فقد تناهت الإشارة عنده، وفي كل موقع تقف الإشارة بقدر العقل
على أن يفرض البعد أكثر من ذلك فيقول لو كان بين مأخذ الإشارة والمشار إليه أكثر من هذا
البعد لكان هذا المشار إليه أعلى فيصير عليه بالإضافة لا مطلقا وهو على مطلقا ولو كان جسما لكان له مقدار، وكل مقدار يمكن أن يفرض أكبر منه فيكون كبيرا بالنسبة إلى غيره لا مطلقا وهو
كبير مطلقا.
ثم قال تعالى: * (قل من يرزقكم من السماوات والأرض) * قد ذكرنا مرارا أن العامة يعبدون
الله لا لكونه إلها، وإنما يطلبون به شيئا، وذلك إما دفع ضرر أو جر نفع فنبه الله تعالى العامة
بقوله: * (قل ادعوا الذين زعمتم) * على أنه لا يدفع الضر أحد إلا هو كما قال تعالى: * (وإن يمسسك الله
بضر فلا كاشف له إلا هو) * وقال بعد إتمام بيان ذلك * (قل من يرزقكم من السماوات والأرض) * إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به ومنه، فإذا إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعلوه وكبريائه سواء دفع
عنكم ضرا أو لم يدفع وسواء نفعكم بخير أو لم ينفع فإن لم تكونوا كذلك فاعبدوه لدفع الضر وجر النفع.
ثم قال تعالى: * (قل الله) * يعني إن لم يقولوا هم فقل أنت الله يرزق وههنا لطيفة: وهي أن
الله تعالى عند الضر ذكر أنهم يقولون الله ويعترفون بالحق حيث قال: * (قالوا الحق) * وعند النفع لم يقل إنهم يقولون ذلك وذلك لأن لهم حالة يعترفون بأن كاشف الضر هو الله حيث يقعون في
الضر كما قال تعالى: * (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه) * وأما عند الراحة فلا تنبه لهم لذلك فلذلك قال: * (قل الله) * أي هم في حالة الراحة غافلون عن الله.
ثم قال تعالى: * (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) * وفيه مسائل:
256

قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون * قل يجمع بيننا
ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم " 26 "
(المسألة الأولى) هذا إرشاد من الله لرسوله إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها وذلك لأن أحد المتناظرين إذا قال للآخر هذا الذي تقوله خطأ وأنت فيه مخطئ
يغضبه وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض، وأما إذا قال له بأن أحدنا لا يشك
في أنه مخطئ والتمادي في الباطل قبيح والرجوع إلى الحق أحسن الأخلاق فنجتهد ونبصر أينا على
الخطأ ليحترز فإنه يجتهد ذلك الخصم في النظر ويترك التعصب وذلك لا يوجب نقصا في المنزلة لأنه
أوهم بأنه في قوله شاك ويدل عليه قول الله تعالى لنبيه: * (وإنا أو إياكم) * مع أنه لا يشك في أنه هو الهادي وهو المهتدي وهم الضالون والمضلون.
المسألة الثانية: في قوله: * (لعلى هدى أو في ضلال مبين) * ذكر في الهدى كلمة على وفي
الضلال كلمة في لأن المهتدي كأنه مرتفع متطلع فذكره بكلمة التعالي، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فذكره بكلمة في.
المسألة الثالثة: وصف الضلال بالمبين ولم يصف الهدى لأن الهدي هو الصراط المستقيم
الموصل إلى الحق والضلال خلافه لكن المستقيم واحد وما هو غيره كله ضلال وبعضه بين من بعض، فميز البعض عن البعض بالوصف.
المسألة الرابعة: قدم الهدى على الضلال لأنه كان وصف المؤمنين المذكورين بقوله: * (إنا) *
وهو مقدم في الذكر.
ثم قال تعالى: * (قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) * أضاف الإجرام إلى
النفس وقال في حقهم: * (ولا نسأل عما تعملون) * ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع
من الفهم وقوله: * (لا تسألون) * * (ولا نسأل) * زيادة حث على النظر وذلك لأن كل أحد إذا كان مؤاخذا بجرمه فإذا احترز نجا، ولو كان البريء يؤاخذ بالجرم لما كفى النظر.
ثم قال تعالى: * (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) * أكد ما يوجب
النظر والتفكر، فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب، فكيف إذا كان يوم عرض وحساب وثواب وعذاب وقوله: * (يفتح) * قيل معناه يحكم، ويمكن أن يقال بأن الفتح ههنا مجاز وذلك لأن الباب المغلق والمنفذ المسدود يقال فيه فتحه على طريق الحقيقة. ثم إن الأمر إذا كان فيه انغلاق وعدم وصول إليه فإذا بينه أحد يكون قد فتحه وقوله: * (وهو الفتاح العليم) * إشارة إلى أن حكمه يكون مع العلم لا مثل حكم من يحكم بما يتفق له بمجرد هواه.
257

قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم * وما
أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون " 28 "
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لكم ميعاد يوم
لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون " 30 "
ثم قال تعالى: * (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم) * قد ذكرنا أن المعبود قد يعبده قوم لدفع الضرر وجمع لتوقع المنفعة وقليل من الأشراف الأعزة يعبدونه لأنه يستحق العبادة لذاته فلما بين أنه لا يعد غير الله لدفع الضرر إذ لا دافع للضرر غيره بقوله: * (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) * وبين أنه لا يعبد غير الله لتوقع المنفعة بقوله: * (قل من يرزقكم من السماوات والأرض) * بين ههنا أنه لا يعبد أحد لاستحقاقه العبادة غير الله فقال: * (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم) * أي هو المعبود لذاته واتصافه بالعزة وهي القدرة الكاملة والحكمة وهي العلم التام الذي عمله موافق له.
ثم قال تعالى (وما أرسلناك إلا كافة الناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
لما بين مسألة التوحيد شرع في الرسالة فقال تعالى: * (وما أرسلناك إلا كافة) * وفيه وجهان
أحدها: كافة أي إرساله كافة أي عامة لجميع الناس تمنعهم من الخروج عن الانقياد لها (والثاني) كافة أي أرسلناك كافة تكف أنت من الكفر والهاء للمبالغة على هذا الوجه * (بشيرا) * أي
تحثهم بالوعد * (ونذيرا) * تزجرهم بالوعيد * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * ذلك لا لخفائه ولكن لغفلتهم
ثم قال تعالى: * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * لما ذكر الرسالة بين الحشر.
وقال: * (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون) * قد ذكرنا في سورة
الأعراف أن قوله: * (لا تستأخرون) * يوجب الإنذار، لأن معناه عدم المهلة عن الأجل ولكن الاستقدام ما وجهه؟ وذكرنا هناك وجهه ونذكر ههنا أنهم لما طلبوا الاستعجال بين أنه لا استعجال فيه كما لا امهال، وهذا يفيد عظم الأمر وخطر الخطب، وذلك لأن الأمر الحقير إذا طالبه طالب
من غيره لا يؤخره ولا يوقفه على وقت بخلاف الأمر الخطير وفي قوله تعالى: * (لكم ميعاد يوم) * قراءات أحدها: رفعهما مع التنوين على وهذا يوم بدل وثانيها: نصب يوم مع رفع ميعاد
والتنوين فيهما ميعاد يوما قال الزمخشري ووجهه أنه منصوب بفعل محذوف كأنه قال ميعاد أعني يوما وذلك يفيد التعظيم والتهويل، ويحتمل أن يقال نصب على الظرف تقديره لكم ميعاد يوما
258

وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ
الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين
استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين " 31 "
كما يقول القائل: أنا جائيك يوما وعلى هذا يكون العامل فيه العلم كأنه يقول لكم ميعاد تعلمونه
يوما وقوله معلوم يدل عليه كقول القائل إنه مقتول يوما الثالثة: الإضافة لكم ميعاد يوم كما في
قول القائل سحق ثوب للتبيين وإسناد الفعل إليهم بقوله: * (لا تستأخرون عنه) * بدلا عن قوله
* (لا يؤخر عنكم) * زيادة تأكيد لوقوع اليوم.
ثم قال تعالى: * (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه) * لما بين
الأمور الثلاثة من التوحيد والرسالة والحشر وكانوا بالكل كافرين بين كفرهم العام بقوله: * (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن) * وذلك لأن القرآن مشتمل على الكل وقوله: * (ولا بالذي بين
يديه) * المشهور أنه التوراة والإنجيل، وعلى هذا فالذين كفروا المراد منهم المشركون المنكرون للنبوات والحشر، ويحتمل أن يقال إن المعنى هو أنا لا نؤمن بالقرآن أنه من الله ولا بالذي بين
يديه أي ولا بما فيه من الإخبارات والمسائل والآيات والدلائل، وعلى هذا فالذين كفروا المراد منهم العموم، لأن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن أنه من الله ولا بالذي فيه من الرسالة وتفاصيل
الحشر، فإن قيل: أليس هم مؤمنون بالوحدانية والحشر، فنقول إذا لم يصدق واحد ما في الكتاب من الأمور المختصة به يقال فيه إنه لم يؤمن بشيء منه وإن آمن ببعض ما فيه لكونه في غيره فيكون
إيمانه لا بما فيه. مثاله: أن من يكذب رجلا فيما يقوله فإذا أخبره بأن النار حارة لا يكذبه فيه
ولكن لا يقال إنه صدقه لأنه إنما صدق نفسه، فإنه كان عالما به من قبل وعلى هذا فقوله بين
يديه أي الذي هو مشتمل عليه من حيث إنه وارد فيه.
وقوله تعالى: * (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول
الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين) *.
لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم لن نؤمن فإنه لتأييد النفي وعد نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول كما يكون عليه حال
جماعة أخطؤا في أمر يقول بعضهم كان ذلك بسببك ويرد عليه الآخر مثل ذلك، وجواب لو
محذوف، تقديره: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون لرأيت عجبا، ثم بدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ فقال: * (يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين) * إشارة إلى أن
259

قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد
إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل
مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا
كفرهم كان لمانع لا لعدم المقتضى لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا ما جاءنا رسول، ولا أن يقولوا
قصر الرسول، وهذا إشارة إلى إتيان الرسول بما عليه لأن الرسول لو أهمل شيئا لما كانوا
يؤمنون ولولا المستكبرون لآمنوا.
ثم قال تعالى: * (وقال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ
جاءكم بل كنتم مجرمين) *.
ردا لما قالوا إن كفرنا كان لمانع * (أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم
مجرمين) * يعني المانع ينبغي أن يكون راجحا على المقتضى حتى يعمل عمله، والذي جاء به هو الهدى،
والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئا يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصح تعليل كم بالمانع، ثم بين أن كفرهم كان إجراما من حيث إن المعذور لا يكون معذورا إلا لعدم المقتضى
أو لقيام المانع ولم يوجد شيء منهما.
ثم قال تعالى: * (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا
أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) *.
لما ذكر المستكبرون أنا ما صددناكم وما صدر منا يصلح مانعا وصارفا اعترف المستضعفون به وقالوا: * (بل مكر الليل والنهار) * منعنا، ثم قالوا لهم إنكم إن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد والامتداد في المدد فكفرنا فكان قولكم
جزء السبب، ويحتمل وجها آخر وهو أن يكون المراد بل مكركم بالليل والنهار فحذف المضاف إليه. وقوله: * (إذ تأمروننا أن نكفر بالله) * أي ننكره * (ونجعل له أندادا) * هذا يبين أن المشرك
بالله مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه المخلوق المنحوت
لا يكون إلها، وقوله في الأول: * (يرجع بعضهم إلى بعض القول) * يقول الذين استضعفوا بلفظ المستقبل، وقوله في الآيتين المتأخرتين * (وقال الذي استكبروا، وقال الذي استضعفوا) * بصيغة الماضي مع أن السؤال والتراجع في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بد وأن يقع، فإن الأمر الواجب الوقوع يوجد كأنه وقع، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (إنك ميت وإنهم ميتون) *.
260

وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الاغلال في أعناق الذين كفروا
هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " 33 "
وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون
* وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين * قل إن ربى
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون " 36 "
ثم قال تعالى: * (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا
هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) *.
معناه أنهم يتراجعون القول في الأول، ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع
الدال على الندامة، وقيل معنى الإسرار الإظهار أي أظهروا الندامة، ويحتمل أن يقال بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم: * (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا) *
ثم أجيبوا وأخبروا بأن لا مرد لكم فأسروا ذلك القول، وقوله: * (وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا) * إشارة إلى كيفية العذاب وإلى أن مجرد الرؤية ليس كافيا بل لما رأوا العذاب قطعوا
بأنهم واقعون فيه فتركوا الندم ووقعوا فيه فجعل الأغلال في أعناقهم، وقوله: * (يجزون إلا ما كانوا يعملون) * إشارة إلى أن ذلك حقهم عدلا.
ثم قال تعالى (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون،
وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين).
تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم وبيانا لأن إيذاء الكفار الأنبياء الأخيار ليس بدعا، بل
ذلك عادة جرت من قبل وإنما نسب القول إلى المترفين مع أن غيرهم أيضا قالوا: * (إنا بما أرسلتم به كافرون) * لأن الأغنياء المترفين هم الأصل في ذلك القول، ألا ترى أن الله قال عن الذين استضعفوا إنهم قالوا للمستكبرين لولا أنتم لكانوا مؤمنين، ثم استدلوا على كونهم مصيبين في
ذلك بكثرة الأموال والأولاد فقالوا: * (نحن أكثر أموالا وأولادا) * أي بسبب لزومنا لديننا، وقوله
* (وما نحن بمعذبين) * أي في الآخرة كأنهم قالوا حالنا عاجلا خير من حالكم، وأما آجلا فلا نعذب إما
إنكارا منهم للعذاب رأسا أو اعتقادا لحسن حالهم في الآخرة أيضا قياسا (على حسن حالهم في الدنيا).
ثم إن الله تعالى بين خطأهم بقوله: * (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
261

وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل
صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون " 37 "
والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون * قل إن
ربى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شئ فهو
يخلفه وهو خير الرازقين " 39 "
يعني أن الرزق في الدنيا لا تدل سعته وضيقه على حال المحق والمبطل فكم من موسر شقي
ومعسر تقي * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * أي أن قلة الرزق وضنك العيش وكثرة المال وخصب العيش بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح.
ثم بين فساد استدلالهم بقولهم: * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من
آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون) *.
يعني قولكم نحن أكثر أموالا فنحن أحسن عند الله حالا ليس استدلالا صحيحا، فإن المال
لا يقرب إلى الله ولا اعتبار بالتعزز به، وإنما المفيد العمل الصالح بعد الإيمان والذي يدل
عليه هو أن المال والولد يشغل عن الله فيبعد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئا حصل، وقوله: * (فأولئك لهم جزاء الضعف) * أي الحسنة فإن الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل.
ثم زاد وقال: * (وهم في الغرفات آمنون) * إشارة إلى دوام النعيم وتأبيده، فإن من تنقطع
عنه النعمة لا يكون آمنا.
ثم بين حال المسئ بقوله: * (والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون) *.
وقد ذكرنا تفسيره، وقوله: * (أولئك في العذاب محضرون) * إشارة إلى الدوام أيضا كما قال تعالى
* (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) * وكما قال تعالى: * (وما هم عنها بغائبين) *.
ثم قال تعالى مرة أخرى: * (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم
من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) * إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينافي نعمة الدنيا، بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم مع القطع بحصول النعيم لهم في العقبى بناء على الوعد، قطعا
لقول من يقول: إذا كانت العاجلة لنا والآجلة لهم فالنقد أولى، فقال هذا النقد غير مختص بكم
262

فإن كثيرا من الأشقياء مدقعون، وكثير من الأتقياء ممتعون وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) ذكر هذا المعنى مرتين: مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالة على حسن أحوالهم واعتقادهم، ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود الترف لا يدل على الشرف،
ثم إن سلمنا أنه كذلك لكن المؤمنين سيحصل لهم ذلك، فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم، والذي
يدل عليه هو أن الله تعالى لم يذكر أولا لمن يشاء من عباده، بل قال لمن يشاء، وثانيا قال لمن يشاء من عباده، والعباد المضافة يراد بها المؤمن، ثم وعد المؤمن بخلاف ما للكافر، فإن الكافر دابره مقطوع، وماله إلى الزوال، ومآله إلى الوبال. وأما المؤمن فما ينفقه يخلفه الله، ومخلف الله خير، فإن ما في يد الإنسان في معرض البوار والتلف وهما لا يتطرقان إلى ما عند الله من الخلف، ثم أكد ذلك بقوله: * (والله خير الرازقين) * وخيرية الرازق في أمور أحدها: أن لا يؤخر عن
وقت الحاجة والثاني: أن لا ينقص عن قدر الحاجة والثالث: أن لا ينكده بالحساب (والرابع)
أن لا يكدره بطلب الثواب والله تعالى كذلك.
أما الأول: فلأنه عالم وقادر والثاني: فلأنه غني واسع والثالث: فلأنه كريم، وقد ذكر ذلك بقوله * (يرزق من يشاء بغير حساب) * وما ذكرنا هو المراد، أي يرزقه حلالا لا يحاسبه عليه (والرابع) فلأنه علي كبير والثواب يطلبه الأدنى من الأعلى، ألا ترى أن هبة الأعلى من الأدنى لا تقتضي ثوابا.
(المسألة الثانية) قوله تعالى: * (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) * يحقق معنى قوله عليه الصلاة والسلام: " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم اعط ممسكا تلفا " وذلك لأن الله تعالى ملك على وهو غني ملى، فإذا قال
أنفق وعلى بدله فبحكم الوعد يلزمه، كما إذا قال قائل: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه، فمن أنفق فقد أتى بما هو شرط حصول البدل فيحصل البدل، ومن لم ينفق فالزوال لازم للمال ولم
يأت بما يستحق عليه من البدل فيفوت من غير خلف وهو التلف، ثم إن من العجب أن التاجر
إذا علم أن مالا من أمواله في معرض الهلاك يبيعه نسيئة، وإن كان من الفقراء ويقول بأن ذلك أولى من الإمهال إلى الهلاك، فإن لم يبع حتى يهلك ينسب إلى الخطأ، ثم إن حصل به كفيل ملئ ولا يبيع ينسب إلى قلة العقل، فإن حصل به رهن وكتب به وثيقة ولا يبيعه ينسب إلى الجنون،
ثم إن كل أحد يفعل هذا ولا يعلم أن ذلك قريب من الجنون، فإن أموالنا كلها في معرض الزوال المحقق، والإنفاق على الأهل والولد إقراض، وقد حصل الضامن الملئ وهو الله العلي وقال تعالى: * (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) * ثم رهن عند كل واحد إما أرضا أو بستانا أو طاحونة أو حماما أو منفعة، فإن الإنسان لا بد من أن يكون له صنعة أو جهة يحصل له منها مال وكل ذلك ملك الله وفي يد الإنسان بحكم العارية فكأنه مرهون بما تكفل الله من رزقه ليحصل له الوثوق التام، ومع
هذا لا ينفق ويترك ماله ليتلف لا مأجورا ولا مشكورا.
263

ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون " 40 "
قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم
بهم مؤمنون " 41 "
(المسألة الثالثة) قوله: * (خير الرازقين) * ينبئ عن كثرة في الرازقين ولا رازق إلا الله،
فما الجواب عنه؟ فنقول عنه جوابان أحدهما: أن يقال الله خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى: وهو * (أحسن الخالقين) * وثانيهما: هو أن الصفات منها ما حصل لله وللعبد حقيقة، ومنها ما يقال لله بطريق الحقيقة وللعبد بطريق المجاز، ومنها ما يقال لله بطريق الحقيقة
ولا يقال للعبد لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز لعدم حصوله للعبد لا حقيقة ولا صورة، مثال الأول العلم، فإن الله يعلم أنه واحد والعبد يعلم أنه واحد بطريق الحقيقة، وكذلك العلم بكون
النار حارة، غاية ما في الباب أن علمه قديم وعلمنا حادث، مثال الثاني الرازق والخالق، فإن العبد إذا أعطى غيره شيئا فإن الله هو المعطي، ولكن لأجل صورة العطاء منه سمي معطيا، كما يقال للصورة المنقوشة على الحائط فرس وإنسان، مثال الثالث الأزلي والله وغيرهما، وقد يقال في أشياء في الإطلاق على العبد حقيقة وعلى الله مجازا كالاستواء والنزول والمعية ويد الله وجنب الله.
ثم قال تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا
سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) * لما بين أن حال
النبي صلى الله عليه وسلم كحال من تقدمه من الأنبياء، وحال قومه كحال من تقدم من الكفار، وبين بطلان
استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم، بين ما يكون من عاقبة حالهم فقال: * (ويوم يحشرهم جميعا) * يعني
المكذبين بك وبمن تقدمك، ثم نقول لمن يدعون أنهم يعبدونهم وهم الملائكة، فإن غاية ما ترتقي إليه منزلتهم أنهم يقولون نحن نعبد الملائكة والكواكب، فيسأل الملائكة أهم كانوا يعبدون كم!
إهانة لهم، فيقول كل منهم سبحانك ننزهك عن أن يكون غيرك معبودا وأنت معبودنا ومعبود
كل خلق، وقولهم: * (أنت ولينا من دونهم) * إشارة إلى معنى لطيف وهو أن مذاهب الناس مختلفة؛ بعضهم لا يسكن المواضع المعمورة التي يكون فيها سواد عظيم، لأنه لا يترأس هناك فيرضى لضياع والبلاد الصغيرة، وبعضهم لا يريد البلاد الصغيرة لعدم اجتماعه فيها بالناس وقلة وصوله فيها إلى الأكياس، ثم إن الفريقين جميعا إذا عرض عليهم خدمة السلطان واستخدام الأرذال
الذين لا التفات إليهم أصلا يختار العاقل خدمة السلطان على استخدام من لا يؤبه به، ولو أن
رجلا سكن جبلا ووضع بين يديه شيئا من القاذورات واجتمع عليه الذباب والديدان، وهو
264

فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا
ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون " 42 "
يقول هؤلاء أتباعي وأشياعي، ولا أدخل المدينة مخافة أن أحتاج إلى خدمة السلطان العظيم
والتردد إليه ينسب إلى الجنون، فكذلك من رضي بأن يترك خدمة الله وعبادته، ورضي
باستتباع الهمج الذين هم أضل من البهائم وأقل من الهوام يكون مجنونا، فقالوا: * (أنت ولينا
من دونهم) * يعني كونك ولينا بالمعبودية أولى، وأحب إلينا من كونهم أولياءنا بالعبادة لنا
وقالوا: * (بل كانوا يعبدون الجن) * أي كانوا ينقادون لأمر الجن، فهم في الحقيقة كانوا يعبدون
الجن، ونحن كنا كالقبلة لهم، لأن العبادة هي الطاعة وقوله تعالى: * (أكثرهم بهم مؤمنون) * لو قال قائل
جميعهم كانوا تابعين للشياطين، فما وجه قوله: * (أكثرهم بهم مؤمنون) * فإنه ينبئ أن بعضهم لم يؤمن
بهم ولم يطع لهم؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن الملائكة احترزوا عن دعوى
الإحاطة بهم فقالوا أكثرهم لأن الذين رأوهم واطلعوا على أحوالهم كانوا يعبدون الجن ويؤمنون
بهم ولعل في الوجود من لم يطلع الله الملائكة عليه من الكفار الثاني: هو أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا: * (بل كانوا يعبدون الجن) * لاطلاعهم على أعمالهم وقالوا: * (أكثرهم بهم مؤمنون) * عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب فإن القلب لا اطلاع عليه إلا لله، كما قال تعالى: * (إنه عليم بذات الصدور) *.
ثم بين أن ما كانوا يعبدونه لا ينفعهم فقالوا: * (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا
ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) * وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) الخطاب بقوله: * (بعضكم) * مع من؟ نقول يحتمل أن يكون الملائكة لسبق
قوله تعالى: * (أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * وعلى هذا يكون ذلك تنكيلا للكافرين حيث بين لهم
أن معبودهم لا ينفع ولا يضر، ويصحح هذا قوله تعالى: * (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن
عهدا) * وقوله: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * ولأنه قال بعده: * (ونقول للذين ظلموا ذوقوا) * فأفرد هم ولو كان المخاطب هم الكفار لقال فذوقوا.
وعلى هذا يكون الكفار داخلين في الخطاب حتى يصح معنى قوله: * (بعضكم لبعض) * أي الملائكة للكفار، والحاضر الواحد يجوز أن يجعل من يشاركه في أمر مخاطبا بسببه، كما يقول القائل لواحد حاضر له شريك في كلام أنتم قلتم، على معنى أنت قلت، وهم قالوا، ويحتمل أن يكون معهم الجن أي لا يملك بعضكم لبعض أيها الملائكة والجن، وإذا لم تملكوها لأنفسكم فلا تملكوها لغيركم
ويحتمل أن يكون المخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم، وعلى هذا فقوله: * (نقول للذين ظلموا) * إنما ذكره تأكيدا لبيان حالهم في الظلم، وسبب نكالهم من الإثم ولو قال: * (فذوقوا عذاب النار) * لكان كافيا لكنه، لا يحصل ما ذكرنا من الفائدة، فإنهم كلما كانوا يسمعون ما كانوا
265

وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما
كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما
جاءهم إن هذا إلا سحر مبين " 43 "
عليه من الظلم والعناد والإثم والفساد يتحسرون ويندمون.
(المسألة الثانية) قوله: * (نفعا) * مفيد للحسرة، وأما الضر فما الفائدة فيه مع أنهم لو كانوا
يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك؟ فنقول لما كانت العبادة تقع لدفع ضر المعبود كما يعبد الجبار ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم.
(المسألة الثالثة) قال: ههنا * (عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) * وقال في السجدة: * (عذاب
النار الذي كنتم به) * جعل المكذب هنالك العذاب وجعل المكذب ههنا النار وهم كانوا يكذبون
بالكل، والفائدة فيها أن هناك لم يكن أول ما رأوا النار بل كانوا هم فيها من زمان بدليل قوله تعالى * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) *
أي العذاب المؤبد الذي أنكرتموه بقولكم: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * أي قلتم إن العذاب
إن وقع فلا يدوم فذوقوا الدائم، وههنا أول ما رأوا النار لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال
فقيل لهم: هذه * (النار التي كنتم بها تكذبون) *.
ثم قال تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد
آباءكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين).
إظهارا لفساد اعتقادهم واشتداد عنادهم حيث تبين أن أعلى من يعبدونه وهم الملائكة لا يتأهل
للعبادة لذواتهم كما قالوا: * (سبحانك أنت ولينا) * أي لا أهلية لنا إلا لعبادتك من دونهم أي لا أهلية
لنا لأن نكون معبودين لهم ولا لنفع أو ضر كما قال تعالى: * (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا
ولا ضرا) * ثم مع هذا كله إذا قال لهم النبي عليه السلام كلاما من التوحيد وتلا عليهم آيات الله
الدالة عليه، فإن لله في كل شيء آيات دالة على وحدانيته أنكروها وقالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم يعني يعارضون البرهان بالتقليد * (وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى) *
وهو يحتمل وجوها أحدها: أن يكون المراد أن القول بالوحدانية * (إفك مفترى) * ويدل عليه
هو أن الموحد كان يقول في حق المشرك إنه يأفك كما قال تعالى في حقهم: * (أإفكا آلهة دون الله تريدون) * وكما قالوا هم للرسول: * (أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا) * وثانيها: أن يكون المراد * (ما هذا
إلا إفك) * أي القرآن إفك وعلى الأول يكون قوله: * (وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا
266

وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير * وكذب
الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير *
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى أو فرادى ثم تتفكروا
ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد " 46 "
إلا سحر مبين) * إشارة إلى القرآن وعلى الثاني يكون إشارة إلى ما أتى به من المعجزات وعلى الوجهين
فقوله تعالى: * (وقال الذين كفروا) * بدلا عن أن يقول وقالوا للحق هو أن إنكار التوحيد كان
مختصا بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمعجزات (فقد) كان متفقا عليه بين المشركين وأهل الكتاب (فقال) تعالى: * (وقال الذين كفروا للحق) * على وجه العموم.
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير تأكيد لبيان تقليدهم يعني يقولون عندما تتلى عليهم الآيات
البينات هذا رجل كاذب وقولهم: * (إفك مفترى) * من غير برهان ولا كتاب أنزل عليهم ولا رسول أرسل إليهم، فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية، ولم يأتوا بها أو بالتقلبات وما عندهم كتاب
ولا رسول غيرك، والنقل المعتبر آيات من كتاب الله أو خبر رسول الله، ثم بين أنهم كالذين
من قبلهم كذبوا مثل عاد وثمود، وقوله تعالى: * (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) * قال المفسرون
معناه: وما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر، ثم إن
الله أخذهم وما نفعتهم قوتهم، فكيف حال هؤلاء الضعفاء، وعندي (أنه) يحتمل ذلك وجها آخر وهو
أن يقال المراد: * (وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم) * أي الذين من قبلهم ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البيان والبرهان، وذلك لأن كتاب محمد عليه السلام أكمل من سائر الكتب وأوضح، ومحمد عليه السلام أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفى، وبيانه أشفى، ثم
إن المتقدمين لما كذبوا بما جاءهم من الكتب وبمن أتاهم من الرسل أنكر عليهم وكيف لا ينكر
عليهم، وقد كذبوا بأفصح الرسل، وأوضح السبل، يؤيد ما ذكرنا من المعنى قوله تعالى: * (وما آتيناهم
من كتب يدرسونها) * يعني غير القرآن ما آتيناهم كتابا وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير، فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب، فحمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى.
ثم قال تعالى (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم
من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
267

ذكر الأصول الثلاثة في هذه الآية بعد ما سبق منه تقريرها بالدلائل فقوله: * (أن تقوموا لله) *
إشارة إلى التوحيد وقوله: * (ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم) * إشارة إلى الرسالة وقوله: * (بين يدي عذاب شديد) * إشارة إلى اليوم الآخر وفي الآية مسائل:
(المسألة الأولى) قوله: * (إنما أعظكم بواحدة) * يقتضي أن لا يكون إلا بالتوحيد، والإيمان
لا يتم إلا بالاعتراف بالرسالة والحشر، فكيف يصح الحصر المذكور بقوله: * (إنما أعظكم بواحدة) * فنقول التوحيد هو المقصود ومن وحد الله حق التوحيد يشرح الله صدره ويرفع في الآخرة قدره فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بما يفتح عليهم أبواب العبادات ويهئ لهم أسباب السعادات، وجواب آخر
وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال إني لا آمركم في جميع عمري إلا بشيء واحد، وإنما قال أعظكم أولا
بالتوحيد ولا آمركم في أول الأمر بغيره لأنه سابق على الكل ويدل عليه قوله تعالى: * (ثم تتفكروا) * فإن التفكر أيضا صار مأمورا به وموعوظا.
(المسألة الثانية) قوله: * (بواحدة) * قال المفسرون أنثها على أنها صفة خصلة أي أعظكم بخصلة واحدة، ويحتمل أن يقال المراد حسنة واحدة لأن التوحيد حسنة وإحسان وقد ذكرنا في قوله
تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) * أن العدل نفي الإلهية عن غير الله والإحسان إثبات الإلهية له، وقيل في تفسير قوله تعالى: * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) * أن المراد هل جزاء الإيمان
إلا الجنان، وكذلك يدل عليه قوله تعالى: * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) *.
(المسألة الثالثة) قوله: * (مثنى وفرادى) * إشارة إلى جميع الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون
مع غيره أو يكون وحده، فإذا كان مع غيره دخل في قوله: * (مثنى) * وإذا كان وحده دخل في قوله: * (فرادى) * فكأنه يقول تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله.
(المسألة الرابعة) قوله: * (ثم تتفكروا) * يعني اعترفوا بما هو الأصل والتوحيد ولا حاجة
فيه إلى تفكر ونظر بعد ما بان وظهر، ثم تتفكروا فيما أقول بعده من الرسالة والحشر، فإنه يحتاج إلى تفكر، وكلمة ثم تفيد ما ذكرنا، فإنه قال: * (أن تقوموا لله ثم تتفكروا) * ثم بين ما يتفكرون فيه وهو أمر النبي عليه السلام فقال: * (ما بصاحبكم من جنة) *.
(المسألة الخامسة) قوله: * (ما بصاحبكم من جنة) * يفيد كونه رسولا وإن كان لا يلزم في كل
من لا يكون به جنة أن يكون رسولا، وذلك لأن النبي عليه السلام كان يظهر منه أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر ممن تظهر منه العجائب إما الجن أو الملك، وإذا لم يكن الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الجن يكون بواسطة الملك أو بقدرة الله تعالى من غير واسطة، وعلى التقديرين فهو
رسول الله، وهذا من أحسن الطرق، وهو أن يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي
أخس الصفات، فإنه لو قال أولا هو رسول الله كانوا يقولون فيه النزاع، فإذا قال ما هو مجنون لم
268

قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله وهو على كل شىء
شهيد * قل إن ربى يقذف بالحق علام الغيوب " 48 "
يسعهم إنكار ذلك لعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه وبيانه فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة. ولهذا قال بعده * (إن هو إلا نذير) * يعني إما هو به جنة أو هو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير.
(المسألة السادسة) قوله: * (بين يدي عذاب شديد) * إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال ينذركم
بعذاب حاضر يمسكم عن قريب بين يدي العذاب أي سوف يأتي العذاب بعده.
ثم قال تعالى (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شئ شهيد)
لما ذكر أنه ما به جنة ليلزم منه كونه نبيا ذكر وجها آخر يلزم منه أنه نبي إذا لم يكن مجنونا
لأن من يرتكب العناء الشديد لا لغرض عاجل إذا لم يكن ذلك فيه ثواب أخروي يكون مجنونا، فالنبي عليه السلام بدعواه النبوة يجعل نفسه عرضة للهلاك عاجلا، فإن كل أحد يقصده ويعاديه
ولا يطلب أجرا في الدنيا فهو يفعله للآخرة، والكاذب في الآخرة معذب لا مثاب، فلو كان كاذبا لكان مجنونا لكنه ليس بمجنون فليس بكاذب، فهو نبي صادق وقوله: * (وهو على كل شيء شهيد) * تقرير
آخر للرسالة وذلك لأن الرسالة لا تثبت إلا بالدعوى والبينة، بأن يدعي شخص النبوة ويظهر الله
له المعجزة فهي بينة شاهدة والتصديق بالفعل يقوم مقام التصديق بالقول في إفادة العلم بدليل أن
من قال لقوم إني مرسل من هذا الملك إليكم ألزمكم قبول قولي والملك حاضر ناظر، ثم قال للملك أيها الملك إن كنت أنا رسولك إليهم فقل لهم إني رسولك فإذا قال إنه رسولي إليكم لا يبقى فيه شك كذلك إذا قال يا أيها الملك إن كنت أنا رسولك إليهم فألبسني قباءك فلو ألبسه قباءه في عقب كلامه يجزم الناس بأنه رسوله، كذلك حال الرسول إذا قال الأنبياء لقومهم نحن رسل الله، ثم قالوا يا إلهنا إن كنا رسلك فأنطق هذه الحجارة أو أنشر هذا الميت ففعله حصل الجزم بأنه صدقه.
ثم قال تعالى: * (قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب) * وفيه وجهان أحدهما: يقذف بالحق
في قلوب المحقين، وعلى هذا الوجه للآية بما قبلها تعلق، وذلك من حيث إن الله تعالى لما
بين رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: * (إن هو إلا نذير لكم) * وأكده بقوله: * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) *
وكان من عادة المشركين استبعاد تخصيص واحد من بينهم بإنزال الذكر عليه، كما قال تعالى عنهم: * (أأنزل عليه الذكر من بيننا) * ذكر ما يصلح جوابا لهم فقال: * (قل إن ربي يقذف بالحق) * أي في القلوب إشارة إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء لمن يشاء.
ثم قال تعالى: * (علام الغيوب) * إشارة إلى جواب سؤال فاسد يذكر عليه وهو أن من يفعل شيئا
269

قل جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد " 49 "
كما يريد من غير اختصاص محل الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالما وإنما فعل ذلك اتفاقا، كما
إذا أصاب السهم موضعا دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة فقال: * (يقذف بالحق) * كيف يشاء وهو عالم بما يفعله وعالم بعواقب ما يفعله فهو يفعل ما يريد لا كما يفعله الهاجم الغافل عن العواقب إذ هو علام الغيوب (الوجه الثاني) أن المراد منه هو أنه يقذف بالحق على الباطل كما
قال في سورة الأنبياء: * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) * وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها
أيضا ظاهر وذلك من حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت ودحضت شبههم قال: * (قل إن ربي يقذف بالحق) * أي على باطلكم، وقوله: * (علام الغيوب) * على هذا الوجه له معنى لطيف وهو أن البرهان الباهر المعقول الظاهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة، وأما الحشر فعلى وقوعه
لا برهان غير إخبار الله تعالى عنه، وعن أحواله وأهواله، ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة، فلما قال: * (يقذف بالحق) * أي على الباطل، إشارة إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة قال: * (علام الغيوب) * أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأحوالها
فهو لا خلف فيه فإن الله علام الغيوب، والآية تحتمل تفسيرا آخر وهو أن يقال: * (ربي يقذف بالحق) *
أي ما يقذفه يقذفه بالحق لا بالباطل والباء على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به أي الحق
مقذوف وعلى هذا الباء فيه كالباء في قوله: * (وقضى بينهم بالحق) * وفي قوله: * (فاحكم بين الناس بالحق) *
والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلب الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم.
ثم قال تعالى (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد).
لما ذكر الله أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال، ذكر أن ذلك الحق قد جاء وفيه
وجوه أحدها: أنه القرآن الثاني: أنه بيان التوحيد والحشر وكل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم (الثالث) المعجزات الدالة على نبوة محمد عليه السلام، ويحتمل أن يكون المراد من * (جاء الحق) *
ظهر الحق لأن كل ما جاء فقد ظهر والباطل خلاف الحق، وقد بينا أن الحق هو الموجود، ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لم يمكن انتفاؤه كالتوحيد والرسالة والحشر، كان حقا
لا ينتفي، ولما كان ما يأتون به من الإشراك والتكذيب لا يمكن وجوده كان باطلا لا يثبت،
وهذا المعنى يفهم من قوله: * (وما يبدئ الباطل) * أي الباطل لا يفيد شيئا في الأولى ولا في الآخرة فلا إمكان لوجوده أصلا، والحق المأتي به لا عدم له أصلا، وقيل المراد لا يبدئ الشيطان ولا
يعيد، وفيه معنى لطيف وهو أن قوله تعالى: * (قل إن ربي يقذف بالحق) * لما كان فيه معنى قوله تعالى: * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) * كان يقع لمتوهم أن الباطل كان فورد عليه الحق
270

قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربي
إنه سميع قريب * وقالوا آمنا به وأنى الهم التناوش من مكان بعيد " 51 "
فأبطله ودمغه، فقال ههنا ليس للباطل تحقق أولا وآخرا، وإنما المراد من قوله: * (فيدمغه) * أي فيظهر بطلانه الذي لم يزل كذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى في موضع آخر: * (وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) * يعني ليس أمرا متجددا زهوق الباطل، فقوله: * (وما يبدئ الباطل) * أي
لا يثبت في الأول شيئا خلاف الحق * (ولا يعيد) * أي لا يعيد في الآخرة شيئا خلاف الحق.
ثم قال تعالى (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربي إنه
سميع قريب).
هذا فيه تقرير الرسالة أيضا وذلك لأن الله تعالى قال على سبيل العموم: * (من اهتدى فلنفسه) *
وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: * (وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي) * يعني ضلالي على نفسي
كضلالكم، وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتداء كم، وإنما هو بالوحي المبين، وقوله:
* (إنه سميع) * أي يسمع إذا ناديته واستعديت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير، ليس يسمع
عن بعد ولا يلحق الداعي.
ثم قال تعالى (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب).
لما قال: * (سميع) * قال هو قريب فإن لم يعذب عاجلا ولا يعين صاحب الحق في الحال فيوم
الفزع آت لا فوت، وإنما يستعجل من يخاف الفوت. وقوله: * (ولو ترى) * جوابه محذوف أي
ترى عجبا * (وأخذوا من مكان قريب) * لا يهربون وإنما الأخذ قبل تمكنهم من الهرب.
ثم قال تعالى (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد).
أي بعد ظهور الأمر حيث لا ينفع إيمان، قالوا آمنا * (وأنى لهم التناوش) * أي كيف يقدرون
على الظفر بالمطلوب وذلك لا يكون إلا في الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة، فإن قيل فكيف قال كثير من المواضع إن الآخرة من الدنيا قريبة، ولهذا سماها الله الساعة وقال: * (لعل الساعة قريب) * نقول الماضي كالأمس الدابر بعدما يكون إذ لا وصول إليه، والمستقبل وإن كان
بينه وبين الحاضر سنين فإنه آت، فيوم القيامة الدنيا بعيدة لمضي ها وفي الدنيا يوم القيامة قريب لإتيانه والتناوش هو التناول عن قرب. وقيل عن بعد، ولما جعل الله الفعل مأخوذا كالجسم
جعل ظرف الفعل وهو الزمان كظرف الجسم وهو المكان فقال: * (من مكان بعيد) * والمراد
ما مضى من الدنيا.
ثم بين الله تعالى أن إيمانهم لا نفع فيه بسبب أنهم كفروا به من قبل، والإشارة في قوله
271

وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد * وحيل بينهم
وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب " 54 "
* (آمنا به) * وقوله: * (وقد كفروا به من قبل) * إلى شيء واحد، إما محمد عليه الصلاة والسلام وإما القرآن وإما الحق الذي أتى به محمد عليه السلام وهو أقرب وأولى، وقوله: * (ويقذفون بالغيب) * ضد يؤمنون بالغيب لأن الغيب ينزل من الله على لسان الرسول، فيقذفه الله في القلوب
ويقبله المؤمن، وأما الكافر فهو يقذف بالغيب، أي يقول ما لا يعلمه، وقوله: * (من مكان بعيد) * يحتمل أن يكون المراد منه أن مأخذهم بعيد أخذوا الشريك من أنهم لا يقدرون على أعمال
كثيرة إلا إذا كانوا أشخاصا كثيرة، فكذلك المخلوقات الكثيرة وأخذوا بعد الإعادة من حالهم
وعجزهم عن الإحياء، فإن المريض يداوى فإذا مات لا يمكنهم إعادة الروح إليه، وقياس الله على المخلوقات بعيد المأخذ، ويحتمل أن يقال إنهم كانوا يقولون بأن الساعة إذا كانت قائمة فالثواب والنعيم لنا، كقول قائلهم: * (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) * فكانوا يقولون ذلك فإن كان من
قول الرسول فما كان ذلك عندهم حتى يقولوا عن إحساس فإن ما لا يجب عقلا لا يعلم إلا بالإحساس أو بقول الصادق، فهم كانوا يقولون عن الغيب من مكان بعيد، فإن قيل قد ذكرت أن الآخرة قريب فكيف قال من مكان بعيد؟ نقول الجواب عنه من وجهه أحدهما: أن ذلك قريب عند من آمن
بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن لم يؤمن لا يمكنه التصديق به فيكون بعيدا عنده الثاني: أن الحكاية يوم القيامة،
فكأنه قال كانوا يقذفون من مكان بعيد وهو الدنيا، ويحتمل وجها آخر وهو أنهم في الآخرة يقولون: * (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا) * وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا.
ثم قال تعالى: * (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) * من العود إلى الدنيا أو بين لذات الدنيا، فإن قيل: كيف يصح قولك ما يشتهون من العود مع أنه تعالى قال: * (كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب) * وما حيل بينهم وبين العود؟ قلنا لم قلتم إنه ما حيل بينهم، بل كل من جاءه الملك طلب التأخير ولم يعط وأرادوا أن يؤمنوا عند ظهور اليأس ولم يقبل، وقوله: * (مريب) * يحتمل وجهين أحدهما: ذي ريب والثاني: موقف في الريب، وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى، والله أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين وصلاته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه أجمعين.
(تم الجزء الخامس والعشرون، ويليه السادس والعشرون وأوله سورة فاطر)
وقد راجعه على النسخة الأميرية الأستاذ محمد إسماعيل الصاوي بالإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف
272