الكتاب: تفسير أبي السعود
المؤلف: أبي السعود
الجزء: ٣
الوفاة: ٩٥١
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

تفسير أبي السعود
المسمى إرشاد العقل السليم إلي مزايا القرآن الكريم
لقاضي القضاة الإمام
أبي السعود محمد بن محمد العمادي
المتوفى سنة 951 هجرية
الجزء الثالث
الناشر
دار إحياء التراث العربي
بيروت - لبنان
1

سورة المائدة مدنية وهي مائة وعشرون اية (بسم الله الرحمن الرحيم) (يا أيها الذين امنوا أوفوا بالعقود) الوفاء القيام بموجب العقد وكذا الايفاء والعقد هو العهد الموثق المشبه بعقد الحبل ونحوه والمراد بالعقود ما يعم جميع ما ألزمه الله تعالى عباده وعقده عليهم من التكاليف والاحكام الدينية وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسن دينا بان يحمل الامر على معنى يعم الوجوب والندب امر بذلك أولا على وجه الاجمال ثم شرع في تفصيل الاحكام التي امر بالايفاء بها وبدء بما يتعلق بضروريات معايشهم فقيل (أحلت بهيمة الانعام) البهيمة كل ذات اربع واضافتها إلى الانعام للبيان كثوب الخز وافرادها لإرادة الجنس أي أحل لكم اكل البهيمة من الانعام وهي الأزواج الثمانية المعدودة في سورة الانعام والحق بها الضباء وبقر الوحش ونحوهما وقيل هي المرادة بالبهيمة همنا لتقدم بيان حل الانعام والإضافة لما بينهما من المشابهة والممائلة في الاجترار وعد الأنياب وفائدتها الاشعار بعلة الحكم المشتركة بين المضافين كأنه قيل أحلت لكم البهيمة الشبيهة بالانعام التي بين إحلالها فيما سبق الممائلة لها في مناط الحكم وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لما مر مرارا من اظهار العناية بالمقدم لما فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر فإنما حقه التقديم إذا اخر تبقى النفس مترقبة إلى وروده فيتمكن عندها فضل تمكن (ال ما يتلى عليكم) استثناء من بهيمة الانعام أي الا محرم ما يتلى عليكم من قوله تعالى حرمت عليكم الميتة ونحوه أو الا ما يتلى عليكم اية تحريمه (غير محلى الصيد) أي الاصطياد في البراء واكل صيده وهو نصب على الحالية من ضمير لكم ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملا واعتقادا وهو شائع في الكتاب والسنة وقوله تعالى (وأنتم حرم) أي محرومون حال من الضمير في محلى وفائدة تقيد احلال بهيمة الانعام بما ذكر من عدم احلال الصيد حال الاحرام على تقدير كون المراد بها الظباء ونظائرها ظاهرة لما ان إحلالها غي مطلق كأنه قيل أحل لكم الصيد حال كونكم ممتنعين عنه عند احرامكم واما على التقدير الأول ففائدته اتمام النعمة واظهار الامتنان باحلالها بتذكير احتياجهم اليه فان حرمة الصيد في حالة الاحرام من
2

مظان حاجتهم إلى احلال غيره حينئذ كأنه قيل أحلت لكم الانعام مطلقا حال كونكم ممتنعين عن تحصيل ما يغنيكم عنها في بعض الأوقات محتاجين إلى إحلالها وفي اسناد عدم الاحلال إليهم بالمعنى المذكور مع حصول المراد بان يقال غي محلل لكم أو محرما عليكم الصيد حال احرامكم مزيد تربية الامتنان وتقرير للحاجة ببيان علتها القريبة فان تحريم الصيد عليهم انما يوجب حاجتهم إلى احلال ما يغنيهم عنه باعتبار تحريمهم له عملا واعتقادا مع ما في ذلك من وصفهم بما هو اللائق بهم (ان الله يحكم ما يريد) من الاحكام حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة فيدخل فيها ما ذكر من التحليل والتحريم دخولا أو وليا ومعنى الايفاء بهما الجريان على موجبهما عقدا وعملا والاجتناب عن تحليل المحرمات وتحريم بعض المحللات كالبحيرة والنظائرها التي سيأتي بيانها (يا أيها الذين امنوا الا تحلوا شعائر الله) لما بين حرمة احلال الاحرام الذي هو من شعائر الحج عقب ذلك ببيان حرمة احلال سائر الشعائر واضافتها إلى الله عز وجل لتشريفها وتهويل الخطب في إحلالها وهي جمع شعيرة وهي اسم لما اشعر أي جعل شعارا وعلما للنسك من مواقيت الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والافعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الاحرام والطواف والسعي والحلق والنحر واحلالها ان يتهاون بحرمتها ويحال بينهما وبين المتنسكين بها ويحدث في اشهر الحج ما يصد به للناس عن الحج وقيل المراد بها دين الله لقوله تعالى ومن يعظم شعائر الله أي دينه وقيل حرمات الله وقيل فرائضه التي حدها العبادة واحلالها الاخلال بها والأول انسب بالمقام (ولا الشهر الحرام) أي لا تحلوه بالقتال فيه وقيل بالنسي والأول هو الأولى بحال المؤمنين والمراد به شهر الحج وقيل الأشهر الأربعة الحرم والافراد لإرادة الجنس (ولا الهدى) بان يتعرض له بالغصب أو بالمنع عن بلوغ محله وهو ما اهدى إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاة جمع هدية كجدي وجدية (ولا القلائد) هي جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر ليعلم به انه هدى فلا يتعرض له والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي وهي البدن وعطفها على الهدي مع دخولها فيه لمزيد التوصية بها لمزيتها على ما عداها كما عطف جبريل وميكال على الملائكة عليهم السلام كأنه قيل والقلائد منه خصوصا أو النهي عن التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لأصحابها على معنى لا تحلو قلائدها فضلا عن ان تحلوها كما نهى عن ابداء الزينة بقوله تعالى ولا يبدين زينتهن مبالغة في النهي عن ابداء مواقعها (ولا امين البيت الحرام) أي لا تحلو قوما قاصدين زيارته بأنه تصدوهم عن ذلك باي وجه كان وقيل هناك مضاف محذوف أي قتال قوم أو اذى قوم امين الخ وقرا ولا أمي البيت الحرام بالإضافة وقوله تعالى (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا
3

حال من المستكن في امين لا صفة له لان المختار ان اسم الفاعل إذا وصف بطل عمله أي قاصدين زيارته حال كونهم طالبين ان يثيبهم الله تعالى ويرضى عنهم وتنكير
فضلا ورضوانا للتفخيم ومن ربهم متعلق بنفس الفعل أو بمحذوف وقع صفة لفضلا مغنية عن وصف ما عطف عليه بها أي فضلا كائنا من ربهم ورضوانا كذلك والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والاشعار بحصول مبتغاهم وقرئ تبتغون على الخطاب فالجملة حينئذ حال من ضمير المخاطبين في لا تحلوا على ان المراد بيان منافاة حالهم هذه للمنهى عنه لا تقييد النهي بها وإضافة الرب إلى ضمير الأمين للايماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحرمان المخاطبين عنه وعن نيل المبتغى وفي ذلك من تعليل النهي وتأكيده والمبالغة في استنكار المنهى عنه مالا يخفى ومن ههنا قيل ان المراد بالأمين هم المسلمون خاصة وبه تمسك من ذهب إلى ان الآية وقد روي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال سورة المائدة من اخر القران نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها وقال الحسن رحمه الله تعالى ليس فيها منسوخ وعن أبي ميسرة فيها ثماني عشرة فريضة وليس فيها منسوخ وقد قيل هم المشركون خاصة لأنهم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم دون المؤمنين على ان حرمة إحلالهم ثبتت بطريق دلالة النص ويؤيده ان الآية نزلت في الحطم بن ضبعة البكري وقد كان اتى المدينة فخلف خيله خارجها فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ووعده ان يأتي بأصحابه فيسلموا ثم خرج من عنده عليه السلام فمر بسرح المدينة فاستاقه فلما كان في العام القابل خرج من اليمامة حاجا في حجاج بكر بن وائل ومعه تجارة عظيمة وقد قلدوا الهدى فسال المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم ان يخلى بينهم وبينه فأباه النبي صلى الله عليه وسلم فانزل الله عز وجل يا أيها الذين امنوا لا تحلوا شعائر الله الآية وفسر ابتغاء الفضل بطلب الرزق بالتجارة وابتغاء الرضوان بأنهم كانوا يزعمون انهم على سداد من دينهم وان الحج يقربهم إلى الله تعالى فوصفهم الله تعالى بظنهم وذلك الظن الفاسد وان كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى لكن لا بعد في كونه مدارا لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية وخلاصهم عن المكاره العاجلة لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره وقال قتادة هو ان يصلح معايشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها وقيل هم المسلمون والمشركون لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما ان المسلمين والمشركين كانوا يحجون جميعا فنهى الله المسلمين ان يمنعوا أحدا عن حج البيت بقوله تعالى لا تحلوا الآية ثم نزل بعد ذلك انما المشركون نجس فلا تقربوا المسجد الحرام وقوله تعالى ما كان للمشركين ان يعمروا مساجد الله وقال مجاهد والشعبي لا تحلوا نسخ بقوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ولا ريب في تناول الأمين للمشركين قطعا اما استقلالا واما اشتراكا سيأتي من قوله تعالى ولا يجر منكم شنان قوم الخ فيتعين النسخ كلا أو بعضا ولا بد في الوجه الأخير من تفسير الفضل والرضوان ان يناسب الفريقين فقيل ابتغاء الفضل أي الرزق للمؤمنين والمشركين عامة وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة ويجوز ان يكون الفضل على اطلاقه شاملا للفضل الأخروي أيضا ويختص ابتغاؤه بالمؤمنين «وإذا حللتم فاصطادوا» تصريح بما أشير اليه بقوله تعالى وأنتم حرم من انتهاء حرمة الصيد بانتفاء موجبها والامر للإباحة بعد الحظر كأنه قيل وإذا حللتم فلا جناح عليكم في الاصطياد وقرئ أحللتم وهو لغة في حلى وقرئ بكسر الفاء بالقاء حركة همزة الوصل عليها وهو
4

ضعيف جدا «ولا يجرمنكم» نهى عن احلال قوم من الأمين خصوا به مع اندراجهم في النهي عن احلال الكل كافة لاستقلالهم بأمور ربما يتوهم كونها مصححة لإحلالهم داعية اليه وجرم جار مجرى كسب في المعنى وفي التعدي إلى مفعول واحد والى اثنين يقال جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه خلا ان جرم يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه وهو السبب في ايثاره ههنا على الثاني وقد ينقل الأول من كل منهما بالهمزة إلى معنى الثاني فيقال أجرمته ذنبا وأكسبته إياه وعليه قراءة من قرا يجر منكم بضم الياء «شنآن قوم» بفتح النون وقرئ بسكونها وكلاهما مصدر ضعيف إلى مفعوله لا إلى فاعله كما قيل وهو شدة البغض وغاية المقت «أن صدوكم» متعلق بالشنآن باضمار لام العلة أي لان صدوركم عام الحديبية «عن المسجد الحرام» عن زيارته والطواف به للعمرة وهده اية بينة في عموم امين للمشركين قطعا وقرئ ان صدوركم على انه شرط معترض اغنى عن جوابه لا يجر منكم قد ابرز الصد المحقق فيما سبق في معرض المفروض للتوبيخ والتنبيه على ان حقه ان لا يكون وقوعه الا على سبيل الفرض والتقدير «أن تعتدوا» أي عليهم وانما حذف تعويلا على ظهوره وايماء إلى ان المقصد الأصلي من النهي منع صدور الاعتداء عن المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم وهو ثاني مفعولي يجر منكم أي لا يكسبنكم شدة بغضكم لهم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام اعتداءكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي وهذا وان كان بحسب الظاهر نهيا للشنآن عن كسب الاعتداء للمخاطبين لكنه في الحقيقة نهى لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده فان النهي عن أسباب الشيء ومبادية المؤدية اليه نهى عنه بالطريق البرهاني وابطال للسببية وقد يوجه النهي إلى المسبب ويراد النهي عن السبب كما في قوله لا أرينك ههنا يريد به نهي مخاطبة عن الحضور لديه ولعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا مع ظهور تعلقه بما قبله للايذان بان حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الاحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الأمين بالطريق الأولى «وتعاونوا على البر والتقوى» لما كان الاعتداء غالبا بطريق التظاهر والتعاون أمروا اثر ما نهوا عنه بان يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى ومتابعة الامر ومجانبة الهوى فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والاغضاء عما وقع منهم دخولا أوليا ثم نهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي بقوله تعالى «ولا تعاونوا على الإثم والعدوان» فاندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني واصل لا تعاونوا لا تتعاونوا فحذف منه احدى التاءين تخفيفا وانما اخر النهي عن الامر مع تقدم التخلية على التحلية مسارعة إلى ايجاب ما هو مقصود بالذات فان المقصود من ايجاب ترك التعاون على الاثم والعدوان انما هو تحصيل التعاون على البر والتقوى ثم أمروا بقوله تعالى «واتقوا الله» بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي فثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني ثم علل ذلك بقوله تعالى «أن الله شديد العقاب» أي لمن لا يتقيه فيعاقبكم لا محالة ان لم تتقوه واظهار الاسم الجليل لما مر مرارا من ادخال الروعة وتربية المهابة وتقوية استقلال الجملة
5

«حرمت عليكم الميتة» شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى الا ما يتلى عليكم والميتة ما فارقه الروح من غير ذبح «والدم» أي المسفوح منه لقوله
تعالى أو دما مسفوحا وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونه ويقولون لم يحرم من فزدله أي من فصد له «ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به» أي رفع الصوت لغير الله عند ذبحه كقولهم باسم اللات والعزى «والمنخنقة» أي التي ماتت بالخنق «والموقوذة» أي التي قتلت بالضرب بالخشب ونحوه من وقذته إذا ضربته «والمتردية» أي التي تردت من علو أو إلى بئر فماتت «والنطيحة» أي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء للنقل وقرئ والمنطوحة «وما أكل السبع» أي وما اكل منه السبع فمات وقرئ بسكون الباء وقرئ وأكيل السبع وفيه دليل على ان جوارح الصيد إذا اكلت مما صادته لم يحل «إلا ما ذكيتم» الا ما أدركتم ذكاته وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح وقيل الاستثناء مخصوص بما اكل السبع والذكاة في الشرع بقطع الحلقوم والمرىء بمحدد «وما ذبح على النصب» قيل هو منفرد وقيل جمع نصاب وقرئ بسكون الصاد وأيا ما كان فهو واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة وقيل هي الأصنام «وأن تستقسموا بالأزلام» جمع زلم وهو القدح أي وحرم عليكم الاستقسام بالأقداح وذلك انهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها امرني ربي وعلى الثاني نهاني ربي وعلى الثالث فان خرج الامر مضوا على ذلك وان خرج الناهي اجتنبوا عنه وان خرج الغافل أجالوها مرة أخرى فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم بالأزلام وقيل هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعهودة «ذلكم» إشارة إلى الاستقسام بالأزلام ومعنى البعد فيه للإشارة إلى بعد منزلته في الشر «فسق» تمرد وخروج عن الحدود دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد انه طريق اليه وافتراء على الله سبحانه ان كان هو المراد بقولهم ربي وشرك وجهالة ان كان هو الصنم وقيل ذلكم إشارة إلى تناول المحرمات المعدودة لان معنى تحريمها تحريم تناولها «اليوم» اللام للعهد والمراد به الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الماضية الآتية وقيل يوم نزولها وقد نزلت بعد عصر الجمعة يوم عرفة في حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على العضباء فكادت عضد الناقة تندق لثقلها فبركت وأياما كان فهو منصوب على انه ظرف لقوله تعالى «يئس الذين كفروا من دينكم» أي من ابطاله ورجوعكم عنه بتحليل هذه لخبائث أو غيرها أو من ان يغلبوكم عليه لما شاهدوا من ان الله عز وجل وفي بوعده حيث أظهره على الدين كله وهو الأنسب بقوله
6

تعالى «فلا تخشوهم» أي ان يظهروا عليكم «واخشون» أي وأخلصوا إلى الخشية «اليوم أكملت لكم دينكم» بالنصر والاظهار على الأديان كلها أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد وتقديم الجار والمجرور للايذان من أول الامر بان الاكمال لمنفعتهم ومصلحتهم كما في قوله تعالى ألم نشرح لك صدرك وعليكم في قوله تعالى «وأتممت عليكم نعمتي» متعلق بأتممت لا بنعمتي لان المصدر لا يتقدم عليه معموله وتقديمه على المفعول الصريح لما مر مرات أي أتممتها بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وهدم منار الجاهلية ومناسكها والنهي عن حج المشرك وطواف العريان أو باكمال الدين والشرائع أو بالهداية والتوفيق قيل معنى أتممت عليكم نعمتي أنجزت لكم وعدي بقولي ولاتم نعمتي عليكم «ورضيت لكم الإسلام دينا» أي اخترته لكم من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ان رجلا من اليهود قال له يا أمير المؤمنين اية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال أي اية قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي الآية قال عمر رضي الله تعالى عنه عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة أشار رضي الله تعالى عنه إلى ان ذلك اليوم عيد لنا وروي انه لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله تعالى عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا عمر قال أبكاني انا كنا في زيادة من ديننا فإذ أكمل فإنه لا يكمل شئ الا نقص فقال عليه الصلاة والسلام صدقت فكانت هذه الآية نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لبث بعد ذلك الا أحدا وثمانين يوما «فمن اضطر» متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب ان يجتنب عنه وهو ان تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين والنعمة التامة والاسلام المرضى أي فمن اضطر إلى تناول شئ من هذه المحرمات «في مخمصة» أي مجاعة يخاف معها الموت أو مباديه «غير متجانف لإثم» قيل غير مائل ومنحرف اليه بان يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة أو ينتزعها من مضطر اخر كقوله تعالى غير باغ ولا عاد «فإن الله غفور رحيم» لا يؤاخذه بذلك «يسألونك ماذا أحل لهم» شروع في تفصيل المحللات التي ذكر بعضها على وجه الاجمال اثر بيان المحرمات كأنهم سألوا عنها عند بيان أضدادها ولتضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة فماذا مبتدأ وأحل لهم خبره وضمير الغيبة لما ان يسألون بلفظ الغيبة فإنه كما يعتبر حال المحكى عنه فيقال اقسم زيد لأفعلن يعتبر حال الحاكي فيقال اقسم زيد ليفعلن والمسؤول ما أحل لهم من المطاعم «قل أحل لكم الطيبات» أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه كما في قوله تعالى ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث «وما علمتم من الجوارح» عطف على الطيبات بتقدير المضاف على ان ما موصولة والعائد محذوف أي وصيد ما علمتموه أو مبتدأ على ان
7

ما شرطية والجواب فكلوا وقد جوز كونها مبتدأ على تقدير كونها موصولة أيضا والخبر كلوا وانما دخلته الفاء تشبيها للموصول باسم الشرط ومن الجوارح حال من الموصول أو ضميره المحذوف والجوارح الكواسب من سباع البهائم والطير وقيل سميت بها لأنها تجرح الصيد غالبا «مكلبين» أي معلمين لها الصيد والمكلب مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد مشتق من الكلب لان التأديب كثيرا ما يقع فيه أو لان كل سبع يسمى كلبا لقوله عليه الصلاة والسلام في حق عتبة بن أبي لهب حين أراد سفر الشام فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فاكله الأسد وانتصابه على الحالية من فاعل علمتم وفائتها المبالغة في التعليم لما ان الاسم المكلب لا يقع الا على النحرير في علمه وقرئ مكلبين بالتخفيف والمعنى واحد «تعلمونهن» حال ثانية منه أو حال من ضمير مكلبين أو استئناف «مما علمكم الله» من الحيل وطرق التعليم والتأديب فان العلم به الهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه أو مما عرفكم ان تعلموه من اتباع الصيد بارسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وامساك الصيد عليه وعدم اكله منه «فكلوا مما أمسكن عليكم» قد مر فيما سبق ان هذه الجملة على تقدير كون ما شرطية جواب الشرط وعلى تقدير كونها موصولة مرفوعة على الابتداء خبر لها واما على تقدير كونها عطفا على الطيبات فهي جملة متفرعة على بيان حل صيد الجوارح المعلمة مبينة للمضاف المقدر الذي هو المعطوف وبه يتعلق الاحلال حقيقة ومشيرة إلى نتيجة التعليم واثره داخلة تحت الامر فالفاء فيها كما في قوله أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ومن تبعيضية لما
ان البعض مما لا يتعلق به الاكل الجلود والعظام والريش وغير ذلك ومما موصولة أو موصوفة حذف عائدها وعلى متعلقة بأمسكن أي فكلوا بعض ما أمسكنه عليكم وهو الذي لم يأكلن منه واما ما أكلن منه فهو مما أمسكنه على أنفسهن لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم وان اكل منه فلا تأكل انما امسك على نفسه واليه ذهب أكثر الفقهاء وقال بعضهم لا يشترط عدم الاكل في سباع الطير لما ان تأديبها إلى هذه الدرجة متعذر وقال آخرون لا يشترط ذلك مطلقا وقد روى عن سلمان وسعد ابن أبي وقاص وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم انه إذا الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وقد ذكرت اسم الله عليه فكل «واذكروا اسم الله عليه» الضمير لما علمتم أي سموا عليه عند ارساله أو لما أمسكنه أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته «واتقوا الله» في شان محرماته «إن الله سريع الحساب» أي سريع إتيان حسابه أو سريع تمامه وإذا شرع فيه يتم في أقرب ما يكون من الزمان والمعنى على التقديرين انه يؤاخذكم سريعا في كل ما جل ودق واظهار الاسم الجليل في موقع الاضمار لتربية المهابة وتعليل الحكم «اليوم أحل
8

لكم الطيبات»
قيل المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد وانما كرر للتأكيد ولا اختلاف الاحداث والواقعة فيه حسن تكريره والمراد بالطيبات ما مر «وطعام الذين أوتوا الكتاب» أي اليهود والنصارى واستثنى على رضي الله تعالى عنه نصارى بني تغلب وقال ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها الا شرب الخمر وبه اخذ الشافعي رضي الله عنه والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها «حل لكم» أي حلال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما انه سال عن ذبائح نصارى العرب فقال لا باس وهو قول عامة التابعين وبه اخذ أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عنده وقال صاحباه هما صنفان صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة عليهم السلام وصنف لا يقرؤون كتابا ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب واما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في اخذ الجزية منهم دون اكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لقوله عليه الصلاة والسلام سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم «وطعامكم حل لهم» فلا عليكم ان تطعموهم وتبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك «والمحصنات من المؤمنات» رفع على انه مبتدأ حذف خبره لدلالة ما تقدم عليه أي حل لكم أيضا والمراد بهم الحرائر العفائف وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو الأول لا لنفي ما عداهن فان نكاح الايماء المسلمات صحيح بالاتفاق وكذا نكاح غير العفائف منهن واما الايماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند أبي حنيفة رضي الله عنه خلافا للشافعي رضي الله عنه «والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» أي هن أيضا حل لكم وان كن حربيات وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تحل الحربيات «إذا آتيتموهن أجورهن» أي مهورهن وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها والحث على الأولى وقيل المراد بإيتاءها التزامها وإذا ظرفية عاملها حل المحذوف وقيل شرطية حذف جوابها أي إذا آتيتموهن أجورهن حللن لكم «محصنين» حال من فاعل آتيتموهن أي حال كونكم اعفاء بالنكاح وكذا قوله تعالى «غير مسافحين» وقيل هو حال من ضمير محصنين وقيل صفة لمحصنين أي غير مجاهرين بالزنا «ولا متخذي أخدان» أي ولا مصرين به والخدم الصديق يقع على الذكر والأنثى وهو اما مجرور عطفا على مسافحين وزيدت لا لتأكيد النفي المستفاد من غير أو منصوب عطفا على غير مسافحين باعتبار أوجه الثلاثة «ومن يكفر بالإيمان» أي ومن ينكر شرائع الاسلام التي من جملتها ما بين ههنا من الاحكام المتعلقة بالحل والحرمة ويمتنع عن قبولها «فقد حبط عمله» الصالح الذي عمل قبل ذلك «لكم الدار الآخرة عند الله» وهو مبتدأ من الخاسرين خبره وفي متعلقة بما تعلق به الخبر من الكون المطلق وقيل بمحذوف دل عليه المذكور أي خاسرة بالآخرة وقيل بالخاسرين على ان الألف واللام للتعريف لا موصولة لان ما بعدها لا يعمل فيما قبلها وقيل يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله:
ربيته حي إذا تمعددا * كان جزائي بالعصا أن أجلدا.
9

«يا أيها الذين آمنوا» شروع في بيان الشرائع المتعلقة بدينهم بعد بيان ما يتعلق بدنياهم «إذا قمتم إلى الصلاة» أي أردتم القيام إليها كما في قوله تعالى فإذا قرأت القران فاستعذ بالله عبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها مجازا للايجاز والتنبيه على ان من أراد الصلاة حقه ان يبادر إليها بحيث لا ينفك عن ارادتها أو إذا قصدتم الصلاة اطلاقا لاسم أحد لازميها على لازمها الاخر وظاهر الآية الكريمة يوجب الوضوء على كل قائم إليها وان لم يكن محدثا لما ان الامر للوجوب قطعا والاجماع على خلافه وقد روى ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد فقال عمر رضي الله تعالى عنه صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال عليه الصلاة والسلام عمدا فعلته يا عمر يعني بيانا للجواز وحمل الامر بالنسبة إلى غير المحدث على الندب مما لا مساغ له فالوجه ان الخطاب خاص بالمحدثين بقرينة دلالة الحال واشتراط الحدث في التيمم الذي هو بدله وما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من انهم كانوا يتوضؤون لكل صلاة فلا دلالة فيه على انهم كانوا يفعلونه بطريق الوجوب أصلا كيف لا وما روى عنه عليه الصلاة والسلام من قوله من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات صريح في ان ذلك كان منهم بطريق الندب وما قيل كان ذلك أول الامر ثم نسخ يرده قوله عليه الصلاة والسلام المائدة من اخر القران نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها «فاغسلوا وجوهكم» أي أمروا عليها الماء ولا حاجة إلى الدلك خلافا لمالك «وأيديكم إلى المرافق» الجمهور على دخول المرفقين في المغسول ولذلك قيل إلي بمعنى مع كما في قوله تعالى ويزدكم قوة إلى قوتكم وقيل هي انما تفيد معنى الغاية مطلقا واما دخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه وانما هو امر يدور على الدليل الخارجي كما في حفظة القران من أوله إلى اخره وقوله تعالى فنظرة إلى ميسرة فان الدخول في الأول والخروج في الثاني متيقن بناء على تحقق الدليل وحيث لم يتحقق ذلك في الآية وكانت الأيدي متناولة للمرافق حكم بدخولها فيها احتياطا وقيل إلى من حيث إفادتها للغاية تقتضي خروجها لكن لما لم تتميز الغاية همنا عن ذي الغاية وجب ادخالها احتياطا «وامسحوا برؤوسكم» الباء مزيدة وقيل للتبعيض فإنه الفارق بين قولك مسحت المنديل ومسحت بالمنديل وتحقيقه انها تدل على تضمين الفعل معنى الالصاق فكأنه قيل وألصقوا المسح برؤوسكم وذلك لا يقتضي الاستيعاب كما يقتضيه ما لو قيل وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله تعالى فاغسلوا وجوهكم واختلف العلماء في القدر الواجب فأوجب الشافعي أقل ما ينطلق عليه
الاسم اخذا باليقين وأبو حنيفة ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث مسح على ناصيته وقدرها
10

بربع الرأس ومالك مسح الكل اخذا بالاحتياط «وأرجلكم إلى الكعبين» بالنصب عطفا على وجوهكم ويؤيده السنة الشائعة وعمل الصحابة وقول أكثر الأئمة والتحديد إذا المسح لم يعهد محدودا وقرء بالجر على الجوار ونظيره في القران كثير كقوله تعالى عذاب يوم اليم ونظائره وللنحاة في ذلك باب مفرد وفائدته التنبيه على انه ينبغي ان يقتصد في صب الماء عليها ويغسلها غسلا قريبا من المسح وفي الفصل بينه وبين أخواته ايماء إلى أفضلية الترتيب وقرء بالرفع أي وأرجلكم مغسولة «وإن كنتم جنبا فاطهروا» أي فاغتسلوا وقرء فاطهروا أي فطهروا أبدانكم وفي تعليق الامر بالطهارة الكبرى بالحدث الأكبر إشارة إلى اشتراط الامر بالطهارة الصغرى بالحدث الأصغر «وإن كنتم مرضى» مرضا يخاف به الهلاك أو ازدياده باستعمال الماء «أو على سفر» أي مستقرين عليه «أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه» من لابتداء الغاية وقيل للتبعيض وهي متعلقة بامسحوا وقرء فأموا صعيدا وقد مر تفسير الآية الكريمة مشبعا في سورة النساء فليرجع اليه ولعل التكرير ليتصل الكلام في أنواع الطهارة «ما يريد الله» أي ما يريد بالامر بالطهارة للصلاة أو بالمر بالتيمم «ليجعل عليكم من حرج» من ضيق في الامتثال به «ولكن يريد» ما يريد بذلك «ليطهركم» أي لينظفكم أو ليطهركم عن الذنوب فان الوضوء مكفر لها أو ليطهركم بالتراب إذا اعوزكم التطهر بالماء فمفعول يريد في الموضعين محذوف واللام للعلة وقيل مزيده والمعنى ما يريد الله ان يجعل عليكم من حرج في باب الطهارة حتى لا يرخص لكم في التيمم ولكن يريد ان يطهركم بالتراب إذا اعوزكم التطهر بالماء «وليتم» بشرعه ما هو مطهرة لا لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم «نعمته عليكم» في الدين أو ليتم برخصة إنعامه عليكم بعزائمه «لعلكم تشكرون» نعمته ومن لطائف الآية الكريمة انها مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى طهارتان أصل وبدل والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود وان آلتهما مائع وجامد وموجبهما حدث أصغر وأكبر وان المبيح للعدول إلى البدل مرض وسفر وان الموعود عليهما تطهير الذنوب واتمام النعمة «واذكروا نعمة الله عليكم» بالاسلام لتذكركم المنعم وترغبكم في شكره «وميثاقه الذي واثقكم به» أي عهده المؤكد الذي اخذه عليكم وقوله تعالى «إذ قلتم سمعنا وأطعنا» ظرف لواثقكم به أو لمحذوف لمحذوف وقع حالا من الضمير المجرور في به أو من ميثاقه أي كائنا وقت قولكم سمعنا وأطعنا وفائدة التقييد به تأكيد وجوب مراعاته بتذكير قبولهم والتزامهم بالمحافظة عليه وهو الميثاق الذي اخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في حال العسر واليسر والمنشط والمكره وقيل هو الميثاق الواقع ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان واضافته اليه تعالى مع صدوره عنه عليه الصلاة والسلام لكون المرجع اليه كما نطق به قوله تعالى ان
11

الذين يبايعونك انما يبايعون الله وقال مجاهد هو الميثاق الذي اخذه الله تعالى على عباده حين أخرجهم من صلب ادم عليه السلام «واتقوا الله» أي في نسيان نعمته ونقض ميثاقه أو في كل ما تأتون وما تذرون فيدخل فيه ما ذكر دخولا أولياء «إن الله عليم بذات الصدور» أي بخفياتها الملابسة لها ملابسة تامة مصححة لاطلاق الصاحب عليها فيجازيكم عليها فما ظنكم بحليات الاعمال والجملة اعتراض تذييلي وتعليل الامر بالاتقاء واظهار الاسم الجليل في موقع الاضمار لتريه المهابة وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة «يا أيها الذين آمنوا» شروع في بيان الشرائع المتعلقة بما يجري بينهم وبين غيرهم اثر بيان ما يتعلق بأنفسهم «كونوا قوامين لله» مقيمين لأوامره ممتثلين بها معظمين لها مراعين لحقوقها «شهداء بالقسط» أي بالعدل «ولا يجرمنكم» أي لا يحملنكم «شنآن قوم» أي شدة بغضكم لهم «على ألا تعدلوا» فلا تشهدوا في حقوقهم بالعدل أو فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل كمثله وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيا وغير ذلك «اعدلوا هو» اي العدل «أقرب للتقوى» الذي أمرتم به صرح لهم بالامر بالعدل وبين انه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور وبين انه مقتضى الهوى وإذا كان وجوب العدل في حق الكفار في هذه المثابة فما ظنك بوجوبه في حق المسلمين «واتقوا الله» امر بالتقوى اثر ما بين ان العدل أقرب له اعتناء بشأنه وتنبيها على انه ملاك الامر «إن الله خبير بما تعملون» من الاعمال فيجازيكم بذلك وتكرير هذا الحكم اما لاختلاف السبب كما قيل ان الأول نزل في المشركين وهذا في اليهود أو لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في اطفاء فائدة الغيظ والجملة تعليل لما قبلها واظهار الجلالة لما مر مرات وحيث كانت مضمونها منبئا عن الوعد والوعيد عقب بالوعد لمن يحافظ على طاعته تعالى وبالوعيد لمن يخل بها فقيل «وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات» التي من جملتها العدل والتقوى «لهم مغفرة وأجر عظيم» حذف ثاني مفعولا وعد استغناء عنه بهذه الجملة فإنه استئناف مبين له وقيل الجملة في موقع المفعول فان الوعد ضرب من القول فكأنه قيل وعدهم هذا القول «والذين كفروا وكذبوا بآياتنا» التي من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالامر والعدل والتقوى «أولئك» الموصوفون بما ذكر من الكفر وتكذيب الآيات «أصحاب الجحيم» ملابسوها ملابسة مؤبدة من السنة السنية القرآنية شفع الوعد بالوعيد والجمع بين الترغيب والترهيب ايفاء لحق الدعوى بالتبشير والانذار
12

«يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم» تذكير لنعمة الانجاء من الشر إثر تذكير نعمة ايصال الخير الذي هو نعمة الاسلام وما يتبعها من الميثاق وعليكم متعلق بنعمة الله أو بمحذوف وقع حالا منها وقوله تعالى «إذ هم قوم» على الأول ظرف لنفس النعمة وعلى الثاني لما تعلق به عليكم ولا سبيل إلى كونه ظرفا لا ذكروا التنافي زمانيهما أي اذكروا انعامه تعالى عليكم أو اذكروا نعمته كائنة عليكم في وقت همهم «أن يبسطوا إليكم أيديهم» أي بان يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك يقال بسط اليه يده إذا بطش به وبسط اليه لسانه إذا شتمته وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان رجوع ضرر البسط وغائلته إليهم حملا لهم من أول الامر على الاعتداد بنعمة دفعة كما ان تقديم لكم في قوله عز وجل هو الذي خلق لكم ما في الأرض للمبادرة إلى بيان كون المخلوق من منافعهم تعجيلا للمسرة «فكف أيديهم عنكم» عطف على هم وهو النعمة التي أريد تذكيرها وذكرا لهم للايذان بوقوعها عند مزيدا لحاجة إليها والفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكما لها واظهار أيديهم في موقع الاضمار لزيادة التقرير أي منع أيديهم ان تمد إليكم عقيب همهم بذلك لا انه كفها عنكم بعد ما مدوها إليكم وفيه من الدلالة على كمال النعمة من حيث انها لم تكن مشوبة
بضرر الخوف والانزعاج الذي قلما يعرى عنه الكف بعد المد ما لا يخفى مكانه وذلك ما روى ان المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان في غزوة ذي أنمار وهى غزوة ذات الرقاع وهي السابعة من مغازيه عليه الصلاة والسلام قاموا إلى الظهر معا فلما صلوا ندم المشركون الا كانوا قد أكبوا عليهم فقالوا ان لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من ابائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر وهموا ان يوقعوا بهم إذ قاموا إليها فرد الله تعالى كيدهم بان انزل صلاة الخوف وقيل هو ما روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اتى بني قريظة ومعه الشيخان وعلي رضي الله تعالى عنهم يستقرضهم لديه مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطا يحسبهما مشركين فقالوا نعم يا ابا القاسم اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما سالت فأجلسوه في صفه وهموا بالفتك به وعمد عمروا بن جحاش إلى رحا عظيمة يطرحها عليه فامسك الله تعالى يده ونزل جبريل عليه السلام فأخبره فخرج عليه الصلاة والسلام وقيل هو ما روى انه صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق أصحابه في العظاء يستظلون بها فعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه بشجرة فجاء اعرابي فاخذها وسله فقال من يمنعك مني فقال صلى الله عليه وسلم الله تعالى فأسقطه جبريل عليه السلام من يده فاخذه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال من يمنعك مني فقال لا أحد اشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله «واتقوا الله» عطف على اذكروا أي اتقوه في رعاية حقوق نعمته ولا تخلوا بشكرها أو في كل ما تأتون وما تذرون فيدخل فيه ما ذكر دخول أولياء «وعلى الله» أي عليه تعالى خاصة دون غيره استقلال واشتراكا «فليتوكل المؤمنون» فإنه يكفيهم في ايصال كل خير ودفع كل شر والجملة تذييل مقرر لما قبله وايثار صيغة امر الغائب واسنادها إلى المؤمنين لايجاب التوكل على
13

المخاطبين بالطريق البرهاني وللإيذان بان ما وصفوا به عند الخطاب من وصف الايمان داع إلى ما أمروا به من التوكل والتقوى وازع عن الاخلال بهما واظهار الاسم الجليل في موقع الاضمار لتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة التذييلية «ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل» كلام مستأنف مشتمل على ذكر بعض ما صدر عن بني إسرائيل من الخيانة ونقض الميثاق وما أدى اليه ذلك من التبعات مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق الذي أوثقهم به وتحذيرهم من نقضه أو لتقرير ما ذكر من الهم بالبطش وتحقيقه على تقدير كون ذلك من بني قريظة حسبما مر من الرواية ببيان ان الغدر والخيانة عادة لهم قديمة توارثوها من أسلافهم واظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتفخيم الميثاق وتهويل الخطب في نقضه مع ما فيه من رعاية حق الاستئناف المستدعى لانقطاع عما قبله والالتفات في قوله تعالى «وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا» للجرى على سنن الكبرياء أو لان البعث كان بواسطة موسى عليه السلام كما سيأتي وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مرا مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والنقيب فعيل بمعنى فاعل مشتق من النقب وهو التفتيش ومنه قوله تعالى فنقبوا في البلاد سمى بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأسرارهم قال الزجاج واصله من النقب وهو الثقب الواسع روى ان بني إسرائيل لما استقروا بمصر بعهد مهلك فرعون امرهم الله عز وجل بالمسير إلى أريحا ارض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون وقال لهم اني كتبتها لكم دارا وقرارا فأخرجوا إليها وجاهدوا من فيها واني ناصركم وامر موسى عليه السلام ان يأخذ من كل سبط نقيبا أمينا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم فاختار النقباء واخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل إليهم النقباء وسار بهم فلما دنا من ارض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراما عظيمة وقوة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم بما رأوا وقد نهاهم موسى عن ذلك فنكثوا الميثاق الا كالب بن يوقنا نقيب سبط يهوذا ويوشع بن نون نقيب سبط إفراييم بن يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام قيل لما توجه النقباء إلى ارضهم للتجسس لقيهم عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وقد عاش ثلاثة آلاف سنة وكان على رأسه حزمة حطب فاخذهم وجعلهم في الحزمة وانطلق بهم إلى امرأته وقال انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون انهم يريدون قتالنا فطرحهم بين يديها وقال ألا أطحنهم برجلي فقالت لا بل خلي عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل فجعلوا يتعرفون أحوالهم وكان لا يحمل عنقود عنبهم الا خمسة رجال أو أربعة فلما خرج النقباء قال بعضهم لبعض ان أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدوا عن نبي الله ولكن اكتموه
14

الا عن موسى وهارون عليهما السلام فيكونان هما يريان رأيهما فاخذ بعضهم على بعض الميثاق ثم انصرفوا إلى موسى عليه السلام وكان معهم حبة من عنبهم وقر رجل فنكثوا عهدهم وجعل كل منهم ينهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى الا كالب ويشع وكان معسكر موسى فرسخا في فرسخ فجاء أوج حتى نظر إليهم ثم رجع إلى الجبل فقور منه صخرة عظيمة على قدر العسكر ثم حملها على رأسه ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى الهدهد فقور من الصخرة وسطها المحاذى لرأسه فانتقبت فوقعت في عنق عوج وطوقته فصرعته فاقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة اذرع وكذا طول العصا فتراما في السماء عشرة اذرع فما أصاب العصا الا كعبا وهو مصروع فقتله قالوا فأقبلت جماعة ومعهم الخناجر حتى حزوا رأسه «وقال الله» أي لبني إسرائيل فقد إذهم المحتاجون إلى ما ذكر من الترغيب والترهيب كما ينبئ عنه الالتفات مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد «إني معكم» أي بالعلم والقدرة والنصرة لا بالنصرة فقط فان تنبيههم على علمه تعالى بكل ما يأتون وما يذرون وعلى كونهم تحت قدرته وملكوته مما يحمله على الجد في الامتثال بما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه كأنه قيل اني معكم اسمع كلامكم وارى اعمالكم واعلم ضمائركم فأجازيكم بذلك هذا وقد قيل المراد بالميثاق هو الميثاق بالايمان والتوحيد وبالنقباء ملوك بني إسرائيل الذين ينقبون أحوالهم ويلون أمورهم بالامر والنهي وإقامة العدل وهو الأنسب بقوله تعالى «لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي» أي بجميعهم والآلام موطئة للقسم المحذوف وتأخير الأمان عن إقامة الصلاة وايتاء الزكاة مع كونهما من الفروع المترتبة عليه لما انهم كانوا معترفين بوجوبهما مع ارتكابهم لتكذيب بعض الرسل عليهم السلام ولمراعاة المقارنة بينه وبين قوله تعالى «وعزرتموهم» أي نصرتموهم وقويتموهم واصله الذب وقيل التعظيم والتوقير والثناء بخير وقرء وعزرتموهم بالتخفيف «وأقرضتم الله» بالانفاق في سبيل الخير وبالتصدق بالصدقات المندوبة وقوله تعالى «قرضا حسنا» اما مصدر مؤكد وارد على غير صيغة المصدر كما في قوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن وانبتها نبات حسن أو مفعول ثاني لأقرضتم على انه اسم للمال المقرض وقوله تعالى «لأكفرن عنكم سيئاتكم» جواب للقسم المدلول عليه بالآلام ساد مسد جواب الشرط «ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار» عطف على ما قبله داخل معه في حكم الجواب متأخر عنه في الحصول أيضا ضرورة تقدم التخلية على التحلية «فمن كفر» أي برسلي أو بشيء مما عدد في
حيز الشرط والفاء لترتيب بيان حكم من كفر على بيان حكم من امن تقوية للترغيب بالترهيب «بعد ذلك» الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم الموجب للايمان قطعا «منكم» متعلق بمضمر وقع حالا من فاعل كفر ولعل تغيير السبك حيث لم يقل وان كفرتم عطفا على الشرطية السابقة لاخراج كفر الكل عن حيز الاحتمال واسقاط من كفر عن رتبة الخطاب وليس المراد احداث الكفر بعد الايمان بل ما يعم الاستمرار عليه أيضا كأنه قيل فمن اتصف بالكفر بعد ذلك خلا انه قصد بايراد ما يدل على الحدوث بيان ترقيهم في مراتب الكفر فان الاتصاف بشيء بعد ورود ما يوجب الاقلاع عنه وان كان استمرار عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث «فقد ضل سواء السبيل» أي وسط الطريق الواضح ضلالا بينا وأخطأه خطا فاحشا لا عذر معه أصلا بخلاف من كفر قبل ذلك إذ ربما يمكن ان
15

يكون له شبهه ويتوهم له معذرة «فبما نقضهم ميثاقهم» الباء سبيبة وما مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه في النفس أي بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد لا بشيء اخر استقلالا أو انضماما «لعناهم» طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا أو مسخناهم قردة وخنازير أو أذللناهم بضرب الجزية عليهم وتخصيص البيان بما ذكر مع ان حقه ان يبين بعد بيان تحقق نفس اللعن والنقض بان يقال مثلا فنقصوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هيئة الشيء البسيطة على هيئته المركبة للايذان بان تحققهما امر جلى غنى عن البيان وانما المحتاج إلى ذلك ما بينهما من السبيبة والمسببية «وجعلنا قلوبهم قاسية» بحيث لا تتأثر من الآيات والنظر وقيل أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست أو خذلناهم ومنعناهم الالطاف حتى صارت كذلك وقرئ قسي وهي اما مبالغة قاسية واما بمعنى رديئة من قولهم درهم قسى أي ردى إذ إذا كان مغشوشا له يبس وخشونة وقرئ بكسر القاف اتباعا لها بالسين «يحرفون الكلم عن مواضعه» استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فإنه لا مرتبة أعظم مما يصحح الا افتراء على تغيير كلام الله عز وجل والافتراء عليه وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وقيل حال من مفعول لعناهم «ونسوا حظا» أي تركوا نصيبا وافرا «مما ذكروا به» من التوراة أو من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وقيل حرفوا التوراة وزلت أشياء منها عن حفظهم وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلي هذه الآية «ولا تزال تطلع على خائنة منهم» أي خيانة على أنها مصدر كلاغية وكاذبة أو فعلة خائنة أي ذات خيانة أو طائفة خائنة أو شخص خائنة على ان التاء للمبالغة أو نفس خائنة ومنهم متعلق بمحذوف وقع صفة لها خلى ان من على الوجهين الأولين ابتدائية أي على خيانة أو على فعلة خائنة كائنة منهم صادرة عنهم وعلى الوجوه الباقية تبعيضية والمعنى ان الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم «إلا قليلا منهم» استثناء من الضمير المجرور في منهم على الوجوه كلها وقيل من خائنة على الوجوه الثلاثة الأخيرة والمراد بهم الذين امنوا منهم كعبد الله بن سلام واضرابه وقيل من خائنة على الوجه الثاني فالمراد بالقليل الفعل القليل ومن ابتدائية كما مر أي الا فعلى قليلا كائنا منهم «فاعف عنهم واصفح» أي ان تابوا وامنوا أو عاهدوا والتزموا الجزية وقيل مطلق نسخ باية السيف «إن الله يحب المحسنين» تعليل للامر وحث على الامتثال به وتنبيه على ان العفو على الاطلاق من باب الاحسان «ومن الذين قالوا إنا
16

نصارى أخذنا ميثاقهم» بيان لقبائح النصارى وجناياتهم اثر بيان قبائح اليهود وخياناتهم ومن متعلقة بأخذنا إذ التقدير واخذنا من الذين قالوا انا نصارى ميثاقهم وتقديم الجار والمجرور للاهتمام به ولان ذكر حال احدى الطائفتين مما يوقع في ذهن السامع ان حال الأخرى ماذا فكأنه قيل ومن الطائفة الأخرى أيضا أخذنا ميثاقهم وقيل هي متعلقة بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف قامت صفته أو صلته مقامه أي ومنهم قوم أخذنا ميثاقهم أو من أخذنا ميثاقهم وضمير ميثاقهم راجع إلى الموصوف المقدر واما في الوجه الأول فراجع إلى الموصول وقيل راجع إلى بني إسرائيل أي أخذنا من هؤلاء ميثاق أولئك أي مثل ميثاقهم من الايمان بالله والرسل وبما يتفرع على ذلك من افعال الخير وانما نسب تسميتهم نصارى إلى أنفسهم دون ان يقال ومن النصارى ايذانا بأنهم في قولهم نحن أنصار الله بمعزل من الصدق وانما هو تقول محض منهم وليسوا من نصرة الله تعالى في شيء أو اظهارا لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وافعالهم فان ادعائهم لنصرته تعالى يستدعى ثباتهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه «فنسوا» عقيب اخذ الميثاق من غير تلعثم «حظا» وافرا «مما ذكروا به» في تضاعيف الميثاق من الايمان بالله تعالى وغير ذلك حسبما مر انفا وقيل هو ما كتب عليهم في الإنجيل من ان يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فتركوه ونبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهوائهم فاختلفوا وتفرقوا نسطورية ويعقوبية وملكانية أنصارا للشيطان «فأغرينا» أي ألزمنا وألصقنا من غرى بالشيء إذ لزم ولصق به وأغراه غيره ومنه الغراء وقوله تعالى «بينهم» اما ظرف لأغرينا أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي أغرينا «العداوة والبغضاء» كائنة بينهم ولا سبيل إلى جعله ظرفا لهما لان المصدر لا يعمل فيما قبله وقوله تعالى «إلى يوم القيامة» اما غاية للاغراء أو للعداوة والبغضاء أي يتعادون ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبنا تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآرائهم الزائغة المؤدية إلى التفرق والى الفرق الثلاث فضمير بينهم لهم خاصة وقيل لهم ولليهود أي أغرينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى «وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون» وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت أي يجازيهم بما عملوا على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به وسوف لتأكيد الوعيد والالتفات إلى ذكر الاسم الجديد لتربية المهابة وادخال الروعة لتشديد الوعيد والتعبير عن العمل بالصنع للايذان برسوخهم في ذلك وعن المجازاة بالتنبئة للتنبيه على انهم لا يعلمون حقيقة ما يعملونه من الاعمال الشيئة واستتباعها للعذاب فيكون ترتيب العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الاخبار بها «يا أهل الكتاب» التفات إلى خطاب الفريقين على ان الكتاب جنس شامل للتوراة والإنجيل اثر بيان أحوالهما من الخيانة وغيرها من فنون القبائح ودعوة لهم إلى الايمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والقران وإيرادهم بعنوان أهلية الكتاب لانطواء كلام المصدر به على ما يتعلق بالكتاب
17

وللمبالغة في التشنيع فان أهلية الكتاب من موجبات مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الاحكام وقد فعلوا من الكتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون «قد جاءكم رسولنا» للإضافة للتشريف والايذان بوجوب اتباعه وقوله تعالى «يبين لكم» حال من رسولنا وايثار الجملة الفعلية على غيرها للدلالة على تجدد البيان أي قد جائكم رسولنا حال كونه مبينا لكم على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة «كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب» أي التوراة والإنجيل كبعثة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم
في التوراة وبشارة عيسى بأحمد عليهما السلام في الإنجيل وتأخير كثيرا عن الجار والمجرور بما مر مرارا من اظهار عناية بالمقدم لما فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر لان ما حقه التقديم إذا اخر لا سيما الاشعار بكونه من منافع المخاطب تبقى النفس مترقبة إلى وروده فيتمكن عندها إذا ورد فضل تمكن ولان في المؤخر درب تفصيل ربما يخل تقديمه بتجاذب أطراف النظم الكريم فان مما متعلق بمحذوف وقع صفة لكثيرا وما موصولة اسمية وما بعدها صلتها والعائد إليها محذوف ومن الكتاب متعلق بمحذوف هو حال من العائد المحذوف والجمع بين صيغتين الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والاخفاء أي بين لكم كثيرا من الذي تخفونه على الاستمرار حال مونه من الكتاب الذي أنتم أهله والمتمسكون به «ويعف عن كثير» أي ولا يظهر كثيرا مما تخفونه إذا لم تدع اليه داعية دينية صيانة لكم عن زيادة الافتضاح كما يفصح عنه التعبير عن عدم الاظهار بالعفو وفيه حث لهم على عدم الاخفاء ترغيبا وترهيبا والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلة في حكمها وقيل يعف عن كثير منكم ولا يؤاخذه في قوله تعالى «قد جاءكم من الله نور» جملة مستأنفة مسوقة لبيان ان فائدة مجيء الرسول ليست منحصرة فيما ذكر ومن بيان ما كانوا يخفونه بل له منافع لا تحصى ومن الله متعلق بجاء ومن لابتداء الغاية مجازا أو محذوف وقع حالا من نور وأيا ما كان فهو تصريح بما يشعر به إضافة الرسول من مجيئه من جنابة عز وجل وتقديم الجار والجرور على الفاعل للمصارعة إلى بيان كون المجيء من جهته العالية والتشويق إلى الجائي ولان فيه نوع تطويل يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم كما في قوله تعالى وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين وتنوين نور للتفخيم والمراد به وبقوله تعالى «وكتاب مبين» القران لما فيه من كشف ظلمات الشرك والشك وإبانة ما خفي على الناس من الحق والاعجاز البين والعطف لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة وبالذات وقيل المراد بالأول هو الرسول صلى الله عليه وسلم وبالثاني القران «يهدي به الله» توحيد الضمير المجرور لاتحاد المرجع بالذات أو لكونهما في حكم الواحد أو أريد يهدي بما ذكر وتقديم الجار والمجرور للاهتمام واظهار الجلالة لاظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية ومحل الجملة الرفع على انها صفة ثانية لكتاب أو النصب على الحالية منه لتخصصه بالصفة «من اتبع رضوانه» أي رضاه بالايمان به ومن موصوله أو
18

موصوفة «سبل السلام» أي طرق السلامة من العذاب والنجاة من العقاب أو سبل الله تعالى وهي شريعته التي شرعها للناس وقيل هو مفعول ثاني ليهدي والحق ان انتصابه بنزع الخافض على طريقة قوله تعالى واختار موسى قومه وانما يعدي إلى الثاني بإلى أو بالام كما في قوله تعالى ان هذا القران يهدي للتي هي أقوم «ويخرجهم» الضمير لمن والجمع باعتبار المعنى كما ان الافراد في اتبع اعتبار اللفظ من «الظلمات» أي ظلمات فنون الكفر والظلال «إلى النور» إلى الايمان «بإذنه» بتيسيره أو بإرادته «ويهديهم إلى صراط مستقيم» هو أقرب الطرق إلى الله تعالى ومؤد اليه لا محالة وهذه الهداية عين الهداية إلى سبل السلام وانما عطفت عليها تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين امنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم» أي لا غير كما يقال الكرم هو التقوى وهم اليعقوبية القائلون بأنه تعالى قد يحل في بدن انسان معين أو في روحه وقيل لم يصرح به أحد منهم لكن حيث اعتقدوا اتصافه بصفات الله الخاصة وقد اعترفوا بان الله تعالى موجود فلزمهم القول بان المسيح لا غير وقيل لما زعموا ان فيه لاهوتا وقالوا لا اله الا واحد لزمهم ان يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم «قل» أي تبكيتا لهم واظهارا لبطلان قولهم الفاسد وإلقاما لهم الحجر والفاء في قوله تعالى «فمن يملك من الله شيئا» فصيحة ومن استفهامية للإنكار والتوبيخ والملك الضبط والحفظ التام عن حزم ومن متعلقة به على حذف المضاف أي ان كان الامر كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وارادته شيئا وحقيقته فمن يستطيع ان يمسك شيئا منها «إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا» ومن حق من يكون الها ان لا يتعلق به ولا بشأن من شؤونه بل بشيء من الموجودات قدرة غيرة بوجه من الوجوه فضلا عن ان يعجز عن دفع شيء منها عند تعلقها بهلاكه فلما كان عجزه بينة لا ربي فيه ظهر كونه بمعزل مما تقولوا في حقه والمراد بالاهلاك الأمانة والاعدام مطلقا لا بطريق السخط والغضب واظهار المسيح على الوجه الذي نسبوا اليه الألوهية في مقام الاضمار لزيادة التقرير والتنصيص على انه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره وملكوته تعالى ونفى المالكية المذكورة بالاستفهام الانكاري عن كل أحد مع تحقق الالزام والتبكيت بنفيها عن المسيح فقط بان يقال فهل يملك شيئا من الله ان أراد الخ لتحقيق الحق بنفي الألوهية عن كل ما عداه سبحانه واثبات المطلوب في ضمنه بالطريق البرهان فان انتفاء المالكية المستلزم باستحالة الألوهية متى ظهر بالنسبة إلى الكل ظهر بالنسبة إلى المسيح على أبلغ وجه وآكده فيظهر استحالة الألوهية قطعا وتعميم إرادة الاهلاك للكل مع حصول ما ذكر من التحقيق نقصرها عليه بان يقال فمن يملك من الله شيئا ان
19

أراد ان يهلك المسيح لتهويل الخطب واظهار كمال العجز بيان ان الكل تحت قهره تعالى وملكوته لا يقدر أحد على دفع ما أريد به فضلا عن دفه ما أريد بغيره وايذان لان المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك كما انه أسوة لها فيما ذكر من العجز وعد استحقاق الألوهية وتخصيص أمه بالذكر مع اندراجها في ضمن من في الأرض بزيادة تأكيد عجز المسيح ولعل نظمها في سلك من فرض إرادة اهلاكهم مع تحقيق هلاكها قبل ذلك لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام يجعل حالها أنموذجا لحال بقية من فرض اهلاكه كأنه قيل قل فمن يملك من الله شيئا ان أراد ان يهلك المسيح وأمه ومن في الأرض وقد أهلك أمه فهل مانعه أحد فكذا حال من عداها من الموجودين وقوله تعالى «ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما» أي ما بين قطري العالم الجسماني لا بين وجه الأرض ومقعر فلك القمر فقط فيتناول ما في السماوات من الملائكة عليهم السلام وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته اثر الإشارة إلى كون البعض أي من في الأرض كذلك أي له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها ايجادا وإعداما واحياء وإماتة لا لاحد سواه استقلال ولا اشتراكا فهو تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى اثر بيان انتفائها عن كل ما سواه وقوله تعالى «يخلق ما يشاء» جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض احكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبهة في امر المسيح لولادته من غير أب وخلق الطير واحياء الموتى وابراء الأكمه والأبرص أي يخلق ما يشاء من أنواع الخلق والايجاد على ان ما نكره
وصوفة محلها النصب على المصدر به لا على المفعولية كأنه قيل يخلق أي خلق يشاء فتارة يخلق من غير أصل كخلق السماوات والأرض وأخرى من أصل كخلق ما بينهما فينشىء من أصل ليس من جنسه كخلق ادم وكثير من الحيوانات من أصل يجانسه اما من ذكر وحده كخلق حواء أو أنثى وحدها كخلق عيسى عليه السلام أو منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق اخر كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزة له واحياء الموتى وابراء الأكمه والأبرص وغير ذلك فيجب ان ينسب كله اليه تعالى لا إلى من اجرى ذلك على يده «والله على كل شيء قدير» اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله واظهار الاسم الجليل للتعليل وتقوية استقلال الجملة «وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه» حكاية لما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة وبيان لبطلانها بعد ذكر ما صدر عن أحدهما وبيان بطلانه أي قالت اليهود نحن أشياع ابنة عزير وقالت النصارى نحن أشياع ابنه المسيح كما قيل لأشياع أبي خبيب وهو عبد الله بن الزبير الخبيبيون وكما يقول أقارب الملوك عند المفاخرة نحن الملوك وقال ابن
20

عباس رضي الله تعالى عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الاسلام وخوفهم بعقاب الله تعالى فقالوا كيف تخوفنا به ونحن أبناء الله وأحباؤه وقيل ان النصارى يتلون في الإنجيل ان المسيح قال لهم إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وقيل أرادوا ان الله تعالى كالأب لنا في الحنو والعطف ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة وبالجملة انهم كانوا يدعون ان لهم فضلا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق فرد عليهم ذلك وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم «قل» الزاما لهم وتبكيتا «فلم يعذبكم بذنوبكم» أي ان صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وقد عرفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة بالنار أياما بعدد أيام عبادتكم العجل ولو كان الامر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع وقوله تعالى «بل أنتم بشر» عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي لستم كذلك بل أنتم بشر «ممن خلق» أي من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم «يغفر لمن يشاء» ان يغفر له من أولئك المخلوقين وهم الذين امنوا به تعالى وبرسله «ويعذب من يشاء» ان يعذبه منهم وهم الذين كفروا به وبرسله مثلكم «ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما» من الموجودات لا ينتمي اليه سبحانه شيء منها الا بالملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيهم كيف يشاء ايجادا وإعداما واحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا فاني لهم ادعاء ما زعموا «وإليه المصير» في الآخرة خاصة لا إلى غيره استقلال أو اشتراكا فيجازى كلا من المحسن والمسيء بما يستدعيه عمله من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه «يا أهل الكتاب» تكرير للخطاب بطريق الالتفات ولطف في الدعوى «قد جاءكم رسولنا يبين لكم» حال من رسولنا وإيثارة على مبينا لما مر فيما سبق أي يبين لكم الشرائع والاحكام الدينية المقرونة بالوعد والوعيد من جملتها ما بين في الآيات السابقة من بطلان أقاويلكم الشنعاء وما سيأتي من اخبار الأمم السالفة وانما حذف تعويلا على ظهور ان مجيء الرسول انما هو لبيانها أو يفعل لكم البيان ويبذله لكم في كل ما تحتاجون فيه إلى البيان من أمور الدين واما تقدير مثل ما سبق في قوله تعالى كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب كما قيل فمع كونه تكريرا من غير فائدة يرده قوله عز وجل «على فترة من الرسل» فان فتور الارسال وانقطاع الوحي انما يحوج إلى بيان الشرائع والاحكام لا إلى بيان ما كتموه وعلى فترة متعلق بجائكم على الظرفية كما في قوله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان أي جاءكم على حين فتور الارسال وانقطاع من الوحي ومزيد احتياج إلى بيان الشرائع والاحكام الدينية أو بمحذوف وقع حال من ضمير يبين أو من ضمير لكم أي يبين لكم ما ذكر حال كونه على فترة من الرسل أو حال كونكم عليها أحوج ما كنتم إلى البيان ومن الرسل متعلق بمحذوف وقع صفة لفترة أي كائنة من الرسل مبتدأ من جهتهم وقوله تعالى «أن تقولوا» تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف أي كراهة ان تقولوا معتذرين عن تفريطكم في مراعاة احكام الدين «ما جاءنا من بشير ولا
21

نذير» وقد انطمست اثار الشرائع السابقة وانقطعت اخبارها وزيادة من في الفاعل للمبالغة في نفى المجىء وتنكير بشير ونذير للتقليل وهذا كما ترى يقتضى ان المقدر أو المنوى فيما سبق هو الشرائع والاحكام لا كيفما كانت بل مشفوعه بما ذكر من الوعد والوعيد وقوله تعالى «فقد جاءكم بشير ونذير» متعلق بمحذوف ينبى عنه الفاء الفصيحة وتبين انه معلل به وتنوين بشير ونذير للتفخيم اى لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم بشير اى بشير ونذير اى نذير «والله على كل شيء قدير» فيقدر على الارسال تترى كما فعله بين موسى وعيسى عليهما السلام حيث كان بينهما الف وسبعمائة سنة والف نبي وعلى الارسال بعد الفترة كما فعله بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام حيث كان يبينهما ستمائة سنة أو خمسمائة وتسعة وستون سنة أو خمسمائة وستة وأربعون سنة وأربعة أنبياء على ما روى الكلي ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي وقيل لم يكن بعد عيسى عليه السلام الا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأنسب بما في تنوين فترة من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بان الرسول قد بعث إليهم عند كمال حاجتهم اليه بسبب مضي دهر طويل بعد انقطاع الوحي ليهشوا اليه ويعدوه أعظم نعمة من الله تعالى وفتح باب إلى الرحمة وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غدا بأنه لم يرسل إليهم من بينهم من غفلتهم «وإذ قال موسى لقومه» جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما فعلت بنوا إسرائيل بعد اخذ الميثاق منهم وتفصيل كيفية نقضهم له وتعلقه بما قبله من حيث ان ما ذكر فيه من الأمور التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم ببيانها ومن حيث اشتماله على انتفاء فترة الرسل فيما بينهم وإذ نصب على انه مفعول لفعل مقدر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما صدر عن بعضهم من الجنايات أي واذكرهم وقت قول موسى لقومه ناصحا لهم ومستميلا لهم بإضافتهم اليه «يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم» وتوجيه الامر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع انها المقصودة بالذات للمبالغة في ايجاب ذكرها لما ان ايجاب ذكر الوقت ايجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولان الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلا فإذا استحضر كان ما وقع فيه حاضرا بتفاصيل كأنه مشاهد عيانا وعليكم متعلق بنفس النعمة إذا جعلت مصدرا وبمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما أي اذكروا انعامه عليكم أو اذكروا نعمة كائنة عليكم وكذا إذ في قوله تعالى «إذ جعل فيكم أنبياء» أي اذكروا انعامه تعالى عليكم في وقت جعله أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جهله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء ذوى عدد كثير وأولى شان خطير حيث لم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني إسرائيل من الأنبياء «وجعلكم ملوكا» عطف على
جعل فيكم داخل في حكمة أي جعل فيكم أو منكم ملوكا كثيرة فإنه قد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء وانما حذف الظرف تعويلا على ظهور الامر أو جعل الكل في مقام الامتنان عليهم ملوكا لما ان أقارب الملوك يقولون
22

عند المفاخر نحن الملوك وانما لم يسلك ذلك المسلك فيما قبله لما ان منصب النبوة من عظم الخطر وعزه المطلب وصعوبة المنال ليس بحيث يليق ان ينسب اليه ولو مجازا من ليس ممن اصطفاه الله تعالى له وقيل كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله تعالى فسمى إنقاذهم ملكا وقيل الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار وقيل من له بيت وخدم وقيل من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الاعمال وتحمل المشاق «وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين» من فلق البحر واغراق العدو وتظليل الغمام وانزال المن والسلوى وغير ذلك مما اتاهم الله تعالى من الأمور العظام والمراد بالعالمين الأمم الخالية إلى زمانهم وقيل من عالمي زمانهم «يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة» كرر النداء بالإضافة التشريفية اهتمام بشأن الامر ومبالغة في حثهم على الامتثال به والأرض هي ارض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين وقيل هي الطور وما حوله وقيل دمشق وفلسطين وبعض الأردن وقيل هي الشام «التي كتب الله لكم» أي كتب في اللوح المحفوظ انها تكون مسكنا لكم ان امنتم وأطعتم لقوله تعالى له بعض ما عصوا فإنها محرمة عليهم وقوله تعالى «ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين» فان ترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الايمان والطاعة قطعا أي لا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة فالجار والمجرور متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ترتدوا ويجوز ان يتعلق بنفس الفعل قيل لما سمعوا أحوالهم من النقباء بكوا وقالوا يا ليتنا متنا بمصر تعالوا نجعل لنا رأسا ينصرف بنا إلى مصر أولا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى وقوله فتنقلبوا اما مجزوم عطفا على ترتدوا أو منصوب على جواب النهي والخسران خسران الدين والدنيا لا سيما دخول ما كتب لهم «قالوا» استئناف مبنى نشأ من مساق الكلام كأنه قيل فماذا قالوا بمقابلة امره عليه السلام ونهيه فقيل قالوا غير ممتثلين بذلك «يا موسى إن فيها قوما جبارين» متغلبين لا يأتي منازعتهم ولا يتسنى مناصبتهم والجبار العاتي الذي يجبر الناس ويقسرهم كائنا من كان على ما يريده كائنا ما كان فعال من جبره على الأمر أي أجبره عليه «وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها» من غير صنع من قبلنا فان لا طاقة لنا باخراجهم منها «فإن يخرجوا منها» بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنابها «فإنا داخلون» حينئذ اتوا بهذه الشرطية مع كون مضمونها مفهوما مما سبق من توقيت عدم الدخول وخروجهم منها تصريحا بالمقصود وتنصيصا على ان امتناعهم من دخولها ليس الا لمكانهم فيما واتوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة بحرف التحقيق دلالة على تقرر
23

الدخول وثباته عند تحقق الشرط لا محاله واظهارا لكمال الرغبة فيه وفي الامتثال بالامر «قال رجلان» استئناف كما سبق كأنه قيل هل اتفقوا على ذلك أو خالفهم البعض فقيل قال رجلان «من الذين يخافون» أي يخافون الله تعالى دون العدو ويتقونه في مخالفة امره ونهيه وبه قرا ابن مسعود وفيه تعريض بان من عداهما لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو وقيل من الذين يخافون العدو أي منهم في النسب لا في الخوف وهما يوشع بن نون وكالب بن يوقنا من النقباء وقيل هما رجلان من الجبابرة أسلما وسارا من موسى عليه السلام فالواو حينئذ لبني إسرائيل والموصول عبارة عن الجبابرة واليهم يعود العائد المحذوف أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل ويعضه قرأت من قراء يخافون على صيغة المبنى للمفعول أي المخوفين وعلى الأول يكون هذا من الإخافة أي من الذين يخوفون من الله تعالى بالتذكير أو يخوفهم الوعيد «أنعم الله عليهما» أي بالتثبيت وربط الجاش والوقوف على شؤونه تعالى والثقة بوعده أو بالايمان وهو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض وقيل حال من الضمير في يخافون أو من رجلان لتخصصه بالصفة أي قال مخاطبين لهم ومشجعين «ادخلوا عليهم الباب» أي باب بلدهم وتقديم الجار والمجرور عليه للاهتمام به لان المقصود انما هو دخول الباب وهم في بلدهم أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم في البروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالا «فإذا دخلتموه» أي بلدهم وهم فيه «فإنكم غالبون» من غير حاجة إلى القتال فان قد رأيناهم وشاهدنا ان قلوبهم ضعيفة وان كانت أجسادهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر وقيل انما حكما بالغلبة لما علماها من جهة موسى عليه السلام ومن قوله تعالى كتب الله لكم أو لما علما من سنته تعالى في نصرة رسله وما عهدا من صنعه تعالى لموسى عليه السلام من طهر أعدائه والأول انسب بتعليق الغلبة بالدخول «وعلى الله» تعالى خاصة «فتوكلوا» بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها بمعزل من التأثير وانما التأثير من عند الله العزيز القدير «إن كنتم مؤمنين» أي مؤمنين به تعالى مصدقين لوعده فان ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما «قالوا» استئناف كما سبق أي قالوا غير مبالين بهما وبمقالتهما مخاطبين لموسى عليه السلام اظهارا لاصرارهم على القول الأول وتصريحا بمخالفتهم له عليه السلام «يا موسى إنا لن ندخلها» أي ارض الجبابرة فضلا عن دخول بابهم وهم في بلدهم «أبدا» أي دهرا طويلا «ما داموا فيها» أي في ارضهم وهو بدل من ابدا بدل البعض أو عطف بيان «فاذهب» الفاء فصيحة أي فإذا كان الامر كذلك فاذهب
24

«أنت وربك فقاتلا» أي فقاتلاهم انما قالوا ذلك استهانة واستهزاء بع سبحانه وبرسوله وعدم مبالاة بهما وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم وقسوة قلوبهم وقيل أرادوا إرادتهما وقصدهما كما تقول كلمته فذهب يجيبني كأنهم قالوا فأريد قتالهم واقصداهم وقيل التقدير فاذهب أنت وربك يعينك ولا يساعده قوله تعالى فقاتلا ولم يذكروا هارون ولا الرجلين كأنهم لم يجزموا بذهابهم أو لم يعبأوا بقتالهم وقوله تعالى «إنا ها هنا قاعدون» يؤيد الوجه الأول وأرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر «قال» عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة «رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي» عطف على نفسي وقيل على الضمير في اني على معنى اني لا املك الا نفسي وان أخي لا يملك الا نفسه وقيل على الضمير في لا املك للفصل «فافرق بيننا» يريد نفسه واخاه والفاء لترتيب الفرق أو الدعاء به على ما قبله «وبين القوم الفاسقين» الخارجين عن طاعتك المصرين على عصيانك بان تحكم لنا بما نستحقه وعليهم بما يستحقونه وقيل بالتعبيد بيننا وبينهم وتخليصنا من صحبتهم «قال فإنها» أي الأرض المقدسة والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء «
محرمة عليهم» تحريم منع لا تحريم تعبد لا يدخلونها ولا يملكونها لان كتابتها لهم كانت مشروطة بالايمان والجهاد وحيث نكصوا على ادبارهم حرموا ذلك وانقلبوا خاسرين وقوله تعالى «أربعين سنة» ان جعل ظرفا لمحرمة يكون التحريم موقتا لا مؤبدا فلا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى كتب الله لكم فالمراد بتحريمها عليهم انه لا يدخلها أحد منهم في هذه المدة لكن لا بمعنى ان كلهم يدخلونها بعدها بل بعضهم ممن بقي حسب ما روى ان موسى عليه السلام صار بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحا وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها واقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض عليه السلام وقيل لم يدخلها أحد ممن قال لن ندخلها ابدا وانما دخلها مع موسى عليه السلام النواشي من ذرياتهم فالموقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وانما جعل تحريمها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة المتاخمة للاتحاد وقوله تعالى «يتيهون في الأرض» أي يتحيرون في البرية استئناف لبيان كيفية حرمانهم أو حال من ضمير عليهم وقيل ظرف متعلق بيتهون فيكون التيه موقتا والتحريم مطلقا قيل كانوا ستمائة الف مقاتل وكان طول البرية تسعون فرسخا وقد تاهوا في ستة فراسخ أو تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا وقيل في ستة فراسخ في اثني عشر فرسخا روى انهم كانوا كل يوم يسيرون جادين حتى إذا أمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا وكان الغمام يظلهم من حر الشمس ويطلع بالليل عمود من نور يضيء لهم وينزل عليهم المن والسلوى ولا تطول شعورهم وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله وهذه الإنعامات عليهم مع انهم معاقبون لما ان عقابهم كان بطريق العرك والتأديب قيل كان موسى وهارون معهم ولكن
25

كان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار لإبراهيم وملائكة العذاب عليهم السلام وروى ان هارون مات في النية ومات موسى بعده بسنه ودخل يوشع أريحا بعد موته بثلاثة أشهر ولا يساعده ظاهر النظم الكريم فإنه تعالى بعد ما قبل دعوته على بني إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيدان ينجى بعض المدعو عليهم أو ذراريهم ويقدر وفاتهما في محل العقوبة ظاهرا وان كان ذلك لهما منزل روح وراحة وقد قيل انهما لم يكونا معهم في التيه وهو الأنسب بتفسير الفرق بالمباعدة ومن قال بأنهما كانا معهم فيه فقد فسر الفرق بما ذكر من الحكم بما يستحقه كل فريق «فلا تأس» فلا تحزن «على القوم الفاسقين» روى انه عليه السلام ندم على دعاءه عليهم فقيل لا تندم ولا تحزن فإنهم أحقاء بذلك لفسقهم «واتل عليهم» عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى وإذا قال موسى الخ وتعلقه به من حيث انه تمهيد لما سيأتي من جنايات بنى إسرائيل بعد ما كتب عليهم ما كتب وجاءتهم الرسل بما جاءت به من البينات «نبأ ابني آدم» هما قابيل وهابيل ونقل عن الحسن والضحاك انهما رجلان من بنى إسرائيل بقرينه آخر القصة وليس كذلك أوحى الله عز وجل إلى ادم ان يزوج كلا منهما توأمة الاخر وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها إقليما فحسد عليها أخاه وسخط وزعم ان ذلك ليس من عند الله تعالى بل من جهة ادم عليه السلام فقال لهما عليه السلام قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها ففعلا فنزلت نار على قربان هابيل فأكلته ولم تتعرض لقربان قابيل فازداد قابيل حسدا وسخطا وفعل ما فعل «بالحق» متعلق بمحذوف وقع صفه لمصدر محذوف أي تلاوة ملتبسه با لحق والصحة أو حالا من فاعل أتل أو من مفعوله اى ملتبسا أنت أو نبأهما بالحق والصدق حسبما تقرر في كتب الأولين «إذ قربا قربانا» منصوب بالنبأ ظرف له اى أتل قصتهما ونبأهما في ذلك الوقت وقيل بدل منه على حذف المضاف اى أتل عليهم نبأهما نبا ذلك الوقت ورد عليه بان إذ لا يضاف اليهما غير الزمان كوقتئذ وحينئذ والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك أو صدقه كالحلوان اسم لما يحلى اى يعطى وتوحيده لما انه في الأصل مصدر وقيل تقديره إذ قرب كل منهما قربانا «فتقبل من أحدهما» هو هابيل قيل كان هو صاحب ضرع وقرب جملا سمينا فنزلت نار فأكلته «ولم يتقبل من الآخر» هو قابيل قيل كان هو صاحب زرع وقرب أردأ ما عنده من القمح فلم تتعرض له النار أصلا «قال» استئناف مبني على سؤال نشا من سوق الكلام كأنه قيل فماذا قال من لم يتقبل قربانه فقيل قال لأخيه لتضاعف سخطه وحسده لما ظهر فضله عليه عند الله عز وجل «لأقتلنك» اى والله لأقتلنك بالنون المشددة وقرئ بالمخففة «قال» استئناف كما قبله اى قال الذي تقبل قربانه لما رأى ان حسده لقبول قربانه وعدم قبول قربانه نفسه «إنما يتقبل الله» اى القربان «من المتقين» لامن غيرهم وانما تقبل قرباني ورد قربانك لما فينا من التقوى وعدمه اى انما اتيت من قبل نفسك لا من
26

قبلي فلم تقتلني خلا انه لم يصرح بذلك بل سلك مسلك التعريض حذرا من تهييج غضبه وحملا له على التقوى والاقلاع عما نواه ولذلك اسند الفعل إلى الاسم الجليل لتربية المهابة ثم صرح بتقواه على وجه يستدعى سكون غيظه لو كان له عقل وازع حيث قال بطريق التوكيد «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك» حيث صدر الشرطية باللام المؤطئة للقسم وقدم الجار والمجرور على المفعول الصريح ايذانا من أول الامر برجوع ضرر البسط وغائلته اليه ولم يجعل جواب القسم الساد مسد جواب الشرط جمله فعليه موافقه لما في الشرط بل اسمية مصدرة بما الحجازية المفيدة لتأكيد النفي بما في خبرها من الباء للمبالغة في اظهار براءته عن بسط اليد ببيان استمراره على نفى البسط كما في قوله تعالى وما هم بمؤمنين وقوله وما هم بخارجين منها فإن الجملة الاسمية الايجابية كما تدل بمعونة المقام على دوام الثبوت كذلك السلبية تدل بمعونته على دوام الانتفاء لا على انتفاء الدوام وذلك باعتبار الدوام والاستمرار بعد اعتبار النفي لاقبله حتى يرد النفي على المقيد بالدوام فيرفع قيده اى والله لئن باشرت قتلى حسبما أوعدتنى به وتحقق ذلك منك ما انا بفاعل مثله لك في وقت من الأوقات ثم علل ذلك بقوله «إني أخاف الله رب العالمين» وفيه من ارشاد قابيل إلى خشيه الله تعالى على أبلغ وجه وآكده مالا يخفى كأنه قال انى أخافه تعالى ان بسطت يدي إليك لأقتلك ان يعاقبني وان كان ذلك منى لدفع عداوتك عنى فما ظنك بحالك وأنت البادى العادي وفى وصفه تعالى بربوبية العالمين تأكيد للخوف قيل كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم خوفا من الله تعالى لان القتل للدفع لم يكن مباحا حينئذ وقيل تحريا لما هو الأفضل حسبما قال عليه السلام كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ويأباه التعليل بخوفه تعالى الا ان يدعى ان ترك الأولى عنده بمنزله المعصية في استتباع الغائلة مبالغه في التنزه وقوله تعالى «إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك» تعليل اخر لامتناعه عن المعارضة على انه غرض متأخر عنه كما ان الأول باعث متقدم عليه وانما لم يعطف عليه تنبيها على كفاية كل منها في العلية والمعنى اني أريد باستسلامى لك وامتناعى عن التعرض لك ان ترجع بإثمي اى بمثل إثمي لو بسطت يدي إليك وبإثمك ببسط يدك إلى كما في قوله عليه السلام المستبان ما قالا فعلى البادى ما لم يعتد المظلوم اى على البادى عين اثم سبه ومثل سب صاحبه
بحكم كونه سببا له وقيل معنى بإثمي اثم قتلى ومعنى بإثمك الذي لأجله لم يتقبل قربانك وكلا هما نصب على الحالية اى ترجع ملتبسا بالإثمين حاملا لهما ولعل مراده بالذات انما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه له وقيل المراد بالاثم عقوبته ولا ريب في جواز إرادة عقوبة العاصي ممن علم انه لا يرعوى عن المعصية أصلا ويأباه قوله تعالى «فتكون من أصحاب النار» فان كونه منهم انما يترتب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلائه بعقوبتهما وحمل العقوبة على نوع اخر يترتب عليها
27

العقوبة النارية يرده قوله تعالى «وذلك جزاء الظالمين» فإنه صريح في ان كونه من أصحاب النار تمام العقوبة وكمالها والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها ولقد سلك في صرفه عما نواه من الشر كل مسلك من العظة والتذكير بالترغيب تارة والترهيب أخرى فما أورثه ذلك الا الاصرار على الغي والانهماك في الفساد «فطوعت له نفسه قتل أخيه» أي وسعته وسهلته من طاع له المرتع إذا اتسع وترتيب التطويع على ما حكى من مقالات هابيل مع تحققه قبلها أيضا كما يفصح عنه قوله لأقتلنك لما ان بقاء الفعل بعد تقرر ما يزيله من الدواعي القوية وان كان استمرار عليه بحسب الظاهر لكنه في الحقيقة امر حادث وصنع جديد كما في قولك وعظته فلم يتعظ أو لان هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناء على تردده في قدرته على القتل لما انه كان أقوى منه وانما حصلت بعد وقوفه على استسلام هابيل وعدم معارضته له والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه وقرئ فطاوعت على انه فاعل بمعنى فعل أو على ان قتل أخيه كأنه دعى نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله «فقتله» قيل لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل فتمثل إبليس واخذ طائرا ووضع رأسه على حجر ثم شدخها بحجر اخر فتعلم منه فرضخ راس هابيل بين حجرين وهو مستسلم لا يستعصى عليه وقيل اغتاله وهو نائم وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة واختلف في موضع قتله فقيل عند عقبة حراء وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم وقيل في جبل بود ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره أربعين يوما وقيل سنة حتى أروح وعكفت عليه الطيور والسباع تنظر متى يرمى به فتأكله «فأصبح من الخاسرين» دينا ودنيا «فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه» روى انه تعالى بعث غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الاخر فحفر له بمنقاره ورجليه حفرة فألقاه فيها والمستكن في يريه الله تعالى أو للغراب والآلام على الأول متعلقة ببعث حتما وعلى الثاني يبحث ويجوز تعلقها ببعث أيضا وكيف حال من ضمير يوارى والجملة ثاني مفعولى يرى والمراد بسوأة أخيه جسده الميت «قال» استئناف مبني على سؤال نشا من سوق الكلام كأنه قيل فماذا قال عند مشاهدة حال الغراب فقيل قال «يا ويلتي» هي كلمة جزع وتحسر والألف بدل من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتي احضرى فهذا أوانك والويل والويلة الهلكة «أعجزت أن أكون» أي عن ان أكون «مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي» تعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى اليه الغراب وقوله تعالى فأواري بالنصب عطف على ان أكون وقرا بالرفع أي فانا أوارى «فأصبح من النادمين» أي على قتله لما كابد فيه من التحير في امره وحمله على رقبته مدة طويله روى انه لما قتله اسود جسده وكان ابيض فسأله ادم عن أخيه فقال
28

ما كنت عليه وكيلا قال بل قتله ولذلك اسود جسدك ومكث ادم بعدة مائة سنة لا يضحك وقيل لما قتل قابيل هابيل هرب إلى عدن من ارض اليمن فاتاه إبليس فقال له انما اكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدمها ويعبدها فان عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها وهو أول من عبد النار «من أجل ذلك» شروع فيما هو المقصود من تلاوة النبأ من بيان بعض اخر من جنايات بني إسرائيل ومعاصيهم وذلك إشارة إلى عظم شان القتل وإفراط قبحة المفهومين مما ذكر في تضاعيف القصة من استعظام هابيل له وكمال اجتنابه عن مباشرته وان كان ذلك بطريق الدفع عن نفسه واستسلامه لان يقتل خوفا من عقابه وبيان استتباعه لتحمل القاتل لاثم المقتول ولكون قابيل بمباشرته من جملة الخاسرين دينهم ودنياهم ومن ندامته على فعله مع ما فيه من العتو وشدة الشكيمة وقساوة القلب والأجل في الأصل مصدر اجل شرا إذا جناه استعمل في تعليل الجنايات كما في قولهم من جراك فعلته أي من ان جررته وجنيته ثم اتسع فيه واستعمل في كل تعليل وقرا من اجل بكسر الهمزة وهي لغة فيه وقرا من اجل بحذف الهمزة والقاء فتحها على النون ومن لا ابتداء الغاية متعلقة بقوله تعالى «كتبنا على بني إسرائيل» وتقديمها عليه للقصر أي من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشا لا من شيء اخر أي قضينا عليهم وبينا «أنه من قتل نفسا» واحدة من النفوس «بغير نفس» أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص «أو فساد في الأرض» أي فساد يوجب اهدار دمها وهو عطف على ما أضيف اليه غير على معنى نفى كلا الامرين معا كما في قولك من صلى بغير وضوء أو تيمم بطلت صلاته لا نفي أحدهما كما في قولك من صلى بغير وضوء أو ثوب بطلت صلاته ومدار الاستعمالين اعتبار ورود النفي على ما يستفاد من كلمة أو من الترديد بين الأمرين المنبىء عن التخيير والإباحة واعتبار العكس ومناط الاعتبارين اختلاف حال ما أضيف اليه غير من الامرين بحسب اشتراط نقيض الحكم بتحقق أحدهما واشتراطه بتحققهما معا ففي الأول يرد النفي على الترديد الواقع بين الامرين قبل ورود فيفيد نفيهما معا وفي الثاني يرد الترديد على النفي فيفيد نفي أحدهما حتما إذ ليس قبل ورود النفي ترديد حتى يتصور عكسه وتوضيحه ان كل حكم شرط بتحقق أحد شيئين مثلا فنقيضه مشروط بانتفائهما معا وكل حكم شرط بتحققهما معا فنقيضه مشروط بانتفاء أحدهما ضرورة النقيض كل شيء مشروط بنقيض شرطه ولا ريب في النقيض الايجاب الجزئي كما في الحكم الأول هو السلب الكلي ونقيض الايجاب الكلي كما في الحكم الثاني هو رفعة المستلزم للسلب الجزئي فثبت اشتراط نقيض الأول بانتفائهما معا واشتراط نقيض الثاني بانتفاء أحدهما ولما كان الحكم في قولك من صلى بوضوء أو تيمم صحت صلاته مشروطا بتحقق أحدهما مهما كان نقيضا في قولك من صلى بغير وضوء أو
29

تيمم بطلت صلاته مشروطا بنقيض الشرط المذكور البتة وهو انتفاؤهما معا فتعين ورود النفي المستفاد من غير على الترديد الواقع بين الوضوء والتيمم بكلمة أو فانتفى تحققهما معا ضرورة عموم النفي الوارد على المبهم وعلى هذا يدور ما قالوا إنه إذا قيل جالس العلماء أو الزهاد قم أدخل عليه لا الناهية امتنع فعل الجميع نحو ولا تطع منهم آثما أكفورا إذ المعنى لا تفعل أحدهما فأيهما فعله فهو أحدهما وأما قولك من صلى بوضوء أو ثوب صحت صلاته فحيث كان الحكم فيه مشروطا بتحقق كلا الأمرين وهو انتفاء أحدهما فتعين ورود الترديد على النفي فأفاد نفي أحدهما ولا يخفى أن إباحة القتل مشروطة بأحد ما ذكر من القتل والفساد ومن ضرورته اشتراط حرمته
بانتفائهما معا فتعين ورود النفي على الترديد لا محاله كأنه قيل
من قتل نفسا بغير أحدهما «فكأنما قتل الناس جميعا» فمن قال في تفسيره أو بغير فساد فقد أبعد عن توفية النظم الكريم حقه وما في كأنما كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها وجميعا حال من الناس أو تأكيد ومناط التشبيه اشتراك الفعلين في هتك حرمة الدماء والاستعصاء على الله تعالى وتجسير الناس على القتل وفي
استتباع القود واستجلاب غضب الله تعالى وعذابه العظيم «ومن أحياها» أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد في الأرض إما بنهي قاتلها عن قتلها أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه «فكأنما أحيا الناس جميعا» وجه التشبيه ظاهر والمقصود تهويل أمر القتل وتفخيم شأن الإحياء بتصوير كل منهما بصورة لائقة به في إيجاب الرهبة والرغبة لذلك صدر النظم الكريم بضمير الشأن المنبىء عن كمال شهرته ونباهته وتبادره إلى الأذهان عند ذكر الضمير الموجب لزيادة تقرير ما بعده في الذهن فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه فيتمكن عند وروده فضل تمكن كأنه قيل إن الشأن الخطير هذا «ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات» جملة مستقرة غير معطوفة على كتبنا أكدت بالتأكيد القسمي وحرف التحقيق لكمال العناية بتحقق مضمونها وإنما لم يقل ولقد أرسلنا إليهم الخ للتصريح بوصول الرسالة إليهم فإنه أدل على تناهيهم في العتو والمكابرة أي وبالله لقد جاءتهم رسلنا حسبما أرسلناهم بالآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيدا لوجوب مراعاته وتأييدا لتحتم المحافظة عليه «ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك» أي بعد ما ذكر من الكتب وتأكيد الأمر بإرسال تترى وتجديد العهد مرة أخرى ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للإيذان بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيماء إلى علو درجته وبعد منزلته في عظ الشأن وثم للتراخي في الرتبة والاستبعاد «في الأرض» متعلق بقوله تعالى «لمسرفون» وكذا الظرف المتقدم ولا يقدح فيه توسط اللام بينه وبينهما لأنها لام الابتداء وحقها الدخول على المبتدأ وإنما دخولها على الخبر لمكان إن فهي في حيزها الأصلي حكما والإسراف في كل أمر التباعد عن حد الاعتدال مع عدم مبالاة به أي مسرفون في القتل غير مبالين به ولما كان إسرافهم في أمر القتل مستلزما لتفريطهم في شأن الإحياء وذكرا وكان هو أقبح الأمرين وأفظعهما اكتفى بذكره في مقام التشفيع
30

«إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله» كلام مستأنف سيق لبيان حكم نوع من أنواع القتل وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره وتعيين موجبه العاجل والآجل إثر بيان أعظم شأن القتل بغير حق وأدرج فيه بيان ما أشير إليه إجمالا من الفساد المبيح للقتل قيل أي يحاربون رسوله وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على ما رفعه عنده عز وجل ومحاربة أهل شريعته وسالكي طريقته من المسلمين محاربه له صلى الله عليه وسلم فيعم الحكم من يحاربهم ولو بعد أعصار بطريق العبارة دون الدلالة والقياس لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول فيحتاج في تعميمه لغيرهم إلى دليل آخر وقيل جعل محاربة المسلمين محاربة لله تعالى ورسوله تعظيما لهم والمعنى يحاربون أولياءهما وأصل الحرب السلب والمراد ههنا قطع الطريق وقيل المكابرة بطريق اللصوصية وإن كانت في مصر «ويسعون في الأرض» عطف على يحاربون والجار المجرور متعلق به وقوله تعالى «فسادا» إما مصدر وقع موقع الحال من فاعل يسعون أي مفسدون أو مفعول له أي للفساد أو مصدر مؤكد ليسعون لأنه في معنى مفسدون على أنه مصدر من أفسد بحذف الزوائد أو اسم مصدر قيل نزلت الآية في قوم هلال بن عويمر الأسلمي وكان وادعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن لا يهاج ومن مر بهلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من قوم هلال ولم يكن هلال يومئذ شاهدا فقطعوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم وقيل نزلت في العرنيين وقصتهم مشهورة وقيل في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى من القتل بدون أخذ المال ومن القتل مع أخذه وأخذه بدون القتل ومن الإخافة بدون قتل وأخذ شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق التوزيع فقيل «أن يقتلوا» أي حدا من غير صلب إن أفرد القتل ولو عفا الأولياء لا يلتفت إلى ذلك لأنه حق الشرع ولا فرق بين أن يكون القتل بآلة جارحة أو لا «أو يصلبوا» أي مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ بأن يصلبوا احياء وتبعج بطونهم برمح إلى أن يموتوا وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وصيغة التفعيل في الفعلين للتكثير إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي وكان المقدر بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم عشرة دراهم أو ما يساويها قيمته أما قطع أيديهم فلأخذ المال وأما قطع أرجلهم فلإخافة الطريق بتفويت أمنه «أو ينفوا من الأرض» إن لم يفعلوا غير الإخافة والسعي للفساد والمراد بالنفي عندنا هو الحبس
31

فإنه نفي عن وجه الأرض لدفع شرهم عن أهلها ويعزرون أيضا لمباشرتهم منكر الإخافة وإزالة الأمن وعند الشافعي رضي الله عنه النفي من بلد إلى بلد لا يزال يطلب وهو هارب فزعا وقيل هو النفي عن بلده فقط وكانوا ينفونهم إلى دهلك وهو بلد في أقصى تهامة وناصع وهو بلد من بلاد الحبشة «ذلك» أي من فضل من الأحكام والأجزية قيل هو مبتدأ وقوله تعالى «لهم خزي» جملة من خبر مقدم على المبتدأ وقوله تعالى «في الدنيا» متعلق بمحذوب وقع صفة لخزي أو متعلق بخزي على الظرفية والجملة في محل الرفع الرفع على أنها خبر لذلك وقيل خزي خبر لذلك ولهم متعلق بمحذوب وقع حالا من خزي لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا وفي الدنيا إما صفة لخزي أو متعلق به على ما مر والخزي الذل والفضيحة «ولهم في الآخرة» غير هذا «عذاب عظيم» لا يقادر قدره لغاية عظم جنايتهم فقوله تعالى لهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وفي الآخرة متعلق بمحذوف وقع حالا من عذاب لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا أي كائنا في الآخرة «إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم» استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله عز وجل كما ينبئ عنه قوله تعالى «فاعلموا أن الله غفور رحيم» أما ما هو من حقوق الأولياء من القصاص ونحوه فإليهم ذلك إن شاءوا عفوا وإن أحبوا استوفوا وإنما يسقط بالتوبة وجوب استيفائه لا جوازه وعن علي رضي الله عنه أن الحرث بن بدر جاءه تائبا بعد ما
كان يقطع الطريق فقبل توبته ودرأ عنه العقوبة «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله» لما ذكر عظم شأن القتل والفساد وبين حكمهما وأشير في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب من جنايته أمر المؤمنون بأن يتقوه تعالى في كل ما يأتون وما يذرون بترك ما يجب بقاؤه من المعاصي التي من جملتها ما ذكر من القتل والفساد وبفعل الطاعات التي من زمرتها السعي في إحياء النفوس ودفع الفساد والمسارعة إلى التوبة والاستغفار «وابتغوا» أي اطلبوا لأنفسكم «إليه» أي إلى ثوابه والزلفى منه «الوسيلة» هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء وإليه متعلق بها قدم عليها للاهتمام به وليست بمصدر حتى لا تعمل فيما قبلها ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به فإنه ملاك الأمر كله كما أشير إليه وذريعة لنيل كل خير ومنجاة من كل ضير فالجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد أو مطلق الوسيلة وهو داخل فيها دخولا أوليا وقيل الجملة الأولى أمر بترك المعاصي والثانية أمر بفعل الطاعات وحيث كان في كل من ترك المعاصي المشتهاة للنفي وفعل الطاعات المكروهة لها كلفة ومشقة عقب الأمر بهما بقوله تعالى «وجاهدوا في سبيله» بمحاربة أعدائه البارزة والكامنة «لعلكم تفلحون» بنيل مرضاته والفوز بكراماته
32

«إن الذين كفروا» كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز وجل قبل انقضاء أوانه ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بأقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلا عن نيل الثواب «لو أن لهم» أي لكل واحد منهم كما في قوله تعالى ولو أن لكل نفس ظلمت الخ لا لجميعهم إذ ليس في ذلك هذه المرتبة من تهويل الأمر وتفظيع الحال «ما في الأرض» أي من أصناف أموالها وذخائرها وسائر منافعها قاطبة وهو اسم أن ولهم خبرها ومحلها الرفع بلا خلاف خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء ولا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد لو ولو قيل الخبر محذوف ثم قيل يقدر مقدما أي لو ثابت كون ما في الأرض لهم وقيل بقدر مؤخرا أي لو كون ما في الأرض لهم ثابت وعند المبرد والزجاج والكوفيين رفع على الفاعلية والفعل مقدر بعد لو أي لو ثبت أن لهم ما في الأرض وقوله تعالى «جميعا» توكيد للوصول أو حال منه «ومثله» بالنصب عطف عليه وقوله تعالى «معه» ظرف وقع حالا من المعطوف والضمير راجع إلى الموصول وفائدته التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقا لكمال فظاعة الأمر مع ما فيه من نوع إشعار بكونهما شيئا واحدا وتمهيدا لإفراد الضمير الراجع إليهم واللام في قوله تعالى «ليفتدوا به» متعلقة بما تعلق به خبر أن أعني الاستقرار المقدر في لهم وبالخبر المقدر عند من يرى تقدير الخبر مقدما أو مؤخرا وبالفعل المقدر بعد لو على رأي المبرد ومن نحاه ولا ريب في أن مدار الافتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت لهم وإن كان مستلزما له والباء في به متعلقة بالافتداء والضمير راجع إلى الموصول ومثله معا وتوحيده إما لما أشير إليه وإما لإجرائه مجرى اسم الإشارة كأنه قيل بذلك كما في قوله كأنه في الجلد توقيع البهق أي كأن ذلك وقيل وهو راجع إلى الموصول والعائد إلى المعطوف أعني مثله محذوف كما حذف الخبر من قيار في قوله فإني وقيار بها لغريب أي وقيار أيضا غريب وقد جوز أن يكون نصب ومثله على أنه مفعول معه ناصبه الفعل المقدر بعد لو تفريعا على مذهب المبرد ومن رأى رأيه وأنت خبير بأن يؤدي إلى كون الرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه لأن المعنى على اعتبار المعية ما في الأرض ومثله في الكينونة لهم لا ثبوت تلك الكينونة وتحقيقها ولا مساغ لجعل ناصبه الاستقرار المقدر في لهم لما أن سيبويه قد نص على غسم الإشارة وحرف الجر المتضمن للاستقرار لا يعملان في المفعول معه وأن قوله هذا لك وأباك قبيح وإن جوزه بعض النحاة في الظرف وحرف الجر وقوله تعالى «من عذاب يوم القيامة» متعلق بالافتداء أيضا أي لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع يومئذ «ما تقبل منهم» ذلك وهو جواب لو وترتيبه على كون ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير
33

ذكر الافتداء بأن يقال وافتدوا به مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مباديه للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غني عن الذكر وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر أو للمبالغة في تحقق الرد وتخييل أنه وقع قبل الافتداء على منهاج ما في قوله تعالى أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده حيث لم يقل فأتى به فرآه فلما إلخ وما في قوله تعالى وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه من غير ذكر خروجه عليه السلام عليهن ورأيتهن له والجملة الامتناعية بحالها خبر إن الذين كفروا والمراد تمثيل لزوم العذاب لهم واستحالة نجاتهم منه بوجه من الوجوه المحققة والمفروضة وعن النبي عليه الصلاة والسلام يقال للكافر أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سئلت أيسر من ذلك وهو كلمة الشهادة وقوله تعالى «ولهم عذاب أليم» تصريح بما أشير إليه بعدم قبول فديتهم لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته قيل محله النصب على الحالية وقيل الرفع عطفا على خبر إن وقيل عطف على إن الذين فلا محل له كالمعطوف عليه «يريدون أن يخرجوا من النار» استئناف مسوق لبيان حالهم في أثناء مكابدة العذاب مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فكيف يكون حالهم أو ماذا يصنعون فقيل يريدون الخ وقد بين تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار قيل إنهم يقصدون ذلك ويطلبون المخرج فيلفحهم لهب النار ويرفعهم إلى فوق فهناك يريدون الخروج ولات حين مناص وقيل يكادون يخرجون منها لقوة النار وزيادة رفعها إياهم وقيل يتمنونه ويريدون بقلوبهم وقوله عز وجل «وما هم بخارجين منها» إما حال من فاعل يريدون أو اعتراض وأياما كان فإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مصدرة بما الحجازية الدالة بما في خبرها من البناء على تأكيد النفي لبيان كمال سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم منها فإن الجملة الاسمية الإيجابية كما تفيد بمعونة المقام دوام الثبوت تفيد السلبية أيضا بمعونته دوام النفي لا نفي الدوام كما مر في قوله تعالى ما أنا بباسط الخ وقرئ أن يخرجوا على بناء المفعول من الإخراج «ولهم عذاب مقيم» تصريح بما أشير إليه آنفا من عدم تناهي مدته بعد بيان شدته «والسارق والسارقة» شروع في بيان حكم الشرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى وقد عرفت اقتضاء الحال لإيراد مكا توسط بينهما من المقال ولما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال صرح بأن السارقة أيضا مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريق الدلالة لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر وهو مبتدأ خبره عند سيبويه محذوف تقديره وفيما يتلى عليكم أو وفيما فرض عليكم السارق والسارقة أي حكمهما وعند المبرد قوله تعالى «فاقطعوا أيديهما» والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ المعنى الذي سرق والتي سرقة وقرئ
بالنصب وفضلها سيبويه على قراءة الرفع لأن الإنشاء لا يقع خبرا إلا بتأويل وإضمار والسرقة أخذ مال الغير خفية وإنما توجب القطع إذا كان الأخذ من حرز
34

والمأخوذ يساوي عشرة دراهم فما فوقها مع شروط فصلت في موقعها والمراد بأيديهما أيمانهما كما يفصح عنه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى فقد صغت قلوبكما اكتفاء بتثنية المضاف إليه واليد اسم لتمام الجارحة ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب والجمهور على أنه الرسغ لأنه عليه الصلاة والسلام أتى بسارق فأمر بقطع يمينه منه «جزاء» نصب على أنه مفعول له أي فاقطعوا للجزاء أو مصدر مؤكد لفعله الذي يدل عليه فاقطعوا أي فجازوهما جزاء وقوله تعالى «بما كسبا» على الأول متعلق بجزاء وعلى الثاني باقطعوا وما مصدرية أي بسبب كسبهما أو موصولة أي ما كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي وقوله تعالى «نكالا» مفعول له أيضا على البدلية من جزاء لأنهما من نوع واحد وقيل القطع معلل بالنكال وقيل وهو منصوب بجزاء على طريقة الأحوال المتداخلة فإنه علة للجزاء والجزاء علة للقطع كما إذا قلت ضربته تأديبا له إحسانا إليه فإن الضرب معلل بالتأديب والتأديب معلل بالإحسان وقد أجازوا في قوله عز وجل أن يكفر بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده أن يكون بغيا مفعولا له ناصبه أن يكفروا ثم قالوا إن قوله تعالى أن ينزل الله مفعول له ناصبه بغيا على أن التنزيل علة للبغي والبغي علة للكفر وقوله تعالى «من الله» متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالا أي نكالا كائنا منه تعالى «والله عزيز» غالب على أمره يمضيه كيف يشاء من غير ند ينازعه ولا ضد يمانعه «حكيم» في شرائعه لا يحكم إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ولذلك شرع هذه الشرائع المنطوية على فنون الحكم والمصالح «فمن تاب» أي من السرق إلى الله تعالى «من بعد ظلمه» الذي هو سرقته والتصريح به مع أن التوبة لا تتصور قبله لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته «وأصلح» أي أمره بالتقصي عن تبعات ما باشره والعزم على ترك المعاودة إليها «فإن الله يتوب عليه» أي يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة وأما القطع فلا تسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه وتسقطه عند الشافعي في أحد قوليه «إن الله غفور رحيم» مبالغ غفي المغفرة والرحمة ولذلك يقبل توبته وهو تعليل لما قبله وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم وتأييد استقلال الجملة وكذا في قوله عز وجل «ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض» فإن عنون الألوهية مدار أحكام ملكوتهما والجار والمجرور خبر مقدم وملك السماوات والأرض مبتدأ والجملة خبر لأن وهي مع ما غفي حيزها سادة مسد مفعولي تعلم عند الجمهور وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين وقيل لكل أحد صالح للخطاب والاستفهام الإنكاري لتقرير العلم والمراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى
35

على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أي ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة إلى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته «يعذب من يشاء» أن يعذبه «ويغفر لمن يشاء» أن يغفر له من غير ند يساهمه ولا ضد يزاحمه وتقديم التعذيب على المغفرة لمراعات ما بين سببيهما من الترتيب والجملة إما تقرير لكون ملكوت السماوات والأرض له سبحانه أو خبر لأن «والله على كل شيء قدير» فيقدر على ما ذكر من التعذيب والغفرة والإظهار في موقع الإضمار لما مر مرارا والجملة تدييل مقرر لما قبلها «يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر» خوطب عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للتشريف والإشعار بما يوجب عدم الحزن والمسارعة في الشيء الوقوع فيه بسرعة ورغبة وإيثار كلمة في علي كلمة إلى الواقعة في قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة إلخ للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرحونه وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها كإظهار موالاة المشركين وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك كما في قوله تعالى أولئك يسارعون في الخيرات فإنهم مستمرون على الخير مسارعون في أنواعه وأفراده والتعبير عنهم بالموصول للإشارة بما في حيز صلته إلى مدار الحزن وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكفرة عن أن يحزنوه عليه الصلاة والسلام بمسارعتهم في الكفر لكنه في الحقيقة نهى له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاة بهم على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهى عنه بالطريق البرهاني وقلع له من أصله وقد يوجه النهي إلى المسبب ويزاد به النهي عن السبب كما في قوله لا أرينك ههنا يريد نهي مخاطبه عن الحضور بين يديه وقرئ لا يحزنك من أحزنه منقولا من حزن بكسر الزاء وقرئ يسرعون يقال أسرع فيه الشيب أي وقع فيه سريعا أي لا تحزن ولا تبال بتهافتهم في الكفر بسرعة وقوله تعالى «من الذين قالوا آمنا بأفواههم» بيان للمسارعين في الكفر وقيل متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يسارعون وقيل من الموصول أي كائنين من الذين الخ والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا وقوله تعالى «ولم تؤمن قلوبهم» جملة حالية من ضمير قالوا وقيل عطف على قالوا وقوله تعالى «ومن الذين هادوا» عطف على من الذين قالوا الخ وبه يتم بيان المسارعين في الكفر بتقسيمهم إلى قسمين المنافقين واليهود فقوله تعالى «سماعون للكذب» خبر لمبتدأ محذوف راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين وأما رجوعه إلى الذين هادوا فمخل بعموم
36

الوعيد الآتي ومباديه للكل كما ستقف عليه وكذا جعل قوله ومن الذين الخ خبرا على أن قوله سماعون صفة لمبتدأ محذوف أي ومنهم قوم سماعون الخ لأدائه إلى اختصاص ما عدد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم فالوجه ما ذكر أولا أي هم سماعون واللام إما لتقوية العمل وإما لتضمين السماع معنى القبول وإما لام كي والمفعول محذوف والمعنى هم مبالغون في سماع الكذب أو في قبول ما يفتريه أحبارهم من الكذب على الله سبحانه وتحريف كتابه أو سماعون أخباركم وأحاديثكم ليكذبوا عليكم بأن يمسخوها بالزيادة والنقص والتبديل والتغيير أو أخبار الناس وأقاويلهم الدائرة فيما بينهم ليكذبوا فيها بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسار سراياهم ونحو ذلك مما يضر بهم وأيا ما كان فالجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل للنهي فإن كونهم سماعين للكذب على الوجوه المذكورة وابتناء أمورهم على ما لا أصل له من الأباطيل والأراجيف مما يقتضي عدم المبالاة بهم وترك الاعتداد بما يأتون وما للقطع بظهور بطلان أكاذيبهم واختلال ما بنوا عليها من الأفاعيل الفاسدة المؤدية إلى الخزي والعذاب كما سيأتي وقرئ سماعين للكذب بالنصب على الذم وقوله تعالى «سماعون لقوم آخرين» خبر ثان للمبتدأ المقدر مقرر للأول ومبين لما هو المراد بالكذب على
الوجهين الأولين واللام مثل ما في سمع الله لمن حمده في الرجوع إلى معنى من أي قبل منه حمده والمعنى مبالغون في قبول كلام قوم آخرين وأما كونها لام التعليل بمعنى سماعون منه عليه الصلاة والسلام لأجل قوم آخرين وجهوهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه عليه الصلاة والسلام أو كونها متعلقة بالكذب على أن سماعون الثاني مكرر للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقوم آخرين فلا يكاد يساعده النظم الكريم أصلا وقوله تعالى «لم يأتوك» صفة أخرى لقوم أي لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبرا وإفراطا في البغضاء قيل هم يهود خيبر والسماعون بنو قريظة وقوله تعالى «يحرفون الكلم عن مواضعه» صفة أخرى لقوم وصفوا أولا بمغايرتهم للسماعين تنبيها على استقلالهم وأصالتهم في الرأي والتدبير ثم بعدم حضورهم مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام إيذانا بكمال طغيانهم في الضلال ثم باستمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم في العتو والمكابرة والاجتراء على الافتراء على الله تعالى وتعيينا للكذب الذي سمعه السماعون أي يميلونه ويزيلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها إما لفظا بإهماله أو تغيير وضعه وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده وقيل الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعية عليهم شنائعهم وقيل خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم وقوله تعالى «يقولون» كالجملة السابقة في الوجوه المذكورة ويجوز أن يكون حالا من ضمير يحرفون وأما تجويز كونها صفة لسماعون أو حالا من الضمير فيه فما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وأن مقول القول ناطق بأن قائله ممن لا يحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم والمخاطب به ممن يحضره فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه صلى الله عليه وسلم لمن لا يحوم حوله قطعا وادعاء قول السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر مخل بجزالة النظم الكريم والحق الذي لا محيد عنه أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم عند إلقائهم إليهم أقاويلهم الباطلة مشيرين إلى كلامهم الباطل «إن أوتيتم» من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم «هذا فخذوه» واعملوا بموجبه فإنه الحق «وإن لم تؤتوه» بل أوتيتم
37

غيره «فاحذروا» أي فاحذروا قبوله وإياكم وإياه في ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف من المبالغة في التحذير ما لا يخفى روي أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيين معهم فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال جبريل عليه السلام اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له فقال صلى الله عليه وسلم هل تعرفون شابا أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا قالوا نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى بن عمران في التوراة قال فأرسولوا إليه ففعلوا فأتاهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنت ابن صوريا قال نعم قال صلى الله عليه وسلم وأنت أعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال لهم أترضون به حكما قالوا نعم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى ورفع فوقكم الطور وأنزل عليكم التوراة فيها حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن قال نعم والذي ذكرتني به لولا خشيت أن يحرقني التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك ولكن كيف هي في كتابك يا محمد قال صلى الله عليه وسلم إذا شهد أربعة رهط عدول أن أدخل فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى فوثب عليه سفلة اليهود فقال خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول اله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب المسجد «ومن يرد الله فتنته» أي ضلالته أو فضيحته كائنا من كان فيندرج فيه المذكورون اندراجا أوليا وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بكمال ظهوره واستغنائه عن ذكره «فلن تملك له» فلن تستطيع له «من الله شيئا» في دفعها والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها ومبينة لعدم انفكاكهم عن القبائح المذكورة ابدا «أولئك» إشارة إلى المذكورين من المنافقين واليهود وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم» أي من رجس الكفر وخبث الضلالة لانهماكهم فيهما وإصرارهم عليهما وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية بالكلية كما ينبئ عنه وصفهم بالمسارعة في الكفر أولا وشرح فنون ضلالاتهم آخرا والجملة استئناف مبين لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم وقبح صنيعهم الموجب لها لا واقعة منه تعالى ابتداء «لهم في الدنيا خزي» أما المنافقون فخزيهم فضيحتهم وهتك سترتهم بظهور نفاقهم فيما بين المسلمين وأما خزي اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة وتنكير خزي للتفخيم وهو مبتدأ ولهم خبره وفي الدنيا متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار وكذا الحال في قوله تعالى «ولهم في الآخرة» أي من الخزي الدنيوي «عذاب أليم» هو الخلود في النار وضمير لهم في الجملتين للمنافقين واليهود جميعا لا اليهود خاصة كما قيل وتكرير لهم مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير والتأكيد والجملتان استئناف مبني على سؤال نشأ من تفصيل أفعالهم وأحوالهم الموجبة للعقاب كأنه قيل فما لهم من العقوبة فقيل لهم في الدنيا الآية
38

«سماعون للكذب» خبر آخر للمبتدأ المقدر كرر تأكيدا لما قبله وتمهيدا لما بعده من قوله تعالى «أكالون للسحت» وهو أيضا خبر آخر للمقدر وارد على طريقة الذم أو بناء على أن المراد بالكذب ما يفتعله الراشون عند الأكالين والسحت بضم السين وسكون الحاء في الأصل كل ما لا يحل كسبه وقيل هو الحرام مطلقا من سحته إذا استأصله سمى به لأنه مسحوت البركة والمراد به ههنا إما الرشا التي كان يأخذها المحرفون على تحريفهم وسائر أحكامهم الزائغة وهو المشهور أو ما كان يأخذه فقراؤهم من أغنيائهم من المال ليقيموا على اليهودية كما قيل وإما مطلق الحرام المنتظم لما ذكر انتظاما أوليا وقرئ للسحت بضم السين والحاء ووبفتحهما وبفتح السين وسكون الحاء وبكسر السين وسكون الحاء وعن النبي صلى الله عليه وسلم كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به «فإن جاؤوك» لما بين تفاصيل أمورهم الواهية وأحوالهم المختلفة الموجبة لعدم المبالاة بهم وبأفاعليهم حسبما أمر به صلى الله عليه وسلم خوطب صلى الله عليه وسلم ببعض ما يتبنى عليه من الأحكام بطريق التفريع والفاء فصيحة أي وإذا كان حالهم كما شرح فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات «فاحكم بينهم أو أعرض عنهم» غير مبال بهم ولا خائف من جهتهم أصلا وهذا كما
ترى تخيير له صلى الله عليه وسلم بين الأمرين فقيل هو في أمر خاص هو ما ذكر من زنا المحصن وقيل في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بنو قريظة إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد وإذا قتلوا منا قتيلا لم يرضوا بالقود وأعطونا سبعين وسقا من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا وبالرجل منهم الرجلين منه وبالعبد منهم الحر منا فاقض بيننا فجعل صلى الله عليه وسلم الدية سواء وقيل وهو عام في جميع الحكومات ثم اختلفوا فمن قائل إنه ثابت وهو المروي عن عطاء والنخعي والشعبي وقتادة وأبي بكر الأصم وأبي مسلم وقائل إنه منسوخ وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله وأن احكم بينهم بما أنزل الله وعليه مشايخنا «وإن تعرض عنهم» بيان لحال الأمرين إثر تخييره صلى الله عليه وسلم بينهما وتقديم حال الإعراض للمسارعة إلى بيان أن لا ضرر فيه حيث كان مظنة الضرر لما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه صلى الله عليه وسلم لا لطلب الأيسر والأهون عليهم فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق ذلك عليهم فتشتد عداوتهم ومضاراتهم له صلى الله عليه وسلم فأمنه الله عز وجل بقوله «فلن يضروك شيئا» من الضرر فإن الله عاصمك من الناس «وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط» بالعدل الذي أمرت به كما حكمت بالرجم «إن الله يحب المقسطين» ومن ضرورته أن يحفظهم عن كل مكروه ومحذور
39

«وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله» تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع وإنما طلبوا به ما هو أهون عليهم وإن لم يكن ذلك حكم الله على زعمهم فقوله تعالى وعندهم التوراة حال من فاعل يحكمونك وقوله تعالى فيها حكم الله حال من التوراة إن جعلت مرتفعة بالظرف وإن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن في الخبر وقيل استئناف مسوق لبيان أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم وتأنيثه لكونها نظيرة المؤنث في كلامهم كموماة ودوداة (ثم يتلون) عطف على يحكمونك داخل في حكم التعجيب وثم للتراخي في الرتبة وقوله تعالى «من بعد ذلك» أي بعدما حكموك تصريح بما علم قطعا لتأكيد الاستبعاد والتعجيب أي ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد ما رضوا بحكمك وقوله تعالى «وما أولئك بالمؤمنين» تذييل مقرر لفحوى ما قبله ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم للقصد إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماء إلى علة الحكم وإلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تمييز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في العتو والمكابرة أي وما أولئك الموصوفون بما ذكر بالمؤمنين أي بكتابهم لإعراضهم عنه أولا وعن حكمك الموافق له ثانيا أو بهما وقيل وما أولئك بالكاملين في الإيمان تهكما بهم «إنا أنزلنا التوراة» كلام مستأنف سيق لبيان علو شأن التوراة ووجوب مراعاة أحكامها وأنها لم تزل مرعية فيما بين الأنبياء ومن يقتدى بهم كابرا عن كابر مقبولة لكل أحد من الحكام والمتحاكمين محفوظة عن المخالفة والتبديل تحقيقا لما وصف به المحرفون من عدم إيمانهم بها وتقريرا لكفرهم وظلمهم وقوله تعالى «فيها هدى ونور» حال من التوراة فإن ما فيها من الشرائع والأحكام من حيث إرشادها للناس إلى الحق الذي لا محيد عنه هدى ومن حيث إظهارها وكشفها ما استبهم من الأحكام مي حيث إرشادها للناس إلى الحق الذي لا محيد عنه هدى ومن حيث إظهارها وكشفها ما استبهم من الأحكام وما يتعلق بها من الأمور المستورة بظلمات الجهل نور وقوله تعالى «يحكم بها النبيون» أي أنبياء بني إسرائيل وقيل موسى ومن بعده من الأنبياء جملة مستأنفة مبينة لرفعة رتبتها وسمو طبقتها وقد جوز كونه حالا من التوراة فيكون حالا مقدرة أي يحكمون بأحكامها ويحملون الناس عليها وبه تمسك من ذهب إلى أن شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم تنسخ وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا من الاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن في المؤخر وما يتعلق به نوع طول ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم وقوله
40

تعالى «الذين أسلموا» صف أجريت على النبيين على سبيل المدح دون التخصيص والتوضيح لكن لا للقصد إلى مدحهم بذلك حقيقة فإن النبوة أعظم من الإسلام قطعا فيكون وصفهم به بعد وصفهم بها تنزلا من الأعلى إلى الأدنى بل لتنويه شأن الصفة فإن إبراز وصف في معرض مد ح العظماء منبىء عن عظم قدر الوصف لا محالة كما في وصف الأنبياء بالصلاح ووصف الملائكة بالإيمان عليهم السلام ولذلك قيل أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف وفيه رفع لشأن المسلمين وتعريض باليهود وأنهم بمعزل من الإسلام والاقتداء بدين الأنبياء عليهم السلام لا سيما مع ملاحظة ما وصفوا به في قوله تعالى «للذين هادوا» وهو متعلق بيحكم أي يحكمون فيما بينهم واللام ما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم كأنه قيل لأجل الذين هادوا وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط النبعة عنه وإنا للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادهم له كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ففيه تعريض بالمحرفين وقيل التقدير للذين هادوا وعليهم فحذف ما حذف لدلالة ما ذكر عليه وقيل ما هو متعلق بأنزلنا وقيل بهدى ونور وفيه فصل بين المصدر ومعموله وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لهما ونور كائنان للذين هادوا «والربانيون والأحبار» أي الزهاد والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دجين اليهود وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الربانيون الذي يوسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره والأحبار هم الفقهاء واحده حبر بالفتح والكسر والثاني أفصح وهو رأي الفراء مأخوذ من الحبير والتحسين فإنهم يحبرون العلم ويزينونه ويبينونه وهو عطف على النبيون أي هم أيضا يحكمون بأحكامها وتوسيط المحكوم لهم بين المعطوفين للإيذان بأن الصل في الحكم بها وحمل الناس على ما فيها هم النبيون وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب لهم في ذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى «بما استحفظوا» أي بالذي استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على الإطلاق ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها وفي إبهامها أولا ثم بيانها ثانيا بقوله تعالى «من كتاب الله» من تفخيمها وإجلالها ذاتا وإضافة وتأكيد إيجاب حفظها والعمل بما فيها ما لا يخفى وإيرادها بعنوان الكتاب للإيماء إلى إيجاب حفظها عن التغيير من جهة الكتابة والباء الداخلة على الموصول متعلقة بيحكم لكن لا على أنها صلة له كالتي في قوله تعالى بها ليلزم تعلق حرفي جر متحدي المعنى بفعل واحد بل على أنها سببية أي ويحكم الربانيون والأحبار أيضا بسبب ما حفظوه من كتاب الله حسبما وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات بل من حيث كونه
محظوظا فإن تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب لا محالة على ما في حيز الصلة من الاستحفاظ له وقيل الباء صلة لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى يحكم بها النبيون عطف جملة على جملة أي ويحكم الربانيون والأحبار بحكم كتاب الله الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير «وكانوا عليه شهداء» أي رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه فتغيير الأسلوب لما ذكر من المزايا وقيل بما استحفظوا بدل من
41

قوله تعالى بها بإعادة العامل وهو بعيد وكذا تجويز كون الضمير في استحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا على أن الاستحفاظ من جناب الله عز وجل أي كلفهم الله تعالى أن يحفظوه ويكونوا عليه شهداء وقوله تعالى وتقدس «فلا تخشوا الناس» خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات وأما حكام المسلمين فيتناولهم النهي بطريق الدلالة دون العبارة والفاء لترتيب النهي على ما فصل من حال التوراة وكونها معنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام ومن يقتدى بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملا وحفظا فإن ذلك مما يوجب الاجتناب عن الإخلال بوظائف مراعاتها والمحافظة عليها بأي وجه كان فضلا عن التحريف والتغيير ولما كان مدار جراءتهم على ذلك خشية ذي سلطان أو رغبة في الحظوظ الدنيوية نهوا عن كل منهما صريحا أي إذا كان شأنها كما ذكر فلا تخشوا الناس كائنا من كان واقتدوا في مراعاة أحكامها بالتعرض لها بسوء «ولا تشتروا بآياتي» الاشتراء استبدال السلعة بالثمن أي أخذها بدلا منه لا بذل الثمن لتحصيلها كما قيل ثم استعير لأخذ شيء بدلا مما كان له عينا كان أو معنى أخذا منوطا بالرغبة فيما أخذ والإعراض عما أعطى ونبذكما فصل في تفسير قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فالمعنى لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تخرجوها منها أو تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم بدلا منها «ثمنا قليلا» من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها وإنما عبر عن المشتري الذي هو العمدة في عقود المعاوضة والمقصد الأصلي بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إلى تحصيله وأبرزت الآيات التي حقها أن يتنافس فيها المتنافسون في معرض الآلات والوسايط حيث قرنت بالباء التي تصحب الوسائل إيذنا بمبالغتهم في التعكيس بأن جعلوا المقصد الأقصى وسيلة والوسيلة الأدنى مقصدا «ومن لم يحكم بما أنزل الله» كائنا من كان دون المخاطبين خاصة فإنهم مندرجون فيه اندراجا أوليا أي من لم يحكم بذلك مستهينا به منكرا له كما يقتضيه ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاء بينا «فأولئك» إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها «هم الكافرون» لاستهانتهم به وهم إما ضمير الفصل أو مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر لأولئك وقد مر تفصيله في مطلع سورة البقرة والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير حيث علق فيه الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى فكيف وقد انضم إليه الحكم بخلافه لا سيما مع مباشرة ما نهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضعه وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا «وكتبنا» عطف على أنزلنا
42

التوراة «عليهم» أي على الذين هادوا وقرئ وأنزل الله على بني إسرائيل «فيها» أي في التوراة «أن النفس بالنفس» أن تقاد بها ذا قتلها بغير حق «والعين» تفقأ بالعي إذا فقئت بغير حق «والأنف» يجدع «بالأنف» المقطوع بغير حق «والأذن» تصلم «بالأذن» المقطوعة ظلما «والسن» تقلع «بالسن» المقلوعة بغير حق «والجروح قصاص» أي ذات قصاص إذا كانت بحيث تعرف المساواة وعن ابن عباس رضي تعالى عنهما أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت وقرئ وإن الجروح قصاص وقرئ العين إلى آخره بالرفع عطفا على محل أن النفس لأن المعنى كتبنا عليهم النفس بالنفس إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك النفس بالنفس مما يقع عليه الكتب كما يقع عليه القراءة تقول كتبت الحمد لله وقرأت سورة أنزلناها «فمن تصدق» أي من المستحقين «به» أي بالقصاص أي فما عفا عنه والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الترغيب فيه «فهو» أي التصدق «كفارة له» أي للمتصدق يكفر الله تعالى بها ذنوبه وقيل للجاني إذا تجاوزت عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه وقرئ فهو كفارته له أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء وهو تعظيم لكما فعل كقوله تعالى فأجره على الله «ومن لم يحكم» كائنا من كان فيتناول من لا يرى قتل الرجل بالمرأة من اليهود تناولا بينا «بما أنزل الله» من الأحكام والشرائع كائنا ما كان فيدخل فيها الأحكام المحكية دخولا أوليا «فأولئك هم الظالمون» المبالغون في الظلم المتعدون لحدوده تعالى الواضعون للشيء في غير موضعه والجملة تذييل مقرر لإيجاب العمل بالأحكام المذكورة «وقفينا على آثارهم» شروع في بيان أحكام الإنجيل إثر بيان أحكام التوراة وهو عطف على أنزلنا التوراة أي آثار البيين المذكورين يقال قفيته بفلان إذا أتبعته إياه فحذف المفعول لدلالة الجار والمجرور عليه أي قفيناهم «بعيسى ابن مريم» أي أرسلناه عقبهم «مصدقا لما بين يديه من التوراة» حال من عيسى عليه السلام «وآتيناه الإنجيل» عطف على قفينا وقرئ بفتح الهمزة «فيه هدى ونور» كما في التوراة وهو في محل النصب على أنه حال من الإنجيل أي كائنا فيه ذلك كأنه قيل مشتملا على هجى ونور وتنوين هدى ونور للتفخيم ويندرج في ذلك شواهد نبوته عليه السلام «ومصدقا لما بين يديه من التوراة» عطف عليه داخل في حكم الحالية وتكرير ما بين يديه من التوراة لزيادة التقرير «وهدى وموعظة للمتقين» عطف على مصدقا منتظم معه في سلك الحالية جعل كله هدى بعد ما جعل مشتملا عليه حيث قيل هدى وتخصيص كونه هدى وموعظة بالمتقين لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه «وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه» أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته عليه الصلاة
43

والسلام وشواهد نبوته وما قررته الشريعة الشريفة من أحكامه وما أحكامه المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله فيه بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة شهادة ينسخها وبأن احكامه ما قررته تلك الشريعة التي شهد بصحتها كما سيأتي في قوله تعالى يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل الآية وقيل هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على آتيناه أي وقلنا ليحكم أهل الإنجيل الخ وقرئ وأن ليحكم على أن أن موصولة بالأمر كما في قولك أمرته بأن قم كأنه قيل وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم أهل الإنجيل الخ وقرئ على صيغة المضارع ولام التعليل على أنها متعلقة بمقدر كأنه قيل وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه وإياه وقد عطف على هجى وموعظة على أنهما مفعول لهما كأنه قيل وللهدى والموعظة آتيناه إياه وللحكم
بما أنزل الله فيه «ومن لم يحكم بما أنزل الله» منكرا له مستهينا به «فأولئك هم الفاسقون» المتمردون الخارجون عن الإيمان والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكد لوجوب الامتثال بالآمر وفيه دلالة على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما في التوراة خاصة وحمله على معنى وليحكم بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر «وأنزلنا إليك الكتاب» أي الفرد الكامل الحقيقي بأن يسمى كتابا على الإطلاق لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماوي وتفوقه على بقية أفراده وهو القرآن الكريم فاللام للعهد والجملة عطف على أنزلنا وما عطف عليه وقوله تعالى «بالحق» متعلق بمحذوف وقع حالا مؤكدة من الكتاب أي ملتبسا بالحق والصدق وقيل من فاعل أنزلنا وقيل من الكاف في إليك وقوله تعالى «مصدقا لما بين يديه» حال من الكتاب أي حال كونه مصدقا لما تقدمه إما من حيث إنه نازل حسبما نعت فيه أو من حيث أنه موافق له في القصص والمواعيد والدعوة إلى الحق والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته له في بعض جزئيات الأحكام المتغيرة بسبب تغير الأعصار فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث إن كلا من تلك الأحكام حق بالإضافة إلى عصره متضمن للحكمة التي عليها يدور أمر الشريعة وليس في المتقدم دلالة على أبدية أحكامه المنسوخة حتى يخالفه الناسخ المتأخرون وإنما يدل على مشروعيتها مطلقا من غير تعرض لبقائها وزوالها بل نقول هو ناطق بزوالها لما أن النطق بصحة ما ينسخها نطق ينسخها وزوالها وقوله تعالى «من الكتاب» بيان لما واللام للجنس إذ المراد هو الكتاب السماوي وهو
44

بهذا العنوان جنس برأسه وإن كان في نفسه نوعا مخصوصا من مدلول لفظ الكتاب وعن هذا قالوا اللام للعهد إلا أن ذلك لا ينتهي إلى خصوصية الفردية بل إلى خصوصية النوعية التي هي أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر ومن الكتاب السماوي أيضا حيث خص بما عدا القرآن «ومهيمنا عليه» أي رقيبا على سائر الكتب المحفوظة من التغيير لأنه يشهد لها بالصحة والثبات ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة ببيان انتهاء مشروعيتها المستفادة من تلك الكتاب وانقضاء وقت العمل بها ولا ريب في أن تمييز أحكامها الباقية على المشروعية ابدا عما انتهى وقت مشروعيته وخرج عنها من أحكام كونه مهيمنا عليه وقرئ ومهيمنا عليه على صيغة المفعول أي هو من عليه وحوفظ من التغيير والتبديل كقوله عز وجل ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والحافظ إما من جهته تعالى كما في قوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون أو الحفاظ في الأعصار والأمصار والفاء في قوله تعالى «فاحكم بينهم» لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كون شأن القرآن العظيم حقا مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة على الأمم مهيمنا عليه من موجبات الحكم المأمور به أي إذا كان القرآن كما ذكر فاحكم بين أهل الكتابين عند تحاكمهم إليك «بما أنزل الله» أي بما أنزله إليك فإنه مشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية وتقديم بينهم للاعتناء ببيان تعميم الحكم لهم ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على علية ما في حين الصلة للحكم والالتفات بإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم «ولا تتبع أهواءهم» الزائغة «عما جاءك من الحق» الذي لا محيد عنه وعن متعلقه بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل ولا تعدل عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم وقيل بمحذوف وقع حالا من فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلا عما جاءك وفيه أن ما وقع حالا لا بد أن يكون فعلا عاما ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز الصلة من مجىء الحق إلى ما يوجب كمال الاجتناب عن اتباع الأهواء وقوله تعالى «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا» كلام مستأنف جيء به لحمل أهل الكتابين من معاصريه صلى الله عليه وسلم على الانقياد لحكمه بما أنزل إليه من القرآن الكريم ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره من الكتابين وإنما الذين كلفوا العمل بهما من مضي قبل نسخهما من الأمم السالفة والخطاب بطريق التلوين والالتفات للناس كافة لكن لا للموجودين خاصة بل للماضين أيضا بطريق التغليب واللام متعلقة بجعلنا المتعدي لواحد وهو إخبار بجعل ماض لا إنشاء وتقديمها عليه للتخصيص ومنكم متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين كل ولا ضير في توسط جعلنا بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات الخ والمعنى لكل أمة كائنة منكم أيها الأمم الباقية والخالية جعلنا أي عينا ووضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التي عينت لها فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام شرعتهم التوراة والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم شرعتهم الإنجيل وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم القرآن ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه والشرعة والشريعة هي الطريقة إلى الماء شبه بها الدين لكونه سبيلا موصولا إلى ما هو سبب للحياة الأبدية كما أن سبب للحياة الأبدية كما أن الماء سبب للحياة الفانية والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح
45

وقرئ شرعة بفتح الشين قيل فيه دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا والتحقيق أنا متعبدون بأحكامها الباقية من حيث أنها أحكام شرعتنا لا من حيث أنها شرعة للأولين «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة» متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير اختلاف بينكم وبين من قبلكم من الأمم في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل ومفعول المشيئة محذوف تعويلا على دلالة الجزاء عليه أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم الخ وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه «ولكن ليبلوكم» متعلق بمحذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يشأ ذلك أي لأن يجعلكم أمة واحدة بل شاء ما عليه السنة الإلهية الجارية فيما بين الأمم ليعاملكم معاملة من يبتليكم «في ما آتاكم» من الشرائع المختلفة المناسبة لأعصارها وقرونها هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن اختلافها بمقتضى المشيئة الإلهية المبنية على أساس الحكم البالغة والمصالح النافعة لكم في معاشكم ومعادكم أو تزيغون عن الحق وتتبعون الهوى وتستبدلون المضرة بالجدوى وتشترون الضلالة بالهدى وبهذا اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشا ومعادا كما ينبئ عنه قوله عز وجل «فاستبقوا الخيرات» أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهاز للفرصة وإحرازا لسابقة الفضل والتقدم ففيه من تأكيد الترغيب في الإذعان للحق وتشديد التحذير عن الزيغ ما لا يخفى وقوله تعالى «إلى الله مرجعكم» استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد وقوله تعالى «جميعا» حال من ضمير الخطاب والعامل فيه إما المصدر المنحل إلى حرف
مصدري وفعل مبني للفاعل أو مبني للمفعول وإما الاستقرار المقدر في الجار «فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون» أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل ما لا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا وإنما عبر عن ذلك بما ذكر لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإخبار «وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم» عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم بما فيه والتعرض لعنوان إنزاله تعالى غياه لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم وحكاية إنزال الأمر بهذا الحكم بعد ما مر من الأمر الصريح بذلك تأكيد له وتمهيد لما يعقبه من قوله تعالى «واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك» أي يصرفوك عن بعضه ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق وإظهار الاسم الجليل لتأكيد الأمر بتهويل الخطب وأن بصلته بدل اشتمال من ضميرهم أي احذر فتنتهم أو مفعول له أي
46

احذرهم مخافة أن يفتنوك وإعادة ما أنزل الله لتأكيد التحذير بتهويل الخطب روي أن أحبار اليهود قالوا اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا يا ابا القاسم قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا من اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بط ونصدقك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت «فإن تولوا» أي أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله تعالى وأرادوا غيره «فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم» أي بذنب توليهم عن حكم الله عز وجل وإنما عبر عنه بذلك إيذانا بأن لهم ذنوبا كثيرة هذا مع كمال عظمه واحد من جملتها وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي كما في قول لبيد أو يرتبط بعض النفوس حمامها يريد به نفسه أي نفسا كبيرة ونفسا أي نفس «وإن كثيرا من الناس لفاسقون» أي متمردين في الكفر مصرون عليه خارجون عن الحدود المعهودة وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قوله «أفحكم الجاهلية يبغون» إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي يتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجيب لأن التولي عن حكمه صلى الله عليه وسلم وطلب حكم آخر منكر عجيب وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب والمراد بالجاهلية إما الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام فيكون تعييرا لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي وإما أهل الجاهلية وحكمهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى حيث روى أن بني النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومه قتل وقعت بينهم وبين بني قريظة طلبوا إليه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل فقال صلى الله عليه وسلم القتلى سواء فقال بنو النضير نحن لا نرضى بذلك فنزلت وقرئ برفع الحكم على أنه مبتدأ ويبغون خبره والراجع محذوف حذفه في قوله تعالى أهذا الذي بعث الله رسولا وقد استضعف ذلك في غير الشعر وقرئ بقاء الخطاب إما بالالتفات لتشديد التوبيخ وإما بتقدير القول أي قل لهم أفحكم الخ وقرئ بفتح الحاء والكاف أي أفحاكما كحكام الجاهلية يبغون «ومن أحسن من الله حكما» إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكمه تعالى أو مساو له وإن كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها وقد مر تفصيله في تفسير قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله «لقوم يوقنون» أي عندهم واللام كما في هيت لك أي هذا الاستفهام لهم فإنهم الذين يتدبرون الأمور بأنظارهم فيعلمون يقينا ان حكم الله عز وجل أحسن الأحكام وأعد لها «يا أيها الذين آمنوا» خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم وإن كان سبب وروده بعضا منهم كما سيأتي
47

ووصفهم بعنوان الإيمان لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه بقوله عز وجل «لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء» فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتهما أي لا يتخذ أحد منكم أحدا منهم وليا بمعنى لا تصافوهم ولا تعاشروهم مصافاة الحباب ومعاشرتهم لا بمعنى لا تجعلوهم أولياء لكم حقيقة فإنه أمر ممتنع في نفسه لا يتعلق به النهي «بعضهم أولياء بعض» أي بعض كل فريق من ذينك الفريقين أولياء بعض آخر من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر وإنما أوثر الإجمال في البيان تعويلا على ظهور المراد لوضوح انتفاء الموالاة بين فريقي اليهود والنصارى رأسا والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي وتأكيد إيجاب الاجتناب عن المنهي عنه أي بعضهم أولياء بعض متفقون على كلمة واحدة في كل ما يأتون وما يذرون ومن ضرورته إجماع الكل على مضادتكم ومضارتكم بحيث يسومونكم السوء ويبغونكم الغوائل فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة وقوله تعالى «ومن يتولهم منكم فإنه منهم» حكم مستنتج منه فإن انحصار الموالاة فيما بينهم يستدعي كون من يواليهم منهم ضرورة أن الاتحاد في الدين الذي عليه يدور أمر الموالاة حيث لم يكن بكونهم ممن يواليهم من المؤمنين تعين أن يكون ذلك بكون من يواليهم منهم وفيه زجر شديد للمؤمنين عن إظهار صورة الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة وقوله تعالى «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» تعليل لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلالة وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تنبيها على أن توليهم ظلم لما أنه تعريض لأنفسهم للعذاب الخالد ووضع للشيء في غير موضعه وقوله تعالى «فترى الذين في قلوبهم مرض» بيان لكيفية توليهم وإشعار بسببه وبما يؤول إليه أمرهم والفاء للإيذان بترتبه على عدم الهداية والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين وإما لكل أحد ممن له أهلية له وفيه مزيد تشنيع للتشنيع أي لا يهديهم بل يذرهم وشأنهم فتراهم الخ وإنما وضع موضع الضمير الموصول ليشار بما في حيز صلته إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق ورخاوة العقد في الدين وقوله تعالى «يسارعون فيهم» حال من الموصول والرؤية بصرية وقيل مفعول ثان والرؤية قلبية والأول هو الأنسب بظهور نفاقهم أي تراهم مسارعين في موالاتهم وإنما قيل فيهم مبالغة في بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها وإيثار كلمة في على كلمة إلى الدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها كما في قوله تعالى أولئك يسارعون في الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها كما في قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة وقرئ فيرى بياء الغيبة على أن الضمير لله سبحانه وقيل لمن تصح منه الرؤية وقيل الفاعل هو الموصول والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية والرؤية قلبية أن ويرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت أن
48

انقلب الفعل مرفوعا كما في قول من قال ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى والمراد بهم عبد الله بن أبي وأضر به الذين كانوا يسارعون في موادة اليهود ونصارى نجران وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم صروف الزمان وذلك قوله تعلى «يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة» وهو حال من ضمير يسارعون والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها أي تدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دولة بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار وقيل يخشى أن يصيبنا مكروه من مكاره الدهر كالجدب والقحط فلا يعطونا الميرة والقرض روي أن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم وإني أبرأ إلى ى الله ورسوله من ولايتهم وأوالي الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي وهو يهود بني قينقاع ولعله يظهر للمؤمنين أنه يريد بالدوائر المعنى الأخير ويضمر في نفسه المعنى الأول وقوله تعالى «فعسى الله أن يأتي بالفتح» رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطع أطماعهم الفارغة وتبشير للمؤمنين بالظفر فإن عسى منه سبحانه وعد محتوم لما أن الكريم إذا أطمع أطعم لا محالة فما ظنك بأكرم الأكرمين وأن يأتي في محل النصب على أنه خبر عسى وهو رأي الأخفش أو على أنه مفعول به وهو رأي سيبويه لئلا يلزم الإخبار عن الجثة بالحدث كما في قولك عسى زيدا أن يقوم والمراد بالفتح فتح مكة قاله الكلبي والسدي وقال الضحاك فتح قرى اليهود من خيبر وفدك وقال قتادة ومقاتل هو القضاء الفصل بنصره صلى الله عليه وسلم على من خالفه وإعزاز الدين «أو أمر من عنده» بقطع شأفة اليهود من القتل والإجلاء «فيصبحوا» أي أولئك المنافقون المتعللون بما ذكر وهو عطف على يأتي يأتي داخل معه في حيز خبر عيسى وإن لم يكن فيه ضمير يعود إلى اسمها فإن فاء السببية مغنية عن ذلك فإنها تجعل الجملتين جملة واحدة «على ما أسروا في أنفسهم نادمين» وهو ما كانوا يكتمونه في أنفسهم من الكفر والشك في أمره صلى الله عليه وسلم وتعليق الندامة به لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفر لما أنه الذي كان يحملهم على الموالاة ويغريهم عليها فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها «ويقول الذين آمنوا» كلام مبتدأ مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة وقرئ بغير واو على أنه جواب سؤال نشأ مما سبق كأنه قيل فماذا يقول المؤمنون حينئذ و 5 قرىء ويقول بالنصب عطفا على يصبحوا وقيل على يأتي باعتبار المعنى كأنه قيل فعسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا والأول أوجه لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاهدتهم لخيبة رجائهم وانعكاس تقديرهم بوقوع ضد ما كانوا يترقبونه ويتعللون به تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم «أهؤلاء الذين
49

أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم»
أي بالنصرة والمعونة كما قالوا فيما حكي عنهم وإن قوتلتم لننصرنكم واسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبره والمعنى إنكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم في ذلك أو يقول بعض المؤمنين لبعض مشيرين إلى المنافقين أيضا أهؤلاء الذين أقسموا للكفرة إنهم لمعكم فالخطاب في معكم لليهود على التقديرين إلا أنه على الأول من جهة المؤمنين وعلى الثاني من جهة المقسمين وهذه الجملة لا محل لها من الإعراب لأنها تفسير وحكاية لمعنى اقسموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل إنا معكم وجهد الإيمان أغلظها وهو في الأصل مصدر ونصبه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يجهدون جهد أيمانهم فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ولا يبالي بتعريفه لفظا لأنه مؤول بنكرة أي مجتهدين في أيمانهم أو على المصدر أي أقسموا إقسام اجتهاد في اليمين وقوله تعالى «حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين» إما جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية والإقسام على المعية في المنشط والمكره إثر الإشارة إلى بطلانه بالاستفهام الإنكاري وإما خبر ثان للمبتدأ عند من يجوز كونه جملة كما في قوله تعالى فإذا هي حية تسعى أو هو الخبر والموصول مع ما في حيز صلته صفة لاسم الإشارة فالاستفهام حينئذ للتقرير وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم والمعنى بطلت أعمالهم التي عملوها في شأن موالاتكم وسعوا في ذلك سعيا بليغا حيث لم تكن لكم دولة فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحملوا من مكابدة المشاق وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين ما لا يخفى وقيل قاله بعض المؤمنين مخاطبا لبعض تعجبا من سوء حال المنافقين واغتباطا بما من الله تعالى على أنفسهم من التوفيق للإخلاص أهؤلاء الذين اقسموا لكم بإغلاظ الأيمان إنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار بطلت أعمالهم التي كانوا يكلفونها في رأي أعين الناس وأنت خبير بأن ذلك الكلام من المؤمنين إنما يليق بما لو أظهر المنافقون حينئذ خلاف ما كانوا يدعونه ويقسمون عليه من ولاية المؤمنين ومعاضدتهم على الكفار فظهر كذبهم وافتضحوا بذلك على رؤوس الأشهاد وبطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأس أعين لمؤمنين ولا ريب في أنهم يومئذ أشد ادعاء وأكثر إقساما منهم قبل ذلك فضلا عن أن يظهروا خلاف ذلك وإنما الذي يظهر منهم الندامة على ما صنعوا وليس ذلك علامة ظاهرة الدلالة على كفرهم وكذبهم في ادعائهم فإنهم يدعون أن ليست ندامتهم إلا على ما أظهروه من موالاة الكفرة خشية إصابة الدائرة «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه» وقرئ يرتدد بالفك على لغة الحجاز والإدغام لغة تميم لما نهى فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين وفصل مصير امر من يواليهم من المنافقين شرع في بيان حال المرتدين على الإطلاق وهذا من الكائنات التي أخبر
50

عنها القرآن قبل وقوعها روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة ثلاث في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك فأجاب عليه الصلاة والسلام من محمد رسول الله مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين فحاربه أبو بكر رضي الله
عنه بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه وكان يقول قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشأم فأسلم وحسن إسلامه وسبع في عهد أبي بكر رضي الله عنه فزاره قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة ابن عبد يا ليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوجت نفسها من مسيلمة الكذاب وفيها يقول أبو العلاء المعري في كتاب استغفر واستغفري
آمت سجاح ووالاها مسيلمة * كذابة في بني الدنيا وكذاب
وكندة قوم الأشعث بن قيس وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى بالله تعالى أمرهم على يد أبي بكر رضي الله عنه وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله عنه غسان قوم جبلة بن الأيهم نصرته اللطمة وسيرته إلى بلاد الروم وقصاه مشهورة وقوله تعالى «فسوف يأتي الله» جواب الشرط والعائد إلى اسم الشرط محذوف أي فسوف يأتي الله مكانهم بعد إهلاكهم «بقوم يحبهم» أي يريد بهم خيري الدنيا والآخرة ومحل الجملة الجر على أنها صفة لقوم وقوله تعالى «ويحبونه» أي يريدون طاعته ويتحرزون عن معاصيه معطوف عليها داخل في حكمها قيل أهم أهل اليمن لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال قوم هذا وقيل هم الأنصار رضي الله عنهم وقيل هم الفرس لما روي أنه عليه السلام سئل عنهم فضرب بيده الكريمة على عاتق سلمان رشي الله عنه وقال هذا وذووه ثم قال لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس وقيل هم ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وثلاثة آلاف من أفناء الناس جاهدوا يوم القادسية «أذلة على المؤمنين» جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل أي أرقاء رحماء متذللين ومتواضعين لهم واستعماله بعلى إما لتضمين معنى العطف والحنو أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم أو لرعاية المقابلة بينه وبين ما في قوله تعالى «أعزة على الكافرين» أي أشداء متغلبين عليهم من عزه إذا غلبه كمنا في قوله عز وعلا أشداء على الكفار رحماء بينهم وهما صفتان أخريان لقوم ترك بينها العاطف للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة من الجملة والظرف كما في قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك وقوله تعالى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وقوله تعالى
51

ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث وما ذهب إليه من لا يجوزه من أن قوله تعالى يحبهم ويحبونه كلام معترض وأن مبارك خبر بعد خبر أو خبر لمبتدأ محذوف وأن من ربهم ومن الرحمن حالان مقدمتان من ضمير محدث تكلف ولا يخفى وقرئ أذلة أعزة بالنصب على الحالية من قوم لتخصصه بالصفة «يجاهدون في سبيل الله» صفة أخرى لقوم مترتبة على ما قبلها مبنية مع ما بعدها لكيفية عزتهم أو حال من الضمير في أعزة «ولا يخافون لومة لائم» عطف على يجاهدون بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة في سبيل الله وبين التصلب في الدين وفيه تعريض بالمنافقين فإنهم كانوا إذا خرجوا في جيش المسلمين خافوا أولياءهم اليهود فلا يكادون يعملون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم وقيل هو حال من فاعل يجاهدون بمعنى أنهم يجاهدون وحالهم خلاف حال المنافقين واعتراض عليه بأنهم نصوا على أن المضارع المنفي بلا أو كالمثبت في عدم جواز مباشرة واو الحال له واللومة المرة من اللوم وفيها وفي تنكير لائم مبالغة لا تخفي «ذلك» إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف الجليلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعد منزلتها في الفضل «فضل الله» أي لطفه وإحسانه لا إنهم مستقلون في الاتصاف بها «يؤتيه من يشاء» إيتاءه إياه ويوقفه لكسبه وتحصيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة «والله واسع» كثير الفواضل والألطاف «عليم» مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها من هو أهل للفضل والتوفيق والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله وإظهار الاسم الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية «إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا» لما نهاهم الله عز وجل عن موالاة الكفرة وعلله بأن بعضهم أولياء بعض لا يتصور ولايتهم للمؤمنين وبين أن من يتولاهم يكون من جملتهم بين ههنا من هو وليهم بطريق قصر الولاية عليه كأنه قيل لا تتخذوهم أولياء لأن بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم إنما أوليائكم الله ورسوله والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة ولا تتخطوهم إلى غيرهم وإنما أفرد الولي مع تعدده للإيذان بأن الولاية أصالة لله تعالى وولايته عليه السلام وكذا ولاية المؤمنين بطريق التبعية لولايته عز وجل «الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة» صفة للذين آمنوا لجريانه مجرى الاسم أو بدل منه أو نصب على المدح أو رفع عليه «وهم راكعون» حال مع فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى وقيل هو حال مخصوصة بإيتاء الزكاة والركوع ركوع الصلاة والمراد بيان كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه وروي أنها نزلت في علي رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكع فطرح غليه خاتمه كأنه كان مرجا في خنصر غير محتاج في إخراجه إلى كثير عمل يؤدي إلى فساد الصلاة ولفظ الجمع حينئذ لترغيب الناس في مثل فعله رضي الله عنه وفيه دلالة على أن صدقه التطوع تسمى زكاة «ومن يتول
52

الله ورسوله والذين آمنوا» أوثر الإظهار على أن يقال ومن يتولهم رعاية لما مر من نكتة بيان أصالته تعالى في الولاية كما ينبئ عنه قوله تعالى «فإن حزب الله هم الغالبون» حيث أضيف الحزب إليه تعالى خاصة وهو أيضا من باب وضع الظاهر موضع الضمير العائد إلى من أي فإنهم الغالبون لكنهم جعلوا حزب الله تعالى تعظيما لهم وإثباتا لغلبتهم بالطريق البرهاني كأنه قيل ومن يتولى هؤلاء فإنهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا» روي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المؤمنين يوادونهما فنهوا عن موالاتهما ورتب النهي على وصف يعمهما وغيرهما تعميما للحكم وتنبيها على العلة وإيذانا بأن من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة «من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» بيان للمستهزئين والتعرض لعنوان إيتاء الكتاب لبيان كمال شناعتهم وغاية ضلالتهم لما أن إيتاء الكتاب وازع لهم عن الاستهزاء بالدين المؤسس على الكتاب المصدق لكتابهم «والكفار» اي المشركين خصوا به لتضاعف كفرهم وهو عطف على الموصول الأول ففيه إشعار بأنهم ليسوا بمستهزئين كما ينبئ عنه تخصيص الخطاب بأهل الكتاب في قوله تعالى يا أهل الكتاب هل تنقمون منا الآية وقرئ بالجر عطفا على الموصول الأخير ويعضده قراءة أبي ومن الكفار وقراءة عبد الله ومن الذين أشركوا فهم أيضا من جملة المستهزئين «أولياء» وجانبوهم كل
المجانبة «واتقوا الله» في ذلك بترك موالاتهم أو بترك المناهي على الإطلاق فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولا أوليا «إن كنتم مؤمنين» أي حقا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة «وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها» أي الصلاة أو المناداة ففيه دلالة على شرعية الأذان «هزوا ولعبا» بيان لاستهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد بيان استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهارا لكمال شقاوتهم روي أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله يقول أحرق الله الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطايرت منه شرارة في البيت فأحرقته وأهله جميعا «ذلك» اي الاستهزاء المذكور «بأنهم» بسبب أنهم «قوم لا يعقلون» فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزؤبه ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة «قل» أمر لرسول الله صد بطريق تلوين الخطاب بعد نهي المؤمنين عن تولي المستهزئين بأن يخاطبهم ويبين أن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر عنهم من الاستهزاء ويظهر
53

لهم سبب ما ارتكبوه ويلقمهم الحجر أي قل لأولئك الفجرة «يا أهل الكتاب» وصفوا بأهلية الكتاب تمهيدا بما سيأتي من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم «هل تنقمون منا» من نقم منه كذا إذا عابه وأنكره وكرهه ينقمه من حد ضرب وقرئ بفتح القاف من حد علم وهي أيضا لغة أي ما تعيبون وما تنكرون منا «إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا» من القرآن المجيد «وما أنزل من قبل» أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل المنزلين عليكم وسائر الكتب الإلهية «وأن أكثركم فاسقون» اي متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم للكفر بما يصدقه لا محالة وهو عطف على أن آمنا على أنه مفعول له لتنقمون والمفعول الذي هو الدين محذوف ثقة بدلالة ما قبله وما بعده عليه دلالة واضحة فإن اتخاذ الدين هزوا ولعبا عين نقمه وإنكاره والإيمان بما فصل عين الدين الذي نقموه خلا أنه أبرز في معرض علة نقمهم له تسجيلا عليهم بكمال المكابرة والتعكيس حيث جعلوه موجبا لنقمه مع كونه في نفسه موجبا لقبوله وارتضائه فالاستثناء من أعم العلل أي ما تنقمون منا ديننا لعلة من العلل إلا لأن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل من كتبكم ولأن أكثركم متمردون غير مؤمنين بواحد مما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به وإسناد الفسق إلى أكثرهم لأنهم الحاملون لأعقابهم على التمرد والعناد وقيل عطف عليه على أنه مفعول لتنقمون منا لكن لا على أن المستثنى مجموع المعطوفين بل هو ما يلزمهما من المخالفة كأنه قيل ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون عنه وقيل على حذف المضاد أي واعتقاد أن أكثركم فاسقون وقيل عطف على ما أي ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وبأنكم فاسقون وقيل عطف على علة محذوفة أي لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون وقيل الواو بمعنى مع أي ما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم الخ وقيل هو منصوب بفعل مقدر دل عليه المذكور أي لا تنقمون أن أكثركم فاسقون وقيل هو مرفوع على الابتداء والخبر محذوف أي وفسقكم معلوم أي ثابت والجملة حالية أو معترضة وقرئ بأن المكسورة المكسورة والجملة مستأنفة مبينة لكون أكثرهم فاسقين متمردين «قل هل أنبئكم بشر من ذلك» لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم ببيان أن مدار نقمهم للدين إنما هو اشتماله على ما يوجب ارتضاءه عندهم أيضا وكفرهم بما هو مسلم لهم أمر عليه الصلاة والسلام عقيبه بأن يبكتهم ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة ما هم عليه من الدين المحرف وينعى عليهم في ضمن البيان جناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها على منهاج التعريض لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد ويخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبين ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به والتنبئة المشعرة بكونه أمرا خطيرا لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر وحيث كان مناط النقم شرية المنقوم حقيقة أو اعتقاد وكان مجرد النقم غير مفيد
54

لشريته البتة قيل بشر من ذلك ولم يقل بأنقم من ذلك تحقيقا لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها وقيل إنما قيل لذلك وقوعه في عبارة المخاطبين حيث أتى نفر من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة السلام أو من بالله وما أنزل إلينا إلى قوله ونحن له مسلمون فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام قالوا لا نعلم شرا من دينكم وإنما اعتبر الشرية بالنسبة إلى الدين وهو منزه عن شائبة الشرية بالكلية مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شريته ليثبت أن دينهم شر من كل شر أي هل أخبركم بما هو شر في الحقيقة مما تعتقدونه شرا وإن كان في نفسه خيرا محضا «مثوبة عند الله» اي جزاء ثابتا في حكمه وقرئ مثوبة وهي لغة فيها كمشورة ومشورة وهي مختصة بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر وإنما وضعت ههنا موضعها على طريقة قوله تحية بينهم ضرب وجميع ونصبها على التمييز من بشر وقوله عز وجل «من لعنه الله وغضب عليه» خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله مناسب لما أشير إليه بكلمة ذلك أي دين من لعنة الخ أو بتقدير مضاف قبلها مناسب لمن أي بشر من أهل ذلك والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الجملة الاستفهامية إما على حالها وهو الظاهر المناسب لسياق النظم الكريم وإما باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل ما الذي هو شر من ذلك فقيل هو دين من لعنه الله الخ أو قيل في السؤال من ذا الذي هو شر من أهل ذلك فقيل هو من لعنه الله ووضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل أمر اللعن وما تبعه والموصول عبارة عن المخاطبين حيث أبعدهم الله تعالى من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسنوح البينات «وجعل منهم القردة والخنازير» أي مسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت وبعضهم خنازير وهم كفار مائدة عيسى عليه السلام وقيل كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في منهم باعتبار معناه كما أن إفراد الضميرين الأولين باعتبار لفظه وإيثار وضعه موضع ضمير الخطاب المناسب لأنبئكم للقصد إلى إثبات الشرية بما عدد في حين صلته من الأمور الهائلة الموجبة لها على الطريقة البرهانية مع ما فيه من الاحتراز عن تهييج لجاجهم «وعبد الطاغوت» عطف على صلة من وإفراد الضمير لما مر وكذا عبد الطاغوت على قراءة البناء للمفعول ورفع الطاغوت وكذا عبد الطاغوت بمعنى صار معبودا فالراجع إلى الموصول محذوف على القراءتين أي عبد فيهم أو بينهم وتقديم أوصافهم المذكورة بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع لها في الوجود وإن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت عين دينهم البين البطلان ودلالتها عليها بطريق الاستدلال بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشريته وفظاعته
ولا باتصافهم به وإما للإيذان باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرية ولو روعي ترتيب الوجود وقيل من عبد الطاغوت ولعنه الله وغضب عليه الخ لربما فهم أن علة الشرية هو المجموع وقد قرىء عابد الطاغوت وكذا عبد الطاغوت بالإضافة على أنه نعت كفطن ويقظ وكذا عبده الطاغوت وكذا عبد الطاغوت بالإضافة على أنه جمع عابد كخدم أو على أن أصله عبدة حذفت تاؤه للإضافة بالنصب في الكل عطفا على
55

االقردة والخنازير وقرئ عبد الطاغوت بالجر عطفا على من بناء على أنه مجرور بتقدير المضاف وقد قيل إن من مجرور على أنه بدل من شر على أحد الوجهين المذكورين في تقدير المضاف وأنت خبير بأن ذلك مع اقتضائه إخلاء النظم الكريم عن المزايا المذكورة بالمرة مما لا سبيل إليه قطعا ضرورة أن المقصود الأصلي ليس مضمون الجملة الاستفهامية بل هو كما مر مقدمة سيقت أمام المقصود لهزؤ المخاطبين وتوجيه أذهانهم تنحو تلقي ما يلقى إليهم عقيبها بجملة خبرية موافقة في الكيفية للسؤال الناشئ عنها وهو المقصود إفادته وعليه يدور ذلك الإلزام والتبكيت حسبما شرح فإذا جعل الموصول بما في حيز صلته من تتمة الجملة الاستفهامية فأين الذي يلقي إليهم عقيبها جوابا عما نشأ منها من السؤال ليحصل به الإلزام والتبكيت وأما الجملة الآنية فبمعزل من صلاحية الجواب كيف لا ولا بد من موافقته في الكيفية للسؤال الناشئ عن الجملة الاستفهامية وقد عرفت أن السؤال الناشئ عنها يستدعي وقوع الشر من تتمة المخبر عنه لا خبرا كما في الجملة المذكورة وسيتضح ذلك مزيد اتضاح بإذن الله تعالى والمراد بالطاغوت العجل وقيل هو الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله عز وجل فيعم الحكم دين النصارى أيضا ويتضح وجه تأخير ذكر عبادته عن العقوبات المذكورة إذ لو قدمت عليها لتوهم اشتراك الفريقين في تلك العقوبات ولما كان مآل ما ذكر بصدد التبكيت أن ما هو شر مما نقموه دينهم أو أن من هو شر من أهل ما نقموه أنفسهم بحسب ما قدر من المضافين وكانت الشرية على كلا الوجهين من تتمة الموضوع غير مقصودة الإثبات لدينهم أو لأنفسهم عقب ذلك بإثباتها لهم على وجه يشعر بعلية ما ذكر من القبائح لثبوتها لهم بجملة مستأنفة مسوقة من جهته سبحانه شهادة عليهم بكمال الشرارة والضلال أو داخله تحت الأمر تأكيدا للإلزام وتشديد للتبكيت فقيل «أولئك شر مكانا» فاسم الإشارة عبارة عمن ذكرت صفاتهم الخبيثة وما فيه من معنى البعيد للإيذان ببعد منزلتهم في الشرارة أي أولئك وقيل شر مكانا أي منصرفا «وأضل عن سواء السبيل» عطف على شر مقرر له أي أكثر ضلالا عن الطريق المستقيم وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لأن ما يسلكونه من الطريق دينهم فإذا كانوا أضل كان دينهم ضلالا بينا لا غاية وراءه وصيغة التفضيل في الموضعين للزيادة مطلقا لا بالإضافة إلى من يشاركهم في أصل الشرارة والضلال «وإذا جاؤوكم قالوا آمنا» نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهرون له الإيمان نفاقا فالخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والجمع للتعظيم أوله مع ما عنده من المسلمين أي إذا جاءوكم أظهروا الإسلام «وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به» أي يخرجون من عندك ملتبسين بالكفر كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك والجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعل دخلوا
56

وخرجوا وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالات أفادت أيضا بما فيها من معنى التوقع أن أمارات النفاق كانت لائحة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يظنه ويتوقع أن يظهره الله تعالى ولذلك قيل «والله أعلم بما كانوا يكتمون» أي من الكفر وفيه وعيد شديد لهم وترى خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والرؤية بصرية كثيرا منهم من اليهود والمنافقين وقوله تعالى «يسارعون في الإثم» حال من كثيرا وقيل مفعول ثان والرؤية قلبية والأول أنسب بحالهم وظهور نفاقهم والمسارعة المبادرة والمباشرة للشيء بسرعة وإيثار كلمة في على كلمة إلى الواقعة في قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة الخ لما ذكر في قوله تعالى فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم والمراد بالإثم الكذب على الإطلاق وقيل الحرام وقيل كلمة الشرك وقولهم عزير ابن الله وقيل هو ما يختص بهم من الآثام «والعدوان» أي الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في المعاصي «وأكلهم السحت» أي الحرام خصه بالذكر مع اندراجه في الإثم للمبالغة في التقبيح «لبئس ما كانوا يعملون» أي لبئس شيئا كانوا يعملونه والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار «لولا ينهاهم الربانيون والأحبار» قال الحسن الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة وقيل كلهم في اليهود وهو تحضيض للذين يقتدى بهم أفناؤهم ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهي أسافلهم عن ذلك مع توبيخ لهم على تركه «عن قولهم الإثم وأكلهم السحت» مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما «لبئس ما كانوا يصنعون» وهذا أبلغ مما قيل في حق عامتهم لما أن العمل لا يبلغ درجة الصنع ما لم يتدرب فيه صاحبه ولم يحصل فيه مهارة تامة ولذلك ذم به خواصهم ولأن ترك الحسنة أقبح من مواقعه المعصية لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ ذم وفيه مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ما لا يخفى وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما أشد آية في القرآن وعن الضحاك ما في القرآن آية خوف عندي منها «وقالت اليهود» قال ابن عباس وعكرمة والضحاك إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس
57

مالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله سبحانه بأن كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف عنهم ما بسط عليهم فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء «يد الله مغلولة» وحيث لم ينكر عليه الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا وإنما القاتل واحد منهم وأرادوا بذلك لعنهم الله أنه تعالى ممسك يقتر بالرزق فإن كلا من غل اليد وبسطها مجاز عن محض البخل والجود من غير قصد في ذلك إلى إثبات يد وغل أو بسط ألا يرى أنهم يستعملونه حيث لا يتصور فيه ذلك كما في قوله
جاد الحمى بسط اليدين بوابل * شكرت نداه تلاعه ووهاده
وقد سلك لبيد هذا المسلك السديد حيث قال
وغداة ريح قد شهدت وقره * غذ أصبحت بيد السمال زمامها
فإنه إنما أراد بذلك إثبات القدرة التامة للشمال على التصرف في القرة كيفما تشاء على طريقة المجاز من غير أن يخطر بباله أن يثبت لها يدا ولا للقرة زماما واصله كناية فيمن يجوز عليه إرادة المعنى الحقيقي كما مر في قوله تعالى ولا ينظر إليهم يوم القيامة في سورة آل عمران وقيل أرادوا ما حكى عنهم بقوله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء «غلت أيديهم» دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكنة أو بالفقر والنكد أو بغل الأيدي حقيقة بأن يكونوا أساري مغلولين في الدنيا ويسحبوا إلى النار بأغلالها في الآخرة فتكون المطابقة حينئذ من حيث اللفظ وملاحظة المعنى الأصلي كما في سبني سب الله دابره «ولعنوا» عطف على الدعاء الأول أي ابعدوا من رحمة الله تعالى «بما قالوا» أي بسبب ما قالوا من الكلمة الشنعاء وقيل كلاهما خبر «بل يداه مبسوطتان» عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا ليس كذلك بل هو في غاية ما يكون من الجود وإليه أشير بتثنية اليد فإن أقصى ما ينتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا ما يعطونه بكلتا يديهم وقيل التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة وقيل على إعطائه إكراما وعلى إعطائه استدراجا «ينفق كيف يشاء» جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده وللتنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على تلك الكفرة العظيمة والمعنى والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيق عليهم كما يشير إليه ما سيأتي من قوله عز وجل ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل الآية وكيف ظرف ليشاء والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير ينفق أي ينفق كائنا على أي حال يشاء أي كائنا على مشيئته أي مريدا وترك ذكر ما ينفقه لقصد التعميم «وليزيدن كثيرا منهم» وهم علماؤهم ورؤساهم «ما أنزل إليك» من القرآن المشتمل على هذه الآيات وتقديم المفعول للاعتناء به وتخصيص الكثير منهم بهذا الحكم لما أن بعضهم ليس كذلك «من ربك» متعلق بأنزل كما أن إليك كذلك وتأخيره عنه مع أن حق المبدأ أن يتقدم على المنتهي لاقتضاء المقام الاهتمام ببيان المنتهي لأن مدار الزيادة هو النزول إليه عليه السلام كما في قوله تعالى وأنزل لكم من السماء ماء والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتشريفه عليه السلام «طغيانا وكفرا» مفعول ثان للزيادة أي ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين إما من حيث الشدة والغلو وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار
58

كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرضى مرضا «وألقينا بينهم» أي بين اليهود فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية وبعضهم مرجئة وبعضهم مشبهة «العداوة والبغضاء» فلا يكاد تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم والجملة مبتدأ مسوقة لإزاحة ما عسى يتوهم من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين قيل العداوة والبغضاء أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض بلا عكس كلي «إلى يوم القيامة» متعلق بألقينا وقيل بالبغضاء «كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله» تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين أي كلما أرادوا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ورتبوا مباديها وركبوا في ذلك متن كل صعب وذلول ردهم الله تعالى وقهرهم أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بخت نصر ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وللحرب إما صل لأوقدوا أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنار أي كائنة للحرب «ويسعون في الأرض فسادا» أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب وفسادا إما مفعول له أو في موقع المصدر أي يسعون للفساد أو يسعون سعي فساد «والله لا يحب المفسدين» ولذلك أطفأ ثائرة إفسادهم واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وإما للعهد ووضع المظهر مقام الضمير للتعليل وبيان كونهم راسخين في الإفساد «ولو أن أهل الكتاب» أي اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس المنتظم للتوراة والإنجيل وإنما ذكروا بذلك العنوان تأكيدا للتشنيع فإن أهلية الكتاب توجب إيمانهم به وإقامتهم له لا محالة فكفرهم به وعدم إقامتهم له وهم أهله أقبح من كل قبيح وأشنع من كل شنيع فمفعول قوله تعالى «آمنوا» محذوف ثقة بظهوره مما سبق من قوله تعالى هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما انزل من قبل وأن أكثركم فاسقون وما لحق من قوله تعالى ولو أنهم أقاموا التوراة الخ أي ولو أنهم مع صدور ما صدر عنهم من فنون الجنايات قولا وفعلا آمنوا بما نفي عنهم الإيمان به فيندرج فيه فرض إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وأما إرادة إيمانهم به صلى الله عليه وسلم خاصة فيأباها المقام لأن ما ذكر فيما سبق وما لحق من كفرهم به صلى الله عليه وسلم إنما ذكر مشفوعا بكفرهم بكتابهم أيضا قصدا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلى الله عليه وسلم مستلزم الكفر بكتابهم فحمل الإيمان ههنا على الإيمان به صلى الله عليه وسلم خاصة مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم «واتقوا» ما عددنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفة كتابهم «لكفرنا عنهم سيئاتهم» التي اقترفوها وإن كانت في غاية العظم ونهاية الكثرة ولم تؤاخذهم بها «ولأدخلناهم» مع ذلك «جنات النعيم» وتكرير اللام لتأكيد الوعد وفيه تنبيه على كمال عظم ذنوبهم وكثرة معاصيهم وأن الإسلام يجب ما قبله من السيئات وإن جلت وجاوزت كل حد معهود «ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل» بمراعاة
59

ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ومبشرات بعثته فإن إقامتهما إنما تكون بلك لا بمراعاة جميع ما فيهما من الأحكام لانتساخ بعضها بنزول القرآن فليست مراعاة الكل من إقامتهما في شيء «وما أنزل إليهم من ربهم» من القرآن المجيد المصدق لكتبهم وإيراده بهذا العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل وتقديم إليهم لما مر من قبل وفي إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة وقيل المراد بما أنزل إليهم كتب أنبياء بني إسرائيل مثل كتاب شعياء وكتاب حيقوق وكتاب دانيال فإنها مملوءة بالبشارة بمبعثه صلى الله عليه وسلم «لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم» أي لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات السماء والأرض أو بأن يكثر ثمرات الأشجار وغلال الزروع أو بأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنوا ما تهدل منها من رؤوس الأشجار ويلتقطوا ما تساقط منها على الأرض وقيل المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين كأنه قيل لأكلوا من كل جهة ومفعول أكلوا محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قوله فلان يعطي ويمنع ومن في الموضعين لابتداء الغاية في هاتين
الشرطيتين من حثهم على ما ذكر من الإيمان والتقوى والإقامة بالوعد بنيل سعادة الدارين وزجرهم عن الإخلال بما ذكر ببيان إفضائه إلى الحرمان عنها وتنبيههم على أن ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض ما لا يخفى «منهم أمة مقتصدة» جملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الجملتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء وإقامة الكتب المنزلة من أهل الكتاب كأنه قيل هل كلهم كذلك مصرون على عدم الإيمان الخ فقيل منهم أمة مقتصدة إما على أن منهم مبتدأ باعتبار مضمونه أي بعضهم أمة وإما بتقدير الموصوف أي بعض كائن منهم كما مر في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله الآية أي طائفة معتدلة وهم المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه وثمانية وأربعون من النصارى وقيل طائفة حالهم أمم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم «وكثير منهم» مبتدأ لتخصصه بالصفة خبره «ساء ما يعملون» أي مقول في حقهم هذا القول أي بئسما يعملون وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه والإفراط في العداوة وهم الأجلاف المتعصبون ككعب من الأشرف وأشباهه والروم «يا أيها الرسول» نودي صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة تشريفا له وإيذانا بأنها موجبات الإتيان بما أمر به من تبليغ ما أوحي إليه «بلغ ما أنزل إليك» أي جميع ما انزل إليك من الأحكام وما يتعلق بها كائنا ما كان وفي قوله تعالى «من ربك» أي مالك أمورك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك عدة ضمنية بحفظه صلى الله عليه وسلم وكلاءته أي بلغه غير مراقب في ذلك أحد ولا خائف أن ينالك مكروه أبدا «وإن لم تفعل» ما أمرت به من تبليغ الجميع بالمعنى المذكور كما ينبئ عنه قوله تعالى «فما بلغت رسالته» فإن ما لا تتعلق به الأحكام
60

المائدة آية 68
أصلا من الأسرار الخفية ليست مما يقصد تبليغه إلى الناس أي فما بلغت شيئا من رسالته وانسلخت مما شرفت به من عنوان الرسالة بالمرة لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها لذلك في حكم شيء واحد ولا ريب في أن الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به ولأن كتمان بعضها إضاعة لما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض بذلك وقيل فكأنك ما بلغت شيئا منها كقوله تعالى فكأنما قتل الناس جميعا من حيث أن كتمان البعض والكل سواء في الشناعة واستجلاب العقاب وقرئ فما بلغت رسالاتي وعن ابن عباس رشي الله عنهما إن كتمت آية لم تبلغ رسالاتي وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعا فأوحى الله إلي إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت وذلك قوله تعالى «والله يعصمك من الناس» فإنه كما ترى عدة كريمة بعصمته من لحوق ضررهم بروحه العزيز باعثة له صلى الله عليه وسلم على الجد في تحقيق ما أمر به من التبليغ غير مكترث بعداوتهم وكيدهم وعن أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدم فقال انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس وقوله تعالى «إن الله لا يهدي القوم الكافرين» تعليل لعصمته تعالى له صلى الله عليه وسلم أي لا يمكنهم مما يريدون بك من الأضرار وإيراد الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها ويشق على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتهم بها وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالتهم ولذلك أعيد الأمر فقيل «قل يا أهل الكتاب» مخاطبا للفريقين «لستم على شيء» أي دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئا لظهور بطلانه ووضوح فساده وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه «حتى تقيموا التوراة والإنجيل» اي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته فإن إقامتهما إنما تكون بذلك وأما مراعاة أحكامهما المنسوخة فليست من إقامتهما في شيء بل هي تعطيل لهما ورد لشهادتهما لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادة بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما وأن أحكامهما ما قرره النبي الذي بشر فيهما ببعثته وذكر في تضاعيفهما نعوته فإذن إقامتهما بيان شواهد النبوة والعمل بما قررته الشريعة من الأحكام كما يفصح عنه قوله تعالى «وما أنزل إليكم من ربكم» اي القرآن المجيد بالإيمان به فإن إقامة الجميع لا تتأتى بغير ذلك وتقديم إقامة الكتابين على إقامته مع أنها المقصودة بالذات لرعاية حق الشهادة واستنزالهم عن رتبة الشقاق وإيراده بعنوان الإنزال إليهم لما مر من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به كما لا يزعمون من اختصاصه بالعرب وفي إضافة الرب إلى ضميرهم ما أشير إليه من اللطف في الدعوة وقيل المراد بما
61

أنزل إليهم كتب أنبياء بني إسرائيل كما مر وقيل الكتب الإلهية فإنها بأسرها آمرة بالإيمان لمن صدقته المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن جماعة من اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألست تقرأ أن التوراة حق من عند الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم بلى فقالوا فإنا مؤمنون بها ولا نؤمن بغيرها فنزلت وقوله تعالى «وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا» جملة مستأنفة مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعا وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولها والمراد بالكثير المذكور علماؤهم ورؤساؤهم ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة «فلا تأس على القوم الكافرين» أي لا تتأسف ولا تحزن عليهم لإفراطهم في الطغيان والكفر بما تبلغه إليهم فإن غائلته آيلة إليهم وتبعته حائقة بهم لا تتخطاهم وفي المؤمنين مندوحة لك عنهم ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر «إن الذين آمنوا» كلام مستأنف مسوق لترغيب من عدا المذكورين في الإيمان والعمل الصالح أي الذين آمنوا بألسنتهم فقد وهم المنافقون وقيل أعم من أن يواطئها قلوبهم أولا «والذين هادوا» أي دخلوا في اليهودية «والصابئون والنصارى» جمع نصران وقد مر تفصيله في سورة البقرة وقوله تعالى الصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخر عما في حيز إن والتقدير إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كيت وكيت والصابئون كذلك كقوله فإني وقيار بها لغريب وقوله وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق خلا أنه وسط بين اسم إن وخبرها دلالة على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها حيث قبلت توبتهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فغيرهم أولى بذلك وقيل الجملة الآتية خبر للمبتدأ المذكور وخبر إن مقدر كما في قوله نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وقيل النصارى مرفوع على الابتداء
وقوله تعالى والصابئون عطفا عليه وهو مع خبره عطف على الجملة المصدرة بأن ولا مساغ لعطفه وحده على محل إن واسمها لاشتراط ذلك بالفراغ عن الخبر وإلا لارتفع الخبر بأن والابتداء معا واعتذر عنه بأن ذلك إذا كان المذكور خبرا لهما وأما إذا كان خبر المعطوف محذوفا فلا محذور فيه ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل ولاستلزامه كون الصابئين هودا وقرئ والصابيون بيان صريحة وبتخفيف الهمزة وقرئ والصابون وهو من صبا يصبوا لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم وقرئ والصابئين وقرئ يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون وقوله تعالى «من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا» إما في محل الرفع على أنه مبتدأ خبره «فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما في صلته باعتبار لفظه والجملة
62

خبر إن والعائد إلى اسمها محذوف أي من آمن منهم وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم إن وما عطف عليه والخبر قوله تعالى فلا خوف والفاء كما في قوله عز وعلا إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم الآية فالمعنى على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المنافقين وهو الأظهر من أحدث من هذه الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإن ذلك بمعزل من أن يكون إيمانا بهما وعمل عملا صالحا حسبما يقتضيه الإيمان بهما فلا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب ولا هم يحزنون حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما مر مرارا لأن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا مطلق المتدينين بدين الإسلام المخلصين منهم والمنافقين فالمراد بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواء كان بطريق الثبات والدوام عليه كما هو شأن المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كما هو حال من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف وفائدة التعميم للمخلصين المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام وأما ما قيل المعنى من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه فمما لا سبيل إليه أصلا كما مر تفصيله في سورة البقرة «لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل» كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم أي بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة «وأرسلنا إليهم رسلا» ذوي عدد كثير وأولي شأن خطير ليقررهم على مرعاة حقوق الميثاق ويطلعوهم على ما يأتون ويذرون في دينهم ويتعهدوهم بالعظة والذكير وقوله تعالى «كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم» جملة شرطية مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الأخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل وجواب الشرط محذوف كأنه قيل فماذا فعلوا بالرسل فقيل كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم المنهمكة في الغنى والفساد من الأحكام الحقة والشرائع عصوه وعادوه وقوله تعالى «فريقا كذبوا وفريقا يقتلون» جواب مستأنف عن استفسار كيفية ما أظهروه من آثار المخالفة المفهومة من الشرطية على طريقة الإجمال كأنه قيل كيف فعلوا بهم فقيل فريقا منهم كذبوهم من غير أن يتعرضوا لهم بشيء آخر من المضار وفريقا آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم أيضا وإنما أوثر عليه صيغة المضارع على حكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها الهائلة للتعجيب منها وللتنبيه على أن ذلك ديدنهم المستمر وللمحافظة على رؤوس الآي الكريمة وتقديم فريقا في الموضعين للاهتمام به وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر هذا وأما
63

جعل الشرطية صفة لرسلا كما ذهب إليه الجمهور فلا يساعده المقام أصلا ضرورة أن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم وتجعل عنوانا للموصوف تتمة له في إثبات أمر آخر له ولذلك يجب أن يكون الوصف معلوم الانتساب إلى الموصوف عند السامع قبل جعله وصفا له ومن ههنا قالوا إن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف ولا ريب في أن ما سيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من رسل الله تعالى عرضة للقتل أو التكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكله لا بيان أنه تعالى أرسل إليهم رسلا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها صفة «وحسبوا ألا تكون فتنة» أي حسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى بما أتوا من الداهية الدهياء والخطة الشنعاء بلاء وعذاب وقرئ لا تكون بالرفع على أن أن هي المخففة من أن واسمها ضمير الشأن المحذوف وأصله أنه لا تكون فتنة وتعليق فعل الحسبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته وأن بما في حيزها ساد مسد مفعوليه «فعموا» عطف على حسبوا والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا في فنون الغي والفساد وعموا عن الدين بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة ويبنوا لهم مناهجه الواضحة «وصموا» عن استماع الحق الذي ألقوه عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي إفساد بني إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعياء وقيل حبسوا أرمياء عليهما السلام لا إلى عبادتهم العجل كما قيل فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى عليه السلام ولا تعلق لها بما حكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءهم بعده عليه السلام بأعصار «ثم تاب الله عليهم» حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بخت نصر أسارى في غاية الذل والمهانة فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس ليعمره ونجى بقايا بني إسرائيل من أسر بخت نصر بعد مهلكة وردهم إلى وطنهم وتراجع من تفرق منهم في الأكتاف فعمروه ثلاثين سنة فكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه وقيل لما ورث بهمن ابن اسفنديار الملك من جده كستاسف ألقى الله عز وجل في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملك عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بخت نصر فقامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال وذلك قوله تعالى ثم رددنا لكم الكره عليهم وأما ما قيل من أن المراد قبول توبتهم عن عبادة العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلق له بالمقام ولم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى «ثم عموا وصموا» وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لما عرفت سره فإن فنون
64

الجنايات الصادرة عنهم لا تكاد تتناهى خلا أن انحصار ما حكي عنهم ههنا في المرتين وترتبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام يقضي بأن المراد ما ذكرناه والله عنده علم الكتاب وقرئ عموا وصموا بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم كما يقال نزكته إذا ضربته بالنيزك وركبته إذا ضربته بركبتك وقوله تعالى «كثير منهم» بدل من الضمير في الفعلين وقيل خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم «والله بصير بما يعملون» اي بما عملوا وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة ورعاية للفواصل والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفى بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل والمعنى حسبوا أن لا يصيبهم عذاب ففعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة المستوجبة لأشد العقوبات والله بصير بتفاصيلها فكيف لا يؤاخذهم بها ومن اين لهم ذلك الحسبان الباطل ولقد وقع ذلك في المرة الأولى حيث سلط الله تعالى بخت نصر عامل لهراسب على بابل وقيل جالوت الجزري وقيل سنجاريب من أهل نينوى والأول هو الأظهر فاستولى على بيت المقدس فقتل من أهله أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرضه فبقوا هناك على أقصى ما يكون من الذل والنكد إلى أن أحدثوا توبة صحيحة فردهم الله عز وجل إلى ما حكي عنهم من حسن الحال ثم عادوا إلى المرة الآخرة من الإفساد فبعث الله تعالى عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه خيدرود وقيل خيدروس ففعل بهم ما فعل قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال ما صدقوني فقتل عليه ألوفا منهم ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا فقالوا إنه دم يحيى عليه السلام فقال بمثل هذا ينتقم الله تعالى منكم ثم قال يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ باذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم فهدأ «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم» شروع في تفصيل قبائح النصارى وإبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء هم الذين قالوا إن مريم ولدت إلها قيل هم الملكانية والمار يعقوبية منهم وقيل هم اليعقوبية خاصة قالوا ومعنى هذا أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذاته تعالى عن ذلك علوا كبيرا «وقال المسيح» حال من فاعل قالوا بتقدير قد مفيده لمزيد تقبيح حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارهم عما اصروا عليه بما أوعدهم به أي قالوا ذلك وقد قال المسيح مخاطبا لهم «يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم» فإني عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم «أنه» اي الشأن «من يشرك بالله» اي شيئا في عبادته أو فيما يختص به من صفات الألوهية «فقد حرم الله عليه الجنة» فلن يدخلها أبدا كما لا يصل المحرم عليه إلى
65

المحرم فإنها دار الموحدين وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتهويل الأمر وتربية المهابة «ومأواه النار» فإنها هي المعدة للمشركين وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب غثر بيان حرمانهم الثواب «وما للظالمين من أنصار» اي مالهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا ووضعه على الأول موضع الضمير للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق والجملة تذييل مقرر لما قبله وهو إما من تمام كلام عيسى عليه السلام وإما وارد من جهته تعالى لمقالته عليه السلام وتقريرا لمضمونها وقد قيل إنه من كلامه عز وجل على معنى أنهم ظلموا وعجلوا عن سبيل الحق فيما تقولوا على عيسى عليه السلام فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم ورده أنكره وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره أو من قول عيسى عليه السلام على معنى لا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول وأنت خبير بأن التعبير عما حكي عنه عليه السلام من مقابلته لقولهم الباطل بصريح الرد والإنكار والوعيد بحرمان الجنة ودخول النار بمجرد عدم مساعدته على ذلك ونفى نصرته له مع خلوه عن الفائدة تصوير للقوي ل = بصورة الضعيف وتهوين للخطب من مقام تهويله بل ربما يوهم ذلك بحسب الظاهر ما لا يليق بشأنه عليه السلام من توهم المساعدة والنصرة لا سيما مع ملاحظة قوله وإن كانوا معظمين له الخ إلا أن يحمل الكلام على التهكم بهم كذا وكذا الحال على تقدير كونه من تمام كلامه عليه السلام فإن زجره عليه السلام إياهم عن قولهم الفاسد بما ذكره من عدم الناصر والمساعد بعد زجره إياهم بما مر من الرد الأكيد والوعيد الشديد بمعزل من الإفادة والتأثير ولا سبيل ههنا إلا الاعتذار بالتهكم «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة» شروع في بيان كفر طائفة أخرة منهم ومعنى قوله ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقا لا الثالث والرابع خاصة ولذلك منع الجمهور أن ينصب ما بعده بأن يقال ثالث ثلاثة ورابع أربعة وغنما ينصبه إذا كان ما بعده دونه بمرتبة كما في قولك عشر تسعة وتاسع ثمانية قيل إنهم يقولون إن الإلهية مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وعيسى ومريم وكل واحد من هؤلاء إله ويؤكده قوله تعالى للمسيح أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فقوله تعالى ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثة آلهة وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى «وما من إله إلا إله واحد» أي والحال أنه ليس في الوجود ذات واجب مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأ جميع الموجودات إلا إله موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة ومن مزيدة للاستغراق وقيل إنهم يقولون الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وإنهم يريدون بالأول الذات وقيل
66

الوجود وبالثاني العلم وبالثالث الحياة فمعنى قوله تعالى وما من إله إلا إله واحد إلا إله واحد بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه «وإن لم ينتهوا عما يقولون» من الكفر الشنيع ولم يوحدوا وقوله تعالى «ليمسن الذين كفروا» جواب قسم محذوف ساد مسد جواب الشرط أي وبالله إن لم ينتهوا ليمسنهم وإنما وضع موضع ضميرهم الموصول لتكرير الشهادة عليهم بالكفر فمن في قوله تعالى «منهم» بيانية أو ليمسن الذين بقوا منهم على ما كانوا عليه من الكفر فمن تبعيضية وإنما جئ بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيها على أن الاستمرار عليه بعد ورود ما ينحى عليه بالقلع من نص عيسى عليه السلام وغيره وكفر جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر «عذاب أليم» أي نوع شديد الألم من العذاب وهمزة الاستفهام في قوله تعالى «أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه» لإنكار الواقع واستبعاده لا لإنكار الوقوع وفيه تعجيب من إصرارهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقاويل الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول فمدار الإنكار والتعجيب عدم الانتهاء وعدم التوبة معا أو أيسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك
فمدارهما عدم التوبة عقيب تحقق ما يوجبها من سماع تلك لقوراع الهائلة وقوله عز وجل «والله غفور رحيم» جملة حالية من فاعل يستغفرونه مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار أي والحال أنه تعالى مبالغ في المغفرة فيغفر لهم عند استغفارهم ويمنحهم من فضله «ما المسيح ابن مريم إلا رسول» استئناف مسوق لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه وبيان حقيقة حاله عليه السلام وحال أمه بالإشارة أولا إلى أشرف ما لهما من نعوت الكمال التي بها صارا من زمرة أكمل أفراد الجنس وآخرا إلى الوصف المشترك بينهما وبين جميع أفراد البشر بل أفراد الحيوان استنزالهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار على ما تقولوا عليهما وإرشادا لهم إلى التوبة والاستغفار أي هو مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها وقوله تعالى «قد خلت من قبله الرسل» صفة لرسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية فإن خلو الرسل السالفة عليهم السلام منذر بخلوه المقتضي لاستحالة ألوهيته أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية من قبله خصه الله تعالى ببعض من الآيات كما خص كلا منهم ببعض آخر منها فإن أحيى الموتى على يده فقد أحيى العصا في يد موسى عليه السلام وجعلت حية تسعى وهو أعجب منه وإن خلق من غير أب فقد خلق آدم من غير أب ولا أم وهو أغرب منه وكل ذلك من جنابه عز وجل وإنما موسى وعيسى مظاهر لشئونه وافعاله «وأمه صديقة» اي وما أمه أيضا كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن في الاتصاف به فما رتبتهما
67

إلا رتبة بشرين أحدهما نبي والآخر صحابي فمن اين لكم أن تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواصم «كانا يأكلان الطعام» استئناف مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر في الاحتياج إلى ما يحتاج إليه كل فرد من أفراده بل من أفراد الحيوان وقوله تعالى «انظر كيف نبين لهم الآيات» تعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعد ما بين لهم حقيقة حالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب وكيف معمول لنبين والجملة في حين النصب معلقة لا نظر أي انظر كيف نبين لهم الآيات الباهر المنادية ببطلان ما تقولوا عليهما نداء يكاد يسمعه صم الجبال «ثم انظر أنى يؤفكون» اي كيف يصرفون عن استماعها والتأمل فيها والكلام فيه كما فيما قبله وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أي أن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح وإعراضهم عنها مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضد ما يوجب قبولها أعجب وأبدع قل أمر له عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم إثر تعجيبه من أحوالهم «أتعبدون من دون الله» أي متجاوزين إياه وتقديمه على قوله تعالى «ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا» لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والموصول عبارة عن عيسى عليه السلام وإيثاره على كلمة من لتحقيق ما هو المراد من كونه بمعزل من الألوهية رأسا ببيان انتظامه عليه السلام في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلا وهو عليه السلام وإن كان يملك ذلك بتمليكه تعالى إياه لكنه لا يملكه من ذاته ولا يملك مثل ما يضر به الله تعالى من البلايا والمصائب وما ينفع به من الصحة وتقديم الضرر على النفع لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الحير وقوله تعالى «والله هو السميع العليم» حال من فاعل أتعبدون مؤكد للإنكار والتوبيخ ومقرر للإلزام والتبكيت والرابط هو الواو أي تشركون بالله تعالى ما لا يقدر على شيء من ضركم ونفعكم والحال أن الله تعالى هو المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة والأعمال السيئة وبالقدرة الباهرة على جميع المقدورات التي من جملتها مضاركم ومنافعكم في الدنيا والآخرة «قل يا أهل الكتاب» تلوين الخطاب وتوجيه له إلى فريقي أهل الكتاب بطريق الالتفات على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بعد إبطال مسلك كل منهما للمبالغة في زجرهم عما سلكوه من المسلك الباطل وإرشادهم إلى الأمم المنئاة «لا تغلوا في دينكم» أي لا تتجاوزا الحد وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عن رتبة الرسالة إلى ما تقولوا في حقه من العظيمة ولليهود عن وضعهم له عليه السلام عن رتبته العلية إلى ما تقولوا عليه من الكلمة الشنعاء وقيل هو خاص بالنصارى كما في سورة النساء فذكرهم بعنوان أهلية الكتاب لتذكير أن
68

الإنجيل أيضا ينهاهم عن الغلو وقوله تعالى «غير الحق» نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق أي غلوا باطلا أو حال من ضمير الفاعل أي لا تغلوا مجاوزين الحق أو من دينكم أي لا تغلوا في دينكم حال كونه باطلا وقيل نصب على الاستثناء المتصل وقيل على المنقطع «ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل» هم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى على القولين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم في شريعتهم «وأضلوا كثيرا» اي قوما كثيرا ممن شايعهم في الزيغ والضلال أو إضلالا كثيرا والمفعول محذوف «وضلوا» عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وتوضيح محجة الحق وتبين مناهج الإسلام «عن سواء السبيل» حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل والثاني إلى ضلالهم عما جاء به الشرع «لعن الذين كفروا» أي لعنهم الله عز وجل وبناء الفعل للمفعول للجري على سنن الكبرياء «من بني إسرائيل» متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من فاعل كفروا وقوله تعالى «على لسان داود وعيسى ابن مريم» متعلق بلعن أي لعنهم الله تعالى في الزبور والإنجيل على لسانهما وقيل إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت دعا عليهم داود عليه السلام وقال اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخهم الله قردة وأصحاب المائدة لما كفروا قال عيسى عليه السلام اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي «ذلك» إشارة إلى اللعن المذكور وإيثاره على الضمير للتنبيه على كمال ظهوره وامتيازه عن نظائره وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «بما عصوا وكانوا يعتدون» والجملة مستأنفة واقعة موقع الجواب عما نشأ من الكلام كأنه قيل بأي سبب وقع ذلك فقيل ذلك اللعن الهائل الفظيع بسبب عصيانهم واعتدائهم المستمر كما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل وينبىء عنه قوله تعالى «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه» فإنه استئناف مفيد بعبارته لاستمرار عدم التناهي عن المنكر ولا يمكن استمراره إلا باستمرار تعاطي المنكرات وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل واحد منهم الآخر عما يفعله من المنكر كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل بل مجرد صدور النهي عن اشخاص متعددة من غير اعتبار أن يكون كل واحد منهم ناهيا ومنهيا معا كما في تراءوا الهلال وقيل التناهي
بمعنى الانتهاء يقال تناهي عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع عنه وتركه فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء ومفيدة لاستمرارهما صريحا وعلى الأول مفيدة لاستمرار انتفاء النهي عن المنكر بأن لا يوجد فيما بينهم من يتولاه في وقت من الأوقات ومن ضرورته استمرار فعل المنكر حسبما سبق وعلى كل تقدير فما يفيده تنكير المنكر من الوحدة
69

نوعية لا شخصية فلا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهي والانتهاء من مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان من أفراده على أن المضي المعتبر في الصفة إنما هو بالنسبة إلى زمان النزول لا إلى زمان النهي حتى يلزم كون النهي بعد الفعل فلا حاجة إلى تقدير المعاودة أو المثل أو جعل الفعل عبارة عن الإرادة على أن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول فلا بد من المصير إلى أحد ما ذكر من الوجهين أو إلى تقدير المثل أو إلى جعل الفعل عبارة عن إرادته وفي كل ذلك تعسف لا يخفى «لبئس ما كانوا يفعلون» تقبيح لسوء أعمالهم وتعجيب منه بالتوكيد القسمي كيف لا وقد أداهم إلى ما شرح من اللعن الكبير وليس في تسببه بذلك دلالة على خروج كفرهم عن السببية مع الإشارة إلى سببيته له فيما سبق من قوله تعالى لعن الذين كفروا فإن إجراء الحكم على الموصول مشعر بعلية ما في حين الصلة له لما أن ما ذكر في حين السببية مشتمل على كفرهم أيضا «ترى كثيرا منهم» أي من أهل الكتاب ككعب بن الأشرف وأضرابه حيث خرجوا إلى مشركي مكة ليتفقوا على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم والرؤية بصرية وقوله تعالى «يتولون الذين كفروا» حال من كثيرا لكونه موصوفا أي يوالون المشركين بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وقيل من منافقي أهل الكتاب يتولون اليهود وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والحسن وقيل يوالون المشركين ويصافونهم «لبئس ما قدمت لهم أنفسهم» لبئس شيئا قدموا ليردوا عليه يوم القيامة «أن سخط الله عليهم» هو المخصوص بالذم على حذف المضاد وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد ومبالغة في الذم أي موجب سخطه تعالى ومحله الرفع على الابتداء والجملة قبله خبره والرابط عند من يشترطه هو العموم أو لا حاجة إليه لأن الجملة عين المبتدأ أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ينبئ عنه الجملة المتقدمة كأنه قيل ما هو أو أي شيء هو فقيل هو أن سخط الله عليهم وقيل المخصوص بالذم محذوف وما اسم تام معرفة في محل رفع الفاعلية لفعل الذم وقدمت لهم أنفسهم جملة في محل الرفع على أنها صفة للمخصوص بالذم قائمة مقامه والتقدير لبئس الشيء شيء قدمته لهم أنفسهم فقوله تعالى أن سخط الله عليهم بدل من شيء المحذوف وهذا مذهب سيبويه «وفي العذاب» اي عذاب جهنم «هم خالدون» أبد الآبدين «ولو كانوا» أي الذين يتولون المشركين من أهل الكتاب «يؤمنون بالله والنبي» أي نبيهم «وما أنزل إليه» من الكتاب أولو كان المنافقون يؤمنون بالله ونبينا إيمانا صحيحا «ما اتخذوهم» أي المشركين أو اليهود «أولياء» فإن الإيمان بما ذكر وازع عن توليهم قطعا «ولكن كثيرا منهم فاسقون» خارجون عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أو متمردون في النفاق مفرطون فيه
70

«لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا» جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود وعراقتهم في الكفر وسائر أحوالهم الشنيعة التي من جملتها موالاتهم للمشركين أكدت بالتوكيد القسمي اعتناء ببيان تحقق مضمونها والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد صالح له إيذانا بأن حالهم مما لا يخفى على أحد من الناس والوجدان متعد إلى اثنين أحدهما أشد الناس والثاني اليهود وما عطف عليه وقيل بالعكس لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر مصب الفائدة هو الخبر لا المبتدأ ولا ضير في التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وههنا دليل واضح عليه وهو أن المقصود بيان كون الطائفتين أشد الناس عداوة للمؤمنين لا كون أشدهم عداوة لهم الطائفتين المذكورتين وأنت خبير بأنه بمعزل من الدلالة على ذلك كيف لا والإفادة في الصورة الثانية أتم وأكمل مع خلوها عن تعسف التقديم والتأخير غذ المعنى أنك إن قصدت أن تعرف من أشد الناس عداوة للمؤمنين وتتبعت أحوال الطوائف طرا وأحطت بما لديهم خبرا وبالغت في تعرف أحوالهم الظاهرة والباطنة وسعيت في تطلب ما عندهم من الأمور البارزة والكامنة لتجدن الأشد تينك الطائفتين لا غير فتأمل واللام الداخلة على الموصول متعلقة بعداوة مقوية لعملها ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء مبنية عليها كما في قوله ورهبة عقابك وقيل متعلقة بمحذوف هو صفة لعداوة أي كائنة للذين آمنوا وصفهم الله تعالى بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء والاجتراء على تكذيبهم ومناصبتهم وفي تقديم اليهود على المشركين بعد لزهما في قرن واحد إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن تقديمهم عليهم في قوله تعالى ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا إيذانا بتقدمهم عليهم في الحرص «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا» أعيد الموصول مع صلته روما لزيادة التوضيح والبيان «الذين قالوا إنا نصارى» عبر عنهم بذلك إشعار بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله وأوداء أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقدا حقية الإسلام وعلى هذه النكتة مبنى الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم والكلام في مفعولي لتجدن وتعلق اللام كالذي سبق والعجول عن جعل ما فيه التفاوت بين الفريقين شيئا واحدا قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخرا ولتجدن أضعفهم عداوة الخ أو بأن يقال أو لا لتجدن أبعد الناس مودة الخ للإيذان بكمال تباين ما بين الفريقين من التفاوت ببيان أن أحدهما في أقصى مراتب أحد النقيضين والآخر في أقرب مراتب النقيض الآخر «ذلك» أي كونهم أقرب مودة للمؤمنين «بأن منهم» بسبب أن منهم «قسيسين» وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشيء إذا تتبعه وطلبه بالليل سموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب وقيل القس بفتح القاف تتبع الشيء ومنه سمى عالم النصارى قسيسا لتتبعه العلم وقيل قص الأثر وقسه بمعنى وقيل
71

إنه أعجمي وقال قطرب القس والقسيس العالم بلغة الروم وقيل ضيعت النصارى الإنجيل وما فيه وبقي منهم رجل يقال له قسيسا لم يبدل دينه فمن راعى هديه ودينه قيل له قسيس «ورهبانا» وهو جمه راهب كراكب وركبان وفارس وفرسان وقيل إنه يطلق على الواحد وعلى الجمع وأنشد فيه قول من قول لو عاينت رهبان دير في قلل لأقبل الرهبان يعدو ونزل والترهب التعبد في الصومعة قال الراغب الرهبانية الغلو في تحمل التعبد من فرط الخوف والتنكير لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها في القسيسين
أيضا إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفراد كثيرة لجنس بخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها وإلا فمن السهود أيضا قوم مهتدون ألا يرى إلى عبد الله بن سلام وأضرابه قال تعالى من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون الخ لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود «وأنهم لا يستكبرون» عطف على أن منهم أي وبأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق إذا فهموا ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود وهذه الخصلة شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيتها لأقربيتهم مودة للمؤمنين واضحة وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كان ذلك من كافر «وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول» عطف على لا يستكبرون أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأن أعينهم تفيض من الدمع عند سماع القرآن وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه «ترى أعينهم تفيض من الدمع» اي تمتلئ بالدمع فاستعير له الفيض الذي هو الانصباب عن امتلاء مبالغة أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها «مما عرفوا من الحق» من الأولى لابتداء الغاية والثانية تبعيضية لأن ما عرفوه بعض الحق وحيث أبكاهم ذلك فما ظنك بهم لو عرفوا كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة وقرئ ترى أعينهم على صيغة المبني للمفعول «يقولون» استئناف مبني على سؤال نشا من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل ماذا يقولون فقيل يقولون «ربنا آمنا» بهذا أو بمن أنزل هذا عليه أو بهما وقيل حال من الضمير في عرفوا أو من الضمير المجرور في أعينهم لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا «فاكتبنا مع الشاهدين» اي الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته أو مع أمته الذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة وإنما قالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك «وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق» كلام مستأنف قالوه تحقيقا لإيمانهم وتقريرا له بإنكار سبب انتفائه ونفيه بالكلية على أن قوله تعالى لا نؤمن حال من الضمير في لنا والعامل ما فيه من الاستقرار أي أي شيء حصل لنا
72

غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب والمسبب جميعا كما في قوله تعالى ومالي لا أعبد الذي فطرني ونظائره لا إلى السبب فقط مع تحقق المسبب كما في قوله تعالى فما لهم لا يؤمنون وأمثاله فإن همزة الاستفهام كما تكون تارة لإنكار الواقع كما في أتضرب أباك وأخرة لإنكار الوقوع كما في أأضرب أبي كذلك ما الاستفهامية قد تكون لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط كما في الآية الثانية وقوله تعالى ما لكم لا ترجون لله وقارا فيكون مضمون الجملة الحالية محققا فإن كلا من عدم الإيمان وعدم الرجاء أمر محقق قد أنكر ونفى سببه وقد يكون الإنكار سبب الوقوع ونفيه فيسريان إلى المسبب أيضا كما في الآية الأولى فيكون مضمون الجملة الحالية مفروضا قطعا فإن عدم العبادة أمر مفروض حتما وقوله تعالى «ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين» حال أخرى من الضمير المذكور بتقدير مبتدأ والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيدا بها أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين أو من الضمير في لا نؤمن على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين وقيل معطوف على نؤمن على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع المذكور «فأثابهم الله بما قالوا» أي عن اعتقاد من قولك هذا قول فلان أن معتقده وقرئ فآتاهم الله «جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين» أي الذين أحسنوا النظر والعمل أو الذين اعتادوا الإحسان في الأمور والآيات الأربع روي أنها نزلت في النجاشي وأصحابه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فقرأه ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر القسيسين والرهبان فأمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلا من قومه وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم سورة مريم فبكوا وآمنوا «والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم» عطف التكذيب بآيات الله على الكفر مع أنه ضرب منه لما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم بمقابلة المصدقين بها جمعا بين الترغيب والترهيب «يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم» أي ما طاب ولذ منه كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الترهيب ترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقب ذلك بالنهي عن الإفراط في الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم وتقشفا وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة لأصحابه يوما فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار فرقوا واجتمعوا في بيت
73

عثمان بن مظعون واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض ويجبوا مناكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقو وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني فنزلت «ولا تعتدوا» أي ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلما فنهى عن مطلق الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها دخولا أوليا لوروده عقيبه أو أريد ولا تعتدوا بذلك «إن الله لا يحب المعتدين» تعليل لما قبله «وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا» أي ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله فحلالا مفعول كلوا ومما رزقكم إما حال منه تقدمت عليه لكونه نكرة أو متعلق بكلوا ومن ابتدائية أو هو المفعول وحلالا حال من الموصول أو من عائده المحذوف أو صفة لمصدر محذوف أي أكلا حلالا وعلى الوجوه كلها لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة «واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون» توكيد للوصية بما أمر به فإن الإيمان به تعالى يوجب المبالغة في التقوى والانتهاء عما نهى عنه «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم» اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم وهو عندنا أن يحلف على شيء يظن أنه كذلك وليس كما يظن وهو قول مجاهد قيل كانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظن أنه قربة فلما نزل النهي قالوا كيف بأيماننا فنزلت وند الشافعي رحمه الله تعالوا ما يبدوا من المرء من غير قصد كقوله لا والله وبلى والله وهو قول عائشة رضي الله تعالى عنها وفي أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه «ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان» أي بتعقيدكم اليمان وتوثيقها عليه بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتموه إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به وقرئ بالتخفيف وقرئ عاقدتم بمعنى عقدتم «فكفارته» اي فكفارة نكثه وهي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة وتسترها واستدل بظاهره على جواز التكفير قبل الحنث وعندنا لا يجوز ذلك
لقوله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه «إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم» أي من أقصده في النوع أو المقدار وهو نصف صاع من بر لكل مسكين ومحله النصب لأنه صفة مفعول
74

محذوف تقديره أن تطعموا عشرة مساكين طعاما كائنا من أوسط ما تطعمون أو الرفع على أنه بدل من إطعام وأهلون جمع أهل كأرضون جمع أرض جمع أرض وقرئ أهاليكم بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهذا أيضا جمع أهل كالأراضي في جمع أرض والليالي في جمع ليل وقيل جمع أهلاة «أو كسوتهم» عطف على إطعام أو على محل من أوسط على تقدير كونه بدلا من إطعام وهو ثوب يغطي العورة وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار وقرئ بضم الكاف وهي لغة كقدرة في قدوة وأسوة في أسوة وقرئ أو كأسوتهم على أن الكاف في محل الرفع تقديره أو إطعامهم كأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافا وتقتيرا تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم الأوسط «أو تحرير رقبة» أي أو إعتاق إنسان كيفما كان وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه الإيمان قياسا على كفارة القتل ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال مطلقا وخيار التعيين للمكلف «فمن لم يجد» أي شيئا من الأمور المذكورة «فصيام» أي فكفارته صيام «ثلاثة أيام» والتتابع شرط عندنا لقراءة ثلاثة أيام متتابعات والشافعي رضي الله عنه لا يرى الشواذ حجة «ذلك» أي الذي ذكر «كفارة أيمانكم إذا حلفتم» أي وحنثتم «واحفظوا أيمانكم» بأن تضنوا بها ولا تبذلوها كما يشعر به قوله تعالى إذا حلفتم وقيل بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير أو بأن تكفروها إذا حنثتم وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاونا بها «كذلك» إشارة لي مصدر الفعل الآتي لا إلى تبيين آخر مفهوم مما سبق والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف واصل التقدير يبين الله تبيينا كائنا مثل ذلك التبيين فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة فصل نفس المصدر لا نعتا له وقد مر تفصيله في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا أي ذلك البيان البديع «يبين الله لكم آياته» أعلام شريعته وأحكامه لا بيانا أدنى منه وتقديم لكم على المفعول لما مر مرارا «لعلكم تشكرون» نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب» أي الأصنام المنصوبة للعبادة «والأزلام» سلف تفسيرها في أوائل السورة الكريمة «رجس» قذر تعاف عنه العقول وإفراده لأنه خبر الخمر وخبر المعطوفات محذوف ثقة بالمذكور أو المضاف محذوف أي شأن الخمر والميسر إلخ «رجس من عمل الشيطان» في محل الرفع على أنه صفة رجس أي كائن من عمله لأنه مسبب من تسويله وتزيينه «فاجتنبوه» الرجس أو ما ذكر «لعلكم تفلحون» أي راجين فلا حكم وقيل لكي تفلحوا بالاجتناب عنه وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى لعلكم تتقون ولقد أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد حيث صدرت الجملة بإنما وقرنا بالأصنام والأزلام وسميا رجسا من عمل الشيطان تنبيها على أن تعاطيهما شر بحت وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعل ذلك
75

سببا يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خيبة ومحقة ثم قرر ذلك بيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقيل «إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر» وهو إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية «ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة» إشارة إلى مفاسدهما الدينية وتخصيصهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما وذكر الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة لقوله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر كعابد الوثن وتخصيص الصلاة بالإفراد مع دخولها في الذكر للتعظيم والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان لما أنها عمادة ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من أصناف الصوارف فقيل «فهل أنتم منتهون» إيذانا بأن الأمر في الزجر والتحذير وكشف ما فيهما من المفاسد والشرور قد بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت بالكلية «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول» عطف على اجتنبوه أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه «واحذروا» أي مخالفتهما في ذلك فيدخل فيه مخالفة أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولا أوليا «فإن توليتم» أي أعرضتم عن الامتثال بما أمرتم به من الاجتناب عن الخمر والميسر وعن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والاحتراز عن مخالفتهما «فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين» وقد فعل ذلك بكما لا مزيد عليه وخرج عن عهدة الرسالة أي خروج وقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل وما بقي بعد ذلك إلا العقاب وفيه من عظم التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه فلا يساعده المقام إذ لا يتوهم منهم ادعاء أنهم بتوليهم يضرونه صلى الله عليه وسلم حتى يرد عليهم بأنهم لا يضرونه وإنما يضرون أنفسهم «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح» أي إثم وحرج «فيما طعموا» أي تناولوا أكلا أو شربا فإن استعماله في الشرب أيضا مستفيض منه قوله تعالى ومن لم يطعمه فإنه منى قيل لما أنزل الله تعالى تحريم الخمر بعد غزوة الأحزاب قال رجال من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أحد وهو يشربونها ونحن نشهد أنهم في الجنة وفي رواية أخرى لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهو يشربون الخمر ويأكلون الميسر وفي
76

رواية أخرى قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار فنزلت وليست كلمة ما في طعموا عبارة عن المباحات خاصة وإلا لزم تقييد إباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله تعالى «إذا ما اتقوا» واللازم منتف بالضرورة بل هي عبارة على عمومها موصولة كانت أو موصوفة وإنما تخصصت بذلك القيد الطارىء عليها والمعنى ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائنا ما كان إذا اتقوا أن يكون في ذلك شيء من المحرمات وإلا لم يكن نفي الجناح في كل ما طعموه بل في بعضه ولا محذور فيه إذ اللازم منه تقييد إباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقيد إباحة بعضه باتقاء بعض آخر منه كما هو اللازم من الأول «وآمنوا وعملوا الصالحات» أي واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة وقوله تعالى «ثم اتقوا» عطف على اتقوا داخل معه في حيز الشرط أي اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحا فيما سبق «وآمنوا» أي بتحريمه وتقديم الاتقاء عليه إما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث
الذي هو المؤمن به واستمروا على الإيمان «ثم اتقوا» أي ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحا من قبل على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة إباحة كل ما طعموه في ذلك الوقت لا إباحة كل ما طعموه قبله لانتساخ إباحة بعضه حينئذ «وأحسنوا» أي عملوا الأعمال الحسنة الجميلة المنظمة لجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية وليس تخصيص هذه المرات بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرر بالغا ما بلغ والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الايمان والأعمال الصالحة وكانوا في طاعة الله ومراعاة أوامره ونواهيه بحيث كلما حرم عليهم شيء من المباحات اتقوه ثم وثم فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المطاعم والمشارب إذ ليس فيها شيء محرم عند طعمه وأنت خبير بأن ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخل لها في انتفاء الجناح وإنما ذكرت في حين إذا شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ومدحا لهم بذلك وحمدا لأحوالهم وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعا للاتقاء في كل مرة تمييزا بينها وبين ما له دخل في الحكم فإن مساق النظم الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المصنفين بما ذكر من النعوت فيما سيأتي بقضية كلمة إذا ما لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لإثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص بناء على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعنه تعالى مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذا ذاك ولو حرما في عصرهم لاتقوهما بالمرة هذا وقد قيل التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة أو باعتبار الحالات الثلاث استعمال الإنسان التقوى بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس وبين الله عز وجل ولذلك جيء بالإحسان في الكرة الثالثة بدل الإيمان إشارة إلى ما قله عليه الصلاة والسلام في تفسيره أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى أو باعتبار ما يتقى فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيا من العقاب والشبهات توقيا من الوقوع في الحرام وبعض المباحات حفظا للنفس عن الخسة وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة وقيل التكرير لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ونظائره وقيل المراد بالأول اتقاء الكفر وبالثاني
77

اتقاء الكبائر وبالثالث اتقاء الصغائر ولا ريب في أنه لا تعلق لهذه الاعتبارات بالمقام فأحسن التأمل «والله يحب المحسنين» تذييل مقرر لمضمون ما قبله أبلغ تقرير «يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله» جواب قسم محذوف أي والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف أحوالكم «بشيء من الصيد» أي من صيد البر مأكولا أو غير مأكول ما عجا المستثنيات من الفواسق فاللام للعهد نزلت عام الحديبية ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وذلك قوله تعالى «تناله أيديكم ورماحكم» فهموا بأخذها فنزلت وروي أنه عن لهم حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر بن عمرو فطعنه برمحه وقتله فقيل له قتلته وأنت محرم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية فالتأكيد القسمي في ليبلونكم إنما هو لتحقيق أن ما وقع من عدم توحش الصيد عنهم ليس إلا لابتلائهم لا لتحقيق وقوع المبتلى به كما لو كان النزول قبل الابتلاء وتنكير شيء للتحقير المؤذن بأن ذلك ليس من الفتن الهائلة التي تزل فيها اقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلاف الأموال وإنما هو من قبيل ما إبتلى به أهل أيلة من صيد البحر وفائدته التنبيه على أن من لم يتثبت في مثل هذا كيف يتثبت عند شدائد المحن فمن في قوله تعالى من الصيد بيانية قطعا أي بشيء حقير هو الصيد وجعلها تبعيضية يقتضي اعتبار قلته وحقارته بالنسبة إلى كل الصيد لا بالنسبة إلى عظائم البلايا فيعرى الكلام عن التنبيه المذكور «ليعلم الله من يخافه بالغيب» أي ليتميز الخائف من عقابه الأخروي وهو غائب مترقب لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد ممن لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه وإنما عبر عن ذلك بعلم الله تعالى اللازم له إيذانا بمدار الجزاء ثوابا وعقابا فإنه أدخل في حملهم على الخوف وقيل المعنى ليتعلق علمه تعالى يمن يخافه بالفعل فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقا به قبل خوفه لكن تعلقه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمر الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل وقيل هناك مضاف محذوف والتقدير ليعلم أولياء الله وقرئ ليعلم من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليعلم الله عباده الخ والعلم على القراءتين متعد إلى واحد وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة «فمن اعتدى بعد ذلك» أي بعد بيان أن ما وقع ابتلاء من جهته تعالى لما ذكر من الحكمة لا بعد تحريمه أو النهي عنه كما قاله بعضهم إذ النهي والتحريم ليس أمرا حادثا يترتب عليه الشرطية بالفاء ولا بعد الابتلاء كما اختاره آخرون لأن نفس الابتلاء لا يصلح مدارا لتشديد العذاب بل ربما يتوهم كونه عذرا مسوغا لتخفيفه وإنما الموجب للتشديد بيان كونه ابتلاء لأن الاعتداء بعد ذلك مكابرة صريحة وعدم مبالاة بتدبير الله تعالى وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤد إلى تمييز المطيع من العاصي «فله عذاب
78

أليم» لما ذكر من أنه مكابرة محضة ولأن من لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهينة لا يكاد يراعيه في عظائم المداحض والمراد بالعذاب الأليم عذاب الدارين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يوسع ظهره وبطنه جلدا وينزع ثيابه «يا أيها الذين آمنوا» شروع في بيان ما يتدارك به الاعتداء من الأحكام إثر بيان ما يلحقه من العذاب والتصريح بالنهي في قوله تعالى «لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم» مع كونه معلوما لا سيما من قوله تعالى غير محلي الصيد وأنتم حرم لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه واللام في الصيد للعهد حسبما سلف وحرم جمع حرام وهو المحرم وإن كان في الحل وفي حكمه من في الحرم وإن كان حلالا كردح جمع رداح والجملة حال من فاعل لا تقتلوا أي لا تقتلوه وأنتم محرمون «ومن قتله» أي الصيد المعهود وذكر القتل في الموضعين دون الذبح اللذان بكونه في حكمه الميتة «منكم» متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل قتله أي كائنا منكم «متعمدا» حال منه أيضا ذاكرا لإحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله والتقييد بالتعمد مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ لما أن الآية نزلت في المتعمد كما مر من قصة أبي اليسر ولأن الأصل فعل المتعمد والخطأ لاحق به للتغليظ وعن الزهري نزل الكتاب بالعمد وورد السنة بالخطأ وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه لا أرى في الخطأ شيئا أخذا باشتراط التعمد في الآية وهو قول داود عن مجاهد والحسن أن المراد بالتعمد هو تعمد القتل مع نسيان الإحرام أما إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه وأمره إلى الله عز وجل لأنه أعظم من أن يكون له كفارة «فجزاء مثل
ما قتل» برفعهما أي فعليه جزاء مماثل لما قتله وقرئ برفع الأول ونصب الثاني على إعمال المصدر وقرئ بجر الثاني على إضافته إلى مفعوله وقرئ فجزاؤه مثل ما قتل على الابتداء والخبرية وقرئ بنصبهما على تقدير فليجز جزاء أو فعليه أن يجزى جزاء مثل ما قتل والمراد به عند أبي حنيفة وأي يوسف رضي الله عنهما المثل باعتبار القيمة يوم الصيد حيث صيد أو في أقرب الأماكن إليه فإن بلغت قيمته قيمة هدي يخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم وبين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما فإن فضل مالا يبلغ طعام مسكين تصدق به أو صام عنه يوما كاملا إذ لم يعهد في الشرع صوم ما دونه فيكون قوله تعالى «من النعم» بيانا للهدي المشترى بالقيمة على أحد وجوه التخيير فإن من فعل ذلك يصدق عليه أنه جزى بمثل ما قتل من النعم وعند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى ومن يرى رأيهما هو المثل باعتبار الخلقة والهيئة لأن الله تعالى أوجب مثل المقتول مقيدا بالنعم فمن اعتبر
79

المثل بالقيمة فقد خالف النص وعن الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في النعامة بدنة وفي الظبي شاة وفي حمار الوحش بقرة وفي الأرنب عناقا وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الضبع صيد وفيه شاة إذا قتله محرم ولنا أن النص أوجب المثل والمثل المطلق في الكتاب والسنة وإجماع الأمة والمعقول يراد به إما المثل صورة ومعنى وإما المثل صورة بلا معنى فلا اعتبار له في الشرع أصلا وإذا لم يمكن إرادة الأول إجماعا تعينت إرادة الثاني لكونه معهودا في الشرح كما في حقوق العباد ألا يرى أن المماثلة بين افراد نوع واحد مع كونها في غاية القوة والظهور لم يعتبرها الشرع ولم يجعل الحيوان عند الإتلاف مضمونا بفرد آخر من نوعه مماثل له في عامة الأوصاف بل مضمونا بقيمته مع أن المنصوص عليه في أمثاله إنما هو المثل قال تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فحيث لم تعتبر تلك المماثلة القوية مع تيسر معرفتها وسهولة مراعاتها فلئلا تعتبر ما بين أفراد أنواع مختلفة من المماثلة الضعيفة الخفية مع صعوبة مأخذها وتعسر المحافظة عليها أولى وأحرى ولأن القيمة قد أريدت فيما لا نظير له إجماعا فلم يبق غيره مرادا إذ لا عموم للمشترك في مواقع الإثبات والمراد بالمروى إيجاب النظير باعتبار القيمة لا باعتبار العيب ثم الموجب الأصلي للجناية والجزاء المماثل للمقتول إنما هو قيمته لكن لا باعتبار أن يعمد الجاني إليها فيصرفها إلى المصارف ابتداء بل باعتبار أن يجعلها معيارا فيقدر بها إحدى الخصال الثلاث فيقيمها مقامها فقوله تعالى مثل ما قتل وصف لازم للجزاء غير مفارق عنه بحال وأما قوله تعالى من النعم فوصف له معتبر في ثاني الحال بناء على وصفه الأول والذي هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم فضلا عن العطف على الموصوف كما سيأتي بإذن الله تعالى ومما يرشدك إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل «يحكم به» أي بمثل ما قتل «ذوا عدل منكم» أي حكمان عادلان من المسلمين لكن لا لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد من العدول دون الأشياء المشاهدة التي يستوي في معرفتها كل أحد من الناس فإن ذلك ناشىء من الغفلة عما أرادوا بما به المماثلة بل لأن ما جعلوه مدار المماثلة بين الصيد وبين النعم من ضرب مشاكلة ومضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التباين بينهما في بقية الأحوال مما لا يهتدي إليه من أساطين أئمة الاجتهاد وصناديد أهل الهداية والإرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية ألا يرى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه أوجب في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة من حيث أن كلا منهما يعب ويهدر مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون فكيف يفوض معرفة أمثال هذه الدقائق العويصة إلى رأي عجلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عين بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوع من أنواع النعم يتم الحكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلا وقرئ يحكم به ذو عدل على إرادة جنس العادل دون الوحدة وقيل بل على إرادة الإمام والجملة صفة لجزاء أو حال منه لتخصصه بالصفة وقوله تعالى «هديا» حال مقدرة من الضمير في به أو من جزاء لما ذكر من تخصصه بالصفة أو بدل من مثل فيمن نصبه أو من محله فيمن جره أو نصب على المصدر أي يهديه هديا والجملة صفة أخرى لجزاء «بالغ الكعبة» صفة لهديا لأن الإضافة غير حقيقية «أو كفارة» عطف على محل من النعم على أنه خبر
80

مبتدأ محذوف والجملة صفة ثانية لجزاء كما أشير إليه وقوله تعالى «طعام مساكين» عطف بيان لكفارة عند من لا يخصصه بالمعارف أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين وقوله تعالى «أو عدل ذلك صياما» عطف على طعام إلخ كأنه قيل فعليه جزاء مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين أو صيام أيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام أما الأولان فبلا واسطة وأما الثالث فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلا منها بدلا من الآخرين هذا وقد قيل إن قوله تعالى أو كفارة عطف على جزاء فلا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدر به الطعام والصيام والإلتجاء إلى القياس على الهدى تعسف لا يخفى هذا على قراءة جزاء بالرفع وعلى سائر القراءات فقوله تعالى أو كفارة خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة هو من النعم وقرئ أو كفارة طعام مساكين بالإضافة لتبيين نوع الكفارة وقرئ طعام مسكين على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس وقرئ أو عدل بكسر العين والفرق بينهما أن عدل الشيء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعدله ما عدل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك إشارة إلى الطعام وصياما تمييز للعدل والخيار في ذلك للجاني عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وللحكمين عند محمد رحمه الله «ليذوق وبال أمره» متعلق بالاستقرار في الجار والمجرور أي فعليه جزاء ليذوق الخ وقيل بفعل يدل عليه الكلام كأنه قيل شرع ذلك عليه ليذوق وبال أمره أي سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام والوبال في الأصل المكروه والضرر الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله ومنه قوله تعالى فأخذناه أخذا وبيلا ومنه الطعام الوبيل وهو الذي لا تستمرئه المعدة «عفا الله عما سلف» من قتل الصيد محرما قبل أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل عما سلف منه في الجاهلية لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرما «ومن عاد» إلى قتل الصيد بعد النهي عنه وهو محرم «فينتقم الله منه» خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه ولذلك دخلت الفاء كقوله تعالى فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا أي فذلك لا يخاف الخ وقوله تعالى
ومن كفر فأمتعه أي فأنا أمتعه والمراد بالانتقام التعذيب في الآخرة وأما الكفارة فعن عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير والحسن أنها واجبة على العائد وعن ابن عباس رضي الله عنهما وشريح أنه لا كفارة عليه تعلقا بالظاهر «والله عزيز» غالب لا يغالب «ذو انتقام» شديد فينتقم ممن أصر على المعصية والاعتداء «أحل لكم» الخطاب للمحرمين «صيد البحر» أي ما يصاد في المياه كلها بحرا كان أو نهرا أو غديرا وهو ما لا يعيش إلا في الماء مأكولا أو غير مأكول «وطعامه» أي وما يطعم من صيده وهو تخصيص بعد تعميم والمعنى أحل لكم التعرض لجميع ما يصاد في المياه والانتفاع به وأكل ما يؤكل منه وهو السمك عندنا وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد فيه على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه وقرئ
81

وطعمه وقيل صيد البحر ما صيد فيه وطعامه ما قذفه أو نضب عنه «متاعا لكم» نصب على أنه مفعول له مختص بالطعام كما أن نافلة في قوله تعالى ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة حال مختصة بيعقوب عليه السلام أي أحل لكم طعامه تمتيعا للمقيمين منكم يأكلونه طريا «وللسيارة» منكم يتزودونه قديدا وقيل نسب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر أي متعكم به متاعا وقيل مؤكد لمعنى أحل لكم فإنه في قوة متعكم به تمتيعا كقوله تعالى كتاب الله عليكم «وحرم عليكم صيد البر» وقرئ على بناء الفعل للفاعل ونسب صيد البر وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كطير الماء «ما دمتم حرما» أي محرمين وقرئ بكسر الدال من دام يدام وظاهره يوجب حرمة ما صاده الحلال على المحرم وإن لم يكن له مدخل فيه وهو قول عمر وابن عباس رضي الله عنهم وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم أنه يحل له أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يشر إليه ولم يدل عليه وكذا ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة لأن الخطاب للمحرمين فكأنه قيل وحرم عليكم ما صدتم في البر فيخرج منه مصيد غيرهم وعند مالك والشافعي وأحمد لا يباح ما صيد له «واتقوا الله» فيما نهاكم عنه أو في جميع المعاصي التي من جملتها ذلك «الذي إليه تحشرون» لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالإلتجاء إليه «جعل الله الكعبة» قال مجاهد سميت كعبها لكونها مكعبة مربعة وقيل لانفرادها من البناء وقيل لارتفاعها من الأرض ونتوئها وقوله تعالى «البيت الحرام» عطف بيان على جهة المدح دون التوضيح كما تجىء الصفة وقيل مفعول ثان لجعل وقوله تعالى «قياما للناس» نصب على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما سيجئ بل هذا هو المفعول الثاني وقيل الجعل بمعنى الإنشاء والخلق وهو حال كما مر ومعنى كونه قياما لهم أنه مدار لقيام أمر دينهم ودنياهم إذ هو سبب لانتعاشهم في أمور معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعمار وقرئ قيما على أنه مصدر على وزن شبع أعل عينه بما أعل في فعله «والشهر الحرام» أي الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة وقيل جنس الشهر الحرام وهو وما بعده عطف على الكعبة فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر أي وجعل الشهر الحرام «والهدي والقلائد» أيضا قياما لهم والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر وبهاء الحج بها أظهر «ذلك» إشارة إلى الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره ومحله النصب بفعل مقدر يدل عليه السياق وهو العامل في اللام بعده أي شرع ذلك «لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض» فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلب المنافع الأولوية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع وعدم خروج شيء عن علمه المحيط وقوله تعالى «وأن الله بكل شيء عليم»
82

تعميم إثر تخصيص للتأكيد ويجوز أن يراد بما قي السماوات والأرض الأعيان الموجودة فيهما وبكل شيء الأمور المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قبيل المعاني «اعلموا أن الله شديد العقاب» وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك وقوله تعالى «وأن الله غفور رحيم» وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى أو أقلع عن الإنتهاك بعد تعاطيه ووجه تقديم الوعيد ظاهر «ما على الرسول إلا البلاغ» تشديد في إيجاب القيام بما أمر به أي الرسول قد أتى بما وجب عليه من التبليغ بما لا مزيد عليه وقامت عليه الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم من بعد في التفريط «والله يعلم ما تبدون وما تكتمون» فيؤاخذكم بذلك نقيرا أو قطميرا «قل لا يستوي الخبيث والطيب» حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وبين جيدها قصد به الترغيب في جيد كل منها والتحذير عن رديئها وإن كان سبب النزول شريح بن ضبة البكري الذي مرت قصته في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله الخ وقيل نزل في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الخمر كانت تجارتي وإني اعتقدت من بيعها مالا فهل ينفعني من ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله تعالى فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل جناح بعوضة إن الله لا يقبل إلا الطيب وقال عطاء والحسن رضي الله عنهما الخبيث والطيب الحرام والحلال وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء فيه لا في مقابله فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر كما في قوله تعالى هل يستوي الأعمى والبصير إلى غير ذلك وأما قوله تعالى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون فلعل تقديم الفاضل فيه لما أن صلته ملكة لصلة المفضول «ولو أعجبك كثرة الخبيث» أي وإن أسرك كثرته والخطاب لكل واحد من الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بخطابهم والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر وقيل للحال وقد مر أي لو لم تعجبك كثرة الخبيث ولو أعجبتك وكلتاهما في موقع الحال من فاعل لا يستوي أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض كما في قولك أحسن إلى فلان وإن أساء إليك أي أحسن إليه إن لم يسئ إليك وإن أساء إليك أي كائنا على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى حذفا مطردا لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق مع المعارض فلأن يتحقق بدونه أولى وعلى هذا السر يدور ما في لو وأن الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلهما عليه وسيأتي تمام
83

تحقيقه في مواقع عديدة بإذن الله عز وجل «فاتقوا الله يا أولي الألباب» أي في تحري الخبيث وإن كثر وآثروا عليه الطيب وإن قل فإن مدار الاعتبار هو الجودة والرداءة لا الكثرة والقلة فالمحمود القليل خير من المذموم الكثير بل كلما كثر الخبيث كان أخبث «لعلكم تفلحون» راجين أن تنالوا الفلاح «يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء
» هو اسم جمع على رأي الخليل وسيبويه وجمهور البصريين كطرفاء وقصباء أصله شيآء بهمزتين بينهما ألف فقلبت الكلمة بتقديم لامها على فائها فصار وزنها لفعاء ومنعت الصرف لألف التأنيث الممدودة وقيل هو جمع شيء على أنه مخفف من شيء كهين مخفف من هين والأصل أشيئاء كأهوناء بزنة أفعلاء فاجتمعت همزتان لام الكلمة والتي للتأنيث إذ الألف كالهمزة فخففت الكلمة بأن قلبت الهمزة الأولى ياء لانكسار ما قبلها فصارت أشيياء فاجتمعت ياءان أولاهما عين الكلمة فحذفت تخفيفا فصارت أشياء وزنها أفلاء ومنعت الصرف لألف التأنيث وقيل إنما حذفت من أشيياء الياء المنقلبة من الهمزة التي هي لام الكلمة وفتحت الياء المقصورة لتسلم ألف الجمع فوزنها أفعاء وقوله تعالى «إن تبد لكم تسؤكم» صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال نها وحيث كانت المساءة في هذه الشرطية معلقة بإبدائها لا بالسؤال عنها عقبت بشرطية أخرى ناطقة باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور قطعا فقيل «وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم» أي تلك الأشياء الموجبة للمساءة بالوحي كما ينبئ عنه تقييد السؤال بحين التنزيل والمراد بها ما يشق عليهم ويغمهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقون بها والأسرار الخفية التي يفتضحون بها بظهورها ونحو ذلك مما لا خير فيه فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب واجترائهم على المسألة والمراجعة وتجاوزهم عما يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عز وجل من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته أي لا تكثروا مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يعنيكم من نحو تكاليف شاقة وعليكم إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أوحي إليه ولم تطيقوا بها نحو بعض أمور مستورة تكرهون بروزها وذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال إن الله تعالى كتب عليكم الحج فقام رجل من بني أسد يقال له عكاشة ابن محسن وقيل هو سراقة بن مالك فقال أفي كل عام يا رسول الله فأعرض عنه حتى أعاد مسألته ثلاث مرات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ومثل ما روي عن أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء حتى أحفوه في المسألة فقام صلى الله عليه وسلم مغضبا خطيبا
84

فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال سلوني فوالله ما تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم فأشفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله عنه فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فلا أجد رجلا إلا وهو لاف رأسه في ثوبه يبكي فقام رجل من قريش من بني سهم يقال له عبد الله بن حذافة وكان إذا لاحى الرجال يدعى إلى غير أبيه وقال يا نبي الله من أبي فقال صلى الله عليه وسلم أبوك حذافة بن قيس الزهري وقام آخر وقال أين أبي قال صلى الله عليه وسلم في النار ثم قام عمر رضي الله عنه فقال رضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا نبيا نعوذ بالله تعالى من الفتن إنا حديثو عهد بجاهلية وشرك فاعف عنا يا رسول الله فسكن غضبه صلى الله عليه وسلم «عفا الله عنها» استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا عنها وفيه من حثهم على الجد في الانتهاء عنها ما لا يخفى وضمير عنها للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا أي عفا الله تعالى عن مسائلكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء بمسألتكم وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسائر مسائلكم فلا تعودوا إلى مثلها وأما جعله صفة أخرى لأشياء على أن الضمير لها بمعنى لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلفكم إياها فمما لا سبيل إليه أصلا لاقتدائه أن يكون الحج قد فرض أولا في كل عام ثم نسخ بطرق العفو وأن يكون ذلك معلوما للمخاطبين ضرورة أن حق الوصف أن يكون معلوم الثبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعله وصفا له وكلاهما ضروري الانتفاء قطعا على أنه يستدعي اختصاص النهي بمسألة الحج ونحوها إن سلم وقوعها مع أن النظم الكريم صريح في أنه مسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي التي يسوؤهم إبداؤها سواء كانت من قبيل الأحكام والتكاليف الموجبة لمساءتهم بإنشائها وإيحابها بسبب السؤال عقوبة وتجديدا كمسألة الحج لولا عفوه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعة قبل السؤال الموجبة للمساءة بالإخبار بها كمسألة من قال اين أبي إن قلت تلك الأشياء غير موجبة للمساءة البتة بل هي محتملة لإيجاب المسرة أيضا لأن إيجابها للأولى إن كانت من حيث وجودها فهي من حيث عدمها موجبة للأخرى قطعا وليست إحدى الحيثيتين محققة عند السائل وإنما غرضه من السؤال ظهورها كيف كانت بل ظهورها بحيثية إيجابها للمسرة فلم يعبر عنها بحيثية إيجابها للمساءة قلت لتحقيق المنهي عنه كما ستعرفه مع ما فيه من تأكيد النهي وتشديده لأن تلك الحيثية هي الموجبة للانتهاء والانزجار لا حيثية إيجابها للمسرة ولا حيثية ترددها بين الإيجابين إن قيل الشرطية الثانية ناطقة بأن السؤال عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزم لإبدائها البتة كما مر فلا تخلف الإبداء عن السؤال في مسئلة الحج حيث لم يفرض في كل عام قلنا لوقوع السؤال قبل ورود النهي وما ذكر في الشرطية إنما هو السؤال الواقع بعد وروده إذ هو الموجب للتغليظ والتشديد ولا تخلف فيه إن قيل ما ذكرته إنما يتمشى فيم إذا كان السؤال عن الأمور المترددة بين الوقوع وعدمه كما ذكر من التكاليف الشاقة وإما إذا كان عن الأمور الواقعة قبله فلا يكاد يتسنى لأن ما يتعلق به الإبداء هو الذي وقع في نفس الأمر ولا مرد له سواء كان السؤال قبل النهي أو بعده وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسئلة عبد الله بن حذافة فيكون هو الذي يتعلق به الإبداء لا غيره فيتعين للتخلف حتما قلنا لا احتمال للتخلف فضلا عن التعين فإن المنهي عنه في الحقيقة إنما هو السؤال عن الأشياء الموجبة
85

للمساءة الواقعة في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال اين أبي لا عما يعمها وغيرهما مما ليس بواقع لكنه محتمل للوقوع عند المكلفين حتى يلزم التخلف في صورة عدم الوقوع وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهي عن السؤال عن الأشياء التي يوجب إبداؤها المساءة البتة إما بأن تكون تلك الأشياء بعرضية الوقوع فتبدى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبة وتشديدا كما في صورة كونها من قبيل التكاليف الشاقة وإما بأن تكون واقعة في نفس الأمر قبل السؤال فتبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلف ممتنع في الصورتين معا ومنشأ توهمه عدم الفرق بين المنهي عنه وبين غيره بناء على عدم امتياز ما هو موجود أو بعرضية الوجود من تلك الأشياء
في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم وفائدة هذا الإبهام الانتهاء عن السؤال عن تلك الأشياء على الإطلاق حذار إبداء المكروه «والله غفور حليم» اعتراض تذييلي مقرر لعفوه تعالى أي مبالغ في مغفرة الذنوب والإغضاء عن المعاصي ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخذكم بعقوبة ما فرط منكم «قد سألها قوم» أي سألوا هذه المسألة لكن لا عينها بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير «من قبلكم» متعلق بسألها «ثم أصبحوا بها» أي بسببها أو بمرجوعها «كافرين» فإن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم في أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا «ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام» رد وإبطال لما ابتدعه أهل الجاهلية حيث كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وحرموا ركوبها ودرها ولا تطرد عن ماء ولا عن مرعى وكان يقول الرجل إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها وقيل كان الرجل إذا أعتق عبدا قال هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى ومعنى ما جعل ما شرع وما وضع ولذلك عدى إلى مفعول واحد هو بحيرة وما عطف عليها ومن مزيد لتأكيد النفي فإن الجعل التكويني كما يجئ تارة متعديا إلى مفعولين وأخرى إلى واحد كذلك الجعل التشريعي يجئ مرة متعديا إلى مفعولين كما في قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس وأخرى إلى واحد كما في الآية الكريمة «ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب» حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون الله أمرنا بهذا وإمامهم عمرو بن لحى فإنه أول من فعل هذه الأفاعيل الباطلة هذا شأن رؤسائهم وكبرائهم «وأكثرهم» وهم أراذلهم الذين يتبعونهم من
86

معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يشهد به سياق النظم الكريم «لا يعقلون» أنه افتراء باطل حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فيبقون في أسر التقليد وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم وقوله عز وجل «وإذا قيل لهم» أي للذين عبر عنهم بأكثرهم على سبيل الهداية والإرشاد «تعالوا إلى ما أنزل الله» من الكتاب المبين للحلال والحرام «وإلى الرسول» الذي أنزل هو عليه لتقفوا على حقيقة الحال وتميزوا الحرام من الحلال «قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا» بيان لعنادهم واستعصائهم على الهدى إلى الحق وانقيادهم للداعي إلى الضلال «أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون» قيل الواو للحال دخلت عليها الهمزة للإنكار والتعجيب أي أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم جهلة ضالين وقيل للعطف على شرطية أخرى مقدرة قبلها وهو الأظهر والتقدير أحسبهم ذلك أو أيقولون هذا القول لو لم يكن آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب ولو كانوا لا يعلمون إلخ وكلتاهما في موقع الحال أي أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفا مطردا لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة كيف لا وأن الشيء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى كما في قولك أحسن إلى فلان وإن أساء إليك أي أحسن إليه إن لم يسئ إليك وإن أساء أي أحسن إليه كائنا على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها دلالة ظاهرة إذ الإحسان حيث أمر به عند المانع فلأن يؤمر به عند عدمه أولى وعلى هذا السر يدور ما في إن ولو الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجواب لو محذوف لدلالة ما سبق عليه أي لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون حسبهم ذلك أو يقولون ذلك وما في لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا إلى نفس الأمر وفائدته المبالغة في الإنكار والتعجيب ببيان أن ما قالوه موجب للإنكار والتعجيب إذا كان كون آبائهم جهلة ضالين في حيز الاحتمال البعيد فكيف إذا كان ذلك واقعا لا ريب فيه وقيل مآل الوجهين واحد لأن الجملة المقدرة حال فكذا ما عطف عليها وأنت خبير بأن الحال على الوجه الأخير مجموع الجملتين لا الأخيرة فقط وأن الواو للعطف لا للحال وقد مر التحقيق في قوله تعالى أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون فتدبر «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم» أي ألزموا أمر أنفسكم وإصلاحها وقرئ بالرفع على الابتداء أي واجبة عليكم أنفسكم وقوله عز وجل «لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» إما مجزوم على أنه جواب للأمر أو نهي مؤكد له وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة إذ الأصل لا يضرركم ويؤيده القراءة بفتح الراء وقراءة من قرأ لا يضركم بكسر الضاد وضمها من ضار يضيره ويضوره وإما مرفوع على أنه كلام
87

مستأنف في موقع التعليل لما قبله ويعضده قراءة من قرأ لا يضيركم أي لا يضركم ضلال من ضل إذا كنتم مهتدين ولا يتوهمن أن فيه رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع استطاعتهما كيف لا ومن جملة الاهتداء أن ينكر على المنكر حسبما تفي به الطاقة قال صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وقد روي أن الصديق رضي الله تعالى عنه قال يوما على المنبر يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الناس إذا رأو منكرا فلم يغيروه عمهم الله بعقاب فأمروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا إلخ فيقول أحدكم على نفسي والله لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليستعلمن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لهم وعنه صلى الله عليه وسلم ما من قوم عمل فيهم منكر أو سن فيهم قبيح فلم يغيروه ولم ينكروه إلا وحق على الله تعالى أن يعمهم بالعقوبة جميعا ثم لا يستجاب لهم والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة وكانوا يتمنون إيمانهم وهم من الضلال بحيث لا يكادون يرعوون عنه بالأمر والنهي وقيل كان الرجل إذا اسلم لاموه وقالوا له سفهت آباءك وضللتهم أي نسبتهم إلى السفاهة والضلال فنزلت تسلية له بأن ضلال آبائه لا يضره ولا يشينه «إلى الله» لا إلى أحد سواه «مرجعكم» رجوعكم يوم القيامة «جميعا» بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم فينبئكم بما كنتم تعملون «في الدنيا» من أعمال الهداية والضلال فهو وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره «يا أيها الذين آمنوا» استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم وتصديره بحر في النداء والتنبيه لإظهار كمال العناية بمضمونه وقوله عز وجل «شهادة بينكم» بالرفع والإضافة إلى الظرف توسعا إما باعتبار جريانها بينهم
أو باعتبار تعلقها بما يجري بينهم من الخصومات مبتدأ وقوله تعالى «إذا حضر أحدكم الموت» أي شارفه وظهرت علائمه ظرف لها وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها فإنه أدخل في تهوين أمر الموت وقوله تعالى «حين الوصية» بدل منه لا ظرف للموت كما توهم ولا لحضوره كما قيل فإن في الإبدال تنبيها على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها وقوله تعالى «اثنان» خبر للمبتدأ بتقدير المضاف أي شهادة بينكم حينئذ شهادة اثنين أو فاعل شهادة بينكم على أن خبرها محذوف أي فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان وقرئ شهادة بالرفع والتنوين والإعراب كما سبق وقرئ شهادة بالنصب
88

والتنوين على أن عاملها مضمر هو العامل في اثنان أيضا أي ليقم شهادة بينكم اثنان «ذوا عدل منكم» أي من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له وأقرب إلى تحري ما هو أصلح له وقيل من المسلمين وهما صفتان لاثنان «أو آخران» عطف على اثنان تابع له فيما ذكر من الخبرية والفاعلية أي أو شهادة آخرين أو أن يشهد بينكم آخران أو ليقم شهادة بينكم آخران وقوله تعالى «من غيركم» صفة لآخران أي كائنان من غيركم أي من الأجانب وقيل من أهل الذمة وقد كان ذلك في بدء الإسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما في السفر ثم نسخ وعن مكحول أنه نسخها قوله تعالى وأشهدوا ذوى عدل منكم «إن أنتم» مرفوع بمضمر يفسره ما بعده تقديره إن ضربتم فلما حذف الفعل انفصل الضمير وهذا رأي جمهور البصريين وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأ بناء على جواز وقوع المبتدأ بعد أن الشرطية كجواز وقوعه بعد إذا فقوله تعالى «ضربتم في الأرض» أي سافرتم فيها لا محل له من الإعراب عند الأولين لكونه مفسرا ومرفوع على الخبرية عند الباقين وقوله تعالى فاصابتكم مصيبة الموت عطف على الشرطية وجوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن سافرتم فقاربكم الأجل حينئذ وما معكم من الأقارب أو من أهل الإسلام من يتولى أمر الشهادة كما هو الغالب المعتاد في الأسفار فليشهد آخران أو فاستشهدوا آخرين أو فالشاهدان آخران كذا قيل والأنسب أن يقدر عين ما سبق أي فآخران على معنى شهادة بينكم شهادة آخرين أو فأن يشهد آخران على الوجوه المذكورة ثمة وقوله تعالى «تحبسونهما» استئناف وقع جوابا عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل فكيف نصنع إن ارتبنا بالشاهدين فقيل تحبسونهما أي تقفونهما وتصبرونهما للتحليف «من بعد الصلاة» وقيل هو صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف اعتراض فائدته الدلالة على أن اللائق إشهاد الأقارب أو أهل الإسلام وأما إشهاد الآخرين فعند الضرورة الملجئة إليه وأنت خبير بأنه يقتضي اختصاص الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضا قطعا على أن اعتبار اتصافهما بذلك يأباه مقام الأمر بإشهادهما إذ مآله فآخران شأنهما الحبس والتحليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قيد الارتياب بهما كما يفيده الاعتراض الآتي والمراد بالصلاة صلاة العصر وعدم تعيينها لتعينها عندهم بالتحليف بعدها لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار ولأن جميع أهل الأديان يعظمونه ويجتنبون فيه الحلف الكاذب وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وقتئذ حلف من حلف كما سيأتي وقيل بعد أي صلاة كانت لأنها داعية إلى النطق بالصدق وناهية عن الكذب والزور إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر «فيقسمان بالله» عطف على تحبسونهما وقوله تعالى «إن ارتبتم» شرطية محذوفة الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه سيقت من جهته تعالى معترضة بين القسم وجوابه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب أي إن ارتاب بهما الوارث منكم بخيانة وأخذ شئ من التركة فاحبسوهما وحلفوهما بالله وقوله تعالى «لا نشتري به ثمنا» جواب للقسم وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قسم وشرط فاكتفى بذكر جواب سابقهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالبا فإن ذلك إنما يكون عند سد جواب السابق مسد جواب اللاحق لاتحاد مضمونهما كما
89

في قولك والله إن أتيتني لأكرمنك ولا ريب في استحالة ذلك ههنا لأن القسم وجوابه كلاهما وقد عرفت أن الشرط من جهته تعالى والاجتراء هو استبدال السلعة بالثمن أي أخذها بدلا منه لا بذله لتحصيلها كما قيل وإن كان مستلزما له فإن المعتبر في عقد الشراء ومفهومه هو الجلب دون السلب المعتبر في عقد البيع ثم استعير لأخذ شيء بإزالة ما عنده عينا كان أو معنى على وجه الرغبة في المأخوذ والإعراض عن الزائل كما هو المعتبر في المستعار منه حسبما مر تفصيله في قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والضمير في به لله والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله أي من حرمته عرضا من الدنيا بأن نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال وقيل الضمير للقسم فلا بد من تقدير مضاف البتة أي لا نستبدل بصحة القسم بالله أي لا نأخذ لأنفسنا بدلا منها عرضا من الدنيا بأن نزيل عنه وصف الصدق ونصفه بالكذب أي لا نحلف كاذبين كما ذكر وإلا فلا سداد للمعنى سواء أريد به القسم الصادق أو الكاذب أما إن أريد به الكاذب فلأنه يفوت حينئذ ما هو المعتبر في الاستعارة من كون الزائل شيئا مرغوبا فيه عند الحالف كحرمة اسم الله تعالى ووصف الصحة والصدق في القسم ولا ريب في أن القسم الكاذب ليس كذلك وأما إن أريد به الصادق فلأنه وإن أمكن أن يتوسل باستعماله إلى عرض الدنيا كالقسم الكاذب لكن لا محظور فيه وأما التوسل إليه بترك استعماله فلا إمكان له ههنا حتى يصح التبرؤ منه وإنما يتوسل إليه باستعمال القسم الكاذب وليس استعماله من لوازم ترك استعمال الصادق ضرورة جواز تركهما معا حتى يتصور جعل ما أخذ بترك استعمال الصادق كما في صورة تقدير المضاف فإن إزالة وصف الصدق عن القسم مع بقاء الموصوف مستلزمة لثبوت وصف الكذب له البتة فتأمل وقوله تعالى «ولو كان» أي المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام «ذا قربى» أي قريبا منا تأكيد لتبرئهم من الحلف كاذبا ومبالغة في التنزه عنه كأنهما قالا لا نأخذ لأنفسنا بدلا من حرمة اسمه تعالى مالا ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء فكيف إذا لم يكن كذلك وصيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية الأقرباء لكنها ليست ضميمة للمال بل هي راجعة إليه وجواب لو محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه أي لا نشتري به ثمنا والجملة معطوفة على أخرى مثلها كما فصل في تفسير قوله تعالى ولو أعجبك الخ وقوله عز وجل «ولا نكتم شهادة الله» اي الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها معطوف على لا نشتري به داخل معه في حكم القسم وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ آلله بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وبغير مد كقولهم الله لأفعلن «إنا إذا لمن الآثمين» أي إن كتمناها وقرئ لملاثمين بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدخال النون فيها «فإن عثر» أي اطلع بعد التحليف «على أنهما استحقا إثما» حسبما اعترفا به بقولهما إنا إذا لمن الآثمين أي فعلا ما يوجب إثما من تحريف وكتم بأن ظهر
90

بأيديهما شيء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه كما وقع في سبب النزول حسبما سيأتي «فآخران» أي رجلان آخران وهو مبتدأ خبره «يقومان مقامهما
» ولا محظور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وبين وصفه الذي هو الجار والمجرور بعده أي يقومان مقام اللذين عثر على خيانتهما وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور لإظهار الحق وإبراز كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما «من الذين استحق» على البناء للفاعل على قراءة علي وابن عباس وأبي رضي الله عنهم أي من أهل الميت الذين استحق «عليهم الأوليان» من بينهم أي الأقربان إلى الميت الوارثان له الأحقان بالشهادة أي باليمين كما ستعرفه ومفعول استحق محذوف أي استحقا عليهم أن يجردوهما للقيام بها لأنها حقهما ويظهروا بهما كذب الكاذبين وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام الأولين على وضع المظهر مقام المضمر وقرئ على البناء للمفعول وهو الأظهر أي من الذين استحق عليهم الإثم أي جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته فالأوليان مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف كأنه قيل ومن هما فقيل الأوليان أو هو بدل من الضمير في يقومان أو من آخران وقد جوز ارتفاعه باستحق على حذف المضاف أي استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة وقرئ الأولين على أنهم صفة للذين الخ مجرور أو منصوب على المدح ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها وقرئ الأوليين على التثنية وانتصابه على المدح وقرئ الأولان «فيقسمان بالله» عطف على يقومان «لشهادتنا» المراد بالشهادة اليمين كما في قوله تعالى فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله أي ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة في نفسها «أحق» بالقبول «من شهادتهما» أي من يمينهما مع كونها كاذبة في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم ويميننا منزهة عن الريب والريبة فصيغة التفضيل مع أنه لا حقية في يمينهما رأسا إنما هي لإمكان قبولها في الجملة باعتبار احتمال صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما «وما اعتدينا» عطف على جواب القسم أي ما تجاوزنا فيها الحق أو ما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما «إنا إذا لمن الظالمين» استئناف مقرر لما قبله أي إنا إن اعتدينا في يميننا لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه ومعنى النظم الكريم أن المحتضر ينبغي أن يشهد على وصيته عدلين من ذوي نسبه أو دينه فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ثم إن وقع ارتياب بهما أقسما على أنهما ما كتما من الشهادة ولا من التركة شيئا بالتغليظ في الوقت فإن أطلع بعد ذلك على كذبهما بأن ظهر بأيديهما شيء من التركة وادعيا تملكه من جهة الميت حلف الورثة وعمل بأيمانهم ولعل تخصيص الاثنين لخصوص الواقعة فإنه روى أن تميم بن أوس الداري وعدي بن يزيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل بن أبي مريم مولى عمرو بن العاص وكان مسلما مهاجرا فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه جميع ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبرهما بذلك وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ففتشاه فوجدا فيه إناء من فضة وزنه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه ودفعا المتاع إلى أهله فأصابوا فيه الكتاب فطلبوا منهما الإناء فقالا ما ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم
91

ففعلنا وما لنا بالإناء من علم فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل يا أيها الذين آمنوا الآية فاستحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئا مما دفع ولا كتما فحلفا على ذلك فخلى صلى الله عليه وسلم سبيلهما ثم إن الإناء وجد بمكة فقال من بيده اشتريته من تميم وعدي وقيل لما طالت المدة أظهراه فبلغ ذلك بني سهم فطلبوه منهما فقالا كنا اشتريناه من بديل فقالوا ألم نقل لكما هل باع صاحبنا من متاعه شيئا فقلتما لا قالا ما كان لنا بينة فكر هنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله عز وجل فإن عثر الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كذبا وخانا فدفع الإناء إليهما وفي رواية إلى أولياء الميت واعلم أنهما إن كانا وارثين لبديل فلا نسخ إلا في وصف اليمين فإن الوارث لا يحلف على البتات وإلا فهو منسوخ «ذلك» كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذكر مستتبع للمنافع وارد على مقتضى الحكمة والمصلحة أي الحكم الذي تقدم تفصيله «أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها» أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على وجهها الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة خوفا من العذاب الأخروي وهذه كما ترى حكمة شرعية التحليف بالتغليظ المذكور وقوله تعالى «أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم» بيان لحكمة شرعية رد اليمين على الورثة معطوف على مقدر ينبأ عنه المقام كأنه قيل ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاح على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم والعمل بأيمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه فأي الخوفين وقع حصل المقصد الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها وقيل هو عطف على يأتوا على معنى أن ذلك أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو إلى أن يخافوا الافتضاح برد اليمين على الورثة فلا يحلفوا على موجب شهادتهم إن لم يأتوا بها على وجهها فيظهر كذبهم بنكولهم وأما ما قيل من أن المعنى إن ذلك أقرب إلى أحد الأمرين اللذين أيهما وقع كان فيه الصلاح أداء الشهادة على الصدق والامتناع عن أدائها على الكذب فيأباه المقام إذ لا تعلق له بالحادثة أصلا ضرورة أن الشاهد مضطر فيها إلى الجواب فالامتناع عن الشهادة الكاذبة مستلزم للإتيان بالصادقة قطعا فليس هناك أمران أيهما وقع كان فيه الصلاح حتى يتوسط بينهما كلمة أو وإنما يتأتى ذلك في شهود لم يتهموا بخيانة على أن إضافة الامتناع عن الشهادة الكاذبة إلى خوف رد اليمين على الورثة ونسبة الإتيان بالصادقة إلى غيره مع أن ما يقتضي أحدهما يقتضي الآخر لا محالة تحكم بحت فتأمل «واتقوا الله» في مخالفة أحكامه التي من جملتها هذا الحكم «واسمعوا» ما تؤمرون به كائنا ما كان سمع طاعة وقبول «والله لا يهدي القوم الفاسقين» الخارجين عن الطاعة أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم فاسقين والله لا يهدي القوم الفاسقين أي إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم
92

«يوم يجمع الله الرسل» نصب على أنه بدل اشتمال من مفعول اتقوا لما بينهما من الملابسة فإن مدار البدلية ليس ملابسة الظرفية والمظروفية ونحوها فقط بل هو تعلق ما مصحح لانتقال الذهن من المبدل منه إلى البدل بوجه إجمالي كما فيما نحن فيه فإن كونه تعالى خالق الأشياء كافة مالك يوم الدين خاصة كاف في الباب مع أن الأمر بتقوى الله تعالى يتبادر منه إلى الذهن أن المتقي أي شأن من شؤونه واي فعل من أفعاله وقيل هناك مضاف محذوف به يتحقق الاشتمال أي اتقوا عقاب الله فحينئذ يجوز انتصابه منه بطريق الظرفية وقيل منصوب بمضمر معطوف على اتقوا وما عطف عليه أي واحذروا أو اذكروا يوم الخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يضطرهم إلى تقوى الله عز وجل وتلقي أمره بسمع الإجابة والطاعة وقيل هو ظرف لقوله تعالى لا يهدي أي لا يهديهم يومئذ إلى طريق الجنة كما يهدي إليه المؤمنين وقيل منصوب بقوله
تعالى واسمعوا بحذف مضاف أي اسمعوا خبر ذلك اليوم وقيل منصوب بفعل مؤخر قد حذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعة ما يقع فيه من الطامة التامة والدواهي العامة كأنه قيل يوم يجمع الله الرسل فيقول الخ يكون من الأحوال والأهوال مالا يفي ببيانه نطاق المقال وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتشديد التهويل وتخصيص الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم كيف لا وذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وقد قال الله تعالى يوم ندعو كل أناس بإمامهم بل لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناء على ظهور كونهم أتباعا لهم ولإظهار سقوط منزلتهم وعدم لياقتهم بالانتظام في سلك جمع الرسل كيف لا وهم عليهم السلام يجمعون على وجه الإجلال وأولئك يسحبون على وجوههم بالأغلال «فيقول» لهم مشيرا إلى خروجهم عن عهدة الرسالة كما ينبغي حسبما يعرب عنه تخصيص السؤال بجواب الأمم إعرابا واضحا إلا لصدر الخطاب بأن يقال هل بلغتم رسالاتي وماذا في قوله عز وجل «ماذا أجبتم» عبارة عن مصدر الفعل فهو نصب على المصدرية أي أي إجابة أجبتم من جهة أممكم إجابة قبول أو إجابة قبول أو إجابة رد وقيل عبارة عن الجواب فهو في محل النصب بعد حذف الجار عنه أي بأي جواب أجبتم وعلى التقديرين ففي توجيه السؤال عما صدر عنهم وهم شهود إلى الرسل عليهم السلام كسؤال الموءودة بمحضر من الوائد والعدول عن إسناد الجواب إليهم بأن يقال ماذا أجابوا من الأنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة الغيظ والسخط عليهم ما لا يخفى «قالوا» استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا يقول الرسل عليهم السلام هنالك فقيل يقولون «لا علم لنا» وصيغة الماضي للدلالة على التقرر والتحقق كما في قوله تعالى ونادى أصحاب الجنة أصحاب الأعراف ونظائرهما وإنما يقولون ذلك تفويضا للأمر إلى علمه تعالى وإحاطته بما اعتراهم من جهتهم من مقاساة الأهوال ومعاناة الهموم والأوجال وعرضا لعجزهم عن بيانه لكثرته وفظاعته «إنك أنت علام الغيوب» تعليل لذلك أي فتعلم ما أجابوا وأظهروا لنا وما لم نعلمه مما أضمروه في قلوبهم وفيه إظهار للشكاة ورد للأمر إلى علمه تعالى بما لقوا من قبلهم من
93

الخطوب وكابدوا من الكروب والتجاء إلى ربهم في الانتقام منهم وقيل المعنى لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة ورد ذلك بأنهم يعرفونهم بسيماهم فكيف يخفى عليهم أمرهم وأنت خبير بأن مرادهم حينئذ أن بعضهم كانوا في زمانهم على الحق ثم صاروا كفرة وعن ابن عباس ومجاهد والسدي رضي الله عنهم أنهم يفزعون من أول الأمر ويذهلون عن الجواب ثم يجيبون بعد ما ثابت إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم ولا يلائمه التعليل المذكور وقيل المراد به المبالغة في تحقيق فضيحتهم وقرئ علام الغيوب بالنصب على النداء أو الاختصاص بالمدح على أن الكلام قد تم عند قوله تعالى أنت أي إنك أنت المنعوت بنعوت كمالك المعروف بذلك «إذ قال الله يا عيسى ابن مريم» شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين وتخصيص شأن عيسى عليه السلام بالبيان تفصيلا من بين شؤون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالتها على كمال هو ل ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل لما أنه شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعيت عليهم في السورة الكريمة جناياتهم فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسرتهم وندامتهم وأفت في أعضادهم وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم وإذ بدل من يوم يجمع الله الخ وصيغة الماضي لما ذكر من الدلالة على تحقق الوقوع وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لما مر من المبالغة في التهويل وكلمة على في قوله تعالى «اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك» متعلقة بنفس النعمة إن جعلت مصدرا أي أذكر إنعامي عليكما أو بمحذوف هو حال منها إن جعلت اسما إي اذكر نعمتي كائنة عليكما وليس المراد بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليه السلام شكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتدادا بها وتلذذا بذكرها على رؤوس الأشهاد لتكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخا ومزجرة للكفرة المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطا وتفريطا وإبطالا لقولهما جميعا «إذ أيدتك» ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لك أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت تأييدي لك وقرئ آيدتك والمعنى واحد أي قويتك «بروح القدس» بجبريل عليه السلام لتثبيت الحجة
94

أو بالكلام الذي يحيى به الدين وإضافته إلى القدس لأنه سبب الطهر عن أوضار الآثام أو يحيى به الموتى أو النفوس حياة أبدية وقيل الأرواح مختلفة الحقائق فمنها طاهرة نورانية ومنها خبيثة ظلمانية ومنها مشرقة ومنها كدرة ومنها حرة ومنها نذلة وكان روحه عليه السلام طاهرة مشرقة نورانية علوية وأيا ما كان فهو نعمة عليهما «تكلم الناس في المهد وكهلا» استئناف مبين لتأييده عليه السلام أو حال من الكاف وذكر تكليمه عليه السلام في حال الكهولة لبيان أن كلامه عليه السلام في تينك الحالتين كان على نسق واحد بديع صادرا عن كمال العقل مقارنا لرزانة الرأي والتدبير به واستدل على أنه عليه السلام سينزل من السماء لما أنه عليه السلام رفع قبل التكهل قال ابن عباس رضي الله عنهما أرسله الله تعالى وهو ابن ثلاثين سنة ومكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله تعالى إليه «وإذ علمتك الكتاب» عطف على قوله تعالى إذ أيدتك منصوب بما نصبه أي اذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك والكتاب «والحكمة» أي جنسهما «والتوراة والإنجيل» خصا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة إظهارا لشرفهما وقيل الخط والحكمة الكلام المحكم الصواب «وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير» أي تصور منه هيئة مماثلة لهيئة الطير «بإذني» بتسهيلي وتيسيري لا على أن يكون الخلق صادرا عنه عليه السلام حقيقة بل على أن يظهر ذلك يده عليه السلام عند مباشرة السباب مع كون الخلق حقيقة لله تعالى كما قيل عنه قوله تعالى «فتنفخ فيها» أي في الهيئة المصورة «فتكون» أي تلك الهيئة «طيرا بإذني» فإن إذنه تعالى لو لم يكن عبارة عن تكوينه تعالى للطير بل عن محض تيسيره مع صدور الفعل حقيقة عما اسند إليه لكان هذا تكونا من جهة الهيئة وتكرير قوله بإذني في الطير مع كونه شيئا واحدا للتنبيه على أن كلا من التصوير والنفخ أمر معظم بديع لا يتسنى ولا يترتب عليه شيء إلا بإذنه تعالى «وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني» عطف على تخلق «وإذ تخرج الموتى بإذني» عطف على إذ تخلق أعيد فيه إذ لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صارت رميما معجزة باهرة ونعمة جليلة حقيقة بتذكير وقتها صريحا قيل أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية وتكرير قوله بإذني في
المواضع الأربعة للاعتناء بتحقيق الحق ببيان أن تلك الخوارق ليست من قبل عيسى عليه الصلاة والسلام بل من جهته سبحانه قد أظهرها على يديه معجزة له ونعمة خصها به وأما ذكره في سورة آل عمران مرتين لما أن ذلك موضع الإخبار وهذا موضع تعداد النعم «وإذ كففت بني إسرائيل عنك» عطف على إذ تخرج أي منعت الهود الذين أرادوا بك السوء عن التعرض لك «إذ جئتهم بالبينات» بالمعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر كالإخبار بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ونحو ذلك وهو ظرف لكففت لكن لا باعتبار المجىء بها فقط بل باعتبار ما يعقبه من قوله تعالى «فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين» فإن قولهم ذلك مما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه السلام المحوج إلى الكف أي كففتهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئك إياهم بالبينات وإنما وضع ضميرهم الموصول لذمهم بما في حيز الصلة فكلمة من بيانية وهذا إشارة إلى ما جاء به والتذكير لأن إشارتهم إلى ما رأوه من نفس المسمى من حيث هو أو من حيث هو سحر لا من حيث هو مسمى بالبينات وقرئ إن هذا إلا ساحر
95

مبين فهذا حينئذ إشارة إلى عيسى عليه السلام «وإذ أوحيت إلى الحواريين» عطف على ما قبله من أخواتها الواقعة ظروفا للنعمة التي أمر بذكرها وهي وإن كانت في الحقيقة عين ما يفيده الجمل التي أضيف إليها تلك الظروف من التأييد بروح القدس وتعليم الكتاب والحكمة وسائر الخوارق المعدودة لكنها لمغايرتها لها بعنوان منبىء عن غاية الإحسان أمر بذكرها من تلك الحيثية وجعلت عاملة في تلك الظروف لكفاية المغايرة الاعتبارية في تحقيق ما اعتبر في مدلول كلمة إذ من تعدد النسبة فإنه ظرف موضوع لزمان نسبتين ماضيتين واقعتين فيه إحداهما معلومة الوقوع فيه للمخاطب دون الأخرى فيراد إفادة وقوعها أيضا له فيضاف إلى الجملة المفيدة للنسبة الأولى ويجعل ظرفا معمولا للنسبة الثانية ثم قد تكون المغايرة بين النسبتين بالذات كما في قولك اذكر إحساني إليك إذ أحسنت إلي تريد تنبيه المخاطب على وقوع إحسانك إليه وقت وقوع إحسانه إليك وهما نسبتان متغايرتان بالذات وقد تكون بالاعتبار كما في قولك اذكر إحساني إليك غذ منعتك من المعصية تريد تنبيهه على كون منعه إحسانا إليه لا على إحسان آخر واقع حينئذ ومن هذا القبيل عامة ما وقع في التنزيل من قوله تعالى يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا الآية وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم إلى غير ذلك من النظائر ومعنى إيحائه تعالى إليهم أمره تعالى إياهم في الإنجيل على لسانه عليه السلام وقيل إلهامه تعالى إياهم كما في قوله تعالى وأوحينا إلى أم موسى وأن في قوله تعالى «أن آمنوا بي وبرسولي» مفسرة لما في الإيحاء من معنى القول وقيل مصدرية وإيراده عليه السلام بعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه السلام كأنه قيل ى منوا بوحدانيتي في الألوهية والربوبية وبرسالة رسولي ولا تزيلوه عن حيزه حطا ولا رفعا وقوله تعالى «قالوا» استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا قالوا حين أوحي إليهم ذلك فقيل قالوا «آمنا» أي بما ذكر من وحدانيته تعالى وبرسالة رسوله كما يؤذن به قولهم «واشهد بأننا مسلمون» أي مخلصون في إيماننا من اسلم وجهه لله وهذا القول منهم بمقتضى وحيه تعالى وأمره لهم بذلك نعمة جليلة كسائر النعم الفائضة عليه عليه الصلاة والسلام وكل ذلك نعمة على والدته أيضا روي أنه عليه السلام لما علم أنه سيؤمر بذكر هاتيك النعم العظام جعل يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد يقول لكل يوم رزقه لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت أينما أمسى بات «إذ قال الحواريون» كلام مستأنف مسوق لبيان بعض ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه منقطع عما قبله كما ينبئ عنه الإظهار في موقع الإضمار وإذ منصوب بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب والالتفات لكن لا لأن الخطاب السابق لعيسى عليه
96

السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكاية خطاب بل لأن الخطاب لمن خوطب بقوله تعالى واتقوا الله الآية فتأمل كأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم عقيب حكاية ما صدر عن الحواريين من المقالة المعدودة من نعم الله تعالى الفائضة على عيسى عليه السلام اذكر للناس وقت قولهم الخ وقيل هو ظرف لقالوا أريد به التنبيه على أن ادعاءهم الإيمان والإخلاص لم يكن عن تحقيق وإيقان ولا يساعده النظم الكريم «يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء» اختلف في أنهم هل كانوا مؤمنين أو لا فقيل كانوا كافرين شاكين في قدرة الله تعالى على ما ذكروا وفي صدق عيسى عليه السلام كاذبين في دعوى الإيمان والإخلاص وقيل كانوا مؤمنين وسؤالهم للاطمئنان والتثبت لا لإزاحة الشك وهل يستطيع سؤال عن الفعل دون القدرة عليه تعبيرا عنه بلازمه وقيل الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة وقيل المعنى هل يطيع ربك بمعنى هل يجيبك واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب وقرئ هل تستطيع ربك أي سؤال ربك والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه وهي قراءة علي وعائشة وابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم وسعيد بن جبير في آخرين والمائدة الخوان الذي عليه الطعام من مادة إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليه ونظيره قولهم شجرة مطعمة وقال أبو عبيد هي فاعلة بمعنى مفعول كعيشة راضية «قال» استئناف مبني على سؤال ناشىء مما قبله كأنه قيل فماذا قال لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك فقيل قال «اتقوا الله» أي من أمثال هذا السؤال «إن كنتم مؤمنين» أي بكمال قدرته تعالى وبصحة نبوتي أو إن صدقتم في ادعاء الإيمان والإسلام فإن ذلك مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات وقيل أمرهم بالتقوى ليصير ذلك ذريعة لحصول المسؤول كقوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة «قالوا» استئناف كما سبق «نريد أن نأكل منها» تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد بالسؤال إزاحة شبهتنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدح ذلك في الإيمان والتقوى بل نريد أن نأكل منها أي أكل تبرك وقيل أكل حاجة وتمتع «وتطمئن قلوبنا» بكمال قدرته تعالى وإن كنا مؤمنين به من قبل فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلالي مما يوجب ازدياد الطمأنينة وقوة اليقين «ونعلم» أي علما يقينيا لا يحوم حوله شائبة شبهة أصلا وقرئ ليعلم على البناء للمفعول «أن قد صدقتنا» أن هي المخففة من أن وضمير الشأن محذوف أي ونعلم أنه قد صدقتنا في دعوى النبوة وأن الله يجيب دعوتنا وإن كنا عالمين بذلك من قبل «ونكون عليها من الشاهدين» نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر وعليها متعلق بالشاهدين إن جعل
اللام للتعريف وبيان لما يشهدون عليه
97

إن جعلت موصولة كأنه قيل على أي شهيد يشهدون فقيل عليها فإن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول أو هو حال من اسم كان أو هو متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين «قال عيسى ابن مريم» لما رأى عليه السلام أن لهم غرضا صحيحا في ذلك وأنهم لا يقلعون عنه أزمع على استدعائها واستنزالها وأراد أن يلزمهم الحجة بكمالها روي أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره ثم قال «اللهم ربنا» ناداه سبحانه وتعالى مرتين مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات ومرة بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إظهارا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء «أنزل علينا» تقديم الظرف على قوله «مائدة» لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقوله «من السماء» متعلق بأنزل أو بمحذوف هو صفة لمائدة أي كائنة من السماء نازلة منها وقوله «تكون لنا عيدا» في محل النصب على أنه صفة لمائدة واسم تكون ضمير المائدة وخبرها إما عيدا ولنا حال منه أو من ضمير تكون عند من يجوز إعمالها في الحال وإما لنا وعيدا حال من الضمير في لنا لأنه وقع خبرا فيحمل ضميرا أو من ضمير تكون عند من يرى ذلك أن يكون يوم نزولها عيدا نعظمه وإنما أسند ذلك إلى المائدة لأن شرف اليوم مستعار من شرفها وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيدا وقرئ تكن بالجزم على جواب الأمر كما في قوله تعالى فهب لي من لدنك وليا يرثني خلا أن قراءة الجزم هناك متواترة وههنا من الشواذ «لأولنا وآخرنا» بدل من لنا بإعادة العامل أي عيدا لمتقدمينا ومتأخرينا روي أنها نزلت يوم الأحد ولذلك اتخذه النصارى عيدا وقيل للرؤساء منا والأتباع وقيل يأكل منها أولنا وآخرنا وقرئ لأولانا وأخرانا بمعنى الأمة والطائفة «وآية» عطف على عيجا «منك» متعلق بمحذوف هو صفة لآية أي كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي «وارزقنا» أي المائدة أو الشكر عليها «وأنت خير الرازقين» تذييل جار مجرى التعليل أي خير من يرزق لأنه خالق الأرزاق ومعطيها بلا عوض وفي إقباله عليه السلام على الدعاء بتكرير النداء المنبىء عن كمال الضراعة والابتهال وزيادته ما لم يخطر ببال السائلين من الأمور الداعية إلى الإجابة والقبول دلالة واضحة على أنهم كانوا مؤمنين وأن سؤالهم كان لتحصيل الطمأنينة كما في قول إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيى الموتى وإلا لما قبل اعتذارهم بما ذكروه ولما أضاف غليه من عنده ما يؤكده ويقربه إلى القبول «قال الله» استئناف كما سبق «إني منزلها عليكم» ورود الإجابة منه تعالى بصيغة التفعيل المنبئة عن التكثير مع كون الدعاء منه عليه السلام بصيغة الإفعال لإظهار كمال
98

اللطف والإحسان كما في قوله تعالى قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب الخ بعد قوله تعالى لئن أنجانا من هذه الخ مع ما فيه من مراعاة ما وقع في عبارة السائلين وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسما تحقيق للوعد وإيذان بأنه تعالى منجز له لا محالة من غير صارف يثنيه ولا مانع يلويه وإشعار بالاستمرار أي إني منزل المائدة عليكم مرات كثيرة وقرئ بالتخفيف وقيل الإنزال والتنزيل بمعنى واحد «فمن يكفر بعد» أي بعد تنزيلها «منكم» متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يكفر «فإني أعذبه» بسبب كفره بعد معاينة هذه الآية الباهرة «عذابا» اسم مصدر بمعنى التعذيب وقيل مصدر بحذف الزوائد وانتصابه على المصدرية بالتقديرين المذكورين وجوز أن يكون مفعولا به على الاتساع وقوله تعالى «لا أعذبه» في محل النصب على أنه صفة لعذابا والضمير له أي أعذبه تعذيبا لا أعذب مثل ذلك التعذيب «أحدا من العالمين» أي من عالمي زمانهم أو من العالمين جميعا قيل لما سمعوا هذا الوعيد الشديد خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا وقالوا لا نريدها فلم تنزل وبه قال مجاهد والحسن رحمهما الله والصحيح الذي عليه جماهير الأمة ومشاهير الأئمة أنها قد نزلت روي أنه عليه السلام لما دعا بما دعا وأجيب بما أجيب إذا بسفرة حمراء نزلت بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة للعالمين ولا تجعلها مثلة وعقوبة ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون رأس الحواريين يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بالقدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله فقالوا يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال يا سمكة أحيي بإذن الله فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة ثم عصو فمسخوا قردة وخنازير وقيل كانت تأتيهم أربعين يوما غبا يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفىء طارت وهم ينظرون في ظلها ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره ولا مريض إلا برئ ولم يمرض ابدا ثم أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء فاضطربت الناس لذلك فمسخ منهم من مسخ فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة في الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه والسلام وبكوا على الممسوخين فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف به وجعل يدعوهم بأسمائهم واحد بعد واحد فيبكون ويشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عيسى عليه السلام قالا لهم صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم فصاموا فلما فرغوا قالوا إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا وسألوا الله تعالى المائدة فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم قال كعب نزلت منكوسة تطير بها
99

الملائكة بين السماء والأرض عليها كل الطعام إلا اللحم وقال قتادة كان عليها ثمر من ثمار الجنة وقال عطية العوفي نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء وقال الكلبي نزلت سمكة وخمسة أرغفة فأكلوا ما شاء الله تعالى والناس ألف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهد وقالوا ويحكم إنما سحر أعينك فمن أراد الله به الخير ثبته على بصيرة ومن أراد فتنته رجع إلى كفره فمسخوا خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا وكذلك كل ممسوخ «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم» معطوف على إذ قال الحواريون منصوب بما نصبه من المضمر المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أو بمضمر مستقل
معطوف على ذلك إي اذكر للناس وقت قول الله عز وجل له عليه السلام في الآخرة توبيخا للكفرة وتبكيتا لهم بإقراره عليه السلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية وأمره لهم بعبادته عز وجل وصيغة الماضي لما مر من الدلالة على التحقق والوقوع «أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين» الاتخاذ إما متعد إلى مفعولين فإلهين ثانيهما وإما إلى واحد فهو حال من المفعول وليس مدار أصل الكلام أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال الفاشي وعليه قوله تعالى أأنت فعلت هذا بآلهتنا ونظائره بل على أن المتيقن هو الاتخاذ والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه السلام أو من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أو هم ضلوا السبيل وقوله تعالى «من دون الله» متعلق بالاتخاذ ومحله النصب على اية حال من فاعله أي متجاوزين الله أو بمحذوف هو صفة لإلهين أي كائنين من دونه تعالى وأيا ما كان فالمراد اتخاذهما بطريق إشراكهما به سبحانه كما في قوله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا وقوله عز وجل ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله إلى قوله سبحانه وتعالى عما يشركون إذ به يتأتى التوبيخ ويتسنى التقريع والتبكيت ومن توهم أن ذلك بطريق الاستقلال ثم اعتذر عنه بأن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يد عيسى ومريم عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ولم يتخذوه تعالى إلها في حق ذلك البعض فقد ابعد عن الحق بمراحل وأما من تعمق فقال إن عبادته تعالى مع عبادة غيره كلا عبادة فمن عبده تعالى مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم يعبده تعالى فقد غفل عما يجد به واشتغل بما لا يعنيه كدأب من قبله فإن توبيخهم إنما يحصل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحا لا بما يلزمه بضرب من التأويل وإظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى عيسى عليه السلام «قال» استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا يقول عيسى عليه السلام حينئذ فقيل يقول وإيثار صيغة الماضي لما مر مرارا «سبحانك» سبحان علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه
100

وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح الذي هو الذهاب والإبعاد في الأرض ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل ومن جهة العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن ومن جهة إقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن أقول ذلك أو من أن يقال في حقك ذلك وأما تقدير من أن يكون لك شريك في الألوهية فلا يساعده سياق النظم الكريم وسياقه وقوله تعالى «ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق» استئناف مقرر للتنزيه ومبين للمنزه منه وما عبارة عن القول المذكور أي ما يستقيم وما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله وإيثار ليس على الفعل المنفي لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقية وإفادة التأكيد بما في حيزه من الباء فإن اسمه ضميره العائد إلى ما وخبره بحق والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين كما في سقيا لك ونحوه وقوله تعالى «إن كنت قلته فقد علمته» استئناف مقرر لعدم صدور القول المذكور عنه عليه السلام بالطريق البرهاني فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه تعالى به قطعا فحيث انتفى علمه تعالى به انتفى صدوره عنه حتما ضرورة أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم «تعلم ما في نفسي» استئناف جار مجرى التعليل لما قبله كأنه قيل لأنك تعلم ما أخفيه في نفسي فكيف بما أعلنه وقوله تعالى «ولا أعلم ما في نفسك» بيان للواقع وإظهار لقصوره أي ولا أعلم مات تخفيه من معلوماتك وقوله في نفسك للمشاكلة وقيل المراد بالنفس هو الذات ونسبة المعلومات إليها لما أنها مرجع الصفات التي من جملتها العلم لمتعلق بها فلم يكن كنسبتها إلى الحقيقة وقوله تعالى «إنك أنت علام الغيوب» تعليل لمضمون الجملتين منطوقا ومفهوما وقوله تعالى «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به» استئناف مسوق لبيان ما صدر عنه قد أدرج فيه عدم صدور القول المذكور عنه على أبلغ وجه وآكده حيث حكم بانتفاء صدور جميع الأقوال المغايرة للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القول المذكور دخولا أوليا أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني به وإنما قيل ما قلت لهم نزولا على قضية حسن الأدب ومراعاة لما ورد في الاستفهام وقوله تعالى «أن اعبدوا الله ربي وربكم» تفسير للمأمور به وقيل عطف بيان للضمير في به وقيل بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا ليلزم بقاء الموصول بلا عائد وقيل خبر مضمر أو مفعول مثل عو أو أعني «وكنت عليهم شهيدا» رقيبا أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك وأمنعهم عن المخالفة أو مشاهدا لأحوالهم من كفر وإيمان «ما دمت فيهم» ما مصدرية ظرفية تقدر بمصدر مضاف إليه زمان ودمت صلتها أي كنت شهيدا عليهم مدة دوامي فيما بينهم «فلما توفيتني» بالرفع إلى السماء كما في قوله تعالى إني متوفيك ورافعك إلي فإن التوفي أخذ الشيء وافيا والموت نوع منه قال تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها «كنت أنت الرقيب عليهم» لا غيرك فأنت ضمير الفصل أو تأكيد وقرئ الرقيب بالرفع على أنه خبر أنت والجملة خبر لكان وعليهم
101

متعلق به أي أنت كنت الحافظ لأعمالهم والمراقب فمنعت من أدرت عصمته عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين قال ما قالوا «وأنت على كل شيء شهيد» اعتراض تذييلي مقرر لما قبله وفيه إيذان بأنه تعالى كان هو الشهيد على الكل حين كونه عليه السلام فيما بينهم وعلى متعلقه بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة «إن تعذبهم فإنهم عبادك» وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك «وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز» اي القوي القادر على جميع المقدورات ومن جملتها الثواب والعقاب «الحكيم» الذي لا يريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمة ومصلحة فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل وعدم غفران الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمنع الترديد وقيل الترديد بالنسبة إلى فرقتين والمعنى إن تعذبهم أي من كفر منهم وإن تغفر لهم أي من آمن منهم «قال الله» كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكي مما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأشير إلى نتيجته ومآله أي يقول الله تعالى يومئذ عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيرا إلى صدقه في ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وصيغة الماضي لما مر في نظائره مرارا وقوله تعالى «هذا» إشارة إلى ذلك اليوم وهو مبتدأ خبره ما بعده أي هذا اليوم الذي حكى بعض ما يقع فيه إجمالا وبعضه تفصيلا «يوم ينفع الصادقين» بالرفع والإضافة والمراد بالصادقين كما ينبئ عنه الاسم المستمرون في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به من الرسل
الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصل الشهادة بصدق عيسى عليه السلام ومن الأمم المصدقين لهم المقتدين بهم عقدا وعملا به يتحقق المقصود بالحكاية من ترغيب السامعين في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم لا كل من صدق في أي شيء كان ضرورة أن الجاني المعترف في الدنيا بجنايته لا ينفعه يومئذ واعتبار استمراره في الدارين مع أنه لا حاجة إليه كما عرفت ولا دخل له في استتباع النفع والجزاء مما لا وجه له وهذه القراءة هي التي أطبق عليها الجمهور وهي الأليق بسياق النظم الكريم وسياقه وقد قرىء يوم بالنصب إما على أنه ظرف لقال فهذا حينئذ إشارة إلى قوله تعالى أأنت قلت الخ وأما على أنه خبر لهذا فهو حينئذ إشارة إلى جواب عيسى عليه السلام أي هذا الجواب منه عليه السلام واقع يوم ينفع الخ أو إلى السؤال والجواب معا وقيل هو خبر ولكنه بني على الفتح وليس بصحيح عند البصريين لأنه مضاف إلى متمكن وقرئ يوم بالرفع والتنوين كقوله تعالى واتقوا يوما لا تجزى الآية «لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا» استئناف مسوق لبيان النفع المذكور كأنه قيل
102

ما لهم من النفع فقيل لهم نعيم دائم وثواب خالد وقوله تعالى «رضي الله عنهم» استئناف آخر لبيان انه عز وجل أفاض عليهم غير ما ذكر من الجنات ما لا قدر لها عنده وهو رضوانه الذي لا غاية وراءه كما ينبئ عنه قوله تعالى «ورضوا عنه» إذ لا شيء أعز منه حتى يمتد إليه أعناق الهمم «وذلك» إشارة إلى نيل رضوانه تعالى وقيل إلى نيل الكل «الفوز العظيم» لما أن عظم شأن الفوز تابع لعظم شأن المطلوب الذي تعلق به الفوز وقد عرفت أن لا مطلب وراء ذلك أصلا وقوله تعالى «لله ملك السماوات والأرض وما فيهن» تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا في حق المسيح وأمه أي له تعالى خاصة ملك السماوات والأرض وما فيهما من العقلاء وغيرهم يتصرف فيها كيف يشاء إيجاد وإعداما وإحياء وإماتة وأمرا ونهيا من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخل في ذلك وفي إيثار ما على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاة للأصل وإشارة إلى تساوي الفريقين في استحالة الربوبية حسب تساويهما في تحقيق المربوبية وعلى تقدير اختصاصها بغير العقلاء تنبيه على كمال قصورهم عن رتبة الألوهية وإهانة بهم بتغليب غيرهم عليهم «وهو على كل شيء قدير» من الأشياء «قدير» مبالغ في القدرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا
103

مكية غير ست آيات أو ثلاث من قوله تعالى قل تعالوا أتل وهي مائة وخمس وستون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «الحمد لله» تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة أولا باسم الذات الذي عليه يدور كافة ما يوجبه من صفات الكمال وإليه يؤول جميع نعوت الجلال والجمال للإيذان بأنه عز وجل هو المستحق له بذاته لما مر من اقتضاء اختصاص الحقيقة به سبحانه لاقتصار جميع أفرادها عليه بالطريق البرهاني ووصفه تعالى ثانيا بما ينبئ عن تفصيل بعض موجباته المنتظمة في سلك الإجمال من عظائم الآثار وجلائل الأفعال من قوله عز وجل «الذي خلق السماوات والأرض» للتنبيه على استحقاقه تعالى له واستقلاله به باعتبار أفعاله العظائم وآلائه الجسام أيضا وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد أي أنشأهما على ما هما عليه من النمط الفائق والطراز الرائق منطويتين من أنواع البدائع وأصناف الروائع على ما تتحير فيه العقول والأفكار من تعاجيب العبر والآثار تبصرة وذكرى لأولي الأبصار وجمع السماوات لظهور تعدد طبقاتها واختلاف آثارها وحركاتها وتقديمها لشرفها وعلو مكانها وتقدمها وجودا على الأرض كما هي «وجعل الظلمات والنور» عطف على خلق مترتب عليه لكون جعلهما مسبوقا بخلق منشئهما ومحلهما داخل معه في حكم الإشعار بعلة الحمد فكما أن خلق السماوات والأرض وما بينهما لكونه اثرا عظيما ونعمة جليلة موجب لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا كذلك جعل الظلمات والنور لكونه أمرا خطيرا ونعمة عظيمة مقتض لاختصاصه بجاعلهما والجمل هو الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية الكريمة وللتشريعي أيضا كما في قوله تعالى ما جعل الله من بحيرة الآية وأما ما كان فهو إنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن بكون فيه أوله أو منه أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان أو مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه كما في قوله عز وجل وجعل بينهما برزخا وقوله تعالى وجعل فيها رواسي وقوله تعالى واجعل لنا من لدنك وليا
104

الآية فإن كل واحد من هذه الظروف إما متعلق بنفس الجعل أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله تقدمت عليه لكونه نكرة وأيا ما كان فهو قيد في الكلام حتى إذا اقتضى الحال وقوعه عمدة فيه يكون الجعل متعديا إلى اثنين هو ثانيهما كما في قوله تعالى يجعلون أصابعهم في آذانهم وربما يشتبه الأمر فيظن أنا عمدة فيه وهو في الحقيقة قيد بأحد الوجهين كما سلف في قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة حيث قيل إن الظرف مفعول ثان لجاعل وقد أشير هناك إلى الذي يقضي به الذوق السليم وتقتضيه جزالة النظم الكريم أنه متعلق بجاعل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وأن المفعول الثاني هو خليفة وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله وجمع الظلمات لظهور كثرة أسبابها ومحالها عند الناس ومشاهدتهم لها على التفصيل وتقديمها على النور لتقدم الإعدام على الملكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين وقوله تعالى «ثم الذين كفروا بربهم يعدلون» معطوف على الجملة السابقة الناطقة بما مر من موجبات اختصاصه تعالى بالحمد المستدعي لاقتصار العبادة عليه كما حقق في تفسير الفاتحة الكريمة مسوق لإنكار ما عليه الكفرة واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها واجترائهم على ما يقضي ببطلانه بديهة العقول والمعنى أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته وباعتبار ما فصل من شؤونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ويعدلون به سبحانه أي يسوون به غيره في العبادة التي هي أقصي غايات الشكر الذي رأسه الحمد مع كون كل ما سواه مخلوقا له غير متصف بشيء من مبادئ الحمد وكلمة ثم لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه لا بعد بيانه بالآيات التنزيلية والموصول عبارة عن طائفة الكفار جار مجرى الاسم لهام من غير أن يجعل كفرهم بما يجب أن
يؤمن به كلا أو بعضا عنوانا للموضوع فإن ذلك مخل باستبعاد ما أسند إليهم من الإشراك والباء متعلقة بيعدلون ووضع الرب موضع ضميرة تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح والتقديم لمزيد الاهتمام والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد والمحافظة على الفواصل وترك المفعول لظهوره أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل بتنزيله منزلة اللازم إيذانا بأنه المدار في الاستبعاد والاستنكار لا خصوصية المفعول هذا هو الحقيق بجزالة التنزيل والخليق بفخامة شأنه الجليل وأما جعل الباء صلة لكفروا على أن يعدلون من العدول والمعنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته فيرده أن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته تعالى لهم أشد شناعة وأعظم جناية من عدولهم عن حمده عز وجل ولتحققه مع إغفاله أيضا فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصود الإفادة وإخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ عنه مما لا عهد له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي هذا وقد قيل إنه معطوف على خلق السماوات والمعنى أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدر على شيء منه لكن لا على قصد أنه صلة مستقلة ليكون بمنزلة أن يقال الحمد لله الذي عدلوا به بل على أنه داخل تحت الصلة بحيث يكون الكل صلة واحدة كأنه قيل الحمد لله الذي كان منه تلك النعم العظام ثم من الكفرة والكفر وأنت خبير بأن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده عز
105

جل حقه أن يكون له دخل في ذلك الإنباء ولو في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزل منه وادعاء أن له دخلا فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعم العظام على من لا يحمده تعسف لا يساعده النظام وتعكيس يأباه المقام كيف لا ومساق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات الآتية تشنيع الكفرة وتوبيخهم ببيان غاية إساءتهم مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيان نهاية إحسانه تعالى إليهم مع غاية اساءتهم في حقه تعالى كما يقتضيه الادعاء المذكور وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الإفادة فما ظنك بما هو من روادفها وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام فتأمل وكن على الحق المبين «هو الذي خلقكم من طين» استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به إثر بيان بطلان إشراكهم به تعالى مع معاينتهم لموجبات توحيده وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث مع أن ما كر من خلق السماوات والأرض من أوضحها وأظهرها كما ورد في قوله تعالى أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم لما أن محل النزاع بعثهم فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر وهم بشؤون أنفسهم أعرف والتعامي عن الحجة النيرة أقبح والالتفات لمزيد التشنيع والتوبيخ أي ابتدأ خلقكم منه فإنه المادة الأولى للكل لما أنه منشأ آدم الذي هو أبو البشر وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم عليه السلام وهو المخلوق منه حقيقة بأن يقال هو الذي خلق أباكم الخ مع كفاية علمهم بخلقه عليه السلام منه في إيجاب الإيمان بالبعث وبطلان الامتراء لتوضيح منهاج القياس وللمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمة خفية هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه السلام منه حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على لا نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكأن خلقه عليه السلام من الطين خلقا لكل أحد من فروعه منه ولما كان خلقه على هذا النمط الساري إلى جميع أفراد ذريته أبدع من أن يكون ذلك مقصورا على نفسه كما هو المفهوم من نسبة الخق المذكور إليه وأدل على عظم قدرة الخلاق العليم وكمال علمه وحكمته وكان ابتداء حال المخاطبين أولى بأن يكون معيار لانتهائها فعل ما فعل ولله در شأن التنزيل وعلى هذا السر مدار قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم الخ وقوله تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا كما سيأتي وقيل المعنى خلق أباكم منه على حذف المضاف وقيل معنى خلقهم منه خلقهم من النطفة الحاصلة من الأغذية المتكونة من الأرض وأيا ما كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة «ثم قضى» أي كتب لموت كل واحد منكم أجلا خاصا له أي أحدا معينا من الزمان يفنى عند حلوله لا محالة وكلمة ثم للإيذان بتفاوت ما بين خلقهم وبين تقدير آجالهم حسبما تقتضيه الحكم البالغة «وأجل مسمى» أي حد معين لبعثكم جميعا وهو مبتدأ لتخصصه بالصفة كما في قوله تعالى ولعبد مؤمن ولوقوعه
106

في موقع التفصيل كما في قول من قال إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وشق عندنا لم يحول وتنوينه لتفخيم شأنه وتهويل أمره لذلك أوثر تقديمه على الخبر الذي هو «عنده» مع أن الشائع المستفيض هو التأخير كما في قولك عندي كلام حق ولي كتاب نفيس كأنه قيل وأي أجل مسمى مثبت معين في علمه لا يتغير ولا يقف على وقت حلوله أحد لا مجملا ولا مفصلا وأما أجل الموت فمعلوم إجمالا وتقريبا بناء على ظهور أماراته أو على ما هو المعتاد في أعمار الإنسان وتسميته أجلا إنما هي باعتبار كونه غاية لمدة لبثهم في القبور لا باعتبار كونه مبدأ لمدة القيامة كما أن مدار التسمية في الأجل الأول هو كونه آخر مدة الحياة لا كونه أول مدة الممات لما أن الأجل في اللغة عبارة عن آخر المدة لا عن أولها وقيل الأجل الأول ما بين الخلق والموت الثاني ما بين الموت والبعث مكن البرزخ فإن الأجل كما يطلق على آخر المدة يطلق على كلها وهو الأوفق لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى قضى لكل أحد أجلين أجلا من مولده إلى موته وأجلا من موته إلى مبعثه فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر وإن كان فاجرا قاطعا نقص من أجل العمر وزيد في أجلى البعث وذلك قوله تعالى وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب فمعنى عدم تغير الأجل حينئذ عدم تغير آخره والأول هو الأشهر الأليق بتفخيم الأجل الثاني المنوط باختصاصه بعلمه تعالى والأنسب بتهويله المبني على مقارنته للطامة الكبرى فإن كون بعضه معلوما للخلق ومضيه من غير أن يقع فيه شيء من الدواهي كما يستلزمه الحمل على المعنى الثاني مخل بذلك قطعا ومعنى زيادة الأجل ونقصه فيما روي تأخير الأجل الأول وتقديمه «ثم أنتم تمترون» استبعاد واستنكار لامترائهم في البعث بعد معاينتهم لما ذكر من الحجج الباهرة الدالة عليه أي تمترون في وقوعه وتحققه في نفسه مع مشاهدتكم في أنفسكم من الشواهد ما يقطع مادة الامتراء بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة وما يتفرع عليها من العلم والقدرة وسائر الكمالات البشرية على مادة غير مستعدة لشيء منها أصلا كان أوضح اقتدار على إفاضتها على مادة قد استعدت لها وقارنتها مدة ومن ههنا تبين أن ما قيل من أن
الأجل الأول هو النوم والثاني هو الموت أو أن الأول أجل الماضيين والثاني أجل الباقيين أو أن الأول مقدار ما مضى من عمر كل أحد والثاني مقدار ما بقي منه مما لا وجه له أصلا لما رأيت من أن مساق النظم الكريم استبعاد امترائهم في البعث الذي عبر عن وقته بالأجل المسمى فحيث أريد به أحد ما ذكر من الأمور الثلاثة ففي أي شيء يمترون ووصفهم بالامتراء الذي هو الشك وتوجيه الاستبعاد إليه مع أنهم جازمون بانتفاء البعث مصرون على إنكاره كما ينبئ عنه قولهم أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ونظائره للدلالة على أن جزمهم المذكور في أقصى مراتب الاستبعاد والاستنكار وقوله تعالى «وهو الله» جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على ما قبلها مسوقة لبيان شمول أحكام إلهيته تعالى لجميع المخلوقات وإحاطة علمه بتفاصيل أحوال العباد واعمالهم المؤدية إلى الجزاء غثر الإشارة إلى تحقق المعاد في تضاعيف بيان كيفية خلقهم وتقدير آجالهم قوله تعالى «في السماوات وفي الأرض» متعلق بالمعنى
107

الوصفي الذي ينبئ عنه الاسم الجليل إما باعتبار أصل اشتقاقه وكونه علما للمعبود بالحق كأنه قيل وهو لمعبود فيهما وإما باعتبار أنه اسم اشتهر بما اشتهرت به الذات من صفات الكمال فلو حظ معه منها ما يقتضيه المقام من المالكية الكلية والتصرف الكامل حسبما تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة فعلق به الظرف من تلك الحيثية فصار كأنه قبل وهو المالك أو المتصرف المدبر فيهما كما في قوله تعالى وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وليس المراد بما ذكر من الاعتبارين أن الاسم الجليل يحمل على معناه اللغوي أو على معنى المالك أو المتصرف أو نحو ذلك بل مجرد ملاحظة أحد المعاني المذكورة في ضمنه كما لوحظ مع اسم الأسد في قوله أسد على الخ ما اشتهر به من وصف الجراءة التي اشتهر بها مسماه فجرى مجرى جرىء على وبهذا تبين أن ما قيل بصدد التصوير والتفسير أي هو المعروف بذلك في السماوات وفي الأرض أو هو المعروف المشتهر بالصفات الكمالية أو هو المعروف بالإلهية فيهما أو نحو ذلك بمعزل من التحقيق فإن المعتبر مع الاسم هو نفس الوصف البذي اشتهر به غذ هو الذي يقتضيه المقام حسبما بين آنفا لاشتهاره به ألا يرى أن كلمة على في المثال المذكور لا يمكن تعليقها باشتهار الاسم بالجراءة قطعا وقيل هو متعلق بما يفيده التركيب الحصري من التوحد والتفرد كأنه قيل وهو المتوحد بالإلهية فيهما وقيل بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة كأنه قيل وهو الذي يقال له الله فيهما لا يشرك به شيء في هذا الاسم على الوجه الذي سبق من اعتبار معنى التوحد أو القول في فحوى الكلام بطريق الاستتباع لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحد بالإلهية أو على تقدير القول وقد جوز أن يكون الظرف خبرا ثانيا على أن كونه سبحانه فيهما عبارة عن كونه تعالى مبالغا في العلم بما فيهما بناء على تنزيل علمه المقدس عن حصول الصور والأشباح لكونه حضوريا منزلة كونه تعالى فيهما وتصويره به على طريقة التمثيل المبني على تشبيه حالة علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما فإن العالم إذا كان في مكان كان عالما به وبما فيه على وجه لا يخفى عليه منه شيء فعلى هذا يكون قوله عز وجل «يعلم سركم وجهركم» أي ما أسررتموه وما جهرتم به من الأقوال وما أسررتموه وما أعلنتموه كائنا ما كان من الأقوال والأعمال بيانا وتقريرا لمضمونه وتحقيقا للمعنى المراد منه وتعليق علمه عز وجل بما ذكر خاصة مع شموله لجميع ما فيهما حسبما تفيده الجملة السابقة لانسياق النظم الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا على الوجه الثاني فإن ملاحظة الاسم الجليل من حيث المالكية الكلية والتصرف الكامل الجاري على النمط المذكور مستتبعة لملاحظة علمه المحيط حتما فيكون هذا بيانا وتقريرا له بلا ريب وأما على الأوجه الثلاثة الباقية فلا سبيل إلى كونه بيانا لكن لا لما قيل من أنه لا دلالة لاستواء السر والجهر في علمه تعالى على ما اعتبر فيهما من المعبودية والاختصاص بهذا الاسم إذ ربما يعبد ويختص به من ليس له كمال العلم فإنه باطل قطعا إذ المراد بمال ذكر هو المعبودية بالحق والاختصاص بالاسم الجليل ولا ريب في أنهما مما لا يتصور فيمن ليس له كمال العلم بديهة لأن ما ذكر من العلم غير معتبر في مدلول شيء من المعبودية بالحق والاختصاص بالاسم حتى يكون هذا بيانا له وبهذا تبين أنه ليس ببيان على الوجه الثالث أيضا لما أن التوحد بالإلهية لا يعتبر في مفهومه العلم الكامل ليكون هذا بيانا له بل هو معتبر فيما صدق عليه المتوحد وذلك غير كاف
108

في البيانية وقيل هو خبر بعد خبر عند من يجوز كون الخبر الثاني جملة كما في قوله تعالى فإذا هي حية تسعة وقيل هو الخبر والاسم الجليل بدل من هو وبه يتعلق الظرف المتقدم ويكفي في ذلك كون المعلوم فيهما كما في قولك رميت الصيد في الحرم إذا كان هو فيه وأنت خارجه ولعل جعل سرهم جهرهم فيهما لتوسيع الدائرة وتصوير أنه لا يعزب عن علمه شيء منهما في أي مكان كان لا لأنهما قد يكونان في السماوات أيضا وتعميم الخطاب لأهلها تعسف لا يخفى «ويعلم ما تكسبون» أي ما تفعلونه لجلب نفع أو دفع ضر من الأعمال المكتسبة بالقلوب أو بالجوارح سرا أو علانية وتخصيصها بالذكر مع اندراجها فيما سبق على التفسير الثاني للسر والجهر لإظهار كمال الاعتناء بها لأنها التي يتعلق بها الجزاء وهو السر في إعادة يعلم «وما تأتيهم من آية من آيات ربهم» كلام مستأنف وارد لبيان كفرهم بآيات الله وإعراضهم عنها بالكلية بعد ما بين في الآية الأولى إشراكهم بالله سبحانه وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد وفي الآية الأثنية امتراؤهم في البعث وإعراضهم عن بعض ى يأته والالتفات للإشعار بأن ذكر قبائحهم قد اقتضى أن يضرب عنهم الخطاب صفحا وتعدد جناياتهم لغيرهم ذما لهم وتقبيحا لحالهم فما نافية وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو للدلالة على الاستمرار التجددي ومن الأولى مزيدة للاستغراق والثاني تبعيضية واقعة مع مجرورها صفة لآية وإضافة الآيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها والمراد بها إما الآيات التنزيلية فإتيانها نزولا والمعنى ما ينزل إليهم آية من الآيات القرآنية التي من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله عز وجل المنبئة عن جريان أحكام ألوهيته تعالى على كافة الكائنات وإحاطة علمه بجميع أحوال الخق وأعمالهم الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها «إلا كانوا عنها معرضين» أي على وجه التكذيب والاستهزاء كما ستقف عليه وأما الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات فإتيانها ظهورها لهم والمعنى ما يظهر لهم آية من الآيات التكوينية التي من جملتها ما ذكر من جلائل شؤونه تعالى الشاهدة بوحدانيته إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان بمكونها وإيثاره على أن يقال إلا أعرضوا عنها كما وقع مثله في قوله تعالى وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر للدلالة على استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات وعن متعلقة بمعرضين قدمت عليه مراعاة للفواصل والجملة في محل النصب على أنها حال
من مفعول تأتي أو من فاعله المتخصص بالوصف لاشتمالها على ضمير كل منهما وأيا ما كان ففيها دلالة بينة على كمال مسارعتهم إلى الإعراض وإيقاعهم له في أن الإتيان كما يفصح عنه كلمة لما في قوله تعالى «فقد كذبوا بالحق لما جاءهم» فإن الحق عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه عبر بذلك إبانة لكمال قبح ما فعلوا به فإن تكذيب الحق مما لا يتصور صدوره
109

عن أحد والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنها شيء مغاير له في الحقيقة واقع عقيبه أو حاصل بسببه بل على أن الأول وهو عين الثاني حقيقة وإنما الترتيب بحسب التغاير الاعتباري وقد لتحقيق ذلك المعنى كما في قوله تعالى فقد جاءوا ظلما وزورا بعد قوله تعالى وقال الذين كفروا إن هذا الا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فإن ما جاءوه أي فعلوه من الظلم والزور عين قولهم المحكي لكنه لما كان مغايرا له مفهوما وأشنع منه حالا رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لأمره كذلك مفهوم التكذيب بالحق حيث كان أشنع من مفهوم الإعراض المذكور أخرج مخرج اللازم البين البطلان فرتب عليه بالفاء إظهارا لغاية بطلانه ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيدا لشناعته وتمهيدا لبيان أن ما كذبوا به آثر ذي أثير عواقب جليلة ستبدو لهم البتة والمعنى أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبه أصلا من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه كقوله تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كما ينبئ عنه قوله تعالى «فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون» فإن ما عبارة عن الحق المذكور عبر عنه بذلك تهويلا لأمره بإبهامه وتعليلا للحكم بما في حيز الصلة وأنباؤه عبارة عما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة التي نطقت بها آيات الوعيد وفي لفظ الأنباء إيذان بغاية العظم لما أن النبأ لا يطلق إلا على خبر عظيم الوقع وحملها على العقوبات الآجلة أو على ظهور الإسلام وعلو كلمته يأباه الآيات الآتية وسوف لتأكيد مضمون الجملة وتقريره أي فسيأتيهم البتة وإن تأخر مصداق أنباء الشيء الذي كانوا يكذبون به قبل من غير أن يتدبروا في عواقبه وإنما قيل يستهزءون إيذانا بأن تكذيبهم كان مقرونا بالاستهزاء كما أشير إليه هذا على أن يراد بالآيات القرآنية وهو الأظهر وأما إن أريد بها الآيات التكوينية فالفاء داخلة على علة جواب شرط محذوف والإعراض على حقيقته كأنه قيل إن كانوا معرضين عن تلك الآيات فلا تعجب فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظم من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات ولا مساغ لحمل الآيات في هذا الوجه على كلها أصلا وأما ما قيل من أن المعنى أنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بالقرآن فمما ينبغي تنزيه التنزيل عن أمثاله «ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن» استئناف مسوق لتعيين ما هو المراد بالأنباء التي سبق بها الوعيد وتقرير إتيانها بطريق الاستشهاد وهمزة الإنكار لتقرير الرؤية وهي عرفانية مستدعية لمفعول واحد وكم استفهامية كانت أو خبرية معلقة لها عن العمل مفيدة للتكثير سادة مع ما في حيزها مسد مفعولها منصوبة بأهلكنا على المفعولية على أنها عبارة عن الأشخاص ومن قرن مميز لها على أنه عبارة عن أهل عصر من الأعصار سمو بذلك لاقترانهم برهة
110

من الدهر كما في قوله عليه الصلاة والسلام خير القرون قرني ثم الذين يلونهم الحديث وقيل هو عبارة عن مدة من الزمان والمضاف محذوف أي من أهل قرن وأما انتصابها على المصدرية أو على الظرفية على أنها عبارة عن المصدر أو عن الزمان فتعسف ظاهر ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا أي ألم يعرفوا بمعاينة الآثار وسماع الأخبار كم أمة أهلكنا من قبل أهل مكة أي من قبل خلقهم أو من قبل زمانهم على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كعاد وثمود واضرابهم وقوله تعالى «مكناهم في الأرض» استئناف لبيان كيفية الإهلاك وتفصيل مباديه مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل كيف كان ذلك فقيل مكانهم الخ وقيل هو صفة لقرن لما أن النكرة مفتقرة إلى مخصص فإذا وليها ما يصلح مخصصا لها تعين وصيفته لها وأنت خبير بأن تنوينه التفخيمي مغن له عن استدعاء الصفة على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونه ومضمون ما عطف عليه من الجمل الأربع أمرا مفروغا عنه غير مقصود بسياق النظم مؤد إلى اختلاف النظم الكريم كيف لا والمعنى حينئذ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا إياهم بذنوبهم وأنه بين الفساد وتمكين الشيء في الأرض جعله قارا فيها ولما لزمه جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكنه في الأرض ومنه قوله تعالى ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وأخرى مكن له في الأرض ومنه قوله تعالى إنا مكنا له في الأرض حتى أجرى كل منهما مجرى الآخر ومنه قوله تعالى «ما لم نمكن لكم» بعد قوله تعالى مكناهم في الأرض كأنه قيل في الأول مكنا لهم أو في الثاني ما لم نمكنكم وما نكرة موصوفة بما بعدها من الجملة المنفية والعائد محذوف محلها على النصب على المصدرية أي مكناهم تمكينا لم نمكنه لكم والالتفات لما في مواجهتهم بضعف الحال مزيد بيان لشأن الفريقين ولدفع الاشتباه من أول الأمر عن مرجعي الضميرين «وأرسلنا السماء» أي المطر أو السحاب أو المظلة لأنها مبدأ المطر «عليهم» متعلق بأرسلنا «مدرارا» أي مغزارا حال من السماء «وجعلنا الأنهار» أي صيرناها فقوله تعالى «تجري من تحتهم» مفعول ثان لجعلنا أو أنشأناها فهو حال من مفعوله ومن تحتهم متعلق بتجري وفيه من الدلالة على كونها مسخرة لهم مستمرة على الجريان على الوجه المذكور ما ليس في أن يقال وأجرينا الأنهار من تحتهم وليس المراد بتعداد هاتيك النعم العظام الفائضة عليهم بعد ذكر تمكينهم بيان عظم جنايتهم في كفرانها واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيان حيازتهم لجميعه أسباب نيل المآرب ومبادى الأمن والنجاة من المكاره والمعاطب وعدم إغناء ذلك عنهم شيئا والمعنى أعطيناهم من البطة في الأجسام والامتداد في الأعمار والسعة من الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا في استجلاب المنافع واستدفاع المضار ما لم نعط أهل مكة ففعلوا ما فعلوا «فأهلكناهم بذنوبهم» اي أهلكنا كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب فما أغنى عنهم تلك العدد والأسباب فسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب وهذا كما ترى آخر ما به الاستشهاد والاعتبار وأما قوله سبحانه «وأنشأنا من بعدهم» أي أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن «قرنا آخرين» بدلا من الهالكين فلبيان كمال قدرته تعالى وسعة سلطانه وأن ما ذكر من إهلاك الأمم الكثيرة
111

لم ينقص من ملكه شيئا بل كلما أهلك أمة أنشأ بدلها أخرى «ولو نزلنا عليك» جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب لبيان شدة شكيمتهم في المكابرة وما يتفرع عليها من الأقاويل الباطلة إثر بيان إعراضهم عن آيات الله تعالى وتكذيبهم بالحق واستحقاقهم بذلك لنزول العذاب ونسبة التنزيل ههنا إليه عليه السلام مع نسبة إتيان الآيات
ومجىء الحق فيما سبق إليهم للإشعار بقدحهم في نبوته عليه السلام في ضمن قدحهم فيما نزل عليه صريحا وقال الكلبي ومقاتل نزلت في النضرين الحرث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل ابن خويلد حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله تعالى وأنك رسوله «كتابا» إن جعل اسما كالإمام فقوله تعالى «في قرطاس» متعلق بمحذوف وقع صفة له أي كتابا كائنا في صحيفة وإن جعل مصدرا بمعنى المكتوب فهو متعلق بنفسه «فلمسوه» 6 أي لكتاب وقيل القرطاس وقوله تعالى «بأيديهم» مع ظهور أن اللمس لا يكون عادة إلا بالأيدي لزيادة التعين ودفع احتمال التجوز الواقع في قوله تعالى وأما لمسنا السماء أي تفحصنا أي فمسوه بأيدهم بع ما رأوه بأعينهم بحيث لم يبق لهم في شانه اشتباه ولم يقدروا على الاعتذار بتسكير الأبصار «لقالوا» وإنما وضع الموصول موضع الضمير للتنصيص على اتصافهم بما في حيز الصلة من الكفر الذي لا يخفى حسن موقعه باعتبار مفهومه اللغوي أيضا «إن هذا» أي ما هذا مشيرين إلى ذلك الكتاب «إلا سحر مبين» أي بين كونه سحرا تعننا وعنادا للحق بعد ظهوره كما هو دأب المفحم المحجوج وديدان المكابر اللجوج «وقالوا لولا أنزل عليه ملك» شروع في قدحهم في نوبته عليه السلام صريحا بعد ما أشير إلى قدحهم فيهما ضمنا وقيل هو معطوف على جواب لو وليس بذاك لما أن تلك المقالة الشنعاء ليست مما يقدر صدوره عنهم على تقدير تنزيل الكتاب المذكور بل هي من أباطيلهم المحققة وخرافاتهم الملفقة التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل أي هلا أنزل عليه عليه السلام ملك بحيث نراه ويكلمنا أنه نبي حسبما نقل عنهم فيما روي عن الكلبي ومقاتل ونظيره قولهم لولا انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ولما كان مدار هذا الاقتراح على شيئين إنزال الملك كما هو وجعله معه عليه السلام نذيرا أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الوجود أصلا لاشتماله على أمرين متباينين لا يجتمعان في الوجود لما أن إنزال الملك على صورته يقتضي انتفاء جعله نذيرا وجعله نذيرا يستدعي عدم إنزاله على صورته لا محالة وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى «ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر» أي لو أنزلنا ملكا عللا هيئاته حسبما اقترحوه والحال أنه من هول المنظر بحيث لا تطيق بمشاهدته قوى الآحاد البشرية ألا يرى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكة ويفاوضونهم على الصور
112

البشرية كضيف إبراهيم ولوط وخصم داود عليهم السلام وغير ذلك وحيث كان شأنهم كذلك وهم مؤيدون بالقوى القدسية فما ظنك بمن عداهم من العوام فلو شاهدوه كذلك لقضي امر هلاكهم بالكلية واستحال جعله نذيرا وهو مع كونه خلاف مطلوبهم مستلزم لإخلاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة من إرسال الرسل وتأسيس الشرائع وقد قال سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وفيه كما ترى إيذان بأنهم في ذلك الاقتراح كالباحث عن حتفه بظلفه وأن عدم الإجابة إليه للبقيا عليهم وبناء الفعل الأول في الجواب للفاعل الذي هو نون العظمة مع كونه في السؤال مبنيا للمفعول لتهويل الأمر وتربية المهابة وبناء الثاني للمفعول للجري على سنن الكبرياء وكلمة ثم في قوله تعالى «ثم لا ينظرون» أي لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين فضلا عن أن ينذروا به كما هو المقصود بالإنذار للتنبيه على تفاوت ما بين قضاء الأمر وعدم الإنظار فإن مفاجأة العذاب أشد من نفس العذاب وأشق وقيل في سبب إهلاكهم أنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته وهي آية لا شيء أبين منها ثم لم يؤمنوا لم يكن بد من إهلاكهم وقيل أنهم إذا رأوه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف فيجب إهلاكهم وإلى الثاني بقوله تعالى «ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا» على أن الضمير الأول للنذير المفهوم من فحوى الكلام بمعونة المقام وإنما لم يجعل للملك المذكور قبله بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال لو جعلناه نذيرا لجعلناه رجلا مع فهم المراد منه أيضا لتحقيق أن مناط إبراز الجعل الأول في معرض الفرض والتقدير ومدار استلزامه للثاني إنما هو ملكية النذير لا نذيرية الملك وذلك لأن الجعل حقه أن يكون مفعوله الأول مبتدأ والثاني خبرا لكونه بمعنى التصيير المنقول من صار الداخل على المبتدأ والخبر ولا ريب في أن مصب الفائدة ومدار اللزوم بين الشرطية هو محمول المقدم لا موضوعه فحيث كانت امتناعية أريد بها بيان انتفاء الجعل الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يجعل مدار الاستلزام في الأول مفعولا ثانيا لا محالة ولذلك جعل مقابله في الجعل الثاني كذلك إبانة لكمال التنافي بينهما الموجب لانتفاء الملزوم والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول والمعنى لو جعلنا النذير الذي اقترحوه ملكا لمثلنا ذلك الملك رجلا لما مر من عدم استطاعة الآحاد لمعاينة الملك على هيكله وفي إيثار رجلا على بشرا إيذان بأن الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به التمثيل وقوله تعالى «وللبسنا عليهم» عطف على جواب لو مبني على الجواب الأول وقرئ بحذف لام الجواب اكتفاء بما في المعطوف عليه يقال لبست الأمر على القوم ألبسه إذا شبهته وجعلته مشكلا وأصله الستر بالثوب وقرئ الفعلان بالتشديد للمبالغة أي ولخلطنا عليهم بتمثيله رجلا «ما يلبسون» على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له إنما أنت بشر ولست بملك ولو استدل على ملكيته بالقرآن المعجز الناطق بها أو بمعجزات أخر غير ملجئة إلى التصديق لكذبوه كما كذبوا النبي عليه الصلاة والسلام ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم الأمر الأول والتعبير عن تمثيله تعالى رجلا باللبس إما لكونه في سوء اللبس
113

أو لكونه سببا للبسهم أو لوقوعه في صحبته بطريق المشاكلة وفيه تأكيد لاستحالة جعل النذير ملكا كأنه قيل لو فعلناه لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لبس الأمر عليهم وقد جوز أن يكون المعنى وللبسنا عليهم حينئذ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله البينة «ولقد استهزئ برسل من قبلك» تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه وفي تصدير الجملة بلام القسم وحرف التحقيق من الاعتناء بها ما لا يخفى وتنوين رسل للتفخيم والتكثير ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسل أي وبالله لقد استهزىء برسل أولي شأن خطير وذوي عدد كبير كائنين من زمان قبل زمانك على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه «فحاق» عقيبه أي أحاط أو نزل أو حل أو نحو ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يستعمل إلا في الشر والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله وقوله تعالى «بالذين سخروا منهم» أي استهزؤا بهم من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى «ما كانوا به يستهزؤون» للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم وما إما موصولة مفيدة للتهويل أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزءون به حيث أهلكوا لأجله وإما مصدرية أي فنزل بهم وبال استهزائهم وتقديم الجار والمجرور على الفعل لرعاية الفواصل «قل سيروا في الأرض» بعد بيان ما فعلت الأمم الخالية وما فعل به خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه وتذكيرهم بأحوالهم الفظيعة
تحذيرا لهم عما هم عليه وتكملة للتسلية بما في ضمنه من العدة اللطيفة بأنه سيحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم الأولين ولقد أنجز ذلك يوم بدر أي إنجاز أي سيرو في الأرض لتعرف أحوال أولئك الأمم «ثم انظروا» أي تفكروا «كيف كان عاقبة المكذبين» وكلمة ثم إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتسنى إلا بعد انتهاء السير إلى أماكنهم وإما لإبانة ما بينهما من التفاوت في مراتب الوجوب وهو الأظهر فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلة إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قوله عز وجل فانظروا الآية وأما أن الأول الأول لإباحة السير للتجارة ونحوها والثاني لإيجاب النظر في آثارهم وثم لتباعد ما بين الواجب والمباح فلا يناسب المقام وكيف معلقة لفعل النظر ومحل الجملة النصب بنزع الخافض أي تفكروا في أنهم كيف أهلكوا بعذاب الاستئصال والعاقبة مصد كالعافية ونظائرها وهي منتهى الأمر ومآله ووضع المكذبين موضع المستهزئين لتحقيق أن مدار إصابة ما أصابهم هو التكذيب لينزجر السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحالة بناء على توهم أنه المدار في ذلك «قل» لهم بطريق الإلجاء
114

والتبكيت «لمن ما في السماوات والأرض» من العقلاء وغيرهم أي لمن الكائنات جميعا خالقا وملكا وتصرفا وقوله تعالى «قل لله» تقرير لهم وتنبيه على أنه المتعين للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتى لأحد أن يجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله وقوله تعالى «كتب على نفسه الرحمة» جملة مستقلة داخلة تحت الأمر ناطقة بشمول رحمته الواسعة لجميع الخلق شمول ملكه وقدرته للكل مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بعباده لا يعدل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة والإنابة وأن ما سبق ذكره وما لحق من أحكام الغضب ليس من مقتضيات ذاته تعالى بل من جهة الخلق كيف لا ومن رحمته أن خلقهم على الفطرة السليمة وهداهم إلى معرفته وتوحيده بنصب الآيات الأنفسية والآفاقية وإرسال الرسل وإنزال الكتب المشحونة بالدعوة إلى موجبات رضوانه والتحذير عن مقتضيان سخطه وقد بدلوا فطرة الله تبديلا وأعرضوا عن الآيات بالمرة وكذبوا بالكتب واستهزءوا بالرسل وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ولولا شمول رحمته لسلك بهؤلاء أيضا مسلك الغابرين ومعنى كتب الرحمة على نفسه أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء أصلا وقيل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما قضى الله تعالى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي وعنه في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب ما أول شيء ابتدأه الله تعالى من خلقه فقال كعب كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد كتابة الزبرجد واللؤلؤ والياقوت إني أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي ومعنى سبق الرحمة وغلبتها أنها أقدم تعلقا بالخلق وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير وفي التعبير عن الذات بالنفس حجة على من ادعى أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى وأن أريد به الذات إلا مشاكلة لما ترى من انتفاء المشاكلة ههنا بنوعيها وقوله تعالى «ليجمعنكم إلى يوم القيامة» جواب قسم محذوف والجملة استئناف مسوق للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر أي والله ليجمعنكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شركك وسائر معاصيكم وإن أمهلكم بموجب رحمته ولم يعاجلكم بالعقوبة الدنيوية وقيل إلى بمعنى اللام أي ليجمعنكم ليوم القيامة كقوله تعالى إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه وقيل هي بمعنى في أي ليجمعنكم يوم القيامة «لا ريب فيه» أي في اليوم أو في الجمع وقوله تعالى «الذين خسروا أنفسهم» أي بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم واستماع الوحي وغير ذلك من آثار الرحمة في موضع النصب أو الرفع على الذم أي أعني الذين الخ وهم مبتدأ والخبر قوله تعالى «فهم لا يؤمنون» والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والإشعار بأن عدم إيمانهم بسبب خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان والجملة تذييل مسوق من جهته تعالى لهم لتقبيح حا غير داخل
115

تحت الأمر «وله» أي لله عز وجل خاصة «ما سكن في الليل والنهار» نزال الملوان منزلة المكان فعبر عن نسبة الأشياء الزمانية إليهما بالسكنى فيهما وتعديته بكلمة في كما في قوله تعالى وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم أو السكون مقابل الحركة والمراد ما سكن فيهما أو تحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر «وهو السميع» المبالغ في سماع كل مسموع «العليم» المبالغ في العلم بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء من الأقوال والأفعال «قل» لهم بعد ما بكتهم بما سبق من الخطاب «أغير الله أتخذ وليا» أي معبودا بطريق الاستقلال أو الاشتراك وإنما سلطت الهمزة على المفعول الأول لا على الفعل إيذانا بأن المنكر هو اتخاذ غير الله وليا لا اتخاذ الولي مطلقا كما في قوله تعالى أغير الله أبغي ربا وقوله تعالى أفغير الله تأمروني أعبد الخ «فاطر السماوات والأرض» أي مبدعهما بالجر صفة للجلالة مؤكدة للإنكار لأنه بمعنى الماضي ولذلك قرىء فطر ولا يضر الفصل بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملة في عامل الموصوف أو بدل فإن الفصل بينه وبين المبدل منه أسهل لأن البدل على نية تكرير العامل وقرئ بالرفع والنصب على المدح وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إلى أعرابيان في بشر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها «وهو يطعم ولا يطعم» أي يرزق الخلق ولا يرزق وتخصيص الطعام بالذكر لشدة الحاجة إليه أو لأنه معظم ما يصل إلى المرزوق من الرزق ومحل الجملة النصب على الحالية فإن مضمونها مقرر لوجوب اتخاذه سبحانه وتعالى وليا وقرئ ولا يطعم بفتح الياء وبعكس القراءة الأولى أيضا على أن الضمير لغير الله والمعنى أأشرك بمن هو فاطر السماوات والأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانية وببنائهما للفاعل على أن الثاني بمعنى يستطعم أو على معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله تعالى يقبض ويبسط «قل» بعد بيان أن اتخاذ غيره تعالى وليا مما يقضي ببطلانه بديهة العقول «إني أمرت» من جنابه عز وجل «أن أكون أول من أسلم» وجهه لله مخلصا له لأن النبي إمام أمته في الإسلام كقوله تعالى وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين وقوله تعالى سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين «ولا تكونن» أي وقيل لي ولا تكونن «من المشركين» أي في أمر من أمور الدين ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك وقد جوز عطفه على الأمر «قل إني أخاف إن عصيت ربي» اي بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا وفيه بيان لكما اجتنابه صلى الله عليه وسلم عن المعاصي على الإطلاق وقوله تعالى «عذاب يوم
عظيم» أي عذاب يوم القيامة مفعول خاف
116

والشرطية معترضة بينهما والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه وفيه قطع لأطماعهم الفارغة وتعريض بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم «من يصرف عنه» على البناء المفعول أي العذاب وقرئ على البناء للفاعل والضمير لله سبحانه وقد قرىء بالإظهار والمفعول محذوف وقوله تعالى «يومئذ» للصرف أي في ذلك اليوم العظيم وقد جوز أن يكون هو المفعول على قراءة البناء للفاعل بحذف المضاف أي عذاب يومئذ «فقد رحمه» أي نجاه وأنعم عليه وقيل فقد أدخله الجنة كما في قوله تعالى فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز والجملة مستأنفة مؤكدة لتهويل العذاب وضمير عنه ورحمه لمن هو عبارة عن غير العاصي «وذلك» إشارة إلى الصرف أو الرحمة لأنها مؤولة بأن مع الفعل وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجته وبعد مكانه في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «الفوز المبين» أي الظاهر كونه فوزا وهو الظفر بالبغية والألف واللام لقصره على ذلك «وإن يمسسك الله بضر» أي ببلية كمرض وفقر ونحو ذلك «فلا كاشف له» أي فلا قادر على كشفه عند «إلا هو» وحده «وإن يمسسك بخير» من صحة ونعمة ونحو ذلك «فهو على كل شيء قدير» ومن جملته ذلك فيقدر عليه فيمسك به ويحفظه عليك من غير أن يقدر على دفعه أو على رفعه أحد كقوله تعالى فلا راد لفضله وحمله على تأكيد الجوابين يأبه الفاء تذكرة روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي ميلا ثم التفت إلي فقال يا غلام فقلت لبيك يا رسول الله فقال احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فقد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه فان استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر وأن مع الكرب فرجا وأن مع العسر يسرا «وهو القاهر فوق عباده» تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقدرة «وهو الحكيم» في كل ما يفعله ويأمر به «الخبير» بأحوال عباده وخفايا أمورهم واللام في المواضع الثلاثة للقصر «قل» أي
117

«شيء أكبر شهادة» روي أن قريشا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله فنزلت فأي مبتدأ وأكبر خبره وشهادة نصب على التمييز وقوله تعالى «قل الله» امر له صلى الله عليه وسلم بأن يتولى الجواب بنفسه إما للإيذان بتعينه وعدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه لا لترددهم في أنه أكبر من كل شيء بل في كونه شهيدا في هذا الشأن قوله تعالى «شهيد» خبر ميتدأ محذوف أي هو شهيد «بيني وبينكم» ويجوز أن يكون الله شهيد بيني وبينكم هو الجواب لأنه إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شيء شهادة شهيدا له صلى الله عليه وسلم وتكرير البين لتحقيق المقابلة «وأوحي إلي» اي من جهته تعالى «هذا القرآن» الشاهد بصحة رسالتي «لأنذركم به» بما فيه من الوعيد والاقتصار على ذكر الإنذار لما أن الكلام مع الكفرة «ومن بلغ» عطف على ضمير المخاطبين أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة وهو دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى يوم القيامة خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل عند الحنابلة بالإجماع عندنا في غير الموجودين وفي غير المكلفين يومئذ كما مر في أول سورة النساء «أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى» تقرير لهم مع إنكار واستبعاد «قل لا أشهد» بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صرف «قل» تكرير للأمر للتأكيد «إنما هو إله واحد» أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو «وإنني بريء مما تشركون» من الأصنام أو من إشراككم «الذين آتيناهم الكتاب» جواب عما سبق من قولهم لقد سألنا عنك اليهود والنصارى أخر عن تعيين الشهيد مسارعة إلى إلزامهم بالجواب عن تحكمهم بقولهم فأرنا من يشهد لك الخ والمراد بالموصول اليهود والنصارى وبالكتاب الجنس المنتظم للتوراة والإنجيل وإيرادهم بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بمدار ما اسند إليهم بقوله تعالى «يعرفونه» أي يعرفون رسول الله صه من جهة الكتابين بحليته ونعوته المذكورة فيهما «كما يعرفون أبناءهم» بحلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلا روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال عمر رضي الله عنه لعبد الله بن سلام أنزل الله تعالى على نبيه هذه الآية وكيف هذه المعرفة فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رايته كما اعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حق من الله تعالى «الذين خسروا أنفسهم» من أهل الكتابين والمشركين بأن ضيعوه فطرة الله التي فطر الناس عليها وأعرضوا عن البينات الموجبة للإيمان بالكلية «فهم لا يؤمنون» لما أنهم مطبوع على قلوبهم ومحل الموصول الرفع على الابتداء وخبره الجملة المصدرة بالفاء لشبه الموصول بالشرط وقيل على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين خسروا الخ وقيل على أنه نعت للموصول الأول وقيل النصب على الذم فقوله تعالى فهم لا يؤمنون على الوجوه الأخيرة عطف على جملة الذين آتيناهم الكتاب الخ «ومن
118

أظلم ممن افترى على الله كذبا» بوصفهم النبي الموعود في الكتابين بخلاف أوصافه صلى الله عليه وسلم فإنه افتراء على الله سبحانه وبقولهم الملائكة بنات الله وقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله ونحو ذلك وهو إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساويا له وإن كان سبك التركيب غير متعرض لإنكار المساواة ونفيها يشهد به العرف الفاشي والاستعمال المطرد فإنه إذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل ألا يرى إلى قوله عز وجل لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون بعد قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا الخ والسر في ذلك أن النسبة بين الشيئين إنما تتصور غالبا لا سيما في باب المغالبة بالتفاوت زيادة ونقصانا فإذا لم يكن أحدهما أزيد يتحقق النقصان لا محالة «أو كذب بآياته» كأن كذبوا بالقرآن الذي من جملته الآية الناطقة بأنهم يعرفونه صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم وبالمعجزات وسموها سحرا وحرفوا التوراة وغيروا نعوته صلى الله عليه وسلم فإن ذلك تكذيب بآياته تعالى وكلمة أو للإيذان بأن كلا من الافتراء والتكذيب وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم فكيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفوا ما أثبته قاتلهم الله أنى يؤفكون «أنه» الضمير للشأن ومدار وضعه موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره وفائدته تصدير الجملة به الإيذان بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن فإن الضمير لا يفهم
منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه فيتمكن عند وروده له فضل تمكن فكأنه قيل إن الشأن الخطير هذا هو «لا يفلح الظالمون» أي لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب وإذا كان حال الظالمين هذا فما ظنك بمن في الغاية القاصية من الظلم «ويوم نحشرهم جميعا» منصوب على الظرفية بمضمر مؤخر قد حذف إيذانا بضيق العبارة عن شرحه وبيانه وإيماء إلى عدم استطاعة السامعين لسماعه لكمال فظاعة ما يقع فيه من الطامة والداهية التامة كأنه قيل ويوم نحشرهم جميعا «ثم نقول» لهم ما نقول كان من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به دائرة المقال وتقدير صيغة الماضي للدلالة على التحقق ولحسن موقع عطف قوله تعالى ثم لم تكن الخ عليه وقيل منصوب على المفعولية بمضمر مقدم أي واذكر لهم للتخويف والتحذير ويوم نحشرهم الخ وقيل وليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم الخ والضمير للكل وجميعا حال منه وقرئ يحشرهم جميعا ثم يقول بالياء فيهما «للذين أشركوا» أي نقول لهم خاصة للتوبيخ والتقريع على رؤوس الأشهاد «أين شركاؤكم» أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله سبحانه وإضافتها إليهم لما أن شركتها ليست إلا بتسميتهم وتقولهم الكاذب كما ينبئ عنه قوله تعالى «الذين كنتم تزعمون» أي تزعمونها شركاء فحذف المفعولان معا وهذا السؤال المنبىء عن غيبة الشركاء مع عموم الحشر لها لقوله تعالى احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله وغير ذلك من النصوص إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبرؤ من الجانبين وتقطع ما بينهم من الأسباب والعلائق حسبما يحكيه قوله تعالى فزيلنا بينهم الخ ونحو ذلك من الآيات الكريمة إما بعدم حضورها حينئذ في الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف وإما بتنزيل
119

عدم حضورها بعنوان الشركة والشفاعة منزلة عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤال عنها من حيث ذواتها إنما هو من حيث أنها شركاء كما يعرب عنه الوصف بالموصول ولا ريب في أن عدم الوصف يوجب عدم الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاء غائبة لا محالة وإن كانت حاضرة من حيث ذواتها أصناما كانت أو غيرها وأما ما يقال من أنه يحال بينها وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها فيروا مكان خزيهم وحسرتهم فربما يشعر بعدم شعورهم بحقيقة الحال وعدم انقطاع حبال رجائهم عنها بعد وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عروة أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ وإنما الذي يحصل يوم الحشر الانكشاف الجلي واليقين القوي المترتب على المحاضرة والمحاورة «ثم لم تكن فتنتهم» بتأنيث الفعل ورفع فتنتهم على أنه اسم له والخبر «إلا أن قالوا» وقرئ بنصب فتنتهم على أنها الخبر والاسم إلا أن قالوا والتأنيث للخبر كما في قولهم من كانت أمك وقرئ بالتذكير مع رفع الفتنة ونصبها ورفعها أنسب بحسب المعنى والجملة عطف على ما قدر عاملا في يوم نحشرهم كما أشير إليه فيما سلف والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء وفتنتهم إما كفرهم مرادا به عاقبته أي لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه مدة أعمارهم وافتخروا به شيئا من الأشياء إلا جحدوه والتبرؤ منه بأن يقولوا «والله ربنا ما كنا مشركين» وأما جوابهم عبر عنه بالفتنة لأنه كذب ووصفه تعالى بربوبيته لهم للمبالغة في التبرؤ من الإشراك وقرئ بنا على النداء فهو لإظهار الضراعة والابتهال في استدعاء قبول المعذرة وإنما يقولون ذلك مع علمهم بأنه بمعزل من النفع رأسا من فرط الحيرة والدهش وحمله على معنى ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا في الدنيا أنا على خطأ غي معتقدنا مما لا ينبغي أن يتوهم أصلا فإنه يوهم أن لهم عذرا أما وأن لهم قدرة على الاعتذار في الجملة وذلك مخل بكمال هول اليوم قطعا على أنه قد قضى ببطلانه قوله تعالى «انظر كيف كذبوا على أنفسهم» فإنه تعجيب من كذبهم الصريح بإنكار صدور الإشراك عنهم في الدنيا أي انظر كيف كذبوا على أنفسهم في قولهم ذلك فإنه أمر عجيب في الغاية وأما حمله على كذبهم في الدنيا فتمحل يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه وقوله تعالى «وضل عنهم ما كانوا يفترون» عطف على كذبوا داخل معه في حكم التعجيب وما مصدرية أو موصولة قد حذف عائدها والمعنى انظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة المغلظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية وتبرءوا منه بالمرة وقيل ما عبارة عن الشركاء وإيقاع الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها من الإلهية والشركة والشفاعة ونحوها للمبالغة في أمرها كأنها نفس المفترى وقيل الجملة كلام مستأنف غير داخل في حيز التعجيب
120

«ومنهم من يستمع إليك» كلام مبتدأ مسوق لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيان ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريرا لما قبله وتحقيقا لمضمونه والضمير للذين أشركوا ومحل الظرف الرفع على أنه مبتدأ باعتبار مضمونه أو بتقدير الموصوف كما في قوله تعالى ومنادون ذلك أي وجمع منا الخ ومن موصولة أو موصوفة محلها الرفع على الخبرية والمعنى وبعضهم أو وبعض منهم الذي يستمع إليك أو فريق يستمع إليك على أن مناط الإفادة اتصافهم بما في حيز الصلة أو الصفة لا كونهم ذوات أولئك المذكورين وقد مر في تفسير قوله تعالى ومن الماس من يقول الخ روي أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر وكان صاحب أخبار يا ابا قتيلة ما يقول محمد فقال والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم من القرون الماضية فقال أبو سفيان إني لأراه حقا فقال أبو جهل كلا فنزلت «وجعلنا على قلوبهم أكنة» من الجعل بمعنى الإنشاء وعلى متعلقه به وضمير قلوبهم راجع إلى من وجمعيته بالنظر إلى معناها كما إن إفراد ضمير يستمع بالنظر إلى لفظها وقد روعي جانب المعني في قوله تعالى ومنهم من يستمعون إليك الآية والأكنة جمع كنان وهو ما يستر به الشيء وتنوينها للتفخيم والجملة إما مستأنفة للإخبار بما تضمنه من الختم أو حال من فاعل يستمع بإضمار قد عند من يقدرها قبل الماضي الواقع حالا أي يستمعون إليك وقد ألقينا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر قدرها خارجة عما يتعارفه الناس «أن يفقهوه» أي كراهة أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع ويجوز أن يكون مفعولا لما ينبئ عنه الكلام أي منعناهم أن يفقهوه «وفي آذانهم وقرا» صمما وثقلا مانعا من سماعه والكلام فيه كما في قوله تعالى على قلوبهم أكنة وهذا تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشؤون النبي عليه الصلاة والسلام وفرط نبوة قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له وقد مر تحقيقه في أول سورة البقرة وقيل هو حكاية لما قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر الآية وأنت خبير بأن مرادهم بذلك الإخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم جهلا وكفرا من اتصافهما بأوصاف مانعة من التصديق والإيمان ككون القرآن سحرا وشعرا وأساطير
الأولين وقس على ما تخيلوه في حق النبي صلى الله عليه وسلم لا الإخبار بأن هناك أمرا وراء ذلك قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم حتى يمكن حمل النظم الكريم على ذلك «وإن يروا كل آية» من الآيات القرآنية أي يشاهدوها بسماعها «لا يؤمنوا بها» على عموم النفي لا على نفي العموم أي كفروا بكل واحدى ة منها لعدم اجتلائهم إياها كما هي لما مر من حالهم «حتى إذا جاؤوك يجادلونك» هي حتى التي تقع بعدها الجمل والجملة هي قوله تعالى إذا جاءوك «يقول الذين كفروا» وما بينهما حال من فاعل جاءوك وإنما وضع الموصول موضع الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا لعلة الحكم أي بلغوا من
121

التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاءوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد عدم الإيمان بما سمعوا من الآيات الكريمة بل يقولون «إن هذا» أي ما هذا «إلا أساطير الأولين» فإن عد أحسن الحديث وأصدقه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من قبيل الأباطيل والخرافات رتبة من الكفر لا غاية وراءها ويجوز أن تكون حتى جارة وإذا ظرفية بمعنى وقت مجيئهم ويجادلونك حال كما سبق وقوله تعالى يقول الذين كفروا الخ تفسير للمجادلة والأساطير جمع أسطورة أو اسطارة أم جمع أسطار وهو جمع سطر بالتحريك وأصل الكل السطر بمعنى الخط «وهم ينهون عنه» الضمير المرفوع للمذكورين والمجرور للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعده من قبيل الأساطير بل ينهون الناس عن استماعه لئلا يقفوا على حقيته فيؤمنوا به «وينأون عنه» أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم عنه وتأكيدا لنهيهم عنه فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي ولعل ذلك هو السر في تأخير النأي عن النهي وقيل الضمير المجرور للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل المرفوع لأبي طالب ولعل جمعيته باعتبار استتباعه لاتباعه فإنه كان ينهى قريشا عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه فلا يؤمن به وروي أنهم اجتمعوا إليه وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا فقال
* والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
* فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وأبشر بذاك وقر منه عيونا
* ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
* وعرضت دينا لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا
* لولا الملامة أو حذاري سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا فنزلت «وإن يهلكون» أي ما يهلكون بما فعلوا من النهي والنأي «إلا أنفسهم» بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه عاجلا وآجلا وهو عذاب الضلال والإضلال وقوله تعالى «وما يشعرون» حال من ضمير يهلكون أي يقصرون الإهلاك على أنفسهم والحال أنهم ما يشعرون أي لا بإهلاكهم أنفسهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يضروا بذلك شيئا من القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنما عبر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلق الضرر إذ غاية ما يؤدي إليه ما فعلوا من القدح في القرآن الكريم الممانعة في تمشي أحكامه وظهور أمر الدين للإيذان بأن ما يحيق بهم هو الهلاك لا الضرر المطلق على أن مقصدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذكر بل كانوا يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويجوز أن يكون الإهلاك معتبرا بالنسبة إلى الذين يضلونهم بالنهي فقصره على أنسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبني على تنزيل عذاب الضلال عند عذاب الإضلال منزلة العدم «ولو ترى إذ وقفوا على النار» شروع في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقض لما صدر عنهم في الدنيا من القبائح المحكية مع كونه كذبا في نفسه والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد
122

من أهل المشاهدة والعيان قصدا إلى بيان كمال سوء حالهم وبلوغها من الشناعة والفظاعة إلى حيث لا يختص استغرابها براء دون راء ممن اعتاد مشاهدة الأمور العجيبة بل كل من يتأتى منه الرؤية يتعجب من هولها وفظاعتها وجواب لو محذوف ثقة بظهوره وإيذانا بقصور العبارة عن تفصيله وكذا مفعول ترى لدلالة ما في حيز الظرف عليه لو تراهم حين يوقفون على النار حتى يعاينوها لرأيت ما لا يسعه التعبير وصيغة الماضي للدلالة على التحقق أو حين يطلعون عليها إطلاعا وهي تحتهم أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها من قولهم وقفته على كذا إذا فهمته وعرفته وقرئ وقفوا على البناء للفاعل من وقف عليه وقوفا «فقالوا يا ليتنا» اي إلى الدنيا تمنيا للرجوع والخلاص وهيهات ولات حين مناص «ولا نكذب بآيات ربنا» أي بآياته الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها إذ هي التي تخطر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا في حقها أو بجميع ى يأته المنتظمة لتلك الآيات انتظاما أوليا «ونكون من المؤمنين» بها العاملين بمقتضاها حتى لا نرى هذا الموقف الهائل أو نكون من فريق المؤمنين الناجين من العذاب الفائزين بحسن المآب ونصب الفعلين على جواب التمني بإضمار أن بعد الواو وإجرائها مجرى الفاء ويؤيده قراءة ابن مسعود وابن إسحق فلا نكذب والمعنى إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين وقيل ينسبك من أن المصدرية ومن الفعل بعدها مصدر متوهم فيعطف هذا عليه كأنه قيل ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين وقرئ برفعهما على أنه كلام مستأنف كقوله دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني أو عطف على نرد أو حال من ضميره فيكون داخلا في حكم التمني كالوجه الخير للنصب وتعلق التكذيب الآتي به لما تضمنه من العدة بالإيمان وعدم التكذيب كمن قال ليتني رزقت مالا فأكافئك على صنيعك فإنه متمن في معنى الواعد فلو رزق مالا ولم يكافىء صاحبه يكون مكذبا لا محالة وقرئ برفع الأول ونصب الثاني وقد مر وجههما «بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل» إضراب عما ينبئ عنه التمني من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزيمة صادقة ناشئة عن رغبة في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به بل لأنه ظهر لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من الداهية الدهياء وظنوا أنهم مواقعوها فلخوفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا والمراد بها النار التي وقفوا عليها إذ هي التي سيق الكلام لتهويل أمرها والتعجيب من فظاعة حال الموقوفين عليها وبإخفائها تكذيبهم بها فإن التكذيب بالشيء كفر به وإخفاء له لا محالة وإيثاره على صريح التكذيب الوارد في قوله عز وجل هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون وقوله تعالى هذه النار التي كنتم بها تكذبون مع كونه أنسب بما قبله من قولهم ولا نكذب بآيات ربنا لمراعاة ما في
مقابلته من البدو هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الكريم وأما ما قيل من أن المراد بما يخفون كفرهم ومعاصيهم أو قبائحهم وفضائحهم التي كانوا يكتمونها من الناس فتظهر في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم أو شركهم الذي يجحدون به في بعض مواقف القيامة بقولهم والله ربنا ما كنا مشركين ثم يظهر بما ذكر من شهادة الجوارح عليهم أو ما أخفاه رؤساء
123

الكفرة عن أتباعهم من أمر البعث والنشور أو ما كتمه علماء أهل الكتابين من صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته الشريفة عن عوامهم على أن الضمير المجرور للعوام والمرفوع للخواص أو كفرهم الذي أخفوه عن المؤمنين والضمير المجرور للمؤمنين والمرفوع للمنافقين فبعد الإغضاء عما في كل منها من الاعتساف والاختلال لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلا لما عرفت من أن سوق النظم الشريف لتهويل أمر النار وتفظيع حال أهلها وقد ذكر وقوفهم عليها وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحبط به الوصف ورتب عليه تمنيهم المذكور بالفاء القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها فإسقاط النار بعد ذلك من تلك السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجر الزواجر وإسنادها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر مع عدم جريان ذكرها ثمة أمر يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله وأما ما قيل من أن المراد جزاء ما كانوا يخفون فمن قبيل دخول البيوت من ظهورها وأبوابها مفتوحة فتأمل «ولو ردوا» أي من موقفهم ذلك إلى الدنيا حسبما تمنوه وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال «لعادوا لما نهوا عنه» من فنون القبائح التي من جملتها التكذيب المذكور ونسوا ما عاينوه بالكلية لاقتصار أنظارهم على الشاهد دون الغائب «وإنهم لكاذبون» أي لقوم ديدنهم الكذب في كل ما يأتون وما يذرون «وقالوا» عطف على عادوا داخل في حيز الجواب وتوسيط قوله تعالى وإنهم لكاذبون بينهما لأنه اعتراض مسوق لتقرير ما أفاده الشرطية من كذبهم المخصوص ولو أخر لأوهم أن المراد تكذيبهم في إنكارهم البعث والمعنى لوردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وقالوا «إن هي» أي ما الحياة «إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين» بعد ما فارقنا هذه الحياة كأن لم يروا ما رأوا من الأحوال التي أولها البعث والنشور «ولو ترى إذ وقفوا على ربهم» الكلام فيه كالذي مر في نظيره خلا أن الوقوف ههنا مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده للعقاب وقيل عرفوا ربهم حق التعريف وقل وقفوا على جزاء ربهم وقوله تعالى «قال» استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل فماذا قال لهم ربهم إذ ذاك فقيل قال «أليس هذا» مشيرا إلى ما شاهدوه من البهث وما يتبعه من الأمور العظام «بالحق» تقريعا لهم على تكذيبهم لذلك وقولهم عند سماع ما يتعلق به ما هو بحق وما هو إلا باطل «قالوا» استئناف كما سبق «بلى وربنا» أكدوا اعترافهم باليمين إظهارا لكمال يقينهم بحقيته وإيذانا بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط معا في نفعه «قال» استئناف كما مر «فذوقوا العذاب» الذي عاينتموه والفاء لترتيب التعذيب على اعترافهم بحقية ما كفروا به في الدنيا لكن لا على أن مدار التعذيب هو اعترافهم بذلك بل هو كفرهم السابق بما اعترفوا بحقيته الآن كما نطق به قوله عز وجل «بما كنتم تكفرون» أي بسبب كفركم في الدنيا بذلك أو
124

بكل ما يجب الإيمان به فيدخل كفرهم به دخولا أوليا ولعل هذا التوبيخ والتقريع وإنما يقع بعد ما وقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذ الظاهر أنه لا يبقى بعد هذا الأمر إلا العذاب «قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله» هم الذين حكيت أحوالهم لكن وضع الموصول موضع الضمير للإيذان بتسبب خسرانهم بما في حيز الصلة من التكذيب بلقائه تعالى بقيام الساعة وما يترتب عليه من البعث وأحكامه المتفرعة عليه واستمرارهم على ذلك فإن كلمة حتى في قوله تعالى «حتى إذا جاءتهم الساعة» غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم فإنه أبدى لا حد له «بغتة» البغت والبغتة مفاجأة للشيء بسرعة من ير شعور به يقال بغة بغتا وبغتة أي فجأة وانتصابها إما على أنها مصدر واقع موقع الحال من فاعل جاءتهم أي مباغتة أو من مفعول أي مبغوتين وإما على أنها مصدر مؤكد على غير الصدر فإن جاءتهم في معنى بغتتهم كقولهم أتيته ركضا أو مصدر مؤكد لفعل محذوف وقع حالا من فاعل جاءتهم أي جاءتهم الساعة تبغتهم بغتة «قالوا» جواب إذا «يا حسرتنا» تعالى فهذا أوانك والحسرة شدة الندم وهذا التحسر وإن كان يعتريهم عند الموت لكن لما كان ذلك من مبادئ الساعة يمي باسمها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام من مات فقد قامت قيامته أو جعل مجىء الساعة بعد الموت كالواقع بغير فترة لسرعته «على ما فرطنا فيها» أي على تفريطنا في شأن الساعة وتقصيرنا في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان بها واكتساب الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى على ما فرطت في جنب الله وقيل الضمير للحياة الدنيا وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة والتفريط التقصير في الشيء مع القدرة على ما فعله وقيل هو التضييع وقيل الفرط السبق ومنه الفارط أي السابق ومعنى فرط خلى السبق لغيره فالتضعيف فيه للسلب كما في جلدت البعير وقوله تعالى «وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم» حال من فاعل قالوا فائدته الإيذان بأن عذابهم ليس مقصورا على ما ذكر من الحسرة على ما فات وزال بل يقاسون مع ذلك تحمل الأوزار الثقال والإيماء إلى أن تلك الحسرة من الشدة بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من فنون العقوبات والسر في ذلك أن العذاب الروحاني أشد من الجسماني نعوذ برحمة الله عز وجل منهما والوزر في الأصل الحمل الثقيل سمى به الإثم والذنب لغاية ثقله على صاحبه وذكر الظهور كذكر الأيدي في قوله تعالى فبما كسبت أيديكم فإن المعتاد حمل الأثقال على الظهور كما أن المألوف هو الكسب بالأيدي والمعنى أنهم يتحسرون على ما لم يعملوا من الحسنات والحال أنهم يحملون أوزار ما عملوا من السيئات «ألا ساء ما يزرون» تذييل مقرر لما قبله وتكملة له أي بئس شيئا يزرونه وزرهم «وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو» لما حقق فيما سبق أن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يلقون فيها من الخطوب ما يلقون بين بعده حال تينك الحياتين في أنفسهما واللعب
125

عمل يشغل النفس ويفطرها عما تنتفع به واللهو صرفها عن الجد إلى الهزل والمعنى إما على حذف المضاف أو على جعل الحياة الدنيا نفس اللعب واللهو مبالغة كما في قول الخنساء فإنما هي إقبال وإدبار أي وما أعمال الدنيا أي الأعمال المتعلقة بها من حيث هي هي أو وما هي من حيث أنها محل لكسب تلك الأعمال إلا لعب يشغل الناس ويلهيهم بما فيه من منفعة سريعة الزوال ولذة وشيكة الاضمحلال عما يعقبهم منفعة جليلة باقية ولذة حقيقية غير متناهية من الإيمان والعمل الصالح «وللدار الآخرة» التي هي محل الحياة الأخرى «خير للذين يتقون» الكفر والمعاصي لأن منافعها خالصة عن المضار ولذاتها غير منغصة بالآلام مستمرة على الدوام «أفلا تعقلون» ذلك
حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان والفاء للعطف على مقدار أي تغفلون فلا تعقلون أو ألا تتفكرون فتعقلون وقرئ يعقلون على الغيبة «قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون» استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه مما حكى عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانة من الله عز وجل وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجع إليه تعالى في الحقيقة وأنه ينتقم منهم لا محالة أشد انتقام وكلمة قد لتأكيد العلم بما ذكر المفيد لتأكيد الوعيد كما في قوله تعالى ما أنتم عليه وقوله تعالى قد يعلم الله المعوقين ونحوهما بإخراجها إلى معنى التكثير حسبما يخرج إليه ربما في مثل قوله
* وإن تمس مهجور الفناء فربما أقام به بعد الوفود وفود جريا على سنن العرب عند قصد الإفراط في التكثير تقول لبعض قواد العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رب فارس عندي وعنده مقانب جمة يريد بذلك التمادي في تكثير فرسانه ولكنه يروم إظهار براءته عن التزيد وإبراز أنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلا عن تكثير القلل وعليه قوله عز وجل ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين وهذه طريقة إنما تسلك عند كون الأمر من الوضوح بحيث لا تحوم حوله شائبة ريب حقيقة كما في الآيات الكريمة المذكورة أو ادعاء كما في البيت وقوله
* قد أترك القرن مصفرا أنامله وقوله ولكنه قد يهلك المال نائله والمراد بكثرة علمه تعالى كثرة تعلقه وهو متعد إلى اثنين وما بعده ساد مسدهما واسم إن ضمير الشأن وخبرها الجملة المفسرة له والموصول فاعل يحزنك وعائده محذوف أي الذي يقولونه وهو ما حكى عنهم من قولهم إن هذا إلا أساطير الأولين ونحو ذلك وقرئ ليحزنك من أحزن المنقول من حزن اللام وقوله تعالى «فإنهم لا يكذبونك» تعليل لما يشعرون به الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا لكن لا بطريق التشاغل عنه وعده هينا والإقبال التام على ما هو أهم منه من استعظام جحودهم بآيات الله عز وجل كما قيل فإنه مع كونه بمعزل من التسلية بالكلية مما يوهم كون حزنه عليه الصلاة والسلام لخاصة نفسه بل بطريق التسلي بما يفيده من بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القدر ورفعه المحل والزلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غاية وراءه حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه صلى الله عليه وسلم تكذيبا لآياته سبحانه على طريقة قوله تعالى من يطع الرسول
126

فقد أطاع الله بل نفى تكذيبهم عنه صلى الله عليه وسلم وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى إن الذين يبايعونك إنما ينعون الله إيذانا بكمال القرب واضمحلال شؤونه صلى الله عليه وسلم في شأن الله عز وجل نعم فيه استعظام لجناياتهم منبىء عن عظم عقوبتهم كأنه قيل لا تعتد به وكله إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة «ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون» أي ولكنهم بآياته تعالى يكذبون فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظام ما أقدموا عليه من جحود آياته تعالى وإيراد الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياته تعالى من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كل أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود الذي هو عبارة عن الإنكار مع العلم بخلافه كما في قوله تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم وهو المعنى بقول من قال أنه نفي ما في القلب إثباته أو إثبات ما في القلب نفيه والباء متعلقة بيجحدون يقال جحد حقه وبحقه إذا أنكره وهو يعلمه وقيل هو لتضمين الجحود معنى التكذيب وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور للقصر وقيل المعنى فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم ويعضده ما روي من أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل يا ابا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له والله إن محمدا لصادق وما كذب قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون وقيل فإنهم لا يكذبونك لأنهم عندهم الصادق الموسوم بالصدق ولكنهم يجحدون بآيات الله كما يروى أن ابا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت وكأن صدق المخبر عند الخبيث بمطابقة خبره لاعتقاده والأول هو الذي تستدعيه الجزالة التنزيلية وقرئ لا يكذبونك من الإكذاب فقيل كلاهما بمعنى واحد كأكثر وكثر وأنزل نزل وهو الأظهر وقيل معنى أكذبه وجده كاذبا ونقل عن الكسائي أن العرب تقول كذبت الرجل أي نسبت الكذب إليه وأكذبته أي نسبت الكذب إلى ما جاء به لا إليه وقوله تعالى «ولقد كذبت رسل من قبلك» افتنان في تسليته عليه الصلاة والسلام فإن عموم البلية ربما يهون أمرها بعض تهوين وإرشاد له عليه الصلاة والسلام إلا الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصبر على ما أصابهم من أممهم من فنون الأذية وعدة ضمنية له عليه الصلاة والسلام بمثل ما منحوه من النصر وتصدير الكلام بالقسم لتأكيد التسلية وتنوين رسل للتفخيم والتكثر ومن إما متعلقة بكذبت أو بمحذوف وقع صفة لرسل أي وبالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل أول شأن خطير وذوو عدد كثير أو كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك «فصبروا على ما كذبوا» ما مصدرية وقوله
127

تعالى «وأوذوا» عطف على كذبوا داخل في حكمه فانسبك منهما مصدران من المبني للمفعول أي فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم فتأس بهم واصطبر على ما نالك من قومك والمراد بإيذائهم إما عين تكذيبهم وإما ما يقارنه من فنون الإيذاء لم يصرح به ثقة باستلزام التكذيب إياه غالبا وأياما كان ففيه تأكيد للتسلية وقيل عطف على صبروا وقيل على كذبت وقيل هو استئناف وقوله تعالى «حتى أتاهم نصرنا» غاية للصبر وفيه إيذان بأن نصره تعالى إياهم أمر مقرر لا مرد له وأنه متوجه إليهم لا بد من إتيانه البتة والالتفات إلى نون العظمة لإبراز الاعتناء بشأن النصر وقوله تعالى «ولا مبدل لكلمات الله» اعتراض مقرر لما قبله من إتيان نصره إياهم والمراد بكلماته تعالى ما ينبئ عنه قوله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وقوله تعالى كتب الله لأغلبن أنا ورسلي من المواعيد السابقة للرسل عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصرة رسول الله أيضا لا نفس الآيات المذكورة ونظائرها فإن الإخبار بعدم تبدلها إنما يفيد عدم تبدل المواعيد الواردة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة جون المواعيد السابقة للرسل عليهم الصلاة والسلام ويجوز أن يراد بكلماته تعالى جميع كلماته التي من جملتها تلك المواعيد الكريمة ويدخل فيها المواعيد الواردة في حقه عليه الصلاة والسلام دخولا أوليا والالتفات إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية من موجبات أن لا يغالبه أحد في فعل من
الأفعال ولا يقع منه تعالى خلف في قول من الأقوال وقوله تعالى «ولقد جاءك من نبإ المرسلين» جملة قسمية جئ بها لتحقيق ما منحوا من النصر وتأكيد ما في ضمنه من الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لتقرير جميع ما ذكر من تكذيب الأمم وما ترتب عليه من الأمور والجار والمجرور في محل الرفع على أنه فاعل إما باعتبار مضمونه أي بعض نبأ المرسلين أو بتقدير الموصوف أي بعض من نبأ المرسلين كما مر في تفسير قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله الآية وأياما كان فالمراد بنبئهم عليهم السلام على الأول نصره تعالى إياهم بعد اللتيا والتي وعلى الثاني جميع ما جرى بينهم وبين أممهم على ما ينبئ عنه قوله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا الآية وقيل في محل النصب على الحالية من المستكن في جاء العائد إلى ما يفهم من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر كائنا من نبأ المرسلين «وإن كان كبر عليك إعراضهم» كلام مستأنف مسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أنه أمر لا محيد عنه أصلا أي إن كان عظم عليك وشق إعراضهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن الكريم حسبما يفصح عنه ما حكى عنهم من تسميتهم له أساطير الأولين وتنائيهم عنه ونهيهم الناس عنه وقيل إن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في محضر من قريش فقال يا محمد ائتنا بآية من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل وأنا أصدقك فأبى الله أن يأتي بآية مما اقترحوا فأعرضوا عن رسول
128

الله فشق ذلك عليه لما أنه عليه الصلاة السلام كان شديد الحرص على إيمان قومه فكان إذا سألوا آية يود أن ينزلها الله تعالى طمعا في إيمانهم فنزلت فقوله تعالى إعراضهم مرتفع بكبر وتقديم الجار والمجرور عليه لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخرة والجملة في محل النصب على أنها خبر لكان مفسرة لاسمها الذي هو ضمير الشأن ولا حاجة إلى تقدير قد وقيل اسم كان إعراضهم وكبر جملة فعليه في محل النصب على أنها خبر لها مقدم على اسمها لأنه فعل رافع لضمير مستتركا هو المشهور وعلى التقديرين فقوله تعالى «فإن استطعت» الخ شرطية أخرى محذوفة الجواب وقعت جوابا للشرط الأول والمعنى إن شق عليك إعراضهم عن الإيمان بما جئت به من البينات وعدم عدهم لها من قبيل الآيات وأحببت أن تجيبهم إلى ما سألوه اقتراحا فإن استطعت «أن تبتغي نفقا» أي سربا ومنفذا «في الأرض» تنفذ فيه إلى جوفها «أو سلما» أي مصعدا «في السماء» تعرج به فيها «فتأتيهم» منهما «بآية» مما اقترحوه فافعل وقد جوز أن يكون ابتغاؤهما نفس الإتيان بالآية فالفاء في فتأتيهم حينئذ تفسيرية وتنوين آية للتفخيم أي فإن استطعت أن تبتغيهما فتجعل ذلك آية لهم فافعل والظرفان متعلقان بمحذوفين هما نعتان لنفقا وسلما والأول لمجرد التأكيد إذ النفق لا يكون إلا في الأرض أو تبتغي وقد جوز تعلقهما بمحذوف وقع حالا من فاعل تبتغي أي أن تبتغي نفقا كائنا أنت في الأرض أو سلما كائنا في السماء وفيه من الدلالة على تبالغ حرصه عليه الصلاة والسلام على إسلام قومه وتراميه إلى حيث لو قدر على أن يأتي بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاء لإيمائهم ما لا يخفى وإيثار الابتغاء على الاتخاذ ونحوه للإيذان بأن ما ذكر من النفق والسلم مما لا يستطاع ابتغاؤه فكيف باتخاذه «ولو شاء الله لجمعهم على الهدى» أي ولو شاء الله تعالى أن يجمعهم على ما أنتم عليه من الهدى لفعله بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعد صرف اختيارهم إلى جانب الهدى مع تمكنهم التام منه في مشاهدتهم للآيات الداعية إليه لا أنه تعالى لم يوفقهم له مع توجههم إلى تحصيله وقيل لو شاء الله لجمعهم عليه بأن يأتيهم بآية ملجئة إليه ولكن لم يفعله لخروجه عن الحكمة وقوله تعالى «فلا تكونن من الجاهلين» نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من الحرص الشديد على إسلامهم والميل إلى إتيان ما يقترحونه من الآيات طمعا في إيمائهم مرتب على بيان عدم تعلق مشيئته تعالى بهدايتهم والمعنى وإذا عرفت أنه تعالى لم يشأ هدايتهم وإيمائهم بأحد الوجهين فلا تكونن بالحرص الشديد على إسلامهم أو الميل إلى نزول مقترحاتهم من الجاهلين بدقائق شؤونه تعالى التي من حملتها ما ذكر من عدم تعلق مشيئته تعالى بإيمائهم أما اختيارا فلعدم توجههم إليه وأما اضطرارا فلخروجه عن الحكمة التشريعية المؤسسة على الاختيار ويجوز أن يراد بالجاهلين على الوجه الثاني المقترحون ويراد بالنهي منعه عليه الصلاة والسلام من المساعدة على اقتراحهم وإيرادهم بعنوان الجهل دون الكفر ونحوه لتحقيق مناط النهي الذي هو الوصف الجامع بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم «إنما يستجيب
129

الذين يسمعون»
تقرير لما مر من أن على قلوبهم أكنة مانعة من الفقه وفي آذانهم وقرا حاجزا من السماع وتحقيق لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يتصور منهم الإيمان البتة والاستجابة الإجابة المقارنة للقبول أي إنما يقبل دعوتك إلى الإيمان اللذين يسمعون ما يلقي إليهم سماع تفهم وتدبر جون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى إنك لا تسمع الموتى وقوله تعالى «والموتى يبعثهم الله» تمثيل لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيقهم للإيمان باختصاصه تعالى بالقدرة على بعث الموتى من القبور وقيل بيان لاستمرارهم على الكفر وعدم إقلاعهم عنه أصلا أن الموتى من القبور وقيل بيان مستعار للكفرة بناء على تشبيه جهلهم بموتهم أي وهؤلاء الكفرة يبعثهم الله تعالى من قبورهم «ثم إليه يرجعون» للجزاء فحينئذ يستجيبون وأما قبل ذلك فلا سبيل إليه وقرئ يرجعون على البناء للفاعل من رجع من رجوعا والمشهورة أو في بحق المقام لأنبائه عن كون مرجعهم إليه تعالى بطريق الاضطرار «وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه» حكاية لبعض آخر من أباطيلهم بعد حكاية ما قالوا في حق القرآن الكريم وبيان ما يتعلق به والقائلون رؤساء قريش وقيل الحرث بن عامر بن نوفل وأصحابه ولقد بلغت بهم الضلالة والطغيان إلى حيث لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخر لها صم الجبال حتى اجترءوا على ادعاء أنها ليست من قبيل الآيات وإنما هي ما اقترحوه من الخوارق الملجئة أو المعقبة للعذاب كما قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية والتنزيل بمعنى الإنزال كما ينبئ عنه القراءة بالتخفيف فيما سيأتي وما يفيده التعرض لعنوان ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلية إنما هو بطريق التعريض بالتهكم من جهتهم وإطلاق الآية في قوله تعالى «قل إن الله قادر على أن ينزل آية» مع أن المراد بها ما هو من الخوارق المذكورة لا آية ما من الآيات لفساد المعنى مجاراة معهم على زعمهم ويجوز أن يراد بها آية موجبة لهلاكهم كإنزال ملائكة العذاب ونحوه على أن تنوينها للتفخيم والتهويل كما أن إظهار الاسم الجليل لتربية المهابة مع ما فيه من الإشعار بعلة القدرة الباهرة والاقتصار في الجواب على بيان قدرته تعالى على تنزيلها مع أنها ليست في حيز
الإنكار للإيذان بأن عدم تنزيله تعالى إياها مع قدوته عليه لحكمة بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبئ عنه الاستدراك بقوله تعالى «ولكن أكثرهم لا يعلمون» أي ليسوا من أهل العلم على أن المفعول مطروح بالكلية أو لا يعلمون شيئا على أنه محذوف مدلول عليه بقرينة المقام والمعنى أنه تعالى قادر على أن ينزل آية من ذلك أو آية أي آية ولكن أكثرهم لا يعلمون فلا يدرون أن عدم تنزيلها مع ظهور قدرته عليه لما أفي تنزيلها قلعا لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختيار أو استئصالا لهم بالكلية فيقترحونها جهلا ويتخذون عدم تنزيلها ذريعة إلى التكذيب وتخصيص عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضهم واقفون على حقيقة
130

الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعنادا وقوله تعالى «وما من دابة في الأرض» الخ كلام مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته عز وجل وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه تعالى قادر على تنزيل الآية وإنما لا ينزلها محافظة على الحكم البالغة وزيادة من لتأكيد الاستغراق وفي متعلقة بمحذوف هو وصف لدابة مفيد لزيادة التعميم كأنه قيل وما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض وكذا زيادة الوصف في قوله تعالى «ولا طائر يطير بجناحيه» مع ما فيه من زيادة التقرير أي ولا طائر من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه كما هو المشاهد المعتاد وقرئ ولا طائر بالرفع عطفا على محل الجار والمجرور كأنه قيل وما من دابة ولا طائر «إلا أمم» أي طوائف متخالفة والجمع باعتبار المعنى كأنه قيل وما من دواب ولا طير إلا أمم «أمثالكم» أي كل أمة منها مثلكم في أن أحوالها محفوظة وأمورها مقننة ومصالحها مرعية جارية على سنن السداد ومنتظمة في سلك التقديرات الإلهية والتدبيرات الربانية «ما فرطنا في الكتاب من شيء» يقال فرط الشيء أي ضيعه وتركه قال ساعدة بن حوية معه سقاء لا يفرط حمله أي لا يتركه ولا يفارقه ويقال فرط في الشيء أي أهمل ما ينبغي أن يكون فيه وأغفله فقوله تعالى في الكتاب أي في الرقى ن على الأول ظرف لغو وقوله تعالى من شيء مفعول لفرطنا ومن مزيدة للاستغراق أي ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء المهمة التي من جملتها بيان أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي وعلى الثاني مفعول للفعل ومن شيء في موضع المصدر أي ما جعلنا الكتاب مفرطا فيه شيئا من التفريط بل ذكرنا فيه كل ما لا بد من ذكره وأيا ما كان فالجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها وقيل الكتاب اللوح فالمراد بالاعتراض الإشارة إلى أن أحوال الأمم مستقصاة في اللوح المحفوظ غير مقصورة على هذا القدر المجمل وقرئ فرطنا بالتخفيف وقوله تعالى «ثم إلى ربهم يحشرون» بيان لأحوال الأمم المذكورة في الآخرة بعد بيان أحوالها في الدنيا وإيراد ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مجراهم والتعبير عنها بالأمم أي إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم لا إلى غيره فيجازيهم فينصف بعضهم من بعض حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء وقيل حشرها موتها ويأباه مقام تهويل الخطب وتفظيع الحال وقوله تعالى «والذين كذبوا بآياتنا» متعلق بقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء والموصول عبارة عن المعهودين في قوله تعالى ومنهم من يستمع إليك الآيات ومحله الرفع على الابتداء خبره ما بعده أي أوردنا في القرآن جميع الأمور المهمة وأزحنا به العلل ة والأعذار والذين كذبوا بآياتنا
131

التي هي منه «صم» لا يسمعونها سمع تدبر وفهم فلذلك يسمونها أساطير الأولين ولا يعدونها من الآيات ويقترحون غيرها «وبكم» لا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوتك بها وقوله تعالى «في الظلمات» أي في ظلمات الكفر أو ظلمات الجهل والعناد والتقليد إما خبر ثان للمبتدأ على أنه عبارة عن العمى كما في قوله تعالى صم بكم عمي وإما متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في الخبر كأنه قيل ضالون كائنين في الظلمات أو صفة لبكم أي بكم كائنون في الظلمات والمراد به بيان كمال عراقتهم في الجهل وسوء الحال فإن الأصم الأبكم إذا كان بصيرا ربما يفهم شيئا بإشارة غيره وإن لم يفهمه بعبارته وكذا يشعر غيره بما في ضميره بالإشارة وإن كان معزولا عن العبارة وأما إذا كان مع ذلك أعمى أو كان في الظلمات فينسد عليه باب الفهم والتفهيم بالكلية وقوله تعالى «من يشأ الله يضلله» تحقيق للحق وتقرير لما سبق ممن حالهم ببيان أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الإيمان أصلا فمن مبتدأ خبره ما بعد ومفعول المشيئة محذوف على القاعدة المستمرة من وقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء وانتفاء الغرابة في تعلقها به أي من يشأ الله إضلاله أي أن يخلق فيه الضلال يضلله أي يخلقه فيه لكن لا ابتداء بطريق الجبر من غير أن يكون له دخل ما في ذلك بل عند صرف اختياره إلى كسبه وتحصيله وقس عليه قوله تعالى «ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم» لا يضل من ذهب إليه ولا يزل من ثبت قدمه عليه «قل أرأيتكم» أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبكتهم ويلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى النكير والكاف حرف جئ به لتأكيد الخطاب لا محل له من الإعراب ومبنى التركيب وإن كان على الاستخبار عن الرؤية قلبية كانت أو بصرية لكن المراد به الاستخبار عن متعلقها أي أخبروني «إن أتاكم عذاب الله» حسبما أتى الأمم السابقة من أنواع العذاب الدنيوي «أو أتتكم الساعة» التي لا محيص عنها البتة «أغير الله تدعون» هذا مناط الاستخبار ومحط التبكيت وقوله تعالى «إن كنتم صادقين» متعلق بأرأيتكم مؤكد للتبكيت كاشف عن كذبهم وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أي إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة كما أنها دعواكم المعروفة أو إن كنتم قوما صادقين فأخبروني أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله الخ فإن صدقهم بأي معنى كان من موجبات إخبارهم بدعائهم غيره سبحانه وأما جعل الجواب ما يدل عليه قوله تعالى أغير الله تدعون أعني فادعوه على أن الضمير لغير الله فمخل بجزالة النظم الكريم كيف لا والمطلوب منهم إنما هو الإخبار بدعائهم غيره تعالى عند إتيان ما يتأتى لا نفس دعائهم إياه وقوله تعالى «بل إياه تدعون» عطف على جملة منفية ينبئ عنها الجملة التي تعلق بها الاستخبار إنباء جليا كأنه قيل لا غيره تعالى تدعون بل غياه تدعون وقوله تعالى «فيكشف ما تدعون إليه» أي إلى كشفه عطف على تدعون أي فيكشفه إثر دعائكم وقوله تعالى «إن شاء الله» أي إن شاء كشفه لبيان أن قبول دعائهم غير مطرد بل هو تابع
132

لمشيئته المبنية على حكم خفية وقد استأثر الله تعالى بعلمها فقد يقبله كما في بعض دعواتهم المتعلقة بكشف العذاب الدنيوي وقد لا يقبله كما في بعض آخر منها وفي جميع ما يتعلق بكشف العذاب الأخروي الذي من جملته الساعة وقوله تعالى «وتنسون ما تشركون» أي تتركون ما تشركونه به تعالى من الأصنام تركا كليا عطف على تدعون أيضا وتوسيط الكشف بينهما مع تقارنهما وتأخر الكشف عنهما لإظهار كمال العناية بشأن الكشف والإيذان بترتبه على الدعاء خاصة وقوله تعالى «ولقد أرسلنا» كلام
مستأنف مسوق لبيان أن منهم ة من لا يدعو الله تعالى عند إتيان العذاب أيضا لتماديهم في الغي والضلال لا يتأثرون بالزواجر التنزيلية وتصديره بالجملة القسمية لإظهار مزيد الاهتمام بمضمونه ومفعول أرسلنا محذوف لما أن مقتضى المقام بيان حال المرسل إليهم لا حال المرسلين أي وبالله لقد أرسلنا رسلا «إلى أمم» كثيرة «من قبلك» أي كائنة من زمان قبل زمانك «فأخذناهم» أي فكذبوا رسلهم فأخذناهم «بالبأساء» أي بالشدة والفقر «والضراء» أي الضر والآفات وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما «لعلهم يتضرعون» أي لكي يدعوا الله تعالى في كشفها بالتضرع والتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم «فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا» أي فلم يتضرعوا حينئذ مع تحقق ما يستدعيه «ولكن قست قلوبهم» استدراك عما قبله أي فلم يتضرعوا إليه تعالى برقة القلب والخضوع مع تحقق ما يدعوهم إليه ولكن ظهر منهم نقيضه حيث قست قلوبهم أي استمرت على ما هي عليه من القساوة أو ازدادت قساوة كقولك لم يكرمني إذ جئته ولكن أهانني «وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون» من الكفر والمعاصي فلم يخطروا ببالهم أن ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله وقيل الاستدراك لبيان أنه لم يكن لهم في ترك التضرع عذر سوى قسوة قلوبهم والإعجاب بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم وقوله تعالى «فلما نسوا ما ذكروا به» عطف على مقدر ينساق إليه النظم الكريم أي فانهمكوا فيه ونسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء فلما نسوه «فتحنا عليهم أبواب كل شيء» من فنون النعماء على منهاج الاستدراج لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال مكر بالقوم ورب الكعبة وقرئ فتحنا بالتشديد للتكثير وفي ترتيب الفتح على النسيان المذكور إشعار بأن التذكر في الجملة غير خال عن النفع وحتى في قوله تعالى «حتى إذا فرحوا بما أوتوا» هي التي يبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية كما في قوله تعالى حتى إذا جاء أمرنا الآية ونظائره وهي
133

مع ذلك غاية لقوله تعالى فتحنا أو لما يدل هو عليه كأنه قيل ففعلوا ما فعلوا حتى إذا اطمأنوا بما أتيح لهم وبطروا وأشروا «أخذناهم بغتة» أي نزل بهم عذابنا فجأة ليكون أشد عليهم وقعا وأفظع هو لا «فإذا هم مبلسون» متحسرون غاية الحسرة آيسون من كل هير واجمون وفي الجملة الاسمية دلالة على استقرارهم على تلك الحالة الفظيعة «فقطع دابر القوم الذين ظلموا» أي أخرهم بحيث لم يبق منهم أحد من دبره دبرا ودبورا أي تبعه ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم فإن هلاكهم بسبب ظلمهم الذي هو وضع الكفر موضع الشكر وإقامة المعاصي مقام الطاعات «والحمد لله رب العالمين» على ما جرى عليهم من النكال فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة مستجلبة للحمد لا سيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم عليهم السلام «قل أرأيتم» أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتكرير التبكيت عليهم وتثنية الإلزام بعد تكملة الإلزام الأول ببيان أنه أمر مستمر لم يزل جاريا في الأمم وهذا أيضا استخبار عن متعلق الرؤية وإن كان بحسب الظاهر استخبارا عن نفس الرؤية «إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم» بأن أصمكم وأعماكم بالكلية «وختم على قلوبكم» بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقل وفهم أصلا وتصيرون مجانين ويجوز أن يكون الختم عطفا تفسيريا للأخذ المذكور فإن السمع والبصر طريقان للقلب منهما يرد ما يرده من المدركات فأخذهما سد لبابه وهو السر في تقديم أخذهما على ختمها وأما تقديم السمع على الإبصار فلأنه مورد الآيات القرآنية وإفراده لما أن أصله مصدر وقوله تعالى «من إله» مبتدأ وخبر ومن استفهامية وقوله تعالى «غير الله» صفة للخبر وقوله تعالى «يأتيكم به» أي بذاك على أن الضمير مستعار لاسم الإشارة أو بما أخذ وختم عليه صفة أخرى له والجملة متعلق الرؤية ومناط الاستخبار أي أخبروني إن سلب الله مشاعركم من إله غيره تعالى يأتيكم بها وقوله تعالى «انظر كيف نصرف الآيات» تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة أي انظر كيف نكررها ونقررها مصروفة من أسلوب إلى أسلوب تارة بترتيب المقدمات العقلية وتارة بطريق الترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير «ثم هم يصدفون» عطف على نصرف داخل في حكمه وهو العمدة في التعجيب وثم لاستبعاد صدوفهم أي إعراضهم عن تلك الآيات بعد تصريفها على هذا النمط البديع الموجب للإقبال عليها «قل أرأيتكم» تبكيت آخر لهم بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص للعذاب بهم «إن أتاكم عذاب الله» أي
134

عذابه العاجل الخاص بكم كما أتى من قبلكم من الأمم «بغتة» أي فجأة من غير أن يظهر منه مخايل الإتيان وحيث تضمن هذا معنى الخفية قوبل بقوله تعالى «أو جهرة» أي بعد ظهور أماراته وعلائمه وقيل ليلا أو نهارا كما في قوله تعالى بياتا أو نهارا لما أن الغالب فيما أتى ليلا البغتة وفيما أتى نهارا الجهرة وقرئ بغتة أو جهرة وهما في موضع المصدر أي إتيان بغتة أو إتيان جهرة وتقديم البغتة لكونها أهول وأفظع وقوله تعالى «هل يهلك» متعلق الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل لهم تقريرا لهم باختصاص الهلاك بهم أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى حسبما تستحقونه هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم أي هل يهلك غيركم ممن لا يستحقه وإنما وضع موضعه «إلا القوم الظالمون» تسجيلا عليهم بالظلم وإيذانا بأن مناط إهلاكهم ظلمهم الذي هو وضعهم الكفر موضع الإيمان وقيل المراد بالظالمين الجنس وهو داخلون في الحكم دخولا أوليا قال الزجاج هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم ويأباه تخصيص الإتيان بهم وقيل الاستفهام بمعنى النفي فمتعلق الاستخبار حينئذ محذوف كأنه قيل أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى بغتة أو جهرة ماذا يكون الحال ثم قيل بيانا لذلك ما يهلك إلا القوم الظالمون أي ما يهلك بذلك العذاب الخاص بكم إلا أنتم فمن قيد الهلاك بهلاك التعذيب والسخط لتحقيق الحصر بإخراج غير الظالمين لما أنه ليس بطريق التعذيب والسخط بل بطريق الإثابة ورفع الدرجة فقد أهمل ما يجديه واشتغل بما لا يعينه وأخل بجزالة النظم الكريم وقرئ هل يهلك من الثلاثي «وما نرسل المرسلين» كلام مستأنف مسوق لبيان وظائف منصب الرسالة على الإطلاق وتحقيق ما في عهدة الرسل عليهم السلام وإظهار أن ما يقترحه الكفرة عليه عليه السلام ليس مما يتعلق بالرسالة أصلا وصيغة المضارع لبيان أن ذلك أمر مستمر جرت عليه العادة الآلهية وقوله تعالى «إلا مبشرين ومنذرين» حالات مقدرتان من المرسلين أي ما نرسلهم إلا مقدرا تبشيرهم وإنذارهم ففيهما معنى العلة الغائبة قطعا أي ليبشروا قومهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعذاب على المعصية أي ليخبروهم بالخبر السار والخبر الضار دنيويا كان أو أخرويا من غير أن يكون لهم دخل ما في وقوع المخبر به أصلا وعليه يدور القصر والإ لزم أن لا يكون بيان الشرائع والأحكام من وظائف الرسالة والفاء في قوله تعالى «فمن آمن وأصلح» لترتيب ما بعدها على ما قبلها ومن موصولة والفاء في قوله تعالى
«فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» لشبه الموصول بالشرط أي لا خوف عليهم من العذاب الذي أنذروه دنيويا كان أو أخرويا ولا هم يحزنون بفوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل وتقديم نفي الخوف على نفي الحزن لمراعاة حق المقام وجمع الضمائر الثلاثة الراجعة إلى من باعتبار معناها كما أن إفراد الضميرين السابقين باعتبار لفظها أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والمراد بيان دوام انتفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا
135

لما تقرر في موضعه من أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام الا يرى أن الجملة الاسمية تدل بمعونة المقام على استمرار الثبوت فإذا دخل عليها حرف النفي دلت على استمرار الانتفاء لا على انتفاء الاستمرار كذلك المضارع الخالي عن حرف النفي يفيد استمرار الثبوت فإذا دخل عليه حرف النفي يفيد استمرار الانتفاء لا انتفاء الاستمرار ولا بعد في ذلك فإن قولك ما زيدا ضربت مفيد لاختصاص النفي لا نفي الاختصاص كما بين في محله وقوله عز وجل «الذين كانوا» عطف على من آمن داخل في حكمه قوله تعالى «بآياتنا» إشارة إلى أن ما ينطق به الرسل عليهم السلام عند التبشير والإنذار ويبلغونه إلى الأمم ى يأته تعالى وأن من آمن به فقد آمن بآياته تعالى ومن كذب به فقد كذب بها وفيه من الترغيب في الإيمان به والتحذير عن تكذيبه ما لا يخفى والمعنى ما نرسل المرسلين إلا ليخبروا أممهم من جهتنا بما سيقع منا من الأمور السارة والضارة لا ليوقعوها استقلالا من تلقاء أنفسهم أو استدعاء من قبلنا حتى يقترحوا عليهم ما يقترحون فإذا كان الأمر كذلك فمن ى من بما أخبروا به من قبلنا تبشيرا أو إنذارا في ضمن آياتنا وأصلح ما يجب إصلاحه من أعماله أو دخل في الصلاح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا التي بلغوها عند التبشير والإنذار «يمسهم العذاب» أي العذاب الذي أنذروه عاجلا أو آجلا أو حقيقة العذاب وجنسه المنتظم له انتظاما أوليا «بما كانوا يفسقون» أي بسبب فسقهم المستمر الذي هو الإصرار على الخروج عن التصديق والطاعة «قل لا أقول لكم عندي خزائن الله» استئناف مبني على ما أسس من السنة الإلهية في شأن إرسال الرسل وإنزال الكتب مسوق لإظهار تبرئه صلى الله عليه وسلم عما يدور عليه مقترحاتهم أي قل للكفرة الذين يقترحون عليك تارة تنزيل الآيات وأخرى غير ذلك لا أدعي أن خزائن مقدوراته تعالى مفوضة إلى أتصرف فيهما كيفما شاء استقلالا أو استدعاء حتى تقترحوا على تنزيل الآيات أو إنزال العذاب أو قلب الجبال ذهبا أو غير ذلك مما لا يليق بشأني وجعل هذا تبرؤا عن دعوى الإلهية مما لا وجه له قطعا وقوله تعالى «ولا أعلم الغيب» عطف على محل عندي خزائن الله أي ولا أدعي أيضا أني أعلم الغيب من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب أو نحوهما «ولا أقول لكم إني ملك» حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيق به البشر من الرقي في السماء ونحوه أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في أمري كما ينبئ عنه قولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق والمعنى أني لا أدعي شيئا من هذه الأشياء الثلاثة حتى تقترحوا على ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك دليلا على عد صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيء مما ذكر قطعا بل إنما هي
136

عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله عز وجل والعمل بمقتضاه فحسب حسبما ينبئ عنه قوله تعالى «إن أتبع إلا ما يوحى إلي» لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه دون غيره بتوجيه القصر إلى المفعول بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الاستعمال الشائع الوارد على توجيه القصر إلى ما يتعلق بالفعل باعتبار النفي في الأصل والإثبات في القيد بل على معنى تخصيص حاله صلى الله عليه وسلم باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصر إلى نفس الفعل بالقياس إلى ما يغره من الأفعال لكن لا باعتبار النفي والاثبات معا في خصوصية فإن ذلك غير ممكن قطعا بل باعتبار النفي فيما يتضمنه من مطلق الفعل والإثبات فيما يقارنه من المعنى المخصوص فإن كل فعل من الأفعال الخاصة كنصر مثلا ينحل عند التحقيق إلى معنى مطلق هو مدلول لفظ الفعل وإلى معنى خاص يقومه فإن معناه فصل النصر يرشدك إلى ذلك قولهم معنى فلان يعطي ويمنع يفعل الإعطاء والمنع فمورد القصر في الحقيقة ما يتعلق بتوجيه النفي إلى الأصل والإثبات إلى القيد كأنه قيل ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي من غير أن يكون لي مدخل ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء أو بوجه آخر من الوجوه أصلا «قل هل يستوي الأعمى والبصير» مثل للضال والمهتدي على الإطلاق والاستفهام إنكاري والمراد إنكاري استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق ومن يعلمها وفيه من الإشعار بكمال ظهورها ومن التنفير عن الضلال والترغيب في الاهتداء ما لا يخفى وتكرير الأمر لتثنية التبكيت وتأكيد الإلزام وقوله تعالى «أفلا تتفكرون» تقريع وتوبيخ داخل تحت الأمر والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي لا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيم أو أتسمعون فلا تتفكرون فيه فمناط التوبيخ في الأول عدم الأمرين معا وفي الثاني عدم التفكر مع تحقق ما يوجبه «وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم» بعد ما حكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن من الكفرة قوما لا يتعظون بتصريف الآيات الباهرة ولا يتأثرون بمشاهدة المعجزات القاهرة قد إيفت مشاعرهم بالكلية والتحقوا بالأموات وقرر ذلك بأن كرر عليهم من فنون التبكيت والإلزام ما يلقمهم الحجر أي إلقام فأبوا إلا الإباء والنكير وما نجع فيهم عظة ولا تذكير ة وما أفادهم الإنذار إلا الإصرار على الإنكار أمر عليه الصلاة والسلام بتوجيه الإنذار إلى من يتوقع منهم التأثر في الجملة وهم المجوزون منهم للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخرين أو مترددين فيهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقا وأما المنكرون للحشر رأسا والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم وقد قيل هم المفرطون في الأعمال من المؤمنين ولا يساعده سباق النظم الكريم ولا سياقه بل فيه ما يقضي باستحالة صحته كما ستقف عليه
137

والضمير المجرور لما يوحى أو لما دل هو عليه من القرآن والمفعول الثاني للإنذار إما العذاب الأخروي المدلول عليه بما في حيز الصلة وإما مطلق العذاب الذي ورد به الوعيد والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي لتربية المهابة وتحقيق المخافة وقوله تعالى «ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع» في حين النصب على الحالية من ضمير يحشروا ومن متعلقة بمحذوف وقع حالا من اسم ليس لأنه في الأصل صفة له فلما قد عليه انتصب حالا خلا أن الحال الأولى لإخراج
الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف وتحقيق أن ما نيط به الخوف هو الحشر على تلك الحالة لا الحشر كيفما كان ضرورة أن المعترفين به الجازمين بنصرة غيره تعالى بمنزلة المنكرين له في عدم الخوف الذي عليه يدور أمر الإنذار وأما الحال الثانية فليست لإخراج الولي الذي لم يقيد بها عن حيز الانتفاء لفساد المعنى لاستلزام ثبوت ولايته تعالى لهم كما في قوله تعالى ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير بل لتحقيق مدار خوفهم وهو فقدان ما علقوا به رجاءهم وذلك إنما هو ولاية غيره سبحانه وتعالى في قوله تعالى ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء والمعنى أنذر به الذين يخافون أن يحشروا غير منصورين من جهة أنصارهم على زعمهم ومن هذا اتضح أن لا سبيل إلى كون المراد بالخائفين المفرطين من المؤمنين غذ ليس لهم والي سواه تعالى ليخافوا الحشر بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته عز وجل وقوله تعالى «لعلهم يتقون» تعليل للأمر أي أنذرهم مرجوا منهم التقوى «ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي» لما أمر صلى الله عليه وسلم بإنذار المذكورين لينتظموا في سلك المتقين نهي صلى الله عليه وسلم عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم روي أن رؤساء من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو طردت هؤلاء الأعبد وأرواح جبابهم يعنون فقراء المسلمين كعمار وصهيب وخباب وسلمان وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم جلسنا إليك وحادثناك فقال صلى الله عليه وسلم ما أنا بطارد المؤمنين فقالوا فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت قال صلى الله عليه وسلم نعم طمعا في إيمانهم وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال له عليه الصلاة والسلام لو فعلت حتى تنظر إلى ما يصيرون وقيل إن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحرث بن نوفل وقرصة بن عبيد وعمرو بن نوفل وأشراف بني عبد مناف من أهل الكفر أتوا أبا طالب فقالوا يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمدا يطرد موالينا وحلفاءنا وهم عبيدنا وتقاؤنا كان أعظم في صدورنا وأدنى لاتباعنا إياه فأتى أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه فقال عمر رضي الله عنه لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون إلى ما يصيرون وقال سلمان وخباب فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وعباس بن مرداس وذو وهم من المؤلفة قلوبهم
138

فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم جالسا مع أناس من ضعفاء المؤمنين فلما رأوهم حوله صلى الله عليه وسلم حقروهم فأتوه عليه الصلاة والسلام فقالوا يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وارواح جبابهم فجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك فقال صلى الله عليه وسلم ما أنا بطارد المؤمنين قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا معك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبد فإذا نجحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فعد معهم إن شئت قال صلى الله عليه وسلم نعم قالوا فاكتب لنا كتابا فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه ليكتب ونحن قعود ي ناحية فنزل جبريل عليه السلام بالآية فرمى عليه السلام بالصحيفة ودعانا فأتيناه وجلسنا عنده وكنا ندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال الحمد لله الذي لم يتمنى حتى أمرني أن اصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات والمراد بذكر الوقتين الدوام وقيل صلاة الفجر والعصر وقرئ بالغدوة وقوله تعالى «يريدون وجهه» حال من ضمير يدعون أي يدعونه تعالى مخلصين له فيه وتقييده به لتأكيد عليته للنهي فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد وقوله تعالى «ما عليك من حسابهم من شيء» اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريرا له ودفعا لما عسى يتوهم كونه مسوغا لطردهم من أقاويل الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوح حيث قالوا ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي أي ما عليك شيء ما من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة حتى تتصدى له وتبنى على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتك حسبما هو شأن منصب النبوة اعتبار ظواهر الأعمال وإجراء الأحكام على موجبها وأما بواطن الأمور فحسابها على العليم بذات الصدور كقوله تعالى إن حسابهم إلا على ربي وذكر قوله تعالى «وما من حسابك عليهم من شيء» مع أن الجواب قد تم بما قبله للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا وهو انتفاء كون حسابه صلى الله عليه وسلم عليهم على طريقة قوله تعالى لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلة جملة واحدة لتأدية معنى واحد على نهج قوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى فغير حقيق بجلالة شأن التنزيل وتقديم عليك في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى الله عليه وسلم إذ هو الداعي إلى تصدية صلى الله عليه وسلم لحسابهم وقيل الضمير للمشركين والمعنى إنك لا تؤاخذ بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين وقوله تعالى «فتطردهم» جواب النفي وقوله تعالى «فتكون من الظالمين» جواب النهي وقد جوز عطفه على فتطردهم على طريقة التسبيب وليس بذاك «وكذلك فتنا بعضهم ببعض» استئناف مبين لما نشأ عنه ما سبق من النهي وذلك إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل الذي هو عبارة عن تقديمه لفقراء المؤمنين في أمر الدين بتوفيقهم للإيمان
139

مع ما هم عليه في أمر الدنيا من كمال سوء الحال وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجته المشار إليه وبعد منزلته في الكمال والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف والتقدير فتنا بعضهم ببعض فتونا كائنا مثل ذلك الفتون ثم قدم على الفعل لإفادة القصر المفيد لعدم القصور فقط واعتبرت الكاف مقحمة فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له والمعنى ذلك الفتون الكامل البديع فتنا أي ابتلينا بعض الناس ببعضهم لا فتونا غيره حيث قدمنا الآخرين في أمر الدين على الأولين المتقدمين عليهم في أمر الدنيا تقدما كليا واللام في قوله تعالى «ليقولوا» للعاقبة أي ليقول البعض الأولين مشيرين إلى الآخرين محقرين لهم نظرا إلى ما بينهما من التفاوت الفاحش الدنيوي وتعاميا عما هو مناط التفضيل حقيقة «أهؤلاء من الله عليهم من بيننا» بأن وفقهم لإصابة الحق ولما يصعدهم عنده تعالى من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء وغرضهم بذلك إنكار وقوع المن رأسا على طريقة قولهم لو كان خيرا ما سبقونا إليه لا تحقير الممنون عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراض عليه تعالى وقوله تعالى «أليس الله بأعلم بالشاكرين» رد لقولهم ذلك وإبطال له وإشارة إلى أن مدار استحقاق الإنعام معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم والاستفهام لتقرير علمه البالغ بذلك أي أليس الله بأعلم بالشاكرين لنعمه حتى تستبعدوا إنعامه عليهم وفيه من الإشارة إلى
أن أولئك الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن والتوفيق للإيمان شاكرون له تعالى على ذلك مع التعريض بأن القائلين بمعزل من ذلك كله ما لا يخفى «وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا» هم الذين نهى عن طردهم وصفوا بالإيمان بآيات الله عز وجل كما وصفوا بالمداومة على عبادته تعالى بالإخلاص تنبيها على إحرازهم لفضيلتي العلم والعمل وتأخير هذا الوصف مع تقدمه على الوصف الأول لما أن مدار الوعد بالرحمة والمغفرة هو الإيمان بها كما أن مناط النهي عن الطرد فيما سبق هو المداومة على العبادة وقوله تعالى «فقل سلام عليكم» أمر بتبشيرهم بالسلام عن كل مكروه بعد إنذار مقابليهم وقيل بتبليغ سلامه تعالى إليهم وقيل بأن يبدأهم بالسلام وقوله تعالى «كتب ربكم على نفسه الرحمة» أي قضاها وأوجبها على ذاته المقدسة بطريق التفضل والإحسان بالذات لا بتوسط شيء ما أصلا تبشير لهم بسعة رحمته تعالى وبنيل المطالب إثر تبشيرهم بالسلامة عن المكاره وقبوله التوبة منهم وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار اللطف بهم والإشعار بعلة الحكم وقيل إن قوما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا أصبنا ذنوبا عظاما فلم يرد على أنه تفسير للرحمة بطريق الاستئناف وقوله تعالى «بجهالة» حال من فاعل عمل أي عمله وهو جاهل بحقيقة ما يتبعه من المضار والتقييد بذلك للإيذان بأن المؤمن لا يباشر ما يعلم أنه
140

يؤدي إلى الضرر أو عمله ملتبسا بجهالة «ثم تاب من بعده» أي من بعد مله أو من بعد سفهه «وأصلح» أي ما أفسده تداركا وعزما على أن لا يعود إليه ابدا «فإنه غفور رحيم» أي فأمره أنه غفور رحيم أو فله أنه غفور رحيم وقرئ فإنه بالكسر على أنه استئناف وقع في صدر الجملة الواقعة خبرا لمن على أنها موصولة أو جوابا لها على أنها شرطية «وكذلك نفصل الآيات» قد مر آنفا ما فيه من الكلام أي هذا التفصيل البديع نفصل الآيات في صفة أهل الطاعة وأهل الإجرام المصرين منهم والأوابين «ولتستبين سبيل المجرمين» بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل وقرئ بالتذكير بناء على تذكيره فإن السبيل مما يذكر ويؤنث وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور لم يقصد تعليله بها بعينها وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر أو علة لفعل مقدر هو عبارة عن المذكور فيكون مستأنفا أي ولتستبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل وقرئ بنصب السبيل على أن العف متعد وتاؤه للخطاب أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم «قل إني نهيت» أمر صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مخاطبة المصرين على الشرك إثر ما أمر بمعاملة من عداهم من أهل الإنذار والتبشير بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعا لأطماعهم الفارغة عن ركونه صلى الله عليه وسلم إليهم وبيانا لكون ما هم عليه من الدين هوى محضا وضلالا بحتا إني صرفت وزجرت بما نصب لي من الأدلة وأنزل على من الآيات في أمر التوحيد «أن أعبد الذين تدعون» أي عن عبادة ما تعبدونه «من دون الله» كائنا ما كان «قل» كرر الأمر مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به أو إيذانا باختلاف المقولين من حيث إن الأول حكاية لما من جهته تعالى من النهي والثاني حكاية لما من جهته صلى الله عليه وسلم من الانتهاء عما ذكر من عبادة ما يعبدونه وإنما قيل «لا أتبع أهواءكم» استجهالا لهم وتنصيصا على أنهم فيما هم فيه تابعون لأهواء باطلة وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلا وإشعارا بما يوجب النهي والانتهاء وقوله تعالى «قد ضللت إذا» استئناف مؤكد لانتهائه عما نهي عنه مقرر لكونهم في غاية الضلال والغواية أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت وقوله تعالى «وما أنا من المهتدين» عطف على ما قبله والعدول إلى الجملة الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار رأي دوام النفي واستمراره لا نفي الدوام والاستمرار كما مر مرارا أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عدادهم وقوله تعالى «قل إني على بينة» تحقيق للحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لاتباعه غياه إثر إبطال الباطل الذي عليه الكفرة وبيان عدم
141

اتباعه والبينة الحجة الواضحة التي تفصل بين الحق والباطل والمراد بها القرآن والوحي وقيل هو الحجج العقلية أو ما يعمها ولا يساعده المقام والتنوين للتفخيم وقوله تعالى «من ربي» متعلق بمحذوف هو صفة لبينة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى وقوله تعالى «وكذبتم به» إما جملة مستأنفة أو حالية بتقدير قد أو بدونه جئ بها الاستقباح مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضي عدمه من غاية وضوح البينة والضمير المجرور اللبينة والتذكير باعتبار المعنى لمراد والمعنى إني على بينة عظيمة كائنة من ربي وكذبتم بها وبما فيها من الأخبار التي من جملتها الوعيد بمجىء العذاب وقوله تعالى «ما عندي ما تستعجلون به» استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بها وهو عدم مجىء ما وعد فيها من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين بطريق الاستهزاء أو بطريق الإلزام على زعمهم أي ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعود في القرآن وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه في حكمي وقدرتي حتى أجىء به وأظهر لكم صدقه أو ليس أمره بمفوض إلى «إن الحكم» أي ما الحكم في ذلك تعجيلا وتأخيرا أو ما الحكم في جميع الأشياء فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا «إلا لله» وحده من غير أن يكون لغيره دخل ما فيه بوجه من الوجوه وقوله تعالى «يقص الحق» أي يتبعه بيان لشئونه تعالى في حكم المعهود أو في جميع أحكامه المنتظمة له انتظاما أوليا أي لا يحكم إلا بما هو حق فيثبت حقيقة التأخير وقرئ يقضي فانتصاب الحق حينئذ على المصدرية أي يقضي القضاء الحق أو على المفعولية أي يصنع الحق ويدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعها وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر واصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق أو الخصم عن التعدي على صاحبه «وهو خير الفاصلين» اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق ههنا بطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل هذا هو الذي تستدعيه جزالة التنزيل وقد قيل إن المعنى إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجة واضحة وشاهد صدق وكذبتم به أنتم حيث أشركتم به تعالى غيره وأنت خبير بأن مساق النظم الكرين فيما سبق وما لحق على وصفهم بتكذيب آيات الله تعالى بسبب عدم مجىء العذاب الموعود فيها فتكذيبهم به سبحانه في أمر التوحيد مما لا تعلق له بالمقام أصلا «قل لو أن عندي» أي في قدرتي ومكنتي «ما تستعجلون به» من العذاب الذي ورد به الوعيد بأن يكون أمره مفوضا إلى من جهته تعالى «لقضي الأمر بيني وبينكم» أي بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم بقولكم متى هذا الوعد ونظائره وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعين الفاعل الذي هو الله تعالى وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب ما لا يخفى فما قيل في تفسيره لأهلكتكم عاجلا غضبا
لربي ولتخلصت منكم سريعا بمعزل من توفية المقام حقه وقوله تعالى «والله أعلم بالظالمين» اعتراض مقرر لما أفادته الجملة الامتناعية من انتفاء كون أمر العذاب مفوضا إليه صلى الله عليه وسلم المستتبع لانتفاء قضاء الأمر وتعليل له والمعنى
142

والله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ولذلك لم يفوض الأمر إلى فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب والله أعلم «وعنده مفاتح الغيب» بيان لاختصاص المقدورات الغيبية به تعالى من حيث العلم غثر بيان اختصاص كلها به تعالى من حيث القدرة والمفاتح إما جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن فهو مستعار لمكان الغيب كأنها مخازن خزنت فيها الأمور الغيبية يغلق عليها ويفتح وإما جمع مفتح بكسرها وهو المفتاح ويؤيده قراءة من قرأ مفاتيح الغيب فهو مستعار لما يتوصل به إلى تلك الأمور بناء على الاستعارة الأولى أي عنده تعالى خاصة خزائن غيوبه أو ما يتوصل به إليها وقوله عز وجل «لا يعلمها إلا هو» تأكيد لمضمون ما قبله وإيذان بأن المراد هو الاختصاص من حيث العلم لا من حيث القدرة والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدورا لي حتى ألزمكم بتعجيله ولا معلوما لدي لأخبركم وقت نزوله بل هو مما يختص به تعالى قدرة وعلما فينزله حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح وقوله تعالى «ويعلم ما في البر والبحر» بيان لتعلق علمه تعالى بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات تكملة له وتنبيها على أن الكل بالنسبة إلى علمه المحيط سواء في الجلاء أي يعلم ما فيهما من الموجودات مفصلة على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر أفرادها وقوله تعالى «وما تسقط من ورقة إلا يعلمها» بيان لتعلقه بأحوالها المتغيرة بعد بيان تعلقه بذواتها فإن تخصيص حال السقوط بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاء بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكر حال الورقة وما عطف عليها خاصة دون أحوال سائر ما فيهما من فنون الموجودات الفائتة للحصر باعتبار أنها أنموذج لأحوال سائرها وقوله تعالى «ولا حبة» عطف على ورقة وقوله تعالى «في ظلمات الأرض» متعلق بمحذوف هو صفة لحبة مفيدة لكما نفوذ علمه تعالى أي ولا حبة كائنة في بطون الأرض إلا يعلمها وكذا قوله تعالى «ولا رطب ولا يابس» معطوفان عليها داخلان في حكمها وقوله تعالى «إلا في كتاب مبين» بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين عبارة عن علمه تعالى أو بدل الاشتمال على أنه عبارة عن اللوح المحفوظ وقرئ الأخيران بالرفع عطفا على محل من ورقة وقيل رفعهما بالابتداء والخبر إلا في كتاب مبين وهو الأنسب بالمقام لشمول الرطب واليابس حينئذ لما ليس من شأنه السقوط وقد نقل قراءة الرفع في ولا حبة أيضا «وهو الذي يتوفاكم بالليل» أي ينيمكم فيه على استعارة التوفي من الإماتة للإنامة لما بين الموت والنوم من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز وأصله قبض الشيء بتمامه «ويعلم ما جرحتم بالنهار» أي ما كسبتم
143

فيه المراد بالليل والنهار الجنس المتحقق في كل فرد من أفرادهما بالتوفي والبعث الموجدين فيها يتحقق قضاء الأجل المسمى المترتب عليها لا في بعضها والمراد بعلمه تعالى ذلك علمه قبل الجرح كما يلوح به تقديم ذكره على البعث أي يعلم ما تجرحون بالنهار وصيغة الماضي الجلالة على التحقق وتخصيص التوفي بالليل والجرح بالنهار مع تحقق كل منهما فيما خص بالآخر للجرى على سنن العادة «ثم يبعثكم فيه» أي يوقظكم في النهار عطف على يتوفاكم وتوسيط قوله تعالى ويعلم الخ بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيم الاحسان إليهم بالتنبيه على أن ما يكتسبونه من السيئات مع كونها موجبة لإبقائهم على التوفي بل لاهلاكهم بالمرة يفيض عليهم الحياة ويمهلهم كما ينبيء عنه كلمة التراخي كأنه قيل هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس النهر مع علمه بما ستجرحون فيها «ليقضى أجل مسمى» معين لكل فرد بحيث لا يكاد يتخطى أحد ما عين له طرفة عين «ثم إليه مرجعكم» أي رجوعكم بالموت لا إلى غيره أصلا «ثم ينبئكم بما كنتم تعملون» بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم تعملونها في تلك الليالي والأيام وقيل الخطاب مخصوص بالكفرة والمعنى أنكم ملقون كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار وأنه تعالى مطلع على أعمالكم يبعثكم الله من القبور في شأن ما قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم وفيه ما لا يخفى من التكلف والاخلال لافضائه إلى كون البعث معللا بقضاء الأجل المضروب له «وهو القاهر فوق عباده» أي هو المتصرف في أمورهم لا غيره يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة إلى غير ذلك «ويرسل عليكم» خاصة أيها المكلفون «حفظة» من الملائكة وهم الكرام الكاتبون وعليكم متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء وتقديمه على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل متعلق بمحذوف هو حال من حفظه إذ لو تأخر لكان صفة أي كائنين عليكم وقيل متعلق بحفظة والمحفوظ محذوف على كل حال أي يرسل عليكم ملائكة يحفظون أعمالكم كائنة ما كانت وفي ذلك حكمة جميلة ونعمة جليلة لما أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشمه احتشامه من خدمه الواقفين على أحواله وحتى في قوله تعالى «حتى إذا جاء أحدكم الموت» هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها كأنه قيل ويرسل عليكم حفظة يحفظون أعمالكم مدة حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدكم كائنا من كان وجاءه أسباب الموت ومباديه «توفته رسلنا» الآخرون المفوض إليهم ذلك وهم ملك الموت وأعوانه وانتهى هناك حفظ الحفظة وقرئ توفاه ماضيا أو مضارعا بطرح إحدى التامين «وهم» أي الرسل «لا يفرطون» أي بالتواني والتأخير وقرئ مخففا من الإفراط أي
144

لا يجاوزون ما حدا بهم بزيادة أو نقصان والجملة حال من رسلنا وقيل مستأنفة سيقت لبيان اعتنائهم بما أمروا به وقوله تعالى «ثم ردوا» عطف على توفته والضمير للكل المدلول عليه بأحدكم وهو السر في مجيئه بطريق الالتفات تغليبا والإفراد أولا والجمع ى خرا لوقوع التوفي على الانفراد والرد على الاجتماع أي ثم ردوا بعد البعث بالحشر «إلى الله» 6 أي إلى حكمه وجزائه في موقف الحساب «مولاهم» اي مالكهم الذي يلي أمورهم على الإطلاق لا ناصرهم كما في قوله تعالى وأن الكافرين لا مولى لهم «الحق» الذي لا يقضي إلا بالعدل وقرى بالنصب على المدح «ألا له الحكم» يومئذ صورة ومعنى لا لأحد غيره بوجه من الوجوه «وهو أسرع الحاسبين» يحاسب جميع الخلائق في اسرع زمان وأقصره لا يشغله حساب عن حساب ولا شأن عن شأن وفي الحديث أن الله تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة «قل من
ينجيكم من ظلمات البر والبحر» أي قل تقريرا لهم بانحطاط شركائهم عن رتبة الإلهية من ينجيكم من شدائدهما الهائلة التي تبطل الحواس وتدهش العقول ولذلك استعير لها الظلمات المبطلة لحاسة البصر يقال لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب أو من الخسف في البر والغرق في البحر وقرئ ينجيكم من الإنجاء والمعنى واحد وقوله تعالى «تدعونه» نصب على الحالية من مفعول ينجيكم والضمير لمن أي من ينجيكم منها حال كونكم داعين له أو من فاعله أي من ينجيكم منها حال كونه مدعوا من جهتكم وقوله تعالى «تضرعا وخفية» إما حال من فاعل تدعونه أو مصدر مؤكد له أي تدعونه متضرعين جهارا ومسرين أو تدعونه دعاء إعلان وإخفاء وقرئ خفية بكسر الخاء وقوله تعالى «لئن أنجيتنا» حال من الفاعل أيضا على تقدير القول أي تدعونه قائلين لئن أنجيتنا «من هذه» الشدة والورطة التي عبر عنها بالظلمات «لنكونن من الشاكرين» أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمة أو جميع النعماء التي من جملتها هذه وقرئ لئن أنجانا مراعاة لقوله تعالى تدعونه «قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب» أمر صلى الله عليه وسلم بتقرير الجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بأنه متعين عندهم ولبناء قوله تعالى «ثم أنتم تشركون» عليه أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه من الشدائد المذكورة وغيرها من الغموم والكرب ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعم الجليلة تشركون بعبادته تعالى غيره وقرئ ينجيكم بالتخفيف
145

وقوله تعالى «قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا» استئناف مسوق لبيان أنه تعالى هو القادر على إلقائهم في المهالك إثر بيان أنه هو المنجي لهم منها وفيه وعيد ضمني بالعذاب لإشراكهم المذكور على طريقة قوله عز وجل أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر إلى قوله تعالى أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى الآية وعليكم متعلق بيبعث وتقديمه على مفعوله الصريح للاعتناء به والمسارعة إلى بيان كون المبعوث مما يضرهم ولتهويل أمر المؤخر وقوله تعالى «من فوقكم» متعلق به أيضا أو بمحذوف وقع صفة لعذابا أي عذابا كائنا من جهة الفوق كما فعل بمن فعل من قوم لوط وأصحاب الفيل وأضرابهم «أو من تحت أرجلكم» أو من جهة السفل كما فعل بفرعون وقارون وقيل من فوقكم أكابركم ورؤسائكم ومن تحت أرجلكم سفلتكم وعبيدكم وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع فلا منع لما كان من الجهتين معا كما فعل بقوم نوح «أو يلبسكم شيعا» أي يخلطكم فرقا متحزبين على أهواء شتى كل فرقة مشايعة لإمام فينشب بينكم القتال فتختلطوا في الملاحم كقول الحماسي
* وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي «ويذيق بعضكم بأس بعض» عطف على يبعث وقرئ بنون العظمة على طريقة الالتفات لتهويل الأمر والمبالغة في التحذير والبعض الأول الكفار والآخر المؤمنون ففيه وعد ووعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عند قوله تعالى عذابا من فوقكم أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى أو من تحت أرجلكم أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض هذا أهون أو هذا أيسر وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال سألت ربي أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني ذلك «انظر كيف نصرف الآيات» من حال إلى حال «لعلهم يفقهون» كي يفقهوا ويقفوا على جلية الأمر فيرجعوا عما هم عليه من المكابرة والعناد «وكذب به» أي بالعذاب الموعود أو القرآن المجيد الناطق بمجيئه «قومك» أي المعاندون منهم ولعل إيرادهم بهذا العنوان للإيذان بكمال سوء حالهم فإن تكذيبهم بذلك مع كونهم من قومه صلى الله عليه وسلم مما يقضى بغاية عتوهم ومكابرتهم وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا من إظهار الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخرة وقوله تعالى «وهو الحق» حال من الضمير المجرور أي كذبوا به والحال أنه الواقع لا محالة أو إ ه الكتاب الصادق في كل ما نطق به وقيل هو استئناف وأيا ما كان ففيه دلالة على عظيم جنايتهم ونهاية قبحها «قل» لهم منبها على ما يؤول إليه أمرهم وعلى أنك قد أديت ما عليك من وظائف الرسالة «لست عليكم بوكيل» بحفيظ وكل إلى أمركم لا منعكم من التكذيب وأجبركم على التصديق إنما أنا منذر وقد خرجت عن العهدة حيث أخبرتكم بما سترونه
146

«لكل نبإ» أي لكل شيء ينبأ به من الأنباء التي من جملتها عذابكم أو لكل خبر من الأخبار التي من جملتها خبر مجيئه «مستقر» أي وقت استقرار ووقوع البتة ووقت استقرار بوقوع مدلوله «وسوف تعلمون» أي حال نبئكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا وسوف للتأكيد كما في قوله تعالى ولتعلمن نبأه بعد حين «وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا» أي بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها كما هو دأب قريش وديدنهم «فأعرض عنهم» بترك مجالستهم والقيام عنهم وقوله تعالى «حتى يخوضوا في حديث غيره» غاية للإعراض أي استمر على الإعراض إلى أن يخوضوا في حديث غير ى يأتنا والتذكير باعتبار كونها حديثا فإن وصف الحديث بمغايرتها مشير إلى اعتبارها بعنوان الحديثية وقيل باعتبار كونها قرآنا «وإما ينسينك الشيطان» بأن يشغلك فتنسى النهي فتجالسهم ابتداء أو بقاء وقرئ ينسينك من التنسية «فلا تقعد بعد الذكرى» أي بعد تذكر النهي «مع القوم الظالمين» أي معهم فوضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم أنهم بذلك الخوض ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك «وما على الذين يتقون» روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المسلمين حين نهوا عن مجالستهم عند خوضهم في الآيات قالوا لئن كنا نقول كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ونطوف بالبيت فنزلت أي ما علي الذين يتقون قبائح أعمال الخائضين وأحوالهم «من حسابهم» أي مما يحاسبون عليه من الجرائر «من شيء» أي شئ ما على أنه في محل الرفع على أنه مبتدأ وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية ومن مزيدة للاستغراق ومن حسابهم حال منه وعلى الذين يتقون في محل الرفع على أنه خبر للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي من لا يجيز إعمالها في الخبر المقدم مطلقا أو في محل النصب على رأي من يجوز إعمالها في الخبر المقدم عند كونه ظرفا أو حرف جر «ولكن ذكرى» استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكروهم ويمنعوهم عما هم عليه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والنكير ومحل ذكرى إما النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكروهم تذكيرا أو الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي ولكن عليهم ذكرى «لعلهم يتقون» أي يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم وقد جوز كون الضمير للموصول أي يذكروهم رجاء أن يثبتوا على تقواهم أو يزدادوها
147

«وذر الذين اتخذوا دينهم» الذين كلفوه وأمروا بإقامة مواجبه «لعبا ولهوا» حيث سخروا به واستهزءوا أو بنوا أمر دينهم على ما لا يكاد يتعاطاه العاقل بطريق الجد وإنما يصدر عنه لو صدر بطريق اللعب واللهو كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب ونحو ذلك والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم وقيل هو تهديد لهم كقوله تعالى ذرهم يأكلوا ويتمتعوا الآية «وغرتهم الحياة الدنيا» واطمأنوا بها حتى زعموا أن لا حياة بعدها أبدا «وذكر به» أي بالقرآن من يصلح للتذكير «أن تبسل نفس بما كسبت» أي لئلا تبسل كقوله تعالى أن تضلوا الآية أو مخافة أن تبسل أو كراهة أن تبسل نفوس كثيرة كما في قوله تعالى علمت نفس ما أحضرت وترتهن لسوء عملها وأصل الإبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه أو لأنه ممتنع والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أي حرام ممنوع وقد جوز أن يكون الضمير المجرور في به راجعها إلى الإبسال مع عدم جريان ذكره كما في ضمير الشأن وتكون الجملة بدلا منه مفسرا له في الإبهام أولا والتفسير ثانيا من التفخيم وزيادة التقرير كما في قوله
[على جوده لضن بالماء حانم] بجر حانم على أنه بدل من ضمير جوده فالمعنى وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت وقوله تعالى «ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع» استئناف مسوق للإخبار بذلك وقيل في محل النصب على أنه حال من ضمير كسبت وقيل في محل الرفع على أنه وصف لنفس والأظهر أنه حال من ف = نفس فإنه في قوة نفس كافرة أو نفوس كثيرة كما في قوله تعالى علمت نفس ما أحضرت ومن دون الله متعلق بمحذوف هو حال من ولي كما بين في تفسير قوله تعالى وأنذر به الآية وقيل هو خبر لليس فيكون لها حينئذ متعلقا بمحذوف على البيان «وإن تعدل» أي إن تفد تلك النفس «كل عدل» أي كل فداء على أنه مصدر مؤكد «لا يؤخذ منها» على إسناد الفعل إلى الجار والمجرور لا إلى ضمير العدل كما في قوله تعالى ولا يؤخذ منها عدل فإنه المفدى به لا المصدر كما نحن فيه «أولئك» إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال ومحله الرفع على الابتداء والخبر في قوله تعالى «الذين أبسلوا بما كسبوا» والجملة مستأنفة سيقت إثر تحذيرهم من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتلون بذلك أي أولئك المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا هم الذين أبسلوا بما كسبوا وقوله تعالى «لهم شراب من حميم» استئناف آخر مبين لكيفية الإبسال المذكور وعاقبته مبني على سوء نشأ من الكلام كأنه قيل ماذا لهم حين أبسلوا بما كسبوا فقيل لهم شراب من ماء مغلي يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم «وعذاب أليم» بنار تشتعل بأبدانهم «بما كانوا يكفرون» أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا وقد جوز أن يكون لهم شراب إلخ حالا من ضمير أبسلوا وترتيب
148

ما ذكر من العذابين على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضا حسبما ينطق به قوله تعالى بما كسبوا لأنه العمدة في إيجاب العذاب والأهم في باب التحذير أو أريد بكفرهم ما هو أعم منه ومن مستتبعاته من المعاصي والسيئات هذا وقد جوز أن يكون أولئك إشارة إلى النفوس المدلول عليها بنفس محله الرفع بالابتداء والموصول الثاني صفته أو بدل منه ولهم شراب الخ خبره والجملة مسوقة لبيان تبعة الإبسال «قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا» قيل نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأصنام فتوجيه الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للإيذان بما بينهما من الاتصال والاتحاد تنويها لشأن الصديق رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادة الله الجامع لجميع صفات الألوهية التي من جملتها القدرة على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا إذا عبدناه ولا على ضرنا إذا تركناه وأدنى مراتب المعبودية القدرة على ذلك وقوله تعالى «ونرد على أعقابنا» عطف على ندعوا إذا حل في حكم الإنكار والنفي أي ونرد إلى الشرك والتعبير عنه بالرد على الأعقاب لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر وإيثار نرد على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد برد الغير تصريحا بمخالفة المضلين وقطعا لأطماعهم الفارغة وإيذانا بأن الارتداد من غير راد ليس في حيز الاحتمال ليحتاج إلى نفيه وإنكاره وقوله تعالى «بعد إذ هدانا الله» أي إلى الإسلام وانقذنا من الشرك متعلق بنرد مسوق لتأكيد النكير لا لتحقيق معنى الرد وتصويره فقط وإلا لكفى أن يقال بعد إذ اهتدينا كأنه قيل ونرد إلى الشرك بإضلال المضل بعد إذ هدانا الله الذي لا هادي سواه وقوله تعالى «كالذي استهوته الشياطين» في محل النصب على أنه حال من مرفوع نرد أي نرد أي أنرد على أعقابنا مشبهين بالذي استهوته مردة الجن واستغوته إلى المهامه أو المهالك أو على أنه نعت لمصدر محذوف أي أنرد ردا مثل رد الذي استهوته الخ والاستهواء استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأنها طلبت هويه وحرصت عليه وقرئ استهواه بألف مما له وقوله تعالى «في الأرض» إما متعلق باستهوته أو بمحذوف هو حال من مفعوله أي كائنا في الأرض وكذا قوله تعالى «حيران» حال منه على أنها بدل من الأولى أو حال الثنية عند من يجيزها أو من الذي أو من المستكن في الظرف أي تائها ضالا عن الجادة لا يدري ما يصنع وقوله تعالى «له أصحاب» جملة في محل النصب على أنها صفة لحيران أو حال من الضمير فيه أو مستأنفة سيقت لبيان حاله وقوله تعالى «يدعونه إلى الهدى» صفة لأصحاب أي لذلك المستهوي رفقة يهدونه إلى الطريق المستقيم تسمية له بالمصدر مبالغة كأنه نفس الهدى «ائتنا» على إرادة القول على أنه بدل ممن يدونه أو حال من فاعله أي يقولون ائتنا وفيه إشارة
149

إلى أنهم مهتدون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق المستقيم ليدعى إلى إتيانه وإنما يدرك سمت الداعي ومورد النعيق فقط «قل إن هدى الله» الذي هدانا إليه وهو الإسلام «هو الهدى» وحده وما عداه ضلال محض وغي بحت كقوله تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال ونحوه وتكرير الأمر للاعتناء بشأن المأمور به ولأن ما سبق للزجر عن الشرك وهذا حث على الإسلام وهو توطئة لما بعده فإن اختصاص الهدى بهداه تعالى مما يوجب الامتثال بالأوامر الواردة بعده «وأمرنا» عطف على أن هدى الله هو الهدى داخل تحت القول واللام في «لنسلم لرب العالمين» لتعليل الأمر المحكي وتعيين ما أريد به كمن الأوامر الثلاثة كما في قوله تعالى قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا الآية كأنه قيل أمرنا وقيل لنا اسلموا لأجل أنم نسلم وقيل هي بمعنى الباء أي أمرنا بأن نسلم وقيل زائدة أي أمرنا أن نسلم على حذف الباء وقوله تعالى «وأن أقيموا الصلاة واتقوه» أي الله تعالى في مخالفة أمره عطف على نسلم على الوجوه الثلاثة على أن أن المصدرية إذا وصلت بالأمر بتجرد
هو عن معنى الأمر نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضي والاستقبال فالمعنى على الأول أمرنا أي قيل لنا أسلموا وأقيموا الصلاة واتقوا الله لأجل أن نسلم ونقيم الصلاة ونتقيه تعالى وعلى الأخيرين أمرنا بأن نسلم ونقيم الصلاة ونتقيه تعالى والتعرض لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمر وتأكيد وجوب الامتثال به كما أن قوله تعالى «وهو الذي إليه تحشرون» جملة مستأنفة موجبة للامتثال بما أمر به من الأمور الثلاثة «وهو الذي خلق السماوات والأرض» أريد بخلقهما خلق ما فيهما أيضا وعدم التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العلويات والسفليات وقوله تعالى «بالحق» متعلق بمحذوف هو حال من فاعل خلق أو من مفعوله أو صفة لمصدره المؤكد له أي قائما بالحق أو متلبسه بالحق أو خلقا متلبسا به وقوله تعالى «ويوم يقول كن فيكون قوله الحق» استئناف لبيان أن خلقه تعالى لما ذكر من السماوات والأرض ليس مما يتوقف على مادة أو مدة بل يتم بمحض الأمر التكويني من غير توقف على شيء آخر أصلا وأن ذلك الأمر المتعلق بكل فرد فرد من أفراد المخلوقات في حين معين من أفراد الأحيان حق في نفسه متضمن للحكمة ويوم ظرف لمضمون جملة قوله الحق والواو بحسب المعنى داخل عليها وتقديمه عليها للاعتناء به من حيث إنه مدار الحقية وترك ذكر المقول له للثقة بغاية ظهوره والمراد بالقول كلمة كن تحقيقا أو تمثيلا كما هو المشهور فالمعنى وأمره المتعلق بكل شيء يريد خلقه من الأشياء في حين تعلقه به لا قبله ولا بعده من أفراد الأحيان الحق أي المشهود له بالحقية المعروف بها هذا وقد قيل قوله مبتدأ والحق صفته ويوم يقول خبره مقدما عليه كقولك يوم الجمعة القتال وانتصابه بمعنى الاستقرار وحاصل المعنى قوله الحق كائن
150

حين يقول لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء وقيل يوم منصوب بالعطف على السماوات أو على الضمير في واتقوه أو بمحذوف دل عليه بالحق وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى حين يقول لقوله الحق أي لقضائه الحق كن فيكون والمراد حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين تقوم القيامة فيكون التكوين حشر الأجساد وإحياءها فتأمل حق التأمل «وله الملك يوم ينفخ في الصور» تقييد اختصاص الملك به تعالى بذلك اليوم مع عموم الاختصاص لجميع الأوقات لغاية ظهور ذلك بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا المصححة للمالكية المجازية في الجملة كقوله تعالى لمن الملك اليوم لله الواحد القهار «عالم الغيب والشهادة» أي هو عالمهما «وهو الحكيم» في كل ما يفعله «الخبير» بجميع الأمور الجلية والخفية «وإذ قال إبراهيم» منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام معطوف على قل أندعو لا على أقيموا كما قيل لفساد المعنى أي واذكر لهم بعد ما أنكرت عليهم عبادة ما لا يقدر على نفع وضر وحققت أن الهدى هو هدى الله وما يتبعه من شؤونه تعالى وقت قول إبراهيم الذي يدعون أنهم على ملته موبخا «لأبيه آزر» على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكتهم وينادي بفساد طريقتهم وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرها وآزر بزنة آدم وعابر وعازر وفالغ وكذلك تارح ذكره محمد بن إسحق والضحاك والكلبي وكان من قرية من سواد الكوفة ومنع صرفه للعجمة والعلمية وقيل اسمه بالسريانية تارح وآزر لقبه المشهور وقيل اسم صنم لقب هو به للزومه عبادته فهو عطف بيان لأبيه وبدل منه وقال الضحاك معناه الشيخ الهرم وقال الزجاج المخطىء وقال الفراء وسليمان التيمي المعوج فهو نعت له كما إذا جعل مشتقا من الأزر أو الوز وأريد به عابد آزر على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وقرئ آزر على النداء وهو دليل العلمية إذ لا يحذف حرف النداء إلا من الأعلام «أتتخذ» متعد إلى مفعولين هما «أصناما آلهة» أي أتجعلها لنفسك آلهة على توجيه الإنكار إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما إيراد صيغة الجمع باعتبار الوقوع وقرئ أازرا بفتح الهمزة وكسرها بعج همزة الاستفهام وزاء ساكنة وراء منونة منصوبة وهو اسم صنم ومعناه أتعبد آزرا ثم قيل تتخذ أصناما آلهة تثبيتا لذلك وتقريرا وهو داخل تحت الإنكار لكونه بيانا له وقيل الأزر القوة والمعنى ألأجل القوة والمظاهرة تتخذ أصناما آلهة إنكارا لتعززه بها على طريقة قوله تعالى أيبتغون عندهم العزة «إني أراك وقومك» الذين يتبعونك في عبادتها «في ضلال» عن الحق «مبين» أي بين كونه ضلالا لا اشتباه فيه أصلا والرؤية إما علمية فالظرف مفعولها الثاني وإما بصرية فهو حال من المفعول والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ «وكذلك نري إبراهيم» هذه الإرادة من الرؤية البصرية المستعارة للمعرفة ونظر البصيرة أي عرفاناه
151

وبصرناه وصيغة الاستقبال حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها وذلك إشارة إلى مصدر نرى لا إلى إراءة أخرى مفهومة من قوله إني أراك وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل وكمال تميزه بذلك وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة والكاف لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير نرى إبراهيم إراءة كائنة مثل تلك الإراءة فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة فصار المشار إليه نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك التبصير البديع نبصره عليه السلام «ملكوت السماوات والأرض» أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما وسلطانه القاهر عليهما وكونهما بما فيهما مربوبا ومملوكا له تعالى لا تبصيرا آخر أدنى منه والملكوت مصدر على زنة المبالغة كالرهبوت والجبروت ومعناه الملك العظيم والسلطان القاهر ثم هل هو مختص بملك الله عز سلطانه أو لا فقد قيل وقيل والأول هو الأظهر وبه قال الراغب وقيل ملكوتهما وعجائبهما وبدائعهما روي أنه كشف له عليه السلام عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين وقيل آياتهما وقيل ملكوت السماوات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والأشجار والبحار وهذه الأقوال لا تقتضي أن تكون الإراءة بصرية إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بل اطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شؤونه عز وجل لا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حسا كما ينبئ عنه اسم الإشارة المفصح عن كون المشار إليه أمرا بديعا فإن الإراءة البصرية المعتادة بمعزل من تلك المثابة وقرئ ترى بالتاء وإسناد الفعل إلى الملكوت أي تبصره عليه السلام دلائل الربوبية واللام في قوله تعالى «وليكون من الموقنين» متعلقة بمحذوف مؤخر والجملة مقرر لما قبلها أي وليكون من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور لا لأمر آخر فإن الوصول إلى تلك الغاية القاصية كمال مترتب على ذلك التبصير لا ينه وليس القصر لبيان انحصار فائدته في ذلك كيف لا وإرشاد الخلق وإلزام المشركين كما سيأتي من فوائده بلا مرية بل لبيان أنه الأصل الأصيل والباقي من مستتبعاته وقيل هي متعلقة بالفعل السابق والجملة معطوفة على
علة أخرى محذوفة ينسحب عليها الكلام أي يستدل بها وليكون الخ فينبغي أن يراد بملكوتهما بدائعهما وآياتهما لأن الاستدلال من غايات إراءتها لا من غايات إراءة نفس الربوبية وقوله تعالى «فلما جن عليه الليل» على الأول وهو الحق المبين عطف على قال إبراهيم داخل تحت ما أمر بذكره بالأمر بذكر وقته وما بينهما اعتراض مقرر لما سبق وما لحق فإن تعريفه عليه السلام ربوبيته ومالكيته للسموات والأرض وما فيهما وكون الكل مقهورا تحت ملكوته مفتقرا إليه في الوجود وسائر ما يترتب عليه من الكمالات وكونه من الراسخين في معرفة شؤونه تعالى الواصلين إلى ذروة عين اليقين مما يقضي بأن يحكم عليه السلام باستحالة إلهية ما سواه
152

سبحانه من الأصنام والكواكب وعلى الثاني هو تفصيل لما ذكر من إراءة ملكوت السماوات والأرض وبيان لكيفية استدلاله عليه السلام ووصوله إلى رتبة الإيقان ومعنى جن عليه الليل ستره بظلامه وقوله تعالى «رأى كوكبا» جواب لما فإن رؤيته إنما تتحقق بزوال نور الشمس عن الحس وهذا صريح في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع بل كان غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس والتحقيق أنه كان قريبا من الغروب كما ستعرفه قيل كان ذلك الكوكب هو الزهرة وقيل هو المشتري وقوله تعالى «قال هذا ربي» استئناف مبني على سؤال نشأ من الشرطية السابقة المتفرعة على بيان إراءته عليه السلام ملكوت السماوات والأرض فإن ذلك مما يحمل السامع على استكشاف ما ظهر منه عليه السلام من آثار تلك الإراءة وأحكامها كأنه قيل فماذا صنع عليه السلام حين رأى الكوكب فقيل قال على سبيل الوضع والفرض هذا ربي مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فإن المستدل على فساد قول يحكيه على رأي خصمه ثم يكر عليه بالإبطال ولعل سلوك هذه الطريقة في بيان استحالة ربوبية الكواكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول فلو صدع بالحق من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام لتمادوا في المكابرة والعناد ولجوا في طغيانهم يعمهون وقيل قال عليه السلام على وجه النظر والاستدلال وكان ذلك في زمان مراهقته وأول أوان بلوغه وهو مبني على تفسير الملكوت بآياتهما وعطف قوله تعالى لكون على ما ذكر من العلة المقدرة وجعل قوله تعالى فلما جن الخ تفصيلا لما ذكر من الإراءة وبيانا لكيفية الاستدلال وأنت خبير بأن كل ذلك مما يخل بجزالة النظم الجليل وجلالة منصب الخليل عليه الصلاة والسلام «فلما أفل» أي غرب «قال لا أحب الآفلين» أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغير من حال إلى حال المحتجبين بالأستار فإنهم بمعزل من استحقاق الربوبية «فلما رأى القمر بازغا» أي مبتدئا في الطلوع إثر غروب الكوكب «قال هذا ربي» على الأسلوب السابق «فلما أفل» كما أفل النجم «قال لئن لم يهدني ربي» إلى جنابه الذي هو الحق لا محيد عنه «لأكونن من القوم الضالين» فإن شيئا مما رأيته لا يليق بالربوبية وهذا مبالغة منه عليه السلام في إظهار النصفة ولعله عليه السلام كان إذ ذاك في موضع كان في جانبه الغربي جبل شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل وكان الكوكب قريبا منه وأفقه الشرقي مكشوف أولا وإلا فطلوع القمر بعد أفول الكوكب ثم أفوله قل طلوع الشمس كما ينبئ عنه قوله تعالى «فلما رأى الشمس بازغة» اي مبتدئة في الطلوع مما لا يكاد يتصور «قال» أي على النهج السابق
153

«هذا ربي» وإنما لم يؤنث لما أن المشار إليه والمحكوم عليه بالربوبية هو الجرم المشاهد من حيث هو لا من حيث هو مسمى باسم من الأسامي فضلا عن حيثية تسميته بالشمس أو لتذكير الخبر وصيانة الرب عن وصمة التأنيث وقوله تعالى «هذا أكبر» تأكيد لما رامه عليه السلام من إظهار النصفة مع إشارة خفية إلى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر «فلما أفلت» هي أيضا كما أفل الكوكب والقمر «قال» مخاطبا للكل صادعا بالحق بين أظهرهم «يا قوم إني بريء مما تشركون» أي من الذي تشركونه من الإجرام المحدثة المتغيرة من حالة إلى أخرى المسخرة لمحدثها أو من إشراككم وترتيب هذا الحكم ونظيريه على الأفول دون البزوغ والظهور من ضروريات سوق الاحتجاج على هذا المساق الحكيم فإن كلا منهما وإن كان في نفسه انتقالا منافيا لاستحقاق معروضه للربوبية قطعا لكن لما كان الأول حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة رتب عليها الحكم الأول على الطريقة ألم 1 كورة وحيث كان الثاني حالة مقتضية لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد رتب عليها ما رتب ثم تبرأ عليه السلام منهم توجه إلى مبدع هذي المصنوعات ومنشئها فقال «إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض» التي هي الأجرام التي تعبدونها من أجزائها «والأرض» التي تغيب هي فيها «حنيفا» أي مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائغة كلها «وما أنا من المشركين» في شيء من الأفعال والأقوال «وحاجه قومه» أي شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد «قال» استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية محاجتهم كأنه قيل فماذا قال عليه السلام حين حاجوه فقيل قال منكرا لما اجترءوا عليه من محاجته مع قصورهم عن تلك الرتبة وعزة المطلب وقوة الخصم «أتحاجوني في الله» بإدغام نون الجمع في نون الوقاية وقرئ بحذف الأولى وقوله تعالى «وقد هدان» حال من ضمير المتكلم مؤكدة للإنكار فإن كونه عليه السلام مهديا من جهة الله تعالى ومؤيدا من عنده مما يوجب استحالة محاجته عليه السلام أي أتجادلونني في شأنه تعالى ووحدانيته والحال أنه تعالى هداني إلى الحق بعد ما سلكت طريقتك بالفرض والتقدير وتبين بطلانها تبينا تاما كما شاهدتموه وقوله تعالى «ولا أخاف ما تشركون به» جواب عما خوفوه عليه السلام في أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم كما قال لهود عليه السلام قومه إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ولعلهم فعلوا ذلك حين فعل عليه السلام بآلهتهم ما فعل وما موصولة اسمية حذف عائدها وقوله تعالى «إلا أن يشاء ربي شيئا» استثناء مفرغ من أعم الأوقات أي لا أخاف ما تشركونه به سبحانه من معبوداتكم في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئته
154

تعالى شيئا من إصابة مكروه من جهتها وذلك إنما هو من جهته تعالى من غير دخل لآلهتكم فيه أصلا وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام إظهار منه لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته وقوله تعالى «وسع ربي كل شيء علما» كأنه تعليل للاستثناء أي أحاط بكل شيء علما فلا يبعد أن يكون في علمه تعالى أن يحيق بي مكروه من قبلها بسبب من الأسباب وفي الإظهار في موضع الإضمار تأكيد للمعنى المذكور واستلذاذ بذكره تعالى «أفلا تتذكرون» أي أتعرضون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات غير قادرة على شيء ما من نفه ولا ضر فلا تتذكرون أنها غير قادرة على إضرارى وفي إيراد
التذكر دون التفكر ونظائره إشارة إلى أن أمر أصنامهم مركوز في العقول لا يتوقف إلى على التذكر وقوله تعالى «وكيف أخاف ما أشركتم» استئناف مسوق لنفي الخوف عنه عليه السلام بحسب زعم الكفرة بالطريق الإلزامي كما سيأت بعد نفيه عنه بسبب الواقع ونفس الأمر والاستفهام لإنكار الوقوع ونفيه بالكلية كما في قوله تعالى كيف يكون للمشركين عهد عند الله الآية لإنكار الواقع واستبعاده مع وقوعه كما في قوله تعالى كيف تكفرون بالله إلخ في توجيه الإنكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال أأخاف لما أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال وكيفية من الكيفيات قطعا فإذا انتفى جميع أحواله وكيفياته فقد انتفى وجوده من جميع الجهات بالطريق البرهاني وقوله تعالى «ولا تخافون أنكم أشركتم بالله» حال من ضمير أخاف بتقدير مبتدأ والواو كافة في الربط من غير حاجة إلى الضمير العائد إلى ذي الحال وهو مقرر لإنكار الخوف ونفيه عنه عليه السلام ومفيد لاعترافهم بذلك فإنهم حيث لم يخافوا في محل الخوف فلأن لا يخاف عليه السلام في محل الأمن أولى وأحرى أي وكيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف أصلا وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهولها وهو إشراككم بالله الذي ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السماء ما هو من جملة مخلوقاته وإنما عبر عنه بقوله تعالى «ما لم ينزل به» أي بإشراكه «عليكم سلطانا» على طريقة التهكم مع الإيذان بأن الأمور الدينية لا يعول فيها إلا على الحجة المنزلة من عند الله تعالى وفي تعليق الخوف الثاني بإشراكهم من المبالغة مراعاة حسن الأدب ما لا يخفى هذا وأما ما قيل من أن قوله تعالى ولا تخافون الخ معطوف على أخاف داخل معه في حكم الإنكار والتعجيب فمما لا سبيل إليه أصلا لإفضائه إلى فساد المعنى قطعا كيف لا وقد عرفت أن الإنكار بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوف عنه عليه الصلاة والسلام ونفي نفيه عنهم وأنه بين الفساد وحمل الإنكار في الأول على معنى نفي الوقوع وفي الثاني على استبعاد الواقع مما لا مساغ له على أن قوله تعالى «فأي الفريقين أحق بالأمن» ناطق ببطلانه حتما فإنه كلام مرتب على إنكار خوفه عليه الصلاة
155

والسلام في محل الأمن مع تحقق عدم خوفهم في محل الخوف مسوق لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه الصلاة والسلام لما هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقهم لما هم عليه وإنما جئ بصيغة التفضيل المشعرة باستحقاقهم له في الجملة لاستنزالهم عن رتبة المكابرة والاعتساف بسوق الكلام على سنن الانصاف والمراد بالفريقين الفريق الآمن في محل الأمن والفريق الآمن في محل الخوف فإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم لتأكيد الإلجاء إلى الجواب الحق بالتنبيه على علة الحكم والتفادي عن التصريح بتخطئتهم لا لمجرد الاحتراز عن تزكية النفس «إن كنتم تعلمون» المفعول إما محذوف تعويلا على ظهوره بمعونة المقام أي إن كنتم تعملون من أحق بذلك أو قصدا إلى التعميم أي إن كنتم تعلمون شيئا وإما متروك بالمرة أي إن كنتم من أولي العلم وجواب الشرط محذوف أي فأخبروني «الذين آمنوا» استئناف من جهته تعالى للجواب الحق الذي لا محيد عنه أي الفريقين الذين آمنوا «ولم يلبسوا إيمانهم» ذلك أي لم يخلطوه «بظلم» أي بشرك كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانهم وأحكامه لكونها لأجل التقريب والشفاعة كما قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وهذا معنى الخلط «أولئك» إشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما في حيز الصلة وفي الإشارة إليه بعد وصفه بما ذكر إيذان بأنهم تميزوا بذلك عن غيرهم وانتظموا في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الشرف وهو مبتدأ ثان وقوله تعالى «لهم الأمن» جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر وقعت خبرا لأولئك وهو مع خبره للمبتدأ الأول الذي هو الموصول ويجوز أن يكون أولئك بدلا من الموصول أو عطف بيان له خبرا للموصول والأمن فاعلا للظرف لاعتماده على المبتدأ ويجوز أن يكون لهم خبرا مقدما والأمن مبتدأ والجملة خبرا للموصول ويجوز أن يكون أولئك مبتدأ ثانيا ولهم خبره والأمن فاعلا له والجملة خبر للموصول أي أولئك الموصوفين بما ذكر من الإيمان الخالص عو شوب الشرك لهم الأمن فقط «وهم مهتدون» إلى الحق ومن عداهم في ضلال مبين روي أنه لما نزلت الآية شق ذلك على الصحابة رضوان الله علهم وقالوا أينا لم يظلم نفسه فقال عليه الصلاة والسلام ليس ما تظنون إنما هو قال لقمان لابنه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم وليس الإيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم ويخلط بهذا التصديق الإشراك به وليس من قضية الخلط بقاء الأصل بعد الخلط حقيقة وقيل المراد بالظلم المعصية التي تفسق صاحبها والظاهر هو الأول لوروده مورد الجواب عن حالة الفريقين إشارة إلى ما احتج به إبراهيم عليه السلام من قوله تعالى فلما جن وقيل من قوله أتحاجوني إلى قوله مهتدون وما في اسم الإشارة من معنى البعد لتفخيم شأن المشار إليه والإشعار بعلو طبقته وسمو منزلته
156

في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى «حجتنا» خبره وفي إضافتها إلى نون العظمة من التفخيم ما لا يخفى وقوله تعالى «آتيناها إبراهيم» أي أرشدناه إليها وعلمناه إياها في محل النصب على أنه حال من حجتنا والعامل فيها معنى الإشارة كما في قوله تعالى فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا أو في محل الرفع على أنه خبر ثان أو هو الخبر وحجتنا بدل أو بيان المبتدأ وإبراهيم مفعول أول لآتينا قدم عليه الثاني لكونه ضميرا وقوله تعالى «على قومه» متعلق بحجتنا إن جعل خبرا لتلك أو بمحذوف إن جعل بدلا أي آتينا إبراهيم حجة على قومه وقيل بقوله آتينا «نرفع» بنون العظمة وقرئ بالباء على طريق الالتفات وكذا الفعل الآتي «درجات» أي رتبا عظيمة عالية من العلم والحكمة وانتصابها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات أو على التمييز والمفعول قوله تعالى «من نشاء» وتأخيره على الوجوه الثلاثة الأخيرة لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ومفعول المشيئة محذوف أي من نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على أن ذلك سنة مستمرة جارية فيما بين المصطفين الأخيار غير مختصة بإبراهيم عليه السلام وقرئ بالإضافة إلى من والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها لا محل لها من الإعراب وقيل هي في محل النصب على أنها حال من فاعل آتينا أي حال كوننا رافعين الخ «إن ربك حكيم» في كل ما فعل من رفع وخفض «عليم» بحال من يرفعه واستعداده له على مراتب متفاوتة والجملة تعليل لما قبلها وفي وضع الرب مضافا إلى ضميره عليه السلام موضع نون العظمة بطريق الالتفات في تضاعيف بيان أحوال إبراهيم عليه السلام إظهار لمزيد لطف وعناية به عليه السلام «ووهبنا له إسحاق ويعقوب» عطف على قوله تعالى وتلك حجتنا الخ فإن عطف كل من الجملة الفعلية والاسمية على الأخرى مما لا نزاع في جوازه ولا مساغ لعطفه على آتيناها لأن له محلا من الإعراب نصبا ورفعا حسبما بين من قبل فلو عطف هذا عليه لكان في
حكمه من الحالية والخبرية المستدعيتين للرابط ولا سبيل إليه ههنا «كلا» مفعول لما بعده وتقديمه للقصر لكن لا بالنسبة إلى غيرهما مطلقا بل بالنسبة إلى أحدهما أي كل واحد منهما «هدينا» لا أحدهما دون الآخر وترك ذكر المهدى إليه لظهور أنه الذي أوتي إبراهيم وأنهما مقتديان به «ونوحا» منصوب بمضمر يفسره «هدينا من قبل» أي من قبل إبراهيم عليه السلام عد هداه نعمة على إبراهيم عليه السلام لأن شرف الوالد سار إلى الولد «ومن ذريته» الضمير لإبراهيم لأن مساق النظم الكريم لبيان شؤونه العظيمة من إيتاء الحجة ورفع الدرحات وهبة الأولاد الأنبياء وإبقاء هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة كل ذلك الإلزام من ينتمي إلى ملته عليه السلام من المشركين واليهود وقيل لنوح لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذريه إبراهيم فلو كان الضمير له لاختص بالمعدودين في هذه الآية التي بعدها وأما المذكورون في الآية الثالثة فعطف على نوحا وروي عن ابن عباس أن هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان
157

منهم من لم يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب لأن لوطا ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وأسحق مع إن إسماعيل عم يعقوب «داود وسليمان» منصوبان بمضمر مفهوم مما سبق وكذا ما عكف عليهما وبه يتعلق من ذريته وتقديمه على المفعول في الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيل من نوع طول ربما يخل تأخيره بتجاوب النظم الكريم أي وهدينا من ذريته داود وسليمان «وأيوب» هو ابن أموص من أسباط عيص بن إسحاق «ويوسف وموسى وهارون» أو بمحذوف وقع حالا من المذكورين أي وهديناهم حال كونهم من ذريته «وكذلك» إشارة إلى ما يفهم من النظم الكريم من جزاء إبراهيم عليه السلام ومحل الكاف النصب على أنه تعت لمصدر محذوف وأصل التقدير «نجزي المحسنين» جزاء مثل ذلك الجزاء والتقديم للقصر وقد مر تحقيقه مرارا والمراد بالمحسنين لجنس وبمماثلة جزائهم لجزائه عليه السلام مطلق المشابهة في مقابلة الإحسان بالإحسان والمكافأة بين الأعمال والأجزية من غير بخس لا المماثلة من كل وجه ضرورة أن الجزاء بكثرة الأولاد الأنبياء مما اختص به إبراهيم عليه السلام والأقرب أن لام المحسنين للعهد وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده وهو عبارة عما أوتي المذكورون من فنون الكرامات وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو صفته للإيذان بعلو طبقته والطاف لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير ونجزي المحسنين المذكورين جزاء كائنا مثل ذلك الجزاء فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة فصار المشار إليه نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي وذلك الجزاء البديع نجزي المحسنين المذكورين لا جزاء آخر أدنى منه والإظهار في موضع الإضمار للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارة عن الإتيان بالأعمال الحسنة على لا الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المقارن لحسنها الذاتي وقد فسره عليه الصلاة والسلام بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والجملة اعتراض لما قبلها «وزكريا» هو ابن آذن «ويحيى» ابنه «وعيسى» هو ابن مريم وفيه دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنات «وإلياس» قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الأولى وقيل هو من أسباط هارون أخي موسى عليهما السلام «كل» أي كل واحد من أولئك المذكورين «من الصالحين» أي من الكاملين في الصلاح الذي هو عبارة عن الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي والجملة اعتراض جئ به للثناء عليهم بالصلاح «وإسماعيل واليسع» هو ابن أخطوب بن العجوز وقرئ واليسع وهو على القراءتين على أعجمي أدخل عليه اللام ولا اشتقاق له ويقال إنه يوشع بن نون وقيل إنه منقول من مضارع وسع واللام كما في يزيد في قول من قال أرأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كاهله «ويونس»
158

هو ابن متى «ولوطا» هو ابن هاران بن أخي إبراهيم عليه السلام «وكلا» أي وكل واحد من أولئك المذكورين «فضلنا» بالنبوة لا بعضهم دون بعض «على العالمين» على عالمي عصرهم والجملة اعتراض كأختها وقوله تعالى «ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم» إما متعلق بما تعلق به من ذريته ومن ابتدائية والمفعول محذوف أي وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات كثيرة وإما معطوف على كلا ومن تبعيضية أي وفضلنا بعض آبائهم الخ «واجتبيناهم» عطف على فضلنا أي اصطفيناهم «وهديناهم إلى صراط مستقيم» تكرير للتأكيد وتمهيد لبيان ما هدوا إليه «ذلك» إشارة إلى ما يفهم من النظم الكريم من مصادر الأفعال المذكورة وقيل إلى ما دانوا به وما في ذلك من معنى البعد لما مر مرارا «هدى الله» الإضافة للشريف «يهدي به من يشاء من عباده» وهم المستعدون للهداية والإرشاد وفيه إشارة إلى أنه تعالى متفضل بالهداية «ولو أشركوا» أي هؤلاء المذكورون «لحبط عنهم» مع فضلهم وعلو طبقاتهم «ما كانوا يعملون» من الأعمال المرضية الصالحة فكيف بمن عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم «أولئك» إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة الثابتة لهم وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة من الإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل والشرف وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «الذين آتيناهم الكتاب» أي جنس الكتاب المتحقق في ضمن أي فرد كان من أفراد الكتب السماوية والمراد بإيتائه التفهيم التام بما فيه من الحقائق والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء أو بالإيراث بقاء فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين «الحكم» أي الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب «والنبوة» أي الرسالة «فإن يكفر بها» أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين «هؤلاء» أي كفار قريش فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون بما يصدقه جميعا وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر «فقد وكلنا بها» أي أمرنا بمراعاتها ووفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها «قوما ليسوا بها بكافرين» أي في وقت من الأوقات بل مستمرون على الإيمان بها فإن الجملة الاسمية الإيجابية كما تفيد دوام الثبوت كذلك السلبية تفيد دوام النفي بمعونة المقام لا نفي الدوام كما حقق مقامه قال ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهما الأنصار وأهل المدينة وقيل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقيل كل مؤمن من بني آدم وقيل الفرس فإن
159

كلا من هؤلاء الطوائف موفقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المنزلة إليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائع وفروعها الباقية في شريعتنا وبه يتحقق الخروج عن عهدة التوكيل دون المنسوخة منها فإنها بانتساخها خارجة عن كونها من أحكامها وقد مر تحقيقه في تفسير سورة المائدة وقيل هم الأنبياء المذكورون فالمراد بالتوكيل الأمر بما
هو أعم من إجراء أحكامها كما هو شأنهم في حق كتابهم ومن اعتقاد حقيتها كما هو في شأنهم في حق سائر الكتب التي من جملتها القرآن الكريم وقيل هم الملائكة فالتوكيل هو الأمر بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها وأيا ما كان فتنكير قوما للتفخيم والباء الأولى صلة لكافرين قدمت عليه محافظة على الفواصل والثانية لتأكيد النفي وأما تقديم صلة وكلنا على مفعوله الصريح فلما ذكر آنفا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول ربما يؤدي تقديمه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم أو إلى الفصل بين الصفة والموصوف وجواب الشرط محذوف يدل عليه المذكور أي فإن يكفر بها هؤلاء فلا اعتداد به أصلا فقد وفقنا للإيمان بها قوما فخاما ليسوا بكافرين بها قطعا بل مستمرون على الإيمان بها والعمل بما فيها ففي إيمانهم بها مندوحة عن إيمان هؤلاء ومن هذا تبين أن الوجه أن يكون المراد بالقوم إحدى الطوائف المذكورة إذ بإيمانهم بالقرآن والعمل بأحكامه تتحقق الغنية عن إيمان الكفرة به والعمل بأحكامه وأما الأنبياء والملائكة عليهم السلام فإنما به ليس من قبيل إيمان آحاد الأمة كما أشير إليه «أولئك» إشارة إلى الأنبياء المذكورين وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «الذين هدى الله» أي إلى الحق والنهج المستقيم والالتفات إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الهداية «فبهداهم اقتده» أي فاختص هداهم بالاقتداء ولا تقتد بغيرهم والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هدى والهاء في اقتده للوقف حقها أنم تسقط في الدرج واستحسن إثباتها فيه أيضا إجراء له مجرى الوقف واقتداء بالإمام وقرئ بإشباعها على أنها كناية المصدر «قل لا أسألكم عليه» أي على القرآن أو على التبليغ فإن مساق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر ذكرهما «أجرا» من جهتكم كما لم يسأله من قبلي من الأنبياء عليهم السلام وهذا من جملة ما أمر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم فيه «إن هو» أي ما القرآن «إلا ذكرى للعالمين» أي عظة وتذكير لهم كافة من جهته سبحانه فلا يختص بقوم دون آخرين «وما
160

قدروا الله» لما بين شأن القرآن العظيم وأنه نعمة جليلة منه تعالى على كافة الأمم حسبما يتعلق به قوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين عقب ذلك ببيان غمطهم إياها وكفرهم بها على وجه سرى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية وأصل القدر السبر والحزر يقال قدر الشيء يقدره بالضم قدرا إذا سبره وحزره ليعرف مقداره ثم استعمل في معرفة الشيء في مقداره وأحواله وأوصافه وقوله تعالى «حق قدره» نصب على المصدرية وهو في الأصل صفة للمصدر أي قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفة انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه أي ما عرفوه تعالى حق معرفته في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك بل أخلوا بها إخلالا «إذ قالوا» منكرين لبعثة الرسل وإنزال الكتب كافرين بنعمته الجليلة فيهما «ما أنزل الله على بشر من شيء» فنفي معرفتهم لقدرة سبحانه كناية عن حطهم لقدرة الجليل ووصفهم له تعالى بنقيض نعته الجميل كما أن نفي المحبة في مثل إن الله لا يحب الكافرين كناية عن البغض والسخط وإلا فنفي معرفة قدره تعالى يتحقق مع عدم التعرض لحطه بل مع السعي في تحصيل المعرفة كما في قول من يناجي مستقصرا لمعرفته وعبادته سبحانك ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك وما عرفوه حق معرفته في السخط على لكفار وشدة بطشه تعالى بهم حسبما نطق به القرآن حين اجترءوا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء فالنفي بمعناه الحقيقي والقائلون هم اليهود وقد قالوه مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزموا بما لا سبيل لهم في إنكاره أصلا حيث قيل «قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى» أي قل لهم ذلك على طريقة التبكيت وإلقام الحجر وروي أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي تطعمك اليهود فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر رضي الله عنه فقال ما أنزل الله على بشر من شيء فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف وقيل هم المشركون وإلزامهم إنزال التوراة لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعة ولذلك كانوا يقولون لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ووصف الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقريع وتشديد التبكيت وكذا تقييده بقوله تعالى «نورا وهدى» فإن كونه بينا بنفسه ومبينا لغيره مما يؤكد الإلزام أي تأكيد وانتصابهما على الحالية من الكتاب والعامل أنزل أو من الضمير في به والعامل جاء واللام في قوله تعالى «للناس» إما متعلق بهدى أو بمحذوف هو صفة له أي هدى كائنا للناس وليس المراد بهذا مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط بل بإنزال القرآن أيضا فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعا لما فيها من الشواهد الناطقة به وقد نعى عليهم ما فعلوا بها من التحريف والتغيير حيث قيل «تجعلونه قراطيس» أي تضعونه في قراطيس مقطعة وورقات مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم أو تجعلونه نفس القراطيس المقطعة وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة والجملة حال كما سبق وقوله تعالى «تبدونها» صفة لقراطيس وقوله تعالى «وتخفون كثيرا»
161

معطوف عليه والعائد إلى الموصول محذوف أي كثيرا منهم وقيل كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب والمراد بالكثير نعوت النبي عليه الصلاة والسلام وسائر ما كتموه من أحكام التوراة وقرئ الأفعال الثلاثة بالياء حملا على قالوا وما قدروا وقوله تعالى «وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم» قيل هو حال من فاعل تجعلونه بإضمار أو بدونه على اختلاف الرأيين قلت فينبغي أن يجعل ما عبارة عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائع ليكون التقييد بالحال مفيدا لتأكيد التوبيخ وتشديد التشنيع فإن ما فعلوه بالكتاب من التفريق والتقطيع لما ذكر من الإبداء والإخفاء شناعة عظيمة في نفسها ومع ملاحظة كونه مأخذا لعلومهم ومعارفهم أشنع وأعظم لا عما تلقوه من جهة النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليهم وعلى آبائهم من مشكلاتها حسبما ينطق به قوله تعالى إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون كما قالوا لأن تلقيهم لذلك من القرآن الكريم ليس مما يزجرهم عما صنعوا بالتوراة أما ما ورد فيه زيادة على ما فيها فلأنه لا تعلق له بها نفيا ولا إثباتا وأما ما ورد بطريق البيان فلأن مدار ما فعلوا بها من التبديل والتحريف ليس ما وقع فيها من التباس الأمر واشتباه الحال حتى يقلعوا عن ذلك بإيضاحه وبيانه فتكون الجملة حينئذ خالية عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقع موقع الحال بل الوجه حينئذ أن تكون استئنافا مقررا لما قبلها من مجىء الكتاب بطريق التكملة والاستطراد والتمهيد لما يعقبه من مجىء القرآن ولا سبيل إلى جعل ما عبارة عما كتموه من أحكام التوراة كما يفصح عنه قوله تعالى قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من
الكتاب فإن ظهوره وإن كان مزجرة لهم عن الكتم مخافة الافتضاح ومصححا لوقوع الجملة في موقع الحال لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتما هذا وقد قيل الخطاب لمن آمن من قريش كما في قوله تعالى لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم وقوله تعالى «قل الله» أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم إشعارا بتعين الجواب بحيث لا محيد عنه وإيذانا بأنهم أفحموا ولم يقدروا على التكلم أصلا «ثم ذرهم في خوضهم» في باطلهم الذي يخوضون فيه ولا عليك بعد إلزام الحجة وإلقام الحجر «يلعبون» حال من الضمير الأول والظرف صلة للفعل المقدم أو المؤخر أو متعلق بمحذوف هو حال من مفعول الأول أو من فاعل الثاني أو الضمير الثاني لأنه فاعل في الحقيقة والظرف متصل بالأول «وهذا كتاب أنزلناه» تحقيق لنزول القرآن الكريم بعد تقرير إنزال ما بشر به من التوراة وتكذيب لهم في كلمتهم الشنعاء إثر تكذيب «مبارك» أي كثير الفوائد وجم المنافع «مصدق الذي بين يديه» من التوراة لنزوله حسبما وصف فيها أو الكتب التي قبله فإنه مصدق للكل في إثبات التوحيد والأمر به ونفي الشرك والنهي عنه وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ «ولتنذر أم القرى» عطف على ما دل عليه مبارك أي للبركات وإنذارك أهل مكة إنما ذكرت باسمها المنبىء عن كونها أعظم القرى شأنا وقبلة لأهلها قاطبة إيذانا بأن إنذار أهلها أصل مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة وقرئ
162

لينذر بالياء على أن الضمير للكتاب «ومن حولها» من أهل المدر والوبر في المشارق والمغارب «والذين يؤمنون بالآخرة» وبما فيها من أفانين العذاب «يؤمنون به» أي بالكتاب لأنهم يخافون العاقبة ولا يزال الخوف يحملهم على النظرة والتأمل حتى يؤمنوا به «وهم على صلاتهم يحافظون» تخصيص محافظتهم على الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات التي لا بد للمؤمنين من أدائها للإيذان بإنافتها من بين سائر الطاعات وكونها أشرف العبادات بعد الإيمان «ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا» فزعم أنه تعالى بعثه نبيا كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي أو اختلق عليه أحكاما من الحل والحرمة كعمرو بن لحى ومتابعيه أي هو أظلم من كل ظالم وإن كان سبك التركيب على نفي الأظلم منه وإنكاره من غير تعرض لنفي المساوى وإنكاره فإن الاستعمال الفاشي في قولك من أفضل من زيد أو لا أكرم منه على أنه أفضل من كل فاضل وأكرم من كل كريم وقد مر تمام الكلام فيه «أو قال أوحي إلي» من جهته تعالى «ولم يوح إليه» أي والحال أنه لم يوح إليه «شيء» أصلا كعبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين فلما بلغ ثم أنشأناه خلقا آخر قال عبد الله تبارك الله أحسن الخالقين تعجبا من تفصيل خلق الإنسان ثم قال صلى الله عليه وسلم اكتبها كذلك فشك عبد الله وقال لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إلي كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا فقد قلت كما قال «ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله» كالذين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا «ولو ترى إذ الظالمون» حذف مفعول ترى لدلالة الظرف عليه أي ولو ترى الظالمين إذ هم «في غمرات الموت» أي شدائده من غمره إذا غشيه «والملائكة باسطوا أيديهم» بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة من غير إمهال وتنفيس أو باسطوها بالعذاب قائلين «أخرجوا أنفسكم» أي أخرجوا أرواحكم إلينا من أجسادكم وخلصوا أنفسكم من العذاب «اليوم» أي وقت الإماتة أو الوقت الممتد بعده إلى ما لا نهاية له «تجزون عذاب الهون» اي العذاب المتضمن لشدة وإهانة فإضافته إلى الهون وهو الهوان لعراقته فيه «بما كنتم تقولون على الله غير الحق» كاتخاذ الولد له ونسبة الشريك إليه وادعاء النبوة والوحي كاذبا «وكنتم عن آياته تستكبرون» فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون بها «ولقد جئتمونا» للحساب «فرادى»
163

منفردين عن الأموال والأولاد وغير ذلك مما آثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأصنام التي كنتم تزعمون أنها شفعاؤكم وهم جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى وقرئ فرادا كرخال وفراد كثلاث وفردى كسكرى «كما خلقناكم أول مرة» بدل من فرادى أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد أو حال ثانية عند من يجوز تعددها أو حال من الضمير في فرادى أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما أو صفة مصدر جئتمونا أي مجيئا كخلقنا لكم أول مرة «وتركتم ما خولناكم» تفضلناه عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة «وراء ظهوركم» ما قدمتم منه شيئا ولم تحملو نقيرا «وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء» أي شركاء الله تعالى في الربوبية واستحقاق العبادة «لقد تقطع بينكم» أي وقع التقطع بينكم كما يقال جمع بين الشيئين أي أوقع الجمع بينهما وقرئ بينكم بالرفع على إسناد الفعل إلى الظرف كما يقال قوتل أمامكم وخلفكم أو على أن البين اسم للفصل والوصل أي تقطع وصلكم وقرئ ما بينكم «وضل عنكم» أي ضاع أو غاب «ما كنتم تزعمون» أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء «إن الله فالق الحب والنوى» شروع في تقرير بعض أفاعيله تعالى الدالة على كمال علمه وقدرته ولطف صنعه وحكمته إثر تقرير أدلة التوحيد والفلق الشق بإبانة أي شاق الحب بالنبات والنوى بالشجر وقيل المراد به الشق الذي في الحبوب والنوى أي خالقهما كذلك كما في قولك ضيق فم الركية ووسع أسفلها وقيل الفلق بمعنى الخلق قال الواحدي ذهبوا بفالق مذهب فاطر «يخرج الحي من الميت» أي يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات مما لا ينمو من النطفة والحب والجملة مستأنفة مبنية لما قبلها وقيل خبر ثان لأن وقوله تعالى «ومخرج الميت» كالنطفة والحب «من الحي» كالحيوان والنبات عطف على فالق الحب لا على يخرج على الوجه الأول لأن إخراج الميت من الحي ليس من قبيل فلق الحب والنوى «ذلكم» القادر العظيم الشأن هو «الله» المستحق للعبادة وحده «فأنى تؤفكون» فكيف تصرفون عن عبادته إلى غيره ولا سبيل إليه أصلا «فالق الإصباح» خبر آخر لأن أو لمبتدأ محذوف والإصباح مصدر سمى به الصبح وقرئ بفتح الهمزة على أنه جمع صبح أي فالق عمود الفجر عن بياض النهار وأسفاره أو فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش الذي يلي الصبح وقرئ فالق بالنصب على المد «وجعل الليل سكنا» يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئناسا به أو يسكن فيه الخلق من قوله تعالى لتسكنوا فيه وقرئ جاعل الليل فانتصاب سكنا بفعل دل عليه جاعل وقيل بنفسه على أن المراد به الجعل المستمر في الأزمنة المتجددة حسب تجددها لا الجعل الماضي فقط وقيل اسم الفاعل من الفعل المتعدي إلى اثنين يعمل في الثاني وإن كان بمعنى الماضي لأنه لما أضيف إلى الأول تعين نصبه للثاني لتعذر الإضافة بعد ذلك
164

«والشمس والقمر» معطوفان على الليل وعلى القراءة الأخيرة قيل هما معطوفان على محله والأحسن نصبهما حينئذ بفعل مقدر وقد قرئا بالجر وبالرفع أيضا على الابتداء
والخبر محذوف أي مجعولان «حسبانا» أي على أدوار مختلفة يحسب بها الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات أو محسوبان حسبانا والحسبان بالضم مصدر حسب كما أن الحساب بالكسر مصدر حسب «ذلك» إشارة إلى جعلهما كذلك وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته أي ذلك التيسير البديع «تقدير» البديع تقدير «العزيز» الغالب القاهر الذي لا يستعصي عليه شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص «العليم» بجميع المعلومات التي من جملتها ما في ذلك التسيير من المنافع والمصالح المتعلقة بمعاش الخلق ومعادهم «وهو الذي جعل لكم النجوم» شروع في بيان نعمته تعالى في الكواكب إثر بيان نعمته تعالى في النيرين والجعل متعد إلى واحد واللام متعلقة به وتأخير المفعول الصريح عن الجار والمجرور لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أي أنشأها وأبدعها لأجلكم فقوله تعالى «لتهتدوا بها» بدل من المجرور بإعادة العامل بدل اشتمال كما قي قوله تعالى لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا والتقدير جعل لكم النجوم لاهتدائكم لكن لا على أن غاية خلقها اهتداؤهم فقط بل على طريقة إفراد بعض منافعها وغاياتها بالذكر حسبما يقتضيه المقام وقد جوز أن يكون مفعولا ثانيا للجعل وهو بمعنى التصيير أي جعلها كائنة لاهتدائكم في أسفاركم عند دخولكم المفاوز أو البحار كما ينبئ عنه قوله تعالى «في ظلمات البر والبحر» أي في ظلمات الليل في البر والبحر وإضافتها إليهما للملابسة فإن الحاجة إلى الاهتداء بها إنما يتحقق عند ذلك أو في مشتبهات الطرق عبر عنها بالظلمات على طريق الاستعارة «قد فصلنا الآيات» أي بينا الآيات المتلوة المذكرة لنعمه التي هذه النعمة من جملتها أو الآيات التكوينية الدالة على شؤونه تعالى مفصلة «لقوم يعلمون» أي معاني الآيات المذكورة ويعلمون بموجبها أو يتفكرون في الآيات التكوينية فيعلمون حقيقة الحال وتخصيص التفصيل بهم مع عمة ومه للكل لأنهم المنتفعون به «وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة» تذكير لنعمة أخرى من نعمه تعالى دالة على عظم قدرته ولطيف صنعه وحكمته أي أنشأكم مع كثرتكم من نفس آدم عليه السلام «فمستقر ومستودع» أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض أو موضع استقرار واستيداع فيما ذكر والتعبير عن كونهم ي الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرهم الطبيعي كما أن التعبير عن كونهم في الأرحام أو تحت الأرض بالاستيداع لما أن كلا منهما ليس بمقرهم الطبيعي وقد حمل الاستيداع على كونهم في الأصلاب وليس بواضح وقرئ فمستقر بكسر القاف أي فمنكم مستقر ومنكم مستودع فإن الاستقرار منا
165

بخلاف الاستيداع «قد فصلنا الآيات» المبينة لتفاصيل خلق البشر من هذه الآية ونظائرها «لقوم يفقهون» غوامض الدقائق باستعمال الفطنة وتدقيق النظر في لطائف صنع الله عز وجل في أطوار تخليق بني آدم مما تحار في فهمه الألباب وهو السر في إيثار يفقهون على يعلمون كما ورد في شأن النجوم «وهو الذي أنزل من السماء ماء» تذكير لنعمة أخرى من نعمه تعالى منبئة عن كمال قدرته تعالى وسعة رحمته أي أنزل من السحاب أو من سمت السماء ماء خاصا هو المطر وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا «فأخرجنا به» التفت إلى التكلم إظهارا لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله أي فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء مع وحدته «نبات كل شيء» من الأشياء التي من شأنها النمو من أصناف النجم والشجر وأنواعهما المختلفة في الكم والكيف والخواص والآثار اختلافا متفاوتها في مراتب الزيادة والنقصان حسبما يفصح عنه قوله تعالى يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل وقوله تعالى «فأخرجنا منه خضرا» شروع في تفصيل ما أجمل من الإخراج وقد بدىء بتفصيل حال النجم أي فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئا غضا أخضر يقال شيء أخضر وخضر كأعور وعور وأكثر ما يستعمل الخضر فيمال تكون خضرته خلقية وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة وقوله تعالى «نخرج منه» صفة لخضر أو صيغة المضارع لاستحضار الصور لما فيها من الغرابة أي نخرج من ذلك الخضر «حبا متراكبا» هو السنبل المنتظم الحبوب المتراكبة بعضها فوق بعض على هيئة مخصوصة وقرئ يخرج منه حب متراكب وقوله تعالى «ومن النخل» شروع في تفصيل حال الشجر إثر بيان حال النجم فقوله تعالى من النخل خبر مقدم وقوله تعالى «من طلعها» بدل منه بإعادة العامل كما في قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله الخ والطلع شيء يخرج من النخل كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود وقوله تعالى «قنوان» مبتدأ أي وحاصلة من طلع النخل قنوان ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه أي ومخرجة من طلع النخل قنوان ومن قرأ يخرج منه حب متراكب كان قنوان عنده معطوفا على حب وقيل المعنى وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان أو ومن النخل شيء من طلعها قنوان وهو جمع قنو وهو عنقود النخلة كصنو وصنوان وقرئ بضم القاف كذئب وذؤبان وبفتحها أيضا على أنه اسم جمع لأن فعلان ليس من أبنية الجمع «دانية» سهلة المجتنى قريبة من القاطف فإنها وإن كانت صغيرة ينالها القاعد تأتي بالثمر لا ينتظر الطول أو ملتفة متقاربة والاقتصار على ذكرها لدلالتها على مقابلتها كقوله تعالى سرابيل تقيكم الحر ولزيادة النعمة فيها «وجنات من أعناب» عطف على نبات كل شيء أي وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب وقرئ جنات بالرفع على الابتداء أي ولكم
166

أو ثمة جنات وقد جوز عطفه على قنوان كأنه قيل وحاصلة أو مخرجة من النخل قنوان وجنات من نبات وأعناب ولعل زيادة الجنات ههنا من غير اكتفاء بذكر اسم الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما أن الانتفاع بهذا الجنس لا يتأتى غالبا إلا عند اجتماع طائفة من أفراده «والزيتون والرمان» منصوبان على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم أو على العطف على نبات وقوله تعالى «مشتبها وغير متشابه» حال من الزيتون اكتفى به عن حال ما عطف عليه كما يكتفي بخبر المعطوف عليه عن خبر المعطوف في نحو قوله تعالى والله ورسوله أحق أن يرضوه وتقديره والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك وقد جوز أن يكون حالا من الرمان لقربه ويكون المحذوف حال الأول والمعنى بعضه متشابها وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها وحكمة منشئها ومبدعها «انظروا إلى ثمره إذا أثمر» أي انظروا إليه نظر اعتبار واستبصار إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به وقرئ إلى ثمره «وينعه» أي وإلى حال نضجه كيف يصر إلى كماله اللائق به ويكون شيئا جامعا لمنافع جمة والينع في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت وقيل جمع يانع كتاجر وتجر وقرئ بالضم وهي لغة فيه وقرئ يانعة «إن في ذلكم» إشارة إلى ما أمر بالنظر إليه وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته «لآيات لقوم يؤمنون»
أي لآيات عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته فإن حدوت هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع يحار في فهمه الألباب لا يكاد يكون إلا بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه عن ذلك ضد يناويه أو ند يفاويه ولذلك عقب بتوبيخ من أشرك به والرد عليه حيث قيل «وجعلوا لله شركاء» أي جعلوا في اعتقادهم لله الذي شأنه ما فصل في تضاعيف هذه الآيات الجليلة شركاء «الجن» أي الملائكة حيث عبدوهم وقالوا الملائكة بنات الله وسموا جنا لاجتنابهم تحقير لشأنهم بالنسبة إلى مقام الألوهية أو الشياطين حيث أطاعوهم كما أطاعوا الله تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي التنويه ومفعولا جعلوا قوله تعالى شركاء الجن قدم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ الله سبحانه شريك ما كائنا ما كان ولله متعلق بشركاء قدم عليه للنكتة المذكورة وقيل هما لله شركاء والجن بدل من شركاء مفسر له نص عليه الفراء وأبو إسحاق أو منصوب بمضمر وقع جوابا على سؤال مقدر نشأ من قوله تعالى وجعلوا لله شركاء كأنه قيل من جعلوه شركاء لله تعالى فقيل الجن أي جعلوا الجن ويؤيده قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجن في جواب من قال من الذين جعلوهم شركاء لله تعالى وقد قرىء بالجر على أن الإضافة للتبيين
167

«وخلقهم» حال من فاعل جعلوا بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها أي وقد علموا أنه تعالى خالقهم خاصة وقيل الضمير للشركاء أي والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له تعالى وقرئ خلقهم عطفا على الجن أي وما يخلقونه من الأصنام أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم الإفك حيث نسبوه إليه تعالى «وخرقوا له» أي افتعلوا وافتروا له يقال خلق الإفك واختلقه وخرقه واخترقه بمعنى وقرئ خرقوا بالتشديد للتكثير وقرئ وحرفوا له أي زوروا «بنين وبنات» فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقالت طائفة من العرب الملائكة بنات الله «بغير علم» أي بحقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب بل رميا بقول عن عمي وجهالة من غير فكر وروية أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره والباء متعلقة بمحذوف هو حال من فاعل خرقوا أو نعت لمصدر مؤكد له أي خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقا كائنا بغير علم «سبحانه» استئناف مسوق لتنزيهه عز وجل عما نسبوه إليه وسبحانه علم للتسبيح الذي هو التبعيد عن السوء اعتقادا وقولا أي اعتقاد البعد عنه والحكم به من سبح في الأرض والماء إذا أبعد فيهما وأمعن ومنه فرس سبوح أي واسع الجري وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه أي أسبح سبحانه أي أنزهه عما لا يليق به عقدا وعملا تنزيها خاصا به حقيقة بشأنه وفيه مبالغة من جهة الاشتقاق من السبح ومن جهة النقل إلى التفعيل ومن جهة العدول عن المصدر الدال على الجنس إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما العلم المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن ومن جهة إقامته مقام المصدر مع الفعل وقيل هو مصدر كغفران لأنه سمع له فعل من الثلاثي كما ذكر في القاموس أريد به التنزه التام والتباعد الكلي ففيه مبالغة من حيث إسناد التنزه إلى ذاته المقدسة أي تنزه بذاته تنزها لائقا به وهو الأنسب بقوله سبحانه «وتعالى» فإنه معطوف على الفعل المضمر لا محالة ولما في السبحان والتعالي من معنى التباعد قيل «عما يصفون» أي تباعد عما يصفونه من أن له شريكا أو ولدا «بديع السماوات والأرض» اي مبدعهما ومخترعهما بلا مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه فإن البديع كما يطلق على المبدع نص عليه أئمة اللغة كالصريخ بمعنى المصرخ وقد جاء بدعه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه على ما ذكر في القاموس وغيره ونظيره السميع بمعنى المسمع في قوله
* أمن ريحانة الداعي السميع وقيل هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبه تشبيها لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديع سماواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق أو إلى الظرف كما في قولهم ثبت الغدر بمعنى أنه عديم النظير فيهما والأول هو الوجه والمعنى أنه تعالى مبدع لقطرى العالم العلوي والسفلي بلا مادة فاعل على الإطلاق منزه عن الانفعال بالمرة والوالد عنصر الولد منفعل
168

بانتقال مادته عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد وقرئ بديع بالنصب على المدح وبالجر على أنه بدل من الاسم الجليل أو من الضمير المجرور في سبحانه على رأي من يجيزه وارتفاعه في القراءة المشهورة على أنه خبر مبتدأ محذوف أو فاعل تعالى وإظهاره في موضع الإضمار لتعليل الحكم وتوسيط الظرف بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه أو مبتدأ خبره قوله تعالى «أنى يكون له ولد» وهو على الأولين جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالة ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزهه عنه وقوله تعالى «ولم تكن له صاحبة» حال مؤكدة للاستحالة المذكورة فإن انتفاء أن يكون له تعالى صاحبة مستلزم لانتفاء أن يكون له ولد ضرورة استحالة وجود الولد بلا والدة وإن أمكن وجوده بلا والد وانتفاء الأول مما لا ريب فيه لأحد فمن ضرورته انتفاء الثاني أي من أين أو كيف يكون له ولد كما زعموا والحال أنه ليس له على زعمهم أيضا صاحبة يكون الولد منها وقرئ لم يكن بتذكير الفعل للفصل أو لأن الاسم ضميره تعالى والخبر هو الظرف وصاحبة مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ أو الظرف خبر مقدم وصاحبة مبتدأ مؤخر والجملة خبر للكون وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الاسم ضمير الشأن لصلاحية الجملة حينئذ لأن تكون مفسرة لضمير الشأن لا على الوجه الأول لما بين في موضعه أن ضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة صريحة وقوله تعالى «وخلق كل شيء» إما جملة مستأنفة أخرى سيقت لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال أخرى مقررة لها أي أنى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدا له تعالى فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه «وهو بكل شيء» من شأنه أن يعلم كائنا ما كان مخلوقا أو غير مخلوق كما ينبئ عنه ترك الإضمار إلى الإظهار «عليم» مبالغ في العلم أزلا وأبدا حسبما يعرب عنه العجول إلى الجملة الاسمية فلا يخفى عليه خافية مما كان وما سيكون من الذوات والصفات والأحوال التي من جملتها ما يجوز عليه تعالى ما لا يجوز من المحالات التي ما زعموه فرد من أفرادها والجملة استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالته الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم «ذلكم» إشارة إلى المنعوت بما ذكر من جلائل النعوت وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه وبعد منزلته في العظمة والخطاب للمشركين المعهودين
بطريق الالتفات وهو مبتدأ وقوله تعالى «الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء» أخبار أربعة مترادفة أي ذلك الموصوف بتلك الصفات العظيمة هو الله المستحق للعبادة خاصة مالك أمركم لا شريك له أصلا خالق كل شيء مما كان ومما سيكون فلا تكرار إذ المعتبر في عنوان الموضوع إنما هو خالقيته لما كان فقط كما ينبئ عنه صيغة الماضي وقيل الخبر هو الأول والبواقي أبدال وقيل الاسم الجليل بدل من المبتدأ والبواقي أخبار وقيل يقدر لكل من الأخبار الثلاثة مبتدأ وقيل يجعل الكل بمنزلة اسم واحد وقوله تعالى «فاعبدوه» حكم مترتب على مضمون الجملة فإن من جمع هذه الصفات كان هو المستحق للعبادة خاصة وقوله تعالى «وهو على كل شيء وكيل» عطف على الجملة
169

المتقدمة أي هو مع ما فصل من الصفات الجليلة متولي أمور جميع مخلوقاته التي أنتم من جملتها فكلوا أموركم إليه وتوسلوا بعبادته إلى نجاح مآربكم الدنيوية والأخروية «لا تدركه الأبصار» البصر حاسة النظر وقد تطلق على العين من حيث إنها محلها وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إليه والإحاطة به أي لا تصل إليه الأبصار ولا تحيط به كما قال سعيد بن المسيب وقال عطاء كانت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به فلا متمسك فيه لمنكري الرؤية على الإطلاق وقد روي عن ابن عباس ومقاتل رضي الله عنهم لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة «وهو يدرك الأبصار» أي يحيط بها علمه إذ لا تخفى عليه خافية «وهو اللطيف الخبير» فيدركه ما لا تدركه الأبصار ويجوز أن يكون تعليلا للحكمين السابقين على طريقة اللف أي لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير فيكون اللطيف مستفادا من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها وقوله تعالى «قد جاءكم بصائر من ربكم» استئناف وارد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم والبصائر جمع بصيرة وهي النور الذي به تستبصر النفس كما أن البصر نور به تبصر العين والمراد بها الآية الواردة ههنا أو جميع الآيات المنتظمة لها انتظاما أوليا ومن لابتداء الغاية مجازا سواء تعلقت بجاء أو بمحذوف هو صفة لبصائر والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار كمل اللطف بهم أي أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلغكم إلى كمالكم اللائق بكم من الوحي الناطق بالحق والصواب ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائر كائنة من ربكم «فمن أبصر» أي الحق بتلك البصائر وآمن به «فلنفسه» أي فلنفسه أبصر أو فإبصاره لنفسه لأن نفعه مخصوص بها «ومن عمي» أي ومن لم يبصر الحق بعد ما ظهر له بتلك البصائر ظهورا بينا وضل عنه وإنما عبر عنه بالعمى تقبيحا له وتنفيرا عنه «فعليها» أي فعليها عمى أو فعماه عليها أو وبال عماه «وما أنا عليكم بحفيظ» وإنما أنا منذر والله هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها «وكذلك نصرف الآيات» أي مثل ذلك التصريف البديع نصرف الآيات الدالة على المعاني الرائقة الكاشفة عن الحقائق الفائقة لا تصريفا أدنى منه وقوله تعالى «وليقولوا درست» علة لفعل قد حذف تعويلا على دلالة السباق عليه أي وليقولوا درست نفعل ما نفعل من التصريف المذكور واللام للعاقبة والواو اعتراضية وقيل هي عاطفة على علة محذوفة واللام متعلقة بنصرف أي مثل ذلك التصريف نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا الخ وقيل اللام لام الأمر وتنصره القراءة بسكون اللام كأنه قيل وكذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون فإنه لا احتفال بهم ولا اعتداد بقولهم وهذا أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث بقولهم ورد عليه بأن ما بعده يأباه ومعنى درست قرأت وتعلمت وقرئ دارست أي دارست العلماء ودرست أي قدمت
170

هذه الآيات وعفت كما قالوا أساطير الأولين ودرست بضم الراء مبالغة في درست أي اشتد دروسها ودرست على البناء للمفعول بمعنى قرئت أو عفيت ودارست وفسروها بدارست اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم وجاز الإضمار لاشتهارهم بالدراسة وقد جوز إسناد الفعل إلى الآيات وهو في الحقيقة لأهلها أي دارس أهل الآيات وحملتها محمدا صلى الله عليه وسلم وهم أهل الكتاب ودرس أي درس محمد ودارسات أي هي دارسات أي قديمات أو ذات درس كعيشة راضية وقوله تعالى «ولنبينه» عطف على ليقولوا واللام على الأصل لأن التبيين غاية التصريف والضمير للآيات باعتبار المعنى أو للقرآن وإن لم يذكر أو للمصدر أي ولنفعل التبيين واللام في قوله تعالى «لقوم يعلمون» متعلقة بالتبيين وتخصيصه بهم لما أنهم المنتفعون به قال ابن عباس هم أولياؤه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد ووصفهم بالعلم للإيذان بغاية جهل الأولين وخلوهم عن العلم بالمرة «اتبع ما أوحي إليك من ربك» لما حكي عن المشركين قدحهم في تصريف الآيات عقب ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم بالثبات على ما هو عليه وبعدم الاعتداد بهم وبأباطيلهم أي دم على ما أنت عليه من اتباع ما أوحي إليك من الشرائع والأحكام التي عمدتها التوحيد وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من إظهار اللطف به ما لا يخفى وقوله تعالى «لا إله إلا هو» اعتراض بين الأمرين المتعاطفين مؤكد لإيجاب اتباع الوحي لا سيما في أمر التوحيد وقد جوز أن يكون حالا من ربك أي منفردا في الألوهية «وأعرض عن المشركين» لا تحتفل بهم وبأقاويلهم الباطلة التي من جملتها ما حكي عنهم آنفا ومن جعله منسوخا بآية السيف حمل الإعراض على ما يعم الكف عنهم «ولو شاء الله» أي عدم إشراكهم حسبما هو القاعدة المستمرة في حذف مفعول المشيئة من وقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء «ما أشركوا» وهذا دليل على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه مع توجهه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لعدم صرف اختياره الجزئي نحو الإيمان وإصراره على الكفر والجملة اعتراض مؤكد للإعراض وكذا قوله تعالى «وما جعلناك عليهم حفيظا» اي رقيبا مهيمنا من قبلنا تحفظ عليهم أعمالهم وكذا قوله تعالى «وما أنت عليهم بوكيل» من جهتهم تقوم بأمورهم وتدبر مصالحهم وعليهم في الموضعين متعلق بما بعده قد عليه للاهتمام به أو لرعاية الفواصل «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله» أي لا تشتموهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كأن تقولوا تبا لكم ولما تعبدونه مثلا «فيسبوا الله عدوا» تجاوزا عن الحق إلى الباطل بأن يقولوا لكم مثل قولكم لهم «بغير علم» اي بجهالة بالله تعالى وبما يجب أن يذكر
171

به وقرئ عدوا يقال عدا يعدو وعدوا وعداء وعدوانا روي أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك وقيل كان المسلمون يسبونهم فنهوا عن ذلك لئلا يستتبع سبهم سبه سبحانه وتعالى وفيه أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر «كذلك» أي مثل ذلك التزيين القوي «زينا لكل أمة عملهم» من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا أو تخذيلا
ويجوز أن يراد بكل أمة أمم الكفرة إذا الكلام فيهم وبعملهم شرهم وفسادهم والمشبه به تزيين سب الله تعالى لهم «ثم إلى ربهم» مالك أمره «مرجعهم» أي رجوعهم بالبعث بعد الموت «فينبئهم» من غير تأخير «بما كانوا يعملون» في الدنيا على الاستمرار من السيئات المزينة لهم وهو وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وفيه نكتة سرية مبنية على حكمة أبية وهي أن كل ما يظهر في هذه النشأة من الأعيان والأعراض فإنما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة فإن المعاصي سمون قاتلة قد برزت في الدنيا بصورة ما تستحسنها نفوس العصاة كما نطقت به هذه الآية الكريمة وكذا الطاعات فإنها مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة لذلك قال صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات فأعمال الكفرة قد برزت لهم في النشأة بصورة مزينة يستحسنها الغواة ويستحبها الطغاة وستظهر في النشأة الآخرة بصورتها الحقيقية المنكرة الهائلة فعند ذلك يعرفون أن أعمالهم ماذا عبر عن إظهارها بصورها الحقيقة بالإخبار بها لما أن كلا منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هي فليتدبر قوله تعالى «وأقسموا بالله» روي أن قريشا اقترحوا بعض آيات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني فقالوا نعم وأقسموا لئن فعلته لنؤمنن جميعا فسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها طمعا في إيمانهم فهم صلى الله عليه وسلم بالدعاء فنزلت وقوله تعالى «جهد أيمانهم» مصدر في موقع الحال أي أقسموا به تعالى جاهدين في أيمانهم «لئن جاءتهم آية» من مقترحاتهم أو من جنس الآيات وهو الأنسب بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعدون ما يشاهدونه من المعجزات الباهرة من جنس الآيات «ليؤمنن بها» وما كان مرمى غرضهم في ذلك لا التحكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب المعجزة وعدم الاعتداد بما شاهدوا منه من البينات الحقيقة بأن تقطع بها الأرض وتسير بها الجبال «قل إنما الآيات» أي كلها فيدخل فيها ما اقترحوه دخولا أوليا «عند الله» أي أمرها في حكمه وقضائه خاصة يتصرف فيها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة لا تتعلق بها ولا بشأن من شؤونها قدرة أحد ولا مشيئته لا استقلالا ولا اشتراكا بوجه من الوجوه حتى يمكنني أن أتصدى لاستنزالها بالاستدعاء وهذا كما ترى سد لباب الاقتراح على أبلغ وجه وأحسنه
172

ببيان علو شأن الآيات وصعوبة منالها وتعاليها من أن تكون عرضة للسؤال والاقتراح وأما ما قيل من أن المعنى إنما الآيات عند الله تعالى لا عندي فكيف أجيبكم إليها وآتيكم بها وهو القادر عليها لا أنا حتى آتيكم بها فلا مناسبة له بالمقام كيف لا وليس مقترحهم مجيئها بغير قدرة الله تعالى وإرادته حتى يجابوا بذلك وقوله تعالى «وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان الحكمة الداعية إلى ما أشعر به الجواب السابق من عدم مجىء الآيات خوطب به المسلمون إما خاصة بطريق التلوين لما كانوا راغبين في نزولها طمعا في إسلامهم وإما معه صلى الله عليه وسلم بطريق التعميم لما روي عنه صلى الله عليه وسلم من الهم بالدعاء وقد بين فيه أن أيمانهم فاجرة وإيمانهم مما لا يدخل تحت الوجود وإن أجيب إلى ما سألوه وما استفهامية إنكارية لكن لا على أن مرجع الإنكار هو وقوع المشعر به بل هو نفس الإشعار مع تحقق المشعر به في نفسه أي وأي شيء يعلمكم أن الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بل يبقون على ما كانوا عليه من الكفر والعناد أي لا تعلمون ذلك فتتمنون مجيئها طمعا في إيمانهم فكأنه بسط عذر من جهة المسلمين في تمنيهم نزول الآيات وقيل لا مزيدة فيتوجه الإنكار إلى الإشعار والمشعر به جميعا أي أي شيء يعلمكم إيمانهم عند مجىء الآيات حتى تتمنوا مجيئها طمعا في إيمانهم فيكون تخطئة لرأي المسلمين وقيل أن بمعنى لعل يقال ادخل السوق أنك تشتري اللحم وعنك وعلك ولعلك كلها بمعنى ويؤيده أنه قرىء لعلها إذا جاءت لا يؤمنون على أن الكلام قد تم قبله والمفعول الثاني ليشعركم محذوف كما في قوله تعالى وما يدريك لعله يزكى والجملة استئناف لتعليل الإنكار وتقريره أي أي شيء يعلمكم حالهم وما سيكون عند مجىء الآيات لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها فمالكم تتمنون مجيئها فإن تمنيته إنما يليق بما إذا كان إيمانهم بها محقق الوجود عند مجيئها لا مرجو العدم وقرئ إنها بالكسر على أنه استئناف حسبما سبق مع زيادة تحقيق لعدم إيمانهم وقرئ لا تؤمنون بالفوقانية فالخطاب في وما يشعركم للمشركين وقرئ وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون فمرجع الإنكار إقدام المشركين على الإقسام المذكور مع جهلهم بحال قلوبهم عند مجىء الآيات وبكونها حينئذ كما هي الآن «ونقلب أفئدتهم وأبصارهم» عطف على لا يؤمنون داخل في حكم ما يشعركم مقيد بما قيد به أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه لكن لا مع توجهها إليها واستعدادها لقبوله بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم في الكفر وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشىء من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار «كما لم يؤمنوا به» أي بما جاء من الآيات «أول مرة» أي عند ورود الآيات السابقة والكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف منصوب بلا يؤمنون وما مصدرية أي لا يؤمنون بل يكفرون كفرا كائنا ككفرهم أول مرة وتوسيط تقليب الأفئدة والأبصار بينهما لأنه من متممات عدم إيمانهم «ونذرهم» عكف على لا يؤمنون داخل في حكم الاستفهام الإنكاري مقيد بما قيد به مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة
173

والأبصار ومعرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره بأن يقلب الله سبحانه مشاعرهم عن الحق مع توجههم إليه واستعدادهم له بطريق الإجبار بل بأن يخليهم وشأنهم بعد ما علم فساد استعدادهم وفرط نفورهم عن الحق وعدم تأثير اللطف فيهم أصلا ويطبع على قلوبهم حسبما يقتضيه استعدادهم كما أشرنا إليه وقوله تعالى «في طغيانهم» متعلق بنذرهم وقوله تعالى «يعمهون» حال من الضمير المنصوب في نذرهم أي ندعهم في طغيانهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين أو مفعول ثان لنذرهم أي نصيرهم عامهين وقرئ يقلب ويذر بالياء على إسنادهما إلى ضمير الجلالة وقرئ تقلب بالتاء والبناء للمفعول على إسناده إلى أفئدتهم «ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة» تصريح بما اشعر به قوله عز وجل وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون من الحكمة الداعية إلى ترك الإجابة إلى ما اقترحوه من الآيات إثر بيان أنها في حكمه تعالى وقضائه المبني على الحكم البالغة لا مدخل لأحد في أمرها بوجه من الوجوه وبيان لكذبهم في أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وآكده أي ولو أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه ههنا من آية واحدة من الآيات بل نزلنا إليهم الملائكة كما سألوه بقولهم لولا أنزل علينا الملائكة وقولهم لو ما تأتينا بالملائكة «وكلمهم الموتى» وشهدوا بحقية الإيمان بعد أن
أحييناهم حسبما اقترحوه بقولهم فأتوا بآبائنا «وحشرنا» أي جميعا «عليهم كل شيء قبلا» بضمتين وقرئ بسكون الباء أي كفلاء بصحة الأمر وصدق النبي صلى الله عليه وسلم على أنه جمع قبيل بمعنى الكفيل كرغيف ورغف وقضيب وقضب وهو الأنسب بقوله تعالى أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أي لو لم نقتصر على ما اقترحوه بل زدنا على ذلك بأن أحضرنا لديهم كل شيء يتأتى منه الكفالة والشهادة بما ذكر لا فرادى بل بطريق المعية أو جماعات على أنه جمع قبيل وهو الأوفق لعموم كل شيء وشموله للأنواع والأصناف أي حشرنا كل شيء نوعا نوعا وصنفا صنفا وفوجا فوجا وانتصابه على الحالية وجمعيته باعتبار الكل المجموعي اللازم للكل الإفرادي أو مقابلة وعيانا على أنه مصدر كقبلا وقد قرىء كذلك وانتصابه على الوجهين على أنه مصدر في موقع الحال وقد نقل عن المبرد وجماعة من أهل اللغة أن الأخير بمعنى الجهة كما في قولك لي قبل فلان حق وأن انتصابه على الظرفية «ما كانوا ليؤمنوا» أي ما صح وما استقام لهم الإيمان لتماديهم في العصيان وغلوهم في التمرد والطغيان وأما سبق القضاء عليهم بالكفر فمن الأحكام المترتبة على ذلك حسبما ينبئ عنه قوله عز وجل ونذرهم في طغيانهم يعمهون وقوله تعالى «إلا أن يشاء الله» استثناء مفرغ من أعم الأحوال والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماع ما ذكر من الأمور الموجبة للإيمان في حال من الأحوال الداعية إليه المتممة لموجباته المذكورة إلا في حال مشيئته تعالى لإيمانهم أو من أعم العلل أي ما كانوا ليؤمنوا لعلة من العلل المعدودة وغيرها إلا لمشيئته تعالى له وأيا ما كان فليس المراد بالاستثناء بيان أن إيمانهم على خطر الوقوع بناء على كون مشيئته
174

تعالى أيضا كذلك بل بيان استحالة وقوعه بناء على استحالة وقوعها كأنه قيل ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وهيهات ذلك وحالهم حال بدليل ما سبق من قوله تعالى ونقلب أفئدتهم الآية كيف لا وقوله عز وجل «ولكن أكثرهم يجهلون» استدراك من مضمون الشرطية بعد ورود الاستثناء لا قبله ولا ريب في أن الذي يجهلونه سواء أريد بهم المسلمون وهو الظاهر أو المقسمون ليس عدم إيمانهم بلا مشيئة الله تعالى كما هو اللازم من حمل النظم الكريم على المعنى الأول فإنه ليس مما يعتقده الأولون ولا مما يدعيه الآخرون بل إنما هو عدم إيمانهم لعدم مشيئته إيمانهم ومرجعه إلى جهلهم بعدم مشيئته إياه فالمعنى أن حالهم كما شرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجىء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون فالجملة مقررة لمضمون قوله تعالى وما يشعركم الخ على القراءة المشهورة أو ولكن أكثر المشركين يجهلون عدم إيمانهم عند مجىء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم حينئذ فيقسمون بالله جهد ايمانهم على ما لا يكاد يكون فالجملة على القراءة السابقة بيان مبتدأ لمنشأ خطأ المقسمين ومناط إقسامهم وتقرير له على قراءة لا تؤمنون بالتاء الفوقانية وكذا على قراءة ما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا» كلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يشاهده من عداوة قريش له عليه الصلاة والسلام وما بنوا عليها مما لا خير فيه من الأقاويل والأفاعيل ببيان أن ذلك ليس مختصا بك بل هو أمر ابتلي به كل من سبقك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أشير إليه بذلك منصوب بفعله المحذوف مؤكد لما بعده وذلك إشارة إلى ما يفهم مما قبله أي جعلنا لكل نبي عدوا والتقديم على الفعل المذكور للقصر المفيد للمبالغة أي مثل ذلك الجعل الذي جعلنا في حقك حيث جعلنا لك عدوا يضادونك ويضارونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائل ويدبرون في إبطال أمرك مكايد جعلنا لكل نبي تقدمك عدوا فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤك لا جعلا أنقص منه وفيه دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم السلام بخلقه تعالى للابتلاء «شياطين الإنس والجن» أي مردة الفريقين على أن الإضافة بمعنى من البيانية وقيل هي إضافة الصفة إلى الموصوف والأصل الإنس والجن الشياطين وقيل هي بمعنى اللام أي الشياطين التي للإنس والتي للجن وهو بدل من عدوا والجعل متعد إلى واحد أو إلى اثنين وهو أول مفعولية قدم عليه الثاني مسارعة إلى بيان العداوة واللام على التقديرين متعلقة بالجعل أو بمحذوف هو حال من عدوا وقوله تعالى «يوحي بعضهم إلى بعض» كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم وتحقيق وجه الشبه بين المشبه والمشبه به أو حال من الشياطين أو نعت لعدوا وجمع الضمير باعتبار المعنى فإنه عبارة عن الأعداء كما في قوله
إذا أنا لم أنفع صديقي بوده * فإن عدوي لم يضرهمو بغضي
والوحي عبارة عن الإيماء والقول السريع أي يلقى
175

ويوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض كل من الفريقين إلى بعض آخر «زخرف القول» أي المموه منه المزين ظاهره الباطل باطنه من زخرفه إذ زينه «غرورا» مفعول له ليوحي أي ليغروهم أو مصدر في موقع الحال أي غارين أو مصدر مؤكد لفعل مقدر هو حال من فاعل يوحى أي يغرون غرورا «ولو شاء ربك» رجوع إلى بيان الشؤون الجارية بينه صلى الله عليه وسلم وبين قومه المفهومة من حكاية ما جرى بين الأنبياء عليهم السلام وبين أممهم كما ينبئ عنه الالتفات والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم المعربة عن كمال اللطف في التسلية أي ولو شاء ربك عدم الأمور المذكورة لا إيمانهم كما قيل فإن القاعدة المستمرة أن مفعول المشيئة إنما يحذف عند وقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء وهو قوله تعالى «ما فعلوه» أي ما فعلوا ما ذكر من عداوتك وإيحاء بعضهم إلى بعض مزخرفات الأقاويل الباطلة المتعلقة بأمرك خاصة لا بما يعمه وأمور الأنبياء عليهم السلام أيضا كما قيل فإن قوله تعالى «فذرهم وما يفترون» صريح في أن المراد بهم الكفرة المعاصرون له عليه الصلاة والسلام أي إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتك من فنون المفاسد بمشيئته تعالى فاتركهم وافتراءهم أو وما يفترونه من أنواع المكايد فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته تعالى على الحكم البالغة البتة «ولتصغى إليه» أي إلى زخرف القول وهو على الوجه الأول علة أخرى للإيحاء معطوفة على غرورا وما بينهما اعتراض وإنما لم ينصب لفقد شرطه إذ الغرور فعل الموحى وصغو الأفئدة فعل الموحى إليه أي يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم به ولتميل إليه «أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة» إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها وهم بها كافرون إشعارا بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره وآلامها مزينة بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال
ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ودون الشهوات آلاما وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات لعلهم ببطلانها ووخامة عاقبتها وأما على الوجهين الأخيرين فهو علة لفعل محذوف يدل عليه المقام أي ولكون ذلك جعلنا ما جعلنا والمعتزلة جعلوا اللام لام العاقبة أو لام القسم أو لام الأمر وضعفه في غاية الظهور «وليرضوه» لأنفسهم بعد ما مالت إليه أفئدتهم «وليقترفوا» أي يكتسبوا بموجب ارتضائهم له «ما هم مقترفون» له من القبائح التي لا يليق ذكرها «أفغير الله أبتغي حكما» كلام مستأنف وارد على إرادة القول والهمزة
176

للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلام أي قل لهم أأميل إلى زخارف الشياطين فأبتغي حكما غير الله يحكم بيننا ويفصل المحق منا من المبطل وقيل إن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت وإسناد الابتغاء المنكر إلى نفسه صلى الله عليه وسلم لا إلى المشركين كما في قوله تعالى أفغير دين الله يبغون مع أنهم الباغون لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم اجعل بيننا وبينك حكما وغير إما مفعول أبتغي وحكما حال منه وإما بالعكس وأيا ما كان فتقديمه على الفعل الذي هو المعطوف بالفاء حقيقة كما أشير إليه للإيذان بأن مدار الإنكار هو ابتغاء غيره تعالى حكما لا مطلق الابتغاء وقيل حكما تمييز لما في غير من الإبهام كقولهم إن لنا غيرها إبلا قالوا الحكم أبلغ من الحاكم وأدل على الرسوخ لما أنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم وقوله تعالى «وهو الذي أنزل إليكم الكتاب» جملة حالية مؤكدة لإنكار ابتغاء غيره تعالى حكما ونسبة الإنزال إليهم خاصة مع أن مقتضى المقام إظهار تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتهم نحو المنزل واستنزالهم إلى قبول حكمه بإبهام قوة نسبته إليهم أي أغيره تعالى ابتغي حكما والحال أنه هو الذي أنزل إليكم وأنتم أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون القرآن الناطق بالحق والصواب الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب «مفصلا» أي مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الأحكام بحيث لم يبق في أمور الدين شيء من التخليط والإبهام فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم وهذا كما ترى صريح في أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين مغن عن غيره ببيانه وتفصيله وأما أن يكون لإعجازه دخل في ذلك كما قيل فلا وقوله تعالى «والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق» كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مسوق من جهته سبحانه لتحقيق حقية الكتاب الذي نيط به أمر الحكمية وتقرير كونه منزلا من عنده عز وجل ببيان ان الذين وثقوا بهم ورضوا بحكميتهم حسبما نقل آنفا من علماء اليهود والنصارى عالمون بحقيته ونزوله من عنده تعالى وفي التعبير عن التوراة والإنجيل باسم الكتاب إيماء إلى ما بينهما وبين القرآن من المجانسة المقتضية للاشتراك في الحقية والنزول من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز وإيراد الطائفتين بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بأنهم علموه من جهة كتابهم حيث وجدوه حسبما نعت فيه وعاينوه موافقا له في الأصول ما لا يختف من الفروع ومخبرا عن أمور لا طريق إلى معرفتها سوى الوحي والمراد بالموصول إما علماء الفريقين وهو الظاهر فالإيتاء هو التفهيم بالفعل وإما الكل وهم داخلون فيه دخولا أوليا فهو أعم مما ذكر ومن التفهيم بالقوة ولا ريب في أن الكل متمكنون من ذلك وقبل المراد مؤمنوا أهل الكتاب وقرئ منزل من الإنزال والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه الصلاة والسلام والباء في قوله تعالى بالحق متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في منزل أي ملتبسا بالحق «فلا تكونن من الممترين» أي في أنهم يعلمون ذلك لما لا تشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة فالفاء لترتيب النهي على الإخبار بعلم أهل الكتاب بشأن القرآن أو في أنه منزل من ربك بالحق فيكون من باب التهييج والإلهاب كقوله تعالى ولا تكونن من
177

المشركين وقيل الخطاب في الحقيقة للأمة وإن كان له صلى الله عليه وسلم صورة وقيل الخطاب لكل أحد على معنى أن الأدلة قد تعاضدت وتظاهرت فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه والفاء على هذه الوجوه لترتيب النهي على نفس علمهم بحال القرآن «وتمت كلمة ربك» شروع في بيان كمال الكتاب المذكور من حيث ذاته إثر بيان كماله من حيث إضافته إليه تعالى بكونه منزلا منه بالحق وتحقيق ذلك بعلم أهل الكتاب به وإنما عبر عنه بالكلمة لأنها الأصل في الاتصاف بالصدق والعدل وبها تظهر الآثار من الحكم وقرئ كلمات ربك «صدقا وعدلا» مصدران نصبا على الحال وقيل على التمييز وقيل على العلة وقوله تعالى «لا مبدل لكلماته» إما استئناف مبين لفضلها على غيرها إثر بيان فضلها في نفسها وإما حال أخرى من فاعل تمت على أن الظاهر مغن عن الضمير الرابط والمعنى أنها بلغت القاصية صدقا في الأخبار والمواعيد وعدلا في الأقضية والأحكام لا أحد يبدل شيئا من ذلك بما هو أصدق وأعدل ولا بما هو مثله فكيف يتصور ابتغاء حكم غيره تعالى «وهو السميع» لكل ما يتعلق به السميع «العليم» بكل ما يمكن أن يعلم فيدخل في ذلك أقوال المتحاكمين وأحوالهم الظاهرة والباطنة دخولا أوليا هذا وقد قيل المعنى لا أحد يقدر على أن يحرفها كما فعل بالتوراة فيكون ضمانا لها من الله عز وجل بالحفظ كقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون أو لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها «وإن تطع أكثر من في الأرض» لما تحقق اختصاصه تعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجبها من إنزال الكتاب الكامل الفاصل بين الحق والباطل وتمام صدق كلامه وكمال عدالة أحكامه وامتناع وجود من يبدل شيئا منها واستبداده تعالى بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات عقب ذلك ببيان أن الكفرة متصفون بنقائض تلك الكمالات من النقائض التي هي الضلال والإضلال واتباع الظنون الفاسدة الناشئ من الجهل والكذب على الله سبحانه وتعالى إبانة لكمال مباينة حالهم لما يرومونه وتحذيرا عن الركون إليهم والعمل بآرائهم والمراد بمن في الأرض الناس وبأكثرهم الكفار وقيل أهل مكة والأرض أرضها أي إن تطعهم بأن جعلت منهم حكما «يضلوك عن سبيل الله» عن الطريق الموصل إليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده «إن يتبعون إلا الظن» وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم على آثارهم يهتدون أو جهالاتهم وآراؤهم الباطلة على أن المراد بالظن ما يقابل العلم والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من الشرطية كأنه قيل كيف يضلون فقيل لا يتبعون في أمور دينهم إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا فيضلون ضلالا مبينا ولا ريب في أن الضال المتصدي للإرشاد إنما يرشد غيره إلى مسلك نفسه فهو ضالون مضلون وقوله تعالى «وإن هم إلا يخرصون» عطف على ما قبله داخل في
حكمه أي يكذبون على الله سبحانه فيما ينسبون إليه تعالى كاتخاذ الولد وجعل
178

عبادة الأوثان ذريعة إليه تعالى وتحليل الميتة وتحريم البحائر ونظائرها أو يقدرون أنهم على شيء وأنى لهم ذلك ودونه مناط العيوق وحقيقته ما يقال عن ظن وتخمين «إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» تقرير لمضمون الشرطية وما بعدها وتأكيد لما يفيده من التحذير أي هو أعلم بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين ومن موصولة أو موصوفة في محل النصب لا بنفس أعلم فإن أفعل التفضيل لا ينصب الظاهر في مثل هذه الصور بل بفعل دل هو عليه أو استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر يضل والجملة معلق عنها الفعل المقدر وقرئ يضل بضم الياء على أن من فاعل ليضل ومفعوله محذوف ومحلها النصب بما ذكر من الفعل المقدر أي هو أعلم يعلم من يضل الناس فيكون تأكيد للتحذير عن طاعة الكفرة وأما أن الفاعل هو الله تعالى ومن منصوبة بما ذكر أي يعلم من يضله أو مجرورة بإضافة أعلم إليها أي أعلم المضلين من قوله تعالى من يضلل الله أو من قولك أضللته إذا وجدته ضالا فلا يساعده السباق والسياق والتفضيل في العلم بكثرته وإحاطته بالوجوه التي يمكن تعلق العلم بها ولزومه وكونه بالذات لا بالغير
* «فكلوا مما ذكر اسم الله عليه» أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحلال وتحريم الحرام وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين إنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم فقيل للمسلمين كلوا مما ذكر اسمه تعالى خاصة على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتف أنفه «إن كنتم بآياته» التي من جملتها الآيات الواردة في هذا الشأن «مؤمنين» فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله والاجتناب عما حرمه وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه «وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه» إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر عليه اسم الله تعالى من البحائر والسوائب ونحوها وقوله تعالى «وقد فصل لكم» الخ جملة حالية مؤكدة للإنكار كما في قوله تعالى وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا أي وأي سبب حاصل لكم في أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه أو واي غرض يحملكم على أن لا تأكلوا ويمنعكم من أكله والحال أنه قد فصل لكم «ما حرم عليكم» بقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الخ فبقي ما عدا ذلك على الحل لا بقوله تعالى حرمت عليكم الميتة الخ لأنها مدنية وأما التأخر في التلاوة فلا يوجب التأخر في النزول وقرئ الفعلان على البناء للمفعول وقرئ الأول على البناء للفاعل والثاني للمفعول «إلا ما اضطررتم إليه» مما حرم فإنه أيضا حلال حينئذ «وإن كثيرا» أي من
179

الكفار «ليضلون» الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام كعمرو بن لحى وأضرابه وقرئ «يضلون» بأهوائهم الزائغة وشهواتهم الباطلة «بغير علم» مقتبس من الشريعة الشريفة مستند إلى الوحي «إن ربك هو أعلم بالمعتدين» المتجاوزين لحدود الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام «وذروا ظاهر الإثم وباطنه» أي ما يعلن من الذنوب وما يسر أو ما يعمل منها بالجوارح وما بالقلب وقيل الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان «إن الذين يكسبون الإثم» أي يكتسبونه من الظاهر والباطن «سيجزون بما كانوا يقترفون» كائنا ما كان فلا بد من اجتنابهما والجملة تعليل للأمر «ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه» ظاهر في تحريم متروك التسمية عمدا كان أو نسيانا وإليه ذهب داود وعن أحمد بن جنبل مثله وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله صلى الله عليه وسلم ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه وفرق أبو حنيفة بين العمد والنسيان وأوله بالميتة أو بما ذكر عليه اسم غيره تعالى لقوله «وإنه لفسق» فإن الفسق ما أهل به لغير الله والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل المدلول عليه بلا تأكلوا والجملة مستأنفة وقيل حالية «وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم» المراد بالشياطين إبليس وجنوده فإيحاؤهم وسوستهم إلى المشركين وقيل مردة المجوس فإيحاؤهم إلى أولياؤهم ما أنهوا إلى قريش بالكتاب أن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما يقتلونه حلال وما يقتله الله حرام «ليجادلوكم» أي بالوساوس الشيطانية أو بما نقل من أباطيل المجوس وهو يؤيد التأويل بالميتة «وإن أطعتموهم» في استحلال الحرام وساعدتموهم على أباطيلهم «إنكم لمشركون» ضرورة أن من ترك طاعة الله إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشركه به تعالى بل آثره عليه سبحانه «أو من كان ميتا» وقرئ ميتا على الأصل «فأحييناه» تمثيل مسوق لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثر تحذريهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون خابطون في ظلمات الكفر والطغيان فكيف يعقل إطاعتهم لهم والهمزة للإنكار والنفي والواو لعطف الجملة الاسمية على مثلها الذي يدل عليه الكلام أي أأنتم مثلهم ومن كان ميتا فأعطيناه الحياة وما يتبعها من القوى المدركة والمحركة «وجعلنا له» مع ذلك من الخارج «نورا» عظيما «يمشي به» أي بسببه والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل فماذا يصنع بذلك النور فقيل يمشي به «في الناس» أي فيم بينهم آمنا من جهتهم أو صفة له «كمن مثله» أي صفته العجيبة وهو مبتدأ وقوله تعالى «في الظلمات» خبره على أن
180

المراد بهما اللفظ لا المعنى كما في قولك زيد صفته أسمر وهذه الجملة صلة لمن وهي مجرورة بالكاف وهي مع مجرورها خبر لمن الأولى وقوله تعالى «ليس بخارج منها» حال من المستكن في الظرف وقيل من الموصول أي غير خارج منها بحال وهذا كما ترى مثل ما أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلا كما أن الأول مثل أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الإسلام وهداه بالآيات البينة إلى طريق الحق يسلكه كيف يشاء لكن لا على أن يدل على كل واحد من هذه المعاني بما يليق به من الألفاظ الواردة في المثلين بواسطة تشبيهه بما يناسبه من معانيها فإن ألفاظ المثل باقية في معانيها الأصلية بل على أنه قد انتزعت من الأمور المتعددة المعتبرة في كل واحد من جانبي الممثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة في كل كل واحد من جانبي المثلين هيئة على حدة فشبهت بهما الأوليان ونزلتا منزلتيهما فاستعمل فيهما ما يدل على الأخريين بضرب من التجوز وقد أشير في تفسير قوله تعالى ختم الله على قلوبهم الآية إلى أن التمثيل قسم برأسه لا سبيل إلى جعله من باب الاستعارة حقيقة وأن الاستعارة التمثيلية من عبارات المتأخرين نعم قد يجري ذلك على سنن الاستعارة بأن لا يذكر المشبه كهذين التمثيلين ونظائرهما وقد يجري على منهاج التشبيه كما في قوله
[وما الناس إلا كالديار وأهلها * بها يوم حلوها وغدوا بلاقع]
«كذلك» أي مثل ذلك التزيين البليغ «زين» أي من جهة الله تعالى بطريق الخلق عند إيحاء الشياطين أو من جهة الشياطين بطريق الزخرفة والتسويل «للكافرين» التابعين للوساوس الشيطانية الآخذين بالمزخرفات التي يوحونها إليهم «ما كانوا يعملون» ما استمروا على عمله من فنون الكفر والمعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من القبائح فإنها لو لم تكن مزينة لهم لما أصروا عليها ولما جادلوا بها الحق وقيل الآية نزلت في حمزة رضي الله عنه وأبي جهل وقيل في عمر أو عمار رضي الله عنهما وأبي جهل «وكذلك» قيل معناه كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها «جعلنا في كل قرية» من سائر القرى «أكابر مجرميها ليمكروا فيها» ومفعولا جعلنا أكابر مجرميها على تقديم المفعول الثاني والظرف لغو أو هما الظرف وأكبر على أن مجرميها بدل أو مضاف إليه فإن أفعل التفضيل إذا أضيف جاز الإفراد والمطابقة ولذلك قرىء أكبر مجرميها وقيل أكابر مجرميها مفعوله الأول والثاني ليمكروا فيها ولا يخفى أن أي معنى يراد من هذه المعاني لا بد أن يكون مشهود التحقق عند الناس معهودا فيما بينهم حتى يصلح أن تصرف الإشارة عن سياق النظم الكريم وتوجه إليه ويجعل مقياسا لنظائره بإخراجه مخرج المصدر التشبيهي وظاهر أن ليس الأمر كذلك ولا سبيل إلى توجيهها إلى ما يفهم من قوله تعالى كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون وإن كان المراد بهم أكابر مكة لأن مآل المعنى حينئذ بعد اللتيا والتي كما جعلنا أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها الخ فإذن الأقرب أن ذلك إشارة إلى الكفرة المعهودين باعتبار اتصافهم بصفاتهم والافراد بتأويل الفريق أو المذكور ومحل الكاف النصب على أنه المفعول الثاني لجعلنا قدم
181

عليه لإفادة التخصيص كما في قوله تعالى كذلك كنتم من قبل الآية والأول أكابر مجرميها والظرف لغو أي ومثل أولئك الكفرة الذين هم صناديد مكة ومجرموها جعلنا في كل قرية أكابرها المجرمين أي جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزينا لهم أعمالهم مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكر فيها وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى «وما يمكرون إلا بأنفسهم» اعتراض على سبيل الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والوعيد للكفرة أي وما تحيق غائلة مكرهم إلا بهم «وما يشعرون» حال من ضمير يمكرون مع اعتبار ورود الاستثناء على النفي أي إنما يمكرون بأنفسهم والحال أنهم ما يشعرون بذلك أصلا بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم وقوله تعالى «وإذا جاءتهم آية» رجوع إلى بيان حال مجرمي أهل مكة بعد ما بين بطريق التسلية أن حال غيرهم أيضا كذلك وأن عاقبة مكر الكل ما ذكر فإن العظيمة المنقولة إنما صدرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي إذا جاءتهم آية بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا لن نؤمن حتى نؤتى «مثل ما أوتي رسل الله» قال ابن عباس رضي الله عنهما حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل عليه السلام فيخبرنا أن محمدا صادق كما قالوا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا وعن الحسن البصري مثله وهذا كما ترى صريح ي أن ما علق بإيتاء ما أوتي الرسل عليهم الصلاة والسلام هو إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه إيمانا حقيقيا كما هو المتبادر منه عند الإطلاق خلا أنه يستدعى أن يحمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة ة وأن تصرف الرسالة في قوله تعالى «الله أعلم حيث يجعل رسالته» عن ظاهرها وتحمل على رسالة جبريل عليه السلام بالوجه المذكور ويراد بجعلها تبليغها إلى المرسل إليه لا وضعها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتى كونه جوابا عن اقتراحهم وردا له بأن يكون معنى الاقتراح لن نؤمن بكون تلك الآية نازلة من عند الله تعالى إلى الرسول حتى يأتينا بالذات عيانا كما يأتي الرسول فيخبرنا بذلك ومعنى الرد الله أعلم من يليق بإرسال جبريل عليه السلام إليه لأمر من الأمور إيذانا بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريف وفيه من التمحل ما لا يخفى وقال مقاتل نزلت في أبي جهل حين قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا أمنا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا حتى يأتينا وحي كما يأتيه وقال الضحاك سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ولا يخفى أن كل واحد من هذين القولين وإن كان مناسبا للرد المذكور لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المعلق بإيتاء ما أوتي الرسل مجرد تصديقهم برسالته عليه الصلاة والسلام في الجملة من غير شمول لكافة الناس وأن تكون كلمة حتى في قول اللعين حتى يأتينا وحي كما يأتيه الخ غاية لعدم الرضا لا لعدم الاتباع فإنه مقرر على تقديري إيتاء الوحي وعدمه فالمعنى لن نؤمن برسالته أصلا حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثل ما أوتي رسل الله أو
182

إيتاء مثل إيتاء رسل الله وأما ما قيل من أن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا وولدا فنزلت فلا تعلق له بكلامهم المردود إلا أن يراد بالإيمان المعلق بما ذكر مجرد الإيمان بكون الآية النازلة وحيا صادقا لا الإيمان بكونها نازلة إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آية نازلة إلى الرسول قالوا لن نؤمن بنزولها من عند الله حتى يكون نزولها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن ملخص معنى قوله لو كانت النبوة حقا الخ لو كان ما تدعيه من النبوة حقا لكنت أنا النبي لا أنت وإذ لم يكن الأمر كذلك فليست بحق وماله تعليق الإيمان بحقية النبوة بكون نفسه نبيا ومثل ما أوتي نصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي حتى نؤتاها إيتاء مثل إيتاء رسل الله وإضافة الإيتاء إليهم لأنهم منكرون لإيتائه صلى الله عليه وسلم وحيث نصب على المفعولية توسعا لا بنفس أعلم لما عرفت من أنه لا يعمل في الظاهر بل يفعل دل هو عليه أي هو أعلم يعلم الموضع الذي يضعها فيه والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بكثرة المال والولد وتعاضد الأسباب والعدد وإنما ينال بفضائل نفسانية يخصها الله تعالى بمن يشاء من خلص عباده وقرئ رسالاته «سيصيب الذين أجرموا» استئناف آخر ناع عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعد مانعى عليهم حرمانهم مما أملوه والسين للتأكيد ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بأن إصابة ما يصيبهم لإجرامهم المستتبع لجميع الشرور والقبائح أي يصيبهم البتة مكان ما تمنوه وعلقوا به أطماعهم الفارغة من عزة النبوة وشرف الرسالة «صغار» أي ذلة وحقارة بعد كبرهم «عند الله» أي يوم القيامة وقيل من عند الله «وعذاب شديد» في الآخرة أو في الدنيا «بما كانوا يمكرون» أي بسبب مكرهم المستمر أو بمقابلته وحيث كان هذا من معظم مواد إجرامهم صرح بسببيته «فمن يرد الله أن يهديه» أي يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان «يشرح صدره للإسلام» فيتسع له وينفتح وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيئة لحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه وإليه أشار عليه الصلاة والسلام حين سئل فقال نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفتح فقالوا
هل لذلك من أمارة يعرف بها فقال نعم الإنابة إلى دار الخلود والإعراض عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله «ومن يرد أن يضله» أي يخلق فيه الضلال بصرف اختياره إليه «يجعل صدره ضيقا حرجا» بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد يدخله الإيمان وقرئ ضيقا بالتخفيف وحرجا بكسر الراء أي شديد الضيق والأول مصدر وصف به مبالغة «كأنما يصعد» ما هذه مهيئة لدخول كأن على الجمل الفعلية «في السماء» شبه للمبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يكاد يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة وفيه تنبيه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه واصل يصعد يتصعد وقد قرىء به وقرئ يصاعد وأصله يتصاعد «كذلك» أي مثل ذلك الجعل الذي هو جعل الصدر حرجا
183

على الوجه المذكور «يجعل الله الرجس» أي العذاب أو الخذلان قال مجاهد الرجس مالا خير فيه وقال الزجاج الرجس اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة «على الذين لا يؤمنون» أي عليهم ووضع الموصول موضع المضمر للإشعار بأن جعله تعالى معلل بما في حيز الصلة من كمال نبوهم عن الإيمان وإصرارهم على الكفر «وهذا» أي البيان الذي جاء به القرآن أو الإسلام أو ما سبق من التوفيق والخذلان «صراط ربك» أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته وطريقته التي اقتضتها حكمته وفي التعرض لعنوان الربوبية إيذان بأن تقويم ذلك الصراط للتربية وإفاضة الكمال «مستقيما» لا عوج فيه أو عادلا مطردا وهو حال مؤكدة كقوله تعالى وهو الحق مصدقا والعامل فيها معنى الإشارة «قد فصلنا الآيات» ببناها مفصلة «لقوم يذكرون» يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كل ما يحدث من الحوادث خيرا كان أو شرا فإنما يحدث بقضاء الله تعالى وخلقه وأنه تعالى عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم وتخصيص القوم المذكورين بالذكر لأنهم المنتفعون بتفصيل الآيات «لهم دار السلام» أي للمتذكرين دار السلامة من كل المكاره وهي الجنة «عند ربهم» اي في ضمانه أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره تعالى «وهو وليهم» أي مولاهم وناصرهم «بما كانوا يعملون» بسبب أعمالهم الصالحة أو متوليهم بجزائها يتولى إيصاله إليهم «ويوم يحشرهم جميعا» منصوب بمضمر إما على المفعولية أو الظرفية وقرئ بنون العظمة على الالتفات لتهويل الأمر والضمير المنصوب لمن يحشر من الثقلين أي واذكر يوم الحشر الثقلين قائلا «يا معشر الجن» أو ويوم يحشرهم يقول يا معشر الجن أو ويوم يحشرهم ويقول يا معشر الجن يكون من الأحوال والأهوال ما لا يساعده لفظاعته والمعشر الجماعة والمراد بمعشر الجن الشياطين «قد استكثرتم من الإنس» أي من إغوائهم وإضلالهم أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كقولهم استكثر الأمير من أي من الجنود وهذا بطريق التوبيخ والتقريع «وقال أولياؤهم» أي الذين أطاعوهم ومن في قوله تعالى «من الإنس» إما لبيان الجنس أي أولياؤهم الذين هم الإنس أو متعلقة بمحذوف هو حال من أولياؤهم أي كائنين من الإنس «ربنا استمتع بعضنا ببعض» أي انتفع الإنس بالجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها وقيل بأن ألقوا إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة والجن بالإنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم بقبول ما ألقوه إليهم وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز
184

والمخاوف واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم قادرون على إجازتهم «وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا» وهو يوم القيامة قالوه اعترافا بما فعلوه من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتكذيب البعث وإظهارا للندامة عليها وتحسرا على حالهم واستسلاما لربهم ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا «قال» استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية كلا منهم كأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذ فقيل قال «النار مثواكم» أي منزلكم أو ذات ثوائكم كما أن دار السلام مثوى المؤمنين «خالدين فيها» حال والعامل مثواكم إن جعل مصدرا ومعنى الإضافة إن جعل مكانا «إلا ما شاء الله» قال ابن عباس رضي الله عنهما استثنى الله تعالى قوما قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي وما بمعنى من وقيل المعنى إلا الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير فقد روي أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم وقيل يفتح لهم وهم في النار باب إلى الجنة فيسرعون نحوه حتى إذا صاروا إليه سد عليهم الباب وعلى التقديرين فالاستثناء تهكم بهم وقيل إلا ما شاء الله قبل الدخول كأنه قيل النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم ولا يخفى بعده «إن ربك حكيم» في أفاعيله «عليم» بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من الجزاء «وكذلك» أي مثل ما سيق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم «نولي بعض الظالمين» من الإنس «بعضا» آخر منهم أي نجعلهم بحيث يتولونهم بالإغواء والإضلال أو نجعل بعضهم قرناء بعض في العذاب كما كانوا كذلك في الدنيا عند اقتراف ما يؤدي إليه من القبائح «بما كانوا يكسبون» بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي «يا معشر الجن والإنس» شروع في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين وتقريعهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسهم إثر حكاية توبيخ معشر الجن بإغواء الإنس وإضلالهم وبيان مآل أمرهم «ألم يأتكم» أي في الدنيا «رسل» اي من عند الله عز وجل ولكن لا على أن يأتي كل رسول كل واحدة من الأمم بل على أن يأتي كل أمة رسول خاص بها أي ألم يأت كل أمة منكم رسول معين وقوله تعالى «منكم» متعلق بمحذوف وقع صفة لرسل أي كائنة من جملتكم لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معا بل من الإنس خاصة وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم والإيذان بتقاربهما ذاتا واتحادهما تكليفا وخطابا كأنهما جنس واحد ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل وقد ثبت أن الجن قد استمعوا القرآن وأنذروا به قومهم حيث نطق به قوله تعالى وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن
185

إلى قوله تعالى ولوا إلى قومهم منذرين وقوله تعالى «يقصون عليكم آياتي» صفة أخرى لرسل محققة لما هو المراد من إرسال الرسل من التبليغ والإنذار وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين «وينذرونكم» بما هو في تضاعيفها من القوارع «لقاء يومكم هذا» يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه ما أعد لهم من أفانين العقوبات الهائلة «قالوا» استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك التوبيخ الشديد فقيل قالوا «شهدنا على أنفسنا» أي بإتيان الرسل وإنذارهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب وباستحقاقهم بسبب ذلك للعذاب المخلد حسبما فصل ي حكاية جوابهم عن سؤال خزنة النار حيث قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقد أجمل ههنا في الحكاية كما أجمل في حكاية جوابهم حيث قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وقوله تعالى «وغرتهم الحياة
الدنيا» مع ما عطف عليه اعتراض لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكابهم للقبائح التي ارتكبوها وألجأهم بعد ذلك في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذاب وذم لهم بذلك أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئة واللذات الخسيسة الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل واجترءوا على ارتكاب ما يجرهم إلى العذاب المؤبد الذي أنذروهم إياه «وشهدوا» في الآخرة «على أنفسهم أنهم كانوا» في الدنيا «كافرين» أي بالآيات والنذر التي أتى بها الرسل على التفصيل المذكور آنفا واضطروا إلى الاستسلام لأشد العذاب كما ينبئ عنه ما حكى عنهم بقوله تعالى وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وفيه من تحسيرهم وتحذير السامعين عن مثل صنيعهم ما لا مزيد عليه «ذلك» إشارة إلى ما ذكر من شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «أن لم يكن ربك مهلك القرى» بحذف اللام ى أن أن مصدرية أو مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف وقوله تعالى «بظلم» متعلق إما بمهلك أي بسبب ظلم أو بمحذوف وقع حالا من القرى أي ملتبسة بظلم فإن ملابسة أهلها للظلم ملابسة للقرية له بواسطتهم وأما كونه حالا من ربك أو من ضميره في مهلك كما قيل فيأباه أن غفلة أهلها مأخوذة في معنى الظلم وحقيقته لا محالة فلا يحسن تقييده بقوله تعالى «وأهلها غافلون» والمعنى ذلك ثابت لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قيل أن ينهوا عنه وينبهوا على بطلانه برسول وكتاب وإن قضى به بديهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم أو لولا انتفاء كونه تعالى معذبا لهم قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب لما أمكن التوبيخ بما ذكر ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيان الرسل كما في قوله تعالى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى وإنما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوي الذي هو إهلاك القرى قبل الإنذار مع أن التقريب في تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا لبيان كمال
186

نزاهته سبحانه وتعالى عن كلا التعذيبين الدنيوي والأخروي معا من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده حيث اقتصر على نفي التعذيب الدنيوي عنه تعالى ليثبت نفي التعذيب الأخروي عنه تعالى على الوجه البرهاني بطريق الأولوية فإنه تعالى حيث لم يعذبهم بعذاب يسير منقطع بدون إنذار فلأن لا يعذبهم بعذاب شديد مخلد أولى وأجلى ولو علل بما ذكر من نفي التعذيب لا نصرف بحسب المقام إلى ما فيه الكلام من نفي التعذيب الأخروي ونفي التعذيب الدنيوي وغير متعرض له لا صريحا ولا دلالة ضرورة أن نفي الأعلى لا يدل على نفي الأدنى ولأن ترتب العذاب الدنيوي على الإنذار عند عدم تأثر المنذرين منه معلوم مشاهد عند السامعين فيستدلون بذلك على أن التعذيب الأخروي أيضا كذلك فينزجرون عن الإخلال بمواجب الإنذار أشد انزجار هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الكريم وأما جعل ذلك إشارة إلى إرسال الرسل عليهم السلام وإنذارهم وخبر المبتدأ محذوف كما أطبق عليه الجمهور فبمعزل من مقتضى المقام والله سبحانه أعلم «ولكل» أي من المكلفين من الثقلين «درجات» متفاوتة وطبقات متباينة «مما عملوا» من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة فإن أعمالهم درجات في أنفسها أو من جزاء أعمالهم فإن كل جزاء مرتبة معينة لهم أو من أجل أعمالهم «وما ربك بغافل عما يعملون» فيخفى عليه عمل من اعمالهم أو قدر ما يستحقون بها من ثواب أو عقاب وقرئ بالتاء تغليبا للخطاب على الغيبة «وربك الغني» مبتدأ وخبر أي هو المعروف بالغني عن كل ما سواه كائنا من كان وما كان فيدخل فيه غناه عن العباد وعن عبادتهم في التعرض لوصف الربوبية في الموضعين لا سيما في الثاني لكونه موقع الإضمار مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من إظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم وتنزيه ساحته عن توهم شمول الوعيد الآتي لها أيضا ما لا يخفى وقوله تعالى «ذو الرحمة» خبر آخر أو هو الخبر والغنى صفة أي يترحم عليهم بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي وفيه تنبيه على أن ما سلف ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتمهيد لقوله تعالى «إن يشأ يذهبكم» أي ما به حاجة إليكم إن يشأ يذهبكم أيها العصاة وفي تلوين الخطاب من تشديد الوعيد ما لا يخفى «ويستخلف من بعدكم» أي من بعد إذهابكم «ما يشاء» من الخلق وإيثار ما على من لإظهار كمال الكبرياء وإسقاطهم عن رتبة العقلاء «كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين» أي من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام لكنه أبقاكم ترحما عليكم وما في كما مصدرية ومحل الكاف النصب على أنه مصدر تشبيهي على غير الصدر فإن يستخلف في معنى ينشئ كأنه قيل وينشىء إنشاء كائنا كإنشائكم الخ أو نعت لمصدر الفعل المذكور أي يستخلف استخلافا كائنا كإنشائكم الخ والشرطية استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة «إن ما توعدون»
187

أي الذي توعدونه من البعث وما يتفرع عليه من الأمور الهائلة وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي «لآت» لواقع لا محالة كقوله تعالى إن ما توعدون لواقع وإيثاره عليه لبيان كمال سرعة وقوعه بتصويره بصورة طالب حثيث لا يفوته هارب حسبما يعرب عنه قوله تعالى «وما أنتم بمعجزين» أي بفائتين ذلك وإن ركبتم في الهرب متن كل صعب وذلول كما أن إيثار صيغة الفاعل على المستقبل للإيذان بكمال قرب الإتيان والمراد بيان دوام انتفاء الإعجاز لا بيان انتفاء دوام الإعجاز فإن الجملة الاسمية كما تدل على دوام الثبوت تدل بمعونة المقام إذا دخل عليها حرف النفي على دوام الانتفاء لا على انتفاء الدوام كما حقق في موضعه «قل يا قوم اعملوا على مكانتكم» إثر ما بين لهم حالهم ومآلهم بطريق الخطاب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين بأن يواجههم بتشديد التهديد وتكرير الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه غاية التصلب في الدين ونهاية الوثوق بأمره وعدم المبالاة بهم أي اعملوا على غاية تمكنكم واستطاعتك يقال نمكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن أو على جهتكم وحالتكم التي أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة وقرئ مكاناتكم والمعنى اثبتوا على كفرهم ومعاداتكم «إني عامل» ما أمرت به من الثبات على الإسلام والاستمرار على الأعمال الصالحة والمصابرة وإيراد التهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عليه فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالذي أمر به بحيث لا يجد إلى التقصي عنه سبيلا «فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار» سوف لتأكيد مضمون الجملة والعلم عرفاني ومن إما استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء وتكون باسمها وخبرها خبر لها وهي مع خبرها في محل نصب لسدها مسد مفعول تعلمون أي
فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الديار لها وإما موصولة فمحلها النصب على أنها مفعول لتعلمون أي فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار وفيه مع الإنذار إنصاف في المقال وتنبيه على كمال وثوق المنذر بأمره وقرئ بالياء لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي «أنه» أي الشأن «لا يفلح الظالمون» وضع الظلم موضع الكفر إيذانا بأن امتناع الفلاح يترتب على أي فرد كان من أفراد الظلم فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم أفراده «وجعلوا» شروع في تقبيح أحوالهم الفظيعة بحكاية أقوالهم وأفعالهم الشنيعة مشركوا العرب كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله تعالى وأشياء منهما لآلهتهم فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكيا ناميا يزيد في نفسه خيرا رجعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن الله تعالى غني وما ذاك إلا لحب آلهتهم وإيثارهم لها والجعل إما متعد إلى واحد فالجاران في قوله تعالى
188

«لله مما ذرأ» متعلقان به ومن في قوله تعالى «من الحرث والأنعام» بيان لما وفيه تنبيه على فرط جهالتهم حيث أشركوا الخالق في خلقه جمادا لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزكي له أي عينوا له تعالى مما خلقه من الحرث والأنعام «نصيبا» يصرفونه إلى الضيفان والمساكين وتأخيره عن المجرورين لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وإما إلى مفعولين أولهما مما ذرأ على أن من تبعيضية أي جعلوا بعض ما خلقه نصيبا له وما قيل من أن الأول نصيبا والثاني لله لا يساعده سداد المعنى وحكاية جعلهم له تعالى نصيبا تدل على أنهم جعلوا لشركائهم أيضا نصيبا ولم يذكر اكتفاء بقوله تعالى «فقالوا هذا لله» بزعمهم «وهذا لشركائنا» وقرئ بضم الزاء وهو لغة فيه وإنما قيد به الأول للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس يجعل الله تعالى غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغي بها وجه الله تعالى لا لما قيل من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به فإن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني ويجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على معنى أن قولهم هذا لله مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه به تعالى فقوله تعالى «فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم» بيان وتفصيل له أي فما عينوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لله تعالى من قرى الضيفان والتصدق على المساكين وما عينوه لله تعالى إذا وجدوه زاكيا يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لآلهتهم من إنفاق عليها وذبح نسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك «ساء ما يحكمون» فيما فعلوا من إيثار ى لهتهم على الله تعالى وعملهم بما لم يشرع لهم وما بمعنى الذي والتقدير ساء الذي يحكمون حكمهم فيكون حكمهم مبتدأ وما قبله الخبر وحذف لدلالة يحكمون عليه «وكذلك» ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله تعالى وبين آلهتهم أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهود من الشياطين «زين لكثير من المشركين قتل أولادهم» بوأدهم ونحرهم لآلهتهم كان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب وهو مشهور «شركاؤهم» أي أولياؤهم من الجن أو من السدنة وهو فاعل زين أخر عن الظرف والمفعول لما مر غير مرة وقرئ على البناء للمفعول الذي هو القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولا بينهما بمفعوله وقرئ على البناء للمفعول ورفع قتل وجر أولادهم ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه زين كأنه لما قيل زين لهم قتل أولادهم قيل من زينه فقيل زينه شركاؤهم «ليردوهم» أي يهلكوهم بالإغواء «وليلبسوا عليهم دينهم» وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين وللعاقبة إن كان من السدنة «ولو شاء الله» أي عدم فعلهم ذلك «ما فعلوه» أي ما فعل المشركون ما زين لهم من القتل أو الشركاء التزيين أو الإرداء واللبس أو الفريقان جميع ذلك على إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة «فذرهم وما يفترون» الفاء
189

فصيحة أي إذا كان ما فعلوه بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءهم أو وما يفترونه من الإفك فإن فيما شاء الله تعالى حكما بالغة إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى «وقالوا» حكاية لنوع آخر من أنواع كفرهم «هذه» إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم والتأنيث للخبر «أنعام وحرث حجر» اي حرام فعل بمعنى مفعول كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث وقرئ حجر بالضم وبضمتين وحرج أي ضيق وأصله حرج وقيل هو مقلوب من حجر «لا يطعمها إلا من نشاء» يعنون خدم الأوثان من الرجال دون النساء والجملة صفة أخرى لأنعام وحرث بزعمهم متعلق بمحذوف هو حال من فاعل قالوا أي قالوه ملتبسين بزعمهم الباطل من غير حجة «وأنعام» خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله تعالى هذه أنعام الخ أي قالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم وهذه أنعام «حرمت ظهورها» يعنون بها البحائر والسوائب والحوامي «وأنعام» أي وهذه أنعام كما مر وقوله تعالى «لا يذكرون اسم الله عليها» صفة لأنعام لكنه غير واقع في كلامهم المحكي كنظائره بل مسوق من جهته تعالى تعيينا للموصوف وتمييزا له عن غيره كما في قوله تعالى وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله على أحد التفاسير كأنه قيل وانعام ذبحت على الأصنام فإنها التي لا يذكر عليها اسم الله وإنما يذكر عليها اسم الأصنام وقيل لا يحجون عليها فإن الحج لا يعرى عن ذكر الله تعالى وقال مجاهد كانت لهم طائفة ما أنعامهم لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا إن نتجوا ولا إن باعوا ولا إن حملوا «افتراء عليه» نصب على المصدر إما على أن ما قالوه تقول على الله تعالى وإما على تقدير عامل من لفظه أي افتروا افتراء والجار متعلق بقالوا أو بافتروا المقدر أو بمحذوف هو صفة له لا بافتراء لأن المصدر المؤكد لا يعمل أو على الحال من فاعل قالوا أي مفترين أو على العلة أي للافتراء فالجار متعلق به «سيجزيهم بما كانوا يفترون» أي بسببه أو بدله وفي إبهام الجزاء من التهويل ما لا يخفى «وقالوا» حكاية لفن آخر من فنون كفرهم «ما في بطون هذه الأنعام» يعنون به أجنة البحائر والسوائب «خالصة لذكورنا» حلال لهم خاصة والتاء للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة أو لأن الخالصة مصدر كالعافية وقع موقع الخالص مبالغة أو بحذف المضاد أي ذو خالصة أو للتأنيث بناء على أن ما عبارة عن الآجنة والتذكير في قوله تعالى «ومحرم على أزواجنا» أي جنس أزواجنا وهن الإناث باعتبار اللفظ وفيه كما ترى حمل للنظم الكريم على خلاف المعهود الذي هو الحمل على اللفظ ولا على المعنى ثانيا كما في قوله تعالى ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم الخ ونظائره وأما العكس فقد
190

قالوا إنه لا نظير له في القرآن وهذا الحكم منهم إن ولد ذلك حيا وهو الظاهر المعتاد «وإن يكن ميتة» اي إن ولدت ميتة «فهم» أي الذكور والإناث «فيه» أي فيما في بطون الأنعام وقيل المراد بالميتة ما يعم الذكر والأنثى فغلب الأول على الثاني «شركاء» يأكلون منه جميعا وقرئ خالصة بالنصب على أنه مصدر مؤكد والخبر لذكورنا أو حال من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في ذكورنا ولا من الذكور لأنه لا يتقدم على العامل المعنوي ولا على صاحبه المجرور وقرئ خالصة بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأ ثان «سيجزيهم وصفهم» أي جزاء وصفهم الكذب على الله تعالى في أمر التحليل والتحريم من قوله تعالى وتصف ألسنتهم الكذب «إنه حكيم عليم» تعليل للوعيد بالجزاء فإن الحكيم العليم بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءهم الذي هو من مقتضيات الحكمة «قد خسر الذين قتلوا أولادهم» جواب قسم محذوف وقرئ بالتشديد وهم ربيعة ومضر وأضرابهم من العرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر أي خسروا دينهم ودنياهم «سفها بغير علم» متعلق بقتلوا على أنه علة له أي لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله هو الرزاق لهم ولأولادهم أو نصب على الحال ويؤيده أنه قرىء سفهاء أو مصدر «وحرموا ما رزقهم الله» من البحائر والسوائب ونحوهما «افتراء على الله» نصب على أحد الوجوه المذكورة وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لإظهار كمال عتوهم وطغيانهم «قد ضلوا» عن الطريق المستقيم «وما كانوا مهتدين» إليه وإن هدوا بفنون الهدايات أو وما كانوا مهتدين من الأصل لسوء سيرتهم فالجملة حينئذ اعتراض وعلى الأول عطف على ضلوا «وهو الذي أنشأ جنات معروشات» تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام أي هو الذي أنشأهن من غير شركة لأحد في ذلك بوجه من الوجوه والمعروشات من الكروم المرفوعات على ما يحملها «وغير معروشات» وهن الملقيات على وجه الأرض وقيل المعروشات ما غرسه الناس وعرشوه وغير المعروشات ما نبت في البوادي والجبال «والنخل والزرع» عطف على جنات أي أنشأهما «مختلفا أكله» وقرئ أكله بسكون الكاف أي ثمره الذي يؤكل في الهيئة والكيفية والضمير إما للنخل والزرع داخل في حكمه أو للزرع والباقي مقيس عليه أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كل واحد منهما ومختلفا مقدرة إذ ليس كذلك وقت الإنشاء «والزيتون والرمان» أي أنشأهما وقوله تعالى «متشابها وغير متشابه» نصب على الحالية أي يتشابه بعض
191

أفرادهما في اللون والهيئة أو الطعم ولا يتشابه بعضها «كلوا من ثمره» أي من ثمر كل واحد من ذلك «إذا أثمر» وإن لم يدرك ولم يينع بعد وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى «وآتوا حقه يوم حصاده» أريد به ما كان يتصدق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار لا الزكاة المقدرة فإنها فرضت بالمدينة والسورة مكية وقيل الزكاة والآية مدنية والأمر بإيتائها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتصفية وقرئ يوم حصاده بمكسر الحاء وهو لغة فيه «ولا تسرفوا» أي في التصدق كما روي عن ثابت بن قيس أنه صرم خمسمائة نخلة ففرق ثمرها كلها ولم يدخل منه شيئا إلى منزله كقوله تعالى ولا تبسطها كل البسط الآية «إنه لا يحب المسرفين» أي لا يرتضي إسرافهم «ومن الأنعام حمولة وفرشا» شروع في تفصيل حال الأنعام وإبطال ما تقولوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل وهو عطف على مفعول أنشأ ومن متعلقة به أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل عليه الأثقال وما يفرش للذبح أو ما يفرش المصنوع من شعره وصوفه ووبره وقيل الكبار الصالحة للحمل والصغار الدانية من الأرض كأنها فرش مفروش عليها «كلوا مما رزقكم الله» ما عبارة عما ذكر من الحمولة والفرش ومن تبعيضية أي كلوا بعض ما رزقكم الله تعالى أي حلاله وفيه تصريح بأن إنشاءها لأجلهم ومصلحتهم «ولا تتبعوا» في أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسهم المفترين على الله سبحانه «خطوات الشيطان» فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعه إياهم «إنه لكم عدو مبين» ظاهر العداوة «ثمانية أزواج» الزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه ويحصل منهما النسل والمراد بها الأنواع الأربعة وإيرادها بهذا العنوان وهذا العدد تمهيد لما سيق له الكلام من الإنكار المتعلق بتحريم كل واحد من الذكر والأنثى وبما في بطنها وهو بدل من حمولة وفرشا منصوب بما نصبهما وجعله مفعولا لكلوا على أن قوله تعالى ولا تتبعوا الآية معترض بينهما أو حالا من ما بمعنى مختلفة أو متعددة يأباه جزالة النظم الكريم لظهور انه مسوق لتوضيح حال الأنعام بتفصيلها أولا إلى حمولة وفرش ثم بتفصيلها إلى ثمانية أزواج حاصلة من تفصيل الأولى إلى الإبل والبقر وتفصيل الثاني إلى الضأن والمعز ثم تفصيل كل من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كل ذلك لتحرير المواد التي تقولوا فيها عليه سبحانه وتعالى بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة واثنين في قوله سبحانه وتعالى «من الضأن اثنين» بدل من ثمانية أزواج منصوب بناصبه وهو العامل في من أي أنشأ من الضأن زوجين الكبش والنعجة
192

وقرئ اثنان على الابتداء والضأن اسم جنس كالإبل وجمعه ضئين كأمير أو جمع ضائن كتاجر وتجر وقرئ بفتح الهمزة «ومن المعز اثنين» عطف على مثله شريك له في حكمه أي وأنشأ من المعز زوجين التيس والعنز وقرئ بفتح العين وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس وقرئ ومن المعزى وهذه الأزواج الأربعة تفصيل للفرش ولعل تقديمها في التفصيل مع تأخر أصلها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذي هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى كلوا مما رزقكم الله من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها «قل» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر تفصيل أنواع الأنعام التي أنشأها قل تبكيتا لهم وإظهارا لانقطاعهم عن الجواب «آلذكرين» من ذينك النوعين وهما الكبشين والتيس «حرم» أي الله عز وجل كما تزعمون أنه هو المحرم «أم الأنثيين» هما النعجة والعنز نصب آلذكرين والأنثيين بحرم وهو مؤخر عنهما بحسب المعنى وإن توسط بينهما صورة وكذا قوله تعالى «أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين» أي ما حملت إناث النوعين حرم ذكرا كان أو أنثى وقوله تعالى «نبئوني بعلم» الخ تكرير للإلزام وتثنية للتبكيت والإفحام أي أخبروني بأمر معلوم من جهة الله تعالى من الكتاب أو أخبار الأنبياء يدل على أنه تعالى حرم شيئا مما ذكر أو نبئوني تنبئة ملتبسة بعلم صادرة عنه «إن كنتم صادقين» أي في دعوى التحريم عليه سبحانه وقوله تعالى «ومن الإبل اثنين» عطف على قوله تعالى من الضأن اثنين أي وأنشأ من الإبل اثنين هما الجمل والناقة «ومن البقر اثنين» ذكر واثنى «قل» إفحاما لهم في أمر هذين النوعين أيضا «آلذكرين» منهما «حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين»
من ذينك النوعين والمعنى إنكار أن الله سبحانى حرم عليهم شيئا من الأنواع الأربعة ة إظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم كانوا يحرمون من ذكر الأنعام تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كله إلى الله سبحانه وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعي الصغار ونوعي الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التبكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل أنواع الأربعة بأن يقال قل آلذكور حرم أو الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الإناث لما في التثنية والتكرير من المبالغة في التبكيت والإلزام وقوله تعالى «أم كنتم شهداء» تكرير للإفحام كقوله تعالى نبئوني بعلم وأم منقطعة ومعنى الهمزة الإنكار والتوبيخ ومعنى بل الإضراب بما ذكر إلى التوبيخ بوجه
193

أخرى بل كنتم حاضرين مشاهدين «إذ وصاكم الله بهذا» أي حين وصاكم بهذا الترحيم إذ أنتم لا تؤمنون بنبي فلا طريق لكم حسبما يقود إليه مذهبكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا المشاهدة والسماع وفيه من تركيك عقولهم والتهكم بهم ما لا يخفى «فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا» فنسب إليه تحريم ما لم يحرم والمراد كبراؤهم والمقررون لذلك أو عمر بن لحى بن قمعة وهو المؤسس لهذا الشر أو الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى فأي طريق أظلم من فريق افتروا الخ ولا يقدح في أظلمية الكل كون بعضهم مخترعين له وبعضهم مقتدين بهم والفاء لترتيب ما بعدها على ما سبق من تبكيتهم وإظهار كذبهم وافترائهم أي هو أظلم من كل ظالم وإن كان المنفي صريحا الأظلمية دون المساواة كما مر غير مرة «ليضل الناس» متعلق بالافتراء «بغير علم» متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل افترى أي افترى عليه تعالى بصدور التحريم منه تعالى وإنما وصفوا بعد العلم بذلك مع أنهم عالمون بعدم صدوره عنه تعالى إيذانا بخروجهم في الظلم عن الحدود والنهايات فإن من افترى عليه تعالى بغير علم بصدوره عنه تعالى مع احتمال الصدور عنه إذا كان أظلم من كل ظالم فما ظنك بمن افترى عليه تعالى وهو يعلم أنه لم يصدر عنه ويجوز أن يكون حالا من فاعل يضل أي ملتبسا بغير علم بما يؤدى بهم إليه «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» كائنا من كان إلى ما فيه صلاح حالهم عاجلا أو آجلا وإذا كان هذا حال المتصفين بالظلم في الجملة فما ظنك بمن هو في أقصى غاياته «قل» أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت لا أصل له قطعا بأن يبين لهم ما حرمه عليهم وفي قوله تعالى «لا أجد فيما أوحي إلي محرما» إيذان بأن مناط الحل والحرمة هو الوحي وأنه صلى الله عليه وسلم قد تتبع في جميع ما أوحي إليه وتفحص عن المحرمات فلم يجد غير ما فصل وفيه مبالغة في بيان انحصارها في ذلك ومحرما صفة لمحذوف أي لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي طعاما محرما من المطاعم التي حرموها «على طاعم» أي أي طاعم كان من ذكر أو أنثى ردا على قولهم محرم على أزواجنا وقوله تعالى لزيادة التقرير «إلا أن يكون» أي ذلك الطعام «ميتة» وقرئ تكون بالتاء لتأنيث الخبر وقرئ ميتة بالرفع على أن كان تامة وقوله تعالى «أو دما مسفوحا» حينئذ عطف على أن مع ما في حيزه أي إلا وجود ميتة أو دما مسفوحا أي مصبوبا كالدماء التي في العروق لا كالطحال والكبد «أو لحم خنزير فإنه» أي الخنزير «رجس» أي لحمه قذر لتعوده أكل النجاسات أو خبيث «أو فسقا» عطف على لحم خنزير وما بينهما اعتراض مقرر لحرمته «أهل لغير الله به» صفة له
موضحة أي ذبح على اسم الأصنام وإنما سمي ذلك فسقا لتوغله في الفسق ويجوز أن يكون فسقا مفعولا له لأهل وهو عطف على يكون والمستكن راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون «فمن اضطر» أي
194

أصابه الضرورة الداعية إلى أكل الميتة بوجه من الوجوه المضطرة «غير باغ» في ذلك على مضطر آخر مثله «ولا عاد» قدر الضرورة «فإن ربك غفور رحيم» مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر هو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم الميتة من يد مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر وأما الحال الثاني فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكنه تعالى يغفر له ويرحمه والآية محكمة لأنها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه في تلك الغاية غيره ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك في شئ آخر فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ولا على حل الأشياء التي هي غيرها إلا مع الاستصحاب «وعلى الذين هادوا» خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين «حرمنا كل ذي ظفر» أي كل ما له أصبع من الإبل والسباع والطيور وقيل كل ذي مخلب وحافر وسمي الحافر ظفرا مجازا والمسبب عن الظلم هو تعميم التحريم حيث كان بعض ذوات الظفر حلالا لهم فلما ظلموا عم التحريم كلها وهذا تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم من بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا «ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما» لا لحومهما فإنها باقية على الحل والشحوم الثروب وشحوم الكلى والإضافة لزيادة الربط «إلا ما حملت ظهورهما» استثناء من الشحوم ومخرج لما علق من الشحم بظهورهما عن حكم التحريم «أو الحوايا» عطف على ظهورهما أي ما حملته الحوايا وهي جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء وقواصع أو حوية كسفينة وسفائن «أو ما اختلط بعظم» عطف على ما حملت وهو شحم الألية واختلاطه بالعظم اتصاله بعجب الذنب وقيل هو كل شحم متصل بالعظم من الأضلاع وغيرها «ذلك» إشارة إلى الجزاء والتحريم فهو على الأول نصب على أنه مصدر مؤكد لما بعده وعلى الثاني على أنه مفعول ثان له أي ذلك التحريم «جزيناهم ببغيهم» بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل كقوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم فرد ذلك عليهم وأكد بقوله تعالى «وإنا لصادقون» أي في جميع أخبارنا التي من حملتها هذا الخبر ولقد ألقمهم الحجر قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجسروا أن
195

يخرجوا التوراة وكيف وقد بين فيها جميع ما يحذرون وأوضح بيان «فإن كذبوك» قيل الضمير لليهود لأنهم أقرب ذكرا ولذكر المشركين بعد ذلك بعنوان الإشراك وقيل للمشركين فالمعنى على الأول إن كذبتك اليهود في الحكم المذكور وأصروا على ما كانوا عليه من ادعاء قدم التحريم «فقل» لهم «ربكم ذو رحمة واسعة» لا يؤاخذكم لكل ما تأتونه من المعاصي ويمهلكم على بعضها «ولا يرد بأسه» بالكلية «عن القوم المجرمين» فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريم بعض الطيبات عليكم عقوبة وتشديدا وعلى الثاني فإن كذبك المشركون يما فصل من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم ربكم ذو رحمة واسعة لا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال وقيل ذو رحمة للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مقامه قوله تعالى ولا يرد بأسه الخ لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة أنه لا حق بهم البتة من غير صارف يصرفه عنهم أصلا «سيقول الذين أشركوا» حكاية لفن آخر من كفرهم وإخباره قبل وقوعه ثم وقوعه حسبما أخبر به كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعه وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء صريح في أنه من عند الله «لو شاء الله ما أشركنا» أي لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء لما فعلنا الإشراك نحن «ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء» أرادوا به أن ما فعلوه حق مرضي عند الله تعالى لا الاعتذار من ارتكاب هذه القبائح بإرادة الله تعالى إياها منهم حتى ينتهض ذمهم به دليلا للمعتزل ألا يرى إلى قوله تعالى «كذلك كذب الذين من قبلهم» أي مثل ما كذبك هؤلاء في أنه تعالى منع من الشرك ولم يحرم ما حرموه كذب متقدموهم الرسل فإنه صريح فيما قلنا وعطف آباؤنا على الضمير للفصل بلا «حتى ذاقوا بأسنا» الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم «قل هل عندكم من علم» من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعمتم «فتخرجوه لنا» أي فتظهروه لنا «إن تتبعون إلا الظن» أي ما تتبعون في ذلك إلا الظن الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا «وإن أنتم إلا تخرصون» تكذبون على الله عز وجل وليس فيه دلالة على المنع من اتباع الظن على الإطلاق بل فيما يعارضه قطعي «قل فلله الحجة البالغة» الفاء جواب شرط محذوف أي قد ظهر أن لا حجة لكم فلله الحجة البالغة أي البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه والمراد بها الكتاب والرسول والبيان وهي من الحجج بمعنى القصد كأنها تقصد إثبات الحكم وتطلبه «فلو شاء» هدايتكم جميعا «لهداكم أجمعين» بالتوفيق لها والحمل عليها لكن
196

لم يشأ هداية الكل بل هداية البعض الصارفين هممهم إلى سلوك طريق الحق وضلال آخرين صرفوا اختيارهم إلى خلاف ذلك من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم «قل هلم شهداءكم» أي أحضروهم وهو اسم فعل لا يتصرف على لغة أهل الحجاز وفعل يؤنث ويجمع على لغة بني تميم على رأي الجمهور وقد خالفهم البعض في فعليته وليس بشيء وأصله عند البصريين هالم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل وعند الكوفيين هل أم فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام وهو بعيد لأن هل تدخل الأمر ويكون متعديا كما في الآية ولازما كمال في قوله تعالى هلم إلينا «الذين يشهدون أن الله حرم هذا» وهم قدوتهم الذين ينصرون قولهم وإنما أمروا باستحضارهم ليلزمهم الحجة ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم وأنه لا متمسك لهم كمن يقلدهم ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفوا بما يدل على انهم شهداء معروفون بالشهادة لهم وبنصرة مذهبهم «فإن شهدوا» بعد ما حضروا بأن الله حرم هذا «فلا تشهد معهم» أي فلا تصدقهم فإنه كذب بحت وافتراء صرف وبين لهم فساده فإن تسليمه منهم موافقة لهم في الشهادة الباطلة «ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا» من وضع المظهر مقام المضمر للدلالة على أن من كذب بآيات الله تعالى وعدل به غيره فهو متبع للهوى لا غير وأن من اتبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها «والذين لا يؤمنون بالآخرة» كعبدة الأوثان عطف على الموصول الأول بطريق عطف الصفة على الصفة مع اتحاد الموصوف كما في قوله
[إلى الماجد القرم وابن الهما * م وليث الكتائب في المزدحم]
فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس «وهم بربهم يعدلون» أي يجعلون له عديلا بلا عطف على لا يؤمنون والمعنى لا تتبع أهواء الذين يجمعون بين تكذيب آيات الله وبين الكفر بالآخرة وبين الإشراك به سبحانه لكن لا على أن يكون مدار النهي الجمع المذكور بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بكلها «قل تعالوا» لما ظهر بطلان ما ادعوا من أن إشراكهم وإشراك آبائهم وتحريم ما حرموه بأمر الله تعالى ومشيئته بظهور عجزهم عن إخراج شيء يتمسك به في ذلك وإحضار شهداء يشهدون بما ادعوا في أمر التحريم بعد ما كلفوه مرة بعد أخرى عجزا بينا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذانا بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت بقوله تعالى قل لا أجد الآية وتعالى أمر من التعالي والأصل فيه أن يقله من في مكان
197

عال لمن هو في أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم كما أن الغنيمة في الأصل إصابة الغنم من العدو ثم استعملت في إصابة كل ما يصاب منهم اتساعا في الفوز بكل مكلب من غير مشقة «أتل» جواب الأمر وقوله تعالى «ما حرم ربكم» منصوب به على أن ما موصولة والعائد محذوف أي اقرأ الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه أو مصدرية أي الآيات المشتملة على تحريمه أو يحرم على أنها استفهامية والجملة مفعول لأتل لأن التلاوة من باب القول كأنه قيل أقل أي شيء حرم ربكم «عليكم» متعلق بحرم على كل حال وقيل بأتل والأول أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم فإن تذكير كونه تعالى ربا لهم ومالكا لأمرهم على الإطلاق من أقوى الدواعي إلى انتهائهم عما نهاهم عنه أشد انتهاء وأن في قوله تعالى «ألا تشركوا به» مفسرة لفعل التلاوة المعلق بما حرم ولا ناهية كما ينبئ عنه عطف ما بعده من الأوامر والنواهي عليه وليس من ضرورة كون المعطوف عليه تفسير تلاوة المحرمات بحسب منطوقه كون المعطوفات أيضا كذلك حتى يمتنع انتظام الأوامر في سلك العطف عليه بل يكفي في ذلك كونها تفسيرا لها باعتبار لوازمها التي هي النواهي المتعلقة بأضداد ما تعلقت به فإن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده بل هو عينه عند البعض كأن الأوامر ذكرت وقصد لوازمها فإن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد أن المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرما دليل واضح على أن التحريم راجع إلى الأضداد على الوجه المذكور فكأنه قيل أتل ما حرم ربكم أن لا تشركوا ولا
تسيئوا إلى الوالدين خلا أنه قد أخرج مخرج الأمر بالإحسان إليهما بين النهيين المكتنفين له للمبالغة في إيجاب مراعاة حقوقهما فإن مجرد ترك الإساءة إليهما غير كاف في قضاء حقوقهما ولذلك عقب به النهي عن الإشراك الذي هو أعظم المحرمات وأكبر الكبائر ههنا وفي سائر المواقع وقيل أن ناصبة ومحلها النصب بعليكم على أنه للإغراء وقيل النصب على البدلية مما حرم وقيل من عائدها المحذوف على أن لا زائدة وقيل الجر بتقدير اللام وقيل الرفع بتقدير المتلو أن لا تشركوا أو المحرم أن لا تشركوا بزيادة لا وقيل والذي عليه التعويل هو الأول لأمور من جملتها أن في إخراج المفسر على صورة النهي مبالغة في بيان التحريم وقوله تعالى «شيئا» نصب على المصدرية أو المفعولية أي لا تشركوا به شيئا من الإشراك أو شيئا من الأشياء «وبالوالدين» اي وأحسنوا بهما «إحسانا» وقد مر تحقيقه «ولا تقتلوا أولادكم» تكليف متعلق بحقوق الأولاد عقب به التكليف المتعلق بحقوق الوالدين أي لا تقتلوهم بالوأد «من إملاق» أي من أجل فقر كما في قوله تعالى خشية إملاق وقيل هذا في الفقر الناجز وذا في المتوقع وقوله تعالى «نحن نرزقكم وإياهم» استئناف مسوق لتعليل النهي وإبطال سببية ما اتخذوه سببا لمباشرة المنهي عنه وضمان منه تعالى لأرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تخافوا الفقر بناء على عجزكم عن تحصيل الرزق وقوله تعالى «ولا تقربوا الفواحش» كقوله تعالى ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة الآية إلا أنه جئ ههنا بصيغة الجمع قصدا إلى النهي عن أنواعها ولذلك ابدل عنها قوله تعالى «ما ظهر منها وما بطن» أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم وتعليق النهي بقربانها إما للمبالغة في الزجر
198

عنها لقوة الدواعي إليها وإما لأن قربانها داع إلى مباشرتها وتوسيط النهي عنها بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن القتل مطلقا كما وقع في سورة بني إسرائيل باعتبار أنها مع كونها في نفسها جناية عظيمة في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات وقد قال صلى الله عليه وسلم في حق العزل إن ذاك وأد خفي ومن ههنا تبين أن حمل الفواحش على الكبائر مطلقا وتفسير ما ظهر منها وما بطن بما فسر به ظاهر الإثم وباطنه فيما سلف من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله» أي حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج منها الحربي وقوله تعالى «إلا بالحق» استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذي هو أمر الشرع بقتلها وذلك بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتل النفس المعصومة أو من أعم الأسباب أي لا تقتلوها بسب من السباب إلا بسبب الحق وهو ما ذكر أو من أعم المصادر أي لا تقتلوها قتلا ما إلا قتلا كائنا بالحق وهو القتل بأحد الأمور المذكورة «ذلكم» إشارة إلى ما ذكر من التكاليف الخمسة وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بعلو طبقاتها من بين التكاليف الشرعية وهو مبتدأ وقوله تعالى «وصاكم به» أي أمركم به ربكم أمرا مؤكدا خبره والجملة استئناف جئ به تجديدا للعهد وتأكيدا لإيجاب المحافظة على ما كلفوه ولما كانت الأمور المنهي عنها مما تقضي بديهة العقول بقبحها فصلت الآية الكريمة بقوله تعالى «لعلكم تعقلون» أي تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المذكورة «ولا تقربوا مال اليتيم» توجيه النهي إلى قربانه لما مر من المبالغة في النهي عن أكله ولإخراج القربان النافع عن حكم النهي بطريق الاستثناء أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه «إلا بالتي هي أحسن» إلا بالخصلة التي هي أحسن ما يكون من الحفظ والتئمير ونحو ذلك والخطاب للأولياء والأوصياء لقوله تعالى «حتى يبلغ أشده» فإنه غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل احفظوه حتى يصير بالغا رشيدا فحينئذ سلموه إليه كما في قوله تعالى فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم والأشد جمع شدة كنعمة وأنعم أو شد ككلب وأكلب أو شد كصر وآصر وقيل هو مفرد كآنك «وأوفوا الكيل والميزان بالقسط» أي بالعدل والتسوية «لا نكلف نفسا إلا وسعها» إلا ما يسعها ولا يعسر عليها وهو اعتراض جئ به عقيب الأمر بالعدل للإيذان بأن مراعاة العدل كما هو عسير كأنه قيل عليكم بما في وسعكم وما وراءه معفو عنكم «وإذا قلتم» قولا في حكومة أو شهادة أو نحوهما «فاعدلوا» فيه «ولو كان» أي المقول له أو عليه «ذا قربى» إذ ذا قرابة منكم ولا تميلوا نحوهم أصلا وقد مر تحقيق معنى لو في مثل هذا الموضع مرارا «وبعهد الله أوفوا» أي ما عهد إليكم من الأمور المعدودة أو أي عهد كان فيدخل فيه ما ذكر
199

دخولا أوليا أو منا عاهدتم الله عليه من الايمان والنذور وتقديمه للاعتناء بشأنه «ذلكم» إشارة إلى ما فصل من التكاليف ومعنى البعد لما ذكر فيما قبل «وصاكم به» أمركم به أمرا مؤكدا «لعلكم تذكرون» تتذكرون ما في تضاعيفه وتعلمون بمقتضاه وقرئ بمقتضاه وقرئ بتشديد الذال وهذه أحكام عشرة لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار عن ابن عباس رضي الله عنهما هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار وعن كعب الأحبار والذي نفس كعب بيده إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا الآيات «وأن هذا صراطي» إشارة إلى ما ذكر في الآيتين من الأمر والنهي قاله مقاتل وقيل إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة وقرئ صراطي بفتح الياء ومعنى إضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم انتسابه إليه صلى الله عليه وسلم من حيث السلوك لا من حيث الوضع كما في صراط الله والمراد بيان أن ما فضل من الأوامر والنواهي غير مختصة بالمتلو عليهم بل متعلقة به صلى الله عليه وسلم أيضا وأنه صلى الله عليه وسلم مستمر على العمل بها ومراعاتها وقوله تعالى «مستقيما» حال مؤكدة ومحل أن مع ما في حيزها بحذف لام العلة أي ولأن هذا صراطي أي مسلكي مستقيما «فاتبعوه» كقوله تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وتعليل اتباعه بكونه صراطه صلى الله عليه وسلم لا بكونه صراط الله تعالى مع أنه في نفسه كذلك من حيث أن سلوكه صلى الله عليه وسلم فيه داع للخلق إلى الاتباع إذ بذلك يتضح عندهم كونه صراط الله عز وجل وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف وقرئ أن هذا مخففة من أن على أن اسمها الذي هو ضمير الشأن محذوف وقرئ سراطي وقرئ هذا صراطي وقرئ هذا صراط ربكم وهذا صراط ربك «ولا تتبعوا السبل» الأديان المختلفة أو طرق البدع والضلالات «فتفرق بكم» بحذف إحدى التاءين والباء للتعدية أي فتفرقكم حسب تفرقها أيادي سبا فهو كما ترى أبلغ من تفرقكم كما قيل من أن ذهب به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه «عن سبيله» أي سبيل الله الذي لا عوج فيه ولا حرج وهو دين الإسلام الذي ذكر بعض أحكامه وقيل هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان وفيه تنبيه على أن صراطه صلى الله عليه وسلم عين
سبيل الله تعالى «ذلكم» إشارة إلى ما مر من اتباع سبيله تعالى وترك اتباع سائر السبل «وصاكم به لعلكم تتقون» اتباع سبل الكفر والضلالة «ثم آتينا موسى الكتاب» كلام مسوق من جهته تعالى تقريرا للوصية وتحقيقا لها وتمهيدا لما يعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله تعالى ذلكم
200

وصاكم به بطريق الاستئناف تصديقا له وتقريرا لمضمونه فعلنا ذلك ثم آتينا الخ كما أن قوله تعالى ونطبع على قلوبهم معطوف على ما يدل عليه معنى أو لم يهد الخ كأنه قيل يغفلون عن الهداية وتطيع الخ وأما عطفه على ذلكم وصاكم به ونظمه معه في سلك الكلام الملقن كما أجمع عليه الجمهور فمما لا يليق بجزالة النظم الكريم فتدبر وثم للتراخي في الأخبار كما في قولك بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى التوراة فإن إيتاءها مشتملة على الوصية المذكورة وغيرها أعظم من التوصية بها فقط «تماما» للكرامة والنعمة أي إتماما لهما على أنه مصدر من أتم بحذف الزوائد «على الذي أحسن» أي على من أحسن القيام به كائنا من كان ويؤيده انه قرىء على الذين أحسنوا وتماما على المحسنين أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه السلام أو تماما على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائع أي زيادة على علمه على وجه التتميم وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي على الذي هو أحسن دين وأرضاه وآتينا موسى الكتاب تماما أي تاما كاملا على أحسن ما يكون عليه الكتب «وتفصيلا لكل شيء» وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين وهو عطف على تماما ونصبهما إما على العلية وعلى المصدرية كما أشير إليه أو على الحالية وكذا قوله تعالى «وهدى ورحمة» وضمير «لعلهم» لبني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى وإيتاء الكتاب والباء في قوله تعالى «بلقاء ربهم يؤمنون» قدمت عليه محافظة على الفواصل قال ابن عباس رضي الله عنهما كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعذاب «وهذا» أي الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه أي القرآن «كتاب» عظيم الشأن لا يقادر قدره وقوله تعالى «أنزلناه مبارك» أي كثير المنافع دينا ودنيا صفتان لكتاب وتقديم وصف الإنزال مع كونه غير صريح لأن الكلام مع منكريه أو خبران آخران لاسم الإشارة أي أنزلناه مشتملا على فنون الفوائد الدينية والدنيوية التي فصلت عليكم طائفة منها والفاء في قوله تعالى «فاتبعوه» لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عظم شأن الكتاب في نفسه وكونه منزلا من جنابه عز وجل مستتبعا للمنافع الدينية والدنيوية موجب لاتباعه أي إيجاب «واتقوا» مخالفته «لعلكم ترحمون» بواسطة اتباعه والعمل بموجبه «أن تقولوا» علة لأنزلناه المدلول عليه بالمذكور لا لنفسه للزوم الفصل حينئذ بين العامل والمعمول بأجنبي هو مبارك وصفا كان أو خبرا أي أنزلناه كذلك كراهة أن تقولوا يوم القيام لو لم تنزله «إنما أنزل الكتاب» الناطق بتلك الأحكام العامة لكل الأمم «على طائفتين» كائنتين «من قبلنا» وهما اليهود والنصارى وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما الذي اشتهر حينئذ فيما بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام لا سيما الأحكام المذكورة «وإن كنا»
201

إن هي المخففة من إن واللام فارقة بينهما وبين النافية وضمير الشأن محذوف ومرادهم بذلك دفع ما يرد عليهم من أن نزوله عليهما لا ينافي عموم أحكامه فلم لم تعملوا باحكامه العامة أي وإنه كنا «عن دراستهم لغافلين» لا ندري ما في كتابهم إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها وإن لم يكن منزلا علينا وبهذا تبين أن معذرتهم هذه مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة الأمم كما أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضا عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط «أو تقولوا» عطف على تقولوا وقرئ كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب فاتبعوه واتقوا «لو أنا أنزل علينا الكتاب» كما أنزل عليهم «لكنا أهدى منهم» إلى الحق الذي هو المقصد الأقصى أو إلى ما في تضاعيفه من جلائل الأحكام والشرائع ودقائقها لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا ولذلك تلقفنا من فنون العلم كالقصص والأخبار والخطب والأشعار ونحو ذلك طرفا صالحا ونحن أميون وقوله تعالى «فقد جاءكم» متعلق بمحذوف ينبئ عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم الخ وإما شرط له أي إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم «بينة» وأي بينة أي حجة واضحة لا يكتنه كنهها وقوله تعالى «من ربكم» متعلق بجاءكم أو بمحذوف هو صفة لبينة أي بينة كائنا منه تعالى وأيا ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافي كما أن في تنوينها التفخيمي دلالة على فضلها الذاتي وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تأكيد لإيجاب الاتباع «وهدى ورحمة» عطف على بينة وتنوينهما أيضا تفخيمي عبر عن القرآن بالبينة إيذانا بكمال تمكنهم من دراسته ثم بالهدى والرحمة تنبيها على أنه مشتمل على ما اشتمل عليه التوراة من هداية الناس ورحمتهم بل هو عين الهداية والرحمة «فمن أظلم» الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجىء القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه أي وإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم «ممن كذب بآيات الله» وضع الموصول موضع ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصا على اتصافهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة التحكيم وإسقاطا لهم عن رتبة الخطاب وعبر عما جاءهم بآيات الله تهويلا للأمر وتنبيها على أن تكذيب أي آية كانت من آيات الله تعالى كاف في الأظلمية فما ظنك بتكذيب القرآن المنطوي على الكل والمعنى إنكار أن يكون أحد ظلم ممن فعل ذلك أو مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة أو نفيها فإذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل منه فالمراد به حتما بحكم العرف الفاشي والاستعمال المطرد أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وقد مر مرارا «وصدف عنها»
202

أي صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإضلال «سنجزي الذين يصدفون» الناس «عن آياتنا» وعيد لهم ببيان جزاء إضلالهم بحيث يفهم منه جزاء ضلالهم أيضا ووضع الموصول موضع المضمر لتحقيق مناط الجزاء «سوء العذاب» أي العذاب السيء الشديد النكاية «بما كانوا يصدفون» أي بسبب ما كانوا يفعلون الصدف والصرف على التجدد والاستمرار وهذا تصريح بما اشعر به إجراء الحكم على الموصول من عليه ما في حيز الصلة له «هل ينظرون» استئناف مسوق لبيان أنه لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى وأنهم لا يرعوون عن التمادي في المكابرة واقتراح ما ينافي الحكمة التشريعية من الآيات الملجئة وأن الإيمان عند
إتيانها مما لا فائدة له أصلا مبالغة في التبليغ والإنذار وإزاحة العلل والأعذار أي ما ينتظرون «إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك» حسبما اقترحوا بقولهم لول أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا وبقولهم أو تأتي بالله والملائكة قبيلا وبقولهم لولا أنزل عليه ملك ونحو ذلك أو إلا أن تأتيهم ملائكة العذاب أو يأتي أمر ربك بالعذاب والانتظار محمول على التمثيل كما سيجئ وقرئ يأتيهم بالياء لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي «أو يأتي بعض آيات ربك» أي غير ما ذكركما اقترحوا بقولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ونحو ذلك من عظائم الآيات التي علقوا بها إيمانهم والتعبير عنها بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافة الآيات في الموضعين إلى اسم الرب المنبىء عن المالكية الكلية لذلك وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للتشريف وقيل المراد بالملائكة ملائكة الموت وبإتيانه سبحانه وتعالى إتيان كل آياته بمعنى آيات القيامة والهلاك الكلي بقرينة ما بعده من إتيان بعض آياته تعالى على أن المراد به أشراط الساعة التي هي الدخان ودابة الأرض وخسف بالمشرق وخسف بما غرب وخسف بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه السلام ونار تخرج من عدن كما نطق به الحديث الشريف المشهور وحيث لم يكن إتيان هذه الأمور مما ينتظرونه كإتيان ما اقترحوه من الآيات فإن تعليق إيمانهم بإتيانها انتظار منهم له ظاهرا حمل الانتظار على التمثيل المبني على تشبيه حالهم في الإصرار على الكفر والتمادي في العناد إلى أن تأتيهم تلك الأمور الهائلة التي لا بد لهم من الإيمان عند مشاهدتها البتة بحال المنتظرين لها وأنت خبير بأن النظم الكريم بسباقه المنبىء عن تماديهم في تكذيب آيات الله تعالى وعدم الاعتداد بها وسياقه الناطق بعدم نفع الايمان عند إتيان ما ينتظرونه يستدعي أن يحمل ذلك على أمور هائلة مخصوصة بهم إما بأن تكون عبارة عما اقترحوه أو عن عقوبات مترتبة على جناياتهم كإتيان ملائكة العذاب وإتيان أمره تعالى بالعذاب وهو الأنسب لما سيأتي من قوله تعالى قل انتظروا إنا منتظرون وأما حمله على ما ذكر من إتيان ملائكة الموت وإتيان كل آيات القيامة وظهور أشراط الساعة مع شمول إتيانها
203

لكل ر وفاجر واشتمال غائلتها على كل مؤمن وكافر فمما لا يساعده المقام على أن بعض أشراط الساعة ليس مما ينسد به باب الإيمان والطاعة نعم يجوز حمل بعض الآيات في قوله عز وجل «يوم يأتي بعض آيات ربك» على ما يعم مقترحاتهم وغيرها من الدواهي العظام السالبة للاختيار الذي عليه يدور فلك التكليف فإنه بمنزلة الكبرى من الشكل الأول فيتم التقريب عند وقوعها جواب القسم وقرئ يوم بالرفع على الابتداء والخبر هو الجملة والعائد محذوف أي لا ينفع فيه «نفسا» من النفوس «إيمانها» حينئذ لانكشاف وكون الأمر عيانا ومدار قبول الإيمان أن يكون بالغيب كقوله تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأو بأسنا وقرئ لا تنفع بالتاء الفوقانية الاكتساب الإيمان من ملابسة المضاف إليه تأنيثا وقوله تعالى «لم تكن آمنت من قبل» أي من قبل إتيان بعض الآيات صفة لنفسا فصل بينهما بالفاعل لاشتماله على ضمير الموصوف ولا ضير فيه لأنه غير أجنبي منه لاشتراكهما في العامل «أو كسبت في إيمانها خيرا» عطف على آمنت بإيراد الترديد على النفي المفيد لكفاية أحد النفيين في عدم النفع والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم تقدم إيمانها أو قدمته ولم تكسب فيه خيرا ومن ضرورته اشتراط النفع بتحقق الأمرين أي الإيمان المقدم والخير المكسوف فيه معا بمعنى أن النافع هو تحققهما والإيمان المؤخر لغو وتحصيل للحاصل لا أنه هو النافع وتحققهما شرط في نفعه كما لو كان المقدم غير المؤخر بالذات فإن قولك لا ينفع الصوم والصدقة من لم يؤمن قبلهما معناه أنهما ينفعانه عند وقوعهما بعد الإيمان وقد استدل به أهل الاعتزال على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن الأعمال وليس بناهض ضرورة صحة حمله على نفي الترديد المستلزم لعمومه المفيد بمنطوقه لاشتراط عدم النفع بعدم الأمرين معا وبمفهومه لاشتراط النفع بتحقق أحدهما بطريق منع الخلو دون الانفصال الحقيقي فالمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم يصدر عنها من قبل أحد الأمرين إما الإيمان المجرد أو الخير المكسوب فيه فيتحقق النفع بأيهما كان حسبما تنطق به النصوص الكريمة من الآيات والأحاديث وما قيل من أن عدم الإيمان السابق مستلزم لعدم كسب الخير فيه بالضرورة فيكون ذكره تكرارا بلا فائدة على أن الموجب للخلود في النار هو العدم الأول من غير أن يكون للثاني دخل ما في ذلك قطعا فيكون ذكره بصدد بيان ما يوجب الخلود لغوا من الكلام لغو من الكلام مبني على توهم أن المقصود بوصف النفس بالعدمين المذكورين مجرد بيان إيجابهما للخلود فيها وعدم نفع الإيمان الحادث في إنجائها عنه وليس كذلك إلا لكفى في البيان أن يقال لا ينفع نفسا إيمانها الحادث بل المقصد الأصلي من وصفها بذينك العدمين في أثناء بيان عدم نفع الإيمان الحادث تحقيق أن موجب النفع إحدى ملكيتهما أعنى الإيمان السابق والخير المكسوب فيه بما ذكر من الطريقة والترغيب في تحصيلهما في ضمن التحذير من تركهما ولا سبيل إلى أن يقال كما أن عدم الأول مستقل في إيجاب الخلود في النار فيلغو ذكر عدم الثاني كذلك وجوده مستقل في إيجاب الخلاص عنها فيكون ذكر الثاني لغوا لما أنه قياس مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمر لا يتصور فيه تعدد العلل وأما الخلاص عنها مع دخول الجنة فله مراتب بعضها مترتب على نفس الإيمان وبعضها على فروعه
204

المتفاوتة كما وكيفما وإنما لم يقتصر على بيان ما يوجب أصل النفع وهو الإيمان السابق مع أنه هو المقابل لما لا يوجبه أصلا أعني الإيمان الحادث بل قرن به ما يوجب النفع الوائد أيضا إرشادا إلى تحري الأعلى وتنبيها على كفاية الأدنى وإقناطا للكفرة عما علقوا به أطماعهم الفارغة من أعمال البر التي عملوها في الكفر من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفك العناة وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف وغير ذلك مما هو من باب المكارم ببيان أن كل ذلك لغو بحت لابتنائه على غير أساس حسبما نطق به قوله تعالى والذين كفروا أعمالهم كرماد اشتدت به الريح الآية ونحو ذلك من النصوص الكريمة وأن الإيمان الحادث كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالهم السابقة واللاحقة ولك أن تقول المقصود بوصف النفس بما ذكر من العدمين التعريض بحال الكفرة في تمردهم وتفريطهم في كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوب أحدهما منوطا بالآخر كما في قوله عز وجل فلا صدق ولا صلى تسجيلا بكمال طغيانهم وإيذانا بتضاعف عقابهم لما تقرر من أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع في حق المؤاخذة كما ينبئ عنه قوله تعالى فويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة إذا تحققت هذا وقفت على أن الآية الكريمة أحق بأن تكون حجة على المعتزلة من أن تكون حجة لهم هذا وقد قيل إنها من باب اللف التقديري أي لا ينفع نفسا ايمانها ولا كسبها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه وليس بواضح فإن مبنى اللف التقديري أن يكون المقدر من متممات الكلام ومقتضيات المقام قد ترك ذكره تعويلا على دلالة الملفوظ عليه واقتضائه إياه كما مر في تفسير قوله عز وجل ومن يستنكف عن عبادته
ويستكبر فيحشرهم إليه جميعا فإنه قد طوى في المفصل ذكر حشر المؤمنين ثقة بأنباء التفصيل عنه أعني قوله تعالى فأما الذين آمنوا الآية ولا ريب في أن ما قدر ههنا ليس مما يستدعيه قوله تعالى أو كسبت في إيمانها خيرا ولا هو من مقتضيات المقام لأنه ليس مما وعدوه وعلقوه بإتيان ما ذكر من الآيات كالإيمان حتى يرد عليهم ببيان عدم نفعه إذ ذاك على أن ذلك مشعر بأن لهم بعد ما أصابهم من الدواهي ما أصابهم بقاء على السلاة وزمانا يتأتى منهم الكسب والعمل فيه وفيه من الإخلال بمقام تهويل الخطب وتفظيع الحال ما لا يخفى وقد أجيب عن الاستدلال بوجوه أخر قصارى قصارى أمرها إسقاط الآية الكريمة عن رتبة المعارضة للنصوص القطعية المنون القوية الدلالة على ما ذكر من كفاية الإيمان المجرد عن العمل في الإنجاء الخالد ولو بعد اللتيا والتي لما تقرر من أن الظني بمعزل من معارضة القطعي «قل» لهم بعد بيان حقيقة الحال على وجه التهديد «انتظروا» ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أي شيء تنتظرون «إنا منتظرون» لذلك لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة وفيه تأييد لكون المراد بما ينتظرونه إتيان ملائكة العذاب أو إتيان أمره تعالى بالعذاب كما أشير غليه وعدة ضمنية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمعاينتهم لما يحيق بالكفرة من العقاب ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر والله سبحانه أعلم «إن الذين فرقوا دينهم» استئناف
205

لبيان أحوال أهل الكتابين إثر بيان حال المشركين أي بددوه وبعضوه فتمسك بكل بعض منه فرقة منهم وقرئ فارقوا أي باينوا فإن ترك بعضه وإن كان بأخذ بعض منه ترك للكل ومفارقة له «وكانوا شيعا» أي فرقا تشيع كل فرقة إماما لها قال صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة واستثناء الواحدة من فرق كل من أهل الكتابين إنما هو بالنظر إلى العصر الماضي قبل النسخ وأما بعده فالكل في الهاوية وإن اختلفت أسباب دخولهم فمعنى قوله تعالى «لست منهم في شيء» لست من البحث عن تفرقهم والتعرض لمن يعاصرك منهم بالمناقشة والمؤاخذة وقيل من قتالهم في شيء سوى تبليغ الرسالة وإظهار شعائر الدين الحق الذي أمرت بالدعوة إليه فيكون منسوخا بآية السيف وقوله تعالى «إنما أمرهم إلى الله» تعليل للنفي المذكور أي هو يتولى وحده أمر أولاهم وأخراهم ويدبره كيف يشاء حسبما تقتضيه الحكمة يؤاخذهم في الدنيا متى شاء ويأمر بقتالهم إذا أراد وقيل المفرقون أهل البدع والأهواء الزائغة من هذه الأمة ويرده أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بمؤاخذتهم والاعتذار بأن معنى لست منهم في شيء حينئذ أنت برئ منهم ومن مذهبهم وهم براء منك يأباه التعليل المذكور «ثم ينبئهم» أي يوم القيامة «بما كانوا يفعلون» عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في انهما سببان للعلم تنبيها على انهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته أي يظهر لهم على رؤوس الأشهاد ويعلمهم أي شيء شنيع كانوا يفعلونه في الدنيا على الاستمرار ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء وقوله تعالى «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم ال عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم يريد من عمل من المصدقين حسنة كتبت له عشر حسنات أي من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين إذ لا حسنة بغير غيمان فله عشر حسنات أمثالها تفضلا من الله عز وجل وقرئ عشر بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص «ومن جاء بالسيئة» أي بالأعمال السيئة كائنا من كان من العاملين «فلا يجزى إلا مثلها» بحكم الوعد واحدة بواحدة «وهم لا يظلمون» بنقص الثواب وزيادة العقاب «قل إنني هداني ربي» أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم ما هو عليه من الدين الحق الذين يدعون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية وتصدير الجملة بحرف التحقيق لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لمزيد تشريفة أي قل لأولئك المفرقين أرشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات التكوينية «إلى صراط مستقيم» موصل إلى الحق
206

وقوله تعالى «دينا» بدل من إلى صراط فإن محله النصب كما في قوله تعالى ويهديك صراطا مستقيما أو مفعول لفعل مضمر يدل عليه المذكور «قيما» مصدر نعت به مبالغة والقياس قوما كعوض فأعل لإعلال فعله كالقيام وقرئ قيما وهو فعيل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة وإن كان هو أبلغ منه باعتبار الصيغة «ملة إبراهيم» عطف بيان لدينا «حنيفا» حال من إبراهيم أي مائلا عن الأديان الباطلة وقوله تعالى «وما كان من المشركين» اعتراض مقرر لنزاهته صلى الله عليه وسلم عما عليه المفرقون لدينه من عقد وعمل أي ما كان منهم في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا صرح بذلك ردا على الذين يدعون أنهم على ملته عليه السلام من أهل مكة واليهود والمشركين بقولهم عزيرا ابن الله والنصارى المشركين بقولهم المسبح ابن الله «قل إن صلاتي ونسكي» أعيد الأمر لما أن المأمور به متعلق بفروع الشرائع وما سبق أصولها أي عبادتي كلها وقيل وذبحي جمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى فصل لربك وانحر وقيل صلاتي وحجي «ومحياي ومماتي» أي وما أنا عليه في حياتي وما أكون عليه عند موتي من الإيمان والطاعة أو طاعات الحياة الخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير وقرئ محياي بسكون الياء إجراء للوصل مجرى الوقف «لله رب العالمين» «لا شريك له» خالصة له لا أشرك فيها غيره «وبذلك» إشارة إلى الإخلاص وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الفضل أي بذلك الإخلاص «أمرت» لا بشيء غيره وقوله تعالى «وأنا أول المسلمين» لبيان مسارعته عليه السلام إلى الامتثال بما أمر به وأن ما أمر به ليس من خصائصه عليه السلام بل الكل مأمورون به ويقتدي به عليه السلام من أسلم منهم «قل أغير الله أبغي ربا» فأشركه في العبادة «وهو رب كل شيء» جملة حالة مؤكدة للإنكار أي والحال أن كل ما سواه مربوب له مثلي فكيف يتصور أن يكون شريكا لي في المعبودية «ولا تكسب كل نفس إلا عليها» كانوا يقولون للمسلمين اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم إما بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا فهذا رد له بالمعنى الأول أي لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها ومحال أن يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر حتى يتأتى ما ذكرتم وقوله تعالى «ولا تزر وازرة وزر أخرى» رد له بالمعنى الثاني أي لا تحمل يومئذ نفس حاملة حمل نفس أخرى حتى يصح قولكم «ثم إلى ربكم مرجعكم» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكل لتأكيد الوعد وتشديد
الوعيد أي إلى مالك أموركم ورجوعكم يوم القيامة «فينبئكم» يومئذ «بما كنتم فيه تختلفون» ببيان الرشد من الغي وتمييز الحق من الباطل
207

«وهو الذي جعلكم خلائف الأرض» حيث خلقتم الأمم السالفة أو يخلف بعضكم بعضا أو جعلكم خلفاء الله تعالى في أرضه تتصرفون فيها على أن الخطاب عام «ورفع بعضكم» في الشرف والغني «فوق بعض درجات» كثيرة متفاوتة «ليبلوكم في ما آتاكم» من المال والجاه أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر ماذا تعملون من الشكر وضده «إن ربك» تجريد الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع إضافة اسم الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لإبراز مزيد اللطف به صلى الله عليه وسلم «سريع العقاب» أي عقابه سريع الإتيان لمن لم يراع حقوق ما آتاه الله تعالى ولم يشكره لأن كل آت قريب أو سريع التمام عند إرادته لتعاليه عن استعمال المبادى والآلات «وإنه لغفور رحيم» لمن راعاها كما ينبغي وفي جعل خبر هذه الجملة من الصفات الذاتية الواردة على بناء المبالغة مؤكدا باللام مع جعل خبر الأولى صفة جارية على غير من هي له في من التنبيه على أنه تعالى غفور رحيم بالذات مبالغ فيهما فاعل للعقوبة بالعرض مسامح فيها ما لا يخفى والله أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت على سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون الف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة والله تعالى أعلم
208

مكية غير ثماني آيات من قوله وأسألهم إلى قوله وإذ نتقنا الجبل وآيها مائتان وخمس
«بسم الله الرحمن الرحيم» «المص» إما مسرود على نمط التعديد بأحد الوجهين المذكورين في فاتحة سورة البقرة فلا محل له من الإعراب وإما اسم للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير هذا المص أي مسمى به وتذكير اسم الإشارة مع تأنيث المسمى لما أن الإشارة إليه من حيث إنه مسمى بالاسم المذكور لا من حيث أنه مسمى بالسورة وإنما صحت الإشارة إليه من حيث إنه مسمى بالاسم المذكور لا من حيث أنه مسمى بالسورة وإنما صحت الإشارة إليه مع عدم سبق ذكره لما أنه باعتبار كونه بصدد الذكر صار في حكم الحاضر المشاهد وقوله عز وجل «كتاب» على الوجه الأول خبر مبتدأ محذوف وهو ما ينبئ عنه تعديد الحروف كأنه قيل المؤلف من جنس هذه الحروف مرادا به السورة كتاب الخ أو اسم إشارة أشير به إليه تنزيلا لحضور المؤلف منه منزلة حضور نفس المؤلف أي هذا كتاب الخ وعلى الوجه الثاني خبر بعد خبر جئ به غثر بيان كونه مترجما باسم بديع منبىء عن غرابته في نفسه إبانة لجلالة محله ببيان كونه فردا من أفراد الكتب الإلهية حائزا للكمالات المختصة بها وقد جوز كونه خبرا والمص مبتدأ أي المسمى المص كتاب وقد عرفت ما فيه من أن ما يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه عند المخاطب وإذ لا عهد بالتسمية قبل فحقها الإخبار بها «أنزل إليك» أي من جهته تعالى بنى الفعل للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهور تعينه وهو السر في ترك مبدأ الإنزال كما في قوله جل ذكره بلغ ما أنزل إليك من ربك ونظائره والجملة صفة لكتاب مشرفة له ولم أنزل إليه وجعله خبرا له على معنى كتاب عظيم الشأن انزل إليك خلاف الأصل «فلا يكن في صدرك حرج» أي شك كما في قوله تعالى فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك خلا أنه عبر عنه بما يلازمه من الحرج فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه مبالغة في تنزيه ساحته عليه الصلاة والسلام عن نسبة الشك إليه ولو في ضمن النهي فإنه من الأحوال القلبية التي يستحيل اعتراؤها إياه وما قد يقع من نسبته إليه في ضمن النهي فعلى طريقة التهيج والإلهاب والمبالغة في التنفير والتحذير بإيهام أن ذلك من القبح والشرية بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره عنه
209

أصلا فكيف بمن يمكن ذلك منه والتنوين للتحقير والجار في قوله تعالى «منه» متعلق بحرج يقال حرج منه أي ضاق به صدره أو بمحذوف وقع صفة له أي حرج كائن منه أي لا يكن فيك شك ما في حقيته أو في كونه كتابا منزلا إليك من عنده تعالى فالفاء على الأول لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملة فإنه مما يوجب انتفاء الشك فيما ذكر بالكلية وحصول اليقين به قطعا وأما على الثاني فهي لترتيب ما ذكر على الإخبار بذلك لا على نفسه فتدبرو توجيه النهي إلى الحرج مع أن المراد نهيه عليه الصلام والسلام عنه إما لما مر من المبالغة في تنزيهه عليه الصلاة والسلام عن الشك فيما ذكر فإن النهي عن الشيء مما يوهم إمكان صدور المنهي عنه عن المهي عنه وإما للمبالغة في النهي فإن وقوع الشك في صدره عليه الصلاة والسلام سبب لاتصافه عليه الصلاة والسلام به والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ونفي له من أصله بالمرة كما في قوله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم الآية وليس هذا من قبيل لا أرينك ههنا فإن النهي هناك وارد على المسبب مرادا به النهي عن السبب فيكون المآل نهيه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يورث الحرج فتأمل وقيل الحرج على حقيقته أي لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة أن يكذبوك وأن تقصر في القيام بحقه فإنه عليه الصلاة والسلام كان يخاف تكذيب قومه له وإعراضهم عنه فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له فآمنه الله تعالى ونهاه عن المبالاة فالفاء حينئذ للترتيب على مضمون الجملة أو على الإخبار به فإن كلا منهما موجب للإقدام على التبليغ وزوال الخوف قطعا وإن كان إيجابه الثاني بواسطة الأول وقوله تعالى «لتنذر به» أي بالكتاب المنزل متعلق بأنزل وما بينهما اعتراض توسط بينهما تقريرا لما قبله وتمهيدا لما بعده وحسما لتوهم أن مورد الشك هو الإنزال للإنذار وقيل متعلق بالنهي فإن انتفاء الشك في كونه منزلا من عنده تعالى موجب للإنذار به قطعا وكذا انتفاء الخوف منهم أو العلم بأنه موفق للقيام بحقه موجب للتجاسر على ذلك وأنت خبير بأنه لا يتأتى التفسير الأول لأن تعليل النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكير مع إيهامه لإمكان صدوره عنه عليه الصلاة والسلام مشعر بأن المنهي عنه ليس محذورا لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذار والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته ولا ريب في فساده وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليل بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبة خوف حتى يجعل غاية لانتفائه وقوله تعالى «وذكرى للمؤمنين» في حين النصب بإضمار فعله معطوفا على تنذر أي وتذكر المؤمنين تذكيرا أو الجر عطفا على محل أن تنذر أي للإنذار والتذكير وقيل مرفوع عطفا على كتاب أو خبر لمبتدأ محذوف وتخصيص التذكير بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذار بالكفرة أي لتنذر به المشركين وتذكر المؤمنين وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام «اتبعوا ما أنزل إليكم» كلام مستأنف خوطب به كافة المكلفين بطريق التلوين وأمروا باتباع ما أمر
النبي صلى الله عليه وسلم قبله بتبليغه بطريق الإنذار والتذكير وجعله منزلا إليهم بواسطة إنزاله إليه عليه الصلاة والسلام أثر ذكر ما يصححه من الإنذار والتذكير لتأكيد وجوب اتباعه وقوله تعالى
210

«من ربكم» متعلق بأنزل على أن من لابتداء الغاية مجازا أو بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين مزيد لطف بهم وترغيب لهم في الامتثال بما أمروا به وتأكيد لوجوبه وجعل ما أنزل ههنا عاما للسنة القولية والفعلية بعيد نعم يعمهما حكمه بطريق الدلالة لا بطريق العبارة ولما كان اتباع ما أنزله الله تعالى اتباعا له تعالى عقب الأمر بذلك بالنهي عن اتباع غيره تعالى فقيل «ولا تتبعوا من دونه» أي من دونه أي من دون ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق ومحله النصب على أنه حال من فافعل فعل النهي أي لا تتبعوا متجاوزين الله تعالى «أولياء» من الجن والإنس بأن تقبلوا منهم ما يلقونه إليكم بطريق الوسوسة والإغواء من الأباطيل ليضلوكم عن الحق ويحملوكم على البدع والأهواء الزائغة أو من أولياء قدم عليه لكونه نكرة إذ لو أخر عنه لكان صفة له أي أولياء كائنة غيره تعالى وقيل الضمير للموصول على حذف المضاف في أولياء أي ولا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء كأنه قيل ولا تتبعوا من دون دين ربكم دين أولياء وقرئ ولا تبتغوا كما في قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا وقوله تعالى «قليلا ما تذكرون» بحذف إحدى التاءين وتخفيف الذال وقرئ بتشديدها على إدغام التاء المهموسة في الذال المجهورة وقرئ يتذكرون على صيغة الغيبة وقليلا نصب إما بما بعده على أنه نعت لمصدر محذوف مقدم للقصر أو لزمان كذلك محذوف وما مزيدة لتأكيد القلة أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون لا كثيرا حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون دين الله تعالى وتتبعون غيره ويجوز أن يراد بالقلة العدم كما قيل في قوله تعالى فقليلا ما يؤمنون والجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقبيح حال المخاطبين والالتفات على القراءة الأخيرة للإيذان باقتضاء سوء حالهم في عدم الامتثال بالأمر والنهي صرف الخطاب عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم بطريق المبانة وإما نصب على أنه حال من فاعل لا تتبعوا وما مصدرية مرتفعة به أي لا تتبعوا من دونه أولياء قليلا تذكركم لكن لا على توجيه النهي إلى المقيد فقط كما في قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى بل إلى المقيد والقيد جميعا وتخصيصه بالذكر لمزيد تقبيح حالهم بجمعهم بين المنكرين «وكم من قرية أهلكناها» شروع في إنذارهم بما جرى على الأمم الماضية بسبب إعراضهم عن اتباع الله تعالى وإصرارهم على اتباع دين أوليائهم وكم خبرية للتكثير في موضع رفع على الابتداء كما في قولك زيد ضربته والخبر هو الجملة بعدها ومن قرية تمييز والضمير في أهلكناها راجع إلى معنى كم أي كثير من القرى أهلكناها أو في موضع نصب بأهلكناها كما في قوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر والمراد بإهلاكها إرادة إهلاكها كما في قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة أي أردنا إهلاكها «فجاءها» أي فجاء أهلها «بأسنا» أي عذابنا بياتا مصدر بمعنى الفاعل واقع موقع الحال أي بائتين كقوم لوط «أو هم قائلون» عطف عليه أي أو قائلين من القيلولة نصف النهار كقوم شعيب وإنما حذفت الواو من الحال المعطوفة على أختها استثقالا لاجتماع العاطفين فإن واو الحال حرف عطف قد استعيرت للوصل لا اكتفاء بالضمير كما في جاءني زيد هو فارس
211

فإنه غير فصيح وتخصيص الحالتين بالعذاب لما أن نزول المكروه عند الغفلة والدعة أفظع وحكايته للسامعين أزجر وأردع عن الاغترار بأسباب الأمن والراحة ووصف الكل بوصفي البيات والقيلولة مع أن بعض المهلكين بمعزل منهما لا سيما القيلولة للإيذان بكمال غفلتهم وأمنهم «فما كان دعواهم» أي دعاؤهم واستغاثتهم ربهم أو ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم «إذ جاءهم بأسنا» عذابنا وعاينوا أمارته «إلا أن قالوا» جميعا «إنا كنا ظالمين» أي إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتهم ببطلانه تحسرا عليه وندامة وطمعا في الخلاص وهيهات ولات حين نجاة «فلنسألن الذين أرسل إليهم» بيان لعذابهم الأخروي إثر بيان عذابهم الدنيوي خلا أنه قد تعرض لبيان مبادي أحوال المكلفين جميعا لكونه أدخل في التهويل والفاء لترتيب الأحوال الأخروية على الدنيوية ذكرا حسب ترتبها عليها وجودا أي لنسألن الأمم قاطبة قائلين ماذا أجبتم المرسلين «ولنسألن المرسلين» عما أجيبوا قال تعالى يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم والمراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم والذي نفى بقوله تعالى ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون سؤال الاستعلام أو الأول في موقف الحساب والثاني في موقف العقاب «فلنقصن عليهم» أي على الرسل حين يقولن لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب أو عليهم وعلى المرسل إليهم جميعا ما كانوا عليه «بعلم» أي عالمين بظواهرهم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم «وما كنا غائبين» عنهم في حال من الأحوال فيخفى علينا شيء من أعمالهم وأحوالهم والجملة تذييل مقرر لما قبلها «والوزن» أي وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها وجيدها ورديئها ورفعه على الابتداء وقوله تعالى «يومئذ» خبره وقوله تعالى «الحق» صفته أي والوزن الحق ثابت يوم إذ يكون السؤال والقص وقيل خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل ما ذلك الوزن فقيل الحق أي العدل السوي وقرئ القسط واختلف في كيفية الوزن والجمهور على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان ينظر إليه الخلائق إظهار للمعادلة وقطعا للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم ويشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد وكما يثبت في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب ويؤيده ما روي أن الرجل يؤتى به الميزان فينشر له تسعة وتسعون سجلا مدج البصر فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في في كفة والبطاقة في كفة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة وقيل يوزن الأشخاص لما روي عنه عليه الصلاة والسلام إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقيل
212

الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك واختاره كثير من المتأخرين بناء على أن استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية قالوا إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشيء ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك لأنها أعراض قد فنيت وعلى تقدير بقائها لا تقبل الوزن وقيل إن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح حتى أن الذنوب والمعاصي تتجسم هناك وتتصور بصورة النار وعلى ذلك حمل قوله تعالى وإن جهنم لمحيطة بالكافرين وقوله تعالى الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وكذا قوله عليه الصلاة والسلام في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ولا يعد في ذلك ألا يرى أن العلم يظهر في عالم
المثال على سورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة وبالأعمال السيئة على صور قبيحة فتوضع في الميزان إن قيل إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض الخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدة في الوزن أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح وغير ذلك وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في انها هي التي كانت في الدنيا بعينها وإن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقة المستتبعة لصفاته ولا يخطر بباله خلاف ذلك والله تعالى أعلم «فمن ثقلت موازينه» تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن والموازين إما جمع ميزان أو جمع موزون على أن المراد به ما له وزن وقدر وهو الحسنات فإن رجحان أحدهما مستلزم لرجحان الآخر أي فمن رجحت موازينه التي توزن بها حسناته أو أعماله التي لها قدر وزنه وعن الحسن البصري وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يقل وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف «فأولئك» إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بثقل الميزان والجمعية باعتبار معناه كما أن جمع الموازين لذلك وأما ضمير موازينه فراجع إليه باعتبار لفظه وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل والشرف «هم المفلحون» الفائزون بالنجاة والثواب وهم إما ضمير فصل يفصل بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه أو مبتدأ خبره المفلحون والجملة خبر لأولئك وتعريف المفلحون للدلالة على أنهم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون في الآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم «ومن خفت موازينه» اي موازين أعماله أو أعماله التي لا وزن لها ولا اعتداد بها وهب أعماله السيئة «فأولئك» إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بتلك الصفة القبيحة والجمعية ومعنى البعد لما مر آنفا في نظيره وهو مبتدأ خبره
213

«الذين خسروا أنفسهم» أي ضيعوا الفطرة السليمة التي فطروا عليها وقد أيدت بالآيات البينة وقوله تعالى «بما كانوا بآياتنا يظلمون» متعلق بخسر وما مصدرية وبآياتنا متعلق بيظلمون على تضمين معنى التكذيب قد عليه لمراعاة الفواصل والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار الظلم في الدنيا أي فأولئك الموصوفون بخفة الموازين الذين خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم المستمر بآياتنا ظالمين «ولقد مكناكم في الأرض» لما أمر الله سبحانه أهل مكة باتباع ما أنزل إليهم ونهاهم عن اتباع غيره وبين لهم وخامة عاقبته بالإهلاك في الدنيا والعذاب المخلد في الآخرة ذكرهم ما أفاض عليهم من فنون النعم الموجبة للشكر ترغيبا في الامتثال بالأمر والنهي إثر ترهيب أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها «وجعلنا لكم فيها معايش» المعايش جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها أو ما يتوصل به إلى ذلك والوجه في قراءته إخلاص الياء وعن ابن عامر أنه همزة تسبيها له بصحائف ومدائن والجعل بمعنى الإنشاء والإبداع أي أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعكم فيها أسبابا تعيشون بها وكل واحد من الظرفين متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر إذ لو تأخر لكان صفة له وتقديمها على المفعول مع أن حقهما التأخير عنه لما مر غير مرة من الاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر فإن النفس عند تأخير ماحقه التقديم لا سيما عند كون المقدم منبئا عن منفعة للسامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن وأمات تقديم اللام على في فلما أنه المنبىء عما ذكر من المنفعة فالاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم هذا وقد قيل إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالا من المفعول الأول كما مر وأنت خبير بأنه لا فائدة معتد بها في الإخبار بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة في الأرض وقوله تعالى «قليلا ما تشكرون» أي تلك النعمة تذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم وبقية الكلام فيه عين ما مر في تفسير قوله تعالى قليلا ما تذكرون «ولقد خلقناكم ثم صورناكم» تذكير لنعمة عظيمة فائضة على آدم عليه السلام سارية إلى ذريته موجبة لشكرهم وتأخيره عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التمكين في الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة وإما للإيذان بأن كلا منها نعمة مستقلة مستوجبة للشكر على حيالها فإن رعاية الترتيب الوقوعي ربما تؤدي إلى توهم عد الكل نعمة واحدة كما ذكر في قصة البقرة وتصدير الجملتين بالقسم وحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونهما وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين مع أن المراد بهما خلق آدم عليه السلام وتصويره حتما توفية لمقام الامتنان حقه وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم
214

بالرمز إلى أن لهم حظا من خلقه عليه السلام وتصويره لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه السلام كسجود الملائكة له عليه السلام بل من الأمور السارية إلى ذريته جميعا إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه على نمطه ومصنوع على شاكلته فكأنهم الذي تعلق به خلقه وتصويره أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار إليكم جميعا «ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» صريح في أنه ورد بعد خلقه عليه الصلاة والسلام وتسويته ونفخ الروح فيه أمر منجز غير الأمر المعلق الوارد قبل ذلك بقوله تعالى فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين وهو المراد بما حكى بقوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم الآية في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه من غير تعرض لوقته وكلمة ثم ههنا تقتضي تراخيه عن التصوير من غير تعرض لبيان ما جرى بينهما من الأمور وقد بينا في سورة البقرة أن ذلك ظهور فضل آدم عليه السلام بعد المحاورة المسبوقة بالإخبار باستخلافه عليه السلام حسبما نطق به قوله عز وجل وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة إلى قوله وما كنتم تكتمون فإن ذلك أيضا من جملة ما نيط به الأمر المعلق من القسوية ونفخ الروح وعدم ذكره عند الحكاية لا يقتضي عدم ذكره عند وقوع المحكي كما أن عدم ذكر الأمر المعلق عند حكاية الأمر المنجز لا يستلزم عدم مسبوقيته به فإن حكاية كلام واحد على أساليب مختلقة يقتضيها ليست بعزيزة في الكلام العزيز فلعله قد ألقى إلى الملائكة عليهم السلام أولا جميع ما يتوقف عليه الأمر المنجز إجمالا بأن قيل مثلا إني خالق بشرا من طين وجاعل إياه خليفة في الأرض فإذا سويته ونفخت فيه من روحي وتبين لكم فضله فقعوا له ساجدين فخلقه فسواه فنفخ فيه من روحه فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقي إليهم خبر الخلافة بعد
تحقق الشرائط المذكورة بأن قيل إثر نفخ الروح إني جاعل هذا خليفة في الأرض فهنالك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا فأيده الله تعالى بتعليم الأسماء فشاهدوا منه عليه السلام ما شاهدوا فعند ذلك ورد الأمر من المنجز اعتناء بشأن المأمور به وإيذانا بوقته وقد حكى بعض الأمور المذكورة في بعض المواطن وبعضها في بعضها اكتفاء بما ذكر في كل موطن عما ترك في موطن آخر والذي يرفع غشاوة الاشتباه عن البصائر السليمة أن ما في سورة ص من قوله تعالى إذ قال ربك للملائكة الآيات بدل من قوله إذ يختصمون فيما قبله من قوله ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون أي بكلامهم عند اختصامهم ولا ريب في أن المراد بالملأ الأعلى وآدم عليهم السلام وإبليس حسبما أطيق عليه جمهور المفسرين وباختصامهم ما جرى بينهم في شأن الخلافة من التقاول الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوع الاختصام المذكور في تضاعيف ما شرح فيه مفصلا من الأمر المعلق وما علق به من الخلق والتسوية ونفخ الروح فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكة وعناد إبليس ولعنه وإخراجه من بين الملائكة وما جرى بعده من الأفعال والأقوال وإذ ليس تمام الاختصام بعد سجود الملائكة ومكابرة إبليس وطرده من أنه أحد المختصمين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورة فإذن هو بعد نفخ الروح وقبل السجود بأحد الطريقين المذكورين والله تعالى أعلم «فسجدوا» أي الملائكة عليهم السلام بعد الأمر من غير تلعثم «إلا إبليس» استثناء متصل
215

لما أنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم فغلبوا عليه في فسجدوا ثم استثنى استثناء واحد منهم أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم الجن كما مر في سورة البقرة فقوله تعالى «لم يكن من الساجدين» أي ممن سجد لآدم كلام مستأنف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء فإن عدم السجود قد يكون للتأمل ثم يقع السجود وبه علم أنه لم يقع قط وقيل منقطع فحينئذ يكون متصلا بما بعده أي لكن إبليس لم يكن من الساجدين «قال» استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذ وبه يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة وفيه فائدة أخرى هي الإشعار بعدم تعلق المحكي بالمخاطبين كما في حكاية الخلق والتصوير «ما منعك ألا تسجد» أي أن تسجد كما وقع في سورة ص ولا مزيدة مؤكدة لمعنى الفعل الذي دخلت عليه كما في قوله تعالى لئلا يعلم أهل الكتاب منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود وقيل الممنوع عن الشيء مصروف إلى خلافه فالمعنى ما صرفك إلى أن لا تسجد «إذ أمرتك» قيل فيه دلالة على أن مطلق الأمر للوجوب والفور وفي سورة الجن يا إبليس مالك أن لا تكون مع الساجدين وفي سورة ص ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي واختلاف العبارات عند الحكاية دل على أن اللعين قد أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظام في سلك أولئك المقربين والاستكبار مع تحقير آدم عليه السلام وقد وبخ حينئذ على كل واحدة منها لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر يه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر وإشعار بأن كل واحدة منها كافية في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه «قال» استئناف كما سبق مبني على لا سؤال نشأ من حكاية التوبيخ كأنه قيل فماذا قال اللعين عند ذلك فقيل قال «أنا خير منه» متجانفا عن تطبيق جوابه على السؤال بأن يقول معنى كذا مدعيا لنفسه بطريق الاستئناف شيئا بين الاستلزام لمنعه من السجود على زعمه ومشعرا بأن من شأنه هذا لا يحسن أن يسجد لمن دونه فكيف يحسن أن يؤمر به كما ينبئ عنه ما في سورة الحجر من قوله «لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون» فهو أول من أسس بنيان التكبر واخترع القول بالحسن والقبح العقلين وقوله تعالى «خلقتني من نار وخلقته من طين» تعليل لما ادعاه من فضله عليه ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر وزل عنه ما من جهة الفاعل كما أنبأ عنه قوله تعالى ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أي بغير واسطة على وجه الاعتناء به وما من جهة الصورة كما نبه عليه بقوله تعالى ونفخت فيه من روحي وما من جهة الغاية وهو ملاك الأمر ولذلك أمر الملائكة بالسجود له عليه السلام حين ظهر لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه امر الخلافة في الأرض وأن له خواص ليست لغيره وفي الآية دليل على الكون والفساد وأن الشياطين أجسام كائنة ولعل إضافة خلق البشر إلى الطين والشياطين إلى النار باعتبار الجزء الغالب
216

«قال» استئناف كما سلف والفاء في قوله تعالى ة «فاهبط منها» لترتيب الأمر على ما ظهر من اللعين من مخالفة الأمر وتعليله بالأباطيل وإصراره على ذلك أي فاهبط من الجنة والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها قال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا في عدن لا في جنة الخلد وقيل من زمرة الملائكة المعززين فإن الخروج من زمرتهم هبوط وأي هبوط وفي سورة الحجر فأخرج منها وأما ما قيل من أن المراد الهبوط من السماء فيرده أن وسوسته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد فلا بد أن يحمل على أحد الوجهين قطعا وتكون وسوسته على الوجه الأول بطريق النداء من باب الجنة كما روي عن الحسن البصري وقوله تعالى «فما يكون لك» أي فما يصح ولا يستقيم لك ولا يليق بشأنك «أن تتكبر فيها» أي في الجنة أو في زمرة الملائكة تعليل للأمر بالهبوط فإن عدم صحة أن يتكبر فيها علة للأمر المذكور فإنها مكان المطيعين الخاشعين ولا دلالة فيه على جواز التكبر في غيرها وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة وأنه تعالى إنما طرده لتكبره لا لمجرد عصيانه وقوله تعالى «فأخرج» تأكيد للأمر بالهبوط متفرغ على علته وقوله تعالى «إنك من الصاغرين» تعليل للأمر بالخروج مشعر بأنه لتكبره أي من الأذلاء وأهل الهوان على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبرك وعن عمر رضي الله عنه من تواضع لله رفع الله حكمته ة وقال انتعش نعشك الله ومن تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض «قال» استئناف كما مر مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فماذا قال اللعين بعدما سمع هذا الطرد المؤكد فقيل قال «أنظرني» أي أمهلني ولا تمتني «إلى يوم يبعثون» أي آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وهو قوت النفخة الثانية وأراد اللعين بذلك أن يجد فسحة من إغوائهم ويأخذ منهم ثأره وينجو من الموت لاستحالته بعد البعث «قال» استئناف كما سلف «إنك من المنظرين» ورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلا لا إنشاء لإنظار خاص به إجابة لدعائه وأن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت غذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل أي إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه الحكمة التكوينية إلى وقت فناء غير ما استثناه الله تعالى من الخلائق وهو النفخة الأولى إلى وقت البعث الذي هو المسؤول وقد
ترك التوقيت للإيجاز ثقة بما وقع في سورة الحجر وسورة ص كما ترك ذكر النداء والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلا على ما ذكر فيهما بقوله عز وجل رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم وفي إنظاره ابتلاء للعباد وتعريض للثواب إن قلت لار ريب في أن الكلام المحكي له عند صدوره عن المتكلم حالة
217

مخصوصة تقتضي وروده على وجه خاص من وجوه النظم بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلام عن رتبة البلاغة البتة فالكلام الواحد المحكي على وجوه شتى إن اقتضى الحال وروده على وجه معين من تلك الوجوه الواردة عند الحكاية فذلك الوجه هو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى رتبة البلاغة دون ما عداه من الوجوه إذا تمهد هذا فنقول لا يخفى أن استنظار اللعين إنما صدر عنه مرة واحدة لا غير فمقامه إن اقتضى إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطرد على نهج استدعاء الجبر في مقابلة الكسر كما هو المتبادر من قوله رب فأنظرني حسبما حكى عنه في السورتين فما حكي ههنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلا عن العروج إلى معارج الإعجاز قلنا مقام استنظاره مقتض لما ذكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحرمان المدلول عليه بالطرد والرجم وكذا مقام الإنظار مقتض لترتيب الإخبار بالإنظار على الاستنظار وقد طبق الكلام عليه في تينك السورتين ووفى كل واحد من مقامي الحكاية والمحكي جميعا حظه وأما ههنا فحيث اقتضى مقام الحكاية مجرد الإخبار بالاستنظار والإنظار سيقت الحكاية على نهج الإيجاز والاختصار من غير تعرض لبيان كيفية كل واحد منهما عند المخاطبة والحوار إن قلت فإذن لا يكون ذلك نقلا للكلام على ما هو عليه ولا مطابقا لمقتضى المقام قلنا الذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله الذي يفيده وأما كيفية إفادته فليس مما يجب مراعاته عند النقل البتة بل قد تراعي وقد لا تراعي حسب اقتضاء المقام ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد يراعي عند نقله كيفيات وخصوصات لم يراعها المتكلم أصلا ولا يخل ذلك بكون المنقول أصل المعنى ألا يرى أن جميع المقالات المنقولة في القرآن الكريم إنما تحكي بكيفيات واعتبارات لا يكاد يقدر على مراعاتها من تكلم بها حتما وإلا لأمكن صدور الكلام المعجز عن البشر فيما إذا كان المحكي كلاما وأما عدم مطابقته لمقتضى الحال فمنشؤه الغفلة عما يجب توفير مقتضاه من الأحوال فإن ملاك الأمر هو مقام الحكاية وأما مقام وقوع المحكي فإن كان مقتضاه موافقا لمقتضى مقام الحكاية يوفى كل واحد من المقامين حقه كما في سورة الحجر وسورة ص فإن مقام الحكاية فيهما لما كان مقتضيا لبسط الكلام وتفصيله على الكيفيات التي وقع عليها روعي حق المقامين معا وأما في هذه السورة الكريمة فحيث اقتضى مقام الحكاية الإيجاز روعي جانبه ألا يرى أن المخاطب المنكر إذا كان ممن لا يفهم إلا أصل المعنى وجب على المتكلم أن يجرد كلامه عن التأكيد وسائر الخواص والمزايا التي يقتضيها المقام ويخاطبه بما يناسبه من الوجوه لكنه مع ذلك يجب أن يقصد معنى زائدا يفهمه سامع آخر بليغ هو تجريده عن الخواص رعاية لمقتضى حال المخاطب في الفهم وبذلك يرتقي كلامه عن رتبة أصوات الحيوانات كما حقق في مقامه فإذا وجب مراعاة مقام الحكاية مع اقتضائها إلى تجريد الكلام عن الخواص والمزايا بالمرة فما ظنك بوجوب مراعاته مع تحلية الكلام بمزايا أخر يرتقي بها إلى رتبة الإعجاز لا سيما إذا وفى حق مقام المحكي في السورتين الكريمتين وكان هذا الإيجاز مبنيا عليه وثقة به «قال» استئناف كأمثاله «فبما أغويتني» الباء للقسم كما في قوله تعالى
218

فبعزتك لأغوينهم فإن إغواءه تعالى إلى إياه أثر من آثار قدرته عز وجل وحكم من أحكام سلطانه تعالى فمآل الإقسام بهما واحد فلعل اللعين أقسم بهما جميعا فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر والفاء لترتيب مضمون الجملة على الإنظار وما مصدرية أي فأقسم بإغوائك إياي «لأقعدن لهم» أو للسببية على أن الباء متعلقة بفعل القسم المحذوف لا بقوله لأقعدن لهم كما في الوجه الأول فإن اللام تصد عن ذلك أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك لأقعدن لآدم وذريته ترصدا بهم كما يقعد القطاع للقطع على السابلة «صراطك المستقيم» الموصل إلى الجنة وهو دين الإسلام فالقعود مجاز متفرع على الكتابة وانتصابه على الظرفية كما في قوله كما عسل الطريق الثعلب وقيل على نزع الجار تقديره على صراطك كقولك ضرب زيد الظهر والبطن «ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم» أي من الجهات الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها مثل قصده إياهم للتسويل والإضلال من أي وجه يتيسر بإتيان العدو من الجهات الأربع ولذلك لم يذكر الفرق والتحت وعن ابن عباس رضي الله عنهما من بين أيديهم من قيل الآخرة ومن خلفهم من جهة الدنيا وعن ايمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم وقيل من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز منه ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون وعن ايمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف المتجافي عنهم المار على عرضهم ونظيره جلست عن يمينه «ولا تجد أكثرهم شاكرين» أي مطيعين وإنما قاله ظنا لقوله تعالى ولقد صدق عليهم إبليس ظنه لما رأى منهم مبدأ الشر متعددا ومبدأ الخير واحدا وقيل سمعه من الملائكة عليهم السلام «قال» استئناف كما سلف مرارا «اخرج منها» أي من الجنة أو من السماء أو من بين الملائكة «مذموما» أي مذموما من ذأمه إذا ذمه وقرئ مذوما كمسول في مسؤول أو كمكول في مكيل من ذامه يذيمه ذيما «مدحورا» مطرودا «لمن تبعك منهم» اللام موطئه للقسم وجوابه «لأملأن جهنم منكم أجمعين» وهو ساد مسد جواب الشرط وقرئ لمن تبعك بكسر اللام على أنه خبر لأملأن على معنى لمن تبعك هذا الوعيد أو علة لأخرج ولأملأن جواب قسم محذوف ومعنى منكم منك ومنهم على تغليب المخاطب «ويا آدم» أي وقلنا كما وقع في سورة البقرة
219

وتصدير الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بتلق المأمور به وتخصيص الخطاب به عليه السلام للإيذان بأصالته في تلقي الوحي وتعاطي المأمور به «اسكن أنت وزوجك الجنة» هو من السكن الذي هو عبارة عن اللبث والاستقرار والإقامة لا من السكون الذي هو ضد الحركة وأنت ضمير أكد به المستكن ليصح العطف عليه والفاء في قوله تعالى «فكلا من حيث شئتما» لبيان المراد مما في سورة البقرة من قوله تعالى وكلا منها رغدا حيث شئتما من أن ذلك كان جمعا مع الترتيب وقوله تعالى من حيث شئتما في معنى منها حيث شئتما ولم يذكر ههنا رغدا ثقة بما ذكر هناك وتوجيه الخطاب إليهما لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما ي مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له
عليه السى لام في حق الأكل بخلاف السكن فإنها تابعة له فيه ولتعليق النهي بها صريحا في قوله تعالى «ولا تقربا هذه الشجرة» وقرئ هذي وهو الأصل لتصغيره على ذيا والهاء بدل من الياء «فتكونا من الظالمين» إما جزم على العطف أو نصب على الجواب «فوسوس لهما الشيطان» أي فعل الوسوسة لأجلهما أو تكلم لهما كلاما خفيا متداركا وهي في الأصل الصوت الخفي كالهينمة والخشخشة ومنه وسوس الحلى وقد سبق بيان كيفية وسوسته في سورة البقرة «ليبدي لهما» أي ليظهر لهما واللام للعاقبة أو للغرض على أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع «ما ووري عنهما من سوآتهما» نما غطى ة وستر عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وإنما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهورة كما قلبت في أو يصل تصغير واصل لأن الثانية مدة وقرئ سواتهما بحذف الهمزة وإلقاء حركاتها على الواو وبقلبها واوا وإدغام الواو الساكنة فيها «وقال» عطف على وسوس بطريق البيان «ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة» أي عن أكلها «إلا أن تكونا ملكين» أي إلا كراهة أن تكونا ملكين «أو تكونا من الخالدين» الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة وليس فيه دلالة على أفضلية الملائكة عليهم السلام لما أن من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما أوصاف الملائكة من الكمالات الفطرية والاستغناء عن الأطعمة والأشربة وذلك بمعزل من الدلالة على الأفضلية بالمعنى المتنازع فيه «وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين» أي أقسم لهما وصيغة المغالبة للمبالغة وقيل أقسما له بالقبول وقيل قالا له أتقسم بالله إنك لمن الناصحين وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة «فدلاهما»
220

فنزلهما على الكل من الشجرة وفيه تنبيه على أنه أهبطهما بذلك من درجة عالية فإن التدلية والإدلاء إرسال الشيء من الأعلى إلى السفل «بغرور» بما غرهما به من القسم فإنهما ظنا أن أحدا لا يقسم بالله كاذبا أو متلبسين بغرور «فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما» أي فلما وجدا طعمها آخذين في الأكل منها أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية فتهافت عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما واختلف في أن الشجرة كانت السنبلة والكرم أو غيرهما وأن اللباس كان نورا أو ظفرا «وطفقا يخصفان» طفق من أفعال الشروع والتلبس كأخذ وجعل وأنشأ وهب وانبرى أي أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة «عليهما من ورق الجنة» قيل كان ذلك ورق التين وقرئ يخصفان من أخصف أي يخصفان أنفسهما ويخصفان من التخصيف ويخصفان أصله يختصفان «وناداهما ربهما» مالك أمرهما بطريق العتاب والتوبيخ «ألم أنهكما» وهو تفسير للنداء فلا محل له من الإعراب أو معمول لقول محذوف أي وقال أو قائلا ألم أنهكما «عن تلكما الشجرة» ما في اسم الإشارة من معنى البعد لما أنه إشارة إلى الشجرة التي نهى عن قربانها «وأقل لكما» عطف على أنهكما أي ألم أقل لكما «إن الشيطان لكما عدو مبين» وهذا عتاب وتوبيخ على الاغترار بقول العدو كما أن الأول عتاب على مخالفة النهي قيل فيه دليل على أن مطلق النهي للتحريم ولكما متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوف هو حال من عدو ولم يحك هذا القول ههنا وقد حكى في سورة طه بقوله تعالى إن هذا عدو لك ولزوجك الآية روي أنه تعالى قال لآدم ألم يكن فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة فقال بلى وعزتك ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا فاهبط وعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد ودرس وذرى وعجن وخبز «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا» أي ضررناها بالمعصية والتعريض للإخراج من الجنة «وإن لم تغفر لنا» ذلك «وترحمنا لنكونن من الخاسرين» وهو دليل على أن الصغائر يعاقب عليها إن لم تغفر وقال المعتزلة لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ولذلك حملوا قولهما ذلك على عادات المقربين في استعظام الصغير من السيئات واستصغار العظيم من الحسنات «قال» استئناف كما مر مرارا «اهبطوا» خطاب لآدم وحواء وذريتهما أو لهما ولإبليس كررا الأمر له تبعا لهما ليعلم أنهم قرناء أبدا أو أخبر عما قال لهم مفرقا كما في قوله تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ولم يذكر ههنا قبول توبتهما ثقة بما ذكر في سائر المواضع «بعضكم لبعض عدو» جملة حالية من فاعل اهبطوا أي متعادين «ولكم في الأرض مستقر» اي استقرار أو موضع استقرار «ومتاع» اي تمتع وانتفاع «إلى حين» هو حين انقضاء آجالكم «قال» أعيد الاستئناف إما للإيذان بعدم اتصال ما بعده بما قبله كما في قوله تعالى قال فما خطبكم أيها المرسلون إثر قوله تعالى قال ومن
221

يقنط من رحمة ربه إلا الضالون وقوله تعالى قال أرأيتك هذا الذي كرمت على بعد قوله تعالى قال أأسجد لمن خلقت طينا وإما لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده من قوله تعالى «فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون» أي للجزاء كقوله تعالى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى «يا بني آدم» خطاب للناس كافة وإيرادهم بهذا العنوان مما لا يخفى سره «قد أنزلنا عليكم لباسا» أي خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة منها ونظيره وأنزل لكم من الأنعام الخ وقوله تعالى وأنزلنا الحديد «يواري سوآتكم» التي قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطر إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك وروى ان العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت ولعل ذكر قصة آدم عليه السلام حينئذ للإيذان بأن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من قبل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم «وريشا» ولباسا تتجملون به والريش الجمال وقيل مالا ومنه تريش الرجل أي تمول وقرئ رياشا وهو جمع ريش كشعب وشعاب «ولباس التقوى» أي خشية الله تعالى وقيل الإيمان وقيل السمت الحسن وقيل لباس الحرب ورفعه بالابتداء خبره جملة «ذلك خير» أو خبر وذلك صفته كأنه قيل ولباس التقوى المشار إليه خير وقرئ ولباس التقوى بالنصب عطفا على لباسا «ذلك» أي إنزال اللباس «من آيات الله» دالة على عظيم فضله وعميم رحمته «لعلهم يذكرون» فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح «يا بني آدم» تكرير النداء للإيذان بكمال الاعتناء بمضمون ما صدر به وإيرادهم بهذا العنون مما لا يخفى سببه «لا يفتننكم الشيطان» أي لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يمنعكم من دخول الجنة «كما أخرج أبويكم من الجنة» نعت لمصدر محذوف أي لا يفتننكم فتنة مثل إخراج أبويكم وقد جوز أن يكون التقدير لا يخرجنكم بفتنته إخراجا مثل إخراجه لأبويكم والنهي وإن كان متوجها إلى الشيطان لكنه في الحقيقة متوجه إلى المخاطبين كما في قولك لا أرينك ههنا وقد مر تحقيقه مرارا «ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما» حال من أبويكم أو من فاعل أخرج وإسناد النزع إليه للتسبيب وصيغة المضارع لاستحضار
الصورة وقوله تعالى «إنه يراكم هو وقبيله» أي جنوده وذريته استئناف لتعليل النهي وتأكيد التحذير منه «من حيث لا ترونهم» من لابتداء غاية الرؤية حيث ظرف لمكان انتفاء الرؤية ولا ترونهم في محل الجر بإضافة الظرف إليه ورؤيتهم لنا من حيث لا نراهم لا تقتضي امتناع رؤيتنا
222

لهم مطلقا واستحالة تمثلهم لنا «إنا جعلنا الشياطين» جعل قبيله من جملته فجمع «الذين لا يؤمنون» أي جعلناهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم من إغوائهم وحملهم على ما سولوا لهم أولياء أي قرناء مسلطين عليهم والجملة تعليل آخر للنهي وتأكيد للتحذير إثر تحذير «وإذا فعلوا فاحشة» جملة مبتدأة لا محل لها من الإعراب وقد جوز عطفها على الصلة والفاحشة الفعلة المتناهية في القبح والتاء لأنها مجراة على الموصوف المؤنث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية والمراد بها عبارة الأصنام وكشف العورة في الطواف ونحوهما «قالوا» جوابا للناهين عنها «وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها» محتجين بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه ولعل تقديم المقدم للإيذان منهم بأن آباءهم إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها على أن ضمير أمرنا لهم ولآبائهم فحينئذ يظهر وجه الإعراض عن الأول في رد مقالتهم بقوله تعالى «قل إن الله لا يأمر بالفحشاء» فإن عادته تعالى جارية على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على مراضي الخصال ولا دلالة فيه على أن قبح الفعل بمعنى ترتب الذم عليه عاجلا والعقاب ى جلا عقلي فإن المراد بالفاحشة ما ينفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل المستقيم وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لما فعلوها لم فعلتم فقالوا وجدنا عليها آباءنا فقيل لم فعلها آباؤكم فقالوا الله أمرنا بها وعلى الوجهين يمنع التقليد إذا قام الدليل بخلافه لا مطلقا «أتقولون على الله ما لا تعلمون» من تمام القول المأمور به والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وتوجيه الإنكار والتوبيخ إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدوره عنه تعالى مع أن بعضهم يعلمون عدم صدوره عنه تعالى مبالغة في إنكار تلك الصورة فإن إسناد ما لم يعلم صدوره عنه تعالى إليه تعالى إذا كان منكرا فإسناد ما علم عدم صدوره عنه إليه عز وجل أشد قبحا وأحق بالإنكار
* «قل أمر ربي بالقسط» بيان للمأمور به إثر نفس ما أسند أمره إليه تعالى من الأمور المنهي عنها والقسط هو العدل وهو الوسط من كل شيء المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط «وأقيموا وجوهكم» وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين غير عادلين إلى غيرها أو أقيموا وجوهكم نحو القبلة «عند كل مسجد» في كل وقت سجود أو مكان سجود وهو الصلاة أو في أي مسجد حضرتكم الصلاة عنده ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم «وادعوه» واعبدوه «مخلصين له الدين» اي الطاعة فإن مصيركم إليه بالآخرة «كما بدأكم» أي أنشأكم ابتداء «تعودون» إليه بإعادته فيجازيكم على أعمالكم وإنما شبه الإعادة بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها وقيل كما بدأكم من التراب تعودون إليه وقيل حفاة عراة غر لا تعودون إليه وقيل كما بدأكم مؤمنا وكافرا يعيدكم
223

«فريقا هدى» بأن وفقهم للإيمان «وفريقا حق عليهم الضلالة» بمقتضى القضاء السابق التابع للمشيئة المبنية على الحكم البالغة وانتصابه بفعل مضمر يفسره ما بعده أي وخذل فريقا «إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله» تعليل لخذلانه أو تحقيق لضلالتهم «ويحسبون أنهم مهتدون» فيه دلالة على أن الكافر المخطىء والمعاند سواء في استحقاق الذم وللفارق أن يحمله على المقصر في النظر «يا بني آدم خذوا زينتكم» أي ثيابكم لمواراة عورتكم «عند كل مسجد» أي طواف أو صلاة ومن السنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة وفيه دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة «وكلوا واشربوا» مما طاب لكم روي أن بني عامر كانوا في أيم حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فهم المسلمون بمثله فنزلت «ولا تسرفوا» بتحريم الحلال أو بالتعدي إلى الحرام أو بالإفراط في الطعام والشره عليه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة وقال علي بن الحسين بن واقد جمع الله الطب في نصف آية فقال كلوا واشربوا ولا تسرفوا «إنه لا يحب المسرفين» أيب لا يرتضي فعلهم «قل من حرم زينة الله» من الثياب وما يتجمل به «التي أخرج لعباده» من النبات كالقطن والكتان والحيوان كالحرير والصوف والمعادن كالدروع «والطيبات من الرزق» أي المستلذات من المآكل والمشارب وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة لأن الاستفهام في من إنكاري «قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا» بالأصالة والكفرة وإن شاركوهم فيها فبالتبع «خالصة يوم القيامة» لا يشاركهم فيها غيرهم وانتصابه على الحالية وقرئ بالرفع على أنه خبر بعد خبر «كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون» اي مثل هذا التفصيل نفصل سائر الأحكام لقوم يعلمون ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة «قل إنما حرم ربي الفواحش» أي ما تفاحش قبحه من الذنوب وقيل ما يتعلق منها بالفروج «ما ظهر منها وما بطن» بدل من الفواحش أي جهرها وسرها «والإثم» أي ما يوجب الإثم وهو تعميم بعد تخصيص وقيل هو شرب الخمر «والبغي» أي الظلم أو الكبر أفرد بالذكر
224

للمبالغة في الزجر عنه «بغير الحق» متعلق بالغي مؤكد له معنى «وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا» تهكم بالمشركين وتنبيه على تحريم اتباع ما لا يدل عليه برهان «وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون» بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم والله أمرنا بها وتوجيه التحريم إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون وقوعه لا يعلمون عدم وقوعه قد مر سره «ولكل أمة» من الأمم المهلكة «أجل» حد معين من الزمان مضروب لمهلكهم «فإذا جاء أجلهم» إن جعل الضمير للأمم المدلول عليها بكل أمة فإظهار الأجل مضافا إليه لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بواسطة اكتساب الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل إذا جاءهم آجالهم بأن يجئ كل واحدة من تلك الأمم أجلها الخاص بها وإن جعل لكل أمة خاصة كما هو الظاهر فالإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإضافة إلى الضمير لإفادة أكمل التمييز أي إذا جاءها أجلها الخاص بها «لا يستأخرون» عن ذلك الأجل «ساعة» أي شيئا قليلا من الزما فإنها مثل ي غاية القلة منه أي لا يتأخرون أصلا وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك مع طلبهم له «ولا يستقدمون» أي ولا يتقدمون عليه وهو عطف على يستأخرون لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل المبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيل عقلا كما في قوله سبحانه وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار فإن من مات كافرا مع ظهور أن لا توبة له رأسا قد نظم في عدم القبول في سلك من سوفها
إلى حضور الموت إيذانا بتساوي وجود التوبة حينئذ وعدمها بالمرة وقيل المراد بالمجىء الدنو بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجىء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة فيه وليس بذاك وتقديم بيان انتفاء الاستيخار لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب وأما ما في قوله تعالى ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبئ عنه قوله تعالى ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون فالأهم هناك بيان انتفاء السبق «يا بني آدم» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى كافة الناس اهتماما بشأن ما في حيزه «إما يأتينكم» هي إن الشرطية ضمت إليها ما لتأكيد معنى الشرط ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة وفيه تنبيه على أن إرسال الرسل أمر حائز لا واجب عقلا «رسل منكم» الجار متعلق بمحذوف هو صفة لرسل أي كائنون من جنسكم وقوله «يقصون عليكم آياتي» صفة أخرى لرسل أي يبينون لكم أحكامي وشرائعي وقوله تعالى «فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» جملة شرطية وقعت جوابا
225

للشرط أي فمن اتقى منكم التكذيب وأصلح عمله فلا خوف الخ وكذا وقوله تعالى «والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» أي والذين كذبوا منكم بآياتنا وإيراد الاتقاء في الأول للإيذان بأن مدار الفلاح ليس مجرد عدم التكذيب بل هو الاتقاء والاجتناب عنه وإدخال الفاء في الجزاء الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد «فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته» أي تقول عليه ما لم يقله أو كذب ما قاله أي هو أظلم من كل ظالم وقد مر تحقيقه مرارا «أولئك» إشارة إلى الموصول والجمع باعتبار معناه كما إن إفراد الفعلين باعتبار لفظه وما فيه من معنى البعد للإيذان بتماديهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب «ينالهم نصيبهم من الكتاب» أي مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار وقيل الكتاب اللوح أي ما أثبت لهم فيه وأيا ما كان فمن الابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا من نصيبهم أي ينالهم نصيبهم كائنا من الكتاب وقيل نصيبهم من العذاب وسواد الوجه وزرقة العيون وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كتب لمن يفتري على الله سواد الوجه قال تعالى ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة وقوله تعالى «حتى إذا جاءتهم رسلنا» أي ملك الموت وأعوانه «يتوفونهم» أي حال كونهم متوفين لأرواحهم يؤيد الأول فإن حتى وإن كانت هي التي يبتدأ بها الكلام لكنها غاية لما قبلها فلا بد أن يكون نصيبهم مما يتمتعون بها إلى حين وفاتهم أي ينالهم نصيبهم من الكتاب إلى أن يأتيهم ملائكة الموت فإذا جاءتهم «قالوا» لهم «أين ما كنتم تدعون من دون الله» أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا وما وقعت موصولة بأين في خط المصحف وحقها الفصل لأنها موصولة «قالوا» استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية سؤال الرسل كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا «ضلوا عنا» أي غابوا عنا أي لا ندري مكانهم «وشهدوا على أنفسهم» عطف على قالوا أي اعترفوا على أنفسهم «أنهم كانوا» أي في الدنيا «كافرين» عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا حيث شاهدوا حاله وضلاله ولعله أريد بوقت مجىء الرسل وحال التوفي الزمان الممتد من ابتداء المجىء والتوفي إلى انتهائه يوم الجزاء بناء على تحقق المجىء والتوفي في كل ذلك الزمان بقاء وإن كان حدوثهما في أوله فقط أو قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم من مات فقد قامت قيامته وإلا فهذا السؤال والجواب وما ترتب عليهما من الأمر بدخول النار وما جرى بين أهلها من التلاعن
226

والتقاول إنما يكون بعد البحث لا محالة «قال» اي الله عز وجل يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك «ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم» أي كائنين من جملة أمم مصاحبين لهم «من الجن والإنس» يعني كفار الأمم الماضية من النوعين «في النار» متعلق بقوله ادخلوا «كلما دخلت أمة» من الأمم السابقة واللاحقة فيها «لعنت أختها» التي ضلت بالاقتداء بها «حتى إذا اداركوا فيها جميعا» أي تداركوا وتلاحقوا في النار «قالت أخراهم» دخولا أو منزلة وهم الأتباع «لأولاهم» أي لأجلهم إذ الخطاب مع الله تعالى لا معهم «ربنا هؤلاء أضلونا» سنوا لنا الضلال فاقتدنا بهم «فآتهم عذابا ضعفا» اي مضاعفا من النار لأنهم ضلوا وأضلوا «قال لكل ضعف» أما القادة فلما ذكر من الضلال والإضلال وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم «ولكن لا تعلمون» اي ما لكم وما لكل فريق من العذاب وقرئ بالياء «وقالت أولاهم» اي مخاطبين «لأخراهم» حين سمعوا جواب الله تعالى لهم «فما كان لكم علينا من فضل» أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب «فذوقوا العذاب» أي العذاب المعهود المضاعف «بما كنتم تكسبون» من قول القادة «إن الذين كذبوا بآياتنا» مع وضوحها «واستكبروا عنها» أي عن الإيمان بها والعمل بمقتضاها «لا تفتح لهم أبواب السماء» أي لا تقبل أدعيتهم ولا أعمالهم ولا تعرج إليها أرواحهم كما هو شأن أدعية المؤمنين وأعمالهم وأرواحهم والتاء في تفتح لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها وقرئ بالتخفيف وبالتخفيف والياء وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب على أن الفعل للآيات وبالياء على أنه لله تعالى «ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط» أي حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم فيما علم في ضيق الملك وهو ثقبة الإبرة وفي كون الجمل مما ليس من شأنه الولج في سم الإبرة مبالغة في الاستبعاد وقرئ الجمل كالقمل والجمل كالنغر والجمل كالقفل والجمل كالنصب والجمل كالحبل وهي الحبل الغليظ من القنب وقيل حبل السفينة وسم بالضم والكسر وقرئ في سم المخيط وهو الخياط أي ما يخاط به كالحزام والمحزم «وكذلك» أي ومثل ذلك الجزاء الفظيع «نجزي المجرمين» أي جنس المجرمين وهم داخلون في زمرتهم دخولا أوليا
227

«لهم من جهنم مهاد» أي فراش من تحتهم والتنوين للتفخيم ومن تجريدية «ومن فوقهم غواش» أي أغطية والتنوين للبدل عن الإعلال عند سيبويه وللصرف عند غيره وقرئ غواش على إلغاء المحذوف كما في قوله تعالى وله الجوار المنشآت «وكذلك» ومثل ذلك الجزاء الشديد «نجزي الظالمين» عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعارا بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بكل واحد من ذينك الوصفين القبيحين وذكر الجرم مع الحرمان من دخول الجنة والظلم مع التعذيب بالنار للتنبيه على أنه أعظم الجرائم والجرائر «والذين آمنوا» أي بآياتنا أو بكل ما يجب أن يؤمن به فيدخل فيه الآيات دخولا أوليا وقوله تعالى «وعملوا الصالحات» أي الأعمال الصالحة التي
شرعت بالآيات وهذا بمقابلة الاستكبار عنها «لا نكلف نفسا إلا وسعها» اعتراض وسط بين المبتدأ الذي هو الموصول والخبر الذي هو جملة «أولئك أصحاب الجنة» للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله وتيسر تحصيله وقرئ لا تكلف نفس واسم الإشارة مبتدأ وأصحاب الجنة خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول أو اسم الإشارة بدل من المبتدأ الأول الذي هو الموصول والخبر أصحاب الجنة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف «هم فيها خالدون» جحال من أصحاب الجنة وقد جوز كونه حالا من الجنة لاشتماله على ضميرها والعامل معنى الإضافة أو اللام المقدرة أو خبر ثان لأولئك على رأي من جوزه وفيها متعلق بخالدون «ونزعنا ما في صدورهم من غل» أي نخرج من قلوبهم أسباب الغل أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التواد وصيغة الماضي للإيذان بتحققه وتقرره وعن علي رضي الله تعالى عنه إني لأرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم «تجري من تحتهم الأنهار» زيادة في لذتهم وسرورهم والجملة حال من الضمير في صدورهم والعامل إما معنى الإضافة وإما العامل في المضاف أو حال من فاعل نزعنا والعامل نزعنا وقيل هي مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم «وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا» أي لما جزاؤه هذا «وما كنا لنهتدي» أي لهذا المطلب الأعلى أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها «لولا أن هدانا الله» ووفقنا له واللام لتأكيد النفي وجواب النفي لولا محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه ومفعول نهتدي وهدانا الثاني
228

محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه والجملة مستأنفة أو حالية وقرئ ما كنا لنهتدي الخ بغير واو على أنها مبنية ومفسرة للأولى «لقد جاءت رسل ربنا» جواب قسم مقدر قالوه تبجحا واغتباطا بما نالوه وابتهاجا بإيمانهم بما جاءتهم الرسل عليهم السلام والباء في قوله تعالى «بالحق» إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالا من الرسل أي والله لقد جاءوا بالحق ولقد جاءوا ملتبسين بالحق «ونودوا» أي نادتهم الملائكة عليهم السلام «أن تلكم الجنة» أن مفسرة لما في النداء من معنى القول أو مخففة من أن وضمير الشأن محذوف ومعنى البعد في اسم الإشارة إما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد غما لرفع منزلتها وبعد رتبتها وإما للإشعار بأنها تلك الجنة التي وعدوها في الدنيا «أورثتموها بما كنتم تعملون» في الدنيا من الأعمال الصالحة أي أعطيتموها بسبب أعمالكم أو بمقابلة أعمالكم والجملة حال من الجنة والعامل معنى الإشارة على أن تلكم الجنة مبتدأ وخبر أو الجنة صفة والخبر أورثتموها «ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار» تبجحا بحالهم وشماتة بأصحاب النار وتحسيرا لهم لا لمجرد الإخبار بحالهم والاستخبار عن حال مخاطبيهم «أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا» حيث نلنا هذا المنال الجليل «فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا» حذف المفعول من الفعل الثاني إسقاطا لهم عن رتبة التشريف بالخطاب عند الوعد وقيل لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصا بهم وعدا كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة فإنهم قد وجدوا جميع ذلك حقا وإن لم يكن وعده مخصوصا بهم «قالوا نعم» أي وجدناه حقا وقرئ بكسر العين وهي لغة فيه «فأذن مؤذن» قيل هو صاحب الصور «بينهم» أي بين الفريقين «أن لعنة الله على الظالمين» بأن المخففة أو المفسرة وقرئ بأن المشددة ونصب لعنة وقرئ إن بكسر الهمزة على إرادة القول أو إجراء أذن مجرى قال «الذين يصدون عن سبيل الله» صفة مقررة للظالمين أو رفع على الذم أو نصب عليه «ويبغونها عوجا» أي يبغون لها عوجا بأن يصفوها بالزيغ والميل عن الحق وهو أبعد شيء منهما والعوج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم يكن منتصبا وبالفتح ما كان في المنتصب كالرمح والحائط «وهم بالآخرة كافرون» غير معترفين «وبينهما حجاب» أي بين الفريقين كقوله تعالى فضرب بينهم بسور أو بين الجنة والنار ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى «وعلى الأعراف» اي على أعراف الحجاب وأعاليه وهو السور المضروب بينهما جمع
229

عرف مستعار من عرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه بظهوره أعرف من غيره «رجال» طائفة من الموحدين قصروا في العمل فيجلسون بين الجنة والنار حتى يقضي الله تعالى فيهم ما يشاء وقيل قوم علت درجاتهم كالأنبياء والشهداء والأخيار والعلماء من المؤمنين أو ملائكة يرون في صور الرجال «يعرفون كلا» من أهل الجنة والنار «بسيماهم» بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجه وسواده فعلى من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة أو من وسم بالقلب كالجاه من الوجه وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو بتعليم الملائكة «ونادوا» أي رجال الأعراف «أصحاب الجنة» حين رأوهم «أن سلام عليكم» بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره «لم يدخلوها» حال من فاعل نادوا أو من مفعوله وقوله تعالى «وهم يطمعون» حال من فاعل يدخلوها أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدم الدخول طامعون «وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار» أي إلى جهتهم وفي عدم التعرض لتعلق أنظارهم بأصحاب الجنة والتعبير عن تعلق أبصارهم بأصحاب النار بالصرف إشعار بأن التعلق الأول بطريق الرغبة والميل الثاني بخلافه «قالوا» متعوذين بالله تعالى من سوء حالهم «ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين» أي في النار وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفي العذاب فقط بل مع ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم «ونادى أصحاب الأعراف» كرر ذكرهم مع كفاية الإضمار لزيادة التقرير «رجالا» من رؤساء الكفار حين رأوهم فيما بين أصحاب النار «يعرفونهم بسيماهم» الدالة على سوء حالهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا «قالوا» بدل من نادي «ما أغنى عنكم» ما إما الاستفهامية للتوبيخ والتقريع أو نافية «جمعكم» اي اتباعكم وأشياعكم أو جمعكم للمال «وما كنتم تستكبرون» ما مصدرية أي ما أغنى عنكم جميعا واستكباركم المستمر عن قبول الحق أو على الخلق وهو الأنسب بما بعجه وقرئ تستكثرون من الكثرة أي من الأموال والجنود «أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة» من تتمة قولهم للرجال والإشارة إلى ضعفاء المؤمنين الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون صريحا أنهم لا يدخلون الجنة أو يفعلون ما ينبئ عن ذلك كما في قوله تعالى أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال «ادخلوا الجنة» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى أولئك المذكورين أي ادخلوا الجنة على رغم
230

أنوفهم «لا خوف عليكم» بعد هذا «ولا أنتم تحزنون» أو قيل لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة بفضل الله تعالى بعد أن حبسوا وشاهدوا أحوال الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا والأظهر أن لا يكون المراد بأصحاب الأعراف المقصرين في العمل لأن هذه المقالات وما تتفرع هي عليه من المعرفة لا يليق بمن لم يتعين حاله بعد وقيل
لما عيروا أصحاب النار أقسموا أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله تعالى أو الملائكة ردا عليهم أهؤلاء الخ وقرئ ادخلوا ودخلوا على الاستئناف وتقديره دخلوا الجنة مقولا في حقهم لا خوف عليكم «ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة» بعد أن استقر بكل من الفريقين القرار واطمأنت به الدار «أن أفيضوا علينا من الماء» أي صبوه وفيه دلالة على أن الجنة فوق النار «أو مما رزقكم الله» من سائر الأشربة ليلائم الإضافة أو من الأطعمة على أن الإفاضة عبارة عن الإعطاء بكثرة «قالوا» استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قالوا فقيل قالوا «إن الله حرمهما على الكافرين» أي منعهما منهم منعا كليا فلا سبيل إلى ذلك قطعا «الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا» كتحريم البحيرة والسائبة ونحوهما والتصدية حول البيت واللهو صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب «وغرتهم الحياة الدنيا» بزخارفها العاجلة «فاليوم ننساهم» نفعل بهم ما يفعل الناس بالمنسي من عدم الاعتداد بهم وتركهم في النار تركا كليا والفاء في فاليوم فصيحة وقوله تعالى «كما نسوا لقاء يومهم هذا» في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ننساهم مثل نسيانهم لقاء يومهم هذا حيث لم يخطروه ببالهم ولم يعتدوا له وقوله تعالى «وما كانوا بآياتنا يجحدون» عطف على ما نسوا أي وكما كانوا منكرين بأنها من عند الله تعالى إنكارا مستمرا «ولقد جئناهم بكتاب فصلناه» أي بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ والضمير للكفرة قاطبة والمراد بالكتاب الجنس أو للمعاصرين منهم والكتاب هو القرآن «على علم» حال من فاعل فصلناه أي عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيما أو من مفعوله أي مشتملا على علم كثير وقرئ فضلناه أي على سائر الكتب عالمين بفضله «هدى ورحمة» حال من المفعول «لقوم لا يؤمنون» لأنهم المغتنمون لآثاره المقتبسون من أنواره
231

«هل ينظرون إلا تأويله» أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة بعدم إيمانهم به إلا ما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد «يوم يأتي تأويله» وهو يوم القيامة «يقول الذين نسوه من قبل» أي تركوه ترك المنسي من قبل إتيان تأويله «قد جاءت رسل ربنا بالحق» اي قد تبين أنهم قد جاءوا بالحق «فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا» ويدفعوا عنا العذاب «أو نرد» أي هل نرد إلى الدنيا وقرئ بالنصب عطفا على فيشفعوا أو لأن أو بمعنى إلى أن فعلى الأول المسؤول أحد الأمرين إما الشفاعة لدفع العذاب أو الرد إلى الدنيا وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد هو الرد «فنعمل» بالنصب على أنه جواب الاستفهام الثاني وقرئ بالرفع أي فنحن نعمل «غير الذي كنا نعمل» أي في الدنيا «قد خسروا أنفسهم» بصرف أعمارهم التي هي راس مالهم إلى الكفر والمعاصي «وضل عنهم ما كانوا يفترون» اي ظهر بطلان ما كانوا يفترونه من أن الأصنام شركاء لله تعالى وشفعاؤهم يوم القيامة «إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام» شروع في بيان مبدأ الفطرة إثر بيان معاد الكفرة أي إن خالقكم ومالككم الذي خالق الأجرام العلوية والسفلية في ستة أوقات كقوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره أو في مقدار ستة أيام فإن المتعارف أن اليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ وفي خلق الأشياء مدرجا مع القدرة على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور «ثم استوى على العرش» أي استوى أمره واستولى وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف والمعنى أنه تعالى استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزها عن الاستقرار والتمكن والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك «يغشي الليل النهار» أي يغطيه به ولم يذكر العكس للعلم به أو لأن اللفظ يحتملهما ولذلك قرىء بنصب الليل ورفع النهار وقرئ بالتشديد للدلالة على التكرار «يطلبه حثيثا» أي يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء والحثيث فعيل من الحث وهو صفة مصدر محذوف أو حال من الفاعل أو من المفعول بمعنى حاثا أو محثوثا «والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره» أي خلقهن حال كونهن مسخرات بقضائه وتصريفه وقرئ كلها بالرفع على
232

الابتداء والخبر «ألا له الخلق والأمر» فإنه الموجد للكل والمتصرف فيه على الإطلاق «تبارك الله رب العالمين» أي تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظم بالتفرد في الربوبية وتحقيق الآية الكريمة والله تعالى أعلم أن الكفرة كانوا متخذين أربابا فبين لهم أن المستحق الربوبية واحد هو الله تعالى لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فابدع الأفلاك ثم زينها بالشمس والقمر والنجوم كما أشار إليه بقوله تعالى فقضاهن سبع سماوات في يومين وعمد إلى الأجرام السفلية فخلق جسما قابلا للصور المتبدلة والهيئات المختلفة ثم قسمها لصور نوعية متباينة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله تعالى وخلق الأرض في يومين أي ما في جهة السفل في يومين ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة بتركيب موادها أولا وتصويرها ثانيا كما قال بعد قوله تعالى خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام أي مع اليومين الأولين لما فصل في سورة السجدة ثم لما تم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالمالك الجالس على سريره فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير لكواكب وتكوير الليالي والأيام ثم صرح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته فقال تعالى ألا له الحلق والأمر تبارك الله رب العالمين ثم أمر بأن يدعوه مخلصين متذللين فقال «ادعوا ربكم» الذي قد عرفتم شؤونه الجليلة «تضرعا وخفية» أي ذوي تضرع وخفية فإن الإخفاء دليل الإخلاص «إنه لا يحب المعتدين» أي لا يحب دعاء المجاوزين لما أمروا به في كل شيء فيدخل فيه الاعتداء في الدعاء دخولا أوليا وقد نبه به على أن الداعي يجب أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء والصعود إلى السماء وقيل هو الصياح في الدعاء والإسهاب فيه وعن النبي صلى الله عليه وسلم سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ إنه لا يحب المعتدين «ولا تفسدوا في الأرض» بالكفر والمعاصي «بعد إصلاحها» ببعث الأنبياء عليهم السلام وشرع الأحكام «وادعوه خوفا وطمعا» أي ذوي خوف نظرا إلى قصور أعمالكم وعدم استحقاقكم وطمع نظرا إلى سعة رحمته ووفور فضله وإحسانه «إن رحمة الله قريب من المحسنين» في كل شيء ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقرونا بالخوف والطمع وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الرحم أو لأنه صفة لمحذوف أي أمر قريب أو على تشبيه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول أو الذي هو مصدر كالنقيض والصهيل أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره أو لاكتسابه التذكير من المضاف إليه كما أن المضاف يكتب التأنيث من المضاف إليه
233

«وهو الذي يرسل الرياح» عطف على الجملة السابقة وقرئ الريح «بشرا» تخفيف بشر جمع بشير أي مبشرات وقرئ بفتح الباء على أنه مصدر بشره بمعنى باشرات أو للبشارة وقرئ نشرا بالنون المضمومة جمع نشور أي ناشرات ونشرا على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان «بين يدي رحمته» قدام رحمته التي هي المطر فإن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه «حتى إذا أقلت» أي حملت واشتقاقه من القلة فإن المقل للشيء يستقله «سحابا ثقالا» بالماء جمعه لأنه بمعنى السحائب «سقناه» اي السحاب وإفراد الضمير لإفراد اللفظ «لبلد ميت» أي لأجله ولمنفعته أو لإحيائه أو لسقيه وقرئ ميت «فأنزلنا به الماء» أي بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح والتذكير بتأويل المذكور وكذلك قوله تعالى «فأخرجنا به» ويحتمل أن يعود الضمير إلى الماء وهو الظاهر وإذا كان للبلد فالباء للإلصاق في الأول والظرفية في الثاني وإذا كان لغيره فهي للسببية «من كل الثمرات» أي من كل أنواعها «كذلك نخرج الموتى» الإشارة إلى إخراج الثمرات أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات نخرج الموتى من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس «لعلكم تذكرون» بطرح إحدى التاءين أي تتذكرون فتعلمون أن من قدر على ذلك على هذا من غير شبهة «والبلد الطيب» أي الأرض الكريمة التربة «يخرج نباته بإذن ربه» بمشيئته وتيسيره عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفحه لأنه أوقعه في مقابلة قوله تعالى «والذي خبث» من البلاد كالسبخة والحرة «لا يخرج إلا نكدا» قليلا عديم النفع ونصبه على الحال والتقدير والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا مستترا وقرئ لا يخرج إلا نكدا أي لا يخرجه البلد إلا نكدا فيكون إلا نكدا مفعوله وقرئ نكدا على المصدر أي ذا نكد ونكدا بالإسكان للتخفيف «كذلك» أي مثل ذلك التصريف البديع «نصرف الآيات» أي نرددها ونكررها «لقوم يشكرون» نعمة الله تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وهذا كما ترى مثل لإرسال الرسل عليهم بالشرائع التي هي ماء حياة القلوب إلى المكلفين المنقسمين إلى المقتبسين من أنوارها والمحرومين من مغانم آثارها وقد عقب ذلك بما يحققه ويقرره من قصص الأمم الخالية بطريق الاستئناف فقيل
234

«لقد أرسلنا نوحا إلى قومه» هو جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا الخ واطراد استعمال هذه اللام مع قد لكون مدخولها مظنة للتوقع الذي هو معنى قد فغن الجملة القسمية إنما تساق لتأكيد الجملة المقسم عليها ونوح هو ابن لملك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس النبي عليهما السلام قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعث عليه الصلاة والسلام على رأس أربعين سنة من عمره ولبث يدعو قومه تسعمأة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا ومائتين وأربعين سنة وقال مقاتل بعث وهو ابن مائة سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسون سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة «فقال يا قوم اعبدوا الله» أي اعبدوه وحده وترك التقييد بع للإيذان بأنها العبادة حقيقة وأما العبادة بالإشراك فليست من العبادة في شيء وقوله تعالى «ما لكم من إله غيره» أي من مستحق للعبادة استئناف مسوق لتعليل العبادة المذكورة أو الأمر بها وغيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية وقرئ بالجر باعتبار لفظه وقرئ بالنصب على الاستثناء وحكم غير حكم الاسم الواقع بعد إلا أي ما لكم من إله إلا إياه كقولك ما في الدار من أحد إلا زبد أو غير زيد فمن إله إن جعل مبتدأ فلكم خبره أو خبره محذوف ولكم للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود أو في العالم إله غير الله «إني أخاف عليكم» أي إن لم تعبدوه حسبما أمرت به «عذاب يوم عظيم» هو يوم القيامة أو يوم الطوفان والجملة تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها إثر تعليلها ببيان الداعي إليها ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميل الإنذار «قال الملأ من قومه» استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قوله عليه السلام كأنه قيل فماذا قالوا له عليه السلام في مقابلة نصحه فقيل قال الرؤساء من قومه والأشراف الذين يمثلون صدور المحافل بأجرامهم والقلوب بجلالهم وهيبتهم والأبصار بجمالهم وأبهتهم «إنا لنراك في ضلال» أي ذهاب عن طريق الحق والصواب والرؤية قلبية ومفعولاها الضمير والظرف «مبين» بين كونه ضلالا «قال» استئناف كما سبق «يا قوم» ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لقلوبهم نحو الحق «ليس بي ضلالة» أي شيء ما من الضلال قصد عليه الصلاة والسلام تحقيق الحقي في نفي الضلال عن نفسه ردا على الكفرة حيث بالغوا في إثباته له عليه الصلاة والسلام حيث جعلوه مستقرا في الضلال الواضح كونه ضلالا وقوله تعالى «ولكني رسول من رب العالمين» استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية فإن رسالة رب العالمين مستلزمة
235

لا محالة كأنه قيل ليس بي شيء من الضلال ولكني في الغاية القاصية من الهداية ومن لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف هو صفة لرسول مؤكدة لما يفيده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي رسول وأي رسول كائن من رب العالمين «أبلغكم رسالات ربي» استئناف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها وأحوالها وقيل صفة أخرى لرسول على طريقة أنا الذي سمتني أمي حيدره وقرئ أبلغكم من الإبلاغ وجمع رسالات لاختلاف أوقاتها أو لتنوع معانيها أو لأن المراد بها ما أوحي إليه وإلى النبيين من قبله وتخصيص ربوبيته تعالى به عليه الصلاة والسلام بعد بيان عمومها للعالمين للإشعار لعلة الحكم الذي هو تبليغ رسالته تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من موجبات امتثاله بأمره تعالى بتبليغ رسالته تعالى إليهم «وأنصح لكم» عطف إلى أبلغكم مبين لكيفية أداء الرسالة وزيادة اللام مع تعدي النصح بنفسه للدلالة على إمحاض النصيحة لهم وأنها لمنفعتهم ومصلحتهم خاصة وصيغة المضارع للدلالة على تجدد نصيحته لهم كما يعرب عنه قوله تعالى رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا وقوله تعالى «وأعلم من الله ما لا تعلمون» عطف على ما قبله وتقرير لرسالته عليه الصلاة والسلام أي أعلم من جهة الله تعالى بالوحي ما لا تعلمونه من الأمور الآتية أو أعلم من شؤونه عز وجل وقدرته القاهرة وبطشه الشديد على أعدائه وأن بأسه لا يرد عن ألقم المجرمين ما لا تعلمونه قيل كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السلام بالوحي «أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم» جواب ورد لما اكتفى عن ذكره بقولهم إنا لنراك في ضلال مبين من قولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا وقولهم لو شاء الله لأنزل ملائكة والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل أاستبعدتم وعجبتم
من أن جاءكم ذكر أي وحي أو موعظة من مالك أموركم ومربيكم «على رجل منكم» أي على لسان رجل من جنسكم كقوله تعالى ما وعدتنا على رسلك وقلتم لأدل ذلك ما قلت من أن الله تعالى لو شاء لأنزل ملائكة «لينذركم» علة للمجىء أي ليحذركم عاقبة الكفر والمعاصي «ولتتقوا» عطف على العلة الأولى مترتبة عليها «ولعلكم ترحمون» عطف على العلة الثانية مترتبة عليها أي ولتتعلق بكم الرحمة بسبب تقواكم وفائدة حرف الترجي التنبيه على عزة المطلب وأن التقوى غير موجب للرحمة بل هي منوطة بفضل الله تعالى وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن عذاب الله عز وجل «فكذبوه» فتموا على تكذيبه في دعوى النبوة وما نزل عليه من الوحي الذي بلغه إليهم وأنذرهم بما في
236

تضاعيفه واستمروا على ذلك هذه المدة المتطاولة بعد ما كرر عليه الصلاة والسلام عليهم الدعوة مرارا فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا حسبما نطق به قوله تعالى رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا الآيات إذ هو الذي يعقبه الإنجاء والإغراق لا مجرد التكذيب «فأنجيناه والذين معه» من المؤمنين قيل كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة وقيل تسعة أبناؤه الثلاثة وستة ممن آمن به وقوله تعالى «في الفلك» متعلق بالاستقرار في الظرف أي استقروا معه في الفلك وصحبوه فيه أو بفعل الإنجاء أي أنجيناهم في السفينة ويجوز أن يتعلق بمضمر وقع حالا من الموصول أو من ضميره في الظرف «وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا» أي استمروا على تكذيبها وليس المراد بهم الملأ المتصدين للجواب فقط بل كان من أصر على التكذيب منهم ومن أعقابهم وتقديم ذكر الإنجاء على الإغراق للمسارعة إلى الإخبار به والإيذان بسبق الرحمة التي هي مقتضى الذات وتقدمها على الغضب الذي يظهر أثره بمقتضى جرائمهم «إنهم كانوا قوما عمين» عمي القلوب غير مستبصرين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد وقرئ عامين والأول أدل على الثبات والقرار «وإلى عاد» متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى أرسلنا في قصة نوح عليه السلام وهو الناصب لقوله تعالى «أخاهم» أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحدا منهم في النسب لا في الدين كقولهم يا أخا العرب وقيل العامل فيهما الفعل المذكور فيما سبق وأخاهم معطوف على نوحا والأول هو الأولى وأيا ما كان فلعل تقديم المجرور ههنا على المفعول الصريح للحذار عن الإضمار قبل الذكر يرشدك إلى ذلك ما سيأتي من قوله تعالى ولوطا الخ فإن قومه لما لم يعهدوا باسم معروف يقتضي الحال ذكره عليه السلام مضافا إليهم كما في قصة عاد وثمود ومدين خولف في النظم الكريم بين قصته عليه السلام وبين القصص الثلاث وقوله تعالى «هودا» عطف بيان لأخاهم وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود ابن عاد بن عوص ابن أرم بن سام بن نوح عليه السلام وقيل هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن عم أبي عاد وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لكلامه وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وأقرب إلى اتباعه «قال» استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية إرساله عليه السلام إليهم كأنه فماذا قال لهم فقيل قال «قال يا قوم اعبدوا الله» اي وحدوه كما يعرب عنه قوله «ما لكم من إله غيره» فإنه استئناف جار مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل لها أو للأمر بها كأنه قيل خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله سواه وغيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله وقرئ بالجمر حملا له على لفظه «أفلا تتقون» إنكار واستبعاد لعدم اتقائهم عذاب الله تعالى بعد ما علموا ما حل بقوم نوح والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا تتفكرون أو أتغفلون فلا تتقون فالتوبيخ على المعطوفين معا أو أتعلمون ذلك فلا تتقون فالتوبيخ على المعطوف فقط وفي سورة هود أفلا تعقلون ولعله عليه السلام خاطبهم بكل منهما وقد اكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر كما لم يذكر ههنا ما ذكر هناك من قوله تعالى إن أنتم إلا مفترون وقس على ذلك حال بقية ما ذكر وما لم يذكر من أجزاء القصة بل
237

حال نظائره في سائر القصص لا سيما في المحاورات الجارية في الأوقات المتعددة والله أعلم «قال الملأ الذين كفروا من قومه» استئناف كما مر وإنما وصف الملأ بالكفر إذ لم يكن كلهم على الكفر كملأ قوم نوح بل كان منهم من آمن به عليه السلام ولكن كان يكتم إيمانه كمرثد بن سعد وقيل وصفوا له لمجرد الذم «إنا لنراك في سفاهة» أي متمكنا في خفة عقل راسخا فيها حيث فارق دين آبائك إلا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون «وإنا لنظنك من الكاذبين» أي فيما ادعيت من الرسالة قالوه لعراقتهم في التقليد وحرمانهم من النظر الصحيح «قال» مستعطفا لهم ومستميلا لقلوبهم مع ما سمع منهم ما سمع من الكلمة الشنعاء الموجبة لتغليظ القول والمشافهة بالسوء «يا قوم ليس بي سفاهة» أي شيء منها ولا شائبة من شوائبها «ولكني رسول من رب العالمين» استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه ويقتضيه من كونه في الغاية القصوى من الرشد والأناة والصدق والأمانة فإن الرسالة من جهة رب العالمين موجبة لذلك حتما كأنه قيل ليس بي شيء مما نسبتموني إليه ولكني في غاية ما يكون من الرشد والصدق ولم يصرح بنفي الكذب اكتفاء بما في حيز الاستدراك ومن لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة لما افاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية وقوله تعالى «أبلغكم رسالات ربي» استئناف سيق لتقرير رسالته وتفصيل أحوالها وقيل صفة أخرى لرسول والكلام في إضافة الرب إلى نفسه عليه السلام بعد إضافته إلى العالمين وكذا في جمع الرسالات كالذي مر في قصة نوح عليه السلام وقرئ أبلغكم من الإبلاغ «وأنا لكم ناصح أمين» معروف بالنصح والأمانة مشهور بين الناس بذلك وإنما جيء بالجملة الاسمية دلالة على الثبات والاستمرار وإيذانا بأن من هذا حاله لا يحوم حوله شائبة السفاهة والكذب «أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم» الكلام فيه كالذي مر في قصة نوح عليه السلام «على رجل منكم» أي من جنسكم «لينذركم» ويحذركم عاقبة ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي حتى نسبتموني إلى السفاهة والكذب وفي إجابة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من يشافههم بما لا خير فيه من أمثال تلك الأباطيل بما حكي عنهم من المقالات الحقة المعربة عن نهاية الحلم والرزانة وكمال الشفقة والرأفة من الدلالة على حيازتهم القدح المعلى من مكارم الأخلاق ما لا يخفى مكانه «واذكروا إذ جعلكم خلفاء» شروع في بيان ترتيب أحكام النصح
238

والأمانة والإنذار وتفصيلها وإذ منصوب باذكروا على المفعولية دون الظرفية وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقت مشتمل عليها فإذا استحضر كانت هي حاضرة بتفاصيلها كأنها
مشاهدة عيانا ولعله معطوف على مقدرة كأنه قيل لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا وقت جعله تعالى إياكم خلفاء «من بعد قوم نوح» أي في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شحر عمان «وزادكم في الخلق» أي من الإبداع والتصوير أو في الناس «بسطة» قامة وقوة فإنه لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الإجرام قال الكبي والسدي كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعا «فاذكروا آلاء الله» التي أنعم بها عليكم من فنون النعماء التي هذه من جملتها وهذا تكرير للتذكير لزيادة التقرير وتعميم إثر تخصيص «لعلكم تفلحون» كي يؤديكم ذلك إلى الشكر المؤدي إلى النجاة من الكروب والفوز بالمطلوب «قالوا» مجيبين عن تلك النصائح العظيمة «أجئتنا لنعبد الله وحده» أي لنخصه بالعبادة «ونذر ما كان يعبد آباؤنا» أنكروا عليه عليه السلام مجيئه لتخصيصه تعالى بالعبادة والإعراض عن عبادة الأوثان أنهما كان في التقليد وحبا لما ألفوه وألفوا أسلافهم عليه ومعنى المجىء إما مجيئه عليه السلام من متعبده ومنزله وإما من السماء على التهكم وإما القصد والتصدي مجازا كما يقال في مقابله ذهب يشتمني من غير إرادة معنى الذهاب «فأتنا بما تعدنا» من العذاب والمدلول عليه بقوله تعالى أفلا تتقون «إن كنت من الصادقين» أي في الإخبار بنزول العذاب وجواب إن محذوف لدلالة المذكور عليه أي فأت به «قال قد وقع عليكم» أي وجب وحق أو نزل بإصراركم هذا بناء على تنزيل المتوقع منزلة الواقع كما في قوله تعالى أتى أمر الله «من ربكم» أي من جهته تعالى وتقديم الظرف الأول على الثاني مع أن مبدأ الشيء متقدم على منتهاه للمسارعة إلى بيان إصابة المكروه لهم وكذا تقديمهما على الفاعل الذي هو قوله تعالى «رجس» مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما عطف عليه من قوله تعالى «وغضب» فربما يخل تقديمهما بتجاوب النظم الكريم والرجس العذاب من الارتجاس الذي هو الاضطراب والغضب إرادة الانتقام للتفخيم والتهويل «أتجادلونني في أسماء» عارية عن المسمى «سميتموها» أي سميتم بها «أنتم وآباؤكم» إنكار واستقباح لإنكارهم مجيئه عليه السلام داعيا لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك
239

عبادة الأصنام أي أتجادلونني في أشياء سميتموها آلهة ليست هي إلا محض الأسماء من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شيء ما لأن لمستحق للعبودية ليس إلا من أوجد الكل وأنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل وذلك قوله تعالى «ما نزل الله بها من سلطان» وإذ ليس ذلك في حيز الإمكان تحقق بطلان ما هم عليه «فانتظروا» مترتب على قوله تعالى قد وقع عليكم أي فانتظروا ما تطلبونه بقولكم فائتنا بما تعدنا الخ «إني معكم من المنتظرين» لما يحل بكم والفاء في قوله تعالى «فأنجيناه» فصيحة كما في قوله تعالى فانفجرت أي فوقع ما قوع فأنجيناه «والذين معه» أي في الدين «برحمة» أي عظيمة لا يقادر قدرها وقوله تعالى «منا» أي من جهتنا متعلق بمحذوف هو نعت لرحمة مؤكد لفخامتها الذاتية المنفهة من تنكيرها بالفخامة الإضافية «وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا» أي استأصلناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم «وما كانوا مؤمنين» عطف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أبدا وتقديم حكاية الإنجاء على حكاية الإهلاك قد مر سره وفيه تنبيه على أن مناط النجاة هو الإيمان بالله تعالى وتصديق آياته كما أن مدار البوار هو الكفر والتكذيب وقصتهم ان عادا قوم كانوا باليمن بالأحقاف وكانوا قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان إلى حضرموت وكانت لهم أصنام يعبدونها صدا وصمود وإلهبا فبعث الله تعالى إليهم هودا نبيا وكان من أوسطهم وأفضلهم حسبا فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا وكان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج منه عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق ابن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل ابن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم قينتا معاوية فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له أهمه ذلك وقال قد هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحيى أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله فقال معاوية
[ألا يا قيل ويحك قم فهينم * لعل الله يسقينا غماما]
[فيسقي أرض عاد إن عادا * قد أمسوا لا يبنون الكلاما]
فلما غنتا به قالوا إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فأدخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال لهم مرثد بن سعد والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سقيتم وأظهر إسلامه فقالوا لمعاوية احبس عنا مرثدا لا يقدمن معنا فإنه قد اتبع هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة فقال قيل اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لنفسك ولقومك فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهم ماء فخرجت على عاد من واد يقال له المغيث فاستبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منا ريح عقيم فأهلكتهم ونجال هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فعبدوا الله تعالى
240

فيها إلى أن ماتوا «وإلى ثمود أخاهم صالحا» عطف على ما سبق من قوله تعالى وإلى عاد أخاهم هودا موافق له في تقديم المجرور على المنصوب وثمود قبيلة من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم ابن سام بن نوح عليه السلام وقيل إنما سموا بذلك لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل وقرئ بالصرف بتأويل الحي وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى واد القرى وأخوة صالح عليه السلام لهم من حيث النسب كهود عليه السلام فإنه صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود ولما كان الإخبار بإرساله عليه السلام إليهم مظنة لأن يسأل ويقال فماذا قال لهم قيل جوابا عنه بطريق الاستئناف «قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» وقد مر الكلام في نظائره «قد جاءتكم بينة» أي آية ومعجزة ظاهرة شاهدة بنبوتي وهي من الألفاظ الجارية مجرى الأبطح والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصوفاتها حالة الإفراد والجمع كالصالح إفرادا وجمعا وكذلك الحسنة والسيئة سواء كانتا صفتين للأعمال أو لمثوبة أو الحالة من الرخاء والشدة لذلك أوليت العوامل وقوله تعالى «من ربكم» متعلق بجاءتكم أو بمحذوف هو صفة لبينة كما مر مرارا والمراد بها الناقة وليس هذا الكلام منه عليه السلام أول ما خاطبهم إثر دعوتهم إلى
التوحيد بل إنما قاله بعد ما نصحهم وذكرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامه وكذبوه ألا يرى إلى ما في سورة هود من قوله تعالى هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها إلى آخر الآيات روي أنه لما أهلكت عاد عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعمارا طوالا حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتوا البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش فعتوا على الله تعالى وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان فبعث الله تعالى إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وصالح من أوساطهم نسبا فدعاهم إلى الله عز وجل فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعنا فقال صالح عليه السلام نعم فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوا الاستجابة فلم تجبهم ثم قال سيدهم جندع بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء والمخترجة التي شاكلت البخت فإن فعلت صدقناك وأجبناك فاخذ صالح عليه السلام المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن قالوا نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة وتمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى وعظماؤهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ومنع أعقابهم ناس من رؤوسهم أن تؤمنوا فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء
241

وكانت ترد غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعها حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج فيحتلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدخرون وكانت إذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي فيهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان عنيزة أم إن وصدقة بنت المختار لما أضرت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق سقيها حتى رقى جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا وكان صالح عليه السلام قال لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه فانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح تصبحون غدا وجوهكم مصفرة وبعد غدو وجوهكم محمرة واليوم الثالث ووجوهكم مسودة يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض فتقطعت قلوبهم فهلكوا وقوله تعالى «هذه ناقة الله لكم آية» استئناف مسوق لبيان البينة وإضافة الناقة إلى الاسم الجليل لتعظيمها ولمجيئها من جهته تعالى بلا أسباب معهودة ووسايط معتاد ولذلك كانت آية وأي آية ولكم بيان لمن هي آية له وانتصاب آية على الحالية والعامل فيها معنى الإشارة ويجوز أن يكون ناقة الله بدلا من هذه أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانيا ولكم خبرا عاملا في آية «فذروها» تفريع على كونها آية من ى يأت الله تعالى فإن ذلك مما يوجب عدم التعرض لها «تأكل في أرض الله» جواب الأمر أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله تعالى فاتركوها تأكل ما تأكل في أرض ربها فليس اكم أن تحولوا بينها وبينها وقرئ تأكل بالرفع على أنه في موضع الحال أي آكلة فيها وعدم التعرض للشرب إما للاكتفاء عنه بذكر الأكل أو لتعميمه له أيضا كما في قوله علفتها تبنا وماء باردا وقد ذكر ذلك في قوله تعالى لها شرب ولكم شرب يوم معلوم «ولا تمسوها بسوء» نهي عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالشر الشامل لأنواع الأذية ونكر السوء مبالغة في النهي أي لا تتعرضوا لها بشيء مما يسوءها أصلا ولا تطردوها ولا تريبوها إكراما لآية الله تعالى «فيأخذكم عذاب أليم» جواب النهي ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يا علي أتدري من أشقى الأولين قال الله ورسوله أعلم قال عاقر ناقة صالح أتدري من أشقى الآخرين قال الله ورسوله أعلم قال قاتلك «واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد» أي خلفاء في الأرض أو خلفاءهم كما مر «وبوأكم في الأرض» 6 اي جعل لكم مباءة ومنزلا في أرض الحجر بين الحجاز والشام «تتخذون من سهولها قصورا» استئناف مبين لكيفية التبوئة أي تبنون في سهولها قصورا رفيعة أو تبنون من سهولة الأرض بما تعلمون منها من الرهص واللبن والآجر «وتنحتون الجبال»
242

أي الصخور وقرئ تنحتون بفتح الحاء وتنحاتون بإشباع الفتحة كما في قوله ينباع من ذفرى أسيل حرة والنحت نجر الشيء الصلب فانتصاب الجبال على المفعولية وانتصاب قوله تعالى «بيوتا» على أنها حال مقدرة منها كما تقول خطت هذا الثوب قميصا وقيل انتصاب الجبال على إسقاط الجار أي من الجبال وانتصاب بيوتا على المفعولية وقد جوز أن يضمن النحت معنى الاتخاذ فانتصابهما على المفعولية قيل كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء «فاذكروا آلاء الله» التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميع آلائه التي هذه من جملتها «ولا تعثوا في الأرض مفسدين» فإن حق آلائه تعالى أن تشكر ولا تهمل ولا يغفل عنها فكيف بالكفر والعثى في الأرض بالفساد «قال الملأ الذين استكبروا من قومه» أي عتوا وتكبروا استئناف كما سلف وقرئ بالواو عطفا على ما قبله من قوله تعالى قال يا قوم الخ ة واللام في قوله تعالى «للذين استضعفوا» للتبليغ وقوله تعالى «لمن آمن منهم» بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل إن كان ضمير منهم لقومه وبدل البعض إن كان للذين استضعفوا على أن من المستضعفين من لم يؤمن والأول هو الوجه إذ لا داعي إلى توجيه الخطاب أولا إلى جميع المستضعفين مع أن المجاوبة مع المؤمنين منهم على أن الاستضعاف مختص بالمؤمنين أي قالوا للمؤمنين الذين استضعفوهم واسترذلوهم (أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه)
وإنما قالوه بطريق الاستهزاء بهم (قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون) عدلوا عن الجواب الموافق لسؤالهم بأن يقولوا نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى مسارعة إلى تحقيق الحق وإظهار ما لهم من الإيمان الثابت المستمر الذي ينبئ عنه الجملة الاسمية وتنبيها على أن أمر إرساله من الظهور بحيث لا ينبغي أن يسأل عنه وإنما الحقيق بالسؤال عنه هو الإيمان به «قال الذين استكبروا» أعيد الموصول مع صلته مع كفاية الضمير إيذانا بأنهم قد قالوا ما قالوه بطريق العتو والاستكبار «إنا بالذي آمنتم به كافرون» وإنما لم يقولوا إنما بما أرسل به كافرون إظهارا لمخالفتهم إياهم وردا لمقالتهم «فعقروا الناقة» أي نحروها أسند العقر إلى الكل مع أن المباشر بعضهم للملابسة أو لأن ذلك لما كان برضاهم فكأنه فعله كلهم وفيه من تهويل الأمر وتفظيعه بحيث أصابت غائلته الكل ما لا يخفى «وعتوا عن أمر ربهم» أي استكبروا عن امتثاله وهو ما بلغهم
صالح عليه السلام من الأمر والنهي «وقالوا» مخاطبين له عليه السلام بطريق التعجيز والإفحام على زعمهم «يا صالح ائتنا بما تعدنا» أي من العذاب والإطلاق للعلم به قطعا «إن كنت من المرسلين» فإن كونك من جملتهم يستدعي صدق ما تقول من
243

الوعد والوعيد «فأخذتهم الرجفة» أي الزلزلة لكن لا أثر ما قالوا ما قالوا بل بعد ما جرى عليهم ما جرى من مبادئ العذاب في الأيام الثلاثة حسبما مر تفصيله «فأصبحوا في دارهم» أي صاروا في أرضهم وبلدهم أو في مساكنهم «جاثمين» خادمي موتى لا حراك بهم وأصل الجثوم البروك يقال الناس جثوم أي قعود لا حراك بهم ولا ينبسون نبسة قال أبو عبيدة الجثوم للناس والطير والبروك للإبل والمراد كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب بهم من غير اضطراب ولا حركة كما يكون عند الموت المعتاد ولا يخفى ما فيه من شدة الأخذ وسرعة البطش اللهم إنا بك نعوذ من نزول سخطك وحلول غضبك وجاثمين خبر لأصبحوا والظرف متعلق به ولا مساغ لكونه خبرا أو جاثمين حالا لإفضائه إلى كون الإخبار بكونهم في دارهم مقصودا بالذات وكونهم جاثمين قيدا تابعا له غير مقصود بالذات قيل حيث ذكرت الرجفة وحدت الدار وحيث ذكرت الصيحة جمعت لأن الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فقرن كل منهما بما هو أليق به «فتولى عنهم» إثر ما شاهد ما جرى عليهم تولي مغتم متحسر على ما فاتهم من الإيمان متحزن عليهم «وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم» بالترغيب والترهيب وبذلت فيكم وسعي ولكن لم تقبلوا مني ذلك وصيغة المضارع في قوله تعالى «ولكن لا تحبون الناصحين» حكاية حال ماضية أي شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم خاطبهم صلى الله عليه وسلم بذلك خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر حيث قال إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا وقيل إنما تولى عنهم قبل نزول العذاب بهم عند مشاهدته صلى الله عليه وسلم لعلاماته تولى ذاهب عنهم منكر لإصرارهم على ما هم عليه وروي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم «ولوطا» منصوب بفعل مضمر معطوف على ما سبق وعدم التعرض للمرسل إليهم مقدما على المنصوب حسبما وقع فيما سبق وما لحق قد مر بيانه في قصة هود عليه السلام وهو لوط بن هاران بن تارخ بن أخي إبراهيم كان من أرض بابل من العراق مع عمه إبراهيم فهاجر إلى الشام فنزل فلسطين وأنزل لوطا الأردن وهي كورة بالشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلد بحمص وقوله تعالى «إذ قال لقومه» ظرف للمضمر المذكور أي أرسلنا لوطا إلى قومه وقت قوله لهم إلخ ولعل تقييد إرساله عليه السلام بذلك لما أن إرساله إليهم لم يكمن في أول وصوله إليهم وقيل هو بدل من لوطا بدل اشتمال على أن انتصابه باذكر أي اذكر وقت قوله عليه السلام لقومه «أتأتون الفاحشة» بطريق الإنكار التوبيخي التقريعي أي أتفعلون تلك الفعلة المتناهية في القبح المتمادية في
244

الشرية والسوء «ما سبقكم بها» ما عملها قبلكم على أن الباء للتعدية كما في قوله عليه السلام سبقك بها عكاشة من قولك سبقته بالكرة أي ضربتها قبله ومن في قوله تعالى «من أحد» مزيدة لتأكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق وفي قوله تعالى «من العالمين» للتبعيض والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ والتقريع فإن مباشرة القبيح واختراعه أقبح ولقد أنكر الله تعالى عليهم أولا إتيان الفاحشة ثم وبخهم بأنهم أول من عملها فإن سبك النظم الكريم وإن كان على نفي كونهم مسبوقين من غير تعرض لكونهم سابقين لكن المراد أنهم سابقون لكل من عداهم من العالمين كما مر تحقيقه مرارا في نحو قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو مسوقة جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل من جهتهم لم لا نأتيها فقيل بيانا للعلة وإظهارا للزاجر ما سبقكم بها أحد لغاية قبحها وسوء سبيلها فكيف تفعلونها قال عمرو بن دينار ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط قال محمد بن إسحق كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الدنيا مثلها فقصدهم الناس فآذوهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ إن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فأبوا فلما ألح الناس عليهم قصدوهم فأصابوا غلمانا صبحا فأخبثوا فاستحكم فيهم ذلك قال الحسن كانوا لا يفعلون ذلك إلا بالغرباء وقال الكلبي أول من فعل به ذلك الفعل إبليس الخبيث حيث تمثل لهم في صورة شاب جميل فدعاهم إلى نفسه ثم عبثوا بذلك العمل «إنكم لتأتون الرجال» خبر مستأنف لبيان تلك الفاحشة وقرئ بهمزتين صريحتين وبتلبين الثانية بغير مد وبمد أيضا على أنه تأكيد للإنكار السابق وتشديد للتوبيخ وفي زيادة إن واللام مزيد توبيخ وتقريع كأن ذلك أمر لا يتحقق صدوره عن أحد فيؤكد تأكيدا قويا وفي إيراد لفظ الرجال دون الغلمان والمرادان ونحوهما مبالغة في التوبيخ وقوله تعالى «شهوة» مفعول له أو مصدر في موقع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمة الصرفة وتنبيه على أن العاقل ينبغي له أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لإقضاء الشهوة ويجوز أن يكون المراد الإنكار عليهم وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة الخبيثة المكروهة كما ينبئ عنه قوله تعالى «من دون النساء» أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل الاشتهاء كما ينبئ عنه قوله تعالى هن أطهر لكم «بل أنتم قوم مسرفون» إضراب عن الإنكار المذكور إلى الإخبار بحالهم التي أفضتهم إلى ارتكاب أمثالها وهي اعتياد الإسراف في كل شيء أو عن الإنكار عليها إلى الذم على دميع معايبهم أو عن محذوف أي لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف «وما كان جواب قومه» أي المستكبرين منهم المتولين للأمر والنهي المتصدين للعقد والحل وقوله تعالى «إلا أن قالوا» استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان جوابا من جهة قومه شيء من الأشياء إلا قولهم أي لبعضهم الآخرين المباشرين للأمور معرضين عن مخاطبته عليه السلام «أخرجوهم» أي لوطان ومن معه من أهله المؤمنين «من قريتكم» أي إلا هذا القول الذي يستحيل أن يكون جوابا لكلام
245

لوط عليه السلام وقرئ برفع جواب على أنه اسم كان وإلا أن قالوا الخ خبرها وهو أظهر وإن كان الأول أقوى في الصناعي لأن الأعرف أحق بالاسمية وأيا ما كان فليس المراد أنه لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن مقالات لوط عليه السلام ومواعظه إلا هذه المقالة الباطلة كما هو المتسارع إلى الأفهام بل أنه لم يصدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المحاورات الجارية بينهم وبينه عليه السلام إلا هذه الكلمة الشنيعة وإلا فقد صدر عنهم قبل ذلك كثير من الترهات حسبما حكي عنهم في سائر السور الكريمة وهذا هو الوجه في نظائره الواردة بطريق القصر وقوله تعالى «إنهم أناس يتطهرون» تعليل للأمر بالإخراج ووصفهم بالتطهير للاستهزاء والسخرية بهم
وبتطهرهم من الفواحش والخبائث والافتخار بما هم فيه من القذارة كما هو دين الشطار والدعار «فأنجيناه وأهله» اي المؤمنين منهم «إلا امرأته» استثناء من أهله فإنها كانت تسر بالكفر «كانت من الغابرين» أي الباقين في ديارهم الهالكين فيها والتذكير للتغليب ولبيان استحقاقها لما يستحقه المباشرون للفاحشة والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عن استثنائها من حكم الإنجاء كأنه قيل فماذا كان حالها فقيل كانت من الغابرين «وأمطرنا عليهم مطرا» أي نوعا من المطر عجيبا وقد بينه قوله تعالى وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل قال أبو عبيدة مطر في الرحمة وأمطر في العذاب وقال الراغب مطر في الحبر وأمطر في العذاب والصحيح أن أمطرنا بمعنى أرسلنا عليهم إرسال المطر قيل كانت المؤتفكة خمس مدائن وقيل كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة فأمطر الله عليهم الكبريت والنار وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم وقيل أمطر عليهم ثم خصف بهم وروي أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقف الحجر له أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه وروي أن امرأته التفتت نحو ديارها فأصابها حجر فماتت «فانظر كيف كان عاقبة المجرمين» خطاب لكل من يتأتى منه التأمل والنظر تعجيبا من حالهم وتحذيرا من أعمالهم «وإلى مدين أخاهم شعيبا» عطف على قوله وإلى عاد أخاهم هودا وما عطف عليه وقد روعي ههنا ما في المعطوف عليه من تقديم المجرور على المنصوب أي وأرسلنا إليهم وهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين وقيل شعيب بن ثويب بن مدين وقيل شعيب بن يثرون بن مدين وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين مع كفرهم «قال» استئناف مبني
246

على سؤال نشأ عن حكاية إرساله إليهم كأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» مر تفسيره مرارا «قد جاءتكم بينة» أي معجزة وقوله تعالى «من ربكم» متعلق بجاءتكم أو بمحذوف هو صلة لفاعله مؤكدة لفخامته الذاتية المستفادة من تنكيره بفخامته الإضافية أي بينة عظيمة ظاهرة كائنة من ربكم ومالك أموركم ولم يذكر معجزته عليه السلام في القرآن العظيم كما لم يذكر أكثر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فمنها ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه ومنها ولادة الغنم الدرع خاصة حين وعد أن يكون له الدرع من أولادها ومنها وقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع لأن كل ذلك كان قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام وقيل البينة مجيئه عليه السلام كما في قوله تعالى يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي أي حجة واضحة وبرهان نير عبر بهما عما آتاه الله من النبوة والحكمة «فأوفوا الكيل» أي المكيال كما وقع في سورة هود يؤيده قوله تعالى «والميزان» فإن المتبادر منه الآلة وإن جاز كونه مصدرا كالميعاد وقيل آلة الكيل والوزن على الإضمار والفاء لترتيب الأمر على مجىء البينة ويجوز أن تكون عاطفة على اعبدوا فإن عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهي التي معظمها بعد الكفر البخس الذي كانوا يباشرونه «ولا تبخسوا الناس أشياءهم» التي تشترونها بهما معتمدين على تمامهما أي شيء كان واي مقدار كان فإنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير وقيل كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه قال زهير
[أفي كل أسواق العراق أتاوة * وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم]
«ولا تفسدوا في الأرض» أي بالكفر والحيف «بعد إصلاحها» بعدما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء وأتباعهم بإجراء الشرائع أو أصلحوا فيها وإضافته إليها كإضافة مكر الليل والنهار «ذلكم خير لكم» إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا أو في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما يطلبونه من التكسب والربح لأن الناس إذا عرفوهم بالأمانة رغبوا في معاملتهم ومتاجرتهم «إن كنتم مؤمنين» أي مصدقين لي في قولي هذا «ولا تقعدوا بكل صراط توعدون» أي بكل طريق من طرق الدين كالشيطان وصراط الحق وإن كان واحدا لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام وكانوا إذا رأو أحدا يشرع في شيء منها منعوه وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولن لمن يريد شعيبا إنه كذاب لا يفتننك عن دينك ويتوعدون لمن آمن به وقيل يقطعون الطريق «وتصدون عن سبيل الله» أي السبيل الذي قعدوا عليه فوقع المظهر موقع المضمر بيانا لكل صراط ودلالة على عظم ما يصدون عنه تقبيحا لما كانوا عليه أو الإيمان بالله أو بكل صراط على أنه عبارة عن طرق الدين وقوله تعالى «من آمن به» مفعول تصدون على أعمال الأقرب لو كان مفعول توعدون لقيل وتصدونهم وتوعدون حال من الضمير في تقعدوا «وتبغونها عوجا» اي وتطلبون لسبيل الله عوجا بإلقاء الشبه أو بوصفها للناس بأنها معوجة وهي أبعد شيء من شائبة الاعوجاج
247

«واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم» بالبركة في النسل والمال «وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين» من الأمم الماضية كقوم نوح ومن بعدهم من عاد وثمود واضرابهم واعتبروا بهم «وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به» من الشرائع والأحكام «وطائفة لم يؤمنوا» أي به أو لم يفعلوا الايمان «فاصبروا حتى يحكم الله بيننا» أي بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين «وهو خير الحاكمين» غذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه «قال الملأ الذين استكبروا من قومه» استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل فماذا قالوا بعد ما سمعوا هذه المواعظ من شعيب عليه السلام فقيل قال أشراف قومه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غير مكتفين بمجرد الاستعصاء عليه والامتناع من الطاعة له بل بالغين من العتو والاستكبار إلى أن قصدوا استتباعه عليه السلام فيما هم فيه وأتباعه المؤمنين واجترءوا على إكراههم عليه بوعيد النفي وخاطبوه بذلك على طريقة التوكيد القسمي «لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا» بنسبة الإخراج إليه عليه السلام أولا إلى المؤمنين ثانيا بعطفهم عليه تنبيها على أصالته عليه السلام في الإخراج وتبعيتهم له فيه كما ينبئ عنه قوله تعالى «معك» فإنه متعلق بالإخراج لا بالإيمان وتوسيط النداء باسمه العلمي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان أي والله لنخرجنك وأتباعك «من قريتنا» بغضا لكم ودفعا لفتنتكم المترتبة على المساكنة والجوار وقوله تعالى «أو لتعودن في ملتنا» عطف على جواب القسم أي والله ليكونن أحد الأمرين البتة على أن المقصد الأصلي هو العود وإنما ذكر النفي والإجلاء لمحض القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه السلام لجواب الإخراج كأنهم قالوا لا ندعكم فيما بيننا حتى تدخلوا في ملتنا وإدخالهم له عليه السلام في خطاب العود مع استحالة كونه عليه السلام في ملتهم قبل ذلك إنما هو بطريق تغليب الجماعة على الواحد وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريقة ما قبله لما أن
مرادهم أن يعودوا إليها بصورة الطواعية حذار الإخراج باختيار أخون الشرين لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب «قال» استئناف كما سبق أي قال عليه السلام ردا لمقالتهم الباطلة وتكذيبا لهم في أيمانهم الفاجرة «أولو كنا كارهين» على أن الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه لا لإنكار الواقع واستقباحه كالتي في قوله تعالى أولو جئتك بشيء مبين ويجوز أن يكون الاستفهام فيه باقيا على حاله وقد مر مرارا أن كلمة لو في مثل هذا المقام ليست لبيان انتفاء الشيء في الزمن الماضي لانتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف تعويلا على دلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق
248

بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيء متى تحقق مع المنافي القوي فلأن يتحقق مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شيء من سائر الأحوال ويكتفي عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها الشاملة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها وهذا معنى قولهم إنها لاستقصاء الأحوال على سبيل الإجمال وهذا المعنى ظاهر في الخبر الموجب والمنفي والأمر والنهي كما في قولك فلان جواد يعطي ولو كان فقيرا أو بخيل لا يعطي ولو كان غنيا وكقولك أحس غليه ولو أساء إليك ولا تهنه ولو أهانك لبقائه على حاله سالما عما يغيره وأما فيما نحن فيه ففيه نوع خفاء لتغيره بورود الإنكار عليه لكن الأصل في الكل واحد إلا أن كلمة لو في الصور المذكورة متعلقة بنفس الفعل المذكور قبلها وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال هو نفس مدلوله وأن الجملة حال من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما في حيز لو مقرر على ما هو عليه من الاستبعاد بخلاف ما نحن فيه لما أن كلمة لو متعلقة فيه بفعل مقدر يقتضيه المذكور وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال هو مدلوله لا مدلول المذكور وأن الجملة حال من ضميره لا من ضمير المذكور كما سيأتي وأن المقصود الأصلي إنكار مدلوله من حيث مقارنته للحالة المذكورة وأما تقدير مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرة وأن ما في حيز لو لا يقصد استبعاده في نفسه بل يقصد الإشعار بأنه أمر مقرر إلا أنه أخرج مخرج الاستبعاد مبالغة في الإنكار من جهة أن العود مما ينكر عند كون الكراهة أمرا مستبعدا فكيف به عند كونها أمرا محققا ومعاملة مع المخاطبين على معتقدهم لاستنزالهم من رتبة العناد وليس المراد بالكراهة مجرد كراهة المؤمنين للعود في ملة الكفر ابتداء حتى يقال إنها معلومة لهم فكيف تكون مستبعدة عندهم بل إنما هي كراهتهم له بعد وعيد الإخراج الذي جعل قرينا للقتل في قوله تعالى ولو أنا كتبنا الآية فإنهم كانوا يستبعدونها ويطمعون في أنهم حينئذ يختارون العود خشية الإخراج غذ رب مكروه يختار عند حلول ما هو أشد منه وأفظع والتقدير أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غير مبالين بالإكراه فالجملة في محل النصب على الحالية من ضمير الفعل المقدر حسبما أشير إليه إذ مآله أنعود فيها حال عدم الكراهة وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتهم الشنيعة بإطلاقها من العود على أي حالة كانت غير أنه اكتفى بذكر الحالة الثانية التي هي أشد الأحوال منافاة للعود وأكثرها بعدا منه تنبيها على أنها هي الواقعة في نفس الأمر وثقة بإغنائها عن ذكر الأولى إغناء واضحا لأن العود الذي تعلق به الإنكار حين تحقق مع الكراهة على ما يوجبه كلامهم فلأن يتحقق مع عدمها أولى إن قلت النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري فيما نحن فيه بمنزلة صريح النفي ولا ريب في أن الأولوية هناك معتبرة بالنسبة إلى النفي ألا يرى أن الأولى بالتحقق فيما ذكر من مثال النفي عند الحالة المسكوت عنها أعني عدم الغنى هو عدم الإعطاء لا نفسه فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتحقق فيما نحن فيه عند عدم الكراهة عدم العود لا نفسه إذ هو الذي يدل عليه قولنا أنعود لأنه في معنى لا نعود فلم اختلف الحال بينهما قلت لما أن مناط الأولوية هو الحكم
249

الذي أريد بيان تحققه على كل حال وذلك في مثال النفي عدم الإعطاء المستفاد من الفعل المنفي المذكور وأما فيما نحن فيه فهو نفس العود المستفاد من الفعل المقدر إذ هو الذي يقتضيه الكلام السابق أعني قولهم لتعودن وأما الاستفهام فخارج عنه وارد عليه لإبطال ما يفيده ونفي مال يقتضيه لا أنه من تمامه كما في صورة النفي وتوضيحه أن بين النفيين فرقا معنويا تختلف به أحكامهما التي من جملتها ما ذكر من اعتبار الأولوية في أحدهما بالنسبة إلى نفسه وفي الآخر بالنسبة إلى متعلقة ولذلك لا تستقيم إقامة أحدهما مقام الآخر على وجه الكلية ألا يرى أنك لو قلت مكان أنعود فيها الخ لا نعود فيها ولو كنا كارهين لاختل المعنى اختلالا فاحشا لأن مدلول الأول نفي العود المقيد بحال الكراهة ومدلول الثاني تقييد العود المنفي بها وذلك لأن حرف النفي يباشر نفس الفعل وينفيه وما يذكر بعده يرجع إليه من حيث هو منفي وأما همزة الاستفهام فإنها تباشر الفعل بعد تقييده بما بعده لما أن دلالتها على الإنكار والنفي ليست بدلالة وضعية كدلالة حرف النفي حتى يتعلق معناها بنفس الفعل الذي يليها ويكون ما بعده راجعا إليه من حيث هو منفي بل هي دلالة عقلية مستفادة من سياق الكلام فلا بد أن يكون ما يذكر بعج الفعل من موانعه ودواعي إنكاره ونفيه حتما ليكون قرينة صارفة للهمزة عن حقيقتها إلى معنى الإنكار والنفي ثم لما كان المقصود نفي الحاكم على كل حال مع الاقتصاد على ذكر بعض منها مغن عن ذكر ما عداها لاستلزام تحققه معه تحققه مع غيره بطريق الأولوية وكانت حال الكراهة عند كونها قيدا لنفس العود كذلك أي مغنيا عن ذكر سائر الأحوال ضرورة أن تحقق العود في حال الكراهة مستلزم لتحققه في حال عدمها البتة وعند كونها قيدا لنفيه بخلاف ذلك أي غير مغن عن ذكر غيرها ضرورة أن نفي العود في حال الكراهة لا يستلزم نفيه في غيرها بل الأمر بالعكس فإن نفيه في حال الإرادة مستلزم لنفيه في حال الكراهة قطعا استقام الأول لإفادته نفي العود في الحالتين مع الاقتصار على ما ذكر ما هو مغن عن ذكر الأخرى ولم يستقم الثاني لعدم إفادته إياه على الوجه المذكور إن قيل فما وجه استقامتهما جميعا عند ذكر المعطوفين معا حيث يصح أن يقال لا نعود فيها لو لم نكن كارهين كما يصح أن يقال أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين مع أن المقدر في حكم الملفوظ قلنا وجهها أن كلا منهما يفيد معنى صحيحا في نفسه لا أن معنى أحدهما عين معنى الآخر أو متلازمان متفقان في جميع الأحكام كيف لا ومدلول الأول أن العود منتف في الحالتين ومدلول الثاني مصحح لنفي العود في الحالتين منتف وكلا المعنيين صحيح في نفسه مصحح لنفي العود فسي الحالتين مع ذكرهما معا غير أن الثاني مصحح لنفي العود في الحالتين مع الاقتصار على ذكر حالة الكراهة على عكس المعنى الأول فإنه مصحح لنفيه فيهما مع الاقتصاد على ذكر حالة الإرادة «قد افترينا
250

على الله كذبا» أي كذبا عظيما لا يقادر قدره «إن عدنا في ملتكم» التي هي الشرك وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن عجنا في ملتكم «بعد إذ نجانا الله منها» فقد افترينا على الله كذبا عظيما حيث نزعم حينئذ أن الله تعالى ندا وليس كمثله شيء وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه من الإسلام باطل وأن ما كنتم عليه من الكفر حق وأي افتراء أعظم من ذلك وقيل إنه جواب قسم محذوف حذف عنه اللام تقديره والله لقد افترينا الخ «وما يكون لنا» أي وما يصح وما يستقيم لنا «أن نعود فيها» في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات «إلا أن يشاء الله» أي إلا حال مشيئة الله تعالى أو وقت مشيئته تعالى لعودنا فيها وذلك مما لا يكاد يكون كما ينبئ عنه قوله تعالى «ربنا» فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى لهم مما ينبئ عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعا وكذا قوله تعالى بع إذ نجانا الله منها فإن تنجيته تعالى لهم منها من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها وقيل معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا وقيل فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى وأيا ما كان فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيز الإمكان وخطر الوقوع بناء على كون مشيئته تعالى كذلك بل بيان استحالة وقوعها كأنه قيل وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وهيهات ذلك بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له «وسع ربنا كل شيء علما» فهو محيط بكل ما كان وما يكون من الأشياء التي من جملتها أحوال عباده وعزائمهم ونياتهم وما هو اللائق بكل واحد منهم فمحال من لطفه أن يشاء عودنا فيها بعد ما نجانا منها مع اعتصامنا به خاصة حسبما ينطق به قوله تعالى «على الله توكلنا» أي في أن يثبتنا على ما نحن عليه من الإيمان ويتم علينا نعمته بإنجائنا من الإشراك بالكلية وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار للمبالغة في التضرع والجؤار وقوله تعالى «ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق» إعراض عن مقاولتهم إثر ما ظهر له عليه الصلاة والسلام أنهم من العتو والعناد بحيث لا يتصور منهم الإيمان أصلا وإقبال على الله تعالى بالدعاء لفصل ما بينه وبينهم بما يليق بحال كل من الفريقين أي احكم بيننا بالحق والفتاحة الحكومة أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه «وأنت خير الفاتحين» تذييل مقرر لمضمون ما قبله على المعنيين «وقال الملأ الذين كفروا من قومه» عطف على قال الملأ الذين الخ ولعل هؤلاء غير أولئك المستكبرين ودونهم في الرتبة شأنهم الوساطة بينهم وبين العامة والقيام بأمورهم حسبما يراه المستكبرون ويجوز أن يكون عين الأولين وتغيير الصلة لما أن مدار قولهم هذا هو الكفر كما أن مناط قولهم السابق هو الاستكبار أي قال أشرافهم الذين أصروا على الكفر لأعقابهم بعد ما شاهدوا صلابة شعيب عليه السلام ومن معه من المؤمنين في الإيمان وخافوا أن يستتبوا قومهم تثبيطا لهم عن الإيمان به وتنفيرا لهم عنه على طريقة التوكيد القسمي والله «لئن اتبعتم شعيبا» ودخلتم في دينه وتركتم جين آبائكم «إنكم إذا لخاسرون» أي في الدين لاشترائكم الضلالة بهداكم أو في الدنيا لفوات ما يحصل لكم بالخس والتطفيف وإذن حرف جواب وجزاء معترض بين اسم إن وخبرها والجملة سادة مسد
251

جوابي الشرط والقسم الذي وطأته اللام «فأخذتهم الرجفة» أي الزلزلة وهكذا في سورة العنكبوت وفي سورة هود وأخذت الذين ظلموا الصيحة أي صيحة جبريل عليه السلام ولعلها من مبادى الرجفة فأسند هلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى «فأصبحوا في دارهم» أي في مدينتهم وفي سورة هودج في ديارهم «جاثمين» أي ميتين لازمين لأماكنهم لا براح لهم منها «الذين كذبوا شعيبا» استئناف لبيان ابتلائهم بشئوم قولهم فيما سبق لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا وعقوبتهم بمقابلته والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى «كأن لم يغنوا فيها» أي استؤصلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا بقريتهم أصلا أي عوقبوا بقولهم ذلك وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده أبدا وقوله تعالى «الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين» استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير وإعادة الموصول والصلة كما هي لزيادة التقرير والإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة هو الذي استوجب العقوبتين أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بمقالتهم الأخيرة فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لا المتبعون له عليه الصلاة والسلام وبهذا القصر اكتفى عن التصريح والذين آمنوا معه الخ «فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم» قاله عليه الصلاة والسلام بعد ما هلكوا تأسفا بهم لشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفسه ذلك فقال «فكيف آسى» أحزن حزنا شديدا «على قوم كافرين» أي مصرين على الكفر ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم أو قاله اعتذار عن عدم شدة حزنه عليهم والمعنى لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعي في النصح والإشفاق فلم تصدقوا قولي فكيف آسى عليكم وقرئ آيسى بإمالتين «وما أرسلنا في قرية من نبي» إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم إثر بيان أحوال الأمم المذكورة وتفصيلا ومن مزيدة لتأكيد النفي والصفة محذوفة أي من نبي كذب أو كذبه أهلها «إلا أخذنا أهلها» استثناء مفرغ من أعم الأحوال وأخذنا في محل النصب من فاعل أرسلنا والفعل الماضي لا يقع بعد إلا بأحد شرطين إما تقدير قد كما في هذه الآية أو مقارنة قد كما في قولك ما زيد إلا قد قام والتقدير وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبيا من الأنبياء في حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين
252

أهلها «بالبأساء» بالبؤس والفقر «والضراء» بالضر والمرض لكن لا على معنى أن ابتداء الإرسال مقارن للأخذ المذكور بل على أنه مستتبع له غير منفك عنه بالآخرة لاستكبارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه حسبما فعلت الأمم المذكورة «لعلهم يتضرعون» كي يتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر والعزة عن أكتافهم كقوله تعالى لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون «ثم بدلنا» عطف على أخذنا داخل في حكمه «مكان السيئة» التي اصابتهم للغاية المذكورة «الحسنة» أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة والرخاء والسعة كقوله تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات «حتى عفوا» أي كثروا عددا وعددا من عفا النبات إذا كثر وتكاثر وأبطرتهم النعمة «قالوا» غير واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاء من الله سبحانه «قد مس آباءنا الضراء والسراء» كما مسنا ذلك وما هو إلا من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء من غير أن يكون هناك داعية تؤدي إليهما أو تبعة تترتب عليهما ولعل تأخير السراء للإشعار بأنها تعقب الضراء فلا ضير فيها «فأخذناهم» إثر ذلك «بغتة» فجاءة أشد الأخذ وأفظعه «وهم لا يشعرون» بذلك ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره كقوله تعالى حتى إذا فرحوا بما أوتوا الآية وليس المراد بالأخذ بغتة إهلاكهم طرفة عين كإهلاك عاد وقوم لوط بل ما يعمه وما يمضي بين الأخذ وإتمام الإهلاك أيام كدأب ثمود «ولو أن أهل القرى» أي
القرى المهلكة المدلول عليها بقوله تعالى قرية وقيل هي مكة وما حولها من القرى وقيل جنس القرى المنتظمة لما ذكر ههنا انتظاما أوليا «آمنوا» بما أوحي إلى أنبيائهم معتبرين بما جرى عليهم من الابتلاء بالضراء والسراء «واتقوا» أي الكفر والمعاصي أو اتقوا ما أنذروا به على ألسنة الأنبياء ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح ولم يحملوا ابتلاء الله تعالى على عادات الدهر وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحدوا الله واتقوا الشرك «لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض» لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء وبعضها من الأرض وقيل المراد المطر والنبات وقرئ لفتحنا بالتشديد للتكثير «ولكن كذبوا» أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه للثاني «فأخذناهم بما كانوا يكسبون» من أنواع الكفر والمعاصي التي من جملتها قولهم قد مس آباءنا الخ وهذا الأخذ عبارة عما في قوله تعالى فأخذناهم بغتة لا عن الجدب والقحط كما قيل فإنهما قد زالا بتبديل الحسنة مكان السيئة «أفأمن أهل القرى» أي أهل القرى المذكورة
253

على وضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن مدار التوبيخ أمن كل طائفة ما أتاهم من البأس لا أمن مجموع الأمم فإن مل طائفة منهم أصابهم باس خاص بهم لا يتعداهم إلى غيرهم كما سيأتي والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه لا لإنكار الوقوع ونفيه كما قاله أبو شامة وغيره لقوله تعالى للا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون والفاء للعطف على أخذناهم وما بينهما اعتراض توسط بينهما للمسارعة إلى بيان أن الأخذ المذكور مما كسبته أيديهم والمعنى أبعد ذلك الأخذ أمن أهل القرى «أن يأتيهم بأسنا بياتا» أي تبييتا أو وقت بيات أن مبيتا أو مبيتين وهو في الأصل مصدر بمعنى البيتوتة ويجىء بمعنى التبييت السلام بمعنى التسليم «وهم نائمون» حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا «أو أمن أهل القرى» إنكار بعد إنكار للمبالغة في التوبيخ الشديد ولذلك لم يقل أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون وقرئ أو بسكون الواو على الترديد «أن يأتيهم بأسنا ضحى» أي ضحوة النهار وهو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت «وهم يلعبون» أي يلهون من فرط الغفلة أو يشتغلون بما لا ينفعهم كأنهم يلعبون «أفأمنوا مكر الله» تكرير للنكير لزيادة التقرير ومكر الله تعالى استعارة لاستدراجه العبد وأخذه من حيث لا يحتسب والمراد به بيان إتيان بأسه تعالى في الوقتين المذكورين ولذلك عطف الأول والثالث بالفاء في الإنكار فيهما متوجه إلى ترتب الأمن على الأخذ المذكور وأما الثاني فمن تتمة الأول «فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون» أي الذين خسروا أنفسهم وأضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها والاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات «أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها» أي يخلفون من خلا قبلهم من الأمم المهلكة ويرثون ديارهم والمراد بهم أهل مكة ومن حولها وتعدية فعل الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللازم كأنه قيل اغفلوا ولم يفعل الهداية لهم الخ وإما لأنها بمعنى التبيين والمفعول محذوف والفاعل على التقديرين هو الجملة الشرطية أي أولم يبين لهم مآل أمرهم «أن لو نشاء أصبناهم» بذنوبهم أي أن الشأن لو نشأ أصبناهم بجزاء ذنوبهم أو بسبب ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وقرئ نهد بنون العظمة فالجملة مفعوله «ونطبع على قلوبهم» عطف على ما يفهم من قوله تعالى أو لم يهد كأنه قيل لا يهتدون أو يغفلون عن الهداية أو عن التفكر والتأمل أو منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع ولا يجوز عطفه على أصبناهم على أنه بمعنى طبعنا لإفضائه إلى نفي الطبع عنهم لأنه في سياق جواب لو «فهم لا يسمعون» أي أخبار الأمم المهلكة فضلا عن التدبر والنظر فيها والاغتنام بما في تضاعيفها من الهداية
254

«تلك القرى» جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة لما قبلها من القصص منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة وتماديهم فيها بعد ما أنتهم الرسل بالمعجزات الباهرة وتلك إشارة إلى قرى الأمم المهلكة على أن اللام للعهد وهو مبتدأ وقوله تعالى «نقص عليك من أنبائها» خبره وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد ومن للتبعيض أي بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير وقيل تلك مبتدأ والقرة خبره وما بعده حال أو خبر بعد خبر عند من يجوز كون الخبر الثاني جملة كما في قوله تعالى فإذا هي حية تسعى وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة الأنباء إليها مع أن المقصوص أنباء أهلها والمقصود بيان أحوالهم حسبما يعرب عنه قوله تعالى «ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات» لما أن حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال بحيث يشمل أماكنهم أيضا بالخسف بها والرجفة وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع والباء في قوله تعالى بالبينات متعلقة إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية وإما بمحذوف وقع حالا من فاعله أي ملتبسين بالبينات لكن لا بأن يأتي كل رسول ببينة واحدة بل بينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء الحكمة فإن مراعاة انقسام الآحاد إلى الآحاد إنما هي فيما بين الرسل وضمير الأمم والجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم أي وبالله لقد جاء كل أمة من تلك الأمم المهلكة رسولهم الخاص بهم بالمعجزات البينة المتكثرة المتواردة عليهم الواضحة الجلالة على صحة رسالته الموجبة للإيمان حتما وقوله تعالى «فما كانوا ليؤمنوا» بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرار إيمانهم وترتيب حالتهم هذه على مجىء الرسل بالبينات بالفاء لما أن الاستمرار على فعل من الأفعال بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه في الحقيقة لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث نحو وعظته فلم ينزجر ودعوته فلم يجب واللام لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات أن يؤمنوا لكل كان ذلك ممتنعا منهم إلى أن لقوا ما لقوا لغاية عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان ثم إن كان المحكي عنهم آخر حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم المذكور ههنا إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى «بما كذبوا من قبل» تكذيبهم من لدن مجىء الرسل إلى وقت الإصرار والعناد وإنما لم يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول بل جعل صلة للموصول إيذانا بأنه بين بنفسه وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الظاهرة وتظاهر المعجزات الباهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أصحاب العقول والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب سلبا وإيجابا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكي جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجىء الرسل الخ وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلا بد من جعل الموصول المذكور عبارة عن أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها آثر ذي أثير لاستحالة تبدلها وتغيرها مثل ملة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجىء رسلهم
255

أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا كلمة التوحيد قط بل كانت كل أمة من أولئك الأمم يتسامعون بها من بقايا من قبلهم فيكذبونها ثم كانت حالتهم بعد مجىء رسلهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حين لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافة الرسل فلأن يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أن ما عليه يدور فلك العذاب والعقاب هو التكذيب الواقع بعد الدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وإنما ذكرها ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب وعلى كلا التقديرين فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع وقيل ضمير كذبوا راجع إلى أسلافهم والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء ولا يخفى ما فيه من التعسف وقيل المراد ما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف بما كذبوا من قبل كقوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقيل الباء للسببية وما مصدرية أي بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل ولا يرد عليه ههنا ما ورد في سورة يونس من مخالفة الجمهور بجعل ما المصدرية من قبيل الأسماء كما هو رأي الأخفش وابن السراج ليرجع إليه الضمير في به «كذلك» أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم «يطبع الله على قلوب الكافرين» أي من المذكورين وغيرهم فلا يكاد يؤثر فيها الآيات والنذر وفيه تحذير للسامعين وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة «وما وجدنا لأكثرهم» أي أكثر الأمم المذكورين واللام متعلقة بالوجدان كما في قولك ما وجدت له مالا أي ما صدفت له مالا ولا لقيته أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى «من عهد» لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليها انتصبت حالا والأصل ما وجدنا عهدا كائنا لأكثرهم ومن مزيدة للاستغراق أي وما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهد فإنهم نقضوا ما عاهدوا الله عليه عند مساس البأساء والضراء قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فتخصيص هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بعهودهم بل لأن بعضهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون وقيل المراد بالعهد ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الآيات وإنزال الحجج وقيل ما عهدوا عند خطاب ألست بربكم فالمراد بأكثرهم كلهم وقيل الضمير للبأس والجملة اعتراض فإن أكثرهم لا يوفون بالعهود بأي معنى كان «وإن وجدنا أكثرهم» أي أكثر الأمم أي علمناهم كما في قولك وجدت زيدا ذا حفاظ وقيل الأول أيضا كذلك وإن مخففة من إن وضمير الشأن محذوف أي إن الشأن وجدناهم «لفاسقين» خارجين عن الطاعة ناقضين للعهود وعند الكوفينن أن إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما وجدناهم إلا فاسقين «ثم بعثنا من بعدهم موسى» أي أرسلناه من بعد انقضاء
256

وقائع الرسل المذكورين أو من بعد هلاك الأمم المحكية والتصريح بذلك مع دلالة ثم على التراخي للإيذان بأن بعثه عليه الصلاة والسلام جرى على سنن السنة الإلهية من إرسال الرسل تترى وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر «بآياتنا» متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا أو صفة لمصدره أي بعثناه عليه الصلاة والسلام ملتبسا بآياتنا أو بعثناه بعثا ملتبسا بها وهي الآيات التسع المفصلات التي هي العصا واليد البيضاء والسنون ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم حسبما سيأتي على التفصيل «إلى فرعون» هو لقب لكل من ملك مصر من العمالقة كما أن كسرى لقب لكل من ملك فارس وقيصر لكل من ملك الروم واسمه قابوس وقيل الوليد بن مصعب بن ريان «وملئه» أي أشراف قومه وتخصيصهم بالذكر مع عموم رسالته عليه الصلاة والسلام لقومه كافة حيث كانوا جميعا مأمورين بعبادة رب العالمين عز سلطانه وترك العظيمة الشنعاء التي كان يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية لأصالتهم في تدبير الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور «فظلموا بها» أي كفروا بها أجري الظلم مجرى الكفر لكونهما من واد واحد أو ضمن معنى الكفر أو التكذيب أي ظلموا كافرين بها أو مكذبين بها أو كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها ولهذا المعنى وضع ظلموا موضع كفروا وقيل ظلموا أنفسهم بسببها بأن عرضوها للعذاب الخالد أو ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان بها والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا ألا يرى إلى قوله تعالى «فانظر كيف كان عاقبة المفسدين» فكما أن ظلمهم بها مستتبع لتلك العاقبة الهائلة كذلك حكاية ظلمهم بها مستتبع للأمر بالنظر إليها وكيف خبر كان قدم على اسمها لاقتضائه الصدارة والجملة في حيز النصب بإسقاط الخافض أي فانظر بعين عقلك إلى كيفية ما فعلنا بهم ووضع المفسدين موضع ضميرهم للإيذان بأن الظلم مستلزم للإفساد «وقال موسى» كلام مبتدأ مسوق لتفصيل ما أجمل فيما قبله من كيفية إظهار الآيات وكيفية عاقبة المفسدين «يا فرعون إني رسول» أي إليك «من رب العالمين» على الوجه الذي مر بيانه «حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق» جواب عما ينساق إليه الذهن من حكاية ظلمهم بالآيات من تكذيبه إياه عليه الصلاة والسلام في دعوى الرسالة وكان أصله حقيق على أن لا أقول الخ كما هو قراءة نافع فقلب للأمن من الإلباس كما في قول وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر أو لأن ما لزمك فقد لزمته أو للإغراق في الوصف بالصدق والمعنى واجب على القول الحق أن أكون أنا قائله لا يرضى إلا بمثلي ناطقا به أو ضمن حقيق معنى حريص أو وضع على موضع الباء لإفادة التمكن كقولهم
257

رميت على القوس وجئت على حال حسنة ويؤيده قراءة أبي بالباء وقرئ حقيق أن لا أقول وقوله تعالى «قد جئتكم ببينة من ربكم» استئناف مقرر لما قبله من ككونه رسولا من رب العالمين وكونه حقيقا بقول الحق ولم يكن هذا القول منه عليه الصلاة والسلام وما بعده من جواب فرعون إثر ما ذكر ههنا بل بعد ما جرى بينهما من المحاورة المحكية بقوله تعالى قال فمن ربكما الآيات وقوله تعالى وما رب العالمين الآيات وقد طوى ههنا ذكره للإيجاز ومن متعلقه إما بجئتكم على أنها لابتداء الغاية مجازا وإما بمحذوف وقع صفة لبينة مفيدة لفخامتها الإضافية المؤكدة لفخامتها الذاتية المستفادة من التنوين التفخيمي وإضافة اسم الرب إلى المخاطبين بعد إضافته فيما قبله إلى العالمين لتأكيد وجواب الإيمان بها «فأرسل معي بني إسرائيل» أي فخلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم وكان ق استبعدهم بعد انقراض الأسباط يستعملهم ويكلفهم الأفاعيل الشاقة فأنقذهم الله تعالى بموسى عليه الصلاة والسلام وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى عليهما السلام أربعمائة عام والفاء لترتيب الإرسال أو الأمر به على ما قبله من رسالته عليه السلام ومجيئه بالبينة «قال» استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الكلام كأنه قيل فماذا قال فرعون له عليه السلام حين قال له ما قال فقيل قال «إن كنت جئت بآية» أي من عند من أرسلك كما تدعيه «فأت بها» أي فأحضرها حتى تثبت بها رسالتك «إن
كنت من الصادقين» في دعواك فإن كونك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهار الآية لا محالة «فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين» أي ظاهر أمره لا يشك في كونه ثعبانا وهو الحية العظيمة وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على كمال سرعة الانقلاب وثبات وصف الثعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك روي أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغر فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسف على الأرض والأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث فانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذه فعاد عصا «ونزع يده» أي من جيبه أو من تحت إبطه «فإذا هي بيضاء للناظرين» أي بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمرها وذلك ما يروى أنه أرى فرعون يده وقال ما هذه فقال يدك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس وكان عليه السلام آدم شديد الأدمة وقيل بيضاء للناظرين لا أنها كانت بيضاء في جبلتها «قال الملأ
258

من قوم فرعون»
أي الأشراف منهم وهم أصحاب مشورته «إن هذا لساحر عليم» أي مبالغ في علم السحر ماهر فيه قالوه تصديقا لفرعون وتقريرا لكلامه فإن هذا القول بعينه معزى في سورة الشعراء إليه «يريد أن يخرجكم من أرضكم» أي من أرض مصر «فماذا تأمرون» بفتح النون وما في ماذا في محل النصب على أنه مفعول ثان لتأمرون بحذف الجار والأول محذوف والتقدير بأي شيء تأمرونني وهذا من كلام فرعون كما في قوله تعالى ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي فإذا كان كذلك فماذا تشيرون علي في أمره وقيل قاله الملأ من قبله بطريق التبليغ إلى العامة فقوله تعالى «قالوا أرجه وأخاه» على الأول وهو الأظهر حكاية لكلام الملأ الذين شاورهم فرعون وعلى الثاني لكلام العامة الذي خاطبهم الملأ ويأباه أن الخطاب لفرعون وأن المشاورة ليست من وظائفهم أي أخره وأخاه وعدم التعرض لذكره لظهور كونه معه حسبما ينادي به الآيات الأخر والمعنى أخر أمرهما وأصدرهما عنك حتى ترى رأيك فيهما وتدبر شأنهما وقرئ أرجته وأرجه من أرجأه وأرجاه «وأرسل في المدائن حاشرين» قيل هي مدائن صعيد مصر وكان رؤساء السحرة ومهرتهم بأقصى مدائن الصعيد وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا سبعين ساحرا أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل نينوى مدينة يونس عليه السلام بالموصل ورد ذلك بأن المجوسية ظهرت بزرادشت وهو إنما جاء بعد موسى عليه الصلاة والسلام «يأتوك بكل ساحر عليم» أي ماهر في السحر وقرئ بكل سحار عليم والجملة جواب الأمر «وجاء السحرة فرعون» بعدما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح بهم حسبما فو قوله تعالى فأرسل فرعون في المدائن حاشرين للإيذان بمسارعة فرعون إلى الإرسال ومبادرة الحاشرين والسحرة إلى الامتثال «قالوا» استئناف منوط بسؤال نشأ من حكاية مجىء السحرة كأنه قيل فماذا قالوا له عند مجيئهم إياه فقيل قالوا مدلين بما عندهم واثقين بغلبتهم «إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين» بطريق الإخبار بثبوت الأجر وإيجابه كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر عظيم حينئذ أو بطريق الاستفهام التقريري بحذف الهمزة وقرئ بإثباتها وقولهم إن كنا لمجرد تعيين مناط ثبوت الأجر لا لترددهم في الغلبة وتوسيط الضمير وتحلية الخبر باللام للقصر أي إن كنا نحن الغالبين لا موسى «قال نعم» وقوله تعالى «وإنكم لمن المقربين» عطف على محذوف سد مسده حرف الإيجاب
259

كأنه قال إن لكم لأجرا وإنكم مع ذلك لمن المقربين للمبالغة في الترغيب روي أنه قال لهم تكونون أول من يدخل مجلسي وآخر من يخرج منه «قالوا» استئناف كما مر كأنه قيل فماذا فعلوا بعد ذلك فقيل قالوا متصدين لشأنهم مخاطبين لموسى عليه السلام «يا موسى إما أن تلقي» ما تلقي أولا «وإما أن نكون نحن الملقين» أي لما نلقي أولا أو الفاعلين للإلقاء أولا خيروه عليه السلام بالبدء بالإلقاء مراعاة للأدب وإظهار للجلادة وأنه لا يختلف حالهم بالتقديم والتأخير ولكن كانت رغبتهم في التقديم كما ينبئ عنه تغييرهم للنظم بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل وتأكيد الضمير المتصل «قال ألقوا» غير مبال بأمرهم أي ألقوا ما تلقون «فلما ألقوا» ما ألقوا «سحروا أعين الناس» بأن خيلوا إليهم ما لا حقيقة له «واسترهبوهم» أي بالغوا في إرهابهم «وجاؤوا بسحر عظيم» في بابه روي أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا كأنها حيات ملأت الوادي وركب بعضها بعضا «وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون» الفاء فصيحة أي فألقاها فصارت حية فإذا هي الآية وإنما حذف للإشعار بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعة الانقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالالقاء وصيغة المضارع لاستحضار صورة اللقف الهائلة والإفك الصرف والقلب عن الوجه المعتاد وما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي ما يأفكونه ويزورونه أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول روي أنها لمل تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ورفعها موسى فرجعت عصا كما كانت وأعدم الله تعالى بقدرته الباهرة تلط الأجرام العظام أو فرقها أجزاء لطيفة قالت السحرة لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا «فوقع الحق» أي فثبت لظهور أمر «وبطل ما كانوا يعملون» أي ظهر بطلان ما كانوا مستمرين على عمله «فغلبوا» اي فرعون وقومه «هنالك» أي في مجلسهم «وانقلبوا صاغرين» أي صاروا أذلاء مبهوتين أو رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين والأول هو الظاهر لقوله تعالى «وألقي السحرة ساجدين» فإن ذلك كان بمحضر من فرعون قطعا أي خروا سجدا كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم كيف لا وقد
260

بهرهم الحق واضطرهم إلى ذلك «قالوا آمنا برب العالمين» «رب موسى وهارون» أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أن مرادهم فرعون عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لما آمنت السحرة اتبع موسى من بني إسرائيل ستمائة الف «قال فرعون» منكرا على السحرة موبخا لهم على ما فعلوه «آمنتم به» بهمزة واحدة إما على الإخبار المحض المتضمن للتوبيخ أو على الاستفهام التوبيخي بحذف الهمزة كما مر في إن لنا لأجرا وقد قرىء بتحقيق الهمزتين معا وبتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين أي آمنتم بالله تعالى «قبل أن آذن لكم» أي بغير أن آذن لكم كما في قوله تعالى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي لا أن الإذن منه ممكن في ذلك «إن هذا لمكر مكرتموه» يعني إن ما صنعتموه ليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الجليل وظهور المعجزة بل هو حيلة احتلتموها مع موطأة موسى «في المدينة» يعني مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد روي أن موسى عليه الصلاة والسلام وأمير السحرة التقيا فقال له موسى أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به الحق فقال الساحر
والله لئن غلبتني لأومنن بك وفرعون يسمعهما وهو الذي نشأ عنه هذا القول «لتخرجوا منها أهلها» أي القبط وتخلص هي لك ولبني إسرائيل وهاتان شبهتان ألقاهما إلى اسماع عوام القبط عند معاينتهم لارتفاع أعلام المعجزة ومشاهدتهم لخضوع أعناق السحرة لها وعدم تمالكهم من أن يؤمنوا بها ليمنعهم بهما عن الإيمان بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام بإراءة أن إيمان السحر مبني على المواضعة بينهم وبين موسى وأن غرضهم بذلك إخراج القوم من المدينة وإبطال ملكهم ومعلوم أن مفارقة الأوطان المألوفة والنعمة المعروفة مما لا يطاق به فجمع اللعين بين الشبهتين تثبيتا للقبط على ما هم عليه وتهييجا لعداوتهم له عليه الصلاة والسلام ثم عقبهما بالوعيد ليريهم أن له قوة وقدرة على المدافعة فقال «فسوف تعلمون» أي عاقبة ما فعلتم وهذا وعيد ساقه بطريق الإجمال للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال «لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف» أي من كل شق طرفا «ثم لأصلبنكم أجمعين» تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم قيل هو أول من سن ذلك فشرعه الله تعالى لقطاع الطريق تعظيما لجرمهم ولذلك سماه الله تعالى محاربة لله ورسوله «قالوا» استئناف مسوق للجواب
261

عن سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل فماذا قال السحرة عندما سمعوا وعيد فرعون هل تأثروا به تصلبوا فيما هم فيه من الدين فقيل قالوا ثابتين على ما أحدثوا من الإيمان «إنا إلى ربنا منقلبون» أي بالموت لا محالة فسواء كان ذلك من قبلك أو لا فلا نبالي بوعيدك أو إنا إلى رحمة ربنا وثوابه منقلبون إن فعلت بنا ذلك كأنهم استطابوه شغفا على لقاء الله تعالى وإنا جميعا إلى ربنا منقلبون فيحكم بيننا وبينك «وما تنقم منا» أي وما تنكر وتعيب منا «إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا» وهو خير الأعمال وأصل المفاخر ليس مما يتأتى لنا العجول عنه طلبا لمرضاتك ثم أعرضوا عن مخاطبته إظهارا لما في قلوبهم من العزيمة على ما قالوا وتقرير آلة ففزعوا إلى الله عز وجل وقالوا «ربنا أفرغ علينا صبرا» أي افض علينا من الصبر ما يغمرنا كما يغمر الماء أو صب علينا ما يطهرنا من أوضار الأوزار وأدناس الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون «وتوفنا مسلمين» ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد قيل فعل بهم ما أوعدهم به وقيل لم يقدر عليه لقوله تعالى أنتما ومن اتبعكما الغالبون «وقال الملأ من قوم فرعون» مخاطبين له بعد ما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام «أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض» أي في أرض مصر بتغير الناس عليك وصرفهم عن متابعتك «ويذرك» عطف على يفسدوا أو جواب الاستفهام بالواو كما في قول الحطيئة
[ألم أك جاركم ويكون بيني * وبينكم المودة والإخاء]
أي أيكون منك ترك موسى ويكون تركه إياك وقرئ بالرفع عطفا على أتذر أو استئنافا أو حالا وقرئ بالسكون كأنه قيل يفسدوا ويذرك كقوله تعالى فأصدق وأكن «وآلهتك» ومعبوداتك قيل إنه كان يعبد الكواكب وقيل صنع لقومه أصناما وأمرهم بأن يعبدوها تقربا إليه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى وقرئ والهتك أي عبادتك «قال» مجيبا لهم «سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم» كما كنا نفعل بهم ذلك من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه وقرئ سنقتل بالتخفيف «وإنا فوقهم قاهرون» كما كنا لم يتغير حالنا أصلا وهم مقهورون تحت أيدينا كذلك
* «قال موسى لقومه» تسلية لهم وعدة بحسن العاقبة حين سمعوا قول فرعون وتضجروا منه «استعينوا بالله واصبروا» على ما سمعتم من أقاويله الباطلة «إن الأرض لله» أي أرض مصر أو جنس
262

الأرض وهي داخلة فيها دخولا أوليا «يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» الذين أنتم منهم وفيه إيذان بأن الاستعانة بالله تعالى والصبر من باب التقوى وقرئ والعاقبة بالنصب عطفا على اسم إن «قالوا» أي بنو إسرائيل «أوذينا» أي من جهة فرعون «من قبل أن تأتينا» أي بالرسالة يعنون بذلك قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه الصلاة والسلام وبعده «ومن بعد ما جئتنا» أي رسولا يعنون ما توعدهم به من إعادة قتل الأبناء وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجور والظلم والعذاب وأما ما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن كما قيل فليس مما يلحقهم بواسطته عليه السلام فليس لذكره كثير ملابسة بالمقام «قال» أي موسى عليه الصلاة والسلام لما رأى شدة جزعهم مما شاهدوه مسليا لهم بالتصريح بما لوح به في قوله إن الأرض لله الخ «عسى ربكم أن يهلك عدوكم» الذي فعل بكم ما فعل وتوعدكم بإعادته «ويستخلفكم في الأرض» أي يجعلكم خلفاء في أرض مصر «فينظر كيف تعملون» أحسنا أم قبيحا فيجازيكم حسبما يظهر منك من الأعمال وفيه تأكيد للتسلية وتحقيق للأمر قيل لعل الإتيان بفعل الطمع لعدم الجزم منه عليه السلام بأنهم هم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم فقد روي أن مصر إنما فتحت في زمن داود عليه السلام ولا يساعده قوله تعالى وأورثنا القوم الذين يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها فإن المتبادر استخلاف أنفس المستضعفين لا استخلاف أولادهم إنما مجىء فعل الطمع للجري على سنن الكبرياء «ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين» شروع في تفصيل مبادى الهلاك الموعود وإيذان بأنه تعالى لم يمهلهم بعد ذلك ولم يكونوا في خفض ودعة بل رتبت أسباب هلاكهم فتحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال وتصدير الجملة بالقسم لإظهار الاعتناء بمضمونها والسنون جمع سنة والمراد بها عام القحط وفيها لغتان أشهرهما إجراؤها مجرى المذكر السالم فيرفع بالواو وينصب ويجر بالياء ويحذف نونه بالإضافة واللغة الثانية إجراء الإعراب على النون ولكن مع الباء خاصة إما بإثبات تنوينها أو بحذفه قال الفراء هي اللغة مصروفة عنج بني عامر وغير مصروفة عند بني تميم ووجه حذف التنوين والتخفيف وحينئذ لا يحذف النون للإضافة وعلى ذلك جاء قول الشاعر
[دعاني من نجد فإن سنينه * لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا]
وجاء الحديث اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف وسنين كسنين يوسف باللغتين «ونقص من الثمرات» بإصابة العاهات عن كعب يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أما السنون فكانت لباديتهم وأهل ماشيتهم وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم «لعلهم يذكرون» كي تذكروا ويتعظوا بذلك ويقفوا على أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجر وأعمالهم عليه من العتو والعناد قال الزجاج إن أحوال
263

الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله عوز وجب وفي الرجوع إليه تعالى ألا يرى إلى قوله تعالى وغذا مسه الشر فذو دعاء عريض وقد مر تحقيق القول في لعل وفي محلها في تفسير قوله تعالى لعلكم تتقون في أوائل سورة البقرة وقوله تعالى «فإذا جاءتهم الحسنة» الخ بيان لعدم تذكرهم وتماديهم في الغنى أي فإذا جاءتهم السعة والخصب وغيرهما من الخيرات «قالوا لنا هذه» أي لأجلنا واستحقاقنا لها «وإن تصبهم سيئة» أي جدب وبلاء «يطيروا بموسى ومن معه» أي يتشاءموا بهم ويقولوا ما أصابتنا إلا بشؤمهم وهذا كما ترى شاهد بكمال قساوة قلوبهم ونهاية جهلهم وغباوتهم فإن الشدائد ترقق القلوب وتلين العرائك لا سيما بعد مشاهدة الآيات وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شيء منها بل ازدادوا عتوا وعنادا وتعريف الحسنة وذكرها بأداة التحقيق للإيذان بكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بها بالذات كما أن تنكير السيئة وإيرادها بحرف الشك للإشعار بندرة وقوعها وعدم تعلق الإرادة بها إلا بالعرض وقوله تعالى «ألا إنما طائرهم عند الله» استئناف مسوق من قبله تعالى لرد مقالتهم الباطلة وتحقيق الحق في ذلك وتصديره بكلمة التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمونه أي ليس سبب خيرهم إلا عنده تعالى وهو حكمه ومشيئته المتضمنة للحكم والمصالح أو ليس سبب شؤمهم وهو أعمالهم السيئة إلا عنده تعالى أي مكتوبة لديه فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم لا ما عداها وقرئ إنما طيرهم وهو اسم جمع طائر وقيل جمع له «ولكن أكثرهم لا يعلمون» ذلك فيقولون مكا يقولون مما حكي عنهم وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون أن ما أصابهم من الخير والشر من جهة الله تعالى أو يعلمون أن ما أصابهم من المصائب والبلايا ليس إلا بما كسبت أيديهم ولكن لا يعلمون بمقتضاه عنادا واستكبارا «وقالوا» شروع في بيان بعض آخر مما أخذ به آل فرعون من فنون العذاب التي هي في أنفسها آيات بينات وعدم ارعوائهم مع ذلك عما كانوا عليه من الكفر والعناد أي قالوا بعد ما رأوا ما رأوا من شأن العصا والسنين ونقص الثمرات «مهما تأتنا به» كلمة مهما تستعمل للشرط والجزاء وأصلها ما الجزائية ضمت إليها ما المزيدة للتأكيد كما ضمت إلى اين وإن في أينما تكونوا وإما نذهبن بك خلا أن ألف الأولى قلبت هاء حذرا من تكرير المتجانسين هذا هو الرأي السديد وقيل مه كلمة يصوت بها الناهي ضمت إليها ما الشرطية ومحلها الرفع بالابتداء أو النصب بفعل يفسره ما بعدها أي أي شيء تظهره لدينا وقوله تعالى «من آية» بيان لمهما وتسميتهم إياها وقوله تعالى «لتسحرنا بها» إظهار لكما الطغيان والغلو فيه وتسمية للإرشاد إلى الحق بالسحر وتسكير الأبصار والضميران المجروران راجعان إلى مهما وتذكير الأول لمراعاة جانب اللفظ لإبهامه
264

وتأنيث الثاني للمحافظة على جانب المعنى لتنبيه بآية كما في قوله تعالى ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له «فما نحن لك بمؤمنين» بمصدقين لك ومؤمنين لنبوتك «فأرسلنا عليهم» عقوبة لجرائمهم لا سيما لقولهم هذا «الطوفان» أي الماء الذي طاف به وغشي
أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل وقيل هو الجدري وقي الموتان وقيل الطاعون «والجراد والقمل» قيل هو كبار القردان وقيل أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها «والضفادع والدم» روي أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يستطيع أن يخرج أحد من بيته ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه قطرة وهي في خلال بيوتهم وفاض الماء على أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والتصرف ودام ذلك سبعة أيام فقالوا له عليه الصلاة والسلام ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك فدعا فكشف عنهم فنبت من العشب والكلأ ما لم يعهد قبله ولم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم ففزعوا إليه عليه الصلاة والسلام لما ذكر فخرج إلى الصحراء وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها فلم يؤمنوا فسلط الله تعالى عليهم القمل فأكل ما أبقته الجراد وكان يقع في أطعمتهم ويدخل بين ثيابهم وجلودهم فيمصها ففزعوا إليه ثالثا فرفع عنهم فقالوا قد تحققنا الآن أنك ساحر ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوب ولا طعام إلا وجدت فيه وكانت تمتلئ منها مضاجعهم وتثب إلى قدورهم وهي تغلي وإلى أفواههم عند التكلم ففزعوا إليه رابعا وتضرعوا فأخذ عليهم العهود فدعا فكشف الله عنهم فنقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دماء حتى كان يجتمع القبطي والإسرائيلي على إناء فيكون ما يليه دما وما يلي الإسرائيلي ماء على حاله ويمص من فم الإسرائيلي فيصير دما في فيه وقيل سلط الله عليهم الرعاف «آيات» حال من المنصوبات المذكورة «مفصلات» مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته وقيل مفرقات بعضها من بعض لامتحان أحوالهم وكان بين كل آيتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة منها أسبوعا وقيل إنه عليه السلام لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل «فاستكبروا» أي عن الإيمان بها «وكانوا قوما مجرمين» جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها «ولما وقع عليهم الرجز» أي العذاب المذكور على التفصيل فاللام للجنس المنتظم لكل واحدة من الآيات المفصلة أي كلما وقع عليهم عقوبة من تلك العقوبات قالوا في كل مرة «يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك» أي بعهده عندك وهو
265

النبوة أو بالذي عهد إليك أن تدعوه فيجيبك كما أجابك في آياتك وهو صلة لأدع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله متوسلا إليه بما عهد عندك أو متعلق بمحذوف دل عليه التماسهم مثل أسعفنا إلى ما نطلب بحق ما عندك أو قسم أجيب بقوله تعالى «لئن كشفت عنا الرجز» الذي وقع علينا «لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل» أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشف الخ «فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه» أي إلى حد الزمان هو بالغوه فمعذبون بعده أو مهلكون «إذا هم ينكثون» جواب لما أي فلما كشفنا عنهم فاجئوا النكث من غير تأمل وتوقف «فانتقمنا منهم» أي فأردنا أن ننتقم منهم لما أسلفوا من المعاصي والجرائم فإن قوله تعالى «فأغرقناهم» عين الانتقام منهم فلا يصح دخول الفاء بينهما ويجوز أن يكون المراد مطلق الانتقام منهم والفاء تفسيرية كما في قوله تعالى ونادى نوح ربه فقال رب الخ «في اليم» في البحر الذي لا يدرك قعره وقيل في لجته «بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين» تعليل للإغراق أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها وعدم تفكرهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية والفاء وإن دلت على ترتب الإغراق على ما قبله من النكث لكنه صرح بالتعليل إيذانا بأن مدار جميع ذلك تكذيب آيات الله تعالى والإعراض عنها «وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون» أي بالاستبعاد وذبح الأبناء والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف وتجدده وهم بنو إسرائيل ذكروا بهذا العنوان إظهارا لكمال لطفه تعالى بهم وعظيم إحسانه إليهم في رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزى ة «مشارق الأرض ومغاربها» أي
جانبيها الشرقي والغربي حيث ملكها بنو إسرائيل بعج الفراعنة والعمالقة وتصرفوا في أكنافها الشرقية والغربية كيف شاءوا وقوله تعالى «التي باركنا فيها» أي بالخصب وسعة الأرزاق صفة للمشارق والمغارب وقيل للأرض وفيه ضعف للفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف كما في قولك قام أو هند وأبوها العاقلة «وتمت كلمة ربك الحسنى» وهي وعده تعالى إياهم بالنصر والتمكين كما ينبئ عنه قوله تعالى ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين وقرئ كلمات لتعدد المواعيد ومعنى تمت مضت واستمرت «على
266

بني إسرائيل بما صبروا» أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من جهة فرعون وقومه «ودمرنا» أي خربنا وأهلكنا «ما كان يصنع فرعون وقومه» من العمارات والقصور أي ودمرنا إلي كان فرعون يصنعه على أن فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم والجملة الكونية صلة ما والعائد محذوف وقيل اسم كان ضمير عائد إلى ما الموصولة ويصنع مسند إلى فرعون والجملة خبر كان والعائد محذوف أيضا والتقدير ودمرنا الذي كان هو يصنعه فرعون الخ وقيل كان كان زائدة وما مصدرية والتقدير ما يصنع فرعون الخ وقيل كان زائدة كما ذكر وما موصولة اسمية والعائد محذوف تقديره ودمرنا الذي يصنعه فرعون الخ أي صنعه والعدول إلى صيغة المضارع على هذين القولين لاستحضار الصورة «وما كانوا يعرشون» من الجنات أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان وقرئ يعرشون بضم الراء والكسر أفصح وهذا آخر قصة فرعون وقومه وقوله عز وجل «وجاوزنا ببني إسرائيل البحر» شروع في قصة بني إسرائيل وشرح ما أحدثوه من الأمور الشنيعة بعد أن أنقذهم الله عز وجل من ملكة فرعون ومن عليهم من النعم العظام الموجبة للشكر وأراهم من الآيات الكبار ما تخر له شم الجبال تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم وجاوز بمعنى جاز وقرئ جوزنا بالتشديد وهو أيضا بمعنى جاز فعدى بالباء أي قطعنا بهم البحر روي أنه عبر بهم موسى عليه السلام يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله تعالى فرعون فصاموه شكرا لله عز وجل «فأتوا» أي مروا «على قوم» قيل كانوا من لخم وقيل من العمالقة الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم «يعكفون على أصنام لهم» أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها وقرئ بكسر الكاف قال ابن جريج كانت أصنامهم تماثيل بقر وهو أول شأن العجل «قالوا» عندما شاهدوا أحوالهم «يا موسى اجعل لنا إلها» مثالا نعبده «كما لهم آلهة» الكاف متعلقة بمحذوف وقع صفة لإلها وما موصولة ولهم صلتها وآلهة بدل من ما والتقدير هذا إثر ما شاهدوا من الآية الكبرى والمعجزة العظمى فوصفهم بالجهل المطلق إذ لا جهل أعظم مما ظهر منهم وأكده بقوله «إن هؤلاء» يعني القوم الذين يعبدون تلك التماثيل «متبر» أي مدمر مكسر «ما هم فيه» أي من الدين الباطل أي يتبر الله تعالى ويهدم دينهم الذي هم عليه عن قريب ويحطم أصنامهم ويتركها رضاضا وإنما جئ بالجملة الاسمية للدلالة على التحقق «وباطل» أي مضمحل بالكلية «ما كانوا يعملون» من عبادتها وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى فإنه كفر محض وليس هذا كما في قوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا كما توهم فإن المراد به أعمال البر التي عملوها في الجاهلية فإنها في أنفسها حسنات
267

لو قارنت الإيمان لاستتبعت أجورها وإنما بطلت لمقارنتها الكفر وفي إيقاع هؤلاء اسما لأن وتقديم الخبر من الجملة الواقعة خبرا لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا «قال أغير الله أبغيكم إلها» شروع في بيان شؤون الله تعالى الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى بعد بيان أن ما طلبوا عبادته مما لا يمكن طلبه أصلا لكونه هالكا باطلا ولذلك وسط بينهما قال مع كون كل منهما كلام موسى عليه الصلاة والسلام والاستفهام للإنكار والتعجب والتوبيخ وإدخال الهمزة على غير للإيذان بأن المنكر هو كون المبغي غيره تعالى لما أنه لاختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكار الاختصاص بغيره تعالى وانتصاب غير على أنه مفعول أبغي بحذف اللام أي أبغي لكم أي اطلب لكم غير الله تعالى وإلها إما تمييزا أو حال أو على الحالية من إلها وهو المفعول لأبغي على أن الأصل أبغي لكم إلها غير الله فغير الله صفة لإلها فلما قدمت صفة النكرة انتصبت حالا «وهو فضلكم على العالمين» أي والحال أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم وفيه تنبيه على ما صنعوا من سوء المعاملة حيث قابلوا تخصيص الله تعالى إياهم من بين أمثالهم بما لم يستحقوه تفضلا بأن عمدوا إلى أخس شيء من مخلوقاته فجعلوه شريكا له تعالى تبا لهم ولما يعبدون «وإذ نجيناكم» تذكير لهم من جهته سبحانه بنعمة الإنجاء من ملكة فرعون وقرئ نجيناكم من التنجية وقرئ أنجاكم فيكون مسوقا من جهة موسى عليه الصلاة والسلام أي واذكروا وقت إنجائنا إياكم «من آل فرعون» من ملكتهم لا بمجرد تخليصكم من أيديهم وهم على حالهم في المكنة والقدرة بل بإهلاكهم بالكلية وقوله تعالى «يسومونكم سوء العذاب» من سامه خسفا أي أولاه إياه وكلفه غياه وهو إما استئناف لبيان ما أنجاهم منه أو حال منن المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما معا لاشتماله على ضميريهما وقوله تعالى «يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم» بدل من يسومونكم مبين أو مفسر له «وفي ذلكم» الإنجاء أو سوء العذاب «بلاء» أي نعمة أو محنة «من ربكم» من مالك أمركم فإن النعمة والنقمة كلتاهما منه سبحانه وتعالى «عظيم» لا يقادر قدره «وواعدنا موسى ثلاثين ليلة» روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى عليه السلام ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك
268

فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك وقيل أوحى الله تعالى إليه أما علمت أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فأمره الله تعالى بأن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لذلك وذلك قوله تعالى «وأتممناها بعشر» والتعبير عنها بالليالي لأنها غرر الشهور وقيل أمره الله تعالى بأن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها بما يقربه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها وقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة وفصل ههنا وواعدنا بمعنى وعدنا وقد قرىء كذلك وقيل الصيغة على بابها بناء على تنزيل قبول موسى عليه السلام منزلة الوعد وثلاثين مفعول ثان لواعدنا بحذف المضاف أي إنما ثلاثين ليلة «فتم ميقات ربه أربعين ليلة» أي بالغا أربعين ليلة «وقال موسى لأخيه هارون» حين توجه إلى المناجاة حسبما أمر به «اخلفني» أي كن خليفتي «في قومي» وراقبهم فيما يأتون وما يذرون «
وأصلح» ما يحتاج إلى الإصلاح من أمورهم أو كن مصلحا «ولا تتبع سبيل المفسدين» أي لا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه «ولما جاء موسى لميقاتنا» لوقتنا الذي وقتنا واللام للاختصاص أي اختص مجيئه بميقاتنا «وكلمه ربه» من غير واسطة كما يكلم الملائكة عليهم السلام وفيما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يسمع ذلك من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه عز وجل ليس من جنس سماع كلام المحدثين «قال رب أرني أنظر إليك» أي أرني ذاتك بأن تمكنني من رؤيتك أو تتجلى لي فأنظر إليك وأراك وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لما أن طلب المستحيل مستحيل من الأنبياء لا سيما ما يقتضي الجهل بشؤون الله تعالى ولذلك رده بقوله تعالى لن تراني دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إلى تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه ذلك بعد وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا أرنا الله جهرة خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل ذلك حين قالوا اجعل لنا إلها وأن لا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه ولا تتبع سبيل المفسدين والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإخبار بعدم رؤيته إياه على أنه لا يراه ابدا وأن لا يراه غيره أصلا فضلا عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة مكابرة أو جهل لحقيقة الرؤية «قال» استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل فماذا قال رب العزة حين قال موسى عليه السلام ما قل فقيل قال «لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني» استدراك لبيان أنه لا يطيق بها وفي تعليقها باستقرار الجيل أيضا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق بالممكن ممكن والجبل قيل هو جبل أردن «فلما تجلى ربه للجبل» اي ظهرت له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره وقيل أعطى الجبل حياة ورؤية حتى رآه «جعله دكا» مدكوكا مفتتا والدك والدق أخوان كالشك والشق
269

وقرئ دكاء أي أرضا مستوية ومنه ناقة دكاء للتي لا سنام لها وقرئ دكا جمع دكاء أي قطعا «وخر موسى صعقا» مغشيا عليه من هول ما رآه «فلما أفاق» الإفاقة رجوع العقل والفهم إلى الإنسان بعد ذهابهما بسبب من الأسباب «قال» تعظيما لما شاهده «سبحانك» أي تنزيها لك من أن أسألك شيئا بغير إذن منك «تبت إليك» أي من الجراءة والإقدام على السؤال بغير إذن «وأنا أول المؤمنين» أي بعظمتك وجلالك وقيل أول من آمن بأنك لا ترى في الدنيا وقيل بأنه لا يجوز السؤال بغير غذن منك «قال يا موسى» استئناف مسوق لتسليته عليه الصلاة والسلام من عدم الإجابة إلى سؤال الرؤية كأنه قيل إن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما لم أعط أحدا من العالمين فاغتنمها وثابر على شكرها «إني اصطفيتك» أي اخترتك واتخذتك صفوة وآثرتك «على الناس» أي المعاصرين لك وهارون إن كان نبيا كان مأمورا باتباعه وما كان كليما ولا صاحب شرع «برسالاتي» أي بأسفار التوراة وقرئ برسالتي «وبكلامي» وبتكليمي إياك بغير واسطة «فخذ ما آتيتك» أي أعطيتك من شرف النبوة والحكمة «وكن من الشاكرين» على ما أعطيت من جلائل النعم قيل كان سؤال الرؤية يوم عرفة وإعطاء التوراة يوم النحر «وكتبنا له في الألواح من كل شيء» أي مما يحتاجون إليه من أمور دينهم «موعظة وتفصيلا لكل شيء» بدل من الجار والمجرور أي كتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام واختلف في عدد الألواح وفي جوهرها ومقدارها فقيل إنها كانت عشرة ألواح وقيل سبعة وقيل لوحين وإنها كانت من زمردة جاء بها جبريل عليه السلام وقيل من زبرجدة خضراء أو ياقوتة حمراء وقيل أمر الله تعالى موسى بقطعها من صخرة صماء لينهاله فقطعها بيده وشققها بأصابعه وعن الحسن رضي الله عنه كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراة وإن طولها كان عشرة أذرع وقيل أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقر الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام وعن مقاتل رضي الله عنه كتب في الألواح إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئا ولا تقطعوا السبيل ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين «فخذها» على إضمار قول معطوف على كتبنا فقلنا خذها «بقوة» بجد وعزيمة وقيل هو بدل من قوله تعالى فخذ ما آتيتك والضمير للألواح أو لكل شيء لأنه بمعنى الأشياء أو للرسالة أو للتوراة «وأمر قومك يأخذوا بأحسنها» أي بأحسن ما فيها كالعفو والصبر بالإضافة إلى الاقتصاص والانتصار على طريقة الندب والحث على اختيار الأفضل كما في قوله تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم أو بواجباتها فإنها
270

أحسن من المباح وقيل المعنى يأخذوا بها وأحسن صلة قال قطرب أي بحسنها وكلها حسن كقوله تعالى ولذكر الله أكبر وقيل هو أن تحمل الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها إلى الصواب «سأريكم دار الفاسقين» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى قومه عليه الصلاة والسلام بطريق الالتفات حملا لهم على الجد في الامتثال بما أمروا به إما على نهج الوعيد والترهيب على أن المراد بدار الفاسقين أرض مصر وديار عاد وثمود واضرابهم فإن رؤيتها وهي الخالية عن أهلها خاوية على عروشها موجبة للاعتبار والانزجار عن مثل أعمال أهلها كيلا يحل بهم ما حل بأولئك وإما على نهج الوعد والترغيب على أن المراد بدار الفاسقين إما أرض مصر خاصة أو مع أرض الجبابرة والعمالقة بالشام فإنها أيضا مما أتيح لبني إسرائيل وكتب لهم حسبما ينطق به قوله عز وجل يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الإيراث ويؤيده قراءة من قرأ سأورثكم بالثاء المثلثة كما في قوله تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها وقرئ سأوريكم ولعله من أوريت الزند أي سأبينها لكم وقوله تعالى «سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض» استئناف مسوق لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في الآيات التي هي ما كتب في ألواح التوراة من المواعظ والأحكام أو ما يعمها وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ما وعد إراءته من دار الفاسقين ومعنى صرفهم عنها الطبع على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لاصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع أن في المؤخر نوع كول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الجليل أي سأطبع على قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ويرون لهم على الخلق مزية وفضلا فلا ينتفعون بآياتي التنزيلية والتكوينية ولا يغتنمون مغانم آثارها فلا تسلكوا مسلكهم لتكونوا أمثالهم وقيل المعني سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون في إبطال ما رآه من الآيات فأبى الله تعالى إلا إحقاق الحق وإزهاق الباطل وعلى هذا فالأنسب أن يراد بدار الفاسقين ارض الجبابرة والعمالقة والمشهورين بالفسق والتكبر في الأرض وبإراءتها للمخاطبين إدخالهم الشام وإسكانهم في مساكنهم ومنازلهم حسبما
نطق به قوله تعالى يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ويكون قوله تعالى سأصرف عن آياتي الخ جوابا عن سؤال مقدر ناشيء من الوعد بإدخال الشام على أن المراد بالآيات ما تلي آنفا ونظائره وبصرفهم عنها إزالتهم عن مقام معارضتها وممانعتها لوقوع أخبارها وظهور أحكامها وآثارها بإهلاكهم على يد موسى عليه الصلاة والسلام حين سار بعد التيه بمن بقي من بني إسرائيل
271

أو بذرياتهم على اختلاف الروايتين إلى أريحا ويوشع بن نون في مقدمته ففتحها واستقر بنو إسرائيل بالشام وملكوا مشارقها ومغاربها كأنه قيل كيف يرون دارهم وهم فيها فقيل سأهلكهم وإنما عدل إلى الصرف ليزدادوا ثقة بالآيات واطمئنانا بها وقوله تعالى «بغير الحق» إما صلة للتكبر أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل وظلمهم المفرط أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق وقوله تعالى «وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها» عطف على يتكبرون داخل معه في حكم الصلة والمراد بالآية إما منزلة فالمراد برؤيتها مشاهدتها بسماعها أو ما يعمها وغيرها من المعجزات فالمراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع والإبصار أي وإن يشاهدوا كل آية من الآيات لا يؤمنوا بها على عموم النفي لا على نفي العموم أي كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائهم إياها كما هي وهذا كما ترى يؤيد كون الصرف بمعنى الطبع وقوله تعالى «وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا» عطف على ما قبله داخل في حكمه أي لا يتوجهون إلى الحق ولا يسلكون سبيله أصلا لاستيلاء الشيطنة عليهم ومطبوعتهم على الانحراف والزيغ وقرئ بفتحتين وقرئ الرشاد وثلاثتها لغات كالسقم والسقم والسقام «وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا» أي يختارونه لأنفسهم مسلكا مستمرا لا يكادون يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم الباطلة وإفضائه بهم إلى شهواتهم «ذلك» إشارة إلى ما ذكر من تكبرهم وعدم إيمانهم بشي من الآيات وإعراضهم عن سبيل الرشد وإقبالهم التام إلى سبيل الغي وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «بأنهم» أي حاصل بسبب أنهم «كذبوا بآياتنا» الدالة على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادها «وكانوا عنها غافلين» لا يتفكرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل ويجوز ان يكون إشارة إلى ما ذكر من الصرف ولا يمنعه الإشعار بعلية ما في حيز الصلة كيف لا وقد مر أن ذلك في قوله تعالى ذلك بما عصوا الآية يجوز أن يكون إشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم مع كون ذلك معللا بالكفر بآيات الله صريحا وقيل محل اسم الإشارة النصب على المصدر أي سأصرفهم ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها «والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة» أي وبلقائهم الدار الآخرة أو لقائهم ما وعده الله تعالى في الآخرة من الجزاء ومحل الموصول الرفع على الابتداء وقوله تعالى «حبطت أعمالهم» خبره أي ظهر بطلان أعمالهم التي كانوا عملوها من صلة الأرحام وإغاثة الملهوفين ونحو ذلك أو حبطت أعمالهم بعد ما كانت مرجوة النفع على تقدير إيمانهم بها «هل يجزون» أي لا يجزون «إلا ما كانوا يعملون» أي الإجزاء ما كانوا يعملونه من الكفر والمعاصي «واتخذ قوم موسى من بعده» أي من بعد ذهابه إلى الطور «من حليهم» متعلق باتخذ كالجار الأول لاختلاف معنييهما فإن الأول للابتداء
272

والثاني للتبعيض أو للبيان أو الثاني متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده إذ لو تأخر لكان صفة له وإضافة الحلي إليهم مع أنها كانت للقبط لأدنى الملابسة حيث كانوا استعاروها من أربابها قبيل الغرق فبقيت في أيديهم وأما أنهم ملكوها بعد الغرق فذلك منوط بتملك بني إسرائيل غنائم القبط وهم مستأمنون فيما بينهم فلا يساعده قولهم حملنا أوزارا من زينة القوم والحلي بضم الحاء وكسر اللام جمع حلي كثدي وثدي وقرئ بكسر الحاء بالاتباع كدلى وقرئ حليهم على الإفراد وقوله تعالى «عجلا» مفعول اتخذ أخر عن المجرور لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم وقيل هو متعد إلى اثنين بمعنى التصيير والمفعول الثاني محذوف أي إلها وقوله تعالى «جسدا» بدل من عجلا أو جثة ذا دم ولحم أو جسدا من ذهب لا روح معه وقوله تعالى «له خوار» أي صوت بقر وقرئ بالجيم والهمزة وهو الصياح نعت لعجلا روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه ترابا من أثر فرس جبريل عليه الصلاة والسلام وقد كان أخذه عند فلق البحر أو عند توجهه إلى الطور فصار حيا وقيل صاغه بنوع من الحيل فيدخل الريح في جوفه فيصوت والأنسب بما في سورة طه هو الأول وإنما نسب اتخاذه إليهم وهو فعله إما لأنه واحد منهم وإما لأنهم رضوا به فكأنهم فعلوه وإما لأن المراد بالاتخاذ اتخاذهم إياه إلها لا صنعه وإحداثه «ألم يروا أنه لا يكلمهم» استئناف مسوق لتقريعهم وتشنيعهم وتركيك عقولهم وتسفيههم فيما أقدموا عليه من المنكر الذي هو اتخاذه إلها أي ألم يروا أنه ليس فيه شيء من أحكام الألوهية حيث لا يكلمهم «ولا يهديهم سبيلا» بوجه من الوجوه فكيف اتخذوه إلها وقوله تعالى «فاتخذوه» أي فعلوا ذلك «وكانوا ظالمين» أي واضعين للأشياء في غير موضعها فلم يكن هذا أول منكر فعلوه والجملة اعتراض تذييلي وتكرير اتخذوه لتثنية التشنيع وترتيب الاعتراض عليه «ولما سقط في أيديهم» أي ندموا غاية الندم فإن ذلك كناية عنه لأن النادم المتحسر يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها وقرئ سقط على البناء للفاعل بمعنى وقع العض فيها فاليد حقيقة وقال الزجاج معناه سقط الندم في أنفسهم إما بطريق الاستعارة بالكناية أو بطريق التمثيل «ورأوا أنهم قد ضلوا» باتخاذ العجل أي تبينوا بحيث تيقنوا بذلك حتى كأنهم رأوه بأعينهم وتقديم ذكر ندمهم على هذه الرؤية مع كونه متأخرا عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعار بغاية سرعته كأنه سابق على الرؤية «قالوا» والله «لئن لم يرحمنا ربنا» بإنزال التوبة المكفرة «ويغفر لنا» ذنوبنا بالتجاوز عن خطيئتنا وتقديم الرحمة على المغفرة مع أن التخلية حقها أن تقدم على التحلية إما للمسارعة إلى ما هو المقصود الأصلي وإما لأن المراد بالرحمة مطلق إرادة الخير بهم وهو مبدأ لإنزال التوبة المكفرة لذنوبهم واللام في لئن موطئة للقسم كما أشير إليه وفي قوله تعالى «لنكونن من الخاسرين» لجواب القسم وما حكي عنهم من الندامة والرؤية والقول وإن كان بعد
273

ما رجع موسى عليه الصلاة والسلام إليهم كما ينطق به الآيات الواردة في سورة طه لكن أريد بتقديمه عليه حكاية ما صدر عنهم من القول والفعل في موضع واحد «ولما رجع موسى إلى قومه» شروع في بيان ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعه من الميقات إثر بيان ما وقع من قومه بعده وقوله تعالى «غضبان أسفا» حالان من موسى عليه السلام أو الثاني من المستكن في غضبان والأسف الشديد الغضب وقيل الحزين «قال بئسما خلفتموني من بعدي» أي بئسما فعلتم من بعد غيبتي حيث
عبدتم العجل بعد ما رأيتم فعلي من توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من حملكم على ذلك وكفكم عما طمحت نحوه ابصاركم حيث قلتم أجعل لنا إلها كما لهم آلهة ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف فالخطاب للعبدة من السامري وأشياعه أو بئسما قمتم مقامي ولم تراعوا عهدي حيث لم تكفوا العبدة عما فعلوا فالخطاب لهارون ومن معه من المؤمنين كما ينبئ عنه قوله تعالى قال يا هارون ما منعك إذ رايتهم ضلوا ان لا تتبعن أفعصيت أمري ويجوز أن يكون الخطاب للكل على أن المراد بالخليفة ما يعم الأمرين المذكورين وما نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس المستكن فيه والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم «أعجلتم أمر ربكم» أي تركتموه غير تام على تضمين عجل معنى سبق يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام أو أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم «وألقى الألواح» طرحا من شدة الغضب وفرط الضجر حمية للدين روي أن التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفعت ستة أسباعها التي كان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع كان فيه المواعظ والأحكام «وأخذ برأس أخيه» بشعر رأسه عليهما السلام «يجره إليه» حال من ضمير أخذ فعله عليه السلام توهما أنه قصر في كفهم وهارون كان أكبر منه عليهما السلام بثلاث سنين وكان حمولا ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل «قال» أي هارون لما أن حق الأم أعظم وأحق بالمراعاة مع أنها كانت مؤمنة وقد قاست فيه المخاوف والشدائد وقرئ بكسر الميم بإسقاط الياء تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء وقراءة الفتح لزيادة التخفيف أو لتشبيهه بخمسة عشر «إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني» إزاحة لتوهم التقصير في حقه والمعنى بذلت جهدي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي «فلا تشمت بي الأعداء» أي فلا تفعل بي ما يكون سببا لشماتتهم بي «ولا تجعلني مع القوم الظالمين» أي معدودا في عدادهم بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير وهذا يؤيد كون الخطاب للكل أولا تعتقد أني واحد من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم
274

«قال» استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية اعتذار هارون عليه السلام كأنه قيل فماذا قال موسى عند ذلك فقيل قال «رب اغفر لي» أي ما فعلت بأخي من غير ذنب مقرر من قبله «ولأخي» إن فرط منه تقصير ما في كفهم عما فعلوه من العظيمة استغفر عليه السلام لنفسه ليرضي أخاه ويظهر للشامتين رضاه لئلا تتم شماتتهم به ولأخيه للإيذان بأنه محتاج إلى الاستغفار حيث كان يجب عليه أن يقاتلهم «وأدخلنا في رحمتك» بمزيد الإنعام بعد غفران ما سلف منا «وأنت أرحم الراحمين» فلا غرو في انتظامنا في سلك رحمتك الواسعة في الدنيا والآخرة والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله «إن الذين اتخذوا العجل» أي تموا على اتخاذه واستمروا على عبادته كالسامري وأشياعه من الذين أشربوه في قلوبهم كما يفصح عنه كون الموصول الثاني عبارة عن التائبين فإن ذلك صريح في أن الموصول الأول عبارة عن المصرين «سينالهم» أي في الآخرة «غضب» أي عظيم لا يقادر قدره مستتبع لفنون العقوبات لما أن جريمتهم أعظم الجرائم وأقبح الجرائر وقوله تعالى «من ربهم» اي مالكهم متعلق بينا لهم أو بمحذوف هو نعت لغضب مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائن من ربهم «وذلة في الحياة الدنيا» هي ذلة الاغتراب التي تضرب بها الأمثال والمسكنة المتنظمة لهم ولأولادهم جميعا والذلة التي اختص بها السامري من الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مساس يروى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحد غيرهم حما جميعا في الوقت وإيراد ما نالهم في حيز السين مع مضيه بطريق تغليب حال الأخلاف على حال الأسلاف وقيل المراد بهم التائبون وبالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم واعتذر عن السين بان ذلك حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين اخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل بأنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فيكون سابقا على الغضب وأنت خبير بأن سباق النظم الكريم وسياقه بيان عن ذلك نبوا ظاهرا كيف لا وقوله تعالى «وكذلك نجزي المفترين» ينادي على خلافه فإنهم شهداء تائبون فكيف يمكن وصفهم بعج ذلك بالافتراء وأيضا ليس يجزي الله تعالى كل المفترين بهذا الجزاء الذي ظاهره قهر وباطنه لطف ورحمة وقيل المراد بهم أبناؤهم المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تعيير الأبناء بأفاعيل الآباء مشهور معروف منه قوله تعالى وإذ قتلتم نفسا الآية وقوله تعالى وإذ قلتم يا موسى الآية والمراد بالغضب الغضب الأخروي وبالذلة ما أصابهم من القتل والإجلاء وضرب الجزية عليهم وقيل المراد بالموصول المتخذون حقيقة وبالضمير في ينالهم أخلافهم ولا ريب في أن توسيط حال هؤلاء في تضاعيف بيان حال المتخذين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه «والذين عملوا السيئات» أي سيئة كانت
275

«ثم تابوا» عن تلك السيئات «من بعدها» أي من بعد عملها «وآمنوا» إيمانا صحيحا خالصا واشتغلوا بإقامة ما هو من مقتضياته من الأعمال الصالحة ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى «إن ربك من بعدها» أي من بعد تلك التوبة المقرونة بالإيمان «لغفور» للذنوب إن عظمت وكثرت «رحيم» مبالغ في إفاضة فنون الرحمة الدنيوية والأخروية والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام للتشريف «ولما سكت عن موسى الغضب» شروع في بيان بقية الحكاية غثر ما بين تحزب القوم إلى مصر وتائب والإشارة إلى مآل كل منهما إجمالا أي لما سكن عنه الغضب باعتذار أخيه وتوبة القوم وهذا صريح في أن ما حكي عنهم من الندم وما يتفرع عليه كان بعد مجىء موسى عليه الصلاة والسلام وفي هذا النظم الكريم من البلاغة والمبالغة بتنزيل الغضب الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول منزلة الآمر بذلك المغرى عليه بالتحكم والتشديد والتعبير عن شكوته بالسكوت ما لا يخفى وقرئ سكن وسكت وأسكت على أن الفاعل هو الله تعالى أو أخوه أو التائبون «أخذ الألواح» التي ألقاها «وفي نسختها» أي فيما نسخ فيها وكتب فعلة بمعنى مفعول كالخطبة وقيل فيما نسخ منها أي من الألواح المنكسرة «وهدى» أي بيان للحق «ورحمة» للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخير والصلاح «للذين هم لربهم يرهبون» اللام الأولى متعلقة بمحذوف هو صفة لرحمة أي كائنة لهم أو هي لام الأجل أي هدى ورحمة لأجلهم والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله تعالى إن كنتم للرؤيا تعبرون أو هي أيضا لام العلة والمفعول محذوف أي يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا للرياء والسمعة «واختار موسى قومه» شروع في بيان كيفية استدعاء التوبة وكيفية وقوعها واختار يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور بمن أي اختار من قومه بحذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور كما قوله
[اختارك الناس إذ رثت خلائقهم * واعتل من كان يرجى عنده السول]
أي اختارك من الناس «سبعين رجلا» مفعول لاختار أخر عن الثاني لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر «لميقاتنا» الذي وقتناه بعد ما وقع من قومه ما وقع لا لميقات الكلام الذي ذكر
276

قبل ذلك كما قيل قال السدي أمره الله تعالى بأن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه تعالى من عبادة العجل ووعدهم موعدا فاختار عليه السلام من قومه سبعين رجلا وقال محمد بن إسحق اختارهم ليتوبوا إليه تعالى مما صنعوه ويسألوه التوبة على من تركوهم وراءهم من قومهم قالوا اختار عليه الصلاة والسلام من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال عليه الصلاة والسلام إن لمن قعد مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم فخرج بهم إلى طور سيناء فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجدا فسمعوه تعالى يكلم موسى يأمره وينهاه حسبما يشاء وهو الأمر بقتل أنفسهم توبة «فلما أخذتهم الرجفة» مما اجترءوا عليه من طلب الرؤية فإنه يروي أنه لما انكشف الغمام أقبلوا إلى موسى عليه السلام وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة أي الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها أي ماتوا ولعلهم أرادوا بقولهم لن نؤمن لك لن نصدقك في أن الآمر بما سمعنا من الأمر بقتل أنفسهم هو الله تعالى حتى نراه حيث قاسوا رؤيته تعالى على سماع كلامه قياسا فاسدا فحين شاهد موسى تلك الحالة الهائلة «قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل» أي حين فرطوا في النهي عن عبادة العجل وما فارقوا عبدته حين شاهدوا إصرارهم عليها «وإياي» أيضا حين طلبت منك الرؤية أي لو شئت إهلاكنا بذنوبنا لأهلكتنا حينئذ أراد به عليه السلام تذكير العفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق فإن الاعتراف بالذنب والشكر على النعمة مما يربط العتيد ويستجلب المزيد يعني إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدم مشيئتك إياه فحيث لطفت بنا وعفوت عنا تلك الجرائم فلا غرو في أن تعفو عنا هذه الجريمة أيضا وحمل الكلام على التمني يأباه قوله تعالى «أتهلكنا بما فعل السفهاء منا» أي الذين لا يعلمون تفاصيل شئونك ولا يتثبتون في المداحض والهمزة إما لإنكار وقوع الإهلاك ثقة بلطف الله عز وجل كما قاله ابن الأنباري أو للاستعطاف كما قاله المبرد أي لا تهلكنا «إن هي إلا فتنتك» استئناف مقرر لما قبله واعتذار عما صنعوا ببيان منشأ غلطهم أي ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء وقالوا بسببها ما قالوا من العظيمة إلا فتنتك أي محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فاتتنوا بذلك ولم يتثبتوا فطمعوا فيما فوق ذلك تابعين للقياس الفاسد وقوله تعالى «تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء» إما استئناف مبين لحكم الفتنة أو حال من فتنتك أي حال كونها مضلا بها الخ أي تضل بسببها من تشاء إضلاله فلا يهتدي إلى التثبت وتهدي من تشاء هدايته إلى الحق فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها إيمانه «أنت ولينا» أي القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية وناصرنا وحافظنا لا غيرك «فاغفر لنا» ما قارفناه من المعاصي والفاء لترتيب الدعاء على مكا قبله من الولاية كأنه قيل فمن شاء الولي المغفرة والرحمة وقيل إن إقدامه عليه الصلاة والسلام على أن يقول إن هي إلا فتنتك الخ جراءة عظيمة فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوز عنها «وارحمنا» بإفاضة آثار الحمة الدنيوية والأخروية علينا «وأنت خير الغافرين» اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من الدعاء وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم بحسب المقام
277

«واكتب لنا» أي عين لنا وقيل أوجب وحقق وأثبت «في هذه الدنيا حسنة» أي نعمة وعافية أو خصلة حسنة قال ابن عباس رضي الله عنهما اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة «وفي الآخرة» أي واكتب لنا فيها أيضا حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة «إنا هدنا إليك» أي تبنا وأنبنا إليك من هاد يهود إذا رجع وقرئ بكسر الهاء من هاده يهيده إذا حركه وأماله ويحتمل أن يكون مبنيا للفاعل أو للمفعول بمعنى أملنا أنفسنا أو أملنا إليك وتجويز أن تكون القراءة المشهورة على بناء المفعول على لغة من يقول عود المريض مع كونها لغة ضعيفة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل والجملة استئناف مسوق لتعليل الدعاء فإن التوبة مما يوجب قبله بموجب الوعد المحتوم وتصديرها بحرف التحقيق لإظهار كمال النشاط والرغبة في التوبة والمعنى إنا تبنا ورجعنا عما صنعنا من المعصية العظيمة التي جئناك للاعتذار عنها وعما وقع ههنا من طلب الرؤية فيعيد من لطفك وفضلك أن لا تقبل توبة التائبين قيل لما أخذتهم الرجفة ماتوا جميعا فأخذ موسى عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله تعالى حتى أحياهم وقيل رجفوا وكادت تبين مفاصلهم وأشرفوا على الهلاك فخاف موسى عليه الصلاة والسلام فبكى فكشفها الله تعالى عنهم «قال» استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الكلام كأنه قيل فماذا قال الله تعالى عند دعاء موسى عليه السلام فقيل قال «عذابي أصيب به من أشاء» لعله عز وجل حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم ضمن موسى عليه السلام دعاءه التخفيف والتيسير حيث قال واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة فإن في قتل أنفسهم من العذاب والتشديد ما لا يخفى فأجاب تعالى بأن عذابي شأنه أن أصيب به من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه وهم ممن تناولته مشيئتي ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي «ورحمتي وسعت كل شيء» أي شأنها أن تسع في الدنيا المؤمن والكافر بل كل ما يدخل تحته الشيئية من المكلفين وغيرهم وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب الدنيوي وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات وأما العذاب فبمقتضى العذاب معاصي العباد والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضا وعدم التصريح بها للإشعار بغاية الظهور ألا يرى إلى قوله تعالى «فسأكتبها» اي أثبتها وأعينها فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كأنه قيل فإذا كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأكتبها كتبة كائنة كما دعوت بقولك واكتب لنا في هذه الخ أي سأكتبها خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي «للذين يتقون» أي الكفر والمعاصي إما ابتداء أو بعد ملابستهما وفيه تعريض بقومه كأنه قيل لا لقومك لأنهم غير متقين فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة للعذاب الدنيوي «ويؤتون
278

الزكاة» وفيه أيضا تعريض بهم حيث كانت الزكاة شاقة عليهم ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع إنافتها على سائر العبادات اكتفاء عنها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الموجبات بأسرها وترك المنكرات عن آخرها وإيراد إيتاء الزكاة لما مر من التعريض «والذين هم بآياتنا» جميعا «يؤمنون» إيمانا مستمرا من غير إخلال بشيء منها وفيه تعريض بهم وبكفرهم بالآيات العظام التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام وبما سيجئ بعد ذلك من الآيات البينات كتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك
وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال يؤمنون بآياتنا عطفا على يؤتون الزكاة كما عطف هو على يتقون لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور ورأى هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض «الذين يتبعون الرسول» الذي نوحي إليه كتابا مختصا به «النبي» أي صاحب المعجزة وقيل عنوان الرسالة بالنسبة إليه تعالى وعنوان النبوة بالنسبة إلى الأمة «الأمي» بضم الهمزة نسبة إلى الأم كأنه باق على حالته التي ولد عليها من أمه أو إلى أمة العرب كما قال صلى الله عليه وسلم إنا أمة لا نحسب ولا نكتب أو إلى أم القرى وقرئ بفتح الهمزة أي الذي لم يمارس القراءة والكتابة وقد جمع مع ذلك علوم الأولين والآخرين والموصول بدل من الموصول الأول بدل الكل أو منصوب على المدح أو مرفوع عليه أي أعني الذين أو هم اللذين وأما جعله مبتدأ على أن خبره يأمرهم أو أولئك هم المفلحون فغير سديد «الذي يجدونه مكتوبا» باسمه ونعوته بحيث لا يشكون أنه هو ولذلك عدل عن أن يقال يجدون اسمه أو وصفه مكتوبا «عندهم» زيد هذا لزيادة التقرير وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم أصلا «في التوراة والإنجيل» اللذين تعبد بهما بنو إسرائيل سابقا ولاحقا والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوبا وذكر الإنجيل قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما «يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر» كلام مستأنف لا محل له من الإعراب قاله الزجاج متضمن لتفصيل بعض أحكام الرحمة التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالا فإن ما بين فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث وإسقاط التكاليف الشاقة كلها من آثار رحمته الواسعة وقيل في محل النصب على أنه حال مقدرة من مفعول يجدونه أو من النبي أو من المستكن في مكتوبا أو مفسر لمكتوبا أي لما كتب «ويحل لهم الطيبات» التي حرمت عليهم بشؤم ظلمهم «ويحرم عليهم الخبائث» كالدم ولحم الخنزير والربا والرشوة «ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم» أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة التي هي من قبيل ما كتب عليهم حينئذ من كونه التوبة بقتل
279

النفس كتعيين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم وتحريم السبت وعن عطاء أنه كانت بنو إسرائيل إذا قاموا يصلون لبسوا المسموح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة وقرئ آصارهم أصل الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه من الحراك «فالذين آمنوا به» تعليم لكيفية اتباعه عليه الصلاة والسلام وبيان لعلو رتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة الواسعة في الدارين إثر بيان نعوته الجليلة والإشارة إلى إرشاده عليه الصلاة والسلام إياهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث أي فالذين آمنوا بنبوته وأطاعوه في أوامره ونواهيه «وعزروه» أي عظموه ووقروه وأعانوه بمنع أعدائه عنه وقرئ بالتخفيف وأصله المنع ومنه التعزير «ونصروه» على أعدائه في الدين «واتبعوا النور الذي أنزل معه» أي مع نوبته وهو القرآن عبر عنه بالنور المنبىء عن كونه ظاهرا بنفسه ومظهرا لغيره أو مظهرا للحقائق كاشفا عنها لمناسبة الاتباع ويجوز أن يكون معه متعلقا باتبعوا أي واتبعوا القرآن المنزل مع اتباعه صلى الله عليه وسلم بالعمل بسنته وبما أمر به ونهى عنه أو اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه «أولئك» إشارة إلى المذكورين من حيث اتصافهم بما فصل من الصفات الفاضلة للإشعار بعليتها للحكم وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وسمو طبقتهم في الفضل والشرف أي أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجليلة «هم المفلحون» أي هم الفائزون بالمطلوب الناجون عن الكروب لا غيرهم من الأمم فيدخل فيهم قوم موسى عليه الصلاة والسلام دخولا أوليا حيث لم ينجو عما في توبتهم من المشقة الهائلة وبه يتحقق التحقيق ويتأتى التوفيق والتطبيق بين دعائه عليه الصلاة والسلام وبين الجواب لا بمجرد ما قيل من أنه دعا لنفسه ولبني إسرائيل أجيب بما هو منطو على توبيخ بني إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله عز وجل وعلى كفرهم بآياته العظام التي أجرها على يد موسى عليه الصلاة والسلام وعرض بذلك في قوله تعالى والذين هم بآياتنا يؤمنون وأريد أن يكون استماع أوصاف أعقابهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين لطفا بهم وترغيبا في إخلاص الإيمان والعمل الصالح «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم» لما حكي في الكتابين من نعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف من يتبعه من أهلهما ونيلهم لسعادة الدارين أمر عليه الصلاة والسلام ببيان أن تلك السعادة غير مختصة بهم بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من كان ببيان عموم رسالته للثقلين مع اختصاص رسالة سائر الرسل عليهم السلام بأقوامهم وإرسال موسى عليه السلام إلى فرعون وملته بالآيات التسع إنما كان لأمرهم بعبادة رب العالمين عز سلطانه
280

وترك العظيمة التي كان يدعيها الطاغية ويقبلها منه فتنة الباغية وإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر وأما العمل بأحكام التوراة فمختص ببني إسرائيل «جميعا» حال من الضمير في إليكم «الذي له ملك السماوات والأرض» منصوب أو مرفوع على المدح أو مجرور على أنه صفة للجلالة وإن حيل بينهما بما هو متعلق بما أضيف إليه فإنه في حكم المتقدم عليه وقوله تعالى «لا إله إلا هو» بيان لما قبله من ملك العالم كان هو الإله لا غيره وقوله تعالى «يحيي ويميت» لزيادة تقرير ألوهيته والفاء في قوله تعالى «فآمنوا بالله ورسوله» لتفريع الأمر على ما تمهد وتقرر من رسالته صلى الله عليه وسلم وإيراد نفسه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة على طريقة الالتفات إلى الغيبة المبالغة في إيجاب الامتثال بأمره ووصف الرسول بقوله «النبي الأمي» لمدحه عليه الصلاة والسلام بهما ولزيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين ووصفه بقوله تعالى «الذي يؤمن بالله وكلماته» أي ما أنزل إليه وإلى سائر الرسل عليهم السلام من كتبه ووحيه لحمل أهل الكتابين على الامتثال بما أمروا به والتصريح بإيمانه بالله تعالى للتنبيه على أن الإيمان به تعالى لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به وقرئ وكلمته على إرادة الجنس أو القرآن تنبيها على أن المأمور به هو الإيمان به عليه الصلاة والسلام من حيث أنزل عليه القرآن لا من حيثية أخرى أو على أن المراد بها عيسى عليه الصلاة والسلام تعريضا باليهود وتنبيها على أن من لم يؤمن به لم يعتد بإيمانه «واتبعوه» أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين «لعلكم تهتدون» علة للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له وفي تعليقه بهما إيذان بأن من صدقه ولم يتبعه بالتزام أحكام شريعته فهو بمعزل من الاهتداء مستمر على الغي والضلال «ومن قوم موسى» كلام مبتدأ لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بالآيات بمتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام من كل خير وبيان أن
كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم بل منهم «أمة يهدون» أي الناس «بالحق» أي ملتبسين به أو يهدونهم بكلمة الحق «وبه» أي بالحق «يعدلون» أي في الأحكام الجارية فيما بينهم وصيغة المضارع في الفعلين لحكاية الحال الماضية وقيل هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويأباه أنه قد مر ذكرهم فيما سلف وقيل إن بني إسرائيل لما بالغوا في العتو والطغيان حتى اجترءوا على قتل الأنبياء عليهم السلام تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله تعالى أن يفرق بينهم وبين أولئك الطاغين ففتح الله تعالى لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين وهم اليوم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا وقد ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال جبريل عليه السلام هل تعرفون من تكلمون قالوا لا قال هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به وقالوا يا رسول الله إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرأ مني عليه السلام فرد محمد على موسى السلام عليهما السلام ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة
281

ولم تكن نزلت يومئذ فريضة غير الصلاة والزكاة أمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا البت هذا وأنت خبير بأن تخصيصهم بالهداية من بين قومه عليه الصلاة والسلام مع أن منهم من آمن بجميع الشرائع لا يخلو عن بعد «وقطعناهم» أي قوم موسى لا الأمة المذكورة منهم وقرئ بالتخفيف وقوله تعالى «اثنتي عشرة» ثاني مفعولي قطع لتضمنه معنى التصيير والتأنيث للحمل على الأمة أو القطعة أي صيرناهم اثنتي عشرة أمة أو قطعة متميزا بعضها من بعض أو حال من مفعوله أي فرقناهم معدودين هذا العدد وقوله تعالى «أسباطا» بدل منه وذلك جمع أو مميز له على أن كل واحدة من اثنتي عشرة قطعة أسباط لا سبط وقرئ عشرة بكسر الشين وقوله تعالى «أمما» على الأول بدل بعد بدل أو نعت لأسباطا وعلى الثاني بدل من أسباطا «وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه» حين استولى عليهم العطش في التيه الذي وقعوا فيه بسوء صنيعهم لا بمجرد استسقائهم إياه عليه الصلاة والسلام بل باستسقائه لقوله تعالى وإذ استسقى موسى قومه وقوله تعالى «أن اضرب بعصاك الحجر» مفسر لفعل الإيحاء وقد مر بيان شأن الحجر في تفسير سورة البقرة «فانبجست» عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام قد حذف تعويلا على كمال الظهور وإيذانا بغاية مسارعته عليه السلام إلى الامتثال وإشعارا بعدم تأثير الضرب حقيقة وتنبيها على كمال سرعة الانبجاس وهو الانفجار كأنه حصل إثر الأمر قبل تحقق الضرب كما في قوله تعالى اضرب بعصاك فانفلق أي فضرب فانبجست «منه اثنتا عشرة عينا» بعدد الأسباط وأما ما قيل من أن التقدير فإن ضربت فقد انبجست فغير حقيق بجزالة النظم التنزيلي وقرئ عشرة بكسر الشين وفتحها «قد علم كل أناس» كل سبط عبر عنهم بذلك إيذانا بكثرة كل واحد من الأسباط «مشربهم» أي عينهم الخاصة بهم «وظللنا عليهم الغمام» أي جعلناها بحيث تلقي عليهم ظلها تسير في التيه بسيرهم وتسكن بإقامتهم وكان ينزل بالليل عمود من نار يسيرون بضوئه «وأنزلنا عليهم المن والسلوى» أي الترنجبين والسماني قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع وتبعث الجنوب عليهم السماني فيذبح الرجل منه ما يكفيه «كلوا» أي وقلناهم كلوا «من طيبات ما رزقناكم» أي مستلذاته وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى «وما ظلمونا» رجوع إلى سنن الكلام الأول بعد حكاية خطابهم وهو معطوف على جملة محذوفة للإيجاز والإشعار بأنه امر محقق غني عن التصريح به أي فظلموا بأن كفروا بتلك النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك «ولكن كانوا أنفسهم يظلمون» إذ لا يتخطاهم ضرره وتقديم المفعول لإفادة القصر الذي يقتضيه النفي السابق وفيه ضرب من
282

التهكم بهم والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على تماديهم فيما هم فيه من الظلم والكفر «وإذ قيل لهم» منصوب بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وإيراد الفعل على البناء مع استناده إليه تعالى كما يفصح عنه ما وقع في سورة البقرة من قوله تعالى وإذ قلنا للجرى على سنن الكبرياء والإيذان بالغنى عن التصريح به لتعين الفاعل وتغيير النظم بالأمر بالذكر للتشديد في التوبيخ أي اذكر لهم وقت قوله تعالى لأسلافهم «اسكنوا هذه القرية» منصوب على المفعولية يقال سكنت الدار وقيل على الظرفية اتساعا وهي بيت المقدس وقيل أريحا وهي قرية الجبارين وكان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة رأسهم عوج بن عنق وفي قوله تعالى اسكنوا إيذان بأن المأمور به في سورة البقرة هو الدخول على لوجه السكنى والإقامة ولذلك اكتفى به عن ذكر رغدا في قوله تعالى «وكلوا منها» أي من مطاعمها وثمارها على أن من تبعيضية أو منها على أنها ابتدائية «حيث شئتم» أي من نواحيها من غير أن يزاحمكم فيها أحد فإن الأكل المستمر على هذا الوجه لا يكون إلا رغدا واسعا وعطف كلوا على اسكنوا بالواو لمقارنتهما زمانا بخلاف الدخول فإنه مقدم على الأكل ولذلك قيل هناك فكلوا «وقولوا حطة» أي مسئلتنا أو أمرك حطة لذنوبنا وهي فعلة من الحط كالجلسة «وادخلوا الباب» أي باب القرية «سجدا» أي متطامنين مخبتين أو ساجدين شكرا على إخراجهم من التيه وتقديم الأمر بالدخول على الأمر بالقول المذكور في سورة البقرة غير مخل بهذا الترتيب لأن المأمور به هو الجمع بين الفعلين من غير اعتبار الترتيب بينهما ثم إن كان المراد بالقرية أريحا فقد روي أنهم دخلوها حيث سار إليها موسى عليه السلام بمن بقي من بني إسرائيل أو بذراريهم على اختلاف الروايتين ففتحها كما مر في سورة المائدة وأما إن كانت بيت المقدس فقد روي أنهم لم يدخلوه في حياة موسى عليه السلام فقيل المراد بالباب باب القبة التي كانوا يصلون إليها «نغفر لكم خطيئاتكم» وقرئ خطاياكم كما في سورة البقرة وتغفر لكم خطيئاتكم وخطاياكم وخطيئتكم على البناء للمفعول «سنزيد المحسنين» عدة بشيئين بالمغفرة وبالزيادة وطرح الواو ههنا لا يخل بذلك لأنه استئناف مترتب على تقدير سؤال نشأ من الإخبار بالغفران كأنه قيل فماذا لهم بعد الغفران فقيل سنزيد وكذلك زيادة منهم زيادة بيان «فبدل الذين ظلموا منهم» بما أمروا به من التوبة والاستغفار حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعه «قولا» آخ رمما لا خير فيه روي أنهم دخلوه زاحفين على أستاههم وقالوا مكان حطة حنطة وقيل قالوا بالنبطية حطا شمقاثا يعنون حنطة حمراء استخفافا بأمر الله تعالى واستهزاء بموسى عليه السلام
283

والسلام وقوله تعالى «غير الذي قيل لهم» نعت لقولا صرح بالمغايرة مع دلالة التبديل عليها قطعا تحقيقا للمخالفة وتنصيصا على المغايرة من كل وجه «فأرسلنا عليهم» إثر ما فعلوا ما فعلوا من غير تأخير وفي سورة البقرة على الذين ظلموا والمعنى واحد والإرسال من فوق فيكون كالإنزال «رجزا من السماء» عذابا كائنا منها والمراد
الطاعون وروي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا «بما كانوا يظلمون» بسبب ظلمهم المستمر السابق واللاحق حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل لا بسبب التبديل فقط كما يشعر به ترتيب الإرسال عليه بالفاء والتصريح بهذا التعليل لما أن الحكم ههنا مترتب على المضمر دون الموصول بالظلم كما في سورة البقرة وأما التعليل بالفسق بعد الإشعار بعلية الظلم فقد مر وجهه هناك والله تعالى أعلم «واسألهم» عطف على المقدر في إذ قيل أي واسأل اليهود المعاصرين لك سؤال تقريع وتقرير بقديم كفرهم وتجاوزهم لحدود الله تعالى وإعلاما بأن ذلك مع كونه من علومهم الخفية التي لا يقف عليها إلا من مارس كتبهم قد أحاط به النبي صلى الله عليه وسلم خبرا وإذ ليس ذلك بالتلقي من كتبهم لأنه صلى الله عليه وسلم بمعزل من ذلك تعين أنه من الجهة الوحي الصريح «عن القرية» أي عن حالها وخيرها وما جرى على أهلها من الداهية الدهياء وهي أيلة قرية بين مدين والطور وقيل هي مدين وقيب طبرية والعرب تسمي المدينة قرية «التي كانت حاضرة البحر» أي قريبة منه مشرقة على شاطئه «إذ يعدون في السبت» أي يتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد يوم السبت وإذ ظرف للمضاف المحذوف أو بدل منه وقيل ظرف لكانت أو حاضرة وليس بذاك إذ لا فائدة في تقييد الكون أو الحضور بوقت العدوان وقرئ يعدون وأصله يعتدون ويعدون من الأعداد حيث كانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت منهيون عن الاشتغال فيه بغير العبادة «إذ تأتيهم حيتانهم» ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل والأول هو الأولى لأن السؤال عن عداوتهم أدخل في التقريع والحيتان جمع حوت قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كنون ونينان لفظا ومعنى وإضافتها إليهم للإشعار باختصاصها به لاستقلالها بما لا يكاد يوجد في سائر أفراد الجنس من الخواص الخارقة للعادة أو لأن المراد بها الحيتان الكائنة في تلك الناحية وإن ما ذكر من الإتيان وعدمه لاعتيادها أحوالهم في عدم التعرض يوم السبت «يوم سبتهم» ظرف لتأتيهم أي تأتيهم يوم تعظيمهم لأمر السبت وهو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت السبت بالتجرد للعبادة وقيل اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم باحكام فيه ويؤيد الأول قراءة من قرأ يوم أسباتهم وقوله تعالى «شرعا» جمع شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف وهو حال من حيتانهم أي تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة على وجه الماء قريبة من الساحل «ويوم لا يسبتون» أي لا يراعون أمر السبت لكن لا بمجرد عدم المراعاة مع تحقق يوم السبت كما هو المتبادر بل مع انتفائهما معا أي لا سبت ولا مراعاة كما في قوله ولا ترى الضب بها ينجحر وقرئ
284

لا يسبتون من أسبت ولا يسبتون على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ولا يدار عليهم حكم السبت ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت «لا تأتيهم» كما كانت تأتيهم يوم السبت حذارا من صيدهم وتغيير السبك حيث لم يقل ولا تأتيهم يوم لا يسبتون لما أن الإخبار بإتيانها يوم سبتهم مظنة أن يقال فماذا حالهم يوم لا يسبتون فقيل يوم لا يسبتون لا تأتيهم «كذلك نبلوهم» أي مثل ذلك البلاء العجيب الفظيع نعاملهم معاملة من يختبرهم ليظهر عدواتهم ونؤاخذهم به وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها والتعجيب منها «بما كانوا يفسقون» أي بسبب فسقهم المستمر المدلول عليه بالجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل لكن لا في تلك المادة فإن فسقهم فيها لا يكون سببا للبلوى بل بسبب فسقهم المستمر في كل ما يأتون وما يذرون وقيل كذلك متصل بما قبله أي لا تأتيهم مثل ما تأتيهم يوم سبتهم فالجملة بعده حينئذ استئناف مبني على السؤال عن حكمة اختلاف حال الحيتان بالإتيان تارة وعدمه أخرى «وإذ قالت» عطف على إذ يعدون مسوق لتماديهم في العدوان وعدم انزجارهم عنه بعد العظات والإنذارات «أمة منهم» أي جماعة من صلحائهم الذين ركبوا في عظتهم متن كل صعب وذلول حتى يئسوا من احتمال القبول لآخرين لا يقلعون عن التذكير رجاء للنفع والتأثير مبالغة في الأعذار وطمعا في فائدة الإنذار «لم تعظون قوما الله مهلكهم» أي مخترمهم بالكلية ومطهر الأرض منهم «أو معذبهم عذابا شديدا» دون الاستئصال بالمرة وقيل مهلكهم مخزيهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة لعدم إقلاعهم عما كانوا عليه من الفسق والطغيان والترديد لمنه الخلو دون منع الجمع فإنهم مهلكون في الدنيا ومعذبون في الآخرة وإيثار صيغة اسم الفاعل مع أن كلا من الإهلاك والتعذيب مترقب للدلالة على تحققهما وتقررهما البتة كأنهما واقعان وإنما قالوه مبالغة في أن الوعظ لا ينجع فيهم أو ترهيبا للقوم أو سؤالا عن حكمة الوعظ ونفعه ولعلهم إنما قالوه بمحضر من القوم حثا لهم على الاتعاظ فإن بت القول بهلاكهم وعذابهم بما يلقى في قلوبهم الخوف والخشية وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم ردا عليهم وتهكما بهم وليس بذاك كما ستقف عليه «قالوا» أي الوعاظ «معذرة إلى ربكم» أي نعظهم معذرة إليه تعالى على أنه مفعول له وهو الأنسب بظاهر قولهم لم تعظون أو نعتذر معذرة على أنه مصدر لفعل محذوف وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتنا معذرة إليه تعالى حتى لا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر وفي إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين نوع تعرض بالسائلين «ولعلهم يتقون» عطف على معذرة أي ورجاء لأن يتقوا بعض التقاة وهذا صريح في أن القائلين لم تعظون الخ ليسوا من الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب
285

«فلما نسوا ما ذكروا به» أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضا كليا بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلا «أنجينا الذين ينهون عن السوء» وهم الفريقان المذكوران وإخراج إنجائهم مخرج الحواب الذي حقه الترتب على الشرط وهو نسيان المعتدين المستتبع لإهلاكهم لما أن ما في حيز الشرط شيئان النسيان والتذكير كأنه قيل فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين وأما تصدير الجواب بإنجائهم فلما مر مرارا من المسارعة إلى بيان نجاتهم من أول الأمر مع ما في المؤخر من نوع طول «وأخذنا الذين ظلموا» بالاعتداء ومخالفة الأمر «بعذاب بئيس» أي شديد وزنا ومعنى من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد وقرئ بيئس على وزن فيعل بفتح العين وكسرها وبئس كحذر على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء ككبد في كبد وبيس بقلب الهمزة ياء كذيب في ذئب وبيس كريس بقلب همزة بئيس ياء وإدغام الياء فيها وبيس على تخفيف بيس كهين في هين وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل «بما كانوا يفسقون» متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب تماديهم في الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة وهو الظلم والعدوان أيضا وإجراء الحكم على الموصول وإن اشعر بعلية ما في حيز الصلة له لكنه صرح بالتعليل المذكور إيذانا بأن العلة هو الاستمرار على الظلم والعدوان مع اعتبار كون ذلك خروجا عن طاعة الله عز وجل لا نفس الظلم والعدوان وإلا لما أخروا عن ابتداء المباشرة ساعة ولعله تعالى قد عذبهم بعذاب شديد دون الاستئصال فلم يقلعوا عما كانوا عليه بل ازدادوا في
الغي فمسخهم بعد ذلك لقوله تعالى «فلما عتوا عن ما نهوا عنه» اي تمردوا وتكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهوا عنه «قلنا لهم كونوا قردة خاسئين» صاغرين أذلاء بعداء عن الناس والمراد بالأمر هو الأمر التكويني لا القولي وترتيب المسخ على العتو عن الانتهاء عما نهوا عنه للإيذان بأنه ليس لخصوصيات الحوت بل العمدة في ذلك هو مخالفة الأمر والاستعصاء عليه تعالى وقيل المراد بالعذاب البئيس هو المسخ والجملة الثانية تقرير للأولى روي أن اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت وهو المعنى بقوله تعالى إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه فابتلوا به وحرم عليهم الصيد فيه وأمروا بتعظيمه فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت كأنها المخاض لا يرى وجه الماء لكثرتها ولا تأتيهم في سائر الأيام فكانوا على ذلك برهة من الدهر ثم جاءهم إبليس فقال لهم إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياض سهلة الورود صعبة الصدور ففعلوا فجعلوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها ويأخذونها يوم الأحد وأخذ رجل منهم حوتا وربط في ذنبه خيطا إلى
286

خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطالع في تنوره فقال له إني أرى الله سيعذبك فلما لم يره عذب أخذ في يوم السبت القابل حوتين فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم استمروا على ذلك فصادوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثا ثلث استمروا على النهي وثلث ملوا التذكير وسئموه وقالوا للواعظين لم تعظون الخ وثلث باشروا الخطيئة فلما لم ينتهوا قال المسلمون نحن لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود عليه السلام فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا إن لهم لشأنا فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القدرة أسباءهم من الإنس وهم لا يعرفونها فجعل القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه فيبكي فيقول له نسيبه ألم ننهكم فيقول القرد برأسه بللا ثم ماتوا عن ثلاث وقيل صار الشباة قردة والشيوخ خنازير وعن مجاهد رضي الله عنه مسخت قلوبهم وقال الحسن البصري أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة هاه وأيم الله ما حوت أخذه قوم فاكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله تعالى جعل موعدا والساعة أدهى وأمر «وإذ تأذن ربك» منصوب على المفعولية بمضمر معطوف على قوله تعالى واسألهم وتأذن بمعنى آذن كما أن توعد بمعنى أوعد أو بمعنى عزم فإن العازم على الأمر يحدث به نفسه وأجري مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله فلذلك أجيب بجوابه حيث قيل «ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة» أي واذكر لهم وقت إيجابه تعالى على نفسه أن يسلط على اليهود البتة «من يسومهم سوء العذاب» كالإذلال وضرب الجزية وغير ذلك من فنون العذاب وقد بعث الله تعالى عليهم بعد سليمان عليه السلام بخت نصر فخرب ديارهم وقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب الجزية عليهم فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر «إن ربك لسريع العقاب» يعاقبهم في الدنيا «وإنه لغفور رحيم» لمن تاب وآمن منهم «وقطعناهم» أي فرقنا بني إسرائيل «في الأرض» وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها بحيث لا تخلوا ناحية منها منهم تكملة لأدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة وقوله تعالى «أمما» إما مفعول ثان لقطعنا أو حال من مفعوله «منهم الصالحون» صفة لأمما أو بدل منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ومن يسير بسيرتهم «ومنهم دون ذلك» أي ناس دون ذلك الوصف أي منحطون عن الصلاح وهم كفرتهم وفسقتهم «وبلوناهم
287

بالحسنات والسيئات» بالنعم والنقم «لعلهم يرجعون» عما كانوا فيه من الكفر والمعاصي «فخلف من بعدهم» أي من بعد المذكورين «خلف» أي بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع وقيل جمع وهو شائع في الشر والخلف بفتح اللام في الخير والمراد به الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم «ورثوا الكتاب» أي التوراة من أسلافهم يقرءونها ويقفون على ما فيها «يأخذون عرض هذا الأدنى» استئناف مسوق لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتهم إياه أي يأخذون حطام هذا الشيء الأدنى أي الدنيا وهو من الدنو أو الدناءة والمراد به ما كانوا يأخذونه من الرشا في الحكومات وعلى تحريف الكلام وقيل حال من واو ورثوا «ويقولون سيغفر لنا» ولا يؤاخذنا الله تعالى بذلك ويتجاوز عنه والجملة تحتمل العطف والحالية والفعل مسند مسند إلى الجار والمجرور أو مصدر يأخذون «وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه» حال من الضمير في لنا أي يرجعون المغفرة والحال أنهم مصرون على الذنب عائدون إلى مثله غير تائبين عنه «ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب» اي الميثاق الوارد في الكتاب «أن لا يقولوا على الله إلا الحق» عطف بيان للميثاق أو متعلق به أي بأن لا يقولوا الخ والمراد به الرد عليهم والتوبيخ على بتهم القول بالمغفرة بلا توبة والدلالة على أنها افتراء على الله تعالى وخروج عن ميثاق الكتاب «ودرسوا ما فيه» عطف على ألم يؤخذ من حيث المعنى فإنه تقرير أو على ورثوا وهو اعتراض «والدار الآخرة خير للذين يتقون» ما فعل هؤلاء «أفلا تعقلون» فتعلموا ذلك فلا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد وقرئ بالياء وفي الالتفات تشديد التوبيخ «والذين يمسكون بالكتاب» اي يتمسكون في أمور دينهم يقال مسك بالشيء وتمسك به قال مجاهد هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة وقال عطاء هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقرئ يمسكون من الإمساك وقرئ تمسكوا واستمسكوا موافقا لقوله تعالى «وأقاموا الصلاة» ولعل التغيير في المشهور للدلالة على أن التمسك بالكتاب أمر مستمر في جميع الأزمنة بخلاف إقامة الصلاة فإنها مختصة بأوقاتها وتخصيصها بالذكر من بين سائر العبادات لانافتها عليها ومحل الموصول إما الجر نسقا على الذين يتقون وقوله أفلا تعقلون اعتراض مقرر لما قبله وإما الرفع على الابتداء والخبر قوله تعالى «إنا لا نضيع أجر المصلحين» والرابط إما الضمير المحذوف كما هو رأي جمهور البصريين والتقدير أجر المصلحين منهم وإما الألف واللام كما هو رأي الكوفيين فإنه في حكم مصلحيهم كما في قوله تعالى فإن الجنة
288

هي المأوي أي مأواهم وقوله تعالى مفتحة لهم الأبواب أي أبوابها وإما العموم في مصلحين فإنه من الروابط ومنه نعم الرجل زيد على أحد الوجوه وقيل الخبر محذوف والتقدير والذين يمسكون بالكتاب مأجورون أو مثابون وقوله تعالى إنا لا نضيع الخ اعتراض مقرر لما قبله «وإذ نتقنا الجبل فوقهم» أي قلعناه من مكانه ورفعناه عليهم «
كأنه ظلة» أي سقيفة وهي كل ما أظلك «وظنوا» أي تيقنوا «أنه واقع بهم» ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو لأنهم كانوا يوعدون به وإطلاق الظن في الحكاية لعدم وقوع متعلقه وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثقلها فرفع الله تعالى عليهم الطور وقيل لهم إن قبلتم ما فيها فبها وإلا ليقعن عليكم «خذوا ما آتيناكم» أي وقلنا أو قائلين خذوا ما آتيناكم من الكتاب «بقوة» بحد وعزيمة على تحمل مشاقه وهو حال من الواو «واذكروا ما فيه» بالعمل ولا تتركوه كالمنسي «لعلكم تتقون» بذلك قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق أو راجين أن تنتظموا في سلك المتقين «وإذ أخذ ربك» منصوب بمضمر معطوف على ما انتصب به إذ نتقنا مسوق للاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاق العام المنتظم للناس قاطبة وتوبيخهم بنقضه إثر الاحتجاج عليهم بتذكير ميثاق الطور وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيانه مرارا أي واذكر لهم أخذ ربك «من بني آدم» المراد بهم الذين ولدهم كائنا من كان نسلا بعد نسل سوى من لم يولد له بسبب من الأسباب كالعقم وعدم التزوج والموت صغير وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بالاعتناء بشأن المأخوذ لما فيه من الأنباء عن الاجتناء والاصطفاء هو السبب في إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للتشريف وقوله تعالى «من ظهورهم» بدل من بني آدم بدل البعض بتكرير الجار كما في قوله تعالى للذين استضعفوا لمن آمن منهم ومن في الموضعين ابتدائية وفيه مزيد تقرير لابتنائه على البيان بعد الإبهام والتفصيل غب الإجمال وتنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم في أصلاب الاباء ولم يستودعوا في أرحام الأمهات وقوله تعالى «ذريتهم» مفعول أخذ أخر عن المفعول بواسطة الجار لاشتماله على ضمير راجع إليه ولمراعاة أصالته ومنشيته ولما مرا مرارا من التشويق إلى المؤخر وقرئ ذرياتهم والمراد بهم أولادهم على العموم فيندرج فيهم اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم اندراجا أوليا كما اندرج أسلافهم في بني آدم كذلك وتخصيصهما باليهود سلفا وخلفا مع أن ما أريد بيانه من بديع صنع الله تعالى عز وجل شامل للكل كافة مخل بفخامة التنزيل وجزالة التمثيل «وأشهدهم على أنفسهم» اي أشهد كل واحدة من أولئك الذريات المأخوذين من
289

ظهور آبائهم على نفسها لا على غيرها تقريرا لهم بربوبيته التامة وما تستتبعه من المعبودية على الاختصاص وغير ذلك من أحكامها وقوله تعالى «ألست بربكم» على إرادة القول أي قائلا ألست بربكم ومالك أمركم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شئونكم فينتظم استحقاق المعبودية ويستلزم اختصاصه به تعالى «قالوا» استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل فماذا قالوا حينئذ فقيل «قالوا بلى شهدنا» أي على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك كما ورد في الحديث الشريف وهذا تمثيل لخلقه تعالى إياهم جميعا في مبدأ الفطرة مستعدين للاستدلال بالدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس المؤدية إلى التوحيد والإسلام كما ينطق به قوله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة الحديث مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه تعالى إياهم لمعرفة ربوبيته بعد تمكينهم منها بما ركز فيهم من العقول والبصائر ونصب لهم في الآفاق والأنفس من الدلائل تمكينا تاما ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا وتعرضهم لها تعرضا قويا بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا من غير أن يكون هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب كما في قوله تعالى فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين وقوله تعالى «أن تقولوا» بالتاء على تلوين الخطاب وصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديدا في الإلزام أو إليهم وإلى متقدميهم بطريق التغليب لكن لا من حيث إنهم مخاطبون بقوله تعالى ألست بربكم فإنه ليس من الكلام المحكى وقرئ بالياء على أن الضمير للذرية وأيا ما كان فهو مفعول له لما قبله من الأخذ والإشهاد أي فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة أو يقولوا هم «يوم القيامة» عند ظهور الأمر «إنا كنا عن هذا» عن وحدانية الربوبية وأحكامها «غافلين» لم ننبه عليه فإنه حيث جبلوا على ما ذكر من التهيؤ التام لتحقيق الحق والقوة القريبة من الفعل صاروا محجوجين عاجزين عن الاعتذار بذلك إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذكر من خلقهم على الفطرة السليمة وقوله تعالى «أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا» عطف على تقولوا وأو لمنع الخلو دون الجمع أي هم اخترعوا الإشراك وهم سنوه «من قبل» أي من قبل زماننا «وكنا» نحن «ذرية من بعدهم» لا نهتدي إلى السبيل ولا نقدر على الاستدلال بالدليل «أفتهلكنا بما فعل المبطلون» من آبائنا المضلين بعد ظهور أنهم المجرمون ونحن عاجزون عن التدبير والاستبداد بالرأي أو أتؤا خذنا فتهلكنا الخ فإن ما ذكر من استعدادهم الكامل يسد عليهم باب الاعتذار بهذا أيضا فإن التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا مساغ له أصلا هذا وقد حملت هذه المقاولة على الحقيقة كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام مسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فقال ألست بربكم قالوا بلى فنودي يومئذ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الآية الكريمة فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة
290

وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وليس المعنى أنه تعالى أخرج الكل من ظهره عليه الصلاة والسلام بالذات بل أخرج من ظهره عليه السلام أبناءه الصلبية ومن ظهرهم أبناءهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهر الأصلي ظهره عليه الصلاة والسلام كان مساق الحديثين الشريفين بيان حال الفريقين إجمالا من غير أيتعلق بذكر الوسايط غرض علمي نسلب إخراج الكل إليه وأما الآية الكريمة فحيث كانت مسوقة للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان عدم إفادة الاعتذار بإسناد الإشراك إلى آبائهم اقتضى الحال نسبة إخراج كل واحد منهم إلى ظهر أبيهم من غير تعرض لاخراج الأبناء الصلبية لآدم عليه السلام من ظهره قطعا وعدم بيان الميثاق في حديث عمر رضي الله تعالى عنه ليس بيانا لعدمه ولا مستلزما له وأما ما قالوا من أن أخذ الميثاق لإسقاط عذر الغفلة حسبما ينطق به قوله تعالى أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ومعلوم أنه غير دافع لغفلتهم في دار التكليف إذ لا فرد من أفراد البشر يذكر ذلك فمردود لكن لا بما قيل من أن الله عز وجل قد أوضح الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة ونسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق بل بأن قوله تعالى أن تقولوا الخ ليس مفعولا لا لقوله تعالى واشهدهم وما يتفرع عليه
من قوله بلى شهدنا حتى يجب كون ذلك الإشهاد والشهادة محفوظا لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلام والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر بذكر الميثاق وبيانه كراهة ان تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاق لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه هذا على قراءة الجمهور وأما على القراءة بالياء فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العامل في إذ أخذ والمعنى اذكر لهم الميثاق المأخوذ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباء هذا على تقدير كون قوله تعالى شهدنا من كلام الذرية وهو الظاهر فأما على تقدير كونه من كلامه تعالى فهو العامل في أن تقولوا ولا محذور أصلا إذ المعنى شهدنا قولكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة الخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ «وكذلك» إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعجه وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه وبعد منزلته والكاف مقحمة لما أفاده اسم الإشارة من الفخامة والتقديم على الفعل لإفادة القصر ومحله النصب على المصدرية أي ذلك التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة «نفصل الآيات» المذكورة لا غير ذلك «ولعلهم يرجعون» وليرجعوا عما هم عليه من الإصرار على الباطل وتقليد الآباء نفعل التفصيل المذكور قالوا إن ابتدائيتان ويجوز أن تكون الثانية عاطفة على مقدر مترتب على التفصيل أي وكذلك نفصل الآيات ليقفوا على ما فيها من المرغبات والزواجر وليرجعوا الخ «واتل عليهم» عطف
291

على المضمر العامل في غذ أخذ وارد على نمطه في الأنباء عن الحور بعد الكور والضلالة بعد الهدى أي واتل على اليهود «نبأ الذي آتيناه آياتنا» أي خبره الذي له شأن وخطر وهو أحد علماء بني إسرائيل وقيل هو بلعم بن باعوراء أو بلعام بن باعر من الكنعانيين أوتي علم بعض كتب الله تعالى وقيل هو أمية بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل في ذلك الزمان رسولا ورجا أن يكون هو الرسول فلما بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به والأول هو الأنسب بمقام التوبيخ اليهود بهناتهم «فانسلخ منها» أي من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة ولم يخطرها بباله أصلا أو خرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره وأيا ما كان فالتعبير عنه بالانسلاخ المنبىء عن اتصال المحيط بالمحاط خلقة وعن عدم الملاقاة بينهما أبدا للإيذان بكمال مباينته للآيات بعد أن كان بينهما كمال الاتصال «فأتبعه الشيطان» أي تبعه حتى لحقه وأدركه فصار قرينا له وهو المعنى على قراءة فاتبعه من الافتعال وفيه تلويح بأنه أشد من الشيطان غواية أو اتبعه خطواته «فكان من الغاوين» فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان من المهتدين وروي أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى عليه السلام فقال كيف أدعو على من معه الملائكة فلم يزالوا به حتى فعل فبقوا في التيه ويرده أن التيه كان لموسى عليه السلام روحا وراحة وإنما عذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام عليهم كما مر في سورة المائدة «ولو شئنا» كلام مستأنف مسوق لبيان مناط ما ذكر من انسلاخه من الآيات ووقوعه في مهاوي الغواية ومفعول المشيئة محذوف لوقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء على القاعدة المستمرة أي ولو شئنا رفعه لرفعنا أي إلى المنازل العالية للأبرار العالمين بتلك الآيات والعاملين بموجبها لكن لا بمحض مشيئتنا من غير أن يكون له دخل في ذلك أصلا فإنه مناف للحكمة التشريعية المؤسسة على تعليق الأجزية بالأفعال الاختيارية للعباد بل مع مباشرته للعمل المؤدي إلى الرفع بصرف اختياره إلى تحصيله كما ينبئ عنه قوله تعالى «بها» أي بسبب تلك الآيات بأن عمل بموجبها فإن اختياره وإن لم يكن مؤثرا في حصوله ولا في ترتب الرفع عليه بل كلاهما بخلق الله تعالى لكن خلقه تعالى منوط بذلك البتة حسب جريان العادة الإلهية وقد أشير إلى ذلك في الاستدراك بأن أسند ما يؤدي إلى نقيض التالي إليه حيث قيل «ولكنه أخلد إلى الأرض» مع أن الإخلاد إليها أيضا مما لا يتحقق عند صرف اختياره إليه إلا بخلقه تعالى كأنه قيل ولو شئنا رفعه بمباشرته لسببه لرفعناه بسبب تلك الآيات التي هي أقوى أسباب الرفع ولكن لم نشأه لمباشرته لسبب نقيضه فترك في كل من المقامين ما ذكر في الآخر تعويلا على إشعار المذكور بالمطوي كما في قوله تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد
292

لفضله وتخصيص كل من المذكورين بمقامه للإيذان بأن الرفع مراد له تعالى بالذات وتفضل محض عليه لا دخل فيه لفعله حقيقة كيف لا وجميع أفعاله ومباديها من نعمه تعالى وتفضلاته وإن نقيضه إنما اصابه بسوء اختياره على موجب الوعيد لا بالإرادة الذاتية له سبحانه كما قيل في وجه ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضر في الآية المذكورة وهو السر في جريان السنة القرآنية على إسناد الخير إليه تعالى وإضافة الشر إلى الغير كما في قوله تعالى وإذا مرضت فهو يشفين ونظائره والإخلاد إلى الشيء الميل إليه مع الاطمئنان به والمراد بالأرض الدنيا وقيل السفالة والمعنى ولكنه آثر الدنيا الدنية على المنازل السنية أو الضعة والسفالة على الرفعة والجلالة «واتبع هواه» معرضا عن تلك الآيات الجليلة فانحط أبلغ انحطاط وارتد أسفل سافلين وإلى ذلك أشير بقوله تعالى «فمثله كمثل الكلب» لما أنه أخس الحيوانات وأسفلها وقد مثل حاله بأخس أحواله وأذلها حيث قيل «إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» أي فحاله التي هي مثل في السوء كصفته في أرذل أحواله وهي حالة دوام اللهث به في حالتي التعب والراحة فكأنه قيل فتردى إلى ما لا غاية وراءه في الخسة والدناءة وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية بأن يقال فصار مثله كمثل الكلب الخ للإيذان بدوام اتصافه لتلك الحالة الخسيسة وكمال استقراره واستمراره عليها والخطاب في فعل الشرط لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله واللهث إدلاع اللسان بالتنفس الشديد أي هو ضيق الحال مكروب دائم اللهث سواء هيجته وأزعجته بالطرد العنيف أو تركته على حاله فإنه في الكلاب طبع لا تقدر على نفض الهواء المتسخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبها وانقطاع فؤادها بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء والشرطية مع أختها تفسير لما أبهم في المثل وتفصيل لما أجمل فيه وتوضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه لا محل له من الإعراب على منهاج قوله تعالى خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون إثر قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم وقيل هي في محل النصب على الحالية من الكلب بناء على خروجهما من حقيقة الشرط وتحولهما إلى معنى التسوية حسب تحول الاستفهامين المتناقضين إليه في مثل قوله تعالى أأنذرتهم أم لم تنذرهم كأنه قيل لاهثا في الحالتين وأيا ما كان فالأظهر أنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما اعتراه بعد الانسلاخ من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والاضطراب وعدم الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر من حال الكلب وقيل لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هلك «ذلك» إشارة إلى ما ذكر من الحالة الخسيسة منسوبة
إلى الكلب أو إلى المنسلخ وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتها في الخسة والدناءة أي ذلك المثل السيء «مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا» وهم اليهود حيث أوتوا في التوراة ما أوتوا من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر القرآن المعجزة وما فيه فصدقوه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة «فاقصص القصص» القصص مصدر سمي به المفعول كالسلب واللام للعهد والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصصه عليهم حسبما أوحي إليك «لعلهم يتفكرون» فيقفون على جلية الحال وينزجرون
293

عما هم عليه من الكفر والضلال ويعلمون أنك قد علمته من جهة الوحي فيزدادون إيقانا بك والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير المخاطب أو على أنها مفعول له أي فاقصص القصص راجيا لتفكرهم أي أو رجاء لتفكرهم «ساء مثلا» استئناف مسوق لبيان كمال قبح حال المكذبين بعد بيان كونه كحال الكلب أو المنسلخ وساء بمعنى بئس وفاعلها مضمر فيها ومثلا تمييز مفسر له والمخصوص بالذم قوله تعالى «القوم الذين كذبوا بآياتنا» وحيث وجب التصادق بينه وبين الفاعل والتمييز وجب المصير إلى تقدير مضاف إما إليه وهو الظاهر أي ساء مثلا مثل القوم الخ أو إلى التمييز أي ساء أصحاب مثل القوم الخ وقرئ ساء مثل القوم وإعادة القوم موصوفا بالموصول مع كفاية الضمير بأن يقال ساء مثلا مثلهم للإيذان بأن مدار السوء ما في حيز الصلة ولربط قوله تعالى «وأنفسهم كانوا يظلمون» به فإنه إما معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة بمعنى جمعوا بين تكذيب آيات الله بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها وبين ظلمهم لأنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها وأيا ما كان ففي يظلمون لمح إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمن للظلم وأن ذلك أيضا معتبر في القصر المستفاد من تقديم المفعول «من يهد الله فهو المهتدي» لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقص قصص المنسلخ على هؤلاء الضالين الذين مثلهم كمثله ليتفكروا فيه ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة ويهتدوا إلى الحق عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهة الله عز وجل وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء من غير تأثير لها فيه سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره نحو تحصيله حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه كسائر أفعال العباد فالمراد بهذه الهداية ما يوجب الاهتداء قطعا لكن لا لأن حقيقتها الدلالة الموصلة إلى البغية البتة بل لأنها الفرد الكامل من حقيقة الهداية التي هي الدلالة إلى ما يوصل إلى البغتة أي ما من شأنه الإيصال إليها كما سبق تحقيقه في تفسير قوله تعالى هدى للمتقين وليس المراد مجرد الإخبار باهتداء من هداه الله تعالى حتى يتوهم عدم الإفادة بحسب الظاهر لظهور استلزامه هدايته تعالى للاهتداء ويحمل النظم الكريم على تعظيم شأن الاهتداء والتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غير لكفاه بل هو قصر الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضي به تعريف الخبر فالمعنى من يهده الله أي يخلق فيه الاهتداء على الوجه المذكور فهو المهتدي لا غير كائنا من كان «ومن يضلل» بأن لم يخلق فيه الاهتداء بل خلق فيه الضلالة لصرف اختياره نحوها «فأولئك» الموصوفون بالضلالة على الوجه المذكور «هم الخاسرون» أي الكاملون في الخسران لا غير وإفراد المهتدي نظرا إلى لفظ من وجمع الخاسرين نظرا إلى معناها للإيذان باتحاد منهاج الهدى وتفرق
294

طرق الضلال «ولقد ذرأنا» كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله بطريق التذييل أيخلقنا «لجهنم» أي لدخولها والتعذيب بها وتقديمه على قوله تعالى «كثيرا» أي خلقا كثيرا مع كونه مفعولا به لما في توابعه من نوع طول يؤدي توسيطه بينهما وتأخيره وعنها إلى الاخلال بجزالة النظم الكريم وقوله تعالى «من الجن والإنس» متعلق بمحذوف هو صفة لكثيرا أي كائنا منهما وتقديم الجن لأنهما أعرف من الأنس في الاتصاف بما نحن فيه من الصفات وأكثر عددا وأقدم خلقا والمراد بهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق ابدا بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيابها كما أن جميع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغيابها كما نطق به قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله تعالى «لهم قلوب» في محل النصب على أنه صفة أخرى لكثيرا وقوله تعالى «لا يفقهون بها» في محل الرفع على أنه صفة لقلوب مؤكدة لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها غير معهودة مخالفة لسائر أفراد الجنس فاقدة لكماله بالكلية لكن لا بحسب الفطرة حقيقة بل بسبب امتناعهم عن صرفها إلى تحصيله وهذا وصف لها بكمال الإغراق في القساوة فإنها حيث لم يتأت منها الفقه بحال فكأنها خلقت غير قابلة له رأسا وكذا الحال في أعينهم وآذانهم وحذف المفعول للتعميم أي لهم قلوب ليس من شأنها أن يفقهوا بها شيئا مما من شأنه أن يفقه فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا وتخصيصه بذلك مخل بالإفصاح عن كنه حالهم «ولهم أعين لا يبصرون بها» الكلام فيه كما فيما عطف هو عليه والمراد بالإبصار والسمع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس بالشبح والصوت كما هو وظيفة الإنعام أي لا يبصرون بها شيئا من المبصرا فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجا أوليا «ولهم أعين لا يبصرون بها» أي شيئا من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية تناولا أوليا وإعادة الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظام الكلام بأن يقال وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها لتقرير سوء حالهم وفي إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصفها بعدم الشعور دون سلبها عنهم ابتداء بأن يقال ليس لهم قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها من الشهادة بكمال رسوخهم في الجهل والغواية ما لا يخفى «أولئك» إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الضلال أي أولئك الموصوفون بالأوصاف المذكورة «كالأنعام» أي في انتفاء الشعور على الوجه المذكور أو في أن مشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها «بل هم أضل» فإنها تدرك ما من شأنها أن تدركه من المنافع والمضار فتجتهد في جلبها وسلبها غاية جهدها مع كونها بمعزل من الخلود وهؤلاء ليسوا
295

كذلك حيث لا يميزون بين المنافع والمضار بل يعكسون الأمر فيتركون النعيم المقيم ويقدمون على العذاب الخالد وقيل لأنها تعرف صاحبها وتذكره وتطيعه وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه وفي الخبر كل شيء أطوع لله من ابن آدم «أولئك» المنعوتون بما مر من مثلية الأنعام والشرية منها «هم الغافلون» الكاملون
في الغفلة المستحقون لأن يخص بهم الاسم ولا يطلق على غيرهم كيف لا وأنهم لا يعرون من شؤون الله عز وجل ولا من شؤون ما سواه شيئا فيشركون به سبحانه وليس كمثله شيء وهو السميع البصير أصنامهم التي هي من أخس مخلوقاته تعالى «ولله الأسماء الحسنى» تنبيه للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملة مع المخلين بذلك الغافلين عنه سبحانه عما يليق به من الأمور وما لا يليق به إثر بيان غفلتهم التامة وضلالتهم الطامة والحسنى تأثيث الأحسن أي الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها «فادعوه بها» أي فسموه بتلك الأسماء «وذروا الذين يلحدون في أسمائه» الإلحاد واللحد الميل والانحراف يقال لحد وألحد إذا مال عن القصد وقرئ يلحدون من الثلاثي أي يميلون في شأنها عن الحق إلى الباطل إما بأن يسموه تعالى بما لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسدا كما في قول أهل البدو يا ابا المكارم يا أبيض الوجه يا بخى ونحو ذلك فالمراد بالترك المأمور به الاجتناب عن ذلك وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسموه به على زعمهم لا أسماؤه تعالى حقيقة وعلى ذلك يحمل ترك الإضمار بأن يقال يلحدون فيها وإما بأن يعدلوا عن تسميته تعالى ببعض أسمائه الكريمة كما قالوا وما الرحمن ما نعرف سوى رحمان اليمامة فالمراد بالترك الاجتناب أيضا وبالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة فالمعنى سموه تعالى بجميع أسمائه الحسنى واجتنبوا إخراج بعضها من البين وإما بأن يطلقوها على غيره تعالى كما سموا أصنامهم آلهة وإما بأن يشتقوا من بعضها أسماء أصنامهم كما اشتقوا اللات من الله تعالى والعزى من العزيز فالمراد بالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة كما في الوجه الثاني والإظهار في موقع الإضمار مع التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادهم في نفس الأسماء من غير اعتبار الوصف وليس المراد بالترك حينئذ الاجتناب عن ذلك إذ لا يتوهم صدور مثل هذا الإلحاد عن المؤمنين ليؤمروا بتركه بل هو الإعراض عنهم وعدم المبالاة بما فعلوا ترقبا لنزول العقوبة بهم عن قريب كما هو المتبادر من قوله تعالى «سيجزون ما كانوا يعملون» فإنه استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الأمر بعدم المبالاة والإعراض عن المجازاة كأنه قيل لم لا نبالي بإلحادهم ولا نتصدى لمجازاتهم فقيل لأنه ينزل بهم عقوبته وتتشفون بذلك عن قريب وأما على الوجهين الأولين فالمعنى اجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم ما أصابهم فإنه سينزل بهم عقوبة إلحادهم «وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون» بيان إجمالي لحال
296

من عدا المذكورين من الثقلين الموصوفين بما ذكر من الضلال والإلحاد عن الحق ومحل الظرف الرفع على أنه مبتدأ إما باعتبار مضمونه أو بتقدير الموصوف وما بعده خبره كما مر في تفسير قوله تعالى ومن الناس الخ أي وبعض من خلقنا أو وبعض ممن خلقنا أمة أي طائفة كثيرة يهدون الناس ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة وبالحق يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قرأها هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة الآية وعنه عليه الصلاة والسلام إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى وروي لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله وروي لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم ظاهرون وفيه من الدلالة على صحة الإجماع ما لا يخفى والاقتصار على نعتهم بهداية الناس للإيذان بأن اهتداءهم في أنفسهم أمر محقق غني عن التصريح به «والذين كذبوا بآياتنا» شروع في تحقيق الحق الذي به يهدى الهادون وبه بعدل العادلون وحمل الناس على الاهتداء به على وجه الترهيب ومحل الموصول الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده من الجملة الاستقبالية وإضافة الآيات إلى نون العظمة لتشريفها واستعظام الإقدام على تكذيبها أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيار الحق ومصداق الصدق والعدل «سنستدرجهم» أي نستدينهم البتة إلى الهلاك شيئا فشيئا والاستدراج استفعال من درج إما بمعنى صعد ثم اتسع فيه فاستعمل في كل نقل تدريجي سواء كان بطريق الصعود أو الهبوط أو الاستقامة وإما بمعنى مضى مشيا ضعيفا وإما بمعنى طوى والأول هو الأنسب بالمعنى المراد الذي هو النقل إلى أعلى درجات المهالك ليبلغ أقصى مراتب العقوبة والعذاب ثم استعير لطلب كل نقل تدريجي من حال إلى حال من الأحوال الملائمة للمنتقل الموافقة لهواه بحيث يزعم أن ذلك ترق في مراقي منافعه مع أنه في الحقيقة ترد في مهاوي مصارعه فاستدراجه سبحانه إياهم أن يواتر عليهم النعم مع انهماكهم في الغي فيحسبوا أنها لطف لهم منه تعالى فيزداد بطرا وطغيانا لكن لا على أن المطلوب تدرجهم في مراتب النعم بل هو تدرجهم في مدارج المعاصي إلى أن يحق عليهم كلمة العذاب على أفظع حال وأشنعها والأول وسيلة إليه وقوله تعالى «من حيث لا يعلمون» متعلق بمضمر وقع صفة لمصدر الفعل المذكور أي سنستدرجهم استدراجا كائنا من حيث لا يعلمون أنه كذلك بل يحسبون أنه أثرة من الله عز وجل وتقريب منه وقيل لا يعلمون ما يراد بهم «وأملي لهم» عطف على سنستدرجهم غير داخل في حكم السين لما أن الإملاء الذي هو عبارة عن الإمهال والإطالة ليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصل في نفسه شيئا فشيئا بل هو فعل يحصل دفعة وإنما الحاصل بطريق التدريج آثاره
297

وأحكامه لا نفسه كما يلوح به تغيير التعبير بتوحيد الضمير مع ما فيه من الافتنان المنبىء عن مزيد الاعتناء بمضمون الكلام لابتنائه على تجديد القصد والعزيمة وأما إن ذلك للإشعار بأنه بمحض التقدير الإلهي والاستدراج بتوسط المدبرات فمبناه دلالة نون الفظيعة على الشركة وأنى ذلك وإلا لاحترز عن إيرادها في قوله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم الآية بل إنما إيرادها في أمثال هذه الموارد بطريق الجريان على سنن الكبرياء «إن كيدي متين» تقرير للوعيد وتأكيد له أي قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة والمراد به إما الاستدراج والإملاء مع نتيجتهما التي هي الأخذ الشديد على غرة فتسميته كيدا لما أن ظاهره لطف وباطنه قهو وإما نفس ذلك الأخذ فقط فالتسمية لكون مقدماته كذلك وأما أن حقيقة الكيد هو الأخذ على خفاء من غير أن يعتبر فيه إظهار خلاف ما أبطنه فمما لا تعويل عليه مع عدم مناسبته للمقام ضرورة استدعائه لاعتبار القيد المذكور حتما «أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة» كلام مبتدأ مسوق لإنكار عدم تفكرهم في شأنه صلى الله عليه وسلم وجعلهم بحقيقة حاله الموجبة للإيمان به وبما أنزل عليه من الآيات التي كذبوا بها والهمزة للإنكار والتعجيب والتوبيخ والواو للعطف على مقدر يستدعيه سياق النظم الكريم وسياقه وما إما استفهامية إنكارية في محل الرفع بالابتداء والخبر بصاحبهم وإما نافية اسمها جنة وخبرها بصاحبهم والجنة من المصادر التي يراد بها الهيئة كالركبة والجلسة وتنكيرها للتقليل والتحقير والجملة معلقة فعل التفكر لكونه من أفعل القلوب ومحلها على الوجهين النصب على نزع الجار أي أكذبوا بها ولم يتفكروا في أي شيء من
جنون ما كائن بصاحبهم الذي هو أعظم الأمة الهادية بالحق وعليه أنزلت الآيات أوفى أنه ليس بصاحبهم شيء من جنة حتى يؤديهم التفكر في ذلك إلى الوقوف على صدقه وصحة نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات وقيل قد تم الكلام عند قوله تعالى أولم يتفكروا أي أكذبوا بها ولم يفعلوا التفكر ثم ابتدىء فقيل أي شيء بصاحبهم من جنة ما على طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت أو قيل ليس بصاحبهم شيء منها والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بصاحبهم للإيذان بأن طول مصاحبتهم له صلى الله عليه وسلم مما يطلعهم على نزاهته صلى الله عليه وسلم عن شائبة ما ذكر ففيه تأكيد للنكير وتشديد له والتعرض لنفي الجنون عنه صلى الله عليه وسلم مع وضوح استحالة ثبوته له صلى الله عليه وسلم لما أن التكلم بما هو خارق لقضية العقول والعادات لا يصدر إلا عمن به مسن من الجنون كيفما اتفق من غير أن يكون له أصل ومعنى أو عمن له تأييد إلهي يخبر به عن الأمور الغيبية وإذ ليس به صلى الله عليه وسلم شائبة الأول تعين أنه صلى الله عليه وسلم مؤيد من عند الله تعالى وقيل إنه صلى الله عليه وسلم علا الصفات ليلا فجعل يدعو قريضا فخذا فخذا يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهوت إلى الصباح فنزلت فالتصريح بنفي الجنون حينئذ الرد على عظيمتهم الشنعاء والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بصاحبهم وارد على شاكلة كلامهم مع ما فيه من النكتة المذكورة وقوله تعالى «إن هو إلا نذير مبين» جملة مقررة لمضمون ما قبلها ومبينة لحقيقة حاله صلى الله عليه وسلم على منهاج قوله تعالى إن هذا إلا ملك كريم بعد قوله تعالى ما هذا بشرا أي ما هو إلا مبالغ في الإنذار مظهر له غاية الإظهار إبراز لكمال الرأفة
298

ومبالغة في الأعذار وقوله تعالى «أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض» استئناف آخر مسوق للإنكار والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل في الآيات التكوينية المنصوبة في الآفاق والأنفس الشاهدة بصحة مضمون الآيات المنزلة إثر مانعي عليهم إخلالهم بالتفكر في شأنه صلى الله عليه وسلم والهمزة لما ذكر من الإنكار والتعجب والتوبيخ والواو للعطف على المقدر المذكور أو على الجملة المنفية بلم والملكوت الملك العظيم أي أكذبوا بها أو ألم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظر تأمل فيما يدل عليه السماوات والأرض من عظم الملك وكمال القدرة «وما خلق الله» أي وفيما خلق فيهما على أنه عطف على ملكوت وتخصيصه بهما لكما ظهور عظم الملك فيهما أو وفي ملكوت ما خلق على أنه عطف على السماوات والأرض والتعميم لاشتراك الكل في الدلالة على عظم الملك في الحقيقة وعليه قوله تعالى فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وقوله تعالى «من شيء» بيان لما خلق مفيد لعدم اختصاص الدلالة المذكورة بجلائل المصنوعات دون دقائقها والمعنى أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق فيهما من جليل ودقيق مما ينطلق عليه اسم الشيء ليدلهم ذلك على العلم بوحدانيته تعالى وبسائر شؤونه التي ينطق بها تلك الآيات فيؤمنوا بها لاتحادهما في المدلول فإن كل فرد من أفراد الأكوان مما عزوهان دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى عالم التوحيد وقوله تعالى «وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم» عطف على ملكوت وأن مخففه من أن واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى مع فاعلها الذي هو أن يكون واسم يكون أيضا ضمير الشأن والخبر قد اقترب أجلهم والمعنى أو لم ينظروا في أن الشأن عسى أن يكون الشأن قد اقترب أجلهم وقد جوز أن يكون اسم يكون أجلهم وخبرها قد اقترب على أنها جملة من فعل وفاعل هو ضمير أجلهم لتقدمه حكما وأيا ما كان فمناط الإنكار والتوبيخ تأخيرهم للنظر والتأمل أي لعلم يموتون عما قريب فمالهم لا يسارعون إلى التدبر في الآيات التكوينية الشاهدة بما كذبوه من الآيات القرآنية وقد جوز أن يكون الأجل عبارة عن الساعة والإضافة إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة إنكارهم لها وبحثهم عنها وقوله تعالى «فبأي حديث بعده يؤمنون» قطع الاحتمال إيمانهم رأسا ونفي له بالكلية مترتب على ما ذكر من تكذيبهم بالآيات وإخلالهم بالتفكر والنظر والباء متعلقة بيؤمنون وضمير بعده للآيات على حذف المضاف المفهوم من كذبوا والتذكير باعتبار كونها قرآنا أو بتأويلها بالمذكور وإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة والمعنى أكذبوا بها ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من أحواله صلى الله عليه وسلم وأحوال المصنوعات فبأي حديث يؤمنون بعد تكذيبه ومعه مثل هذه الشواهد القوية كلا وهيهات وقيل الضمير للقرآن والمعنى فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به وهو النهاية في البيان وقيل هو إنكار وتبكيت لهم مترتب على إخلالهم بالمسارعة إلى التأمل فيما ذكر كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب
299

فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا وقيل الضمير لأجلهم والمعنى فبأي حديث بعد انقضاء أجلهم يؤمنون وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم على حذف مضاف أي فبأي حديث بعد حديثه يؤمنون وهو أصدق الناس وقوله تعالى «من يضلل الله فلا هادي له» استئناف مقرر لما قبله منبىء عن الطبع على قلوبهم وقوله تعالى «ويذرهم في طغيانهم» بالياء والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم وقرئ بنون العظيمة على طريقة الالتفات أي ونحن نذرهم وقرئ بالياء والجزم عطفا على محل فلا هادي له كأنه قيل من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم وقد روي الجزم بالنون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ وقوله تعالى «يعمهون» أي يترددون ويتحيرون حال من مفعول يذرهم وتوحيد الضمير في حيز النفي نظرا إلى لفظ من وجمعه في حيز الإثبات نظرا إلى معناها للتنصيص على شمول النفي والإثبات للكل «يسألونك عن الساعة» استئناف مسوق لبيان بعض أحكام ضلالهم وطغيانهم أي عن القيامة وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها إما لوقوعها بغتة أو لسرعة ما فيها من الحساب أو لأنها ساعة عند الله تعالى مع طولها في نفسها قيل إن قوما من اليهود قالوا يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا فإنا نعلم متى هي وكان ذلك امتحانا منهم مع علمهم أنه تعالى قد استأثر بعلمها وقيل السائلون قريش وقوله تعالى «أيان مرساها» بفتح الهمزة وقد قرىء بكسرها وهو ظرف زمان متضمن لمعنى الاستفهام ويليه المبتدأ أو الفعل المضارع دون الماضي بخلاف متى حيث يليها كلاهما قيل اشتقاقه من أي فعلان منه لأن معناه أي وقت وهو من أويت إلى الشيء لأن البعض آو إلى الكل متساند إليه ومحله الرفع على أنه خبر مقدم ومرساها مبتدأ مؤخر أي متى إرساؤها أي إثباتها وتقريرها فإنه مصدر ميمي من أرساه إذا اثبته وأقره ولا يكاد يستعمل إلا في الشيء الثقيل كما في قوله تعالى والجبال أرساها ومنه مرساة السفن ومحل الجملة قيل الجر على البدلية من الساعة والتحقيق أن محلها النصب بنزع الخافض لأنها بدل من الجار والمجرور لا من المجرور فقط كأنه قيل يسألونك عن الساعة أيان مرساها وفي تعليق السؤال بنفس الساعة أولا وبوقت وقوعها ثانيا تنبيه على أن المقصد الأصلي من السؤال نفسها باعتبار حلولها في وقتها المعين لا وقتها باعتبار كونه محلا لها وقد سلك هذا المسلك في
الجواب الملقن أيضا حيث أضيف العلم بالمطلوب بالسؤال إلى ضميرها فأخبر باختصاصه به عز وجل وحيث قيل «قل إنما علمها» أي علمها بالاعتبار المذكور «عند ربي» ولم يقل إنما علم وقت إرسائها ومن لم يتنبه لهذه النكتة حمل
300

النظم الكريم على حذف المضاف والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للإيذان بأن توفيقه صلى الله عليه وسلم للجواب على الوجه المذكور من باب التربية والإرشاد ومعنى كونه عنده تعالى خاصة انه تعالى قد استأثر به بحيث لم يخبر به أحدا من ملك مقرب أو نبي مرسل وقوله تعالى «لا يجليها لوقتها إلا هو» بيان لاستمرار تلك الحالة إلى حين قيامها وإقناط كلي عن إظهار أمرها بطريق الإخبار من جهته تعالى أو من جهة غيره لاقتضاء الحكمة التشريعية إياه فإنه ادعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك والمعنى لا يكشف عنها ولا يظهر للناس أمرها الذي تسألونني عنه إلا هو بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين فيتوسط في إظهاره لهم لكن لا بأن لا يخبرهم بوقتها قبل مجيئه كما هو المسؤول بل بأن يقيمها فيشاهدوها عيانا كما يفصح عنه التجلية المنبئة عن الكشف التام المزيل للإبهام بالكلية وقوله تعالى لوقتها أي في وقتها قيد للتجلية بعد ورود الاستثناء عليها لا قبله كأنه قيل لا يجليها إلا هو في وقتها إلا أنه قدم على الاستثناء للتنبيه من أول الأمر على أن تجليتها ليست بطريق الإخبار بوقتها بل بإظهار عينها في وقتها الذي يسألون عنه وقوله تعالى «ثقلت في السماوات والأرض» استئناف كما قبله مقرر لمضمون ما قبله أي كبرت وشقت على أهلهما من الملائكة والثقلين كل منهم أهمه خفاؤها وخروجها عن دائرة العقول وقيل عظمت عليهم حيث يشفقون منها ويخافون شدائدها وأهوالها وقيل ثقلت فيهما إذ لا يطيقها منهما ومما فيهما شيء أصلا والأول هو الأنسب بما قبله وبما بعده من قوله تعالى «لا تأتيكم إلا بغتة» فإنه استئناف مقرر لمضمون ما قبله فلا بد من اعتبار الثقل من حيث الخفاء أي لا تأتيكم إلا فجأة على غفلة كما قال صلى الله عليه وسلم إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه «يسألونك كأنك حفي عنها» استئناف مسوق لبيان خطئهم في توجيه السؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على زعمهم أنه صلى الله عليه وسلم عالم بالمسؤول عنه أو أن العلم بذلك من مواجب الرسالة إثر بيان خطئهم في أصل السؤال بأعلام شأن المسؤول عنه والجملة التشبيهية في محل النصب على أنها حال من الكاف جئ بها بيانا لما يدعوهم إلى السؤال على زعمهم وإشعارا بخطئهم في ذلك أي يسألونك مشبها حالك عندهم بحال من هو حفي عنها أي مبالغ في العلم بها فعيل من حفي وحقيقته كأنك مبالغ في السؤال عنها فإن ذلك في حكم المبالغة في العلم بها لما أن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه به ومبنى التركيب على المبالغة والاستقصاء ومنه إحفاء الشارب واحتفاء البقل أي استئصاله والإحفاء في المسألة أي الإلحاف فيها وقيل عن متعلقة بيسألونك وقوله تعالى كأنك حفي معترض وصلة حفي محذوفة أي حفي بها وقد قرىء كذلك وقيل هو من الحفاوة بمعنى البر والشفقة فإن قريشا قالوا له صلى الله عليه وسلم إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة والمعنى يسألونك كأنك تتحفى بهم فتخصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة وتزوى أمرها عن غيرهم ففيه تخطئة لهم من جهتين وقيل هو من حفي بالشيء بمعن فرح به والمعنى كأنك فرح بالسؤال عنها تحبه مع أنك كاره له لما أنه تعرض لحرم الغيب الذي استأثر الله عز وجل بعلمه «قل إنما علمها عند الله» أمر صلى الله عليه وسلم بإعادة الجواب الأول تأكيدا للحكم وتقريرا له وإشعارا بعلته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبىء عن
301

استتباعها لصفات الكمال التي من جملتها العلم وتمهيدا للتعريض بجهلهم بقوله تعالى «ولكن أكثرهم لا يعلمون» أي لا يعلمون ما ذكر من اختصاص علمها به تعالى فبعضهم ينكرونها رأسا فلا يعلمون شيئا مما ذكر قطعا وبعضهم يعلمون أنها واقعة البتة ويزعمون أنك واقف على وقت وقوعها فيسألونك عنه جهلا وبعضهم يدعون أن العلم بذلك من مواجب الرسالة فيتخذون السؤال عنه ذريعة إلى القدح في رسالتك والمستثنى من هؤلاء هم الواقفون على جلية الحال من المؤمنين وأما السائلون عنها من اليهود بطريق الامتحان فهم منتظمون في سلك الجاهلين حيث لم يعلموا بعلمهم وقوله تعالى «قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا» شروع في الجواب عن السؤال ببيان عجزه عن علمها إثر بيان عجز الكل عنه وإبطال زعمهم الذي بنوا عليه سؤالهم من كونه صلى الله عليه وسلم ممن يعلمها وإعادة الأمر لإظهار كمال العناية بشأن الجواب والتنبيه على استقلاله ومغايرته للأول والتعرض لبيان عجزه عما ذكر من النفع والضر لإثبات عجزه عن علمها بالطريق البرهاني واللام إما متعلق بأملك أو بمحذوف وقع حالا من نفعا أي لا أقدر لأجل نفسي على جلب نفع ما ولا على دفع ضر ما «إلا ما شاء الله» أن أملكه من ذلك بأن يلهمنيه فيمكنني منه ويقدرني عليه أو لكن ما شاء الله من ذلك كائن فالاستثناء منقطع وهذا أبلغ في إظهار العجز «ولو كنت أعلم الغيب» أي جنس الغيب الذي من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححة عادة للسببية والمسببية ومن المباينات المستتبعة للمانعة والمدافعة «لاستكثرت من الخير» أي لحصلت كثيرا من الخير الذي نيط تحصيله بالأفعال الاختيارية للبشر بترتيب أسبابه ودفع موانعه «وما مسني السوء» أي السوء الذي يمكن التقصي عنه بالتوقي عن موجباته والمدافعة بموانعه لا سوء ما فإن منه ما لا مدفع له «إن أنا إلا نذير وبشير» أي ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة شأني حيازة ما يتعلق بهما من العلوم الدينية والدنيوية لا الوقوف على الغيوب التي لا علاقة بينها وبين الأحكام والشرائع وقد كشفت من أمر الساعة ما يتعلق به الإنذار من مجيئها لا محالة واقترابها وأما تعيين وقتها فليس ما يستدعيه الإنذار بل هو مما يقدح فيه لما مر من أن إيهامه أدعى إلى الانزجار عن المعاصي وتقديم النذير على البشير لما أن المقام مقام الإنذار وقوله تعالى «لقوم يؤمنون» إما متعلق بهما جميعا لأنهم ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالبشارة وإما بالبشير فقط وما يتعلق بالنذير محذوف أي نذير للكافرين أي الباقين على الكفر وبشير لقوم يؤمنون أي في أي وقت كان ففيه ترغيب للكفرة في إحداث الإيمان وتحذير عن الإصرار على الكفر والطغيان «هو الذي خلقكم» استئناف سيق لبيان كمال عظم جناية الكفرة في جراءتهم على الإشراك بتذكير مبادى
302

أحوالهم المنافية له وإيقاع الموصول خبرا لتفخيم شأن المبتدأ أي هو ذلك العظيم الشأن الذي خلقكم جميعا وحده من غير أن يكون لغيره مدخل في ذلك بوجه من الوجوه «من نفس واحدة» هو آدم عليه الصلاة والسلام وهذا نوع تفصيل لما أشير إليه في مطلع السورة الكريمة إشارة إجمالية من خلقهم وتصويرهم في ضمن خلق آدم وتصويره
وبيان لكيفيته «وجعل» عطف على خلقكم داخل في حكم الصلة ولا ضير في تقدمه عليه وجودا لما أن الواو لا تستدعي الترتيب في الوجود «منها» أي من جنسها كما في قوله تعالى جعل لكم من أنفسكم أزواجا أو من جسدها لما يروى أنه تعالى خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم عليه الصلاة والسلام والأول هو الأنسب إذ الجنسية هي المؤدية إلى الغاية الآتية لا الجزئية والجعل إما بمعنى التصيير فقوله تعالى «زوجها» مفعوله الأول والثاني هو الظرف المقدم وإما بمعنى الإنشاء والظرف متعلق بجعل قدم على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو بمحذوف هو حال من المفعول والأول هو الأولى وقوله تعالى «ليسكن إليها» علة غائية للجعل باعتبار تعلقه بمفعوله الثاني أي ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئنانا مصححا للازدواج كما يلوح به تذكير الضمير ويفصح عنه قوله تعالى «فلما تغشاها» أي جامعها «حملت حملا خفيفا» في مبادئ الأمر فإنه عند كونه نطفة أو علقة أو مضغة أخف عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب والتعرض لذكر خفته للإشارة إلى نعمته تعالى عليهم في إنشائه تعالى إياهم متدرجين في أطوار الخلق من العدم إلى الوجود ومن الضعف إلى القوة «فمرت به» أي فاستمرت به كما كانت قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت وعليه قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقرئ فمرت بالتخفيف وفمارت من المور وهو المجىء والذهاب أو من المرية فظنت الحمل وارتابت به وأما ما قيل من أن المعنى حملت حملا خف عليها ولم تلق منه ما يلقي بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذية ولم تستثقله كما يستثقلنه فمرت به أي فمضت به إلى ميلاده منن غير إخداج ولا إزلاق فيرده قوله تعالى «فلما أثقلت» إذ معناه فلما صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها ولا ريب في أن الثقل بهذا المعنى ليس مقابلا للخفة بالمعنى المذكور إنما يقابلها الكرب الذي يعتري بعضهن من أول الحمل إلى آخره دون بعض أصلا وقرئ أثقلت على البناء للمفعول أي أثقلها حملها «دعوا الله» أي آدم وحواء عليهما السلام لما دهمهما أمر لم يعهداه ولم يعرفا مآله فاهتما به وتضرعا إليه عز وجل وقوله تعالى «ربهما» أي مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء إشارة إلى أنهما قد صدرا به دعاءهما كما في قولهما ربنا ظلمنا أنفسنا الآية ومتعلق الدعاء محذوف تعويلا على شهادة الجملة القسمية به أي دعواه تعالى أن يؤتيهما صالحا ووعدا بمقابلته الشكر على سبيل التوكيد القسمي وقالا أو قائلين «لئن آتيتنا صالحا» أي ولدا من جنسنا سويا «لنكونن» نحن ومن يتناسل من ذريتنا «من الشاكرين» الراسخين في الشكر على نعمائك التي من جملتها هذه النعمة وترتيب هذا الجواب على الشرط المذكور لما أنهما قد علما أن ما علقا به دعاءهما أنموذج لسائر أفراد الجنس ومعيار لها ذاتا وصفة وجوده مستتبع لوجودها وصلاحه مستلزم لصلاحها فالدعاء في حقه متضمن للدعاء في حق الكل مستتبع له كأنهما قالا لئن آتيتنا وذريتنا أولادا صالحة وقيل إن ضمير آتيتنا أيضا لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما فالوجه ظاهر وأنت خبير بأن نظم الكل
303

في سلك الدعاء أصالة يأباه مقام المبالغة في الاعتناء بشأن ما هما بصدده وأما جعل ضمير لنكونن للكل فلا محذور فيه لأن توسيع دائر الشكر غير مخل بالاعتناء المذكور بل مؤكد له وأيا ما كان فمعنى قوله تعالى «فلما آتاهما صالحا» لما آتاهما ما طلباه أصالة واستتباعا من الولد وولد الولد ما تناسلوا فقوله تعالى «جعلا» أي جعل أولادهما «له» تعالى «شركاء» على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ثقة بوضوح الأمر وتعويلا على ما يعقبه من البيان وكذا الحال في قوله تعالى «فيما آتاهما» أي فيما آتى أولادهما من الأولاد حيث سموهم بعبد مناف وعبد العزى ونحو ذلك وتخصيص إشراكهم هذا بالذكر في مقام التوبيخ مع أن إشراكهم بالعبادة أغلظ منه جناية وأقدم وقوعا لما أن مساق النظم الكريم لبيان إخلالهم بالشكر في مقابلة نعمة الولد الصلح وأول كفرهم في حقه إنما هو تسميتهم إياه بما ذكر وقرئ شركا أي شركة أو ذوي شركة أي شركاء إن قيل ما ذكر من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إنما يصادر إليه فيما يكون للفعل ملابسة ما بالمضاف إليه أيضا بسرايته إليه حقيقة أو حكما وتتضمن نسبته إليه صورة مزية يقتضيها المقام كما في مثل قوله تعالى وإذ نجيناكم من آل فرعون الآية فإن الإنجاء منهم مع أن تعلقه حقيقة ليس إلا بأسلاف اليهود قد نسب إلى أخلافهم بحكم سرايته إليهم توفية لمقام الامتنان حقه وكذا في قوله تعالى قل فلم تقتلون أنبياء الله الآية فإن القتل حقيقة مع كونه من جناية آبائهم قد أسند إليهم بحكم رضاهم به أداء لحق مقام التوبيخ والتبكيت ولا ريب في أنهما عليهما الصلاة والسلام بريئان من سراية الجعل المذكور إليهما بوجه من الوجوه فما وجه إسناده إليهما صورة قلنا وجهه الإيذان بتركهما الأولى حيث أقدما على نظم أولادهما في سلك أنفسهما والتزما شكرهم في ضمن شكرهما وأقسما على ذلك قبل تعرف أحوالهم ببيان أن إخلالهم بالشكر الذي وعداه وعدا مؤكدا باليمين بمنزلة إخلالهما بالذات في استيجاب الحنث والخلف مع ما فيه من الإشعار بتضاعف جنايتهم ببيان أنهم بجعلهم المذكور أوقعوهما في ورطة الحنث والخلف وجعلوهما كأنهما باشراه بالذات فجمعوا بين الجناية على الله تعالى والجناية عليهما عليهما السلام «فتعالى الله عما يشركون» تنزيه فيه معنى التعجب والفاء لترتيبه على ما فصل من أحكام قدرته تعالى وآثار نعمته الزاجرة عن الشرك الداعية إلى التوحيد وصيغة الجمع لما أشير إليه من تعين الفاعل وتنزيه آدم وحواء عن ذلك وما في عما إما مصدرية أي عن إشراكهم أو موصولة أو موصوفة أي عما يشركونه به سبحانه والمراد بإشراكهم إما تسميتهم المذكورة أو مطلق إشراكهم المنتظم لها انتظاما أوليا وقرئ تشركون بتاء الخطاب بطريق الالتفات وقيل الخطاب لآل قصي من قريش والمراد بالنفس الواحدة نفس قصي فإنهم خلقوا منه وكان له زوج من جنسه عربية قرشية وطلبا من الله تعالى ولدا صالحا فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد مناف وعبد شمس وعبد قصي وعبد الدار وضمير يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما وأما ما قيل من أنه لما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها ما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب أو خنزير وما يدريك من أين يخرج فخافت من
304

ذلك فذكرته لآدم فأهمهما ذلك ثم عاد إليها وقال إني من الله تعالى بمنزلة فإن دعوته أن يجعله خلقا مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحرث وكان اسمه حارثا في الملائكة فقبلت فلما ولدته سمته عبد الحرث فمما لا تعويل عليه كيف لا وأنه صلى الله عليه وسلم كان علما في علم الأسماء والمسميات فعدم علمه بإبليس واسمه واتباعه إياه في مثل هذا الشأن الخطير أمر قريب من المحال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال «أيشركون» استئناف مسوق لتوبيخ المشركين واستقباح إشراكهم على الإطلاق وإبطاله بالكلية ببيان شأن ما أشركوه به سبحانه وتفصيل أحواله القاضية ببطلان ما اعتقدوه في حقه أي أيشركون به تعالى «ما لا يخلق شيئا» أي لا يقدر على أن يخلق
شيئا من الأشياء أصلا ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده لا محالة وقوله تعالى «وهم يخلقون» عطف على لا يخلق وإيراد الضميرين بجمع العقلاء وتسميتهم لها آلهة وكذا حال سائر الضمائر الآتية ووصفها بالمخلوقية بعد وصفها بنفي الخالقية لإبانة كمال منافاة حالها لما اعتقدوه في حقها وإظهار غاية جهلهم فإن إشراك ما لا يقدر على خلق شيء ما بخالقه وخالق جميع الأشياء مما لا يمكن أن يسوغه من له عقل في الجملة وعدم التعرض لخالقها للإيذان بتعينه والاستغناء عن ذكره «ولا يستطيعون لهم» أي لعبدتعم إذا حزبهم أمر مهم وخطب ملم «نصرا» أي نصرا ما بجلب منفعة أو دفع مضرة «ولا أنفسهم ينصرون» إذا اعتراهم حادثة من الحوادث أي لا يدفعونها عن أنفسهم وإيراد النصر للمشاكلة وهذا بيان لعجزهم عن إيصال منفعة ما من المنافع الوجودية والعدمية إلى عبدتهم وأنفسهم بعد بيان عجزهم عن إيصال منفعة الوجود إليهم وإلى أنفسهم خلا أنهم وصفوا هناك بالمخلوقية لكونهم أهلا لها وههنا لم يوصفوا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلا لها وقوله تعالى «وإن تدعوهم إلى الهدى» بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم وأيسر هو مجرد الدلالة على المطلوب والإرشاد إلى طريق حصوله من غير أن يحصله الطالب والخطاب للمشركين بطريق الالتفات المنبىء عن مزيد الاعتناء بأمر التوبيخ والتبكيت أي إن تدعوهم أيها المشركون إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به المطالب أو تنجون به عن المكاره «لا يتبعوكم» إلى مرادكم وطلبتكم وقرئ بالتخفيف وقوله تعالى «سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون» استئناف مقرر لمضمون ما قبله ومبين لكيفية عدم الاتباع أي مستو عليكم في عدم الإفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم البحث فإنه لا يتغير حالكم في الحالين كما لا يتغير حالهم بحكم الجمادية وقوله تعالى أم أنتم صامتون جملة اسمية في معنى الفعلية معطوفة على الفعلية لأنها في قوة أم صمتم عدل عنها للمبالغة في عدم إفادة الدعاء
305

ببيان مساواته للسكوت الدائم المستمر وما قيل من أن الخطاب للمسلمين والمعنى وإن تدعوا لمشركين إلى الهدى إي الإسلام لا يتبعوكم الخ مما يساعده سياق النظم الكريم وسياقه أصلا على أنه لو كان كذلك لقيل عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم فإن استواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة إلى المشركين لا بالنسبة إلى الداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة «إن الذين تدعون من دون الله» تقرير لما قبله من عدم اتباعهم لهم أي إن الذين تعبدونهم من دونه تعالى من الأصنام وتسمونهم آلهة «عباد أمثالكم» أي مماثلة لكن لكن لا من كل وجه بل من حيث إنها مملوكة لله عز وجل مسخرة لأمره عاجزة عن النفع والضرر وتشبيهها بهم في ذلك مع كون عجزها عنهما أظهر وأقوى من عجزهم إنما هو لاعترافهم بعجز أنفسهم وادعائهم لقدرتها عليهما إذ هو الذي يدعوهم إلى عبادتها والاستعانة بها وقوله تعالى «فادعوهم فليستجيبوا لكم» تحقيق لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتهم أي فادعوهم في جلب نفع أو كشف ضر «إن كنتم صادقين» في زعمكم أنهم قادرون على ما أنتم عاجزون عنه وقوله تعالى «ألهم أرجل يمشون بها» الخ تبكيت إثر تبكيت مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزي من عدم الاستجابة ببيان فقدان آلاتها بالكلية فإن الاستجابة من الهياكل الجسمانية إنما تتصور إذا كان لها حياة وقوى محركة ومدركة وما ليس له شيء من ذلك فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة كأنه قيل ألهم هذه الآلات التي بها تتحقق الاستجابة حتى يمكن استجابتهم لكم وقد وجه الإنكار إلى كل واحدة من هذه الآلات الأربع على حده تكريرا للتبكيت وتثنية للتقريع إشعارا بأن انتفاء كل واحدة منها بحيالها كاف في الدلالة على استحالة الاستجابة ووصف الأرجل بالمشي بها للإيذان بأن مدار الإنكار هو الوصف وإنما وجه إلى الأرجل لا إلى الوصف بأن يقال أيمشون بأرجلهم لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجل فهي ليست بأرجل في الحقيقة وكذا الكلام فيما بعده من الجوارح الثلاث الباقية وكلمة أم في قوله تعالى «أم لهم أيد يبطشون بها» منقطعة وما فيها من الهمزة لما مر من التبكيت والإلزام وبل للإضراب المفيد للانتقال من فن من التبكيت بعد تمامه إلى فن آخر منه لما ذكر من المزايا والبطش الأخذ بقوة وقرئ يبطشون بضم الطاء وهي لغة فيه والمعنى بل ألهم أيد يأخذون بها ما يريدون أخذه وتأخير هذا عما قبله لما أن المشي حالهم في أنفسهم والبطش حالهم بالنسبة إلى الغير وأما تقديمه على قوله تعالى «أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها»
306

مع أن الكل سواء في أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلة بين الأيدي والأرجل ولأن انتفاء المشي والبطش أظهر والتبكيت بذلك أقوى وأما تقديم الأعين فلما أنها أشهر من الآذان وأظهر عينا وأثرا هذا وقد قرىء إن الذين تدعون من دونه الله عبادا أمثالكم على إعمال إن النافية عمل ما الحجازية أي ما الذين تدعون من دونه تعالى عبادا أمثالكم بل أدنى منكم فيكون قوله تعالى ألهم الخ تقريرا لنفي المماثلة بإثبات القصور والنقصان «قل ادعوا شركاءكم» بعد ما بين أن شركاءهم لا يقدرون على شيء ما أصلا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يناصبهم للمحاجة ويكرر عليهم التبكيت وإلقام الحجر أي ادعوا شركاءهم واستعينوا بهم على «ثم كيدون» جميعا أنتم وشركاؤكم وبالغوا في ترتيب ما تقدرون عليه من مبادى الكيد والمكر «فلا تنظرون» أي فلا تمهلوني ساعة بعد ترتيب مقدمات الكيد فإني لا أبالي بكم أصلا «إن وليي الله الذي نزل الكتاب» تعليل لعدم المبالاة المنفهم من السوق انفهاما جليا ووصفه تعالى بتنزيل الكتاب للإشعار بدليل الولاية والإشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة كأنه قيل لا أبالي بكم وبشركائكم لأن وليي هو الله الذي أنزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نصركم وقوله تعالى «وهو يتولى الصالحين» تذييل مقرر لمضمون ما قبله أي ومن عادته أن يتولى الصالحين من عباده وينصرهم ولا يخذلهم «والذين تدعون» أي تعبدونهم «من دونه» تعالى أو تدعونهم للاستعانة بهم على حسبما أمرتكم به «لا يستطيعون نصركم» أي في أمر من الأمور أو في خصوص الأمر المذكور «ولا أنفسهم ينصرون» إذا نابتهم نائبة «وإن تدعوهم إلى الهدى» إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم على الإطلاق أو في خصوص الكيد المعهود «لا يسمعوا» أي دعاءكم فضلا عن المساعدة والإمداد وهذا أبلغ من نفي الاتباع وقوله تعالى «وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون» بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع وبه يتم التعليل فلا تكرار أصلا والرؤية بصرية وقوله تعالى ينظرون إليك حال من المفعول والجملة الإسمية حال من فاعل ينظرون أي وترى الأصنام رأي العين يشبهون الناظرين إليك ويخيل إليك أنهم يبصرونك لما أنه صنعوا لها أعينا مركبة بالجواهر المضيئة المتلألئة وصوروها صورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه والحال أنهم غير قادرين على الإبصار وتوحيد الضمير في تراهم مع رجوعه إلى المشركين لتوجيه الخطاب إلى كل واحد واحد منهم لا إلى الكل من حيث هو كل الخطابات السابقة تنبيها على أن
رؤية الأصنام على الهيئة المذكورة لا تتسنى للكل معا بل
307

لكل من يواجهها وقيل ضمير الفاعل في تراهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضمير المفعول على حاله وقيل للمشركين على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى لا يسمعوا أي وترى المشركين ينظرون إليك والحال أنهم لا يبصرونك كما أنت عليه وعن الحسن أن الخطاب في قوله تعالى وإن تدعوا للمؤمنين على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى ينصرون أي وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ثم خوطب صلى الله عليه وسلم بطريق التجريد بأنك تراهم ينظرون إليك والحال أنهم لا يبصرونك حق الإبصار تنبيها على أن ما فيه صلى الله عليه وسلم من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على الناظرين «خذ العفو» بعد ما عد من أباطيل المشركين وقبائحهم ما لا يطاق تحمله أمر صلى الله عليه وسلم بمجامع مكارم الأخلاق التي من جملتها الإغضاء عنهم أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تكلفهم ما يشق عليهم من العفو الذي هو ضد الجهد أو خذ العفو من المذنبين أو الفضل من صدقاتهم وذلك قبل وجوب الزكاة «وأمر بالعرف» بالجميل المستحسن من الأفعال فإنها قريبة من قبول الناس من غير نكير «وأعرض عن الجاهلين» من غير مماراة ولا مكافأة قيل لما نزلت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فقال لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال يا محمد إن ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وعن جعفر الصادق أمر الله تعالى نبيه بمكارم الأخلاق وروي أنه لما نزلت الآية الكريمة قال صلى الله عليه وسلم كيف يا رب والغضب متحقق فنزل قوله تعالى «وإما ينزغنك من الشيطان نزغ» النزغ والنسع والنخس الغرز شبهت وسوسته للناس وإغراؤه لهم على المعاصي بغرز السائق لما يسوقه وإسناده إلى النزغ من قبيل جد جده أي وإما يحملنك من جهته وسوسة ما على خلاف ما أمرت به من اعتراء غضب أو نحوه «فاستعذ بالله» فالتجىء إليه تعالى من شره «إنه سميع» يسمع استعاذتك به قولا «عليم» يعلم تضرعك إليه قلبا في ضمن القول أو بدونه فيعصمك من شره وقد جوز أن يراد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب على نهج الاستعارة كما في قول الصديق رضي الله عنه إن لي شيطانا يعتريني ففيه زيادة تنفير عنه وفرط تحذير عن العمل بموجبه وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لأمره وتنبيه على أنه من الغوائل الصعبة التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل وقيل يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه أو سميع بأقوال من آذاك عليم بأفعاله فيجازيه عليها «إن الذين اتقوا» استئناف مقرر لما قبله أن ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الاستعاذة بالله تعالى سنة مسلوكة للمتقين والإخلال بها ديدن الغاوين أي إن الذين اتصفوا بوقاية أنفسهم عما يضرها «إذا مسهم طائف من الشيطان» أدنى لمة منه على أن تنوينه للتحقير وهو اسم فاعل من طاف يطوف
308

كأنها تطوف بهم وتدور حولهم لتوقع بهم أو من طاف به الخيال يطيف طيفا أي ألم وقرئ طيف على أنه مصدر أو تخفيف من طيف من الواوي أو اليائي كهين ولين والمارد بالشيطان الجنس ولذلك جمع ضميره فيما سيأتي «تذكروا» أي الاستعاذة به تعالى والتوكل عليه «فإذا هم» بسبب ذلك التذكر «مبصرون» مواقع الخطأ ومكايد الشيطان فيحترزون عنها ولا يتبعونه «وإخوانهم» أي إخوان الشيطان وهم المنهمكون في الغي المعرضون عن وقاية أنفسهم عن المضار «يمدونهم في الغي» أي يكون الشياطين مددا لهم فيه ويعضدونهم بالتزيين والحمل عليه وقرئ يمدونهم من الإمداد ويمادونهم كأنهم يعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء بالاتباع والامتثال «ثم لا يقصرون» أي لا يمسكون عنم الإغواء حتى يردوهم بالكلية ويجوز أن يكون الضمير للإخوان أي لا يرعوون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين ويرجع الضمير إلى الجاهلين فيكون الخبر جاريا على من هو له «وإذا لم تأتهم بآية» من القرآن عند تراخي الوحي أو بآية مما اقترحوه «قالوا لولا اجتبيتها» أجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي هلا جمعتها من تلقاء نفسك تقولا يرون بذلك أن سائر الآيات أيضا كذلك أو هلا تلقيتها من ربك استدعاء «قل» ردا عليهم «إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي» من غير أن يكون إلي دخل ما في ذلك أصلا على معنى تخصيص حاله صلى الله عليه وسلم باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصر المستفاد من كلمة إنما إلى نفس الفعل بالنسبة إلى مقابلة الذي كلفوه غياه صلى الله عليه وسلم لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه بتوجيه القصر إلى المفعول بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الشائع في موارد الاستعمال وقد مر تحقيقه في قوله تعالى إن أتبع إلا ما يوحى إلى كأنه قيل ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي منه تعالى وفي التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن المالكية والتبليغ إلى الكمال اللائق مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه صلى الله عليه وسلم والتنبيه على تأييده ما لا يخفى «هذا» إشارة إلى القرآن الكريم المدلول عليه بما يوحى إلي «بصائر من ربكم» بمنزلة البصائر للقلوب بها تبصر الحق وتدرك الصواب وقيل حجج بينة وبراهين نيرة ومن متعلقة بمحذوف هو صفة لبصائر مفيدة لفخامتها أي بصائر كائنة منه تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد وجوب الإيمان بها وقوله تعالى «وهدى ورحمة» عطف على بصائر وتقديم الظرف عليهما وتعقيبهما بقوله تعالى «لقوم يؤمنون» للإيذان بأن كون القرآن بمنزلة البصائر للقلوب متحقق بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على الجميع وأما كونه هدى ورحمة فمختص بالمؤمنين به إذ هم المقتسمون من أنواره والمغتنمون بآثاره والجملة من تمام القول المأمور به
309

«وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له» إرشاد إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلة التي ينطوي عليها القرآن أي وإذا قرىء القرآن الذي ذكرت شؤونه العظيمة فاستمعوا له استماع تحقيق وقبول «وأنصتوا» أي واسكتوا في خلال القراءة وراعوها إلى انقضائها تعظيما له وتكميلا للاستماع «لعلكم ترحمون» أي تفوزون بالرحمة التي هي أقصى ثمراته وظاهر النظم الكريم يقتضي وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وقيل معناه إذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له وجمهور الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه في استماع المؤتم وقد روي أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات له وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المكتوبة وقرأ أصحابه خلفه فنزلت وأما خارج الصلاة فعامة العلماء على استحبابهما والآية إما من تمام القول به أو استئناف من جهته تعالى فقوله تعالى «واذكر ربك في نفسك» على الأول عطف على قل وعلى الثاني فيه تجريد للخطاب إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو عام في الأذكار كافة فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب من الإجابة «تضرعا وخيفة» أي متضرعا وخائفا «ودون الجهر من القول» أي ومتكلما دون الجهر فإنه أقرب إلى حسن التفكر «بالغدو والآصال» متعلق باذكر أي اذكره في وقت الغدوات والعشيات وقرئ والإيصال وهو مصدر آصل أي دخل في الأصيل موافق للغدو «ولا تكن من الغافلين» عن ذكر الله تعالى «إن الذين عند ربك» وهم الملائكة عليهم السلام ومعنى كونهم عنده سبحانه وتعالى قربهم من رحمته وفضله لتوفرهم على طاعته تعالى «لا يستكبرون عن عبادته» بل يؤدونها حسبما أمروا به «ويسبحونه» أي ينزهونه عن كل ما لا يليق بجناب كبريائه «وله يسجدون» أي يخصونه بغاية العبودية والتذلل لا يشركون به شيئا وهو تعريض بسائر المكلفين ولذلك شرع السجود عند قراءته عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ابن آدم آية السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الأعراف جعل الله تعالى يوم القيامة بينه وبين إبليس سترا وكان آدم عليه السلام شفيعا له يوم القيامة
(تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله سورة الأنفال)
310