الكتاب: تفسير البحر المحيط
المؤلف: أبي حيان الأندلسي
الجزء: ٣
الوفاة: ٧٤٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض، شارك في التحقيق ١) د.زكريا عبد المجيد النوقي ٢) د.أحمد النجولي الجمل
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠١م
المطبعة: لبنان/ بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

2 (* (كل الطعام كان حلا لبني إسراءيل إلا ما حرم إسراءيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين * فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولائك هم الظالمون * قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه ءايات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان ءامنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين * قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بأيات الله والله شهيد على ما تعملون * قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من ءامن تبغونها عوجا وأنتم شهدآء وما الله بغافل عما تعملون * ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين * وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم ءايات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم) *)) 2
* (كل الطعام كان حلا لبنى إسراءيل إلا ما حرم إسراءيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة) * قال أبو روق وابن السائب: نزلت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم): (أنا على ملة إبراهيم) فقالت اليهود: فكيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال صلى الله عليه وسلم): (ذلك حلال لأبي إبراهيم ونحن نحله) فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا، فأنزل الله ذلك تكذيبا لهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها والجامع بينهما أنه تعالى أخبر أنه لا ينال المرء البر إلا بالإنفاق مما يحب. ونبي الله إسرائيل روي في الحديث: (أنه مرض مرضا شديدا فطال سقمه فنذر لله نذرا إن عافاه الله من سقمه أن يحرم، أو ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب ألبانها، ففعل ذلك تقربا إلى الله. فقد اجتمعت هذه الآية وما قبلها في أن كلا منهما فيما ترك ما يحبه الإنسان وما يؤثره على سبيل التقرب به لله تعالى. وكل: من صيغ العموم. والطعام: أصله مصدر أقيم مقام المفعول، وهو اسم لكل ما يطعم ويؤكل. وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أنه اسم للبر خاصة. قال الرازي: والآية تبطله لأنه استثنى منه ما حرم إسرائيل على نفسه. واتفقوا على أنه شيء سوى الحنطة، وسوى ما يتخذ منها. ومما يؤكد ذلك قوله في الماء ومن لم يطعمه. وقال: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وأراد الذبائح انتهى.
ويجاب عن الاستثناء أنه منقطع، فلا يندرج تحت الطعام. وقال القفال: لم يبلغنا أن الميتة والخنزير كانا مباحين لهم مع انهما طعام، فيحتمل أن يكون ذلك على الأطعمة التي كانت اليهود في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم) تدعي أنها كانت محرمة على إبراهيم، فيزول الإشكال يعني إشكال العموم. والحل: الحلال، وهو مصدر حل نحو عز عزا ومنه (وأنت حل بهذا البلد) أي حلال به. وفي الحديث عن عائشة: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم) لحله ولحرمه) ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. قال: (لا هن حل لهم) وهي كالحرم، أي الحرام. واللبس، أي اللباس. وإسرائيل: هو يعقوب، وتقدم الكلام عليه، وتقدم أن
3

الذي حرمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها؛ ورواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول: الحسن، وعطاء، وأبي العالية، ومجاهد، وعبد الله بن كثير في آخرين. وقيل: العروق. رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهو قول: مجاهد أيضا، وقتادة، والضحاك، والسدي، وأبي مجلز في آخرين.
قال ابن عباس: عرضت له الآنساء فأضنته، فجعل لله إن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقا. قال: فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم، وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر. وروي عن ابن عباس أنه حرم العروق ولحوم الإبل. وقيل: زيادتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما على الظهر قاله: عكرمة. وتقدم سبب تحريمه لما حرمه.
قال ابن عطية: ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه، فجعل تحريم ذلك شكرا لله تعالى إن شفي. وقيل: هو وجع عرق النسا. وهذا الاستثناء يحتمل الاتصال والانقطاع، فإن كان متصلا كان التقدير: إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فحرم عليهم في التوراة، فليست فيها الزوائد التي افتروها وادعوا تحريمها. وإن كان منقطعا كان التقدير: لكن إسرائيل حرم ذلك على نفسه خاصة، ولم يحرمه الله على بني إسرائيل. والاتصال أظهر. وظاهر قوله: على نفسه، أن ذلك باجتهاد منه لا بتحريم من الله تعالى. واستدل بذلك على أن للأنبياء أن يحرموا بالاجتهاد. وقيل: كان تحريمه بإذن الله تعالى. وقيل: يحتمل أن يكون التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا. وقال الأصم: لعل نفسه كانت مائلة إلى تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس وطلبا لمرضاة الله كما يفعله كثير من الزهاد، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم.
واختلفوا في سبب التحريم للطعام الذي حرمه إسرائيل على بنيه ومن بعدهم من اليهود، وهذا إذا قلنا: بأن الاستثناء متصل. أما إذا كان منقطعا فلم يحرم عليهم. وقال ابن عطية: حرمها عليهم بتحريم إسرائيل، ولم يكن محرما في التوراة، وروي عن ابن عباس أن يعقوب قال: (إن عافاني الله لا يأكله لي ولد. وقال الضحاك: وافقوا أباهم في تحريمه، لا أنه حرم عليهم بالشرع، ثم أضافوا تحريمه إلى الشرع فأكذبهم الله تعالى. وقال ابن السائب: حرمه الله عليهم بعد التوراة لا فيها، وكانوا إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم به عليهم طعام طيب، أو صب عليهم عذاب، ويؤكده (فبظلم) الآية.
وقيل: لم يحرم عليهم قبل نزول التوراة ولا بعدها، ولا بتحريم إسرائيل عليهم، ولا لموافقته بل قالوا ذلك تحرضا وافتراء. وقال السدي: لما أنزل الله التوراة حرم عليهم ما كانوا يحرمون على أنفسهم قيل نزولها.
قال الزمخشري: والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه، فتبعوه على تحريمه وهو رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم بما نعى عليهم في قوله: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات) * الآية. وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتغضوا. فما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم فقالوا: لسنا بأول من حرمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما
4

حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله، وأكل الربا، وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساويهم التي كلما
ارتكبوا منها كبيرة حرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم انتهى كلامه.
(من قبل أن تنزل التوراة) قال أبو البقاء: من متعلقة ب (حرم)، يعني في قوله: إلا ما حرم إسرائيل على نفسه. ويبعد ذلك، إذ هو من الاخبار بالواضح، لأنه معلوم أن ما حرم إسرائيل على نفسه هو من قبل إنزال التوراة ضرورة لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة. ويظهر أنه متعلق بقوله: كان حلا لبني إسرائيل، أي من قبل أن تنزل التوراة، وفصل بالاستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن: في جواز أن، يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفا أو مجرورا أو حالا نحو: ما حبس إلا زيد عندك، وما أوى إلا عمرو وإليك، وما جاء إلا زيد ضاحكا. وأجاز الكسائي ذلك في منصوب مطلقا نحو: ما ضرب إلا زيد عمرا وأجاز هو وابن الأنباري ذلك في مرفوع نحو: ما ضرب إلا زيدا عمرو، وأما تخريجه على مذهب غير الكسائي وأبي الحسن فيقدر له عامل من جنس ما قبله تقديره هنا: حل من قبل أن تنزل التوراة.
* (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) *. قل: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم). وقيل: فأتوا محذوف تقديره: هذا الحق، لا زعمكم معشر اليهود. فأتوا: وهذه أعظم محاجة أن يؤمروا بإحضار كتابهم الذي فيه شريعتهم، فإنه ليس فيه ما ادعوه بل هو مصدق لما أخبر به صلى الله عليه وسلم): من أن تلك المطاعم كانت حلالا لهم من قديم، وأن التحريم هو حادث. وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها، بل بهتوا وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم. وفي استدعاء التوراة منهم وتلاوتها الحجة الواضحة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إذ كان عليه السلام النبي الأمي الذي لم يقرأ الكتب ولا عرف أخبار الأمم السالفة، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد عليهم بما في كتبهم ولا يجدون من إنكاره محيصا. وفي الآية دليل على جواز النسخ في الشرائع، وهم ينكرون ذلك. وخرج قوله: إن كنتم صادقين مخرج الممكن، وهم معلوم كذبهم. وذلك على سبيل الهزء بهم كقولك: إن كنت شجاعا فالقني، ومعلوم، عندك أنه ليس بشجاع، ولكن هزأت به إذ جعلت هذا الوصف مما يمكن أن يتصف به.
* (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون) * يحتمل أن يكون مندرجا تحت القول، ويحتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله بذلك، وافتراؤه الكذب هو زعمه أن ذلك كان محرما على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة، والإشارة بذلك قيل يحتمل ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون إلى التلاوة، إذ مضمنها بيان مذهبهم وقيام الحجة البالغة القاطعة، ويكون افتراء الكذب أن ينسب إلى كتب الله ما ليس فيها. والثاني: أن يكون إلى استقرار التحريم في التوراة، إذ المعنى: إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم. وافتراء الكذب أن يزيد في المحرمات ما ليس فيها. والثالث: أن يكون إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه وقبل نزول التوراة من سنن يعقوب. وشرع ذلك دون إذن من الله. ويؤيد هذا الاحتمال قوله: * (فبظلم من الذين) * الآية. فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم، وكانوا يشددون فيشدد عليهم الله كما فعلوا في أمر البقرة. وجاءت شريعتنا بخلاف هذا، دين الله (يسر يسروا ولا تعسروا، وابعثت بالحنيفية السمحة) * (اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج) * والأظهر في من أنها شرطية، ويجوز أن تكون موصولة. وجمع في فأولئك حملا على المعنى. وهم: يحتمل أن تكون فصلا، ومبتدأ، وبدلا. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وقيل: هو هنا الكفر.
* (قل صدق الله) * أمر تعالى نبيه أن يصدع بخلافهم، أي الأمر الصدق هو ما أخبر الله به لا ما افتروه ومن الكذب. ونبه بذلك على أن ما أخبر به من قوله: * (كل الطعام) * وسائر ما تقدم صدق، وأنه ملة إبراهيم. والأحسن أن يكون قوله: (قل صدق الله) أي في جميع ما أخبر به في كتبه المنزلة. وقيل: في أن محمدا صلى الله عليه وسلم) هو على ملة إبراهيم، وإبراهيم كان مسلما. وقيل في قوله: (كل الطعام) الآية قاله ابن السائب. وقيل: في أنه ما كان يهوديا ولا نصرانيا قاله: مقاتل وأبو سليمان
5

الدمشقي، ثم أمرهم باتباع ملة إبراهيم فقال:
* (فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * وهي ملة الإسلام التي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم) والمؤمنون معه، فيخلصون من ملة اليهودية. وعرض بقوله: وما كان من المشركين: إلى أنهم مشركون في اتخاذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله. وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة البقرة تفسيرا وإعرابا فأغنى عن إعادته. وقرأ أبان بن ثعلب قل صدق: بإدغام اللام في الصاد، و (قل سيروا) بإدغام اللام في السين. وأدغم حمزة والكسائي وهشام أبل سولت). قال ابن جني: علة ذلك فشو هذين الحرفين في الفم وانتشار الصوت المثبت عنهما، فقاربتا بذلك مخرج اللام، فجاز إدغامها فيهما انتهى. وهو راجع لمعنى كلام سيبويه، قال سيبويه: والإدغام يعني إدغام اللام مع الطاء والصاد وأخواتهما جائز، وليس ككثرته مع الراء، لأن هذه الحروف تراخين عنها وهي من الثنايا. قال: وجواز الإدغام لأن آخر مخرج اللام قريب من مخرجها انتهى كلامه.
* (إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة) * روي عن مجاهد: أنه تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنها مهاجر الأنبياء، وفي الأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فنزلت. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهو: أنه لما أمر تعالى باتباع ملة إبراهيم وكان حج البيت من أعظم شعائر ملة إبراهيم ومن خصوصيات دينه، أخذ في ذكر البيت وفضائله ليبني على ذلك ذكر الحج ووجوبه. وأيضا فإن اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقالوا: بيت المقدس أفضل وأحق بالاستقبال لأنه وضع قبل الكعبة، وهو أرض المحشر، وقبله جميع الأنبياء، فأكذبهم الله في ذلك بقوله: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) كما أكذبهم في دعواهم قبل: إنما حرم عليهم ما كان محرما على يعقوب من قبل أن تنزل التوراة، وأيضا فإن كل فرقة من اليهود والنصارى زعمت أنها على ملة إبراهيم، ومن شعائر ملته حج الكعبة وهم لا يحجونها، فأكذبهم الله في دعواهم تلك، والأول هو الفرد السابق غيره.
وتقدم الكلام على لفظ أول في قوله: (ولا تكونوا أول كافر به) ووضع جملة في موضع الصفة. واختلف في معنى كونه أول بيت وضع للناس. فقيل: هو أول بيت ظهر على وجه الماء حين خلقت السماوات والأرض، خلقه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته. وقيل: هو أول بيت بناه آدم في الأرض. وقيل: لما أهبط آدم قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام، وكان في موضعه قبل آدم ببيت يقال له: الضراح، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة يطوف به ملائكة السماوات. وذكر الشريف أبو البركات أسعد بن علي بن أبي الغنائم الحسيني الجواني النسابة: أن شيث بن آدم هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي كان الله وضعها لآدم من الجنة، فعلى هذه الأقاويل يكون أول بيت وضع للناس على ظاهره، وروي عن ابن عباس أنه أول بيت حج بعد الطوفان، فتكون الأولية باعتبار هذا الوصف من الحج إذ كان قبله بيوت، وروي عن علي أنه سأله رجل: أهو أول بيت؟ فقال علي: لا قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة، فأخذ الأولية بقيد هذه الحال. وقيل: أول من بناه إبراهيم ثم قوم من العرب من جرهم، ثم هدم فبنته العمالقة، ثم هدم فبنته قريش. وقال أبو ذر: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: (المسجد الحرام) قلت؛ ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى) قلت: كم كان بينهما؟ قال: (أربعون سنة) وظاهر هذا الحديث
6

أنه من وضع إبراهيم، وهو معارض لما ذكر في الأقوال السابقة: إلا إن حمل الوضع على التجديد فيمكن الجمع بينهما. وظاهر حديث أبي ذر يضعف قول الزجاج: إن بيت المقدس هو من بناء سليمان بن داود عليهما السلام، بل يظهر منه أنه من وضع إبراهيم، فكما وضع الكعبة وضع بيت المقدس. وقد بين صلى الله عليه وسلم): (أن بين الوضعين أربعين سنة) وأين زمان إبراهيم من زمان سليمان ومعنى وضع للناس: أي متعبدا يستوي في التعبد فيه الناس، إذ غيره من البيوت يختص بأصحابها، والمشترك فيه الناس هو محل طاعتهم وعبادتهم وقبلتهم. وقرأ الجمهور (وضع) مبنيا للمفعول. وقرأ عكرمة وابن السميقع وضع مبنيا للفاعل، فاحتمل أن يعود على الله، واحتمل أن يعود على إبراهيم، وهو أقرب في الذكر وأليق وأوفقق لحديث أبي ذر. وللناس متعلق بوضع، واللام فيه للتعليل، وللذي ببكة خبر إن. والنعنى: للبيت الذي ببكة. وأكدت النسبة بتأكيدين: إن واللام. وأخبر هنا عن النكرة وهو أول بيت لتخصصها بالإضافة، وبالصفة التي هي وضع إمالها، وإما لما أضيفت إليه. إذ تخصيصه تخصيص لها بالمعرفة وهو للذي ببكة، لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس، ويحسن الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول إن. ومن أمثلة سيبويه: أن قريبا منك زيد. تخصص قريب بلفظ منك، فحسن الإخبار عنه. وقد جاء بغير تخصيص وهو جائز في الاختيار قال:
* وإن حراما أن أسب مجاشعا
*
بآبائي الشم الكرام الخضارم
*
والباء في ببكة ظرفية كقولك: زيد بالبصرة. ويضعف أن يكون بكة هي المسجد، لأنه يلزم أن يكون الشيء ظرفا لنفسه، وهو لا يصح.
* (مباركا * وهى * للعالمين) * أما بركته فلما يحصل فيه من الثواب وتكفير السيئات لمن
7

حجه واعتمره وطاف به وعكف عنده. وقال القفال: يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله: (يحيي إليه ثمرات كل شيء). وقيل: بركته دوام العبادة فيه ولزومها، لأن البركة لها معنيان: أحدهما: النمو، والآخر: الثبوت، ومنه البركة لثبوت الماء فيها. والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه، والبراكاء الثبوت في القتال، وتبارك الله ثبت ولم يزل. وقيل: بركته تضعيف الثواب فيه. روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من طاف بالبيت لم يرفع قدما ولم يضع أخرى إلا كتب الله بها له حسنة ورفع له بها درجة). وقال الفراء: سمي مباركا لأنه مغفرة للذنوب. وقال ابن جرير: بركته تطهيره من الذنوب. وقيل: بركته أن من دخله أمن حتى الوحش، فيجتمع فيه الظبي والكلب. وأما كونه هدى فلأنه لما كان مقوما مصلحا كان فيه إرشاد. وبولغ بكونه هدى، أو هو على حذف مضاف أي: وذا هدى. قيل: ومعنى هدى أي قبلة. وقيل: رحمة. وقيل: صلاح. وقيل: بيان ودلالة على الله بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره تعالى. وقال ابن عطية: يحتمل هنا هدى أن يكون بمعنى الدعاء، أي من حيث دعى العالمون إليه، وانتصاب مباركا على الحال. وجوزوا أن يكون حالا من الضمير الذي استكن في وضع، والعامل فيها وضع أي أن أول بيت مباركا، أي في هذه الحال للذي ببكة. وهذا التقدير ليس بجائز، لأنك فصلت بين العامل في الحال وبين الحال بأجنبي وهو: الخبر، لأنه معمول لأن خبر لها، فإن أضمرت وضع بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال، وكان تقديره: للذي ببكة وضع مباركا. وعلى هذا التقدير ينبغي أن يحمل تفسير علي بن أبي طالب السابق ذكره عند ذكر كون هذا البيت أولا، إذ كان قد لاحظ في هذا البيت كونه وضع أولا بقيد هذه الحال.
وجوزوا أيضا أن يكون العامل في الحال العامل في ببكة، أي استقر ببكة في حال بركته. وهو وجه ظاهر الجواز، ولم يذكر الزمخشري غيره. وأما هدى فظاهره أنه معطوف على مباركا، والمعطوف على الحال حال. وجوز بعضهم أن يكون مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي وهو هدى، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار.
* (فيه ءايات بينات) * أي علامات واضحات منها: مقام إبراهيم، والحجر الذي قام عليه، والحجر الأسود وهو: من حجارة الكعبة، وهو يمين الله في الأرض يشهد لمن مسه. والحطيم، وزمزم، وأمن الخائف وهيبته وتعظيمه في قلوب الناس، وأمر الفيل، ورمى طير الله عنه بحجارة السجيل، وكف الجبابرة عنه على وجه الدهر، وإذعان نفوس العرب لتوفير هذه البقعة دون ناه ولا زاجر، وجباية الأرزاق إليه، وهو (بواد غير ذي زرع) وحمايته من السيول. ودلالة عموم المطر إياه من جميع جوانبه على خصب آفاق الأرض، فإن كان المطر من جانب أخصب الأفق الذي يليه. وذكر مكي وغيره: أن من آياته كون الطير لا يعلوم عليه. قال ابن عطية:
وهذا ضعيف، والطير يعاين يعلوه، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره، وتلك كانت من آياته انتهى. وأي عبد علا عليه عتق. وتعجيل العقوبة لمن عتا فيه، وإجابة دعاء من دعا تحت الميزاب، ومضاعفة أجر المصلي، وغير ذلك من الآيات. وقوله: فيه آيات بينات، الضمير في فيه عائد على البيت، فينبغي أن لا يذكر من الآيات إلا ما كان في البيت. لكنهم توسعوا في الظرفية، إذ لا يمكن حملها على الحقيقة لأنه كان يلزم أن الآيات تكون داخل الجدران. ووجه التوسع أن البيت وضع بحرمه وجميع فضائله، فهي فيه على سبيل المجاز. ولذلك عد المفسرون آيات في الحرم وأشياء مما التزمت في شريعتنا من: تحريم قطع شجره
8

ومنع الاصطياد فيه. والذي تعرضت له الآية هو مقام إبراهيم، لأنه آية باقية على مر الأعصار. وذلك أنه لما قام إبراهيم على حجر المقام وقت رفعه القواعد من البيت طال له البناء، فكلما علا الجدار ارتفع الحجر به في الهواء، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى كمل الجدار. ثم أراد الله إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر فغرقت فيه قدما إبراهيم كأنها في طين، فذلك الأثر باق إلى اليوم. وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الاعصار. وقال في ذلك أبو طالب:
* وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة
*
على قدميه حافيا غير ناعل
*
فما حفظ أن أحدا من الناس نازع في هذا القول. وقيل: سبب أثر قدميه في هذا الحجر أنه وافى مكة زائرا من الشام فقالت له زوجة إسماعيل: انزل. حتى اغسل رأسك، فأبى أن ينزل، فجاءت بهذا الحجر من جهة شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر، فبقي أثر قدميه فيه. وارتفاع آيات على الفاعلية بالمجرور قبله، فيكون المجرور في موضع الحال، والعامل فيها محذوف، وذلك المحذوف هو الحال حقيقة. ونسبة الحالية إلى الظرف والمجرور مجاز، كنسبة الخبر إليها. إذا قلت: زيد في الدار، أو عندك. ولذلك قال بعض أصحابنا: وما يعزى للظرف من خبرية وعمل، فالأصح كونه لعامله. وكون فيه في موضع حال مقدرة، سواء كان العامل فيها هو العامل في ببكة، أم كان العامل فيها هو وضع على ما أعربوه، أو على ما أعربناه. ويجوز أو يكون جملة مستأنفة. أخبر الله تعالى أن فيه آيات بينات.
* (مقام إبراهيم) * مقام: مفعل من القيام. وقرأ الجمهور: آيات بينات على الجمع. وقرأ أبي وعمرو بن عباس ومجاهد وأبو جعفر في رواية قتيبة (آية بينة) على التوحيد. فعلى قراءة الجمهور أعربوا مقام إبراهيم بدلا، وهو بدل كل من كل، من قوله: آيات، وأعربوه خبر مبتدأ محذوف. أي هن مقام إبراهيم. وعلى ما أعربوه فكيف يبدل المفرد من الجمع، أو يخبر به عن الجمع؟ وأجيب بوجهين: أحدهما: أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد كقوله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة قانتا) *. والثاني: اشتماله على آيات، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين آية. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد فيه (آيات بينات مقام إبراهيم) وأمن من دخله، لأن الآيتين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة. وقال ابن عطية: والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالا مما في حرم الله من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار؛ إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم. فظاهر كلامه وكلام الزمخشري قبله: أن مقام إبراهيم وأمن الداخل تفسير للآيات وهي جمع، ولكن لم يذكر أمن الداخل في الآية تفسيرا صناعيا، إنما جاء (ومن دخله كان آمنا) جملة من شرط وجزاء، أو مبتدأ أو خبر، لا على سبيل أن يكون اسما مفردا يعطف على قوله: مقام إبراهيم، فيكون ذلك تفسيرا صناعيا. بل لم يأت بعد قوله: * (بينات فاسأل) * سوى مفرد وهو: مقام إبراهيم فقال. فإن قلت: كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والا من عطف بيان وقوله: ومن دخله كان آمنا جملة مستأنفة: إما ابتدائية، وإما اشترطية؟ قلت: أجزت ذلك من حيث المعنى. ولأن قوله: (ومن دخله كان آمنا) دل على
9

أمن داخله، فكأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن داخله. ألا ترى أنك لو قلت فية آية بينة من دخله كان آمنا صح، لأنه في معنى فيه آية بينة أمن من دخله انتهى سؤاله وجوابه وليس بواضح. لأن تقديره وأمن الداخل، هو مرفوع عطفا على مقام إبراهيم، وفسر بهما الآيات. والجملة من قوله: ومن دخله كان آمنا لا موضع لها من الإعراب، فتدافعا إلا أن اعتقد أن ذلك معطوف محذوف يدل عليه ما بعده، فيمكن التوجيه. فلا يجعل قوله: ومن دخله كان آمنا في معنى: وأمن داخله، إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب. قال الزمخشري: ويجوز أن يذكر هاتين الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما. ونحوه في طي الذكر قول جرير:
* كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم
*
من العبيد وثلث من مواليها
*
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم): (حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عيني في الصلاة) انتهى كلامه. وفيه حذف معطوفين، ولم يذكر الزمخشري
في إعراب مقام إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله: آيات بينات. ورد عليه ذلك، لأن آيات نكرة، ومقام إبراهيم معرفة، ولا يجوز التخالف في عطف البيان. وقوله مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين، فلا يلتفت إليه. وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت، فتتبع النكرة النكرة والمعرفة المعرفة، وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي. وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أن يكونا معرفتين، ولا يجوز أن يكونا نكرتين. وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم: عطف بيان وهو نكرة على النكرة قبله، أعربه البصريون بدلا، ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة، فينبغي أن لا يجوز. والأولى والأصوب في إعراب مقام إبراهيم أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: أحدها: أي أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم. أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره منها: أي من الآيات البينات مقام إبراهيم. ويكون ذكر المقام لعظمه ولشهرته عندهم، ولكونه مشاهدا لهم لم يتغير، ولاذ كاره إياهم دين أبيهم إبراهيم. وأما على قراءة من قرأ: آية بينة بالتوحيد، فإعرابه بدل، وهو بدل معرفة من نكرة موصوفة، كقوله تعالى: * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم * صراط الله) * ويكون الله تعالى قد أخبر عن هذه الآية العظيمة وحدها وهي مقام إبراهيم لما ذكرنا، وإن كان في البيت آيات كثيرة. واختلفوا في تفسير مقام إبراهيم. فقال
10

الجمهور: هو الحجر المعروف. وقال قوم: البيت كله مقام إبراهيم، لأنه بناه، وقام في جميع أقطاره. وقال قوم: مكة كلها مقام إبراهيم. وقال قوم: الحرم كله. والحرم مما يلي المدينة نحوا من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم، ومما يلي العراق نحوا من ثمانية أميال يقال له المقطع، ومما يلي عرفة تسعة أميال إلى منتهى الحديبية.
* (ومن دخله كان ءامنا) *: الضمير في (ومن دخله) عائد على البيت: إذ هو المحدث عنه، والمقيد بتلك القيود من البركة والهدى والآيات البينات من مقام إبراهيم وغيره. ولا يمكن أن يعود على مقام إبراهيم إذا فسرناه بالحجر. وظاهر الآية وسياق الكلام أن هذه الجملة هي مفسرة لبعض آيات البيت، ومذكرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت، وأمن من دخله من ذوي الحرائم. وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل، وأخذ الأموال، وأنواع الظلم، إلا في الحرم كقوله تعالى: * (أو لم * يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم) * وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام * (رب اجعل هاذا بلدا آمنا) * فأما في الإسلام فمن أصاب حدا فإن الحرم لا يعيذه وإلى هذا ذهب: عطاء، ومجاهد، والحسن، وقتادة وغيره. فمن زنى، أو سرق، أو قتل، أقيم عليه الحد واستحسن كثير ممن قال هذا القول: أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل فيه. وقال ابن عباس: من أحدث حدثا واستجار بالبيت فهو آمن. والأمر في الإسلام على ما كان في الجاهلية، فلا يعرض أحد لقاتل وليه. إلا أنه يجب على المسلمين أن لا يبايعوه، ولا يكلموه، ولا يؤووه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد. وقال بمثل هذا عطاء أيضا، والشعبي، وعبيد بن عمير، والسدي، وابن جبير، وغيرهم إلا أن أكثرهم قالوا: هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم، أما من قتل فيه فيقام عليه الحد فيه. واختلف فقهاء الأمصار: إذا جنى في غير الحرم ثم التجأ إليه فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والحسن بن زياد، وأحمد في رواية حنبل عنه: إن كانت الجناية في النفس لم يقتص منه ولا يخالط، أو فيما دون النفس اقتص منه في الحرم. وقال مالك في رواية: لا يقتص منه فيه، لا بقتل ولا فيما دون النفس، ولا يخالط. قالوا: وانعقد الإجماع على أن من جنى فيه لا يؤمن، لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان. فبقي حكم الآية فيمن جنى صار خارجا منه ثم التجأ إليه. وقالوا: هذا خبر معناه الأمر. أي ومن دخله فأمنوه. وهو عام فيمن جنى فيه أو في غيره ثم دخله، لكن صد الإجماع عن العمل به فيمن جنى فيه وبقي حكم الآية مختصا بمن جنى خارجا منه ثم دخله. وقال يحيى بن جعدة في آخرين: آمنا من النار، ولا بد من قيد في. ومن دخله كان آمنا: أي ومن دخله حاجا، أو من دخله مخلصا في دخوله. وقيل المعنى: ومن دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى الله عليه وسلم) لقوله: * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين) *. وقال جعفر الصادق: من دخله ورقى على الصفا أمن أمن الأنبياء. وظاهر الآية ما بدأنا به أولا، وكل هذه الأقوال سواه متكلفات، وينبو اللفظ عنها، ويخالف بعضها ظواهر الآيات وقواعد الشريعة * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * روى عكرمة: أنه لما نزلت: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا قالت اليهود: نحن على الإسلام فنزلت: ولله على الناس حج البيت الآية، قيل له: حجهم يا محمد. إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام، فليحجوا إن كانوا مسلمين فقالت اليهود: لا نحجه أبدا. ودلت هذه الآية على تأكيد فرض الحج، إذ جاء
11

ذلك بقوله: ولله، فيشعر بأن ذلك له تعالى، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء، وجاء متعلقا بالناس بلفظ العموم وإن كان المراد منه الخصوص ليكون من وجب عليه ذكر مرتين. قال الزمخشري: وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد. فمنها قوله: * (ولله على الناس حج البيت) * يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه،. من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد: أحدهما: أن الإبدال تنبيه للمراد وتكرير له. والثاني: أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين انتهى كلامه، وهو حسن. وقرأ حمزة والكسائي وحفص حج بكسر الحاء، والباقون بفتحها. وهما لغتان: الكسر لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية. وجعل سيبويه الحج بالكسر مصدرا نحو: ذكر ذكرا. وجعله الزجاج اسم العمل. ولم يختلفو في الفتح أنه مصدر، وحج مبتدأ وخبره في المجرور الذي هو ولله وعلى الناس متعلق بالعامل في الجار والمجرور الذي هو خبر. وجوز أن يكون على الناس حالا، وأن يكون خبر الحج. ولا يجوز أن يكون (ولله) حالا، لما يلزم في ذلك من تقدمها على العامل المعنوي. وحج مصدر أضيف إلى المفعول الذي هو البيت، والألف واللام فيه للعهد. إذ قد تقدم (أن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) هذا الأصل ثم صار علما بالغلبة. فمتى ذكر البيت لا يتبادر إلى الذهن إلا أنه الكعبة، وكأنه صار كالنجم للثريا وقال الشاعر:
* لعمري لأنت البيت أكرم أهله
*
وأقعد في أفنائه بالأصائل
*
ولم يشترط في هذه الآية في وجوبه إلا الاستطاعة. وذكروا أن شروطه: العقل، والبلوغ، والحرية، والإسلام، والاستطاعة. وظاهر قوله: * (ولله على الناس) * وجوبه على العبد، وهو مخاطب به، وقال بذلك داود. وقال الجمهور: ليس مخاطبا به، لأنه غير مستطيع، إذ السيد يمنعه عن هذه العبادة لحقوقه. قالوا: وكذلك الصغير. فلو حج العبد في حال رقه، والصبي قبل بلوغه، ثم عتق وبلغ فعليهما حجة الإسلام. وظاهره الاكتفاء بحجة واحدة، وعليه انعقد إجماع الجمهور خلافا لبعض أهل الظاهر إذ قال: يجب في كل خمسة أعوام مرة، والحديث الصحيح يرد عليه. والظاهر أن شرطه القدرة على الوصول إليه بأي طريق قدر عليه من: مشي، وتكفف، وركوب بحر، وإيجاز نفسه للخدمة. الرجال والنساء في ذلك سواء، والمشروط مطلق الاستطاعة. وليست في الآية من المجملات فتحتاج إلى تفسير. ولم تتعرض الآية لوجوب الحج على الفور، ولا على التراخي، بل الظاهر أنه يجب في وقت حصول الاستطاعة. والقولان عن الحنفية والمالكية. وقال أبو عمر بن عبد البر: ويدل على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام الواجب عليه في وقته، بخلاف من فوت صلاة حتى خرج وقتها فقضاها. وأجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته أنت قاض. وكل من قال بالتراخي لا يجد في ذلك حدا إلا ما روي عن سحنون: أنه إذا زاد على الستين وهو قادر وترك فسق، وروي قريب من هذا عن ابن القاسم.
وفي إعراب من خلاف، ذهب الأكثرون إلى أنه بدل بعض من كل، فتكون من موصولة في موضع جر، وبدل بعض من كل لا بد فيه من الضمير، فهو محذوف تقديره، من استطاع إليه سبيلا منهم. وقال الكسائي وغيره: من شرطية، فتكون في موضع رفع بالابتداء. ويلزم حذف الضمير الرابط لهذه الجملة بما قبلها، وحذف جواب الشرط، إذ التقدير من استطاع إليه سبيلا منهم فعليه الحج، أو فعلية ذلك. والوجه الأول أولى لقلة الحذف فيه وكثرته في هذا. ويناسب الشرط مجيء الشرط بعده في قوله: * (ومن كفر) * وقيل: من موصولة في
12

موضع رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم من استطاع إليه سبيلا. وقال بعض البصريين: من موصولة في موضع رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حج، فيكون المصدر قد أضيف إلى المفعول ورفع به الفاعل نحو: عجبت من شرب العسل زيد، وهذا القول ضعيف من حيث اللفظ والمعنى. أما من حيث اللفظ فإن إضافة المصدر للمفعول ورفع الفاعل به قليل في الكلام، ولا يكاد يحفظ في كلام العرب إلا في الشعر، حتى زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا في الشعر. وأما من حيث المعنى فإنه لا يصح، لأنه يكون المعنى: إن الله أوجب على الناس مستطيعهم وغير مستطيعهم أن يحج البيت المستطيع. ومتعلق الوجوب إنما هو المستطيع لا الناس على العموم، والضمير في إليه يعود على البيت، وقيل: على الحج. وإليه متعلق باستطاع، وسبيلا مفعول بقوله استطاع لأنه فعل متعد. قال تعالى: * (لا يستطيعون نصركم) * وكل موصل إلى شيء، فهو سبيل إليه.
وظاهر الآية يدل على وجوب الحج على من استطاع إلى البيت سبيلا، وليست الاستطاعة من باب المجملات كما قدمنا. وقال عمر، وابنه، وابن عباس، وعطاء، وابن جبير: هي حال الذي يجد زادا وراجلة، وعلى هذا أكثر العلماء. وقال ابن الزبير والضحاك: إذا كان مستطيعا غير شاق على نفسه وجب عليه. قال الضحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع، وقيل له في ذلك؛ فقال: إن كان لبعضهم ميراث بمكة، أكان يتركه، بل كان ينطلق إليه؟ ولو حبوا فكذلك يجب عليه الحج. وقال الحسن: من وجد شيئا يبلغه فقد وجب عليه. وقال عكرمة: استطاعة السبيل الصحة. ومذهب مالك: أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه، وعنه ذلك على قدر الطاقة.
13

وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر، وقد يقدر عليه من لا راحلة ولا زاد. وقال ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه. وقال الشافعي: الاستطاعة على وجهين بنفسه: أولا: فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك. واختلف قول مالك فيمن سأل ذاهبا وآيبا ممن ليست عادته ذلك في إقامته. فروى عنه ابن وهب: لا بأس بذلك. وروي عنه ابن القاسم: لا أرى ذلك، ولا يخرج إلى الحج والغزو سائلا. وكره مالك أن تحج النساء في البحر. واختلف عنه في حج النساء ماشيات إذا قدرن على ذلك. ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم، واختلف إذا عدمته. فقال الحسن، والنخعي، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق: المحرم من السبيل ولا حج عليها إلا مع ذي محرم. قال أبو حنيفة: إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا، وإذا وجدت محرما فهل لزوجها أن يمنعها في الفرض؟ قال الشافعي: له أن يمنعها وعن مالك روايتان: المنع، وعدمه. والمحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد بقرابة، أو رضاع، أو صهر، والحر والعبد والمسلم والذمي في ذلك سواء، إلا أن يكون مجوسيا يعتقد إباحة نكاحها أو مسلما غير مأمون، فلا تخرج ولا تسافر معه. وقال مالك: تخرج مع جماعة نساء. وقال الشافعي: مع حرة ثقة مسلمة. وقال ابن سيرين: مع رجل ثقة من المسلمين. وقال الأوزاعي: مع قوم عدول، وتتخذ سلما تصعد عليه وتنزل، ولا يقربها رجل.
واختلفوا في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة. فقال سفيان الثوري: إذا كان المكس، ولو درهما سقط فرض الحج عن الناس. وقال عبد الوهاب: إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض. فظاهر كلامه هذا أنها إذا كانت كثيرة غير مجحفة به لسعة ماله فلا يسقط، وعلى هذا جماعة أهل العلم، وعليه مضت الأعصار. وأجمعوا على أن المريض والمعضوب لا يلزمهما المسير إلى الحج. فقال مالك: يسقط عن المعضوب فرض الحج، ولا يحج عنه في حال حياته. فإن وصى أن يحج عنه بعد موته حج من الثلث، وكان تطوعا. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق: إذا كان قادرا على مال يستأجر به لزمه ذلك، وإذا بذل أحد له الطاعة والنيابة لزمه ذلك ببذل الطاعة عند الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الحج ببذل الطاعة، ولو بذل له مالا فالصحيح أنه لا
يلزمه قبوله. ومسائل فروع الاستطاعة كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
* (ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) * قال ابن عباس: بوجوب الحج، فمن زعم أنه ليس بفرض عليه فقد كفر. وقال مثله: الضحاك، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وعمران القطان. وقال ابن عمر وغيره: ومن كفر بالله واليوم الآخر. وقال ابن زيد: ومن كفر بهذه الآيات التي في البيت. وقال السدي وجماعة: ومن كفر بأن وجد ما يحج به فلم يحج، فهذا كفر معصية، بخلاف القول الأول فإنه كفر جحود. ويصير على قول السدي لقوله: (من ترك الصلاة فقد كفر) (لا ترجعوا بعدي
14

كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض). على أحد التأويلين. وقال الزمخشري: ومنها يعني من أنواع التأكيد والتشديد قوله: ومن كفر، مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا) ونحوه من التغليظ من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر، انتهى كلامه، وهو من معنى كلام السدي. وقال سعيد بن المسيب: ومن كفر بكون البيت قبله الحق، فعلى هذا يكون راجعا إلى اليهود الذين قالوا حين حولت القبلة: * (ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها) * وكفروا بها وقالوا: لا نحج إليها أبدا.
ومن شرطية وجواب الشرط الجملة المصدرة بالفاء، والرابط لها بجملة الشرط هو العموم الذي في قوله: * (عن العالمين) * إذ من كفر فهو مندرج تحت هذا العموم. وفي هذا اللفظ وعيد شديد لمن كفر قال ابن عطية: والقصد بالكلام: فإن الله غني عنهم، ولكن عم اللفظ ليبرع المعنى ويتنبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه عن جميع الوجوه، حتى ليس به افتقار إلى شيء، لا رب سواه انتهى. وقال الزمخشري: ومنها يعني من أنواع التأكيد ذكر الاستغناء عنه، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان. ومنها قوله: عن العالمين، ولم يقل عنه. وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء عنه لا محالة. ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه. وقيل: في الكلام محذوف تقديره: فإن الله غني عن حج العالمين.
* (قل ياأهل * أهل الكتاب لمن * تكفرون بئيات الله والله شهيد على ما تعملون) *: قال الطبري: سبب نزولها ونزول ما بعدها إلى قوله: * (وأولئك لهم عذاب عظيم) * أن رجلا من اليهود حاول الإغراء بين الأوس والخزرج واسمه: شاس بن قيس، وكان أعمى شديد الضغن والحسد للمسلمين، فرأى ائتلاف الأوس والخزرج، فقال: ما لنا من قرار بهذه البلاد مع اجتماع ملا بني قيلة، فأمر شابا من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث وما جرى فيه من الحرب وما قالوه من الشعر، ففعل، فتكلموا حتى ثاروا إلى السلاح بالحرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)؟ ووعظهم فرجعوا وعانق بعضهم بعضا، هذا ملخصه وذكروه مطولا. وقال الحسن: وقتادة، والسدي: نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام بأن يقولوا لهم: إن محمدا ليس بالموصوف في كتابنا، والظاهر نداء أهل الكتاب عموما والعامة، وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم كقيامها على الخاصة. وكأنهم بترك الاستذلال والعدول إلى التقليد بمنزلة من علم ثم أنكره. وقيل: المراد علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوته، واستدل بقوله: (وأنتم شهداء) انتهى هذا القول. وخص أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار لأنهم هم المخاطبون في صدر هذه الآية المورد الدلائل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم)، والمجابون عن شبههم في ذلك. ولأن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوة، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة للرسول والبشارة به. ولما ذكر تعالى أن في البيت * (بينات فاسأل) * وأوجب حجه، ثم قال: * (ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) * ناسب أن ينكر على الكفار كفرهم بآيات الله، فناداهم بيا أهل الكتاب لينبههم على أنهم أهل الكتاب، فلا يناسب من يعتزي إلى كتاب الله أن يكفر بآياته، بل ينبغي طواعيته وإيمانه بها، إذ له مرجع من العلم يصير إليه إذا اعترته شبهة.
والآيات: هي العلامات التي نصبها الله دلالة على الحق. وقيل: آيات الله هي آيات من التوراة فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم). ويحتمل القرآن،
15

ومعجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم). * (والله شهيد على ما تعملون) * جملة حالية فيها تهديد ووعيد. أي إن من كان الله مطلعا على أعماله مشاهدا له في جميع أحواله لا يناسبه أن يكفر بآياته، فلا يجامع العلم بأن الله مطلع على جميع أعمال الكفر بآيات الله، لأن من تيقن أن الله مجازيه لا يكاد يقع منه الكفر الذي هو أعظم الكبائر. وأتت صيغة (شهيد) لتدل على المبالغة بحسب المتعلق. لأن الشهادة يراد بها العلم في حق الله، وصفاته تعالى من حيث هي هي لا تقبل التفاوت بالزيادة والنقصان. فإذا جاءت الصفة من أوصافة للمبالغة فذلك بحسب متعلقاتها. وتقدم الكلام على (لم) وحذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها الجار. وقوله: (على ما تعملون) متعلق بقوله: شهيد. وما موصولة. وجوزوا أن تكون مصدرية، أي على عملكم.
* (قل ياأهل * أهل الكتاب لمن * تصدون عن سبيل الله من ءامن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون) * لما أنكر عليهم كفرهم في أنفسهم وضلالهم، ولم يكتفوا حتى سعوا في إضلال من آمن، أنكر عليهم تعالى ذلك، فجمعوا بين الضلال والإضلال * (من سندس * سنة * سيئة * فعليه) *. وصد: لازم ومتعد. يقال: صد عن كذا، وصد غيره عن كذا. وقراءة الجمهور: يصدون ثلاثيا، وهو متعد ومفعوله من آمن. وقرأ الحسن: تصدون من أصد، عدى صد اللازم بالهمز، وهما لغتان.
وقال ذو الرمة:
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم
ومعنى صد هنا: صرف. وسبيل الله: هو دين الله، وطريق شرعه، وقد تقدم أنها تذكر وتؤنث. ومن التأنيث قوله:
* فلا تبعد فكل فتى أناس
*
سيصبح سالكا تلك السبيلا
*
قال الراغب: وقد جاء * (من أهل الكتاب) * دون قل، وجاء هنا قل. فبدون قل هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم ليكونوا أقرب إلى الانقياد. ولما قصد الغض منهم ذكر قل تنبيها على أنهم غير مستأهلين أن يخاطبهم بنفسه، وإن كان كلا الخطابين وصل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم). وأطلق أهل الكتاب على المدح تارة، وعلى الذم أخرى. وأهل القرآن والسنة لا ينطلق إلا على المدح، لأن الكتاب قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحوا: * (يكتبون الكتاب بأيديهم) * وقد يراد به ما أنزل الله. وأيضا فقد يصح أن يقال على سبيل الذم والتهكم، كما لو قيل: يا أهل الكتاب لمن لا يعمل بمقتضاه، انتهى ما لخص من كلامه.
والهاء في يبغونها عائدة على السبيل. قال الزجاج والطبري: يطلبون لها اعوجاجا. تقول العرب: ابغني كذا بوصل الألف، أي اطلبه. أي وأبغني بقطع الألف أعني على طلبه. قال الزمخشري: (فإن قلت) كيف يبغونها عوجا وهو محال؟ (قلت) فيه معنيان: أحدهما: أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها عوجا بقولكم: إن شريعة موسى لا تنسخ، وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن وجهها، ونحو ذلك. والثاني: أنكم تتعبون أنفسكم في إخفاء الحق، وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم انتهى. وقيل: يبغون هنا من البغي وهو التعدي. أي يتعدون عليها، أو فيها. ويكون عوجا على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في تبغون
16

أي عوجا منكم وعدم استقامة انتهى. وعلى التأويل الأول يكون عوجا مفعولا به، والجملة من قوله: (تبغونها عوجا تحتمل الاستئناف، وتحتمل أن تكون حالا من الضمير في تصدون أو من سبيل الله، لأن فيها ضميرين يرجعان إليهما.
وأنتم شهداء أي بالعقل نحو: (وألقى السمع وهو شهيد) أي عارف بعقله، وتارة بالفعل. نحو قال: (فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) وتارة بإقامة ذلك، أي شهدتم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم) قبل بعثه على ما في التوراة من صفته وصدقه. وقال الزمخشري: وأنتم شهداء أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلا ضال مضل. أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم، ويستشهدون في عظام أمورهم، وهم الأحبار انتهى. قيل: وفي قوله: وأنتم شهداء دلالة على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة، لأنه تعالى سماهم شهداء، ولا يصدق هذا الاسم إلا على من يكون له شهادة. وشهادتهم على المسلمين لا تجوز بإجماع، فتعين وصفهم بأن تجوز شهادة بعضهم على بعض، وهو قول أبي حنيفة وجماعة. والأكثرون على أن شهادتهم لا تقبل بحال، وأنهم ليسوا من أهل الشهادة. وما الله بغافل عما تعملون وعيد شديد لهم، وتقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته.
* (تعملون ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) * لما أنكر تعالى عليهم صدهم عن الإسلام المؤمنين حذر المؤمنين من إغواء الكفار وإإضلالهم وناداهم بوصف الإيمان تنبيها على تباين ما بينهم وبين الكفار، ولم يأت بلفظ (قل) ليكون ذلك خطابا منه تعالى لهم وتأنيسا لهم. وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية، لأنه لم تقع طاعتهم لهم. والإشارة ب يا أيها الذين آمنوا إلى الأوس والخزرج بسب ثائرة شاس بن قيس. وأطلق الطواعية لتدل على عموم البدل، أي أن يصدر منك طواعية ما في أي شيء كان مما يحاولونه من إضلالكم، ولم يقيد الطاعة بقصة الأوس والخزرج على ما ذكر في سبب النزول. والرد هنا التصيير أي يصيرونكم. والكفر المشار إليه هنا ليس بكفر حقيقة، لأن سبب النزول هو في إلقاء العداوة بين الأوس والخزرج. ولو وقعت لكانت معصية لا كفرا إلا أن يفعلوا ذلك مستحبين له. وقد يكون ذلك بتحسين أهل الكتاب لهم منهيا بعد منهي، واستدراجهم شيئا فشيئا إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية. وانتصاب كافرين على أنه مفعول ثان ليرد، لأنها هنا بمعنى صير كقوله:
* فرد شعورهن السود بيضا
*
ورد وجوههن البيض سودا
*
وقيل: انتصب على الحال، والقول الأول أظهر.
* (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم ءايات الله وفيكم رسوله) * هذا سؤال استبعاد وقوع الكفر منهم مع هاتين الحالتين: وهما تلاوة كتاب الله عليهم وهو القرآن الظاهر الإعجاز، وكينونة الرسول فيهم الظاهر على يديه الخوارق. ووجود هاتين الحالتين تنافي الكفر ولا تجامعه، فلا يتطرق إليهم كفر مع ذلك. وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر فوبخوا على وقوعه لأنهم مؤمنون، ولذلك نودوا بقوله: يا أيها الذين آمنوا. فليس نظير قوله: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) * والرسول هنا: محمد صلى الله عليه وسلم) بلا خلاف. والخطاب قال الزجاج: لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) خاصة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم) كان فيهم وهم يشاهدونه. وقيل: لجميع الأمة، لأن آثاره وسنته فيهم، وإن لم يشاهدوه. قال قتادة: في هذه الآية علمان بينان: كتاب الله، ونبي الله. فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة فيه، حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. وقيل: الخطاب
17

للأوس والخزرج الذين نزلت هذه الآية فيما شجر بينهم على ما ذكره الجمهور. وقرأ الجمهور تتلى بالتاء. وقرأ الحسن والأعمش: يتلى بالياء، لأجل الفصل، ولأن التأنيث غير حقيقي، ولأن الآيات هي القرآن. قال ابن عطية: وفيكم رسوله هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه صلى الله عليه وسلم) وهو في أمته إلى يوم القيامة بأقواله وآثاره. وقال الزمخشري: وكيف تكفرون معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب، والمعنى: من أين يتطرف إليكم الكفر، والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم؟.
* (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم) * قال ابن جريج: ومن يؤمن بالله. ويناسب هذا القول قوله: * (وكيف تكفرون) *. وقيل: يستمسك بالقرآن. وقيل: يلتجىء إليه، فيكون على هذا القول حقا على الالتجاء إلى الله في دفع شرور الكفار. وجواب من فقد هدى وهو ماضي اللفظ مستقبل المعنى، ودخلت قد للتوقع، لأن المعتصم بالله متوقع للهدى.
وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة: الاستفهام الذي يراد به الإنكار في * (لم تكفرون) * * (لم تصدون) * * (وكيف تكفرون) * والتكرار: في يا أهل الكتاب، وفي اسم الله في مواضع، وفيما يعملون، والطباق: في الإيمان والكفر، وفي الكفر إذ هو ضلال والهداية، وفي العوج والاستقامة، والتجوز: بإطلاق اسم الجمع في فريقا من الذين أوتوا الكتاب فقيل: هو يهودي غير معين. وقيل: هو شاس بن قيس اليهودي. وإطلاق العموم والمراد الخصوص: في يا أيها الذين آمنوا على قول الجمهور أنه خطاب للأوس والخزرج. والحذف في مواضع.
(* (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذالك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولائك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جآءهم البينات وأولائك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة الله هم فيها خالدون * تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين * ولله ما فى السماوات وما فى الا رض وإلى الله ترجع الا مور * كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون * لن يضروكم إلا أذى
18

وإن يقاتلوكم يولوكم الا دبار ثم لا ينصرون * ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وبآءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذالك بأنهم كانوا يكفرون بأايات الله ويقتلون الا نبيآء بغير حق ذالك بما عصوا وكانوا يعتدون) *))
) *
أصبح: من الأفعال الناقصة لاتصاف الموصوف بالصفة وقت الصباح. وقد تأتي بمعنى صار وهي ناقصة أيضا، وتأتي أيضا لازمة تقول: أصبحت أي دخلت في الصباح. وتقول: أصبح زيد، أي أقام في الصباح ومنه. إذا سمعت بسري القين فاعلم أنه مصبح، أي مقيم في الصباح.
شفا الشيء طرفه وحرفه، وهو من ذوات الواو، وتثنيته: شفوان، وهو حرف كل جرم له مهوى كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار. ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى نحو: شفا جرف. وإلى الأسفل نحو: شفا حفرة. ويقال: أشفى على كذا أي أشرف. ومنه أشفى المريض على الموت. قال يعقوب: يقال للرجل عند موته وللقمر عند محاقه وللشمس عند غروبها ما بقي منه أو منها إلا شفا أي قليل..
الحفرة: معروفة وهي واحدة الحفر، فعلة بمعنى مفعوله، كغرفة من الماء. أنقذ خلص.
الابيضاض والأسوداد معروفان، ويقال: بيض فهو أبيض. وسود: فهو أسود، ويقال: هما أصل الألوان. ذاق الشيء استطعمه، وأصله بالفم ثم استعير لكل ما يحس ويدرك على وجه التشبيه بالذي يعرف عند الطعم. تقول العرب: قد ذقت من إكرام فلان ما يرغبني في قصده. ويقولون: ذق الفرق واعرف ما عنده. وقال تميم بن مقبل:
* أو كاهتزاز رديني تذاوقه
*
أيدي التجار فزادوا متنه لينا
*
وقال آخر:
* وإن الله ذاق حلوم قيس
*
فلما راء حفتها قلاها
*
يعنون بالذوق العلم، إما بالحاسة، وإما بغيرها. ثقفت الرجل غلبته وظفرت به.
* (مستقيم ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته) *. لما حذرهم تعالى من إضلال من يريد إضلالهم، أمرهم بمجامع الطاعات، فرهبهم أولا بقوله: اتقوا الله، إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب الله، ثم جعلها سببا للأمر بالاعتصام بدين الله، ثم أردف الرهبة بالرغبة، وهي قوله: * (واذكروا نعمة الله عليكم) * وأعقب الأمر بالتقوى والأمر بالاعتصام بنهي آخر هو من تمام الاعتصام. قال ابن مسعود، والربيع، وقتادة، والحسن: حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وروي مرفوعا. وقيل: حق تقاته اتقاء جميع معاصيه. وقال قتادة، والسدي، وابن زيد، والربيع: هي منسوخة بقوله: * (فاتقوا
19

الله ما استطعتم) * أمروا أولا بغاية التقوى حتى لا يقع إخلال بشيء ثم نسخ. وقال ابن عباس، وطاوس: هي محكمة. * (واتقوا الله * ما استطعتم) * بيان لقوله: اتقوا الله حق تقاته. وقيل: هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه. وقيل: لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه. وقال ابن عباس: المعنى جاهدوا في الله حق جهاده. وقال الماتريدي: وفي حرف حفصة اعبدوا الله حق عبادته. وتقاة هنا مصدر، وتقدم الكلام عليه في * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *.
قال ابن عطية: ويصح أن يكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإن كان لم يتصرف منه، فيكون: كرماة ورام، أو يكون جمع تقي، إذ فعيل وفاعل بمنزلة. والمعنى على هذا: اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى انتهى كلامه. وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ، إذ الظاهر أن قوله: حق تقاته من باب إضافة إلى موصوفها، كما تقول: ضربت زيدا شديد الضرب، أي الضرب الشديد. فكذلك هذا أي اتقوا الله الاتقاء الحق، أي الواجب الثابت. أما إذا جعلت التقاة جمعا فإن التركيب يصير مثل: اضرب زيدا حق ضرابه، فلا يدل هذا التركيب على معنى: اضرب زيدا كما يحق أن يكون ضرابه. بل لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى، والتقدير: اضرب زيدا ضربا حقا كما يحق أن يكون ضرب ضرابه. ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقادير يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ.
* (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * ظاهره النهي عن أن يموتوا إلا وهم متلبسون بالإسلام. والمعنى: دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه. ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم: لا أرينك ههنا، وإنما المراد لا تكن هنا فتكون رؤيتي لك. وقد تقدم لنا الكلام على هذا المعنى مستوفى في سورة البقرة في قوله: * (إن الله اصطفى لكم الدين) * الآية والجملة من قوله: وأنتم مسلمون حالية، والاستثناء مفرع من الأحوال. التقدير: ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حالة الإسلام. ومجيئها اسمية أبلغ لتكرر الضمير، وللمواجهة فيها بالخطاب. وزعم بعضهم أن الأظهر في الجملة أن يكون الحال حاصلة قبل، ومستصحبة. وأما لو قيل: مسلمين، لدل على الاقتران بالموت لا متقدما ولا متأخرا.
* (واعتصموا بحبل الله جميعا) * أي استمسكوا وتحصنوا. وحبل الله: العهد، أو القرآن، أو الدين، أو الطاعة، أو إخلاص التوبة، أو الجماعة، أو إخلاص التوحيد، أو الإسلام. أقوال للسلف يقرب بعضها من بعض. وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض). وروي عنه صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا تخلق على كثرة الرد من قال به صدق، ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم)
20

وقولهم: اعتصمت بحبل فلان يحتمل أن يكون من باب التمثيل، مثل استظهاره به ووثوقه بإمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه. ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة، استعار الحبل للعهد والاعتصام للوثوق بالعهد، وانتصاب جميعا على الحال من الضمير في * (واعتصموا) * * (ولا تفرقوا) * نهوا عن التفرق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى. وقيل: عن المخاصمة والمعاداة التي كانوا عليها في الجاهلية. وقيل: عن إحداث ما يوجب التفرق ويزول معه الاجتماع. وقد تعلق بهذه الآية فريقان: نفاة القياس والاجتهاد كالنظام وأمثاله من الشيعة، ومثبتو القياس والاجتهاد. قال الأولون، غير جائز أن يكون التفرق والاختلاف دينا لله تعالى مع نهي الله تعالى عنه. وقال الآخرون: التفرق المنهى عنه هو في أصول الدين والإسلام. * (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار) * الخطاب لمشركي العرب قاله: الحسن وقتادة يعني من آمن منهم، إذ كان القوي يستبيح الضعيف. وقيل: للأوس والخزرج. ورجح هذا بأن العرب وقت تزول هذه الآية لم تكن مجتمعة على الإسلام، ولا مؤتلفة القلوب عليه، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت على الإسلام وتألفت عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم، ولما تقدم أنه أمرهم بالاعتصام بحبل الله وهو الدين ونهاهم عن التفرق وهو أمر ونهي، بديمومة ما هم عليه إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ذكرهم بأن ما هم عليه من الاعتصام بدين الإسلام وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام الله عليهم بذلك. إذ حصل منه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم المستلزمة بحصول الفعل، فذكر بالنعمة الدنيوية والأخروية. أما الدنيوية فتألف قلوبهم وصيرورتهم إخوة في الله متراحمين بعدما أقاموا متحاربين متقاتلين نحوا من مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله بينهم بالإسلام. وكان أعني الأوس والخزرج جداهم أخوان لأب وأم. وأما الأخروية فإنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها. وبدأ أولا بذكر النعمة الدنيوية لأنها أسبق بالفعل، ولاتصالها بقوله: * (ولا تفرقوا) * وصار نظير * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت) * ومعنى فأصبحتم، أي صرتم. وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح، وتستعمل بمعنى صار، فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال. وعليه قوله:
* أصبحت لا أحمل السلاح ولا
*
أملك رأس البعير أن نفرا
*
قال ابن عطية: فأصبحتم عبارة عن الاستمرار، وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبتدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال. فالحال التي يحسبها المرء من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع:
* أصبحت لا أحمل السلاح ولا
*
أملك رأس البعير إن نفرا
*
وهذا الذي ذكره: من أن أصبح للاستمرار، وعلله بما ذكره لا أعلم أحدا من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما. وجوز الحوفي في (إذ) أن ينتصب باذكروا، وجوز غيره أن ينتصب بنعمة. أي إنعام الله،
21

وبالعامل في عليكم. إذ جوزوا أن يكون حالا من نعمة، وجوزا أيضا تعلق عليكم بنعمة، وجوزوا في أصبحتم أن تكون ناقصة والخبر بنعمته والباء ظرفية وإخوانا حال يعمل فيها أصبح، أو ما تعلق به الجار والمجرور. وأن يكون إخوانا خبر أصبح والجار حال يعمل فيه أصبح، أو حال من إخوانا لأنه صفة له تقدمت عليه، أو العامل فيه ما فيه من معنى تآخيتم بنعمته. وأن يكون أصبحتم تامة، وبنعمته متعلق به، أو في موضع الحال من فاعل أصبحتم أو من إخوانا، وإخوانا حال. والذي يظهر أن أصبح ناقصة وإخوانا خبر، وبنعمته متعلق بأصبحتم، والباء للسبب لا ظرفية.
وقال بعض الناس: الأخ في الدين يجمع إخوانا، ومن النسب إخوة، هكذا كثر استعمالهم. وفي كتاب الله تعالى: * (إنما المؤمنون إخوة) * والصحيح أنهما يقالان من النسب. وفي الدين: وجمع أخ على أخوة لا يراه سيبويه، بل أخوة عنده اسم جمع، لأن فعلا لا يجمع على فعله. وابن السراج يرى فعلة إذا فهم منه الجمع اسم جمع، لأن فعلة لم يطرد جمعا لشيء. والضمير في منها عائد على النار، وهو أقرب مذكور، أو على الحفرة. وحكى الطبري أن بعض الناس قال: يعود على الشفا، وأنت من حيث كان الشفا مضافا إلى مؤنث. كما قال جرير:
* أرى مر السنين أخذن مني
*
كما أخذ السرار من الهلال
*
قال ابن عطية: وليس الأمر كما ذكروا، لأنه لا يحتاج في الآية إلى هذه الصناعة إلا لو لم يجد معادا للضمير إلا الشفا. وهنا معنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه، ويعضده المعنى المتكلم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة انتهى. وأقول: لا يحسن عوده إلا على الشفا، لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد، فالضمير لا يعود إلا عليه. وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها، ألا ترى أنك إذا قلت: كان زيد غلام جعفر، لم يكن جعفر محدثا عنه، وليس أحد جزأي الإسناد. وكذلك لو قلت: ضرب زيد غلام هند، لم تحدث عن هند بشيء، وإنما ذكرت جعفرا وهندا مخصصا للمحدث عنه. أما ذكر النار. فإنما جيء بها لتخصيص الحفرة، وليست أيضا أحد جزأي الإسناد، لا محدثا عنها. وأيضا فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار، لأن الإنقاذ منه يستلزم الإنقاذ من الحفرة ومن النار، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا. فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى. ومثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على جرفها مشفين على الوقوع فيها. وقيل: شبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدينة من الموت بالشفا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأبا، فأنقذهم الله بالإسلام. وقال السدي: بمحمد صلى الله عليه وسلم). وقال أعرابي لابن عباس وهو يفسر هذه الآية: والله ما أنقذهم منها، وهو يريد أن يوقعهم فيها. فقال ابن عباس: خذوها من غير فقيه. وذكر المفسرون هنا قصة ابتداء إسلام الأنصار وما شجر بينهم بعد الإسلام، وزوال ذلك ببركات رسول الله صلى الله عليه وسلم).
* (كذالك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون) *: تقدم الكلام على مثل هذه الجملة، إلا أن آخر هذه مختتم بالهداية لمناسبة ما قبلها. وقال الزمخشري: (لعلكم تهتدون) إرادة أن تزدادوا هدى. وقال ابن عطية: وقوله لعلكم تهتدون في حق البشر، أي من تأمل منكم الحال رجاء الاهتداء. فالزمخشري جعل الترجي
22

مجازا عن إرادة الله زيادة الهدى، وابن عطية أبقى الترجي على حقيقته، لكنه جعل ذلك بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى، إذ يستحيل الترجي من الله تعالى، وفي كلا القولين المجاز. أما في قول الزمخشري فحيث جعل الترجي بمعنى إرادة الله، وأما في قول ابن عطية فحيث أسند ما ظاهره الإسناد إليه تعالى إلى البشر.
* (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) * الأمر متوجه لمت بتوجه الخطاب عليهم. قيل: وهو الأوس والخزرج على ما ذكره الجمهور. وأمره لهم بذلك أمر لجميع المؤمنين، ومن تابعهم إلى يوم القيامة، فهو من الخطاب الخاص الذي يراد به العموم. ويحتمل أن يكون الخطاب عاما فيدخل فيه الأوس والخزرج. والظاهر أن قوله * (منكم) * يدل على التبعيض، وقاله: الضحاك والطبري. لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر، وكيف يرتب الأمر في إقامته، وكيف يباشر؟ فإن الجاهل ربما أمر بمنكر، ونهى عن معروف، وربما
عرف حكما في مذهبه مخالفا لمذهب غيره، فينهى عن غير منكر ويأمر بغير معروف، وقد يغلظ في مواضع اللين وبالعكس. فعلى هذا تكون من للتبعيض، ويكون متعلق الأمر ببعض الأمة، وهم الذين يصلحون لذلك. وذهب الزجاج إلى أن من لبيان الجنس، وأتى على زعمه بنظائر من القرآن وكلام العرب، ويكون متعلق الأمر جميع الأمة يكونون يدعون جميع العالم إلى الخير، الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة. وظاهر هذا الأمر الفرضية، فالجمهور على أنه فرض كفاية، فإذا قام به بعض سقط عن الباقين. وذهب جماعة، من العلماء إلى أنه فرض عين، فيتعين على كل مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى قدر على ذلك وتمكن منه. واختلفوا في الذي يسقط الوجوب. فقال قوم: الخشية على النفس، وما عدا ذلك لا يسقطه. وقال قوم: إذا تحقق ضربا أو حبسا أو إهانة سقط عنه الفرض، وانتقل إلى الندب والأمر والنهي وإن كانا مطلقين في القرآن فقد تقيد ذلك بالسنة بقوله صلى الله عليه وسلم): (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) ولم يدفع أحد من علماء الأمة سلفها وخلفها وجوب ذلك الأقوم من الحشوية وجهال أهل الحديث، فإنهم أنكروا فعال الفئة الباغية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح، مع ما سمعوا من قوله تعالى: * (فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله) * وزعموا أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح. وقد ذكر أبو بكر الرازي في أحكامه فصلا مشبعا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكر فيه أن دماء أصحاب الضرائب والمكوس مباحة، وأنه يجب على المسلمين قتلهم، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار له ولا تقدم بالقول.
يدعون إلى الخير هو الإسلام قاله مقاتل، أو العمل بطاعة الله قاله أبو سليمان الدمشقي، أو الجهاد والإسلام. وقرأ الجمهور: ولتكن بسكون اللام. وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، والزهري، وعيسى بن عمر، وأبو حيوة: بكسرها، وعلة بنائها على الكسر مذكورة في النحو. وجوزوا في (ولتكن) أن تكون تامة، فيكون منكم متعلقا بها، أو بمحذوف على أنه حال، إذ لو تأخر لكان صفة لأمة. وأن تكون ناقصة، ويدعون الخبر، وتعلق من على الوجهين السابقين. وجوزوا أيضا أن يكون منكم الخبر، ويدعون صفة. ومحط الفائدة إنما هو في يدعون فهو الخبر.
و * (يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) * ذكر أولا الدعاء إلى الخير وهو عام في التكاليف من الأفعال والتروك، ثم جيء بالخاص إعلاما بفضله وشرفه لقوله: * (وجبريل وميكال
23

و * (الصلواة * الوسطى) * وفسر بعضهم المعروف بالتوحيد، والمنكر بالكفر. ولا شك أن التوحيد رأس المعروف، والكفر رأس المنكر. ولكن الظاهر العموم في كل معروف مأمور به في الشرع، وفي كل منهي نهي عنه في الشرع. وذكر المفسرون أحاديث مروية في فضل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفي إثم من ترك ذلك، وآثارا عن الصحابة وغيرهم في ذلك، وما طريق الوجوب هل السمع وحده كما ذهب إليه أبو هاشم؟ أم السمع والعقل كما ذهب إليه أبوه أبو علي؟ وهذا على آراء المعتزلة. وأما شرائط النهي والوجوب، ومن يباشر، وكيفية المباشرة، وهل ينهى عما يرتكبه، لم تتعرض الآية لشيء من ذلك، وموضوع هذا كله علم الفقه.
وقرأ عثمان، وعبد الله، وابن الزبير: وينهون عن المنكر، ويستعينون الله على ما أصابهم. ولم تثبت هذه الزيادة في سواد المصحف، فلا يكون قرآنا. وفيها إشارة إلى ما يصيب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأذى كما قال تعالى: * (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك) * وأولئك هم المفلحون: تقدم الكلام على هذه الجملة في أول البقرة. وهو تبشير عظيم، ووعد كريم لمن اتصف بما قبل هذه الجملة.
* (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) * هذه والآية قبلها كالشرح لقوله تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) * فشرح الإعتصام بحبل الله بقوله: * (ولتكن منكم أمة) * ولا سيما على قول الزجاج. وشرح * (ولا تفرقوا) * بقوله: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا) * قال ابن عباس: هم الأمم السالفة التي افترقت في الدين. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى اختلفوا وصاروا فرقا. وقال: قتادة هم أصحاب البدع من هذه الأمة. زاد الزمخشري: وهم المشبهة، والمجبرة، والحشوية، وأشباههم. وقال أبو أمامة: هم الحرورية، وروي في ذلك حديث: قال بعض معاصرينا: في قول قتادة وأبي أمامة نظر، فإن مبتدعة هذه الأمة والحرورية لم يكونوا إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم) بزمان، وكيف نهى الله المؤمنين أن يكونوا كمثل قوم ما ظهر تفرقهم ولا بدعهم إلا بعد انقطاع الوحي وموت النبي صلى الله عليه وسلم)؟ فإنك لا تنهى زيدا أن يكون مثل عمرو إلا بعد تقدم أمر مكروه جرى من عمرو، وليس لقوليهما وجه إلا أن يكون تفرقوا واختلفوا من الماضي الذي أراد به المستقبل، فيكون المعنى: ولا تكونوا كالذين يتفرقون ويختلفون، فيكون ذلك من إعجاز القرآن وإخباره بما لم يقع ثم وقع. انتهى كلامه. والبينات على قول ابن عباس: آيات الله التي أنزلت على أهل كل ملة. وعلى قول الحسن: التوراة. وعلى قول قتادة وأبي أمامة: القرآن * (وأولئك لهم عذاب عظيم) * يتصف عذاب الله بالعظيم، إذ هو أمر نسبي يتفاوت فيه رتب المعذبين، كعذاب أبي طالب وعذاب العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم).
* (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * الجمهور على أن ابيضاض الوجوه واسودادها على حقيقة اللون. والبياض من النور، والسواد من الظلمة. قال الزمخشري: فمن كان من أهل نور الدين وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه، وابيضت صحيفته وأشرقت، وسعى النور بين يديه وبيمينه. ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده واسودت صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب. انتهى كلامه. وقال ابن عطية: وبياض الوجوه عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله قاله الزجاج وغيره. ويحتمل عندي أن تكون من آثار الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم): أأنتم الغر المحجلون) من آثار الوضوء. وأما سواد الوجوه فقال المفسرون: هو عبارة عن
24

ارتدادها وأظلامها بغمم العذاب. ويحتمل أن يكون ذلك تسويدا ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم، على نحو حشرهم زرقا، وهذه أقبح طلعة. ومن ذلك قول بشار:
* وللبخيل على أمواله علل
*
زرق العيون عليها أوجه سود
*
انتهى كلامه. وقال قوم: البياض والسواد مثلان عبر بهما عن السرور والحزن لقوله تعالى: * (ظل وجهه مسودا) * وكقول العرب لمن نال أمنيته: ابيض وجهه. ولمن جاء خائبا: جاء مسود الوجه. وقال أبو طالب:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
وقال امرؤ القيس:
وأوجههم عند المشاهد غران
وقال زهير:
وأبيض فياض يداه غمامة
وبدأ بالبياض لشرفه، وأنه الحالة المثلى. وأسند الابيضاض والإسوداد إلى الوجوه وإن كان جميع الجسد أبيض أو أسود، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه، وهو أشرف أعضائه. والمراد: وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين قاله أبي بن كعب. وقيل: وجوه المهاجرين والأنصار، ووجوه بني قريظة والنضير. وقيل: وجوه أهل السنة، ووجوه أهل البدعة. وقال عطاء: وجوه المخلصين، ووجوه المنافقين. وقيل: وجوه المؤمنين، ووجوه أهل الكتاب والمنافقين. وقيل: وجوه المجاهدين، ووجوه الفرار من الزحف. وقيل: تبيض بالقناعة، وتسود بالطمع. وقال الكلبي: تسفر وجوه من قدر على السجود إذا دعوا إليه، وتسود وجوه من لم يقدر.
واختلفوا في وقت ابيضاض الوجوه واسودادها، فقيل: وقت البعث من القبور. وقيل: وقت قراءة الصحف. وقيل: وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان. وقيل: عند قوله: * (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) *.
وقيل: وقت أن يؤمر كل فريق بأن يتبع معبوده والعامل في * (يوم تبيض) * ما يتعلق به. ولهم عذاب عظيم أي وعذاب عظيم كائن لهم يوم تبيض وجوه. وقال الحوفي: العامل، فيه محذوف تدل عليه الجملة السابقة، أي: يعذبون يوم تبيض وجوه. وقال الزمخشري: بإضمار اذكروا، أو بالظرف وهو لهم. وقال قوم: العامل عظيم، وضعف من جهة المعنى لأنه يقتضي أن عظم العذاب في ذلك اليوم، ولا يجوز أن يعمل فيه عذاب، لأنه مصدر قد وصف. وقرأ يحيى بن وثاب، وأبو رزين العقيلي، وأبو نهيك: تبيض وتسود بكسر التاء فيهما، وهي لغة تميم: وقرأ الحسن، والزهري، وابن محيصن، وأبو الجوزاء: تبياض وتسواد بألف فيهما. ويجوز كسر التاء في تبياض وتسواد، ولم ينقل أنه قرىء بذلك.
* (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم
25

فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسود. وابتدىء بالذين اسودت للاهتمام بالتحذير من حالهم، ولمجاورة قوله: وتسود وجوه، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم. فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئا يسر الطبع، ويشرح الصدر. وقد تقدم الكلام على أما في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جوابا، ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها، والخبر هنا محذوف للعلم به. والتقدير: فيقال لهم: أكفرتم؟ كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم) * أي يقولون: سلام عليكم. ولما حذف الخبر حذفت الفاء، وإن كان حذفها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله:
* فأما القتال لا قتال لديكم
*
ولكن سيرا في عرض المواكب
*
يريد فلا قتال، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بنهاية التأميل في أسرار التنزيل: قد اعترض على النحاة في قولهم: لما حذف. يقال: حذفت الفاء بقوله تعالى: * (وأما الذين كفروا أفلم تكن ءاياتى تتلى عليكم) * تقديره فيقال لهم: أفلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف فيقال، ولم تحذف الفاء. فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، فوقع ذلك جوابا له. ولقوله: أكفرتم، ومن نظم العرب: إذا ذكروا حرفا يقتضي جوابا له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفا آخر يقتضي جوابا ثم يجعلون لهما جوابا واحدا، كما في قوله تعالى: * (فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * فقوله: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين، وليس أفلم جواب أما، بل الفاء عاطفة على مقدر والتقدير: أأهملتكم، فلم أتل عليكم آياتي. انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي. أما قوله: قد اعترض على النحاة فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع
النحاة، لأنه ما من نحوي إلا خرج الآية على إضمار فيقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فحوى الخطاب، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغني المعنى عنه، فالقول بخلافه مخالف للإجماع، فلا التفات إليه. وأما ما اعترض به من قوله: * (وأما الذين كفروا أفلم تكن ءاياتى) * وأنهم قدروه فيقال لهم: أفلم تكن آياتي، فحذف فيقال: ولم تحذف الفاء، فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء، فيقال التي هي جواب أما حتى يقال حذف، فيقال: وبقيت الفاء، بل الفاء التي هي جواب أما، ويقال بعدها محذوف. وفاء أفلم تحتمل وجهين، أحدهما أن تكون زائدة. وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر:
* يموت أناس أو يشيب فتاهم
*
ويحدث ناس والصغير فيكبر
*
يريد: يكبر وقول الآخر:
* لما اتقى بيد عظيم جرمها
*
فتركت ضاحي جلدها بتذبذب
*
26

يريد: تركت. وقال زهير:
* أراني إذا ما بت بت على هوى
*
فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا
*
يريد ثم. وقول الأخفش: وزعموا أنهم يقولون أخوك، فوجد يريدون أخوك وجد. والوجه الثاني: أن تكون الفاء تفسيرية، وتقدم الكلام فيقال لهم: ما يسوؤهم، فالم تكن آياتي، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية، كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله: * (أفلم يسيروا فى الارض) * وهذا على مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو: توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء. فالفاء هنا ليست مرتبة، وإنما هي مفسرة للوضوء. كذلك تكون في * (وأما الذين كفروا أفلم تكن) * مفسرة للقول الذي يسوؤهم وقول هذا الرجل. فلما بطل هذا يعني أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان حذف ما قدره النحويون من قوله، فيقال لهم لوجود هذا الفاء في أفلم تكن، وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل، وأنه سواء في الآيتين. وإذا كان كذلك فجواب أما هو، فيقال في الموضعين، ومعنى الكلام عليه. وأما تقديره: أأهملتكم، فلم تكن آياتي، فهذه نزعة زمخشرية، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلا يصح عطف ما بعدها عليه، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على الهمزة، لكن اعتنى بالاستفهام، فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين. وقد رجع الزمخشري أخيرا إلى مذهب الجماعة في ذلك، وبطلان قوله الأول مذكور في النحو. وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك. وعلى تقدير قول هذا الرجل: أأهملتكم، فلا بد من إضمار القول وتقديره، فيقال: أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ، والفاء جواب أما. وهو الذي يدل عليه الكلام، ويقتضيه ضرورة. وقول هذا الرجل: فوقع ذلك جوابا له، ولقوله: أكفرتم، يعني أن فذوقوا العذاب جواب لأما، ولقوله: أكفرتم؟ والاستفهام هنا لا جواب له، إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم. وأما قول هذا الرجل: ومن نظم العرب إلى آخره، فليس كلام العرب على ما زعم، بل يجعل لكل جواب أن لا يكن ظاهرا فمقدر، ولا يجعلون لهما جوابا واحدا، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى: * (فإما يأتينكم) * الآية. وزعمه أن قوله تعالى: * (فلا خوف عليهم) * جواب للشرطين. فقول روي عن الكسائي. وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره: فاتبعوه. والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول. وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله: * (فإما يأتينكم) * الآية. والهمزة في * (أكفرتم) * للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم. والخطاب في أكفرتم إلى آخره يتفرع على الاختلاف في الذين اسودت وجوههم، فإن كانوا الكفار فالتقدير: بعد أن آمنتم حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب آدم الكذر، وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان. وإن كانوا قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه، وكفرهم به بعده، أو إيمانهم بالتوراة وما جاء فيها من نبوته ووصفه والأمر باتباعه، وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر كفرهم بقلوبهم، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم. وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد كان حصل منهم الإيمان حقيقة وفي قوله: * (أكفرتم) *. قالوا: تلوين الخطاب وهو أحد أنواع الالتفات، لأن قوله: فأما الذين اسودت غيبة، وأكفرتم مواجهة بما كنتم، الباء سببية وما مصدرية.
* (وأما الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة الله هم فيها خالدون) * انظر تفاوت ما بين التقسيمين هناك جمع لمن اسودت وجوههم بين التعنيف بالقول
27

والعذاب، وهنا جعلهم مستقرين في الرحمة، فالرحمة ظرف لهم وهي شاملتهم. ولما أخبر تعالى أنهم مستقرون في رحمة الله بين أن ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال، وأشار بلفظ الرحمة إلى سابق عنايته بهم، وأن العبد وإن كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. وقال ابن عباس: المراد بالرحمة هنا الجنة، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعارا بأن جانب الرحمة أغلب. وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه، بل قال: * (فذوقوا العذاب) * ولما ذكر العذاب علله بفعلهم، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة. وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر: فأما الذين اسوادت، وأما الذين ابياضت بألف. وأصل افعل هذا افعلل يدل، على ذلك اسوددت واحمررت، وأن يكون للون أو عيب حسي، كأسود، وأعوج، واعوز. وأن لا يكون من مضعف كاحم، ولا معتل لام كألمى، وأن لا يكون للمطاوعة. وندر نحو: انقض الحائط، وابهار الليل، وإشعار الرجل بفرق شعره، وشذا رعوى، لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعا لرعوته بمعنى كففته. وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها، ولزومه إذا لم يجأ بهما. وقد يكون العكس. فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى: * (مد) * ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى: * (تزاور عن كهفهم) * واحمر خجلا. وجواب أما ففي الجنة، والمجرور خبر المبتدأ، أي فمستقرون في الجنة. وهم فيها خالدون جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، لم تدخل في حيز أما، ولا في إعراب ما بعده. دلت على أن ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود. وقال الزمخشري: (فإن قلت) كيف موقع قوله: هم فيها خالدون بعد قوله: ففي رحمة الله؟ (قلت): موقع الاستئناف. كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون، لا يظعنون عنها ولا يموتون انتهى. وهو حسن. وقيل: جواب أما ففي الجنة هم فيها خالدون، وهم فيها خالدون ابتداء. وخبر وخالدون العامل في الظرفين، وكرر على طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم.
* (تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين) * الإشارة بتلك قيل: إلى القرآن كله. وقيل: إلى ما أنزل من الآيات في أمر الأوس والخزرج واليهود الذين مكروا بهم، والتقدم إليهم بتجنب الافتراق. وكشف تعالى للمؤمنين عن حالهم وحال أعدائهم بقوله: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * وقيل: تلك بمعنى هذه لما انقصت صارت كأنها بعدت. وقال الزمخشري: تلك آيات الله الواردة في الوعد والوعيد، وكذا قال ابن عطية. قال الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفارة وتنعيم المؤمنين.
وقرأ الجمهور نتلوها بالنون على سبيل الالتفات، لما في إسناد التلاوة للمعظم ذاته من الفخامة والشرف. وقرأ أبو نهيك بالياء. والأحسن أن يكون الضمير المرفوع في نتلوها في هذه القراءة عائد على الله، ليتحد الضمير. وليس فيه التفات، لأنه ضمير غائب عاد على اسم غائب. ومعنى التلاوة: القراءة شيئا بعد شيء، وإسناد ذلك إلى الله على سبيل المجاز، إذ التالي هو جبريل لما أمره بالتلاوة كان كأنه هو التالي تعالى. وقيل: يجوز أن يكون معنى يتلوها ينزلها متوالية شيئا بعد شيء. وجوزوا في قراءة أبي نهيك أن يكون ضمير الفاعل عائدا على جبريل وإن لم يجر له ذكر للعلم به.
ومعنى بالحق أي بإخبار الصدق. وقيل: المعنى متضمنة الأفاعيل التي هي أنفسها حق من كرامة قوم وتعذيب آخرين. وتلك مبتدأ أو آيات الله خبره، ونتلوها جملة حالية. قالوا: والعامل فيها اسم الإشارة. وجوزوا أن يكون آيات الله بدلا، والخبر نتلوها. وقال الزجاج: في الكلام حذف تقديره تلك آيات القرآن المذكورة حجج الله ودلائله انتهى. فعلى هذا الذي قدره يكون خبر المبتدأ محذوف، لأنه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية. ولا حاجة إلى تقدير هذا
28

المحذوف، إذ الكلام مستغن عنه تام بنفسه. والباء في بالحق باء المصاحبة، فهي في موضع الحال من ضمير المفعول أي: ملتبسة بالحق. وقال الزمخشري: ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه انتهى. فدس في قوله بما يستوجبانه دسيسة اعتزالية. ثم أخبر تعالى أنه لا يريد الظلم، وهذا لم يرده لم يقع منه لأحد. فما وقع منه تعالى من تنعيم قوم وتعذيب آخرين ليس من باب الظلم، والظلم وضع الشيء في غير موضعه. روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم) قال فيما يروى عن ربه عز وجل أنه قال: * (* يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) * وفي الحديث الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: * (إن الله لا يظلم * المؤمن * حسنة * يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه فى الاخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها) * وقيل: المعنى لا يزيد في إساءة المسئ ولا ينقص من إحسان المحسن، وفيه تنبيه على أن تسويد الوجوه عدل انتهى.
وللعالمين في موضع المفعول للمصدر الذي هو ظلم، والفاعل محذوف مع المصدر التقدير: ظلمه، والعائد هو ضمير الله تعالى أي: ليس الله مريدا أن يظلم أحدا من العالمين. ونكر ظلما لأنه في سياق النفي، فهو يعم. وقيل: المعنى أنه تعالى لا يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض. واللفظ ينبو عن هذا المعنى، إذ لو كان هذا المعنى مرادا لكان من أحق به من الكلام، فكان يكون التركيب: وما الله يريد ظلما من العالمين. وقال الزمخشري: وما الله يريد ظلما فيأخذ أحذا بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن، ثم قال: فسبحان من يحلم عن من يصفه بإرادة القبائح والرضا بها، انتهى كلامه جاريا على مذهبه الاعتزالي. ونقول له: فسبحان من يحلم عمن يصفه بأن يكون في ملكه ما لا يريد، وإن إرادة العبد تغلب إرادة الرب تعالى الله عن ذلك.
* (ولله ما فى * السماوات وما في الارض * وإلى الله ترجع الامور) * لما ذكر أحوال الكافرين والمؤمنين، وأنه يختص بعمل من آمن فيرحمهم به، ويختص بعمل من كفر فيعذبهم، نبه على أن هذا التصرف هو فيما يملكه، فلا اعتراض عليه تعالى. ودلت الآية على اتساع ملكه ومرجع الأمور كلها إليه، فهو غني عن الظلم، لأن الظلم إنما يكون فيما كان مختصا به عن الظالم. وتقدم شرح هاتين الجملتين فأغنى ذلك عن إعادته.
قالوا وتضمنت هذه الآيات الطباق: في تبيض وتسود، وفي اسودت وابيضت، وفي أكفرتم بعد إيمانكم، وفي بالحق وظلما. والتفصيل: في فأما وأما. والتجنيس:
المماثل في أكفرتم وتكفرون. وتأكيد المظهر بالمضمر في: ففي رحمة الله هم فيها خالدون. والتكرار: في لفظ الله. ومحسنه: أنه في جمل متغايرة المعنى، والمعروف في لسان العرب إذا اختلفت الجمل أعادت المظهر لا المضمر، لأن في ذكره دلالة على تفخيم الأمر وتعظيمه، وليس ذلك نظير.
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
29

لاتحاد الجملة. لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصدا للتفخيم. والإشارة في قوله: تلك، وتلوين الخطاب في فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم، والتشبيه والتمثيل في تبيض وتسود، إذا كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة والحذف في مواضع.
* (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) * قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وقد قال لهم بعض اليهود: ديننا خير مما تدعوننا إليه، ونحن خير وأفضل. وقيل: نزلت في المهاجرين. والذي يظهر أنها من تمام الخطاب الأول في قوله: * (مستقيم ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله) * وتوالت بعد هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواه، وكان قد استطرد من ذلك لذكر من يبيض وجهه ويسود، وشئ من أحوالهم في الآخرة، ثم عاد إلى الخطاب الأول فقال تعالى: كنتم خير أمة تحريضا بهذا الإخبار على الانقياد والطواعية. والظاهر أن الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولا وهم: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فتكون الإشارة بقوله: أمة إلى أمة معينة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم)، فالصحابة هم خيرها.
وقال الحسن ومجاهد وجماعة: الخطاب لجميع الأمة بأنهم خير الأمم، ويؤيد هذا التأويل كونهم * (شهداء على الناس) * وقوله: * (نحن * والسابقون السابقون) * الحديث وقوله: * (نحن) *.
وطاهر كان هنا أنها الناقصة، وخير أمة هو الخبر. ولا يراد بها هنا الدلالة على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك: كان زيد قائما، بل المراد دوام النسبة كقوله: * (على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) * * (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) * وكون كان تدل على الدوام ومرادفه لم يزل قولا مرجوحا، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على الانقطاع، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع. وقيل: كان هنا بمعنى صار، أي صرتم خير أمة. وقيل: كان هنا تامة، وخير أمة حال. وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة، لأن الزائدة لا تكون أول كلام، ولا عمل لها. وقال الزمخشري: كان عبارة عن وجود الشيء في من ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارىء. ومنه قوله تعالى: * (وكان الله غفورا) *.
ومنه قوله: كنتم خير أمة، كأنه قيل: وجدتم خير أمة انتهى كلامه. فقوله: أنها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق. فإذا قلت: كان زيد عالما بمعنى صار، دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم. وقوله: ولا على انقطاع طارىء قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع. وفرق بين الدلالة والاستعمال، ألا ترى أنك تقول: هذا اللفظ يدل على العموم؟ ثم تستعمل حيث لا يراد العموم، بل المراد الخصوص. وقوله: كأنه قال وجدتم خير أمة، هذا يعارض أنها مثل قوله: * (وكان الله غفورا رحيما) * لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة، وأن خير أمة حال. وقوله: وكان الله غفورا لا شك أنها هنا الناقصة فتعارضا. وقيل: المعنى: كنتم في علم الله. وقيل: في اللوح المحفوظ. وقيل: فيما أخبر به الأمم قديما عنكم. وقيل: هو على الحكاية، وهو متصل بقوله: * (ففى رحمة الله هم فيها خالدون) * أي فيقال لهم في القيامة: كنتم في الدنيا خير أمة، وهذا قول بعيد من سياق الكلام. وخير مضاف للنكرة، وهي أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها، وإن كانت جارية على جمع. والمعنى: أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها. وحكم عليهم بأنهم خير أمة، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي: سبقهم إلى الإيما برسول الله صلى الله عليه وسلم)، وبدارهم إلى نصرته، ونقلهم عنه علم الشريعة، وافتتاحهم البلاد. وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل. وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل
30

أجرها، لأنهم سبب في إيجادها، إذ هم الذين سنوها، وأوضحوا طريقها (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا.
ومعنى أخرجت: أظهرت وأبرزت، ومخرجها هو الله تعالى، وحذف للعلم به. وقال ابن عباس: أخرجت من مكة إلى المدينة، وهي جملة في موضع الصفة لأمة، أي خير أمة مخرجة، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة، فتكون في موضع نصب أي مخرجة. وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة، ولم يراع لفظ الخطاب. وهما طريقان للعرب، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب، ثم جاء بعده خبره إسما، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفا، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول: أنا رجل آمر بالمعروف، وأنت رجل تأمر بالمعروف. ومنه * (بل أنتم قوم تفتنون) * وأنك امرؤ فيك جاهلية:
* وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية
*
كأنك منها قاعد في جوالق
*
وتارة يراعى حال ذلك الاسم، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة. فتقول: أنا رجل يأمر بالمعروف، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف. ومنه: كنتم خير أمة
أخرجت ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربيا فصيحا. والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده. وظاهر قوله: للناس أنه متعلق بأخرجت. وقيل: متعلق بخير. ولا يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ، بل من موضع آخر. وقيل: بتأمرون، والتقدير تأمرون الناس بالمعروف. فلما قدم المفعول جر باللام كقوله: * (إن كنتم للرؤيا تعبرون) * أي تعبرون الرؤيا، وهذا فيه بعد. تأمرون بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من الله قاله: الربيع. أو مخرج الشرط في الخيرية، روى هذا المعنى عن: عمرو، ومجاهد، والزجاج. فقيل: هو مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم. وقال ابن عطية: تأمرون وما بعده أحوال في موضع نصب انتهى. وقاله الراغب: والاستئناف أمكن وأمدح. وأجاز الحوفي في أن يكون تأمرون خبرا بعد خبر، وأن كون نعتا لخير أمة. قيل: وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان، لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم، فليس المؤثر لحصول هذه الزيادة، بل المؤثر كونهم أقوى حالا في الأمر والنهي. وإنا الإيمان شرط للتأثير، لأنه ما لم يوجد لم يضر شيء من الطاعات مؤثرا في صفة الخيرية، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير. وإنما اكتفى بذكر الإيمان بالله عن الإيمان بالنبوة لأنه مستلزم له انتهى. وهو من كلام محمد بن عمر الرازي. وقال الزمخشري: جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا بالله، لأن من آمن ببعض، ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه، فكأنه غير مؤمن بالله. ويقولون: نؤمن ببعض الآية انتهى. وقيل: هو على حذف مضاف، أي وتؤمنون برسول الله. والظاهر في المعروف، والمنكر العموم. وقال ابن عباس: المعروف الرسول، والمنكر عبادة الأصنام. وقال أبو العالية: المعروف التوحيد، والمنكر الشرك.
* (ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم) * أي ولو آمن عامتهم
31

وسائرهم. ويعني الإيمان التام النافع. واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن كما يقول من صدق كان خيرا له، أي لكان هو، أي الإيمان. وعلق كينونة الإيمان خيرا لهم على تقدير حصوله توبيخا لهم مقرونا بنصحه تعالى لهم أن لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله. وخبر هنا أفعل التفضيل، والمعنى: لكان خيرا لهم مما هم عليه، لأنهم إما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا في الرئاسة واستتباع العوام، فلهم في هذا خط دنيوي. وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام، والحظ الأخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان من إيتائهم أجرهم مرتين. وقال ابن عطية: ولفظة خير صيغة تفضيل، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها انتهى كلامه. وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك، وقد أمكن إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة.
* (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) * ظاهر اسم الفاعل التلبس بالفعل، فأخبر تعالى أن من أهل الكتاب من هو ملتبس بالإيمان كعبد الله بن سلام، وأخيه، وثعلبة بن سعيد، ومن أسلم من اليهود. وكالنجاشي، وبحيرا، ومن أسلم من النصارى إذ كانوا مصدقين رسول الله صلى الله عليه وسلم) قبل أن يبعث وبعده. وهذا يدل على أن المراد بقوله: * (ولو ءامن أهل الكتاب) * الخصوص، أي باقي أهل الكتاب إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان. وقيل: المراد باسم الفاعل هنا الاستقبال. أي منهم من يؤمن، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب العموم، ويكون قوله: منهم المؤمنون إخبارا بمغيب وأنه سيقع من بعضهم الإيمان، ولا يستمرون كلهم على الكفر. وأخبر تعالى أن أكثرهم الفاسقون، فدل على أن المؤمنين منهم قليل. والألف واللام في المؤمنون وفي الفاسقون يدل على المبالغة والكمال في الوصفين، وذلك طاهر لأن من آمن بكتابه وبالقرآن فهو كامل في إيمانه، ومن كذب بكتابه إذ لم يتبع ما تضمنه من الإيمان برسول الله، وكذب بالقرآن فهو أيضا كامل في فسقه متمرد في كفره.
* (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون) * هاتان الجملتان تضمنتا الأخبار بمعنيين مستقبلين وهو: إن ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى، أي شيئا تتأذون به، لا ضررا يكون فيه غلبة واستئصال. ولذلك إن قاتلوكم خذلوا ونصرتم، وكلا هذين الأمرين وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ما ضرهم أحد من أهل الكتاب ضررا يبالون به، ولا قصدوا جهة كافر إلا كان لهم النصر عليهم والغلبة لهم.
والظاهر أن قوله: إلا أذى استثناء متصل، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف التقدير: لن يضروكم ضررا إلا ضررا يسيرا لا نكاية فيه، ولا إجحاف لكم. وقال الفراء والزجاج والطبري وغيرهم: هو استثناء منقطع، والتقدير: لن يضروكم لكن أذى باللسان، فقيل: هو سماع كلمة الكفر. وقيل: هو بهتهم وتحريفهم. وقيل: موعد وطعن. وقيل: كذب يتقولونه على الله قاله: الحسن، وقتادة.
ودلت هذه الجملة على ترغيب المؤمنين في تصلبهم في دينهم وتثبيتهم عليه، وعلى تحقير شأن الكفار، إذ صاروا ليس لهم من ضرر المسلمين شيء إلا ما يصلون إليه من إسماع كلمة بسوء.
* (وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار) *، هذه مبالغة في عدم مكافحة الكفار للمؤمنين إذا أرادوا قتالهم، بل بنفس ما تقع المقابلة ولوا الأدبار، فليسوا ممن يغلب ويقتل وهو مقبل على قرنه غير مدبر عنه. وهذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها، إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين، لأن حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه، أو النصر المستمد من الله، وكلاهما ليس لهم. وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور، لما في ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب. ولذلك ورد في القرآن مستعملا دون لفظ الظهور لقوله تعالى: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * * (ومن يولهم يومئذ دبره) * ثم لا ينصرون: هذا استئناف أخبار أنهم لا ينصرون أبدا. ولم يشرك في الجزاء فيجزم، لأنه ليس مرتبا على الشرط، بل التولية مترتبة على
32

المقاتلة. والنصر منفى عنهم أبدا سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، إذ منع النصر سببه الكفر. فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء، كما أن جملة الشرط والجزاء
معطوفة على لن يضروكم إلا أذى. وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط. قال:
وثم للتراخي، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط. والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ، لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام. قال تعالى: * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) * فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط. وثم هنا ليست للمهلة في الزمان، وإنما هي للتراخي في الإخبار. فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسر للنفس. ثم أخبر بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقا. وقال الزمخشري: التراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الإدبار. (فإن قلت): ما موقع الجملتين، أعني منهم: المؤمنون ولن يضروكم؟ (قلت): هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاء من غير عاطف.
* (ضربت عليهم الذلة) * تقدم شرح هذه الجملة، وهي وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام. قال الحسن: جاء الإسلام والمجوس تجبي اليهود الجزية، وما كانت لهم غيرة ومنعه إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض، فأزالها بالإسلام ولم تبق لهم راية في الأرض.
* (أينما ثقفوا) * عام في الأمكنة. وهي شرط، وما مزيدة بعدها، وثقفوا في موضع جزم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال: ضربت هو الجواب، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلة مستقبلا. وعلى الوجه الأول هو ماض يدل على المستقبل، أي ضربت عليهم الذلة، وحيثما ظفر بهم ووجدوا تضرب عليهم، ودل ذكر الماضي على المستقبل، كما دل في قول الشاعر:
* وندمان يزيد الكأس طيبا
*
سقيت إذا تغورت النجوم
*
التقدير: سقيت، وأسقية إذا تغورت النجوم.
* (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * هذا استثناء ظاهره الانقطاع، وهو قول: الفراء، والزجاج. واختيار ابن عطية، لأن الذلة لا تفارقهم. وقدره الفراء: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف ما يتعلق به الجار كما قال: حميد بن نور الهلالي:
رأتني بحبليها فصدت مخافة
ونظره ابن عطية بقوله تعالى: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا) * قال: لأن بادىء الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ. وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك. وإنما في الكلام محذوف يدركه فهم السامع الناظر في الأمر وتقديره: في أمتنا، فلا نجاة من الموت إلا بحبل. نتهى كلامه. وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعا، لأنه مستثنى من جملة مقدرة وهي قوله: فلا نجاة من الموت، وهو متصل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعا من الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعا متصلا. والاستثناء المنقطع كما قرر في علم النحو على قسمين منه: ما يمكن أن يتسلط عليه العامل، ومنه ما لا يمكن فيه ذلك، ومنه هذه الآية. على تقدير الانقطاع، إذ التقدير: لكن اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ينجيهم من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال أموالهم. ويدل على أنه منقطع الأخبار بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة: * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) * فلم يستثن
33

هناك. وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال: وهو استثناء من أعم عام الأحوال، والمعنى: ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس، يعني: ذمة الله وذمة المسلمين. أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية انتهى كلامه. وهو متجه وشبه العهد بالحبل لأنه يصل قوما بقوم، كما يفعل الحبل في الإجرام. والظاهر في تكرار الحبل أنه أريد حبلان، وفسر حبل الله بالإسلام، وحبل الناس بالعهد والذمة. وقيل: حبل الله هو الذي نص الله عليه من أخذ الجزية. والثاني: هو الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد. وقيل: المراد حبل واحد، إذ حبل المؤمنين هو حبل الله وهو العهد.
* (وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذالك بأنهم كانوا يكفرون بئايات الله ويقتلون الانبياء بغير حق ذالك بما عصوا) * تقدم تفسير نظائر هذه الجمل فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
2 (* (ليسوا سوآء من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون ءايات الله ءانآء اليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الا خر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون فى الخيرات وأولائك من الصالحين * وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين * إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * مثل ما ينفقون فى هاذه الحيواة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولاكن أنفسهم يظلمون * ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضآء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الا يات إن كنتم تعقلون * هآأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا ءامنا وإذا خلوا عضوا عليكم الا نامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط) *)) 2
الآناء: الساعات. وفي مفردها لغات أني كمعي، وأني كفتى، وأني كنحي، وأتى كظبي، وانو كجرو
34

الصر: البرد الشديد المحرق. وقيل: البارد بمعنى الصرصر كما قال:
* لا تعدلن إناء بين تضر بهم
*
نكباء ضر بأصحاب المحلات
*
وقالت ليلى الأخيلية:
* ولم يغلب الخصم الألد ويملأ
*
الجفان سديفا يوم منكباء صرصر
*
وقال ابن كيسان: هو صوت لهب النار، وهو اختيار الزجاج من الصرير. وهو الصوت من قولهم: صر الشيء، ومنه الريح الصرصر. وقال الزجاج: والصر صوت النار التي في الريح.
البطانة في الثوب بإزاء الظهارة، ويستعار لمن يختصه الإنسان كالشعار والدثار. يقال: بطن فلان من فلان بطونا وبطانة إذا كان خاصا به، داخلا في أمره. وقال الشاعر:
* أولئك خلصاني نعم وبطانتي
*
وهم عيبتي من دون كل قريب
*
ألوت في الأمر: قصرت فيه. قال زهير:
* سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم
*
فلم يفعلوا ولم يليموا لم يألووا
*
أي لم يقصروا. الخبال والخبل: الفساد الذي يلحق الحيوان. يقال: في قوائم الفرس خبل وخبال أي فساد من جهة الاضطراب. والخبل والجنون. ويقال: خبله الحب أي أفسده.
البغضاء: مصدر كالسراء والبأساء يقال: بغض الرجل فهو بغيض، وأبغضته أنا اشتدت كراهتي له.
الأفواه معروفة، والواحد منها في الأصل فوه. ولم تنطق به العرب بل قالت: فم. وفي الفم لغات تسع ذكرت في بعض كتب النحو.
العض: وضع الأسنان على الشيء بقوة، والفعل منه على فعل بكسر العين، وهو بالضاد. فأماعظ الزمان وعظ الحرب فهو بالظاء أخت الطاء قال:
* وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
*
من المال إلا مسحتا أو مجلف
*
والعض بضم العين علف أهل الأمصار مثل: الكسب والنوى المرضوض: يقال منه: أعض القوم إذا أكل
35

إبلهم العض. وبعير عضاضي أي سمين، كأنه منسوب إليه. والعض بالكسر الداهية من الرجال.
الأنامل جمع أنملة، ويقال: بفتح الميم وضمها، وهي أطراف الأصابع. قال ابن عيسى: أصلها النمل المعروف، وهي مشبهة به في الدقة والتصرف بالحركة. ومنه رجل نمل: أي نمام.
الغيض: مصدر غاضة، وغيض اسم علم.
الفرح: معروف يقال منه: فرح بكسر العين.
الكيد: المكر كاده يكيده مكر به. وهو الاحتيال بالباطل. قال ابن قتيبة: وأصله المشقة من قولهم: فلان يكيد بنفسه، أي يعالج مشقات النزع وسكرات الموت.
* (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) * سببت النزول إسلام عبد الله بن سلام وغيره من اليهود، وقول الكفار من أحبارهم: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا خيارا ما تركوا دين آبائهم قاله: ابن عباس، وقتادة، وابن جريج. والواو في ليسوا هي لأهل الكتاب السابق ذكرهم في قوله: * (ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) * والأصح: أن الواو ضمير عائد على أهل الكتاب، وسواء خبر ليس. والمعنى: ليس أهل الكتاب مستوين، بل منهم من آمن بكتابه وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام، أو كان على استقامة فمات قبل أن يدركها.
ومن أهل الكتاب أمة قائمة: مبتدأ وخبر. وقال الفراء: أمة مرتفعة بسواء، أي ليس أهل الكتاب مستويا من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة، فحذفت هذه الجملة المعادلة، ودل عليها القسم الأول كقوله:
* عصيت إليها القلب إني لأمره
*
سميع فما أدري أرشد طلابها
*
التقدير: أم غي فحذف لدلالة أرشد وقال:
* أراك فما أدري أهم ضممته
*
وذو الهم قدما خاشع متضائل
*
التقدير: أم غيره. قال الفراء: لأن المساواة تقتضي شيئين: سواء العاكف فيه والبادي سواء محياهم ومماتهم. ويضعف قول الفراء من حيث الحذف. ومن حذف وضع الظاهر موضع المضمر، إذ التقدير: ليس أهل الكتاب مستويا منهم أمة قائمة كذا، وأمة كافرة. وذهب أبو عبيدة: إلى أن الواو في ليسوا علامة جمع لا ضمير مثلها، في قول الشاعر:
* يلومونني في شراء النخي
*
ل قومي وكلهم ألوم
*
واسم ليس: أمة قائمة، أي ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكروا أمة كافرة.
قال ابن عطية: وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود انتهى. ولم يبين جهة الخطأ، وكأنه توهم أن اسم ليس هو أمة قائمة فقط، وأنه لا محذوف. ثم إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية، فإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردودا. قيل: وما قاله أبو عبيدة هو على لغة أكلوني البراغيث، وهي لغة رديئة والعرب على خلافها، فلا يحمل عليها مع ما فيه من مخالفة الظاهر
36

انتهى. وقد نازع السهيلي النحويين في قولهم: إنها لغة ضعيفة، وكثيرا ما جاءت في الحديث. والإعراب الأول هو الظاهر. وهو: أن يكون من أهل الكتاب أمة قائمة مستأنف بيان لانتفاء التسوية كما جاء * (يأمرون بالمعروف) * بيانا لقوله: * (كنتم خير أمة) * والمراد بأهل الكتاب واليهود والنصارى.
وأمة قائمة أي مستقيمة من أقمت العود فقام، أي استقام. قال مجاهد والحسن وابن جريج: عادلة. وقال ابن عباس وقتادة والربيع: قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية. وقال السدي: قانتة مطيعة، وكلها راجع للقول الأول.
وقال ابن مسعود والسدي: الضمير في ليسوا عائد على اليهود. وأمة محمد صلى الله عليه وسلم) إذ تقدم ذكر اليهود وذكر هذه الأمة في قوله: (كنتم خير أمة). والكتاب على هذا القول جنس كتب الله، وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط. والمراد بقوله: من أهل الكتاب أمة قائمة أهل القرآن. والظاهر عود الضمير على أهل الكتاب المذكورين في قوله: * (ولو ءامن أهل الكتاب) * لتوالي الضمائر عائدة عليهم فكذلك ضمير ليسوا. وقال عطاء: من أهل الكتاب أمة قائمة الآية يريد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى وصدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم). وكان ناس من الأنصار موحدين ويغتسلون من الجنابة، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم)، حتى جاءهم منه أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وقيس بن صرمة بن أنس. * (يتلون ءايات الله ءاناء اليل وهم يسجدون) * وصف الأمة القائمة بأنها تالية آيات الله، وعبر بالتلاوة في ساعات الليل عن التهجد بالقرآن. وقوله: وهم يسجدون جملة في موضع الصفة أيضا معطوفة على يتلون، وصفهم بالتلاوة للقرآن وبالسجود. فتلاوة القرآن في القيام، وأما السجود فلم تشرع فيه التلاوة. وجاءت الصفة الثانية اسمية لتدل على التوكيد بتكرر الضمير وهو هم، والواو في يسجدون إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. وأخبر عن المبتدأ بالمضارع، وجاءت الصفة الأولى بالمضارع أيضا لتدل على التجدد، وعطفت الثانية على الأولى بالواو لتشعر بأن تلك التلاوة كانت في صلاة، فلم
تكن التلاوة وحدها ولا السجود وحده.
وظاهر قوله: آناء الليل أنها جميع ساعات الليل. فيبعد صدور ذلك أعني التلاوة والسجود من كل شخص شخص، وإنما يكون ذلك من جماعة إذ بعض الناس يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات استيعاب ساعات الليل بالقيام في تلاوة القرآن والسجود، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة. وعرف الناس القيام في أول الثلث الأخير من الليل، أو قبله بقليل، والقائم طول الليل قليل، وقد كان في الصالحين من يلتزمه، وقد ذكر الله القصد في ذلك في أول المزمل. وآناء الليل: ساعاته قاله الربيع وقتادة وغيرهما. وقال السدي: جوفه وهو من إطلاق الكل على الجزء، إذ الجوف فرد من الجمع. وعن منصور: أنها نزلت في المصلين بين العشاءين، وهو مخالف لظاهر قوله: * (يتلون ءايات الله ءاناء اليل) *. وعن ابن مسعود: أنها صلاة العتمة. وذكر أن سبب نزولها هو احتباك النبي صلى الله عليه وسلم) في صلاة العتمة وكان عند
37

بعض نسائه فلم يأت حتى مضى الليل، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع فقال: (أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة) ولهذا السبب ذكر ابن مسعود أن قوله: ليسوا سواء عائد على اليهود وهذه الأمة، وهو خلاف الظاهر. والظاهر من قوله: وهم يسجدون أنه أريد به السجود في الصلاة. وقيل: عبر بالسجود عن الصلاة تسمية للشيء بجزء شريف منه، كما يعبر عنها بالركوع قاله: مقاتل، والفراء، والزجاج. لأن القراءة لا تكون في الركوع ولا في السجود، فعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال، أي يتلون آيات الله متلبسين بالصلاة. وقيل: سجود التلاوة. وقيل: أريد بالسجود الخشوع والخضوع. وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة معطوفة من الكلام الأول، أخبر عنهم أيضا أنهم أهل سجود، ويحسنه أن كانت التلاوة في غير صلاة. ويكون أيضا على هذا التأويل في غير صلاة نعتا عدد بواو العطف، كما تقول: جاءني زيد الكريم والعاقل. وأجاز بعضهم في قوله: وهم يسجدون أن يكون حالا من الضمير في قائمة، وحالا من أمة، لأنها قد وصفت بقائمة. فتلخص في هذه الجملة قولان: أحدهما: أنها لا موضع لها من الإعراب، بأن تكون مستأنفة. والقول الآخر: أن يكون لها موضع من الإعراب ويكون رفعا بأن يكون في موضع الصفة، أو بأن يكون نصبا بأن يكون في موضع الحال، إما من الضمير في يتلون، أو من الضمير في قائمة، أو من أمة. ودلت هذه الآية على الترغيب في قيام الليل، وقد جاء في كتاب الله: * (ومن اليل فتهجد به نافلة لك) * * (أمن هو قانت ءاناء اليل ساجدا وقائما) * * (عددا يأيها المزمل قم اليل) *. وفي الحديث: (يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فتركه وقبله، نعم الرجل عبد الله إلا أنه لا يقوم من الليل) وغير ذلك كثير. وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال: إنا نجد كلاما من كلام الرب عز وجل: أيحسب راعي إبل وغنم إذا جنه الليل انجدل كمن هو قائم وساجد الليل.
* (يؤمنون بالله واليوم * والاخر * ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) * تقدم تفسير مثل هذه الجمل.
* (ويسارعون فى الخيرات) * المسارعة في الخير ناشئة عن فرط الرغبة فيه، لأن من رغب في أمر بادر إليه وإلى القيام به، وآثر الفور على التراخي. وجاء في الحديث: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك).
وصفهم تعالى بأنهم إذا دعوا إلى خير من نصر مظلوم، وإغاثة مكروب، وعبادة الله، بادروا إلى فعله. والظاهر في يؤمنون أن يكون صفة أي تالية مؤمنة. وجوزوا أن تكون الجملة مستأنفة، أو في موضع الحال من الضمير في يسجدون، وأن تكون بدلا من السجود. قيل: لأن السجود بمعنى الإيمان. قال الزمخشري: وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين، ومن الإيمان بالله، لأن إيمانهم به كلا إيمان، لإشراكهم به عزيرا وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض، ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها انتهى لامه. وهو حسن. ولما ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست: إحداها: أنها قائمة، أي مستقيمة على النهج القويم. ولما كانت الاستقامة وصفا ثابتا لها لا يتغير جاء باسم الفاعل. الثانية: الصلاة بالليل المعبر عنها بالتلاوة والسجود، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة الله بالليل. الثالثة: الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم الآخر لأن فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل. وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء،
38

إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه، فصار الإيمان به واجبا.
الرابعة: الأمر بالمعروف.
الخامسة: النهي عن المنكر، لما كملوا في أنفسهم سعوا في تكميل غيرهم بهذين الوصفين.
السادسة: المسارعة في الخيرات. وهي صفة تشمل أفعالهم المختصة بهم، والأفعال المتعدية منهم إلى غيرهم. وهذه الصفات الثلاثة ناشئة أيضا عن الإيمان، فانظر إلى حسن سياق هذه الصفات حيث توسط الإيمان، وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل، وتأخرت عنه الصفتان المتعديتان والصفة المشتركة، وكلها نتائج عن الإيمان.
* (وأولئك من الصالحين) * هذه إشارة إلى من جمع هذه الصفات الست، أي وأولئك الموصوفون بتلك الأوصاف من الذين صلحت أحوالهم عند الله. قال الزمخشري: ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين انتهى. ويشبه قوله قول ابن عباس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم). وفيما قاله الزمخشري بعد بل: الظاهر أن في الوصف بالصلاح زيادة على الوصف بالإسلام، ولذلك سأل هذه الرتبة بعض الأنبياء فقال تعالى حكاية عن سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: * (وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين) * وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: * (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه فى الاخرة لمن الصالحين) * وقال تعالى: * (
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين) * وقال تعالى بعد ذكر إسماعيل: * (وإدريس * وذى * الكفل كل من الصابرين * وأدخلناهم فى رحمتنا إنهم من الصالحين) *. وقال: * (والشهداء والصالحين) * ومن للتبعيض. وقال ابن عطية: ويحسن أن تكون لبيان الجنس انتهى. ولم يتقدم شيء فيه إبهام فيبين جنسه.
* (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) * قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو بكر بالتاء فيهما على الخطاب، واختلفوا في المخاطب. فقال أبو حاتم: هو مردود إلى قوله: * (كنتم خير أمة) * فيكون من تلوين الخطاب ومعدوله. وقال مكي: التاء فيها عموم لجميع الأمة. والذي يظهر أنها التفات إلى قوله: أمة قائمة، لما وصفهم بأوصاف جليلة اقبل عليهم تأنيسا لهم واستعطافا عليهم، فخاطبهم بأن ما تفعلون من الخير فلا تمنعون ثوابه. ولذلك اقتصر على قوله: من خير، لأنه موضع عطف عليهم وترحم، ولم يتعرض لذكر الشر. ومعلوم أن كل ما يفعل من خير وشر يترتب عليه موعوده. ويؤيد هذا الالتفات وأنه راجع إلى أمة قائمة قراءة الياء، وهي قراءة: ابن عباس، وحمزة، والكسائي، وحفص، وعبد الوارث عن أبي عمرو، واختيار أبي عبيد، وباقي رواة أبي عمرو، خير بين التاء والياء، ومعلوم في هذه القراءة، ومعلوم في هذه القراءة أن الضمير عائد على أمة قائمة، كما عاد في قوله تعالى: يتلون وما بعده. وكفر: يتعدى إلى واحد، يقال: كفر النعمة، وهنا ضمن معنى حرم، أي: فلن تحرموا ثوابه، ولما جاء وصفه تعالى بأنه شكور في معنى توفية الثواب، نفى عنه تعالى نقيض الشكر وهو كفر الثواب، أي حرمانه.
* (والله عليم بالمتقين) * لما كانت الآية واردة فيمن اتصف بالأوصاف الجميلة، وأخبر تعالى أنه يثيب على فعل الخير ناسب ختم الآية بذكر علمه بالمتقين، وإن كان عالما بالمتقين وبضدهم. ومعنى عليم بهم: أنه مجازيهم على تقواهم، وفي ذلك وعد للمتقين، ووعيد للمفرطين.
* (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) * تقدم تفسير هذه الجملة في أوائل هذه السورة.
* (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * تقدم تفسير نظير هذه الجملة في أوائل البقرة، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة. وأنه لما ذكر شيئا من أحوال المؤمنين ذكر شيئا من أحوال الكافرين ليتضح الفرق بين القبيلين.
* (مثل ما
39

ينفقون فى هاذه الحيواة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) * لما ذكر تعالى أن ما فعله المؤمنون من الخير فإنهم لا يحرمون ثوابه، بل يجنون في الآخرة ثمرة ما غرسوه في الدنيا، أخذ في بيان نفقة الكافرين، فضرب لها مثلا اقتضى بطلانها وذهابها مجانا بغير عوض. قال مجاهد: نزلت في نفقات الكفار وصدقاتهم. وقال مقاتل: في نفقات سفلة اليهود على علمائهم. وقيل: في نفقة المشركين يوم بدر. وقيل: في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين. قال الزمخشري: شبه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله بالزرع الذي حسه البرد فصار حطاما. وقيل: هو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم. وقيل: ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله انتهى.
وقال ابن عطية: معناه المثال القائم في النفس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثا، ومن حبطة يوم القيامة وكونه هباء منثورا، وذهابه كالمثال القائم في النفس. من زرع قوم نبت واخصر وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح صر محرق فأهلكته انتهى. والظاهر أن ما في قوله: مثل ما ينفقون موصولة، والعائد محذوف، أي ينفقونه. والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح، والمعنى: تشبيهه بالحرث. فقيل: هو من التشبيه المركب لم يقابل فيه الإفراد بالإفراد، وقد مر نظيره في قوله تعالى: * (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا) * ولذلك قال ثعلب: بدأ بالريح، والمعنى على الحرث، وهو اختيار الزمخشري. وقيل: وقع التشبيه بين شيئين وشيئين، وذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر، ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر، ودل المذكوران على المتروكين. وهذا اختيار ابن عطية. قال: وهذه غاية البلاغة والإعجاز، ومثل ذلك قوله تعالى: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق) * انتهى. ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره: مثل مهلك ما ينفقون. أو من الثاني تقديره: كمثل مهلك ريح. وقيل: يجوز أن تكون ما مصدرية، أي مثل إنفاقهم، فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس، إذ شبه الإنفاق بالريح. وظاهر قوله: ينفقون أنه من نفقة المال. وقال السدي: معناه ينفقون من أقوالهم التي يبطنون ضدها. ويضعف هذا أنها في الكفار الذين يعلنون لا في المنافقين الذين يبطنون. وقيل: متعلق الإنفاق هو أعمالهم من الكفر ونحوه، هي كالريح التي فيها صر أبطلت أعمالهم كل ما لهم من صلة رحم وتحنث بعتق، كما يبطل الريح الزرع. قال ابن عطية: وهذا قول حسن، لولا بعد الاستعارة في الإنفاق انتهى. وقال الراغب: ومنهم من قال: ما ينفقون عبارة عن أعمالهم كلها، لكنه خص الإنفاق لكونه أظهروا أكثر انتهى.
وقرأ ابن هرمز والأعرج: تنفقون بالتاء على معنى قل لهم، وأفرد ريحا لأنها مختصة بالعذاب، كما أفردت في قوله: * (بل هو ما استعجلتم به ريح) * ولئن أرسلنا ريحا إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا الريح العقيم. كما أن الجمع مختص بالرحمة أن يرسل الرياح مبشرات) * * (*) * * (وأرسلنا الرياح لواقح) * * (يرسل الرياح بشرا) * ولذلك روي: * (اللهم * بئاياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحا) * وارتفاع صر على أنه فاعل بالمجرور قبله، إذ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح. فإن كان الصر البرد وهو قول: ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، أو
40

صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة. فظاهر كون ذلك في الريح. وإن كان الصر صفة للريح كالصرصر، فالمعنى فيها قرة صر كما تقول: برد بارد، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه. أو تكون الظرفية مجازا جعل الموصوف ظرفا للصفة. كما قال: وفي الرحمن كاف للضعفاء. وقولهم: إن ضيعني فلان ففي الله كاف. المعنى الرحمن كاف، والله كاف. وهذا فيه بعد.
وقوله: أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح. بدأ أولا بالوصف بالمجرور، ثم بالوصف بالجملة. وقوله: ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم. وظاهره
أنهم ظلموا أنفسهم بمعاصيهم، فكان الإهلاك أشد إذ كان عقوبة لهم.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن مصائب الدنيا إنما هي بمعاصي العبد. ويستنبط ذلك من غير ما آية في القرآن، فيستقيم على ذلك أن كل حرث تحرقه الريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه. وقيل: ظلموا أنفسهم معناه زرعوا في غير أوان الزراعة، أي وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل. وخص هؤلاء بالذكر لأن الحرث فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكنا، ونحا إلى هذا القول المهدوي.
* (وما ظلمهم الله) * جوز الزمخشري وغيره أن يعود الضمير على المنفقين، أي: ما ظلمهم بأن لم تقبل نفقاتهم. وأن يعود على أصحاب الحرث أي: ما ظلمهم بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي. وقال ابن عطية: الضمير في ظلمهم للكفار الذين تقدم ضميرهم في ينفقون، وليس هو للقوم ذوي الحرث، لأنهم لم يذكروا ليرد عليهم، ولا لتبين ظلمهم. وأيضا قوله: * (ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
يدل على فعل الحال في حاضرين انتهى. وهو ترجيح حسن. وقرئ شاذا: ولكن بالتشديد، واسمها أنفسهم، والخبر يظلمون. والمعنى: يظلمونها هم. وحسن حذف هذا الضمير، وإن كان الحذف في مثله قليلا كون ذلك فاصلة رأس آية، فلو صرح به لزال هذا المعنى. ولا يجوز أن يعتقد أن اسم لكن ضمير الشأن. وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون، لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر.
* (يظلمون ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) * نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من يهود للجوار والحلف والرضاع قاله: ابن عباس. وقال أيضا هو وقتادة والسدي والربيع: نزلت في المنافقين. نهى الله المؤمنين عنهم شبه الصديق الصدق بما يباشر بطن الإنسان من ثوبه. يقال: له بطانة ووليجة. وقوله: من دونكم في موضع الصفة لبطانة، وقدره الزمخشري: من دون أبناء جنسكم، وهم المسلمون. وقيل: يتعلق من بقوله: لا تتخذوا. وقيل: من زائدة، أي بطانة دونكم. والمعنى: أنهم نهوا أن يتخذوا أصفياء من غير المؤمنين. ودل هذا النهي على المنع من استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستبانه إليهم. وقد عتب عمر أبا موسى على استكتابه ذميا، وتلا عليه هذه الآية. وقد قيل لعمر في كاتب مجيد من نصارى الحيرة: ألا يكتب عنك؟ فقال: إذن أتخذ بطانة.
والجملة من قوله: * (لا يألونكم خبالا) * لا موضع لها من الإعراب، إذ جاءت بيانا لحال البطانة الكافرة، هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة. ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به من، فبعيد عن فهم الكلام الفصيح. لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة، ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين، وودادة مشقتهم، وظهور بغضهم. والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند
41

انتفائهما. وألا متعد إلى واحد بحرف الجر، يقال: ما ألوت في الأمر أي ما قصرت فيه. وقيل: انتصب خبالا على التمييز المنقول من المفعول، كقوله تعالى: * (وفجرنا الارض عيونا) * التقدير: لا يألونكم خبالكم، أي في خبالكم. فكان أصل هذا المفعول حرف الجر. وقيل: انتصابه على إسقاط حرف، التقدير: لا يألونكم في تخبيلكم. وقيل: انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال. قال ابن عطية: معناه لا يقصرون لكم لكم فيما فيه الفساد عليكم. فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير على إسقاط اللام، وللخبال على إسقاط في. وقال الزمخشري: يقال: ألا في الأمر يألو إذا قصر فيه، ثم استعمل معدي إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا، على التضمين. والمعنى: لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه انتهى.
* (ودوا ما عنتم) * قال ابن جرير: ودوا إضلالكم. وقال الزجاج: مشقتكم. وقال الراغب: المعاندة والمعانتة يتقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة أن تتحرى مع الممانعة المشقة انتهى. ويقال: عنت بكسر النون، وأصله انهياض العظم بعد جبره. وما في قوله: ما عنتم مصدرية، وهذه الجملة مستأنفة كما قلنا في التي قبلها. وجوزوا أن يكون نعتا لبطانة، وحالا من الضمير في يألونكم، وقد معه مرادة.
* (قد بدت البغضاء من أفواههم) * وقرأ عبد الله: قد بدا، لأن الفاعل مؤنث مجازا أو على معنى البغض، أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم. وذكر الأفواه دون الألسنة إشعارا بأن ما تلفظوا به يملأ أفواههم، كما يقال: كلمة تملأ الفم إذا تشدق بها. وقيل: المعنى لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين انتهى.
ولما ذكر تعالى ما انطووا عليه من ودادهم عنت المؤمنين، وهو إخبار عن فعل قلبي، ذكر ما أنتجه ذلك الفعل القلبي من الفعل البدني، وهو: ظهور البغض منهم للمؤمنين في أقوالهم، فجمعوا بين كراهة القلوب وبذاذة الألسن. ثم ذكر أن ما أبطنوه من الشر والإيذاء للمؤمنين والبغض لهم أعظم مما ظهر منهم فقال:
* (وما تخفى صدورهم أكبر) * أي أكثر مما ظهر منها. والظاهر أن بدو البغضاء منهم هو للمؤمنين، أي اظهروا للمؤمنين البغض. وقال قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضا على ذلك. وقيل: بدت بإقرارهم بعد الجحود، وهذه صفة المجاهر. وأسند الإخفاء إلى الصدور مجازا، إذ هي محال القلوب التي تخفي كما قال: * (فإنها لا تعمى الابصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) *.
* (قد بينا لكم الايات) * أي الدالة على وجوب الإخلاص في الدين، وموالاة المؤمنين، ومعاداة الكفار.
* (إن كنتم تعقلون) * أي ما بين لكم فعملتم به، أو إن كنتم عقلاء وقد علم تعالى أنهم عقلاء، لكن علقه على هذا الشرط على سبيل الهز للنفوس كقولك: إن كنت رجلا فافعل كذا. وقال ابن جرير: معناه إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه. وقيل: إن كنتم تعقلون فلا تصافوهم، بل عاملوهم معاملة الأعداء. وقيل: معنى إن معنى إذ أي إذ كنتم عقلاء.
* (هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله) * تقدم لنا الكلام على نظيرها، أنتم أولاء في قوله: * (هأنتم هاؤلاء حاججتم) * قراءة وإعرابا. وتلخيصه هنا أن يكون أولاء خبرا عن أنتم، وتحبونهم مستأنف أو حال أو صلة، على أن يكون أولاء موصولا أو خبرا لأنتم، وأولاء منادا، أو يكون أولاء مبتدأ ثانيا، وتحبونهم خبر عنه، والجملة خبر عن الأول. أو يكون أولاء في موضع نصب نحو: أنا زيدا ضربته، فيكون من الاشتغال. واسم الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه أنتم، لأن أنتم خطاب للمؤمنين، وأولاء إشارة إلى الكافرين. وفي الأوجه السابقة مدلوله ومدلول أنتم واحد. وهو: المؤمنون. وعلى تقدير الاستئناف في تحبونهم، لا ينعقد مما قبله مبتدأ وخبر إلا بإضمار وصف تقديره: أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير المؤمنين إذ تحبونهم ولا يحبونكم. بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون المحبة لمن يبغضهم،
42

وضمير المفعول في تحبونهم قالوا لمنافقي اليهود. وفي الزمخشري: لمنافقي أهل الكتاب. والذي يظهر أنه عائد على بطانة من دون المؤمنين، فهو كل منافق حتى منافق المشركين.
والمحبة هنا: الميل بالطبع لموضع القرابة والرضاع والحلف قاله ابن عباس. أو لأجل إظهار الإيمان والإحسان إلى المؤمنين قاله: أبو العالية: أو الرحمة لهم لما يقع منهم من المعاصي قاله: قتادة. أو إرادة الإسلام لهم قاله: المفضل والزجاج. وهذا ليس بجيد، لأنه لا يقع توبيخ على معنى إرادة إسلام الكافر، أو المصافاة، لأنها من ثمرة المحبة.
وتؤمنون بالكتاب كله، الكتاب: اسم جنس، أي بالكتب المنزلة قاله: ابن عباس. والتوراة والإنجيل أو التوراة أقوال ثلاثة، وثم جملة محذوفة تقديرها: ولا تؤمنون به كله بل يقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض. يدل عليها إثبات المقابل في تحبونهم ولا يحبونكم. والواو في وتؤمنون للعطف على تحبونهم، فلها من الإعراب ما لها. وقال الزمخشري: والواو في وتؤمنون للحال، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم. والحال: إنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحوه. فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون انتهى كلامه وهو حسن. إلا أنه فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه، وهو: أنه جعل الواو في وتؤمنون للحال، وأنها منتصبة من لا يحبونكم. والمضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال تقول: جاء زيد يضحك، ولا يجوز ويضحك. فأما قولهم: قمت وأصك عينه ففي غاية الشذوذ. وقد أول على إضمار مبتدأ أي قمت وأنا أصك عينه، فتصير الجملة اسمية. ويحتمل هذا التأويل هنا، أي: ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف. قال ابن عطية: وتؤمنون بالكتاب كله يقتضي أن الآية في منافقي اليهود، لا منافقي العرب. ويعترضها: أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن، كما كان المنافقون من العرب، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيف القينقاعي. فلم يبق إلا أن قولهم: آمنا، معناه صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم. أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وأخوانكم لا نضمر لكم إلا المودة، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة. وهذا منزع قد حفظ أن كثيرا من اليهود كان يذهب إليه. ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم: آمنا غض الأنامل من الغيظ، وليس فيه ما يقتضي الارتداد كما في قوله: * (وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) * بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة. وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الأباضية. وهذه الصفة قد تترتب في أهل البدع من الناس إلى يوم القيامة انتهى كلامه. وما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن إلا ما روي من أمر زيد فيه نظر، فإنه قد روى أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك، ذكره البيهقي وغيره. ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك مذمة لهم بذلك، إذ وجد ذلك في جنسهم. وكثيرا ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة، ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره) *.
43

* (وإذ لقوكم قالوا آمنا) * هذا الإخبار جرى على منازعتهم في التوراة والستر والخبث، إذ لم يذكروا متعلق الإيمان، ولكنهم يوهمون المؤمنين بهذا اللفظ أنهم مؤمنون.
* (وإذا خلوا) * أي خلا بعضهم ببعض وانفردوا دونكم. والمعنى: خلت مجالسهم، منكم، فأسند الخلو إليهم على سبيل المجاز.
* (عضوا عليكم الانامل من الغيظ) * وظاهره فعل ذلك، وأنه يقع منهم عض الأنامل لشدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون. ومنه قول أبي طالب:
* وقد صالحوا قوما علينا أشحة
*
يعضون عضا خلفنا بالأباهم
*
وقال الآخر:
* إذا رأوني أطال الله غيظهم
*
عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم
*
وقال الآخر:
* وقد شهدت قيس فما كان نصرها
*
قتيببة إلا عضها بالأباهم
*
وقال الحرث بن ظالم المري:
* وأقتل أقواما لئاما أذلة
*
يعضون من غيظ رؤوس الأباهم
*
ويوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام. وهذا العض هو بالأسنان، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغاضبة. كما أن ضرب اليد على اليد يتبع هيئة النفس المتلهفة على فائت قريب الفوت. وكما أن قرع السن هيئة تتبع هيئة النفس النادمة، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه. ويحتمل أن لا يكون ثم عض أنامل، ويكون ذلك من مجاز التمثيل عبر بذلك عن شدة الغيظ، والتأسف على ما يفوتهم من إذايتكم. ونبه تعالى بهذه الآية على أن من كان بهذه الأوصاف من: بغض المؤمنين، والكفر بالقرآن، والرياء بإظهار ما لا ينطوي عليه باطنه، جدير بأن لا يتخذ صديقا.
* (قل موتوا بغيظكم) * ظاهره: أنه صلى الله عليه وسلم) أمر بأن يقول لهم ذلك. وهي صيغة أمر، ومعناها الدعاء أن: أذن الله لنبيه أن يدعو عليهم لما يئس من إيمانهم، هذا قول الطبري. وكثير من المفسرين قالوا: فله أن يدعو مواجهة. وقيل: أمر هو وأمته أن يواجهوهم بهذا. فعلى هذا زال معنى الدعاء، وبقي معنى التقريع، قاله: ابن عطية. وقيل: صورته أمر، ومعناه الخبر، والباء للحال أي تموتون ومعكم الغيظ وهو على جهة الذم على قبيح ما عملوه. وقال الزمخشري: دعا عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به. والمراد بزيادة الغيظ ما يغيظهم من قوة الإسلام وعزة أهله، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار انتهى كلامه. وليس ما فسر به ظاهر قوله: قل موتوا بغيظكم، ويكون ما قاله الزمخشري يشبه قولهم: مت بدائك، أي أبقى الله داءك حتى تموت به. لكن في لفظ الزمخشري زيادة الغيظ، ولا يدل عليه لفظ القرآن. قال بعض شيوخنا: هذا ليس بأمر جازم، لأنه لو كان أمرا لماتوا من فورهم كما جاء فقال لهم الله
44

موتوا. وليس بدعاء، لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة، فإن دعوته لا ترد. وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير، وليس بخبر لأنه لو كان خبر الوقع على حكم ما أخبر به يعني ولم يؤمن أحد بعد، وإنما هو أمر معناه التوبيخ والتقريع كقوله: اعملوا ما شئتم، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. قيل: ويجوز أن لا يكون ثم قول، وإن يكون أمرا بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به، كأنه قيل: حدث نفسك بذلك.
* (إن الله عليم بذات الصدور) * قيل: يجوز أن يكون من جملة المقول، والمعنى: أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا وقل لهم: إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفى عليه. ويجوز أن لا تدخل تحت القول، ومعناه: قل لهم ذلك، ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مضمرات صدورهم لم يظهروه بألسنتهم. والظاهر الأول أورد ذلك على أنه وعيد مواجهون به.
والذات لفظ مشترك ومعناه هنا أنه تأنيث ذي بمعنى صاحب. فاصله هنا عليم بالمضمرات ذوات الصدور، ثم حذف الموصوف، وغلبت إقامة الصفة مقامه. ومعنى صاحبة الصدور: الملازمة له التي لا تنفك عنه كما تقول: فلان صاحب فلان، ومنه أصحاب الجنة أصحاب النار. واختلفوا في الوقف على ذات. فقال الأخفش والفراء وابن كيسان: بالتاء مراعاة لرسم المصحف. وقال الكسائي والجرمي: بالهاء لأنها تاء تأنيث.
* (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) * الحسنة هنا ما يسر من رخاء وخصب ونصرة وغنيمة، ونحو ذلك من المنافع. والسيئة ضد ذلك. بين تعالى بذلك فرط عداوتهم حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير، ويفرحون بما يصيبهم من الشدة. قال الزمخشري: المس مستعار لمعنى الإصابة، فكان المعنى واحدا. ألا ترى إلى قوله: * (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة) * الآية * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * * (إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا) * وقال ابن عطية: ذكر الله تعالى المس في الحسنة ليبين أن بادني طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة، وهي عبارة عن التمكن. لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه، أو فيه. فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين انتهى كلامه. والنكرة هنا في سياق الشرط بأن تعم عموم البدل، ولم يأت معرفا لإيهام التعيين بالعهد، ولإيهام العموم الشمولي. وقابل الحسنة بالسيئة، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة.
قال قتادة والربيع وابن جريج: الحسنة بظهوركم على العدو، والغنيمة منهم، والتتابع بالدخول في دينكم، وخصب معاشكم. والسيئة بإخفاق سرية منكم، أو إصابة عدو منكم، أو اختلاف بينكم. وقال الحسن: الحسنة الألفة، واجتماع الكلمة. والسيئة إصابة العدو، واختلاف الكلمة. وقال ابن قتيبة: الحسنة النعمة. والسيئة المصيبة. وهذه الأقوال هي على سبيل التمثيل، وليست على سبيل التعيين.
* (وأن تصبروا * تتقوا * لا يضركم كيدهم شيئا) * قال ابن عباس: وإن تصبروا على أذاهم، وتتقوا الله، ولا تقنطوا، ولا تسأموا أذاهم وإن تكرر. وقال مقاتل: وإن تصبروا على أمر الله، وتتقوا مباطنتهم. وقال ابن عباس أيضا: وإن تصبروا على الإيمان وتتقوا الشرك. وقيل: وإن تصبروا على الطاعة وتتقوا المعاصي. وقيل: وإن تصبروا على حربهم. والذي يظهر أنه لم يذكر هنا متعلق الصبر، ولا متعلق التقوى. لكن الصبر هو حبس النفس على المكروه، والتقوى اتخاذ الوقاية من عذاب الله. فيحسن أن يقدر المحذوف من جنس ما دل عليه لفظ الصبر ولفظ التقوى. وفي هذا تبشير للمؤمنين، وتثبيت لنفوسهم، وإرشاد إلى الاستعانة على كيد العدو بالصبر والتقوى.
وقرأ الجمهور: أن تمسسكم
45

بالتاء. وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل، لأن تأنيث الحسنة مجازى. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحمزة في رواية عنه: لا يضركم من ضار يضير. ويقال: ضار يضور، وكلاهما بمعنى ضر. وقرأ الكوفيون وابن عامر: لا يضركم بضم الضاد والراء المشددة، من ضر يضر. واختلف، أحركة الراء إعراب فهو مرفوع أم حركة اتباع لضمة الضاد وهو مجزوم كقولك: مد؟ ونسب هذا إلى سيبويه، فخرج الإعراب على التقديم. والتقدير: لا يضركم أن تصبروا، ونسب هذا القول إلى سيبويه. وخرج أيضا على أن لا بمعنى ليس، مع إضمار الفاء. والتقدير: فليس يضركم، وقاله: الفراء والكسائي. وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه: بضم الضاد، وفتح الراء المشددة. وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد، والفتح هو الكثير المستعمل. وقرأ الضحاك: بضم الضاد، وكسر الراء المشددة على أصل التقاء الساكنين. وقال ابن عطية: فأما الكسر فلا أعرفه قراءة، وعبارة الزجاج في ذلك متجوز فيها، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة انتهى. وهي قراءة كما ذكرنا عن الضحاك. وقرأ أبي لا يضرركم بفك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز، وعليها في الآية إن تمسسكم. ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله.
* (إن الله بما يعملون محيط) * من قرأ بالياء فهو وعيد، والمعنى: محيط جزاؤه. وعبر بالإحاطة عن الاطلاع التام والقدرة والسلطان. ومن قرأ بالتاء وهو: الحسن بن أبي الحسن فعلى الالتفات للكفار، أو على إضمار قل: لهم يا محمد. أو على أنه خطاب للمؤمنين تضمن توعدهم في اتخاذ بطانة من الكفار.
قالوا: وتضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة. منها: الوصل والقطع في ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة. والتكرار: في أصحاب النار هم. والعدول عن اسم الفاعل إلى غيره: في يتلون وما بعده، وفي يظلمون. والاكتفاء بذكر بعض الشيء عن كله إذا كان فيه دلالة على الباقي في: يؤمنون بالله واليوم الآخر. والمقابلة: في تأمرون وتنهون، وفي المعروف والمنكر. ويجوز أن يكون طباقا معنويا، وفي حسنة وسيئة، وفي تسؤهم ويفرحوا. والاختصاص: وفي عليم بذات الصدور. والتشبيه: في مثل ما ينقون، وفي بطانة، وفي عضوا عليكم الأنامل من الغيظ على أحد التأويلين، وفي تمسسكم حسنة وتصبكم سيئة. شبه حصولهما بالمس والإصابة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، والصحيح أن هذه استعارة. وفي محيط شبه القدرة على الأشياء والعلم بها بالشيء المحدق بالشيء من جميع جهاته، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس. والتجنيس المماثل: في ظلمهم ويظلمون، وفي تحبونهم ولا يحبونكم، وفي تؤمنون وآمنا، وفي من الغيظ
46

وبغيظكم. والالتفات: في وما تفعلوا من خير فلن تكفرواه على قراءة من قرأ بالتاء، وفي ما تعملون محيط على أحد الوجهين. وتسمية الشيء باسم محلة: في من أفواههم عبر بها عن الألسنة لأنها محلها. والحذف في مواضع.
2 (* (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم * إذ همت طآئفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون * ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون * إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالاف من الملائكة منزلين * بلىإن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هاذا يمددكم ربكم بخمسة ءالاف من الملائكة مسومين * وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم * ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خآئبين) *)) 2
غدا الرجل: خرج غدوة. والغدو يكون في أول النهار. وفي استعمال غدا بمعنى صار، فيكون فعلا ناقصا خلاف.
الهم: دون العزم، والفعل منه هم يهم. وتقول العرب: هممت وهمت يحذفون أحد المضعفين كما قالوا: أمست، وظلت، وأحست، في مسست وظللت وأحسست. وأول ما يمر الأمر بالقلب يسمى خاطرا، فإذا تردد صار حديث نفس، فإذ ترجح فعله صار هما، فإذا قوي واشتد صار عزما، فإذا قوي العزم واشتد حصل الفعل أو القول.
الفشل في البدن: الإعياء. وفي الحرب: الجبن والخور، وفي الرأي: العجز والفساد. وفعله: فشل بكسر الشين.
التوكل: تفعل من وكل أمره إلى فلان، إذا فوضه له. قال ابن فارس: هو إظهار العجز والاعتماد على غيرك، يقال: فلان وكلة تكلة، أي عاجز بكل أمره إلى غيره. وقيل: هو من الوكالة، وهو تفويض الأمر إلى غيره ثقة بحسن تدبيره.
بدر في الآية: اسم علم لما بين مكة والمدينة. سمي بذلك لصفائه، أو لرؤية البدر فيه لصفائه، أو لاستدارته. قيل: وسمي باسم صاحبه بدر بن كلدة. قيل: بل بدر بن بجيل بن النضر بن كنانة. وقيل: هو بئر لغفار. وقيل: هو اسم وادي الصفراء. وقيل: اسم قرية بين المدينة والجار.
الفور: العجلة والإسراع. تقول: اصنع هذا على الفور. وأصله من فارت القدر اشتد غليانها، وبادر ما فيها إلى الخروج. ويقال: فار غضبه إذا جاش وتحرك. وتقول: خرج من فوره، أي من ساعته، لم يلبث استعير الفور للسرعة، ثم سميت به الحالة التي لا ريب فيها ولا تعريج على شيء من صاحبها.
الخمسة: رتبة من العدد معروفة، ويصرف منها فعل يقال: خمست الأربعة أي صيرتهم في خمسة.
الطرف: جانب الشيء الأخير، ثم يستعمل للقطعة من الشيء
47

وإن لم يكن جانبا أخيرا. الكبت: الهزيمة. وقيل: الصرع على الوجه أو إلى اليدين. وقال النقاش وغيره: التاء بدل من الدال. أصله: كبده، أي فعل فعلا يؤذي كبده. الخيبة: عدم الظفر بالمطلوب.
* (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال) * قال المسور بن مخرمة: قلت لعبد الرحمن بن عوف: أي خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد، فقال: اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجد: * (وإذ غدوت من أهلك * إلى ثم * أنزل عليكم) * ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما نهاهم عن اتخاذ بطانة من الكفار ووعدهم أنهم إن صبروا واتقوا فلا يضركم كيدهم. ذكرهم بحالة اتفق فيها بعض طواعية، واتباع لبعض المنافقين، وهو ما جرى يوم أحد لعبد الله بن أبي بن سلول حين انخذل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، واتبعه في الانخذال ثلاثمائة رجل من المنافقين وغيرهم من المؤمنين. والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحذ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها، وهو قول: عبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، والزهري، والسدي، وابن إسحاق. وقال الحسن: كان هذا الغدو في غزوة الأحزاب. وهو قول: مجاهد، ومقاتل، وهو ضعيف. لأن يوم الأحزاب كان فيه ظفر المؤمنين، ولم يجر فيه شيء مما ذكر في هذه الآيات بل قصتاهما متباينتان. وقال الحسن أيضا: كان هذا الغدو يوم بدر. وذكر المفسرون قصة غزوة أحد وهي مستوعبة في كتب السير، ونحن نذكر منها ما يتعلق بألفاظ الآية بعض تعلق عند تفسيرها. وظاهر قوله: وإذ غدوت، خروجه غدوة من عند أهله. وفسر ذلك بخروجه من حجرة عائشة يوم الجمعة غدوة حين استشار الناس، فمن مشير بالإقامة وعدم الخروج إلى القتال. وأن المشركين إن جاؤوا قاتلوهم بالمدينة، وكان ذلك رأيه صلى الله عليه وسلم). ومن مشير بالخروج وهم: جماعة من صالحي المؤمنين فأتتهم وقعة بدر وتبوئة المؤمنين مقاعد للقتال، على هذا القول هو أن يقسم أفطار المدينة على قبائل الأنصار. وقيل: غدوه هو نهوضه يوم الجمعة بعد الصلاة وتبوئته في وقت حضور القتال. وسماه غدوا إذ كان قد عزم عليه غدوة. وقيل: غدوه كان يوم السبت للقتال. ولما لم تكن تلك الليلة موافقة للغدو وكأنه كان في أهله، والعامل في إذا ذكر. وقيل: هو معطوف على قوله: * (قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا) * أي وآية إذ غدوت، وهذا في غاية البعد. ولولا أنه مسطور في الكتب ما ذكرته. وكذلك قول من جعل من في معنى مع، أي: وإذ غدوت مع أهلك. وهذه تخريجات يقولها وينقلها على سبيل التجويز من لا بصر له بلسان العرب. ومعنى تبويء تنزل، من المباءة وهي المرجع ومنه * (لنبوئنهم من الجنة غرفا) * فليتبوأ مقعده من النار، وقال الشاعر:
* كم صاحب لي صالح
*
بوأته بيدي لحدا
*
48

وقال الأعشى:
* وما بوأ الرحمن بيتك منزلا
*
بشرقي أجياد الصفا والمحرم
*
ومقاعد: جمع مقعد، وهو هناك مكان القعود. والمعنى: مواطن ومواقف. وقد استعمل المقعد والمقام في معنى المكان. ومنه: * (فى مقعد صدق) * * (وقبل أن تقوم من مقامك) *.
وقال الزمخشري: وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار انتهى. أما إجراء قعد مجرى صار فقال أصحابنا: إنما جاء في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى، وهي في قولهم: شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة، أي صارت. وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله تعالى: * (فتقعد ملوما * على) * أن معناه: فتصير، لأن ذلك عند النحويين لا يطرد. وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهد قال ابن الأعرابي: القعد الصيرورة، والعرب تقول: قعد فلان أميرا بعدما كان مأمورا أي صار. وأما إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحدا عدها في أخوات كان، ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار، ولا ذكر لها خبرا إلا أبا عبد الله بن هشام الحضراوي فإنه قال في قول الشاعر:
* على ما قام يشتمني لئيم
*
إنها من أفعال المقاربة
*
وقال ابن عطية: لفظة القعود أدل على الثبوت، ولا سيما أن الرماة إنما كانوا قعودا، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولا، والمبارزة والسرعان يجولون. وجمع المقاعد لأنه عين لهم مواقف يكونون فيها: كالميمنة والميسرة، والقلب، والشاقة. وبين لكل فريق منهم موضعهم الذي يقفون فيه.
خرج صلى الله عليه وسلم) بعد صلاة الجمعة، وأصبح بالشعب يوم السبت للنصف من شوال، فمشى على رجليه، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح. إن رأى صدرا خارجا قال: (تأخر)، وكان نزوله في غدوة الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم: (انصحوا عنا بالنبل) لا يأتونا من ورائنا).
وتبوىء جملة حالية من ضمير المخاطب. فقيل: هي حال مقدرة، أي خرجت قاصد التبوئة، لأن وقت الغدو لم يكن وقت التبوئة. وقرأ الجمهور تبوىء من بوأ. وقرأ عبد الله: تبوىء من أبوأ، عداه الجمهور بالتضعيف، وعبد الله بالهمزة. وقرأ يحيى بن وثاب: تبوى بوزن تحيا، عداه بالهمزة، وسهل لام الفعل بإبدال الهمزة ياء نحو: يقرى في يقرئ. وقرأ عبد الله: للمؤمنين بلام الجر على معنى: ترتب وتهيىء. ويظهر أن الأصل تعديته لواحد بنفسه، وللآخر باللام لأن ثلاثيه لا يتعدى بنفسه، إنما يتعدى بحرف جر.
وقرأ الأشهب: مقاعد القتال على الإضافة، وانتصاب مقاعد على أنه مفعول ثان لتبوى. ومن قرأ للمؤمنين كان مفعولا لتبوىء، وعداه باللام كما في قوله: * (وإذ بوأنا * أنا * لإبراهيم مكان البيت) * وقيل: اللام في لإبراهيم زائدة، واللام في للقتال لام العلة تتعلق بتبوىء. وقيل: في موضع الصفة لمقاعد. وفي الآية دليل على أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر ويختارون لهم المواضع للحرب، وعلى
49

الأجناد طاعتهم قاله: الماتريدي. وهو ظاهر.
* (والله سميع عليم) * أي سميع وقوالكم، عليم بنياتكم. وجاءت هاتان الصفتان هنا لأن في ابتداء هذه الغزوة مشاورة ومجاوبة بأقوال مختلفة، وانطواء على نيات مضطربة حبسما تضمنته قصة غزوة أحد.
* (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) * الطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان قاله: ابن عباس، وجابر، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع، والسدي، وجمهور المفسرين. وقيل: الطائفتان هما من الأنصار والمهاجرين.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) خرج في ألف. وقيل: في تسعمائة وخمسين، والمشركون في ثلاثة آلاف. ووعدهم الفتح إن صبروا، فانخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس. وسبب انخذاله أنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالمدينة حين شاوره رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم يشاوره قبلها، فأشار عليه بالمقام في المدينة فلم يفعل وخرج، فغضب عبد الله وقال: أطاعهم، وعصاني. وقال: يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري. وفي رواية أبو جابر السلمي فقال: أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم. فقال عبد الله: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فهم الجبان باتباع عبد الله، فعصمهم الله ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال ابن عباس: أضمروا أن يرجعوا، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا، وهذا لهم غير مؤاخذ به، إذ ليس بعزيمة، إنما هو ترجيح من غير عزم. ولا شك أن النفس عندما تلاقى الحروب ومن يجالدها يزيد عليها مثلين وأكثر، يلحقها بعض الضعف عن الملاقاة، ثم يوطئها صاحبها على القتال فتثبت وتستقر. ألا ترى إلى قول الشاعر:
* وقولي: كلما جشأت وجاشت
*
مكانك تحمدي أو تستريحي
*
وإذ همت: بدل من إذ غدوت. قال الزمخشري: أو عمل فيه معنى سميع عليم انتهى. وهذا غير محرر، لأن العامل لا يكون مركبا من وصفين، فتحريره أن يقول: أو عمل فيه معنى سميع أو عليم، وتكون المسألة من باب التنازع. وجوز أن يكون معمولا لتبوى، ولغدوت. وهم يتعدى بالباء، فالتقدير: بأن تفشلا والمعنى: أن تفشلا عن القتال. وأما أحسن قول الشاعر في التحريض على القتال والنهي عن الفشل:
* قاتلوا القوم بالخداع ولا
*
يأخذكم عن قتالهم فشل
*
* القوم أمثالكم لهم شعر
*
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
*
وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء، وعن قالون خلاف ذكرناه في عقد اللآلىء في القراءات السبع العوالي من إنشائنا. والظاهر أن هذا لهم كان عند تبوئة الرسول صلى الله عليه وسلم) مقاعد للقتال وانخذال عبد الله بمن انخذل. وقيل: حين أشاروا عليه بالخروج وخالفوا عبد الله بن أبي. وفي قوله: طائفتان إشارة لطيفة إلى الكناية عن
من يقع منه ما لا يناسب والستر عليه، إذ لم يعين الطائفتين بأنفسهما، ولا صح بمن هما منه من القبائل سترا عليهما.
* (والله وليهما) * معنى الولاية هنا التثبيت والنصر، فلا ينبغي لهما أن يفشلا. وقيل: جعلها من أوليائه المثابرين على طاعته. وفي البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: فينا نزلت * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) * قال: نحن الطائفتان بنو
50

حارثة، وبنو سلمة. وما تحب أنها لم تنزل لقول الله: * (والله وليهما) *، قال ذلك جابر لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمة المصفوح عنها لكونها ليست عزما، كانت سببا لنزولها. وقرأ عبد الله: والله وليهم أعاد الضمير على المعنى لا على لفظ التثنية، كقوله: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * * (هاذان خصمان اختصموا) * وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب، بل جاءت مستأنفة لثناء الله على هاتين الطائفتين.
* (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * لما ذكر تعالى ما همت به الطائفتان من الفشل، وأخبر تعالى أنه وليهما، ومن كان الله وليه فلا يفوض أمره لا إليه. أمرهم بالتوكل عليه، وقدم المجرور للاعتناء بمن يتوكل عليه، أو للاختصاص على مذهب من يرى ذلك. ونبه على الوصف الذي يقتضي ذلك وهو الإيمان، لأن من آمن بالله خير أن لا يكون اتكاله إلا عليه، ولذلك قال: * (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) * وأتى به عاما لتندرج الطائفتان الهامتان وغيرهم في هذا الأمر، وأن متعلقة من قام به الإيمان. وفي هذا الأمر تحريض على التغبيط بما فعلته الطائفتان من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم) والمسير معه.
* (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) * لما أمرهم بالتوكل عليه ذكرهم بما يوجب التوكل عليه، وهو ما سنى لهم ويسر من الفتح والنصر يوم بدر، وهم في حال قلة وذلة، إذ كان ذلك النصر ثمرة التوكل عليه والثقة به. والنصر المشار إليه ببدر بالملائكة، أو بإلقاء الرعب، أو بكف الحصى التي رمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو بإرادة الله لقوله: * (وما النصر إلا من عند الله) * أقوال.
والجملة من قوله: وأنتم أذلة حال من المفعول في نصركم، والمعنى: وأنتم أذلة في أعين غيركم، إذ كانوا أعزة في أنفسهم، وكانوا بالنسبة إلى عدوهم، وجميع الكفار في أقطار الأرض عند المتأمل مغلوبين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد).
والأذلة: جمع ذليل. وجمع الكثرة ذلان، فجاء على جمع القلة ليدل أنهم كانوا قليلين. والذلة التي ظهرت لغيرهم عليهم هي ما كانوا عليه من الضعف وقلة السلاح والمال والمركوب. خرجوا على النواضح يعتقب النفر على البعير الواحد، وما كان معهم من الخيل إلا فرس واحد، ومع عدوهم مائة فرس. وكان عدد المسلمين ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا: سبعة وسبعون من المهاجرين وصاحب رايتهم علي بن أبي طالب، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رايتهم سعد بن عبادة. وقيل: ثلاثمائة وستة عشر رجلا. وقيل: ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا. وفي رواية: ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. وكان عدوهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل. وما أحسن قول الشاعر:
* وقائلة ما بال أسوة عاديا
*
تفانت وفيها قلة وخمول
*
* تعيرنا أنا قليل عديدنا
*
فقلت لها إن الكرام قليل
*
* وما ضرنا أنا قليل وجارنا
*
عزيز وجار الأكثرين ذليل
*
والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش، وعلى يوم بدر انبنى الإسلام. وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان لثمانية عشر شهرا من الهجرة.
* (فاتقوا الله لعلكم تشكرون) * أمر بالتقوى مطلقا. وقيل: في الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وترجيه الشكر إما على الأنعام السابق بالنصر يوم بدر، أو على الأنعام المرجو أن يقع. فكأنه قيل: لعلكم ينعم عليكم نعمة أخرى فتشكرونها. وضع الشكر موضع الأنعام لأنه سبب له.
* (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم
51

أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالاف من الملئكة منزلين * بلى) * ظاهر هذه الآية اتصالها بما قبلها، وأنها من قصة بدر، وهو قول الجمهور، فيكون إذ معمولا لنصركم. وقيل: هذا من تمام قصة أحد، فيكون قوله: * (ولقد نصركم الله ببدر) * معترضا بين الكلامين لما فيه من التحريض على التوكل والثبات للقتال. وحجة هذا القول أن يوم
بدر كان المدد فيه من الملائكة بألف، وهنا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف. والكفار يوم بدر كانوا ألفا، والمسلمون على الثلث. فكان عدد الكفار ثلاثة آلاف، فوعدوا بثلاثة آلاف من الملائكة. وقال: ويأتوكم من فورهم، أي الإمداد. ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يصح أن يقوله لهم يوم أحد، ولم ينزل فيه الملائكة؟ (قلت): قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم. فلم يصبروا عن الغنائم، ولم يتقوا حيث خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلذلك لم تنزل الملائكة، ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت. وإنما قدم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات، ويثقوا بنصر الله انتهى كلامه.
وقوله: لم تنزل فيه الملائكة ليس مجمعا عليه، بل قال مجاهد: حضرت فيه الملائكة ولم تقاتل، فعلى قول مجاهد يسقط السؤال. وقوله: قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم، فلم يصبروا عن الغنائم، ولم يتقوا إلى آخره المشروط بالصبر والتقوى هو الإمداد بخمسة آلاف. أما الإمداد الأول وهو بثلاثة آلاف فليس بمشروط، ولا يلزم من عدم إنزال خمسة آلاف لفوات شرطه أن لا ينزل ثلاثة آلاف، ولا شيء منها، وأجيب عن عدم إنزال ثلاثة آلاف: أنه وعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم) للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال، وأمرهم بالسكون والثبات فيها، فكان هذا الوعد مشروطا بالثبوت في تلك المقاعد. فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط انتهى. ولا خفاء بضعف هذا الجواب. قال الضحاك: كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد، ففر الناس وولوا مدبرين فلم يهدهم الله، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة. وقال ابن زيد: لم يصبروا. وقال عكرمة: لم يصبروا، ولم يتقوا يوم أحد، فلم يمدوا. ولو مدوا لم ينهزموا. وكان الوعد بالإمداد يوم بدر، ورجح أنه قال ذلك يوم بدر، فظاهر اتصال الكلام. ولأن قلة العدد، والعدد كان يوم بدر، فكانوا إلى تقوية قلوبهم بالوعد أحوج. ولأن الوعد بثلاثة آلاف كان، غير مشروط، فوجب حصوله. وإنما حصل يوم بدر والجمع بين ألف وثلاثة آلاف كان غير مشروط، فوجب حصوله، وإنما حصل يوم بدر أنهم مدوا أولا بألف، ثم زيد فيهم ألفان، وصارت ثلاثة آلاف. أو مدوا بألف أولا، ثم بلغهم إمداد المشركين بعدد كثير، فوعد بالخمسة على تقدير إمداد الكفار. فلم يمد الكفار، فاستغنى عن إمداد المسلمين.
والظاهر في هذه الأعداد إدخال الناقص في الرائد، فيكون وعدوا بألف، ثم ضم إليه ألفان، ثم ألفان، فصار خمسة. ومن ضم الناقص إلى الزائد وجعل ذلك في قصة أحد، فيكونون قد وعدوا بثمانية آلاف. أو في قصة بدر فيكونون قد وعدوا بتسعة آلاف. ولم تتعرض الآية الكريمة لنزول الملائكة، ولا لقتالهم المشركين وقتلهم، بل هو أمر مسكوت عنه في الآية. وقد تظاهرت الروايات وتظافرت على أن الملائكة حضرت بدرا وقاتلت. ذكر ذلك ابن عطية عن جماعة من الصحابة بما يوقف عليه في كتابه. ولما لم تتعرض له الآية لم نكثر كتابنا بنقله. وذكر ابن عطية أن الشعبي قال: لم تمد المؤمنون بالملائكة يوم بدر، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي صلى الله عليه وسلم) مددا، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة. قال: وخالف الناس الشعبي في هذه المقالة، وذكر أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ما نصه وأجمع أهل التفسير والسير: على أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا
52

الكفار. ثم قال: وأما أبو بكر الأصم فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار، وذكر عنه حججا ثم قال: وكل هذه الشبه تليق بمن ينكر القرآن والنبوة، لأن القرآن والسنة ناطقان بذلك، يعني بإنزال الملائكة. ثم قال: واختلفوا في نصرة الملائكة. فقيل: بالقتال. وقيل: بتقوية نفوس المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكفار. والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال، وأن يكون مجرد حضورهم كافيا انتهى كلامه.
ودخلت أداة الاستفهام على حرف النفي على سبيل الإنكار، لانتفاء الكفاية بهذا العدد من الملائكة. وكان حرف النفي (لن) الذي هو أبلغ في الاستقبال من لا، إشعارا بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكتهم كالآيسين من النصرة.
وبلى: إيجاب لما بعد لن، يعني: بلى يكفيكم الإمداد بهم، فأوجب الكفاية. وفي مصحف أبي: ألا يكفيكم انتهى. ومعظمه من كلام الزمخشري.
وقال ابن عطية: ألن يكفيكم تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة؟ ومن حيث كان الأمر بيتا في نفسه أن الملائكة كافية، بادر المتكلم إلى جواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال: بلى، وهي جواب المقررين. وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها، ونحوه قوله تعالى: * (قل أى شىء أكبر شهادة قل الله) * انتهى. وقال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي: ألن يكفيكم جواب الصحابة حين قالوا: هلا أعلمتنا بالقتال لنتأهب. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم): (ألن يكفيكم). قال ابن عيسى: والكفاية مقدار سد الخلة، والإمداد إعطاء الشيء حالا بعد حال انتهى.
وقرأ الحسن: بثلاثة آلاف يقف على الهاء، وكذلك بخمسة آلاف. قال ابن عطية: ووجه هذه القراءة ضعيف، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال، إذ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال الأول. والهاء إنما هي أمارة وقف، فتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع. فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون: أكلت لحما شاة، يريدون لحم شاة، فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف، كما قالوا في الوقف قالا: يريدون. قال: ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها في مواضع الروية والتثبت. ومن ذلك في الشعر قول الشاعر:
* ينباع من زفرى غضوب جسرة
*
زيانة مثل الغنيق المكرم
*
يريد ينبع فمطل. ومنه قول الآخر:
* أقول إذ خرت على الكلكال
*
يا ناقتا ما جلت من مجال
*
يريد الكلكال فمطل. ومنه قول الآخر:
* فأنت من الغوائل حين ترمى
*
ومن ذم الرجال بمنتزاح
*
يريد بمنتزح. قال أبو الفتح: فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه، إذ هما في الحقيقة اثنان انتهى كلامه. وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف، أبدلها هاء في الوصل، كما أبدلوا لها هاء في الوقف، وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف، وإجراء الوقف مجرى الوصل. وأما قوله: لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة. وأشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوصل، وإنما هو نظير قولهم: ثلاثة
53

أربعة، أبدل التاء هاء، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها، وحذف الهمزة، فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإبدال. ولأجل الوصل نقل إذ لا يكون هذا النقل إلا في الوصل.
وقرئ شاذا بثلاثة آلاف بتكسين التاء في الوصل، أجراه مجرى الوقف. واختلفوا في هذه التاء الساكنة أهي بدل من الهاء التي يوقف عليها أم تاء التأنيث هي؟ وهي التي يوقف عليها بالتاء كما هي؟ وهي لغة.
وقرأ الجمهور منزلين بالتخفيف مبنيا للمفعول، وابن عامر بالتشديد مبنيا للمفعول أيضا، والهمزة والتضعيف للتعدية فهما سيان. وقرأ ابن أبي عبلة: منزلين بتشديد الزاي وكسرها مبنيا للفاعل. وبعض القراء بتخفيفها وكسرها مبنيا للفاعل أيضا، والمعنى: ينزلون النصر.
* (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هاذا يمددكم ربكم بخمسة ءالاف من الملئكة مسومين) * رتب تعالى على مجموع الصبر والتقوى وإتيان العدد من فورهم إمداده تعالى المؤمنين بأكثر من العدد السابق وعلقه على وجودها، بحيث لا يتأخر نزول الملائكة عن تحليهم بثلاثة الأوصاف. ومعنى من فورهم: من سفرهم. هذا قاله ابن عباس. أو من وجههم هذا قاله: الحسن، وقتادة، والسدي. قيل: وهي لغة هذيل، وقيس، وغيلان، وكنانة: أو من غصبهم هذا قاله: مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وأبو صالح مولى أم هانىء أو معناه في نهضتهم هذه قاله: ابن عطية. أو المعنى من ساعتهم هذه قاله الزمخشري.
ولفظة الفور تدل على السرعة والعجلة. تقول: افعل هذا على الفور، لا على التراخي. ومنه الفور في الحج والوضوء. وفي إسناد الإمداد إلى لفظة ربكم دون غيره من أسماء الله إشعار بحسن النظر لهم، واللطف بهم.
وقرأ الصاحبان والأخوان مسومين بفتح الواو، وأبو عمرو وابن كثير وعاصم: بكسرها. وقيل: من السوم، وهي العلامة يكون على الشاة وغيرها، يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف. وقيل: من السوم وهو ترك البهيمة ترعى. فعلى الأول روي أن الملائكة كانت بعمائم بيض، إلا جبريل فبعمامة صفراء كالزبير قاله: ابن إسحاق، والزجاج. وقيل: بعمائم صفر كالزبير قاله: عروة وعبد الله ابنا الزبير، وعباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير، والكلبي وزاد: مرخاة على أكتافهم. قيل: وكانوا على خيل بلق، وكانت سيماهم قاله: قتادة، والربيع. أو خيلهم مجزوزة النواصي والأذناب، معلمتها بالصوف والعهن. قاله: مجاهد. فبفتح الواو ومعلمين، وبكسرها معلمين أنفسهم أو خيلهم. ورجح الطبري قراءة الكسر، بأنه عليه الصلاة والسلام قاله يوم بدر: * (* سوموا فإن الملائكة قد سومته) * وعلى القول الثاني: وهو السوم. فمعنى مسومين بكسر الواو: وسوموا خيلهم أي أعطوها من الجري والجولان للقتال، ومنه سائمة الماشية. وأما بفتح الواو فيصح فيه هذا المعنى أيضا، قاله: المهدوي وابن فورك. أي سومهم الله تعالى، بمعنى أنه جعلهم يجولون ويجرون للقتال. وقال أبو زيد: سوم الرجل خيله أي أرسلها في الغارة. وحكى بعض البصريين: سوم الرجل غلامه أرسله وخلى سبيله. ولهذا قال الأخفش: معنى مسومين مرسلين. وفي الآية دليل على جواز اتخاذ العلامة للقبائل والكتائب لتتميز كل قبيلة وكتيبة عند الحرب.
* (بخمسة ءالاف من الملئكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به) * الظاهر أن الهاء في جعله عائدة على المصدر والمفهوم من يمددكم وهو الإمداد. وجوز أن يعود على التسويم، أو على النصر، أو على التنزيل، أو على العدد، أو على الوعد. وإلا بشرى مستثنى من المفعول له، أي: ما جعله الله لشيء إلا بشرى لكم. فهو استثناء فرغ له العامل، وبشرى مفعول من أجله. وشروط نصبه موجودة وهو:
54

أنه مصدر متحد الفاعل والزمان. ولتطمئن معطوف على موضع بشرى، إذ أصله لبشرى. ولما اختلف الفاعل في ولتطمئن، أتى باللام إذ فات شرط اتحاد الفاعل، لأن فاعل بشرى هو الله، وفاعل تطمئن هو قلوبكم. وتطمئن منصوب بإضمار أن بعد لام كي، فهو من عطف الاسم على توهم. موضع اسم آخر، وجعل على هذا التقدير متعدية إلى واحد.
وقال الحوفي: إلا بشرى في موضع نصب على البدل من الهاء، وهي عائدة على الوعد بالمدد. وقيل: بشرى مفعول ثان لجعله الله. فعلي هذين القولين تتعلق اللام في لتطمئن بمحذوف، إذ ليس قبله عطف يعطف عليها. قالوا: تقديره ولتطمئن قلوبكم به بشركم. وبشرى: فعلى مصدر كرجعى، وهو مصدر من بشر الثلاثي المجرد، والهاء في به تعود على ما عادت عليه في جعله على الخلاف المتقدم.
وقال ابن عطية: اللام في ولتطمئن متعلقة بفعل مضمر يدل عليه جعله. ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به، وتطمئن به قلوبكم انتهى. وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أن يعطف ولتطمئن على بشرى على الموضع، لأن من شرط العطف على الموضع عند أصحابنا أن يكون ثم محزر للموضع، ولا محرز هنا، لأن عامل الجر مفقود. ومن لم يشترط المحرز فيجوز ذلك على مذهبه، وإن لا فيكون من باب العطف على التوهم كما ذكرناه أولا.
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي: قال بعضهم: الواو زائدة في ولتطمئن. وقال أيضا في ذكر الإمداد: مطلوبان، أحدهما: إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله: ألا بشرى. والثاني: حصول الطمأنينة بالنصر، فلا تجبنوا، وهذا هو المقصود الأصلي. ففرق بين هاتين العبارتين تنبيها على حصول التفاوت بين الأمرين، فعطف الفعل على الاسم. ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة أدخل حرف التعليل انتهى. وفيه بعض ترتيب وتناقش في قوله: فعطف الفعل على الاسم، إذ ليس من عطف الفعل على الاسم. وفي قوله: أدخل حرف التعليل، وليس ذلك لما ذكر.
* (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) * حصر كينونة النصر في جهته، لا أن ذلك يكون من تكثير المقاتلة، ولا من إمداد الملائكة. وذكر الإمداد بالملائكة تقوية لرجاء النصر لهم، وتثبيتا لقلوبهم. وذكر وصف العزة وهو الوصف الدال على الغلبة، ووصف الحكمة وهو الوصف الدال على وضع الأشياء مواضعها من: نصر وخذلان وغير ذلك.
* (ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين) * الطرف: من قتل ببدر هم سبعون من رؤساء قريش، أو من قتل بأحد وهم اثنان وعشرون رجلا على الصحيح. وقال السدي: ثمانية عشر، أو مجموع المقتولين في الوقعتين ثلاثة أقوال. وكنى عن الجماعة بقوله: طرفا، لأن من قتله المسلمون في حرب هم طرف من الكفار، إذ هم الذين يلون القاتلين، فهم حاشية منهم. فكان جميع الكفار رفقة، وهؤلاء المقتولون طرفا منها. قيل: ويحتمل أن يراد بقوله: طرفا دابرا أي آخرا، وهو راجع لمعنى الطرف، لأن آخر الشيء طرف منه * (أو يكبتهم) *: أي ليخزيهم ويغيظهم، فيرجعوا غير ظافرين بشيء مما أملوه. ومتى وقع النصر على الكفار، فإما بقتل، وإما بخيبة، وإما بهما. وهو كقوله: * (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا) *. وقرأ الجمهور أو تكبتهم بالتاء. وقرأ لاحق بن حميد: أو يكبدهم بالدال مكان التاء، والمعنى: يصيب الحزن كبدهم. وللمفسرين في يكبتهم أقوال: يهزمهم قاله: ابن عباس والزجاج، أو يخزيهم قاله: قتادة ومقاتل، أو يصرعهم قاله. أبو عبيدة واليزيدي، أو يهلكهم قاله: أبو عبيدة. أو يلعنهم قاله: السدي. أو يظفر عليهم قاله: المبرد. أو يغيظهم قاله: النضر بن شميل، واختاره ابن قتيبة. وأما قراءة لاحق فهي من إبدال الدال بالتاء كما قالوا. هوت الثوب وهرده إذا حرفه، وسبت رأسه وسبده إذا حلقه، فكذلك كبت العدو وكبده أي أصاب كبده.
واللام في ليقطع يتعلق قيل: بمحذوف تقيديره أمدكم أو نصركم. وقال الحوفي: يتعلق
55

بقوله: * (ولقد نصركم الله) * أي نصركم ليقطع. قال: ويجوز أن يتعلق بقوله: * (وما النصر إلا من عند الله) *. ويجوز أن تكون متعلقة بيمددكم. وقال ابن عطية: وقد يحتمل أن تكون اللام متعلقة بجعله، وقيل: هو معطوف على قوله. ولتطمئن، وحذف حرف العطف منه، التقدير: * (ولتطمئن قلوبكم به) *، وتكون الجملة من قوله: وما النصر إلا من عند الله اعتراضية بين المعطوف عليه والمعطوف. والذي يظهر أن تتعلق بأقرب مذكور وهو: العامل في من عند الله وهو خبر المبتدأ. كأن التقدير: وما النصر إلا كائن من عند الله، لا من عند غيره. لأحد أمرين: إما قطع طرف من الكفار بقتل وأسر، وإما بخزي وانقلاب بخيبة. وتكون الألف واللام في النصر ليست للعهد في نصر مخصوص، بل هي للعموم، أي: لا يكون نصر أي نصر من الله للمسلمين على الكفار إلا لأحد أمرين.
2 (* (ليس لك من الا مر شىء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون * ولله ما فى السماوات وما فى الا رض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله غفور رحيم * ياأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التىأعدت للكافرين * وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) *)) 2
* (خائبين ليس لك من الامر شىء) * اختلف في سبب النزول وملخصه: أنه لعن ناسا أو شخصا عين أنه عتبة بن أبي وقاص، أو أشخاصا دعا عليهم وعينوا: أبا سفيان، والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية. أو قبائل عين منها: لحيان، ورعل، وذكوان، وعصية. أو هم بسبب الذين انهزموا يوم أحد، أو استأذن ربه أن يدعو. ودعا يوم أحد حين شج في وجهه، وكسرت رباعيته، ورمي بالحجارة، حتى صرع لجنبه، فلحقه ناس من فلاحهم، ومال إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم، فنزلت. فعلى هذه الأسباب يكون معنى الآية: التوقيف على أن جميع الأمور إنما هي لله، فيدخل فيها هداية هؤلاء وإقرارهم على حالة. وفي خطابه: دليل على صدور أمر منه أو هم به، أو استئذان في الدعاء كما تقدم ذكره، وأن عواقب الأمور بيد الله. قال الكوفيون: نسخت هذه الآية القنوت على رعل وذكوان وعصية وغيرهم من المشركين. وقال السخاوي: ليس هذا شرط الناسخ، لأنه لم ينسخ قرآنا.
* (أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) * قيل: هو عطف على ما قبله من الأفعال المنصوبة. ويكون قوله: ليس لك من الأمر شيء جملة اعتراضية، والمعنى: أن الله مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل: أن مضمرة بعد أو، بمعنى: إلا أن، وهي التي في قولهم: لألزمنك أو تقضيني حقي، والمعنى: أنه ليس له من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم بالإسلام فيسر بهداهم، أو يعذبهم بقتل وأسر في الدنيا، أو بنار في الآخرة، فيستشفى بذلك ويستريح. وعلى هذا التأويل تكون الجملة المنفية للتأسيس، لا للتأكيد. وقيل: أو يتوب معطوف على الأمر. وقيل: على شيء. أي:
ليس لك من الأمر، أو من توبتهم، أو تعذيبهم شيء. أوليس لك من الأمر شيء، أو تعذيبهم. والظاهر من هذه التخاريج الأربعة هو الأول. وأبعد من ذهب إلى أن قوله: ليس لك من الأمر، أي أمر الطائفتين اللتين همتا أن تفشلا.
وقال ابن بحر: من الأمر أي، من هذا النصر، وإنما هو من الله كما قال: * (وما رميت إذ رميت) * وقيل: المراد بالأمر أمر القتال. والظاهر الحمل على العموم، والأمور كلها لله تعالى.
وقرأ أبي: أو يتوب عليهم أو يعذبهم برفعهما على معنى: أو هو يتوب عليهم، ثم نبه على العلة المقتضية للتعذيب بقوله: فإنهم ظالمون، وأتى بأن الدالة على التأكيد في نسبة الظلم إليهم.
* (ولله ما فى * السماوات وما في الارض
56

لما قدم ليس لك من الأمر شيء، بين أن الأمور إنما هي لمن له الملك، والملك فجاء بهذه الجملة مؤكدة للجملة السابقة. وتقدم شرح هذه الجملة. وما: إشارة إلى جملة العالم وما هيأته، فلذلك حسنت ما هنا.
* (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * لما تقدم قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم، أتى بهذه الجملة موضحة أن تصرفاته تعالى على وفق مشيئته، وناسب البداءة بالغفران، والإرداف بالعذاب ما تقدم من قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ولم يشرط في الغفران هنا التوبة. إذ يغفر تعالى لمن يشاء من تائب وغير تائب، ما عدا ما استثناه تعالى من الشرك. وقال الزمخشري ما نصه عن الحسن رحمه الله: يغفر لمن يشاء بالتوبة، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين. ويعذب من يشاء، ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب. وعن عطاء: يغفر لمن يتوب إليه، ويعذب من لقيه ظالما وأتباعه قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، تفسير بين لمن يشاء، فإنهم المتوب عليهم أو الظالمون. ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن آيات الله تعالى، فيخبطون خبط عشواء، ويطيبون أنفسهم بما يفترون. عن ابن عباس من قولهم: يهب الذنب الكبير لمن يشاء، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير. انتهى كلامه. وهو مذهب المعتزلة. وذلك أن من مات مصرا على كبيرة لا يغفر الله له. وما ذكره عن الحسن لا يصح ألبتة. ومذهب أهل السنة؛ أن الله تعالى يغفر لمن يشاء وإن مات مصرا على كبيرة غير تائب منها.
* (والله غفور رحيم) * في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام * (رحيم ياأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) * قال ابن عطية: هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد، ولا أحفظ شيئا في ذلك مرويا انتهى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة: أنه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم، واستطرد لذكر قصة أحد. وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين، وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار، نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا قطعا لمخالطة الكفار ومودتهم، واتخاذ إخلاء منهم، لا سيما والمؤمنون في أول حال الإسلام ذوو إعسار، والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار. وكان أيضا أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية، كما جاء في الحديث: (إن الله تعالى لا يستجيب لمن مطعمه حرام ومشربه حرام إذا دعا) (وأن آكل الحرام يقول إذا حج: لبيك وسعديك. فيقول الله له: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك) فناسب ذكر هذه الآية هنا.
وقيل: ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والإمداد مقرونا بالصبر والتقوى، فبدأ بالأهم منها وهو: ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل، وأمر بالتقوى، ثم بالطاعة. وقيل: لما قال تعالى: * (ولله ما فى * السماوات وما في الارض) * وبين أن ما فيهما من الموجودات ملك له، ولا يجوز أن يتصرف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه. وآكل الربا متصرف في ماله بغير الوجه الذي أمر، نبه تعالى على ذلك، ونهى عما كانوا في الإسلام مستمرين عليه من حكم الجاهلية، وقد تقدم الربا في سورة البقرة.
وانتصب أضعافا، فانهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها، كان الطالب يقول: أتقضي أم تربي، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين، لأنه إذا لم يجد وفاء زاد في الدين، وزاد في الأصل. وأشار بقوله: مضاعفة، إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاما بعد عام. والربا محرم جميع أنواعه، فهذه الحال لا مفهوم لها، وليست قيدا في النهي، إذ ما لا يقع أضعافا مضاعفة مساو في التحريم لما كان أضعافا مضاعفة. وقد تقدم الكلام في نسبة الآكل إلى الربا في البقرة.
وقيل: المضاعفة منصرفة إلى الأموال. فإن كان الربا في السن يرفعونها ابنة
57

مخاض بابنة لبون، ثم حقة، ثم جذعة، ثم رباع، هكذا إلى فوق. وإن كان في النقود فمائة إلى قابل بمائتين، فإن لم يوفهما فأربعمائة. والأضعاف: جمع ضعف، وهو من جموع القلة. فلذلك أردفه بالمضاعفة. * (واتقوا الله لعلكم تفلحون) * لما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا، أمر بتقوى الله إذ هي الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهي الشرع عنه. ثم ذكر أن التقوى سبب لرجاء الفلاح وهو الفوز، وأمر بها مطلقا لا مقيدا بفعل الربا، لأنه لما نهى عن الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية الله تعالى، فلم يأت واتقوا الله في أكل الربا بل أمروا بالتقوى، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة. * (واتقوا النار التى أعدت للكافرين) * لما تقدم (واتقوا الله) والذوات لا تتقى، فإنما المتقي محذوف أوضحه في هذه الآية. فقال: واتقوا النار. والألف واللام في النار للجنس، فيجوز أن تكون النار التي وعد بها آكل الربا أخف من نار الكافر، أي أعد جنسها للكافرين. ويجوز أن تكون للعهد، فيكون آكل الربا قد توعد بالنار التي يعذب بها الكافر. وقيل: توعد أكلة الربا بنارالكفرة، إذ النار سبع طبقات: العليا منها وهي جهنم للعصاة، والخمس للكفار، والدرك الأسفل للمنافقين. فأكلة الربا يعذبون بنار الكفار، لا بنار العصاة. وقال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا.
وقال الزجاج: والمعنى واتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا. وقيل: اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان وتستوجبون به النار. وكان أبو حنيفة يقول: هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب محارمه. قال الزمخشري: وقد أمد ذلك أتبعه بما من تعليق رجاء المؤمن لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله، ومن تأمل هذه الآيات وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة، والتمني على الله تعالى. وفي ذكره تعالى لعل وعسى في نحو هذه المواضع، وإن قال الناس ما قالوا ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى، وصعوبة إصابة رضا الله عز وجل، وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه انتهى. كلامه وهو جار على مذهبه من تقنيط العاصي غير التائب من رحمة ربه، وولوعه بمذهبه يجعله يحمل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله، أو ما هو بعيد عنها. وتقدم شرح أعدت للكافرين في أوائل البقرة.
* (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) * قيل: أطيعوا الله في الفرائض، والرسول في السنن. وقيل: في تحريم الربا، والرسول فيما بلغكم من التحريم. وقيل: وأطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به وينهاكم عنه. فإن طاعة الرسول طاعة الله قال تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * وقال المهدوي: ذكر الرسول زيادة في التبيين والتأكيد والتعريف بأن طاعته طاعة الله. وقال ابن إسحاق: هذه الآية هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد، وانهزام من فر، وزوال الرماة من مركزهم. وقيل: صيغتها الأمر ومعناها العتب على المؤمنين فيما جرى منهم من أكل الربا، والمخالفة يوم أحد. والرحمة من الله إرادة الخير لعبيده، أو ثوابهم على أعمالهم.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من الفصاحة والبديع. من ذلك العام المراد به الخاص: في من أهلك، قال الجمهور: أراد به بيت عائشة. فالاختصاص في: والله سميع عليم، وفي: فليتوكل المؤمنون، وفي: ما في السماوات وما في الأرض، وفي: يغفر لمن يشاء ويعذب من
58

يشاء خص نفسه بذلك كقوله: * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم) * وفي * (*) * وفي * (العزيز الحكيم) * لأن العز من ثمرات النصر، والتدبير الحسن من ثمرات الحكمة.
والتشبيه: في ليقطع طرفا، شبه من قتل منهم وتفرق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه وانخرم نظامه، وفي: ولتطمئن قلوبكم شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه باطمئنان الرجل الساكن الحركة. وفي: فينقلبوا خائبين شبه رجوعهم بلا ظفر ولا غنيمة بمن أمل خيرا من رجل فأمه، فأخفق أمله وقصده. والطباق: في نصركم وأنتم أذلة، النصر إعزاز وهو ضد الذل. وفي: يغفر ويعذب، الغفران ترك المؤاخذة والتعذيب المؤاخذة بالذنب. والتجوز بإطلاق التثنية على الجمع في: أن يفشلا. وبإقامة اللام مقام إلى في: ليس لك أي إليك، أو مقام على: أي ليس عليك. والحذف والاعتراض في مواضع اقتضت ذلك والتجنيس المماثل في: أضعافا مضاعفة. وتسمية الشيء بما يؤول إليه في: لا تأكلوا سمى الأخذ أكلا، لأنه يؤول إليه.
2 (* (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والا رض أعدت للمتقين * الذين ينفقون فى السرآء والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولائك جزآؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين * قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الا رض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هاذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين * ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الا علون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الا يام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهدآء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين ءامنوا ويمحق الكافرين) *)) 2
الكظم: الإمساك على غيظ وغم. والكظيم: الممتلىء أسفار، وهو المكظوم. وقال عبد المطلب:
* فخضضت قومي واحتسبت قتالهم
*
والقوم من خوف المنايا كظم
*
وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كان يخرج من كثرته، فضبطه ومنعه كظم له. ويقال: كظم القربة إذا شدها وهي ملأى. والكظام: السير الذي يشد به فمها. وكظم البعير: جرته ردها في جوفه، أو حبسها قبل أن يرسلها إلى فيه
59

ويقال: كظم البعير والناقة إذا لم يجترا، ومنه قول الراعي:
* فأفضن بعد كظومهن بجرة
*
من ذي الأباطح أذرعين حقيلا
*
الحقيل: موضع، والحقيل أيضا نبت. ويقال: لا تمنع الإبل جرتها إلا عند الجهد والفزع، فلا تجتر. ومنه قول أعشى باهلة يصف نحار الإبل:
* قد تكظم البزل منه حين تبصره
*
حتى تقطع في أجوافها الجرر
*
الإصرار: اعتزام الدوام على الأمر. وترك الإقلاع عنه، من صر الدنانير ربط عليها. وقال أبو السمال:
علم الله أنها مني صرى
أي عزيمة. وقال الحطيئة يصف الخيل:
* عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا
*
علاليها بالمحضرات أصرت
*
أي ثبتت على عدوها. وقال آخر:
* يصر بالليل ما تخفى شواكله
*
يا ويح كل مصر القلب ختار
*
السنة: الطريقة. وقال المفضل: الأمة وأنشد:
* ما عاين الناس من فضل كفضلكم
*
ولا رؤى مثله في سالف السنن
*
وسنة الإنسان الشيء الذي يعمله ويواليه، كقول خالد الهذلي لأبي ذؤيب:
* فلا تجزعن من سنة أنت سرتها
*
فأول راض سنة من يسيرها
*
وقال سليمان بن قتيبة:
* وإن الألى بألطف من آل هاشم
*
تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
*
وقال لبيد:
* من أمة سنت لهم آباؤهم
*
ولكل قوم سنة وإمامها
*
وقال الخليل: سن الشيء صورة. والمسنون المصور، وسن عليهم شرا صبه، والماء والدرع صبهما. واشتقاق السنة يجوز أن يكون من أحد هذين المعنيين، أو من سن السنان والنصل حدهما على المسن، أو من سن الإبل إذا أحسن
60

رعيها. السير في الأرض: الذهاب.
وهن الشيء ضعف، ووهنه الشيء أضعفه. يكون متعديا ولازما. وفي الحديث: (وهنتهم حمى يثرب) والوهن الضعف. وقال زهير:
فأصبح الحبل منها واهنا خلقا
القرح والقرح لغتان، كالضعف والضعف، والكره والكره: الفتح لغة الحجاز: وهو الجرح. قال حندج:
* وبدلت قرحا داميا بعد صحة
*
لعل منايانا تحولن أبؤسا
*
وقال الأخفش: هما مصدران. ومن قال: القرح بالفتح الجرح، وبالضم المد، فيحتاج في ذلك إلى صحة نقل عن العرب. وأصل الكلمة الخلوص، ومنه: ماء قراح لا كدورة فيه، وأرض قراح خالصة الطين، وقريحة الرجل خالصة طبعه.
المداولة: المعاودة، وهي المعاهدة مرة بعد مرة. يقال: داولت بينهم الشيء فتداولوه. قال:
* يرد المياه فلا يزال مداويا
*
في الناس بين تميل وسماع
*
وأدلته جعلت له دولة وتصريفا، والدولة بالضم المصدر، وبالفتح الفعلة الواحدة، فلذلك يقال: في دولة فلان، لأنها مرة في الدهر. والدور والدول متقاربان، لكن الدور أعم. فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي.
المحص كالفحص، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء عن خلال أشياء منفصلة عنه. والمحص عن إبرازه عن أشياء متصلة به. قال الخليل: التمحيص التخليص عن العيوب، ويقال: محص الحبل إذا زال عنه بكثرة مره على اليد زبيره وأملس، هكذا ساق الزجاج اللفظة الحبل. ورواها النقاش: محص الجمل إذا زال عنه وبره وأملس. وقال حنيف الحناتم: وقد ورد ماء اسمه طويلع، إنك لمحص الرشاء، بعيد المستقى، مطل على الأعداء. المعنى: أنه لبعده يملس حبله بمر الأيدي. * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها * السماوات والارض * أعدت للمتقين) * قرأ ابن عامر ونافع: سارعوا بغير واو على الاستئناف، والباقون بالواو على العطف. لما أمروا بتقوى النار أمروا بالمبادرة إلى أسباب المغفرة والجنة. وأمال الدوري في قراءة الكسائي: وسارعوا لكسرة الراء. وقرأ أبي وعبد الله: وسابقوا والمسارعة: مفاعلة. إذ الناس كل واحد منهم ليصل قبل غيره فبينهم في ذلك مفاعلة. ألا ترى إلى قوله: * (فاستبقوا الخيرات) * والمسارعة إلى سبب المغفرة وهو الإخلاص، قاله عثمان. أو أداء الفرائض قاله علي. أو الإسلام قاله: ابن عباس. أو
61

التكبيرة الأولى من الصلاة مع الإمام قاله: أنس ومكحول. أو الطاعة قاله: سعيد بن جبير. أو التوبة قاله: عكرمة. أو الهجرة قاله: أبو العالية. أو الجهاد قاله: الضحاك. أو الصلوات الخمس قاله: يمان. أو الأعمال الصالحة قاله: مقاتل. وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التعيين والحصر.
قال الزمخشري: ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يستحقان به انتهى. وفي ذكر الاستحقاق دسيسة الاعتزال، وتقدم ذكر المغفرة على الجنة لأنها السبب الموصل إلى الجنة، وحذف المضاف من السماوات أي: عرض السماوات بعد حذف أداة التشبيه أي: كعرض. وبعد هذا التقدير اختلفوا، هل هو تشبيه حقيقي؟ أو ذهب به مذهب السعة العظيمة؟ لما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في الغاية القصوى، إذ السماوات والأرض أوسع ما علمه الناس من مخلوقاته وأبسطه، وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة، فعلى هذا لا يراد عرض ولا طول حقيقة قاله: الزجاج. وتقول العرب: بلاد عريضة، أي واسعة. وقال الشاعر:
* كأن بلاد الله وهي عريضة
*
على الخائف المطلوب كفة حابل
*
والقول الأول عن ابن عباس وغيره. قال ابن عباس وسعيد بن جبير: والجمهور تقرن السماوات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله انتهى ولا ينكر هذا. فقد ورد في الحديث في وصف الجنة وسعتها ما يشهد لذلك. وأورد ابن عطية من ذلك أشياء في كتابه. والجنة على هذا القول أكبر من السماوات، وهي ممتدة في الطول حيث شاء الله. وخص العرض بالذكر لدلالته على الطول، والطول إذا ذكر لا يدل على سعة العرض، إذ قد يكون العرض يسيرا كعرض الخيط.
وقال قوم: معناه كعرض السماوات والأرض طباقا، لا بأن تقرن كبسط الثياب. فالجنة في السماء وعرضها كعرضها، وعرض ما وازاها من الأرضين إلى السابعة، وهذه دلالة على العظيم. وأغنى ذكر العرض عن ذكر الطول. وقال ابن فورك: الجنة في السماء، ويزاد فيها يوم القيامة، وتقدم الكلام في الجنة أخلقت؟ وهو ظاهر القرآن. ونص الآثار الصحيحة النبوية أم لم تخلق؟ بعد وهو قول: المعتزلة، ووافقهم من أهل بلادنا القاضي منذر بن سعيد. وأما قول ابن فورك أنه يزاد فيها فيحتاج
إلى صحة نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم). وقال الكلبي: الجنان أربع: جنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الفردوس، وجنة النعيم. كل جنة منها كعرض السماء والأرض، لو وصل بعضها ببعض ما علم طولها إلا الله. وقال ابن بحر: هو من عرض المتاع على البيع، لا العرض المقابل للطول. أي لو عورضت بها لساوها نصيب كل واحد منكم، وجاء إعدادها للمتقين فخصوا بالذكر تشريفا لهم، وإعلاما بأنهم الأصل في ذلك، وغيرهم تبع لهم في إعدادها. وإن أريد بالمتقين متقو الشرك كان عاما في كل مسلم طائع أو عاص.
* (الذين ينفقون فى السراء والضراء) * قال ابن عباس والكلبي ومقاتل: السراء اليسر، والضراء العسر. وقال عبيد بن عمير والضحاك: الرخاء والشدة. وقيل: في الحياة، وبعد الموت بأن يوصى. وقيل: في الفرح وفي
62

الترح. وقيل: فيما يسر كالنفقة على الولد والقرابة، وفيما يضر كالنفقة على الأعداء. وقيل: في ضيافة الغني والإهداء إليه، وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم. وقيل: في المنشط والمكره. ويحتمل التقييد بهاتين الحالتين، ويحتمل أن يعني بهما جميع الأحوال، لأن هاتين الحالتين لا يخلو المنفق أن يكون على إحداهما. والمعنى: لا يمنعهم حال سرور ولا حال ابتلاء عن بذل المعروف. وروي عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب. وعن بعض السلف ببصلة. وابتدىء بصفة التقوى الشاملة لجميع الأوصاف الشريفة، ثم جيء بعدها بصفة البذل، إذ كانت أشق على النفس وأدل على الإخلاص. وأعظم الأعمال للحاجة إلى ذلك في الجهاد، ومواساة الفقراء. ويجوز في الدين الاتباع والقطع للرفع والنصب.
* (والكاظمين الغيظ) * أي الممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر، ولا يظهر له أثر، والغيظ: أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان، ولذلك فسره بعضهم هنا بالغضب.
والغيظ فعل نفساني لا يظهر على الجوارح، والغضب فعل لها معه ظهور في الجوارح، وفعل ما ولا بد، ولذلك أسند إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم، ولا يسند الغيظ إليه تعالى. ووردت أحاديث في كظم الغيظ وهو من أعظم العبادة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم): (من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا) وعنه عليه السلام: (ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله) وعن عائشة أن خادما لها غاظها فقالت: لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء وقال مقاتل: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال في هذه الآية: * (إن هذه في أمتي لقليل وقد كانوا أكثر في الأمم الماضية). وأنشد أبو القاسم بن حبيب:
* وإذا غضبت فكن وقورا كاظما
*
للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
*
* فكفى به شرفا تصبر ساعة
*
يرضى بها عنك الإله ويدفع
*
* (والعافين عن الناس) * أي الجناة والمسيئين. وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع: المماليك. وهذا مثال، إذ الأرقاء تكثر ذنوبهم لجهلهم وملازمتهم، وإنفاذ العقوبة عليهم سهل للقدرة عليهم. وقال الحسن: والكاظمين الغيظ عن الأرقاء، والعافين عن الناس إذا جهلوا عليهم. ووردت أخبار نبوية في العفو منها: (ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فليدخلوا الجنة، فيقال: من ذا الذي أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا). ورواه أبو سفيان للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه. ويجوز في الكاظمين والعافين القطع إلى النصب والاتباع، بشرط اتباع الذين ينفقون * (والله يحب المحسنين) * الألف واللام للجنس، فيتناول كل محسن. أو للعهد فيكون ذلك إشارة إلى من تقدم ذكره من المتصفين بتلك الأوصاف. والأظهر الأول، فيعم هؤلاء وغيرهم. وهذه الآية في المندوب إليه. ألا ترى إلى حديث جبريل عليه السلام: (ما الإيمان) فبين له العقائد (ما الإسلام)؟ فبين له الفرائض. (ما الإحسان؟) قال: (أن تعبد الله كأنك تراه) والمعنى: أن الله يحب المحسنين، وهم الذين يوقعون الأعمال الصالحة، مراقبين الله كأنهم مشاهدوه. وقال الحسن: الإحسان أن تعم ولا تخص، كالريح والمطر والشمس والقمر. وقال الثوري: الإحسان أن تحسن إلى المسئ، فإن الإحسان إليه مناجزة كنقد السوق، خذ مني وهات.
* (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا
63

أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) * نزلت في قول الجمهور بسبب منهال التمار، ويكنى: أبا مقبل، أتته امرأة تشتري منه تمرا فضمها وقبلها ثم ندم. وقيل: ضرب على عجزها.
والعطف بالواو مشعر بالمغايرة. لما ذكر الصنف الأعلى وهم المتقون الموصوفون بتلك الأوصاف الجميلة، ذكر من دونهم ممن قارف المعاصي وتاب وأقلع، وليس من باب عطف الصفات واتحاد الموصوف. وقيل: أنه من عطف الصفات، وأنه من نعت المتقين روى ذلك عن الحسن.
قال ابن عباس: الفاحشة الزنا، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة. وقال مقاتل: الفاحشة الزنا، وظلم النفس سائر المعاصي. وقال النخعي: الفاحشة القبائح، وظلم النفس من الفاحشة وهو لزيادة البيان. وقيل: جميع المعاصي وظلم النفس العمل بغير علم ولا حجة. وقال الباقر: الفاحشة النظر إلى الأفعال، وظلم النفس رؤية النجاة بالأعمال. وقيل: الفاحشة الكبيرة، وظلم النفس الصغيرة. وقيل: الفاحشة ما تظوهر به من المعاصي، وقيل: ما أخفى منها. وقال مقاتل والكلبي: الفاحشة ما دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل، وظلم النفس بالمعصية، وقيل: الفاحشة الذنب الذي فيه تبعة للمخلوقين، وظلم النفس ما بين العبد وبين ربه. وهذه تخصيصات تحتاج إلى دليل. وكثر استعمال الفاحشة في الزنا، ولذلك قال جابر حين سمع الآية: زنوا ورب الكعبة.
ومعنى ذكروا الله ذكروا وعيده قاله: ابن جرير وغيره. وقيل: العرض على الله قاله الضحاك. أو السؤال عنه يوم القيامة قاله: الكلبي ومقاتل والواقدي. وقيل: نهى الله. وقيل: غفرانه. وقيل: تعرضوا لذكره بالقلوب ليبعثهم على التوبة. وقيل: عظيم عفوه فطمعوا في مغفرته. وقيل: إحسانه فاستحيوا من إساءتهم. وهذه الأقوال كلها على أن الذكر هو بالقلب. وقيل: هو باللسان، وهو الاستغفار. ذكروا الله بقلوبهم: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، قاله: ابن مسعود، وأبو هريرة، وعطاء في آخرين. وروي عن أبي هريرة (ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ولا بد مع ذكر اللسان من مواطأة القلب، وإلا فلا اعتبار بهذا الاستغفار. ومن استغفر وهو مصرفا فاستغفاره يحتاج إلى استغفار. والاستغفار سؤال الله بعد التوبة الغفران.
وقيل: ندموا وإن لم يسألوا. والظاهر الأول. ومفعول استغفروا الله محذوف لفهم المعنى، أي فاستغفروه لذنوبهم. وتقدم الكلام على هذا الفعل وتعديته.
* (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * جملة اعتراض المتعاطفين، أو بين ذي الحال والحال. وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة إعرابا في قوله: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) * وهذه الجملة الاعتراضية فيها ترفيق للنفس، وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه، واختصاصه بغفران الذنب. قال الزمخشري: وصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز. وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط. وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل، وكرمه أعظم. والمعنى: أنه وحده معه مصححات المغفرة انتهى. وهو كلام حسن، غير أنه لم يخرج عن ألفاظ المعتزلة في قوله: وإن عدله يوجب المغفرة للتائب. وفي قوله: وجب العفو والتجاوز، ولو لم
64

نعلم أن مذهبه الاعتزال لتأولنا كلامه بأن هذا الوجوب هو بالوعد الصادق، فهو من جهة السمع لا من جهة العقل فقط.
* (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) * أي ولم يقيموا على قبيح فعلهم. وهذه الجملة معطوفة على فاستغفروا، فهي من بعض أجزاء الجزاء المترتب على الشرط. ويجوز أن تكون الواو للحال ويكون حالا من الفاعل في فاستغفروا فهي من بعض أجزاء الجزاء، أي: فاستغفروا لذنوبهم غير مصرين. وما موصولة اسمية، ويجوز أن تكون مصدرية.
قال قتادة: الإصرار المضي في الذنب قدما. وقال الحسن: هو إتيان الذنب حتى يتوب. وقال مجاهد: لم يصروا لم يمضوا. وقال السدي: هو ترك الاستغفار والسكوت عنه مع الذنب. والجملة من قوله: وهم يعلمون قال الزمخشري: حال من فعل الإصرار، وحرف النفي منصب عليهما معا، والمعنى: وليسوا ممن يصر على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها، لأنه قد يعذر من لم يعلم قبح القبيح.
وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات: متقون، وتائبون، ومصرون. وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه انتهى كلامه. وآخره على طريقته الاعتزالية من: أن من مات مصرا دخل النار ولا يخرج منها أبدا. وأجاز أبو البقاء أن يكون: وهم يعلمون حالا من الضمير في فاستغفروا، فإن أعربنا ولم يصروا جملة حالية من الضمير في فاستغفروا، جاز أن يكون: وهم يعلمون حالا منه أيضا. وإن كان ولم يصروا معطوفا على فاستغفروا كان ما قاله أبو البقاء بعيدا للفصل بين ذي الحال والحال بالجملة. وأما متعلق العلم فتقدم في كلام الزمخشري.
وقال أبو البقاء: وهم يعلمون المؤاخذة بها، أو عفو الله عنها. وقال ابن عباس والحسن: وهم يعلمون أن تركه أولى من التمادي. وقال مجاهد وأبو عمارة: يعلمون أن الله يتوب على من تاب. وقال السدي ومقاتل: يعلمون أنهم قد أذنبوا. وقيل: يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها، أطلق اسم العلم على الذكر لأنه من ثمرته. وقال ابن إسحاق: يعلمون ما حرمت عليهم. وقال الحسين بن الفضل: يعلمون أن لهم ربا يغفر الذنب. وقال ابن بحر: يعلمون بالذنب. وقيل: يعلمون العفو عن الذنوب وإن كثرت.
* (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها) * أولئك إشارة إلى الصنفين. وجوز أن يكون مختصا بالصنف الثاني، ويكون: والذين إذا فعلوا مبتدأ، وأولئك وما بعده خبره، وجزاؤهم مغفرة مبتدأ وخبر في موضع خبر أولئك. وثم محذوف أي: جزاء أعمالهم مغفرة من ربهم لذنوبهم.
وقال ابن عطية: أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره. وقال الزمخشري: قال أجر العاملين بعد قوله جزاؤهم، لأنهما في معنى واحد، وإنما خالف بين اللفظين لزيادة
65

التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل، وأجر مستحق عليه، لا كما يقول المبطلون. وروى أن الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام: ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي؟ وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة. وعن الحسن يقول الله يوم القيامة: جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم. وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد:
* ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
*
إن السفينة لا تجري على اليبس
*
انتهى ما ذكره، والبيت الذي كانت رابعة تنشده هو لعبد الله بن المبارك. وكلام الزمخشري جار على مذهبه الاعتزال من أن الإيمان دون عمل لا ينفع في الآخرة.
* (ونعم أجر العاملين) * المخصوص بالمدح محذوف تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك، أي المغفرة والجنة * (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * الخطاب للمؤمنين، والمعنى: أنه إن ظهر عليكم الكفار يوم أحد فإن حسن العاقبة للمتقين، وإن أديل الكفار فالعاقبة للمؤمنين. وكذلكم كفاركم هؤلاء عاقبتهم إلى الهلاك. وقال النقاش: الخطاب للكفار لقوله بعد * (ولا تهنوا) * ولما ذكر تعالى الجمل المعترضة في قصة أحد عاد إلى كمالها، فخاطبهم بأنه إن وقعت إدالة الكفار فالعاقبة للمؤمنين. والمعنى: قد تقدمت ومضت.
وقال الزجاج: أهل سنن أي طرائق أو أمم، على شرح المفضل أن السنة الأمة. وقال الحسن: سنة أقضية في إهلاك الأمم السالفة عاد وثمود وغيرهم. وقال ابن زيد: أمثال. وقال ابن عباس: وقائع وطلب السير في الأرض، وإن كانت أحوال من تقدم تدرك بالأخبار دون السير. لأن الأخبار إنما تكون ممن سار وعاين، وعنه ينقل: فطلب منه الوجه الأكمل إذ للمشاهدة أثر أقوى من أثر السماع. وقيل: السير هنا مجاز عن التفكر، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس. وقال الجمهور: النظر هنا من نظر العين. وقال قوم: هو بالفكر. والجملة الاستفهامية في موضع المفعول لانظروا لأنها معلقة وكيف في موضع نصب خبر كان. والمعنى: ما سنة الله في الأمم المكذبين من وقائعه كما قال تعالى: * (فكلا أخذنا بذنبه) * * (وقتلوا تقتيلا * سنة الله فى الذين خلوا من قبل) *.
وفي هذه الآية دلالة على جواز السفر في فجاج الأرض للاعتبار، ونظر ما حوت من عجائب مخلوقات الله تعالى، وزيارة الصالحين وزيارة الأماكن المعظمة كما يفعله سياح هذه الملة، وجواز النظر في كتب المؤرخين لأنها سبيل إلى معرفة سير العالم وما جرى عليهم من المثلاث.
* (هاذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) * قال الحسن وقتادة وابن جريج والربيع: الإشارة إلى القرآن. وقيل: الإشارة إلى قوله: قد خلت من قبلكم سنن قاله: ابن إسحاق، والطبري، وجماعة. أي هذا تفسير للناس إن قبلوه. وقال الشعبي: هذا بيان للناس من العمى. وقال الزمخشري: هذا بيان للناس، إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب. يعني: حثهم على النظر في سوء عواقب
66

المكذبين قبلهم، والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم. وهدى وموعظة للمتقين يعني: أنه مع كونه بيانا وتنبيها للمكذبين فهو زيادة وتثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين. ويجوز أن يكون قد خلت جملة معترضة للبعث على الإيمان، وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين. ويكون قوله: هذا بيان إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرين انتهى كلامه. وهو حسن. ولما كان ظاهرا واضحا قال: بيان للناس. ولما كانت الموعظة والهدى لا يكونان إلا لمن اتقى خص بذلك المتقين، لأن من عمى فكره وقسا فؤاده لا يهتدي ولا يتعظ، فلا يناسب أن يضاف إليه العدى والموعظة.
* (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) *. لما انهزم من انهزم من المؤمنين أقبل خالد يريد أن يعلو الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك) فنزلت قاله: ابن عباس. وزاد الواقدي: أن رماة المسلمين صعدوا الجبل ورموا بحبل المشركين حتى هزموهم، فذلك قوله: وأنتم الأعلون. وقال القرطبي: وأنتم الغالبون بعد أحد، فلم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه السلام، وفي كل عسكر كان بعد ولو لم يكن فيه إلا واحد من الصحابة. وقال الكلبي: نزلت بعد أحد حين أمروا بطلب القوم مع ما أصابهم من الجراح. وقال: لا يخرج إلا من شهد معنا أمس، فاشتد ذلك على المسلمين فنزلت. نهاهم عن أن يضعفوا عن جهاد أعدائهم، وعن الحزن على من استشهد من إخوانهم، فإنهم صاروا إلى كرامة الله قاله: ابن عباس. أو لأجل هزيمتهم وقتلهم يوم أحد قاله: مقاتل. أو لما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم) من شجه وكسر رباعيته ذكره: الماوردي. أو لما فات من الغنيمة ذكره: أحمد النيسابوري. أو لمجموع ذلك. وآنسهم بقوله: وأنتم الأعلون، أي الغالبون وأصحاب العاقبة. وهو إخبار بعلو كلمة الإسلام قاله: الجمهور، وهو الظاهر.
وقيل: * (أنتم * الاعلون) *، أي قد أصبتم ببدر ضعف ما أصابوا منكم بأحد أسرا وقتلا فيكون وأنتم الأعلون نصبا على الحال، أي لاتحزنوا عالين أي منصورين على عدوكم انتهى. وأما كونه من علوهم الجبل كما أشير إليه في سبب النزول فروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير. قال ابن عطية: ومن كرم الخلق أن لا يهن الإنسان في حربه وخصامه، ولا يلين إذا كان محقا، وأن يتقضى جميع قدرته، ولا يضرع ولو مات. وإنما يحسن اللين في السلم والرضا، ومنه قوله عليه السلام: (المؤمن هين لين والمؤمنون هينون لينون) وقال منذر بن سعيد: يجب بهذه الآية ألا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة وشوكة، فإن كانوا في قطر ما على غير ذلك فينظر الإمام لهم في لا صلح انتهى.
وفي قوله: وأنتم الأعلون دلالة على فضيلة هذه الأمة، إذ خاطبهم مثل ما خاطب موسى كليمه صلى الله عليه وسلم) على نبينا وعليه، إذ قال له: لا تخف إنك أنت الأعلى. وتعلق قوله: إن كنتم مؤمنين بالنهي، فيكون ذلك هزا للنفوس يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله، وقلة المبالاة بالأعداء. أو بالجملة الخبرية: أي إن صدقتم بما وعدكم وبشركم به من الغلبة. ويكون شرطا على بابه يحصل به الطعن على من ظهر نفاقه في ذلك اليوم، أي: لا تكون الغلبة والعلو إلا للمؤمنين، فاستمسكوا بالإيمان.
* (ءان * يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * المعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر، ثم لم يضعفوا إن قاتلوكم بعد ذلك، فلا تضعفوا أنتم. أو فقد مس القوم في غزوة أحد قبل مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) ونحوه، فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون. وهذه تسلية منه تعالى للمؤمنين والتأسي فيه أعظم مسلاة. وقالت الخنساء:
* ولولا كثرة الباكين حولي
*
على إخوانهم لقتلت نفسي
*
67

* وما يبكون مثل أخي ولكن
*
أعزي النفس عنه بالتأسي
*
والمثلية تصدق بأدنى مشابهة. وقال ابن عباس والحسن: أصاب المؤمنين يوم أحد ما أصاب المشركين يوم بدر، استشهد من المؤمنين يوم أحد سبعون. وقال الزمخشري: قتل يومئذ أي يوم أحد خلق من الكفار، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (إذ تحسونهم بإذنه) * فعلى قوله يكون مس القوم قرح مثله يوم بدر. وأبعد من ذهب إلى أن القوم هنا الأمم التي قد خلت، أي نال مؤمنهم من أذى كافرهم مثل الذي نالكم من أعدائكم. ثم كانت العاقبة للمؤمنين، فلكم بهم أسوة. فإن تأسيكم بهم مما يخفف ألمكم، ويثبت عند اللقاء أقدامكم.
وقرأ الأخوان وأبو بكر والأعمش من طريقة قرح بضم القاف فيهما، وباقي السبعة بالفتح، والسبعة على تسكين الراء. قال أبو علي: والفتح أولى انتهى. ولا أولوية إذ كلاهما متواتر. وقرأ أبو السمال وابن السميقع قرح بفتح القاف والراء، وهي لغة: كالطرد والطرد، والشل والشلل. وقرأ الأعمش: إن تمسسكم بالتاء من فوق قروح بالجمع، وجواب الشرط محذوف تقديره: فتأسوا فقد مس القوم قرح، لأن الماضي معنى يمتنع أن يكون جوابا للشرط. ومن زعم أن جواب الشرط هو فقد مس، فهو ذاهل.
* (وتلك الايام نداولها بين الناس) * أخبر تعالى على سبيل التسلية أن الأيام على قديم الدهر لا تبقى لناس على حالة واحدة. والمراد بالأيام أوقات الغلبة والظفر، يصرفها الله على ما أراد تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، كما جاء الحرب سجال. وقال:
* فيوم علينا ويوم لنا
*
ويوم نساء ويوم نسر
*
وسمع بعض العرب الأقحاح قارئا يقرأ هذه الآية فقال: إنما هو نداولها بين العرب، فقيل له: إنما هو بين الناس، فقال: أنا الله، ذهب ملك العرب ورب الكعبة. وقرئ شاذا. يداولها بالياء. وهو جار على الغيبة قبله وبعده. وقراءة النون فيها التفات، وإخبار بنون العظمة المناسبة لمداولة الأيام، والأيام: صفة لتلك، أو بدل، أو عطف بيان. والخبر نداولها، أو خبر لتلك، ونداولها جملة حالية.
* (وليعلم الله الذين ءامنوا) * هذه لام كي قبلها حرف العطف، فتتعلق بمحذوف متأخر أي: فعلنا ذلك وهو المداولة، أو نيل الكفار منكم. أو هو معطوف على سبب محذوف هو وعامله أي: فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم. هكذا قدره الزمخشري وغيره، ولم يعين فاعل العلة المحذوفة إنما كنى عنه بكيت وكيت، ولا يكنى عن الشيء حتى يعرف. ففي هذا الوجه حذف العلة، وحذف عاملها، وإبهام فاعلها. فالوجه الأول أظهر إذ ليس فيه غير حذف العامل. ويعلم هنا ظاهره التعدي إلى واحد، فيكون كعرف. وقيل: يتعدى إلى ثنين، الثاني محذوف تقديره: مميزين بالإيمان من غيرهم. أي الحكمة في هذه المداولة: أن يصير الذين آمنوا متميزين عن من يدعي الإيمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام.
وعلم الله تعالى لا يتجدد، بل لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها، وهو من باب التمثيل بمعنى فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت. وقيل: معناه ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلا أنهم يؤمنون، ويساوق علمه إيمانهم ووجودهم، وإلا فقد علمهم في الأزل. إذ علمه لا
68

يطرأ عليه التغير. ومثله أن يضرب حاكم رجلا ثم يبين سبب الضرب ويقول: فعلت هذا التبيين لا ضرب مستحقا معناه: ليظهر أن فعلي وافق استحقاقه. وقيل: معناه وليعلمهم علما يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات. وقيل: العلم باق على مدلوله، وهو على حذف مضاف التقدير: وليعلم أولياء الله، فأسند ذلك إلى نفسه تفخيما. * (ويتخذ * منهم * شهداء) * أي بالقتل في سبيله، فيكرمهم بالشهادة. يعني يوم أحد. وقد ورد في فضل الشهيد غير ما آية وحديث. أو شهداء على الناس يوم القيامة أي وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلي به صبركم على الشدائد من قوله تعالى: * (لتكونوا شهداء على الناس) *. والقول
الأول أظهر وأليق بقصة أحد.
* (والله لا يحب الظالمين) * أي لا يحب من لا يكون ثابتا على الإيمان صابرا على الجهاد. وفيه إشارة إلى أن من انخذل يوم أحد كعبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين، فإنهم بانخذالهم، لم يطهر إيمانهم بل نجم نفاقهم، ولم يصلحوا لاتخاذهم شهداء بأن يقتلوا في سبيل الله. وذلك إشارة أيضا إلى أن ما فعل من ادالة الكفار، ليس سببه المحبة منه تعالى، بل ما ذكر من الفوائد من ظهور إيمان المؤمن وثبوته، واصطفائه من شاء من المؤمنين للشهادة. وهذه الجملة اعترضت بين بعض العلل وبعض، لما فيها من التشديد والتأكيد. وأ مناط انتفاء المحبة هو الظلم، وهو دليل على فحاشته وقبحه من سائر الأوصاف القبيحة.
* (وليمحص الله الذين ءامنوا) * أي يطهرهم من الذنوب، ويخلصهم من العيوب، ويصفيهم. قال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي ومقاتل وابن قتيبة في آخرين: التمحيص الابتلاء والاختبار. قال الشاعر:
* رأيت فضيلا كان شيئا ملففا
*
فكشفه التمحيص حتى بداليا
*
وقال الزجاج: التنقية والتخليص، وذكره عن: المبرد، وعن الخليل. وقيل: التطهير. وقال الفراء: هو على حذف مضاف، أي وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا.
* (ويمحق الكافرين) * أي يهلكهم شيئا فشيئا. والمعنى: أن الدولة إن كانت للكافرين على المؤمنين كانت سببا لتمييز المؤمن من غيره، وسببا لاستشهاد من قتل منهم، وسببا لتطهير المؤمن من الذنب. فقد جمعت فوائد كثيرة للمؤمنين، وإن كان النصر للمؤمنين على الكافرين كان سببا لمحقهم بالكلية واستئصالهم قاله: ابن عباس. وقال ابن عباس أيضا: ينقصهم ويقللهم، وقاله: الفراء. وقال مقاتل: يذهب دعوتهم. وقيل: يحبط أعمالهم، ذكره الزجاج، فيكون على حذف مضاف.
والظاهر أن المراد بالكافرين هنا طائفة مخصوصة، وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم). لأنه تعالى لم يمحق كل كافر، بل كثير منهم باق على كفره. فلفظة الكافرين عام أريد به الخصوص. قيل: وقابل تمحيص المؤمن بمحق الكافر، لأن التمحيص إهلاك الذنوب، والمحق إهلاك النفوس، وهي مقابلة لطيفة في المعنى انتهى. وفي ذكر ما يلحق المؤمن عند إدالة الكفار تسلية لهم وتبشير بهذه الفوائد الجليلة، وأن تلك الإدالة لم تكن لهوان بهم، ولا تحط من أقدارهم، بل لما ذكر تعالى.
وقد تضمنت هذه الآيات فنونا من الفصاحة والبديع والبيان: من ذلك الاعتراض في: والله يحب المحسنين، وفي: ومن يغفر الذنوب إلا الله، وفي: والله لا يحب الظالمين. وتسمية الشيء باسم سببه في: إلى مغفرة من ربكم. والتشبيه في: عرضها السماوات والأرض. وقيل: هذه استعارة وإضافة الحكم إلى الأكثر في أعدت للمتقين، وهي معدة لهم ولغيرهم من العصاة. والطباق في: السراء والضراء، وفي: ولا تهنوا والأعلون، لأن الوهن والعلو ضدان. وفي آمنوا
69

والظالمين، لأن الظالمين هنا هم الكافرون، وفي: آمنوا ويمحق الكافرين. والعام يراد به الخاص في: والعافين عن الناس يعني من ظلمهم أو المماليك. والتكرار في: واتقوا الله، واتقوا النار، وفي لفظ الجلالة، وفي والله يحب، وذكروا الله، وفي وليعلم الله، والله لا يحب، وليمحص الله، وفي الذين ينفقون، والذين إذا فعلوا. والاختصاص في: يحب المحسنين، وفي: وهم يعلمون، وفي: عاقبة المكذبين، وفي: موعظة للمتقين، وفي: إن كنتم مؤمنين، وفي: لا يحب الظالمين، وفي: وليمحص الله الذين آمنوا، وفي: ويمحق الكافرين. والاستعارة في: فسيروا، على أنه من سير الفكر لا القدم، وفي: وأنتم الأعلون، إذا لم تكن من علو المكان، وفي: تلك الأيام نداولها، وفي: وليمحص ويمحق، والإشارة في هذا بيان. وفي: وتلك الأيام. وإدخال حرف الشرط في الأمر المحقق في: إن كنتم مؤمنين، إذا علق عليه النهي والحذف في عدة مواضع.
2 (* (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين * ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون * وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين * وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الا خرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين * وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لمآ أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فىأمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فأاتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الا خرة والله يحب المحسنين * ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين * سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب بمآ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين * ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الا مر وعصيتم من بعد مآ أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الا خرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله
70

ذو فضل على المؤمنين) *))
) *
كائن: كلمة يكثر بها بمعنى كم الخبرية. وقل الاستفهام بها. والكاف للتشبيه، دخلت على أي وزال معنى التشبيه، هذا مذهب سيبويه والخليل، والوقف على قولهما بغير تنوين. وزعم أبو الفتح: أن أيا وزنه فعل، وهو مصدر أوى يأوى إذا انضم واجتمع، أصله: أوى عمل فيه ما عمل في طي مصدر طوي. وهذا كله دعوى لا
يقوم دليل على شيء منها. والذي يظهر أنه اسم مبني بسيط لا تركيب فيه، يأتي للتكثير مثل كم، وفيه لغات: الأولى وهي التي تقدمت. وكائن ومن ادعى أن هذه اسم فاعل من كان فقوله بعيد. وكئن على وزن كعن، وكأين وكيين، ويوقف عليها بالنون. وأكثر ما يجيء تمييزها مصحوبا بمن. ووهم ابن عصفور في قوله: إنه يلزمه من، وإذا حذفت انتصب التمييز سواء أوليها أم لم يليها، نحو قول الشاعر:
* أطرد اليأس بالرجاء فكاين
*
آلما عم يسره بعد عسر
*
وقول الآخر:
* وكائن لنا فضلا عليكم ونعمة
*
قديما ولا تدرون ما من منعم
*
الرعب: الخوف، رعبته فهو مرعوب. وأصله من الملي. يقال: سيل راعب يملأ الوادي، ورعبت الحوض ملأته.
السلطان: الحجة والبرهان، ومنه قيل للوالي: سلطان. وقيل: اشتقاق السلطان من السليط، وهو ما يضيء به السراج من دهن السمسم. وقيل: السليط الحديد، والسلاطة الحدة، والسلاطة من التسليط وهو القهر. والسلطان من ذلك فالنون زائدة. والسليطة: المرأة الصخابة. والسليط: الرجل الفصيح اللسان.
المثوى: مفعل من ثوى يثوى أقام. يكون للمصدر والزمان والمكان، والثواء: الإقامة بالمكان.
الحس: القتل الذريع، يقال: حسه يحسه. قال الشاعر:
* حسسناهم بالسيف حسا فأصبحت
*
بقيتهم قد شردوا وتبددوا
*
وجراد محسوس قتله البرد، وسنة حسوس أتت على كل شيء.
التنازع: الاختلاف، وهو من النزع وهو الجذب. ونزع ينزع جذب، وهو متعد إلى واحد. ونازع متعد إلى اثنين، وتنازع متعد إلى واحد. قال:
* فلما تنازعنا الحديث وأسمحت
*
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
*
* (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * هذه الآية وما بعدها عتب شديد لمن وقعت منهم الهفوات يوم أحد. واستفهم على سبيل الإنكار أن يظن أحد أن يدخل الجنة وهو مخل بما افترض عليه من الجهاد والصبر عليه. والمراد بنفي العلم انتفاء متعلقه، لأنه منتف بانتفائه كما قال تعالى: * (ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم) * المعنى: لم يكن فيهم خير، لأن ما لم يتعلق به علم الله تعالى موجودا لا يكون موجودا أبدا.
وأم هنا منقطعة في قول الأكثرين تتقدر ببل، والهمزة على ما قرر في النحو. وقيل:
71

هي بمعنى الهمزة. وقيل: أم متصلة. قال ابن بحر: هي عديلة همزة تتقدر من معنى ما تتقدم، وذلك أن قوله: * (إن يمسسكم قرح وتلك الايام نداولها) * إلى آخر القصة يقتضي أن يتبع ذلك: أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمل مشقة وأن تجاهدوا فيعلم الله ذلك منكم واقعا. انتهى كلامه. وتقدم لنا إبطال مثل هذا القول. وهذا الاستفهام الذي تضمنته معناه الإنكار والإضراب الذي تضمنته أيضا هو ترك لما قبله من غير إبطال وأخذ فيما بعده.
وقال أبو مسلم الأصبهاني: أم حسبتم نهي وقع بلفظ الاستفهام الذي يأتي للتبكيت. وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولما يقع منكم الجهاد. لما قال: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا) * كان في معنى: أتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر. وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة، وأوجب الصبر على تحمل مشاقها، وبين وجوه مصالحها في الدين والدنيا. فلما كان كذلك كان من البعد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه القاعدة انتهى كلامه. وظاهره: أن أم متصلة، وخسبتم هنا بمعنى ظننتم الترجيحية، وسد مسد مفعوليها أن وما بعدها على مذهب سيبويه، وسد مسد مفعول واحد والثاني محذوف على مذهب أبي الحسن.
ولما يعلم: جملة حالية، وهي نفي مؤكد لمعادلته للمثبت المؤكد بقد. فإذا قلت: قد قام زيد ففيه من التثبيت والتأكيد ما ليس في قولك: قام زيد. فإذا نفيته قلت: لما يقم زيد. وإذا قلت: قام زيد كان نفيه لم يقم زيد، قاله سيبويه وغيره. وقال الزمخشري: ولما بمعنى لم، إلا أن فيه ضربا من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى توقعه فيما يستقبل. وتقول: وعدني أن يفعل كذا، ولما تريد، ولم يفعل، وأنا أتوقع فعله انتهى كلامه. وهذا الذي قاله في لما أنها تدل على توقع الفعل المنهى بها فيما يستقبل، لا أعلم أحدا من النحويين ذكره. بل ذكروا أنك إذا قلت: لما يخرج زيد دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلا نفيه إلى وقت الإخبار. أما أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئا يقارب ما قاله الزمخشري. قال: لما لتعريض الوجود بخلاف لم.
وقرأ الجمهور بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن وثاب والنخعي بفتحها، وخرج على أنه اتباع لفتحة اللام وعلى إرادة النون الخفيفة وحذفها كما قال الشاعر:
* لا تهين الفقير علك أن
*
تركع يوما والدهر قد رفعه
*
وقرأ الجمهور: (ويعلم) برفع الميم فقيل: هو مجزوم، وأتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ: ولما يعلم بفتح الميم على أحد التخريجين. وقيل: هو منصوب. فعلى مذهب البصريين بإضمار أن بعد واو مع نحو، لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف، وتقرير المذهبين في علم النحو. وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد بكسر الميم عطفا على ولما يعلم. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ويعلم برفع الميم. قال الزمخشري: على أن الواو للحال كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون انتهى. ولا يصلح ما قال، لأن واو الحال لا تدخل على المضارع، لا يجوز: جاء زيدو يضحك، وأنت تريد جاء زيد يضحك، لأن المضارع واقع موقع
72

اسم الفاعل. فكما لا يجوز جاء زيد وضاحكا، كذلك لا يجوز جاء زيد ويضحك. فإن أول على أن المضارع خبر مبتدأ محذوف أمكن ذلك، التقدير: وهو يعلم الصابرين كما أولوا قوله: نجوت وأرهنهم مالكا، أي وأنا أرهنهم. وخرج غير الزمخشري قراءة الرفع على استئناف الاخبار، أي: وهو يعلم الصابرين.
وفي إنكار الله تعالى على من ظن أن دخول الجنة يكون مع انتفاء الجهاد، والصبر عند لقاء العدو دليل على فرضية الجهاد إذ ذاك، والثبات للعدو وقد ذكر في الحديث: (أن التولي عند الزحف من السبع الموبقات).
* (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) * الخطاب للمؤمنين، وظاهره العموم والمراد الخصوص. وذلك أن جماعة من المؤمنين لم يحضروا غزوة بدر، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) إنما خرج مبادرا يريد عير القريش، فلم يظنوا حربا، وفاز أهل بدر بما فازوا به من الكرامة في الدنيا والآخرة، فتمنوا لقاء العدو ليكون لهم يوم كيوم بدر، وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد. فلما كان في يوم أحد ما كان من قتل عبد الله بن قميئة مصعب بن عمير الذاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ظانا أنه رسول الله وقال: قتلت محمدا وصرخ بذلك صارخ، وفشاد ذلك في الناس انكفوا فارين، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم) (إلي عباد الله) حتى انحازت إليه طائفة واستعذروا عن انكفافهم قائلين: أتانا خبر قتلك، فرعبت قلوبنا، فولينا مدبرين، فنزلت هذه الآية تلومهم على ما صدر منهم مع ما كانوا قرروا على أنفسهم من تمني الموت. وعبر عن ملاقاة الرجال ومجالدتهم بالحديد بالموت، إذ هي حالة تتضمن في الأغلب الموت، فلا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت. ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنيا لغلبة الكافر المسلم، إنما يجيء إلا من طابت نفسه بالموت. ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنيا لغلبة الكافر المسلم، إنما يجيء ذلك في الضمن لا أنه مقصود، إنما مقصده نيل رتبة الشهادة لما فيه من الكرامة عند الله. وأنشد عبد الله بن رواحة وقد نهض إلى موته وقال لهم: ردكم الله تعالى فقال:
* لكنني أسأل الرحمن مغفرة
*
وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
*
* حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
*
رشد الله من غاز وقد رشدا
*
* (من قبل أن تلقوه) *: أي من قبل أن تشاهدوا شدائده ومضائقه. وضمير المفعول في تلقوه عائد على الموت، وقيل: على العدو، وأضمر لدلالة الكلام عليه. والأول أظهر، لأنه يعود على مذكور. وقرأ النخعي والزهري: تلا قوه ومعناها ومعنى تلقوه سواء، من حيث أن معنى لقي يتضمن أنه من اثنين، وإن لم يكن على وزن فاعل. وقرأ مجاهد من قبل بضم اللام مقطوعا عن الإضافة، فيكون موضع أن تلقوه نصبا على أنه بدل اشتمال من الموت. فقد رأيتموه أي عاينتم أسبابه وهي
الحرب المستعرة كما قال:
لقد رأيت الموت قبل ذوقه
وقال:
* ووجدت ريح الموت من تلقائهم
*
في مأزق والخيل لم تتبدد
*
73

وقيل: معنى الرؤية هنا العلم، ويحتاج إلى حذف المفعول الثاني أي: فقد علمتم الموت حاضرا، وحذف لدلالة المعنى عليه. وحذف أحد مفعولي ظن وأخواتها عزيز جدا، ولذلك وقع فيه الخلاف بين النحويين. وقرأ طلحة بن مصرف. فلقد رأيتموه باللام، وأنتم تنظرون جملة حالية للتأكيد، ورفع ما يحتمله رأيتموه من المجاز أو من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين، أي معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا، فعلى هذا يكون متعلق النظر متعلق الرؤية، وهذا قول الأخفش، وهو الظاهر. وقيل: وأنتم بصراء أي ليس بأعينكم علة. ويرجع معناه إلى القول الأول، وقاله الزجاج والأخفش أيضا. وقيل: تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم) وما فعل به. وقيل: تنظرون نظر تأمل بعد الرؤية. وقيل: تنظرون في أسباب النجاة والفرار، وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) هل قتل أم لا؟ وقيل: تنظرون ما تمنيتم وهو عائد على الموت. وقيل: تنظرون في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب، هل وفيتم أو خالفتم؟ فعلى هذا المعنى لا تكون جملة حالية، بل هي جملة مستأنفة الاخبار أتى بها على سبيل التوبيخ. فكأنه قيل: وأنتم حسباء أنفسكم فتأملوا قبح فعلكم. وهذه الآية وإن كانت صيغتها صيغة الخبر فمعناها العتب والإنكار على من انهزم يوم أحد، وفيها محذوف أخيرا بعد قوله: فقد رأيتموه وأنتم تنظرون، أي تفرقهم بعد رؤية أسبابه وكشف الغيب، أن متعلق تمنيكم نكصتم عنه وقال ابن الأنباري: يقال: إن معنى رأيتموه قابلتموه وأنتم تنظرون بعيونكم، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حين اختلف معناهما، لأن الأول بمعنى المقابلة والمواجهة والثاني بمعنى رؤية العين انتهى. ويكون إذ ذاك، وأنتم تنظرون جملة في موضع الحال المبينة لا المؤكدة إلا أن المشهور في اللغة أن الرؤية هي الأبصار، لا المقابلة والمواجهة.
* (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) * هذا استمرار في عتبهم آخر أن محمدا رسول كمن مضى من الرسل، بلغ عن الله كما بلغوا. وليس بقاء الرسل شرطا في بقاء شرائعهم، بل هم يموتون وتبقى شرائعهم يلتزمها أتباعهم. فكما مضت الرسل وانقضوا، فكذلك حكمهم هو في ذلك واحد.
وقرأ الجمهور الرسل بالتعريف على سبيل التفخيم للرسل، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله. وفي مصحف عبد الله رسل بالتنكير، وبها قرأ: ابن عباس، وقحطان بن عبد الله. ووجهها أنه موضع تبشير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم) في معنى الحياة، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك. وهكذا يتصل في أماكن الاقتضاء به بالشيء ومنه: * (وقليل من عبادى الشكور) * * (وما ءامن معه إلا قليل) * إلى غير ذلك. ذكر هذا الفرق بين التعريف والتنكير في نحو هذا المساق أبو الفتح، وقراءة التعريف أوجه، إذ تدل على تساوي كل في الخلق والموت، فهذا الرسول هو مثلهم في ذلك.
* (وما محمد إلا رسول قد خلت من) * لما صرخ بأن محمدا قد قتل، تزلزلت أقدام المؤمنين ورعبت قلوبهم وأمعنوا في الفرار، وكانوا ثلاث فرق: فرقة قالت: ما نصنع بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟ قاتلوا على ما قاتل عليه، فقاتلوا حتى قتلوا، منهم: أنس بن النضر. وفرقة قالوا: نلقى إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا. وفرقة أظهرت النفاق وقالوا: ارجعوا إلى دينكم الأول، فلو كان محمد نبيا ما قتل.
وظاهر الانقلاب على العقبين هو الارتداد. وقيل: هو بالفرار لا الارتداد. وقد جاء هذا اللفظ في الارتداد والكفر في قوله: (لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) وهذه الهمزة هي همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار. والفاء للعطف، وأصلها التقديم. إذ التقدير: فأإن مات. لكنهم يعتنون بالاستفهام فيقدممونه على حرف العطف، وقد تقدم لنا مثل هذا وخلاف الزمخشري فيه. وقال الخطيب كمال الدين الزملكاني: الأوجه أن يقدر محذوف بعد الهمزة وقيل الفاء، تكون الفاء عاطفة عليه. ولو صرح به لقيل:
74

أتؤمنون به مدة حياته، فإن مات ارتددتم، فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد وفاتهم انتهى. وهذه نزعة زمخشرية. وقد تقدم الكلام معه في نحو ذلك. وأن هذه الفاء إنما عطفت الجملة المستفهم عنها على الجملة الخبرية قبلها، وهمزة الاستفهام داخلة على جملة الشرط وجزائه. وجزاؤه، هو انقلبتم، فلا تغير همزة الاستفهام شيئا من أحكام الشرط وجزائه. فإذا كانا مضارعين كانا مجزومين نحو: أإن تأتني آتك. وذهب يونس إلى أن الفعل الثاني يبني على أداة الاستفهام، فينوي به التقديم، ولا بد إذ ذاك من جعل الفعل الأول ماضيا لأن جواب الشرط محذوف، ولا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط لا يظهر فيه عمل لأداة الشرط، فيلزم عنده أن تقول: أإن أكرمتني أكرمك. التقدير فيه: أكرمك أن أكرمتني، ولا يجوز عنده إن تكرمني أكرمك بجزمهما أصلا، ولا إن تكرمني أكرمك بجزم الأول ورفع الثاني إلا في ضرورة الشعر. والكلام على هذه المسألة مستوفى في علم النحو. فعلى مذهب يونس: تكون همزة الاستفهام دخلت في التقدير على انقلبتم، وهو ماض معناه الاستقبال، لأنه مقيد بالموت أو بالقتل. وجواب الشرط عند يونس محذوف، وبقول يونس: قال كثير من المفسرين في الآية قالوا: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها، لأن الغرض إنما هو أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد. ودخلت إن هنا على المحقق وليس من مظانها، لأنه أورد مورد المشكوك فيه للتردد بين
الموت والقتل، وتجويز قتله عند أكثر المخاطبين. ألا ترى إليهم حين سمعوا أنه قتل اضطربوا وفروا، وانقسموا إلى ثلاث فرق، ومن ثبت منهم فقاتل حتى قتل؟ قال بعضهم: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، موتوا على ما مات عليه. وقال بعضهم: إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ، فقاتلوا عن دينكم. فهذا يدل على تجويز أكثر المخاطبين لأن يقتل. فأما العلم بأنه لا يقتل من جهة قوله تعالى: * (والله يعصمك من الناس) * فهو مختص بالعلماء من المؤمنين وذوي البصيرة منهم، ومن سمع هذه الآية وعرف سبب نزولها.
* (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) * أي من رجع إلى الكفر أو ارتد فارا عن القتال وعن ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم) من أمر الجهاد على التفسيرين السابقين. وهذه الجملة الشرطية هي عامة في أن كل من انقلب على عقبيه فلا يضر إلا نفسه، ولا يلحق من ذلك شيء لله تعالى، لأنه تعالى لا يجوز عليه مضار العبد. ولم تقع ردة من أحد من المسلمين في ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين.
وقرأ الجمهور على عقبيه بالتثنية. وقرأ ابن أبي إسحاق على عقبه بالإفراد، وانتصاب شيئا على المصدر. أي: شيئا من الضرر لا قليلا ولا كثيرا. والانقلاب على الأعقاب أو على العقبين أو العقب من باب التمثيل مثل من يرجع إلى دينه الأول بمن ينقلب على عقبيه. وتضمنت هذه الجملة الوعيد الشديد.
* (وسيجزى الله الشاكرين) * وعد عظيم بالجزاء. وجاء بالسين التي هي في قول بعضهم: قرينة التفسير في الاستقبال، أي: لا يتأخر جزاء الله إياهم عنهم. والشاكرين هم الذين صبروا على دينه، وصدقوا الله فيما وعدوه، وثبتوا. شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام، ولم يكفروها، كأنس بن النضر، وسعد بن الربيع، والأنصاري الذي كان يتشخط في دمه، وغيرهم ممن ثبت ذلك اليوم.
والشاكرون لفظ عام يندرج فيه كل شاكر فعلا وقولا. وقد تقدم الكلام على الشكر. وظاهر هذا الجزاء أنه في الآخرة. وقيل: في الدنيا بالرزق، والتمكين في الأرض. وفسروا الشاكرين هنا بالثابتين على دينهم قاله: علي. وقال هو والحسن بن أبي الحسن أبو بكر، أمير الشاكرين يشيران إلى ثباته يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم)، واضطراب الناس إذ ذاك، وثباته في أمر الردة وما قام به من أعباء الإسلام. وفسر أيضا بالطائعين.
* (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) * قال الزمخشري: المعنى أن موت الأنفس محال أن تكون إلا
75

بمشيئة الله، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له فيه تمثيلا. ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك، فليس له أن يقبض نفسا إلا بإذن من الله. وهو على معنيين: أحدهما: تحريضهم على الجهاد، وتشجيعهم على لقاء العدو، بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحد إلا بموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك. والثاني: ذكر ما صنع الله تعالى برسوله عند غلبة العدو، والتفافهم عليه، وإسلام قومه له نهزة للمختلسين من الحفظ والكلاء وتأخر الأجل انتهى كلام الزمخشري. وهو حسن وهو بسط كلام غيره من المفسرين أنه لا تموت نفس إلا بأجل محتوم. فالجبن لا يزيد في الحياة والشجاعة لا تنقص منها. وفي هذه الجملة تقوية للنفوس على الجهاد، وفيها تسلية في موت النبي صلى الله عليه وسلم).
وقول العرب: ما كان لزيد أن يفعل معناه انتفاء الفعل عن زيد وامتناعه. فتارة يكون الامتناع في مثل هذا التركيب لكونه ممتنعا عقلا كقوله تعالى: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * وقوله: * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) * وتارة لكونه ممتنعا عادة نحو: ما كان لزيد أن يطير. وتارة لكونه ممتنعا شرعا كقوله تعالى: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا) * وتارة) * وتارة لكونه ممتنعا أدبا، كقول أبي بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ويفهم هذا من سياق الكلام. ولا تتضمن هذه الصيغة نهيا كما يقوله بعضهم.
وقوله: لنفس، المراد الجنس لا نفس واحدة. ومعنى: إلا بإذن الله، أي بتمكينه وتسويغه ذلك. وقد تقدم شرح الإذن، والأحسن فيه أنه تمكين من الشيء مع العلم به، فإن انضاف إلى ذلك قول فيكون أمرا. والمعنى: إلا بإذن الله للملك الموكل بالقبض. وأن تموت في موضع اسم كان، ولنفس هو في موضع الخبر، فيتعلق بمحذوف. وجعل بعضهم كان رائدة. فيكون أن تموت في موضع مبتدأ، ولنفس في موضع خبره. وقدره الزجاج على المعنى فقال: وما كانت نفس لتموت، فجعل ما كان اسما خبرا، وما كان خبرا اسما، ولا يريد بذلك الإعراب، إنما فسر من جهة المعنى. وقال أبو البقاء: اللام في: لنفس، للتبيين متعلقة بكان انتهى. وهذا لا يتم إلا أن كانت كان تامة. وقول من قال: هي متعلقة بمحذوف تقديره: وما كان الموت لنفس وإن تموت، تبيين للمحذوف مرغوب عنه، لأن اسم كان إن كانت ناقصة أو الفاعل إن كانت تامة لا يجوز حذفه، ولما في حذفه أن لو جاز من حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو لا يجوز على مذهب البصريين.
* (*) * وتارة لكونه ممتنعا أدبا، كقول أبي بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ويفهم هذا من سياق الكلام. ولا تتضمن هذه الصيغة نهيا كما يقوله بعضهم.
وقوله: لنفس، المراد الجنس لا نفس واحدة. ومعنى: إلا بإذن الله، أي بتمكينه وتسويغه ذلك. وقد تقدم شرح الإذن، والأحسن فيه أنه تمكين من الشيء مع العلم به، فإن انضاف إلى ذلك قول فيكون أمرا. والمعنى: إلا بإذن الله للملك الموكل بالقبض. وأن تموت في موضع اسم كان، ولنفس هو في موضع الخبر، فيتعلق بمحذوف. وجعل بعضهم كان رائدة. فيكون أن تموت في موضع مبتدأ، ولنفس في موضع خبره. وقدره الزجاج على المعنى فقال: وما كانت نفس لتموت، فجعل ما كان اسما خبرا، وما كان خبرا اسما، ولا يريد بذلك الإعراب، إنما فسر من جهة المعنى. وقال أبو البقاء: اللام في: لنفس، للتبيين متعلقة بكان انتهى. وهذا لا يتم إلا أن كانت كان تامة. وقول من قال: هي متعلقة بمحذوف تقديره: وما كان الموت لنفس وإن تموت، تبيين للمحذوف مرغوب عنه، لأن اسم كان إن كانت ناقصة أو الفاعل إن كانت تامة لا يجوز حذفه، ولما في حذفه أن لو جاز من حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو لا يجوز على مذهب البصريين.
* (كتابا مؤجلا) * أي له أجل لا يتقدم ولا يتأخر وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم بالأجلين والكتابة هنا عبارة عن القضاء، وقيل: مكتوبا في اللوح المحفوظ مبينا فيه. ويحتمل هذا الكلام أن يكون جوابا لقولهم: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. وانتصاب كتابا على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة والتقدير: كتب الله كتابا مؤجلا ونظيره: * (كتاب الله عليكم * صنع الله * عبد الله) *. وقيل: هو منصوب على الإغراء، أي الزموا وآمنوا بالقدر وهذا بعيد. وقال ابن عطية: كتابا نصب على التمييز، وهذا لا يظهر فإن التمييز كما قسمه النحاة ينقسم إلى منقول وغير منقول، وأقسامه في النوعين محصورة، وليس هذا واحدا منها.
* (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الاخرة نؤته منها) * هذا تعريض بالذين رغبوا في الغنائم يوم أحد واشتغلوا بها، والذين ثبتوا على القتال فيه ولم يشغلهم شيء عن نصرة الدين، وهذا الجزاء من إيتاء الله من أراد ثواب الدنيا مشروط بمشيئة الله تعالى، كما جاء في الآية الأخرى: * (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) *.
وقوله: (نؤته بالنون فيهما) وفي: سنجزي قراءة الجمهور وهو التفات، إذ هو خروج من غيبة إلى تكلم بنون العظمة. وقرأ الأعمش: يؤته بالياء فيهما وفي سيجزي، وهو جار على ما سبق من الغيبة. قال ابن عطية: وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه انتهى. وهو وهم، وصوابه: على إضمار الفاعل، والضمير عائد على الله. وظاهر التقسيم يقتضي اختصاص كل واحد بما أراد، لأن من كانت نيته مقصورة على طلب دنياه لا نصيب له في
76

الآخرة، لكن من كانت نيته مقصورة على طلب الآخرة قد يؤتى نصيبا من الدنيا.
وللمفسرين فيها أقوال: نؤته نصيبا من الغنيمة لجهاده الكفار، أو لم نحرمه ما قسمناه له إذ من طلب الدنيا بعمل الآخرة نؤته منها، وما له في الآخرة من نصيب. أو هي خاصة في أصحاب أحد أو من أراد ثواب الدنيا بالتعرض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي عليها في الدنيا والآخرة.
* (وسنجزى الشاكرين) * وعد لمن شكر نعم الله فقصر همه ونيته على طلب ثواب الآخرة. قال ابن فورك: وفيه إشارة إلى أنهم ينعمهم الله بنعيم الدنيا، ولا يقصرهم على نعيم الآخرة. وأظهر الحرميان، وعاصم، وابن عامر في بعض طرق من رواية هشام، وابن ذكوان دال يرد عند ثواب، وأدغم في الوصل. وقرأ قالون والحلواني عن هشام من طريق: باختلاس الحركة، وقرأ الباقون بالإشباع. وأما في الوقف فبالسكون للجميع. ووجه الإسكان أن الهاء لما وقعت موقع المحذوف الذي كان حقه لو لم يكن حرف علة أن يسكن، فأعطيت الهاء ما تستحقه من السكون. ووجه الاختلاس بأنه استصحب ما كان للهاء قبل أن تحذف الياء، لأنه قبل الحذف كان أصله يؤتيه والحذف عارض فلا يعتد به. ووجه الإشباع بأنه جاز نظر إلى اللفظ وإن كانت الهاء متصلة بحركة والأولى ترك هذه التوجيهات. فإن اختلاس الضمة والكسرة بعد متحرك لغة حكاها الكسائي عن بني عقيل وبني كلاب. قال الكسائي: سمعت أعراب كلاب وعقيل يقولون: * (إن الإنسان لربه لكنود) * ولربه لكنود بغير تمام وله مال، وله مال. وغير بني كلاب وبني عقيل لا يوجد في كلامهم اختلاس، ولا سكون في له وشبهه إلا في ضرورة نحو قول الشاعر:
* له رجل كأنه صوت حاد
*
إذا طلب الوسيقة أو زمير
*
وقول الآخر:
* واشرب الماء ما بي نحوه عطش
*
إلا لأن عيونه سيل واديها
*
* (وكأين من نبى * قتل * معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا) * لما كان من المؤمنين ما كان يوم أحد وعتب عليهم الله ما حذر منهم في الآيات التي تقدمت، أخبرهم بأن الأمم السالفة قتلت أنبياء لهم كثيرون أو قتل ربيون كثير معهم، فلم يلحقهم ما لحقكم من الوهن والضعف، ولا ثناهم عن القتال فجعهم بقتل أنبيائهم، أو قتل ربيبهم، بل مضوا قدما في نصرة دينهم صابرين على ما حل بهم. وقتل نبي أو أتباعه من أعظم المصاب، فكذلك كان ينبغي لكم التأسي بمن مضى من صالحي الأمم السابقة، هذا وأنتم خير الأمم، ونبيكم خير الأنبياء. وفي هذه الجملة من العتب لمن فر عن النبي صلى الله عليه وسلم).
وقرأ الجمهور وكأين قالوا: وهي أصل الكلمة، إذ هي أي دخل عليها كاف التشبيه، وكتبت بنون في المصحف، ووقف عليها أبو عمرو. وسورة بن المبارك عن الكسائي بياء دون نون، ووقف الجمهور على النون اتباعا للرسم. واعتل لذلك أبو علي الفارسي بما يوقف عليه في كلامه وذلك على عادة المعللين، ومما جاء على هذه اللغة قول الشاعر:
* وكائن في المعاسر من أناس
*
أخوهم فوقهم وهم كرام
*
وقرأ ابن كثير: وكائن وهي أكثر استعمالا في لسان العرب وأشعارها. قال:.
وكائن رددنا عنكم من مدجج
77

وقرأ ابن محيصين والأشهب العقيلي: وكأين على مثال كعين. وقرأ بعض القراء من الشواذ كيئن، وهو مقلوب قراءة ابن محيصين. وقرأ ابن محيصين أيضا فيما حكاه الداني كان على مثال كع وقال الشاعر:
* كان صديق خلته صادق الأخا
*
أبان اختباري أنه لي مداهن
*
وقرأ الحسن كي بكاف بعدها ياء مكسورة منونة. وقد طول المفسرون ابن عطية وغيره بتعليل هذه التصرفات في كأين، وبما عمل في كأين، فلذلك أضربنا عن ذكره صفحا.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو قتل مبنيا للمفعول، وقتادة كذلك، إلا أنه شدد التاء، وباقي السبعة قاتل بألف فعلا ماضيا. وعلى كل من هذه القرآت يصلح أن يسند الفعل إلى الضمير، فيكون صاحب الضمير هو الذي قتل أو قتل على معنى التكثير بالنسة لكثرة الأشخاص، لا بالنسبة لفرد فرد. إذ القتل لا يتكثر في كل فرد فرد. أو هو قاتل ويكون قوله: معه ربيون محتملا أن تكون جملة في موضع الحال، فيرتفع ربيون بالابتداء، والظرف قبله خبره، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير في معه العائد على ذي الحال، ومحتملا أن يرتفع ربيون على الفاعلية بالظرف، ويكون الظرف هو الواقع حالا التقدير: كائنا معه ربيون، وهذا هو الأحسن. لأن وقوع الحال مفردا أحسن من وقوعه جملة. وقد اعتمد الظرف لكونه وقع حالا فيعمل وهي حال محكية، فلذلك ارتفع ربيون بالظرف. وإن كان العامل ماضيا لأنه حكى الحال كقوله تعالى: * (وكلبهم باسط ذراعيه) * وذلك على مذهب البصريين. وأما الكسائي وهشام فإنه يجوز عندهما إعمال اسم الفاعل الماضي غير المعرف بالألف واللام من غير تأويل، بكونه حكاية حال، ويصلح أن يسند الفعل إلى ربيون فلا يكون فيه ضمير، ويكون الربيون هم الذين قتلوا أو قتلوا أو قاتلوا، وموضع كأين رفع على الابتداء. والظاهر أن خبره بالجملة من قوله: قتل أو قتل أو قاتل، سواء أرفع الفعل الضمير، أم الربيين. وجوزوا أن يكون قتل إذا رفع الضمير في موضع الصفة ومعه ربيون في موضع الخبر كما تقول: كم من رجل صالح معه مال. أو في موضع الصفة فيكون قد وصف بكونه مقتولا، أو مقتلا، أو مقاتلا، وبكونه معه ربيون كثير. ويكون خبر كأين قد حذف تقديره: في الدنيا أو مضى. وهذا ضعيف، لأن الكلام مستقل بنفسه لا يحتاج إلى تكلف إضمار. وأما إذا رفع الظاهر فجوزوا أن تكون الجملة الفعلية من قتل ومتعلقاتها في موضع الصفة لنبي، والخبر محذوف. وهذا كما قلنا ضعيف. ولما ذكروا أن أصل كأين هو أي دخلت عليها كاف التشبيه فجرتها، فهي عاملة فيها، كما دخلت على ذا في قولهم: له عندي كذا. وكما دخلت على أن في قولهم: كأن ادعى أكثرهم إن كأن، بقيت فيها الكاف على معنى التشبيه. وإن كذا، وكأن، زال عنهما معنى التشبيه. فعلى هذا لا تتعلق الكاف بشيء، وصار معنى كأين معنى كم، فلا تدل على التشبيه البتة. وقال الحوفي: أما العامل في الكاف فإن حملناها على حكم الأصل فمحمول على المعنى، والمعنى: إصابتكم كإصابة من تقدم من الأنبياء وأصحابهم. وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى كم، كان العامل بتقدير الابتداء، وكانت في موضع رفع وقتل الخبر. ومن متعلقة بمعنى الاستقرار، والتقدير الأول أوضح لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في أي. وإذا كانت أي على بابها من معاملة اللفظ، فمن متعلقة بما تعلقت به الكاف من المعنى المدلول عليه انتهى كلامه. وهو كلام فيه غرابة. وجرهم إلى التخليط في هذه الكلمة ادعاؤهم بأنها مركبة من: كاف التشبيه، وإن أصلها أي: فجرت بكاف التشبيه. وهي دعوى لا يقوم على صحتها دليل. وقد ذكرنا رأينا فيها أنها بسيطة مبنية على السكون، والنون من أصل الكلمة وليس بتنوين، وحملت في البناء على نظيرتها كم. وإلى أن الفعل مسند إلى الضمير.
ذهب الطبري وجماعة ورجح ذلك بأن القصة هي سبب غزوة أحد، وتخاذل المؤمنين حين قتل محمد صلى الله عليه وسلم)، فضرب المثل بنبي قتل. ويؤيد هذا
78

الترجيح قوله: أفإن مات أو قتل. وقد قال ابن عباس في قوله: * (وما كان لنبى أن يغل) * النبي، يتقل، فكيف لا يخان؟ وإذا أسند لغير النبي كان المعنى تثبيت المؤمنين لفقد من فقد منهم فقط. وإلى أن الفعل مسند إلى الربيين ذهب الحسن وجماعة. قال هو وابن جبير: لم يقتل نبي في حرب قط. وقال ابن: عطية قراءة من قرأ قاتل أعم في المدح، لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي. ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين، وعلى قراءة قتل إسناده إلى نبي انتهى كلامه. ونقول: قتل: يظهر أنها مدح، وهي أبلغ في مقصود الخطاب، لأنها نص في وقوع القتل، ويستلزم المقاتلة. وقاتل: لا تدل على القتل، إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل. قد تكون مقاتلة ولا يقع قتل. وما ذكر من أنه يحسن عنده ما ذكر لا يظهر حسنه، بل القراءتان تحتملان الوجهين. وقال أبو الفتح بن جني: في قراءة قتادة لا يحسن أن يستند الفعل إلى الربيين لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد. فإن قيل: يستند إلى نبي مراعاة لمعنى كأين، فالجواب: أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله: من نبي، ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد، فخرج الكلام على معنى كأين. قال أبو الفتح: وهذه القراءة تقوى قول من قال لمن قتل وقاتل: إنما يستند إلى الربيين. انتهى كلامه وليس بظاهر. لأن كأين مثل كم، وأنت خبير إذا قلت: كم من عان فككته، فأفردت. راعيت لفظ كم ومعناها الجمع: وإذا قلت: كم من عان فككتهم، راعيت معنى كم لا لفظها. وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير، والمراد به
الجمع. فلا فرق من حيث المعنى بين فككته وفككتهم، كذلك لا فرق بين قتلوا معهم ربيون وقتل معه ربيون، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارة، ومراعاة المعنى تارة، لأن مدلول كم وكأين كثير، والمعنى جمع كثير. وإذا أخبرت عن جمع كثير فتارة تفرد مراعاة للفظ، وتارة تجمع مراعاة للمعنى كما قال تعالى: * (أم يقولون نحن جميع منتصر * سيهزم الجمع ويولون الدبر) * فقال: منتصر، وقال: ويولون. فأفرد منتصر، وجمع في يولون. وقول أبي الفتح في جواب السؤال الذي فرضه: أن اللفظ قد جرى على جهة الإفراد في قوله: من نبي، أي روعي لفظ كأين لكون تمييزها جاء مفردا، فناسب لما ميزت بمفرد أن يراعي لفظها، والمعنى على الجمع. وقوله: ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد، هذا المراد مشترك بين أن يفرد الضمير، أو يجمع. لأن الضمير المفرد ليس معناه هنا إفراد مدلوله، بل لا فرق بينه مفردا ومجموعا من حيث المعنى. وإذ لا فرق فدلالته عامة، وهي دلالته على كل فرد فرد. وقوله: فخرج الكلام عن معنى كأين، لم يخرج الكلام عن معنى كأين، إنما خرج عن جمع الضمير على معني كأين دون لفظها، لأنه إذا أفرد لفظا لم يكن مدلوله مفردا، إنما يكون جمعا كما قالوا: هو أحسن الفتيان وأجمله، معناه: وأجملهم. ومن أسند قتل أو قتل إلى ربيون، فالمعنى عنده: قتل بعضهم. كما تقول: قتل بنو فلان في وقعة كذا، أي جماعة منهم.
والربي عابد الرب. وكسر الراء من تغيير النسب، كما قالوا: أمسي في النسبة إلى أمس، قاله: الأخفش. أو الجماعة قاله: أبو عبيدة. أو منسوب إلى الربة وهي الجماعة، ثم جمع بالواو والنون قاله: الزجاج. أو الجماعة الكثيرة قاله: يونس بن حبيب. وربيون منسوب إليها. قال قطرب: جماعة العلماء على قول يونس، وأما المفسرون فقال ابن مسعود، وابن عباس: هم الألوف، واختاره الفراء وغيره. عدد ذلك بعض المفسرين فقال: هم عشرة آلاف. وقال ابن عباس في رواية، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة،
79

والسدي، والربيع: هم الجماعات الكثيرة، واختاره ابن قتيبة. وقال ابن عباس في رواية الحسن: هم العلماء الأتقياء الصبر على ما يصيبهم. واختاره اليزيدي والزجاج. وقال ابن زيد: الاتباع، والربانيون الولاة. وقال ابن فارس: الصالحون العارفون بالله. وقيل: وزراء الأنبياء. وقال الضحاك: الربية الواحدة ألف، والربيون جمعها. وقال الكلبي: الربية الواحدة عشرة آلاف. وقال النقاش: هم المكثرون العلم من قولهم: ربا الشيء بربو إذا كثر. وهذا لا يصح لاختلاف المادتين، لأن ربا أصوله راء وباء وواو، وأصول هذا راء وباء وباء. وقرأ الجمهور بكسر الراء. وقرأ علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، والحسن، وأبو رجاء، وعمرو بن عبيد، وعطاء بن السائب بضم الراء، وهو من تغيير النسب. كما قالوا: دهري بضم الدال، وهو منسوب إلى الدهر الطويل. وقرأ ابن عباس فيما روى قتادة عنه: بفتح الراء. قال ابن جني: هي لغة تميم، وكلها لغات والضمير في وهنوا عائد على الربيين، إن كان الضمير في قتل عائدا على النبي. وإن كان ربيون مسندا إليه الفعل مبنيا للفاعل، فكذلك أو للمفعول، فالضمير يعود على من بقي منهم، إذ المعنى يدل عليه. إذ لا يصح عوده على ربيون لأجل العطف بالفاء، لما أصابهم في سبيل الله بقتل أنبيائهم أو ربيبهم.
وقرأ الجمهور: وهنوا بفتح الهاء. وقرأ الأعمش، والحسن، وأبو السمال بكسرها. وهما لغتان، وهن يهن كوعد يعد، ووهن يوهن كوجل يوجل. وقرأ عكرمة وأبو السمال أيضا: وهنوا بإسكان الهاء كما قالوا نعم في نعم، وشهد في شهد. وتميم تسكن عين فعل.
وما ضعفوا عن الجهاد بعد ما أصابهم، وقيل: ما ضعف يقينهم، ولا انحلت عزيمتهم. وأصل الضعف نقصان القوة، ثم يستعمل في الرأي والعقل. وقرئ ضعفوا بفتح العين وحكاها الكسائي لغة.
وما استكانوا قال ابن إسحاق: ما قعدوا عن الجهاد في دينهم. وقال السدي: ما ذلوا. وقال عطاء: ما تضرعوا. وقال مقاتل: ما استسلموا. وقال أبو العالية: ما جبنوا. وقال المفضل: ما خشعوا. وقال قتادة والربيع: ما ارتدوا عن نصرتهم دينهم، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بربهم. وكل هذه أقوال متقاربة. وهذا تعريض لما أصابهم يوم أحد من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وبضعفهم عند ذلك من مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، حين أراد بعضهم أن يعتضد بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان.
واستكان ظاهره أنه استفعل من الكون، فتكون أصل ألفه واوا أو من قول العرب: مات فلان بكينة سوء، أي بحالة سوء. وكأنه يكينه إذا خضعه قال هذا: الأزهري وأبو علي. فعلى قولهما أصل الألف ياء. وقال الفراء وطائفة من النحاة: أنه افتعل من السكون، وأشبعت الفتحة فتولد منها ألف. كما قال: أعوذ بالله من العقراب، يريد من العقرب. وهذا الإشباع لا يكون إلا في الشعر. وهذه الكلمة في جميع تصاريفها بنيت على هذا الحرف تقول: استكان بستكين فهو مستكين ومستكان له، والإشباع لا يكون على هذا الحد.
* (والله يحب الصابرين) * أي على قتال
80

عدوهم قاله: الجمهور. أو على دينهم وقتال الكفار. والظاهر العموم لكل صابر على ما أصابه من قتل في سبيل الله، أو جرح، أو بلاء، أو أذى يناله بقول أو فعل أو مصيبة في نفسه، أو أهله أو ماله، أو ما يجري مجرى ذلك. وكثيرا ما تمدحت العرب بالصبر وحرصت عليه كما قال طرفة بن العبد:
* وتشكي النفس ما أصاب بها
*
فاصبري إنك من قوم صبر
*
* إن تلاقي منفسيا لاتلفنا
*
فرح الخير ولا نكبو لضر
*
* (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) * لما ذكر ما كانوا عليه من الجلد والصبر وعدم الوهن والاستكانة للعدو، وذلك كله من الأفعال النفسانية التي يظهر أثرها على الجوارح، ذكر ما كانوا عليه من الإنابة والاستغفار والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء، وحصر قولهم في ذلك القول، فلم يكن لهم ملجأ ولا مفزع إلا إلى الله تعالى، ولا قول إلا هذا القول. لا ما كنتم عليه يوم أحد من الاضطراب، واختلاف الأقوال. فمن قائل: نأخذ أمانا من أبي سفيان، ومن قائل: نرجع إلى ديننا، ومن قائل ما قال حين فر. وهؤلاء قد فجعوا بموت نبيهم أو ربيبهم لم يهنوا، بل صبروا وقالوا هذا القول، وهم ربيون أحبار هضما لأنفسهم، وإشعارا أن ما نزل من بلاد الدنيا إنما هو بذنوب من البشر، كما كان في قصة أحد بعصيان من عصى.
وقرأ الجمهور قولهم بالنصب على أنه خبر كان. وإن قالوا في موضع الاسم، جعلوا ما كان أعرف الاسم، لأن إن وصلتها تتنزل منزلة الضمير. وقولهم: مضاف للضمير، يتنزل منزلة العلم. وقرأت طائفة منهم حماد بن سلمة عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم فيما ذكره المهدوي برفع قولهم، جعلوه اسم كان، والخبران قالوا. والوجهان فصيحان، وإن كان الأول أكثر. وقد قرىء: ثم لم تكن فتنتهم بالوجهين في السبعة، وقدم طلب الاستغفار على طلب تثبيت الأقدام والنصرة، ليكون طلبهم ذلك إلى الله عن زكاة وطهارة. فيكون طلبهم التثبيت بتقديم الاستغفار حريا بالإجابة، وذنوبنا وإسرافنا متقاربان من حيث المعنى، فجاء ذلك على سبيل التأكيد.
وقيل: الذنوب ما دون الكبائر، والإسراف الكبائر. وقال أبو عبيدة: الذنوب هي الخطايا، وإسرافنا أي تفريطنا. وقال الضحاك: الذنوب عام، والإسراف في الأمر الكبائر خاصة.
والإقدام هنا قيل: حقيقة، دعوا بتثبيت الأقدام في مواطىء الحرب ولقاء العدو كي لا تزل. وقيل: المعنى شجع قلوبنا على لقاء العدو. وقيل: ثبت قلوبنا على دينك. والأحسن حمله على الحقيقة لأنه من مظانها. وثبوت القدم في الحرب لا يكون إلا من ثبوت صاحبها في الدين. وكثيرا ما جاءت هذه اللفظة دائرة في الحرب ومع النصرة كقوله: (أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا) * (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) * وقيل: اغفر لنا ذنوبنا في المخالفة، وإسرافنا في الهزيمة، وثبت أقدامنا بالمصابرة، وانصرنا على القوم الكافرين بالمجاهدة.
قال ابن فورك: في هذا الدعاء رد على القدرية لقولهم: إن الله لا يخلق أفعال العبد، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لم يفعله، وفي هذا دليل على مشروعية الدعاء عند لقاء العدو، وأن يدعو بهذا الدعاء المعين. وقد جاء في القرآن أدعية أعقب الله بالإجابة فيها * (فاتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الاخرة) * قرأ الجحدري: فأثابهم من الإثابة. ولما تقدم في دعائهم ما يتضمن الإجابة فيه الثوابين وهو قولهم: اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا، فهذا يتضمن ثواب الآخرة. وثبت أقدامنا وانصرنا يتضمن ثواب الدنيا، أخبر تعالى أنه منحهم الثوابين. وهناك بدؤا في الطلب بالأهم عندهم، وهو ما ينشأ عنه ثواب الآخرة، وهنا أخبر بما أعطاهم مقدما. ذكر ثواب الدنيا ليكون ذلك إشعارا لهم بقبول دعائهم وإجابتهم إلى طلبهم،
81

ولأن ذلك في الزمان متقدم على ثواب الآخرة. قال قتادة وابن إسحاق وغيرهما: ثواب الدنيا هو الظهور على عدوهم. وقال ابن جريج: هو الظفر والغنيمة. وقال الزمخشري: ثواب الدنيا من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر. وقال النقاش: ليس إلا الظفر والغلبة، لأن الغنيمة لم تحل إلا لهذه الأمة. وهذا صحيح ثبت في الحديث الصحيح: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي) وهي إحدى الخمس الذي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم يؤتها أحد قبله. وحسن ثواب الآخرة الجنة بلا خلاف قاله: ابن عطية. وقيل: الأجر والمغفرة. وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه، وأنه هو المعتد به عنده * (تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة) * وترغيبا في طلب ما يحصله من العمل الصالح ومناسبة لآخر الآية. قال علي: من عمل لدنياه أضر بآخرته، ومن عمل لآخرته أضر بدنياه، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام.
* (والله يحب المحسنين) * قد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم) الإحسان حين سئل عن حقيقته في حديث سؤال جبريل: * (ءان تعبد * الله * كأنك) * وفسره المفسرون هنا بأحد قولين، وهو من أحسن ما بينه وبين ربه في لزوم طاعته، أو من ثبت في القتال مع نبيه حتى يقتل أو يغلب.
* (المحسنين ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) * الخطاب عام يتناول أهل أحد وغيرهم. وما زال الكفار مثابرين على رجوع المؤمنين عن دينهم، ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء. وودوا لو تكفرون، لن تنفعكم * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا) *. * (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) * وقيل: الخطاب خاص بمن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) من المؤمنين يوم أحد. فعلى الأول علق على مطلق طاعتهم الرد على العقب والانقلاب بالخسران وهذا غاية في التحرز منهم والمجانبة لهم، فلا يطاعون في شيء ولا يشاورون، لأن ذلك يستجر إلى موافقتهم، ويكون الذين كفروا عاما. وعلى القول الثاني: يكون الذين كفروا خاصا. فقال علي وابن عباس: هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أحد: لو كان نبيا ما أصابه الذي أصابه فارجعوا إلى إخوانكم. وقال ابن جريج: هم اليهود والنصارى وقاله: الحسن. وعنه: إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم لأنهم كانوا يستغوونهم، ويوقعون لهم الشبه، ويقولون: لو كان لكم نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس، يوما له ويوما عليه.
وقال السدي: هم أبو سفيان وأصحابه من عباد الأوثان. وقال الحسن أيضا: هو كعب وأصحابه. وقال أبو بكر الرازي: فيها دلالة على النهي عن طاعة الكفار مطلقا، لكن أجمع المسلمون على أنه لا يندرج تحته من وثقنا بنصحه منهم، كالجاسوس والخريت الذي يهدي إلى الطريق، وصاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة، والزوجة تشير بصواب. والردة هنا على العقب كناية عن الرجوع إلى الكفر. وخاسرين: أي مغبونين ببيعكم الآخرة.
* (بل الله مولاكم) * بل: لترك الكلام الأول من غير إبطال وأخذ في كلام غيره. والمعنى: ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء، بل الله مولاكم. وقرأ الحسن: بنصب الجلالة على معنى: بل أطيعوا الله، لأن الشرط السابق يتضمن معنى النهي، أي لا تطيعوا الكفار فتكفروا، بل أطيعوا الله مولاكم.
* (وهو خير الناصرين) * لما ذكر أنه مولاهم، أي ناصرهم ذكر أنه خير ناصر لا يحتاج معه إلى نصرة أحد، ولا ولايته. وفي هذا
82

دلالة على أن من قاتل لنصر دين الله لا يخذل ولا يغلب لأن الله مولاه. وقال تعالى: * (إن تنصروا الله ينصركم) * * (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) *.
* (سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب) * أي هؤلاء الكفار، وإن كانوا ظاهرين عليكم يوم أحد فإنا نخذلهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وأتى بالسين القريبة الاستقبال، وكذا وقع. لألقى الله في قلوبهم الرعب يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب من المسلمين، ولهم إذ ذاك القوة والغلبة. وقيل: ذهبوا إلى مكة، فلما كانوا ببعض الطريق قالوا: ما صنعنا شيئا قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم فأمسكوا. والإلقاء حقيقة في الإجرام، واستعير هنا للجعل، ونظيره: * (والذين يرمون المحصنات) * ومثله قول الشاعر:
* هما نفثا في في من فمويهما
*
على النابح العاوي أشد رجام
*
وقرأ الجمهور: سنلقي بالنون، وهو مشعر بعظم ما يلقي، إذ أسنده إلى المتكلم بنون العظمة. وقرأ أيوب السختياني: سيلقي بالياء جريا على الغيبة السابقة في قوله: * (وهو خير الناصرين) * وقدم في قلوبهم: وهو مجرور على المفعول للاهتمام بالمحل الملقى فيه قبل ذكر الملقى. وقرأ ابن عامر والكسائي: الرعب بضم العين، والباقون بسكونها. فقيل: لغتان. وقيل: الأصل السكون، وضم اتباعا كالصبح والصبح. وقيل: الأصل الضم، وسكن تخفيفا، كالرسل والرسل. وذكروا في إلقاء الرعب في قلوب الكفار يوم أحد قصة طويلة أردنا أن لا نخلي الكتاب من شيء منها، فلخصنا منها أن عليا أخبر الرسول بأن أبا سفيان وأصحابه حين ارتحلوا ركبوا الإبل وجنبوا الخيل، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم رجع الرسول إلى المدينة فتجهزوا تبع المشركين إلى حمراء الأسد. وأن معبد الخزاعي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) وهو كافر ممتعض مما حل بالمسلمين، وكانت خزاعة تميل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم)، وأن المشركين هموا بالرجوع إلى القتال فخذلهم صفوان بن أمية ومعبد. وقال معبد: خرجوا يتحرقون عليكم في جمع لم أر مثله، ولم أر إلا نواصي خيلهم قد جاءتكم. وحملني ما رأيت أني قلت في ذلك شعرا وأنشد:
* كادت تهد من الأصوات راحلتي
*
إذ سالت الأرض بالحرد الأبابيل
*
* تردي بأسد كرام لا تنابله
*
عند اللقاء ولا ميل مهازيل
*
* فظلت أعدو أظن الأرض مائلة
*
لما سموا برئيس غير مخذول
*
إلى آخر الشعر، فوقع الرعب في قلوب الكفار. وقوله: سنلقي، وعد للمؤمنين بالنصر بعد أحد، والظفر. وقال: * (خير من ألف شهر) * وفيها دلالة على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذ أخبر عن الله بأنه يلقي الرعب في قلوبهم فكان كما أخبر به.
* (بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) * الباء للسبب، وما مصدرية: أي بسبب إشراكهم بالله آلهة لم ينزل بإشراكها حجة ولا برهانا، وتسليط النفي على الإنزال، والمقصود: نفي السلطان، أي آلهة لا سلطان في إشراكها، فينزل نحو قوله:
على لاحب لا يهتدى بمناره
83

أي لا منار له فيهتدى به وقوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا ينجحر الضب فيرى بها. والمراد نفي السلطان والنزول معا. وكان الإشراك بالله سببا لإلقاء الرعب، لأنهم يكرهون الموت ويؤثرون الحياة، إذ لم تتعلق آمالهم بالآخرة ولا بثواب فيها ولا عقاب، فصار اعتقادهم ذلك مؤثرا في الرغبة في الحياة الدنيا كما قالوا: * (وأن * هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين) * وفي قوله: ما لم ينزل به سلطانا، دليل على إبطال التقليد، إذ لا برهان مع المقلد.
* (ومأواهم النار) * أخبر تعالى بأن مصيرهم ومرجعهم إلى النار فهم في الدنيا مرعوبون وفي الآخرة معذبون، بسبب إشراكهم. فهو جالب لهم الشر في الدنيا والآخرة.
* (وبئس مثوى الظالمين) * بالغ في ذم مثواهم والمخصوص بالذم محذوف، أي: وبئس مثوى الظالمين النار. وجعل النار مأواهم ومثواهم. وبدأ بالمأوى وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ولا يلزم منه الثواء، لأن الثواء دال على الإقامة، فجعلها مأوى ومثوى كما قال تعالى: * (والنار مثوى لهم) * ونبه على الوصف الذي استحقوا به النار وهو الظلم، ومجاوزة الحد إذ أشركوا بالله غيره. كما قال: * (إن الشرك لظلم عظيم) *.
* (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما) * هذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين قالوا: وعدنا الله النصر والإمداد بالملائكة، فمن أي وجه أتينا فنزلت إعلاما أنه تعالى صدقهم الوعد ونصرهم على أعدائهم أولا، وكان الإمداد مشروطا بالصبر والتقوى. واتفق من بعضهم من المخالفة ما نص الله في كتابه، وجاءت المخاطبة بجمع ضمير المؤمنين في هذه الآيات، وإن كان لم يصدر ما يعاتب عليه من جميعهم، وذلك على طريقة العرب في نسبة ما يقع من بعضهم للجميع على سبيل التجوز، وفي ذلك إبقاء على مع فعل وستر، إذ لم يعين وزجر لمن لم يفعل أن يفعل.
وصدق الوعد: هو أنهم هزموا المشركين أولا، وكان لعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب والزبير وأبي دجانة وعاصم بن أبي الأفلح بلاء عظلم في ذلك اليوم، وهو مذكور في السير. وكان المشركون في ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس. والمسلمون في سبعمائة رجل. وتعدت صدق هنا لي اثنين، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر، تقول: صدقت زيدا الحديث، وصدقت زيدا في الحديث، ذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين. ويجوز أن يتعدى إلى الثاني بحرف الجر، فيكون من باب استغفر. واختار والعامل في إذ صدقكم.
ومعنى تحسونهم: تقتلونهم. وكانوا قتلوا من المشركين اثنين وعشرين رجلا. وقرأ عبيد بن عمير تحسونهم رباعيا من الإحساس، أي تذهبون حسهم بالقتل. وتمني القتل بوقت الفشل وهو: الجبن، والضعف.
والتنازع وهو التجاذب في الأمر. وهذا التنازع صدر من الرماة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) قد رتب الرماة على فم الوادي وقال: (اثبتوا مكانكم، وإن رأيتمونا هزمناهم، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم) ووعدهم بالنصر إن انتهوا إلى أمره. فلما انهزم المشركون قال بعض الرماة: قد انهزموا فما موقفنا هنا؟ الغنيمة الغنيمة، الحقوا بالمسلمين. وقال بعضهم: بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: التنازع هو ما صدر من المسلمين من الاختلاف حين صيح أن محمدا قد قتل.
والعصيان هو ذهاب من ذهب من الرماة من مكانه طلبا للنهب والغنيمة، وكان خالد حين رأى قلة الرماة صاح في خيله وحمل على من بقي من الرماة فقتلهم، وحمل على عسكر المسلمين فتراجع المشركون، فأصيب من المسلمين يومئذ سبعون رجلا.
من بعد ما أراكم ما تحبون، وهو ظفر المؤمنين وغلبتهم. قال الزبير بن العوام: لقد رأيتني أنظر إلى
84

خدم هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا.
وإذا في قوله: إذا فشلتم، قيل: بمعنى إذ، وحتى حرف جر ولا جواب لها إذ ذاك، ويتعلق بتحسونهم أي: تقتلونهم إلى هذا الوقت. وقيل: حتى حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية، كما تدخل على جمل الابتداء والجواب ملفوظ به وهو قوله: وتنازعتم على زيادة الواو، قاله: الفراء وغيره. وثم صرفكم على زيادة ثم، وهذان القولان واللذان قبلهما ضعاف. والصحيح: أنه محذوف لدلالة المعنى عليه، فقدره ابن عطية: انهزمتم. والزمخشري: منعكم نصرة، وغيرهما: امتحنتم. والتقادير متقاربة. وحذف جواب الشرط لفهم المعنى جائز لقوله تعالى: * (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الارض أو) * تقديره فافعل ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو: انقسمتم إلى قسمين. ويدل عليه ما بعده، وهو نظير: * (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) * التقدير: انقسموا قسمين: فمنهم مقتصد لا يقال: كيف، يقال: انقسموا فيمن فشل وتنازع، وعصى. لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم، بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية.
وقال أبو بكر الرازي: دلت هذه الآية على تقدم وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر على عدوهم ما لم يعصوا بتنازعهم وفشلهم، وكان كما أخبر به هزموهم وقتلوا، ودل ذلك على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم) النبي بأن الأخبار بالغيوب من خصائص الربوبية وصفات الألوهية لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله عليها، ولا ينتهي
علمها إلينا إلا على لسان رسول يخبر بها عن الله تعالى. * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخرة) * قال ابن عباس وجمهور المفسرين: الدنيا الغنيمة. وقال ابن مسعود، ما شعرنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يريد الدنيا حتى كان يوم أحد، والذين أرادوا الآخرة هم الذين ثبتوا في مركزهم مع أميرهم عبد الله بن جبير في نفر دون العشرة قتلوا جميعا، وكان الرماة خمسين ذهب منهم نيف على أربعين للنهب وعصوا الأمر. وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين فقاتل حتى قتل، كأنس بن النضر وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه. وهاتان الجملتان اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف. * (ثم صرفكم عنهم) * أي جعلكم تنصرفون. * (ليبتليكم) * أي ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها. وقيل: صرفكم عنهم أي لم تتماد الكسرة عليكم فيستأصلوكم. وقيل: المعنى لم يكلفكم طلبهم عقيب انصرافهم. وتأولته المعتزلة على معنى: ثم انصرفتم عنهم، فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين ابتلاء للمؤمنين. وقيل: معنى ليبتليكم أي لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص. * (ولقد عفا عنكم) * قيل: عن عقوبتكم على فراركم، ولم يؤاخذكم به. وقيل: برد العدو عنكم. وقيل: بترك الأمر بالعود إلى قتالهم من فوركم. وقيل: بترك الاستئصال بعد المعصية والمخالفة. فمعنى عفا عنكم أبقى عليكم.
قال الحسن: قتل منهم جماعة سبعون، وقتل عم النبي صلى الله عليه وسلم)، وشج وجهه وكسرت رباعيته. وإنما العفو إن لم يستأصلهم هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). وفي سبيل الله غضاب لله يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم. يا فسق الفاسقين اليوم يحل كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم انتهى كلام الحسن. والظاهر أن العفو إنما هو عن الذنب، أي لم يؤاخذكم بالعصيان. ويدل عليه قرينة قوله:
85

وعصيتم. والمعنى: أن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بكم، فعفا عنكم، فهو إخبار بالعفو عما كان يستحق بالذنب من العقاب. وقال بهذا: ابن جريج، وابن إسحاق، وجماعة. وفيه مع ذلك تحذير. * (والله ذو فضل على المؤمنين) * أي في الأحوال، أو بالعفو.
وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع ضروبا: من ذلك الاستفهام الذي معناه الإنكار في: أم حسبتم. والتجنيس المماثل في: انقلبتم ومن ينقلب، وفي ثواب الدنيا وحسن ثواب. والمغاير في قولهم: إلا أن قالوا. وتسمية الشيء باسم سببه في: تمنون الموت أي الجهاد في سبيل الله، وفي قوله: وثبت أقدامنا فيمن فسر ذلك بالقلوب، لأن ثبات الأقدام متسبب عن ثبات القلوب. والالتفات في: وسنجزي الشاكرين. والتكرار في: ولما يعلم ويعلم لاختلاف المتعلق. أو للتنبيه على فضل الصابر. وفي: أفإن مات أو قتل لأن العرف في الموت خلاف العرف في القتل، والمعنى: مفارقة الروح الجسد فهو واحد. ومن في ومن يرد ثواب الجملتين، وفي: ذنوبنا وإسرافنا في قول من سوى بينهما، وفي: ثواب وحسن ثواب. وفي: لفظ الجلالة، وفي: منكم من يريد الجملتين. والتقسيم في: ومن يرد وفي منكم من يريد. والاختصاص في: الشاكرين، والصابرين، والمؤمنين. والطباق: في آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا. والتشبيه في: يردوكم على أعقابكم، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقري، والذي حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه ورأس ماله وبالمنقلب الذي يروح في طريق ويغدو في أخرى، وفي قوله: سنلقى. وقيل: هذا كله استعارة. والحذف في عدة مواضع.
2 (* (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم فىأخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا مآ أصابكم والله خبير بما تعملون * ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طآئفة منكم وطآئفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الا مر من شىء قل إن الا مر كله لله يخفون فىأنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الا مر شىء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله ما فى صدوركم وليمحص ما فى قلوبكم والله عليم بذات الصدور * إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم * ياأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا فى الا رض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذالك حسرة فى قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير * ولئن قتلتم فى سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون * ولئن متم أو قتلتم لإلى الله
86

تحشرون * فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الا مر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين * إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون * وما كان لنبى أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون * أفمن اتبع رضوان الله كمن بآء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير * هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون) *))
) *
الإصعاد: ابتداء السفر، والمخرج. والصعود: مصدر صعد رقى من سفل إلى علو، قاله: الفراء، وأبو حاتم والزجاج. وقال القتبي: أصعد أبعد في الذهاب، فكأنه إبعاد كإبعاد الارتفاع. قال:
* ألا أيهذا السائلي أين صعدت
*
فإن لها في أرض يثرب موعدا
*
وأنشد أبو عبيدة:
* قد كنت تبكيني على الاصعاد
*
فاليوم سرحت وصاح الحادي
*
وقال المفضل: صعد، وأصعد، وصعد بمعنى واحد. والصعيد: وجه الأرض. وصعدة: اسم من أسماء الأرض. وأصعد: معناه دخل في الصعيد.
فات الشيء أعجز إدراكه، وهو متعد، ومصدره: فوت، وهو قياس فعل المتعدي.
النعاس: النوم الخفيف. يقال: نعس ينعس نعاسا فهو ناعس، ولا يقال: نعسان. وقال الفراء: قد سمعتها ولكني لا أشتهيها.
المضجع: المكان الذي يتكأ فيه للنوم، ومنه: * (واهجروهن فى المضاجع) * والمضاجع: المصارع، وهي أماكن القتل، سميت بذلك لضجعة المقتول فيها.
الغزو القصد وكذلك المغزى، ثم أطلق على قصد مخصوص وهو: الإيقاع بالعدو. وتقول: غزا بني فلان، أوقع بهم القتل والنهب وما أشبه ذلك. وغزى: جمع غاز، كعاف وعفى. وقالوا: غزاء بالمدر. وكلاهما لا ينقاس. أجرى جمع فاعل الصفة من المعتل اللام مجرى صحيحها، كركع وصوام. والقياس: فعله كقاض وقضاة. ويقال: أغزت الناقة عسر لقاحها. وأتان مغزية تأخر نتاجها ثم تنتج.
يقال: لأن الشيء يلين، فهو لين. والمصدر: لين وليان بفتح اللام، وأصله في الجرم وهو نعومته، وانتفاء خشونته، ولا يدرك إلا باللمس. ثم
87

توسعوا ونقلوه إلى المعاني.
الفظاظة الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا. قال الشاعر في ابنة له:
* أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ
*
وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
*
الغلظ: أصله في الجرم، وهو تكثر أجزائه. ثم يستعمل في قلة الانفعال والإشفاق والرحمة. كما قال:
* يبكي علينا ولا نبكي على أحد
*
لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
*
الانفضاض: التفرق. وفضضت الشيء كسرته، وهو تفرقة أجزائه.
الخذل والخذلان: هو الترك في موضع يحتاج فيه إلى التارك. وأصله: من خذل الظبي، ولهذا قيل لها: خاذل إذا تركتها أمها. وهذا على النسب أي ذات خذل، لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة، ويقال: خاذلة. قال الشاعر:
* بجيد مغزلة إدماء خاذلة
*
من الظباء تراعي شادنا خرقا
*
ويقال أيضا لها: خذول فعول، بمعنى مفعول. قال:
* خذول تراعي ربربا بخميلة
*
تناول أطراف البريد وترتدي
*
الغلول: أخذ المال من الغنيمة في خفاء. والفعل منه غل يغل بضم الغين. والغل الضغن، والفعل منه غل يغل بكسر الغين. وقال أبو علي: تقول العرب: أغل الرجل إغلالا، خان في الأمانة. قال النمر:
* جزى الله عني جمرة بن نوفل
*
جزاء مغل بالأمانة كاذب
*
وقال بعض النحويين: الغلول مأخوذ من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والروح. ويقال أيضا في الغلول: أغل إغلالا وأغل الحارز سرق شيئا من اللحم مع الجلد. ويقال: أغله وجده غالا كقولك: أبخلته وجدته بخيلا. السخط مصدر سخط، جاء على القياس. ويقال فيه: السخط بضم السين وسكون الخاء. ويقال: مات فلان في سخطة الملك أي في سخطة. والسخط الكراهة المفرطة، ويقابله الرضا. * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد
88

والرسول يدعوكم فى أخراكم) * هذه الجمل التي تضمنت التوبيخ والعتب الشديد. إذ هو تذكار بفرار من فر وبالغ في الهرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم) يدعوه إليه. فمن شدة الفرار واشتغاله بنفسه وهو يروم نجاتها لم يصغ إلى دعاء الرسول، وهذا من أعظم العتب حيث فر، والحالة أن رسول الله يدعوه إليه.
وقرأ الجمهور: تصعدون مضارع أصعد، والهمزة في أصعد للدخول. أي: دخلتم في الصعيد، ذهبتم فيه. كما تقول: أصب ح زيد، أي دخل في الصباح. فالمعنى: إذ تذهبون في الأرض. وتبين ذلك قراءة أبي: إذ تصعدون في الوادي. وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن ومجاهد وقتادة واليزيدي: تصعدون من صعد في الجبل إذا ارتقى إليه. وقرأ أبو حيرة: تصعدون من تصعد في السلم، وأصله: تتصعدون، فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في ذلك، أي تاء المضارعة؟ أم تاء تفعل؟ والجمع بينهما أنهم أولا أصعدوا في الوادي لما أرهقهم العدو، وصعدوا في الجبل. وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل: يصعدون ولا يلوون بالياء على الخروج من الخطاب إلى الغائب. والعامل في إذا ذكر محذوفة. أو عصيتم، أو تنازعتم، أو فشلتم، أو عفا عنكم، أو ليبتليكم، أو صرفكم، وهذان عن الزمخشري، وما قبله عن ابن عطية. والثلاثة قبله بعيدة لطول الفصل. والأول جيد، لأن ما قبل إذ جمل مستقلة يحسن السكوت عليها، فليس لها تعلق إعرابي بما بعدها، إنما تتعلق به من حيث أن السياق كله في قصة واحدة. وتعلقه بصرفكم جيد من حيث المعنى، وبعفا عنكم جيد من حيث القرب.
ومعنى ولا تلوون على أحد: أي لا ترجعون لأحد من شدة الفرار. لوى بكذا ذهب به. ولوى عليه: كر عليه وعطف. وهذا أشد في المبالغة من قوله:
أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا
لأنه في الأية نفي عام، وفي هذا نفي خاص، وهو على من تعذرا، وقال دريد بن الصمة: وهل يرد المنهزم شيء وقرئ تلؤن بإبدال واو وهمزة وذلك لكراهة اجتماع الواوين وقياس هذه الواو المضمومة، أن لاتبدل همزة لأن الضمة فيها عارضة، ومتى وقعت الواو غير، وهي مضمومة فلا يجوز الإبدال منها همزة إلا بشرطين أحدهما: أن تكون الضمة لازمة. الثاني: أن لا تكون يمكن تخفيفها بالإسكان. مثال ذلك: فووج وفوول. وغوور. فهنا يجوز فؤوج وقؤول وغؤور بالهمز. ومثل كونها عارضة: هذا دلوك. ومثل إمكان تخفيفها بالإسكان: هذا سور، ونور، جمع سوار ونوار. فإنك تقول فيهما: سور ونور. ونبه بعض أصحابنا على شرط آخر وهو لا بد منه، وهو: أن لا يكون مدغما فيها نحو: تعود، فلا يجوز فيه تعوذ بإبدال الواو المضمومة همزة. وزاد بعض النحويين شرطا آخر وهو: أن لا تكون الواو زائدة نحو: الترهوك وهذا الشرط ليس مجمعا عليه. وقرأ الحسن: تلون، وخرجوها على قراءة من همز الواو، ونقل الحركة إلى اللام، وحذف الهمزة. قال ابن عطية: وحذفت إحدى الواوين الساكنين، وكان قد قال في هذه القراءة: هي قراءة متركبة على قراءة من همز الواو المضمومة، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام انتهى. وهذا كلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه قد نقلت الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنان، إحداهما: الواو التي هي عين الكلمة، والأخرى: واو الضمير. فحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنان، وهذا قول من لم يمعن في صناعة النحو. لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام، فإن الهمزة إذ ذاك تحذف، ولا يلتقي واوان ساكنان. ولو قال: استثقلت الضمة على الواو، لأن الضمة كأنها واو، فصار ذلك كأنه جمع ثلاث واواوت، فتنقلب الضمة إلى اللام، فالتقى ساكنان، فحذفت الأولى منهما، ولم يبهم في قوله إحدى الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة، أما أن يبنى ذلك على أنه على لغة من همز على زعمه، فلا يتصور. ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدي بعلي، على تضمين معنى العطف. أي: لا تعطفون على أحد. وقرأ
89

الأعمش وأبو بكر في رواية عن عاصم: تلوون من ألوى، وهي لغة في لوى. وظاهر قوله على أحد العموم.
وقيل: المراد النبي صلى الله عليه وسلم)، وعبر بأحد عنه تعظيما له وصونا لاسمه أن يذكر عند ذهابهم عنه، قاله: ابن عباس والكلبي.
وقرأ حميد بن قيس على أحد بضم الهمزة والحاء، وهو الجبل. قال ابن عطية: والقراءة الشهيرة أقوى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم) لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه، وهذه الحال من أصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم انتهى. وقال غيره: الخطاب فيه لمن أمعن في الهرب ولم يصعد الجبل على من صعد. ويجوز أن يكون أراد بقوله: ولا تلوون على أحد، أي من كان على جبل أحد، وهو النبي صلى الله عليه وسلم) ومن معه الذين صعدوا. وتلوون هو من لي العنق، لأن من عرج على الشيء يلوي عنقه، أو عنان دابته. والألف واللام في الرسول للعهد. ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم)، روي أنه كان يقول: (إلي عباد الله) والناس يفرون عنه. وروي: (أي عباد الله ارجعوا) قاله: ابن عباس: وفي رواية: (ارجعوا إلي فإني رسول الله من يكر له الجنة) وهو قول: السدي، والربيع. قال القرطبي: وكان دعاؤه تغيير للمنكر، ومحال أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم) المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه.
ومعنى في أخراكم: أي في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وهي المتأخرة. يقال: جئت في آخر الناس وأخراهم، كما تقول: في أولهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى. وفي قوله: في أخراكم دلالة عظيمة على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فإن الوقوف على أعقاب الشجعان وهم فرار والثبات فيه إنما هو للأبطال
الأنجاد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) أشجع الناس. قال سلمة: كنا إذا احمر البأس اتقيناه برسول الله صلى الله عليه وسلم). * (فأثابكم غما بغم) * الفاعل بأثابكم هو الله تعالى. وقال الفراء: الإثابة هنا بمعنى المغالبة انتهى. وسمى الغم ثوابا على معنى أنه قائم في هذه النازلة مقام الثواب الذي كان يحصل لولا الفرار. فهو نظير قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع
وقوله:
* أخاف زياد أن يكون عطاؤه
*
أداهم سودا أو محدرجة سمرا
*
جعل القيود والسياط عطاء، ومحدرجة بمعنى مدحرجة. والباء في بغم: إما أن تكون للمصاحبة، أو للسبب. فإن كانت للمصاحبة وهي التي عبر بعضهم عنها بمعنى: مع. والمعنى: غما مصاحبا لغم، فيكون الغمان إذ ذاك لهم. فالأول: هو ما أصابهم من الهزيمة والقتل. والثاني: إشراف خالد بخيل المشركين عليهم، قاله: ابن عباس، ومقاتل. وقيل: الغم الأول سببه فرارهم الأول، والثاني سببه فرارهم حين سمعوا أن محمدا قد قتل قاله: مجاهد. وقيل: الأول ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من الجراح والقتل. والثاني حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم) قتل، قاله: قتادة والربيع. وقيل: عكس هذا الترتيب، وعزاه ابن عطية إلى قتادة ومجاهد. وقيل: الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح. والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، ذكره الثعلبي. وقيل: الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق. والثاني: إشراف أبي
90

سفيان على النبي صلى الله عليه وسلم) ومن كان معه، قاله: السدي ومجاهد أيضا وغيرهما. وعبر الزمخشري عن هذا المعنى وهو اجتماع الغمين لهم بقوله: غما بعد غم، وغما متصلا بغم من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم)، والجرح، والقتل، وظفر المشركين، وفوت الغنيمة، والنصر انتهى كلامه. وقوله: غما بعد غم تفسير للمعنى، لا تفسير إعراب. لأن الباء لا تكون بمعنى بعد. وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك. ولذلك قال بعضهم: إن المعنى غما على غم، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك. ولذلك قالبعضهم: إن المعنى غما على غم، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك. وإن كانت الباء للسبب وهي التي عبر بعضهم عنها أنها بمعنى الجزا، فيكون الغم الأول للصحابة. والثاني قال الحسن وغيره: متعلقه المشركون يوم بدر. والمعنى: أثابكم غما بالغم الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر. قال ابن عطية: فالباء على هذا باء معادلة، كما قال أبو سفيان يوم بدر: والحرب سجال. وقال قوم منهم الزجاج، وتبعه الزمخشري: متعلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، والمعنى: جازاكم غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وسائر المؤمنين بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير في: فأثابكم للرسول، أي فآساكم في الاغتمام، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم، فأثابكم عما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله، ولا على ما أصابكم من غلبة العدو انتهى كلامه. وهو خلاف الظاهر. لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله تعالى، وذلك في قوله: * (ولقد صدقكم الله وعده) * وقوله: * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) * * (ولقد عفا عنكم) * والله فيكون قوله: * (ولقد صدقكم الله وعده) * وقوله: * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) * * (ولقد عفا عنكم) * والله فيكون قوله: فأثابكم مسندا إلى الله تعالى. وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم، فلم يجيء مقصودا لأن يحدث عنه، إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال. وقال الزمخشري: فأثابكم عطف على صرفكم انتهى. وفيه بعد لطول الفصل بين المتعاطفين. والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون، لأنه مضارع في معنى الماضي، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي، إذ هي ظرف لما مضى. والمعنى: إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم.
* (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) * اللام لام كي، وتتعلق بقوله: فأثابكم. فقيل: لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن. فالمعنى: على أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم موافقتهم قاله: أبو البقاء وغيره. وتكون كهي في قوله: * (لئلا يعلم أهل الكتاب) * إذ تقديره: لأن يعلم. ويكون أعلمهم بذلك تبكيتا لهم، وزجرا أن يعودوا لمثله. والجمهور على أن لا ثابتة على معناها من النفي. واختلفوا في تعليل الإثابة بانتفاء الحزن على ما ذكر.
فقال الزمخشري: لكيلا تحزنوا لتتمرنوا على تجرع الغموم، وتضروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع، ولا على مصيب من المضار انتهى. فجعل العلة في الحقيقة ثبوتية، وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد، ورتب على ذلك انتفاء الحزن، وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق به بقصة أحد، بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة. وقال ابن عطية: المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم أذيتم أنفسكم. وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما وقع هو مع ظنه البراءة بنفسه انتهى. وهذا تفسير مخالف لتفسير الزمخشري. ومن المفسرين من ذهب إلى أن قوله:
91

لكيلا تحزنوا متعلق بقوله: ولقد عفا عنكم، ويكون الله أعلمهم بذلك تسلية لمصابهم وعوضا لهم عن ما أصابهم من الغم، لأن عفوه يذهب كل غم. وفيه بعد لطول الفصل، ولأن ظاهره تعلقه بمجاورة وهو فأثابكم.
قال ابن عباس: والذي فاتهم من الغنيمة، والذي أصابهم من الفشل والهزيمة، ومما تحتمله الآية: أنه لما ذكر اصعادهم وفرارهم مجدين في الهرب في حال ادعاء الرسول صلى الله عليه وسلم) إليه بالرجوع عن الهرب والانحياز إلى فئته، كان الجد في الهرب سببا لاتصال الغموم بهم، وشغلهم بأنفسهم طلبا للنجاة من الموت، فصار ذلك أي: شغلهم بأنفسهم واغتمامهم المتصل بهم من جهة خوف القتل سببا لانتفاء الحزن على فائت من الغنيمة، ومصاب من الجراح والقتل لإخوانهم، كأنه قيل: صاروا في حالة من اغتمامهم واهتمامم بنجاة أنفسهم بحيث لا يخطر لهم ببال حزن على شيء فايت ولا مصاب وإن جل، فقد شغلهم بأنفسهم لينتفي الحزن منهم. * (والله خبير بما تعملون) * هذه الجملة تقتضي تهديدا، وخص العمل هنا وإن كان تعالى خبيرا بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيات، تنبيها على أعمالهم من تولية الأدبار والمبالغة في الفرار، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها. * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) * الأمنة: الأمن، قاله: ابن قتيبة وغيره. وفرق آخرون فقالوا: الأمنة تكون مع بقاء أسباب الخوف، والأمن يكون مع زوال أسبابه. وقرأ الجمهور: أمنة بفتح الميم، على أنه بمعنى الأمن. أو جمع آمن كبار وبرره، ويأتي إعرابه. وقرأ النخعي وابن محيصن: أمنة بسكون الميم، بمعنى الأمن. ومعنى الآية: امتنان الله عليهم بأمنهم بعد الخوف والغم، بحيث صاروا من الأمن ينامون. وذلك أن الشديد الخوف والغم لا يكاد ينام. ونقل المفسرون ما أخبرت به الصحابة من غلبة النوم الذي غشيهم كأبي طلحة: والزبير، وابن مسعود. واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس.
فقال الجمهور: حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعلي وكان من المتحيزين إليه: (إذهب فانظر إلى القوم فإن كانوا جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة فاتقوا الله واصبروا) ووطنهم على القتال، فمضى علي ثم رجع فأخبر: أنهم جنبوا الخيل، وقعدوا على أثقالهم عجالا، فأمن المؤمنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وألقى الله تعالى عليهم النعاس. وبقي المنافقون الذين في قلوبهم مرض لا يصدقون، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة، فلم يقع على أحد منهم نوم، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية. وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته. وهذا يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في المصاف وسياق الآية والحديث الأول يدلان على خلاف ذلك. قال تعالى * (فأثابكم غما بغم) *. والغم كان بعد أن كسروا وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم. والجمع بين هذين القولين: أن المصاف الذي أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في الخيل الكثيرة، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة، وأغنى هناك عمر حتى أنزلوهم، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرحيل إلى مكة، فأنزل الله عليهم النعاس في ذلك الموطن، فأمنوا ولم يأمن المنافقون. والفاعل بانزل ضمير يعود على الله تعالى، وهو معطوف على فأثابكم. وعليكم يدل على تجلل النعاس واستعلائه وغلبته، ونسبة الإنزال مجاز لأن حقيقته في الإجرام. وأعربوا أمنة مفعولا بأنزل، ونعاسا بدل منه، وهو بدل اشتمال. لأن كلا منهما قد يتصور اشتماله على الآخر، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك. أو عطف بيان، ولا
92

يجوز على رأي الجمهور من البصريين لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف. أو مفعول من أجله وهو ضعيف، لاختلال أحد الشروط وهو: اتحاد الفاعل، ففاعل الإنزال هو الله تعالى، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين. وقيل: نعاسا هو مفعول أنزل، وأمنة حال منه، لأنه في الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال. التقدير: نعاسا ذا أمنة، لأن النعاس ليس هو الأمن. أو حال من المجرور على تقدير: ذوي أمنة. أو على أنه جمع آمن، أي آمنين، أو مفعول من أجله أي لأمنة قاله: الزمخشري، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاسا مفعولا من أجله.
* (يغشى طائفة منكم) * هم المؤمنون. ويدل هذا على أن قوله: ثم أنزل عليكم، عام مخصوص، لأنه في الحقيقة ما أنزل إلا على من آمن.
وقرأ حمزة والكسائي: تغشى بالتاء حملا على لفظ أمنة هكذا قالوا. وقالوا: الجملة في موضع الصفة، وهذا ليس بواضح، لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت. فمن أعرب نعاسا بدلا أو عطف بيان لا يتم له ذلك، لأنه مخالف لهذه القاعدة، ومن أعربه مفعولا من أجله ففيه أيضا الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة. وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو: اتحاد الفاعل. فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل: ما حكم هذه الأمنة؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم، جاز ذلك. وقال ابن عطية: أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه انتهى. لما أعرب نعاسا بدلا من أمنة، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه، فحدث هنا عن المبدل منه، فحدث هنا عن المبدل منه. فإذا قلت: إن هندا حسنها فاتن، كان الخبر عن حسنها، هذا هو المشهور في كلام العرب. وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية، واستدل على ذلك بقوله:
* إن السيوف غدوها ورواحها
*
تركت هوازن مثل قرن الأعضب
*
ويقول الآخر:
* وكأنه لهق السراة كأنه
*
ما حاجبيه معين بسواد
*
فقال: تركت، ولم يقل تركا. وقال معين: ولم يقل معينان، فأعاد الضمير على المبدل منه وهو السيوف، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي: غدوها ورواحها وحاجبيه. وما زائدة بين المبدل منه والبدل. ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل، ولاحتمال أن يكون معين خبرا عن حاجبيه، لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد. كما قال:
* لمن زحلوقه زل
*
بها العينان تنهل
*
وقال:
* وكأن في العينين حب قرنفل
*
أو سنبلا كحلت به فانهلت
*
فقال تنهل وكحلت به، ولم يقل تنهلان ولا كحلتا به وهذا كما أجازوا أن يخبر عن الواحد من هذين إخبار المثنى، قال:
93

إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى
بصحراء فلج ظلتا تكفان
فقال: ظلتا ولم يقل: ظلت تكف. وقرأ الباقون: يغشى بالياء، حمله على لفظ النعاس.
* (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الامر من شىء قل إن) * قال مكي: أجمع المفسرون على أن هذه الطائفة هم المنافقون، وقالوا: غشي النعاس أهل الإيمان والإخلاص، فكان سببا لأمنهم وثباتهم. وعرى منه أهل النفاق والشك، فكان سببا لجزعهم وانكشافهم عن مراتبهم في مصافهم انتهى.
ويقال: أهمني الشيء، أي: كان من همي وقصدي. أي: مما أهم به أو قصد. وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم، أي الغم. فعلى هذا اختلف المفسرون في قد أهمتهم أنفسهم. فقال قتادة والربيع وابن إسحاق وأكثرهم: هو بمعنى الغم، والمعنى: أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم خوف القتل، وهذا معنى قول الزمخشري: أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الغموم والأشجان، فهم في التشاكي. وقال بعض المفسرين: هو من هم بالشيء أراد فعله. والمعنى: أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين. وهذا القول من قال: قد قتل محمد فنلرجع إلى ديننا الأول، ونحو هذا من الأقوال. وقال الزمخشري في قوله: قد أهمتهم أنفسهم، ما بهم إلا هم أنفسهم، لا هم الدين، ولا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم) والمسلمين انتهى. فيكون من قولهم: أهمني الشيء أي: كان من همي وإرادتي. والمعنى: أهمهم خلاص أنفسهم خاصة، أي: كان من همهم وإرادتهم خلاص أنفسهم فقط، ومن غير الحق يظنون أن الإسلام ليس بحق، وأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) يذهب ويزول.
ومعنى ظن الجاهلية عند الجمهور: المدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام، كما قال: * (حمية الجاهلية) * * (ولا تبرجن تبرج الجاهلية) * وكما تقول: شعر الجاهلية. وقال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأسا دهاقا. وقال بعض المفسرين: المعنى ظن الفرقة الجاهلية، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه، ونحا إلى هذا القول: قتادة والطبري. قال مقاتل: ظنوا أن أمره مضمحل. وقال الزجاج: إن مدته قد انقضت. وقال الضحاك عن ابن عباس: ظنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم) قد قتل. وقيل: ظن الجاهلية إبطال النبوات والشرائع. وقيل: يأسهم من نصر الله وشكهم في سابق وعده بالنصرة. وقيل: يظنون أن الحق ما عليه الكفار، فلذلك نصروا. وقيل: كذبوا بالقدر. قال الزمخشري: وظن الجاهلية كقولك: خاتم الجود ورجل صدق، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية. ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله. انتهى وظاهر قوله: هل لنا من الأمر من شيء الاستفهام؟ فقيل: سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم)، هل لهم معاشر المسلمين من النصر والظهور على العدو شي أي نصيب؟ وأجيبوا بقوله: * (قل إن الامر كله لله) * وهو النصر والغلبة. كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، وأن جندنا لهم الغالبون. وقيل: المعنى ليس النصر لنا، بل هو للمشركين. وقال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله بن أبي بن سلول: قتل بنو الخزرج، فقال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ يريد: أن الرأي ليس لنا، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا ولم نخرج ولم يقتل أحد منا. وهذا منهم قول بأجلين. وذكر المهدوي وابن فورك: أن المعنى لسنا على حق في اتباع محمد. ويضعف هذا التأويل الرد عليهم بقوله: قل. فأفهم أن كلامهم إنما هو في معنى سوء الرأي في الخروج، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد.
وعلى هذا المعنى وما قبله من قول قتادة وابن جريج يكون الاستفهام معناه النفي. ولما أكد في كلامهم بزيادة من في قوله: من شيء، جاء الكلام مؤكدا بأن، وبولغ في توكيد العموم بقوله: كله لله. فكان الجواب أبلغ.
والخطاب بقوله: قل، متوجه إلى الرسول بلا خلاف.
94

والذي يظهر أنه استفهام باق على حقيقته، لأنهم أجيبوا بقوله: قل إن الأمر كله لله. ولو كان معناه النفي لم يجابوا بذلك، لأن من نفي عن نفسه أن يكون له شيء من الأمر لا يجاوب بذلك، إلا إن قدر مع جملة النفي جملة ثبوتية لغيرهم، فكان المعنى: ليس لنا من الأمر من شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه، فيمكن أن يكون ذلك جوابا لهذا المقدر. وهذه الجملة الجوابية معترضة بين الجمل التي أخبر الله بها عنهم.
والواو في قوله: وطائفة، واو الحال. وطائفة مبتدأ، والجملة المتصلة به خبره. وجاز الابتداء بالنكرة هنا إذ فيه مسوغان: أحدهما: واو الحال وقد ذكرها بعضهم في المسوغات، ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا وقال الشاعر:
* سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا
*
محياك أخفى ضوؤه كل شارق
*
والمسوغ الثاني: أن الموضع موضع تفصيل. إذ المعنى: يغشى طائفة منكم، وطائفة لم يناموا، فصار نظير قوله:
* إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
*
بشق وشق عندنا لم يحول
*
ونصب طائفة على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا التقدير من الإعراب جائز. ويجوز أن يكون قد أهمتهم في موضع الصفة، ويظنون الخبر. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا، والجملتان صفتان، التقدير: ومنكم طائفة. ويجوز أن يكون يظنون حالا من الضمير في أهمتهم، وانتصاب غير الحق. قال أبو البقاء: على أنه مفعول أول لتظنون، أي أمرا غير الحق، وبالله الثاني. وقال الزمخشري: غير الحق في حكم المصدر، ومعناه: يظنون بالله ظن الجاهلية، وغير الحق تأكيد ليظنون كقولك: هذا القول غير ما تقول، وهذا القول لا قولك، انتهى. فعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين، وتكون الباء ظرفية كما تقول: ظننت بزيد. وإذا كان كذلك لم تتعد ظننت إلى مفعولين، وإنما المعنى: جعلت مكان ظني زيدا. وقد نص النحويون على هذا. وعليه:
* فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج
*
سراتهم في السائري المسرد
*
أي: اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدحج. وانتصاب ظن على أنه مصدر تشبيهي، أي: ظنا مثل ظن الجاهلية. ويجوز في: يقولون أن يكون صفة، أو حالا من الضمير في يظنون، أو خبرا بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على جواز تعداده. ومن شيء في موضع مبتدأ، إذ من زائدة، وخبره في لنا، ومن الأمر في موضع الحال، لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتا له، فيتعلق بمحذوف. وأجاز أبو البقاء أن يكون من الأمر هو الخبر، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة كقوله تعالى: * (ولم يكن له كفوا أحد) * وهذا لا يجوز: لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر، وتقديره: أعني لنا هو جملة أخرى، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا تستقل بالفائدة، وذلك لا يجوز. وأما تمثيله بقوله: ولم يكن له كفوا أحد فهما لا سواء، لأن له معمول لكفوا، وليس تبيينا. فيكون عامله مقدرا، والمعنى: ولم يكن أحد كفوا له، أي مكافيا له، فصار نظير لم يكن له ضار بالعمرو، فقوله: لعمرو ليس تبيننا، بل معمولا لضارب. وقرأ الجمهور كله بالنصب تأكيدا للأمر. وقرأ أبو عمر: وكله على أنه مبتدأ، ويجوز أن يعرب توكيدا للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك وهو: الجرمي، والزجاج، والفراء. قال ابن عطية: ورجح الناس قراءة
95

الجمهور، لأن التأكيد أملك بلفظة كل انتهى. ولا ترجيح، إذ كل من القراءتين متواتر، والابتداء بكل كثير في لسان العرب.
* (يخفون فى أنفسهم ما لا يبدون لك) * قيل: معناه يتسترون بهذه الأقوال التي ليست بمحض كفر، بل هي جهالة. ويحتمل أن يكون إخبارا عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزغات. وقيل: الذي أخفوه قولهم: لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا. وقيل: الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد.
* (يقولون لو كان لنا من الامر شىء ما قتلنا هاهنا) * قال الزبير بن العوام فيما أسند عنه الطبري: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. ومعتب هذا شهد بدرا، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، وكان مغموصا عليه بالنفاق. والمعنى: ما قتل إشرافنا وخيارنا، وهذا إطلاق اسم الكل على البعض مجازا.
وقوله: يقولون، يجوز أن يكون هو الذي أخفوه، فيكون ذلك تفسيرا بعد إبهام قوله: ما لا يبدون لك. ومعناه: يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض.
وقوله: من الأمر، فسر الأمر هنا بما فسر في قول عبد الله بن أبي بن سلول: هل لنا من الأمر من شيء. فقيل: المعنى لو كان الأمر كما قال محمد إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون، لما غلبنا قط، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة، وقيل: من الرأي والتدبير. وقيل: من دين محمد. أي لسنا على حق في اتباعه.
وجواب لو هو الجملة المنفية بما. وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام.
قيل: وفي قصة أحد اضطراب. ففي أولها أن عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين رجعوا ولم يشهدوا أحدا، فعلى هذا يكون قالوا هذا بالمدينة، ولم يقتل أحد منهم ولا من أصحابهم بالمدينة، وإنما قتلوا بأحد، فكيف جاء قوله هاهنا، وحديث الزبير في سماعه معتبا يقول ذلك دليل على أن معتبا حضر أحدا؟ فإن صح حديث الزبير فيكون قد تخلف عن عبد الله بعض المنافقين وحضر أحدا، فيتجه قوله هاهنا، وإن لم يصح فيوجه قوله: هاهنا إلى أنه إشارة إلى أحد إشارة القريب الحاضر لقرب أحد من المدينة. * (قل لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) * هذا النوع عند علماء البيان يسمى الاحتجاج النظري: وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدل عليه بضروب من المعقول نحو: * (لو كان فيهما الهة إلا الله لفسدتا) * * (قل يحييها الذى أنشأها أول مرة) * * (أو ليس * الذى خلق * السماوات والارض * بقادر) * وبعضهم يسميه: المذهب الكلامي. ومنه قول الشاعر:
* جرى القضاء بما فيه فإن تلم
*
فلا ملام على ما خط بالقلم
*
وكتب: بمعنى فرض، أو قضى وحتم، أو خط في اللوح، أو كتب ذلك الملك عليهم وهم أجنة، أقوال. ومعنى الآية: أنه لو تخلفتم في البيوت لخرج من حتم عليه القتل إلى مكان مصرعه فقتل فيه، وهذا رد على قول معتب، ودليل على أن كل امرئ له أجل واحد لا يتعداه. فإن قيل: فهو الأجل الذي سبق له في الأزل وإلا مات لذلك الأجل، ولا فرق بين موته وخروج روحه بالقتل، أو بأي أسباب المرض، أو فجأه من غير مرض هو أجل واحد لكل امرئ وإن تعددت الأسباب. وقد تكلم الزمخشري هنا بألفاظ مسهبة على عادته. فقال: لو كنتم في بيوتكم يعني من علم الله أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، لم يكن بد من وجوده. فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بينكم الذين علم الله أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم، ليكون ما علم أنه يكون. والمعنى: أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله. وإنما
96

ينكبون به في بعض الأوقات. تمحيص لهم، وترغيب في الشهادة، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة. انتهى كلامه. وهو نوع من الخطابة والمعنى في الآية واضح جدا لا يحتاج إلى هذا التطويل.
وقرأ الجمهور: لبرز، ثلاثيا مبنيا للفاعل. أي لصاروا في البراز من الأرض. وقرأ أبو حيوة: لبرز مبنيا للمفعول مشدد الراء، عدي برز بالتضعيف. وقرأ الجمهور: كتب مبنيا للمفعول، ورفع القتل. وقرئ: كتب مبنيا للفاعل، ونصب القتل. وقرأ الحسن والزهري: القتال مرفوعا. وتحتمل هذه القراءة الاستغناء عن المنافقين، أي: لو تخلفتم أنتم لبرز المطيعون المؤمنون الذين فرض عليهم القتال، وخرجوا طائعين إلى مواضع استشهادهم، فاستغنى بهم عنكم.
* (وليبتلى الله ما فى صدوركم وليمحص ما فى قلوبكم) * تقدم معنى الابتلاء والتحيص. فقيل: المعنى إن الله فرض عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم، وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم. وقيل: ليعاملكم معاملة المختبر. وقيل: ليقع منكم مشاهدة علمه غيبا كقوله: * (فينظر كيف تعملون) *. وقيل: هو على حذف مضاف. أي: وليبتلي أولياء الله ما في صدوركم، فإضافة إليه تعالى تفخيما لشأنه. والواو قيل: زائدة. وقيل: للعطف على علة محذوفة، أي: ليقضي الله أمره وليبتلي. وقال ابن بحر: عطف على ليبتليكم، لما طال الكلام أعاده ثم عطف عليه ليمحص. وقيل: تتعلق اللام بفعل متأخر، التقدير: وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة. وكان متعلق الابتلاء ما انطوت عليه الصدور وهي القلوب كما قال: * (ولاكن * تعمى القلوب التى فى الصدور) * ومتعلق التمحيص وهو التصفية والتطهير ما انطوت عليه القلوب من النيات والعقائد.
* (والله عليم بذات الصدور) * تقدم تفسير مثل هذه الجملة، وجاء بها عقيب قوله: وليمحص ما في قلوبكم على معنى: أنه عليم بما انطوت عليه الصدور، وما أضمرته من العقائد، فهو يمحص منها ما أراد تمحيصه.
* (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) * خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها، فلما انتهى إلى هذه الآية قال: لما كان يوم أحد فهزمنا مررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني انزو كأنني أروى، والناس يقولون: قتل محمد، فقلت: لا أجد أحدا يقول: قتل محمد إلا قتلته، حتى اجتمعنا على الجبل، فنزلت هذه الآية كلها. وقال عكرمة: نزلت فيمن فر من المؤمنين فرارا كثيرا منهم: رافع بن المعلى، وأبو حذيفة بن عتبة، ورجل آخر.
والذين تولوا: كل من ولى الدبر عن المشركين يوم أحد قاله: عمر، وقتادة، والربيع. أو كل من قرب من المدينة وقت الهزيمة قاله السدي. أو رجال بأعيانهم قاله:
ابن إسحاق منهم: عتبة بن عثمان الزرقي، وأخوه سعد وغيرهما، بلغوا الجلعب جبلا بناحية المدينة مما يلي الأعوص فأقاموا به ثلاثا، ثم رجعوا إلى سول الله صلى الله عليه وسلم) فقال لهم: * (لقد) * ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلا أبو بكر، وعلي، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وباقيهم من الأنصار منهم: أبو طلحة، وظاهر تولوا يدل على مطلق التولي يوم اللقاء، سواء فر إلى المدينة، أم صعد الجبل.
والجمع: اسم جمع. ونص النحويون على أن اسم الجمع لا يثني، لكنه هنا أطلق يراد به معقولية اسم الجمع، بل بعض الخصوصيات. أي: جمع المؤمنين، وجمع المشركين، فلذلك صحت تثنيته. ونظير ذلك قوله:
97

* وكل رفيقي كل رحل وإن هما
*
تعاطي القنا قوما هما أخوان
*
فثنى قوما لأنه أراد معنى القبيلة. واستزل هنا استفعل لطلب، أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه، هكذا قالوه. ولا يلزم من طلب الشيء واستدعائه حصوله، فالأولى أن يكون استفعل هنا بمعنى أفعل، فيكون المعنى: أزلهم الشيطان، فيدل على حصول الزلل، ويكون استزل وأزل بمعنى واحد، كاستبان وأبان، واستبل وأبل كقوله تعالى: * (فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها) * على أحد تأويلاته. واستزلال الشيطان إياهم سابق على وقت التولي، أي كانوا أطاعوا الشيطان واجترحوا ذنوبا قبل منعتهم النصر ففروا. وقيل: الاستزلال هو توليهم ذلك اليوم. أي: إنما استزلهم الشيطان في التولي ببعض ما سبقت لهم من الذنوب، لأن الذنب يجر إلى الذنب، فيكون نظير ذلك بما عصوا. وفي هذين القولين يكون بعض ما كسبوا هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالثبات فيه، فجرهم ذلك إلى الهزيمة. ولا يظهر هذا لأن الذين تركوا المركز من الرماة كانوا دون الأربعين، فيكون من باب إطلاق اسم الكل على البعض. وقال المهدوي: ببعض ما كسبوا هو حبهم الغنيمة، والحرص على الحياة. وذهب الزجاج وغيره إلى أن المعنى: إن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حالة مرضية. ولا يظهر هذا القول لأنهم كانوا قادرين على التوبة قبل القتال وفي حال القتال، (والتائب من الذنب كمن لا ذنب له) وظاهر التولي: هو تولي الإدبار والفرار عن القتال، فلا يدخل فيه من صعد إلى الجبل، لأنه من متحيز إلى جهة اجتمع في التحيز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم) ومن ثبت معه فيها. وظاهر هذا التولي أنه معصية لذكر استزلال الشيطان وعفو الله عنهم. ومن ذهب إلى أن هذا التولي ليس معصية، لأنهم قصدوا التحصن بالمدينة، وقطع طمع العدو منهم، لما سمعوا أن محمدا قد قتل. أو لكونهم لم يسمعوا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم) * (إلى عباد الله) * للهول الذي كانوا فيه. أو لكونهم كانوا سبعمائة والعدو ثلاثة آلاف، وعند هذا يجوز الانهزام. أو لكونهم ظنوا أن الرسول ما انحاز إلى الجبل، وأنه يجعل ظهره المدينة. فمذهبه خلاف الظاهر، وهذه الأشياء يجوز الفرار معها. وقد ذكر تعالى استزلال الشيطان إياهم وعفوه تعالى عنهم، ولا يكون ذلك فيما يجوز فعله. وجاء قوله: ببعض ما كسبوا، ولم يجيء بما كسبوا، لأنه تعالى يعفو عن كثير كما قال تعالى: * (ويعفوا عن كثير) * فالاستزلال كان بسبب بعض الذنوب التي لم يعف عنها، فجعلت سببا للاستزلال. ولو كان معفوا عنه لما كان سببا للاستزلال.
* (ولقد عفا الله عنهم) * الجمهور على أن معنى العفو هنا هو حط التبعات في الدنيا والآخرة. وكذلك تأوله عثمان في محاورة جرت بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، قال له عبد الرحمن: قد كنت توليت مع من تولى يوم الجمع، يعني يوم أحد. فقال له عثمان: قال الله: ولقد عفا الله عنهم، فكنت فيمن عفا الله عنه. وكذلك ابن عمر مع الرجل العراقي حين نشده بحرمة هذا البيت: أتعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ أجابه: بأنه يشهد أن الله قد عفا عنه.
وقال ابن جريج: معنى عفا الله عنهم أنه لم يعاقبهم. قال ابن عطية: والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم) (في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرهما) انتهى ولما كان مذهب الزمخشري أن العفو والغفران عن الذنب لا يكون إلا لمن تاب، وأن الذنب إذا لم يتب منه لا يكون معه العفو، دس مذهبه في هذه الجملة،
98

فقال: ولقد عفا الله عهم لتوبتهم واعتذارهم انتهى.
* (أن الله غفور حليم) * أي غفور الذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة. وجاءت هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن هؤلاء الذين تولوا يوم أحد، لأن الله تعالى واسع المغفرة، واسع الحلم.
* (حليم يأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا فى الارض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما) * لما تقدم من قول المنافقين: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا، وأخبر الله عنهم أنهم قالوا لإخوانهم: وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا، وكان قولا باطلا واعتقادا فاسدا نهى تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم في هذه المقالة الفاسدة والاعتقاد السئ. وهو أن من سافر في تجارة ونحوها فمات، أو قاتل فقتل، لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض نفسه للسفر فيه أو للقتال، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين، والكفار القائلون. قيل: هو عام، أي اعتقاد الجميع هذا قاله: ابن إسحاق وغيره، أو عبد الله بن أبي وأصحابه سمع منهم هذا القول قاله: مجاهد والسدي وغيرهما، أو هو ومعتب وجد بن قيس وأصحابهم.
واللام في: لإخوانهم لام السبب، أي لأجل إخوانهم. وليست لام التبليغ، نحو: قلت لك. والإخوة هنا إخوة النسب، إذ كان قتلى أحد من الأنصار وأكثرهم من
الخزرج، ولم يقتل من المهاجرين إلا أربعة. وقيل: خمسة. ويكون القائلون منافقي الأنصار جمعهم أب قريب، أو بعيد، أو إخوة المعتقد والتآلف، كقوله: * (فأصبحتم بنعمته إخوانا) * وقال:
* صفحنا عن بني ذهل
*
وقلنا القوم إخوان
*
والضرب في الأرض: الإبعاد فيها، والذهاب لحاجة الإنسان. وقال السدي: الضرب هنا السير في التجارة. وقال ابن إسحاق: السير في الطاعات.
وإذا ظرف لما يستقبل. وقالوا: ماض، فلا يمكن أن يعمل فيه. فمنهم من جرده عن الاستقبال وجعله لمطلق الوقت بمعنى حين، فاعمل فيه قال: وقال ابن عطية: دخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم في إبهام يعم من قال في الماضي، ومن يقول في المستقبل، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف قيل إذا ضربوا في الأرض مع قالوا؟ (قلت): هو حكاية الحال الماضية، كقولك: حين تضربون في الأرض انتهى كلامه. ويمكن إقرار إذا على ما استقر لها من الاستقبال، والعامل فيها مضاف مستقبل محذوف، وهو لا بد من تقدير مضاف غاية ما فيه أنا نقدره مستقبلا حتى يعمل في الظرف المستقبل، لكن يكون الضمير في قوله: لو كانوا عائدا على إخوانهم لفظا، وعلى غيرهم معنى، مثل قوله تعالى: * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) * وقول العرب: عندي درهم ونصفه. وقول الشاعر:
* قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا
*
إلى حمامتنا ونصفه فقد
*
المعنى: من معمر آخر ونصف درهم آخر، ونصف حمام آخر، ونصف حمام آخر، فعاد الضمير على درهم والحمام لفظا لا معنى. كذلك الضمير في قوله: لو كانوا، يعود على إخوانهم لفظا. والمعنى: لو كان إخواننا الآخرون. ويكون معنى الآية: وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى: لو كان إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم عندنا أي مقيمين لم يسافروا ما ماتوا وما قتلوا، فتكون هذه المقالة تثبيطا لإخوانهم الباقين عن الضرب في الأرض وعن الغزو، وإيهاما لهم أن يصيبهم مثل ما أصاب إخوانهم الآخرين الذين سبق موتهم وقتلهم بالضرب في الأرض والغزو،
99

ويكون العامل في إذا هلاك وهو مصدر ينحل بأن والمضارع، أي مخافة أن يهلك إخوانهم الباقون إذا ضربوا في الأرض، أو كانوا غزا. وهذا أبلغ في المعنى إذ عرضوا للأحياء بالإقامة لئلا يصيبهم ما أصاب من مات أو قتل. قالوا: ويجوز أن يكون وقالوا في معنى. ويقولون: وتعمل في إذا، ويجوز أن يكون إذا بمعنى إذ فيبقى، وقالوا على مضيه. وفي الكلام إذ ذاك حذف تقديره: إذا ضربوا في الأرض فماتوا، أو كانوا غزا فقتلوا. وما أجهل من يدعي أنه لولا الضرب في الأرض والغزو وترك القعود في الوطن لما مات المسافر ولا الغازي، وأين عقل هؤلاء من عقل أبي ذؤيب على جاهليته حيث يقول:
* يقولون لي: لو كان بالرمل لم يمت
*
نسيبة والطراق يكذب قيلها
*
* ولو أنني استودعته الشمس لارتقت
*
إليه المنايا عينها، ورسولها
*
قال الرازي: وذكر الغزو بعد الضرب، لأن من الغزو ما لا يكون ضربا، لأن الضرب الإبعاد، والجهاد قد يكون قريب المسافة، فلذلك أفرد الغزو عن الضرب انتهى. يعني: أن بينهما عموما وخصوصا فتغايرا، فصح إفراده، إذ لم يندرج من جهة تحته. وقيل: لا يفهم الغزو من الضرب، وإنما قدم لكثرته كما قال تعالى: * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى اليل ونصفه وثلثه وطائفة من) *.
وقرأ الجمهور غزا بتشديد الزاي، وقرأ الحسن والزهري بتخفيف الزاي. ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيفا، وعلى حذف التاء، والمراد: غزاة. وقال بعض من وجه على أنه حذف التاء وهو: ابن عطية، قال: وهذا الحذف كثير في كلامهم، ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي:
* أبى الذم أخلاق الكسائي وانتحى
*
به المجد أخلاق الأبو السوابق
*
يريد الأبوة. جمع أب، كما أن العمومة جمع عم، والبنوة جمع ابن. وقد قالوا: ابن وبنو انتهى. وقوله: وهذا الحذف كثير في كلامهم ليس كما ذكر، بل لا يوجد مثل رام ورمى، ولا حام وحمى، يريد: رماة وحماة. وإن أراد حذف التاء من حيث الجملة كثير في كلامهم فالمدعي إنما هو الحذف من فعله، ولا نقول أن الحذف أعني حذف التاء كثير في كلامهم، لأنه يشعر أن بناء الجمع جاء عليها، ثم حذفت كثيرا وليس كذلك، بل الجمع جاء على فعول نحو: عم وعموم، وفحل وفحول، ثم جيء بالتاء لتأكيد معنى الجمع، فلا نقول في عموم: أنه حذفت منه التاء كثيرا لأن الجمع لم يبن عليها، بخلاف قضاة ورماة فإن الجمع بني عليها. وإنما تكلف النحويون لدخولها فيما كان لا ينبغي أن تدخل فيه، إن ذلك على سبيل تأكيد الجمع، لما رأوا زائدا لا معنى له ذكروا أنه جاء بمعنى التوكيد، كالزوائد التي لا يفهم لها معنى غير التأكيد. وأما البيت فالذي يقوله النحويون فيه: أنه مما شذ جمعه ولم يعل، فيقال فيه: أبى كما قالوا: عصى في عصا، وهو عندهم جمع على فعول، وليس أصله أبوه. ولا يجمع ابن علي بنوة، وإنما هما مصدران. والجملة من لو وجوابها هي معمول القول فهي في موضع نصب على المفعول، وجاءت على نظم ما بعد إذا من تقديم نفي الموت على نفي القتل، كما قدم الضرب على الغزو. والضمير في: لو كانوا، هو لقتلى أحد، قاله: الجمهور. أو للسرية الذين قتلوا ببئر معونة قاله: بكر بن سهل الدمياطي. وقرأ الجمهور: وما قتلوا بتخفيف التاء. وقرأ الحسن: بتشديدها للتكثير في المحال، لا بالنسبة إلى محل واحد، لأنه لا يمكن التكثير فيه.
* (ليجعل الله ذالك حسرة فى قلوبهم) * اختلفوا في هذه اللام فقيل: هي لام كي. وقيل: لام الصيرورة. فإذا كانت لام كي فبماذا تتعلق، ولماذا يشار بذلك؟ فذهب بعضهم: إلى أنها تتعلق بمحذوف يدل
100

عليه معنى الكلام وسياقه، التقدير: أوقع ذلك، أي القول والمعتقد في قلوبهم ليجعله حسرة عليهم. وإنما احتيج إلى تقدير هذا المحذوف لأنه لا يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال: لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل الله لأنه لا يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال؛ لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، فلا يصح ذلك أن يكون تعليلا لقولهم، وإنما قالوا ذلك تثبيطا للمؤمنين عن الجهاد. ولا يصح أن يتعلق بالنهي وهو: لا يكونوا كالذين كفروا. لأن جعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، لا يكون سببا لنهي الله المؤمنين عن مماثلة الكفار.
قال الزمخشري: وقد أورد سؤالا على ما تتعلق به ليجعل، قال: أو لا يكونوا بمعنى: لا يكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده، ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة، ويصون منها قلوبكم انتهى كلمه. وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه، لأن جعل الحسرة لا يكون سببا للنهي كما قلنا، إنما يكون سببا لحصول امتثال النهي وهو: انتفاء المماثلة، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل امتصال النهي وهو: انتفاء المماثلة، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم، إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه. فلا تضربوا في الأرض ولا تغزوا، فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء، وفهم هذا فيه خفاء ودقة. وقال ابن عيسى وغيره: اللام متعلقة بالكون، أي: لا تكونوا كهؤلاء ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم انتهى. ومنه أخذ الزمخشري قوله: لكن ابن عيسى نص على ما تتعلق به اللام، وذاك لم ينص. وقد بينا فساد هذا القول.
وإذا كانت لام الصيرورة والعاقبة تعلقت بقالوا، والمعنى: أنهم لم يقولوا لجعل الحسرة، إنما قالوا ذلك لعلة، فصار مآل ذلك إلى الحسرة والندامة، ونظروه بقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا، ولم يلتقطوه لذلك، إنما آل أمره إلى ذلك. وأكثر أصحابنا لا يثبتون للام هذا المعنى أعني أن تكون اللام للعاقبة والمآل وينسبون هذا المذهب للأخفش. وأما الإشارة بذلك فقال الزجاج: هو إشارة إلى الظن، وهو أنهم إذا ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يقتلوا، كان حسرتهم على من قتل منهم أشد. وقال الزمخشري: ما معناه الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول. وقال ابن عطية: الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم، جعل الله ذلك حسرة، لأن الذي يتيقن أن كل موت وقتل بأجل سابق يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت يتحسر ويتلهف انتهى. وهذه أقوال متوافقة فيما أشير بذلك إليه. وقيل: الإشارة بذلك إلى نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد، لأنهم إذا رأوا أن الله قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم. وقال ابن عطية: ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معا، فتأمله انتهى.
وهذه كلها أقوال تخالف الظاهر. والذي يقتضيه ظاهر الآية أن الإشارة إلى المصدر المفهوم من قالوا، وأن اللام للصيرورة، والمعنى: أنهم قالوا هذه المقالة قاصدين التثبيط عن الجهاد والإبعاد في الأرض، سواء كانوا معتقدين صحتها أو لم يكونوا معتقديها، إذ كثير من الكفار قائل بأجل واحد، فخاب هذا القصد، وجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم أي غما على ما فاتهم، إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن الجهاد. وظاهر جعل الحسرة وحصولها أنه يكون ذلك في الدنيا وهو الغم الذي يلحقهم على ما فات من بلوغ مقصدهم. وقيل: الجعل يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة. وأسند الجعل إلى الله، لأنه هو الذي يضع الغم والحسرة في قلوبهم عقوبة لهم على هذا القول الفاسد.
* (والله يحيى ويميت) * رد عليهم في تلك المقالة الفاسدة، بل ذلك بقضائه الحتم والأمر بيده. قد يحيي المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد. وقال خالد بن الوليد عنه موته: ما في موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وها أنا ذا أموت كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. وقيل: هذه الجملة متعلقة بقوله: * (حليم يأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا) * أي: لا تقولوا مثل قولهم، فإن الله هو المحيي، من قدر حياته لم يقتل في الجهاد، والمميت من قدر له الموت لم يبق
وإن لم يجاهد، قاله: الرازي. وقال أيضا: المراد منه إبطال شبهتهم، أي لا تأثير لشيء آخر في
101

الحياة والموت، لأن قضاءه لا يتبدل. ولا يلزم ذلك في الأعمال، لأن له أن يفعل ما يشاء انتهى. ورد عليه هذا الفرق بين الموت والحياة وسائر الأعمال، لأن سائر الأعمال مفروغ منها كالموت والحياة، فما قدر وقوعه منها فلا بد من وقوعه، وما لم يقدر فيستحيل وقوعه، فإذا لا فرق.
* (والله بما تعملون بصير) * قال الراغب: علق ذلك بالبصر لا بالسمع، وإن كان الصادر منهم قولا مسموعا لا فعلا مرئيا. لما كان ذلك القول من الكافر قصدا منهم إلى عمل يحاولونه، فخص البصر بذلك كقولك لمن يقول شيئا وهو يقصد فعلا يحاوله: أنا أرى ما تفعله. وقرأ ابن كثير والأخوان بما يعملون بالياء على الغيبة، وهو وعيد للمنافقين. وقرأ الباقون بالتاء على خطاب المؤمنين، كما قال: لا تكونوا، فهو توكيد للنهي ووعيد لمن خالف، ووعد لمن امتثل.
* (ولئن قتلتم فى سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) * تقدم قبل هذا تكذيب الكفار في دعواهم: أن من مات أو قتل في سفر وغزو لو كان أقام ما مات وما قتل، ونهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل هذه المقالة، لأنها سبب للتخاذل عن الغزو وأخبر في هذه الجملة أنه أن ثم ما يحذرونه من القتل في سبيل الله أو الموت فيه، فما يحصل لهم من مغفرة الله ورحمته بسبب ذلك خير مما يجمعون من حطام الدنيا ومنافعها، لو لم يهلكوا بالقتل أو الموت، وأكد دلك بالقسم. لأن اللام في لئن هي الموطئة للقسم، وجواب القسم هو: لمغفرة. وكان نكرة إشارة إلى أن أيسر جزء من المغفرة والرحمة خير من الدنيا، وأنه كاف في فوز المؤمن. وجاز الابتداء به لأنه وصف بقوله من الله. وعطف عليه نكرة ومسوغ الابتداء بها، كونها عطفت على ما يسوغ به الابتداء. أو كونها موصوفة في المعنى إذ التقدير: ورحمة منه. وثم صفة أخرى محذوفة لا بد منها وتقديرها: ورحمة لكم. وخير هنا على بابها من كونها افعل تفضيل، كما روي عن ابن عباس: خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء. وارتفاع خير على أنه خبر عن قوله: لمغفرة.
قال ابن عطية وتحتمل الآية أن يكون قوله: لمغفرة إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله، فسمى ذلك مغفرة ورحمة، إذ هما مقترنان به. ويجيء التقدير لذلك: مغفرة ورحمة. وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر. وقوله: خير صفة لا خبر ابتداء انتهى قوله. وهو خلاف الظاهر. وجواب الشرط الذي هو إن قتلتم محذوف، لدلالة جواب القسم عليه. وقول الزمخشري: سد مسد جواب الشرط إن عنى أنه حذف لدلالته عليه فصحيح، وإن عنى أنه لا يحتاج إلى تقدير فليس بصحيح. وظاهر الآية يدل على أنه جعلت المغفرة والرحمة لمن اتفق له أحد هذين: القتل في سبيل الله، أو الموت فيه.
وقال الرازي: لمغفرة من الله إشارة إلى تعبده خوفا من عقابه، ورحمة إشارة إلى تعبده لطلب ثوابه انتهى. وليس بالظاهر. وقدم القتل هنا لأنه ابتداء إخبار، فقدم الأشرف الأهم في تحصيل المغفرة والرحمة، إذ القتل في سبيل الله أعظم ثوابا من الموت في سبيله.
قال الراغب: تضمنت هاتان الآيتان إلزاما هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص على القتل في سبيل الله تمثيله: إن قتلتم في سبيل الله، أو متم، حصلت لكم المغفرة والرحمة، وهما خير مما تجمعون. فإذا الموت والقتل في سبيل الله خير مما تجمعون. ولئن متم أو قتلتم فالحشر لكم حاصل. وإذا كان الموت والقتل لا بد منه والحشر فنتيجة ذلك أن القتل والموت اللذين يوجبان المغرفة والرحمة خير من القتل والموت اللذين لا يوجبانهما انتهى.
وقرأ الإبنان والأبوان بضم الميم في جميع القرآن، وحفص في هذين أو متمم، ولئن متم، وكسر الباقون. والضم أقيس وأشهر. والكسر مستعمل كثيرا وهو شاذ في القياس، جعله المازني من فعل يفعل، نظير دمت تدوم، وفضلت تفضل، وكذا أبو علي، فحكما عليه بالشذوذ. وقد نقل غيرهما فيه لغتين إحداهما: فعل يفعل، فتقول مات يموت. والأخرى: فعل يفعل نحو مات يمات، أصله موت. فعلى هذا ليس بشاذ، إذ هو مثل خاف يخاف، فأصله موت يموت. فمن قرأ بالكسر فعلى هذه اللغة ولا شذوذ فيه، وهي لغة الحجاز يقولون: متم من مات يمات قال الشاعر:
* عيشي ولا تومي بأن تماتي)
102

وسفلى مضر يقولون: متم بضم الميم من مات يموت، نقله الكوفيون: وقرأ الجمهور: تجمعون بالتاء على سياق الخطاب في قوله: ولئن قتلتم. وقرأ قوم منهم حفص عن عاصم بالياء، أي مما يجمعه الكفار المنافقون وغيرهم.
*
* (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) * هذا خطاب عام للمؤمن والكافر. أعلم فيه أن مصير الجميع إليه، فيجازي كلا بعمله. هكذا قال بعضهم. وكأنه لما رأى الموت والقتل أطلقا ولم يقيدا بذكر سبيل الله كما قيدا في الآية، فهم أن ذلك عام. والظاهر أنه خطاب للمؤمنين كالخطاب السابق، ولذلك قدره الزمخشري: لإلى الرحيم الواسع الرحمة المميت العظيم الثواب تحشرون. قال: ولوقوع اسم الله هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به سيان ليس بالخفي انتهى. يشير بذلك إلى مذهبه: من أن التقديم يؤذن بالاختصاص، فكان المعنى عنده: فإلى الله لا غيره تحشرون. وهو عندنا لا يدل بالوضع على ذلك، وإنما يدل التقديم على الاعتناء بالشيء والاهتمام بذكره، كما قال سيبويه: وزاده حسنا هنا أن تأخر الفعل هنا فاضلة، فلو تأخر المجرور لفات هذا الغرض وتضمنت الآية تحقير أمر الدنيا والحرص على الشهادة، وأن مصير العالم كلهم إلى الله، فالموافاة على الشهادة أمثل بالمرء ليحرز ثوابها ويجده وقت الحشر. وقدم الموت هنا على القتل لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر، وتزهيد في الدنيا والحياة، والموت فيها مطلق لم يقيد بشيء. فإما أن يكون الخطاب مختصا بمن خوطب قبل أو عاما واندرج أولئك فيه، فقدم لعمومه، ولأنه أغلب في الناس منا لقتل، فهذه ثلاثة مواضع. ما ماتوا وما قتلوا: فقدم الموت على القتل لمناسبة ما قبله من قوله: * (إذا ضربوا فى الارض أو كانوا) * وتقدم القتل على الموت بعد، لأنه محل تحريض على الجهاد، فقدم الأهم والأشرف. وقدم الموت هنا لأنه الأغلب، ولم يؤكد الفعل الواقع جوابا للقسم المحذوف لأنه فصل بين
اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور. ولو تأخر لكان: لتحشرن إليه كقوله: ليقولن ما يحبسه. وسواء كان الفصل بمعمول الفعل كهذا، أو بسوف. كقوله: * (السحر فلسوف تعلمون) * أو بقد كقول الشاعر:
* كذبت لقد أصبى على المرء عرسه
*
وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
*
قال أبو علي: الأصل دخول النون فرقا بين لام اليمين ولام الابتداء، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات، فبدخول لام اليمين على الفضلة وقع الفصل، فلم يحتج إلى النون. وبدخولها على سوف وقع الفرق، فلم يحتج إلى النون، لأن لام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالا، أما إذا كان مستقبلا فلا.
* (فبما رحمة من الله لنت لهم) * متعلق الرحمة المؤمنون. فالمعنى: فبرحمة من الله عليهم لنت لهم، فتكون الرحمة امتن بها عليهم. أي: دمثت أخلاقك ولان جانبك لهم بعدما خالفوا أمرك وعصوك في هذه القراءة، وذلك برحمة الله إياهم. وقيل: متعلق الرحمة المخاطب صلى الله عليه وسلم)، أي برحمة الله إياك جعلك لين الجانب موطأ الأكناف، فرحمتهم ولنت لهم، ولم تؤاخذهم بالعصيان والفرار وإفرادك للأعداء، ويكون ذلك امتنانا على رسول الله صلى الله عليه وسلم). ويحتمل أن يكون متعلق الرحمة النبي صلى الله عليه وسلم) بأن جعله على خلق عظيم، وبعثه بتتميم محاسن الأخلاق والمؤمنين، بأن لينه لهم.
وما هنا زائدة للتأكيد، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف، وبين مجروراتها شيء معروف في اللسان، مقرر في علم العربية. وذهب بعض الناس إلى أنها منكرة تامة، ورحمة بدل منها. كأنه قيل: فبشيء أبهم، ثم أبدل على سبيل التوضيح، فقال: رحمة. وكان قائل هذا يفر من الإطلاق عليها أنهار زائدة. وقيل: ما هنا استفهامية. قال الرازي: قال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز، وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم
103

أنه ما أظهر البتة تغليظا في القول، ولا خشونة في الكلام، علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك انتهى كلامه. وما قاله المحققون: صحيح، لكن زيادة ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية، فضلا عن من يتعاطى تفسير كلام الله، وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملا فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن يكون استفهاما للتعجب. ثم إن تقديره ذلك: فبأي رحمة، دليل على أنه جعل ما مضافة للرحمة، وما ذهب إليه خطى من وجهين: أحدهما: أنه لا تضاف ما الاستفهامية، ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا خلاف، وكم على مذهب أبي إسحاق. والثاني: إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلا، وإذا كان بدلا من اسم الاستفهام فلا بد من إعادة همزة الاستفهام في البدل، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه. قول الزجاج في ما هذه؟ إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين.
* (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) * بين تعالى أن ثمرة اللين هي المحبة، والاجتماع عليه. وأن خلافها من الجفوة والخشونة مؤد إلى التفرق، والمعنى: لو شافهتهم بالملامة على ما صدر منهم من المخالفة والفرار لتفرقوا من حولك هيبة منك وحياء، فكان ذلك سببا لتفرق كلمة الإسلام وضعف مادته، وإطماعا للعدو واللين والرفق، فيكون فيما لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله تعالى. وقال تعالى في حق الكفار: * (واغلظ عليهم) * وفي وصفه صلى الله عليه وسلم) في الكتب المنزلة أنه ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق. والوصفان قيل بمعنى واحد، فجمعا للتأكيد. وقيل: الفظاظة الجفوة قولا وفعلا. وغلظ القلب: عبارة عن كونه خلق صلبا لا يلين ولا يتأثر، وعن الغلظ تنشأ الفظاظة تقدم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف، وإنما يعلم بظهور أثره.
* (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الامر) * أمره تعالى بالعفو عنهم، وذلك فيما كان خاصا به من تبعة له عليهم، وبالاستغفار لهم فيما هو مختص بحق الله تعالى وبمشاورتهم. وفيها فوائد تطييب نفوسهم، والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم، حيث أهلهم للمشاورة، وجعلهم خواص بعد ما صدر منهم، وتشريع المشاورة لمن بعده، والاستظهار برأيهم فيما لم ينزل فيه وحي. فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به، واختبار عقولهم، فينزلهم منازلهم، واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح. وجرى على مناهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور، وإذا لم يشاور أحدا منهم حصل في نفسه شيء، ولذلك عز على علي وأهل البيت كونهم استبد عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين، وفيما ذا أمر أن يشاورهم. قيل: في أمر الحرب والدنيا وقيل: في الدين والدنيا ما لم يرد نص، ولذلك استشار في أسرى بدر.
وظاهر هذه الأوامر يقتضي أنه أمر بهذه الأشياء، ولا تدل على تريب زماني. وقال ابن عطية: أمر بتدريج بليغ، أمر بالعفو عنهم فيما يخصه، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر باستغفار فيما لله، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور انتهى. وفيه بعض تلخيص، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ، ولكن هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض. أمر أولا بالعفو عنهم، إذ عفوه عنهم مسقط لحقه، ودليل على رضاه صلى الله عليه وسلم) عليهم، وعدم مؤاخذته. ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم، ويحصل لهم رضاه صلى الله عليه وسلم) ورضا الله تعالى. ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذانا بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة، إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقدا فيه المودة والعقل والتجربة. والظاهر أن قوله: فاعف عنهم أمر له بالعفو. وقيل: معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم، والمعفو عنه والمسؤول الاستغفار لأجله. قيل: قرارهم يوم أحد، وترك إجابته، وزوال الرماة عن مراكزهم.
وقيل: ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها، كمناداتهم من وراء الحجرات. وقول بعضهم: إن كان ابن عمتك وجر رداءه حتى أثر في عنقه، وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة. ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم: أن قوله تعالى: وشاورهم في الأمر، أنه من المقلوب، والمعنى: وليشاوروك في الأمر. وذكر المفسرون هنا جملة مما ورد في المشاورة من الآيات والأحاديث
104

والآثار. وذكر ابن عطية: إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف له. والمستشار في الدين عالم دين، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله، وفي الأمور الدنيوية عاقل مجرب وادفى المستشير انتهى كلام ابن عطية، وفيه بعض تلخيص. وقراءة الجمهور: في الأمر، وليس على العموم. إذ لا يشاور في التحليل والتحريم. والأمر: اسم جنس يقع للكل وللبعض. وقرأ ابن عباس: في بعض الأمر * (فإذا عزمت فتوكل على الله) * أي: فإذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعل تفويضك فيه إلى الله تعالى، فإنه العالم بالأصلح لك، والأرشد لأمرك، لا يعلمه من أشار عليك. وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه، والفكر فيه. وإن ذلك مطلوب شرعا خلافا لما كان عليه بعض العرب من: ترك المشورة، ومن: الاستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة، كما قال:
* إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
*
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
*
* ولم يستشر في رأيه غير نفسه
*
ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
*
وقرأ الجمهور عزمت على الخطاب كالذي قبله. وقرأ عكرمة وجابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر الصادق عزمت بضم التاء على أنها ضمير لله تعالى والمعنى فإذا عزمت لك على شيء أي أرشدتك إليه وجعلتك تقصده ويكون قوله على الله من باب الالتفات إذ لو جرى على نسق ضم التاء لكان فتوكل علي ونظيره في نسبة العزم إلى الله على سبيل التجوز قول أم سلمة، ثم عزم الله * (إن الله يحب المتوكلين) * حث على التوكل على الله، إذ أخبر أنه يحب من توكل عليه، والمرء ساع فيما يحصل له محبة الله تعالى.
وقد تضمنت هذه الآيات فنونا من البيان والبديع والإبهام في: ولا تلوون على أحد، فمن قال: هو الرسول أبهمه تعظيما لشأنه، ولأن التصريح فيه هضم لقدره. والتجنيس المماثل في: غما بغم، ثم أنزل عليكم من بعد الغم. والطباق: في يخفون ويبدون، وفي فاتكم وأصابكم. والتجنيس المغاير في: تظنون وظن، وفي فتوكل والمتوكلين. وذكر بعضهم ذلك في فظا ولا تفضوا، وليس منه، لأنه قد اختلفت المادتان والتفسير بعد الإبهام في ما لا يبدون يقولون. والاحتجاج النظري في: لو كنتم في بيوتكم والاعتراض في: قل إن الأمر كله لله. والاختصاص في: بذات الصدور، وفي بما تعملون بصير، وفي يحب المتوكلين. والإشارة في قوله: ليجعل الله ذلك حسرة. والاستعارة في: إذا ضربوا في ا لأرض، وفي لنت، وفي غليظ القلب، والتكرار في: ما ماتوا، وما قتلوا، وما بعدهما، وفي: على الله إن الله. وزيادة الحرف للتأكيد في: فبما رحمة. والالتفات والحذف في عدة مواضع.
* (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده) * هذا التفات، إذ هو خروج من غيبة إلى الخطاب. ولما أمره بمشاورتهم وبالتوكل عليه، أوضح أن ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع لما يشاء. وأنه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم فيما وقع لكم من النصر، أو بكم من الخذلان كيومي: بدر وأحد، فبمشيئته. وفي هذا تسلية لهم عما وقع لهم من الفرار. ثم أمرهم بالتوكل، وناط الأمر بالمؤمنين، فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإيمان، لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان. وأشركهم مع نبيهم في مطلوبية التوكل، وهو إضافة الأمور إلى الله تعالى وتفويضها إليه.
والتوكل على الله من فروض الإيمان، ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والجزامة بغاية الجهد، ومعاطاة أسباب التحرز، وليس الإلقاء باليد والإهمال لما يجب مراعاته بتوكل، وإنما هو كما قال صلى الله عليه وسلم): (قيدها وتوكل) ونظير هذه الآية: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) * والضمير في من بعده عائد على الله تعالى، إما على حذف مضاف أي: من بعد خذلانه، أي من بعد ما يخذل من الذي ينصر
105

وإما أن لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف، بل يكون المعنى: إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك؟ ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على المصدر المفهوم من قوله: وإن يخذلكم، أي: من بعد الخذلان. وجاء جواب: إن ينصركم الله بصريح النفي العام، وجواب وإن يخذلكم يتضمن النفي وهو الاستفهام، وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم، بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر، وإن كان المعنى على نفي الناصر. لكن فرق بين الصريح والمتضمن، فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذي نص عليه بالصريح أنه لا ناصر لهم كقوله: * (
أهلكناهم فلا ناصر لهم) * وظاهره النصرة أنها في لقاء العدو، والإعانة على مكافحته، والاستيلاء عليه. وأكثر المفسرين جعلوا النصرة بالحجة القاهرة، وبالعاقبة في الآخرة. فقالوا: المعنى إن حصلت لكم النصرة فلا تعدوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غلبة، وإن خذلكم في ذلك فلا تعدوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نصرة، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل. وفي قوله: إن ينصركم الله إشارة إلى الترغيب في طاعة الله، لأنه بين فيما تقدم أن من اتقى الله نصره.
وقال الزمخشري في قوله: وعلى الله، وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه، علمهم أنه لا ناصر سواه، ولأن إيمانكم يوجب ذلك ويقتضيه انتهى كلامه. وأخذ الاختصاص من تقديم الجار والمجرور وذلك على طريقته، بأن تقديم المفعول يوجب الحصر والاختصاص. وقرأ الجمهور: يخذلكم من خذل. وقرأ عبيد بن عمير: يخذلكم من أخذل رباعيا. والهمزة فيه للجعل أي: يجعلكم * (وما كان لنبى أن يغل) * قال ابن عباس، وعكرمة، وابن جبير: فقدت قطيفة حمراء من المغانم يوم بدر فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم): لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أخذها، فنزلت، وقائل ذلك مؤمن لم يظن في ذلك حرجا. وقيل: منافق، وروي أن المفقود سيف. وقال النقاش: قالت الرماة يوم أحد: الغنيمة الغنيمة، أيها الناس إنا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم) من أخذ شيئا فهو له، فلما ذكروا ذلك قال: (خشيتم أن نغل) فنزلت. وروي نحوه عن الكلبي ومقاتل. وقيل غير هذا من ذلك ما قال ابن إسحاق: إنما نزلت إعلاما بأن النبي صلى الله عليه وسلم) لم يكتم شيئا مما أمر بتبليغه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها من حيث أنها تضمنت حكما من أحكام الغنائم في الجهاد، وهي من المعاصي المتوعد عليها بالنار كما جاء في قصة مدعم، فحذرهم من ذلك. وتقدم لنا الكلام في معنى ما كان لزيد أن يفعل. وقرأ ابن عباس وابن كثير وأبو عمرو وعاصم أن يغل من غل مبنيا للفاعل، والمعنى: أنه لا يمكن ذلك منه، لأن الغلول معصية، والنبي صلى الله عليه وسلم) معصوم من المعاصي، فلا يمكن أن يقع في شيء منها. وهذا النفي إشارة إلى أنه لا ينبغي أن أن يتوهم فيه ذلك، ولا أن ينسب إليه شيء من ذلك. وقرأ ابن مسعود وباقي السبعة: أن يغل بضم الياء وفتح الغين مبنيا للمفعول. فقال الجمهور: هو من غل. والمعنى: ليس لأحد أن يخونه في الغنيمة، فهي نهي للناس عن الغلول في المغانم، وخص النبي صلى الله عليه وسلم) بالذكر وإن كان ذلك حراما مع غيره، لأن المعصية بحضرة النبي أشنع لما يحب من تعظيمه وتوقيره، كالمعصية بالمكان الشريف، واليوم المعظم. وقيل: هو من أغل رباعيا، والمعنى: أنه يوجد غالا كما تقول: أحمد الرجل وجد محمودا. وقال أبو علي الفارسي: هو من أغل أي نسب إلى الغلول. وقيل له: غللت كقولهم: أكفر الرجل، نسب إلى الكفر.
* (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) * ظاهر هذا أنه يأتي بعين ما غل، ورد ذلك في صحيح
106

البخاري ومسلم. ففي الحديث ذكر الغلول وعظمه وعظم أمره، ثم قال: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: ما أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك) الحديث وكذلك ما جاء في حديث ابن اللتبية: (والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء به يحمله يوم القيامة على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر). وروي عنه أيضا وفرس له حمجة وفي حديث مدعم: (أن الشملة التي غلت من المغانم يوم حنين لتشتعل عليه نارا ومجيئه بما غل فضيحة له على رؤوس الاشهاد يوم القيامة) وقال الكلبي بمثل له ذلك الشيء الذي غله في النار، ثم يقال له: انزل فخذه، فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ صومعته وقع في النار، ثم كلف أن ينزل إليه فيخرجه، يفعل ذلك به. وقيل: يأتي حاملا إثم ما غل. وقيل: يؤخذ من حسناته عوض ما غل. وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم الغلول والوعيد عليه.
* (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * هذه جملة معطوفة على الجملة الشرطية لما ذكر من مسألة الغلول، وما يجري لصاحبها يوم القيامة. ذكر أن ذلك الجزاء ليس مختصا بمن غل، بل كل نفس توفى جزاء ما كسبت من غير ظلم، فصار الغال مذكورا مرتين: مرة بخصوصه، ومرة باندراجه في هذا العام ليعلم أنه غير متخلص من تبعة ما غل، ومن تبعة ما كسبت من غير الغلول. وتقدم تفسير هذه الجملة، فأغنى عن إعادته هنا.
* (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) * هذا لاستفهام معناه النفي، أي ليس من اتبع رضا الله فامتثل أوامره واجتنب مناهيه كمن عصاه فباء بسخطه، وهذا من الاستعارة البديعية. جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به، وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئا عن اتباعه ورجع مصحوبا بما يخالف الاتباع. وفي الآية من حيث المعنى حذف والتقدير: أفمن اتبع ما يؤول به إلى رضا الله عنه، فباء برضاه كمن لم يتبع ذلك فباء بسخطه. وقال سعيد بن جبير والضحاك والجمهور: أفمن اتبع رضوان الله فلم يغل كمن باء بسخط من الله حين غل. وقال الزجاج: أفمن اتبع رضوان الله باتباع الرسول يوم أحد، كمن باء بسخط من الله بتخلفه وهم جماعة من المنافقين. وقال الزجاج أيضا: رضوان الله الجهاد، والسخط الفرار. وقيل: رضا الله طاعته، وسخطه عقابه. وقيل: سخطه معصيته قاله ابن إسحاق. ويعسر ما يزعم الزمخشري من تقدير معطوف بين همزة الاستفهام وبين حرف العطف في مثل هذا التركيب، وتقديره متكلف جدا فيه، رجح إذ ذاك مذهب الجمهور: من أن الفاء محلها قبل الهمزة، لكن قدمت الهمزة لأن الاستفهام له صدر الكلام. وتقدم اختلاف القراء في رضوان في أوائل هذه السورة، والظاهر استئناف.
* (ومأواه جهنم) *: أخبر أن من باء بسخط من الله فمكانه الذي يأوي إليه هو جهنم، وأفهم هذا أن مقابله وهو من اتبع رضوان الله مأواه الجنة. ويحتمل أن تكون في صلة من فوصلها بقوله: باء. وبهذه الجملة كان المعنى: كمن باء بسخط الله، وآل إلى النار. وبئس المصير: أي جهنم.
* (هم درجات) * قال ابن عباس والحسن: لكل درجات من الجنة والنار. وقال أبو عبيدة: كقوله: هم طبقات. وقال مجاهد وقتادة: أي ذوو درجات، فإن بعض
107

المؤمنين أفضل من بعض. وقيل: يعود على الغال وتارك الغلول، والدرجة: الرتبة. وقال الرازي: تقديره لهم درجات. قال بعض المصنفين رادا عليه: اتبع
الرازي في ذلك أكثر المفسرين بجهله وجهلهم بلسان العرب، لأن حذف لام الجر هنا لا مساغ له، لأنه إنما تحذف لام الجر في مواضع الضرورة، أو لكثرة الاستعمال، وهذا ليس من تلك المواضع. على أن المعنى دون حذفها حسن متمكن جدا، لأنه لما قال: أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله، وكأنه منتظر للجواب قيل له في الجواب: لا، ليسوا سواء، بل هم درجات.
* (عند الله) * على حسب أعمالهم. وهذا معنى صحيح لا يحتاج معه إلى تقدير حذف اللام، لو كان سائغا كيف وهو غير سائغ انتهى كلام المصنف. ويحمل تفسير ابن عباس والحسن أن المعنى: لكل درجات من الجنة والنار على تفسير المعنى، لا تفسير اللفظ الأعرابي. والظاهرمن قولهم: هم درجات، أن الضمير عائد على الجميع، فهم متفاوتون في الثواب والعقاب، وقد جاء التفاوت في العذاب كما جاء التفاوت في الثواب. ومعنى عند الله على هذا القول: في حكم الله. وقيل: الضمير يعود على أهل الرضوان، فيكون عند الله معناها التشريف والمكانة لا المكان. كقوله: * (عند مليك مقتدر) * والدرجات إذ ذاك مخصوصة بالجنة وهذا معنى قول: ابن جبير وأبي صالح ومقاتل، وظاهر ما قاله مجاهد والسدي. والدرجات المنازل بعضها أغلى من بعض من المسافة أو في التكرمة. وقرأ الجمهور درجات، فهي مطابقة للفظ هم. وقرأ النخعي درجة بالإفراء.
* (والله بصير بما يعملون) * أي: عالم بأعمالهم ودرجاتها، فمجازيهم على حسبها.
وتضمنت هذه الآيات الطباق في: ينصركم ويخذلكم، وفي رضوان الله وبسخط. والتكرار في: ينصركم وينصركم، وفي الجلالة في مواضع. والتجنيس المماثل: في يغل وما غل. والاستفهام الذي معناه في: أفمن اتبع الآية. والاختصاص في: فليتوكل المؤمنون، وفي: وما كان لنبي، وفي: بما يعملون خص العمل دون القول لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء. والحذف في عدة مواضع.
2 (* (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين * أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هاذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شىء قدير * ومآ أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا فى سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم والله أعلم بما يكتمون * الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين * ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بمآ ءاتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *)) 2.
* (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) * مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر الفريقين: فريق الرضوان، وفريق السخط، وأنهم درجات عند الله مجملا من غير تفصيل، فصل أحوالهم وبدأ بالمؤمنين، وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تاليا لآيات الله، ومبينا لهم طريق الهدى، ومطهرا لهم من أرجاس الشرك، ومنقذا لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها. وسلاهم عما أصابهم يوم أحد من الخذلان والقتل والجرح، لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة. ثم فصل حال المنافقين الذين هم أهل السخط بما نص عليه تعالى.
ومعنى من تطول وتفضل، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون ببعثه، والظاهر عمومه. فعلى هذا يكون معنى من أنفسهم من أهل ملتهم، كما قال: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * والمعنى: من جنس بني آدم، والامتنان بذلك لحصول الأنس بكونه من الإنس، فيسهل المتلقى منه، وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين، ولمعرفة قوى جنسهم. فإذا ظهرت المعجزة أدركوا أن ذلك ليس في قوى بني آدم، فعلموا أنه من عند الله، فكان ذلك داعية إلى الإجابة. ولو كان الرسول من غير الجنس لتخيل أن تلك المعجزة هي في طباعه، أشار إلى هذه العلة الماتريدي.
وقيل: المراد بالمؤمنين العرب، لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا
108

له فيهم نسب، من قبل أمهاته، إلا بني تغلب لنصرانيتهم قاله: النقاش، فصار بعثه فيهم شرفا لهم على سائر الأمم.
ويكون معنى من أنفسهم: أي من جنسهم عربيا مثلهم. وقيل: من ولد إسماعيل، كما أنهم من ولده. قال ابن عباس وقتادة: قال من أنفسهم لكونه معروف النسب فيهم، معروفا بالأمانة والصدق. قال أبو سليمان الدمشقي: ليسهل عليهم التعليم منه، لموافقة اللسان. وقال الماوردي: لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم انتهى.
والمنة عليهم بكونه من أنفسهم، إذ كان اللسان واحدا، فيسهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه. وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة، فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به. وقرئ شاذا: لمن من الله على المؤمنين بمن الجارة ومن مجرور بها بدل قد من. قال الزمخشري: وفيه وجهان: أن يراد لمن من الله على المؤمنين منه أو بعثه فيهم، فحذف لقيام الدلالة. أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك: أخطب ما يكون الأمير، إذ كان قائما بمعنى لمن من الله على المؤمنين وقت بعثه انتهى.
أما الوجه الأول فهو سائغ، وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به) * * (وما منا إلا له مقام) * * (وما * دون ذلك) * على قول. وأما الوجه الثاني فهو فاسد، لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة البتة، إنما تكون ظرفا أو مضافا إليها اسم زمان، ومفعولة باذكر على قول. أما أن تستعمل مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب، ليس في كلامهم نحو: إذ قام زيد طويل وأنت تريد وقت قيام زيد طويل. وقد قال أبو علي الفارسي: لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين، ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين، ولا مبتدأين انتهى كلامه. وأما قوله: في محل الرفع كإذا، فهذا التشبيه فاسد، لأن المشبه مرفوع بالابتداء، والمشبه به ليس مبتدأ. إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك. وليس في الحقيقة في موضع رفع، بل هو في موضع نصب بالعامل
المحذوف، وذلك العامل هو مرفوع. فإذا قال النحاة: هذا الظرف الواقع خبرا في محل الرفع، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله، وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا. وأما قوله في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما، فهذا في غاية الفساد. لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب، لا يجيز أن ينطق به، إنما هو أمر تقديري. ونص أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب أخطب مبتدأ، أن هذه الحال سدت مسد الخبر، وأنه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده. وفي تقرير هذا الخبر أربعة مذاهب، ذكرت في مبسوطات النحو.
وقرأ الجمهور: من أنفسهم بضم الفاء، جمع نفس. وقرأت فاطمة، وعائشة، والضحاك،
109

وأبو الجوزاء: من أنفسهم بفتح الفاء من النفاسة، والشيء النفيس. وروي عن أنس أنه سمعها كذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم). وروى علي عنه عليه السلام: (أنا من أنفسكم نسبا وحسبا وصهرا، ولا في آبائي من آدم إلى يوم ولدت سفاح كلها نكاح والحمد لله).
قيل: والمعنى من أشرفهم، لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان، وخندف ذروة مضر، ومدركة ذروة خندف، وقريش ذروة مدركة، وذروة قريش محمد صلى الله عليه وسلم). وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضي الله عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معه، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. وقال ابن عباس: ما خلق الله نفسا هي أكرم على الله من محمد رسوله صلى الله عليه وسلم)، وما أقسم بحياة أحد غيره فقال: لعمرك.
* (يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) * تقدم تفسير هذه الجمل.
* (وإن كانوا من قبل) * أي من قبل بعثه.
* (لفى ضلال) * أي حيرة واضحة فهداهم به. وإن هنا هي الخففة من الثقيلة، وتقدم الكلام عليها وعلى اللام في قوله: * (وإن كانت لكبيرة) * والخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته هنا. وقال الزمخشري: إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإن الشأن والحديث كانوا من قبل لفي ضلال مبين. انتهى. وقال مكي: وقد ذكر أنه قبل إن نافية، واللام بمعنى إلا، أي: وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين، قال: وهذا قول الكوفيين. وأما سيبويه فإنه قال: إن مخففة من الثقيلة، واسمها مضمر، والتقدير على قوله: وإنهم كانوا من قبل في ضلال مبين. فظهر من كلام الزمخشري أنه حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث. ومن كلام مكي أنها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين، وكلا هذين الوجهين لا نعرف. نحو: يا ذهب إليه. إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنك إذا قلت: إن زيدا قائم ثم خففت، فمذهب البصريين فيها إذ ذاك وجهان: أحدهما: جواز الأعمال، ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشددة، إلا أنها لا تعمل في مضمر. ومنع ذلك الكوفيون، وهم محجوجون بالسماع الثابت من لسان العرب. والوجه الثاني: وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل، لا في ظاهر، ولا في مضمر لا ملفوظ به ولا مقدر البتة. فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر، ولزمت اللام في ثاني مضمونيها إن لم ينف، وفي أولهما إن تأخر فنقول: إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيدا قائم. وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من فواتح الابتداء. وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم. والجملة من قوله: وإن كانوا، حالية. والظاهر أن العامل فيها هو: ويعلمهم، فهو حال من المفعول.
* (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هاذا
110

الهمزة للاستفهام الذي معناه الإنكار. وقال ابن عطية: دخلت عليها ألف التقرير، على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال. وقال الزمخشري: ولما نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجر بإضافة لما إليه، وتقديره: أقلتم حين أصابتكم، وأنى هذا نصب لأنه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع. (فإن قلت): علام عطفت الواو هذه الجملة؟ (قلت): على ما مضى من قصة أحد من قوله: * (ولقد صدقكم الله وعده) ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف، فكأنه قال: أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا؟ انتهى.
أما العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله: ولقد صدقكم الله وعده. ففيه بعد، وبعيد أن يقع مثله في القرآن. وأما العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر في غير موضع من مذهبه، وقد رددناه عليه. وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا: وأصلها التقديم، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها. وأما قوله: ولما نصب إلى آخره وتقديره: وقلتم حينئذ كذا، فجعل لما بمعنى حين فهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما هو مذهب أبي علي الفارسي. زعم أن لما ظرف زمان بمعنى حين، والجملة بعدها في موضع جر بها، فجعلها من الظروف التي تجب إضافتها إلى الجمل، وجعلها معمولة للفعل الواقع جوابا لها في نحو: لما جاء زيد جاء عمرو، فلما في موضع نصب بجاء من قولك: جاء عمرو. وأما مذهب سيبويه فلما حرف لا ظرف، وهو حرف وجوب لوجوب، ومذهب سيبويه هو الصحيح. وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى: بالتكميل.
والمصيبة: هي ما نزل بالمؤمنين يوم أحد من قتل سبعين منهم، وكفهم عن الثبات للقتال. وإسناد الإصابة إلى المصيبة هو مجاز، كإسناد الإرادة إلى الجدار، والمثلان اللذان أصابوهما. قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والربيع، وجماعة: قتلهم يوم بدر سبعين، وأسرهم سبعين، فالمثلية وقعت في العدد من إصابة الرجال. وقال الزجاج: قتلهم يوم بدر سبعين وقتلهم يوم أحد اثنين وعشرين، فهو قتل بقتل، ولا مدخل للأسرى في الآية، لأنهم فدوا فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين، وقيل: المثلية في الانهزام. هزم المؤمنون الكفار يوم بدر، وهزموهم أولا يوم أحد، وهزمهم المشركون في آخر يوم أحد. وملخص ذلك: هل المثلية في الإصابة
من قتل وأسر، أو من قتل، أو من هزيمة؟ ثلاثة أقوال، والأظهر الأول. لأن قوله: قد أصبتم مثليها هو على طريق التفضل منه تعالى على المؤمنين يا دالتهم على الكفار، والتسلية لهم على ما أصابهم، فيكون ذلك بالأبلغ في التسلية. وتنبيههم على أنهم قتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين أبلغ في المنة وفي التسلية. وأدعى إلى أن يذكروا نعم الله عليهم السابقة، وأن يتناسوا ما جرى عليهم يوم أحد.
وأنى هذا: جملة من مبتدأ وخبر، وهي في موضع نصب على أنها معمولة لقوله: قلتم. قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار لما أصابهم، والمعنى: كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله، وقد وعدنا بالنصر وإمداد الملائكة؟ فاستفهموا على سبيل التعجب عن ذلك. وأنى سؤال عن الحال هنا، ولا يناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى، لأن الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك، سألوا عنها على سبيل التعجب. وقال الزمخشري: أنى هذا من أين هذا، كقوله: (أنى لك هذا) لقوله: (من عند أنفسكم) وقوله: (من عند الله) انتهى كلامه. والظرف إذا وقع خبر للمبتدأ ألا يقدر داخلا عليه حرف جر غير في، أما أن يقدر داخلا عليه من فلا، لأنه إنما انتصب على إسقاط في. ولك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في ألا أن يتسع في الفعل فينصبه
111

نصب التشبيه بالمفعول به، فتقدير الزمخشري: أنى هذا، من أين هذا تقدير غير سائغ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله: من عند أنفسكم، وقوله: من عند الله، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها. وأما على ما قررناه، فإن الجواب جاء على مراعاة المعنى، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ. وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقا له في اللفظ، ومراعي فيه المعنى لا اللفظ. والسؤال بأبي سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر، والجواب بقوله: من عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية، لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى. لو قيل على سبيل التعجب والإنكار: كيف لا يحج زيد الصالح، وأجيب ذلك بأن يقال: بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى، أنه لا يحج وهو غير مستطيع.
* (قل هو من عند أنفسكم) * الإضمار في هو راجع إلى المصيبة على المعنى، لا على اللفظ. وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين: أهو القتل المقابل للقتل والأسر، أو المقابل للقتل فقط؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين؟ والمعنى: أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم. فقيل: هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن الله تعالى، قال معناه: عمر بن الخطاب، وعلي، والحسن، وروى علي في ذلك: أنه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم) فقال: (يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم) الناس، فذكر ذلك لهم فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وأخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا، ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره). فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا. وقال الجمهور: هو مخالفة الرسول في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك الكفار بشر مجلس، فخالفوا وخرجوا حتى جرت القصة. وقالت طائفة منهم ابن عباس، ومقاتل: هو عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين. وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص. فقال: المعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة، أو لتخليتكم المركز. وعن علي: لأخذكم الفداء من أساري بدر قبل أن يؤذن لكم انتهى. ولم يعين الله تعالى السبب ما هو لطفا بالمؤمنين في خطابه تعالى لهم. والظاهر في قوله: (أنى هذا) هو من سؤال المؤمنين على سبيل التعجب.
وذكر الرازي أن الله لما حكى عن المنافقين طعنهم في الرسول بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم: لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره يوم أحد، وهو المراد من قولهم: أنى هذا. فأجاب عنه بقوله: قل هو من عند أنفسكم، أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم انتهى كلامه. ودل على أن قوله: أنى هذا من كلام المنافقين. وقال الماتريدي أيضا: إنه من كلام المنافقين. والظاهر ما قلناه أنه من كلام المؤمنين، وهم المخاطبون بقوله: (أو لما أصابتكم مصيبة) لأن المنافقين لم تصبهم مصيبة، لأنهم رجعوا مع عبد الله بن أبي ولم يحضروا القتال، إلا أن تجوز في قوله: أصابتكم مصيبة بمعنى أصابت أقرباءكم وأخوانكم، فهو يمكن على بعد.
* (إن الله على كل شىء قدير) * أي قادر على النصر، وعلى منعه، وعلى أن يصيب بكم تارة، ويصيب منكم أخرى. ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم، لا لضعف في قدرة الله، لأن من هو قادر على كل شيء
112

هو قادر على دفاعهم على كل حال.
* (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله) * هو يوم أحد. والجمعان، جمع النبي صلى الله عليه وسلم) وكفار قريش، والخطاب للمؤمنين. وما موصولة مبتدأ، والخبر قوله: فبإذن الله، وهو على إضمار أي: فهو بإذن الله. ودخول الفاء هنا. قال الحوفي: لما في الكلام من معنى الشرط لطلبته للفعل. وقال ابن عطية: ودخلت الفاء رابطة مسددة. وذلك للإبهام الذي في ما فأشبه الكلام الشرط، وهذا كما قال سيبويه: الذي قام فله درهمان، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء انتهى كلامه. وهو أحسن من كلام الحوفي، لأن الحوفي زعم أن في الكلام معنى الشرط. وقال ابن عطية: فأشبه الكلام الشرط. ودخول الفاء على ما قاله الجمهور وقرروه قلق هنا، وذلك أنهم قرروا في جواز دخول الفاء على خبر الموصول أن الصلة تكون مستقلة، فلا يجيزون الذي قام أمس فله درهم، لأن هذه الفاء إنما دخلت في خبر الموصول لشبهه بالشرط. فكما أن فعل الشرط لا يكون ماضيا من حيث المعنى، فكذلك الصلة.
والذي أصابهم يوم التقى الجمعان هو ماض حقيقة، فهو إخبار عن ماض من حيث المعنى. فعلى ما قرروه يشكل دخول الفاء هنا. والذي نذهب إليه: أنه يجوز دخول الفاء في الخبر الصلة ماضية من جهة المعنى لورود هذه الآية، ولقوله تعالى: * (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) * ومعلوم أن
هذا ماض معنى مقطوع بوقوعه صلة وخبر، أو يكون ذلك على تأويل: وما يتبين إصابته إياكم. كما تأولوا: (إن كان قميصه قد) أي إن تبين كون قميصه قد. وإذا تقرر هذا فينبغي أن يحمل عليه قوله تعالى: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم فإن ظاهر هذه كلها أخبار عن الأمور الماضية. ويكون المعنى على التبين المستقبل.
وفسر الإذن هنا بالعلم. وعبر عنه به لأنه من مقتضايه قاله: الزجاج. أو بتمكين الله وتخليته بين الجمعين قاله: القفال. أو بمرأى ومسمع، أو بقضائه وقدره. وقال الزمخشري: فهو كائن بإذن الله، استعار الإذن لتخلية الكفار، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتلهم، لأن الآذن مخل بين المأذون له ومراده. انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال، لأن قتل الكفار للمؤمنين قبيح عنده، فلا إذن فيه. وقال ابن عطية: يحسن دخول الفاء إذا كان سبب الإعطاء، وكذلك ترتيب هذه الآية. فالمعنى: إنما هو وما أذن الله فيه فهو الذي أصاب، لكن قدم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم. والإذن: التمكين من الشيء مع العلم به انتهى كلامه. لما كان من حيث المعنى أن الإصابة مترتبة على تمكين الله، من ذلك حمل الآية على ذلك، وادعى تقديما وتأخيرا، ولا تحتاج الآية إلى ذلك، لأنه ليس شرطا وجزاء فيحتاج فيه إلى ذلك، بل هذا من باب الاخبار عن شيء ماض، والاخبار صحيح. أخبر تعالى أن الذي أصابهم يوم أحد كان لا محالة بإذن الله، فهذا إخبار صحيح، ومعنى صحيح، فلا نتكلف تقديما ولا تأخيرا، وتجعله من باب الشرط والجزاء.
* (وليعلم المؤمنين
113

وليعلم الذين نافقوا) * هو على حذف مضاف أي: وليعلم إيمان المؤمنين، ويعلم نفاق الذين نافقوا. أو المعنى: وليميز أعيان المؤمنين من أعيان المنافقين. وقيل: ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين مساوقا للعلم الذي لم يزل ولا يزال. وقيل: ليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء. وقد تقدم تأويل مثل هذا في قوله: * (لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب) * وقالوا: تتعلق الآية بمحذوف أي: ولكذا فعل ذلك. والذي يظهر أنه معطوف على قوله: بإذن الله، عطف السبب على السبب. ولا فرق بين الباء واللام، فهو متعلق بما تعلقت به الباء من قوله: فهو كائن. والذين نافقوا هنا عبد الله بن أبي وأصحابه.
* (وقيل لهم تعالوا قاتلوا فى سبيل الله أو ادفعوا) * القائل: رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد الله لما انخذل عبد الله بن أبي في نحو ثلاثمائة تبعهم عبد الله فقال لهم: اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، ونحو هذا من القول. فقال عبد الله بن أبي: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمناه لكنا معكم. فلما يئس منهم عبد الله قال: اذهبوا أعداء الله، فسيغني الله عنكم، ومضى حتى استشهد. قال السدي: وابن جريج، ومجاهد، والحسن، والضحاك، والفراء: معناه: كثروا السواد وإن لم تقاتلوا فتدفعون القوم بالتكثير. وقال أبو عون الأنصاري معناه: رابطوا، وهو قريب من الأول، لأن المرابط في الثغور دافع للعدو، إذ لولاه لطرقها. قال أنس: رأيت عبد الله بن أم مكتوم يوم القادسية وعليه درع بجر أطرافها، وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى ولكني أكثر المسلمين بنفسي. وقيل: القتال بالأنفس، والدفع بالأموال. وقيل: المعنى أو ادفعوا حمية، لأنه لما دعاهم أولا إلى أن يقاتلوا في سبيل الله وجد عزائمهم منحلة عن ذلك، إذ لا باعث لهم في ذلك لنفاقهم، فاستدعى منهم أن يدفعوا عن الحوزة، فنبه على ما يقاتل لأجله: إما لإعلاء الدين، أو لحمي الذمار. ألا ترى إلى قول قزمان: والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي. وقول الأنصاري وقد رأى قريشا ترعى زرع قناة: أترعى زروع بني قيلة ولما تضارب، مع أنه صلى الله عليه وسلم) أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره.
وأو على بابها من أنها لأحد الشيئين. وقيل: يحتمل أن تكون بمعنى الواو، فطلب منهم الشيئين: القتال في سبيل الله، والدفع عن الحريم والأهل والمال. فكفار قريش لا تفرق بين المؤمن والمنافق في القتل والسبي والنهب، والظاهر أن قوله: وقيل لهم، كلام مستأنف. قسم الأمر عليهم فيه بين أن يقاتلوا للآخرة، أو يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم. حكى الله عنهم ما يدل على نفاقهم في هذا السؤال والجواب، ويحتمل أن يكون قوله: وقيل لهم معطوف على نافقوا، فيكون من الصلة.
* (قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم) * إنما لم ترد بالفاء لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاؤهم إلى القتال كأنه قيل: فماذا قالوا؟ فقيل: قالوا لو نعلم، ونعلم هنا في معنى علمنا، لأن لو من القرائن التي تخلص المضارع
114

لمعنى الماضي إذا كانت حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره، فإذا كانت بمعنى إن الشرطية تخلص المضارع لمعنى الاستقبال. ومضمون هذا الجواب أنهم علقوا الاتباع على تقدير وجود علم القتال، وعلمهم للقتال منتف، فانتفى الاتباع واخبارهم بانتفاء علم القتال منهم إما على سبيل المكابرة والمكادبة، إذ معلوم أنه إذا خرج عسكران وتلاقيا وقد قصد أحدهما الآخر من شقة بعيدة في عدد كثير وعدد، وخرج إليهم العسكر الآخر من بلدهم للقائهم قبل أن يصلوا بلدهم واثقين بنصر الله مقاتلين في سبيل الله، وإن كانوا أقل من أولئك، أنه سينشب بينهم قتال لا محالة، فأنكروا علم ذلك رأسا لما كانوا عليه من النفاق والدغل والفرح بالاستيلاء على المؤمنين. وإما على سبيل التخطئة لهم في ظنهم أن ذلك قتال في سبيل الله. وليس كذلك، إنما هو رمي النفوس في التهلكة، إذ لا مقاومة لهم بحرب الكفار لكثرتهم وقلة المؤمنين، لأن رأى عبد الله بن أبي كان في الإقامة بالمدينة وجعلها ظهرا للمؤمنين، وما كان يستصوب الخروج كما مر ذكره في قصة أحد.
* (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) * وجه الأقربية التي هي الزيادة في القرب إنهم كانوا يظهرون الإيمان، ولم تكن تظهر لهم إمارة تدل على الكفر، فلما انخذلوا عن المؤمنين وقالوا ما قالوا زادوا قربا للكفر، وتباعدوا عن الإيمان. وقيل: هو على حذف مضاف أي: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين.
وأقرب هنا افعل تفضيل، وهي من القرب المقابل للبعد. ويعدي بإلى وباللام وبمن، فيقال: زيد أقرب لكذا، وإلى كذا، ومن كذا من عمرو. فمن الأولى ليست التي
يتعدى بها افعل التفضيل مطلقا في نحو: زيد أفضل من عمرو. وحرفا الجر هنا يتعلقان بأقرب، وهذا من خواص أفعل التفضيل إنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد، وليس أحدهما معطوفا على الآخر. ولا بدلا منه بخلاف سائر العوامل، فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد إلا بالعطف، أو على سبيل البدل. فتقول: زيد بالنحو أبصر منه بالفقه.
والعامل في يومئذ أقرب. ومنهم متعلق بأقرب أيضا، والجملة المعوض منها التنوين هي السابقة، أي: هم قوم إذ قالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وذهب بعض المفسرين فيما حكى النقاش: إلى أن أقرب ليس هو هنا المقابل للأبعد، وإنما هو من القرب بفتح القاف والراء وهو المطلب، والقارب طالب الماء، وليلة القرب ليلة الوداد، فاللفظة بمعنى الطلب. ويتعين على هذا القول التعدية باللام، ولا يجوز أن تعدى بإلى ولا بمن التي لا تصحب كل أفعل التفضيل، وصار نظير زيد أقرب لعمرو من بكر. وأكثر العلماء على أن هذه الجملة تضمنت النص على كفرهم. قال الحسن: إذا قال الله: أقرب، فهو اليقين بأنهم مشركون. كقوله: (مائة ألف أو يزيدون) فالزيادة لا شك فيها، والمكلف لا ينفك عن الكفر أو الإيمان. فلما دلت على الأقربية من الكفر لزم حصول الكفر.
وقال الواحدي في الوسيط: هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر، لأنه تعالى لم يطلق القول عليهم بتكفيرهم مع أنهم كانوا كافرين مع إظهارهم لقول: لا إلاه إلا الله محمد رسول الله. قال الماتريدي: أقرب أي ألزم على الكفر، وأقبل له مع وجود الكفر منهم حقيقة، لا على القرب إليه قبل الوقوع والوجود لقوله: * (ءان * رحمت الله قريب من المحسنين) * أي هي لهم لا على القرب قبل الوجود، لكنهم لما كانوا أهل نفاق والكفر لم يفارق قلوبهم وما كان من أيمانهم، كان بظاهر اللسان قد يفارقها في أكثر أوقاتهم، وصفوا به. ويحتمل أن يحمل على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان، فهو أقرب إلى الكفر. أو من حيث قالوا للمؤمنين: (ألم نكن معكم) وللكافرين: (ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين) أو من حيث ما أظهروا من الإيمان كذب، والكفر نفسه كذب. فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم أقرب إليه وهو الكفر، أو من
115

حيث أنهم أحق به أن يعرفوا. كما جعل الله لهم أعلاما يعرفون بها، أو من حيث لا يعبدون الله ولا يعرفونه، بل هم عباد الأصنام لاتخاذهم لها أربابا، أو لتقربهم بها إلى الله، فإذا أصابتهم شدة فرعوا إلى الله، والمؤمنون يرجعون إلى الله في الشدة والرخاء.
* (يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم) * أي يظهرون من الإسلام ما يحقنون به دماءهم، ويحفظون أهليهم من السبي، وأموالهم من النهب. وليس ما يظهرون ما تنطوي عليه ضمائرهم، بل هو لا يتجاوز أفواههم ومخارج الحروف منها، ولم تع قلوبهم منه شيئا. وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم، وأن إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم، بخلاف إيمان المؤمنين في مواطأة عقد قلوبهم للفظ ألسنتهم. قال ابن عطية: بأفواههم توكيد مثل: يطير بجناحيه انتهى. ولا يظهر أنه توكيد، إذ القول ينطلق على اللساني والنفساني، فهو مخصص لأحد الانطلاقين إلا إن قلنا: إن إطلاقه على النفساني مجاز، فيكون إذ ذاك توكيدا لحقيقة القول.
* (والله أعلم بما يكتمون) * أي من الكفر وعداوة الدين. وقال: أعلم، لأن علمه تعالى بهم علم إحاطة بتفاصيل ما يكتمونه وكيفياته، ونحن نعلم بعض ذلك علما مجملا. وتضمنت هذه الجملة التوعد الشديد لهم، إذ المعنى: ترتب الجزاء على علمه تعالى بما يكتمون.
* (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا) * هذه الآية نظير قوله: (وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض) الآية وفسر الإخوان هنا بما فسر به هناك. وتحتمل لام الجر ما احتملته في تلك، وجوزوا في إعراب الذين وجوها: الرفع على النعت للذين نافقوا، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو على أنه بدل من الواو في يكتمون، والنصب على الذم أي: أذم الذين، والجر على البدل من الضمير في بأفواههم أو في قلوبهم.
والجملة من قوله: وقعدوا حالية أي: وقد قعدوا. ووقوع الماضي حالا في مثل هذا التركيب مصحوبا بقد، أو بالواو، أو بهما، أو دونهما، ثابت من لسان العرب بالسماع. ومتعلق الطاعة هو ترك الخروج. والقعود كما قعدوا هم، وهذا منهم قول بالأجلين أي: لو وافقونا في التخلف والقعود ما قتلوا، كما لم نقتل نحن. وقرأ الحسن: ما قتلوا بالتشديد. * (قل * فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) * أكذبهم الله تعالى في دعواهم ذلك، فكأنه قيل: القتل ضرب من الموت، فإن كان لكم سبيل إلى دفعه عن أنفسكم بفعل اختياري فادفعوا عنها الموت، وإن لم يكن ذلك دل على أنكم مبطلون في دعواكم. والدرة: الدفع، وتقدمت مادته في قوله: (فادارأتم فيها) وقال دغفل النسابة:
* صادف درء السيل درأ يدفعه
*
والعبء لا تعرفه أو ترفعه
*
والمعنى: إن كنتم صادقين في دعواكم أن التحيل والتحرز ينجي من الموت، فجدوا أنتم في دفعه، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا بل لا بد أن يتعلق بكم بعض أسباب المنون. وهب أنكم على زعمكم دفعتم بالقعود هذا السبب الخاص، فادفعوا سائر أسباب الموت، وهذا لا يمكن لكم البتة. قال الزمخشري: (فإن قلت): فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود، فما معنى قوله: إن كنتم صادقين؟ (قلت): معناه أن النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال، وأن يكون غيره. لأن أسباب النجاة كثيرة. وقد يكون قتال الرجل نجاته، ولو لم يقاتل لقتل، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وإنكم صادقون في مقاتلتكم وما أنكرتم أن يكون السبب غيره؟ ووجه
116

آخر: إن كنتم صادقين في قولكم: لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا، يعني: أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين، كما قتلوا مقاتلين. وقوله: فادرؤا عن أنفسكم الموت، استهزاء بهم، أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا انتهى كلامه. وهو حسن على طوله.
* (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * قيل: هم قتلى أحد، وقيل: شهداء بئر معونة. وقيل: شهداء بدر. وهل سبب ذلك قول من استشهد وقد دخل الجنة فأكل كل من ثمارها: من يبلغ عنا إخواننا أنا في الجنة نرزق، لا تزهدوا في الجهاد. فقال الله: أنا أبلغ عنكم، فنزلت. أو قول من لم يستشهد من أولياء الشهداء: إذا أصابتهم نعمة نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا وأخواننا في القبور، فنزلت.
وقرأ الجمهور: ولا تحسبن بالتاء، أي ولا تحسبن أيها السامع. وقال الزمخشري: الخطاب لرسول صلى الله عليه وسلم)، أو لكل أحد. وقرأ حميد بن قيس وهشام بخلاف عنه بالياء، أي: ولا يحسبن هو، أي: حاسب واحد. قال ابن عطية: وأرى هذه القراءة بضم الياء، فالمعنى: ولا يحسبن الناس انتهى.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلا، ويكون التقدير: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا، أي: لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. (فإن قلت): كيف جاز حذف المفعول الأول؟ (قلت): هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله: أحياء. والمعنى: هم أحياء لدلالة الكلام عليها انتهى كلامه. وما ذهب إليه من أن التقدير: ولا تحسبنهم الذين قتلوا أمواتا لا يجوز، لأن فيه تقديم المضمر على مفسره، وهو محصور في أماكن لا تتعدى وهي باب: رب بلا خلاف، نحو: ربه رجلا أكرمته، وباب نعم وبئس في نحو: نعم رجلا زيد على مذهب البصريين، وباب التنازع على مذهب سيبويه في نحو: ضرباني وضربت الزيدين، وضمير الأمر والشأن وهو المسمى بالمجهول عند الكوفيين نحو: هو زيد منطلق، وباب البدل على خلاف فيه بين البصريين في نحو: مررت به زيد، وزاد بعض أصحابنا أن يكون الظاهر المفسر خبرا للضمير، وجعل منه قوله تعالى: * (وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا) * التقدير عنده: ما الحياة إلا حياتنا الدنيا. وهذا الذي قدره الزمخشري ليس واحدا من هذه الأماكن المذكورة. وأما سؤاله وجوابه فإنه قد يتمشى على رأي الجمهور في أنه: يجوز حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها اختصارا، وحذف الاختصار هو لفهم المعنى، لكنه عندهم قليل جدا. قال أبو علي الفارسي: حذفه عزيز جدا، كما أن حذف خبر كان كذلك، وإن اختلفت جهتا القبح انتهى. قول أبي علي. وقد ذهب الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن ملكون الحضرمي الإشبيلي إلى منع ذلك اقتصارا، والحجة له وعليه مذكورة في علم النحو. وما كان بهذه المثابة ممنوعا عند بعضهم عزيزا حذفه عند الجمهور، ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى. فتأويل من تأول الفاعل مضمرا يفسره المعنى، أي: لا يحسبن هو أي أحد، أو حاسب أولى. وتنفق القراءتان في كون الفاعل ضميرا وإن اختلفت بالخطاب والغيبة.
وتقدم الكلام على معنى موت الشهداء وحياتهم في قوله: * (ولا تقولوا
117

لمن يقتل فى سبيل الله * أمواتا بل أحياء) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقرأ الحسن وابن عامر قتلوا بالتشديد. وروي عن عاصم: قاتلوا. وقرأ الجمهور: قتلوا مخففا. وقرأ الجمهور: بل أحياء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: بل هم أحياء. وقرأ ابن أبي عبلة: أحياء بالنصب. قال الزمخشري: على معنى بل أحسبهم أحياء انتهى. وتبع في إضمار هذا الفعل الزجاج قال الزجاج: ويجوز النصب على معنى: بل أحسبهم أحياء. ورده عليه أبو علي الفارسي في الإغفال وقال: لا يجوز ذلك، لأن الأمر يقين، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة. فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن يضمر فعلا غير المحسبة اعتقدهم أو اجعلهم، وذلك ضعيف، إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر انتهى كلام أبي علي. وقوله: لا يجوز ذلك لأن الأمر يقين، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة معناه: أن المتيقن لا يعبر عنه بالمحسبة، لأنها لا تكون لليقين. وهذا الذي ذكره هو الأكثر، وقد يقع حسب لليقين كما تقع ظن، لكنه في ظن كثير، وفي حسب قليل. ومن ذلك في حسب قول الشاعر:
* حسبت التقى والحمد خير تجارة
*
رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا
*
وقول الآخر:
* شهدت وفاتوني وكنت حسبتني
*
فقيرا إلى أن يشهدوا وتغيبي
*
فلو قدر بعد: بل أحسبهم بمعنى أعلمهم، لصح لدلالة المعنى عليه، لا لدلالة لفظ ولا تحسبن، لاختلاف مدلوليهما. وإذا اختلف المدلول فلا يدل أحدهما على الآخر. وقوله: ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة غير مسلم، لأنه إذا امتنع من حيث المعنى إضماره أضمر غيره لدلالة المعنى عليه لا اللفظ. وقوله: أو اجعلهم، هذا لا يصح البتة، سواء كانت اجعلهم بمعنى اخلقهم، أو صيرهم، أو سمهم، أو القهم. وقوله: وذلك ضعيف أي النصب، وقوله: إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر إن عنى من حيث اللفظ فصحيح، وإن عنى من حيث المعنى فغير مسلم له، بل المعنى يسوغ النصب على معنى اعتقدهم، وهذا على تسليم إن حسب لا يذهب بها مذهب
العلم.
ومعنى عند ربهم: بالمكانة والزلفى، لا بالمكان. قال ابن عطية: فيه حذف مضاف تقديره: عند كرامة ربهم، لأن عند تقتضي غاية القرب، ولذلك يصغر قاله سيبويه انتهى. ويحتمل عند ربهم أن يكون خبرا ثانيا، وصفة، وحالا. وكذلك يرزقون: يجوز أن يكون خبرا ثالثا، وأن يكون صفة ثانية. وقدم صفة الظرف على صفة الجملة، لأن الأفصح هذا وهو: أن يقدم الظرف أو المحرور على الجملة إذا كانا وصفين، ولأن المعنى في الوصف بالزلفى عند الله والقرب منه أشرف من الوصف بالرزق. وأن يكون حالا من الضمير المستكن في الظرف، ويكون العامل فيه في الحقيقة هو العامل في الظرف.
قال ابن عطية: أخبر تعالى عن الشهداء أنهم في الجنة يرزقون، هذا موضع الفائدة. ولا محالة أنهم ماتوا، وإن أجسادهم في التراب، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين. وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم. فقوله: بل أحياء مقدمة لقوله: يرزقون، إذ لا يرزق إلا حي. وهذا كما يقول لمن ذم رجلا. بل هو رجل فاضل، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل انتهى ما قاله ابن عطية. ولا يلزم ما ذكره من أن لفظة أحياء جيء بها مجتلبة لذكر الرزق، لكون الحياة مشتركا فيها الشهيد والمؤمنون، لأنه يجوز أن يكون هذا الإخبار بحياة الشهداء متقدما على الإخبار بأن أرواح المؤمنين على العموم حية فاستفيد، أو لا حياة أرواح الشهداء، ثم جاء بعد الإخبار بحياة أرواح
118

المؤمنين. وأيضا ففي ذكره النص على نقيض ما حسبوه وهو: كون الشهداء أمواتا. والبعد عن أن يراد بقوله: يرزقون، ما يحتمله المضارع من الاستقبال. فإذا سبقه ما يدل على الالتباس بالوصف حالة الإخبار كان حكم ما بعده حكمه، إذ الأصل في الأخبار أن يكون من أسندت إليه متصفا بذلك في الحال، إلا إن دلت قرينة على مضي أو استقبال من لفظ أو معنى، فيصار إليه.
* (فرحين بما ءاتاهم الله من فضله) * أي مسرورين بما أعطاهم الله من قربه، ودخول جنته، ورزقهم فيها، إلى سائر ما أكرمهم به، ولا تعارض بين: فرحين، وبين * (إن الله لا يحب الفرحين) * في قصة قارون. لأن ذاك بالملاذ الدنيوية، وهذا بالملاذ الأخروية. ولذلك جاء قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا وجاء: * (وفى ذلك فليتنافس المتنافسون) *.
ومن يحتمل أن تكون للسبب، أي: ما آتاهم الله متسبب عن فضله، فتتعلق الباء بآتاهم. ويحتمل أن تكون للتبعيض، فتكون في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على ما، أي: بما آتاهموه الله كائنا من فضله. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، فتتعلق بآتاهم. وجوزوا في فرحين أن يكون حالا من الضمير في يرزقون، أو من الضمير في الظرف، أو من الضمير في أحياء، وأن يكون صفة لأحياء إذا نصب.
* (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) * وهم: جميع المؤمنين، أي: يحصل لهم البشرى بانتفاء الخوف والحزن عن إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم في الشهادة، فهم فرحون بما حصل لهم، مستبشرون بما يحصل لأخوانهم المؤمنين قاله: الزجاج وابن فورك وغيرهما. وقال قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم: هم الشهداء الذين يأتونهم بعد من إخوانهم المؤمنين الذين تركوهم يجاهدون فيستشهدون، فرحوا لأنفسهم ولمن يلحق بهم من الشهداء، إذ يصيرون إلى ما صاروا إليه من كرامة الله تعالى.
قال ابن عطية: وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة، بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار. انتهى كلامه. أما قوله: ليست بمعنى طلب البشارة فصحيح، وأما قوله: بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار، فيعني أنها تكون بمعنى الفعل المجرد كاستغنى بمعنى غني، واستمجد بمعنى مجد، ونقل أنه يقال: بشر الرجل بكسر الشين، فيكون استبشر بمعناه. ولا يتعين هذا المعنى، بل يجوز أن يكون مطاوعا لأفعل، وهو الأظهر أي: أبشره الله فاستبشر، كقولهم: أكانه فاستكان، وأشلاه فاستشلى، وأراحه فاستراح، وأحكمه فاستحكم، وأكنه فاستكن، وأمره فاستمر، وهو كثير. وإنما كان هذا الأظهر هنا، لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلا عن غيره، فحصلت له البشر بابشار الله له بذلك. ولا يلزم هذا المعنى إذا كان بمعنى المجرد، لأنه لا يدل على المطاوعة. ومعنى: من خلفهم، قد بقوا بعدهم، وهم قد تقدموهم إذا كان المعنى بالذين لم يلحقوا الشهداء، وإن كان المعني بهم المؤمنين فمعنى لم يلحقوا بهم أي: لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم.
* (أن لا * خوف عليهم ولا هم يحزنون) * وجوزوا في إعراب ويستبشرون أن يكون معطوفا على فرحين ومستبشرين كقوله: (صافات ويقبضن) أي قابضات وأن يكون على إضمارهم. والوا للحال، فتكون حالية من الضمير في فرحين، أو من ضمير المفعولين في آتاهم، أو للعطف. ويكون مستأنفا من باب عطف الجملة الاسمية أو الفعلية على نظيرها.
وإن هي المخففة من
119

الثقيلة، واسمها محذوف ضمير الشأن، وخبرها الجملة المنفية بلا. وإن ما بعدها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين، فيكون هو المستبشر به في الحقيقة. أو منصوب على أنه مفعول من أجله، فيكون علة للاستبشار، والمستبشر به غيره. التقدير: لأنه لا خوف عليهم. والذوات لا يستبشر بها فلا بد من تقدير مضاف مناسب، وتقدم تفسير: لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فأغني عن إعادته.
وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة، والجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيمتنى مثله لإخوانه في الله، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب قاله: الزمخشري. وهو كلام حسن.
قيل: وتضمنت هذه الآيات من ضروب البديع، الطباق في قوله: لقد من الله الآية، إذ التقدير من الله عليهم بالهداية، فيكون في هذا المقدر. وفي قوله: في ضلال
مبين، وفي: يقولون بأفواههم، والقول ظاهر ويكتمون. وفي قالوا لإخوانهم وقعدوا، إذ التقدير حين خرجوا وقعدوا هم. وفي: أمواتا بل أحياء وفي: فرحين ويحزنون. والتكرار في: وليعلم المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا الاختلاف متعلق العلم. وفي فرحين ويستبشرون. والتجنيس المغاير في: إصابتكم مصيبة، والمماثل في: أصابتكم قد أصبتم. والاستفهام الذي يراد به الإنكار في: أو لما أصابتكم. والاحتجاج النظري في: قل فادرأوا عن أنفسكم. والتأكيد في: ولا هم يحزنون. والحذف في عدة مواضع لا يتم المعنى إلا بتقديرها.
2 (* (يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين * الذين استجابوا لله والرسول من بعد مآ أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين * ولا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا فى الا خرة ولهم عذاب عظيم * إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم * ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين * ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشآء فأامنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم * ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ ءاتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات
120

والا رض والله بما تعملون خبير) *))
) *
الحظ النصيب، وإذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير. ماز و مير: فصل الشيء من الشيء. قال يعقوب: هما لغتان بمعنى واحد انتهى. والتضعيف ليس للنقل. وقيل: التشديد أقرب إلى الفخامة وأكثر في الاستعمال، ألا ترى أنهم استعملوا المصدر على نية التشديد فقالوا: التمييز، ولم يقولوا الميز انتهى. ويعني: ولم تقولوه مسموعا، وأما بطريق القياس فيقال. وقيل: لا يكون ما زالا في كثير من كثير، فأما واحد من واحد فيتميز على معنى يعزل، ولهذا قال أبو معاذ: يقال: ميزت بين شيئين، ومزت بين الأشياء. اجتبى: اختار واصطفى، وهي من جبيت الماء، والمال وجبوتهما فاجتبى، افتعل منه. فيحتمل أن تكون اللام واو أو ياء.
* (يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) * كرر الفعل على سبيل التوكيد، إن كانت النعمة والفضل بيانا لمتعلق الاستبشار الأول، قاله: الزمخشري. قال: وكرر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله: * (أن لا * خوف عليهم ولا هم يحزنون) * من ذكر النعمة والفضل، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم، يجب في عدل الله وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع انتهى. وهو على طريقة الاعتزال، في ذكره وجوب الأجر وتحصيله على إيمانهم. وسلك ابن عطية طريقة أهل السنة فقال: أكد استبشارهم بقوله: يستبشرون، ثم بين بقوله: وفضل إدخالهم الجنة الذي هو فضل منه، لا بعمل أحد، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال انتهى.
وقال غيرهما: هو بدل من الأول، فلذلك لم يدخل عليه واو العطف. ومن ذهب إلى أن الجملة حال من الضمير في يحزنون، ويحزنون هو العامل فيها، فبعيد عن الصواب. لأن الظاهر اختلاف المنفى عنه الحزن والمستبشر، ولأن الحال قيد، والحزن ليس بمقيد. والظاهر أن قوله: يستبشرون ليس بتأكيد للأول، بل هو استئناف متعلق بهم أنفسهم، لا بالذين لم يلحقوا بهم. فقد اختلف متعلق الفعلين، فلا تأكيد لأن هذا المستبشر به هو لهم، وهو: نعمة الله عليهم وفضله. وفي التنكثير دلالة على بعض غير معين، وإشارة إلى إبهام المراد تعظيما لأمره وتنبيها على صعوبة إدراكه، كما جاء فيها * (ما لا عين * ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر) * والظاهر تباين النعمة والفضل للعطف، ويناسب شرحهما أن ينزل على قوله: * (للذين أحسنوا الحسنى) * وزيادة فالحسنى هي النعمة، والزيادة هي الفضل لقرينة قوله: أحسنوا وقوله * (للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) *.
وقال الزجاج: النعمة هي الجزاء والفضل زائد عليه قدر الجزاء. وقيل: النعمة قدر الكفاية، والفضل المضاعف عليها مع مضاعفة السرور بها واللذة. وقيل: الفضل داخل في النعمة دلالة على اتساعها، وأنها ليست كنعم الدنيا. وقرأ الكسائي وجماعة: وإن الله بكسر الهمزة على الاستئناف ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه: والله لا يضيع أجره. وقال الزمخشري: وعلى أن
121

الجملة اعتراض، وهي قراءة الكسائي انتهى. وليست الجملة هنا اعتراضا لأنها لم تدخل بين شيئين أحدهما يتعلق بالآخر، وإنما جاءت لاستئناف أخبار. وقرأ باقي السبعة والجمهور: بفتح الهمزة عطفا على متعلق الاستبشار، فهو داخل فيه. قال أبو علي: يستبشرون بتوفير ذلك عليهم، ووصوله إليهم، لأنه إذا لم يضعه وصل إليهم ولم يبخسوه. ولا يصح الاستبشار بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، لأن الاستبشار إنما يكون بما لم يتقدم به علم، وقد علموا قبل موتهم إن الله لا يضيع أجر المؤمنين، فهم يستبشرون بأن الله ما أضاع أجورهم حتى اختصهم بالشهادة ومنحهم أتم النعمة، وختم لهم بالنجاة والفوز، وقد كانوا يخشون على إيمانهم، ويخافون سوء الخاتمة المحبطة للأعمال، فلما رأوا ما للمؤمنين عند الله من السعادة وما اختصهم به من حسن الخاتمة التي تصح معها الأجور وتضاعف الأعمال، استبشروا، لأنهم كانوا على وجل من ذلك انتهى كلامه. وفيه تطويل شبيه بالخطابة. قيل: ويجوز أن يكون الاستبشار لمن خلفوه بعدهم من المؤمنين لما عاينوا منزلته عند الله.
* (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) * قيل: الاستجابة كانت أثر الانصراف من أحغد. استنفر الرسول لطلب الكفار، فاستجاب له تسعون. وذلك لما ذكر للرسول أن أبا سفيان في جمع كثير، فأبى الرسول إلا أن يطلبهم، فسبقه أبو سفيان ودخل مكة فنزلت، قاله: عمرو بن
دينار. وفي ذكر هذا السبب اختلاف في مواضع. وقيل: الاستجابة كانت من العام القابل بعد قصة أحد، حيث تواعد أبو سفيان ورسول الله صلى الله عليه وسلم) موسم بدر، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان فارعب، وبدا له الرجوع وقال لنعيم بن مسعود: واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى، وهو عام جدب لا يصلح لنا، فثبطتهم عنا واعلمهم أنا في جمع كثير ففعل، وخوفهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم) بأصحابه وأقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان فنزلت. قال معناه: مجاهد وعكرمة. وقيل: لما كان الثاني من أحد وهو يوم الأحد، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الناس باتباع المشركين، وقال: * (لا * يخرجن * معنا * إلا من * نفسا بالامس) * وكانت بالناس جراحة وفرح عظيم، ولكن تجلدوا، ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد وهي: على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثة أيام، وجرت قصة معبد بن أبي معبد، وقد ذكرت ومرت قريش، فانصرف الرسول إلى المدينة فنزلت. وروى أنه خرج أخوان وبهما جراحة شديدة، وضعف أحدهما فكان أخوه يحمله عقبة ويمشي هو عقبة، ولما لم تتم استجابة العبد لله إلا باستجابته للرسول جمع بينهما، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. قيل: والاستجابتان مختلفتان، فإنهما بالنسبة إلى الله بالتوحيد والعبادة، وللرسول بتلقي الرسالة منه والنصيحة له. والظاهر أنها استجابة واحدة، وهو إجابتهم له حين انتدبهم لاتباع الكفار على ما نقل في سبب النزول. والإحسان هنا ما هو زائد على الإيمان من الاتصاف بما يستحب مع الاتصاف بما يجب.
والظاهر إعراب الذين مبتدأ، والجملة بعده الخبر. وجوزوا الاتباع نعتا، أو بدلا، والقطع إلى الرفع والنصب. ومن في منهم قال الزمخشري: للتبيين مثلها في قوله تعالى: * (وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) * لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا، إلا بعضهم. وعن عروة بن الزبير قالت لي عائشة: أن أبويك لممن استجابوا لله والرسول تعني: أبا بكر والزبير انتهى. وقال أبو البقاء: منهم حال من الضمير في أحسنوا، فعلى هذا تكون من للتبعيض وهو قول من لا يرى أن من تكون لبيان الجنس.
* (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) * قيل: أريد
122

بالناس الأول أبو نعيم بن مسعود الأشجعي، وهو قول: ابن قتيبة، وضعفه ابن عطية. وبالثاني: أبو سفيان. وتقدم ذكر قصة نعيم وذكرها المفسرون مطولة، وفيها: أن أبا سفيان جعل له جعلا على تثبيط الصحابة عن بدر الصغرى وذلك عشرة من الإبل ضمنها له سهيل بن عمرو، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأفزع الناس وخوفهم اللقاء، فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم): (والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي) فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فتجهز للقتال وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فوافى بدرا الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون: قد جمعوا لكم، وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام، فأقام ببدر ينتظر أبا سفيان، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة، فسمى أهل مكة حسبة جيش السويق قالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق. وكانت مع الصحابة تجارات ونفقات، فباعوا وأصابوا للدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة غانمين، وحسبها الرسول لهم غزوة، وظفر في وجهة ذلك بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي غزة الجمحي فقتلهما. فعلى هذا القول أن المثبط أبو نعيم وحده، وأطلق عليه الناس على سبيل المجاز، لأنه من جنس الناس كما يقال: فلان يركب الخيل، ويلبس البرود، وما له إلا فرس واحد، وبرد واحد، قاله الزمخشري. وقال أيضا: ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه ويصلون جناح كلامه، ويثبطون مثل تثبيطه انتهى. ولا يجيء هذا على تقدير السؤال وهو: أن نعيما وحده هو المثبط، لأنه قد انضاف إليه ناس، فلا يكون إذ ذاك منفردا بالتثبيط.
وقيل: الناس الأول ركب من عبد القيس مروا على أبي سفيان يريدون المدينة للميرة، فجعل لهم جعلا وهو حمل إبلهم زبيبا على أن يخبروا أنه جمع ليستأصل بقية المؤمنين، فأخبروا بذلك، فقال الرسول وأصحابه وهم إذ ذاك بحمراء الأسد: * (حسبنا الله ونعم الوكيل) * والناس الثاني قريش، وهذا القول أقرب إلى مدلول اللفظ.
وجوزوا في إعراب الذين قال: أوجه الذين قبله، والفاعل بزاد ضمير مستكن يعود على المصدر المفهوم من قال أي: فزادهم ذلك القول إيمانا. وأجاز الزمخشري أن يعود إلى القول، وأن يعود إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده. وهما ضعيفان، من حيث أن الأول لا يزيد إيمانا إلا بالنطق به، لا هو في نفسه. ومن حيث أن الثاني إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازا فإن الضمائر تجزي على ذلك الجمع، لا على المفرد. فيقول: مفارقه شابت، باعتبار الإخبار عن الجمع، ولا يجوز مفارقه شاب، باعتبار مفرقه شاب.
وظاهر اللفظ أن الإيمان يزيد، ومعناه هنا: أن ذلك القول زادهم تثبيتا واستعدادا، فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال. وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال قوم: يزيد وينقص باعتبار الطاعات، لأنها من ثمرات الإيمان، وينقص بالمعصية وهو: مذهب مالك ونسب للشافعي. وقال قوم: من جهة أعمال القلوب كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة. وقال قوم: من طريق الأدلة وكثرتها وتظافرها على معتقد واحد. وقال قوم: من طريق نزول الفرائض والإخبار في مدة الرسول. وقال قوم: لا يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب أبي حنيفة، وحكاه الباقلاني عن الشافعي. وقال أبو المعالي في الإرشاد: زيادته من حيث ثبوته وتعاوره دائما، لأنه عرض لا يثبت زمانين، فهو للصالح متعاقب متوال، وللفاسق والغافل غير متوال، فهذا معنى الزيادة والنقص. وذهب قوم: إلى ما نطق به النص، وهو أنه يزيد ولا ينقص، وهو مذهب المعتزلة. وروى شبهه عن ابن المبارك. والذي يظهر أن الإيمان إذا أريد به
123

التصديق فيعلق بشيء واحد: أنه تستحيل فيه الزيادة والنقص، فإنما ذلك بحسب متعلقاته دون ذاته، وحجج هذه الأقوال مذكورة في المصنفات التي تضمنت هذه المسألة، وقد أفردها بعض العلماء بالتصنيف في كتاب. ولما تقدم من المثبطين إخبار بأن قريشا قد جمعوا لكم، وأمر منهم لهم بخشيتهم لهذا الجمع الذي جمعوه، ترتب على هذا
القول شيئان: أحدهما: قلبي وهو زيادة الإيمان، وهو مقابل للأمر بالخشية. فأخبر بحصول طمأنينة في القلب تقابل الخشية، وأخبر بعد بما يقابل جمع الناس وهو: إن كافيهم شر الناس هو الله تعالى، ثم أثنوا عليه تعالى بقوله: ونعم الوكيل، فدل على أن قولهم: حسبنا الله هو من المبالغة في التوكل عليه، وربط أمورهم به تعالى. فانظر إلى براعة هذا الكلام وبلاغته، حيث قوبل قول بقول، ومتعلق قلب بمتعلق قلب. وتقدم الكلام في حسب في قوله: * (فحسبه جهنم) * ومن قولهم: أحسبه الشيء كفاه. وحسب بمعنى المحسب، أي الكافي، أطلق ويراد به معنى اسم الفاعل. ألا ترى أنه يوصف به فتقول: مررت برجل حسبك من رجل، أي: كافيك. فتصف به النكرة، إذ إضافته غير محضة، لكونه في معنى اسم الفاعل غير الماضي المجرد من أل. وقال:
* وحسبك من غنى شبع وري أي كافيك. والوكيل: فعيل بمعنى مفعول، أي الموكول إليه الأمرور. قيل: وهذه الحسبلة هي قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار. والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، التقدير: ونعم الوكيل الله. قال ابن الأنباري: الوكيل الرب قاله: قوم انتهى. والمعنى: أنه من أسماء صفاته تعالى كما تقول: القهار هو الله. وقيل: هو بمعنى الولي والحفيظ، وهو راجع إلى معنى الموكول إليه الأمور. قال الفراء: والوكيل الكفيل * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) * أي: فرجعوا من بدر مصحوبين بنعمة من الله وهي: السلامة وحذر العدو إياهم، وفضل: وهو الريح في التجارة. كقوله: * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) * هذا الذي اختاره الزمخشري في تفسير هذا الانقلاب، ولم يذكر غيره، وهو قول مجاهد. قال ابن عطية: والجمهور على أن معنى هذه الآية فانقلبوا بنعمة، يريد: في السلامة والظهور، وفي اتباع العدو، وحماية الحوزة، وبفضل في الأجر الذي حازوه، والفخر الذي تخللوه، وأنها في غزوة أحد في الخرجة إلى حمراء الأسد. وشذ مجاهد وقال: في خروج النبي صلى الله عليه وسلم) إلى بدر الصغرى، وذكر قصة نعيم وأبي سفيان. قال: والصواب ما قاله الجمهور: إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد، انتهى كلامه.
*
والكلام في هذه الآية مبني على الخلاف في قوله: * (الذين استجابوا لله والرسول) * وقد تقدم ذكره عند ذكر تفسيرها. وفرق بعضهم بين الانقلاب والرجوع، بأن الانقلاب صيرورة الشيء إلى خلاف ما كان عليه. قال: ويوضح هذا أنك تقول: انقلبت الخمر خلا، ولا تقول: رجعت الخمر خلا انتهى كلامه، وفي ذلك نظر. وقيل: النعمة الأجر قاله: مجاهد. وقيل: العافية والنصر. قاله: الزجاج. قيل: والفضل ربح التجارة قاله: مجاهد، والسدي، والزهري. وتقدم حكاية هذا القول عن مجاهد. وقيل: أصابوا سرية بالصفراء فرزقوا منها قاله: مقاتل. وقيل: الثواب ذكره الماوردي. والجملة من قوله: لم يمسسهم سوء في موضع الحال، أي سالمين. وبنعمة حال أيضا، لأن الباء فيه باء المصاحبة، أي: انقلبوا متنعمين سالمين. والجملة الحالية المنفية بلم المشتملة على ضمير ذي الحال، يجوز دخول الواو عليها، وعدم دخولها. فمن الأول قوله تعالى: * (أو قال أوحى إلى) * ولم يوح إليه شيء، وقول الشاعر:
* لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
*
أذنب وإن كثرت في الأقاويل
*
124

ومن الثاني قوله تعالى: * (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا) * وقول قيس بن الأسلب:
* واضرب القوس يوم الوغى
*
بالسيف لم يقصر به باعي
*
ووهم الأستاذ أبو الحسن بن خروف في ذلك فزعم: أنها إذا كانت الجملة ماضية معنى لا لفظا احتاجت إلى الواو كان فيها ضميرا، ولم يكن فيها. والمستعمل في لسان العرب ما ذكرناه.
واتباعهم رضوان الله هو بخروجهم إلى العدو، وجراءتهم، وطواعيتهم للرسول الله. وختمها بقوله: والله ذو فضل عظيم، مناسب لقوله: * (بنعمة من الله وفضل) * تفضل عليهم بالتيسير والتوفيق في ما فعلوه، وفي ذلك تحسير لمن تخلف عن الخروج حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء من الثواب في الآخرة والثناء الجميل في الدنيا. وروي أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا؟ فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزو، ورضي عنهم. وهذه عاقبة تفويض أمرهم إليه تعالى، جازاهم بنعمته، وفضله، وسلامتهم واتباعهم رضاه.
* (إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) * ما: هي الكافة لأن عن العمل. وهي التي يزعم معظم أهل أصول الفقه أنها إذا لم تكن موصولة أفادت مع أن الحصر. وذلكم: إشارة إلى الركب المثبط. وقيل: المراد بالشيطان نعيم بن مسعود، أو أبو سفيان. فعلى هذا الأقوال تكون الإشارة إلى أعيان. وقيل: ذلكم إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين عن رسالة أبي سفيان، وتحميل أبي سفيان ذلك الكلام، وجزع من جزع منه من مؤمن أو متردد. فعلى هذا تكون الإشارة إلى معان، ولا بد إذ ذاك من تقدير مضاف محذوف تقديره: إنما ذلكم فعل الشيطان. وقدره الزمخشري قول الشيطان، أي قول إبليس. فتكون
الإشارة على هذا التقدير إلى القول السابق وهو: أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. وعلى هذه الأقوال كلها فالخبر عن المبتدأ الذي هو ذلكم بالشيطان هو مجاز، لأن الأعيان ليست من نفس الشيطان، ولا ما جرى من قول فقط، أو من قول، وما انضم إليه مما صدر من العدو من تخويف، وما صدر من جزع، ليس نفس قول الشيطان ولا فعله، وإنما نسب إليه وأضيف، لأنه ناشىء عن وسوسته وإغوائه وإلقائه.
والتشديد في يخوف للنقل، كان قبله يتعدى لواحد، فلما ضعف صار يتعدى لاثنين. وهو من الأفعال التي يجوز حذف مفعوليها، وأحدهما اقتصار أو اختصار، أو هنا تعدى إلى واحد، والآخر محذوف. فيجوز أن يكون الأول ويكون التقدير: يخوفكم أولياء، أي شر أوليائه في هذا الوجه. لأن الذوات لا تخاف، ويكون المخوفون إذ ذاك المؤمنين، ويجوز أن يكون المحذوف المفعول الثاني، أي: يخوف أولياءه شر الكفار، ويكون أولياءه في هذا الوجه هم المنافقون، ومن في قلبه مرض المتخلفون عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: أنه لا يتعدى تخويفه المنافقين، ولا يصل إليكم تخويفه. وعلى الوجه الأول يكون أولياءه هم الكفار: أبو سفيان ومن معه. ويدل على هذا الوجه قراءة ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه، إذ ظهر فيها أن المحذوف هو المفعول الأول. وقرأ أبي والنخعي: يخوفكم بأوليائه، فيجوز أن تكون الباء زائدة مثلها في يقرأن بالسور، ويكون المفعول الثاني هو بأوليائه، أي: أولياءه، كقراءة الجمهور. ويجوز أن تكون البار للسبب، ويكون مفعول يخوف الثاني محذوفا أي: يخوفكم الشر بأوليائه، فيكونون آلة للتخويف. وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير: بأوليائه، فيكون إذ ذاك قد حذف مفعولا يخوف لدلالة، المعنى على الحذف، والتقدير: يخوفكم الشر بأوليائه، وهذا بعيد. والأحسن في الإعراب أن يكون ذلكم مبتدأ، والشيطان خبره، ويخوف جملة حالية، يدل على أن هذه الجملة حال مجيء المفرد منصوبا على الحال مكانها نحو قوله تعالى: * (فتلك بيوتهم خاوية) * * (وهاذا بعلى شيخا) * وأجاز أبو البقاء أن يكون الشيطان بدلا أو عطف بيان، ويكون بخوف
125

خبرا عن ذلكم. وقال الزمخشري: الشيطان خبر ذلكم، بمعنى: إنما ذلكم المثبط هو الشيطان، ويخوف أولياءه جملة مستأنفة بيان لتثبيطه، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة، ويخوف الخبر. والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان انتهى كلامه. فعلى هذا القول تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب. وإنما قال: والمراد بالشيطان نعيم، أو أبو سفيان، لأنه لا يكون صفة، والمراد به إبليس. لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علما بالغلبة، إذ أصله صفة كالعيوق، ثم غلب على إبليس، كما غلب العيوق على النجم الذي ينطلق عليه.
وقال ابن عطية: وذلكم في الإعراب ابتداء، والشيطان مبتدأ آخر، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان، والجملة خبر الابتداء الأول. وهذا الإعراب خبر في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم، لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة انتهى. وهذا الذي اختاره إعراب لا يجوز، إن كان الضمير في أولياءه عائدا على الشيطان، لأن الجملة الواقعة خبرا عن ذلكم ليس فيها رابط يربطها بقوله: ذلكم، وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم: هجيري أبي بكر لا إلاه إلا الله، وإن كان عائدا على ذلكم، ويكون ذلك عن الشيطان جاز، وصار نظير: إنما هند زيد يضرب غلامها والمعنى: إذ ذاك، إنما ذلكم الربك، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه، أي: أولياء الركب، أو أبي سفيان. والضمير المنصوب في تخافوهم الظاهر عوده على أولياءه، هذا إذا كان المراد بقوله: أولياءه كفار قريش، وغيرهم من أولياء الشيطان. وإن كان المراد به المنافقين، فيكون عائدا على الناس من قوله: * (إن الناس قد جمعوا لكم) * قوى نفوس المسلمين فنهاهم عن خوف أولياء الشيطان، وأمر بخوفه تعالى، وعلق ذلك على الإيمان. أي إن وصف الإيمان يناسب أن لا يخاف المؤمن إلا الله كقوله: * (ولا يخشون أحدا إلا الله) * وأبرز هذا الشرط في صفة الإمكان، وإن كان واقعا إذ هم متصفون بالإيمان، كما تقول: إن كنت رجلا فافعل كذا. وأثبت أبو عمروياء وخافون وهي ضمير المفعول، والأصل الإثبات. ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون، فتذهب الدلالة على المحذوف * (ولا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا) * لما نهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان، وأمرهم بخوفه وحده تعالى، نهى رسوله صلى الله عليه وسلم) عن الحزن لمسارعة من سارع في الكفر. والمعنى: لا يتوقع حزنا ولا ضررا منهم، ولذلك علله بقوله: إنهم لن يضروا الله شيئا، أي: لن يضروا نبي الله والمؤمنين. والمنفي هنا ضرر خاص، وهو إبطال الإسلام وكيده حتى يضمحل، فهذا لن يقع أبدا، بل أمرهم يضمحل ويعلو أمرك عليهم.
قيل: نزلت في المنافقين. وقيل: نزلت في قوم ارتدوا. وقيل: المراد كفار قريش. وقيل: رؤساء اليهود. والأولى حمله على العموم كقوله: * (قدير يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر) * وقيل: مثير الحزن وهو شفقته صلى الله عليه وسلم)، وإيثاره إسلامهم حتى ينقذهم من النار، فنهى عن المبالغة في ذلك كقوله تعالى: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) * وقوله: * (لعلك باخع نفسك * أن لا * يكونوا مؤمنين) * وهذا من فرط رحمته للناس، ورأفته بهم.
وقرأ نافع: يحزنك من أحزن، وكذا حيث وقع المضارع، إلا في لا يحزنهم الفزع الأكبر، فقرأه من حزن كقراءة الجماعة في جميع القرآن. يقال: حزن الرجل أصابه الحزن، وحزنته جعلت فيه ذلك، وأحزنته جعلته حزينا. وقرأ النحوي: يسرعون من أسرع في جميع القرآن. قال ابن عطية: وقراءة الجماعة أبلغ، لأن من يسارع غيره أشد اجتهادا من الذي يسرع وحده. وفي ضمن قوله: إنهم لن يضروا الله شيئا دلالة على أن وبال ذلك عائد عليهم، ولا يضرون إلا أنفسهم. وانتصب شيئا على المصدر، أي شيئا من الضرر. وقيل: انتصابه على
126

إسقاط حرف الجر أي شيء * (يريد الله أن * لا * يجعل لهم حظا فى الاخرة ولهم عذاب عظيم) * بين تعالى أن ما هم عليه من المسارعة في الكفر هو بإرادة الله تعالى، أنهم لا يهديهم إلى الإيمان، فيكون لهم نصيب من نعيم الآخرة. فهذه تسلية منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم) في ترك الحرب، لأن مراد الله منهم هو ما هم عليه، ولهم بدل النعيم عذاب عظيم. قال الزمخشري: (فإن قلت): هل قيل: لا يجعل الله لهم حظا في الآخرة، وأي فائدة في ذكر الإرادة؟ (قلت): فائدته
الإشعار بأن الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصا لم يبق معه صارف قط، حين يسارعون في الكفر تنبيها على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه، حتى أن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم انتهى. وفيه دسيسة اعتزال لأنه استشعر أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة موجبة، أن سبب ذلك هو مريد له تعالى وهو: الكفر. ومن مذهبه أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يشاؤه، فتأول تعلق إرادته بانتفاء حظهم من الآخرة بتعلقها بانتفاء رحمته لهم لفرط كفرهم.
ونقل الماوردي في يريد ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يحكم بذلك. والثاني: يريد في الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط أعمالهم بكفرهم. والثالث: يريد يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم قاله: ابن إسحاق. * (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم) * هذا عام في الكفار كلهم. وقوله: * (ولا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر) * كان عاما، فكرر هذا على سبيل التوكيد وإن كان خاصا بالمنافقين أو المرتدين أو كفار قريش، فيكون ليس تكريرا على سبيل التأكيد، بل حكم على العام بأنهم لن يضروا الله شيئا. ويندرج فيه ذلك الخاص أيضا، فيكون الحكم في حقهم على سبيل التأكيد، ويكون قد جمع للخاص العذاب بنوعية من العظم والألم، وهو أبلغ في حقهم في العذاب. وجعل ذلك اشتراء. من حيث تمكنهم من قبول الخير والشر، فآثروا الكفر على الإيمان. * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما) * معنى نملي: نمهل ونمد في العمر. والملاءة المدة من الدهر، والملوان الليل والنهار. ويقال: ملاك الله نعمته، أي منحكها عمرا طويلا، وقرأ حمزة تحسين بتاء الخطاب، فيكون الذين كفروا مفعولا أول. ولا يجوز أن يكون: إنما نملي لهم خير، في موضع المفعول الثاني، لأنه ينسبك منه مصدر المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول من حيث المعنى، والمصدر لا يكون الذات، فخرج ذلك على حذف مضاف من الأول أي: ولا تحسبن شأن الذين كفروا. أو من الثاني أي: ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب، أن الإملاء خير لأنفسهم حتى يصح كون الثاني هو الأول. وخرجه الأستاذ أبو الحسن بن الباذش والزمخشري: على أن يكون إنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الذين. قال ابن الباذش: ويكون المفعول الثاني حذف لدلالة الكلام عليه، ويكون التقدير: ولا تحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم كائنة أو واقعة. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟ (قلت): صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحي، ألا تراك تقول: جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك انتهى. كلامه وهذا التخريج الذي خرجه ابن الباذش والزمخشري سبقهما إليه الكسائي والفراء، فالأوجه هذه القراءة التكرير والتأكيد. التقدير: ولا تحسبن الذين كفروا، ولا تحسبن إنما نملي لهم. قال الفراء ومثله: هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم، أي ما ينظرون إلا أن تأتيهم انتهى. وقدر بعضهم قول الكسائي والفراء فقال: حذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد، فهو غلط منهما انتهى.
وقد أشبعنا الكلام في حذف أحد مفعولي ظن اختصارا
127

فيما تقدم من قول الزمخشري في قوله: * (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا) * إن تقديره: ولا تحسبنهم. وذكرنا هناك أن مذهب ابن ملكون أنه لا يجوز ذلك، وأن مذهب الجمهور الجواز لكنه عزيز جدا بحيث لا يوجد في لسان العرب إلا نادرا وأن القرآن ينبغي أن ينزه عنه. وعلى البدل خرج هذه القراءة أبو إسحاق الزجاج، لكن ظاهر كلامه أنها بنصب خير. قال: وقد قرأ بها خلق كثير، وساق عليها مثالا قول الشاعر:
* فما كان قيس هلكه هلك واحد
*
ولكنه بنيان قوم تهدما
*
بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل، وعلى هذا يكون: إنما نملي بدل، وخيرا: المفعول الثاني أي إملائنا خيرا. وأنكر أبو بكر بن مجاهد هذه القراءة التي حكاها الزجاج، وزعم أنه لم يقرأ بها أحد. وابن مجاهد في باب القراءات هو المرجوع إليه.
وقال أبو حاتم: سمعت الأخفش يذكر قبح أن يحتج بها لأهل القدر لأنه كان منهم، ويجعله على التقديم والتأخير كأنه قال: ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما، إنما نملي لهم خير لأنفسهم انتهى. وعلى مقالة الأخفش يكون إنما نملي لهم ليزدادوا إثما في موضع المفعول الثاني، وإنما نملي لهم خير مبتدأ وخبر، أي إملاؤنا لهم خير لأنفسهم. وجاز الابتداء بأن المفتوحة، لأن مذهب الأخفش جواز ذلك. ولإشكال هذه القراءة زعم أبو حاتم وغيره أنها لحن وردوها. وقال أبو علي الفارسي: ينبغي أن تكون الألف من إنما مكسورة في هذه القراءة، وتكون إن وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني. وقال مكي في مشكله: ما علمت أحدا قرأ تحسبن بالتاء من فوق، وكسر الألف من إنما. وقرأ باقي السبعة والجمهور يحسبن بالياء، وإعراب هذه القراءة ظاهر، لأن الفاعل هو الذين كفروا، وسدت إنما نملي لهم خير مسد مفعولي يحسبن كما تقول: حسبت أن زيدا قائم. وتحتمل ما في هذه القراءة وفي التي قبلها أن تكون موصولة بمعنى الذي، ومصدرية، أي: أن الذي نملي، وحذف العائد أي: عليه وفيه شرط جواز الحذف من كونه متصلا معمولا لفعل تام متعينا للربط، أو أن إملائنا خير. وجوز بعضهم أن يسند الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، فيكون فاعل الغيب كفاعل الخطاب، فتكون القراءتان بمعنى واحد.
وقرأ يحيى بن وثاب: ولا يحسبن بالياء، وإنما نملي بالكسر. فإن كان الفعل مسندا للنبي صلى الله عليه وسلم)، فيكون المفعول الأول الذين كفروا، ويكون إنما نملي لهم جملة في موضع المفعول الثاني. وإن كان مسندا للذين كفروا فيحتاج يحسبن إلى مفعولين. فلو كانت إنما مفتوحة سدت مسد المفعولين، ولكن يحيى قرأ بالكسر، فخرج على ذلك التعليق فكسرت إن، وإن لم تكن اللام في حيزها. والجملة المعلق عنها الفعل في موضع مفعولي يحسبن، وهو بعيد: لحذف اللام نظير تعليق الفعل عن
العمل، مع حذف اللام من المبتدأ كقوله:
إني وجدت ملاك الشيمة الأدب
أي لملاك الشيمة الأدب، ولولا اعتقاد حذف اللام لنصب. وحكى الزمخشري أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر إنما الأولى، وفتح الثانية. ووجه ذلك على أن المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان. والجملة من إنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين الفعل ومعموله، ومعناه: أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة، وترك المعاجلة بالعقوبة. وظاهر الذين كفروا العموم.
وقال ابن عباس: نزلت في اليهود والنصارى والمنافقين. وقال عطاء: في قريظة والنضير. وقال مقاتل: في مشركي مكة. وقال
128

الزجاج: هؤلاء قوم أعلم الله نبيه أنهم لا يؤمنون أبدا، وليست في كل كافر، إذ قد يكون الإملاء مما يدخله في الإيمان، فيكون أحسن له. وقال مكي: هذا هو الصحيح من المعاني. وقال ابن عطية: معنى هذه الآية الرد على الكفار في قولهم: إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضا الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده. وأخبر الله تعالى أن ذلك التأخير والإهمال إنما هو إملاء واستدراج لتكثير الآثام. قال عبد الله بن مسعود: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله. وقرأ: * (وما عند الله خير للابرار) * وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثما، وقرأ هذه الآية انتهى.
وقال الزمخشري: والإملاء لهم تحليتهم، وشأنهم مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء. وقيل: هو إمهالهم وإطالة عمرهم، والمعنى: أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم، إنما نملي لهم جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالهم يحسبون الإملاء خيرا لهم، فقيل: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما. (فإن قلت): كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضا لله تعالى في إملائه لهم؟ (قلت): هو علة الإملاء، وما كل علة بغرض. ألا تراك تقول: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر، وليس شيء منها بغرض لك، وإنما هي علل وأسباب. فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإملاء، وسببا فيه. (فإن قلت): كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ (قلت): لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثما، فكان الإملاء وقع لأجله وبسببه على طريق المجاز انتهى كلامه. وكله جار على طريقة المعتزلة. وقال الماتريدي: المعتزلة تناولوها على وجهين: أحدهما: على التقديم والتأخير. أي: ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادو إثما، إنما نملي لهم خير لأنفسهم. الثاني: أن هذا إخبار منه سبحانه وتعالى عن حسبانهم فيما يؤول إليه أمرهم في العاقبة، بمعنى أنهم حسبوا أن إمهالهم في الدنيا وإصابتهم الصحة والسلامة والأموال خير لأنفسهم في العاقبة، بل عاقبة ذلك شر. وفي التأويل إفساد النظم، وفي الثاني تنبيه على من لا يجوز تنبيهه. فإن الأخبار عن العاقبة يكون لسهو في الابتداء أو غفله، والعالم في الابتداء لا ينبه نفسه انتهى كلامه. وكتبوا ما متصلة بأن في الموضعين. قيل: وكان القياس الأولى في علم الخط أن تكتب مفصوله، ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا تخالف، ونتبع سنة الإمام في المصاحف. وأما الثانية، فحقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون العمل، ولا يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي. ولا مصدرية، لأن لازم كي لا يصح وقوعها خبر للمبتدأ ولا لنواسخه. وقيل: اللام في ليزدادوا للصيرورة. * (ولهم عذاب مهين) * هذه الواو في: ولهم، للعطف. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فما معنى قوله: ولهم عذاب مهين على هذه القراءة، يعني قراءة يحيى بن وثاب بكسر إنما الأولى وفتح الثانية؟ (قلت): معناه ولا تحسبوا أن إملاءنا الزيادة الإثم وللتعذيب، والواو للحال. كأنه قيل: ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين انتهى. والذين نقلوا قراءة يحيى لم يذكروا أن أحدا قرأ الثانية بالفتح إلا هو، إنما ذكروا أنه قرأ الأولى بالكسر. ولكن الزمخشري من ولوعه بنصرة مذهبه يروم رد كل شيء إليه. ولما قرر في هذه القراءة أن المعنى على نهي الكافر أن يحسب إنما يملي الله لزيادة الإثم، وأنه إنما يملي لأجل الخير كان قوله: ولهم عذاب مهين يدفع هذا التفسير، فخرج ذلك على أن الواو للحال حتى يزول هذا التدافع الذي بين هذه القراءة وبين ظاهر آخر الآية. ووصف تعالى عذابه في مقاطع هذه الآيات الثلاث: بعظيم، وأليم، ومهين. ولكل من هذه الصفات
129

مناسبة تقتضي ختم الآية بها. أما الأولى فإن المسارعة في الشيء والمبادرة في تحصيله والتحلي به يقتضي جلالة ما سورع فيه، وأنه من النفاسة والعظم بحيث يتسابق فيه، فختمت الآية بعظم الثواب وهو جزاؤهم على المسارعة في الكفر إشعارا بخساسة ما سابقوا فيه. وأما الثانية فإنه ذكر فيها اشتراء الكفر بالإيمان، ومن عادة المشتري الاغتباط بما اشتراه والسرور به والفرح، فختمت الآية لأن صفقته خسرت بألم العذاب، كما يجده المشتري المغبون في تجارته. وأما الثالثة فإنه ذكر الإملاء وهو الإمتاع بالمال والبنين والصحة وكان هذا الإمتاع سببا للتعزز والتمتع والاستطاعة فختمت الآية بإهانة العذاب لهم. وأن ذلك الإملاء المنتج عنه في الدنيا التعزز والاستطالة مآله في الآخرة إلى إهانتهم بالعذاب الذي يهين الجبابرة. * (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) * الخطاب في أنتم للمؤمنين، والمعنى: على ما أنتم عليه أيها المؤمنون من اختلاطكم بالمنافقين. وإشكال أمرهم وإجراء المنافق مجرى المؤمن، ولكنه ميز بعضا من بعض بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء من الأقوال والأفعال قاله: مجاهد، وابن جريج، وابن إسحاق. وقيل: الخطاب للكفار، والمعنى: على ما أنتم عليه أيها الكفار من اختلاطكم بالمؤمنين قاله: قتادة، والسدي. قال السدي وغيره: قال الكفار في بعض جدلهم: أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار، وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة، فكيف يصح هذا؟ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا، وبمن يبقى على كفره، فنزلت. فقيل لهم: لا بد من التمييز. وقال ابن عباس: وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين. وقيل: الخطاب للمؤمنين والكافرين، وهو قريب مما قاله الزمخشري: غاية ما فيه أنه بدل الكافرين بالمنافقين فقال: (فإن قلت): لمن الخطاب في أنتم؟ (قلت): للمصدقين جميعا من أهل الإخلاص والنفاق، كأنه قيل: ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم، لاتفاقكم على التصديق جميعا حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه بأخباره بأحوالكم. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث
من الطيب، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله، فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم، وشاهدا بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها، فإن ذلك مما استأثر الله به انتهى. ومعنى هذا القول لابن كيسان. قال ابن كيسان: المعنى ما يذركم على الإقرار حتى يختبركم بالشرائع والتكاليف، فأخذه الزمخشري والقول الذي قبله ونمقهما ببلاغته وحسن خطابته.
وقيل: المعنى ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم عليهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يفرق بينكم وبينهم. وقيل: كانوا يستهزؤن بالمؤمنين سرا فقال: لا يدعكم على ما أنتم عليه من الطعن فيهم والاستهزاء، ولكن يمتحنكم لتفتضحوا ويظهر نفاقكم عندهم، لا في دار واحدة، ولكن يجعل لهم دارا أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب، فيجعل الخبيث في النار، والطيب في يالجنة. والخبيث الكافر، والطيب المؤمن، وتمييزه بالهجرة والجهاد. وقال مجاهد: الطيب المؤمن، والخبيث المنافق، ميز بينهما يوم أحد. وقيل: الخببث الكافر، والطيب المؤمن، وتمييزه بإخراج أحدهما من صلب الآخر. وقيل: تمييز الخبيث هو إخراج الذنوب من أحياء المؤمنين بالبلايا والرزايا. وقيل: الخبيث العاصي، والطيب المطيع، والألف واللام في الخبيث والطيب للجنس أو للعهد، إذ كان المعهود في ذلك الوقت أن
130

الخبيث هو الكافر والطيب هو المؤمن كما قال: * (الخبيثات للخبيثين) * الآية.
واللام في قوله: ليذر هي المسماة لام الجحود، وهي عند الكوفيين زائدة لتأكيد النفي، وتعمل بنفسها النصب في المضارع. وخبر كان هو الفعل بعدها فتقول: ما كان زيد يقوم، وما كان زيد ليقوم، إذا أكدت النفي. ومذهب البصريين أن خبر كان محذوف، وأن النصب بعد هذه اللام بأن مضمرة واجبة الإضمار، وأن اللام مقوية لطلب ذلك المحذوف لما بعدها، وأن التقدير: ما كان الله مريدا ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه، أي: ما كان مريدا لترك المؤمنين. وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتابنا المسمى بالتكميل في شرح التسهيل. وحتى للغاية المجردة، والتقدير: إلى أن يميزها كذا قالوا، وهو مشكل على أن تكون غاية على ظاهر اللفظ، لأنه يكون المعنى: لا يتركهم مختلطين إلى أن يميز، فيكون قد غيا نفي الترك إلى وجود التمييز، فإذا وجد التمييز تركهم على ما هم عليه من الاختلاط، وصار نظير ما أضرب زيدا إلى أن يجيء عمرو، فمفهومه: إذا جاء عمرو ضربت زيدا، وليس المراد من الآية هذا المعنى، وإنما هي غاية لما تضمنه الكلام السابق من المعنى الذي يصح أن يكون غاية له. ومعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه: أنه تعالى يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان، إلى أن يميز الخبيث من الطيب. وقرأ الأخوان: يميز من ميز، وباقي السبعة يميز من ماز. وفي رواية عن ابن كثير: يميز من أماز، والهمزة ليست للنقل، كما أن التضعيف ليس للنقل، بل أفعل وفعل بمعنى الثلاثي المجرد كحزن وأحزن، وقدر الله
131

وقدر * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * لما قدم أنه تعالى هو الذي يميز الخبيث من الطيب وليس لهم تمييز ذلك، أخبر أنه لا يطلع أحدا من المخاطبين على الغيب.
* (ولكن الله يجتبى) * أي: يختار ويصطفي * (من رسله من يشاء) * فيطلعه على ما شاء من المغيبات. فوقوع لكن هنا لكون ما بعدها ضدا لما قبلها في المعنى. إذ تضمن اجتباء من شاء من رسله اطلاعه إياه على ما أراد تعالى من علم الغيب، فاطلاع الرسول على الغيب هو باطلاع الله تعالى بوحي إليه، فيخبر بأن في الغيب كذا من نفاق هذا وإخلاص هذا فهو عالم بذلك من جهة الوحي، لا من جهة اطلاعه نفسه من غير واسطة وحي على المغيبات. قال السدي وغيره: ليطلعكم على الغيب، فيمن يؤمن، ومن يبقى كافرا، ولكن هذا رسول مجتبي. وقال مجاهد وابن جريج وغيره: هي في أمر أحد أي: ليطلعكم على أنكم تهزمون، أو تكفون عن القتال. وقيل: ليطلعكم على المنافقين تصريحا بهم، وتسمية بأعيانهم، ولكن بقرائن أفعالهم وأقوالهم. والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم الله تعالى من الحوادث التي تحدث، ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس. وقال الزجاج وغيره: روي أن بعض الكفار قال: لم لا يكون جميعنا أنبياء؟ فنزلت. وقيل: قالوا: لم لم يوح إلينا في أمر محمد؟ فنزلت. وقيل: قالوا: نحن أكثر أموالا وأولادا فهلا كان الوحي إلينا، فنزلت. وقيل: كانت الشياطين يصعدون إلى السماء فيسترقون السمع، فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأنزلها الله بعد بعثته. ولكن الله يصطفي من يشاء فيجعله رسولا فيوحي إليه، أي: ليس الوحي من السماء لغير الأنبياء. وظاهر الآية هو ما قدمناه من أنه تعالى هو الذي يميز بين الخبيث والطيب، أخبر أنكم لا تدركون أنتم ذلك، لأنه تعالى لم يطلعكم على ما أكنته القلوب من الإيمان والنفاق، ولكنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك، فتطلعون عليه من جهة الرسول بأخباره لكم عن ذلك بوحي الله. وهذا معنى ما روي أيضا عن السدي أنه قال: حكم بأنه يظهر هذا التمييز. ثم بين بهذه الآية أنه لا يجوز أن يجعل هذا التمييز في عوام الناس بأن يطلعهم على غيبة فيقولون: إن فلانا منافق، وفلانا مؤمن. بل سنة الله تعالى جارية بأن لا يطلع عوام الناس، ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك إلا بالامتحان. فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء، ولهذا قال تعالى: ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء، فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن وهذا منافق. وهذه الأقوال كلها والتفاسير مشعرة بأن هذا الغيب الذي نفى الله اطلاع الناس عليه راجع إلى أحوال المؤمنين والمنافقين، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل العموم. أي: ما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالمغيبات من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عنه، بل الله يخص من يشاء من عباده بذلك وهو الرسول، فتندرج أحوال المنافق والمؤمن في هذا العام.
* (ما كان الله) * لما ذكر أنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على المغيبات، أمر بالتصديق بالمجتبى، والمجتبي ومن يشاء هو محمد صلى الله عليه وسلم)، إذ ثبتت نبوته باطلاع الله إياه على المغيبات، وأخباره لكم بها في غير ما موطن. وجمع في قوله ورسله تنبيها على أن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحدة، وهو
ظهور المعجز على أيديهم. قال الزمخشري في قوله تعالى: فآمنوا بالله ورسله، بأن تقدروه حق قدره، وتعلمونه وحده مطلعا على الغيوب، وأن ينزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبادا مجتبين لا
132

يعلمون إلا ما علمهم الله، ولا يخبرون إلا بما أخبر الله به من الغيوب، وليسوا من علم الغيب في شيء انتهى.
* (وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) * رتب حصول الأجر العظيم على الإيمان، والمعنى: الإيمان السابق، وهو الإيمان بالله ورسله، وعلى التقوى وهي زائدة على الإيمان، وكأنها مرادة في الجملة السابقة فكأنه قيل: فآمنوا بالله ورسله واتقوا الله.
* (ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم) * قال السدي وجماعة: نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله. وقال ابن عباس في رواية عطية، ومجاهد وابن جريج وجماعة، واختاره الزجاج: في أهل الكتاب وبخلهم وتبيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: نزلت في مانعي الزكاة المفروضة قاله: ابن مسعود، وأبو هريرة، وابن عباس في رواية أبي صالح والشعبي ومجاهد. وقيل: في النفقة على العيال وذوي الأرحام.
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة، شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل، والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب. وقرأ حمزة تحسين بالتاء، فتكون الذين أول مفعولين لتحسبن، وهو على حذف مضاف أي: بخل الذين. وقرأ باقي السبعة بالياء. فإن كان الفعل مسندا إلى الضمير، فيكون المفعول الأول محذوفا تقديره: بخلهم، وحذف لدلالة يبخلون عليه. وحذفه كما قلنا: عزيز جدا عند الجمهور، فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف، وهو فصل. وقرأ الأعمش بإسقاط هو، وخيرا هو المفعول بتحسبن. قال ابن عطية: ودل قوله: يبخلون على هذا البخل المقدر، كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر:
* إذا نهى السفيه جرى إليه
*
وخالف والسفيه إلى خلاف
*
والمعنى: جرى إلى السفه انتهى. وليست الدلالة فيهما سواء لوجهين: أحدهما أن الدال في الآية هو الفعل، وفي البيت هو اسم الفاعل، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل، ولذلك كثر إضمار المصدر لدلالة الفعل عليه في القرآن وكلام العرب، ولم تكثر دلالة اسم الفاعل على المصدر إنما جاء في هذا البيت أو في غيره إن وجد. والثاني أن في الآية حذفا لظاهر، إذ قدروا المحذوف بخلهم، وأما في البيت فهو إضمار، لا حذف. ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية، وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال، إذا جعلنا الفعل مسندا للذين، وذلك أن تحسبن تطلب مفعولين، ويبخلون يطلب مفعولا بحرف جر، فقوله: ما آتاهم يطلبه يحسبن، على أن يكون المفعول الأول، ويكون هو فصلا، وخيرا المفعول الثاني ويطلبه يبخلون بتوسط حرف الجر، فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب، وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون. فعدى بحرف الجر واحد معموله، وحذف معمول تحسين الأول، وبقي معموله الثاني، لأنه لم يتنازع فيه، إنما التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول. وساغ حذفه وحده، كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه: متى رأيت أو فلت: زيد منطلق، لأن رأيت وقلت في هذه المسألة تنازعا زيد منطلق، وفي الآية: لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد، وتقدير المعنى: ولا تحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم الناس الذين يبخلون به، فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلا لما آتاهم المحذوف، لا لتقديرهم بخلهم. ونظير هذا
133

التركيب ظن الذي مر بهند هي المنطلقة المعنى، ظن هندا الشخص الذي مر بها هي المنطلقة، فالذي تنازعه الفعلان هو الاسم الأول، فاعمل الفعل الثاني وبقي الأول يطلب محذوفا، ويطلب المفعول الثاني مثبتا، إذ لم يقع فيه التنازع. ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيرا لهم، وكان تحت الانتفاء قسمان: أحدهما أن لا خير ولا شر، والآخر إثبات الشر، أتى بالجملة التي تعين أحد القسمين وهو: إثبات كونه شرا لهم.
* (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * هذا تفسير لقوله: * (بل هو شر لهم) * والظاهر حمله على المجاز، أي سيلزمون عقابه إلزام الطوق، وفي المثل لمن جاء بهنة تقلدها طوق الحمامة. وقال إبراهيم النخعي: سيجعل لهم يوم القيامة طوق من نار. قال مجاهد وغيره: هو من الطاقة لا من التطويق، والمعنى: سيحملون عقاب ما بخلوا به. كقوله: * (وعلى الذين) * وقال مجاهد: سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به. وهذا التفسير لا يناسب قوله: إن البخل هو العلم الذي تفضل الله عليهم به من أمر الرسول. وقال أبو وائل: هو الرجل يرزقه الله مالا فيمنع منه قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله، فيجعل حية يطوقها فيقول: ما لي ولك، فيقول: أنا مالك. وجاء في الحديث: (ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه) والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة.
* (ولله ميراث * السماوات والارض) * فيه قولان: أحدهما أنه تعالى له ملك جميع ما يقع من إرث في السماوات والأرض، وأنه هو المالك له حقيقة، فكل ما يحصل لمخلوقاته مما ينسب إليهم ملكه هو مالكه حقيقة. وهذا كان هو مالكه فما لكم تبخلون بشيء أنتم ممتعون به لا مالكوه حقيقة، كما قال تعالى: * (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) *. والقول الثاني: أنه خبر بفناء العالم، وأن جميع ما يخلقونه فهو وارثه. وهو خطاب على ما يفهم البشر، دل على فناء الجميع، وأنه لا يبقى مالك إلا الله، وإن كان ملكه على كل شيء لم يزل.
* (والله بما تعملون خبير) * ختم بهذه الصفة ومعناها التهديد والوعيد على قبيح مرتكبهم من البخل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: يعملون على الغيبة جريا على يبخلون وسيطوقون. وقرأ الباقون: بالتاء على الالتفات، فيكون ذلك خطابا للباخلين. وقال ابن عطية: وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة، لأنه قد تقدم * (وإن تؤمنوا وتتقوا) *. انتهى. فلا يكون على قوله التفاتا، والأحسن الالتفات.
وتضمنت هذه الآيات فنونا من البلاغة والبديع. الاختصاص في: أجر المؤمنين. والتكرار في: يستبشرون، وفي: لن يضروا الله شيئا، وفي: اسمه في عدة مواضع، وفي: لا يحسبن الذين كفروا، وفي ذكر الإملاء. والطباق في: اشتروا الكفر بالإيمان، وفي: ليطلعكم على الغيب. والاستعارة في: يسارعون، وفي: اشتروا، وفي: نملي وفي: ليزدادوا إثما، وفي: الخبيث والطيب. والتجنيس المماثل في: فآمنوا وإن تؤمنوا. والالتفات في: أنتم إن كان خطابا للمؤمنين، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لكان على ما هم عليه، وإن كان خطابا لغيرهم كان من تلوين الخطاب، وفي: تعملون خبير فيمن قرأ بتاء الخطاب. والحذف في مواضع.
2 (* (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنيآء سنكتب ما قالوا وقتلهم الا نبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق * ذالك بما قدمت أيديكم وأن الله
134

ليس بظلام للعبيد * الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جآءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين * فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جآءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير * كل نفس ذآئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحيواة الدنيا إلا متاع الغرور) *))
) *
الزبر: جمع زبور، وهو الكتاب. يقال: زبرت أي كتبت، فهو بمعنى مفعول أي: مزبور، كالركوب بمعنى المركوب. وقال امرؤ القيس:
* لمن طلل أبصرته فشجاني
*
كخط زبور في عسيب يمان
*
ويقال: زبرته قرأته، وزبرته حسنته، وتزبرته زجرته. وقيل: اشتقاق الزبور من الزبرة، وهي القطعة من الحديد التي تركت بحالها.
الزحزحة: التنحية والإبعاد، تكرير الزح وهو الجذب بعجلة ويقال: مكان زحزح أي بعيد.
الفوز: النجاة مما يحذر والظفر بما يؤمل، وسميت الأرض القفر البعيدة المخوف من الهلاك فيها مفازة على سبيل التفاؤل، لا من قطعها فاز. وقيل: لأنها مظنة تفويز، ومظنة هلاك. تقول العرب: فوز الرجل مات.
* (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) * نزلت في فنحاص بن عازوراء، حاوره أبو بكر في الإسلام وأن يقرض الله قرضا حسنا فقال: هذه المقالة فضربه أبو بكر ومنعه من قبله العهد، فشكاه إلى الرسول وأنكر ما قال، فنزلت تكذيبا لفنحاص، وتصديقا للصديق قاله: ابن عباس، وعكرمة، والسدي، ومقاتل، وابن إسحاق رضي الله عنهم، وساقوا القصة مطولة. وقال قتادة: نزلت في حيي بن أخطب، وقال هو أيضا والحسن ومعمر وغيرهم: في اليهود. وذكر أبو سليمان الدمشقي في الياس بن عمر. ولما نزل * (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا) * قال أو قالوا: إنما يستقرض الفقير الغني، والظاهر أن قائل ذلك جمع، فيمكن أن ذلك صدر من فنحاص أو حيي أولا، ثم تقاولها اليهود، أو صدر ذلك من واحد فقط، ونسب للجماعة على عادة كلام العرب في نسبتها إلى القبيلة فعل الواحد منها.
ومعنى لقد سمع الله: أنه لم يخف عليه تعالى مقالتهم، ومقالتهم هذه إما على سبيل الاستهزاء بما نزل من طلب الإقراض، وإما على سبيل الجدل والإلزام، لأن من طلب الإقراض كان فقيرا. وإما على الاعتقاد، ولا يستبعد ذلك من عقولهم، إذ قد حكى الله عنهم * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم) * وأياما كان من هذه الأسباب، فذلك دليل
135

على تمردهم في الكفر والمبالغة فيه، حيث نسبوا الموجد الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود الغني بذاته عما أوجده الوصف الدال على الافتقار لبعض ما أوجده، ونسبوا العكس إلى أنفسهم، وجاءت الجملة مؤكدة باللام مؤذنة بعلمه بمقالتهم ومؤكدة له، وحيث نسبوا إلى الله ما نسبوا، أكدوا الجملة بأن على سبيل المبالغة. وحيث نسبوا إلى أنفسهم ما نسبوا لم يؤكدوا، بل أخرجوا الجملة مخرج ما لا يحتاج إلى تأكيد، كأن الغنى وصف لهم لا يمكن فيه نزاع، فيحتاج إلى أن يؤكد.
* (سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) * الظاهر إجراء الكتابة على أنها حقيقة، قال ذلك كثير من العلماء. وأنها تكتب الأعمال في صحف، وأن تلك الصحف هي التي توزن، ويحدث الله سبحانه وتعالى فيها الخفة والثقل بحسب ما كتب فيها من الخير والشر. وقيل: سنكتب ما قالوا في القرآن حتى يعلم القوم شدة تعنتهم وحسدهم في الطعن عليه صلى الله عليه وسلم). وذهب قوم: إلى أن الكتابة مجاز ومعناها الإحصاء للشيء وضبطه وعدم إهماله وكينونته في علم الله شيئا محفوظا لا ينسى، كما يثبت المكتوب. وذهب إلى أن معنى سنكتب: سنوجب عليهم في الآخرة جزاء ما قالوه في الدنيا كقوله: * (كتب عليكم الصيام) * وجاء سنكتب بلفظ المستقبل دون لفظ الماضي، لأنه تضمن المجازاة على ما قالوه. وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى. ونسب إليهم قتلهم الأنبياء، وإن كان من فعل آبائهم، لما كانوا راضين به. وقد سموا أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهموا بقتله، ودل هذا القول وهذا الفعل على جميع الأقوال والأفعال القبيحة التي صدرت منهم. إذ القول في هذه الآية أشنع الأقوال في الله تعالى، والقتل أشنع الأفعال التي فعلوها مع أنبياء الله تعالى، وتشريك القتل مع هذا القول يدل على أنهما
يسببان في استحقاق العقاب. ولما كان الصادر منهم قولا وفعلا ناسب أن يكون الجزاء قولا وفعلا، فتضمن القول والفعل قوله تعالى: ونقول ذوقوا عذاب الحريق. وفي الجمع بين القول والفعل أعظم انتقام، ويقال للمنتقم منه: أحس وذق.
وقال أبو سفيان لحمزة رضي الله عنه لما طعنه وحشي: ذق عقق، واستعير لمباشرة العذاب الذوق، لأن الذوق من أبلغ أنواع المباشرة، وحاستها متميزة جدا. والحريق: المحرق فعيل بمعنى مفعل، كأليم بمعنى مؤلم. وقيل: الحريق طبقة من طباق جهنم. وقيل: الحريق الملتهب من النار، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة، والملتهبة أشدها. والظاهر أن هذا القول يكون عند دخولهم جهنم. وقيل: قد يكون عند الحساب، أو عند الموت. وأن وما بعدها محكى بقالوا. وأجاز أبو البقاء أن يكون محكيا بالمصدر، فيكون من باب الأعمال. قال: وإعمال الأول أصل ضعيف، ويزداد ضعفا لأن الثاني فعل والأول مصدر، وإعمال الفعل أقوى. والظاهر أن ما فيما قالوا موصولة بمعنى الذي، وأجيز أن تكون مصدرية.
وقرأ الجمهور: سنكتب وقتلهم بالنصب. ونقول: بنون المتكلم المعظم. أو تكون للملائكة. وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء على الغيبة. وقرأ حمزة: سيكتب بالياء مبنيا للمفعول، وقتلهم بالرفع عطفا على ما، إذ هي مرفوعة بسيكتب، ويقول بالياء على الغيبة. وقرأ طلحة بن مصرف: سنكتب ما يقولون. وحكى الداني عنه: ستكتب ما قالوا بتاء مضمومة على معنى مقالتهم. وقرأ ابن مسعود: ويقال ذوقوا. ونقلوا عن أبي معاذ النحوي أن في حرف ابن مسعود سنكتب ما يقولون ونقول لهم ذوقوا.
* (ذالك بما قدمت أيديكم) * الإشارة إلى ما تقدم من عقابهم، ونسب ما قدموه من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية إلى الأيدي على سبيل التغليب، لأن الأيدي تزاول أكثر الأعمال، فكان كل عمل واقع بها. وهذه الجملة داخلة في المقول، وبخوا بذلك، وذكر لهم السبب الذي أوجب لهم العقاب. ويحتمل أن يكون خطابا لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم) يوم نزل الآية، فلا يندرج تحت معمول قوله ونقول.
* (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * هذا معطوف على قوله: بما قدمت أيديكم، أي ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم، وعدل الله تعالى
136

فيكم. وجاء لفظ ظلام الموضوع للتكثير، وهذا تكثير بسبب المتعلق. وذهب بعضهم إلى أن فعالا قد يجيء لا يراد به الكثرة، كقول طرفة:
* ولست بحلال التلاع مخافة
*
ولكن متى يسترقد القوم أرفد
*
لا يريد أنه قد يحل التلاع قليلا، لأن عجز البيت يدفعه، فدل على نفي البخل في كل حال، وتمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة، وقيل: إذا نفى الظلم الكثير اتبع القليل ضرورة، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضرر كان للظلم القليل المنفعة أترك.
وقال القاضي: العذاب الذي توعد أن يفعله بهم: لو كان ظالما لكان عظيما، فنفاه على جد عظمه لو كان ثابتا والعبيد جمع عبد، كالكليب. وقد جاء اسم الجمع على هذا الوزن نحو الضيفن وغيره من جمع التكسير، جواز الأخبار عنه أخبار الواحد كأسماء الجموع، وناسب لفظ هذا الجمع دون لفظ العباد، لمناسبة الفواصل التي قبله مما جاءت على هذا الوزن، كما ناسب ذلك في سورة فصلت، وكما ناسب لفظ العباد في سورة غافر ما قبله وما بعده. قال ابن عطية: وجمع عبدا في هذه الآية على عبيد لأنه مكان تشقيق وتنجية من ظلم انتهى كلامه. ولا تظهر لي هذه العلة التي ذكرها في هذا الجمع. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فلم عطف قوله: وأن الله ليس بظلام للعبيد، * (على ما * قدمت أيديكم) * وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكا لاجتراحهم السيئات في استحقاقهم العذاب؟ (قلت): معنى كونه غير ظلام للعبيد: أنه عادل عليهم، ومن العدل أن يعاقب المسئ منهم ويثب المحسن انتهى. وفيه رائحة الاعتزال.
* (الذين قالوا إن الله عهد إلينا * أن لا * نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار) * قال الكعبي: نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وزيد بن مانوه، وفنحاص بن عازوراء، وحيي بن أخطب، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقالوا: تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا، وأنزل عليك كتابا، وأن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك. وظاهر هذا القول أنه عهد إليهم في التوراة، فقيل: كان هذا في التوراة، ولكن كان تمام الكلام حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان. وقيل: كان أمر القرابين ثابتا، إلى أن نسخت على لسان المسيح. وقيل: ذكرهم هذا العهد هو من كذبهم على الله تعالى، وافترائهم عليه، وعلى أنبيائه.
ومعنى عهد: وصي، والعهد أخص من الأمر، لأنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان، وتقدم تفسيره. وتعدى نؤمن باللام كما في قوله: * (فما ءامن لموسى) * يؤمن لله. والقربان: ما يتقرب به من شاة أو بقرة أو غير ذلك، وهو في الأصل مصدر سمي المفعول به كالرهن، وكان حكمه قديما في الأنبياء. ألا ترى إلى قصة ابني آدم، وكان أكل النار ذلك القربان دليلا على قبول العمل من صدقة أو عمل، أو صدق مقالة. وإذا لم تنزل النار فليس بمقبول، وكانت النار أيضا تنزل للغنائم فتحرقها. وإسناد الأكل إلى النار مجاز واستعارة عن إذهاب الشيء وإفنائه، إذ حقيقة الأكل إنما توجد في الحيوان المتغذي، والقربان وأكل النار معجز للنبي يوجب الإيمان به، فهو وسائر المعجزات سواء. ولله أن يعين من الآيات ما شاء لأنبيائه، وهذا نظير ما يقترحونه من الآيات على سبيل التبكيت والتعجيز. وقد أخبر تعالى أنه لو نزل ما اقترحوه لما آمنوا.
والذين قالوا صفة للذين قالوا. وقال الزجاج: الذين صفة للعبيد. قال ابن عطية: وهذا مفسد للمعنى والوصف انتهى. وهو كما قال. وجوزوا قطعة للرفع، والنصب
137

واتباعه بدلا. وفي أن لا نؤمن تقدير حرف جر، فحذف وبقي على الخلاف فيه: أهو في موضع نصب أو جر؟ وأن يكون مفعولا به على تضمين عهد معنى الزم، فكأنه ألزمنا أن لا نؤمن. وقرأ عيسى بن عمر بقربان بضم الراء. قال ابن عطية: اتباعا لضمة القاف، وليس بلغة. لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين. وحكى سيبويه السلطان بضم اللام، وقال: إن ذلك على الاتباع انتهى. ولم يقل سيبويه: إن ذلك على الاتباع، بل قال: ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان، ولا شيئا من هذا النحو لم يذكره. ولكنه جاء فعلان وهو قليل، قالوا: السلطان وهو اسم انتهى. وقال الشارح: صاحب في اللغة لا يسكن ولا يتبع، وكذا ذكر التصريفيون أنه بناء مستقبل. قالوا فيما لحقه زيادتان بعد اللام وعلى فعلان ولم يجيء إلا اسما: وهو قليل نحو سلطان.
* (قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) * رد الله تعالى عليهم وأكذبهم في اقتراحهم، وألزمهم أنهم قد جاءتهم الرسل بالذي قالوه من الإتيان بالقربان الذي تأكله النار وبالآيات غيره، فلم يؤمنوا بهم، بل قتلوهم. ولم يكتفوا بتكذيبهم حتى أوقعوا بهم شر فعل، وهو إتلاف النفس بالقتل. فالمعنى أن هذا منكم معشر اليهود تعلل وتعنت، ولو جاءهم بالقربان لتعللوا بغير ذلك مما يقترحونه. والاقتراح لا غاية له، ولا يجاب طالبه إلا إذا أراد الله هلاكه، كقصة قوم صالح وغيره. وكذلك قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم) في اقتراح قريش فأبى عليه السلام وقال: * (بل * ادعوهم) * ومعنى: إن كنتم صادقين في دعواكم أن الإيمان يلزم بإتيان البينات والقربان، أو صادقين في أن الله عهد إليكم.
* (صادقين فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير) * الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم) وذلك على سبيل التسلية لما ظهر كذبهم على الله بذكر العهد الذي افتروه، وكان في ضمنه تكذيبه إذ علقوا الإيمان به على شيء مقترح منهم على سبيل التعنت، ولم يجبهم الله لذلك، فسلى الرسول صلى الله عليه وسلم) بأن هذا دأبهم، وسبق منهم تكذيبهم لرسل جاءوا بما يوجب الإيمان من ظهور المعجزات الواضحة الدلالة على صدقهم، وبالكتب السماوية الإلهية النيرة المزيلة لظلم الشبه.
والزبر: جمع زبور، وهو الكتاب سمي بذلك قيل: لأنه مكتوب، إذ يقال: زبره كتبه. أو لكونه زاجرا من زبره زجره، وبه سمي كتاب داود زبورا لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ، أو لأحكامه. والزبر: الأحكام. وقال الزجاج: الزبور كل كتاب فيه حكمة. قيل: والكتاب هو الزبر. وجمع بين اللفظين على سبيل التأكيد، أو لاختلاف معنييهما، مع أن المراد واحد، ولكن اختلف معنياهما من حيث الصفة. وقيل: الكتاب هنا جنس للتوراة والإنجيل وغيرهما، ويحتمل أن يراد بقوله: والزبر الزواجر من غير أن يراد به الكتب. أي: جاؤوا بالمعجزات الواضحة والتخويفات والكتب النيرة.
وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه التقدير: وإن يكذبوك فتسل به. ولا يمكن أن يكون فقد كذب رسل الجواب لمضيه، إذ جواب الشرط مستقبل لا محالة لترتبه على المستقبل، وما يوجد في كلام المعربين أن مثل هذا من الماضي هو جواب الشرط، فهو على سبيل التسامح لا الحقيقة. وبنى الفعل للمفعول لأنه لم يقتصر في تكذيب الرسل على تكذيب اليهود وحدهم لأنبيائهم، بل نبه على أن من عادة اليهود وغيرهم من الأمم تكذيب الأنبياء، فكان المعنى: فقد كذبت أمم من اليهود وغيرهم الرسل. قيل: ونكر رسل لكثرتهم وشياعهم. ومن قبلك: متعلق بكذب، والجملة من قوله: جاؤوا في موضع الصفة لرسل انتهى. والباء في بالبينات تحتمل الحال والتعدية، أي: جاؤوا أممهم مصحوبين بالبينات، أو جاؤوا البينات. وقرأ الجمهور: والزبر. وقرأ ابن عامر: وبالزبر، وكذا هي في مصاحف أهل الشأم. وقرأ هشام بخلاف عنه وبالكتاب. وقرأ الجمهور: والكتاب. وإعادة حرف الجر في العطف هو على سبيل التأكيد. وكان ذكر الكتاب مفردا وإن كان مجموعا من حيث المعنى لتناسب الفواصل، ولم يلحظ فيه أن يجمع كالمعطوف عليهما لذلك.
* (كل نفس ذائقة الموت) * تضمنت هذه الجملة وما بعدها الوعظ والتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم) عن الدنيا وأهلها، والوعد بالنجاة في الآخرة بذكر الموت، والفكرة فيه تهون ما يصدر من الكفار من تكذيب وغيره. ولما تقدم ذكر
138

المكذبين الكاذبين على الله من اليهود والمنافقين وذكرهم المؤمنين، نبهوا كلهم على أنهم ميتون ومآلهم إلى الآخرة، ففيها يظهر الناجي والهالك، وأن ما تعلقوا به في الدنيا من مال وأهل وعشيرة إنما هو على سبيل التمتع المغرور به، كلها تضمحل وتزول ولا يبقى إلا ما عمله الإنسان، وهو يوفاه في الآخرة، يوفى على طاعته ومعصيته.
وقال محمد بن عمر الرازي: في هذه الآية دلالة على أن النفس لا تموت بموت البدن، وعلى أن النفس. غير البدن انتهى. وهذه مكابرة في الدلالة، فإن ظاهر الآية يدل على أن النفس تموت. قال أيضا: لفظ النفس مختص بالأجسام انتهى. وقرأ اليزيدي: ذائقة بالتنوين، الموت بالنصب، وذلك فيما نقله عنه الزمخشري. ونقلها ابن عطية عن أبي حيوة، ونقلها غيرهما عن الأعمش، ويحيى، وابن أبي إسحاق. وقرأ الأعمش فيما نقله الزمخشري ذائقة بغير تنوين الموت بالنصب ومثله:
* فألفيته غر مستعتب
*
ولا ذاكر الله إلا قليلا
*
حذف التنوين لالتقاء الساكنين، كقراءة من قرأ * (قل هو الله أحد * الله الصمد) * بحذف التنوين من أحد * (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) * لفظ التوفية يدل على
التكميل يوم القيامة، فما قبله من كون القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، هو بعض الأجور. وما لم يدخل الجنة أو النار فهو غير موفى. والذي يدل عليه السياق أن الأجور هي ما يترتب على الطاعة والمعصية، وإن كان الغالب في الاستعمال أن الأجر هو ما يترتب على عمل الطاعة. ولهذا قال ابن عطية: وخص تعالى ذكر الأجور لشرفها، وإشارة إلى مغفرته لمحمد صلى الله عليه وسلم) وأمته. ولا محالة أن يوم القيامة يقع فيه الأجور، وتوفية العقوبات انتهى.
* (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) * علق الفوز وهو نيل الحظ من الخير والنجاة من الشر على التنحية من النار ودخول الجنة، لأن من لم ينج عن النار بل أدخلها، وإن كان سيدخل الجنة لم يفز كمن يدخلها من أهل الكبائر. ومن نحى عنها ولم يدخل الجنة كأصحاب اوعراف، لم يفز أيضا. وروي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم): (من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه، قيل: فاز معناه نجا. وقيل: سبق. وقيل: غنم.
* (وما الحيواة الدنيا إلا متاع الغرور) * المتاع: ما يستمتع به من آلات وأموال وغير ذلك. وفسره عكرمة: بالفأس، والقصعة، والقدر. وفسره الحسن فقال: هو كخضرة النبات، ولعب البنات لا حاصل له يلمع لمع السراب، ويمر مر السحاب، وهذا من عكرمة والحسن على سبيل التمثيل. قال الزمخشري: شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه، ثم يتبين له فساده ورداءته، والشيطان هو المدلس. الغرور انتهى. وقال سعيد بن جبير: إنما هذا المن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. وقال عكرمة أيضا: متاع الغرور القوارير التي لا بد لها من الانكسار والفساد، فكذلك أمر الدنيا كله. وهذا تشبيه من عكرمة والغرور الخدع والترجئة بالباطل. وقال عبد الرحمن بن سابط: متاع الغرور كزاد الراعي يزود الكف من التمر والشيء من الدقيق يشرب عليه
139

اللبن، يعني: أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره. ومن كلام العرب عش ولا تغتر. أي: لا تجتزىء بما لا يكفيك. وقال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرا حسنا وله باطن مكروه أو مجهول، والشيطان غرور لأنه يحمل على مخبآت الناس ووراء ذلك ما يسوء. قال: ومن هذا بيع الغرور، وهو ما كان له ظاهر بيع وباطن مجهول. وقال أبو مسلم الأصبهاني: وما الحياة الدنيا بحذف المضاف تقديره: وما نفع الحياة الدنيا إلا نفع الغرور. أي: نفع يغفل عن النفع الحقيقي لدوامه، وهو النفع في الحياة الأخروية. وإضافة المتاع إلى الغرور أن جعل الغرور جمعا فهو كقولك: نفع الغافلين. وإن جعل مصدرا فهو كقولك: نفع إغفال، أي إهمال فيورث الغفلة عن التأهب للآخرة. وقرأ عبد الله بن عمر: المغرور بفتح الغين، وفسر بالشيطان ويحتمل أن يكون فعولا بمعنى مفعول، أي: متاع المغرور، أي: المخدوع.
وتضمنت هذه الآيات التجنيس المغاير في قوله: الذين قالوا: والمماثل في: قالوا، وسنكتب ما قالوا، وفي: كذبوك فقد كذب. والطباق في: فقير وأغنياء، وفي: الموت والحياة، وفي: زحزح عن النار وأدخل الجنة. والالتفات في: سنكتب ونقول، وفي: أجوركم، إذ تقدمه كل نفس. والتكرار في: لفظ الجلالة، وفي البينات. والاستعارة في: سنكتب على قول من لم يجعل الكتابة حقيقة، وفي: قدمت أيديكم، وفي: تأكله النار، وفي: ذوقوا وذائقة. والمذهب الكلامي في فلم قتلتموهم. والاختصاص في: أيديكم. والإشارة في: ذلك، والشرط المتجوز فيه. والزيادة للتوكيد في: وبالزبر وبالكتاب في قراءة من قرأ كذلك. والحذف في مواضع.
2 (* (لتبلون فىأموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذالك من عزم الا مور * وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه ورآء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون * لا تحسبن الذين يفرحون بمآ أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم * ولله ملك السماوات والا رض والله على كل شىء قدير * إن فى خلق السماوات والا رض واختلاف اليل والنهار لايات لا ولى الا لباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات والا رض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار * ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار * ربنآ إننآ سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن ءامنوا بربكم فأامنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الا برار * ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد * فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل
140

منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الا نهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب * لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد * لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار * وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ومآ أنزل إليكم ومآ أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بأايات الله ثمنا قليلا أولائك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب * ياأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) *))
) *
الجنوب: جمع جنب وهو معروف. المرابطة: الملازمة في الثغر للجهاد، وأصلها من ربط الخيل.
* (لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) * قيل: نزلت في قصة عبد الله بن أبي حين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وقد قرأ عليهم الرسول القرآن: إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا. ورد عليه ابن رواحة فقال: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله. وتساب المسلمون والمشركون واليهود. وقيل: فيما جرى بين أبي بكر وفنحاص. وقيل: في كعب بن الأشرف كان يحرض المشركين على الرسول وأصحابه في شعره، وأعلمهم تعالى بهذا الابتلاء والسماع ليكونوا أحمل لما يرد عليهم من ذلك، إذا سبق الإخبار به بخلاف من يأتيه الأمر فجأة فاته يكثر تألمه. والآية مسوقة في ذم أهل الكتاب وغيرهم من المشركين، فناسبت ما قبلها من الآيات التي جاءت في ذم أهل الكتاب وغيرهم من المشركين.
والظاهر في قوله: لتبلون أنهم المؤمنون. وقال عطاء: المهاجرون، أخذ المشركون رباعهم فباعوها، وأموالهم فنهبوها. وقيل: الابتلاء في الأموال هو ما أصيبوا به من نهب أموالهم وعددهم يوم أحد. والظاهر أن هذا خطاب للمؤمنين بما سيقع من الامتحان في الأموال، بما يقع فيها من المصائب والذهاب والإنفاق في سبيل الله وفي تكاليف الشرع، والابتلاء في النفس بالشهوات أو الفروض البدنية أو الأمراض، أو فقد الأقارب والعشائر، أو بالقتل والجراحات والأسر، وأنواع المخاوف أقوال. وقدم الأموال على الأنفس على سبيل الترقي إلى الأشرف، أو على سبيل الكثرة. لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس. والأذى: اسم جامع في معنى الضرر،
141

ويشمل أقوالهم في الرسول وأصحابه، وفي الله تعالى وأنبيائه. والمطاعن في الدين وتخطئة من آمن، وهجاء كعب وتشبيه بنساء المؤمنين.
* (وأن تصبروا) * على ذلك الابتلاء وذلك السماع.
* (وتتقوا فإن ذالك) * أي فإن الصبر والتقوى.
* (من عزم الامور) * قيل: من أشدها وأحسنها. والعزم: إمضاء الأمر المروى المنقح. وقال النقاش: العزم هو الحزم بمعنى واحد، الحاء مبدلة من العين. قال ابن عطية: وهذا خطأ. الحزم جودة النظر في الأمر، ونتيجته الحذر من الخطأ فيه. والعزم قصد الإمضاء، والله تعالى يقول: * (وشاورهم فى الامر فإذا عزمت) * فالمشاورة وما كان في معناها والحزم. والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم. وقال الزمخشري: من عزم الأمور من معزومات الأمور. أي: مما يجب عليه العزم من الأمور. أو مما عزم الله أن يكون، يعني: أن ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا. وقيل: من عزم الأمور من جدها. وقال مجاهد في قوله: فإذا عزم الأمر، أي فإذا وجد الأمر * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * هم اليهود أخذ عليهم الميثاق في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم) فكتموه ونبذوه قاله: ابن عباس، وابن جبير، والسدي، وابن جريج. وقال قوم: هم اليهود والنصارى. وقال الجمهور: هي عامة في كل من علمه الله علما، وعلماء هذا الأمة داخلون في هذا الميثاق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر: بالياء فيهما على الغيبة، إذ قبله الذين أوتوا الكتاب وبعده فنبذوه. وقرأ باقي السبعة: بالتاء للخطاب، وهي كقوله: * (لا تعبدون إلا الله) * قرىء بالتاء والياء، والظاهر عود الضمير إلى الكتاب. وقيل: هو للنبي صلى الله عليه وسلم). وقيل: للميثاق. وقيل: للإيمان بالرسول لقوله:
* (لتؤمنن به ولتنصرنه) * وارتفاع ولا تكتموانه لكونه وقع حالا، أي: غير كاتمين له وليس داخلا في المقسم عليه. قالوا وللحال لا العطف، كقوله: * (فاستقيما ولا تتبعان) * وقوله: ولا يسأل في قراءة من خفف النون ورفع اللام. وقيل: الواو للعطف، وهو من جملة المقسم عليه. ولما كان منفيا بلا لم يؤكد، تقول: والله لا يقوم زيد، فلا تدخله النون. وهذا الوجه عندي أعرب وأفصح، لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ، قبل لا، حتى تكون الجملة اسمية في موضع الحال، إذ المضارع المنفي بلالا تدخل عليه واو الحال. وقرأ عبد الله: ليبينونه بغير نون التوكيد. قال ابن عطية: وقد لا تلزم هذه النون لام التوكيد، قاله: سيبويه انتهى. وهذا ليس معروفا من قول البصريين، بل تعاقب اللام والنون عندهم ضرورة. والكوفيون يجيزون ذلك في سعة الكلام، فيجيزون: والله لأقوم، ووالله أقومن. وقال الشاعر:
* وعيشك يا سلمى لا وقن إنني
*
لما شئت مستحل ولو أنه القتل
*
وقال آخر:
* يمينا لأبغض كل امرئ
*
يزخرف قولا ولا يفعل
*
142

وقرأ ابن عباس: ميثاق النبيين لتبيننه للناس، فيعود الضمير في فنبذوه على الناس إذ يستحيل عوده على النبيين، أي: فنبذه الناس المبين لهم الميثاق، وتقدم تفسير معنى: * (فنبذوه وراء ظهورهم) * في قوله: * (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم) *.
* (واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) * وتقدم تفسير مثل هذه الجملة والكلام في إعراب ما بعد بئس فأغنى عن الإعادة.
* (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب) * نزلت في المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الغزو، فإذا جاء استعذروا له، فيظهر القبول ويستغفر لهم، ففضحهم الله بهذه الآية قاله: أبو سعيد الخدري وابن زيد وجماعة. وقال كثير من المفسرين: نزلت في أحبار اليهود. وأتى تكون بمعنى فعل، كقوله تعالى: * (إنه كان وعده مأتيا) * أي مفعولا. فمعنى بما أتوا بما فعلوا، ويدل عليه قراءة أبى بما فعلوا. وفي الذي فعلوه وفرحوا به أقوال: أحدها كتم ما سألهم عنه الرسول، وإخبارهم بغيره، وأروه أنهم قد أخبروه به واستحمدوا بذلك إليه قاله: ابن عباس. الثاني ما أصابوا من الدنيا وأحبوا أن يقال: إنهم علماء قاله: ابن عباس أيضا. الثالث قولهم: نحن على دين إبراهيم، وكتمهم أمر الرسول قاله: ابن جبير. الرابع
كتبهم إلى اليهود يهود الأرض كلها أن محمدا ليس بنبي، فأثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به. وقالوا: نحن أهل الصوم والصلاة وأولياء الله قاله: الضحاك والسدي. الخامس قول يهود خيبر للنبي صلى الله عليه وسلم) وأصحابه: نحن على دينكم، ونحن لكم ردء، وهم مستمسكون بضلالهم، وأرادوا أن يحمدهم بما لم يفعلوا قاله: قتادة. السادس تجهيز اليهود جيشا إلى النبي صلى الله عليه وسلم) وإنفاقهم على ذلك الجيش قاله: النخعي. السابع إخبار جماعة من اليهود للمسلمين حين خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم) قد أخبرهم بأشياء عرفوها، فحمدهم المسلمون على ذلك، وأبطنوا خلاف ما أظهر، وأذكره الزجاج. الثامن اتباع الناس لهم في تبديل تأويل التوراة، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك، ولم يفعلوا شيئا نافعا ولا صحيحا قاله: مجاهد. التاسع تخلف المنافقين عن الغزو وحلفهم للمسلمين أنهم يسرون بنصرهم، وكانوا يحبون أن يقال أنهم في حكم المجاهدين قاله: أبو سعيد الخدري.
والأقوال السابقة غير هذا الأخير مبنية على أن الآية نزلت في اليهود. قيل: ويجوز أن يكون شاملا لكل من يأتي بحسنة فرح بها فرح إعجاب، ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد، وبما ليس فيه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: لا يحسبن ولا يحسبنهم بالياء فيهما، ورفع باء يحسبنهم على إسناد يحسبن للذين، وخرجت هذه القراءة على وجهين: أحدهما ما قاله أبو علي: وهو أن لا يحسبن لم يقع على شيء، والذين رفع به. وقد تجيء هذه الأفعال لغوا لا في حكم الجمل المفيدة نحو قوله:
* وما خلت أبقي بيننا من مودة
*
عراض المداكي المسنفات القلائصا
*
وقال الخليل: العرب تقول: ما رأيته يقول ذلك إلا زيد، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد. قال ابن عطية: فتتجه
143

القراءة بكون فلا يحسبنهم بدلا من الأول، وقد تعدى إلى المفعولين وهما: الضمير وبمفازة، واستغنى بذلك عن المفعولين، كما استغنى في قوله:
* بأي كتاب أم بأية سنة
*
ترى حبهم عارا علي وتحسب
*
أي: وتحسب حبهم عارا علي. والوجه الثاني ما قاله الزمخشري: وهو أن يكون المفعول الأول محذوفا على لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة، بمعنى: لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين. وفلا يحسبنهم تأكيد، وتقدم لنا الرد على الزمخشري في تقديره لا يحسبنهم الذين في قوله: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما) * وإن هذا التقدير لا يصح فيطلع هناك. وتعدى في هذه القراءة فعل الحسبان إلى ضميريه المتصلين: المرفوع والمنصوب، وهو مما يختص به ظننت وأخواتها، ومن غيرها: وجدت، وفقدت، وعدمت، وذلك مقرر في علم النحو.
وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم: لا تحسبن، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب، وفتح الباء فيهما خطابا للرسول، وخرجت هذه القراءة على وجهين: أحدهما ذكره ابن عطية، وهو أن المفعول الأول هو: الذين يفرحون. والثاني محذوف لدلالة ما بعده عليه كما قيل آنفا في المفعولين. وحسن تكرار الفعل فلا يحسبنهم لطول الكلام، وهي عادة العرب، وذلك تقريب لذهن المخاطب. والوجه الثاني ذكره الزمخشري، قال: وأحد المفعولين الذين يفرحون، والثاني بمفازة. وقوله: فلا يحسبنهم توكيد تقديره لا يحسبنهم، فلا يحسبنهم فائزين. وقرئ لا تحسبن فلا تحسبنهم بتاء الخطاب وضم الباء فيهما خطابا للمؤمنين. ويجيء الخلاف في المفعول الثاني كالخلاف فيه في قراءة الكوفيين. وقرأ نافع وابن عامر: لا يحسبن بياء الغيبة، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب، وفتح الباء فيهما، وخرجت هذه القراءة على حذف مفعولي يحسبن لدلالة ما بعدهما عليهما. ولا يجوز في هذه القراءة البدل الذي جوز في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين لاختلاف الفاعل. وإذا كان فلا يحسبنهم توكيدا أو بدلا، فدخول الفاء إنما يتوجه على أن تكون زائدة، إذ لا يصح أن تكون للعطف، ولا أن تكون فاء جواب الجزاء. وأنشدوا على زيادة الفاء قول الشاعر:
* حتى تركت العائدات يعدنه
*
يقلن فلا تبعد وقلت له: ابعد
*
وقال آخر:
* لما اتقى بيد عظيم جرمها
*
فتركت ضاحي: كفه يتذبذب
*
أي: لا تبعد، وأي تركت. وقرأ النخعي ومروان بن الحكم بما آتوا بمعنى: أعطوا. وقرأ ابن جبير والسلمي: بما أوتوا مبنيا للمفعول. وتقدمت الأقوال في أتوا، وبعضها يستقيم على هاتين القراءتين.
وفي حرف عبد الله بما لم يفعلوا بمفازة، وأسقط فلا يحسبنهم. ومفازة مفعلة من فاز، وهي للمكان أي: موضع فوز، أي: نجاة. وقال الفراء: أي يبعد من العذاب، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه. وفي هذه الآية دلالة على أن تزين الإنسان بما
144

ليس فيه وحبه المدح عليه منهى عنه ومذموم شرعا. وقال تعالى: * (لم تقولون ما لا تفعلون) * وفي الحديث الصحيح: * (* المتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبي زور) * وقد أخبر تعالى عنهم بالعذاب الأليم في قوله: ولهم عذاب أليم. وناسب وصفه بأليم لأجل فرحهم ومحبتهم المحمدة على ما لم يفعلوا.
* (ولله ملك * السماوات والارض * والله على كل شيء قدير) * ذكر تعالى أنهم من جملة ما ملك، وأنه قادر عليهم، فهم مملوكون مقهورون مقدور عليهم، فليسوا بناجين من العذاب.
* (إن في خلق * السماوات والارض * واختلاف اليل والنهار لايات لاولى الالباب) * تقدم شرح نظير هذه الجملة في سورة البقرة. ومعنى لآيات: العلامات واضحة على الصانع وباهر حكمته، ولا يظهر ذلك إلا لذوي العقول ينظرون في ذلك بطريق الفكر والاستدلال، لا كما تنظر البهائم. وروي ابن جبير عن ابن عباس أن قريشا قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم): ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، حين ذكرت اليهود والنصارى لهم بعض ما جاء به من المعجزات موسى عليهما السلام، فنزلت هذه الآية. ومناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة، لأنه تعالى لما ذكر أنه مالك السماوات والأرض، وذكر قدرته، ذكر أن في خلقهما دلالات واضحة لذوي العقول.
* (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * الظاهر أن الذكر هو باللسان مع حضور القلب، وأنه التحميد والتهليل والتكبير، ونحو ذلك من الأذكار. هذه الهيئات الثلاثة هي غالب ما يكون عليها المرء، فاستعملت والمراد بها جميع الأحوال. كما قالت عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يذكر الله على كل أحيانه) وظاهر هذا الحديث والآية يدل على جواز ذكر الله على الخلاء. وقال بجواز ذلك: عبد الله بن عمر، وابن سيرين والنخعي. وكرهه: ابن عباس، وعطاء، والشعبي. وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكروا الله فقال بعضهم: أما قال الله تعالى: قياما وقعودا؟ فقاموا يذكرون الله على أقدامهم.
وروي في الحديث: (من أحب أن يرتع في رياض لجنة فليكثر ذكر الله) * وإلى أن المراد بالذكر هو الظاهر الذي ذكرناه. ذهب ابن جريج والجمهور: والذكر من أعظم العبادات، والأحاديث فيه كثيرة. وقال ابن عباس وجماعة: المراد بالذكر الصلوات، ففي حال العذر يصلونها قعودا وعلى جنوبهم، وسماها ذكرا لاشتمالها على الذكر. وقيل: المراد بالذكر صلاة النفل يصليها كيف شاء. وجلب المفسرون في هذه الآية أشياء من كيفية إيقاع الصلاة في القيام والقعود والاضطجاع، وخلاف الفقهاء في ذلك، ودلائلهم. وذلك مقرر في علم الفقه. وعلى الظاهر من تفسير الذكر فتقديم القيام، لأن الذكر فيه أخف على الإنسان، ثم انتقل إلى حالة القعود والذكر فيه أشق منه في حالة القيام، لأن الإنسان لا يقعد غالبا إلا لشغل يشتغل به من صناعة أو غيرها. ثم انتقل إلى هيئة الاضطجاع والذكر فيها أشق منه في هيئة القعود، لأن الاضطجاع هو هيئة استراحة وفراغ عن الشواغل. ويمكن في هذه الهيئات أن يكون التقديم لما هو أقصر زمانا، فبدىء بالقيام لأنها هيئة زمانها في الغالب أقصر من زمان القعود، ثم بالقعود إذ زمانه أطول، وبالاضطجاع إذ زمانه أطول من زمان القعود. ألا ترى أن الليل جميعه هو زمان الاضطجاع، وهو مقابل لزمان القعود والقيام، وهو النهار؟ وأما إذا كان الذكر يراد به الصلاة المفروضة، فالهيئات جاءت على سبيل الندرة. فمن قدر على القيام لا يصلي قاعدا، ومن قدر على القعود لا يصلي مضطجعا، وأما إذا كان يراد به صلاة النفل فالهيئات على سبيل
145

الأفضلية، إذ الأفضل التنفل قائما ثم قاعدا ثم مضطجعا. وأبعد في التفسير من ذهب إلى أن المعنى: يذكرون الله قياما بأوامره، وقعودا عن زواجره، وعلى جنوبهم أي تجانبهم مخالفة أمره ونهيه. وهذا شبيه بكلام أرباب القلوب، وقريب من الباطنية.
وجوزوا في الذين النعت والقطع للرفع والنصب، وعلى جنوبهم حال معطوفة على حال، وهنا عطف المجرور على صريح الاسم. وفي قوله: دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما عطف صريح الاسم على المجرور.
* (*) * وإلى أن المراد بالذكر هو الظاهر الذي ذكرناه. ذهب ابن جريج والجمهور: والذكر من أعظم العبادات، والأحاديث فيه كثيرة. وقال ابن عباس وجماعة: المراد بالذكر الصلوات، ففي حال العذر يصلونها قعودا وعلى جنوبهم، وسماها ذكرا لاشتمالها على الذكر. وقيل: المراد بالذكر صلاة النفل يصليها كيف شاء. وجلب المفسرون في هذه الآية أشياء من كيفية إيقاع الصلاة في القيام والقعود والاضطجاع، وخلاف الفقهاء في ذلك، ودلائلهم. وذلك مقرر في علم الفقه. وعلى الظاهر من تفسير الذكر فتقديم القيام، لأن الذكر فيه أخف على الإنسان، ثم انتقل إلى حالة القعود والذكر فيه أشق منه في حالة القيام، لأن الإنسان لا يقعد غالبا إلا لشغل يشتغل به من صناعة أو غيرها. ثم انتقل إلى هيئة الاضطجاع والذكر فيها أشق منه في هيئة القعود، لأن الاضطجاع هو هيئة استراحة وفراغ عن الشواغل. ويمكن في هذه الهيئات أن يكون التقديم لما هو أقصر زمانا، فبدىء بالقيام لأنها هيئة زمانها في الغالب أقصر من زمان القعود، ثم بالقعود إذ زمانه أطول، وبالاضطجاع إذ زمانه أطول من زمان القعود. ألا ترى أن الليل جميعه هو زمان الاضطجاع، وهو مقابل لزمان القعود والقيام، وهو النهار؟ وأما إذا كان الذكر يراد به الصلاة المفروضة، فالهيئات جاءت على سبيل الندرة. فمن قدر على القيام لا يصلي قاعدا، ومن قدر على القعود لا يصلي مضطجعا، وأما إذا كان يراد به صلاة النفل فالهيئات على سبيل
الأفضلية، إذ الأفضل التنفل قائما ثم قاعدا ثم مضطجعا. وأبعد في التفسير من ذهب إلى أن المعنى: يذكرون الله قياما بأوامره، وقعودا عن زواجره، وعلى جنوبهم أي تجانبهم مخالفة أمره ونهيه. وهذا شبيه بكلام أرباب القلوب، وقريب من الباطنية.
وجوزوا في الذين النعت والقطع للرفع والنصب، وعلى جنوبهم حال معطوفة على حال، وهنا عطف المجرور على صريح الاسم. وفي قوله: دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما عطف صريح الاسم على المجرور.
* (ويتفكرون فى خلق * السماوات والارض) * الظاهر أنه معطوف على الصلة، فلا موضع له من الإعراب. وقيل: الجملة في موضع نصب على الحال، عطفت على الحال قبلها. ولما ذكر الذكر الذي محله اللسان، ذكر الفكر الذي محله القلب. ويحتمل خلق أن يراد به المصدر، فإن الفكرة في الخلق لهذه المصنوعات الغريبة الشكل والقدرة على إنشاء هذه من العدم الصرف، يدل على القدرة التامة والعلم والأحدية إلى سائر الصفات العلية. وفي الفكر في ذلك ما يبهر العقول، ويستغرق الخواطر. ويحتمل أن يراد به المخلوق، ويكون أضافه من حيث المعنى إلى الظرفين، لا إلى المفعول، والفكر في ما أودع الله في السماوات من الكواكب النيرة والأفلاك التي جاء النصر فيها وما أودع في الأرض من الحيوانات والنبات والمعادن، واختلاف أجناسها وأنواعها وأشخاصها أيضا يبهر العقل ويكثر العبر
* وفي كل شيء له آية
*
تدل على أنه الواحد
*
ومر النبي صلى الله عليه وسلم) على قوم يتفكرون في الله فقال: (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره). وقال بعض العلماء: المتفكر في ذات الله كالناظر في عين الشمس، لأنه تعالى ليس كمثله شيء. وإنما التفكر وانبساط الذهن في المخلوقات وفي مخلوق الآخرة. وفي الحديث: (لا عبادة كتفكر). وذكر المفسرون من كلام الناس في التفكر ومن أعيان المتفكرين كثيرا، رأينا أن لا نطول كتابنا بنقلها * (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) * هذه الجملة محكية بقول محذوف تقديره: يقولون. وهذا الفعل في موضع نصب على الحال، والإشارة بهذا إلى الخلق إن كان المراد المخلوق، أو إلى السماوات والأرض لأنها في معنى المخلوق. أي: ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا. قيل: المعنى خلقا أي: لغير غاية، بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه، فيوحد ويعبد. فمن فعل ذلك نعمته، ومن ضل عن ذلك عذبته. وقال الزمخشري: المعنى ما خلقته خلقا باطلا بغير حكمة بل خلقته لداعي حكمة عظيمة وهو: أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك، ووجوب طاعتك، واجتناب معصيتك. ولذلك وصل به قوله: فقنا عذاب النار، ولأنه جزاء من عصى ولم يطع انتهى. وفيه إشارات المعتزلة من قوله: بل خلقته لداعي حكمة عظيمة، وعلى هذا فيكون انتصاب باطلا على أنه نعت لمصدر محذوف. وقيل: انتصب باطلا على الحال من المفعول. وقيل: انتصب على إسقاط الباء، أي بباطل، بل خلقته بقدرتك التي هي حق. وقيل: على إسقاط اللام وهو مفعول من أجله، وفاعل بمعنى المصدر أي بطولا. وقيل: على أنه مفعول ثان لخلق، وهي بمعنى جعل التي تتعدى إلى اثنين، وهذا عكس المنقول في النحو وهو: أن جعل يكون بمعنى خلق، فيتعدى لواحد. أما أن
146

خلق يكون بمعنى جعل فيتعدى لاثنين، فلا أعلم أحدا ممن له معرفة ذهب إلى ذلك. والباطل: الزائل الذاهب ومنه:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
والأحسن من أعاريبه انتصابه على الحال من هذا، وهي حال لا يستغنى عنها نحو قوله: * (وما خلقنا * السماوات والارض * وما بينهما لاعبين) * لا يجوز في هذه الحال أن تحذف لئلا يكون المعنى على النفي، وهو لا يجوز.
ولما تضمنت هذه الجملة الإقرار بأن هذا الخلق البديع لم يكن باطلا، والتنبيه على أن هذا كلام أولي الألباب الذاكرين الله على جميع أحوالهم والمتفكرين في الخلق، دل على أن غيرهم من أهل الغفلة والجهالة يذهبون إلى خلاف هذه المقالة، فنزهوه تعالى عن ما يقول أولئك المبطلون من ما أشار إليه تعالى في قوله: لاعبين، وفي قوله: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) * واعترض بهذا التنزيه المتضمن براءة الله من جميع النقائص وأفعال المحدثين. بين ذلك الإقرار وبين رغبتهم إلى ربهم بأن يقيهم عذاب النار، ولم يكن لهم هم في شيء من أحوال الدنيا، ولا اكتراث بها، إنما تضرعوا في سؤال وقايتهم العذاب يوم القيامة. وهذا السؤال هو نتيجة الذكر والفكر والإقرار والتنزيه. والفاء في: فقنا للعطف، وترتيب السؤال على الإقرار المذكور. وقيل: لترتيب السؤال على ما تضمنه سبحان من الفعل، أي: نزهناك عما يقول الجاهلون فقنا. وأبعد من ذهب إلى أنه للترتيب على ما تضمن النداء.
* (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * هذه استجارة واستعادة. أي: فلا تفعل بنا ذلك، ولا تجعلنا ممن يعمل بعملها. ومعنى أخزيته: ففضحته. من خزى الرجل يخزى خزيا، إذا افتضح. وخزاية إذا استحيا الفعل واحد واختلف في المصدر فمن الافتضاح خزي، ومن الاستحياء خزاية. ومن ذلك * (ولا تخزون فى ضيفى) * أي لا تفضحون. وقيل: المعنى أهنته. وقال المفضل: أهلكته. ويقال: خزيته وأخزيته ثلاثيا ورباعيا، والرباعي أكثر وأفصح. وقال الزجاج: المخزى في اللغة هو المذل المحقور بأمر قد لزمه، يقال: أخزيته ألزمته حجة أذللته معها. وقال أنس وسعيد، وقتادة، ومقاتل، وابن جريج، وغيرهم: هي إشارة إلى من يخلد في النار، أما من يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي. وقال جابر بن عبد الله وغيره: كل من دخل النار فهو مخزى وإن خرج منها، وإن في دون ذلك لخزيا، واختاره ابن جريج وأبو سليمان الدمشقي.
* (وما للظالمين من أنصار) * هو من قول الداعين. وقال ابن عباس: الظالمون هنا هم الكافرون، وهو قول جمهور المفسرين. وقد صرح به في قوله: * (والكافرون هم الظالمون) * وقوله: * (إن الشرك لظلم عظيم) * ويناسب هذا التفسير أن يكون ما قبله فيمن يخلد في النار، لأن نفي الناصر إما بمنع أو شفاعة مختص بالكفار، وأما المؤمن فالله ناصره والرسول صلى الله عليه وسلم) شافعه، وبعض المؤمنين يشفع لبعض كما ورد في الحديث. وقال الزمخشري: وما للظالمين اللام إشارة إلى من يدخل النار، وإعلام بأن من يدخل النار، فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها انتهى. وهو على طريقة الاعتزال أن من يدخل النار لا يخرج منها أبدا، سواء كان كافرا أم فاسقا، ومن مفعوله لفعل الشرط. وحكى بعض المعربين ما نصه، وأجاز قوم أن يكون من منصوبا بفعل دل عليه جواب الشرط وهو: فقد أخزيته. وأجاز آخرون أن يكون من مبتدأ، والشرط وجوابه الخير انتهى. أما القول الأول فصادر عن جاهل بعلم النحو، وأما الثاني فإعراب من مبتدأ في غاية الضعف. وأما إدخاله جواب الشرط في الخبر مع فعل الشرط فجهالة. ومن أعظم وزرا ممن تكلم في كتاب الله بغير علم.
* (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن ءامنوا بربكم فئامنا) * سمع إن دخل على
147

مسموع تعدي لواحد نحو: سمعت كلام زيد، كغيره من أفعال الحواس. وإن دخل على ذات وجاء بعده فعل أو اسم في معناه نحو: سمعت زيدا يتكلم، وسمعت زيدا يقول كذا، ففي هذه المسألة خلاف. منهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم إن كان قبله نكرة كان صفة لها، أو معرفة كان حالا منها. ومنهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم هو في موضع المفعول الثاني لسمع، وجعل سمع مما يعدي إلى واحد إن دخل على مسموع، وإلى اثنين إن دخل على ذات، وهذا مذهب أبي علي الفارسي. والصحيح القول الأول، وهذا مقرر في علم النحو. فعلى هذا يكون ينادي في موضع الصفة لأن قبله نكره، وعلى مذهب أبي علي يكون في موضع المفعول الثاني. وذهب الزمخشري إلى القول الأول قال: تقول: سمعت رجلا يقول كذا، وسمعت زيدا يتكلم، لتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالا عنه، فأغناك عن ذكره. ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد. وإن يقال: سمعت كلام فلان، أو قوله انتهى كلامه. وقوله: ولولا الوصف أو الحال إلى آخره ليس كذلك، بل لا يكون وصف ولا حال، ويدخل سمع على ذات، لا على مسموع. وذلك إذا كان في الكلام ما يشعر بالمسموع وإن لم يكن وصفا ولا حالا، ومنه قوله تعالى: * (هل يسمعونكم إذ تدعون) * أغني ذكر ظرف الدعاء عن ذكر المسموع.
والمنادى هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم). قال تعالى: * (وداعيا إلى الله بإذنه) * * (ادع إلى سبيل ربك) * قاله ابن جريج وابن زيد وغيرهما: أو القرآن، قاله: محمد بن كعب القرظي، قال: لأن كل المؤمنين لم يلقوا الرسول، فعلى الأول يكون وصفه بالنداء حقيقة، وعلى الثاني مجازا، وجمع بين قوله: مناديا ينادي، لأنه ذكر الأول مطلقا وقيد الثاني تفخيما لشأن المنادى، لأنه لا منادى أعظم من مناد ينادي للإيمان. وذلك أن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لإطفاء الثائرة، أو لإغاثة المكروب، أو لكفاية بعض النوازل، أو لبعض المنافع. فإذا قلت: ينادي للإيمان فقد رفعت من شأن المنادي وفخمته. واللام متعلقة بينادي، ويعدي نادي، ودعا، وندب باللام وبالي، كما يعدي بهما هدي لوقوع معنى الاختصاص، وانتهاء الغاية جميعا. ولهذا قال بعضهم: إن اللام بمعنى إلى. لما كان ينادي في معنى يدعو، حسن وصولها باللام بمعنى: إلى. وقيل: اللام لام العلة، أي لأجل الإيمان. وقيل: اللام بمعنى الباء، أي بالإيمان. والسماع محمول على حقيقته، أي سمعنا صوت مناد. قيل: ومن جعل المنادي هو القرآن، فالسماع عنده مجاز عن القبول، وأن مفسرة التقدير: أن آمنوا. وجوز أن تكون مصدرية وصلت بفعل الأمر، أي: بأن آمنوا. فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني لها موضع وهو الجر، أو النصب على الخلاف. وعطف فآمنا بالفاء مؤذن بتعجيل القبول، وتسبيب الإيمان عن السماع من غير تراخ، والمعنى: فآمنا بك أو بربنا.
* (ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا) * قال ابن عباس: الذنوب هي الكبائر، والسيئات هي الصغائر. ويؤيده: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) * وقيل: الذنوب ترك الطاعات، والسيئات فعل المعاصي. وقيل: غفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض، لكنه كرر للتأكيد، ولأنها مناح من الستر وإزالة حكم الذنوب بعد حصوله، والغفران والتكفير بمعنى، والذنوب والسيئات بمعنى، وجمع بينهما تأكيدا ومبالغة، وليكون في ذلك إلحاج في الدعاء. فقد روى: (إن الله يحب الملحين في الدعاء). وقيل: في التفكير معنى وهو: التغطية، ليأمنوا الفضوح. والكفارة هي الطاعة المغطية للسيئة، كالعتق والصيام والإطعام. ورجل مكفر بالسلاح، أي مغطى.
* (وتوفنا مع الابرار) * جمع بر، على زن فعل، كصلف. أو جمع بار على وزن فاعل كضارب، وأدغمت الراء في الراء. وهم: الطائعون لله، وتقدم معنى البر. وقيل: هم هنا الذين بروا الآباء والأبناء. ومع هنا مجاز عن الصحبة الزمانية إلى الصحبة في الوصف، أي: توفنا أبرارا معدودين في جملة الأبرار. والمعنى: اجعلنا ممن توفيتهم طائعين لك. وقيل: المعنى احشرنا معهم في الجنة.
* (ربنا وءاتنا وعدتنا على
148

رسلك) * الظاهر أنهم سألوا ربهم أن يعطيهم ما وعدهم على رسله، ففسر هذا الموعود به بالجنة قاله: ابن عباس. وقيل: الموعود به النصر على الأعداء. وقيل: استغفار الأنبياء، كاستغفار نوح وإبراهيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم) وعليهم أجمعين، واستغفار الملائكة لهم.
وقوله: على رسلك هو على حذف مضاف، فقدره الطبري وابن عطية: على ألسنة رسلك. وقدره الزمخشري: على تصديق رسلك. قال: فعلى هذه صلة للوعد في قولك: وعد الله الجنة على الطاعة. والمعنى: ما وعدتنا على تصديق رسلك. ألا تراه كيف اتبع ذكر المنادي للإيمان وهو الرسول، وقوله: آمنا وهو التصديق. ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف أي: ما وعدتنا منزلا على رسلك، أو محمولا على رسلك، لأن الرسل يحملون ذلك، فإنما عليه ما حمل انتهى. وهذا الوجه الذي ذكر
آخرا أنه يجوز لبس بجائز، لأن من قواعد النحويين أن الجار والمجرور والظرف متى كان العامل فيهما مقيدا فلا بد من ذكر ذلك العامل، ولا يجوز حذفه، ولا يحذف العامل إلا إذا كان كونا مطلقا. مثال ذلك: زيد ضاحك في الدار، لا يجوز حذف ضاحك البتة. وإذا قلت: زيد في الدار فالعامل كون مطلق يحذف. وكذلك زيد ناج من بني تميم، لا يجوز حذف ناج. ولو قلت: زيد من بني تميم جاز على تقدير كائن من بني تميم، والمحذوف فيما جوزه الزمخشري وهو قوله: منزلا أو محمولا، لا يجوز حذفه على ما تقرر في علم النحو. وإذا كان العامل في الظرف أو المجرور مقيدا صار ذلك الظرف أو المجرور ناقصا، فلا يجوز أن يقع صلة، ولا خبر إلا في الحال. ولا في الأصل، ولا صفة، ولا حالا، ولا معنى سؤالهم: أن يعطيهم ما وعدهم، أن يثيبهم على الإيمان والطاعة حتى يكونوا ممن يؤتيهم الله ما وعد المؤمنين، ومعلوم أنه تعالى منجز ما وعد، فسألوا إنجاز ما ترتب على الإيمان. والمعنى: التثبيت على الإيمان حتى يكونوا ممن يستحق برحمة الله تعالى إنجاز الوعد. وقيل: هذا السؤال جاء على سبيل الالتجاء إلى الله تعالى والتضرع له، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون، مع علمهم أنهم معفور لهم، يقصدون بذلك التذلل والتضرع إليه والالتجاء. وقيل: استبطؤوا النصر الذي وعدوا به فسألوا أن يعجل لهم وعده، فعلى هذا وهو أن يكون الموعود به النصر يكون الإيتاء في الدنيا، وعلى ن يكون الجنة يكون الإيتاء في الآخرة. وقرأ الأعمش: على رسلك بإسكان السين.
* (ولا تخزنا يوم القيامة) * فسر الإخزاء هنا بما فسر في فقد أخزيته. ويوم القيامة معمول لقوله: ولا تخزنا. ويجوز أن يكون من باب الإعمال، إذ يصلح أن يكون منصوبا بتخزنا وبآتنا ما وعدتنا، إذا كان الموعود به الجنة.
* (إنك لا تخلف الميعاد) * ظاهره أنه تعليل لقوله: * (ربنا وءاتنا ما) *. وقال ابن عطية: إشارة إلى قوله تعالى: * (يوم لا * إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم) * فهذا وعده تعالى، وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود انتهى.
وانظر إلى حسن محاورة هؤلاء الذاكرين المتفكرين، فإنهم خاطبوا الله تعالى بلفظة ربنا، وهي إشارة إلى أنه ربهم أصلحهم وهيأهم للعباد، فأخبروا أولا بنتيجة الفكر وهو قولهم: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا) * ثم سألوه أن يقيهم النار بعد تنزيهه عن النقائص. وأخبروا عن حال من يدخل النار وهم الظالمون الذين لا يذكرون الله، ولا يتفكرون في مصنوعاته. ثم ذكروا أيضا ما أنتج لهم الفكر من إجابة الداعي إلى الإيمان، إذ ذاك مترتب على أنه تعالى ما خلق هذا الخلق العجيب باطلا. ثم سألوا غفران ذنوبهم ووفاتهم على الإيمان الذي أخبروا به في قولهم: فآمنا. ثم سألوا الله الجنة وإن لا يفضحهم يوم القيامة، وذلك هو غاية ما سألوه.
وتكرر لفظ ربنا خمس مرات، كل ذلك على سبيل الاستعطاف وتطلب رحمة الله تعالى بندائه بهذا الاسم الشريف الدال على التربية والملك
149

والإصلاح. وكذلك تكرر هذا الاسم في قصة آدم ونوح وغيرهما. وفي تكرار ربنا ربنا دلالة على جواز الإلحاح في المسألة، واعتماد كثرة الطلب من الله تعالى. وفي الحديث: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام) وقال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم. وهذه مسألة أجمع عليها علماء الأمصار خلافا لبعض الصوفية، إذا جاز ذلك فيما يتعلق بالآخرة لا بالدنيا، ولبعض المتصوفة أيضا إذ قال الله تعالى: * (من رأسه قضى الامر) * واجتنب النهي وارتفع عنه كلف طلباته ودعائه. خرج أبو نصر الوايلي السجستاني الحافظ في كتاب الإبانة عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة) يعني: أن في خلق السماوات والأرض. قال العلماء: ويستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذا العشر آيات اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم)، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما، ثم يصلي ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل * (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) * روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله قد ذكر الله الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك، فنزلت، ونزل آيات في معناها فيها ذكر النساء. ومعنى استجاب: أجاب، ويعدى بنفسه وباللام. وتقدم الكلام في * (فليستجيبوا لى) * ونقل تاج القراء أن أجاب عام، واستجاب خاص في حصول المطلوب. وقرأ الجمهور: إني على إسقاط الباء، أي: بأني. وقرأ أبي بأني بالباء. وقرأ عيسى بن عمر: إني بكسر الهمزة، فيكون على إضمار القول على قول البصريين، أو على الحكاية بقوله: فاستجاب. لأن فيه معنى القول على طريقة الكوفيين. وقرأ الجمهور: أضيع من أضاع. وقرأ بعضهم: أضيع بالتشديد من ضيع، والهمزة والتشديد فيه للنقل كما قال الشاعر:
* كمرضعة أولاد أخرى وضيعت
*
بنى بطنها هذا الضلال عن القصد
*
ومعنى ذلك: لا أترك جزاء عامل منكم. ومنكم في موضع الصفة، أي: كائن منكم. وقوله: من ذكر أو أنثى، قيل: من تبيين لجنس العامل، فيكون التقدير الذي هو ذكر أو أنثى. ومن قيل: زائدة لتقدم النفي في الكلام. وقيل: من في موضع الحال من الضمير الذي في العامل في منكم أي: عامل كائن منكم كائنا من ذكر أو أنثى. وقال أبو البقاء: من ذكر أو أنثى بدل من منكم، بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة انتهى. فيكون قد أعاد العامل وهو حرف الجر، ويكون بدلا تفصيليا من مخاطب. ويعكر على أن يكون بدلا تفصيليا عطفه بأو، والبدل التفصيلي لا يكون إلا بالواو كقوله:
* وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
*
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
*
ويعكر على كونه من مخاطب أن مذهب الجمهور: أنه لا يجوز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة، وأجاز ذلك الأخفش. هكذا أطلق بعض أصحابنا الخلاف وقيده بعضهم بما كان البدل فيه لإحاطة، فإنه يجوز إذ ذاك. وهذا التقييد صحيح، ومنه (تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا) فقوله لأولنا وآخرنا بدل من ضمير المتكلم في قوله: لنا وقول الشاعر:
150

* فما برحت أقدامنا في مقامنا
*
ثلاثتنا حتى أرينا المنائيا
*
فثلاثتنا بدل من ضمير المتكلم. وأجاز ذلك لأنه بدل في معنى التوكيد، ويشهد لمذهب الأخفش قول الشاعر:
* بكم قريش كفينا كل معضلة
*
وأم نهج الهدى من كان ضليلا
*
وقول الآخر:
* وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى
*
بمستلئم مثل الفنيق المرجل
*
فقريش بدل من ضمير المخاطب. وبمستلئم بدل من ضمير المتكلم. وقد تجيء أو في معنى الواو إذا عطفت ما لا بد منه كقوله:
* قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم
*
من بين ملجم مهره أو سافع
*
يريد: وسافع. فكذلك يجوز ذلك هنا في أو، أن تكون بمعنى الواو، لأنه لما ذكر عمل عامل دل على العموم، ثم أبدل منه على سبيل التأكيد، وعطف على حد الجزئين ما لا بد منه، لأنه لا يؤكد العموم إلا بعموم مثله، فلم يكن بد من العطف حتى يفيد المجموع من المتعاطفين تأكيد العموم، فصار نظير من بين ملجم مهره أو سافع. لأن بين لا تدخل على شيء واحد، فلا بد من عطف مصاحب مجرورها.
ومعنى بعضكم من بعض: أي مجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله. فإذا كنتم مشتركين في الأصل، فكذلك أنتم مشتركون في الأجر وتقبل العمل. فيكون من هنا تفيد التبعيض الحقيقي، ويشير بذلك الاشتراك الأصلي إلى الاشتراك في الأجر على حد واحد. وقيل: معناه بعضكم من بعض في الدين والنصرة، والمعنى: أن وصف الإيمان يجمعهم، كما جاء (المسلمون تتكافا دماؤهم) وقيل: معناه الذكور من الإناث، والإناث من الذكور، فكذلك الثواب. فكما اشتركوا في هذه البعضية كذلك اشتركوا في الأجر والثواب. ومحصول معنى هذه الجملة: أنه جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده العاملين، وقد تقدم ذكر سبب نزولها وهو: سؤال أم سلمة وخرجه الحاكم في صحيحه.
* (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى) * لما ذكر تعالى أنه لا يضيع عمل عامل، ذكر من عمل الأعمال السنية التي يستحق بها أن لا يضيع عمله، وأن لا يترك جزاؤه. فذكر أولا الهجرة وهي: الخروج من الوطن الذي لا يمكن إقامة دينه فيه إلى المكان الذي يمكن ذلك فيه، وهذا من أصعب شيء على الإنسان، إذ هو مفارقة المكان الذي ربا فيه ونشأ مع أهله وعلى طريقتهم، ولولا نوازع الغوى المربى على وازع النشأة ما أمكنه ذلك. ألا ترى لقول الشاعر هما لابن الرومي:
* وحبب أوطان الرجال إليهم
*
مآرب قضاها الشباب هنالكا
*
* إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
*
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
*
وقال ابن الصفي رفاعة بن عاصم الفقعسي:
* أحب بلاد الله ما بين منعج
*
إلي وسلمى أن يصوب سحابها
*
151

* بلاد بها نيطت علي تمائمي
*
وأول أرض مس جلدي ترابها
*
* بها طال تجراري ردائي حقبة
*
وزينب ريا الحجل درم كعابها
*
واسم الهجرة وفضلها الخاص قد انقطع بعد الفتح، ولكن المعنى باق إلى يوم القيامة. وقد تقدم معنى المفاعلة في هاجر، ثم ذكر الإخراج من الديار وهو: أنهم ألجئوا واضطروا إلى ذلك، وفيه إلزام الذنب للكفار. والمعنى: أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء عشرة الكفار وقبيح أفعالهم معهم، كما قال تعالى: * (وإخراج أهله منه أكبر عند الله) * وإذا كان الخروج برأي الإنسان وقوة منه على الأعداء جاء الكلام بنسبة الخروج إليه، فقيل: خرج فلان، قال معناه: ابن عطية. قال: فمن ذلك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم) على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده.
وردني إلى الله من طردته كل مطرد
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم): (أنت طردتني كل مطرد) إنكارا عليه. ومن ذلك قول كعب بن زهير:
* في عصبة من قريش قال قائلهم
*
ببطن مكة لما أسلموا زولوا زالوا فما زال انكاس ولا كشف
عند اللقاء ولا ميل معازيل
*
انتهى. ثم ذكر الإذابة في سبيل الله، والمعنى: في دين الله. وبدأ أولا بالخاص وهي الهجرة وكانت تطلق على الهجرة إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وثنى بما ينشأ عنه ما هو أعم من الهجرة وهو الإخراج من الديار. فقد يخرج إلى الهجرة إلى المدينة أو إلى غيرها كخروج من خرج إلى الحبشة، وكخروج أبي جندل إذ لم يترك يقيم بالمدينة. وأتى ثالثا بذكر الإذاية وهي أعم من أن تكون بإخراج من الديار أو غير ذلك من أنواع الأذى، وارتقى بعد هذه الأوصاف السنية إلى رتبة جهاد من أخرجه ومقاومته واستشهاده في دين الله، فجمع بين رتب هذه الأعمال من تنقيص أحواله في الحياة لأجل دين الله بالمهاجرة، وإخراجه من داره وإذايته في الله، ومآله أخيرا إلى إفنائه بالقتل في سبيل الله. والظاهر: الإخبار عن من جمع هذه الأوصاف كلها بالخبر الذي بعد، ويجوز أن يكون ذلك من عطف الصلاة. والمعنى: اختلاف الموصول لا اتحاده، فكأنه قيل: فالذين هاجروا، والذين أخرجوا والذين أوذوا، والذين قاتلوا، والذين قتلوا، ويكون الخبر عن كل من هؤلاء. وقرأ جمهور السبعة: وقاتلوا وقتلوا، وقرأ حمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا يبدآن بالمبني للمفعول، ثم بالمبني للفاعل، فتتخرج هذه القراءة على أن الواو لا تدل على الترتيب، فيكون الثاني وقع أولا ويجوز أن يكون ذلك على التوزيع فالمعنى: قتل بعضهم وقاتل باقيهم. وقرأ عمر بن عبد العزيز: وقتلوا وقتلوا بغير ألف، وبدأ ببناء الأول للفاعل، وبناء الثاني للمفعول، وهي قراءة حسنة في المعنى، مستوفية للحالين على الترتيب المتعارف. وقرأ محارب بن دثار: وقتلوا بفتح القاف وقاتلوا. وقرأ طلحة بن مصرف: وقتلوا وقاتلوا بضم قاف الأولى، وتشديد التاء، وهي في التخريج كالقراءة الأولى. وقرأ أبو رجاء والحسن:
* (وقاتلوا وقتلوا) * بتشديد التاء والبناء للمفعول، أي قطعوا في المعركة.
* (لاكفرن عنهم سيئاتهم ولادخلنهم جنات تجرى من تحتها الانهار) * لأكفرن: جواب قسم محذوف، والقسم وما تلقى به خبر عن قوله: * (فالذين هاجروا) * وفي هذه الآية ونظيرها من قوله: * (والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم) * * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * وقول الشاعر
152

* جشأت فقلت اللذ خشيت ليأتين
*
وإذا أتاك فلات حين مناص
*
رد على أحمد بن يحيى ثعلب إذ زعم أن الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ لا تكون قسمية.
* (ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب) * انتصب ثوابا على المصدر المؤكد، وإن كان الثواب هو المثاب به، كما كان العطاء هو المعطى. واستعمل في بعض المواضع بمعنى المصدر الذي هو الإعطاء، فوضع ثوابا موضع إثابة، أو موضع تثويبا، لأن ما قبله في معنى لأثيبنهم. ونظيره صنع الله ووعد الله. وجوز أن يكون حالا من جنات أي: مثابا بها، أو من ضمير المفعول في: * (ولادخلنهم) * أي مثابين. وأن يكون بدلا من جنات على تضمين، ولأدخلنهم معنى: ولأعطينهم. وأن يكون مفعولا بفعل محذوف يدل عليه المعنى أي: يعطيهم ثوابا. وقيل: انتصب على التمييز. وقال الكسائي: هو منصوب على القطع، ولا يتوجه لي معنى هذين القولين هنا.
ومعنى: من عند الله، أي من جهة فضل الله، وهو مختص به، لا يثيبه غيره، ولا يقدر عليه. كما تقول عندي ما تريد، تريد اختصاصك به وتملكه، وإن لم يكن بحضرتك. وأعربوا عنده حسن الثواب مبتدأ، وخبرا في موضع خبر المبتدأ الأول. والأحسن أن يرتفع حسن على الفاعلية، إذ قد اعتمد الظرف بوقوعه خبرا فالتقدير: والله مستقر، أو استقر عنده حسن الثواب. قال الزمخشري: وهذا تعليم من الله كيف يدعى، وكيف يبتهل إليه ويتضرع، وتكرير ربنا من باب الابتهال، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن الإثابة من احتمال المشاق في دين الله والصبر على صعوبة تكاليفة، وقطع لأطماع الكسالى المتمنين عليه، وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولا إليه بالعمل بالجهل والغباوة انتهى. وآخر كلامه إشارة إلى مذهبه المعتزلة وطعن على أهل السنة والجماعة.
* (لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد) * قيل: نزلت في اليهود كانوا يضربون في الأرض فيصيبون الأموال قاله: ابن عباس. وقال أيضا: هم أهل مكة. وروي أن ناسا من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش، فيقولون: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد. وقال مقاتل: في مشركي العرب والذين كفروا لفظ عام، والكاف للخطاب. فقيل: لكل سامع. وقيل: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، والمراد أمته. قاله: ابن عطية. وقال: نزلت لا يغرنك في هذه الآية منزلة لا تظن أن حال الكفار حسنة فتهتم لذلك، وذلك أن المغتر فارح بالشيء الذي يغتر به. فالكفار مغترون بتقلبهم، والمؤمنون مهتمون به. لكنه ربما يقع في نفس مؤمن أن هذا الإملاء للكفار إنما هو خير لهم، فيجيء هذا جنوحا إلى حالهم، ونوعا من الاغترار، ولذلك حسنت لا يغرنك. ونظيره قول عمر لحفصة: (لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) المعنى: لا تغتري بما يتم لتلك من الإدلال فتقعي فيه فيطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم) انتهى. وقال الزمخشري: لا يغرنك الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو لكل أحد. أي: لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق، والمضطرب ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا، ولا نغترر بظاهر ما ترى من تبسطهم في الأرض وتصرفهم في البلاد. (فإن قلت): كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم) بذلك حتى ينهى عنه وعن الاغترار به؟ (قلت): فيه وجهان: أحدهما أن مدرة القوم ومقدمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا، فكأنه قيل: لا يغرنكم. والثاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان غير مغرور بحالهم، فأكد عليه ما كان وثبت على التزامه كقوله: * (ولا تكن من * الكافرين) * * (ولا تكونن من المشركين) * * (فلا تطع المكذبين) * وهذا في النهي
153

نظير قوله في الأمر: * (اهدنا الصراط المستقيم) * * (خبيرا يأيها الذين ءامنوا ءامنوا) * وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب، وهو في المعنى للمخاطب. وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب، لأن التقلب لو غره لاغتر به، فمنع السبب ليمتنع المسبب انتهى كلامه. وملخص الوجهين اللذين ذكرهما: أن يكون الخطاب له والمراد أمته، أوله على جهة التأكيد والتنبيه، وإن كان معصوما من الوقوع فيه كما قيل:
* قد يهز الحسام وهو حسام
*
ويجب الجواد وهو جواد
*
وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب: لا يغرنك ولا يصدنك ولا يغرنكم وشبهه بالنون الخفيفة. وتقلبهم: هو تصرفهم في التجارات قاله: ابن عباس، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. أو ما يجري عليهم من النعم قاله: عكرمة، ومقاتل. أو تصرفهم غير مأخوذين بذنوبهم قاله: بعض المفسرين.
* (متاع قليل) * أي ذلك التقلب والتبسط شيء قليل متعوا به، ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. وقلته باعتبار انقضائه وزواله، وروي: * (ما * الدنيا فى الاخرة إلا * مثل ما * يجعل * أحدكم * مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع) * أخرجه الترمذي.
وروي: * (ما) * أو باعتبار ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو باعتبار ما أعد الله للمؤمنين من الثواب.
* (الله والله عنده حسن الثواب لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم) * ثم المكان الذي يأوون إليه إنما هو جهنم، وعبر بالمأوى إشعارا بانتقالهم عن الأماكن التي تقلبوا فيها وكان البلاد التي تقلبوا فيها إنما كانت لهم أماكن انتقال من مكان إلى مكان، لا قرار لهم ولا خلود. ثم المأوى الذي يأوون إليه ويستقرون فيه هو جهنم.
* (وبئس المهاد) * أي وبئس المهاد جهنم. وقال الحطيئة:
* أطوف ما أطوى ثم آوى
*
إلى بيت قعيدته لكاع
*
* (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها) * لما تضمن ما تقدم إن ذلك التقلب والتصرف في البلاد هو متاع قليل، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم، فدل على قلة ما متعوا به، لأن ذلك منقض بانقضاء حياتهم، ودل على استقرارهم في النار. استدرك بلكن الأخبار عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن الكافرين، وذلك شيئان: أحدهما مكان استقرار وهي الجنات، والثاني ذكر الخلود فيها وهو الإقامة دائما والتمتع بنعيمها سرمدا. فقابل جهنم بالجنات، وقابل قلة متاعهم بالخلود الذي هو الديمومة في النعيم، فوقعت لكن هنا أحسن موقع، لأنه آل معنى الجملتين إلى تكذيب الكفار وإلى تنعيم المتقين، فهي واقعة بين الضدين. وقرأ الجمهور: لكن خفيفة النون. وقرأ أبو جعفر: بالتشديد، ولم يظهر لها عمل، لأن اسمها مبني.
* (نزلا من عند الله) * النزل ما يعد للنازل من الضيافة والقرى. ويجوز تسكين راية، وبه قرأ: الحسن، والنخعي، ومسلمة بن محارب، والأعمش. وقال الشاعر:
* وكنا إذا الجبار بالجيش خافنا
*
جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
*
154

قال ابن عباس: النزل الثواب، وهي كقوله: * (ثوابا من عند الله) * وقال ابن فارس: النزل ما يهيأ للنزيل، والنزيل الضيف. وقيل: النزل الرزق وما يتغذى به. ومنه: * (فنزل من حميم) * أي فغذاؤه. ويقال: أقمت للقوم نزلهم أي ما يصلح أن ينزل عليه من الغذاء، وجمعه أنزال. وقال الهروي: الأنزال التي سويت، ونزل عليها. ومعنى من عند الله: أي لا من عند غيره، وسماه نزلا لأنه ارتفع عنهم تكاليف السعي والكسب، فهو شيء مهيأ يهيأ لهم لا تعب عليهم في تحصيله هناك، ولا مشقة. كالطعام المهيأ للضيف لم يتعب في تحصيله، ولا في تسويته ومعالجته. وانتصاب نزلا قالوا: إما على الحال من جنات لتخصصها بالوصف، والعامل فيها العامل في لهم. وإما بإضمار فعل أي: جعلها نزلا. وإما على المصدر المؤكد فقدره ابن عطية: تكرمة، وقدره الزمخشري: رزقا أو عطاء. وقال الفراء: انتصب على التفسير كما تقول: هو لك هبة وصدقة انتهى. وهذا القول راجع إلى الحال.
* (وما عند الله خير للابرار) * ظاهره حوالة الصلة على ما تقدم من قوله: نزلا من عند الله. والمعنى: أن الذي أعده الله للأبرار في الآخرة خير لهم، فيحتمل أن يكون المفضل عليه بالنسبة للأبرار أي خير لهم مما هم فيه في الدنيا، وإليه ذهب: ابن مسعود. وجاء * (وارحم وأنت خير الرحمين سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها) * ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى الكفار، أي: خير لهم مما يتقلب فيه الكفار من المتاع الزائل. وقيل: خير هنا ليست للتفضيل، كما أنها في قوله تعالى: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) * والأظهر ما قدمناه.
وللأبرار متعلق بخير، والأبرار هم المتقون الذين أخبر عنهم بأن لهم جنات. وقيل: فيه تقديم وتأخير. أي الذي عند الله للأبرار خير لهم، وهذا ذهول عن قاعدة العربية من أن المجرور إذ ذاك يتعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة للموصول، فيكون المجرور داخلا في حيز الصلة، ولا يخبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها.
* (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم) * لما مات أصمحة النجاشي ملك الحبشة. ومعنى أصمحة بالعربية عطية، قال سفيان بن عيينة وغيره: (صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) فقال قائل: يصلي عليه العلج النصراني وهو في أرضه فنزلت، قاله: جابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس. وقال الحسن وقتادة: في النجاشي وأصحابه. وقال ابن عباس فيما روى عنه أبو صالح: في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وبه قال: مجاهد. وقال ابن جريج وابن زيد ومقاتل: في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال عطاء: في أربعين من نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم)، ومن في لمن الظاهر أنها موصولة، وأجيز أن تكون نكرة موصوفة أي: لقوما. والذي أنزل إلينا هو القرآن، والذي أنزل إليهم هو كتابهم.
* (خاشعين لله لا يشترون بئايات الله ثمنا قليلا) * كما اشترت بها أحبارهم الذين لم يؤمنوا. وانتصاب خاشعين على الحال من الضمير في يؤمن، وكذلك لا يشترون هو في موضع نصب على الحال. وقيل: حال من الضمير في
155

إليهم، والعامل فيها أنزل. وقيل: حال من الضمير في لا يشترون، وهما قولان ضعيفان. ومن جعل من نكرة موصوفة، يجوز أن يكون خاشعين ولا يشترون صفتين للنكرة. وجمع خاشعين على معنى من كما جمع في وما أنزل إليهم. وحمل أولا على اللفظ في قوله: يؤمن، فأفرد وإذا اجتمع الحملان، فالأولى أن يبدأ بالحمل على اللفظ. وأتى في الآية بلفظ يؤمن دون آمن، وإن كان إيمان من نزل فيهم قد وقع إشارة إلى الديمومة والاستمرار. ووصفهم بالخشوع وهو التذلل والخضوع المنافي للتعاظم والاستكبار، كما قال تعالى: * (وأنهم لا يستكبرون) *.
* (أولئك لهم أجرهم عند ربهم) * أي ثواب إيمانهم، وهذا الأجر مضاعف مرتين بنص الحديث الصحيح: * (وإن من * منهم أتعلمون * أهل الكتاب * يؤتى * أجره * مرتين) * يضاعف لهم الثواب بما تضاعف منهم من الأسباب. وعند ظرف في موضع الحال، والعامل فيه العامل في لهم، ومعنى عند ربهم: أي في الجنة.
* (إن الله سريع الحساب) * أي سريع الإتيان بيوم القيامة وهو يوم الحساب. والمعنى: أن أجرهم قريب إتيانه أو سريع حسابه لنفوذ علمه، فهو عالم بما لكل عامل من الأجر. وتقدم تفسير هذه الجملة مستوفى.
* (الحساب يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) * ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الوصاية التي جمعت الظهور في الدنيا على العدو، والفوز بنعيم الآخرة، فأمره تعالى بالصبر والمصابرة والرباط. فقيل: اصبروا وصابروا بمعنى واحد للتأكيد. وقال الحسن، وقتادة، والضحاك، وابن جريج: اصبروا على طاعة الله في تكاليفه، وصابروا أعداء الله في الجهاد، ورابطوا في الثغور في سبيل الله. أي: ارتبطوا الخيل كما يرتبطها أعداؤكم. وقال أبي ومحمد بن كعب القرظي: هي مصابرة وعد الله بالنصر، أي: لا تسأموا وانتظروا الفرج. وقيل: رابطوا، استعدوا للجهاد كما قال: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) *. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: الرباط انتظارا الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم) غزو مرابط فيه. واحتج بقوله عليه السلام: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاثا) * فعلى هذا لا يكون رابطوا من باب المفاعلة. قال ابن عطية: والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله، أصلها من ربط الخيل، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا، واللقطة مأخوذة من الربط. وقول النبي صلى الله عليه وسلم)؛ فذلكم الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية، والرباط اللغوي هو الأول. والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما قاله: ابن المواز، ورواه. فأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هناك فهم وإن كانوا حماة، ليسوا بمرابطين انتهى كلامه. وقال الزمخشري: وصابروا أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا. والمصابرة باب من الصبر، ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تحقيقا لشدته وصعوبته. ورابطوا: وأقيموا في الثغور رباطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو. قال الله تعالى: * (*) * فعلى هذا لا يكون رابطوا من باب المفاعلة. قال ابن عطية: والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله، أصلها من ربط الخيل، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا، واللقطة مأخوذة من الربط. وقول النبي صلى الله عليه وسلم)؛ فذلكم الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية، والرباط اللغوي هو الأول. والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما قاله: ابن المواز، ورواه. فأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هناك فهم وإن كانوا حماة، ليسوا بمرابطين انتهى كلامه. وقال الزمخشري: وصابروا أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا. والمصابرة باب من الصبر، ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تحقيقا لشدته وصعوبته. ورابطوا: وأقيموا في الثغور رباطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو. قال الله تعالى: * (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) * وعن النبي صلى الله عليه وسلم): (من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام
156

شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة) انتهى كلام الزمخشري. وفي البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) وفي مسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه رزقه وأمن الفتان) وفي سنن أبي داود قال: (كل الميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتاني القبر).
وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع الاستعارة. عبر بأخذ الميثاق عن التزامهم أحكام ما أنزل عليهم من التوراة والإنجيل، وبالنبذ وراء ظهورهم عن ترك عملهم بمقتضى تلك الأحكام، وباشتراء ثمن قليل عن ما تعوضوه من الحطام على كتم آيات الله، وبسماع المنادي إن كان القرآن عن ما تلقوه من الأمر والنهي والوعد والوعيد بالاستجابة عن قبول مسألتهم، وبانتفاء التضييع عن عدم مجازته على يسير أعمالهم، وبالتقلب عن ضربهم في الأرض لطلب المكاسب، وبالمهاد عن المكان المستقر فيه، وبالنزل عما يعجل الله لهم في الجنة من الكرامة، وبالخشوع الذي هو تهدم المكان وتغير معالمه عن خضوعهم وتذللهم بين يديه، وبالسرعة التي هي حقيقة في المشي عن تعجيل كرامته. قيل: ويحتمل أن يكون الحساب استعير للجزاء، كما استعير (ولم أدر ما حسابيه) لأن الكفار لا يقام لهم حساب كما قال تعالى: * (فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * والطباق في: لتبيينه للناس ولا تكتمونه، وفي السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، فالسماء جهة العلو والأرض جهة السفل، والليل عبارة عن الظلمة والنهار عبارة عن النور، وفي: قياما وقعودا ومن: ذكر أو أنثى. والتكرار: في لا تحسبن فلا تحسبنهم، وفي: ربنا
في خمسة مواضع، وفي: فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا إن كان المعنى واحد وفي: ما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وفي: ثوابا وحسن لثواب. والاختصاص في: لأولي الألباب، وفي: وما للظالمين من أنصار، وفي: توفنا مع الأبرار، وفي: ولا تحزنا يوم القيامة، وفي: وما عند الله خير للأبرار. والتجنيس المماثل في: أن آمنوا فآمنا، وفي: عمل عامل منكم. والمغاير في: مناديا ينادي. والإشارة في: ما خلقت هذا باطلا، والحذف في مواضع.
157

((سورة النساء))
مائة وخمس وسبعون آية وهي مدنية
2 (* (ياأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء واتقوا الله الذى تسآءلون به والا رحام إن الله كان عليكم رقيبا * وءاتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا * وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذالك أدنى ألا تعولوا * وءاتوا النسآء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا * ولا تؤتوا السفهآء أموالكم التى جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا * وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوهآ إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا * للرجال نصيب مما ترك الوالدان والا قربون وللنسآء نصيب مما ترك الوالدان والا قربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا * وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا * وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا * إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) *)) 2
الرقيب: فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقبا ورقوبا ورقبانا، أحد النظر إلى أمر ليتحققه على ما هو عليه. ويقترن به
158

الحفظ ومنه قيل للذي يرقب خروج السهم: رقيب.
وقال أبو داود:
كمقاعد الرقباء للضضرباء أيديهم نواهد
والرقيب: السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء. والرقيب: ضرب من الحيات، والمرقب: المكان العالي المشرف الذي يقف عليه الرقيب. والارتقاب: الانتظار.
الحوب: ازثم. يقال: حاب يحوب حوبا وحوبا وحابا وحؤوبا وحيابه. قال: المخبل السعدي.
* فلا يدخلني الدهر قبرك حوب
*
فإنك تلقاه عليك حسيب
*
وقال آخر:
* وإن تهاجرين تكففاه
*
غرايته لقد خطيا وحابا
*
وقيل: الحوب بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم، وتحوب الرجل ألقى الحوب عن نفسه كتحنث وتأثم وتحرج. وفلان يتحوب من كذا يتوقع. وأصل الحوب: الزجر للإبل، فسمى الإثم حوبا لأنه يزجر عنه، وبه الحوبة الحاجة، ومنه في الدعاء إليك أرفع حوبتي. ويقال: الحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة.
مثنى وثلاث ورباع: معدولة عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. ولا يراد بالمعدول عنه التوكيد، إنما يراد بذلك تكرار العدد إلى غاية المعدود. كقوله: ونفروا بعيرا بعيرا، وفصلت الحساب لك بابا بابا، ويتحتم منع صرفها لهذا العدل. والوصف على مذهب سيبويه والخليل وأبي عمرو، وأجاز الفراء أن تصرف، ومنع الصرف عنده أولى. وعلة المنع عنده العدل والتعريف بنية الألف واللام، وامتنع عنده إضافتها لأنها في نية الألف واللام. وامتنع ظهور الألف واللام لأنها في نية الإضافة، وقد ذكرنا الرد عليه في كتاب التكميل من تأليفنا.
وقال الزمخشري: إنما منعت الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغتها، وعدلها عن تكريرها. وهي نكرات تعرفن بلام التعريف يقال: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع انتهى كلامه. وما ذهب إليه من امتناع الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغتها، وعدلها عن تكررها، لا أعلم أحدا ذهب إلى ذلك، بل المذاهب في علة منع الصرف المنقولة أربعة: أحدها: ما نقلناه عن سيبويه. والثاني: ما نقلناه عن الفراء. والثالث: ما نقل عن الزجاج وهو لأنها معدولة عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وأنه عدل عن التأنيث. والرابع: ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه، لأنه
159

عدل عن لفظ اثنين وعدل عن معناه. وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز: جاءني مثنى وثلاث حتى
يتقدم قبله جمع، لأن هذا الباب جعل بيانا لترتيب الفعل. فإذا قال: جاءني القوم مثنى، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين. فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الأخبار عن مقدار المعدودون غيره. فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين انتهى ما قرر به هذا المذهب.
وقد رد الناس على الزجاج قوله: أنه عدل عن التأنيث بما يوقف عليه في كتب النحو، والزمخشري لم يسلك شيئا من هذه العلل المنقولة، فإن كان تقدمه سلف ممن قال ذلك فيكون قد تبعه، وإلا فيكون مما انفرد بمقالته. وأما قوله: يعرفن بلام التعريف، يقال: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، فهو معترض من وجهين: أحدهما: زعمه أنها تعرف بلام التعريف، وهذا لم يذهب إليه أحد، بل لم يستعمل في لسان العرب إلا نكرات. والثاني: أنه مثل بها، وقد وليت العوامل في قوله: فلان ينكح المثنى، ولا يلي العوامل، إنما يتقدمها ما يلي العوامل، ولا تقع إلا خبرا كما جاء: * (صلواة * اليل * مثنى) *. أو حالا نحو: * (ما طاب لكم من النساء مثنى) * أو صفه نحو: * (أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) * وقوله:
ذئاب يبغى الناس مثنى وموحدا
وقد تجيء مضافة قليلا نحو، قول الآخر:
بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر
وقد ذكر بعضهم أنها تلي العوامل عل قلة، وقد يستدل له بقول الشاعر:
* ضربت خماس ضربة عبشمي
*
أدار سداس أن لا يستقيما
*
ومن أحكام هذا المعدول أنه لا يؤنث، فلا تقول: مثناة، ولا ثلاثة، ولا رباعة، بل يجري بغير تاء على المذكر والمؤنث. عال: يعول عولا وعيالة، مال. وميزان فلان عائل. وعال الحاكم في حكمه جار، وقال أبو طالب في النبي صلى الله عليه وسلم):
له شاهد من نفسه غير عائل
وحكى ابن الأعرابي: أن العرب تقول: عال الرجل يعول كثر عياله. ويقال: عال يعيل افتقر وصار عالة. وعال الرجل عياله يعولهم ما نهم ومنه: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) والعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة. وجماع القول في عال: أنها تكون لازمة ومتعدية. فاللازمة بمعنى: مال، وجار، وكثر
160

عياله، وتفاقم، وهذا مضارعه يعول. وعال الرجل افتقر، وعال في الأرض ذهب فيها، وهذا مضارعه يعيل. والمتعدية بمعنى أثقل، ومان من المؤنة. وغلب منه أعيل صبري وأعجز. وإذا كان بمعنى أعجز فهو من ذوات الياء، تقول: عالني الشيء يعيلني عيلا ومعيلا أعجزني، وباقي المتعدي من ذوات الواو.
الصدقة على وزن سمرة المهر، وقد تسكن الدال، وضمها وفتح الصاد لغة أهل الحجاز. ويقال: صدقة بوزن غرفة. وتضم داله فيقال: صدقة وأصدقها أمهرها.
النحلة: العطية عن طيب نفس. والنحلة الشرعة، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينحل بكذا أي يدين به.
هنيئا مريئا: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. ويقال: هنا يهنا بغير همز، وهنأني الطعام ومرأني، فإذا لم تذكر هنأني قلت: أمرأني رباعيا، واستعمل مع هنأني ثلاثيا للاتباع. قال سيبويه: هنيئا مريئا صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل، للدلالة التي في الكلام عليه كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئا مريئا انتهى. وقال كثير:
* هنيئا مريئا غير داء مخامر
*
لعزة من أعراضنا ما استحلت
*
قيل: واشتقاق الهنيء من هناء البعير، وهو الدواء الذي يطلى به من الجرب، ويوضع في عقره. ومنه قوله:
* متبذل تبدو محاسنه
*
يضع الهناء مواضع النقب
*
والمريء ما يساغ في الحلق، ومنه قيل لمجرى الطعام في الحلقوم إلى فم المعدة: المريء. آنس كذا أحس به وشعر. قال:
آنست شاة وأفزعها القناص عصرا وقددنا الامساء
وقال الفراء: وجد. وقال الزجاج: علم. وقال عطاء: أبصر. وقال ابن عباس: عرف. وهي أقوال متقاربة. السديد من القول هو الموافق للحق منه.
* أعلمه الرماية كل يوم
*
فلما اشتد ساعده رماني
*
المعنى: لما وافق الأغراض التي يرمي إليها. صلى بالنار تسخن بها، وصليته أدنيته منها. التسعير: الجمر المشتعل من سعرت النار أوقدتها، ومنه مسعر حرب.
* (تفلحون يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) * الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلا قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الاحمانات إلى أهلها) *. وقال النحاس: مكية. وقال النقاش: نزلت عند الهجرة من مكة إلى المدينة انتهى. ولا خلاف أن فيها ما نزل بالمدينة. وفي البخاري: آخر آية نزلت * (يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة) *.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب، ونبه تعالى بقوله: * (أنى لا أضيع عمل عامل منكم) * على المجازاة. و أخبر أن بعضهم من بعض في أصل التوالد، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل، وتفرع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف، ولينبه
161

بذلك على أن أصل الجنس الإنساني كان عابدا لله مفرده بالتوحيد والتقوى، طائعا له، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه. فنادى تعالى: دعاء عاما للناس، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر، وجعل سببا للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة. ومن كان قادرا على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأن يتقي. ونبه بقوله: من نفس واحدة، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض، وألف له دون غيره، ليتألف بذلك عباده على تقواه. والظاهر في الناس: العموم، لأن الألف واللام فيه تفيده، وللأمر بالتقوى وللعلة، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان. وقيل: المراد بالناس أهل مكة، كان صاحب هذا القول ينظر إلى قوله: * (تساءلون به والارحام) * لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك. يقول: أنشدك بالله وبالرحم. وقيل: المراد المؤمنون نظرا إلى قوله: * (إنما المؤمنون إخوة) * وقوله: (المسلم أخو المسلم) والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بيا أيها الناس وكان للكفرة فقط، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية، لأنهم غير عارفين بالله، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا نحو: * (الامور يأيها الناس إن وعد الله حق) * * (قدير ياأيها الناس اعبدوا ربكم) * وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية.
قيل: وجعل هذا المطلع مطلعا السورتين: إحداهما: هذه وهي الرابعة من النصف الأول. والثانية: سورة الحج، وهي الرابعة من النصف الثاني. وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد. وبدأ بالمبدأ بأنه الأول، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامة فيما يتقي من موجب العقاب، ولذلك فسر باجتناب ما جاء فيه الوعيد. وقيل: يجوز أن يكون أراد بالتقوى خاصة، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله. فقيل: اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض ولبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه. وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة.
وقال ابن عباس: المراد بالتقوى الطاعة. وقال مقاتل: الخشية. وقيل: اجتناب الكبائر والصغائر. والمراد بقوله: من نفس واحدة آدم. وقرأ الجمهور: واحدة بالتاء على تأنيث لفظ النفس. وقرأ ابن أبي عبلة: واحد على مراعاة المعنى، إذ المراد به آدم، أو على أن النفس تذكر وتؤنث، فجاءت قراءته على تذكير النفس. ومعنى الخلق هنا: الاختراع بطريق التفريع، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر:
* إلى عرق الثرى وشجت عروقي
*
وهذا الموت يسلبني شبابي
*
قال: في ري الظمآن، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي يرجع إليه، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع. وعلى أنا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية، وإلا لقال: أخرجكم من نفس واحدة، فأضاف خلقنا إلى آدم، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلت بمن اتصل به من أولاده، ولكنه الأصل انتهى. وقال الأصم: لا يدل العقل على أن الخلق مخلوقين من نفس واحدة، بل السمع. ولما كان صلى الله عليه وسلم) أميا ما قرأ كتابا، كان معنى
162

خلقكم دليلا على التوحيد، ومن نفس واحدة دليلا على النبوة انتهى.
وفي قوله: من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر، لتعريفه إياهم بأنهم من أصل واحد ودلالة على المعاد، لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى. وزوجها: هي حواء. وظاهر منها ابتداء خلق حواء من نفسه، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه، وبه قال: ابن عباس، ومجاهد، والسدي. وقتادة قالوا إن الله تعالى خلق آدم وحشا في الجنة وحده، ثم نام فانتزع الله تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله. وقيل: من يمينه
، فحلق منها حواء. قال ابن عطية: ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام: (إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها). انتهى. ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التمثيل لاضطراب أخلاقهن، وكونهن لا يثبتن على حالة واحدة، أي: صعبات المراس، فهي كالضلع العوجاء كما جاء خلق الإنسان من عجل. ويؤيد هذا التأويل قوله: إن المرأة، فأتى بالجنس ولم يقل: إن حواء. وقيل: هو على حذف مضاف، التقدير: وخلق من جنسها زوجها قاله: ابن بحر وأبو مسلم لقوله: * (من أنفسكم أزواجا) * * (ورسولا * منهم) *. قال القاضي: الأول أقوى، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة. ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة من لابتداء الغاية، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم، صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة. ولما كان قادرا على خلق آدم من التراب كان قادرا على خلق حواء أيضا كذلك. وقيل: لا حذف، والضمير في منها، ليس عائدا على نفس، بل هو عائد على الطينة التي فصلت عن طينة آدم. وخلقت منها حواء أي: أنها خلقت مما خلق منه آدم. وظاهر قول ابن عباس ومن تقدم: أنها خلقت وآدم في الجنة، وبه قال: ابن مسعود. وقيل: قبل دخوله الجنة وبه قال: كعب الأحبار ووهب، وابن إسحاق. وجاءت الواو في عطف هذه الصلة على أحد محاملها، من أن خلق حواء كان قبل خلق الناس. إذ الواو لا تدل على ترتيب زماني كما تقرر في علم العربية، وإنما تقدم ذكر الصلة المتعلقة بخلق الناس، وإن كان مدلولها واقعا بعد خلق حواء، لأجل أنهم المنادون المأمورون بتقوى ربهم. فكان ذكر ما تعلق بهم أولا آكد، ونظيره: * (قدير ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم) * ومعلوم أن خلقهم تأخر عن خلق من قبلهم. ولكنهم لما كانوا هم المأمورين بالعبادة والمنادين لأجلها، اعتنى بذكر التنبيه على إنشائهم أولا، ثم ذكر إنشاء من كان قبلهم. وقد تكلف الزمخشري في إقرار ما عطف بالواو متأخرا عن ما عطف عليه، فقدر معطوفا عليه محذوفا متقدما على المعطوف في الزمان، فقال: يعطف على محذوف كأنه قيل: من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلق منها زوجها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه. والمعنى: شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء من ضلع من أضلاعها. ولا حاجة إلى تكلف هذا الوجه مع مساغ الوجه الذي ذكرناه على ما اقتضته العربية. وقد ذكر ذلك الوجه الزمخشري فقال: يعطف على خلقكم. ويكون الخطاب في: يا أيها الناس الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم). والمعنى: خلقكم من نفس آدم، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حواء انتهى. ويجوز أن يكون قوله: وخلق منها زوجها معطوفا على اسم الفاعل الذي هو واحدة التقدير من نفس وحدت، أي انفردت. وخلق منها زوجها، فيكون نظير * (صافات ويقبضن) * وتقول العرب: وحد يحد وحدا ووحدة، بمعنى انفرد.
ومن غريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح المذكورة فيما قيل أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا وكذا سنة) وعنى بزوجها البدن، وعنى بالخلق التركيب. وإلى نحوه أشار بقوله تعالى: * (ومن كل شىء خلقنا زوجين) * وقوله: * (سبحان الذى خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم) * ولا يصح ذلك في النبات إلا على معنى التركيب. وبدأ بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من تركيب
163

والواحد في الحقيقة ليس إلا الله تعالى انتهى. وهذا مخالف لكلام المتقدمين، قال بعضهم: ونبه بقوله: وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها، لكونها بعضه. وبث منهما أي من تلك النفس، وزوجها أي: نشر وفرق في الوجود. ويقال: أبث الله الخلق رباعيا، وبث ثلاثيا، وهو الوارد في القرآن رجالا كثيرا ونساء. قيل: نكر لما في التنكير من الشيوع ولم يكتف بالشيوع حتى صرح بالكثرة وقدم الرجال لفضلهم على النساء، وخص رجالا بذكر الوصف بالكثرة، فقيل: حذف وصف الثاني لدلالة وصف الأول عليه، والتقدير: ونساء كثيرة. وقيل: لا يقدر الوصف وإن كان المعنى فيه صحيحا، لأنه نبه بخصوصية الرجال بوصف الكثرة، على أن اللائف بحالهم الاشتهار والخروج والبروز، واللائق بحال النساء الخمول والاختفاء. وفي تنويع ما خلق من آدم وحواء إلى رجال ونساء دليل على انتفاء الخنثى، إذ حصر ما خلق في هذين النوعين، فإن وجد ما ظاهره الإشكال فلا بد من صيرورته إلى هذين النوعين. وقرئ: وخالق منها زوجها، وبات على اسم الفاعل وهو: خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق.
* (واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام) * كرر الأمر بالتقوى تأكيدا للأول. وقيل: لاختلاف التعليل وذكر أولا: الرب الذي يدل على الإحسان والتربية، وثانيا: الله الذي يدل على القهر والهيبة. بنى أولا على الترغيب، وثانيا على الترهيب. كقوله: * (يدعون ربهم خوفا وطمعا) * و * (ويدعوننا رغبا ورهبا) * كأنه قال: إنه ربك أحسن إليك فاتق مخالفته، فإن لم تتقه لذلك فاتقه لأنه شديد العقاب. وقرأ الجمهور من السبعة: تساءلون. وقرأ الكوفيون: بتخفيف السين، وأصله تتساءلون.
قال ابن عطية: وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفا، وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة. قال أبو علي: وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال، كما قالوا: طست فابدلوا من السين الواحدة تاء، إذ الأصل طس. قال العجاج:
لو عرضت لأسقفي قس
أشعث في هيكله مندس
حن إليها كحنين الطس
انتهى. أما قول ابن عطية: حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة. وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي: إلى أن المحذوفة هي الأولى، وهي تاء المضارعة، وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو. وأما قوله: وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات، إذ يجوز الإثبات وهو الأصل، والإدغام وهو قريب من الأصل، إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم. والحذف. أما الإدغام فلا يختص به، بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر. وأما الحذف فيختص بما دخلت عليه التاء من المضارع، فقوله: لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل
الحذف فقط لقربه، أو تعليل الحذف والإدغام، وليس كذلك. أما إن كان تعليلا فليس كذلك، بل الحذف علة اجتماع متماثلة لا متقاربة. وأما إن كان تعليلا لهما
164

فيصح الإدغام لا الحذف كما ذكرنا.
وأما قول أبي علي: إذا اجتمعت المتقاربة فكذا، فلا يعني أن ذلك حكم لازم، إنما معناه: أنه قد يكون التخفيف بكذا، فكم وجد من اجتماع متقاربة لم يخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل. وأما تمثيله بطست في طس فليس البدل هنا لاجتماع، بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص لصت.
ومعنى يتساءلون به: أي يتعاطون به السؤال، فيسأل بعضكم بعضا. أو يقول: أسألك بالله أن تفعل، وظاهر تفاعل الاشتراك أي: تسأله بالله، ويسألك بالله. وقالت طائفة: معناه تسألون به حقوقكم وتجعلونه معظما لها. وقرأ عبد الله: تسألون به مضارع سأل الثلاثي. وقرى: تسلون بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى السين. قال ابن عباس: معنى تساءلون به أي تتعاطفون. وقال الضحاك والربيع: تتعاقدون وتتعاهدون.
وقال الزجاج: تتطلبون به حقوقكم والأرحام. قرأ جمهور: السبعة بنصب الميم.
وقرأ حمزة: بجرها، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش.
وقرأ عبد الله بن يزيد: بضمها، فأما النصب فظاهره أن يكون معطوفا على لفظ الجلالة، ويكون ذلك على حذف مضاف، التقدير: واتقوا الله، وقطع الأرحام. وعلى هذا المعنى فسرها ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم.
والجامع بين تقوى الله وتقوى الأرحام هذا القدر المشترك، وإن اختلف معنى التقويين، لأن تقوى الله بالتزام طاعته واجتناب معاصيه، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يفضل بالبر والإحسان، وبالحمل على القدر المشترك يندفع قول القاضي: كيف يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة؟ ونقول أيضا أنه في الحقيقة من باب عطف الخاص على العام، لأن المعنى: واتقوا الله أي اتقوا مخالفة الله. وفي عطف الأرحام على اسم الله دلالة على عظم ذنب قطع الرحم، وانظر إلى قوله: * (لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذى القربى) * كيف قرن ذلك بعبادة الله في أخذ الميثاق.
وفي الحديث: (من أبر؟ قال: أمك وفيه: أنت ومالك لأبيك) وقال تعالى في ذم من أضله: من الفاسقين * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) *. وقيل: النصب عطفا على موضع به كما تقول: مررت بزيد وعمرا. لما لم يشاركه في الاتباع على اللفظ اتبع على موضعه. ويؤيد هذا القول قراءة عبد الله: تساءلون به وبالأرحام. أما الرفع فوجه على أنه مبتدأ والخبر محذوف قدره ابن عطية: والأرحام أهل أن توصل. وقدره الزمخشري: والأرحام مما يتقي، أو مما يتساءل به، وتقديره أحسن من تقدير ابن عطية، إذا قدر ما يدل عليه اللفظ السابق، وابن عطية قدر من المعنى. وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد. ويؤيده قراءة عبد الله: وبالأرحام. وكانوا يتناشدون بذكر الله والرحم.
قال الزمخشري: وليس بسديد يعني: الجر عطفا على الضمير. قال: لأن الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فكانا في قولك: مررت به وزيد، وهذا غلامه وزيد شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال لتكرره اشتبه العطف على بعض الكلمة فلم يجر، ووجب تكرير العامل كقولك: مررت به وبزيد، وهذا غلامه وغلام زيد. ألا ترى إلى صحة رأيتك وزيدا، ومررت بزيد وعمرو لما لم يقو الاتصال لأنه لم يتكرر؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار، ونظير هذا قول الشاعر:
165

* فما بك والأيام من عجب وقال ابن عطية: وهذه القراءة عند رؤساء نحويين البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض. قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحل كل واحدمنهما محل صاحبه. فكما لا يجوز مررت بزيدوك، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد. وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر كما قال:
*
* فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا
*
فاذهب فما بك والأيام من عجب
*
وكما قال:
* تعلق في مثل السواري سيوفنا
*
وما بينها والكف غوط تعانف
*
واستسهلها بعض النحويين انتهى كلام ابن عطية. وتعليل المازني معترض بأنه يجوز أن تقول: رأيتك وزيدا، ولا يجوز رأيت زيداوك، فكان القياس رأيتك وزيدا، أن لا يجوز. وقال ابن عطية أيضا: المضمر المخفوض لا ينفصل، فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف.
ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان: أحدهما: أن ذكر الأرحام مما تساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفريق في
166

معنى الكلام. وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن تكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة. والوجه الثاني: أن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم): (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) انتهى كلامه. وذهبت طائفة إلى أن الواو في والأرحام واو القسم لا واو العطف، والمتلقى به القسم هي الجملة بعده. ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما جاء في غير ما آية في كتاب الله تعالى، وذهبوا إلى تخريج ذلك فرارا من العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار، وذهابا إلى أن في القسم بها تنبيها على صلتها وتعظيما لشأنها، وأنها من الله تعالى بمكان. قال ابن عطية: وهذا قول يأباه نظم الكلام وسره انتهى. وما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية: من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز. وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى: * (وكفر به والمسجد الحرام) *. وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرنا ونظمها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وأما قول ابن عطية: ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه. إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قرأ بها سلف الأمة، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم) بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت. وأقرأ الصحابة أبي بن كعب عمد إلى ردها بشيء خطر له في ذهنه، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري، فإنه كثيرا ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم، وحمزة رضي الله عنه: أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش، وحمدان بن أعين، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد الصادق، ولم يقرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر. وكان حمزة صالحا ورعا ثقة في الحديث، وهو من الطبقة الثالثة، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة، وأم الناس سنة مائة، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم: سفيان الثوري، والحسن بن صالح. ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الثوري، والحسن بن صالح. ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي. وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض. وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظنا بها وبقارئها، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك. ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية، لا صحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ.
* (إن الله كان عليكم رقيبا) * لا يراد بكان تقييد الخبر بالمخبر عنه في الزمان الماضي المنقطع في حق الله تعالى، وإن كان موضوع كان ذلك، بل المعنى على الديمومة فهو تعالى رقيب في الماضي وغيره علينا، والرقيب تقدم شرحه في المفردات. وقال بعضهم: هنا هو العليم، والمعنى: أنه مراع لكم لا يخفى عليه ن أمركم شيء فاتقوه * (وءاتوا اليتامى أموالهم) * قال مقاتل والكلبي: نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه. ومناسبتها لما قبلها أنه لما وصل الأرحام أتبع بالأيتام، لأنهم صاروا بحيث لا كافل لهم، ففارق حالهم حال من له رحم ماسه. وظاهره الأمر بإعطاء اليتامى أموالهم.
واليتم في بني آدم: فقد الأب، وهو جمع يشمل الذكور والإناث. وينقطع هذا الاسم شرعا بالبلوغ، فلا بد من مجاز، ما في اليتامى لإطلاقه على البالغين اعتبارا وتسمية بما
167

كانوا عليه شرعا قبل البلوغ من اسم اليتم، فيكون الأولياء قد أمروا بأن لا تؤخر الأموال عن حد البلوغ، ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد. وأما أن يكون المجاز في أوتوا، ويكون معنى إيتاؤهم الأموال: الإنفاق عليهم منها شيئا فشيئا، وأن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء، ويكفوا عنها أيديهم الخاطئة. وعلى كلا المعنيين الخطاب لمن له وضع اليد على مال اليتيم شرعا. وقال ابن زيد: الخطاب لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير، فقيل لهم: ورثوهم أموالهم، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالا طيبا حراما خبيثا، فيجيء فعلكم ذلك تبدلا. وقيل: كان الولي يربح على يتيمه فتستنفد تلك الأرباح مال اليتيم، فنهوا عن ذلك. واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على السفيه لا يحجر عليه بلوغه خمسا وعشرين سنة. قال: لأن وآتوا اليتامى مطلق يتناول سفيها وغيره، أونس منه الرشد أولا، ترك العمل به قبل السن المذكور بالإنفاق على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن شرط في وجوب دفع المال إليه، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهره. وأجيب بأن هذه الآية عامة وخصصت بقوله: وابتلوا اليتامى ولا تؤتوا السفهاء، ولا شك أن الخاص مقدم على العام * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * قال ابن المسيب والنخعي والزهر والضحاك والسدي: كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله، والدرهم الطيب بالزيف من ماله. وقال مجاهد وأبو صالح: المعنى ولا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله. وقيل: المعنى ولا تأكلوا أموالهم خبيثا وتدعوا أموالكم طيبا. وقيل: المعنى لا تأخذوا مال اليتيم وهو خبيث ليؤخذ منكم المال الذي لكم وهو طيب. وقيل: لا تأكلوا أموالهم في الدنيا فتكون هي نار تأكلونها وتتركون الموعود لكم في الآخرة بسبب إبقاء الخبائث والمحرمات، وقيل: لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو: اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو: حفظها والتورع منها. وتفعل هنا بمعنى استفعل كتعجل، وتأخر بمعنى استعجل واستأخر. وظاهره أن الخبيث والطيب وصفان في الأجرام المتبدلة والمتبدل به، فإما أن يكون ذلك باعتبار اللغة فيكونان بمعنى الكريه المتناول واللذيذ، وإما أن يكون باعتبار الشرع فيكونان بمعنى الحرام والجلال. أما أن يكونا وصفين لاختزال الأموال وحفظها ففيه بعد
ظاهر، وإن كان له تعلق ما بقوله: وآتوا اليتامى أموالهم.
وقرأ ابن محيصن: ولا تبدلوا بإدغام التاء الأولى في الثانية.
* (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * لما نهوا عن استبدال الخبيث من أموالهم بالطيب من أموال اليتامى، ارتقى في النهي إلى ما هو أفظع من الاستبدال وهو: أكل أموال اليتامى فنهوا عنه. ومعنى إلى أموالكم: قيل مع أموالكم، وقيل: إلى في موضع الحال التقدير: مضمومة إلى أموالكم. وقيل: تتعلق بتأكلوا على معنى التضمين أي: ولا تضموا أموالهم في الأكل إلى موالكم. وحكمة: إلى أموالكم، وإن كانوا منهيين عن أكل أموال اليتامى بغير حق، أنه تنبيه على غنى الأولياء. كأنه قيل: ولا تأكلوا أموالهم مع كونكم ذوي مال أي: مع غناكم، لأنه قد أذن للولي إذا كان فقيرا أن يأكل بالمعروف. وهذا نص على النهي عن الأكل، وفي حكمه التمول على جميع وجوهه.
وقال مجاهد: الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ منه النهي بقوله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم) *. وقال الحسن قريبا من هذا.
قال: تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط، فاجتنبوه من قبل أنفسهم، فخفف عنهم في آية
168

البقرة. وحسن هذا القول الزمخشري بقوله: وحقيقته ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم، وتسوية بينه وبين الحلال. قال: (فإن قلت) قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلم ورد النهي عن أكله معها؟ (قلت): لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال، وهم على ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم أحق. ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فتعي عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم انتهى كلامه. وملخصه أن قوله: إلى أموالكم ليس قيدا للاحتراز، إنما جيء به لتقبيح فعلهم، ولأن يكون نهيا عن الواقع، فيكون نظير قوله: * (أضعافا مضاعفة) * وإن كان الربا على سائر أحواله منهيا عنه. وما قدمناه نحن يكون ذلك قيدا للاحتراز، فإنه إذا كان الولي فقيرا جاز أن يأكل بالمعروف، فيكون النهي منسحبا على أكل مال اليتيم لمن كان غنيا كقوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف) *.
* (إنه كان حوبا كبيرا) * قرأ الجمهور بضم الحاء، والحسن بفتحها وهي لغة بني تميم وغيرهم، وبعض القراء: إنه كان حابا كبيرا، وكلها مصادر. قال ابن عباس والحسن وغيرهما: الحوب الإثم. وقيل: الظلم. وقيل: الوحشة. والضمير في إنه عائد على الأكل. وقيل: على لتبدل. وعوده على الأكل أقرب لقربه منه، ويجوز أن يعود عليهما. كأنه قيل: إن ذلك كما قال:
* فيها خطوط من سواد وبلق
*
كأنه في الجلد توليع البهق
*
أي كان ذلك * (وإن خفتم * أن لا * تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت: * (نزلت في أولياء اليتامى الذين يعبجهم جمال ولياتهم فيريدون أن يبخسوهم في المهر لمكان ولا يتهم عليهن. قيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي بما كسن في حقوقهن. وقاله أيضا ربيعة. وقال عكرمة: نزلت في قريش يتزوج منهم الرجل العشرة وأكثر وأقل، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فيتزوج منه، فقيل له: إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا. وقال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، والسدي: كانت العرب تتخرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء، يتزوجون العشرة فأكثر، فنزلت في ذلك: كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك فتحرجوا في النساء، وانكحوا على هذا الحد الذي يبعد الحور عنه. وقال مجاهد: إنما الآية تحذير من الزنا وزجر عنه، كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك تحرجوا من الزنا، وانكحوا على ما حد لكم. وعلى هذه الأقوال غير الأول لا يختص اليتامى بإناث ولا ذكور، وعلى ما روي عن عائشة يكون مختصا بالإناث كأنه قيل في يتامى النساء.
والظاهر من هذه الأقوال أن يكون التقدير: وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح يتامى النساء فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن، لما أمروا بأن يؤتوا اليتامى أموالهم، ونهوا عن الاستبدال المذكور، وعن أكل أموال اليتامى، كان في ذلك مزيدا اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهم كما قال تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * فحوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أي: في نكاح يتامى النساء، فانكحوا غيرهن، وعلى هذا الذي اخترناه من أن المعنى في نكاح اليتامى. فاليتامى إن كان أريد به اليتم
169

الشرعي فينطلق على الصغيرات اللاتي لم يبلغن.
وقد استدل بذلك أبو حنيفة على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ وقال: أما بعد البلوغ فليست يتيمة، بدليل أنها لو أرادت أن تحط عن صداق مثلها جاز لها. خلافا لمالك والشافعي والجمهور إذ قالوا: لا يجوز وإن كان المراد اليتم اللغوي، فيندرج فيه البالغات، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيت، فأي معنى للعدول إلى نكاح غيرها؟ والجواب: أن العدول إنما كان لأن الولي يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته، وإذا كان المراد باليتامى هنا البالغات فلا حجة لأبي حنيفة في الآية على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ. ومعنى: خفتم حذرتم، وهو على موضوعه في اللغة من أن الخوف هو الحذر. وقال أبو عبيدة: معنى خفتم
هنا أيقنتم، وخاف تكون بمعنى أيقن، ودليله قول الشاعر:
فقلت لهم خافوا بألفي مدحج
وما قاله لا يصح، لا يثبت من كلام العرب خاف بمعنى أيقن، وإنما خاف من أفعال التوقع، وقد يميل فيه الظن إلى أحد الجائزين. وقد روى ذلك البيت: فقلت لهم: ظنوا بألفي مدحج. هذه الرواية أشهر من خافوا. قال الراغب: الخوف يقال فيما فيه رجاء ما، ولهذا لا يقال: خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء، أو نسف الجبال انتهى.
ومعنى أن لا تقسطوا أي: أن لا تعدلوا. أي: وإن خفتم الجوز وأقسط: بمعنى عدل. وقرأ النخعي وابن وثاب تقسطوا بفتح التاء من قسط، والمشهور في قسط أنه بمعنى جار. وقال الزجاج: ويقال قسط بمعنى أقسط أي عدل. فإن حملت هذه القراءة على مشهور اللغة كانت لا زائدة، أي: وإن خفتم أن تقسطوا أي: إن تجوروا، والآن لا يتم إلا باعتقاد زيادتها. وإن حملت على أن تقسطوا بمعنى تقسطوا، كانت للنفي كما في تقسطوا.
وقرأ ابن أبي عبلة من طاب. وقرأ الجمهور: ما طاب. فقيل: ما بمعنى من، وهذا مذهب من يجوز وقوع ما على آحاد العقلاء، وهو مذهب مرجوح. وقيل: عبر بما عن النساء، لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء. وقيل: ما واقعة على النوع، أي: فانكحوا النوع الذي طاب لكم من النساء، وهذا قول أصحابنا أن ما تقع على أنواع من يعقل. وقال أبو العباس: ما لتعميم الجنس على المبالغة، وكان هذا القول هو القول الذي قبله. وقيل: ما مصدرية، والمصدر مقدر باسم الفاعل. والمعنى: فانحوا النكاح الذي طاب لكم. وقيل: ما نكرة موصوفة، أي: فانكحوا جنسا أو عددا يطيب لكم. وقيل: ما ظرفية مصدرية، أي: مدة طيب النكاح لكم. والظاهر أن ما مفعولة بقوله: فانكحوا، وأن من النساء معناه: من البالغات. ومن فيه إما لبيان الجنس للإبهام الذي في ما على مذهب من يثبت لها هذا المعنى، وإما للتبعيض وتتعلق بمحذوف أي: كائنا من النساء، ويكون في موضع الحال. وأما إذا كانت ما مصدرية أو ظرفية، فمفعول فانكحوا هو من النساء، كما تقول: أكلت من الرغيف، والتقدير فيه: شيئا من الرغيف. ولا يجوز أن يكون مفعول فانكحوا مثنى، لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر في المفردات.
وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش طاب بالإمالة. وفي مصحف أبي
170

طيب بالياء، وهو دليل الإمالة. وظاهر فانكحوا الوجوب، وبه قال أهل الظاهر مستدلين بهذا الأمر وبغيره. وقال غيرهم: هو ندب لقوم، وإباحة الآخرين بحسب قرائن المرء، والنكاح في الجملة مندوب إليه. ومعنى ما طاب: أي ما حل، لأن المحرمات من النساء كثير قاله: الحسن وابن جبير وأبو مالك. وقيل: ما استطابته النفس ومال إليه القلب. قالوا: ولا يتناول قوله فانكحوا الجيد.
ولما كان قوله: ما طاب لكم من النساء عاما في الأعداد كلها، خص ذلك بقوله: مثنى وثلاث ورباع. فظاهر هذا التخصيص تقسيم المنكوحات إلى أن لنا أن أن نتزوج اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولا يجوز لنا أن نتزوج خمسة خمسة، ولا ما بعد ذلك من الأعداد. وذلك كما تقول: أقسم الدراهم بين الزيدين درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، فمعنى ذلك أن تقع القسمة على هذا التفصيل دون غيره. فلا يجوز لنا أن نعطى أحدا من المقسوم عليهم خمسة خمسة، ولا يسوغ دخول أو هنا مكان الواو، لأنه كان يصير المعنى أنهم لا ينكحون كلهم إلا على أحد أنواع العدد المذكور، وليس لهم أن يجعلوا بعضه على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع، لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء. والواو تدل على مطلق الجمع، فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجمع إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاؤوا متفقين فيها محظورا عليهم ما زاد. وذهب بعض الشيعة: إلى أنه يجوز النكاح بلا عدد، كما يجوز التسري بلا عدد. وليست الآية تدل على توقيت في العدد، بل تدل على الإباحة كقولك: تناول ما أحببت واحدا واثنين وثلاثا. وذكر بعض مقتضى العموم جاء على طريق التبيين، ولا يقتضي الاقتصار عليه. وذهب بعضهم إلى أنه يجوز نكاح تسع، لأن الواو تقتضي الجمع. فمعنى: مثنى وثلاث ورباع اثنين وثلاثا وأربعا وذلك تسع، وأكد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم) مات عن تسع. وذهب بعضهم إلى أن هذه الأعداد وكونها عطفت بالواو تدل على نكاح جواز ثمانية عشر، لأن كل عدد منها معدول عن مكرر مرتين، وإذا جمعت تلك المكررات كانت ثمانية عشر. والكلام على هذه الأقوال استدلالا وإبطالا مذكور في كتب الفقه الخلافية.
وأجمع فقهاء الأمصار على أنه لا تجوز الزيادة على أربع. والظاهر أنه لا يباح النكاح مثنى أو ثلاث أو رباع إلا لمن خاف الجور في اليتامى لأجل تعليقه عليه، أما من لم يخف فمفهوم الشرط يدل على أنه لا يجوز له ذلك، والإجماع على خلاف ما دل عليه الظاهر من اختصاص الإباحة بمن خاف الجور. أجمع المسلمون على أن من لم يجف الجور في أموال اليتامى يجوز له أن ينكح أكثر من واحدة ثنتين وثلاثا وأربعا كمن خاف. فدل على أن الآية جواب لمن خاف ذلك، وحكمها أعم.
وقرأ النخعي وابن وثاب: وربع ساقطة الألف، كما حذفت في قوله: وحليانا بردا يريد باردا. وإذا أعربنا ما من ما طاب مفعوله وتكون موصولة، فانتصاب مثنى وما بعده على الحال منها، وقال أبو البقاء: حال من النساء. وقال ابن عطية: موضعها من الإعراب نصب على البدل من ما طاب، وهي نكرات لا تتصرف لأنها معدولة وصفه انتهى. وهما إعرابان ضعيفان. أما الأول فلأن المحدث عنه هو ما طاب، ومن النساء جاء على سبيل التبيين وليس محدثا عنه، فلا يكون الحال منه، وإن كان يلزم من تقييده بالحال تقييد المنكوحات. وأما الثاني فالبدل هو على نية تكرار العامل، فيلزم من ذلك أن يباشرها العامل. وقد تقرر في المفردات أنها لا يباشرها العامل. وأيضا فإنه قال: إنها نكرة وصفة، وما كان نكرة وصفة فإنه إذا جاء تابعا لنكرة كان صفة لها كقوله تعالى: * (أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) * وما وقع صفة للنكرة وقع حالا للمعرفة. وما طاب معرفة فلزم أن يكون مثنى حالا.
* (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * أي أن لا تعدلوا بين ثنتين إن نكحتموهما، أو بين ثلاث أو أربع إن نكحتموهن في القسم أو النفقة أو الكسوة، فاختاروا واحدة. أو ما ملكت أيمانكم هذا إن حملنا فانكحوا على تزوجوا، وإن حملناه على الوطء قدرنا الفعل الناصب لقوله: فواحدة. فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم. ويحتمل أن يكون من باب علفتها تبنا وماء باردا
171

على أحد التخريجين فيه، والتقدير: فانكحوا أي تزوجوا واحدة، أوطئوا ما ملكت أيمانكم. ولم يقيد مملوكات اليمين بعدد، فيجوز أن يطأ ما شاء منهن لأنه لا يجب العدل بينهن لا في القسم ولا في النفقة ولا في الكسوة. وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر وابن هرمز: فواحدة بالرفع. ووجه ذلك ابن عطية على أنه مرفوع بالابتداء، والخبر مقدر أي: فواحدة كافية. ووجهه الزمخشري على أنه مرفوع على الخبر أي: فالمقنع، أو فحسبكم واحدة، أو ما ملكت أيمانكم. وأو هنا لأحد الشيئين: إما على التخيير، وإما على الإباحة.
وروي عن أبي عمرو: فما ملكت أيمانكم يريد به الإماء، والمعنى: على هذا أن خاف أن لا يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه. وقرأ ابن أبي عبلة: أو من ملكت أيمانكم، وأسند الملك إلى اليمين لأنها صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن. ألا ترى أنها هي المنفقة في قوله: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) وهي المعاهدة والمتلقية لرايات المجد، والمأمور في تناول المأكول بالأكل بها، والمنهي عن الاستنجاء بها. وهذان شرطان مستقلان لكل واحد منهما جواب مستقل، فأول الشرطين: وإن ختفم أن لا تقسطوا، وجوابه: فانكحوا. صرف من خاف من الجور في نكاح اليتامى إلى نكاح البالغات منهن ومن غيرهن وذكر تلك الأعداد. وثاني الشرطين قوله: فإن خفتم أن لا تعدلوا وجوابه: فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم صرف من خاف من الجور في نكاح ما ذكر من العدد إلى نكاح واحدة، أو تسر بما ملك وذلك على سبيل اللطف بالمكلف والرفق به، والتعطف على النساء والنظر لهن.
وذهب بعض الناس إلى أن هذه الجمل اشتملت على شرط واحد، وجملة اعتراض. فالشرط: وإن خفتم أن لا تقسطوا، وجوابه: فواحدة. وجملة الاعتراض قوله: فانكحوا ما طاب لكمك من النساء مثنى وثلاث ورباع، وكرر الشرط بقوله: فإن خفتم أن لا تعدلوا. لما طال الكلام بالاعتراض إذ معناه: كما جاء في فلما جاءهم ما عرفوا بعد قوله، ولما جاءهم كتاب من عند الله إذ طال الفصل بين لما وجوابها فأعيدت. وكذلك * (فلا تحسبنهم بمفازة) * بعد قوله: * (لا تحسبن الذين يفرحون) * إذ طال الفصل بما بعده بين: لا تحسبن، وبين بمفازة، فأعيدت الجملة، وصار المعنى على هذا التقدير، إن لم تستطيعوا أن تعدلوا فانكحوا واحدة. قال: وقد ثبت أنهم لا يستطيعون العدل بقوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * انتهى هذا القول وهو منسوب إلى أبي علي. ولعله لا يصح عنه، فإن أبا علي كان من علم النحو بمكان، وهذا القول فيه إفساد نظم القرآن التركيبي، وبطلان للأحكام الشرعية: لأنه إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله: ولن تستطيعوا بما نتج من الدلالة، اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة، أو يتسرى بما ملكت يمينه. ويبقى هذا الفصل بالاعتراض بين الشرط وبين جوابه لغوا لا فائدة له على زعمه. والعدل المنفي استطاعته غير هذا العدل المنفي هنا، ذاك عدل في ميل القلب وقد رفع الحرج فيه عن الإنسان، وهذا عدل في القسم والنفقة. ولذلك نفيت هناك استطاعته، وعلق هنا على خوف انتفائه، لأن الخوف فيه رجاء وظن غالبا. وانتزع الشافعي من قوله: فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، أن الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح، خلافا لأبي حنيفة، إذ عكس. ووجه انتزاعه ذلك واستدلاله بالآية أنه تعالى خير بين تزوج الواحدة والتسري، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة، والحكمة سكون النفس بالأزواج، وتحصين الدين ومصالح البيت، وكل ذلك حاصل بالطريقين، وأجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري، فوجب أن يكون أفضل من النكاح، لأن الزائد على المتساويين يكون زائدا على المساوي الثاني لا محالة.
* (ذلك أدنى أن * لا * تعدلوا) * الإشارة إلى اختيار الحرة الواحدة والأمة. أدنى من الدنو أي: أقرب أن لا تعولوا، أي: أن لا تميلوا عن الحق.
172

قاله: ابن عباس، وقتادة، والربيع بن أنس، وأبو مالك، والسدي. وقال مجاهد: لا تضلوا. وقال النخعي: لا تخونوا.
وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي: معناه لا يكثر عيالكم. وقد رد على الشافعي في هذا القول من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، أما من جهة المعنى فقال أبو بكر بن داود والرازي ما معناه: غلط الشافعي، لأن صاحب الإماء في العيال كصاحب الأزواج. وقال الزجاج: إن الله قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا؟ وقال صاحب النظم: قال: أولا أن لا تعدلوا فيجب أن يكون ضد العدل هو الجور، وأما من جهة اللفظ ويقتضي أيضا الرد من جهة المعنى، فتفسير الشافعي تعولوا بتعيلوا. وقالوا: يقال أعال يعيل إذا كثر عياله، فهو من ذوات الياء لا من ذوات الواو، فقد اختلفا في المادة، فليس معنى تعولوا تعيلوا. وقال الرازي أيضا عن الشافعي: أنه خالف المفسرين. وما قاله ليس بصحيح، بل قد قال بمقالته زيد بن أسلم وابن زيد كما قدمناه وغيرهم. وأما تفسيره تعولوا بتعيلوا فليس فيه دليل على أنه أراد أن تعولوا وتعيلوا من مادة واحدة، وأنهما يجمعهما اشتقاق واحد، بل قد يكون اللفظان في معنى واحد ولا يجمعهما اشتقاق واحد، نحو قولهم: دمت ودشير، وسبط وسبطة، فكذلك هذا.
وقد نقل عال الرجل يعول، أي كثر عياله ابن الأعرابي، كما ذكرناه في المفردات. ونقله أيضا الكسائي قال: وهي لغة فصيحة. قال الكسائي: العرب تقول: عال يعول، وأعال يعيل كثر عياله، ونقلها أيضا أبو عمرو الدوري المقري وكان إماما في اللغة غير مدافع قال: هي لغة حمير.
وأنشد أبو عمرو حجة لها:
* وإن الموت يأخذ كل حي
*
بلا شك وأن أمشي وعالا
*
أمشي كثرت ماشيته، وعال كثر عياله. وجعل الزمخشري كلام الشافعي وتفسيره تعولوا تكثر عيالكم على أن جعله من قولك: عال الرجل عياله يعولهم. وقال: لا يظن به أنه حول تعيلوا إلى تعولوا، وأثنى على الشافعي بأنه كان أعلى كعبا وأطول باعا في كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا.
قال: ولكن للعلماء طرقا وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات. وأما ما رد به ابن داود والرازي والزجاج فقال ابن عطية: هذا القدح يشير إلى قدح الزجاج غير صحيح، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة.
وقال الزمخشري: الغرض بالتزوج التوالد والتناسل، بخلاف التسري. ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج، والواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. وقال القفال: إذا كثرت الجواري فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا، وتقل العيال. أما إذا كانت حرة فلا يكون الأمر كذلك انتهى. وروي عن الشافعي أيضا أنه فسر قوله تعالى: أن لا تعولوا بمعنى أن لا تفتقروا، ولا يريد أن تعولوا من مادة تعيلوا من عال يعيل إذا افتقر، إنما يريد أيضا الكناية، لأن كثرة العيال يتسبب عنها الفقر. والظاهر أن المعنى: أن اختيار الحرة الواحدة أو الأمة أقرب إلى انتفاء الجور، إذا هو المحذور المعلق على خوفه الاختيار المذكور. أي: عبر عن قوله: أن لا تعولوا بأن لا يكثر عيالكم، فإنه عبر عن المسبب بالسبب، لأن كثرة العيال ينشأ عنه الجور.
وقرأ طلحة أن لا تعيلوا بفتح التاء، أي لا تفتقروا من العيلة كقوله: * (وإن خفتم) * وقال الشاعر:
173

* فما يدري الفقير متى غناه
*
ولا يدري الغني متى يعيل
*
وقرأ طاوس: أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله، وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي من حيث المعنى الذي قصده. وأن تتعلق بأدنى وهي في موضع نصب أو جر على الخلاف، إذ التقدير: أدنى إلى أن لا تعولوا. وافعل التفضيل إذا كان الفعل يتعدى بحرف جر يتعدى هو إليه. تقول: دنوت إلى كذا فلذلك كان التقدير أدنى إلى أن تعولوا. ويجوز أن يكون الحرف المحذوف لام الجر، لأنك تقول: دنوت لكذا.
* (تعولوا وءاتوا النساء صدقاتهن نحلة) * الظاهر: أن الخطاب للأزواج، لأن الخطاب قبله لهم، قاله: ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن جريج. قيل: كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول: أرثك وترثيني فتقول: نعم. فأمروا أن يسرعوا إعطاء المهور. وقيل: الخطاب لأولياء النساء، وكانت عادة بعض العرب أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام. قاله: أبو صالح، واختاره: الفراء وابن قتيبة. وقيل: المراد بالآية ترك ما كان يفعله المتشاغرون من تزويج امرأة بأخرى، وأمروا بضرب المهور قاله: حضرمي، والأمر بإيتاء النساء صدقاتهن نحلة يتناول هذه الصور كلها.
والصدقات المهور. قال ابن عباس وابن جريج وابن زيد وقتادة: نحلة فريضة. وقيل: عطية تمليك قاله الكلبي والفراء. وقيل: شرعة ودينا قاله: ابن الأعرابي. قال الراغب: والنحلة أخص من الهبة، إذ كل هبة نحلة ولا ينعكس، وسمي الصداق نحلة من حيث لا يجب في مقابلته أكثر من تمتع دون عوض مالي. ومن قال: النحلة الفريضة نظر إلى حكم الآية، لا إلى موضوع اللفظ والاشتقاق، والآية اقتضت إتيانهن الصداق انتهى. ودل هذا الأمر على التحرج من التعرض لمهور النساء كما دل الأمر في: * (وءاتوا اليتامى أموالهم) *، وأنهما متساويان في التحريم. ولما أذن في نكاح الأربع أمر الأزواج والأولياء باجتناب ما كانوا عليه من سنن الجاهلية.
وقرأ الجمهور صدقاتهن جمع صدقة، على وزن سمرة. وقرأ قتادة وغيره: بإسكان الدال وضم الصاد. وقرأ مجاهد وموسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم: بضمها. وقرأ النخعي وابن وثاب: صدقتهن بضمها والافراد، وانتصب نحلة على أنه مصدر على غير الصدر، لأن معنى: وآتوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا. وقيل: بانحلوهن مضمرة. وقيل: مصدر في موضع الحال، إما عن الفاعلين أي ناحلين، وإما من المفعول الأول أو الثاني أي: منحولات. وقيل: انتصب على إضمار فعل بمعنى شرع، أي: أنحل الله ذلك نحلة، أي شرعه شرعة ودينا. وقيل: إذا كان بمعنى شرعة فيجوز انتصابه على أنه مفعول من أجله، أو حال من الصدقات. وفي قوله: وآتوا النساء صدقاتهن دلالة على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن بعض أهل العراق: أن السيد إذا زوج عبده بأمته لا يجب فيه صداق، وليس في الآية تعرض لمقدار الصداق، ولا لشيء من أحكامه. وقد تكلم بعض المفسرين في ذلك هنا، ومحل الكلام في ذلك هو كتب الفقه.
* (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * الخطاب فيه الخلاف: أهو للأزواج؟ أو للأولياء؟ وهو مبني على الخلاف في: وآتوا النساء. وقال حضرمي: سبب نزولها أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء ما دفعوا إلى الزوجات، والضمير في: منه، عائد على الصداق قاله: عكرمة. إذ لو وقع مكان صدقاتهن لكان جائزا وصار شبيها بقولهم: هو أحسن الفتيان وأجمله لصلاحية، هو أحسن فتى. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد، فيكون متناولا بعضه. فلو أنث لتناول ظاهرة هبة الصداق كله، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعدا انتهى. وأقول: حسن
174

تذكير الضمير، لأن معنى: فإن طبن، فإن طابت كل واحدة، ولذلك أفرد متكأ. وقيل: يعود على صدقاتهن مسلوكا به مسلك اسم الإشارة، كأنه قيل عن شيء من ذلك. واسم الإشارة وإن كان مفردا قد يشار به إلى مجموع كقوله: * (قل أؤنبئكم بخير من ذالكم) *. وقد تقدمت عليه أشياء كثيرة. وقيل: لرؤبة كيف قلت: كأنه في
الجلد توليع البهق، وقد تقدم، فيها خطوط من سواد وبلق. فقال: أردت كان ذاك. وقيل: يعود على المال، وهو غير مذكور، ولكن يدل عليه صدقاتهن. وقيل: يعود على الإيتاء وهو المصدر الدال عليه: وآتوا، قاله الراغب، وذكره ابن عطية. ويتعلق المجروران بقوله: طبن، ومنه في موضع الصفة لشيء، فيتعلق بمحذوف، وظاهر من التبعيض. وفيه إشارة إلى أن ما تهبه يكون بعضا من الصداق، ولذلك ذهب الليث بن سعد إلى أنه لا يجوز تبرعها له إلا باليسير. وقال ابن عطية: ومن تتضمن الجنس هاهنا. وكذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك.
وانتصب نفسا على التمييز، وهو من التمييز المنقول من الفاعل. وإذا جاء التمييز بعد جمع وكان منتصبا عن تمام الجملة، فإما أن يكون موافقا لما قبله في المعنى، أو مخالفا فإن كان موافقا طابقه في الجمعية نحو: كرم الزيدون رجالا، كما يطابق لو كان خبرا، وإن كان مخالفا، فإما أن يكون مفردا لمدلول أو مختلفة، إن كان مفردا لمدلول لزم إفراد اللفظ الدال كقولك في أبناء رجل واحد: كرم بنو فلان أصلا وأبا. وكقولك: زكاة الأتقياء، وجاد الأذكياء وعيا. وذلك إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله. وإن كان مختلف المدلول، فإما أن يلبس أفراده لو أفرد، أو لا يلبس. فإن ألبس وجبت المطابقة نحو: كرم الزيدون آباء، أي: كرم آباء الزيدين. ولو قلت: كرم الزيدون أبا، لأوهم أن أباهم واحد موصوف بالكرم. وإن لم يلبس جاز الإفراد والجمع. والإفراد أولى، كقوله: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا إذ معلوم أن لكل نفسا، وإنهن لسن مشتركات في نفس واحدة. وقر الزيدون عينا، ويجوز أنفسا وأعينا. وحسن الإفراد أيضا في الآية ما ذكرناه قبل من محسن تذكير الضمير وإفراده، وهو أن المعنى: فإن طابت كل واحدة عن شيء منه نفسا.
وقال بعض البصريين: أراد بالنفس الهوى. والهوى مصدر، والمصادر لا تثني ولا تجمع. وجواب الشرط: فكلوه، وهو أمر إباحة. والمعنى: فانتفعوا به. وعبر بالأكل لأنه معظم الانتفاع.
وهنيئا مريئا أي: شافيا سائغا. وقال أبو حمزة: هنيئا لا إثم فيه، مريئا لأداء فيه. وقيل: هنيئا لذيذا، مريئا محمود العاقبة. وقيل: هنيئا مريئا أي ما لا تنغيص فيه. وقيل: ما ساغ في مجراه ولا غص به من تحساه. وقيل: هنيئا مريئا أي: حلالا طيبا. وقرأ الحسن والزهري: هنيا مريا دون همزة، أبدلوا الهمزة التي هي لام الكلمة ياء، وأدغموا فيها ياء المد. وانتصاب هنيئا على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: فكلوه أكلا هنيئا، أو على أنه حال من ضمير المفعول، هكذا أعربه الزمخشري وغيره. وهو قول مخالف لقول أئمة العربية، لأنه عند سيبويه وغيره: منصوب بإضمارفعل لا يجوز إظهاره. وقد ذكرنا في المفردات نص سيبويه على ذلك. فعلى ما قاله أئمة العربية يكون هنيئا مريئا من جملة أخرى غير قوله: فكلوه هنيئا مريئا، ولا تعلق له به من حيث الإعراب، بل من
175

حيث المعنى. وجماع القول في هنيئا: أنها حال قائمة مقام الفاعل الناصب لها. فإذا قيل: إن فلانا أصاب خيرا فقلت هنيئا له، ذلك فالأصل ثبت له ذلك هنيئا فحذف ثبت، وأقيم هنيئا مقامه. واختلفوا إذ ذاك فيما يرتفع به ذلك. فذهب السيرافي إلى أنه مرفوع بذلك الفعل المختزل الذي هو ثبت، وهنيئا حال من ذلك، وفي هنيئا ضمير يعود على ذلك. وإذا قلت: هنيئا ولم تقل له ذلك، بل اقتصرت على قولك: هنيئا، ففيه ضمير مستتر يعود على ذي الحال، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في ثبت المحذوفة. وذهب الفارسي إلى أن ذلك إذا قلت: هنيئا له، ذلك مرفوع بهنيئا القائم مقام الفعل المحذوف، لأنه صار عوضا منه، فعمل عمله. كما أنك إذا قلت: زيد في الدار، رفع المجرور الضمير الذي كان مرفوعا بمستقر، لأنه عوض منه. ولا يكون في هنيئا ضمير، لأنه قد رفع الظاهر الذي هو اسم الإشارة. وإذا قلت: هنيئا ففيه ضمير فاعل بها، وهو الضمير فاعلا لثبت، ويكون هنيئا قد قام مقام الفعل المختزل مفرعا من الفعل. وإذا قلت: هنيئا مريئا، فاختلفوا في نصب مريء. فذهب بعضهم: إلى أنه صفة لقولك هنيئا، وممن ذهب إلى ذلك الحوفي. وذهب الفارسي: إلى أن انتصابه انتصاب قولك هنيئا، فالتقدير عنده: ثبت مريئا، ولا يجوز عنده أن يكون صفة لهنيئا، من جهة أن هنيئا لما كان عوضا من الفعل صار حكمه حكم الفعل الذي ناب منابه، والفعل لا يوصف، فكذلك لا يوصف هو. وقد ألم الزمخشري بشيء مما قاله النحاة في هنيئا لكنه حرفه فقال بعد أن قدم أن انتصابه على أنه وصف للمصدر، أو حال من الضمير في فكلوه أي: كلوه وهو هنيء مريء. قال: وقد يوقف على فكلوه، ويبتدأ هنيئا مريئا على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدر، كأنه قيل: هنئا مرئا انتهى. وتحريفه أنه جعلهما أقيما مقام المصدر، فانتصابهما على هذا انتصاب المصدر، ولذلك قال: كأنه قيل هنأ مرأ، فصار كقولك: سقيا ورعيا، أي: هناءة ومراءة. والنحاة يجعلون انتصاب هنيئا على الحال، وانتصاب مريئا على ما ذكرناه من الخلاف. إما على الحال، وإما على الوصف. ويدل على فساد ما حرفه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد هنيئا مريئا، ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر. والمراد بها: الدعاء. أجاز ذلك فيها تقول: سقيا لك ورعيا، ولا يجوز سقيا الله لك، ولا رعيا الله لك، وإن كان ذلك جائزا في فعله فتقول: سقاك الله ورعاك. والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدها قول الشاعر:
* هنيئا مريئا غيرداء مخامر
*
لعزة من أعراضنا ما استحلت
*
فما: مرفوع بما تقدم من هنيء أو مريء. أو بثبت المحذوفة على اختلاف السيرافي وأبي علي على طريق الأعمال. وجاز الأعمال في هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف، لكون مريئا لا يستعمل إلا تابعا لهنيئا، فصارا كأنهما مرتبطان لذلك. ولو كان ذلك في الفعل لم يجز لو قلت: قام خرج زيد، لم يصح أن يكون من الأعمال إلا على نية حرف العطف. وذهب بعضهم: إلى أن مريئا يستعمل وحده غير تابع لهنيئا، ولا يحفظ ذلك من كلام العرب، وهنيئا مريئا اسما فاعل للمبالغة.
وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءآ على وزن فعيل، كالصهيل والهدير، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر.
وظاهر الآية يدل على أن المرأة إذا وهبت لزوجها شيئا من صداقها طيبة بها نفسها غير مضطرة إلى ذلك بإلحاح أو شكاسة خلق، أو سوء معاشرة، فيجوز له أن يأخذ ذلك منها ويتملكه وينتفع به. ولم يوقت هذا التبرع بوقت، ولا استثناء فيه رجوع. وذهب الأوزاعي: إلى أنه لا يجوز تبرعها ما لم تلد، أو تقم في بيت زوجها سنة، فلو رجعت بعد الهبة فقال شريح وعبد الملك بن مروان: لها أن ترجع. وروى مثله عن عمر. كتب عمر إلى قضاته: أن النساء
176

يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك. قال شريح: لو طابت نفسها لما رجعت. وقال عبد الملك: قال تعالى: * (فلا تأخذوا منه شيئا) * وكلا القولين خلاف الظاهر من هذه الآية. وفي تعليق القبول على طيب النفس ذون لفظة الهبة أو الإسماح، دلالة على وجوب الاحتياط في الأخذ، وإعلام أن المراعى هو طيب نفسها بالموهوب. وفي قوله: هنيئا مريئا مبالغة في الإباحة والقبول وزوال التبعة.
* (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما) * قال ابن مسعود والحسن والضحاك والسدي وغيرهم: نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته. وقال ابن جبير: في المحجورين. وقال مجاهد: في النساء خاصة. وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما: نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كائنا من كان. ويضعف قول مجاهد أنها في النساء، كونها جمع سفيهة، والعرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات قاله: ابن عطية. ونقلوا أن العرب جمعت شفيهة على سفهاء، فهذا اللفظ قد قالته العرب للمؤنث، فلا يضعف قول مجاهد. وإن كان جمع فعيلة الصفة للمؤنث نادرا لكنه قد نقل في هذا اللفظ خصوصا. وتخصيص ابن عطية جمع فعيلة بفعائل أو فعيلات ليس بجيد، لأنه يطرد فيه فعال كظريفة وظراف، وكريمة وكرام، ويوافق في ذلك المذكر. وإطلاقه فعيلة دون أن يخصها بأن لا يكون بمعنى مفعولة نحو: قتيلة، ليس بجيد، لأن فعيلة لا تجمع على فعائل.
وقيل: عنى بالسفهاء الوارثين الذين يعلم من حالهم أنهم يتسفهون في استعمال ما تناله أيديهم، فنهى عن جمع المال الذي ترثه السفهاء. والسفهاء: هم المبذرون الأموال بالإنفاق فيما لا ينبغي، ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها. والظاهر في قوله: أموالكم أن المال مضاف إلى المخاطبين بقوله: ولا تؤتوا. قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة: نهى أن يدفع إلى السفيه شيء من مال غيره، وإذا وقع النهي عن هذا فإن لا يؤتى شيئا من مال نفسه أولى وأحرى بالنهي، وعلى هذا القول: وهو أن يكون الخطاب لأرباب الأموال. قيل: يكون في ذلك دلالة على أن الوصية للمرأة جائزة، وهو قول عامة أهل العلم. وأوصى عمر إلى حفصة. وروي عن عطاء: أنها لا تكون وصيا. قال: ولو فعل حولت إلى رجل من قومه.
قيل: ويندرج تحتها الجاهل بأحكام البيع. وروي عن عمر أنه قال: (من لم يتفقه في الدين فلا يتجر في أسواقنا، والكفار). وكره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالبيع والشراء، أو يدفع إليه يضاربه. وقال ابن جبير: يريد أموال السفهاء، وإضافها إلى المخاطبين تغبيط بالأموال، أي: هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أغراضكم وتصونكم وتعظم أقذاركم. ومن مثل هذا: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * وما جرى مجراه. وهذا القول ذكره الزمخشري أولا قال: والخطاب للأولياء، وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معائشهم. كما قال: ولا تقتلوا أنفسكم، * (فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) *، والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: * (وارزقوهم فيها واكسوهم) *.
وقرأ الحسن والنخعي: اللاتي. وقرأ الجمهور: التي. قال ابن عطية: والأموال جمع لا يعقل، فالأصوب فيه قراءة الجماعة انتهى. واللاتي جمع في المعنى للتي، فكان قياسه أن لا يوصف به الإماء وصف مفرده بالتي، والمذكر لا يوصف بالتي سواء كان عاقلا أو غير عاقل، فكان قياس جمعه أن لا يوصف بجمع التي الذي هو اللاتي. والوصف بالتي يجري مجرى الوصف بغيره من الصفات التي تلحقها التاء للمؤنث. فإذا كان لنا جمع لا يعقل فيجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على الواحدة المؤنثة، ويجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على جمع المؤنثات فتقول: عندي جذوع منكسرة، كما تقول: امرأة طويلة، وجذوع منكسرات. كما تقول:
177

نساء صالحات جرى الوصف في ذلك مجرى الفعل. والأولى في الكلام معاملته معاملة ما جرى على الواحدة، هذا إذا كان جمع ما لا يعقل للكثرة. فإذا كان جمع فلة، فالأولى عكس هذا الحكم: فأجذاع منكسرات أولى من أجذاع منكسرة، وهذا فيما وجد له الجمعان: جمع القلة، وجمع الكثرة. أما ما لا يجمع إلا على أحدهما، فينبغي أن يكون حكمه على حسب ما تطلقه عليه من القلة والكثرة. وإذا تقرر هذا نتج أن التي أولى من اللاتي، لأنه تابع لجمع لا يعقل. ولم يجمع مال على غيره، ولا يراد به القلة لجريان الوصف به مجرى الوصف بالصفة التي تلحقها التاء للمؤنث، فلذلك كانت قراءة الجماعة أصوب. وقال الفراء: تقول العرب في النساء: اللاتي، أكثر مما تقول التي. وفي الأموال تقول التي أكثر مما تقول اللاتي، وكلاهما في كليهما جائز. وقرئ شاذ اللواتي، وهو أيضا في المعنى جمع التي ومعنى قياما تقومون بها وتنتعشون بها، ولو ضيعتموها لتلفت أحوالكم. قال الضحاك: جعلها الله قياما لأنه يقام بها الحج والجهاد وإكمال البر، وبها فكاك الرقاب من رق ومن النار، وكان السلف تقول: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك ما يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان الثوري وكانت له بضاعة يقلبها: لولاها لتمندل أي: بنو العباس. وكانوا يقولون: اتجروا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل كل دينه. وقرأ نافع وابن عامر: قيما، وجمهور السبعة: قياما، وعبد الله بن عمر: قواما بكسر القاف، والحسن وعيسى بن عمر: قواما بفتحها. ورويت عن أبي عمرو. وقرئ شاذا: قوما. فأما فيما فمقدر كالقيام، والقيام قاله: الكسائي والفراء والأخفش، وليس مقصورا من قيام. وقيل: هو مقصور منه. قالوا: وحذفت الألف كما حذفت في خيم وأصله خيام، أو جمع قيمة كديم جمع قاله: البصريون غير الأخفش. ورده أبو علي: بأنه وصف به في قوله: * (دينا قيما) * والقيم لا يوصف به، وإنما هو مصدر بمعن القيام الذي يراد به الثبات والدوام. ورد هذا بأنه لو كان مصدرا لما أعل كما لم يعلوا حولا وعوضا، لأنه على غير مثال الفعل، لا سيما الثلاثية المجردة. وأجيب: بأنه اتبع فعله في الإعلال فأعل، لأنه مصدر
بمعنى القيام، فكما أعل القيام أعل هو. وحكى الأخفش: قيما وقوما، قال: والقياس تصحيح الواو، وإنما اعتلت على وجه الشذوذ كقولهم: تيره، وقول بني ضبة: طيال في جمع طويل، وقول الجميع: جياد في جمع جواد. وإذا أعلوا ديما لاعتلال ديمة، فإن إعلال المصدر لاعتلال فعله أولى. ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلال مفرده في معيشة ومعائش، ومقامة ومقاوم، ولم يصححوا مصدرا أعلوا فعله. وقيل: يحتمل هنا أن يكون جمع قيمة، وإن كان لا يحتمله دينا قيما. وأما قيام فظاهر فيه المصدر، وأما قوام فقيل: مصدر قاوم. وقيل: هو اسم غير مصدر، وهو ما يقام به كقولك: هو ملاك الأمر لما يملك به. وأما قوام فخطأ عند أبي حاتم. وقال: القوام امتداد القامة، وجوزه الكسائي. وقال: هو في معنى القوام، يعني أنه مصدر. وقيل: اسم للمصدر. وقيل: القوام القامة، والمعنى: التي جعلها الله سبب بقاء قاماتكم.
* (وارزقوهم فيها واكسوهم) * أي: أطعموهم واجعلوا لهم نصيبا. قيل: معناه فيمن يلزم الرجل نفقته من زوجته وبنيه الصغار. قال ابن عباس: لا تعمد إلى هلاك الشيء الذي جعله الله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، وأمسك ذلك وأصلحه، وكن أنت تنفق عليهم في رزقهم وكسوتهم ومؤونتهم. وقيل: في المحجورين، وهو خلاف مرتب على الخلاف في المخاطبين بقوله: وآتوا من هم. والمعنى على هذا القول: اجعلوها مكانا لزرقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال، فلا يأكلها الإنفاق. قيل: وقال فيها: ولم يقل منها تنبيها على ما قاله عليه السلام: (ابتغوا في أموال اليتامى التجارة لا تأكلها الزكاة) والمستحب أن يكون الإنفاق عليهم من فضلاتها المكتسبة. وقيل في: بمعنى من، أي منها.
* (وقولوا لهم قولا معروفا) * المعروف: ما تألفه النفوس
178

وتأنس إليه ويقتضيه الشرع، فإن كان المراد بالسفهاء المحجورين، فمن المعروف وعدهم الوعد الحسن بأنكم إذا رشدتم سلمنا إليكم أموالكم قاله: ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل، وابن جريج. وقال عطاء: إذا ربحت أعطيتك، وإذا غنمت في غزاتي، جعلت لك حظا. وإن كان المراد النساء والبنين الأصاغر والسفهاء الأجانب، فتدعو لهم: بارك الله فيكم، وحاطكم، وشبهه قاله: ابن زيد. وقال الضحاك: الرد الجميل. ولما أمرالله تعالى أولا بإيتاء اليتامى بقوله: * (وءاتوا اليتامى أموالهم) * وأمر ثانيا بإيتاء أموال النساء بقوله: * (وءاتوا النساء صدقاتهن) * وكان ذلك عاما من غير تخصيص بين في هذه الآية. إن ذلك الإيتاء إنما هو لغير السفيه، وخص ذلك العموم، وقيد الإطلاق الذي في الأمر بالإيتاء.
* (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) * قيل: توفي رفاعة وترك ابنه ثابتا صغيرا فسأل: إن ابن أخي في حجري، فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت. وقيل: توفي أوس بن ثابت، ويقال: أوس بن سويد عن زوجته أم كجه وثلاث بنات وابني عم سويد. وقيل: قتادة وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا المرأة ولا البنات شيئا. وقيل: المانع ارثهن هو عم بنيها واسمه: ثعلبة. وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا البنات ولا الابن الصغير الذكر، فشكتهما أم كجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فدعاهما، فقال: لا يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا، ولا ينكى عدوا فقال: (انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله) فنزلت.
وابتلاء اليتامى اختبارهم في عقولهم قاله: ابن عباس والسدي، ومقاتل، وسفيان. أو في عقولهم ودينهم وحفظهم لأموالهم وحسن تصرفهم فيها. ذكره: الثعلبي. وكيفية اختبار الصغير أن يدفع إليه نزر يسيرمن المال يتصرف فيه، والوصي يراعي حاله فيه لئلا يتلفه. واختبار الصغيرة أن يرد إليها أمر البيت والنظر في الاستغزال دفعا وأجرة واستيفاء. واختلاف كل منهما بحال ما يلق به وبما يعانيه من الأشغال والصنائع، فإذا أنس منه الرشد بعد البلوغ والاختبار دفع إليه ماله، وأشهد عليه هذا ظاهر الآية، وهو يعقب الدفع. والإشهاد الإيناس المشروط. وقال ابن سيرين: لا يدفع إليه بعد الإيناس والاختبار المذكورين حتى تمضي عليه سنة وتداولة الفصول الأربع، ولم تتعرض الآية لسن البلوغ، ولا بماذا يكون. وتكلم فيها هنا بعض المفسرين. والكلام في البلوغ مذكور في كتب الفقه. وظاهر الآية أنه إن لم يؤنس منه رشد بقي محجورا عليه دائما، ولا يدفع إليه المال، وبه قال الجمهور. وقال النخعي وأبو حنيفة: ينتظر به خمس وعشرون سنة، ويدفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس. وظاهر الآية يدل على استبداد الوصي بالدفع والاستقلال به. وقالت طائفة: يفتقر إلى أن يدفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده، أو يكون ممن يأمنه الحاكم. وظاهر عموم اليتامى اندراج البنات في هذا الحكم، فيكون حكمهن حكم البنين في ذلك. فقيل: يعتبر رشدها، وإن لم تتزوج بالبلوغ. وقيل: المدة بعد الدخول خمسة أعوام. وقيل: سنة. وقيل: سبعة في ذاب الأب، وعام واحد في اليتيمة التي لا وصي لها.
وحتى هنا غاية للابتلاء، ودخلت على الشرط وهو: إذا، وجوابه: فإن آنستم، وجوابه وجواب إن آنستم: فادفعوا. وإيناس الرشد مترتب على بلوغ النكاح، فيلزم أن يكون بعده. وحتى إذا دخلت على الشرط لا تكون عاملة، بل هي التي تقع بعدها الجمل كقوله
179

وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وقوله:
وحتى ماء دجلة أشكل
على أن في هذه المسألة خلافا ذهب الزجاج وابن درستويه إلى أن الجملة في موضع جر، وذهب الجمهور إلى أنها غير عاملة البتة. وفي قوله: بلغوا النكاح تقدير محذوف وهو: بلغوا حد النكاح أو وقته. وقال ابن عباس: معنى آنستم عرفتم. وقال عطاء: رأيتم. وقال الفراء: وجدتم. وقال الزجاج: علمتم. وهذه الأقوال متقاربة.
وقرأ ابن مسعود: فإن أحستم، يريد أحسستم. فحذف عين الكلمة، وهذا الحذف شذوذ لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة. وحكى غير سيبويه: أنها لغة سليم، وأنها تطرد في عين كل فعل مضاعف اتصل بتاء الضمير أو نونه. وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن وأبو السمال وعيسى الثقفي: رشدا بفتحتين. وقرئ شاذا: رشدا بضمتين، ونكر رشدا لأن معناه نوع من الرشد، وطرف ومخيلة من مخيلته، ولا ينتظر به تمام الرشد. قال ابن عطية ومالك: يرى الشرطين: البلوغ والرشد، وحينئذ يدفع المال. وأبو حنيفة: يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحفظ له سفه، كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد. وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول، وخوف العنت. والتمثيل عندي في دفع المال بتوالي الشرطين غير صحيح، وذلك أن البلوغ لم تسقه الآية سببا في الشرط، ولكنها حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه. فقال: إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو: الرشد حينئذ. وفصاحة الكلام تدل على ذلك لأن التوقيت بالبلوغ جاء بإذا، والمشروط جاء بأن التي هي قاعدة حروف الشرط. وإذا ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر. وقال: فعلوا ذلك مضطرين، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب، ولأنها يليها الفعل مظهرا أو مضمرا. واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها. ألا ترى أنك تقول: أجيئك إذا احمر البسر، ولا تقول: إن احمر البسر انتهى كلامه. ودل كلامه على أن إذا ظرف مجرد من معنى الشرط، وهذا مخالف لكلام النحويين. بل النحويون كالمجمعين على أن إذا ظرف لما يستقبل فيه معنى الشرط غالبا، وإن صرح أحد منهم بأنها ليست أداة شرط فإنما يعني أنها لا تجزم كأدوات الشرط، لا نفي كونها تأتي للشرط. وكيف تقول ذلك، والغالب عليها أنها تكون شرطا؟ ولم تتعرض الآية إلى حكم من أونس منه الرشد بعد البلوغ، ودفع إليه ماله، ثم عاد إلى السفه، أيعود الحجر عليه أم لا؟ وفيه قولان: قال مالك: يعود. وقال أبو حنيفة: لا يعود، والقولان عن الشافعي.
* (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) * تقدم أنه يعبر بالأكل عن الأخذ، لأن الأكل أعظم وجوه الانتفاع بالمأخوذ. وهذه الجملة مستقلة. نهاهم تعالى عن أكل أموال اليتامى وإتلافها بسوء التصرف، وليست معطوفة على جواب الشرط، لأنه وشرطه مترتبان على بلوغ النكاح. وهو معارض لقوله: وبدارا أن يكبروا، فيلزم منه مشقة على ما ترتب عليه، وذلك ممتنع. وبهذا الذي قررناه يتضح خطأ من جعل ولا تأكلوها عطفا على فادفعوا، وليس تقييد النهي بأكل أموال اليتامى في هاتين الحالتين مما يبيح الأكل بدونهما، فيكون من باب دليل الخطاب. والإسراف: الإفراط في الإنفاق، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق. قال:
* أعطوا هنيدة تجدوها ثمانية
*
ما في عطائهم من ولا سرف
*
180

أي: ليس يخطئون مواضع العطاء. قال ابن عباس وغيره: ومبادرة كبرهم أن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول: أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله.
وانتصب إسرافا وبدارا على أنهما مصدران في موضع الحال، أي: مسرفين ومبادرين. والبدار مصدر بادر، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين. لأن اليتيم مبادر إلى الكبر، والولي مبادر إلى خذ ماله، فكأنهما مستبقان. ويجوز أن يكون من واحد، وأجيز أن ينتصبا على المفعول من أجله، أي: لإسرافكم ومبادرتكم. وإن يكبروا مفعول بالمصدر، أي: كبركم كقوله: * (أو إطعام * يتيما) * وفي إعمال المصدر المنون خلاف. وقيل: التقدير مخافة أن يكبروا، فيكون أن يكبروا مفعولا من أجله، ومفعول بدارا محذوف.
* (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * ظاهر هذه الجملة يدل على أنه تقسيم لحال الوصي على اليتيم، فأمره تعالى بالاستعفاف عن ماله إن كان غنيا، واقتناعه بما رزقه الله تعالى من الغنى، وأباح له الأكل بالمعروف من مال اليتيم إن كان فقيرا، بحيث يأخذ قوتا محتاطا في تقديره.
وظاهر هذه الإباحة أنه لا تبعة عليه، ولا يترتب في ذمته ما أخذ مما يسد جوعته بما لا يكون رفيعا من الثياب، ولا يقضي إذا أيسر قاله: إبراهيم، وعطاء، والحسن، وقتادة، وعلى هذا القول الفقهاء. وقال عمرو، ابن عباس، وعبيدة، والشعبي، ومجاهد، وأبو العالية، وابن جبير: يقضي إذا أيسر، ولا يستلف أكثر من حاجته. وبه قال الأوزاعي. وقال ابن عباس أيضا وأبو العالية، والحسن، والشعبي: إنما يأكل بالمعروف إذا شرب من اللبن، وأكل من التمر، بما يهنأ الجرباء ويليط الحوض، ويجد التمر وما أشبهه. فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للولي أخذها.
وقالت طائفة: المعروف أن يكون له أجر بقدر عمله وخدمته، وهذه رواية عن الإمام أحمد. وفصل الحسن بن حي فقال: إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف، أو وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه، وأجرته على بيت المال. وفصل أبو حنيفة وصاحباه فقالوا: إن كان وصي اليتيم مقيما فلا يجوز له أن يأخذ من ماله شيئا، وإن كان مسافرا فله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئا. وفصل الشعبي فقال: إن كان مضطرا بحال من يجوز له أكل الميتة أكل بقدر حاجته ورد إذا وجد، وإلا فلا يأكل لا سفرا ولا حضرا. وقال مجاهد: هذه الإباحة منسوخة بقوله: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) *. وقال أبو يوسف: لعلها منسوخة بقوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * فليس له أن يأخذ قرضا ولا غيره. وقال ابن عباس والنخعي أيضا: هذا الأمر ليس متعلقا بمال اليتيم، والمعنى: أن الغني يستعفف بغناه، وأما الفقير فيأكل بالمعروف من مال نفسه، ويقوم على نفسه بماله حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه. واختار هذا القول من الشافعية الكيا الطبري. وقيل: إن كان مال اليتيم كثيرا يحتاج إلى قيام كثير عليه بحيث يشغل الولي عن مصالح نفسه ومهماته فرض له في مال اليتيم أجر عمله، وإن كان لا يشغله فلا يأكل منه شيئا، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن، وأكل قليل الطعام والسمن، غير مضربه ولا مستكثر منه على ما جرت به العادة والمسامحة. وقالت طائفة منهم ربيعة ويحيى بن سعيد:
هذا تقسيم لحال اليتيم، لا لحال الوصي. والمعنى: من كان منهم غنيا فليعف بماله، ومن كان منهم فقيرا فليقتر عليه بالمعروف والاقتصاد. ويكون من خطاب العين، ويراد به الغير. خوطب اليتامى بالاستعفاف والأكل بالمعروف، والمراد الأولياء. لأن اليتامى ليسوا من أهل الخطاب، فكأنه قال للأولياء والأوصياء: إن كان اليتيم غنيا فانفقوا عليه نفقة متعفف مقتصد لئلا يذهب ماله بالتوسع في نفقته، وإن كان فقيرا فلينفق عليه بقدر ماله لئلا يذهب فيبقى كلا مضعفا.
فهذه أقوال ملخصها: هل تقسيم في الولي أو الصبي قولان: فإذا كان في الولي فهل الأمر متوجه إلى مال نفسه، أو مال الصبي؟ قولان. وإذا كان متوجها إلى مال الصبي، هل ذلك منسوخ أم لا؟ قولان. وإذا لم يكن منسوخا، فهل يكون تفصيلا بالنسبة إلى الأكل أو المأكول؟ قولان. فإذا كان بالنسبة إلى الأكل، فهل يختص بولي الأب،
181

أو بالمسافر، أو بالمضطر، أو بالمشتغل بذلك عن مهمات نفسه؟ أقوال. وإذا كان بالنسبة للمأكول، فهل يختص بالتافه أم يتعدى إلى غيره؟ قولان. وإذا تعدى إلى غيره، فهل يكون أجرة أم لا؟ قولان. وإذا لم يكن أجرة فأخذ، فهل يترتب دينا في ذمته يجب قضاؤه إذا أيسر أم لا؟ قولان. ودلائل هذه الأقوال مذكورة في مسائل الخلاف. ولفظه فليستعفف أبلغ من فليعف، لأن فيه طلب زيادة العفة.
* (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) * أمر تعالى بالإشهاد لحسم مادة النزاع، وسوء الظن بهم، والسلامة من الضمان والغرم على تقدير إنكار اليتيم، وطيب خاطر اليتيم بفك الحجر عنه، وانتظامه في سلك من يعامل ويعامل. وإذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع يمينه عند أبي حنيفة وأصحابه، وعند مالك. والشافعي: لا يصدق إلا بالبينة. فكان في الإشهاد الاحتراز من توجه الحلف المفضي إلى التهمة، أو من وجوب الضمان إذ لم يقم البينة. وظاهر الأمر أنه واجب. وقال قوم: هو ندب.
وظاهر الآية الأمر بالإشهاد عليهم إذا دفع إليهم أموالهم، وهي المأمور بدفعها في قوله: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن) * وقال عمرو بن جبير: هذا الإشهاد إنما هو على دفع الولي ما استقرضه من مال اليتيم حالة فقره إذا أيسر. وقيل: فيها دليل على وجوب القضاء على من أكل من مال اليتيم، المعنى: أقرضتم أو أكلتم فأشهدوا هذا غرمتم. وقيل: المعنى إذا أنفقتم شيئا على المولى عليه فاشهدوا، حتى لو وقع خلاف أمكن إقامة البينة، فإن مالا قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بإشهاد على دفعه.
* (وكفى بالله حسيبا) * أي كافيا في الشهادة عليكم. ومعناه: محسبا من أحسبني كذا، أي كفاني، قاله: الأعمش والطبري. فيكون فعيلا بمعنى مفعل، أو محاسبا، أو حاسبا لأعمالكم يجازيكم بها، فعليكم بالصدق، وإياكم والكذب. فيكون في ذلك وعيد لجاحد الحق.
وحسيب فعيل بمعنى مفاعل، كجليس وخليط، أو بمعنى فاعل، حول للمبالغة في الحسبان. وقال ابن عباس والسدي ومقاتل: معنى حسيبا شهيدا. وفي كفى خلاف: أهي اسم فعل، أم فعل؟ والصحيح أنها فعل، وفاعله اسم الله، والباء زائدة. وقيل: الفاعل مضمر وهو ضمير الاكتفاء، أي: كفى هو، أي الاكتفاء بالله، والباء ليست بزائدة، فيكون بالله في موضع نصب، ويتعلق إذ ذاك بالفاعل. وهذا الوجه لا يسوغ إلا على مذهب الكوفيين، حيث يجيزون أعمال ضمير المصدر كأعمال ظاهره. وإن عنى بالإضمار الحذف ففيه إعمال المصدر وهو موصول، وإبقاء معموله وهو عند البصريين لا يجوز، أعني: حذف الفاعل وحذف المصدر. وانتصب حسيبا على التمييز لصلاحية دخول من عليه. وقيل: على الحال. وكفى هنا متعدية إلى واحد وهو محذوف، التقدير: وكفاكم الله حسيبا. وتأتي بغير هذا المعنى، فتعديه إلى اثنين كقوله: * (فسيكفيكهم الله) * * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) * قيل: سبب نزولها هو خير أم كجه وقد تقدم، قاله: عكرمة وقتادة وابن زيد. قال المروزي: كان اليونان يعطون جميع المال للبنات، لأن الرجل لا يعجز عن الكسب، والمرأة تعجز. وكانت العرب لا يعطون البنات، فرد الله على الفريقين. والمعني: بالرجال الذكور، وبالنساء الإناث كقوله: * (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) *.
وأبهم في قوله: نصيب، ومما ترك في موضع الصفة لنصيب. وقيل: يتعلق بلفظ نصيب فهو من تمامه. والوالدان: يعني والدي الرجال والنساء، وهما أبواهم، وسمى الأب والد، لأن الولد منه، ومن الوالدة. وللاشتراك جاء الفرق بينهما بالتاء كقوله: * (لا تضار والدة بولدها) * وجمع بالألف والتاء قياسا كقوله: * (والوالدات) * قال ابن عطية: كما قال الشاعر:
182

بحيث يعتش الغراب البائض
لأن البيض من الأنثى والذكر انتهى. ولا يتعين أن يراد بالغراب هنا الذكر، لأن لفظ الغراب ينطلق على الذكر والأنثى، وليس مما فرق بينه وبين مؤنثه بالتاء. فهو كالرعوب ينطلق على الذكر والأنثى، ولا يرجح كونه ذكرا وصفه بالبائض، وهو وصف مذكر لاحتمال أن يكون ذكر حملا على اللفظ، ولا يرجح كونه ذكرا وصفه بالبائض، وهو وصف مذكر لاحتمال أن يكون ذكر جملا على اللفظ، إذ لم تظهر فيه علامة تأنيث كما أنث المذكر حملا على لفظ التأنيث في قوله: وعنترة الفلحاء. وفي قوله: أبوك حليفة ولدته أخرى.
والأقربون: هم المتوارثون من ذوي القرابات. وقد أبهم في لفظ الأقربون كما أبهم في النصيب، وعين الوارث والمقدار في الآيات بعدها. وقوله: مما قل منه، هو بدل من قوله: مما ترك إلا خيرا، أعيد معه حرف الجر، والضمير في منه عائد على من قوله: مما ترك إلا خير. واكتفى بذكره في هذه الجملة، وهو مراد في الجملة الأولى، ولم يضطر إلى ذكره لأن البدل جاء على سبيل التوكيد، إذ ليس فيه إلا توضيح أنه أريد بقوله: مما ترك العموم في المتروك. وهذا البدل فيه ذكر
توعى المتروك من القلة أو الكثرة.
وقال أبو البقاء: مما قل يجوز أن يكون حالا من الضمير المحذوف في ترك، أي: مما تركه مستقرا مما قل.
ومعنى نصيبا مفروضا: أي حظا مقطوعا به لا بد لهم من أن يحوزوه. وقال الزجاج ومكي: نصيبا منصوب على الحال، المعنى: لهؤلاء أنصباء على ما ذكرنا هنا في حال الفرض. وقال الفراء: نصب لأنه أخرجه مخرج المصدر، ولذلك وحده كقولك له: علي كذا حقا لازما، ونحوه: * (فريضة من الله) * ولو كان اسما صحيحا لم ينصب، لا تقول: لك علي حق درهما انتهى. وقال الزمخشري قريبا من هذا القول قال: ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد لقوله: فريضة من الله، كأنه قسمة مفروضة. وقال ابن عطية نحوا من كلام الزجاج قال: إنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال تقديره: فرضا. ولذلك جاز نصبه كما تقول له: علي كذا وكذا حقا واجبا، ولولا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في اسم الذي ليس بمصدر هذا النصب، ولكن حقه الرفع انتهى كلامه. وهو مركب من كلام الزجاج والفراء، وهما متباينان لأن الانتصاب على الحال مباين للانتصاب على المصدر المؤكد مخالف له. وقال الزمخشري: ونصيبا مفروضا نصب على الاختصاص بمعنى أعني: نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا انتهى. فإن عني بالاختصاص ما اصطلح عليه النحويون فهو مردود بكونه نكرة، والمنصوب على الاختصاص نصوا على أنه لا يكون نكرة. وقيل: انتصب نصب المصدر الصريح، لأنه مصدر أي نصيبه نصيبا. وقيل: حال من النكرة، لأنها قد وصفت. وقيل: بفعل محذوف تقديره: جعلته أو، أوجبت لهم نصيبا. وقيل: حال من الفاعل في قل أو كثر.
واستدل بظاهر هذه الآية على وجوب القسمة في الحقوق المتميزة إذا أمكنت وطلب ذلك كل واحد من الشريكين بلا خلاف. واختلفوا في قسمة المتروك على الفرائض، إذا كانت القسمة بغيره على حاله كالحمام والرحا والبثر والدار التي تبطل منافعها بافتراق السهام. فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: تقسم. وقال ابن أبي ليلى وأبو ثور: لا تقسم. قال ابن المنذر: وهو أصح القولين. واستدل بها أيضا على وجوب توريث الأخ للميت مع البنت،
183

فإذا أخذت النصف أخذ الباقي. واختلف في ابني عم أحدهما أخ لام، فقال علي وزيد: للأخ من الأم السدس، وما بقي بينهما نصفان، وهو قول فقهاء الأمصار. وقال عمر وعبد الله وشريح والحسن: المال للأخ من الأم.
* (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) * قيل: نزلت في أرباب الأموال يقسمونها عندما يحضر الموت في وصية، وجهات يختارونها، ويحضرهم من القرابات محجوب عن الإرث، فيوصون للأجانب ويتركون المحجوبين فيحرمون الإرث والوصية قاله: ابن عباس وابن المسيب وابن زيد وأبو جعفر. وقيل: نزلت في أرباب الفرائض يحضرهم أيضا محجوب، فأمروا أن يرضخوا لهم مما أعطاهم الله. روي عن ابن عباس وابن المسيب: أنها منسوخة، وبه قال: عكرمة والضحاك قالوا: كانت قسمة جعلها الله ثلاثة أصناف، ثم نسخ ذلك بآية الميراث، وأعطى كل ذي حظ حظه، وجعل الوصية للذين يحرمون ولا يرثون. وقيل: هي محكمة أمر الله من استحق إرثا، وحضر القسمة قريب أو يتيم أو مسكين لا يرث، أن لا يحرموا إن كان المال كثيرا، وأن يعتذر إليهم إن كان قليلا، وأمر به أبو موسى الأشعري. وقال الحسن والنخعي: كان المؤمنون يفعلون ذلك يقسمون لهم من العين الورق والفضة، فإذا قسموا الأرضين والرقيق قالوا لهم قولا معروفا: بورك فيكم. وفعله عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وتلا هذه الآية. وإذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف، هل يفعل ذلك الولي أولا؟ قولان. والظاهر من سياق هذه الآية عقيب ما قبلها أنها في الوارثين لا في المحتضرين الموضين، والذي يظهر من القسمة أنها مصدر بمعنى القسم قال تعالى: * (تلك إذا قسمة ضيزى) *.
وقيل: المراد بالقسمة المقسوم. وقيل: القسمة الاسم من الاقتسام لا من القسم، كالخيرة من الاختيار. ولا يكاد الفصحاء يقولون قسمت بينهم قسمة، وروى ذلك الكسائي. وقسمتك ما أخذته من الإقسام، والجمع قسم. وقال الخليل: القسم الحظ والنصيب من الجزء، ويقال: قاسمت فلانا المال وتقاسمناه واقتسمناه، والقسم الذي يقاسمك.
وظاهر قوله: فارزقوهم، الوجوب. وبه قال جماعة منهم: مجاهد، وعطاء، والزهري. وقال ابن عباس، وابن جبير، والحسن: هو ندب. وفي قوله: فارزقوهم إضافة الرزق إلى غير الله تعالى، كما قال: * (والله خير الرزقين) * وقيل: كان ذلك في الورثة واجبا فنسخته آية الميراث، والضمير في: منه عائد على المال المقسوم، ودل عليه القسمة، لأن القسمة وهي المصدر تدل على متعلقها وهو المال. وقيل: يعود إلى ما من قوله: ما ترك الوالدان والأقربون. ومن قال: القسمة المقسوم، أعاد الضمير إلى القسمة على معنى التذكير، إذ المراد المقسوم. وقدم اليتامى على المساكين لأن ضعفهم أكثر، وحاجتهم أشد، فوضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم للأجر. والظاهر أنهم يرزقون من عين المال المقسوم، ورأى عبيدة وابن سيرين: أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعام يأكلونه، وفعلا ذلك وذبحاشاة من التركة، وقسم عند عبيدة مال ليتيم فاشترى منه شاة وذبحها، وقال عبيدة: لولا هذه لكانت من مالي. وقوله: منه يدل على التبعيض، ولا تقدير فيه بالإجماع، وهذا مما يدل على الندب. إذ لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله قدر ذلك الحق، كما بين في سائر الحقوق. وعلى هذا فقهاء الأمصار إذا كان الورثة كبار، وإن كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف.
والضمير في قوله: وقولوا لهم، عائد على ما عاد عليه الضمير في: فارزقوهم، وهم: أولو القربى واليتامى والمساكين. وقال ابن جرير: الآية محكمة في الوصية، والضمير في فارزقوهم عائد على أولي القربى الموصي لهم، وفي لهم عائد على اليتامى والمساكين. أمر أن يقال لهم قول معروف. وقيل أيضا بتفريق الضمير، ويكون المراد من
184

أولي القربى الذين يرثون، والمراد من اليتامى والمساكين الذين لا يرثون. فقوله: فارزقوهم راجع إلى أولي القربى. وقوله: لهم، راجع إلى اليتامى والمساكين. وما قيل من تفريق الضمير تحكم لا دليل عليه.
والمقول المعروف فسره هنا ابن جبير أن يقول لهم: هذا المال لقوم غيب أو ليتامى صغار، وليس لكم فيه حق. وقيل: الدعاء لهم بالرزق والغنى. وقيل: هو القول الدال على استقلال ما أرضخوهم به، وروي عن ابن جبير. وقيل: العدة الحسنة بأن يقال: هؤلاء أيتام صغار، فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم قاله، عطاء بن يسار، عن ابن جبير. وقيل: المعروف ما يؤنس به من دعاء وغيره. وظاهر الكلام أن الأصناف الثلاثة يجمع لهم بين الرزق والقول المعروف. وقيل: إما أن يعطوا وإما أن يقال لهم قول معروف.
* (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) * ظاهر هذه الجملة أنه أمر بخشية الله واتقائه. والقول السديد من ينظر في حال ذرية ضعاف لتنبيهه على ذلك بكونه هو يترك ذرية ضعافا، فيدخل في ذلك ولاة الأيتام، وبه فسر ابن عباس. والذي ينهى المحتضر عن الوصية لذوي القربى، ومن يستحق ويحسن له الإمساك على قرابته وأولاده. وبه فسر مقسم وحضرمي، والذي يأمر المحتضر بالوصية لفلان وفلان ويذكره بأن يقدم لنفسه، وقصده إيذاء ورثته بذلك. وبه فسر ابن عباس أيضا وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد. وقالت فرقة: المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس، وإن لم يكونوا في حجرهم. وأن يسددو لهم القول كما يحبون أن يفعل بأولادهم. قال الزمخشري: ويجوز أن يتصل بما قبله، وأن يكون آمرا للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين، وأن يتصور أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخشية؟ انتهى كلامه. وهو ممكن أن يكون مرادا. قال القاضي: الأليق بما تقدم وما تأخر أن يكون من الآيات الواردة في الأيتام، فجعل تعالى آخر ما دعاهم به إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها، ولا شك أن هذا من أقوى البواعث في هذا المقصود على الاحتياط فيه.
وقرأ الزهري والحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر: بكسر لام الأمر في: وليخش، وفي: فليتقوا، وليقولوا. وقرأ الجمهور: بالإسكان. ومفعول وليخش محذوف، ويحتمل أن يكون اسم الجلالة أي الله، ويحتمل أن يكون هذا الحذف على طريق الأعمال، أعمل فليتقوا. وحذف معمول الأول، إذ هو منصوب يجوز أن يحذف اقتصارا، فكان حذفه اختصارا أجوز، ويصير نحو قولك: أكرمت فبررت زيدا. وصلة الذين الجملة من لو وجوابها. قال ابن عطية: تقديره لو تركوا لخانوا. ويجوز حذف اللام في جواب لو تقول: لو قام زيد لقام عمرو، ولو قام زيد قام عمرو، انتهى كلامه. وقال الزمخشري: معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا وذلك عند احتضارهم، خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل:
* لقد زاد الحياة إلي حبا
*
بناتي إنهن من الضعاف
*
* أحاذر أن يرثن البؤس بعدي
*
وأن يشربن رنقا بعد صاف
*
انتهى كلامه. وقال غيرهما: لو تركوا، لو يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، وخافوا جواب لو انتهى.
فظاهر هذه
185

النصوص أن لو هنا التي تكون تعليقا في الماضي، وهي التي يعبر عنها سيبويه: بأنها حرف لما كان يقع لوقوع غيره. ويعبر غيره عنها بأنها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره. وذهب صاحب التسهيل: إلى أن لو هنا شرطية بمعنى أن فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال، والتقدير: وليخش الذين إن تركوا من خلفهم. قال: ولو وقع بعد لو هذه مضارع لكان مستقبل المعنى كما يكون بعد أن قال الشاعر:
* لا يلفك الراجيك إلا مظهرا
*
خلق الكريم ولو تكون عديما
*
وكان قائل هذا توهم أنه لما أمروا بالخشية، والأمر مستقبل، ومتعلق الأمر هو موصول، لم يصلح أن تكون الصلة ماضية على تقدير دالة على العدم الذي ينافي امتثال الأمر. وحسن مكان لو لفظ أن فقال: إنها تعليق في المستقبل، وأنها بمعنى إن. وكأن الزمخشري عرض له هذا التوهم، فلذلك قال: معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا، فلم تدخل لو على مستقبل، بل أدخلت على شارفوا الذي هو ماض أسند للموصول حالة الأمر. وهذا الذي توهموه لا يلزم في الصلة
إلا إن كانت الصلة ماضية في المعنى، واقعة بالفعل. إذ معنى: لو تركوا من خلفهم، أي ماتوا فتركوا من خلفهم، فلو كان كذلك للزم التأويل في لو أن تكون بمعنى: أن إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل من مات بالفعل. أما إذا كان ماضيا على تقدير يصح أن يقع صلة، وأن يكون العامل في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك: ليزرنا الذي لو مات أمس بكيناه. وأصل لو أن تكون تعليقا في الماضي، ولا يذهب إلى أنه يكون في المستقبل بمعنى: إن، إلا إذ دل على ذلك قرينة كالبيت المتقدم. لأن جواب لو فيه محذوف مستقبل لاستقبال ما دل عليه وهو قوله: لا يلفك. وكذلك قوله:
* قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
*
دون النساء ولو بانت بإطهار
*
لدخول ما بعدها في حيز إذا، وإذا للمستقبل. ولو قال قائل: لو قام زيد قام عمر، ولتبادر إلى الذهن أنه تعليق في الماضي دون المستقبل. ومن خلفهم متعلق بتركوا. وأجاز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من ذرية.
وقرأ الجمهور ضعافا جمع ضعيف، كظريف وظراف. وأمال فتحة العين حمزة، وجمعه على فعال قياس. وقرأ ابن محيصن: ضعفا بضمتين، وتنوين الفاء. وقرأت عائشة والسلمي والزهري وأبو حيوة وابن محيصن أيضا: ضعفاء بضم الضاد والمد، كظريف وظرفاء، وهو أيضا قياس. وقرئ ضعافى وضعافى بقالإمالة، نحو سكارى وسكارى. وأمال حمزة خافوا للكسرة التي تعرض له في نحو: خفت. وانظر إلى حسن ترتيب هذه الأوامر حيث بدأ أولا بالخشية التي محلها القلب وهي الاحتراز من الشيء بمقتضى العلم، وهي الحاملة على التقوى، ثم أمر بالتقوى ثانيا وهي متسببة عن الخشية، إذ هي جعل المرء نفسه في وقاية مما يخشاه. ثم أمر بالقول السديد، وهو ما يظهر من الفعل الناشئ عن التقوى الناشئة عن الخشية. ولا يراد تخصيص القول السديد فقط، بل المعنى على الفعل والقول السديدين. وإنما اقتصر على القول السديد لسهولة ذلك على الإنسان، كأنه قيل: أقل ما يسلك هو القول السديد. قال مجاهد: يقولون للذين يفرقون المال زد فلانا وأعط فلانا. وقيل: هو الأمر بإخراج الثلث فقط. وقيل: هو تلقين المحتضر الشهادة. وقيل: الصدق في الشهادة. وقيل: الموافق للحق. وقيل: للعدل. وقيل: للقصد. وكلها متقاربة.
والسداد: الاستواء في القول والفعل. وأصل السد إزالة الاختلال. والسديد يقال في معنى الفاعل، وفي معنى المفعول. ورجل
186

سديد متردد بين المعنيين، فإنه يسدد من قبل متبوعه، ويسدد لتابعه.
* (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * نزلت في المشركين كانوا يأكلون أموال اليتامى ولا يورثونهم ولا النساء، قاله: ابن زيد. وقيل: في حنظلة بن الشمردل، ولي يتيما فأكل ماله. وقيل: في زيد بن زيد الغطفاني ولي مال ابن أخيه فأكله، قاله: مقاتل. وقال الأكثرون: نزلت في الأوصياء الذين يأكلون من أموال اليتامى ما لم يبح لهم، وهي تتناول كل أكل بظلم لم يكن وصيا وانتصاب ظلما على أنه مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله، وخبران هي الجملة من قوله: إنما يأكلون. وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بأن خبرا، لأن وفي ذلك خلاف. وحسن ذلك هنا تباعدهما بكون اسم إن موصولا، فطال الكلام بذكر صلته. وفي بطونهم: معناه ملء بطونهم يقال: أكل في بطنه، وفي بعض بطنه. كما قال:
* كلوا في بعض بطنكم تعفوا
*
فإن زمانكم زمن خميص
*
والظاهر: تعلق في بطونهم بيأكلون، وقاله الحوفي. وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال من قوله: نارا. ونبه بقوله: في بطونهم على نقصهم، ووصفهم بالشره في الأكل، والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن. وأين يكون هؤلاء من قول الشاعر؟
تراه خميص البطن والزاد حاضر
وقول الشنفري:
* وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
*
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
*
وظاهر قوله: نارا أنهم يأكلون نارا حقيقة. وفي حديث أبي سعيد عن ليلة الإسراء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صحرا من نار يخرج من أسافلهم، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ويأكلهم النار حقيقة) قالت طائفة: وقيل: هو مجاز، لما كان أكل مال اليتيم يجر إلى النار والتعذيب، بها عبر عن ذلك بالأكل في البطن، ونبه على الحامل على أخذ المال وهو
البطن الذي هو أخس الأشياء التي ينتفع بالمال لأجلها، إذ مآل ما يوضع فيه إلى الاضمحلال والذهاب في أقرب زمان. ولذلك قال: * (أما * ملأ * الإنسان * وعاء * شرا * من * بطنه) *.
وقرأ الجمهور: وسيصلون مبنيا للفاعل من الثلاثي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر: بضم الياء وفتح اللام مبنيا للمفعول من الثلاثي. وابن أبي عبلة: بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة مبنيا للمفعول. والصلامن: التسخن بقرب النار، والإحراق إتلاف الشيء بالنار. وعبر بالصلا بالنار عن العذاب الدائم بها، إذ النار لا تذهب ذواتهم بالكلية، بل كما قال: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) * وهذا وعيد عظيم على هذه المعصية. وجاء يأكلون
187

بالمضارع دون سين الاستقبال، وسيصلون بالسين، فإن كان الأكل للنار حقيقة فهو مستقبل، واستغنى عن تقييده بالسين بعطف المستقبل عليه. وإن كان مجازا فليس بمستقبل، إذ المعنى: يأكلون ما يجر إلى النار ويكون سببا إلى العذاب بها. ولما كان لفظ نار مطلقا في قوله: إنما يأكلون في بطونهم نارا، قيد في قوله سعيرا، إذ هو الجمر المتقد.
وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والفصاحة. الطباق في: واحدة وزوجها، وفي غنيا وفقيرا، وفي: قل أو كثر. والتكرار في: اتقوا، وفي: خلق، وفي: خفتم، وأن لا تقسطوا، وأن لا تعدلوا من جهة المعنى، وفي اليتامى، وفي النساء، وفي فادفعوا إليهم أموالهم، فإذا دفعتم إليهم أموالهم، وفي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وفي قوله: وليخش، وخافوا من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين، وإطلاق اسم المسبب على السبب في: ولا تأكلوا وشبهه لأن الأخذ سبب للأكل. وتسمية الشيء باسم ما كان عليه في: وآتوا اليتامى، سماهم يتامى بعد البلوغ. والتأكيد بالاتباع في: هنيئا مريئا وتسمية الشيء باسم ما يؤول اليه في: نصيب مما ترك، وفي نارا على قول من زعم أنها حقيقة. والتجنيس المماثل في: فادفعوا فإذا دفعتم، والمغاير في: وقولوا لهم قولا. والزيادة للزيادة في المعنى في: فليستعفف. وإطلاق كل على بعض في: الأقربون، إذ المراد أرباب الفرائض. وإقامة الظرف المكاني مقام الزماني في: خلفهم، أي من بعد وفاتهم. والاختصاص في: بطونهم، خصها دون غيرها لأنها محل للمأكولات. والتعريض في: في بطونهم، عرض بذكر البطون لحسنهم وسقوط هممهم والعرب تذم بذلك قال:
* دع المكارم لا ترحل لبغيتها
*
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
*
وتأكيد الحقيقة بما يرفع احتمال المجاز بقوله: في بطونهم. رفع المجاز العارض في قوله: * (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) * وهذا على قول من حمله على الحقيقة، ومن حمله على المجاز فيكون عنده من ترشيخ المجاز، ونظير كونه رافعا للمجاز قوله: * (يطير بجناحيه) *، وقوله: * (يكتبون الكتاب بأيديهم) *. والحذف في عدة مواضع.
2 (* (يوصيكم الله فىأولادكم للذكر مثل حظ الا نثيين فإن كن نسآء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلا مه الثلث فإن كان له إخوة فلا مه السدس من بعد وصية يوصى بهآ أو دين ءابآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما * ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بهآ أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بهآ أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذالك فهم شركآء فى الثلث من بعد وصية يوصى بهآ أو دين غير مضآر وصية من الله والله عليم حليم * تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الا نهر خالدين فيها وذالك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) *)) 2
* (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) * لما أبهم في قوله: * (نصيب مما ترك الوالدان والاقربون) * في المقدار والأقربين، بين في هذه الآية المقادير ومن يرث من الأقربين، وبدأ بالأولاد وارثهم من والديهم، كما بدأ في قوله: للرجال نصيب مما ترك الوالدان بهم. وفي قوله: يوصيكم الله في أولادكم إجمال أيضا بينه بعد. وبدأ بقوله: للذكر، وتبين ما له دلالة على فضله. وكان تقديم الذكر أدل على فضله من ذكر بيان نقص الأنثى عنه، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث، فكفاهم إن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن إذ هن يدلين بما يدلون به من
188

الولدية.
وقد اختلف القول في سبب النزول، ومضمن أكثر تلك الأقاويل: أنهم كانوا لا يورثون البنات كما تقدم، فنزلت تبيينا لذلك ولغيره. وقيل: نزلت في جابر إذ مرض، فعاده الرسول فقال: كيف أصنع في مالي؟ وقيل: كان الإرث للولد والوصية للوالدين، فنسخ بهذه الآيات. قيل: معنى يوصيكم يأمركم. كقوله: * (ذالكم وصاكم به) * وعدل إلى لفظ الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام، وطلب حصوله سرعة، وقيل: يعهد إليكم كقوله: * (ما وصى به نوحا) * وقيل: يبين لكم في أولادكم مقادير ما أثبت لهم من الحق مطلقا بقوله * (للرجال * وألو * الارحام) * وقيل: يفرض لكم. وهذه أقوال متقاربة.
والخطاب في: يوصيكم، للمؤمنين، وفي أولادكم: هو على حذف مضاف. أي: في أولاد موتاكم، لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ويفرض
عليه ذلك، وإن كان المعنى بيوصيكم يبين جاز أن يخاطب الحي، ولا يحتاج إلى حذف مضاف. والأولاد يشمل الذكور والإناث، إلا أنه خص من هذا العموم من قام به مانع الإرث، فأما الرق فمانع بالإجماع، وأما الكفر فكذلك، إلا ما ذهب إليه معاذ من: أن المسلم يرث الكافر. وأما القتل فإن قتل أباه لم يرث، وكذا إذا قتل جده وأخاه أو عمه، لا يرث من الدية، هذا مذهب ابن المسيب، وعطاء، ومجاهد، والزهري، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر. وقال أبو حنيفة وسفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد: لا يرث من المال، ولا من الدية شيئا. واستثنى النخعي من عموم أولادكم الأسير، فقال: لا يرث.
وقال الجمهور: إذا علمت حياته يرث، فإن جهلت فحكمه حكم المفقود. واستثنى من العموم الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم)، وأما الجنين فإن خرج ميتا لم يرث، وإن خرج حيا فقال القاسم، وابن سيرين، وقتادة، والشعبي، والزهري، ومالك، والشافعي: يستهل صارخا، ولو عطس أو تحرك أو صاح أو رضع أو كان فيه نفس. وقال الأوزاعي وسفيان والشافعي: إذا عرفت حياته بشيء من هذه، وإن لم يستهل فحكمه حكم الحي في الإرث. وأما الجنين في بطن أمه فلا خلاف في أنه يرث، وإنما الخلاف في قسمة المال الذي له فيه سهم. وذلك مذكور في كتب الفقه. وأما الخنثى فداخل في عموم أولادكم، ولا خلاف في توريثه، والخلاف فيما يرث وفيما يعرف به أنه خنثى، وذلك مذكور في كتب الفقه. وأما المفقود فقال أبو حنيفة: لا يرث في حال فقده من أحد شيئا.
وقال الشافعي: يوقف نصيبه حتى يتحقق موته، وهو ظاهر قول مالك: وأما المجنون والمعتوه والسفيه فيرثون إجماعا، والولد حقيقة في ولد الصلب ويستعمل في ولد الابن، والظاهر أنه مجاز. إذ لو كان حقيقة بطريق الاشتراك أو التواطىء لشارك ولد الصلب مطلقا، والحكم أنه لا يرث إلا عند عدم ولد الصلب، أو عند وجود من لا يأخذ جميع الميراث منهم.
وهذا البحث جار في الأب والجد والأم والجدة، والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة لاتفاق الصحابة على أن الجد ليس له حكم مذكور في القرآن، ولو كان اسم الأب يتناوله حقيقة لما صح هذا الاتفاق. ولو أوصى لولد فلان فعند الشافعي لا يدخل ولد الولد، وعند مالك يدخل، وعند أبي حنيفة يدخل إن لم يكن لفلان ولد صلب.
وللذكر: إما أن يقدر محذوف أي: للذكر منهم، أو تنوب الألف واللام عن الضمير على رأي من يرى ذلك التقدير لذكرهم. ومثل: صفة لمبتدأ محذوف تقديره حظ مثل.
قال الفراء: ولم يعمل يوصيكم في مثل إجراء له مجرى القبول في حكاية الجمل، فالجملة في موضع نصب بيوصيكم. وقال الكسائي: ارتفع مثل على حذف أن تقديره: أن للذكر. وبه قرأ ابن أبي عبلة وأريد بقوله: للذكر مثل حظ الأنثيين حالة اجتماع الذكر والأنثيين فله سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما إذا انفرد الابن فيأخذ المال أو البنتان، فسيأتي حكم ذلك. ولم تتعر الآية للنص على هاتين المسألتين.
وقال أبو مسلم الأصبهاني: نصيب الذكر هنا هو الثلثان، فوجب أن يكون نصيب الأنثيين. وقال أبو بكر الرازي: إذا كان نصيبها مع الذكر الثلث، فلا أن يكون نصيبها مع أنثى الثلث أولى، لأن الذكر أقوى من الأنثى. وقيل: حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى، وإلا لزم حظ
189

الذكر مثل حظ الأنثى، وهو خلاف النص، فوجب أن يكون حظهما الثلثين، لأنه لا قائل بالفرق. فهذه وجوه ثلاثة مستنبطة من الآية تدل على أن فرض البنتين الثلثان. ووجه رابع من القياس الجلي وهو أنه لم يذكر هنا حكم الثنتين، وذكر حكم الواحدة وما فوق الثنتين. وفي آخر السورة ذكر حكم الأخت الواحدة، وحكم الأختين، ولم يذكر حكم الأخوات، فصارت الآيتان مجملتين من وجه، مبينتين من وجه.
فنقول: لما كان نصيب الأختين الثلثين، كانت البنتان أولى بذلك لأنهما أقرب إلى الميت. ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزاد على الثلثين، وجب أن لا يزاد نصيب الأخوات على ذلك، لأن البنت لما كانت أشد اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى. وقال الماتريدي: في الآية دليل على أن المال كله للذكر إذا لم كن معه أنثى، لأنه جعل للذكر مثل ما للأنثيين. وقد جعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله: * (وإن كانت واحدة فلها النصف) * فدل على أن للذكر حالة الانفراد مثلي ذلك ومثلا النصف، هو الكل انتهى.
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة: يوصيكم بالتشديد. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة والأعرج: ثلثا والثلث والربع والسدس والثمن بإسكان الوسط، والجمهور بالضم، وهي لغة الحجاز وبني أسد، قاله: النحاس من الثلث إلى العشر. وقال الزجاج هي لغة واحدة، والسكون تخفيف، وتقدير الآية: يوصيكم الله في شأن أولادكم الوارثين للذكر منهم حظ مثل حظ الأنثيين حالة اجتماعهم مما ترك المورثون أن انفرد بالإرب، فإن كان معهما ذو فرض كان ما يبقى من المال لهما، والفروض هي المذكورة في القرآن وهي ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
* (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) * ظاهر هذا التقسيم أن ما زاد على الثنتين من الأولاد يرثن الثلثين مما ترك موروثهما، وظاهر السياق انحصار الوارث فيهن. ولما كان لفظ الأولاد يشمل الذكور والإناث، وقصد هنا بيان حكم الإناث، أخلص الضمير للتأنيث. إذ الإناث أحد قسمي ما ينطلق عليه الأولاد، فعاد الضمير على أحد القسمين، وكأن قوله تعالى: * (فى أولادكم) * في قوة قوله: * (فى أولادكم) * الذكور والإناث. وإذا كان الضمير قد عاد على جمع التكسير العاقل المذكر بالنون في نحو قوله: ورب الشياطين ومن أضللن كما يعود على الإناث كقوله: * (والوالدات يرضعن) * فلأن يعود على جمع التكسير العاقل الجامع للمذكر والمؤنث، باعتبار أحد القسمين الذي هو المؤنث أولى، واسم كان الضمير العائد على أحد قسمي الأولاد، والخبر نساء بصفته الذي هو فوق اثنتين، لأنه لا تستقل فائدة الأخبار بقوله: نساء وحده، وهي صفة للتأكيد ترفع أن يراد بالجمع قبلهما طريق المجاز، إذ قد يطلق الجمع ويراد به التشبيه وأجاز الزمخشري نساء خبرا ثانيا، لكان، وليس بشيء، لأن الخبر لا بد أن تستقل به فائدة الإسناد. ولو سكت على قوله فإن كن نساء لكان نظير، أن كان الزيدون رجالا، وهذا ليس بكلام. وقال بعض
البصريين: التقدير وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين. وقدره الزمخشري: البنات أو المولودات.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): هل يصح أن يكون الضميران في كن وكانت مبهمين، ويكون نساء وواحدة تفسيرا لهما على أن كان تامة؟ (قلت): لا أبعد ذلك انتهى. ونعني بالإبهام أنهما لا يعودان على مفسر متقدم، بل يكون مفسرهما هو المنصوب بعدهما، وهذا الذي لم يبعده الزمخمشري هو بعيد، أو ممنوع البتة. لأن كان ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده، بل هو مختص من الأفعال بنعم وبئس وما حمل عليهما، وفي باب التنازع على ما قرر في
190

النحو. ومعنى فوق اثنتين: أكثر من اثنتين بالغات ما بلغن من العدد، فليس لهن إلا الثلثان. ومن زعم أن معنى قوله: نساء فوق اثنتين، اثنتان فما فوقهما، وأن قوة الكلام تقتضي ذلك كابن عطية، أو أن فوق زائدة مستدلا بأن فوق قد زيدت في قوله: * (فاضربوا فوق الاعناق) * فلا يحتاج في رد ما زعم إلى حجة لوضوح فساده. وذكروا أن حكم الثنتين في الميراث الثلثان كالبنات. قالوا: ولم يخالف في ذلك إلا ابن عباس، فإنه يرى لهما النصف إذا انفردا كحالهما إذا اجتمعا مع الذكر، وما احتجوا به تقدم ذكره. وورد في الحديث في قصة أوس بن ثابت: (أنه صلى الله عليه وسلم) أعطى البنتين الثلثين) وبنات الابن أو الأخوات الأشقاء أو لأب كبنات الصلب في الثلثين إذا انفردن عن من يحجبهن.
* (وإن كانت واحدة فلها النصف) * قرأ الجمهور واحدة بالنصب على أنه خبر كان، أي: وإن كانت هي أي البنت فذة ليس معها أخرى. وقرأ نافع واحدة بالرفع على إن كان تامة وواحدة الفاعل. وقرأ السلمي: النصف بضم النون، وهي قراءة علي وزيد في جميع القرآن. وتقدم الخلاف في ضم النون وكسرها في (فنصف ما فرضتم) * في البقرة. وبنت الابن إذا لم تكن بنت صلب، والأخت الشقيقة أو لأب، والزوج إذا لم يكن للزوجة ولد، ولا ولد ابن كبنت الصلب لكل منهم النصف.
* (*) * في البقرة. وبنت الابن إذا لم تكن بنت صلب، والأخت الشقيقة أو لأب، والزوج إذا لم يكن للزوجة ولد، ولا ولد ابن كبنت الصلب لكل منهم النصف.
* (ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) * لما ذكر الفروع ومقدار ما يرثون أخذ في ذكر الأصول ومقدار ما يرثون، فذكر أن الميت يرث منه أبواه كل واحد السدس إن كان للميت ولد، وأبواه هما: أبوه وأمه. وغلب لفظ الأب في التثنية كما قيل: القمران، فغلب القمر لتذكيره على الشمس، وهي تثنية لا تقاس. وشمل قوله: وله ولد الذكر والأنثى، والواحد والجماعة.
وظاهر الآية أن فرض الأب السدس إذا كان للميت ولد أي ولد كان، وباقي المال للولد ذكرا كان أو أنثى. والحكم عند الجمهور أنه لو كان الولد أنثى أخذ السدس فرضا، والباقي تعصيبا. وتعلقت الروافض بظاهر لفظ ولد فقالوا: السدس لكل واحد من أبويه، والباقي للبنت أو الابن، إذ الولد يقع على: الذكر، والأنثى، والجد، وبنات الابن مع البنت، والأخوات لأب مع أخت لأب وأم، والواحدة من ولد الأم، والجدات كالأب مع البنت في السدس. وقال مالك: لا ترث جدة أبي الأب. وقال ابن سيرين: لا ترث أم الأم.
والضمير في لأبويه عائد على ما عاد عليه الضمير في ترك، وهو ضمير الميت الدال عليه معنى الكلام وسياقه. ولكل واحد منهما بدل من أبويه، ويفيد معنى التفصيل. وتبيين أن السدس لكل واحد، إذ لولا هذا البدل لكان الظاهر اشتراكهما في السدس، وهو أبلغ وآكد من قولك: لكل واحد من أبويه السدس، إذ تكرر ذكرهما مرتين: مرة بالإظهار، ومرة بالضمير العائد عليهما. قال الزمخشري: والسدس مبتدأ، وخبره لأبويه، والبدل متوسط بينهما انتهى. وقال أبو البقاء: السدس رفع بالابتداء، ولكل واحد منهما الخبر، ولكل بدل من الأبوين، ومنهما نعت لواحد. وهذا البدل هو بدل بعض من كل، ولذلك أتى بالضمير، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة، لجواز أبواك يصنعان كذا، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا. بل تقول: يصنع كذا. وفي قول الزمخشري: والسدس مبتدأ وخبره لأبويه نظر، لأن البدل هو الذي يكون الخبر له
191

دون المبدل منه، كما مثلناه في قولك: أبواك كل واحد منهما يصنع كذا، إذا أعربنا كلا بدلا. وكما تقول: إن زيدا عينه حسنه، فلذلك ينبغي أن يكون إذا وقع البدل خبرا فلا يكون المبدل منه هو الخبر، واستغنى عن جعل المبدل منه خبرا بالبدل كما استغنى عن الاخبار عن اسم إن وهو المبدل منه بالاخبار عن البدل. ولو كان التركيب: ولأبويه السدسان لا وهم التنصيف أو الترجيح في المقدار بين الأبوين، فكان هذا التركيب القرآني في غاية النصية والفصاحة، وظاهر قوله: ولأبويه، أنهما اللذان ولدا الميت قريبا لا جداه، ولا من علا من الأجداد. وزعموا أن قوله: أولادكم، يتناول من سفل من الأبناء. قالوا: لأن الأبوين لفظ مثنى لا يحتمل العموم ولا الجمع، بخلاف قوله: في أولادكم. وفيما قالوه: نظروهما عندي سواء في الدلالة، إن نظر إلى حمل اللفظ على حقيقته فلا يتناول إلا الأبناء الذين ولدهم الأبوان قريبا، لا من سفل كالأبوين لا يتناول إلا من ولداه قريبا، لا من علا. أو إلى حمل اللفظ على مجازه، فيشترك اللفظان في ذلك، فينطلق الأبوان على من ولداه قريبا. ومن علا كما ينطلق الأولاد على من ولداهم قريبا. ومن سفل يبين حمله على الحقيقة في الموضعين أن ابن الابن لا يرث الابن، وأن الجدة لا يفرض لها الثلث بإجماع، فلم ينزل ابن الابن منزلة الابن مع وجوده، ولا الحدة منزلة الأم.
* (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث) * قوله: فإن لم يكن له ولد قسيم لقوله: * (إن كان له ولد) * وورثه أبواه دليل عل أنهما انفردا بميراثه ليس معهما أحد من أهل السهام، لا ولد ولا غيره، فيكون قوله: وورثه أبواه حكما لهما بجميع المال. فإذا خلص للأم الثلث كان الثاني وهو الثلثان للأب، فذكر القسم الواحد يدل على الآخر كما تقول: هذا المال لزيد وعمرو، لزيد منه الثلث، فيعلم قطعا أن باقيه وهو الثلثان لعمرو. فلو كان معهما زوج كان للأم السدس وهو: الثلث بالإضافة إلى الأب. وقال ابن عباس وشريح: للأم الثلث من جميع المال مع الروح، والنصف للزوج، وما بقي للأب، فيكون معنى: وورثه أبواه منفردين أو مع غير ولد، وهذا مخالف لظاهر قوله: وورثه أبواه. إذ يدل على أنهما انفرد بالإرث، فيتقاسمان للذكر مثل حظ الأنثيين. ولا شك أن الأب أقوى في الإرث من الأم، إذ يضعف
نصيبه على نصيبها إذ انفرد بالإرث، ويرث بالفرض وبالتعصيب وبهما. وفي قول ابن عباس وشريح: يكون لها مع الزوج والأب مثل حظ الذكرين، فتصير أقوى من الأب، وتصير الأنثى لها مثلا حظ الذكر، ولا دليل على ذلك من نص ولا قياس.
وفي إقامة الجد مقام الأب خلاف. فمن قال: أنه أب وحجب به الإخوة جماعة منهم: أبو بكر رضي الله عنه، ولم يخالفه أحد من الصحابة في أيام حياته. وقال بمقالته بعد وفاته: أبي ومعاذ، وأبو الدرداء، وابن عباس، وابن الزبير عبد الله، وعائشة، وعطاء، وطاووس، والحسن، وقتادة، وأبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثور. وذهب علي، وزيد، وابن مسعود: إلى توريث الجد مع الأخوة، ولا ينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأم أو للأب، إلا مع ذوي الفروض، فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئا في قول: زيد، وهو قول: مالك، والأوزاعي، والشافعي، ومحمد، وأبي يوسف. كان علي يشرك بين الجد والإخوة في السدس، ولا ينقصه من السدس شيئا مع ذوي الفروض وغيرهم، وهو قول ابن أبي ليلى. وذهب الجمهور: إلى أن الجد يسقط بني الإخوة من الميراث، إلا ما روي عن الشعبي عن علي: أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة.
وأما أم الأم فتسمى أما مجاز، لكن لا يفرض لها الثلث إجماعا، وأجمعوا على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم، وعلى أن الأم تحجب أمها وأم الأب، وعلى أن الأب لا يحجب أم الأم. واختلفوا في توريث الجدة وابنتها. فروي عن عثمان وعلي وزيد: أنها لا ترث وابنتها حية، وبه قال: الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وروي عن عثمان وعلي أيضا، وعمروابن مسعود وأبي موسى وجابر: أنها ترث معها. وقال به: شريك، وعبيد الله بن
192

الحسن، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر. وقال: كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب، كذلك الجدة لا يحجبها إلا الأم. وقرأ الإخوان: فلامه هنا موضعين، وفي القصص * (فى أمها) * وفي الزخرف: في * (أم الكتاب) * بكسر الهمزة، لمناسبة الكسرة والياء. وكذا قرأ من * (بطون أمهاتكم) * في النحل والزمر والنجم، أو * (بيوت أمهاتكم) * في النور. وزاد حمزة: في هذه كسر الميم اتباعا لكسرة الهمزة وهذا في الدرج. فإذا ابتدأ بضم الهمزة، وهي قراءة الجماعة درجا وابتداء. وذكر سيبويه أن كسر الهمزة من أم بعد الياء، والكسر لغة. وذكر الكسائي والفراء: أنها لغة هوازن وهذيل.
* (فإن كان له إخوة فلامه السدس) *، وصار الأب يأخذ خمسة الأسداس. وذهب ابن عباس إلى أن الأخوة يأخذون ما حجبوا الأم عنه وهو السدس، ولا يأخذه الأب. وروي عنه: أن الأب يأخذه لا الأخوة، لقول الجماعة من العلماء. قال قتادة: وإنما أخذه الأب دونهم لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم. وظاهر لفظ إخوة اختصاصه بالجمع المذكر، لأن إخوة جمع أخ. وقد ذهب إلى ذلك طائفة فقالوا: الأخوة تحجب الأم عن الثلث دون الأخوات، وعندنا يتناول الجمعين على سبيل التعليب. فإذن يصير المراد بقوله: أخوة، مطلق الأخوة، أي: أشقاء، أو لأب، أو لأم، ذكورا أو إناثا، أو الصنفين. وظاهر لفظ أخوة، الجمع. وأن الذين يحطون الأم إلى السدس ثلاثة فصاعدا، وهو قول: ابن عباس: الأخوات عنده في حكم الواحد لا يحطان كما لا يحط، فالجمهور على أن الأخوين حكمهما في الحط حكم الثلاث فصاعدا.
ومنشأ الخلاف: هل الجمع أقله اثنان أو ثلاثة؟ وهي مسألة يبحث فيها في أصول الفقه، والبحث فيها في علم النحو أليق. وقال الزمخشري: الأخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية، وهو موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدل بالأخوة عليه انتهى. ولا نسلم له دعوى أن الأخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة، بل تفيد معنى الجمعية التي بعد التثنية بغير كمية فيما بعد التثنية، فيحتاج في إثبات دعواه إلى دليل. وظاهر أخوة الإطلاق، فيتناول الأخوة من الأم فيحجبون كما قلنا قبل. وذهب الروافض: إلى أن الأخوة من الأم لا يحجبون الأم، لأنهم يدلون بها، فلا يجوز أن يحجبوها ويجعلوه لغيرها فيصيرون ضارين لها نافعين لغيرها. واستدل بهذه الآية على أن البنت تقلب حق الأم من الثلث إلى السدس بقوله: فإن كان له أخوة، لأنها إذا حرمت الثلث بالأخوة وانتقلت إلى السدس فلان تحرم بالبنت أولى.
* (من بعد وصية يوصى بها أو دين) * المعنى: أن قسمة المال بين من ذكر إنما تكون
193

بعد خروج ما يجب إخراجه بوصية، أو بدين. وليس تعلق الدين والوصية بالتركة سواء، إذ لو هلك من التركة شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعا، ويبقى الباقي بينهم بالشركة، ولا يسقط من الدين شيء بهلاك شيء من التركة. وتفصيل الميراث على ما ذكروا أنه بعد الوصية يدل على أنه لا يراد ظاهر إطلاق وصية من جواز الوصية بقليل المال وكثيره، بل دل ذلك على جواز الوصية بنقص المال. ويبين أيضا ذلك قوله: * (للرجال نصيب) *، الآية. إذ لو جازت الوصية بجميع المال لكان هذا الجواز ناسخا لهذه الآية، وقد دل الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول على أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث. وقد استحبوا النقصان عنه هذا إذا كان له وارث، فإن لم يكن له وارث، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح: لا تجوز الوصية إلا في الثلث. وقال شريك وأبو حنيفة وأصحابه: يجوز بجميع ماله، لأن الامتناع في الوصية بأكثر من الثلث معلل بوجود الورثة، فإذا لم يوجد وأجاز لظاهر إطلاق الوصية، لأنه إذا فقد موجب تخصيص البعض جاز حمل اللفظ على ظاهره.
وقد استدل بقوله: من بعد وصية يوصي بها أو دين، على أنه إذا لم يكن دين لآدمي ولا وصية، يكون جميع ماله لورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة أو كفارة أو نذر لا يجب إخراجه إلا أن يوصي بذلك. وفي هذا الاستدلال نظر. والوصية مندوب إليها، وقد كانت واجبة قبل نزول الفرائض فنسخت. وادعى قوم وجوبها. وتتعلق من بمحذوف أي: يستحقون ذلك، كما فصل من بعد وصية، ويوصي في موضع الصفة، وبها متعلق بيوصي، وهو مضارع وقع موقع الماضي. والمعنى: من بعد وصية أوصى بها. ومعنى: أو دين، لزمه. وقدم الوصية على الدين، وإن كان أداء الدين هو المقدم على الوصية بإجماع اهتماما بها وبعثا على إخراجها، إذ كانت
مأخوذة من غير عوض شاقا على الورثة إخراجها مظنة للتفريط فيها، بخلاف الدين. فإن نفس الوارث موطنة على أدائه، ولذلك سوى بينها وبين الدين بلفظ: أو، في الوجوب. أو لأن الوصية مندوب إليها في الشرع محضوض عليها، فصارت للمؤمن كالأمر اللازم له. والدين لا يلزم أن يوجد، إذ قد يكون على الميت دين وقد لا يكون، فبدىء بما كان وقوعه كاللازم، وأخر ما لا يلزم وجوده. ولهذه الحكمة كان العطف بأو، إذ لو كان الدين لا يموت أحد إلا وهو راتب لازم له، لكان العطف بالواو، أو لأن الوصية حظ مساكين وضعاف، والدين حظ غريم يطلبه بقوة. وله فيه مقال. قال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى أو؟ (قلت): معناها الإباحة، وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما قدم على قسمة الميراث كقولك: جالس الحسن، أو ابن سيرين انتهى.
ودلت الآية على أن الميراث لا يكون إلا بعد إخراج ما وجب بالوصية أو الدين، فدل على أن إخراج ما وجب بها سابق على الميراث، ولم يدل على أنهما أسبق ما يخرج من مال الميت، إذ الأسبق هو مؤنة تجهيزه من غسله وتكفينه وحمله ووضعه في قبره، أو ما يحتاج إليه من ذلك. وقرأ الابنان وأبو بكر: يوصي فيهما مبنيا للمفعول، وتابعهم حفص على الثاني فقط، وقرأهما الباقون: مبنيا للفاعل.
* (وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة) * قال ابن عباس والحسن: هو في الآخرة لا يدرون أي الوالدين أرفع درجة عند الله ليشفع في ولده، وكذا الولد في والديه. وقال مجاهد وابن سيرين والسدي: معناه في الدنيا، أي: إذا اضطر إلى إنفاقهم للفاقة. ونحا إليه الزجاج، وقد ينفقون دون اضطرار. وقال ابن زيد: في الدنيا والآخرة، واللفظ يقتضي ذلك. وروى عن مجاهد: أقرب لكم نفعا في الميراث والشفاعة. وقال ابن بحر: أسرع موتا فيرثه الآخر. وقال ابن عيسى: أي فاقسموا الميراث على ما بين لكم من يعلم النفع والمصلحة، فإنكم لا تدرون أنتم ذلك،
194

وقريب منه قول الزجاج. قال: معنى الكلام أنه تعالى قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فتضعون الأموال على غير حكمة، ولهذا أتبعه بقوله: * (إن الله كان عليما حكيما) * أي عليم بما يصلح لخلقه، حكيم فيما فرض. قال ابن عطية: وهذا تعريض للحكمة في ذلك، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورثون على غير هذه الصفة.
وقيل: تضمنت هذه الجملة النهي عن تمني موت الموروث. وقيل: المعنى في أقرب لكم نفعا الأب بالحفظ والتربية، أو الأولاد بالطاعة والخدمة والشفقة. وقريب من هذا قول أبي يعلى، قال: معناه أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعا، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء. وقال الزمخشري معلقا هذه الجملة: بالوصية، وأنها جاءت ترغيبا فيها وتأكيدا. قال: لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أمن أوصى منهم أم من لم يوص يعني: أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته، فهو أقرب لكم نفعا، وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهابا إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبا في الصورة إلا أنه فان، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى انتهى كلامه. وهو خطابه. والوصية في الآية لم يأت ذكرها لمشروعيتها وأحكامها في نفسها، وإنما جاء ذكرها ليبين أن القسمة تكون بعد إخراجها وإخراج الدين، فليست مما يحدث عنها، وتفسر هذه الجملة بها. ولكنه لما اختلف حكم الابن والأب في الميراث، فكان حكم الابن إذا مات الأب عنه وعن أنثى، أن يرث مثل حظ الأنثيين، وكان حكم الأبوين إذا مات الابن عنهما وعن ولد أن يرث كل منهما السدس، وكان يتبادر إلى الذهن أن يكون نصيب الوالد أوفر من نصيب الابن، إذ ذاك لماله على الولد من الإحسان والتربية من نشئه إلى اكتسابه المال إلى موته، مع ما أمر به الابن في حياته من بر أبيه. أو يكون نصيبه مثل نصيب ابنه في تلك الحالة إجراء للأصل مجرى الفرع في الإرث، بين تعالى أن قسمته هي القسمة التي اختارها وشرعها، وأن الآباء والأبناء الذين شرع في ميراثهم ما شرع لا ندري نحن أيهم أقرب نفعا، بل علم ذلك منوط بعلم الله وحكمته. فالذي شرعه هو الحق لا ما يخطر بعقولنا نحن، فإذا كان علم ذلك عازبا عنا فلا نخوض فيما لا نعلمه، إذ هي أوضاع من الشارع لا نعلم نحن عللها ولا ندركها، بل يجب التسليم فيها لله ولرسوله. وجميع المقدرات الشرعية في كونها لا تعقل عللها هي مثل قسمة المواريث سواء.
قالوا: وارتفع أيهم على الابتداء، وخبره أقرب، والجملة في موضع نصب لتدرون، وتدرون من أفعال القلوب. وأيهم استفهام تعلق عن العمل في لفظه، لأن الاستفهام في غير الاستثبات لا يعمل فيه ما قبله على ما قرر في علم النحو، ويجوز فيه عندي وجه آخر لم يذكروه وهو على مذهب سيبويه، وهو: أن تكون أيهم موصولة مبنية على الضم، وهي مفعول ببتدرون، وأقرب خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أقرب، فيكون نظير قوله تعالى: * (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد) * وقد اجتمع شرط جواز بنائها وهو أنها مضافة لفظا محذوف صدر صلتها * (فريضة من الله) * انتصب فريضة انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن معنى يوصيكم الله يفرض الله لكم. وقال مكي وغيره هي حال مؤكدة لأن الفريضة ليست مصدرا. * (إن الله كان عليما حكيما) * أي عليما بمصالح العباد، حكيما فيما فرض، وقسم من المواريث وغيرها. وتقدم الكلام في كان إذا جاءت في نسبة الخبر لله تعالى، ومن زعم أنها التامة وانتصب عليما على الحال فقوله: ضعيف، أو أنهار زائدة فقوله: خطأ.
* (ولاكن * نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد) * لما ذكر تعالى ميراث الفروع من الأصول، وميراث الأصول من الفروع، أخذ في ذكر ميراث المتصلين بالسبب لا بالنسب وهو للزوجية هنا، ولم يذكر في القرآن التوارث بسبب الولاء. والتوارث المستقر في الشرع هو بالنسب، والسبب الشامل للزوجية والولاء. وكان في صدر الإسلام يتوارث بالموالاة والخلف والهجرة، فنسخ ذلك. وقدم ذكر ميراث سبب الزوجية على ذكر الكلالة وإن كان بالنسب، لتواشج ما بين الزوجين واتصالهما، واستغناء كل منهما بعشرة صاحبه دون عشرة الكلالة، وبدىء بخطاب الرجال لما لهم من الدرجات على النساء.
ولما كان الذكر من الأولاد حظه مع الأنثى مثل حظ الأنثيين، جعل في سبب التزوج الذكر له مثلا حظ الأنثى. ومعنى: كان لهن ولد أي: منكم أيها الوارثون، أو من غيركم. والولد: هنا ظاهره أنه من ولدته لبطنها ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر، وحكم بني الذكور منها وإن سفلوا حكم الولد للبطن، في أن فرض الزوج منها الربع مع وجوده بإجماع.
* (ولهن الربع
195

مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد) * الولد هنا كالولد في تلك الآية. والربع والثمن يشترك فيه الزوجات إن وجدن، وتنفرد به الواحدة. وظاهر الآية: أنهما يعطيان فرضهما المذكور في الآيتين من غير عول، وإلى ذلك ذهب ابن عباس. وذهب الجمهور إلى أن العول يلحق فرض الزوج والزوجة، كما يلحق سائر الفرائض المسماة.
* (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) * الكلالة: خلو الميت عن الوالد ولولد قاله: أبو بكر، وعمر، وعلي، وسليم بن عبيد، وقتادة، والحكم، وابن زيد، والسبيعي. وقالت طائفة: هي الخلو من الولد فقط. وروي عن أبي بكر وعمر ثم رجعا عنه إلى القول الأول. وروى أيضا عن ابن عباس، وذلك مستقر من قوله في الأخوة مع الوالدين: إنهم يحطون الأم ويأخذون ما يحطونه. ويلزم على قوله: إذ ورثهم بأن الفريضة كلالة أن يعطيهم الثلث بالنص. وقالت طائفة منهم: الحكم بن عيينة، هي الخلو من الولد. قال ابن عطية: وهذا إن القولان ضعيفان، لأن من بقي والده أو ولده فهو موروث بنسب لا بتكلل. وأجمعت الأمة الآن على أن الأخوة لا يرثون مع ابن ولا أرب، وعلى هذا مضت الأعصار والأمصار انتهى.
واختلف في اشتقاقها. فقيل: من الكلال وهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بعد إعياء. قال الأعشى:
* فا ليت لا أرثي لها من كلالة
*
ولا من وجى حتى نلاقي محمدا
*
وقال الزمخشري: والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء. فاستعيرت للقرابة
196

من غير جهة الولد والوالد، لأنها بالإضافة إلى قرابتها كالة ضعيفة. انتهى. وقيل: هي مشتقة من تكلله النسب أحاط به. وإذا لم يترك والدا ولا ولدا فقد انقطع طرفاه، وهما عمودا نسبه، وبقي موروثه لمن يتكلله نسبه أي: يحيط به من نواحيه كالإكليل. ومنه روض مكلل بالزهر. وقال الفرزدق:
* ورثتم قناة المجد لا عن كلاله
*
عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
*
وقال الأخفش: الكلالة من لا يرثه أب ولا أم. والذي عليه الجمهور أن الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا مولود، وهو قول جمهور أهل اللغة صاحب العين، وأبي منصور اللغوي، وابن عرفة، وابن الأنباري، والعتبي، وأبي عبيدة. وغلط أبو عبيدة في ذكر الأخ مع الأب والولد. وقطرب في قوله: الكلالة اسم اسم لمن عدا الأبوين والأخ، وسمى ما عدا الأب والولد كلالة، لأنه بذهاب طرفيه تكلله الورثة وطافوا به من جوانبه. ويرجح هذا القول نزول الآية في جابر ولم يكن له يوم نزولها ابن ولا أب، لأن أباه قتل يوم أحد فصارت قصة جابر بيانا لمراد الآية. وأما الكلالة في الآية فقال عطاء: هو المال. وقالت طائفة: الكلالة الورثة، وهو قول الراغب قال: الكلالة اسم لكل وارث. قال الشاعر:
* والمرء يجمع للغنى
*
وللكلالة ما يسيم
*
وقال عمرو بن عباس: الكلالة الميت الموروث. وقالت طائفة: الورثة بجملتها كلهم كلالة.
وقرأ الجمهور: يورث بفتح الراء مبنيا للمفعول، من أورث مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن: كسرها مبنيا للفاعل من أورث أيضا. وقرأ أبو رجاء والحسن والأعمش: بكسر الراء وتشديدها. من ورث. فأما على قراءة الجمهور ومعنى الكلالة أنه الميت أو الوارث، فانتصاب الكلالة على الحال من الضمير المستكن في يورث. وإذا وقع على الوارث احتيج إلى تقدير: ذا كلالة، لأن الكلالة إذ ذاك ليست نفس الضمير في يورث. وإن كان معنى الكلالة القرابة، فانتصابها على أنها مفعول من أجله أي: يورث لأجل الكلالة. وأما على قراءة الحسن وأبي رجاء، فإن كانت الكلالة هي الميت فانتصابها على الحال، والمفعولان محذوفان، التقدير: يورث وارثه ماله في حال كونه كلالة. وإن كان المعنى بها الوارث فانتصاب الكلالة على المفعول به بيورث، ويكون المفعول الثاني محذوفا تقديره: يورث كلالة ماله أو القرابة، فعلى
المفعول من أجله والمفعولان محذوفان أيضا، ويجوز في كان أن تكون ناقصة، فيكون يورث في موضع نصب على الخبر. وتامة فتكون في موضع رفع على الصفة. ويجوز إذا كانت ناقصة والكلالة بمعنى الميت، أن يكون يورث صفة، وينتصب كلالة على خبر كان، أو بمعنى الوارث. فيجوز ذلك على حذف مضاف أي: وإن كان رجل موروث ذا كلالة. وقال عطاء: الكلالة المال، فينتصب كلالة على أنه مفعول ثان، سواء بني الفعل للفاعل أو للمفعول. وقال ابن زيد: الكلالة الوراثة، وينتصب على الحال أو على النعت لمصدر محذوف تقديره: وراثة كلاله.
وقد كثر الاختلاف في الكلالة، وملخص ما قيل فيها: أنها الوارث، أو الميت الموروث، أو المال الموروث، أو الوراثة، أو القرابة. وظاهر قوله: يورث أي: يورث منه، فيكون هو الموروث لا الوارث. ويوضحه قراءة من كسر الراء. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فإن جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث فما وجهه؟ (قلت): الرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث. (فإن قلت): فالضمير في قوله: فلكل واحد منهما إلى من يرجع حينئذ؟ (قلت): إلى الرجل وإلى أخيه وأخته، وعلى الأول إليهما (فإن قلت): إذا رجع
197

الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر والأنثى، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه؟ قلت: نعم، لأنك إذا قلت: السدس له، أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير، فقد سويت بين الذكر والأنثى انتهى كلامه. وملخص ما قال: أن يكون المعنى: إن كان أحد اللذين يورثهما غيرهما من رجل أو امرأة له أحد هذين من أخ أو أخت، فلكل واحد منهما السدس. وعطف وامرأة على رجل، وحذف منها ما قيد به الرجل لدلالة المعنى، والتقدير: أو امرأة تورث كلالة. وإن كان مجرد العطف لا يقتضي تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه. والضمير في: وله، عائد على الرجل نظير: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) * في كونه عاد على المعطوف عليه. وإن كان يجوز أن يعاد الضمير على المعطوف تقول: زيد أو هند قامت، نقل ذلك الأخفش والفراء. وقد تقدم لنا ذكر هذا الحكم. وزاد الفراء وجها ثالثا وهو: أن يسند الضمير إليهما. قال الفراء: عادة العرب إذا رددت بين اسمين بأو، وأن تعيد الضمير إليهما جميعا، وإلى حدهما أيهما شئت. تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله. وإن شئت فليصلها انتهى. وعلى هذا الوجه ظاهر قوله: * (*) * في كونه عاد على المعطوف عليه. وإن كان يجوز أن يعاد الضمير على المعطوف تقول: زيد أو هند قامت، نقل ذلك الأخفش والفراء. وقد تقدم لنا ذكر هذا الحكم. وزاد الفراء وجها ثالثا وهو: أن يسند الضمير إليهما. قال الفراء: عادة العرب إذا رددت بين اسمين بأو، وأن تعيد الضمير إليهما جميعا، وإلى حدهما أيهما شئت. تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله. وإن شئت فليصلها انتهى. وعلى هذا الوجه ظاهر قوله: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) * وقد تأوله من منع الوجه. وأصل أخت أخوة على وزن شررة، كما أن بنتا أصله بنية على أحد القولين في ابن، أهو المحذوف منه واو أو ياء؟ قيل: فلما حذفت لام الكلمة وتاء التأنيث، وألحقوا الكلمة بقفل وجذع بزيادة التاء آخرهما قال الفراء: ضم أول أخت ليدل على أن المحذوف واو، وكسر أول بنت ليدل على أن المحذوف ياء انتهى. ودلت هذه التاء التي للإلحاق على ما دلت عليه تاء التأنيث من التأنيث. وظاهر قوله: وله أخ أو أخت الإطلاق، إذ الأخوة تكون بين الأحقاف والأعيان وأولاده العلات، وأحمعوا على أن المراد في هذه الآية الأخوة للأم. ويوضح ذلك قراءة أبي وله أخ أو أخت من الأم. وقراءة سعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت من أم، واختلاف الحكمين هنا، وفي آخر السورة يدل على اختلاف المحكوم له، إذ هنا الإبنان أو الأخوة يشتركون في الثلث فقط ذكورا أو إناثا بالسوية بينهم. وهناك يحوزون المال للذكر مثل حظ الأنثيين، والبنتان لهما الثلثان، والضمير في منهما الظاهر أنه يعود على أخ أو أخت. وعلى ما جوزه الزمخشري يعود على أحد رجل وامرأة واحد أخ وأخت، ولو ماتت عن زوج وأم وأشقاء فله النصف ولهما السدس، ولهم الباقي أولا فلهم الثلث. أو أخوين لأم أشقاء فهذه الحمادية. فهل يشترك الجميع في الثلث، أم ينفرد به الأخوان لأم؟ قولان، قال بالتشريك عمر في آخر قضائه، وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو حنيفة وأصحابه. وقال بالانفراد: علي وأبو موسى، وأبي، وابن عباس.
* (فإن كانوا أكثر من ذالك فهم شركاء فى الثلث) * الإشارة بذلك إلى أخ أو أخت، أي أكثر من واحد. لأن المحكوم عليه بأن له السدس هو كل واحد من الأخ والأخت فهو واحد، ولم يحكم على الاثنين بأن لهما جميعا السدس، فتصح الأكثرية فيما أشير إليه وهو ذلك، بل المعنى هنا بأكثر يعني: فإن كان من يرث زائدا على ذلك أي: على الواحد، لأنه لا يصح أن يقول هذا أكثر من واحد إلا بهذا المعنى، لتنافي معنى كثير وواحد، إذ الواحد لا كثرة فيه. وفي قوله: فإن كانوا، وفهم شركاء غلب ضمير المذكر، ولذلك جاء بالواو وبلفظ، فهم هذا كله على ما قررت فيه الأحكام. وظاهر الآية: أنه إذا ترك أخا أو أختا، أي أحد هذين، فلكل واحد منهما السدس أو أكثر اشتركوا في الثلث، أما إذا ترك اثنين من أخ أو أخت، فلا يدل على ذلك ظاهر الآية.
* (من بعد وصية يوصى بها أو دين * غير مضار وصية من الله) * الضمير في يوصي عائد على رجل، كما عاد عليه في: وله أخ. ويقوي عود الضمير عليه أنه هو الموروث لا الوارث، لأن الذي يوصي أو يكون عليه الدين هو الموروث لا الوارث. ومن فسر قوله: * (وإن كان رجل) * أنه هو الوارث لا الموروث، جعل الفاعل في يوصي عائدا على ما دل عليه المعنى من الوارث. كما دل المعنى على الفاعل في قوله: * (فلهن ثلثا ما ترك) * لأنه علم أن الموصي والتارك لا يكون إلا الموروث، لا الوارث. والمراد: غير مضار، ورثته بوصيته أو دينه. ووجوه المضارة كثيرة: كان يوصي بأكثر من الثلث، أو
198

لوارثه، أو بالثلث، أو يحابى به، أو يهبه، أو يصرفه إلى وجوه القرب من عتق وشبهه فرارا عن وارث محتاج، أو يقر بدين ليس عليه. ومشهور مذهب مالك أنه ما دام في الثلث لا بعد مضارا، وينبغي اعتبار هذا القيد وهو انتفاء الضرر فيما تقدم من ذكر قوله: * (من بعد وصية يوصى بها) * * (* وتوصون ويوصين) * ويكون قد حذف مما سبق لدلالة ما بعده عليه، فلا يختص من حيث المعنى انتفاء الضرر بهذه الآية المتأخرة. قال ابن عباس: الضرار في الوصية من الكبائر، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم). وعنه صلى الله عليه وسلم) من حديث أبي هريرة: (من ضار في وصيته ألقاه الله في وادي جهنم). وقال قتادة: نهى الله عن
الضرار في الحياة وعند الممات.
قالوا: وانتصاب غير مضار على الحال من الضمير المستكن في يوصي، والعامل فيهما يوصي. ولا يجوز ما قالوه، لأن فيه فصلا بين العامل والمعمول بأجنبي منهما وهو قوله: أو دين. لأن قوله: أو دين، معطوف على وصية الموصوفة بالعامل في الحال. ولو كان على ما قالوه من الأعراب لكان التركيب من بعد وصية يوصي بها غير مضار أو دين. وعلى قراءة من قرأ: يوصى بفتح الصاد مبنيا للمفعول، لا يصح أن يكون حالا لما ذكرناه، ولأن المضار لم يذكر لأنه محذوف قام مقامه المفعول الذي لم يسم فاعله، ولا يصح وقوع الحال من ذلك المحذوف. لو قلت: ترسل الرياح مبشرا بها بكسر الشين، لم يجز وإن كان المعنى يرسل الله الرياح مبشرا بها. والذي يظهر أنه يقدر له ناصب يدل عليه ما قبله من المعنى، ويكون عاما لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين، وتقديره: يلزم ذلك ماله أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب. وقيل: يضمر يوصي لدلالة يوصي عليه، كقراءة يسبح بفتح الباء. وقال رجال: أي يسبحه رجال. وانتصاب وصية من الله على أنه مصدر مؤكد أي: يوصيكم الله بذلك وصية، كما انتصب * (لكم نفعا فريضة من الله) *.
وقال ابن عطية: هو مصدر في موضع الحال، والعامل يوصيكم. وقيل: هو نصب على لخروج من قوله: * (فلكل واحد منهما السدس) * أو من قوله: * (فهم شركاء فى الثلث) * وجوز هو والزمخشري نصب وصية بمضار على سبيل التجوز، لأن المضارة في الحقيقة إنما تقع بالورثة لا بالوصية، لكنه ما كان الورثة قد وصى الله تعالى بهم صار الضرر الواقع بالورثة كأنه وقع بالوصية. ويؤيد هذا التخريج قراءة الحسن غير مضار وصية، فخفض وصية بإضافة مضار إليه، وهو نظير يا سارق الليلة المعنى: يا سارقي في الليلة، لكنه اتسع في الفعل فعداه إلى الظرف تعديته للمفعول به، وكذلك التقدير في هذا غير مضار في: وصية من الله، فاتسع وعدي اسم الفاعل إلى ما يصل إليه بوساطة في تعديته للمفعول به.
* (والله عليم حليم) * عليم بمن جار أو عدل، حليم عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة قاله: الزمخشري. وفيه دسيسة الاعتزال أي: أن الجائر وإن لم يعاجله الله بالعقوبة فلا بد له منها. والذي يدل عليه لفظ حليم هو أن لا يؤاخذ بالذنب كما يقوله أهل السنة. وعلى قولهم يكون هذا الوصف يدل على الصفح عنه البتة. وحسن ذلك هنا لأنه لما وصف نفسه بقوله: عليم، ودل على اطلاعه على ما يفعله الموروث في مضارته بورثته في وصيته ودينه، وأن ذكر علمه بذلك دليل على مجازاته على مضارته، أعقب ذلك بالصفة الدالة على الصفح عمن شاء، وذلك على عادة أكثر القرآن بأنه لا يذكر ما يدل على العقاب، إلا ويردف بما دل على العفو. وانظر إلى حسن هذا التقسيم في الميراث، وسبب الميراث هو الاتصال بالميت، فإن كان بغير واسطة فهو النسب أو الزوجية، أو بواسطة فهو الكلالة. فتقدم الأول على الثاني لأنه ذاتي، والثاني عرض، وأخر الكلالة عنهما لأن الاثنين لا يعرض لهما سقوط بالكلية، ولكون اتصالهما بغير واسطة، ولأكثرية المخالطة.
199

انتهى ملخصا من كلام الرازي في تفسيره.
* (تلك حدود الله) * قيل: الإشارة بتلك إلى القسمة المتقدمة في المواريث. والأولى أن تكون إشارة إلى الأحكام السابقة في أحوال اليتامى والزوجات والوصايا والمواريث، وجعل هذه الشرائع حدودا، لأنها مؤقتة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتعدوها إلى غيرها. وقال ابن عباس: حدود الله طاعته. وقال السدي: شروطه. وقيل: فرائضه. وقيل: سننه. وهذه أقوال متقاربة.
* (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الانهر خالدين فيها وذالك الفوز العظيم) * لما أشار تعالى إلى حدوده التي حدها قسم الناس إلى عامل بها مطيع، وإلى غير عامل بها عاص. وبدأ بالمطبع لأن الغالب على من كان مؤمنا بالله تعالى الطاعة، إذ السورة مفتتحة بخطاب الناس عامة، ثم أردف بخطاب من يتصف بالإيمان إلى آخر المواريث، ولأن قسم الخير ينبغي أن يبتدأ به وأن يعتني بتقديمه. وحمل أولا على لفظ من في قوله: يطع، ويدخله، فأفرد ثم حمل على المعنى في قوله: خالدين. وانتصاب خالدين على الحال المقدرة، والعامل فيه يدخله، وصاحب الحال هو ضمير المفعول في يدخله.
قال ابن عطية: وجمع خالدين على معنى من بعد أن تقدم الإفراد مراعاة للفظ من، وعكس هذا لا يجوز انتهى. وما ذكر أنه لا يجوز من تقدم الحمل على المعنى ثم على اللفظ جائز عند النحويين، وفي مراعاة الحملين تفصيل وخلاف مذكور في كتب النحو المطولة. وقال الزمخشري: وانتصب خالدين وخالدا على الحال. (فإن قلت): هل يجوز أن يكونا صفتين لجنات ونارا؟ (قلت): لا، لأنهما جريا على غير من هما له، فلا بد من الضمير وهو قولك: خالدين هم فيها، وخالدا هو: فيها انتهى. وما ذكره ليس مجمعا عليه، بل فرع على مذهب البصريين. وأما عند الكوفيين فيجوز ذلك، ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذا لم يلبس على تفصيل لهم في ذلك ذكر في النحو. وقد جوز ذلك في الآية الزجاج والتبريزي أخذ بمذهب الكوفيين. وقرأ نافع وابن عامر: ندخله هنا، وفي: ندخله نارا بنون العظمة. وقرأ الباقون: بالياء عائدا على الله تعالى. قال الراغب: ووصف الفوز بالعظم اعتبار يفوز الدنيا الموصوف بقوله: * (قل متاع الدنيا قليل) * والصغير والقليل في وصفهما متقاربان.
* (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا فيها وله عذاب مهين) * لما ذكر ثواب مراعي الحدود ذكر عقاب من يتعداها، وغلظ في قسم المعاصي، ولم يكتف بالعصيان بل أكد ذلك بقوله: ويتعد حدوده، وناسب الختم بالعذاب المهين، لأن العاصي المتعدي للحدود برز في صورة من اغتر وتجاسر على معصية الله. وقد تقل المبالاة بالشدائد ما لم ينضم إليها الهوان، ولهذا قالوا: المنية ولا الدنية. قيل: وأفرد خالدا هنا، وجمع في خالدين فيها، لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة، وإذا شفع في غير دخلها، والعاصي لا يدخل النار به غيره، فبقي وحيدا انتهى.
وتضمنت هذه الآيات من أصناف البديع: التفصيل في: الوارث والأنصباء بعد الإبهام في قوله: للرجال نصيب الآية. والعدول من صيغة: يأمركم الله إلى يوصيكم، لما في الوصية
200

من التأكيد والحرص على اتباعها. والطباق في: للذكر مثل حظ الأنثيين، وفي: من يطع ومن يعص، وإعادة الضمير إلى غير مذكور لقوة الدلالة على ذلك في قوله: مما ترك أي: ترك الموروث. والتكرار في: لفظ كان، وفي فريضة من الله، أن الله، وفي: ولدا، وأبواه، وفي: من يعد وصية يوصي بها أو دين، وفي: وصية من الله أن الله، وفي: حدود الله، وفي: الله ورسوله. وتلوين الخطاب في: من قرأ ندخله بالنون. والحذف في مواضع.
2 (* (واللاتى يأتين الفاحشة من نسآئكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا * واللذان يأتيانها منكم فأاذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهمآ إن الله كان توابا رحيما * إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولائك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما * وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الا ن ولا الذين يموتون وهم كفار أولائك أعتدنا لهم عذابا أليما * ياأيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ ءاتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا * وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا * وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا * ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا * حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الا خ وبنات الا خت وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسآئكم اللاتى دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنآئكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الا ختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما * والمحصنات من النسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب
201

الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فأاتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما * ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشى العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم * يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) *))
) *
العشرة: الصحبة والمخالطة. يقال: عاشروا، وتعاشروا، واعتشروا. وكان ذلك من أعشار الجذور، لأنها مقاسمة ومخالطة. الإفضاء إلى الشيء: الوصول إلى فضاء منه، أي سعة غير محصورة. وفي مثل الناس فوضى فضى أي: مختلطون، يباشر بعضهم بعضا. ويقال: فضا يفضو فضا ء إذا اتسع، فألف أفضى منقلبة عن ياء أصلها واو. المقت: البغض المقرون باستحقار حصل بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه. العمة: أخت الأب. الخالة: أخت الأم، وألفها منقلبة عن واو، دليل ذلك قولهم: أخوال في جمع الخال، ورجل مخول كريم الأخوال. الربيبة: بنت زوج الرجل من غيره. الحجر بفتح الحاء وكسرها: مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حال اللبس، ثم استعملت
202

اللفظة في السير والحفظ، لأن اللابس إنما يحفظ طفلا، وما أشبهه في ذلك الموضع من الثوب، وجمعه حجور. الحليلة: الزوجة، والحليل الزوج قال:
* أغشى فتاة الحي عند حليلها
*
وإذا غزا في الجيش لا أغشاها
*
سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل، فهي فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وغيره إلى أنها من لفظ الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل: كل واحد منهما يحل إزار صاحبه. الصلب: الظهر، وصلب صلابة قوي واشتد. وذكر الفراء في كتاب لغات القرآن له: أن الصلب وهو الظهر، على وزن قفل هو لغة أهل الحجاز ويقول فيه تميم وأسد: الصلب بفتح الصاد واللام. قال: وأنشدني بعضهم:
وصلب مثل العنان المؤدم قال وأنشدني بعض بني أسد إذا أقوم أتشكي صلبي المحصنة: المرأة العفيفة. يقال: أحصنت فهي محصن، وحصنت فهي حصان عفت عن الريبة ومنعت نفسها منها. وقال شمر: يقال امرأة حصان، وحاصن. قال:
* وحاصن من حاصنات ملس
*
من الأذى ومن فراق الوقس
*
ومصدر حصنت حصن. قال سيبويه: وقال أبو عبيدة والكسائي: حصانة. ويقال في اسم الفاعل من أحصن وأسهب وأبعج، مفعل بفتح عين الكلمة، وهو شذوذ نقله ثعلب عن ابن الأعرابي. وأصل الإحصان المنع، ومنه قيل للدرع وللمدينة: حصينة والحصن وفرس حصان. المسافحة والسفاح: الزنا، وأصله من السفح وهو
الصب، يسفح كل من الزانيين نطفته. الخدن والخدين: الصاحب. الطول: الفضل، يقال منه: طال عليه يطول طولا فضل عليه. وقال الليث والزجاج: الطول القدرة. انتهى. ويقال له: عليه طول أي زيادة وفضل، وقد طاله طولا فهو طائل. قال الشاعر:
203

* لقد زادني حبا لنفسي أنني
*
بغيض إلى كل امرئ غير طائل
*
ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه، كما أن القصر قصور فيه ونقصان. الفتاة الحديثة السن والفتاء الحداثة. قال: فقد ذهب المروءة والفتاء. وقال ابن منصور الجواليقي: المتفتية والفتاة المراهقة، والفتى الرفيق، ومنه: * (وإذ قال موسى لفتاه) * والفتى: العبد. ومنه: * (لا * يقل * أحدكم) *. الميل: العدول عن طريق الاستواء. * (يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) * قال مجاهد واختاره أبو مسلم بن بحر الأصبهاني: هذه الآية نزلت في النساء. والمراد بالفاحشة هنا: المساحقة، جعل حدهن الحبس إلى أن يمتن أو يتزوجن. قال: ونزلت * (واللذان يأتيانها منكم) * في أهل اللواط. والتي في النور: في * (الزانية والزانى) * وخالف جمهور المفسرين. وبناه أبو مسلم على أصل له: وهو يرى أنه ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى النساء فذكر إيتاء صدقاتهن وتوريثهن، وقد كن لا يورثن في الجاهلية، ذكر التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، وفي الحقيقة هو إحسان إليهن، إذ هو نظر في أمر آخرتهن، ولئلا يتوهم أن من الإحسان إليهن أن لا تقام عليهن الحدود فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد. ولأنه تعالى لما ذكر حدوده وأشار بتلك إلى جميع ما وقع من أول السورة إلى موضع الإشارة، فكان في مبدأ السورة التحصن بالتزويج، وإباحة ما أباح من نكاح أربع لمن باح ذلك، استطرد بعد ذلك إلى حكم من خالف ما أمر الله به من النكاح من الزواني، وأفردهن بالذكر أولا، لأنهن على ما قيل أدخل في باب الشهوة من الرجال، ثم ذكرهن ثانيا مع الرجال الزانين في قوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * فصار ذكر النساء الزواني مرتين: مرة بالإفراد، ومرة بالشمول.
واللاتي جمع من حيث المعنى للتي، ولها جموع كثيرة أغربها: اللاآت، وإعرابها إعراب الهندات.
ومعنى يأتين الفاحشة: يجئن ويغشين. والفاحشة هنا الزنا بإجماع من المفسرين، إلا ما نقل عن مجاهد وتبعه أبو مسلم في أن المراد به المساحقة، ويأتي الكلام معه في ذلك، وأطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح. قيل: فإن قيل: القتل والكفر أكبر من الزنا، قيل: القوى المدبرة للبدن ثلاث: الناطقة وفسادها بالكفر والبدعة وشبههما، والغضبية وفسادها بالقتل والغضب وشبههما، وشهوانية وفسادها بالزنا واللواط والسحر وهي: أخس هذه القوى، ففسادها أخس أنواع الفساد، فلهذا خص هذا العمل بالفاحشة. وحجة أبي مسلم في أن الفاحشة هي السحاق قوله: * (واللاتى يأتين * ومن * نسائكم) * وفي الرجال: * (واللذان) * ومنكم وظاهره التخصيص، وبأن ذلك لا يكون فيه نسخ، وبأنه لا يلزم فيه التكرار. ولأن تفسير السبيل بالرجم أو الجلد والتغريب عند القائلين بأنها نزلت في الزنا، يكون عليهن لا لهن، وعلى قولنا: يكون السبيل تيسر الشهوة لهن بطريق النكاح. وردوا على أبي مسلم بأن ما قاله لم يقله أحد من المفسرين، فكان باطلا. وأجاب: بأنه قاله مجاهد، فلم يكن إجماعا وتفسير السبيل بالحديث الثابت: * (قد جعل الله * لهن سبيلا) * (الثيب ترجم والبكر تجلد) فدل على أن ذلك في الزناة. وأجاب بأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز. وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللوطية ولم يتمسك أحد منهم بقوله: واللذان يأتيانها منكم، فدل على أنها ليست فيهم. وأجاب بأن مطلوب الصحابة: هل يقام الحد على اللوطي وليس فيها دلالة على ذلك لا بالنفي ولا بالإثبات؟ فلهذا لم يرجعوا إليه. انتهى. ما احتج به أبو مسلم، وما رد به عليه، وما أجاب به. والذي يقتضيه ظاهر اللفظ هو قول مجاهد وغيره: أن اللاتي مختص بالنساء، وهو عام أحصنت أو لم تحصن. وإن واللذان مختص بالذكور، وهو عام في المحصن وغير المحصن. فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى. ويكون هاتان الآيتان وآية النور قد استوفت أصناف الزناة، ويؤيد هذا الظاهر قوله: من نسائكم وقوله: منكم، لا يقال: إن السحاق واللواط لم يكونا معروفين في العرب ولا في
204

الجاهلية، لأن ذلك كان موجودا فيهم، لكنه كان قليلا. ومن ذلك قول طرفة بن العبد:
* ملك النهار وأنت الليل مومسة
*
ماء الرجال على فخذيك كالقرس
*
وقال الراجز:
* يا عجبا لساحقات الورس
*
الجاعلات المكس فوق المكس
*
وقرأ عبد الله: واللاتي يأتين بالفاحشة، وقوله: من نسائكم اختلف، هل المراد الزوجات أو الحرائر أو المؤمنات أو الثيبات دون الأبكار؟ لأن لفظ النساء مختص في العرف بالثيب، أقوال. الأول: قاله قتادة والسدي وغيرهما. قال ابن عطية: قوله من نسائكم إضافة في معنى الإسلام، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين ينسب ولا يلحقها هذا الحكم انتهى. وظاهر استعمال النساء مضافة للمؤمنين في الزوجات كقوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم) * * (والذين يظاهرون من نسائهم) * وكون المراد الزوجات وأن الآية فيهم، هو قول أكثر المفسرين. وأمر تعالى باستشهاد أربعة تغليظا على المدعي، وسترا لهذه المعصية. وقيل: يترتب على كل واحد شاهدان. وقوله: عليهن، أي على إتيانهن الفاحشة. والظاهر أنه يختص بالذكور المؤمنين لقوله: أربعة منكم، وأنه يجوز الاستشهاد لمعاينة الزنا. وإن تعمد النظر إلى الفرح لا يقدح في العدالة إذا كان ذلك لأجل الزنا.
وإعراب اللاتي مبتدأ، وخبره فاستشهدوا. وجاز دخول الفاء في الخبر، وإن كان لا يجوز فاضربه على الابتداء والخبر، لأن المبتدأ موصول بفعل مستحق به الخبر، وهو مستوف شروط ما تدخل الفاء في خبره، فأجرى الموصول لذلك مجرى اسم الشرط. وإذ قد أجرى مجراه بدخول الفاء فلا يجوز أن ينتصب بإضمار فعل يفسره فاستشهدوا، فيكون من باب الاشتغال، لأن فاستشهدوا لا يصح أن يعمل فيه لجريانه مجرى اسم الشرط، فلا يصح أن يفسر هكذا. قال بعضهم: وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره: اقصدوا اللاتي. وقيل: خير اللاتي محذوف تقديره: فيما يتلى عليكم حكم اللاتي يأتين، كقول سيبويه في قوله: * (والسارق والسارقة) * وفي قوله: * (الزانية والزانى) * وعلى ذلك جملة سيبويه. ويتعلق من نسائكم بمحذوف، لأنه في موضع الحال من الفاعل في: يأتين، تقديره: كائنات من نسائكم. ومنكم يحتمل أن يتعلق بقوله: فاستشهدوا، أو بمحذوف فيكون صفة لأربعة، أي: كائنين منكم.
* (فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) * أي: فإن شهد أربعة منكم عليهن. والمخاطب بهذا الأمر: أهم الأزواج أمروا بذلك إذا بدت من الزوجة فاحشة الزنا، ولا تقربوهن عقوبة لهن وكانت من جنس جريمتهن؟ أم الأولياء إذا بدت ممن لهم عليهن ولاية ونظر يحبسن حتى يمتن؟ أو أولو الأمر من الولاة والقضاة إذ هم الذين يقيمون الحدود وينهون عن الفواحش؟ أقوال ثلاثة. والظاهر أن الإمساك في البيوت إلى الغاية المذكورة كان على سبيل الحد لهن، وأن حدهن كان ذلك حتى نسخ، وهو الصحيح، قاله: ابن عباس، والحسن. والحبس في البيت آلم وأوجع من الضرب والإهانة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك أخذ المهر على ما ذكره السدي، لأن ألم الحبس مستمر، وألم الضرب يذهب. قال ابن زيد: منعن من النكاح حتى يمتن عقوبة لهن حين طلبن النكاح من غير وجهه. وقال قوم: ليس بحد بل هو إمساك لهن بعد أن يحدهن الإمام صيانة لهن أن يقعن في مثل ما جرى لهن بسبب الخروج من البيوت، وعلى هذا لا يكون الإمساك حدا. وإذا كان يتوفى بمعنى يميت، فيكون التقدير حتى يتوفاهن ملك الموت. وقد صرح بهذا المضاف المحذوف، وهنا في قوله: قل يتوفاكم ملك الموت. وإن كان المعنى بالتوفي الأخذ، فلا يحتاج إلى حذف مضاف، إذ يصير التقدير: حتى يأخذهن الموت. والسبيل الذي جعله الله لهن مبني على الاختلاف المراد بالآية. فقيل: هو النكاح المحصن لهن المغنى عن السفاح، وهذا على تأويل أن الخطاب للأولياء أو للأمراء أو القضاة، دون الأزواج. وقيل: السبيل هو ما استقر عليه حكم الزنا من الحد، وهو * (* البكر بالبكر جلد مائة وتغريب
205

عام، والثيب بالثيب) * رمى بالحجارة. وثبت تفسير السبيل بهذا من حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم)، فوجب المصير إليه. وحديث عبادة ليس بناسخ لهذه الآية، ولا لأنه الجلد، بل هو مبين لمجمل في هذه الآية إذ غيا إمساكهن في البيوت إلى أن يجعل لهن سبيلا، وهو مخصص لعموم آية الجلد. وعلى هذا لا يصح طعن أبي بكر الرازي على الشافعي في قوله: إن السنة لا تنسخ القرآن، بدعواه أن آية الحبس منسوخة، بحديث عبادة، وحديث عبادة منسوخ بآية الجلد، فيلزم من ذلك نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن، خلاف قول الشافعي، بل البيان والتخصيص أولى من ادعاء نسخ ثلاث مرات على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة، إذ زعموا أن آية الحبس منسوخة بالحديث، وأن الحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد منسوخة بآية الرجم.
* (حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فئاذوهما) * تقدم قول مجاهد واختيار أبي مسلم أنها في اللواطة، ويؤيده ظاهر التثنية. وظاهر منكم إذ ذلك في الحقيقة هو للذكور، والجمهور على أنها في الزناة الذكور والإناث. واللذان أريد به الزاني والزانية، وغلب المذكر على المؤنث، وترتب الأذى على إتيان الفاحشة وهو مقيد بالشهادة على إتيانها. وبين ذلك في الآية السابقة وهو: شهادة أربعة. والأمر بالأذى بدل على مطلق الأذى بقول أو فعل أو بهما.
فقال ابن عباس: هو النيل باللسان واليد، وضرب النعال وما أشبهه. وقال قتادة والسدي: هو التعبير والتوبيخ. وقال قوم: بالفعل دون القول. وقالت فرقة: هو السب والجفا دون تعيير. وقيل: الأذى المأمور به هو الجمع بين الحدين: الجلد والرجم، وهو قول علي، وفعله في الهمدانية: جلدها ثم رجمها.
وظاهر قوله: واللذان يأتيانها العموم. وقال قتادة والسدي وابن زيد وغيرهم: هي في الرجل والمرأة البكرين، وأما الأولى ففي النساء المزوجات، ويدخل معهن في ذلك من أحصن من الرجال بالمعنى. ورجح هذا القول الطبري. وأجمعوا على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد، إلا في تفسير على الأذى فلا نسخ، وإلا في قول من قال: إن الأذى بالتعيير مع الجلد باق فلا نسخ عنده، إذ لا تعارض، بل يجمعان على شخص واحد. وإذا حملت الآيتان على الزنا تكون الأولى قد دلت على حبس الزواني، والثانية على إيذائها وإيذائه، فيكون الإيذاء مشتركا بينهما، والحبس مختص بالمرأة فيجمع عليها الحبس والإيذاء، هذا ظاهر اللفظ. وقيل: جعلت عقوبة المرأة الحبس لتنقطع مادة هذه المعصية، وعقوبة الرجل الإيذاء، ولم يجعل الحبس لاحتياجه إلى البروز والاكتساب. وأما على قول قتادة والسدي: من أن الأولى في الثيب والثانية في البكر من الرجال والنساء، فقد اختلف متعلق العقوبتين، فليس الإيذاء مشتركا. وذهب الحسن إلى أن هذه الآية قبل الآية المتقدمة، ثم نزل * (فأمسكوهن فى البيوت) * يعني إن لم يتبن
206

وأصررن فامسكوهن إلى إيضاح حالهن، وهذا قول يوجب فساد الترتيب، فهو بعيد. وعلى هذه الأقوال يظهر للتكرار فوائد. وعلى قول قتادة والسدي: لا تكرار، وكذلك لا تكرار على قول: مجاهد وأبي مسلم.
وإعراب واللذان كإعراب واللاتي. وقرأ الجمهور: واللذان بتخفيف المنون. وقرأ ابن كثير: بالتشديد. وذكر المفسرون علة حذف الياء، وعلة تشديد النون، وموضوع ذلك علم النحو. وقرأ عبد الله: والذين يفعلونه منكم، وهي قراءة مخالفة لسواد مصحف الإمام، ومتدافعة مع ما بعدها. إذ هذا جمع، وضمير جمع وما بعدهما ضمير تثنية، لكنه يتكلف له تأويل: بأن الذين جمع تحته صنفا الذكور والإناث، فعاد الضمير بعده مثنى باعتبار الصنفين، كما عاد الضمير مجموعا على المثنى باعتبار أن المثنى تحتهما أفراد كثيرة هي في معنى الجمع في قوله: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * * (هاذان خصمان اختصموا) * والأولى اعتقاد قراءة عبد الله أنها على جهة التفسير، وأن المراد بالتثنية العموم في الزناة. وقرئ واللذأن بالهمزة وتشديد النون، وتوجيه هذه القراءة أنه لما شدد النون التقى ساكنان، ففر القارئ من التقائهما إلى إبدال الألف همزة تشبيها لها بألف فاعل المدغم عينه في لامه، كما قرىء: * (ولا الضالين) * * (ولا جان) * وقد تقدم لنا الكلام في ذلك مشبعا في قوله: ولا الضالين في الفاتحة.
* (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) * أي: إن تابا عن الفاحشة وأصلحا عملهما فاتركوا أذاهما. والمعنى: أعرضوا عن أذاهما. وقيل: الأمر بكف الأذى عنهما منسوخ بآية الجلد. قال ابن عطية: وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا، لأن تركهم إنما هو إعراض. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (وأعرض عن الجاهلين) * وليس هذا الإعراض في الآيتين أمرا بهجرة، ولكنها متاركة معرض، وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة. انتهى كلامه.
* (إن الله كان توابا رحيما) * أي رجاعا بعباده عن معصيته إلى طاعته، رحيما لهم بترك أذاهم إذا تابوا.
* (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما) * تقدم الكلام في إنما وفي دلالتها على الحصر، أهو من حيث الوضع، أو الاستعمال؟ أم دلالة لها عليه؟ وتقدم الكلام في التوبة وشروطها، فأغنى ذلك عن إعادته. وقوله: إنما التوبة على الله هو على حذف مضاف من المبتدأ والخبر، والتقدير: إنما قبول التوبة مترتب على فضل الله، فتكون على باقية على بابها. وقال الزمخشري: يعني إنما القبول والغفران واجب على الله تعالى لهؤلاء انتهى. وهذا الذي قاله هو على طريق المعتزلة، والذي نعتقده أن الله لا يجب عليه تعالى شيء من جهة العقل، فأما ما ظاهره الوجوب من جهة السمع على نفسه كتخليد الكفار وقبول الإيمان من الكافر بشرطه فذلك واقع قطعا، وأما قبول التوبة فلا يحب على الله عقلا وأما من جهة السمع فتظافرت ظواهر الآي والسنة على قبول الله التوبة، وأفادت القطع بذلك. وقد ذهب أبو المعالي الجويني وغيره: إلى أن هذه الظواهر إنما تفيد غلبة الظن لا القطع بقبول التوبة، والتوبة فرض بإجماع الأمة، وتصح وإن نقضها في ثاني حال بمعاودة الذنب ومن ذنب، وإن أقام على ذنب غيره خلافا للمعتزلة ومن نحا نحوهم ممن ينتمي إلى السنة، إذ ذهبوا إلى أنه لا يكون تائبا من أقام على ذنب. وقيل: على بمعنى عند. وقال الحسن: بمعنى من، والسوء يعم الكفر والمعاصي غيره سمي بذلك لأنه تسوء عاقبته.
وموضع بجهالة حال، أي: جاهلين ذوي سفه وقلة تحصيل، إذ ارتكاب السوء، لا يكون إلا عن غلبة الهوى للعقل، والعقل يدعو إلى الطاعة، والهوى والشهوة يدعوان إلى المخالفة، فكل عاص جاهل بهذا التفسير. ولا تكون الجهالة هنا التعمد، كما ذهب إليه الضحاك. وروي عن مجاهد لإجماع المسلمين: على أن من تعمد الذنب وتاب، تاب الله
207

عليه. وأجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) على أن كل معصية هي بجهالة عمدا كانت أو جهلا. وقال الكلبي: بجهالة أي لا يجهل كونها معصية، ولكن لا يعلم كنه العقوبة. وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، يعني ما اختص بها وخرج عن طاعته الله. وقال الزجاج: جهالته من حيث آثر اللذة الفانية على اللذة الباقية، والحظ العاجل على الآجل. وقيل: الجهالة الإصرار على المعصية، ولذلك عقبه بقوله: ثم يتوبون من قريب. وقيل: معناه فعله غير مصر عليه، فأشبه الجاهل الذي لا يتعمد الشيء. وقال الترمذي: جهل الفعل الوقوع فيه من غير قصد، فيكون المراد منه العفو عن الخطأ، ويحتمل قصد الفعل والجهل بموقعه أي: حرام، أو في الحرمة: أي: قدر هي فيرتكبه مع الجهالة بحاله، لا قصد الاستخفاف به والتهاون به. والعمل بالجهالة قد يكون عن غلبة شهوة، فيعمل لغرض اقتضاء الشهوة على طمع أنه سيتوب من بعد ويصير صالحا، وقد يكون على طمع المغفرة والاتكال على رحمته وكرمه. وقد تكون الجهالة جهالة عقوبة عليه.
ومعنى من قريب: أي من زمان قريب. والقرب هنا بالنسبة إلى زمان المعصية، وهي بقية مدة حياته إلى أن يغرغر، أو بالنسبة إلى زمان مفارقة الروح. فإذا كانت توبته تقبل في هذا الوقت فقبولها قبله أجدر، وقد بين غاية منع قبول التوبة في الآية بعدها بحضور الموت. وقيل: قبل أن يحيط السوء بحسناته، أي قبل أن تكثر سيئاته وتزيد على حسناته، فيبقى كأنه بلا حسنات. وقيل: قبل أن تتراكم ظلمات قلبه بكثرة ذنوبه، ويؤديه ذلك إلى الكفر المحيط. وقال عكرمة والضحاك ومحمد بن قيس وأبو مجلز وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسوق. وقال ابن عباس والسدي: قبل المرض والموت. فذكر ابن عباس أحسن أوقات التوبة، وذكر من قبله آخر وقتها. وقال ابن عباس أيضا: قبل أن ينزل به سلطان الموت، وروى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم): (أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) وعن الحسن أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده، فقال: وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر. قيل: وسميت هذه المدة قريبة لأن الأجل آت، وكل ما هو آت قريب. وتنبيها على أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة قريبة، ولأن الإنسان يتوقع كل لحظة نزول الموت به، وما هذه حاله فإنه يوصف بالقرب.
وارتفاع التوبة على الابتداء، والخبر هو على الله، وللذين متعلق بما يتعلق به على الله، والتقدير: إنما التوبة مستقرة على فضل الله وإحسانه للذين. وقال أبو البقاء:
في هذا الوجه يكون للذين يعملون السوء حالا من الضمير في قوله: على الله، والعامل فيها الظرف، والاستقرار أي ثابتة للذين انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التكلف. وأجاز أبو البقاء أن يكون الخبر للذين، ويتعلق على الله بمحذوف، ويكون حالا من محذوف أيضا والتقدير: إنما التوبة إذا كنت، أو إذ كانت على الله. فإذا وإذ ظرفان العامل فيهما للذين، لأن الظرف يعمل فيه المعنى وإن تقدم عليه. وكان تامة، وصاحب الحال ضمير الفاعل لكان. قال: ولا يجوز أن يكون على الله حالا يعمل فيها للذين، لأنه عامل معنوي، والحال لا يتقدم على المعنوي. ونظير هذه المسألة قولهم: هذا بسرا أطيب منه رطبا انتهى. وهو وجه متكلف في الإعراب، غير متضح في المعنى، وبجهالة في موضع الحال أي: مصحوبين بجهالة. ويجوز عندي أن تكون باء السبب أي الحامل
208

لهم على عمل السوء هو الجهالة، إذ لو كانوا عالمين بما يترتب على المعصية متذكرين له حالة إتيان المعصية ما عملوها كقوله (لا يزني الزاني حتى يزني وهو مؤمن) لأن العقل حينئذ يكون مغلوبا أو مسلوبا. ومن في قوله: من قريب، تتعلق بيتوبون، وفيها وجهان: أحدهما: أنها للتبعيض، أي بعض زمان قريب، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب. والثاني: أن تكون لابتداء الغاية، أي يبتدئ التوبة من زمان قريب من المعصية لئلا يقع في الإصرار. ومفهوم ابتداء الغاية: أنه لو تاب من زمان بعيد فإنه يخرج عن من خص بكرامة ختم قبول التوبة على الله المذكورة في الآية بعلى، في قوله: على الله. وقوله: يتوب الله عليهم، ويكون من جملة الموعودين بكلمة عسى في قوله: فأولئك * (عسى الله أن يتوب عليهم) *.
ودخول من الابتدائية على الزمان لا يجيزه البصريون، وحذف الموصوف هنا وهو زمان، وقامت الصفة التي هي قريب مقامه، ليس مقيسا. لأن هذه الصفة وهي القريب ليست من الصفات التي يجوز حذفها بقياس، لأنها ليست مما استعملت استعمال الأسماء، فلم يلفظ بموصوفها كالأبطح، والأبرق، ولا مختصة بجنس الموصوف نحو: مررت بمهندس، ولا تقدم ذكر موصوفها نحو: اسقني ماء ولو باردا، وما لم يكن كذلك مما كان الوصف فيه اسما وحذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه فليس بقياس.
فأولئك يتوب الله عليهم، لما ذكر تعالى أن قبول التوبة على الله لمن ذكر أنه تعالى هو يتعطف عليهم ويرحمهم، ولذلك اختلف متعلقا التوبة باختلاف المجرور. لأن الأول على الله، والثاني عليهم، ففسر كل بما يناسبه. ولما ضمن يتوب معنى ما يعدى بعلى عداه بعلى، كأنه قال: يعطف عليهم. وفي علي الأولى روعي فيها المضاف المحذوف وهو قبول. قال الزمخشري: (فإن قلت): ما فائدة قوله فأولئك يتوب الله عليهم بعد قوله: إنما التوبة على الله لهم؟ (قلت): قوله: إنما التوبة على الله إعلام بوجوبها عليه، كما يجب على العبد بعض الطاعات. وقوله: فأولئك يتوب الله عليهم، عدة بأنه يفي بما وجب عليه، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة، كما بعد العبد الوفاء بالواجب. انتهى كلامه. وهو مشير إلى طريق الاعتزال في قولهم: إن الله يجب عليه، وتقدم ذكر مذهبهم في ذلك. وقال محمد بن عمر الرازي ما ملخصه: إن قوله: إنما التوبة على الله إعلام بأنه يجب قبولها لزوم إحسان لا استحقاق، ويتوب عليهم إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو يكون الأولى بمعنى الهداية إلى التوبة والإرشاد، ويتوب عليهم بمعنى يقبل توبتهم. وكان الله عليما حكيما. أي عليما بمن يطيع ويعصى، حكيما أي: يضع الأشياء مواضعها، فيقبل توبة من أناب إليه.
* (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الان ولا الذين يموتون وهم كفار) * نفى تعالى أن يكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة، ولا للذي وافى على الكفر. فالأول: كفرعون إذ لم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق، وكالذين قال تعالى فيهم: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * وحضور الموت أول أحوال الآخرة، فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة، فكذلك هذا الذي حضره الموت. قال الزمخشري: سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبة لهم، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة. فكما أن الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت، لمجاوزة كل واحد منهما. أوان التكليف والاختيار انتهى كلامه. وهو على طريق الاعتزال. زعمت المعتزلة أن العلم بالله في دار التكليف يجوز أن يكون نظريا، فإذا صار العلم بالله ضروريا سقط التكليف. وأهل الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون الله بالضرورة، فلذلك سقط التكليف. وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم بالله على سبيل الاضطرار. والذي قاله المحققون: إن القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة، لأن جماعة من بني
209

إسرائيل أماتهم الله، ثم أحياهم وكلفهم، فدل على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما، وليس شيء من هذه يمنع من بقاء التكليف، فكذلك تلك. ولأنه عند القرب يصير مضطرا فيكون ذلك سببا للقبول، ولكنه تعالى يفعل ما يشاء. وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر، وله أن يجعل المقبول مردود، والمردود مقبولا، * (لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون) * وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلم بالله إذا صار ضرورة، وفي دعواهم أن مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم بالله على سبيل الاضطرار.
وقال الربيع: نزلت وليست التوبة في المسلمين، ثم نسخها: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * فحتم أن لا يغفر للكافرين، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته. وطعن على ابن زيد: بأن الآية خبر، والأخبار لا تنسخ. وأجيب: بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي، فيجوز نسخ ذلك الحكم، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ، لأن هذه الآية لم تتضمن أن من لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له، فيحتاج أن ينسخ بقوله: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وظاهر قوله: ولا الذين يموتون وهم كفار أن هؤلاء مغايرون لقوله: الذين يعملون السيئات، لأن أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين، وللتأكيد بلا المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد تقول: هذا ليس لزيد وعمرو بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمر، وفينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمرو، فينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما. وإذا تقرر هذا اتضح ضعف قول الزمخشري في قوله: (فإن قلت): من المراد بالذين يعملون السيئات، أهم الفساق
من أهل القبلة، أم الكفار؟ (قلت): فيه وجهان: أحدهما: أن يراد به الكفار لظاهر قوله: وهم كفار، وأن يراد الفساق لأن الكلام إنما وقع في الزانيين، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: وهم كفار واردا على سبيل التغليظ كقوله: * (ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) * وقوله: (سقط: فليمت إن شاء يهوديا، أو نصرانيا من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر، لأن من كان مصدقا، ومات وهو لا يحدث نفسه بالتوبة حاله قريبة من حالة الكافر، لأنه لا يجتري على ذلك إلا قلب مصمت انتهى كلامه، وهو في غاية الاضطراب، لأنه قبل ذلك حمل الآية على أنها دالة على قسمين، أحدهما الذين سوفوا التوبة إلى حضور الموت، والثاني الذين ماتوا على الكفر، وفي هذا الجواب حمل الآية، على أنها أريد بها أحد القسمين، إما الكفار فقط، وهو الذين وصفوا عنده، بأنهم يعملون السيئات، ويموتون على الكفر، وعلل هذا الوجه بقوله لظاهر قوله (وهم كفار) فجعل هذه الحالة على أنه أريد بالذين يعملون السيئات هم الكفار، وإما الفساق من المؤمنين، فيكون قوله (وهم كفار) لا يراد به الكفر حقيقة، ولا أنهم يوافون على الكفر حقيقة، وإنما جاء ذلك على سبيل التغليظ عنده، فقد خالف تفسيره في هذا الجواب صدر تفسيره للآية أولا، وكل ذلك انتصار لمذهبه، حتى يترتب العذاب إما للكافر، وإما للفاسق، فخرج بذلك عن قوانين النحو، والحمل على الظاهر لأنه قوله (وهم كفار) ليس ظاهره إلا أنه قيد في قوله (ولا الذين يموتون) وظاهره الموافاة على الكفر حقيقة، وكما أنه شرط في انتفاء قبول التوبة الذين يعملون السيئات وإيقاعها في حال حضور الموت، وكذلك شرط في ذلك كفرهم حالة الموت وظاهر العطف التغاير والزمخشري كما قيل في المثل، حبك الشئ يعمي ويصم، وجاء (يعلمون) بصيغة المضارع، لا بصيغة الماضي إشعارا بأنهم مصرون على عمل السيئات إلى أن يحضره الموت، وظاهر قوله (تبت الآن) توبة شريطية، فلم تقبل، لأنه لم يقطع بها، وقوله (وليست التوبة) ظاهره النفي، لوجودها، والمعنى على نفي القبول أي: أت توبتهم وإن وجدت ليست مقبولة، وظاهر قوله (ولا الذين يموتون وهم كفار) وقوع الموت حقيقة، فالمعنى أنهم لو تابوا في الآخرة لم تقبل توبتهم، لأنه لا يمكن ذلك في الدنيا، لأنهم ماتوا ملتبسين في الكفر، قيل: يحتمل أن يراد
210

بقوله (يموتون) يقربون من الموت، كما في قوله (حضر أحدهم الموت) أي علاماته فكما أن التوبة عن المعصية لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت.
* (أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) * يحتمل أن تكون الإشارة إلى الصنفين، ويكونان قد شركا في إعداد العذاب لهما، وإن كان عذاب أحدهما منقطعا والآخر خالدا. ويكون ذلك وعيدا للعاصي الذي لم يتب إلا عند معاينة الموت حيث شرك بينه وبين الذي وافى على الكفر، ويحتمل أن يكون أولئك إشارة إلى الصنف الأخير إذ هو أقرب مذكور. واسم الإشارة يجري مجرى الضمير، فيشار به إلى أقرب مذكور، كما يعود الضمير على أقرب مذكور، ويكون إعداد العذاب مرتبا على الموافاة على الكفر، إذ الكفر هو مقطع الرجاء من عفو الله تعالى. وظاهر الإعداد أن النار مخلوقة وسبق الكلام على ذلك.
وقال الزمخشري: أولئك اعتدنا لهم في الوعيد، نظير قوله: * (أولائك * يتوب الله عليهم) * في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة انتهى. وتلطف الزمخشري في دسه الاعتزال هنا، وذلك أنه كان قد قرر أول كلامه بأن من نفى عنهم التوبة صنفان، ثم ذكر هذا عقيبه، وفهم منه أن الوعيد في حق هذين الصنفين، كائن لا محالة، كما أن الوعد للذين تقبل توبتهم من الصنف المذكور، قبل هذه الآية واقع لا محالة، فدل على أن العصاة الذين لا توبة لهم وعيدهم كائن مع وعيد الكفار، وهذا هو مذهب المعتزلة. ومع احتمال أن يكون أولئك إشارة إلى الذين يوافون على الكفر، ويرجح ذلك بأن فعل الكافر أقبح من فعل الفاسق، لا يتعين أن يكون الوعيد مقطوعا به للفاسق. وعلى تقدير أن يكون الوعيد للفاسق الذي لا توبة له، فلا يلزم وقوع ما دل عليه، إذ يجوز العقاب ويجوز العفو. وفائدة وروده حصول التخويف للفاسق. وكل وعيد للفساق الذين ماتوا على الإسلام فهو مقيد بقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * وهذه هي الآية المحكمة التي يرجع إليها.
وذهب أبو العالية الرياحي وسفيان الثوري: إلى أن قوله: * (للذين يعملون السيئات) * في حق المنافقين، واختاره المروزي. قال: فرق بالعطف، ودل على أن المراد بالأول المنافقون. كما فرق بينهم في قوله: * (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا) * لأن المنافق كان مخالفا للكافر بظاهره في الدنيا. والذي يظهر أنها في عصاة المؤمنين الذين يتوبون حال اليأس من الحياة، لأن المنافقين مندرجون في قوله: * (ولا الذين يموتون وهم كفار) * فهم قسم من الكفار لا قسيم لهم. وقيل: إنما التوبة على الله في الصغائر، وليست التوبة للذين يعملون السيئات في الكبائر، ولا الذين يموتون وهم كفار في الكفر.
* (أليما يأيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * قال ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وأبو مجلز: كان أولياء الميت أحق بامرأته من أهلها، إن شاؤوا تزوجها أحدهم، أو زوجوها غيرهم، أو منعوها. وكان ابنه من غيرها يتزوجها، وكان ذلك في الأنصار لازما، وفي قريش مباحا. وقال مجاهد: كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه، إذا لم يكن ولدها. وقال السدي: إن سبق الولي فوضع ثوبه عليها كان أحق بها، أو سبقته إلى أهلها كانت أحق بنفسها، فأذهب الله ذلك بهذه الآية.
والخطاب على هذا للأولياء نهو أن يرثوا النساء المخلفات عن الموتى كما يورث المال. والمراد نفي الوراثة في حال الطوع والكراهة، لا جوازها في حال الطوع استدلالا بالآية، فخرج هذا الكره مخرج الغالب، لأن غالب أحوالهن أن يكن مجبورات على ذلك إذ كان أولياؤه أحق بها من أولياء نفسها. وقيل: هو إمساكهن دون تزويج حتى يمتن فيرثون أموالهن، أو في حجرة يتيمة لها مال فيكره أن يزوجها غيره محافظة
211

على مالها، فيتزوجها كرها لأجله. أو تحته عجوز ذات مال، ويتوق إلى شابة فيمسك العجوز لمالها، ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها، أو تموت فيرث مالها. والخطاب للأزواج، وعلى هذا القول وما قبله يكون الموروث مالهن، لا هن. وانتصب كرها على أنه مصدر في موضع الحال من النساء، فيقدر باسم فاعل أي: كإرهاب، أو باسم مفعول أي: مكرهات. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: وبفتح الكاف، حيث وقع وحمزة والكسائي بضمها، وعاصم وابن عامر بفتحها في هذه السورة
وفي التوبة، وبضمها في الأحقاف وفي المؤمنين، وهما لغتان: كالصمت والصمت قاله: الكسائي والأخفش وأبو علي. وقال الفراء: الفتح بمعنى الإكراه، والضم من فعلك تفعله كارها له من غير مكره كالأشياء التي فيها مشقة وتعب، وقاله: أبو عمرو بن العلاء وابن قتيبة أيضا. وتقدم الكلام عليه في قوله: * (وهو كره لكم) * في البقرة. وقرئ: لا تحل لكم بالتاء على تقدير لا نحل لكم الوراثة، كقراءة من قرأ: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا) * أي إلا مقالتهم، وانتصاب النساء على أنه مفعول به إما لكونهن هن أنفسهن الموروثات، وإما على حذف مضاف أي: أموال النساء.
* (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن) * أي لا تحبسوهن ولا تضيقوا عليهن. وظاهر هذا الخطاب أنه للأزواج لقوله: ببعض ما آتيتموهن، لأن الزوج هو الذي أعطاها الصداق. وكان يكره صحبة زوجته ولها عليه مهر، فيحبسها ويضربها حتى تفتدي منه قاله: ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي. أو ينكح الشريفة فلا توافقه، فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، ويشهد على ذلك، فإذا خطبت وأرضته أذن لها، وإلا عضلها قاله: ابن زيد. أو كانت عادتهم منع المطلقة من الزوج ثلاثا فنهوا عن ذلك. وقيل: هو خطاب للأولياء كما بين في قوله: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * ويحتمل أن يكون الخطاب للأولياء والأزواج في قوله: * (ذلك بأن الذين كفروا) * فلقوا في هذا الخطاب، ثم أفرد كل في النهي بما يناسبه، فخوطب الأولياء بقوله: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، وخوطب الأزواج بقوله: ولا تعضلوهن، فعاد كل خطاب إلى من يناسبه. وتقدم تفسير العضل في البقرة في قوله: * (فلا تعضلوهن) * والباء في ببعض ما آتيتموهن للتعدية، أي: لتذهبوا بعض ما آتيتموهن. ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة أي: لتذهبوا مصحوبين ببعض ما آتيتموهن.
* (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * هذا استثناء متصل، ولا حاجة إلى دعوى الانقطاع فيه كما ذهب إليه بعضهم. وهو استثناء من ظرف زمان عام، أو من علة. كأنه قيل: ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت أن يأتين. أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين. والظاهر أن الخطاب بقوله: ولا تعضلوهن للأزواج إذ ليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة، وإنما ذلك للزوج على ما تبين.
والفاحشة هنا الزنا قاله: أبو قلابة والحسن. قال الحسن: إذا زنت البكر جلدت مائة ونفيت سنة، وردت إلى زوجها ما أخذت منه. وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه. وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. وقال عطاء: كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود. وقال ابن سيرين وأبو قلابة: لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها. وقال قتادة: لا يحل له أن يحبسها ضرارا حتى تفتدي منه، يعني: وإن
212

زنت. وقال ابن عباس وعائشة والضحاك وغيرهم: الفاحشة هنا النشوز، فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها، وهذا مذهب مالك وقال قوم: الفاحشة البدء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا وهذا في معنى النشوز. والمعنى: إلا أن يكون سوء العشرة من جهتين، فيجوز أخذ مالهن على سبيل الخلع. ويدل على هذا المعنى قراءة أبي: إلا أن يفحشن عليكم، وقراءة ابن مسعود: إلا أن يفحشن وعاشروهن، وهما قراءتان مخالفتان لمصحف الإمام، وكذا ذكر الداني عن ابن عباس وعكرمة. والذي ينبغي أن يحمل عليه أن ذلك على سبيل التفسير والإيضاح، لا على أن ذلك قرآن. ورأى بعضهم أن لا يتجاوز ما أعطاها ركونا لقوله: * (لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن) * وقال مالك: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملكه. وظاهر الاستثناء يقتضي إباحة العضل له ليذهب ببعض ما أعطاها لأكله، ولا ما لم يعطها من ماله إذا أتت بالفاحشة المبينة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر: مبينة هنا، وفي الأحزاب، والطلاق بفتح الياء، أي أي يبينها من يدعيها ويوضحها. وقرأ الباقون: بالكسر أي: بينة في نفسها ظاهرة. وهي اسم فاعل من بين، وهو فعل لازم بمعنى بان أي ظهر، وظاهر قوله: ولا تعضلوهن، أن لا نهى، فالفعل مجزوم بها، والواو عاطفة جملة طلبية على جملة خبرية. فإن قلنا: شرط عطف الجمل المناسبة، فالمناسبة أن تلك الخبرية تضمنت معنى النهي كأنه قال: لا ترثوا النساء كرها فإنه غير حلال لكم ولا تعضلوهن. وإن قلنا: لا يشترط في العطف المناسبة وهو مذهب سيبويه، فظاهر. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون تعضلوهن نصبا عطفا على ترثوا، فتكون الواو مشركة عاطفة فعلا على فعل. وقرأ ابن مسعود: ولا أن تعضلوهن، فهذه القراء تقوي احتمال النصب، وأن العضل مما لا يحل بالنص. وعلى تأويل الجزم هي نهي معوض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهة، واحتمال النصب أقوى انتهى ما ذكره من تجويز هذا الوجه، وهو لا يجوز. وذلك أنك إذا عطفت فعلا منفيا بلا على مثبت وكانا منصوبين، فإن الناصب لا يقدر إلا بعد حرف العطف، لا بعد لا. فإذا قلت: أريد أن أتوب ولا أدخل النار، فالتقدير: أريد أن أتوب وأن لا أدخل النار، لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوت، والثاني على سبيل النفي. فالمعنى: أريد التوبة وانتفاء دخولي النار. فلو كان الفعل المتسلط على المتعاطفين منفيا، فكذلك ولو قدرت هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت: لا يحل لكم أن لا تعضلوهن لم يصح، إلا أن تجعل لا زائدة لا نافية، وهو خلاف الظاهر. وأما أن تقدر أن بعد لا النافية فلا يصح. وإذا قدرت أن بعد لا كان من باب عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر، لا من باب عطف الفعل على الفعل، فالتبس على ابن عطية العطفان، وظن أنه بصلاحية تقدير أن بعد لا يكون من عطف الفعل على الفعل، وفرق بين قولك: لا أريد أن يقوم وأن لا يخرج، وقولك: لا أريد أن يقوم ولا أن يخرج، ففي الأول: نفي إرادة وجود قيامه وإرادة انتفاء خروجه، فقد أراد خروجه. وفي الثانية نفي إرادة وجود قيامه، ووجود خروجه، فلا يريد لا القيام ولا الخروج. وهذا في فهمه بعض غموض على من لم يتمرن في علم العربية..
* (وعاشروهن بالمعروف) * هذا أمر بحسن المعاشرة، والظاهر أنه أمر للأزواج، لأن التلبس بالمعاشرة غالبا إنما هو للأزواج، وكانوا يسيئون معاشرة النساء، وبالمعروف هو النصفة في المبيت والنفقة، والإجمال في القول. ويقال: المرأة تسمن من أذنها.
* (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) * أدب تعالى عباده بهذا. والمعنى: أنه لا تحملكم الكراهة على سوء المعاشرة، فإن كراهة الأنفس للشيء لا تدل على انتفاء الخير منه، كما قال تعالى: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) * ولعل ما كرهت النفس يكون أصلح في الدين وأحمد في
العاقبة، وما أحبته يكون بضد ذلك. ولما كانت عسى فعلا جامدا دخلت عليه فاء الجواب، وعسى هنا تامة، فلا تحتاج إلى اسم وخبر. والضمير في فيه عائد على شيء أي: ويجعل الله في ذلك الشيء المكروه. (وقيل):
213

عائد على الكره وهو المصدر المفهوم من الفعل. (وقيل): عائد على الصبر. وفسر ابن عباس والسدي: الخير بالولد الصالح، وهو على سبيل التمثيل لا الحصر. وانظر إلى فصاحة فعسى أن تكرهوا شيئا، حيث علق الكراهة بلفظ شيء الشامل شمول البدل، ولم يعلق الكراهة بضميرهن، فكان يكون فعسى أن تكرهوهن. وسياق الآية يدل على أن المعنى الحث على إمساكهن وعلى صحبتهن، وإن كره الإنسان منهن شيئا من أخلاقهن. ولذلك جاء بعده: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج. (وقيل): معنى الآية: ويجعل الله في فراقكم لهن خيرا كثيرا لكم ولهن، كقوله: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) * قاله الأصم: وهذا القول بعيد من سياق الآية، ومما يدل عليه ما قبلها وما بعدها. وقل أن ترى متعاشرين يرضى كل واحد منهما جميع خلق الآخر، ويقال: ما تعاشر اثنان إلا وأحدهما يتغاضى عن الآخر. وفي صحيح مسلم: (لا يفزك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر). وأنشدوا في هذا المعنى:
* ومن لا يغمض عينه عن صديقه
*
وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
*
* (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * لما أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة ليذهب ببعض ما أعطاها، بنى تحريم ذلك في غير حال الفاحشة، وأقام الإرادة مقام الفعل. فكأنه قال: وإن استبدلتم. أو حذف معطوف أي: واستبدلتم. وظاهر قوله: وآتيتم أن الواو للحال، أي: وقد آتيتم. وقيل: هو معطوف على فعل الشرط وليس بظاهر. والاستبدال وضع الشيء مكان الشيء والمعنى: أنه إذا كان الفراق من اختياركم فلا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. واستدل بقوله: وآتيتم إحداهن قنطارا على جواز المغالاة في الصدقات، وقد استدلت بذلك المرأة التي خاطبت عمر حين خطب وقال: * (إلا لاجل * من الرضاعة وأمهات نسائكم) *. وقال قوم: لا تدل على المغالاة، لأنه تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة كأنه: قيل وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم): (من بنى مسجدا لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة) ومعلوم أن مسجدا لا يكون كمفحص قطاة، وإنما هو تمثيل للمبالغة في الصغر. وقد قال صلى الله عليه وسلم) لمن أمهر مائتين وجاء يستعين في مهره وغضب صلى الله عليه وسلم): (كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة) وقال محمد بن عمر الرازي: لا دلالة فيها على المغالاة لأن قوله: وآتيتم لا يدل على جواز إيتاء القنطار، ولا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع كقوله: * (من قتل * له) * انتهى. ولما كان قوله: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، خطابا لجماعة كان متعلق الاستبدال أزواجا مكان أزواج، واكتفى بالمفرد عن الجمع لدلالة جمع المستبدلين، إذ لا يوهم اشتراط المخاطبين في زوج واحدة مكان زوج واحدة، ولا إرادة معنى الجماع عاد الضمير في قوله: إحداهن جمعا والتي نهى أن نأخذ منها هي المستبدل مكانها، إلا المستبدلة. إذ تلك هي التي أعطاها المال، لا التي أراد استحداثها بدليل قوله: * (أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * وقال: وآتيتم إحداهن قنطارا ليدل على أن قوله: وآتيتم المراد منه، وأتى كل واحد منكم إحداهن، أي إحدى الأزواج قنطارا، ولم يقل: وآتيتموهن قنطارا
214

لئلا يتوهم أن الجميع المخاطبين أتوا الأزواج قنطارا. والمراد: آتى كل واحد زوجته قنطارا. فدل لفظ إحداهن على أن الضمير في: آتيتم، المراد منه كل واحد واحد، كما دل لفظ: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج على أن المراد استبدال أزواج مكان أزواج، فأريد بالمفرد هنا الجمع لدلالة: وإن أردتم. وأريد بقوله: وآتيتم كل واحد واحد لدلالة إحداهن، وهي مفردة على ذلك. وهذا من لطيف البلاغة، ولا يدل على هذا المعنى بأوجز من هذا ولا أفصح. وتقدم الكلام في قنطار في أول آل عمران والضمير في منه عائد على قنطار. وقرأ ابن محيصن: بوصل ألف إحداهن، كما قرىء: أنها لإحدى الكبقر بوصل الألف، حذفت على جهة التحقيق كما قال:
وتسمع من تحت العجاج لها ازملا
وقال:
إن لم أقاتل فألبسوني برقعا
وظاهر قوله: فلا تأخذوا منه شيئا تحريم أخذ شيء مما آتاها إذا كان استبدال مكانها بإرادته. قالوا: وهذا مقيد بقوله: * (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه) * قالوا: وانعقد عليه الإجماع. ويجري هذا المجرى المختلعة لأنها طابت نفسها أن تدفع للزوج ما افتدت به. وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تأخذ من المختلعة شيئا لقوله: فلا تأخذوا منه شيئا وآية البقرة منسوخة بهذا، وتقدم الكلام في ذلك في سورة البقرة. وظاهر قوله: وآتيتم إحداهن قنطارا، والنهي بعده يدل على عموم ما آتاها، سواء كان مهرا أو غيره.
أفضى بعضكم إلى بعض لأن هذا لا يقتضي أن يكون الذي آتاها مهرا فقط، بل المعنى: أنه قد صار بينهما من الاختلاط والامتزاج ما لا يناسب أن يأخذ شيئا مما آتاها، سواء كان مهرا أو غيره. وقال أبو بكر الرازي: لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في جميع ما تضمنه الاسم، ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه، ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأول انتهى كلامه. وهو منه تسليم أن المراد بقوله: وكيف تأخذونه، أي المهر. وبينا أنه لا يلزم ذلك. قال أبو بكر الرازي: وفي الآية دليل
على أن من أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل انقضاء المدة، لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ لأنه جائز، أن يريد أن يتزوج أخرى بعد موتها مستبدلا بها مكان الأولى. وظاهر الأمر قد تناول هذه الحالة انتهى. وليس بظاهر لأن الاستبدال يقتضي وجود البدل والمبدل منه، أما إذا كان قد عدم فلا يصح ذلك، لأن المستبدل يترك هذا ويأخذ آخر بدلا منه، فإذا كان معدوما فكيف يتركه ويأخذ بدله آخر؟ وظاهر الآية يدل على تحريم أخذ شيء مما أعطاها إن أراد الاستبدال، وآخر الآية يدل بتعليله بالإفضاء على العموم، في حالة الاستبدال وغيرها. ومفهوم الشرط غير مراد، وإنما خص بالذكر لأنها حالة قد يتوهم فيها أنه لمكان الاستبدال وقيام غيرها مقامها، له أن يأخذ مهرها ويعطيه الثانية، وهي أولى به من المفارقة. فبين الله أنه لا يأخذ منها شيئا. وإذا كانت هذه التي استبدل مكانها لم يبح له أحد شيء مما آتاها، مع سقوط حقه عن بضعها، فأحرى أن لا يباح له ذلك مع بقاء حقه واستباحة بضعها، وكونه أبلغ في الانتفاع بها منها بنفسه. وقرأ أبو السمال وأبو جعفر: شيا بفتح الياء وتنوينها، حذف الهمزة وألقى حركتها على الياء.
* (أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) * أصل البهتان: الكذب الذي يواجه به الإنسان صاحبه على جهة المكابرة فيبهت المكذوب عليه. أي: يتحير ثم سمى كل باطل يتحير من بطلانه بهتانا. وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار، أي: أتفعلون هذا مع ظهور قبحه؟ وسمي بهتانا لأنهم كانوا إذا أرادوا تطليق امرأة رموها بفاحشة حتى
215

تخاف وتفتدي منه مهرها، فجاءت الآية على الأمر الغالب. وقيل: سمي بهتانا لأنه كان فرض لها المهر، واسترداده يدل على أنه يقول: لم أفرضه، وهذا بهتان. وانتصب بهتانا وإثما على أنهما مصدران في موضع الحال من الفاعل، التقدير: باهتين وآثمين. أو من المفعول التقدير: مبهتا محيرا لشنعته وقبح الأحدونة، أو مفعولين من أجلهما أي: أتأخذونه لبهتانكم وإثمكم؟ قال ذلك الزمخشري قال: وإن لم يكن غرضا كقولك: قعد عن القتال جبنا.
* (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * وهذا استفهام إنكار أيضا، أنكر أولا الأخذ، ونبه على امتناع الأخذ بكونه بهتانا وإثما. وأنكر ثانيا حاله الأخذ، وأنها ليست مما يمكن أن يجامع حال الإفضاء، لأن الإفضاء وهو المباشرة والدنو الذي ما بعده دنو، يقتضي أن لا يؤخذ معه شيء مما أعطاه الزوج، ثم عطف على الإفضاء أخذ النساء الميثاق الغليظ من الأزواج. والإفضاء: الجماع قاله، ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي. وقال عمر، وعلي، وناس من الصحابة، والكلبي، والفراء: هي الخلوة والميثاق، هو قوله تعالى: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * قاله: ابن عباس، والحسن، والضحاك، وابن سيرين، والسدي، وقتادة. قال قتادة: وكان يقال للنكاح في صدر الإسلام: عليكم لتمسكن بمعروف، أو لتسرحن بإحسان. وقال مجاهد وابن زيد: الميثاق كلمة الله التي استحللتم بها فروجهن، وهي قول الرجل: نكحت وملكت النكاح ونحوه. وقال عكرمة: هو قوله صلى الله عليه وسلم): (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) وقال قوم: الميثاق الولد، إذ به تتأكد أسباب الحرمة وتقوى دواعي الألفة. وقيل: ما شرط في العقد من أن على كل واحد منهما تقوى الله، وحسن الصحبة والمعاشرة بالمعروف، وما جرى مجرى ذلك. وقال الزمخشري: الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، كأنه قيل: وأخذن به منكم ميثاقا غليظا، أي بإفضاء بعضكم إلى بعض. ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبه عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ انتهى كلامه.
* (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) * تقدم ذكر شيء من سبب نزول هذه الآية في قوله: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * وقد ذكروا قصصا مضمونها: أن من العرب من كان يتزوج امرأة أبيه، وسموا جماعة تزوجوا زوجات آبائهم بعد موت آبائهم، فأنزل الله تحريم ذلك. وتقدم الخلاف في النكاح: أهو حقيقة في الوطء، أم في العقد، أم مشترك؟ قالوا: ولم يأت النكاح بمعنى العقد إلا في * (فانكحوهن بإذن أهلهن) * وهذا الحصر منقوض بقوله: * (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) *. واختلف في ما من قوله: ما نكح. فالمتبادر إلى الذهن أنها مفعوله، وأنها واقعة على النوع كهي في قوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * أي: ولا تنكحوا النوع الذي نكح آباؤكم. وقد تقرر في علم العربية أن ما تقع على أنواع من يعقل، وهذا على مذهب من يمنع وقوعها على آحاد من يعقل. أما من يجيز ذلك فإنه يتضح حمل ما في اة ية عليه، وقد زعم أنه مذهب سيبويه. وعلى هذا المفهوم من إطلاق ما على منكوحات الآباء تلقت الصحابة الآية واستدلوا بها على تحريم نكاح الأبناء حلائل الآباء. قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين فنزلت هذه الآية في ذلك. وقال ابن عباس: كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل، فهي عليك حرام.
وقال قوم: ما مصدرية. والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم أي: مثل نكاح آبائكم الفاسد، أو الحرام الذي كانوا يتعاطونه في الجاهلية كالشغار وغيره، كما تقول: ضربت ضرب الأمير أي: مثل ضرب الأمير. ويبين كونه حراما أو فاسدا قوله: * (إنه كان فاحشة) * واختار هذا القول محمد بن جرير قال: ولو كان معناه ولا
216

تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم، لوجب أن يكون موضع ما من. وحمل ابن عباس وعكرمة وقتادة وعطاء النكاح هنا على الوطء، لأنهم كانوا يرثون نكاح نسائهم. وقال ابن زيد في جماعة: المراد به العقد الصحيح، لا ما كان منهم بالزنا انتهى.
والاستثناء في قوله: إلا ما قد سلف منقطع، إذ لا يجامع الاستقبال الماضي، والمعنى: أنه لما حرم عليهم أن ينكحوا ما نكح آباؤهم، دل على أن متعاطي ذلك بعد التحريم آثم، وتطرق الوهم إلى ما صدر منهم قبل النهي ما حكمه. فقيل: إلا ما قد سلف أي: لكن ما قد سلف، فلم يكن يتعلق به النهي فلا إثم فيه. ولما حمل ابن زيد النكاح على العقد الصحيح، حمل قوله: إلا ما قد سلف، على ما كان يتعاطاه بعضهم من الزنا، فقال: إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا بالنساء، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام، أنه كان فاحشة ومقتا وكأنه قيل: ولا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم إلا ما قد سلف من زناهم، فإنه يجوز لكم أن تتزوجوهم، ويكون على هذا استثناء منقطعا. وقيل عن ابن زيد: إن معنى الآية النهي أن يطأ الرجل امرأة وطنها أبوه إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة، فإنه يجوز
للابن تزوجها، فعلى هذا يكون إلا ما قد سلف استثناء متصلا، إذ ما قد سلف مندرج تحت قوله: ما نكح، إذ المراد: ما وطئ آباؤكم. وما وطئ يشمل الموطوءة بزنا وغيره، والتقدير: ما وطئ آباؤكم إلا التي تقدم هو أي: وطؤها بزنا من آبائكم فانكحوهن. ومن جعل ما في قوله: ما نكح مصدرية كما قررناه، قال: المعنى إلا ما تقدم منكم من تلك العقود الفاسدة فمباح لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذ كان مما تقرر الإسلام عليه. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف استثنى ما قد سلف من ما نكح آباؤكم؟ (قلت): كما استثنى غير أن سيوفهم من قوله: ولا عيب فيهم. يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فأنكحوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمجال في التأبيد في نحو قولهم: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في اسم الخياط. انتهى كلامه. وقال الأخفش المعنى: تعذبون به إلا ما قد سلف، فقد وضعه الله عنكم.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء أنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف، وهذا جهل بعلم النحو، وعلم المعاني. أما من حيث علم النحو فما كان في حيز أن لا يتقدم عليها، وكذلك المستثنى لا يتقدم على الجملة التي هو من متعلقاتها بالاتصال أو الانقطاع، وإن كان في هذا خلاف ولا يلتفت إليه. وأما من حيث المعنى فإنه أخبر أنه فاحشة ومقت في الزمان الماضي، فلا يصح أن يستثنى منه الماضي، إذ يصير المعنى هو فاحشة في الزمان الماضي، إلا ما وقع منه في الزمان الماضي فليس بفاحشة، وهذا معنى لا يمكن أن يقع في القرآن، ولا في كلام عربي لتهافته. والذي يظهر من الآية أن كل امرأة نكحها أبو الرجل بعقد أو ملك فإنه يحرم عليه أن ينكحها بعقد أو ملك، لأن النكاح ينطلق على الموطوءة بعقد أو ملك، لأنه ليس الإنكاح أو سفاح، والسفاح هو الزنا، والنكاح هو المباح، وأشار إلى تحريم ذلك بقوله:
* (إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) * أي أن نكاح الأبناء نساء آبائهم هو فاحشة أي: بالغة في القبح. ومقت: أي يمقت الله فاعله، قاله أبو سليمان الدمشقي. أو تمقته العرب أي: مبغض محتقر عندهم، وكان ناس من ذوي المروآت في الجاهلية يمقتونه. قال أبو عبيدة وغيره: كانت العرب تسمي الولد الذي يجئ من زوج الوالد المقتي، نسبة إلى المقت. ومن فسر الا ما قد سلف بالزنا جعل الضمير في أنه عائد عليه أي: ان ما قد سلف من زنا الآباء كان فاحشة، وكان يستعمل كثيرا بمعنى لم يزل، فالمعنى: أن ذلك لم يزل فاحشة، بل هو متصف بالفحش في الماضي والحال والمستقبل، فالفحش وصف لازم له.
وقال المبرد: هي زائدة. ورد عليه بوجود الخبر، إذ الزائدة لا خبر لها. وينبغي أن يتأول كلامه على أن كان لا يراد بها تقييد الخبر بالزمن الماضي فقط، فجعلها زائدة بهذا الاعتبار.
وساء سبيلا هذه مبالغة في الذم، كما يبالغ ببئس. فإن كان فيها
217

ضمير يعود على ما عاد عليه ضمير إنه، فإنها لا تجري عليها أحكام بئس. وإن كان الضمير فيها مبهما كما يزعم أهل البصرة فتفسيره سبيلا، ويكون المخصوص بالذم إذ ذاك محذوفا التقدير: وبئس سبيلا سبيل هذا النكاح، كما جاء بئس الشراب أي: ذلك الماء الذي كالمهل. وبالغ في ذم هذه السبيل، إذ هي سبيل موصلة إلى عذاب الله. وقال البراء بن عازب: لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ان أضرب عنقه.
* (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) * لما تقدم تحريم نكاح امرأة الأب على ابنه وليست أمه، كان تحريم أمه أولى بالتحريم. وليس هذا من المجمل، بل هذا مما حذف منه المضاف الدلالة المعنى عليه. لأنه إذا قيل: حرم عليك الخمر، إنما يفهم منه شربها. وحرمت عليك الميتة أي: أكلها. وهذا من هذا القبيل، فالمعنى: نكاح أمهاتكم. ولأنه قد تقدم ما يدل عليه وهو قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء) *.
وقال محمد بن عمر الرازي: فيها عندي بحث من وجوه: أحدها: أن بناء الفعل للمفعول لا تصريح فيه بأن المحرم هو الله. وثانيها: أن حرمت لا يدل على التأبيد، إذ يمكن تقسيمه إلى المؤبد والمؤقت. وثالثها: أن عليكم خطاب مشافهة، فيختص بالحاضرين. ورابعها: أن حرمت ماض، فلا يتناول الحال والمستقبل. وخامسها: أنه يقتضي أنه يحرم على كل أحد جميع أمهاتهم. وسادسها: أن حرمت يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كان حراما لما قيل: حرمت. وثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب انتهى ملخصا.
وهذه البحوث التي ذكرها لا تختص بهذا الموضع ولا طائل فيها، إذ من البواعث على حذف الفاعل العلم به، ومعلوم أن المحرم هو الله تعالى. ألا ترى إلى آخر الآية وهو قوله: * (وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما) * وقال بعد: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * على قراءة من بناه للفاعل. ومتى جاء التحريم من الله فلا يفهم منه إلا التأبيد، فإن كان له حالة إباحة نص عليها كقوله: * (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) * وأما أنه صيغة ماض فيخصه فالأفعال التي جاءت يستفاد منها الأحكام الشرعية، وإن كانت بصيغة الماضي فإنها لا تخصه، فإنها نظير أقسمت لأضربن زيدا لا يراد بها أنه صدر منه إقسام في زمان ماض. فإن كان الحكم ثابتا قبل ورود الفعل ففائدته تقرير ذلك الحكم الثابت، وإن لم كن ثابتا ففائدته إنشاء ذلك الحكم وتجديده. وأما أن الظاهر أنه يحرم على كل أحد جميع أمهاتهم فليس بظاهر، ولا مفهوم من اللفظ. لأن عليكم أمهاتكم عام يقابله عام، ومدلول العموم أن تقابل كل واحد بكل واحد واحد. أما أن يأخذ ذلك على طريق الجمعية فلا، لأنها ليست دلالة العام. فإنما المفهوم: حرم على كل واحد واحد منكم كل واحدة، واحدة من أم نفسه. والمعنى: حرم على هذا أمة. وعلى هذا أمة والأم المحرمة شرعا هي كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك، أو من جهة أمك. ولفظ الأم حقيقة في التي ولدتك نفسه. ودلالة لفظ الأم على الجدة إن كان بالتواطىء أو بالاشتراك، وجاز حمله على المشتركين، كان حقيقة، وتناولها النص. وإن كان بالمجاز وجاز حمله على الحقيقة والمجاز، فكذلك وإلا فيستفاد تحريم الجدات من
الإجماع أو من نص آخر.
وحرمة الأمهات والبنات كانت من زمان آدم عليه السلام إلى زماننا هذا، وذكروا أن سبب هذا التحريم: أن الوطء إذلال وامتهان، فصينت الأمهات عنه، إذ إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الأنعام.
والبنت المحرمة كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو ذكور، وبنت البنت هل تسمى بنتا حقيقة، أو مجاز الكلام فيها كالكلام في الجدة، وقد كان في العرب من تزوج ابنته وهو حاجب بن زرارة تمجس، ذكر ذلك: النضر بن شميل في كتاب المثالب.
* (وأخواتكم) * الأخت المحرمة كل من جمعك وإياها صلب أو بطن
218

* (وعماتكم وخالاتكم) * العمة: أخت الأب، والخالة: أخت الأم. وخص تحريم العمات والخالات دون أولادهن. وتحرم عمة الأب وخالته وعمة الأم وخالتها، وعمة العمة. وأم خالة العمة فإن كانت العمة أخت أب لأم، أو لأب وأم، فلا تحل خالة العمة لأنها أخت الجدة. وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط، فخالتها أجنبية من بني أخيها تحل للرجال، ويجمع بينها وبين النساء. وأما عمة الخالة فإن كانت الخالة أخت أم لأب فلا تحل عمة الخالة، لأنها أخت جد. وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها.
* (وبنات الاخ وبنات الاخت) * تحرم بناتهما وإن سفلن. وأفرد الأخ والأخت ولم يأت جمعا، لأنه أضيف إليه الجمع، فكان لفظ الإفراد أخف، وأريد به الجنس المنتظم في الدلالة الواحدة وغيره. فهؤلاء سبع من النسب تحريمهن مؤبد. وأما اللواتي صرن محرمات بسبب طارىء فذكرهن في القرآن سبعا وهن في قوله تعالى:
* (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) * وسمى المرضعات أمهات لأجل الحرمة، كما سمى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم) أمهات المؤمنين. ولما سمى المرضعة أما والمرضعة مع الراضع أختا، نبه بذلك على إجراء الرضاع مجرى النسب. وذلك لأنه حرم بسبب النسب سبع: اثنتان هما المنتسبتان بطريق الولادة وهما: الأم والبنت. وخمس بطريق الأخوة وهن: الأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت. ولما ذكر الرضاع ذكر من كل قسم من هذين القسمين صورة تنبيها على الباقي، فذكر من قسم قرابة الأولاد الأمهات، ومن قسم قرابة الأخوة والأخوات، ونبه بهذين المثالين على أن الحال في باب الرضاع كالحال في باب النسب. ثم إنه صلى الله عليه وسلم) أكد هذا بصريح قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فصار صريح الحديث مطابقا لما أشارت إليه الآية. فزوج المرضعة أبوه، وأبواه جداه، وأخته عمته. وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهو أخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته، وأختها خالته. وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم أخوته وأخوانه لأبيه وأمه. وأما ولدها من غيره فهم أخوته وأخواته لأمه.
وقالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين: إحداهما أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب، ويجوز له أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع. لأن المعنى في النسب وطؤه أمها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع. والثانية: لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب، ويجوز في الرضاع. لأن المانع في النسب وطء الأب إياها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع، وظاهر الكلام إطلاق الرضاع. ولم تتعرض الآية إلى سن الراضع، ولا عدد الرضعات. ولا للبن الفحل، ولا لإرضاع الرجل لبن نقسه للصبي، أو إيجاره به، أو تسعيطه بحيث يصل إلى الجوف. وفي هذا كله خلاف مذكور في كتب الفقه. وقرأ الجمهور: اللاتي أرضعنكم. وقرأ عبد الله: اللاي بالياء. وقرأ ابن هرمز: التي. وقرأ أبو حيوة: من الرضاعة بكسر الراء.
* (وأمهات نسائكم) * الجمهور على أنها على العموم. فسواء عقد عليها ولم يدخل، أم دخل بها. وروي عن علي ومجاهد وغيرهما: أنه إذا طلقها قبل الدخول، فله أن يتزوج أمها. وأنها في ذلك بمنزلة الربيبة.
* (وربائبكم اللاتى فى حجوركم) * ظاهره أنه يشترط في تحريمها أن تكون في حجره، وإلى هذا ذهب علي، وبه أخذ داود وأهل الظاهر. فلو لم تكن في حجره وفارق أمها بعد الدخول جاز له أن يتزوجها. قالوا: حرم الله الربيبة بشرطين: أحدهما: أن تكون في حجر الزوج. الثاني: الدخول بالأم. فإذا فقد أحد الشرطين لم يوجد التحريم. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم): (لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة) فشرط الحجر. وقال الطحاوي وغيره: إضافتهن إلى الحجور حملا على
219

أغلب ما يكون الربائب، وهي محرمة وإن لم تكن في الحجر. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما فائدة قوله: في حجوركم؟ (قلت) فائدته التعليل للتحريم، وأنهن لاحتضانكم لهن، أو لكونهن بصدد احتضانكم. وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمهاتهن، وتمكن حكم الزواج بدخولكم جرت أولادهن مجرى أولادكم، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم انتهى. وفيه بعض اختصار.
* (من نسائكم اللاتى دخلتم بهن) * ظاهر هذا أنه متعلق بقوله: وربائبكم فقط. واللاتي: صفة لنسائكم المجرور بمن، ولا جائز أن يكون اللاتي وصفا لنسائكم من قوله: وأمهات نسائكم، ونسائكم المجرور بمن، لأن العامل في المنعوتين قد اختلف: هذا مجرور بمن، وذاك مجرور بالإضافة. ولا جائز أن يكون من نسائكم متعلقا بمحذوف ينتظم أمهات نسائكم وربائبكم، لاختلاف مدلول حرف الجر إذ ذاك، لأنه بالنسبة إلى قوله: وأمهات نسائكم يكون من نسائكم لبيان النساء، وتمييز المدخول بها من غير المدخول بهن. وبالنسبة إلى قوله: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، يكون من نسائكم لبيان ابتداء الغاية كما تقول: هذا ابني من فلانة. قال الزمخشري: إلا أن أعلقه بالنساء والربائب، وأجعل من للاتصال كقوله تعالى: * (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) *، فإني لست منك ولست مني، ما أنا من دد ولا الدد مني. وأمهات النساء متصلات بالنساء، لأنهن أمهاتهن. كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن، لأنهن بناتهن انتهى. ولا نعلم أحدا ذهب إلى أن من
معاني من الاتصال. وأما ما شبه به من الآية والشعر والحديث، فمتأول: وإذا جعلنا من نسائكم متعلقا بالنساء، والربائب كما زعم الزمخشري. فلا بد من صلاحيته لكل من النساء والربائب. فأما تركيبه مع لربائب ففي غاية الفصاحة والحسن، وهو نظم الآية. وأما تركيبه مع قوله: وأمهات نسائكم، فإنه يصير: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فهذا تركيب لا يمكن أن يقع في القرآن، ولا في كلام فصيح، لعدم الاحتياج في إفادة هذا المعنى إلى قوله: من نسائكم. والدخول هنا كناية عن الجماع لقولهم: بني عليها، وضرب عليها الحجاب.
والباء: للتعدية، والمعنى: اللاتي أدخلتموهن الستر قاله: ابن عباس، وطاوس، وابن دينار. فلو طلقها بعد البناء وقبل الجماع، جاز أن يتزوج ابنتها. وقال عطاء، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث: إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها، وحرمت على الأب والابن، وهو أحد قولي الشافعي. واختلفوا في النظر إليها بشهوة، فقال ابن أبي ليلى: لا يحرم النظر حتى تلمس، وهو قول الشافعي. وقال مالك: يحرم النظر إلى شعرها، أو شيء من محاسنها بلذة. وقال الكوفيون: يحرم النظر إلى فرجها بشهوة. وقال الثوري: يحرم إذا كان تعمد النظر إلى فرجها، ولم يذكر الشهوة. وقال عطاء، وحماد بن أبي سليمان: إذا نظر إلى فرج امرأة فلا ينكح أمها ولا ابنتها، وعدوا هذا الحكم إلى الإماء. وقال الحسن: إذا ملك الأمة وغمزها بشهوة، أو كشفها، أو قبلها، لا تحل لولده بحال. وأمر مسروق أن تباع جاريته بعد موته وقال: أما أني لم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدي من اللمس والنظر. وجرد عمر أمة خلا بها فاستوهبها ابن له فقال: لا تحل لك.
* (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) * أي: في نكاح الربائب. وليس جواز نكاح الربائب موقوفا على انتفاء مطلق الدخول، بل لا بد من محذوف مقدر تقديره: فإن لم
220

تكونوا دخلتم بهن، وفارقتموهن بطلاق منكم إياهن، أو موت منهن.
* (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) * أجمعوا على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء كان مع العقد وطء، أو لم يكن. والحليلة: اسم يختص بالزوجة دون ملك اليمين، ولذلك جاء في أزواج أدعيائهم. ولما علق حكم التحريم بالتسمية دون الوطء، اقتضى تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء. وجاء الذين من أصلابكم وهو وصف لقوله: أبنائكم، برفع المجاز الذي يحتمله لفظ أبنائكم إذ كانوا يطلقون على من اتخذته العرب ابنا من غيرهم، وتبنته ابنا، كما كانوا يقولون: زيد بن محمد، إلى أن نزل: * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) * الآية وكما قالت امرأة أبي حذيفة في سالم: إنا كنا نراه ابنا. وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم) زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمته، أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة، وأجمعوا على أن حليلة الابن من الرضاع في التحريم كحليلة الابن من الصلب، استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم): (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وظاهر قوله: وحلائل أبنائكم اختصاص ذلك بالزوجات كما ذكرناه، واتفقوا على أن مطلق عقد الشراء للجارية لا يحرمها على أبيه ولا ابنه، فلو لمسها أو قبلها حرمت على أبيه وابنه، لا يختلف في تحريم ذلك. واختلفوا في مجرد النظر بشهوة.
* (وأن تجمعوا بين الاختين) * أن تجمعوا في موضع رفع لعطفه على مرفوع، والمعنى: وإن تجمعوا بين الأختين في النكاح، لأن سياق الآية إنما هو في النكاح، وإن كان الجمع بين الأختين أعم من أن يكون في زوجين، أو بملك اليمين. فأما إذا كان على سبيل التزويج، فأجمعت الأمة على تحريم العقد على ذلك سواء وقع العقدان معا، أم مرتبا. واختلفوا في تزويج المرأة في عدة أختها: فروي عن زيد، وابن عباس، وعبيدة، وعطاء، وابن سيرين، ومجاهد في آخرين من التابعين: أن ذلك لا يجوز فبعضهم أطلق العدة، وبعضهم قال: إذا كانت من الثلاث وهو قول: أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، والثوري، والحسن بن صالح. وروي عن عروة، والقاسم، وخلاس: أنه يجوز له ذلك إذا كانت من طلاق بائن، وهو قول: مالك والأوزاعي والليث والشافعي. واختلف عن سعيد والحسن وعطاء. والجواز ظاهر الآية، إذا لم يكن الطلاق رجعيا. وأما الجمع بينهما بملك اليمين فلا خلاف في شرائهما ودخولهما في ملكه، وأما الجمع بينهما في الوطء: فذهب عمر، وعلي، وابن مسعود، والزبير، وابن عمر، وعمار وزيد: إلى أنه لا يجوز ذلك. وهل ذلك على سبيل الكراهة أو التحريم؟ فذكر ابن المنذر عن جمهور أهل العلم: الكراهة. وذكر عن إسحاق: التحريم وكان المستنصر بالله أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي زكريا بن أبي محمد بن أبي حفص ملك أفريقية قد سأل أحد شيوخنا الذين لقيناهم بتونس، وهو الشيخ العابد المنقطع أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الإشبيلي: ألا ترى عن الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء؟ فأجابه بالمنع، وكان غيره قد أفتاه بالجواز. واستدل شيخنا على منع ذلك بظاهر قوله: وأن تجمعوا بين الأختين. وروي عن عثمان، وابن عباس: إباحة ذلك. وإذا اندرج أيضا الجمع بينهما بأن يجمع بينهما في الوطء بتزوج وملك يمين، فيكون قد تزوج واحدة، وملك أختها. وقد أكثر المفسرون من الفروع هنا، وموضع ذلك كتب الفقه.
* (إلا ما قد سلف) * استثناء منقطع يتعلق بالأخير، وهو: أن تجمعوا بين الأختين. والمعنى: لكن ما سلف من ذلك، ووقع. وأزالت شريعة الإسلام حكمه، فإن الله يغفره والإسلام يجبه ويدل على عدم المؤاخذة به قوله.
* (إن الله كان غفورا رحيما) * وقد يكون معنى قوله: إلا ما قد سلف، فلا ينفسخ به العقد على أختين، بل يخير بين من شاء منهما، فيطلق الواحدة، ويمسك الأخرى كما جاء في حديث فيروز الديلمي: أنه أسلم وتحته أختان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم): (طلق إحداهما وأمسك الأخرى) وظاهر حديث فيروز: التخيير من غير نظر إلى وقت العقد، وهو
221

مذهب مالك، ومحمد، والليث، وذهب: أبو حنيفة، وأبو يوسف، والثوري إلى أنه يختار من سبق نكاحها، فإن كانا في عقد واحد فرق بينه وبينهما. وقال عطاء،
والسدي: هذا الاستثناء يدل على أن ما تقدم قبل ورود النهي كان مباحا، هذا يعقوب عليه السلام جمع بين أم يوسف وأختها. ويضعف هذا لبعد صحة إسناد قصة يعقوب في ذلك، وكون هذا التحريم متعلقا بشرعنا نحن، لا يظهر منه ذكر عفو عنه فيما فعل غيرنا.
* (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * الإحصان: التزوج، أو الحرية، أو الإسلام، أو العفة. وعلى هذه المعاني تصرفت هذه اللفظة في القرآن، ويفسر كل مكان بما يناسبه منها. وروى أبو سعيد أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعث جيشا إلى أوطاس، فلقوا عدوا وأصابوا سببا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت. فالمحصنات هنا المزوجات. والمستثنى هو السبايا، فإذا وقعت في سهمه من لها زوج فهي حلال له، وإلى هذا ذهب: أبو سعيد، وابن عباس، وأبو قلابة، ومكحول، والزهري، وابن زيد، وهذا كما قال الفرزدق:
* وذات حليل أنكحتها رماحنا
*
حلال لمن يبنى بها لم تطلق
*
وقيل: المحصنات المزوجات، والمستثنى هن الإماء، فتحرم المزوجات إلا ما ملك منهن بشراء، أو هبة، أو صدقة، أو إرث. فإن مالكها أحق ببضعها من الزوج، وبيعها، وهبتها، والصدقة بها وارثها طلاق لها. وإلى هذا ذهب عبد الله، وأبي جابر، وابن عباس أيضا، وسعيد، والحسن. وذهب عمرو بن عباس أيضا، وأبو العالية، وعبيدة، وطاووس، وابن جبير، وعطاء: إلى أن المحصنات هن العفائف، وأريد به كل النساء حرام، والشرائع كلها تقتضي ذلك. والمستثنى معناه: إلا ما ملكت أيمانكم بنكاح أو بملك، فيدخل ذلك كله تحت ملك اليمين. وبهذا التأويل يكون المعنى تحريم الزنا. وروي عن عمر في المحصنات أنهن الحرائر؟ فعلى هذا يكون قوله: إلا ما ملكت أيمانكم أي بنكاح إن كان الاستثناء متصلا، وإن كان أريد به الإماء كان منقطعا. قيل: والذي يقتضيه لفظ الإحصان أن تعلق بالقدر المشترك بين معانية الأربعة، وإن اختلفت جهات الإحصان، ويحمل قوله: إلا ما ملكت أيمانكم على ظاهر استعماله في القرآن وفي السنة. وعرف العلماء من أن المراد به الإماء، ويعود الاستثناء إلى ما صح أن يعود عليه من جهات الإحصان. وكل ما صح ملكها ملك يمين حلت لمالكها من مسبية أو مملوكة مزوجة.
ولم يختلف القراء السبعة في فتح الصاد من قوله: والمحصنات من النساء، واختلفوا في سوى هذا فقرأ الكسائي: بكسر الصاد، سواء كان معرفا بالألف واللام، أم نكرة. وقرأ باقيهم وعلقمة: بالفتح، كهذا المتفق عليه. وقرأ يزيد بن قطيب: والمحصنات بضم الصاد اتباعا لضمة الميم، كما قالوا: منتن، ولم يعتدوا بالحاجز لأنه ساكن، فهو حاجز غير حصين. وقال مكي: فائدة قوله: من النساء، أن المحصنات تقع على الأنفس فقوله: * (والذين يرمون المحصنات) * لو أريد به النساء خاصة، لما حد من قذف رجلا بنص القرآن، وأجمعوا على أن حده بهذا النص.
* (كتاب الله عليكم) * انتصب بإضمار فعل وهو فعل مؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله: حرمت عليكم. وكأنه قيل: كتب الله عليكم تحريم ذلك كتابا. ومن جعل ذلك متعلقا بقوله
222

* (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * كما ذهب إليه عبيدة السلماني، فقد أبعد وما ذهب إليه الكسائي من أنه يجوز تقديم المفعول في باب الإعراب الظروف والمجرورات مستدلا بهذه الآية، إذ تقدير ذلك عنده: عليكم كتاب الله أي: الزموا كتاب الله. لا يتم دليله لاحتماله أن يكون مصدرا مؤكدا كما ذكرناه. ويؤكد هذا التأويل قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع اليماني: كتب الله عليكم، جعله فعلا ماضيا رافعا ما بعده، أي: كتب الله عليكم تحريم ذلك. وروي عن ابن السميقع أيضا أنه قرأ: كتب الله عليكم جمعا ورفعا أي: هذه كتب الله عليكم أي: فرائضه ولازماته.
* (وأحل لكم وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) * لما نص على المحرمات في النكاح أخبر تعالى أنه أحل ما سوى من ذكر، وظاهر ذلك العموم. وبهذا الظاهر استدلت الخوارج ومن وافقهم من الشيعة على جواز نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها، والجمع بينهما. وقد أطال الاستدلال في ذلك أبو جفعر الطاوسي أحد علماء الشيعة الاثني عشرية في كتابه في التفسير، وملخص ما قال: أنه لا يعارض القرآن بخبر آحاد. وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم) قال: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) بل إذا ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) عرض على القرآن، فإن وافقه قبل، وإلا رد. وما ذهبوا إليه ليس بصحيح، لأن الحديث لم يعارض القرآن، غاية ما فيه تخصيص عموم، ومعظم العمومات التي جاءت في القرآن لا بد فيها من التخصيصات، وليس الحديث خبر آحاد بل هو مستفيض، روي عن جماعة من الصحابة رواه: علي، وابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبو موسى، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وعائشة. حتى ذكر بعض العلماء أنه متوتر موجب للعلم والعمل. وذكر ابن عطية: إجماع الأمة على تحريم الجمع، وكأنه لم يعتد بخلاف من ذكر لشذوذه، ولا يعد هذا التخصيص نسخا للعموم خلافا لبعضهم. وقد خصص بعضهم هذا العموم بالأقارب من غير ذوات المحارم كأنه قيل: وأحل لكم ما وراء ذلكم من أقاربكم، فهي حلال لكم تزويجهن، وإلى هذا ذهب عطاء والسدي، وخصة قتادة بالإماء: أي: وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء. وأبعد عبيدة والسدي في رد ذلك إلى مثنى وثلاث ورباع والمعنى: وأحل لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح. وقال السدي أيضا في قوله: ما وراء ذلكم يعني النكاح فيما دون الفرج. والظاهر العموم إلا ما خصته السنة المستفيضة من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، فيندرج تحت هذا العموم الجمع بين المرأة وبنت عمها، وبينها وبين بنت عمتها، وبينها وبين بنت خالها، أو بنت خالتها. وقد روى المنع من ذلك عن: إسحاق بن طلحة، وعكرمة، وقتادة، وعطاء. وقد نكح حسن بن حسين بن علي في ليلة واحدة بنت محمد بن
علي، وبنت عمر بن علي، فجمع بين ابنتي عم. وقد كره مالك هذا، وليس بحرام عنده.
قال ابن المنذر: لا أعلم أحد، أبطل هذا النكاح وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح، غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة، ولا إجماع، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة انتهى. واندرج تحت هذا العموم أيضا أنه لو زنا بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لأجل زناه بها، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها. ولو زنا بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم يحرما عليه بذلك، وعلى هذا أكثر أهل العلم. وروي عن عمران بن حصين والشعبي، وعطاء، والحسن، وسفيان، وأحمد، وإسحاق، أنهما يحرمان عليه، وبه قال: أبو حنيفة. ويندرج أيضا تحت هذا العموم: أنه لو عبت رجل برجل لم تحرم عليه أمه ولا ابنته، وبه قال: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابه قالوا: لا يحرم النكاح العبث بالرجال. وقال الثوري، وعبيد الله بن الحسن: هو مثل وطء المرأة سواء في تحريم الأم والبنت، فمن حرم بهذا من النساء حرم من الرجال. وقال
223

الأوزاعي في غلامين: يعبث أحدهما بالآخر فتولد للمفعول به جارية قال: لا يتزوجها الفاعل.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص: وأحل مبنيا للمفعول، وهو معطوف على قوله: * (حرمت عليكم) *. وقرأ باقي السبعة: وأحل مبنيا للفاعل، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى، وهو أيضا معطوف على قوله: حرمت. ولا فرق في العطف بين أن يكون الفعل مبنيا للفاعل، أو للمفعول. ولا يشترط المناسبة ولا يختار، وإن اختلف الفاعل المحذوف لقيام المفعول مقامه، والفاعل الذي أسند إليه الفعل المبني للفاعل، فكيف إذا اتحد كهذا، لأنه معلوم أن الفاعل المحذوف في حرمت: هو الله تعالى، وهو الفاعل المضمير في: أحل المبني للفاعل.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): علام عطف قوله: وأحل لكم؟ (قلت): على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله: أي كتب الله عليكم تحريم ذلك، وأحل لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني: كتب الله عليكم، وأحل لكم. ثم قال: ومن قرأ * (وأحل لكم) * على البناء للمفعول، فقد عطفه على: حرمت عليكم انتهى كلامه. ففرق في العطف بين القراءتين، وما اختاره من التفرقة غير مختار. لأن انتصاب كتاب الله عليكم إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله: حرمت، فالعامل فيه وهو كتب، إنما هو تأكيد لقوله: حرمت، فلم يؤت بهذه الجملة على سبيل التأسيس للحكم، إنما التأسيس حاصل بقوله: حرمت، وهذه جيء بها على سبيل التأكيد لتلك الجملة المؤسسة وما كان سبيله هكذا فلا يناسب أن يعطف عليه الجملة المؤسسة للحكم، إنما يناسب أن يعطف على جملة مؤسسة مثلها، لا سيما والجملتان متقابلتان: إذا حداهما للتحريم، والأخرى للتحليل، فناسب أن يعطف هذه على هذه. وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ: وأحل مبنيا للمفعول، فكذلك يجوز فيه مبنيا للفاعل، ومفعول أحل هو: ما وراء ذلكم.
قال ابن عطية: والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات، فهو وراء أولئك بهذا الوجه. وقال الفراء: ما وراء ذلكم أي: ما سوى ذلكم. وقال الزجاج: ما دون ذلكم، أي: ما بعد هذه الأشياء التي حرمت. وهذه التفاسير بعضها يقرب من بعض.
وموضع أن تبتغوا نصب على أنه بدل اشتمال من ما وراء ذلكم، ويشمل الابتغاء بالمال النكاح والشراء. وقيل: الابتغاء بالمال هو على وجه النكاح. وقال الزمخشري: أن تبتغوا مفعول له، بمعنى: بين لكم ما يحل مما يحرم، إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل الله لكم قياما في حال كونكم محصنين غير مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم، فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين انتهى كلامه. وانظر إلى جعجعة هذه الألفاظ وكثرتها، وتحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه، وتفسير الواضح الجلي باللفظ المعقد، ودس مذهب الاعتزال في غضون هذه الألفاظ الطويلة دسا خفيا إذ فسر قوله: وأحل لكم بمعنى بين لكم ما يحل. وجعل قوله: أن تبتغوا على حذف مضافين: أي إرادة أن يكون ابتغاؤكم، أي: إرادة كون ابتغائكم بأموالكم. وفسر الأموال بعد بالمهور، وما يخرج في المناكح، فتضمن تفسيره: أنه تعالى بين لكم ما يحل لإرادته كون ابتغائكم بالمهور، فاختصت إرادته بالحلال الذي هو النكاح دون السفاح. وظاهر الآية غير هذا الذي فهمه الزمخشري. إذ الظاهر أنه تعالى أحل لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان، لا حالة السفاح. وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب: أن تبتغوا مفعولا له، كما ذهب إليه الزمخشري، لأنه فات شرط من شروط المفعول له، وهو اتحاد الفاعل في العامل والمفعول له. لأن الفاعل بقوله: وأحل، هو الله تعالى. والفاعل في:
224

أن تبتغوا، هو ضمير المخاطبين، فقد اختلفا. ولما أحس الزمخشري أن كان أحس بهذا، جعل أن تبتغوا على حذف إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله: وأحل، وفي المفعول له، ولم يجعل أن تبتغوا مفعولا له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك. ومفعول تبتغوا مفعولا له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك. ومفعول تبتغوا محذوف اختصارا، إذ هو ضمير يعود على ما من قوله: ما وراء ذلكم، وتقديره: أن تبتغوه.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): أين مفعول تبتغوا؟ (قلت): يجوز أن يكون مقدرا وهو. النساء، وأجود أن لا يقدر. وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم انتهى كلامه. فأما تقديره: إذا كان مقدرا بالنساء فإنه لما جعله مفعولا له غاير بين متعلق المفعول له وبين متعلق المعلول. وأما قوله: وأجود أن لا يقدر، وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم، فهو مخالف للظاهر، لأن مدلول تبتغوا ليس مدلول تخرجوا، ولأن تعدى تبتغوا إلى الأموال بالباء ليس على طريق المفعول به الصريح، كما هو في تخرجوا، وهذا كله تكلف ينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.
وظاهر قوله: بأموالكم، أنه يطلق على ما يسمى مالا وإن قل وهو قول: أبي سعيد، والحسن، وابن المسيب، وعطاء، والليث، وابن أبي ليلى، والثوري، والحسن
بن صالح، والشافعي، وربيعة قالوا: يجوز النكاح على قليل المال وكثيره. وقيل: لا مهر أقل من عشرة دراهم، وروي عن علي، والشعبي، والنخعي، في آخرين من التابعين. وهو قول: أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر، والحسن، ومحمد بن زياد. وقال مالك: أقل المهر ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وقال أبو بكر الرازي: من كان له درهم أو درهمان لا يقال عنده مال، وظاهر قوله: بأموالكم يدل على أنه لا يجوز أن يكون المهر منفعة، لا تعليم قرآن ولا غيره، وقد أجاز أن يكون المهر خدمتها مدة معلومة جماعة من العلماء، ولهم في ذلك تفصيل. وأجاز أن يكون تعليم سورة من القرآن الشافعي، ومنع من ذلك: مالك والليث، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وحججهم في كتب الفقه وفي كتب أحكام القرآن.
والاحصان: الفقه، وتحصين النفس عن الوقوع في الحرام. وانتصب محصنين على الحال، وغير مسافحين حال مؤكدة، لأن الإحصان لا يجامع السفاح وكذلك قوله: * (ولا متخذى أخدان) * والمسافحون هم الزانون المبتذلون، وكذلك المسافحات هن الزواني المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا. ومتخذوا الأخدان هم الزناة المتسترون الذين يصحبون واحدة واحدة، وكذلك متخذات الأخدان هن الزواني المتسترات اللواتي يصحبن واحدا واحدا، ويزنين خفية. وهذان نوعان كانا في زمن الجاهلية قاله: ابن عباس، والشعبي، والضحاك، وغيرهم. وأصل المسافح من السفح، وهو الصب للمني. وكان الفاجر يقول للفاجرة: سافحيني وماذيني من المذي.
* (فما استمتعتم به منهن فئاتوهن أجورهن فريضة) * قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وابن زيد، وغيرهم: المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء، ولو مرة، فقد وجب إعطاء الأجر وهو المهر، ولفظة ما تدل على أن يسيرالوطء يوجب إيتاء الأجرة. وقال الزمخشر: فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة، أو عقد عليهن، فآتوهن أجورهن عليه انتهى. وأدرج في الاستمتاع الخلوة الصحيحة على مذهب أبي حنيفة، إذ هو مذهبه. وقد فسر ابن عباس وغيره الاستمتاع هنا بالوطء، لأن إيتاء الأجر كاملا لا يترتب إلا عليه، وذلك على مذهبه ومذهب من يرى ذلك.
وقال ابن عباس أيضا ومجاهد، والسدي، وغيرهم: الآية في نكاح المتعة. وقرأ أبي، وابن عباس، وابن جبير: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن. وقال ابن عباس لأبي نضرة: هكذا أنزلها الله. وروي عن علي أنه قال: لولا أن عمر نهى عن
225

المتعة ما زنى إلا شقي. وروي عن ابن عباس: جواز نكاح المتعة مطلقا. وقيل عنه: بجوازها عند الضرورة، والأصح عنه الرجوع إلى تحريمها. واتفق على تحريمها فقهاء الأمصار. وقال عمران بن حصين: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالمتعة، ومات بعدما أمرنا بها، ولم ينهنا عنه قال رجل بعده برأيه ما شاء. وعلى هذا جماعة من أهل البيت والتابعين. وقد ثبت تحريمها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) من حديث علي وغيره. وقد اختلفوا في ناسخ نكاح المتعة، وفي كيفيته، وفي شروطه، وفيما يترتب عليه من لحاق ولد أو حد بما هو مذكور في كتب الفقه، وكتب أحكام
226

القرآن، وما من قوله: فما استمتعتم به منهن، مبتدأ. ويجوز أن تكون شرطية، والخبر الفعل الذي يليها، والجواب: فآتوهن، ولا بد إذ ذاك من راجع يعود على اسم الشرط. فإن كانت ما واقعة على الاستمتاع فالراجع محذوف تقديره: فأتوهن أجورهن من أجله أي: من أجل ما استمتعتم به. وإن كانت ما واقعة على النوع المستمتع به من الأزواج، فالراجع هو المفعول بآتوهن وهو الضمير، ويكون أعاد أولا في به على لفظ ما، وأعاد على المعنى في: فآتوهن، ومن في: منهن على هذا يحتمل أن يكون تبعيضا. وقيل: يحتمل أن يكون للبيان. ويجوز أن تكون ما موصولة، وخبرها إذ ذاك هو: فآتوهن، والعائد الضمير المنصب في: فآتوهن إن كانت واقعة على النساء، أو محذوف إن كانت واقعة على الاستمتاع على ما بين قبل.
والأجور: هي المهور. وهذا نص على أن المهر يسمى أجرا، إذ هو مقابل لما يستمتع به. وقد اختلف في المعقود عليه بالنكاح ما هو؟ أهو بدن المرأة، أو منفعة العضو، أو الكل؟ وقال القرطبي: الظاهر المجموع، فإن العقد يقتضي كل هذا. وإن كان الاستمتاع هنا المتعة، فالأجر هنا لا يراد به المهر بل العوض كقوله: * (ليجزيك أجر ما سقيت لنا) * وقوله: * (لو شئت * لاتخذت عليه أجرا) * وظاهر الآية: أنه يجب المسمى في النكاح الفاسد لصدق قوله: فما استمتعتم به منهن عليه جمهور العلماء، على أنه لا يجب فيه إلا مهر المثل، ولا يجب المسمى. والحجة لهم: * (أيما * امرأت * الفضل العظيم * ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) * وانتصب فريضة على الحال من أجورهن، أو مصدر على غير الصدر. أي: فآتوهن أجورهن إيتاء، لأن الإيتاء مفروض. أو مصدر مؤكد أي: فرض ذلك فريضة.
* (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) * لما أمروا بإيتاء أجور النساء المستمتع بهن، كان ذلك يقتضي الوجوب، فأخبره تعالى أنه لا حرج ولا إثم في نقص ما تراضوا عليه، أو رده، أو تأخره. أعني: الرجال والنساء من بعد الفريضة. فلها إن ترده عليه، وإن تنقص، وإن تؤخر، هذا ما يدل عليه سياق الكلام. وهو نظير * (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * وإلى هذا ذهب الحسن وابن زيد. وقال السدي: هو في المتعة. والمعنى: فيما تراضيتم به من
228

بعد الفريضة زيادة في الأجل، وزيادة في المهر قبل استبراء الرحم. وقال ابن عباس: في رد ما أعطيتموهن إليكم. وقال ابن المعتمر: فيما تراضيتم به من النقصان في الصداق إذا أعسرتم. وقيل: معناه إبراء المرأة عن المهر، أو توفيته، جو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول. وقيل: فيما تراضيتم به من بعد فرقة، أو إقامة بعد أداء الفريضة، وروي عن ابن عباس وقد استدل على الزيادة في المهر بقوله: * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) *، قيل: لأن ما عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والحظ والإبراء، وعموم اللفظ يقتضي جواز الجميع، وهو بالزيادة أخص منه بغيرها مما ذكرناه، لأن المرأة والحظ والتأجيل لا يحتاج في وقوعه إلى رضا الرجل، والاقتصار على ما ذكر دون الزيادة يسقط فائدة ذكر تراضيهما. وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: إلى أن الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة، وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها. وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة. وقال مالك: تصح الزيادة، فإن طلقها قبل الدخول رجع ما زادها إليه، وإن
مات عنها قبل أن يقبض فلا شيء لها. وقال الشافعي وزفر: الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة إن أقبضها جازت، وإلا بطلت.
* (إن الله كان عليما) * بما يصلح أمر عباده.
* (حكيما) * في تقديره وتدبيره وتشريعه.
* (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * الطول: السعة في المال قاله: ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والسدي، وابن زيد، ومالك في المدونة. وقال ابن مسعود، وجابر، وعطاء، والشعبي، والنخعي، وربيعة: الطول هنا الجلد والصبر لمن أحب أمة وهو بها حتى صار لا يستطيع أن يتزوج غيرها فله أن يتزوجها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة. والمحصنات هنا الحرائر، يدل على ذلك التقسيم بينهن وبين الإماء. وقالت فرقة: معناه العفائف، وهو ضعيف.
واختلفوا في جواز نكاح الأمة لواجد طول الحرة. وظاهر الآية يدل على أن من لم يستطع ما يتزوج به الحرة المؤمنة وخاف العنت، فيجوز له أن يتزوج الأمة المؤمنة، ويكون هذا تخصيصا العموم قوله: * (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) * فيكون تخصيصا في الناكح بشرط أن لا يجد طول الحرة ويخاف العنت، وتخصيصا في إمائكم بقوله: من فتيانكم المؤمنات، وتخصيص جواز نكاح الإماء بالمؤمنات لغير واجد طول الحرة، هو مذهب أهل الحجاز. فلا يجوز له نكاح الأمة الكتابية، وبه قال: الأوزاعي، والليث، ومالك، والشافعي. وذهب العراقيون أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد والثوري ومن التابعين الحسن ومجاهد إلى جواز ذلك. ونكاح الأمة المؤمنة أفضل، فحملوه على الفضل لا على الوجوب. واستدلوا على أن الإيمان ليس بشرط بكونه وصف به الحرائر في قوله: أن ينكح المحصنات المؤمنات، وليس بشرط فيهن اتفاقا، لكنه أفضل.
وقال ابن عباس: وسع الله على هذه الأمة بنكاح الأمة، واليهودية، والنصرانية. وقد اختلف السلف في ذلك اختلافا كثيرا: روي عن ابن عباس، وجابر، وابن جبير، والشعبي، ومكحول: لا يتزوج الأمة إلا من لا يجد طولا للحرة، وهذا هو ظاهر القرآن. وروي عن مسروق، والشعبي: أن نكاحها
229

بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير، يعني: أنه يباح عند الضرورة. وروي عن علي، وأبي جعفر، ومجاهد، وابن المسيب، وإبراهيم، والحسن، والزهري: أن له نكاحها، وإن كان موسرا. وروي عن عطاء، وجابر بن زيد: أنه يتزوجها إن خشي أن يزني بها، ولو كان تحته حرة. فال عطاء: يتزوج الأمة على الحرة. وقال ابن مسعود: لا يتزوجها عليها إلا المملوك. وقال عمر، وعلي، وابن المسيب، ومكحول في آخرين: لا يتزوجها عليها. وهذا الذي يقتضيه النظر، لأن القرآن دل على أنه لا ينكح الأمة إلا من لا يجد طولا للحرة. فإذا كانت تحته حرة، فبالأولى أن لا يجوز له نكاح الأمة، لأن وجدان الطول للحرة إنما هو سبب لتحصيلها، فإذا كانت حاصلة كان أولى بالمنع. وقال إبراهيم: يتزوج الأمة على الحرة إن كان له من الأمة ولد. وقال ابن المسيب: لا ينكحها عليها إلا أن تشاء الحرة، ويقسم للحرة يومين، وللأمة يوما وظاهر قوله: فمما ملكت أيمانكم، جواز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة أربعا من الإماء إن شاء. وروي عن ابن عباس: أنه لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة، وإذا لم يكن شرطا في الأمة الإيمان فظاهر قوله: فمما ملكت أيمانكم من فتيانكم، أنه لو كانت الكتابية مولاها كافر لم يجز نكاحها، لأنه خاطب بقوله: فمما ملكت أيمانكم من فتيانكم المؤمنات، فاختص بفتيات المؤمنين، وروي عن أبي يوسف: جواز ذلك على كراهة. وإذا لم يكن الإيمان شرطا في نكاح الأمة، فالظاهر جواز نكاح الأمة الكافرة مطلقا، سواء كانت كتابية، أو مجوسية، أو وثنية، أم غير ذلك من أنواع الكفار.
وأجمعوا على تحريم نكاح الأمة الكافرة غير الكتابية: كالمجوسية، والوثنية، وغيرهما. وأما وطء المجوسية بملك اليمين فأجازه: طاوس، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار. ودلت على هذا القول ظواهر القرآن في عموم: ما ملكت أيمانكم، وعموم * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * قالوا: وهذا قول شاذ مهجور، لم يلتفت إليه أحد من فقهاء الأمصار. وقالوا: لا يحل له أن يطأها حتى تسلم. وقالوا: إنما كان نكاح الأمة منحطا عن نكاح الحرة لما فيه من اتباع الولد لأمه في الرق، ولثبوت حق سيدها فيها، وفي استخدامها، ولتبذلها بالولوج والخروج، وفي ذلك نقصان نكاحها ومهانته إذ رضي بهذا كله، والعزة من صفات المؤمنين.
ومن مبتدأ، وظاهره أنه شرط. والفاء في: فمما ملكت فاء الجواب، ومن تتعلق بمحذوف تقديره: فلينكح من ما ملكت. ويجوز أن يكون من موصولة، ويكون العامل المحذوف الذي يتعلق به قوله: مما ملكت جملة في موضع الخبر. ومسوغات دخول الفاء في خبر المبتدأ موجودة هنا. والظاهر أن مفعول يستطع هو طولا، وأن ينكح على هذا أجازوا، فيه أن يكون أصله بحرف جر، فمنهم من قدره بإلى، ومنهم من قدره باللام أي: طولا إلى أن ينكح، أو لأن ينكح، ثم حذف حرف الجر، فإذا قدر إلى، كان المعنى: ومن لم يستطع منكم وصلة إلى أن ينكح. وإذا قدر باللام، كان في موضع الصفة القدير: طولا أي: مهرا كائنا لنكاح المحصنات. وقيل: اللام المقدرة لام المفعول له أي: طولا لأجل نكاح المحصنات، وأجازوا أن يكون: أن ينكح في موضع نصب على المفعول به، وناصبة طول. إذ جعلوه مصدر طلت الشيء أي نلته، قالوا: ومنه قول الفرزدق:
* إن الفرزدق صخرة عادية
*
طالت فليس تنالها الأوعالا
*
أي وطالت إلا وعال أي: ويكون التقدير ومن لم يستطع منكم أن ينال نكاح المحصنات. ويكون قد أعمل المصدر المنون في المفعول به كقوله:
230

* يضرب بالسيوف رؤوس قوم
*
أزلناها مهن عن المقيل
*
وهذا على مذهب البصريين إذ أجازوا إعمال المصدر المنون. وإلى أن طولا مفعول ل يستطيع، وإن ينكح في موضع مفعول بقوله: طولا، إذ هو مصدر. ذهب أبو علي في التذكرة، وأجازوا أيضا أن يكون أن ينكح بدلا من طول، قالوا: بدل الشيء من الشيء، وهما لشيء واحد، لأن الطول هو القدرة والنكاح قدرة. وأجازوا أن يكون مفعول يستطع قوله: أن ينكح. وفي نصب قوله: طولا وجهان: أحدهما: أن يكون مفعولا من أجله على حذف مضاف، أي: ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات. والثاني: قاله: ابن عطية. قال: ويصح أن يكون طولا نصب على المصدر، والعامل فيه الاستطاعة، لأنها بمعنى يتقارب. وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة، أو بالمصدر انتهى كلامه. وكأنه يعني أن الطول هو استطاعة، فيكون التقدير: ومن لم يستطع منكم استطاعة أن ينكح.
وما من قوله: فمما ملكت، موصولة اسمية أي: فلينكح من النوع الذي ملكته أيمانكم. ومن فتياتكم: في موضع الحال من الضمير المحذوف في ما ملكت، العائد على ما. ومفعول الفعل المحذوف الذي هو فلينكح محذوف، التقدير: فلينكح أمة مما ملكت أيمانكم. ومن للتبعيض، نحو: أكلت من الرغيف. وقيل: من في من ما زائدة، ومفعول ذلك الفعل هو ما من قوله: ما ملكت أيمانكم. وقيل: مفعوله فتياتكم على زيادة من. وقيل: مفعوله المؤمنات، والتقدير: فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم الفتيات المؤمنات. والأظهر أن المؤمنات صفة لفتياتكم. وقيل: ما مصدرية التقدير، من ملك إيمانكم. وعلى هذا يتعلق من فتياتكم بقوله: ملكت.
ومن أغرب ما سطروه في كتب التفسير ونقلوه عن قول الطبري: أن فاعل ذلك الفعل المحذوف هو قوله: * (بعضكم من بعض) * وفي الكلام تقديم وتأخير. والتقدير: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضهم من بعض الفتيات، وهذا قول ينزه حمل كتاب الله عليه، لأنه قول جمع الجهل بعلم النحو وعلم المعاني، وتفكيك نظم القرآن عن أسلوبه الفصيح، فلا ينبغي أن يسطر ولا يلتفت إليه. ومنكم: خطاب للناكحين، وفي: أيمانكم من فتياتكم خطاب للمالكين، وليس المعنى أن الرجل ينكح فتاة نفسه، وهذا التوسع في اللغة كثير.
* (والله أعلم بإيمانكم) * لما خاطب المؤمنين بالحكم الذي ذكره من تجويز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة للأمة المؤمنة، نبه على أن الإيمان هو وصف باطن، وأن المطلع عليه هو الله. فالمعنى: أنه لا يشترط في إيمان الفتيات أن يكونوا عالمين بذلك العلم اليقين، لأن ذلك إنما هو لله تعالى، فيكفي من الإيمان منهن إظهاره. فمن كانت مظهرة للإيمان فنكاحها صحيح، وربما كانت خرساء، أو قريبة عهد بسباء وأظهرت الإيمان، فيكتفي بذلك منها.
والخطاب في بإيمانكم للمؤمنين ذكورهم وإناثهم، حرهم ورقهم، وانتظم الإيمان في هذا الخطاب، ولم يفردن بذلك فلم يأت والله أعلم بإيمانهن، لئلا يخرج غيرهن عن هذا الخطاب. والمقصود: عموم الخطاب، إذ كلهم محكوم عليه بذلك. وكم أمة تفوق حرة في الإيمان وفعل الخير، وامرأة تفوق رجلا في ذلك، وفي ذلك تأنيس لنكاح الإماء، وأن المؤمن لا يعتبر الأفضل الإيمان، لا فضل الأحساب والأنساب * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم * لا * فضل * صلى * أرءيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى) *.
* (بعضكم من بعض) * هذه جملة من مبتدأ وخبر، وقد تقدم قول الطبري في أن ارتفاع بعضكم على الفاعلية بالفعل المحذوف، ومعنى هذه الجملة الابتدائية: التأنيس أيضا بنكاح الإماء، وأن الأحرار والأرقاء كلهم متواصلون متناسبون يرجعون إلى أصل واحد، وقد اشتركوا في الإيمان، فليس بضائر نكاح الإماء. وفيه توطئة العرب، إذ كانت في الجاهلية تستهجن ولد الأمة، وكانوا يسمونه الهجين، فلما جاء الشرع أزال ذلك. وما أحسن ما روي عن علي من قوله:
231

* الناس من جهة التمثيل أكفاء
*
أبوهم آدم والأم حواء
*
* (فانكحوهن بإذن أهلهن) * هذا أمر إباحة، والمعنى: بولاية ملاكهن. والمراد بالنكاح هنا: العقد، ولذلك ذكر إيتاء الأجر بعده أي المهر. وسمي ملاك الإماء أهلا لهن، لأنهم كالأهل، إذ رجوع الأمة إلى سيدها في كثير من الأحكام. وقد قال صلى الله عليه وسلم): * (لا تحلوا * بالله حسيبا * ما كان محمد) *. وقال صلى الله عليه وسلم): * (موالى * القوم * منهم) *.
وقيل: هو على حذف مضاف بإذن أهل ولايتهن، وأهل ولاية نكاحهن هم الملاك. ومقتضى هذا الخطاب أن الأدب شرط في صحة النكاح، فلو تزوجت بغير إذن السيد لم يصح النكاح، ولو أجازه السيد بخلاف العبد. فإنه لو تزوج بغير إذن سيده فإن مذهب الحسن وعطاء، وابن المسيب، وشريح، والشعبي، ومالك، وأبي حنيفة: أن تزوجه موقوف على إذن السيد، فإن أجازه جاز، وإن رده بطل. وقال الأوزاعي، والشافعي، وداود: لا يجوز، أجازه المولى أو لم يجزه.
وأجمعوا على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده، وكان ابن عمر يعده زانيا ويحده، وهو قول: أبي ثور.
وقال عطاء: لا حد عليه، وليس بزنا، ولكنه أخطأ السنة. وهو قول أكثر السلف. وظاهر قوله: بإذن أهلهن أنه يشمل الملاك ذكورا وإناثا، فيشترط إذن المرأة في
تزويج أمتها، وإذا كان المراد بالإذن هو العقد فيجوز للمرأة أن تزوج أمتها وتباشر العقد، كما يجوز للذكر. وقال الشافعي: لا يجوز، بل توكل غيرها في التزويج. وقال الزمخشري: بإذن أهلهن، اشترط الإذن للموالي في نكاحهن، ويحتج به لقول أبي حنيفة: إن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم.
* (ومن لم يستطع) * الأجور هنا المهور. وفيه دليل على وجوب إيتاء الأمة مهرها لها، وأنها أحق بمهرها من سيدها، وهذا مذهب مالك، قال: ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. وجمهور العلماء: على أنه يجب دفعه للسيد دونها. قيل: الإماء وما في أيديهن مال الموالي، فكان أداؤه إليهن أداء إلى الموالي. وقيل: على حذف مضاف أي: وآتوا مواليهن. وقيل: حذف بإذن أهلهن بعد قوله: * (ومن لم) * لدلالة قوله: * (فانكحوهن بإذن أهلهن) * عليه وصار نظيرا * (لحافظين * فروجهم والحافظات) * أي فروجهن، * (والذكرين الله كثيرا والذكرات) * أي الله كثيرا.
وقال بعضهم: أجورهن نفقاتهن. وكون الأجور يراد بها المهور هو الوجه، لأن النفقة تتعلق بالتمكين لا بالعقد. وظاهر قوله: بالمعروف، أنه متعلق بقوله: وآتوهن أجورهن. قيل: ومعناه بغير مطل وضرار، وإخراج إلى اقتضاء ولز. وقيل: معناه بالشرع والسنة أي: المعروف من مهور أمثالهن اللاتي ساوينهن في المال والحسب. وقيل: بالمعروف، متعلق بقوله: فانكحوهن، أي: فانكحوهن بالمعروف بإذن أهلهن، ومهر مثلهن، والإشهاد على ذلك. فإن ذلك هو المعروف في غالب الأنكحة.
* (محصنات) * أي عفائف، ويحتمل مسلمات.
* (غير مسافحات) * أي غير معلنات بالزنا.
* (ولا متخذات) * أي: ولا متسترات بالزنا مع أخدانهن. وهذا تقسيم الواقع لأن الزانية إما أن تكون لا ترديد لامس، وإما أن تقتصر على واحد، وعلى هذين النوعين كان زنا الجاهلية. قال ابن عباس: كان قوم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه. والخدن: هو الصديق للمرأة يزني بها سرا، فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وانتصاب محصنات على الحال، والظاهر أن العامل فيه: وآتوهن، ويجوز على هذا الوجه أن يكون معنى محصنات مزوجات أي: وآتوهن أجورهن في حال تزويجهن، لا في حال سفاح، ولا اتخاذ خدن. قيل: ويجوز أن يكون العامل في محصنات فانكحوهن محصنات أي: عفائف أو مسلمات، غير زوان.
* (أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * قال الجمهور ومنهم ابن مسعود: الإحصان هنا
232

الإسلام. والمعنى: أن الأمة المسلمة عليها نصف حد الحرة المسلمة. وقد ضعف هذا القول، بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدمت في قوله: * (من فتياتكم المؤمنات) * فكيف يقال في المؤمنات: فإذا أسلمن؟ قاله: إسماعيل القاضي. وقال ابن عطية: ذلك غير لازم، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد، فإذا كن على هذه الصفة المتقدمة من الإيمان فإن أتين فعليهن، وذلك سائغ صحيح انتهى. وليس كلامه بظاهر، لأن أسلمن فعل دخلت عليه أداة الشرط، فهو مستقبل مفروض التجدد والحدوث فيما يستقبل، فلا يمكن أن يعبر به عن الإسلام، لأن الإسلام متقدم سابق لهن. ثم إنه شرط جا بعد قوله تعالى: * (فانكحوهن) * فكأنه قيل: فإذا أحصن بالنكاح، فإن أتين.
ومن فسر الإحصان هنا بالإسلام جعله شرطا في وجوب الحد، فلو زنت الكافر لم تحد، وهذا قول: الشعبي، والزهري، وغيرهما، وقد روي عن الشافعي. وقالت فرقة: هو التزويج، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها قاله: ابن عباس، والحسن، وابن جبير، وقتادة. وقالت فرقة: هو التزوج. وتحد الأمة المسلمة بالسنة تزوجت أو لم تتزوج، بالحديث الثابت في صحيح البخاري ومسلم، وهو أنه قيل: يا رسول الله، الأمة، إذا زنت ولم تحصن، فأوجب عليها الحد). قال الزهري: فالمتزوجة محدودة بالقرآن، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث. وهذا السؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا أن معنى: فإذا أحصن، تزوجن. وجواب الرسول: يقتضي تقرير ذلك، ولا مفهوم لشرط الإحسان الذي هو التزوج، لأنه وجب عليه الحد بالسنة وإن لم تحصن، وإنما نبه على حالة الإحصان الذي هو التزوج، لئلا يتوهم أن حدها إذا تزوجت كخد الحرة إذا أحصنت وهو الرجم، فزال هذا التوهم بالإخبار: أنه ليس عليها إلا نصف الحد الذي يجب على الحرائر اللواتي لم يحصن بالتزويج، وهو الجلد خمسين.
والمراد بالعذاب الجلد كقوله تعالى: * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) * ولا يمكن أن يراد الرجم، لأن الرجم لا يتنصف. والمراد بفاحشة هنا: الزنا، بدليل إلزام الحد. والظاهر أنه يجب نصف ما على الحرة من العذاب، والحرة عذابها جلد مائة وتغريب عام، فحد الأمة خمسون وتغريب ستة أشهر. وإلى هذا ذهب جماعة من التابعين، واختاره الطبري. وذهب ابن عباس والجمهور: إلى أنه ليس عليها إلا جلد خمسين فقط، ولا تغرب. فإن كانت الألف واللام في العذاب لعهد العذاب المذكور في القرآن فهو الجلد فقط، وإن كانت للعهد في العذاب المستقر في الشرع على الحرة كان الجلد والتغريب. والظاهر وجوب الحد من قوله: فعليهن، فلا يجوز العفو عن الأمة من السيد إذا زنت، وهو مذهب الجمهور. وذهب الحسن إلى أن للسيد أن يعفو، ولم تتعرض الآية لمن يقيم الحد عليها.
قال ابن شهاب: مضت السنة أن يحد الأمة والعبد في الزنا أهلوهم، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان، فليس لأحد أن يفتات عليه. وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم. وأقام الحد على عبيدهم جماعة من الصحابة منهم: ابن عمر، وأنس. وجاءت بذلك ظواهر الأحاديث كقوله: * (إذا) * وبه قال الثوري والأوزاعي. وقال مالك والليث: يحد السيد إلا في القطع، فلا يقطع إلا الإمام. وقال أبو حنيفة: لا يقيم الحدود على العبيد والإماء إلا السلطان دون الموالي وظاهر الآية يدل على وجوب الحد عليها في حال كونها أمة، فلو عتقت قبل أن يقام عليها الحد أقيم عليها حد أمة، وهذا مجمع عليه. والمحصنات
هنا الإبكار
233

الحرائر، لأن الثيب عليها الرجم. وظاهر الآية أنه لا يجب إلا هذا الحد. وذهب أهل الظاهر منهم داود: إلى أنه يجب بيعها إذا زنت زنية رابعة.
وقرأ حمزة والكسائي: أحصن مبنيا للفاعل، وباقي السبعة: مبنيا للمفعول إلا عاصما، فاختلف عنه. ومن بناه للمفعول فهو ظاهر حدا في أنه أريد به التزوج، ويقوى حمله مبنيا للفاعل على هذا المعنى أي: أحصن أنفسهن بالتزويج. وجواب فإذا الشرط وجوابه وهو قوله: فإن أتين بفاحشة فعليهن، فالفاء في: فإن أتين هي فاء الجواب، لا فاء العطف، ولذلك ترتب الثاني، وجوابه على وجود الأول، لأن الجواب مترتب على الشرط في الوجود، وهو نظير: إن دخلت الدار فإن كلمت زيدا فأنت طالق، لا يقع الطلاق إلا إذا دخلت الدار أولا ثم كلمت زيدا ثانيا. ولو أسقطت الفاء من الشرط الثاني لكان له حكم غير هذا، وتفصيل ذكر في النحو. ومن العذاب في موضع الحال من الضمير المستكن في صلة ما.
* (ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشى العنت منكم) * ذلك إشارة إلى نكاح عادم طول الحرة المؤمنة. والعنت: هو الزنا. قاله: ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والضحاك، وعطية العوفي، وعبد الرحمن بن زيد. والعنت: أصله المشقة، وسمي الزنا عنتا باسم ما يعقبه من المشقة في الدنيا والآخرة. قال المبرد: أصل العنت أن يحمله العشق والشبق على الزنا، فيلقى العذاب في الآخرة، والحد في الدنيا. وقال أبو عبيدة والزجاج: العنت الهلاك. وقالت طائفة: الحد. وقالت طائفة: الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة. وظاهر هذا أنه إذا لم يخش العنت لا يجوز له نكاح الأمة. والذي دل عليه ظاهر القرآن: أنه لا يجوز نكاح الحر الأمة إلا بثلاثة شروط: * (اثنان * فى) * وهما: عدم طول الحرة المؤمنة، وخوف العنت. وواحد في الأمة وهو الإيمان.
* (منكم وأن تصبروا خير لكم) * ظاهره الإخبار عن صبر خاص، وهو غير نكاح الإماء، وقاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير والسدي: وجهة الخيرية كونه لا يرق ولده، وأن لا يبتذل هو، وينتقص في العادة بنكاح الأمة. وفي سنن ابن ماجة من حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقول: (من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر) وجاء في الحديث: (انكحوا الأكفاء واختاروا لنطفكم). وقيل: المراد وإن تصبروا عن الزنا بنكاح لإماء خير لكم، وعلى هذا فالخيرية ظاهرة. ويكون على هذا القول في الآية إيناس لنكاح الإماء، وتقريب منه، إذ كانت العرب تنفر عنه. وإذا جعل: وإن تصبروا عاما، اندرج فيه الصبر المقيد وهو: عن نكاح الإماء، وعن الزنا. إذ الصبر خير، من عدمه، لأنه يدل على شجاعة النفس وقوة عزمها، وعظم إبائها، وشدة حفاظها. وهذا كله يستحسنه العقل، ويندب إليه الشرع، وربما أوجبه في بعض المواضع. وجعل الله تعالى أجر الصابر موفاة بغير حساب، وقد قال بعض أهل العلم: إن سائر العبادات لا بد لها من الصبر. قال تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) *.
* (والله غفور رحيم) * لما ندب بقوله: وأن تصبروا إلى الصبر عن نكاح الإماء، صار كأنه في حيز الكراهة، فجاء بصفة الغفران المؤذنة بأن ذلك مما سامح فيه تعالى، وبصفة الرحمة حيث رخص في نكاحهن وأباحه.
* (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم) * مفعول يتوب محذوف وتقديره: يريد الله هذا هو مذهب سيبويه فيما نقل ابن عطية، أي: تحليل ما حلل، وتحريم ما حرم، وتشريع ما تقدم ذكره. والمعنى: يريد الله تكليف ما كلف به عباده مما ذكر لأجل التبيين لهم بهدايتهم، فمتعلق الإرادة غير التبيين وما عطف عليه، هذا مذهب البصريين. ولا يجوز عندهم أن يكون متعلف الإرادة التبيين، لأنه يؤدي إلى تعدي الفعل إلى مفعوله المتأخر بوساطة اللام، وإلى إضمار أن بعد لام ليست لام الجحود، ولا لام كي، وكلاهما لا يجوز عندهم. ومذهب الكوفيين: أن
234

متعلق الإرادة هو التبيين، واللام هي الناصبة بنفسها لا أن مضمرة بعدها. وقال بعض البصريين: إذا جا مثل هذا قدر الفعل الذي قبل اللام بالمصدر فالتقدير: إرادة الله لما يريد ليبين، وكذلك أريد لا ينسى ذكرها، أي: إرادتي لا ينسى ذكرها. وكذلك قوله تعالى: * (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) * أي: أمرنا بما أمرنا لنسلم انتهى. وهذا القول نسبه ابن عيسى لسيبويه والبصريين، وهذا يبحث في علم النحو.
وقال الزمخشري: أصله يريد الله أن يبين لكم، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين، كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب، والمعنى: يريد الله أن يبين لكم ما خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم انتهى كلامه وهو خارج عن أقوال البصريين والكوفيين. وأما كونه خارجا عن أقوال البصريين فلأنه جعل اللام مؤكدة مقوية لتعدي يريد، والمفعول متأخر، وأضمر أن بعد هذه اللام. وأما كونه خارجا عن قول الكوفيين فإنهم يجعلون النصب باللام، لا بأن، وهو جعل النصب بأن مضمرة بعد اللام. وذهب بعض النحويين إلى أن اللام في قوله: ليبين لكم، لام العاقبة، قال: كما في قوله: ليكون لهم عدوا وحزنا) ولم يذكر مفعول يبين.
قال عطاء: يبين لكم ما يقربكم. وقال الكلبي: يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير. وقيل: ما فصل من المحرمات والمحللات. وقيل: شرائع دينكم، ومصالح أموركم. وقيل: طريق من قبلكم إلى الجنة. ويجوز عندي أن يكون من باب الإعمال، فيكون مفعول ليبين ضميرا محذوفا يفسره مفعول ويهديكم، نحو: ضربت وأهنت زيدا، التقدير: ليبينها لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، أي ليبين لكم سنن الذين من قبلكم.
والسنن: جمع سنة، وهي الطريقة. واختلفوا في قوله: سنن الذين من قبلكم، هل ذلك على ظاهره من الهداية لسننهم؟ أو على التشبيه؟ أي: سننا مثل سنن الذين الذين من قبلكم. فمن قال بالأول أراد أن السنن هي ما حرم علينا وعليهم بالنسب والرضاع والمصاهرة. وقيل: المراد بالسنن ما عنى في قوله تعالى: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * وقيل: المراد بها ما ذكره في قوله تعالى: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) * وقيل: طرق من قبلكم إلى الجنة. وقيل: مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين، والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم، وهذا قريب مما قبله. وعلى هذا الأقوال فيكون الذين من قبلكم المراد به الأنبياء
وأهل الخير. وقيل: المراد بقوله سنن طرق أهل الخير والرشد والغي، ومن كان قبلكم من أهل الحق والباطل، لتجتنبوا الباطل، وتتبعوا الحق.
والذين قالوا: إن ذلك على التشبيه قالوا: إن المعنى أن طرق الأمم السابقة في هدايتها كان بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبيان الأحكام، وكذلك جعل طريقكم أنتم. فأراد أن يرشدكم إلى شرائع دينكم وأحكام ملتكم بالبيان والتفصيل، كما أرشد الذين من قبلكم من المؤمنين. وقيل: الهداية في أحد أمرين: أما أنا خوطبنا في كل قصة نهيا أو أمرا كما خوطبوا هم أيضا في قصصهم، وشرع لنا كما شرع لهم، فهدايتنا سننهم في الإرشاد، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم. والأمر الثاني: أن هدايتنا سننهم في أن سمعنا وأطعنا كما سمعوا وأطاعوا، فوقع التماثل من هذه الجهة.
والمراد بالهداية هنا الإرشاد والتوضيح، ولا يتوجه غير ذلك بقرينة السنن، والذين من قبلناهم المؤمنون من كل شريعة. وقال صاحب ري الظمآن وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي: قوله تعالى: يريد الله ليبين لكم، أي: يريد أن يبين، أو يريد إنزال الآيات ليبين لكم. وقوله تعالى: ويهديكم، قال المفسرون: معناهما واحد، والتكرار لأجل التأكيد، وهذا ضعيف. والحق أن المراد من الأول تبيين التكاليف، ثم قال: ويهديكم. وفيه قولان: أحدهما: أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة، فقد كان الحكم
235

كذلك أيضا في جميع الشرائع، وإن كانت مختلفة في نفسها، متفقة في باب المصالح انتهى. وتقدم معنى هذه الأقوال التي ذكرها. وقوله: أي يريد أن يبين، موافق لقول الزمخشري.
* (ويتوب عليكم) * أي يردكم من عصيانه إلى طاعته، ويوفقكم لها.
* (والله عليم حكيم) * عليم بأحوالكم وبما تقدم من الشرائع والمصالح، حكيم يصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان.
* (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) * تعلق الإرادة أولا بالتوبة على سبيل العلية على ما اخترناه من الأقوال، لأن قوله: ويتوب عليكم، معطوف على العلة، فهو علة. ونعلقها هنا على سبيل المفعولية، فقد اختلف التعلقان فلا تكرار. وكما أراد سبب التوبة فقد أراد التوبة عليهم، إذ قد يصح إرادة السبب دون الفعل. ومن ذهب إلى أن متعلق الإرادة في الموضعين واحد كان قوله: والله يريد أن يتوب عليكم تكرارا لقوله: ويتوب عليكم، لأن قوله: ويتوب عليكم، معطوف على مفعول، فهو مفعول به. قال ابن عطية: وتكرار إرادة الله للتوبة على عباده تقوية للأخبار الأول، وليس المقصد في الآية إلا الأخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد متبعي الشهوات. انتهى كلامه. فاختار مذهب الكوفيين في أن جعلوا قوله: ليبين، في معنى أن يبين، فيكون مفعولا ليريد، وعطف عليه: ويتوب، فهو مفعول مثله، ولذلك قال: وتكرار إرادة الله التوبة على عباده إلى آخر كلامه. وكان قد حكى قول الكوفيين وقال: وهذا ضعيف، فرجع أخيرا إلى ما ضعفه، وكان قد قدم أن مذهب سيبويه: أن مفعول: يريد، محذوف، والتقدير: يريد الله هذا التبيين.
والشهوات جمع شهوة، وهي ما يغلب على النفس محبته وهواه. ولما كانت التكاليف الشرعية فيها قمع النفس وردها عن مشتهياتها، كان اتباع شهواتها سببا لكل مذمة، وعبر عن الكافر والفاسق بمتبع الشهوات كما قال تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) * واتباع الشهوة في كل حال مذموم، لأن ذلك ائتمار لها من حيث ما دعته الشهوة إليه. أما إذا كان الاتباع من حيث العقل أو الشرع فذلك هو اتباع لهما لا للشهوة. ومتبعو الشهوات هنا هم الزناة قاله: مجاهد. أو اليهود والنصارى قاله: السدي. أو اليهود خاصة لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب، أو المجو كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب، ونكاح بنات الأخ، وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا: فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة، والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، أو متبعو كل شهوة قاله: ابن زيد، ورجحه الطبري. وظاهره العموم والميل، وإن كان مطلقا فالمراد هنا الميل عن الحق، وهو الجور والخروج عن قصد السبيل. ولذلك قابل إرادة الله بإرادة متبعي الشهوات، وشتان ما بين الإرادتين. وأكد فعل الميل بالمصدر على سبيل المبالغة، لم يكتف حتى وصفه بالعظم. وذلك أن الميول قد تختلف، فقد يترك الإنسان فعل الخير لعارض شغل أو لكسل أو لفسق يستلذ به، أو لضلالة بأن يسبق له سوء اعتقاد. ويتفاوت رتب معالجة هذه الأشياء، فبعضها أسهل من بعض، فوصف مثل هؤلاء بالعظم، إذ هو أبعد الميول معالجة وهو الكفر. كما قال تعالى: * (ودوا لو تكفرون) * * (ويريدون أن تضلوا السبيل) *.
وقرأ الجمهور: أن تميلوا بتاء الخطاب. وقرئ: بالياء على الغيبة. فالضمير في يميلوا يعود على الذين يتبعون الشهوات. وقرأ الجمهور: ميلا بسكون الياء. وقرأ الحسن: بفتحها، وجاءت الجملة الأولى اسمية، والثانية فعلية لإظهار تأكيد الجملة الأولى، لأنها أدل على الثبوت. ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار. وأما الجملة الثانية فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد، لأن أرادتهم تتجدد في كل وقت. والواو في قوله: ويريد للعطف على ما قررناه. وأجاز الراغب أن تكون الواو للحال لا للعطف، قال: تنبيها على أنه يريد التوبة عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا، فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجمل الأولى، وتأخيره في
236

الجملة الثانية، ليبين أن الثاني ليس على العطف انتهى. وهذا ليس بجيد، لأن إرادته تعالى التوبة علينا ليست مقيدة بإرادة غيره الميل، ولأن المضارع باشرته الواو، وذلك لا يجوز، وقد جاء منه شيء نادر يؤول على إضمار مبتدأ قبله، لا ينبغي أن يحمل القرآن عليه، لا سيما إذا كان للكلام محمل صحيح فصيح، فحمله على النادر تعسف لا يجوز.
* (يريد الله أن يخفف عنكم) * لم يذكر متعلق التخفيف، وفي ذلك أقوال: أحدها أن يكون في إباحة نكاح الأمة وغيره من الرخص. الثاني في تكليف النظر وإزالة الحيرة فيما بين لكم مما يجوز لكم من النكاح وما لا يجوز. الثالث: في وضع الاصر المكتوب على من قبلنا، وبمجيء هذه الملة الحنيفية سهلة سمحة. الرابع:
بإيصالكم إلى ثواب ما كلفكم من تحمل التكاليف. الخامس: أن يخفف عنكم إثم ما ترتكبون من المآثم لجهلكم.
وأعربوا هذه الجملة حالا من قوله: والله يريد أن يتوب عليكم، والعامل في الحال يريد، التقدير: والله يريد أن يتوب عليكم مريدا أن يخفف عنكم، وهذا الإعراب ضعيف، لأنه قد فصل بين العامل والحال بجملة معطوفة على الجملة التي في ضمنها العامل، وهي جملة أجنبية من العامل والحال، فلا ينبغي أن يتجوز إلا بسماع من العرب. ولأنه رفع الفعل الواقع حالا الاسم الظاهر، وينبغي أن يرفع ضميره لا ظاهره، فصار نظير: زيد يخرج يضرب زيد عمرا. والذي سمع من ذلك إنما هو في الجملة الابتدائية، أو في شيء من نواسخها. أما في جملة الحال فلا أعرف ذلك. وجواز ذلك فيما ورد إنما هو فصيح حيث يراد التفخيم والتعظيم، فيكون الربط في الجملة الواقعة خبرا بالظاهر. أما جملة الحال أو الصفة فيحتاج الربط بالظاهر فيها إلى سماع من العرب، والأحسن أن تكون الجملة مستأنفة، فلا موضع لها من الإعراب. أخبر بها تعالى عن إرادته التخفيف عنا، كما جاء * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) *.
* (وخلق الإنسان ضعيفا) * قال مجاهد وطاووس وابن زيد: الإخبار عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء، أي لما علمنا ضعفكم عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء. قال طاووس: ليس يكون الإنسان أضعف منه في أمر النساء. وقال ابن المسيب: ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من النساء، فقد أتى علي ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشق بالأخرى، وأن أخوف ما أخاف علي فتنة النساء.
قال الزمخشري: ضعيفا لا يصبر عن الشهوات، وعلى مشاق الطاعات. قال ابن عطية: ثم بعد هذا المقصد أي: تخفيف الله بإباحة الإماء، يخرج الآية مخرج التفضل، لأنها تتناول كل ما خفف الله عن عباده وجعله الدين يسرا، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاما حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب. قال الراغب: ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفا، إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو: * (أشد خلقا أم السماء بناها) * أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض الله ومعونته، أو اعتبارا بكثرة حاجاته وافتقار بعضهم إلى بعض، أو اعتبارا بمبدئه ومنتهاه كما قال تعالى: * (الله الذى خلقكم من ضعف) * فأما إذا اعتبر بعقله وما أعطاه من القوة التي يتمكن بها من خلافة الله في أرضه ويبلغ بها في الآخرة إلى جواره تعالى، فهو أقوى ما في هذا العالم. ولهذا قال تعالى: * (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) *. وقال الحسن: ضعيفا لأنه خلق من ماء مهين. قال الله تعالى: الذي خلقكم من ضعف.
وقرأ ابن عباس ومجاهد: وخلق الإنسان مبنيا للفاعل مسندا إلى ضمير اسم الله، وانتصاب ضعيفا على الحال. وقيل: انتصب على التمييز. لأنه يجوز أن يقدر بمن، وهذا
237

ليس بشيء. وقيل: انتصب على إسقاط حرف الجر، والتقدير: من شيء ضعيف، أي من طين، أو من نطفة وعلقة ومضغة. ولما حذف الموصوف والجابر انتصبت الصفة بالفعل نفسه. قال ابن عطية: ويصح أن يكون خلق بمعنى جعل، فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين، فيكون قوله: ضعيفا مفعولا ثانيا انتهى. وهذا هو الذي ذكره من أن خلق يتعدى إلى اثنين بجعلها بمعنى جعل، لا أعلم أحدا من النحويين ذهب إلى ذلك، بل الذي ذكر الناس أن من أقسام جعل أن يكونن بمعنى خلق، فيتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: * (وجعل الظلمات والنور) * أما العكس فلم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه، والمتأخرون الذين تتبعوا هذه الأفعال لم يذكروا ذلك. وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البيان والبديع. منها: التجوز بإطلاق اسم الكل على البعض في قوله: يأتين الفاحشة، لأن أل تستغرق كل فاحشة وليس المراد بل بعضها، وإنما أطلق على البعض اسم الكل تعظيما لقبحه وفحشه، فإن كان العرف في الفاحشة الزنا، فليس من هذا الباب إذ تكون الألف واللام للعهد. والتجوز بالمراد من المطلق بعض مدلوله في قوله: فآذوهما إذ فسر بالتعيير أو الضرب بالنعال، أو الجمع بينهما، وبقوله: سبيلا والمراد الحد، أو رجم المحصن. وبقوله: فأعرضوا عنهما أي اتركوهما. وإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: حتى يتوفاهن الموت، وفي قوله: حتى إذا حضر أحدهم الموت. والتجنيس المغاير في: إن تابا إن الله كان توابا، وفي: أرضعنكم ومن الرضاعة، وفي: محصنات فإذا أحصن. والتجنيس المماثل في: فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا، وفي: ولا تنكحوا ما نكح. والتكرار في: اسم الله في مواضع، وفي: إنما التوبة وليست التوبة، وفي: زوج مكان زوج، وفي: أمهاتكم وأمهاتكم اللاتي، وفي: إلا ما قد سلف، وفي: المؤمنات في قوله: المحصنات المؤمنات، وفي: فتياتكم المؤمنات، وفي: فريضة ومن بعد الفريضة، وفي: المحصنات من النساء والمحصنات، ونصف ما على المحصنات، وفي: بعضكم من بعض، وفي: يريد في أربعة مواضع، وفي: يتوب وأن يتوب، وفي: إطلاق المستقبل على الماضي، في: واللاتي يأتين الفاحشة وفي: واللذان يأتيانها منكم، وفي: يعملون السوء وفي: ثم يتوبون، وفي: يريد وفي: ليبين، لأن إرادة الله وبيانه قديمان، إذ تبيانه في كتبه المنزلة والإرادة والكلام من صفات ذاته وهي قديمة. والإشارة والإيماء في قوله؛ كرها، فإن تحريم الإرث كرها يومىء إلى جوازه طوعا، وقد صرح بذلك في قوله: فإن طين، وفي قوله: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، فله أن يعضلها على غير هذه الصفة لمصلحة لها تتعلق بها، أو بمالها، وفي: أنه كان فاحشة أومأ إلى نكاح الأبناء في الجاهلية نساء الآباء، وفي: أحل لكم ما وراء ذلكم إشارة إلى ما تقدم في المحرمات، ذلك لمن خشي العنت إشارة إلى تزويج الإماء. والمبالغة في تفخيم الأمر وتأكيده في قوله: وآتيتم إحداهن قنطارا عظم الأمر حتى ينتهي عنه. والاستعارة في قوله: وأخذن منكم ميثاقا غليظا، استعار الأخذ للوثوق بالميثاق والتمسك به، والميثاق معنى لا يتهيأ فيه الأخذ حقيقة، وفي: كتاب الله عليكم أي فرض الله، استعار للفرض لفظ الكتاب لثبوته وتقريره، فدل بالأمر المحسوس على المعنى المعقول. وفي: محصنين، استعار لفظ الإحصان وهو الامتناع في المكان الحصين للامتناع بالعقاب، واستعار لكثرة الزنا السفح وهو صب الماء في الأنهار والعيون بتدفق وسرعة، وكذلك: فآتوهن أجورهن استعار لفظ الأجور للمهور، والأجر هو ما يدل على عمل، فجعل تمكين المرأة من الانتفاع بها كأنه عمل تعمله. وفي قوله: طولا استعارة للمهر يتوصل به للغرض، والطول وهو الفضل يتوصل به إلى معالي الأمور. وفي قوله: يتبعون الشهوات استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام لموافقة
هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق. وفي قوله: أن يخفف، والتخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم، وتخفيف التكاليف رفع مشاقها من النفس، وذلك من
238

المعاني. وتسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله: أن ترثوا النساء كرها، سمي تزويج النساء أو منعهن للأزواج إرثا، لأن ذلك سبب الإرث في الجاهلية. وفي قوله: وخلق الإنسان ضعيفا جعله ضعيفا باسم ما يؤول إليه، أو باسم أصله. والطباق المعنوي في قوله: وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا، وقد فسر الخير الكثير بما هو محبوب. وفي قوله: والمحصنات من النساء، أي حرام عليكم ثم قال: وأحل لكم. والذي يظهر أنه من الطباق اللفظي، لأن صدر الآية حرمت عليكم أمهاتكم، ثم نسق المحرمات، ثم قال: وأحل لكم، فهذا هو الطباق. وفي قوله: محصنين غير مسافحين، والمحصن الذي يمنع فرجه، والمسافح الذي يبذله. والاحتراس في قوله: اللاتي دخلتم بهن احترز من اللاتي لم يدخل بهن، وفي وربائبكم اللاتي في جحوركم احترس من اللاتي ليست في الحجور. وفي قوله: والمحصنات من النساء إذا المحصنات قد يراد بها الأنفس المحصنات، فيدخل تحتها الرجال، فاحترز بقوله: من النساء. والاعتراض بقوله: والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض. والحذف في مواضع لا يتم المعنى إلا بها.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما * ومن يفعل ذالك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذالك على الله يسيرا * إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما * ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنسآء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شىء عليما * ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والا قربون والذين عقدت أيمانكم فأاتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شىء شهيدا * الرجال قوامون على النسآء بما فضل الله بعضهم على بعض وبمآ أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حفظات للغيب بما حفظ الله واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا * وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلهآ إن يريدآ إصلاحا يوفق الله بينهمآ إن الله كان عليما خبيرا * واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا * الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل
239

ويكتمون مآ ءاتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا * والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الا خر ومن يكن الشيطان له قرينا فسآء قرينا) *))
) *
الجار: القريب المسكن منك، وألفه منقلبة عن واو لقولهم: جاورت، ويجمع على جيران وجيرة. والجنب: البعيد. والجنابة البعد قال:
* فلا تحرمني نائلا عن جنابة
*
فإني امرؤ وسط القباب غريب
*
وهو من الاجتناب، وهو أن يترك الرجل جانبا. وقال تعالى: * (واجنبنى) * أي بعدني، وهو وصف على فعل كناقة سرح.
المختال: المتكبر، وهو اسم فاعل من اختال، وألفه منقلبة عن ياء لقولهم: الخيلاء والمخيلة. ويقال: خال الرجل يخول خولا إذا تكبر وأعجب بنفسه، فتكون هذه مادة أخرى، لأن تلك مركبة من خيل خ ي ل، وهذه مادة من خ و ل. الفخور: فعول من فخر، والفخر عد المناقب على سبيل الشغوف والتطاول.
القرين: فعيل بمعنى مفاعل، من قارنه إذا لازمه وخالطه، ومنه سميت الزوجة قرينة. ومنه قيل لما يلزمن الإبل والبقر: قرينان، وللحبل الذي يشدان به قرن قال الشاعر:
* وابن اللبون إذا ما لزفى قرن
*
لم يستطع صوله البزل القناعيس
*
وقال:
* كمدخل رأسه لم يدنه أحد
*
من القرينين حتى لزه القرن
*
* (ضعيفا يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * تقدم شرح نظير هذه الجملة في قوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا) * ومناسبة هذه الآية
لما قبلها: أنه تعالى لما بين كيفية التصرف في النفوس بالنكاح، بين كيفية التصرف في الأموال الموصلة إلى النكاح، وإلى ملك اليمين، وأن المهور والأثمان المبذولة في ذلك لا تكون مما ملكت بالباطل، والباطل هو كل طريق لم تبحه الشريعة، فيدخل فيه: السرقة، والخيانة، والغصب، والقمار، وعقود الربا، وأثمان البياعات الفاسدة، فيدخل فيه بيع العربان وهو: أن يأخذ منك السلعة ويكرى الدابة ويعطى درهما مثلا عربانا، فإن اشترى، أو ركب، فالدرهم من ثمن السلعة أو الكراء، وإلا فهو للبائع. فهذا لا يصح ولا يجوز عند جماهير الفقهاء، لأنه من باب أكل المال بالباطل. وأجاز قوم منهم: ابن سيرين، ومجاهد، ونافع بن عبيد، وزيد بن أسلم: بيع العربان على ما وصفناه، والحجج في كتب الفقه.
وقد اختلف السلف في تفسير قوله: بالباطل. فقال ابن عباس والحسن: هو أن يأكله بغير عوض. وعلى هذا التفسير قال ابن عباس: هي منسوخة، إذ يجوز أكل المال بغير عوض إذا كان هبة أو صدقة أو تمليكا أو وارثا، أو نحو ذلك مما أباحت الشريعة أخذه بغير عوض. وقال السدي: هو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم، وغير ذلك مما لم يبح الله تعالى أكل المال به. وعلى هذا تكون الآية محكمة وهو قول ابن مسعود
240

والجمهور. وقال بعضهم: الآية مجملة، لأن معنى قوله: بالباطل، بطريق غير مشروع. ولما لم تكن هذه الطريق المشروعة مذكورة هنا على التفصيل، صارت الآية مجملة. وإضافة الأموال إلى المخاطبين معناه: أموال بعضكم. كما قال تعالى: * (وما ملكت أيمانكم) * وقوله: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * وقيل: يشمل قوله: أموالكم، مال الغير ومال نفسه. فنهى أن يأكل مال غيره إلا بطريق مشروع، ونهى أن يأكل مال نفسه بالباطل، وهو: إنفاقه في معاصي الله تعالى. وعبر هنا عن أخذ المال بالأكل، لأن الأكل من أغلب مقاصده وألزمها.
* (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * هذا استثناء منقطع لوجهين: أحدهما: أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل فتستثنى منها سواء أفسرت قوله بالباطل بغير عوض كما قال: ابن عباس، أم بغير طريق شرعي كما قاله غيره. والثاني: أن الاستثناء إنما وقع على الكون، والكون معنى من المعاني ليس مالا من الأموال. ومن ذهب إلى أنه استثناء متصل فغير مصيب لما ذكرناه. وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على الحصر في أنه لا يجوز أكل المال إلا بالتجارة فقط، بل ذكر نوع غالب من أكل المال به وهو: التجارة، إذ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.
وفي قوله: عن تراض دلالة على أن ما كان على طريق التجارة فشرطه التراضي، وهو من اثنين: الباذل للثمن، والبائع للعين. ولم يذكر في الآية غير التراضي، فعلى هذا ظاهر الآية يدل على أنه لو باع ما يساوي مائة بدرهم جاز إذا تراضيا على ذلك، وسواء أعلم مقدار ما يساوي أم لم يعلم. وقالت فرقة: إذا لم يعلم قدر الغبن وتجاوز الثلث، رد البيع. وظاهرها يدل على أنه إذا تعاقد بالكلام أنه تراض منهما ولا خيار لهما، وإن لم يتفرقا. وبه قال: أبو حنيفة، ومالك، وروى نحوه عن عمر. وقال الثوري، والليث، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي: إذا عقدا فهما على الخيار ما لم يتفرقا، واستثنوا صورا لا يشترط فيها التفرق، واختلفوا في التفرق. فقيل: بأن يتوارى كل منهما عن صاحبه. وقال الليث: بقيام كل منهما من المجلس. وكل من أوجب الخيار يقول: إذا خيره في المجلس فاختار، فقد وجب البيع. وروى خيار المجلس عن عمر أيضا. وأطال المفسرون بذكر الاحتجاج لكل من هذه المذاهب، وموضوع ذلك كتب الفقه.
والتجارة اسم يقع على عقود المعاوضات المقصود منها طلب الأرباح. وأن تكون في موضع نصب أي: لكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه. وقرأ الكوفيون: تجارة بالنصب، على أن تكون ناقصة على قدير مضمر فيها يعود على الأموال، أو يفسره التجارة، والتقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة، أو يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم. كما قال: إذا كان يوما ذا كوكب أشنعا. أي إذا كان هواي اليوم يوما ذا كوكب. واختار قراءة الكوفيين أبو عبيد، وقرأ باقي السبعة: تجارة بالرفع، على أن كان تامة. وقال مكي بن أبي طالب: الأكثر في كلام العرب أن قولهم إلا أن تكون في الاستثناء بغير ضمير فيها على معنى يحدث أو يقع، وهذا مخالف لاختيار أبي عبيد. وقال ابن عطية: تمام كان يترجح عند بعض لأنها صلة، فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها، وهذا ترجيح ليس بالقوي، ولكنه حسن انتهى ما ذكره. ويحتاج هذا الكلام إلى فكر، ولعله نقص من النسخة شيء يتضح به هذا المعنى الذي أراده. وعن تراض: صفة للتجارة أي: تجارة صادرة عن تراض.
* (ولا تقتلوا أنفسكم) * ظاهره النهي عن قتل الإنسان نفسه كما يفعله بعض الجهلة بقصد منه، أو بحملها على غرر يموت بسببه، كما يصنع بعض الفتاك بالملوك، فإنهم يقتلون الملك ويقتلون بلا شك. وقد
241

احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد، وأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم) احتجاجه. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردة والزنا بعد الإحصان. قال ابن عطية: وأجمع المتأولون أن القصد النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضا. وقال الزمخشري عن الحسن: إن المعنى لا تقتلوا إخوانكم انتهى. وعلى هذا المعنى أضاف القتل إلى أنفسهم لأنهم كنفس واحدة، أو من جنس واحد، أو من جوهر واحد. ولأنه إذا قتل قتل على سبيل القصاص، وكأنه هو الذي قتل نفسه. وما ذكره ابن عطية من إجماع المتأولين ذكر غيره فيه الخلاف. قال ما ملخصه: يحتمل أن يراد حقيقة القتل، فيحتمل أن يكون المعنى: لا يقتل بعضكم بعضا. ويحتمل أن يكون المعنى: لا يقتل أحد نفسه لضر نزل به، أو ظلم أصابه، أو جرح أخرجه عن حد الاستقامة. ويحتمل أن يراد مجاز القتل أي: يأكل المال بالباطل، أو بطلب المال والانهماك فيه، أو يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى الهلاك، أو يفعل هذه المعاص والاستمرار عليها. فيكون القتل عبر به عن الهلاك مجازا كما جاء: شاهد قتل ثلاثا نفسه، والمشهود له، والمشهود عليه أي: أهلك. وقرأ علي والحسن: ولا تقتلوا بالتشديد.
* (إن الله كان بكم رحيما) * حيث نهاكم عن إتلاف النفوس، وعن أكل الحرام، وبين لكم جهة الحل التي ينبغي أن يكون قوام الأنفس. وحياتها بما يكتسب منها، لأن
طيب الكسب ينبني عليه صلاح العبادات وقبولها. ألا ترى إلى ما ورد من حج بمال حرام أنه إذا قال: لبيك قال الله له: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك. وألا ترى إلى الداعي ربه ومطعمه حرام وملبسه حرام كيف جاء أنى يستجاب له؟ وكان النهي عن أكل المال بالباطل متقدما على النهي عن قتل أنفسهم، لأنه أكثر وقوعا، وأفشى في الناس من القتل، لا سيما إن كان المراد ظاهر الآية من أنه نهى أن يقتل الإنسان نفسه، فإن هذه الحالة نادرة. وقيل: رحيما حيث لم يكلفكم قتل أنفسكم حين التوبة كما كلف بني إسرائيل قتلهم أنفسهم، وجعل ذلك توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم.
* (ومن يفعل ذالك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا) * الإشارة بذلك إلى ما وقع النهي عنه في هذه الجملة من أكل المال بالباطل، وقتل الأنفس. لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا، ثم ورد الوعيد حسب النهي. وذهب إلى هذا القول جماعة. وتقييد أكل المال بالباطل بالاعتداء والظلم على هذا القول ليس المعنى أن يقع على جهة لا يكون اعتداء وظلما، بل هو من الأوصاف التي لا يقع الفعل إلا عليه. وقيل: إنما قال: عدوانا وظلما ليخرج منه السهو والغلط، وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام. وأما تقييد قتل الأنفس على تفسير قتل بعضنا بعضا بقوله: عدوانا وظلما، فإنما ذلك لأن القتل يقع كذلك، ويقع خطأ واقتصاصا. وقيل الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور وهو: قتل الأنفس، وهو قول عطاء، واختيار الزمخشري. قال: ذلك إشارة إلى القتل أي: ومن يقدم على قتل الأنفس عدوانا وظلما لا خطأ ولا اقتصاصا انتهى. ويكون نظير قوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * وذهب الطبري: إلى أن ذلك إشارة إلى ما سبق من النهي الذي لم يقترن به وعيد وهو من قوله: * (أليما يأيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن) * إلى هذا النهي الذي هو ولا تقتلوا أنفسكم، فأما ما قبل ذلك من النهي فقد اقترن به الوعيد. وما ذهب إليه الطبري بعيد جدا لأن كل جملة قد استقلت بنفسها، ولا يظهر لها تعلق بما بعدها إلا تعلق المناسبة، ولا تعلق اضطرار المعنى. وأبعد من قول الطبري ما ذهب إليه جماعة من أن ذلك إشارة إلى كل ما نهى عنه من القضايا، من أول السورة إلى النهي الذي أعقبه قوله: ومن يفعل ذلك. وجوز الماتريدي أن يكون ذلك إشارة إلى أكل المال بالباطل، قال: وذلك يرجع إلى ما سبق من أكل المال بالباطل، أو قتل النفس بغير حق، أو إليهما جميعا انتهى. فعلى هذا القول يكون في المشار إليه بذلك خمسة أقوال.
وانتصاب عدوانا وظلما على المفعول من
242

أجله، وجوزوا أن يكونا مصدرين في موضع الحال، أي: معتدين وظالمين. وقرئ عدوانا بالكسر. وقرأ الجمهور: نصليه بضم النون. وقرأ النخعي والأعمش: بفتحها من صلاة، ومنه شاة مصلية. وقرئ أيضا: نصليه مشددا. وقرئ: يصليه بالياء، والظاهر أن الفاعل هو ضمير يعود على الله أي: فسوف يصليه هو أي: الله تعالى. وأجاز الزمخشري أن يعود الضمير على ذلك قال: لكونه سببا للمصلي، وفيه بعد. ومدلول نارا مطلق، والمراد والله أعلم تقييدها بوصف الشدة، أو ما يناسب هذا الجرم العظيم من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس.
* (وكان ذالك على الله يسيرا) * ذلك إشارة إلى إصلائه النار، ويسره عليه تعالى سهولته، لأن حجته بالغة وحكمه لا معقب له. وقال الزمخشري: لأن الحكمة تدعو إليه، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه، وفيه دسيسة الاعتزال.
* (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) * مناسبة هذه الآية ظاهره، لأنه تعالى لما ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر، ذكر الوعد على اجتناب الكبائر. والظاهر أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وسيئات، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر. وقد اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، فمن الصغائر النظرة واللمسة والقبلة ونحو ذلك مما يقع عليه اسم التحريم، وتكفر الصغائر باجتناب الكبائر. وذهب جماعة من الأصوليين منهم الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني، وأبو المعالي، وأبو نصر عبد الرحيم القشيري: إلى أن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا، ولا ذنب يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذنب كبيرة وصاحبه ومرتكبه في المشيئة غير الكفر. وحملوا قوله تعالى: كبائر ما تنهون عنه على أنواع الشرك والكفر قالوا: ويؤيده قراءة كبير على التوحيد، وقوله صلى الله عليه وسلم): (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة) فقال له رجل: يا رسول الله وإن كان يسيرا؟ قال: (وإن كان قضيبا من أراك) فقد جاء الوعيد على اليسير، كما جا على الكثير. وروي عن ابن عباس مثل قول هؤلاء قال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.
والذين ذهبوا إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، وأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر على ما اقتضاه ظاهر الآية وعضده الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) في صحيح مسلم من قوله: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله) وفي صحيح مسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).
واختلفوا في الكبائر فقال ابن مسعود: هي ثلاث، القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. وروي عنه أيضا أنها أربع: فزاد الإشراك بالله. وقال علي: هي سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة. وقال عبيد بن عمير: الكبائر سبع كقول علي في كل واحدة منها آية في كتاب الله، وجعل الآية في التعرب: * (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى) * الآية وفي البخاري: * (اتقوا * السبع) * فذكر هذه إلا التعرب، فجاء بدله السحر. وقد ذهب قوم إلى أن هذه الكبائر هي هذه السبع التي ثبتت في البخاري. وقال ابن عمر: فذكر هذه إلا السحر، وزاد الإلحاد في المسجد الحرام. والذي يستسخر
243

بالوالدين من العقوق. وقال ابن مسعود أيضا والنخعي: هي جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها، وهي: * (يسيرا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون
عنه) * وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وقال ابن عباس أيضا: الكبائر كل ما ورد عليه وعيد بنار، أو عذاب، أو لعنة، أو ما أشبه ذلك. وإلى نحو من هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي القرطبي، قال: قد أطلت التفتيش عن هذا منذ سنين فصح لي أن كل ما توعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر، ووجدناه عليه السلام قد أحل في الكبائر بنص لفظه أشياء غير التي ذكر في الحديث يعني الذي في البخاري فمنها، قول الزور، وعقوق الوالدين، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم)، وتعريض المرء أبويه للسب بأن يسب آباء الناس، وذكر عليه السلام الوعيد الشديد بالنار على الكبر، وعلى كفر نعمة المحسن في الحق، وعلى النياحة في المآتم، وحلق الشعر فيها، وخرق الجيوب، والنميمة، وترك التحفظ من البول، وقطيعة الرحم، وعلى الخمر، وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة لأكل ما يحل أكله منها أو ما أبيح أكله منها، وعلى لسان الإزار على سبيل التجوه، وعلى المنان بما يفعل من الخير، وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب، وعلى المانع فضل مائه من الشارب، وعلى الغلول، وعلى متابعة الأئمة للدنيا فإن أعطوا منها وفي لهم وإن لم يعطوا منها لم يوف لهم، وعلى المقطتع بيمينه حق امرئ مسلم، وعلى الإمام الغاش لرعيته، ومن ادعى إلى غير أبيه، وعلى العبد الآبق، وعلى من غل، ومن ادعى ما ليس له، وعلى لاعن من لا يستحق اللعن، وعلى بغض الأنصار، وعلى تارك الصلاة، وعلى تارك الزكاة، وعلى بغض علي رضي الله عنه، ووجدنا الوعيد الشديد في نص القرآن قد جاء على الزناة، وعلى المفسدين في الأرض بالحرابة، فصح بهذا قول ابن عباس انتهى كلامه. عني قوله هي: إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وروي عن ابن عباس أنه قال: هي إلى سبعمائة أقرب، لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
وقد اختلف القائلون بأنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، هل التكفير قطعي؟ أو غالب ظن؟ فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث ذهبوا إلى أنه قطعي كما دلت عليه الآية والأحاديث، والأصوليون قالوا: هو على غلبة الظن، وقالوا: لو كان ذلك قطعيا لكانت الصغائر في حكم المباح يقطع بأن لا تبعة فيه، ووصف مدخلا بقوله: كريما ومعنى كرمه: فضيلته، ونفى العيوب عنه كما تقول: ثوب كريم، وفلان كريم المحتد. ومعنى تكفير السيئات إزالة ما يستحق عليها من العقوبات، وجعلها كأن لم تكن، وذلك مرتب على اجتناب الكبائر.
وقرأ ابن عباس وابن جبير: أن تجتنبوا كبير على الافراد، وقد ذكرنا من احتج به على أنه أريد الكفر. وأما من لم يقل ذلك فهو عنده جنس.
وقرأ المفضل عن عاصم: يكفر ويدخلكم بالياء على الغيبة.
وقرأ ابن عباس: من سيئاتكم بزيادة من.
وقرأ نافع: مدخلا هنا، وفي الحج بفتح الميم، ورويت عن أبي بكر. وقرأ باقي السبعة بضمها وانتصاب المضموم الميم إما على المصدر أي: إدخالا، والمدخل فيه محذوف أي: ويدخلكم الجنة إدخالا كريما. وإما على أنه مكان الدخول، فيجيء الخلاف الذي في دخل، أهي متعدية لهذه الأماكن على سبيل التعدية للمفعول؟ أم على سبيل الظرف؟ فإذا دخلت همزة النقل فالخلاف. وأما انتصاب المفتوح الميم فيحتمل أن يكون مصدر الدخل المطاوع لأدخل، التقدير: ويدخلكم فتدخلون دخولا كريما، وحذف فتدخلون لدلالة المطاوع عليه، ولدلالة مصدره أيضا. ويحتمل أن يراد به المكان، فينتصب إذ ذاك إما بيدخلكم، وإما بدخلتم المحذوفة على الخلاف، أهو مفعول به أو ظرف.
* (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) * قال قتادة والسدي: لما نزل * (للذكر مثل حظ الانثيين) * قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل
244

على النساء في الحسنات كالميراث.
وقال النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كالميراث. وقال عكرمة: قال النساء: وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر مثل ما يصيب الرجال. وزاد مجاهد: أن ذلك عن أم سلمة. وأنها قالت: وإنما لنا نصف الميراث فنزلت. وروي عنها أنها قالت: ليتنا كنا رجالا فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما نهى عن أكل المال بالباطل، وعن قتل الأنفس، وكان ما نهى عنه مدعاة إلى التبسط في الدنيا والعلو فيها وتحصيل حطامها، نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض، إذ التمني لذلك سبب مؤثر في تحصيل الدنيا وشوق النفس إليها بكل طريق، فلم يكتف بالنهي عن تحصيل المال بالباطل وقتل الأنفس، حتى نهى عن السبب المحرض على ذلك، وكانت المبادرة إلى النهي عن المسبب آكد لفظاعته ومشقته فبدىء به، ثم أتبع بالنهي عن السبب حسما لمادة المسبب، وليوافق العمل القلبي العمل الخارجي فيستوي الباطن والظاهر في الامتناع عن الأفعال القبيحة. وظاهر الآية يدل على النهي أن يتمنى الإنسان لنفسه ما فضل به عليه غيره، بل عليه أن يرضى بما قسم الله له.
وتمني ذلك هو أن يكون له مثل ما لذلك المفضل. وقال ابن عباس وعطاء: هو أن يتمنى مال غيره. وقال الزمخشري: نهوا عن الحسد، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق أو قبض انتهى. وهو كلام حسن. وظاهر النهي إنما يتناول ما فضل الله به بعضهم على بعض. أما تمني أشياء من أحوال صالحة له في الدنيا وأعمال يرجو بها الثواب في الآخرة فهو حسن لم يدخل في الآية. وقد جاء في الحديث: * (وما كيد الكافرين إلا فى ضلال وقال فرعون ذرونى أقتل) * وفي آخر الآية: * (واسألوا الله من فضله) * فدل على جواز ذلك. وإذا كان مطلق تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض منهيا عنه، فإن يكون ذلك بقيد. زوال نعمة من فضل عليه عنه بجهة الأحرى. والأولى إذ هو الحسد المنهى عنه في الشرع، والمستعاذ بالله منه في نص القرآن. وقد اختلفوا إذا تمنى حصول مثل نعمة المفضل عليه له من غير أن تذهب عن المفضل، فظاهر الآية المنع، وبه قال المحققون، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين، ومضرة عليه في الدنيا، فلا يجوز أن يقول: اللهم أعطني.
دارا مثل دار فلان، ولا زوجا مثل زوجه، بل يسأل الله ما شاء من غير تعرض لمن فضل عليه. وقد أجازه بعض الناس.
* (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) * قال ابن عباس وقتادة: معناه من الميراث، لأن العرب كانت لا تورث النساء. وضعف هذا القول لأن لفظ الاكتساب ينبو عنه، لأن الاكتساب يدل على الاعتمال والتطلب للمكسوب، وهذا لا يكون في الإرث، لأنه مال يأخذه الوارث عفوا بغير اكتساب فيه، وتفسير قتادة هذا متركب على ما قاله في سبب نزول الآية. وقيل: يعبر بالكسب عن الإصابة، كما روي أن بعض العرب أصاب كنزا فقال له ابنه: بالله يا أبه أعطني من كسبك نصيبا، أي مما أصبت. ومنه قول خديجة رضي الله عنها: وتكسب المعدوم. قالوا: ومنه قول الشاعر:
* فإن أكسبوني نزر مال فإنني
*
كسبتهم حمدا يدوم مع الدهر
*
وقالت فرقة: المعنى أن الله تعالى جعل لكل من الصنفين مكاسب تختص به، فلا يتمنى أحد منها ما جعل للآخر.
245

فجعل للرجال الجهاد والإنفاق في المعيشة، وحمل التكاليف الشاقة كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك. وجعل للنساء الحمل ومشقته، وحسن التبعل، وحفظ غيب الزوج، وخدمة البيوت. وقيل: المعنى مما اكتسب من نعيم الدنيا، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له. وهذه الأقوال الثلاثة هي بالنسبة لأحوال الدنيا. وقالت فرقة: المعنى نصيب من الأجر والحسنات. وقال الزمخشري: جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من حاله الموجبة للبسط والقبض كسبا له انتهى. وفي قوله: عرف الله نظره، فإنه لا يقال في الله عارف، نص الأئمة على ذلك، لأن المعرفة في اللغة تستدعي قبلها جهلا بالمعروف، وذلك بخلاف العلم، فإنه لا يستدعي جهلا قبله. وتسمية ما قسم الله كسبا له فيه نظر أيضا، فإن الاكتساب يقتضي الاعتمال والتطلب كما قلناه، إلا إن قلنا أن أكثر ما قسم له يستدعي اكتسابا من الشخص، فأطلق الاكتساب على جميع ما قسم له تغليبا للأكثر. وفي تعليق النصيب بالاكتساب حض على العمل، وتنبيه على كسب الخير.
* (واسألوا الله من فضله) * أي من زيادة إحسانه ونعمه. لما نهاهم عن تمني ما فضل به بعضهم، أمرهم بأن يعتمدوا في المزيد عليه تبارك وتعالى. وظاهر قوله: من فضله، العموم فيما يتعلق بأحوال الدنيا وأحوال الآخرة، لأن ظاهر قوله: * (ولا تتمنوا) * ما فضل العموم أيضا، وهو قول الجمهور. وقال ابن جبير وليث بن أبي سليم: هذا في العبادات والدين وأعمال البر، وليس في فضل الدنيا. وفي قوله: من فضله، دلالة على عدم تعيين المطلوب، لكن يطلب من فضل الله ما يكون سببا لإصلاح دينه ودنياه على سبيل الإطلاق، كما قال تعالى: * (ومنهم من يقول ربنا ءاتنا فى الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة) *.
وقرأ ابن كثير والكسائي: وسلوا بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على السين، وذلك إذا كان أمرا للمخاطب، وقبل السين واو أو فاء نحو: * (* فسل الذين يقرؤن) * و * (فاسألوا أهل الذكر) *. وقرأ باقي السبعة بالهمز. قال ابن عطية: إلا في قوله: * (ياأيها الذين ءامنوا) * فإنهم أجمعوا على الهمز فيه انتهى. وهذا الذي ذكره ابن عطية وهم، بل نصوص المقرئين في كتبهم على أن واسألوا ما أنفقتم من جملة المختلف فيه. بين ابن كثير والكسائي، وبين الجماعة، ونص على ذلك بلفظه ابن شيطا في كتاب التذكار، ولعل الوهم وقع له في ذلك من قول ابن مجاهد في كتاب السبعة له، ولم يختلفوا في قوله: * (ياأيها الذين ءامنوا) * أنه مهموز لأنه لغائب انتهى. وروى الكسائي عن إسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة: أنهما لم يهمزا وسل ولا فسل، مثل قراءة الكسائي، وحذف الهمزة في سل لغة الحجاز، وإثباتها لغة لبعض تميم. وروى اليزيدي عن أبي عمرو: أن لغة قريش سل. فإذا أدخلوا الواو والفاء همزوا، وسأل يقتضي مفعولين، والثاني لقوله: واسألوا الله هو قوله: من فضله. كما تقول: أطعمت زيدا من اللحم، وكسوته من الحرير، والتقدير: شيئا من فضله، وشيئا من اللحم، وشيئا من الحرير. وقال بعض النحويين: من زائدة، والتقدير: وسلوا الله فضله، وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش. وقال ابن عطية: ويحسن عندي أن يقدر المفعول أمانيكم إذ ما تقدم يحسن هذا المعنى.
* (إن الله كان بكل شىء عليما) * أي علمه محيط بجميع الأشياء فهو عالم بما فضل به بعضكم على بعض وما يصلح لكل منكم من توسيع أو تقتير فإياكم والاعتراض بتمن أو غيره وهو عالم أيضا بسؤالكم من فضله فيستجيب دعاءكم * (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والاقربون والذين عقدت أيمانكم فئاتوهم نصيبهم) * لما نهى عن التمني المذكور، وأمر بسؤال الله من فضله، أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث، وأن في شرعه ذلك مصلحة عظيمة من تحصيل مال للوارث لم يسع فيه، ولم يتعن بطلبه، فرب ساع لقاعد. وكل لا تستعمل إلا مضافة، إما الظاهر، وإما المقدر، واختلفوا في تعيين المقدر هنا،
246

فقيل: المحذوف إنسان، وقيل: المحذوف مال. والمولى: لفظ مشترك بين معان كثيرة، منها: الوارث وهو الذي يحسن أن يفسر به هنا، لأنه يصلح لتقدير إنسان وتقدير مال، وبذلك فسر ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم: أن الموالي العصبة والورثة، فإذا فر عنا على أن المعنى: ولكل إنسان، احتمل وجوها:
أحدها: أن يكون لكل متعلقا بجعلنا، والضمير في ترك عائد على كل المضاف لإنسان، والتقدير: وجعل لكل إنسان وارثا مما ترك، فيتعلق مما بما في معنى موالي من معنى الفعل، أو بمضمر يفسره المعنى، التقدير: يرثون مما ترك، وتكون الجملة قد تمت عند قوله: مما ترك، ويرتفع الولدان على إضمار كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون وراثا، والكلام جملتان.
والوجه الثاني: أن يكون التقدير وجعلنا لكل إنسان موالي، أي وراثا. ثم أضمر فعل أي: يرث الموالي مما ترك الوالدان، فيكون الفاعل بترك الوالدان. وكأنه لما أبهم في قوله: وجعلنا لكل إنسان موالي، بين أن ذلك الإنسان الذي جعل له ورثة هو الوالدان والأقربون، فأولئك الوراث يرثون مما ترك والداهم وأقربوهم، ويكون
الوالدان والأقربون موروثين. وعلى هذين الوجهين لا يكون في: جعلنا، مضمر محذوف، ويكون مفعول جعلناه لفظ موالي. والكلام جملتان.
الوجه الثالث: أن يكون التقدير: ولكل قوم جعلناهم موالي أي: وراثا نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم، فيكون جعلنا صفة لكل، والضمير من الجملة الواقعة صفة محذوف، وهو مفعول جعلنا. وموالي منصوب على الحال، وفاعل ترك الوالدان. والكلام منعقد من مبتدأ وخبر، فيتعلق لكل بمحذوف، إذ هو خبر المبتدأ المحذوف القائم مقامه صفته وهو الجار والمجرور، إذ قدر نصيب مما ترك. والكلام إذ ذاك جملة واحدة كما تقول: لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله، أي حظ من رزقه الله. وإذا فرعنا على أن المعنى: ولكل مال، فقالوا: التقدير ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون، جعلنا موالي أي وراثا يلونه ويحرزونه. وعلى هذا التقدير يكون مما ترك في موضع الصفة لكل، والوالدان واوقربون فاعل بترك ويكونون موروثين، ولكل متعلق بجعلنا. إلا أن في هذا التقدير الفصل بين الصفة والموصوف بالجملة المتعلقة بالفعل الذي فيها المجرور وهو نظير قولك: بكل رجل مررت تميمي، وفي جواز ذلك نظر.
واختلفوا في المراد بالمعاقدة هنا. فقال ابن عباس، وابن جبير، والحسن، وقتادة وغيرهم: هي الحلف. فإن العرب كانت تتوار بالحلف، فقرر ذلك بهذه الآية ثم نسخ بقوله: * (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * وعنه أيضا هي: الحلف، والنصيب هو المؤازرة في الحق والنصر، والوفاء بالكلف، لا الميراث. وقال ابن عباس أيضا: هي المؤاخاة، كانوا يتوارثون بها حتى نسخ. وعنه كان المهاجرون يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم حتى نسخ بما تقدم، وبقي اثنان: النصيب من النصر والمعونة، ومن المال على جهة الندب في الوصية. وقال ابن المسيب: هي التبني والنصيب الذي أمرنا بإتيانه، هو الوصية لا الميراث، ومعنى عاقدت أيمانكم في هذا القول: عاقدتهم أيمانكم وما سحتموهم. وقيل: كانوا يتوارثون بالتبني لقوم يموتون قبل الوصية ووجوبها، فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصي له. وقيل: المعاقدة هنا الزواج، والنكاح يسمى عقدا، فذكر الوالدين والأقربين، وذكر معهم الزوج والزوجة. وقيل: المعاقدة هنا الولاء. وقيل: هي حلف أبي بكر الصديق أن لا يورث عبد الرحمن شيئا، فلما أسلم أمره الله أن يؤتيه نصيبه من المال، قال أبو روق: وفيهما نزلت.
فتلخص من هذه الأقوال في المعاقدة أهي الحلف أن لا يورث الحالف؟ أم المؤاخاة؟ أم التبني؟ أم الوصية المشروحة؟ أم الزواج؟ أم الموالاة؟ سبعة أقوال. قال ابن عطية: ولفظة المعاقدة والإيمان ترجح أن المراد الأحلاف، لأن ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان انتهى.
وكيفية الحلف في الجاهلية: كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وناري نارك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك. فيكون للحليف التسدس من ميراث الحليف، فنسخ الله ذلك. وعلى الأقوال السابقة جاء الخلاف في قوله: * (والذين * فى أيمانكم) * أهو منسوخ أم لا؟ وقد استدل بها على
247

ميراث مولى الموالاة وبه قال: أبو يوسف، وأبو حنيفة، وزفر، ومحمد، قالوا: من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره، فميراثه له. وروى نحوه عن يحيى بن سعيد، وربيعة، وابن المسيب، والزهري، وإبراهيم، والحسن، وعمر، وابن مسعود. وقال مالك، وابن شبرمة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي: ميراثه للمسلمين. وقد أطال الكلام في هذه المسألة أبو بكر الرازي ناصرا مذهب أبي حنيفة.
وقرأ الكوفيون: عقدت بتخفيف القاف من غير ألف، وشدد القاف حمزة من رواية علي بن كبشة، والباقون عاقدت بألف، وجوزوا في إعراب الذين وجوها. أحدها: أن يكون مبتدأ والخبر فآتوهم. والثاني: أن يكون منصوبا من باب الاشتغال نحو: زيدا فاضربه. الثالث: أن يكون مرفوعا معطوفا على الوالدان والأقربون، والضمير في فآتوهم عائد على موالي إذا كان الوالدان ومن عطف عليه موروثين، وإن كانوا وارثين فيجوز أن يعود على موالي، ويجوز أن يعود على الوالدين والمعطوف عليه. الرابع: أن يكون منصوبا معطوفا على موالي قاله: أبو البقاء، وقال: أي وجعلنا الذين عاقدت وراثا، وكان ذلك ونسخ انتهى. ولا يمكن أن يكون على هذا التقدير الذي قدره أن يكون معطوفا على موالي لفساد العطف، إذ يصير التقدير: ولكل إنسان، أو: لكل شيء من المال جعلنا وراثا. والذين عاقدت أيمانكم، فإن كان من عطف الجمل وحذف المفعول الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك، أي جعلنا وراثا لكل شيء من المال، أي: لكل إنسان، وجعلنا الذين عاقدت أيمانكم وراثا. وهو بعد ذلك توجيه متكلف، ومفعول عاقدت ضمير محذوف أي: عاقدتهم أيمانكم، وكذلك في قراءة عقدت هو محذوف تقديره: عقدت حلفهم، أو عهدهم أيمانكم. وإسناد المعاقدة أو العقد للإيمان سواء أريد بها القسم، أم الجارحة، مجاز بل فاعل ذلك هو الشخص.
* (إن الله كان على كل شىء شهيدا) * لما ذكر تعالى تشريع التوريث، وأمر بإيتاء النصيب، أخبر تعالى أنه مطلع على كل شيء فهو المجازى به، وفي ذلك تهديد للعاصي، ووعد للمطيع، وتنبيه على أنه شهيد على المعاقدة بينكم. والصلة فأوفوا بالعهد.
* (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) * قيل: سبب نزول هذه الآية أن امرأة لطمها زوجها فاستعدت، فقضى لها بالقصاص، فنزلت. فقال صلى الله عليه وسلم): (أردت أمرا وأراد الله غيره) قاله: الحسن، وقتادة، وابن جريج، والسدي وغيرهم. فذكر التبريزي والزمخشري وابن عطية: أنها حبيبة بنت زيد بن أبي زهير زوج الربيع بن عمر، وأحد النقباء من الأنصار. وطولوا القصة وفي آخرها: فرفع القصاص بين الرجل والمرأة، وقال الكلبي: هي حبيبة بنت محمد بن سلمة زوج سعيد بن الربيع. وقال أبو روق: هي جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى زوج ثابت بن قيس بن شماس. وقيل: نزل معها: * (ولا تعجل بالقرءان من قبل إن * يقضى * إليك وحيه) * وفي سبب من عين المرأة أن زوجها لطمها بسبب نشوزها. وقيل: سبب النزول قول أم سلمة المتقدم: لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة قيل: المراد بالرحال هنا من فيهم صدامة وحزم، لا مطلق من له لحية. فكم من ذي لحية لا يكون له نفع ولا ضر ولا حرم، ولذلك يقال: رجل بين الرجولية والرجولة. ولذلك ادعى بعض المفسرين أن في الكلام حذفا تقديره: الرجال قوامون على النساء إن كانوا رجالا. وأنشد:
* أكل امرئ تحسبين امرأ
*
ونار توقد بالليل نارا
*
248

والذي يظهر أن هذا إخبار عن الجنس لم يتعرض فيه إلى اعتبار أفراده، كأنه قيل: هذا الجنس قوام على هذا الجنس. وقال ابن عباس: قوامون مسلطون على تأديب النساء في الحق. ويشهد لهذا القول طاعتهن لهم في طاعة الله. وقوام: صفة مبالغة، ويقال: قيام وقيم، وهو الذي يقوم بالأمر ويحفظه. وفي الحديث: (أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن) والباء في بما للسبب، وما مصدرية أي: بتفضيل الله. ومن جعلها بمعنى الذي فقد أبعد، إذ لا ضمير في الجملة وتقديره محذوفا مسوغ لحذفه، فلا يجوز.
والضمير في بعضهم عائد على الرجال والنساء. وذكر تغليبا للمذكر على المؤنث، والمراد بالبعض الأول الرجال، وبالثاني النساء. والمعنى: أنهم قوامون عليهن بسبب تفصيل الله الرجال على النساء، هكذا قرروا هذا المعنى. قالوا: وعدل عن الضميرين فلم يأت بما فضل الله عليهن لما في ذكر بعض من الإبهام الذي لا يقتضي عموم الضمير، فرب أنثى فضلت ذكرا. وفي هذا دليل على أن الولاية تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة، وذكروا أشياء مما فضل به الرجال على النساء على سبيل التمثيل. فقال الربيع: الجمعة والجماعة. وقال الحسن: النفقة عليهن. وينبو عنه قوله: وبما أنفقوا. وقيل: التصرف والتجارات. وقيل: الغزو، وكمال الدين، والعقل. وقيل: العقل والرأي، وحل الأربع، وملك النكاح، والطلاق، والرجعة، وكمال العبادات، وفضيلة الشهادات، والتعصيب، وزيادة السهم في الميراث، والديات، والصلاحية للنبوة، والخلافة، والإمامة، والخطابة، والجهاد، والرمي، والآذان، والاعتكاف، والحمالة، والقسامة، وانتساب الأولاد، واللحي، وكشف الوجوه، والعمائم التي هي تيجان العرب، والولاية، والتزويج، والاستدعاء إلى الفراش، والكتابة في الغالب، وعدد الزوجات، والوطء بملك اليمين.
وبما أنفقوا من أموالهم: معناه عليهن، وما: مصدرية، أو بمعنى الذي، والعائد محذوف فيه مسوغ الحذف. قيل: المعنى بما أخرجوا بسبب النكاح من مهورهن، ومن النفقات عليهن المستمرة. وروى معاذ: أنه صلى الله عليه وسلم) قال: * (لو * أمرت * أحدا * ءان * يسجد * لاحد) *. قال القرطبي: فهم الجمهور من قوله: وبما أنفقوا من أموالهم، أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها، وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد لزوال المعقود الذي شرع لأجله النكاح. وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يفسخ لقوله: * (أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) *.
فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله) * قال ابن عباس: الصالحات المحسنات لأزواجهن، لأنهن إذا أحسن لأزواجهن فقد صلح حالهن معهم. وقال ابن المبارك: المعاملات بالخير. وقيل: اللائي أصلحن الله لأزواجهن قال تعالى: * (*) * قال ابن عباس: الصالحات المحسنات لأزواجهن، لأنهن إذا أحسن لأزواجهن فقد صلح حالهن معهم. وقال ابن المبارك: المعاملات بالخير. وقيل: اللائي أصلحن الله لأزواجهن قال تعالى: * (وأصلحنا له) *. وقيل: اللواتي أصلحن أقوالهن وأفعالهن. وقيل: الصلاة الدين هنا.
وهذه الأقوال متقاربة. والقانتات: المطيعات لأزواجهن، أو لله تعالى في حفظ أزواجهن، وامتثال أمرهم، أو لله تعالى في كل أحوالهن، أو قائمات بما عليهن للأزواج، أو المصليات، أقوال آخرها للزجاج. حافظات للغيب: قال عطاء وقتادة: يحفظن ما غاب عن الأزواج، وما يجب لهن من صيانة أنفسهن لهن، ولا يتحدثن بما كان بينهم وبينهن. وقال ابن عطية: الغيب، كل ما غاب عن علم زوجها مما استتر عنه، وذلك يعم حال غيبة الزوج، وحال حضوره. وقال الزمخشري: الغيب خلاف الشهادة، أي حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الزوج والبيوت والأموال انتهى. والألف واللام في الغيب تغني عن الضمير، والاستغناء بها كثير كقوله: * (منى واشتعل الرأس
249

شيبا) * أي رأسي. وقال ذو الرمة:
* لمياء في شفتيها حوة لعس
*
وفي اللثات وفي أنيابها شنب
*
تريد: وفي لثاتها. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذه الآية.
وقرأ الجمهور: برفع الجلالة، فالظاهر أن تكون ما مصدرية، والتقدير: بحفظ الله إياهن. قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد. ويحتمل هذا الحفظ وجوها أي: يحفظ، أي: بتوفيقه إياهن لحفظ الغيب، أو لحفظه إياهن حين أوصى بهن الأزواج في كتابه وأمر رسوله، فقال: (استوصوا بالنساء خيرا) أو بحفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على حفظ الغيب، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة. وجوزوا أن تكون ما بمعنى الذي، والعائد على ما محذوف، والتقدير: بما حفظه الله لهن من مهور
أزواجهن، والنفقة عليهن، قاله الزجاج. وقال ابن عطية: ويكون المعنى إما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها، وإما أوامره ونواهيه للنساء، وكأنها حفظه، فمعناه: أن النساء يحفظن بإزاء ذلك وبقدره. وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: بنصب الجلالة فالظاهر أن ما بمعنى الذي، وفي حفظ ضمير يعود على ما مرفوع أي: بالطاعة والبر الذي حفظ الله في امتثال أمره. وقيل: التقدير بالأمر الذي حفظ حق الله وأمانته، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم. وقدره ابن جني: بما حفظ دين الله، أو أمر الله. وحذف المضاف متعين تقديره: لأن الذات المقدسة لا ينسب إليها أنها يحفظها أحد. وقيل: ما مصدرية، وفي حفظ ضمير مرفوع تقديره: بما حفظن الله، وهو عائد على الصالحات. قيل: وحذف ذلك الضمير، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر كما قال: فإن الحوادث أودي بها.
يريد: أو دين بها. والمعنى: يحفظن الله في أمره حين امتثلته. والأحسن في هذا أن لا يقال أنه حذف الضمير، بل يقال: إنه عاد الضمير عليهن مفردا، كأنه لوحظ الجنس، وكأن الصالحات في معنى من صلح، وهذا كله توجيه شذوذ أدى إليه قول من قال في هذه القراءة: إن ما مصدرية. ولا حاجة إلى هذا القول، بل ينزه القرآن عنه. وفي قراءة عبد الله ومصحفه: فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله، فأصلحوا إليهن. وينبغي حملها على التفسير لأنها مخالفة لسواد الإمام، وفيها زيادة. وقد صح عنه بالنقل الذي لا شك فيه أنه قرأ: وأقرأ على رسم السواد، فلذلك ينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير. قال ابن جني: والتكسير أشبه بالمعنى، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصودة هنا. ومعنى قوله: فأصلحوا إليهن أي أحسنوا ضمن أصلحوا معنى أحسنوا، ولذلك عداه بإلى. روى في الحديث: (يستغفر للمرأة المطيعة لزوجها الطير في الهواء، والحيتان في البحر، والملائكة في السماء، والسباع في البراري). قالت أم سلمة: قلت: يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور؟ فقال: نساء الدنيا أفضل من الحور. قلت: يا رسول الله بم؟ قال: بصلاتهن، وصيامهن، وعبادتهن، وطاعة أزواجهن.
* (واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن) * لما ذكر تعال صالحات الأزواج وأنهن من المطيعات الحافظات للغيب، ذكر مقابلهن وهن العاصيات للأزواج. والخوف هنا قيل: معناه اليقين، ذهب في ذلك إلى أن الأوامر التي بعد ذلك إنما يوجبها وقوع النشوز لا توقعه، واحتج في جواز وقوع الخوف موقع اليقين بقول أبي محجن الثقفي رضي الله عنه:
250

* ولا تدفنني بالفلاة فإنني
*
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
*
وقيل الخوف علي بابه من بعض الظن. قال:
* أتاني كلام من نصيب بقوله
*
وما خفت يا سلام أنك عاتبي
*
أي: وما ظننت. وفي الحديث: (أمرت بالسواك حتى خفت لأدردن) وقيل: الخوف على بابه من ضد الأمن، فالمعنى: يحذرون ويتوقعون، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف. والنشوز: أن تتعوج المرأة ويرتفع خلقها وتستعلي على زوجها، ويقال: نسور بالسين والراء المهملتين، ويقال: نصور، ويقال: نشوص. وامرأة ناشر وناشص. قال الأعشي:
* تجللها شيخ عشاء فأصبحت
*
مضاعية تأتي الكواهن ناشصا
*
قال ابن عباس: نشوزهن عصيانهن. وقال عطاء: نشوزها أن لا تتعطر، وتمنعه من نفسه، وتتغير عن أشياء كانت تتصنع للزوج بها. وقال أبو منصور: نشوزها كراهيتها للزوج. وقيل: امتناعها من المقام معه في بيته، وإقامتها في مكان لا يريد الإقامة فيه. وقيل: منعها نفسها من الاستمتاع بها إذا طلبها لذلك. وهذه الأقوال كلها متقاربة.
ووعظهن: تذكيرهن أمر الله بطاعة الزوج، وتعريفهن أن الله أباح ضربهن عند عصيانهن، وعقاب الله لهن على العصيان قاله: ابن عباس. وقال مجاهد: يقول لها: اتقي الله، وارجعي إلى فراشك. وقيل: يقول لها أن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) وقال: (لا تمنعه نفسها ولو كانت على قتب). وقال: (أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح) وزاد آخرون أن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق وامرأة بات عليها زوجها ساخطا وإمام قوم هم له كارهون).
وهجرهن في المضاجع: تركهن لكراهة في المراقد. والمضجع المكان الذي يضطجع فيه على جنب. وأصل الاضطجاع الاستلقاء، يقال: ضجيع ضجوعا واضطجع استلقى للنوم، وأضجعته أملته إلى الأرض، وكل شيء أملته من إناء وغيره فقد أضجعته. قال ابن عباس وابن جبير: معناه لا تجامعوهن. وقال الضحاك والسدي: اتركوا كلامهن، وولوهن ظهوركم في الفراش. وقال مجاهد: فارقوهن في الفرش، أي ناموا ناحية في فرش غير فرشهن. وقال عكرمة
251

والحسن: قولوا لهن في المضاجع هجرا، أي كلاما غليظا. وقيل: اهجروهن في الكلام ثلاثة أيام فما دونها. وكنى بالمضاجع عن البيوت، لأن كل مكان يصلح أن يكون محلا للاضطجاع. وقال النخعي، والشعبي، وقتادة، والحسن: من الهجران، وهو البعد وقيل: اهجروهن بترك الجماع والاجتماع، وإظهار التجهم، والإعراض عنهن مدة نهايتها شهرا كما فعل عليه السلام (حين حلف أن لا يدخل على نسائه شهرا) وقيل: اربطوهن بالهجار، وأكرهوهن على الجماع من قولهم: هجر البعير إذا شده بالهجار، وهو حبل يشد به البعير قاله: الطبري ورجحه. وقدح في سائر الأقوال. وقال الزمخشري في قول الطبري: وهذا من تفسير الثقلاء انتهى. وقيل في للسبب: أي اهجروهن بسبب تخلفهن عن الفرش. وقرأ عبد الله والنخعي: في المضجع على الأفراد وفيه معنى الجمع، لأنه اسم جنس.
وضربهن هو أن يكون غير مبرح ولا ناهك، كما جاء في الحديث. قال ابن عباس: بالسواك ونحوه. والضرب غير المبرح هو الذي لا يهشم عظما، ولا يتلف عضوا، ولا يعقب شيئا، والناهك البالغ، وليجتنب الوجه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم): (علق سوطك حيث يراه أهلك) وعن أسماء بنت الصديق رضي الله عنها: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها. وهذا يخالف قول ابن عباس، وكذلك ما رواه ابن وهب عن مالك: أن أسماء زوج الزبير كانت تخرج حتى عوتبت في ذلك وعيب عليها وعلى ضراتها، فعقد شعر واحدة بالأخرى، ثم ضربهما ضربا شديدا، وكانت الضرة أحسن اتقاء، وكانت أسماء لا تتقي الضرب، فكان الضرب بها أكثر، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح، ولعله أن يكون زوجك في الجنة.
وظاهر الآية يدل: على أنه يعظ، ويهجر في المضجع، ويضرب التي يخاف نشوزها. ويجمع بينها، ويبدأ بما شاء، لأن الواو لا ترتب. وقال بهذا قوم وقال الجمهور: الوعظ عند خوف النشوز، والضرب عند ظهوره. وقال ابن عطية: هذه العظة والهجر والضرب مراتب، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها. وقال الزمخشري: أمر بوعظهن أولا، ثم بهجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران. وقال الرازي ما ملخصه: يبدأ بلين القول في الوعظ، فإن لم يفد فبخشنه، ثم يترك مضاجعتها، ثم بالإعراض عنها كلية، ثم بالضرب الخفيف كاللطمة واللكزة ونحوها مما يشعر بالاحتقار وإسقاط الحرمة، ثم بالضرب بالسوط والقضيب اللين ونحوه مما يحصل به الألم والإنكاء ولا يحصل عنه هشم ولا إراقة دم، فإن لم يفد شيء من ذلك ربطها بالهجار وهو الحبل، وأكرهها على الوطء، لأن ذلك حقه. وأي شيء من هذه رجعت به عن نشوزها على ما رتبناه لم يجز له أن ينتقل إلى غيره لقوله:.
* (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) * انتهى. وقوله: فإن أطعنكم أي: وافقنكم وانقدن إلى ما أوجب الله عليهن من طاعتكم. يدل على أنهن كن عاصيات بالنشوز، وأن النشوز منهن كان واقعا، فإذن ليس الأمر مرتبا على خوف النشوز. وآخرها يدل على أنه مرتب على عصيانهن بالنشوز، فهذا مما حمل على تأول الخوف بمعنى التيقن. والأحسن عندي أن يكون ثم معطوفا حذف لفهم المعنى واقتضائه له، وتقديره: واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن. كما حذف في قوله: * (أن اضرب بعصاك الحجر * فانفجرت) * تقديره فضرب فانفجرت، لأن الانفجار لا يتسبب عن الأمر، إنما هو متسبب عن الضرب. فرتبت هذه الأوامر على الملفوظ به. والمحذوف: أمر بالوعظ عند خوف النشوز، وأمر بالهجر والضرب عند النشوز.
ومعنى فلا تبغوا: فلا تطلبوا عليهن سبيلا من السبل الثلاثة المباحة وهي: الوعظ، والهجر، والضرب. وقال سفيان: معناه لا تكلفوهن ما ليس في
252

قدرتهن من الميل والمحبة، فإن ذلك إلى الله. وقيل: يحتمل أن يكون تبعوا من البغي وهو الظلم، والمعنى: فلا تبغوا عليهن من طريق من الطرق. وانتصاب سبيلا على هذا هو على إسقاط الخافض. وقيل: المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا من سبل البغي لهن والإضرار بهن توصيلا بذلك إلى نشوزهن أي: إذا كانت طائعة فلا يفعل معها ما يؤدي إلى نشوزها. ولفظ عليهن يؤذن بهذا المعنى. وسبيلا نكرة في سياق النفي، فيعم النهي عن الأذى بقول أو فعل.
* (إن الله كان عليا كبيرا) * لما كان في تأديبهن بما أمر تعالى به الزوج اعتلاء للزوج على المرأة، ختم تعالى الآية بصفة العلو والكبر، لينبه العبد على أن المتصف بذلك حقيقة هو الله تعالى. وإنما أذن لكم فيما أذن على سبيل التأديب لهن، فلا تستعلوا عليهن، ولا تتكبروا عليهن، فإن ذلك ليس مشروعا لكم. وفي هذا وعظ عظيم للأزواج، وإنذار أن قدرة الله عليكم فوق قدرتكم عليهن. وفي حديث أبي مسعود وقد ضرب غلاما له اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد. أو يكون المعنى: إنكم تعصونه تعالى على علو شأنه وكبرياء سلطانه، ثم يتوب عليكم، فيحق لكم أن تعفوا عنهن إذا أطعنكم.
* (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * الخلاف في الخوف هنا مثله في: واللاتي تخافون. ولما كان حال المرأة مع زوجها إما الطواعية، وإما النشوز. وكان النشوز إما تعقبه الطواعية، وإما النشوز المستمر، فإن أعقبته الطواعية فتعود كالطائعة أولا. وإن استمر النشوز واشتد، بعث الحكمان.
والشقاق: المشاقة. والأصل شقاقا بينهما، فاتسع وأضيف. والمعنى على الظرف كما تقول: يعجبني سير الليلة المقمرة. أو يكون استعمل اسما وزال معنى الظرف، أو أجرى البين هنا مجرى حالهما وعشرتهما وصحبتهما.
والخطاب في: وإن خفتم، وفي فابعثوا، للحكام، ومن يتولى الفصل بين الناس. وقيل: للأولياء لأنهم الذين يلون أمر الناس في العقود والفسوخ، ولهم نصب الحكمين. وقيل: خطاب للمؤمنين. وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للأزواج، إذ لو كان خطابا للأزواج لقال: وإن خافا شقاق بينهما فليبعثا، أو لقال: فإن خفتم شقاق بينكم،
لكنه انتقال من خطاب الأزواج إلى خطاب من له الحكم والفصل بين الناس، وإلى أنه خطاب للأزواج ذهب الحسن والسدي. والضمير في بينهما عائد على الزوجين، ولم يجرد ذكرهما، لكن جرى ما يدل عليهما من ذكر الرجال والنساء.
والحكم: هو من يصلح للحكومة بين الناس والإصلاح. ولم تتعرض الآية لماذا يحكمان فيه، وإنما كان من الأهل، لأنه أعرف بباطن الحال، وتسكن إليه النفس، ويطلع كل منهما حكمه على ما في ضميره من حب وبغض وإرادة صحبة وفرقة. قال جماعة من العلماء: لا بد أن يكونا عارفين بأحوال الزوجين، عدلين، حسني السياسة والنظر في حصول المصلحة، عالمين بحكم الله في الواقعة التي حكما فيها. فإن لم يكن من أهلهما من يصلح لذلك أرسل من غيرهما عدلين عالمين، وذلك إذا أشكل أمرهما ورغبا فيمن يفصل بينهما. وقال بعض العلماء: إنما هذا الشرط في الحكمين اللذين يبعثهما الحاكم. وأما الحكمان اللذان يبعثهما الزوجان فلا يشترط فيهما إلا أن يكونا بالغين عاقلين مسلمين، من أهل العفاف والستر، يغلب على الظن نصحهما. واختلفوا في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان، فذهب الجمهور إلى أنهما ينظران في كل شيء، ويحملان على الظالم، ويمضيان ما رأيا من بقاء أو فراق، وبه قال: مالك، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور. وهو مروي عن: علي، وعثمان، وابن عباس، والشعبي، والنخعي، ومجاهد، وأبي سلمة، وطاووس. قال مالك: إذا رأيا التفريق فرقا، سواء أوافق مذهب قاضي البلد أو خالفه، وكلاه أم لا، والفراق أم لا، والفراق في ذلك طلاق بائن، وقالت طائفة: لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرحا بتقديمهما عليه، فالحكمان وكيلان: أحدهما للزوج، والآخر للزوجة، ولا تقع الفرقة إلا برضا الزوجين، وهو مذهب أبي حنيفة، وعن الشافعي القولان. وقال الحسن وغيره: ينظر الحكمان في الإصلاح وفي الأخذ والإعطاء، إلا في الفرقة فإنها ليست إليهما. وأما ما يقول الحكمان، فقال جماعة: يقول حكم الزوج له أخبرني ما في خاطرك، فإن قال: لا حاجة لي فيها، خذ لي ما استطعت وفرق بيننا، علم أن النشوز من قبله. وإن قال: أهواها ورضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيننا، علم أنه
253

ليس بناشز ويقول الحكم من جهتها لها كذلك، فإذا ظهر لهما أن النشوز من جهته وعظاه، وزجراه، ونهياه.
* (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) * الضمير في يريدا عائد على الحكمين قاله: ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما. وفي بينهما عائد على الزوجين، أي: قصدا إصلاح ذات البين، وصحت نيتهما، ونصحا لوجه الله، وفق الله بين الزوجين وألف بينهما، وألقى في نفوسهما المودة. وقيل: الضميران معا عائدان على الحكمين أي: إن قصدا إصلاح ذات البين، وفق الله بينهما فيجتمعان على كلمة واحدة، ويتساعدان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض. وقيل: الضميران عائدان على الزوجين أي: إن يرد الزوجان إصلاحا بينهما، وزوال شقاق، يزل الله ذلك ويؤلف بينهما. وقيل: يكون في يريدا عائدا على الزوجين، وفي بينهما عائدا على الحكمين: أي: إن يرد الزوجان إصلاحا وفق الله بين الحكمين فاجتمعا على كلمة واحدة، وأصلحا، ونصحا.
وظاهر الآية أنه لا بد من إرسال الحكمين وبه قال الجمهور.
وروي عن مالك: أنه يجري إرسال واحد، ولم تتعرض الآية لعدالة الحكمين، فلو كانا غير عدلين فقال عبد الملك: حكمهما منقوض. وقال ابن العربي: الصحيح نفوذه. وأجمع أهل الحل والعقد: على أن الحكمين يجوز تحكيمهما. وذهبت الخوارج: إلى أن التحكيم ليس بجائز، ولو فرق الحكمان بين الزوجين خلعا برضا الزوجين. فهل يصح من غير أمر سلطان؟ ذهب الحسن وابن سيرين: إلى أنه لا يجوز الصلح إلا عند السلطان. وذهب عمر وعثمان وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين: إلى أنه يصح من غير أمر السلطان منهم: مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي.
* (إن الله كان عليما خبيرا) * يعلم ما يقصد الحكمان، وكيف يوفقا بين المختلفين، ويخبر خفايا ما ينطقان به في أمر الزوجين.
* (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين) * مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر أن الرجال قوامون على النساء بتفضيل الله إياهم عليهن، وبإنفاق أموالهم، ودل بمفهوم اللقب أنه لا يكون قواما على غيرهن، أوضح أنه مع كونه قواما على النساء هو أيضا مأمور بالإحسان إلى الوالدين، وإلى من عطفه على الوالدين. فجاءت حثا على الإحسان، واستطرادا لمكارم الأخلاق. وأن المؤمن لا يكتفي من التكاليف الإحسانية بما يتعلق بزوجته فقط، بل عليه غيرها من بر الوالدين وغيرهم. وافتتح التوصل إلى ذلك بالأمر بإفراد الله تعالى بالعبادة، إذ هي مبدأ الخير الذي تترتب الأعمال الصالحة عليه. ونظير: * (وإذا * أخذنا ميثاق بنى إسرءيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا) * وتقدم شرح قوله: * (وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين) * إلا أن هنا وبذي، وهناك وذي، وإعادة الباء تدل على التوكيد والمبالغة، فبولغ في هذه الآية لأنها في حق هذه الأمة، ولم يبالغ في حق تلك، لأنها في حق بني إسرائيل. والاعتناء بهذه الأمة أكثر من الاعتناء بغيرها، إذ هي خير أمة أخرجت للناس. وقرأ ابن أبي عبلة: وبالوالدين إحسان بالرفع، وهومبتدأ أو خبر فيه ما في المنصوب من معنى الأمر، وإن كان جملة خبرية نحو قوله:
فصبر جميل فكلانا مبتلي
* (والجار ذى القربى) * قال ابن عباس: ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل في آخرين: هو الجار القريب النسب، والجار الجنب هو الجار الأجنبي، الذي لا قرابة بينك وبينه. وقال بلعاء بن قيس:
* لا يجتوينا مجاور أبدا
*
ذو رحم أو مجاور جنب
*
وقال نوف الشامي: هو الجار المسلم.
* (والجار الجنب) * هو: الجار اليهودي، والنصراني. فهي عنده قرابة الإسلام، وأجنبية الكفر. وقالت فرقة، هو الجار القريب المسكن منك، والجنب هو البعيد المسكن منك. كأنه انتزع
254

من الحديث الذي فيه: إن لي جارين فإلى أهيما أهدي؟ قال: (إلى أقربهما منك بابا). وقال ميمون بن مهران: والجار ذي القربى أريد به الجار القريب. قال ابن عطية: وهذا خطأ في اللسان، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة، وكان وجه الكلام: وجار ذي القربى انتهى. ويمكن تصحيح قول ميمون على أن لا يكون جمعا بين الألف واللام والإضافة على ما زعم ابن عطية بأن يكون قوله: ذي القربى بدلا من قوله: والجار، على حذف مضاف التقدير: والجار جار ذي القربى، فحذف جار لدلالة الجار عليه، وقد حذفوا البدل في مثل هذا. قال الشاعر:
* رحم الله أعظما دفنوها
*
بسجستان طلحة الطلحات
*
يريد: أعظم طلحة الطلحات. ومن كلام العرب: لو يعلمون العلم الكبيرة سنة، يريدون: علم الكبيرة سنة. والجنب: هو البعيد، سمي بذلك لبعده عن القرابة. وقال: فلا تحرمني نائلا عن جنابة. والمجاورة مساكنة الرجل الرجل في محله، أو مدينة، أو كينونة أربعين دارا من كل جانب، أو يعتبر بسماع الأذان، أو بسماع الإقامة، أقوال أربعة ثانيها: قول الأوزاعي. وروى في ذلك حديثا أنه عليه الصلاة والسلام (أمر مناديه ينادي: * (ألا إن أربعين دارا جواز، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) والمجاورة مراتب، بعضها ألصق من بعض، أقربها الزوجة. قال الأعشى:
أجارتنا بيني فإنك طالقة
وقرئ: والجار ذا القربى. قال الزمخشري: نصبا على الاختصاص كما قرىء * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * تنبيها على عظم حقه لإدلائه بحقي الجوار والقربى انتهى، وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه: والجار الجنب بفتح الجيم وسكون النون، ومعناه البعيد. وسئل أعرابي عن الجار الجنب فقال: هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه.
* (والصاحب بالجنب) * قال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، ومجاهد، والضحاك: هو الرفيق في السفر. وقال علي وابن مسعود والنخعي، وابن أبي ليلى: الزوجة. وقال ابن زيد: هو من يعتريك ويلم بك لتنفعه. وقال الزمخشري: هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجدا، أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه، وتجعله ذريعة للإحسان. وقال مجاهد أيضا: هو الذي يصحبك سفرا وحضرا. وقيل: الرفيق الصالح.
* (وابن السبيل) * تقدم شرحه.
* (وما ملكت أيمانكم) * قيل: ما وقعت على العاقل باعتبار النوع كقوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم) * وقيل: لأنها أعم من من، فتشمل الحيوانات على إطلاقها من عبيد وغيرهم، والحيوانات غير الأرقاء أكثر في يد الإنسان من الأرقاء، فغلب جانب الكثرة، فأمر الله تعالى
255

بالإحسان إلى كل مملوك من آدمي وحيوان غيره. وقد ورد غير ما حديث في الوصية بالأرقاء خيرا في صحيح مسلم وغيره. ومن غريب التفسير ما نقل عن سهل التستري قال: الجار ذو القربى هو القلب، والجار الجنب النفس، والصاحب بالجنب العقل الذي يجهر على اقتداء السنة والشرائع، وابن السبيل الجوارح المطيعة.
* (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) * نفى تعالى محبته عمن اتصف بهاتين الصفتين: الاختيال وهو التكبر، والفخر هو عد المناقب على سبيل التطاول بها والتعاظم على الناس. لأن من اتصف بهاتين الصفتين حملتاه على الإخلال بمن ذكر في الآية ممن يكون لهم حاجة إليه. وقال أبو رجاء الهروي: لا تجد سيىء الملكة إلا وجدته مختالا فخورا، ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا. قال الزمخشري: والمختال التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه، فلا يحتفى بهم، ولا يلتفت إليهم. وقال غيره: ذكر تعالى الاختيال لأن المختال يأنف من ذوي قرابته إذا كانوا فقراء، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء، ومن الأيتام لاستضعافهم ومن المساكين لاحتقارهم، ومن ابن السبيل لبعده عن أهله وماله، ومن مماليكه لأسرهم في يده انتهى. وتظافرت هذه النقول على أن ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية إنما جاء تنبيها على أن من اتصف بالخيلاء والفخر بأنف من الإحسان للأصناف المذكورين، وأن الحامل له على ذلك اتصافه بتينك الصفتين. والذي يظهر لي أن مسافهما غير هذا المساق الذي ذكروه، وذلك أنه تعالى لما أمر بالإحسان للأصناف المذكورة والتحفي بهم وإكرامهم، كان في العادة أن ينشأ عن من اتصف بمكارم الأخلاق أن يجد في نفسه زهوا وخيلا، وافتخارا بما صدر منه من الإحسان. وكثيرا ما افتخرت العرب بذلك وتعاظمت في نثرها ونظمها به، فأراد تعالى أن ينبه على التحلي بصفة التواضع، وأن لا يرى لنفسه شفوفا على من أحسن إليه، وأن لا يفخر عليه كما قال تعالى: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) * فنفى تعالى محبته عن المتحلي بهذين الوصفين. وكان المعنى أنهم أمروا بعبادة الله تعالى، وبالإحسان إلى الوالدين. ومن ذكر معهما: ونهوا عن الخيلاء والفخر، فكأنه قيل: ولا تختالوا وتفخروا
على من أحسنتم إليه، إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا. إلا أن ما ذكرناه لا يتم إلا على أن يكون الذين يبخلون مبتدأ مقتطعا مما قبله، أما إن كان متصلا بما قبله فيأتي المعنى الذي ذكره المفسرون، ويأتي إعراب الذين يبخلون، وبه يتضح المعنى الذي ذكروه، والمعنى الذي ذكرناه إن شاء الله تعالى.
* (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما ءاتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) * نزلت هذه الآية في قوم كفار. روى عن ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد، وحضرمي: أنها نزلت في أحبار اليهود بخلوا بالإعلام بأمر محمد صلى الله عليه وسلم)، وكتموا ما عندهم من العلم في ذلك، وأمروا بالبخل على جهتين: أمروا أتباعهم بجحود أمر محمد صلى الله عليه وسلم) وقالوا للأنصار: لم تنفقون على المهاجرين فتفتقرون؟ وقيل: نزلت في المنافقين. وقيل: في مشركي مكة.
وعلى اختلاف سبب النزول اختلف أقوال المفسرين من المعنى بالذين يبخلون. وقيل: هي عامة في كل من يبخل ويأمر بالبخل من اليهود وغيرهم. والبخل في كلام العرب: منع السائل شيئا مما في يد المسؤول من المال، وعنده فضل. قال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس. والبخل في الشريعة، هو منع الواجب. وقال الراغب: لم يرد البخل بالمال، بل بجميع ما فيه نفع للغير انتهى. ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين ومن ذكر معهما من المحتاجين على سبيل ابتداع أمر الله، بين أن من لا يفعل ذلك قسمان. أحدهما: البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال البتة حتى أفرط في ذلك وأمر بالبخل. والثاني: الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، لا لغرض أمر الله وامتثاله وطاعته. وذم تعالى القسمين بأن أعقب القسم الأول: وأعتدنا للكافرين، وأعقب الثاني بقوله: * (ومن يكن الشيطان له قرينا) *.
والبخل أنواع: بخل بالمال، وبخل بالعلم وبخل
256

بالطعام، وبخل بالسلام، وبخل بالكلام، وبخل على الأقارب دون الأجانب، وبخل بالجاه، وكلها نقائض ورذائل مذمومة عقلا وشرعا وقد جاءت أحاديث في مدح السماحة وذم البخل منها: * (مضيا ولا يرجعون ومن نعمره ننكسه فى الخلق) * وظاهر قوله بالبخل أنه متعلق بقوله: ويأمرون، كما تقول: أمرت زيدا بالصبر، فالبخل مأمور به. وقيل: متعلق الأمر محذوف، والباء في بالبخل حالية، والمعنى: ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل، فيكون نحو ما أشار إليه الشاعر بقوله:
* أجمعت أمرين ضاع الحزم بينهما
*
تيه الملوك وأفعال المماليك
*
وقرأ الجمهور: بالبخل بضم الباء وسكون الخاء. وعيسى بن عمرو الحسن: بضمهما. وحمزة الكسائي: بفتحهما، وابن الزبير وقتادة وجماعة. بفتح الباء، وسكون الخاء. وهي كلها لغات. قال الفراء: البخل مثقلة لأسد، والبخل خفيفة لتميم، والبخل لأهل الحجاز. ويخففون أيضا فتصير لغتهم ولغة تميم واحدة، وبعض بكر بن وائل بقولون البخل قال جرير:
* تريدين أن ترضي وأنت بخيلة
*
ومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل
*
وأنشدني المفضل:
وأوفاهم أوان بخل
وينشد هذا البيت بفتحتين وضمتين:
وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده لذو بخل كل على من يصاحب
*
واختلفوا في إعراب الذين يبخلون، فقيل: هو في موضع نصب بدل من قوله: من كان. وقيل: من قوله مختالا فخورا. أفرد اسم كان، والخبر على لفظ من، وجمع الذين حملا على المعنى. وقيل: انتصب على الذم. ويجوز عندي أن يكون صفة لمن، ولم يذكروا هذا الوجه. وقيل: هو في موضع رفع على إضمار مبتدأ محذوف، أي: هم الذين. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون بدلا من الضمير في فخورا، وهو قلق. فهذه ستة أوجه يكون فيها الذين يبخلون متعلقا بما قبله، ويكون الباخلون منفيا عنهم محبة الله تعالى، وتكون الآية إذن في المؤمنين، والمعنى: أحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمى الله، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم وهي: الخيلاء، والفخر، والبخل، والأمر به، وكتمان ما أعطاهم الله من الرزق والمال. وقيل: الذين يبخلون في موضع رفع على الابتداء، واختلفوا في الخبر: أهو محذوف؟ أم ملفوظ به؟ فقيل: هو ملفوظ به وهو قوله: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) * ويكون الرابط محذوفا تقديره: مثقال ذرة لهم، أو لا يظلمهم مثقال ذرة. وإلى هذا ذهب الزجاج، وهو بعيد متكلف لكثرة الفواصل بين المبتدأ والخبر، ولأن الخبر لا ينتظم مع المبتدأ معناه: انتظاما واضحا لأن سياق
المبتدأ وما عطف عليه ظاهرا من قوله: والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يناسب أن يخبر عنه بقوله: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما، بل مساق أن الله لا يظلم أن يكون استئناف كلام إخبارا عن عدله وعن فضله تعالى وتقدس. وقيل: هو محذوف فقدره الزمخشري: الذين يبخلون ويفعلون
257

ويصنعون أحقاء بكل ملامة. وقدره ابن عطية: معذبون أو مجازون ونحوه. وقدره أبو البقاء: أولئك قرناؤهم الشيطان، وقدره أيضا: مبغضون. ويحتمل أن يكون التقدير: كافرون * (وأعتدنا للكافرين) * فإن كان ما قبل الخبر مما يقتضي كفرا حقيقة كتفسيرهم البخل بأنه بخل بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وبإظهار نبوته. والأمر بالبخل لأتباعهم أي: بكتمان ذلك، وكتمهم ما تضمنته التوراة من نبوته وشريعته، كان قوله: وأعتدنا للكافرين، حقيقة فإن كان ما قبل الخبر كفر نعمة كتفسيرهم: أنها في المؤمنين، كان قوله: وأعتدنا للكافرين كفر نعمة ولكل من هذه التقادير مناسب من الآية، والآية على هذه التقادير. وقول الزجاج: في الكفار، ويبين ذلك سبب النزول المتقدم. وتقدم تفسير البخل والأمر به، والكتمان على هذا الوجه في سبب النزول. وأعتدنا للكافرين: أي أعددنا وهيأنا. والعتيد: الحاضر المهيأ والمهين الذي فيه خزي وذل، وهو أنكى وأشد على المعذب.
* (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر) * تقدم تفسير مثل هذه الآية في قوله: * (كالذى ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر) * وهنا: ولا باليوم الآخر، وهناك: واليوم الآخر. قال السدي، والزجاج وأبو سليمان الدمشقي والجمهور: هم المنافقون نزلت فيهم، وإنفاقهم هو إعطاؤهم الزكاة، وإخراجهم المال في السفر للغزو رئاء ودفعا عن أنفسهم، لا إيمانا ولا حبا في الدين. وقال ابن عباس: ومقاتل، ومجاهد: نزلت في اليهود. وضعفه الطبري من حيث أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر. ووجه ابن عطية هذا القول بأنهم لم يؤمنوا على ما ينبغي جعل إيمانهم كلا إيمان من حيث لا ينفعهم. وقيل: هم مشركو مكة، لأنهم كانوا ينكرون البعث. وإنفاق اليهود هو ما أعانوا به قريشا في غزوة أحد وغزوة الخندق، وإنفاق مشركي مكة هو ما كان في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم) وطلبهم الانتصار.
وفي إعراب والذين ينفقون وجوه: أحدها: أنه مبتدأ محذوف الخبر، ويقدر: معذبون، أو قرينهم الشيطان، ويكون العطف من عطف الجمل. والثاني: أن يكون معطوفا على الكافرين، فيكون مجرورا قاله: الطبري. والثالث: أن يكون معطوفا على الذين يبخلون، فيكون إعرابه كإعراب الذين يبخلون. والعطف في هذين الوجهين من عطف المفردات. ورئاء مصدر راء، أو انتصابه على أنه مفعول من أجله، وفيه شروطه فلا ينبغي أن يعدل عنه. وقيل: هو مصدر في موضع الحال قاله: ابن عطية، ولم يذكر غيره. وظاهر قوله: ولا يؤمنون أنه عطف على صلة الذين، فيكون صلة. ولا يضر الفصل بين إبعاض الصلة بمعمول للصلة، إذ انتصاب رئاء على وجهيه بينفقون. وجوزوا أن يكون: ولا يؤمنون في موضع الحال، فتكون الواو واو الحال أي: غير مؤمنين، والعامل فيها ينفقون أيضا. وحكى المهدوي: أنه يجوز انتصاب رئاء على الحال من نفس الموصول لا من الضمير في ينفقون، فعلى هذا لا يجوز أن يكون: ولا يؤمنون معطوفا على الصلة، ولا حالا من ضمير ينفقون، لما يلزم من الفصل بين أبعاض الصلة، أو بين معمول الصلة بأجنبي وهو رئاء المنصوب على الحال من نفس الموصول، بل يكون قوله: ولا يؤمنون مستأنف. وهذا وجه متكلف. وتعلق رئاء بقوله: ينفقون واضح، إما على المفعول له، أو الحال، فلا ينبغي أن يعدل عنه. وتكرار لا وحرف الجر في قوله: ولا باليوم الآخر مفيد لانتفاء كل واحد من الإيمان بالله، ومن الإيمان باليوم الآخر. لأنك إذا قلت: لا أضرب زيدا وعمرا، احتمل أن لا تجمع بين ضربيهما. ولذلك يجوز أن تقول بعد ذلك: بل أحدهما. واحتمل نفي الضرب عن كل واحد منهما علي سبيل الجمع، وعلى سبيل الإفراد. فإذا قلت: لا أضرب زيدا ولا عمرا، تعين هذا الاحتمال الثاني الذي كان دون تكرار.
* (ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا) * لما ذكر تعالى من اتصف بالبخل والأمر به، وكتمان فضل الله تعالى، والإنفاق رئاء، وانتفاء إيمانه بالله وباليوم الآخر، ذكر أن هذه من نتائج مقارنة الشيطان ومخالطته وملازمته للمتصف بذلك، لأنها شر محض،
258

إذ جمعت بين سوء الاعتقاد الصادر عنه الإنفاق رئاء، وسائر تلك الأوصاف المذمومة. ولذلك قدم تلك الأوصاف وذكر ما صدرت عنه وهو انتفاء الإيمان بالموحد، وبدار الجزاء. ثم ذكر أن ذلك من مقارنة الشيطان.
والقرين هنا فعيل بمعنى مفاعل، كالجليس والخليط أي: المجالس والمخالط. والشيطان هنا جنس لا يراد به إبليس وحده وهو كقوله: * (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين) * وله متعلق بقرينا أي: قرينا له. والفاء جواب الشرط، وساء هنا هي التي بمعنى بئس للمبالغة في الذم، وفاعلها على مذهب البصريين ضمير عام، وقرينا تمييز لذلك الضمير. والمخصوص بالذم محذوف وهو العائد على الشيطان الذي هو قرين، ولا يجوز أن يكون ساء هنا هي المتعدية ومفعولها محذوف وقرينا حال، لأنها إذ ذاك تكون فعلا متصرفا فلا تدخله الفاء، أو تدخله مصحوبة بقد. وقد جوزوا انتصاب قرينا على الحال، أو على القطع، وهو ضعيف. وبولغ في ذم هذا القرين لحمله على تلك الأوصاف الذميمة. قال الزمخشري وغيره: ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار انتهى. فتكون المقارنة إذ ذاك في الآخرة يقرن به في النار فيتلاعنان ويتباغضان كما قال: * (مقرنين فى الاصفاد) * و * (إذا ألقوا * منها مكانا ضيقا مقرنين) *. وقال الجمهور: هذه المقارنة هي في الدنيا كقوله: * (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم) * ونقيض له شيطانا فهو له قرين) * وقال قرينه ربنا ما أطغيته) * قال ابن عطية: وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: * (*) * وقال قرينه ربنا ما أطغيته) * قال ابن عطية: وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: * (*) * قال ابن عطية: وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: * (بئس للظالمين بدلا) * وذلك مردود، لأن بدلا حال، وفي هذا نظر. والذي قاله الطبري صحيح، وبدلا تمييز لا حال، وهو
مفسر للضمير المستكن في بئس على مذهب البصريين، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هم أي الشيطان وذريته. وإنما ذهب إلى إعراب المنصوب بعد نعم وبئس حالا الكوفيون على اختلاف بينهم مقرر في علم النحو.
2 (* (وماذا عليهم لو ءامنوا بالله واليوم الا خر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما * إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *)) 2
* (وماذا عليهم لو ءامنوا بالله واليوم الاخر وأنفقوا مما رزقهم الله) * ظاهر هذا الكلام أنه ملتحم لحمة واحدة، والمراد بذلك: ذمهم وتوبيخهم وتجهيلهم بمكان سعادتهم، وإلا فكل الفلاح والمنفعة في اتصافهم بما ذكر تعالى. فعلى هذا الظاهر يحتمل أن يكون الكلام جمليتن، وتكون لو على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره، والتقدير: وماذا عليهم في الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق في سبيل الله لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله لحصلت لهم السعادة. ويحتمل أن يكون جملة واحدة، وذلك على مذهب من يثبن أن لو تكون مصدرية في معنى: أن كأنه قيل: وماذا عليهم أن آمنوا، أي في الإيمان بالله، ولا جواب لها إذ ذاك، فيكون كقوله:
* وماذا عليه أن ذكرت أوانسا
*
كغزلان رمل في محاريب أقيال
*
قالوا: ويجوز أن يكون قوله: وماذا عليهم، مستقلا لا تعلق به بما بعده، بل ما بعده مستأنف. أي: وماذا عليهم يوم القيامة من الوبال والنكال باتصافهم بالبخل وتلك الأوصاف المذمومة، ثم استأنف وقال: لو آمنوا، وحذف جواب لو. وقال ابن عطية: وجواب لو في قوله: ماذا، فهو جواب مقدم انتهى. فإن أراد ظاهر هذا الكلام فليس موافقا لكلام النحويين، لأن الاستفهام لا يقع جواب لو، ولأن قولهم: أكرمتك لو قام زيد، إن ثبت أنه من كلام العرب حمل على أكرمتك دال على الجواب، لا جواب كما قالوا في قولهم: أنت ظالم إن فعلت. وإن أراد تفسير المعنى فيمكن ما قاله.
وماذا: يحتمل أن تكون كلها استفهاما، والخبر في عليهم. ويحتمل أن يكون ما هو الاستفهام، وذا بمعنى الذي وهو الخبر، وعليهم صلة ذا. وإذا كان لو آمنوا بالله واليوم الآخر من متعلقات قوله: وماذا
259

عليهم، كان في ذلك تفجع عليهم واحتياط وشفقة، وقد تعلقت المعتزلة بذلك. قال أبو بكر الرازي: تدل على بطلان مذهب الجهمية أهل الجبر، لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما أجاز أن يقال ذلك فيهم، لأن عذرهم واضح وهو أنهم غير متمكنين مما دعوا إليه، ولا قادرين، كما لا يقال للأعمى: ماذا عليه لو أبصر، ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحا. وفي ذلك أوضح دليل على أن الله قد قطع عذرهم في فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات، وأنهم متمكنون من فعلها انتهى كلامه. وهو قول المعتزلة والمذاهب في هذا أربعة كما تقرر: الجبرية، والقدرية، والمعتزلة، وأهل السنة. قال ابن عطية: والانفصال عن شبهة المعتزلة أن المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان، وأما الاختراع فالله المنفرد به انتهى. ولما صفهم تعالى بتلك الأوصاف المذمومة كان فيه الترقي من وصف قبيح إلى أقبح منه، فبدأ أولا بالبخل، ثم بالأمر به، ثم بكتمان فضل الله، ثم بالإنفاق رياء، ثم بالكفر بالله وباليوم الآخر. ولما وبخهم وتلطف في استدعائهم بدأ بالإيمان بالله واليوم الآخر، إذ بذلك تحصل السعادة الأبدية، ثم عطف عليه الإنفاق أي: في سبيل الله، إذ به يحصل نفي تلك الأوصاف القبيحة من البخل، والأمر به وكتمان فضل الله والإنفاق رئاء الناس.
* (وكان الله بهم عليما) * خبر يتضمن وعيدا وتنبيها على سوء بواطنهم، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم.
قيل: وتضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبديع. التكرار وهو في: نصيب مما اكتسبوا، ونصيب مما اكتسبن. والجلالة: في واسئلوا الله، إن الله، وحكما من أهله، وحكما من أهلها، وبعضكم على بعض، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وقوله: لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وقرينا وساء قرينا. والجلالة في: مما رزقهم الله، وكان الله. والتجنيس المغاير في: حافظات للغيب بما حفظ الله، وفي: يبخلون وبالبخل. ونسق الصفات من غير حرف في: قانتات حافظات. والنسق بالحروف على طريق ذكر الأوكد فالأوكد في: وبالوالدين إحسانا وما بعده. والطابق المعنوي في: نشوزهن فإن أطعنكم، وفي: شقاق بينهما ويوفق الله. والاختصاص في قوله: من أهله ومن أهلها، وفي قوله: عاقدت أيمانكم. والإبهام في قوله: به شيئا وإحسانا، وما ملكت فشيوع شيئا وإحسانا وما واضح. والتعريض في: مختالا فخورا. أعرض بذلك إلى ذم الكبر المؤدي للبعد عن الأقارب الفقراء واحتقارهم واحتقار من ذكر معهم. والتأكيد بإضافة الملك إلى اليمين في: وما ملكت أيمانكم. والتمثيل: في ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا. والحذف في عدة مواضع.
2 (* (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هاؤلاء شهيدا * يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الا رض ولا يكتمون الله حديثا * ياأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلواة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من الغآئط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) *)) *
260

المثقال: مفعال من الثقل، ومثقال كل شيء وزنه، ولا تظن أنه الدينار لا غير. الذرة: النملة الصغيرة وقيل: أصغر ما تكون إذا مر عليها حول، وقيل في وصفها. الحمراء. قيل: إذا مر عليها حول صغرت وجرت. قال:
* من القاصرات الطرف لو دب محول
*
من الذر فوق الاتب منها لاثرا
*
وقال حسان:
* لو يدب الحولى من ولد الذر
*
ر عليها لأندبتها الكلوم
*
وقيل عن ابن عباس: الذرة رأس النملة. وقيل عنه: أدخل يده في التراب ورفعها ثم نفخ فيه، وقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة. وقيل: كل جزء الهباء في الكوة ذرة. وقيل: الذرة هي الخردلة.
السكر: انسداد طريق التمييز بشرب ما يسكر من قولهم: سكرت عين البازي، إذا خالها النوم. ومنه: سكر النهر إذا أسندت مجاريه وسكرته أنا. والسكر: أيضا بضم السين السد. قال:
* فما زلنا على الشرب
*
نداوي السكر بالسكر
*
والسكر: بالفتح ما أسكر، أي منع من التمييز.
الغائط: ما انخفض من الأرض، وجمعه غيطان. ويقال: عيط وغوط. وزعم ابن جني: أن غيطا فعيل، إذ أصله عنده غيط مثل هين وسيد إذا أخففتهما. والصحيح: أنه فعل. كما أن غوطا فعل، لأن العرب قالت: غاط يغوط ويغيط، فأتت به مرة في ذوات الياء، ومرة في ذوات الواو. وجمعوا غوطا على أغواط ويقال: تغوط إذا أحدث وغاط في الأرض يغيط ويغوط غاب فيها حتى لا يظهر إلا لمن وقف عليه. وكان الرجل إذا أراد التبرز ارتاد غائطا من الأرض يستتر فيه عن أعين الناس، ثم قيل: للحدث. نفسه غائطا، كما قيل: سال الميزان وجرى النهر.
* (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) * نزلت في المهاجرين الأولين. وقيل: في الخصوم. وقيل: في عامة المؤمنين. ومناسبة هذه لما قبلها واضحة لأنه تعالى لما أمر بعبادته تعالى وبالإحسان للوالدين ومن ذكر معهم، ثم أعقب ذلك بذم البخل والأوصاف المذكورة معه، ثم وبخ من لم يؤمن، ولم ينفق في طاعة الله، فكان هذا كله توطئة لذكر الجزاء على الحسنات والسيئات فأخبر تعالى بصفة عدله، وأنه عز وجل لا يظلم أدنى شيء، ثم أخبر بصفة الإحسان فقال:
* (وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * وضرب مثلا لأحقر الأشياء وزن ذرة، وذلك مبالغة عظيمة في الانتفاء عن الظلم البتة. وظاهر قوله: مثقال ذرة، أن الذرة لها وزن. وقيل: الذرة لا وزن لها، وأنه امتحن ذلك فلم يكن لها وزن. وإذا كان تعالى لا يظلم مثقال ذرة فلأن لا يظلم فوق ذلك أبلغ، ولما كانت الذرة أصغر الموجودات ضرب بها المثل في القلة. وقرأ ابن مسعود: مثقال نملة، ولعل ذلك على سبيل الشرح للذرة.
قال الزمخشري: وفيه دليل على أنه لو نقص من أجره أدنى شيء وأصغره، أو زاد في العقاب، لكان ظلما. وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة، لا لاستحالته
261

في القدرة انتهى. وهي نزعة اعتزالية. وثبت في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: * (إن الله لا يظلم * مؤمنا * حسنة * يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه فى الاخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها) * ويظلم يتعدى لواحد، وهو محذوف وتقديره: لا يظلم أحدا مثقال ذرة. وينتصب مثقال على أنه نعت لمصدر محذوف أي: ظلما وزن ذرة، كما تقول: لا أظلم قليلا ولا كثيرا. وقيل: ضمنت معنى ما يتعدى لاثنين، فانتصب مثقال على أنه مفعول ثان، والأول محذوف التقدير: لا ينقص، أو لا يغضب، أو لا يبخس أحدا مثقال ذرة من الخير أو الشر، * (وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *.
حذفت النون من تلك لكثرة الاستعمال، وكان القياس إثبات الواو، لأن الواو إنما حذفت لالتقاء الساكنين. فكان ينبغي أنه إذا حذفت ترجع الواو، ولأن الموجب لحذفها قد زال. ولجواز حذفها شرط على مذهب سيبويه وهو: أن تلاقي ساكنان، فإن لاقته نحو: لم يكن ابنك قائما، ولم يكن الرجل ذاهبا، لم يجز حذفها. وأجازه يونس، وشرط جواز هذا الحذف دخول جازم على مضارع معرب مرفوع بالضمة، فلو كان مبنيا على نون التوكيد، أو نون الإناث، أو مرفوعا بالنون، لم يجز حذفها.
وقرأ الجمهور: حسنة بالنصب، فتكون ناقصة، واسمها مستتر فيها عائد على مثقال. وأنث الفعل لعوده على مضاف إلى مؤنث، أو على مراعاة المعنى، لأن مثقال معناه زنة أي: وإن تك زنة ذرة. وقرأ الحسن والحرميان: حسنة بالرفع على أن تك تامة، التقدير: وإن تقع أو توجد حسنة. وقرأ الإبنان: يضعفها مشددة من غير ألف. قال أبو علي: المعنى فيهما واحد، وهما لغتان. ويدل على هذا قراءة من قرأ * (يضاعف * لها العذاب ضعفين) * و * (فيضاعفه له أضعافا كثيرة) *. وقال أبو عبيدة في كتاب المجاز والطبري: ضاعف يقتضي مرارا كثيرة، وضعف يقتضي مرتين، وكلام العرب يقتضي عكس هذا. لأن المضاعفة تقتضي زيادة المثل، فإذا شددت اقتضت البنية التكثير فوق مرتين إلى أقصى ما يزيد من العدد، وقد تقدم لنا الكلام في هذا. وقال الزمخشري: يضاعف ثوابها لاستحقاقها ضده الثواب في كل وقت من الأوقات المستقبلة غير المتناهية. وورد تضعيف الحسنة لعشر أمثالها في كتاب الله، وتضعيف النفقة إلى سبعمائة، ووردت أحاديث التضعيف ألفا وألف ألف، ولا تضاد في ذلك، إذ المراد الكثرة لا التحديد. وإن أريد التحديد فلا تضاد أيضا، لأن الموعود بذلك جميع المؤمنين، ويختلف باختلاف الأعمال. وظاهر قوله: إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية أنها عامة في كل أحد، وتخصيص ذلك بالمهاجرين غير ظاهر من لدنه أي: من عنده على سبيل التفضل. قال الزمخشري: سماه أجرا لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته. انتهى قال ابن مسعود وابن جبير وابن زيد الأجر: هنا الجنة. وقيل: لا حد له ولا عد.
* (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * هو نبيهم يشهد عليهم بما فعلوا كما قال تعالى: * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) * والأمة هنا من بعث إليهم النبي من مؤمن به وكافر. لما أعلم تعالى بعدله وإيتاء فضله أتبع ذلك بأن نبه على الحالة التي يحضرونها للجزاء ويشهد عليهم فيها.
وكيف في موضع رفع إن كان المحذوف مبتدأ التقدير: فكيف حال هؤلاء السابق ذكرهم، أو كيف صنعهم. وهذا المبتدأ هو العامل في إذا، أو في موضع نصب إن كان المحذوف فعلا أي: فكيف يصنعون، أو كيف يكونون. والفعل أيضا هو العامل في إذا. ونقل ابن عطية عن مكي: أن العامل في كيف جئنا. قال: وهو خطأ، والاستفهام هنا للتوبيخ، والتقريع، والإشارة بهؤلاء إلى أمة الرسول. وقال مقاتل: إلى الكفار. وقيل: إلى اليهود والنصارى. وقيل: إلى كفار قريش. وقيل: إلى المكذبين وشهادته بالتبليغ لأمته قاله: ابن مسعود، وابن جريج، والسدي، ومقاتل. أو بإيمانهم قاله أبو
262

العالية، أو بأعمالهم قاله: مجاهد وقتادة. والظاهر أن الشهادة تكون على المشهود عليهم. وقيل: على بمعنى اللام، أي: وجئنا بك لهؤلاء، وهذا فيه بعد. وقال الزجاجي: يشهد لهم وعليهم، وحذف المشهود عليهم في قوله: إذا جئنا من كل أمة بشهيد لجريان ذكره في الجار والمجرور فاختصر، والتقدير: من كل أمة بشهيد على أمته. وظاهر المقابلة يقتضي أن تكون الشهادة عليهم لا لهم، ولا يكون عليهم إلا والمشهود عليهم كانوا منكرين مكذبين بما شهد عليهم به. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم): كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه، وكذلك حين قرأ عليه ابن مسعود ذرفت عيناه وبكاؤه والله أعلم هو إشفاق على أمته ورحمة لهم من هول ذلك اليوم. وظاهر قوله: وجئنا بك، أنه معطوف على قوله: جئنا من كل أمة. وقيل: حال على تقدير قد أي وقد جئنا.
* (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض) * التنوين في يومئذ هو تنوين العوض، حذفت الجملة السابقة وعوض منها هذا التنوين، والتقدير: يوم إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يود الذين كفروا وعصوا الرسول أي: كفروا بالله وعصوا رسوله. والرسول: هنا اسم جنس، ويحتمل أن يكون التنوين عوضا من الجملة الأخيرة، ويكون الرسول محمد صلى الله عليه وسلم). وأبرز ظاهرا، ولم يأت وعصوك لما في ذكر الرسول من الشرف والتنويه بالرسالة التي هي أشرف ما تحملها الإنسان من الله تعالى، إذ هي سبب السعادة الدنيوية والأخروية، والعامل في: يوم يود. ومعنى يود: يتمنى. وظاهر وعصوا أنه معطوف على كفروا. وقيل: هو على إضمار موصول آخر أي: والدين عصوا فهما فرقتان. وقيل: الواو واو الحال أي: كفروا وقد عصوا الرسول. وقال الحوفي: يجوز أن يكون يوم مبنيا مع إذ، لأن الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه معه. وإذ في هذا الموضع اسم ليست بظرف، لأن الظروف إذا أضيف إليها خرجت إلى معنى الاسمية من أجل تخصيص المضاف إليها، كما تخصص الأسماء، ومع استحقاقها الجر، والجر ليس من علامات الظروف انتهى، وهو كلام جيد.
وقرأ الجمهور: وعصوا الرسول بضم الواو. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو السمال: وعصوا الرسول بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: تسوى بضم التاء وتخفيف السين مبنيا للمفعول، وهو مضارع سوى. وقرأ نافع، وابن عامر: بفتح التاء وتشديد السين، وأصله تتسوى، فأدغمت التاء في السين، وهو مضارع تسوى. وقرأ حمزة والكسائي: تسوى بفتح التاء وتخفيف السين، وذلك على حذف التاء، إذ أصله تتسوى وهو مضارع تسوى. فعلى قراءة من قرأ تتسوى وتسوى فتكون الأرض فاعلة. قال أبو عبيدة وجماعة: معناه لو تنشق الأرض ويكونون فيها، وتنسوي هي في نفسها عليهم. والباء بمعنى على. وقالت فرقة: معناه لو تسوى هي معهم في أن يكونوا ترابا كالبهائم، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المسوية معهم، والمعنى: إنما هو أنهم يستوون مع الأرض. ففي اللفظ قلب يخرج على قولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي. وعلى قراءة من قرأ: تسوى مبنيا للمفعول، فالمعنى أن الله يفعل ذلك على حسب المعنيين السابقين. وقيل: المعنى لو دفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، ومعنى هذا القول هو معنى القول الأول. وقيل: المعنى لو تعدل بهم الأرض أي: يؤخذ منهم ما عليها فدية.
والعامل في يومئذ يود، ومفعول يود محذوف تقديره: تسوية الأرض بهم، ودل عليه قوله: لو تسوى بهم الأرض. ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابه محذوف تقديره: لسروا بذلك، وحذف لدلالة يود عليه. ومن أجاز في لو أن تكون مصدرية مثل أن جوز ذلك هنا، وكانت إذ ذاك لا جواب لها، بل تكون في موضع مفعول يود.
* (ولا يكتمون الله حديثا) * روي عن ابن عباس أن معنى هذه: ودوا إذ فضحتحهم
263

جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم. وروي عنه أيضا: أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله شيئا. وقال الحسن: القيامة مواقف، ففي موطن يعرفون سوء
أعمالهم ويسألون أن يردوا إلى الدنيا، وفي موطن يكتمون ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين. وقال الفراء والزجاج: هو كلام مستأنف لا يتعلق بقوله: وتسوى بهم الأرض، والمعنى: لا يقدرون على كتمان الحديث لأنه ظاهر عند الله. وقيل: ودوا لو سويت بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثا. وقيل: لم يعتقدوا أنهم مشركون، وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة، ذكر هذين القولين: ابن الأنباري. قال القاضي: أخبروا بما توهموا، وكانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين، وذلك لا يخرجهم أنهم قد كذبوا. وإذا كانت الجملة مندرجة تحت يود فقال الجمهور: هو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين، ما كنا نعمل من سوء، وهذا يتعلق بالآخرة. وقال عطاء: أمر الرسول ونعته وبعثه، وهذا متعلق بالدنيا انتهى. ما خص من كتاب التحرير والتحبير.
وقال ابن عطية ما ملخصه: استأنف الكلام وأخبر أنهم لا يكتمون حديثا لنطق جوارحهم بذلك كله حتى يقول بعضهم: والله ربنا ما كنا مشركين، فيقول الله تعالى: كذبتم، ثم تنطق جوارحهم فلا تكتم حديثا، وهذا قول ابن عباس. وقالت طائفة مثله: إلا أنها قالت: استأنف ليخبر أن الكتم لا ينفع وإن كتموا لعلم الله جميع أسرارهم، فالمعنى: ليس ذلك المقام الهائل مقاما ينفع فيه الكتم. والفرق بين هذا والأول، أن الأول يقتضي أن الكتم لا يقع بوجه، والآخر يقتضي أن الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع، كما تقول: هذا مجلس لا يقال فيه باطل، وأنت تريد أنه لا ينفع فيه ولا يستمع إليه. وقالت طائفة: الكلام كله متصل، والمعنى: ويودون أنهم لا يكتمون الله حديثا. وودهم ذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين. وقالت طائفة: هي مواطن وفرق انتهى. وقال الزمخشري: لا يقدرون على كتمانه، لأن جوارحهم تشهد عليهم.
وقيل: الواو وللحال يودون أن يدفنوا تحت الأرض، وأنهم لا يكتمون الله حديثا، ولا يكذبون في قولهم: والله ربنا ما كنا مشركين. لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم، ختم الله على أفواههم عند ذلك وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم، والشهادة عليهم بالشرك. فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض انتهى. والذي يتلخص في هذه الجملة أن الواو في قوله: ولا يكتمون إما أن تكون للحال، أو للعطف فإن كانت للحال كان المعنى: أنهم يوم القيامة يودون إن كانوا ماتوا وسويت بهم الأرض، غير كاتمين الله حديثا، فهي حال من بهم، والعامل فيها تسوى. وهذه الحال على جعل لو مصدرية بمعنى أن، ويصح أيضا الحال على جعل لو حرفا لما سيقع لوقوع غيره، أي: لو تسوى بهم الأرض غير كاتمين الله حديثا لكان بغيتهم وطلبتهم. ويجوز أن يكون حالا من الذين كفروا، والعامل يود على تقدير أن تكون لو مصدرية أي: يوم القيامة يود الذين كفروا إن كانوا سويت بهم الأرض غير كاتمين، وتكون هذه الحال قيدا في الودادة. أي تقع الودادة منهم لما ذكر في حال انتفاء الكتمان، وهي حالة إقرارهم بما كانوا عليه في الدنيا من الكفر والتكذيب، ويكون إقرارهم في موطن دون موطن، إذ قد ورد أنهم يكتمون، ويبعد أن يكون حالا على هذا الوجه. ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره للفصل بين الحال، وعاملها بالجملة. وإن كانت الواو في: ولا يكتمون، للعطف فيحتمل أن يكون من عطف المفردات، ومن عطف الجمل. فإن كانت من عطف المفردات كان ذلك معطوفا على مفعول يود أي: يودون تسوية الأرض بهم وانتفاء الكتمان. ويحتمل أن يكون انتفاء الكتمان في الدنيا، ويحتمل أن يكون في الآخرة، وهو قولهم: والله ربنا ما كنا مشركين. ويبعد جدا أن يكون عطف على مفعول يود المحذوف، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. وإن كانت من عطف الجمل فيحتمل أن يكون معطوفا على يود، أي: يودون كذا ولا يكتمون الله حديثا، فأخبر تعالى عنهم بخبرين
264

الودادة وانتفاء الكتمان، ويكون انتفاء الكتمان في بعض مواقف القيامة. ويحتمل أن يكون مفعول يود محذوفا كما قررناه، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف كما تقدم. والجملة من قوله: ولا يكتمون معطوفة على لو ومقتضيتها، ويكون تعالى قد أخبر بثلاث جمل: جملة الودادة، والجملة التعليقية من لو وجوابها، وجملة انتفاء الكتمان.
* (حديثا يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلواة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) * روي أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل التحريم، وحانت صلاة، فتقدم أحدهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت. وقيل: نزلت بسبب قول ثانيا: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، وكانوا يتحامونها أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر، إلى أن سأل عمر ثالثا فنزل تحريمها مطلقا. وهذه الآية محكمة عند الجمهور. وذهب ابن عباس إلى أنها منسوخة بآية المائدة. وأعجب من هذا قول عكرمة: أن قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بقوله: * (يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم) * الآية أي أبيح لهم أن يؤخروا الصلاة حتى يزول السكر، ثم نسخ ذلك فأمروا بالصلاة على كل حال، ثم نسخ شرب الخمر بقوله: * (فاجتنبوه) * ولم ينزل الله هذه الآية في إباحة الخمر فلا تكون منسوخة، ولا أباح بعد إنزالها مجامعة الصلاة مع السكر. ووجه قول ابن عباس: أن مفهوم الخطاب يدل على جواز السكر، وإنما حرم قربان الصلاة في تلك الحال، فنسخ ما فهم من جواز الشرب والسكر بتحريم الخمر.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه لما أمر تعالى بعبادة الله والإخلاص فيها، وأمر ببر الوالدين ومكارم الأخلاق، وذم البخل واستطر منه إلى شيء من أحوال القيامة، وكان قد وقع من بعض المسلمين تخليط في الصلاة التي هي رأس العبادة بسبب شرب الخمر، ناسب أن تخلص الصلاة من شوائب الكدر التي يوقعها على غير وجهها، فأمر تعالى بإتيانها على وجهها دون ما يفسدها، ليجمع لهم بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم، وبين الخلق والخطاب بقوله: يا أيها الذين آمنوا للصاحين، لأن السكران إذا عدم التمييز لسكره ليس بمخاطب، لكنه مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه، وبتكفيره ما أضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق على ما ذهب إليه بعض الناس.
وبالغ تعالى في النهي عن أن يصلي المؤمن وهو سكران بقوله: * (لا تقربوا الصلواة * لان) * * (ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش) * * (ولا تقربوا مال اليتيم) * والمعنى: لا تغشوا الصلاة. وقيل: هو على حذف مضاف أي: لا تقربوا مواضع الصلاة
لقوله: ولا جنبا إلا عابري سبيل على أحد التأويلين في عابري سبيل، وسيأتي إن شاء الله. ومواضع الصلاة هي المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم): (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم).
والجمهور على أن المراد: وأنتم سكارى من الخمر. وقال الضحاك: المراد السكر من النوم، لقوله صلى الله عليه وسلم): (إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه) وقال عبيدة السلماني: المراد بقوله وأنتم سكارى إذا كنتم حاقنين، لقوله عليه السلام: (لا يصلين أحدكم وهو حاقن). وفي رواية: (وهو ضام فخذيه) واستضعف قول الضحاك
265

وعبيدة واستبعد. وقال القرطبي: قولهما صحيح المعنى، لأن المطلوب من المصلي الإقبال على عبادة الله تعالى بقلبه وقالبه، بصرف الأسباب التي تشوش عليه وتقل خشوعه من: نوم، وحقنة، وجوع، وغيره مما يشغل البال. وظاهر الآية يدل على النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر. وقيل: المراد النهي عن السكر، لأن الصلاة قد فرضت عليهم وأوقات السكر ليست محفوظة عندهم ولا بمقدرة، لأن السكر قد يقع تارة بالقليل وتارة بالكثير، وإذا لم يتحرر وقت ذلك عندهم تركوا الشرب احتياطا لأداء ما فرض عليهم من الصلوات. وأيضا فالسكر يختلف باختلاف أمزجة الشاربين، فمنهم من سكره الكثير، ومنهم من سكره القليل.
وقرأ الجمهور: سكارى بضم السين. واختلفوا: أهو جمع تكسير؟ أم اسم جمع؟ ومذهب سيبويه أنه جمع تكسير. قال سيبويه في حد تكسير الصفات: وقد يكسرون بعض هذه على فعالى، وذلك قول بعضهم: سكارى وعجالى. فهذا نص منه على أن فعلى جمع. ووهم الأستاذ أبو الحسن بن الباذش فنسب إلى سيبويه أنه اسم جمع، وأن سيبويه بين ذلك في الأبنية. قال ابن الباذش: وهو القياس، لأنه جاء على بناء لم يجيء عليه جمع البتة، وليس في الأبنية إلا نص سيبويه على أنه تكسير، وذلك أنه قال: ويكون فعالى في الاسم نحو حبارى وسماني وكباري، ولا يكون وصفا، إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالى وسكارى وكسالى. وحكى السيرافي فيه القولين، ورجح أنه تكسير، وأنه الذي يدل عليه كلام سيبويه. وقرأت فرقة: سكارى بفتح السين نحو ندمان وندامى، وهو جمع تكسير. وقرأ النخعي: سكرى، فاحتمل أن يكون صفة لواحدة مؤنثة كامرأة سكرى، وجرى على جماعة إذ معناه: وأنتم جماعة سكرى. وقال ابن جني: هو جمع سكران على وزن فعلى كقوله: روبي نياما وكقولهم: هلكى وميدي جمع هالك ومائد. وقرأ الأعمش: سكرى بضم السين على وزن حبلى، وتخريجه على أنه صفة لجماعة أي: وأنتم جماعة سكرى. وحكى جناح بن حبيش: كسلى وكسلى بالضم والفتح قاله الزمخشري. ومعنى حتى تعلموا ما تقولون: حتى تصحوا فتعلموا. جعل غاية السبب والمراد السبب، لأنه ما دام سكران لا يعلم ما يقول وظاهر الآية يدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، ولذلك ذهب عثمان، وابن عباس، وطاووس، وعطاء، والقاسم، وربيعة، والليث، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني إلى أن السكران لا يلزمه طلاق، واختاره الطبري. وقال أجمع العلماء: على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس، معتوه بالوسواس. ولا يختلفون في أن طلاق من ذهب عقله بالبنج غير جائز، فكذلك من سكر من الشراب. وروي عن عمر ومعاوية وجماعة من التابعين: أن طلاقه نافذ عليه وهو قول: أبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي. قال أبو حنيفة: أفعاله وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي إلا الردة، فإنه إذا ارتد لا تبين امرأته منه. وقال أبو يوسف: يكون مرتدا في حال سكره، وهو قول الشافعي، إلا أنه لا يقتله في حال سكره، ولا يستتيبه. واختلف قوله في الطلاق، وألزم مالك السكران الطلاق والقود في الجراح والعقل، ولم يلزمه النكاح والبيع. قال الماوردي: وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزمه طلاقه. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يلزمه طلاق ولا عتاق. واختلفوا في السكر. فقيل: هو الذي لا يعرف صاحبه الرجل من المرأة قاله: جماعة من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة، ويدل عليه قوله: حتى تعلموا ما تقولون. فظاهره يدل على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول. وقال الثوري: السكر اختلال العقل، فإذا خلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف حده. وقال أحمد: إذا تغير عقله في حاله الصحة فهو سكران. وحكى عن مالك نحوه.
قيل: وفي الآية دلالة على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر. وقال القفال: يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء
266

والشجاعة والحمية، وأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حالة الجنون والإغماء فما أبيح قصده، بل لو أنفق من غير قصد كان مرفوعا عن صاحبه.
* (ولا جنبا) * هذه حالة معطوفة على قوله: وأنتم سكارى. إذ هي جملة حالية، والجملة الاسمية أبلغ لتكرار الضمير، فالتقييد بها أبلغ في الانتفاء منها من التقييد بالمفرد الذي هو: ولا جنبا. ودخول لا دال على مراعاة كل قيد منهما بانفراده. وإذا كان النهي عن إيقاع الصلاة مصاحبة لكل حال منهما بانفراده، فالنهي عن إيقاعها بهما مجتمعين، وأدخل في الحظر. والجنب: هو غير الصحابة: لا غسل إلا على من أنزل، وبه قال الأعمش وداود. وهي مسألة تذكر أدلتها في علم الفقه.
والجنب من الجنابة وهي البعد، كأنه جانب الطهر، أو من الجنب كأنه ضاجع ومس بجنبه. قال الزمخشري: الجنب يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب انتهى. والذي ذكره هو المشهور في اللغة والفصيح، وبه جاء القرآن. وقد جمعوه جمع سلامة بالواو وإلنون قالوا: قوم جنبون، وجمع تكسير قالوا: قوم أجناب. وأما تثنيته فقالوا: جنبان.
* (إلا عابرى سبيل) * العبور: الخطور والجواز، ومنه ناقة عبر الهواجر وعبر أسفار قال:
* عيرانه سرح اليدين شمله
*
عبر الهواجر كالهجف الخاضب
*
وعابر السبيل هو المار في المسجد من غير لبث فيه، وهو مذهب الشافعي قال: يمر فيه ولا يقعد فيه. وقال الليث: لا يمر فيه إلا إن كان بابه إلى المسجد. وقال أحمد وإسحاق: إذا توضأ الجنب فلا بأس به أن يقعد في المسجد. وقال الزمخشري: من فسر الصلاة بالمسجد قال: معناه لا تقربوا المسجد جنبا إلا مجتازين فيه، إذا كان الطريق فيه إلى الماء، أو كان الماء فيه، أو احتلمتم فيه. وقيل: إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فرخص لهم.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم): (لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أن يمر فيه وهو جنب، إلا لعلي. لأنه بيته كان في المسجد) وقال علي وابن عباس أيضا وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم: عابر السبيل المسافر، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، قالوا: لا يدخل المسجد إلا الطاهر سواء أراد القعود فيه أم الاجتياز، وهو قول: مالك والثوري وجماعة. ورجح هذا القول بأن قوله: لا تقربوا الصلاة يبقى على ظاهره، وحقيقته بخلاف تأويل مواضع الصلاة فإنه مجاز، ولا يعدل إليه إلا بعد تعذر حمل الكلام على حقيقته. وليس في المسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر، وفي الصلاة قراءة مشروطة يمنع لأجل تعذر إقامتها من فعل الصلاة. وسمي المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق، كما سمي ابن السبيل.
وأفاد الكلام معنيين: أحدهما: جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به. والثاني: أن التيمم لا يرفع الجنابة، لأنه سماه جنبا مع كونه متيمما. وعلى هذا المعنى فسر الزمخشري الآية أولا فقال: إلا عابري سبيل، الاستثناء من عامة أحوال المخاطبين، وانتصابه على الحال. فإن قلت: كيف جمع بين هذه الحال والتي قبلها؟ قلت: كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر وعبور السبيل عبارة عنه. ويجوز أن لا يكون حالا ولكن صفة كقوله: جنبا أي: ولا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل، أي: جنبا مقيمين غير معذورين. فإن قلت: كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ قلت: أريد
267

بالجنب الذين لم يغتسلوا، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين انتهى كلامه. ومن قال: بمنع الجنب من المرور في المسجد والجلوس فيه تعظيما له، فالأولى أن يمنعه والحائض من قراءة القرآن، وبه قال الجمهور، فلا يجوز لهما أن يقرآ منه شيئا سواء كان كثيرا أم قليلا حتى يغتسلا، ورخص مالك لهما في الآية اليسيرة للتعوذ، وأجاز للحائض أن تقرأ مطلقا إذا خافت النسيان عند الحيض، وذكروا هذه المسألة ولا تعلق لها في التفسير بلفظ القرآن.
* (حتى تغتسلوا) * هذه غاية لامتناع الجنب من الصلاة، وهي داخلة في الحظر إلى أن يوقع الاغتسال مستوعبا جميعه. والخلاف: هل يدخل في ماهية الغسل إمرار اليد أو شبهها مع الماء على المغسول؟ فلو انغمس في الماء أو صبه عليه فمشهور مذهب مالك: أنه لا يجزئه حتى يتدلك، وبه قال المزني: ومذهب الجمهور: أنه يجزئه من غير تدلك. وهل يجب في الغسل تخليل اللحية؟ فيه عن مالك خلاف. وأما المضمضة والاستنشاق في الغسل فذهب أبو حنيفة إلى فرضيتهما فيه لا في الوضوء. وقال ابن أبي ليلى وإسحاق وأحمد وبعض أصحاب داود: هما فرض فيهما. وروي عن عطاء، والزهي وقال مجاهد وجماعة من التابعين، ومالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي، ومحمد بن جرير: ليسا بفرض فيهما. وروي عن أحمد: أن المضمضة سنة، والاستنشاق فرض، وقال به بعض أصحاب داود. وظاهر قوله: حتى تغتسلوا حصول الاغتسال، ولم يشترط فيه نية الاغتسال، بل ذكر حصول مطلق الاغتسال، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه في كل طهارة بالماء. وروي هذا الوليد بن مسلم عن مالك، ومشهور مذهبه أنه لا بد من النية، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
* (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) * قال الجمهور: نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع، حين أقام على التماس العقد. وقال النخعي: في قوم أصابتهم جراح وأجنبوا. وقيل: كان ذلك عبد الرحمن بن عوف، ومرضى يعني في الحضر. ويدل على مطلق المرض قل أو كثر، زاد أو نقص، تأخر برؤه أو تعجل، وبه قال داود. فأجاز التيمم لكل من صدق عليه مطلق الاسم. وخصص العلماء غيره المرض بالجدري، والحصبة، والعلل المخوف عليها من الماء فقالوا: إن خاف تيمم بلا خلاف، إلا ما روي عن عطاء والحسن: أنه يتطهر وإن مات، وهما محجوجان بحديث عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، وأنه أشفق أن يهلك إن اغتسل فتيمم، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم) على ذلك، خرجه أبو داود والدارقطني.
وإن خاف حدوث مرض أو زيادته، أو تأخر البرء، فذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أنه يتيمم. وقال الشافعي: لا يجوز، وقيل: الصحيح عن الشافعي أنه إذا خاف طول المرض جاز له التيمم. وظاهر قوله تعالى: أو على سفر مطلق السفر، فلو لم يجد الماء في الحضر جاز له التيمم عند مالك وأبي حنيفة ومحمد. وقال الشافعي والطبري: لا يتيمم. وقال الليث والشافعي أيضا: إن خاف فوت الوقت تيمم وصلى، ثم إذا وجد الماء أعاد. وقال أبو يوسف وزفر: لا يتيمم إلا لخوف الوقت. والسفر المبيح عند الجمهور مطلق السفر، سواء أكان مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر. وشرط قوم سفرا تقصر فيه الصلاة، وشرط آخرون أن يكون سفر طاعة. وقال أبو حنيفة: لو خرج من مصره لغير سفر فلم يجد الماء جاز له التيمم، وقد المسافة أن يكون بينه وبين الماء ميل. وقيل: إذا كان بحيث لا يسمع أصوات الناس، لأنه في معنى المسافر. فلو وجد ماء قليلا إن توضأ به خاف على نفسه العطش تيمم على قول الجمهور، فلو وجده بثمن مثله فلا خلاف أنه يلزمه شراؤه، أو بما زاد. فمذهب أبي حنيفة والشافعي. يتيمم. ومذهب مالك: يشتريه بماله كله ويبقى عديما. فلو حال بينه وبين الماء عدو أو سبع أو غير ذلك مما يحول فكالعادم للماء.
ومجيئه من الغائط كناية عن الحدث
268

بالغائط، وحمل عليه الريح والبول والمني والودي، لا خلاف أن هذه الستة أحداث. وقد اختلفوا في أشياء ذكرت في كتب الفقه. وقرأ ابن مسعود: من الغيط وخرج
على وجهين: أحدهما: أنه مصدر إذ قالوا: غاط يغيط. والثاني: أن أصله فيعل، ثم حذف كميت. واختلفوا في تفسير اللمس، فقال عمرو بن مسعود وغيرهما: هو اللمس باليد، ولا ذكر للجنب إنما يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء. قال أبو عمر: لم يقل بقولهم أحد من فقهاء الأمصار لحديث عمار، وأبي ذر، وعمران بن حصين في تيمم الجنب. وقال علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: المراد الجماع، والجنب يتيمم. ولا ذكر للامس بيده، وهو مذهب أبي حنيفة. فلو قبل ولو بلذة لم ينتقض الوضوء. وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، وكذا باليد إذا التذ فإن لمس بغير شهوة فلا وضوء، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الشافعي: إذا أفضى بشيء من جسده إلى بدن المرأة نقض الطهارة، وهو قول: ابن مسعود، وابن عمر، والزهري، وربيعة، وعبيدة، والشعبي، وإبراهيم، ومنصور، وابن سيرين. وقال الأوزاعي: إن كان باليد نقض وإلا فلا. وقرأ حمزة، والكسائي: لمستم وباقي السبعة بالألف، وفاعل هنا موافق فعل المجرد نحو: جاوزت الشيء وجزته، وليست لأقسام الفاعلية والمفعولية لفظا، والاشتراك فيهما معنى، وقد حملها الشافعي على ذلك في أظهر قوليه.
فقال: الملموس كاللامس في نقض الطهارة.
وقوله: أو على سفر في موضع نصب عطفا على مرضى. وفي قوله: أو جاء، أو لامستم دليل على جواز وقوع الماضي خبرا لكان من غير قد وادعاء إضمارها تكلف خلافا للكوفيين لعطفها على خبر كان، والمعطوف على الخبر خبر. فلم تجدوا ماء الضمير عائد على من أسند إليهم الحكم في الأخبار الأربعة. وفيه تغليب الخطاب إذ قد اجتمع خطاب وغيبة، فالخطاب: كنتم مرضى، أو على سفر، أو لامستم. والغيبة قوله: أو جاء أحد. وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة، لأنه لما كنى عن الحاجة بالغائط كره إسناد ذلك إلى المخاطبين، فنزع به إلى لفظ الغائب بقوله: أو جاء أحد، وهذا من أحسن الملاحظات وأجمل المخاطبات. ولما كان المرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب. وظاهر انتفاء الوجدان سبق تطلبه وعدم الوصول إليه، فأما في حق المريض فجعل الموجود حسا في حقه إذا كان لا يستطيع استعماله كالمفقود شرعا، وأما غيره باقي الأربعة فانتفاء وجدان الماء في حقهم هو على ظاهره. وفلم تجدوا معطوف على فعل الشرط فتيمموا صعيدا طيبا هذا جواب الشرط، أمر الله تعالى بالتيمم عند حصول سبب من هذه الأسباب الأربعة وفقدان الماء.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين، وبين المحدثين والمجنبين، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة، والحدث سبب لوجوب الوضوء، والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ (قلت): أراد سبحانه وتعالى أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون للماء في التيمم والتراب، فخص أولا من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم، لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو، أو سبع، أو عدم آلة استقاء، أو إرهاق في مكان لا ماء فيه، أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض والسفر انتهى. وفيه تفسيره: أو لامستم النساء أنه أريد به الجماع الذي تترتب عليه الجنابة، فسر ذلك على مذهب أبي حنيفة، ولم ينقل غيره من المذاهب. وملخص ما طول به: أنه اعتذر عن تقديم المرض والسفر بما ذكر. ومن يحمل اللمس على ظاهره يقول: إن هذا من باب الترقي من الإقل إلى الأكثر، لأن حالة المرض أقل من حالة السفر، وحالة السفر أقل من حالة قضاء الحاجة، وحالة قضاء الحاجة أقل من حالة لمس المرأة. ألا ترى أن حالة الصحة غالبا أكثر من حال المرض، وكذا في سائر البواقي؟.
269

قال أبو عبيدة والفراء: الصعيد التراب. وقال الليث: الصعيد الأرض المستوية لا شيء فيها من غراس ونبات، وهو قول قتادة، قال: الصعيد الأرض الملساء. وقال الخليل: الصعيد ما صعد من وجه الأض، يريد وجه الأرض. وقال الزجاج: الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره، وإن كان صخرا لا تراب عليه زاد غيره: أو رملا، أو معدنا، أو سبخة. والطيب الطاهر وهذا تفسير طائفة، ومذهب أبي حنيفة ومالك واختيار الطبري. ومنه * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) * أي طاهرين من أدناس المخالفات. وقال قوم: الطيب هنا الحلال، قاله سفيان الثوري وغيره. وقال الشافعي وجماعة: الطيب المنبت، وقاله ابن عباس لقوله تعالى: * (والبلد الطيب يخرج نباته) * فالصعيد على هذا التراب. وهؤلاء يجيزون التيمم بغير ذلك، فمحل الإجماع هو أن يتيمم بتراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومحل المنع إجماعا هو: أن يتيمم على ذهب صرف، أو فضة، أو ياقوت، أو زمرد، وأطعمة كخبز ولحم، أو على نجاسة، واختلف في المعادن: فأجيز، وهو مذهب مالك، ومنع وهو مذهب الشافعي. وفي الملح، وفي الثلج، وفي التراب المنقول، وفي المطبوخ كالآجر، وعلى الجدار، وعلى النبات، والعود، والشجر خلاف. وأجاز الثوري وأحمد بغبار اليد. وقال أحمد وأبو يوسف: لا يجوز إلا بالتراب والرمل، والجمهور على إجازته بالسباخ، إلا ابن راهويه. وأجاز ابن علية وابن كيسان التيمم بالمسك والزعفران.
وظاهر الكلام: أن التيمم مسح الوجه واليدين من الصعيد الطيب، فمتى حصلت هذه الكيفية حصل التيمم. والعطف بالواو لا يقتضي ترتيبا بين الوجه واليدين والباء في بوجوهكم مما يعدى بها الفعل تارة، وتارة بنفسه. حكى سيبويه: مسحت رأسه وبرأسه، وخشنت صدره وبصدره على معنى واحد. وظاهر مسح الوجه التعميم، فيمسحه جميعه كما يغسله بالماء جميعه. وأجاز بعضهم أن لا يتتبع الغضون. وأما اليدان فظاهر مسحهما تعميم مدلولهما، وهي تنطلق لغة إلى المناكب، وبه قال ابن شهاب، قال: يمسح إلى الآباط، وروى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفي سنن أبي داود: (أنه عليه السلام مسح إلى انصاف ذراعيه) قال ابن عطية: لم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت انتهى. وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث: أنه يمسح إلى بلوغ المرفقين فرضا واجبا، وهو قول: جابر، وابن عمر، والحسن، وإبراهيم. وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان، وهو: قول علي، وعطاء، والشعبي، ومكحول، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وداود بن علي، والطبري، والشافعي في القديم، وروي عن مالك. وذهب الشعبي إلى أنه يمسح كفيه فقط، وبه قال بعض فقهاء
الحديث، وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث. ففي مسلم من حديث عمار (إنما كان يكفيك أن يضرب بيدك الأرض ثم تنفخ وتمسح بها وجهك وكفيك) وعنه في هذا الحديث: (وضرب بيده الأرض فنفض يديه، فمسح وجهه وكفيه) وللبخاري: (أدناهما من فيه، ثم مسح بهما وجهه وكفيه) وفي مسلم أيضا: (أما يكفيك أن تقول بيدك هكذا، ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه) وعند أبي داود (فضرب بيده الأرض فقبضها، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه). فهذه الأحاديث الصحيحة مبينة ما تطرق إليه الاحتمال في الآية من محل المسح وكيفيته.
وظاهر هذه الأحاديث الصحيحة وظاهر الآية يدل على الاجتزاء بضربة واحدة للوجه واليدين، وهو قول: عطاء والشعبي في رواية، والأوزاعي في الأشهر عنه، وأحمد وإسحاق وداود والطبري. وذهب مالك في المدونة، والأوزاعي في رواية، وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم، والثوري، والليث، وابن أبي سلمة: إلى وجوب ضربتين ضربة للوجه، وضربة لليدين، وذهب ابن أبي ليلى والحسن إلى أنه ضربتان، ويمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما. وأحكام التيمم ومسائله كثيرة مذكورة في كتب
270

الفقه، ولم يذكر في هذه السورة منه، وذكر ذلك في المائدة، فدلت على مذهب الشافعي في نقل شيء من الممسوح به إلى الوجه والكفين، وحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، ولذلك قال الزمخشري: (فإن قلت): فما تصنع بقوله في سورة المائدة: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * أي بعضه وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ (قلت): قالوا: إنها أي من لابتداء الغاية (فإن قلت): قولهم أنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن الماء، ومن التراب، إلا معنى التبعيض (قلت): هو كما تقول، والإذعان للحق أحق من المراء.
* (إن الله كان عفوا غفورا) * كناية عن الترخيص والتيسير، لأن من كانت عاته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، آثر أن يكون ميسرا غير معسر انتهى كلامه. والعجب منه إذ أذعن إلى الحق، وليس من عادته، بل عادته أن يحرف الكلام عن ظاهره ويحمله على غير محمله لأجل ما تقرر من مذهبه. وأيضا فكلامه أخيرا حيث أطلق أن الله يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، العجب له إذ لم يقيد ذلك بالتوبة على مذهبه وعادته فيما هو يشبه هذا الكلام.
2 (* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل * والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا * من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا فى الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) *)) 2
* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * قال قتادة: نزلت في اليهود. وفي رواية عن ابن عباس: في رفاعة بن زيد بن التابوت. وقيل: في غيره من اليهود. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر شيئا من أحوال الآخرة، وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا، وجاءت هذه الآية بعد ذلك كالاعتراض بين ذكر أحوال الكفار في الآخرة، وذكر أحوالهم في الدنيا وما هم عليه من معاداة المؤمنين، وكيف يعاملون رسول الله صلى الله عليه وسلم) الذي يأتي شهيدا عليهم وعلى غيرهم. ولما كان اليهود أشد إنكارا للحق، وأبعد من قبول الخير. وكان قد تقدم أيضا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون، وهم أشد الناس تحليا بهذين الوصفين، أخذ يذكرهم بخصوصيتهم. وتقدم تفسير ألم تر إلى الذين في قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) * فأغنى عن إعادته..
والنصيب: الحظ. ومن الكتاب: يحتمل أن يتعلق بأوتوا، ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنصيبا. وظاهر لفظ الذين أوتوا، يشمل اليهود والنصارى، ويكون الكتاب عبارة عن التوراة والإنجيل. وقيل: الكتاب هنا التوراة، والنصيب قيل: بعض علم التوراة، لا العمل بما فيها. وقيل: علم ما هو حجة عليهم منه فحسب. وقيل: كفرهم به. وقيل: علم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم).
* (يشترون الضلالة) * المعنى: يشترون الضلالة بالهدى، كما قال: * (أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) *.
قال ابن عباس: استبدلوا الضلالة بالإيمان. وقال مقاتل: استبدلوا التكذيب بالنبي بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره واستنصارهم به انتهى. ودل لفظ الاشتراء على إيثار الضلالة على الهدى، فصار ذلك بغيا شديدا عليهم، وتوبيخا فاضحا لهم، حيث هم عندهم حظ من علم التوراة والإنجيل، ومع ذلك آثروا الكفر على الإيمان. وكتابهم طافح بوجوب اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. وقيل: اشتراء الضلالة هنا هو ما كانوا يبذلون من أموالهم لأحبارهم على تثبيت دينهم قاله: الزجاج.
* (ويريدون أن تضلوا السبيل) * أي: لم يكفهم أن
271

ضلوا في أنفسهم حتى تعلقت آمالهم يضلا لكم أنتم أيها المؤمنون عن سبيل الحق، لأنهم لما علموا أنهم قد خرجوا من الحق إلى الباطل كرهوا أن يكون المؤمنون مختصين باتباع الحق، فأرادوا أن يضلوا كما ضلوا هم كما قال تعالى: * (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) * وقرأ النخعي: وتريدون بالتاء باثنتين من فوق، قيل: معناه وتريدون أيها المؤمنون أن تضلوا السبيل أي: تدعون الصواب في اجتنابهم، وتحسبونهم غير أعداء الله. وقرئ: أن يضلوا بالياء وفتح الضاد وكسرها. * (والله أعلم بأعدائكم) * فيه تنبيه على الوصف المنافي لوداد الخير للمؤمنين وهي العداوة. وفيه إشارة إلى التحذير منهم، وتوبيخ على الاستنامة إليهم والركون، والمعنى: أنه تعالى قد أخبر بعداوتهم للمؤمنين، فيجب حذرهم كما قال تعالى: * (هم العدو فاحذرهم) * واعلم على بابها من التفضيل، أي: أعلم بأعدائكم منكم. وقيل: بمعنى عليم، أي عليم بأعدائكم.
* (وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) * ومن كان الله وليه ونصيره فلا يبالي بالأعداء، فثقوا بولايته ونصرته دونهم أو لا تبالوا بهم، فإنه ينصركم عليهم، ويكفيكم
مكرهم. وقيل: المعنى وليا لرسوله، نصيرا لدينه.
والباء في بالله زائدة ويجوز حذفها كما قال: سحيم:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وزيادتها في فاعل كفى وفاعل يكفى مطردة كما قال تعالى: * (أو لم * يكف بربك أنه على كل شىء شهيد) * وقال الزجاج: دخلت الباء في الفاعل، لأن معنى الكلام الأمر أي: اكتفوا بالله. وكلام الزجاج مشعر أن الباء ليست بزائدة، ولا يصح ما قال من المعنى، لأن الأمر يقتضي أن يكون فاعله هم المخاطبون، ويكون بالله متعلقا به. وكون الباء دخلت في الفاعل يقتضي أن يكون الفاعل هو الله لا المخاطبون، فتناقض قوله. وقال ابن السراج: معناه كفى الاكتفاء بالله، وهذا أيضا يدل على أن الباء ليست زائدة إذ تتعلق بالاكتفاء، فالاكتفاء هو الفاعل لكفى. وهذا أيضا لا يصح لأن فيه حذف المصدر وهو موصول، وإبقاء معموله وهو لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله:
* هل تذكرن إلى الديرين هجرتكم
*
ومسحكم صلبكم رحمان قربانا
*
التقدير: وقولكم يا رحمن قربانا. وقال ابن عطية: بالله في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في صورة الخبر، أي: اكتفوا بالله، فالباء تدل على المراد من ذلك. وهذا الذي قاله ابن عطية ملفق بعضه من كلام الزجاج، وهو أفسد من قول الزجاج، لأنه زاد على تناقض اختلاف الفاعل اختلاف معنى الحرف، إذ بالنسبة لكون الله فاعلا هو زائد، وبالنسبة إلى أن معناه اكتفوا بالله هو غير زائد. وقال ابن عيسى: إنما دخلت الباء في كفى بالله لأنه كان يتصل الفاعل وبدخول الباء اتصل اتصال المضاف واتصال الفاعل، لأن الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره، فضوعف لفظها المضاعفة معناها، وهو كلام يحتاج إلى تأويل. وقد تقدم الكلام على كفى بالله في قوله: * (فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا) * لكن تكرر هنا لما تضمن من مزيد: نقول: ورد بعضها. وانتصاب وليا ونصيرا قيل: على الحال. وقيل: على التمييز، وهو أجود لجواز دخول من.
272

* (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) * ظاهره الانقطاع في الإعراب عن ما قبله، فيكون على حذف موصوف هو مبتدأ، ومن الذين خبره، والتقدير: من الذين خبره، والتقدير: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، وهذا مذهب سيبويه، وأبى علي، وحذف الموصوف بعد من جائز وإن كانت الصفة فعلا كقولهم: منا ظعن، ومنا أقام أي: منا نفر ظعن، ومنا نفر أقام. وقال الشاعر:
* وما الدهر إلا تارتان فمنهما
*
أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
*
يريد: فمننهما تارة أموت فيها. وخرجه الفراء على إضمار من الموصولة أي: من الذين هادوا من يحرفون الكلم، وهذا عند البصريين لا يجوز. وتأولوا ما جاء مما يشبه هذا على أنه من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، قال الفراء: ومثله قول ذي الرمة:
* فظلوا ومنهم دمعه سابق لها
*
وآخر يثني دمعة العين باليد
*
وهذا لا يتعين أن يكون المحذوف موصولا، بل يترجح أن يكون موصوفا لعطف النكرة عليه وهو آخر، إذ يكون التقدير: فظلوا ومنهم عاشق دمعه سابق لها. وقيل: هو على إضمار مبتدأ التقدير: هم من الذين هادوا، ويحرفون حال من ضمير هادوا، ومن الذين هادوا متعلق بما قبله، فقيل: بنصيرا أي نصيرا من الذين هادوا، وعداه بمن كما عداه في: * (ونصرناه من القوم) * وفمن ينصرنا من بأس الله) * ومنعناه وفمن يمنعنا. وقيل: من الذين هادوا بيان لقوله: بأعدائكم، وما بينهما اعتراض. وقيل: حال من الفاعل في يريدون قاله أبو البقاء. قال: ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في أوتوا لأن شيئا واحدا لا يكون له أكثر من حال واحدة، إلا أن يعطف بعض الأحوال على بعض، ولا يكون حالا من الذين لهذا المعنى انتهى. وما ذكره من أن ذا الحال إذا لم يكن متعددا لا يقتضي أكثر من حال واحدة، مسئلة خلاف فمن النحويين من أجاز ذلك. وقيل: من الذين هادوا بيان * (*) * ومنعناه وفمن يمنعنا. وقيل: من الذين هادوا بيان لقوله: بأعدائكم، وما بينهما اعتراض. وقيل: حال من الفاعل في يريدون قاله أبو البقاء. قال: ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في أوتوا لأن شيئا واحدا لا يكون له أكثر من حال واحدة، إلا أن يعطف بعض الأحوال على بعض، ولا يكون حالا من الذين لهذا المعنى انتهى. وما ذكره من أن ذا الحال إذا لم يكن متعددا لا يقتضي أكثر من حال واحدة، مسئلة خلاف فمن
النحويين من أجاز ذلك. وقيل: من الذين هادوا بيان * (للذين أوتوا * نصيبا من الكتاب) * لأنهم يهود ونصارى، وقوله: * (والله أعلم بأعدائكم) * وكفى بالله وليا * (وكفى بالله وليا) * * (وكفى بالله نصيرا) * جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض قاله الزمخشر، وبدأ به. ويضعفه أن هذه جمل ثلاث، وإذا كان الفارسي قد منع أن يعترض بجملتين، فأحرى أن يمنع أن يعترض بثلاث.
يحرفون الكلم أي: كلم التوراة، وهو قول الجمهور. أو كلم القرآن وهو قول طائفة، أو كلم الرسول صلى الله عليه وسلم) وهو قول ابن عباس. قال: كان اليهود يأتون النبي صلى الله عليه وسلم) ويسألونه عن الأمر فيخبرهم، ويرى أنهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفوا من عنده حرفوا
273

الكلام. وكذا قال مكي: إنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم). فتحريف كلم التوراة بتغيير اللفظ، وهو الأقل لتحريفهم أسمر ربعة في صفته عليه السلام بآدم طوال مكانه، وتحريفهم الرجم بالحديد له، وبتغيير التأويل، وهو الأكثر قاله الطبري. وكانوا يتأولون التوراة بغير التأويل الذي تقتضيه معاني ألفاظها الأمور يختارونها ويتوصلون بها إلى موال سفلتهم، وأن التحريف في كلم القرآن أو كلم الرسول فلا يكون إلا في التأويل.
وقرئ: يحرفون الكلم بكسر الكاف وسكون اللام، جمع كلمة تخفيف كلمة. وقرأ النخعي وأبو رجاء: يحرفون الكلام، وجاء هنا عن مواضعه. وفي المائدة جاء: * (عن مواضعه) * وجاء * (من بعد مواضعه) *.
قال الزمخشري: أما عن مواضعه فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأما من بعد مواضعه: فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قمن بان يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره، والمعنيان متقاربان انتهى. والذي يظهر أنهما سياقان، فحيث وصفوا بشدة التمرد والطغيان، وإظهار العداوة، واشترائهم الضلالة، ونقض الميثاق، جاء يحرفون الكلم عن مواضعه. ألا ترى إلى قوله: * (ويقولون سمعنا وعصينا) * وقوله: * (فيما * نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه) * فكأنهم لم يتركوا الكلم من التحريف عن ما يراد بها، ولم تستقر في مواضعها، فيكون التحريف بعد استقرارها، بل بادروا إلى تحريفها بأول وهلة. وحيث وصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول في بعض الأمر، جاء من بعد مواضعه. ألا ترى إلى قوله: * (يقولون إن أوتيتم هاذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا) * وقوله بعد: * (فان * جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) * فكأنهم لم يبادروا بالتحريف، بل عرض لهم التحريف بعد استقرار الكلم في مواضعها. وقد يقال: أنهما شيئان، لكنه حذف هنا. وفي أول المائدة: من بعد مواضعه، لأن قوله: عن مواضعه يدل على استقرار مواضع له، وحذف في ثاني المائدة عن مواضعه. لأن التحريف من بعد مواضعه يدل على أنه تحريف عن مواضعه، فالأصل يحرفون الكلم من بعد مواضعه. فحذف هنا البعدية، وهناك حذف عنها. كل ذلك توسع في العبارة، وكانت البداءة هنا بقوله: عن مواضعه، لأنه أخضر. وفيه تنصيص باللفظ على عن، وعلى المواضع، وإشارة إلى البعدية.
* (ويقولون سمعنا وعصينا) * أي: سمعنا قولك، وعصينا أمرك، أو سمعناه جهرا، وعصيناه سرا قولان. والظاهر أنهم شافهوا بالجملتين النبي صلى الله عليه وسلم) مبالغة منهم في عتوهم في الكفر، وجريا على عادتهم مع الأنبياء. ألا ترى إلى قوله: * (خذوا ما ءاتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا) *.
* (واسمع غير مسمع) * هذا الكلام غير موجه، ويحتمل وجوها. والظاهر أنهم أرادوا به الوجه المكروه لسياق ما قبله من قوله: سمعنا وعصينا، فيكون معناه: اسمع لا سمعت. دعوا عليه بالموت أو بالصمم، وأرادوا ذلك في الباطن، وأرادوا في الظاهر تعظيمه بذلك. إذ يحتمل أن يكون المعنى: واسمع غير مأمور وغير صالح أن تسمع مأمورا بذلك. وقال الزمخشري: أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ومعناه: غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئا انتهى، وقاله ابن عباس. قال الزمخشري: أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون غير مسمع مفعول اسمع، أي: اسمع كلاما غير مسمع إياك، لأن أذنك لا تعيه نبوا عنه. ويحتمل المدح أي: اسمع غير مسمع مكروها من قولك: أسمع فلان فلانا إذا سبه. قال ابن عطية: ومن قال: غير مسمع غير مقبول منك، فإنه لا يساعده التصريف، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد انتهى. ووجه أن التصريف لا يساعد عليه هو
274

أن العرب لا تقول أسمعتك بمعنى قبلت منك، وإنما تقول: سمعت منك بمعنى قبلت، فيعبرون عن القبول بالسماع على جهة المجاز، لا بالأسماع. ولو أريد ما قاله الحسن ومجاهد لكان اللفظ: واسمع غير مسموع منك.
* (وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا فى الدين) * تقدم تفسير راعنا في قوله تعالى: * (مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم) * أي فتلا بها. وتحريفا عن الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا مكان انظرنا، وغير مسمع مكان لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. وانتصاب غير مسمع على الحال من المضمر في اسمع، وتقدم إعراب الزمخشري إياه مفعولا في أحد التقادير، وانتصاب ليا وطعنا على المفعول من أجله.
وقيل: هما مصدران في موضع الحال أي: لاوين وطاعنين. ومعنى: وطعنا في الدين، أي باللسان. وطعنهم فيه إنكار نبوته، وتغيير نعته، أو عيب أحكام شريعته، أو تجهيله. وقولهم: لو كان نبيا لدرى أنا نسبه، أو استخفافهم واعتراضهم وتشكيكهم اتباعه أقوال أربعة. قال ابن عطية: وهذا اللي باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب انتهى. وهو يحكي عن يهود الأندلس، وقد شاهدناهم وشاهدنا يهود ديار مصر على هذه الطريقة، وكأنهم يربون أولادهم الصغار على ذلك، ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين، بعدما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا؟ (قلت): جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان، ولا
يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويحتمل أن يقولوه فيما بينهم، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به.
* (ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم) * أي: لو تبدلوا بالعصيان الطاعة، ومن الطاعة الإيمان بك، واقتصروا على لفظ اسمع، وتبدلوا براعنا قولهم: وانظرنا، فعدلوا عن الألفاظ الدالة على عدم الانقياد، والموهمة إلى ما أمروا به، لكان أي: ذلك القول، خيرا لهم عند الله وأعدل أي: أقوم وأصوب. قال عكرمة ومجاهد وغيرهما: أنظرنا أي انتظرنا بمعنى أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك، كما قال الحطيئة:
* وقد نظرتكم أثناء صادرة
*
للخمس طال بها مسحى وابساسي
*
وقالت فرقة: معناه انظر إلينا، وكأنه استدعاء اهتبال وتحف منهم. ومنه قول ابن قيس الرقيان:
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن كما تنظر الأراك الظباء
وقرأ أبي: وأنظرنا من الأنظار وهو الإمهال. قال الزمخشري: المعنى ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا لكان قولهم ذلك خيرا لهم وأقوم وأعدل وأسد انتهى. فسبك من أنهم قالوا مصدرا مرتفعا بثبت على الفاعلية، وهذا مذهب المبرد خلافا لسيبويه. إذ يرى سيبويه أن أن بعد لو مع ما عملت فيه مقدر باسم مبتدأ، وهل الخبر محذوف، أم لا يحتاج إلى تقدير خبر لجريان المسند والمسند إليه في صلة أن؟ قولان أصحهما هذا. فالزمخشري وافق مذهب المبرد، وهو مذهب مرجوح في علم النحو.
* (ولكن لعنهم الله بكفرهم) * أي: أبعدهم الله عن الهدى بسبب كفرهم السابق. وقال الزمخشري: أي خذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم عن ألطافه انتهى. وهذا على طريقة الاعتزالي.
* (فلا يؤمنون إلا قليلا) * استثناء من ضمير المفعول في لعنهم أي: إلا قليلا لم يلعنهم فآمنوا، أو استثناء من الفاعل في: فلا يؤمنون،
275

أي: إلا قليلا فآمنوا كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهما. أو هو راجع إلى المصدر المفهوم من قوله: فلا يؤمنون أي: إلا إيمانا قليلا قلله إذ آمنوا بالتوحيد، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم) وبشرائعه. وقال الزمخشري: إلا إيمانا قليلا أي: ضعيفا ركيكا لا يعبأ به، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره. وأراد بالقلة العدم كقوله: قليل التشكي للهموم تصيبه. أي عديم التشكي.
وقال ابن عطية: من عبر بالقلة عن الإيمان قال: هي عبارة عن عدمه ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قلما تنبت كذا، وهي لا تنبته جملة. وهذا الذي ذكره الزمخشري وابن عطية من أن التقليل يراد به العدم هو صحيح في نفسه، لكن ليس هذا التركيب الاستثنائي من تراكيبه. فإذا قلت: لا أقوم إلا قليلا، لم يوضع هذا لانتقاء القيام البتة، بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلا فيوجد منك. وإذا قلت: قلما يقوم أحد إلا زيد، وأقل رجل يقول ذلك احتمل هذا، أن يراد به التقليل المقابل للتكثير، واحتمل أن يراد به النفي المحض. وكأنك قلت: ما يقوم أحد إلا زيد، وما رجل يقول ذلك. إما أن تنفى ثم توجب ويصير الإيجاب بعد النفي يدل على النفي، فلا إذ تكون إلا وما بعدها على هذا التقدير، جيء بها لغوا لا فائدة فيه، إذ الانتفاء قد فهم من قولك: لا أقوم. فأي فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء المفهوم من الجملة السابقة، وأيضا، فإنه يؤدي إلى أنه يكون ما بعد إلا موافقا لما قبلها في المعنى. وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد إلا موافقا لما قبلها، وظاهر قوله: فلا يؤمنون إلا قليلا، إذا جعلناه عائدا إلى الإيمان، إن الإيمان يتجزأ بالقلة والكثرة، فيزيد وينقص، والجواب: إن زيادته ونقصه هو بحسب قلة المتعلقات وكثرتها.
وتضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبديع. قالوا: التجوز بإطلاق الشيء على ما يقاربه في المعنى في قوله: إن الله لا يظلم، أطلق الظلم على انتقاص الأجر من حيث أن نقصه عن الموعود به قريب في المعنى من الظلم. والتنبيه بما هو أدنى على ما هو أعلى في قوله: مثقال ذرة. والإبهام في قوله: يضاعفها، إذ لم يبين فيه المضاعفة في الأجر. والسؤال عن المعلوم لتوبيخ السامع، أو تقريره لنفسه في: فكيف إذا جئنا. والعدول من بناء إلى بناء لمعنى في: بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. والتجنيس المماثل في: وجئنا وفي: وجئنا وفي: بشهيد وشهيدا. والتجنيس المغاير: في واسمع غير مسمع. والتجوز بإطلاق المحل على الحال فيه في: من الغائط. والكناية في: أو لامستم النساء. والتقديم والتأخير في: إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا إلى قوله: فتيمموا. والاستفهام المراد به التعجب في: ألم تر. والاستعارة في: يشترون الضلالة. والطباق في: هذا أي بالهدى، والطباق الظاهر في: وعصينا وأطعنا. والتكرار في: وكفى بالله وليا، وكفى بالله، وفي سمعنا وسمعنا. والحذف في عدة مواضع.
(* (ياأيهآ الذين أوتوا الكتاب ءامنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارهآ أو نلعنهم كما لعنآ أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا * إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما * ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشآء ولا يظلمون فتيلا * انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا * ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون
276

بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هاؤلاء أهدى من الذين ءامنوا سبيلا * أولائك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا * أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على مآ ءاتاهم الله من فضله فقد ءاتينآ ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما * فمنهم من ءامن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا * إن الذين كفروا بأاياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما) *))
) *
طمس: متعد ولازم. تقول: طمس المطر الأعلام أي محا آثارها، وطمست الأعلام درست، وطمس الطريق درس وعفت أعلامه قاله: أبو زيد. ومن المتعدي: * (وإذا النجوم * طمست) * أي استؤصلت. وقال ابن عرفة في قوله: اطمس على أموالهم أي أذهبها كلية، وأعمى مطموس أي: مسدود العينين. وقال كعب:
* من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت
*
عرضتها طامس الأعلام مجهول
*
والطمس والطسم والطلس والدرس كلها متقاربة في المعنى. الفتيل: فعيل بمعنى مفعول. فقيل: هو الخيط الذي في شق نواة التمرة. وقيل: ما خرج من الوسخ من بين كفيك وأصبعيك إذا فتلتهما. الجبت: اسم لصنم ثم صار مستعملا لكل باطل، ولذلك اختلفت فيه أقاويل المفسرين على ما سيأتي. وقال قطرب: الجبت الجبس، وهو الذي لا خير عنده، قلبت السين تاء. قيل: وإنما قال هذا لأن الجبت مهمل. النقير: النقطة التي على ظهر النواة منها تنبت النخلة قاله: ابن عباس. وقال الضحاك: هو البياض الذي في وسطها. النضج: أخذ الشيء في التهري وتفرق أجزائه، ومنه نضج اللحم، ونضج الثمرة. يقال: نضج الشيء ينضج نضجا ونضاجا. الجلد معروف.
* (قليلا يأيها الذين أوتوا الكتاب ءامنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم) * دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا إلى الإسلام وقال لهم: * (إنكم * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) * فقالوا: ما نعرف ذلك، فنزلت. قاله ابن عباس. ومناسبة
277

هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله: * (ولو أنهم قالوا) * الآية. خاطب من يرجى إيمانه منهم بالأمر بالإيمان، وقرن بالوعيد البالغ على تركه ليكون أدعى لهم إلى الإيمان والتصديق به، ثم أزال خوفهم من سوء الكبائر السابقة بقوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * الآية. وأعلمهم أن تزكيتهم أنفسهم بما لم يزكهم به الله لا ينفع.
والذين أوتوا الكتاب هنا اليهود، والكتاب التوراة قاله: الجمهور، أو اليهود والنصارى قاله: الماوردي وابن عطية. والكتاب التوراة والإنجيل، وبما نزلنا هو القرآن بلا خلاف، ولما معكم من شرع وملة لا لما معهم من مبدل ومغير من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدباها. قرأ الجمهور: نطمس بكسر الميم. وقرأ أبو رجاء: بضمها. وهما لغتان، والظاهر أن يراد بالوجوه مدلولها الحقيقي، وأما طمسها فقال ابن عباس وعطية العوفي: هو أن تزال العينان خاصة منها وترد في القفا، فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى. وعلى هذا يكون ذلك على حذف مضاف أي: من قبل أن نطمس عيون وجوه، ولا يراد بذلك مطلق وجوه، بل المعنى وجوهكم. وقالت طائفة: طمس الوجوه أن يعفى آثار الحواس منها فترجع كسائر الأعضاء في الخلو من آثار الحواس منها، والرد على الإدبار هو بالمعنى أي: خلوه من الحواس. دثر الوجه لكونه عابرا بها، وحسن هذا القول الزمخشري وجوزه وأوضحه، فقال: إن نطمس وجوها أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم، فنردها على أدبارها، فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الإقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بالعقابين أحدهما عقيب الآخر ردها على أدبارها بعد طمسها، فالمعنى: أن نطمس وجوها فننكسها الوجوه إلى خلف، والإقفاء إلى قدام انتهى. والطمس بمعنى المحو الذي ذكره مروي عن ابن عباس، واختاره القتبي. وقال قتادة والضحاك: معناه نعمى أعينها. وذكر الوجوه وأراد العيون، لأن الطمس من نعوت العين. قال تعالى: * (فطمسنا أعينهم) *. ويروى هذا أيضا عن ابن عباس. وقال الفراء: طمس الوجوه جعلها منابت للشعر كوجوه القردة. وقيل: ردها إلى صورة بشيعة كوجوه الخنازير والقردة. وقال مجاهد والسدي والحسن. ذلك تجوز، والمراد وجوه الهدى والرشد، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها، والرد على الإدبار التصيير إلى الكفر. وقال ابن زيد: الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها، وطمسها إخراجهم منها. والرد على الإدبار رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولا. وحسن الزمخشري هذا القول، فقال: ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، وتكسوها صغارهم وأدبارهم، أو نردهم إلى حيث جاؤوا منه. وهي أذرعات الشام، يريد إجلاء بني النضير انتهى.
* (أو نلعنهم) * هو معطوف على قوله: أن نطمس. وظاهر اللعنة هو المتعارف كما في قوله: * (من لعنه الله وغضب عليه) *. وقال الحسن: معناه نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت. وقال ابن عطية: هم أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت بالصيد، وكانت لعنتهم إن مسخوا خنازير وقردة. وقيل: معناه نهيمهم في التيه حتى يموت أكثرهم.
وظاهر قوله: من قبل أن نطمس أو نلعن، أن ذلك يكون في الدنيا. ولذلك روي أن عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم) قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه فأسلم وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي. وقال
278

مالك: كان إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية، فوضع كفه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي. وقيل: الطمس المسخ لليهود قبل يوم القيامة ولا بد. وقيل: المراد أنه يحل بهم في القيامة، فيكون ذلك أنكى لهم لفضيحتهم بين الأولين والآخرين، ويكون ذلك أول ما عجل لهم من العذاب. وهذا إذا حمل طمس الوجوه على الحقيقة، وإما إن أريد بذلك تغيير أحوال وجهائهم أو وجوه الهدى والرشد، فقد
وقع ذلك. وإن كان الطمس غير ذلك فقد حصل اللعن، فإ نهم ملعونون بكل لسان. وتعليق الإيمان بقبلية أحد أمرين لا يلزم منه وقوعهما، بل متى وقع أحدهما صح التعليق، ولا يلزم من ذلك تعيين أحدهما. وقيل: الوعيد مشروط بالإيمان، وقد آمن منهم ناس. ومن قبل: متعلق بآمنوا، وعلى أدبارها متعلق بفنردها.
وقال أبو البقاء: على أدبارها حال من ضمير الوجوه، والضمير المنصوب في نلعنهم.
قيل: عائد على الوجوه إن أريد به الوجهاء، أو عائد على أصحاب الوجوه، لأن المعنى: من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو على الذين أوتوا الكتاب على طريق الالتفات، وهذا عندي أحسن. ومحسن هذا الالتفات هو أنه تعالى لما ناداهم كان ذلك تشريفا لهم، وهز السماع ما يلقيه إليهم، ثم ألقى إليهم الأمر بالإيمان بما نزل، ثم ذكر أن الذي نزل هو مصدق لما معهم من كتاب، فكان ذلك أدعى إلى الإيمان، ثم ذكر هذا الوعيد البالغ فحذف المضاف إليه من قوله: من قبل أن نطمس وجوها والمعنى: وجوهكم، ثم عطف عليه قوله: أو نلعنهم، فأتى بضمير الغيبة، لأن الخطاب حين كان الوعيد بطمس الوجوه وباللعنة ليس لهم ليبقى التأنيس والهم والاستدعاء إلى الإيمان غير مشوب بمفاجأة الخطاب الذي يوحش السامع ويروع القلب ويصير أدعى إلى عدم القبول، وهذا من جليل المخاطبة. وبديع المحاورة.
* (وكان أمر الله مفعولا) * الأمر هنا واحد الأمور، واكتفى به لأنه دال على الجنس، وهو عبارة عن المخلوقات: كالعذاب، واللعنة، والمغفرة. وقيل: المراد به المأمور، مصدر وقع موقع المفعول، والمعنى: الذي أراده أوجده. وقيل: معناه أن كل أمر أخر تكوينه فهو كائن لا محالة والمعنى: أنه تعالى لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله. وقال: وكان إخبارا عن جريان عادة الله في تهديده الأمم السالفة، وأن ذلك واقع لا محالة، فاحترزوا وكونوا على حذر من هذا الوعيد. ولذلك قال الزمخشري: ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا يعني: الطمس واللعنة.
* (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * قال ابن الكلبي: نزلت في وحشي وأصحابه، وكان جعل له على قتل حمزة رضي الله عنه أن يعتق، فلم يوف له، فقدم مكة وندم على الذي صنعه هو وأصحابه، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم): إنا قد ندمنا على ما صنعنا، وليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول بمكة: * (والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر) * الآيات وقد دعونا مع الله إلها آخر، وقتلنا النفس التي حرم الله، وزنينا، فلولا هذه الآيات لاتبعناك، فنزلت: * (إلا من تاب وءامن وعمل) * الآيات، فبعث بها إليهم فكتبوا: إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا، فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية، فبعث بها إليهم، فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته، فنزلت: * (قل ياأهل * عبادى * الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) * الآيات فبعث بها إليهم، فدخلوا في الإسلام، فقبل منهم ثم قال لوحشي:
أخبرني كيف قتلت حمزة)؟ فلما أخبره قال: * (حيث خرجت فول وجهك) * فلحق وحشي بالشام إلى أن مات.
وأجمع المسلمون على تخليد من مات كافرا في النار، وعلى تخليد من مات مؤمنا لم يذنب قط في الجنة. فأما تائب مات على توبته فالجمهور: على أنه لاحق بالمؤمن الذي لم يذنب، وطريقة بعض المتكلمين أنه في المشيئة. وأما مذنب مات قبل توبته فالخوارج تقول: هو مخلد في النار
279

سواء كان صاحب كبيرة أم صاحب صغيرة. والمرجئة تقول: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته. والمعتزلة تقول: إن كان صاحب كبيرة خلد في النار. وأما أهل السنة فيقولون: هو في المشيئة، فإن شاء غفر له وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه وأخرجه من النار وأدخله الجنة بعد مخلدا فيها.
وسبب هذا الاختلاف تعارض عمومات آيات الوعيد وآيات الوعد، فالخوارج جعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كافرين ومؤمنين غير تائبين. وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن الذي لم يذنب قط، أو المذنب التائب. والمرجئة جعلوا آيات الوعيد مخصوصة في الكفار، وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن تقيهم وعاصيهم. وأهل السنة خصصوا آيات الوعيد بالكفر وبمن سبق في علمه أنه يعذبه من المؤمنين العصاة، وخصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب، وبالتائب، وبمن سبق في علمه العفو عنه من المؤمنين العصاة. والمعتزلة خصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب، وبالتائب. وآيات الوعيد بالكافر وذي الكبيرة الذي لم يتب.
وهذه الآية هي الحاكمة بالنص في موضع النزاع، وهي جلت الشك، وردت على هذه الطوائف الثلاث. فقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به، والمعنى: أن من مات مشركا لا يغفر له، هو أصل مجمع عليه من الطوائف الأربع. وقوله: ويغفر ما دون ذلك، راد على الخوارج وعلى المعتزلة، لأن ما دون ذلك عام تدخل فيه الكبائر والصغائر. وقوله: لمن يشاء راد على المرجئة، إذ مدلوله أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم على ما شاء تعالى، بخلاف ما زعموه بأن كل مؤمن مغفور له. وأدلة هؤلاء الطوائف مذكورة في علم أصول الدين. وقد رامت المعتزلة والمرجئة رد هذه الآية إلى مقالاتهما بتأويلات لا تصح، وهي منافية لما دلت عليه الآية.
قال الزمخشري: (فإن قلت): قد ثبت أن الله عز وعلا يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة، فما وجه قوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء؟ (قلت): الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهين إلى قوله: لمن يشاء كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك. على أن المراد بالأول من لم يتب، وبالثاني من تاب. ونظيره قولك: إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يستأهله انتهى كلامه. فتأول الآية على مذهبه. وقوله: قد ثبت أن الله عز وعلا يغفر الشرك لمن تاب عنه، هذا مجمع عليه. وقوله: وإنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة. فنقول له: وأين ثبت هذا؟ وإنما يستدلون بعمومات تحتمل التخصيص، كاستدلالهم بقوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) * الآية، وقد خصصها ابن عباس بالمستحل ذلك وهو كافر. وقوله: قال: فجزاؤه إن جازاه الله. وقال: الخلود يراد به المكث الطويل لا الديمومة لا إلى نهاية، وكلام العرب شاهد بذلك. وقوله: إن الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهين إلى قوله: لمن يشاء، إن عنى أن الجار يتعلق بالفعلين، فلا يصح ذلك. وإن عنى أن يقيد الأول بالمشيئة كما قيد
الثاني فهو تأويل. والذي يفهم من كلامه أن الضمير الفاعل في قوله: يشاء عائد على من، لا على الله. لأن المعنى عنده: أن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء أن لا يغفر له بكونه مات على الشرك غير تائب منه، ويغفر ما دون الشرك من الكبائر لمن يشاء أن يغفر له بكونه تاب منها. والذي يدل عليه ظاهر الكلام أنه لا قيد في الفعل الأول بالمشيئة، وإن كانت جميع الكائنات متوقفا وجودها على مشيئته على مذهبنا. وأن الفاعل في يشاء هو عائد على الله تعالى، لا على من، والمعنى: ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له. وفي قوله تعالى: لمن يشاء، ترجئة عظيمة بكون من مات على ذنب غير الشرك لانقطع عليه بالعذاب، وإن مات مصرا.
قال عبد الله بن عمر: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا له أنه من أهل النار، حتى نزلت هذه الآية، فأمسكنا عن الشهادات. وفي حديث عبادة بن الصامت في آخره (ومن أصاب
280

شيئا من ذلك أي من المعاصي التي تقدم ذكرها فستره عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه) أخرجه مسلم. ويروى عن علي وغيره من الصحابة: ما في القرآن آية أحب إلينا من هذه الآية. وفي هذه الآية دليل على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع، وإلا كان مغايرا للمشرك، فوجب أن يكون مغفورا له. ولأن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود، فاليهود داخلة تحت اسم الشرك. فأما قوله: * (إن الذين ءامنوا والذين هادوا) * ثم قال: * (والذين أشركوا) * وقوله: * (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين) * * (ولم يكن * الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * فالمغايرة وقعت بحسب المفهوم اللغوي، والاتحاد بحسب المفهوم الشرعي.
وقد قال الزجاج: كل كافر مشرك، لأنه إذا كفر مثلا ة بنبي زعم أن هذه الآيات التي أتى بها ليست من عند الله، فيجعل ما لا يكون إلا لله لغير الله، فيصير مشركا بهذا المعنى. فعلى هذا يكون التقدير: إن الله لا يغفر كفر من كفر به، أو بنبي من أنبيائه. والمراد: إذ ألقى الله بذلك، لأن الإيمان يزيل عنه إطلاق الوصف بما تقدمه من الكفر بإجماع، ولقوله عليه السلام: * (الإسلام * يحب * ما * قبله) *.
* (ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) * أي اختلق وافتعل ما لا يمكن. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل الله ندا وقد خلقك).
* (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) *) * قال الجمهور: هم اليهود. وقال الحسن وابن زيد: هم النصارى. قال ابن مسعود: يزكي بعضهم بعضا لتقبل عليهم الملوك وسفلتهم، ويواصلوهم بالرشا. وقال عطية عن ابن عباس: قالوا آباؤنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا. وقال الضحاك والسدي في آخرين: أتى مرحب بن زيد وبحري بن عمرو وجماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم) ومعهم أطفالهم فقالوا: هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: نحن كهم ما أذنبنا بالليل يكفر عنا بالنهار، وما أذنبنا بالنهار يكفر عنا بالليل فنزلت. وقيل: هو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وعلى القول بأنهم اليهود والنصارى فتزكيهم أنفسهم. قال عكرمة، ومجاهد، وأبو مالك: كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم فيصلون بهم ويقولون: ليست لهم ذنوب، فإذا صلى بنا المغفور له غفر لنا. وقال قتادة والحسن: هو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه * (*) * قال الجمهور: هم اليهود. وقال الحسن وابن زيد: هم النصارى. قال ابن مسعود: يزكي بعضهم بعضا لتقبل عليهم الملوك وسفلتهم، ويواصلوهم بالرشا. وقال عطية عن ابن عباس: قالوا آباؤنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا. وقال الضحاك والسدي في آخرين: أتى مرحب بن زيد وبحري بن عمرو وجماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم) ومعهم أطفالهم فقالوا: هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: نحن كهم ما أذنبنا بالليل يكفر عنا بالنهار، وما أذنبنا بالنهار يكفر عنا بالليل فنزلت. وقيل: هو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وعلى القول بأنهم اليهود والنصارى فتزكيهم أنفسهم. قال عكرمة، ومجاهد، وأبو مالك: كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم فيصلون بهم ويقولون: ليست لهم ذنوب، فإذا صلى بنا المغفور له غفر لنا. وقال قتادة والحسن: هو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * * (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) * وفي الآية دلالة على الغض ممن يزكي نفسه بلسانه ويصفها بزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله. وقوله صلى الله عليه وسلم): (والله إني لأمين في السماء، أمين في الأرض) حين قال له المنافقون: إعدل في القسمة، أكذاب لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، وشتان من شهد الله له بالتزكية، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم. قاله الزمخشري وفيه بعض تلخيص.
قال الراغب ما ملخصه: التزكية ضربان: بالفعل، وهو أن يتحرى فعل ما يظهره وبالقول، وهو الإخبار عنه بذلك ومدحه به. وحظر أن يزكي الإنسان نفسه، بل أن يزكي غيره، إلا على وجه مخصوص. فالتزكية إخبار بما ينطوي عليه الإنسان، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى.
* (بل الله يزكى من يشاء) *: بل إضراب عن تزكيتهم أنفسهم، إذ ليسوا أهلا لذلك. واعلم أن المزكي هو الله تعالى، وأنه تعالى هو المعتد بتزكيته، إذ هو العالم ببواطن الأشياء والمطلع على خفياتها. ومعنى يزكي من يشاء أي: من يشاء تزكيته بأن جعله طاهرا مطهرا، فذلك هو الذي يصفه الله تعالى بأنه مزكي.
* (ولا يظلمون فتيلا) * إشارة إلى أقل شيء كقوله: * (إن الله لا
281

يظلم مثقال ذرة) * فإذا كان تعالى لا يظلم مقدار فتيل، فكيف يظلم ما هو أكبر منه؟ وجوزوا أن يعود الضمير في: ولا يظلمون، إلى الذين يزكون أنفسهم، وأن يعود إلى من على المعنى، إذ لو عاد على اللفظ لكان: ولا يظلم وهو أظهر، لأنه أقرب مذكور، ولقطع بل ما بعدها عن ما قبلها. وقيل: يعود على المذكورين من زكى نفسه، ومن يزكيه الله. ولم يذكر ابن عطية غير هذا القول.
وقال الزمخشري: ولا يظلمون أي، الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم، أو من يشاء يثابون ولا ينقصون من ثوابهم ونحوه، فلا تزكوا أنفسكم
هو أعلم بمن اتقى انتهى. وقرأ الجمهور: ألم تر بفتح الراء. وقرأ السلمي: بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف. وقيل: هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لام الفعل، بل يسكنون بعده عين الفعل. وقرأ الجمهور: ولا يظلمون بالياء. وقرأت طائفة: ولا تظلمون بتاء الخطاب، وانتصاب فتيلا. قال ابن عطية: على أنه مفعول ثان، ويعني على تضمين تظلمون معنى ما يتعدى لاثنين، والمعنى: مقدار فتيل، وهو كناية عن أحقر شيء، وإلى أنه الخيط الذي في شق النواة ذهب ابن عباس وعطاء ومجاهد، وإلى أنه ما يخرج من بين الأصابع أو الكفين بالفتل ذهب ابن عباس أيضا. وأبو مالك والسدي، وإلى أنه نفس الشق ذهب الحسن.
* (انظر كيف يفترون على الله الكذب) * هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم). ولما خاطبه أولا بقوله: * (ألم تر) * أي ألا تعجب لهؤلاء الذين يزكون أنفسهم؟ خاطبه ثانيا بالنظر في كيفية افترائهم الكذب على الله، وأتى بصيغة يفترون الدالة على الملابسة والديمومة، ولم يخص الكذب في تزكيتهم أنفسهم، بل عمم في ذلك وفي غيره. وأي ذنب أعظم ممن يفتري على الله الكذب * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * فمن أظلم ممن كذب على الله.
وكيف: سؤال عن حال، وانتصابه على الحال، والعامل فيه يفترون، والجملة في موضع نصب بانظر، لأن انظر معلقة. وقال ابن عطية: وكيف يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون؟ ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله: يفترون انتهى. أما قوله: يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون فصحيح على ما قررناه، وأما قوله ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله يفترون، فهذا لم يذهب إليه أحد، لأن كيف ليست من الأسماء التي يجوز الابتداء بها، وإنما قوله: كيف يفترون على الله الكذب في التركيب نظير كيف يضرب زيد عمرا، ولو كانت مما يجوز الابتداء بها ما جاز أن يكون مبتدأ في هذا التركيب، لأنه ذكر أن الخبر هي الجملة من قوله: يفترون، وليس فيها رابط يربط هذه الجملة بالمبتدأ، وليست الجملة نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى رابط. فهذا الذي قال فيه: ويصح، هو فاسد على كل تقدير.
* (وكفى به إثما مبينا) * تقدم الكلام في نظير وكفى به. والضمير في به، عائد على الافتراء، وهو الذي أنكر عليهم. وقيل: على الكذب. وقال الزمخشري: وكفى بزعمهم لأنه قال: (كيف يفترون على الله الكذب) في زعمهم أنهم عند الله أزكياء، وكفى بزعمهم هذا اثما مبينا من بين سائر آثامهم انتهى. فجعل افتراءهم الكذب مخصوصا بالتزكية، وذكرنا نحن أنه في هذا وفي غيره، وانتصاب اثما على التمييز، ومعنى مبينا أي: بينا واضحا لكل أحد.
وقال ابن عطية: وكفى به خبر في ضمنه تعجب وتعجيب من الأمر، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب أن يكتفي لهم بهذا الكذب اثما، ولا يطلب لهم غيره، إذ هو موبق ومهلك انتهى. وفي ما ذكر من أن الباء دخلت لتدل على معنى الأمر بالتعجب نظر، وقد أمعنا الكلام في قوله.
(وكفى بالله وليا) فيطالع هناك. * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) * أجمعوا أنها في اليهود. وسبب نزولها أن كعب بن الأشرف ويحيى بن أخطب وجماعة معهما وردوا مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا. وقال أبو سفيان: أنحن
282

أهدى سبيلا أم محمد؟ فقال كعب: ماذا يقول محمد؟ قالوا: يأمر بعبادة الله وحده، وينهى عن الشرك. قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت نسقي الحاج، ونقرى الضيف، ونفك العاني، وذكروا أفعالهم. فقال: أنتم أهدى سبيلا. وفي بعض ألفاظ هذا السبب خلاف قاله ابن عباس. وقال عكرمة، خرج كعب في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد، والكتاب هنا التوراة على قول الجمهور، ويحتمل أن يكون التوراة والأنجيل.
والجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش قاله: عكرمة وغيره. أو الجبت هنا حيي، والطاغوت كعب، قاله: ابن عباس أيضا. أو الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، قاله: مجاهد، والشعبي وروى عن عمر والجبت الساحر، والطاغوت الشيطان قاله: زيد بن أسلم. أو الجبت الساحر، والطاغوت الكاهن، قاله: رفيع وابن جبير. أو الجبت الكاهن، والطاغوت الشيطان، قاله: ابن جبير أيضا. أو الجبت الكاهن، والطاغوت الساحر، قاله: ابن سيرين. أو الجبت الشيطان، والطاغوت الكاهن قاله: قتادة. أو الجبت كعب، والطاغوت الشيطان كان في صورة انسان، أو الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله، والطاغوت الشيطان قاله: الزمخشري. أو الجبت والطاغوت كل معبود من دون الله من حجر، أو صورة، أو شيطان قاله: الزجاج، وابن قتيبة.
وأورد بعض المفسرين الخلاف مفرقا فقال: الجبت السحر قاله: عمر، ومجاهد، والشعبي. أو الأصنام رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء، أو كعب بن الأشرف. رواه الضحاك، عن ابن عباس. وليث، عن مجاهد. أو الكاهن روى عن ابن عباس، وبه قال: مكحول، وابن سيرين. أو الشيطان قاله: ابن جبير في رواية، وقتادة والسدي أو الساحر قاله: أبو العالية وابن زيد. وروى أبو بشر عن ابن جبير قال: الجبت الساحر بلسان الحبشة، وأما الطاغوت فالشيطان قاله: عمر، ومجاهد في رواية الشعبي وابن زيد. أو المترجمون بين يدي الأصنام رواه العوفي عن ابن عباس، أو كعب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال: الضحاك، والفراء. أو الكاهن قاله عكرمة أو الساحر، روى عن ابن عباس، وابن سيرين، ومكحول، أو كل ما عبد من دون الله قاله: مالك. وقال قوم: الجبت والطاغوت مترادفان على معنى واحد، والجمهور وأقوال المفسرين على خلاف ذلك، وأنهما اثنان. وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) الكلام على المغيبات جبتا لكون علم الغيب يختص بالله تعالى. خرج أبو داود في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (الطرق والطيرة والعيافة من الجبت) الطرق الزجر، والعيافة الخط. فان الجبت والطاغوت الأصنام أو ما عبد من دون الله، فالإيمان بهما التصديق بأنهما آلهة يشركونهما في العبادة مع الله، وان كان حييا، وكعبا، أو جماعة من اليهود، أو الساحر، أو الكاهن، أو الشيطان، فالإيمان بهم عبارة عن طاعتهم وموافقتهم على ما هم عليه، ويكون من باب اطلاق ثمرة الإيمان وهي الطاعة على الإيمان.
* (ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين ءامنوا سبيلا) * الضمير في يقولون عائد على الذين أوتوا. وفي سبب النزول ان كعبا هو قائل هذه المقالة، والجملة من يؤمنون حال، ويقولون معطوف على يؤمنون فهي حال. ويحتمل أن يكون استئناف أخبار تبين التعجب منهم كأنه قال: ألا تعجب إلى حال الذين أوتوا نصيبا، فكأنه قيل: وما حالهم وهم قد أوتوا نصيبا من كتاب الله؟ فقال: يؤمنون بكذا، يقولون كذا. أي: أن أحوالهم متنافية. فكونهم أوتوا نصيبا من الكتاب يقتضي لهم أن لا يقعوا فيما وقعوا فيه، ولكن الحامل لهم على ذلك هو الحسد. واللام في للذين كفروا للتبليغ
283

متعلقة بيقولون. والذين كفروا هم قريش، والإشارة بهؤلاء إليهم، والذين آمنوا هم النبي وأمته. والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه، أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم.
* (أولئك الذين لعنهم الله) * إشارة إلى من آمن بالجبت والطاغوت وقال تلك المقالة، أبعدهم الله تعالى ومقتهم.
* (ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) * أي من ينصره ويمنعه من آثار اللعنة وهو العذاب العظيم.
* (أم لهم نصيب من الملك) * أم هنا منقطعة التقدير: بل ألهم نصيب من الملك انتقل من الكلام إلى كلام تام، واستفهم على الانكار أن يكون لهم نصيب من الملك. وحكى ابن قتيبة أن أم يستفهم بها ابتداء. وقال بعض المفسرين. أم هنا بمعنى بل، وفسروا على سبيل الاخبار أنهم ملوك أهل الدنيا وعتو وتنعم لا يبغون غير ذلك، فهم بخلاء حريصون على أن. لا يكون ظهور لغيرهم. والمعنى على القول الأول: ألهم نصيب من الملك؟ فلو كان لهم نصيب من الملك لبخلوا به. والملك ملك أهل الدنيا، وهو الظاهر. أو ملك الله لقوله: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الانفاق) وقيل: المال، لأنه به ينال الملك وهو أساسه. وقيل: استحقاق الطاعة. وقيل: النبوة. وقيل: صدق الفراسة ذكره الماوردي. والأفصح إلغاء اذن بعد حرف العطف الواو والفاء، وعليه أكثر القراء.
وقرأ عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس: لا يؤنوا بحذف النون على إعمال اذن. والناس هنا العرب، أو المؤمنون، أو النبي، أو من اليهود وغيرهم أقوال. والنقير: النقطة في ظهر النواة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، والسدي، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة في آخرين. وقيل: القشر يكون في وسط النواة، رواه التميمي عن ابن عباس. أو الخيط في وسط النواة، روى عن مجاهد، أو نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه رواه أبو العالية عن ابن عباس. أو حبة النواة التي في وسطها رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال الأزهري: الفتيل والنقير، والقطمير، يضرب مثلا للشيء التافة الحقير، وخصت الأشياء الحقيرة بقوله: (فتيلا في قوله: ولا يظلمون فتيلا) وهنا بقوله نقيرا الوفاق النظير من الفواصل.
* (ما ءاتاهم الله من فضله فقد ءاتينا ءال إبراهيم) * أم أيضا منقطعة فتقدر ببل. والهمزة قبل: للانتقال من كلام إلى كلام، والهمزة للاستفهام الذي يصحبه الانكار. أنكر عليهم أولا البخل، ثم ثانيا الحسد. فالبخل منع وصول خير من الإنسان إلى غيره، والحسد تمنى زوال ما أعطى الله الانسان من الخير وايتاؤه له. نعى الله تعالى عليهم تحليهم بهاتين الخصلتين الذميمتين، ولما كان الحسد شر الخصلتين ترقي إلى ذكره بعد ذكر البخل. والناس هنا النبي صلى الله عليه وسلم)، والفضل النبوة، قاله: ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، والضحاك، ومقاتل.
وقال ابن عباس، والسدي أيضا: والفضل ما أبيح له من النساء. وسبب نزول الآية عندهم أن اليهود قالت لكفار العرب: انظروا إلى هذا الذي يقول أنه بعث بالتواضع، وأنه لا يملأ بطنه طعاما، ليس همه إلا في النساء ونحو هذا، فنزلت. والمعنى: لم تخصونه بالحسد، ولا تحسدون آل إبراهيم يعني: سليمان وداود في أنهما أعطيا النبوة والكتاب، وأعطيا مع ذلك ملكا عظيما في أمر النساء، وهو ما روى أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولداود مائة امرأة. فالملك في هذه القول إباحة النساء، كأنه المقصود أولا بالذكر. وقال قتادة: الناس هنا العرب حسدتها بنو إسرائيل ان كان الرسول منها، والفضل هنا الرسول. والمعنى: لم يحسدون العرب على هذا النبي وقد أوتى أسلافهم أنبياء. وكتبا كالتوراة والزبور، وحكمة وهي الفهم في الدين ما لم ينص عليه الكتاب؟ وروى عن ابن عباس أنه قال: نحن الناس يريد قريشا.
* (فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة
284

وءاتيناهم ملكا عظيما) * أي ملك سليمان قاله: ابن عباس. وقال مجاهد: هو النبوة. وقال همام بن الحرث وأبو مسلمة وابن زيد هو التأييد بالملائكة. وقيل: الناس هنا الرسول، وأبو بكر، وعمر. والكتاب: التوراة والإنجيل أو هما، والزبور أقوال، والحكمة النبوة قاله: السدي ومقاتل. أو الفقه في الدين قاله أبو سليمان الدمشقي. وقيل: الملك العظيم هو الجمع بين سياسة الدنيا وشرع الدين ذكره الماوردي. وقال الزمخشري: أم يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم، فقد آتينا الزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله لكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم)، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتى أسلافه. وعن ابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف، وداود، وسليمان، انتهى كلامه. وهو كلام حسن.
* (فمنهم من ءامن به ومنهم من صد عنه) * أي: من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من كفر كقوله: (فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) قاله السدي: أو فمن آل إبراهيم من آمن بالكتاب، أو فمن اليهود المخاطبين بقوله: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا) من آمن به أي بالقرآن، وهو المأمور بالإيمان به في قوله: بما نزلنا قاله مجاهد، ومقاتل، والفراء، والجمهور ولذلك ارتفع الطمس ولم يقع. أو فمن اليهود من آمن بالفضل الذي أوتيه الرسول صلى الله عليه وسلم) أو العرب على ما تقدم. أو فمن اليهود من آمن به، أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم. أو فمن اليهود من آمن برسول الله، ومنهم من أنكر نبوته. والظاهر أنه تعالى لما أنكر على اليهود حسدهم الناس على فضل الله الذي آتاهم، أتى بما بعده على سبيل الاستطراد والنظر والاستدلال عليهم بأنه لا ينبغي لكم أن تحسدوا فقد جاز أسلافكم من الشرف ما
ينبغي أن لا تحسدوا أحدا.
وتضمنت هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم) في كونهم يحسدونه ولا يتبعونه، فذكر أنهم أيضا مع أسلافهم وأنبيائهم انقسموا إلى مؤمن وكافر، هذا وهم أسلافهم فكيف بنبي ليس هو منهم؟.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس، وابن جبير، وعكرمة، وابن يعمر، والجحدري: ومن صد عنه برفع الصاد مبنيا للمفعول. وقرأ أبي وأبو الحوراء وأبو رجاء والحوقي، بكسر الصاد مبنيا للمفعول. والمضاعف المدغم الثلاثي يجوز فيه إذا بني للمفعول ما جاز في باع إذا بني للمفعول، فتقول: حب زيد بالضم، وحب بالكسر. ويجوز الاشمام. والصد ليس مقابلا للإيمان إلا من حيث المعنى، وكان المعنى والله أعلم: فمنهم من آمن به واتبعه، ومنهم من كذب به وصد عنه.
* (وكفى بجهنم سعيرا) * أي احتراقا والتهابا أي لمن صد عنه. وسعيرا يميز وهو شدة توقد النار. والتقدير: وكفى بسعير جهنم سعيرا، وهو كناية عن شدة العذاب والعقوبة.
* (إن الذين كفروا بئاياتنا سوف نصليهم نارا) * لما ذكر قوله: ومنهم من صد عنه، وكفى بجهنم سعيرا أتبع ذلك بما أعد الله للكافرين بآياته، ثم بعد يتبع بما أعد للمؤمنين، وصار نظير وتسود وجوه، (فأما الذين اسودت وجوههم). وقرأ الجمهور نصليهم من أصلى. وقرأ حميد: نصليهم من صليت. وقرأ سلام ويعقوب: نصليهم بضم الهاء.
* (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * انتصاب على كل الظرف لأنه مضاف إلى ما المصدرية الظرفية، والعامل فيه بدلناهم، وهي جملة فيها معنى الشرط، وهي في موضع الحال، والعامل فيها نصليهم. والتبديل على معنيين: تبديل في الصفات مع بقاء العين، وتبديل في الذوات بأن تذهب العين وتجيء مكانها عين أخرى، يقال: هذا بدل هذا. والظاهر في الآية هذا المعنى الثاني. وأنه إذا نضج ذلك الجلد وتهري وتلاشى جيء بجلد آخر مكانه، ولهذا قال: جلودا غيرها. قال السدي: إن الجلود تخلق من اللحم، فإذا أحرق جلد بدله الله من
285

لحم الكافر جلدا آخر. وقيل: هي بعينها تعاد بعد إحراقها، كما تعاد الأجساد بعد البلى في القبور، فيكون ذلك عائدا إلى الصفة، لا إلى الذات. وقال الفضيل: يجعل النضج غير نضيج. وقيل: تبدل كل يوم سبع مرات. وقال الحسن: سبعين. وأبعد من ذهب إلى أن الجلود هي سرابيل من قطران تخالط جلودهم مخالطة لا يمكن إزالتها. فيبدل الله تلك السرابيل كل يوم مائة مرة. أو كما قيل: مائة ألف مرة. وسميت جلودا لملابستها الجلود. وأبعد أيضا من ذهب إلى أن هذا استعاره عن الدوام، كلما انتهى فقد ابتدأ من أوله، يعني: كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة، بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه. وقال ابن عباس: يلبسهم الله جلودا بيضاء كأنها قراطيس. وقال عبد العزيز بن يحيى: يلبس أهل النار جلودا تؤلمهم ولا تؤلم هي.
* (ليذوقوا العذاب) * أي ذلك التبديل كلما نضجت الجلود، هو ليذوقوا ألم العذاب. وأتى بلفظ الذوق المشعر بالإحساس الأول وهو آلم، فجعل كلما وقع التبديل كان لذوق العذاب بخلاف من تمرن على العذاب. وقال الزمخشري: ليذوقوا العذاب ليدوم لهم دونه ولا ينقطع، كقولك للعزيز: أعزك الله أي أدامك على عزك، وزادك فيه.
* (إن الله كان عزيزا حكيما) * أي عزيزا لا يغالب، حكيما يضع الأشياء مواضعها. وقال الزمخشري: عزيز لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين، حكيما لا يعذب إلا بعدل من يستحقه.
2 (* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيهآ أبدا لهم فيهآ أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا) *)) 2
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها * أبدا) * لما ذكر تعالى وعيد الكفار أعقب بوعد المؤمنين، وجاءت جملة الكفار مؤكدة بأن على سبيل تحقيق الوعيد المؤكد، ولم يحتج إلى ذلك في جملة المؤمنين، وأتى فيها بالسين المشعرة بقصر مدة التنفيس على سبيل تقريب الخير من المؤمن وتبشيره به.
* (لهم فيها أزواج مطهرة) * تقدم تفسير مثل هذا.
* (وندخلهم ظلا ظليلا) * قال ابن عطية: أي يقي من الحر والبرد. ويصح أن يريد أنه ظل لا ينتقل، كما يفعل ظل الدنيا فأكده بقوله: ظليلا لذلك ويصح أن يصفه بظليل لامتداده، فقد قال عليه السلام: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها) انتهى كلامه. وقال أبو مسلم الظليل: هو القوي المتمكن. قال: ونعت الشيء بمثل ما اشتق من لفظه يكون مبالغة كقولهم: ليل أليل، وداهية دهياء. وقال أبو عبد الله الرازي: وإنما قال ظل ظليلا لأن بلاد العرب في غاية الحرارة، فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة، ولهذا المعنى جعل كناية عن الراحة ووصفه بالظليل مبالغة في الراحة. وقال الزمخشري: ظليل صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه، كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم، وما أشبه ذلك وهو ما كان فينانا لا جوب فيه، ودائما لا تنسخه الشمس. وسجسجا لا حر فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة رزقنا الله بتوفيقه ما
286

يزلف إليه التقيؤ تحت ذلك الظل. وفي قراءة عبد الله: سيدخلهم بالياء انتهى. وقال الحسن: قد يكون ظل ليس بظليل يدخله الحر والشمس، فلذلك وصف ظل الجنة بأنه ظليل. وعن الحسن: ظل أهل الجنة يقي الحر والسموم، وظل أهل النار من يحموم لا بارد ولا كريم. ويقال: إن أوقات الجنة كلها سواء اعتدال، لا حر فيها ولا
برد. وقرأ النخعي وابن وثاب: سيدخلهم بالياء، وكذا ويدخلهم ظلا، فمن قرأ بالنون وهم الجمهور فلاحظ قوله في وعيد الكفار: * (سوف نصليهم) * ومن قرأ بالياء لاحظ قوله: * (إن الله كان عزيزا حكيما) * فأجراه على الغيبة.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنواعا من الفصاحة والبيان والبديع. الاستفهام الذي يراد به التعجب في: ألم تر في الموضعين. والخطاب العام ويراد به الخاص في: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا وهو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم) ابن صوريا وكعبا وغيرهما من الأحبار إلى الإيمان حسب ما في سبب النزول. والاستعارة في قوله: من قبل أن نطمس وجوها، في قول من قال: هو الصرف عن الحق، وفي: ليذوقوا العذاب، أطلق اسم الذوق الذي هو مختص بحاسة اللسان وسقف الحلق على وصول الألم للقلب. والطباق في: فتردها على أدبارها، والوجه ضد القفا، وفي للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا، وفي: إن الذين كفروا والذين آمنوا، وفي: من آمن ومن صد، وهذا طباق معنوي. والاستطراد في: أو نلعنهم كما لعن أصحاب السبت. والتكرار في: يغفر، وفي: لفظ الجلالة، وفي: لفظ الناس، وفي: آتينا وآتيناهم، وفي: فمنهم ومنهم، وفي: جلودهم وجلودا، وفي: سندخلهم وندخلهم. والتجنيس المماثل في: نلعنهم كما لعنا وفي: لا يغفر ويغفر، وفي: لعنهم الله ومن يلعن الله، وفي: لا يؤتون ما آتاهم آتينا وآتيناهم وفي: يؤمنون بالجبت وآمنوا أهدى. والتعجب: بلفظ الأمر في قوله: انظر كيف يفترون. وتلوين الخطاب في: يفترون أقام المضارع مقام الماضي إعلاما أنهم مستمرون على ذلك. والاستفهام الذي معناه التوبيخ والتقريع في: أم لهم نصيب وفي: أم يحسدون. والإشارة في: أولئك الذين. والتقسيم في: فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه. والتعريض في: فإذن لا يؤتون الناس نقيرا عرض بشدة بخلهم. وإطلاق الجمع على الواحد في: أم يحسدون الناس إذا فسر بالرسول، وإقامة المنكر مقام المعرف لملاحظة الشيوع. والكثرة في: سوف نصليهم نارا. والاختصاص في: عزيزا حكيما. والحذف في: مواضع.
(* (إن الله يأمركم أن تؤدوا الاحمانات إلىأهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا * يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الا مر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الا خر ذالك خير وأحسن تأويلا * ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذآ أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم
287

ثم جآءوك يحلفون بالله إن أردنآ إلا إحسانا وتوفيقا * أولائك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم فىأنفسهم قولا بليغا) *))
) *
الزعم: قول يقترن به الاعتقاد الظني. وهو بضم الزاي وفتحها وكسرها. قال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي:
* فإن تزعميني كنت أجهل فيكم
*
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
*
وقال ابن دريد: أكثر ما يقع على الباطل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم): (مطية الرجل زعموا). وقال الأعشى:
* ونبئت قيسا ولم أبله
*
كما زعموا خير أهل اليمن
*
فقال الممدوح وما هو إلا الزعم وحرمه. وإذا قال سيبويه: زعم الخليل، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به، وكان أقوى. وذكر صاحب العين: أن الأحسن في زعم أن توقع على أن قال، قال. وقد توقع في الشعر على الاسم. وأنشد بيت أبي ذؤيب هذا وقول الآخر:
* زعمتني شيخا ولست بشيخ
*
إنما الشيخ من يدب دبيبا
*
ويقال: زعم بمعنى كفل، وبمعنى رأس، فيتعدى إلى مفعول واحد مرة، وبحرف جر أخرى. ويقال: زعمت الشاة أي سمنت، وبمعنى هزلت، ولا يتعدى. التوفيق: مصدر وفق، والوفاق والوفق ضد المخالفة.
* (إن الله يأمركم أن تؤدوا الاحمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) * سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقاله: مجاهد والزهري وابن جريج ومقاتل ما ذكروا في قصة مطولة مضمونها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أخذ مفتاح الكعبة من سادنيها عثمان بن طلحة، وابن عمه شيبة بن عثمان
بعد تأب منن عثمان ولم يكن أسلم، فسأل العباس الرسول صلى الله عليه وسلم) أن يجمع له بين السقاية والسدانة، فنزلت. فرد المفتاح إليهما وأسلم عثمان. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم): (خذوها ابني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم). وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وقاله: زيد بن أسلم،
288

ومكحول، واختاره أبو سليمان الدمشقي: نزلت في الأمراء أن يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم الله من أمر رعيته. وقيل: نزلت عامة، وهو مروي عن: أبي، وابن عباس، والحسن، وقتادة.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين، وذكر عمل الصالحات، نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة، فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أذاء الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين. ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار، ثم يشتغل بحال غيره، أمر بأداء الأمانة أولا ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق. والظاهر في: يأمركم أن الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة.
وقال ابن جريج: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم) في شأن مفتاح الكعبة. وقال علي، وابن أسلم، وشهر، وابن زيد: خطاب لولاة المسلمين خاصة، فهو للنبي صلى الله عليه وسلم) وأمرائه، ثم يتناول من بعدهم. وقال ابن عباس: في الولاة أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه، ويردوهن إلى الأزواج. وقيل: خطاب لليهود أمروا برد ما عندهم من الأمانة، من نعت الرسول أن يظهروه لأهله، إذ الخطاب معهم قبل هذه الآية. ونقل التبريزي: أنها خطاب لأمراء السرايا بحفظ الغنائم ووضعها في أهلها. وقيل: ذلك عام فيما كلفه العبد من العبادات. والأظهر ما قدمناه من أن الخطاب عام يتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، وعدل الحكومات. ومنه دونهم من الناس في الودائع، والعواري، والشهادات، والرجل يحكم في نازلة. قال ابن عباس: لم يرخص الله لموسر ولا معسر أن يمسك الأمانة.
وقرئ: أن تؤدوا الأمانة على التوحيد، وأن تحكموا، ظاهره: أن يكون معطوفا على أن تؤدوا، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا. وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا وجعله كقوله: * (ربنا ءاتنا فى الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة) * * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا) * * (سبع سماوات * ومن الارض مثلهن) * ففصل في هذه الآية بين الواو والمعطوف بالمجرور. وأبو علي يخص هذا بالشعر، وليس بصواب. فإن كان المعطوف مجرورا أعيد الجار نحو: امرر بزيد وغدا بعمرو. ولكن قوله: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا، ليس من هذه الآيات، لأن حرف الجر يتعلق في هذه الآيات بالعامل في المعطوف، والظرف هنا ظاهره أنه منصوب بأن تحكموا، ولا يمكن ذلك لأن الفعل في صلة أن، ولا يمكن أن ينتصب بالناصب لأن تحكموا لأن الأمر ليس واقعا وقت الحكم. وقد خرجه على هذا بعضهم. والذي يظهر أن إذا معمولة لأن تحكموا مقدرة، وأن تحكموا المذكورة مفسرة لتلك المقدرة، هذا إذا فرغنا على قول الجمهور. وأما إذا قلنا بمذهب الفراء فإذا منصوبة بأن تحكموا هذه الملفوظ بها، لأنه يجير: يعجبني العسل أن يشرب، فتقدم معمول صلة أن عليها.
* (إن الله نعما يعظكم به) * أصله: معم ما، وما معرفة تامة على مذهب سيبويه والكسائي. كأنه قال: نعم الشيء يعظكم به، أي شيء يعظكم به. ويعظكم صفة لشيء، وشئ هو المخصوص بالمدح وموصولة على مذهب الفارسي في أحد قوليه. والمخصوص محذوف التقدير: نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل، ونكرة في موضع نصب على التمييز و يعظكم صفة له على مذهب الفارسي في أحد قوليه، والمخصوص محذوف تقديره كتقدير ما قبله. وقد تأولت ما هنا على كل هذه الأقوال، وتحقيق ذلك في علم النحو. وقال ابن عطية: وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ربما، ومما في قوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) مما يحرك شفتيه وكقول الشاعر
289

* وإنا لمما نضرب الكبشر ضربة
*
على رأسه تلقى اللسان من الفم
*
ونحوه. وفي هذا هي بمنزلة ربما، وهي لها مخالفة في المعنى: لأن ربما معناها التقليل، ومما معناها التكثير. ومع أن ما موطئه، فهي بمعنى الذي. وما وطأت إلا وهي اسم، ولكن القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل انتهى كلامه. وهو كلام متهافت، لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسما، ومن حيث جعلها بمعنى الذي لا تكون مهيئة موطئة فتدافعا. وقرأ الجمهور: نعما بكسر العين اتباعا لحركة العين. وقرأ بعض القراء: نعما بفتح النون على الأصل، إذ الأصل نعم على وزن شهد. ونسب إلى أبي عمرو سكون العين، فيكون جمعا بين ساكنين.
* (إن الله كان سميعا) * أي لأقوالكم الصادرة منكم في الأحكام.
* (بصيرا) * برد الأمانات إلى أهلها.
* (بصيرا ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) * قيل: نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذكروا قصة طويلة مضمونها: أن عمارا أجار رجلا قد أسلم، وفر أصحابه حين أنذروا بالسرة فهربوا، وأقام الرجل وإن أميرها خالدا أخذ الرجل وماله، فأخبره عمار بإسلامه وإجارته
إياه فقال خالد: وأنت تجيز؟ فاستبا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير على أمير.
ومناسبتها لما قبلها أنه لما أمر الولاة أن يحكموا بالعدل أمر الرعية بطاعتهم، قال عطاء: أطيعوا الله في فريضته، والرسول في سنته. وقال ابن زيد: في أوامره ونواهيه، والرسول ما دام حيا، وسنته بعد وفاته. وقيل: فيما شرع، والرسول فيما شرح. وقال ابن عباس، وأبو هريرة، والسدي، وابن زيد: أولو الأمر هم الأمراء. وقال مجاهد: أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم). وقال التبريزي: المهاجرون والأنصار. وقيل: الصحابة والتابعون. وقيل: الخلفاء الأربع. وقال عكرمة: أبو بكر وعمر. وقال جابر، والحسن، وعطاء، وأبو العالية، ومجاهد أيضا: العلماء، واختاره مالك. وقال ميمون، ومقاتل، والكلبي، أمراء السرايا، أو الأئمة من أهل البيت قاله: الشيعة. أو علي وحده قالوه أيضا. والظاهر أنه كل من ولي أمر شيء ولاية صحيحة. قالوا: حتى المرأة يجب عليها طاعة زوجها، والعبد مع سيده، والولد مع والديه، واليتيم مع وصية فيما يرضى الله وله فيه مصلحة.
وقال الزمخشري: والمراد، بأولي الأمر منكم، أمراء الحق، لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله. وكان أول الخلفاء يقول: أطيعوني ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم. وعن أبي حازم: أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله وأولي الأمر منكم؟ قال: أليس قد نزعت منكم إذ خالفتم الحق بقوله: * (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول) *. وقيل: هم أمراء السرايا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم): (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني، ومن يعص أميري فقد عصاني) وقيل: هم العلماء الدينون الذين يعلمون الناس الدين، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر انتهى. وقال سهل التستري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدنانير، والدراهم، والمكاييل، والأوزان، والأحكام، والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد. وإذا نهى السلطان العالم أن يفتى فليس له أن يفتى، فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميرا جائرا. قيل: ويحمل قول سهل على أنه يترك الفتيا إذا خاف منه على نفسه.
290

وقال ابن خويز منداد: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان فيه طاعة، ولا تجب فيما كان فيه معصية. قال: ولذلك قلنا: أن أمراء زماننا لا تجوز طاعتهم، ولا معاونتهم، ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قبلهم، وتولية الإمامة والحسبة، وإقامة ذلك على وجه الشريعة. فإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فتصلى معهم تقية، وتعاد الصلاة فيما بعد. انتهى.
واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول من قال: بإمام معصوم بقوله: وأولي الأمر منكم. فإن الأمراء والفقهاء يجوز عليهم الغلط والسهو، وقد أمرنا بطاعتهم. ومن شرط الإمام العصمة فلا يجوز ذلك عليه، ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجبا، وكان هو يقطع التنازع، فلما أمر برد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة دون الإمام، دل على بطلان الإمامة. وتأويلهم: أن أولي الأمر علي رضي الله عنه فاسد، لأن أولي الأمر جمع، وعلي واحد. وكان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم)، وعلي لم يكن إماما في حياته، فثبت أنهم كانوا أمراء، وعلى المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروا بمعصية. فكذلك بعد موتهم في لزوم اتباعهم طاعتهم ما لم تكن معصية. وقال أبو عبد الله الرازي: وأولي الأمر منكم إشارة إلى الإجماع، والدليل عليه أنه أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر بطاعته على الجزم والقطع لا بد أن يكون معصوما عن الخطأ، وإلا لكان بتقدير إقدامه على الخطأ مأمورا باتباعه، والخطأ منهى عنه، فيؤدي إلى اجتماع الأمر والنهي في فعل واحد باعتبار واحد، وأنه محال. وليس أحد معصوما بعد الرسول إلا جمع الأمة أهل العقد والحل، وموجب ذلك أن إجماع الأمة حجة.
* (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول) * قال مجاهد، وقتادة، والسدي، والأعمش، وميمون بن مهران: فردوه إلى كتاب الله، وسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم) في حياته، وإلى سنته بعد وفاته. وقال قوم منهم الأصم: معناه قولوا: الله ورسوله أعلم. وقال الزمخشري: فإن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر في شيء من أمور الذين فردوه ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة انتهى. وقد استدل نفاة القياس ومثبتوه بقوله: فردوه إلى الله ورسوله، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الفقه.
* (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر) * شرط وجوابه محذوف، أي: فردوه إلى الله والرسول. وهو شرط يراد به الحض على اتباع الحق، لأنه ناداهم أولا بيا أيها الذين آمنوا، فصار نصير: إن كنت ابني فأطعني. وفيه إشعار بوعيد من لم يرد إلى الله والرسول.
* (ذالك خير وأحسن تأويلا) * ذلك الرد إلى الكتاب والسنة، أو إلى أن تقولوا: الله ورسوله أعلم. وقال قتادة، والسدي، وابن زيد: أحسن عاقبة. وقال مجاهد: أحسن جزاء. وقيل: أحسن تأويلا من تأويلكم أنتم. وقالت فرقة: المعنى: أن الله ورسوله أحسن نظرا وتأويلا منكم إذا انفردتم بتأويلكم.
* (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * ذكر في سبب نزولها قصص طويل ملخصه: أن أبا بردة الأسلمي كان كاهنا يقضي بين اليهود، فتنافر إليه نفر من أسلم، أو أن قيسا الأنصاري أحد من يدعي الإسلام ورجلا من اليهود تداعيا إلى الكاهن وتركا الرسول صلى الله عليه وسلم) بعدما دعا اليهودي إلى الرسول، والأنصاري يأبى إلا الكاهن. أو أن منافقا ويهوديا اختصما، فاختار اليهودي الرسول صلى الله عليه وسلم)، واختار المنافق كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، ونجاكما إلى الرسول، فقضى لليهودي، فخرجا ولزمه المنافق، وقال: ننطلق إلى عمر، فانطلقا إليه فقال اليهودي: قد تحاكمنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم))
291

فلم يرض بقضائه، فأقر المنافق بذلك عند عمر، فقتله عمر وقال: هكذا أقضي فيمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر، ذكر أنه يعجب بعد ورود هذا الأمر من حال من يدعي الإيمان ويريد أن
يتحاكم إلى الطاغوت ويترك الرسول. وظاهر الآية يقتضي أن تكون نزلت في المنافقين، لأنه قال: يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، فلو كانت في يهود أو في مؤمن ويهودي كان ذلك بعيدا من لفظ الآية، إلا إن حمل على التوزيع، فيجعل بما أنزل إليك في منافق، وما أنزل من قبلك في يهودي، وشملوا في ضمير يزعمون فيمكن. وقال السدي: نزلت في المنافقين من قريظة والنضير، تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم، إذ كانت النضير في الجاهلية تدي من قتلت وتستقيه إذا قتلت قريظة منهم، فأبت قريظة لما جاء الإسلام، وطلبوا المنافرة، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، ودعا المنافقون إلى بردة الكاهن، فنزلت. وقال الحسن: احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت. أو لسبب اختلافهم في أسباب النزول اختلفوا في الطاغوت. فقيل: كعب بن الأشرف. وقيل: الأوثان. وقيل: ما عبد من دون الله. وقيل: الكهان.
* (وقد أمروا أن يكفروا به) * جملة حالية من قوله: يريدون، ويريدون حال، فهي حال متداخل. وأعاد الضمير هنا مذكرا، وأعاده مؤنثا في قوله: اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها. وقرأ بها هنا عباس بن الفضل على التأنيث، وأعاد الضمير كضمير جمع العقلاء في قوله: * (أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم) *.
* (ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) * ضلالا ليس جاريا على يضلهم، فيحتمل أن يكون جعل مكان إضلال، ويحتمل أن يكون مصدر المطاوع يضلهم، أي: فيضلون ضلالا بعيدا. وقرأ الجمهور: بما أنزل إليك وما أنزل مبنيا للمفعول فيهما. وقرئ: مبنيا للفاعل فيهما.
* (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) * قرأ الحسن: تعالوا بضم اللام. قال أبو الفتح: وجهها أن لام الفعل من تعاليت حذفت تخفيفا، وضمت اللام التي هي عين الفعل لوقوع واو الجمع بعدها. ولظهر الزمخشري حذف لام الكلمة هنا بحذفها في قولهم: ما باليت به بالة، وأصله: بالية كعافية. وكمذهب الكسائي في آية، أن أصلها أيلة فحذفت اللام. قال: ومنه قول أهل مكة: تعالي بكسر اللام للمرأة. وفي شعر الحمداني:
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
والوجه: فتح اللام انتهى. وقول الزمخشري: قول أهل مكة تعالي يحتمل أن تكون عربية قديمة، ويحتمل أن يكون ذلك مما غبرته عن وجهه العربي فلا يكون عربيا. وأما قوله في شعر الحمداني فقد صرح بعضهم بأنه أبو فراس، وطالعت ديوانه جمع الحسين بن خالويه فلم أجد ذلك فيه. وبنو حمدان كثيرون، وفيهم عدة من الشعراء، وعلى تقدير
292

ثبوت ذلك في شعرهم لا حجة فيه، لأنه لا يستشهد بكلام المولدين. والظاهر من قوله: رأيت المنافقين أنها من رؤية العين، صدوا مجاهرة وتصريحا، ويحتمل أن يكون من رؤية القلب أي: علمت. ويكون صدهم مكرا وتخابثا ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه. وصدودا: مصدر لصد، وهو هنا متعد بحرف الجر، وقد يتعدى بنفسه نحو: (قصدهم عن السبيل) وقياس صد في المصدر فعل نحو: صده صدا. وحكى ابن عطية: أن صدودا هنا ليس مصدرا، والمصدر عنده صد.
* (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) * قال الزجاج: كيف في موضع نصب تقديره: كيف تراهم، أو في موضع رفع أي: فكيف صنيعهم والمصيبة. قال الزجاج: قتل عمر الذي رد حكم الرسول صلى الله عليه وسلم). وقيل: كل مصيبة تصيب المنافقين في الدنيا والآخرة، ثم عاد الكلام إلى ما سبق يخبر عن فعلهم فقال: ثم جاؤوك يحلفون بالله. وقيل: هي هدم مسجد الضرار، وفيه نزلت الآية، حلفوا دفاعا عن أنفسهم ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة وموافقة الكتاب. وقيل: ترك الاستعانة بهم وما يلحقهم من الذل من قوله: فقل إن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا، والذي قدمت أيديهم ردهم حكم الرسول أو معاصيهم المتقدمة أو نفاقهم واستهزاؤهم ثلاثة أقوال. وقيل في قوله: إلا إحسانا وتوفيقا أي: ما أردنا بطلب دم صاحبنا الذي قتله عمر إلا إحسانا إلينا، وما يوافق الحق في أمرنا. وقيل: ما أردنا بالرفع إلى عمر إلا إحسانا إلى صاحبنا بحكومة العدل، وتوفيقا بينه وبين خصمه. وقيل: جاؤوا يعتذرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) من محاكمتهم إلى غيره ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحسانا بالتقريب في الحكم، وتوفيقا بين الخصوم، دون الحمل على الحق. وفي قوله: فكيف إذا أصابتهم مصيبة، وعيد لهم على فعلهم، وأنهم سيندمون عليه عند حلول بأس الله تعالى حين لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار.
* (أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم فى أنفسهم قولا بليغا) * أي: يعلم ما في قلوبهم من النفاق. والمعنى: يعلمه فيجازيهم عليه، أو يجازيهم على ما أسروه من الكفر، وأظهروه من الحلف الكاذب. وعبر بالعلم عن المجازاة. فأعرض عنهم: أي عن معاتبتهم وشغل البال بهم، وقبول إيمانهم وأعذارهم. وقيل: المعنى بالإعراض معاملتهم بالرفق والإناة، ففي ذلك تأديب لهم، وهو عتابهم. ولا يراد بالإعراض الهجر والقطيعة، فإن قوله: وعظهم يمنع من ذلك. وعظهم: أي خوفهم بعذاب الله وازجرهم، وأنكر عليهم أن يعودوا لمثل ما فعلوا.
والقول البليغ هو الزجر والردع. قال الحسن: هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق. ويتعلق قوله: في أنفسهم بقوله: قل على أحد معنيين، أي: قل لهم خاليا بهم لا يكون معهم أحد من غيرهم مسارا لأن النصح إذا كان في السر كان أنجح، وكان بصدد أن يقبل سريعا. ومعنى بليغا: أي مؤثرا فيهم. أو قل لهم في معنى أنفسهم النجسة المنطوية على النفاق قولا يبلغ منهم ما يزجرهم عن العود إلى ما فعلوا.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ثم تعلق قوله: في أنفسهم؟ (قلت): بقوله: بليغا أي: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم، مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعارا، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق، وأطلع قرنه، وأخبرهن أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين. وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان، وإسراركم الكفر وإضماره، فإن فعلتم ما
293

تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف انتهى كلامه. وتعليقه في أنفسهم بقوله: بليغا لا يجوز على مذهب البصريين، لأن معمول الصفة لا يتقدم عندهم على الموصوف.
لو قلت: هذا رجل ضارب زيدا لم يجز أن تقول: هذا زيدا رجل ضارب، لأن حق المعمول ألا يحل إلا في موضع يحل فيه العامل، ومعلوم أن النعت لا يتقدم على المنعوت، لأنه تابع، والتابع في ذلك بمذهب الكوفيين. وأما ما ذكره الزمخشري بعد ذلك من الكلام المسهب فهو من نوع الخطابة، وتحميل لفظ القرآن ما لا يحتمله، وتقويل الله تعالى ما لم يقله، وتلك عادته في تفسيره وهو تكثير الألفاظ. ونسبة أشياء إلى الله تعالى لم يقلها الله تعالى، ولا دل عليها اللفظ دلالة واضحة، والتفسير في الحقيقة إنما هو شرح اللفظ المستغلق عند السامع مما هو واضح عنده مما يرادفه أو يقاربه، أو له دلالة عليه بإحدى طرق الدلالات. وحكى عن مجاهد أن قوله: في أنفسهم متعلق بقوله: مصيبة، وهو مؤخر بمعنى التقديم، وهذا ينزه مجاهد أن يقوله، فإنه في غاية الفساد.
2 (* (ومآ أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما * فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فىأنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما * ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لاتيناهم من لدنآ أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما * ومن يطع الله والرسول فأولائك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وحسن أولائك رفيقا * ذالك الفضل من الله وكفى بالله عليما * ياأيها الذين ءامنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا * وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا) *)) 2
شجر الأمر: التبس، يشجر شجورا وشجرا، وشاجر الرجل غيره في الأمر نازعه فيه، وتشاجروا. وخشبات الهودج يقال لها شجار لتداخل بعضها ببعض. ورمح شاجر، والشجير الذي امتزجت مودته بمودة غيره، وهو من الشجر شبه
294

بالتفاف الأغصان. وقد تقدم ذكر هذه المادة في البقرة وأعيدت لمزيد الفائدة.
نفر الرجل ينفر نفيرا، خرج مجدا بكسر الفاء في المضارع وضمها، وأصله الفزع، يقال: نفر إليه إذا فزع إليه، أي طلب إزالة الفزع. والنفير النافور، والنفر الجماعة. ونفرت الدابة تفر بضم الفاء نفورا أي هربت باستعجال.
الثبة: الجماعة الاثنان والثلاثة في كلام العرب قاله: الماتريدي. وقيل: هي فوق العشرة من الرجال، وزنها فعلة. ولامها قيل: واو، وقيل: ياء، مشتقة من تثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه، كأنك جمعت محاسنه. ومن قال: إن لامها واو، جعلها من ثبا يثبو مثل حلا يحلو. وتجمع بالألف والتاء وبالواو والنون فتضم في هذا الجمع تاؤها، أو تكسر وثبة الحوض وسطه الذي يثوب الماء إليه، المحذوف منه عينه، لأنه من ثاب يثوب، وتصغيره ثويبة كما تقول في سه سييهة، وتصغير تلك ثبية. البطء التثبط عن الشيء. يقال: أبطأ وبطؤ مثل أسرع وسرع مقابله، وبطآن اسم فعل بمعنى بطؤ.
* (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * نبه تعالى على جلالة الرسل، وأن العالم يلزمهم طاعتهم، والرسول منهم تجب طاعته. ولام ليطاع لام كي، وهو استثناء مفرغ من المفعول من أجله أي: وما أرسلنا من رسول بشيء من الأشياء إلا لأجل الطاعة. وبإذن الله أي بأمره، قاله: ابن عباس. أو بعلمه وتوفيقه وإرشاده. وحقيقة الإذن التمكين مع العلم بقدر ما مكن فيه. والظاهر أن بإذن الله متعلق بقوله: ليطاع. وقيل: بأرسلنا أي: وما أرسلنا بأمر الله أي: بشريعته، ودينه وعبادته من رسول إلا ليطاع. قال ابن عطية: وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ، خاص المعنى، لأنا نقطع أن الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه أن لا يطيعوه، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم، وهو تخريج حسن. لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن وفقه لذلك، فكأنه أذن له انتهى. ولا يلزم ما ذكره من أن الكلام عام اللفظ خاص المعنى، لأن قوله: ليطاع مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله، ولا يلزم من الفاعل المحذوف أن يكون عاما، فيكون التقدير: ليطيعه العالم، بل المحذوف ينبعي أن يكون خاصا ليوافق الموجود، فيكون أصله: إلا ليطيعه من أردنا طاعته. وقال عبد الله الرازي: والآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعا في تلك الشريعة، ومتبوعا فيها، إذ لو كان لا يدعو إلا إلى شرع من قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعا، بل المطاع هو الرسول المتقدم الذي هو الواضع لتلك الشريعة، والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع انتهى. ولا يعجبني قوله: الواضع لتلك الشريعة، والأحسن أن يقال: الذي جاء بتلك الشريعة من عند الله.
* (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) * ظلموا أنفسهم بسخطهم لقضائك أو بتحاكمهم إلى الطاغوت، أو بجميع ما صدر عنهم من المعاصي. جاؤوك فاستغفروا الله بالإخلاص، واعتذروا إليك. واستغفر لهم الرسول أي: شفع لهم الرسول في غفران ذنوبهم. والعامل في إذ جاؤوك، والتفت في قوله: واستغفر لهم الرسول، ولم يجيء على ضمير الخطاب في جاؤوك تفخيما لشأن الرسول، وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله تعالى بمكان، وعلى أن هذا الوصف الشريف وهو إرسال الله إياه موجب لطاعته، وعلى أنه
295

مندرج في عموم قوله: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * ومعنى وجدوا: علموا، أي: بإخباره أنه قبل توبتهم ورحمهم.
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: فائدة ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم بأنهم بتحاكمهم إلى الطاغوت خالفوا حكم الله، وأساءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم)، فوجب عليهم أن يعتذروا ويطلبوا من الرسول الاستغفار، أو لما لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم التمرد، فإذا تابوا وجب أن يظهر منهم ما يزيد التمرد بأن يذهبوا إلى الرسول ويطلبوا منه الاستغفار، أو إذا تابوا بالتوبة أتوا بها على وجه من الخلل، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم) صارت مستحقة. والآية تدل على قبول توبة التائب لأنه قال بعدها: * (لوجدوا الله) * وهذا لا ينطبق على ذلك الكلام إلا إذا كان المراد من قوله: * (توابا رحيما) * قبول توبته انتهى. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه ثم
قال:
* يا خير من دفنت في الترب أعظمه
*
فطاب من طيبهن القاع والأكم
*
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
*
ثم قال: قد قلت: يا رسول الله فسمعنا قولك، ووعيت عن الله فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك الآية، وقد ظلمت نفسي وجئت أستغفر الله ذنبي، فاستغفر لي من ربي، فنودي من القبر أنه قد غفر لك.
* (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * قال مجاهد وغيره: نزلت فيمن أراد التحاكم إلى الطاغوت. ورجحه الطبري لأنه أشبه بنسف الآيات. وقيل: في شأن الرجل الذي خاصم الزبير في السقي بماء الحرة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم) قال: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك) فغضب وقال: (إن كان ابن عمتك، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم) واستوعب للزبير حقه فقال: احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر، ثم أرسل الماء). والرجل هو من الأنصار بدري. وقيل: هو حاطب بن أبي بلتعة. وقيل: نزلت نافية لإيمان الرجل الذي قتله عمر، لكونه رد حكم النبي صلى الله عليه وسلم)، ومقيمة عذر عمر في قتله، قال النبي صلى الله عليه وسلم): (ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن). وأقسم بإضافة الرب إلى كاف الخطاب تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم)، وهو التفات راجع إلى قوله: * (* جاؤوك) * ولا في قوله: فلا. قال الطبري: هي رد على ما تقدم تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله: وربك لا يؤمنون. وقال غيره: قدم لا على القسم اهتماما بالنفي، ثم كررها بعد توكيدا للاهتمام بالنفي، وكان يصح إسقاط لا الثانية، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي، ويذهب معنى الاهتمام. وقيل: الثانية زائدة، والقسم معترض بين حرف النفي والمنفي. وقال
296

الزمخشري: لا مزيدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في لئلا يعلم لتأكيد وجوب العلم. ولا يؤمنون جواب القسم. (فإن قلت): هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر لا في. لا يؤمنون. (قلت): يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه، وذلك قوله: * (فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم) * انتهى كلامه. ومثل الآية قول الشاعر:
* ولا والله لا يلقى لما بي
*
ولا للما بهم أبدا دواء
*
وحتى هنا غاية، أي: ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية، فإذا وجد ما بعد الغاية كانوا مؤمنين. وفيما شجر بينهم عام في كل أمر وقع بينهم فيه نزاع وتجاذب. ومعنى يحكموك، يجعلوك حكما. وفي الكلام حذف التقدير: فتقضي بينهم.
* (ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * أي ضيقا من حكمك. وقال مجاهد: شكا لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له البيان. وقال الضحاك: إثما أي: سبب إثم. والمعنى: لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم الرضا. وقيل: هما وحزنا، ويسلموا أي ينقادوا ويذعنوا لقضائك، لا يعارضون فيه بشيء قاله: ابن عباس والجمهور. وقيل: معناه ويسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك، ذكره الماوردي، وأكد الفعل بالمصدر على سبيل صدور التسليم حقيقة، وحسنه كونه فاصلة. وقرأ أبو السمال: فيما شجر بسكون الجيم، وكأنه فر من توالي الحركات، وليس بقوي لخفة الفتحة بخلاف الضمة والكسرة، فإن السكون بدلهما مطرد على لغة تميم.
* (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) * قالت اليهود لما لم يرض المنافق بحكم الرسول: ما رأينا أسخف من هؤلاء لا يؤمنون بمحمد ويتبعونه، ويطؤن عقبه، ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا، وبلغ القتل فينا سبعين ألفا. فقال ثابت بن قيس: لو كتب ذلك علينا لفعلنا فنزلت. وروي هذا السبب بألفاظ متغايرة والمعنى قريب.
ومعنى الآية: أنه تعالى لو فرض عليهم أن يقتلوا أنفسهم، إما أن يقتل نفسه بيده، أو يقتل بعضهم بعضا، أو أن يخرجوا من ديارهم كما فرض ذلك على بني إسرائيل حين استتيبوا من عبادة العجل لم يطع منهم إلا القليل، وهذا فيه توبيخ عظيم حيث لا يمتثل أمر الله إلا القليل. وقال السبيعي: لما نزلت قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال: (إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي) قال ابن وهب: الرجل القائل ذلك هو أبو بكر. وروي عنه أنه قال: لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي. وذكر النقاش: أنه عمر. وذكر أبو الليث السمرقندي: أن القائل منهم عمار، وابن مسعود، وثابت بن قيس.
والضمير في عليهم قيل: يعود على المنافقين، أي: ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة، وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم. وقيل: يعود على الناس مؤمنهم ومنافقهم. وكسر النون من أن، وضم الواو من أو، أبو عمرو. وكسرهما حمزة وعاصم، وضمهما باقي السبعة. وأن هنا يحتمل أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية على ما قرروا أن أن توصل بفعل الأمر.
وفي الآية دليل على صعوبة الخروج من الديار، إذ قرنه الله تعالى بقتل الأنفس، وقد خرج الصحابة المهاجرون من ديارهم وفارقوا أهاليهم حين أمرهم الله تعالى بالهجرة، وارتفع قليل، على البدل من الواو في فعلوه على مذهب البصريين، وعلى العطف على الضمير على قول الكوفيين
297

وبالرفع قرأ الجمهور. وقرأ أبي، وابن أي إسحاق، وابن عامر، وعيسى بن عمر: إلا قليلا بالنصب، ونص النحويون على أن الاختيار في مثل هذا التركيب اتباع ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل أو العطف، باعتبار المذهبين اللذين ذكرناهما.
وقال الزمخشري: وقرئ إلا قليلا بالنصب على أصل الاستثناء، أو على إلا فعلا قليلا انتهى. الأما النصب على أصل الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة. وأما قوله: على إلا فعلا قليلا فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع، ولقوله منهم فإنه تعلق على هذا التركيب: لو قلت ما ضربوا زيدا إلا ضربا قليلا منهم لم يحسن أن يكون منهم لا فائدة في ذكره. وضمير النصب في فعلوه عائد على أحد المصدرين المفهومين من قوله: أن اقتلوا أو اخرجوا. وقال أبو عبد الله الرازي: الكناية في قوله ما فعلوه عائد على القتل والخروج معا، وذلك لأن الفعل جنس واحد، وإن اختلفت صورته انتهى. وهو كلام غير نحوي.
* (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) * الضمير في: ولو أنهم مختص بالمنافقين، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا. قال الزمخشري: ما يوعظون به من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وطاعته، والانقياد لما يراه ويحكم به، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، لكان خيرا لهم في عاجلهم وآجلهم، وأشد تثبيتا لإيمانهم، وأبعد من الاضطراب فيه. وقال ابن عطية: ولو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيرا لهم، وتثبيتا معناه يقينا وتصديقا انتهى. وكلاهما شرح ما يوعظون به بخلاف ما يدل عليه الظاهر. لأن الذي يوعظ به ليس هو اتباع الرسول وطاعته، وليس مذلول ما يوعظون به اتعظوا وأنابوا، وقيل: الوعظ هنا بمعنى الأمر أي: ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به فانتهوا عما نهوا عنه. وقال في ري الظمآن: ما يوعظون به أي: ما يوصون ويؤمرون به من الإخلاص والتسليم. وقال الراغب: أخبر أنهم لو قبلوا الموعظة لكان خيرا لهم. وقال أبو عبد الله الرازي: المراد أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا، وسمي هذا التكليف والأمر وعظا، لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والثواب والعقاب، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظا. وقال الماتريدي: وقيل ما يوعظون به من الأمر من القرآن.
وهذه كلها تفاسير تخالف الظاهر، لأن الوعظ هو التذكار بما يحل بمن خالف أمر الله تعالى من العقاب، فلموعظ به هي الجمل الدالة على ذلك، ولا يمكن حمله على هذا الظاهر، لأنهم لم يؤمروا بأن يفعلوا الموعظ به، وإنما عرض لهم شرح ذلك بما خالف الظاهر، لأنهم علقوا به بقوله: ما يوعظون، على طريقة ما يفهم من قولك: وعظتك بكذا، فتكون الباء قد دخلت على الشيء الموعظ به وهي الجملة الدالة على الوعظ. أما إذا كان المعنى على أن الباء للسببية فيحمل إذ ذاك اللفظ على الظاهر، ويصح المعنى، ويكون التقدير: ولو أنهم فعلوا الشيء الذي يوعظون بسببه أي: بسبب تركه. ودل على حذف تركه قوله: ولو أنهم فعلوا. ويبقى لفظ يوعظون على ظاهره، ولا يحتاج إلى ما تأولوه.
لكان خيرا لهم: أي يحصل لهم خير الدارين، فلا يكون أفعل التفضيل. ويحتمل أن يكونه أي: لكان أنفع لهم من غيره: وأشد تثبيتا، لأنه حق، فهو أبقى وأثبت. أو لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها، أو لأن الإنسان يطلب أولا تحصيل الخير، فإذا حصله طلب بقاءه. فقوله: لكان خيرا لهم إشارة إلى الحالة الأولى. وقوله: وأشد تثبيتا إشارة إلى الحالة الثانية. قاله: أبو عبد الله الرازي.
* (وإذا لاتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما) * قال الزمخشري: وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا لآتيناهم. لأن إذا جواب وجزاء انتهى. وظاهر قول الزمخشري: لأن إذا جواب وجزاء يفهم منه أنها تكون للمعنيين في حال واحد على كل حال، وهذه مسألة خلاف. ذهب
298

الفارسي إلى أنها قد تكون جوابا فقط في موضع، وجوابا وجزاء في موضع نفي، مثل: إذن أظنك صادقا لمن قال: أزورك، هي جواب خاصة. وفي مثل: إذن أكرمك لمن قال: أزورك، هي جواب وجزاء. وذهب الأستاذ أبو علي إلى أنها تتقدر بالجواب والجزاء في كل موضع وقوفا مع ظاهر كلام سيبويه. والصحيح قول الفارسي، وهي مسألة يبحث عنها في علم النحو.
والأجر كناية عن الثواب على الطاعة، ووصفه بالعظم باعتبار الكثرة، أو باعتبار الشرف. والصراط المستقيم هو الإيمان المؤدي إلى الجنة قاله: ابن عطية. وقيل: هو الطريق إلى الجنة. وقيل: الأعمال الصالحة. ولما فسر ابن عطية الصراط المستقيم بالإيمان قال: وجاء ترتيب هذه الآية كذا. ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب، فالمعنى: وكهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر انتهى. وأما إذا فسرت الهداية إلى الصراط هنا بأنه طريق الجنة، أو الأعمال الصالحة، فإنه يظهر الترتيب.
* (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) * قال الكلبي: نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأتى ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال: (يا ثوبان ما غير لونك؟) فقال: يا رسول الله ما بي
مرض ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين، وإني وإن كنت أدخل الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك، وإن لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبدا. انتهى قول الكلبي. وحكى مثل قول ثوبان عن جماعة من الصحابة منهم: عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري، وهو الذي أرى الأذان قال: يا رسول الله، إذا مت ومتنا، كنت في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك، وذكر حزنه على ذلك، فنزلت. وحكى مكي عن عبد الله هذا أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم) قال: اللهم اعمني حتى لا أرى شيئا بعده، فعمى. والمعنى في مع النبيين: إنه معهم في دار واحدة، وكل من فيها رزق الرضا بحاله، وهم بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد مكانه.
وقيل: المعية هنا كونهم يرفعون إلى منازل الأنبياء متى شاؤوا تكرمة لهم، ثم يعودون إلى منازلهم. وقيل: إن الأنبياء والصديقين والشهداء ينحدرون إلى من أسفل منهم ليتذاكروا نعمة الله، ذكره المهدوي في تفسيره الكبير. قال أبو عبد الله الرازي: هذه الآية تنبيه على أمرين من أحوال المعاد: الأول: إشراق الأرواح بأنوار المعرفة. والثاني: كونهم مع النبيين. وليس المراد بهذه المعية في الدرجة، فإن ذلك ممتنع، بل معناه: إن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق، فينعكس الشعاع من بعضها على بعض، فتصير أنوارها في غاية القوة، فهذا ما خطر لي انتهى كلامه. وهو شبيه بما قالته الفلاسفة في الأرواح إذا فارقت الأجساد. وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها، ولكن من غلب عليه شيء وحبه جرى في كلامه. وقوله: مع الذي أنعم الله عليهم، تفسير لقوله: * (صراط الذين أنعمت عليهم) * وهم من ذكر في هذه الآية. والظاهر أن قوله: من النبيين، تفسير للذين أنعم الله عليهم. فكأنه قيل: من يطع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين تقدمهم ممن أنعم عليهم. قال الراغب: ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب: النبي بالنبي، والصديق بالصديق، والشهيد بالشهيد، والصالح بالصالح. وأجاز الراغب أن يتعلق من النبيين بقوله: ومن يطع الله والرسول. أي: من النبيين ومن بعدهم، ويكون قوله
299

فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم إشارة إلى الملأ الأعلى. ثم قال: * (وحسن أولئك رفيقا) * ويبين ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم) حين الموت * (اللهم * إنك أنت الاعلى) * وهذا ظاهر انتهى. وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى، ومن جهة النحو. أما من جهة المعنى فإن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم)، أخبر الله تعالى أن من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر، ولو كان من النبيين معلقا بقوله: ومن يطع الله والرسول، لكان قوله: من النبيين تفسيرا لمن في قوله: ومن يطع. فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياء يطيعونه، وهذا غير ممكن، لأنه قد أخبر تعالى أن محمدا هو خاتم النبيين. وقال هو صلى الله عليه وسلم): (لا نبي بعدي). وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها، لو قلت: إن تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة، لم يجز.
واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين. فقال بعضهم: كلها أوصاف لموصوف واحد، وهي صفات متداخلة، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أن يكون صديقا وشهيدا وصالحا. وقيل: المراد بكل وصف صنف من الناس. فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب. فقيل: هو الكثير الصدق، وقيل: هو الكثير الصدقة. وللمفسرين في تفسيره وجوه: الأول: أن كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى: * (والذين ءامنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون) *. الثاني: أفاضل أصحاب الرسول. الثالث: السابق إلى تصديق الرسول. فصار في ذلك قدوة لسائر الناس. وأما الشهيد: فهو المقتول في سبيل الله، المخصوص بفضل الميتة. وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم. وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال أبو عبد الله الرازي: لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر، بل نقول: الشهيد فعيل بمعنى فاعل، وهو الذي يشهد لدين الله تارة بالحجة بالبيان، وتارة بالسيف والسنان. فالشهداء هم القائمون بالقسط، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: * (شهد الله أنه لا إلاه إلا هو) *. والصالح: هو الذي يكون صالحا في اعتقاده وعمله. وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى، إلى أدنى منه. وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة الله وطاعة رسوله، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد الله إلى الله، وأرفعهم درجات عنده.
وقال الراغب: قسم الله المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض، وحث كافة الناس أن يتأخروا عن منزل واحد منهم: الأول: الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من قريب. ولذلك قال تعالى: * (أفتمارونه على ما يرى) *. الثاني: الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من بعيد وإياه عني أمير المؤمنين حين قيل له: هل رأيت الله؟ فقال: ما كنت لأعبد شيئا لم أره ثم قال: (لم تره العيون بشواهد الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. الثالث: الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين. ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب، كحال حارثة حيث قال: كأني أنظر إلى عرش ربي، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم) حيث قال: (اعبد الله كأنك تراه). الرابع: الصالحون، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة. وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم) بقوله: (اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) انتهى كلامه. وهو شبيه بكلام المتصوفة.
وقال عكرمة: النبيون محمد صلى الله عليه وسلم)، والصديقون أبو بكر، والشهداء عمر وعثمان وعلي، والصالحون صالحو أمة محمد صلى الله عليه وسلم) انتهى.
300

وينبغي أن يكون ذلك على طريق التمثيل، وأما على طريق الحصر فلا، ولا يفهم من قوله: ومن يطع الله والرسول ظاهر اللفظ من الاكتفاء بالطاعة الواحدة، إذ اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة لدخول المنافقين فيه، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة، بل يحمل على غير الظاهر بأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات، وترك جميع المنهيات.
* (وحسن أولئك رفيقا) * أولئك: إشارة إلى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. لم يكتف بالمعية حتى جعلهم رفقاء لهم، فالمطيع لله ولرسوله يوافقونه
ويصحبونه، والرفيق الصاحب، سمي بذلك للارتفاق به. وعلى هذا يجوز أن ينتصب رفيقا على الحال من أولئك، أو على التمييز. وإذا انتصب على التمييز فيحتمل أن لا يكون منقولا، فيجوز دخول من عليه، ويكون هو المميز. وجاء مفردا إما لأن الرفيق مثل الخليط والصديق، يكون للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وأما لإطلاق المفرد في باب التمييز اكتفاء ويراد به الجمع، ويحسن ذلك هنا كونه فاصلة، ويحتمل أن يكون منقولا من الفاعل، فلا يكون هو المميز والتقدير: وحسن رفيق أولئك، فلا تدخل عليه من ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى من يطع الله والرسول، وجمع على معنى من ويجوز في انتصاب رفيقا إلا وجه السابقة.
وقرأ الجمهور: وحسن بضم السين، وهي الأصل، ولغة الحجاز. وقرأ أبو السمال: وحسن بسكون السين وهي لغة تميم. ويجوز: وحسن بسكون السين وضم الحاء على تقدير نقل حركة السين إليها، وهي لغة بعض بني قيس. قال الزمخشري: وحسن أولئك رفيقا فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا. ولاستقلاله بمعنى التعجب: وحسن بسكون السين. يقول المتعجب. وحسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى كلامه. وهو تخليط، وتركيب مذهب على مذهب. فنقول: اختلفوا في فعل المراد به المدح والذم، فذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فقط، فلا يكون فاعلا إلا بما يكون فاعلا لهما. وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس، فيجعل فاعلها كفاعلهما، وذلك إذا لم يدخله معنى التعجب. وإلى جواز إلحاقه بفعل التعجب فلا يجري مجرى نعم وبئس في الفاعل، ولا في بقية أحكامهما، بل يكون فاعله ما يكون مفعولا لفعل التعجب، فيقول: لضربت يدك ولضربت اليد. والكلام على هذين المذهبين تصحيحا وإبطالا مذكور في علم النحو. والزمخشري لم يتبع واحدا من هذين المذهبين، بل خلط وركب، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش، وأخذ التمثيل بقوله: وحسن الوجه وجهك، وحسن الوجه وجهك من مذهب الفارسي. وأما قوله: ولاستقلاله بمعنى التعجب، قرىء: وحسن بسكون السين، وذكر أن المتعجب يقول: وحسن وحسن، فهذا ليس بشيء، لأن الفراء ذكر أن تلك لغات للعرب، فلا يكون التسكين، ولا هو والنقل لأجل التعجب.
* (ذالك الفضل من الله) * الظاهر أن الإشارة إلى كينونة المطيع من النبيين، ومن عطف عليهم، لأنه هو المحكوم به في قوله: * (فأولئك مع الذين) * وكأنه على تقدير سؤال أي: وما الموجب لهم استواؤهم مع النبيين في الآخرة، مع أن الفرق بينهم في الدنيا بين؟ فذكر أن ذلك بفضله، لا بوجوب عليه. ومع استوائهم معهم في الجنة فهم متباينون في المنازل.
وقيل: الإشارة إلى الثواب في قوله أجرا عظيما. وقيل: إلى الطاعة. وقيل: إلى المرافقة. وقال الزمخشري: إن ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله، لأنه تفضل به عليهم تبعا لثوابهم، وذلك مبتدأ والفضل خبره، ومن الله حال، ويجوز أن يكون الفضل صفة، والخبر من الله، ويجوز أن يكونا خبرين على مذهب من يجيز ذلك.
* (وكفى بالله عليما) * لما ذكر الطاعة وذكر جزاء من يطيع أتى بصفة العلم التي
301

تتضمن الجزاء أي: وكفى به مجازيا لمن أطاع. قال ابن عطية: فيه معنى أن تقول: فشملوا فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره، ولذلك دخلت الباء على اسم الله تعالى لتدل على الأمر الذي في قوله: وكفى، انتهى. وقد بينا فساد قول من يدعي أن قولك: كفى بزيد معناه اكتف بزيد عند الكلام على قوله: * (وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) *. وقال الزمخشري: وكفى بالله عليما، بجزاء من أطاعه. أو أراد فصل المنعم عليهم، ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه، وكفى بالله عليما بعباده، فهو يوفقهم على حسب أحوالهم انتهى. وهي ألفاظ المعتزلة.
* (عليما يأيها الذين ءامنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) * مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر طاعته وطاعة رسوله، وكان من أهم الطاعات إحياء دين الله، أمر بالقيام بإحياء دينه، وإعلاء دعوته، وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة فقال: خذوا حذركم. فعلمهم مباشرة الحروب. ولما تقدم ذكر المنافقين، ذكر في هذه الآية تحذير المؤمنين من قبول مقالاتهم وتثبيطهم عن الجهاد، فنادى ولا باسم الإيمان على عادته تعالى إذا أراد أن يأمر المؤمنين أو ينهاهم، والحذر والحذر بمعنى واحد. قالوا: ولم يسمع في هذا التركيب الأخذ حذرك لأخذ حذرك. ومعنى خذ حذرك: أي استعد بأنواع ما يستعد به للقاء من تلقاه، فيدخل فيه أخذ السلاح وغيره. ويقال: أخذ حذره إذا احترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يتقي بها ويعتصم، والمعنى: احترزوا من العدو. ثم أمر تعالى بالخروج إلى الجهاد جماعة جماعة، وسرية بعد سرية، أو كتيبة واحدة مجتمعة.
وقرأ الجمهور: فانفروا بكسر الفاء فبهما. وقرأ الأعمش: بضمها فيهما، وانتصاب ثبات وجميعا على الحال، ولم يقرأ ثبات فيما علمناه إلا بكسر التاء. وقال الفراء: العرب تخفض هذه التاء في النصب وتنصبها. أنشدني بعضهم:
* فلما جلاها بالأيام تحيزت
*
ثباتا عليها ذلها واكتئابها
*
ينشد بكسر التاء وفتحها انتهى. وأوفى أو انفروا للتخيير. وقال ابن عباس: هذه الآية نسختها. * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * قيل: وإنما عنى بذلك التخصيص إذ ليس يلزم النفر جماعتهم.
* (وإن منكم لمن ليبطئن) * الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج وابن زيد في آخرين: لمن ليبطئن هم
المنافقون، وجعلوا من المؤمنين باعتبار الجنس، أو النسب، أو الانتماء إلى الإيمان ظاهرا. وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه. وقيل: هم ضعفه المؤمنين. ويبعد هذا القول قوله: عند مصيبة المؤمنين * (قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا) * وقوله: * (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) * ومثل هذا لا يصدر عن مؤمن، إنما يصدر عن منافق. واللام في ليبطئن لام قسم محذوف التقدير: للذي والله ليبطئن. والجملتان من القسم وجوابه صلة لمن، والعائد الضمير المستكن في ليبطئن.
قالوا: وفي هذه الآية رد على من زعم من قدماء النحاة أنه لا يجوز وصل الموصول بالقسم وجوابه إذا كانت جملة القسم قد عريت من ضمير، فلا يجوز جاءني الذي أقسم بالله لقد قام أبوه، ولا حجة فيها لأن جملة القسم محذوفة، فاحتمل أن يكون فيها ضمير يعود على الموصول، واحتمل أن لا يكون. وما كان يحتمل وجهين لا حجة فيه على تعيين أحدهما، ومثل هذه الآية قوله تعالى: * (وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم) * في قراءة من نصب كلا وخفف ميم لما أي: وأن كلا للذي ليوفينهم على أحسن التخاريج. وقال ابن عطية: اللام في ليبطئن لام قسم عند الجمهور. وقيل: هي لام تأكيد بعد تأكيد انتهى. وهذا القول الثاني خطأ. وقرأ الجمهور: ليبطئن، بالتشديد. وقرأ مجاهد: ليبطئن بالتخفيف. والقراءتان يحتمل أن
302

يكون الفعل فيهما لازما، لأنهم يقولون: أبطأ وبطأ في معنى بطؤ، ويحتمل أن يكون متعديا بالهمزة أو التضعيف من بطؤ، فعل اللزوم المعنى أنه يتثاقل ويثبط عن الخروج للجهاد، وعلى التعدي أكثر المفسرين.
* (فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا) * المصيبة: الهزيمة. سميت بذلك لما يلحق الإنسان من العتب بتولية الإدبار وعدم الثبات. ومن العرب من يختار الموت على الهزيمة وقد قال الشاعر:
* إن كنت صادقة كما حدثتني
*
فنجوت منجى الحارث بن هشامترك الأحبة أن يقاتل عنهمونجا برأس طمره ولجام
*
عيره بالانهزام وبالفرار عن الأحبة. وقال آخر في المدح على الثبات في الحرب والقتل فيه:
* وقد كان فوت الموت سهلا فرده
*
إليه الحفاظ المرء والخلق الوعرفأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر
*
وقيل: المصيبة القتل في سبيل الله، سموا ذلك مصيبة على اعتقادهم الفاسد، أو على أن الموت كله مصيبة كما سماه الله تعالى. وقيل: المصيبة الهزيمة والقتل. والشهيد هنا الحاضر معهم في معترك الحرب، أو المقتول في سبيل الله، يقوله المنافق استهزاء، لأنه لا يعتقد حقيقة المشهادة في سبيل الله.
2 (* (ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) *)) 2
* (ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتنى * ليتنى * كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) * الفضل هنا: الظفر بالعدو والغنيمة. وقرأ الجمهور: ليقولن بفتح اللام. وقرأ الحسن: ليقولن بضم اللام، أضمر فيه ضمير الجمع على معنى من. وقرأ ابن كثير وحفص. كأن لم تكن بتاء التأنيث، والباقون بالياء. وقرأ الحسن ويزيد النحوي: فأفوز برفع الزاي عطفا على كنت، فتكون الكينونة معهم والفوز بالقسمة داخلين في التمني، أو على الاستئناف أي فأنا أفوز. وقرأ الجمهور: بنصب الزاي، وهو جواب التمني، ومذهب جمهور البصريين: أن النصب بإضمار أن بعد الفاء، وهي حرف عطف عطفت المصدر المنسبك من أن المضمرة والفعل المنصوب بها على مصدر متوهم. ومذهب الكوفيين: أنه انتصب بالخلاف، ومذهب الجرمي: أنه انتصب بالفاء نفسها، ويا عند قوم للنداء، والمنادي محذوف تقديره: يا قوم ليتني. وذهب أبو علي: إلى أن يا للتنبيه، وليس في الكلام منادى محذوف، وهو الصحيح. وكأن هنا مخففة من الثقيلة، وإذا وليتها الجملة الفعلية فتكون مبدوءة بقد، نحو قوله:
* لا يهولنك اصطلاؤك للحر
*
ب فمحذورها كان قد ألما
*
أو بلم كقوله: (كان لم يكن) كان لم (تغن بالأمس) ووجدت في شعر عمار الكلبي ابتداءها في قوله:
* بددت منها الليالي شملهم
*
فكأن لما يكونوا قبل ثم
*
303

وينبغي التوقف في جواز ذلك حتى يسمع من لسان العرب. وقال ابن عطية: وكأن مضمنة معنى التشبيه، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر، وإنما تجيء بعدها الجمل انتهى. وهذا الذي ذكره غير محرر، ولا على إطلاقه. أما إذا خفقت ووليها ما كان يليها وهي ثقيلة، فالأكثر والأفصح أن ترتفع تلك الجملة على الابتداء والخبر، ويكون اسم كان ضمير شأن محذوفا، وتكون تلك الجملة في موضع رفع خبر كان. وإذا لم ينو ضمير الشأن جاز لها أن تنصب الاسم إذا كان مظهرا، وترفع الخبر هذا ظاهر كلام سيبويه. ولا يخص ذلك بالشعر، فنقول: كأن زيدا قائم. قال سيبويه: وحدثنا من يوثق به أنه سمع من العرب من يقول: إن عمر المنطلق وأهل المدينة يقرؤون: وأن كلا لما يخففون وينصبون كما قال: كأن ثدييه حقان، وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله، كما لم يغير عمل لم يك، ولم أبل حين حذف انتهى. فظاهر تشبيه سيبويه أن عمر المنطلق بقوله: كأن ثدييه حقان جواز ذلك في الكلام، وأنه لا يختص بالشعر.
وقد نقل صاحب رؤوس المسائل: أن كأن إذا خفقت لا يجوز إعمالها عند الكوفيين، وأن البصريين أجازوا ذلك. فعلى مذهب الكوفيين قد يتمشى قول ابن عطية في أن كان المخففة ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر، وأما على مذهب البصريين فلا، لأنها عندهم لا بد لها من اسم وخبر.
والجملة من قوله: كأن لم يكن بينكم وبينه مودة اختلف المفسرون فيها ونحن نسرد كلام من وقفنا على كلامه فيها. فنقول: قال الزمخشري: اعتراض بين الفعل الذي هو ليقولن، وبين مفعوله وهو يا ليتني، والمعنى: كأن لم يتقدم له معكم مودة، لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. والظاهر أنه تهكم، لأنهم كانوا أعدى عدو للمؤمنين وأشدهم حسدا لهم، فكيف يوصفون بالمودة إلا على وجه العكس تهكما بحالهم؟ وقال ابن عطية: المنافق يعاطي المؤمنين المودة، ويعاهد على التزام كلف الإسلام، ثم يتخلف نفاقا وشكا وكفرا بالله ورسوله، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين. فعلى هذا يجيء قوله تعالى: كأن لم تكن بينكم وبينه مودة، التفاتة بليغة واعتراضا بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم. وقال الزجاج: هذه الجملة اعتراض، أخبر تعالى بذلك لأنهم كانوا يوادون المؤمنين. وقال أيضا، وتبعه الماتريدي هذا على التقديم والتأخير تقديره: فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا، كأن لم تكن بينكم وبينه مودة، ولئن أصابكم فضل من الله. قال الراغب: وذلك مستقبح، فإنه لا يفصل بين الجملة وبعض ما يتعلق بجملة أخرى. وقال أيضا: وتبعه أبو البقاء:
304

موضع الجملة نصب على الحال كما تقول: مررت بزيد وكان لم يكن بينك وبينه معرفة، فضلا عن مودة. وقال أبو علي الفارسي: هذه الجملة من قول المنافقين الذين أقعدوهم عن الجهاد وخرجوا هم، كأن لم تكن بينكم وبينه أي: وبين النبي صلى الله عليه وسلم) مودة فيخرجكم معهم لتأخذوا من الغنيمة، ليبغضوا بذلك الرسول إليهم. وتبع أبو علي في ذلك مقاتلا. قال مقاتل: معناه كأنه ليس من أهل ملتكم ولا مودة بينكم، يريد: أن المبطىء قال لمن تخلف عن الغزو من المنافقين وضعفة المؤمنين، ومن تخلف بإذن كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة فيخرجكم إلى الجهاد، فتفوزون بما فاز. وقال أبو عبد الله الرازي: هو اعتراض في غاية الحسن، لأن من أحب إنسانا فرح عند فرحه، وحزن عند حزنه، فإذا قلب القضية فذلك إظهار للعداوة. فنقول: حكى تعالى عن المنافق سروره وقت نكبة المسلمين، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاتته الغنيمة، فقبل أن يذكر الكلام بتمامه ألقى قوله: كأن لم يكن بينكم وبينه، والمراد التعجب. كأنه يقول تعالى: انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة أيها المؤمنون ولا مخالطة أصلا، فهذا هو المراد من الكلام.
وقال قتادة وابن جريج: قول المنافق: يا ليتني كنت معهم على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغبته.
وتلخص من هذه الأقوال أن هذه الجملة: إما أن يكون لها موضع من الإعراب نصب على الحال من الضمير المستكن في ليقولن، أو نصب على المفعول بيقولن على الحكاية، فيكون من جملة المقول، وجملة المقول هو مجموع الجملتين: جملة التشبيه، وجملة التمني. وضمير الخطاب للمتخلفين عن الجهاد، وضمير الغيبة في وبينه للرسول. وعلى الوجه الأول ضمير الخطاب للمؤمنين، وضمير الغيبة للقائل. وإما أن لا يكون لها موضع من الإعراب لكونها اعتراضا في الأصل بين جملة الشرط وجملة القسم وأخرت، والنية بها التوسط بين الجملتين. أو لكونها اعتراضا بين: ليقولن ومعموله الذي هو جملة التمني، ولبس اعتراضا يتعلق بمضمون هذه الجملة المتأخرة، بل يتعلق بمضمون الجملتين، والضمير الذي للخطاب هو للمؤمنين، وفي بينه للقائل. واعترض به بين أثناء الحملة الأخيرة، ولم يتأخر بعدها وإن كان من حيث المعنى متأخرا إذ معناه متعلق بمضمون الجملتين، لأن معمول القول النية به التقديم، لكنه حسن تأخيره كونه وقع فاصلة. ولو تأخرت جملة الاعتراض لم يحسن لكونها ليست فاصلة، والتقدير: ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما كأن لم يكن بينكم وبينه مودة، إذ صدر منه قوله وقت المصيبة: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. وقوله: وقت الغنيمة يا ليتني كنت معهم، وهذا قول من لم تسبق منه مودة لكم.
وفي الآيتين تنبيه على أنهم لا يعدون من المنح إلا أغراض الدنيا، يفرحون بما ينالون منها، ولا من المحن إلا مصائبها فيتألمون لما يصيبهم منها كقوله تعالى: * (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه) * الآية. وتضمنت هذه الجملة أنواعا من الفصاحة والبديع: دخول حرف الشرط على ما ليس بشرط في الحقيقة في قوله: إن كنتم تؤمنون. والإشارة في ذلك: خير أولئك الذين يعلم الله، فأولئك مع الذين، وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله. والاستفهام المراد به التعجب في: ألم تر إلى الذين يزعمون. والتجنيس المغاير في: أن يضلهم ضلالا، وفي: أصابتهم مصيبة، وفي: وقل لهم في أنفسهم قولا، وفي: يصدون عنك صدودا، وفي: ويسلموا تسليما، وفي: فإن أصابتكم مصيبة، وفي: فأفوز فوزا عظيما. والاستعارة في: فإن تنازعتم، أصل المنازعة الجذب باليد، ثم استعير للتنازع في الكلام. وفي: ضلالا بعيدا استعار
البعد المختص بالأزمنة والأمكنة للمعاني المختصة بالقلوب لدوام القلوب عليها، وفي: فيما شجر بينهم استعار ما اشتبك وتضايق من الشجر للمنازعة التي يدخل بها بعض الكلام في بعض استعارة المحسوس للمعقول وفي: أنفسهم حرجا أطلق اسم الحرج الذي هو من وصف الشجر إذا تضايق على الأمر الذي يشق على النفس للمناسبة التي بينهما وهو من الضيق والتتميم، وهو أن يتبع الكلام كلمة تزيد المعنى تمكنا وبيانا للمعنى المراد وهو في
305

قوله قولا بليغا أي: يبلغ إلى قلوبهم ألمه أو بالغا في زجرهم. وزيادة الحرف لزيادة المعنى في: من رسول أتت للاستغراق إذ لو لم تدخل لا وهم الواحد. والتكرار في: استغفر واستغفروا أنفسهم، وفي أنفسهم واسم الله في مواضع. والالتفات في: واستغفر لهم الرسول. والتوكيد بالمصدر في: ويسلموا تسليما. والتقسيم البليغ في قوله: من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وإسناد الفعل إلى ما لا يصح وقوعه منه حقيقة في: أصابتكم مصيبة، وأصابكم فضل. وجعل الشيء من الشيء وليس منه لمناسبة في قوله: وإن منكم لمن ليبطئن. والاعتراض على قول الجمهور في قوله: كان لم يكن بينكم وبينه مودة. والحذف في مواضع.
2 (* (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحيواة الدنيا بالا خرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما * وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنسآء والولدان الذين يقولون ربنآ أخرجنا من هاذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا * الذين ءامنوا يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا * ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولاأخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والا خرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هاذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هاذه من عندك قل كل من عند الله فما لهاؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) *)) 2
إدراك الشيء الوصول إليه ونيله. البرج: الحصن. وقيل: القصر. والبروج: منازل القمر، وكلها من برج إذا ظهر، ومنه التبرج وهو إظهار المرأة محاسنها، والبرج في العين اتساعها. المشيد: المصنوع بالشيد وهو الجص. يقال: شاد وشيد كرر العين للمبالغة، ككسرت العود مرة وكسرته في مواضع، وخرقت الثوب وخرقته إذا كان الخرق منه في مواضع. فعلى هذا يقال: شاد الجدار. ومنه قال والشاعر:
شاده مرمرا وجلله كلسا فللطير في ذراه وكور
306

والمشيد: المطول المرفوع يقال: شيد وأشاد البناء رفعه وطوله، ومنه أشاد الرجل ذكر الرجل إذا رفعه. الفقه: الفهم. يقال: فقهت الحديث إذا فهمته، وفقه الرجل صار فقيها.
* (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحيواة الدنيا بالاخرة) * قيل: نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن أحد. ويشرون بمعنى يشترون. والمعنى: أخلصوا الإيمان بالله ورسوله، ثم جاهدوا في سبيل الله. وقيل: نزلت في المؤمنين بالجهاد من تخلف من ضعفة المؤمنين.
* (ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * ثم وعد من قاتل في سبيل الله بالأجر العظيم، سواء استشهد، أو غلب. واكتفى في الحالتين بالغاية، لأن غاية المغلوب في القتال أن يقتل، وغاية الذي يقتل أن يغلب ويغنم، فأشرف الحالتين ما بدء به من ذكر الاستشهاد في سبيل الله، ويليها أن يقتل أعداء الله، ودون ذلك الظفر بالغنيمة، ودون ذلك أن يغزو فلا يصيب ولا يصاب. ولفظ الجهاد في سبيل الله يشمل هذه الأحوال، والأجر العظيم فسر بالجنة. والذي يظهر أنه مزيد ثواب من الله تعالى مثل كونهم أحياء عند ربهم يرزقون، لأن الجنة موعود دخولها بالإيمان. وكان الذي فسره بالجنة ينظر إلى قوله تعالى: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) * الآية. وقرأ الجمهور: فليقاتل بسكون لام الأمر. وقرأت فرقة: بكسرها على الأصل. وقرأ الجمهور: فيقتل مبنيا للمفعول. وقرأ محارب بن دثار: فيقتل على بناء الفعل للفاعل. وأدغم يغلب في الفاء أبو عمرو والكسائي وهشام وخلاد بخلاف عنه، وأظهرها باقي السبعة. وقرأ الجمهور: نؤتيه بالنون. وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف: يؤتيه بالياء.
* (وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هاذه القرية) * هذا الاستفهام فيه حث وتحريض على الجهاد في سبيل الله، وعلى تخليص المستضعفين. والظاهر أن قوله: لا تقاتلون في موضع الحال، وجوزوا أن يكون التقدير: وما لكم في أن لا تقاتلوا، فلما حذف حرف الجر، وحذف أن، ارتفع الفعل، والمستضعفين هو مطعوف على اسم الله أي: وفي سبيل المستضعفين. وقال المبرد والزجاج: هو معطوف على سبيل الله أي: في سبيل الله، وفي خلاص المستضعفين. وقرأ ابن شهاب: في سبيل الله المستضعفين بغير واو عطف. فإما أن يخرج على إضمار حرف العطف، وإما على البدل من سبيل الله أي: في سبيل الله سبيل المستضعفين لأنه سبيل الله تعالى. وأجاز الزمخشري أن يكون: والمستضعفين منصوبا على الاختصاص يعني: واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين، لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه انتهى كلامه. ولا حاجة إلى تكلف نصبه على الاختصاص، إذ هو خلاف الظاهر.
ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال قريش وأذاهم، إذ كانوا لا يستطيعون خروجا، ولا تطيب لهم على اوذى إقامة. ومن المستضعفين: عبد الله بن عباس وأمه، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالنجاة للمستضعفين من المؤمنين وسمى منهم: الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة. وقوله: من الرجال والنساء والولدان تبيين للمستضعفين.
والظاهر أن الولدان المراد به الصبيان، وهو جمع وليد. قيل: وقد كون جمع ولد، كورل وورلان. ونبه على الولدان تسجيلا بإفراط ظلم من ظلمهم، وهم غير مكلفين
ليتأذى بذلك آباؤهم، ولأنهم كانوا يشركون آباءهم في الدعاء طلبا لرحمة الله تعالى، وتخليصهم من أذى الكفار. وهم أقرب إلى الإجابة حيث لم تكن لهم ذنوب كما فعل قوم يونس، وكما هي السنة في خروج الصبيان في العيد، لأنه يطلق على العبد وليد، وعلى الأمة وليدة وغلب المذكر على المؤنث إذ درج المؤنث في الجمع
307

الاستسقاء. وقيل: المراد بقوله من الرجال والنساء الأحرار، وبالولدان المذكرو * (والذين يقولون ربنا * أخرجنا) * ليس لهم من القوة والمنعة من الظلم إلا بالدعاء والاستنصار بالله تعالى، والقرية هنا مكة بإجماع.
وتكلموا في جريان الظالم وهو مذكر على القرية وهو مؤنث، وهذا من واضح النحو. وقال الزمخشري: لو أنث فقيل: الظالمة، أو جمع فقيل: الظالمين، وأجاب عن ذلك وهذا لم يقرأ به، فيحتاج إلى الكلام فيه. ولو تعرضنا لما يجوز في العربية في تراكيب القرآن لطال ذلك وخرجنا به عن طريقة التفسير. ووصف أهلها بالظلم إما لإشراكهم، وإما لما حصل منهم من شدة الوطأة على المؤمنين وإذلالهم.
قال ابن عطية: والآية تتناول المؤمنين والأسرى، وحواضر الشرك إلى يوم القيامة انتهى. ولما دعوا ربهم أجاب كثيرا منهم في الخروج، فهاجر بعضهم إلى المدينة، وفر بعضهم إلى الحبشة، وبقي بعضهم إلى الفتح. والجمهور على أن الله تعالى استجاب دعاءهم، فجعل لهم من لدنه خير ولي وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم)، فتولاهم أحسن التولي، ونصرهم أقوى النصر. ولما خرج من مكة ولى عليهم عتاب بن أسيد وعمره أحد وعشرون سنة، فرأوا منه الولاية والنصر كما سألوا. قال ابن عباس: كان ينصف الضعيف من القوي، حتى كانوا أعز بها من الظلمة.
* (الذين ءامنوا يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان) * لما أمر تعالى المؤمنين أولا بالنفر إلى الجهاد، ثم ثانيا بقوله: * (فليقاتل فى سبيل الله) * ثم ثالثا على طريق الحث والحض بقوله: * (وما لكم لا تقاتلون) * أخبر في هذه الآية بالتقسيم أن المؤمن هو الذي يقاتل في سبيل الله، وأن الكافر هو الذي يقاتل في سبيل الطاغوت، ليبين للمؤمنين فرق ما بينهم وبين الكفار، ويقويهم بذلك ويشجعهم ويحرضهم. وإن من قاتل في سبيل الله هو الذي يغلب، لأن الله هو وليه وناصره. ومن قاتل في سبيل الله الطاغوت فهو المخذول المغلوب. والطاغوت هنا الشيطان لقوله: فقاتلوا أولياء الشيطان. وهنا محذوف، التقدير: فقاتلوا أولياء الشيطان فإنكم تغلبونهم لقوتكم بالله، ثم علل هذا المحذوف وهو غلبتكم إياهم بأن كيد الشيطان ضعيف، فلا يقاوم نصر الله وتأييده، وشتان بين عزم يرجع إلى إيمان بالله وبما وعد على الجهاد، وعزم يرجع إلى غرور وأماني كاذبة. ودخلت كان في قوله: كان ضعيفا إشعارا بأن هذا الوصف سابق لكيد الشيطان، وأنه لم يزل ضعيفا. وقيل: هي بمعنى صار أي: صار ضعيفا بالإسلام. وقول من زعم: أنها زائدة، ليس بشيء. وقال الحسن: أخبرهم أنهم سيظهرون عليهم، فلذلك كان ضعيفا.
* (لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون) * خرج النسائي في سنته عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة. فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم، فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله هذه الآية. ونحو هذا روي عن قتادة والسدي ومقاتل. وروي عن ابن عباس أيضا: نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمن المتقدم. قال أبو سليمان الدمشقي: كأنه يومىء إلى قصة الذين قالوا: (ابعث لنا مليكا). وقال مجاهد: نزلت في اليهود. وقال الحسن: في
308

المؤمنين لقوله: يخشون الناس، أي: مشركي مكة. والخشية هي ما طبع عليه البشر من المخافة، لا على المخالفة. ونحو ما قال الحسن. قال الزمخشري: قال كع فريق منهم لا شكا في الدين ولا رغبة عنه، ولكن نفورا عن الأخطار بالأرواح، وخوفا من الموت. وقال قوم: كان كثير من العرب استحسنوا الدخول في الدين على فرائضه التي قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها، والموادعة، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له، فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما أمر بالقتال حين طلبوه وجب امتثال أمر الله، فلما كع عنه بعضهم قال تعالى: ألا تعجب يا محمد من ناس طلبوا القتال فأمروا بالموادعة، فلما كتب عليهم فرق فريق وجزع. ومعنى كفوا أيديكم: أي عن القتال، يدل عليه: فلما كتب عليهم القتال. وقال أبو عبد الله الرازي: لا يقال كفوا إلا للراغبين فيه، وهم المؤمنون. وقيل: يريد المنافقين. وإنما قال: كفوا لأنهم كانوا يظهرون الرغبة فيه انتهى.
وقال أيضا: ودلت الآية على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على إيجاب الجهاد، وهذا الترتيب هو المطابق لما في العقول، لأن الصلاة عبارة عن التعظيم لأمر الله، والزكاة عبارة عن الشفقة على خلق الله. ولا شك أنهما متقدمان على الجهاد. والفريق إما منافقون، وإما مؤمنون، أو ناس في الزمان المتقدم، أو أسلموا قبل فرض القتال حسب اختلاف سبب النزول. والناس هنا أهل مكة قاله الجمهور، أو كفار أهل الكتاب ومشركو العرب.
ولما حرف وجوب لوجوب على مذهب سيبويه، وظرف زمان بمعنى حين على مذهب أبي علي. وإذا كانت حرفا وهو الصحيح فجوابه إذا الفجائية، وإذا كانت ظرفا فيحتاج إلى عامل فيها فيعسر، لأنه لا يمكن أن يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، ولا يمكن أن يعمل في لما الفعل الذي يليها، لأن لما هي مضافة إلى الجملة بعدها. فقال بعضهم: العامل في لما معنى يخشون، كأنه قيل: جزعوا. قال: وجزعوا هو العامل في إذا بتقدير الاستقبال. وهذه الآية مشكلة لأن فيها ظرفين أحدهما: لما مضى، والآخر: لما يستقبل انتهى. والذي نختاره مذهب سيبويه في لما، وأنها حرف. ونختار أن إذا الفجائية ظرف مكان يصح أن يجعل خبرا للاسم المرفوع بعده على الابتداء، ويصح أن يجعل معمولا للخبر. فإذا قلت: لما جاء زيد إذا عمرو قائم، يجوز نصب قائم على الحال. وإذا حرف يصح رفعه على الخبر، وهو عامل في إذا. وهنا يجوز أن يكون إذا معمولا ليخشون، ويخشون خبر فريق. ويجوز أن يكون خبرا، ويخشون حال من فريق، ومنهم على الوجهين صفة لفريق. ومن
زعم أن إذا هنا ظرف زمان لما يستقبل فقوله فاسد، لأنه إن كان العامل فيها ما قبلها استحال، لأن كتب ماض، وإذا للمستقبل. وإن تسومح فجعلت إذا بمعنى إذ صار التقدير: فلما كتب عليهم القتال في وقت خشية فريق منهم، وهذا يفتقر إلى جواب لما، ولا جواب لها. وإن كان العامل فيها ما بعدها، احتاجت إلى جواب هو العامل فيها، ولا جواب لها. والقول في إذا الفجائية: أهي ظرف زمان؟ أم ظرف مكان؟ أم حرف مذكور في علم النحو؟ والكاف في كخشية الله في موضع نصب. قيل: على أنه نعت لمصدر محذوف أي: خشية كخشية الله. وعلى ما تقرر من مذهب سيبويه أنها على الحال من ضمير الخشية المحذوف، أي: يخشونها الناس أي: يخشون الخشية الناس مشبهة خشية الله.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما محل كخشية الله من الإعراب؟ (قلت): محلها النصب على الحال من الضمير في يخشون، أي: يخشون الناس مثل أهل خشية الله أي:
309

مشبهين لأهل خشية الله. أو أشد خشية، يعني: أو أشد خشية من أهل خشية الله. وأشد معطوف على الحال. (فإن قلت): لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدره: يخشون خشية الله، بمعنى مثل ما يخشى الله؟ (قلت): أبى ذلك قوله: أو أشد خشية، لأنه وما عطف عليه في حكم واحد. ولو قلت: يخشون الناس أشد خشية لم يكن إلا حالا عن ضمير الفريق، ولم ينتصب انتصاب المصدر، لأنك لا تقول: خشي فلان أشد خشية، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر، إنما تقول: أشد خشية فتجرها، وإذا نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالا منه، اللهم إلا أن تجعل الخشية خاشية على حد قولهم: جد جده، فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية أشد خشية من خشية الله. ويجوز على هذا أن يكون محل أشد مجرورا عطفا على خشية الله، يريد: كخشية الله أو كخشية أشد خشية منها انتهى كلامه. وقد يصح خشية، ولا يكون تمييزا فيلزم من ذلك ما التزمه الزمخشري، بل يكون خشية معطوفا على محل الكاف، وأشد منصوبا على الحال لأنه كان نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال والتقدير: يخشون الناس مثل خشية الله أو خشية أشد منها. وقد ذكرنا هذا التخريج في قوله تعالى: * (أو أشد ذكرا) * وأوضحناه هناك. وخشية الله مصدر مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف أي: كخشيتهم الله. وأو على بابها من الشك في حق المخاطب، وقيل: للإبهام على المخاطب. وقيل: للتخيير. وقيل: بمعنى الواو. وقيل: بمعنى بل. وتقدم نظير هذه الأقوال في قوله: * (أو أشد قسوة) * ولو قيل أنها للتنويه، لكان قولا يعني: أن منهم من يخشى الناس كخشية الله، ومنهم من يخشاهم خشية تزيد على خشيتهم الله.
* (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) * الظاهر أن القائلين هذا: هم منافقون، لأن الله تعالى إذا أمر بشيء لا يسأل عن علته من هو خالص الإيمان، ولهذا جاء السياق بعده: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هاذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هاذه من عندك) * وهذا لا يصدر إلا من منافق. ولولا للتحضيض بمعنى هلا وهي كثيرة في القرآن. والأجل القريب هنا هو موتهم على فرشهم كذا قاله المفسرون. وذكر في حرف ابن مسعود: لولا أخرتنا إلى أجل قريب فنموت حتف أنفنا ولا نقتل، فتسر بذلك الأعداء. ومن قال: إنه من قول المؤمنين، فيكونون قد طلبوا التأخير في كتب القتال إلى وقت ظهور الإسلام وكثرته، وهو بعيد. لأن لفظ لم رد في صدر أمر الله، وعدم استسلامهم له مع قولهم: وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. وقال الزمخشري: لولا أخرتنا إلى أجل قريب استزادة في مدة الكف، واستمهال إلى وقت آخر كقوله: * (لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق) *. وقال الراغب: وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال، يجوز أن يكون تفوهوا به، ويجوز أن يكون اعتقدوه وقالوا في أنفسهم، فحكى تعالى ذلك عنهم تنبيها على أنهم لما استصعبوا ذلك دل استصعابهم على أنهم غير واثقين بأحوالهم.
* (قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى) * تقدم الكلام على كون متاع الدنيا قليلا في قوله: * (متاع قليل) * وإنما قل: لأنه فان، ونعيم الآخرة مؤبد، فهو خير لمن اتقى الله وامتثل أمره في ما أحب، وفي ما كان شاقا من قتال وغيره. وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير: ولا يظلمون بالياء، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب، وهو التفات أي: لا تنقصون من أجور أعمالكم ومشاق التكاليف أدنى شيء، فلا ترغبوا عن الأجر.
* (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة) * أي: هذا التأخر الذي سألوه لا فائدة فيه، لأنه لا منجي من الموت سواء أكان بقتل أم بغيره، فلا فائدة في خور الطبع وحب الحياة. وتحتمل هذه الجملة أن يكون ذلك تحت معمول قل، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله مستأنفا بأنه لا
310

ينجو من الموت أحد. والبروج هنا القصور في الأرض، قاله: مجاهد، وابن جريج، والجمهور. أو القصور من حديد، روي عن ابن عباس. أو قصور في سماء الدنيا مبنية قاله: السدي. أو الحصون والآكام والقلاع قاله: ابن عباس. أو البيوت التي تكون فوق الحصون قاله: بعضهم. أو بروح السماء التي هي منازل القمر قاله: الربيع أنس، والثوري، وحكاه ابن القاسم عن مالك. وقال: ألا ترى إلى قوله: * (والسماء ذات البروج) * وجعل فيها بروجا * (ولقد جعلنا فى السماء بروجا) * وقال زهير:
* ومن هاب أسباب المنية يلقها
*
ولو رام أسباب السماء بسلم
*
مشيدة مطولة قاله: أبو مالك، ومقاتل، وابن قتيبة، والزجاج. أو مطلية بالشيد قاله: أبو سليمان الدمشقي. أو حصينة قاله: ابن عباس، وقتادة. ومن قال: أنها بروج في السماء فلأنها بيض شبهها بالمبيض بالشيد، ولهذا قال الذي هي قصور بيض في السماء مبنية.
والجزم في يدرككم على جواب الشرط، وأينما تدل على العموم، وكأنه قيل: في أي مكان تكونون فيه أدرككم الموت. ولو هنا بمعنى إن، وجاءت لدفع توهم النجاة من الموت بتقدير: إن لو كانوا في بروج مشيدة، ولإظهار استقصاء العموم في أينما. وقرأ طلحة بن سليمان: يدرككم برفع الكافين، وخرجه أبو الفتح: على حذف فاء الجواب أي: فيدرككم الموت وهي قراءة ضعيفة. قال الزمخشري: ويجوز أن يقال: حمل على ما يقع موقع أينما تكونوا، وهو: أينما كنتم كما حمل ولا ناعب على ما يقع موقع ليسوا مصلحين، وهو ليسوا بمصلحين. فرفع كما رفع زهير يقول: لا غائب ما لي ولا حرم. وهو قول نحوي سيبويهي انتهى. ويعني: أنه جعل يدرككم ارتفع لكون أينما تكونوا في معنى أينما كنتم، بتوهم أنه نطق به. وذلك أنه متى كان فعل الشرط ماضيا في اللفظ فإنه يجوز في المضارع بعده وجهان: أحدهما: الجزم على الجواب. والثاني: الرفع. وفي توجيه الرفع خلاف، الأصح أنه ليس الجواب، بل ذلك على التقديم والتأخير، والجواب محذوف. وإذا حذف الجواب فلا بد أن يكون فعل الشرط ماضي اللفظ، فتخريج هذه القراءة على هذا يأباه كون فعل الشرط مضارعا. وحمله علي ولا ناعب ليس بجيد، لان ولا ناعب عطف على التوهم، والعطف على لتوهم لا ينقاس. وقال الزمخشري أيضا ويجوز أن يتصل بقوله: * (ولا تظلمون فتيلا) * أي: لا تنقصون شيئا مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها. ثم ابتدأ بقوله: يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، والوقف على هذا الوجه أينما تكونوا انتهى كلامه. وهذا تخريج ليس بمستقيم، لا من حيث المعنى، ولا من حيث الصناعة النحوية. أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متصلا بقوله: ولا تظلمون فتيلا، لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله: * (قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى) * وأما من حيث الصناعة النحوية فإنه على ظاهر كلامه يدل على أن أينما تكونوا متعلق بقوله: ولا تظلمون، ما فسره من قوله أي: لا تنقصون شيئما مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحرب أو غيرها، وهذا لا يجوز، لأن أينما اسم شرط، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعده. ولأن اسم الشرط لا يتقدم عليه عامله، فلا يمكن أن يعمل فيه، ولا تظلمون. بل إذا جاء نحو: اضرب زيدا متى جاء، لا يجوز أن يكون الناصب لمتى اضرب. فإن قال: يقدر له جواب محذوف يدل عليه ما بله وهو: ولا تظلمون، كما تقدر في اضرب زيدا: متى جاء، فالتقدير: أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلا أي:
311

فلا ينقص شيء من آجالكم وحذفه لدلالة ما قبله عليه. قيل له: لا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي، وفعل الشرط هنا مضارع. تقول العرب: أنت ظالم إن فعلت، ولا تقل أنت ظالم إن تفعل. وقرأ نعيم بن ميسرة: مشيدة بكسر الياء وصفا لها بفعل فاعلها مجازا، كما قال: قصيدة شاعرة، وإنما الشاعر ناظمها.
* (وإن تصبهم حسنة يقولوا هاذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هاذه من عندك) * قال ابن عباس: الضمير للمنافقين واليهود، وقال الحسن: للمنافقين، وقال السدي: لليهود. والظاهر أنه للمنافقين لأن مثل هذا لا يصدر من مؤمن، واليهود لم يكونوا في طاعة الإسلام حتى يكتب عليهم القتال. وروي عن ابن عباس: أن الحسنة هنا هي السلامة والأمن، والسيئة الأمراض والخوف. وعنه أيضا: الحسنة الخصب والرخاء، والسيئة الجدب والغلاء. وعنه أيضا: الحسنة السراء، والسيئة الضراء. وقال الحسن وابن زيد: الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد. وقيل: الحسنة الغنى، والسيئة الفقر. والمعنى: أن هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى الله تعالى، وأنها ليست باتباع الرسول، ولا الإيمان به، وإن تصبهم سيئة أضافوها إلى الرسول وقالوا: هي بسببه، كما جاء في قوم موسى: * (وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) * وفي قوم صالح: * (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) *. وروى جماعة من المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم) لما قدم المدينة قال اليهود والمنافقون: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه.
* (قل كل من عند الله) * أمر الله نبيه أن يخبرهم أن كلا من الحسنة والسيئة إنما هو من عند الله، لا خالق ولا مخترع سوا، فليس الأمر كما زعمتم، فالله تعالى وحده هو النافع الضار، وعن إرادته تصدر جميع الكائنات.
* (فمال * هؤلاء * القوم لا يكادون يفقهون حديثا) * هذا استفهام معناه التعجب من هذه المقالة، وكيف ينسب ما هو من عند الله لغير الله؟ أي أن هؤلاء كانوا ينبغي لهم أن يكونوا ممن يتفهم الأشياء، ويتوقفون عما يريدون أن يقولوا حتى يعرضوه على عقولهم. وبالغ تعالى في قلة فهمهم وتعلقهم، حتى نفى مقاربه الفقه، ونفى المقاربة أبلغ من نفي الفعل. وهذا النوع من الاستفهام يتضمن إنكار ما استفهم عن علته، وأنه ينبغي أن يوجد مقابله. فإذا قيل: ما لك قائما، فهو إنكار للقيام، ومتضمن أن يوجد مقابله. وإذا قيل: ما لك لا تقوم، فهو إنكار لترك القيام، ومتضمن أن يوجد مقابله. قيل في قوله: حديثا، أي القرآن لو تدبروه لبصرهم في الدين، وأورثهم اليقين. وقال ابن بحر: لامهم على ترك التفقه فيما أعلمهم به وأدبهم في كتابه. ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله: فما، ووقف الباقون على اللام في قوله: فمال، اتباعا للخط. ولا ينبغي تعمد ذلك، لأن الوقف على فما فيه قطع عن الخبر، وعلى اللام فيه قطع عن المجرور دون حرف الجر، وإنما يكون ذلك لضرورة انقطاع النفس.
(* (مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا) *))
) *
* (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * الخطاب عام كأنه قيل: ما أصابك يا إنسان. وقيل: للرسول صلى الله عليه وسلم)، والمراد غيره. وقال ابن بحر: هو خطاب للفريق في قوله: * (إذا فريق منهم) * قال: ولما كان لفظ الفريق مفردا، صح أن يخبر عنه بلفظ الواحد تارة، وبلفظ الجمع تارة. وعليه قوله:
* تفرق أهلا نابثين فمنهم
*
فريق أقام واستقل فريق
*
312

هذا مقتضى اللفظ. وأما المعنى بالناس خاصتهم وعامتهم مراد بقوله: ما أصابك من حسنة. وقال ابن عباس، وقتادة، والحسن، وابن زيد، والربيع، وأبو صالح: معنى الآية أنه أخبر تعالى على سبيل الاستئناف والقطع أن الحسنة منه بفضله، والسيئة من الإنسان بذنوبه، ومن الله بالخلق والاختراع. وفي مصحف ابن مسعود: فمن نفسك، وإنما قضيتها عليك، وقرأ بها ابن عباس. وحكى أبو عمرو: أنها في مصحف ابن مسعود، وأنا كتبتها. وروي أن ابن مسعود وأبيا قرآ: وأنا قدرتها عليك. ويؤيد هذا التأويل أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم) معناها: * (إن ما * يصيب * الانسان من) * وقالت طائفة: معنى الآية هو على قول محذوف تقديره: فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟ يقولون: ما أصابك من حسنة الآية. والابتداء بقوله: * (أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك) * والوقف على قوله: فمن نفسك. وقالت طائفة: ما أصابك من حسنة فمن الله، هو استئناف إخبار من الله أن الحسنة منه وبفضله. ثم قال: وما أصابك من سيئة فمن نفسك، على وجه الإنكار والتقدير: وألف الاستفهام محذوفة من الكلام كقوله: * (وتلك نعمة تمنها على) * أي: وتلك نعمة. وكذا * (بازغا قال هاذا ربى) * على أحد الأقوال، والعرب تحذف ألف الاستفهام قال أبو خراش:
* رموني وقالوا يا خويلد لم ترع
*
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
*
أي: أهم هم. وحكى هذا الوجه عن ابن الأنباري. وروى الضحاك عن ابن عباس أن الحسنة هنا ما أصاب المسلمين من الظفر والغنيمة يوم بدر، والسيئة ما نكبوا به يوم أحد. وعن عائشة رضي الله عنها: (ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب، حتى الشوكة يشاكها، حتى انقطاع نعله إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر). وقال تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة * فيما * كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) *.
وقد تجاذبت القدرية وأهل السنة الدلالة من هذه الآيات على مذاهبهم، فتعلقت القدرية بالثانية وقالوا: ينبغي أن لا ينسب فعل السيئة إلى الله بوجه، وجعلوا الحسنة والسيئة في الأولى بمعنى الخصب والجدب والغنى والفقر. وتعلق أهل السنة بالأولى وقالوا: * (قل كل من عند الله) * عام يدل على أن الأفعال الظاهرة من العباد هي من الله تعالى، وتأولوا الثانية وهي: مسألة يبحث عنها في أصول الدين. وقال القرطبي: هذه الآيات لا يتعلق بها إلا الجهال من الفريقين، لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية، وليست كذلك. والقدرية قالوا: ما أصابك من حسنة أي: من طاعة فمن الله، وليس هذا اعتقادهم، لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذاهبهم: أن الحسنة فعل المحسن، والسيئة فعل المسئ. وأيضا فلو كان لهم فيه حجة لكان يقول: ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة، لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا، فلا تضاف إليه إلا بفعله لهما لا يفعل غيره، نص على هذا الإمام أبو الحسن شيث بن إبراهيم بن محمد بن حيدر في كتابه المسمى بحز العلاصم في إفحام المخاصم.
وقال الراغب: إذا تؤمل مورد الكلام وسبب النزول فلا تعلق لأحد الفريقين بالآية على
313

وجه يثلج صدرا أو يزيل شكا، إذ نزلت في قوم أسلموا ذريعة إلى غنى وخصب ينالونه، وظفر يحصلونه، فكان أحدهم إذا نابتة نائبة، أو فاته محبوب، أو ناله مكروه، أضاف سببه إلى الرسول متطيرا به. والحسنة هنا والسيئة كهما في: * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) * وفي * (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هاذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) * انتهى. وقد طعن بعض الملاحدة فقال: هذا تناقض، لأنه قال: قل كل من عند الله وقال عقيبه: ما أصابك من حسنة الآية. وقال الراغب: وهذا ظاهر الوهى، لأن الحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة كالحيوان الذي يقع على الإنسان والفرس والحمار. ومن الأسماء المختلفة كالعين. فلو أن قائلا قال: الحيوان المتكلم والحيوان غير المتكلم، وأراد بالأول الإنسان، وبالثاني الفرس أو الحمار، لم يكن متناقضا. وكذلك إذا قال: العين في الوجه، والعين ليس في الوجه، وأراد بالأولى الجارحة، وبالثانية عين الميزان أو السحاب. وكذلك الآية أريد بهما في الأولى غير ما أريد في الثانية كما بيناه انتهى.
والذي اصطلح عليه الراغب بالمشتركة وبالمختلفة ليس اصطلاح الناس اليوم، لأن المشترك هو عندهم كالعين، والمختلفة هي المتباينة. والراغب جعل الحيوان من الأسماء المشتركة وهو موضوع للقدر المشترك، وجعل العين من الأسماء المختلفة وهو في الاصطلاح اليوم من المشترك. قال بعض أهل العلم: والفرق بين من عند الله، ومن الله: أن من عند الله أعم. يقال: فيما كان برضاه وبسخطه، وفيما يحصل، وقد أمر به ونهى عنه، ولا يقال: هو من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر: إن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن الشيطان انتهى. وعنى بالنفس هنا المذكورة في قوله: * (إن النفس لامارة بالسوء) * وقرأت عائشة رضي الله عنها: فمن نفسك بفتح الميم ورفع السين، فمن استفهام معناه الإنكار أي: فمن نفسك حتى ينسب إليها فعل المعنى ما للنفس في الشيء فعل.
* (وأرسلناك للناس رسولا) * أخبر تعالى أنه قد أزاح عللهم بإرساله، فلا حجة لهم لقوله: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * وللناس عام عربهم وعجمهم، وانتصب رسولا على الحال المؤكدة. وجوز أن يكون مصدرا بمعنى إرسالا، وهو ضعيف.
* (وكفى بالله شهيدا) * أي مطلعا على ما يصدر منك ومنهم، أو شهيدا على رسالتك. ولا ينبغي لمن كان الله شاهده إلا أن يطاع ويتبع، لأنه جاء بالحق والصدق، وشهد الله له بذلك.
وقد تضمنت هذه الآيات من البيان والبديع: الاستعارة في: يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، وفي: فسوف نؤتيه أجرا عظيما لما يناله من النعيم في الآخرة، وفي: سبيل الله، وفي: سبيل الطاغوت، استعار الطريق للاتباع وللمخالفة وفي: كفوا أيديكم أطلق كف اليد الذي هو مختص بالإجرام على الإمساك عن القتال. والاستفهام الذي معناه الاستبطاء والاستبعاد في: وما لكم لا تقاتلون. والاستفهام الذي معناه التعجب في: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا. والتجوز بفي التي للوعاء عن دخولهم في: الجهاد. والالتفات في: فسوف نؤتيه في قراءة النون. والتكرار في: سبيل الله، وفي: واجعل لنا من لدنك، وفي: يقاتلون، وفي: الشيطان، وفي: وإن تصبهم، وفي: ما أصابك وفي: اسم الله. والطباق اللفظي في: الذين آمنوا والذين كفروا. والمعنوي في: سبيل الله طاعة وفي سبيل الطاغوت معصية. والاختصاص في: إن كيد الشيطان كان ضعيفا، وفي: والآخرة خير لمن اتقى. والتجوز بإسناد الفعل إلى غير فاعله في: يدرككم الموت، وفي: إن تصبهم، وفي: ما أصابك. والتشبيه في: كخشية. وإيقاع أفعل التفضيل حيث لا مشاركة في: خير لمن اتقى. والتجنيس المغاير في: يخشون وكخشية. والحذف في مواضع.
2 (* (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا * ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طآئفة منهم غير الذى تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض
314

عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا * أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا * وإذا جآءهم أمر من الا من أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الا مر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا * فقاتل فى سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا * من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شىء مقيتا * وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ إن الله كان على كل شىء حسيبا) *))
) *
التبييت قال الأصمعي وأبو عبيدة وأبو العباس: كل أمر قضي بليل، قيل: قد بيت. وقال الزجاج: كل أمر مكر فيه أو خيض بليل فقد بيت. وقال الشاعر:
* أتوني فلم أرض ما بيتوا
*
وكانوا أتوني بأمر نكر
*
وقال الأخفش: العرب تقول للشيء إذا قدر: بيت. وقال أبو رزين: بيت ألف. وقيل: هيىء وزور. وقيل: قصد، ومنه قول الشاعر:
* لما تبيتنا أخا تميم
*
أعطى عطاء اللحز اللئيم
*
أي: قصدنا. وقيل: التبييت التبديل بلغة طيىء، قال شاعرهم:
وتبييت قولي عند المليك قاتلك الله عبدا كفورا التدبر: تأمل الأمر والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته، ثم استعمل في كل تأمل. والدبر: المال الكثير، سمي بذلك لأنه يبقى للإعقاب وللإدبار قاله: الزجاج وغيره.
الإذاعة: إظهار الشيء وإفشاؤه يقال: ذاع، يذيع، وأذاع، ويتعدى بنفسه وبالباء، فيكون إذ ذاك أذاع في معنى الفعل المجرد. قال أبو الأسود:
* أذاعوا به في الناس حتى كأنه
*
بعلياء نار أوقدت بثقوب
*
الاستنباط: الاستخراج، والنبط الماء يخرج من البئر أول ما تحفر، والانباط والاستنباط إخراجه. وقال الشاعر:
315

* نعم صادقا والفاعل القائل الذي
*
إذا قال قولا نبطا الماء في الثرى
*
وقال ابن الأعرابي: يقال للرجل إذا كان بعيد العز والمنعة ما يجد عدوه له: نبطا. قال كعب:
* قريب تراه لا ينال عدوه
*
له نبطا آبى الهوان قطوب
*
والنبط الذين يستخرجون المياه والنبات من الأرض. وقال الفراء: نبط مثل استنبط، ونبط الماء ينبط بضم الباء وفتحها. التحريض: الحث. التنكيل: الأخذ بأنواع العذاب وترديده على المعذب، وكأنه مأخوذ من النكل وهو: القيد. الكفل: النصيب، والنصيب في الخير أكثر استعمالا. والكفل في الشر أكثر منه في الخير. المقيت: المقتدر. قال الزبير بن عبد المطلب:
* وذي ضغن كففت النفس عنه
*
وكان على إساءته مقيتا
*
أي مقتدرا. وقال السموءل:
* ليت شعري وأشعرت إذا ما
*
قربوها منشورة ودعيت
*
* أتى الفصل ثم علي إذا حو
*
سبت أني على الحساب مقيت
*
وقال أبو عبيدة: المقيت الحاضر. وقال ابن فارس: المقيت المقتدر، والمقيت: الحافظ والشاهد. وقال النحاس: هو مشتق من القوت، والقوت مقدار ما يحفظ به الإنسان من التلف. التحية قال عبد الله بن إدريس: هي الملك وأنشد:
* أوم بها أبا قابوس حتى
*
أنيخ على تحيته بجندي
*
316

وقال الأزهري: التحية بمعنى الملك، وبمعنى البقاء، ثم صارت بمعنى السلامة. انتهى. ووزنها تفعلة، وليس الإدغام في هذا الوزن واجبا على مذهب المازني، بل يجوز الإظهار كما قالوا: أعيبة بالإظهار، وأعية بالإدغام في جمع عبي. وذهب الجمهور إلى أنه يجب الإدغام في تحية، والكلام على المذهبين مذكور في كتب النحو.
* (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) * قال صلى الله عليه وسلم): (من أحبني فقد أحب الله) فاعترضت اليهود فقالوا: هذا محمد يأمر بعبادة الله، وهو في هذا القول مدع للربوبية فنزلت. وفي رواية: قال المنافقون لقد قارب الشرك. وفي رواية: قالوا ما يريد هذا الرجل إلا أن يتخذ ربا كما اتخذت النصارى عيسى. وتعلق الطاعتين لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهى إلا عن ما نهى الله عنه، فكانت طاعته في ذلك طاعة الله. ومن تولى بنفاق أو أمر فما أرسلناك هذا التفات، إذ لو جرى على الرسول لكان فما أرسله. والحافظ هنا المحاسب على الأعمال، أو الحافظ للأعمال، أو الحافظ من المعاصي، أو الحافظ عن التولي، أو المسلط من الحفاظ أقوال. وتتضمن هذه الآية الإعراض عمن تولى، والترك رفقا من الله، وهي قبل نزول القتال.
* (ويقولون طاعة) * نزلت في المنافقين باتفاق. أي: أمرتهم بشيء قالوا طاعة، أي: أمرنا طاعة، أو منا طاعة. قال الزمخشري: ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة، وهذا من قول المرتسم سمعا وطاعة، وسمع وطاعة، ونحوه قول سيبويه. وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمدا لله وثناء عليه، كأنه قال: أمري وشأني حمد الله. ولو نصب حمد الله وثناء عليه كان على الفعل، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها انتهى. ولا حاجة لذكر ما لم يقرأ به ولا لتوجيهه ولا لتنظيره بغيره، خصوصا في كتابه الذي وضعه على الاختصار لا على التطويل.
* (فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذى تقول) * أي إذا خرجوا من عندك رووا وسووا أي: طائفة منهم غير الذي تقوله لك يا محمد من إظهار الطاعة، وهم في الباطن كاذبون عاصون، فعلى هذا الضمير في تقول عائد على الطائفة، وهو قول ابن عباس. وقيل: يعود على الرسول أي: غير الذي تقوله وترسم به يا محمد، وهو الخلاف والعصيان المشتمل عليه بواطنهم. ويؤيد هذا التأويل قراءة عبد الله بيت مبيت منهم يا محمد. وقرأ يحيى بن يعمر يقول: بالياء، فيحتمل أن يكون الضمير للرسول، ويكون التفاتا إذ خرج من ضمير الخطاب في من عندك، إلى ضمير الغيبة. ويحتمل أن يعود على الطائفة، لأنها في معنى القوم أو الفريق، وخص طائفته بالتبيين لأنه لم يكونوا ليجتمعوا كلهم في دار واحدة، أو لأنه إخبار عن من علم الله أنه يبقى على كفره ونفاقه. وأدغم حمزة وأبو عمرو بيت طائفة، وأظهر الباقون.
* (والله يكتب ما يبيتون) * أي: يكتبه في صحائف أعمالهم حسبما تكتبه الحفظة ليجازوا به. وقال الزجاج: يكتبه في كتابه إليك، أي: ينزله في القرآن ويعلم به ويطلع على سرهم. وقيل: يكتب يعلم عبر بالكتابة عن العلم، لأنه من ثمراتها.
* (فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) * هذا مؤكد لقوله: * (ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) * أي لا تحدث نفسك بالانتقام منهم. وليس المعنى فاعرض عن دعوتهم إلى الإيمان وعن وعظهم. وقال الضحاك: معنى أعرض عنهم لا تخبر بأسمائهم فيجاهروك بالعداوة بعد المجاملة في القول، ثم أمره بإدامة التوكل عليه، هو ينتقم لك منهم، وهذا أيضا قبل نزول القتال.
* (أفلا يتدبرون القرءان) * قرأ الجمهور: يتدبرون بياء وتاء بعدها على الأصل. وقرأ ابن محيص: بإدغام التاء في الدال، وهذا استفهام معناه الإنكار أي: فلا يتأملون ما نزل عليك من الوحي ولا يعرضون عنه، فإنه في تدبره يظهر برهانه وسطع نوره ولا يظهر ذلك لمن أعرض عنه ولم يتأمله.
* (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * الظاهر أن المضمر في فيه عائد على القرآن، وهذا في علم البيان الاحتجاج النظري، وقوم يسمونه المذهب الكلامي
317

ووجه هذا الدليل أنه ليس من متكلم كلاما طويلا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير، إما في الوصف واللفظ، وإما في المعنى بتناقض أخبار، أو الوقوع على خلاف المخبر به، أو اشتماله على ما لا يلتئم، أو كونه يمكن معارضته. والقرآن العظيم ليس فيه شيء من ذلك، لأنه كلام المحيط بكل شيء مناسب بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء، وتظافر صدق أخبار، وصحة معان، فلا يقدر عليه إلا العالم بما لا يعلمه أحد سواه.
قال ابن عطية: فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافا فالواجب أن يتهم نظره، ويسأل من هو أعلم منه. وما ذهب إليه بعض الزنادقة المعاندين من أن فيه أحكاما مختلفة وألفاظا غير مؤتلفة فقد أبطل مقالتهم علماء الإسلام، وما جاء في القرآن من اختلاف في تفسير وتأويل وقراءة وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وعام وخاص ومطلق ومقيد فليس هو المقصود في الآية، بل هذه من علوم القرآن الدالة على اتساع معانيه، وأحكام مبانيه. وذهب الزجاج إلى أن الضمير في فيه عائد على ما يخبره به الله تعالى مما يبيتون ويسرون، والمعنى: أنك تخبرهم به على حد ما يقع، وذلك دليل على أنه من عند الله غيب من الغيوب. وفي ذكر تدبر القرآن رد على من قال من الرافضة: إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم).
* (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) * روى مسلم من حديث ابن عباس عن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما اعتزل نساءه، فدخل عمر المسجد فسمع الناس يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم) نساءه، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم) فسأله: أطلقت نساءك؟ قال: لا. فخرج فنادى: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم يطلق نساءه، فنزلت). وكان هو الذي استنبط الأمر، وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن الرسول كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت، أو غلبت، تحدثوا بذلك وأفشوه ولم يصبروا حتى يكون هو المحدث به، فنزلت. والضمير في: جاءهم على المنافقين، قاله ابن عباس والجمهور. أو على ناس من ضعفة المؤمنين قاله: الحسن والزجاج. ولم يذكر الزمخشري غيره أو عليهما نقله ابن عطية، أو على اليهود قاله بعضهم. والأمر من الأمن أو الخوف فوز السرية بالظفر والغنيمة، أو الخيبة والنكبة، فيبادرون بإفشائه قبل أن يخبر الرسول بذلك. أو ما كان ينزل من الوحي بالوعظ بالظفر، أو بتخفيف من جهة الكفار، كان يسر النبي عليه السلام ذلك إليهم فيفشونه، وكان في ذلك مضرة على المسلمين، أو ما يعزم عليه النبي من الوداعة والأمان لقوم، والخوف الخبر يأتي أن قوما يجمعون للنبي صلى الله عليه وسلم) فيخاف المسلمون منهم قاله: الزجاج، والماوردي، وأبو سليمان الدمشقي. وقال ابن عطية: المعنى أن المنافقين كانوا يشرئبون إلى سماع ما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم) في سراياه، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين، أو فتح عليهم، حقروها وصغروا شأنها انتهى. والضمير في به عائد على الأمر، قيل: ويجوز أن يعود على الأمن أو الخوف، ووحد الضمير لأن، أو تقتضي أحدهما.
* (ولو ردوه إلى الرسول * وأولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * أي: ولو ردوا الأمرالذي بلغهم إلى الرسول وأولي الأمر وهم: الخلفاء الأربعة ومن يجري على سننهم، قاله: ابن عباس، أو أبو بكر، وعمر خاصة، قاله: عكرمة. أو أمراء السرايا قاله: السدي، ومقاتل، وابن زيد. أو العلماء من الصحابة قاله: الحسن، وقتادة، وابن جريج. والمعنى: لو أمسكوا عن الخوض فيما بلغهم، واستقصوا الأمر من الرسول وأولي الأمر، لعلم حقيقة ذلك الأمر الوارد من له
318

بحث ونظر وتجربة، فأخبروهم بحقيقة ذلك، وأن الأمر ليس جاريا على أول خبر يطرأ.
قال الزمخشري: هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال والاستبطان للأمور، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم) من أمن وسلامة أو خوف وخلل أذاعوا به، وكانت إذاعتهم مفسدة. ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله، وإلى أولي الأمر منهم وهم: كبار الصحابة البصراء بالأمور،
أو الذين كانوا يؤمرون منهم لعلمه، لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه أي: الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. وقيل: كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار، فيذيعونه فينشر، فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة، ولو ردوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم، وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه، وما يأتون ويدرون فيه. وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر، وقالوا: نسكت حتى نسمعه منهم، ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع؟ لعلمه الذين يستنبطونه منهم لعلم صحته، وهل هو مما يذيع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي: يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم انتهى كلامه.
وهذه كلها تأويلات حسنة، وأجراها على نسق الكلام هذا التأويل الأخير وهو: أن المعنى إذا طرأ خبر بأمن المسلمين أو خوف، فينبغي أن لايشاع، وأن يرد إلى الرسول وأولي الأمر، فإنهم يخبرون عن حقيقة الأمر فيعلمه من يسألهم، ويستخرج ذلك من جهتهم، لأن ما أخبر به الرسول وأولوا الأمر إذ هم مخبرون عنه حق لا شك فيه. وقال أبو بكر الرازي: في هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول في حياته إذ كانوا بحضرته، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته، والمنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه، فثبت بذلك أن من الأحكام ما هو مودع في النص قد كلف الوصول إلى علمه بالاستدلال والاستنباط. وطول الرازي في هذه المسألة اعتراضا وانفصالا واستقرأ من الآية أحكاما.
قال: ويدل على بطلان قول القائل بالإمامة: لأنه لو كان كل شيء من الأحكام منصوصا عليه يعرفه الإمام لزال موضع الاستنباط، وسقط الرد إلى أولي الأمر، بل كان الواجب الرد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص. وقال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير ما نصه في ذلك الكتاب: وقد لاح لي في هذه الآية أن في الكلام حذفا وتقديما وتأخيرا وأن هذا الكلام متعلق بالذي قبله مردود إليه، ويكون التقدير: أفلا يتدبرون القرآن، ولو تدبروه لعلموا أنه من كلام الله، والمشكل عليهم من متشابهه لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم يعني: لعلم معنى ذلك المتشابه الذين يستنبطونه منهم من أهل العلم بالكتاب إلا قليلا، وهو ما ستأثر الله به من علم كتابه ومكنون خطابه. ثم قال: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، والذي حسن لهم ذلك وزينه الشيطان، ثم التفت إلى المؤمنين فقال: * (ولولا فضل الله عليكم) * وقد أشار إلى شيء من هذا أبو طالب المكي في كتابه المعروف بقوت القلوب، وقال: إن قوله: * (إلا قليلا) * متصل بقوله * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * وعلى هذا يكون الاستنباط استخراجا من معنى اللفظ المتشابه بنوع من النظرة والاجتهاد والتفكر انتهى كلامه. وهو كما ترى تركيب ونظم غير تركيب القرآن ونظمه، وكثيرا ما يذكر هذا الرجل في القرآن تقديما وتأخيرا، وأغرب من ذلك أنه يجعله من أنواع علم البيان، وأصحابنا وحذاق النحويين يجعلونه من باب ضرائر الأشعار، وشتان ما بين القولين. وقرأ أبو السمال: لعلمه بسكون اللام. قال ابن عطية: وذلك مثل شجر بينهم انتهى. وليس مثله لأن تسكين علم قياس مطرد في لغة تميم
319

وشجر ليس قياسا مطردا، إنما هو على سبيل الشذوذ. وتسكين علم مثل التسكين في قوله:
* فإن تبله يضجر كما ضجر بازل
*
من الادم دبرت صفحتاه وغاربه
*
* (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * هذا خطاب للمؤمنين باتفاق من المتأولين قاله: ابن عطية. قال: والمعنى لولا هداية الله لكم وإرشاده لبقيتم على كفركم وهو اتباع الشيطان. وقيل: الفضل الرسول. وقيل: الإسلام. وقيل: القرآن. وقيل: في الرحمة أنها الوحي. وقيل: اللطف. وقيل: النعمة. وقيل: التوفيق. والظاهر أن الاستثناء هو من فاعل اتبعتم. قال الضحاك: هدى الكل منهم للإيمان، فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك، ولا عنت له شبهة ارتياب، وذلك هو القليل، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر، فلولا فضل الله بتجريد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان، ويكون الفضل معينا أي: رسالة محمد صلى الله عليه وسلم) والقرآن، لأن الكل إنما هدي بفضل الله على الإطلاق.
وقال قوم: إلا قليلا إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم، أدركوا بعقولهم معرفة الله ووحدوه قبل أن يبعث الرسول، كزيد بن عمرو بن نفيل أدرك فساد ما عليه اليهود والنصارى والعرب، فوحد الله وآمن به، فعلى هذا يكون استثناء منقطعا إذ ليس مندرجا في المخاطبين بقوله: لاتبعتم.
وقال قوم: الاستثناء إنما هو من الاتباع، فقدره الزمخشري: إلا اتباعا قليلا، فجعله مستثنى من المصدر الدال عليه الفعل وهو لاتبعتم. وقال ابن عطية: في تقدير أن يكون استثناء من الاتباع قال: أي لاتبعتم الشيطان كلكم إلا قليلا من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها، ففسره في الاستثناء بالمتبع فيه، فيكون استثناء من المتبع فيه المحذوف لا من الاتباع، ويكون استثناء مفرعا، والتقدير: لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا قليلا من الأشياء فلا تتبعونه فيه. فإن كان ابن عطية شرح من حيث المعنى فهو صحيح، لأنه يلزم من الاستثناء الاتباع القليل أن يكون المتبع فيه قليلا، وإن كان شرح من حيث الصناعة النحوية فليس بجيد، لأن قوله: إلا اتباعا قليلا، لا يرادف إلا قليلا من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها. وقال قوم: قوله إلا قليلا عبارة عن العدم، يريد: لاتبعتم الشيطان كلكم. قال ابن عطية: وهذا قول قلق، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قلما تنبت كذا، بمعنى لا تنبته. لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها، ولكن ذكره الطبري انتهى. وهذا الذي ذكره ابن عطية صحيح، ولكن قد
جوزه هو في قوله: * (ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) * ولم يقلق عنده هناك ولا رده، وقد رددناه عليه هناك فيطالع ثمة.
وقيل: إلا قليلا مستثنى من قوله: أذاعوا به، والتقدير: أذاعوا به إلا قليلا، قاله: ابن عباس وابن زيد، واختاره: الكسائي، والفراء، وأبو عبيد، وابن حرب، وجماعة من النحويين، ورجحه الطبري. وقيل: مستثنى من قوله: لعلمه الذين يستنبطونه منهم، قاله: الحسن، وقتادة، واختاره ابن عيينة. وقال مكي: ولولا فضل الله عليكم أي: رحمته ونعمته إذ عافاكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين الذين وصفهم بالتبييت، والخلاف لاتبعتم الشيطان هو خطاب للذين قال لهم: * (خذوا حذركم فانفروا ثبات) * وقيل: الخطاب عام، والقليل المستثنى هم أمة الرسول، لأنهم قليل بالنسبة إلى الكفار. وفي الحديث الصحيح: (ما أنتم إلا كالرقمة البيضاء في الثور الأسود).
* (فقاتل فى سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) * قيل: نزلت في بدر الصغرى. دعا الناس إلى الخروج، وكان أبو سفيان وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم) اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت. فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده.
320

ومناسبة هذه الآية هي: أنه لما ذكر في الآيات قبلها تثبيطهم عن القتال، واستطرد من ذلك إلى أن الموت يدرك كل أحد ولو اعتصم بأعظم معتصم، فلا فائدة في الهرب من القتال، وأتبع ذلك بما أتبع من سوء خطاب المنافقين للرسول عليه السلام، وفعلهم معه من إظهار الطاعة بالقول وخلافها بالفعل، وبكتهم في عدم تأملهم ما جاء به الرسول من القرآن الذي فيه كتب عليهم القتال، عاد إلى أمر القتال. وهكذا عادة كلام العرب تكون في شيء ثم تستطرد من ذلك إلى شيء آخر له به مناسبة وتعلق، ثم تعود إلى ذلك الأول.
والفاء هنا عاطفة جملة كلام على جملة كلام يليه، ومن زعم أن وجه العطف بالفاء هو أن يكون متصلا بقوله: * (وما لكم لا تقاتلون) * أو بقوله: * (فسوف * يؤتيه * أجرا عظيما) * وهو محمول على المعنى على تقدير شرط أي: إن أردت الفوز فقاتل. أو معطوفة على قوله: * (فقاتلوا أولياء الشيطان) * فقد أبعد. وظاهر الأمر أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم) وحده، ويؤكده: لا تكلف إلا نفسك. وحمله الزمخشري على تقدير شرط، قال: أي إن أفردوك وتركوك وحدك لا تكلف إلا نفسك وحدها أن تقدمها للجهاد، فإن الله هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف انتهى. وسبقه إليه الزجاج قال: أمره بالجهاد وإن قاتل وحده، لأنه ضمن له النصرة. وقال ابن عطية: لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي دون الأمة مرة ما، فالمعنى والله أعلم أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم) في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه: أي: أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فقاتل في سبيل الله، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر، أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم): (لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي) وقول أبي بكر وقت الردة: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي.
ومعنى لا تكلف إلا نفسك: أي: لا تكلف في القتال إلا نفسك، فقاتل ولو وحدك. وقيل: المعنى إلا طاقتك ووسعك. والنفس يعبر بها عن القوة يقال: سقطت نفسه أي قوته. وقرأ الجمهور: لا تكلف خبرا مبنيا للمفعول، قالوا: والجملة في موضع الحال، ويجوز أن يكون إخبارا من الله لنبيه، لا حالا شرع له فيها أنه لا يكلف أمر غيره من المؤمنين، إنما يكلف أمر نفسه فقط. وقرئ: لا نكلف بالنون وكسر اللام، ويحتمل وجهي الإعراب: الحال والاستئناف. وقرأ عبد الله بن عمر: لا تكلف بالتاء وفتح اللام، والجزم على جواب الأمر. وأمره تعالى بحث المؤمنين على القتال، وتحريك هممهم إلى الشهادة.
* (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) * قال عكرمة وغيره: عسى من الله واجبه، ومن البشر متوقعة مرجوة. والذين كفروا: هم كفار قريش، وقد كف الله تعالى بأسهم، وبدا لأبي سفيان ترك القتال. وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم. وقيل: كف البأس يكون عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام. وقيل: ذلك يوم الحديبية. وقيل: هي فيمن ضربت عليهم الجزية. والجمهور على ما قدمناه من أن ذلك كان عند خروجهم إلى بدر الصغرى. والظاهر في هذا أنه لا يتقيد كف بأس الذين كفروا بما ذكروا، والتخصيص بشيء يحتاج إلى دليل.
* (والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) * هذا تقوية لقلوب المؤمنين، وأن بأس الله أشد من بأس الكفار. وقد رجى كف بأسهم، ثم ذكر ما أعد لهم من النكال، وأن الله تعالى هو أشد عقوبة. فذكر قوته وقدرته عليهم، وما يؤول إليه أمرهم من التعذيب. قال الحسن وقتادة: وأشد تنكيلا أي عقوبة فاصحة، والأظهر أن أفعل التفضيل هنا على بابها. وقيل: هو من باب العسل أحلى من الخل، لأن بأسهم بالنسبة إلى بأسه تعالى ليس بشيء.
* (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) * قال قوم: من يكن شفيعا لوتر أصحابك يا محمد في الجهاد فيسعفهم في جهاد عدوهم يكن له نصيب من الجهاد أو من
321

يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين، فتلك حسنة، وله نصيب منها. وحملهم على هذا التأويل ما تقدم من ذكر القتال والأمر به، وقال قريبا منه الطبري. وقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: هي في حوائج الناس، فمن يشفع لنفع فله نصيب، ومن يشفع لضر فله كفل.
وقال الزمخشري: الشفاعة الحسنة هي التي روعي فيها حق مسلم، ودفع عنه بها شر، أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله، ولم يؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود الله، ولا حق من الحقوق. والسيئة ما كان بخلاف ذلك انتهى. وهذا بسط ما قاله الحسن، قال: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي. وقيل: الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلم لأنها في معنى الشفاعة إلى الله تعالى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم): (من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك النصيب) ولدعوة على المسلم بضد ذلك. وقال ابن السائب ومقاتل: الشفاعة الحسنة هنا الصلح بين الاثنين، والسيئة
الإفساد بينهما والسعي بالنميمة. وقيل: الشفاعة الحسنة أن يشفع إلى الكافر حتى يوضح له من الحجج لعله يسلم، والسيئة أن يشفع إلى المسلم عسى يرتد أو ينافق. والظاهر أن من للسبب أي: نصيب من الخير بسببها، وكفل من الشر بسببها. وتقدم في المفردات أن الكفل النصيب. وسمي المجازي.
وقال أبان بن تغلب: الكفل المثل. وقال الحسن وقتادة: هو الوزر والإثم، وغاير في النصيب فذكره بلفظ الكفل في الشفاعة السيئة، لأنه أكثر ما يستعمل في الشر، وإن كان قد استعمل في الخير لقوله: * (يؤتكم كفلين من رحمته) * قالوا: وهو مستعار من كفل البعير، وهو كساء يدار على سنامه ليركب عليه، وسمي كفلا لأنه لم يعم الظهر، بل نصيبا منه.
* (وكان الله على كل شىء مقيتا) * أي: مقتدرا قاله السدي وابن زيد والكسائي. وقال ابن عباس ومجاهد: حفيظا وشهيدا. وقال عبد الله بن كثير: واصبا قيما بالأمور. وقيل: المحيط. وقيل: الحسيب. وقيل: المجازي. وقيل: المواظب للشيء الدائم عليه. قال ابن كثير: وهو قول ابن عباس أيضا. وهذه أقوال متقاربة لاستلزام بعضها معنى بعض. وقال الطبري في قوله: إني على الحساب مقيت، إنه من غير هذه المعاني المتقدمة، وإنه بمعنى موقوت. وهذا يضعفه أن يكون بناء اسم الفاعل بمعنى بناء اسم المفعول. وقال غيره: معناه مقتدر.
* (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * الظاهر أن التحية هنا السلام، وأن المسلم عليه مخير بين أن يرد أحسن منها، أو أن يردها يعني مثلها، فأو هنا للتخيير. وقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن زيد: بأحسن منها إذا كان مسلما، أو ردوها إذا كان يسلم عليك كافر فاردد، وإن كان مجوسيا فتكون أو هنا للتنويع. والذي يظهر أن الكافر لا يرد عليه مثل تحيته، لأن المشروع في الرد عليهم أن يقال لهم: وعليكم، ولا يزادوا على ذلك، فيكون قوله: وإذا حييتم معناه: وإذا حياكم المسلمون، وإلى هذا ذهب. عطاء. وعن الحسن: ويجوز أن يقال للكافر: وعليك السلام، ولا يقل: ورحمة الله، فإنها استغفار، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم
322

عليه: وعليك السلام ورحمة الله فقيل له، فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ وكأن من قال بهذا أخذ بعموم وإذا حييتم، لكن ذلك مخالف للنص النبوي من قوله: (فقولوا وعليكم) وكيفية رد الأحسن أنه إذا قال: سلام عليك، فيقول: عليك السلام ورحمة الله. فإذا قال: سلام عليك ورحمة الله قال: عليك السلام ورحمة الله وبركاته. فإذا قال المسلم هذا بكماله رد عليه مثله. وروي عن عمر، وابن عباس، وغيرهما: أن غاية السلام إلى البركة.
وفي الآية دليل على أن الرد واجب لأجل الأمر، ولا يدل على وجوب البداءة، بل هي سنة مؤكدة، هذا مذهب أكثر العلماء. والجمهور على أن لا يبدأ أهل الكتاب بالسلام، وشذ قوم فأباحوا ذلك. وقد طول الزمخشري وغيره بذكر فروع كثيرة في السلام، وموضوعها علم الفقه. وذهب مجاهد: إلى تخصيص هذه التحية بالجهاد، فقال: إذا حييتم في سفركم بتحية الإسلام * (فلا * تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) * فإن أحكام الإسلام تجري عليهم. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك: أن هذه الآية في تشميت العاطس، والرد على المشمت. وضعف ابن عطية وغيره من أصحاب مالك هذا القول. قال ابن عطية: لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة. أما أن الرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك، انتهى. وذهب قوم إلى أن المراد بالتحية هنا الهداية واللطف، وقال: حق من أعطى شيئا من ذلك أن يعطى مثله أو أحسن منه. قال ابن خويز منداد: يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب، وقد شحن بعض الناس تليفه هنا بفروع من أحكام القتال والسلام، وتشميت العاطس، والهدايا، وموضوعها علم الفقه وذكروا أيضا في ما يدخل في التحية مقارنا للسلام، واللقاء والمصافحة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم) أمر بها وفعلها مع السلام والمعانقة، وأول من سنها إبراهيم عليه السلام، والقبلة. وعن الحسن في قوله تعالى: * (رحماء بينهم) * قال: كان الرجل يلقى أخاه فما يفارقه حتى يلزمه ويقبله. وعن علي قبلة الولد رحمة، وقبلة المرأة شهوة، وقبلة الوالدين بر، وقبلة الأخ دين، وقبلة الإمام العادل طاعة، وقبلة العالم إجلال الله تعالى. قال القشيري: في الآية تعليم لهم حسن العشرة وآداب الصحبة، وأن من حملك فضلا صار ذلك في ذمتك قرضا، فإن زدت على فعله وإلا فلا تنقص عن مثله.
* (إن الله كان على كل شىء حسيبا) * أي: حاسبا من الحساب، أو محسبا من الأحساب، وهو الكفاية. فإما فعيل للمبالغة، وإما بمعنى مفعل.
وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع أنواعا الالتفات في قوله: فما أرسلناك. والتكرار في: من يطع فقد أطاع، وفي: بيت ويبيتون، وفي: اسم الله في مواضع، وفي: أشد، وفي: من يشفع شفاعة. والتجنيس المماثل في: يطع وأطاع، وفي: بيت ويبيتون، وفي: حييتم فحيوا. والمغاير في: وتوكل ووكيلا، وفي: من يشفع شفاعة، وفي: وإذا حييتم بتحية. والاستفهام المراد به الإنكار في: أفلا يتدبرون. والطباق في: من الأمن أو الخوف، وفي: شفاعة حسنة وشفاعة سيئة. والتوجيه في: غير الذي تقول. والاحتجاج النظري ويسمى المذهب الكلامي في: ولو كان من عند غير الله. وخطاب العين والمراد به الغير في: فقاتل. والاستعارة في: في سبيل الله، وفي: أن يكف بأس. وافعل في: غير المفاضلة في أشد. وإطلاق كل على بعض في: بأس الذين كفروا واللفظ مطلق والمراد بدر الصغرى. والحذف في عدة مواضع تقتضيها الدلالة.
(* (الله لاإلاه إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا * فما لكم فى المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن
323

يضلل الله فلن تجد له سبيلا * ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء فلا تتخذوا منهم أوليآء حتى يهاجروا فى سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا * إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جآءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلونكم أو يقاتلوا قومهم ولو شآء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا * ستجدون ءاخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا
فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولائكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا * وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلىأهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما * ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) *))
) *
الاركاس: الرد والرجع. قيل: من آخره على أوله، والركس: الرجيع. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم) في (الروثة هذا ركس) وقال أمية بن أبي الصلت:
* فأركسوا في حميم النار أنهم
*
كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
*
وحكى الكسائي والنضر بن شميل: ركس وأركس بمعنى واحد أي: رجعهم. ويقال: ركس مشددا بمعنى أركس، وارتكس هو أي ارتجع. وقيل: أركسه أوبقه قال:
* بشؤمك أركستني في الخنا
*
وأرميتني بضروب العنا
*
324

وقيل: أضلهم. وقال الشاعر:
* وأركستني عن طريق الهدى
*
وصيرتني مثلا للعدا
*
وقيل: نكسه. قاله الزجاج قال:
* ركسوا في فتنة مظلمة
*
كسواد الليل يتلوها فتن
*
الدية: ما غرم في القتل من المال، وكان لها في الجاهلية أحكام ومقادير، ولها في الشرع أحكام ومقادير، سيأتي ذكر شيء منها. وأصلها: مصدر أطلق على المال المذكور، وتقول: منه ودي، يدي، وديا ودية. كما تقول: وشى يشي، وشيا وشية، ومثاله من صحيح اللام: زنة وعدة.
التعمد والعمد: القصد إلى الشيء * (الله لا إلاه إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) * قال مقاتل: نزلت فيمن شك في البعث، فاقسم الله ليبعثه. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة وهي: أنه تعالى لما ذكر أن الله كان على كل شيء حسيبا، تلاه بالاعلام بوحدانية الله تعالى والحشر والبعث من القبور للحساب. ويحتمل أن يكون لا إله إلا هو خبر عن الله، ويحتمل أن يكون جملة اعتراض، والخبر الجملة المقسم عليها، وحذف هنا القسم للعلم به. وإلى إما على بابها ومعناها: من الغاية، ويكون الجمع في القبور، أو يضمن معنى: ليجمعنكم معنى: ليحشرنكم، فيعدى بإلى. قيل: أو تكون إلى بمعنى في، كما أولوه في قول النابغة:
* فلا تتركني بالوعيد كأنني
*
إلى الناس مطلى به القار أجرب
*
أي: في الناس. وقيل: إلى بمعنى مع. والقيامة والقيام بمعنى واحد، كالطلابة والطلاب. قيل: ودخلت الهاء للمبالغة لشدة ما يقع فيه من الهول، وسمي بذلك إما لقيامهم من القبور، أو لقيامهم للحساب. قال تعالى: * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) * ولما كان الحشر جائزا بالعقل، واجبا بالسمع، أكده بالقسم قبله وبالجملة بعده من قوله: لا ريب فيه. واحتمل الضمير في فيه أن يعود إلى اليوم، وهو الظاهر. وأن يعود على المصدر المفهوم من قوله تعالى: ليجمعنكم. وتقدم تفسير لا ريب فيه في أول البقرة.
* (ومن أصدق من الله حديثا) *. هذا استفهام معناه النفي، التقدير: لا أحد أصدق من الله حديثا. وفسر الحديث بالخبر أو بالوعد قولان، والأظهر هنا الخبر. قال ابن عطية: وذلك أن دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف أو الرجاء أو سوء السجية، وهذه منفية في حق الله تعالى، والصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقا لما في قلبه، والأمر المخير عنه في وجوده انتهى. وقال الماتريدي: أي إنكم تقبلون حديث بعضكم من بعض مع احتمال صدقه وكذبه، فإن تقبلوا حديث من يستحيل عليه الكذب في كل ما أخبركم به من طريق الأولى. وطول الزمخشري هنا إشعارا بمذهبه فقال: لا يجوز عليه الكذب، وذلك أن الكذب مستقبل بصارف عن الإقدام عليه وهو قبحه الذي هو كونه كذبا وإخبارا عن الشيء بخلاف ما هو عليه، فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب، ليجر منفعة، أو يدفع مضرة، أو هو غني عنه، إلا أنه يجهل غناه، أو هو جاهل بقبحه، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في أخباره، ولا يبالي بأنهما نطق، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق. وعن بعض السفهاء: أنه عوتب على الكذب فقال: لو غرغرت لهراتك به، ما فارقته. وقيل لكذاب: هل صدقت قط؟ فقال: لولا أني صادق في قولي لا، لقلتها. فكان الحكيم الغني الذي لا تجوز عليه الحاجات، العالم بكل معلوم، منزها عنه كما هو منزه عن سائر القبائح انتهى. وكلامه تكثير لا يليق بكتابه، فإنه مختصر في التفسير.
325

وقرأ حمزة والكسائي: أصدق بإشمام الصاد زايا، وكذا فيما كان مثله من صاد ساكنة بعدها دال، نحو: يصدقون وتصدية. وأما إبدالها زايا محضة في ذلك فهي لغة كلب. وأنشدوا:
* يزيد الله في خيراته
*
حامي الذمار عنده مضد مصدوقاته
*
يريد: عند مصدوقاته.
* (فما لكم فى المنافقين فئتين) * ذكروا في سبب نزولها أقوالا طولوا بها وملخصها: أنهم قوم أسلموا فاستوبؤا المدينة فخرجوا، فقيل هم: أما لكم في الرسول أسوة؟ أو ناس رجعوا من أحد لما خرج الرسول، وهذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت. أو ناس بمكة تكلموا بالإسلام وهم يعينون الكفار، فخرجوا من مكة. قال الحسن، ومجاهد: خرجوا الحاجة لهم، فقال قوم من المسلمين، اخرجوا إليهم فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم. وقال قوم: كيف نقتلهم وقد تكلموا بالإسلام؟ رواه ابن عطية عن ابن عباس. أو قوم قدموا المدينة وأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك، أو قوم أعلنوا الإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة قاله: الضحاك. أو العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يسارا، أو المنافقون الذين تكلموا في حديث الإفك.
وما كان من هذه الأقوال يتضمن أنهم كانوا بالمدينة، يرده قوله: * (حتى يهاجروا فى سبيل الله) * إلا إن حملت المهاجرة على هجرة ما نهى الله عنه، والمعنى: أنه تعالى أنكر عليهم اختلافهم في نفاق من ظهر منه النفاق أي: من ظهر منه النفاق قطع بنفاقه، ولو لم يكونوا باديا نفاقهم، لما أطلق عليه اسم النفاق. وفي المنافقين متعلق بما تعلق به لكم، وهو كائن أي: أي شيء كائن لكم في شأن المنافقين. أو بمعنى فئتين أي: فرقتين في أمر المنافقين. وانتصب فئتين على الحال عند البصريين من ضمير الخطاب في لكم، والعامل فيها العامل في لكم. وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على إضمار كان أي: كنتم فئتين. ويجيزون مالك الشاتم أي: كنت الشاتم، وهذا عند البصريين لا يجوز، لأنه عندهم حال، والحال لا يجوز تعريفها.
* (والله أركسهم بما كسبوا) * أي: رجعهم وردهم في كفرهم قاله: ابن عباس، واختار الفراء والزجاج: أوبقهم. روى عن ابن عباس: أو أضلهم، قاله السدي. أو أهلكهم قاله قتادة، أو نكسهم قاله الزجاج. وكلها متقاربة. ومن عبر به عن الإهلاك فإنه أخذ بلازم الإركاس. ومعنى بما كسبوا أي: بما أجراه الله عليهم من المخالفة، وذلك الاركاس هو بخلق الله واختراعه، وينسب للعبد كسبا.
وقال الزمخشري: والله أرسكهم أي: ردهم في حكم المشركين كما كانوا بما كسبوا من ارتدادهم، ولحوقهم بالمشركين، واحتيالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم). أو أركسهم في الكفر بأن خذلهم حتى ارتكبوا فيه لما علم من مرض قلوبهم انتهى. وهو جار على عقيدته الاعتزالية، فلا ينسب الاركاس إلى الله حقيقة، بل يؤوله على معنى الخذلان وترك اللطف، أو على الحكم بكونهم من المشركين. إذ هم فاعلو الكفر ومخترعوه، لا الله تعالى الله عن قولهم.
وقرأ عبد الله: ركسهم ثلاثيا. وقرئ: ركسهم ركسوا فيها بالتشديد، قال الراغب: الركس والنكس الرذل، والركس أبلغ من النكس، لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه، والركس أصله ما رجع رجيما بعد أن كان طعاما فهو كالرجس وصف أعمالهم به، كما قال: * (إنما المشركون نجس) * وأركسه أبلغ من ركسه، كما أن أسقاه بلغ من سقاه انتهى. وهذه الجملة في موضع الحال، أنكر تعالى عليهم اختلافهم في هؤلاء المنافقين في حال أن الله تعالى قد ردهم في الكفر، ومن يرده الله إلى الكفر لا يختلف في كفره.
* (أتريدون أن تهدوا
326

من أضل الله) * هذا استفهام إنكار أي: من أراد الله ضلاله، لا يريد أحد هدايته لئلا تقع إرادته مخالفة لإرادة الله تعالى، ومن قضى الله عليه بالضلال لا يمكن إرشاده، ومن أضل الله اندرج فيه المركسون وغيرهم. ممن أضله الله فكأنه قيل: أتريدون أن تهدوا هؤلاء المنافقين؟ ومن أضله الله تعالى من غيرهم واندراجهم في عموم من
بعد قوله: والله أركسهم، هو على سبيل التوكيد، إذ ذكروا أولا على سبيل الخصوص، وثانيا على سبيل اندراجهم في العموم. وقال الزمخشري: أتريدون أن تجعلوا من جملة المهتدين؟ من أضله الله من جعله من الضلال وحكم عليه بذلك، أو خذله حتى ضل انتهى. وهو على طريقته الاعتزالية من أنه لا ينسب إلا ضلال إلى الله على سبيل الحقيقة.
* (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * أي: فلن تجد لهدايته سبيلا. والمعنى: لخلق الهداية في قلبه، وهذا هو المنفى. والهداية بمعنى الإرشاد والتبيين، هي للرسل. وخرج من خطابهم إلى خطاب الرسول على سبيل التوكيد في حق المختلفين، لأنه إذا لم يكن له ذلك، فالأحرى أن لا يكون ذلك لهم. وقيل: من يحرمه الثواب والجنة لا يجد له أحد طريقا إليهما. وقيل: من يهلكه الله فليس لأحد طريق إلى نجاته من الهلاك. وقيل: ومن يضلل الله فلن تجد له مخرجا وحجة.
* (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) * من أثبت أن لو تكون مصدرية قدره: ودوا كفركم كما كفروا. ومن جعل لو حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره، جعل مفعول ودوا محذوفا، وجواب لو محذوفا، والتقدير: ودوا كفركم لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء، لسروا بذلك. وسبب ودهم ذلك إما حسدا لما ظهر من علو الإسلام كما قال في نظيرتها: * (حسدا من عند أنفسهم) * وإما إيثارا لهم أن يكونوا عباد أصنام لكونهم يرون المؤمنين على غير شيء، وهذا كشف من الله تعالى لخبيث معتقدهم، وتحذير للمؤمنين منهم. وفتكونون معطوف على قوله: تكفرون.
قال الزمخشري: ولو نصب على جواب التمني لجاز، والمعنى: ودوا كفركم وكونكم معهم شرعا واحدا فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء انتهى. وكون التمني بلفظ الفعل، ويكون له جواب فيه نظر. وإنما المنقول أن الفعل ينتصب في جواب التمني إذا كان بالحرف نحو: ليت، ولو وإلا، إذا أشربتا معنى التمني، أما إذا كان بالفعل فيحتاج إلى سماع من العرب. بل لو جاء لم تتحقق فيه الجوابية، لأن ود التي تدل على التمني إنما متعلقها المصادر لا الذواب، فإذا نصب الفعل بعد الفاء لم يتعين أن تكون فاء جواب، لاحتمال أن يكون من باب عطف المصدر المقدر على المصدر الملفوظ به، فيكون من باب: للبس عباءة وتقر عيني.
* (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا فى سبيل الله) * لما نص على كفرهم، وأنهم تمنوا أن تكونوا مثلهم بانت عداوتهم لاختلاف الدينين، فهي تعالى أن يوالي منهم أحد وإن آمنوا، حتى يظاهروا بالهجرة الصحيحة لأجل الإيمان، لا لأجل حظ الدنيا، وإنما غيا بالهجرة فقط لأنها تتضمن الإيمان. وفي هذه الآية دليل على وجوب الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة، ولم يزل حكمها كذلك إلى أن فتحت مكة، فنسخ بقوله صلى الله عليه وسلم): (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا) *. وخالف الحسن البصري فقال بوجوبها، وإن حكمها لم ينسخ، وهو باق فتحرم الإقامة بعد الإسلام في دار الشرك. وإجماع أهل المذاهب على خلافه. قال القاضي أبو يعلى وغيره: من هو قادر على الهجرة ولا يقدر على إظهار دينه فهي تجب عليه لقوله تعالى: * (*) *. وخالف الحسن البصري فقال بوجوبها، وإن حكمها لم ينسخ، وهو باق فتحرم الإقامة بعد الإسلام في دار الشرك. وإجماع أهل المذاهب على خلافه. قال القاضي أبو يعلى وغيره: من هو قادر على الهجرة ولا يقدر على إظهار دينه فهي تجب عليه لقوله تعالى: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) *
327

ومن كان قادرا على إظهار دينه استحبت له، ومن لا يقدر على إظهار دينه ولا على الحركة كالشيخ الفاني والزمن، لا يستحب له.
* (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) * أي. فإن تولوا عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة فحكمهم حكم الكفار يقتلون حيث وجدوا في حل وحرم، وجانبوهم مجانبة كلية، ولو بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم.
* (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلونكم أو يقاتلوا قومهم) * هذا استثناء من قوله: فخذوهم واقتلوهم، والوصول هنا: البلوغ إلى قوم. وقيل: معناه ينتسبون قاله أبو عبيدة. وأنشد الأعشى:
* إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل
*
وبكر سبتها والأنوف رواغم
*
وقال النحاس: هذا غلط عظيم، لأنه ذهب إلى أنه تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب والمشركون قد كان بينهم وبين المسلمين السابقين أنساب. يعني: وقد قاتل الرسول ومن معه من انتسب إليهم بالنسب الحقيقي، فضلا عن الانتساب. قال النحاس: وأشد من هذا الجهل قول من قال: إنه كان ثم نسخ، لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له براءة، وإنما نزلت بعد الفتح، وبعد أن انقطعت الحروب، ووافقه على ذلك الطبري.
وقال القرطبي: حمل بعض أهل العلم معنى ينتسبون على الأمان، أو أن ينتسب إلى أهل الأمان، لا على معنى النسب الذي هو القرابة انتهى. قال عكرمة: إلى قوم هم قوم هلال بن عويمر الأسلمي، وادع الرسول على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن لجأ إليهم فله مثل ما لهلال. وروي عن ابن عباس: أنهم بنو بكر بن زيد مناة. والجمهور على أنهم خزاعة وذو خزاعة. وقال مقاتل: خزاعة وبنو مدلج. وقال ابن عطية: كان هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) قد هادن من العرب قبائل كرهط هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بني جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، فقضت هذه الآية أنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم) إلى هؤلاء أهل العهد، ودخل في عدادهم، وفعل فعلهم من الموادعة، وفعل فعلهم من الموادعة، فلا سبيل عليه. قال عكرمة والسدي وابن زيد: ثم لما تقوى الإسلام وكثرنا صره نسخت هذه الآية والتي بعدها بما في سورة براءة انتهى.
وقيل: هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناف. والذين حصرت صدورهم هم، بنو مدلج، اتصلوا بقريش. وبه وعن ابن عباس: إنهم قوم من الكفار اعتزلوا المسلمين يوم فتح مكة، فلم يكونوا مع لكافرين، ولا مع المسلمين، ثم نسخ ذلك بآية القتال.
وأصل الاستثناء أن يكون متصلا، وظاهر الآية وهذه الأقوال التي تقدمت: أنه استثناء متصل. والمعنى: إلا الكفار الذين يصلون إلى قوم معاندين، أو يصلون إلى قوم جاؤوكم غير مقاتلين ولا مقاتلي قومهم. إن كان جاؤوكم عطفا على موضع صفة قوم، وكلا العطفين جوز الزمخشري وابن عطية، إلا أنهما اختار العطف على الصلة. قال ابن عطية بعد أن ذكر العطف على الصلة قال: ويحتمل أن يكون على قوله: بينكم وبينهم ميثاق، والمعنى في العطفين مختلف انتهى. واختلافه أن المستثنى إما أن يكونا صنفين واصلا إلى معاهد، وجائيا كافا عن القتال. أو صنفا واحدا يختلف باختلاف من وصل إليه من معاهد أو كاف. قال ابن عطية: وهذا أيضا حكم، كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام، فكان المشرك إذا جاء
328

إلى دار الإسلام مسالما كارها لقتال قومه مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه، لا سبيل عليه. وهذه نسخت أيضا بما في براءة انتهى.
وقال الزمخشري: الوجه العطف على العلة لقوله: * (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم) * الآية بعد قوله: فخذوهم واقتلوهم، فقرر أن كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض لهم، وترك الإيقاع بهم. (فإن قلت): كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء، واستحقاق ترك التعرض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قوم، ويكون قوله: فإن اعتزلوكم تقريرا لحكم اتصالهم بالكافين، واختلاطهم فيهم، وجريهم على سننهم؟ (قلت): هو جائز، ولكن الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام انتهى. وإنما كان أظهروا وأجرى على أسلوب الكلام لأن المستثنى محدث عنه محكوم له بخلاف حكم المستثنى منه. وإذا عطفت على الصلة كان محدثا عنه، وإذا عطفت على الصفة لم يكن محدثا عنه، إنما يكون ذلك تقييدا في قوم الذين هم قيد في الصلة المحدث عن صاحبها، ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسنادية في المعنى، وبين أن تكون تقييدية، كان حملها على الإسنادية أولي للاستثقال الحاصل بها، دون التقييدية هذا من جهة الصناعة النحوية. وأما من حيث ما يترتب على كل واحد من العطفين من المعنى، فإنه يكون تركهم القتال سببا لترك التعرض لهم، وهو سبب قريب، وذلك على العطف على الصلة، ووصولهم إلى من يترك القتال سبب لترك التعرض لهم، وهو سبب بعيد، وذلك على العطف على الصفة. ومراعاة السبب القريب أولى من مراعاة البعيد. وعلى أن الاستثناء متصل من مفعول: فخذوهم واقتلوهم، والمعنى: أنه تعالى أوجب قتل الكافر إلا إذا كان معاهدا أو داخلا في حكم المعاهد، أو تاركا للقتال، فإنه لا يجوز قتلهم. وقول الجمهور: إن المستثنين كفار.
وقال أبو مسلم: إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم، استثنى من له عذر فقال: * (إلا الذين يصلون) * وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول بالهجرة والنصرة، إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا إليه خوفا من أولئك الكفار، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد، وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول وإلى الصحابة، لأنه يخاف الله فيه، ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه، أو لأنه بقي أزواجه وأولاده بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه. فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم، وإن كان لم توجد منهم الهجرة، ولا مقاتلة الكفار انتهى. واختاره الراغب. وعلى قول أبي مسلم: يكون استثناء منقطعا، لأن المؤمنين لم يدخلوا تحت قوله: * (فما لكم فى المنافقين فئتين) *.
وقال الماتريدي: إلا الذين يصلون أي: إن لحق المنافقون بمن لا ميثاق بينكم وبينهم فاقتلوهم حتى يتوبوا ويهاجروا، وإن لحقوا بأهل الميثاق فلا تقاتلوهم، أو جاؤوكم حصرت صدورهم هذا صفة لمن سبق ذكرهم، فيكون الاستثناء عن الذين يصلون إلى أهل العهد، إذا كان وصفهم أن تضيق صدورهم عن مقاتلة المؤمنين والكفار جميعا، إما لنفار طباعهم، وإما لوفاء العهد، وإما لكونهم في مهلة النظر ليتبينوا الحق من الباطل، وعلى هذا وصف الله جميع المعاهدين الذين عزموا على الوفاء بالعهد: أنهم إنما قبلوا العهد والذمة لما تعذر عليهم قتال المسلمين وأبت نفوسهم معاونة المسلمين على قومهم، فلم يسلموا حقيقة، ولكن سالموا لقبول العهد انتهى. وقال القفال بعد ذكر من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم، فهو أيضا داخل في العهد، قال: وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرت الرسول عليه السلام، فيتعذر عليهم ذلك المطلوب، فيلجوا إلى قوم بينهم وبين الرسول عهد، إلى أن يجدوا السبيل إليه انتهى.
وفي مصحف أبي وقراءته: ميثاق جاؤكم بغير واو. قال الزمخشري: ووجهه أن يكون جاؤوكم بيانا ل يصلون، أو بدلا، أو استئنافا، أو صفة بعد صفة لقوم انتهى. وهي وجوه محتملة، وفي بعضها ضعف. وهو البيان والبدل، لأن البيان لا يكون في الأفعال، ولأن البدل لا
329

يتأتى لكونه ليس إياه، ولا بعضا، ولا مشتملا. ومعنى حصرت: ضاقت، وأصل الحصر في المكان، ثم توسع فيه حتى صار في القول. قال:
* ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا
*
حصرا بسرك يا أميم ضنينا
*
وقيل: معناه كرهت. والمعنى: كرهوا قتالكم مع قومهم معكم. وقيل: معناه أنهم لا يقاتلونكم ولا يقاتلون قومهم معكم، فيكونون لا عليكم ولا لكم. وقرأ الجمهور: حصرت. وقرأ الحسن وقتادة ويعقوب: حصرة على وزن نبقة، وكذا قال المهدوي عن عاصم في رواية حفص. وحكى عن الحسن أنه قرأ: حصرات. وقرئ: حاصرات. وقرئ: حصرة بالرفع على أنه خبر مقدم، أي: صدورهم حصرة، وهي جملة اسمية في موضع الحال. فأما قراءة الجمهور فجمهور النحويين على أن
الفعل في موضع الحال. فمن شرط دخول قد على الماضي إذا وقع حالا زعم أنها مقدرة، ومن لم ير ذلك لم يحتج إلى تقديرها، فقد جاء منه ما لا يحصى كثرة بغير قد. ويؤيد كونه في موضع الحال قراءة من قرأ ذلك اسما منصوبا، وعن المبرد قولان: أحدهما: أن ثم محذوفا هو الحال، وهذا الفعل صفته أي: أو جاؤوكم قوما حصرت صدورهم. والآخر: أنه دعاء عليهم، فلا موضع له من الإعراب. ورد الفارسي على المبرد في أنه دعاء عليهم بأنا أمرنا أن نقول: اللهم أوقع بين الكفار العداوة، فيكون في قوله: أو يقاتلوا قومهم، في ما اقتضاه دعاء المسلمين عليهم. قال ابن عطية: ويخرج قول المبرد على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقيرهم، أي: هم أقل وأحقر، ويستغني عنهم كما تقول إذا أردت هذا المعنى: لا جعل الله فلانا علي ولا معي، بمعنى: استغنى عنه، واستقل دونه. وقال غير ابن عطية: أو تكون سؤالا لموتهم، على أن قوله: قومهم، قد يعبر به عن من ليسوا منهم، بل عن معاديهم. وأجاز أبو البقاء أن يكون حصرت في موضع جر صفة لقوم، وأو جاؤوكم معترض. قال: يدل عليه قراءة من أسقط أو، وهو أبى. وأجاز أيضا أن يكون حصرت بدلا من جاؤكم، قال: بدل اشتمال، لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره. وقال الزجاج: حصرت صدورهم خبر بعد خبر. قال ابن عطية: يفرق بين تقدير الحال، وبين خبر مستأنف في قولك: جاء زيد ركب الفرس، إنك إن أردت الحال بقولك: ركب الفرس، قدرت قد. وإن أردت خبرا بعد خبر لم نحتج إلى تقديرها. وقال الجرجاني: تقديره إن جاؤكم حصرت، فحذف إن، وما ادعاه من الإضمار لا يوافق عليه، أن يقاتلوكم تقديره: عن أن يقاتلوكم.
* (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) * هذا تقرير للمؤمنين على مقدار نعمته تعالى عليهم. أي: لو شاء لقواهم وجرأهم عليكم، فإذا قد أنعم عليكم بالهدنة فاقبلوها. وهذا إذا كان المستثنون كفارا، فأما على قول من
330

قال: إنهم مؤمنون، فالمعنى أنه تعالى أظهر نعمته على المسلمين، وأنه تعالى لو لم يهدهم لكانوا في جملة المسلطين عليكم.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين ما كان مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم؟ ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه، فكانوا مسلطين مقاتلين غير كافين، فذلك معنى التسليط انتهى. وهذا على طريقته الاعتزالية. وهذا الذي قاله الزمخشري قاله أبو هاشم قبله. قال: أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء أن يفعل، وتسليط الله المشركين على المؤمنين ليس بأمر منه، وإنما هو بإزالة خوف المسلمين من قلوبهم، وتقوية أسباب الجرأة عليهم. والغرض بتسليطهم عليهم لأمور ثلاثة: أحدها: تأديبا لهم وعقوبة لما اجترحوا من الذنوب. الثاني: ابتلاء لصبرهم واختبارا لقوة إيمانهم وإخلاصهم كما قال: * (ولنبلونكم) * الآية. الثالث: لرفع درجاتهم وتكثير حسناتهم. أو المجموع وهو أقرب للصواب انتهى.
وأما غيرهما من المعتزلة فقال الجبائي: قد بينا أن القوم الذين استثنوا مؤمنون لا كافرون، وعلى هذا معنى الآية. ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتهم على مقاتلتهم على سبيل الظلم. وقال الكعبي: إنه تعالى أخبر أنه لو شاء فعل، وهذا لا يفيد، إلا أنه قادر على الظلم، وهذا مذهبنا إلا أنا نقول: إنه تعالى لا يفعل الظلم، وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده، انتهى كلامه.
وقال أهل السنة: في هذه الآية دليل على أنه تعالى لا يقبح منه تسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه.
وقرأ الجمهور: فيقاتلوكم بألف المفاعلة. وقرأ مجاهد وطائفة: فلقتلوكم على وزن ضربوكم. وقرأ الحسن والجحدري: فلقتلوكم بالتشديد، واللام في لقاتلوكم لام جواب لو، لأن المعطوف على الجواب جواب، كما لو قلت: لو قام زيد لقام عمرو ولقام بكر. وقال ابن عطية: واللام في لسلطهم جواب لو، وفي فلقاتلوكم لام المحاذاة والازدواج، لأنها بمثابة الأولى لو لم تكن الأولى كنت تقول: لقاتلوكم انتهى. وتسميته هذه اللام لام المحاذاة والازدواج تسمية غريبة، لم أر ذلك إلا في عبارة هذا الرجل، وعبارة مكي قبله.
* (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * إذا كان المستثنون كفارا فالاعتزال حقيقة لا يتهيأ إلا في حالة المواجهة في الحرب كأنه يقول: إذا اعتزلوكم بانفرادهم عن قومهم الذين يقاتلونكم فلا تقتلوهم. وقيل: أراد بالاعتزال هنا المهادنة، وسميت اعتزالا لأنها سبب الاعتزال عن القتال. والسلم هنا الانقياد قاله: الحسن، أو الصلح قاله: الربيع ومقاتل، أو الإسلام قاله: الحسن أيضا. وأما على من قال: إن المستثنين مؤمنون، فالمعنى أنهم إذ قد اعتزلوكم وأظهروا الإسلام فاتركوهم، فعلى هذا تكون في * (الذين أسلموا * ولم * جهد أيمانهم) * والمعنى: سبيلا إلى قتلهم ومقاتلتهم. وقرأ الجحدري: السلم بسكون اللام. وقرأ الحسن: بكسر السين، وسكون اللام.
* (ستجدون ءاخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم * كلما * ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) * لما ذكر صفة المحقين في المتاركة، المجدين في إلقاء السلم، نبه على طائفة أخرى مخادعة يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم يقولون لهم: نحن معكم وعلى دينكم، ويقولون للمسلمين كذلك إذا وجدوا. قيل: كانت أسد وغطفان بهذه الصفة فنزلت فيهم، قاله: مقاتل. وقيل: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي كان ينقل بين النبي صلى الله عليه وسلم) الأخبار قاله: السدي. وقيل: في قوم يجيئون من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم) رياء ويظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش يكفرون، ففضحهم الله تعالى، وأعلم أنهم ليسوا على صفة من تقدم قاله: مجاهد. وقيل: إنهم من أهل تهامة قاله: قتادة. وقيل: إنهم من المنافقين قاله: الحسن.
والظاهر من قوله: ستجدون آخرين، أنهم قوم غير المستثنين في قوله: * (إلا الذين يصلون) *. وذهب قوم: إلى أنها بمنزلة الآية الأولى، والقوم الذين نزلت فيهم هم الذين نزلت فيهم الأولى، وجاءت مؤكدة لمعنى الأولى مقررة لها. والسين في ستجدون ليست للاستقبال قالوا: إنما هي دالة
331

على استمرارهم على ذلك الفعل في الزمن المستقبل كقوله: * (سيقول السفهاء) * وما نزلت إلا بعد قوله: * (ما ولاهم عن قبلتهم) * فدخلت السين إشعارا
بالاستمرار انتهى. ولا تحرير في قولهم: إن السين ليست للاستقبال وإنما تشعر بالاستمرار، بل السين للاستقبال، لكن ليس في ابتداء الفعل، لكن في استمراره أن يأمنوكم أي: يأمنوا أذاكم ويأمنوا أذى قومهم. والفتنة هنا: المحنة في إظهار الكفر. ومعنى أركسوا فيها رجعوا أقبح رجوع وأشنعه، وكانوا شرا فيها من كل عدو. وحكى أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم: قل ربي الخنفساء، وربي القردة، وربي العقرب، ونحوه فيقولها. وقرأ ابن وثاب والأعمش: ردوا بكسر الراء، لما أدغم نقل الكسرة إلى الراء. وقرأ عبد الله: ركسوا بضم الراء من غير ألف مخففا. وقال ابن جني عنه: بشد الكاف.
* (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * أمر تعالى بقتل هؤلاء في أي مكان ظفر بهم، على تقدير انتفاء الاعتزال وإلقاء السلم، وكف الأيدي. ومفهوم الشرط يدل على أنه إذا وجهوا الاعتزال وإلقاء السلم وكف الأيدي، لم يؤخذوا ولم يقتلوا.
قال ابن عطية: وهذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم. وتأمل فصاحة الكلام في أن ساقه في الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال، وإيجاب إلقاء السلم، ونفى المقاتلة، إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له. وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفى الاعتزال، ونفى إلقاء السلم، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين، والحكم سواء على السياقين. لأن الذين لم يجعل عليهم سبيلا لو لم يعتزلوا، لكان حكمهم، حكم هؤلاء الذين جعل عليهم السلطان المبين. وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان إذا لم يعتزلوا، لو اعتزلوا كان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم، ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا انتهى كلامه. وهو حسن. ولما كان أمر الفرقة الأولى أخف، رتب تعالى انتفاء جعل السبيل عليهم على تقدير سببين: وجود الاعتزال، وإلقاء السلم. ولما كان أمر هذه الفرقة المخادعة أشد، رتب أخذهم وقتلهم على وجود ثلاثة أشياء: نفي الاعتزال، ونفي إلقاء السلم، ونفي كف الأذى. كل ذلك على سبيل التوكيد في حقهم والتشديد.
* (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) * أي على أخذهم وقتلهم حجة واضحة، وذلك لظهور عداوتهم، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام، أو حجة ظاهرة حيث أذنا لكم في قتلهم. قال عكرمة: حيثما وقع السلطان في كتاب الله فالمراد به الحجة.
* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا) * روي أن عياش بن أبي ربيعة وكان أخا أبي جهل لأمه، أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة وذلك قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يأويها سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه الحارث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وهو في أطم، ففتك منه أبو جهل في الزرود والغارب وقال: أليس محمد بحثك على صلة الرحم؟ انصرف وبر أمك وأنت على دينك، حتى نزل وذهب معهما، فلما أبعدا عن المدينة كتفاه وجلده كل واحد مائة جلدة، فقال للحرث: هذا أخي، فمن أنت يا حارث الله؟ علي إن وجدتك خاليا أن أقتلك. وقدما به على أمه فحلفت لا تحل كتافه أو يرتد، ففعل. ثم هاجر بعد ذلك، وأسلم الحارث، وهاجر فلقيه عياش بظهر قبا ولم يشعر بإسلامه، فأنحى عليه فقتله، ثم أخبر بإسلامه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم)
332

فقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه، فنزلت. وقيل: نزلت في رجل كان يرعى غنما فقتله في بعض السرايا أبو الدرداء وهو يتشهد وساق غنمه، فعنفه رسول الله صلى الله عليه وسلم) فنزلت. وقيل: نزلت في أبي حذيفة بن اليمان حين قتل يوم أحد خطأ. وقيل غير ذلك انتهى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالمحاربة، ومنها أن يظن رجلا حربيا وهو مسلم فيقتله. وهذا التركيب تقدم نظيره في قوله: * (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) * وفي قوله: * (وما كان لنبى أن يغل) * وكان يغني الكلام هناك عن الكلام هنا، ولكن رأينا جمع ما قاله من وقفنا على كلامه من المفسرين هنا.
قال الزمخشري: ما كان لمؤمن: ما صلح له، ولا استقام، ولا لاق بحاله، كقوله: وما كان لنبي أن يغل، وما يكون لنا أن نعود، أن يقتل مؤمنا ابتداء غير قصاص إلا خطأ على وجه الخطأ. (فإن قلت): بما انتصب خطأ؟ (قلت): بأنه مفعول له أي: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده، ويجوز أن يكون حالا بمعنى: لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، وأن يكون صفة لمصدر أي: إلا قتلا خطأ. والمعنى: أن من شأن المؤمن أن تنتفي عنه وجوه قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافرا فيصيب مسلما، أو يرمي شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم. وقال ابن عطية: قال جمهور أهل التفسير: ما كان في إذن الله ولا في أمره للمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول، وهو الذي يكون فيه إلا بمعنى لكن، والتقدير: ولكن الخطأ قد يقع، ويتجه وجه آخر وهو أن تقدر كان بمعنى استقر ووجد. كأنه قال: وما وجد ولا تقرر ولا ساع لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانا، فيجيء الاستثناء على هذا غير منقطع، وتتضمن الآية على هذا إعظام العهد وبشاعة شأنه كما تقول: ما كان لك يا فلان إن تتكلم بهذا إلا ناسيا إعظاما للعمد والقصد، مع حظر الكلام به البتة.
وقال الراغب: إن قيل: أيجوز أن يقتل المؤمن خطأ حتى يقال: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ قيل قولك يجوز أو لا يجوز؟ إنما يقال في الأفعال الاختيارية المقصودة، فأما الخطأ فلا يقال فيه ذلك، وما كان لك أن تفعل كذا، وما كنت لتفعل كذا متقاربان، وهما لا يقالان بمعنى. وإن كان أكثر ما يقال الأول لما كان الإحجام عنه من قبل نفسه، أي: ما كان المؤمن ليقتل مؤمنا إلا خطأ ولهذا المعنى أراد من قال معناه: ما ينبغي للمؤمن أن يقتل مؤمنا متعمدا، لكن يقع ذلك منه خطأ. وكذا من قال: ليس في حكم الله أن يقتل المؤمن إلا خطأ. وقال الأصم: معناه ليس القتل لمؤمن بمتروك أن يقتضي له، إلا أن يكون قتله خطأ. وقال أبو عبد الله الرازي: وما كان أي: فيما آتاه الله، أو عهد إليه، أو ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك، والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف. وقال أبو هاشم: تقدير الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ويبقى مؤمنا، إلا أن يقتله خطأ، فيبقى حينئذ مؤمنا، وهذا الذي قاله أبو هاشم قاله السدي. قال السدي: قتل المؤمن المؤمن
يخرجه عن أن يكون مؤمنا، إلا أن يكون خطأ، وليس هذا معتقد أهل السنة والجماعة. وقيل: هو نفي جواز قتل المؤمن، ومعناه: النهي، وأفاد دخول كان أنه لم يزل حكم الله. وقال الماتريدي: الإشكال أن الله تعالى نهى المؤمن عن القتل مطلقا، واستثنى الخطأ، والاستثناء من النفي إثبات، ومن التحريم إباحة، وقتل الخطأ ليس بمباح بالإجماع، وفي كونه حراما كلام انتهى.
وملخص ما بني على هذا أنه إن كان نفيا وأريد به معنى النهي كان استثناء
333

منقطعا إذ لا يجوز أن يكون متصلا لأنه يصير المعنى: إلا خطأ فله قتله. وإن كان نفيا أريد به التحريم، فيكون استثناء متصلا إذ يصير المعنى: إلا خطأ بأن عرفه كافرا فقتله، وكشف الغيب أنه كان مؤمنا، فيكون قد أبيح الإقدام على قتل الكفر، وإن كان فيهم من أسلم إذا لم يعلم بهم، فيكون الاستثناء من الحظر إباحة. وقال بعض أهل العلم: المعنى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ فيكون إلا بمعنى: ولا، وأنكر الفراء هذا القول، وقال: مثل هذا لا يجوز، إلا إذا تقدم استثناء آخر، ويكون الثاني عطف استثناء على استثناء، كما في قول الشاعر:
* ما بالمدينة دار غير واحدة
*
دار الخليفة إلا دار مروانا
*
وروى أبو عبيدة عن يونس أنه سأل رؤبة بن العجاج عن هذه الآية فقال: ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ، ولكنه أقام إلا مقام الواو، وهو كقول الشاعر:
* وكل أخ مفارقه أخوه
*
لعمر أبيك إلا الفرقدان
*
والذي يظهر أن قوله: إلا خطأ، استثناء منقطع، وهو قول الجمهور منهم: أبان بن تغلب. والمعنى: لكن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ، والقتل عند مالك عمد وخطأ، فيقاد باللطمة، والعضة، وضرب السوط مما لا يقتل غالبا. وعند الشافعي: عمد، وشبه عمد. ولا قصاص في شبه العمد، ولا الخطأ. وعند أبي حنيفة: عمد، وخطأ، وشبه، عمد، وما ليس بخطأ ولا عمد ولا شبه عمد. والخطأ ضربان: أن يقصد رمي مشرك أو طائر فيصيب مسلما، أو يظنه مشركا لكونه عليه سيما أهل الشرك، أو في حيزهم. وشبه العمد ما يعمد بما لا يقتل غالبا من حجر أو عصا، وما ليس بخطأ ولا عمد ولا شبه عمد قتل الساهي والنائم. وقرأ الجمهور خطاء على وزن بناء. وقرأ الحسن والأعمش: على وزن سماء ممدودا. وقرأ الزهري: على وزن عصا مقصورا لكونه خفف الهمزة بإبدالها ألفا، أو إلحاقا بدم، أو حذف الهمزة حذفا كما حذف لام دم. وقال ابن عطية: وجوه الخطأ كثيرة، ومربطها عدم القصد.
* (ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) * التحرير: الإعتاق، والعتيق: الكريم، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد. ومنه عتاق الطير، وعتاق الخيل لكرامها. وحر الوجه أكرم موضع منه، والرقبة عبر بها عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأسا من الرقيق. والظاهر أن كل رقبة اتصفت بأن يحكم لها بالإيمان منتظم تحت قوله: رقبة مؤمنة، انتظام عموم البدل. فيندرج فيها من ولد بين مسلمين، ومن أحد أبويه مسلم، صغيرا كان أو كبيرا، ومن سباه مسلم من دار الحرب قبل البلوغ.
وقال إبراهيم: لا يجزى إلا البالغ. وقال ابن عباس، والحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وغيرهم: لا يجزئ إلا التي صامت وعقلت الإيمان، لا يجزئ في ذلك الصغيرة. وقال أبو حنيفة، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأبو يوسف، ومحمد بن زياد، وزفر: يجزى في كفارة القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما. وقال عطاء: يجزئ الصغير المولود بين المسلمين. وقال مالك: من صلى وصام أحب إلي، ولا خلاف أن قوله: ومن قتل مؤمنا، ينتظم الصغير والكبير، وكذلك ينبغي أن يكون في فتحرير رقبة مؤمنة. قال ابن عطية: وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكبير كقطع اليدين والرجلين والأعمى، لا يجزئ فيما حفظت، فإن كان يسيرا يمكن معه المعيشة والتحرف كالعرج ونحوه ففيه قولان. وقال أبو بكر الرازي: لا خلاف بين الأمة أنه لا يجزئ في الكفارة أعمى، ولا مقعد، ولا مقطوع اليدين أو الرجلين، ولا أشلهما، واختلفوا في الأعرج. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجزئ مقطوع إحدى اليدين أو الرجلين. وقال مالك والشافعي والأكثرون: لا يجزئ عند أكثرهم المجنون المطبق، ولا عند مالك الذي يجن ويفيق، ولا المعتق إلى سنين، ويجزئان عند الشافعي. ولا يجزئ المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي، ويجزىء في قول الشافعي وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وقال مالك: لا يصح من أعتق بعضه، واختلفوا في سبب وجوب الكفارة في قتل الخطأ.
334

فقيل: تمحيصا وطهر الذنب القاتل، حيث ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم. وقيل: لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الاحياء، لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق حياتها، من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار.
والظاهر أن وجوب التحرير والدية على القائل، لأنه مستقر في الكتاب والسنة: أن من فعل شيئا يلزم فيه أمر من الغرامات مثل الكفارات، إنما يجب ذلك على فاعله. فأما التحرير ففي مال القاتل. وأما الدية فعلى العاقلة كلها في قول طائفة منهم: الأوزاعي، والحسن بن صالح. وما جاوز الثلث في قول الجمهور أبي حنيفة، ومالك،
والشافعي، والليث، وابن شبرمة، وغيرهم. وأما الثلث ففي مال الجاني، ولم يجب عليهم إلا على سبيل المواساة. وهي خلاف قياس الأصول في الغرمات والمتلفات. والدية كانت مستقرة في الجاهلية. قال الشاعر:
نأسوا بأموالنا آثار أيدينا
ولم تتعرض الآية لمقدار ما يعطى في الدية، ولا من أي شيء تكون. فذهب أبو حنيفة: إلى أنها من الإبل مائة على ما يأتي تفصيلها، والدنانير والدراهم ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. وقال أبو يوسف ومحمد: ومن البقر والشاة والحلل، وبه قالت طائفة من التابعين، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين. فمن البقر مائتا بقرة، ومن الشاة ألف شاة، ومن الحلل مائتا حلة، وذلك فعل عمر وجعله على كل أهل صنف من ذلك ما ذكر. وقال مالك: أهل الذهب أهل الشام ومصر، وأهل الورق أهل العراق، وأهل الإبل أهل البوادي، فلا يقبل من أهل الإبل إلا الإبل، ولا من أهل الذهب إلا الذهب، ولا من أهل الورق إلا الورق. وقالت طائفة منهم طاووس والشافعي: هي مائة من الإبل لا غير. قال الشافعي: والدراهم والدنانير بدل عنها إذا عدمت، وله قول آخر: إنه يجب اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار. قال أبو بكر الرازي: أجمع فقهاء الأمصار أبو حنيفة والشافعي ومالك أن دية الخطأ أخماس، واختلفوا في الأسنان. فقال أصحابنا جميعا: عشرون بني مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وهو: مذهب ابن مسعود، وبه قال أحمد. وقال مالك: عشرون حقاقا، وعشرون جذاعا، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض. وحكى هذا عن عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري، وربيعة والليث.
وقال الشافعي: الدية قسمان، مغلظة أثلاثا، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها، ومخففة أخماسا كقول مالك. وروي عن عطاء أن دية الخطأ أربع: خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، مثل أسنان الذكور. وقال عمر وزيد بن ثابت: في الخطا ثلاثون بنت لبون،
335

وثلاثون جذعة، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض. وروي عنهما مكان الجذاع الحقات.
والظاهر أنه لا فرق بين القتل خطأ في الحرم وفي شهر حرام، وبينه في الحل، وفي شهر غير حرام. وسئل الأوزاعي عن القتل في الشهر الحرام، أو في الحرم، هل تغلظ فيه الدية؟ فقال: بلغنا أنه إذا قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على القاتل الثلث، ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل.
وأما من العاقلة فقيل هم العصبات الأربعة: الأب، والجدوان علا، والابن، وابن الابن وإن سفل. وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هم أهل ديوانه دون أقربائه، فإن لم يكن القاتل من أهل الديوان فرضت على عاقلته الأقرب فالأقرب، ويضم إليهم القبائل في النسب. وقال الشافعي فيما روي عنه المزني في مختصره: العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء، على الأقرب فالأقرب من بني أبيه ثم جده، ثم بني جد أبيه.
وأما المدة التي تؤدي فيها الدية فقد انعقد الإجماع ووردت به الأحاديث الصحاح: أنها تتأدى في ثلاث سنين، وفي الدية والعاقلة أحكام كثيرة تعرض لها بعض المفسرين وهي مذكورة في كتب الفقه.
ومعنى مسلمة إلى أهله: أي مؤداة مدفوعة إلى أهل المقتول، أي أوليائه الذين يرثونه يقتسمونها كالميراث، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء، يقضي منها الدين، وتنفذ الوصية. وإذا لم يكن وارث فهي لبيت المال. وقال شريك: لا يقضي من الدية دين، ولا تنفذ منها وصية. وقال ابن مسعود: يرث كل وارث منها غير القاتل، ومعنى قوله: إلا أن يصدقوا أي إلا أن يعفو وراثه عن الدية فلا دية. وجاء بلفظ التصدق تنبيها على فضيلة العفو وحضا عليه، وأنه جار مجرى الصدقة، واستحقاق الثواب الآجل به دون طلب العرض العاجل، وهذا حكم من قتل في دار الإسلام خطأ. وفي قوله: إلا أن يصدقوا، دليل على جواز البراءة من الدين بلفظ الصدقة، ودليل على أنه لا يشترط القبول في الإبراء خلافا لزفر، فإنه قال: لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة. والظاهر أن الجماعة إذا اشتركوا في قتل رجل خطأ أنه ليس عليهم كلهم إلا كفارة واحدة، لعموم قوله: ومن قتل، وترتيب تحرير رقبة واحدة، ودية على ذلك. وبه قالت طائفة هكذا قال أبو ثور، وحكى عن الأوزاعي ذلك، وقال الحسن، وعكرمة، والنخعي، والحارث، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: على كل واحد منهم الكفارة.
وهذا الاستثناء قيل: منقطع، وقيل: إنه متصل. قال الزمخشري: (فإن قلت): بم تعلق أن يصدقوا؟ وما محله؟ (قلت): تعلق بعلية، أو بمسلمة. كأن قيل: وتجب عليه الدية أو يسلمها، إلا حين يتصدقون عليه، ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان كقولهم: اجلس ما دام زيد جالسا، ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى: إلا متصدقين انتهى كلامه. وكلا التخريجين خطأ. أما جعل أن وما بعدها ظرفا فلا يجوز، نص النحويون على ذلك، وأنه مما انفردت به ما المصدرية ومنعوا أن تقول: أجيئك أن يصيح الديك، يريد وقت صياح الديك. وأما أن ينسبك منها مصدر فيكون في موضع الحال، فنصوا أيضا على أن ذلك لا يجوز. قال سيبويه في قول العرب: أنت الرجل أن تنازل أو أن تخاصم، في معنى أنت الرجل نزالا وخصومة، أن انتصاب هذا انتصاب المفعول من أجله، لأن المستقبل لا يكون حالا، فعلى هذا الذي قررناه يكون كونه
336

استثناء منقطعا هو الصواب. وقرأ الجمهور يصدقوا، وأصله يتصدقوا، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن، وعبد الوارث عن أبي عمرو: تصدقوا بالتاء على المخاطبة للحاضرة. وقرئ: تصدقوا بالتاء وتخفيف الصاد، وأصله تتصدقوا، فحذف إحدى التاءين على الخلاف في أيهما هي المحذوفة. وفي حرف أبي وعبد الله: يتصدقوا بالياء والتاء.
* (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) * قال ابن عباس وقتادة والنخعي والسدي وعكرمة وغيرهم: المعنى إن كان هذا المقتول خطأ رجلا مؤمنا قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير رقبة. والسبب عندهم في نزولها: أن جيوش المسلمين كانت تمر بقبائل الكفرة، فربما قتل من آمن ولم يهاجر، أو من هاجر ثم رجع إلى قومه، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار، فنزلت الآية. وسقطت الدية عند هؤلاء، لأن أولياء المقتول كفرة، فلا يعطون ما يتقوون به. ولأن حرمته إذا آمن ولم يهاجر قليلة فلا دية. وإذا قتل مؤمنا في بلاد المسلمين وقومه حرب، ففيه الدية لبيت المال والكفارة. وقالت فرقة: الوجه في سقوط الدية أن أولياءه كفار، سواء أكان القتل خطأ بين أظهر المسلمين وبين قومه ولم يهاجر، واو هاجر ثم رجع إلى قومه، وكفارته ليس إلا التحرير، لأنه إن قتل بين أظهر قومه فهو مسلط على نفسه، أو بين أظهر المسلمين فأهله لا يستحقون الذية، ولا المسلمون لأنهم ليسوا أهله، فلا تجب على الحالين، هذا قول: مالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأبي ثور. وقال إبراهيم: المؤمن المقتول خطأ إن كان قومه المشركون ليس بينهم وبين النبي عهد فعلى قاتله تحرير رقبة، أو كان فتؤدى ديته لقرابته المعاهدين.
قال بعض المصنفين: اختلفت فقهاء الأمصار في من أسلم في دار الحرب وقتل قبل أن يهاجر، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في المشهور عنه: إن قتله مسلم مستأمن فكفارة الخطأ، أو كانا مستأمنين فعلى القاتل الدية وكفارة الخطأ، أو أسيرين فعلى القاتل كفارة الخطأ في قول أبي حنيفة. وقال محمد وأبو يوسف: الدية في العمد والخطأ. وقال مالك: على قاتل من أسلم في دار الحرب، ولم يخرج، الدية والكفارة إن كان خطأ. والآية إنما كانت في صلح النبي صلى الله عليه وسلم) أهل مكة، لأنه من لم يهاجر لم يورث، لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة. وقال الحسن بن صالح: إذا أقام بدار الحرب وهو قادر على الخروج حكم عليه بما يحكم على أهل الحرب في نفسه وماله واد الحق بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام. وقال الشافعي: إذا قتل مسلما في دار الحرب في الغارة وهو لا يعلمه مسلما فلا عقل فيه ولا قود، وعليه الكفارة. وسواء أكان المسلم أسيرا، أو مستأمنا، أو رجلا أسلم هناك، وإن علمه مسلما فقتله فعليه القود انتهى ما نقله هذا المصنف. والذي يظهر من مدلول هذه الجمل إن الله تعالى بين أحكام المؤمن المقتول خطأ في هذه الجمل الثلاث ولذلك قابلها بقوله: ومن يقتل مؤمنا متعمدا، فهو المؤمن المقتول خطأ إن كان أهله مؤمنين أو معاهدين، فالتحرير والدية. ونزل المعاهدون في أخذ الدية منزلة المؤمنين، لأن أحكام المؤمنين جارية عليهم، وإن كان أهله حربيين فالتحرير فقط.
* (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) * قال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وغيرهم: وإن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، وكفارته التحرير، وأداء الدية إليهم. وقال النخعي: ميراثه للمسلمين. وقرأها الحسن: وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، وهو مؤمن. وبهذا قال مالك. وقال ابن عباس، والشعبي، وإبراهيم أيضا، والزهري: المقتول من أهل العهد خطأ كان مؤمنا أو كافرا على عهد قومه، فيه الدية كدية المسلم والتحرير.
واختلف على هذا في دية المعاهد. فقال أبو حنيفة وغيره: ديته كدية المسلم. وروى ذلك عن أبي بكر وعمر. وقال مالك وأصحابه: نصف دية المسلم. وقال الشافعي وأبو ثور: ثلث دية المسلم. والذي يظهر من دلالة من التبعيضية أنها قيد في الجملة الأولى بكونه من قوم عدو، وقيد في الجملة الثانية بكونه من قوم معاهدين، والمعنى في النسب لا في الدين، لأنه مؤمن وهم كفار. فإذا تقيدت هاتان الجملتان دل ذلك على تقييد الأولى بأن يكون من المؤمنين في النسب، وهي من قتل مؤمنا خطأ كأنه قال: وأهله مؤمنون لا حربيون ولا معاهدون. ولا يمكن حمله على الإطلاق للتعارض والتعاند الذي بينه وبين الآيتين بعد.
وقال أبو بكر الرازي: قوله: وإن كان من قوم عدو، لكم استئناف
337

كلام لم يتقدم له ذكر في الخطاب، لأنه لا يجوز أعط هذا رجلا وإن كان رجلا فاعطه، فهذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم، فثبت أن هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في الخطاب. ثم قال: طاهر الآية يعني: وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، يقتضي أن يكون المقتول المذكور في الآية ذا عهد، وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلاله، ويدل عليه: أنه لما أراد مؤمنا من أهل دار الحرب ذكر الإيمان فقال: وهو مؤمن، لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافرا من قوم عدو لكم انتهى كلامه.
أما قوله: استئناف لم يتقدم له ذكر في الخطاب، فليس بصحيح، بل تقدم له ذكر في الخطاب في قوله: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ، ولكنه ليس استئنافا، إنما هو من باب التقسيم كما ذكرناه. بدأ أولا بالأشرف وهو المؤمن، وأهله مؤمنون ليسوا بحربيين ولا معاهدين. وأما قوله: لأنه لا يجوز أعط هذا رجلا وإن كان رجلا فأعطه، فهذا ليس نظير الآية بوجه، وإنما الضمير في كان عائدا على المقتول خطأ، المؤمن إذا كان من قوم عدو لكم، وجاء قوله: وهو مؤمن على سبيل التوكيد لا سبيل التقييد، إذ القيد مفهوم مما قبله في الاستثناء، وفي جملة الشرط. وقوله: ويدل عليه إلى آخره، لا يدل عليه لما ذكرنا أن الحال مؤكدة، وفائدة تأكيدها أن لا يتوهم أن الضمير يعود على مطلق المقتول لا بقيد الإيمان. وقوله: لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافرا من قوم عد، وليس كذلك بل لو لم يأت بقوله: وهو مؤمن، لكان الضمير الذي في كان عائدا على المقتول خطأ، لأنه لم يجرد ذكر لغيره، فلا يعود الضمير على غير من لم يجر له ذكر، ويترك عوده على ما يجري عليه ذكر.
* (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * يعني: رقبة لم يملكها، ولا وجد ما يتوصل به إلى ملكها، فعليه صيام شهرين متتابعين. وظاهر الآية يقضي أنه لا يجب غير ذلك، إذ لو وجبت الدية لعطفها على الصيام، وإلى هذا ذهب: الشعبي، ومسروق، وذهب الجمهور: إلى وجوب الدية. قال ابن عطية: وما قاله الشعبي
ومسروق وهم، لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل انتهى. وليس بوهم، بل هو ظاهر الآية كما ذكرناه.
ومعنى التتابع: لا يتخللها فطر. فإن عرض حيض في أثنائه لم يعد قاطعا بإجماع. وليس له أن يسافر فيفطر، والمرض كالحيض عند: ابن المسيب، وسليمان بن يسار، والحسن، والشعبي، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، وطاووس، ومالك. وقال ابن جبير، والنخعي، والحكم بن عتيبة، وعطاء الخراساني، والحسن بن حي، وأبو حنيفة وأصحابه: يستأنف إذا أفطر لمرض. وللشافعي القولان. وقال ابن شبرمة: يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب كصوم رمضان.
* (توبة من الله) * انتصب على المصدر أي: رجوعا منه إلى التسهيل والتخفيف، حيث نقلكم من الرقبة إلى الصوم. أو توبة من الله أي قبولا منه ورحمة من تاب الله عليه إذا قبل توبته. ودعا تعالى قاتل الخطأ إلى التوبة، لأنه لم يتحرز، وكان من حقه أن يتحفظ.
* (وكان الله عليما حكيما) * أي عليما بمن قتل خطأ، حكيما حيث رتب ما رتب على هذه الجناية على ما اقتضته حكمته تعالى.
* (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) * نزلت في مقيس بن صبابة حين قتل أخاه هشام بن صبابة رجل من الأنصار، فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم) الدية، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما، فقتله مقيس، ورجع إلى مكة مرتدا وجعل ينشد:
* قتلت به فهرا وحملت عقله
*
سراه بني النجار أرباب فارع
*
* حللت به وتري وأدركت ثورتي
*
وكنت إلى الأوثان أول راجع
*
338

فقال صلى الله عليه وسلم): * (لا أؤمنه في حل ولا حرم، وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة) وهذا السبب يخص عموم قوله: ومن يقتل، فيكون خاصا بالكافر، أو يكون على ما قال ابن عباس، قال: معنى متعمدا أي: مستحلا، فهذا. يؤول أيضا إلى الكفر. وأما إذا كانت عامة فيكون ذلك على تقدير شرط كسائر التوعدات على سائر المعاصي، والمعنى: فجزاؤه إن جازاه، أي: هو ذلك ومستحقه لعظم ذنبه، هذا مذهب أهل السنة. ويكون الخلود عبارة في حق المؤمن العاصي عن المكث الطويل، لا المقترن بالتأبيد، إذ لا يكون كذلك إلا في حق الكفار.
وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية، وأنها مخصصة بعمومها لقوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءوا) * واعتمدوا على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: نزلت الشديدة بعد الهينة، يريد نزلت: ومن يقتل مؤمنا بعدو يغفر ما دون ذلك، فكأنه قيل: ويغفر ما دون ذلك إلا من قتل عمدا. وقد نازعوا في دلالة من الشرطية على العموم. وقيل: هو لفظ يقع كثيرا للخصوص كقوله: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * وليس من حكم من المؤمنين بغير ما أنزل الله بكافر. وقال الشاعر:
* ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
*
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
*
وإذا سلم العموم فقد دخله التخصيص بالإجماع من المعتزلة وأهل السنة فيمن شهد عليه بالقتل عمدا أو أقر بأنه قتل عمدا، وأتى السلطان أو الأولياء فأقيم عليه الحد وقتل، فهذا غير متبع في الآخرة. والوعيد غير صائر إليه إجماعا للحديث الصحيح من حديث عبادة: (أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له) وهذا تخصيص للعموم. وإذا دخله التخصيص فيكون مختصا بالكافر، ويشهد له سبب النزول كما قدمنا.
ولم تتعرض الآية لتوبة القاتل، وتكلم فيها المفسرون هنا. فقالت جماعة: لا تقبل توبته، روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس. وكان ابن عباس يقول: الشرك والقتل سهمان من مات عليهما خلد، وكان يقول: هذه الآية مدنية نسخت التي في الفرقان لأنها مكية. وكان ابن شهاب إذا سأله من يفهم منه أنه قتل قال له: توبتك مقبولة، ومن لم يقتل قال: لا توبة للقاتل. وروي عن ابن عباس في تفسير عبد بن حميد نحو من كلام ابن شهاب. وعن سفيان كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له. قال الزمخشري: وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلا. وفي الحديث: (من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله) والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث القطعية، وقول ابن عباس مع التوبة، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة، واتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغيرتوبة، * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها) * ثم ذكر الله تعالى التوبة في قتل الخطأ لما عسى أن يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ فيه
حسم للأطماع وأي حسم، ولكن لا حياة لمن تنادي. (فإن قلت): هل فيها دليل على طرد من لم يتب من أهل الكبائر؟ (قلت): ما أبين الدليل فيها، وهو تناول قوله: ومن يقتل، أي قاتل كان من مسلم، أو كافر تائب، أو غير نائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل. فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله انتهى كلامه. وهو على طريقته الاعتزالية والتعرض لمخالفيه بالسب والتشنيع. وأما قوله: ما أبين الدليل فيها، فليس بين، لأن المدعي هل فيها دليل على خلود من لم يتب من الكبائر
339

وهذا عام في الكبائر. والآية في كبيرة مخصوصة وهي: القتل لمؤمن عمدا، وهي كونها أكبر الكبائر بعد الشرك، فيجوز أن تكون هذه الكبيرة المخصوصة حكمها غير حكم سائر الكبائر، مخصوصة كونها أكبر الكبائر بعد الشرك، فلا يكون في الآية دليل على ما ذكر، فظهر أن قوله: ما أبين الدليل منها، غير صحيح. واختلفوا في ما به يكون قتل العمد، وفي الحر يقتل عبدا عمدا مؤمنا، هل يقتص منه؟ وذلك موضح في كتب الفقه. وانتصب متعمدا على الحال من الضمير المستكن في يقتل، والمعنى: متعمدا قتله. وروى عبدان عن الكسائي: تسكين تاء متعمدا، كأنه يرى توالي الحركات. وتضمنت هذه الآيات من البلاغة والبيان والبديع أنواعا. التتميم في: ومن أصدق من الله حديثا. والاستفهام بمعنى الإنكار في: فما لكم في المنافقين، وفي: أتريدون أن تهدوا. والطباق في: أن تهدوا من أضل الله. والتجنيس المماثل في: لو تكفرون كما كفروا، وفي: بينكم وبينهم، وفي: أن يقاتلوكم أو يقاتلوا، وفي: أن يأمنوكم ويأمنوا، وفي: خطأ وخطأ. والاستعارة في: بينكم وبينهم، وفي: حصرت صدورهم، وفي: فإن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم، وفي: سبيلا وكلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم الآية. والاعتراض في: ولو شاء الله لسلطهم. والتكرار في مواضع. والتقسيم في: ومن قتل إلى آخره. والحذف في مواضع.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقىإليكم السلام
340

لست مؤمنا تبتغون عرض الحيواة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذالك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا * لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما * إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الا رض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولائك مأواهم جهنم وسآءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنسآء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولائك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا * ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الا رض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) *))
) *
المغنم: مفعل من غنم، يصلح للزمان والمكان. والمصدر ويطلق على الغنيمة تسمية للمفعول بالمصدر أي: المغنوم، وهو ما يصيبه الرجل من مال العدو في الغزو. المراغم: مكان المراغمة، وهي: أن يرغم كل واحد من المتنازعين بحصوله في منعة منه أنف صاحبه بأن يغلب على مراده يقال: راغمت فلان إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك. والرغم الذل والهوان، وأصله: لصوق الأنف بالرغام، وهو التراب.
* (عظيما يأيها الذين ءامنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحيواة) * روى البخاري ومسلم: أن رجلا من سليم مر على نفر من الصحابة ومعه غنم، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم إلا ليتعوذ، فقتلوه وأخذوا غنمه وأتوا بها الرسول صلى الله عليه وسلم) فنزلت. وقيل: بعث سرية فيها المقداد، فتفرق القوم وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فتشهد، فقتله المقداد، فأخبر الرسول عليه السلام بذلك فقال: (أقتلت رجلا قال لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله غدا؟) وقيل: لقي الصحابة المشركين فهزموهم، فشد رجل منهم على رجل، فلما غشيه السنان قال: إني مسلم، فقتله وأخذ متاعه، فرفع ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) فقال: (قتلته وقد زعم أنه مسلم؟) فقال: قالها متعوذا قال: (هلا شققت عن قلبه؟) في قصة آخرها: أن القاتل مات فلفظته الأرض مرتين أو ثلاثا، فطرح في بعض
341

الشعاب. وقيل: هي السرية التي قتل فيها أسامة بن زيد مرداس بن نهيك من أهل فدك، وهي مشهورة. وقيل: بعث الرسول عليه السلام أبا حدرد الأسلمي وأبا قتادة ومحلم بن جثامة في سرية إلى أسلم، فلما بلغوا إلى عامر بن الأضبط الأشجعي حياهم بتحية الإسلام، فقتله محكم وسلبه، فلما قدموا قال: (أقتلته بعدما قال آمنت؟) فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهي أنه تعالى لما ذكر جزاء من قتل مؤمنا متعمدا وأن له جهنم، وذكر غضب الله عليه ولعنته وإعداد العذاب العظيم له، أمر المؤمنين بالتثبت والتبين، وأن لا يقدم الإنسان على قتل من أظهر الإيمان، وأن لا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف، وكرر ذلك آخر الآية تأكيدا أن لا يقدم عند الشبه والإشكال حتى يتضح له ما يقدم عليه، ولما كان خفاء ذلك منوطا بالأسفار والغمزات قال: إذا ضربتم في الأرض، وإلا فالتثبت والتبين لازم في قتل من تظاهر بالإسلام في السفر وفي الحضر، وتقدم تفسير الضرب في قوله: * (لا يستطيعون ضربا فى الارض) *.
وقرأ حمزة والكسائي: فتثبتوا بالثاء المثلثة، والباقون: فتبينوا. وكلاهما تفعل بمعنى استفعل التي للطلب، أي: اطلبوا إثبات الأمر وبيانه، ولا تقدموا من غير روية وإيضاح. وقال قوم: تبينوا أبلغ وأشد من فتثبتوا، لأن المتثبت قد لا يتبين. وقال الراغب: لأنه قلما يكون إلا بعد تثبت، وقد يكون التثبت ولا تبين، وقد قوبل بالعجلة في قوله عليه السلام: * (وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان) *. وقال أبو عبيد هما: متقاربان. قال ابن عطية: والصحيح ما قال أبو عبيد، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان، بل يقتضي محاولة للتبين، كما أن تثبت يقتضي محاولة للتبين، فهما سواء. وقال أبو علي الفارسي: التثبت هو خلاف الإقدام، والمراد: التأني
، والتثبت أشد اختصاصا بهذا الموضع. ومما يبين ذلك قوله: * (وأشد تثبيتا) * أي أشد وقفا لهم عن ما وعظوا بأن لا يقدموا عليه، وكلام الناس تثبت في أمرك. وقد جاء أن التبين من الله، والعجلة من الشيطان، ومقابلة العجلة بالتبين دلالة على تقارب اللفظين.
والأكثرون على أن القاتل هو محلم، والمقتول عامر كما ذكرنا، وكذا هو في سير ابن إسحاق، ومصنف أبي داود، وفي الاستيعاب. وقيل: المقتول مرداس، وقاتله أسامة. وقيل: قاتله غالب بن فضالة الليثي. وقيل: القاتل أبو الدرداء. وقيل: أبو قتادة.
وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن كثير، والكسائي، وحفص، السلام بألف. قال الزجاج: يجوز أن يكون بمعنى التسليم، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، وابن كثير. من بعض طرقه، وجبلة عن المفضل عن عاصم: بفتح السين واللام من غير ألف، وهو من الاستسلام. وقرأ أبان بن زيد، عن عاصم: بكسر السين وإسكان اللام، وهو الانقياد والطاعة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالسلام الانحياز والترك، قال الأخفش: يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا. قال أبو عبد الله الرازي: أي لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقاتلكم لست مؤمنا، وأصله من السلامة، لأن المعتزل عن الناس طالب للسلامة. وقرأ الجحدري: بفتح السين وسكون اللام. وقرأ أبو جعفر: مأمنا بفتح الميم أي: لا نؤمنك في نفسك، وهي قراءة: علي، وابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، ويحيى بن يعمر.
342

ومعنى قراءة الجمهور ليس لإيمانك حقيقة أنك أسلمت خوفا من القتل. قال أبو بكر الرازي: حكم تعالى بصحة إسلام من أظهر الإسلام، وأمر بإجرائه على أحكام المسلمين، وإن كان في الغيب على خلافه. وهذا مما يحتج به على توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام، فهو مسلم انتهى. والغرض هنا هو ما كان مع المقتول من غنيمة، أو من حمل، ومتاع، على الخلاف الذي في سبب النزول. والمعنى: تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع الزوال. وتبتغون في موضع نصب على الحال من ضمير: ولا تقولوا، وفي ذلك إشعار بأن الداعي إلى ترك التثبت أو التبين هو طلبكم عرض الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة هذه عدة بما يسني الله تعالى لهم من الغنائم على وجهها من حل دون ارتكاب محظور بشبهة وغير تثبت، قاله الجمهور. وقال مقاتل: أراد ما أعده تعالى لهم في الآخرة من جزيل الثواب والنعيم الدائم الذي هو أجل المغانم.
* (كذالك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا) * قال ابن جبير: معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم، خائفين منهم على أنفسكم، فمن الله عليكم بإعزاز دينكم، فهم الآن كذلك كل منهم خائف في قومه، متربص أن يصل إليكم، فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره.
قال أبو عبد الله الرازي: وهذا فيه إشكال، لأن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم انتهى. ولا إشكال فيه، لأن المسلمين كانوا أول الإسلام يحبون دينهم، فالتشبيه وقع بتلك الحال الأولى، وعلى تقدير تسليم أن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم، لا إشكال أيضا لأنه ينسب إلى الجملة ما وجد من بعضهم. وقال ابن زيد: كذلك كنتم كفرة فمن الله عليكم بأن أسلمتم، فلا تنكروا أن يكون هو كافرا ثم يسلم لحينه حين لقيكم، فيجب أن يتثبت في أمره، وقال الأكثرون: المعنى أنكم قبل الهجرة حين كنتم فيما بين الكفار تؤمنون بكلمة لا إله إلا الله، فاقبلوا منهم ذلك. وقال أبو عبد الله الرازي: فيه إشكال لأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمانهم، لأنا آمنا اختيارا، وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف انتهى. ولا إشكال في ذلك، لأنه لا يلزم أن يكون التشبيه من كل الوجوه إذ كان يكون المشبه هو المشبه به، وذلك محال، ولا من معظم الوجوه. والتشبيه هنا وقع في بعض الوجوه، وهو: أن الدخول في الإسلام هو كان بكلمة الشهادة، وقد حسن الزمخشري هذا القول وطوله جدا. فقال: أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم، فمن الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم، وإن صرتم أعلاما فيه فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في الكافة، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل، لا لصدق النية، فتجعلوه سلما إلى استباحة دمه وماله، وقد حرمهما الله تعالى انتهى.
قال أبو عبد الله الرازي: والأقرب عندي أن يقال: إن من ينتقل عن دين إلى دين، ففي أول الأمر يحدث له ميل بسبب ضعيف، ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال، فكأنه قيل لهم: كنتم في أول الإسلام إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام، ثم من الله عليكم بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر، فكذلك هؤلاء لما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان، فإن الله يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم، ويقوي تلك الرغبة في صدورهم انتهى كلامه. وليس كل من آمن من الصحابة كان ميله أولا إلى الإسلام ميلا ضعيفا ثم يقوى، بل من الصحابة من استبصر بأول وهلة دعاء الرسول، أو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم) كأبي بكر وأبي ذر وعبد الله بن سلام وأمثالهم ممن كان مستبصرا منتظرا. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت، أي على هذه الحال في جاهليتكم لا تثبتون، حتى جاء الإسلام ومن الله عليكم انتهى. والظاهر أن
343

قوله: فمن الله عليكم، هو من تمام كذلك كنتم من قبل. وقيل: من تمام تبتغون عرض الحياة الدنيا وما قبله، فالمعنى: من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر قاله: أبو عبد الله الرازي، فتبينوا: تقدم أنه قرىء فتثبتوا، ويحتمل أن يكون هذا تأكيدا للأول، ويحتمل أن يكون فتبينوا في قراءة من جعله من التبين، أن لا يكون تأكيد الاختلاف متعلق التبين. فالمعنى في الأول: فتبينوا أمر من تقدمون على قتله، وفي الثاني: فتبينوا نعمة الله عليكم بالإسلام.
* (إن الله كان بما تعملون خبيرا) * أي خبيرا بنياتكم وطلباتكم، فكونوا محتاطين فيما تقصدونه، متوخين أمرالله تعالى. وهذا فيه تحذير، فاحفظوا أنفسكم من موارد الزلل. وقرأ الجمهور: إن بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرئ بفتحها على أن تكون معمولة لقوله: * (فتبينوا) *.
* (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) * قال أبو سليمان الدمشقي: نزلت من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود والتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأما غير أولي الضرر فسببها قول ابن أم مكتوم: كيف من لا يستطيع الجهاد؟.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما رغب المؤمنين في القتال في سبيل الله أعداء الله الكفار، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمدا بغير تأويل وبتأويل،
فنهى أن يقدم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإسلام إذا كان ظاهره يدل على ذلك، ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد، وبيان تفاوتهما، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد، مظنة أن يصيب المجاهد مؤمنا خطأ، أو من يلقي السلم فيقتله بتأويل فيتقاعسن عن الجهاد لهذه الشبهة، فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد وفوزه بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمة والأجر العظيم، دفعا لهذه الشبهة.
ويستوي هنا من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد، وإثباته لا يدل على عموم المساواة، وكذلك نفيه. وإنما عنى نفي المساواة في الفضل، وفي ذلك إبهام على السامع، وهو أبلغ من تحرير المنزلة التي بين القاعد والمجاهد. فالمتأمل يبقي مع فكره، ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما، والقاعد هو المتخلف عن الجهاد، وعبر عن ذلك بالقعود، لأن القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب. وأولو الضرر هم من لا يقدر على الجهاد لعمى، أو مرض، أو عرج، أو فقد أهبة. والمعنى: لا يستوي القاعدون القادرون على الغزو والمجاهدون. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة: غير برفع الراء. ونافع، وابن عامر، والكسائي: بالنصب، ورويا عن عاصم. وقرأ الأعمش وأبو حيوة: بكسرها. فأما قراءة الرفع فوجهها الأكثرون على الصفة، وهو قول سيبويه، كما هي عنده صفة في * (غير المغضوب عليهم) * ومثله قول لبيد:
* وإذا جوزيت قرضا فاجزه
*
إنما يجزي الفتى غير الجمل
*
كذا ذكره أبو علي، ويروى: ليس الجمل. وأجاز بعض النحويين فيه البدل. قيل: وهو إعراب ظاهر، لأنه جاء بعد نفي، وهو أولى من الصفة لوجهين: أحدهما: أنهم نصوا على أن الأفصح في النفي البدل، ثم النصب على الاستثناء
344

ثم الوصف في رتبة ثالثة. الثاني: أنه قد تقرر أن غيرا نكرة في أصل الوضع وإن أضيفت إلى معرفة هذا، هو المشهور، ومذهب سيبويه. وإن كانت قد تتعرف في بعض المواضع، فجعلها هنا صفة يخرجها عن أصل وضعها إما باعتقاد التعريف فيها، وإما باعتقاد أن القاعدين لما لم يكونوا ناسا معينين، كانت الألف واللام فيه جنسية، فأجرى مجرى النكرات حتى وصف بالنكرة، وهذا كله ضعيف. وأما قراءة النصب فهي على الاستثناء من القاعدين. وقيل: استثناء من المؤمنين، والأول أظهر لأنه المحدث عنه. وقيل: انتصب على الحال من القاعدين. وأما قراءة الجر فعلى الصفة للمؤمنين، كتخريج من خرج غير المغضوب عليهم على الصفة من * (الذين أنعمت عليهم) * ومن المؤمنين في موضع الحال من قوله: القاعدون. أي: كائنين من المؤمنين.
واختلفوا: هل أولو الضرر يساوون المجاهدين أم لا؟ فإن اعتبرنا مفهوم الصفة، أو قلنا بالأرجح من أن الاستثناء من النفي إثبات، لزمت المساواة. وقال ابن عطية: وهذا مردود، لأن الضرر لا يساوون المجاهدين، وغايتهم إن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر، وكذا قال ابن جريج: الاستثناء لرفع العقاب، لا لنيل الثواب. المعذور يستوفي في الأجر مع الذي خرج إلى الجهاد، إذ كان يتمنى لو كان قادرا لخرج. قال: استثنى المعذور من القاعدين، والاستثناء من النفي إثبات، فثبت الاستواء بين المجاهد والقاعد المعذور انتهى. وإنما نفي الاستواء فيما علم أنه منتف ضرورة لإذكاره ما بين القاعد بغير عذر، والمجاهد من التفاوت العظيم، فيأنف القاعد من انحطاط منزلته فيهتز للجهاد ويرغب فيه. ومثله: * (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته لينهضم إلى التعلم، ويرتقي عن حضيض الجهل إلى شرف العلم.
قال بعض العلماء: كان نزول هذه الآية في الوقت الذي كان الجهاد فيه تطوعا، والألم يكن لقوله: لا يستوي معنى، لأن من ترك الفرض لا يقال: إنه لا يستوي هو والآتي به، بل يلحق الوعيد بالتارك، ويرغب الآتي به في الثواب. وقال الماتريدي: نفى التساوي بين فاعل الجهاد وتاركه، لا يدل على أن الجهاد ما كان فرضا في ذلك الوقت. ألا ترى أن قوله تعالى: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) * نفي المساواة بين المؤمن والفاسق، والإيمان فرض. وقال تعالى: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) * الآية وقال: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، والعلم في كثير من الأشياء فرض. وإذ جاز نفي الاستواء بين فاعل التطوع وتاركه، فلأن يجوز بين فاعل الفرض وتاركه بطريق الأولى، وإنما لم يلحق الإثم تاركه لأنه فرض كفاية انتهى. والظاهر أن نفي هذا الاستواء ليس مخصوصا بقاعدة عن جهاد مخصوص، ولا مجاهد جهادا مخصوصا بل ذلك عام.
وعن ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. وعن مقاتل: إلى تبوك. وقال ابن عباس وغيره: أولوا الضرر هم أهل الأعذار. إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد. وفي الحديث: (لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر) وجاء هنا تقديم الأموال على الأنفس. وفي قوله: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * تقديم الأنفس على الأموال لتباين الغرضين، لأن المجاهد بائع، فأخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب. والمشتري قدمت له النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد، وإنما يرعب أولا في الأنفس الغالي.
* (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) * الظاهر: أن المفضل عليهم هم القاعدون غير أولي الضرر، لأنهم هم الذين نفى التسوية بينهم، فذكر ما امتازوا به عليهم، وهو تفضيلهم عليهم بدرجة، فهذه الجملة بيان للجملة الأولى جواب سؤال مقدر، كان قائلا قال: ما لهم لا يستوون؟ فقيل: فضل الله المجاهدين، والمفضل عليهم هنا درجة هم المفضل عليهم آخرا درجات، وما بعدها وهم القاعدون غير
345

أولي الضرر. وتكرر التفضيلان باعتبار متعلقهما، فالتفضيل الأول بالدرجة هو ما يؤتى في الدنيا من الغنيمة، والتفضيل الثاني هو ما يخولهم في الآخرة، فنبه بإفراد الأول، وجمع الثاني على أن ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير. وقيل: المجاهدون تتساوى رتبهم في الدنيا بالنسبة إلى أحوالهم، كتساوي القاتلين بالنسبة إلى أخذ سلب من قتلوه، وتساوي نصيب كل واحد من الفرسان ونصيب كل واحد من الرجال، وهم في الآخرة متفاوتون بحسب إيمانهم، فلهم درجات بحسب استحقاقهم، فمنهم من يكون له الغفران، ومنهم من يكون له الرحمة فقط. فكان الرحمة أدنى المنازل، والمغفرة فوق الرحمة، ثم بعد الدرجات على الطبقات، وعلى هذا نبه بقوله: * (هم درجات عند الله) * ومنازل الآخرة تتفاوت. وقيل: الدرجة المدح والتعظيم، والدرجات منازل الجنة. وقيل: المفضل عليهم أولا غير المفضل عليهم ثانيا. فالأول هم القاعدون بعذر، والثاني هم القاعدون بغير عذر، ولذلك اختلف المفضل به: ففي الأول درجة، وفي الثاني درجات، وإلى هذا ذهب ابن جريج، وهو من لا يستوي عنده أولو الضرر والمجاهدون.
وقيل: اختلف الجهادان، فاختلف ما فضل به. وذلك أن الجهاد جهادان: صغير، وكبير. فالصغير مجاهدة الكفار، والكبير مجاهدة النفس. وعلى ذلك دل قوله عليه السلام: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) وإنما كان مجاهدة النفس أعظم، لأن من جاهد نفسه فقد جاهد الدنيا، ومن غلب الدنيا هانت عليه مجاهدة العدا، فخص مجاهدة النفس بالدرجات تعظيما لها. وقد تناقض الزمخشري في تفسير القاعدين فقال: فضل الله المجاهدين جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين، كأنه قيل: ما لهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك: والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر، لكون الجملة بيانا للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف. ثم قال: (فإن قلت): قد ذكر الله تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات من هم؟ (قلت): أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء، وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، لأن الغزو فرض كفاية انتهى كلامه. فقال: أولا المعنى على القاعدين غير أولي الضرر، وقال في هذا الجواب: على القاعدين الأضراء، وهذا تناقض. والظاهر أن قوله: درجات، لا يراد به عدد مخصوص، بل ذلك على حسب اختلاف المجاهدين. وقال ابن زيد: هي السبع المذكورة في براءة في قوله: * (ذالك بأنهم لا يصيبهم ظمأ) * الآيات. وقال ابن عطية: درجات الجهاد لو حصرت لكانت أكثر من هذه انتهى. وقال ابن مجيريز: الدرجات في الجنة سبعون درجة، كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة، وإلى نحوه ذهب: مقاتل، ورجحه الطبري. وفي الحديث الصحيح: (أن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض) وذهب بعض العلماء إلى أن قوله: وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه، هو على سبيل التوكيد، لا أن مدلول درجة مخالف لمدلول درجات في المعنى، بل هما سواء في المعنى. قال تعالى: * (وللرجال عليهن درجة) * لا يراد بها شيء واحد، بل أشياء. وكرر التفضيل للتأكيد والترغيب في أمر الجهاد، وإلى هذا ذهب الماتريدي قال: وفي الآية دلالة على أن الجهاد فرض كفاية، حيث يسقط بقيام بعض، وإن كان خطاب قوله: وقاتلوا في سبيل الله يعم انتهى.
* (وكلا وعد الله الحسنى) * أي وكلا من القاعدين والمجاهدين. وقيل: وكلا من القاعدين غير أولي الضرر، وأولي الضرر، والمجاهدين. والحسنى هنا: الجنة باتفاق. وقال عبد الجبار: هذا الوعد لا يليق بأمر الآخرة. ولما ذكر ما للمجاهدين من الحظ عاجلا جاز أن يتوهم أنه كما اختص بهذه النعم، فكذلك يختص بالثواب. فبين أن للقاعدين ما للمجاهدين من الحسنى في الوعد مع ذلك، ثم بين أن لهم فضل
346

درجات، لأنه لو لم يذكر ذلك لأوهم أن حالهما في الوعد بالحسنى سواء انتهى. وانتصب كلا على أنه مفعول أول لوعد، والثاني هو الحسنى. وقرئ: وكل بالرفع على الابتداء، وحذف العائد أي: وكلهم وعد الله.
* (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) * قيل: الدرجات باعتبار المنازل الرفيعة بعد إدخال الجنة، والمغفرة باعتبار ستر الذنب، والرحمة باعتبار دخول الجنة. والظاهر أن هذا التفضيل الخاص للمجاهد بنفسه وماله، ومن تفرد بأحدهما ليس كذلك. ومن المعلوم أن من جاهد، ومن أنفق ماله في الجهاد، ليس كمن جاهد بنفقة من عند غيره.
وفي انتصاب درجة ودرجات وجوه: أحدها: أنهما ينتصبان انتصاب المصدر لوقوع درجة موقع المرة في التفضيل، كأنه قيل: فضلهم تفضيله. كما تقول: ضربته سوطا، ووقوع درجات موقع تفضيلات كما تقول: ضربته أسواطا تعني: ضربات. والثاني: أنهما ينتصبان انتصاب الحال أي: ذوي درجة، وذوي درجات. والثالث: على تقدير حرف الجر أي: بدرجة وبدرجات. والرابع: أنهما انتصبا على معنى الظرف، إذ وقعا موقعه أي: في درجة وفي درجات. وقيل: انتصاب درجات على البدل من أجرا قيل: ومغفرة ورحمة معطوفان على درجات. وقيل: انتصبا بإضمار فعلهما أي: غفر ذنبهم مغفرة ورحمهم رحمة. وأما انتصاب أجرا عظيما فقيل: على المصدر، لأن معنى فضل معنى أجر، فهو مصدر من المعنى، لا من اللفظ. وقيل: على إسقاط حرف الجر أي بأجر. وقيل: مفعول بفضلهم لتضمينه معنى أعطاهم. قال الزمخشري: ونصب أجرا عظيما على أنه حال من النكرة التي هي درجات مقدمة عليها انتهى. وهذا لا يظهر لأنه لو تأخر لم يجز أن يكون نعتا لعدم المطابقة، لأن أجرا عظيما مفرد، ولا يكون نعتا لدرجات، لأنها جمع. وقال ابن عطية: ونصب درجات، إما على البدل من الأجر، وإما بإضمار فعل على أن يكون تأكيدا للأجر، كما نقول لك: على ألف درهم عرفا، كأنك قلت: أعرفها عرفا انتهى. وهذا فيه نظر.
* (إن الذين توفاهم الملئكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الارض) * روى البخاري عن ابن عباس: أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم، أو يضرب فيقتل، فنزلت. وقيل: قوم من أهل مكة أسلموا، فلما هاجر الرسول أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة، فلما كان يوم بدر خرج منهم قوم مع الكفار، فقتلوا ببدر فنزلت. قال عكرمة: نزلت في خمسة قتلوا يوم بدر:
قيس بن النائحة بن المغيرة، والحرث بن زمعة بن الأسود بن أسد، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف. وقال النقاش: في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غر هؤلاء دينهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد، أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد وسكن في بلاد الكفر. قال ابن عباس ومقاتل: التوفي هنا قبض الأرواح. وقال الحسن: الحشر إلى النار. والملائكة هنا قيل: ملك الموت، وهو من باب طلاق الجمع على الواحدة تفخيما له وتعظيما لشأنه، لقوله تعالى: * (قل يتوفاكم ملك الموت) * هذا قول الجمهور
347

وقيل: المراد ملك الموت وأعوانه وهم: ستة، ثلاثة لأرواح المؤمنين، وثلاثة لأرواح الكافرين. ويشهد لهذا * (توفته رسلنا وهم لا يفرطون) * وظلمهم أنفسهم بترك الهجرة، وقعودهم مع قومهم حين رجعوا للقتال، أو برجوعهم إلى الكفر، أو بشكهم، أو بإعانة المشركين، أقوال أربعة: وتوفاهم: ماض لقراءة من قرأ توفتهم، ولم يلحق تاء التأنيث للفصل، ولكون تأنيث الملائكة مجازا أو مضارع، وأصله تتوفاهم.
وقرأ إبراهيم: توفاهم بضم التاء مضارع وفيت، والمعنى: أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها. والضمير في قالوا للملائكة، والجملة خبر إن، والرابط ضمير محذوف دل عليه المعنى، التقدير: قالوا: قالوا لهم فيم كنتم؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع. والمعنى: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ وقيل: إن أحوال الدنيا، وجوابهم للملائكة اعتذار عن تخلفهم عن الهجرة، وإقامتهم بدار الكفر، وهو اعتذار غير صحيح.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف صح وقوع قوله: كنا مستضعفين في الأرض، جوابا عن قولهم: فيم كنتم؟ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، ولم يكن في شيء؟ (قلت): معنى فيم كنتم، التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على الهجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به، واعتلالا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء انتهى كلامه. والذي يظهر أن قولهم: كنا مستضعفين في الأرض جواب لقوله: فيم كنتم على المعنى، لا على اللفظ. لأن معنى: فيم كنتم في أي حال مانعة من الهجرة كنتم، قالوا: كنا مستضعفين أي في حالة استضعاف في الأرض بحيث لا نقدر على الهجرة، وهو جواب كذب، والأرض هنا أرض مكة. * (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * هذا تبكيت من الملائكة لهم، ورد لما اعتذروا به. أي لستم مستضعفين، بل كانت لكم القدرة على الخروج إلى بعض الأقطار فتهاجروا حتى تلحقوا بالمهاجرين، كما فعل الذين هاجروا إلى الحبشة، ثم لحقوا بعد بالمؤمنين بالمدينة. ومعنى فتهاجروا فيها أي: في قطر من أقطارها، بحيث تأمنون على دينكم. وقيل: أرض الله أي المدينة. واسعة آمنة لكم من العدو فتخرجوا إليها. وهل هؤلاء الذين توفتهم الملائكة مسلمون خرجوا مع المشركين في قتال فقتلوا؟ أو منافقون، أو مشركون؟ ثلاثة أقوال. الثالث قاله الحسن. قال ابن عطية: قول الملائكة لهم بعد توفي أرواحهم يدل على أنهم مسلمون، ولو كانوا كفارا لم يقل لهم شيء من ذلك، وإنما لم يذكروا في الصحابة لشدة ما واقعوه، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان، واحتمال ردته. انتهى ملخصا. وقال السدي: يوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر كافرا حتى يهاجر، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا انتهى. قال ابن عطية: والذي تقتضيه الأصول أن من ارتد من أولئك كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود، ومن كان مؤمنا فمات بمكة ولم يهاجر، أو أخرج كرها فقتل، عاص مأواه جهنم دون خلود. ولا حجة للمعتزلة في هذه الآية على التكفير بالمعاصي. وفي الآية دليل على أن من لا يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يحب، وجبت عليه الهجرة. وروي في الحديث (من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم)).
* (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) * الفاء للعطف، عطفت جملة على جملة. وقيل: فأولئك خبر إن، ودخلت الفاء في خبر إن تشبيها لاسمها باسم الشرط، وقالوا: فيم كنتم حال من الملائكة، أو صفة لظالمي أنفسهم أي: ظالمين أنفسهم قائلا لهم الملائكة: فيم كنتم؟ وقيل: خبر إن محذوف تقديره: هلكوا، ثم فسر الهلاك بقوله: قالوا فيم كنتم.
* (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) * من الرجال جماعة، كعياش بن أبي زمعة، وسلمة بن هشام، والوليد بن الوليد. ومن النساء جماعة: كأم
348

الفضل أمامة بنت الحارث أم عبد الله بن عباس. ومن الولدان: عبد الله بن عباس وغيره. فإن أريد بالولدان العبيد والإماء البالغون فلا إشكال في دخولهم في المستثنين، وإن أريد بالولدان الأطفال فهم لا يكونون إلا عاجزين فلا يتوجه عليهم وعيد، بخلاف الرجال والنساء قد يكونون عاجزين، وقد يكونون غير عاجزين. وإنما ذكروا مع الرجال والنساء وإن كانوا لا يتوجه عليهم الوعيد باعتبار أن عجزهم هو عجز لآبائهم الرجال والنساء، لأن من أقوى أسباب العجز وعدم الحنكة وكون الرجال والنساء مشغولين بأطفالهم، مشغوفين بهم، فيعجزون عن الهجرة بسبب خوف ضياع أطفالهم وولدانهم. فذكر الولدان في المستثنين تنبيه على أعظم طرق العجز للرجال والنساء، لأن طرق العجز لا تنحصر، فنبه بذكر عجز الولدان على قوة عجز الآباء والأمهات بسببهم.
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء، فيلحقوا بهم في التكليف انتهى. وليس بجيد، لأن المراهق لا يلحق بالمكلف أصلا، ولا وعيد عليه ما لم يكلف. وقيل: يحتمل أن يراد بالمستضعفين أسرى المسلمين الذين هم في أيدي المشركين لا يستطيعون حيلة إلى الخروج، ولا يهتدون إلى تخليص أنفسهم. وهذا الاستثناء قال الزجاج: هو من قوله: * (مأواهم جهنم) *. قال غيره: كأنه قيل: فأولئك في جهنم إلا المستضعفين، فعلى هذا استثناء متصل. والذي يقتضيه النظر أنه استثناء منقطع، لأن قوله: * (إن الذين توفاهم الملئكة) * إلى آخره يعود الضمير في مأواهم إليهم. وهم على أقوال المفسرين إما كفار، وإما عصاة بالتخلف عن الهجرة وهم قادرون، فلم يندرج فيهم المستضعفون المستثنون لأنهم عاجزون، فهو منقطع لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا.
الحيلة: لفظ عام لأنواع أسباب التخلص. والسبيل هنا طريق المدينة قاله: مجاهد، والسدي. وغيرهما. قال ابن عطية: والصواب أنه عام في جميع السبل، يعني المخلصة من دار الكفر انتهى. وقيل: لا يعرفون طريقا إلى الخروج، وهذه الجملة قيل؛ مستأنفة. وقيل: في موضع الحال. وقال الزمخشري: صفة للمستضعفين، أو الرجال والنساء والولدان. قال: وإنما جاز ذلك والجمل نكرات، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
انتهى كلامه.
وهو تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى: * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار) * وهو هدم للقاعدة المشهورة: بأن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة. والذي يظهر أنها جملة مفسرة لقوله: المستضعفين، لأنها في معنى: (إلا الذين استضعفوا فجاء بيانا وتفسيرا لذلك، لأن الاستضعاف يكون بوجوه، فبين جهة الاستضعاف النافع في التخلف عن الهجرة وهي عدم استطاعة الحيلة وعدم اهتداء السبيل. والثاني مندرج تحت الأول، لأنه يلزم من انتفاء القدرة على الحيلة التي يتخلص بها انتفاء اهتداء السبيل. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعث إلى مسلمي مكة بهذه الآية، فقال جندب بن ضمرة الليثي: ويقال: جندع بالعين، أو ضمرة بن جندب لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم.
* (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) * عسى: كلمة أطماع وترجية، وأتى بها وإن كانت من الله واجبة، دلالة على أن ترك الهجرة أمر صعب لا فسحة فيه، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني. وقيل: معنى ذلك أنه يعفو عنه في المستقبل، كأنه وعدهم غفران ذنوبهم كما قال صلى الله عليه وسلم): (إن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
* (وكان الله عفوا غفورا) * تأكيد في وقع عفوه عن
349

هؤلاء، وتنبيه على أن هذا المترجي هو واقع، لأنه تعالى لم يزل متصفا بالعفو والمغفرة.
* (ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الارض مراغما كثيرا وسعة) * قيل: نزلت في أكتم بن صيفي، ولما رغب تعالى في الهجرة ذكر ما يترتب عليها من وجود السعة والمذاهب الكثيرة، ليذهب عنه ما يتوهم وجوده في الغربة ومفارقة الوطن من الشدة، وهذا مقرر ما قالته الملائكة: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) *.
ومعنى مراغما: متحولا ومذهبا قاله: ابن عباس، والضحاك، والربيع، وغيرهم. وقال مجاهد: المزحزح عما يكره. وقال ابن زيد: المهاجر. وقال السدي: المبتغى للمعيشة. وقرأ الجراح، ونبيح، والحسن بن عمران: مرغما على وزن مفعل كمذهب. قال ابن جني: هو على حذف الزوائد من راغم. والسعة هنا في الرزق قاله: ابن عباس، والضحاك، والربيع، وغيرهم. وقال قتادة: سعة من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى. وقال مالك: السعة سعة البلاد. قال ابن عطية: والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل، وبذلك تكون السعة في الرزق واتساع الصدر عن همومه وفكره، وغير ذلك من وجوه الفرح، ونحو هذا المعنى قول الشاعر:
* لكان لي مضطرب واسع
*
في الأرض ذات الطول والعرش
*
انتهى. وقد مراغمة الأعداء على سعة العيش، لأن الابتهاج برغم أنوف الأعداء لسوء معاملتهم أشد من الابتهاج بالسعة.
* (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) * قيل: نزلت في جندب بن ضمرة وتقدمت قصته قبل. وقيل: في ضمرة بن بغيض. وقيل: أبو بغيض ضمرة بن زنباع الخزاعي. وقيل: خالد بن حرام بن خويلد أخو حكيم بن حرام خرج مهاجرا إلى الحبشة، فمات في الطريق. وقيل: ضمرة بن ضمرة بن نعيم. وقيل: ضمرة بن خزاعة. وقيل: رجل من كنانة هاجر فمات في الطريق، فسخر منه قومه فقالوا: لا هو بلغ ما يريد، ولا هو أقام في أهله حتى دفن. والصحيح: أنه ضمرة بن بغيض، أو بغيض بن ضمرة بن الزنباع، لأن عكرمة سأل عنه أربع عشرة سنة، وصححه. وجواب الشرط فقد وقع أجره على الله، وهذه مبالغة في ثبوت الأجر ولزومه، ووصول الثواب إليه فضلا من الله وتكريما، وعبر عن ذلك بالوقوع مبالغة. وقرأ النخعي وطلحة بن مصرف: ثم يدركه برفع الكاف. قال ابن جني: هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: ثم هو يدركه الموت، فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم، وفاعله. وعلى هذا حمل يونس قول الأعشى:
* إن تركبوا فركوب الخير عادتنا
*
أو تنزلون فإنا معشر نزل
*
المراد: أو أنتم تنزلون، وعليه قول الآخر:
350

* إن تذنبوا ثم يأتيني نعيقكم
*
فما علي بذنب عندكم قوت
*
المعنى: ثم أنتم يأتيني نعيقكم. وهذا أوجه من أن يحمل على ألم يأتيك انتهى. وخرج على وجه آخر وهو: أن رفع الكاف منقول من الهاء، كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف كقوله:
* من عرى سلبي لم أضربه يريد: لم أضربه، فنقل حركة الهاء إلى الباء المجزومة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن، ونبيح، والجراح: ثم يدركه بنصب الكاف، وذلك على إضمارات كقول الأعشى:
*
* ويأوي إليها المستجير فيعصما قال ابن جني: هذا ليس بالسهل، وإنما بابه الشعر لا القرآن وأنشد أبو زيد فيه:
*
* سأترك منزلي لبني تميم
*
وألحق بالحجاز فأستريحا
*
والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف انتهى. وتقول: أجرى ثم مجرى الواو والفاء، فكما جاز نصب الفعل بإضمار أن بعدهما بين الشرط وجوابه، كذلك جاز في ثم إجراء لها مجراهما، وهذا مذهب الكوفيين، واستدلوا بهذه القراءة. وقال الشاعر في الفاء:
* ومن لا يقدم رجله مطمئنة
*
فيثبتها في مستوى القاع يزلق
*
وقال آخر في الواو:
* ومن يقترب منا ويخضع نوؤه
*
ولا يخش ظلما ما أقام ولا هضما
*
وقالوا: كل هجرة لغرض ديني من: طلب علم، أو حج، أو جهاد، أو فراء إلى بلد يزداد فيه طاعة، أو قناعة، وزهدا في الدنيا، أو ابتغاء رزق طيب، فهي هجرة إلى الله ورسوله. وإن أدركه الموت فأجره على الله تعالى.
قيل: وفي الآية دليل على أن الغازي إذا خرج إلى العزو ومات قبل القتال فله سهمه وإن لم يحضر الحرب. روي ذلك عن أهل المدينة، وابن المبارك، وقالوا: إذا لم يحرم الأجر لم يحرم الغنيمة. ولا تدل هذه الآية على ذلك، لأن الغنيمة لا تستحق إلا بعد الحيازة، فالسهم متعلق بالحيازة، وهذا مات قبل أن يغنم، ولا حجة في قوله: فقد وقع أجره على الله على ذلك، لأنه لا خلاف في أنه لو مات في دار الإسلام وقد خرج إلى الغزو وما دخل في دار الحرب، أنه لا يسهم له، وقد وقع أجره على الله كما وقع أجر الذي خرج مهاجرا فمات قبل بلوغه دار الهجرة.
* (وكان الله غفورا رحيما) * أي: غفورا لما سلف من ذنوبه، رحيما بوقوع أجره عليه ومكافأته على هجرته ونيته.
وتضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والبديع. منها الاستعارة في قوله: إذا ضربتم في سبيل الله، استعار الضرب للسعي في قتال الأعداء، والسبيل لدينه، وفي: لا يستوي عبر به وهو حقيقة في المكان عن التساوي في المنزلة والفضيلة وفي: درجة حقيقتها في المكان فعبر به عن المعنى الذي القتضى التفضيل، وفي: يدركه استعار الإدراك الذي هو صفة من فيه حياة لحلول الموت، وفي: فقد وقع
351

استعار الوقوع الذي هو من صفات الإجرام لثبوت الأجر. والتكرار في: اسم الله تعالى، وفي: فتبينوا، وفي: فضل الله المجاهدين على القاعدين. والتجنيس المماثل
في: مغفرة وغفورا. والمغاير في: أن يعفو عنهم وعفوا، وفي: يهاجر ومهاجرا. وإطلاق الجمع على الواحد في: توفاهم الملائكة على قول من قال أنه ملك الموت وحده. والاستفهام المراد منه التوبيخ في: فيم كنتم، وفي: ألم تكن. والإشارة في كذلك وفي: فأولئك. والسؤال والجواب في: فيم كنتم وما بعدها. والحذف في عدة مواضع.
2 (* (وإذا ضربتم فى الا رض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا * وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلواة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضىأن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) *)) 2
السلاح: معروف وما هو ما يتحصن به الإنسان من سيف ورمح وخنجر ودبوس ونحو ذلك، وهو مفرد مذكر، يجمع على أسلحة، وأفعلة جمع فعال. المذكر نحو: حمار وأحمرة، ويجوز تأنيثه. قال الطرماح:
* يهز سلاحا لم يرثها كلالة
*
يشك بها منها غموض المغابن
*
وقال الليث: يقال للسيف وحده سلاح، وللعصا وحدها سلاح. وقال ابن دريد: يقال: السلاح، والسلح، والمسلح، والمسلحان، يعني: على وزن الحمار، والضلع، والنعر، والسلطان. ويقال: رجل سالح إذا كان معه السلاح. وقال أبو عبيدة: السلاح ما قوتل به.
* (وإذا ضربتم فى الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة) * روى مجاهد عن ابن عباس قال: كما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد، وقال المشركون: لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر، الضرب في الأرض. والظاهر جواز القصر في مطلق السفر، وبه قال أهل الظاهر.
واختلفت فقهاء الأمصار في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة، فقال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: تقصر في أربعة برد، وذلك ثمانية وأربعون ميلا. وقال أبو حنيفة والثوري: مسيرة ثلاث. وقال أبو حنيفة: ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام. وقال الأوزاعي: مسيرة يوم تام، وحكاه عن عامة العلماء. وقال الحسن والزهري: مسيرة يومين. وروي عن مالك: يوم وليلة. وقصر أنس في خمسة عشر ميلا. والظاهر أنه لا يعتبر نوع سفر، بل يكفي مطلق السفر، سواء كان في طاعة أو مباح أو معصية، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة. وروي عن ابن مسعود: أنه لا يقصر إلا في حج أو جهاد. وقال عطاء: لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة، وروي عنه: أنها تقصر في
352

السفر المباح. وأجمعوا على القصر في سفر الحج والعمرة والجهاد وما ضارعها من صلة رحم، وإحياء نفس. والجمهور على أنه لا يجوز في سفر المعصية كالباغي، وقاطع الطريق، وما في معناهما. والظاهر أنه لا يقصر إلا حتى يتصف بالسفر بالفعل، ولا اعتبار بمسافة معينة، ولا زمان. وروي عن الحرث بن أبي ربيعة: أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله، والأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء وسليمان بن موسى. والجمهور على أنه لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية. وروي عن مجاهد أنه قال: لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل. والظاهر من قوله: * (فليس عليكم جناح) * أن القصر مباح. وقال مالك في المبسوط: سنة. وقال حماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة، ومحمد بن سحنون، وإسماعيل القاضي: فرض، وروي عن عمر بن عبد العزيز. والظاهر أن قوله: أن تقصروا، مطلق في لاقصر، ويحتاج إلى مقدار ما ينقص منها. فذهبت جماعة إلى أنه قصر من أربع إلى اثنين. وقال قوم: من ركعتين في السفر إلى ركعة، والركعتين في السفر تمام.
* (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * ظاهره أن إباحة القصر مشروطة بالخوف المزكور، وإلى ذلك ذهب جماعة. ومن ذهب إلى أن القصر هو من ركعتي السفر إلى ركعة، شرط الخوف، وقال: تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها، ويكون للإمام ركعتان. وقالت طائفة: لا يراد بالقصر الصلاة هنا القصر من ركعتيها، وإنما المراد القصر من هيآتها بترك الركوع والسجود في الإيماء، وترك القيام إلى الركوع، وروي فعل ذلك عن ابن عباس وطاووس. وذهب آخرون إلى أن الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيآتها عند المسايفة واشتعال الحرب، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى ركعتين، ورجح هذا القول الطبري بقوله: * (فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا) * أي بحدودها وهيآتها الكاملة. والحديث الصحيح يدل على أن هذا الشرط لا مفهوم له، فلا فرق بين الخوف والأمن، وحديث يعلى في ذلك مشهور صحيح.
والفتنة هنا هي التعرض بما يكره من قتال وغيره. ولغة الحجاز: فتن، ولغة تميم وربيعة وقيس: أفتن رباعيا. وقال أبو زيد: قصر من صلاته قصر، أنقص من عددها. وقال الأزهري: قصر وأقصر. وقرأ ابن عباس: أن تقصروا رباعيا، وبه قرأ الضبي عن رجاله. وقرأ الزهري: تقصروا مشددا، ومن للتبعيض. وقيل: زائدة. وقيل: الشرط ليس متعلقا بقصر الصلاة، بل تم الكلام عند قوله: أن تقصروا من الصلاة، ثم ابتدأ حكم الخوف. ويؤيده على قول: أن تجارا قالوا: إنا
نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فنزلت: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، ثم انقطع الكلام. فلما كان بعد ذلك بسنة في غزاة بني أسد حين صليت الظهر قال بعض العدو: هلا شددتم عليهم وقد مكنوكم من ظهورهم؟ فقالوا: إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأولادهم، فنزلت: * (إن خفتم * إلى * قوله * عذابا مهينا) * صلاة الخوف. ورجح هذا بأنه إذا علق الشرط بما قبله كان جواز القصر مع الأمن مستفادا من السنة، ويلزم منه نسخ الكتاب بالسنة. وعلى تقدير الاستئناف لا يلزم، ومتى استقام اللفظ وتم المعنى من غير محذور النسخ كان أولى انتهى. وليس هذا بنسخ، إنما فيه عدم اعتبار مفهوم الشرط، وهو كثير في كلام العرب. ومنه قول الشاعر:
* عزيز إذا حل الخليقان حوله
*
بذي لحب لجأته وضواهله
*
وفي قراءة أبي وعبد الله: أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم، بإسقاط إن خفتم، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى أي: مخافة أن يفتنكم. وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد.
* (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) * عدو: وصف يوصف به الواحد والجمع. قال: هم العدو، ومعنى مبينا: أي مظهرا للعداوة، بحيث أن عداوته ليست مستورة، ولا هو يخفيها، فمتى قدر على أذية فعلها.
* (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلواة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة) * استدل بظاهر الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم) من لا يرى صلاة الخوف بعد الرسول حيث شرط كونه فيهم، وكونه هو المقيم
353

لهم الصلاة. وهو مذهب: ابن علية، وأبي يوسف. لأن الصلاة بإمامته لا عوض عنها، وغيره من العوض، فيصلي الناس بإمامين طائفة بعد طائفة. وقال الجمهور: الخطاب له يتناول الأمراء بعده، والضمير في: فيهم، عائد على الخائفين. وقيل: على الضاربين في الأرض. والظاهر أن صلاة الخوف لا تكون إلا في السفر، ولا تكون في الحضر، وإن كان خوف. وذهب إليه قوم. وذهب الجمهور إلى أن الحضر إذا كان خوف كالسفر.
ومعنى: فأقمت لهم الصلاة، أقمت حدودها وهيآتها. والذي يظهر أن المعنى فأقمت بهم. وعبر بالإقامة إذ هي فرض على المصلي في قول: عن ذلك. ومعنى: فلتقم هو من القيام، وهو الوقوف. وقيل: فلتقم بأمر صلاتها حتى تقع على وفق صلاتك، من قام بالأمر اهتم به وجعله شغله. والظاهر أن الضمير في: وليأخذوا أسلحتهم عائد على طائفة لقربها من الضمير، ولكونها لها فيما بعدها في قوله: فإذا سجدوا. وقيل: إن الضمير عائد على غيرهم، وهي الطائفة الحارسة التي لم تصل. وقال النحاس: يجوز أن يكون للجميع، لأنه أهيب للعدو: فإذا سجدوا أي: هذه الطائفة. ومعنى سجدوا: صلوا. وفيه دليل على أن السجود قد يعبر به عن الصلاة، ومنه: (إذا جاء أحدكم المسجد فليسجد سجدتين) أي فليصل ركعتين.
* (فليكونوا من ورائكم) *: ظاهره أن الضمير في فليكونوا عائد على الساجدين، والمعنى: أنهم إذا فرغوا من السجود انتقلوا إلى الحراسة فكانوا وراءكم. وقال الزمخشري: فليكونوا يعني: غير المصلين من ورائكم يحرسونكم، وجوز الوجهين ابن عطية، قال: يحتمل أن يكون الذين سجدوا، ويحتمل أن تكون الطائفة القائمة أولا بإزاء العدو. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: فلتقم بكسر اللام. وقرأ أبو حيوة: وليات بياء بثنتين تحتها على تذكير الطائفة، واختلف عن أبي عمرو، في إدغام التاء في الطاء. وفي قوله: فلتأت طائفة، دليل على أنهم انقسموا طائفتين: طائفة حارسة أولا، وطائفة مصلية أولا معه، ثم التي صلت أولا صارت حارسة، وجاءت الحارسة أولا فصلت معه. والظاهر أن الأمر بأخذ الأسلحة واجب، لأن فيه اطمئنان المصلي، وبه قال: الشافعي وأهل الظاهر. وذهب الأكثرون إلى الاستحباب.
ودلت هذه الكيفية التي ذكرت في هذه الآية على أن طائفة صلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم) بعض صلاة، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه، ولا كيفية إتمامهم، وإنما جاء ذلك في السنة. ونحن نذكر تلك الكيفيات على سبيل الاختصار، لأنها مبينة ما أجمل في القرآن. الكيفية الأولى: صلت طائفة معه، وطائفة وجاه العدو، وثبتت قائمة حتى تتم صلاتهم ويذهبوا وجاه العدو، وجاءت هذه التي كانت وجاه العدو أولا فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسا حتى أتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وهذه كانت بذات الرقاع. الكيفية الثانية: كالأولى، إلا أنه حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة سلم، ثم قضت بعد سلامه. وهذه مروية في ذات الرقاع أيضا. الكيفية الثالثة: صف العسكر خلفه صفين، ثم كبر وكبروا جميعا، وركعوا معه، ورفعوا من الركوع جميعا، ثم سجد هو بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر المتقدمون إلى مصاف المتأخرين، ثم ركعوا معه جميعا، ثم سجد فسجد معه الصف الذي يليه، فلما صلى سجد الآخرون، ثم سلم بهم جميعا. وهذه صلاته بعسفان والعدو في قبلته. الكيفية الرابعة: مثل هذا إلا أنه قال: ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود، ويتقدم الآخر فيسجدون في مصاف الأولين
354

الكيفية الخامسة: صلى بإحدى الطائفتين ركعة، والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم، ثم قضى بهؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة في حين واحد. الكيفية السادسة: يصلي بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدو، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم، وتقوم التي معه تقضي، فإذا فرغوا ساروا تجاه العدو، وقضت الأخرى. الكيفية السابعة: صلى بكل طائفة ركعة، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئا زائدا على ركعة واحدة
. الكيفية الثامنة: صلى بكل طائفة ركعتين ركعتين، فكانت له أربع، ولكل رجل ركعتان. الكيفية التاسعة: يصلي بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين، والأخرى بإزاء العدو، ثم تقف هذه بإزاء العدو وتأتي الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة، وتتم صلاتها ثم تحرس، وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها، وكذا في المغرب. إلا أنه يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعة. الكيفية العاشرة: قامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة، فكبرت الطائفتان معه، ثم ركع وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك، ثم قام فصارت التي معه إلى إزاء العدو، وأقبلت التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا وهو قائم كما هو، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجدوا معه، ثم أقبلت التي بإزاء العدو فركعوا وسجدوا وهو قاعد، ثم سلم وسلم الطائفتان معه جميعا. وهذه كانت في غزوة نجد. الكيفية الحادية عشرة: صلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعتين وسلم.
وهذه كانت ببطن نخل. واختلاف هذه الكيفيات يرد على مجاهد قوله: إنه ما صلى الرسول إلا مرتين: مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم، ومرة بعسفان والمشركون بضخيان بينهم وبين القبلة. وذكر ابن عباس: أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة الخوف. وقال أبو بكر بن العربي: روي عنه صلى الله عليه وسلم) أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة، يعني كيفية. وقال ابن حنبل: لا نعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت صحيح، فعلى أي حديث صليت أجزأ. وكذا قال الطبري. وجمع في الأخذ بين الحذر والأسلحة، فإنه جعل الحذر أنه يحترز بها كما يحترز بالأسلحة كما جاء: * (تبوءوا الدار والإيمان) * جعل الإيمان مستقرا لتمكنهم فيه.
* (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) * تقدم الكلام في لو بعدود في قوله: * (يود أحدهم لو يعمر) * أي: يشدون عليكم شدة واحدة: وقرى: وأمتعاتكم، وهو شاذ إذ هو جمع الجمع كما قالوا: أشقيات وأعطيات في أشقية وأعطية، جمع شقاء وعطاء. وفي هذا الإخبار تنبيه وتحذير من الغفلة، وأفرد المسألة لأنها أبلغ في الإيصال.
* (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم) * قال ابن عباس: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس. ولما كانت هاتان الحالتان مما يشق حمل السلاح فيهما، ورخص في ذلك للمريض لأن حمله السلاح مما يكره به ويزيد في مرضه، ورخص في ذلك إن كان مطر، لأن المطر مما يثقل العدو ويمنعه من خفة الحركة للقتال. وقال: إن يتأذوا من مطر إلا لحق الكفار من أذاه ما لحق المسلمين غالبا إن كانا متقاربين في المسافة ومرضا إما لجراحة سبقت، أو لضعف بنية، أو غير ذلك مما يعد مرضا، وتكرير الأمر بأخذ الحذر في الصلاة. وفي هاتين الحالتين مما يدل على توكيد التأهب والاحتراز من العدو، فإن الجيش كثيرا ما يصاب من التفريط في الحذر. وقال الضحاك في قوله: وخذوا حذركم، أي: تقلدوا سيوفكم، فإن ذلك حذر الغزاة.
* (إن الله أعد للكافرين عذابا
355

مهينا) * قال الزمخشري: الأمر بالحذر من العدو يوهم توقع غلبة واغترار، فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أن الله يهين عدوهم، ويخذلهم، وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لذلك، وإنما هو تعبد من الله، كما قال: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *.
2 (* (فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلواة إن الصلواة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا * ولا تهنوا فى ابتغآء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما * إنآ أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله ولا تكن للخآئنين خصيما * واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما * يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا * هاأنتم هاؤلاء جادلتم عنهم فى الحيواة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا * ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما * ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما * ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا * ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طآئفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شىء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) *)) 2
* (فإذا قضيت الصلواة * فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلواة) * الظاهر: أن معنى قضيتم الصلاة أي فرغتم منها، والصلاة هنا صلاة الخوف، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وكذا فسره ابن عباس. والذكر المأمور به هنا هو الذكر باللسان إثر صلاة الخوف على حد ما أمروا به عند قضاء المناسك بذكر الله، فأمروا بذكر الله من: التهليل، والتكبير، والتسبيح، والدعاء بالنصر، والتأييد في جميع الأحوال فإن ما هم فيه من ارتقاب مقارعة العدو، حقيق بالذكر، والالتجاء إلى الله. أي: فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي أتموها. وذهب قوم إلى أن معنى قضيتم الصلاة: تلبستم بالصلاة وشرعتم فيها. ومعنى الأمر بالذكر أي: صلوها قياما في حال المسايفة والاختلاط، وقعودا جاثين على الركب من أنين، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح، فهي هيئات لأحوال على حسب تفصيلها. فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم، فأقيموا الصلاة أي: فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وهو خلاف الظاهر. قال: وهذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة، والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها، فإذا اطمأن فعليه القضاء، وأما عند أبي حنيفة فهو معذور في تركها إلى أن يطمئن. وقيل: قوله: فإذا قضيتم الصلاة فذكروا، أنه أمر بالصلاة حاله إلا من بعد الخوف قياما للأصحاء، وقعودا للعجزين عن القعود لزمانة أو جراحة أو مرض لا يستطيع القعود معها، فإذا اطمأننتم أي: أمنتم من الخوف قاله: قتادة، والسدي. فأقيموا الصلاة أي: صلوها لا كصلاة الخوف، بل كصلاة الأمن في السفر. وقيل فإذا اطمأننتم أي: فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعا.
* (فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا الله قياما وقعودا) * أي واجبة في أوقات معلومة قاله: ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابن قتيبة. ولم يقل موقوتة، لأن الكتاب مصدر، فهو مذكر. وروي عن ابن عباس: أن المعنى فرضا مفروضا، فهما لفظان بمعنى واحد، والظاهر الأول أي: فرضا منجما في أوقات. وقال أبو عبد الله الرازي: أجمل هنا تلك الأوقات وفسرها في أوقات خمسا، وتوقيتها بأوقات خمسة في نهاية الحسن نظرا إلى المعقول، لأن الحوادث لها مراتب خمس: مرتبة الحدوث، ومرتبة الوقوف، ومرتبة الكهولة وفيها نقصان خفي، ومرتبة الشيخوخة، والخامسة: أن تبقى آثاره بعد موته مدة ثم تمحى. وهذه المراتب حصلت للشمس بحسب طلوعها وغروبها، فأوجب الله عند كل مرتبة من أحوالها الخمس صلاة انتهى. ما لخصناه من كلامه وطول هو كثيرا في شيء لا يدل عليه القرآن، ولا تقتضيه لغة العرب، ذكر ذلك في
356

تفسيره فمن أراده فليطالعه فيه.
* (ولا تهنوا فى ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) * قيل: تزلت في الجهاد مطلقا. وقيل: في انصراف الصحابة من أحد، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم) أمرهم باتباع أبي سفيان وأصحابه، أمر أن لا يخرج إلا من كان معه في أحد، فشكوا بأن فيهم جراحات. وهذه الآية تشير إلى أن القضاء في قوله: * (فإذا قضيتم الصلواة) * إنما هو قضاء صلاة الخوف.
وقرأ الحسن: تهنوا بفتح الهاء وهي لغة. فتحت الهاء كما فتحت دال يدع، لأجل حرف الحلق، والمعنى: ولا تضعفوا أو تخوروا جبنا في طلب القوم. وقرأ عبيد بن عمير: ولا تهانوا من الإهانة. نهوا عن أن يقع منهم ما يترتب عليه إهانتهم من كونهم يجنون على أعدائهم فيهانون كقولهم: (لا أريناك هاهنا)، ثم شجعهم على طلب القوم وألزمهم الحجة، فإن ما فيهم من الألم مشترك، وتزيدون عليهم أنكم ترجون من الله الثواب وإظهار دينه بوعده الصادق، وهم لا يرجونه، فينبغي أن تكونوا أشجع منهم وأبعد عن الجبن. وإذا كانوا يصبرون على الآلام والجراحات والقتل، وهم لا يرجون ثوابا في الآخرة، فأنتم أحرى أن تصبروا. ونظير ذكر هذا الأمر المشترك فيه قول الشاعر:
* قاتلوا القوم يا خداع ولا
*
يأخذكم من قتالهم قتل
*
* القوم أمثالكم لهم شعر
*
في الرأس لا ينشرون أن قتلوا
*
والرجاء هنا على بابه، وقيل: معناه الخوف الذي تخافون من عذاب الله ما لا تخافون كقوله: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها، أي: لم يخف. وزعم الفراء أن الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إلا مع النفي، ولا يقال رجوتك بمعنى خفتك. وقرأ الأعرج: أن تكونوا بفتح الهمزة على المفعول من أجله. وقرأ ابن المسيفع: تئلمون بكسر التاء. وقرأ ابن وثاب ومنصور بن المعتمر: تئلمون بكسر تاء المضارعة فيهما ويائهما، وهي لغة.
* (وكان الله عليما حكيما) * أي عليما بنياتكم حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
* (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) * طول المفسرون في سبب النزول، ولخصنا منه انتهاء ما في قول قتادة وغيره. نزلت في طعمة بن أبيرق، سرق درعا في جرب فيه دقيق لقتادة بن النعمان وخبأها عند يهودي، فحلف طعمة ما لي بها علم، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار
357

اليهودي، فقال اليهودي: دفعها إلي طعمة. وقيل: استودع يهودي درعا فخانه، فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبي مليك الأنصاري. قال السدي: وقيل: السلاح والطعام كان لرفاعة بن زيد عم قتادة، وأن بني أبريق نقبوا مشربيته وأخذوا ذلك، وهم بشير بضم الباء ومبشر وبشر، وأهموا أن فاعل ذلك هو لبيد بن سهل، فشكاهم قتادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأن الرسول هم أن يجادل عن طعمه، أو عن أبيرق، ويقال فيه: طعيمة.
وقال الكرماني: أجمع المفسرون على أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق أحمد بني ظفر بن الحرث، إلا ابن بحر فإنه قال: نزلت في المنافقين، وهو متصل بقوله: * (فما لكم فى المنافقين فئتين) * انتهى. وفي هذه الآية تشريف للرسول صلى الله عليه وسلم)، وتفويض الأمور إليه بقوله: لتحكم بين الناس بما أراك الله.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما صرح بأحوال المنافقين، واتصل بذلك أمر المحاربة وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية، رجع إلى أحوال المنافقين، فإنهم خانوا الرسول على ما لا ينبغي، فأطلعه الله على ذلك وأمره أن لا يلتفت إليهم، وكان بشير منافقا ويهجو الصحابة وينحل الشعر لغيره، وأما طعمة فارتد، وأنه لما بين الأحكام الكثيرة عرف أن كلها من الله، وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قوم. أو أنه لما أنه يجاهد الكفار، أنه لا يجوز إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفره لا يبيح المسامحة في النظر إليه، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله، ولا يلحق به حيف لأجل أن يرضي المنافق.
والكتاب هنا القرآن. ومعنى بالحق: أي لا عوج فيه ولا ميل. والناس هنا عام، وبما أراك الله بما أعلمك من الوحي. وقيل: بالنظر الصحيح فإنه محروس في اجتهاده
، معصوم في الأقوال والأفعال. وقيل: بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة وصفاء الباطن. وعن عمر: (لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه، لأن الرأي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم) مصيبا، لأن الله تعالى كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكليف دون الإهمال، أو بماله عاقبة حميدة، لأن ما ليس كذلك عبث وباطل). وقال الماتريدي: بالحق أي: موافقا لما هو الحق على العباد، ولما لبعضهم على بعض ليعلموا بذلك، أو بيانا لأمره. وحق كائن ثابت وهو البعث والقيامة، ليتزودوا له. أو بما يحمل عليهم فاعله، أو بالعدل والصدق على الأمن من التغيير والتبديل. بما أراك الله: فيه دليل جواز اجتهاده، واجتهاده كالنص، لأن الله تعالى أخبر أنه يريه ذلك أو لا يريه غير الصواب انتهى كلامه.
* (ولا تكن للخائنين خصيما) * أي: مخاصما، كجليس بمعنى مجالس، قاله: الزجاج والفارسي وغيرهما. ويحتمل أن يكون للمبالغة من خصم، والخائنون جمع. فإن بني أبريق الثلاثة هم الذين نقبوا المشربة، فظاهر إطلاق الجمع عليهم وإن كان وحده هو الرجل الذي خان في الدرع أو سرقها، فجاء الجمع باعتباره واعتبار من شهد له بالبراءة من قومه كأسيد بن عروة ومن تابعه ممن زكاه، فكانوا شركاء له في الإثم، خصوصا من يعلم أنه هو السارق. أو جاء الجمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا يخاصم لخائن قط، ولا يحاول عنه. وخصيما يحتاج متعلقا محذوفا أي البراء. والبريء مختلف فيه حسب الاختلاف في السبب: أهو اليهودي الذي دفع إليه طعمة الدرع وهو زيد بن السمين، أو أبو مليك الأنصاري؟ وهو الذي ألقى طعمة الدرع في داره لما خاف الافتضاح، أو لبيد بن سهل؟ وقال يحيى بن سلام: وكان يهوديا. وذكر المهدوي أنه كان مسلما. وأدخله أبو عمرو بن عبد البر في كتاب الصحابة، فدل على إسلامه كما ذكر المهدوي. ولما نزلت هذه الآيات هرب طعمة إلى مكة وارتد، ونزل على سلافة فرماها حسان به في شعر قاله ومنه
358

* وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت
*
ينازعها جلد استها وتنازعه
*
* ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتمو
*
وفينا نبي عنده الوحي واضعه
*
فأخرجته ورمت رحله خارج المنزل وقالت: ما كنت تأتيني بخير أهديت لي شعر حسان، فنزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده، ثم نقب بيتا ليسرق منه فسقط الحائط عليه فمات. وقيل: اتبع قوما من العرب فسرقهم فقتلوه.
* (واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما) * أي: استغفر لأمتك المذنبين المتخاصمين بالباطل. قال الزمخشري: واستغفر الله مما هممت به من عقاب اليهودي. وقال الطبري والزجاج: واستغفر الله أي من ذنبك في خصامك لأجل الخائنين. قال ابن عطية: وهذا ليس بذنب، لأنه عليه السلام إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد برائتهم انتهى. وقيل: هو أمر بالاستغفار على سبيل التسبيح من غير ذنب أو قصد توبة، كما يقول الرجل: استغفر الله. وقيل: الخطاب صورة للنبي صلى الله عليه وسلم)، والمراد بنو أبيرق. وقيل: المعنى واستغفر الله مما هممت به قبل النبوة.
* (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) * هذا عام يندرج فيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم. واختيان الأنفس هو مما يعود عليها من العقوبة في الآخرة والدنيا، كما جاء نسبة ظلمهم لأنفسهم. والنهي عن الشيء لا يقتضي أن يكون المنهى ملابسا للمنهى عنه. وروى العوفي عن ابن عباس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم) خاصم عن طعمة، وقام يعذر خطيبا. وروى قتادة وابن جبير: أنه هم بذلك ولم يفعله.
* (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) * أتى بصيغة المبالغة في الخيانة والإثم ليخرج منه من وقع منه المرة، ومن صدرت منه الخيانة على سبيل الغفلة وعدم القصد. وفي صفتي المبالغة دليل على إفراط طعمة في الخيانة وارتكاب المآثم. وقيل: إذا عثرت من رجل سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكي وقالت: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه فقال: كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة. وتقدمت صفة الخيانة على صفة المآثم، لأنها سبب للإثم خان فأثم، ولتواخي الفواصل.
* (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) * الضمير في يستخفون الظاهر: أنه يعود على الذين يختانون، وفي ذلك توبيخ عظيم وتقريع، حيث يرتكبون المعاصي مستترين بها عن الناس إن اطلعوا عليها، ودخل معهم في ذلك من فعل مثل فعلهم. وقيل:
359

الضمير يعود على الصنف المرتكب للمعاصي، ويندرج هؤلاء فيهم، وهم أهل الخيانة المذكورة والمتناصرون لهم. وقيل: يعود على من باعتبار المعنى، وتكون الجملة نعتا. وهو معهم أي: عالم بهم مطلع عليهم، لا يخفى عنه تعالى شيء من أسرارهم، وهي جملة حالية. قال الزمخشري: وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم عليه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح انتهى. وهذا كقول الشاعر:
* يا للعجاج لمن يعصي ويزعم إذ
*
قد آمنوا بالذي جاءت به الرسل
*
* أتى بجامع إيمان لمعصية
*
كلا أماني كذب ساقها الأمل
*
أي أن المعصية كلا أماني كذب ساقها الأمل الاستخفاء: الاستتار. وقال ابن عباس: الاستحياء استحى فاستخفى، إذ يبيتون ما لا يرضى من القول الذي رموا به البريء، ودافعوا به عن السارق. والعامل في إذ العامل في معهم، وتقدم الكلام في التبييت.
* (وكان الله بما يعملون محيطا) * كناية عن المبالغة في العلم. ولما كانت قصة طعمة جمعت بين عمل وقول: جاء وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا، فنبه على أنه عالم بأقوالهم وأعمالهم. وتضمن ذلك الوعيد الشديد والتقريع البالغ، إذ كان تعالى محيطا بجميع الأقوال والأعمال، فكان ينبغي أن تستر القبائح عنه بعدم ارتكابها.
* (هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم فى الحيواة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا) * تقدم الكلام على ها أنتم هؤلاء، وعلى الجملة بعدها قراءة وإعرابا في سورة آل عمران والخطاب للذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي، ويندرج في هذا العموم أهل النازلة. والأظهر أن يكون ذلك خطابا للمتعصبين في قصة طعيمة، ويندرج فيه من عمل عملهم. ويقوي ذلك أن هؤلاء إشارة إلى حاضرين. وقرأ عبد الله عنه في الموضعين أي: عن طعمة. وفي قوله: فمن يجادل الله عنهم، وعيد محض أي: أن الله يعلم حقيقة الأمر، فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره. ومعنى هذا الاستفهام النفي أي: لا أحد يجادل الله عنهم يوم القيامة إذا حل بهم عذابه. والوكيل: الحافظ المحامي، والذي يكل الإنسان إليه أموره. وهذا الاستفهام معناه النفي أيضا، كأنه قال: لا أحد يكون وكيلا عليهم فيدافع عنهم ويحفظهم. وهاتان الجملتان انتفى في الأولى منهما المجادلة، وهي المدافعة بالفعل والنصرة بالقوة.
* (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) * الظاهر أنهما غير أن عمل السوء القبيح الذي يسوء غيره، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي. وظلم النفس ما يختص به كالحلف الكاذب. وقيل: ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك، أو يظلم نفسه بالشرك انتهى. وقيل: السوء الذنب الصغير، وظلم النفس الذنب الكبير. وقال أبو عبد الله الرازي: وخص ما يبدي إلى الغير باسم السوء، لأن
360

ذلك يكون في الأكثر لا يكون ضررا حاضرا، لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه. وقيل: السوء هنا السرقة. وقيل: الشرك. وقيل: كل ما يأثم به. وقيل: ظلم النفس هنا رمي البريء بالتهمة. وقيل: ما دون الشرك من المعاصي. وقال ابن عطية: هما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة. والظاهر تعليق الغفران والرحمة للعاصي على مجرد الاستغفار وأنه كاف، وهذا مقيد بمشيئة الله عند أهل السنة. وشرط بعضهم مع الاستغفار التوبة، وخص بعضهم ذلك بأن تكون المعصية مما بين العبد وبين ربه، دون ما بينه وبين العبيد. وقيل: الاستغفار التوبة. وفي لفظة: يجد الله غفورا رحيما، مبالغة في الغفران. كأن المغفرة والرحمة معدان لطالبهما، مهيآن له متى طلبهما وجدهما. وهذه الآية فيها لطف عظيم ووعد كريم للعصاة إذا استغفروا الله، وفيها تطلب توبة بني أبيرق والذابين عنهم واستدعاؤهم لها. وعن ابن مسعود: أنها من أرجى الآيات.
* (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما) * الإثم: جامع للسوء وظلم النفس السابقين والمعنى: أن وبال ذلك لاحق له لا يتعداه إلى غيره، وهو إشارة إلى الجزاء اللاحق له في الآخرة. وختمها بصفة العلم، لأنه يعلم جميع ما يكسب، لا يغيب عنه شيء من ذلك. ثم بصفة الحكمة لأنه واضع الأشياء مواضعها فيجازى على ذلك الإثم بما تقتضيه حكمته. فالصفتان أشارتا إلى علمه بذلك الإثم، وإلى ما يستحق عليه فاعله. وفي لفظة: على، دلالة استعلاء الإثم عليه، واستيلائه وقهره له.
* (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) * قيل: نزلت في طعمة بن أبيرق حين سرق الدرع ورماها في دار اليهودي. وروى الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول، إذ رمى عائشة بالإفك. وظاهر العطف بأو المغايرة، فقيل: الخطيئة ما كان عن غير عمد. والإثم: ما كان عن عمد، والصغيرة والكبيرة، أو القاصر على فعل والمتعدي إلى غيره. وقيل: الخطيئة سرقة الدرع، والإثم يمينه الكاذبة. وقال ابن السائب: الخطيئة يمين السارق الكاذبة، والإثم سرقة الدرع، ورمى اليهودي به. وقال الطبري: الخطيئة تكون عن عمد وغير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد. وقيل: هما لفظان بمعنى واحد، كررا مبالغة. والضمير في: به، عائد على الإثم، والمعطوف بأو يجوز أن يعود الضمير على المعطوف عليه كقوله: انفضوا إليها وعلى المعطوف كهذا. وتقدم الكلام في ذلك بأشبع من هذا. وقيل: يعود على الكسب المفهوم من يكسب. وقيل: على المكسوب. وقيل: يعود على أحد المذكورين الدال عليه العطف بأو، كأنه قيل: ثم يرم بأحد المذكورين. وقيل: ثم محذوف تقديره: ومن يكسب خطيئة ثم يرم به بريئا أو إثما ثم يرم به بريئا، وهذه تخاريج من لم يتحقق بشيء من علم
النحو.
والبريء المتهم بالذنب ولم يذنب. ومعنى: فقد احتمل بهتانا، أي برميه البريء، فإنه يبهته بذلك، وإثما مبينا أي: ظاهرا لكسبه الخطيئة أو الإثم. والمعنى: أنه يستحق عقابين: عقاب الكسب، وعقاب البهت. وقدم البهت لقربه من قوله: ثم يرم به بريئا، ولأنه ذنب أفظع من كسب الخطيئة أو الإثم. ولفظ احتمل أبلغ من حمل، لأن افتعل فيه للتسبب كاعتمل. ويحتمل أن يكون افتعل فيه كالمجرد كما قال: * (وليحملن أثقالهم) * فيكون كقدر واقتدر. لما كان الوزر يوصف بالفعل، جاء ذكر الحمل والاحتمال وهو استعارة. جعل المجني كالجرم
361

المحمول. ولفظة: ومن تدل على العموم، فلا ينبغي أن تخص ببني أبيرق، بل هم مندرجون فيها. وقرأ معاذ بن جبل: ومن يكسب بكسر الكاف وتشديد السين، وأصله: يكتسب. وقرأ الزهري: خطية بالتشديد.
* (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شىء) * الظاهر: أن الضمير في منهم عائد على بني ظفر المجادلين والذابين عن بني أبيرق. أي: فلولا عصمته وإيحاؤه إليك بما كتموه، لهموا بإضلالك عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل، مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم. فقد روي أن ناسا منهم كانوا يعلمون حقيقة القصة، هذا فيه بعض كلام الزمخشري، وهو قول ابن عباس من رواية السائب: أنها متعلقة بقصة طعمة وأصحابه، حيث لبسوا على الرسول أمر صاحبهم.
وروى الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في وفد ثقيف قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم) قالوا: جئناك نبايعك على أن لا نحشر ولا نعشر، وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة، فلم يجبهم فنزلت. وقال ابن عطية: وفق الله نبيهعلى مقدار عصمته له، وأنها بفضل من الله ورحمته. وقوله تعالى: لهمت معناه لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه، وهذا يدل على أن الألفاظ عامة في غير أهل النازلة، وإلا فأهل الغضب لبني أبيرق، وقد وقع همهم وثبت. والمعنى: ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك ويجعله هم نفسه، كما فعل هؤلاء، لكن العصمة تبطل كيد الجمع انتهى. والظاهر القول الأول كما ذكرنا، إلا أن الهم يحتاج إلى قيد أي: لهمت طائفة منهم هما يؤثر عندك. ولا بد من هذا القيد، لأنهم هموا حقيقة أعني: المجادلين عن بني أبيرق، أو يخص الضلال عن الدين فإن الهم بذلك أي: لهموا بإضلالك عن شريعتك ودينك، وعصمة الله إياك منعتهم أن يخطروا ذلك ببالهم. وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء أي: وبال ما أقدموا عليه من التعاون على الإثم والبهت، وشهادة الزور، إنما هو يخصهم. وما يضرونك من شيء من تدل على العموم نصا أي: لا يضرونك قليلا ولا كثيرا. قال القفال: وهذا وعد بالعصمة في المستقبل.
* (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) * الكتاب: هو القرآن. والحكمة تقدم تفسيرها والمعنى: إن من أنزل الله عليه الكتاب والحكمة وأهله لذلك، وأمره بتبليغ ذلك، هو معصوم من الوقوع في الضلال والشبه.
* (وعلمك ما لم تكن تعلم) * قال ابن عباس ومقاتل: هو الشرع. وقال أبو سليمان الدمشقي: أخبار الأولين والآخرين. وذكر الماوردي: الكتاب والحكمة، وذكر أيضا مقدار نفسك النفيسة. وقيل: خفيات الأمور، وضمائر الصدور التي لا يطلع عليها إلا يوحي. وقال القفال: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يراد ما يتعلق بالدين كما قال تعالى: * (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان) * وعلى هذا التقدير: وأطلعك على أسرار الكتاب والحكمة، وعلى حقائقهما، مع أنك ما كنت عالما بشيء، فكذلك بفعل بك في مستأنف أيامك، لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك ولا على استزلالك. الثاني: ما لم تكن تعلم من أخبار القرون السالفة، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين وكيدهم ما لا يقدر على الاحتراز منه انتهى. وفيه بعض تلخيص. والظاهر العموم، فيشمل جميع ما ذكروه. فالمعنى: الأشياء التي لم تكن تعلمها. لولا إعلامه إياك إياها.
* (وكان فضل الله عليك عظيما) * قيل: المنة بالإيمان. وقال أبو سليمان: هو ما خصه به تعالى. وقال أبو
362

عبد الله الرازي: هذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب. وذلك أن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا قليلا، ونصيب الشخص من علوم الخلائق يكون قليلا، ثم إنه سمى ذلك القليل عظيما.
وتضمنت هذه الآيات أنواعا منم الفصاحة والبيان والبديع. منها الاستعارة في: وإذا ضربتم في الأرض، وفي: فيميلون استعار الميل للحرب. والتكرار في: جناح ولا جناح لاختلاف متعلقهما، وفي: فلتقم طائفة: ولتأت طائفة، وفي: الحذر والأسلحة، وفي: الصلاة، وفي: تألمون، وفي: اسم الله. والتجنيس المغاير في: فيميلون ميلة، وفي: كفروا إن الكافرين، وفي: تختانون وخوانا، وفي: يستغفروا غفورا. والتجنيس المماثل في: فأقمت فلتقم، وفي: لم يصلوا فليصلوا، وفي: يستخفون ولا يستخفون، وفي: جادلتم فمن يجادل، وفي: يكسب ويكسب، وفي: يضلوك وما يصلون، وفي: وعلمك وتعلم. قيل: والعام يراد به الخاص في: فإذا قضيتم الصلاة ظاهره العموم، وأجمعوا على أن المراد بها صلاة الخوف خاصة، لأن السياق يدل على ذلك، ولذلك كانت أل فيه للعهد انتهى. وإذا كانت أل للعهد فليس من باب العام المراد به الخاص، لأن أل للعموم وأل للعهد فهما قسيمان، فإذا استعمل لأحد القسيمين فليس موضوعا للآخر. والإبهام في قوله: بما أراك الله وفي: ما لم تكن تعلم. وخطاب عين ويراد به غيره وفي: ولا تكن للخائنين خصيما فإنه صلى الله عليه وسلم) محروس بالعصمة أن يخاصم عن المبطلين. والتتميم في قوله: وهو معهم للإنكار عليهم والتغليظ لقبح فعلهم لأن حياء الإنسان ممن يصحبه أكثر من حيائه وحده، وأصل المعية في الإجرام، والله تعالى منزه عن ذلك، فهو مع عبده بالعلم والإحاطة. وإطلاق وصف الإجرام على المعاني فقد احتمل بهتانا. والحذف في مواضع.
(* (لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذالك ابتغآء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما * ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا * إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذالك لمن يشآء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا * إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا * لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا * ولأضلنهم ولأمنينهم ولامرنهم فليبتكن ءاذان الا نعام ولامرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا * يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * أولائك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيهآ أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا * ليس بأمانيكم ولاأمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من
363

ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا * ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا * ولله ما فى السماوات وما فى الا رض وكان الله بكل شىء محيطا) *))
) *
النجوى مصدر كالدعوى يقال: نجوت الرجل أنجوه نجوى إذا ناجيته. قال الواحدي: ولا تكون النجوى إلا بين اثنين. وقال الزجاج: النجزى ما انفرد به الجماعة، أو الاثنان سرا كان وظاهرا انتهى. وقال ابن عطية: المسارة، وتطلق النجوى على القوم المتناجين، وهو من باب قوم عدل وصف بالمصدر. وقال الكرماني: نجوى جمع نجي، وتقدم الكلام في هذه المادة، وتكرر هنا لخصوصية البنية.
مريد من مرد، عتا وعلا في الحذاقة، وتجرد للشر والغواية. وقال ابن عيسى: وأصله التملس، ومن شجرة مرداء أي ملساء تناثر ورقها، وغلام أمرد لا نبات بوجهه، وصرح ممرد مملس لا يعلق به شيء لملاسته، والمارد الذي لا يعلق بشيء من الفضائل. البتك: الشق والقطع، بتك يبتك، وبتك للتكثير، والبتك القطع واحدها بتكة. قال الشاعر:
* حتى إذا ما هوت كف الوليد لها
*
طارت وفي كفه من ريشها بتك
*
محيص: مفعل من حاص يحيص، زاع بنفور ومنه: فحاصوا حيصة حمر الوحش. وقول الشاعر:
* ولم ندر أن حصنا من الموت حيصة
*
كم العمر باق والمدا متطاول
*
ويقال جاض بالجيم والضاد المعجمة والمحاص مثل المحيص. قال الشاعر:
* تحيص من حكم المنية جاهدا
*
ما للرجال عن المنون محاص
*
وفي المثل: وقعوا في حيص بيص. وحاص باص إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه، ويقال: حاص يحوص حوصا وحياصا إذا نفر وزايل المكان الذي فيه. والحوص في العين ضيق مؤخرها. الخليل: فعيل من الخلة، وهي الفاقة والحاجة. أو من الخلة وهي صفاء المودة، أو من الخلل. قال ثعلب: سمى خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته. وأنشد قول بشار:
* قد تخللت مسلك الروح مني
*
وبه سمي الخليل خليلا
*
* (لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) * الضمير في نجواهم عائد على قوم طعمة الذين تقدم ذكرهم قاله: ابن عباس وغيره. وقال مقاتل: هم قوم من اليهود ناجوا قوم طعمة، واتفقا معهم على التلبيس على الرسول صلى الله عليه وسلم) في أمر طعمة. وقال ابن عطية: هو عائد على الناس أجمع.
وجاءت هذه الآيات عامة فاندرج أصحاب النازلة وهم قوم طعمة في ذلك العموم، وهذا من باب الإيجاز والفصاحة، لكون الماضي والمغاير تشملهما عبارة واحدة انتهى. وهذا الاستثناء منقطع إن كان النجوى مصدرا، ويمكن اتصاله على حذف مضاف
364

أي: إلا نجوى من أمر، وقاله: أبو عبيدة. وإن كان النجوى المتناجين قيل: ويجوز في: من الخفض من وجهين: أن يكون تابعا لكثير، أو تابعا للنجوى، كما تقول: لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت اتبعت زيد الجماعة، وإن شئت اتبعته القوم. ويجوز أن يكون من أمر مجرورا على البدل من كثير، لأنه في حيز النفي، أو على الصفة. وإذا كان منقطعا فالقدير: لكن من أمر بصدقة فالخير في نجواه. ومعنى أمر: حث وحض. والصدقة تشمل الفرض والتطوع. والمعروف عام في كل بر. واختاره جماعة منهم: أبو سليمان الدمشقي، وابن عطية. فيندرج تحته الصدقة والاصلاح. لكنهما جردا منه واختصا بالذكر اهتماما، إذ هما عظيما الغذاء في مصالح العباد. وعطف بأو فجعلا كالقسم المعادل مبالغة في تجريدهما، حتى صار القسم قسيما. وقيل: المعروف الفرض. روي ذلك عن ابن عباس ومقاتل. وقيل: إغاثة الملهوف. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب، وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوع انتهى. وفي الحديث الصحيح: (كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا من كان أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله تعالى). وحدث سفيان الثوري بهذا الحديث أقواما فقال أحدهم: ما أشد هذا الحديث فقال: ألم تسمع كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق. وقال الحطيئة:
* من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
*
لا يذهب العرف بين الله والناس
*
وظاهر قوله: أو إصلاح بين الناس، أنه في كل شيء يقع فيه اختلاف ونزاع. وقيل: هو خاص بالإصلاح بين طعمة واليهودي المذكورين. قال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: ذكر ثلاثة أنواع، لأن عمل الخير إما أن يكون بدفع المضرة وإليه الإشارة بقوله: أو إصلاح بين الناس. أو بإيصال المنفعة إما جسمانيا وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله: بصدقة. أو روحانيا وهو تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله: أو معروف.
وقال الراغب: يقال لكل ما يستحسنه العقل ويعرفه معروف، ولكل ما يستقبحه وينكره منكر. ووجه ذلك أنه تعالى ركز في العقول معرفة الخبر والشر، وإليه أشار بقوله: * (صبغة الله) * * (عبد الله) * وعلى ذلك ما اطمأنت إليه النفس لمعرفتها به انتهى. وهذه نزغة اعتزالية في أن العقل يحسن ويقبح. وقيل: هذه الثلاثة تضمنت الأفعال الحسنة، وبدأ بأكثرها نفعا وهو إيصال النفع إلى الغير، ونبه بالمعروف على النوافل التي هي من الإحسان والتفضل، والإصلاح بين الناس على سياستهم، وما يؤدي إلى نظم شملهم انتهى. وقال عليه السلام: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قيل: بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين) وخص من أمر بهذه الأشياء، وفي ضمن ذلك أن الفاعل أكثر استحقاقا من الأمر، وإذا كان الخير في نجوى الأمر به فلا يكون في من يفعله بطريق الأولى..
* (ومن يفعل ذالك ابتغاء * مرضات * الله
365

فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * لما ذكر أن الخير في من أمر ذكر ثواب من فعل، ويجوز أن يريد: ومن يأمر بذلك، فيعبر بالفعل عن الأمر، كما يعبر به عن سائر الأفعال. وقرأ أبو عمرو وحمزة: يؤتيه بالياء، والباقون بالنون على سبيل الالتفات، ليناسب ما بعده من قوله: * (نوله ما تولى ونصله) * فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلم العظيم، وهو أبلغ من إسناده إلى ضمير الغائب. ومن قرأ بالياء لحظ الاسم الغائب في قوله: ابتغاء مرضاة الله، وفي قوله: ابتغاء مرضاة الله دليل على أنه لا يجزي من الأعمال إلا ما كان فيه رضا الله تعالى، وخلوصه لله دون رياء ولا سمعة.
* (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له * الهدى * ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) * نزلت في طعمة بن أبيرق لما فضحه الله بسرقته، وبرأ اليهودي، ارتد وذهب إلى مكة وتقدم ذلك موته وسببه. ومما قيل فيه: إنه ركب في سفينة فسرق منها مالا فعلم به، فألقي في البحر. وقيل: لما سرق الحجاج السلمي استحى الحجاج منه لأنه كان ضيفه فأطلقه، فلحق بحيرة بني سليم فعبد صنما لهم ومات على الشرك. وقيل: نزلت في قوم طعمة قدموا فأسلموا، ثم ارتدوا. وتقدم معنى المشاقة في قوله: * (فإنما هم فى شقاق) * ومن يشاقق: عام فيندرج فيه طعمة وغيره من المشاقين من بعد ما تبين له الهدى: أي اتضح له الحق الذي هو سبب الهداية. ولو لم يكن إلا إخبار الله نبيه عليه السلام بقصة طعمة واطلاعه إياه على ما بيتوه وزوروه، لكان له في ذلك أعظم وازع وأوضح بيان، وكان ذنب من يعرف الحق ويزيغ عنه أعظم من ذنب الجاهل، لأن من لا يعرف الحق يستحق العقوبة لترك المعرفة، لأن العمل لا يلزمه حتى يعرفه، أو يعرفه من يصدقه. والعالم يستحق العقوبة بترك استعمال ما يقتضيه معرفته، فهو أعظم جرما إذا اطلع على لحق وعمل بخلاف ما يقتضيه على سبيل العناد لله تعالى، إذ جعل له نور يهتدي به. وسبيل المؤمنين: هو الدين الحنيفي الذي هم عليه. وهذه الجملة المعطوفة هي على سبيل التوكيد والتشنيع، وإلا فمن يشاقق الرسول هو متبع غير سبيل المؤمنين ضرورة، ولكنه بدأ بالأعظم في الإثم، وأتبع بلازمه توكيدا.
واستدل الشافعي وغيره بهذه الآية على أن الإجماع حجة. وقد طول أهل أصول الفقه في تقرير الدلالة منها، وما يرد على ذلك وذلك مذكور في كتب أصول الفقه. وقال الزمخشري: هو دليل على أن الإجماع حجة لا يجوز مخالفتها، كما لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأن الله تعالى جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين وبين مشاقة
الرسول في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباعهم واجبا كموالاة الرسول انتهى كلامه.
وما ذكره ليس بظاهر الآية المرتب على وصفين اثنين، لا يلزم منه أن يترتب على كل واحد منهما، فالوعيد إنما ترتب في الآية على من اتصف بمشاقة الرسول واتباع سبيل غير المؤمنين، ولذلك كان الفعل معطوفا على الفعل، ولم يعد معه اسم شرط. فلو أعيد اسم الشرط وكان، يكون ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين لكان فيه ظهور ما على ما ادعوا، وهذا كله على تسليم أن يكون قوله: ويتبع غير سبيل المؤمنين مغايرا لقوله: ومن يشاقق الرسول. وقد قلنا: إنه ليس بمغاير، بل هو أمر لازم لمشاقة الرسول، وذلك على سبيل المبالغة والتوكيد وتفظيع الأمر وتشنيعه. والآية بعد هذا كله هي وعيد الكفار، فلا دلالة على جزئيات فروع مسائل الفقه. واستدل بهذه الآية على وجوب عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم)، وعلى أن كل مجتهد يسقط عنه الإثم. ومعنى قوله: ما تولى قال ابن عطية: وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره. وقال الزمخشري: يجعله بالياء، وما تولى من
366

الضلالة بأن تخذله وتخلى بينه وبين ما اختار انتهى. وهذا على منزعه الاعتزالي. وقرئ: وتصله بفتح النون من صلاه. وقرأ ابن أبي عيلة: يوله ويصله بالياء فيهما جريا على قوله: فسوف يؤتيه بالياء، وفي هاء نوله ونصله: الإشباع والاختلاس والإسكان وقرئ بها.
* (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذالك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا) * تقدم مثل تفسير هذه الآية، ونزلت قيل: في طعمة. وقيل: في نفر من قريش أسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين. وقيل: في شيخ قال: لم أشرك بالله منذ عرفته، إلا أنه كان يأتي ذنوبا، وأنه ندم واستغفر، إلا أن آخر ما تقدم فقد افترى إثما عظيما، وآخر هذه فقد ضل ضلالا بعيدا ختمت كل آية بما يناسبها. فتلك كانت في أهل الكتاب، وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم)، ووجوب اتباع شريعته، ونسخها لجميع الشرائع، ومع ذلك قد أشركوا بالله مع أن عندهم ما يدل على توحيد الله تعالى والإيمان بما نزل، فصار ذلك افتراء واختلافا مبالغا في العظم والجرأة على الله.
وهذه الآية هي في ناس مشركين ليسوا بأهل كتب ولا علوم، ومع ذلك فقد جاءهم بالهدى من الله، وبان لهم طريق الرشد فأشركوا بالله، فضلوا بذلك ضلالا يستبعد وقوعه، أو يبعد عن الصواب. ولذلك جاء بعده: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * وجاء بعد تلك: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * وقوله: * (انظر كيف يفترون على الله الكذب) * ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد بهم اليهود، وأن كان اللفظ عاما. ولما كان الشرك من أعظم الكبائر، كان الضلال الناشئ عنه بعيدا عن الصواب، لأن غيره من المعاصي وإن كان ضلالا لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق، لأن له رأس مال يرجع إليه وهو الإيمان، بخلاف المشرك. ولذلك قال تعالى: * (يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذالك هو الضلال البعيد) * وناسب هنا ذكر الضلال لتقدم الهدى قبله.
* (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * المعنى: ما يعبدون من دون الله ويتخذونه إلها إلا مسميات تسمية الإناث. وكنى بالدعاء عن العبادة، لأن من عبد شيئا دعاه عند حوائجه ومصالحه. وكانوا يحلون الأصنام بأنواع الحلى، ويسمونها أنثى وإناث، جمع أنثى كرباب جمع ربى. قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: المراد الخشب والحجارة، فهي مؤنثات لا تعقل، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء. فيجيء قوله: إلا إناثا، عبارة عن الجمادات. وقال أبو مالك والسدي وابن زيد وغيرهم: كانت العرب تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونايلة. ويرد على هذا بأنها كانت تسمى أيضا بأسماء مذكرة: كهبل، وذي الخلصة.
وقال الضحاك وغيره: المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها، فقيل لهم: هذا على إقامة الحجة من فاسد قولهم. وقال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان، وفي هذا تعبيرهم بالتأنيث لنقصه وخساسته بالنسبة للتذكير. وقال الراغب: أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة، فبكتهم الله تعالى أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلا من كل وجه، وعلى هذا نبه إبراهيم عليه السلام بقوله: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر) *.
وقرأ أبو رجاء: إن تدعون بالتاء على الخطاب، ورويت عن عاصم. وفي مصحف عائشة رضي الله عنها: إلا أوثانا جمع وثن، وهو الصنم. وقرأ بذلك أبو السوار والهناي
367

وقرأ الحسن: إلا أنثى على التوحيد. وقرأ ابن عباس، وأبو حيوة، والحسن، وعطاء، وأبو العالية، وأبو نهيك، ومعاذ القاري: أنثا. قال الطبري: فيما حكى إناث كثمار وثمر. وقال غيره: أنث جمع أنيث، كغرير وغرر. وقال المغربي: إلا إناثا إلا ضعافا عاجزين لا قدرة لهم، يقال: سيف أنيث وميناثة بالهاء وميناث غير قاطع. قال الشاعر:
* فتخبرني بأن العقل عندي
*
جراز لا أقل ولا أنيث
*
أنث في أمره لان، والأنيث المخنث الضعيف من الرجال. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: إلا وثنا بفتح الواو والثاء من غير همزة. وقرأ ابن المسيب، ومسلم بن جندب، ورويت عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء: الاأنثا، يريدون وثنا، فأبدل الهمزة واوا، وخرج على أنه جمع جمع إذ أصله وثن، فجمع على وثان كجعل وجمال، ثم وثان على وثن كمثال، ومثل وحمار وحمر. قال ابن عطية: هذا خطأ، لأن فعالا في جمع فعل إنما هو للتكثير،
والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع، وإنما يجمع جموع التقليل، والصواب أن يقال: وثن جمع وثن دون واسطة، كأسد وأسد انتهى. وليس قوله: وإنما يجمع جموع التقليل بصواب، كامل الجموع مطلقا لا يجوز أن تجمع بقياس سواء كانت للتكثير أم للتقليل، نص على ذلك النحويون. وقرأ أيوب السجستاني: الاوثنا بضم الواو والثاء من غير همزة، كشقق. وقرأت فرقة: الااثنا بسكون الثاء، وأصله وثنا، فاجتمع في هذا اللفظ ثماني قراآت: إناثا، وأنثا، وأوثانا، ووثنا، ووثنا، واثنا، وأثنا.
* (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا * لعنه الله) * المراد به إبليس قاله: الجمهور، وهو الصواب، لأن ما قاله بعد ذلك مبين أنه هو. وقيل: الشيطان المعين بكل صنم: أفرد لفظا وهو مجموع في المعنى الواحد يدل على الجنس. قيل؛ كان يدخل في أجواف الأصنام فيكلم داعيها، ويحتمل أن يكون لعنه الله صفة، وأن يكون خبرا عنه. وقيل: هو دعاء، ولا يتعارض الحصران، لأن دعاء الأصنام ناشىء عن دعائهم الشيطان، لما عبدوا الشيطان أغراهم بعبادة الأصنام، أو لاختلاف الدعاءين، فالأول عبادة، والثاني طواعية. وقال ابن عيسى: هو مثل: * (وما رميت إذ رميت ولاكن الله رمى) * يعني: أن نسبة دعائهم الأصنام هو على سبيل المجاز. وأما في الحقيقة فهم يدعون الشيطان.
* (وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * أي نصيبا واجبا اقتطعته لنفسي من قولهم: فرض له في العطاء، وفرض الجند رزقهم. والمعنى: لأستخلصنهم لغوايتي، ولأخصنهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة. قال ابن عطية: المفروض هنا معناه المنحاز، وهو مأخوذ من الفرض، وهو الحز في العود وغيره، ويحتمل أن يريد واجبا أن اتخذه، وبعث النار هو نصيب إبليس. قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعون قالوا: ولفظ نصيب يتناول القليل فقط. والنص إن أتباع إبليس هم الكثير بدليل: * (لاحتنكن ذريته إلا قليلا) * * (فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) * وهذا متعارض.
وأجيب أن التفاوت إنما يحصل في نوع البشر، أما إذا ضممت أنواع الملائكة مع كثرتهم إلى المؤمنين كانت الكثرة للمؤمنين. وأيضا فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد، نصيبهم عظيم عند الله تعالى. والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين فهم كالعدم. انتهى تلخيص ما أحب به. والذي أقول: إن لفظ نصيب لا يدل على القليل والكثير، بدليل قوله: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون) * الآية. والواو: قيل عاطفة، وقيل واو الحال.
* (ولاضلنهم ولامنينهم ولامرنهم فليبتكن ءاذان الانعام ولامرنهم فليغيرن خلق الله) * هذه خمسة أقسم إبليس عليها: أحدها: اتخاذ نصيب من عباد الله وهو اختياره إياهم. والثاني: إضلالهم وهو صرفهم عن
368

الهداية وأسبابها. والثالث: تمنيته لهم وهو التسويل، ولا ينحصر في نوع واحد، لأنه يمني كل إنسان بما يناسب حاله من طول عمر وبلوغ وطر وغير ذلك، وهي كلها أماني كواذب باطلة. وقيل: الأماني تأخير التوبة. وقيل: هي اعتقاد أن لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب. وقال الزمخشري: ولأمنينهم الأماني الباطلة من طول الأعمار، وبلوغ الآمال، ورحمة الله تعالى للمجرمين بغير توبة، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة، ونحو ذلك انتهى. وهذا على منزعه الاعتزالي وولوعه بتفسير كتاب الله عليه من غير إشعار لفظ القرآن بما يقوله وينحله. والرابع: أمره إياهم الناشئ عنه تبتيك آذان الأنعام، وهو فعلهم بالبحائر كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن. وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها قاله: عكرمة، وقتادة، والسدي. وقيل: فيه إشارة إلى كل ما جعله الله كاملا بفطرته، فجعل الإنسان ناقصا بسوء تدبيره. والخامس أمره إياهم الناشئ عنه تغيير خلق الله تعالى.
قال ابن عباس، وإبراهيم، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغيرهم. أراد تغيير دين الله، ذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله: * (فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) *
أي لدين الله. والتبديل يقع موقعه التغيير، وإن كان التغيير أعم منه. ولفظ لا تبديل لخلق الله خبر، ومعناه: النهي. وقالت فرقة منهم الزجاج: هو جعل الكفار آلهة لهم ما خلق للاعتبار به من الشمس والنار والحجارة، وغير ذلك مما عبدوه. وقال ابن مسعود، والحسن: هو الوشم وما جرى مجراه من التصنع للتحسين، فمن ذلك الحديث في: (لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله ولعن الواصلة والمستوصلة) انتهى.
وقال ابن عباس أيضا وأنس، وعكرمة، وأبو صالح، ومجاهد، وقتادة أيضا: هو الخصاء، وهو في بني آدم محظور. وكره أنس خصاء الغنم، وقد رخص جماعة فيه لمنفعة السمن في المأكول، ورخص عمر بن عبد العزيز في خصاء الخيل. وقيل للحسن: إن عكرمة قال؛ هو الخصاء قال: كذب عكرمة، هو دين الله تعالى. وقيل: التخنت. وقال الزمخشري: هو فقء عين الحامي وإعفاؤه عن الركوب انتهى. وناسب هذا أنه ذكر أثر ذلك تبتيك آذان الأنعام، فناسب أن يكون التغيير هذا. وقيل: تغيير خلق الله هو أن كل ما يوجده الله لفضيلة فاستعان به في رذيلة فقد غير خلقه. وقد دخل في عمومه ما جعله الله تعالى للإنسان من شهوة الجماع ليكون سببا للتناسل على وجه مخصوص، فاستعان به في السفاح واللواط، فذلك تغيير خلق الله. وكذلك المخنث إذا نتف لحيته، وتقنع تشبها بالنساء، والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان. وكل ما حلله الله فحرموه، أو حرمه تعالى فحللوه. وعلى ذلك: * (قل أرأيتم
369

ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) * وإلى هذه الجملة أشار المفسرون، ولهذا قالوا: هو تغيير أحكام الله. وقيل: هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي. وقيل: خضاب الشيب بالسواد. وقيل: معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان، وشق المناخر، وسمل العيون، وقطع الأنثيين. ومن فسر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك مما خو خاص في التغيير، فإنما ذلك على جهة التمثيل لا الحصر. وفي حديث عياض المجاشعي: * (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين ألهتهم وأحالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وأمرتهم أن لا يغيروا خلقي).
ومفعول أمر الثاني محذوف أي: ولآمرنهم بالتبتيك فيبتكن، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن. وحذف لدلالة ما بعده عليه. وقرأ أبو عمرو: ولآمرنهم بغير ألف، كذا قاله ابن
عطية. وقرأ أبي: وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم انتهى. فتكون جملا مقولة، لا مقسما عليها. وجاء ترتيب هذه الجمل المقسم عليها في غاية من الفصاحة، بدأ أولا باستخلاص الشيطان نصيبا منهم واصطفائه إياهم، ثم ثانيا بإضلالهم وهو عبارة عما يحصل في عقائدهم من الكفر، ثم ثالثا بتمنيتهم الأماني الكواذب والإطماعات الفارغة، ثم رابعا بتبتيك آذان الأنعام، هو حكم لم يأذن الله فيه، ثم خامسا بتغيير خلق الله وهو شامل للتبتيك وغيره من الأحكام التي شرعها لهم. وإنما بدأ بالأمر بالتبتيك وإن كان مندرجا تحت عموم التغيير، ليكون ذلك استدراجا لما يكون بعده من التغيير العام، واستيضاحا من إبليس طواعينهم في أول شيء يلقيه إليهم، فيعلم بذلك قبولهم له. فإذا قبلوا ذلك أمرهم بجميع التغييرات التي يريدها منهم، كما يفعل الإنسان بمن يقصد خداعه: يأمره أولا بشيء سهل، فإذا رآه قد قبل ما ألقاه إليه من ذلك أمره بجميع ما يريد منه. وإقسام إبليس على هذه الأشياء ليفعلنها علم ذلك، وأنها تقع إما لقوله تعالى. * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * أو لكونه علم ذلك من جهة الملائكة، أو لكونه لما استنزل آدم علم أن ذريته أضعف منه.
* (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) * أي من يؤثر حظ الشيطان على حظه من الله. وكأنه لما قال إبليس: لأتخذن من عبادك نصيبا، فذكر أنه يصطفيهم لنفسه، أخبر أنهم قبلوا ذلك الاتخاذ وانفعلوا له، فاتخذوه وليا من دون الله. والولي هنا قال مقاتل: بمعنى الرب. وقال أبو سليمان لدمشقي: من الموالاة، ورتب على هذا الاتخاذ الخسران المبين، لأن من ترك حظه من الله لحظ الشيطان فقد خسرت صفقته. وقوله: من دون الله، قيد لازم. لأنه لا يمكن أن يتخذ الشيطان وليا إلا إذا لم يتخذ الله وليا، ولا يمكن أن يتخذ الشيطان وليا ويتخذ الله وليا، لأنهما طريقان متباينان، لا يجتمعان هدى وضلالة. وهذه الجملة الشرطية محذرة من اتباع الشيطان.
* (يعدهم ويمنيهم) * لفظان متقاربان والمعنى: أن الذي أقسم عليه من أن يمنيهم وقع بإخبار الله تعالى عنه بذلك، واكتفى من الإخبار عن وقوع تلك الجمل التي أقسم عليها إبليس بوضوحها وظهورها. ولما كان الوعد والتمنية من أمور الباطن، أخبر الله عنه بها. والمعنى: أنه يعدهم بالأمور الباطلة والزخارف الكاذبة، وأنه لا ثواب ولا عقاب.
* (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * قرأ الأعمش: وما يعدهم يسكون الدال، خفف لتوالي الحركات. وتقدم تفسير الغرور ومعناه: هنا الخدع التي تظن نافعة، ويكشف الغيب أنها ضارة. واحتمل النصب أن يكون مفعولا ثانيا، أو مفعولا من أجله، أو مصدرا على غير الصدر لتضمين يعدهم معنى يغرهم، ويكون ثم وصف محذوف أي: إلا غرورا واضحا أو نحوه، أو نعتا لمصدر محذوف أي: وعدا غرور. أي: ذا غرور.
* (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) * أخبر تعالى أن المكان الذي يأوون إليه ويستقرون فيه هو جهنم، وأنهم لا يجدون عنها مراغا يروغون إليه. وعنها: لا يجوز أن تتعلق بمحذوف، لأنها لا تتعدى بعن، ولا بمحيصا وإن كان المعنى عليه لأنه مصدر، فيحتمل أن يكون ذلك تبيينا على إضمارا عني. وجوزوا أن يكون حالا من محيص، فيتعلق بمحيص أي: كائنا عنها، ولو تأخر لكان صفة.
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا) * لما ذكر مأوى الكفار، ذكر مأوى المؤمنين، وأسند الفعل إلى نون العظمة، اعتناء بأنه تعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة وتشريفا لهم. وقرئ: سيدخلهم بالياء. ولما
370

رتب تعالى مصير من كان تابعا لإبليس إلى النار لإشراكه وكفره وتغيير أحكام الله تعالى، رتب هنا دخول الجنة على الإيمان وعمل الصالحات.
* (وعد الله حقا) * لما ذكر أن وعد الشيطان هو غرور باطل، ذكر أن هذا الوعد منه تعالى هو الحق الذي لا ارتياب فيه، ولا شك في إنجازه. والذين مبتدأ، وسيدخلهم الخير. ويجوز أن يكون من باب الاشتغال أي: وسندخل الذين آمنوا سندخلهم. وانتصب وعد الله حقا على أنه مصدر مؤكد لغيره، فوعد الله مؤكدا لقوله: سيدخلهم، وحقا مؤكد لوعد الله.
* (ومن أصدق من الله قيلا) * القيل والقول واحدا، أي: لا أحد أصدق قولا من الله. وهي جملة مؤكدة أيضا لما قبلها. وفائدة هذه التواكيد المبالغة فيما أخبر به تعالى عباده المؤمنين، بخلاف مواعيد الشيطان وأمانته الكاذبة المخلفة لأمانيه.
* (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب) * قال ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، ومسروق، وقتادة، والسدي، وغيرهم: الخطاب للأمة. قال بعضهم: اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب فقالوا: ديننا أقدم من دينكم. وأفضل، فنبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: كتابنا يقضي على الكتب، ونبينا خاتم الأنبياء، ونحو هذا من المحاورة فنزلت. وقال مجاهد وابن زيد: الخطاب لكفار قريش، وذلك أنهم قالوا: لن نبعث ولن نعذب، وإنما هي حياتنا لنا فيها النعيم، ثم لا عذاب. وقالت اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه. إلى نحو هذا من الأقوال كقولهم.
* (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * فرد الله تعالى على الفريقين.
وقال الزمخشري في ليس: ضمير وعد الله، أي: ليس ينال ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب. والخطاب للمسلمين، لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به، ولذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان. وعن الحسن: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل. إن قوما ألهتم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل. ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم: إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا، لأوتين مالا وولدا إن لي عنده للحسنى. وكان أهل الكتاب يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، ويعضده تقدم ذكر أهل الشرك انتهى.
وعلى هذه الأقوال وقع الاختلاف في اسم ليس، وأقر بها أن الذي يعود الضمير عليه هو الوعد من أنه تعالى يدخلهم الجنة، ويليه أن يعود على الإيمان المفهوم من قوله: * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات) * كما ذهب إليه الحسن، ثم إنه يعود على ما وقعت فيه محاورة المؤمنين وأهل الكتاب، أو ما قالته قريش وأهل الكتاب على ما مر ذكره. وقال الحوفي: اسم ليس مضمر فيها على معنى: ليس الثواب عن الحسنات ولا العقاب على السيئات بأمانيكم، لأن الاستحقاق إنما يكون بالعمل، لا بالأماني. وقال أبو البقاء: ليس مضمر فيها ولم يتقدم له ذكر، وإنما دل عليه سبب الآية، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: نحن أصحاب الجنة. وقال المشركون: لا نبعث. فقال: ليس بأمانيكم أي: ليس ما ادعيتموه بأمانيكم. وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة بن نصاح، والحكم، والأعرج: بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ساكنة الياء، جمع على فعالل، كما يقال: قراقير وقراقر، جمع قرقور.
* (من يعمل) * قال الجمهور: اللفظ عام، والكافر والمؤمن مجازيان بالسوء يعملانه. فمجازاة الكافر النار، والمؤمن بنكبات الدنيا. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لما نزلت قلت: يا رسول الله ما أشد هذه الآية جاءت قاصمة الظهر، فقال صلى الله عليه وسلم))
371

: (إنما هي المصيبات في الدنيا) وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها. وقال به: أبي بن كعب، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها فقال له: أي ما كنت أظنك إلا أفقه مما أرى، ما يصيب الرجل خدش أو غيره إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. وخصص الحسن، وابن زيد بالكفار يجازون على الصغائر والكبائر. وقال الضحاك: يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب، ورأى هؤلاء أن الله تعالى وعد المؤمنين بتكفير السيئات. وخصص السوء ابن عباس، وابن جبير بالشرك. وقيل: السوء عام في الكبائر.
* (عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) * روى ابن بكار عن ابن عامر ولا يجد بالرفع على القطع.
* (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة) * من الأولى هي للتبعيض، لأن كل واحد لا يتمكن من عمل كل الصالحات، وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه. وكم مكلف لا يلزمه زكاة ولا حج ولا جهاد، وسقطت عنه الصلاة في بعض الأحوال على بعض المذاهب. وحكى الطبري عن قوم: أن من زائدة، أي: ومن يعمل الصالحات. وزيادة من في الشرط ضعيف، ولا سيما وبعدها معرفة. ومن الثانية لتبيين الإبهام في: ومن يعمل. وتقدم الكلام في أوفى قوله: * (لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) * وهو من مؤمن. جملة حالية، وقيد في عمل الإنسان لأنه لو عمل من الأعمال الصالحة ما عمل فلا ينفعه إلا إن كان مؤمنا. قال الزمخشري: وإذا أبطل الله الأماني وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل الصالح وأن من أصلح عمله فهو الفائز، ومن أساء عمله فهو الهالك، تبين الأمر ووضح، ووجب قطع الأماني وحسم المطامع، والإقبال على العمل الصالح، ولكنه نصح لا تعيه الآذان، ولا تلقى إليه الأذهان انتهى. والذي تدل عليه الآية أن الإيمان شرط في الانتفاع بالعمل، لأن العمل شرط في صحة الإيمان.
* (ولا يظلمون نقيرا) * ظاهره: أنه يعود إلى أقرب مذكور وهم المؤمنون، ويكون حكم الكفار كذلك. إذ ذكر أحد الفريقين يدل على الآخر، أن كلاهما يجزى بعمله، ولأن ظلم المسئ أنه يزاد في عقابه. ومعلوم أنه تعالى لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه. والمحسن له ثواب، وتوابع للثواب من فضل الله هي في حكم الثواب، فجاز أن ينقص من الفضل. فنفي الظلم دلالة على أنه لا يقع نقص في الفضل. ويحتمل أن يعود الضمير في: ولا يظلمون إلى الفريقين، عامل السوء، وعامل الصالحات. وقرأ: يدخلون مبنيا للمفعول هنا، وفي مريم، وأولي غافر بن كثير أبو عمر وأبو بكر. وقرأ كذلك ابن كثير وأبو بكرفي ثانية غافر. وقرأ كذلك أبو عمرو في فاطر. وقرأ الباقون مبنيا للفاعل.
* (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) * تقدم الكلام على نحوه في قولين من أسلم وجهه لله وهو محسن.
* (واتبع ملة إبراهيم حنيفا) * تقدم الكلام على ملة إبراهيم حنيفا في قوله: * (قل بل ملة إبراهيم حنيفا) * واتباعه. قال ابن عباس: في التوحيد. وقال أبو سليمان الدمشقي: في القيام لله بما فرضه. وقيل: في جميع شريعته إلا ما نسخ منها.
* (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * هذا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله. وتقدم اشتقاق الخليل في المفردات. والجمهور: على أنها من الخلة وهي المودة التي ليس فيها خلل. وقول محمد بن عيسى الهاشمي: إنه إنما سمي خليلا لأنه تخلى عما سوى خليله. فإن كان فسر المعنى فيمكن، وإن كان أراد الاشتقاق فلا يصح لاختلاف المادتين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (يا جبريل بم اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام) والكرامة التي أكرمه الله بها ذكروها في قصة مطولة عن ابن عباس مضمونها: أن الله قلب له غرائر الرمل دقيقا حواري عجن، وخبز وأطعم الناس
372

منه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم): (اتخذ الله إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا ثم قال: وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي) لما أثنى على من اتبع ملة إبراهيم أخبر بمزيته عنده واصطفائه، ليكون ذلك أدعى إلى اتباعه. لأن من اختصه الله بالخلة جدير بأن يتبع أو ليبين أن تلك الخلة إنما سببها حنيفية إبراهيم عن سائر الأديان إلى دين الحق كقوله: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما) * أي قدوة لإتمامك تلك الكلمات. ونبه بذلك على أن من عمل بشرعه كان له نصيب من مقامه. وليست هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، لأن الجملة قبلها معطوفة على صلة من، ولا تصلح هذه للصلة، وإنما هي معطوفة على الجملة الاستفهامية التي معناها الخبر، أي: لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله، نبهت على شرف المنبع وفوز المتبع. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما موقع هذه الجملة؟ (قلت): هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم: والحوادث جمة، وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلا كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته انتهى. فإن عنى بالاعتراض غير المصطلح عليه في الضوء فيمكن
أن يصح قوله، كأنه يقول: اعترضت الكلام. وإن عنى بالاعتراض المصطلح عليه فليس بصحيح، إذ لا يعترض إلا بين مفتقرين كصلة وموصول، وشرط وجزاء، وقسم ومقسم عليه، وتابع ومتبوع، وعامل ومعمول، وقوله: كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم: والحوادث جمة، فالذي نحفظه أن مجيء الحوادث جمة إنما هو بين مفتقرين نحو قوله:
* وقد أدركتني والحوادث جمة
*
أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
*
ونحو قال الآخر:
* ألا هل أتاها والحوادث جمة
*
بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا
*
ولا نحفظه جاء آخر كلام.
* (ولله ما فى * السماوات وما في الارض) * لما تقدم ذكر عامل السوء وعامل الصالحات، أخبر بعظيم ملكه. وملكه بجميع ما في السماوات، وما في الأرض، والعالم مملوك له، وعلى المملوك طاعة مالكه. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لما ذكرناه، ولما تقدم ذكر الخلة، فذكر أنه مع الخلة عبد الله، وأن الخلة ليست لاحتياج، وإنما هي خلة تشريف منه تعالى لإبراهيم عليه السلام مع بقائه على العبودية.
* (وكان الله بكل شىء محيطا) * أي: عالما بكل شيء من الجزئيات والكليات، فهو يجازيهم على أعمالهم خيرها وشرها، قللها وكثيرها.
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع. منها التجنيس المغاير في: فقد ضل ضلالا، وفي: فقد خسر خسرانا، وفي: ومن أحسن وهو محسن. والتكرار في: لا يغفر ويغفر، وفي: يشرك ومن يشرك، وفي: لآمرنهم، وفي: اسم الشيطان، وفي: يعدهم وما يعدهم، وفي: الجلالة في مواضع، وفي: بأمانيكم ولا أماني، وفي: من يعمل ومن يعمل، وفي: إبراهيم. والطباق المعنوي في: ومن يشاقق والهدى، وفي: أن يشرك به ولمن يشاء يعني المؤمن، وفي: سواء والصالحات. والاختصاص في: بصدقة أو معروف أو إصلاح، وفي: وهو مؤمن، وملة إبراهيم، وفي: ما في السماوات وما في الأرض. والمقابلة في: من ذكر أو
373

أنثى. والتأكيد بالمصدر في: وعد الله حقا. والاستعارة في: وجهه لله عبر به عن القصد أو الجهة وفي: محيطا عبر به عن العلم بالشيء من جميع جهاته. والحذف في عدة مواضع.
2 (* (ويستفتونك فى النسآء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النسآء اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما * وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهمآ أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا * ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النسآء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما * وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما * ولله ما فى السماوات وما فى الا رض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما فى السماوات وما فى الا رض وكان الله غنيا حميدا * ولله ما فى السماوات وما فى الا رض وكفى بالله وكيلا * إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت باخرين وكان الله على ذالك قديرا * من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والا خرة وكان الله سميعا بصيرا * يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهدآء لله ولو علىأنفسكم أو الوالدين والا قربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا * ياأيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذىأنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الا خر فقد ضل ضلالا بعيدا * إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا * بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون
374

الكافرين أوليآء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا * وقد نزل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم ءايات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا * الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) *))
) *
الشح: قال ابن فارس البخل مع الحرص. وتشاح الرجلان في الأمر لا يريدان أن يفوتهما، وهو بضم الشين وكسرها. وقال ابن عطية: الشح الضبط على المعتقدات
والإرادة، ففي الهمم والأموال ونحو ذلك مما أفرط فيه، وفيه بعض المذمة. وما صار إلى حيز الحقوق الشرعية وما تقتضيه المروءة فهو البخل، وهو رذيلة. لكنها قد تكون في المؤمن ومنه الحديث: (قيل: يا رسول الله، أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: نعم) وأما الشح ففي كل أحد، ويدل عليه: (وأحضرت الأنفس الشح) و (من يوق شح نفسه) لكل نفس شحا وقول النبي عليه السلام: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح) ولم يرد به واحدا بعينه، وليس بحمد أن يقال هنا إن تصدق وأنت صحيح بخيل.
المعلقة: هي التي ليست مطلقة ولا ذات بعل. قال الرجل: هل هي إلا خطة، أو تعليق، أو صلف، أو بين ذاك تعليق. وفي حديث أم زرع: زوجي العشنق إن انطق أطلق، وإن أسكت أعلق) شبهت المرأة بالشيء المعلق من شيء، لأنه لا على الأرض استقر، ولا على ما علق منه. وفي المثل: أرض من المركب بالتعليق.
الخوض: الاقتحام في الشيء تقول: خضت الماء خوضا وخياضا، وخضت الغمرات اقتحمتها، وخاضه بالسيف حرك سيفه في المضروب، وتخاوضوا في الحديث تفاوضوا فيه، والمخاضة موضع الخوض. قال الشاعر وهو عبد الله بن شبرمة:
* إذا شالت الجوزاء والنجم طالع
*
فكل مخاضات الفرات معابر
*
والخوضة بفتح الخاء اللؤلؤة، واختاض بمعنى خاض وتخوض، تكلف الخوض. الاستحواذ: الاستيلاء والتغلب
375

قاله: أبو عبيدة والزجاج. ويقال: حاذ يحوذ حوذا وأحاذ، بمعنى مثل حاذ وأحاذ. وشدت هذه الكلمة فصحت عينها في النقال، قاس عليها أبو زيد الأنصاري.
* (ويستفتونك فى النساء قل الله يفتيكم فيهن) * سبب نزولها: أن قوما من الصحابة رضي الله عنهم سألوا عن أمر النساء وأحكامهن في المواريث وغير ذلك. وأما مناسبتها فكذلك على تربيع العرب في كلامها أنها تكون في أمر ثم، تخرج منه إلى شيء، ثم تعود إلى ما كانت فيه أولا. وهكذا كتاب الله يبين فيه أحكام تكليفه، ثم يعقب بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، ثم يعقب ذلك بذكر المخالفين المعاندين الذين لا يتبعون تلك الأحكام، ثم بما يدل على كبرياء الله تعالى وجلاله، ثم يعاد لتبيين ما تعلق بتلك الأحكام السابقة. وقد عرض هنا في هذه السورة أن بدأ بأحكام النساء والمواريث، وذكر اليتامى، ثم ثانيا بذكر شيء من ذلك في هذه الآية، ثم أخيرا بذكر شيء من المواريث أيضا. ولما كانت النساء مطرحا أمرهن عند العرب في الميراث وغيره، وكذلك اليتامى أكد الحديث فيهن مرارا ليرجعوا عن أحكام الجاهلية. والاستفتاء طلب الإفتاء، وأفتاه إفتاء وفتيا وفتوى، وأفتيت فلانا في رؤياه عبرتها له. ومعنى الإفتاء إظهار المشكل على السائل. وأصله من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل، فالمعنى: كأنه بيان ما أشكل فيثبت ويقوى. والاستفتاء ليس في ذوات النساء، وإنما هو عن شيء من أحكامهن، ولم يبين فهو مجمل. ومعنى يفتيكم فيهن: يبين لكم حال ما سألتم عنه وحكمه.
* (وما يتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النساء اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من) * ذكروا في موضع ما من الإعراب: الرفع، والنصب، والجر، فالرفع ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معطوفا على اسم الله أي: الله يفتيكم، والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى. قال الزمخشري: يعني قوله: * (وإن خفتم * أن لا * تقسطوا فى اليتامى) * وهو قوله أعجبني زيد وكرمه انتهى. والثاني: أن يكون معطوفا على الضمير المستكن في يفتيكم، وحسن الفصل بينهما بالمفعول والجار والمجرور. الثالث: أن يكون ما يتلى مبتدأ، وفي الكتاب خبره على أنها جملة معترضة. والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ تعظيما للمتلو عليهم، وأن العدل والنصفة في حقوق اليتامى من عظائم الأمور المرفوعة الدرجات عند الله التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل ظالم متهاون بما عظمه الله. ونحوه في تعظيم القرآن وأنه * (فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم) *. وقيل في هذا الوجه: الخبر محذوف، والتقدير: وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء لكم أو يفتيكم، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وعلى هذا التقدير في الكتاب بقوله: يتلى عليكم، أو تكون في موضع الحال من الضمير في يتلى، وفي يتامى بدل من في الكتاب. وقال أبو البقاء في الثانية: تتعلق بما تعلقت به الأولى، لأن معناها يختلف، فالأولى ظرف، والثانية بمعنى الباء أي: بسبب اليتامى، كما تقول: جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد. ويجوز أن تتعلق الثانية بالكتاب أي: فيما كتب بحكم اليتامى. ويجوز أن تكون الثانية حالا، فتتعلق بمحذوف. وأما النصب فعلى التقدير: ويبين لكم ما يتلى، لأن بفتيكم معناها يبين فدلت عليها. وأما الجر فمن وجهين: أحدهما: أن تكون الواو للقسم كأنه قال: وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب، والقسم بمعنى التعظيم، قاله الزمخشري: والثاني: أن يكون معطوفا على الضمير المجرور في فيهن، قاله محمد بن أبي موسى. وقال: أفتاهم الله فيما سألوا عنه، وفي ما لم يسألوا عنه. قال ابن عطية: ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض. قال الزمخشري: ليس بسديد أن يعطف على المجرور في فيهن، لاختلاله من
376

حيث اللفظ والمعنى انتهى.
والذي أختاره هذا الوجه، وإن كان مشهور مذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، لكن قد ذكرت دلائل جواز ذلك في الكلام. وأمعنت في ذكر الدلائل على ذلك في تفسير قوله: * (وكفر به) * و * (المسجد الحرام) * وليس مختلا من حيث اللفظ، لأنا قد استدللنا علي جواز ذلك، ولا من حيث المعنى كما زعم الزمخشري، بل المعنى عليه ويكون على تقدير حذف أي: يفتيكم في مثلوهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب، من إضافة متلو إلى ضميرهن سائغة، إذ الإضافة تكون
لأدنى ملابسة لما كان متلوا فيهن صحت الإضافة إليهما. ومن ذلك قول الشاعر:
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة
وأما قول الزمخشري: لاختلاله في اللفظ والمعنى فهو قول الزجاج بعينه. قال الزجاج: وهذا بعيد، لأنه بالنسبة إلى اللفظ وإلى المعنى، أما للفظ فإنه يقتضي عطف المظهر على المضمر، وذلك غير جائز. كما لم يجز قوله: * (تساءلون به والارحام) * وأما المعنى فإنه تعالى أفتى في تلك المسائل، وتقدير العطف على الضمير يقتضي أنه أفتى فيما يتلى عليكم في الكتاب. ومعلوم أنه ليس المراد ذلك، وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوه من المسائل انتهى كلامه. وقد بينا صحة المعنى على تقدير ذلك المحذوف، والرفع على العطف على الله، أو على ضمير يخرجه عن التأسيس. وعلى الجملة تخرج الجملة بأسرها عن التأسيس، وكذلك الجر على القسم. فالنصب بإضمار فعل، والعطف على الضمير يجعله تأسيسا. وإذا أراد الأمرين: التأسيس والتأكيد، كان حمله على التأسيس هو الأولى، ولا يذهب إلى التأكيد إلا عند اتضاح عدم التأسيس. وتقدم الكلام في تعلق قوله: (في يتامى النساء). وقال الزمخشري: (فإن قلت): بم تعلق قوله: في يتامى النساء؟ (قلت): في الوجه الأول هو صلة يتلى أي: يتلى عليكم في معناهن: ويجوز أن يكون في يتامى النساء بدلا من فيهن. وأما في الوجهين الأخيرين فبدل لا غير انتهى كلامه. ويعني بقوله في الوجه الأول: أن يكون وما يتلى في موضع رفع، فأما ما أجازه في هذا الوجه من أنه يكون صلة يتلى فلا يتصور إلا إن كان في يتامى بدلا من في الكتاب، أو تكون في للسبب، لئلا يتعلق حرفا جر بمعنى واحد بفعل واحد، فهو لا يجوز إلا إن كان على طريقة البدل أو بالعطف. وأما ما أجازه في هذا الوجه أيضا من أن في يتامى بدل من فيهن، فالظاهر أنه لا يجوز للفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف. ونظير هذا التركيب: زيد يقيم في الدار وعمرو في كسر منها، ففصلت بين في الدار وبين في كسر منها بالعطف، والتركيب المعهود: زيد يقيم في الدار في كسر منها. وعمرو واتفق من وقفنا على كلامه في التفسير على أن هذه الآية إشارة إلى ما مضى في صدر هذه السورة وهو قوله تعالى: * (وءاتوا النساء صدقاتهن نحلة) * وقوله: * (وءاتوا اليتامى أموالهم) * وقوله: * (وإن خفتم * أن لا * تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت هذه الآية يعني: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أولا، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن أمر النساء فنزلت: * (ويستفتونك فى النساء قل الله يفتيكم فيهن) * وما يتلى عليكم فعلى ما قاله المفسرون وما نقل عن عائشة يكون يفتيكم ويتلى فيه وضع المضارع موضع الماضي، لأن الإفتاء والتلاوة قد سبقت. والإضافة في يتامى النساء من باب إضافة الخاص إلى العام، لأن النساء ينقسمن إلى يتامى وغير يتامى. وقال الكوفيون: هي من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهذا عند البصريين لا يجوز
377

وذلك مقرر في علم النحو.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): الإضافة في يتامى النساء ما هي؟ (قلت): إضافة بمعنى من هي إضافة الشيء إلى جنسه، كقولك: خاتم حديد، وثوب خز، وخاتم فضة. ويجوز الفصل واتباع الجنس لما قبله ونصبه وجره بمن، والذي يظهر في يتامى النساء وفي سحق عمامة أنها إضافة على معنى اللام، ومعنى اللام الاختصاص. وقرأ أبو عبد الله المدني: في يتامى النساء بياءين، وأخرجه ابن جني على أن الأصل أيامى، فأبدل من الهمزة ياء، كما قالوا: باهلة بن يعصر، وإنما هو أعصر سمي بذلك لقوله:
* أثناك أن أباك غير لونه
*
كر الليالي واختلاف الأعصر
*
وقالوا في عكس ذلك: قطع الله أيده يريدون يده، فأبدل من الياء همزة. وأيامى جمع أيم على وزن فعيل، وهو مما اختص به المعتل، وأصله: أيايم كسيايد جمع سيد، قلبت اللام موضع العين فجاء أيامى، فأبدل من الكسرة فتحة انقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال ابن جني: ولو قال قائل كسر أيم على أيمي على وزن سكرى، ثم كسر أيمي على أيامي لكان وجها حسنا.
ومعنى ما كتب لهن قال ابن عباس، ومجاهد، وجماعة: هو الميراث. وقال آخرون: هو الصداق، والمخاطب بقوله: لا تؤتونهن أولياء المرأة كانوا يأخذون صدقات النساء ولا يعطونهن شيئا. وقيل: أولياء اليتامى كانوا يزوجون اليتامى اللواتي في حجورهن ولا يعدلون في صدقاتهن. وقرئ: ما كتب الله لهن. وقال أبو عبيدة: وترغبون أن تنكحوهن، هذا اللفظ يحتمل الرغبة والنفرة فالمعنى في الرغبة في أن تنكحوهن لما لهن أو لجمالهن، والنفرة وترغبون عن أن تنكحوهن لقبحهن فتمسكوهن رغبة في أموالهن. والأول قول عائشة رضي الله عنها وجماعة انتهى. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى، فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل: هي غنية جميلة قال له: اطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع. وإذا قيل: هي دميمة فقيرة قال له: أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك. والمستضعفين معطوف على يتامى النساء، والذي تلي فيهم قوله تعالى: * (يوصيكم الله فى) * الآية وذلك أن العرب كانت لا تورث الصبية ولا الصبي الصغير، وكان الكبير ينفرد بالمال، وكانوا يقولون: إنما يرث من يحمي الحوزة ويرد الغنيمة، ويقاتل عن الحريم، ففرض الله تعالى لكل واحد حقه. ويجوز أن يكون خطابا للأوصياء كقوله: * (أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * وقيل: المستضعفين هنا العبيد والإماء.
* (وأن تقوموا لليتامى بالقسط) * هو في موضع جر عطفا على ما قبله أي: وفي أن تقوموا. والذي تلي في هذا المعنى قوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالهم إلى
أموالكم) * إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم. والقسط: العدل. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى ويأمركم أن تقوموا. وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم، ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يخلوا أحدا يهتضمهم انتهى. وفي ري الظمآن: ويحتمل أن يرفع، وأن تقوموا بالابتداء وخبره محذوف أي: خير لكم انتهى. وإذا أمكن حمله على غير حذف بكونه قد عطف على مجرور كان أولى من
378

إضمار ناصب، كما ذهب إليه الزمخشري. ومن كونه مبتدأ قد حذف خبره.
* (وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما) * لما تقدم ذكر النساء، ويتامى النساء، والمستضعفين من الولدان، والقيام بالقسط، عقب ذلك بأنه تعالى يعلم ما يفعل من الخير بسبب من ذكر، فيجازي عليه بالثواب الجزيل. واقتصر على ذكر فعل الخير لأنه هو الذي رغب فيه، وإن كان تعالى يعلم ما يفعل من خير ومن شر، ويجازي على ذلك بثوابه وعقابه.
* (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا) * نزلت بسبب ابن بعكك وامرأته قاله: مجاهد. وبسبب رافع بن خديج وامرأته خولة بنت محمد بن مسلمة، وكانت قد أسنت فتزوج عليها شابة فآثرها، فلم تصبر خولة فطلقها ثم راجعها، وقال: إنما هي واحدة، فإما أن تقوى على الإثرة وإلا طلقتك ففرت. قاله: عبيدة، وسليمان بن يسار، وابن المسيب. أو بسبب النبي صلى الله عليه وسلم) وسودة بنت زمعة خشيت طلاقها فقالت: لا تطلقني واحبسني مع نسائك، ولا تقسم لي، ففعل، فنزلت قاله: ابن عباس وجماعة.
والخوف هنا على بابه، لكنه لا يحصل إلا بظهور أمارات ما تدل على وقوع الخوف. وقيل: معنى خافت علمت. وقيل: ظنت. ولا ينبغي أن يخرج عن الظاهر، إذ المعنى معه يصح. والنشوز: أن يجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته، والمودة التي بينهما، وأن يؤذيها بسبب أو ضرب. والإعراض: أن يقل محادثتها ومئانستها لطعن في سن أو دمامة، أو شين في خلق أو خلق أو ملال، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك، وهو أخف النشوز. فرفع الجناح بينهما في الصلح بجميع أنواع من بذل من الزوج لها على أن تصبر، أو بذل منها له على أن يؤثرها وعن أن يؤثر وتتمسك بالعصمة، أو على صبر على الإثرة ونحو ذلك، فهذا كله مباح. ورتب رفع الجناح على توقع الخوف، وظهور أمارات النشوز والإعراض، وهو مع وقوع تلك وتحققها أولى. لأنه إذا أبيح الصلح مع خوف ذلك فهو مع الوقوع أوكد، إذ في الصلح بقاء الألفة والمودة. ومن أنواع الصلح أن تهب يومها لغيرها من نسائه كما فعلت سودة، وأن ترضى بالقسم لها في مذة طويلة مرة، أو تهب له المهر أو بعضه، أو النفقة، والحق الذي للمرأة على الزوج هو المهر والنفقة، والقسم هو على إسقاط ذلك أو شيء منه على أن لا يطلقها، وذلك جائز.
وقرأ الكوفيون: يصلحا من أصلح على وزن أكرم. وقرأ باقي السبعة: يصالحا، وأصله يتصالحا، وأدغمت التاء في الصاد. وقرأ عبيدة السلماني: يصالحا من المفاعلة. وقرأ الأعمش: أن أصالحا، وهي قراءة ابن مسعود، جعل ماضيا. وأصله تصالح على وزن تفاعل، فأدغم التاء في الصاد، واجتلبت همزة الوصل، والصلح ليس مصدر الشيء من هذه الأفعال التي قرئت، فإن كان اسما لما يصلح به كالعطاء والكرامة مع أعطيت وأكرمت، فيحتمل أن يكون انتصابه على إسقاط حرف الجر أي: يصلح أي بشيء يصطلحان عليه. ويجوز أن يكون مصدرا لهذه الأفعال على حذف الزوائد.
* (والصلح خير) * ظاهره أن خيرا أفعل التفضيل، وأن المفضل عليه هو من النشوز والإعراض، فحذف لدلالة ما قبله عليه. وقيل: من الفرقة. وقيل: من الخصومة، وتكون الألف واللام في الصلح للعهد، ويعني به صلحا السابق كقوله تعالى: * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) *. وقيل: الصلح عام. وقيل: الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف، ويندرج تحته صلح الزوجين، ويكون المعنى: خير من الفرقة والاختلاف. وقيل: خير هنا ليس أفعل تفضيل، وإنما معناه خير من الخيور، كما أن الخصومة شر من الشرور.
* (وأحضرت الأنفس الشح) * هذا من باب
379

المبالغة جعل الشح كأنه شيء معد في مكان. وأحضرت الأنفس وسيقت إليه، ولم يأت، وأحضر الشح الأنفس فيكون مسوقا إلى الأنفس، بل الأنفس سيقت إليه لكون الشح مجبولا عليه الإنسان، ومركوزا في طبيعته، وخص المفسرون هذه اللفظة هنا. فقال ابن عباس وابن جبير: هو شح المرأة بنصيبها من زوجها ومالها. وقال الحسن وابن زيد: هو شح كل واحد منهما بحقه. وقال الماتريدي: ويحتمل أن يراد بالشح الحرص، وهو أن يحرص كل على حقه يقال: هو شحيح بمودتك، أي حريص على بقائها، ولا يقال في هذا بخيل، فكان الشح والحرص واحد في المعنى، وإن كان في أصل الوضع الشح للمنع والحرص للمطلب، فأطلق على الحرص الشح لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر، ولأن البخل يحمل على الحرص، والحرص يحمل على البخل انتهى.
وقال الزمخشري: في قوله: والصلح خير، وهذه الجملة اعتراض وكذلك قوله: وأحضرت الأنفس الشح. ومعنى إحضار الأنفس الشح: إن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا ولا تنفك عنه، يعني: أنها مطبوعة عليه. والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح بأن يقسم لها، أو يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها انتهى. قوله. والصلح خبر جملة اعتراضية، وكذلك وأحضرت الأنفس الشح هو باعتبار أن قوله: * (وإن يتفرقا) * معطوف على قوله: * (فلا جناح عليهما أن يصلحا) * وقوله: ومعنى إحضار الأنفس الشح إن الشح جعل حاضرا لا يغيب عنها أبدا، جعله من باب القلب وليس بجيد، بل التركيب القرآني يقتضي أن الأنفس جعلت حاضرة للشح لا تغيب عنه، لأن الأنفس هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهي التي كانت فاعلة قبل دخول همزة النقل، إد الأصل: حضرت الأنفس الشح. على أنه يجوز عند الجمهور في هذا الباب إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل على تفصيل في ذلك؛ وإن كان الأجود عندهم إقامة الأول. فيحتمل أن تكون الأنفس هي المفعول الثاني، والشح هو المفعول الأول، وقام الثاني مقام الفاعل. والأولى حمل القرآن على الأفصح المتفق عليه. وقرأ العدوي: الشح بكسر الشين وهي لغة.
* (وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * ندب تعالى إلى الإحسان في العشرة على النساء وإن كرهن مراعاة لحق الصحبة، وأمر بالتقوى في حالهن، لأن الزوج قد تحمله الكراهة للزوجة على أذيتها وخصومتها لا سيما وقد ظهرت منه أمارات الكراهة من النشوز والإعراض. وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم) بهن (فإنهن عوان عند الأزواج). وقال الماتريدي: وإن تحسنوا في أن تعطوهن أكثر من حقهن، وتتقوا في أن لا تنقصوا من حقهن شيئا. أو أن تحسنوا في إيفاء حقهن والتسوية بينهن، وتتقوا الجور والميل وتفضيل بعض على بعض. أو أن تحسنوا في اتباع ما أمركم الله به من طاعتهن، وتتقوا ما نهاكم عنه عن معصيته انتهى. وختم آخر هذه بصفة الخبير وهو علم ما يلطف إدراكه ويدق، لأنه قد يكون بين الزوجين من خفايا الأمور ما لا يطلع عليه إلا الله تعالى، ولا يظهران ذلك لكل أحد. وكان عمران بن حطان الخارجي من أدم الناس، وامرأته من أجملهن، فأجالت في وجهه نظرها ثم تابعت الحمد لله، فقال: ما لك؟ قالت: حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله الجنة الشاكرين والصابرين.
* (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * قال ابن عطية: روي أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم) وميله بقلبه إلى عائشة رضي الله عنها انتهى. ونبه تعالى على انتفاء استطاعة العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة، ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن، وفي ذلك عذر للرجال فيما يقع من التفاوت في الميل القلبي، والتعهد، والنظر، والتأنيس، والمفاكهة. فإن التسوية في ذلك محال خارج عن حد الاستطاعة، وعلق انتفاء الاستطاعة في التسوية على تقدير وجود الحرص من الانسان على ذلك. وقيل: معنى أن تعدلوا في المحبة قاله: عمر، وابن عباس، والحسن. وقيل: في التسوية والقسم. وقيل: في الجماع. وعن النبي صلى الله عليه وسلم) (أنه كان يقسم بين
380

نسائه فيعدل ويقول: هذه قسمتي فيما أملك، فلا تؤاخذاني فيما تملك ولا أملك) يعني المحبة، لأن عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه وكان عمر يقول: اللهم قلبي فلا أملكه، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل فيه.
* (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) * نهى تعالى عن الجور على المرغوب أي: إن وقع منكم التفريط في شيء من المساواة فلا تجوروا كل الجور. والضمير في فتذروها عائد على المميل عنها المفهوم من قوله: فلا تميلوا كل الميل.
وقرأ أبي: فتذروها كالمسجونة. وقرأ عبد الله: فتذروها كأنها معلقة. وتقدم تفسير المعلقة في الكلام على المفردات. وقال ابن عباس: كالمحبوسة بغير حق. وقيل: معنى كالمعلقة كالبعيدة عن زوجها. قيل: أو عن حقها، ذكره الماوردي مأخوذ من تعليق الشيء لبعده عن قراره. وتذروها يحتمل أن يكون مجزوما عطفا على تميلوا، ويحتمل أن يكون منصوبا بإضمار أن في جواب النهي. وكالمعلقة في موضع نصب على الحال، فتتعلق الكاف بمحذوف. وفي الحديث: (من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل) والمعنى: يميل مع إحداهما كل الميل، لا مطلق الميل. وقد فاضل عمر في عطاء بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأبت عائشة وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان يعدل بيننا في القسيمة بماله ونفسه، فساوى عمر بينهن، وكان لمعاذ امرأتان فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد.
* (وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما) * قال الزمخشري: وإن تصلحوا ما مضى من قبلكم وتتداركوه بالتوبة، وتتقوا فيما يستقبل، غفر الله لكم انتهى. وفي ذلك نزغة الاعتزال. وقال ابن عطية: وإن تصلحوا ما أفسدتم بسوء العشرة، وتلزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون، فإن الله كان غفورا لما تملكونه متجاوزا عنه. وقال الطبري: غفورا لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية انتهى. فعلى هذا هي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم واقعوا المحظور في مدة النبي صلى الله عليه وسلم)، وختمت تلك بالإحسان، وهذه بالإصلاح. لأن الأولى في مندوب إليه إذ له أن لا يحسن وإن يشح ويصالح بما يرضيه، وهذه في لازم، إذ ليس له إلا أن يصلح، بل يلزمه العدل فيما يملك.
* (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) * الضمير في يتفرقا عائد على الزوجين المذكورين في قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها) * والمعنى: وإن شح كل منهما ولم يصطلحا وتفرقا بطلاق، فالله يغني كلا منها عن صاحبه بفضله ولطفه في المال والعشرة والسعة. ووجود المراد والسعة الغنى والمقدرة وهذا وعد بالغنى لكل واحد إذا تفرقا، وهو معروف بمشيئة الله تعالى. ونسبة الفعل إليهما يدل على أن لكل منهما مدخلا في التفرق، وهو التفرق بالأبدان وتراخي المدة بزوال العصمة، ولا يدل على أنه
381

تفرق بالقول، وهو طلاق لأنه مختص بالزوج، ولا نصيب للمرأة في التفرق القولي، فيسند إليها خلافا لمن ذهب إلى أن التفرق هاهنا هو بالقول وهو الطلاق. وقرأ زيد بن أفلح: وإن يتفارقا بألف المفاعلة أي: وإن يفارق كل منهما صاحبه. وهذه الآية نظير قوله تعالى: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * وقول العرب: إن لم يكن وفاق فطلاق. فنبه تعالى على أن لهما أن يتفارقا، كما أن لهما أن يصطلحا. ودل ذلك على الجواز قالوا: وفي قوله تعالى: يغن الله كلا من سعته إشارة إلى الغنى بالمال. وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما رووا طلقة ذوقة فقيل له في ذلك فقال: إني رأيت الله تعالى علق الغنى بأمرين فقال: * (وأنكحوا الايامى) * الآية، وقال: وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته.
* (وكان الله واسعا حكيما) * ناسب ذلك ذكر السعة، لأنه تقدم من سعته. والواسع عام في الغنى والقدرة والعلم وسائر الكمالات. وناسب ذكر وصف الحكمة، وهو وضع الشيء موضع ما يناسب، لأن السعة ما لم تكن معها الحكمة كانت إلى فساد أقرب منها للصلاح قاله الراغب. وقال ابن عباس: يريد فيما حكم ووعظ. وقال الكلبي: فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان. وقال الماتريدي: أو حيث ندب إلى الفرقة عند اختلافهما، وعدم التسوية بينهما.
* (ولله ما فى * السماوات وما في الارض) * لما ذكر تعالى سعة رزقه وحكمته، ذكر أن له ملك ما في السماوات وما في الأرض، فلا يعتاض عليه غنى أحد، ولا التوسعة عليه، لأن من له ذلك هو الغني المطلق.
* (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) * وصينا: أمرنا أو عهدنا إليهم وإليكم، ومن قبلكم: يحتمل أن يتعلق بأوتوا وهو الأقرب، أو بوصينا. والمعنى: أن الوصية بالتقوى هي سنة الله مع الأمم الماضية فلستم مخصوصين بهذه الوصية. وإياكم عطف على الموصول، وتقدم الموصول لأن وصيته هي السابقة على وصينا فهو تقدم بالزمان. ومثل هذا العطف أعني: عطف الضمير المنصوب المنفصل على الظاهر فصيح جاء في القرآن وفي كلام العرب، ولا يختص بالشعر، وقد وهم في ذلك بعض أصحابنا وشيوخنا فزعم أنه لا يجوز إلا في الشعر، لأنك تقدر على أن تأتي به متصلا فتقول: آتيك وزيدا. ولا يجوز عنده: رأيت زيدا وإياك إلا في الشعر، وهذا وهم فاحش، بل من موجب انفصال الضمير كونه يكون معطوفا فيجوز قام زيد وأنت، وخرج بكر وأنا، لا خلاف في جواز ذلك. فكذلك ضربت زيدا وإياك.
والذين أوتوا الكتاب هو عام في الكتب الإلهية، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الذين أوتوا الكتاب باليهود والنصارى كما ذهب إليه بعض المفسرين، لأن وصية الله بالتقوى لم تزل مذ أوجد العالم، فليست مخصوصة باليهود والنصارى. وإن اتقوا: يحتمل أن تكون مصدرية أي: بأن اتقوا الله، وأن تكون مفسرة التقدير أي: اتقوا الله لأن وصينا فيه معنى القول.
* (وإن تكفروا) * ظاهره الخطاب لمن وقع له الخطاب بقوله: وإياكم، وهم هذه الأمة، ويحتمل أن يكون شاملا للذين أوتوا الكتاب وللمخاطبين، وغلب الخطاب على ما تقرر في لسان العرب كما تقول: قلت لزيد ذلك لا تضرب عمرا، وكما تقول: زيد وأنت تخرجان.
* (فإن لله ما فى * السماوات وما في الارض) * أي أنتم من جملة من يملكه تعالى وهو المتصرف فيكم، إذ هو خالفكم والمنعم عليكم بأصناف النعم وأنتم مملوكون له، فلا يناسب أن تكفروا من هو مالككم وتخالفون مره، بل حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يتقى عقابه ويرجى ثوابه، ولله ما في سمائه وأرضه من يوحده ويعبده ولا يعصيه.
* (وكان الله غنيا) * أي عن خلقه وعن عبادتهم لا تنفعه طاعتهم، ولا يضره كفرهم.
* (حميدا) * أي مستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه وإن كفرتموه أنتم.
* (ولله ما فى * السماوات وما في الارض * وكفى بالله وكيلا) * الوكيل القائم بالأمور المنفذ فيها ما يراه، فمن له ملك ما في السماوات والأرض فهو كاف فيما يتصرف فيه لا يعتمد على غيره. وأعاد قوله: ولله ما في السماوات وما في الأرض ثلاث مرات بحسب السياق. فقال ابن عطية: الأول: تنبيه على موضع الرجاء يهدي المتفرقين. والثاني: تنبيه على استغنائه عن العباد. والثالث:
382

مقدمة للوعيد.
وقال الزمخشري: وتكرير قوله: * (ولله ما فى * السماوات وما في الارض) * تقرير لما هو موجب تقواه ليتقوه، فيطيعوه ولا يعصوه، لأن الخشية والتقوى أصل الخير كله. وقال الراغب: الأول: للتسلية عما فات. والثاني: أن وصيته لرحمته لا لحاجة، وأنهم إن كفروه لا يضروه شيئا. والثالث: دلالته على كونه غنيا. وقال أبو عبد الله الرازي: الأول: تقرير كونه واسع الجود. والثاني: للتنزيه عن طاعة المطيعين. والثالث: لقدرته على الإفناء والإيجاد، والغرض منه تقرير كونه قادرا على مدلولات كثيرة فيحسن أن يذكر ذلك الدليل على كل واحد من مدلولاته، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة، لأنه عنده إعادة ذكر الدليل يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، وكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل، فظهر أن هذا التكرار في غاية الكمال. وقال مكي: نبهنا أولا على ملكه وسعته. وثانيا على حاجتنا إليه وغناه، وثالثا على حفظه لنا وعلمه بتدبيرنا.
* (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت باخرين) * ظاهره أن الخطاب لمن تقدم له الخطاب أولا. وقال ابن عباس: الخطاب للمشركين والمنافقين، والمعنى: ويأت بآخرين منكم. وقريب منه ما نقله الزمخشري: من أنه خطاب لمن كان يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم) من العرب. وقال أبو سليمان الدمشقي: الخطاب للكفار وهو تهديد لهم، كأنه قال: إن يشاء يهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا برسله. وقيل: للمؤمنين ينطلق عليه اسم الناس، والمعنى: إن شاء يهلككم كما أنشأكم وأنشأ قوما آخرين يعبدونه. وقال الطبري: الخطاب للذين شفعوا في طعمة بن أبيرق، وخاصم وخاصموا عنه في أمر خيانته في الدرع والدقيق. وهذا التأويل بعيد، وقد يظهر العموم فيكون خطابا للعالم الحاضر الذي يتوجه إليه الخطاب والنداء. ويأت بآخرين أي: بناس غيركم، فالمأتي به من نوع المذهب، فيكون من جنس المخاطب المنادي وهم الناس.
وروي أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم) بيده على ظهر سلمان وقال: * (أنهم * قوم * هاذا * يريد * ابن) *، وأجاز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن يكون المراد بآخرين من نوع المخاطبين. قال الزمخشري: ويأت بآخرين مكانكم أو خلقا آخرين غير الإنس. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون وعيدا لجميع بني آدم، ويكون الآخرون من غير نوعهم. كما أنه قد روي أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل بني آدم انتهى. وما جوزه لا يجوز، لأن مدلول آخر في اللغة هو مدلول غير خاص بجنس ما تقدم، فلو قلت: جاء زيد وآخر معه، أو مررت بامرأة وأخرى معها، أو اشتريت فرسا وآخر، وسابقت بين حمار وآخر، لم يكن آخر ولا أخرى مؤنثه، ولا تثنيته ولا جمعه إلا من جنس ما يكون قبله. ولو قلت: اشتريت ثوبا وآخر، ويعني به: غير ثوب لم يجز، فعلى هذا تجويزهم أن يكون قوله:
بآخرين من غير جنس ما تقدم وهم الناس ليس بصحيح، وهذا هو الفرق بين غير وبين آخر، لأن غيرا تقع على المغاير في جنس أو في صفة، فتقول: اشتريت ثوبا وغيره، فيحتمل أن يكون ثوبا، ويحتمل أن يكون غير ثوب وقل من يعرف هذا الفرق.
* (باخرين وكان الله على ذالك قديرا) * أي على إذهابكم والإتيان بآخرين. وأتى بصيغة المبالغة في القدرة، لأنه تعالى لا يمتنع عليه شيء أراده، وهذا غضب عليهم وتخويف، وبيان لاقتداره.
* (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاخرة) * قال ابن عطية، أي من كان لا رغبة له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أن ثم سواه فليس كما ظن، بل عند الله ثواب الدارين. فمن قصد الآخرة أعطاه من ثواب الدنيا وأعطاه قصده، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له، وكان له في الآخرة العذاب. وقال الماتريدي: يحتمل أن يكون المعنى من عبد الأصنام طلبا للعز لا يحصل له ذلك، ولكن عند الله عز الدنيا والآخرة، أو
383

للتقريب والشفاعة أي: ليس له ذلك، ولكن اعبدوا الله فعنده ثواب الدنيا والآخرة، لا عند من تطلبون. ويحتمل أن تكون في أهل النفاق الذين يراؤون بأعمالهم الصالحة في الدنيا لثواب الدنيا لا غير.
ومن يحتمل أن تكون موصولة والظاهر أنها شرط وجوابه الجملة المقرونة بفاء الجواب: ولا بد في الجملة الواقعة جوابا لاسم الشرط غير الظرف من ضمير عائد على اسم الشرط حتى يتعلق الجزاء بالشرط، والتقدير: ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده، هكذا قدره الزمخشري وغيره. والذي يظهر أن جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير: من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه، وليطلب الثوابين، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة. وقال الراغب: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة تبكيت للإنسان حيث اقتصر على أحد السؤالين مع كون المسؤول مالكا للثوابين، وحث على أن يطلب منه تعالى ما هو أكمل وأفضل من مطلوبه، فمن طلب خسيسا مع أنه يمكنه أن يطلب نفيسا فهو دنيء الهمة. قيل: والآية وعيد للمنافقين لا يريدون بالجهاد غير الغنيمة. وقيل: هي حض على الجهاد.
* (وكان الله سميعا بصيرا) * أي سميعا لأقوالهم، بصيرا بأعمالهم ونياتهم.
* (بصيرا ياأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين) * قال الطبري: هي سبب نازلة بن أبيرق وقيام من قام في أمره بغير القسط. وقال السدي: نزلت في اختصام غني وفقير عند النبي صلى الله عليه وسلم).
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة، أعقبه بالقيام بأداء حقوق الله تعالى، وفي الشهادة حقوق الله. أو لأنه لما ذكر تعالى طالب الدنيا وأنه عنده ثواب الدنيا والآخرة، بين أن كمال السعادة أن يكون قول الإنسان وفعله الله تعالى، أو لأنه لما ذكر في هذه السورة * (وإن خفتم * أن لا * تقسطوا فى اليتامى) * والإشهاد عند دفع أموال اليتامى إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله، وذكر قصة ابن أبيرق واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل، وندب للمصالحة، أعقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله سبحانه وتعالى، وأتى بصيغة المبالغة في قوامين حتى لا يكون منهم جور ما، والقسط العدل. ومعنى شهداء الله أي: لوجه الله، لا يراعي في الشهادة إلا جهة الله تعالى. والظاهر أن معنى قوله: شهداء لله من الشهادة في الحقوق، ولذلك أتبعه بما بعده من قوله: ولو على أنفسكم، وهكذا فسره المفسرون. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون قوله: شهداء لله معناه بالوحدانية، ويتعلق قوله: ولو على أنفسكم، بقوله: قوامين بالقسط، والتأويل الأول أبين انتهى كلامه. ويضعفه أنه خطاب للمؤمنين وهم شهداء لله بالوحدانية، إلا إن أريد استمرار الشهادة.
وتقدمت صفة قوامين بالقسط على شهداء الله. لأن القيام بالقسط أعم، والشهادة أخص. ولأن القيام بالقسط فعل وقول، والشهادة قول فقط. ومعنى: ولو على أنفسكم، أي تشهدون على أنفسكم أي تقرون بالحق وتقيمون القسط عليها. والظاهر أنه أراد بقوله: ولو على أنفسكم أنفس الشهداء لله تعالى. وأبعد من جوز أن يكون المعنى في أنفسكم: الأهل واوقارب، وأن يكون (أو الوالدين) تفسيرا لأنفسكم، ويضعفه العطف بأو. وانتصب شهداء على أنه خبر بعد خبر. ومن ذهب إلى جعله حالا من الضمير في قوامين كأبي البقاء، فقوله ضعيف. لأن فيها تقييدا لقيام بالقسط، سواء كان مثل هذا أم لا. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشهد لهذا القول الضعيف، قال ابن عباس: معناه كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كان ومجئ لو هنا لاستقصاء جميع ما يمكن فيه الشهادة، لما كانت الشهادة من الإنسان على نفسه بصدد أن لا يقيمها لما جبل عليه المرء من محاباة نفسه ومراعاتها، نبه على هذه الحال، وجاء هذا الترتيب في الاستقصاء في غاية من الحسن والفصاحة. فبدأ بقوله: ولو على أنفسكم، لأنه لا شيء أعز
384

على الإنسان من نفسه، ثم ذكر الوالدين وهما أقرب إلى الإنسان وسبب نشأته، وقد أمر ببرهما وتعظيمهما، والحوطة لهما، ثم ذكر الأقربين وهم مظنة المحبة والتعصب. وإذا كان هؤلاء أمر في حقهم بالقسط والشهادة عليهم، فالأجنبي أحرى بذلك. والآية تعرضت للشهادة عليهم لا لهم، فلا دلالة فيها على الشهادة لهم، كما ذهب إليه بعض المفسرين. ولو شرطية بمعنى: أن وقوله على أنفسكم متعلق بمحذوف، لأن التقدير: وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله، هذا تقرير الكلام. وحذف كان بعد لو كثير تقول: ائتني بتمرولو حشفا، أي: وإن كان التمر حشفا فائتني به. وقال ابن عطية: ولو على أنفسكم متعلق بشهداء. فإن عنى شهداء هذا الملفوظ به فلا يصح ذلك، وإن عنى الذي قدرناه نحن فيصح. وقال الزمخشري: ولو على أنفسكم، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم. (فإن قلت): الشهادة على لوالدين والأقربين أن يقول: أشهد أن لفلان على والذي كذا وعلى أقاربي، فما معنى الشهادة على نفسه؟ (قلت): هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها، ويجوز أن يكون المعنى: وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم، أو على آبائكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من توقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره انتهى كلامه. وتقديره: ولو كانت الشهادة على أنفسكم، ليس بجيد، لأن المحذوف إنما يكون من جنس الملفوظ به قبل ليدل عليه. فإذا قلت: كن محسنا
لمن أساء إليك، فتحذف كان واسمها والخبر، ويبقى متعلقه لدلالة ما قبله عليه ولا تقدره: ولو كان إحسانك لمن أساء. فلو قلت: ليكن منك إحسان ولو لمن أساء، فتقدر: ولو كان الإحسان لمن أساء لدلالة ما قبله عليه، ولو قدرته. ولو كنت محسنا لمن أساء إليك لم يكن جيدا، لأنك تحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق. وقول الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم هذا لا يجوز، لأن ما تعلق به الظرف كون مقيد، ولا يجوز حذف الكون المقيد، لو قلت: كان زيد فيك وأنت تريد محبا فيك لم يجز، لأن محبا مقيدا، وإنما ذلك جائز في الكون المطلق، وهو: تقدير كائن أو مستقر.
* (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) * أي إن يكن المشهود عليه غنيا فلا تمتنع من الشهادة عليه لغناه، أو فقيرا فلا تمنعها ترحما عليه وإشفاقا. فعلى هذا الجواب محذوف، لأن العطف هو بأو، ولا يثني الضمير إذا عطف بها، بل يفرد. وتقدير الجواب: فليشهد عليه ولا يراعي الغني لغناه، ولا لخوف منه، ولا الفقير لمسكنته وفقره، ويكون قوله: فالله أولى بهما ليس هو الجواب، بل لما جرى ذكر الغني والفقير. عاد الضمير على ما دل عليه ما قبله كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الغني والفقير أي: بالأغنياء والفقراء. وفي قراءة أبي: فالله أولى بهم ما يشهد بإرادة الجنس. وذهب الأخفش وقوم، إلى أن أو في معنى الواو، فعلى قولهم يكون الجواب: فالله أولى بهما، أي: حيث شرع الشهادة عليهما، وهو أنظر لهما منكم. ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: وقد ذكر العطف بالواو وثم وحتى ما نصه تقول: زيد أو عمر، وقام زيد لا عمرو قام، وكذلك سائر ما بقي من حروف العطف يعني غير الواو وحتى والفاء وثم، والذي بقي بل ولكن وأم. قال: لا تقول قاما لأن القائم إنما هو أحدهما لا غير، ولا يجوز قاما إلا في أو خاصة، وذلك شذوذ لا يقاس عليه. قال الله تعالى: إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فأعاد الضمير على الغني والفقير لتفرقهما في الذكر انتهى. وهذا ليس بسديد. ولا شذوذ في الآية، ولا دليل فيها على جواز زيد أو عمرو قاما على جهة الشذوذ، ولا غيره. ولأن قوله: فالله أولى بهما ليس بجواب كما قررناه، والضمير ليس عائدا على الغني والفقير الملفوظ بهما في الآية، وإنما يعود على ما دل عليه
385

المعنى من جنسي الغني والفقير. وقرأ عبد الله: إن يكن غني أو فقير على أن كان تامة.
* (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) * لما أمر تعالى بالقيام بالعدل وبالشهادة لمرضاة الله نهى عن اتباع الهوى، وهو ما تميل إليه النفس مما لم يبحه الله تعالى وإن تعدلوا من العدول عن الحق، أو من العدل وهو القسط. فعلى الأول يكون التقدير: إرادة أن تجوروا، أو محبة أن تجوروا. وعلى الثاني يكون التقدير: كراهة أن تعدلوا بين الناس وتقسطوا. وعكس ابن عطية هذا التقدير فقال: يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا، ويكون العدل بمعنى القسط كأنه قال: انتهوا خوف أن تجوروا، أو محبة أن تقسطوا. فإن جعلت العامل تتبعوا فيحتمل أن يكون المعنى: محبة أن تجوروا انتهى كلامه. وهذا الذي قرره من التقديره يكون العامل في أن تعدلوا فعلا محذوفا من معنى النهي، وكان الكلام قد تم عند قوله: فلا تتبعوا الهوى، ثم أضمر فعلا وقدره: انتهوا خوف أن تجورا، أو محبة أن تقسطوا، ولذلك قال: فإن جعلت العامل تتبعوا. والذي يدل عليه الظاهر أن العامل هو تتبعوا، ولا حاجة إلى إضمار جملة أخرى، فيكون فعلها عاملا في أن تعدلوا. وإذا كان العامل تتبعوا فيكون التقدير الأول هو المتجه، وعلى هذه التقادير فإن تعدلوا مفعول من أجله. وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون التقدير: أن لا تعدلوا، فحذف لا، أي: لا تتبعوا الهوى في ترك العدل. وقيل: المعنى لا تتبعوا الهوى لتعدلوا أي: لتكونوا في اتباعكموه عدولا، تنبيها أن اتباع الهوى وتحري العدالة متنافيان لا يجتمعان. وقال أبو عبد الله الرازي: المعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل، والعدل عبارة عن ترك متابعة الهوى، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر، فالتقدير: لأجل أن تعدلوا.
* (وإن تلووا أو تعرضوا) * الظاهر أن الخطاب للمأمورين بالقيام بالقسط، والشهادة لله، والمنهيين عن اتباع الهوى. وقال ابن عباس: هو في لي الحاكم عنقه عن أحد الخصمين. وقال مجاهد نحوه قال: لي الحاكم شدقه لأحد الخصمين ميلا إليه. وقال ابن عباس أيضا، والضحاك، والسدي، وابن زيد، ومجاهد: هي في الشهود يلوي الشهادة بلسانه فيحرفها ولا يقول الحق فيها، أو يعرض عن أداء الحق فيها، ويقول معناه: يدافعوا الشهادة من لي الغريم. وقال لزمخشري: وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق، أو حكومة العدل، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها.
وقرأ جماعة في الشاذ، وابن عامر، وحمزة: وإن تلوا بضم اللام بواو واحدة، ولحن بعض النحويين قارىء هذه القراءة. قال: لا معنى للواية هنا، وهذا لا يجوز لأنها قراءة متواترة في السبع، ولها معنى صحيح وتخريج حسن. فنقول: اختلف في قوله: وإن تلووا.
فقيل: هي من الولاية أي: وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها، والولاية على الشيء هو الإقبال عليه. وقيل: هو من اللي واصله: تلووا، وأبدلت الواو المضمومة همزة، ثم نقلت حركتها إلى اللام وحذفت. قال الفراء، والزجاج، وأبو علي، والنحاس، ونقل عن النحاس أيضا أنه استثقلت الحركة على الواو فألقيت على اللام، وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين.
* (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * هذا فيه وعيد لمن لوى عن الشهادة أو أعرض عنها.
* (خبيرا يأيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل) * مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالقيام بالقسط، والشهادة لله، بين أنه لا يتصف بذلك إلا من كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية فأمر بها. والظاهر أنه خطاب للمؤمنين. ومعنى: آمنوا دوموا على الإيمان قاله: الحسن، وهو أرجح.
386

لأن لفظ المؤمن متى أطلق لا يتناول إلا المسلم. وقيل: للمنافقين أي: يا أيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم آمنوا بقلوبكم. وقيل: لمن آمن بموسى وعيسى عليهما السلام
أي: يا من آمن بنبي من الأنبياء آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: هم جميع الخلق أي: يا أيها الذين آمنوا يوم أخذ الميثاق حين قال: * (ألست بربكم قالوا بلى) *. وقيل: اليهود خاصة. وقيل: المشركون آمنوا باللات والعزى والأصنام والأوثان. وقيل: آمنوا على سبيل التقليد، آمنوا على سبيل الاستدلال. وقيل: آمنوا في الماضي والحاضر، آمنوا في المستقبل. ونظيره: * (فاعلم أنه لا إلاه إلائ * الله) * مع أنه كان عالما بذلك. وروي أن عبد الله بن سلام، وسلاما ابن أخته، وسلمة بن أخيه، وأسد وأسيدا ابني كعب، وثعلبة بن قيس ويامين، أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم) وقالوا: نؤمن بك وبكتابك، وموسى والتوراة، وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال عليه السلام: (بل آمنوا بالله ورسوله وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله) فقالوا: لا نفعل، فنزلت فآمنوا كلهم. والكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن بلا خلاف، والكتاب الذي أنزل من قبل المراد به جنس الكتب الإلهية، ويدل عليه قوله: آخرا. وكتبه وإن كان الخطاب لليهود والنصارى فكيف قيل لهم والكتاب الذي أنزل من قبل وهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل. وأجيب عن ذلك بأنهم كانوا مؤمنين بهما فحسب، وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب، فأمروا أن يؤمنوا بجميع الكتب. أو لأن إيمانهم ببعض لا يصح، لأن طريق الإيمان بالجميع واحد وهو المعجزة. وقرأ العربيان وابن كثير: نزل وأنزل بالبناء للمفعول، والباقون بالبناء للفاعل. قال الزمخشري: (فإن قلت): لم قال نزل على رسوله وأنزل من قبل؟ (قلت): لأن القرآن نزل منجما مفرقا في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله انتهى. وهذه التفرقة بين نزل وأنزل لا تصح، لأن التضعيف في نزل ليس للتكثير والتفريق، وإنما هو للتعدية، وهو مرادف للهمزة. وقد أشبعنا الرد على الزمخشري في دعواه ذلك أول سورة آل عمران.
* (ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا) * جواب الشرط ليس مترتبا على الكفر بالمجموع، بل المعنى: ومن يكفر بشيء من ذلك. وقرئ: وكتابه على الأفراد، والمراد جنس الكتب. ولما كان خير الإيمان علق بثلاثة: بالله، والرسول، والكتب، لأن الإيمان بالكتب تضمن الإيمان بالملائكة واليوم الآخر، وبولغ في ذلك لأن الملك مغيب عنا، وكذلك اليوم الآخر لم يقع وهو منتظر، فنص عليهما على سبيل التوكيد، ولئلا يتأولهما متأول على خلاف ما هما عليه. فمن أنكر الملائكة أو القيامة فهو كافر، وقدم الكتب على الرسل على الترتيب الوجودي، لأن الملك ينزل بالكتب والرسل تتلقى الكتب من الملك. وقدم في الأمر بالإيمان الموصول على الكتاب، لأن الرسول أول ما يباشره المؤمن ثم يتلقى الكتاب منه. فحيث نفى الإيمان كان على الترتيب الوجودي، وحيث أثبت كان على الترتيب اللقائي، وهو راجع للوجود في حق المؤمن.
* (إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم) * لما أمر بالأشياء التي تقدم ذكرها، وذكر أن من كفر بها أو بشيء منها فهو ضال، أعقب ذلك بفساد، وطريقة من كفر بعد الإيمان، وأنه لا يغفر له على ما بين. والظاهر أنها في المنافقين إذ هم المتلاعبون بالدين، فحيث لقوا المؤمنين (قالوا آمنا) وإذا لقوا أصحابهم (قالوا إنا مستهزئون) * ولذلك جاء بعده بشر المنافقين، فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه. ومعنى ازداد كفرا بأن تم على نفاقه حتى مات.
387

وقيل: ازدياد كفرهم هو اجتماعهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حرب المسلمين، وإلى هذا ذهب: مجاهد وابن زيد. وقال الحسن: هي في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت: (آمنوا وجه النهار واكفروا آخره) قصدوا تشكيك المسلمين وازدياد كفرهم هو أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام. قال قتادة وأبو العالية وطائفة، ورجحه الطبري: هي في اليهود والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم)، وضعف هذا القول ابن عطية قال: يدفعه ألفاظ الآية، لأنها في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من المترددين بين الكفر والإيمان ثم يزداد. وقال بعضهم: هي في اليهود آمنوا بالتوراة وموسى ثم كفرا بعزير، ثم آمنوا بداود، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا عند مقدم محمد صلى الله عليه وسلم). وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في المترددين، فإن المؤمن إذا ارتد ثم آمن قبلت توبته إلى الثلاث، ثم لا تقبل ويحكم عليه بالنار. وقال القفال: ليس المراد بيان هذا العدد، بل المراد ترددهم كما قال: * (*) * ولذلك جاء بعده بشر المنافقين، فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه. ومعنى ازداد كفرا بأن تم على نفاقه حتى مات. وقيل: ازدياد كفرهم هو اجتماعهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حرب المسلمين، وإلى هذا ذهب: مجاهد وابن زيد. وقال الحسن: هي في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت: (آمنوا وجه النهار واكفروا آخره) قصدوا تشكيك المسلمين وازدياد كفرهم هو أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام. قال قتادة وأبو العالية وطائفة، ورجحه الطبري: هي في اليهود والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم)، وضعف هذا القول ابن عطية قال: يدفعه ألفاظ الآية، لأنها في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من المترددين بين الكفر والإيمان ثم يزداد. وقال بعضهم: هي في اليهود آمنوا بالتوراة وموسى ثم كفرا بعزير، ثم آمنوا بداود، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا عند مقدم محمد صلى الله عليه وسلم). وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في المترددين، فإن المؤمن إذا ارتد ثم آمن قبلت توبته إلى الثلاث، ثم لا تقبل ويحكم عليه بالنار. وقال القفال: ليس المراد بيان هذا العدد، بل المراد ترددهم كما قال: * (مذبذبين بين ذالك) * ويدل عليه قوله: * (بشر المنافقين) *. وقال الزمخشري: المعنى أن الذين تكرر منهم الارتداد وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله، لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر، ومرئت على الردة، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه حيث يدلونهم فيه كرة بعد أخرى، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة ونصحت توبتهم لم تقبل منهم ولم يغفر لهم، لأن ذلك مقبول حيث هو بذل الطاقة واستفراغ الوسع، ولكنه استبعاد له واستغراب، وأنه أمر لا يكاد يكون. وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على شر
حال وأقبح صورة انتهى كلامه. وفي بعضه ألفاظ من ألفاظ الاعتزال.
* (لم يكن الله ليغفر لهم) * الجمهور على تقدير محذوف أي: ثم ازدادوا كفرا وماتوا على الكفر، لأنه معلوم من هذه الشريعة أنه لو آمن وكفر مرارا ثم تاب عن الكفر وآمن ووافى تائبا، أنه مغفور له ما جناه في كفره السابق وإن تردد فيه مرارا. وقيل: يحمل على قوم معينين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه، فيكون قوله: لم يكن الله ليغفر لهم إخبارا عن موتهم على الكفر. وقيل: الكلام خرج على الغالب المعتاد، وهو أن من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإيمان في قلبه وقع ولا عظم قدر. والظاهر من حال مثل هذا أنه يموت على الكفر.
وفي قوله: لم يكن الله ليغفر لهم، دلالة على أنه مختوم عليهم بانتفاء الغفران وهداية السبيل، وأنهم تقرر عليهم ذلك في الدنيا وهم أحياء، وهذه فائدة المجيء بلام الجحود، ففرق بين لم يكن زيد يقوم وبين لم يكن زيد ليقوم. فالأول ليس فيه إلا انتفاء القيام، والثاني فيه انتفاء الإرادة والإيتاء للقيام، ويلزم من انتفاء إرادة القيام نفي القيام، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك مشبعا في سورة آل عمران. وقال الزمخشري: نفي للغفران والهداية، وهي اللطف على سبيل المبالغة التي توطئها اللام، والمراد: بنفيهما نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت انتهى. وظاهر كلامه أنه يقول بقول الكوفيين، وهو أنهم يقولون: إذا قلت لم يكن زيد ليقوم، أن خبر لم يكن هو قولك ليقوم، واللام للتأكيد زيدت في النفي، والمنفي هو القيام، وليست أن مضمرة بل اللام هي الناصبة. والبصريون يقولون: النصب بإضمار أن، وينسبك من أن المضمرة والفعل بعدها مصدر، وذلك المصدر لا يصح أن يكون خبرا، لأنه معنى والمخبر عنه جثة. ولكن الخبر محذوف، واللام تقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر لأنه جثة. وأضمرت أن بعدها وصارت اللام كالعوص من أن المحذوفة، ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام، ولا الجمع بينها وبين أن ظاهرة. ومعنى قوله: والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما أن المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر الله لهم ويهديهم.
* (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) * الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم). ومعنى: بشر أخبر، وجاء بلفظ
388

بشر على سبيل التهكم بهم نحو قوله: * (فبشرهم بعذاب أليم) * أي القائم لهم مقام البشارة، هو الإخبار بالعذاب كما قال: * (تحية * بينهم * ضرب) *. وقال ابن عطية: جاءت البشارة هنا مصرحا بفيدها، فلذلك حسن استعمالها في المكروه. ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب. وفي هذه الآية دليل على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين. وقال الماتريدي: بشر المنافقين يدل على أن قوله: * (خبيرا يأيها الذين ءامنوا ءامنوا) * في أهل النفاق والمراءاة، لأنه لم يسبق ذكر للمنافقين سوى هذه الآية. ويحتمل أن يكون ابتداء من غير تقدم ذكر المنافقين.
* (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * أي: اليهود والنصارى ومشركي العرب أولياء أنصارا ومعينين يوالونهم على الرسول والمؤمنين، ونص من صفات المنافقين على أشدها ضررا على المؤمنين وهي: موالاتهم الكفار، واطراحهم المؤمنين، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة. والذين: نعت للمنافقين، أو نصب على الذم، أو رفع على خبر المبتدأ. أي: هم الذين.
* (أيبتغون عندهم العزة) * أي: الغلبة والشدة والمنعة بموالاتهم، وقول بعضهم لبعض: لا يتم أمر محمد. وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنهم لا عزة لهم فكيف تبتغي منهم؟ وعلى خبث مقصدهم. وهو طلب العزة بالكفار والاستكثار بهم.
* (فإن العزة لله جميعا) * أي لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم. قال تعالى: * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلى إن الله قوى عزيز) *. وقال: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولاكن المنافقين لا يعلمون) *. وقال تعالى: * (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) * والفاء في فإن العزة لله دخلت لما في الكلام من معنى الشرط، والمعنى: أن تبتغوا العزة من هؤلاء فإن العزة، وانتصب جميعا على الحال.
* (وقد نزل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم ءايات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا) * الخطاب لمن أظهر الإيمان من مخلص ومنافق. وقيل: للمنافقين الذين تقدم ذكرهم، ويكون التفاتا. وكانوا يجلسون إلى أحبار اليهود وهم يخوضون في القرآن يسمعون منهم، فنهوا عن ذلك، وذكروا بما نزل عليهم بمكة من قوله: * (وإذا رأيت الذين يخوضون فىءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا فى حديث غيره) *.
وقرأ الجمهور: وقد نزل مشددا مبنيا للمفعول. وقرأ عاصم: نزل مشددا مبنيا للفاعل. وقرأ أبو حيوة وحميد: نزل مخففا مبنيا للفاعل. وقرأ النخعي: أنزل بالهمزة مبنيا للمفعول، ومحل أن رفع أو نصب على حسب العامل، فنصب على قراءة عاصم، ورفع على الفاعل على قراءة أبي حيوة وحميد، وعلى المفعول الذي لم يسم فاعله على قراءة الباقين. وإن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف وتقديره: ذلك أنه إذا سمعتم. وما قدره أبو البقاء من قوله: أنكم إذا سمعتم، ليس بجيد، لأنها إذا خففت إن لم تعمل في ضمير إلا إذا كان ضمير أمر، وشأن محذوف، وإعمالها في غيره ضرورة نحو قوله:
* فلو أنك في يوم الرخاء سألتني
*
طلاقك لم أبخل وأنت صديق
*
وخبر إن هي الجملة من إذا وجوابها. ومثال وقوع جملة الشرط خبرا لأن المخففة من الثقيلة قول الشاعر:
* فعلمت أن من تتقوه فإنه
*
جزر لخامعة وفرخ عقاب
*
389

ويكفر بها في موضع نصب على الحال، والضمير في معهم عائد على المحذوف الذي دل عليه قوله: يكفر بها ويستهزأ أي: فلا تقعدوا مع الكافرين المستهزئين، وحتى غاية لترك القعود معهم. ومفهوم الغاية أنهم إذا خاضوا في غير الكفر والاستهزاء ارتفع النهي، فجاز لهم أن يقعدوا معهم. والضمير عائد على ما دل عليه المعنى أي: في حديث غير حديثهم الذي هو كفر واستهزاء. ويحتمل أن يفرد الضمير، وإن كان عائدا على الكفر وعلى الاستهزاء المفهومين من قوله: يكفر بها ويستهزأ بها، لأنهما راجعان إلى معنى واحد، ولأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في كونه لمفرد، وإن كان المراد به اثنين.
* (إنكم إذا مثلهم) * حكم تعالى بأنهم إذا قعدوا معهم وهم يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها، وهم قادرون على الإنكار مثلهم في الكفر، لأنهم يكونون راضين بالكفر، والرضا بالكفر كفر. والخطاب في أنكم على الخلاف السابق أهو للمنافقين؟ أم للمؤمنين؟ ولم يحكم تعالى على المسلمين الذين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين بمكة بأنهم مثل المشركين، لعجز المسلمين إذ ذاك عن الإنكار بخلاف المدينة، فإن الإسلام كان الغالب فيها والأعلى، فهم قادرون على الإنكار، والسامع للذم شريك للقائل، وما أحسن ما قال الشاعر:
* وسمعك صن عن سماع القبيح
*
كصون اللسان عن النطق به
*
قال ابن عطية: وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة كقول الشاعر:
* عن المرء لا تسئل وسل عن قرينه
*
فكل قرين بالمقارن يقتدى
*
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم فحمل عليه الأدب، وقرأ: إنكم إذا مثلهم. ومن ذهب إلى أن معنى قوله: إنكم إذا مثلهم، إن خضتم كخوضهم ووافقتموهم على ذلك فأنتم كفار مثلهم، قوله تنبو عنه دلالة الكلام. وإنما المعنى ما قدمناه من أنكم إذا قعدتم معهم مثلهم.
وإذا هنا توسطت بين الاسم والخبر، وأفرد مثل، لأن المعنى أن عصيانكم مثل عصيانهم، فالمعنى على المصدر كقوله: * (أنؤمن لبشرين مثلنا) * وقد جمع في قوله: * (ثم لا يكونوا أمثالكم) * وفي قوله: * (حور * عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون) * والإفراد والمطابقة في التثنية أو الجمع جائزان. وقرئ شاذا مثلهم بفتح اللام، فخرجه البصريون على أنه مبني لإضافته إلى مبني كقوله: لحق مثل ما أنكم تنطقون على قراءة من فتح اللام، والكوفيون يجيزون في مثل أن ينتصب محلا وهو الظرف، فيجوز عندهم زيد مثلك بالنصب أي: في مثل حالك. فعلى قولهم يكون انتصاب مثلهم على المحل، وهو الظرف.
* (إن الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا) * لما اتخذوهم في الدنيا أولياء جمع بينهم في الآخرة في النار، والمرء مع من أحب، وهذا توعد منه تعالى تأكد به التحذير من مجالستهم ومخالطتهم.
* (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم) * المعنى الذين ينتظرون بكم ما يتجدد من الأحوال من ظفر لكم أو بكم، فإن كان لكم فتح من الله قالوا: ألم نكن معكم مظاهرين. والمعنى: فاسهموا لنا بحكم إننا مؤمنون، وإن كان للكافرين أي اليهود نصيب، أي: نيل من المؤمنين قالوا: ألم نستحوذ عليكم، أي: ألم نغلبكم وننتمكن من قتلكم وأسركم، وأبقينا عليكم، ونمنعكم من المؤمنين بأن ثبطناهم عنكم، فاسهموا لنا بحكم أننا نواليكم فلا نؤذيكم، ولا نترك أحدا يؤذيكم. قيل: المعنى أن الكفار واليهود هموا بالدخول في الإسلام فحذرهم المنافقون عن ذلك، وبالغوا في تنفيرهم سيضعف أمر الرسول، فمنوا عليهم عند حصول نصيب لهم بأنهم قد أرشدوهم لهذه المصالح، فيكون التقدير: ونمنعكم من اتباع المؤمنين والدخول في دينهم فاسهموا لنا. وقيل: المعنى ألم
390

نخبركم بأمر محمد وأصحابه ونطلعكم على سرهم؟ وعن ابن عباس: ألم نحط من ورائكم؟ والذين يتربصون بدل من الذين يتخذون، أو صفة للمنافقين، أو نصب على الذم، أو رفع على خبر الابتداء محذوف. وسمى تعالى ظفر المؤمنين فتحا عظيما لهم، وجعل منه تعالى فقال: فتح من الله، وظفر الكافرين نصيبا، ولم ينسبه إليه تعالى تحقيرا لهم وتخسيسا لما نالوه من المؤمنين، لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء كما قال أبو تمام في فتح المعتصم عمورية بلاد الروم:
* فتح تفتح أبواب السماء له
*
وتبرز الأرض في أثوابها القشب
*
وأما ظفر الكافرين فهو حظ دنيوي يصيبونه. وقرأ ابن أبي عبلة: ونمنعكم بنصب العين بإضمار بعد واو الجمع، والمعنى: ألم نجمع بين الاستحواذ عليكم، ومنعكم من المؤمنين؟ ونظيره قول الحطيئة:
* ألم أك جاركم ويكون بيني
*
وبينكم المودة والإخاء
*
وقال ابن عطية: ونمنعكم بفتح العين على الصرف انتهى. يعني الصرف عن التشريك لما بعدها في إعراب الفعل الذي قبلها، وليس النصب على الصرف من اصطلاح البصريين. وقرأ أبي: ومنعناكم من المؤمنين، وهذا معطوف على معنى التقدير: لأن المعنى إما استخوذنا عليكم ومنعناكم كقوله: * (ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا) *. إذ المعنى: أما شرحنا لك صدرك ووضعنا.
* (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) * أي وبينهم وينصفكم من جميعهم. ويحتمل أن لا عطف، ومعنى بينكم أي: بين الجمع منكم ومنهم، وغلب الخطاب. وهذه تسلية للمؤمنين وأنس بما وعدهم به.
* (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * يعني يوم القيامة قاله: علي وابن عباس. وروي عن سبيع الحضرمي قال: كنت عند علي فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا؟ فقال علي: معنى ذلك يوم القيامة، يوم الحكم. قال ابن عطية: وبهذا قال جميع أهل التأويل. قال ابن العربي: وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه، وإن أوهم صدر الكلام معناه لقوله: فالله يحكم بينكم يوم القيامة. وقيل: أنه تعالى لا يمحو بالكفر ملة الإسلام ولا يستبيح بيضتهم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان قال: * (فإني * دون الله أرونى ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك فى السماوات أم ءاتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا) *.
وقيل: المعنى أن لا يتواصوا بالباطل، ولا يتناهوا عن المنكر، ويتقاعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم كما قال تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) *. قال ابن العربي: وهذا بين جدا، ويدل عليه قوله في حديث ثوبان: حتى يكون بعضهم يهلك بعضا. وذلك أن غاية، فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم هلاك بعضهم بعضا، وسبي بعضهم لبعض. وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين، فغلظت شوكة الكفار، واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله.
وقيل: سبيلا من جهة الشرع، فإن وجد فبخلاف الشرع. وقيل: سبيلا حجة شرعية ولا عقلية
391

يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت. وقيل: سبيلا أي ظهورا قاله: الكلبي. ويحمل على الظهور الدائم الكلي، فيؤول معناه إلى أنهم لا يستبيحون بيضة الإسلام وإلا فقد ظهروا في مواطن كأحد قبل.
وقد تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبديع فنونا التجنيس المغاير في: أن يصالحا بينهما صلحا، وفي: فلا تميلوا كل الميل، وفي: فقد ضل ضلالا، وفي: كفروا وكفروا. والتجنيس المماثل في: ويستفتونك ويفتيكم، وفي: صلحا والصلح، وفي: جامع وجميعا. والتكرار في: لفظ النساء، وفي لفظ يتامى، واليتامى، ورسوله، ولفظ الكتاب، وفي آمنوا ثم كفروا، وفي المنافقين. والتشبيه في: كالمعلقة. واللفظ المحتمل للضدين في: ترغبون أن تنكحوهن. والاستعارة في: نشوزا، وفي: وأحضرت الأنفس الشح، وفي: فلا تميلوا، وفي: قوامين، وفي: وإن تلووا أو تعرضوا، وفي: ازدادوا كفرا ولا ليهديهم سبيلا، وفي: يتربصون، وفي: فتح من الله، وفي: ألم نستحوذ، وفي: سبيلا. وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني. والطباق في: غنيا أو فقيرا، وفي: فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا واتباع الهوى جور وفي الكافرين والمؤمنين. والاختصاص في: بما تعملون خبيرا خص العمل. والالتفات في: وقد نزل عليكم إذا كان الخطاب للمنافقين. والحذف في مواضع.
2 (* (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلواة قاموا كسالى يرآءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا * مذبذبين بين ذالك لا إلى هاؤلاء ولا إلى هاؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا * ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكافرين أوليآء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا * إن المنافقين فى الدرك الا سفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولائك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما * ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم وكان الله شاكرا عليما * لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما * إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا * إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذالك سبيلا * أولائك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا * والذين ءامنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولائك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما * يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السمآء فقد سألوا موسى أكبر من ذالك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جآءتهم البينات فعفونا عن ذالك وءاتينا موسى سلطانا مبينا * ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا فى السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا * فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بأايات الله وقتلهم الا نبيآء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما *
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولاكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما * وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) *)) 2
الكسل: التثاقل، والتثبط، والفتور عن الشيء. ويقال: أكسل الرجل إذا جامع فأدركه الفتور ولم ينزل. الذبذبة: الاضطراب بحيث لا يبقى على حال، قاله: ابن عرفة والتردد بين الأمرين. وقال النابغة:
* ألم تر أن الله أعطاك سورة
*
ترى كل ملك دونها يتذبذب
*
وقال آخر:
* خيال لأم السلسبيل ودونها
*
مسيرة شهر للبريد المذبذب
*
بكسر الثانية. قال ابن جني: أي القلق الذي لا يثبت. قيل: وأصله الذب، وهو ثلاثي الأصل ضعف فقيل: ذبب، ثم أبدل من أحد المضعفين وهي الباء الثانية ذالا فقيل ذبذب، وهذا على أصل الكوفيين. وأما البصريون فهو عندهم رباعي كدحرج.
* (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * تقدم تفسير يخادعون الله في أول البقرة. ومعنى وهو خادعهم: أي منزل الخداع بهم، وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب. فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم، وفي الآخرة عذاب جهنم قاله ابن عطية. وقال الحسن، والسدي، وابن جريج، وغيرهم من المفسرين: هذا الخداع هو أنه تعالى يعطي هذه الأمة يوم القيامة نورا لكل إنسان مؤمن أو منافق، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد
392

نجوا، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق، ونهض المؤمنون. وذلك قول المنافقين: انظرونا نقتبس من نوركم وذلك هو الخداع الذي يجري على المنافقين.
وقال الزمخشري: وهو خادعهم، وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم معصومين الدماء والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. والخادع من خدعته إذا غلبته، وكنت أخدع منه انتهى. وبعضه مسترق من كلام الزجاج. قال الزجاج: لما أمر بقبول ما أظهروا كان خادعا لهم بذلك. وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي: خادعهم بإسكان العين على التخفيف، واستثقال الخروج من كسر إلى ضم. وهذه الجملة معطوفة على خبر إن. وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال.
* (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * أي متوانين لا نشاط لهم فيها، لأنهم إنما يصلون تسترا وتكلفا، وينبغي للمؤمن أن يتحرز من هذه الخصلة التي ذم المنافقون، وأن يقبل إلى صلاته بنشاط وفرغ قلب وتمهل في فعلها، ولا يتقاعس عنها فعل المنافق الذي يصلي على كره لاعن طيب نفس ورغبة. وما زال في كل عصر منافقون يتسترون بالإسلام، ويحضرون الصلوات كالمتفلسفين الموجودين في عصرنا هذا، وقد أشار بعض علمائنا إليهم في شعر قاله وضمن فيه بعض الآية، فقال في أبي الوليد بن رشد الحفيد وأمثاله من متفلسفة الإسلام:
* لأشياع الفلاسفة اعتقاد
*
يرون به عن الشرح انحلالا
*
* أباحوا كل محظور حرام
*
وردوه لأنفسهم حلالا
*
* وما انتسبوا إلى الإسلام إلا
*
لصون دمائهم أن لا تسالا
*
* فيأتون المناكر في نشاط
*
ويأتون الصلاة وهم كسالى
*
وقرأ الجمهور: كسالى بضم الكاف، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأ الأعرج: كسالى بفتح الكاف وهي لغة تميم وأسد. وقرأ ابن المسيمقع: كسلى على وزن فعلى، وصف بما يوصف به المؤنث المفرد على مراعاة الجماعة كقراءة. * (وترى الناس سكارى) *.
* (برب الناس) * أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة وأنهم مسلمون. وهي من باب المفاعلة، يرى المرائي الناس تجمله بأفعال الطاعة، وهم يرونه استحسان ذلك العمل. وقد يكون من باب فاعل بمعنى فعل، نحو نعمة وناعمة. وروى أبو زيد: رأت المرأة المرآة إذا أمسكتها لترى وجهها. وقرئ: يرؤن بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو. وقال ابن عطية: وهي أقوى في المعنى من يراؤون، لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق. ونسب الزمخشري هذه القراءة لابن أبي إسحاق إلا أنه قالقرأ: يرؤنهم همزة مشددة مثل: يرعونهم أي يبصرونهم أعمالهم، ويراؤونهم كذلك.
* (ولا يذكرون الله * لا * قليلا) * قال الحسن: قل لأنه كان يعمل لغير الله. وقال قتادة: ما معناه إنما قل لكونه لم يقبله، وما رده الله فكثيره قليل، وما قبله فقليله كثير. وقال غيره: قل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر. وقال الزمخشري: إلا قليلا، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به، وما يجاهرون به قليل، لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه، أولا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا. ويجوز أن يراد بالقلة العدم انتهى. ولا يجوز أن يراد به العدم، لأن الاستثناء يأباه، وقد رددنا هذا القول عليه وعلى ابن عطية في هذه السورة.
393

وقيل: قل لأنهم قصدوا به الدنيا وزهرتها، وذلك * (فان * متاع الدنيا قليل) *، وقيل في الكلام حذف تقديره: ولا يذكرون عقاب الله وثوابه إلا قليلا لاستغراقهم في الدنيا، وغلبة الغفلة على قلوبهم. والظاهر أن الذكر هنا هو باللسان، وأنهم قل أن يذكروا الله بخلاف المؤمن المخلص، فإنه يغلب على أحواله ذكر الله تعالى.
* (مذبذبين بين ذالك) * أي مقلقين. قال الزمخشري: ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر يترددون بينهما متحيرين، كأنه يذب عن كلا الجانبين أي يذاد فلا يقر في جانب واحد، كما يقال: فلان يرمي به الرحوان، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب، كان المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى. ونسب الذبذبة إلى الشيطان، وأهل السنة يقولون: إن هذه الحياة والذبذبة إنما حصلت بإيجاد الله. وفي الحديث: (مثل المنافق مثل الشاة العابر بين الغنيمن) والإشارة بذلك إلى حالتي الكفر والإيمان كما قال تعالى: * (عوان بين ذالك) * أي بين البكر والفارض.
وقال ابن عطية: وأشار إليه وإن لم يتقدم ذكر الظهور لضمن الكلام له، كما جاء: * (حتى توارت بالحجاب) * * (وكل من * عليها فان) * انتهى وليس كما ذكر، بل تقدم ما تصح إليه الإشارة من المصدرين اللذين دل عليهما ذكر الكافرين والمؤمنين، فهو من باب: إذا نهى السفيه جرى إليه.
وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد: مذبذبين بكسر الذال الثانية، جعلاه اسم فاعل أي مذبذبين أنفسهم أو دينهم، أو بمعنى متذبذبين كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى. وقرأ أبي: متذبذبين اسم فاعل من تذبذب أي اضطرب، وكذا في مصحف عبد الله. وقرأ الحسن: مذبذبين بفتح الميم والذالين. قال ابن عطية: وهي قراءة مردودة. انتهى. والحسن البصري من أفصح الناس يحتج بكلامه، فلا ينبغي أن ترد قراءته، ولها وجه في العربية، وهو أنه أتبع حركة الميم بحركة الذال، وإذا كانوا قد أتبعوا حركة الميم بحركة عين الكلمة في مثل منتن وبينهما حاجز فلان يتبعوا بغير حاجز أولى، وكذلك اتبعوا حركة عين منفعل بحركة اللام في حالة الرفع فقالوا: منحدر، وهذا أولى لأن حركة الإعراب ليست ثابتة خلاف حركة الذال، وهذا كله توجيه شذوذ. وعلى تقدير صحة النقل عن الحسن أنه قرأ بفتح الميم. وقرأ أبو جعفر: مدبدبين بالدال غير معجمة، كأن المعنى: أخذتهم تارة بدبة، وتارة في دبة، فليسوا بماضين على دبة واحدة. والدبة الطريقة، وهي في حديث ابن عباس: (اتبعوا دبة قريش، ولا تفارقوا الجماعة) ويقال: دعني ودبتي، أي طريقتي وسجيتي. قال الشاعر:
* طها هذريان قل تغميض عينه
*
على دبة مثل الخنيق المرعبل
*
وانتصاب مذبذبين على الحال من فاعل يراؤون، أو فاعل ولا يذكرون. وقال الزمخشري: مذبذبين: إما حال من قوله: ولا يذكرون عن واو يراؤونهم، أي يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين. أو منصوب على الذم.
* (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) * والمراد بأحد المشار إليهم المؤمنون، وبالآخر الكافرون. والمعنى: لا يعتقدون الإيمان فيعدوا من المؤمنين، ولم يقيموا على إظهار الكفر فيعدوا مع الكافرين. ويتعلق إلى بمحذوف تقديره: ولا منسوبين إلى هؤلاء، وهو موضع الحال.
* (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * أي فلن تجد لهدايته سبيلا، أو فلن تجد سبيلا إلى هدايته.
394

* (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * لما كان هذا الوصف من أوصاف (سقط: يا أيها الذين آمنوا لا تتخدوا الكافرين أولياء من دون
المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) المنافقين، وتقدم ذمهم بذلك، نهى الله تعالى المؤمنين عن هذا الوصف. وكان للأنصار في بني قريظة رضاع وحلف ومودة، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم): من نتولى؟ فقال: * (* المهاجرون) *. وقال القفال: هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين يقول: قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء انتهى. فعلى هذا هل الكافرون هنا اليهود أو المنافقون قولان؟ وقال ابن عطية: خطابه للمؤمنين يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان، وفي اللفظ رفق بهم وهو المراد بقوله: أتريدون أن هذا التوفيق إنما هو لمن ألم بشيء من العقل المؤدي إلى هذه الحال، والمؤمنون المخلصون ما ألموا بشيء من ذلك. ويقوي هذا المنزع قوله تعالى: من دون المؤمنين، أي: والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين بل المعنى: يا أيها الذين أظهروا الإيمان والتزموا لوازمه انتهى. قيل: وفي الآية دليل على أن الكفار لا يستحق على المسلم ولاية بوجه ولدا كان أو غيره، وأن لا يستعان بذمي في أمر يتعلق به نصرة وولاية كقوله تعالى: * (ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) * وقد كره بعض العلماء توكيله في الشراء والبيع، وفي دفع المال إليه مضاربة.
* (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) * أي حجة ظاهرة واضحة بموالاتكم الكافرين أو المنافقين على قول القفال. والمعنى: أنه يأخذكم إن واليتم الكفار بانتقام منه، وله عليكم في ذلك الحجة الواضحة، إذ قد بين لكم أحوالهم ونهاكم عن موالاتهم. وقيل: السلطان هنا القهر والقدرة. والمعنى: أنه يسلط عليكم بسبب اتخاذكم الكفار أولياء والسلطان. قال الفراء: أنث وذكر، وبعض العرب يقول: قضت به عليك السلطان، وقد أخذت فلانا السلطان، والتأنيث عند الفصحاء أكثر انتهى. فمن ذكر ذهب به إلى البرهان والاحتجاج، ومن أنث ذهب به إلى الحجة، وإنما اختير التذكير هنا في الصفة وإن كان التأنيث أكثر، لأنه وقع الوصف فاصلة، فهذا هو المرجح للتذكير على التأنيث. وقال ابن عطية: والتذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع، وهذا مخالف لما قاله الفراء. وإذا سمي به صاحب الأمر فهو على حذف مضاف والتقدير: ذو السلطان، أي: ذو الحجة على الناس إذ هو مدبرهم والناظر في مصالحهم ومنافعهم. وقال الزمخشري: لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء سلطان حجة بينة يعني: أن موالاة الكافرين بينة على المنافقين. وعن صعصة بن صرحان أنه قال لابن أخ له خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر: فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن
395

* (إن المنافقين فى الدرك الاسفل من النار) * قال ابن عباس: الدرك لأهل النار كالدرح لأهل الجنة، إلا أن الدرجات بعضها فوق بعض، والدركات بعضها أسفل من بعض انتهى. وقال أبو عبيدة: الدركات الطبقات: وأصلها من الإدراك أي: هي متداركة متلاحقة. وقال ابن مسعود وأبو هريرة: هي من توابيت من حديد متعلقة في قعر جهنم، والنار سبع دركات، قيل: أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض، لأن لفظ النار يجمعها. وقال ابن عمر: أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون. وتصديق ذلك في كتاب الله هذه الآية في المنافقين: و * (فإنى أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) * * (وادخلوا الباب * فرعون أشد العذاب) * وإنما كان المنافق أشد عذابا من غيره من الكفار لأنه مثله في الكفر، وضم إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله، والمداجاة واطلاع الكفار على أسرار المسلمين فهو أشد غوائل من الكفار وأشد تمكينا من أذى المسلمين.
وقرأ الحرميان والعربيان: في الدرك بفتح الراء. وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش، ويحيى بن وثاب: بسكونها، واختلف عن عاصم. وروى الأعمش والبرجمي: الفتح، وغيرهما الإسكان. قال أبو علي: وهما لغتان كالشمع والشمع، واختار بعضهم الفتح لقولهم: في الجمع أدراك كجمل وإجمال يعني: أنه ينقاس في فعل أفعال، ولا ينقاس في فعل. وقال عاصم: لو كان بالفتح لقيل: السفلى. قال بعضهم: ذهب عاصم إلى أن الفتح إنما هو على أنه جمع دركة كبقرة وبقر انتهى. ولا يلزم ما ذكره من التأنيث، لأن الجنس المميز مفرده بهاء التأنيث، يؤنث في لغة الحجاز، ويذكر في لغة تميم ونجدة، وقد جاء القرآن بهما، إلا ما استثني لأنه يتحتم فيه التأنيث أو التذكير، وليس دركة ودرك من ذلك، فعلى هذا يجوز تذكير الدرك وتأنيثه.
* (ولن تجد لهم نصيرا) * أي مانعا من العذاب ولا شافعا يشفع.
* (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين) * أي تابوا من النفاق وأصلحوا أعمالهم، وتمسكوا بالله وكتابه، ولم يكن لهم ملجأ ولا ملاذ إلا الله، وأخلصوا دينهم لله أي: لا يبتغون بعمل الطاعات إلا وجه الله تعالى. ولما كان المنافق متصفا بنقائص هذه الأوصاف من الكفر وفساد الأعمال والموالاة للكافرين والاعتزاز بهم والمراءة للمؤمنين، شرط في توبتهم ما يناقض تلك الأوصاف وهي التوبة من النفاق، وهي الوصف المحتوي على بقية الأوصاف من حيث المعنى. ثم فصل ما أجمل فيها، وهو الإصلاح للعمل المستأنف المقابل لفساد أعمالهم الماضية، ثم الاعتصام بالله في المستقبل وهو المقابل لموالاة الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي، ثم الإخلاص لدين الله وهو المقابل للرياء الذي كان لهم في الماضي، ثم بعد تحصيل هذه الأوصاف جميعها أشار إليهم بأنهم مع المؤمنين، ولم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون، ولا من المؤمنين، وإن كان قد صاروا مؤمنين تنفيرا مما كانوا عليه من عظم كفر النفاق وتعظيما لحال من كان متلبسا به. ومعنى: مع المؤمنين، رفقاؤهم ومصاحبوهم في الدارين. والذين تابوا مستثنى من قوله: في الدرك. وقيل من قوله: فلن تجد لهم. وقيل: هو مرفوع على الابتداء، والخبر فأولئك. وقال الخوفي: ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط المتعلق بالذين.
* (وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) * أتى بسوف، لأن إيتاء الأجر هو يوم القيامة، وهو زمان مستقبل ليس قريبا من الزمان الحاضر. وقد قالوا: إن سوف أبلغ في
396

التنفيس من السين، ولم يعد الضمير عليهم فيقال: وسوف يؤتيهم، بل أخلص ذلك الأجر للمؤمنين وهم رفقاؤهم، فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. وكتب يؤت في المصحف بغير ياء، لما حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين حذفت في الخط، ولهذا نظائر في القرآن. ووقف يعقوب عليها بالياء، ووقف السبعة بغير ياء اتباعا لرسم المصحف. وقد روى الوقف بالياء عن: حمزة، والكسائي، ونافع. وقال أبو عمرو: ينبغي أن لا يوقف عليها لأنه إن وقف بغير ياء خالف النحويين، وإن وقف بياء خالف لفظ المصحف. والأجر العظيم هو الخلود في الجنة.
* (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم) * الخطاب قيل: للمؤمنين. وقيل: ك للكافرين، وهو الذي يقتضيه سياق الكلام. وهذا استفهام معناه النفي أي: ما يعذبكم إن شكرتم وآمنتم. والمعنى: أنه لا منفعة له في ذلك ولا حاجة، لأن العذاب إنما يكون لشيء يعود نفعه أو يندفع ضره عن المعذب، والله تعالى منزه عن ذلك، وإنما عقابه المسئ لأمر قضت به حكمته تعالى، فمن شكره وآمن به لا يعذبه.
وما استفهام كما ذكرنا في موضع نصب بفعل، التقدير: أي شيء يفعل الله بعذابكم. والباء للسبب، استشفاء أم إدراك نار، أم جلب منفعة، أم دفع مضرة، فهو تعالى منزه عن ذلك. وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نافية، قال: والمعنى: ما يعذبكم. ويلزم على قوله أن تكون الباء زائدة، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي: إن شكرتم وآمنتم فما يفعل بعذابكم.
ذكر عن ابن عباس أن المراد بالشكر هنا توحيد الله. وقال الزمخشري: (فإن قلت): لم قدم الشكر على الإيمان؟ (قلت): لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكرا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المؤمن به المنعم آمن به، ثم شكر شكرا مفصلا، فكان الشكر متقدما على الإيمان، وكان أصل التكليف ومداره. وقال ابن عطية: الشكر على الحقيقة لا يكون إلا مقترنا بالإيمان، لكنه ذكر الإيمان تأكيدا وتنبيها على جلالة موقعه انتهى. وأبعد من ذهب إلى أنه على التقديم والتأخير أي: إن آمنتم وشكرتم.
* (وكان الله شاكرا عليما) * شاكرا أي: مثيبا موفيا أجوركم. وأتى بصفة الشكر باسم الفاعل بلا مبالغة ليدل على أنه يتقبل ولو أقل شيء من العمل، وينميه عليما بشكركم وإيمانكم فيجازيكم. وفي قوله: عليما، تحذير وندب إلى الإخلاص لله تعالى. وقيل: الشكر من الله إدامة النعم على الشاكر.
* (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * قال مجاهد: تضيف رجل قوما فأساؤا قراه، فاشتكاهم، فعوتب، فنزلت. وقال مقاتل: نال رجل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه والرسول عليه السلام، حاضر، فسكت عنه أبو بكر مرارا ثم رد عليه، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم) فقال أبو بكر: يا رسول الله شتمني فلم تقل شيئا، حتى إذا رددت عليه قمت، فقال: (إن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه ذهب وجاء الشيطان) فنزلت. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما
397

ذكر من أحوال المنافقين وذمهم وإظهار فضائحهم ما ذكر، وبين ظلمهم واهتضامهم جانب المؤمنين، سوغ هنا للمؤمنين أن يذكروهم بما فيهم من الأوصاف الذميمة. وقال عليه السلام: (اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس). وقرأ الجمهور: إلا من ظلم مبنيا للمفعول. وقال ابن عباس وغيره: إلا من ظلم، فإن له أن يدعو على من ظلمه، وكان ذلك رخصة من الله له، وإن صبر فهو خير له. وقال الحسن: لا يدعو عليه، ولكن ليقل: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي. وقال ابن جريج: يجازيه بمثل فعله، ولا يزيد عليه. وقيل: هو أن يبدأ بالشتم فيرد علي من شتمه، وتقدم قول مجاهد أنها في الضيف يشكو سوء صنيع المضيف معه، ونسب إلى الظلم لأنه مخالف للشرع والمروءة. وقال المنير: معناه إلا من أكره على أن يجهر بالسوء كفرا ونحوه فذلك مباح، والآية في الإكراه، وهذا الاستثناء متصل على تقدير حذف مضاف أي: الأجهر من ظلم. وقيل: الاستثناء منقطع والتقدير: لكن المظلوم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازى ظلامته قاله: السدي، والحسن، وغيرهما. وبالسوء متعلق بالجهر، وهو مصدر معرف بالألف واللام، والفاعل محذوف، وبالجهر في موضع نصب. ومن أجاز أن ينوي في المصدر بناؤه للمفعول الذي لم يسم فاعله قدر أن بالسوء في موضع رفع، التقدير: أن يجهر مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله. وجوز بعضهم أن يكون من ظلم بدلا من ذلك الفاعل المحذوف التقدير: أن أحد إلا المظلوم، وهذا مذهب الفراء. أجاز الفراء فيما قام إلا زيد أن يكون زيد بدلا من أحد. وأما على مذهب الجمهور فإنه يكون من المستثنى الذي فرغ له العامل، فيكون مرفوعا على الفاعلية بالمصدر. وحسن ذلك كون الجهر في حيز النفي، وكأنه قيل: لا يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم. وقرأ ابن عباس، وابن عمر، وابن جبير، وعطاء بن السائب، والضحاك، وزيد بن أسلم، وابن أبي إسحاق، ومسلم بن يسار، والحسن، وابن المسيب، وقتادة، وأبو رجاء: إلا من ظلم مبنيا للفاعل، وهو استثناء منقطع. فقدره الزمخشري: لأن الظالم راكب ما لم يحبه الله فيجهر بالسوء. وقال ابن زيد: المعنى إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله، والتوبيخ والرد عليه. قال: وذلك أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار، كان ذلك خبرا بسوء من القول ثم قال لهم بعد ذلك: * (ما يفعل الله بعذابكم) * الآية على معنى التأسيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان، ثم قال للمؤمنين: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * في إقامته على النفاق، فإنه يقول له: ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل؟ ونحو هذا من الأقوال. وقال قوم: تقديره: لكن من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك، فهي ثلاثة تقادير في هذا الاستثناء المنقطع: أحدها: راجع للجملة الأولى وهي لا يجب، كأنه قيل: لكن الظالم يحب الجهر بالسوء فهو يفعله، والثاني: راجع إلى فاعل الجهر أي: لا بحب الله أن يجهر أحد بالسوء، لكن الظالم يجهر بالسوء. والثالث: راجع إلى متعلق الجهر الفضلة المحذوفة أي: أن يجهر أحدكم لأحد بالسوء، لكن من ظلم فاجهروا له بالسوء. قال ابن عطية: وإعراب من يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب، ويحتمل الرفع على البدل من أحد المقدر انتهى. ويعني بأحد المقدر في المصدر إذ التقدير أن يجهر أحد، وما ذكره من جواز الرفع على البدل
لا يصح، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين: قسم يسوغ فيه البدل وهو ما يمكن توجه العامل عليه نحو: ما في الدار أحد إلا حمار، فهذا فيه البدل في لغة تميم، والنصب على الاستثناء المنقطع في لغة الحجاز. وإنما جاز فيه البدل، لأنك لو قلت: ما في الدار إلا حمار صح المعنى. وقسم يتحتم فيه النصب على الاستثناء ولا يسوغ فيه البدل، وهو مالا يمكن توجه العامل عليه نحو:
398

المال ما زاد إلا النقص. التقدير: لكن النقص حصل له، فهذا لا يمكن أن يتوجه زاد على النقص، لأنك لو قلت: ما زاد إلا النقص لم يصح المعنى، والآية من هذا القسم، لأنك لو قلت: لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا الظالم، فيفرغ أن يجهر لأن يعمل في الظالم لم يصح المعنى. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من مرفوعا كأنه قيل: لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم، على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى: ما جاءني إلا عمرو. ومنه * (لا يعلم من فى * السماوات والارض * الغيب إلا الله) * انتهى.
وهذا الذي جوزه الزمخشري لا يجوز، لأنه لا يمكن أن يكون الفاعل يذكر لغوا زائدا، ولا يمكن أن يكون الظالم بدلا من الله، ولا عمرو بدلا من زيد، لأن البدل في هذا الباب راجع في المعنى إلى كونه بدل بعض من كل، إما على سبيل الحقيقة نحو: ما قام القوم إلا زيد، وإما على سبيل المجاز نحو: ما في الدار أحد إلا حمار، وهذا لا يمكن فيه البدل المذكور لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز، لأن الله علم وكذا زيد هو علم، فلا يمكن أن يتخيل فيه عموم، فيكون الظالم بدلا من الله، وعمرو بدلا من زيد. وأما ما يجوز فيه البدل من الاستثناء المنقطع فإنه يتخيل فيما قبله عموم، ولذلك صح البدل منه على طريق المحاز، وإن لم يكن بعضا من المستثني منه حقيقة. وأما قول الزمخشري: على لغة من يقول ما جاءني زيد إلا عمرو، فلا نعلم هذه اللغة، إلا أن في كتاب سيبويه بعد أن أنشد أبياتا من الاستثناء المنقطع آخرها قول الشاعر:
* عشية لا تغني الرماح مكانها
*
ولا النبل إلا المشرفي المصمم
*
ما نصه وهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا أخوانه، لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها، انتهى كلام سيبويه. ولم يصرح ولا لوح أن قوله: ما أتاني زيد إلا عمرو من كلام العرب. وقيل: من شرح سيبويه، فهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو، أي ينبغي أن يثبت هذا من كلامهم، لأن النبل معرفة ليس بالمشرفي، كما أن زيدا ليس بعمرو، وكما أن أخوة زيد ليسوا إخوانكم انتهى. وليس ما أتاني زيد إلا عمرو نظيرا للبيت، لأنه يتخيل عموم في البيت على سبيل المجاز، كأنه قيل: لا يغني السلاح مكانها إلا المشرفي، بخلاف ما أتاني زيد إلا عمرو، فإنه لا يتخيل في ما أتاني زيد عموم البتة على أنه لو سمع هذا من كلام العرب وجب تأويله حتى يصح البدل، فكان يصح ما جاءني زيد ولا غيره إلا عمرو. كأنه يدل على حذف المعطوف وجود هذا الاستثناء، إما أن يكون على إلغاء هذا الفاعل وزيادته، أو على كون عمرو بدلا من زيد، فإنه لا يجوز لما ذكرناه. وأما قول الزمخشري: ومنه قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، فليس من باب ما ذكر، لأنه يحتمل أن تكون من مفعولة، والغيب بدلا من بدل اشتمال أي: لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا الله، أي ما يسرونه ويخفونه لا يعلمه إلا الله. وإن سلمنا أن من مرفوعة، فيجوز أن يكون الله بدلا من من على سبيل المجاز في من، لأن من في السماوات يتخيل فيه عموم، كأنه قيل: قل لا يعلم الموجود دون الغيب إلا الله. أو على سبيل المجاز في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى، ولذا جاء عنه ذلك في القرآن وفي السنة كقوله تعالى: * (وهو الله فى * السماوات * وفى الارض) * وقوله تعالى: * (وهو الذى فى السماء إلاه وفى الارض إلاه) * وفي الحديث أين الله؟ قالت: في السماء ومن
399

كلام العرب: لا ودي. وفي السماء بيته يعنون الله تعالى. وإذا احتملت الآية هذه الوجوه لم يتعين حملها على ما ذكر، وخص الجهر بالذكر إما إخراجا له مخرج الغائب، وإما اكتفاء بالجهر عن مقابله، أو لكونه أفحش.
* (وكان الله سميعا عليما) * أي سميعا لما يجهر به من السوء، عليما بما يسر به منه. وقيل: سميعا لكلام المظلوم، عليما بالظالم. وقيل: سميعا بشكوى المظلوم، عليما بعقبى الظالم، أو عليما بما في قلب المظلوم، فليتق الله ولا يقل إلا الحق. وهذه الجملة خبر ومعناه التهديد والتحذير.
* (إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) * الظاهر أن الهاء في تخفوه تعود على الخير. قال ابن عباس: يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة. وقال بعضهم: في تخفوه عائد على الخير. قال ابن عباس: يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة. وقال بعضهم: في تخفوه عائد على السوء، والمعنى: أنه تعالى لما أباح الجهر بالسوء لمن كان مظلوما قال له ولجنسه: إن تبدو خيرا، بدل من السوء، أو تخفوا السوء، أو تعفوا عن سوء. فالعفو أولى وإن كان غير المعفو مباحا انتهى. وذكر إبداء الخير وإخفاءه تسببا لذلك العفو، ثم عطفه عليهما تنبيها على منزلته واعتدادا به، وإن كان مندرجا في إبداء الخير وإخفائه، فجعله قسما بالعطف لا قسيما اعتناء به. ولذلك أتى سبحانه وتعالى بصفة العفو والقدرة منسوبة له تعالى ليقتدى بسنته، ويتخلق بشيء من صفاته تعالى. والمعنى: أنه يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، وكان بالصفتين على طريق المبالغة تنبيها على أن العبد ينبغي أن يكثر منه العفو مع كثرة القدرة على الانتقام. وفي الحديث الصحيح: (من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا) *. وقال تعالى: * (*) *. وقال تعالى: * (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) *. وقال الحسن: المعنى أنه تعالى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم بالعفو. وقال الكلبي: معناه أني أقدر على العفو عن ذنوبك منك على هفوك عن صاحبك. وقيل: عفو
المن عفى قديرا على إيصال الثواب إليه.
* (إن الذين يكفرون بالله ورسله) * قال الحسن، وقتادة، والسدي، وابن جريج: نزلت في اليهود والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة وكفرت بعيسى ومحمد عليهما السلام، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم) والقرآن. وقيل: نزلت في اليهود خاصة، آمنوا بموسى وعزيرا والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما بين ما عليه المنافقون من سوء الخليقة ومذموم الطريقة، أخذ في الكلام على اليهود والنصارى، جعل كفرهم ببعض الرسل كفرا بجميع الرسل، وكفرهم بالرسل كفرا بالله تعالى.
* (ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) * أي يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله، يقولون نؤمن بالله ولا نؤمن، بفلان، وفلان من الأنبياء.
400

* (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) * يعني من الأنبياء. وقيل: هو تصديق اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم) أنه نبي، ولكن ليس إلى بني إسرائيل. ونحو هذا من تفرقاتهم التي كانت تعنتا وروغانا.
* (ويريدون أن يتخذوا بين ذالك سبيلا) * أي طريقا وسطا بين الكفر والإيمان ولا واسطة بينهما.
* (أولئك هم الكافرون حقا) * أكد بقوله: هم، لئلا يتوهم أن ذلك الإيمان ينفعهم. وأكد بقوله: حقا، وهو تأكيد لمضمون الجملة الخبرية، كما تقول: هذا عبد الله حقا أي حق ذلك حقا. أو هو نعت لمصدر محذوف أي: كفرا حقا أي: ثابتا يقينا لا شك فيه. أو منصوب على الحال على مذهب سيبويه. وقد تقدم لذلك نظائر، وقد طعن الواحدي في هذا التوجيه وقال: الكفر لا يكون حقا بوجه من الوجوه، ولا يلزم ما قال إنه لا يراد بحقا الحق الذي هو مقابل للباطل، وإنما المعنى أنه كفر ثابت متيقن، وإنما كان التوكيد في ذلك، لأن داعي الإيمان مشترك بين الأنبياء وهو ظهور المعجزات على أيديهم، فكونهم فرقوا في الإيمان بينهم دليل على كفرهم بالجميع، إذ ليس إيمانهم ببعض ناشئا عن النظر في الدليل، وإنما هم على سبيل التشهي والتلاعب.
* (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) * هذا وعيد لهم بالإهانة في العذاب.
* (والذين ءامنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم) * هؤلاء هم المؤمنون اتباع محمد صلى الله عليه وسلم)، وتقدم الكلام على دخول بين على أحد في البقرة. في قوله: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * فأغنى عن إعادته هنا.
* (أولئك سوف * فيوفيهم أجورهم) * صرح تعالى بوعد هؤلاء، كما صرح بوعيد أولئك. وقرأ حفص: يؤتيهم بالياء ليعود على اسم الله قبله. وقرأ الباقون: بالنون على الالتفات، ومقابله وأعتدنا. وقول أبي عبد الله الرازي: قراءة النون أولى من وجهين: أحدهما: أنه أنهم والآخر: أنه مشاكل لقوله: وأعتدنا، ليس بجيد ولا أولوية في ذلك، لأن القراءتين كلتاهما متواترة، هكذا نزلت، وهكذا أنزلت.
* (وكان الله غفورا رحيما) * لما وعدهم تعالى بالثواب زادهم تبشيرا لتجاوز عن السيئات وبرحمته إياهم.
* (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) * قال السدي: قالت اليهود: إن كنت صادقا فجيء بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالكتاب. وقال محمد بن كعب القرظي: قالوا: ائت بألواح فيها كتابك كما أتى موسى بألواح فيها التوراة. وقال الحسن وقتادة: سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود يأمرهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم). وقال ابن جريج: قالوا: لن نتابعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله فلان وإلى فلان إنك رسول الله. فعلى قول ابن جريج يقتضي أن سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن أمية الزهري، وقيل: كتابا نعاينه حتى ينزل، وسمى من سائلي اليهود
401

كعب بن الأشرف، وفنخاص بن عازوراء. وقيل: السائلون هم اليهود والنصارى وسؤالهم إنما هو على سبيل التعنت. وقال الحسن: لو سألوه لكي يتبين الحق لأعطاهم، فإن فيما أعطاكم كفاية.
* (فقد سألوا موسى أكبر من ذالك فقالوا أرنا الله جهرة) * قدروا قبل هذا كلاما محذوفا، فجعله الزمخشري شرطا هذا جوابه وتقديره: أن استكبرت ما سألوه منك، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك. وقدره ابن عطية: فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشطيطهم، فإنها عادتهم، فقد سألوا موسى. وأسند السؤال إليهم، وإن كان إنما وقع من آبائهم من نقبائهم السبعين، لأنهم راضون بفعل آبائهم ومذاهبهم، ومشابهون لهم في التعنت. وقرأ الحسن: أكثر بالثاء المثلثة بدل الباء في قراءة الجمهور، ومعنى جهرة: عيانا رؤية منكشفة بينة. والجهرة من وصف الروية. واختلف في النقل عن ابن عباس فروى عنه: (أن جهرة من صفة السؤال، فقد سألوا موسى. أو حالا من ضمير سألوا أي: سألوه مجاهرين. وروى عنه أن التقدير: فقالوا جهرة منه وتصريحا أرنا الله، فيكون من صفة القول.
* (فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) * أي: تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه. وقال الزمخشري: بظلمهم بسبب سؤالهم الرؤية، ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين، ولما أخذتهم الصاعقة. كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالما، ولا رماه بالصاعقة للمشبهة ورميا بالصواعق انتهى، وهو على طريقة الاعتزال في استحالة رؤية الله عندهم. وأهل السنة يعتقدون أنهم لم يسألوا محالا عقلا، لكنه ممتنع من جهة الشرع، إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه أنه لا يرى في هذه الحياة الدنيا، والرؤية في الآخرة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم) بالتواتر، وهي جائزة عقلا، وتقدم الكلام في البقرة على الصاعقة. وقرأ السلمي والنخعي: فأخذتهم الصعقة، والجمهور الصاعقة.
* (ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات) * ثم: للترتيب في الأخبار لا في نفس الأمر، ثم قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل: أي آباؤهم، والذين صعقوا غير الذين اتخذوا العجل. والبينات: إجازة البحر، والعصا، وغرق فرعون، وغير ذلك. وقال الحوفي: أعلم نبيه بعنادهم وإصرارهم فالمعنى: أنه لو نزل عليهم الذي
سألوا لخالفوا أمر الله كما خالفوه من بعد إحياء الله لهم من صعقتهم، وعبدوا العجل واتخذوه إلها.
* (فعفونا عن ذالك) * أي: عن اتخاذهم العجل إلها عن جميع ما تقدم من مخالفتهم. والأول أظهر، لأنه قد صرح في قصة العجل بالتوبة. ويعني: بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم، ثم وقع العفو عن الباقين منهم.
* (يسألك أهل الكتاب أن) * أي: حجة وتسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه، واحتبوا بأفتيتهم، والسيوف تتساقط عليهم، فيا له من سلطان مبين.
* (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم) * تقدم ما المعنى بالطور. وفي الشام جبل عرف بالطور ولزمه هذا الاسم، وهو طور بسيناء. وليس هو المرفوع على بني إسرائيل، لأن رفع الجبل كان فيما يلي التيه من جهة
402

ديار مصر وهم ناهضون مع موسى عليه السلام، وتقدمت قصة رفع الطور في البقرة. والباء في بميثاقهم للسبب، وهو العهد الذي أخذه موسى عليهم بعد تصديقهم بالتوراة أن يعملوا بما فيها، فنقضوا ميثاقهم وعبدوا العجل، فرفع الله عليهم الطور. وفي كلام محذوف تقديره: بنقض ميثاقهم.
* (وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا) * تقدم تفسير هذه الجملة في القرة.
* (وقلنا لهم لا تعدوا فى السبت) * تقدم ذكره عند اعتدائهم في قوله: * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت) *. وقرأ ورش لا تعدوا بفتح العين وتشديد الدال، على أن الأصل تعتدوا، فألقيت حركة التاء على العين، وأدغمت التاء في الدال. وقرأ قالون: بإخفاء حركة العين وتشديد الدال، والنص بالإسكان. وأصله أيضا لا تعتدوا. وقرأ الباقون من السبعة: لا تعدوا بإسكان العين وتخفيف الدال من عدي يعدو. وقال تعالى: * (إذ يعدون فى السبت) * وقرأ الأعمش والأخفش: لا تعتدوا من اعتدى.
* (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) * قيل: هو الميثاق الأول في قوله: * (بميثاقهم) * ووصف بالغلظ للتأكيد، وهو المأخوذ على لسان موسى وهارون أن يأخذوا التوراة بقوة، ويعملوا بجميع ما فيها، ويوصلوه إلى أبنائهم. وقيل: هذا الميثاق غير الأول، وهو الميثاق الثاني الذي أخذ على أنبيائهم بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم) والإيمان به، وهو المذكور في قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب) * الآية.
* (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بئايات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف) * قال ابن عطية فيما لخصناه من كلامه، هذا إخبار عن أشياء واقعوها في الضد مما أخذوا به، نقضوا الميثاق الذي رفع عليهم الطور بسببه، وجعلوا بدل الإيمان الذي تضمنه الأمر بدخول الباب سجدا المتضمن التواضع الذي هو ثمرة الإيمان، كفرهم بآيات الله، وبذل الطاعة، وامتثال موافقته، في أن لا يعدوا في السبت انتهاك أعظم الحرم، وهو قتل الأنبياء، وقابلوا أخذ الميثاق الغليظ بتجاهلهم وقولهم: قلوبنا غلف: أي: في حجب، وغلف: فهي لا تفهم. وأضرب الله تعالى عن قولهم وكذبهم، وأخبر تعالى أنه قد طبع عليها بسبب كفرهم انتهى. والميثاق المنقوض: أهو كتمانهم صفة الرسول وتكذيبه فيما جاء به؟ أو تركهم العمل بما في كتابهم؟ مع أنهم قبلوا والتزموا العمل بها قولان. وآيات الله التي كفروا بها أهي التي أنزلت عليهم في كتبهم؟ أو جميع كتب الله المنزلة؟ قولان. وتقدم شرح قلوبنا غلف في البقرة.
* (بل طبع الله عليها بكفرهم) * أدغم لام بل في طاء طبع الكسائي وحمزة، وأظهرها باقي السبعة. وقال الزجاج: بل طبع الله عليها بكفرهم خبر معناه الذم، على أن قلوبهم بمنزلة المطبوع عليها التي لا تفهم أبدا ولا تطيع مرسلا. وقال الزمخشري: أرادوا بقولهم: قلوبنا غلف، أي أن الله خلق قلوبنا غلفا، أي: في أكنة لا يتوصل إليها بشيء من الذكر والموعظة، كما حكى الله عن المشركين: * (وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم) * وتكذيب المجبرة أخزاهم الله فقيل لهم: خذ لها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها، لا أن تخلق غلفا قابلة الذكر، ولا متمكنة من قبوله انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي. وأما أهل السنة فيقولون: إن الله طبع عليها حقيقة كما أخبر تعالى إذ لا خالق غيره. والباء في فبما نقضهم تتعلق بمحذوف قدره الزمخشري: فعلنا بهم ما فعلناه. وقدره
403

ابن عطية: لعناهم وأذللناهم، وحتمنا على الوافين منهم الخلود في جهنم. قال ابن عطية: وحذف جواب هذا الكلام بليغ متروك مع ذهن السامع انتهى. وتسمية ما يتعلق به المجرور بأنه جواب اصطلاح لم يعهد في علم النحو، ولا تساعده اللغة، لأنه ليس بجواب. وجوزوا أن يتعلق بقوله: * (حرمنا عليهم) * على أن قوله: * (فبظلم من الذين هادوا) * بدل من قوله: فبما نقضهم ميثاقهم، وقاله الزجاج، وأبو بكر، والزمخشري، وغيرهم. وهذا فيه بعد لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه، ولأن المعطوف على السبب سبب، فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو مسببا إلا بتأويل بعيد وبيان ذلك أن قولهم على مريم بهتانا عظيما، وقولهم: إنا قتلنا المسيح، متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم، فالأولى أن يكون التقدير: لعناهم، وقد جاء مصرحا به في قوله: * (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) *.
* (فلا يؤمنون إلا قليلا) * تقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته.
* (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) * الظاهر في قوله: وبكفرهم، وقولهم أنه معطوف على قوله: فبما نقضهم وما بعده. على أن الزمخشري أجاز أن يكون قوله: وبكفرهم وقولهم، معطوفا على بكفرهم. وتكرار نسبة الكفر إليهم بحسب متعلقاته، إذ كفروا بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد عليه السلام، فعطف بعض كفرهم على بعض. قال الزمخشري: أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه، كأنه قيل: على بعض. قال الزمخشري: أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه، كأنه قيل: فيجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله وقتلهم الأنبياء وقولهم: * (قلوبنا غلف) *، وجمعهم بين كفرهم ويهتهم مريم،
وافتخارهم بقتل عيسى عليه السلام، عاقبناهم. أو بل طبع الله عليها وجمعهم بين كفرهم، وكذا وكذا. وقال الزمخشري أيضا: (فإن قلت): هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم؟ (قلت): لم يصح هذا التقدير، لأن قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم، رد وإنكار لقولهم: قلوبنا غلف، فكان متعلقا به انتهى. وهو جواب حسن، ويمتنع من وجه آخر وهو أن العطف ببل يكون للإضراب عن الحكم الأول، وإثباته للثاني على جهة إبطال الأول، أو الانتقال عاما في كتاب الله في الإخبار، فلا يكون إلا للانتقال. ويستفاد من الجملة الثانية ما لا يستفاد من الجملة الأولى. والذي قدره الزمخشري لا يسوغ فيه هذا الذي قررناه، لأن قوله: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله، وقولهم: قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم، فأفادت الجملة الثانية ما أفادت الجملة الأولى وهو لا يجوز. لو قلت: مر زيد بعمرو، بل مر زيد بعمرو، لم يجز. وقد أجاز ذلك أبو البقاء وهو أن يكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله، وكذا طبع على قلوبهم. وقيل: التقدير فيما نقضهم ميثاقهم لا يؤمنون إلا قليلا، والفاء مقحمة. وما في قوله: فبما نقضهم كهي في قوله: * (فبما رحمة) * وتقدم الكلام فيها. والبهتان العظيم رميهم مريم عليها السلام بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى عليه السلام في
404

المهد. قال ابن عطية: وإلا فلولا الآية لكانوا في قولهم جارين على حكم البشر في إنكار حمل من غير ذكر انتهى. ووصف بالعظم لأنهم تمادوا عليه بعد ظهور الآية وقيام المعجزة بالبراءة، وقد جاءت تسمية الرمي بذلك بهتانا عظيما في قوله: * (سبحانك هاذا بهتان عظيم) *.
* (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) * الظاهر أن رسول الله من قولهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء، كقول فرعون أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وقوله: * (إنك لانت الحليم الرشيد) * ويجوز أن يكون من كلام الله تعالى وضع الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنه رفعا لعيسى عليه السلام، كما كانوا يذكرونه به. ذكر الوجهين الزمخشري، ولم يذكر ابن عطية سوى الثاني قال: هو إخبار من الله تعالى بصفة عيسى عليه السلام، وهي الرسالة على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل ولزمهم الذنب، وهم لم يقتلوا عيسى، لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول. ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى، فكأنهم قتلوه، وليس يدفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول.
* (وما قتلوه وما صلبوه ولاكن شبه لهم) * هذا إخبار منه تعالى بأنهم ما قتلوا عيسى وما صلبوه.
واختلف الرواة في كيفية القتل والصلب، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) في ذلك شيء غير ما دل عليه القرآن.
ومنتهى ما آل إليه أمر عيسى عليه السلام أنه طلبته اليهود فاختفى هو والحواريون في بيت، فدلوا عليه وحضروا ليلا وهم ثلاثة عشر، أو ثمانية عشر، ففرقهم تلك الليلة ووجههم إلى الآفاق، وبقي هو ورجل معه، فرفع عيسى، وألقى شبهه على الرجل فصلب. وقيل: هو اليهودي الذي دل عليه. وقيل: قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويخلص هؤلاء، وهو رفيقي في الجنة؟ فقال سرجس: أنا، فألقي عليه شبه عيسى. وقيل: ألقي شبهه على الجميع، فلما أخرجوا نقص واحد من العدة، فأخذوا واحدا ممن عليه الشبه فصلب. وروي أن الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر عيسى لما رأوه من نقصان العدة واختلاط الأمر، فصلب ذلك الشخص، وأبعد الناس عن خشبته أياما حتى تغير، ولم تثبت له صفة، وحينئذ دنا الناس منه، ومضى الحواريون يتحدثون في الآفاق أن عيسى صلب. وقيل: لم يلق شبهه على أحد، وإنما معنى: ولكن شبه لهم، أي شبه عليهم الملك المخرق ليستديم بما نقص واحد من العدة، وكان بادر بصلب واحد وأبعد الناس عنه، وقال: هذا عيسى، وهذا القول هو الذي ينبغي أن يعتقد في قوله: ولكن شبه لهم. أما أن يلقى شبهه على شخص، فلم يصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيعتمد عليه.
وقد اختلف فيمن ألقي عليه الشبه اختلافا كثيرا. فقيل: اليهودي الذي دل عليه. وقيل: خليفة قيصر الذي كان محبوسا عنده. وقيل: واحد من اليهود. وقيل: دخل ليقتله. وقيل: رقيب وكلته به اليهود. وقيل: ألقى الشبه على كل الحواريين. وقيل: ألقى الشبه على الوجه دون البدن، وهذا الوثوق مما يدفع الوثوق بشيء من ذلك. ولهذا قال بعضهم: إن جاز أن يقال: إن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر، فهذا يفتح باب السفسطة. وقيل: سبب
405

اجتماع اليهود على قتله هو أن رهطا منهم سبوه وسبوا أمه فدعا عليهم: (اللهم أنت ربي، وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي) فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله. وشبه مسند إلى الجار والمجرور كقوله: خيل إليه، ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول الدال عليه: إنا قتلنا أي: ولكن شبه لهم من قتلوه. ولا يجوز أن يكون ضمير المسيح، لأن المسيح مشبه به لا مشبه.
* (وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) * اختلف فيه اليهود فقال بعضهم: لم يقتل ولم يصلب، الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره. وقيل: أدخلوا عليه واحدا ليقتله، فألقى الشبه عليه فصلب، ونقص من العدد واحد. وكانوا علموا عدد الحواريين فقالوا: إن كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان عيسى فأين صاحبنا؟ وقيل: قال العوام: قتلنا عيسى، وقال من عاين: رفعه إلى السماء ما قتل ولا صلب. قال ابن عطية: واليقين الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أن شخصا صلب، وهل هو عيسى أم لا؟ فليس هو من علم الحواس، فلذلك لم يقع في ذلك نقل كافة. والضمير في فيه عائد على القتل معناه: في قتله، وهذا هو الظاهر الذي يدل عليه ما قبله وما بعده. وقيل: الضمير في اختلفوا عائد على اليهود أيضا، واختلافهم فيه قول بعضهم: إنه آلة. وقول بعضهم: إنه ابن الله تعالى. وقيل: اختلافهم فيه أن النسطورية قالوا: وقع الصلب على ناسوته دون لاهوته. وقيل: وقع القتل والصلب عليهما. وقيل: عائد على اليهود والنصارى، فإن اليهود قالوا: هو ابن زنا. وقالت النصارى: هو ابن الله. وقيل: اختلافهم من جهة أن النصارى قالوا: إن اليهود قتلته وصلبته، واليهود الذين عاينوا رفعه قالوا: رفع إلى السماء. والجمهور على أن إلا اتباع الظن استثناء منقطع، لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم. أي: ولكن اتباع الظن لهم.
وقال الزمخشري: يعني ولكنهم يتبعون الظن، وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب. وقال ابن عطية: هو استثناء متصل، إذ الظن والعلم يضمهما أنهما من معتقدات
اليقين. وقد يقول الظان على طريق التجوز: علمي في هذا الأمر أنه كذا، وهو يعني ظنه انتهى. وليس كما ذكر، لأن الظن ليس من معتقدات اليقين، لأنه ترجيح أحد الجائزين، وما كان ترجيحا فهو ينافي اليقين، كما أن اليقين ينافي ترجيح أحد الجائزين. وعلى تقدير أن الظن والعلم يضمهما ما ذكر، فلا يكون أيضا استثناء متصلا، لأنه لم يستثني الظن من العلم. فليست التلاوة ما لهم به من علم إلا الظن، وإنما التلاوة إلا اتباع الظن، والاتباع للظن لا يضمه والعلم جنس ما ذكر. وقال الزمخشري. فإن قلت: لم وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين؟ ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت: أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط، ولكن لاحت لهم أمارة فظنوا انتهى. وهو جواب سؤاله، ولكن يقال: لا يرد هذا السؤال لأن العرب تطلق الشك على ما لم يقع فيه القطع، واليقين فيدخل فيه كلما يتردد فيه، إما على السواء بلا ترجيح، أو بترجيح أحد الطرفين. وإذا كان كذلك اندفع السؤال.
* (وما قتلوه يقينا) * قال ابن عباس والسدي وجماعة: الضمير في قتلوه عائد على الظن. تقول: قتلت هذا الأمر علما إذا قطعت به وجزمت الجزم الذي لا يخالجه شيء. فالمعنى: وما صح ظنهم عندهم وما تحققوه يقينا، ولا قطعوا الظن باليقين. وقال الفراء وابن قتيبة؛ الضمير عائد على العلم أي: ما قتلوا العلم يقينا. يقال: قتلت العلم والرأي يقينا، وقتلته علما، لأن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء، فكأنه قيل: لم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به، إنما كان ظنا. قال الزمخشري: وفيه تهكم، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفيا كليا بحرف الاستغراق ثم قيل: وما علموه علم يقين، وإحاطة لم يكن إلا تهكما
406

انتهى. والظاهر قول الجمهور: إن الضمير يعود على عيسى بجعل الضمائر كلها كشيء واحد، فلا تختلف. والمعنى صحيح بليغ، وانتصاب يقينا على أنه مصدر في موضع الحال من فاعل قتلوه أي: متيقنين أنه عيسى كما ادعوا ذلك في قولهم: إنا قتلنا المسيح قاله: السدي. أو نعت لمصدر محذوف أي: قتلا يقينا جوزه الزمخشري. وقال الحسن: وم قتلوه حقا انتهى. فانتصابه على أنه مؤكد لمضمون الجملة المنفية كقولك: وما قتلوه حقا أي: حق انتفاء قتله حقا. وما حكي عن ابن الأنباري أنه في الكلام تقديما وتأخيرا، وإن يقينا منصوب برفعه الله أيه، والمعنى: بل رفعه الله إليه يقينا، فلعله لا يصح عنه. وقد نص الخليل على أن ذلك خطأ، لأنه لا يعمل ما بعد بل في ما قبلها.
* (بل رفعه الله إليه) * هذا إبطال لما ادعوه من قتله وصلبه، وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم) في حديث المعراج. وهو هنالك مقيم حتى ينزله الله إلى الأرض لقتل الدجال، وليملأها عدلا كما ملئت جورا، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما تموت البشر. وقال قتادة: رفع الله عيسى إليه فكساه الريش وألبسه النور، وقطع عنه الطعام والشراب، فصار مع الملائكة، فهو معهم حول العرش، فصار إنسيا ملكيا سماويا أرضيا.
والضمير في إليه عائد إلى الله تعالى على حذف التقدير إلى سمائه، وقد جاء * (ورافعك إلى) *. وقيل: إلى حيث لا حكم فيه إلا له. ولا يوجه الدعاء إلا نحوه، وهو راجع إلى الأول. وقال أبو عبد الله الرازي: أعلم الله تعالى عقيب ذكره أنه وصل إلى عيسى أنواع من البلايا، أنه رفعه إليه فدل أن رفعه إليه أعظم في إيصال الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية، وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية انتهى. وفيه نحو من كلام المتفلسفة.
* (وكان الله عزيزا حكيما) * قال أبو عبد الله الرازي: المراد من المعزة كمال القدرة، ومن الحكمة كمال العلم، فنبه بهذا على أن رفع عيسى عليه السلام من الدنيا إلى السماوات وإن كان كالمتعذر على البشر، لكن لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وحكمتي انتهى. وقال غيره: عزيزا أي قويا بالنقمة من اليهود، فسلط عليهم بطرس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة. حكيما حكم عليهم باللعنة والغضب. وقيل: عزيزا أي: لا يغالب، لأن اليهود حاولت بعيسى عليه السلام أمرا وأراد الله خلافه. حكيما أي: واضع الأشياء مواضعها. فمن حكمته تخليصه من اليهود، ورفعه إلى السماء لما يريد وتقتضيه حكمته تعالى. وقال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة، ثم رفعه وهو ا بن ثلاث وثلاثين سنة، فكانت نبوته ثلاث سنين. وقيل: بعث الله جبريل عليه السلام فأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها، فرفعه الله تعالى إلى السماء من تلك الروزنة.
* (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) * إن هنا نافية، والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه، التقدير: وما أحد من أهل الكتاب. كما حذف في قوله: * (وإن منكم إلا واردها) * والمعنى: وما من اليهود. وقوله: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * أي: وما أحد منا إلا له مقام، وما أحد منكم إلا واردها. قال الزجاج: وحذف أحد لأنه
407

مطلوب في كل نفي يدخله الاستثناء نحو: ما قام إلا زيد، معناه ما قام أحد إلا زيد. وقال الزمخشري: ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ونحوه: وما منا إلا له مقام معلوم، وإن منكم إلا واردها. والمعنى: وما من اليهود أحد إلا ليؤمنن به انتهى.
وهو غلط فاحش إذ زعم أن ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره، وصفة أحد المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو من أهل الكتاب، والتقدير كما ذكرناه: وإن أحد من أهل الكتاب. وأما قوله: ليؤمنن به، فليست صفة لموصوف، ولا هي جملة قسمية كما زعم، إنما هي جملة جواب القسم، والقسم محذوف، والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو أحد المحذوف، إذ لا ينتظم من أحد. والمجرور إسناد لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها، فذلك هو محط الفائدة وكذلك أيضا الخبر هو إلا له مقام، وكذلك إلا واردها، إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي. والظاهر أن الضميرين في: به، وموته، عائدان أن على عيسى وهو سياق الكلام، والمعنى: من أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله.
روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام قاله: ابن عباس، والحسن، وأبو مالك. وقال ابن عباس أيضا وعكرمة، والضحاك، والحسن، أيضا ومجاهد، وغيرهم: الضمير في به لعيسى، وفي موته لكتابي وقالوا: وليس يموت يهودي حتى يؤمن
بعيسى ويعلم أنه نبي، ولكن عند المعاينة للموت فهو إيمان لا ينفعه كما لم ينفع فرعون إيمانه وقت المعاينة. وبدأ بما يشبه هذا لقول الزمخشري. قال: والمعنى ما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى، وبأنه عبد الله ورسوله؟ يعني: إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف. ثم حكى عن شهر بن حوشب والحجاج حكاية فيها طول يمس بالتفسير منها: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا: يا عدو الله أتاك عيسى نبيا فكذبت به، فيقول: آمنت أنه نبي. وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله، فيقول: أمنت أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. وعن ابن عباس أنه فسره كذلك فقال له عكرمة: فإن أتاه رجل فضرب عنقه؟ قال: لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه. قال: وإن خرجت فوق بيت، أو احترق، أو أكله سبع؟ قال: يتكلم بها في الهوى، ولا تخرج روحه حتى يؤمن به. ويدل عليه قراءة أبي: إلا ليؤمنن به قبل موتهم، بضم النون على معنى: وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم، لأن أحدا يصلح للجمع. فإن قلت: فما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت: فائدته الوعيد، وليكن علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم بعثا لهم وتنبيها على معالجة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاما للحجة لهم. وكذلك قوله.
* (ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) * يشهد على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله انتهى كلامه. وقال أيضا: ويجوز أن يريد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به، على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما نزل له، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم انتهى. وقال عكرمة: الضمير في به لمحمد عليه الصلاة والسلام، وفي موته للكتابي. قال: وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد، ولو غرق أو سقط عليه
408

جدار فإنه يؤمن في ذلك الوقت. وقيل: يعود في به على الله، وفي موته على أحد المقدر. قال ابن زيد: إذا نزل عيسى عليه السلام لقتل الدجال، لم يبق يهودي ولا نصراني إلا آمن بالله حين يرون قتل الدجال، وتصير الأمم كلها واحدة على ملة الإسلام، ويعزى هذا القول أيضا إلى ابن عباس، والحسن، وقتادة.
وقال العباس بن غزوان: وإن من أهل الكتاب بتشديد النون، وهي قراءة عسرة التخريج، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا أي: شهيدا على أهل الكتاب على اليهود بتكذيبهم إياه وطعنهم فيه، وعلى النصارى بجعلهم إياه آلها مع الله أو ابنا له، والضمير في يكون لعيسى. وقال عكرمة: لمحمد صلى الله عليه وسلم).
قيل: وتضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبديع. فمنها التجنيس المغاير في: يخادعون وخادعهم، وشكرتم وشاكرا. والمماثل في: وإذا قاموا. والتكرار في: اسم الله، وفي: هؤلاء وهؤلاء، وفي: ويرون ويريدون، وفي: الكافرين والكافرين، وفي: أهل الكتاب وكتابا، وفي: بميثاقهم وميثاقا. والطباق في: الكافرين والمؤمنين، وفي: إن تبدوا أو تخفوه، وفي: نؤمن ونكفر، والاختصاص في: إلى الصلاة، وفي: الدرك الأسفل، وفي: الجهر بالسوء. والإشارة في مواضع. الاستعارة في: يخادعون الله وهو خادعهم استعار اسم الخداع للمجازاة وفي: سبيلا، وفي سلطانا لقيام الحجة والدرك الأسفل لانخفاض طبقاتهم في النار، واعتصموا للالتجاء، وفي: أن يفرقوا، وفي: ولم يفرقوا وهو حقيقة في الأجسام استعير للمعاني، وفي: سلطانا استعير للحجة، وفي: غلف وبل طبع الله. وزيادة الحرف لمعنى في: فبما نقضهم، وإسناد الفعل إلى غير فاعله في: فأخذتهم الصاعقة وجاءتهم البينات وإلى الراضي به وفي: وقتلهم الأنبياء، وفي: وقولهم على مريم بهتانا وقولهم إنا قتلنا المسيح. وحسن النسق في: فبما نقضهم ميثاقهم والمعاطيف عليه حيث نسقت بالواو التي تدل على الجميع فقط. وبين هذه الأشياء أعصار متباعدة فشرك أوائلهم وأواخرهم لعمل أولئك ورضا هؤلاء. وإطلاق اسم كل على بعض وفي: كفرهم بآيات الله وهو القرآن والإنجيل ولم يكفروا بشيء من الكتب إلا بهما وفي قولهم إنا قتلنا ولم يقل ذلك إلا بعضهم. والتعريض في رسول الله إذا قلنا أنه من كلامهم. والتوجيه في غلف من احتمال المصدر جمع غلاف أو جمع أغلف. وعود الضمير على غير مذكور وهو في ليؤمنن به قبل موته على من جعلهما لغير عيسى. والنقل من صيغة فاعل إلى فعيل في شهيد. والحذف في مواضع.
(* (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما * لاكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك والمقيمين الصلواة والمؤتون الزكواة والمؤمنون بالله واليوم الا خر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما * إنآ أوحينآ
409

إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينآ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والا سباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وءاتينا داوود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما * لاكن الله يشهد بمآ أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا * إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا * إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم خالدين فيهآ أبدا وكان ذالك على الله يسيرا * ياأيها الناس قد جآءكم الرسول بالحق من ربكم فأامنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما فى السماوات والا رض وكان الله عليما حكيما * ياأهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فأامنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إلاه واحد سبحانه أن يكون له ولد له وما فى السماوات وما فى الا رض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) *))
) *
الغلو: تجاوز الحد. ومنه غلا السعر وغلوة السهم. الاستنكاف: الأنفة والترفع، من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك من حدك، ومنعته من الجري قال:
* فباتوا فلولا ما تدكر منهم
*
من الحلق لم ينكف بعينك مدمع
*
وسئل أبو العباس عن الاستنكاف فقال: هو من النكف، يقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف، والنكف أن يقال له سوء، واستنكف دفع ذلك السوء.
* (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * المعنى: فبظلم عظيم، أو فيظلم أي ظلم. وحذف الصفة لفهم المعنى جائز كما قال: لقد وقعت على لحم
410

أي لحم متبع، ويتعلق بحرمنا. وتقدم السبب على المسبب تنبيها على فحش الظلم وتقبيحا له وتحذيرا منه. والطيبات هي ما ذكر في قوله: * (وعلى الذين هادوا * سواء عليهم) * الألبان وبعض الطير والحوت، وأحلت لهم صفة الطيبات بما كانت عليه. وأوضح ذلك قراءة ابن عباس: طيبات كانت أحلت لهم.
* (وبصدهم عن سبيل الله كثيرا) * أي ناسا كثيرا، فيكون كثيرا مفعولا بالمصدر، وإليه ذهب الطبري. قال: صدوا بجحدهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم) جمعا عظيما من الناس، أو صد كثيرا. وقدره بعضهم زمانا كثيرا.
* (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه) * وهذه جملة حالية تفيد تأكيد قبح فعلهم وسوء صنيعهم، إذ ما نهى الله عنه يجب أن يبعد عنه. قالوا: والربا محرم في جميع الشرائع.
* (وأكلهم أموال الناس بالباطل) * أي الرشا التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب. وفي هذه الآية فصلت أنواع الظلم الموجب لتحريم الطيبات. قيل: كانوا كلما أحدثوا ذنبا حرم عليهم بعض الطيبات، وأهمل هنا تفصيل الطيبات، بل ذكرت نكرة مبهمة. وفي المائدة فصل أنواع ما حرم ولم يفصل السبب. فقيل: ذلك جزيناهم ببغيهم، وأعيدت الباء في: * (وبصدهم) * لبعده عن المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولا للمعطوف عليه، بل في العامل فيه. ولم يعد في: * (وأخذهم) * وأكلهم لأن الفصل وقع بمعمول المعطوف عليه. ونظير إعادة الحرف وترك إعادته قوله: * (فبما نقضهم ميثاقهم) * الآية. وبدىء في أنواع الظلم بما هو أهم، وهو أمر الدين، وهو الصد عن سبيل الله، ثم بأمر الدنيا وهو ما يتعلق به الأذى في بعض المال، ثم ارتقى إلى الأبلغ في المال الدنيوي وهو أكله بالباطل أي مجانا لا عوض فيه. وفي ذكر هذه الآية امتنان على وجه الأمة حيث لم يعاملهم معاملة اليهود فيحرم عليهم في الدنيا الطيبات عقوبة لهم بذنوبهم.
* (وأعتدنا للكافرين منهم عذابا * مهينا) * لما ذكر عقوبة الدنيا ذكر ما أعد لهم في الآخرة. ولما كان ذلك التحريم عاما لليهود بسبب ظلم من ظلم منهم، فالتزمه ظالمهم وغير ظالمهم كما قال تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * بين أن العذاب الأليم إنما أعد للكافرين منهم، فلذلك لم يأت وأعتدنا لهم.
* (لاكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلواة والمؤتون الزكواة والمؤمنون) * مجيء لكن هنا في غاية الحسن، لأنها داخلة بين نقيضين وجزائهما، وهم: الكافرون والعذاب الأليم، والمؤمنون والأجر العظيم، والراسخون الثابتون المنتصبون المستبصرون منهم: كعبد الله بن سلام وأضرابه، والمؤمنون يعني منهم، أو المؤمنون عن المهاجرين والأنصار. والظاهر أنه عام في من آمن.
وارتفع الراسخون على الابتداء، والخبر يؤمنون لا غير، لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة. ومن جعل الخبر أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف، وانتصب المقيمين على المدح، وارتفع والمؤتون أيضا على إضمار وهم على سبيل القطع إلى الرفع. ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله، لأن النعت إذا انقطع في شيء منه لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة، فكثر الوصف بأن جعل في جمل.
وقرأ ابن جبير، وعمرو بن عبيد، والجحدري، وعيسى بن عمر، ومالك بن دينار، وعصمة عن الأعمش ويونس وهارون عن أبي عمرو: والمقيمون بالرفع نسقا على الأول، وكذا هو في مصحف ابن مسعود، قاله الفراء. وروي أنها كذلك في مصحف أبي. وقيل: بل هي فيه، والمقيمين الصلاة كمصحف عثمان. وذكر عن عائشة وأبان بن عثمان: أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف، ولا يصح عنهما ذلك، لأنهما عربيان فصيحان، قطع النعوت أشهر في لسان العرب، وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره، وعلى القطع خرج سيبويه ذلك.
قال الزمخشري: ولا نلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان، وعنى عليه: أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في
411

الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم انتهى. ويعني بقوله: من لم ينظر في الكتاب كتاب سيبويه رحمه الله فإن اسم الكتاب علم عليه، ولجهل من يقدم على تفسير كتاب الله وإعراب ألفاظه بغير أحكام علم النحو، جوزوا في عطف والمقيمين وجوها: أحدها: أن يكون معطوفا على بما أنزل إليك، أي يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة. واختلفوا في هذا الوجه من المعني بالمقيمين الصلاة، فقيل: الأنبياء ذكره الزمخشري وابن عطية. وقيل: الملائكة ذكره ابن عطية. وقيل: المسلمون، والتقدير: وندب المقيمين، ذكر ابن عطية معناه. والوجه الثاني: أن يكون معطوفا على الضمير في منهم أي: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين ذكره ابن عطية على قوم لم يسمهم. الوجه الثالث: أن يكون معطوفا على الكاف في أولئك أي: ما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة. الوجه الرابع: أن يكون معطوفا على كاف قبلك على حذف مضاف التقدير: وما أنزل من قبلك وقيل: المقيمين الصلاة. الوجه الخامس: أن يكون معطوفا على كاف قبلك ويعني الأنبياء، ذكره ابن عطية. وقال ابن عطية: فرق بين الآية والبيت يعني بيت الخرنق، وكان أنشده قبل وهو:
* النازلين بكل معترك
*
والطيبون معاقد الأزر
*
بحرف العطف الذي في الآية، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل وفي هذا نظر انتهى. إن منع ذلك أحد فهو محجوج بثبوت ذلك في كلام العرب مع حرف العطف، ولا نظر في ذلك كما قال ابن عطية. قال الشاعر:
* ويأوي إلى نسوة عطل
*
وشعث مراضيع مثل السعالى
*
وكذلك جوزوا في قوله تعالى: والمؤتون الزكاة، وجوها على غير الوجه الذي ذكرناه: من أنه ارتفع على خبر مبتدأ محذوف على سبيل قطع الصفات في المدح: أحدها: أنه معطوف على الراسخون. الثاني: على الضمير المستكن في المؤمنون. الثالث: على الضمير في يؤمنون. الرابع: أنه مبتدأ وما بعده الخبر وهو اسم الإشارة وما يليه. وأما المؤمنون بالله فعطف على والمؤتون الزكاة على الوجه الذي اخترناه في رفع والمؤتون.
ولما ذكر أولا والمؤمنون تضمن الإيمان بما يجب أن يؤمن به، ثم أخبر عنهم وعن الراسخين أنهم يؤمنون بالقرآن وبالكتب المنزلة، ثم وصفهم بصفات المدح من امتثال أشرف أوصاف الإيمان الفعلية البدنية وهي: الصلاة، والمالية وهي الزكاة، ثم ارتقى في المدح إلى أشرف الأوصاف القلبية الاعتقادية وهي الإيمان بالموحد الذي أنزل الكتب وشرع فيها الصلاة والزكاة، وباليوم الآخر وهو البعث والمعاد الذي يظهر فيه ثمرة الإيمان وامتثال تكاليف الشرع من الصلاة والزكاة وغيرهما. ثم إنه لما استوفى ذلك أخبر تعالى أنه سيؤتيهم أجرا عظيما وهو ما رتب تعالى على هذه الأوصاف الجليلة التي وصفهم بها، وأشار إليهم بأولئك، ليدل على مجموع تلك الأوصاف. ومن أعرب والمؤمنون بالله مبتدأ أو خبره ما بعده، فهو بمعزل عن إدراك الفصاحة. والأجود إعراب أولئك مبتدأ، ومن نصبه بإضمارفعل تفسيره ما بعده: أنه سيؤتى أولئك
412

سنؤتيهم، فيجعله من باب الاشتغال، فليس قوله براجح، لأن زيد ضربته أفصح وأكثر من زيدا ضربته، ولأن معمول ما بعد حرف الاستقبال مختلف في جواز تقديمه في نحو: سأضرب زيدا، وإذا كان كذلك فلا يجوز الاشتغال. فالأجود الحمل على ما لا خلاف فيه. وقرأ حمزة: سيؤتيهم بالياء عودا على قوله: والمؤمنون بالله. وقرأ باقي السبعة. على الالتفات ومناسبة وأعتدنا.
* (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) * قال ابن عباس: سبب نزولها أن سكين الحبر وعدي بن زيد قالا: يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئا بعد موسى ولا أوحى إليه. وقال محمد بن كعب القرظي: لما نزلت: * (يسألك أهل الكتاب) * الآيات فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على عيسى، وجحدوا جميع ذلك فنزلت: * (وما قدروا الله حق قدره) * إذ قالوا الآية. وقال الزمخشري: إنا أوحينا إليك جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن ينزل عليهم كتابا من السماء، واحتجاجهم عليهم بأن شأنه في الوحي إليه كسائر الأنبياء الذين سلفوا انتهى. وقدم نوحا وجرده منهم في الذكر لأنه الأب الثاني، وأول الرسل، ودعوته عامة لجميع من كان إذ ذاك في الأرض، كما أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم) عامة لجميع من في الأرض.
* (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان) * خص تعالى بالذكر هؤلاء تشريفا وتعظيما لهم، وبدأ بإبراهيم لأنه الأب الثالث، وقدم عيسى على من بعده تخفيفا لنبوته، وقطعا لما رآه اليهود فيه، ودفعا لاعتقادهم، وتعظيما له عندهم، وتنويها باتساع دائرته. وتقدم ذكر نسب نوح وإبراهيم وهارون في نسب أخيه موسى. وأما أيوب فذكر الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي النيسابوري نسبه فقال: أيوب بن أموص بن بارح بن تورم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، وأمه من ولد لوط بن هارون. وأما يونس فهو يونس بن متى. وقرأ نافع في رواية ابن جماز عنه: يونس بكسر النون، وهي لغة لبعض العرب. وقرأ النخعي وابن وثاب: بفتحها وهي لغة لبعض عقيل وبعض العرب يهمز ويكسر، وبعض أسد يهمز ويضم النون، ولغة الحجاز ما قرأ به الجمهور من ترك الهمز وضم النون.
* (وءاتينا * داوود * زبورا) * أي كتابا. وكل كتاب يسمى زبورا، وغلب على الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود. وهو فعول بمعنى مفعول كالحلوب والركوب، ولا يطرد وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حرام ولا حلال، إنما هي حكم ومواعظ، وقد قرأت جملة منها ببلاد الأندلس. قيل: وقدم سليمان في الذكر على داود لتوفر علمه، بدليل قوله: * (ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما) * والذي يظهر أنه جمع بين عيسى وأيوب ويونس لأنهم أصحاب امتحان وبلايا في الدنيا، وجمع بين هارون وسليمان لأن هارون كان محببا إلى بني إسرائيل معظما مؤثرا، وأما سليمان فكان معظما عند الناس قاهرا لهم مستحقا له ما ذكره الله تعالى في كتابه، فجمعهما التحبيب، والتعظيم. وتأخر ذكر داود لتشريفه بذكر كتابه، وإبرازه في جملة مستقلة له بالذكر ولكتابه، فما فاته من التقديم اللفظي حصل به التضعيف من التشريف المعنوي.
وقرأ حمزة: زبورا بضم الزاي. قال أبو البقاء: وفيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر كالقعود يسمى به الكتاب المنزل على داود. والثاني: أنه جمع زبور على حذف
الزائد وهو الواو. وقال أبو علي: كما قالوا طريق وطروق، وكروان وكروان، وورشان وورشان، مما يجمع بحذف الزيادة. ويقوي هذا التوجيه أن التكسير مثل التصغير، وقد اطرد هذا المعنى في تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير، والحرث وحريث، وثابت وثبيت، والجمع مثله في القياس وإن كان أقل منه في الاستعمال. قال أبو علي: ويحتمل أن يكون جمع زبر أوقع على المزبور كما قالوا: ضرب الأمير، ونسج
413

اليمن. وكما سمي المكتوب كتابا.
* (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل) * أي ذكرنا أخبارهم لك.
* (ورسلا لم نقصصهم عليك) * روي من حديث أبي ذر: أنه سئل عن المرسلين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم): * (كان * المرسلون * عليها تسعة عشر) *. قال القرطبي: هذا أصح ما روي في ذلك، خرجه الآجري وأبو حاتم البستي في مسند صحيح له. وفي حديث أبي ذر هذا: أنه سأله كم كان الأنبياء؟ فقال: * (مائة ألف * نبى * فى قرية من نبى) *. وروي عن أنس: * (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعث على أثر ثمانية آلف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل) *. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. وقال ابن عطية: ما ذكر من عدد الأنبياء غير صحيح، والله أعلم بعدتهم انتهى.
وانتصاب ورسلا على إضمار فعل أي: قد قصصنا رسلا عليك، فهو من باب الاشتغال. والجملة من قوله: قد قصصناهم، مفسرة لذلك الفعل المحذوف، ويدل على هذا قراءة أبي ورسل بالرفع في الموضعين على الابتداء. وجاز الابتداء بالنكرة هنا، لأنه موضع تفصيل كما أنشدوا: فثوب لبست وثوب أجر.
وقال امرؤ القيس:
* بشق وشق عندنا لم يحول ومن حجج النصب على الرفع كون العطف على جملة فعلية وهي: وآتينا داود زبورا. وقال ابن عطية: الرفع على تقدير وهم: رسل، فعلى قوله يكون قد قصصناهم جملة في موضع الصفة. وجوزوا أيضا نصب ورسلا من وجهين: أحدهما: أن يكون نصبا على المعنى، لأن المعنى: إنا أرسلناك وأرسلنا رسلا، لأن الرد على اليهود إنما هو في إنكارهم إرسال الرسل واطراد الوحي.
*
* (وكلم الله موسى تكليما) * هذا إخبار بأن الله شرف موسى بكلامه، وأكد بالمصدر دلالة على وقوع الفعل على حقيقته لا على مجازه، هذا هو الغالب. وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز، إلا أنه قليل. فمن ذلك قول هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري:
* بكى الخز من عوف وأنكر جلده
*
وعجت عجيجا من جذام المطارف
*
وقال ثعلب: لولا التأكيد بالمصدر لجاز أن تقول: قد كلمت لك فلانا بمعنى كتبت إليه رقعة وبعثت إليه رسولا، فلما قال: تكليما لم يكن إلا كلاما مسموعا من الله تعالى. ومسألة الكلام مما طال فيه الكلام واختلاف فيها علماء الإسلام، وبهذه المسألة سمي علم أصول الدين بعلم الكلام، وهي مسألة يبحث عنها في أصول الدين. وقرأ إبراهيم بن وثاب: وكلم الله بالنصب على أن موسى هو المكلم. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم، وأن معناه: وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن. وقال كعب: كلم الله موسى بالألسنة كلها، فجعل موسى يقول: رب لا أفهم، حتى كلمه بلسان موسى آخر الألسنة.
* (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * أي يبشرون بالجنة من أطاع، وينذرون بالنار من عصى. وأراد تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول: لو بعث إلي رسول لآمنت. وفي الحديث: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله) فمن أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها موصل
414

إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرفوا أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ قلت: الرسل منهيون عن الغفلة، وباعثون على النظر كما ترى علماء العدل والتوحيد، مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف وتعلم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له انتهى. وقوله: لئلا هو كالتعليل لحالتي: التبشير والإنذار. والتبشير هو بالجنة، والإنذار هو بالنار. وليس الثواب والعقاب حاكما بوجوبهما العقل، وإنما هو مجوز لهما، وجاء السمع فصارا واجبا وقوعهما، ولم يستفد وجوبهما إلا من البشارة والنذارة. فلو لم يبشر الرسل بالجنة لمن امتثل التكاليف الشرعية، ولم ينذروا بالنار من لم يمتثل، وكانت تقع المخالفة المترتب عليها العقاب بما لا شعور للمكلف بها من حيث أن الله لا يبعث إليه من يعلمه بأن تلك معصية، لكانت له الحجة إذ عوقب على شيء لم يتقدم إليه في التحذير من فعله، وأنه يترتب عليه العقاب. وأما ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية فهي موصلة إلى المعرفة والإيمان بالله بعلى ما يجب، والعلل في الآية هو غير المعرفة والإيمان بالله، فلا يرد سؤال الزمخشري. وانتصب رسلا على البدل وهو الذي عبر عنه الزمخشري بانتصابه على التكرير. قال: والأوجه أن ينتصب على المدح. وجوز غيره أن يكون مفعولا بأرسلنا مقدرة، وأن يكون حالا موطئة. ولئلا متعلقة بمنذرين على طريق الإعمال. وجوز أن يتعلق بمقدر أي: أرسلناهم بذلك أي: بالبشارة والنذارة لئلا يكون
* (وكان الله عزيزا حكيما) * أي لا يغالبه شيء، ولا حجة لأحد عليه، صادرة أفعاله عن حكمة، فلذلك قطع الحجة بإرسال الرسل. وقيل: عزيزا في عقاب الكفار، حكيما في الأعذار بعد تقدم الإنذار.
* (لاكن الله يشهد بما أنزل إليك) * الاستدراك بلكن يقتضي تقدم جملة محذوفة، لأن لكن لا يبتدأ بها، فالتقدير ما روي في سبب النزول وهو: أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا: ما نشهد لك بهذا، لكن الله يشهد، وشهادته تعالى بما أنزله إليه إثباته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات. وقرأ السلمي والجراح الحكمي: لكن الله بالتشديد، ونصب الجلالة. وقرأ الحسن بما أنزل إليك مبنيا للمفعول.
* (أنزله بعلمه) * قرأ السلمي: نزله مشددا. قال الزجاج: أنزله وفيه علمه. وقال أبو سليمان الدمشقي: أنزله من علمه. وقال ابن جريج: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه. وقيل: أنزله إليك بعلمه أنك أهل لإنزاله عليك لقيامك بحقه، وعلمك بما فيه، وحسن دعائك إليه، وحثك عليه. وقيل: بما يحتاج إليه العباد. وقيل: بعلمه أنك تبلغه إلى عباده من غير تبديل ولا زيادة ولا نقصان. قال ابن عطية: هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى، خلافا للمعتزلة في أنهم يقولون: عالم بلا علم. والمعنى عند أهل السنة: أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله. ومذهب المعتزلة في هذه الآية: أنه أنزله مقترنا بعلمه، أي فيه علمه من غيوب وأوامر ونحو ذلك، فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن كما هو في قول الخضر، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر. وقال الزمخشري: أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة، لأنه بيان للشهادة بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدر، ويحتمل أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة.
* (والملئكة يشهدون) * أي بما أنزل الله إليك. وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله، وقد علم بشهادة الله له، إذ أظهر على يديه المعجزات، وهذا على سبيل التسلية له عن تكذيب اليهود، إن كذبك اليهود وكذبوا ما جئت به من الوحي، فلا
415

تبال، فإن الله يشهد لك وملائكته، فلا تلتفت إلى تكذيبهم.
* (وكفى بالله شهيدا) * أي وإن لم يشهد غيره * (قل أى شىء أكبر شهادة قل الله) *.
* (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا * ضلالا بعيدا) * أي ضلالا لا يقرب رجوعهم عنه، ولا تخلصهم منه، لأنه يعتقد عن نفسه أنه محمق ثم يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه وإلقاء غيره فيه، فهو ضلال في أقصى غاياته. وقرأ عكرمة وابن هرمز: وصدوا بضم الصاد، قيل: وهي في اليهود.
* (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا) * قيل: هذه في المشركين. وقد تقدم الكلام على لام الجحود وما بعدها، وأن الإتيان بها أبلغ من الإتيان بالفعل المجرد عنها. وهذا الحكم مقيد بالموافاة على الكفر. وقال أبو سليمان الدمشقي: المعنى لم يكن الله ليستر عليهم قبيح أفعالهم، بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسبي، وفي الآخرة بالنار. وقال الزمخشري: كفروا وظلموا، جمعوا بين الكفر والمعاصي، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين أصحاب الكبائر، لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة، ولا ليهديهم طريقا لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم، ولا ليهديهم يوم القيامة إلا طريقها انتهى. وهو على طريقة الاعتزال في أن صاحب الكبائر لا يغفر له ما لم يتب منها، وإن أريد بقوله طريقا مخصوصا أي عملا صالحا يدخلون به الجنة، كان قوله: إلا طريق جهنم استثناء منقطعا.
* (وكان ذالك على الله يسيرا) * أي انتفاء غفرانه وهدايته إياهم وطردهم في النار سهلا لا صارف له عنه، وهذا تحقير لأمرهم، وأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي.
* (يسيرا يأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فئامنوا خيرا لكم) * هذا خطاب لجميع الناس. وإن كانت السورة مدنية فالمأمور به أمر عام، ولو كان خاصا بتكليف ما لكان النداء خاصا بالمؤمنين في الغالب. والرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم)، والحق هو شرعه، وقد فسر بالقرآن وبالدين وبشهادة التوحيد. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين. وفي انتصاب خيرا لكم هنا. وفي قوله: انتهوا خيرا لكم في تقدير الناصب ثلاثة أوجه: مذهب الجليل، وسيبويه. وأتوا خيرا لكم، وهو فعل يجب إضماره. ومذهب الكسائي وأبي عبيدة: يكن خيرا لكم، ويضمر إن يكن ومذهب الفراء إيمانا خيرا لكم وانتهاء خيرا لكم، بجعل خيرا نعتا لمصدر محذوف يدل عليه الفعل الذي قبله. والترجيح بين هذه الأوجه مذكور في علم النحو.
* (وإن تكفروا فإن لله ما فى * السماوات والارض) * تقدم تفسير مثل هذا.
* (وكان الله عليما حكيما) * عليما بما يكون منكم من كفر وإيمان فيجازيكم عليه، حكيما في تكليفكم مع علمه تعالى بما يكون منكم.
* (حكيما يأهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم) * قيل: نزلت في نصارى نجران قاله مقاتل. وقال الجمهور: في عامة النصارى، فإنهم يعتقدون الثالوت يقولون: الأب، والابن، وروح القدس إله واحد. وقيل: في اليهود والنصارى، نهاهم عن تجاوز الحد. والمعنى: في دينكم الذي أنتم مطلوبون به، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق. وغلت اليهود في حط المسيح عليه السلام عن منزلته حيث جعلته مولودا لغير رشده. وغلت النصارى فيه حيث جعلوه إلها. والذي يظهر أن قوله: يا أهل الكتاب خطاب للنصارى، بدليل آخر الآية. ولما أجاب الله تعالى عن شبه اليهود الذين يبالغون في الطعن على المسيح أخذ في أمر النصارى الذين يفرطون في تعظيم المسيح حتى ادعوا فيه ما ادعوا.
* (ولا تقولوا على الله إلا الحق) * وهو تنزيهه عن الشريك والولد والحلول والاتحاد.
* (إنما
416

المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) * قرأ جعفر بن محمد: إنما المسيح على وزن السكيت. وتقدم شرح الكلمة في * (بكلمة منه اسمه المسيح) * ومعناها ألقاها إلى مريم أوجد هذا الحادث في مريم وحصله فيها. وهذه الجملة قيل: حال. وقيل: صفة على تقدير نية الانفصال أي: وكلمة منه. ومعنى روح منه أي: صادرة، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح، كالنطفة المنفصلة من الأب الحي، وإنما اخترع اختراعا من عند الله وقدرته. وقال أبي بن كعب: عيسى روح من أرواح الله تعالى الذي خلقها واستنطقها بقوله: * (ألست بربكم قالوا بلى) * بعثه الله إلى مريم فدخل. وقال الطبري وأبو روق: وروح منه أي نفخة منه، إذا هي من جبريل بأمره. وأنشد بيت ذي الرمة:
* فقلت له اضممها إليك وأحيها
*
بروحك واجعله لها قيتة قدرا
*
يصف سقط النار وسمي روحا لأنه حدث عن نفخة جبريل. وقيل: ومعنى وروح منه أي رحمة. ومنه * (وأيدهم بروح منه) *. وقيل: سمي روحا لأحياء الناء به كما يحيون بالأرواح، ولهذا سمي القرآن روحا. وقيل: المعنى بالروح هنا الوحي أي: ووحى إلى جبريل بالنفخ في درعها، أو إلى ذات عيسى أن كن، ونكر وروح لأن المعنى على تقدير صفة لا على إطلاق روح، أي: وروح شريفة نفيسة من قبله تعالى. ومن هنا لاتبداء الغاية، وليست للتبعيض كما فهمه بعض النصارى فادعى أن عيسى جزء من الله تعالى، فرد عليه علي بن الحسين بن واحد المروزي حين استدل النصراني بأن في القرآن ما يشهد لمذهبه وهو قوله: وروح منه، فأجابه ابن واحد بقوله: * (وسخر لكم ما فى * السماوات وما في الارض * جميعا منه) *. وقال: إن كان يجب بهذا أن يكون عيسى جزأ منه وجب أن يكون ما في السماوات وما في الأرض جزأ منه، فانقطع النصراني وأسلم. وصنف ابن فايد إذ ذاك كتاب النظائر.
* (ما كان الله) * أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما السلام.
* (ولا تقولوا ثلاثة) * خبر مبتدأ محذوف أي: الآلهة ثلاثة. قال لزمخشري: والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة، وأن المسيح ولد الله من مريم. ألا ترى إلى قوله: * (قلت للناس اتخذونى وأمى إلاهين من دون الله قال) *. وقالت النصارى: المسيح ابن الله، والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون في المسيح لاهوتيته وناسوتيته من جهة الأب والأم، ويدل عليه قوله: إنما المسيح عيسى ابن مريم، فأثبت أنه ولد لمريم أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم، وأن اتصاله بالله عز وجل من حيث أنه رسوله، وأنه موجود بأمره، وابتداعه جسدا حيا من غير أب ينفي أنه يتصل به اتصال الأبناء بالآباء. وقوله: * (سبحانه أن يكون له ولد) * وحكاية الله أوثق من حكاية غيره، وهذا الذي رجحه الزمخشري قول ابن عباس قاله يريد بالتثليث: الله تعالى، وصاحبته، وابنه. وقال الزمخشري أيضا إن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدم، وأنهم يريدون باقنوم الأب الذات، وبأقنوم الابن العلم، وبأقنوم روح القدس الحياة، فتقديره الله ثلاثة انتهى. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون التقدير المعبود ثلاثة، أو الآلهة ثلاثة، أو الأقانيم ثلاثة. وكيفما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير انتهى. وقال الزجاج: تقديره إلها ثلاثة. وقال الفراء وأبو
417

عبيد: تقديره ثلاثة كقوله: * (سيقولون ثلاثة) * وقال أبو علي: التقدير الله ثالث ثلاثة، حذف المبتدأ والمضاف انتهى. أراد أبو علي موافقة قوله: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) * أي أحد آلهة ثلاثة والذي يظهر أن الذي أثبتوه هو ما أثبت في الآية خلافه، والذي أثبت في الآية بطريق الحصر إنما هو وحدانية الله تعالى، وتنزيهه أن يكون له ولد، فيكون التقدير: ولا تقولوا الله ثلاثة. ويترجح قول أبي علي بموافقته الآية التي ذكرناها، وبقوله تعالى سبحانه أن يكون له ولد، والنصارى وإن اختلفت فرقهم فهم مجمعون على التثليث.
* (انتهوا خيرا لكم) * تقدم الكلام في انتصاب خيرا. وقال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه في نصبه لما بعثهم على الإيمان يعني في قوله: * (يأيها الناس قد) * وعلى الانتهاء عن التثليث يعني في قوله: انتهوا خيرا لكم، علم أنه يحملهم على أمر فقال: خيرا لكم أي اقصدوا وأتوا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث، وهو الإيمان والتوحيد انتهى. وهو تقدير سيبويه في الآية.
* (إنما الله إلاه واحد) * قال ابن عطية: إنما في هذه الآية حاصرة، اقتضى ذلك العقل في المعنى المتكلم فيه، وليست صيغة، إنما تقتضي الحصر، ولكنها تصلح للحصر والمبالغة في الصفة، وإن لم يكن حصر نحو: إنما الشجاع عنترة وغير ذلك انتهى كلامه. وقد تقدم كلامنا مشبعا في إنما في قوله: * (إنما نحن مصلحون) * وكلام ابن عطية فيها هنا أنها لا تقتضي بوضعها الحصر صحيح، وإن كان خلاف ما في أذهان كثير من الناس.
* (سبحانه أن يكون له ولد) * معناه تنزيها له وتعظيما من أن يكون له ولد كما تزعم النصارى في أمره، إذ قد نقلوا أبوة الحنان والرأفة إلى أبوة النسل. وقرأ الحسن: إن يكون له ولد بكسر الهمزة وضم النون من يكون، على أن أن نافية أي: ما يكون له ولد فيكون التنزيه عن التثليث، والإخبار بانتفاء الولد، فالكلام جملتان، وفي قراءة الجماعة جملة واحدة.
* (له ما في السماوات وما في الارض) * إخبار لملكه بجميع من فيهن، فيستغرق ملكه عيسى وغيره. ومن كان ملكا لا يكون جزءا من المالك على أن الجزئية لا تصح إلا في الجسم، والله تعالى نزه عن الجسم والعرض.
* (وكفى بالله وكيلا) * أي كافيا في تدبير مخلوقاته وحفظها، فلا حاجة إلى صاحبة ولا ولد ولا معين. وقيل: معناه كفيلا لأوليائه. وقيل: المعنى يكل الخلق إليه أمورهم، فهو الغني عنهم، وهم الفقراء إليه.
* (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملئكة المقربون) * روي أن (وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم): لم تعيب صاحبنا؟ قال: وما صاحبكم
418

قالوا: عيسى قال: وأي شيء أقول؟ قالوا: تقول أنه عبد الله ورسوله قال: إنه ليس بعار أن يكون عبدا قالوا: بلى). فنزلت أي لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأن العار ألصق به، أي: لن يأنف ويرتفع ويتعاظم.
وقرأ على عبيد الله على التصغير. والمقربون أي: الكروبيون الذين هم حول العرش كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومن في طبقتهم قاله الزمخشري. وقال ابن عباس: هم حملة العرش. وقال الضحاك: من قرب منهم من السماء السابعة انتهى. وعطفوا على عيسى لأن من الكفار من يعبد الملائكة. وفي الكلام حذف التقدير: ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيد الله، فإن ضمن عبدا معنى ملكا لله لم يحتج إلى هذا التقدير، ويكون إذ ذاك ولا الملائكة من باب عطف المفردات، بخلاف ما إذا لحظ في عبد الوحدة. فإن قوله: ولا الملائكة يكون من باب عطف الجمل لاختلاف الخبر. وإن لحظ في قوله: ولا الملائكة معنى: ولا كل واحد من الملائكة، كان من عطف المفردات. وقد تشبث بهذه الآية من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء. قال ابن عطية: ولا الملائكة المقربون زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان أي: ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن ذلك، فكيف من سواهم؟ وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء انتهى. وقال الزمخشري: (فإن قلت): من أين دل قوله تعالى: ولا الملائكة المقربون على أن المعنى ولا من فوقه؟ (قلت): من حيث أن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن مرتبة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يرتفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة. كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:
* وما مثله ممن يجاود حاتم
*
ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره
*
لا شبهة بأنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: * (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى) * حتى يعترف بالفرق البين انتهى كلامه. والتفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع، إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل، وأما الآية فقد يقال: متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول، ولا أن ذلك من باب الترقي. (فإذا قلت): لن يأنف فلان أن يسجد لله ولا عمر، وفلا دلالة فيه على أن عمرا أفضل من زيد. وإن سلمنا ذلك فليست الآية من هذا القبيل، لأنه قابل مفردا بجمع، ولم يقابل مفردا بمفرد ولا جمعا بجمع. فقد يقال: الجمع أفضل من المفرد، ولا يلزم من الآية تفضيل الجمع على الجمع، ولا المفرد على المفرد. وإن سلمنا أن المعطوف في الآية أرفع من المعطوف عليه، فيكون ذلك بحسب ما ألقي في أذهان العرب وغيرهم من تعظيم الملك وترفيعه، حتى أنهم ينفون البشرية عن الممدوح ويثبتون له الملكية، ولا يدل تحيلهم ذلك على أنه في نفس الأمر أفضل وأعظم ثوابا ومما ورد من ذلك على حسب ما ألقي في الأذهان قوله تعالى حكاية عن النسوة التي فاجأهن حسن يوسف: * (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هاذا بشرا إن هاذا إلا ملك كريم) * وقال الشاعر:
419

* فلست بإنسي ولكن لملأك
*
تنزل من جوف السماء يصوب
*
وقال الزمخشري: (فإن قلت): علام عطف ولا الملائكة المقربون؟ (قلت): إما أن يعطف على المسيح، أو على اسم يكون، أو على المستتر في عبدا لما فيه من معنى الوصف، لدلالته على معنى العبادة، وقولك: مررت برجل عبد أبوه، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه انتهى. والانحراف عن الغرض الذي أشار إليه هو كون الاستنكاف يكون مختصا بالمسيح، والمعنى القائم اشتراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبودية، لأنه لا يلزم من استنكافه وحده أن يكون هو والملائكة عبيدا، أو أن يكون هو وهم يعبد ربه استنكافهم هم، فقد يرضى شخص أن يضرب هو وزيد عمرا ولا يرضى ذلك زيد ويظهر أيضا مرحوجية الوجهين من جهة دخول لا، إذ لو أريد العطف على الضمير في يكون، أو على المستتر في عبدا. لم تدخل لا، بل كان يكون التركيب بدونها تقول: ما يريد زيد أن يكون هو وأبوه قائمين، وتقول: ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو، فهذان ونحوهما ليسا من مظنات دخول لا، فإن وجد من لسان العرب دخول لا في نحو من هذا فهي زائدة.
* (ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) * حمل أولا على لفظ من فأفرد الضمير في يستنكف ويستكبر، ثم حمل على المعنى في قوله: فسيحشرهم
، فالضمير عائد على معنى من هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون الضمير عاما عائدا على الخلق لدلالة المعنى عليه، لأن الحشر ليس مختصا بالمستنكف، ولأن التفصيل بعده يدل عليه. ويكون ربط الجملة الواقعة جوابا لاسم الشرط بالعموم الذي فيها، ويحتمل أن يعود الضمير على معنى من، ويكون قد حذف معطوف عليه لمقابلته إياه التقدير: فسيحشرهم ومن لم يستنكف إليه جميعا كقوله: * (سرابيل تقيكم الحر) * أي: والبرد. وعلى هذين الاحتمالين يكون ما فصل بإما مطابقا لما قبله، وعلى الوجه الأول لا يطابق. والإخبار بالحشر إليه وعيد إذ. المعنى به الجمع يوم القيامة حيث يذل المستنكف المستكبر. وقرأ الحسن: بالنون بدل الياء في فسيحشرهم، وباء فيعذبهم على التخفيف.
2 (* (فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا * ياأيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنآ إليكم نورا مبينا * فأما الذين ءامنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم فى رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما * يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ الا نثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شىء عليم) *)) 2
* (فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) * أي لا يبخس أحدا قليلا ولا كثيرا، والزيادة يحتمل أن يكون في أن الحسنة بعشر إلى سبعمائة، والتضعيف الذي ليس بمحصور في قوله: * (والله يضاعف لمن يشاء) * قال معناه ابن عطية رحمه الله تعالى.
* (وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) * هذا وعيد شديد للذين يتركون عبادة الله أنفة تكبرا. وقال ابن عطية: وهذا الاستنكاف إنما يكون من الكفار عن اتباع الأنبياء وما جرى مجراه كفعل حيي بن أخطب وأخيه أبي ياسر وأبي جهل وغيرهم بالرسول، فإذا فرضت أحدا من البشر عرف الله فمحال أن تجده يكفر به تكبرا عليه، والعناد إنما يسوق إليه الاستكبار على البشر، ومع تفاوت المنازل في ظن المستكبر انتهى. وقدم ذكر ثواب المؤمن لأن الإحسان إليه مما يعم المستنكف إذا كان
420

داخلا في جملة التنكيل به، فكأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحشر إذا رأى أجور العاملين، وبما يصيبه من عذاب الله تعالى.
* (نصيرا يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * الجمهور على أن البرهان هو محمد صلى الله عليه وسلم)، وسماه برهانا لأن منه البرهان، وهو المعجزة. وقال مجاهد: البرهان هنا الحجة، وقيل: الإسلام، والنور المبين هو القرآن.
* (فأما الذين ءامنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم فى رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) * الظاهر أن الضمير في به عائد على لقربه وصحة المعنى، ولقوله: واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله. ويحتمل أن يعود على القرآن الذي عبر عنه بقوله: وأنزلنا إليكم نورا مبينا وفي الحديث: * (القرءان * حبل * الله * المتين * من) * والرحمة والفضل: الجنة. وقال الزمخشري: في رحمة منه وفضل في ثواب مستحق وتفضل انتهى. ولفظ مستحق من ألفاظ المعتزلة. وقيل: الرحمة زيادة ترقية، ورفع درجات. وقيل: الرحمة التوفيق، والفضل القبول. والضمير في إليه عائد على الفضل، وهي هداية طريق الجنان كما قال تعالى: * (سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم) * لأن هداية الإرشاد قد تقدمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا، وعلى هذا الصراط طريق الجنة. وقال الزمخشري: ويهديهم إلى عبادته، فجعل الضمير عائدا على الله تعالى وذلك على حذف مضاف وهذا هو الظاهر، لأنه المحدث عنه، وفي رحمة منه وفضل ليس محدثا عنهما. قال أبو علي: هي راجعة إلى ما تقدم من اسم الله تعالى، والمعنى: ويهديهم إلى صراطه، فإذا جعلنا صراطا مستقيما نصبا على الحال كانت الحال من هذا المحذوف انتهى. ويعني: دين الإسلام. وقيل: الهاء عائدة على الرحمة والفضل لأنهما في معنى الثواب. وقيل: هي عائدة على القرآن. وقيل: معنى صراطا مستقيما عملا صالحا
421

* (يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة) * قال البراء بن عازب: هي آخر آية نزلت. وقال كثير من الصحابة، من آخر ما نزل. وقال جابر بن عبد الله: نزلت بسبب عادني النبي صلى الله عليه وسلم) وأنا مريض فقلت: يا رسول الله كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات ولم يكن لي ولد ولا والد؟ فنزلت. وقيل: إن جابرا أتاه في طريق مكة عام حجة الوداع فقال: إن لي أختا، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت، فنزلت. وتقدم الكلام في لفظ الكلالة اشتقاقا ومدلولا وكان أمرها أمرا مشكلا، روي عنه في أخبارها روايات، وفي حديثه أن الرسول صلى الله عليه وسلم) قال: * (ميثاقا غليظا ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء) *. وقد روى أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم): (التي أنزلت في الصيف هي وإن كان رجل يورث كلاله) والظاهر أنها * (يستفتونك) * لأن البراء قال: هي آخر آية نزلت. قال ابن عطية: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم) يكفيك منها آية الصيف بيان فيه كفاية وجلاء. ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه اللهم إلا أن يكون دلالة اللفظ اضطربت على كثير من الناس، ولذلك قال بعضهم: الكلالة الميت نفسه. وقال آخرون: الكلالة المال إلى غير ذلك من الخلاف انتهى كلامه. وقد ختمت هذه السورة بهذه الآية كما بدئت أولا بأحكام الأموال في الإرث وغيره، ليتشاكل المبدأ والمقطع، وكثيرا ما وقع ذلك في السور. روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في خطبته: (ألا إن آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والأخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولى الأرحام) وفي الكلالة متعلق بيفتيكم على طريق أعمال الثاني.
* (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) * المراد بالولد الابن، وهو اسم مشترك يجوز استعماله للذكر والأنثى، لأن الابن يسقط الأخت، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس. والمراد بالأخت الشقيقة، أو التي لأب دون التي لأم، لأن الله فرض لها النصف، وجعل أخاها عصبة. وقال: للذكر مثل حظ الأنثيين. وأما الأخت للأم فلها السدس في آية المواريث، سوى بينها وبين أخيها. وارتفع امرؤ على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده، والجملة من قوله: ليس له
ولد، في موضع الصفة لامرؤ، أي: إن هلك امرؤ غير ذي ولد. وفيه دليل على جواز الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة في باب الاشتغال، فعلى هذا القول زيدا ضربته العاقل. وكلما جاز الفصل بالخبر جاز بالمفسر، ومنع الزمخشري أن يكون قوله: ليس له ولد،
422

جملة حالية من الضمير في هلك، فقال: ومحل ليس له ولد الرفع على الصفة، لا النصب على الحال. وأجاز أبو البقاء فقال: ليس له ولد الجملة في موضع الحال من الضمير في هلك، وله أخت جملة حالية أيضا. والذي يقتضيه النظر أن ذلك ممتنع، وذلك أن المسند إليه حقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف، فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب، فصارت كالمؤكدة لما سبق. وإذا تجاذب الاتباع والتقييد مؤكد أو مؤكد بالحكم، إنما هو للمؤكد، إذ هو معتمد الإسناد الأصلي. فعلى هذا لو قلت: ضربت زيدا ضربت زيدا العاقل، انبغى أن يكون العاقل نعتا لزيد في الجملة الأولى، لا لزيد في الجملة الثانية، لأنها جملة مؤكدة للجملة الأولى. والمقصود بالإسناد إنما هو الجملة الأولى لا الثانية. قيل: وثم معطوف محذوف للاختصار، ودلالة الكلام عليه. والتقدير: ليس له ولد ولا والد.
* (وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) * أي إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها. والمراد بالولد هنا الابن، لأن الابن يسقط الأخ دون البنت. قال الزمخشري: (فإن قلت): الابن لا يسقط الأخ وحده، فإن الأب نظيره في الإسقاط، فلم اقتصر على نفي الولد؟ (قلت): وكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة وهو قوله عليه السلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة) ذكر الأب أولى من الأخ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة. ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد، لأن الولد أقرب إلى الميت من الوالد. فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب، فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد، ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعا، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالا على انتفاء الآخر انتهى كلامه. والضمير في قوله: وهو وفي يرثها عائد إلى ما تقدم لفظا دون معنى، فهو من باب عندي درهم ونصفه، لأن الهالك لا يرث، والحية لا تورث، ونظيره في القرآن: * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) * وهذه الجملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب، وهي دليل جواب الشرط الذي بعدها. * (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) * قالوا: الضمير في كانتا ضمير أختين دل على ذلك قوله: وله أخت. وقد تقرر في علم العربية أن الخبر يفيد ما لا يفيده الاسم. وقد منع أبو علي وغيره سيد الجارية مالكها، لأن الخبر أفاد ما أفاده المبتدأ. والألف في كانتا تفيد التثنية كما أفاده الخبر، وهو قوله اثنتين. وأجاب الأخفش وغيره بأن قوله: اثنتين يدل على عدم التقييد بالصغر أو الكبر أو غيرهما من الأوصاف، فاستحق الثلثان بالاثنينية مجردة عن القيود، فلهذا كان مفيدا وهذا الذي قالوه ليس بشيء، لأن الألف في الضمير للاثنتين يدل أيضا على مجرد الاثنينية من غير اعتبار قيد، فصار مدلول الألف ومدلول اثنتين سواء، وصار المعنى: فإن كانتا الأختان اثنتين، ومعلوم أن الأختين اثنتان. وقال الزمخشري: (فإن قلت): إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله: فإن كانتا اثنتين، وإن كانوا أخوة؟ (قلت): أصله فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين، وإن كان من يرث بالأخوة ذكورا وإناثا. وإنما قيل: فإن كانتا، وإن كانوا. كما قيل: من كانت أمك، فكما أنث ضمير من لمكان تأنيث الخبر، كذلك ثنى، وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا، لمكان تثنية الخبر وجمعه انتهى. وهو تابع في هذا التخريج غيره، وهو تخريج لا يصح، وليس نظير من كانت أمك، لأن من صرح بها ولها لفظ ومعنى. فمن أنث راعى المعنى، لأن التقدير: أية أم كانت أمك. ومدلول الخبر في هذا مخالف لمدلول الاسم، بخلاف الآية، فإن المدلولين واحد،. ولم يؤنث في من كانت أمك لتأنيث الخبر، إنما أنث مراعاة لمعنى من إذ أراد بها مؤنثا. ألا
423

ترى إنك تقول: من قامت فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردت السؤال عن مؤنث، ولا خبر هنا فيؤنث قامت لأجله. والذي يظهر لي في تخريج الآية غير ما ذكر. وذلك وجهان: أحدهما: إن الضمير في كانتا لا يعود على أختين، إنما هو يعود على الوارثتين، ويكون ثم صفة محذوفة، واثنتين بصفته هو الخبر، والتقدير: فإن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات فلهما الثلثان مما ترك، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيد الاسم، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز. والوجه الثاني: أن يكون الضمير عائدا على الأختين كما ذكروا، ويكون خبر كان محذوفا لدلالة المعنى عليه، وإن كان حذفه قليلا، ويكون اثنتين حالا مؤكدة والتقدير: فإن كانت أختان له أي للمرء الهالك. ويدل على حذف الخبر الذي هو له وله أخت، فكأنه قيل: فإن كانت أختان له، ونظيره أن تقول: إن كان لزيد أخ فحكمه كذا، وإن كان أخوان فحكمهما كذا. تريد وإن كان أخوان له.
* (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين) * يعني أنهم يحوزون المال على ما تقرر في أرث الأولاد من أن للذكر مثل حظ الأنثيين. والضمير في كانوا إن عاد على الأخوة فقد أفاد الخبر بالتفصيل المحتوي على الرجال والنساء، ما لم يفده الاسم، لأن الاسم ظاهر في الذكور. وإن عاد على الوارث فظهرت إفادة الخبر ما لا يفيد المبتدأ ظهورا واضحا. والمراد بقوله: أخوة الأخوة والأخوات، وغلب حكم المذكر. وقرأ ابن أبي عبلة: فإن للذكر مثل حظ الأنثيين.
* (يبين الله لكم أن تضلوا) * أن تضلوا مفعول من أجله، ومفعول يبين محذوف أي: يبين لكم الحق. فقدره البصري والمبرد وغيره: كراهة أن تضلوا. وقرأ الكوفي، والفراء، والكسائي، وتبعهم الزجاج: لأن لا تضلوا، وحذف لا ومثله عندهم قول القطامي:
* رأينا ما رأى البصراء منا
*
فآلينا عليها أن تباعا
*
أي أن لا تباعا، وحكى أبو عبيدة قال: حدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر فيه: (لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجاية) فاستحسنه أي لئلا يوافق. وقال الزجاج هو مثل قوله إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا أي لأن لا تزولا ورجح أبو علي قول المبرد بأن قال حذف المضاف أسوغ وأشبع من حذف لا. وقيل أن تضلوا مفعول به أي يبين الله لكم الضلالة أن تضلوا فيها. * (والله بكل شيء عليم) * يعلم مصالح العباد في المبدأ والمعاد، وفيما كلفهم به من الأحكام. وقال أبو عبد الله الرازي: في هذه السورة لطيفة عجيبة وهي أن أولها مشتمل على كمال تنزه الله تعالى وسعة قدرته، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم، وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والإلهية والجلال والعزة، وبهما يجب أن يكون العبد منقادا للتكاليف.
وتضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبيان والبديع. فمن ذلك الطباق في: حرمنا وأحلت، وفي: فآمنوا وإن تكفروا. والتكرار في: وما قتلوه، وفي: وأوحينا، وفي: ورسلا، وفي: يشهد ويشهدون، وفي: كفروا، وفي: مريم، وفي: اسم الله. والالتفات في: فسوف نؤتيهم، وفي: فسنحشرهم وما بعد ما في قراءة من قرأ بالنون. والتشبيه في: كما أوحينا. والاستعارة في: الراسخون وهي في الاجرام استعيرت للثبوت في العلم والتمكن فيه، وفي: سبيل الله، وفي: يشهد، وفي: طريقا، وفي: لا تغلوا والغلو حقيقة في ارتفاع السعر، وفي: وكيلا استعير لإحاطة علم الله بهم، وفي: فيوفيهم أجورهم استعير للمجازاة. والتجنيس المماثل في: يستفتونك ويفتيكم. والتفصيل في: فأما الذين آمنوا وأما الذين استنكفوا. والحذف في عدة مواضع.
424

((سورة المائدة))
مدنية وهي مائة وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الا نعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد * ياأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولاءامين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد آلعقاب * حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالا زلام ذالكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) *)) 2
البهيمة: كل ذات أربع في البر والبحر قاله الزمخشري وقال ابن عطية: البهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم انتهى. وما كان على فعيل أو فعيلة وعينه حرف حلق اسما كان أو صفة، فإنه يجوز كسر أوله اتباعا لحركة عينه وهي لغة بني تميم تقول: رئي وبهيمة، وسعيد وصغير، وبحيرة وبخيل. الصيد: مصدر صاد يصيد ويصاد، ويطلق على المصيد. وقال داود بن علي الأصبهاني: الصيد ما كان ممتنعا ولم يكن له مالك وكان حلالا أكله، وكأنه فسر الصيد الشرعي.
القلادة في الهدى: ما قلد به من نعل، أو عروة مزاده، أو لحا شجر أو
425

غيره، وكان الحرمي ربما قلد ركابه بلجا شجر الحرم، فيقتصم بذلك من السوء.
الآم: القاصد أممت الشيء قصدته.
جرمه على كذا حمله، قاله: الكسائي وثعلب. وقال أبو عبيدة والفراء: جرمه كسبه، ويقال: فلان جريمة أهله أي كاسبهم، والجارم الكاسب. وأجرم فلان اكتسب الإثم. وقال الكسائي أيضا: جرم وأجرم أي كسب غيره، وجرم يجرم جرما إذا قطع. قال الرماني: وهو الأصل، فجرم حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم كسب لانقطاعه إلى الكسب، وجرم بمعنى حق، لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل: لا جرم أن لهم النار أي لقد حق.
الشنآن: البغض، وهو أحد مصادر شيء. يقال: شنيء يشنأ شنأ وشنآنا مثلثي الشين فهذه ستة: وشناء، وشناءة، وشناء، وشنأة، ومشنأة، ومشنئة، ومشنئة، وشنانا، وشنانا. فهذه ستة عشر مصدرا وهي أكثر ما حفظ للفعل. وقال سيبويه: كل بناء كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن.
المعاونة: المساعدة. المنخنقة: هي التي تحتبس نفسها حتى تموت، سواء أكان حبسها بحبل أم يد أم غير ذلك. الوقد: ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت. وقيل: الموقوذة المضروبة بعصا أو حجر لا حد له، فتموت بلا ذكاة. ويقال: وقذه النعاس غلبه، ووقذه الحكم سكنه. التردي: السقوط في بئر أو التهور من جبل. ويقال: ردى وتردى أي هلك، ويقال: ما أدري أين ردي؟ أي ذهب. النطيحة: هي التي ينطحها غيرها فتموت بالنطح، وهي فعيلة بمعنى مفعولة صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل، ولذلك ثبت فيها الهاء. السبع: كل ذي ناب وظفر من الحيوان: كالأسد، والنمر، والدب، والذئب، والثعلب، والضبع، ونحوها. وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع. قال الشاعر:
* وسباع الطير تغدو بطانا
*
تتخطاهم فما تستقل
*
ومن العرب من يخص السبع بالأسد، وسكون الباء لغة نجدية، وسمع فتحها، ولعل ذلك لغة. التذكية: الذبح، وتذكية النار رفعها، وذكى الرجل وغيره أسن. قال
الشاعر:
* على أعراقه تجري المذاكي
*
وليس على تقلبه وجهده
*
426

النصب، قيل جمع نصاب، وهي حجارة منصوبة حول الكعبة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم، ولها أيضا وتلطخ بالدماء، ويوضع عليها اللحم قطعا قطعا ليأكل منها الناس. وقيل: النصب مفرد. قال الأعشى: وذا النصب المنصوب لا تقرينه.
الأزلام: القداح واحدها زلم وزلم بضم الزاي وفتحها وهي السهام، كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وهي مكتوب على بعضها نهاني ربي، وعلى بعضها أمرني ربي، وبعضها غفل، فإن خرج الآمر مضى لطلبته، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد الضرب.
اليأس: قطع الرجاء. يقال: يئس ييئس وييئس، ويقال: أيس وهو مقلوب من يئس، ودليل القلب تخلف الحكم عن ما ظاهره أنه موجب له. ألا ترى أنهم لم يقلبوا ياءه ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فلم يقولوا آس كما قالوا هاب.
المخمصة: المجاعة التي يخمص فيها البطون أي تضمر، والخمص ضمور البطن، والخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال: خمصانة، وبطن خميص، ومنه أخمص القدم. ويستعمل كثيرا في الجوع والغرث. قال الأعشى:
* تبيتون في المشتى ملاء بطونكم
*
وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
*
وقال آخر:
* كلوا في بعض بطنكم تعفوا
*
فإن زمانكم زمن خميص
*
* (عليم يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود) * هذه السورة مدنية، نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم) من الحديبية، ومنها ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما نزل عام الفتح. وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة، أو في سفر، أو بمكة، فهو مدني. وذكروا فضائل هذه السورة وأنها تسمى: المائدة، والعقود، والمنقذة، والمبعثرة. ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال، فبين في هذه السورة أحكاما كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل. قالوا: وقد تضمنت هذه السورة ثمانية عشر فريضة لم يبينها في غيرها، وسنبينها أولا فأولا إن
427

شاء الله تعالى. وذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا لقرآن، فقال: نعم، أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في إجلاد انتهى.
والظاهر أن النداء لأمة الرسول المؤمنين. وقال ابن جريج: هم أهل الكتاب. وأمر تعالى المؤمنين بإيفاء العقود وهي جمع عقد، وهو العهد، قاله: الجمهور، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والضحاك، والسدي. وقال الزجاج: العقود أوكد من العهود، وأصله في الاجرام ثم توسع فأطلق في المعاني، وتبعه الزمخشري فقال: هو العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه. قال الحطيئة:
* قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم
*
شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
*
والظاهر عموم المؤمنين في المخلص والمظهر، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلاميا أم جاهليا وقد سأل فرات بن حنان العجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن حلف الجاهلية فقال: (لعلك تسأل عن حلف تيم الله) قال: نعم يا نبي الله. قال: (لا يزيده الإسلام إلا شدة). وقال صلى الله عليه وسلم) في
حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان: (ما أحب أن لي به حمر النعم ولو ادعى به في الإسلام لأجبت) وكان هذا الحلف أن قريشا تعاقدوا على أن لا يجدوا مظلوما بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته، وسميت ذلك الحلف حلف الفضول. وكان الوليد بن عقبة أميرا على المدينة، فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال: لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي، ثم لأقومن في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم)، ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير: لئن دعاني لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه، أو نموت جميعا. وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي فقالا مثل ذلك، وبلغ ذلك الوليد فأنصفه.
ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمان، ودية، ونكاح، وبيع، وشركة، وهبة، ورهن، وعتق، وتدبير، وتخيير، وتمليك، ومصالحة، ومزارعة، وطلاق، وشراء، وإجارة، وما عقده مع نفسه لله تعالى من طاعة: كحج، وصوم، واعتكاف، وقيام، ونذر وشبه ذلك. وقال ابن عباس ومجاهد: هي العهود التي أخذها الله على عباده فيما أحل وحرم، وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال: هي العهود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم من واجب التكليف، وأنه كلام قدم مجملا ثم عقب بالتفصيل. وقال قتادة: هو الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، قال: وروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام). وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما: هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو
428

نكاح أو غيره. وقال ابن زيد أيضا، وعبد الله بن عبيدة: العقود خمس: عقدة الإيمان، وعقدة النكاح، وعقدة العهد، وعقدة البيع، وعقدة الحلف. وقيل: هي عقود الأمانات والبياعات ونحوها، وقال ابن جريج: هي التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بها بما جاءهم به الرسول. وقال ابن شهاب: قرأت الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم) لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: (هذا بيان من الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إلى قوله إن الله سريع الحساب) وقيل: العقود هنا الفرائض.
* (أحلت لكم بهيمة الانعام) * قيل: هذا تفصيل بعد إجمال. وقيل: استئناف تشريع بين فيه فساد تحرم لحوم السوائب، والوصائل، والبحائر، والحوام، وأنها حلال لهم. وبهيمة الأنعام من باب إضافة الشيء إلى جنسه فهو بمعنى من، لأن البهيمة أعم، فأضيفت إلى أخص. فبهيمة الأنعام هي كلها قاله: قتادة، والضحاك، والسدي، والربيع، والحسن. وهي الثمانية الأزواج التي ذكرها الله تعالى. وقال ابن قتيبة: هي الإبل، والبقرة، والغنم، والوحوش كلها. وقال قوم منهم الضحاك والفراء: بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء، وبقر الوحش وخمره. وكأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام البهائم، والإضرار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه، وتقدم الكلام في مدلول لفظ الأنعام. وقال ابن عمر وابن عباس: بهيمة الأنعام هي الأجنة التي تخرج عند ذبح أمهاتها فتؤكل دون ذكاة، وهذا فيه بعد. وقيل: بهيمة الأنعام هي التي ترعى من ذوات الأربع، وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن حد الإبهام فصار له نظر ما.
* (إلا ما يتلى عليكم) * هذا استثناء من بهيمة الأنعام والمعنى: إلا ما يتلى عليكم تحريمه من نحو قوله: * (حرمت عليكم الميتة) * وقال القرطبي: ومعنى يتلى عليكم يقرأ في القرآن والسنة، ومنه * (كل ذى * هاذا حلال وهاذا حرام) *. وقال أبو عبد الله الرازي: ظاهر هذا الاستثناء مجمل، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملا، إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله: * (حرمت عليكم) * إلى قوله: * (وما ذبح على النصب) * ووجه هذا أن قوله: أحلت لكم بهيمة الأنعام، يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه. فبين تعالى أنها إن كانت ميتة أو مذبوحة على غير اسم الله، أو منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة، أو افترسها السبع فهي محرمة انتهى كلامه. وموضع ما نصب على الاستثناء، ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة. قال ابن عطية: وأجاز بعض الكوفيين أن يكون في موضع رفع على البدل، وعلى أن تكون إلا عاطفة، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك: جاء الرجل إلا زيد، كأنك قلت: غير زيد انتهى. وهذا الذي حكاه
429

عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة، لأن الذي قبله موجب. فكما لا يجوز: قام القوم إلا زيد على البدل، كذلك لا يجوز البدل في: إلا ما يتلى عليكم. وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية. وقوله: وذلك لا يجوز عند البصريين، ظاهره الإشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف. وقوله: إلا من نكرة، هذا استثناء مبهم لا يدرى من أي شيء هو. وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه، لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصرى ولا كوفي. وأما العطف فلا يجيزه بصرى البتة، وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتا لما قبله في مثل هذا التركيب. وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون من المنعوت نكرة، أو ما قاربها من أسماء الأجناس، فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت ولم يفرق بينهما في الحكم. ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل حتى يسوغ ذلك، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقاربا للنكرة من أسماء الأجناس، لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف.
* (غير محلى الصيد وأنتم حرم) * قرأ الجمهور غير بالنصب. واتفق جمهور من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال. ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، واختلفوا في صاحب الحال. فقال الأخفش: هو ضمير الفاعل في أوفوا. وقال الجمهور، الزمخشري، وابن عطية وغيرهما: هو الضمير المجرور في أحل لكم. وقال بعضهم: هو الفاعل المحذوف من أجل القائم مقامه المفعول به، وهو الله تعالى. وقال بعضهم: هو ضمير المجرور في عليكم. ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله: إلا ما يتلى عليكم، هو استثناء من بهيمة الأنعام. وأن قوله: غير محلى الصيد، استثناء آخر منه. فالاستثناءان معناهما من بهيمة الأنعام، وفي المستثنى منه والتقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون، بخلاف قوله: * (إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين) * على ما يأتي بيانه وهو قول
مستثنى مما يليه من الاستثناء. قال: ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور إذا كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذا معناه: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلى الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد انتهى. وقال ابن عطية: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير، وقدروا تقديمات وتأخيرات، وذلك كله غير مرضي، لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء انتهى كلامه. وهو أيضا ممن خلط على ما سنوضحه.
فأما قول الأخفش: ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة اعتراضية، بل هي منشئة أحكاما، وذلك لا يجوز. وفيه تقييد الإيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم، وهم مأمورون بإيفاء العقود بغير قيد، ويصير التقدير: أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم، وهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام أنفسها. وإن أريد به الظباء وبقر الوحش وحمره فيكون المعنى: وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم، وهذا تركيب قلق معقد، ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا. ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه. وأما قول: من جعله حالا من الفاعل. وقدره: وأحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم، قال كما تقول: أحلت لك كذا غير مبيحه لك يوم الجمعة، فهو فاسد. لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسيا منسيا، ولا يجوز وقوع الحال منه. لو قلت: أنزل المطر للناس مجيبا لدعائهم، إذ الأصل أنزل الله المطر مجيبا لدعائهم لم يجز، وخصوصا على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين، لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلا كما وضعت صيغته مبنيا للفاعل، وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل، ولأنه يتقيد إحلاله تعالى بهيمة الأنعام إذا أريد بها ثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم، وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها.
وأما ما نقله القرطبي عن البصريين، فإن كان النقل صحيحا فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى، فنقول: إنما عرض الإشكال في
430

الآية من جعلهم غير محلى الصيد حالا من المأمورين بإيفاء العقود، أو من المحلل لهم، أو من المحلل وهو الله تعالى، أو من المتلو عليهم. وغرهم في ذلك كونه كتب محلى بالياء، وقدره هم أنه اسم فاعل من أحل، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة. وأصله: غير محلين الصيد وأنتم حرم، إلا في قول من جعله حالا من الفاعل المحذوف، فلا يقدر فيه حذف النون، بل حذف التنوين. وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله: محلى الصيد، من باب قولهم: حسان النساء. والمعنى: النساء الحسان، وكذلك هذا أصله غير الصيد المحل. والمحل صفة للصيد لا للناس، ولا للفاعل المحذوف. ووصف الصيد بأنه محل على وجهين: أحدهما: أن يكون معناه دخل في الحل كما تقول: أحل الرجل أي: دخل في الحل، وأحرم دخل في الحرم. والوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حل، أي حلالا بتحليل الله. وذلك أن الصيد على قسمين: حلال، وحرام. ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال. ألا ترى إلى قول بعضهم: إنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعا؟ وقد تجوزت العرب فأطلقت الصيد على ما يوصف بحل ولا حرمة نحو قوله:
* ليث بعثر يصطاد الرجال إذا
*
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
*
وقال آخر:
* وقد ذهبت سلمى بعقلك كله
*
فهل غير صيد أحرزته حبائله
*
وقال آخر:
* ومي تصيد قلوب الرجال
*
وأفلت منها ابن عمر وحجر
*
ومجئ أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب. فمن مجيء أفعل لبلوغ المكان ودخوله قولهم: أحرم الرجل، وأعرق، وأشأم، وأيمن، وأتهم، وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها. ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم: أعشبت الأرض، وأبقلت، وأغد البعير، وألبنت الشاة، وغيرها، وأجرت الكلبة، وأصرم النخل، وأتلت الناقة، وأحصد الزرع، وأجرب الرجل، وأنجبت المرأة. وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحل، أو صار ذا حل، اتضح كونه استثناء من استثناء، إذ لا يمكن ذلك لتناقص الحكم. لأن المستثنى من المحلل محرم، والمستثنى من المحرم محلل. بل إن كان المعنى بقوله: بهيمة الأنعام، الأنعام أنفسها، فيكون استثناء منقطا. وإن كان المراد الظباء وبقر الوحش وحمره ونحوها، فيكون استثناء متصلا على أحد تفسيري المحل،
استثنى الصيد الذي بلغ الحل في حل كونهم محرمين. (فإن قلت): ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضا؟ (قلت): الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم، وإن كان حلالا لغيره، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم. وعلى هذا التفسير يكون قوله: إلا ما يتلى عليكم، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله: حرمت عليكم الميتة الآية، استثناء منقطعا، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها،
431

فيصير لكن ما يتلى عليكم أي: تحريمه فهو محرم. وإن كان المراد ببهيمة الأنعام الأنعام والوحوش، فيكون الاستثناآن راجعين إلى المجموع على التفصيل، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج، ويرجع غير محلى الصيد إلى الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول. وإذا لم يمكن ذلك، وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز. وقد نص النحويون على أنه إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك: قام القوم إلا زيدا، إلا عمرا، إلا بكرا (فإن قلت): ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد، لا من صفة الناس، ولا من صفة الفاعل المحذوف، يعكر عليه كونه كتب في رقم المصحف بالياء، فدل ذلك على أنه من صفات الناس، إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء، وبكون الفراء وأصحابه وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك. (قلت): لا يعكر على هذا التخريج لأنهم كتبوا كثيرا رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو: باييد بياءين بعد الألف، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف، وبنقصهم منه ألفا. وكتابتهم الصالحات ونحوه بإسقاط الألفين، وهذا كثير في الرسم. وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز، لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه، وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو ينقطع النفس، فوقفوا على الرسم كما وقفوا على * (سندع الزبانية) * من غير واو اتباعا للرسم. على أنه يمكن توجيه كتابته بالياء والوقف عليه بياء بأنه جاء على لغة الأزد، إذ يقفون على بزيد بزيدي بإبدال التنوين ياء، فكتب محلى بالياء على الوقف على هذه اللغة، وهذا
432

توجيه شذوذ رسمي، ورسم المصحف مما لا يقاس عليه.
وقرأ ابن أبي عبلة: غير بالرفع، وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله: بهيمة الأنعام، ولا يلزم من الوصف بغير أن يكون ما بعدها مماثلا للموصوف في الجنسية، ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء، وخرج أيضا على الصفة للضمير في يتلى. قال ابن عطية: لأن غير محلى الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيدا انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التكلف على تخريجنا محلى الصيد وأنتم حرم جملة حالية. وحرم جمع حرام.
ويقال: أحرم الرجل إذا دخل في الإحرام بحج أو بعمرة، أو بهما، فهو محرم وحرام، وأخرم الرجل دخل في الحرم. وقال الشاعر:
* فقلت لها فيىء إليك فإنني
*
حرام وإني بعد ذاك لبيب
*
أي: ملب. ويحتمل الوجهين قوله: وأنتم حرم، إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم، وعلى من كان أحرم بالحج والعمرة، وهو قول الفقهاء. وقال الزمخشري: وأنتم حرم، حال عن محل الصيد كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم انتهى. وقد بينا فساد هذا القول، بأن الأنعام مباحة مطلقا لا بالتقييد بهذه الحال.
* (إن الله يحكم ما يريد) * قال ابن عباس: يحل ويحرم. وقيل: يحكم فيما خلق بما يريد على الإطلاق وهذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإيفاء العقود وتحليل بهيمة الأنعام، والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقا في الحل والحرم إلا في اضطرار، واستثناء الصيد في حالة الإحرام، وتضمن ذلك حله لغير المحرم، فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله: إن الله يحكم ما يريد. فموجب الحكم والتكليف هو إراته لا اعتراض عليه، ولا معقب لحكمه، لا ما يقوله المعتزلة من مراعاة المصالح. ولذلك قال الزمخشري: إن الله يحكم ما يريد من الأحكام، ويعلم أنه حكمة ومصلحة. وقال ابن عطية: وقد نبه على ما تضمنته هذه الآية من الأحكام ما نصه هذه الآية مما يلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام، ولمن عنده أدنى بصيرة. ثم ذكر ابن عطية الحكاية التي قدمناها عن الكندي وأصحابه، وفي مثل هذا أقول من قصيدة مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم) معارضا لقصيدة كعب منه في وصف كتاب الله تعالى:
* جار على منهج الأعراب أعجزهم
*
باق مدى الدهر لا يأتيه تبديل
*
* بلاغة عندها كع البليغ فلم
*
ينبس وفي هديه طاحت أضاليل
*
* (يريد يأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعائر الله) * خرج سريح أحد بني ضبيعة إلى مكة حاجا وساق الهدى.
وفي رواية ومعه تجارة، وكان قبل قد قدم المدينة وتكلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم) وتروى في إسلامه، وقال الرسول عليه السلام:
433

(لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر) فمر بسرح بالمدينة فاستاقه، فلما قدم مكة عام الحديبية أراد أهل السرح أن يغيروا عليه، واستأذنوا الرسول، فنزلت. وقال السدي: اسمه الحطيم بن هند البلدي أحد بني ضبيعة، وأراد الرسول أن يبعث إليه ناسا من أصحابه فنزلت. وقال ابن زيد: نزلت بمكة عام الفتح وحج المشركون واعتمروا فقال المسلمون: يا رسول الله إن هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم، فنزل القرآن.
* (ولا الشهر الحرام ولا) * والشعائر جمع شعيرة أو شعار، أي: قد أشعر الله أنها حده وطاعته، فهي بمعنى معالم الله، وتقدم تفسيرها في * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) *. قال الحسن: دين الله كله يعني شرائعه التي حدها لعباده، فهو عام في جميع تكاليفه تعالى. وقال ابن عباس: ما حرم عليكم في حال الإحرام. وقال أيضا هو ومجاهد: مناسك الحج. وقال زيد بن أسلم: شعائر الحج وهي ست: الصفا والمروة، والبدن، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. وقال أيضا: المحرمات خمس: الكعبة الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، حتى يحل. وقال ابن الكلبي: كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة ومن الشعائر، وكانت قريش لا تقف بعرفات، فنهوا عن ذلك. وقيل: الأعلام المنصوبة المتفرقة بين الحل والحرم نهوا أن يتجاوزوها إلى مكة بغير إحرام. وقال أبو عبيدة: هي الهدايا تطعن في سنامها وتقلد. قال: ويدل عليه * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) * وضعف قوله، بأنه قد عطف عليه. والهدى والقلائد. وقيل: هي ما حرم الله مطلقا سواء كان في الإحرام أو غيره. وقال الزمخشري: هي ما أشعر أي جعل إشعارا وعلما للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والطواف والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر انتهى.
* (ولا * والمسجد الحرام) * الظاهر أنه مفرد معهود. فقال الزمخشري: هو شهرالحج. وقال عكرمة وقتادة: هو ذو القعدة من حيث كان أول الأشهر الحرم. وقال الطبري وغيره: رجب. ويضاف إلى مضر لأنها كانت تحرم فيه القتال وتعظمه، وتزيل فيه السلاح والأسنة من الرماح. وكانت العرب مجمعة على تعظيم ذي القعدة وذي الحجة، ومختلفة في رجب، فشدد تعالى أمره. فهذا وجه التخصيص بذكره. وقيل: الشهر مفرد محلى بأل الجنسية، فالمراد به عموم الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. والمعنى: لا تحلوا بقتال ولا غارة ولا نهب. قال مقاتل: وكان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كل يوم فيقول: ألا إني قد حللت كذا وحرمت كذا.
* (ولا الهدى) * قال ابن عطية: لا خلاف أن الهدى ما هدى من النعم إلى بيت الله، وقصد به القربة، فأمر تعالى ى أن لا يستحل، ولا يغار عليه انتهى. والخلاف عن المفسرين فيه موجود. قيل: هو اسم لما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة أو صدقة، وغيرها من الذبائح والصدقات. وقيل: هو ما قصد به وجه الله ومنه في الحديث: ثم (كالمهدي دجاجة، ثم كالمهدي بيضة) فسمى هذه هديا. وقيل: الشعائر البدن من الأنعام، والهدى البقر والغنم والثياب وكل ما أهدي. وقيل: الشعائر ما كان مشعرا بإسالة الدم من سنامه أو بغيره من العلائم، والهدي ما لم يشعر اكتفى فيه بالتقليد. وقال من فسر الشعائر بالمناسك، ذكر الهدى
434

تنبيها على تفصيلها.
* (ولا القلائد) * قال مجاهد، وعطاء، ومطرف بن الشخير: القلائد هي ما كانوا يتقلدون به من شجر الحرم ليأمنوا به، فنهي المؤمنون عن فعل الجاهلية، وعن أخذ القلائد من شجر الحرم. وفي الحديث: (لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها). وقال الجمهور: القلائد ما كانوا يتقلدونه من السمر إذا خرجوا إلى الحج، فيكون ذلك علامة حجة. وقيل: أو ما يقلده الحرمي إذا خرج لحاجة، ليدل ذلك على أنه حرمي، فنهى تعالى عن استحلال من يحرم بشيء من هذه. وحكى الطبري عن ابن عباس: أن القلائد هي الهدى المقلد، وأنه إنما سمي هديا ما لم يقلد، فكأنه قال: ولا الهدى الذي لم يقلد ولا المقلد منه. قال ابن عطية: وهذا تحامل على ألفاظ ابن عباس، وليس من كلامه أن الهدى، إنما يقال: لما لم يقلد. وإنما يقتضي أنه تعالى نهى عن الهدى جملة، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في المقلد. وقيل: أراد القلائد نفسها فنهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهي عن التعرض للهدى، أي: لا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها كما قال تعالى: * (ولا يبدين زينتهن) * نهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. وقال الطبري: تأويله أنه نهى عن استحلال حرمة المقلد هديا كان أو إنسانا، واجتزأ بذكر القلائد عن ذكر المقلد إذ كان مفهوما عند المخاطب.
* (ولا الشهر الحرام ولا) * وقرأ عبد الله وأصحابه: ولا آمي بحذف النون للإضافة إلى البيت، أي ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام، وهم الحجاج والعمار. قال الزمخشري: وإحلال هذه أي: يتهاون بحرمة الشعائر، وأن يحال بينها وبين المتنسكين وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج، وأن يتعرض للهدى بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله.
* (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا) * قرأ الجمهور يبتغون بالياء، فيكون صفة لآمين. وفسر الزمخشري الفضل بالثواب، وهو قول بعضهم. وقيل: الفضل التجارة والأرباح فيها. وقيل: الزيادة في الأموال والأولاد يبتغون رجاء الزيادة في هذا. وأما الرضوان فإنهم كانوا يقصدونه وإن كانوا لا ينالونه، وابتغاء الشيء لا يدل على حصوله. وقيل: هو توزيع على المشركين، فمنهم من كان يبتغي التجارة إذ لا يعتقد معادا، ومنهم من يبتغي الراضون بالحج إذ كان منهم من يعتقد الجزاء بعد الموت وأنه يبعث، وإن كان لا يحصل له رضوان الله، فأخبر بذلك على بناء ظنه. وقيل: كان المسلمون والمشركون يحجون، فابتغاء الفضل منهما، وابتغاء الرضوان من
المؤمنين. وقال قتادة: هو أن يصلح معايشهم في الدنيا، ولا يعجل لهم العقوبة فيها. وقال قوم: الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله تعالى وفضله بالرحمة. نهى تعالى أن يتعرض لقوم هذه صفتهم تعظيما لهم واستنكارا أن يتعرض لمثلهم. وفي النهي عن التعرض لهم استئلاف للعرب ولطف بهم وتنشيط لورود الموسم، وفي الموسم يسمعون القرآن، وتقوم عليهم الحجة، ويرجى دخولهم في الإيمان كالذي كان.
ونزلت هذه الآية عام الفتح، فكل ما كان فيها في حق مسلم حاج فهو محكم، أو في حق كافر فهو منسوخ، نسخ ذلك بعد عام سنة تسع، إذ حج أبو بكر ونودي في الناس بسورة براءة. وقول الحسن وأبي ميسرة: ليس فيها منسوخ، قول مرجوح. وقرأ حميد بن قيس والأعرج: تبتغون بالتاء خطابا للمؤمنين، والمعنى على الخطاب أن المؤمنين كانوا يقصدون قتالهم والغارة عليهم، وصدهم عن المسجد الحرام امتثالا لأمر الله وابتغاء مرضاته، إذ أمر تعالى بقتال المشركين، وقتلهم وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقرأ الأعمش: ورضوانا بضم الراء، وتقدم في آل عمران أنها قراءة أبي بكر عن عاصم، حيث وقع إلا في ثاني هذه السورة، فعنه فيه خلاف.
* (وإذا حللتم
435

فاصطادوا) * تضمن آخر قوله: أحلت لكم تحريم الصيد حالة الإحرام، وآخر قوله: لا تحلوا شعائر الله، النهي عن إحلال آمي البيت، فجاءت هذه الجملة راجعا حكمها إلى الجملة الأولى، وجاء ما بعدها من قوله: * (ولا يجرمنكم) * راجعا إلى الجملة الثانية، وهذا من بليغ الفصاحة. فليست هذه الجملة اعتراضا بين قوله: ولا آمين البيت الحرام، وقوله: ولا يجرمنكم، بل هي مؤسسة حكما لا مؤكدة مسددة فتكون اعتراضا، بل أفادت حل الاصطياد في حال الإحرام. ولا تقديم ولا تأخير هنا، فيكون أصل التركيب: ولا آمين البيت الحرام بيتغون فضلا من ربهم ورضوانا ولا يجرمنكم، كما ذهب إليه بعضهم وجعل من ذلك قصة ذبح البقرة، فقال: وجه النظر أن يقال: * (وإذ قتلتم نفسا) * الآية ثم يقال: * (وإذ قال موسى لقومه) * وكثيرا ما ذكر هذا الرجل التقديم والتأخير في القرآن، والعجب منه أنه يجعله من علم البيان والبديع، وهذا لا يجوز عندنا إلا في ضرورة الشعر، وهو من أقبح الضرائر، فينبغي بل يجب أن ينزه القرآن عنه.
قال: والسبب في هذا أن الصحابة لما جمعوا القرآن لم يرتبوه على حكم نزوله، وإنما رتبوه على تقارب المعاني وتناسق الألفاظ، وهذا الذي قاله ليس بصحيح، بل الذي نعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو الذي رتبه لا الصحابة، وكذلك نقول في سورة وإن خالف في ذلك بعضهم. والأمر بالاصطياد هنا أمر إباحة بالإجماع، ولهذا قال الزمخشري: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا انتهى. ولما كان الاصطياد مباحا، وإنما منع منه الإحرام، وإذا زال المانع عاد إلى أصله من الإباحة. وتكلموا هنا على صيغة الأمر إذا جاءت بعد الحظر، وعليها إذا جاءت مجردة عن القرائن، وعلى ما تحمل عليه، وعلى واقع استعمالها، وذلك من علم أصول الفقه فيبحث عن ذلك فيه.
وقرئ: وإذا أهللتم بل هو كذلك انظر المخشري وهي لغة يقال: حل من إحرامه وأحل. وقرأ أبو واقد، والجراح، ونبيح، والحسن بن عمران: فاصطادوا بكسر الفاء. قال الزمخشري: قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. وقال ابن عطية: وهي قراءة مشكلة، ومن توجيهها أن يكون راعي كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت: اصطادوا بكسر الفاء مراعاة وتذكرة لأصل ألف الوصل انتهى. وليس عندي كسرا محضا بل هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل، كما أمالوا الفاء في، فإذا لوجود كسرة إذا.
* (ولا يجرمنكم شنان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) * قال ابن عباس وقتادة: ولا يجرمنكم أي لا يحملنكم، يقال: جرمني كذا على بغضك. فيكون أن تعتدوا أصله على أن تعتدوا، وحذف منه الجار. وقال قوم: معناها كسب التي تتعدى إلى اثنين، فيكون أن تعتدوا في موضع المفعول الثاني أي: اعتداؤكم عليكم. وتتعدى أيضا إلى واحد تقول: أجرم بمعنى كسب المتعدية لاثنين، يقال في معناها: جرم وأجرم. وقال أبو علي: أجرم أعرفه الكسب في الخطايا والذنوب. وقرأ الحسن، وإبراهيم. وابن وثاب، والوليد عن يعقوب: يجرمنكم بسكون النون، جعلوا نون التوكيد خفيفة.
قال الزمخشري: والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم، لأن صدوكم الاعتداء، ولا يحملنكم عليه انتهى. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأنه يمتنع أن يكون مدلول حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما، فيمتنع أن يكون: أن تعتدوا في محل مفعول به، ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر.
وقرأ النحويان وابن كثير، وحمزة، وحفص، ونافع: شنآن بفتح النون. وقرأ ابن عامر وأبو بكر بسكونها، ورويت عن نافع. والأظهر في الفتح أن يكون مصدرا، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان، وجوزوا أن يكون وصفا وفعلان في الأوصاف موجود نحو قولهم: حمار قطوان أي: عسير السير، وتيس عدوان
436

كثير العدو، وليس في الكثرة كالمصدر. قالوا: فعلى هذا يكون المعنى لا يجرمنكم بغض قوم. ويعنون ببغيض مبغض اسم فاعل، لأنه من شنيء بمعنى البغض. وهو متعد وليس مضافا للمفعول ولا لفاعل بخلافه إذا كان مصدرا، فإنه يحتمل أن يكون مضافا للمفعول وهو الأظهر. ويحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل أي: بغض قوم إياكم، والأظهر في السكون أن يكون وصفا، فقد حكى رجل شنآن وامرأة شنآنة، وقياس هذا أنه من فعل متعد. وحكى أيضا شنآن وشنأى مثل عطشان وعطشى، وقياسه أنه من فعلا لازم. وقد يشتق من لفظ واحد المتعدي واللازم نحو: فغر فاه، وغرفوه بمعنى فتح وانفتح. وجوز أن يكون مصدرا وقد حكى في مصادر شنيء، ومجئ المصدر على فعلان بفتح الفاء وسكون العين قليل، قالوا: لويته دينه ليانا. وقال الأحوص:
* وما الحب إلا ما تحب وتشتهي
*
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
*
أصله الشنآن، فحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها. والوصف في فعلان أكثر من المصدر نحو رحمان. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: إن صدوكم بكسر الهمزة على أنها شرطية، ويؤيد قراءة ابن مسعود: إن صدوكم وأنكر ابن جرير والنحاس وغيرهما قراءة كسران، وقالوا: إنما صد المشركون الرسول والمؤمنون عام الحديبية، والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، والحديبية سنة ست، فالصد قبل نزول الآية، والكسر يقتضي أن يكون بعد، ولأن مكة كانت عام الفتح في أيدي المسلمين، فكيف يصدون عنها وهي في أيديهم؟ وهذا الإنكار منهم لهذه القراءة صعب جدا، فإنها قراءة متواترة، إذ هي في السبعة، والمعنى معها صحيح، والتقدير: إن وقع صد في المستقبل مثل ذلك الصد الذي كان زمن الحديبية، وهذا النهي تشريع في المستقبل. وليس نزول هذه الآية عام الفتح مجمعا عليه، بل ذكر اليزيدي أنها نزلت قبل أن يصدوهم، فعلى هذا القول يكون الشرط واضحا. وقرأ باقي السبعة: أن بفتح الهمزة جعلوه تعليلا للشنآن، وهي قراءة واضحة أي: شنآن قوم من أجل أن صدوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام. والاعتداء الانتقام منهم بإلحاق المكروه بهم.
* (وتعاونوا على البر والتقوى) * لما نهى عن الاعتداء بأمر بالمساعدة والتظافر على الخير، إذ لا يلزم من النهي عن الاعتداء التعاون على الخير، لأن بينهما واسطة وهو الخلو عن الاعتداء والتعاون. وشرح الزمخشري البر والتقوى بالعفو والإغضاء، قال: ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى، فيتناول العفو انتهى. وقال قوم: هما بمعنى واحد، وكرر لاختلاف اللفظ تأكيدا. قال ابن عطية: وهذا تسامح، والعرف في دلالة هذين اللفظين يتناول الواجب والمندوب إليه، والتقوى رعاية الواجب. فإن جعل أحدهما بدل الآخر فتجوز انتهى. وقال ابن عباس: البر ما ائتمرت به، والتقوى ما نهيت عنه. وقال سهل: البر الإيمان، والتقوى السنة. يعني: اتباع السنة.
* (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * الإثم: المعاصي، والعدوان: التعدي في حدود الله قاله عطاء. وقيل: الإثم الكفر، والعصيان والعدوان البدعة. وقيل: الإثم الحكم اللاحق للجرائم، والعدوان ظلم الناس قاله: ابن عطية. وقال الزمخشري: الإثم والعدوان الانتقام والتشفي قال: ويجوز أن يراد العموم لكل إثم وعدوان.
* (واتقوا الله إن الله شديد آلعقاب) * أمر بالتقوى مطلقة، وإن كان قد أمر بها في التعاون تأكيدا لأمرها، ثم علل ذلك بأنه شديد العقاب. فيجب أن يتقى وشدة عقابه بكونه لا يطيقه أحد ولاستمراره، فإن غالب الدنيا منقض. وقال مجاهد:
437

نزلت نهيا عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك، ولقد قيل: ذلك حليف لأبي سفيان من هذيل.
* (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) * تقدم مثل هذه الجملة في البقرة. وقال هنا ابن عطية: ولحم الخنزير مقتض لشحمه بإجماع انتهى. وليس كذلك، فقد خالف فيه داود وغيره، وتكلمنا على ذلك في البقرة، وتأخر هنا به وتقدم هناك تفننا في الكلام واتساعا، ولكون الجلالة وقعت هناك فصلا أولا كالفصل، وهنا جاءت معطوفات بعدها، فليست فصلا ولا كالفصل، وما جاء كذلك يقتضي في أكثر المواضع المد.
* (والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع) * تقدم شرح هذه الألفاظ في المفردات. قال ابن عباس وقتادة: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها، فإذا ماتت أكلوها. وقال أبو عبد الله: ليس الموقوذة إلا في ملك، وليس في صيد وقيذ. وقال مالك وغيره من الفقهاء في: الصيد ما حكمه حكم الوقيذ، وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم) في المعراض: (وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ). وقال ابن عباس، وقتادة، والسدي، والضحاك: النطيحة الشاة تنطحها أخرى فيموتان، أو الشاة تنطحها البقر والغنم. وقال قوم: النطيحة المناطحة، لأن الشاتين قد يتناطحان فيموتان. قال ابن عطية: كل ما مات ضغطا فهو نطيح. وقرأ عبد الله وأبو ميسرة: والمنطوحة والمعنى في قوله وما أكل السبع: ما افترسه فأكل منه. ولا يحمل على ظاهره، لأن ما فرض أنه أكله السبع لا وجود له فيحرم أكله، ولذلك قال الزمخشري: وما أكل السبع بعضه، وهذه كلها كان أهل الجاهلية يأكلونها. وقرأ الحسن والفياض، وطلحة بن سلمان، وأبو حيوة: السبع بسكون الباء، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ عبد الله: وأكيلة السبع. وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع وهما بمعنى مأكول السبع، وذكر هذه المحرمات هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله: * (إلا ما يتلى عليكم) * وبهذا صار المستثنى منه والمستثنى معلومين.
* (إلا ما ذكيتم) * قال علي، وابن عباس، والحسن، وقتادة، وإبراهيم، وطاووس، وعبيد بن عمير، والضحاك، وابن زيد، والجمهور: هو راجع إلى المذكورات أي من قوله: والمنخنقة إلى وما أكل السبع. فما أدرك منها بطرف بعض، أو بضرب برجل، أو يحرك ذنبا. وبالجملة ما تيقنت فيه حياة ذكي وأكل. وقال بهذا مالك في قول، والمشهور عنه وعن أصحابه المدنيين: أن الذكاة في هذه المذكورات هي ما لم ينفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش، ومتى صارت إلى ذلك كانت في حكم الميتة. وعلى هذين القولين فالاستثناء متصل، لكنه خلاف في الحال التي يؤثر فيها الذكاة في المذكورات. وكان الزمخشري مال إلى مشهور قول مالك فإنه قال: لا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب وداجه. وقيل: الاستثناء متصل عائد إلى أقرب مذكور وهو ما أكل السبع ومختص به، والمعنى: إلا ما أدركتم فيه حياة مما أكل السبع فذكيتموه، فإنه حلال. وقيل: هو استثناء منقطع والتقدير: لكن ما ذكيتم من غير هذه فكلوه. وكان هذا القائل رأى أن هذه الأوصاف وجدت فيما مات بشيء منها، إما بالخنق، وإما بالوقذ، أو التردي، أو النطح، أو افتراس السبع، ووصلت
438

إلى حد لا تعيش فيه بسب بوصف من هذه الأوصاف على مذهب من اعتبر ذلك، فلذلك كان الاستثناء منقطعا. والظاهر أنه استثناء متصل، وإنما نص على هذه الخمسة وإن كان في حكم الميتة، ولم يكتف بذكر الميتة لأن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث على المأكول كالذكاة، وأن الميتة ما ماتت بوجع دون سبب يعرف من هذه
الأسباب. وظاهر قوله: إلا ما ذكيتم، يقتضي أن ما لا يدرك لا يجوز أكله كالجنين إذا خرج من بطن أمه المذبوحة ميتا، إذا كان استثناء منقطعا فيندرج في عموم الميتة، وهذا مذهب أبي حنيفة. وذهب الجمهور إلى جواز أكله. والحديث الذي استنبطوا منه الجواز حجة لأبي حنيفة لا لهم. وهو * (بوالديه إحسانا حملته أمه) * المعنى على التشبيه أي ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه كما ذكاتها الذبح فكذلك ذكاته الذبح ولو كان كما زعموا لكان التركيب ذكاة أم الجنين ذكاته.
* (وما ذبح على النصب) * قال مجاهد وقتادة وغيرهما: هي حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها. قال ابن عباس: ويحلون عليها. قال ابن جريج: وليست بأصنام، الصنم مصور، وكانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام قال المسلمون: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكره ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم) فنزلت. وما ذبح على النصب ونزل أن ينال الله لحومها ولا دماؤها انتهى. وكانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها، ويحلون عليها أنصاب مكة، ومنها الحجر المسمى بسعد. قال ابن زيد: ما ذبح على النصب، وما أهل به لغير الله شيء واحد. وقال ابن عطية: ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله، لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له. وقد يقال للصنم أيضا: نصب، لأنه ينصب انتهى. وقرأ الجمهور: النصب بضمتين. وقرأ طلحة بن مصرف: بضم النون، وإسكان الصاد. وقرأ عيسى بن عمر: يفتحتين، وروي عنه كالجمهور. وقرأ الحسن: بفتح النون، وإسكان الصاد.
* (وأن تستقسموا بالازلام) * هذا معطوف على ما قبله أي: وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام، وهو طلب معرفة القسم، وهو النصيب أو القسم، وهو المصدر. قال ابن جريج: معناه أن تطلبوا على ما قسم لكم بالأزلام، أو ما لم يقسم لكم انتهى. وقال مجاهد: هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها. وروي عنه أيضا: أنها سهام العرب، وكعاب فارس، وقال سفيان ووكيع: هي الشطرنج. وقيل: الأزلام حصى كانوا يضربون بها، وهي التي أشار إليها الشاعر بقوله:
* لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى
*
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
*
وروي هذا عن ابن جبير قالوا: وأزلام العرب ثلاثة أنواع: أحدها: الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه في أحدها افعل وفي الآخر لا تفعل والثالث غفل فيجعلها في خريطة، فإذا أراد فعل شيء دخل يده في الخريطة منسابة، وائتمر بما خرج له من الآمر أو الناهي. وإن خرج الغفل أعاد الضرب. والثاني: سبعة قداح كانت عندها في جوف الكعبة، في أحدها العقل في أمر الديات من يحمله منهم فيضرب بالسبعة، فمن خرج عليه قدح العقل لزمه العقل، وفي آخر تصح، وفي آخر لا، فإذا أرادوا أمرا ضرب فيتبع ما يخرج، وفي آخر منكم، وفي
439

آخر من غيركم، وفي آخر ملصق، فإذا اختلفوا في إنسان أهو منهم أم من غيرهم ضربوا فاتبعوا ما خرج، وفي سائرها لأحكام المياه إذا أرادوا أن يحفروا لطلب المياه ضربوا بالقداح، وفيها ذلك القداح، فحيث ما خرج عملوا به. وهذه السبعة أيضا متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على ما كانت في الكعبة عند هبل. والثالث: قداح الميسر وهي عشرة، وتقدم شرح الميسر في سورة البقرة.
* (ذالكم فسق) * الظاهر أن الإشارة إلى الاستقسام خاصة، ورواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال الزمخشري: إشارة إلى الاستقسام، وإلى تناول ما حرم عليهم، لأن المعنى: حرم عليهم تناول الميتة وكذا وكذا. (فإن قلت): لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام ليعرف الحال فسقا؟ (قلت): لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب، وقال: * (لا يعلم من فى * السماوات والارض * الغيب إلا الله) * واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه. وقوله: أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله تعالى، وما يبديه أنه أمره أو نهاه الكهنة والمنجمون بهذه المثابة، وإن كان أراد بالرب الصنم. فقد روي أنهم كانوا يحلون بها عند أصنامهم، وأمره ظاهر انتهى. قال الزمخشري في اسم الإشارة رواه عن ابن عباس علي بن أبي طلحة، وهو قول ابن جبير. قال الطبري: ونهى الله عن هذه الأمور التي يتعاطاها الكهان والمنجمون، لما يتعلق بها من الكلام في المغيبات. وقال غيره: العلة في تحريم الاستقسام بالأزلام كونها يؤكل بها المال بالباطل، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما أو ينكحوا أو يدفنوا ميتا أو شكوا في نسب، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور، فالمائة للضارب بالقداح، والجزور ينحر ويؤكل، ويسمون صاحبهم ويقولون لهبل: يا إلهنا هذا فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه، ويضرب صاحب القداح فما خرج عمل به، فإن خرج لا أخروه عامهم حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في كل أمورهم إلى ما خرجت به القداح.
* (اليوم * بئس * الذين كفروا من دينكم) * الألف واللام فيه للعهد وهو يوم عرفة قاله: مجاهد، وابن زيد. وهو يوم نزولها بعد العصر في حجة الوداع يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم) في الموقف على ناقته، وليس في الموقف مشرك. وقيل: اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم) مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع. وقيل: سنة ثمان، ونادى مناديه بالأمان لمن لفظ بشهادة الإسلام، ولمن وضع السلاح، ولمن أغلق بابه. وقال الزجاح: لم يرد يوما بعين، وإنما المعنى: الآن يئسوا، كما تقول: أنا اليوم قد كبرت انتهى. واتبع الزمخشري الزجاج فقال: اليوم لم يرد به يوما بعينه، وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، كقولك: كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب، فلا يريد بالأمس الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك. ونحوه الآن في قوله:
* الآن لما ابيض مسربتي
*
وعضضت من نابي على جدم
*
انتهى.
والذين كفروا: مشركو العرب. قال ابن عباس، والسدي، وعطاء: أيسوا من أن ترجعوا إلى دينهم. وقال ابن عطية: ظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، وظهور دينه، يقتضي أن يئس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه، لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار. ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون فظنها هزيمة. ألا بطل السحر اليوم. وقال
440

الزمخشري: يئسوا منه أن يبطلوه وأن يرجعوا محللين لهذه الخبائث بعدما حرمت عليكم. وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأن الله وفى بوعده من إظهاره على الدين كله انتهى. وقرأ أبو جعفر: ييس من غير همز، ورويت عن أبي عمرو.
* (فلا تخشوهم واخشون) * قال ابن جبير: فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم. وقال ابن السائب: فلا تخشوهم أن يظهروا على دينكم. وقيل: فلا تخشوا عاقبتهم. والظاهر أنه نهى عن خشيتهم إياهم، وأنهم لا يخشون إلا الله تعالى.
* (اليوم أكملت لكم دينكم) * يحتمل اليوم المعاني التي قيلت في قوله: اليوم يئس. قال الجمهور: وإكماله هو إظهاره، واستيعاب عظم فرائضه، وتحليله وتحريمه. قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآيات الربا، وآية الكلالة، وغير ذلك، وإنما كمل معظم الدين، وأمر الحج، إن حجوا وليس معهم مشرك. وخطب الزمخشري في هذا المعنى فقال: كفيتكم أمر عدوكم، وجعلت اليد العليا لكم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد إذا كفوا من ينازعهم الملك، ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم. أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه من تعليم الحلال والحرام، والتوقيف على الشرائع، وقوانين القياس، وأصول الاجتهاد انتهى. وهذا القول الثاني هو: قول ابن عباس والسدي قالا: كمال فرائضه وحدوده، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم، فعلى هذا يكون المعنى: أكملت لكم شرائع دينكم. وقال قتادة وابن جبير: كما له أن ينفي المشركين عن البيت، فلم يحج مشرك. وقال الشعبي: كمال الدين هو عزه وظهوره، وذل الشرك ودروسه، لا تكامل الفرائض والسنن، لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض. وقيل: كما له إلا من من نسخه بعده كما نسخ به ما تقدم. وقال القفال: الدين ما كان ناقصا البتة، بل كانت الشرائع تنزل في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالما في أول المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد، وكان ينسخ بعد الثبوت ويزيد بعد العدم، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة، وأحكم ثباتها إلى يوم القيامة. وروي أن هذه الآية لما نزلت يوم الحج الأكبر، وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم) بكى عمر بن الخطاب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم): (ما يبكيك؟) فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم): (صدقت).
* (وأتممت عليكم نعمتى) * أي في ظهور الإسلام، وكمال الدين، وسعة الأحوال، وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية، إلى دخول الجنة، والخلود، وحسن العبارة الزمخشري فقال: بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم، وإن لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان انتهى. فكلامه مجموع أقوال المتقدمين. قال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة: إتمام النعمة منع المشركين من الحج. وقال السدي: هو الإظهار على العدو. وقال ابن زيد: بالهداية إلى الإسلام. وقال الزمخشري: وأتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال: وأتممت عليكم نعمتي بذلك، لأنه لا نعمة من نعمة الإسلام.
* (ورضيت لكم الأسلام دينا) * يعني: اخترته لكم من بين الأديان، وأذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) (إن هذه أمتكم أمة واحدة) قاله الزمخشري. وقال ابن عطية الرضافي: هذا الموضع يحتمل أن يكون بمعنى الإرادة، ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه، لأن الرضا من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال، والله تعالى قد رضي الإسلام وأراده لنا، وثم أشياء يريد الله وقوعها ولا برضاها. والإسلام هنا هو الدين في قوله: * (إن الدين عند الله الإسلام) * انتهى وكلامه يدل على أن الرضا إذا كان من صفات الذات فهو صفة تغاير الإرادة. وقيل: المعنى أعلمتكم برضائي به
441

لكم دينا، فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا، فلا يكون الاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حمل على ظاهره. وقيل: رضيت عنكم إذا تعبدتم لي بالدين الذي شرعته لكم. وقيل: رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا كاملا إلى آخر الأبد لا ينسخ منه شيء.
* (فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) * هذا متصل بذكر المحرمات وذلكم فسق أكده به وبما بعده يعني التحريم، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعم التامة، والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملك. وتقدم تفسير مثل هذه الجملة. وقراءة ابن محيصن: فمن اطر بإدغام الضاد في الطاء. ومعنى متجانف: منحرف ومائل. وقرأ الجمهور: متجانف بالألف. وقرأ أبو عبد الرحمن، والنخعي وابن وثاب: متجنف دون ألف. قال ابن عطية وهو أبلغ في المعنى من متجانف، وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه. ألا ترى أنك إذا قلت: تمايل الغصن، فإن ذلك يقتضي تاودا ومقاربة ميل، وإذا قلت؛ تميل، فقد ثبت الميل. وكذلك تصاون الرجل وتصون وتغافل وتغفل انتهى. والإثم هنا قيل: أن يأكل فوق الشبع. وقيل: العصيان بالسفر. وقيل: الإثم هنا الحرام، ومن ذلك قول عمر: ما تجأنفنا فيه لإثم، ولا تعهدنا ونحن نعلمه. أي: ما ملنا فيه لحرام.
2 (* (يسألونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا ممآ أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب * اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذآ ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو فى الا خرة من الخاسرين * ياأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلواة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضىأو على سفر أو جآء أحد منكم من الغائط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولاكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) *)) 2
الجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين. وسميت
442

بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالبا، أو لأنها تكتسب، يقال امرأة: لا جارح لها، أي لا كاسب. ومنه: * (ويعلم ما جرحتم بالنهار) * أي ما كسبتم. ويقال: جرح واجترح بمعنى اكتسب.
المكلب بالتشديد: معلم الكلاب ومضريها على الصيد، وبالتخفيف صاحب كلاب. وقال الزجاج: رجل مكلب ومكلب وكلاب صاحب كلاب.
الغسل في اللغة: إيصال الماء إلى المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد ونحوها قاله بعضهم، وقال آخرون: هو إمرار الماء على الموضع، ومن ذلك قول بعض العرب:
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
المرفق: المفصل بين المعصم والعضد، وفتح الميم وكسر الراء أشهر. الرجل: معروفة، وجمعت على أفعل في القلة والكثرة. والكعب: هو العظم الناتىء في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل. الحرج: الضيق، والحرج الناقة الضامر، والحرج النعش.
* (يسألونك ماذا أحل لهم) * سبب نزولها فيما قال: عكرمة ومحمد بن كعب، سؤال عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة. ماذا يحل لنا من هذه الكلاب؟ وكان إذ ذاك أمر الرسول بقتلها فقتلت حتى بلغت العواصم لقول جبريل عليه السلام: (إنا لا ندخل بيتا فيه كلب) وفي صحيح أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى أبي رافع.
قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم) بقتل الكلاب)، فقال الناس: يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم الآيات. وقال ابن جبير: نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل قالا: يا رسول الله، إنا نصيد بالكلاب والبزاة، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية لتأخذ البقر والحمر والظباء والضب، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت. وعلى اعتبار السبب يكون الجواب أكثر مما وقع السؤال عنه، لأنهم سألوا عن شيء خاص من المطعم، فأجيبوا بما سألوا عنه، وبشيء عام في المطعم.
ويحتمل أن يكون ماذا كلها استفهاما، والجملة خبر. ويحتمل أن يكون ما استفهاما، وذا خبرا. أي: ما الذي أحل لهم؟ والجملة إذ ذاك صلة. والظاهر أن المعنى: ماذا أحل لهم من المطاعم، لأنه لما ذكر ما حرم من الميتة وما عطف عليه من الخبائث، سألوا عما يحل لهم؟ ولما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب. ويجوز في الكلام ماذا أحل لنا، كما تقول: أقسم زيد ليضربن ولأضربن، وضمير التكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم
443

عليها. وقال الزمخشري: في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم، كأنه قيل: يقولون: ماذا أحل لهم انتهى. ولا يحتاج إلى ما ذكر، لأنه من باب التعليق كقوله: سلهم أيهم بذلك زعيم، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك. ونصوا على أن فعل السؤال يعلق، وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنه سبب للعلم، فكما تعلق العلم فكذلك سببه. وقال أبو عبد الله الرازي: لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا: ماذا أحل لهم ومعلوم أن ذلك باطل، لأنهم لا يقولون ذلك، وإنما يقولون: ماذا أحل لنا. بل الصحيح: أن هذا ليس حكاية كلامهم بعبارتهم، بل هو بيان كيفية الواقعة انتهى.
* (قل أحل لكم الطيبات) * لما كانت العرب تحرم أشياء من الطيبات كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، بغير إذن من الله تعالى، قرر هنا أن الذي أحل هي الطيبات. ويقوي قول الشافعي: أن المعنى المستلذات، ويضعف أن المعنى: قل أحل لكم المحللات، ويدل عليه قوله: * (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبئث) * كالخنافس والوزع وغيرهما. والطيب في لسان العرب يستعمل للحلال وللمستلذ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة. والمعتبر في الاستلذاذ والاستطابة أهل المروءة والأخلاق الجميلة، كان بعض الناس يستطيب أكل جميع الحيوانات. وهذه الجملة جاءت فعلية، فهي جواب لما سألوا عنه في المعنى لا على اللفظ، لأن الجملة السابقة وهي: ماذا أحل لهم اسمية، وهذه فعلية.
* (وما علمتم من الجوارح مكلبين) * ظاهر علمتم يخالف ظاهر استئناف مكلبين، فغلب الضحاك والسدي وابن جبير وعطاء ظاهر لفظ مكلبين فقالوا: الجوارح هي الكلاب خاصة. وكان ابن عمر يقول: إنما يصطاد بالكلاب. وقال هو وأبو جعفر: ما صيد بغيرها من باز وصقر ونحوهما فلا يحل، إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه. وجوز قوم البزاة، فجوزا صيدها لحديث عدي بن حاتم. وغلب الجمهور ظاهر: وما علتمتم، وقالوا: معنى مكلبين مؤدبين ومضرين ومعودين، وعمموا الجوارح في كواسر البهائم والطير مما يقبل التعليم. وأقصى غاية التعليم أن يشلي فيستشلي، ويدعى فيجيب، ويزجر بعد الظفر فينزجر، ويمتنع من أن يأكل من الصيد. وفائدة هذه الحال وإن كانت مؤكدة لقوله: علمتم، فكان يستغنى عنها أن يكون المعلم مؤتمرا بالتعليم حاذقا فيه موصوفا به، واشتقت هذه الحال من الكلب وإن كانت جاءت غاية في
الجوارح على سبيل التغليب، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه.
قال أبو سليمان الدمشقي: وإنما قيل مكلبين، لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب انتهى. واشتقت من الكلب وهي الضراوة يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به. قال الزمخشري: أو لأن السبع يسمى كلبا، ومنه قوله عليه السلام: (اللهم سلط عليه كلبا من كلابك) فأكله الأسد، ولا يصح هذا الاشتقاق، لأن كون الأسد كلبا هو وصف فيه، والتكليب من صفة المعلم، والجوارح هي سباع بنفسها لا بجعل المعلم. وظاهر قوله: وما علمتم، أنه خطاب للمؤمنين. فلو كان المعلم يهوديا أو نصرانيا فكره الصيد به الحسن، أو مجوسيا فكره الصيد به: جابر بن عبد الله،
444

والحسن، وعطاء، ومجاهد، والنخعي، والثوري، وإسحاق. وأجاز أكل صيد كلابهم: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي إذا كان الصائد مسلما. قالوا: وذلك مثل شفرته. والجمهور: على جواز ما صاد الكتابي. وقال مالك: لا يجوز فرق بين صيده وذبيحته. وما صاد المجوسي فالجمهور على منع أكله: عطاء، وابن جبير، والنخعي، ومالك، وأبو حنيفة، والليث، والشافعي. وقال أبو ثور: فيه قول أنهم أهل كتاب، وأن صيدهم جائز، وما علمتم موضع ما رفع على أنه معطوف على الطيبات، ويكون حذف مضاف أي: وصيد ما علمتم، وقدره بغضهم: واتخاذ ما علمتم. أو رفع على الابتداء، وما شرطية، والجواب: فكلوا. وهذا أجود، لأنه لا إضمار فيه.
وقرأ ابن عباس وابن الحنفية: وما علمتم مبنيا للمفعول أي: من أمر الجوارح والصيد بها. وقرأ: مكلبين من أكلب، وفعل وأفعل، قد يشتركان. والظاهر دخول الكلب الأسود البهيم في عموم الجوارح، وأنه يجوز أكل صيده، وبه قال الجمهور. ومذهب أحمد وجماعة من أهل الظاهر: أنه لا يجوز أكل صيد، لأنه مأمور بقتله، وما أوجب الشرع قتله فلا يجوز أكل صيده. وقال أحمد: لا أعلم أحدا رخص فيه إذا كان بهيما وبه قال: ابن راهويه. وكره الصيد به: الحسن، وقتادة، والنخعي. وقد تقدم ذكر أقصى غاية التعليم في الكلب، أنه إذا أمر ائتمر، وإذا زجر انزجر. وزاد قوم شرطا آخر وهو أن لا يأكل مما صاد، فأما سباع الطير فلا يشترط فيها الأكل عند الجمهور. وقال ربيعة: ما أجاب منها فهو المعلم. وقال ابن حبيب: لا يشترط فيها إلا شرط واحد: وهو أنه إذا أمرها أطاعت، فإن انزجارها إذا زجرت لا يتأتى فيها. وظاهر قوله: وما علمتم، حصول التعليم من غير اعتبار عدد. وكان أبو حنيفة لا يجد في ذلك عددا. وقال أصحابنا: إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات فقد حصل له التعليم. وقال غيرهم: إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد صار معلما.
* (تعلمونهن مما علمكم الله) * أي: إن تعليكم إياهن ليس من قبل أنفسكم، إنما هو من العلم الذي علمكم الله، وهو أن جعل لكم روية وفكرا بحيث قبلتم العلم. فكذلك الجوارح بصبر لها إدراك ما وشعور، بحيث يقبلن الائتمار والانزجار. وفي قوله: مما علمكم الله، إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان. ومفعول علم وتعلمونهن الثاني محذوف تقديره: وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهن تعلمونهن ذلك، وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام أكله، لأن الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم. والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله: فكلوا مما أمسكن عليكم، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه. ومعنى مما علمكم الله أي: من الأدب الذي أدبكم به تعالى، وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه، فإذا أمر فائتمر، وإذا زجر فانزجر، فقد تعلم مما علمنا الله تعالى. وقال الزمخشري: مما علمكم الله من كلم التكليف، لأنه إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل انتهى. والجملة من قوله: تعلمونهن، حال ثانية. ويجوز أن تكون مستأنفة على تقدير: أن لا تكون ما من قوله: وما علمتم من الجوارح، شرطية، إلا إن كانت اعتراضا بين الشرط وجزائه. وخطب الزمخشري هنا فقال: وفيه فائدة جليلة وهي أن كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من قبل أهله علما وأبحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، واحتاج إلى أن تضرب إليه أكباد الإبل، فكم من أخذ من غير متقن فقد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله.
* (فكلوا مما أمسكن عليكم) * هذا أمر إباحة. ومن هنا للتبعيض والمعنى: كلوا من الصيد الذي أمسكن عليكم. ومن ذهب إلى أن من زائدة فقوله ضعيف، وظاهره أنه إذا أمسك على مرسله جاز الأكل سواء أكل الجارح منه، أو لم يأكل، وبه قال: سعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وأبو هريرة، وابن عمر. وهو قول مالك وجميع أصحابه. ولو بقيت بضعة بعد أكله جاز أكلها ومن حجتهم: أن قتله هي ذكاته، فلا يحرم ما ذكى. وقال أبو هريرة أيضا وابن جبير، وعطاء، وقتادة، وعكرمة، والشافعي،
445

وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا يؤكل ما بقي من أكل الكلب ولا غيره، لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على مرسله. ولأن في حديث عدي (وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه) وعن علي: (إذا أكل البازي فلا تأكل) وفرق قوم ما أكل منه الكلب فمنعوا من أكله، وبين ما أكل منه البازي، فرخصوا في أكله منهم: ابن عباس، والشعبي، والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبو جعفر محمد بن علي الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، لأن الكلب إذا ضرب انتهى، والبازي لا يضرب. والظاهر أن الجارح إذا شرب من الدم أكل الصيد، وكره ذلك سفيان الثوري. والظاهر أنه إذا انفلت من صاحبه فصاد من غير إرسال أنه لا يجوز أكل ما صاد. وقال علي، والأوزاعي: إن كان أخرجه صاحبه للصيد جاز أكل ما صاد. وممن منع من أكله إذا صاد من غير إرسال صاحبه: ربيعة، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأبو ثور. والظاهر جواز أكل ما قتله الكلب بفمه من غير جرح لعموم مما أمسكن. وقال بعضهم: لا يجوز لأنه ميت.
2 (* (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور * ياأيهآ الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم علىألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم * والذين كفروا وكذبوا بأاياتنآ أولئك أصحاب الجحيم * ياأيهآ الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل
المؤمنون) *)) 2
* (واذكروا اسم الله عليه) * الظاهر عود الضمير في عليه إلى المصدر المفهوم من قوله: فكلوا، أي على الأكل. وفي الحديث في صحيح مسلم (سم الله وكل مما يليك) وقيل: يعود على ما أمسكن، على معنى: وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته، وهذا فيه بعد. وقيل: على ما علمتم من الجوارح أي: سموا عليه عند إرساله لقوله: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل) واختلفوا في التسمية عند الإرسال: أهي على الوجوب؟ أو على الندب؟ والمستحب أن يكون لفظها بسم الله والله أكبر. وقول من زعم: إن في الكلام تقديما وتأخيرا، وإن الأصل: فاذكروا اسم الله عليه وكلوا مما أمسكن عليكم، قول مرغوب عنه لضعفه.
* (واتقوا الله إن الله سريع الحساب) * لما تقدم ذكر ما حرم وأحل من المطاعم أمر بالتقوى، فإن التقوى بها يمسك الإنسان عن الحرام. وعلل الأمر بالتقوى بأنه تعالى سريع الحساب لمن خالف ما أمر به من تقواه، فهو وعيد بيوم القيامة، وأن حسابه تعالى إياكم سريع إتيانه، إذ يوم القيامة قريب. أو يراد بالحساب المجازاة، فتوعد من لم يتق بمجازاة سريعة قريبة، أو لكونه تعالى محيطا بكل شيء لا يحتاج في الحساب إلى مجادلة عد، بل يحاسب الخلائق دفعة واحدة.
* (اليوم أحل لكم الطيبات) * فائدة إعادة ذكر إحلال الطيبات التنبيه بإتمام النعمة فيما يتعلق بالدنيا، ومنها إحلال الطيبات كما نبه بقوله: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى) * على إتمام النعمة في كل ما يتعلق بالدين. ومن زعم أن اليوم واحد قال: كرره ثلاث مرات تأكيدا، والظاهر أنها أوقات مختلفة. وقد قيل في الثلاثة: إنها أوقات أريد بها مجرد الوقت، لا وقت معين. والظاهر أن الطيبات هنا هي الطيبات المذكورة قبل.
* (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * طعامهم هنا هي الذبائح كذا قال معظم أهل التفسير. قالوا: لأن ما كان من نوع البر والخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة لا يختلف في حلها باختلاف حال أحد، لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشرة لها كتابيا، أو مجوسيا، أم غير ذلك. وأنها لا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة، ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى. وذهب قوم إلى أن المراد بقوله: وطعام، جميع مطاعمهم. ويعزي إلى قوم ومنهم بعض أئمة الزيدية حمل الطعام هنا على ما لا يحتاج فيه إلى الذكاة كالخبز والفاكهة، وبه قالت الإمامية. قال الشريف المرتضى: نكاح الكتابية حرام، وذبائحهم وطعامهم وطعام من يقطع بكفره. وإذا حملنا الطعام على ما قاله الجمهور من الذبائح فقد اختلفوا فيما هو حرام عليهم، أيحل لنا أم يحرم؟ فذهب الجمهور إلى أن تذكية الذمي مؤثرة في كل الذبيحة ما حرم عليهم منها وما حل، فيجوز لنا أكله. وذهب قوم إلى أنه لا تعمل الذكاة فيما حرم عليهم، فلا يحل لنا أكله كالشحوم المحضة، وهذا هو الظاهر لقوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب، وهذا المحرم عليهم ليس من طعامهم. وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك.
والظاهر حل طعامهم سواء سموا عليه اسم الله، أم اسم غيره، وبه قال: عطاء، والقاسم بن بحصرة، والشعبي، وربيعة، ومكحول، والليث، وذهب إلى أن الكتابي إذا لم يذكر اسم الله على
446

الذبيحة وذكر غير الله لم تؤكل وبه قال: أبو الدرداء، وعبادة بن الصامت، وجماعة من الصحابة. وبه قال: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك. وكره النخعي والثوري أكل ما ذبح وأهل به لغير الله. وظاهر قوله: (أوتوا الكتاب) أنه مختص ببني إسرائيل والنصارى الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، دون من دخل في دينهم من العرب أو العجم، فلا تحل ذبائحهم لنا كنصارى بني تغلب وغيرهم. وقد نهى عن ذبائحهم علي رضي الله عنه، وقال: لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر. وذهب الجمهور ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وابن المسيب، والشعبي، وعطاء، وابن شهاب، والحكم، وقتادة، وحماد، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه: أنه لا فرق بين بني إسرائيل والنصارى ومن تهود أو تنصر من العرب أو العجم في حل أكل ذبيحتهم. والظاهر أن ذبيحة المجوسي لا تحل لنا لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب. وما روي عن مالك أنه قال: هم أهل كتاب وبعث إليهم رسول يقال: رزادشت لا يصح. وقد أجاز قوم أكل ذبيحتهم مستدلين بقوله: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب) *. وقال ابن المسيب: إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس. وقال أبو ثور: وإن أمر بذلك في الصحة فلا بأس. والظاهر أن ذبيحة الصابىء لا يجوز لنا أكلها، لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب. وخالف أبو حنيفة فقال: حكمهم حكم أهل الكتاب. وقال صاحباه: هم صنفان، صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة، وصنف لا يقرؤون كتابا ويعبدون النجوم، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب.
* (وطعامكم حل لهم) * أي: ذبائحكم وهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب. لما كان الأمر يقتضي أن شيئا شرعت لنا فيه التذكية، ينبغي لنا أن نحميه منهم، فرخص لنا في ذلك رفعا للمشقة بحسب التجاوز، فلا علينا بأس أن نطعمهم ولو كان حراما عليهم طعام المؤمنين، لما ساغ للمؤمنين إطعامهم. وصار المعنى: أنه أحل لكم أكل طعامهم، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم، والحل الحلال ويقال في الاتباع هذا حل بل.
* (والمحصنات من المؤمنات) * هذا معطوف على قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب. والمعنى: وأحل لكم نكاح المحصنات من المؤمنات.
* (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * والإحصان أن يكون بالإسلام وبالتزويج، ويمتنعان هنا، وبالحرية وبالعفة. فقال عمر بن الخطاب، ومجاهد، ومالك، وجماعة: الإحصان هنا الحرية، فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية. وقال جماعة: منهم مجاهد، والشعبي، وأبو ميسرة، وسفيان، الإحصان هنا العفة، فيجوز نكاح الأمة الكتابية. ومنع بعض العلماء من نكاح غير العفيفة بهذا المفهوم الثاني. قال الحسن: إذا اطلع الإنسان من امرأته على فاحشة فليفارقها. وعن مجاهد: يحرم البغايا من المؤمنات ومن أهل الكتاب. وقال الشعبي إحصان اليهودية والنصرانية أن لا تزني، وأن تغتسل من الجنابة. وقال عطاء: رخص في التزويج بالكتابية، لأنه كان في المسلمات قلة، فأما الآن ففيهن الكثرة، فزالت الحاجة إليهن. والرخصة في تزويجهن ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة نكاح الحرائر الكتابيات، واتفق على ذلك الصحابة إلا شيئا روي عن ابن عمر أنه سأله رجل عن ذلك فقال: اقرأ آية التحليل يشير إلى هذه الآية، وآية التحريم يشير إلى * (ولا تنكحوا
المشركات) * وقد تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن.
وتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه نايلة بنت الفرافصة الكلبية على نسائه، وتزوج طلحة بن عبد الله يهودية من الشام، وتزوج حذيفة يهودية. (فإن قلت): يكون ثم محذوف أي: والمحصنات اللاتي كن كتابيات فأسلمن، ويكون قد وصفهن بأنهن من الذين أوتوا الكتاب باعتبار ما كن عليه كما قال: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) *. وقال: * (من أهل الكتاب أمة قائمة) *
447

ثم قال بعد * (يؤمنون بالله واليوم الاخر) * (قلت): إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار، ولا يطلق على مسلم أنه من أهل الكتاب، كما لا يطلق عليه يهودي ولا نصراني. فأما الآيتان فأطلق الاسم مقيدا بذكر الإيمان فيهما، ولا يوجد مطلقا في القرآن بغير تقييد، إلا والمراد بهم اليهود والنصارى. وأيضا فإنه قال: والمحصنات من المؤمنات، فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات، فوجب أن يحمل قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وإلا زالت فائدته، إذ قد اندرجن في قوله: والمحصنات من المؤمنات. وأيضا فمعلوم من قوله تعالى: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * أنه لم يرد به طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب، بل المراد اليهود والنصارى، فكذلك هذه الآية.
(فإن قيل): يتعلق في تحريم الكتابيات بقوله تعالى: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * (قيل): هذا في الحربية إذا خرج زوجها مسلما، أو الحربي تخرج امرأته مسلمة: ألا ترى إلى قوله: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات) * ولو سلمنا العموم لكان مخصوصا بقوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، والظاهر جواز نكاح الحربية الكتابية لاندراجها في عموم. والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم. وخص ابن عباس هذا العموم بالذمية، فأجاز نكاح الذمية دون الحربية، وتلا قوله تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون) * إلى قوله * (وهم صاغرون) * ولم يفرق غيره من الصحابة من الحربيات والذميات. وأما نصارى بني تغلب فمنع نكاح نسائهن علي وإبراهيم وجابر بن زيد، وأجازه ابن عباس.
* (اليوم أحل لكم) * أي مهورهن. وانتزع العلماء من هذا أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به، ومن جوز أن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه محكم الالتزام في حكم المؤتى. وفي ظاهر قوله: إذا آتيتموهن أجورهن، دلالة على أن إماء الكتابيات لسن مندرجات في قوله: والمحصنات، فيقوى أن يراد به الحرائر، إذ الإماء لا يعطون أجورهن، وإنما يعطي السيد. إلا أن يجوز فنجعل إعطاء السيد إعطاء لهن. وفيه دلالة أيضا على أن أقل الصداق لا يتقدر، إذ سماه أجرا، والأجر في الإجارات لا يتقدر.
* (محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان) * تقدم تفسيره نظيره في النساء.
* (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو فى الاخرة من الخاسرين) * سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس: أنه تعالى لما أرخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن: لولا أن الله رضي ديننا وقبل عملنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا، فنزلت. وقال مقاتل: فيما أحصن المسلمون من نكاح نساء أهل الكتاب يقول: ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر انتهى. ولما ذكر فرائض وأحكاما يلزم القيام بها، أنزل ما يقتضي الوعيد على مخالفتها ليحصل تأكيد الزجر عن تضييعها. وقال القفال: ما معناه، لما حصلت لهم في الدنيا فضيلة مناكحة نسائهم، وأكل ذبائحهم، من الفرق في الآخرة بأن من كفر حبط عمله انتهى. والكفر بالإيمان لا يتصور. فقال ابن عباس، ومجاهد: أي: ومن يكفر بالله. وحسن هذا المجاز أنه تعالى رب الإيمان وخالقه. وقال الكلبي: ومن يكفر بشهادة أن لا إله إلا الله، جعل كلمة التوحيد إيمانا. وقال قتادة: إن ناسا من المسلمين قالوا: كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا؟ فأنزل الله تعالى: ومن كفر بالإيمان، أي بالمنزل في القرآن، فسمي القرآن إيمانا لأنه المشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان. قال الزجاج: معناه من أحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله فهو كافر. وقال أبو سليمان الدمشقي: من جحد ما أنزله الله من شرائع الإسلام وعرفه من الحلال والحرام. وتبعه الزمخشري في هذا التفسير فقال: ومن يكفر بالإيمان أي: بشرائع الإسلام، وما أحل الله وحرم. وقال ابن
448

الجوزي: سمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول: إنما أباح الله الكتابيات لأن بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن، فحذر نكاحهن من الميل إلى دينهن بقوله: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله. وقرأ ابن السميقع: حبط بفتح الباء وهو في الآخرة من الخاسرين حبوط عمله وخسرانه. في الآخرة مشروط بالموافاة على الكفر.
* (الخاسرين يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلواة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها حين فقدت العقد بسبب فقد الماء ومشروعية التيمم، وكان الوضوء متعذرا عندهم، وإنما جيء به للاستطراد منه إلى التيمم، وذلك في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق، وفيها كان هبوب الريح وقول عبد الله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة وحديث الافك. وقال علقمة بن الفعواء وهو من الصحابة: إنها نزلت رخصة للرسول لأنه كان لا يعمل عملا إلا على وضوء، ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما على غير ذلك، فأعلمه الله أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح بالأمر بإيفاء العهود، وذكر تحليلا وتحريما في المطعم والمنكح واستقصى ذلك، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض، استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه سبحانه وتعالى، ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا تمكن إلا بالطهارة، بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء. ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام، جاءت العبارة: إذا قمتم أي: إذا أردتم القيام إلى فعل الصلاة. وعبر عن إرادة القيام بالقيام، إذ القيام متسبب عن الإرادة، كما عبروا عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الأعمى لا يبصر أي لا يقدر على الأبصار، وقوله: * (نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) * أي قادرين
على الإعادة. وقوله: * (فإذا قرأت القرءان فاستعذ) * أي إذا أردت قراءة القرآن لما كان الفعل متسببا عن القدرة والإرادة أقيم المسبب مقام السبب.
وقيل: معنى قمتم إلى الصلاة، فصدتموها، لأن من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصدا له، فعبر عن القصد له بالقيام إليه. وظاهر الآية يدل على أن الوضوء واجب على كل من قام إلى الصلاة متطهرا كان أو محدثا، وقال به جماعة منهم: داود. وروى فعل ذلك عن علي وعكرمة. وقال ابن شيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة. وذهب الجمهور: إلى أنه لا بد في الآية من محذوف وتقديره: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، لأنه لا يجب الوضوء إلا على المحدث، ويدل على هذا المحذوف مقابلته بقوله: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * وكأنه قيل: إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا هذه الأعضاء، وامسحوا هذين العضوين. وإن كنتم محدثين الحدث الأكبر فاغسلوا جميع الجسد. وقال قوم منهم: السدي، وزيد بن أسلم: إذا قمتم من المضاجع يعنون النوم. وقالوا: في الكلام تقديم وتأخير أي: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء أي الملامسة الصغرى فاغسلوا وجوهكم. وهذا التأويل ينزه حمل كتاب الله عليه، وإنما ذكروا ذلك طلبا لأن يعم الإحداث بالذكر.
وقال قوم: الخطاب خاص وإن كان بلفظ العموم، وهو رخصة للرسول صلى الله عليه وسلم) أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ذلك، فأمر بالسواك، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث. وقال قوم: الأمر بالوضوء لكل صلاة على سبيل الندب، وكان كثير من الصحابة بفعله طلبا للفضل منهم: ابن عمر. وقال قوم: الوضوء عند كل صلاة كان فرضا ونسخ. وقيل: فرضا على الرسول خاصة، فنسخ عنه
449

عام الفتح. وقيل: فرضا على الأمة فنسخ عنه وعنهم. ولا يجوز أن يكون: فاغسلوا، أمر للمحدثين على الوجوب وللمتطهرين على الندب، لأن تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية قاله الزمخشري.
فاغسلوا وجوهكم، الوجه: ما قابل الناظر وحده، طولا منابت الشعر فوق الجهة مع آخر الذقن. والظاهر أن اللحية ليست داخلة في غسل الوجه، لأنها ليست منه. وكذلك الأذنان عرضا من الأذن إلى الأذن. ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجب الدلك، وهو مذهب مالك، والجمهور لا يوجبونه. والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأمورا بهما في الآية في غسل الوجه، ويرون ذلك سنة. وقال مجاهد: الاستنشاق شطر الوضوء. وقال عطاء، والزهري، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وإسحاق: من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة. وقال أحمد: يعيد من ترك الاستنشاق، ولا يعيد من ترك المضمضة: والإجماع على أنه لا يلزم غسل داخل العينين، إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه.
وأيديكم إلى المرافق، اليد: في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب، وقد غيا الغسل إليها. واختلفوا في دخولها في الغسل، فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها، وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب. وقال الزمخشري: إلى، تفيد معنى الغاية مطلقا، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل. ثم ذكر مثلا مما دخل وخرج ثم قال: وقوله: * (إلى المرافق * وإلى * الكعبين) * لا دليل فيه على أحد الأمرين انتهى كلامه. وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإن في ذلك خلافا. منهم من ذهب إلى أنه داخل، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل، وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين: وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل، فإذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر. وأيضا فإذا قلت: اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد إلى هو داخل الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشتري، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء. فإذا لم يتصور أن يكون داخلا إلا بمجاز، وجب أن يحمل على أنه غير داخل، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثم قرينة مرجحة المجاز على الحقيقة. فقول الزمخشري: عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج، لا دليل فيه على أحد الأمرين، مخالف لنقل أصحابنا، إذ ذكروا أن النحويين على مذهبين: أحدهما: الدخول، والآخر: الخروج. وهو الذي صححوه. وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف، ويكون من المحمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام. وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين، فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه. وقال ابن عطية: تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال: إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط بعطى أن الحد آخر المذكور بعدها، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. فالروايتان محفوظتان عن مالك. روى أشهب عنه: أنهما غير داخلتين، وروى غيره أنهما داخلتان انتهى. وهذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني فقال: إن لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم.
والظاهر أن الوضوء شرط في صحة الصلاة من هذه الآية، لأنه أمر بالوضوء للصلاة، فالآتي بها دونه تارك للمأمور، وتارك المأمور يستحق العقاب. وأيضا فقد بين أنه متى عدم الوضوء انتقل إلى التيمم، فدل على اشتراطه عند القدرة عليه. والظاهر أن أول فروض الوضوء هو غسل الوجه، وبه قال أبو حنيفة. وقال الجمهور: النية أولها. وقال أحمد وإسحاق: تجب التسمية في أول الوضوء، فإن تركها عمدا بطل وضوءه. وقال بعضهم: يجب ترك الكلام على الوضوء، والجمهور على أنه يستحب. والظاهر أن الواجب في هذه المأمور
450

بها هو مرة واحدة. والظاهر وجوب تعميم الوجه بالغسل بدأت بغسل أي موضع منه. والظاهر وجوب غسل البياض الذي بين العذار والأذن، وبه قال: أبو حنيفة، ومحمد، والشافعي. وقال أبو يوسف وغيره: لا يجب. والظاهر أن ما تحت اللحية الخفيفة لا يجب غسله، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يجب وأن ما استرسل من الشعر تحت الذقن لا يجب غسله. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك والمزني: يجب. وعن الشافعي القولان. والظاهر أن قوله: وأيديكم، لا ترتيب في غسل اليدين، ولا في الرجلين، بل تقديم اليمنى على اليسرى فيهما مندوب إليه من السنة. وقال أحمد: هو واجب. والظاهر أن التغيية بإلى تقتضي أن يكون انتهاء الغسل إلى ما
بعدها، ولا يجوز الابتداء من المرفق حتى يسيل الماء إلى الكف، وبه قال بعض الفقهاء. وقال الجمهور: لا يخل ذلك بصحة الوضوء. والسنة أن يصب الماء من الكف بحيث يسيل منه إلى المرفق.
* (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * هذا أمر بالمسح بالرأس، واختلفوا في مدلول باء الجر هنا فقيل: إنها للإلصاق. وقال الزمخشري: المراد إلصاق المسح بالرأس، وما مسح بعضه ومستوفيه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه انتهى. وليس كما ذكر، ليس ماسح بعضه يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه، إنما يطلق عليه أنه ملصق المسح ببعضه. وأما أن يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه حقيقة فلا، إنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز، وتسمية لبعض بكل. وقيل: الباء للتبعيض، وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة حتى قال بعضهم، وقال من لا خبرة له بالعربية. الباء في مثل هذا للتبعيض وليس بشيء يعرفه أهل العلم. وقيل: الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله * (ومن يرد فيه بإلحاد) * * (وهزى إليك بجذع النخلة) * * (ولا تلقوا بأيديكم) * أي إلحاد أو جذع وأيديكم. وقال الفراء: تقول العرب هزه وهز به، وخذ الخطام وبالخطام، وحز رأسه وبرأسه، ومده ومد به. وحكى سيبويه: خشنت صدره وبصدره، ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد، وهذا نص في المسألة.
وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس، فروي عن ابن عمر: أنه مسح اليافوخ فقط، وعن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه، وعن إبراهيم والشعبي: أي نواحي رأسك مسحت أجزأك، وعن الحسن: إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها. وأما فقهاء الأمصار فالمشهور من مذهب مالك: وجوب التعميم. والمشهور من مذهب الشافعي: وجوب أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح، ومشهور أبي حنيفة والشافعي: أن الأفضل استيعاب الجميع. ومن غريب ما نقل عمن استدل على أن بعض الرأس يكفي أن قوله تعالى: وامسحوا برؤوسكم، كقولك: مسحت بالمنديل يدي، فكما أنه لا يدل هذا على تعميم جميع اليد بجزء من أجزاء المنديل فكذلك الآية، فتكون الرأس والرجل آلتين لمسح تلك اليد، ويكون الفرض إذ ذاك ليس مسح الرأس والأرجل، بل الفرض مسح تلك اليد بالرأس والرجل، ويكون في اليد فرضان: أحدهما: غسل جميعها إلى المرفق، والآخر: مسح بللها بالرأس والأرجل. وعلى من ذهب إلى التبعيض يلزم أن يكون التبعيض في قوله في قصة التيمم: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه * (أن يقتصر على مسح بعض الوجه وبعض اليد، ولا قائل به. وعلى من جعل الباء آلة يلزم أيضا ذلك، ويلزم أن يكون المأمور به في التيمم هو مسح الصعيد بجزء من الوجه واليد.
والظاهر أن الأمر بالغسل والمسح بقع الامتثال فيه بمرة واحدة، وتثليث المعسول سنة. وقال أبو حنيفة ومالك: ليس بسنة. وقال الشافعي: بتثليث المسح. وروي عن أنس، وابن جبير، وعطاء مثله. وعن ابن سيرين: يمسح مرتين. والظاهر من الآية: أنه كيفما مسح أجزأه.
واختلفوا في الأفضل ابتداء بالمقدم إلى القفا، ثم إلى الوسط، ثلاثة أقوال الثابت منها في السنة الصحيحة الأول، وهو قول: مالك، والشافعي، وأحمد، وجماعة من الصحابة والتابعين. والثاني: منها قول الحسن بن حي. والثالث: عن ابن عمر. والظاهر أن رد اليدين على شعر الرأس ليس بفرض، فتحقق المسح بدون الرد. وقال بعضهم: هو فرض. والظاهر أن المسح على العمامة لا يجزئ، لأنه ليس مسحا للرأس. وقال الأوزاعي، والثوري،
451

وأحمد: يجزئ، وأن المسح يجزئ ولو بأصبع واحدة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يجزئ بأقل من ثلاث أصابع. والظاهر أنه لو غسل رأسه لم يجزه، لأن الغسل ليس هو المأمور به وهو قول: أبي العباس بن القاضي من الشافعية، ويقتضيه مذهب الظاهرية. وقال ابن العربي: لا نعلم خلافا في أن الغسل يجزيه من المسح إلا ما روى لنا الشاشي في الدرس عن ابن القاضي أنه لا يجزئه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر، وهي قراءة أنس، وعكرمة، والشعبي، والباقر، وقتادة، وعلقمة، والضحاك: وأرجلكم بالخفض. والظاهر من هذه القراءة اندراج الأرجل في المسح مع الرأس. وروى وجوب مسح الرجلين عن: ابن عباس، وأنس، وعكرمة، والشعبي، وأبي جعفر الباقر، وهو مذهب الإمامية من الشيعة. وقال جمهور الفقهاء: فرضهما الغسل. وقال داود: يجب الجمع بين المسح والغسل، وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية. وقال الحسن البصري، وابن جرير الطبري: يخير بين المسح والغسل ومن أوجب الغسل تأول أن الجر هو خفض على الجواز، وهو تأويل ضعيف جدا، ولم يرد إلا في النعت، حيث لا يلبس على خلاف فيه قد قرر في علم العربية، أو تأول على أن الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء أي: وافعلوا بأرجلكم الغسل، وحذف الفعل وحرف الجر، وهذا تأويل في غاية الضعف. أو تأول على أن الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة مظنة الإسراف المذموم المنهى عنه، فعطف على الرابع الممسوح لا ليمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقيل: إلى الكعبين، فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة، لأن المسح لم يضرب له غاية انتهى هذا التأويل. وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في الأحكام. وروي عن أبي زيد: أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحا ويقولون: تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي.
وقرأ نافع، والكسائي، وابن عامر، وحفص: وأرجلكم بالنصب. واختلفوا في تخريج هذه القراءة، فقيل: هو معطوف على قوله: وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وفيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض، بل هي منشئة حكما. وقال أبو البقاء: هذا جائز بلا خلاف. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، قال: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل، فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب الله عن هذا التخريج. وهذا تخريج من يرى أن فرض الرجلين هو الغسل، وأما من يرى المسح فيجعله معطوفا على موضع برؤوسكم، ويجعل قراءة النصب كقراءة الجر دالة على المسح. وقرأ الحسن: وأرجلكم بالرفع، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي: اغسلوها إلى الكعبين على تأويل من يغسل، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح. وتقدم مدلول الكعب. قال ابن عطية: قول الجمهور هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت، ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى العظم الذي في وجه القدم. وقال غيره: قالت الإمامية: وكل من
ذهب إلى وجوب مسح الكعب هو الذي في وجه القدم، فيكون المسح مغيا به. وقال ابن عطية: روى أشهب عن مالك: الكعبان هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب، وليس الكعب بالظاهر الذي في وجه القدم، ويظهر ذلك من الآية في قوله: في الأيدي إلى المرافق، إذ في كل يد مرفق. ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب، فلما كان في كل رجل كعبان خصتا بالذكر انتهى. ولا دليل في قوله في الآية على أن موالاة أفعال الوضوء ليست بشرط في صحته لقبول الآية التقسيم في قولك: متواليا وغير متوال، وهو مشهور مذهب أبي حنيفة ومالك، وروي عن مالك والشافعي في القديم: أنها شرط. وعلى أن الترتيب في الأفعال ليس بشرط لعطفها بالواو وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، ومذهب الشافعي أنه شرط واستيفاء حجج. هذه المسائل مذكورة في الفقه، ولم تتعرض الآية للنص على الأذنين. فمذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري، والأوزاعي، ومالك فيما روى عنه أشهب وابن القاسم: أنهما من الرأس فيمسحان. وقال الزهري: هما من الوجه فيغسلان معه. وقال الشافعي: من الوجه هما عضو قائم بنفسه، ليسا من الوجه ولا من الرأس، ويمسحان بماء جديد. وقيل: ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر من الرأس، وعلى هذه الأقوال تبنى فرضية المسح
452

أو الغسل وسنية ذلك.
* (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى، وتقدم مدلول الجنب في * (ولا جنبا إلا عابرى سبيل) * والظاهر أن الجنب مأمور بالاغتسال. وقال عمر، وابن مسعود: لا يتيمم الجنب البتة، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء، والجمهور على خلاف ذلك، وأنه يتيمم، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور. والظاهر أن الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله: * (فلم تجدوا ماء) * أي للوضوء والغسل فتيمموا صعيدا طيبا فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد، وهو قول الجمهور. وذهب الأوزاعي والأصم: إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة. والظاهر أن الجنب لا يجب عليه غير التطهير من غير وضوء. ولا ترتيب في الأعضاء المغسولة، ولا دلك، ولا مضمضة، ولا استنشاق، بل الواجب تعميم جسده بوصول الماء إليه. وقال داود وأبو ثور: يجب تقديم الوضوء على الغسل. وقال إسحاق: تجب البداءة بأعلى البدن. وقال مالك: يجب الدلك، وروى عنه محمد بن مروان الظاهري: أنه يجزئه الانغماس في الماء دون تدلك. وقال أبو حنيفة: وزفر، وأبو يوسف، ومحمد، والليث، وأحمد: تجب المضمضة والاستنشاق فيه، وزاد أحمد الوضوء. وقال النخعي: إذا كان شعره مفتولا جدا يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس لا يجب نقضه. وقرأ الجمهور: فاطهروا بتشديد الطاء والهاء المفتوحتين، وأصله: تطهروا، فأدغم التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل. وقرئ: فاطهروا بسكون الطاء، والهاء مكسورة من أطهر رباعيا، أي: فأطهروا أبدانكم، والهمزة فيه للتعدية.
* (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) * تقدم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء، إلا أن في هذه الجملة زيادة منه وهي مرادة في تلك التي في النساء. وفي لفظه: منه دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين، فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليد كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه، وهذا مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة، ومالك: إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه. وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد، والأمر بالمسح، أنه لو يممه غيره، أو وقف في مهب ريح فسفت على وجهه ويديه وأمر يده عليه، أو لم يمر، أو ضرب ثوبا فارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه، أن ذلك لا يجزئه. وفي كل من المسائل الثلاث خلاف.
* (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) * أي من تضييق، بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء. والإرادة صفة ذات، وجاءت بلفظ المضارع مراعاة للحوادث التي تظهر عنها، فإنها تجيء مؤتنقة من نفي الحرج، ووجود التطهير، وإتمام النعمة. وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله: * (يريد الله ليبين لكم) * فأغنى عن إعادته. ومن زعم أن مفعول يريد محذوف تتعلق به اللام، جعل زيادة من في الواجب للنفي الذي في صدر الكلام، وإن لم يكن النفي واقعا على فعل الحرج، ويجري مجرى هذه الجملة ما جاء في الحديث (دين الله يسر) وبعثت بالحنيفية السمحة) وجاء لفظ الدين بالعموم، والمقصود به الذي ذكر بقرب وهو التيمم.
* (ولاكن يريد ليطهركم) * أي بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء. وفي الحديث: (التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج). وقال الجمهور: المقصود بهذا التطهير إزالة النجاسة الحكمية الناشئة عن خروج الحدث. وقيل: المعنى ليطهركم من أدناس الخطايا بالوضوء والتيمم، كما جاء في مسلم: (سقط: إذا تؤضأ العبد المسلم، أو المؤمن فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر
453

إليها بعينيه مع الماء إلى آخر الحديث. وقيل: المعنى ليطهركم عن التمرد عن الطاعة. وقرأ ابن المسيب: ليطهركم بإسكان الطاء وتخفيف الهاء.
* (وليتم نعمته عليكم) * أي وليتم برخصة العامة عليكم بعزائمه. وقيل: الكلام متعلق بما دل عليه أول السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، ثم قال بعد كيفية الوضوء: ويتم نعمته عليكم، أي النعمة المذكورة ثانيا وهي نعمة الدين. وقيل: تبيين الشرائع وأحكامها، فيكون مؤكدا لقوله: * (وأتممت عليكم نعمتى) * وقيل: بغفران ذنوبهم. وفي الخبر: * (حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) *.
* (لعلكم تشكرون) * أي تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم.
* (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا) * الخطاب للمؤمنين، والنعمة هنا الإسلام، وما صاروا إليه من اجتماع الكلمة والعزة. والميثاق: هو ما أخذه الرسول عليهم في بيعة العقبة وبيعة الرضوان، وكل موطن قاله: ابن عباس، والسدي، وجماعة. وقال مجاهد: هو ما أخذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم. وقيل: هو الميثاق المأخوذ عليهم حين بايعهم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر، والمنشط والمكره. وقيل: الميثاق هو الدلائل التي نصبها لأعينهم وركبها في عقولهم، والمعجزات التي أظهرها في أيامهم حتى سمعوا وأطاعوا. وقيل: الميثاق إقرار كل مؤمن بما ائتمر به. وروي عن ابن عباس: أنه
الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل حين قالوا: آمنا بالتوراة وبكل ما فيها، ومن جملته البشارة بالرسول صلى الله عليه وسلم)، فلزمهم الإقرار به. ولا يتأتى هذا القول إلا أن يكون الخطاب لليهود، وفيه بعد. والقولان بعده يكون الميثاق فيهما مجاز، والأجود حمله على ميثاق البيعة، إذ هو حقيقة فيه، وفي قوله: إذا قلتم سمعنا وأطعنا.
* (واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور) * أي: واتقوا الله ولا تتناسوا نعمته، ولا تنقضوا ميثاقه. وتقدم شرح شبه هذه الجملة في النساء فأغنى عن إعادته.
* (بذات الصدور يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنان قوم على ألا تعدلوا) * تقدم تفسير مثل هذه الجملة الأولى في النساء، إلا أن هناك بدىء بالقسط، وهنا أخر. وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة. ويلزم من كان قائما لله أن يكون شاهدا بالقسط، ومن كان قاتما بالقسط أن يكون قائما لله، إلا أن التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين، فبدىء فيها بالقسط الذي هو
454

العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والإحن، فبدىء فيها بالقيام لله تعالى أولا لأنه أردع للمؤمنين، ثم أردف بالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيه بما هو آكد وهو القسط، وفي معرض العداوة والشنآن بدىء فيها بالقيام لله، فناسب كل معرض بما جيء به إليه. وأيضا فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا) * وقوله: * (فلا جناح عليهما أن) * فناسب ذكر تقديم القسط، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط، وتعدية يجرمنكم بعلى إلا أن يضمن معنى ما يتعدى بها، وهو خلاف الأصل.
* (تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) * أي: العدل نهاهم أولا أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانيا تأكيدا، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله: هو أقرب للتقوى، أي: أدخل في مناسبتها، أو أقرب لكونه لطفا فيها. وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين في العدل، إذ كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين.
* (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) * لما كان الشنآن محله القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى، وأتى بصفة خبير ومعناها عليم، ولكنها تختص بما لطف إدراكه، فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية.
* (وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم * لما * ذكر * تعالى * تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين * إن هاذا لهو الفوز العظيم * لمثل هاذا فليعمل العاملون * أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم * طلعها كأنه رءوس الشياطين * فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم * إنهم ألفوا ءاباءهم ضالين * فهم علىءاثارهم يهرعون * ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين * ولقد أرسلنا فيهم منذرين * فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * إلا عباد الله المخلصين * ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين * وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على نوح فى العالمين) * كأنه قيل: وعدهم هذا القول، وإذا وعدهم من لا يخلف اليمعاد فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم، وهذا القول يتلقونه عند اتلموت ويوم القيامة، فيسرون ويستريحون إليه، وتهون عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى التراب انتهى. وهي تقادير محتملة، والأول أوجهها. * (والذين كفروا وكذبوا بئاياتنا أولائك أصحاب الجحيم) * لما ذكر ما لمن آمن، ذكر ما لمن كفر. وفي المؤمنين جاءت الجملة فعلية متضمنة الوعد بالماضي الذي هو دليل على الوقوع، فأنفسهم متشوقة لما وعدوا به، متشوفة إلفيه مبتهجة طول الحياة بهذا الوعد الصادق. وفي الكافرين جاءت الجملة اسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم، وأنهم أصحاب النار، فهم دائمون في عذاب، إذ حتم لهم أنهم أصحاب الجحيم، ولم يأت بصورة الوعيد، فكان يكون الرجاء لهم في ذلك.
* (الجحيم
455

يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * روى أبو صالح عن ابن عباس: أنها نزلت من أجل كفار قريش، وقد تقدم ذكرهم في قوله: * (لا يجرمنكم * منكم * شنان قوم) * وبه قال مقاتل، وقال الحسن: بعثت قريش رجلا ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم)، فأطلعه الله على ذلك. وقال مجاهد وقتادة: إنه عليه السلام ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في دية فهموا بقتله. وقال جماعة من المفسرين: أتى بني قريظة ومعه أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ حسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك ونقرضك، فأجلسوه في صفة وهموا بالقتل به، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه، فأمسك الله يده، ونزل جبريل عليه السلام فأخبره فخرج. وقيل: نزل منزلا في غزوة ذات الرقاع بني محارب بن حفصة بن قيس بن غيلان، وتفرق الناس في العضاة يستظلون بها، فعلق الرسول سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي فسل سيف الرسول صلى الله عليه وسلم) واسمه غورث، وقيل: دعثور بن الحرث، ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك مني؟ قال: (الله قالها ثلاثا) وقال: أتخافني؟ قال: لا، فشام السيف وحبس. وفي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم) دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم) لم يعاقبه. قيل: أسلم. وقيل: ضرب برأسه ساق الشجرة حتى مات. وروي أن المشركين رأوا المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معا بعسفان في غزوة ذي انمار، فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا: إن لهم صلاة بعدها هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، وهي صلاة العصر، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها، فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف. وقد طولوا بذكر أسباب أخر. وملخص ما ذكروه أن قريشا، أو بني النضير، أو قريظة، أو غورثا، هموا بالقتل بالرسول، أو المشركين هموا بالقتل بالمسلمين، أو نزلت في معنى * (اليوم * بئس * الذين كفروا من دينكم) * قاله الزجاج، أو عقيب الخندق حين هزم الله الأحزاب * (وكفى
الله المؤمنين القتال) * والذي تقتضيه الآية أن الله تعالى ذكر المؤمنين بنعمه إذا أراد قوم من الكفار لم يعينهم الله بل أبهمهم أن ينالوا المسلمين بشر، فمنعهم الله، ثم أمرهم بالتقوى والتوكل عليه. ويقال: بسط إليه لسانه أي شتمه، وبسط إليه يده مدها ليبطش به. وقال تعالى: * (ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء) * ويقال: فلان بسيط الباغ، ومد يد الباع، بمعنى. وكف الأيدي منعها وحبسها. وجاء الأمر بالتقوى أمر مواجهة مناسبا لقوله اذكروا. وجاء الأمر بالتوكل أمر غائب لأجل الفاصلة، وإشعارا بالغلبة، وإفادة لعموم وصف الإيمان، أي: لأجل تصديقه بالله ورسوله يؤمر بالتوكل كل مؤمن، ولابتداء الآية بمؤمنين على جهة الاختصاص وختمها بمؤمنين على جهة التقريب.
2 (* (ولقد أخذ الله ميثاق بنىإسراءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إنى معكم لئن أقمتم الصلواة وءاتيتم الزكواة وءامنتم برسلى وعزرتموهم وأقرضتم
456

الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجرى من تحتها الا نهار فمن كفر بعد ذالك منكم فقد ضل سوآء السبيل * فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خآئنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين * ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون * ياأهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم * لقد كفر الذين قآلوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الا رض جميعا ولله ملك السماوات والا رض وما بينهما يخلق ما يشآء والله على كل شىء قدير * وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء ولله ملك السماوات والا رض وما بينهما وإليه المصير * يأهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شىء قدير * وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين * ياقوم ادخلوا الا رض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب
457

فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا ياموسىإنا لن ندخلهآ أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلاإنا هاهنا قاعدون * قال رب إنى لاأملك إلا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الا رض فلا تأس على القوم الفاسقين) *))
) *
نقب في الجبل والحائط فتح فيه ما كان منسدا، والتنقيب التفتيش، ومنه * (فنقبوا فى البلاد) * ونقب على القوم ينقب إذا صار نقيبا، أي يفتش عن أحوالهم وأسرارهم، وهي النقابة. والنقاب الرجل العظيم، والنقب الجرب واحده النقبة، ويجمع أيضا على نقب على وزن ظلم، وهو القياس. وقال الشاعر:
* متبذلا تبدو محاسنه
*
يضع الهناء مواضع النقب
*
أي الجرب. والنقبة سراويل بلا رجلين، والمناقب الفضائل التي تظهر بالتنقيب. وفلانة حسنة النقبة النقاب أي جميلة، والظاهر أن النقيب فعيل للمبالغة كعليم، وقال أبو مسلم: بمعنى مفعول، يعني أنهم اختاروه على علم منهم. وقال الأصم: هو المنظور إليه المسند إليه الأمر والتدبير، عزر الرجل قال يونس بن حبيب: أثنى عليه بخير. وقال أبو عبيدة: عظمة. وقال الفراء: رده عن الظلم: ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبيح. قال القطامي:
* ألا بكرت مي بغير سفاهة
*
تعاتب والمودود ينفعه العزر
*
أي المنع. وقال آخر في معنى التعظيم:
* وكم من ماجد لهم كريم
*
ومن ليث يعزر في الندي
*
وعلى هذه النقول يكون من باب المشترك. وجعله الزمخشري من باب المتواطىء قال: عزرتموه نصرتموه ومنعتموه من أيدي العدو، ومنه التعزير وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد، وهو قول الزجاج، قال: التعزير الردع، عزرت فلانا فعلت به ما يردعه عن القبيح، مثل نكلت به. فعلى هذا يكون تأويل عزرتموهم رددتم عنهم
أعداءهم انتهى. ولا يصح إلا إن كان الأصل في عزرتموهم أي عزرتم بهم.
طلع الشيء برز وظهر، واطلع افتعل منه. غرا بالشيء غراء، وغر ألصق به وهو الغري الذي يلصق به. وأغرى فلان زيدا بعمرو ولعه به،
458

وأغريت الكلب بالصيد أشليته. وقال النضر: أغرى بينهم هيج. وقال مورج: حرش بعضهم على بعض. وقال الزجاج: ألصق بهم. الصنع: العمل. الفترة: هي الانقطاع، فتر الوحي أي انقطع. والفترة السكون بعد الحركة في الإجرام، ويستعار للمعاني. قال الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك فترة
والهاء فيه ليست للمرة الواحدة، بل فترة مرادف للفتور. ويقال: طرف فاتر إذا كان ساجيا. الجبار: فعال من الجبر، كأنه لقوته وبطشه يجبر الناس على ما يختارونه. والجبارة النخلة العالية التي لا تتال بيد، واسم الجنس جبار. قال الشاعر:
* سوابق جبار أثيث فروعه
*
وعالين قنوانا من البسر أحمرا
*
التيه في اللغة: الحيرة، يقال منه: تاه، يتيه، ويتوه، وتوهته، والتاء أكثر، والأرض التوهاء التي لا يهتدى فيها، وأرض تيه. وقال ابن عطية: التيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصود. الأسى: الحزن، يقال منه: أسى يأسى. * (ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسراءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا) * مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أمر بذكر الميثاق الذي أخذه الله على المؤمنين في قوله: * (وميثاقه الذى واثقكم به) * ثم ذكر وعده إياهم، ثم أمرهم بذكر نعمته عليه إذ كف أيدي الكفار عنهم، ذكرهم بقصة بني إسرائيل في أخذ الميثاق عليهم، ووعده لهم بتكفير السيئات، وإدخالهم الجنة، فنقضوا الميثاق وهموا بقتل الرسول، وحذرهم بهذه القصة أن يسلكوا سبيل بني إسرائيل هو بالإيمان والتوحيد. وبعث النقباء قيل: هم الملوك بعثوا فيهم يقيمون العدل، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر. والنقيب: كبير القوم القائم بأمورهم. والمعنى في الآية: أنه عدد عليهم نعمه في أن بعث لأعدائهم هذا العدد من الملوك قاله النقاش. وقال: ما وفى منهم إلا خمسة: داود. وسليمان ابنه، وطالوت، وحزقيل، وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء، وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جبارا كلهم يأخذ الملك بالسيف، ويعبث فيهم، والبعث: من بعث الجيوش. وقيل: هو من بعث الرسل وهو إرسالهم والنقباء الرسل جعلهم الله رسلا إلى قومهم كل نبي منهم إلى سبط.
وقيل: الميثاق هنا والنقباء هو ما جرى لموسى مع قومه في جهاد الجبارين، وذلك أنه لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام، وكان يسكنها الكفار الكنعانيون الجبابرة وقال لهم: إني كتبتها لكم دارا وقرارا فأخرجوا إليها، وجاهدوا من فيها، وإني ناصركم. وأمر موسى أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقه عليهم، فاختار النقباء، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل، وتكفل لهم به النقباء، وسار
459

بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراما عظاما وقوة وشوكة، فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم، وقد نهاهم موسى أن يحدثوهم، فنكثوا الميثاق، إلا كالب بن يوقنا من سبط يهودا، ويوشع بن نون من سبط أفراثيم بن يوسف وكانا من النقباء. وذكر محمد بن حبيب في المحبر أسماء هؤلاء النقباء الذين اختارهم موسى في هذه القصة بألفاظ لا تنضبط حروفها ولا شكلها، وذكرها غيره مخالفة في أكثرها لما ذكره ابن حبيب لا ينضبط أيضا. وذكروا من خلق هؤلاء الجبارين وعظم أجسامهم وكبر قوالبهم ما لا يثبت بوجه، قالوا وعدد هؤلاء النقباء كان بعدد النقباء الذين اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) من السبعين رجلا والمرأتين الذين بايعوه في العقبة الثانية، وسماهم: النقباء.
* (وقال الله إنى معكم) * أي بالنصر والحياطة. وفي هذه المعية دلالة على عظم الاعتناء والنصرة، وتحليل ما شرطه عليهم مما يأتي بعد، وضمير الخطاب هو لبني إسرائيل جميعا. وقال الربيع: هو خطاب للنقباء، والأول هو الراجح لانسحاب الأحكام التي بعد هذه الجملة على جميع بني إسرائيل.
* (لئن أقمتم الصلواة وءاتيتم الزكواة وءامنتم برسلى وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لاكفرن عنكم سيئاتكم ولادخلنكم جنات تجرى من تحتها الانهار) * اللام في لئن أقمتم هي المؤذنة بالقسم والموطئة بما بعدها، وبعد أداة الشرط أن يكون جوابا للقسم، ويحتمل أن يكون القسم محذوفا، ويحتمل أن يكون لأكفرن جوابا لقوله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، ويكون قوله: وبعثنا والجملة التي بعده في موضع الحال، أو يكونان جملتي اعتراض، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه. وقال الزمخشري: وهذا الجواب يعني لأكفرن، ساد مسد جواب القسم والشرط جميعا انتهى. وليس كما ذكر لا يسد وكفرن مسدهما، بل هو جواب القسم فقط، وجواب الشرط محذوف كما ذكرنا. والزكاة هنا مفروض من المال كان عليهم، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه قاله: ابن عطية. والأول وهو الراجح.
وآمنتم برسلي، الإيمان بالرسل هو التصديق بجميع ما جاؤوا به عن الله تعالى. وقدم الصلاة والزكاة على الإيمان تشريفا لهما، وقد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بالإيمان قاله: ابن عطية. وقال أبو عبد الله الرازي: كان اليهود مقرين بحصول الإيمان مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكانوا مكذبين بعض الرسل، فذكر بعدهما الإيمان بجميع الرسل، وأنه لا تحصل نجاة إلا بالإيمان بجميعهم انتهى ملخصا. وقرأ الحسن: برسلي بسكون السين في جميع القرآن، وعزرتموهم. وقرأ عاصم الجحدري: وعزرتموهم خفيفة الزاي. وقرأ في الفتح: * (وتعزروه) * فتح التاء وسكون العين وضم الزاي، ومصدره العزر. وأقرضتم الله قرضا حسنا: إيتاء
الزكاة هو في الواجب، وهذا القرض هو في المندوب. ونبه على الصدقات المندوبة بذكرها فيما يترتب على المجموع تشريفا وتعظيما لموقعها من النفع المتعدي. قال الفراء: ولو جاء إقراضا لكان صوابا، أقيم الاسم هنا مقام المصدر كقوله تعالى: * (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا) * لم يقل بتقبيل ولا إنباتا انتهى. وقد فسر هذا الإقراض بالنفقة في سبيل الله، وبالنفقة على الأهل، وبالزكاة. وفيه بعد، لأنه تكرار. ووصفه بحسن إما لأنه لا يتبع بمن ولا أذى، وأما لأنه عن طيب نفس. لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات: رتب على هذه الخمسة المشروطة تكفير السيئات، وذلك إشارة إلى إزالة العقاب، وإدخال الجنات، وذلك إشارة إلى إيصال الثواب.
* (فمن كفر بعد ذالك منكم فقد ضل سواء السبيل) * أي بعد ذلك الميثاق المأخوذ والشرط المؤكد فقد أخطأ الطريق المستقيم. وسواء السبيل وسطه وقصده المؤدي إلى القصد، وهو الذي شرعه الله. وتخصيص الكفر بتعدية أخذ الميثاق وإن كان قبله ضلالا عن الطريق المستقيم، لأنه بعد الشرط المؤكد بالوعد الصادق الأمين العظيم أفحش وأعظم، إذ يوجب أخذ الميثاق الإيفاء به، لا سيما بعد هذا الوعيد عظم الكفر هو بعظم النعمة المكفورة.
* (فبما نقضهم ميثاقهم) * تقدم الكلام على مثل هذه الجملة.
* (لعناهم) * أي طردناهم وأبعدناهم من الرحمة قاله: عطاء والزجاج. أو عذبناهم بالمسح قردة وخنازير كما قال
460

* (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * أي نمسخهم كما مسخناهم قاله: الحسن، ومقاتل. أو عذبناهم بأخذ الجزية قاله: ابن عباس. وقال قتادة: نقضوا الميثاق بتكذيب الرسل الذين جاءوا بعد موسى وقتلهم الأنبياء بغير حق وتضييع الفرائض.
* (وجعلنا قلوبهم قاسية) * قال ابن عباس: جافية جافة. وقيل: غليظة لا تلين. وقيل: منكرة لا تقبل الوعظ، وكل هذا متقارب. وقسوة القلب غلظه وصلابته حتى لا ينفعل لخير. وقرأ الجمهور من السبعة: قاسية اسم فاعل من قسا يقسو. وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي: قسية بغير ألف وبتشديد الياء، وهي فعيل للمبالغة كشاهد وشهيد. وقال قوم: هذه القراءة ليست من معنى القسوة، وإنما هي كالقسية من الدراهم، وهي التي خالطها غش وتدليس، وكذلك القلوب لم يصل الإيمان بل خالطها الكفر والفساد. قال أبو زبيد الطائي:
* لهم صواهل في صم السلاح كما
*
صاح القسيات في أيدي الصياريف
*
وقال آخر:
* فما زادوني غير سحق عمامة
*
وخمس ميء فيها قسي وزائف
*
قال الفارسي: هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب. وقال الزمخشري وقرأ عبد الله قسية أي رديئة مغشوشة من قولهم: درهم قسي، وهو من القسوة، لأن الذهب والفضة الخالصتين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وصلابة. والقاسي والقاسح بالحاء إخوان في الدلالة على اليبس والصلابة انتهى. وقال المبرد: سمى الدرهم الزائف قسييا لشدته بالغش الذي فيه، وهو يرجع إلى المعنى الأول، والقاسي والقاسح بمعنى واحد انتهى. وقول المبرد: مخالف لقول الفارسي، لأن المعهود جعله عربيا من القسوة، والفارسي جعله معربا دخيلا في كلام العرب وليس من ألفاظها.
وقرأ الهيصم بن شراح: قسية بضم القاف وتشديد الياء، كحنى. وقرئ بكسر القاف اتباعا. وقال الزمخشري: خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم، أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي. وأما أهل السنة فيقولون: إن الله خلق القسوة في قلوبهم.
* (يحرفون الكلم عن مواضعه) * أي يغيرون ما شق عليهم من أحكامها، كآية الرجم بدلوها لرؤسائهم بالتحميم وهو تسويد الوجه بالفحم قال معناه ابن عباس وغيره، وقالوا: التحريف بالتأويل لا بتغيير الألفاظ، ولا قدرة لهم على تغييرها ولا يمكن. ألا تراهم وضعوا أيديهم على آية الرجم؟ وقال مقاتل: تحريفهم الكلم هو تغييرهم صفة الرسول أزالوها وكتبوا مكانها صفة أخرى فغيروا المعنى والألفاظ، والصحيح أن تحريف الكلم عن مواضعه هو التغيير في اللفظ والمعنى، ومن اطلع على التوراة علم ذلك حقيقة، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى. وهذه الجملة وما بعدها جاءت بيانا لقسوة قلوبهم، ولا قسوة أشد من الافتراء على الله تعالى وتغيير وحيه. وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي الكلام بالألف. وقرأ أبو رجاء: الكلم بكسر الكاف وسكون اللام. وقرأ الجمهور: الكلم بفتح الكاف.
* (ونسوا حظا مما ذكروا به) * وهذا أيضا من قسوة قلوبهم وسوء فعلهم بأنفسهم، حيث ذكروا بشيء فنسوه وتركوه، وهذا الحظ
461

من الميثاق المأخوذ عليهم. وقيل: لما غيروا ما غيروا من التوراة استمروا على تلاوة ما غيروه، فنسوا حظا مما في التوراة قاله مجاهد. وقيل: أنساهم نصيبا من الكتاب بسبب معاصيهم، وعن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية، وتلا هذه الآية. وقال الشاعر:
* شكوت إلى وكيع سوء حفظي
*
فأومأ لي إلى ترك المعاصي
*
وقيل: تركوا نصيبهم مما أمروا به من الإيمان بالرسول وبيان نعته.
* (ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم) * أي هذه عادتهم وديدنهم معك، وهم على مكان أسلافهم من خيانة الرسل وقتلهم الأنبياء. فهم لا يزالون يخوفونك وينكثون عهودك، ويظاهرون عليك أعداءك، ويهمون بالقتل بك، وأن يسموك. ويحتمل أن يكون الخائنة مصدرا كالعافية، ويدل على ذلك قراءة الأعمش على خيانة، أو اسم فاعل، والهاء للمبالغة كراوية أي خائن، أو صفة لمؤنث أي قرية خائنة، أو فعلة خائنة، أو نفس خائنة. والظاهر في الاستثناء أنه من الأشخاص في هذه الجملة، والمستثنون عبد الله بن سلام وأصحابه قاله: ابن عباس. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في الأفعال أي: إلا فعلا قليلا منهم، فلا تطلع فيه على خيانة. وقيل: الاستثناء من قوله: * (وجعلنا قلوبهم قاسية) * والمراد به المؤمنون، فإن القسوة زالت عن قلوبهم، وهذا فيه بعد.
* (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) * ظاهره الأمر بالمعروف والصفح عنهم جميعهم، وذلك بعث على حسن التخلق معهم ومكارم الأخلاق. وقال ابن جرير: يجوز أن يعفو عنهم في مغدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا، ولم يمتنعوا من أداء جزية. وقيل: الضمير عائد على من آمن منهم، فلا تؤاخذهم بما سلف منهم، فيكون عائدا على المستثنين. وقيل: هذا الأمر منسوخ بآية السيف. وقيل: بقوله: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) *. وقيل: بقوله: * (وإما تخافن من قوم خيانة) * وفسر قوله: يحب المحسنين، بالعافين عن الناس، وبالذين أحسنوا عملهم بالإيمان، وبالمستثنين وهم الذين ما نقضوا العهد والذين آمنوا وبالنبي عليه السلام لأنه المأمور في الآية بالصفح والعفو.
* (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم) *. الظاهر أن من تتعلق بقوله: أخذنا وأن الضمير في ميثاقهم عائد على الموصول، وأن الجملة معطوفة على قوله: * (ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسراءيل) * والمعنى: أنه تعالى أخذ من النصارى ميثاق أنفسهم وهو الإيمان بالله والرسل وبأفعال الخير. وقيل: الضمير في ميثاقهم عائد على بني إسرائيل، ويكون مصدرا شبيها أي: وأخذنا من النصارى ميثاقا مثل ميثاق بني إسرائيل. وقيل: ومن الذين معطوف على قوله: منهم، من قوله: * (ولا تزال تطلع على خائنة) * منهم أي من اليهود، ومن الذين قالوا إنا نصارى. ويكون قوله: أخذنا ميثاقهم مستأنفا، وهذا فيه بعد للفصل، ولتهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه دون ضرورة. وقال قتادة: أخذ على النصارى الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم)، فتركوا ما أمروا به. وقال غيره: أخذ الميثاق عليهم بالعمل بالتوراة، وبكتب الله المنزلة وأنبيائه ورسله. وفي قوله: قالوا إنا نصارى، توبيخ لهم وزجر عما ادعوه من أنهم ناصر ودين الله وأنبيائه، إذ جعل ذلك منهم مجرد دعوى لا حقيقة. وحيث جاء النصارى من غير نسبة إلى أنهم قالوا عن أنفسهم ذلك، فإنما هو من باب العلم لم يلحظ فيه المعنى الأول الذي قصدوه من النصر، كما صار اليهود علما لم يحلظ فيه معنى قوله اهدنا إليك. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فهلا قيل: ومن النصارى؟ (قلت): لأنهم إنما سموا بذلك أنفسهم ادعاء لنصرة الله، وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار الله ثم اختلفوا بعد إلى نسطورية ويعقوبية وملكانية
462

انتهى. وقد تقدم في أوائل البقرة أنه قيل: سموا نصارى لأنهم من قرية بالشام تسمى ناصرة، وقوله: وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله القائل لذلك هم الحواريون، وهم عند الزمخشري كفار، وقد أوضح ذلك على زعمه في آخر هذه السورة، وعند غيرهم مؤمنون، ولم يختلفوا هم، إنما اختلف من جاء بعدهم ممن يدعي تبعيتهم.
* (فنسوا حظا مما ذكروا به) * قال أبو عبد الله الرازي: في مكتوب الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم). والحظ هو الإيمان به، وتنكيرا لحظ يدل على أن المراد به حظ واحد وهو الإيمان بالرسول، وخص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا أكثر ما أمرهم الله به، لأن هذا هو المعظم والمهم.
* (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) * الضمير في بيتهم يعود على النصارى قاله الربيع. وقال الزجاج: النصارى منهم والنسطورية واليعقوبية والملكاتية، كل فرقة منهم تعادي الأخرى. وقيل: الضمير عائد على اليهود والنصارى، أي: بين اليهود والنصارى قاله مجاهد، وقتادة، والسدي: فإنهم أعداء يلعن بعضهم بعضا ويكفر بعضهم بعضا.
* (وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) * هذا تهديد ووعيد شديد بعذاب الآخرة، إذ موجب ما صنعوا إنما هو الخلود في النار.
* (يصنعون يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير) * قال محمد بن كعب القرظي: أول ما نزل من هذه لسورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع. وأهل الكتاب يعم اليهود والنصارى. فقيل: الخطاب لليهود خاصة، ويؤيده ما روى خالد الحذاء عن عكرمة قال: أتى اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم) يسألونه عن الرجم، فاجتمعوا في بيت فقال: (أيكم أعلم)؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فقال: (أنت أعلمهم) قال: سل عما شئت قال: (أنت أعلمهم)؟ قال إنهم يقولون ذلك، قال: (فناشدتك الله الذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطور فناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه إفكل، فقال: إن نساءنا نساء حسان فكثر فينا القتل، فاختصرنا فجلدنا مائة مائة، وحلقنا الرؤوس، وخالفنا بين الرؤوس على الدابرات أحسبه قال: الإبل. قال: فأنزل الله يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا. وقيل: الخطاب لليهود والنصارى الذين يخفون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم) والرجم ونحوه. وأكثر نوازل الإخفاء إنما نزلت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري الرسول في مهاجرة. والمعنى بقوله: رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم)، وأضيف إلى
الله تعالى إضافة تشريف. وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوته، لأن إعلامه بما يخفون من كتابهم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يصحب القراء، دلالة على أنه إنما يعلمه الله تعالى. وقوله: من الكتاب، يعني التوراة، ويعفو عن كثير أي: مما يخفون لا يبينه إذا لم تدع إليه مصلحة دينية، ولا يفضحكم بذلك إبقاء عليكم. وقال الحسن: ويعفو عن كثير، هو ما جاء به الرسول من تخفيف ما كان شدد عليهم، وتحليل ما كان حرم عليهم. وقيل: لا يؤاخذكم بها، وهذا المتروك الذي لا يبين هو في معنى افتخارهم ونحوه مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم به وتكذيبهم، والظاهر أن فاعل يبين ويعفو عائد على رسولنا، ويجوز أن يعود على الله تعالى.
* (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) * قيل: هو القرآن سماه نورا لكشف ظلمات الشرك والشك، أو لأنه ظاهر الإعجاز. وقيل: النور الرسول. وقيل: الإسلام. وقيل: النور موسى، والكتاب المبين التوراة. ولو اتبعوها حق الاتباع لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم) إذ هي آمرة بذلك مبشرة به.
* (يهدى به الله من اتبع رضوانه * سبيل * السلام) * أي رضا الله سبل السلام طرق النجاة، والسلامة من عذاب الله. والضمير في به ظاهره أنه يعود على كتاب الله، ويحتمل أن يكون عائدا على الرسول. قيل: ويحتمل أن يعود على الإسلام. وقيل: سبل السلام، قيل دين الإسلام. وقال الحسن
463

والسدي: السلام هو الله تعالى، وسبله دينه الذي شرعه. وقيل: طرق الجنة. وقرأ عبيد بن عمير، والزهري، وسلام، وحميد، ومسلم بن جندب: به الله بضم الهاء حيث وقع. وقرأ الحسن، وابن شهاب: سبل ساكنة الباء.
* (ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه) * أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أي بتمكينه وتسويغه. وقيل: ظلمات الجهل ونور العلم.
* (ويهديهم إلى صراط مستقيم) * هو دين الله وتوحيده. وقيل: طريق الجنة. وقيل: طريق الحق، وروي عن الحسن. والظاهر أن هذه الجمل كلها متقاربة المعنى، وتكرر للتأكيد، والفعل فيها مسند إليه تعالى.
* (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) * ظاهره أنهم قالوا بأن الله هو المسيح حقيقة، وحقيقة ما حكاه تعالى عنهم ينافي أن يكون الله هو المسيح، لأنهم قالوا ابن مريم، ومن كان ابن امرأة مولودا منها استحال أن يكون هو الله تعالى. واختلف المفسرون في تأويل هذه الآية. فذهب قوم إلى أنهم كلهم قائلون هذا القول وهم على ثلاث فرق كما تقدم، وأنهم أجمعوا وإن اختلفت مقالاتهم على أن معبودهم جوهر واحد أقانيم ثلاثة: الأب، والابن، والروح أي الحياة ويسمونها روح القدس. وأن الابن لم يزل مولودا من الأب، ولم يزل الأب والدا للابن، ولم تزل الروح منتقلة بين الأب والابن. وأجمعوا على أن المسيح لاهوت وناسوت أي: إله وإنسان. فإذا قالوا: المسيح إله واحد، فقد قالوا الله هو المسيح. وذهب قوم إلى أن القائلين هذا القول فرقة غير معينة يقولون: إن الكلمة اتخذت بعيسى سواء قدرت ذاتا أم صفة. وذهب قوم إل أن اليعقوبية من النصارى هي القائلة بهذه المقالة، ذكره البغوي في معالم التنزيل.
قال بعض المفسرين: وكل طوائفهم الثلاثة اليعقوبية، والملكانية، والنسطورية، ينكرون هذه المقالة، والذي يقرون به أن عيسى ابن الله تعالى، وأنه إله. وإذا اعتقدوا فيه أنه إله لزم من ذلك قولهم بأنه الله انتهى. وقد رأيت من نصارى بلاد الأندلس من كان ينتمي إلى العلم فيهم، وذكر لي أن عيسى نفسه هو الله تعالى، ونصارى الأندلس ملكية. قلت له: كيف تقول ذلك، ومن المتفق عليه أن عيسى كأن يأكل ويشرب، فتعجب من قولي وقال: إذا كنت أنت بعض مخلوقات الله قادرا على أن تأكل وتشرب، فكيف لا يكون الله قادرا على ذلك؟ فاستدللت من ذلك على فرط غباوته وجهله بصفات الله تعالى. وذهب ابن عباس إلى نهم أهل نجران، وزعم طائفة منهم أنه إله الأرض، والله إله السماء. ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهرا وانتمى إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة: كالحلاج، والشوذى، وابن أحلى، وابن العربي المقيم كان بدمشق، وابن الفارض. وأتباع هؤلاء كابن سبعين، والتستري تلميذه، وابن مطرف المقيم بمرسية، والصفار
464

المقتول بغرناطة، وابن اللباج، وأبو الحسن المقيم كان بلورقة. وممن رأيناه يرمي بهذا المذهب الملعون العفيف التلمساني وله في ذلك إشعار كثيرة، وابن عياش المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق، وعبد الواحد بن المؤخر المقيم كان بصعيد مصر، والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهر من ديار مصر، وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم كان بحارة زويلة. وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحا لدين الله يعلم الله ذلك وشفقة على ضعفاء المسلمين، وليحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله تعالى ورسله ويقولون بقدم العالم، وينكرون البعث. وقد أولع جهلة ممن ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه، والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين.
وقال ابن عطية: القائلون بأن الله هو المسيح فرقة من النصارى، وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح حظا من الألوهية. وقال الزمخشري: قيل: كان في النصارى من يقول ذلك، وقيل: ما صرحوا به، ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر العالم.
* (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الارض جميعا) * هذا رد عليهم. والفاء في: فمن للعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم التقدير: قل كذبوا، وقل ليس كما قالوا فمن يملك، والمعنى: فمن يمنع من قدرة الله وإرادته شيئا؟ أي: لا أحد يمنع مما أراد الله شيئا إن أراد أن يهلك من ادعوه إلها من المسيح وأمه. وفي ذلك دليل على أنه وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما، بل تنفذ فيهما إرادة الله تعالى، ومن تنفذ فيه لا يكون إلها، وعطف عليهما: ومن في الأرض جميعا، عطف العام على الخاص ليكونا قد ذكرا مرتين: مرة بالنص عليهما، ومرة بالاندراج في العام، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإرادة فيهما. وليعلم، أنهما من جنس من في الأرض لا تفاوت بينهما في البشرية، وفي ذلك إشارة إلى حلول الحوادث بهما، والله سبحانه وتعالى منزه أن تحل به الحواث، وأن يكون محلا لها. وفي هذا رد على الكرامية.
* (ولله ملك * السماوات والارض * وما بينهما) * والمسيح وأمه من جملة ما في الأرض، فهما مقهوران لله تعالى، مملوكان له، وهذه الجملة مؤكدة لقوله: إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه، ودلالة على أنه إذا أراد فعل، لأن من له ذلك الملك يفعل في ملكه ما يشاء.
* (يخلق ما يشاء) * أي أن خلقه ليس مقصورا على نوع واحد، بل ما تعلقت مشيئته بإيجاده أو جده واخترعه، فقد يوجد شيئا لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه السلام، وأوائل الأجناس المتولد بعضها من بعض. وقد يخلق من ذكر وأنثى، وقد يخلق من أنثى لا من ذكر معها كالمسيح. ففي قوله: يخلق ما يشاء، إشارة إلى أن المسيح وأمه مخلوقان. وقيل: معنى يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة، وكإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك، فيجب أن تنسب إليه ولا تنسب إلى البشر المجرى على يده. وتضمن الرد عليهم أن من كان مخلوقا مقهورا بالملك عاجزا عن دفع ما يريد الله به لا يكون إلها.
* (والله على كل شىء * قديرا) * تقدم تفسير هذه لجملة، وكثيرا ما يذكر القدرة عثيب الاختراع وذكر الأشياء الغريبة.
* (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) * ظاهر اللفظ أن جميع اليهود والنصارى قالوا عن جميعهم ذلك وليس كذلك، بل في الكلام لف وإيجاز. والمعنى: وقالت كل فرقة من اليهود والنصارى عن نفسها خاصة: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء. والبنوة هنا بنوة الحنان والرأفة. وما ذكروا من أن الله أوحى إلى إسرائيل أن أولادك بكرى فضلوا بذلك. وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، لا يصح. ولو صح ما رووا، كان معناه بكرا في التشريف والنبوة ونحو ذلك. وجعل الزمخشري قولهم: أبناء الله، على حذف مضاف، وأقيم هذا مقامه
465

أي: نحن أشياع الله ابني الله عزير والمسيح، كما قيل لأشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبيون، وكما كان يقول رهط مسلمة: نحن أبناء الله، ويقول أقرباء الملك وحشمه: نحن الملوك. وأحباؤه جمع حبيب فعيل بمعنى مفعول، أي محبوبوه، أجرى مجرى فعيل من المضاعف الذي هو اسم الفاعل نحو: لبيب وألباء. وقائل هذه المقالة: بعض اليهود الذين كانوا بحضرة الرسول، فنسب إلى الجميع لأن ما وقع من بعض قد ينسب إلى الجميع. قال الحسن: يعنون في القرب منه أي: نحن أقرب إلى الله منكم له، يفخرون بذلك على المسلمين. قال ابن عياش: هم طائفة من اليهود خوفهم الرسول عقاب الله فقالوا: أتخوفنا بالله ونحن أبناء الله وأحباؤه؟ وروي أيضا عن ابن عباس: أن يهود المدينة كعب بن الأشرف وغيره من نصارى نجران السيد والعاقب، خاصموا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم)، فعيرهم الصحابة بالكفر وغضب الله عليهم، فقالت اليهود: إنما غضب الله علينا كما يغضب الرجل على ولده، نحن أبناء الله وأحباؤه. هذا قول اليهود، وأما النصارى فإنهم زعموا أن عيسى قال لهم: اذهبوا إلى أبي وأبيكم.
* (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) * أي إن كنتم كما زعمتم، فلم يعذبكم بذنوبكم؟ وكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم) في غير ما موطن: نحن ندخل النار فنقيم فيها أربعين يوما، ثم تخلفوننا فيها. والمعنى: لو كانت منزلتكم منه فوق منزلة البشر لما عذبكم، وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم، وهذا على أن العذاب هو في الآخرة. ويحتمل أن يريد به العذاب في الدنيا بمسخ آبائهم على تعديهم في السبت، وبقتل أنفسهم على عبادة العجل، وبالتيه على امتناعهم من قتال الجبارين، وبافتضاح من أذنب منهم بأن يصبح مكتوبا على بابه ذنبه وعقوبته عليه فتنفذ فيهم، والإلزام بكلا التعذيبين صحيح. أما الأول فلإقرارهم أن ذلك سيقع، وأما الآخر فلوقوع ذلك فيما مضى لا يمكن إنكار شيء منه. والاحتجاج بما وقع أقوى. وخرج الزمخشري التعذيبين: الدنيوي، والأخراوي في كلامه، وأشرب تفسير الآية بشيء من مذهبه الاعتزالي، وحرف التركيب القرآني على عادته، فقال: إن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه، فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون، وتمسكم النار في أيام معدودات على زعمكم؟ ولو كنتم أبناء الله لكنتم من جنس الأب غير فاعلين للقبائح، ولا مستوجبين للعذاب. ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه، ولما عاقبكم انتهى. ويظهر من قوله: ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه، أن يكون أحباؤه جمع حبيب بمعنى محب، لأن المحب لا يعصي من يحبه، بخلاف المحبوب فإنه كثيرا ما يعصي محبه. وقال القشيري: البنوت تقتضي المحبة، والحق منزه عنها، والمحبة التي بين المتجانسين تقتضي الاختلاط والمؤانسة، والحق مقدس عن ذلك، والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضا للقديم، والقديم لا بعض له، لأن الأحدية حقه، وإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد، وإذا لم يكن له ولد لم يجز على الوجه الذي اعتقدوه أن بينهم وبينه محبة.
* (بل أنتم بشر ممن خلق) * أضرب عن الاستدلال من غير إبطال له إلى استدلاله آخر من ثبوت كونهم بشرا من بعض من خلق، فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث، وهما يمنعان البنوة. فإن القديم لا يلد بشرا، والأب لا يخلق ابنه، فامتنع بهذين الوجهين البنوة، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله، فبطل الوصفان اللذان ادعوهما.
* (يغفر لمن يشاء) * أي يهديه للإيمان فيغفر له.
* (ويعذب من يشاء) * أي يورطه في الكفر فيعذبه، أو يغقر لمن يشاء وهم أهل الطاعة، ويعذب من يشاء وهم العصاة. قاله الزمخشري. وفيه شيء من دسيسة الاعتزال، لأن من العصاة عندنا من لا يعذبه الله تعالى بل يغفر له. وقيل: المعنى أنه ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له، أو يمنعه أن يعذبه، ولذلك عقبه بقوله:
* (ولله ملك * السماوات والارض * وما بينهما) * فله التصرف التام يفعل ما يشاء لا معقب
466

لحكمه.
* (وإليه المصير) * أي الرجوع بالحشر والمعاد.
* (المصير يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) * أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: المخاطب بأهل الكتاب هنا هم اليهود خاصة، ويرجحه ما روي في سبب النزول: وأن معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن
وهب قالوا: يا معشر اليهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله. ويبين لكم أي يوضح لكم ويظهر. ويحتمل أن يكون مفعول يبين حذف اختصار، أو يكون هو المذكور في الآية. قبل هذا، أي: يبين لكم ما كنتم تخفون، أو يكون دل عليه معنى الكلام أي: شرائع الدين. أو حذف اقتصارا واكتفاء بذكر التبيين مسندا إلى الفاعل، دون أن يقصد تعلقه بمفعول، والمعنى: يكون منه التبيين والإيضاح. ويبين لكم هنا وفي الآية قبل في موضع نصب على الحال. وعلى فترة متعلق بجاءكم، أو في موضع نصب على الحال، والمعنى: على فتور وانقطاع من إرسال الرسل.
والفترة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعيسى عليه السلام قال قتادة: خمسمائة سنة وستون. وقال الضحاك: أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة. وقيل: أربعمائة ونيف وستون. وذكر محمد بن سعد في كتاب الطبقات له عن ابن عباس: أن كان بين ميلاد عيسى والنبي عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء. وهو قوله تعالى: * (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) * وهو شمعون وكان من الحواريين. وقال الكلبي مثل قول ابن عباس إلا أنه قال: بينهما أربعة أنبياء، واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم): (ضيعه قومه). وروي عن الكلبي أيضا خمسمائة وأربعون. وقال وهب: ستمائة سنة وعشرون. وقيل: سبعمائة سنة. وقال مقاتل: ستمائة سنة، وروي هذا عن قتادة والضحاك. وذكر ابن عطية أن هذا روي في الصحيح. فإن كانا كما ذكر وجب أن لا يعدل عنه لسواه. وهذه التواريخ نقلها المفسرون من كتب اليونان وغيرهم ممن لا يتحرى النقل. وذكر ابن سعد في الطبقات عن ابن عباس والزمخشري عن الكلبي قالا: كان بين موسى وعيسى ألف سنة وسبعمائة سنة، وألف نبي، زاد ابن عباس من بني إسرائيل دون من أرسل من غيرهم، ولم يكن بينهما فترة. والمعنى: الامتنان عليهم بإرسال الرسل على حين انطمست آثار الوحي، وهم أحوج ما يكونون إليه ليعدوه أعظم نعمة من الله وفتح باب إلى الرحمة، ويلزمهم الحجة فلا يعتلوا غدا بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غلفتهم. وأن تقولوا: مفعول من أجله فقده البصريون: كراهة أو حذار أن تقولوا. وقدره الفراء: لئلا تقولوا. ويعني يوم القيامة على سبيل الاحتجاج.
* (فقد جاءكم بشير ونذير) * قيل: وفي الكلام حذف أي: لا تعتدوا فقد جاءكم بشير، أي لمن أطاع بالثواب، ونذير لمن عصى بالعقاب. وفي هذا رد على اليهود حيث قالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده.
* (والله على كل شيء قدير) * هذا عام فقيل على كل شيء من الهداية والضلال. وقيل: من البعثة وإمساكها. والأولى العموم فيندرج فيه ما ذكروا.
* (وإذ قال موسى لقومه ياقوم * قوم * اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم * أنبياء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) * مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين تمرد أسلاف اليهود على موسى، وعصيانهم إياه، مع تذكيره إياهم نعم الله وتعداده لما هو العظيم منها، وأن هؤلاء الذين هم بحضرة الرسول هم جارون معكم مجرى أسلافهم مع موسى. ونعمة الله يراد بها الجنس، والمعنى: واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغيب كتبهم ليتحققوا نبوتك. وينتظم في ذلك ذكر نعم الله عليهم، وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة. وعدد عليهم من نعمه ثلاثا: الأولى: جعل أنبياء فيهم وذلك أعظم الشرف، إذ هم الوسائط بين الله وبين خلقه، والمبلغون عن الله شرائعه. قيل: لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. وقال ابن السائب ومقاتل: الأنبياء هنا هم السبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه، وكانوا من خيار قومه. وقيل: هم الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل كموسى ذكره الماوردي وغيره، وعلى هذا
467

القول يكون جعل لا يراد بها حقيقة الماضي بالفعل، إذ بعضهم كان قد ظهر عند خطاب موسى إياهم، وبعضهم لم يخلق بل أخبر أنه سيكون فيهم. الثانية: جعلهم ملوكا ظاهره الامتنان عليهم بأن جعلهم ملوكا إذ جعل منهم ملوكا، إذ الملك شرف في الدنيا واستيلاء، فذكرهم بأن منهم قادة الآخرة وقادة الدنيا. وقال السدي وغيره: وجعلكم أحرارا تملكون ولا تملكون، إذ كنتم خدما للقبط فأنقذكم منهم، فسمي استنقاذكم ملكا. وقال قوم: جعلهم ملوكا بإنزال المن والسلوى عليهم وتفجير الحجر لهم، وكون ثيابهم لا تبلى ولا تنسخ وتطول كلما طالوا، فهم ملوك لرفع هذه الكلف عنهم. وقال قتادة: ملوكا لأنهم أول من اتخذ الخدام واقتنوا الأرقاء. وقال ابن عطية وقتادة: وإنما قال وجعلكم ملوكا، لأنا كنا نتحدث أن أول من خدمه آخر من بني آدم. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل. وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم يسخر بعضا مدة تناسلوا وكثروا انتهى.
وهذه الأقوال الثلاثة عامة في جميع بني إسرائيل، وهو ظاهر قوله: وجعلكم ملوكا. وقال عبد الله بن عمر، والحسن، ومجاهد، وجماعة: من كان له مسكن وامرأة وخادم فهو ملك. وقيل: من له مسكن ولا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك. وقيل: من له زوجة وخادم، وروي هذا عن ابن عباس. وقال عكرمة: من ملك عندهم خادما وبيتا دعي عندهم ملكا. وقيل: من له منزل واسع فيه ماء جار. وقيل: من له مال لا يحتاج فيه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق. وقيل: ملوك لقناعتهم، وهو ملك خفي. ولهذا جاء في الحديث: (القناعة كنز لا ينفذ). وقيل: لأنهم ملكوا أنفسهم وذادوها عن الكفر ومتابعة فرعون. وقيل: ملكوا شهوات أنفسهم ذكر هذه الأقوال الثلاثة التبريزي في تفسيره. الثالثة: إيتاؤه إياهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، فسره ابن عباس فيما روى عنه مجاهد: بالمن والسلوى، والحجر، والغمام. وروى عنه عطاء الدار والزوجة والخادم. وقيل: كثرة الأنبياء. وقال ابن جرير: ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا، خصوا بفلق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى، وإخراج المياه العذبة من الحجر، ومد الغمام فوقهم. ولم تجمع النبوة والملك لقوم كما جمعا لهم، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله وأحباؤه وأنصار دينه انتهى. وأن المراد كثرة الأنبياء، أو خصوصات مجموع آيات موسى. فلفظ العالمين مقيد بالزمان الذي كان فيه بنو إسرائيل، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد صلى الله عليه وسلم) أكثر من ذلك: قد ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم) بغمامة قبل مبعثه، وكلمته الحجارة والبهائم، وأقبلت إليه الشجرة، وحن له الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه، وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته، وانشق له القمر، وعد العود سيفا، وعاد الحجر المعترض في الخندق رملا مهيلا
إلى غير ذلك من آياته العظمى ومعجزاته الكبرى. وهذه المقالة من موسى لبني إسرائيل وتذكيرهم بنعم الله هي توطئة لنفوسهم، وتقدم إليهم بما يلقى من أمر قتال الجبارين ليقوي حاشهم، وليعلموا أن من أنعم الله عليه بهذه النعم العظيمة لا يخذله الله، بل يعليه على عدوه ويرفع من شأنه، ويجعل له السلطنة والقهر عليه.
والخطاب في قوله: وآتاكم، ظاهره أنه لبني إسرائيل كما شرحناه، وأنه من كلام موسى لهم، وبه قال الجمهور. وقال أبو مالك، وابن جبير: هو خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم)، وانتهى الكلام عند قوله: وجعلكم ملوكا، ثم التفت إلى هذه الأمة لما ذكر موسى قومه بنعم الله، ذكر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم) بهذه النعمة الظاهرة جبرا لقلوبهم، وأنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، وعلى هذا المراد بالعالمين العموم، فإن الله فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم) على سائر الأمم، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، وأسبغ عليهم من النعم ما لم يسبغها على أحد من الأمم، وهذا معنى قول ابن جرير وهو اختياره. وقال ابن عطية: وهذا ضعيف، وإنما ضعف عنده لأن الكلام في نسق واحد من خطاب موسى لقومه، وهو معطوف على ما قبله، ولا يلزم
468

ما قاله، لأن القرآن جاء على قانون كلام العرب من الالتفات والخروج من خطاب إلى خطاب، لا سيما إذا كان ظاهر الخطاب لا يناسب من خوطب أولا، وإنما يناسب من وجه إليه ثانيا، فيقوي بذلك توجيه الخطاب إلى الثاني إذا حمل اللفظ على ظاهره. وقرأ ابن محيصن: ياقوم بضم الميم، وكذا حيث وقع في القرآن، وروى ذلك عن ابن كثير. وهذا الضم هو على معنى الإضافة، كقراءة من قرأ: قل رب احكم بالحق بالضم وهي إحدى اللغات الخمس الجائزة في المنادى المضاف لياء المتكلم.
* (من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم) * المقدسة المطهرة، وهي أريحا قاله: السدي وابن زيد، ورواه عكرمة عن ابن عباس. وقيل: موضع بيت المقدس. وقيل: إيليا. قال ابن قتيبة. قرأت في مناجاة موسى قال: اللهم إنك اخترت فذكر أشياء ثم قال: رب إيليا بيت المقدس. وقال ابن الجوزي: قرأت على أبي منصور اللغوي قال: إيليا بيت المقدس. قال الفرزدق:
* وبيتان بيت الله نحن نزوره
*
وبيت بأعلى ايلياء مشرف
*
وقيل: الطور، رواه مجاهد عن ابن عباس، واختاره الزجاج. وقيل: فلسطين ودمشق وبعض الأردن. قال قتادة: هي الشام. وقال الكلبي: صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقال له جبريل: انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس، وهو ميراث لذريتك. وقيل: ما بين الفرات وعريش مصر. قال الطبري: لا يختلف أنها ما بين الفرات وعريش مصر قال: وقال الأدفوي: أجمع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار أنها ما بين الفرات وعريش مصر. وقال الطبري: تظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين انتهى.
والتقديس: التطهير قيل: من الآفات. وقيل: من الشرك، جعلت مسكنا وقرارا للأنبياء، وغلبة الجبارين عليها لا يخرجها عن أن تكون مقدسة. وقيل: المقدسة المباركة طهرت من القحط والجوع، وغير ذلك قاله مجاهد. وقيل: سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب، ومنه قيل: للسطل قدس لأنه يتوضأ به ويتطهر. ومعنى كتبها الله لكم: قسمها، وسماها، أو خط في اللوح أنها لكم مسكن وقرار. وقال ابن إسحاق: وهبها لكم. وقال السدي: أمركم بدخولها، وفي ذلك تنشيط لهم وتقوية إذا خبرهم بأن الله كتبها لهم. والظاهر استعمال كتب في الفرض كقوله: * (كتب عليكم الصيام) * و * (كتب عليكم القتال) * وأما إن كان كتبها بمعنى خط في الأزل، وقضى، فلا يحتاج ظاهر هذا اللفظ ظاهر قوله: محرمة عليهم. فقيل: اللفظ عام. والمراد الخصوص كأنه قال: مكتوبة لبعضهم وحرام على بعضهم، أو ذلك مشروط بقيد امتثال القتال، فلم يمتثلوا، فلم يقع المشروط أو التحريم، مقيد بأربعين سنة فلما انقضت جعل ما كتب. وأما إن كان كتبها لهم بمعنى أمركم بدخولها، فلا يعارض التحريم. حرم عليهم دخولها وماتوا في التيه، ودخل مع موسى أبناؤهم الذين لم تحرم عليهم. وقيل: إن موسى وهارون عليهما السلام ماتا في التيه، وإنما خرج أبناؤهم مع حزقيل. وقال ابن عباس: كانت هبة، ثم حرمها عليهم بعصيانهم.
* (ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) * أي لا تنكصوا على أعقابكم من خوف الجبابرة جبنا وهلعا. وقيل: حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: ليتنا متنا بمصر، وقالوا: تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر. ويحتمل أن يراد: لا ترتدوا على أدباركم، في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وانقلابهم خاسرين،
469

إن كان الارتداد حقيقيا وهو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه فمعناه: يصيرون إلى الذل بعد العز والخلاص من أيدي القبط. وإن كان الارتداد مجازا وهو ارتدادهم عن دينهم فمعناه: يخسرون خير الدنيا وثواب الآخرة. وحقيق بالخسران من خالف ما فرضه الله عليه من الجهاد وخالف أمره.
* (قالوا يأبانا * موسى أن * فيها قوما جبارين) * أي: قال النقباء الذين سيرهم موسى لكشف حال الجبابرة، أو قال رؤساؤهم الذين عادتهم أن يطلعوا على الأسرار وأن يشاوروا في الأمور. وهذا القول فيه بعد لتقاعسهم عن القتال أي: أن فيها من لا نطيق قتالهم. قيل: هم من بقايا عاد، وقيل: من الروم من ولد عيص بن إسحاق. وقرأ ابن السميقع: قالوا يا موسى فيها قوم جبارون.
* (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) * هذا تصريح بالامتناع التام من أن يقاتلوا الجبابرة، ولذلك كان النفي بلن. ومعنى حتى يخرجوا منها: بقتال غيرنا، أو بسبب يخرجهم الله به فيخرجون.
* (فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) * وهذا توجيه منهم لأنفسهم بخروج الجبارين منها، إذ علقوا دخولهم على شرط ممكن وقوعه. وقال أكثر المفسرين: لم يشكوا فيما وعدهم الله به، ولكن كان نكوصهم عن القتال من خور الطبيعة والجبن الذي ركبه الله فيهم، ولا يملك ذلك إلا من عصمه الله وقال تعالى: * (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم) *. وقيل قالوا ذلك على سبيل الاستبعاد أن يقع خروج الجبارين منها كقوله تعالى ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.
* (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب) * الأشهر عند المفسرين أن الرجلين هما يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف وهو ابن أخت موسى، وكالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران ويقال فيه: كلاب، ويقال: كالوب، وهما اللذان وفيا من النقباء الذين بعثهم موسى في كشف أحوال الجبابرة فكتما ما اطلعا عليه من حال الجبابرة إلا عن موسى، وأفشى ذلك بقية النقباء في أسباطهم فآل بهم ذلك إلى الخور والجبن بحيث امتنعوا عن القتال. وقيل: الرجلان كانا من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه، وأنعم الله عليهما بالإيمان. فإن كان الرجلان هما يوشع وكالب فمعنى قوله: يخافون، أي: يخافون الله، ويكون إذ ذاك مع موسى أقوام يخافون الله فلا يبالون بالعدو لصحة إيمانهم وربط جأشهم، وهذان منهم. أو يخافون العدو، ولكن أنعم الله عليهما بالإيمان والثبات، أو يخافهم بنو إسرائيل فيكون الضمير في يخافون عائدا على بني إسرائيل، والضمير الرابط للصلة بالموصول محذوفا تقديره: من الذين يخافونهم أي: يخافهم بنو إسرائيل. ويدل على هذا التأويل قراءة ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، يخافون بضم الياء. وتحتمل هذه القراءة أن يكون الرجلان يوشع وكالب. ومعنى يخافون أي: يهابون ويوقرون ويسمع كلامهم لتقواهم وفضلهم، ويحتمل أن يكون من أخاف أي يخيفون: بأوامر الله ونواهيه وزجره ووعيده، فيكون ذلك مدحا لهم كقوله * (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) * والجملة من أنعم الله عليهما صفة لقوله: رجلان، وصفا أولا بالجار والمجرور، ثم ثانيا بالملة. وهذا على الترتيب الأكثر في تقديم المجرور أو الظرف على الجملة إذا وصفت بهما، وجوز أن تكون الجملة حالا على إضمار قد، وأن تكون اعتراضا، فلا يكون لها موضع من الإعراب. وفي قراءة عبد الله. أنعم الله عليهما ويلكم ادخلوا عليهم الباب. والباب: باب مدينة الجبارين، والمعنى: اقدموا على الجهاد وكافحوا حتى تدخلوا عليهم الباب، وهذا يدل على أن موسى كان قد أنزل محلته قريبا من المدينة.
* (فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) * قالا ذلك ثقة بوعد الله في قوله: * (التى كتب الله لكم) *. وقيل: رجاء لنصر الله رسله، وغلب ذلك على ظنهم. وما غزى قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا، وإذا لم يكونوا حافظي باب مدينتهم حتى دخل وهو المهم، فلأن لا يحفظوا ما وراء الباب أولى. وعلى قول أن الرجلين كانا من الجبارين فقيل: إنهما قالا لهم:
470

إن العمالقة أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم، وارجعوا إليهم فإنكم غالبوهم تشجيعا لهم على قتالهم.
* (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) * لما رأيا بني إسرائيل قد عصوا الرسول في الإقدام على الجهاد مع وعد الله لهم السابق، استرابا في إيمانهم، فأمراهم بالتوكل على الله إذ هو الملجأ والمفزع عند الشدائد، وعلق ذلك بشرط الإيمان الذي استرابا في حصوله لبني إسرائيل.
* (قالوا يأبانا * موسى * لن ندخلها أبدا ما داموا فيها) * لما كرر عليهم أمر القتال كرروا الامتناع على سبيل التوكيد بالموليين، وقيدوا أولا نفي الدخول بالظرف المختص بالاستقبال وحقيقته التأييد، وقد يطلق على الزمان المتطاول فكأنهم نفوا الدخول طول الأبد، ثم رجعوا إلى تعليق ذلك بديمومة الجبارين فيها، فأبدلوا زمانا مقيدا من زمان هو ظاهر في العموم في الزمان المستقبل، فهو بدل بعض من كل.
* (فاذهب أنت وربك فقاتلا) * ظاهر الذهاب الانتقال، وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة، ولذلك قال الحسن: هو كفر منهم بالله تعالى. قال الزمخشري: والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة بالله ورسله وقلة مبالاة بهما واستهزاء، وقصدوا ذهابهما حقيقة لجهلهم وجفائهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل، وسألوا بها رؤية الله جهرة، والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم. ويحكى أن موسى وهارون خرا لوجوههما ما قدامهم لشدة ما ورد عليهما فسموا برجمهما، ولأمر ما قرن الله اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى: * (لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا) * وقيل: يحتمل أن لا يقصدوا الذهاب حقيقة، ولكن كما تقول: كلمته فذهب يجبيني، يريد معنى الإرادة والقصد للجواب، كأنهم قالوا: أريد إقبالهم.
والمراد بالرب هنا هو الله تعالى. وذكر النقاش عن بعض المفسرين هنا أن المراد بالرب هارون، لأنه كان أسن من موسى، وكان معظما في بني إسرائيل محببا لسعة خلقه ورحب صدره، فكأنهم قالوا: اذهب أنت وكبيرك. وهو تأويل بعيد يخلص بني إسرائيل من الكفر. وربك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بالضمير المنفصل، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله: * (اسكن أنت وزوجك الجنة) * ورددنا قول من ذهب إلى أنه مرفوع على فعل أمر محذوف يمكن رفعه الظاهر، فيكون من عطف الجمل التقدير: فاذهب وليذهب ربك. وذهب بعض الناس إلى أن الواو واو الحال، وربك مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف. أو تكون الجملة دعاء والتقدير فيهما: وربك يعينك، وهذا التأويل فاسد بقوله فقاتلا.
* (إنا هاهنا قاعدون) * هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال، ولا على الرجوع من حيث جاءوا، بل أقاموا حيث كانت المحاورة بين موسى وبينهم. وها من قوله هاهنا للتنبيه، وهنا ظرف مكان للقريب، والعامل فيه قاعدون. ويجوز في مثل هذا التركيب أن يكون الخبر الظرف وما بعده حال فينتصب، وأن يكون الخبر الاسم والظرف معمول له. وهو أفصح.
* (قال رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى) * لما عصوا أمر الله وتمردوا على موسى وسمع منهم ما سمع من كلمة الكفر وسوء الأدب مع الله ولم يبق معه من يثق به إلا هارون قال ذلك، وهذا من الكلام المنطوي صاحبه على الالتجاء إلى الله والشكوى إليه، ورقة القلب التي تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة ونحوه قول يعقوب: * (
إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله) * وعن علي أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال المنافقين فما أجابه إلا رجلان، فتنفس الصعداء ودعا لهما وقال: أين تتبعان مما أريد؟ والظاهر إن وأخي معطوف على نفسي، ويحتمل أن يكون وأخي مرفوعا بالابتداء، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه أي: وأخي لا يملك إلا نفسه، فيكون قد عطف جملة غير مؤكدة على جملة مؤكدة، أو منصوبا عطفا على اسم إن أي: وإن أخي لا يملك إلا نفسه، والخبر محذوف، ويكون قد عطف الاسم والخبر على الخبر نحو: إن زيدا قائم وعمرا شاخص، أي: وإن عمرا شاخص. وأجاز ابن عطية والزمخشري أن يكون وأخي مرفوعا عطفا على الضمير المستكن في أملك، وأجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور. ويلزم من ذلك
471

أن موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان الأنفس موسى فقط، وليس المعنى على ذلك، بل الظاهر أن موسى يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط. وجوز أيضا أن يكون مجرورا معطوفا على ياء المتكلم في نفسي، وهو ضعيف على رأي البصريين. وكأنه في هذا الحصر لم يثق بالرجلين اللذين قالا: ادخلوا عليهم الباب، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما عاين من أحوال قومه وتلونهم مع طول الصحبة، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في ثباته. قيل: أو قال ذلك على سبيل الضجر عندما سمع منهم تعليلا لمن يوافقه، أو أراد بقوله: وأخي، من يوافقني في الدين لا هارون خاصة. وقرأ الحسن: إلا نفسي وأخي بفتح الياء فيهما.
* (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) * ظاهره أنه دعا بأن يفرق الله بينهما وبينهم بأن يفقد وجوههم ولا يشاهد صورهم إذا كانوا عاصين له مخالفين أمر الله تعالى، ولذلك نبه على العلة الموجبة للتفرقة بينهم وبين الفسق فالمطيع لا يريد صحبة الفاسق ولا يؤثرها لئلا يصيبه بالصحبة ما يصيبه، * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * * (يرثها عبادى الصالحون) * وقبل الله دعاءه فلم يكونا معهم في التيه، بل فرق بينه وبينهم، لأن التيه كان عقابا خص به الفاسقون العاصون. وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى فافصل بيننا بحكم يزيل هذا الاختلاف ويلم الشعث. وقيل: المعنى فافرق بيننا وبينهم في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق. وقال الزمخشري: فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق، وعليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم، ولذلك وصل به قوله: فإنها محرمة عليهم، على وجه التشبيه. وقرأ عبيد بن عمير ويوسف بن داود: فافرق بكسر الراء وقال الراجز:
* يا رب فافرق بينه وبيني
*
أشد ما فرقت بين اثنين
*
وقرأ ابن السميقع: ففرق. والفاسقون هنا قال ابن عباس: العاصون. وقال ابن زيد: الكاذبون. وقال أبو عبيد: الكافرون.
* (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الارض) * أي قال الله تعالى فأضمر في قال وضمير، فإنها إلى الأرض المقدسة محرمة عليهم، أي محرم دخولها وتملكهم إياها وتقدم الكلام على انتظام قوله: * (كتب الله لكم) * مع قوله محرمة عليهم، ودل هذا على أنهم بعد الأربعين لا تكون محرمة عليهم. فروي أن موسى وهارون عليهما السلام كانا معهم في التيه عقوبة لهم وروحا وسلاما لهما، لا عقوبة، كما كانت النار لإبراهيم ولملائكة العذاب. فروي أن موسى سار بعد الأربعين بمن بقي من بني إسرائيل، وكان يوشع وكالب على مقدمته، ففتح أريحا وقتل عوج بن عنق، وذكروا من وصف عوج وكيفية قتل موسى له ما لا يصح. وأقام موسى فيها ما شاء الله ثم قبض. وقيل: مات هارون في التيه. قال ابن عطية: ولم يختلف في هذا. وروي: أن موسى مات في التيه بعد هارون بثمانية أعوام. وقيل: بستة أشهر ونصف. وقيل: بسنة ونبأ الله يوشع بعد كمال الأربعين سنة فصدقه بنو إسرائيل، وأخبرهم أن الله تعالى أمره بقتال الجبابرة فصدقوه وبايعوه، وسار فيهم إلى أريحا وقتل الجبارين وأخرجهم، وصار الشام كله لبني إسرائيل. وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين، وقد ألم بذكر وقوف الشمس ليوشع أبو تمام في شعره فقال:
* فردت علينا الشمس والليل راغم
*
بشمس بدت من جانب الخدر تطلعنضا ضوؤها صبغ الدجنة وانطوى لبهجتها ثوب السماء المجزع
472

فوالله ما أدري أأحلام نائم ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
*
والظاهر أن العامل في قوله: أربعين محرمة، فيكون التحريم مقيدا بهذه المدة، ويكون يتيهون مستأنفا أو حالا من الضمير في عليهم. ويجوز أن يكون العامل يتيهون أي: يتيهون هذه المدة في الأرض، ويكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة، بل يكون إخبارا بأنهم لا يدخلونها، وأنهم مع ذلك يتيهون في الأرض أربعين سنة يموت فيها من مات. وروي أنه من كان جاوز عشرين سنة لم يعش إلى الخروج من التيه، وأن من كان دون العشرين عاشوا، كأنه لم يعش المكلفون العصاة، أشار إلى ذلك الزجاج، ولذلك ذهب إلى أن العامل في أربعين محرمة. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون العامل في أربعين مضمرا يدل عليه يتيهون المتأخر انتهى. ولا أدري ما الحامل له على قوله: إن العامل مضمر كما ذكر؟ بل الذي جوز الناس في ذلك أن يكون العامل فيه يتيهون نفسه، لا مضمر يفسره قوله: يتيهون في الأرض. والأرض التي تاهوا فيها على ما حكى طولها ثلاثون ميلا، في عرض ستة فراسخ، وهو ما بين مصر والشام. وقال ابن عباس: تسعة فراسخ، قال مقاتل: هذا
عرضها وطولها ثلاثون فرسخا. وقيل: ستة فراسخ في طول اثنى عشر فرسخا، وقيل: تسعة فراسخ. وتظافرت أقوال المفسرين على أن هذا التيه على سبيل خرق العادة، فإنه عجيب من قدرة الله تعالى، حيث جاز على جماعة من العقلاء أن يسيروا فراسخ يسيرة ولا يهتدون للخروج منها. روي أنهم كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي ابتدأوا منه، ويسيرون النهار جادين حتى إذا أمسوا أذاهم بحيث ارتحلوا عنه، فيكون سيرهم تحليفا. قال مجاهد وغيره: كانوا يسيرون النهار أحيانا والليل أحيانا، فيمسون حيث أصبحوا، ويصبحون حيث يمسون، وذلك في مقدار ستة فراسخ، وكانوا في سيارة لا قرار لهم انتهى. وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتلين، وذكروا أن حكمة التيه هو أنهم لما قالوا: * (إنا هاهنا قاعدون) * عوقبوا بالقعود، فصاروا في صورة القاعدين وهم سائرون، كلما ساروا يوما أمسوا في المكان الذي أصبحوا فيه. وذكروا أن حكمة كون المدة التي تاهوا فيها أربعين سنة هي كونهم عبدوا العجل أربعين يوما، جعل عقاب كل يوم سنة في التيه. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة، وقلة اجتماع الرأي، وأنه تعالى رماهم بالاختلاف، وعلموا أنها حرمت عليهم أربعين سنة، فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع حتى كملت هذه المدة، وأذن الله تعالى بخروجهم، وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر. والآخر الذي ذكره مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى.
* (فلا تأس على القوم الفاسقين) * الظاهر أن الخطاب من الله تعالى لموسى عليه السلام. قال ابن عباس: ندم موسى على دعائه على قومه وحزن عليهم انتهى. فهذه مسلاة لموسى عليه السلام عن أن يحزن على ما أصاب قومه، وعلل كونه لا يحزن بأنهم قوم فاسقون بهوت أحقاء بما نالهم من العقاب. وقيل: الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم)، والمراد بالفاسقين معاصروه أي: هذه فعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم.
وقيل: الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم)، والمراد بالفاسقين معاصروه أي: هذه فعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم.
* (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك
473

فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) *
الغراب طائر معروف، ويجمع في القلة على أغربة، وفي الكثرة على غربان، وغراب: اسم جنس، وأسماء الأجناس إذا وقعت على مسمياتها من غير أن تكون منقولة من شيء، فإن وجد فيها ما يمكن اشتقاقه حمل على أنه مشتق إلا أن ذلك قليل جدا، بل الأكثر أن تكون غير مشتقة، نحو تراب وحجر وماء، ويمكن غراب أن يكون مأخوذا من الاغتراب، فإن العرب تتشاءم به، وتزعم أنه دال على الفراق، وقال حران العود:
وأما الغراب: فالغريب المطوح.
وقال الشنفرى:
* غراب لاغتراب من النوى
* وبالباذ بين من حبيب تعاشره
*
474

البحث في الأرض: نبش التراب وإثارته، ومنه سميت براءة بحوث، وفي المثل: لا تكن كالباحث عن الشفرة، السوءة: العورة، العجز عدم الإطاقة، وماضيه على فعل بفتح العين، وهي اللغة الفاشية وحكى الكسائي فيه: فعل بكسر العين، الندم: التحسر، يقال منه: ندم يندم، الصلب: معروف وهو إصابة صلبه بجذع أو حائط، كما تقول: عانه أي: أصاب عينه، وكبده: أصاب كبده، الخلاف: المخالفة ويقال: فرس به شكال من خلاف إذا كان في يده، نفاه: طرده فانتفى، وقد لا يتعدى نفي قال القطامي:
* فأصبح جاراكم قتيلا ونافيا
*
أي: منفيا، الوسيلة: الواسلة ما يتقرب منه، يقال: وسله وتوسل إليه، واستعيرت الوسيلة لما يتقرب به إلى الله تعالى من فعل الطاعات، وقال لبيد:
* أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم
* ألا كل ذي لب إلى الله واسل
*
وأنشد الطبري:
* إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا
* وعاد التصابي بيننا والوسائل
*
السارق: اسم فاعل من سرق يسرق سرقا، والسرق والسرقة الاسم، كذا قال بعضهم، وربما قالوا سرقة مالا، قال ابن عرفة: السارق عند العرب: من جاء مستترا إلى حرز، فأخذ منه ما ليس له، * (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر) * مناسبة هذه الآية لما قبلها: هو أنه تعالى لما ذكرنا تمرد بني إسرائيل وعصاينهم أمر الله تعالى فيالنهوض لقتال الجبارين، ذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله تعالى، وأنهم انتهوا في خور الطبيعة وهلع النفوس والجبن والفزع إلى غاية، بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة، وقد أخبرهم أن الله كتب لهم الأرض المقدسة * (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) * انتهى قابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة والعتو وقوة النفس وعدم المبالاة، بأن أقدم على أعظم الأمور وأكبر المعاصي بعد الشرك، وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها، بحيث كان أول من سن القتل، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه من حيث المعصية بهما، وأيضا فتقدم قوله أوائل الآيات * (إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم) * [المائدة: 11] وبعده * (قد جاءكم رسولنا بين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) * [المائدة: 15] وقوله * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * [المائدة: 18] ثم قصة محاربة الجبارين، وتبين أن عدم اتباع بني إسرائيل محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنما سببه الحسد، هذا مع علمهم بصدقة، وقصة ابني آدم انطوت على مجموع هذه الآيات من بسط اليد ومن الإخبار بالمغيب، ومن عدم الانتفاع بالقرب ودعواهمع المعصية، ومن القتل ومن الحسد ومعنى * (واتل عليهم) * أي: اقرأ واسرد، والضمير في * (عليهم) * ظاهره أنه يعود على بني إسرائيل، إذ هم المحدث عنهم أولا والمقام عليهم الحجج بسبب همهم ببسط أيديهم إلى الرسول والمؤمنين، فأعلموا بما هو في غامض كتبهم الأول التي لا تعلق للرسول بها إلا من جهة الوحي لتقوم الحجة بذلك عليهم، إذ ذلك من دلائل النبوة، والنبأ: هو الخبر، وابنا آدم في قول الجمهور عمر وابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهما: هما قابيل وهابيل، وهما ابناه لصلبه، وقال الحسن: لم يكونا ولديه لصلبه، وإنما هما أخوان من بني إسرائيل، قال: لأن القربان إنما كان مشروعا في بني إسرائيل، ولم يكن قبل ووهم الحسن في ذلك، وقيل: عليه كيف يجهل الدفن في بني إسرائيل حتى يقتدي فيه بالغراب، وأيضا فقد
475

قال الرسول عنه: إنه أول من سن القتل، وقد كان القتل في بني إسرائيل، ويحتمل قوله * (بالحق) * أن يكون حالا من الضمير في * (واتل) * أي: مصحوبا بالحق، وهو الصدق الذي لا شك في صحته، أو في موضع الصفة لمصدر محذوف، أي: تلاوة ملتبسة بالحق، والعامل في * (إذ) * * (نبأ) * أي: حديثهما وقصتهما في ذلك الوقت، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون بدلا من النبأ، أي: أتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف انتهى، ولا يجوز ما ذكر، لأن * (إذ) * لا يضاف إليها إلا الزمان، و * (نبأ) * ليس بزمان، وقد طول المفسرون في سبب تقريب هذا القربان، وملخصه: أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا أو أنثى، وكان آدم يزوج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن، وأنثى هذا ذكر ذلك، ولا يحل للذكر نكاح توءمته، فولد مع قابيل أخت جميلة اسمها أقليميا، وولد مع هابيل أخت دون تلك اسمها لبوذا، فأبى قابيل إلا أن يتزوج توءمة هابيل، وأن يخالف سنة النكاح إيثارا لجمالها، ونازع قابيل هابيل في ذلك، فقيل أمرهما آدم بتقريب القربان، وقيل: تقربا من عند أنفسهما، إذ كان آدم غائبا، توجه إلى مكة لزيارة البيت بإذن ربه، والقربان الذي قرباه هو زرع لقابيل، وكان صاحب زرع، وكبش هابيل وكان صاحب غنم * (فتقبل من أحدهما) * وهو هابيل * (ولم يتقبل من الآخر) * وهو قابيل، أي: فتقبل القربان، وكانت علامة التقبل: أكل النار النازلة من السماء القربان المتقبل وترك غير المتقبل، وقال مجاهد: كانت النار تأكل المردود، وترفع المقبول إلى السماء، وقال الزمخشري: يقال: قرب صدقة وتقرب بها، لأن تقرب قرب انتهى، وليس تقرب بصدقة مطاوع، قرب صدقة لاتحاد فاعل فعلين، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل، فيكون * (من أحدهما) * فعل، * (ومن الآخر) * انفعال نحو: كسرته فانكسر، وفلقته فانفلق، وليس قربت صدقة، وتقربت بها، من هذا الباب، فهو غلط فاحش، * (قال لأقتلنك) * هذا وعيد وتهديد شديد، وقد أبرز هذا الخبر مؤكدا بالقسم المحذوف أي: لأقتلنك حسدا على تقبل قربانك، وعلى فوزك باستحقاق الجميلة أختي، وقرأ زيد بن علي * (لأقتلنك) * بالنون الحفيفة، * (قال إنما يتقبل الله من المتقين) * قال ابن عطية: قبله كلام محذوف تقديره: لم تقتلني وأنا لم أجن شيئا، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني، أما إني أتقيه وكتب على لأحب الخلق * (إنما يتقبل الله من المتقين) * وخطب الزمخشري هنا فقال فإن قلت: كيف كان قوله * (إنما يتقبل الله من المتقين) * جوابا لقوله * (لأقتلنك) * قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل، قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ وما لك لا تعاقب نفسك، ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول، فأجابه بكلام حكيم مختصر، جامع لمعان، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم، وعن عامر بن عبد الله: أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك؟ فقد كنت وكنت قال: إني أسمع الله يقول * (إنما يتقبل الله من المتقين) * انتهى كلامه، ولم يخل من دسيسة الاعتزال على عادته، يحتاج الكلام في فهمه إلى هذه التقديرات، والذي قدرناه أولا كاف، وهو أن المعنى: لأقتلنك حسدا على تقبل قربانك، فعرض له بأن سبب قبول القربان هو التقوى، وليس متقيا، وإنما عرض له بذلك، لأنه لم يرض بسنة النكاح التي
قررها الله تعالى، وقصد خلافها، ونازع، ثم كانت نتيجة ذلك أن برزت في أكبر الكبائر بعد الشرك، وهو قتل النفس التي حرمها الله، قال ابن عطية: وأجمع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشر، فمن اتقاه وهو موحد، فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وقال عدي بن ثابت وغيره: قربان هذه الأمة الصلاة، وقول من زعم أن قوله * (إنما تقبل الله من المتقين) * ليس من لاكم المقتول، بل هو من
476

كلام الله تعالى للرسول، اعتراضا بين كلام القاتل والمقتول، والضمير عائد في * (قال) * على الله ليس بظاهر، * (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلنك) * قال ابن عباس: المعنى: ما أنا بمنتصر لنفسي، وقال عكرمة: المعنى ما كنت لأبتدئك بالقتل، وقال مجاهد والحسن: لم يكن الدفع عن النفس في ذلك الوقت جائزا، وقال عبد الله بن عمرو وابن عباس والجمهور: كان هابيل أشد قوة من قابيل، ولكنه تحرج من القتل، وهذا يدل على أن القاتل ليس بكافر، وإنما هو عاص، إذ لو كان كافرا لما تحرج هابيل من قتله، وإنما استسلم عثمان بن عفان، وقيل: إنما ترك الدفع عن نفسه، لأن أظهرت له مخيلة انقضاء عمره، فبنى عليها أو، بإخبار أبيه، وكما جرى لعثمان، إذ بشره الرسول بالجنة على بلوى تصيبه، ورآه في اليوم الذي قتل فيه في النوم، وهو يقول: إنك تفطر الليلة عندنا، فترك الدفع في نفسه حتى قتل، وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ' الق على وجهك، وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل '، وقيل: إن هابيل لاحت له أمارات غلبة الظن من قابيل على قتله، ولكن يتحقق ذلك، فذكر له هذا الكلام قبل الإقدام على القتل، ليزدجر عنه، وتقبيحا لهذا الفعل، ولهذا يروى: أن قالبل صبر حتى نام هابيل، فضرب رأسه بحجر كبير فقتله، وقال ابن جرير: ليس في الآية دليل على أن المقتول علم عزم القاتل على قتله، ثم ترك الدفع عن نفسه، قال الزمخشري: فإن قلت: لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله * (لئن بسطت) * * (ما أنا بباسط) * قلت: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع، ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي انتهى، وأورد أبو عبد الله الرازي هذا السؤال والجواب ولم ينسبه الزمخشري وهو كلام فيه انتقاد، وذلك أن قوله * (ما أنا بباسط) * ليس جزاء، بل هو جواب للقسم المحذوف قبل اللام في * (لئن) * المؤذنة بالقسم، والموطئة للجواب لا للشرط، وجوب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، ولو كان جوابا للشرط لكان بالفاء، فإنه إذا كان جواب الشرط منفيا بما فلا بد من الفاء، كقوله * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا) * [الجاثية: 25] ولو كان أيضا جوابا للشرط للزم من ذلك خرم القاعدة النحوية، من أنه إذا تقدم القسم على الشرط، فالجواب للقسم لا للشرط، وقد خالف الزمخشري كلامه هذا بما ذكره في البقرة، في قوله: * (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك) * البقرة [145]، فقال * (ما تبعوا) * جواب القسم المحذوف، سد مسد جواب الشرط، وتكلمنا معه هناك فينظر، * (إني أخاف الله رب العالمين) * هذا ذكر لعلة الامتناع في بسط يده إليه للقتل، وفيه تنبيه على أن القاتل لا يخاف الله، * (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار) * ذهب قوم إلى أن الإرادة هنا مجاز لا محبة إيثار شهوة، وإنما هي تخيير في شرين، كما تقول العرب: في الشر خيار، والمعنى: إن قتلتني وسبق بذلك قدر، فاختياري أن أكون مظلوما ينتصر الله لي في الآخرة، وذهب قوم إلى أن الإرادة هنا حقيقة، لا مجاز، لا يقال: كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار؟ لأن جزاء الظالم حسن أن يراد، وإذا جاز أن يريده الله تعالى جاز أن يريده العبد، لأنه لا يريد إلا ما هو حسن قاله الزمخشري، وفيه دسيسة الاعتزال، وقال ابن كيسان: إنما وقعت الإرادة بعدما بسط يده للقتل، وهو مستقبح، فصار
477

بذلك كافرا لأن من استحل ما حرم الله فقد كفر، والكافر يريد أن يراد به الشر، وقيل: المعنى: إنه لما قال: * (لقتلنك) * استوجب النار بما تقدم في علم الله، وعلى المؤمن أن يريد ما أراد الله، وظاهر الآية أنهما آثمان، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة: تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي، فحذف المضاف هذا قول عامة المفسرين، وقال الزجاج: إثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك، وهو راجع في المعنى إلى ما قبله، وقيل: المعنى بإثمي، أن لو قاتلتك وقتلتك وإثم نفسك في قتالي وقتلي، وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قوله - صلى الله عليه وسلم - ' إذا التقى المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه ' فكان هابيل أراد: إني لسن بحريص على قتلك، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي، قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يحتمل إثم قتله له * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * قلت: المراد بمثل إثمي على الاتساع في الكلام، كما تقول: قرأت قراءة فلان، وكتبت كتابته، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض، لا يكاد يستعمل غيره فإن قلت: فحين كف هابيل عن قتل أخيه، واستسلم وتحرج عما كان محظورا في شريعته من الدفع، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله، فيجتمع عليه الإثمان قلت: هو مقدر، فهو يحتمل مثل الإثم المقدر، كأنه قال: إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي انتهى، وقيل: بإثمي الذي يختص بي، فيما فرط لي أي: يؤخذ من سيئآتي، فتطرح عليك بسبب ظلمك لي * (وتبوء بإثمك) * في قتلي، ويعضد هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ' يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة، فيؤخذ من حسنات الظالم، فيزاد في حسنات المظلوم، حتى ينتصف، * (بإثمي) * اللاحق لي، أي: بمثل إثمي اللاحق لي، على تقدير وقوع قتلي لك، وإثمك اللاحق لك بسبب قتلي، الثاني * (بإثمي) * اللاحق لك بسبب قتلي، وإضافة إليه لما كان سببا له * (وإثمك) * اللاحق لم بسبب قتلي، الوجهان على إثبات الإرادة المجازية والحقيقية، وقيل: المعنى على النفي التقدير: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك، كقوله * (رواسي أن تميد بكم) * لقمان [10] أي: لا تميدوا * (أن تضلوا) * النساء [176] أي: لا تضلوا، فحذف لا، وهذا التأويل فرار من إثبات إرادة الشر لأخيه المؤمن، وضعف القرطبي هذا الوجه، بقوله - صلى الله عليه وسلم - ' لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل '، فثبت بهذا أن إثم القاتل حاصل انتهى، ولا يضعف هذا القول بما ذكره القرطبي، لأن قائل هذا لا يلزم من نفي إرادته القتل أن لا يقع القتل، بل قد لا يريده ويقع ونصر تأويل النفي الماوري، وقال: إن القتل قبيح، وإرادة القبيح قبيحة، ومن الأنبياء أقبح، ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ * (إني أريد) * أي: كيف أريد، ومعناه استبعاد الإرادة ولهذا قال بعض المفسرين، إن هذا استفهام على جهة الإنكار، أي: إني فحذف الهمزة لدلالة المعنى عليه
، لأن إرادة القتل معصية حكاه القشيري انتهى، وهذا كله خروج عن ظاهر اللفظ لغير ضرورة، وقد تقدم إيضاح الإرادة، وجواز ورودها هنا، واستدل بقوله * (فتكون من أصحاب النار) * على أن قابيل كان كافرا، لأن هذا اللفظ إنما ورد في القرآن في الكفار، وعلى هذا القول، ففيه دليل على أن الكفار
478

مخاطبون بفروع الشريعة، ولا يقوى هذا الاستدلال، لأنه يكنى عن المقام في النار مدة بالصحة، * (وذلك جزاء للظالمين) * أي: وكينونتك من أصحاب النار جزاؤك، لأنك ظالم في قتلي، ونبه بقوله * (الظالمين) * على السبب الموجب للقتل، وأنه قتل بظلم لا بحق، والظاهر أنه من كلام هابيل، نبهه على العلة ليرتدع، وقيل: هو من كلام الله تعالى، لا حكاية كلام هابيل، بل إخبار منه تعالى للرسول - صلى الله عليه وسلم - * (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله) * قال ابن عباس: بعثته على قتله، وقال أيضا: هو مجاهد: شجعته، وقال قتادة: زينت له، وقال الأخفش: رخصت، وقال المبرد: من الطوع، والعرب تقول: طاع له كذا أي: أتاه طوعا، وقال ابن قتيبة: تابعته وانقادت له، وقال الزمخشري: وسعته له ويسرته، من طاع له المرتع إذا اتسع، وهذه أقوال متقاربة في المعنى، وهو فعل من الطوع، وهو الانقياد، كأن القتل كان ممتنعا عليه متعاصيا، أصله: طاع له قتل أخيه، أي: انقاد له وسهل، ثم عدي بالتضعيف، فصار الفاعل مفعولا، والمعنى: أن القتل في نفسه مستصعب عظيم على النفوس، فردته هذه النفس اللحوح الأمارة بالسوء، طائعا منقادا حتى أوقعه صاحب هذه النفس، وقرأ الحسن وزيد بن علي والجراح والحسن بن عمران وأبو واقد * (فطاوعته) * فيكون فاعل فيه الاشتراك، نحو: ضاربت زيدا، كأن القتل يدعوه بسبب الحسد إصابة قابيل، أو كأن النفس تأبى ذلك، ويصعب عليها، وكل منهما يريد أن يطيعه الآخر إلى أن تفاقم الأمر، وطاوعت النفس القتل فوافقته، وقال الزمخشري فيه وجهان، أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل، وأن يراد أن قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه، فطاوعته ولم تمتنع، و * (له) * لزيادة الربط، كقولك: حفظت لزيد ماله انتهى، فأما الوجه الثاني، فهو موافق لما ذكرناه، وأما الوجه الأول، فقد ذكر سيبويه: ضاعفت وضعفت، مثل ناعمت ونعمك، وقال: فجاؤوا به على مثال عاقبته، وقال: قد يجيء، فاعلت، لا يريد بها عمل اثنين، ولكنهم بنوا عليه الفعل، كما بنو على أفعلت، وذكر أمثلة منها: عافاه الله، وهذا المعنى، وهو أن فاعل بمعنى فعل أغفله بعض المصنفين من أصحابنا في التصريف، كابن عصفور وابن مالك، وناهيك بهما جمعا واطلاعا، فلم يذكرا أن فاعل يجيء بمعنى فعل، ولا فعل بمعنى فاعل، قوله، و * (له) * الزيادة الربط، يعني في قوله * (فطوعت له نفسه) * يعني: أنه لو جاء فطوعت نفسه قتل أخيه لكان كلاما تاما جاريا على كلام العرب، وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام، إذ الربط يحصل بدونه، كما أنك لو قلت: حفظت مال زيد، كان كلاما تاما * (فقتله) * أخبر تعالى أنه قتله، وتكلم المفسرون في أشياء من كيفيته، ومكان قتله وعمره حين قتل، ولهم في ذلك اختلاف، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك، * (فأصبح من الخاسرين) * أصبح: بمعنى ضار، وقال ابن عطية: أقيم بعض الزمان مقام كله، وخص الصباح بذلك، لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومظنة النشاط، ومنه قول الربيع:
* أصبحت لا أحمل السلاح ولا
*
وقول سعد: ثم أصبحت بنو سعد تعززني على الإسلام إلى غير ذلك، من استعمال العرب لما ذكرناه انتهى، وهذا الذي ذكره من تعليل كون * (أصبح) * عبارة عن جميع أوقاته وأقيم بعض الزمان مقام كله، بكون الصباح خص بذلك، لأنه بدء النهار ليس بجيد، ألا ترى أنهم جعلوا أضحى وظل أمسى وبات بمعنى صار، وليس منها شيء بدء النهار، فكلما جرت هذه مجرى صار كذلك * (أصبح) * لا للعلة التي ذكرها ابن عطية، قال ابن عباس: خسر في الدنيا بإسخاط والديه وبقائه بغير أخ، وفي الآخرة بإسخاط ربه وصيرورته إلى النار، وقال الزجاج * (من الخاسرين) * للحسنات، وقال
479

القاضي أبو يعلى * (من الخاسرين) * أنفسهم بإهلاكهم إياها، وقال مجاهد: خسرانه أن عقلت إحدى رجلي القاتل لساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج، قال القرطبي: ولعل هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر، فيكون خسرانه في الدنيا، وقيل * (من الخاسرين) * باسوداد وجهه، وكفره باستحلاله ما حرم من قتل أخيه، وفي الآخرة بعذاب النار، وثبت في الحديث ' ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، وذلك لأنه أول من سن القتل ' وروي عن عبد الله بن عمر: أنه قال ' إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة في العذاب، عليه شطر عذابهم ' * (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه) * روي: أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض، ولما قتل تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به، فخاف السباع، فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح، وعكفت عليه السباع، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه، ثم ألقاه في الحفرة، فقال * (يا ويلتي أعجزت) *، وقيل: حمله مائة سنة، وقيل: طلب في ثاني يوم إخفاء قتل أخيه، فلم يدر ما يصنع، وقيل: وبعث الله غرابا إلى غراب ميت، فجعل يبحث في الأرض ويلقي التراب على الغراب الميت، وقيل: بعث الله غرابا واحدا، فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل، وروي: أنه أول ميت مات على وجه الأرض، وكذلك جهل سنة المواراة، والظاهر أنه غراب بعثه الله يبحث في الأرض ليرى قابيل كيف يواري سوءة هابيل، فاستفاد قابيل ببحثه في الأرض أن يبحث هو في الأرض فيستر فيه أخيه، والمراد بالسوءة هنا، قيل: العورة، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد، للاهتمام بها، ولأن سترها أوكد، وقيل: جميع جيفته، قيل: فإن الميت كله عورة، ولذلك كفن بالأكفان، قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالسوءة: هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة، لا على جهة الغض منه، بل الغض لا حق للقاتل، وهو الذي أتى بالسوءة انتهى، والسوءة: الفضيحة لقبحها قال الشاعر:
* يا لقومي للسوءة السوآة
*
أي: للفضيحة العظيمة، قالوا: ويحتمل إن صح أنه قتل غراب غرابا، أو كان ميتا أن يكون الضمير في * (أخيه) * عائد على الغراب، أي: ليرى قابيل كيف يواري الغراب سوءة أخيه، وهو الغراب الميت، فيتعلم منه بالأداة كيف يواري قابيل سوءة هابيل، وهذا فيه بعد، لأن الغراب لا تظهر له سوءة، والظاهر أن الإرادة هنا من جعله يرى أي يبصر، وعلق * (ليريه) * عن المفعول الثاني بالجملة التي فيها الاستفهام في موضع المفعول الثاني، و * (كيف) * معمولة ل * (يواري) * ول * (يريه) * متعلق ب * (يبحث) * ويجوز أن يتعلق بقوله * (فبعث) * وضمير الفاعل في * (ليريه) * الظاهر أنه عائد على الله تعالى، لأن الإرادة حقيقة هي من الله، إذ ليس للغراب قصد الإراءة وإرادتها، ويجوز أن يعود على الغراب، أي: ليريه الغراب، أي: ليعلمه، لأنه لما كان سبب تعليمه، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز، ويظهر أن الحكمة في أن كان هذا المبعوث غرابا دون غيره من الحيوان ومن الطيور، كونه يتشاءم به في الفراق، والاغتراب، وذلك مناسب لهذه القصة، وقيل * (فبعث) * جملة محذوفة دل عليها المعنى تقديره: فجعل مواراته * (فبعث) * * (قال يا
480

ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي) * استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى يعلم، وهو ذو العقل المركب فيه الفكر والروية والتدبير من طائر لا يعقل، ومعنى هذا الاستفهام: الإنكار على نفسه والنعي، أي: لا أعجز عن كوني مثل هذا الغراب، وفي ذلك هضم لنفسه، واستصغار لها، بقوله * (مثل هذا الغراب) * وأصل النداء أن يكون لمن يعقل، ثم قد ينادى ما لا يعقل على سبيل المجاز، كقولهم: يا عجبا، ويا حسرة، والمراد بذلك التعجب، كأنه قال: انظروا لهذا العجب، ولهذه الحسرة، فالمعنى: تنبهوا لهذه الهلكة، وتأويله: هذا أوانك فاحضري، وقرأ الجمهور * (يا ويلتا) * بألف بعد التاء، وهي بدل من تاء المتكلم، وأصله * (يا ويلتي) * بالياء، وهي قراءة الحسن، وأمال حمزة والكسائي وأبو عمر وألف ويلتي، وقرأ الجمهور * (أعجزت) * بفتح الجيم، وقرأ ابن مسعود والحسن وفياض وطلحة وسليمان بكسرها، وهي لغة شاذة، وإنما مشهور الكسر في قولهم: عجزت المرأة، إذا كبرت عجيزتها، وقرأ الجمهور * (فأواري) * بنصب الياء عطفا على قوله * (أن أكون) * كأنه قال: أعجزت أن أواري سوءة أخي، وقال الزمخشري * (فأواري) * بالنصب على جواب الاستفهام انتهى، وهذا خطأ فاحش، لأن الفاء الواقعة جوابا للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية، والجواب شرط وجزاء، وهنا تقول: أتزورني فأكرمك، والمعنى: إن تزرني أكرمك، وقال تعالى * (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا) * الأعراف [53] أي: إن يكن لنا شفعاء يشفعوا، ولو قلت هنا: إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوار سوءة أخي، لم يصح لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب، وقرأ طلحة بن مصرف والفياض بن غزوان * (فأواري) * بسكون الياء، فالأولى أن يكون على القطع، أي: فأنا أواري سوءة أخي، فيكون * (أواري) * مرفوعا، وقال الزمخشري: وقرئ بالسكون على: فأنا أواري، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى، يعني: أنه حذف الحركة، وهي الفتحة تخفيفا استثقلها على حرف العلة، وقال ابن عطية: هي لغة لتوالي الحركات انتهى، ولا ينبغي أن يخرج على النصب، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة، ولا تستثقل الفتحة، فتحذف تخفيفا، كما أشار إليه الزمخشري، ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات، لأنه لم يتوال فيه الحركات، وهذا عند النحويين أعني: النصب بحذف الفتحة لا يجوز إلا وقرأ الزهري * (سوة أخي) * بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الواو، ولا يجوز قلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، لأن الحركة عارضة، كهي في سمول، وجعل، وقرأ أبو حفص * (سوة) * بقلب الهمزة واوا وأدغم الواو فيه، كما قالوا في شيء، شي، وفي سيئة، سية، قال الشاعر:
* وإن رأوا سية طاروا بها فرحا
* مني وما علموا من صالح دفنوا
*
* (فأصبح من النادمين) * قبل هذه جملة محذوفة تقديره: فوارى سوء أخيه، والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه، لما لحقه من عصيان وإسخاط أبويه وتبشيره أنه من أصحاب النار، وهذا يدل على أنه كان عاصيا لا كافرا، قيل: ولم ينفعه ندمه، لأن كون الندم توبة خاص بهذه الأمة، وقيل * (من النادمين) * على حمله، وقيل * (من النادمين) * خوف الفضيحة، وقال الزمخشري: * (من النادمين) * على قتله لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره، وتبين له من عجزه، وتلمذته للغراب، واسوداد لونه، وسخط أبيه ولم يندم ندم التائبين انتهى، وقد اختلف العلماء في قابيل، أكان كافرا أو عاصيا؟
481

وفي الحديث ' إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا، فخذوا من خيرها ودعوا شرها '، وحكى المفسرون: عجائب مما جرى بقتل هابيل، من رجفان الأرض سبعة أيام، وشرب الأرض دمه، وايسال الشجر، وتغير الأطعمة، وحموضة الفواكه، ومرارة الماء، واغرار الأرض، وهرب قابيل بأخته أقليميا إلى عدن من أرض اليمن، وعبادته النار وانهماك أولاده في اتخاذ آلات اللهو وشرب الخمر والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله بالطوفان والله أعلم بصحة ذلك، قال الزمخشري: وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك، وأنه رثاء بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر، وروى ميمون بن مهران، عن ابن عباس: أنه قال: من قال: إن آدم قال شعرا فهو كذب، ورمى آدم بما لا يليق بالنبوة، لأن محمدا والأنبياء - عليه السلام - كلهم في النفي عن الشعر سواء، قال الله تعالى * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) * ولكنه كان ينوح عليه، وهو أول شهيد كان على وجه الأرض، ويصف حزنه عليه نثرا من الكلام شبه المرثية فتناسخته القرون وحفظوا كلامه فلما وصل إلى يعرب بن قحطان وهو أول من خط بالعربية، فنظمه فقال:
* تغيرت البلاد ومن عليها
* فوجه الأر ض مغبر قبيح
*
وذكر بعد هذا البيت ستة أبيات، وأن إبليس أجابه في الوزن والقافية بخمسة أبيات، وقول الزمخشري في الشعر: إنه ملحون يشير فيه إلى بيت، وهو الثاني:
* تغير كل ذي لون وطعم
* وقل بشاشة الوجه المليح
*
يرويه: بشاشة الوجه المليح على الإقواء، ويروي بنصب بشاشة، ونصبه على التمييز، وحذف التنوين لالتقاء الألف واللام قد جاء في كلامهم، قرئ * (أحد الله الصمد) * وروي: ولا ذاكر الله، بحذف التنوين، * (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) * الجمهور على أن * (من أجل ذلك) * متعلق بقوله * (كتبنا) * وقال قوم: بقوله * (من النادمين) * أي: ندم من أجل ما وقع، ويقال: أجل الأمر أجلا وآجلا إذا اجتباه وحده قال زهير:
* وأهل خباء صالح ذات بينهم
* قد احتربوا في عاجل أنا آجله
*
أي: جانيه ونسب هذا البيت ابن عطية إلى جواب، وهو في ديوان زهير، والمعنى: بسبب ذلك، وإذا قلت: فعلت ذلك من أجلك أردت أنك جنيت ذلك وأوجبته، ومعناه: ومعنى من جراك واحد، أي: من جريرتك،
482

و * (ذلك) * إشارة إلى القتل، أي: من جنى ذلك القتل كتبنا على بني إسرائيل * (ومن) * الابتداء الغاية، أي: ابتداء الكتب، ونشأ من أجل القتل، ويدخل على * (أجل) * اللام لدخول من، ويجوز حذف حرف الجر، واتصال الفعل إليه شرطه في المفعول له، ويقال: فعلت ذلك من أجلك، ولأجلك، وتفتح الهمزة أو تكسر، وقرأ ابن القعقاع بكسرها، وحذفها، ونقل حركتها إلى الساكن قبلها، كما قرأ ورش بحذفها وفتحها، ونقل الحركة إلى النون ومعنى * (كتبنا) * أي: كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك، وخص بنو إسرائيل بالذكر، وإن كان قبلهم أمم حرم عليهم قتل النفس، وكان قصاصهم فيهم، لأنهم على ما روي: أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء، ولتظهر مذمتهم في أن كتب عليهم هذا وهم مع ذلك لا يرعوون ولا يفقهون، بل هموا بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ظلما، ومعنى * (بغير نفس) * أي: بغير قتل نفس، فيستحق القتل، وقد حرم الله نفس المؤمن إلا بإحدى موجبات قتله، وقوله * (أو فساد) * هو معطوف على * (نفس) * أي: وبغير فساد، والفساد، قيل: الشرك بالله، وقيل: قطع الطريق وقطع الأشجار وقتل الدواب إلا لضرورة، وحرق الزرع وما يجري مجراه، وهو الفساد المشار إليه بعد هذه الآية، وقال ابن عطية: لم يتخلص التشبيه إلى طرفي شيء من هذه الأقوال، والذي أقول: إن التشبيه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات، لكن الشبه قد يحصل من ثلاث جهات، إحداها: القود فإنه واحد، والثانية: الوعيد، فقد وعد الله قاتل النفس بالخلود في النار، وتلك غاية العذاب، فإن ترقبناه يخرج من النار بعد ذلك بسبب التوحيد، فكذلك قاتل الجميع إن لو اتفق ذلك، والثالثة: انتهاك الحرمة، فإن نفسا واحدة في ذلك وجميع الأنفس سواء، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع، ومثال ذلك: رجلان حلفا على شجرتين أن لا يطعما من ثمرتيهما شيئا فطعم أحدهما واحدة من ثمرة شجرته وطعم الآخر ثمر شجرتيه كله، فقد استويا في الحنث انتهى، وقال غيره: قيل: المشابهة في الإثم، والمعنى: أن عليه إثم من قتل الناس جميعا، قاله الحسن والزجاج، وقيل: التشبيه في العذاب ومعناه أنه يصلي النار بقتل المسلم، كما لو قتل الناس قاله مجاهد وعطاء، وهذا فيه نظر، لأن العذاب يخفف ويثقل بحسب الجرائم، وقيل: التشبيه من حيث القصاص، قاله ابن زيد وتقدم، وقيل: التشبيه من جهة الإنكار على قبح الفعل، والمعنى: أنه ينبغي لجميع الناس أن يعينوا ولي المقتول حتى يقيدوه منه، كما لو قتل أولياءهم جميعا ذكره القاضي أبو يعلى، وهذا الأمر كان مختصا ببني إسرائيل غلظ عليهم كما غلظ عليهم بقتل أنفسهم قاله بعض العلماء، وقال قوم: هذا عام فيهم وفي غيرهم، قال سليمان بن علي: قلت للحسن: يا أبا سعيد هي لنا، كما كانت لبني إسرائيل، قال أي والذي لا إله غيره، ما كان دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا، وقيل: في قوله * (ومن أحياها) * أي: استنقذها من الهلكة، قال عبد الله والحسن ومجاهد: أي من غرق، أو حرق، أو هلاك، وقيل: من عضد نبيا، أو إماما عدلا لأن نفعه عائد على الناس جميعا، وقيل: من ترك قتل النفس المحرمة، فكأنما أحيا الناس بكفه أذاه عنهم، وقيل: من زجر عن قتل النفس ونهى عنه، وقيل: من أعان على استيفاء القصاص، لأنه قال * (ولكم في القصاص حياة) *، قال الحسن: وأعظم إحيائها أن يحييها من كفرها، ودليله * (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا) * الأنعام [122] انتهى، والإحياء هنا مجاز، لأن الإحياء حقيقة هو لله تعالى، وإنما المعنى: ومن استبقاها ولم يتلفها، ومثل هذا المجاز قول محاج إبراهيم * (أنا أحيي) * البقرة [258] سمي ترك إحياء، * (ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون) * أخبر تعالى أن الإسراف والفساد فيهم هذا مع مجيء الرسل بالبينات من الله، وكان مقتضى مجيء الرسل الله بالحجج الواضحة أن لا يقع منهم إسراف، وهو المجاوزة في الحد، فخالفوا هذا المقتضى، والعامل في * (بعد) * والمتعلق به * (في الأرض) * خبر * (أن) * ولم تنمع لام الابتداء من العمل في ذلك، وإن كان متقدما، لأن دخولها على الخبر ليس بحق التأصل، والإشارة بذلك إلى مجيء الرسل بالبينات، والمراد بالأرض، أي: حيث ما حلوا أسرفوا،
وظاهر
483

الإسراف أنه لا يتقيد، وقيل: لمسرفون، أي: قاتلون بغير حق، كقوله * (فلا يسرف في القتل) * الإسراء [23]، وقيل: هو طلبهم الكفاءة في الحسب، حتى يقتل بواحد عدة من قتلهم، * (إنما جزاء الذين يحابون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) * قال أنس بن مالك، وجرير بن عبد الله وعبد الله بن عمر وابن جبير وعروة: نزلت في عكل عرينة، وحديثهم مشهور، وقال ابن عباس فيما رواه عكرمة عنه: نزلت في المشركين، وبه قال الحسن وعطاء، وقال ابن عباس في رواية والضحاك: نزلت في قوم من أهل الكتاب، كان بينهم وبين الرسول عهد، فنقضوه وأفسدوا في الدين، وقيل: نزلت في قوم أبي بردة هلال بن عامر، قتلوا قوما مروا بهم من كنانة، يريدون الإسلام، وأخذوا أموالهم، وكان بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين أبي بردة موادعة، أن لا يعين عليه ولا يهيج من أتاه مسلما، ففعل ذلك قومه، ولم يكن حاضرا، والجمهور على أن هذه الآية ليست ناسخة ولا منسوخة، وقيل: نسخت ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين من المثلة، ووقف الحكم على هذه الحدود، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لما ذكر في الآية قبلها تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس، ولا فساد في الأرض أتبعه ببيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل، ما هو؟ فإن بعض ما يكون فسادا في الأرض لا يوجب القتل، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام، ومذهب مالك وجماعة: أن المحارب هو من حمل السلاح على الناس في مصر، أو برية، فكادهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثاثرة ولا دخل ولا عداوة، ومذهب أبي حنيفة وجماعة: أن المحاربين هم قطاع الطريق خارج المصر، وأما في المصر، فيلزمه حد ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب، ونحو ذلك، وأدنى الحرابة إخافة الطريق، ثم أخذ المال مع الإخافة، ثم الجمع بين الإخافة وأخذ المال والقتل، ومحاربة الله تعالى غير ممكنة، فيحمل على حذف مضاف، أو حملا على قدر مشترك اندفع ذلك، وقول ابن عباس: المحاربة هنا الشرك، وقول عروة: الارتداد غير صحيح عند الجمهور، وقد أورد ما يبطل قولهما وفي قوله * (يحاربون الله ورسوله) * تغليظ شديد لأمر الحرابة والسعي في الأرض فسادا، ويحتمل أن يكون المعنى بمحاربتهم، أو يضيفون فسادا إلى المحاربة، وانتصب * (فسادا) * على أنه مفعول به، أو مصدر في موضع الحال، أو مصدر من معنى * (يسعون في الأرض) * معناه: يفسدون لما كان السعي للفساد جعل فسادا أي: إفسادا، والظاهر في قوله: العقوبات الأربع أن الإمام مخير بين إيقاع ما شاء منها بالمحارب في أي رتبة كان المحارب من الرتب التي قدمناها، وبه قال النخعي والحسن في رواية وابن المسيب ومجاهد وعطاء، وهو مذهب مالك وجماعة، وقال مالك: استحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقاب، ولا سيما إن لم يكن ذا شرور معروفة، وأما إن قتل فلا بد من قتله، وقال ابن عباس وأبو مجلز وقتادة والحسن أيضا، وجماعة لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب، فمن قتل قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل فالقطع من خلاف، ومن أخاف فقط فالنفي، ومن جمعها قتل وصلب، والقائلون بهذا الترتيب اختلفوا، فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعي وجماعة وروي عن مالك: يصلب حيا ويطعن حتى يموت، وقال جماعة: يقتل ثم يصلب نكالا لغيره، وهو وقول الشافعي، والقتل إما ضربا بالسيف للعنق، وقيل: ضربا بالسيف، أو طعنا بالرمح أو الخنجر، ولا يشترط في قتله مكافأة لمن قتل، وقال الشافعي: تعتبر في المكافأة في القصاص، ومدة الصلب يوم أو ثلاثة أيام، أو حتى يسيل صديده، أو مقدار ما يستبين صلبه، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ، والرجل الشمال من المفصل، وروي عن علي أنه من
484

الأصابع، ويبقى الكف، ومن نصف القدم يبقى العقب، وهذا خلاف الظاهر، لأن الأصابع لا تسمى يدا، ونصف الرجل لا يسمى رجلا، وقال مالك: قليل المال وكثيره سواء، فيقطع المحارب إذا أخذه، وقال أصحاب الرأي والشافعي: لا يقطع إلا من أخذ ما يقطع فيه السارق، وأما النفي، فقال السدي: هو أن يطالب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله، ويخرج من دار الإسلام، وروي عن ابن عباس وأنس نفيه: أن يطلب، وروي ذلك عن الليث ومالك، إلا أن مالكا قال: لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك وقال ابن جبير وقتادة والربيع بن أنس والزهري والضحاك: النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك، وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة: ينفى من بلد إلى غيره، مما هو قاص بعيد، وقال أبو الزناد: كان النفي قديما إلى دهلك وناصع، وهما من أقصى اليمن، وقال الزمخشري دهلك في أقصى تهامة، وناصع من بلاد الحبشة، وقال أبو حنيفة: النفي السجن، وذلك إخراجه من الأرض، قال الشاعر، قال ذلك: وهو مسجون:
* خرجنا من الدنيا ونحن من اهليها
* فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
*
* إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
* عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
*
* وتعجبنا الرؤيا يحل حديثنا
* إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
*
والظاهر أن نفيه من الأرض هو إخراجه من الأرض التي حارب فيها، إن كانت الألف واللام للعهد، فينفى من ذلك العمل وإن كانت للجنس، فلا يزال يطلب ويزعج،
وهو هارب فزع إلى أن يلحق بغير عمل الإسلام، وصريح مذهب مالك: أنه إذا كان مخوف الجانب غرب وسجن حيث غرب، والتشديد في * (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع) * قراءة الجمهور، وهو للتكثير بالنسبة إلى الذين يوقع بهم الفعل، والتخفيف في ثلاثتها قراءة الحسن ومجاهد وابن محيصن، * (ذلك لهم خزي في الدنيا) * أي: ذلك الجزاء من القطع والقتل والصلب والنفي، والخزي هنا الهوان والذل والافتضاح، والخزي والحياء، عبر به عن الافتضاح، لما كان فاستحيا، * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * ظاهره أن معصية الحرابة مخالفة للمعاصي غيرها، إذ جمع فيها بين العقاب في الدنيا والعقاب في الآخرة، تغليظا لذنب الحرابة، وهو مخالف لظاهره قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة ' فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له '، ويحتمل أن يكون ذلك على حسب التوزيع، فيكون الخزي في الدنيا إن عوقب، والعقاب في الآخرة إن سلم في الدنيا من العقاب، فتجزي معصية الحرابة مجرى سائر المعاصي، وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب، ولكن في الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد، * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ' ظاهره أنه استثناء من المعاقبين، عقاب قاطع الطريق، فإذا تابوا قبل القدرة على أخذهم سقط عنهم ما فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا، وقالوا: لا نظر للإمام فيه إلا كما ينظر في سائر المسلمين، فإن طولب بدم نظر فيه، وأقيد منه بطلب الولي، وإن طالب بمال، فمذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي: يؤخذ ما وجد عنده من مال غيره، ويطالب بقيمة ما استهلك، وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطالب بما استهلك، ويؤخذ ما وجد عنده بعينه، وحكى الطبري عن عروة: انه لا تقبل توبة المحارب، ولكن لو فر إلى العدو، ثم جاءنا تائبا لم أر عليه عقوبة، قال الطبري: ولا أدري هل أراد ارتد أم لا؟ وقال الأوزاعي نحوه إلا أنه قال: إذ لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام، أو بقي عليه، ثم جاءنا تائبا من قبل أن نقدر علي قبلت توبته، * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة
485

وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) * مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر جزاء من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا من العقوبات الأربع، والعذاب العظيم المعد لهم في الآخرة، أمر المؤمنين بتقوى الله وابتغاء القربات إليه، فإن ذلك هو المنجي من المحاربة والعقاب المعد للمحاربين، ولما كانت الآية نزلت في العرنيين والكلبيين أو في أهل الكتاب اليهود، أو في المشركين على الخلاف في سبب النزول، وكل هؤلاء سعى في الأرض فسادا، نص على الجهاد، وإن كان مندرجا تحت ابتغاء الوسيلة، لأن به صلاح الأرض، وبه قوام الدين وحفظ الشريعة، فهو مغاير لأمر المحاربة، إذ الجهاد محاربة مأذون فيها، وبالجهاد يدفع المحاربون، وأيضا ففيه تلك النجدة التي وهبها الله له للمحاربة في معصية الله تعالى، وهل مقصورا على الجهاد في سبيل الله تعالى، وأن لا يضع تلك النجدة التي وهبها الله له للمحاربة في معصية الله تعالى، وهل الوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها، أو الحاجة، أو الطاعة، أو الجنة، أو أفضل درجاتها أقوال للمفسرين، وذكر رجاء الفلاح على تقدير حصول ما أمر به قبل من التقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله، والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمرجو * (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم) * لما أرشد المؤمنين إلى معاقد الخير ومفاتح السعادة، وذكر فوزهم في الآخر، وما آلو إليه من الفلاح شرح حال الكفار وعاقبة كفرهم، وما أعد لهم من العذاب، والجملة من * (لو) * وجوابها في موضع خبر * (إن) * ومعنى * (ما في الأرض) * من صنوف الأموال التي يفتدي بها، و * (مثله) * معطوف على اسم * (إن) * ولام كي تتعلق بما تعلق به خبر إن، وهو لهم، والمعنى: لو أن ما في الأرض ومثله معه مستقر لهم على سبيل الملك، ليجعلوه فدية لهم ما تقبل، وهذا على سبيل التمثيل ولزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل إلى نجاتهم منه، وفي الحديث ' يقال للكافر: أرأيت لو كان لكب ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به، فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك ' ووحد الضمير في * (به) * وإن كان قد تقدم شيئان معطوف عليه ومعطوف، وهو * (ما في الأرض) * و * (مثله معه) * إما لفرض تلازمها فأجريا مجرى الواحد، كما قالوا: رب يوم وليلة مر بي، وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، كأنه قال: ليفتدوا بذلك، قال الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في * (ومثله) * بمعنى مع، فيوحد المرجوع إليه فإن قلت: فبم ينتصب المفعول معه؟ قلت: بنا تستدعيه لو من الفعل، لأن لو ثبت أن لهم ما في الأرض انتهى، وإنما يوحد الضمير، لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر والحال، وعود الضمير متأخرا حكمه متقدما، تقول: الماء والخشبة استوى، كما تقول: الماء استوى والخشبة، وقد أجاز الأخفش في ذلك أن يعطي حكم المعطوف، فتقول: الماء مع الخشبة استويا، ومنع ذلك ابن
486

كيسان، وقول الزمخشري: تكون الواو في * (مثله) * بمعنى ما ليس بشيء، لأنه يصير التقدير: مع مثله معه، أي: مع مثل ما في الأرض مع ما في الأرض، إن جعلت الضمير في * (معه) * عائدا على * (مثله) * أي: مع مثله مع ذلك المثل، فيكون المعنى: مع مثلين: فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عي، إذ الكلام المنتظم أن يكون التركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثليه، وقول الزمخشري: فإن قلت إلى آخر السؤال، وهذا السؤال لا يرد لأنا قد بينا فساد أن تكون الواو واو مع، وعلى تقدير وروده، فهذا بناء منه على أن الواو إذا جاءت بعد لو كانت في موضع رفع على الفاعلية، فيكون التقدير على هذا: لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليفتدوا به، فيكون الضمير عائدا على * (ما) * فقط، وهذا الذي ذكره هو تفريع منه على مذهب المبرد، في أن * (أن) * بعد * (لو) * في موضع رفع على الفاعلية، وهو مذهب مرجوح، ومذهب سيبويه: أن * (أن) * بعد * (لو) * في موضع رفع على الابتداء، والزمخشري لا يظهر من كلامه في هذا الكتاب وفي تصانيفه أنه وقف على مذهب سيبويه في هذه المسالة، وعلى التفريع على مذهب المبرد، لا يصح أن يكون * (ومثله) * مفعولا معه، ويكون العامل فيه ما ذكر من الفعل، وهو ثبت بوساطة الواو، لما تقدم من وجود لفظ * (معه) * وعلى تقدير سقوطها يصح، لأن ثبت ليست رافعة لما العائد عليها الضمير، وإنما هي رافعة مصدرا منسبكا من أن وما بعدها، وهو كون، إذ التقدير: لو ثبت كون ما في الأرض جميعا لهم ومثله معه يفتدوا به، والضمير عائد على * (ما) * دون الكون، فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه، إذ لو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحبا للمثل، والمعنى: على كينونة ما في الأرض مصاحبا للمثل، لا على ثبوت
ذلك مصاحبا للمثل، وهذا فيه غموض، وبيانه أنك إذا قلت: يعجبني قيام زيد وعمر، أو جعلت عمرا مفعولا معه، والعامل فيه، يعجبني، لزم من ذلك أن عمرا لم يقم، وأنه أعجبك القيام وعمرو، وإن جعلت العامل فيه القيام كان عمرو قائما، وكان الإعجاب قد تعلق بالقيام مصاحبا لقيام عمرو، فإن قلت: هلا كان * (ومثله معه) * مفعولا معه، والعامل فيه هو العالم في * (لهم) * إذ المعنى عليه قلت: لا يصح ذلك، لما ذكرناه من وجود معه في الجملة، وعلى تقدير سقوطها لا يصح، لأنهم نصوا على أن قولك: هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار، وقال سيبويه: وأما، هذا لك وأباك لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل، فأصح سيبويه بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن معنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه، ولو كان أحدهما يجوز أن ينتصب المفعول معه لخبر بين أن ينسب العمل لاسم الإشارة أو لحرف الجر، وقد أجاز بعض النحويين أن يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر، فعلى هذا المذهب يجوز لو كانت الجملة خالية من قوله * (معه) * أن يكون * (ومثله) * مفعولا معه، على أن العامل فيه هو العامل في * (لهم) * وقرأ الجمهور * (ما تقبل) * مبنيا للمفعول، وقرأ يزيد بن قطيب * (ما تقبل) * مبنيا للفاعل، أي: ما تقبل الله منهم، وفي الكلام جملة محذوفة التقدير: وبذلوه وافتدوا به ما تقبل منهم، إذ لا يترتب انتفاء التقبل على كينونة ما في الأرض ومثله معه، إنما يترتب على بذل ذلك، أو الافتداء به، و * (ولهم عذاب أليم) * هذا الوعيد هو لمن وافى على الكفر، وتبينه آية آل عمران، وماتوا وهم كفار، فلن يقبل الآية، وهذه الجملة يجوز أن تكون عطفا على خبر * (إن الذين كفروا) * ويجوز أن تكون عطفا على * (إن الذين
487

كفروا) * وجوزوا أن تكون في موضع الحال، وليس بقوي، * (يريدون أن يخرجوا من النار) * أي: يرجون، أو يتمنون، أو يكادون، أو يسألون أقوال متقاربة من حيث المعنى الإرادة ممكنة في حقهم، فلا ينبغي أن تخرج عن ظاهرها، قال الحسن: إذا فارت بهم النار فروا من بأسها، فحينئذ يريدون الخروج ويطعمون فيه، وذلك قوله * (يريدون أن يخرجوا من النار) *، وقيل لجابر بن عبد الله: إنكم يا أصحاب محمد تقولون: إن قوما يخرجون من النار، والله تعالى يقول * (وما هم بخارجين منها) *، فقال جابر: إنما هذا في الكفار خاصة، وحكى الطبري عن نافع بن الأزرق الخارجي: أنه قال لابن عباس: يا أعمى البصر، يا أعمى القلب، أتزعم أن قوما يخرجون من النار، وقد قال الله تعالى * (وما هم بخارجين منها) * فقال له ابن عباس: اقرأ ما فوق هذه الآية في الكفار، وقال الزمخشري: وما يروى عن عكرمة، أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس، وذكر الحكاية، ثم قال: فما لفقته المجبرة، وليس بأول تكاذيبهم وافترائهم، وكفاك بما فيه من مواجهة ابن الأزرق لابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أظهر أعضاده من قريش، وانضاده من بني عبد المطلب، وهو حبر هذه الأمة وبحرها، ومفسرها بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا، وبرفعه إلى عكرمة دليلين ناصين أن الحديث فرية، ما فيها مرية انتهى، وهو على عادته وسفاهته في سب أهل السنة، ومذهبه: أن من دخل النار لا يخرج منها، وقرأ الجمهور * (أن يخرجوا) * مبنيا للفاعل، ويناسبه * (وما هم بخارجين منها) *، وقرأ النخعي وابن وثاب وأبو واقد * (أن يخرجوا) * مبنيا للمفعول، و * (ولهم عذاب مقيم) * أي: متأبد لا يحول، * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * قال السائب: نزلت في طعمه بن أبيرق، ومضت قصته في النساء، ومناسبتها لما قبلها، أنه لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي فيها قطع الأيدي والأرجل من خلاف، ثم أمر بالتقوى لئلا يقع الإنسان في شيء من الحرابة، ثم ذكر حال الكفار، ذكر حكم السرقة، لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن والأرجل بالسنة، على ما يأتي ذكره، وهو أيضا حرابة من حيث المعنى، لأن فيه سعيا بالفساد، إلا أن تلك تكون على سبيل الشوكة والظهور، والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر، والظاهر وجوب القطع بمسمى السرقة، وهو ظاهر النص ' يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل فتقطع يده اليمنى، سرق شيئا ما قليلا أو كثيرا قطعت يده '، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة ومن التابعين، منهم الحسن، وهو مذهب الخوارج وداود، وقال داود ومن وافقه: لا يقطع في سرقة حبة اليد عشرة دراهم فصاعدا، أو قيمتها من غيرها، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمرو أيمن الحبشي وأبي جعفر وعطاء وإبراهيم، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد، وقيل: ربع دينار فصاعدا، وروي عن عمر وعثمان وعلي وعائشة وعمر بن عبد العزيز، وهو قول الأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور، وقيل: خمسة دراهم، وهو قول أنس وعروة وسليمان بن يسار والزهري، وقيل: أربعة دراهم، وهو مروي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، وقيل: ثلاثة دراهم، وهو قول ابن عمر، وبه قال مالك وإسحاق وأحمد إلا إن كان ذهبا فلا تقطع إلا في ربع دينار، وقيل: درهم فما فوقه، وبه قال عثمان البتي، وقطع عبد الله بن الزبير في درهم، وللسرقة التي تقطع فيها اليد شروط، ذكرت في الفقه، وقرأ الجمهور * (والسارق والسارقة) * بالرفع، وقرأ عبد الله * (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم) *، وقال
488

الخفاف: وجدت في مصحف أبي * (والسرق والسرقة) * بضم السين المشددة فيهما، كذا ضبط أبو عمرو، قال ابن عطية: ويشبه أن يكون هذا تصحيفا من الضابط، لأن قراءة الجماعة إذا كتبت * (السارق) * بغير ألف، وافقت في الخط هذه، والرفع في * (والسارق والسارقة) * على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: فيما يتلى عليكم، أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة، أي: حكمهما ولا يجوز سيبويه أن يكون الخبر قوله * (فاقطعوا) * لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر مبتدأ موصول بظرف أو مجرور، أي جملة صالحة لأداة الشرط، والموصول هنا أل، وصلتها اسم فاعل أو اسم مفعول
489

وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه، وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين، أعني: أن يكون * (والسارق والسارقة) * مبتدأ، والخبر جملة الأمر أجروا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور، لأن المعنى فيه على العموم، إذ معناه: الذي سرق والتي سرقت، ولما كان مذهب سيبويه أنه لا يجوز ذلك تأويله على إضمار الخبر، فيصير تأوله فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة، جملة ظاهرها أن تكون مستقلة، ولكن المقصود هو في قوله * (فاقطعوا) * فجيء بالفاء رابطة للجملة الثانية، فالأولى موضحة للحكم المبهم في الجملة الأولى [وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي عبلة * (والسارق والسارقة) * بالنصب على الاشتغال، قال سيبويه: الوجه في كلام العرب النصب، كما تقول: زيدا فاضربه، ولكن أبت العامة إلا الرفع، يعني عامة القراء وجلهم، ولما كان معظم القراء على الرفع تأويله سيبويه على
وجه يصح، وهو أنه جعله مبتدأ، والخبر محذوف، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر * (فاقطعوا) * لكان تخريجا على غير الوجه في كلام العرب، ولكان قد تدخل الفاء في خبر أل، وهو لا يجوز عنده، وقد تجاسر أبو عبد الله محمد بن عمر، المدعو بالفخر الرازي ابن خطيب الري على سيبويه، وقال عنه ما لم يقله، فقال: الذي ذهب إليه سيبويه ليس بشيء، ويدل على فساده وجوه، الأول: أنه طعن في القراءة المنقولة بالمتواتر عن الرسول، وعن أعلام الأمة، وذلك باطل قطعا، قلت: هذا تقول على سيبويه، وقلة فهم عنه، ولم يطعن سيبويه على قراءة الرفع، بل وجهها التوجيه المذكور، وافهم أن المسألة ليست من باب الاشتغال المبني على جواز الابتداء فيه، وكون جملة الأمر خبره، أو لم ينصب الاسم، إذ لو كانت منه لكان النصب أوجه، كما كان في، زيدا اضربه، على ما تقرر في كلام العرب، فكون جمهور القراء عدلوا إلى الرفع، دليل على أنهم لم يجعلوا الرفع فيه على الابتداء المخبر عنه بفعل الأمر، لأنه لا يجوز ذلك لأجل الفاء، فقوله: أبت العامة إلا الرفع، تقوية لتخريجه، وتوهين للنصب على الاشتغال مع وجود الفاء، لأن النصب على الاشتغال المرجح على الابتداء في مثل هذا التركيب لا يجوز إلا إذا جاز أن يكون مبتدأ مخبرا عنه بالفعل الذي يفسر العامل في الاشتغال، وهنا لا يجوز ذلك لأجل الفاء الداخلة على الخبر، فكان ينبغي أن لا يجوز النصب، فمعنى كلام سيبويه: يقوي الرفع على ما ذكر، فكيف يكون طاعنا في الرفع، وقد قال سيبويه: وقد يحسن ويستقيم، عبد الله فاضربه، إذا كان مبنيا على مبتدأ مضمر، أو مظهر، فأما في المظهر فقولك: هذا زيد فاضربه، وإن شئت لم تظهر هذا، ويعمل عمله إذا كان مظهرا، وذلك قولك: الهلال والله فانظر إليه، فكأنك قلت: هذا الهلال، ثم جئت بالأمر، ومن ذلك قول الشاعر:
* وقائلة خولان فانكح فتاتهم
* وأكرومة الحيين خلو كما هيا
*
هكذا سمع من العرب تنشده انتهى، فإذا كان سيبويه يقول: وقد يحسن ويستقيم، عبد الله فاضربه، فكيف يكون طاعنا في الرفع، وهو يقول: إنه يحسن ويستقيم، لكنه جوزه على أن يكون المرفوع مبتدأ محذوف الخبر، كما تأوله في * (السارق والسارقة) * أو خبر مبتدأ محذوف، كقوله: الهلال والله فانظر إليه، وقال الفخر الرازي، فإن قلت: يعني سيبويه، لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة، ولكني أقول: القراءة بالنصب أولى، فنقول له: هذا أيضا رديء، لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها عيسى بن عمر على قراءة الرسول، وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر مردود قلت: هذا السؤال لم يقله سيبويه، ولا هو ممن يقوله، كيف يقوله، وهو قد رجح قراءة الرفع على ما أوضحناه، وأيضا فقوله: لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر، على قراءة الرسول، وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين
490

تشنيع وإيهام أن عيسى بن عمر قرأها من قبل نفسه، وليس كذلك، بل قراءته مستندة إلى الصحابة، وإلى الرسول، فقراءته قراءة الرسول أيضا، وقوله: وجميع الأمة، لا يصح هذا الإطلاق، لأن عيسى بن عمر وإبراهيم بن أبي عبلة ومن وافقهما، وأشياخهم الذين أخذوا عنهم هذه القراءة هم من الأمة، وقال سيبويه: وقد قرأ أناس * (والسارق والسارقة) * * (والزانية والزاني) * النور [2] فأخبر أنها قراءة ناس، وقوله: وجميع الأمة لا يصح هذا العموم، قال الفخر الرازي: الثاني من الوجوه التي تدل على فساد قول سيبويه، أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) * النساء [186] بالنصب، ولما لم يوجد في القراء أحد قرأ كذلك علمنا سقوط هذا القول قلت: لم يدع سيبويه أن قراءة النصب أولى، فيلزمه ما ذكر، وإنما قال سيبويه: وقد قرأ ناس * (والسارق والسارقة) * * (والزانية والزاني) * النور [2] وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا القراءة بالرفع، ويعني سيبويه بقوله: من القوة لو عري من الفاء المقدر دخولها على خبر الاسم المرفوع على الابتداء، وجملة الأمر خبره، ولكن أبت العامة أي: جمهور القراء إلا الرفع، لعلة دخول الفاء، إذ لا يصح أن تكون جملة الأمر خبرا لهذا المبتدأ، فلما دخلت الفاء رجح الجمهور الرفع، ولذلك لما ذكر سيبويه، اختيار النصب في الأمر والنهي لم يمثله بالفاء، بل عاريا مثلا، قال سيبويه: وذلك قولك: زيدا اضربه، وعمرا امرر به، وخالدا اضرب أباه، وزيدا اشتر له ثوبا، ثم قال: وقد يكون في الأمر والنهي أن يبني الفعل على الاسم، وذلك قوله: عبد الله فاضربه، ابتدأت عبد الله، فرفعت بالابتداء، ونبهت المخاطب له ليعرفه باسمه، ثم بينت الفعل عليه، كما فعلت ذلك في الخبر، فإذا قلت: زيدا فاضربه، لم يستقم، لم تحمله على الابتداء، ألا ترى أنك لو قلت: زيد فمنطلق، لم يستقم، فهذا دليل على أنه لا يجوز أن يكون مبتدأ، يعني مخبرا عنه بفعل الأمر المقرون بالفاء، الجائز دخولها على الخبر، ثم قال سيبويه: فإن شئت نصبته على شيء هذا يفسره، لما منع سيبويه الرفع فيه على الابتداء، وجملة الأمر خبره لأجل الفاء، أجاز نصبه على الاشتغال، لا على أن الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ، وتلخيص ما يفهم من كلام سيبويه: أن الجملة الراقعة أمرا بغير فاء بعد اسم يختار فيه النصب، ويجوز فيه الابتداء، وجملة الأمر خبره، فإن دخلت عليه الفاء، فإما أن تقدرها الفاء الداخلة على الخبر، أو عاطفة، فإن قدرتها الداخلة على الخبر فلا يجوز أن يكون ذلك الاسم مبتدأ، وجملة الأمر خبره، إلا إذا كان المبتدأ أجرى مجرى الاسم الشرط لشبهه به، وله شروط ذكرت في النحو، وإن كانت عاطفة كان ذلك الاسم مرفوعا، إما مبتدأ كما تأول سيبويه، في قوله * (والسارق والسارقة) * وإما خبر مبتدأ محذوف، كما قيل: القمر والله فانظر إليه، والنصب على هذا المعنى دون الرفع، لأنك إذا نصبت احتجت إلى جملة فعلية تعطف عليها بالفاء، وإلى حذف الفعل الناصب، وإلى تحريف الفاء إلى غير محلها، فإذا قلت: زيدا فاضربه، فالتقدير: تنبه فاضرب زيدا اضربه، حذفت تنبه، وحذفت اضرب، وأخرت الفاء إلى دخولها على المفسر، وكان الرفع أولى، لأنه ليس فيه إلا حذف مبتدأ، أو حذف خبر، فالمحذوف أحد جزأي الإسناد فقط، والفاء واقعة في مواقعها، ودل على ذلك المحذوف سياق الكلام، والمعنى: قال سيبويه: وأما
قوله عز وجل: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) * النور [2] * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * فإن هذا لم يبين على الفعل، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى * (مثل الجنة التي وعد المتقون) * محمد [15] ثم قال بعد * (فيها أنهار) * محمد [15] فيها كذا وكذا، فإنما وضع مثل للحديث الذي بعده، وذكر بعد أخبار وأحاديث، كأنه قال: ومن القصص مثل الجنة، أو مما نقص عليكم مثل الجنة، فهو محمول على هذا الإضمار، أو نحوه والله أعلم] وكذلك * (الزانية والزاني) * لما قال تعالى * (سورة أنزلناها وفرضناها) * قال في الفرائض * (الزانية والزاني) * أو الزانية والزاني في الفرائض، ثم قال * (فاجلدوا) * فجاء بالفعل بعد أن مضى فيها الرفع، كما قال:
* وقائلة خولان فانكح فتاتهم
*
491

فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه الضمير، وكذلك * (السارق والسارقة) * كأنه قال: ومما فرض عليكم السارق والسارقة، أو السارق والسارقة، فيما فرض عليكم، وإنما جاءت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث انتهى، فسيبويه إنما اختار هذا التخريح، لأنه أقل كلفة من النصب، مع وجود الفاء، وليست الفاء الداخلة في خبر المبتدأ، لأنه سيبويه لا يجيز ذلك في أل الموصولة، فالإتيان عنده من باب، زيد فاضربه، فكما أن المختار في هذا الرفع، فكذلك في الآيتين، وقول الرازي: لوجب أن يكون في القراء من قرأ * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) * النساء [16] بالنصب إلى آخر كلامه، لم يقل سيبويه: إن النصب في مثل هذا التركيب أولى، فيلزم أن يكون في القراء من ينصب، * (واللذان يأتيانها) * بل حل سيبويه هذا الآية محل قوله * (والسارق والسارقة) * لأنه تقدم قبل ذلك ما يدل على المحذوف، وهو قوله * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * النساء [15] فخرج سيبويه الآية على الإضمار، وقال سيبويه: وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا كنت تخبر بأشياء، أو توصي، ثم تقول: زيد أي زيد فيمن أوصى، فأحسن إليه وأكرمه، ويجوز في * (واللذان يأتيانها منكم) * النساء [16] أن يرتفع على الابتداء، والجملة التي فيها الفاء خبر، لأنه موصول مستوف شروط الموصول الذي يجوز دخول الفاء في خبره، لشبهه باسم الشرط، بخلاف قوله * (السارق والسارقة) * فإنه لا يجوز عند سيبويه دخول الفاء في خبره، لأنه لا يجري مجرى اسم الشرط، فلا يشبه به في دخول الفاء، قال الفخر الرازي: الثالث: يعني من وجوه فساد قول سيبويه أنا إنما قلنا: * (السارق والسارقة) * مبتدأ، وخبره هو الذي يضمره، وهو قولنا فيما يتلى عليكم، وفي شيء تتعلق به الفاء في قوله * (فاقطعوا أيديهما) * قلت: تقدم لنا حكمة المجيء بالفاء، وما ربطت، وقد قدره سيبويه: ومما فرض عليكم السارق والسارقة، والمعنى: حكم السارق والسارقة، لأنها آية جاءت بعد ذكر جزاء المحاربين وأحكامهم، فناسب تقدير سيبويه، وجئ بالفاء رابطة الجملة الثانية بالأولى، والثانية جاءت موضحة للحكم المبهم فيما قبل ذلك، قال الفخر الرازي: فإن قال يعني سيبويه: الفاء تتعلق بالفعل الذي دل عليه، قوله * (والسارق والسارقة) * يعني أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يده فنقول: إذا احتجت في آخر الأمر أن تقول * (السارق والسارقة) * تقديره: من سرق فاذكر هذا أولا، حتى لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته، قلت: هذا لا يقوله سيبويه، وقد بينا حكم الفاء وفائدتها، فقال الفخر الرازي: الرابع: يعني من وجوه فساد قوله سيبويه، إذا اخترنا القراءة بالنصب لم تدل على أن السرقة علة الوجوب القطع، وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى، ثم إن هذا المعنى متأكد بقوله * (جزاء بما كسبا) * المائدة [38] فثبت أن القراءة بالرفع أولى، قلت: هذا عجيب من هذا الرجل، يزعم أن النصب لا يشعر بالعلة الموجبة للقطع، ويفيدها الرفع، وهل هذا إلا من التعليل بالوصف المترتب عليه الحكم، فلا فرق في ذلك بين الرفع والنصب، لو قلت: السارق ليقطع، أو اقطع السارق لم يكن بينهما فرق من حيث التعليل، وكذلك الزاني ليجلد، أو اجلد الزاني، ثم قوله: إن هذا المعنى متأكد بقوله * (جزاء بما كسبا) * النصب أيضا يحسن أن يؤكد بمثل هذا، لو قلت: اقطع اللص جزاء بما كسب صح، وقال الفخر الرازي: الخامس: يعني من وجوه فساد قول سيبويه، أن سيبويه قال: وهم يقدمون الأهم فالأهم، والذي هم ببيانه أعني، فالقراءة بالرفع تقتضي ذكر كونه سارقا على ذكر وجوب القطع، وهذا يقتضي أن يكون أكثر العناية مصروفا إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث إنه سارق، وأما القراءة بالنصب، فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أتم من العناية بكونه سارقا، ومعلوم أنه ليس كذلك، فإن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة، والمبالغة في الزجر عنها، فثبت أن القراءة بالفرع هي المتعينة قطعا قلت: الذي ذكر فيه سيبويه أنهم كانوا يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعني هو ما اختلفت فيه نسبة الإسناد كالفاعل والمفعول، قال سيبويه: فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول، يعني: في ضرب عبد الله زيدا، قال: وذلك ضرب زيدا عبد الله، لأنك إنما أردت به مؤخرا ما أردت به مقدما، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول
492

منه، وإن كان مؤخرا في اللفظ، فمن كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدما، وهو عربي جيد كثير، كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم، وهم ببيانه أعني، وإن كان جميعا يهمانهم ويعنيانهم انتهى، والرازي حرف كلام سيبويه، وأخذه حيث لا يتصور اختلاف نسبه، وهو المبتدأ والخبر، فإنه ليس في إلا نسبة واحدة، بخلاف الفاعل والمفعول، لأن المخاطب قد يكون له غرض في ذكر من صدر منه الضرب، فيقدم الفاعل، أو في ذكر من حل به الضرب فيقدم المفعول، لأنه نسبة الضرب مختلفة بالنظر إليهما، وأما الآية فهي من باب ما النسبة فيه لا تختلف، إنما هي الحكم على السارق بقطع يده، وما ذكره الرازي لا يتفرع على كلام سيبويه بوجه، والعجب من هذا الرجل، وتجاسره على العلوم حتى صنف في النحو كتابا سماه المحرر، وسلك فيه طريقة غريبة بعيدة من مصطلح أهل النحو، ومن مقاصدهم، وهو كتاب لطيف محتو على بعض أبواب العربية، وقد سمعت شيخنا أبا جعفر بن الزبير يذكر هذا التصنيف، ويقول: إنه ليس جاريا على مصطلح القوم، وأن ما سلكه في ذلك من التخطيط في العلوم، ومن غلب لعيه فن ظهر فيما يتكلم به من غير ذلك الفن، أو قريبا منه من هذا المعنى، ولما وقفت على هذا الكتاب بديار مصر رأيت ما كان الأستاذ أبو جعفر يذم من هذا الكتاب، ويستنزل عقل فخر الدين في كونه صنف في علم وليس من أهله، وكان أبو جعفر يقول: لكل علم حد ينتهي إليه، فإذا رأيت متكلما في
فن ما، ومزجه بغيره، فاعلم أن ذلك إما أن يكون من تخليطه وتخبيط ذهنه، وإما أن يكون من قلة محصوله، وقصوره في ذلك العلم، فتجده يستريح إلى غيره مما يعرفه، وقال الزمخشري بعد أن ذكر مذهب سيبويه في إعراب * (السارق والسارقة) * ما نصه: ووجه آخر، وهو أن يرتفعا بالابتداء والخبر * (فاقطعوا أيديهما) * ودخول الفاء لتضمنها عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر، لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضربه أحسن من زيد فاضربه انتهى، وهذا الوجه الذي أجازه وإن كان ذهب إليه بعضهم لا يجوز عند سيبويه، لأن الموصول لم يوصل بجملة تصلح لأداة الشرط ولا بما قام مقامها من ظرف أو مجرور، بل الموصول هنا أل، وصلة أل لا تصلح لأداة الشرط، وقد امتزج الموصول بصلته، حتى صار الإعراب في الصلة، بخلاف الظرف والمجرور، فإن العامل فيها جملة لا تصلح لأداة الشرط، وأما قوله في قراءة عيسى: إن سيبويه فضلها على قراءة العامة فليس بصحيح، بل الذي ذكر سيبويه في كتابه: أنهما تركيبان أحدهما: زيدا اضربه، والثاني: زيد فاضربه، فالتركيب الأول اختار فيه النصب، ثم جوزوا الرفع بالابتداء، والتركيب الثاني منع أن يرتفع بالابتداء، وتكون الجملة الأمرية خبرا له لأجل الفاء، وأجاز نصبه على الاشتغال، أو على الإغراء، وذكر أنه يستقيم رفعه على أن يكون جملتان، ويكون زيد خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا زيد فاضربه، ثم ذكر الآية، فخرجها على حذف الخبر، ودل كلامه أن هذا التركيب هو لا يكون إلا على جملتين، الأولى ابتدائية، ثم ذكر قراءة ناس بالنصب، ولم يرجحها على قراءة العامة، إنما قال: وهي في العربية على ما ذكرت لك من القوة، أي: نصبها على الاشتغال و الإغراء، وهو قوي لا ضعيف، وقد منع سيبويه رفعه على الابتداء، والجملة الأمرية خبر لأجل الفاء، وقد ذكرنا الترجيح بين رفعه على أنه مبتدأ حذف خبره، أو خبر حذف مبتدؤه، وبين نصبه على الاشتغال، بأن الرفع يلزم فيه حذف خبر واحد، والنصب يلزم فيه حذف جملة وإضمار أخرى، وزحلقة الفاء عن موضعها، وظاهر قوله * (والسارق) * أنه لا يشترط حرز للمسروق، وبه قال داود والخوارج، وذهب الجمهور إلى أن شرط القطع إخراجه من الحرز، ولو جمع الثياب في البيت ولم يخرجها لم يقطع، وقال الحسن: يقطع، والظاهر اندراج كل من يسمى سارقا في عموم * (والسارق والسارقة) * ولكن الإجماع منعقد على أن الأب إذا سرق من ماله ابنه لا يقطع الابن، وقال عبد الله بن الحسن: إن كان يدخل عليهما فلا قطع، وإن كانا ينهيانه على الدخول قطع، ولا يقطع ذوو المحارم عند أبي
493

حنيفة، ولا الأجداد من جهة الأدب والأم عند الجمهور وعند أشهب، وقال أبو ثور: يقطع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد، إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها، ولا هو إذا سرق من مال زوجته، وقال مالك: يقطعان، والظاهر أن من أقر مرة بسرقة قطع، وبه قال أبو حنيفة وزفر ومالك والشافعي والثوري، وقال ابن شبرمة وأبو يوسف وابن أبي ليلى: لا يقطع حتى يقر مرتين، وقال أبو حنيفة: لا يقطع سارق المصحف، وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وابن القاسم: يقطع إذا كانت قيمته نصابا، والظاهر قطع الطرار نصابا، وبه قال مالك الأوزاعي وأبو ثور ويعقوب، وهو قول الحسن وذهب أبو حنيفة ومحمد وإسحاق إلى أنه إن كانت الدراهم مصرورة في كمه لم يقطع، أو في داخلة قطع، واختلف في النباش، إذا أخذ الكفن فقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي ومحمد: لا يقطع، وهو قول ابن عباس ومكحولا: وقال الزهري: أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زمن كان مروان أميرا على المدينة، أن النباش يعزر ولا يقطع، وكان الصحابة متوافرين يومئذ، وقال أبو الدرداء وابن أبي ليلى وربيعة ومالك والشافعي وأبو يوسف: يقطع، وهو مروي عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والزهري ومسروق والحسن والنخعي وعطاء، والظاهر أنه إذا كرر السرقة في العين بعد القطع فيها لم يقطع، وبه قال الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يقطع وأنه إذا سرق نصابا من سارق لا يقطع، وبه قال الشافعي، وقال مالك: يقطع، والمخاطب بقوله * (فاقطعوا) * الرسول أو ولاة الأمر، كالسلطان، ومن أذن له في إقامة الحدود، أو القضاء والحكام، أو المؤمنون ليكونوا متظافرين على إقامة الحدود أقوال أربعة، وفصل بعض العلماء، فقال: إن كان في البلد إمام أو نائب له، فالخطاب متوجه إليه، فإن لم يكن وفيها حاكم، فالخطاب متوجه إليه، فإن لم يكن فإلى عامة المؤمنون، وهو من فروض الكفاية، إذ ذاك إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين، والظاهر من قوله * (فاقطعوا أيديهما) * أنه يقطع من السارق الثنتان، لكن الإجماع على خلاف هذا الظاهر، وإنما يقطع من السارق يمناه، ومن السارقة يمناها، قال الزمخشري * (أيديهما) * يديهما ونحوه * (فقد صغت قلوبكما) * التحريم [4] اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف، وأريد باليدين اليمينان بدليل قراءة عبد الله * (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم) * انتهى، وسوى بين * (أيديهما) * و * (قلوبكما) * وليسا بشيئين، لأن باب * (صغت قلوبكما) * يطرد فيه وضع الجمع موضع التثنية، وهو ما كان اثنين من شيئين، كالقلب والأنف، والوجه والظهر، وأما إن كان شيء منهما اثنان كاليدين والأذنين والفخذين، فإن وضع الجمع موضع التثنية لا يطرد، وإنما يحفظ ولا يقاس عليه، لأن الذهن إنما يتبادر إذا أطلق الجمع لما يدل عليه لفظه، فلو قيل: قطعت آذان الزيدين، فظاهره قطع أربعة الآذان، وهو استعمال اللفظ في مدلوله، وقال ابن عطية: جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة، وهي المعرضة للقطع في السرقة، وللسراق أيد، وللسارقات أيد، كأنه قال: اقطعوا أيمان النوعين، فالتثنية للضمير إنما هي النوعين، وظاهر قوله * (أيديهما) * أنه لا يقطع الرجل، فإذا سرق قطعت يده اليمنى، ثم إن سرق قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق عزر وحبس، وهو مذهب مالك والجمهور، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وقال علي والزهري وحماد بن أبي سلمة وأحمد: تقطع يديه اليمنى ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق عزر وحبس، وروى عطاء: لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط، ثم إن سرق عزر وحبس، وقال الشافعي: إذا سرق أولا قطعت يده اليمنى، ثم في الثانية رجله اليسرى، ثم في الثالثة يده اليسرى، ثم في الرابعة وجله اليمنى، وروي هذا عن عمر، قيل: ثم رجع إلى قوله علي، وظاهر قطع اليد أنه يكون من المنكب من المفصل، وروي عن علي: أنه في اليد من
494

الأصابع، وفي الرجل من نصف القدم، وهو معقد الشراك، وروي مثله عن عطاء وأبي جعفر، وقال أبو صالح السمان: رأيت الذي قطعه علي مقطوعا من أطراف الأصابع، فقيل له: من قطعك؟ قال: خير الناس، والظاهر أن المترتب على السرقة هو قطع اليد فقط، فإن كان المال قائما بعينه أخذه صاحبه، وإن كان السارق
استهلكه فلا ضمان عليه، وبه قال مكحول وعطاء والشعبي وابن سيرين والنخعي في قول أبي حنيفة وأصحابه، وقال الحسن والزهري والنخعي في قو حماد وعثمان البتي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق: يضمن ويغرم، وقال مالك: إن كان موسرا ضمن، أو معسرا فلا شيء عليه، * (جزاء بما كسب نكالا من الله) * قال الكسائي: انتصب * (جزاء) * على الحال، وقال قطرب: على المصدر، أي: جازاهم جزاء، وقال الجمهور: هو على المفعول من أجله، و * (بما) * متعلق ب * (جزاء) * و * (ما) * موصولة، أي: بالذي كسباه، ويحتمل أن تكون مصدرية أي: جزاء يكسبها، وانتصاب نكالا على المصدر، أو على أنه مفعول من أجله، والعذاب النكال، والنكل القيد، تقدم الكلام فيه، في قوله * (فجعلناها نكالا) * وقال الزمخشري: جزاء ونكالا مفعول لما انتهى، وتبع في ذلك الزجاج، قال الزجاج: هو المفعول من أجله، يعني: جزاء، قال: وكذلك * (نكالا من الله) * انتهى، وهذا ليس بجيد إلا إذا كان الجزاء هو النكال، فيكون ذلك على طريق البدل، وأما إذا كانا متباينين، فلا يجوز أن يكونا مفعولين لهما إلا بواسطة حرف العطف، * (والله عزيز حكيم) * قيل: المعنى * (عزيز) * في شرع الردع * (حكيم) * في إيجاب القطع، وقيل * (عزيز) * في انتقامه من السارق، وغيره من أهل المعصية * (حكيم) * في فرائضه وحدوده، روي: أن بعض الأعراب سمع قرائا يقرأ * (والسارق والسارقة) * إلى آخرها، وختمها بقوله * (والله غفور رحيم) * فقال: ما هذا كلام فصيح، فقيل له: ليس التلاوة كذلك، وإنما هي * (والله عزيز حكيم) * فقال: بخ بخ عز، فحكم، فقطع. 2 (* (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) *)) 2
* (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) * أي فمن تاب من بعد ظلمه بالسرقة. وظلمه مضاف إلى الفاعل أي: من بعد أن ظلم غيره بأخذ مال أو سرقة. قيل: أو مضاف إلى المفعول أي: من بعد أن ظلم نفسه. وفي جواز هذا الوجه نظر إذ يصير التقدير: من بعد أن ظلمه. ولو صرح بهذا لم يجز، لأن فيه تعدي الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب، وذلك لا يجوز إلا في باب ظن، وفقد، وعدم. ومعنى يتوب عليه أي: يتجاوز عنه ويقبل توبته. وظاهر الآية أنه بمجرد التوبة لا يقبل إلا إن ضم إلى ذلك الإصلاح وهو التنصل من التبعات بردها إن أمكن، وإلا بالاستحلال منها، أو بإنفاقها في سبيل الله إن جهل صاحبها. والغفران والرحمة كناية عن سقوط العقوبة عنه في الآخرة. قرأ الجمهور على أن الحد لا يسقط بالتوبة. وقال عطاء وجماعة: يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق، وهو أحد قولي الشافعي. وقال مجاهد: التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد
495

* (ألم تعلم أن الله له ملك * السماوات والارض * يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء) * لما ذكر تعالى تصرفه في أحكام المحاربين وأحكام السراق، ولم يحاب ما ذكر من العقوبات عليهم، نبه على أن ذلك هو تصرف في ملكه، وملكه لا معقب لحكمه، فيعذب من يشاء عذابه وهم المخالفون لأمره، ويغفر لمن يشاء وهم التائبون. والخطاب في ألم تعلم قيل: للنبي صلى الله عليه وسلم)، وقيل: لكل مكلف، وقيل: للمجترىء على السرقة وغيرها من المحظورات. فالمعنى: ألم تعلم أنك عاجز عن الخروج عن ملكي، هاربا مني ومن عذابي، فلم اجترأت على ما منعتك منه؟ وأبعد من ذهب أنه خطاب اليهود كانوا بحضرة الرسول، والمعنى: ألم تعلموا أنه له ملك السماوات والأرض، لا قرابة ولا نسب بينه وبين أحد حتى يحابيه، ويترك القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه. قال الزمخشري: من يشاء من يجب في الحكم تعذيبه والمغفرة له من المصرين والتائبين انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. وقد يسقط حد الحربي إذا سرق بالتوبة ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه، ولا نسقطه عن المسلم لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة * (ولكم في القصاص حيواة) * وقال ابن عباس والضحاك: يعذب من يشاء، أي من مات على كفره، ويغفر لمن يشاء ممن تاب عن كفره. وقيل: ذلك في الدنيا، يعذب من يشاء في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والسبي والأسر وإذهاب المال والجدب والنفي والخزي والجزية وغير ذلك، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته فينقذه من الهلكة وينجيه من العقوبة.
* (والله على كل شيء قدير) * كثيرا ما يعقب هذه الجملة ما دل على التصرف التام، والملك والخلق والاختراع، وهي في غاية المناسبة عقيب ما ذكروه من ذلك قوله تعالى: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) *.
(* (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والا رض يعذب من يشآء ويغفر لمن يشآء والله على كل شىء قدير * ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم ءاخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هاذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولائك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الا خرة عذاب عظيم * سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين * وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذالك ومآ أولائك بالمؤمنين * إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والا حبار بما استحفظوا من كتاب
496

الله وكانوا عليه شهدآء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بأاياتى ثمنا قليلا ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الكافرون * وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس والعين بالعين والا نف بالا نف والا ذن بالا ذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الظالمون * وقفينا علىءاثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين * وليحكم أهل الإنجيل بمآ أنزل الله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الفاسقون * وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولاكن ليبلوكم فى مآ ءاتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) *))
) *
السحت والسحت بسكون الحاء وضمها الحرام، سمي بذلك لأنه يسحت البركة أي يذهبها. يقال: سحته الله أي أهلكه، ويقال: أسحته، وقرئ بهما في قوله: * (فيسحتكم بعذاب) * أي يستأصلكم يهلككم، ومنه قول الفرزدق:
* وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
*
من المال إلا مسحتا أو مجلف
*
ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين، وسحت بإسكان الحاء. وقال الفراء: أصل السحت كلب الجوع ويقال: فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلقى أبدا إلا خائفا، وهو راجع لمعنى الهلاك.
الحبر: بفتح الحاء وكسرها العالم، وجمعه الأحبار. وكان أبو عبيد ينكر ذلك ويقول: هو بفتح الحاء. وقال الفراء: هو بالكسر، واختار أبو عبيد الفتح.
497

وتسمى هذه السورة سورة الأحبار، ويقال: كعب الأحبار. والحبر بالكسر الذي يكتب به، وينسب إليه الحبري الحبار. ويقال: كتب الحبر لمكان الحبر الذي يكتب به، وسمي حبرا لتحسينه الخط وتبيينه إياه. وقيل: سمي حبرا لتأثيره في الموضع الذي يكون به من الحبار وهو الأثر.
العين: حاسة الرؤية وهي مؤنثة، وتجمع في القلة على أعين وأعيان، وفي الكثرة على عيون. وقال الشاعر:
* ولكنني أغدو علي مفاضة
*
دلاص كأعيان الجراد المنظم
*
ويقال للجاسوس: ذو العينين، والعين لفظ مشترك بين معان كثيرة ذكرها اللغويون. الأنف: معروف والجمع آناف وأنف وأنوف.
المهيمن: الشاهد الرقيب على الشيء الحافظ له، وهو اسم فاعل من هيمن قالوا: ولم يجيء على هذا الوزن إلا خمسة ألفاظ: هيمن، وسيطر، وبيطر، وحيمر، وبيقر، ذكر هذا الخامس الزجاجي في شرحه خطبة أدب الكاتب، ومعناه: سار من الحجاز إلى اليمن، ومن أفق إلى أفق. وهيمن بنا أصل. وذهب بعض اللغويين إلى أن مهيمنا اسم فاعل من أمن غيره من الخوف قال: فأصله مأمن قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة اجتماع الهمزتين فصار مؤيمن، ثم أبدلت الهمزة الأولى هاء كما قالوا: اهراق في اراق، وهياك في إياك، وهذا تكلف لا حاجة إليه، وقد ثبت نظير هذا الوزن في ألفاظ فيكون هذا منها. وأيضا فالهمزة في مؤمن اسم فاعل من آمن قد سقطت كراهة اجتماع الهمزتين، فلا يدعي أنها أقرت وأبدل منها. وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة من أنه تصغير مؤمن، وأبدلت همزته هاء، فقد كتب إليه أبو العباس المبرد يحذره من هذا القول. واعلم أن أسماء الله تعالى لا تصغر. الشرعة: السنة والطريقة شرع يشرع شرعا أي سن، والشارع الطريق الأعظم، ومنزل شارع إذا كان بابه قد شرع إلى طريق نافذ. المنهاج والمنهج: الطريق الواضح، ونهج الأمر استبان، ونهجت الطريق أبنته وأوضحته، ونهجت الطريق سلكته.
* (قدير يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) * روي عن أبي هريرة وابن عباس وجماعة: أن سبب نزولها أن يهوديا زنى بيهودية، قيل: بالمدينة. وقيل: بغيرها من أرض الحجاز، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم) وطمعوا أن يكون غير الرجم حدهما، وكان في التوراة رجم، فأنكروا ذلك أن يكون في التوراة وافتضحوا إذ أحضروها، وحكم الرسول فيهما بالرجم وأنفذه. وقال قتادة: السبب أن بني النضير كانوا إذا غزوا بني قريظة، فإن قتل قرظي نضيريا قتل به، أو نضيري قرظيا أعطى الدية. وقيل: كانت دية القرظي على نصف دية النضيري، فلما جاء الرسول المدينة طلبت قريظة الاستواء لأنهما ابنا عم، وطلبت الحكومة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) فقالت بنو النضير: إن حكم بما نحن عليه فخذوه، وإلا فاحذروا. وقال السدي: نزلت في رجل من الأنصار وهذا بعيد من مساق الآية. وذكروا أن هذا الرجل هو أبو لبابة بن عبد المنذر، أشارت إليه قريظة يوم حصرهم
498

علام ينزل من الحكم، فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح. وقال الشعبي: نزلت في قوم من اليهود قتل واحد منهم آخر، فكلفوا رجلا من المسلمين أن يسأل الرسول قالوا: فإن أفتى بالدية قبلنا، وإن أفتى بالقتل لم نقبل. وهذا نحو من قول قتادة في النضير وقريظة.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة، وكان في ذكر المحاربين أنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، أمره تعالى أن لا يحزن ولا يهتم بأمر المنافقين، وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به وبمن معه الدوائر ونصبهم له حبائل المكروه، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض. ونصب المحاربة لله ولرسوله وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم. ونداؤه تعالى له: يا أيها الرسول هنا، وفي * (يعملون ياأيها الرسول بلغ) * ويا أيها النبي في مواضع تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال: * (أجمعين ويئادم اسكن) * و * (قيل يانوح اهبط) * * (أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا) * * (قال ياموسى إنى اصطفيتك) * * (* يا عيسى إني متوفيتك) * * (ويثبت وعنده أم الكتاب) *. وقال مجاهد وعبد الله بن كثير: من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، هم اليهود المنافقون، وسماعون للكذب هم اليهود. والمعنى على هذا: لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود بإظهار ما يلوح لهم من آثار الكفر وهو
كيدهم للإسلام وأهله، فإن ناصرك عليهم ويقال: أسرع فيه السبب، وأسرع فيه الفساد، إذا وقع فيه سريعا. ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه. أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها، وتكون من الأولى والثانية على هذا تنبيها وتقسيما للذين يسارعون في الكفر، ويكون سماعون خبر مبتدأ محذوف أي: هم سماعون، والضمير عائد على المنافقين وعلى اليهود. ويدل على هذا المعنى قراءة الضحاك: سماعين، وانتصابه على الذم نحو قوله:
* أقارع عوف لا أحاول غيرها
*
وجوه قرود تبتغي من تخادع
*
ويجوز أن يكون: * (ومن الذين هادوا) * استئنافا، وسماعون مبتدأ وهم اليهود، وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا والمعنى: أنهم لم يجاوز قولهم أفواههم، إنما نطقوا بالإيمان خاصة دون اعتقاد. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى: لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود، وصفهم بأنهم قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلزاما منهم ذلك من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها، فهم يقولون بأفواههم: نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوا وجحدوا ما فيها من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم) وغير ذلك مما ينكرونه. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا * (وما أولئك بالمؤمنين) * ويجيء على هذا التأويل قوله: من الذين قالوا كأنه قال: ومنهم، ولكن صرح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدل التوراة على علم منها انتهى. وهو احتمال بعيد متكلف، وسماعون من صفات المبالغة، ولا يراد به حقيقة السماع إلا إن كان للكذب مفعولا من أجله، ويكون المعنى: إنهم سماعون منك أقوالك من أجل أن يكذبوا عليك، وينقلون حديثك، ويزيدون مع الكلمة أضعافها كذبا. وإن كان للكذب مفعولا به لقوله: سماعون، وعدى باللام على سبيل التقوية للعامل، فمعنى السماع هنا قبولهم ما يفتريه أحبارهم ويختلقونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولهم: الملك يسمع كلام فلان، ومنه (سمع الله لمن حمده) وتقدم ذكر الخلاف في قراءة يحزنك ثلاثيا ورباعيا. وقرأ السلمي: يسرعون بغير ألف من أسرع. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر: للكذب بكسر الكاف وسكون الذال. وقرأ زيد بن علي: الكذب بضم
499

الكاف والذال جمع كذوب، نحو صبور وصبر، أي: سماعون للكذب الكذب.
* (سماعون للكذب سماعون لقوم ءاخرين) * فيحتمل أن يكون المعنى: سماعون لكذب قوم آخرين لم يأتوك أي كذبهم، والذين لم يأتوه يهود فدك. وقيل: يهود خيبر. وقيل: أهل الرأبين. وقيل: أهل الخصام في القتل والدية. ويحتمل أن يكون المعنى: سماعون لأجل قوم آخرين، أي هم عيون لهم وجواسيس يسمعون منك وينقلون لقوم آخرين، وهذا الوصف يمكن أن يتصف به المنافقون، ويهود المدينة. وقيل: السماعون بنو قريظة، والقوم الآخرون يهود خيبر. وقيل لسفيان بن عيينة: هل جرى ذكر الجاسوس في كتاب الله؟ فقال: نعم. وتلا هذه الآية سماعون لقوم آخرين، لم يأتوك: صفة لقوم آخرين. ومعنى لم يأتوك: لم يصلوا إلى مجلسك وتجافوا عنك لما فرط منهم من شدة العداوة والبغضاء، فعلى هذا الظاهر أن المعنى: هم قائلون من الأحبار كذبهم وافتراؤهم، ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك.
* (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) * قرىء الكلم بكسر الكاف وسكون اللام أي: يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعها الله فيها. قال ابن عباس والجمهور: هي حدود الله في التوراة، وذلك أنهم غيروا الرجم أي: وضعوا الجلد مكان الرجم. وقال الحسن: يغيرون ما يسمعون من الرسول عليه السلام بالكذب عليه. وقيل: بإخفاء صفة الرسول. وقيل: بإسقاط القود بعد استحقاقه. وقيل: بسوء التأويل. قال الطبري: المعنى يحرفون حكم الكلام، فحذف للعلم به انتهى. ويحتمل أن يكون هذا وصفا لليهود فقط، ويحتمل أن يكون وصفا لهم وللمنافقين فيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم، لأن مبادئ كذبهم يكون من أشياء قيلت وفعلت، وهذا هو الكذب الذي يقرب قبوله. ومعنى من بعد مواضعه: قال الزجاج من بعد أن وضعه الله مواضعه، فأحل حلاله وحرم حرامه.
* (يقولون إن أوتيتم هاذا فخذوه) * الإشارة بهذا قيل: إلى التحميم والجلد في الزنا. وقيل: إلى قبول الدية في أمر القتل. وقيل: على إبقاء عزة النضير على قريظة، وهذا بحسب الاختلاف المتقدم في سبب النزول. وقال الزمخشري: إن أوتيتم، هذا المحرف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق، واعملوا به انتهى. وهو راجع لواحد مما ذكرناه، والفاعل المحذوف هو الرسول أي: إن أتاكم الرسول هذا.
* (وإن لم تؤتوه فاحذروا) * أي: وإن أفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم من قبوله فهو الباطل والضلال. وقيل: فاحذروا أن تعلموه بقوله السديد. وقيل: أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به. وقيل: فاحذروا أن تسألوه بعدها، والظاهر الأول لأنه مقابل لقوله: فخذوه. فالمعنى: وإن لم تؤتوه وأتاكم بغيره فاحذروا قبوله.
* (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) * قال الحسن وقتادة: فتنته أي عذابه بالنار. ومنه يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون. وقال الزجاج: فضيحته. وقيل: اختباره لما يظهر به أمره. وقيل: إهلاكه. وقال ابن عباس ومجاهد: كفره وإضلاله، يقال: فتنه عن دينه صرفه عنه، وأصله فلن يقدر على دفع ما يريد الله منه. وقال الزمخشري: ومن يرد الله فتنته تركه مفتونا وخذلانه، فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئا انتهى. وهذا على طريقة الاعتزال. وهذه الجملة جاءت تسلية للرسول وتخفيفا عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر. وقطعا لرجائه من فلاحهم.
* (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * أي سبق لهم في علم الله ذلك، وأن يكونوا مدنسين بالكفر. وفي هذا وما قبله رد على القدرية والمعتزلة. وقال
الزمخشري: أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يظهر به قلوبهم، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع ولا تنجع فيها. إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله كيف يهدي الله قوما كفروا
500

بعد إيمانهم انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي.
* (لهم فى الدنيا خزى) * أي ذل وفضيحة. فخزي المنافقين بهتك سترهم وخوفهم من القتل إن اطلع على كفرهم المسلمون، وخزي اليهود تمسكنهم وضرب الجزية عليهم، وكونهم في أقطار الأرض تحت ذمة غيرهم وفي إيالته. وقال مقاتل: خزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي بني النضير بإجلائهم.
* (ولهم فى الاخرة عذاب عظيم) * وصف بالعظم لتزايده فلا انقضاء له، أو لتزايد ألمه أو لهما.
* (سماعون للكذب أكالون للسحت) * قال الحسن: يسمعون الكلام ممن يكذب عندهم في دعواه فيأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان: هم اليهود ويسمعون الكذب، وهو قول بعضهم لبعض: محمد كاذب ليس بنبي، وليس في التوراة الرجم، وهم يعلمون كذبهم. وقيل: الكذب هنا شهادة الزور انتهى. وهذا الصوف إن كان قوله أولا: سماعون للكذب، وصفا لبني إسرائيل.
وتقدم أن السحت المال الحرام. واختلف في المراد به هنا، فعن ابن مسعود: أنه الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن الكلب، والنرد، والخمر، والخنزير، والميتة، والدم، وعسب الفحل، وأجرة النائحة والمغنية، والساحر، وأجر مصور التماثيل، وهدية الشفاعة. قالوا وسمي سحتا المال الحرام لأنه يسحت الطاعات أو بركة المال أو الدين أو المروءة وعن ابن مسعود ومسروق: أن المال المأخوذ على الشفاعة سحت. وعن الحسن: أن ما أكل الرجل من مال من له عليه دين سحت. وقيل لعبد الله: كنا نرى أنه ما أخذ على الحكم يعنون الرشا، قال: ذلك كفر، قال تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *. وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم يعزل، وفي الحديث: * (كل * لحم * نبات * من * بالذين هم أولى بها) * وقال علي وأبو هريرة: كسب الحجاج سحت، يعني أنه يذهب المروءة، وما ذكر في معنى السحت فهو من أمثلة المال الذي لا يحل كسبه.
ومن أعظم السحت الرشوة في الحكم، وهي المشار إليها في الآية. كان اليهود يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. وعن الحسن: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها، وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب. وقرأ النحويان وابن كثير: السحت بضمتين. وقرأ باقي السبعة: بإسكان الحاء. وزيد بن علي وخارجة بن مصعب عن نافع: بفتح السين وإسكان الحاء، وقرئ بفتحتين. وقرأ عبيد بن عمير: بكسر السين وإسكان الحاء، فبالضم والكسر والفتحتين اسم المسحوت كالدهن والرعي والنبض، وبالفتح والسكون مصدر أريد به المفعول كالصيد بمعنى المصيد، أو سكنت الحاء طلبا للخفة.
* (فان * جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) * أي فإن جاؤوك للحكم بينهم فأنت مخير بين أن تحكم، أو تعرض. والظاهر بقاء هذا الحكم من التخيير لحكام المسلمين. وعن عطاء، والنخعي، والشعبي، وقتادة، والأصم، وأبي مسلم، وأبي ثور: أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين، فإن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا أعرضوا. وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وعطاء الخراساني، وعمر بن عبد العزيز، والزهري: التخيير منسوخ بقوله: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * فإذا جاؤوا فليس للإمام أن يردهم إلى أحكامهم. والمعنى عند غيرهم: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا اخترت الحكم بينهم دون الإعراض عنهم. وعن أبي حنيفة: إن احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام، وأقيم الحد على الزاني بمسلمة، والسارق من مسلم. وأما أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود، ويقولون: إن رجم اليهوديين كان قبل نزول الجزية. وقال ابن عطية: الأمة مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم، ويتسلط عليهم في تغيير، ومن ذلك حبس السلع المبيعة
501

وغصب المال. فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم، ويتسلط عليهم في تغيير، ومن ذلك جنس السلع المبيعة وغصب المال. فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها، وإنما هي دعاء ومحتملة، فهي التي يخير فيها الحاكم انتهى. وفيه بعض تلخيص. وظاهر الآية يدل على مجيء المتداعيين إلى الحاكم، ورضاهما يحكمه كاف في الإقدام على الحكم بينهما. وقال ابن القاسم: لا بد مع ذلك من رضا الأساقفة والرهبان، فإن رضي الأساقفة دون الخصمين، أو الخصمان دون الأساقفة، فليس له أن يحكم. وقال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والزهري، وغيرهم: فإن جاؤوك يعني أهل نازلة الزانيين، ثم الآية تتناول سائر النوازل. وقال قوم: في قتيل اليهود من قريظة والنضير. وقال قوم: التخيير مختص بالمعاهدين لازمة لهم. ومذهب الشافعي: أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه، لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب عليه أن يحكم بينهم، بل يتخير في ذلك، وهو التخيير الذي في الآية وهو مخصوص بالمعاهدين. وروي عن الشافعي مثل قول عطاء والنخعي.
* (وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا) * أي أنت آمن من ضررهم، منصور عليهم على كل حال. وكانوا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم، فالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضروه، فأمنه الله منهم، وأخبره أنهم ليسوا قادرين على شيء من ضرره.
* (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) * أي: وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكم بين المسلمين. والقسط: هو المبين في قوله: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) *، وهو صلى الله عليه وسلم) لا يحكم إلا بالقسط، فهو أمر معناه الخبر أي: فحكمك لا يقع إلا بالعدل، لأنك معصوم من اتباع الهوى.
* (إن الله يحب المقسطين) * وأنت سيدهم، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم. وفيه حث على توخي القسط وإيثاره، حيث ذكر الله أنه يحب من اتصف به.
* (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) * هذا تعجيب من تحكيمهم إياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه. وفي كتابهم الذي يدعون الإيمان به حكم الله تعالى نص جلي، فليسوا قاصدين حكم الله حقيقة، وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده صلى الله عليه وسلم) رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعا لأهوائهم، وأنهماكا في شهواتهم. ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لا يؤمن به ولا بكتابه، فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه. وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس على وفق شهواتهم، فلأن يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى. والواو في: وعندهم، للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر، وقوله: فيها. حكم الله، حال من التوراة، وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي: كائنا فيها حكم الله. ويجوز أن يكون فيها في موضع رفع خبرا عن التوراة كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله. وأو لا محل له، وتكون جملة مبينة، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره؟ وهذان الإعرابان للزمخشري.
* (ثم يتولون من بعد ذالك) * أي من بعد تحكيمك الموافق لما في كتابهم، لأن التعجيب من التحكيم إنما كان بعد صدوره منهم، ثم تولوا عنه ولم يرضوا به. وقال ابن عطية: من بعد ذلك، أي من بعد حكم الله في التوراة وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله انتهى. وهذه الجملة مستأنفة أي: ثم هم يتولون بعد. وهي أخبار من الله بتوليهم على عادتهم في أنهم إذا وضح لهم الحق أعرضوا عنه وتولوا. قال الزمخشري: (فإن قلت): علام عطف ثم يتولون؟ (قلت): على يحكمونك انتهى. ويكون إذ ذاك داخلا في الاستفهام الذي يراد به التعجب، أي ثم كيف يتولون بعد ذلك، فيكون قد تعجب من تحكيمهم إياه، ثم من توليهم عنه. أي: كيف رضوا به ثم سخطوه؟.
* (وما أولئك بالمؤمنين) * ظاهره نفي الإيمان عنهم، أي: من حكم الرسول، وخالف كتابه، وأعرض عما حكم له، إذ وافى كتابه فهو كافر. وقيل: هو إخبار عنهم أنهم لا يؤمنون
502

أبدا، فهو خبر عن المستقبل لا الماضي. وقيل: نفي الإيمان بالتوراة وبموسى عنهم. وقيل: هو تعليق بقوله: وكيف يحكمونك، أي أعجب لتحكيمهم إياك، وليسوا بمؤمنين بك، ولا معتقدين في صحة حكمك، وذلك يدل على أنهم إنما قصدهم تحصيل منافع الدنيا وأغراضهم الفاسدة دون اتباع الحق.
* (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) * قال ابن مسعود، وابن عباس، والحسن: نزلت في الجاحدين حكم الله، وهي عامة في كل من جحد حكم الله. وقال البراء بن عازب: نزل * (يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * في اليهود خاصة وذكر قصة رجم اليهوديين. وقيل لحذيفة: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * نزلت في بني إسرائيل؟ قال نعم. وقال الحسن وأبو محلز وأبو جعفر: هي في اليهود. وقال الحسن: هي علينا واجبة. وقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان يقول لما نزلت هذه الآية: * (نحن) * وفي الآية ترغيب لليهود بأن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم، وتنبيه المنكرين لوجوب الرجم. وقال جماعة: الهدى والنور سواء، وكرر للتأكيد. وقال قوم: ليسا سواء، فالهدى محمول على بيان الأحكام، والنور والبيان للتوحيد والنبوة والمعاد. قال الزمخشري: يهدي للعدل والحق، ونور يبين ما استبهم من الأحكام. وقال ابن عطية: الهدى الإرشاد المعتقد والشرائع، والنور ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها. وقيل: المعنى فيها بيان أمر الرسول وما جاءوا يستفتون فيه.
* (وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) * ظاهر قوله: النبيون، الجمع. قالوا: وهم من لدن موسى إلى عيسى. وقال عكرمة: محمد ومن قبله من الأنبياء. وقيل: النبيون الذين هم على دين إبراهيم. وقال الحسن والسدي: هو محمد صلى الله عليه وسلم)، وذلك حين حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كقوله: * (أم يحسدون الناس * والذين * أسلموا) * وصف مدح الأنبياء كالصفات التي تجري على الله تعالى، وأريد بإجرائها التعريض باليهود والنصارى، حيث قالت اليهود: إن الأنبياء كانوا يهودا، والنصارى قالت: كانوا نصارى، فبين أنهم كانوا مسلمين، كما كان إبراهيم عليه السلام. ولذلك جاء: (هو سماكم المسلمين من قبل) * ونبه بهذا الوصف أن اليهود والنصارى بعداء من هذا الوصف الذي هو الإسلام، وأنه كان دين الأنبياء كلهم قديما وحديثا. والظاهر أن الذين هادوا متعلق بقوله: يحكم بها النبيون. وقيل: بأنزلنا. وقيل: التقدير هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون. وفي قوله: للذين هادوا، تنبيه على أنهم ليسوا مسلمين، بل هم بعداء من ذلك. واللام في للذين هادوا إذا علقن بيحكم للاختصاص، فيشمل من يحكم له ومن يحكم عليه. وقيل: ثم محذوف أي: للذين هادوا وعليهم. وقيل: اللام بمعنى على، أي على الذين هادوا.
* (*) * ونبه بهذا الوصف أن اليهود والنصارى بعداء من هذا الوصف الذي هو الإسلام، وأنه كان دين الأنبياء كلهم قديما وحديثا. والظاهر أن الذين هادوا متعلق بقوله: يحكم بها النبيون. وقيل: بأنزلنا. وقيل: التقدير هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون. وفي قوله: للذين هادوا، تنبيه على أنهم ليسوا مسلمين، بل هم بعداء من ذلك. واللام في للذين هادوا إذا علقن بيحكم للاختصاص، فيشمل من يحكم له ومن يحكم عليه. وقيل: ثم محذوف أي: للذين هادوا وعليهم. وقيل: اللام بمعنى على، أي على الذين هادوا.
* (والربانيون والاحبار) * هما بمعنى واحد، وهم العلماء. قاله الأكثرون ومنهم: ابن قتيبة والزجاج. وقال مجاهد: الربانيون الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار. وقال السدي: الربانيون العلماء، والأحبار الفقهاء. وقال ابن زيد: الربانيون الولاة، والأحبار العلماء. وقيل: الربانيون علماء النصارى، والأحبار علما اليهود، وقد تقدم شرح الرباني. وقال الزمخشري: والربانيون والأحبار الزهاد، والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا، دين اليهود. وقال السدي: المراد هنا
بالربانيين والأحبار الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهما ربانيا، والآخر حبرا، وكانا قد أعطيا النبي عهدا أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به، فسألهما عن أمر الرجم فأخبراه به على وجهه، فنزلت الآية مشيرة إليهما. قال ابن عطية: وفي هذا نظر. والرواية الصحيحة أن ابنا صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم، وفضحهم فيه عبد الله بن سلام، وإنما اللفظ في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم) فلو وجد لأسلم، فلم يسم حبرا ولا ربانيا انتهى.
* (بما
503

استحفظوا من كتاب الله) * الباء في بما للسبب، وتتعلق بقوله: يحكم. واستفعل هنا للطلب، والمعنى: بسبب ما استحفظوا. والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي: بسبب ما طلب الله منهم حفظهم لكتاب الله وهو التوراة، وكلفهم حفظها، وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها، وقد أخذ الله على العلماء حفظ الكتاب من وجهين: أحدهما: حفظه في صدورهم ودرسه بألسنتهم. والثاني: حفظه بالعمل بأحكامه واتباع شرائعه. وهؤلاء ضيعوا ما استحفظوا حتى تبدلت التوراة. وفي بناء الفعل للمفعول وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفل بحفظ التوراة، بل طلب منهم حفظها وكلفهم بذلك، فغيروا وبدلوا وخالفوا أحكام الله بخلاف كتابنا، فإن الله تعالى قد تكفل بحفظه، فلا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير. قال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وقيل: الضمير في استحفظوا عائد على الربانيين والأحبار فقط. والذين استحفظهم التوراة هم الأنبياء.
* (وكانوا عليه شهداء) * الظاهر أن الضمير عائد على كتاب الله أي: كانوا عليه رقباء لئلا يبدل. والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى، وكان بينهما ألف نبي للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائهم عليهم ما اشتهوه من الجلد. وقيل: الهاء تعود على الحكم أي: وكانوا شهداء على الحكم. وقيل: عائد على الرسول أي: وكانوا شهداء على أنه نبي مرسل.
* (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بئاياتى ثمنا قليلا) * هذا نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم، وإذهابهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل بخشية سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد من الغرماء والأصدقاء. ولا تستعطوا بآيات الله ثمنا قليلا وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرياسة فهلكوا. وهذا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن معناه: لا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم) والعمل بالرجم، واخشون في كتمان ذلك. ولما كان الإقدام على تغيير أحكام الله سببه شيئان: الخوف، والرغبة، وكان الخوف أقوى تأثيرا من الرغبة، قدم النهي عن الخوف على النهي عن الرغبة والطمع. والظاهر أن هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية، والقول لعلماء بني إسرائيل. وقال مقاتل: الخطاب ليهود المدينة قيل لهم: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم، واخشوني في كتمانه انتهى. وهذا وإن كان خطابا لعلماء بني إسرائيل، فإنه يتناول علماء هذه الأمة. وقال ابن جريج: هو خطاب لهذه الأمة أي لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس، فلم يقولوا الحق.
* (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * ظاهر هذا العموم، فيشمل هذه الأمة وغيرهم ممن كان قبلهم، وإن كان الظاهر أنه في سياق خطاب اليهود، وإلى أنها عامة في اليهود غيرهم. ذهب ابن مسعود، وإبراهيم، وعطاء، وجماعة ولكن كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق يعني: إن كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر، وكذلك ظلمه وفسقه لا يخرجه ذلك عن الملة قاله: ابن عباس وطاووس. وقال أبو مجلز: هي مخصوصة باليهود والنصارى وأهل الشرك وفيهم نزلت. وبه قال: أبو صالح قال: ليس في الإسلام منها شيء. وروي في هذا حديث عن البراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم): * (أنها * الثلاثة * فى * الكافرين) * قال عكرمة، والضحاك: هي في أهل الكتاب، وقاله: عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وذكر أبو عبيدة هذه الأقوال فقال: إن بشرا من الناس يتأولون الآيات على ما لم تنزل
504

عليه، وما أنزلت هذه الآيات إلا في حيين من يهود قريظة والنضير، وذكر حكاية القتل بينهم. وقال الحسن: نزلت في اليهود وهي علينا واجبة. وقيل لحذيفة: أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل؟ فقال: نعم، الإخوة لكم بنو إسرائيل أن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة، لتسلكن طريقهم قد الشرك، وعن ابن عباس، واختاره ابن جرير: إن الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب، وعنه نعم القوم أنتم ما كان من حلو فلكم، وما كان من مر فهو لأهل الكتاب. من جحد حكم الله كفر، ومن لم يحكم به وهو مقر به ظالم فاسق. وعن الشعبي: الكافرون في أهل الإسلام، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى. وكأنه خصص كل عام منها بما تلاه، إذ قبل الأولى: * (فان * جاءوك فاحكم بينهم) * و * (وإن حكمت فاحكم) * و * (كيف * يحكمونك) * و * (يحكم بها النبيون) * وقبل الثانية: * (وكتبنا عليهم فيها) * وقبل الثالثة: * (وقفينا علىءاثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه) * الآية. وقال الزمخشري: ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهينا به، فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون، وصف لهم بالعتو في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمردوا بأن حكموا بغيرها انتهى. وقال السدي: من خالف حكم الله وتركه عامدا وتجاوزه وهو يعلم، فهو من الكافرين حقا، ويحمل هذا على الجحود، فهو الكفر ضد الإيمان كما قال: ابن عباس. واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن كل من عصى الله تعالى فهو كافر، وقالوا: هي نص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافرا. وأجيبوا: بأنها نزلت في اليهود، فتكون مختصة بهم. وضعف بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومنهم من قال: تقديره ومن لم يحكم بما أنزل الله من هؤلاء الذين سبق ذكرهم قبل، وهذا ضعيف، لأن من شرط وهي عام، وزيادة ما قدر زيادة في النقص، وهو غير جائز. وقيل: المراد كفر النعمة، وضعف بأن الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين. وقال ابن الأنباري: فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار، وضعف بأنه عدول عن الظاهر. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: ما أنزل
صيغة عموم، فالمعنى: من أتى بضد حكم الله في كل ما أنزل الله، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل وهو العمل، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق. وضعف بأنه لو كان كذلك لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفاتهم حكم الله في الرجم. وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم، فدل على سقوطه هذا. وقال عكرمة: إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف أنه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاد، فهو حاكم بما أنزل الله، لكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية.
* (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص) * مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن الرجم، وغيره اليهود، وبين هنا أن في التوراة: أن النفس بالنفس وغيره اليهود أيضا، ففضلوا بني النضير على بني قريظة، وخصوا إيجاب القود على بني قريظة دون بني النضير. ومعنى وكتبنا: فرضنا. وقيل: قلنا والكتابة بمعنى القول ويجوز أن يراد الكتابة حقيقة، وهي الكتابة في الألواح، لأن التوراة مكتوبة في الألواح، والضمير في فيها عائد على التوراة، وفي: عليهم، على الذين هادوا. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم: بنصب، والعين وما بعدها من المعاطيف على التشريك في عمل أن النصب، وخبر أن هو المجرور، وخبر والجروح قصاص. وقدر أبو علي العامل في المجرور مأخوذ بالنفس إلى آخر المجرورات، وقدره الزمخشري أولا: مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا
505

قتلها بغير حق، وكذلك العين مفقوأة بالعين، والأنف مجدوع بالأنف، والأذن مأخوذة مقطوعة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن. وينبغي أن يحمل قول الزمخشري: مقتولة ومفقوأة ومجدوع مقطوعة على أنه تفسير المعنى لا تفسير الإعراب، لأن المجرور إذا وقع خبرا لا بد أن يكون العامل فيه كونا مطلقا، لا كونا مقيدا. والباء هنا باء المقابلة والمعاوضة، فقدر ما يقرب من الكون المطلق وهو مأخوذ. فإذا قلت: بعت الشاء شاة بدرهم، فالمعنى مأخوذ بدرهم، وكذلك الحر بالحر، والعبد بالعبد. التقدير: الحر مأخوذ بالحر، والعبد مأخوذ بالعبد. وكذلك هذا الثوب بهذا الدرهم معناه مأخوذ بهذا الدرهم. وقال الحوفي: بالنفس يتعلق بفعل محذوف تقديره: يجب، أو يستقر. وكذا العين بالعين وما بعدها مقدر الكون المطلق، والمعنى: يستقر قتلها بقتل النفس. وقرأ الكسائي: برفع والعين وما بعدها. وأجاز أبو علي في توجيه الرفع وجوها. الأول: أن الواو عاطفة جملة على جملة، كما تعطف مفردا على مفرد، فيكون والعين بالعين جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية وهي: وكتبنا، فلا تكون تلك الجمل مندرجة تحت كتبنا من حيث اللفظ، ولا من حيث التشريك في معنى الكتب، بل ذلك استئناف إيجاب وابتداء تشريع. الثاني: أن الواو عاطفة جملة على المعنى في قوله: إن النفس بالنفس، أي: قل لهم النفس بالنفس، وهذا العطف هو من العطف على التوهم، إذ يوهم في قوله: إن النفس بالنفس، إنه النفس بالنفس، والجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى، لا من حيث اللفظ. الثالث: أن تكون الواو عاطفة مفردا على مفرد، وهو أن يكون: والعين معطوفا على الضمير المستكن في الجار والمجرور، أي بالنفس هي والعين وكذلك ما بعدها. وتكون المجرورات على هذا أحوالا مبينة للمعنى، لأن المرفوع على هذا فاعل، إذ عطف على فاعل.
وهذان الوجهان الأخيران ضعيفان: لأن الأول منهما هو المعطوف على التوهم، وهو لا ينقاس، إنما يقال منه ما سمع. والثاني منهما فيه العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير فصل بينه وبين حرف العطف، ولا بين حرف العطف والمعطوف بلا، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا في الضرورة، وفيه لزوم هذه الأحوال. والأصل في الحال أن لا تكون لازمة. وقال الزمخشري: الرفع للعطف على محل: أن النفس، لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا، وإما أن معنى الجملة التي هي قولك: النفس بالنفس، مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة يقول: كتبت الحمد لله، وقرأت سورة أنزلناها. وكذلك قال الزجاج: لو قرىء أن النفس لكان صحيحا انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري هو الوجه الثاني من توجيه أبي علي، إلا أنه خرج عن المصطلح فيه، وهو أن مثل هذا لا يسمى عطفا على المحل، لأن العطف على المحل هو العطف على الموضع، وهذا ليس من العطف على الموضع، لأن العطف على الموضع هو محصور وليس هذا منه، وإنما هو عطف على التوهم. ألا ترى أنا لا نقول أن قوله: إن النفس بالنفس في
506

موضع رفع، لأن طالب الرفع مفقود، بل نقول: إن المصدر المنسبك من أن واسمها وخبرها لفظه وموضعه واحد وهو النصب، والتقدير: وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا، فحكيت بها الجملة: وإما لأنهما مما يصلح أن يتسلط الكتب فيها نفسه على الجملة لأن الجمل مما تكتب كما تكتب المفردات، ولا نقول: إن موضع أن النفس بالنفس وقع بهذا الاعتبار.
وقرأ العربيان وابن كثير: بنصب والعين، والأنف، والأذن، والسن، ورفع والجروح. وروي ذلك عن: نافع. ووجه أبو علي: رفع والجروح على الوجوه الثلاثة التي ذكرها في رفع والعين وما بعدها. وروي أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم) قرأ أن النفس بتخفيف أن، ورفع العين وما بعدها فيحتمل أن وجهين: أحدهما: أن تكون مصدرية مخففة من أن، واسمها ضمير الشأن وهو محذوف، والجملة في موضع رفع خبر أن فمعناها معنى المشددة العاملة في كونها مصدرية. والوجه الثاني: أن تكون أن تفسيرية التقدير أي: النفس بالنفس، لأن كتبنا جملة في معنى القول. وقرأ أبي بنصب النفس، والأربعة بعدها. وقرأ: وأن الجروح قصاص بزيادة أن الخفيفة، ورفع الجروح. ويتعين في هذه القراءة أن تكون المخففة من الثقيلة، ولا يجوز أن تكون التفسيرية من حيث العطف، لأن كتبنا تكون عاملة من حيث المشددة غير عاملة من حيث التفسيرية، فلا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك، فإذا لم يكن عمل فلا تشريك. وقرأ نافع: والأذن بالأذن بإسكان الذال معرفا ومنكرا ومثنى حيث وقع. وقرأ الباقون: بالضم. فقيل: هما لغتان، كالنكر والنكر. وقيل: الإسكان هو الأصل، وإنما ضم اتباعا. وقيل: التحريك هو الأصل، وإنما سكن تخفيفا.
ومعنى هذه الآية: أن الله فرض على بني إسرائيل أن من قتل نفسا بحد أخذ نفسه، ثم هذه الأعضاء كذلك، وهذا الحكم معمول به في ملتنا إجماعا. والجمهور على أن
قوله أن النفس بالنفس عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وقال قوم: يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي، وبه قال أبو حنيفة: وأجمعوا على أن المسلم لا يقتل بالمستأمن ولا بالحربي، ولا يقتل والد بولده، ولا سيد بعبده. وتقتل جماعة بواحد خلافا لعلي، وواحد بجماعة قصاصا، ولا يجب مع القود شيء من المال. وقال الشافعي: يقتل بالأول منهم وتجب دية الباقين، قد مضى الكلام في ذلك في البقرة في قوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * الآية. وقال ابن عباس: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت. وقال أيضا: رخص الله تعالى لهذه الأمة ووسع عليها بالدية، ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم. وقال الثوري: بلغني عن ابن عباس أنه نسخ * (الحر بالحر والعبد بالعبد) * قوله: أن النفس بالنفس، والظاهر في قوله: النفس بالنفس العموم، ويخرج منه ما يخرج بالدليل، ويبقى الباقي على عمومه. والظاهر في قوله: العين بالعين فتفقأ عين الأعور بعين من كان ذا عنين، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وروي عن عثمان وعمر في آخرين: أن عليه الدية. وقال مالك: إن شاء فقأ وإن شاء أخذ الدية كاملة. وبه قال: عبد الملك بن مروان، وقتادة، والزهري، والليث، ومالك، وأحمد، والنخعي. وروى نصف الدية عن: عبد الله بن المغفل، ومسروق، والنخعي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والشافعي. قال ابن المنذر: وبه نقول. وتفقأ اليمنى باليسرى، وتقلع الثنية بالضرس، وعكسهما لعموم اللفظ، وبه قال ابن المنذر: وبه نقول. وتفقأ اليمنى باليسرى، وتقلع الثنية بالضرس، وعكسهما لعموم اللفظ، وبه قال ابن شبرمة. وقال الجمهور: هذا خاص بالمساواة، فلا تؤخذ يمنى بيسرى مع وجودها إلا مع الرضا. ولو فقأ عينا لا يبصر بها فعن زيد بن ثابت: فيها مائة دينار، وعن عمر: ثلث ديتها. وقال مسروق، والزهري، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر: فيها حكومة. ولو أذهب بعض نور العين وبقي بعض، فمذهب أبي حنيفة: فيها الأرش. وعن علي: اختبار بصره، ويعطى قدر ما نقص من مال الجاني.
وفي الأجفان كلها الدية، وفي كل جفن ربع الدية قاله: زيد بن ثابت، والحسن، والشعبي، وقتادة، وإبراهيم، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي. وقال الشعبي: في الجفن
507

الأعلى ثلث الدية، وفي الأسفل ثلثاها.
واختلف فيمن قطع أنفا هل يجري فيها القصاص أم لا؟ فقال أبو حنيفة: إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه، وإنما فيه الدية. وروي عن أبي يوسف: أن في ذلك القصاص إذا استوعب. واختلف في كسر الأنف: فمالك يرى القود في العمد منه، والاجتهاد في الخطأ. وروي عن نافع: لا دية فيه حتى يستأصله. وروي عن علي: أنه أوجب القصاص في كسرة. وقال الشافعي: إن جبر كسره ففيه حكومة، وما قطع من المارن بحسابه، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي، وبه قال الشافعي: وفي المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف الدية كاملة، قاله: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابه. والمارن ما لان من الأنف، والأرنبة والروثة طرف المارن. ولو أفقده الشم أو نقصه: فالجمهور على أن فيه حكومة عدل.
والأذن بالأذن يقتضي وجوب القصاص إذا استوعب، فإن قطع بعضها ففيه القصاص إذا عرف قدره. وقال الشافعي: في الأذنين الدية، وفي إحداهما نصفها. وقال مالك: في الأذنين حكومة، وإنما الدية في السمع، ويقاس نقصانه كما يقاس في البصر. وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها.
والسن بالسن يتقضي أن القلع قصاص، وهذا لا خلاف فيه، ولو كسر بعضها. والأسنان كلها سواء: ثناياها، وأنيابها، وأضراسها، ورباعياتها، في كل واحدة خمس من الإبل من غير فضل. وبه قال: عروة، وطاووس، وقتادة، والزهري، والثوري، وربيعة، والأوزاعي، وعثمان البتي، ومالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وروي عن علي، وابن عباس، ومعاوية. وروى ابن المسيب عن عمر: أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض وذلك خمسون دينارا، كل فريضة عشر دنانير، وفي الأضراس بعير بعير. قال ابن المسيب: فلو أصيب الفم كله في قضاء عمر نقصت الدية، أو في قضاء معاوية زادت، ولو كنت إنا لجعلتها في الأضراس بعيرين بعيرين. قال عمر: الأضراس عشرون، والأسنان اثنا عشر: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربع أنياب. والخلاف إنما هو في الأضراس لا في الأسنان، ففي قضاء عمر الدية ثمانون، وفي قضاء معاوية مائة وستون. وعلى قول ابن المسيب مائة، وهي الدية كاملة من الإبل. وقال عطاء في الثنيتين والرباعيتين والنابين: خمس خمس، وفيما بقي بعيران بعيران، أعلى الفم وأسفله سواء. ولو قلعت سن صبي لم يثغر فنبتت فقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا شيء على القالع. إلا أن مالكا والشافعي قالا: إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها. وقالت طائفة: فيها حكومة، وروي ذلك عن الشعبي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. ولو قلعت سن كبير فأخذ ديتها ثم نبتت فقال مالك: لا يرد ما أخذ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يرد، والقولان عن الشافعي. ولو قلعت سن قودا فردها صاحبها فالتحمت فلا يجب قلعها عند أبي حنيفة، وبه قال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: يجبر على القلع، به قال ابن المسيب، ويعيد كل صلاة صلاها بها. وكذا لو قطعت أذنه فردها في حرارة الدم فالتزقت، وروي هذا القول عن عطاء أبو بكر بن العربي قال: وهو غلط. ولو قلع سنا زائدة فقال الجمهور: فيها حكومة، فإن كسر بعضها أعطى بحساب ما نقص منها، وبه قال: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد. قال الأدفوي: وما علمت فيه خلافا. وقال زيد بن ثابت: في السن الزائدة ثلث السن، ولو جنى على سن فاسودت ثم عقلها، روي ذلك عن زيد، وابن المسيب، وبه قال: الزهري، والحسن، وابن سيرين، وشريح، والنخعي، وعبد الملك بن مروان، وأبو حنيفة، ومالك، والثوري. وروي عن عمران: فيها ثلث ديتها، وبه قال: أحمد وإسحاق. وقال النخعي والشافعي وأبو ثور: فيها حكومة، فإن طرحت بعد ذلك ففيها عقلها، وبه قال الليث وعبد العزيز بن أبي سلمة، وإن اسود بعضها كان بالحساب قاله: الثوري.
والجروح قصاص أي ذات قصاص.
508

ولفظ الجروح عام، والمراد به الخصوص، وهو ما يمكن فيه القصاص. وتعرف المماثلة ولا يخاف فيها على النقص، فإن خيف كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها. ومدلول: والجروح قصاص، يقتضي أن يكون الجرح بمثله، فإن لم يكن بمثله فليس بقصاص. واختلفوا في القصاص بين الرجال والنساء، وبين العبد والحر. وجميع ما عدا النفس هو من الجراحات التي أشار إليها بقوله: والجروح قصاص، لكنه فصل أول الآية وأجمل آخرها ليتناول ما نص عليه وما لم ينص، فيحصل العموم. معنى: وإن لم يحصل لفظا. ومن جملة الجروح الشجاج فيما يمكن فيه القصاص، فلا خلاف في وجوبها فيه، وما فلا قصاص فيه كالمأمومة. وقال أبو عبيد: فليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة، لأنه ليس شيء منها له حد ينتهي إليه سواها، وأما غيرها من الشجاج ففيه ديته انتهى. وقال غيره: في الخارصة القصاص بمقدارها إذا لم يخش منها سراية، وأقاد ابن الزبير من المأمومة، وأنكر الناس عليه. قال عطاء: ما علمنا أحدا أقاد منها قبله. وأما الجروح في اللحم فقال: فقد ذكر بعض أهل العلم أن القصاص فيها ممكن بأن يقاس بمثل، ويوضع بمقدار ذلك الجرح.
* (فمن تصدق به فهو كفارة له) * المتصدق صاحب الحق. ومستو في القصاص الشامل للنفس والأعضاء وللجروح التي فيها القصاص، وهو ضمير يعود على التصدق أي: فالتصدق كفارة للتصدق، والمعنى: أن من تصدق بجرحه يكفر عنه، قاله: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وأبو الدرداء، وقتادة، والحسن، والشعبي. وذكر أبو الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم) يقول: (من من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة) وذكر مكي حديثا من طريق الشعبي: (أنه يحط عنه من ذنوبه ما عفى عنه من الدية) وعن عبد الله بن عمر: يهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق. وقيل: الضمير في له عائد على الجاني وإن لم يتقدم له ذكر، لكنه يفهم من سياق الكلام، ويدل عليه المعنى. والمعنى: فذلك العفو والتصدق كفارة للجاني يسقط عنه ما لزمه من القصاص. وكما أن القصاص كفارة كذلك العفو كفارة، وأجر العافي على الله تعالى قاله: ابن عباس، والسبيعي، ومجاهد، وإبراهيم، والشعبي، وزيد بن أسلم، ومقاتل. وقيل: المتصدق هو الجاني، والضمير في له يعود عليه. والمعنى: إذا جنى جان فجهل وخفى أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن من نفسه، فذلك الفعل كفارة لذنبه. وقال مجاهد: إذا أصاب رجل رجلا ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب. وأصار عروة عند الركن إنسانا وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة: أنا أصبتك، وأنا عروة بن الزبير، فإن كان يلحقك بها بأس فأنابها. وعلى هذا القول يحتمل أن يكون تصدق تفعل من الصدقة، ويحتمل أن يكون من الصدق.
وقرأ أبي: فهو كفارة له يعني: فالتصدق كفارته، أي الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها، وهو تعظيم لما فعل لقوله: * (فأجره على الله) * وترغيب في العفو. وتأول قوم الآية على معنى: والجروح قصاص، فمن أعطى دية الجرح وتصدق به فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت. وفي مصحف أبي: ومن يتصدق به فإنه كفارة له.
* (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) * ناسب فيما تقدم ذكر الكافرين، لأنه جاء عقيب قوله: * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) * الآية ففي ذلك إشارة إلى أنه لا يحكم بجميعها، بل يخالف رأسا. ولذلك جاء: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * وهذا كفر، فناسب ذكر الكافرين. وهنا جاء عقيب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجروح، فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية، وإشارة إلى ما كانوا قرروه من عدم التساوي بين بني النضير وبني قريظة.
* (وقفينا علىءاثارهم بعيسى ابن مريم
509

مصدقا لما بين يديه من التوراة) * مناسبة هذه الآية قبلها أنه لما ذكر تعالى أن التوراة يحكم بها النبيون، ذكر أنه قفاهم بعيسى تنبيها على أنه من جملة الأنبياء، وتنويها باسمه، وتنزيها له عما يدعيه اليهود فيه، وأنه من جملة مصدقي التوراة.
ومعنى: قفينا، أتينا به، يقفو آثارهم أي يتبعها. والضمير في آثارهم يعود على التبيين من قوله: * (يحكم بها النبيون) * وقيل: على الذين كتبت عليهم هذه الأحكام. وعلى آثارهم، متعلق بقفينا، وبعيسى متعلق به أيضا. وهذا على سبيل التضمين أي: ثم جئنا على آثارهم بعيسى ابن مريم قافيا لهم، وليس التضعيف في قفينا للتعدية، إذ لو كان للتعدية ما جاء مع الباء المعدية، ولا تعدى بعلى. وذلك أن قفا يتعدى لواحد قال تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * وتقول: قفا فلان الأثر إذا اتبعه، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى إلى اثنين منصوبين، وكان يكون التركيب: ثم قفينا على آثارهم عيسى ابن مريم، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول، وآثارهم المفعول الثاني، لكنه ضمن معنى جاء وعدى بالياء، وتعدى إلى آثارهم بعلى. وقال الزمخشري: قفيته مثل عقبته إذا اتبعته، ثم يقال: قفيته بفلان وعقبته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء.
(فإن قلت): فأين المفعول الأول في الآية؟ (قلت): هو محذوف، والظرف الذي هو على آثارهم كالساد مسده، لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه انتهى. وكلامه يحتاج إلى تأويل، وذلك أنه جعل قفيته المضعف بمعنى قفوته، فيكون فعل بمعنى فعل نحو: قدرالله، وقدر الله، وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل، ثم عداه بالباء، وتعدية المتعدي لمفعول بالباء لثان قل أن يوجد، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد. ولا يجوز فلا يقال: في طعم زيد اللحم، أطعمت زيدا باللحم، والصحيح أنه جاء على قلة تقول: دفع زيد عمرا، ثم تعديه بالباء فتقول: دفعت زيدا بعمر. وأي: جعلت زيدا يدفع عمرا، وكذلك صك الحجر الحجر. ثم تقول: صككت الحجر بالحجر أي جعلته يصكه. وأما قوله: المفعول الأول محذوف الظرف كالساد مسده فلا يتجه، لأن المفعول هو مفعول به صريح، ولا يسد الظرف مسده، وكلامه مفهم التضمين وإن لم يصرح به. ألا ترى إلى قوله: لأنه إذا قفى به أثره فقد قفى به إياه؟ وقول الزمخشري: فقد قفى به إياه فصل الضمير، وحقه أن يكون متصلا، وليس من مواضع فصل لو قلت: زيد ضربت بسوط إيتاه لم يجز إلا في ضرورة شعر، فإصلاحه زيد ضربته بسوط، وانتصب مصدقا على الحال من عيسى. ومعنى
: لما بين يديه، لما تقدمه من التوراة لأنها جاءت قبله، كما أن الرسول بين يدي الساعة. وتقدم الكلام في هذا. وتصديقه إياها هو بكونه مقرا أنها كتاب منزل من الله حقا واجب العمل به قبل ورود النسخ، إذ شريعته مغايرة لبعض ما فيها.
* (وقفينا علىءاثارهم بعيسى ابن) * هذه الجملة معطوفة على قوله: وقفينا. وفيه تعظيم عيسى عليه السلام بأن الله آتاه كتابا إلهيا. وتقدمت قراءة الحسن الإنجيل بفتح الهمزة، وما ذكروه في اشتقاقه إن كان عربيا.
وقوله: فيه هدى ونور، في موضع الحال، وارتفاع هدى على الفاعلية بالجار والمجرور، إذ قد اعتمد بأن. وقع حالا لذي حال أي: كائنا فيه هدى. ولذلك عطف عليه * (ومصدقا لما بين يديه من التوراة) * والضمير في يديه عائد على الإنجيل، والمعنى: أن عيسى وكتابه الذي أنزل عليه هما مصدقان لما تقدمهما من التوراة، فتظافر على تصديقه الكتاب الإلهي المنزل، والنبي المرسل المنزل عليه ذلك الكتاب. ومعنى كونه فيه هدى أنه يشتمل على دلائل التوحيد، وتنزيه الله عن الولد والصاحبة والمثل والضد، وعلى الإرشاد والدعاء إلى الله تعالى، وإلى إحياء أحكام التوراة، والنور هو ما فيه مما يستضاء به إذ فيه بيان أحكام الشريعة وتفاصيلها. قال ابن عطية: ومصدقا حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى، فإنها جملة في موضع الحال انتهى. وإنما قال: إن مصدقا، حال مؤكدة من حيث المعنى، لأنه يلزم من كون الإنجيل كتابا إلا هيا أن
510

يكون مصدقا للكتب الإلهية، لكن قوله: معطوفة على الجملة التي هي فيه هدى، فإنها جملة في موضع الحال قول مرجوح، لأنا قد بينا أن قوله: فيه هدى ونور من قبيل المفرد لا من قبيل الجملة، إذ قدرناه كائنا فيه هدى ونور، ومتى دار الأمر بين أن يكون الحال مفردا أو جملة، كان تقدير المفرد أجود على تقدير أنه جملة يكون ذلك من القليل، لأنها جملة اسمية، ولم تأت بالواو، وإن كان يغني عن الرابط الذي هو الضمير، لكن الأسن والأكثر أن يأتي بالواو، حتى أن الفراء زعم أن عدم الواو شاذ، وإن كان ثم ضمير، وتبعه على ذلك الزمخشر. قال علي بن أبي طالب: ومصدقا معطوف على مصدقا الأول انتهى. ويكون إذ ذاك حالا من عيسى، كرره على سبيل التوكيد، وهذا فيه بعد من جهة التركيب واتساق المعاني، وتكلفه أن يكون وآتيناه الإنجيل جملة حالية معطوفة على مصدقا.
* (وهدى وموعظة للمتقين) * قرأ الضحاك: وهدى وموعظة بالرفع، وهو هدى وموعظة. وقرأ الجمهور: بالنصب حالا معطوفة على قوله: ومصدقا، جعله أولا فيه هدى ونور، وجعله ثانيا هدى وموعظة. فهو في نفسه هدى، وهو مشتمل على الهدى، وجعله هدى مبالغة فيه إذ كان كتاب الإنجيل مبشرا برسول الله صلى الله عليه وسلم) والدلالة منه على نبوته ظاهرة. ولما كانت أشد وجوه المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى ذلك، أعاد الله ذكر الهدى تقريرا وبيانا لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم)، ووصفه بالموعظة لاشتماله على نصائح وزواجر بليغة، وخصصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما قال تعالى: * (هدى للمتقين) * فهم المقصودون في علم الله تعالى، وإن كان الجميع يدعي ويوعظ، ولكنه على غير المتقين عمى وحسرة، وأجاز الزمخشري أن ينتصب هدى وموعظة على أنهما مفعول لهما لقوله: وليحكم. قال: كأنه قيل: وللهدي والموعظة آتيناه الإنجيل، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام. وينبغي أن يكون الهدي والموعظة مسندين في المعنى إلى الله، لا إلى الإنجيل، ليتحد المفعول من أجله مع العامل في الفاعل، ولذلك جاء منصوبا. ولما كان: وليحكم، فاعله غير الله، أتى معدي إليه بلام العلة. ولاختلاف الزمان أيضا، لأن الإيتاء قارن الهداية والموعظة في الزمان، والحكم خالف فيه لاستقباله ومضيه في الإيتاء، فعدى أيضا لذلك باللام، وهذا الذي أجازه الزمخشري خلاف الظاهر. قال الزمخشري: فإن نظمت هدى وموعظة في سلك مصدقا فما تصنع بقوله: وليحكم؟ (قلت): أصنع به كما صنعت بهدى وموعظة، حين جعلتهما مفعولا لهما، فأقدر: ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه انتهى. وهو جواب واضح.
* (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) * أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية، وقلنا لهم: احكموا، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم)، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع، أو بما أنزل الله فيه مخصوصا بالدلائل الدالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو قول الأصم، أو بخصوص الزمان إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره. فالمعنى: وليقرأه أهل الإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه، وهذا بعيد. وظاهر الأمر يرد قول من قال: إن عيسى كان متعبدا بأحكام التوراة. وقال تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * ولهذا القائل أن يقول: بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة. والذي يظهر أن الأحكام في الإنجيل قليلة، وهنما أكثره زواجر. وتلك الأحكام المخالفة لأحكام التوراة أمروا بالعمل بها، ولهذا جاء: * (ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم) *.
وقرأ الجمهور: وليحكم بلام الأمر ساكنة، وبعض القراء يكسرها. وقرأ أبي: وأن ليحكم بزيادة أن قبل لام كي، وتقدم كلام الزمخشري فيما يتعلق به. وقال ابن عطية
511

والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه انتهى. فعطف وليحكم على توهم علة ولذلك قال: ليتضمن الهدى. والزمخشري جعله معطوفا على هدى وموعظة، على توهم النطق باللام فيهما كأنه قال: وللهدي والموعظة وللحكم أي: جعله مقطوعا مما قبله، وقدر العامل مؤخرا أي: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه إياه. وقول الزمخشري أقرب إلى الصواب، لأن الهدي الأول والنور والتصديق لم يؤت بها على سبيل العلة، إنما جيء بقوله: فيه هدى ونور، على معنى كائنا فيه ذلك ومصدقا، وهذا معنى الحال، والحال لا يكون علة. فقول ابن عطية: ليتضمن كيت وكيت، وليحكم، بعيد.
* (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) * ناسب هنا ذكر الفسق، لأنه خرج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله: وليحكم، وهو أمر. كما قال تعالى: * (اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) * أي: خرج عن طاعة أمره تعالى. فقد اتضح مناسبة ختم الجملة الأولى بالكافرين، والثانية
بالظالمين، والثالثة بالفاسقين. وقال ابن عطية: وتكرير هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التوكيد، وأصوب ما يقال فيها: أنها تعم كل مؤمن وكافر، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها. وقال القفال: هي لموصوف واحد كما تقول: من أطاع الله فهو البر، ومن أطاع فهو المؤمن، ومن أطاع فهو المتقي. وقيل: الأول في الجاحد، والثاني والثالث في المقر التارك. وقال الأصم: الأول والثاني في اليهود، والثالث في النصارى. وعلى قول ابن عطية يعم كل كافر ومؤمن، يكون إطلاق الكافرين والظالمين والفاسقين عليهم للاشتراك في قدر مشترك.
* (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) * لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك كلهم في أنها نزلت على موسى، فترك ذكره للمعرفة بذلك، ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإنجيل، فذكره ليقروا أنه من جملة الأنبياء، إذ اليهود تنكر نبوته، وإذا أنكرته أنكرت كتابه، فنص تعالى عليه وعلى كتابه. ثم ذكر إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذكر الكتاب، ومن أنزله مقررا لنبوته وكتابه، لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه. وجاء هنا ذكرالمنزل إليه بكاف الخطاب، لأنه أنص على المقصود. وكثيرا ما جاء ذلك بلفظ الخطاب لأنه لا يلبس البتة وبالحق: ملتبسا بالحق ومصاحبا له لا يفارقه، لما كان متضمنا حقائق الأمور، فكأنه نزل بها. ويحتمل أن يتعلق بأنزلنا أي: أنزلناه بأن حق ذلك، لا أنه وجب على الله، لكنه حق في نفسه. والألف واللام في الكتاب للعهد وهو القرآن بلا خلاف. وانتصب مصدقا على الحال لما بين يديه، أي: لما تقدمه من الكتاب. الألف واللام فيه للجنس، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة، ويحتمل أن تكون للعهد، لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق، وإنما أريد نوع معلوم منه، وهو ما أنزل السماء سوى القرآن. والفرق بينهما أنه في الأول يحتاج إلى تقدير الصفة، وأنها حذفت، والتقدير: من الكتاب الإلهي. وفي الثاني لا يحتاج إلى هذا التقدير، لأن العهد في الاسم يتضمن الاسم به جميع الصفات التي للاسم، فلا يحتاج إلى تقدير حذف.
ومهيمنا عليه أي أمينا عليه، قاله ابن عباس في رواية التيمي، وابن جبير، وعكرمة، وعطاء، والضحاك، والحسن. وقال ابن جريج: القرآن أمين على ما قبله من الكتب، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: شاهدا. وبه قال الحسن أيضا وقتادة، والسدي، ومقاتل، وقال ابن زيد: مصدقا على ما أخبر من الكتب، وهذا قريب من القول
512

الأول. وقال الخليل: المهيمن هو الرقيب الحافظ. ومنه قوله:
* إن الكتاب مهيمن لنبينا
*
والحق يعرفه ذوو الألباب
*
وحكاه الزجاج، وبه فسر الزمخشري قال: ومهيمنا رقيبا على سائر الكتب، لأنه يشهد لها بالصحة والبيان انتهى. وقال الشاعر:
* مليك على عرش السماء مهيمن
*
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
*
فسر بالحافظ، وهذا في صفات الله. وأما في القرآن فمعناه أنه حافظ للدين والأحكام. وقال الضحاك أيضا: معناه قاضيا. وقال عكرمة أيضا: معناه دالا. وقال ابن عطية: وقد ذكر أقوالا أنه شاهد، وأنه مؤتمن، وأنه مصدق، وأنه أمين، وأنه رقيب، قال: ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنى بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحامله، فلا يدخل فيه ما ليس منه، والقرآن جعله الله مهيمنا على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها، فيصحح الحقائق ويبطل التحريف. وقرأ مجاهد وابن محيصن: ومهيمنا بفتح الميم الثانية، جعله اسم مفعول أي مؤمن عليه، أي: حفظ من التبديل والتغيير. والفاعل المحذوف هو الله أو الحافظ في كل بلد، لو حذف منه حرف أو حركة أو سكون لتنبه له وأنكر ذلك. ورد ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه عائد على الكتاب الثاني. وفي قراءة اسم المفعول عائد على الكتاب الأول، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب الأول لأنه معطوف على مصدقا والمعطوف على الحال حال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال: معناه محمد مؤتمن على القرآن. قال الطبري: فعلى هذا يكون مهيمنا حالا من الكاف في إليك. وطعن في هذا القول لوجود الواو في ومهيمنا، لأنها عطف على مصدقا، ومصدقا حال من الكتاب لا حال من الكاف، إذ لو كان حالا منها لكان التركيب لما بين يديك بكاف الخطاب، وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عن نظم القرآن، وتقديره: وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه أبعد. وأنكر ثعلب قول المبرد وابن قتيبة أن أصله مؤتمن.
* (فاحكم بينهم بما أنزل الله) * ظاهره أنه أمر أن يحكم بما أنزل الله، وتقدم قول من قال: إنها ناسخة لقوله: * (أو أعرض عنهم) * وقول الجمهور: إن اخترت أن تحكم بينهم بما أنزل الله، وهذا على قول من جعل الضمير في بينهم عائدا على اليهود، ويكون على قول الجمهور أمر ندب، وإن كان الضمير للمتحاكمين عموما، فالخطاب للوجوب ولا نسخ.
* (ولا تتبع أهواءهم) * أي لا توافقهم في أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع، وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين
والشرع.
* (عما جاءك من الحق) * الذي هو القرآن. وضمن تتبع معنى تنحرف، أو تنصرف، فلذلك عدي بعن أي: لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعا أهواءهم، أو بسبب أهوائهم. وقال أبو البقاء: عما جاءك في موضع الحال أي: عادلا عما جاءك، ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن، وهذا ليس بجيد. لأن عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالا من الجنة، كما لا يصلح أن يكون خبرا، وإذا كان ناقصا فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق، والكون المقيد لا يجوز حذفه.
* (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * الظاهر أن المضاف إليه كل المحذوف هو: أمة أي: لكل أمة. والخطاب في منكم للناس
513

أي: أيها الناس لليهود شرعة ومنهاج، وللنصارى كذلك، قاله: علي، وقتادة والجمهور، ويعنون في الأحكام. وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد، وإيمان بالرسل، وكتبها وما تضمنته من المعاد، والجزاء الأخروي. وقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء شرائعهم مختلفة ثم قال: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * والمعنى في المعتقدات. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء، لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال تنبيها لمحمد صلى الله عليه وسلم) أي: فاحفظ شرعك ومنهاجك لئلا تستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه انتهى. فيكون المحذوف المضاف إليه لكل نبي، أي: لكل نبي منكم أيها الأنبياء. والشرعة والمنهاج لفظان لمعنى واحد أي: طريقا، وكرر للتوكيد كما قال الشاعر:
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وقال ابن عباس والحسن وغيرهما: سبيلا وسنة. وقال مجاهد: الشرعة والمنهاج دين محمد صلى الله عليه وسلم)، فيكون المعنى لكل منكم أيها الناس جعلنا هذا الدين الخالص فاتبعوه، والمراد بذلك إنا أمرناكم باتباع دين محمد إذ هو ناسخ للأديان كلها. وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر. وقال ابن الأنباري: الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحا وغير واضح، والمنهاج لا يكون إلا واضحا. وقيل: الشرعة الدين، والمنهاج الدليل. وقيل: الشرعة النبي، والمنهاج الكتاب. قال ابن عطية: والمنهاج بناء مبالغة من النهج، ويحتمل أن يراد بالشرعة الأحكام، وبالمنهاج المعتقد أي هو واحد في جميعكم، وفي هذا الاحتمال بعد انتهى. قيل: وفي هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا. وقرأ النخعي وابن وثاب: شرعة بفتح الشين، والظاهر أن جعلنا بمعنى صيرنا، ومفعولها الثاني هو لكل، ومنكم متعلق بمحذوف تقديره: أعني منكم. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون منكم صفة لكل، لأن ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تشديد فيه للكلام، ويوجب أيضا أن يفصل بين جعلتا وبين معمولها وهو شرعة انتهى. فيكون في التركيب كقولك: من كل ضربت تميمي رجلا، وهو لا يجوز.
* (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) * أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكموها أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في الضلال. وقيل لجعلكم أمة واحدة على الحق.
* (ولاكن ليبلوكم * فيما * ءاتاكم) * أي: ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب. وقال الزمخشري: من الشرائع المختلفة، هل تعلمون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن الله تعالى لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة، أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل انتهى؟ وقال ابن جريج وغيره: ولكنه لم يشأ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع، فليس لهم إلا أن يجدوا في امتثال الأوامر.
* (فاستبقوا الخيرات) * أي ابتدروا الأعمال الصالحة قاله: مقاتل. وهي التي عاقبتها أحسن الأشياء. وقال ابن عباس والضحاك: الخيرات الإيمان بالرسول.
* (إلى الله مرجعكم جميعا) * هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات، كأنه يقول: يظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته.
* (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) * أي فيخبركم بأعمالكم، وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب، وهو أخبار إيقاع. قال ابن جرير: قد بين ذلك في الدنيا بالدلالة والحجج، وغدا يبينه بالمجازاة انتهى. وبهذا التنبيه يظهر الفضل بين المحق والمبطل، والمسبق والمقصر في العمل. ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر، ولم يضمنها معنى أعلم فيعديها إلى ثلاثة.
514

2 (* (وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) *)) 2
* (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * قال ابن عباس: قال بعض اليهود لبعض منهم ابن صوريا وشاس بن قيس وكعب بن أسيد: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم، وإن اتبعناك اتبعك كل اليهود، وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك، فأبى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم) فنزلت. وقال مقاتل: قال جماعة من بني النضير له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا بني قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل، ونبايعك؟ فنزلت.
قال القاضي أبو يعلى: وليس هذه الآية تكرارا لما تقدم، وإنما نزلت في شيئين مختلفين: أحدهما: شأن الرجم، والآخر التسوية انتهى. وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله: * (أو أعرض عنهم) * وتقدم ذكر ذلك وأجازوا في: وأن احكم، أن يكون في موضع نصب عطفا على الكتاب، أي: والحكم. وفي موضع جر عطفا على بالحق، وفي موضع رفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخرا، والتقدير: وحكمك بما أنزل أنزل الله أمرنا وقولنا. أو مقدما والتقدير: ومن الواجب حكمك بما أنزل الله. وقيل: أن تفسيرية، وأبعد ذلك من أجل الواو، ولا يصح ذلك بأن يقدر قبل فعل الأمر فعلا محذوفا فيه معنى القول أي: وأمرناك أن احكم، لأنه
يلزم من ذلك حذف الجملة المفسرة بأن وما بعدها، وذلك لا يحفظ من كلام العرب. وقرىء بضم النون من: وأن احكم، اتباعا لحركة الكاف، وبكسرها على أصل التقاء الساكنين. والضمير في بينهم عائد على اليهود. وقيل: على جميع المتحاكمين.
* (ولا تتبع أهواءهم) * تقدم شرح هذه الجملة.
* (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) * أي يستزلوك. وحذره عن ذلك، وإن كان مأيوسا من فتنتهم إياه لقطع أطماعهم، وقال: عن بعض، لأن الذي سألوه هو أمر جزئي، سألوه أن يقضي لهم فيه على خصومهم فأبى منه. وموضع أن يفتنوك نصب على البدل، ويكون مفعولا من أجله.
* (فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم) * أي فإن تولوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره. ومعنى: أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، أن يعذبهم ببعض آثامهم. وأبهم بعضا هنا ويعني به والله أعلم التولي عن حكم الله وإرادة خلافه، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك، وأراد أنهم ذوو ذنوب جمة كثيرة لا العدد، وهذا الذنب مع عظمه وهذا الإبهام فيه تعظيم التولي، وفرط إسرافهم في ارتكابه، ونظيره قول لبيد:
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أراد نفسه وقصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام، كأنه قال: نفسا كبيرة أو نفسا أي نفس، وهذا الوعد بالمصيبة قد أنجزه له تعالى بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر رضي الله عنه أهل خيبر وفدك وغيرهم. قال ابن عطية: وخصص إصابتهم ببعض الذنوب، لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان: نوع يخصهم كشرب الخمر وزناهم ورشاهم، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمالأتهم للكفار، وأقوالهم في الدين، فهذا النوع هو الذي توعدهم الله به في الدنيا، وإنما يعذبون بكل الذنوب في الآخرة. وقال ابن عطية أيضا: فإن تولوا قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر تقديره: لا تتبع واحذر، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك، وإن تولوا فاعلم. ويحسن أن يقدر هذا
515

المحذوف المعادل لقوله: لفاسقون انتهى. ولا يحتاج إلى تقدير هذا.
* (وإن كثيرا من الناس لفاسقون) * أي متمردون مبالغون في الخروج عن طاعة الله. وقال ابن عباس: المراد بالفسق هنا الكفر. وقال مقاتل: المعاصي. وقال ابن زيد: الكذب وظاهر الناس العموم، وإن كان السياق في اليهود، وجاء بلفظ العموم لينبه من سواهم. ويحتمل أن يكون الناس للعهد، وهم اليهود الذين تقدم ذكرهم.
* (أفحكم الجاهلية يبغون) * هذا استفهام معناه الإنكار على اليهود، حيث هم أهل كتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى، ومع ذلك يعرضون عن حكم الله ويختارون عليه حكم الجاهلية، وهو بمجرد الهوى من مراعاة الأشرف عندهم، وترجيح الفاضل عندهم في الدنيا على المفضول، وفي هذا أشد النعي عليهم حيث تركوا الحكم الإلهي بحكم الهوى والجهل. وقال الحسن: هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله. والحكم خكمان: حكم بعلم، فهو حكم الله. وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية. وقرأ الجمهور: أفحكم بنصب الميم، وهو مفعول يبغون. وقرأ السلمي، وابن وثاب، وأبو رجاء، والأعرج: أفحكم الجاهلية برفع الميم على الابتداء. والظاهر أن الخبر هو قوله: يبغون، وحسن حذف الضمير قليلا في هذه القراءة كون الجملة فاصلة. وقال ابن مجاهد: هذا خطأ. قال ابن جني: وليس كذلك، وجد غيره أقوى منه وقد جاء في الشعر انتهى.
وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين. وبعضهم يجيز حذف هذا الضمير في الكلام، وبعضهم يخصه بالشعر، وبعضهم يفصل. وهذه المذاهب ودلائلها مذكورة في علم النحو. وقال الزمخشري: وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في (أهذا الذي بعث الله رسولا وعن الصفة في: الناس رجلان، رجل أهنت ورجل أكرمت. وعن الحال في: مررت بهند تضرب زيدا انتهى. فإن كان جعل الإسقاط فيه مثل الإسقاط في الجواز والحسن، فليس كما ذكر عند البصريين، بل حذفه من الصلة بشروط الحذف فصيح، وحذفه من الصفة قليل، وحذفه من الخبر مخصوص بالشعر، أو في نادر. وإن كان شبهه به من حيث مطلق الإسقاط فهو صحيح. وقال ابن عطية: وإنما تتجه القراء على أن يكون التقدير: أفحكم الجاهلية حكم تبغون، فلا تجعل تبغون خبرا بل تجعل صفة خبر محذوف، ونظيره: * (من الذين * يحرفون) * تقديره قوم يحرفون انتهى. وهو توجيه ممكن. وقرأ قتادة والأعمش: أفحكم بفتح الحاء والكاف والميم، وهو جنس لا يراد به واحد كأنه قيل: أحكام الجاهلية وهي إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان وهي رشا الكهان، ويحكمون لهم بحسبه وبحسب الشهوات، أرادوا بسفههم أن يكون خاتم النبيين حكما كأولئك الحكام. وقرأ الجمهور: يبغون بالياء على نسق الغيبة المتقدمة. وقرأ ابن عامر بالتاء على لخطاب، وفيه مواجهتهم بالإنكار والردع والزجر، وليس ذلك في الغيبة، فهذه حكمة الالتفات والخطاب ليهود قريظة والنضير.
* (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) * أي لا أحد أحسن من الله حكما. وتقدم * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * فجاءت هذه الآية مشيرة لهذا المعنى والمعنى: أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل. وهو استفهام معناه التقرير، ويتضمن شيئا من التكبر عليهم. واللام في: لقوم يوقنون، للبيان فتتعلق بمحذوف أي: في هيت لك وسقيا لك أي: هذا الخطاب. وهذا الاستفهام لقوم يوقنون قاله الزمخشر. وقال ابن عطية: وحسن دخول اللام في لقوم من حيث المعنى يبين ذلك، ويظهر لقوم
516

يوقنون. وقيل: اللام بمعنى عند أي عند قوم يوقنون، وهذا ضعيف. وقيل: تتعلق بقوله: حكما، أي أن أحكم الله للمؤمن على الكافر. ومتعلق يوقنون محذوف تقديره: يوقنون بالقرآن قاله ابن عباس. وقيل: يوقنون بالله تعالى قاله مقاتل. وقال الزجاج: يوقنون يثبتون عهد الله تعالى في حكمه، وخصوا بالذكر لسرعة إذعانهم لحكم الله وأنهم هم الذين يعرفون أن لا أعدل منه ولا أحسن حكما.
2 (* (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين * فترى الذين فى قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دآئرة فعسى الله أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على مآ أسروا فىأنفسهم نادمين * ويقول الذين ءامنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * ياأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذالك فضل الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون * يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أوليآء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين * وإذا ناديتم إلى الصلواة اتخذوها هزوا ولعبا ذالك بأنهم قوم لا يعقلون * قل يأهل الكتاب هل تنقمون منآ إلا أن ءامنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون * قل هل أنبئكم بشر من ذالك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولائك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل * وإذا جآءوكم قالوا ءامنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون * وترى كثيرا منهم يسارعون فى الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون * لولا ينهاهم الربانيون والا حبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون * وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة كلمآ أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون فى الا رض فسادا والله لا يحب المفسدين * ولو أن أهل الكتاب ءامنوا واتقوا
517

لكفرنا عنهم سيئاتهم ولا دخلناهم جنات النعيم * ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم سآء ما يعملون * يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين * قل يأهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين * إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من ءامن بالله واليوم الا خر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * لقد أخذنا ميثاق بنىإسراءيل وأرسلنآ إليهم رسلا كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون * وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون * لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسراءيل اعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إلاه إلا إلاه واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم * ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الا يات ثم انظر أنى يؤفكون) *))
) *
الدائرة: واحدة الدوائر، وهي صروف الدهر، ودوله، ونوازله. وقال الشاعر:
ويعلم أن الدائرات تدور
518

اللعب معروف وهو مصدر على غير قياس، وفعله لعب يلعب. الإطفاء: الإخماد حتى لا يبقى أثر. الإفك: بفتح الهمزة مصدر أفكه يأفكه، أي قلبه وصرفه. ومنه: * (أجئتنا لتأفكنا) * يؤفك عنه من أفك. قال عروة بن أذينة:
* إن كنت عن أحسن المروءة مأ
*
فوكا ففي آخرين قد أفكوا
*
وقال أبو زيد: المأفوك المأفون، وهو الضعيف العقل. وقال أبو عبيدة: رجل مأفوك لا يصيب خيرا، وائتفكت البلدة بأهلها انقلبت، والمؤتفكات مدائن قوم لوط عليه السلام قلبها الله تعالى. والمؤتفكات أيضا الرياح التي تختلف مهابها.
* (يوقنون ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) * قال الزهري وغيره: سبب نزولها ولها قصة عبد الله بن أبي واستمساكه بحلف يهود، وتبرؤ عبادة بن الصامت من حلفهم عند انقضاء بدر وعبادة، في قصة فيها طول هذا ملخصها. وقال عكرمة: سببها أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم عن حكم سعد بن معاذ. وقال السدي: لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم، وقال بعضهم لبعض: نأخذ من اليهود عهدا يعاضدونا إن ألمت بنا قاصمة من قريش أو سائر العرب. وقال آخرون: بل نلحق بالنصارى فنزلت. وقيل: هي عامة في المنافقين أظهروا الإيمان وظاهروا اليهود والنصارى.
نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم، ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين. وقراءة أبي وابن عباس: أربابا مكان أولياء، بعضهم أولياء بعض جملة معطوفة من النهي مشعرة بعلة الولاية وهو اجتماعهم في الكفر والممالأة على المؤمنين، والظاهر أن الضمير في بعضهم يعود على اليهود والنصارى. وقيل: المعنى على أن ثم محذوفا والتقدير: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، لأن اليهود ليسوا أولياء النصارى، ولا النصارى أولياء اليهود
، ويمكن أن يقال: جمعهم في الضمير على سبيل الإجمال، ودل ما بينهم من المعاداة على التفصيل، وأن بعض اليهود لا يتولى إلا جنسه، وبعض النصارى كذلك. قال الحوفي: هي جملة من مبتدأ وخبر في موضع النعت لأولياء، والظاهر أنها جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب.
* (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) * قال ابن عباس: فإنه منهم في حكم الكفر، أي ومن يتولهم في الدين. وقال غيره: ومن يتولهم في الدنيا فإنه منهم في الآخرة. وقيل: ومن يتولهم منكم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر. وهذا تشديد عظيم في الانتفاء من أهل الكفر، وترك موالاتهم، وأنحاء عبد الله بن أبي ومن اتصف بصفته. ولا يدخل في الموالاة لليهود والنصارى من غير مضافاة، ومن تولاهم بأفعاله دون معتقده ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة، ومن تولاهم في المعتقد فهو منهم في الكفر. وقد استدل بهذا ابن عباس وغيره على جواز أكل ذبائح نصارى العرب، وقال: من دخل في دين قوم فهو منهم. وسئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره لنصراني ليتخذها كنيسة: فتلا هذه الآية. وفي الحديث: (لا تراءى ناراهما) وقال عمر لأبي موسى في كاتبه النصراني: لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خونهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله تعالى. وقال له أبو موسى لأقوام للبصرة إلا به، فقال عمر: مات النصراني والسلام.
* (إن الله لا يهدى القوم الظالمين) * ظاهره العموم والمعنى على الخصوص، أي: من سبق في علم الله أنه لا يهتدي. قال ابن عطية: أو يراد التخصيص مدة الظلم والتلبس
519

بفعله، فإن الظلم لا هدى فيه، والظالم من حيث هو ظالم ليس بمهتد في ظلمه. وقال أبو العالية: الظالم من أبي أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وقال ابن إسحاق: أراد المنافقين. وقيل: الظالم هو الذي وضع الولاية في غير موضعها. وقال الزمخشري قريبا من هذا، قال: يعني الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه، ويخذلهم مقتالهم انتهى. وهو على طريقة الاعتزال.
* (فترى الذين فى قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) * الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم)، والذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبي ومن تبعه من المنافقين، أو من مؤمني الخزرج متابعة جهالة وعصبية، فهذا الصنف له حصة من مرض القلب قاله ابن عطية. ومعنى يسارعون فيهم: أي في موالاتهم ويرغبون فيها. وتقدم الكلام في المرض في أول البقرة.
وقرأ إبراهيم بن وثاب: فيرى بالياء من تحت، والفاعل ضمير يعود على الله، أو الرأي. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الذين فاعل ترى، والمعنى: أن يسارعوا، فحذفت أن إيجازا انتهى. وهذا ضعيف لأن حذف إن من نحو هذا لا ينقاس. وقرأ قتادة والأعمش: يسرعون بغير ألف من أسرع، وفترى أن كانت من رؤية العين كان يسارعون حالا، أو من رؤية القلب ففي موضع المفعول الثاني، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، هذا محفوظ من قول عبد الله بن أبي، وقاله معه منافقون كثيرون. قال ابن عباس: معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا. وقيل: الدائرة من جدب وقحط. ولا يميروننا ولا يقرضوننا. وقيل: دائرة تحوج إلى يهود وإلى معونتهم.
* (فعسى الله أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده) * هذا بشارة للرسول والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصرة. قال قتادة: عنى به القضاء في هذه النوازل والفتاح الفاضي. وقال السدي: يعني به فتح مكة. قال ابن عطية: وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعلو كلمته فيستغني عن اليهود. وقيل: فتح بلاد المشركين. وقيل: فتح قرى اليهود، يريدون قريظة والنضير وفدك وما يجري مجراهما. وقيل: الفتح الفرج، قاله ابن قتيبة. وقيل في قوله تعالى: * (أو أمر من عنده) * هو إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم، لم يكن للناس فيه فعل بل طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب، وقتل قريظة وسبي ذراريهم قاله: ابن السائب ومقاتل. وقيل: إذلالهم حتى يعطوا الجزية. وقيل: الخصب والرخا قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: إظهار أمر المنافقين وتربصهم الدوائر. وقال ابن عطية: ويظهر أن هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو مما ترتب على سعي النبي وأصحابه ونسب جدهم وعملهم، فوعد الله تعالى إما بفتح يقتضي تلك الأعمال، وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع، هو أيضا فتح لا يقع للبشر فيه تسبب انتهى.
* (فيصبحوا على ما أسروا فى أنفسهم نادمين) * أي يصيرون نادمين على ما حدثتهم أنفسهم أن أمر النبي لا يتم، ولا تكون الدولة لهم إذا أتى الله بالفتح أو أمر من عنده. وقيل: موالاتهم. وقرأ ابن الزبير: فتصبح الفساق
520

جعل الفساق مكان الضمير. قال ابن عطية: وخص الإصباح بالذكر لأن الإنسان في ليله مفكر، فعند الصباح يرى الحالة التي اقتضاها فكره انتهى. وتقدم لنا نحو من هذا الكلام، وذكرنا أن أصبح تأتي بمعنى صار من غير اعتبار كينونة في الصباح، واتفق الحوفي وأبو البقاء على أن قوله: فيصبحوا معطوف على قوله: * (أن يأتى) * وهو الظاهر، ومجور ذلك هو الفاء، لأن فيها معنى التسبب، فصار نظير الذي يطير فيغضب زيد الذباب، فلو كان العطف بغير الفاء لم يصح، لأنه كان يكون معطوفا على أن يأتي خبر لعسى، وهو خبر عن الله تعالى، والمعطوف على الخبر خبر، فيلزم أن يكون فيه رابط إن كان مما يحتاج إلى الرابط، ولا رابط هنا، فلا يجوز العطف. لكن الفاء انفردت من بين سائر حروف العطف بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة كما مثله، أو صفة نحو مررت برجل يبكي فيضحك عمرو، أو خبر نحو زيد يقوم فيقعد بشر. وجوز أن لا يكون معطوفا على أن يأتي، ولكنه منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب التمني، إذ عسى تمن وترج في حق البشر، وهذا فيه نظر.
* (ويقول الذين ءامنوا أهاؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم * هم * لمعكم) * قال المفسرون: لما أجلى بني النضير تأسف المنافقون على فراقهم، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادا في معاداة اليهود: هذا جزاؤهم منك طال، والله ما أشبعوا بطنك، فلما قتلت قريظة لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه، فجعلوا
يقولون: أربعمائة حصدوا في ليلة؟ فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا: أهؤلاء أي المنافقون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم؟ والمعنى: يقول بعضهم لبعض تعجبا من حالهم إذ أغلظوا بالإيمان للمؤمنين أنهم معكم، وأنهم معاضدوكم على اليهود، فلما حل باليهود ما حل ظهر من المنافقين ما كانوا يسرونه من موالاة اليهود والتمالؤ على المؤمنين. ويحتمل أن يقول المؤمنون ذلك لليهود، ويكون الخطاب في قوله: إنهم لمعكم لليهود، لأن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة والنصرة كما قال تعالى حكاية عنهم: * (وإن قوتلتم لننصرنكم) * فقالوا ذلك لليهود يجسرونهم على موالاة المنافقين، وأنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا، ويغتبطون بما من الله عليهم من إخلاص الإيمان وموالاة اليهود.
وقرأ الابنان ونافع: بغير واو، كأنه جواب قائل ما يقول المؤمنون حينئذ. فقيل: يقول الذين آمنوا، وكذا هي في مصاحف أهل مكة والمدينة. وقرأ الباقون: بالواو، ونصب اللام أبو عمرو، ورفعها الكوفيون. وروى علي بن نصر عن أبي عمر: والرفع والنصب، وقالوا: وهي في مصاحف الكوفة وأهل المشرق. والواو عاطفة جملة على جملة، هذا إذا رفع اللام، ومع حذف الواو الاتصال موجود في الجملة الثانية، ذكر من الجملة السابقة إذ الذين يسارعون وقالوا: نخشى، ويصبحوا هم الذين قيل فيهم: أهؤلاء الذين أقسموا، وتارة يكتفي في الاتصال بالضمير، وتارة يؤكد بالعطف بالواو. والظاهر أن هذا القول هو صادر من المؤمنين عند رؤية الفتح كما قدمنا.
قيل: ويحتمل أن يكون في وقت الذين في قلوبهم مرض يقولون: * (نخشى أن تصيبنا دائرة) * وعندما ظهر سؤالهم في أمر بني قينقاع وسؤال عبد الله بن أبي فيهم، ونزل الرسول إياهم له، وإظهار عبد الله أن خشية الدوائر هي خوفه على المدينة ومن بها من المؤمنين، وقد علم كل مؤمن أنه كاذب في ذلك، فكان فعله ذلك موطنا أن يقول المؤمنون ذلك. وأما قراءة ويقول بالنصب، فوجهت على أن هذا القول لم يكن إلا عند الفتح، وأنه محمول على المعنى، فهو معطوف على أن يأتي، إذ معنى: فعسى الله أن يأتي، معنى فعسى أن يأتي الله، وهذا الذي يسميه النحويون العطف على التوهم، يكون الكلام في قالب فيقدره في قالب آخر، إذ لا يصح أن يعطف ضمير اسم الله ولا شيء منه. وأجاز ذلك أبو البقاء على تقدير ضمير محذوف أي: ويقول الذين آمنوا به، أي بالله. فهذا الضمير يصح به الربط، أو هو معطوف على أن يأتي على أن يكون أن يأتي بدلا من اسم الله لا خبرا، فتكون عسى إذ ذاك تامة لا ناقصة، كأنك قلت: عسى أن يأتي، ويقول: أو معطوف على فيصبحوا، على أن يكون قوله: فيصبحوا منصوبا بإضمار أن جوابا لعسى، إذ فيها معنى التمني. وقد ذكرنا أن في هذا الوجه نظر، و هوهل تجري عسى في الترجي مجرى ليت في التمني؟ أم لا تجري؟ وذكر هذا الوجه ابن عطية عن أبي يعلى، وتبعه
521

ابن الحاجب، ولم يذكر ابن الحاجب غيره. وعسى من الله واجبة فلا ترجى فيها، وكلا الوجهين قبله تخريج أبي علي. وخرجه النحاس على أن يكون معطوفا على قوله: * (بالفتح) * بأن يفتح، ويقول: ولا يصح هذا لأنه قد فصل بينهما بقوله: أو أمر من عنده، وحقه أن يكون لغة لأن المصدر ينحل لأن والفعل، فالمعطوف عليه من تمامه، فلا يفصل بينهما. وهذا إن سلم أن الفتح مصدر، فيحل لأن والفعل. والظاهر أنه لا يراد به ذلك، بل هو كقولك: يعجبني من زيد ذكاؤه وفهمه، لا يراد به انحلاله، لأن والفعل وعلى تقدير ذلك فلا يصح أيضا، لأن المعنى ليس على: فعسى الله أن يأتي، بأن يقول الذين آمنوا كذا. ولأنه يلزم من ذلك الفصل بين المتعاطفين بقوله: * (فيصبحوا) * وهو أجنبي من المتعاطفين، لأن ظاهر فيصبحوا أن يكون معطوفا على أن يأتي، ونظيره قولك: هند الفاسقة أراد زيد إذايتها بضرب أو حبس وإصباحها ذليلة، وقول أصحابه: أهذه الفاسقة التي زعمت أنها عفيفة؟ فيكون وقول معطوفا على بضرب. وقال ابن عطية: عندي في منع جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر، إذ الذين نصرهم يقولون: ننصره بإظهار دينه، فينبغي أن يجوز ذلك انتهى. وهذا الذي قاله راجع إلى أن يصير سببا لأنه صار في الجملة ضمير عائد على الله، وهو تقديره بنصره وإظهار دينه، وإذا كان كذلك فلا خلاف في الجواز. وإنما منعوا حيث لا يكون رابط وانتصاب جهد على أنه مصدر مؤكد، والمعنى: أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الإيمان أنهم معكم؟ ثم ظهر الآن من موالاتهم اليهود ما أكذبهم في أيمانهم. ويجوز أن ينتصب على الحال، كما جوزوا في فعلته جهدك وقوله: إنهم لمعكم، حكاية لمعنى القسم لا للفظهم، إذ لو كان لفظهم لكان إنا لمعكم.
* (حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) * ظاهره أنه من جملة ما يقوله المؤمنون اعتمادا في الأخبار على ما حصل في اعتقادهم أي: بطلت أعمالهم إن كانوا يتكلفونها في رأي العين. قال الزمخشري: وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى، ويحتمل أن لا يكون خبرا بل دعاء إما من الله تعالى، وإما من المؤمنين. وحبط العمل هنا هو على معنى التشبيه، وإلا فلا عمل له في الحقيقة فيحبط وجوز الحوفي أن يكون حبطت أعمالهم خبرا ثانيا عن هؤلاء، والخبر الأول هو قوله الذين أقسموا، وأن يكون الذين، صفة لهؤلاء، ويكون حبطت هو الخبر. وقد تقدم ذكر قراءة أبي واقد والجراح حبطت بفتح الباء وأنها لغة.
* (خاسرين يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه) * وابن كعب والضحاك الحسن وقتادة وابن جريج وغيرهم: نزلت خطابا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة. ومن يرتد جملة شرطية مستقلة، وهي إخبار عن الغيب.
وتعرض المفسرون هنا لمن ارتد في قصة طويلة نختصرها، فنقول: ارتد في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم) مذ حج ورئيسهم عبهلة بن كعب ذو الخمار، وهو الأسود العنسي قتله فيروز على فراشه، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم) بقتله، وسمى قاتله ليلة قتل. ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم) من الغد، وأتى خبر قتله في آخر ربيع الأول وبنو حنيفة رئيسهم مسيلمة قتله وحشي، وبنو أسد رئيسهم طليحة بن خويلد هزمه خالد بن الوليد، وأفلت ثم أسلم وحسن إسلامه. هذه ثلاث فرق ارتدت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم)، وتنبأ رؤساؤهم. وارتد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه سبع فرق. فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان
قوم قرة بن سلمة القشيري، وسليم قوم الفجاه بن عبد يا ليل، ويربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر وقد تنبأت وتزوجها مسيلمة وقال: الشاعر:
* أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها
*
وأصبحت أنبياء الله ذكرانا
*
وقال أبو العلاء المعري:
522

* أمت سجاح ووالاها مسيلمة
*
كذابة في بني الدنيا وكذاب
*
وكندة قوم الأشعث، وبكر بن وائل بالبحرين قوم الحظم بن يزيد. وكفى الله أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله عنه. وفرقة في عهد عمر: غسان قوم جبلة بن الأيهم نصرته اللطمة وسيرته إلى بلد الروم بعد إسلامه.
وفي القوم الذين يأتي الله بهم: أبو بكر وأصحابه، أو أبو بكر وعمر وأصحابهما، أو قوم أبي موسى، أو أهل اليمن ألفان من البحر وخمسة آلاف من كندة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أخلاط الناس جاهدوا أيام القادسية أيام عمر. أو الأنصار، أو هم المهاجرون، أو أحياء من اليمن من كندة وبجيلة وأشجع لم يكونوا وقت النزول قاتل بهم أبو بكر في الردة، أو القربى، أو علي بن أبي طالب قاتل الخوارج أقوال تسعة.
وفي المستدرك لأبي عبد الله الحاكم بإسناد: أنه لما نزلت أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى أبي موسى الأشعري فقال قوم: هذا. وهذا أصح الأقوال، وكان لهم بلاء في الإسلام زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعامة فتوح عمر على أيديهم.
وقرأ نافع وابن عامر: من يرتدد بدالين مفكوكا، وهي لغة الحجاز. والباقون بواحدة مشددة وهي لغة تميم. والعائد على اسم الشرط من جملة الجزاء محذوف لفهم المعنى تقديره: فسوف يأتي الله بقوم غيرهم، أو مكانهم. ويحبونه معطوف على قوله: يحبهم، فهو في موضع جر. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب تقديره: وهم يحبونه انتهى. وهذا ضعيف لا يسوغ مثله في القرآن. ووصف تعالى هؤلاء القوم بأنه يحبهم ويحبونه، محبة الله لهم هي توفيقهم للإيمان كما قال تعالى: * (ولاكن الله حبب إليكم الايمان) * وإثابته على ذلك وعلى سائر الطاعات، وتعظيمه إياهم، وثناؤه عليهم، ومحبتهم له طاعته، واجتناب نواهيه، وامتثال مأموراته. وقدم محبته على محبتهم إذ هي أشرف وأسبق. وقال الزمخشري: وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله، وأمقتهم للشرع، وأسوأهم طريقة، وإن كانت طريقته عند أمثاله من السفهاء والجهلة شيئا وهم: الفرقة المنفعلة والمتفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله، وفي مراقصهم عطلها الله، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء الله وصعقاتهم التي تشبه صعقة موسى عند دك الطور، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ومن كلماته كما أنه بذاته يحبهم، كذلك يحبون ذاته، فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات. ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة، فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة انتهى كلام الزمخشري رحمه الله تعالى. وقال بعض المعاصرين: قد عظم أمر هؤلاء المنفعلة عند العامة وكثر القول فيهم بالحلول والوحدة، وسر الحروف، وتفسير القرآن على طريق القرامطة الكفار الباطنية، وادعاء أعظم الخوارق لأفسق الفساق، وبغضهم في العلم وأهله، حتى أن طائفة من المحدثين قصدوا قراءة الحديث على شيخ في خانقاتهم يروي الحديث فبنفس ما قرأوا شيئا من حديث الرسول. خرج شيخ الشيوخ الذين هم يقتدون به، وقطع قراءة الحديث، وأخرج الشيخ المسمع والمحدثين وقال: روحوا إلى المدارس شوشتم علينا. ولا يمكنون أحدا من قراءة القرآن جهرا، ولا من الدرس للعلم. وقد صح أن بعضهم ممن يتكلم بالدهر على طريقتهم، سمع ناسا في جامع يقرؤون القرآن فصعد كرسيه الذي يهدر عليه فقال: يا أصحابنا شوشوا علينا، وقام نافضا ثوبه، فقام أصحابه وهو يدلهم لقراء القرآن، فضربوهم أشد الضرب، وسل عليهم السيف من اتباع ذلك الهادر وهو لا ينهاهم عن ذلك. وقد علم أصحابه كلاما افتعلوه على بعض
523

الصالحين حفظهم إياه يسردونه حفظا كالسورة من القرآن، وهو مع ذلك لا يعلمهم فرائض الوضوء، ولا سننه، فضلا عن غيرها من تكاليف الإسلام. والعجب أن كلا من هؤلاء الرؤوس يحدث كلاما جديدا يعلمه أصحابه حتى يصير لهم شعارا، ويترك ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم) من الأدعية المأثورة المأمور بها. وفي كتاب الله تعالى على غثاثة كلامهم، وعاميته، وعدم فصاحته، وقلة محصوله، وهم مستمسكون به كأنه جاءهم به وحي من الله. ولن ترى أطوع من العوام لهؤلاء يبنون لهم الخوانق والربط، ويرصدون لهم الأوقاف، وهم أبغض الناس في العلم والعلماء، وأحبهم لهذه الطوائف. والجاهلون لأهل العلم أعداء.
* (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * هو جمع ذليل لا جمع ذلول الذي هو نقيض الضعف، لأن ذلولا لا يجمع على أذلة بل ذلل، وعدي أذلة بعلى وإن كان الأصل باللام، لأنه ضمنه معنى الحنو والعطف كأنه قال: عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع. قيل: أو لأنه على حذف مضاف التقدير: على فضلهم على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع. قيل: أو لأنه على حذف مضاف التقدير: على فضلهم على المؤمنين، والمعنى أنهم يذلون ويخضعون لمن فضلوا عليه مع
شرفهم وعلو مكانهم، وهو نظير قوله: * (أشداء على الكفار رحماء بينهم) * وجاءت هذه الصفة بالاسم الذي فيه المبالغة، لأن أذلة جمع ذليل وأعزة جمع عزيز، وهما صفتا مبالغة، وجاءت الصفة قبل هذا بالفعل في قوله: * (يحبهم ويحبونه) * لأن الاسم يدل على الثبوت، فلما كانت صفة مبالغة، وكانت لا تتجدد بل هي كالغريزة، جاء الوصف بالاسم. ولما كانت قبل تتجدد، لأنها عبارة عن أفعال الطاعة والثواب المترتب عليها، جاء الوصف بالفعل الذي يقتضي التجدد. ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن أوكد، ولموصوفه الذي قدم على الوصف المتعلق بالكافر، ولشرف المؤمن أيضا. ولما كان الوصف الذي بين المؤمن وربه أشرف من الوصف الذي بين المؤمن والمؤمن، قدم قوله يحبهم ويحبونه على قوله: أذلة على المؤمنين.
وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم وبالفعل لا يتقدم الوصف بالفعل على الوصف بالاسم إلا في ضرورة الشعر نحو قوله:
وفرع يغشى المتن أسود فاحم
إذ جاء ما ادعى أنه يكون في الضرورة في هذه الآية، فقدم يحبهم ويحبونه وهو فعل على قوله: أذلة وهو اسم. وكذلك قوله تعالى: * (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك) * وقرئ شاذا أذلة، وهو اسم وكذا أعزة نصبا على الحال من النكرة إذا قربت من المعرفة بوصفها. وقرأ عبد الله: غلظاء على الكافرين مكان أعزة.
* (يجاهدون فى سبيل الله) * أي في نصرة دينه. وظاهر هذه الجملة أنها صفة، ويجوز أن تكون استئناف أخبار. وجوز أبو البقاء أن تكون في موضع نصب حالا من الضمير في أعزة.
* (ولا يخافون لومة لائم) * أي هم صلاب في دينه، لا يبالون بمن لام فيه. فمتى شرعوا في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أمضوه لا يمنعهم اعتراض معترض، ولا قول قائل هذان الوصفان أعني: الجهاد والصلابة في الدين هما نتيجة الأوصاف السابقة، لأن من أحب الله لا يخشى إلا إياه، ومن كان عزيزا على الكافر جاهدا في إخماده واستئصاله. وناسب تقديم الجهاد على انتفاء الخوف من اللائمين لمحاورته أعزة على
524

الكافرين، ولأن الخوف أعظم من الجهاد، فكان ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى. ويحتمل أن تكون الواو في: ولا يخافون، واو الحال أي: يجاهدون، وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود، فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود وتخاذلوا وخذلوا حتى لا يلحقهم لوم من جهتهم. وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله، لا يخافون لومة لائم. ولومة للمرة الواحدة وهي نكرة في سياق النفي. فتعم أي: لا يخافون شيئا قط من اللوم.
* (ذالك فضل الله يؤتيه من يشاء) * الظاهر أن ذلك إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف التي تحلى بها المؤمن. ذكر أن ذلك هو فضل من الله يؤتيه من أراد، ليس ذلك بسابقة ممن أعطاه إياه، بل ذلك على سبيل الإحسان منه تعالى لمن أراد الإحسان إليه. وقيل: ذلك إشارة إلى حب الله لهم وحبهم له. وقيل: إشارة إلى قوله: أذلة على المؤمنين، وهو لين الجانب، وترك الترفع على المؤمن. قال الزمخشري: يؤتيه من يشاء ممن يعلم أن لطفا انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. ويؤتيه استئناف، أو خبر بعد خبر أو حال.
* (والله واسع عليم) * أي واسع الإحسان والإفضال عليم بمن يضع ذلك فيه.
* (إنما وليكم الله ورسوله) * لما نهاهم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، بين هنا من هو وليهم، وهو الله ورسوله. وفسر الولي هنا بالناصر، أو المتولي الأمر، أو المحب. ثلاثة أقوال، والمعنى: لا ولي لكم إلا الله. وقال: وليكم بالأفراد، ولم يقل أولياؤكم وإن كان المخبر به متعددا، لأن وليا اسم جنس. أو لأن الولاية حقيقة هي لله تعالى على سبيل التأصل، ثم نظم في سلكه من ذكر على سبيل التبع، ولو جاء جمعا لم يتبين هذا المعنى من الأصالة والتبعية. وقرأ عبد الله: مولاكم الله. وظاهر قوله: والذين آمنوا، عموم من آمن من مضى منهم ومن بقي قاله الحسن. وسئل الباقر عمن نزلت فيه هذه الآية، أهو على؟ فقال: علي من المؤمنين. وقيل: الذين آمنوا هو علي رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، ويكون من إطلاق الجمع على الواحد مجازا. وقيل ابن سلام وأصحابه. وقيل: عبادة لما تبرأ من حلفائه اليهود. وقيل: أبو بكر رضي الله عنه، قاله عكرمة.
* (والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم راكعون) * هذه أوصاف ميز بها المؤمن الخالص الإيمان من المنافق، لأن المنافق لا يدوم على الصلاة ولا على الزكاة. قال تعالى: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * وقال تعالى: * (أشحة على الخير) * ولما كانت الصحابة وقت نزول هذه الآية من مقيمي صلاة ومؤتي زكاة، وفي كلتا الحالتين كانوا متصفين بالخضوع لله تعالى والتذلل له، نزلت الآية بهذه الأوصاف الجليلة. والركوع هنا ظاهره الخضوع، لا الهيئة التي في الصلاة. وقيل: المراد الهيئة، وخصت بالذكر لأنها من أعظم أركان الصلاة، فعبر بها عن جميع الصلاة، إلا أنه يلزم في هذا القول تكرير الصلاة لقوله: يقيمون الصلاة. ويمكن أن يكون التكرار على سبيل التوكيد لشرف الصلاة وعظمها في التكاليف الإسلامية. وقيل: المراد بالصلاة هنا الفرائض، وبالركوع التنفل. يقال: فلان يركع إذا تنفل بالصلاة. وروي أن عليا رضي الله عنه تصدق بخاتمه وهو راكع في الصلاة. والظاهر من قوله: وهم راكعون، أنها جملة اسمية معطوفة على الجمل قبلها، منتظمة في سلك الصلاة. وقيل: الواو للحال أي: يؤتون الزكاة وهم خاضعون لا يشتغلون على من يعطونهم إياها، أي يئتونها فيتصدقون وهم ملتبسون بالصلاة. وقال الزمخشري. (فإن قلت): الذين يقيمون ما محله؟ (قلت): الرفع على البدل من الذين آمنوا، أو على هم الذين يقيمون انتهى. ولا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هو المتبادر إلى الذهن، لأن المبدل منه في نية الطرح، وهو لا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه هو الوصف المترتب عليه صحة ما بعده من الأوصاف.
* (ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون) * يحتمل أن يكون جواب من محذوفا لدلالة ما بعده عليه، أي: يكن من حزب الله ويغلب. ويحتمل أن يكون
525

الجواب: فإن حزب الله، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر أي: فإنهم م الغالبون. وفائدة وضع الظاهر هنا موضع المضمر الإضافة إلى الله تعالى فيشرفون بذلك، وصاروا بذلك أعلاما. وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يريد حزب الله والرسول والمؤمنين، ويكون المعنى: ومن يتولهم فقد تولى حزب الله، واعتضد بمن لا يغالب انتهى. وهو قلق في التركيب. قال ابن عطية: أي فإنه غالب كل من ناوأه، وجاءت العبارة عامة أن حزب الله هم الغالبون اختصارا، لأن هذا المتولي هو من حزب الله، وحزب الله غالب، فهذا الذي تولى الله ورسوله غالب. ومن يراد بها الجنس لا مفرد، وهم هنا يحتمل أن يكون فصلا، ويحتمل أن يكون مبتدأ.
* (الغالبون ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء) * قال ابن عباس: كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهر الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزلت. ولما نهى تعالى المؤمنين عن اتخاذ الكفار والنصارى أولياء، نهى عن اتخاذ الكفار أولياء يهودا كانوا أو نصارى، أو غيرهما. وكرر ذكر اليهود والنصارى بقوله: من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وإن كانوا مندرجين في عموم الكفار على سبيل النص على بعض أفراد العام لسبقهم في الذكر في الآيات قبل، ولأنه أوغل في الاستهزاء، وأبعد انقيادا للإسلام، إذ يزعمون أنهم على شريعة إلهية. ولذلك كان المؤمنون من المشركين في غاية الكثرة، والمؤمنون من اليهود والنصارى في غاية القلة. وقيل: أريد بالكفار المشركون خاصة، ويدل عليه قراءة عبد الله: ومن الذين أشركوا. قال ابن عطية: وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب، من حيث الغالب في اسم الكفر أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة الأوثان، لأنهم أبعد شأوا في الكفر. وقد قال: * (جاهد الكفار والمنافقين) * ففرق بينهم إرادة البيان. والجميع كفار، وكانوا عبدة الأوثان، هم كفار من كل جهة. وهذه الفرق تلحق بهم في حد الكفر، وتخالفهم في رتب. فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء، والمنافقون يؤمنون بألسنتهم انتهى. وقال الزمخشري: وفصل المستهزئين بأهل الكتاب على المشركين خاصة انتهى. ومعنى الآية: أن من اتخذ دينكم هزوا ولعبا لا يناسب أن يتخذ وليا، بل يعادي ويبغض ويجانب. واستهزاؤهم قيل: بإظهار الإسلام، وإخفاء الكفر. وقيل: بقولهم للمسلمين: احفظوا دينكم ودوموا عليه فإنه الحق، وقول بعضهم لبعض: لعبنا بعقولهم وصحكنا عليهم. وقال ابن عباس: ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم، وتقدم القول في القراءة في هزؤا. وقرأ النحويان: والكفار خفضا. وقرأ أبي: ومن الكفار بزيادة من. وقرأ الباقون: نصبا وهي رواية الحسين الجعفي عن أبي عمرو، وإعراب الجر والنصب واضح.
* (واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) * لما نهى المؤمنون عن اتخاذهم أولياء، أمرهم بتقوى الله، فإنها هي الحاملة على امتثال الأوامر واجتناب النواهي. أي: اتقوا الله في موالاة الكفار، ثم نبه على الوصف الحامل على التقوى وهو الإيمان أي: من كان مؤمنا حقا يأبى موالاة أعداء الدين.
* (وإذا ناديتم إلى الصلواة اتخذوها هزوا ولعبا) * قال الكلبي: كانوا إذا نودي بالصلاة قام المسلمون إليها فتقول اليهود: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا، ركعوا لا ركعوا، على طريق الاستهزاء والضحك فنزلت. وقال السدي: كان نصراني بالمدينة يقول إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، أحرق الكاذب، فطارت شرارة في بيته فاحترق هو وأهله، فنزلت. وقيل: حسد اليهود الرسول حين
526

سمعوا الآذان وقالوا: ابتدعت شيئا لم يكن للأنبياء، فمن أين لك الصياح كصياح العير؟ فما أقبحه من صوت. فأنزل الله هذه الآية. وأنزل: * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) * الآية انتهى. والمعنى: إذا نادى بعضكم إلى الصلاة، لأن الجميع لا ينادون. ولما قدم أنهم الذين اتخذوا الدين هزوا ولعبا اندرج في ذلك جميع ما انطوى عليه الدين، فجرد من ذلك أعظم أركان الدين ونص عليه بخصوصه وهي الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، فنبه على أن من استهزأ بالصلاة ينبغي أن لا يتخذ وليا ويطرد، فهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية قبلها. وقال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب، لا بالمنام وحده انتهى. ولا دليل في ذلك على مشروعيته لأنه قال وإذا ناديتم، ولم يقل نادوا على سبيل الأمر، وإنما هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها بالشرط. والظاهر أن الضمير في اتخذوها عائد على الصلاة، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من ناديتم أي: اتخذوا المناداة والهزء والسخرية واللعب الأخذ في غير طريق.
* (ذالك بأنهم قوم لا يعقلون) * أي ذلك الفعل منهم، ونفي العقل عنهم لما لم ينتفعوا به في الدين، واتخذوا دين الله هزوا ولعبا، فعل من لا عقل له.
* (قل ياأهل * أهل الكتاب * هل تنقمون منا إلا أن ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون) * قال ابن عباس: أتى نفر من يهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: أؤمن بالله: * (وما أنزل إلينا) * إلى قوله: * (ونحن له مسلمون) * فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى، ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم، فنزلت. والمعنى: هل تعيبون علينا، أو تنكرون، وتعدون ذنبا، أو نقيصة ما لا ينكر ولا يعاب، وهو الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وهذه محاورة لطيفة وجيزة تنبه الناقم على أنه ما نقم عليه إلا ما لا ينقم ولا يعد عيبا ونظيره قول الشاعر:
* ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
*
بهن فلول من قراع الكتائب
*
والخطاب قيل: للرسول، وهو بمعنى ما النافية. وقرأ الجمهور: تنقمون بكسر القاف، والماضي نقم بفتحها، وهي التي ذكرها ثعلب في الفصيح. ونقم بالكسر، ينقم بالفتح لغة حكاها الكسائي وغيره. وقرأ بها أبو حيوة والنخعي وابن أبي عبلة وأبو البر هشيم، وفسر تنقمون بتسخطون وتتكرهون وتنكرون وتعيبون وكلها متقاربة. وإلا
أن آمنا استثناء فرغ له الفاعل. وقرأ الجمهور: أنزل مبنيا للفاعل، وذلك في اللفظين، وقرأهما أبو نهيك: مبنيين للفاعل، وقرأ نعيم بن ميسرة: وإن أكثركم فاسقون بكسر الهمزة، وهو واضح المعنى، أمره تعالى أن يقول لهم هاتين الجملتين، وتضمنت الأخبار بفسق أكثرهم وتمردهم. وقرأ الجمهور: بفتح همزة أن وخرج ذلك على أنها في موضع رفع، وفي موضع نصب، وفي موضع جر. فالرفع على الابتداء. وقدر الزمخشري الخبر مؤخرا محذوفا أي: وفسق أكثركم ثابت معلوم عندكم، لأنكم علمتم أنا على الحق، وأنكم على الباطل، إلا أن حب الرياسة والرشا يمنعكم من الاعتراف. ولا ينبغي أن يقدم الخبر إلا مقدما أي: ومعلوم فسق أكثركم، لأن الأصح أن لا يبدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط. والنصب من وجوه: أحدها: أن يكون معطوفا على أن آمنا أي: ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم، فيدخل الفسق فيما نقموه، وهذا قول أكثر المتأولين. ولا يتجه معناه لأنهم لا يعتقدون فسق أكثرهم، فكيف ينقمونه، لكنه يحمل على أن المعنى ما تنقمون منا إلا هذا المجموع من إنا مؤمنون وأكثركم فاسقون، وإن كانوا لا يسلمون إن أكثرهم فاسقون، كما تقول: ما تنقم مني إلا أني صدقت وأنت كذبت، وما كرهت مني إلا أني محبب إلى الناس وأنت مبغض، وإن كان لا يعترف أنه كاذب ولا أنه مبغض، وكأنه قيل: ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في
527

الإسلام وأنتم خارجون. والوجه الثاني: أن يكون معطوفا على إن آمنا، إلا أنه على حذف مضاف تقديره: واعتقادنا فيكم أن أكثركم فاسقون، وهذا معنى واضح. ويكون ذلك داخلا في ما تنقمون حقيقة. الثالث: أن تكون الواو واو مع، فتكون في موضع نصب مفعولا معه التقدير: وفسق أكثرهم أي: تنقمون ذلك مع فسق أكثركم والمعنى: لا يحسن أن تنقموا مع وجود فسق أكثركم كما تقول: تسيء إلي مع أني أحسنت إليك. الرابع: أن تكون في موضع نصب مفعول بفعل مقدر يدل عليه، هل تنقمون تقديره: ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون. والجر على أنه معطوف على قوله: بما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وبأن أكثركم فاسقون، والجر على أنه معطوف على علة محذوفة التقدير: ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم. ويدل عليه تفسير الحسن بفسقكم نقمتم ذلك علينا. فهذه سبعة وجوه في موضع أو وصلتها، ويظهر وجه ثامن ولعله يكون الأرجح، وذلك أن نقم أصلها أن تتعدى بعلى، تقول: نقمت على الرجل أنقم، ثم تبنى منها افتعل فتعدى إذ ذاك بمن، وتضمن معنى الإصابة بالمكروه.
قال تعالى: * (ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) * ومناسبة التضمين فيها أن من عاب على شخص فعله فهو كاره له لا محالة ومصيبه عليه بالمكروه، وإن قدر، فجاءت هنا فعل بمعنى افتعل لقولهم: وقد رأوه، ولذلك عديت بمن دون التي أصلها أن يعدي بها، فصار المعنى: وما تنالون منا أو وما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا أي: لأن آمنا، فيكون أن آمنا مفعولا من أجله، ويكون وإن أكثركم فاسقون معطوفا على هذه العلة، وهذا والله أعلم سبب تعديته بمن دون على، وخص أكثركم بالفسق لأن فيهم من هدى إلى الإسلام، أو لأن فساقهم وهم المبالغون في الخروج عن الطاعة هم الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون تقربا إلى الملوك، وطلبا للجاه والرياسة، فهم فساق في دينهم لا عدول، وقد يكون الكافر عدلا في دينه، ومعلوم أن كلهم لم يكونوا عدولا في دينهم، فلذلك حكم على أكثرهم بالفسق.
* (قل هل أنبئكم بشر من ذالك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد) * الخطاب بالأمر للرسول صلى الله عليه وسلم) وتضمن الخطاب لأهل الكتاب الذين أمر أن يناديهم أو يخاطبهم بقوله تعالى: يا أهل الكتاب هل تنقمون منا، هذا هو الظاهر. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون ضمير الخطاب للمؤمنين أي: قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشر من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم انتهى. فعلى هذا الإضمار يكون قوله: بشر أفعل تفضيل باقية على أصل وضعها من كونها تدل على الاشتراك في الوصف، وزيادة الفضل على المفضل عليه في الوصف، فيكون ضلال أولئك الأسلاف وشرهم أكثر من ضلال هؤلاء الفاسقين، وإن كان الضمير خطابا لأهل الكتاب، فيكون شر على بابها من التفضيل على معتقد أهل الكتاب إذ قالوا: ما نعلم دينا شرا من دينكم. وفي الحقيقة لا ضلال عند المؤمنين، ولا شركة لهم في ذلك مع أهل الكتاب، وذلك كما ذكرنا إشارة إلى دين المؤمنين، أو حال أهل الكتاب، فيحتاج إلى حذف مضاف: إما قبله، وإما بعده. فيقدر قبله: بشر من أصحاب هذه الحال، ويقدر بعده: حال من لعنه الله ولكون لعنه الله إن اسم الإشارة يكون على كل حال من تأنيث وتثنية وجمع كما يكون للواحد المذكر، فيحتمل أن يكون ذلكم من هذه اللغة، فيصير إشارة إلى الأشخاص كأنه قال: بشر من أولئكم، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، لا قبل اسم الإشارة، ولا بعده، إذ يصير من لعنه الله تفسير أشخاص بأشخاص. ويحتمل أن يكون ذلكم أيضا إشارة إلى متشخص، وأفرد على معنى الجنس كأنه قال: قل هل أنبئكم بشر من جنس الكتابي، أو من جنس المؤمن، على اختلاف التقديرين اللذين سبقا، ويكون أيضا من لعنه الله تفسير شخص بشخص.
وقرأ النخعي وابن وثاب: أنبئكم من أنبأ
528

وابن بريدة، والأعرج، ونبيج، وابن عمران: مثوبة كمعورة. والجمهور: من نبأ ومثوبة كمعونة. وتقدم توجيه القراءتين في * (لمثوبة من عند الله) * وانتصب مثوبة هنا على التمييز، وجاء التركيب الأكثر الأفصح من تقديم المفضل عليه على لتمييز كقوله: * (ومن أصدق من الله حديثا) * وتقديم التمييز على المفضل أيضا فصيح كقوله: * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله * وهاذه * فقل أسلمت وجهى لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والاميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد * إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم) * ومن في موضع رفع كأنه قيل: من هو؟ فقيل: هو من لعنه الله. أو في موضع جر على البدل من قوله: بشر. وجوزوا أن يكون في موضع نصب على موضع بشر أي: أنبئكم من لعنه الله. ويحتمل من لعنه الله أن يراد به أسلاف أهل الكتاب كما تقدم، أو الأسلاف والأخلاف، فيندرج هؤلاء الحاضرون فيهم. والذي تقتضيه الفصاحة أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على الوصف الذي حصل به كونه شرا مثوبة، وهي اللعنة والغضب. وجعل القردة والخنازير منهم، وعبد الطاغوت،
وكأنه قيل: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله أنتم أي: هو أنتم. ويدل على هذا المعنى قوله بعد: * (وإذا * الذين قالوا ءامنا) * فيكون الضمير واحدا. وقرأ أبي وعبد الله: من غضب الله عليهم، وجعلهم قردة وخنازير، وجعل هنا بمعنى صير. وقال الفارسي: بمعنى خلق، لأن بعده وعبد الطاغوت، وهو معتزلي لا يرى أن الله يصير أحدا عابد طاغوت. وتقدم الكلام في مسخهم قردة في البقرة.
وأما الذين مسخوا خنازير فقيل: شيوخ أصحاب السبت، إذ مسح شبانهم قردة قاله: ابن عباس. وقيل: أصحاب مائدة عيسى. وذكرت أيضا قصة طويلة في مسخ بني إسرائيل خنازير ملخصها: أن امرأة منهم مؤمنة قاتلت ملك مدينتها ومن معه، وكانوا قد كفروا بمن اجتمع إليها ممن دعته إلى الجهاد ثلاث مرات وأتباعها يقتلون، وتنفلت هي، فبعد الثالثة سببت واستبرأت في دينها، فمسخ الله أهل المدينة خنازير في ليلتهم تثبيتا لها على دينها، فلما رأتهم قالت: اليوم علمت أن الله أعز دينه وأقره، فكان المسخ خنازير على يدي هذه المرأة، وتقدم تفسير الطاغوت.
وقرأ جمهور السبعة: وعبد الطاغوت. وقرأ أبي: وعبدوا الظاغوت. وقرأ الحسن في رواية: وعبد الطاغوت بإسكان الباء. وخرجه ابن عطية: على أنه أراد وعبدا منونا فحذف التنوين كما حذف في قوله: * (ولا * يذكرون الله إلا قليلا) * ولا وجه لهذا التخريج، لأن عبدا لا يمكن أن ينصب الطاغوت، إذ ليس بمصدر ولا اسم فاعل، والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفا من عبد بفتحها كقولهم: في سلف سلف. وقرأ ابن مسعود في رواية: عبد بضم الباء نحو شرف الرجل أي: صار له عبد كالخلق والأمر المعتاد قاله: ابن عطية: وقال الزمخشري: أي صار معبودا من دون الله كقولك: أمر إذا صار أميرا انتهى. وقرأ النخعي وابن القعقاع والأعمش في رواية هارون، وعبد الطاغوت مبنيا للمفعول، كضرب زيد. وقرأ عبد الله في رواية: وعبدت الطاغوت مبنيا للمفعول، كضربت المرأة. فهذه ست قراءآت بالفعل الماضي، وإعرابها واضح. والظاهر أن هذا المفعول معطوف على صلة من وصلت بلعنه، وغضب، وجعل، وعبد، والمبني للمفعول ضعفه الطبري وهو يتجه على حذف الرابط أي: وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم. ويحتمل أن يكون وعبد ليس داخلا في الصلة، لكنه على تقدير من، وقد قرأ بها مظهرة عبد الله قرأ، ومن عبد فإما عطفا على القردة والخنازير، وإما عطفا على من قوله: من لعنه الله. وقرأ أبو
529

واقد الأعرابي: وعباد الطاغوت جمع عابد، كضراب زيد. وقرأ ابن عباس في رواية، وجماعة، ومجاهد، وابن وثاب: وعبد الطاغوت جمع عبد، كرهن ورهن. وقال ثعلب: جمع عابد كشارف وشرف. وقال الزمخشري تابعا للأخفش: جمع عبيد، فيكون إذ ذاك جمع وأنشدوا:
* أنسب العبد إلى آبائه
*
اسود الجلدة من قوم عبد
*
وقرأ الأعمش وغيره: وعبد الطاغوت جمع عابد، كضارب وضرب. وقرأ بعض البصريين؟: وعباد الطاغوت جمع عابد كقائم وقيام، أو جمع عبد. أنشد سيبويه:
* أتوعدني بقومك يا ابن حجل
*
اسابات يخالون العبادا
*
وسمى عرب الحيرة من العراق لدخولهم في طاعة كسرى: عبادا. وقرأ ابن عباس في رواية: وعبيد الطاغوت جمع عيد، نحو كلب وكليب. وقرأ عبيد بن عمير: وأعبد الطاغوت جمع عبد كفلس وأفلس. وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة: وعبد الطاغوت يريد وعبدة جمع عابد، كفاجر وفجرة، وحذف التاء للإضافة، أو اسم جمع كخادم وخدم، وغائب وغيب. وقرئ: وعبدة الطاغوت بالتاء نحو فاجر وفجرة، فهذه ثمان قراءات بالجمع المنصوب عطفا على القردة والخنازير مضافا إلى الطاغوت. وقرئ وعابدي. وقرأ ابن عباس في رواية: وعابدوا. وقرأ عون العقيلي: وعابدوا، وتأولها أبو عمرو على أنها عآبد. وهذان جمعا سلامة أضيفا إلى الطاغوت، فبالتاء عطفا على القردة والخنازير، وبالواو عطفا على من لعنه الله أو على إضمارهم. ويحتمل قراءة عون أن يكون عابد مفردا اسم جنس. وقرأ أبو عبيدة: وعابد على وزن ضارب مضافا إلى لفظ الشيطان، بدل الطاغوت. وقرأ الحسن: وعبد الطاغوت على وزن كلب. وقرأ عبد الله في رواية: وعبد على وزن حطم، وهو بناء مبالغة. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة: وعبد على وزن يقظ وندس، فهذه أربع قراءات بالمفرد المراد به الجنس أضيفت إلى الطاغوت. وفي القراءة الأخيرة منها خلاف بين العلماء. قال نصير النحوي صاحب الكسائي وهو وهم ممن قرأ به، وليسأل عنه العلماء حتى نعلم أنه جائز. وقال الفراء: إن يكن لغة مثل حذر وعجل فهو وجه، وإلا فلا يجوز في القراءة. وقال أبو عبيد: إنما معنى العبد عندهم إلا عبد، يريدون خدم الطاغوت، ولم نجد هذا يصح عن أحد من فصحاء العرب أن العبد يقال فيه عبد، وإنما هو عبد وأعبد بالألف. وقال أبو علي: ليس في أبنية المجموع مثله، ولكنه واحد يراد به الكثرة، وهو بناء يراد به المبالغة، فكأن هذا قد ذهب في عبادة الطاغوت. وقال الزمخشري: ومعناه العلو في العبودية كقولهم: رجل حذر فطن للبليغ في الحذر والفطنة. قال الشاعر:
* أبني لبيني أن أمكم
*
أمة وإن أباكم عبد
*
انتهى.
وقال ابن عطية: عبد لفظ مبالغة كيقظ وندس، فهو لفظ مفرد يراد به الجنس، وبنى بناء الصفات لأن عبدا في
530

الأصل صفة وإن كان يستعمل استعمال الأسماء، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة، ولذلك لم يمتنع أن يبني منه بناء مبالغة. وأنشد أبني لبيني البيت، وقال: ذكره الطبري وغيره بضم الباء انتهى. وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلا فقال: ومنها فعل كنحو سمر وعبد. وقرأ ابن عباس فيما روى عنه عكرمة: وعبد الطاغوت جمع عابد كضارب وضرب، ونصب الطاغوت أراد عبدا منونا فحذف التنوين لالتقاء الساكنين كما قال: * (ولا * يذكرون الله إلا قليلا) * فهذه إحدى وعشرون قراءة بقراءة بريد، تكون اثنين وعشرين قراءة.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت؟ (قلت): فيه وجهان: أحدهما: أنه خذلهم حتى عبدوها، والثاني: أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقولهم: * (واجعلوا * الملئكة الذين هم عباد الرحمان إناثا) * انتهى. وهذا على طريق المعتزلة، وتقدم تفسير الطاغوت. وقرأ الحسن: الطواغيت. وروي أنه لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود يقولون: يا أخوة القردة والخنازير، فينكسون رؤوسهم.
* (أولئك شر مكانا) * الإشارة إلى الموصوفين باللعنة وما بعدها، وانتصب مكانا على التمييز. فإن كان ذلك في الآخرة أن يراد بالمكان حقيقة، إذ هو جهنم، وإن كان في الدنيا فيكون كناية واستعارة للمكانة في قوله: أولئك شر، لدخوله في ياب الكناية كقولهم: فلان طويل النجاد وهي إشارة إلى الشيء بذكر لوزامه وتوابعه قبل المفضول، وهو مكان المؤمنين، ولا شر في مكانهم. وقال الزجاج: شر مكانا على قولكم وزعمكم. وقال النحاس: أحسن ما قيل شر مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا، لما يلحقكم من الشر. وقال ابن عباس: مكانهم سقر، ولا مكان أشد شرا منه. والذي يظهر أن المفضول هو غيرهم من الكفار، لأن اليهود جاءتهم البينات والرسل والمعجزات ما لم يجيء غيرهم كثرة، فكانوا أبعد ناس عن اتباع الحق وتصديق الرسل وأوغلهم في العصيان، وكفروا بأنواع من الكفر والرسل، تنتابهم الغيبة بعد الغيبة، فأخبر تعالى عنهم بأنهم شر من الكفار.
* (وأضل عن سواء السبيل) * أي عن وسط السبيل، وقصده: أي هم حائرون لا يهتدون إلى مستقيم الطريق.
* (وإذا * جاءوكم قالوا ءامنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) * ضمير الغيبة في جاؤوكم لليهود والمعاصرين للرسول وخاصة بالمنافقين منهم قاله: ابن عباس، وقتادة، والسدي، وهو على حذف مضاف. إذ ظاهر الضمير أنه عائد على من قبله التقدير: وإذا جاؤوكم أهلهم أو نساؤهم. وتقدم من قولنا: أن يكون من لعنه الله إلى آخره عبارة عن المخاطبين في قوله: * (قل ياأهل * أهل الكتاب) * وأنه مما وضع الظاهر موضع المضمر فكأنه قيل: أنتم فلا يحتاج هذا إلى حذف مضاف.
كان جماعة من اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم) يظهرون له الإيمان نفاقا فأخبر الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون كما دخلوا، لم يتعلقوا بشيء مما سمعوا من تذكير وموعظة، فعلي هذا الخطاب في جاؤوكم للرسول، وقيل: للمؤمنين الذين كانوا بحضرة الرسول. وهاتان الجملتان حالان، وبالكفر وبه حالان أيضا أي: ملتبسين. ولذلك دخلت قد تقريبا لها من زمان الحال ولمعنى آخر وهو: أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) متوقعا لإظهار ما تكتموه، فدخل حرف التوقع وخالف بين جملتي الحال اتساعا في الكلام. وقال ابن عطية: وقوله: وهم، تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر وهم قد خرجوا به، فأزال الاحتمال قوله تعالى: وهم قد خرجوا به، أي هم بأعيانهم انتهى. والعامل في الحالين آمنا أي: قالوا ذلك وهذه حالهم. وقيل: معنى هم للتأكيد في إضافة الكفر إليهم، ونفى أن يكون من الرسول ما يوجب كفرهم من سوء معاملته لهم، بل كان يلطف بهم
531

ويعاملهم بأحسن معاملة. فالمعنى: أنهم هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم، لا أنك أنت الذي تسببت لبقائهم في الكفر. والذي نقول: إن الجملة الإسمية الواقعة حالا المصدرة بضمير ذي الحال المخبر عنها بفعل أو اسم يتحمل ضمير ذي الحال آكد من الجملة الفعلية، من جهة أنه يتكرر فيها المسند إليه فيصير نظير: قام زيد زيد. ولما كانوا حين جاءوا الرسول أو المؤمنين قالوا: آمنا ملتبسين بالكفر، كان ينبغي لهم أن لا يخرجوا بالكفر، لأن رؤيته صلى الله عليه وسلم) كافية في الإيمان. ألا ترى إلى قول بعضهم حين رأى الرسول: علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، مع ما يظهر لهم من خوارق الآيات وباهر الدلالات، فكان المناسب أنهم وإن كانوا دخلوا بالكفر أن لا يخرجوا به، بل يخرجون بالرسول مؤمنين ظاهرا وباطنا. فأكد وصفهم بالكفر بأن. كرر المسند إليه تنهبيا على تحققهم بالكفر وتماديهم عليه، وأن رؤية الرسول م تجد عنهم، ولم يتأثروا لها. وكذلك إن كان ضمير الخطاب في: وإذا جاءوكم قالوا آمنا، كان ينبغي لهم أن يؤمنوا ظاهرا وباطنا لما يرون من اختلاف المؤمنين وتصديقهم للرسول، والاعتماد على الله تعالى والرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا، وهذه حال من ينبغي موافقته. وكان ينبغي إذ شاهدوهم أن يتبعوهم على دينهم، وأن يكون إيمانهم بالقول موافقا لاعتقاد قلوبهم. وفي الآية دليل على جواز مجيء حالين لذي حال واحد، إن كانت الواو في: وهم، واو حال، لا واو عطف، خلافا لمن منع ذلك إلا في أفعل التفضيل. والظاهر أن الدخول والخروج حقيقة. وقيل: هما استعارة، والمعنى: تقلبوا في الكفر أي دخلوا في أحوالهم مضمرين الكفر وخرجوا به إلى أحوال أخر مضمرين له، وهذا هو التقلب. والحقيقة في الدخول انفصال بالبدن من خارج مكان إلى داخله، وفي الخروج انفصال بالبدن من داخله إلى خارجة.
* (والله أعلم بما كانوا يكتمون) * أي من كفرهم ونفاقهم. وقيل من صفة محمد صلى الله عليه وسلم) ونعته وفي هذا مبالغة في إفشاء ما كانوا يكتمونه من المكر
بالمسلمين والكيد والعداوة.
* (وترى كثيرا منهم يسارعون فى الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون) * يحتمل ترى أن تكون بصرية، فيكون يسارعون صفة: وأن تكون علمية، فيكون مفعولا ثانيا. والمسارعة: الشروع بسرعة. والإثم الكذب. والعدوان الظلم. يدل قوله عن قولهم الإثم على ذلك، وليس حقيقة الإثم الكذب، إذ الإثم هو المتعلق بصاحب المعصية، أو الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعدى بهم إلى غيرهم. أو الإثم الكفر، والعدوان الاعتداء. أو الإثم ما كتموه من الإيمان، والعدوان ما يتعدى فيها. وقيل: العدوان تعديهم حدود الله أقوال خمسة. والجمهور على أن السحت هو الرشا، وقيل: هو الربا، وقيل: هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث. وعلق الرؤية بالكثير منهم، لأن بعصهم كان لا يتعاطى ذلك المجموع أو بعضه، وأكثر استعمال المسارعة في الخير فكأن هذه المعاصي عندهم من قبيل الطاعات، فلذلك يسارعون فيها. والإثم يتناول كل معصية يترتب عليها العقاب، فجرد من ذلك العدوان وأكل السحت، وخصا بالذكر تعظيما لهاتين المعصيتين وهما: ظلم غيرهم، والمطعم الخبيث الذي ينشأ عنه عدم قبول الأعمال الصالحة. وقرأ أبو حيوة: العدوان بكسر ضمة العين، وتقدم الكلام في ما بعد بئس في قوله: * (بئسما اشتروا به) *.
* (لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) * لولا تحضيض يتضمن توبيخ العلماء والعباد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله تعالى والأمر بالمعروف. وقال العلماء: في ما في القرآن آية أشد توبيخا منها للعلماء. وقال الضحاك: ما في القرآن أخوف منها، ونحوه ابن عباس. والإثم هنا ظاهره الكفر، أو يراد به سائر أقوالهم التي يترتب عليها الإثم. وقرأ الجراح وأبو واقد: الربيون مكان الربانيون، وابن عباس بئس ما كانوا يصنعون بغير لام قسم. والظاهر أن الضمير في كانوا عائد على الربانيين، والأحبار إذ هم المحدث عنهم والموبخون بعدم النهي. قال الزمخشري: كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة
532

حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، وكان المعنى في ذلك: أن مواقع المعصية معها الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا أفرط في الإنكار كان أشد حالا من المواقع، وظهر بذلك الفرق بين ذم متعاطي الذنب، وبين تارك النهي عنه، حيث جعل ذلك عملا وهذا صناعة. وقد يقال: أنه غاير في ذلك لتفنن الفصاحة، ولترك تكرار اللفظ. وفي الحديث: * (ما من * رجل) * وأوحى إلى يوشع بهلاك أربعين ألفا من خيار قومه، وستين ألفا من شرارهم فقال: يا رب ما بال الأخيار؟ فقال: إنهم لم يغضبوا الغضبى، وواكلوهم وشاربوهم. وقال مالك بن دينار: أوحى الله إلى الملائكة أن عذبوا قرية كذا، فقالت الملائكة: إن فيها عبدك العابد فقال: أسمعوني ضجيجه، فإنه لم يتمعر وجهه أي: لم يحمر غضبا. وكتب بعض العلماء إلى عابد تزهد وانقطع في البادية: إنك تركت المدينة مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) ومهبط وحيه وآثرت البداوة. فقال: كيف لا أترك مكانا أنت رئيسه، وما رأيت وجهك تمعر في ذات الله قط يوما أو كلاما هذا معناه أو قريب من معناه. وأما زماننا هذا وعلماؤنا وعبادنا فحالهم معروف فيه، ولم نر في أعصارنا من يقارب السلف في ذلك غير رجل واحد وهو أستاذنا أبو جعفر بن الزبير، فإن له مقامات في ذلك مع ملوك بلاده ورؤسائهم حمدت فيها آثاره، ففي بعضها ضرب ونهبت أمواله وخربت دياره، وفي بعضها أنجاه من الموت فراره، وفي بعضها جعل السجن قراره.
* (لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون وقالت اليهود يد الله مغلولة) * نزلت في فنخاص قاله: ابن عباس. وقال مقاتل: فيه وفي ابن صوريا، وعازر بن أبي عازر قالوا ذلك. ونسب ذلك إلى اليهود، لأن هؤلاء علماؤهم وهم أتباعهم في ذلك. واليد في الجارحة حقيقة، وفي غيرها مجاز، فيراد بها النعمة تقول العرب: كم يدلي عند فلان، والقوة والملك والقدرة. قل: إن الفضل بيد الله قال الشاعر:
وأنت على أعباء ملكك ذو يد
أي ذو قدرة، والتأييد والنصر يد الله مع القاضي حين يقضي، والقاسم حين يقسم. وتأتي صلة (مما عملت أيدينا أنعاما) أي مما عملنا * (أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح) * أي الذي له عقدة النكاح. وظاهر قول اليهود إن لله يدا فإن كانوا أرادوا الجارحة فهو مناسب مذهبهم إذ هو التجسيم، زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية، قاعد على كرسي. وزعموا أنه فرغ من خلق السماوات والأرض يوم الجمعة، واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى للاستراحة. ورد الله تعالى ذلك بقوله: * (ولم يعى بخلقهن) * * (وما مسنا من لغوب) * وظاهر مساق الآية يدل على أنهم أرادوا بغل اليد وبسطها المجاز عن البخل والجود، ومنه * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) * ولا يقصد من يتكلم بهذا الكلام إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه، كأنهما كلامان متعاقبان على حقيقة واحدة، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها. وقال حبيب في المعتصم
533

* تعود بسط الكف حتى لو أنه
*
ثناها لقبض لم تجبه أنامله
*
كنى بذلك عن المبالغة في الكرم. وسبب مقالة اليهود ذلك على ما قال ابن عباس: هو أن الله كان يبسط لهم الرزق، فلما عصوا أمر الرسول وكفروا به كف عنهم ما كان يبسط لهم فقالوا ذلك. وقال قتادة: لما استقرض منهم قالوا ذلك وهو بخيل. وقيل: لما استعان بهم في الديات. وهذه الأسباب مناسبة لسياق الآية. وقال قتادة أيضا
: لما أعان النصارى بخت نصر المجوسي على تخريب بيت المقدس قالت اليهود: لو كان صحيحا لمنعنا منه، فيده مغلولة. وقال الحسن: مغلولة عن عذابهم فهي في معنى: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * وهذان القولان يدفعهما قوله: * (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) *. وقال الكلبي: كانوا مخصبين وقالوا ذلك عنادا واستهزاء وتهكما انتهى. والظاهر أن قولهم: يد الله مغلولة خبر، وأبعد من ذهب إلى أنه استفهام. أيد الله مغلولة حيث قتر المعيشة علينا، وإلى أنها ممسوكة عن العطاء ذهب: ابن عباس، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. أو عن عذابهم إلا تحلة القسم بقدر عبادتهم العجل قاله: الحسن. أو إلى أن يرد علينا ملكنا. قال الطبري: غلت أيديهم خبر، وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة. قاله الحسن: أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قوم قاله الزجاج. وقال مقاتل: أمسكت عن الخير. وقيل: هو دعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم. والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول: سبني سب الله دابره، لأن السب أصله القطع. (فإن قلت): كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ (قلت): المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم، فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكدا إلى نكدهم، وبما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم، وسوء الأحدوثة التي تخزيهم، وتمزق أعراضهم انتهى كلامه. وأخرجه جار على طريقة الاعتزال. والذي يظهر أن قولهم: يد الله مغلولة، استعارة عن إمساك الإحسان الصادر من المقهور على الإمساك. ولذلك جاؤوا بلفظ مغلولة، ولا يغل إلا المقهور، فجاء قوله: غلت أيديهم، دعاء عليهم بغل الأيدي، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون، لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي، فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضر ينزل بهم، وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم: يد الله مغلولة، وليست هذه المقالة بدعا منهم فقد قالوا: * (إن الله فقير ونحن أغنياء) *.
* (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) * يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون دعاء وبما قالوا يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ويحتمل أن يكون عاما فيما نسبوه إلى الله مما لا يجوز نسبته إليه، فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا. وقرأ أبو السمال: بسكون العين كما قالوا: في عصر عصرون. وقال الشاعر:
لو عصر منه البان والمسك انعصر
ويحسن هذه القراءة أنها كسرة بين ضمتين، فحسن التخفيف.
* (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) * معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة له، ولا يشبه بشيء من خلقه، ولا يكيف، ولا يتحيز، ولا تحله الحوادث، وكل هذا مقرر في علم أصول الدين. والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ، وأضاف ذلك إلى اليدين جاريا على طريقة العرب في قولهم: فلان ينفق بكلتا يديه. ومنه قوله:
534

* يداك يدا مجد فكف مفيدة
*
وكف إذا ما ضن بالمال تنفق
*
ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق. ومن نظر في كلام العرب عرف يقينا أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل، وقد استعملت العرب ذلك حيث لا يكون قال الشاعر:
* جاد الحمى بسط اليدين بوابل
*
شكرت نداه تلاعه ووهاده
*
وقال لبيد:
* وغداة ريح قد وزعت وقرة
*
قد أصبحت بيد الشمال زمامها
*
ويقال: بسط اليأس كفه في صدري، واليأس معنى لا عين وقد جعل له كفا. قال الزمخشري: ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به ثم قال: (فإن قلت): لم ثينت اليد في بل يداه مبسوطتان وهي مفردة في يد الله مغلولة؟ (قلت): ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له من نفسه، وأن يعطيه بيديه جميعا، فبنى المجاز على ذلك انتهى. وكلامه في غاية الحسن. وقيل عن ابن عباس: يداه نعمتاه، فقيل: هما مجازان عن نعمة الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة سلامة الأعضاء والحواس ونعمة الرزق والكفاية، أو الظاهرة والباطنة، أو نعمة المطر ونعمة النبات، وما ورد مما يوهم التجسيم كهذا. وقوله: * (لما خلقت بيدى) * و * (مما عملت أيدينا) * و * (يد
الله فوق أيديهم) * و * (ولتصنع على عينى) * و * (تجرى بأعيننا) * و * (هالك إلا وجهه) * ونحوها. فجمهور الأمة أنها تفسر على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين الكلام.
وقال قوم منهم القاضي أبو بكر بن الطيب: هذه كلها صفات زائدة على الذات، ثابتة لله تعالى من غير تشبيه ولا تجديد. وقال قوم منهم الشعبي، وابن المسيب، والثوري: نؤمن بها ونقر كما نصت، ولا نعين تفسيرها، ولا يسبق النظر فيها. وهذان القولان حديث من لم يمعن النظر في لسان العرب، وهذه المسألة حججها في علم أصول الدين. وقرأ عبد الله: بسيطتان يقال: يد بسيطة مطلقة بالمعروف. في مصحف عبد الله: بسطان، يقال: يده بسط بالمعروف وهو على فعل كما تقول: ناقة صرح، ومشية سجح، ينفق كيف يشاء هذا تأكيد للوصف بالسخاء، وأنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته، ولا موضع لقوله تنفق من الإعراب إذ هي جملة مستأنفة، وقال الحوفي: يجوز أن يكون خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في مبسوطتان انتهى. ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على المبتدأ، أو على ذي الحال محذوفا التقدير: ينفق بهما. قال الحوفي: كيف سؤال عن حال، وهي نصب بيشاء انتهى. ولا يعقل هنا كونها سؤالا عن حال، بل هي في معنى الشرط كما تقول: كيف تكون أكون، ومفعول يشاء محذوف، وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم، كما يدل في قولك: أقوم إن قام زيد على جواب الشرط والتقدير: ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق، كما تقول: كيف تشاء أن أضربك أضربك، ولا يجوز أن يعمل كيف ينفق لأن اسم بالشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جارا، فقد يعمل في بعض أسماء الشرط. ونظير ذلك قوله: * (فيبسطه فى السماء كيف يشاء) *.
535

* (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) * علق بكثير، لأن منهم من آمن ومن لا يزداد إلا طغيانا، وهذا إعلام للرسول بفرط عتوهم إذ كانوا ينبغي لهم أن يبادروا بالإيمان بسبب ما أخبرهم به الله تعالى على لسان رسوله من الأسرار التي يكتمونها ولا يعرفها غيرهم، لكن رتبوا على ذلك غير مقتضاه، وزادهم ذلك طغيانا وكفروا، وذلك لفرط عنادهم وحسدهم. وقال الزجاج: كلما نزل عليك شيء كفروا به. وقال مقاتل: وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدماء. وقيل: المراد بالكثير علماء اليهود. وقيل: إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر.
* (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) * قيل: الضمير في بينهم عائد على اليهود والنصارى، لأنه جرى ذكرهم في قوله: * (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) * ولشمول قوله: * (من أهل الكتاب) * للفريقين وهذا قول: الحسن، ومجاهد. وقيل: هو عائد على اليهود، إذ هم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة، وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية. والذي يظهر أن المعنى لا يزالون متباغضين متعادين، فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك، ولا يقدرون على ضررك، ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك، لأن الطائفتين لا تواد بينهم فيجتمعان على حربك. وفي ذلك إخبار بالمغيب، وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيشا يهود ونصارى مذ كان الإسلام إلى هذا الوقت. وأشار إلى هذا المعنى الزمخشري بقوله: فكلهم أبدا مختلف وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم، ولا تعاضد انتهى. والعداوة أخص من البغضاء، لأن كل عدو مبغض، وقد يبغض من ليس بعدو. وقال ابن عطية: وكأن العداوة شيء يشهد يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء لا تتجاوز النفوس انتهى كلامه.
* (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) * قال قوم: هو على حقيقته وليس استعارة، وهو أن العرب كانت تتواعد للقتال، وعلامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة، فيتبادرون والجيش يسري ليلا فيوقد من مر بهم ليلا النار فيكون إنذارا، وهذه عادة لنا مع الروم على جزيرة الأندلس، يكون قريبا من ديارهم رئية للمسلمين مستخف في جبل في غار، فإذا خرج الكفار لحرب المسلمين أوقد نار، فإذا رآها رئية آخر قد أعد للمسلمين في قريب من ذلك الجبل أوقد نارا، وهكذا إلى أن يصل الخبر للمسلمين في أقرب زمان، ويعرف ذلك من أي جهة نهر من الكفار، فيعد المسلمون للقائهم. وقيل: إذا تراءى الجمعان وتنازل العسكران أوقدوا بالليل نارا مخافة البيات، فهذا أصل نار الحرب. وقيل: كانوا إذا تحالفوا على الجد في حربهم أوقدوا نارا وتحالفوا، فعلى كون النار حقيقة يكون معنى إطفائها أنه ألقى الله الرعب في قلوبهم فخافوا أن يغشوا في منازلهم فيضعون، فلما تقاعدوا عنهم أطفؤها، وأضاف تعالى الإطفاء إليه إضافة المسبب إلى سببه الأصلي.
وقال الجمهور: هو استعارة، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال، وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك، وتفرق آرائهم، وحل عزائمهم، وتفرق كلمتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم. فهم لا يريدون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا، ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وقيل: خالفوا اليهود فبعث الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم بطريق الرومي، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين. وقال قوم: هذا مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة، والتهاب شواظ قلوبهم، وغليان صدورهم. ومنه الآن حمى الوطيس للجد في الحرب، وفلان مسعر حرب يهيجها ببسالته، وضرب الإطفاء مثلا لإرغام أنوفهم وخذلانهم في كل موطن. قال مجاهد: هي تبشير للرسول بأنهم كلما حاربوه نصر عليهم، وإشارة إلى حاضريه من اليهود. وقال السدي والربيع وغيرهما: هي إخبار عن أسلافهم منذ عصور هد الله ملكهم، فلا ترفع لهم راية إلى يوم القيامة، ولا يقاتلون جميعا إلا في قرى محصنة. وقال قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس.
* (ويسعون فى الارض فسادا) * يحتمل أن يريد بالسعي نقل
536

الإقدام أي: لا يكتفون في إظهار الفساد إلا بنقل أقدامهم بعضهم لبعض، فيكون أبلغ في الاجتهاد، والظاهر أنه يراد به العمل. والفعل أي: يجتهدون، في كيد أهل الإسلام ومحوذ ذكر الرسول من كتبهم. والأرض يجوز أن يراد بها الجنس، أو أرض الحجاز، فتكون أل فيه للعهد. قال ابن عباس ومقاتل: فسادهم بالمعاصي. وقال الزجاج: بدفع الإسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم. وقيل: بسفك الدماء واستحلال المحارم. وقيل: بالكفر. وقيل: بالظلم، وكل هذه الأقوال متقاربة.
* (والله لا يحب المفسدين) * ظاهر المفسدين العموم، فيندرج هؤلاء فيهم. وقيل: أل للعهد، وهم هؤلاء. وانتفاء المحبة كناية عن كونه لا يعود عليهم بفضله وإحسانه، فهؤلاء يثيبهم. وإذا لم يثبهم فهو معاقبهم، إذ لا واسطة بين العقاب والثواب.
* (ولو أن أهل الكتاب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولادخلناهم جنات النعيم) *. قيل: المراد أسلافهم، ودخل فيها المعاصرون بالمعنى. والغرض الإخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم، والذي يظهر أنهم معاصرو الرسول صلى الله عليه وسلم)، وفي ذلك ترغيب لهم في الدخول في الإسلام. وذكر شيئين وهما: الإيمان، والتقوى. ورتب عليهم شيئين: قابل الإيمان بتكفير السيئات إذ الإسلام يجب ما قبله، وترتب على التقوى وهي امتثال الأوامر واجتناب المناهي دخول جنة النعيم، وإضافة الجنة إلى النعيم تنبيها على ما كانوا يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا. وقيل: واتقوا أي: الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم)، وبعيسى عليه السلام. وقيل: المعاصي التي لعنوا بسببها. وقيل: الشرك. قال الزمخشري: ولو أنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم) وبما جاء به، وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان، لكفرنا عنهم تلك السيئات، فلم نؤاخذهم بها، ولأدخلناهم مع المسلمين الجنة. وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى، وأن الإيمان لا ينجى ولا يسعد إلا مشفوعا بالتقوى كما قال الحسن: هذا العمود فأين الأطناب؟ انتهى كلامه. وفيه من الاعتزال. وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان، وقوله: وأن الإيمان لا ينجى ولا يسعد إلا مشفوعا بالتقوى.
* (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * هذا استدعاء لإيمانهم، وتنبيه لهم على اتباع ما في كتبهم، وترغيب لهم في عاجل الدنيا وبسط الرزق عليهم فيها، إذ أكثر ما في التوراة من الموعود به على الطاعات هو الإحسان إليهم في الدنيا. ولما رغبهم في الآية قبل في موعود الآخرة من تكفير السيئات وإدخالهم الجنة، رغبهم في هذه الآية في موعود الدنيا ليجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة، وكان تقديم موعود الآخرة أهم لأنه هو الدائم الباقي، والذي به النجاة السرمدية، والنعيم الذي لا ينقضي. ومعنى إقامة التوراة والإنجيل: هو إظهار ما انطوت عليه من الأحكام والتبشير بالرسول والأمر باتباعه كقولهم: أقاموا السوق أي حركوها وأظهروها، وذلك تشبيه بالقائم من الناس إذ هي أظهر هيآته. وفي قوله: والإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب. وظاهر قوله: وما أنزل إليهم من ربهم، العموم في الكتب الإلهية مثل: كتاب أشعياء، وكتاب حزقيل، وكتاب دانيال، فإنها مملوءة من البشارة بمبعث الرسول. وقيل: ما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن. وظاهر قوله: لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أنه استعارة عن سبوغ النعم عليهم، وتوسعة الرزق عليهم، كما يقال: قد عمه الرزق من فرقه إلى قدمه ولا فوق ولا تحت حكاه الطبري والزجاج. وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي: لأعطتهم السماء مطرها وبركتها، والأرض نباتها كما قال تعالى: * (لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض) * وذكر النقاش من فوقهم من رزق الجنة، ومن تحت أرجلهم من روق الدنيا إذ هو من نبات الأرض. وقيل: من فوقهم كثرة
537

الأشجار المثمرة، ومن تحت أرجلهم الزرع المغلة. وقيل: من فوقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط منها على الأرض، وتحت أرجلهم. وقال تاج القراء: من فوقهم ما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم، ومن تحت أرجلهم ما يأتيهم من سفلتهم وعوامهم، وعبر بالأكل عن الأخذ، لأنه أجل منافعه وأبلغ ما يحتاج إليه في ديمومة الحياة.
* (منهم أمة مقتصدة) * الضمير في منهم يعود على أهل الكتاب. والأمة هنا يراد بها الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله: وكثير منهم. والاقتصاد من القصد وهو الاعتدال، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب أي: كانت أولا جائزة ثم اقتصدت. قيل: هم مؤمنو الفريقين عبد الله بن سلام وأصحابه، وثمانية وأربعون من النصارى. واقتصادهم هو الإيمان بالله تعالى. وقال مجاهد: المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديما وحديثا، ونحوه قول ابن زيد: هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب. وذكر الزجاج وغيره: أنها الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتمردين المجاهدين. وقال الزمخشري: مقتصدة حالها أمم في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم). وقال الطبري: من بني إسرائيل من يقتصد في عيسى فيقول: هو عبد الله ورسوله وروح منه، والأكثر منهم غلافية فقال بعضهم: هو الإله، وعلى هذا مشى الروم ومن دخل بآخره في ملة عيسى. وقال بعضهم وهو الأكثر من بني إسرائيل: هو آدمي كغيره لغير رشده، فتلخص في الاقتصاد أهو في حق عيسى؟ أو في المناصبة؟ أو في الإيمان؟ فإن كان في المناصبة فهل هو بالنسبة إلى الرسول وحده أم بالنسبة إلى الأنبياء؟ قولان. وإن كان في الإيمان فهل هو في إيمان من آمن بالرسول من الفريقين أو من آمن قديما وحديثا؟ قولان.
* (وكثير منهم ساء ما يعملون) * هذا تنويع في التفصيل. فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة، جاء الخبر الجار والمجرور، والخبر الجملة من قوله: ساء ما يعملون، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى. وذلك أن الاقتصاد جعل وصفا، والوصف ألزم للموصوف من الخبر، فأتى بالوصف اللازم في الطائفة الممدوحة، وأخبر عنها بقوله: منهم، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا، فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل، ثم قد تزول هذه النسبة بالإسلام فيكون التعبير عنهم والإخبار بأنهم منهم، باعتبار الحالة الماضية. وأما في الجملة الثانية فإنهم منهم حقيقة لأنهم كفار، فجاء الوصف بالإلزام، ولم يجعل خبرا، وجعل خبر الجملة التي هي ساء ما يعملون، لأن الخبر ليس من شأنه اللزوم، فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإخبار بمضمون هذه الجملة، واختار الزمخشري في ساء أن تكون التي لا تنصرف، فإن فيه التعجب كأنه قيل: ما أسوأ عملهم ولم يذكر غير هذا الوجه. واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة تقول: ساء الأمر يسوء، وأجاز أن تكون غير المتصرفة فتستعمل استعمال نعم وبئس كقوله: ساء مثلا. فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول أي ساء ما كانوا يعملون بالمؤمنين، وغير المتصرفة تحتاج
إلى تمييز أي: ساء عملا ما كانوا يعملون.
* (يعملون ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) * هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الإنساني، وأمر بتليغ ما أنزل إليه وهو صلى الله عليه وسلم) قد بلغ ما أنزل إليه، فهو أمر بالديمومة. قال الزمخشري: جميع ما أنزل إليك، وأي شيء أنزل غير مراقب في تبليغه أحدا ولا خائف أن ينالك مكروه. وقال ابن عطية: أمر من الله لرسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال، لأنه قد قال: بلغ، فإنما أمر في هذه الآية أن لا يتوقف على شيء مخافة أحد، وذلك أن رسالته عليه السلام تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وفساد أحوالهم، فكان يلقى منهم عنتا، وربما خافهم أحيانا قبل نزول هذه الآية. وعن ابن عباس عنه عليه السلام: (لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية). وقيل: هو أمر بتبليغ خاص أي: ما أنزل إليك من الرجم والقصاص الذي غيره اليهود في
538

التوراة والنصارى في الإنجيل. وقيل: أمر بتبليغ أمر زينب بنت جحش ونكاحها. وقيل: بتبليغ الجهاد والحث عليه، وأن لا يتركه لأجل أحد. وقيل: أمر بتبليغ معائب آلهتهم، إذ كان قد سكت عند نزول قوله: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) * الآية عن عيبها وكل واحد من هذا التبليغ الخاص. قيل: أنها نزلت بسببه، والذي يظهر أنه تعالى أمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بتبليغ ما أنزل إليه في أمرهم وغيره من غير مبالاة بأحد، لأن الكلام قبل هذه الآية وبعدها هو معهم، فيبعد أن تكون هذه الآية أجنبية عما قبلها وعما بعدها.
* (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * أي وإن لم تفعل بتبليغ ما أنزل إليك، وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط، إذ صار المعنى: وإن لم تفعل لم تفعل، والجواب لا بد أن يغاير الشرط حتى يترتب عليه. فقال الزمخشري: فيه وجهان: أحدهما: أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالة وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا، كان أمرا شنيعا. وقيل: إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كلمة واحدة فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها، كما عظم قتل النفس بقوله: * (فكأنما قتل الناس جميعا) * والثاني: أن يراد فإن لم تفعل ذلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب، فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده قوله عليه السلام: * (فأوحى * الله إليك * إن لم * تبلغ) *. وقال ابن عطية: أي إن تركت شيئا فكأنك قد تركت الكل، وصار ما بلغت غير معتد به. فمعنى: وإن لم تفعل، وإن لم تستوف. ونحو هذا قول الشاعر:
* سئلت فلم تبخل ولم تعط نائلا
*
فسيان لا ذم عليك ولا حمد
*
أي إن لم تعط ما يعد نائلا وألا تتكاذب البيت. وقال أبو عبد الله الرازي: أجاب الجمهور بأن لم تبلغ واحدا منها كنت كمن لم يبلغ شيئا. وهذا ضعيف، لأن من أتى بالبعض وترك البعض. فإن قيل: إنه ترك الكل كان كاذبا، ولو قيل: إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل، فهذا هو المحلل الممتنع، فسقط هذا الجواب انتهى. وما ضعف به جواب الجمهور لا يضعف به، لأنه قال: فإن قيل أنه ترك الكل كان كاذبا، ولم يقولوا ذلك إنما قالوا: إن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداها جميعا. كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لا يؤمن بكلها لأداء كل منها بما يدلي به غيرها، وكونها لذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن، فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتد به، وأما ما ذكر من أن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل محال ممتنع، فلا استحالة فيه. ولله تعالى أن يرتب على الذنب اليسير العذاب العظيم، وله تعالى أن يعفو عن الذنب العظيم، ويؤاخذ بالذنب الحقير: * (عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون) * وقد ظهر ذلك في ترتيب العقوبات في الأحكام الشرعية، رتب على من أخذ شيئا بالاختفاء والتستر، قطع اليد مع رد ما أخذه أو قيمته، ورتب على من أخذ شيئا بالقهر والغلبة والغصب رد ذلك الشيء أو قيمته إن فقد دون قطع اليد. وقال أبو عبد الله الرازي: والأصح عندي أن يقال: إن هذا خرج على قانون قوله: أنا أبو النجم وشعرى شعري، ومعناه: أن شعري بلغ في الكمال والفصاحة والمتانة بحيث متى قيل فيه انه شعري
539

فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها، وهذا الكلام مفيد المبالغة التامة من هذا الوجه، فكذا هاهنا. قال: فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته، يعني: أنه لا يمكن أن يصف البليغ بترك التهديد بأعظم من أنه ترك التعظيم، فكان ذلك تنبيها على التهديد والوعيد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر: رسالاته على الجمع. وقرأ باقي السبعة: على التوحيد.
* (والله يعصمك من الناس) * أي لا تبال في التبليغ، فإن الله يعصمك فليس لهم تسليط على قتلك لا بمؤامرة، ولا باغتيال، ولا باسيتلاء عليك بأخذ وأسر. قال محمد بن كعب: نزلت بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم) ليقتله انتهى، وهو غورث بن الحارث، وذلك في غزوة ذات الرقاع.
وروى المفسرون أن أبا طالب كان يرسل رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل قوله: والله يعصمك من الناس، فقال: إن الله قد عصمني من الجن والإنس، فلا أحتاج إلى من يحرسني. وقال ابن جريج: كان يهاب قريشا فلما نزلت استلقى وقال: * (من شاء) *. وروى أبو أمامة حديث ركانة من: ولد هاشم مشركا أفتك الناس وأشدهم، تصارع هو والرسول، فصرعه الرسول صلى الله عليه وسلم) ثلاثا ودعاه إلى الإسلام، فسأله آية، فدعا الشجرة فأقبلت إليه. وقد انشقت نصفين، ثم سأله ردها إلى موضعها فالتأمت وعادت، فالتمسه أبو بكر وعمر فدلا عليه أنه خرج إلى واد أضم حيث ركانة، فسارا نحوه واجتمعا به، وذكرا أنهما خافا الفتك من
ركانة، فأخبرهما خبره معه وضحك، وقرأ والله يعصمك من الناس. وهذا ما قبله يدل على أن ذلك نزل بمكة أو في ذات الرقاع، والصحيح أنها نزلت بالمدينة والرسول بها مقيم شهرا، وحرسه سعد وحذيفة، فنام غط، فنزلت، فأخرج إليهما رأسه من قبة أدم وقال: * (انصرفوا * أيها الناس * فقد) * وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم: وأما شج جبينه وكسر رباعيته يوم أحد فقيل: الآية نزلت بعد أحد، فأما إن كانت قبله فلم تتضمن العصمة هذا الابتلاء ونحوه من أذى الكفار بالقول، بل تضمنت العصمة من القتل والأسر، وأما مثل هذه فيها الابتلاء الذي فيه رفع الدرجات واحتمال كل الأذى دون النفس في ذات الله، وابتلاء الأنبياء أشد، وما أعظم تكليفهم. وأتى بلفظ يعصمك لأن المضارع يدل على الديمومة والاستمرار، والناس عام يراد به الكفار يدل عليه ما بعده. وتضمنت هذه الجملة الإخبار بمغيب ووجد على ما أخبر به، فلم يصل إليه أحد بقتل ولا أسر مع قصدا لا عداء له مغالبة واغتيالا. وفيه دليل على صحة نبوته، إذ لا يمكن أن يكون إخباره بذلك إلا من عند الله تعالى، وكذا جميع ما أخبر به.
* (تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين) * أي إنما عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهتدي أبدا، فيكون خاصا. قال ابن عطية: أما على العموم على أن لا هداية في الكفر، ولا يهدي الله الكافر في سبيل كفره. وقال الزمخشري: ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله، بل من الهلاك انتهى. وهو قول بعضهم لا يعينهم على بلوغ غرضهم منك. وقيل: المعنى لا يهديهم إلى الجنة. والظاهر من الهداية إذا أطلقت ما فسرناها به أولا.
* (قل ياأهل * أهل الكتاب * لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم) * قال رافع بن سلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم، وإنك تؤمن بالتوراة ونبوة موسى، وأن ذلك حق؟ قال: * (بلى ولاكنكم) * فقالوا: إنا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق، ولا نصدقك، ولا نتبعك فنزلت. وتقدم الكلام على إقامة التوراة والإنجيل وما أنزل، فأغنى عن إعادته. ونفى أن يكونوا على شيء جعل ما هم عليه عدما صرفا
540

لفساده وبطلانه فنفاه من أصله، أو لاحظ فيه، صفة محذوفة أي: على شيء يعتد به، فيتوجه النفي إلى الصفة دون الموصوف.
* (ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) * تقدم تفسير هذه الجملة.
* (فلا تأس على القوم الكافرين) * أي لا تحزن عليهم. فأقام الظاهر مقام المضمر تنبيها على لعلة الموجبة لعدم التأسف، أو هو عام فيندرجون فيه. وقيل: في قوله: * (حتى تقيموا التوراة) * جمع في الضمير، والمقصود التفصيل أي: حتى يقيم أهل التوراة التوراة، ويقيم أهل الإنجيل الإنجيل، ولا يحتاج إلى ذلك إن أريد ما في الكتابين من التوحيد، فإن الشرائع فيه متساوية.
* (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم) * تقدم في البقرة تفسير مثل هذه الآية. وقرأ عثمان، وأبي وعائشة، وابن جبير، والجحدري: والصابئين. قال الزمخشر: وبها قرأ ابن كثير. وقرأ الحسن، والزهري: والصابئون بكسر الباء وضم الياء، وهو من تخفيف الهمز كقراءة: يستهزئون. وقرأ القراء السبعة: والصابئون بالرفع، وعليه مصاحف الأمصار، والجمهور. وفي توجيه هذه القراءة وجوه: أحدها: مذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة: أنه مرفوع بالابتداء، وهو منوي به التأخير، ونظيره: إن زيدا وعمرو قائم، التقدير: وإن زيدا قائم وعمرو قائم، فحذف خبر عمرو لدلالة خبر إن عليه، والنية بقوله: وعمرو، التأخير. ويكون عمرو قائم بخبره هذا المقدر معطوفا على الجملة من أن زيدا قائم، وكلاهما إلا موضع له من الإعراب. الوجه الثاني: أنه معطوف على موضع اسم إن لأنه قبل دخول إن كان في موضع رفع، وهذا مذهب الكسائي والفراء. أما الكسائي فإنه أجاز رفع المعطوف على الموضع سواء كان الاسم مما خفي فيه الإعراب، أو مما ظهر فيه. وأما الفراء فإنه أجاز ذلك بشرط خفاء الإعراب. واسم إن هنا خفي فيه الإعراب. الوجه الثالث: أنه مرفوع معطوف على الضمير المرفوع في هادوا: وروي هذا عن الكسائي. ورد بأن العطف عليه يقتضي أن الصابئين تهودوا، وليس الأمر كذلك. الوجه الرابع: أن تكون إن بمعنى نعم حرف جواب، وما بعده مرفوع بالابتداء، فيكون والصابئون معطوفا على ما قبله من المرفوع، وهذا ضعيف. لأن ثبوت أن بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين، وعلى تقدير ثبوت ذلك من لسان العرب فتحتاج إلى شيء يتقدمها يكون تصديقا له، ولا تجيء ابتدائية أول الكلام من غير أن تكون جوابا لكلام سابق. وقد أطال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه ونصرته، وذلك مذكور في علم النحو، وأورد أسئلة وجوابات في الآية إعرابية تقدم نظيرها في البقرة. وقرأ عبد الله: يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون.
* (لقد أخذنا ميثاق بنى إسراءيل وأرسلنا إليهم رسلا) * هذا إخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه تعالى عليهم، وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم، والذين هم بحضرة الرسول هم أخلاف أولئك، فغير بدع ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان، إذ ذاك شنشنة من أسلافهم.
* (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) * تقدم تفسير مثل هذا في البقرة. وقال الزمخشري هنا: (فإن قلت): أين جواب الشرط؟ فإن قوله فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ناب عن الجواب، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين، ولأنه لا يحسن أن تقول: إن أكرمت أخي أخاك أكرمت. (قلت): هو محذوف يدل عليه قوله: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون، كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه. وقوله: فريقا كذبوا، جواب مستأنف لسؤال قاتل: كيف فعلوا برسلهم؟ انتهى قوله: فإن قلت: أين جواب الشرط؟ سمي قوله كلما جاءهم رسول شرطا وليس بشرط، بل كل منصوب على الظرف لإضافتها إلى المصدر المنسبك من ما المصدرية الظرفية، والعامل فيها هو ما يأتي بعدما المذكورة، وصلتها من الفعل كقوله: * (كلما * نضجت جلودهم بدلناهم) * كلما * (ألقوا فيها) * وأجمعت
العرب على أنه لا يجزم بكلما، وعلى تسليم تسميته شرطا فذكر أن قوله: فريقا كذبوا ينبو عن الجواب
541

لوجهين: أحدهما: قوله: لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين، وليس كما ذكر، لأن الرسول في هذا التركيب لا يراد به الواحد، بل المراد به الجنس. وأي نجم طلع، وإذا كان المراد به الجنس انقسم إلى الفريقين: فريق كذب، وفريق قتل. والوجه الثاني قوله: ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخي أخاك أكرمت، يعني أنه لا يجوز تقديم منصوب فعل للجواب عليه. وليس كما ذكر، بل مذهب البصريين والكسائي إن ذاك جائز حسن، ولم يمنعه إلا الفراء وحده، وهذا كله على تقدير تسليم إن كلما شرط، وإلا فلا يلزم أن يعتذر بهذا، بل يجوز تقديم منصوب الفعل العامل في كلما عليه. فتقول في كلما جئتني أخاك أكرمت، وعموم نصوص النحويين على ذلك، لأنهم حين حصر، وأما يجب تقديم المفعول به على العامل وما يجب تأخيره عنه قالوا: وما سوى ذلك يجوز فيه التقديم على العامل والتأخير عنه، ولم يستثنوا هذه الصورة، ولا ذكروا فيها خلافا. فعلى هذا الذي قررناه يكون العامل في كلما قوله: كذبوا، وما عطف عليه ولا يكون محذوفا. وقال الحوفي وابن عطية: كلما ظرف، والعامل فيه كذبوا. وقال أبو البقاء: كذبوا جواب كلما انتهى. وجاء بلفظ يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعا للقتل، واستحضارا لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها قاله الزمخشري. ويحسن مجيئه أيضا كونه رأس آية، والمعنى: أنهم يكذبون فريقا فقط، وقتلوا فريقا ولا يقتلونه إلا مع التكذيب، فاكتفى بذكر القتل عن ذكر التكذيب أي: اقتصر ناس على تكذيب فريق، وزاد ناس على التكذيب القتل.
* (وحسبوا * أن لا * تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم) * قال ابن الأنباري: نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل البعثة، فلما بعث الرسول كذبوه بغيا وحسدا، فعموا وصموا لمجانبة الحق، ثم تاب الله عليهم أي: عرضهم للتوبة بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم)، وإن لم يتوبوا ثم عموا وصموا كثير منهم لأنهم لم يجمعوا كلهم على خلافه انتهى. والضمير في: وحسبوا، عائد على بني إسرائيل، وحسبانهم سببه اغترارهم بإمهال الله حين كذبوا الرسل وقتلوا، أو وقوع كونهم أبناء الله وأحباءه في أنفسهم، وأنهم لا تمسهم النار إلا مقدار الزمان الذي عبدوا فيه العجل، وإمداد الله لهم بطول الأعمار وسعة الأرزاق، أو وقوع كون الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى في أنفسهم، واعتقادهم امتناع النسخ على شريعة موسى، فكل من جاءهم من رسول كذبوه وقتلوه خمسة أقوال. والفتنة هنا: الابتلاء والاختبار. فقيل: في الدنيا بالقحط والوباء وهو الطاعون، أو القتل، أو العداوة، أو ضيق الحال، أو القمل، والضفادع، والدم، أو التيه، وقتال الجبارين، أو مجموع ما ذكر أقوال ثمانية. وقيل: في الآخرة بالافتضاح على رؤوس الأشهاد، أو هو يوم القيامة وشدته، أو العذاب بالنار والخلود ثلاثة أقوال. وقيل: الفتنة ما نالهم في الدنيا وفي الآخرة، وسدت أن وصلتها مسد مفعولي حسب على مذهب سيبويه. وقرأ الحرميان وعاصم وابن عامر: بنصب نون تكون بأن الناصبة للمضارع، وهو على الأصل إذ حسب من الأفعال التي في أصل الوضع لغير المتيقن. وقرأ النحويان وحمزة برفع النون، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة المنفية في موضع الخبر. نزل الحسبان في صدورهم منزلة العلم، وقد استعملت حسب في المتيقن قليلا قال الشاعر:
* حسبت التقى والجود خير تجارة
*
رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا
*
وتكون هنا تامة.
* (ثم عموا وصموا كثير منهم) * قالت جماعة: توبتهم هذه ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول وعماهم وصممهم. قيل: ولوجهم في شهواتهم فلم يبصروا الحق، ولم يسمعوا داعي الله. وقالت جماعة: توبتهم يبعث عيسى عليه السلام. وقالت جماعة: بعث محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: الأول: في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ولتوفيق كثير منهم للإيمان. والثاني: في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم) آمن جماعة به، وأقام
542

الكثير منهم على كفرهم. وقيل: الأول عبادة العجل ثم التوبة عنه، ثم الثاني بطلب الرؤية وهي محال غير معقول في صفات الله قاله: الزمخشري جريا علي مذهبه الاعتزالي في إنكار رؤية الله تعالى. وقال القفال في سورة بني إسرائيل؛ ما يجوز أن يكون تفسير لهذه الآية وقيل؛ الأول بعد موسى ثم تاب عليهم ببعث عيسى. والثاني بالكفر بالرسول. والذي يظهر أن المعنى حسب بنو إسرائيل حيث هم أبناء الرسل والأنبياء أن لا يبتلوا إذا عصوا الله، فعصوا الله تعالى وكنى عن العصيان بالعمى والصمم، ثم تاب الله عليهم إذ حلت بهم الفتنة برجوعهم عن المعصية إلى طاعة الله تعالى، وبدىء بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع أن لا يبصر من أتاه بها من عند الله، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه، فعرض لهم الصمم عن كلامه. ولما كانوا قبل ذلك على طريق الهداية، ثم عرض لهم الضلال، نسب الفعل إليهم وأسند لهم ولم يأت، فأعماهم الله وأصمهم كما جاء في قوله: * (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم * فأصمهم وأعمى أبصارهم) * إذ هذا فيمن لم تسبق له هداية، وأسند الفعل الشريف إلى الله تعالى في قوله: * (ثم تاب الله عليهم) * لم يأت، ثم تابوا إظهارا للاعتناء بهم ولطفه تعالى بهم. وفي العطف بالفاء دليل على أنهم يعقب الحسبان عصيانهم وضلالهم، وفي العطف بثم دليل على أنهم تمادوا في الضلال زمانا إلى أن تاب الله عليهم. وقرأ النخعي وابن وثاب بضم العين والصاد وتخفيف الميم من عموا، جرت مجرى زكم الرجل وأزكمه، وحم وأحمه، ولا يقال: زكمه الله ولاحمه الله، كما لا يقال: عميته ولا صممته، وهي أفعال جاءت مبنية للمفعول الذي لم يسم فاعله وهي متعدية ثلاثية، فإذا بنيت للفاعل صارت قاصرة، فإذا أردت بناءها للفاعل متعدية أدخلت همزة التنقل وهي نوع غريب في الأفعال. وقال الزمخشري: وعموا وصموا بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم أي: رماهم بالعمى والصمم كما يقال: نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك انتهى. وارتفاع كثير
على البدل من المضمر. وجوزوا أن يرتفع على الفاعل، والواو علامة للجمع لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث، ولا ينبغي ذلك لقلة هذه اللغة. وقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أي: العمى والصم كثير منهم. وقيل: مبتدأ والجملة قبله في موضع الخبر. وضعف بأن الفعل قد وقع موقعه، فلا ينوي به التأخير. والوجه هو الإعراب الأول.
وقرأ ابن أبي عبلة: كثيرا منهم بالنصب.
* (والله بصير بما يعملون) * هذا فيه تهديد شديد، وناسب ختم الآية بهذه الجملة المشتملة على بصير، إذ تقدم قبله فعموا.
* (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) * تقدم شرح هذه الجملة وقائلو ذلك: هم اليعقوبية، زعموا أن الله تعالى تجلى في شخص عيسى عليه السلام.
* (وقال المسيح يابنى * بنى إسراءيل * اعبدوا الله ربى وربكم) * رد الله تعالى مقالتهم بقول من يدعون إلهيته وهو عيسى، أنه لا فرق بينه وبينهم في أنهم كلهم مربوبون، وأمرهم بإخلاص العبادة، ونبه على الوصف الموجب للعبادة وهو الربوبية. وفي ذلك رد عليهم في فساد دعواهم، وهو أن الذي يعظمونه ويرفعون قدره عما ليس له يرد عليهم مقالتهم، وهذا الذي ذكره تعالى عنه هو مذكور في إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به، وهو قول المسيح: يا معشر بني المعمودية. وفي رواية: يا معشر الشعوب قوموا بنا إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم، ومخلصي ومخلصكم.
* (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) * الظاهر أنه كلام المسيح، فهو داخل تحت القول. وفيه أعظم ردع منه عن عبادته، إذ أخبر أنه من عبد غير الله منعه الله دار من أفرده بالعبادة، وجعل مأواه النار. * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) *. وقيل: هو من كلام الله تعالى مستأنف، أخبر بذلك على سبيل الوعيد والتهديد. وفي الحديث الصحيح من حديث عتبان بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم): * (أن الله حرم * النار على * من * قال لا * إلاه إلا الله * تولوا فثم وجه الله) *.
* (وما للظالمين من أنصار) * ظاهره أنه من كلام عيسى، أخبرهم أنه من تجاوز ووضع الشيء غيره موضعه فلا ناصر له، ولا مساعد فيما افترى وتقول، وفي ذلك ردع لهم
543

عما انتحلوه في حقهم من دعوى أنه إله، وأنه ظلم إذا جعلوا ما هو مستحل في العقل واجبا وقوعه، أو فلا ناصر له ولا منجي من عذاب الله في الآخرة. ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، أخبر أنهم ظلموا وعدلوا عن الحق في أمر عيسى وتقولهم عليه، فلا ناصر لهم على ذلك.
* (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) * هؤلاء هم الملكية من النصارى القائلون بالتثليث. وظاهر قوله: ثالث ثلاثة، أحد آلهة ثلاثة. قال المفسرون: أرادوا بذلك أن الله تعالى وعيسى وأمه آلهة ثلاثة، ويؤكده * (قلت للناس اتخذونى وأمى إلاهين من دون الله قال) * * (ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) * * (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) * * (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) *. وحكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أب، وابن، وروح قدس. وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة. وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالحمر، أو اختلاط اللبن بالماء، وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد. وهذا معلوم البطلان ببديهة العقل أن الثلاثة لا تكون واحدا، وأن الواحد لا يكون ثلاثة، ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإضافة، لأنك لا تقول ثلثت الثلاثة. وأجاز النصب في الذي يلي اسم الفاعل الموافق له في اللفظ أحمد بن يحيى ثعلب، وردوه عليه جعلوه كاسم الفاعل مع العدد المخالف نحو: رابع ثلاثة، وليس مثله إذ تقول: ربعت الثلاثة أي صيرتهم بك أربعة.
* (وما من إلاه إلا إلاه واحد) * معناه لا يكون إله في الوجود إلا متصفا بالوحدانية، وأكد ذلك بزيادة من الاستغراقية وحصر إلهيته في صفة الوحدانية. وإله رفع على البدل من إله على الموضع. وأجاز الكسائي اتباعه على اللفظ، لأنه يجيز زيادة من في الواجب، والتقدير: وما إله في الوجود إلا إله واحد أي: موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله تعالى.
* (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) * أي عما يفترون ويعتقدون في عيسى من أنه هو الله، أو أنه ثالث ثلاثة، أوعدهم بإصابة العذاب الأليم لهم في الدنيا بالسبي والقتل، وفي الآخرة بالخلود في النار، وقدم الوعيد على الاستدلال بسمات الحدوث إبلاغا في الزجر أي: هذه المقالة في غاية الفساد، بحيث لا تختلف العقول في فسادها، فلذلك توعد أولا عليها بالعذاب، ثم اتبع الوعيد بالاستدلال بسمات الحدوث على بطلانها.
وليمسن اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط، وأكثر ما يجيء هذا التركيب وقد صحبت أن اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله: * (لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم) * ونظير هذه الآية: * (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * ومثله: * (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * ومعنى مجيء إن بغير باء، دليل على أنه قبل إن قسم محذوف إذ لولا نية القسم لقال: فإنكم لمشركون الذين كفروا أي: الذين ثبتوا على هذا الاعتقاد. وأقام الظاهر مقام المضمر، إذ كان الربط بحصل بقوله: ليمسنهم، لتكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: لقد كفر وللإعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر، إذ جعل الفعل في صلة الذين وهي تقتضي كونها معلومة للسامع مفروغا من ثبوتها، واستقرارها لهم ومن في منهم للتبعيض، أي كائنا منهم، والربط حاصل بالضمير، فكأنه قيل: كافرهم وليسوا كلهم بقوا على الكفر، بل قد تاب كثير منهم من النصرانية. ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس أجاز ذلك هنا، ونظره بقوله: * (فاجتنبوا الرجس من الاوثان) *.
* (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه) * هذا لطف بهم واستدعاء إلى التنصل من تلك المقالة الشنعاء بعد أن كرر عليهم الشهادة بالكفر. والفاء في أفلا للعطف، حجزت بين الاستفهام ولا النافية، والتقدير: فألا. وعلى طريقة الزمخشري تكون قد عطفت
544

فعلا على فعل، كأن التقدير: أيثبتون على الكفر فلا يتوبون، والمعنى على التعجب من انتفاء توبتهم وعدم استغفارهم، وهم أجدر الناس بذلك، لأن كفرهم أقبح الكفر، وأفضح في سوء الاعتقاد، فتعجب من كونهم لا يتوبون من هذا الجرم العظيم. وقال الفراء: هو استهفام معناه الأمر كقوله: * (فهل أنتم منتهون) *. قال: إنما كان بمعنى الأمر، لأن المفهوم من الصيغة طلب التوبة والحث عليها، فمعناه: توبوا إلى الله واستغفروه من ذنبكم القولين المستحيلين انتهى. وقال ابن عطية: رفق جل وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة انتهى. وما ذكروه من الحث والتحضيض على التوبة من حيث المعنى، لا من حيث مدلول اللفظ، لأن أفلا غير مدلول ألا التي للحض والحث.
* (والله غفور رحيم) * نبه تعالى على هذين الوصفين اللذين بهما يحصل قبول التوبة والغفران للحوبة، والمعنى: كيف لا توجد التوبة من هذا الذنب وطلب المغفرة والمسؤول منه ذلك متصف بالغفران التام والرحمة الواسعة لهؤلاء وغيرهم؟
* (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) * لما رد على النصارى قولهم الأول بقول المسيح: * (اعبدوا الله ربى وربكم) * والثاني بقوله: * (وما من إلاه إلا إلاه واحد) * أثبت له الرسالة بصورة الحصر، أي ما المسيح ابن مريم شيء مما تدعيه النصارى من كونه إلها وكونه أحد آلهة ثلاثة، بل هو رسول من جنس الرسل الذين خلوا وتقدموا، جاء بآيات من عند الله كما جاءوا، فإن أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى، وفلق البحر، وطمس على يد موسى، وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر وأنثى. وفي قوله: إلا رسول رد على اليهود حيث ادعوا كذبه في دعوى الرسالة، وحيث ادعوا أنه ليس لرشده. وقرأ حطان: من قبله رسل بالتنكير.
* (وأمه صديقة) * هذا البناء من أبنية المبالغة، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد، إذ بناء هذا التركيب منه سكيت وسكير، وشريب وطبيخ، من سكت وسكر، وشرب وطبخ. ولا يعمل ما كان مبنيا من الثلاثي المتعدي كما يعمل فعول وفعالومفعال، فلا يقال: زيد شريب الماء، كما تقول: ضراب زيدا، والمعنى: الإخبار عنها بكثرة الصدق. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون من التصديق، وبه سمي أبو بكر الصديق. ولم يذكر الزمخشري غير أنه من التصديق. وهذا القول خلاف الظاهر من هذا البناء. قال الزمخشري: وأمه صديقة أي وما أمه لا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين: أحدهما نبي، والآخر صحابي، فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه انتهى. وفيه تحميل لفظ القرآن ما ليس فيه، من ذلك أن قوله: وأمه صديقة ليس فيه إلا الإخبار عنها بصفة كثرة الصدق، وجعله هو من باب الحصر فقال: وما أمه إلا كبعض النساء المصدقات إلى آخره، وهكذا عادته يحمل ألفاظ القرآن ما لا تدل عليه. قال الحسن: صدقت جبريل عليه السلام لما أتاها كما حكى تعالى عنها: * (وصدقت بكلمات ربها وكتبه) *. وقيل: صدقت بآيات ربها، وبما أخبر به ولدها. وقيل: سميت بذلك لمبالغتها في صدق حالها مع الله، وصدقها في براءتها مما رمتها به اليهود. وقيل: وصفها بصديقة لا يدل على أنها نبية، إذ هي رتبة لا تستلزم النبوة. قال تعالى: * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين) * ومن ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولا يلزم من تكليم الملائكة بشرا نبوته فقد كلمت الملائكة قوما ليسوا بأنبياء لحديث الثلاثة: الأقرع، والأعمى، والأبرص. فكذلك مريم.
* (كانا يأكلان الطعام) * هذا تنبيه على سمة الحدوث، وتبعيد عما اعتقدته النصارى فيهما من الإلهية، لأن من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك، وهو مما يدل على مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام، ولا حاجة تدعو إلى قولهم: كانا يأكلان الطعام كناية عن خروجه، وإن كان قد قاله جماعة من المفسرين، وإنما ذلك تنبيه على سمات الحدوث. والحاجة إلى التغذي المفتقر إليه الحيوان في قيامه المنزه عنه الإله، قال
545

تعالى: * (وهو يطعم ولا يطعم) * وإن كان يلزم من الاحتياج إلى أكل الطعام خروجه، فليس مقصودا من اللفظ مستعارا له ذلك. وهذه الجملة استئناف إخبار عن المسيح وأمه منبهة كما ذكرنا على سمات الحدوث، وأنهما مشاركان للناس في ذلك، ولا موضع لهذه من الجملة من الإعراب.
* (انظر كيف نبين لهم الايات) * أي الاعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان ما اعتقدوه، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم). وفي ضمن ذلك الأمر لأمته في ضلال هؤلاء وبعدهم عن قبول ما نبهوا عليه.
* (ثم انظر أنى يؤفكون) * كرر الأمر بالنظر لاختلاف المتعلق، لأن الأول: أثر بالنظر في كونه تعالى أوضح لهم الآيات وبينها بحيث لا يقع معها لبس، والأمر الثاني: هو بالنظر في كونهم يصرفون عن استماع الحق وتأمله، أو في كونهم يقلبون ما بين لهم إلى الضد منه، وهذان أمرا تعجيب. ودخلت ثم لتراخي ما بين العجبين، وكأنه يقتضي العجب من توضيح الآيات وتبيينها، ثم ينظر في حال من بينت له فيرى إعراضهم عن الآيات أعجب من توضيحها، لأنه يلزم من تبيينها تبينها لهم والرجوع إليها، فكونهم أفكوا عنها أعجب.
(* (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم * قل يأهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل * لعن الذين كفروا من بنىإسراءيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذالك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى
وما أنزل إليه ما اتخذوهم أوليآء ولاكن كثيرا منهم فاسقون) *))
) *
* (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) * لما بين تعالى بدليل النقل والعقل انتفاء الإلهية عن عيسى، وكان قد توعدهم ثم استدعاهم للتوبة وطلب الغفران، أنكر عليهم ووبخهم من وجه آخر وهو عجزه وعدم اقتداره على دفع ضرر وجلب نفع، وأن من كان لا يدفع عن نفسه حري أن لا يدفع عنكم. والخطاب للنصارى، نهاهم عن عبادة عيسى وغيره، وأن ما يعبدون من دون الله مساويهم في العجز وعدم القدرة. والمعنى: ما لا يملك لكم إيصال خير ولا نفع. قيل: وعبر بما تنبيها على أول أحواله، إذ مرت عليه أزمان حالة الحمل لا يوصف بالعقل فيها، ومن هذه صفته فكيف يكون إلها، أو لأنها مبهمة كما قال سيبويه. وما: مبهمة تقع على كل شيء، أو أريد به ما عبد من دون الله ممن يعقل، وما لا يعقل. وعبر بما تغليبا لغير العاقل، إذ أكثر ما عبد من دون الله هو ما لا يعقل كالأصنام والأوثان، أو أريد النوع أي: النوع الذي لا يملك لكم ضرا ولا نفعا كقوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * أي النوع الطيب، ولما كان إشراكهم بالله تضمن القول والاعتقاد جاء الختم بقوله:
* (والله هو السميع العليم) * أي السميع لأقوالكم، العليم باعتقادكم وما انطوت عليه نياتكم. وفي الإخبار عنه بهاتين الصفتين تهديد ووعيد على ما يقولونه ويعتقدونه، وتضمنت الآية الإنكار عليهم حيث عبدوا من دونه من هو متصف بالعجز عن دفع ضرر أو جلب نفع. قيل: ومن مرت عليه مدد لا يسمع فيها ولا يعلم، وتركوا القادر على الإطلاق السميع للأصوات العليم بالنيات.
* (قل ياأهل * أهل الكتاب * لا تغلوا فى دينكم غير الحق) * ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ويتناول من جاء بعدهم. ولما سبق القول في أباطيل اليهود وأباطيل النصارى، جمع الفريقان في النهي عن الغلو في الدين. وانتصب غير الحق وهو الغلو الباطل، وليس المراد بالدين هنا ما هم عليه، بل المراد الدين الحق الذي جاء به موسى وعيسى. قال الزمخشري: الغلو في الدين غلوان: غلو حق، وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه
546

كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد، وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتعداه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعل أهل الأهواء والبدع انتهى. وأهل العدل والتوحيد هم أئمة المعتزلة، وأهل الأهواء والبدع عنده هم أهل السنة، ومن عدا المعتزلة. ومن غلوا اليهود إنكار نبوة عيسى، وادعاؤهم فيه أنه الله. ومن غلو النصارى ما تقدم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله، وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة. وانتصاب غير هنا على الصفة أي: غلوا غير الحق. وأبعد من ذهب إلى أنها استثناء متصل، ومن ذهب إلى أنها استثناء ويقدره: لكن الحق فاتبعوه.
* (ولا * تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) * هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم كثيرا، ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي الذي هو وسط في الدين وهو خيرها فلا إفراط ولا تفريط، بل هو سواء معتدل خيار. وقيل: الخطاب للنصارى، وهو ظاهر كلام الزمخشري قال: قد ضلوا من قبل هم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم)، وأضلوا كثيرا ممن شايعهم على التثليث، وضلوا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن سواء السبيل حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه. وقال ابن عطية: هذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهى النصارى عن اتباع أهوائهم والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل، بل هم في الضد بالأقوال، وإنما اجتمعوا في اتباع موضع الهوى. فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج: هذه الطريقة طريقة فلان تمثله بآخر قد اعوج نوعا من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله. ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديما، وأضلوا كثيرا من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله: وضلوا عن سواء السبيل. وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى: يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل أي: ضل أسلافهم، وهم قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم)، وأضلوا كثيرا من المنافقين، وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق انتهى. ولا حاجة لإخراج الكلام عن ظاهره من أنه نداء لأهل الكتاب طائفتي: اليهود، والنصارى. وأن قوله: ولا تتبعوا أهواء قوم، هم أسلافهم. فإن الزائغ عن الحق كثيرا ما يعتذر أنه على دين أبيه وطريقته، كما قالوا: * (بل قالوا إنا وجدنا ءاباءنا) * فنهوا عن اتباع أسلافهم، وكان في تنكير قوم تحقير لهم. وما ذهب إليه الزمخشري تخصيص لعموم من غير داعية إليه. وما ذهب إليه ابن عطية أيضا تخصيص وتأويل بعيد في قوله: ولا تتبعوا أهواء قوم أن المراد بهم اليهود، وأن المعنى: لا تكونوا على هوى كما كان اليهود على هوى، لأن الظاهر النهي عن اتباع أهواء أولئك القوم. وأبعد من ذهب إلى أن الضلال الأول عن الدين، والثاني عن طريق الجنة.
* (لعن الذين كفروا من بنى إسراءيل على لسان * داوود * وعيسى ابن مريم) * قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان. لعنوا على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، وعلى عهد محمد في القرآن. وروى ابن جريج: أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير، وذلك أن داود مر على نفروهم في بيت فقال: من في البيت؟ قالوا: خنازير على معنى الاحتجاب، قال: اللهم خنازير، فكانوا خنازير. ثم دعا عيسى على من افترى عليه وعلى أمه ولعنهم. وروي عن ابن عباس: لعن على لسان داود أصحاب السبت، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة. وقال أكثر المفسرين: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة
547

قال عيسى: اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل
ما فيهم امرأة ولا صبي. وقال الأصم وغيره: بشر داود وعيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم)، ولعنا من كذبه. وقيل: دعوا على من عصاهما ولعناه. وروي أن داود قال: اللهم ليلبسوا اللعنة مثل الرداء ومثل منطقة الحقوين، اللهم اجعلهم آية ومثالا لخلقك.
والظاهر من الآية الإخبار عن أسلاف اليهود والنصارى أنهم ملعونون. وبناء الفعل للمفعول يحتمل أن يكون الله تعالى هو اللاعن لهم على لسان داود وعيسى، ويحتمل أن يكونا هما اللاعنان لهم. ولما كانوا يتبجحون بأسلافهم وأنهم أولاد الأنبياء، أخبروا أن الكفار منهم ملعونون على لسان أنبيائهم. واللعنة هي الطرد من رحمة الله، ولا تدل الآية على اقتران اللعنة بمسخ. والأفصح أنه إذا فرق منضما الجزئين اختير الإفراد على لفظ التثنية وعلى لفظ الجمع، فكذلك جاء على لسان مفردا ولم يأت على لساني داود وعيسى، ولا على ألسنة داود وعيسى. فلو كان المنضمان غير متفرقين اختير لفظ الجمع على لفظ التثنية وعلى الإفراد نحو قوله: * (فقد صغت قلوبكما) * والمراد باللسان هنا الجارحة لا اللغة، أي الناطق بلعنتهم هو داود وعيسى.
* (ذالك بما عصوا) * أي ذلك اللعن كان بسبب عصيانهم، وذكر هذا على سبيل التوكيد، وإلا فقد فهم سبب اللعنة بإسنادها إلى من تعلق به الوصف الدال على العلية، وهو الذين كفروا. كما تقول: رجم الزاني، فيعلم أن سببه الزنا. كذلك اللعن سببه الكفر، ولكن أكد بذكره ثانية في قوله: ذلك بما عصوا.
* (وكانوا يعتدون) * يحتمل أن يكون معطوفا على عصوا، فيتقدر بالمصدر أي: وبكونهم يعتدون، يتجاوزون الحد في العصيان والكفر، وينتهون إلى أقصى غاياته. ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء، ويقوي هذا ما جاء بعده كالشرح وهو قوله:
* (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) * ظاهره التفاعل بمعنى الاشتراك أي: لا ينهى بعضهم بعضا، وذلك أنهم جمعوا بن فعل المنكر والتجاهر به، وعدم النهي عنه. والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد ينبغي أن يستتر بها من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر، فإذا فعلت جهارا وتواطؤا على عدم الإنكار كان ذلك تحريضا على فعلها وسببا مثيرا لإفشائها وكثرتها. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيرا للمعصية؟ (قلت): من قبل أن الله تعالى أمر بالتناهي، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء، لأن في التناهي حسما للفساد. وفي حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قرأ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل الآية إلى قوله فاسقون ثم قال: والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن به على يد الظالم ولتأطرنه عن الحق اطرا، أو ليضرب الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعنكم كما لعنهم)
548

أخرجه الترمذي. ومعنى لتأطرنه لتردنه. وقيل: التفاعل عنا بمعنى الافتعال يقال: انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كف عنه، كما تقول: تجاوزوا واجتوزوا. والمعنى: كانوا لا يمتنعون عن منكر. وظاهر المنكر أنه غير معين، فيصلح إطلاقه على أي منكر فعلوه. وقيل: صيد السمك يوم السبت. وقيل: أخذ الرشا في الحكم. وقيل: أكل الربا وأثمان الشحوم. ولا يصح التناهي عما فعل، فإما أن يكون المعنى أرادوا فعله كما ترى آلات أمارات الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فينكر، وإما أن يكون على حذف مضاف أي: معاودة منكر أو مثل منكر.
* (لبئس ما كانوا يفعلون) * ذم لما صدر عنهم من فعل المنكر وعدم تناهيهم عنه. وقال الزمخشري: تعجيب من سوء فعلهم، مؤكدا لذلك بالقسم، فيا حسرتا على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المنكر وقلة عنايتهم به كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كتاب الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب انتهى. وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليما من المعصية، بل ينهي العصاة بعضهم بعضا. وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعطون الكؤوس أن ينهي بعضهم بعضا، واستدل بهذه الآية لأن قوله: لا يتناهون وفعلوه، يقتضي اشتراكهم في الفعل، وذمهم على ترك التناهي. وفي الحديث: (لا يزال العذاب مكفوف عن العباد ما استتروا بمعاصي الله، فإذا أعلنوها فلم ينكروها استحقوا عقاب الله تعالى).
* (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا) * الظاهر عود الضمير في: منهم، على بني إسرائيل فقال مقاتل: كثيرا منهم هو من كان بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم) يتولون الكفار وعبدة الأوثان، والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه الذين استجلبوا المشركين على الرسول، وعلى هذا يكون ترى بصرية، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب، فيحتمل أن يراد أسلافهم أي: ترى الآن إذ أخبرناك. وقيل: كثيرا منهم منافقو أهل الكتاب كانوا يتولون المشركين. وقيل: هو كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل عني به المنافقون تولوا اليهود روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
* (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم) * تقدم الكلام على إعراب ما قال الزمخشري في قوله: أن سخط الله، أنه هو المخصوص بالذم ومحله الرفع كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم، والمعنى موجب سخط الله عليهم انتهى. ولا يصح هذا الإعراب إلا على مذهب الفراء، والفارسي في أن ما موصولة، أو على مذهب من جعل في بئس ضميرا، وجعل ما تمييزا بمعنى شيئا، وقدمت صفة التمييز. وأما على مذهب سيبويه فلا يستوي ذلك، لأن ما عنده اسم تام معرفة بمعنى الشيء، والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف، والتقدير: لبئس الشيء قدمت لهم أنفسهم، فيكون على هذا أن سخط الله في موضع رفع بدل من ما انتهى. ولا يصح هذا سواء كانت موصولة، أم تامة، لأن البدل يحل محل المبدل منه، وأن سخط لا يجوز أن يكون فاعلا لبئس، لأن فاعل نعم وبئس لا يكون أن والفعل. وقيل: إن سخط في موضع نصب بدلا من الضمير المحذوف في قدمت، أي: قدمته كما تقول: الذي ضربت زيدا أخوك تريد ضربته زيدا. وقيل: على إسقاط اللام أي: لأن سخط.
* (وفى العذاب هم خالدون) * لما ذكر ما قدموا إلى الآخرة زادا، وذمه بأبلغ الذم، ذكر ما صاروا إليه وهو العذاب وأنهم خالدون فيه، وأنه ثمرة سخط الله، كما أن
السخط ثمرة العصيان
549

* (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) * إن كان المراد بقوله: * (ترى كثيرا منهم) * أسلافهم، فالنبي داود وعيسى أو معاصري الرسول، فالنبي هو محمد صلى الله عليه وسلم)، والذين كفروا عبدة الأوثان. والمعنى: لو كانوا يؤمنون إيمانا خالصا غير نفاق، إذ موالاة الكفار دليل على النفاق. والظاهر في ضمير كانوا وضمير الفاعل في ما اتخذوهم أنه يعود على كثيرا منهم، وفي ضمير المفعول أنه يعود على الذين كفروا. وقال القفال وجها آخر وهو: أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم) ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء. والوجه الأول أولى، لأن الحديث إنما هو عن قوله كثيرا منهم، فعود الضمائر على نسق واحد أولى من اختلافها. وجاء جواب لو منفيا بما بغير لام، وهو الأفصح، ودخول اللام عليه قليل نحو قوله:
* لو أن بالعلم تعطى ما تعيش به
*
لما ظفرت من الدنيا بنقرون
*
* (ولاكن كثيرا منهم فاسقون) * خص الكثير بالفسق، إذ فيهم قليل قد آمن.
والمخبر عنهم أولا هو الكثير، والضمائر بعده له، وليس المعنى. ولكن كثيرا من ذلك الكثير. ولكنه لما طال أعيد بلفظه، وكان من وضع الظاهر بلفظه موضع الضمير، إذ كان السياق يكون: ما اتخذوهم أولياء، ولكنهم فاسقون. فوضع الظاهر موضع هذاالضمير.
550