الكتاب: تفسير الثعالبي
المؤلف: الثعالبي
الجزء: ٣
الوفاة: ٨٧٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الدكتور عبد الفتاح أبو سنة - الشيخ علي محمد معوض - والشيخ عادل أحمد عبد الموجود
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي ، مؤسسة التاريخ العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

تفسير الثعالبي الجزء الثالث
1

تفسير الثعالبي
المسمى
بالجواهر الحسان في تفسير القرآن
للإمام عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي
(786 - 875 ه‍)
حقق أصوله على أربع نسخ خطية وعلق عليه وخرج أحاديثه
الشيخ علي محمد معوض
والشيخ عادل أحمد عبد الموجود
وشارك في تحقيقه
الأستاذ الدكتور عبد الفتاح أبو سنة
خبير التحقيق بجميع البحوث الاسلامية
وعضو المجالس الأعلى للشؤون الاسلامية
وعضو لجنة المصحف بالأزهر الشريف
الجزء الثالث
دار إحياء التراث العربي - مؤسسة التاريخ العربي
بيروت - لبنان
3

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة
لدار احياء التراث العربي
بيروت - لبنان
الطبعة الأولى
1418 ه‍ - 1997 م
4

سورة الأعراف
مكية، كلها. قاله الضحاك، وغيره.
وقال مقاتل: هي مكية، إلا قوله سبحانه: " واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة
البحر " إلى قوله: " من ظهورهم ذرياتهم " فإن هذه الآيات مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
(المص (1) كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين
(2) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3))
قوله جلت عظمته: (المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به
وذكرى للمؤمنين) تقدم القول في تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور، والحرج:
الضيق ومنه: الحرجة، الشجر المتلف الذي قد تضايق، والحرج هاهنا يعم الشك،
والخوف، والهم، وكل ما يضيق الصدر، والضمير في " منه " عائد على الكتاب، أي:
بسبب من أسبابه.
وقوله سبحانه: (فلا يكن في صدرك حرج منه) اعتراض في أثناء الكلام، ولذلك
قال بعض الناس: إن فيه تقديما وتأخيرا.
وقوله: (وذكرى) معناه تذكرة وإرشاد.
وقوله سبحانه: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) أمر يعم جميع الناس، (ولا تتبعوا
من دونه)، أي: من دون ربكم (أولياء) يريد: كل من عبد، واتبع من دون الله،
و (قليلا): نعت لمصدر نصب بفعل مضمر.
وقال مكي: هو منصوب بالفعل الذي بعده، " وما " في قوله: (ما تذكرون)
مصدرية.
5

(وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون (4) فما كان دعواهم إذ جاءهم
بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين (5)
وقوله سبحانه: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون) قالت
فرقة: المراد وكم من أهل قرية.
وقالت فرقة: اللفظ يتضمن هلاك القرية وأهلها، وهو أعظم العقوبة، و " الفاء " في
قوله سبحانه: (فجاءها بأسنا) لترتيب القول فقط.
وقيل: المعنى أهلكناها بالخذلان، وعدم التوفيق، فجاءها بأسنا بعد ذلك و (بياتا)،
نصب على المصدر في موضع الحال، و (قائلون) من القائلة، وإنما خص وقتي
الدعة والسكون، لأن مجيء العذاب فيهما أفظع وأهول، لما فيه من البغتة والفجأة.
قال أبو حيان: أو للتفصيل، أي: جاء بعضهم بأسنا ليلا، وبعضهم نهارا انتهى.
وقوله عز وجل: (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) هذه
الآية يتبين منها أن المراد في الآية قبلها أهل القرى، والدعوى في كلام العرب تأتي
لمعنيين:
أحدهما: الدعاء، ومنه قوله عز وجل: (فما زالت تلك دعواهم) [الأنبياء: 15].
والثاني: الادعاء، وهذه الآية تحتمل المعنيين، ثم استثنى سبحانه من غير الأول كأنه
قال: لم يكن منهم دعاء أو ادعاء إلا الإقرار، والاعتراف، أي: هذا كان بدل الدعاء،
6

والادعاء، واعترافهم.
وقولهم: (إنا كنا ظالمين) هو في المدة التي ما بين ظهور العذاب إلى إتيانه على
أنفسهم، وفي ذلك مهلة بحسب نوع العذاب تتسع لهذه المقالة، وغيرها.
وروى ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما هلك قوم حتى يعذروا من
أنفسهم ".
(فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين (6) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا
غائبين (7))
وقوله سبحانه: (فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين...) الآية وعيد من
الله عز وجل لجميع العالم أخبر سبحانه أنه يسأل الأمم أجمع عما بلغ إليهم عنه وعن
جميع أعمالهم، ويسأل النبيين عما بلغوا، وهذا هو سؤال التقرير، فإن الله سبحانه قد
أحاط علما بكل ذلك قبل السؤال، فأما الأنبياء والمؤمنون، فيعقبهم جوابهم رحمة وكرامة،
7

وأما الكفار، ومن نفذ عليه الوعيد من العصاة، فيعقبهم جوابهم عذابا وتوبيخا.
* ت *: وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب " فضل العلم " بسنده عن مالك أنه
قال: بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة كما تسأل الأنبياء يعني عن تبليغ العلم / انتهى.
وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد يخطو
خطوة إلا يسأل عنها ما أراد بها ".
وقد ذكرنا حديث مسلم عن أبي برزة في غير هذا الموضع. وخرج الطبراني بسنده
عن ابن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده،
فيوقفه بين يديه، فيسأله عن جاهه، كما يسأله عن عمله ". انتهى.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد، قال: بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل المرء،
الصلاة، فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه لم ينظر في شئ من
عمله.
وروى أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة معنى هذا الحديث مرفوعا عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة "
قال: يقول ربنا عز وجل للملائكة انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة
كتبت تامة، وإن كان انتقص منها شئ، قال الله: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له
تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك. انتهى.
واللفظ لأبي داود.
وقال النسائي: ثم سائر الأعمال تجري على ذلك انتهى من " التذكرة ".
وقوله سبحانه: (فلنقصن عليهم بعلم) أي: فلنسردن عليهم أعمالهم قصة قصة،
(بعلم) أي: بحقيقة ويقين (وما كنا غائبين).
(والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (8) ومن خفت موازينه
8

فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون (9) ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم
فيها معايش قليلا ما تشكرون (10))
وقوله عز وجل: (والوزن يومئذ الحق) التقدير: والوزن الحق ثابت، أو ظاهر
يومئذ، أي يوم القيامة.
قال جمهور الأمة: إن الله عز وجل أراد أن يبين لعباده أن الحساب والنظر يوم القيامة
هو في غاية التحرير، ونهاية العدل بأمر قد عرفوه في الدنيا، وعهدته أفهامهم، فميزان
القيامة له عمود وكفتان على هيئة موازين الدنيا، جمع لفظ " الموازين "، إذ في الميزان
موزونات كثيرة، فكأنه أراد التنبيه عليها.
قال الفخر: والأظهر إثبات موازين في يوم القيامة لا ميزان واحد، لظواهر الآيات،
وحمل الموازين على الموزنات، أو على الميزان الواحد يوجبان العدول عن ظاهر اللفظ،
وذلك إنما يصار إليه عند تعذر حمل الكلام على ظاهره، ولا مانع هاهنا منه، فوجب إجراء
اللفظ على حقيقته، فكما لم يمتنع إثبات ميزان له كفتان، فكذلك لا يمتنع إثبات موازين
بهذه الصفة، وما الموجب لتركه، والمصير إلى التأويل. انتهى. قال أبو حيان: موازينه
جمع باعتبار الموزونات، وهذا على مذهب الجمهور، في أن الميزان واحد.
وقال الحسن: لكل واحد ميزان، فالجمع إذن حقيقة انتهى.
والآيات هنا البراهين والأوامر والنواهي.
وقوله سبحانه: (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش...) الآية
خطاب لجميع الناس، والمعايش: بكسر الياء دون همز جمع معيشة، وهي لفظة تعم جميع
المأكول الذي يعاش به، والتحرف الذي يؤدى إليه، و (قليلا) نصب ب‍ (تشكرون)
ويحتمل أن تكون (ما) مع الفعل بتأويل المصدر، و (قليلا) نعت لمصدر محذوف،
تقديره: شكرا قليلا شكركم، أو شكرا قليلا تشكرون.
(ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن
9

من الساجدين (11) قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين
(12) قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين (13) قال أنظرني إلى يوم
يبعثون (14) قال إنك من المنظرين (15) قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16) ثم لآتينهم
من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (17) قال اخرج منها مذءوما
مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (18))
وقوله سبحانه: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم...) الآية: هذه الآية معناها التنبيه
على مواضع العبرة، والتعجيب من غريب الصنعة، وإسداء النعمة.
واختلف العلماء في ترتيب هذه الآية، لأن ظاهرها / يقتضي أن الخلق والتصوير لبني
آدم قبل القول للملائكة أن يسجدوا، وقد صححت الشريعة أن الأمر لم يكن كذلك، فقالت
فرقة: المراد بقوله سبحانه: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) آدم، وإن كان الخطاب لبنيه.
وقال مجاهد: المعنى: ولقد خلقناكم، ثم صورناكم في صلب آدم، وفي وقت
استخراج ذرية آدم من ظهره أمثال الذر في صورة البشر، ويترتب في هذين القولين أن
تكون " ثم " على بابها في الترتيب، والمهلة.
وقال ابن عباس، والربيع بن أنس: أما " خلقناكم " فآدم، وأما " صورناكم " فذريته في
بطون الأمهات.
وقال قتادة، وغيره: بل ذلك كله في بطون الأمهات من خلق، وتصوير، و (ثم)
لترتيب الأخبار بهذه الجمل لا لترتيب الجمل في أنفسها.
وقوله سبحانه: (فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ألا
تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما
يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال
إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم) تقدم الكلام على
قصص الآية في " سورة البقرة ".
10

" وما " في قوله: (ما منعك) استفهام على جهة التوبيخ والتقريع، و " لا " في قوله:
(ألا تسجد) قيل: هي زائدة، والمعنى: ما منعك أن تسجد، وكذلك قال أبو حيان:
إنها زائدة، كهي في قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب) [الحديد: 29].
قال: ويدل على زيادتها سقوطها في قوله تعالى: (ما منعك أن تسجد) [ص: 75].
في " ص " انتهى. وجواب إبليس اللعين ليس بمطابق لما سئل عنه، لكن [لما] جاء بكلام
يتضمن الجواب والحجة، فكأنه قال: منعني فضلي عليه، إذ أنا خير منه، وظن إبليس أن
النار أفضل من الطين، وليس كذلك بل هما في درجة واحدة من حيث إنهما جماد
مخلوق، ولما ظن إبليس أن صعود النار، وخفتها يقتضي فضلا على سكون الطين وبلادته،
قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق من الطين، فأخطأ قياسه، وذهب عليه أن الروح الذي
نفخ في آدم ليس من الطين.
وقال الطبري: ذهب عليه ما في النار من الطيش، والخفة، والاضطراب، وفي
الطين من الوقار، والأناة والحلم، والتثبت وروي عن الحسن، وابن سيرين أنهما قالا: أول
من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالقياس، وهذا القول منهما ليس هو
بإنكار للقياس. وإنما خرج كلاهما نهيا عما كان في زمانهما من مقاييس الخوارج
11

وغيرهم، فأرادا حمل الناس على الجادة.
وقوله سبحانه: (فاهبط منها) الآية: يظهر منه أنه أهبط أولا، وأخرج من الجنة،
وصار في السماء، لأن الأخبار تظاهرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة، ثم أمر آخرا
بالهبوط من السماء مع آدم، وحواء، والحية. وقوله: (إنك من الصاغرين) حكم عليه
بضد معصيته التي عصى بها، وهي الكبرياء، فعوقب بالحمل عليه، بخلاف شهوته، وأمله
والصغار: الذل قاله السدي.
ومعنى: (أنظرني) أخرني فأعطاه الله النظرة إلى النفخة الأولى. قاله / أكثر
الناس وهو الأصح والأشهر في الشرع.
وقوله: (فبما) يريد به القسم، كقوله في الآية الأخرى: (فبعزتك) [ص: 82].
(وأغويتني) قال الجمهور: معناه: أضللتني من الغي، وعلى هذا المعنى قال محمد بن
كعب القرظي: قاتل الله القدرية لإبليس أعلم بالله منهم، يريد في أنه علم أن الله يهدي
ويضل.
وقوله: (لأقعدن لهم صراطك) المعنى: لأعترضن لهم في طريق شرعك،
وعبادتك، ومنهج النجاة، فلأصدنهم عنه.
ومنه قوله عليه السلام: " إن الشيطان قعد لابن آدم بأطراقه نهاه عن الإسلام،
وقال: تترك دين آبائك، فعصاه فأسلم، فنهاه عن الهجرة فقال: تدع أهلك وبلدك، فعصاه
فهاجر، فنهاه عن الجهاد، فقال: تقتل وتترك ولدك، فعصاه فجاهد فله الجنة... "
الحديث.
وقوله سبحانه: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا
12

تجد أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم
أجمعين) مقصد الآية أن إبليس أخبر عن نفسه أنه يأتي إضلال بني آدم من كل جهة، فعبر عن
ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم، وفي اللفظ تجوز، وهذا قول جماعة من المفسرين.
قال الفخر: وقوله: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) أي: على صراطك. أجمع
النحاة على تقدير " على " في هذا الموضع. انتهى.
وقوله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين) أخبر اللعين أن سعايته تفعل ذلك ظنا منه،
وتوسما في خلقة آدم حين رأى خلقته من أشياء مختلفة، فعلم أنه ستكون لهم شيم تقتضي
طاعته، كالغل، والحسد، والشهوات، ونحو ذلك.
قال ابن عباس، وقتادة: إلا أن إبليس لم يقل: إنه يأتي بني آدم من فوقهم، ولا
جعل الله له سبيلا إلى أن يحول بينهم وبين رحمة الله وعفوه ومنه، وما ظنه إبليس صدقه
الله عز وجل.
ومنه قوله سبحانه: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين)
[سبأ: 20] فجعل أكثر العالم كفرة، ويبينه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: " يقول الله عز وجل: يا
آدم أخرج بعث النار، فيقول: يا رب وما بعث النار، فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة
وتسعين إلى النار، وواحد إلى الجنة ".
ونحوه مما يخص أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: " ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في
الثور الأسود " و (شاكرين) معناه: مؤمنين، لأن ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن
يؤمن. قاله ابن عباس وغيره.
وقوله سبحانه: (اخرج منها) أي: من الجنة (مذءوما) أي معيبا (مدحورا)، أي:
مقصيا مبعدا.
(لمن تبعك) بفتح اللام هي لام قسم.
13

وقال أبو حيان: الظاهر أنها الموطئة للقسم، و " من " شرطية في موضع رفع
بالابتداء، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه، ويجوز أن تكون لام ابتداء،
و " من " موصولة في موضع رفع بالابتداء، والقسم المحذوف، وجوابه، وهو " لأملأن " في
موضع خبرها. انتهى.
وقال الفخر: وقيل /: (مذءوما)، أي: محقورا، فالمذؤوم المحتقر. قاله الليث.
وقال ابن الأنباري: المذؤوم المذموم.
وقال الفراء: أذأمته إذا عيبته. انتهى.
وباقي الآية بين. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، وسوء القضاء، ودرك الشقاء،
وشماتة الأعداء.
(ويا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من
الظالمين (19) فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ورى عنهما من سوأتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه
الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (20) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين (21))
وقوله جلا وعلا: (ويا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا
هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)
إذا أمر الإنسان بشئ، وهو متلبس به، فإنما المقصد من ذلك أن يستمر على حاله،
ويتمادى في هيئته.
وقوله سبحانه لآدم: (أسكن) هو من هذا الباب، وقد تقدم الكلام في " سورة
البقرة " على " الشجرة " وتعيينها، وقوله سبحانه: " هذه " قال (م): الأصل هذى، والهاء بدل
من الياء، ولذلك كسرت الذال، إذ ليس في كلامهم هاء تأنيث قبلها كسرة انتهى.
14

وقوله عز وجل: (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما)
الوسوسة الحديث في إخفاء همسا وأسرارا من الصوت، والوسواس صوت الحلي، فشبه
الهمس به، وسمي إلقاء الشيطان في نفس ابن آدم وسوسة، إذ هي أبلغ الإسرار وأخفاه.
هذا في حال الشيطان معنا الآن، وأما مع آدم، فممكن أن تكون وسوسة بمحاورة خفية، أو
بإلقاء في نفس، واللام في " ليبدي " هي في قول الأكثرين لام الصيرورة والعاقبة، ويمكن أن
تكون لام " كي " على بابها.
وما (ووري) معناه ما ستر من قولك: وارى يواري إذا ستر، والسوأة الفرج والدبر،
ويشبه أن يسمى بذلك، لأن منظره يسوء.
وقالت طائفة: إن هذه العبارة إنما قصد بها أنها كشفت لهما معائبهما، وما يسوءهما،
ولم يقصد بها العورة، وهذا القول محتمل، إلا أن ذكر خصف الورق يرده إلا أن يقدر
الضمير في (عليهما) عائد على بدنيهما فيصح.
وقوله سبحانه: (وقال ما نهاكما...) الآية، هذا القول المحكي عن إبليس يدخله
من التأويل ما دخل الوسوسة، فممكن أن يقول هذا مخاطبة وحوارا، وممكن أن يقولها
إلقاء في النفس، ووحيا.
و (إلا أن) تقديره عند سيبويه والبصريين: إلا كراهية أن، وتقديره عند الكوفيين:
" إلا أن لا " على إضمار " لا "، ويرجح قول البصريين أن إضمار الأسماء أحسن من إضمار
الحروف.
وقرأ جمهور الناس " ملكين " بفتح اللام.
وقرأ ابن عباس: " ملكين " بكسرها، ويؤيده قوله: (وملك لا يبلي) [طه: 120]
15

وقال بعض الناس: يؤخذ من هذه الألفاظ أن الملائكة أفضل من البشر، وهي مسألة
اختلف الناس فيها، وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة، والفضل بيد الله يؤتيه من
يشاء.
و (قاسمهما) أي: حلف لهما بالله، وهي مفاعلة، إذ قبول المحلوف له اليمين
كالقسم.
(فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة
وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين (22) قالا ربنا
ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23) قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم
في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (24) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون (25))
وقوله عز وجل: (فدلاهما بغرور) قال: * ع *: يشبه عندي أن تكون هذه
استعارة من الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم أو سبب ضعيف يغتر به، فإذا تدلى به،
وتورك عليه، انقطع به، وهلك، فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه، فيقع في مصيبة
بالذي يدلي من هوة بسبب ضعيف.
وقوله سبحانه: (بدت) قيل: تمزقت عنهما ثياب الجنة وملابسها، وتطايرت تبريا
منهما، و (يخصفان) معناه: يلصقانها، والمخصف الإشفى وضم الورق بعضه إلى
بعض أشبه بالخرز منه بالخياطة.
قال البخاري: يخصفان يؤلفان الورق بعضه إلى بعض / انتهى. وهو معنى ما تقدم.
وروى أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم عليه السلام كان يمشي في الجنة كأنه النخلة
السحوق فلما أكل من الشجرة وبدت له حاله فر على وجهه، فأخذت شجرة بشعر
رأسه، فقال لها: " أرسليني " فقالت: ما أنا بمرسلتك، فناداه ربه جل وعلا أمني تفر يا آدم
فقال: لا يا رب، ولكن أستحييك، فقال: أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما
حرمت عليك. قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا، قال:
16

فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كدا.
وقوله: (عن تلكما) بحسب اللفظ أنه إنما أشار إلى شجرة مخصوصة، (وأقل
لكما: إن الشيطان لكما عدو مبين) إشارة إلى الآية التي في " طه " في قوله: (فلا
يخرجنكما من الجنة فتشقى) [طه: 117] وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من
جعل النسيان على بابه، وقولهما: (ربنا ظلمنا أنفسنا) اعتراف من آدم وحواء عليهما
السلام وطلب للتوبة، والستر، والتغمد بالرحمة، فطلب آدم هذا، فأجيب، وطلب إبليس
النظرة، ولم يطلب التوبة، فوكل إلى سوء رأيه.
قال الضحاك وغيره: هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه، عز وجل:
(قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو) المخاطبة بقوله: (اهبطوا).
قال: أبو صالح، والسدي، والطبري، وغيرهم: هي لآدم، وحواء، وإبليس،
والحية.
وقالت فرقة: هي مخاطبة لآدم وذريته، وإبليس وذريته.
قال * ع *: وهذا ضعيف لعدمهم في ذلك الوقت.
* ت *: وما ضعفه رحمه الله صححه في " سورة البقرة "، فتأمله هناك، وعداوة
الحية معروفة.
روى قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما سالمناهن منذ حاربناهن "
(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات
الله لعلهم يذكرون (26))
وقوله سبحانه: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم) الآية خطاب
لجميع الأمم وقت النبي صلى الله عليه وسلم والسبب والمراد: قريش، ومن كان من العرب يتعرى في
طوافه بالبيت.
17

قال مجاهد: ففيهم نزلت هذه الأربع آيات.
وقوله: (أنزلنا) يحتمل التدريج أي: لما أنزل المطر، فكان عنه جميع ما يلبس، ويحتمل
أن يريد ب‍ (أنزلنا) خلقنا، كقوله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) [الزمر: 6]، (وأنزلنا
الحديد) [الحديد: 25] و (لباسا) عام في جميع ما يلبس، و (يواري): يستر.
وقرأ الجمهور: " وريشا "، وقرأ عاصم، وأبو عمرو " ورياشا " وهما عبارتان عن سعة
الرزق، ورفاهة العيش، وجودة الملبس والتمتع.
وقال البخاري: قال ابن عباس: وريشا: المال انتهى.
وقرأ نافع، وغيره: " ولباس " بالنصب.
وقرأ حمزة، وغيره بالرفع. وقوله: (ذلك من آيات الله) إشارة إلى جميع ما أنزل
الله من اللباس والريش. وحكى النقاش: أن الإشارة إلى لباس التقوى، أي: هو في العبد
آية، أي: علامة وأمارة من الله تعالى أنه قد رضي عنه، ورحمه.
وقال ابن عباس: لباس التقوى هو السمت الحسن في الوجه. وقاله عثمان بن
عفان على المنبر.
وقال ابن عباس أيضا: هو العمل الصالح.
وقال عروة بن الزبير: هو خشية الله وقيل: هو لباس الصوف، وكل ما فيه تواضع
لله عز وجل.
18

وقال الحسن: هو الورع.
وقال معبد الجهني: هو الحياء.
وقال ابن عباس أيضا: لباس التقوى العفة.
قال * ع * وهذه كلها مثل، وهي من لباس التقوى، و (لعلهم) ترج بحسبهم،
ومبلغهم من المعرفة.
(يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما
سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (27))
وقوله عز وجل: (يا بني آدم / لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة)
الآية: خطاب لجميع العالم، والمقصود بها في ذلك الوقت من كان يطوف من العرب
بالبيت عريانا.
قيل: كانت العرب تطوف عراة إلا الحمس، وهم قريش، ومن والاها، وهذا هو
الصحيح، ثم نودي ب‍ " مكة " في سنة تسع: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت
عريان والفتنة في هذه الآية الاستهواء، والغلبة على النفس، وأضاف الإخراج في هذه
الآية إلى إبليس تجوزا لما كان هو السبب في ذلك.
قال أبو حيان: (كما أخرج) " كما " في موضع نصب، أي: فتنة مثل فتنة إخراج
أبويكم انتهى.
19

وقوله سبحانه: (إنه يراكم...) الآية زيادة في التحذير، وإعلام بأن الله عز
وجل قد مكن إبليس من بني آدم في هذا القدر، وبحسب ذلك يجب أن يكون التحرز
بطاعة الله عز وجل وقبيل الشيطان يريد نوعه، وصنفه، وذريته، والشيطان موجود، وهو
جسم.
قال النووي: وروينا في كتاب ابن السني عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم أن يقول الرجل المسلم إذا أراد أن يطرح ثيابه:
بسم الله الذي لا إله إلا هو " انتهى.
وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا
دخلوا الكنف أن يقولوا: بسم الله ".
رواه الترمذي، وقال: إسناده ليس بالقوي.
قال النووي: قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم: يجوز ويستحب العمل في
الفضائل، والترغيب، والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعا وأما الأحكام
كالحلال، والحرام، والبيع، والنكاح، والطلاق، وغير ذلك فلا يعمل فيها إلا بالحديث
الصحيح، أو الحسن إلا أن يكون في احتياط في شئ من ذلك، كما إذا ورد حديث
20

ضعيف بكراهة بعض البيوع، أو الأنكحة، فإن المستحب أن يتنزه عنه، ولكن لا يجب
انتهى.
ونحوه لأبي عمر بن عبد البر في كتاب " فضل العلم ": ثم أخبر عز وجل أنه صير
الشياطين أولياء، أي: صحابة، ومتداخلين للكفرة الذين لا إيمان لهم.
(وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء
أتقولون على الله ما لا تعلمون (28) قل أمر ربى بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد
وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون (29) فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم
اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون (30))
وقوله: وإذا فعلوا وما بعده داخل في صفة الذين لا يؤمنون، والفاحشة في هذه
الآية، وإن كان اللفظ عاما هي كشف العورة عند الطواف، فقد روي عن الزهري أنه قال:
إن في ذلك نزلت هذه الآية. وقاله ابن عباس ومجاهد.
وقوله عز وجل: (قل أمر ربي بالقسط) تضمن معنى اقسطوا، ولذلك عطف عليه
قوله: (وأقيموا) حملا على المعنى، والقسط العدل واختلف في قوله سبحانه: (وأقيموا
وجوهكم عند كل مسجد) فقال مجاهد، والسدي: أراد إلى الكعبة، والمقصد على هذا
21

شرع القبلة والتزامها.
وقيل: أراد الأمر بإحضار النية لله في كل صلاة، والقصد نحوه، كما تقول: وجهت
وجهي لله قاله الربيع.
وقيل: المراد إباحة الصلاة في كل موضع من الأرض، أي: حيث ما كنتم فهو
مسجد لكم تلزمكم عند الصلاة إقامة وجوهكم فيه لله عز وجل. سبحانه: (كما
بدأكم تعودون) قال ابن عباس، وقتادة، ومجاهد: المعني: كما أوجدكم، واخترعكم،
كذلك يعيدكم بعد الموت والوقف على هذا التأويل تعودون و " فريقا " نصب ب‍ " هدى "
والثاني منصوب بفعل تقديره: وعذب فريقا.
وقال جابر بن عبد الله / وغيره: وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد الإعلام بأن من
سبقت له من الله الحسنى، وكتب سعيدا كان في الآخرة سعيدا، ومن كتب عليه أنه من
أهل الشقاء، كان في الآخرة شقيا، ولا يتبدل من الأمور التي أحكمها ودبرها، وأنفذها
شئ، فالوقف في هذا التأويل في قوله: (تعودون) غير حسن و (فريقا) على هذا التأويل
نصب على الحال، والثاني عطف على الأول.
(ويحسبون أنهم مهتدون) معناه: يظنون.
قال الطبري: وهذه الآية دليل على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على
معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها على علم منه بموضع الصواب.
(* يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب
المسرفين (31))
وقوله سبحانه: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) الآية: هذا خطاب عام
لجميع العالم كما تقدم، وأمروا بهذه الأشياء بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من
مشركي العرب فيها، والزينة الثياب الساترة. قاله مجاهد وغيره. و (عند كل مسجد)
22

أي: عند كل موضع سجود، فهي إشارة إلى الصلوات، وستر العورة فيها.
* ت *: ومن المستحسن هنا ذكر شئ مما جاء في اللباس، فمن أحسن الأحاديث
في ذلك، وأصحها ما رواه مالك في " الموطأ " عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين
الكعبين، ما أسفل من ذلك ففي النار " قال ذلك ثلاث مرات: " لا ينظر الله عز وجل إلى
من جر إزاره بطرا ".
وحدث أبو عمر في " التمهيد " بسنده عن ابن عمر قال: فيما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الإزار فهو في القميص يعني ما تحت الكعبين من القميص في النار، كما قال في الإزار،
وقد روى أبو خيثمة زهير بن معاوية قال: سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: أدركتهم
وقمصهم إلى نصف الساق أو قريب من ذلك، وكم أحدهم لا يجاوز يده انتهى. وروى
أبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت: كانت يد كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ،
وأما أحب اللباس فما رواه أبو داود عن أم سلمة، قالت: كان أحب الثياب إلى رسول
23

الله صلى الله عليه وسلم القميص. انتهى.
وجاء في المسبل وعيد شديد، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل أسبل إزاره: " إن هذا كان
يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره " رواه أبو داود. انتهى.
وقوله سبحانه: (وكلوا واشربوا) إباحة لما التزموه من تحريم اللحم، والودك في
أيام المواسم. قاله ابن زيد وغيره، ويدخل في ذلك البحيرة والسائبة، ونحو ذلك نص
على ذلك قتادة.
وقوله سبحانه: (ولا تسرفوا) معناه: لا تفرطوا. قال أهل التأويل: يريد تسرفوا بأن
تحرموا ما لم يحرم الله عز وجل واللفظة تقتضي النهي عن السرف مطلقا، ومن تلبس بفعل
مباح، فإن مشى فيه على القصد، وأوسط الأمور، فحسن، وإن أفرط جعل أيضا من
المسرفين.
24

وقال ابن عباس في هذه الآية: أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو
مخيلة.
قال ابن العربي: قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) الإسراف تعدي
الحد، فنهاهم سبحانه عن تعدى الحلال إلى الحرام.
وقيل: لا يزيد على قدر الحاجة، وقد اختلف فيه على قولين، فقيل / حرام.
وقيل: مكروه، وهو الأصح.
فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان، والأزمان، والإنسان، والطعمان. انتهى من
" أحكام القرآن ".
وقوله سبحانه: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) أي: قل لهم على جهة
التوبيخ. وزينة الله هي ما حسنته الشريعة، وقررته، وزينة الدنيا كل ما اقتضته الشهوة،
وطلب العلو في الأرض كالمال والبنين.
و (الطيبات) قال الجمهور: يريد المحللات.
وقال الشافعي وغيره: هي المستلذات أي: من الحلال، وإنما قاد الشافعي إلى هذا
تحريمه المستقذرات كالوزغ ونحوها، فإنه يقول: هي من الخبائث.
* ت *: وقال مكي: المعنى قل من حرم زينة الله، أي اللباس الذي يزين الإنسان
بأن يستر عورته، ومن حرم الطيبات من الرزق المباحة.
وقيل عنى بذلك ما كانت الجاهلية تحرمه من السوائب والبحائر. انتهى.
وقوله سبحانه: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) قال ابن
25

جبير: المعنى: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ينتفعون بها في الدنيا، ولا يتبعهم إثمها
يوم القيامة.
وقال ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغيرهم: المعنى هو أن يخبر صلى الله عليه وسلم
أن هذه الطيبات الموجودات هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا، وإن كانت أيضا لغيرهم
معهم، وهي يوم القيامة خالصة لهم، أي: لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة.
وقرأ نافع وحده " خالصة " بالرفع، والباقون بالنصب.
وقوله سبحانه: (كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) أي: كما فصلنا هذه الأشياء
المتقدمة الذكر (نفصل الآيات) أي: نبين الأمارات، والعلامات، والهدايات لقوم لهم
علم ينتفعون به.
وقوله عز وجل: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن...) الآية:
لما تقدم إنكار ما حرمه الكفار بآرائهم أتبعه بذكر ما حرم الله عز وجل.
والفواحش في اللغة ما فحش وشنع، وأصله من القبح في النظر، وهي هنا إنما هي
إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه، فكل ما حرمه الشرع، فهو فاحش، والإثم لفظ عام
في جميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم. هذا قول الجمهور.
وقال بعض الناس: هي الخمر وهذا قول مردود، لأن هذه السورة مكية، وإنما
حرمت الخمر ب‍ " المدينة " بعد أحد (والبغي) التعدي، وتجاوز الحد.
(وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) من أنه حرم البحيرة والسائبة ونحوه.
26

وقوله سبحانه: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)
المعنى: ولكل أمة أجل مؤقت لمجيء العذاب إذا كفروا، وخالفوا أمر ربهم، فأنتم أيتها
الأمة كذلك. قاله الطبري وغيره.
وقوله: (ساعة) لفظ عين به الجزء القليل من الزمان، والمراد جميع أجزائه،
والمعنى: لا يستأخرون ساعة، ولا أقل منها، ولا أكثر.
وقوله عز وجل: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى
وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك
/ أصحاب النار هم فيها خالدون) الخطاب في هذه الآية لجميع العالم، و " إن " هي
الشرطية دخلت عليها " ما " مؤكدة، وكان هذا الخطاب لجميع الأمم قديمها وحديثها هو
متمكن لهم، ومتحصل منه لحاضري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا حكم الله في العالم منذ
أنشأه، (ويأتينكم) مستقبل وضع موضع ماض ليفهم أن الإتيان باق وقت الخطاب،
لتقوى الإشارة بصحة النبوءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا على مراعاة وقت نزول الآية.
وأسند الطبري إلى أبي سيار السلمي قال: " إن الله سبحانه خاطب آدم وذريته، فقال:
(يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم...) الآية: قال: ثم نظر سبحانه إلى الرسل، فقال:
(يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة
واحدة وأنا ربكم فاتقون...) [المؤمنون: 51، 52] " الحديث.
قال * ع *: ولا محالة أن هذه المخاطبة في الأزل.
وقيل: المراد بالرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ذكره النقاش (ويقصون) أي: يسردون،
ويوردون، " والآيات " لفظ جامع لآيات الكتب المنزلة، وللعلامات التي تقترن بالأنبياء،
ونفي الخوف والحزن يعم جميع أنواع مكاره النفس وأنكادها.
27

قوله سبحانه: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته...) الآية: هذه
الآية وعيد واستفهام على جهة التقرير، أي: لا أحد أظلم منه، والكتاب هو اللوح
المحفوظ في قول الحسن وغيره.
وقيل: ما تكتبه الحفظة، ونصيبهم من ذلك هو الكفر والمعاصي. قاله مجاهد،
وغيره.
وقيل: هو القرآن، وحظهم فيه سواد الوجوه يوم القيامة.
وقال الربيع بن أنس، وغيره: المعنى بالنصيب ما سبق لهم في أم الكتاب من رزق،
وعمر، وخير، وشر في الدنيا، ورجحه الطبري.
واحتج له بقوله تعالى بعد ذلك: (حتى إذا جاءتهم رسلنا) أي: عند انقضاء ذلك،
فكان معنى الآية على هذا التأويل: أولئك يتمتعون، ويتصرفون في الدنيا بقدر ما كتب لهم
حتى إذا جاءتهم رسلنا لموتهم، وهذا تأويل جماعة، وعلى هذا يترتب ترجيح الطبري.
وقالت فرقة: (رسلنا) يريد بهم ملائكة العذاب يوم القيامة، (ويتوفونهم) معناه
عندهم يستوفونهم عددا في السوق إلى جهنم.
وقوله سبحانه حكاية عن الرسل (أين ما كنتم تدعون) استفهام تقرير، وتوبيخ،
وتوقيف على خزي، (وتدعون) معناه: تعبدون، وتؤملون.
وقولهم: (ضلوا عنا) معناه: هلكوا، وتلفوا، وفقدوا.
ثم ابتدأ الخبر عن المشركين بقوله سبحانه: (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا
كافرين).
28

قوله سبحانه: (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار)
هذه حكاية ما يقول الله سبحانه لهم يوم القيامة، بواسطة ملائكة العذاب، نسأل الله
العافية. وعبر عن يقول ب‍ " قال " لتحقق وقوع ذلك، وصدق القصة، وهذا كثير،
و (خلت) حكاية عن حال الدنيا، أي: ادخلوا في النار في جملة الأمم السابقة لكم في
الدنيا الكافرة.
* ت *: وكذا قدره أبو حيان في جملة " أمم "، قال: وقيل: " في " بمعنى " مع "
أي: مع أمم، وتقدم له في " البقرة " أن " في " تجيء للمصاحبة، كقوله تعالى: (ادخلوا في
أمم قد خلت) انتهى.
وقدم ذكر الجن، لأنهم أعرق / في الكفر، وإبليس أصل الضلال والإغواء، وهذه
الآية نص في أن كفرة الجن في النار، والذي يقتضيه النظر أن مؤمنيهم في الجنة، لأنهم
عقلاء، مكلفون، مبعوث إليهم، آمنوا وصدقوا، وقد بوب البخاري رحمه الله بابا في ذكر
الجن، وثوابهم، وعقابهم.
وذكر عبد الجليل: أن مؤمني الجن يكونون ترابا كالبهائم، وذكر في ذلك حديثا
مجهولا، وما أراه يصح. والله أعلم. والإخوة في هذه الآية إخوة الملة.
قال * ص *: في " النار " متعلق ب‍ " خلت "، أو بمحذوف، وهو صفة ل‍ " أمم " أي:
في أمم سابقة، في الزمان كائنة، من الجن والإنس كائنة في النار، ويحتمل أن يتعلق
ب‍ " ادخلوا " على أن " في " الأولى بمعنى " مع "، والثانية للظرفية، وإذا اختلف مدلول
الحرفين، جاز تعلقهما بمحل واحد. انتهى.
(وادركوا) معناه: تلاحقوا، أصله: تداركوا أدغم، فجلبت ألف الوصل.
وقال البخاري: (اداركوا) اجتمعوا. انتهى. وقوله سبحانه: (قالت أخراهم
لأولاهم) معناه: قالت الأمم الأخيرة التي وجدت ضلالات متقررة، وسننا كاذبة مستعملة
للأولى التي شرعت ذلك، وافترت على الله، وسلكت سبيل الضلال ابتداء (ربنا هؤلاء
أضلونا)، أي: طرقوا لنا طرق الضلال، (قال لكل ضعف) أي: عذاب مشدد على الأول
والآخر (ولكن لا تعلمون) أي المقادير، وصور التضعيف.
29

وقوله سبحانه: (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل) أي: قد
استوت حالنا وحالكم (فذوقوا العذاب) باجترامكم، وهو من كلام الأمة المتقدمة
للمتأخرة.
وقيل: قوله: (فذوقوا) هو من كلام الله عز وجل لجميعهم.
وقوله سبحانه: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا
يدخلون الجنة) الآية، هذه الآية عامة في جميع الكفرة قديمهم وحديثهم.
قرأ نافع وغيره: " تفتح " بتشديد التاء الثانية، وقرأ أبو عمرو: " تفتح " بالتاء أيضا
وسكون الفاء، وتخفيف الثانية، وقرأ حمزة " يفتح " بالياء من أسفل، وتخفيف التاء، ومعنى
الآية: لا يرتفع لهم عمل، ولا روح، ولا دعاء، فهي عامة في نفي ما يوجب للمؤمنين.
قاله ابن عباس، وغيره.
ثم نفى سبحانه عنهم دخول الجنة، وعلق كونه بكون محال، وهو أن يدخل الجمل
في ثقب الإبرة حيث يدخل الخيط، والجمل كما عهد، والسم كما عهد، وقرأ جمهور
المسلمين " الجمل " واحد الجمال، وقرأ ابن عباس وغيره " الجمل " بضم الجيم وتشديد
الميم، وهو حبل السفينة والسم: الثقب من الإبرة وغيرها، و (كذلك) أي: وعلى هذه
30

الصفة، وبمثل هذا الحتم، وغيره نجزي الكفرة وأهل الجرائم على الله.
(لهم من جهنم مهاد) أي: فراش، ومسكن، ومضجع يتمهدونه، وهي لهم غواش
جمع غاشية، وهي ما يغشى الإنسان أي: يغطيه، ويستره من جهة فوق.
وقوله سبحانه: (لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)
هذه آية وعد مخبرة أن جميع المؤمنين هم أصحاب الجنة، ولهم الخلد فيها، ثم اعترض
فيها القول بعقب الصفة التي شرطها في المؤمنين باعتراض يخفف الشرط، ويرجي في
رحمة الله، ويعلم أن دينه يسر، وهذه الآية نص في أن الشريعة لا يتقرر من تكاليفها شئ
لا يطاق، وقد / تقدم ذلك في " سورة البقرة ".
" والوسع " معناه: الطاقة، وهو القدر الذي يتسع له البشر.
وقوله سبحانه: (ونزعنا ما في صدورهم من غل) هذا إخبار من الله عز وجل أنه
ينقي قلوب ساكني الجنة من الغل، والحقد، وذلك أن صاحب الغل معذب به، ولا عذاب
في الجنة.
وورد في الحديث: " الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب
المؤمنين ".
والغل: الحقد والإحنة الخفية في النفس. (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا)
الإشارة ب‍ " هذا " يتجه أن تكون إلى الإيمان، والأعمال الصالحات المؤدية إلى الجنة،
ويحتمل أن تكون إلى الجنة نفسها، أي: أرشدنا إلى طرقها.
وقرأ ابن عامر وحده: " ما كنا لنهتدي " بسقوط الواو، وكذلك هي في مصاحف
أهل " الشام "، ووجهها أن الكلام متصل، مرتبط بما قبله.
ولما رأوا تصديق ما جاءت به الأنبياء عن الله سبحانه، وعاينوا إنجاز المواعيد قالوا:
31

(لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا) أي: قيل لهم بصياح، وهذا النداء من قبل الله،
" وأن " مفسرة لمعنى النداء، بمعنى: أي.
وقوله: (بما كنتم تعملون) لا على طريق وجوب ذلك على الله تعالى لكن بقرينة
رحمته، وتغمده، والأعمال أمارة من الله سبحانه وطريق إلى قوة الرجاء، ودخول الجنة
إنما هو بمجرد رحمته، والقسم فيها على قدر الأعمال. " وأورثتم " مشيرة إلى الأقسام.
وقوله سبحانه: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا
حقا...) الآية.
هذا النداء من أهل الجنة لأهل النار تقريع، وتوبيخ، وزيادة في الكرب، وهو بأن
يشرفوا عليهم، ويخلق الإدراك في الأسماع والأبصار.
وقوله سبحانه: (فأذن مؤذن بينهم) أي: أعلم معلم، والظالمون هنا هم
الكافرون.
* ت *: حكي عن غير واحد أن طاوس دخل على هشام بن عبد الملك فقال
له: اتق الله، واحذر يوم الأذان، فقال: وما يوم الأذان؟ فقال قوله تعالى: (فأذن مؤذن
بينهم أن لعنة الله على الظالمين) فصعق هشام، فقال طاوس: هذا ذل الوصف، فكيف ذل
المعاينة انتهى.
(ويبغونها عوجا) أي: يطلبونها، أو يطلبون لها، والضمير في (يبغونها) عائد على
السبيل.
32

وقوله سبحانه: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم).
(وبينهما): أي: بين الجنة والنار، ويحتمل بين الجمعين، والحجاب هو السور
الذي ذكره الله عز وجل في قوله: (فضرب بينهم بسور له باب) [الحديد: 13].
قال ابن عباس، وقال مجاهد: الأعراف حجاب بين الجنة والنار.
وقال ابن عباس أيضا: هو تل بين الجنة والنار.
وذكر الزهراوي حديثا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أحدا جبل يحبنا ونحبه، وإنه يوم
القيامة يمثل بين الجنة والنار، يحتبس عليه أقوام، يعرفون كلا بسيماهم، هم إن شاء الله
من أهل الجنة ".
والأعراف جمع عرف، وهو المرتفع من الأرض، ومنه عرف الفرس، وعرف الديك
لعلوهما.
وقال بعض الناس: سمي الأعراف أعرافا، لأن أصحابه يعرفون الناس.
قال * ع *: وهذه عجمة، وإنما المراد على أعراف ذلك الحجاب، أي أعاليه.
وقوله: (رجال) قال الجمهور: إنهم رجال من البشر، ثم اختلفوا في تعيينهم، فقال
شرحبيل بن سعد: هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم.
وذكر الطبري في ذلك / حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تعادل عقوقهم، واستشهادهم.
وقال ابن عباس، وغيره: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، ووقع في " مسند
33

خيثمة بن سليمان " في آخر الجزء الخامس عشر عن جابر بن عبد الله، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت
حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة
دخل النار. قيل: يا رسول الله، فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب
الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ".
وقيل غير هذا من التأويلات.
قال ع: واللازم من الآية أن على أعراف ذلك السور، أو على مواضع مرتفعة عن
الفريقين حيث شاء الله تعالى رجالا من أهل الجنة يتأخر دخولهم، ويقع لهم ما وصف
من الاعتبار.
و (يعرفون كلا بسيماهم)، أي: بعلاماتهم من بياض الوجوه، وحسنها في أهل
الجنة، وسوادها وقبحها في أهل النار إلى غير ذلك في حيز هؤلاء، وحيز هؤلاء.
وقوله: (لم يدخلوها وهم يطمعون) المراد به: أهل الأعراف فقط، وهو تأويل ابن
مسعود، والسدي، وقتادة، والحسن وقال: والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا
لخير أراده بهم.
قال * ع *: وهذا هو الأظهر الأليق مما قيل في هذه الآية، ولا نظر لأحد مع
قول النبي صلى الله عليه وسلم.
34

وقوله سبحانه: (وإذا صرفت أبصارهم) أي: أبصار أصحاب الأعراف، فهم
يسلمون على أصحاب الجنة، وإذا نظروا إلى النار، وأهلها، قالوا: (ربنا لا تجعلنا مع
القوم الظالمين) قاله ابن عباس، وجماعة من العلماء.
وقوله سبحانه: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم) يريد من أهل
النار.
(ما أغنى عنكم جمعكم) " ما " استفهام بمعنى التقرير، والتوبيخ، و " ما " الثانية
مصدرية، و " جمعكم " لفظ يعم المال والأجناد والخول.
وقوله سبحانه: (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة) أهل
الأعراف هم القائلون: " أهؤلاء " إشارة إلى أهل الجنة، والذين خوطبوا هم أهل النار،
والمعنى: أهؤلاء الضعفاء في الدنيا الذين حلفتم أن الله لا يعبؤ بهم، قيل لهم: ادخلوا الجنة.
وقال النقاش: أقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف داخلون النار معهم، فنادتهم
الملائكة: أهؤلاء، ثم نادت أصحاب الأعراف: ادخلوا الجنة.
وقرأ عكرمة: " دخلوا الجنة " على الإخبار بفعل ماض.
وقوله سبحانه: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء...)
الآية: لفظة النداء تتضمن أن أهل النار وقع لهم علم بأن أهل الجنة يسمعون نداءهم،
35

وجائز أن يكون ذلك، وهم يرونهم بإدراك يجعله الله لهم على بعد السفل من العلو،
وجائز أن يكون ذلك، وبينهم السور والحجاب المتقدم الذكر.
وروي أن ذلك النداء هو عند اطلاع أهل الجنة عليهم.
وقوله سبحانه: (أو مما رزقكم الله) إشارة إلى الطعام. قاله السدي.
فيقول لهم أهل الجنة: إن الله حرم طعام الجنة وشرابها على الكافرين، وإجابة أهل
الجنة بهذا الحكم هو عن أمر الله تعالى.
ومعنى قوله تعالى: (الذين اتخذوا دينهم لهوا) أي بالإعراض والاستهزاء. بمن
يدعوهم إلى الإسلام.
(وغرتهم الحياة الدنيا) أي: خدعتهم بزخرفها، واعتقادهم أنها الغاية القصوى.
وقوله: (فاليوم ننساهم) هو من إخبار الله عز وجل عما يفعل بهم والنسيان هنا
بمعنى الترك، أي: نتركهم في العذاب، كما تركوا النظر / للقاء هذا اليوم. قاله ابن
عباس وجماعة.
" وما كانوا " عطف على " ما " من قوله: " كما نسوا "، ويحتمل أن تقدر " ما " الثانية
زائدة، ويكون قوله: " وكانوا " عطفا على قوله: " نسوا ".
وقوله سبحانه: (ولقد جئناهم بكتاب) الضمير في " جئناهم " لمن نقدم ذكره،
و " الكتاب " اسم جنس، واللام في " لقد " لام قسم.
وقال يحيى بن سلام: بل الكلام تم في (يجحدون)، وهذا الضمير لمكذبي نبيا
محمد صلى الله عليه وسلم وهو ابتداء كلام آخر، والمراد بالكتاب القرآن، (وعلى علم) معناه: على
بصيرة.
وقوله سبحانه: (هل ينظرون) أي ينتظرون (إلا تأويله)، أي مآله وعاقبته يوم
القيامة. قاله ابن عباس وغيره.
36

وقال السدي: مآله في الدنيا وقعة بدر وغيرها، ويوم القيامة أيضا، ثم أخبر تعالى
أن مآل حال هذا الدين يوم يأتي يقع معه ندمهم، ويقولون تأسفا على ما فاتهم من الإيمان:
(لقد جاءت رسل ربنا بالحق)، فالتأويل على هذا من آل يؤول، (ونسوه) يحتمل أن
يكون بمعنى الترك، وباقي الآية بين.
* ت *: وهذا التقرير يرجح تأويل ابن سلام المتقدم.
وقوله سبحانه: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام...) الآية
خطاب عام يقتضي التوحيد، والحجة عليه بدلائله، وجاء في التفسير والأحاديث أن الله
سبحانه ابتدأ الخلق يوم الأحد، وكملت المخلوقات يوم الجمعة، وهذا كله والساعة اليسيرة
في قدرة الله سبحانه سواء.
قال * م *: (في ستة أيام) " ستة " أصلها سدسة، فأبدلوا من السين تاء، ثم أدغموا
الدال في التاء، وتصغيره سديس وسديسة. انتهى.
وقوله سبحانه: (ثم استوى على العرش) معناه عند أبي المعالي وغيره من حذاق
المتكلمين: الملك، والسلطان، وخص العرش بالذكر تشريفا له، إذ هو أعظم
المخلوقات.
وقوله سبحانه: (ألا له الخلق والأمر) " ألا ": استفتاح كلام. وأخذ المفسرون
" الخلق " بمعنى المخلوقات، أي: هي كلها ملكه، واختراعه، وأخذوا الأمر مصدرا من أمر
يأمر.
قال * ع *: ويحتمل أن تؤخذ لفظة " الخلق " على المصدر من: خلق يخلق
خلقا، أي: له هذه الصفة، إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم، ويؤخذ الأمر على أنه واحد
37

الأمور، فيكون بمنزلة قوله: (وإليه يرجع الأمر كله) [هود: 123] (وإلى الله ترجع
الأمور) [البقرة: 210].
وكيف ما تأولت الآية، فالجميع لله سبحانه.
و (تبارك) معناه: عظم، وتعالى، وكثرت بركاته، ولا يوصف بها إلا الله سبحانه.
و (تبارك) لا يتصرف في كلام العرب، فلا يقال منه: يتبارك، و (العالمين) جمع
عالم.
قوله عز وجل: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) هذا أمر بالدعاء،
وتعبد به، ثم قرن سبحانه بالأمر به صفات تحسن معه. وقوله: (تضرعا) معناه بخشوع،
واستكانة، والتضرع لفظة تقتضي الجهر، لأن التضرع إنما يكون بإشارات جوارح وهيئات
أعضاء تقترن بالطلب، و (خفية) يريد في النفس خاصة، وقد أثنى الله سبحانه على ذلك
في قوله سبحانه: (إذ نادى ربه نداء خفيا) [مريم: 3]، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " خير
الذكر الخفي " والشريعة مقررة أن السر فيما لم يفرض من أعمال البر أعظم أجرا من
الجهر.
* ت *: ونحو هذا لابن العربي لما تكلم على هذه الآية، قال: الأصل في الأعمال
الفرضية الجهر، والأصل في الأعمال النفلية السر، وذلك لما يتطرق إلى النفل من الرياء،
والتظاهر بذلك في الدنيا، والتفاخر على الأصحاب بالأعمال، وقلوب الخلق جبلت بالميل
إلى أهل الطاعة. انتهى / من " الأحكام ".
وقوله سبحانه: (إنه لا يحب المعتدين) يريد في الدعاء، وإن كان اللفظ عاما،
والاعتداء في الدعاء على وجوه منها: الجهر الكثير، والصياح، وفي " الصحيح " عنه صلى الله عليه وسلم:
" أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ".
38

ومنها: أن يدعو في محال، ونحو هذا من التشطط، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب
إليها من قول، أو عمل، وأعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول، أو عمل ".
وقال البخاري: (إنه لا يحب المتعدين) أي: في الدعاء وغيره. انتهى.
* ت *: قال الخطابي: وليس معنى الاعتداء الإكثار، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " إن الله يحب الملحين في الدعاء "، وقال: " إذا دعا أحدكم فليستكثر، فإنما هو
يسأل ربه ". انتهى.
وروى أبو داود في " سننه " عن عبد الله بن مغفل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهر والدعاء " انتهى.
39

وقوله سبحانه: (ولا تفسدوا في الأرض...) الآية ألفاظها عامة تتضمن كل فساد
قل أو كثر بعد صلاح قل أو كثر، والقصد بالنهي هو [على] العموم، وتخصيص شئ دون
شئ، في هذا تحكم إلا أن يقال على جهة المثال.
وقوله سبحانه: (وادعوه خوفا وطمعا) أمر بأن يكون الإنسان في حالة تقرب،
وتحرز، وتأميل لله عز وجل حتى يكون الخوف والرجاء كالجناحين للطير يحملانه في
طريق استقامة، وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان.
وقد قال كثير من العلماء: ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء
الموت غلب الرجاء.
وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب على المرء بكثير، وهذا كله طريق
احتياط، ومنه تمنى الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة،
وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف.
ثم آنس سبحانه بقوله: (إن رحمت الله قريب من المحسنين).
وقوله سبحانه: (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا
ثقالا...) الآية: هذه آية اعتبار، واستدلال. وقرأ عاصم " الرياح " بالجمع، " بشرا "
40

بالباء المضمومة والشين الساكنة، وروي عنه " بشرا " بضم الباء والشين، ومن جمع الريح في
هذه الآية، فهو أسعد، وذلك أن الرياح حيث وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرحمة،
كقوله: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) [الروم: 46] وأكثر ذكر الريح مفردة إنما هو
بقرينة عذاب، كقوله سبحانه: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) [الذاريات: 41]
وقد تقدم إيضاح هذا في " سورة البقرة ".
ومن قرأ في هذه الآية " الريح " بالإفراد، فإنما يريد به اسم الجنس، وأيضا فتقييدها
ب‍ " بشرا " يزيل الاشتراك.
والإرسال في الريح هو بمعنى الإجراء، والإطلاق، وبشرا، أي: تبشر السحاب،
وأما " بشرا " بضم الباء والشين، فجمع بشير، كنذير ونذور، والرحمة في هذه الآية المطر،
و (بين يدي)، أي: أمام رحمته وقدامها، و (أقلت) معناه: رفعته من الأرض، واستقلت
به، و (ثقالا) معناه من الماء، والعرب تصف السحاب بالثقل، والريح تسوق السحاب من
ورائه فهو سوق حقيقة، والضمير في (سقناه) عائد على السحاب، ووصف البلد بالموت
استعارة بسبب شعثه وجدوبته.
والضمير في قوله (فأنزلنا به) يحتمل أن يعود على السحاب، أي منه، ويحتمل أن
يعود على البلد، ويحتمل أن يعود على الريح.
وقوله تبارك وتعالى: (كذلك نخرج الموتى) يحتمل مقصدين:
أحدهما: أن يراد كهذه / القدرة العظيمة هي القدرة على إحياء الموتى، وهذا مثال
لها.
الثاني: أن يراد أن هكذا نصنع بالأموات من نزول المطر عليهم، حتى يحيوا به،
حسب ما وردت به الآثار، فيكون الكلام خبرا لا مثالا.
وقوله سبحانه: (والبلد الطيب يخرج نباته...) آية متممة للمعنى الأول في الآية
قبلها، معرفة بعادة الله سبحانه في إنبات الأرضين، فمن أراد أن يجعلها مثالا لقلب
المؤمن، وقلب الكافر، كما هو محكي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي،
فذلك مترتب، لكن ألفاظ الآية لا تقتضي أن المثل قصد به ذلك، والطيب: هو الجيد
التراب الكريم الأرض وخص بإذن ربه مدحا وتشريفا، وهذا كما تقول لمن تغض منه: أنت
41

كما شاء الله، فهي عبارة تعطي مبالغة في مدح أو ذم. والخبيث هو السباخ ونحوها من
رديء الأرض.
والنكد العسير القليل. (كذلك نصرف الآيات) أي هكذا نبين الأمور،
و (يشكرون) معناه: يؤمنون ويثنون بآلاء الله سبحانه.
قوله عز وجل: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين *
قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنصح
لكم وأعلم من الله مالا تعلمون).
قال الطبري: أقسم الله تعالى أنه أرسل نوحا، وكذا قال أبو حيان: " لقد "
اللام جواب قسم محذوف. انتهى.
و " غيره " بالرفع بدل من قوله: (من إله)، لأنه في موضع رفع، ويجوز أن يكون نعتا
على الموضع، لأن التقدير، ما لكم إله غيره، والملأ الجماعة من الأشراف.
قيل: إنهم مأخوذون من أنهم يملئون النفس والعين، ويحتمل من أنه إذا تمالؤوا على
أمر تم.
وقولهم: (إنا لنراك) يحتمل من رؤية البصر، ويحتمل من رؤية القلب، وهو أظهر.
و (في ضلال) أي في تلف وجهالة بما تسلك و
وقوله لهم جواب عن هذا:
42

(ليس بي ضلالة) مبالغة في حسن الأدب، والإعراض عن الجفاء منهم، وتناول
رفيق، وسعة صدر حسب ما تقتضيه خلق النبوة.
وقوله: (ولكني رسول) تعرض لمن يريد النظر، والبحث، والتأمل في المعجزة.
وقوله عليه السلام: (وأعلم من الله ما لا تعلمون) لفظ مضمنه الوعيد، لا سيما
وهم لم يسمعوا قط بأمة عذبت.
وقوله: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم
ترحمون * فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما
عمين).
الاستفهام هنا على جهة التقرير والتوبيخ، وقوله: (على رجل منكم) قيل: " على "
بمعنى " مع ".
وقيل: هو على حذف مضاف، تقديره: على لسان رجل، ويحتمل أن يكون معناه
منزل على رجل منكم، إذ كل ما يأتي من الله سبحانه فله حكم النزول، و (لعلكم) ترج
بحسب حال نوح ومعتقده.
وقوله سبحانه: (فأنجيناه والذين معه في الفلك...) الآية.
وفي التفسير: إن الذين كانوا مع نوح في السفينة أربعون رجلا.
وقيل: ثمانون رجلا وثمانون امرأة وقيل: عشرة وقيل: ثمانية. قاله قتادة.
وقيل: سبعة. والله أعلم.
وفي كثير من كتب الحديث، الترمذي وغيره أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه
السلام وقوله: (عمين) جمع عم، ويريد عمي البصائر، وأتى في حديث الشفاعة وغيره
أن نوحا أول الرسل.
43

وقوله سبحانه: (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره
/ أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من
الكاذبين * قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات
ربي وأنا لكم ناصح أمين) عاد اسم الحي، وهم عرب فيما يذكر، و " أخاهم " نصب ب‍
" أرسلنا " وهو معطوف على نوح، وهذه أيضا نذارة من هود عليه السلام.
وقوله: (أفلا تتقون) استعطاف إلى التقوى، والإيمان.
وقوله: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ
جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون *
قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).
قوله: (وزادكم في الخلق) أي في الخلقة، والبسطة الكمال في الطول والعرض.
وقيل: زادكم على أهل عصركم.
وقال الطبري: زادكم على قوم نوح. وقاله قتادة.
قال * ع *: واللفظ يقتضي أن الزيادة على جميع العالم، وهو الذي يقتضيه ما
يذكر عنهم.
وروي أن طول الرجل منهم كان مائة ذراع، وطول أقصرهم ستون ونحوها. والآلاء
جمع " إلى " على مثل " معي "، وهي النعمة والمنة.
قال الطبري: وعاد هؤلاء فيما حدث ابن إسحاق من ولد عاد بن إرم بن عوص بن
سام بن نوح، وكانت مساكنهم " الشحر " من أرض " اليمن " وما والى " حضرموت " إلى
" عمان ".
44

قال السدي: وكانوا بالأحقاف، وهي الرمال، وكانت بلادهم أخصب بلاد، فردها
الله صحارى.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن قبر هود عليه السلام هنالك في كثيب
أحمر تخالطه مدرة ذات أراك وسدر، وكانوا قد فشوا في جميع الأرض، وملكوا كثيرا
بقوتهم وعددهم، وظلموا الناس وكانوا ثلاثة عشر قبيلة، وكانوا أصحاب أوثان، فبعث الله
إليهم هودا من أفضلهم وأوسطهم نسبا، فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه وإلى ترك
الظلم.
قال ابن إسحاق: ولم يأمرهم فيما يذكر بغير ذلك، فكذبوه وعتوا، واستمروا على
ذلك إلى أن أراد الله إنفاذ أمره أمسك عنهم المطر ثلاث سنين، فشقوا بذلك، وكان الناس
في ذلك الزمان إذا دهمهم أمر، فزعوا إلى المسجد الحرام ب‍ " مكة " فدعوا الله فيه تعظيما له
مؤمنهم وكافرهم، وأهل " مكة " يومئذ العماليق، وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بكر،
فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وفدا إلى " مكة " يستسقون الله لهم، فبعثوا قيل بن عنز،
ولقيم بن هزال، وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد، وكان هذا مؤمنا يكتم
إيمانه، وجلهمة بن الخيبري في سبعين رجلا من قومهم، فلما قدموا " مكة " نزلوا على
معاوية بن بكر، وهو بظاهر " مكة " خارج الحرم، فأنزلهم، وأقاموا عنده شهرا يشربون
الخمر، وتغنيهم الجرادتان قينتا معاوية، ولما رأى معاوية إقامتهم، وقد بعثهم عاد للغوث
أشفق على عاد، وكان ابن أختهم أمه: كلهدة ابنة الخيبري أخت جلهمة، وقال: هلك
أخوالي، وشق عليه أن يأمر أضيافه بالانصراف عنه، فشكا ذلك إلى قينتيه، فقالتا: اصنع
شعرا نغني به، عسى أن ننبههم، فقال: [الوافر]
ألا يا قيل ويحك قم فهينم * لعل الله يصحبنا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا * قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو * به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير * فقد أمست / نساؤهم عيامى
45

وإن الوحش تأتيهم جهارا * ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم * نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم * ولا لقوا التحية والسلاما
فغنت به الجرادتان، فلما سمعه القوم قال بعضهم: يا قوم إنما بعثكم قومكم لما حل
بهم، فادخلوا هذا الحرم، وادعوا لعل الله يغيثهم فخرجوا لذلك، فقال لهم مرثد بن
سعد: إنكم والله ما تسقون بدعائكم، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وآمنتم سقيتم، وأظهر إيمانه
يومئذ، فخالفه الوفد، وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر: احبسا عنا مرثدا، ولا يدخل معنا
الحرم، فإنه قد اتبع هودا، ومضوا إلى الحرم، فاستسقى قيل بن عنز، وقال: يا إلا هنا إن
كان هود صادقا، فاسقنا، فإنا قد هلكنا، فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء
وسوداء، ثم نادى مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما
شئت، فقال قيل: قد اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء، فنودي:
قد اخترت رمادا رمددا * لا تبقى من عاد أحدا
لا والدا ولا ولدا * إلا جعلتهم همدا
وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم
يقال له: المغيث، فلما رأوها، قالوا هذا عارض ممطرنا، حتى عرفت أنها ريح امرأة منهم
يقال لها: مهدر، فصاحت وصعقت، فلما أفاقت قيل لها: ما رأيت؟ قالت: ريحا فيها
كشهب النار، أمامها رجال يقودونها، فسخرها الله عليهم سبع ليال، وثمانية أيام حسوما،
والحسوم: الدائمة، فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك، فاعتزل هود، ومن معه من المؤمنين
في حظيرة ما يصيبه من ريح إلا ما يلتد به.
قال * ع *: وهذا قصص وقع في " تفسير الطبري " مطولا، وفيه اختلاف،
فاقتضبت عيون ذلك بحسب الإيجاز، وفي خبرهم: أن الريح كانت تدمغهم بالحجارة،
وترفع الظعينة عليها المرأة حتى تلقيها في البحر.
وفي خبرهم: أن أقوياءهم كان أحدهم يسد بنفسه مهب الريح حتى تغلبه فتلقيه في
البحر، فيقوم آخر مكانه حتى هلك الجميع. وقال زيد بن أسلم: بلغني أن ضبعا ربت
46

أولادها في حجاج عين رجل منهم. وفي خبرهم: أن الله سبحانه لما أهلكهم بعث طيرا،
فنقلت جيفهم حتى طرحتها في البحر، فذلك قوله سبحانه: (فأصبحوا لا ترى إلا
مساكنهم) [الأحقاف: 25] وفي بعض ما روي من شأنهم أن الريح لم تبعث قط إلا
بمكيال إلا يومئذ، فإنها عتت على الخزنة، فغلبتهم، فذلك قوله سبحانه: (فأهلكوا بريح
صرصر عاتية) [الحاقة: 6] وروي أن هودا لما هلكت عاد نزل بمن آمن معه إلى " مكة "
فكانوا بها حتى ماتوا، فالله أعلم أي ذلك كان.
وقولهم: (أجئتنا لنعبد الله وحده...) الآية: ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن
يتركوا أصنامهم، ويفردون العبادة لله مع إقرارهم بالإله الخالق المبدع، وهذا هو الأظهر
فيهم، وفي عباد الأوثان كلهم، ولا يجحد ربوبية الله تعالى من الكفرة إلا من أفرطت
غباوته.
وقولهم: (فأتنا بما تعدنا): تصميم على التكذيب، واستعجال للعقوبة.
وقوله سبحانه: (قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء
سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين *
فأنجيناه والذين معه برحمة منا...) الآية: أعلمهم بأن القضاء قد نفذ، وحل عليهم
الرجس، وهو السخط والعذاب.
/ وقوله: (أتجادلونني في أسماء سميتموها) أي: في مسميات سميتموها آلهة،
(وقطعنا دابر) استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك، والدابر: الذي يدبر القوم، ويأتي
خلفهم، فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك، فلم يبق أحد.
وقوله: (كذبوا بآياتنا) دال على المعجزة، وإن لم تتعين.
* ت *: ومن معجزاته قوله: (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) [هود: 55] على ما
سيأتي إن شاء الله في موضعه.
47

وقوله سبحانه: (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره
قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها
بسوء فيأخذكم عذاب أليم) قرأ الجمهور: " وإلى ثمود " بغير صرف، على إرادة القبيلة،
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: " وإلى ثمود " بالصرف، على إرادة الحي والقراءتان
فصيحتان، مستعملتان، وقد قال تعالى: (ألا إن ثمودا كفروا ربهم) [هود: 68]،
(وأخاهم) عطف على " نوح "، والمعنى: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم، وهي أخوة نسب،
وهم قوم عرب، فهود وصالح عربيان، وكذلك إسماعيل وشعيب، كذا قال الناس، وفي
أمر إسماعيل نظر.
* ت *: النظر الذي أشار إليه لا يخفى عليك، وذلك أن إسماعيل والده إبراهيم
عليه السلام أعجمي، وتعلم إسماعيل العربية من العرب الذين نزلوا عليه بمكة، حسب ما
ذكره أهل السيرة فهذا وجه النظر الذي أشار إليه، وفي نظره رحمه الله نظر يمنعني من
البحث معه ما أنا له قاصد من الإيجار والاختصار، دون البسط والانتشار، نعم خرج أبو
بكر الآجري من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وأربعة من العرب:
هود، وشعيب، وصالح ونبيك، يا أبا ذر " انتهى، يذكر إسماعيل، فهذا الحديث قد
يعضد ما قاله * ع *: وصالح عليه السلام هو صالح بن عبيد بن عابر بن إرم بن سام بن
نوح، كذا ذكر مكي.
قال وهب: بعثه الله حين راهق الحلم، ولما هلك قومه، ارتحل بمن معه إلى
مكة، فأقاموا بها حتى ماتوا فقبورهم بين دار الندوة والحجر، أي: كما ارتحل هود بمن
معه إلى مكة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
48

وقوله: (قد جاءتكم بينة من ربكم) أي: آية أو حجة أو موعظة بينة من ربكم، قال
بعض الناس: إن صالحا جاء بالناقة من تلقاء نفسه.
وقال الجمهور: بل كانت مقترحة، وهذا أليق بما ورد في الآثار من أمرهم، روي أن
قومه طلبوا منه آية تضطرهم إلى الإيمان، وقالوا: يا صالح، إن كنت صادقا، فادع لنا ربك
يخرج لنا من هذه الهضبة، وفي بعض الروايات من هذه الصخرة - لصخرة بالحجر - ناقة
عشراء، فدعا الله، فتمخضت تلك الهضبة، وانشقت عن ناقة عظيمة، وروي أنها كانت
حاملا، فولدت سقبها المشهور.
وروي أنه خرج معها فصيلها من الصخرة.
وقيل لها: (ناقة الله)، تشريفا لها، وتخصيصا، وهي إضافة خلق إلى خالق،
وجعل الله لها شربا يوما، ولهم شرب يوم، وكانت آية في شربها وحلبها.
قال المفسرون: كانت خلقا عظيما تأتي إلى الماء بين جبلين، فيزحمانها من العظم،
وقاسمت ثمود في الماء يوما بيوم، فكانت الناقة ترد يومها، فتستوفي ماء بئرهم شربا،
ويحلبونها ما شاؤوا من لبن، ثم تمكث يوما، وترد بعد ذلك غبا، فاستمر ذلك ما شاء الله
حتى ملتها ثمود، وقالوا: ما نصنع باللبن، الماء أحب إلينا منه، وكان سبب الملل فيما
روي: أنها كانت تصيف في بطن الوادي، وادي الحجر / وتشتو في ظاهره، فكانت
مواشيهم تفر منها، فتمالؤوا على ملل الناقة، وروي أن صالحا أوحى الله إليه أن قومك
سيعقرون الناقة، وينزل بهم العذاب عند ذلك، فأخبرهم بذلك، فقالوا: عياذا بالله أن نفعل
ذلك، فقال: إن لم تفعلوا أنتم أوشك أن يولد فيكم من يفعله، وقال لهم صفة عاقرها:
أحمر، أشقر، أزرق، فولد قدار على الصفة المذكورة، فكان الذي عقرها بالسيف، وقيل:
بالسهم في ضرعها، وهرب فصيلها عند ذلك، حتى صعد على جبل يقال له القارة، فرغا
ثلاثا، فقال: يا صالح، هذا ميعاد ثلاثة أيام للعذاب، وأمرهم قبل رغاء الفصيل أن يطلبوه
عسى أن يصلوا إليه، فيندفع عنهم العذاب به، فراموا الصعود إليه في الجبل فارتفع الجبل
في السماء، حتى ما تناله الطير، وحينئذ رغا الفصيل، وروي أن صالحا عليه السلام قال
لهم، حين رغا الفصيل: ستصفر وجوهكم في اليوم الأول، وتحمر في الثاني، وتسود في
الثالث، فلما ظهرت العلامات التي قال لهم، أيقنوا بالهلاك، واستعدوا، ولطخوا أبدانهم
بالمر، وحفروا القبور، وتحنطوا وتكفنوا في الأنطاع، فأخذتهم الصيحة، وخرج صالح
ومن آمن معه، حتى نزل رملة فلسطين، وقد أكثر الناس في هذا القصص، وهذا القدر
49

كاف، ومن أراد استيفاء هذا القصص، فليطالع الطبري.
قال * ع *: وبلاد ثمود هي بين الشام والمدينة، وهي التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع المسلمين في غزوة تبوك فقال: " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا
باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ثم اعتجر بعمامة "، وأسرع السير، حتى جاز
الوادي صلى الله عليه وسلم.
* ت *: ولفظ البخاري: ثم قنع رأسه، وأسرع السير... الحديث.
50

وقوله سبحانه: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض...)
الآية: (بوأكم): معناه مكنكم، وهي مستعملة في المكان وظروفه، و " القصور ": جمع
قصر، وهي الديار التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصة، بخلاف بيوت العمود،
وقصرت على الناس قصرا تاما، و " النحت ": النجر والقشر في الشئ الصلب، كالحجر
والعود، ونحوه، وكانوا ينحتون الجبال لطول أعمارهم، و (تعثوا) معناه تفسدوا.
قال أبو حيان: و (مفسدين): حال مؤكدة. انتهى.
و (الذين استكبروا) هم الاشراف والعظماء الكفرة، و " الذين استضعفوا ": هم العامة
والأغفال في الدنيا، وهم أتباع الرسل، وقولهم: (أتعلمون): استفهام، على معنى
الاستهزاء والاستخفاف، فأجاب المؤمنون بالتصديق والصرامة في دين الله، فحملت الأنفة
الأشراف على مناقضة المؤمنين في مقالتهم، واستمروا على كفرهم.
وقوله سبحانه: (فعقروا الناقة) يقتضي بتشريكهم أجمعين في الضمير أن عقر الناقة
كان على تمالؤ منهم واتفاق، وكذلك روي أن قدارا لم يعقرها حتى كان يستشير،
و (عتوا): معناه: خشنوا وصلبوا، ولم يذعنوا للأمر والشرع، وصمموا على تكذيبه،
واستعجلوا النقمة بقولهم: (ائتنا بما تعدنا)، فحل بهم العذاب، و (الرجفة): ما تؤثره
الصيحة أو الطامة التي يرجف بها الإنسان، وهو أن يتحرك ويضطرب /، ويرتعد، ومنه:
" فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده " وروي أن صيحة ثمود كان فيها من كل صوت
مهول، وكانت مفرطة شقت قلوبهم، فجثموا على صدورهم، والجاثم اللاطئ بالأرض
51

على صدره، ف‍ (جاثمين): معناه: باركين قد صعق بهم، وهو تشبيه بجثوم الطير، وجثوم
الرماد، وقال بعض المفسرين: معناه: حميما محترقين، كالرماد الجاثم، وذهب صاحب
هذا القول إلى أن الصيحة اقترن بها صواعق محرقة، وروي أن الصيحة أصابت كل من كان
منهم في شرق الأرض وغربها إلا رجلا كان في الحرم، فمنعه الحرم ثم هلك بعد خروجه
من الحرم، ففي " مصنف أبي داود "، قيل: يا رسول الله، من ذلك الرجل؟ قال: أبو
رغال، وذكره الطبري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الخبر يرد ما في السير من أن أبا رغال
هو دليل الفيل، وقوله: (فتولى عنهم)، أي: تولى عنهم وقت عقر الناقة، وذلك قبل
نزول العذاب، وكذلك روي أنه عليه السلام خرج من بين أظهرهم قبل نزول العذاب، وهو
الذي تقتضيه مخاطبته لهم، ويحتمل أن يكون خطابه لهم وهم موتى، على جهة التفجع
عليهم، وذكر حالهم أو غير ذلك، كما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر. قال الطبري،
وقيل: إنه لم تهلك أمة، ونبيها معها، وروي أنه ارتحل بمن معه حتى جاء مكة، فأقام
بها حتى مات، ولفظ التولي يقتضي اليأس من خيرهم، واليقين في إهلاكهم، وقوله:
(ولكن لا تحبون الناصحين): عبارة عن تغليبهم الشهوات على الرأي السديد، إذ كلام
الناصح صعب مضاد لشهوة الذي ينصح، ولذلك تقول العرب: أمر مبكياتك لا أمر
مضحكاتك.
وقوله سبحانه: (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من
العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون * وما كان
جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا
امرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين).
لوط عليه عليه السلام بعثه الله سبحانه إلى أمة تسمى " سدوم " وروي أنه ابن أخي
52

إبراهيم عليه السلام ونصبه: إما ب‍ " أرسلنا " المتقدم في الأنبياء، وأما بفعل محذوف،
تقديره: واذكر لوطا و (الفاحشة): إتيان الذكور في الأدبار، وروي أنه لم تكن هذه
المعصية في أمة قبلهم، وحكم هذه الفاحشة، عند مالك وغيره: الرجم، أحصن أم لم
يحصن، وحرق أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجلا عمل عمل قوم لوط، وقرأ نافع
وغيره: " أنكم "، على الخبر، كأنه فسر الفاحشة، والإسراف: الزيادة الفاسدة، ولم تكن
مراجعة قومه باحتجاج منهم، ولا بمدافعة عقلية، وإنما كانت بكفر وخذلان،
و (يتطهرون): معناه: يتنزهون عن حالنا وعادتنا.
قال قتادة: عابوهم بغير عيب، وذموهم بغير ذم واستثنى الله سبحانه امرأة لوط
عليه السلام من الناجين، وأخبر أنها هلكت، والغابر: هو الباقي، هذا هو المشهور في
اللغة، وقد يجيء الغابر بمعنى الماضي، وكذلك حكى أهل اللغة " غبر " بمعنى بقي،
وبمعنى " مضى "، وقوله: (وأمطرنا عليهم مطرا...) الآية، أي: بحجارة، وروي أن الله
تعالى بعث جبريل، فاقتلعها بجناحه، وهي ست مدن.
/ وقيل خمس، وقيل: أربع، فرفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا صراخ الديكة،
ونباح الكلاب، ثم عكسها، ورد أعلاها أسفلها، وأرسلها إلى الأرض، وتبعتهم الحجارة
مع هذا، فأهلكت من كان منهم، من كان في سفر، أو خارجا من البقع المرفوعة، وقالت
امرأة لوط، حين سمعت الوجبة: وا قوماه، والتفتت، فأصابتها صخرة فقتلتها.
53

وقوله سبحانه: (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره
قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في
الأرض بعد إصلاحها...) الآية: قيل في (مدين) إنه اسم بلد وقطر، وقيل: اسم قبيلة،
وقيل: هم من ولد مدين بن إبراهيم الخليل، وهذا بعيد، وروي أن لوطا هو جد شعيب
لأمه.
وقال مكي: كان زوج بنت لوط، و (أخاهم): منصوب ب‍ " أرسلنا " في أول
القصص، و " البينة ": إشارة إلى معجزته، (ولا تبخسوا) معناه ولا تظلموا، ومنه قولهم:
تحسبها حمقاء، وهي باخس، أي: ظالمة خادعة، وقال في " سورة هود ": البخس:
النقص.
* ت *: ويحتمل والله أعلم أن البخس هو ما اعتاده الناس من ذم السلع، ليتوصلوا
بذلك إلى رخصها، فتأمله، والله أعلم بما أراد سبحانه.
قال أبو حيان: ولا تبخسوا: متعد إلى مفعولين، تقول: بخست زيدا حقه، أي:
نقصته إياه. انتهى.
و (أشياءهم): يريد أمتعتهم وأموالهم، (ولا تفسدوا): لفظ عام في دقيق الفساد
وجليله، وكذلك الإصلاح عام، (ذلكم خير لكم)، أي: عند الله (إن كنتم مؤمنين)،
54

أي: بشرط الإيمان والتوحيد، وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان، و (لا تقعدوا بكل
صراط...) الآية: قال السدي: هذا نهي عن العشارين والمتغلبين ونحوه من أخذ أموال
الناس بالباطل، و " الصراط ": الطريق، وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا، لأنه من قبيل
بخسهم ونقصهم الكيل والوزن، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: هو نهي عن السلب وقطع
الطرق، وكان ذلك من فعلهم، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما تقدم من الآية
يؤيد هذين القولين، وقال ابن عباس وغيره: قوله: (ولا تقعدوا) نهى لهم عما كانوا
يفعلونه من رد الناس عن شعيب وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى
شعيب، فيتوعدون من أراد المجيء إليه، ويصدونه، وما بعد هذا من الألفاظ يشبه هذا من
القول، والضمير في " به " يحتمل أن يعود على اسم الله، وأن يعود على شعيب في قول من
رأى القعود على الطرق للرد عن شعيب، قال الداوودي: وعن مجاهد (يبغونها عوجا):
يلتمسون لها الزيغ. انتهى.
ثم عدد عليهم نعم الله تعالى، وأنه كثرهم بعد قلة عدد.
وقيل: أغناهم بعد فقر، ثم حذرهم ومثل لهم بمن امتحن من الأمم، وقوله: (وإن
كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا...) الآية: قوله:
(فاصبروا) تهديد للطائفة الكافرة، وقولهم: (أو لتعودن في ملتنا) معناه: أو لتصيرن،
و " عاد " في كلام العرب على / وجهين:
أحدهما: عاد الشئ إلى حال قد كان فيها قبل ذلك، وهي على هذا الوجه لا
تتعدى، فإن عديت، فبحرف، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ألا ليت أيام الشباب جديد * وعمرا تولى يا بثين يعود
55

ومنه قوله تعالى: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) [الأنعام: 28].
والوجه الثاني: أن تكون بمعنى " صار "، وعاملة عملها، ولا تتضمن أن الحال قد
كانت متقدمة، ومنه قول الشاعر: [البسيط].
تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ومنه قول الآخر:
وعاد رأسي كالثغامة...
ومنه قوله تعالى: (حتى عاد كالعرجون القديم) [يس: 39]، على أن هذه محتملة
بقوله في الآية: (أو لتعودون)، وشعيب عليه السلام لم يك قط كافرا، فيقتضي أنها
بمعنى " صار "، وأما في جهة المؤمنين به بعد كفرهم، فيترتب المعنى الآخر، ويخرج عنه
شعيب، وقوله: (أو لو كنا كارهين) توقيف منه لهم على شنعة المعصية، وطلب أن يقروا
بألسنتهم بإكراه المؤمنين على الإخراج ظلما وغشما.
قال * ص *: (قد افترينا): هو بمعنى المستقبل، لأنه سد مسد جواب الشرط،
وهو: (إن عدنا) أو هو جوابه، على قول. انتهى.
وقوله: (إلا أن يشاء الله ربنا) يحتمل أن يريد إلا أن يسبق علينا في ذلك من الله
سابق سوء، وينفذ منه قضاء لا يرد.
قال * ع *: والمؤمنون هم المجوزون لذلك، وأما شعيب، فقد عصمته النبوة،
وهذا أظهر مما يحتمل القول، ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبد الله به المؤمنين
مما يفعله الكفار من القربات.
56

وقيل: إن هذا الاستثناء إنما هو تسنن وتأدب، وقوله: (وسع ربنا كل شئ علما):
معناه: وسع علم ربنا كل شئ، كما تقول: تصبب زيد عرقا أي: تصبب عرق زيد،
ووسع بمعنى " أحاط "، وقوله: (افتح) معناه: احكم، وقوله: (على الله توكلنا):
استسلام لله سبحانه، وتمسك بلطفه، وذلك يؤيد التأويل الأول في قوله: (إلا أن يشاء
الله ربنا). وقوله سبحانه: (وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا...)
الآية: أي: قال الملأ لتباعهم ومقلديهم، و (الرجفة): الزلزلة الشديدة التي ينال الإنسان
معها اهتزاز وارتعاد واضطراب، فيحتمل أن فرقة من قوم شعيب هلكت بالرجفة، وفرقة
بالظلة، ويحتمل أن الظلة والرجفة كانتا في حين واحد.
* ت *: والرجفة هي الصيحة يرجف بسببها الفؤاد، وكذلك هو مصرح بها في قصة
قوم شعيب في قوله سبحانه: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة...) الآية [هود: 94]،
وقوله سبحانه: (كأن لم يغنوا فيها) الضمير في قوله " فيها " عائد على دارهم، ويغنوا:
معناه: يقيمون بنعمة وخفض عيش، وهذا اللفظ فيه قوة الإخبار عن هلاكهم، ونزول النقمة
بهم، والتنبيه على العبرة والاتعاظ بهم، ونحو هذا قول الشاعر: [الطويل]
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر
قال * ع *: فغنيت في المكان، إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش
مرضي، وقوله: (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم): كلام يقتضي حزنا
وإشفاقا، لما رأى هلاك قومه، إذ كان أمله فيهم غير ذلك، ولما وجد في نفسه ذلك،
57

طلب أن يثير في نفسه سبب التسلي عنهم، فجعل يعدد معاصيهم وإعراضهم، ثم قال لنفسه
لما نظر وفكر: (فكيف آسى على قوم كافرين)، ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم لأهل قليب بدر،
وأسى معناه: أحزن.
/ قال مكي: وسار شعيب بمن معه حتى سكن مكة إلى أن ماتوا بها.
وقوله سبحانه (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم
يضرعون) أخبر سبحانه أنه ما بعث نبيا في قرية، وهي المدينة إلا أخذ أهلها المكذبين له
(بالبأساء) وهي المصائب في المال، وعوارض الزمن (والضراء) وهي المصائب في
البدن، كالأمراض ونحوها، (لعلهم يضرعون) أي: ينقادون إلى الإيمان، وهكذا قولهم:
الحمى أضرعتني لك، (ثم بدلنا مكان السيئة)، وهي البأساء والضراء (الحسنة)، وهي
السراء والنعمة (حتى عفوا): معناه: حتى كثروا، يقال: عفا النبات والريش، إذا كثر
نباته، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى " ولما بدل الله حالهم بالخير،
لطفا بهم فنموا، رأوا أن إصابة الضراء والسراء إنما هي بالاتفاق، وليست بقصد، كما يخبر
به النبي، واعتقدوا أن ما أصابهم من ذلك إنما هو كالاتفاق الذي كان لآبائهم، فجعلوه
58

مثالا، أي: قد أصاب هذا آباءنا، فلا ينبغي لنا أن ننكره، ثم أخبر سبحانه، أنه أخذ هذه
الطوائف التي هذا معتقدها، وقوله: (بغتة) أي: فجأة وأخذة أسف، وبطشا، للشقاء
السابق لهم في قديم علمه سبحانه.
وقوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء
والأرض)، أي: من بركات المطر والنبات، وتسخير الرياح والشمس والقمر في مصالح
العباد، وهذا بحسب ما يدركه نظر البشر، ولله سبحانه خدام غير ذلك لا يحصى عددهم،
وما في علم الله أكثر.
وقوله سبحانه: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون...) الآية
تتضمن وعيدا للكافرين المعاصرين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لما أخبر عما فعل في الأمم
الخالية، قال: وهل يأمن هؤلاء أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك، وهذا استفهام على جهة
التوقيف، والبأس: العذاب، و (مكر الله) هي إضافة مخلوق إلى خالق، والمراد فعل
يعاقب به مكرة الكفرة، والعرب تسمي العقوبة باسم الذنب.
وقوله سبحانه: (أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها...) الآية: هذه
ألف تقرير دخلت على واو العطف، و " يهدي ": معناه: يبين، فيحتمل أن يكون المبين الله
سبحانه، ويحتمل أن يكون المبين قوله: (أن لو نشاء)، أي علمهم بذلك، وقال ابن
عباس، ومجاهد، وابن زيد: يهدي: معناه: يتبين، وهذه أيضا آية وعيد، أي: ألم يظهر
لوارثي الأرض بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم، وما حل بهم - أنا نقدر لو شئنا أصبناهم
بذنوبهم، كما فعلنا بمن تقدم، وفي العبارة وعظ بحال من سلف من المهلكين.
59

وقوله سبحانه: (تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما
كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) " تلك " ابتداء،
و " القرى " قال قوم: هو نعت، والخبر " نقص "، وعندي: أن " أهل القرى " هي خبر
الابتداء، وفي ذلك معنى التعظيم لها، ولمهلكها، وهذا كما قيل في قوله تعالى: (ذلك
الكتاب) [البقرة: 2] وكما قال عليه السلام: " أولئك الملأ " وكقول ابن أبي الصلت:
[البسيط].
تلك المكارم.............
وهذا كثير.
ثم ابتدأ سبحانه الخبر عن جميعهم بقوله: (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا
ليؤمنوا بما كذبوا من قبل)، هذا الكلام يحتمل وجوها من التأويل:
أحدها: / أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم، فكذبوه لأول أمره، ثم استبانت
حجته، وظهرت الآيات الدالة على صدقه، مع استمرار دعوته.، فلجوا هم في كفرهم،
ولم يؤمنوا بما سبق به تكذيبهم.
والثاني: من الوجوه: أن يريد: فما كان آخرهم في الزمن ليؤمن بما كذب به أولهم
في الزمن، بل مشى بعضهم على سنن بعض في الكفر، أشار إلى هذا التأويل النقاش.
والثالث: أن هؤلاء لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا، لم يكن منهم إيمان، قاله
مجاهد، وقرنه بقوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) [الأنعام: 28].
والرابع: أنه يحتمل: فما كانوا ليؤمنوا بما سبق في علم الله سبحانه، أنهم مكذبون
به، وذكر هذا التأويل المفسرون.
60

وقوله سبحانه: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد...) الآية: أخبر سبحانه أنه لم يجد
لأكثرهم ثبوتا على العهد الذي أخذه سبحانه على ذرية آدم وقت استخراجهم من ظهره،
قاله أبو العالية عن أبي بن كعب، ويحتمل أن يكون المعنى: وما وجدنا لأكثرهم التزام
عهد، وقبول وصاة مما جاءتهم به الرسل عن الله، ولا شكروا نعم الله عز وجل.
قال * ص *: (لأكثرهم): يحتمل أن يعود على " الناس " أو على (أهل القرى)
أو " الأمم الماضية ". انتهى.
وقوله سبحانه: (ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها...)
الآيات، في هذه الآية: عام في التسع وغيرها، والضمير في " من بعدهم " عائد على الأنبياء
المتقدم ذكرهم، وعلى أممهم.
وقوله سبحانه: (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين): فيه وعيد، وتحذير للكفرة
المعاصرين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه: (وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب
العالمين * حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق)، قرأ نافع وحده: " علي " بإضافة
" على " إليه، وقرأ الباقون: " على " بسكون الياء.
قال الفارسي: معنى هذه القراءة أن " على " وضعت موضع الباء، كأنه قال: حقيق بأن
لا أقول على الله إلا الحق، وقال قوم: " حقيق " صفة ل‍ " رسول "، تم عندها الكلام،
و " علي ": خبر مقدم و " ألا أقول ": ابتداء، وإعراب " أن "، على قراءة من سكن الياء خفض،
وعلى قراءة من فتحها مشددة: رفع، وفي قراءة عبد الله: " حقيق أن لا أقول "، وهذه
المخاطبة - إذا تأملت - غاية في التلطف، ونهاية في القول اللين الذي أمر به عليه السلام،
وقوله: (قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل * قال إن كنت جئت بآية فأت
بها إن كنت من الصادقين) " البينة "، هنا إشارة إلى جميع آياته، وهي على المعجزة منها
أدل، وهذا من موسى عليه السلام عرض نبوته، ومن فرعون استدعاء خرق العادة الدال
على الصدق، وظاهر هذه الآية وغيرها أن موسى عليه السلام لم تنبن شريعته إلا على بني
إسرائيل فقط، ولم يدع فرعون وقومه إلا إلى إرسال بني إسرائيل، وذكره: (لعله يتذكر أو
61

يخشى) [طه: 44]. وقوله: (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين)، روي أن موسى قلق به،
وبمجاورته فرعون، فقال لأعوانه: خذوه، فألقى موسى العصا، فصارت ثعبانا، وهمت
بفرعون، فهرب منها.
وقال السدي: إنه أحدث، وقال: يا موسى كفه عني، فكفه، وقال نحوه
سعيد بن جبير، ويقال: إن الثعبان وضع أسفل لحييه في الأرض وأعلاهما في أعلى
شرفات القصر. والثعبان: الحية الذكر / وهو أهول وأجرأ، قاله الضحاك، وقال قتادة:
صارت حية أشعر ذكرا، وقال ابن عباس: غرزت ذنبها في الأرض، ورفعت صدرها إلى
فرعون، وقوله: (مبين) معناه: لا تخييل فيه، بل هو بين، أنه ثعبان حقيقة، (ونزع
يده): معناه: من جيبه، أو من كمه، حسب الخلاف في ذلك.
وقوله: (فإذا هي بيضاء للناظرين)، قال مجاهد: كاللبن أو أشد بياضا، وروي
أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس تأتلق، وكان موسى عليه السلام آدم أحمر إلى
السواد، ثم كان يرد يده، فترجع إلى لون بدنه.
قال * ع *: فهاتان الآيتان عرضهما عليه السلام للمعارضة، ودعا إلى الله بهما،
وخرق العادة بهما.
* ت *: وظاهر الآية كما قال، وليس في الآية ما يدل على أنه أراد بإلقاء العصا
الانتصار والتخويف، كما يعطيه ما تقدم ذكره من القصص.
62

وقوله عز وجل: (قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن
يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون) لا محالة أنهم خافوا أمر موسى، وجالت ظنونهم كل
مجال، وقوله: (فماذا تأمرون) الظاهر أنه من كلام الملأ بعضهم لبعض، وقيل: إنه من
كلام فرعون لهم، وروى كردم عن نافع: (تأمرون) بكسر النون وكذلك في " الشعراء "
[الشعراء: 25].
و " ما ": استفهام، و " ذا ": بمعنى الذي، فهما ابتداء وخبر، وفي " تأمرون ": ضمير
عائد على الذي، تقديره: تأمرون به، ويجوز أن تجعل " ماذا " بمنزلة اسم واحد في موضع
نصب ب‍ " تأمرون " ولا يضمر فيه، على هذا، وقوله: (قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن
حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم) أشار الملأ على فرعون بأن يؤخر موسى وهارون،
ويدع النظر في أمرهما، ويجمع السحرة، وحكى النقاش، أنه لم يكن يجالس فرعون ولد
غية، وإنما كانوا أشرافا، ولذلك أشاروا بالإرجاء، ولم يشيروا بالقتل، وقالوا: إن قتلته،
دخلت على الناس شبهة، ولكن أغلبه بالحجة.
وقوله سبحانه: (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال
نعم وإنكم لمن المقربين): " الأجر " هنا: الأجرة.
واختلف الناس في عدد السحرة على أقوال كثيرة ليس لها سند يوقف عنده،
والحاصل من ذلك أنهم جمع عظيم، وقوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن
نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس)، وخير السحرة موسى في
أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر، وهذا فعل المدل الواثق بنفسه، والظاهر أن التقدم في
التخييلات والمخاريق أنجح، لأن بديهتها تمضي بالنفوس، فليظهر الله أمر نبوة موسى،
قوى نفسه ويقينه، ووثق بالحق، فأعطاهم التقدم، فنشطوا وسروا حتى أظهر الله الحق،
63

وأبطل سعيهم، وقوله سبحانه: (سحروا أعين الناس): نص في أن لهم فعلا ما زائدا على
ما يحدثونه من التزويق، (واسترهبوهم) بمعنى: أرهبوهم، أي: فزعوهم، ووصف الله
سبحانه سحرهم ب‍ " العظيم "، ومعنى ذلك من كثرته، وروي أنهم جلبوا ثلاثمائة وستين
بعيرا موقورة بالحبال، والعصي، فلما ألقوها، تحركت، وملأت الوادي، يركب بعضها
بعضا فاستهول الناس ذلك، واسترهبهم، قال الزجاج: قيل: إنهم جعلوا فيها الزئبق،
فكانت لا تستقر.
وقوله سبحانه: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون):
وروي أن موسى عليه السلام لما كان يوم الجمع، خرج متكئا على عصاه، ويده في يد
أخيه، وقد صف له السحرة في عدد عظيم /، حسبما ذكر، فلما ألقوا واسترهبوا، أوحى
الله إليه، أن ألق، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، فعظم حتى كان كالجبل.
وروي أن السحرة، لما ألقوا، وألقى موسى، جعلوا يرقون، وجعلت حبالهم تعظم
وجعلت عصا موسى تعظم حتى سدت الأفق، وابتلعت الكل، وروي أن الثعبان استوفى
تلك الحبال والعصي أكلا، وأعدمها الله عز وجل، ومد موسى يده إلى فمه، فعاد عصا
كما كان، فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر، فخروا سجدا مؤمنين بالله
ورسوله، و (تلقف) معناه: تبتلع وتزدرد، وقرأ ابن جبير: " تلقم " بالميم.
وقوله سبحانه: (فوقع الحق...) الآية: أي: نزل ووجد، وقال أبو حيان:
فوقع، أي: فظهر، و " الحق ": يريد به سطوع البرهان، وظهور الإعجاز، (وما كانوا
يعملون) لفظ يعم سحر السحرة، وسعي فرعون، وشيعته، والضمير في قوله: " فغلبوا ":
عائد على جميعهم أيضا، وفي قوله: (وانقلبوا صاغرين)، إن قدرنا انقلاب الجمع قبل
إيمان السحرة، فهم في الضمير، وإن قدرناه بعد إيمانهم، فليسوا في الضمير،
صغار، لأنهم آمنوا واستشهدوا رضي الله عنهم.
64

وقوله سبحانه: (وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى
وهارون * قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا
منها أهلها فسوف تعلمون * لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين)،
لما رأى السحرة من عظيم القدرة ما تيقنوا به نبوة موسى، آمنوا بقلوبهم، وانضاف إلى ذلك
الاستهوال والاستعظام والفزع من قدرة الله عز وجل، فخروا لله سبحانه متطارحين قائلين
بألسنتهم: (آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون).
قال * ع *: وهارون أخو موسى أسن منه بثلاث سنين، وقول فرعون: (آمنتم به
قبل أن آذن لكم): دليل على وهنه، وضعف أمره، لأنه إنما جعل ذنبهم عدم إذنه،
والضمير في " به " يحتمل أن يعود على اسم الله سبحانه، ويحتمل أن يعود على موسى عليه
السلام، وعنفهم فرعون على الإيمان قل إذنه، ثم ألزمهم أن هذا كان عن اتفاق منهم،
وروي في ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، أن موسى اجتمع مع رئيس السحرة، واسمه
شمعون، فقال له موسى: أرأيت إن غلبتكم، أتؤمنون بي، فقال: نعم، فعلم بذلك
فرعون، فلهذا قال: إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة، ثم توعدهم.
وقوله سبحانه: (قالوا إنا إلى ربنا منقلبون * وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما
جاءتنا...) الآية: هذا استسلام من مؤمني السحرة، واتكال على الله سبحانه، وثقة بما
عنده، وقرأ الجمهور: " تنقم " - بكسر القاف -، ومعناه: وما تعد علينا ذنبا تؤاخذنا به إلا
أن آمنا، قال ابن عباس وغيره فيهم: أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء، قال ابن عباس:
لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل، وقول ملأ فرعون: (أتذر
65

موسى وقومه...) الآية: مقالة تتضمن إغراء فرعون وتحريضه، وقولهم: (ويذرك
وآلهتك)، روي أن فرعون كان في زمنه للناس آلهة من بقر، وأصنام، وغير ذلك، وكان
فرعون قد شرع ذلك، وجعل نفسه الإله الأعلى فقوله على هذا (أنا ربكم الأعلى)
[النازعات: 24] إنما يريد: بالنسبة إلى تلك المعبودات.
وقيل: إن فرعون كان يعبد حجرا يعلقه في صدره. كأنه / ياقوتة أو نحوها، وعن
الحسن نحوه، وقوله: (سنقتل أبناءهم)، المعنى: سنستمر على ما كنا عليه من تعذيبهم،
وقوله: (وإنا فوقهم)، يريد: في المنزلة، والتمكن من الدنيا، و (قاهرون): يقتضي
تحقير أمرهم، أي: هم أقل من أن يهتم بهم. قلت: وهذا من عدو الله تجلد، وإلا فقد
قال فيما أخبر الله سبحانه به عنه: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا
لجميع حاذرون) [الشعراء: 54، 55، 56].
وقوله سبحانه: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا...) الآية: لما قال
فرعون (سنقتل أبناءهم)، وتوعدهم، قال موسى لبني إسرائيل، يثبتهم، ويعدهم عن الله
تعالى: (استعينوا بالله)، والأرض هنا: أرض الدنيا، وهو الأظهر.
وقيل: المراد هنا أرض الجنة، وأما في الثانية، فأرض الدنيا لا غير، والصبر في هذه
الآية: يعم الانتظار الذي هو عبادة، والصبر في المناجزات، والبأس، وقولهم: (أوذينا من
قبل أن تأتينا)، يعنون به الذبح الذي كان في المدة التي كان فرعون يتخوف فيها أن يولد
المولود الذي يخرب ملكه، (ومن بعد ما جئتنا)، يعنون به وعيد فرعون، وسائر ما كان
خلال تلك المدة، من الإخافة لهم.
وقال ابن عباس والسدي: إنما قالت بنو إسرائيل هذه المقالة، حين اتبعهم
66

فرعون، واضطرهم إلى البحر.
قال * ع *: وبالجملة فهو كلام يجري مع المعهود من بني إسرائيل، من
اضطرابهم على أنبيائهم، وقلة يقينهم، واستعطاف موسى لهم بقوله: (عسى ربكم أن
يهلك عدوكم)، ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض، يدل على أنه يستدعي نفوسا نافرة،
ويقوي هذا الظن في جهة بني إسرائيل سلوكهم هذا السبيل في غير ما قصة، وقوله:
(فينظر كيف تعملون) تنبيه وحض على الاستقامة، ولقد استخلفوا في مصر في زمن داود
وسليمان، وقد فتحوا بيت المقدس مع يوشع.
وقوله سبحانه: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين)، أي: بالجدوب والقحوط، وهذه
سيرة الله في الأمم، وقوله: (ونقص من الثمرات)، أي: حتى روي أن النخلة من نخلهم
لا تحمل إلا ثمرة واحدة، وقال نحوه رجاء بن حيوة وفعل الله تعالى بهم هذا، لينيبوا
ويزدجروا عما هم عليه من الكفر، إذ أحوال الشدة ترق معها القلوب، وترغب فيما عند
الله سبحانه.
وقوله عز وجل: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى
ومن معه...) الآية: كان القصد في إصابتهم بالقحط والنقص في الثمرات أن ينيبوا
ويرجعوا، فإذا هم قد ضلوا، وجعلوها تشاؤما بموسى، فكانوا إذا اتفق لهم اتفاق حسن في
غلات ونحوها، قالوا: هذه لنا، وبسببنا، وإذا نالهم ضر، قالوا: هذا بسبب موسى
وشؤمه، قاله مجاهد وغيره، وقرأ الجمهور " يطيروا " - بالياء وشد الطاء والياء
الأخيرة -، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره: " تطيروا " - بالتاء وتخفيف الطاء -، وقرأ
مجاهد: " تشاءموا بموسى " - بالتاء من فوق - وبلفظ الشؤم.
67

وقوله سبحانه: (ألا إنما طائرهم عند الله) معناه: حظهم ونصيبهم، قاله ابن
عباس، وهو مأخوذ من زجر الطير فسمي ما عند الله من القدر للإنسان طائرا، لما كان
الإنسان يعتقد أن كل ما يصيبه إنما هو بحسب ما يراه في الطائر، فهي لفظة مستعارة،
ومهما أصلها عند الخليل، ماما / فأبدلت الألف الأولى هاء، وقال سيبويه: هي " مه ما "،
خلطتا، وهي حرف واحد لمعنى واحد.
وقال غيره: معناها: " مه "، أي: كف، و " ما ": جزاء، ذكره الزجاج، وهذه الآية
تتضمن طغيانهم، وعتوهم، وقطعهم على أنفسهم بالكفر البحت.
وقوله سبحانه: (فأرسلنا عليهم الطوفان...) الآية: الطوفان: مصدر من قولك:
طاف يطوف، فهو عام في كل شئ يطوف إلا أن استعمال العرب له كثير في الماء والمطر
الشديد، قال ابن عباس وغيره: الطوفان في هذه الآية: هو المطر الشديد، أصابهم وتوالى
عليهم حتى هدم بيوتهم وضيق عليهم، وقيل: طم فيض النيل عليهم، وروي في كيفيته
قصص كثيرة، وقالت عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الطوفان المراد في هذه
الآية هو الموت ".
68

قلت: ولو صح هذا النقل، لم يبق مجملا وروي أن الله عز وجل لما والى عليهم
المطر، غرقت أرضهم، وامتنعوا من الزراعة قالوا: يا موسى ادع لنا ربك في كشف هذا
الغرق، ونحن نؤمن، فدعا، فكشفه الله عنهم، فأنبتت الأرض إنباتا حسنا، فنكثوا،
وقالوا: ما نود أنا لم نمطر، وما هذا إلا إحسان من الله إلينا، فبعث الله عليهم حينئذ
الجراد، فأكل جميع ما أنبتت الأرض، فروى ابن وهب، عن مالك، أنه أكل حتى أبوابهم،
وأكل الحديد والمسامير، وضيق عليهم غاية التضييق، وترك الله من نباتهم ما يقوم به
الرمق، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك في كشف الجراد، ونحن نؤمن، فدعا الله
فكشفه، ورجعوا إلى كفرهم، فبعث الله عليه القمل، وهي الدبى صغار الجراد، الذي
يثب ولا يطير، قاله ابن عباس وغيره، وقرأ الحسن: " القمل " - بفتح القاف، وسكون
الميم - فهي على هذا القمل المعروف، وروي أن موسى مشى بعصاه إلى كثيب أهيل،
فضربه، فانتشر كله قملا في مصر، ثم إنهم قالوا: ادع في كشف هذا، فدعا فرجعوا إلى
طغيانهم، وكفرهم، فبعث الله عليهم الضفادع، فكانت تدخل في فرشهم، وبين ثيابهم،
وإذا هم الرجل أن يتكلم، وثب ضفدع في فمه.
قال ابن جبير: كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع.
وقال ابن عباس: لما أرسلت الضفادع عليهم، وكانت برية، سمعت وأطاعت،
فجعلت تقذف أنفسها في القدور، وهي تغلي، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء،
فقالوا: يا موسى، ادع في كشف هذا فدعا، فكشف، فرجعوا إلى كفرهم، فبعث الله
عليهم الدم، فرجع ماؤهم الذي يستقونه، ويحصل عندهم دما، فروي أنه كان يستقي
69

القبطي والإسرائيلي بإناء واحد، فإذا خرج الماء، كان الذي يلي القبطي دما، والذي يلي
الإسرائيلي ماء إلى نحو هذا، وشبهه، من العذاب بالدم المنقلب عن الماء، هذا قول
جماع من المتأولين.
وقال زيد بن أسلم: إنما سلط عليهم الرعاف، فهذا معنى قوله: (والدم)،
وقوله: (آيات مفصلات) التفصيل: أصله في الأجرام: إزالة الاتصال، فهو تفريق شيئين،
فإذا استعمل في المعاني، فيراد به أنه فرق بينها، وأزيل اشتباكها وإشكالها، فيجئ من ذلك
بيانها.
وقالت فرقة: (مفصلات) يراد بها: مفرقات في الزمن.
قال الفخر: قال المفسرون: كان العذاب يبقى عليهم من السبت إلى السبت، وبين
العذاب والعذاب شهر، وهذا معنى قوله: (آيات مفصلات)، على هذا التأويل، أي:
فصل بين بعضها وبعض بزمان تمتحن فيه أحوالهم، وينظر، أيقبلون الحجة والدليل، أم
يستمرون على الخلاف والتقليد. انتهى.
وقوله عز وجل: (ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى أدع لنار بك / بما عهد
عندك...) الآية: " الرجز ": العذاب، والظاهر من الآية أن المراد بالرجز هنا العذاب
المتقدم الذكر من الطوفان والجراد وغيره.
وقال قوم: [إن] الرجز هنا طاعون أنزله الله بهم، والله أعلم، وهذا يحتاج إلى
سند، وقولهم: (بما عهد عندك) لفظ يعم جميع الوسائل بين الله وبين موسى من طاعة
من موسى ونعمة من الله تبارك وتعالى، ويحتمل أن يكون ذلك منهم على جهة القسم على
موسى، وقولهم: (لئن كشفت) أي: بدعائك، (لنؤمنن) (ولنرسلن) قسم وجوابه،
وهذا عهد من فرعون وملئه، وروي أنه لما انكشف العذاب، قال فرعون لموسى: اذهب
ببني إسرائيل حيث شئت، فخالفه بعض ملئه، فرجع ونكث، و " إذا " هنا للمفاجأة،
والأجل: يراد به غاية كل واحد منهم بما يخصه من الهلاك والموت، كما تقول: أخرت
كذا إلى وقت، وأنت لا تريد وقتا بعينه، فاللفظ متضمن توعدا ما، (وكانوا عنها غافلين)
أي: غافلين عما تضمنته الآيات من النجاة والهدى.
70

وقوله تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها...)
الآية: (الذين كانوا يستضعفون) كناية عن بني إسرائيل، و (مشارق الأرض ومغاربها).
قال الحسن وغيره: هي الشام. وقالت فرقة: يريد الأرض كلها، وهذا يتجه إما على
المجاز، لأنه ملكهم بلادا كثيرة، وإما على الحقيقة في أنه ملك ذريتهم، وهم سليمان بن
داود، ويترجح التأويل الأول بوصف الأرض بأنها التي بارك فيها سبحانه.
وقوله سبحانه: (وتمت كلمت ربك الحسنى)، أي: ما سبق لهم في علمه وكلامه
في الأزل من النجاة من عدوهم، والظهور عليه، قاله مجاهد، و (يعرشون) قال ابن
عباس ومجاهد: معناه: يبنون.
قال * ع *: رأيت للحسن البصري رحمه الله، أنه احتج بقوله سبحانه: (وتمت
كلمت ربك...) إلى آخر الآية، على أنه ينبغي ألا يخرج عن ملوك السوء، وإنما ينبغي
أن يصبر عليهم، فإن الله سبحانه يدمرهم، ورأيت لغيره، أنه إذا قابل الناس البلاء بمثله،
وكلهم الله إليه، وإذا قابلوه بالصبر، وانتظار الفرج، أتى الله بالفرج، وروي هذا أيضا عن
الحسن.
71

وقوله سبحانه: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر): أي: بحر القلزم، (فأتوا على
قوم)، قيل: هم الكنعانيون.
وقيل: هم من لخم وجذام، والقوم في كلام العرب: هم الرجال خاصة
(يعكفون)، العكوف: الملازمة (على أصنام لهم)، قيل كانت بقرا.
وقال ابن جريج: كانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوها، وذلك كان أول فتنة
العجل، وقولهم: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)، يظهر منه استحسانهم لما رأوه من تلك
الآلهة، بجهلهم، فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى، وفي جملة ما يتقرب به إلى الله،
وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى: اجعل لنا صنما نفرده بالعبادة، ونكفر بربك، وعلى هذا الذي
قلت يقع التشابه الذي نصه النبي صلى الله عليه وسلم في قول أبي واقد الليثي اجعل لنا، يا رسول الله،
ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " الله أكبر! قلتم والله كما
قالت بنو إسرائيل، (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة: لتتبعن سنن من قبلكم...) "
الحديث، ولم يقصد أبو واقد بمقالته فسادا، وقال بعض الناس، كان ذلك من بني
إسرائيل كفرا، ولفظة " الإله " تقتضي ذلك، وهذا محتمل، وما ذكرته أولا أصح، والله
أعلم.
قلت: وقولهم: (هذا إلهكم وإله موسى) [طه: 88]، وجواب موسى هنا يقوى
الاحتمال الثاني، نعم: الذي يجب أن يعتقد أن مثل هذه المقالات إنما صدرت من
72

أشرارهم وقريبي العهد بالكفر، قال الشيخ الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله
/ الخثعمي ثم السهيلي ذكر النقاش في قوله تعالى: (فأتوا على قوم يعكفون على أصنام
لهم)، أنهم كانوا من لخم، وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر، وأن السامري كان
أصله منهم، ولذلك نزع إلى عبادة العجل. انتهى، والله أعلم، وهذا هو معنى ما تقدم
من كلام * ع *، وقوله: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه)، أي: مهلك، مدمر، رديء
العاقبة، والتبار: الهلاك، وإناء متبر، أي: مكسور، وكسارته تبر، ومنه: تبر الذهب،
لأنه كسارة، وقوله: (ما هم فيه) يعم جميع أحوالهم و (باطل): معناه: فاسد ذاهب
مضحمل، و (أبغيكم) معناه: أطلب.
ثم عدد عليهم سبحانه في هذه الآية النعم التي يجب من أجلها ألا يكفروا به، ولا
يرغبوا في عبادة غيره، فقال: (وإذ أنجيناكم من آل فرعون...) الآية، و (يسومونكم)
معناه: يحملونكم، ويكلفونكم، ومساومة البيع تنظر إلى هذا، فإن كل واحد من المتساومين
يكلف صاحبه إرادته، ثم فسر سوء العذاب بقوله: (يقتلون أبناءكم...) الآية.
وقوله سبحانه: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر...) الآية: قال ابن
عباس وغيره: الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة، وأن العشر هي عشر ذي الحجة،
وروي أن الثلاثين إنما وعد بأن يصومها، وأن مدة المناجاة هي العشر، وحيث ورد أن
المواعدة أربعون ليلة، فذلك إخبار بجملة الأمر، وهو في هذه الآية إخبار بتفصيله،
والمعنى في قوله: (وكلمة ربه): أنه خلق له إدراكا سمع به الكلام القائم بالذات القديم
73

الذي هو صفة ذات، وكلام الله سبحانه لا يشبه كلام المخلوقين، وليس في جهة من
الجهات، وكما هو موجود لا كالموجودات، ومعلوم لا كالمعلومات، كذلك كلامه لا يشبه
الكلام الذي فيه علامات الحدوث، وجواب " لما " في قوله: (قال)، والمعنى أنه لما كلمه
الله عز وجل، وخصه بهذه المرتبة، طمحت همته إلى رتبة الرؤية، وتشوق إلى ذلك،
فسأل ربه الرؤية، ورؤية الله عز وجل عند أهل السنة جائزة عقلا، لأنه من حيث هو
موجود تصح رؤيته، قالوا: لأن الرؤية للشيء لا تتعلق بصفة من صفاته أكثر من الوجود،
فموسى عليه السلام لم يسأل ربه محالا، وإنما سأله جائزا، وقوله سبحانه: (لن تراني
ولكن انظر إلى الجبل...) الآية: ليس بجواب من سأل محالا، و " لن " تنفي الفعل
المستقبل، ولو بقينا مع هذا النفي بمجرده، لقضينا أنه لا يراه موسى أبدا، ولا في الآخرة،
لكن ورد من جهة أخرى بالحديث المتواتر، أن أهل الإيمان يرون الله يوم القيامة، فموسى
عليه السلام أحرى برؤيته، قلت: وأيضا قال تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها
ناظرة) [القيامة: 22، 23]، فهو نص في الرؤية بينه صلى الله عليه وسلم، ففي " الترمذي " عن ابن عمر،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه
وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية "، ثم
74

قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22، 23]، قال
أبو عيسى: وقد روي هذا الحديث من غير وجه مرفوعا، وموقوفا. انتهى.
قال مجاهد وغيره: إن الله عز وجل قال له: يا موسى، لن تراني، ولكن سأتجلى
للجبل، وهو أقوى منك، وأشد، فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي، فستمكنك أنت
رؤيتي.
قال * ع *: فعلى هذا إنما جعل الله الجبل مثالا، قلت: وقول * ع *: ولو
بقينا مع هذا النفي بمجرده، لقضينا أنه لا يراه موسى أبدا ولا في الآخرة، قول مرجوح لم
يتفطن له رحمه الله، والحق الذي لا شك فيه أن " لن " لا تقتضي النفي المؤبد.
75

قال بدر الدين أبو عبد الله بن مالك / في شرح التسهيل: " ولن " كغيرها من حروف
النفي في جواز كون استقبال المنفي بها منقطعا عند حد وغير منقطع، وذكر الزمخشري في
" أنموذجه "، أن " لن " لتأبيد النفي، وحامله على ذلك اعتقاده أن الله تعالى لا يرى، وهو
اعتقاد باطل، لصحة ثبوت الرؤية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدل على عدم اختصاصها بالتأبيد
بمجيء استقبال المنفي بها مغيا إلى غاية ينتهي بانتهائها، كما في قوله تعالى: (قالوا لن
نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) [طه: 91]، وهو واضح. انتهى، ونحوه لابن
هشام، ولفظه: ولا تفيد " لن " توكيد المنفي، خلافا للزمخشري في " كشافه "، ولا تأبيده،
خلافا له في " أنموذجه "، وكلاهما دعوى بلا دليل، قيل: ولو كانت للتأبيد، لم يقيد منفيها
ب‍ " اليوم " في (فلن أكلم اليوم إنسيا) [مريم: 26] ولكان ذكره " الأبد " في (ولن يتمنوه
أبدا) [البقرة: 95] تكرارا، والأصل عدمه. انتهى من " المغني ".
وقوله سبحانه: (فلما تجلى ربه للجبل): التجلي: هو الظهور من غير تشبيه ولا
تكييف، وقوله: (جعله دكا)، المعنى: جعله أرضا دكا، يقال: ناقة دكاء، أي: لا سنام
لها، (وخر موسى صعقا)، أي: مغشيا عليه، قاله جماعة من المفسرين.
قال * ص *: (وخر) معناه سقط، وقوله: (سبحانك)، أي: تنزيها لك، كذا
فسره النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (تبت إليك)، معناه: من أن أسألك الرؤية في الدنيا، وأنت لا
تبيحها فيها.
قال * ع *: ويحتمل عندي أنه لفظ قاله عليه السلام، لشدة هول المطلع، ولم
يعن التوبة من شئ معين، ولكنه لفظ لائق بذلك المقام، والذي يتحرز منه أهل السنة أن
تكون توبة من سؤال المحال، كما زعمت المعتزلة، وقوله: (وأنا أول المؤمنين)، أي:
من قومه، قاله ابن عباس وغيره، أو من أهل زمانه، إن كان الكفر قد طبق الأرض، أو
أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا، قاله أبو العالية.
وقوله سبحانه: (فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) فيه تأديب، وتقنيع، وحمل على
جادة السلامة، ومثال لكل أحد في حاله، فإن جميع النعم من عند الله سبحانه بمقدار،
76

وكل الأمور بمرأى منه ومسمع، (وكتبنا له في الألواح من كل شئ)، أي: من كل شئ
ينفع في معنى الشرع، وقوله: (وتفصيلا لكل شئ) مثله، وقوله: (بقوة)، أي: بجد
وصبر عليها، قاله ابن عباس، وقوله: (بأحسنها) يحتمل معنيين.
أحدهما: التفضيل، كما إذا عرض مثلا مباحان، كالعفو والقصاص، فيأخذون
بالأحسن منهما.
والمعنى الثاني: يأخذون بحسن وصف الشريعة بجملتها، كما تقول: الله أكبر، دون
مقايسة.
وقوله سبحانه: (سأوريكم دار الفاسقين)، الرؤية هنا: رؤية عين، هذا هو الأظهر
إلا أن المعنى يتضمن الوعد للمؤمنين، والوعيد للفاسقين، ودار الفاسقين: قيل: هي
مصر، والمراد آل فرعون، وقيل: الشام، والمراد العمالقة وقيل: جهنم، والمراد الكفرة
بموسى، وقيل غير هذا مما يفتقر إلى صحة إسناد.
وقوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذي يتكبرون في الأرض...) الآية: المعنى:
سأمنع وأصد، قال سفيان بن عيينة: الآيات هنا كل كتاب منزل.
قال * ع *: والمعنى عن فهمها وتصديقها، وقال ابن جريج: الآيات: العلامات
المنصوبة الدالة على الوحدانية، والمعنى: عن النظر فيها، والتفكر والاستدلال بها، واللفظ
يعم الوجهين /، والمتكبرون في الأرض بغير الحق: هم الكفار، قلت: ويدخل في هذا
77

المعنى من تشبه بهم من عصاة المؤمنين، والمعنى في هذه الآية: سأجعل الصرف عن
الآيات، عقوبة للمتكبرين على تكبرهم، وقوله: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) حتم من
الله على الطائفة التي قدر عليهم ألا يؤمنوا، وقوله: (ذلك): إشارة إلى الصرف المتقدم.
وقوله سبحانه: (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة...) الآية: هذه الآية مؤكدة
للتي قبلها، وفيها تهديد.
وقوله سبحانه: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار):
الخوار: صوت البقر، وقرأت فرقة: " له جؤار " - بالجيم -، أي: صياح، ثم بين سبحانه
سوء فطرهم، وقرر فساد اعتقادهم بقوله: (ألم يروا أنه لا يكلمهم...) الآية: وقوله،
(وكانوا ظالمين): إخبار عن جميع أحوالهم، ماضيا، وحالا، ومستقبلا، وقد مر في
" البقرة " قصة العجل، فأغنى عن إعادته.
قال أبو عبيدة: يقال لمن ندم على أمر، وعجز عنه: سقط في يده، وقول بني
إسرائيل: (لئن لم يرحمنا ربنا)، إنما كان بعد رجوع موسى، وتغييره عليهم، ورؤيتهم
أنهم قد خرجوا من الدين، ووقعوا في الكفر.
وقوله سبحانه: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا)، يريد: رجع من
المناجاة، والأسف: قد يكون بمعنى الغضب الشديد، وأكثر ما يكون بمعنى الحزن،
والمعنيان مترتبان هنا.
وعبارة * ص *: (غضبان): صفة مبالغة، والغضب غليان القلب، بسبب ما يؤلم
و (أسفا): من أسف، فهو أسف، كفرق فهو فرق، يدل على ثبوت الوصف، ولو ذهب به
مذهب الزمان، لقيل: آسف، على وزن فاعل، والأسف: الحزن. انتهى.
وقوله تعالى: (أعجلتم)، معناه: أسابقتم قضاء ربكم، واستعجلتم إتياني قبل الوقت
الذي قدر به، قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كان سبب إلقائه الألواح - غضبه على
78

قومه في عبادتهم العجل، وغضبه على أخيه في إهمال أمرهم.
قال ابن عباس: لما ألقاها، تكسرت، فرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شئ، وبقي
الذي في نسخته الهدى والرحمة، وهو الذي أخذ بعد ذلك، قال ابن عباس: كانت
الألواح من زمرد، وقيل: من ياقوت، وقيل: من زبرجد، وقيل: من خشب، والله
أعلم.
وقوله: (ابن أم) استعطاف برحم الأم، إذ هو ألصق القرابات، وقوله: (كادوا)،
معناه: قاربوا، ولم يفعلوا، وقوله: (ولا تجعلني مع القوم الظالمين)، يريد: عبدة
العجل.
وقوله سبحانه: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة
الدنيا)، وقد وقع ذلك النيل بهم في عهد موسى عليه السلام، فالغضب والذلة هو أمرهم
بقتل أنفسهم، وقال بعض المفسرين: الذلة: الجزية، ووجه هذا القول أن الغضب والذلة
بقيت في عقب هؤلاء، وقال ابن جريج: الإشارة إلى من مات من عبدة العجل قبل التوبة
بقتل الأنفس، وإلى من فر، فلم يكن حاضرا وقت القتل، والغضب من الله عز وجل،
إن أخذ بمعنى الإرادة، فهو صفة ذات، وإن أخذ بمعنى العقوبة وإحلال النقمة، فهو صفة
فعل، وقوله: (وكذلك نجزي المفترين)، المراد أولا أولئك الذين افتروا على الله سبحانه
79

في عبادة العجل، وتكون قوة اللفظ تعم كل مفتر إلى يوم القيامة، وقد قال سفيان بن
عيينة وأبو قلابة وغيرهما /: كل صاحب بدعة أو فرية، ذليل، واستدلوا بالآية.
وقوله سبحانه: (والذين عملوا السيئات...) الآية تضمنت وعدا بأن الله سبحانه
يغفر للتائبين، وقرأ معاوية بن قرة " ولما سكن عن موسى الغضب ".
قال أبو حيان: واللام في (لربهم يرهبون) مقوية لوصول الفعل، وهو (يرهبون)
إلى مفعوله المتقدم.
وقال الكوفيون: زائدة.
وقال الأخفش: لام المفعول له، أي: لأجل ربهم. انتهى.
80

قلت: قال ابن هشام في " المغني " ولام التقوية هي المزيدة لتقوية عامل ضعف، إما
لتأخير، نحو: (لربهم يرهبون)، و (إن كنتم للرؤيا تعبرون) [يوسف: 43] أو لكونه
فرعا في العمل، نحو: (مصدقا لما معهم) [البقرة: 91] (فعال لما يريد) [البروج:
16]، وقد اجتمع التأخير والفرعية في: (وكنا لحكمهم شاهدين) [الأنبياء: 78]. انتهى.
وقوله: (واختار موسى قومه...) الآية: قال الفخر: قال جماعة النحويين:
معناه: واختار موسى من قومه، فحذف " من "، يقال: اخترت من الرجال زيدا، واخترت
الرجال زيدا. انتهى.
قال * ع *: معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام اختار من قومه هذه العدة،
ليذهب بهم إلى موضع عبادة وابتهال ودعاء، فيكون منه ومنهم اعتذار إلى الله سبحانه من
خطأ بني إسرائيل في عبادة العجل، وقد تقدم في " سورة البقرة " [البقرة: 51] قصصهم،
قالت فرقة من العلماء: إن موسى عليه السلام لما أعلمه الله سبحانه بعبادة بني إسرائيل
العجل، وبصفته، قال موسى: أي رب، ومن اختاره؟ قال: أنا، قال موسى: فأنت، يا
رب، أضللتهم، (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء) أي: إن الأمور بيدك تفعل ما
تريد.
وقوله سبحانه: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة...) الآية: (اكتب): معناه:
أثبت واقض، والكتب: مستعمل في كل ما يخلد، و (حسنة): لفظ عام في كل ما يحسن
في الدنيا من عاقبة وطاعة لله سبحانه، وغير ذلك، وحسنة الآخرة: الجنة، لا حسنة
دونها، ولا مرمى وراءها، و (هدنا) - بضم الهاء -: معناه: تبنا.
وقوله سبحانه: (قال عذابي أصيب به من أشاء)، يحتمل أن يريد ب‍ " العذاب "
81

الرجفة التي نزلت بالقوم، ثم أخبر سبحانه عن رحمته، ويحتمل، وهو الأظهر: أن الكلام
قصد به الخبر عن عذابه، وعن رحمته، وتصريف ذلك في خليقته، كما يشاء سبحانه،
ويندرج في عموم العذاب أصحاب الرجفة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، وطاوس،
وعمرو بن فائد: " من أساء " من الإساءة، ولا تعلق فيه للمعتزلة، وأطنب القراء في
التحفظ من هذه القراءة، وحملهم على ذلك شحهم على الدين.
وقوله سبحانه: (ورحمتي وسعت كل شئ)، قال بعض العلماء: هو عموم في
الرحمة، وخصوص في قوله: (كل شئ)، والمراد: من قد سبق في علم الله أن
يرحمهم، وقوله سبحانه: (فسأكتبها)، أي: أقدرها وأقضيها.
وقال نوف البكالي: إن موسى عليه السلام قال: يا رب، جعلت وفادتي لأمة
محمد عليه السلام، وقوله: (ويؤتون الزكاة): الظاهر: أنها الزكاة المختصة بالمال،
وروي عن ابن عباس، أن المعنى: يؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم.
وقوله سبحانه: (الذي يتبعون الرسول النبي الأمي...) الآية: هذه ألفاظ أخرجت
82

اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في قوله: (فسأكتبها للذين يتقون)، وخلصت
هذه العدة لأمة محمد / صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس وغيره. قلت: وهذه الآية الكريمة معلمة
بشرف هذه الأمة على العموم في كل من آمن بالله تعالى، وأقر برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ثم هم
يتفاوتون بعد في الشرف، بحسب تفاوتهم في حقيقة الاتباعية للنبي صلى الله عليه وسلم، قال الغزالي رحمه
الله في " الإحياء ": وإنما أمته صلى الله عليه وسلم من اتبعه، وما اتبعه إلا من أعرض عن الدنيا، وأقبل على
الآخرة، فإنه عليه السلام ما دعا إلا إلى الله، واليوم الآخر، وما صرف إلا عن الدنيا
والحظوظ العاجلة، فبقدر ما تعرض عن الدنيا، وتقبل على الآخرة، تسلك سبيله الذي
سلكه صلى الله عليه وسلم، وبقدر ما سلكت سبيله، فقد اتبعته، وبقدر ما اتبعته، صرت من أمته، وبقدر ما
أقبلت على الدنيا، عدلت عن سبيله، ورغبت عن متابعته، والتحقت بالذين قال الله تعالى
فيهم: (فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى) [النازعات: 37،
38، 39]. انتهى، فإن أردت اتباع النبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقة، واقتفاء أثره، فأبحث عن
سيرته وخلقه في كتب الحديث والتفسير.
قال ابن القطان في تصنيفه الذي صنفه في " الآيات والمعجزات ": والقول الوجيز في
زهده وعبادته وتواضعه وسائر حلاه ومعاليه صلى الله عليه وسلم: أنه ملك من أقصى اليمن إلى صحراء
عمان إلى أقصى الحجاز، ثم توفي عليه السلام، وعليه دين، ودرعه مرهونة في طعام
لأهله، ولم يترك دينارا ولا درهما، ولا شيد قصرا، ولا غرس نخلا، ولا شقق نهرا،
وكان يأكل على الأرض ويجلس على الأرض، ويلبس العباءة، ويجالس المساكين،
ويمشي في الأسواق، ويتوسد يده، ويلعق أصابعه، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويصلح
خصه، ويمهن لأهله، ولا يأكل متكئا، ويقول: " أنا عبد آكل كما يأكل العبد "، ويقتص من
نفسه، ولا يرى ضاحكا ملء فيه ولو دعي إلي ذراع، لأجاب، ولو أهدي إليه كراع لقبل،
لا يأكل وحده، ولا يضرب عبده، ولا يمنع رفده ولا ضرب قط بيده إلا في سبيل الله،
وقام لله حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما
تأخر؟ فقال: " أفلا أكون عبدا شكورا "، وكان يسمع لجوفه أزيز، كأزيز المرجل من
البكاء، إذا قال بالليل صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأتباعه صلاة دائمة إلى يوم القيامة. انتهى.
83

وقال الفخر: قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول...) الآية: قال بعضهم:
الإشارة بذلك إلى من تقدم ذكره من بني إسرائيل، والمعنى: يتبعونه باعتقاد نبوته، من
حيث وجدوا صفته في التوراة، وسيجدونه مكتوبا في الإنجيل.
وقال بعضهم: بل المراد من لحق من بني إسرائيل أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فبين تعالى أن
هؤلاء اللاحقين لا تكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوا النبي الأمي.
قال الفخر: وهذا القول أقرب. انتهى. وقوله: (يجدونه)، أي: يجدون صفة
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، ففي " البخاري " وغيره، عن عبد الله بن عمرو، أن في التوراة من
صفة النبي صلى الله عليه وسلم " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا / ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي
ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا
يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، بأن
يقولوا: لا إله إلا الله، فنقيم به قلوبا غلفا، وأذانا صما، وأعينا عميا "، وفي " البخاري ":
" فيفتح به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا "، ونص كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ
إلا أنه قال: " قلوبا غلوفا، وآذنا صموما ".
وقوله سبحانه: (يأمرهم بالمعروف...) الآية: يحتمل أن يكون ابتداء كلام وصف
به النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون متعلقا ب‍ " يجدونه " في موضع الحال على تجوز، أي:
يجدونه في التوراة آمرا، بشرط وجوده، والمعروف: ما عرف بالشرع، وكل معروف من
جهة المروءة، فهو معروف بالشرع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " بعثت لأتمم محاسن الأخلاق "
و (المنكر): مقابله، و (الطيبات)، عند مالك: هي المحللات، و (الخبائث) هي
المحرمات، وكذلك قال ابن عباس، والإصر الثقل، وبه فسر هنا قتادة وغيره،
84

والإصر أيضا: العهد، وبه فسر ابن عباس وغيره، وقد جمعت هذه الآية المعنيين، فإن
بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم العهد بأن يقوموا بأعمال ثقال، فوضع عنهم نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن جبير: الإصر: شدة العبادة، وقرأ ابن عامر: " آصارهم " بالجمع
فمن وحد " الإصر "، فإنما هو اسم جنس عنده، يراد به الجمع، (والأغلال التي كانت
عليهم) عبارة مستعارة أيضا لتلك الأثقال، كقطع الجلد من أثر البول، وأن لا دية، ولا بد
من قتل القاتل، إلى غير ذلك، هذا قول جمهور المفسرين، وقال ابن زيد: إنما المراد هنا
ب‍ (الأغلال) قول الله عز وجل في اليهود: (غلبت أيديهم) [المائدة: 64]، فمن آمن
بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، زالت عنه الدعوة، وتغليلها، ومعنى (عزروه): أي: وقروه، فالتعزير
والنصر: مشاهدة خاصة للصحابة، واتباع النور: يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم
القيامة، والنور: كناية عن جملة الشرع، وشبه الشرع والهدى بالنور، إذ القلوب تستضئ
به، كما يستضيء البصر بالنور.
وقوله سبحانه: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) هذا أمر من الله
85

سبحانه لنبيه بإشهار الدعوة العامة، وهذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم من بين سائر الرسل، فإنه صلى الله عليه وسلم
بعث إلى الناس كافة، وإلى الجن، وكل نبي إنما بعث إلى فرقة دون العموم.
وقوله سبحانه: (فآمنوا بالله ورسوله...) الآية: حض على اتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم،
وقوله: (الذي يؤمن بالله وكلماته)، أي: يصدق بالله وكلماته، والكلمات هنا: الآيات
المنزلة من عند الله، كالتوراة والإنجيل، وقوله: (واتبعوه) لفظ عام يدخل تحته جميع
إلزامات الشريعة، جعلنا الله من متبعيه على ما يلزم بمنه ورحمته.
قلت: فإن أردت الفوز أيها الأخ، فعليك باتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم شريعته، وتعظيم
جميع أسبابه.
قال عياض: ومن إعظامه صلى الله عليه وإكباره إعظام جميع أسبابه وإكرام مشاهده وأمكنته،
ومعاهده، وما لمسه عليه السلام أو عرف به، حدثت أن أبا الفضل الجوهري، لما ورد
المدينة زائرا، وقرب من بيوتها، ترجل، ومشى باكيا منشدا: [الطويل]
ولما رأينا رسم من لم يدع لنا * فؤادا لعرفان / الرسوم ولا لبا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة * لمن بان عنه أن نلم به ركبا
وحكي عن بعض المريدين، أنه لما أشرف على مدينة الرسول عليه السلام، أنشأ
يقول: [الكامل]
رفع الحجاب لنا فلاح لناظري * قمر تقطع دونه الأوهام
وإذا المطي بنا بلغن محمدا * فظهورهن على الرجال حرام
86

قربننا من خير من وطئ الحصى * فلها علينا حرمة وذمام
وحكي عن بعض المشايخ، أنه حج ماشيا، فقيل له في ذلك، فقال: العبد الآبق
يأتي إلى بيت مولاه راكبا؟ لو قدرت أن أمشي على رأسي، ما مشيت على قدمي.
قال عياض: وجدير لمواطن عمرت بالوحي، والتنزيل، وتردد فيها جبريل وميكائيل،
وعرجت منها الملائكة والروح، وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملت تربتها
على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر، مدارس وآيات،
ومساجد وصلوات، ومشاهد الفضائل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات - أن تعظم
عرصاتها، وتتنسم نفحاتها، وتقبل ربوعها وجدراتها: [الكامل]
يا دار خير المرسلين ومن به * هدي الأنام وخص بالآيات
عندي لأجلك لوعة وصبابة * وتشوق متوقد الجمرات
الأبيات. انتهى من " الشفا ".
وقوله سبحانه: (ومن قوم موسى أمة يهدون)، أي: يرشدون أنفسهم، وهذا الكلام
يحتمل أن يريد به وصف المؤمنين منهم، على عهد موسى، وما والاه من الزمن، فأخبر
سبحانه، أنه كان في بني إسرائيل على عتوهم وخلافهم من اهتدى واتقى وعدل، ويحتمل
أن يريد الجماعة التي آمنت بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، على جهة الاستجلاب لإيمان
جميعهم، وقوله: (أسباطا): بدل من (اثنتي)، والتمييز الذي بين العدد محذوف
تقديره: اثنتي عشرة فرقة أو قطعة أسباطا.
وقوله سبحانه: (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر
87

فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام...) الآية:
(انبجست): بمعنى انفجرت، وقد تقدم الكلام على هذه المعاني في " البقرة ".
وقوله سبحانه: (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة
وادخلوا الباب سجدا تغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين * فبدل الذي ظلموا منهم قولا
غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون): القرية هي بيت
المقدس.
وقيل: أريحاء، و " بدل ": معناه غير اللفظ.
وقوله سبحانه: (وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر...) الآية: قال
بعض المتأولين: إن اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن بني إسرائيل لم يكن فيهم
عصيان، ولا معاندة لما أمروا به، فنزلت هذه الآية موبخة لهم، فسؤالهم إنما هو على جهة
التوبيخ، والقرية هنا: أيلة، قاله ابن عباس وغيره، وقيل: مدين، و " حاضرة البحر "،
أي: البحر فيها حاضر، ويحتمل أن يريد معنى " الحاضرة "، على جهة التعظيم لها، أي:
هي الحاضرة في مدن البحر، و (يعدون): معناه: يخالفون الشرع، من عدا يعدو،
و (شرعا)، أي: مقبلة إليهم مصطفة، كما تقول: شرعت الرماح إذا مدت مصطفة،
وعبارة البخاري / (شرعا) أي: شوارع انتهى.
والعامل في قوله: (ويوم لا يسبتون) قوله: (لا تأتيهم)، وهو ظرف مقدم،
88

ومعنى قوله (كذلك) الإشارة إلى أمر الحوت، وفتنتهم به، هذا على من وقف على
(تأتيهم)، ومن وقف على (كذلك)، فالإشارة إلى كثرة الحيتان شرعا، أي: فما أتى
منها يوم لا يسبتون، فهو قليل، و (نبلوهم)، أي: نمتحنهم بفسقهم وعصيانهم، وقد تقدم
في " البقرة " قصصهم.
وقوله سبحانه: (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا
شديدا).
قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق: فرقة عصت، وفرقة
نهت، وجاهرت وتكلمت واعتزلت، وفرقة اعتزلت، ولم تعص ولم تنه، وأن هذه الفرقة
لما رأت مجاهرة الناهية، وطغيان العاصية وعتوها، قالت للناهية: (لم تعظون قوما)،
يريدون: العاصية (الله مهلكهم أو معذبهم)، فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إلى الله،
أي: إقامة عذر، ومعنى (مهلكهم)، أي: في الدنيا، (أو معذبهم)، [أي]: في الآخرة،
والضمير في قوله: (نسوا) للمنهيين، وهو ترك سمي نسيانا مبالغة، و " ما " في قوله: (ما
ذكروا به) بمعنى الذي، و (السوء): لفظ عام في جميع المعاصي إلا أن الذي يختص هنا
بحسب قصص الآية هو صيد الحوت، و (الذين ظلموا): هم العاصون، وقوله: (بعذاب
بئيس) معناه: مؤلم موجع شديد، واختلف في الفرقة التي لم تعص ولم تنه، فقيل: نجت
مع الناجين، وقيل: هلكت مع العاصين.
وقوله: (بما كانوا يفسقون)، أي: لأجل ذلك، وعقوبة عليه، والعتو الاستعصاء
وقلة الطواعية.
وقوله سبحانه: (قلنا لهم كونوا)، يحتمل أن يكون قولا بلفظ من ملك أسمعهم،
فكان أذهب في الإعراب والهول والإصغار، ويحتمل أن يكون عبارة عن القدرة المكونة
لهم قردة، و (خاسئين): معناه مبعدين ف‍ " خاسئين " خبر بعد خبر، فهذا اختيار أبي الفتح،
وضعف الصفة، فروي أن الشباب منهم مسخوا قردة، والرجال الكبار مسخوا خنازير.
وقوله سبحانه: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء
العذاب) معنى هذا الآية: وإذ علم الله ليبعثن، وتقتضي قوة الكلام، أن ذلك العلم منه
89

سبحانه مقترن بإنفاذ وإمضاء، كما تقول في أمر عزمت عليه: علم الله لأفعلن.
وقال الطبري وغيره: (تأذن) معناه: أعلم، وقال مجاهد: (تأذن) معناه: أمر
وقالت فرقة: معنى (تأذن): تألى، والضمير في (عليهم)، لبني إسرائيل، وقوله: (من
يسومهم) قال ابن عباس: هي إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، يسومون اليهود سوء
العذاب.
قال * ع *: والصحيح أن هذا حالهم في كل قطر، ومع كل ملة، و (يسومهم):
معناه: يكلفهم ويحملهم، و (سوء العذاب): الظاهر منه: أنه الجزية، والإذلال، وقد حتم
الله عليهم هذا، وحط ملكهم، فليس في الأرض راية ليهودي، ثم حسن في آخر الآية
التنبيه على سرعة العقاب، والتخويف لجميع الناس، ثم رجى سبحانه بقوله: (وإنه لغفور
رحيم)، لطفا منه بعباده جل وعلا، (وقطعناهم في الأرض)، معناه: فرقناهم في
الأرض.
قال الطبري عن جماعة من المفسرين: ليس في الأرض بقعة إلا وفيها معشر من
اليهود، والظاهر في المشار إليهم بهذه الآية، أنهم الذين بعد سليمان وقت زوال ملكهم،
والظاهر أنهم قبل مدة عيسى عليه السلام، لأنهم لم يكن فيهم صالح / بعد كفرهم
بعيسى صلى الله عليه وسلم و (بلوناهم)، معناه: امتحناهم (بالحسنات)، أي: بالصحة والرخاء، ونحو
هذا مما هو بحسب رأي ابن آدم ونظره، و (السيئات): مقابلات هذه، (لعلهم يرجعون)
إلى الطاعة.
90

وقوله سبحانه: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب...) الآية: خلف معناه:
حدث خلفهم وبعدهم، و (خلف) - بإسكان اللام - يستعمل في الأشهر: في الذم.
وقوله سبحانه: (يأخذون عرض هذا الأدنى) إشارة إلى الرشا والمكاسب الخبيثة،
والعرض: ما يعرض ويعن، ولا يثبت، والأدنى: إشارة إلى عيش الدنيا، وقولهم:
(سيغفر لنا) ذم لهم باغترارهم، وقولهم (سيغفر لنا)، مع علمهم بما في كتاب الله، من
الوعيد على المعاصي، وإصرارهم، وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فهؤلاء عجزة،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله "، فهؤلاء قطعوا
بالمغفرة وهم مصرون، وإنما يقول: (سيغفر لنا) من أقلع وندم.
وقوله سبحانه: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب...) الآية: تشديد في لزوم قول
الحق على الله في الشرع والأحكام، وقوله: (ودرسوا ما فيه) معطوف على قوله: (ألم
يؤخذ)، لأنه بمعنى المضي، والتقدير: أليس قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب، ودرسوا ما
فيه، وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل، وقرأ أبو عبد الرحمن
السلمي: " وادرسوا ما فيه ".
ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله: (والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون)،
وقرأ أبو عمرو: " أفلا يعقلون " - بالياء من أسفل -.
91

وقوله سبحانه: (والذين يمسكون بالكتاب) عطف على قوله: (للذين يتقون)،
وقرأ عاصم وحده، في رواية أبي بكر " يمسكون " - بسكون الميم، وتخفيف السين -،
وقرأ الأعمش: " والذين استمسكوا ".
وقوله عز وجل: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة)، (نتقنا): معناه: اقتلعنا
ورفعنا، وقد تقدم قصص الآية في " البقرة "، وقوله سبحانه: (واذكروا ما فيه)، أي:
تدبروه واحفظوا أوامره ونواهيه، فما وفوا.
وقوله سبحانه: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على
أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا...) الآية، قوله: (من ظهورهم) قال النحاة: هو
بدل اشتمال من قوله: (من بني آدم)، وتواترت الأحاديث في تفسير هذه الآية عن
النبي صلى الله عليه وسلم من طرق: " أن الله عز وجل استخرج من ظهر آدم عليه السلام نسم بنيه، ففي
بعض الروايات كالذر، وفي بعضها: كالخردل ".
وقال محمد بن كعب: إنها الأرواح جعلت لها مثالات، وروي عن عبد الله بن
عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أخذوا من ظهر آدم، كما يؤخذ بالمشط من الرأس،
92

وجعل الله لهم عقولا كنملة سليمان، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، وأن لا إله غيره،
فأقروا بذلك، والتزموه، وأعلمهم أنه سيبعث الرسل إليهم مذكرة وداعية، فشهد بعضهم
على بعض، وشهد الله عليهم وملائكته " قال الضحاك بن مزاحم: من مات صغيرا، فهو
على العهد الأول، ومن بلغ، فقد أخذه العهد الثاني، يعني الذي في هذه الحياة المعقولة
الآن.
وقوله / (شهدنا) يحتمل أن يكون من قول بعض النسم لبعض، فلا يحسن الوقف
على قوله: (بلى)، ويحتمل أن يكون قوله: (شهدنا) من قول الملائكة، فيحسن الوقف
على قوله: (بلى).
قال السدي: المعنى: قال الله وملائكته: شهدنا ورواه عبد الله بن عمر، عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين...) الآية: المعنى:
لئلا تقولوا، أو مخافة أن تقولوا، والمعنى في هذه الآية: أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم
عهد، ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته، لكانت لهم
حجتان:
إحداهما: أن يقولوا كنا عن هذا غافلين.
والأخرى: كنا تباعا لأسلافنا، فكيف نهلك، والذنب إنما هو لمن طرق لنا وأضلنا،
فوقع شهادة بعضهم على بعض، وشهادة الملائكة عليهم، لتنقطع لهم هذه الحجة.
وقوله سبحانه: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا).
93

قال ابن عباس: هو رجل من الكنعانيين الجبارين، اسمه بلعم بن باعوراء، وقيل:
بلعام بن باعر.
وقيل: غير هذا، وكان في جملة الجبارين الذي غزاهم موسى عليه السلام، فلما
قرب منهم موسى، لجؤوا إلى بلعام، وكان صالحا مستجاب الدعوة، وقيل: كان عنده علم
من صحف إبراهيم ونحوها.
وقيل: كان يعلم اسم الله الأعظم، قاله ابن عباس أيضا، وهذا الخلاف هو في
المراد بقوله: (آتيناه آياتنا)، فقال له قومه: ادع الله على موسى وعسكره، فقال لهم:
وكيف أدعو على نبي مرسل، فما زالوا به حتى فتنوه، فخرج حتى أشرف على جبل يرى
منه عسكر موسى، وكان قد قال لقومه: لا أفعل حتى أستأمر ربي، ففعل، فنهي عن ذلك،
فقال لهم: قد نهيت، فما زالوا به حتى قال: سأستأمر ثانية، ففعل، فسكت عنه،
فأخبرهم، فقالوا له: إن الله لم يدع نهيك إلا وقد أراد ذلك، فخرج، فلما أشرف على
العسكر، جعل يدعو على موسى، فتحول لسانه بالدعاء لموسى، والدعاء على قومه، فقالوا
له: ما تقول؟ فقال: إني لا أملك هذا، وعلم أنه قد أخطأ، فروي أنه قد خرج لسانه على
صدره، فقال لقومه: إني قد هلكت، ولكن لم يبق لكم إلا الحيلة، فأخرجوا النساء إلى
عسكر موسى على جهة التجر وغيره، ومروهن ألا تمتنع امرأة من رجل، فإنهم إذا زنوا
هلكوا، ففعلوا، فخرج النساء، فزنى بهن رجال [من] بني إسرائيل، وجاء فنحاص بن
العيزار بن هارون، فانتظم برمحه امرأة ورجلا من بني إسرائيل، ورفعهما على الرمح، فوقع
في بني إسرائيل الطاعون، فمات منهم في ساعة [واحدة] سبعون ألفا، ثم ذكر المعتمر عن
أبيه: أن موسى عليه السلام قتل بعد ذلك الرجل المنسلخ من آيات الله.
قال المهدوي: روي أنه دعا على موسى ألا يدخل مدينة الجبارين، فأجيب، ودعا
عليه موسى أن ينسى اسم الله الأعظم، فأجيب، وفي هذه القصة روايات كثيرة تحتاج إلى
صحة إسناد، و (انسلخ): عبارة عن البراءة منها، والإنفصال والبعد، كالمنسلخ من الثياب
والجلد، و " أتبعه الشيطان "، أي: صيره تابعا، كذا قال الطبري: إما لضلالة رسمها له،
وإما لنفسه، و (من الغاوين)، أي: (من الضالين)، (ولو شئنا لرفعناه بها)، قال ابن
94

عباس وجماعة: معنى " لرفعناه " لشرفنا / ذكره، ورفعنا منزلته لدينا، بهذه الآيات التي
آتيناه، ولكنه أخلد إلى الأرض، أي: تقاعس إلى الحضيض الأسفل الأخس من شهوات
الدنيا ولذاتها، وذلك أن الأرض وما ارتكن فيها: هي الدنيا وكل ما عليها فإن، ومن أخلد
إلى الفاني، فقد حرم حظ الآخرة الباقية.
* ت *: قال الهروي: قوله: (أخلد إلى الأرض): معناه: سكن إلى لذاتها، واتبع
هواه، يقال: أخلد إلى كذا، أي: ركن إليه واطمأن به. انتهى.
قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله في " العاقبة ": واعلم رحمك الله، أن لسوء
الخاتمة أعاذنا الله منها أسبابا، ولها طرق وأبواب، أعظمها: الإكباب على الدنيا،
والإعراض عن الآخرة، وقد سمعت بقصة بلعام بن باعوراء، وما كان آتاه الله تعالى من
آياته، وأطلعه عليه من بيناته، وما أراه من عجائب ملكوته، أخلد إلى الأرض، واتبع هواه،
فسلبه الله سبحانه جميع ما كان أعطاه، وتركه مع من استماله وأغواه. انتهى.
وقوله: (فمثله كمثل الكلب)، شبه به في أنه كان ضالا قبل أن يؤتى الآيات، ثم
أوتيها، فكان أيضا ضالا لم تنفعه، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في كل حال، هذا
قول الجمهور.
وقال السدي وغيره: إن هذا الرجل عوقب في الدنيا، فإنه كان يلهث كما يلهث
الكلب، فشبه به صورة وهيئة، وذكر الطبري، عن ابن عباس، أن معنى: (إن تحمل
عليه): إن تطرده.
وقوله: (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا)، أي: هذا المثل، يا محمد، مثل
هؤلاء الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة، ثم جئتهم بها، فبقوا على
ضلالتهم، ولم ينتفعوا بذلك، فمثلهم كمثل الكلب.
وقوله: (فاقصص القصص)، أي: اسرد عليهم ما يعلمون أنه من الغيوب التي لا
يعلمها إلا أهل الكتب الماضية ولست منهم، (لعلهم يتفكرون) في ذلك، فيؤمنوا.
95

وقوله سبحانه: (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون)،
القول فيه: أن ذلك كله من عند الله: الهداية منه وبخلقه واختراعه، وكذلك الإضلال،
وفي الآية تعجيب من حال المذكورين.
وقوله سبحانه: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس)، هذا خبر من الله تعالى
أنه خلق لسكني جهنم والاحتراق فيها كثيرا، وفي ضمنه وعيد للكفار، " وذرأ ": معناه:
خلق وأوجد، مع بث ونشر.
وقوله سبحانه: (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا
يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل...) الآية: لما كانت هذه الطائفة الكافرة
المعرضة عن النظر في آيات الله، لم ينفعهم النظر بالقلب، ولا بالعين، ولا ما سمعوه من
الآيات والمواعظ، استوجبوا الوصف بأنهم لا يفقهون، ولا يبصرون، ولا يسمعون،
والفقه: الفهم، (أولئك كالأنعام) في أن الأنعام لا تفقه الأشياء ولا تعقل المقاييس، ثم
حكم سبحانه عليهم بأنهم أضل، لأن الأنعام تلك هي بنيتها وخلقتها، وهؤلاء معدون
للفهم والنظر، ثم بين سبحانه بقوله: (أولئك هم الغافلون) الطريق الذي به صاروا أضل
من الأنعام، وهو الغفلة والتقصير.
قال الفخر: أما قوله تعالى: (أولئك كالأنعام بل هم أضل)، فتقريره: أن الإنسان
وسائر الحيوانات متشاركة في قوى الطبيعة، الغاذية، والنامية، والمولدة، ومتشاركة أيضا
في منافع الحواس الخمس، الباطنة والظاهرة، وفي أحوال التخيل، والتفكر، والتذكر،
وإنما حصل الامتياز بين الإنسان، وسائر الحيوانات، في القوة العقلية والفكرية التي تهديه
إلى معرفة الحق، فلما أعرض الكفار عن أحوال العقل والفكر، ومعرفة الحق، كانوا
كالأنعام، بل هم أضل، لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل هذه الفضائل، وقد قال
حكيم الشعراء: [البسيط]
96

الروح من عند رب العرش مبدؤه * وتربة الأرض أصل الجسم والبدن
قد ألف الملك الجبار بينهما * ليصلحا لقبول الأمر والمحن
فالروح في غربة والجسم في وطن * فلتعرفن ذمام النازح الوطن
انتهى.
وقوله سبحانه: (ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها...) الآية: السبب في هذه الآية
على ما روي، أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، فيذكر الله تعالى في
قراءته، ومرة يذكر الرحمن، ونحو ذلك، فقال: محمد يزعم أن الإله واحد، وهو إنما
يعبد آلهة كثيرة، فنزلت هذه الآية، ومن أسماء الله تعالى ما ورد في القرآن، ومنها ما ورد
في الحديث وتواتر، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه.
وقوله سبحانه: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه)، قال ابن زيد: معناه:
اتركوهم، فالآية على هذا منسوخة، وقيل: معناه: الوعيد، كقوله سبحانه: (ذرني ومن
خلقت وحيدا) [المدثر: 11] و (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) [الحجر: 3] يقال: ألحد ولحد
بمعنى جار، ومال، وانحرف، و " ألحد ": أشهر، ومنه لحد القبر، ومعنى الإلحاد في أسماء
الله عز وجل: أن يسموا اللات نظير أسم الله تعالى، قاله ابن عباس، والعزى نظير
العزيز، قاله مجاهد، ويسمون الله أبا، ويسمون أوثانهم أربابا.
وقوله سبحانه: (سيجزون ما كانوا يعملون): وعيد محض.
وقوله سبحانه: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون * والذين كذبوا بآياتنا
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون)، الآية تتضمن الإخبار عن قوم أهل إيمان واستقامة
وهداية، وظاهرها، يقتضي كل مؤمن كان من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، وروي
عن كثير من المفسرين: أنها في أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وروي في ذلك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم
97

قال: " هذه الآية لكم ".
وقوله سبحانه: (والذين كذبوا بآياتنا) الآية وعيد، والإشارة إلى الكفار،
و (سنستدرجهم) معناه: سنسوقهم شيئا بعد شئ ودرجة بعد درجة، بالنعم عليهم
والإمهال لهم، حتى يغتروا ويظنوا أنهم لا ينالهم عقاب، وقوله: (من حيث لا يعلمون)،
أي: من حيث لا يعلمون أنه استدراج لهم، وهذه عقوبة لهم من الله سبحانه على التكذيب
لما حتم عليهم بالعذاب، أملى لهم ليزدادوا إثما.
وقوله: (وأملي): معناه: أؤخر ملاوة من الدهر، أي: مدة و (متين): معناه:
قوي.
وقوله سبحانه: (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة /...) الآية: تقرير يقارنه
توبيخ للكفار، والوقف على قوله: (أو لم يتفكروا)، ثم ابتدأ القول بنفي ما ذكروه،
فقال: (ما بصاحبهم من جنة) أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المعنى: أو لم
يتفكروا أنه ما بصاحبهم من جنة، ويظهر من رصف الآية أنها باعثة لهم على الفكرة في
أمره صلى الله عليه وسلم وأنه ليس به جنة كما أحالهم بعد هذه الآية على النظر.
وقال الفخر: قوله تعالى: (أو لم يتفكروا) أمر بالفكر والتأمل والتدبر، وفي
اللفظ محذوف، والتقدير: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة، والجنة: حالة من
الجنون، كالجلسة، ودخول " من " في قوله: (من جنة) ينفي أنواع الجنون. انتهى.
وقوله سبحانه: (أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض...) الآية: النظر هنا
بالقلب عبرة وفكرا، و (ملكوت): بناء عظمة ومبالغة.
وقوله: (وما خلق الله من شئ): لفظ يعم جميع ما ينظر فيه، ويستدل به من
الصنعة الدالة على الصانع، ومن نفس الإنسان وحواسه ومواضع رزقه، والشيء: واقع على
الموجودات، (وأن عسى): عطف على قوله: (في ملكوت)، والمعنى: توقيفهم على
أن لم يقع لهم نظر في شئ من هذا، ولا في أنهم قربت آجالهم، فماتوا ففات أوان
98

التدارك، ووجب عليهم المحذور، ثم وقفهم " بأي حديث " أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم،
إذا لم يقع بأمر فيه نجاتهم، ودخولهم الجنة، ونحو هذا المعنى قول الشاعر: [الطويل]
........ وعن أي نفس دون نفسي أقاتل
والضمير في (بعده) يراد به القرآن.
وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وقصته وأمره أجمع، وقيل: هو عائد على الأجل، أي:
بعد الأجل، إذ لا عمل بعد الموت.
وقوله سبحانه: (من يضلل الله فلا هادي له...) الآية: هذا شرط وجواب،
مضمنه اليأس منهم، والمقت لهم، لأن المراد أن هذا قد نزل بهم، والطغيان: الإفراط في
الشئ، وكأنه مستعمل في غير الصلاح، والعمه: الحيرة.
وقوله سبحانك: (يسألونك عن الساعة)، قال قتادة: السائلون: هم قريش.
وقال ابن عباس: هم أحبار اليهود.
* ت *: وفي " السيرة " لابن هشام: أن السائلين من أحبار اليهود، حمل بن أبي
قشير، وسموءل بن زيد. انتهى.
والساعة: القيامة موت كل من كان حيا حينئذ، وبعث الجميع، و (أيان): معناه
متى، وهي مبنية على الفتح، قال الشاعر: [الرجز]
99

أيان تقتضي حاجتي أيانا * أما ترى لفعلها أبانا
و (مرساها) معناه: مثبتها ومنتهاها، مأخوذ من: أرسى يرسي، ف‍ " مرساها ": رفع
بالابتداء والخبر " أيان "، وعبارة البخاري: (أيان مرساها): متى خروجها. انتهى،
و (يجليها): معناه يظهرها.
وقوله سبحانه: (ثقلت في السماوات والأرض)، قيل: معناه: ثقل أن تعلم ويوقف
على حقيقة وقتها، وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه: ثقلت هيئتها والفزع على / أهل
السماوات والأرض، (لا تأتيكم إلا بغتة)، أي: فجأة.
وقوله سبحانه: (يسئلونك كأنك حفي عنها)، قال ابن عباس وغيره: المعنى
يسألونك كأنك حفي، أي: متحف ومهتبل بهم، وهذا ينحو إلى ما قالت قريش: يا
محمد، إنا قرابتك، فأخبرنا بوقت الساعة.
وقال ابن زيد وغيره: معناه: كأنك حفي في المسألة عنها، والاشتغال بها، حتى
حصلت علمها.
وقرأ ابن عباس فيما ذكر أبو حاتم: " كأنك حفي بها ".
وقوله سبحانه: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) قال الطبري: معناه: لا يعلمون أن
هذا الأمر لا يعلمه إلا الله، بل يظن أكثرهم أنه مما يعلمه البشر.
وقوله سبحانه: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله...) الآية: هذا
أمر بأن يبالغ في الاستسلام، ويتجرد من المشاركة في قدرة الله، وغيبه، وأن يصف نفسه
لهؤلاء السائلين، بأنه لا يملك من منافع نفسه ومضارها إلا ما سنى الله وشاء ويسر، وهذا
100

الاستثناء منقطع، وأخبر أنه لو كان يعلم الغيب، لعمل بحسب ما يأتي، واستعد لكل شئ
استعداد من يعلم قدر ما يستعد له، وهذا لفظ عام في كل شئ.
وقوله: (وما مسني السوء) يحتمل وجهين، وبكليهما قيل.
أحدهما: أن " ما " معطوفة على قوله: (لاستكثرت) أي: ولما مسني السوء.
والثاني: أن يكون الكلام مقطوعا تم في قوله: (لاستكثرت من الخير) وابتدأ يخبر
بنفي السوء عنه، وهو الجنون الذي رموه به.
قال مؤرج السدوسي: (السوء) الجنون، بلغة هذيل.
* ت *: وأما على التأويل الأول، فلا يريد ب‍ " السوء " الجنون، ويترجح الثاني بنحو
قوله سبحانه: (ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم...) [سبأ: 46] الآية، و (لقوم
يؤمنون): يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يريد: لقوم يطلب منهم الإيمان، وهؤلاء الناس أجمع.
والثاني: أن يخبر أنه نذير، ويتم الكلام، ثم يبتدئ يخبر أنه بشير للمؤمنين به، ففي
هذا وعد لمن حصل إيمانه.
وقوله: جلت عظمته: (وهو الذي خلقكم من نفس واحدة...) الآية.
قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة: آدم عليه السلام، وبقوله: (وجعل
منها زوجها) حواء، وقوله: (منها) هو ما تقدم ذكره من أن آدم نام، فاستخرجت قصرى
أضلاعه، وخلقت منها حواء.
101

وقوله: (ليسكن إليها)، أي: ليأنس، ويطمئن، وكان هذا كله في الجنة.
ثم ابتدأ بحالة أخرى، وهي في الدنيا بعد هبوطهما، فقال: (فلما تغشاها)، أي:
غشيها، وهي كناية عن الجماع، والحمل الخفيف: هو المني الذي تحمله المرأة في رحمها.
وقوله: (فمرت به) أي: استمرت به، وقرأ ابن عباس: " فاستمرت به "، وقرأ
ابن مسعود: " فاستمرت بحملها " وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاص: " فمارت به "،
أي جاءت به، وذهبت، وتصرفت، كما تقول: مارت الريح مورا، و (أثقلت): دخلت في
الثقل، كما تقول: أصبح وأمسى، والضمير في قوله (دعوا)، على هذا التأويل: عائد
على آدم وحواء، وروي في قصص ذلك /، أن الشيطان أشار على حواء، أن تسمي هذا
المولود " عبد الحارث "، وهو اسم إبليس، وقال لها: إن لم تفعلي قتلته، فزعموا أنهما
أطاعاه، حرصا على حياة المولود، فهذا هو الشرك الذي جعلا لله، في التسمية فقط.
وقال الطبري والسدي في قوله: (فتعالى الله عما يشركون) كلام منفصل من خبر
آدم وحواء، يراد به مشركو العرب.
* ت *: وينزه آدم وحواء عن طاعتهما لإبليس، ولم أقف بعد على صحة ما
روي في هذه القصص، ولو صح، لوجب تأويله، نعم، روى الترمذي عن سمرة بن
جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما حملت حواء، طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها
ولد، فقال لها: سميه عبد الحارث، فسمته عبد الحارث، فعاش ذلك، وكان ذلك من
102

وحي الشيطان، وأمره، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، انفرد به عمر بن
إبراهيم، عن قتادة، وعمر شيخ بصري. انتهى.
وهذا الحديث ليس فيه أنهما أطاعاه، وعلى كل حال: الواجب التوقف، والتنزيه لمن
اجتباه الله، وحسن التأويل ما أمكن، وقد قال ابن العربي في توهين هذا القول وتزييفه:
وهذا القول ونحوه مذكور في ضعيف الحديث في الترمذي وغيره، وفي الإسرائيليات التي
ليس لها ثبات، ولا يعول عليها من له قلب، فإن آدم وحواء - وإن كانا غرهما بالله
الغرور - فلا يلدغ المؤمن من حجر مرتين، وما كانا بعد ذلك ليقبلا له نصحا، ولا يسمعا
له قولا، والقول الأشبه بالحق: أن المراد بهذا جنس الآدميين. انتهى من " الأحكام ".
قال * ع *: وقوله (صالحا): قال الحسن: معناه: غلاما، وقال ابن عباس،
وهو الأظهر: بشرا سويا سليما.
وقال قوم: إنما الغرض من هذه الآية تعديد النعمة في الأزواج، وفي تسهيل النسل
والولادة، ثم ذكر سوء فعل المشركين الموجب للعقاب، فقال مخاطبا لجميع الناس: (هو
الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها) يريد: آدم وحواء، أي: واستمرت
103

حالكم واحدا واحدا كذلك، فهذه نعمة يختص كل واحد بجزء منها، ثم جاء قوله: (فلما
تغشاها...) إلى آخر الآية، وصفا لحال الناس واحدا واحدا، أي: هكذا يفعلون، فإذا
أتاهم الله ولدا صالحا سليما كما أرادوه، صرفوه عن الفطرة إلى الشرك، فهذا فعل
المشركين.
قال ابن العربي في " أحكامه " وهذا القول هو الأشبه بالحق وأقرب للصدق، وهو
ظاهر الآية، وعمومها الذي يشمل جميع متناولاتها، ويسلم فيها الأنبياء عن النقص الذي لا
يليق بجهال البشر، فكيف بساداتهم، وأنبيائهم؟! انتهى، وهو كلام حسن، وبالله التوفيق.
وقرأ نافع، وعاصم، في رواية أبي بكر: " شركا " - بكسر الشين، وسكون الراء -،
على المصدر، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم:
" شركاء " على الجمع، وهي بينة، على هذا التأويل الأخير، وقلقة على قول من قال: إن
الآية الأولى في آدم وحواء، وفي مصحف أبي بن كعب: " فلما آتاهما صالحا أشركا
فيه ".
وقوله: (أيشركون ما لا يخلق شيئا...) الآية: ذهب بعض من قال بالقول الأول
إلى أن هذه الآية في آدم وحواء على ما تقدم، وفيه قلق وتعسف من التأويل / في المعنى
وإنما تنسق هذه الآيات، ويروق نظمها، ويتناصر معناها على التأويل الأخير، فإنهم قالوا:
إن الآية في مشركي الكفار الذي يشركون الأصنام في العبادة، وإياها يراد في قوله: (ما لا
يخلق)، وعبر عن الأصنام ب‍ (هم)، كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها، وبحسب
أسمائها، و (يخلقون): معناه: ينحتون ويصنعون، يعني: الأصنام، ويحتمل أن يكون
المعنى، وهؤلاء المشركون يخلقون، أي: فكان حقهم أن يعبدوا خالقهم، لا من لا يخلق
شيئا، وقرأ أبو عبد الرحمن: " عما تشركون " بالتاء من فوق " أتشركون ".
وقوله سبحانه: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم
صامتون)، من قال: إن الآيات في آدم عليه السلام، قال: هذه مخاطبة مستأنفة
104

للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته في أمر الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ومن قال بالقول الآخر، قال: إن هذه
مخاطبة للمؤمنين والكفار، على قراءة من قرأ: " أيشركون " - بالياء من تحت -، وللكفار
فقط على قراءة من قرأ بالتاء من فوق على جهة التوقيف، أي: هذا حال الأصنام معكم،
إن دعوتموهم، لم يجيبوكم.
وقوله سبحانه: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم
إن كنتم صادقين...) الآية مخاطبة للكفار في تحقير شأن أصنامهم، وقوله: (فادعوهم)
أي: فاختبروا، فإن لم يستجيبوا، فهم كما وصفنا.
وقوله سبحانه: (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون
بها أم لهم آذان يسمعون بها...) الآية. الغرض من هذه الآية (ألهم) حواس الحي
وأوصافه، فإذا قالوا: " لا "، حكموا بأنها جمادات من غير شك، لا خير عندها.
قال الزهراوي: المعنى: أنتم أفضل منهم بهذه الجوارح النافعة، فكيف تعبدونهم،،
ثم أمر سبحانه نبيه عليه السلام أن يعجزهم بقوله: (قل ادعوا شركاءكم)، أي:
استنجدوهم واستنفروهم إلى إضراري وكيدي، ولا تؤخروني، المعنى: فإن كانوا آلهة،
فسيظهر فعلكم، ولما أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضرره، وأراهم أن الله سبحانه هو
القادر على كل شئ لا تلك، عقب ذلك بالاستناد إلى الله سبحانه، والتوكل عليه،
والإعلام بأنه وليه وناصره، فقال: (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى
الصالحين).
وقوله: (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون)، إنما
تكرر القول في هذا، وترددت الآيات فيه، لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكنا من نفوس
العرب في ذلك الزمان، ومستوليا على عقولها، فأوعب القول في ذلك، لطفا منه سبحانه
بهم.
وقوله: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا...) الآية: قالت فرقة: هذا خطاب
105

للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته في أمر الكفار، والهاء والميم في قوله: " تدعوهم " للكفار، ووصفهم
بأنهم لا يسمعون، ولا يبصرون، إذ لم يتحصل لهم عن النظر والاستماع فائدة، قاله
مجاهد والسدي.
وقال الطبري: المراد بالضمير المذكور: الأصنام، ووصفهم بالنظر كناية عن
المحاذاة والمقابلة، ولما فيها من تخييل النظر، كما تقول: دار فلان تنظر إلى دار فلان.
وقوله سبحانه: (خذ العفو وأمر بالعرف...) الآية: وصية من الله سبحانه لنبيه
عليه السلام تعم جميع أمته، وأخذ بجميع / مكارم الأخلاق.
قال الجمهور: معنى: (خذ العفو) أقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم
ما أتى عفوا، دون تكلف، فالعفو هنا: الفضل والصفو، قال مكي، قوله تعالى: (خذ
العفو وأمر بالعرف...) الآية.
قال بعض أهل المعاني، في هذه الآية بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أوتيت جوامع
الكلم "، فهذه الآية قد جمعت معاني كثيرة، وفوائد عظيمة، وجمعت كل خلق حسن،
لأن في أخذ العفو صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين، وفي الأمر
بالمعروف تقوى الله وطاعته، وصلة الرحم، وصون الجوارح عن المحرمات، وسمى هذا
ونحوه عرفا، لأن كل نفس تعرفه، وتركن إليه، وفي الإعراض عن الجاهلين: الصبر،
والحلم، وتنزيه النفس عن مخاطبة السفيه، ومنازعة اللجوج، وغير ذلك من الأفعال
المرضية. انتهى من " الهداية ".
وقوله: (وأمر بالعرف): معناه: بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة، ومن
ذلك: " أن تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك... " الحديث،
106

فالعرف بمعنى المعروف.
وقوله عز وجل: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم)، هذه
الآية وصية من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم أمته رجلا رجلا، والنزغ: حركة فيها فساد وقلما
تستعمل إلا في فعل الشيطان، لأن حركته مسرعة مفسدة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يشر
أحدكم على أخيه بالسلاح، لا ينزغ الشيطان في يده "، فالمعنى في هذه الآية: فإما تلمن
بك لمة من الشيطان، فاستعذ بالله، وعبارة البخاري: ينزغنك: يستخفنك. انتهى.
ونزغ الشيطان عام في الغضب، وتحسين المعاصي، واكتساب الغوائل، وغير ذلك
وفي " جامع الترمذي " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن للملك لمة، وللشيطان لمة... "
الحديث.
قال * ع *: عن هاتين اللمتين: هي الخواطر من الخير والشر، فالآخذ بالواجب
يلقى لمة الملك بالامتثال والاستدامة، ولمة الشيطان بالرفض والاستعاذة، واستعاذ: معناه:
طلب أن يعاذ، وعاذ: معناه: لاذ، وانضوى، واستجار.
قال الفخر: قال ابن زيد: لما نزل قوله تعالى: (وأعرض عن الجاهلين) قال
النبي صلى الله عليه وسلم: " كيف يا رب، والغضب؟ فنزل قوله: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) "،
وقوله: (إنه سميع عليم) يدل على أن الاستعاذة لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم
بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالى قال: أذكر لفظ الاستعاذة بلسانك، فإني سميع، واستحضر
معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك، فإني عليم بما في ضميرك، وفي الحقيقة: القول اللساني
دون المعارف العقلية، عديم الفائدة والأثر. انتهى.
وقوله سبحانه: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا...) الآية
خرجت مخرج المدح للمتقين، والتقوى ههنا عامة في اتقاء / الشرك والمعاصي، وقرأ ابن
107

كثير وغيره: " طيف ".
قال أبو علي الطائف كالخاطر، والطيف كالخطرة، وقوله: (تذكروا): إشارة إلى
الاستعاذة المأمور بها، وإلى ما لله عز وجل من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع
تعرض الشيطان فيها، وقرأ ابن الزبير: " من الشيطان تأملوا فإذا هم "، وفي مصحف
أبي بن كعب " إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا "، وقوله: (مبصرون): من البصيرة،
أي: فإذا هم قد تبينوا الحق، ومالوا إليه، والضمير في (إخوانهم)، عائد على الشياطين،
وفي (يمدونهم) عائد على الكفار، وهم المراد ب‍ " الإخوان "، هذا قول الجمهور.
قال * ع *: وقرأ جميع السبعة غير نافع: " يمدونهم "، من مددت، وقرأ نافع:
" يمدونهم "، من أمددت.
قال الجمهور: هما بمعنى واحد، إلا أن المستعمل في المحبوب " أمد "، والمستعمل
في المكروه " مد "، فقراءة الجماعة جارية على المنهاج المستعمل، وقراءة نافع هي مقيدة
بقوله: (في الغي)، كما يجوز أن تقيد البشارة، فتقول: بشرته بشر ومد الشياطين للكفرة،
أي: ومن نحا نحوهم: هو بالتزيين لهم، والإغواء المتتابع، وقوله: (ثم لا يقصرون)،
من أقصر، والضمير عائد على الجميع، أي: هؤلاء لا يقصرون عن الإغواء، وهؤلاء لا
يقصرون في الطاعة للشياطين.
وقوله سبحانه: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها)، سببها فيما روي أن الوحي
108

كان يتأخر أحيانا، فكان الكفار يقولون: هلا اجتبيتها، أي: اخترتها، فأمره الله عز وجل،
أن يجيب بالتسليم لله، وأن الأمر في الوحي إليه ينزله متى شاء، ثم أشار بقوله: (هذا
بصائر) إلى القرآن، أي: علامات هدى، وأنوار تستضئ القلوب به.
وقوله سبحانه: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)، ذكر
الطبري وغيره: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا بمكة يتكلمون في المكتوبة بحوائجهم، فنزلت
الآية أمرا لهم بالاستماع والإنصات في الصلاة، وأما قول من قال: إنها في الخطبة،
فضعيف، لأن الآية مكية، والخطبة لم تكن إلا بعد الهجرة، وألفاظ الآية على الجملة
تتضمن تعظيم القرآن وتوقيره، وذلك واجب في كل حالة، والإنصات: السكوت.
قال الزجاج: ويجوز أن يكون: (فاستمعوا له وأنصتوا)، أي: اعملوا بما فيه، ولا
تجاوزوه.
قال ابن العربي في " أحكامه ": روى الترمذي، وأبو داود، عن عبادة بن الصامت،
قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف، قال: " إني
لأراكم تقرؤون وراء إمامكم، قلنا: يا رسول الله، إي والله، فقال: لا تفعلوا إلا بأم
القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " وقد روى الناس في قراءة المأمومين خلف الإمام
بفاتحة الكتاب أحاديث كثيرة، وأعظمهم في ذلك اهتبالا الدارقطني، وقد جمع البخاري في
ذلك جزءا، وكان رأيه قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية، وهي إحدى
روايات مالك، وهو اختيار الشافعي. انتهى، وقد تقدم أول الكتاب ما اختاره ابن العربي.
وقوله سبحانه: (واذكر ربك في نفسك...) الآية: مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم /، وتعم
جميع أمته، وهو أمر من الله تعالى بذكره وتسبيحه وتقديسه، والثناء عليه بمحامده،
والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس، ولا يراعى إلا بحركة اللسان، ويدل على
ذلك من هذه الآية قوله: (ودون الجهر من القول)، وهذه مرتبة السر، والمخافتة.
وقال الفخر: المراد بقوله تعالى: (واذكر ربك في نفسك)، كونه عارفا بمعاني
109

الأذكار التي يقولها بلسانه، مستحضرا لصفات الجلال والعظمة، وذلك أن الذكر باللسان،
إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب، كان عديم الفائدة، ألا ترى أن الفقهاء أجمعوا على أن
الرجل، إذا قال: بعت واشتريت مع أنه لا يعرف معاني هذه الألفاظ، ولا يفهم منها شيئا،
فإنه لا ينعقد البيع والشراء، فكذلك هنا، قال المتكلمون: وهذه الآية تدل على إثبات كلام
النفس.
وقوله تعالى: (ولا تكن من الغافلين)، يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون
دائما، وألا يغفل الإنسان لحظة عن استحضار جلال الله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية،
وتحقيق القول في هذا أن بين الروح والبدن علاقة عجيبة، لأن كل أثر يحصل في البدن
يصعد منه نتائج إلى الروح، ألا ترى أن الإنسان إذا تخيل الشئ الحامض، ضرس منه،
وإذا تخيل حالة مكروهة، أو غضب، سخن بدنه. انتهى. و (تضرعا): معناه: تذللا
وخضوعا، البخاري: (وخيفة)، أي: خوفا انتهى.
وقوله: (بالغدو والآصال): معناه: دأبا، وفي كل يوم، وفي أطراف النهار، (ولا
تكن من الغافلين) تنبيه منه عز وجل، ولما قال سبحانه: (ولا تكن من الغافلين): جعل
بعد ذلك مثالا من اجتهاد الملائكة، ليبعث على الجد في طاعة الله سبحانه.
* ت *: قال صاحب " الكلم الفارقية ": غفلة ساعة عن ربك مكدرة لمرآة قلبك،
فكيف بغفلة جميع عمرك. انتهى.
قال ابن عطاء الله رحمه الله: لا تترك الذكر، لعدم حضورك مع الله فيه، لأن
غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود
غفلة، إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن
ذكر مع وجود حضور، إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور، وما ذلك على الله
بعزيز. انتهى، قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: (ولا تكن من الغافلين): أي:
فيما أمرت به، وكلفته، وهذا خطاب له عليه السلام، والمراد به جميع أمته. انتهى.
وقوله: (الذين)، يريد به الملائكة:
وقوله: (عند)، إنما يريد به المنزلة، والتشريف، والقرب في المكانة، لا في
المكان، فهم بذلك عنده، ثم وصف سبحانه حالهم، من تواضعهم، وإدمانهم العبادة،
والتسبيح والسجود "، وفي الحديث: " أطت السماء، وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر
110

إلا وفيه ملك قائم، أو راكع، أو ساجد " وهذا موضع سجدة.
/ قال عبد الرحمن بن محمد عفا الله عنه: كمل ما انتخبناه في تفسير السورة،
والحمد لله على ما به أنعم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.
111

سورة الأنفال
مدينة كلها
قال مجاهد: إلا آية واحدة، وهي قوله: (وإذا يمكر بك الذين كفروا...) الآية:
ولا خلاف أن هذه السورة نزلت في شأن بدر، وأمر غنائمه.
قوله عز وجل: (يسئلونك عن الأنفال...) الآية، النفل والنافلة، في كلام العرب:
الزيادة على الواجب، والأكثر في هذه الآية أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال، وقالت
فرقة: إنما سألوه الأنفال نفسها، محتجين بقراءة سعد بن أبي وقاص وغيره: " يسئلونك
الأنفال " وعن أبي أمامة الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا
- أهل بدر - نزلت، حين اختلفنا، وساءت أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، وجعله إلى
رسوله صلى الله عليه وسلم وقسمه عليه السلام - بين المسلمين على بواء - يريد: على سواء - فكان في
ذلك تقوى الله وطاعة رسوله، وصلاح ذات البين.
قال * ع *: ويجيء من مجموع الآثار المذكورة هنا، أن نفوس أهل بدر
تنافرت، ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر، من إرادة الأثرة، لا سيما من أبلى، فأنزل الله
عز وجل الآية، فرضي المسلمون، وسلموا، فأصلح ذات بينهم، ورد عليهم غنائمهم.
112

قال بعض أهل التأويل، عكرمة، ومجاهد: كان هذا الحكم من الله سبحانه لرفع
الشغب ثم نسخ بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شئ...) [الأنفال: 41] الآية: وهذا
أولى الأقوال وأصحها.
وقوله سبحانه: (وأصلحوا ذات بينكم): تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف، ومالت
النفوس إلى التشاح، و (ذات) في هذا الموضع يراد بها نفس الشئ وحقيقته، والذي يفهم
(من بينكم) هو معنى يعم جميع الوصل، والالتحامات، والمودات، وذات ذلك هو
المأمور بإصلاحها، أي: نفسه وعينه، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (إنما المؤمنون الذي إذا ذكر الله وجلت قلوبهم...) الآية،
(إنما) لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد، حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر، بحسب
القرينة، فقوله هنا: (إنما المؤمنون) ظاهرها أنها للمبالغة والتأكيد فقط، أي الكاملون.
قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري الساحلي المالقي في
كتابه الذي ألفه في " السلوك ": واعلم أن الإنسان مطلوب بطهارة نفسه، وتزكيتها، وطرق
التزكية وإن كثرت، فطريق الذكر أسرع نفعا، وأقرب مراما، وعليه درج أكثر مشائخ التربية،
ثم قال: والذكر ضد النسيان، والمطلوب منه عمارة الباطن بالله تعالى في كل زمان، ومع
كل حال، لأن الذكر بدل على المذكور لا محالة، فذكره ديدنا يوجب المحبة له، والمعرفة
به، والذكر وإن اختلفت ألفاظه ومعانيه، فلكل معنى [من] معانيه اختصاص بنوع من التحلية
والتخلية، والتزكية، ثم قال: والذكر على / قسمين: ذكر العامة، وذكر الخاصة. أما ذكر
العامة، وهو ذكر الأجور، فهو أن يذكر العبد مولاه بما شاء من ذكره لا يقصد غير الأجور
والثواب، وأما ذكر الخاصة، فهو ذكر الحضور، وهو أن يذكر العبد مولاه بأذكار معلومة،
على صفة مخصوصة، لينال بذلك المعرفة بالله سبحانه بطهارة نفسه من كل خلق ذميم،
وتحليتها بكل خلق كريم. انتهى.
و (وجلت): معناه: فزعت، ورقت، وخافت، وبهذه المعاني فسرتها العلماء.
و (تليت) معناه: سردت، وقرئت، والآيات هنا: القرآن المتلو.
ومن كلام صاحب " الكلم الفارقية ": إن تيقظت يقظة قلبية، وانتبهت انتباهة حقيقية لم
تر في وقتك سعة لغير ذكر ربك، واستشعار عظمته، ومهابته، والإقبال على طاعته، ما في
113

وقت العاقل فضلة في غير ما خلق له من عبادة خالقه، والاهتمام بمصالح آخرته،
والاستعداد لمعاده، أعرف العبيد بجلال مولاه أخلاهم عما سواه، وأكثرهم لهجا بذكره،
وتعظيما لأمره، وأحسنهم تأملا لآثار صنعته، وبدائع حكمته، وأشدهم شوقا إلى لقائه،
ومشاهدته انتهى.
وزيادة الإيمان على وجوه كلها خارج، عن نفس التصديق: منها أن المؤمن إذا كان
لم يسمع حكما من أحكام الله عز وجل في القرآن، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه، فآمن به،
زاد إيمانا إلى سائر ما قد آمن به، إذ لكل حكم تصديق خاص، وهذا يترتب فيمن بلغه ما
لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القيامة، وترتب زيادة الإيمان بزيادة الدلائل، ولهذا قال
مالك: الإيمان يزيد ولا ينقص، ويترتب بزيادة الأعمال البرة على قول من يرى أن لفظة
الإيمان واقعة على التصديق والطاعات، وهؤلاء يقولون: يزيد وينقص.
وقوله سبحانه: (وعلى ربهم يتوكلون) عبارة جامعة لمصالح الدنيا والآخرة إذا
اعتبرت، وعمل بحسبها في أن يمتثل الإنسان ما أمر به، ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون
عجز، وينتظر بعد ما وعد به من نصر، أو رزق، أو غيره، وهذه أوصاف جميلة وصف الله
بها فضلاء المؤمنين، فجعلها غاية للأمة يستبق إليها الأفاضل، ثم أتبع ذلك وعدهم
ووسمهم بإقامة الصلاة، ومدحهم بها حضا على ذلك.
وقوله: (ومما رزقناهم ينفقون). قال جماعة من المفسرين: هي الزكاة وإنما
حملهم على ذلك اقتران الكلام بإقامة الصلاة، وإلا فهو لفظ عام في الزكاة، ونوافل الخير،
وصلات المستحقين، ولفظ ابن عباس في هذا المعنى محتمل.
وقوله سبحانه: (لهم درجات) ظاهره، وهو قول الجمهور أن المراد مراتب الجنة،
ومنازلها، ودرجاتها على قدر أعمالهم، (ورزق كريم) يريد مآكل الجنة، ومشاربها،
و (كريم) صفة تقتضي رفع المذام، كقوله: ثوب كريم.
وقوله سبحانه: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق...) الآية: اختلف في معنى
هذه الآية، فقال الفراء: التقدير امض لأمرك / في الغنائم، وإن كرهوا كما أخرجك ربك.
قال * ع *: وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال: هذه الكاف شبهت هذه القصة
114

التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال، كأنهم سألوا عن
النفل، وتشاجروا، فأخرج الله ذلك عنهم، فكانت فيه الخيرة، كما كرهوا في هذه القصة
انبعاث النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجه الله من بيته، فكانت في ذلك الخيرة، وعلى هذا التأويل يمكن
أن يكون قوله: (يجادلونك) كلاما مستأنفا يراد به الكفار، أي: يجادلونك في شريعة
الإسلام من بعد ما تبين الحق فيها، كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان، وهذا
الذي ذكرت من أن (يجادلونك) في الكفار منصوص.
وقال مجاهد وغيره: المعنى في الآية: كما أخرجك ربك من بيتك على كراهية من
فريق منهم، كذلك يجادلونك في قتال كفار " مكة " ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما
تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون هم، وقائل هذه المقالة يقول: إن
المجادلين هم المؤمنون، وقائل المقالة الأولى يقول: إن المجادلين هم المشركون، وهذان
القولان يتم بهما المعنى، ويحسن رصف اللفظ.
وقيل غير هذا.
وقوله: (من بيتك) يريد من " المدينة " " يثرب " قاله الجمهور.
وقوله سبحانه: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم...) الآية: في هذه الآية
قصص حسن، محل استيعابه " كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم " لابن هشام، واختصاره: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه، وقيل: أوحي إليه أن أبا سفيان بن حرب، قد أقبل من " الشام "
بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها قال لأصحابه: إن عير قريش قد عنت لكم، فأخرجوا
إليها، لعل الله أن ينفلكموها. قال: فانبعث معه من خف، وثقل قوم، وكرهوا الخروج،
وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر، ولا ينظر من غاب ظهره، فسار في ثلاث
115

مائة وثلاثة عشر، أو نحو ذلك من أصحابه بين مهاجري وأنصاري، وقد ظن الناس
بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا، فلم يكثر استعدادهم، وكان أبو سفيان في
خلال لك يستقصي، ويحذر، فلما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ضمضم بن عمرو
الغفاري إلى " مكة " يستنفر أهلها، ففعل ضمضم، فخرج أهل " مكة " في ألف رجل، أو
نحو ذلك، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجهم أوحى الله إليه وحيا غير متلو يعده إحدى
الطائفتين، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فسروا، وودوا أن تكون لهم العير التي لا
قتال معها، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم منه أخذ طريق الساحل، وأبعد
وفات، ولم يبق إلا لقاء أهل " مكة "، وأشار بعض الكفار على بعض بالانصراف، وقالوا:
هذه عيرنا قد نجت، فلننصرف / فحرش أبو جهل ولج، حتى كان أمر الواقعة. وقال
بعض المؤمنين: نحن لم نخرج لقتال، ولم نستعد له، فجمع رسول الله صلى الله على وسلم أصحابه،
وهو بواد يسمى " دقران " وقال: أشيروا علي أيها الناس، فقام أبو بكر، فتكلم، وأحسن،
وحرض الناس على لقاء العدو، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة، فقام عمر بمثل ذلك،
فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة، فتكلم المقداد بن الأسود الكندي، فقال: لا نقول لك
يا رسول الله كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن
نقول: إنا معكما مقاتلون، والله لو أردت بنا برك الغماد يعني مدينة " الحبشة " لقاتلنا معك
من دونها، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه، ودعا له بخير، ثم قال: أشيروا علي أيها الناس،
فكلمه سعد بن معاذ، وقيل: سعد بن عبادة، ويحتمل هما معا، فقال: يا رسول الله،
كأنك إيانا تريد معشر الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجل، فقال: إنا قد آمنا بك، واتبعناك،
116

وبايعناك، فامض لأمر الله، فوالله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" امضوا على بركة الله، فكأني أنظر إلى مصارع القوم " فالتقوا وكانت وقعة بدر.
* ت *: وفي " صحيح البخاري " من حديث عائشة، في خروج أبي بكر من " مكة "
فلقيه ابن الدغنة عند برك الغماد الحديث، وليست بمدينة " الحبشة " من غير شك. فالله
أعلم. ولعلهما موضعان. انتهى.
و (الشوكة) عبارة عن السلاح والحدة.
وقوله سبحانه: (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) المعنى:
ويريد الله أن يظهر الإسلام، ويعلي دعوة الشرع بكلماته التي سبقت في الأزل، والدابر
الذي يدبر القوم، أي يأتي آخرهم، وإذا قطع فقد أتى على آخرهم بشرط أن يبدأ الإهلاك
من أولهم، وهي عبارة في كل من أتى الهلاك عليه.
وقوله سبحانه: (ليحق الحق) أي: ليظهر الحق الذي هو دين الإسلام، و (يبطل
الباطل)، أي: الكفر، و (تستغيثون) معناه: تطلبون الغوث، و (ممدكم) أي: مكثركم،
ومقويكم من: أمددت، و (مردفين) معناه: متبعين.
وقرأ سائر السبعة غير نافع: " مردفين " - بكسر الدال -، ونافع بفتحها، وروي عن
ابن عباس: خلف كل ملك ملك، وهذا معنى التتابع، يقال: ردف وأردف، إذا اتبع،
وجاء بعد الشئ، ويحتمل أن يراد مردفين للمؤمنين، ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم
بعضا، وأنشد الطبري شاهدا على أن أردف بمعنى جاء تابعا قول الشاعر: [الوافر]
إذا الجوزاء أردفت الثريا * ظننت بآل فاطمة الظنونا
والثريا تطلع قبل الجوزاء.
117

وروي في " الصحيح ": الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر.
واختلف في غيره، قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن ابن
عباس، أنه قال: حدثني رجل من بني غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في
جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون، فننتهب مع من
ينتهب. قال: فبينما نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل،
/ فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي، فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه،
وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة عن أبي سعيد
مالك بن ربيعة، وكان شهد بدرا، قال بعد أن ذهب بصره: لو كنت اليوم ببدر، ومعي
بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى. انتهى من " سيرة
ابن هشام ".
وقوله سبحانه: (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم) الضمير في " جعله "
عائد على الوعد، وهذا عندي أمكن الأقوال من جهة المعنى.
وقيل: عائد على المدد، والإمداد.
وقيل: عائد على الإرداف.
وقيل: عائد على الألف، وقوله: (وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم)
توقيف على أن الأمر كله لله وأن تكسب المرء لا يغني، إذا لم يساعده القدر، وإن كان
مطلوبا بالجد، كما ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين.
وقوله سبحانه: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه). القصد تعديد نعمه سبحانه على
118

المؤمنين في يوم بدر، والتقدير: اذكروا إذ فعلنا بكم كذا، وإذ فعلنا كذا، والعامل في " إذ "
" اذكروا " وقرأ نافع: " يغشيكم " - بضم الياء، وسكون الغين - وقرأ حمزة وغيره:
(يغشيكم) - بفتح الغين وشد الشين المكسورة، وقرأ ابن كثير وغيره: " يغشاكم " - بفتح
الياء وألف بعد الشين - " النعاس " بالرفع، ومعنى (يغشيكم): يغطيكم، والنعاس أخف
النوم، وهو الذي يصيب الإنسان، وهو واقف أو ماش، وينص على ذلك قصص هذه
الآية، أنهم إنما كان بهم خفق بالرؤوس، وقوله: (أمنة) مصدر من أمن يأمن أمنا وأمنة
وأمانا، والهاء فيه لتأنيث المصدر، كما هي في المساءة والحماقة والمشقة.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: النعاس عند حضور القتال علامة أمن، وهو من الله،
وهو في الصلاة من الشيطان.
قال * ع *: وهذا إنما طريقة الوحي، فهو لا محالة يسنده وقوله سبحانه:
(وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به). وذلك أن قوما من المؤمنين لحقتهم جنابات
في سفرهم، وعدموا الماء قريب بدر، فصلوا كذلك، فوسوس الشيطان في نفوس بعضهم
مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقلتهم، وأيضا فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة، من رمل
دهس تسوخ فيها الأرجل، فكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر، فأنزل الله
تلك المطرة فسالت الأودية، فاغتسلوا، وطهرهم الله تعالى فذهب رجز الشيطان،
وتدمث الطريق، وتلبدت تلك الرمال، فسهل الله عليهم السير، وأمكنهم الإسراع
119

حتى سبقوا إلى ماء بدر، وأصاب المشركين من ذلك المطر ما صعب عليهم طريقهم، فسر
المؤمنون، وتبينوا من فعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم، فطابت نفوسهم، واجتمعت،
وتشجعت، فذلك الربط على قلوبهم، وتثبيت أقدامهم على الرملة اللينة.
والضمير في " به " على هذا الاحتمال عائد على الماء، ويحتمل عوده على ربط
القلوب، ويكون تثبيت / الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب، ونزول الماء
كان في الزمن قبل تغشية النعاس، ولم يترتب كذلك في الآية، إذ القصد فيها تعديد النعم
فقط.
وقوله سبحانه: (فثبتوا الذين آمنوا) وتثبيتهم يكون بقتالهم، وبحضورهم، وبأقوالهم
المؤنسة، ويحتمل أن يكون التثبيت بما يلقيه الملك في القلب بلمته من توهم الظفر،
واحتقار الكفار، وبخواطر تشجعه.
قال * ع *: ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى: (سألقي في قلوب الذين
كفروا الرعب) وعلى هذا التأويل يجيء قوله: (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب)
مخاطبة للملائكة، ويحتمل أن يكون مخاطبة للمؤمنين. وقوله سبحانه: (فاضربوا فوق
الأعناق) قال عكرمة: هي على بابها، وأراد الرؤوس، وهذا أنبل الأقوال.
قال * ع *: ويحتمل عندي أن يريد وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها، وهي
الضربة التي تكون فوق عظم العنق دون عظم الرأس في المفصل، كما وصف دريد بن
الصمة، فيجئ على هذا فوق الأعناق متمكنا.
والبنان: قالت فرقة: هي المفاصل، حيث كانت من الأعضاء.
120

وقال فرقة: البنان الأصابع، وهذا هو الصحيح، لأنه إذا قطع البنان لم ينتفع صاحبه
بشئ من أعضائه واستأسر.
و (شاقوا): معناه خالفوا ونابذوا، وقطعوا، وهو مأخوذ من الشق، وهو القطع
والفصل بين شيئين، وعبر المفسرون عن قوله: (شاقوا) أي: صاروا في شق غير شقه.
قال * ع *: وهذا وإن كان معناه صحيحا، فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذكرناه،
وقوله: (فإن الله شديد العقاب) جواب للشرط، تضمن وعيدا وتهديدا.
وقوله سبحانه: (ذلكم فذوقوه) المخاطبة للكفار، أي ذلكم الضرب والقتل، وما
أوقع الله بهم يوم بدر، فكأنه قال: الأمر ذلكم فذوقوه، وكذا قرره سيبويه.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون " ذلكم " في موضع نصب، كقوله: زيدا فاضربه،
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا...) الآية: (زحفا) يراد به
متقابلي الصفوف والأشخاص، أي: يزحف بعضهم إلى بعض، وأصل الزحف الاندفاع
على الألية، ثم سمي كل ماش إلى آخر في الحرب رويدا زاحفا، إذ في مشيته من التماهل
والتباطؤ ما في مشي الزاحف، وفي هذا المعنى شواهد من كلام العرب، ونهى الله سبحانه
في هذه الآية عن تولي الأدبار، وهذا مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين، والفرار
هنالك كبيرة موبقة بظاهر القرآن، والحديث، وإجماع الأكثر من الأمة.
وقوله: (ومن يولهم يومئذ دبره...) الآية. قال جمهور الأمة: الإشارة
ب‍ (يومئذ) إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله: (إذا لقيتم) وحكم الآية باق إلى يوم
القيامة، بشرط الضعف الذي بينه الله سبحانه.
* ت *: قال ابن رشد: وهذا ما لم يبلغ عدد / المسلمين اثني عشر ألفا، فإن بلغ
حرم الفرار، وإن زاد المشركون على الضعف للحديث " لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة "،
فإن أكثر أهل العلم خصصوا بهذا الحديث عموم الآية.
121

وعن مالك مثله. انتهى.
وفهم * ع *: الحديث على التعجب، ذكره عند قوله: (ويوم حنين) [التوبة:
25]، وما قاله ابن رشد هو الصواب. والله أعلم.
(ومتحرفا لقتال) يراد به الذي يرى: أن فعله ذلك أنكى للعدو، ونصبه على الحال،
وكذلك نصب (متحيزا)، وأما الاستثناء، فهو من المولين الذين تضمنهم " من ".
والفئة هنا الجماعة الحاضرة للحرب، هذا قول الجمهور.
وقوله سبحانه: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)
هذه الألفاظ ترد على من يزعم أن أفعال العباد خلق لهم، ومذهب أهل السنة أنها خلق
للرب سبحانه كسب للعبد، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يومئذ ثلاث قبضات من محصى وتراب،
فرمى بها في وجوه القوم، فانهزموا عند آخر رمية، ويروى أنه قال يوم بدر: " شاهت
الوجوه " وهذه الفعلة أيضا كانت يوم " حنين " بلا خلاف.
(وليبلي المؤمنين) أي: ليصيبهم ببلاء حسن، وظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد
الغنيمة، والظفر، والعزة.
(إن الله سميع) لاستغاثتكم، (عليم) بوجوه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا
هو.
وقوله سبحانه: (ذلكم) إشارة إلى ما تقدم من قتل الله لهم، ورميه إياهم، وموضع
(ذلكم) من الإعراب رفع.
122

قال سيبويه: التقدير: الأمر ذلكم، و (موهن) معناه مضعف مبطل.
وقوله سبحانه: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح...) الآية: قال أكثر المتأولين:
هذه الآية مخاطبة لكفار " مكة "، روي أن قريشا لما عزموا على الخروج إلى حماية العير،
تعلقوا بأستار الكعبة، واستفتحوا، وروي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر: اللهم انصر
أحب الفئتين إليك، وأظهر خير الدينين عندك، اللهم أقطعنا للرحم فأحنه الغداة، ونحو هذا
فقال الله لهم: إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم، أي: كما ترونه عليكم لا لكم، وفي هذا توبيخ
لهم، وإن تنتهوا عن كفركم وغيكم فهو خير لكم، وإن تعودوا للاستفتاح نعد بمثل وقعة
بدر، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله...) الآية: قيل: إنها نزلت
بسبب اختلافهم في النفل، ومجادلتهم في الحق، وكراهيتهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم، و (تولوا)
أصله: تتولوا.
وقوله: (أنتم تسمعون) يريد دعاءه لكم بالقرآن والمواعظ.
وقوله: (كالذين قالوا) يريد الكفار، إما من قريش لقولهم: (سمعنا لو نشاء لقلنا
مثل هذا) [الأنفال: 31]، وأما الكفار على الإطلاق.
وقوله سبحانه: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم) مقصد الآية بيان أن هذه
/ الصنيفة العاتية من الكفار هي شر الناس عند الله سبحانه وأنها في أخس المنازل لديه،
وعبر بالدواب ليتأكد ذمهم، وقوله: (الصم البكم) عبارة عما في قلوبهم، وعدم انشراح
صدورهم، وإدراك عقولهم.
وقوله: (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) أي سماع هدى، وتفهم، (ولو
أسمعهم) أي: ولو فهمهم (لتولوا) بحكم القضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبين لهم
من الهدى.
123

وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول...) الآية: (استجيبوا)
بمعنى: أجيبوا وقوله: (لما يحييكم) قال مجاهد والجمهور: المعنى للطاعة، وما
يتضمنه القرآن، وهذا إحياء مستعار، لأنه من موت الكفر والجهل، والطاعة تؤدي إلى
الحياة الدائمة في الآخرة.
وقوله سبحانه: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) يحتمل وجوها.
منها: أنه لما أمرهم سبحانه بالاستجابة في الطاعة، حضهم على المبادرة
والاستعجال، وأعلمهم أنه يحول بين المرء وقلبه بالموت والقبض، أي: فبادروا الطاعات،
ويلتئم مع هذا التأويل قوله: (وأنه إليه تحشرون)، أي: فبادروا الطاعات، وتزودوها ليوم
الحشر.
ومنها: أن يقصد إعلامهم أن قدرة الله وعلمه وإحاطته حائلة بين المرء وقلبه، فكان
هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر، حكي هذا التأويل عن
قتادة ويحتمل أن يريد تخويفهم، إن لم يمتثلوا الطاعات، ويستجيبوا لله وللرسول، أن
يحل بهم ما حل بالكفار الذين أرادهم بقوله: (ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون)
[الأنفال: 23]، لأن حتمه عليهم بأنهم لو سمعوا لم ينتفعوا يقتضي أنه كان قد حال بينهم
وبين قلوبهم.
ومنها: أن يكون المعنى ترجية لهم بأن الله يبدل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة
العدو، فيجعله جراءة وقوة، وبضد ذلك للكفار، أي: فإن الله تعالى هو مقلب القلوب،
كما كان قسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل غير هذا.
قال مكي، وقال الطبري: هذا خبر من الله عز وجل، أنه أملك بقلوب العباد منهم
لها، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئا من إيمان ولا كفر، ولا
يعي شيئا، ولا يفهم شيئا إلا بإذنه ومشيئته سبحانه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول في
124

دعائه: " يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك " انتهى من " الهداية ".
وروى مالك بن أنس والنسائي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبي بن كعب وهو في
الصلاة، فلم يجبه، وأسرع في بقية صلاته، فلما فرغ جاء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يقل الله
عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)؟ قال أبي: لا
جرم، يا رسول الله، لا تدعوني أبدا إلا أجبتك... " الحديث بطوله، واختلاف ألفاظه،
وفي " البخاري ومسلم "، أن ذلك / وقع مع أبي سعيد بن المعلى، وروي أنه وقع نحوه
مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق.
وقوله: عز وجل: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) في الآية
تأويلات، أسبقها إلى النفس، أن الله سبحانه حذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم
تخص الظلمة فقط، بل تصيب الكل من ظالم وبرئ، وهذا تأويل الزبير بن العوام،
والحسن البصري، وكذلك تأويل ابن عباس، فإنه قال أمر الله المؤمنين في هذه الآية
ألا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم العذاب و (خاصة): نعت لمصدر محذوف،
تقديره إصابة خاصة، فهي نصب على الحال، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وغيره: " لتصيبن " - باللام - على جواب قسم، والمعنى على هذا وعيد للظلمة فقط.
وقوله سبحانه: (واذكروا إذ أنتم قليل...) الآية: هذه الآية تتضمن تعديد نعم الله
على المؤمنين، و " إذ " ظرف لمعمول، " واذكروا ": تقديره: واذكروا حالكم الكائنة، أو
125

الثابتة إذ أنتم قليل، ولا يجوز أن تكون " إذ " ظرفا للذكر.
وإنما يعمل الذكر في " إذ " لو قدرناها مفعولة، واختلف في الحال المشار إليها بهذه
الآية.
فقالت فرقة، وهي الأكثر: هي حال المؤمنين بمكة في وقت بداءة الإسلام، والناس
الذين يخاف تخطفهم كفار مكة، والمأوى: المدينة، والتأييد بالنصر: وقعة بدر وما انجر
معها في وقتها، والطيبات: الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به، وقالت فرقة: الحال المشار
إليها هي حالهم في غزوة بدر، والناس الذين يخاف تخطفهم، على هذا عسكر مكة
وسائر القبائل المجاورة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخوف من بعضهم، والمأوى على هذا،
والتأييد بالنصر: هو الإمداد بالملائكة والتغليب على العدو، والطيبات: الغنيمة.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول) هذا خطاب لجميع
المؤمنين إلى يوم القيامة، وهو يجمع أنواع الخيانات كلها قليلها وكثيرها، والخيانة:
التنقص للشيء باختفاء، وهي مستعملة في أن يفعل الإنسان خلاف ما ينبغي من حفظ أمر
ما، مالا كان أو سرا أو غير ذلك، والخيانة لله عز وجل: هي في تنقص أوامره في سر.
وقوله: (وتخونوا أماناتكم).
قال الطبري: يحتمل أن يكون داخلا في النهي، كأنه قال: لا تخونوا الله
والرسول، ولا تخونوا أماناتكم، ويحتمل أن يكون المعنى: لا تخونوا الله والرسول،
فذلك خيانة لأماناتكم،
وقوله: (فتنة)، يريد: محنة واختبارا وامتحانا، ليرى كيف العمل في جميع ذلك.
وقوله: (وأن الله عنده أجر عظيم)، يريد: فوز الآخرة، فلا تدعوا حظكم منه،
للحيطة على أموالكم وأبنائكم، فإن المذخور للآخرة أعظم أجرا.
قوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله...) الآية: وعد للمؤمنين بشرط
126

التقوى والطاعة لله سبحانه، (ويجعل لكم فرقانا): معناه: فرقا بين حقكم، وباطل من
ينازعكم، بالنصر والتأييد، وعبر قتادة، وبعض المفسرين عن " الفرقان " ههنا بالنجاة،
وقال مجاهد والسدي: معناه: مخرجا، ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه، وقد يوجد
للعرب استعمال " الفرقان "، كما ذكر المفسرون، وعلى ذلك شواهد، منها قول الشاعر:
[الطويل]
وكيف أرجى الخلد والموت طالبي * ومالي من كأس المنية فرقان
* ت *: قال ابن رشد: وأحسن ما قيل في هذا المعنى قوله تعالى: (يجعل لكم
فرقانا)، أي: فصلا بين الحق والباطل، حتى يعرقوا ذلك بقلوبهم، ويهتدوا إليه. انتهى
من " البيان ".
وقوله سبحانه: (وإذ يمكر / بك الذين كفروا...) الآية: تذكير بحال مكة وضيقها
مع الكفرة، وجميل صنع الله تعالى في جميع ذلك، والمكر: المخاتلة والتداهي، تقول:
فلان يمكر بفلان، إذا كان يستدرجه، وهذا المكر الذي ذكر الله تعالى في هذه الآية هو
بإجماع من المفسرين: إشارة إلى اجتماع قريش في " دار الندوة " بمحضر إبليس في صورة
شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في " سيره " الحديث بطوله، وهو الذي كان خروج
رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب، ففي القصة: أن أبا
جهل قال: الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قويا جلديا، فيجتمعون ثم يأخذ كل
واحد منهم سيفا، ويأتون محمدا في مضجعه، فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا تقدر بنو
هاشم على قتال قريش بأسرها، فيأخذون العقل، ونستريح منه، فقال النجدي: صدق
الفتى، هذا الرأي: لا رأي غيره، فافترقوا على ذلك، فأخبر الله تعالى بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم،
وأذن له في الخروج إلى المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ليلته، وقال لعلي بن أبي
127

طالب: " التف في بردى الحضرمي، واضطجع في مضجعي، فإنه لا يضرك شئ، ففعل "،
فجاء فتيان قريش، فجعلوا يرصدون الشخص، وينتظرون قيامه، فيثورون به، فلما قام رأوا
عليا، فقالوا له: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري، وفي " السير "، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
عليهم، وهم في طريقه، فطمس الله أعينهم عنه، وجعل على رأس كل واحد منهم ترابا،
ومضى لوجهه، فجاءهم رجل، فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا، قال: إني رأيته الآن
جائيا من ناحيتكم، وهو لا محالة، وضع التراب على رؤوسكم، فمد كل واحد يده إلى
رأسه، فإذا عليه التراب، وجاؤوا إلى مضجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوا عليا، فركبوا وراءه
حينئذ كل صعب وذلول، وهو بالغار، ومعنى: (ليثبتوك): ليسجنوك، قاله عطاء وغيره
وقال ابن عباس وغيره: ليوثقوك.
وقوله سبحانه: (وإذا تتلى عليهم آياتنا)، يعني: القرآن، (قالوا قد سمعنا لو نشاء
لقلنا مثل هذا) وقولهم: (إن هذا إلا أساطير الأولين)، أي: قصصهم المكتوبة
المسطورة، وأساطير: جمع " أسطورة "، ويحتمل جمع: " أسطار "، وتواترت الروايات عن
ابن جريج وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث، وذلك أنه كان كثير السفر
إلى فارس والحيرة، فكان قد سمع من قصص الرهبان وأخبار رستم وإسفنديار، فلما
سمع القرآن، ورأى فيه أخبار الأنبياء والأمم، قال: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان النضر
من مردة قريش النائلين من النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت فيه آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل،
وأمكن الله منه يوم بدر، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا بالصفراء منصرفه من بدر في موضع
يقال له " الأثيل "، وكان أسره المقداد، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه، قال المقداد:
أسيري، يا رسول الله! فقال / رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم "،
ثم أعاد الأمر بقتله، فأعاد المقداد مقالته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم، أغن المقداد من
فضلك "، فقال المقداد: هذا الذي أردت، فضربت عنق النضر.
128

وقوله عز وجل: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك...) الآية: روي
عن مجاهد وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث المذكور، وفيه نزلت هذه
الآية.
قال * ع *: وترتب أن يقول النضر مقالة، وينسبها القرآن إلى جميعهم، لأن
النضر كان فيهم موسوما بالنبل والفهم، مسكونا إلى قوله، فكان إذا قال قولا قاله منهم
كثير، واتبعوه عليه، حسب ما يفعله الناس أبدا بعلمائهم وفقهائهم.
* ت *: وخرج البخاري بسنده، عن أنس بن مالك، قال: قال أبو جهل: اللهم إن
كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت:
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)، إلى: (عن المسجد الحرام) اه‍، والمشار إليه ب‍
(هذا) هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد، فعميت
بصائرهم عن الهدى، وصمموا على أن هذا ليس بحق، نعوذ بالله من جهد البلاء، وسوء
القضاء، وحكى ابن فورك: أن هذه المقالة خرجت منهم مخرج العناد، وهذا بعيد في
التأويل، ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل، وقراءة الناس إنما هي بنصب " الحق "،
على أنه خبر " كان "، ويكون " هو " فصلا، فهو حينئذ اسم، و " أمطر " إنما تستعمل غالبا في
المكروه، و " مطر " في الرحمة، قاله أبو عبيدة.
وقوله سبحانه: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم...) الآية: قالت فرقة: نزلت
هذه الآية كلها بمكة، وقالت فرقة: نزلت كلها بعد وقعة بدر، حكاية عما مضى.
129

وقال ابن أبزي: نزل قوله: (وما كان الله ليعذبهم، وأنت فيهم) بمكة إثر
قولهم: (أو ائتنا بعذاب أليم)، ونزل قوله: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)، عند
خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة في طريقه إلى المدينة، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، ونزل
قوله: (وما لهم ألا يعذبهم الله...) إلى آخر الآية، بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم.
* ت *: وهذا التأويل بين، وعليه اعتمد عياض في " الشفا " قال: وفي الآية تأويل
آخر، ثم ذكر حديث الترمذي، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنزل الله
تعالى علي أمانين لأمتي: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون)، فإذا مضيت، تركت فيهم الاستغفار ". انتهى.
قال * ع *: وأجمع المتأولون على أن معنى قوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت
فيهم) أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها، أي: فما كان الله ليعذب هذه
الأمة، وأنت فيهم، بل كرامتك لديه أعظم.
وقوله عز وجل: (وما لهم ألا يعذبهم الله) توعد بعذاب الدنيا، والضمير في قوله:
(أولياءه): عائد على الله سبحانه، أو على المسجد الحرام، كل ذلك جيد، وروي الأخير
عن الحسن.
وقال الطبري: عن الحسن بن أبي الحسن أن قوله سبحانه: (وما لهم ألا يعذبهم
الله) ناسخ لقوله: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون).
قال * ع *: وفيه نظر، لأنه خبر لا يدخله نسخ.
130

وقوله سبحانه: (وما كان صلاتهم عند / البيت إلا مكاء وتصدية) المكاء: الصفير،
قاله ابن عباس والجمهور، والتصدية: عبر عنها أكثر الناس، بأنها التصفيق، وذهب أكثر
المفسرين إلى أن المكاء والتصدية إنما أحدثهما الكفار عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، لتقطع عليه
وعلى المؤمنين قراءتهم وصلاتهم، وتخلط عليهم، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت،
أمكن أن يعترض منهم معترض بأن يقول: وكيف لا نكون أولياءه، ونحن نسكنه، ونصلي
عنده، فقطع سبحانه هذا الاعتراض بأن قال: وما كان صلاتهم عند البيت إلا المكاء
والتصدية.
قال * ع *: والذي مربى من أمر العرب في غير ما ديوان، أن المكاء والتصدية
كانا من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع، وعلى هذا يستقيم
تغييرهم وتنقصهم بأن شرعهم وصلاتهم لم تكن رهبة ولا رغبة، وإنما كانت مكاء وتصدية
من نوع اللعب، ولكنهم كانوا يتزيدون فيهما وقت النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلوه هو وأمته عن القراءة
والصلاة.
وقوله سبحانه: (فذوقوا العذاب...) الآية: إشارة إلى عذابهم ببدر بالسيف، قاله
الحسن وغيره، فيلزم أن هذه الآية الآخرة نزلت بعد بدر، ولا بد.
قال * ع *: والأشبه أن الكل نزل بعد بدر، حكاية عما مضى.
وقوله سبحانه: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله...) الآية:
لما قتل من قتل ببدر، اجتمع أبناؤهم وقراباتهم، فقالوا لمن خلص ماله في العير: إن
محمدا قد نال منا ما ترون، ولكن أعينونا بهذا المال الذي كان سبب الوقعة، فلعلنا أن ننال
منه ثأرا، يريدون نفقته في غزوة أحد.
وقوله سبحانه: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون)، الحسرة: التلهف
131

على فائت، وهذا من أخبار القرآن بالغيوب قبل أن تكون، فكان كما أخبر، ثم أخبر
سبحانه عن الكافرين، وأنهم يجمعون إلى جهنم، والحشر: الجمع.
وقوله سبحانه: (ليميز الله الخبيث من الطيب)، وقرأ حمزة والكسائي: " ليميز
الله " - بضم الياء، وفتح الميم، وشد الياء -، قال ابن عباس وغيره: المعنى ب‍ (الخبيث):
الكفار، وب‍ (الطيب) المؤمنون، وقال ابن سلام والزجاج: (الخبيث): ما أنفقه
المشركون في الصد عن سبيل الله، و (الطيب): هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله.
قال * ع *: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله سبحانه يخرج يوم القيامة من
الأموال ما كان صدقة أو قربة، ثم يأمر بسائر ذلك، فيلقى في النار: وعلى التأويلين: فقوله
سبحانه: (ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا) إنما هي عبارة عن جمع
ذلك، وضمه، وتأليف أشتاته، وتكاثفه بالاجتماع، ويركمه، في كلام العرب: يكثفه، ومنه
(سحاب مركوم) [الطور: 44] وعبارة البخاري: فيركمه: فيجمعه. انتهى.
وقوله سبحانه: (إن ينتهوا)، يعني: عن الكفر، (يغفر لهم ما قد سلف)، لأن
الإسلام يجب ما قبله، و (إن يعودوا)، يريد به: إلى القتال، ولا يصح أن يتأول: وإن
يعودوا إلى الكفر، لأنهم لم ينفصلوا عنه.
وقوله: (فقد مضت سنة / الأولين): عبارة تجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن
هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله، حين صد في وجه نبيه بمن هلك في يوم بدر
بسيف الإسلام.
وقوله سبحانه: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) قال ابن عباس، وابن عمر،
132

وغيرهما: الفتنة: الشرك.
قال * ع *: وهذا هو الظاهر، ويفسر هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا: لا إله إلا الله... " الحديث.
133

وقال ابن إسحاق: معناها: حتى لا يفتن أحد عن دينه، كما كانت قريش تفعل بمكة
بمن أسلم.
134

وقوله: (ويكون الدين كله لله)، أي: لا يشرك معه صنم، ولا وثن، ولا يعبد غيره
135

سبحانه، ثم قال تعالى: (فإن انتهوا)، عن الكفر، (فإن الله بصير) بعملهم، مجاز
عليه، عنده ثوابه، وجميل المقارضة عليه.
وقوله سبحانه: (وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير):
معادل لقوله: (فإن انتهوا)، المعنى: وإن تولوا، ولم ينتهوا، فاعلموا أن الله تعالى
ينصركم عليهم، وهذا وعد محض بالنصر والظفر، و (المولى)، ههنا الموالي والمعين،
والمولى في اللغة على معان، هذا هو الذي يليق بهذا الموضع منها، والمولى: الذي هو
السيد المقترن بالعبد يعم المؤمنين والمشركين.
وقوله عز وجل: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه...) الآية: الغنيمة،
في اللغة: ما يناله الرجل بسعي، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " الصيام في الشتاء هي الغنيمة الباردة "،
136

وقوله: (من شئ): ظاهره العموم، ومعناه الخصوص، فأما الناض والمتاع والأطفال
والنساء وما لا يؤكل [لحمه] من الحيوان ويصح تملكه، فالإمام يأخذ خمسه، ويقسم الباقي
في الجيش، وأما الأرض، فقال فيها مالك: يقسمها الإمام، إن رأى ذلك صوابا، كما فعل
النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، أو لا يقسمها، بل يتركها لنوائب المسلمين، إن أداه اجتهاده إلى ذلك،
كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأرض مصر وبسواد الكوفة، وأما الرجال، ومن
شارف البلوغ من الصبيان، فالإمام، عند مالك وجمهور العلماء، مخير فيهم على خمسة
أوجه:
137

منها: القتل، وهو مستحسن في أهل الشجاعة والنكاية.
ومنها: الفداء، وهو مستحسن في ذي المنصب الذي ليس بشجاع ولا يخاف منه
رأي ومكيدة، لانتفاع المسلمين بالمال الذي يؤخذ منه.
ومنها: المن، وهو مستحسن فيمن يرجى أن يحنو على أسرى المسلمين، ونحو
ذلك من القرائن.
ومنها: الاسترقاق.
ومنها: ضرب الجزية، والترك، في الذمة.
وأما الطعام، والغنم، ونحوها مما يؤكل، فهو مباح في بلد العدو أكله، وما فضل
منه كان في المغنم.
ومحل استيعاب فروع هذا الفصل كتب الفقه.
وقوله سبحانه: (وما أنزلنا على عبدنا)، أي: من النصر والظهور الذي أنزله الله
138

سبحانه يوم بدر، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى قرآن / نزل يوم بدر، أو في قصة يوم بدر،
ويوم الفرقان: معناه: يوم الفرق بين الحق والباطل، بإعزاز الإسلام وإذلال الشرك،
والجمعان: يريد: جمع المسلمين وجمع الكفار، وهو يوم بدر، ولا خلاف في ذلك.
وقوله سبحانه: (والله على كل شئ قدير)، يعضد أن قوله: (وما أنزلنا على
عبدنا)، يراد به النصر والظفر، أي: الآيات والعظائم من غلبة القليل للكثير، وذلك بقدرة
الله عز وجل الذي هو على كل شئ قدير.
وقوله سبحانه: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم)،
العدوة: شفير الوادي، وحرفه الذي يتعذر المشي فيه بمنزلة رجاء البئر، لأنها عدت ما في
الوادي من ماء ونحوه، أن يتجاوز الوادي، أي: منعته، ومنه قوله الشاعر: [الوافر]
عدتني عن زيارتك العوادي * وحالت دونها حرب زبون
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (بالعدوة) - بكسر العين -، وقوله: (الدنيا)،
و (القصوى)، إنما هو بالإضافة إلى المدينة، وبين المدينة ووادي بدر موضع الوقعة
مرحلتان، والدنيا: من الدنو، والقصوى: من القصو، وهو البعد: (والركب)، بإجماع
من المفسرين: عير أبي سفيان، وقوله: (أسفل)، في موضع خفض، تقديره: في مكان
أسفل كذا.
قال سيبويه: وكان الركب، ومدبر أمره أبو سفيان بن حرب، قد نكب عن بدر حين
نذر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ سيف البحر، فهو أسفل، بالإضافة إلى أعلى الوادي.
وقوله سبحانه: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد)، المقصد من الآية: تبيين نعمة
الله سبحانه في شأن قصة بدر، وتيسيره سبحانه ما يسر من ذلك، والمعنى: لو تواعدتم،
لاختلفتم في الميعاد بسبب العوارض التي تعرض للناس، إلا مع تيسير الله الذي تمم ذلك،
وهذا كما تقول لصاحبك في أمر سناه الله تعالى دون تعب كثير: لو بنينا على هذا، وسعينا
فيه، لم يتم هكذا، (ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا)، أي: لينفذ ويظهر أمرا قد قدره
في الأزل مفعولا لكم، بشرط وجودكم في وقت وجودكم، وهذا كله معلوم عنده عز وجل
139

لم يتجدد له به علم، وقوله عز وجل: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن
بينة)، قال الطبري: المعنى: ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم، ببيان من الله
وإعذار بالرسالة، ويحيا أيضا ويعيش من عاش، عن بيان منه أيضا وإعذار، لا حجة لأحد
عليه سبحانه.
* ت *: قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب " فضل العلم " في قوله عز وجل:
(ليهلك من هلك عن بينة...) الآية: البينة: ما بان به الحق. انتهى.
وقال ابن إسحاق وغيره: معنى " ليهلك "، أي: ليكفر، و " يحيا " أي: ليؤمن، فالحياة
والهلاك على هذا التأويل: مستعارتان.
وقوله سبحانه: (إذ يريكهم الله في منامك / قليلا...) الآية: وتظاهرت الروايات
أن هذه الآية نزلت في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى فيها عدد الكفار قليلا، فأخبر بذلك
أصحابه، فقويت نفوسهم، وحرصوا على اللقاء، قاله مجاهد وغيره، والظاهر أنه رآهم صلى الله عليه وسلم
في نومه قليلا قدرهم وبأسهم، ويحتمل أنه رآهم قليلا عددهم، فكان تأويل رؤياه
انهزامهم، والفشل: الخور عن الأمر، و (لتنازعتم)، أي: لتخالفتم في الأمر، يريد: في
اللقاء والحرب. و (سلم): لفظ يعم كل متخوف.
وقوله سبحانه: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم...) الآية، وهذه الرؤية هي في اليقظة
بإجماع، وهي الرؤية التي كانت حين التقوا، ووقعت العين على العين، والمعنى: أن الله
تعالى، لما أراده من إنفاذ قضاءه في نصرة الإسلام وإظهار دينه، قلل كل طائفة في عيون
الأخرى، فوقع الخلل في التخمين والحزر الذي يستعمله الناس في هذا، لتجسر كل طائفة
على الأخرى، وتتسبب أسباب الحرب، والأمر المفعول المذكور في الآيتين هو القصة
بأجمعها.
وقوله: (وإلى الله ترجع الأمور): تنبيه على أن الحول بأجمعه لله، وأن كل أمر،
فله وإليه.
140

وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم
تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا...) الآية: هذا أمر من الله سبحانه بما فيه
داعية النصر، وسبب العز، وهي وصية منه سبحانه بحسب التقييد الذي في آية الضعف،
والفئة الجماعة، أصلها: " فئوة "، وهي من: " فأوت "، أي: جمعت، ثم أمر سبحانه بإكثار
ذكره هناك، إذ هو عصمة المستنجد، ووزر المستعين.
قال قتادة: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكون، عند الضراب والسيوف.
قال * ع *: وهذا ذكر خفي، لأن رفع الصوت في موطن القتال رديء مكروه،
إذا كان ألغاطا، فأما إن كان من الجميع عند الحملة، فحسن فات في عضد العدو، قال
قيس بن عباد: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند ثلاث، عند قراءة القرآن،
وعند الجنازة، وعند القتال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أطلبوا إجابة الدعاء عند القتال، وإقامة
الصلاة، ونزول الغيث " وكان ابن عباس يكره التلثم عند القتال.
قال النووي: وسئل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، عن القدر الذي يصير به المرء
141

من الذاكرين الله كثيرا، فقال: إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة، صباحا ومساء، وفي
الأوقات والأحوال المختلفة، ليلا ونهارا - وهي مبينة في كتب " عمل اليوم والليلة " - كان
من الذاكرين الله كثيرا، والله سبحانه أعلم. انتهى من " الحلية ".
* ت *: وأحسن من هذا جوابه صلى الله عليه وسلم حيث قال: " سبق المفردون! قالوا: " وما
المفردون، يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات "، رواه مسلم /، والترمذي،
وعنده: " قالوا: يا رسول الله، وما المفردون؟ قال: المستهترون في ذكر الله، يضع عنهم
الذكر أثقالهم، فيأتون يوم القيامة خفافا "، قال صاحب " سلاح المؤمن ": المستهترون في
ذكر الله، - هو بفتح التاءين المثناتين - يعني: الذين أولعوا به، يقال: استهتر فلان بكذا،
أي: أولع به، والله أعلم. انتهى.
فقد بين صلى الله عليه وسلم هنا صفة الذاكرين الله كثيرا، وقد نقلنا في غير هذا المحل بيان صفة
الذاكرين الله كثيرا، بنحو هذا من طريق ابن المبارك، وإذا كان العبد مستهترا بذكر مولاه،
أنس به، وأحبه، وأحب لقاءه، فلم يبال بلقاء العدو، وإن هي إلا إحدى الحسنيين: أما
النصر، وهو الأغلب لمن هذه صفته، أو الشهادة، وذلك مناه، ومطلبه. انتهى.
و (تفلحون): تنالون بغيتكم، وتنالون آمالكم، والجمهور على أن الريح هنا
مستعارة.
قال مجاهد: الريح: النصر والقوة، وذهب ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم
أحد، وقوله سبحانه: (واصبروا...) إلى آخر الآية: تتميم في الوصية وعدة مؤنسة،
وقوله سبحانه: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم...) الآية: الإشارة إلى كفار
قريش، والبطر: الأشر وغمط النعمة، وروي أن أبا سفيان، لما أحرز عيره، بعث إلى
قريش، وقال: إن الله قد سلم عيركم، فارجعوا، فأتى رأي الجماعة على ذلك، وخالف
أبو جهل، وقال: والله، لا نفعل حتى نأتي بدرا - وكانت بدر سوقا من أسواق العرب لها
يوم موسم - فننحر عليها الإبل، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب،
ويهابنا الناس، فهذا معنى قوله تعالى: (ورئاء الناس).
142

وقوله سبحانه: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من
الناس)، الضمير في (لهم) عائد على الكفار، و (الشيطان): إبليس نفسه، والذي عليه
الجمهور، وتظاهرت به الروايات أن إبليس جاء كفار قريش، ففي " السير " لابن هشام: أنه
جاءهم بمكة، وفي غيرها: أنه جاءهم، وهم في طريقهم إلى بدر، وقد لحقهم خوف من
بني بكر وكنانة، لحروب كانت بينهم، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن
جعشم، وهو سيد من ساداتهم، فقال لهم: (إني جار لكم)، ولن تخافوا من قومي، وهم
لكم أعوان على مقصدكم، ولن يغلبكم أحد، فروي أنه لما التقى الجمعان، كانت يده في
يد الحارث بن هشام، فلما رأى الملائكة، نكص، فقال له الحارث: أتفر يا سراقة؟! فلم
يلو عليه، ويروي أنه قال له ما تضمنته الآية، وروي أن عمير بن وهب، أو الحارث بن
هشام قال له: أين يا سراق؟ فلم يلو مثل عدو الله، فذهب، ووقعت / الهزيمة، فتحدثوا
أن سراقة فر بالناس، فبلغ ذلك سراقة بن مالك، فأتى مكة، فقال لهم: والله، ما علمت
بشئ من أمركم حتى بلغتني هزيمتكم، ولا رأيتكم، ولا كنت معكم.
* ت *: قال ابن إسحاق: ذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة لا
ينكرونه حتى إذا كان يوم بدر، والتقى الجمعان، نكص عدو الله على عقبيه، فأوردهم ثم
أسلمهم. انتهى من " السيرة " لابن هشام.
وقوله: (إني جار لكم) أي: أنتم في ذمتي وحمائي، و " تراءت ": تفاعلت من
الرؤية، أي: رأى هؤلاء هؤلاء.
قوله: (نكص على عقبيه)، أي: رجع من حيث جاء، وأصل النكوص، في اللغة:
الرجوع القهقري.
وقوله: (إني أرى ما لا ترون)، يريد: الملائكة، وهو الخبيث، إنما شرط أن لا
غالب لهم من الناس، فلما رأى الملائكة، وخرق العادة، خاف وفر.
وقوله: (إني أخاف الله)، قال الزجاج وغيره: خاف مما رأى من الأمر، وهو له،
أنه يومه الذي أنظر إليه، ويقوي هذا أنه رأى خرق العادة، ونزول الملائكة للحرب.
143

وقوله سبحانه: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض...) الآية: قال
المفسرون: إن هؤلاء الموصوفين بالنفاق، إنما هم من أهل عسكر الكفار ممن كان الإسلام
داخل قلوبهم، خرجوا مع المشركين إلى بدر، منهم مكره وغير مكره، فلما أشرفوا على
المسلمين، ورأوا قلتهم، ارتابوا، وقالوا مشيرين إلى المسلمين: غر هؤلاء دينهم.
قال * ع *: ولم يذكر أحد ممن شهد بدرا بنفاق إلا ما ظهر بعد ذلك من معتب
ابن قشير، فإنه القائل يوم أحد: (لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا) [آل عمرام،
154] وقد يحتمل أن يكون منافقو المدينة، لما وصلهم خروج قريش في قوة عظيمة، قالوا
هذه المقالة، ثم أخبر الله سبحانه بأن من توكل عليه، وفوض أمره إليه، فإن عزته سبحانه
وحكمته كفيلة بنصره، وقوله سبحانه: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون
وجوهم وأدبارهم...) الآية: هذه الآية تتضمن التعجيب مما حل بالكفار يوم بدر، قاله
مجاهد وغيره، وفي ذلك وعيد لمن بقي منهم، وقوله: و (أدبارهم)، قال جل المفسرين:
يريد أستاههم، ولكن الله كريم كنى، وقال ابن عباس، والحسن: أراد ظهورهم وما أدبر
منهم وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله
بذنوبهم...) الآية: الدأب: العادة في كلام العرب، وهو مأخوذ من دأب على العمل،
إذا لازمه.
144

وقوله سبحانه: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم...) الآية: معنى هذه الآية إخبار من الله سبحانه، إذا أنعم على قوم نعمة، فإنه
بلطفه ورحمته لا يبدأ بتغييرها وتنكيدها، وكان حتى يجيء ذلك منهم، بأن يغيروا حالهم التي
تراد، أو تحسن منهم، فإذا فعلوا ذلك، غير الله نعمته عندهم بنقمته منهم، ومثال هذه
نعمة الله على قريش بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا به، فغير الله تلك النعمة، بأن نقلها إلى
غيرهم من الأنصار، وأحل بهم عقوبته.
وقوله تعالى: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات / ربهم فأهلكناهم
بذنوبهم)، هذا التكرير هو لمعنى ليس للأول، إذ الأول دأب في أن هلكوا، لما كفروا،
وهذا الثاني دأب في أنه لم يغير نعمتهم، حتى غيروا ما بأنفسهم، والإشارة بقوله:
(والذين من قبلهم)، إلى قوم شعيب وصالح وهود ونوح وغيرهم.
وقوله سبحانه: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين
عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون)، أجمع المتأولون، أن الآية
نزلت في بني قريظة، وهي بعد تعم كل من اتصف بهذه الصفة إلى يوم القيامة، وقوله:
(في كل مرة): يقتضي أن الغدر قد تكرر منهم.
وحديث قريظة هو أنهم عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، على ألا يحاربوه، ولا يعينوا عليه عدوا
من غيرهم، فلما اجتمعت الأحزاب على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، غلب على ظن بني قريظة، أن
النبي صلى الله عليه وسلم مغلوب ومستأصل، وخدع حيي بن أخطب النضري كعب بن أسد القرظي
صاحب عقد بني قريظة، وعهدهم، فغدروا ووالوا قريشا، وأمدوهم بالسلاح والأدراع،
فلما انجلت تلك الحال عن النبي صلى الله عليه وسلم، أمره الله تعالى بالخروج إليهم وحربهم، فاستنزلوا،
وضربت أعناقهم بحكم سعد، واستيعاب قصتهم في " السير " وإنما اقتضبت منها ما يخص
تفسير الآية.
وقوله سبحانه: (فإما تثقفنهم في الحرب...) الآية: معنى (تثقفنهم) تأسرهم،
وتحصلهم في ثقافك، أو تلقاهم بحال تقدر عليهم فيها، وتغلبهم، ومعنى: (فشرد) أي:
145

طرد، وأبعد، وخوف. والشريد: المبعد عن وطن ونحوه، ومعنى الآية: فإن أسرت هؤلاء
الناقضين في حربك لهم، فافعل بهم من النقمة ما يكون تشريدا لمن يأتي خلفهم في مثل
طريقتهم، وعبارة البخاري: " فشرد " فرق. انتهى.
والضمير في (لعلهم) عائد على الفرقة المشردة، وقال ابن عباس: المعنى: نكل
بهم من خلفهم.
وقالت فرقة: معناه: سمع بهم، والمعنى متقارب، ومعنى: (خلفهم) أي: بعدهم،
و (يذكرون)، أي: يتعظون.
وقوله سبحانه: (وإما تخافن من قوم خيانة...) الآية: قال أكثر المفسرين: إن الآية
في بني قريظة، والذي يظهر من ألفاظ الآية أن أمر بني قريظة قد انقضى عند قوله: (فشرد
بهم من خلفهم)، ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بما يصنعه في المستقبل، مع من يخاف
منه خيانة إلى آخر الدهر، وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته، وقوله: (فانبذ
إليهم)، أي: ألق إليهم عهدهم، وقوله: (على سواء)، قيل: معناه: حتى يكون الأمر في
بيانه والعلم به، على سواء منك ومنهم، فتكونون في استشعار الحرب سواء، وذكر الفراء،
أن المعنى: فأنبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر، أي: بين لهم على قدر ما ظهر منهم،
لا تفرط، ولا تفجأ بحرب، بل افعل بهم مثل ما فعلوا بك، يعني: موازنة ومقايسة، وقرأ
نافع وغيره: " ولا تحسبن " - بالتاء - مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، و (سبقوا): معناه: فأتوا بأنفسهم
وأنجوها، (إنهم لا يعجزون) أي: لا يفلتون، ولا يعجزون طالبهم، وروي أن الآية نزلت
فيمن أفلت من الكفار في بدر وغيره فالمعنى: لا تظنهم ناجين، بل هم مدركون، وقرأ حمزة
وغيره: " ولا يحسبن " - بالياء من تحت، وبفتح السين.
146

وقوله سبحانه: (وأعدوا لهم ما / استطعتم من قوة...) الآية: المخاطبة في هذه
الآية لجميع المؤمنين، وفي " صحيح مسلم ": " ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا
إن القوة الرمي " ولما كانت الخيل هي أصل الحرب، وأوزارها، والتي عقد الخير في
نواصيها، خصها الله تعالى بالذكر، تشريفا لها، ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى
147

في الحرب وأنكاه في العدو وأقربه تناولا للأرواح، خصها صلى الله عليه وسلم بالذكر والتنبيه عليها.
148

* ت *: وفي " صحيح مسلم "، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تعلم الرمي، وتركه، فليس
منا، أو قد عصى "، وفي " سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي "، عن عقبة بن عامر،
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة أنفس الجنة،
صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله، فارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي
من أن تركبوا، كل شئ يلهو به الرجل، باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته
امرأته ". انتهى.
ورباط الخيل: مصدر من ربط، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة، ويجوز أن يكون
149

مصدرا من رابط، وإذا ربط كل واحد من المؤمنين فرسا لأجل صاحبه، فقد حصل بينهم
رباط، وذلك الذي حض عليه في الآية، وقد قال عليه السلام: " من ارتبط فرسا في سبيل
الله، فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها "، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
* ت *: وقد ذكرنا بعض ما ورد في فضل الرباط في آخر " آل عمران "، قال
صاحب " التذكرة ": وعن عثمان بن عفان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من
رابط ليلة في سبيل الله، كانت له كألف ليلة، صيامها وقيامها "، وعن أبي بن كعب،
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير
شهر رمضان - أعظم أجرا من عبادة مائة سنة، صيامها وقيامها، ورباط يوم في سبيل الله
من وراء عورة المسلمين من شهر رمضان - أفضل عند الله وأعظم أجرا - أراه قال: من
عبادة ألفي سنة، صيامها وقيامها - فإن رده الله إلى أهله سالما، لم تكتب عليه سيئة ألف
سنة، ويكتب له من الحسنات، ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة "، قال القرطبي
في " تذكرته ": فدل هذا الحديث على أن رباط يوم في رمضان يحصل له هذا الثواب
الدائم، وإن لم يمت مرابطا. خرج هذا الحديث، والذي قبله ابن ماجة. انتهى من
" التذكرة ".
و (ترهبون): معناه: تخوفون وتفزعون، والرهبة: الخوف: وقوله: (وآخرين من
150

دونهم)، فيه أقوال: قيل: هم المنافقون، وقيل: فارس، وقيل: غير هذا.
قال * ع *: ويحسن أن يقدر قوله: (لا تعلمونهم)، بمعنى: لا تعلمونهم
فازعين راهبين.
وقال * ص *: لا تعلمونهم بمعنى: لا تعرفونهم، فيتعدى لواحد، ومن عداه إلى
اثنين، قدره: محاربين، واستبعد، لعدم تقدم ذكره، فهو ممنوع عند بعضهم، وعزيز جدا
عند بعضهم انتهى.
وقوله سبحانه: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) جنح الرجل إلى الأمر، إذا مال
إليه، وعاد الضمير في " لها " مؤنثا، إذ " السلم " بمعنى المسالمة والهدنة، وذهب جماعة من
المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة، والضمير في " جنحوا " هو للذين نبذ إليهم على سواء.
وقوله سبحانه: (وإن يريدوا / أن يخدعوك فإن حسبك الله...) الآية: الضمير في
قوله: " وإن يريدوا " عائد على الكفار الذين قال فيهم: (وإن جنحوا)، أي: (وإن يريدوا
أن يخدعوك)، بأن يظهروا السلم، ويبطنوا الغدر والخيانة، (فإن حسبك الله)، أي:
كافيك ومعطيك نصره، و (أيدك): معناه: قواك (وبالمؤمنين)، يريد الأنصار، بذلك
تظاهرت أقوال المفسرين.
وقوله: (وألف بين قلوبهم...) الآية: إشارة إلى العداوة التي كانت بين الأوس
والخزرج.
قال * ع *: ولو ذهب ذاهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار،
وجعل التأليف ما كان بين جميعهم من التحاب، لساغ ذلك، وقال ابن مسعود: نزلت هذه
الآية في المتحابين في الله.
151

وقال مجاهد: إذا تراءى المتحابان في الله، وتصافحا، تحاتت خطاياهما، فقال له
عبدة بن أبي لبابة: إن هذا ليسير، فقال له: لا تقل ذلك، فإن الله تعالى يقول: (لو
أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم)، قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني.
قال * ع *: وهذا كله تمثيل حسن بالآية، لا أن الآية نزلت في ذلك، وقد روى
سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المؤمن مألفة لا خير فيمن لا يألف ولا
يؤلف ".
قال * ع *: والتشابه سبب الألفة، فمن كان من أهل الخير، ألف أشباهه وألفوه.
* ت *: وفي " صحيح البخاري ": الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف،
وما تناكر منها اختلف ". انتهى، وروى مالك في " الموطإ "، عن أبي هريرة قال: قال
152

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي؟ اليوم
أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ".
قال أبو عمر بن عبد البر في " التمهيد ": وروينا عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه
قال: " يا عبد الله بن مسعود، أتدري، أي عرى الإيمان أوثق؟ قلت: الله ورسوله أعلم،
قال: الولاية في الله: الحب والبغض فيه "، ورواه البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم
أيضا، وعن عبد الله في قوله تعالى: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين
قلوبهم ولكن الله ألف بينهم)، قال: نزلت في المتحابين في الله قال أبو عمر: وأما
قوله: اليوم أظلهم في ظلي، فإنه أراد - والله أعلم - في ظل عرشه، وقد يكون الظل كناية
عن الرحمة، كما قال: (إن المتقين في ظلال وعيون) [المرسلات: 42]، يعني: بذلك
ما هم فيه من الرحمة والنعيم. انتهى.
153

وقوله سبحانه: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، قال النقاش:
نزلت هذه الآية بالبيداء في غزوة بدر، وحكي عن ابن عباس: أنها نزلت في الأوس
والخزرج.
وقيل: إنها نزلت حين أسلم عمر وكمل المسلمون أربعين. قاله ابن عمر، وأنس،
فهي على هذا مكية: و " حسبك "، في كلام العرب، وشرعك: بمعنى كافيك ويكفيك،
والمحسب: الكافي، قالت فرقة: معنى الآية: يكفيك الله، ويكفيك من اتبعك، ف‍ " من "
في موضع رفع.
وقال الشعبي وابن زيد: معنى الآية: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين،
ف‍ " من " في موضع نصب عطفا على موضع الكاف، لأن موضعها نصب على المعنى ب‍
" يكفيك " التي سدت " حسبك " مسدها.
قال * ص *: ورد بأن الكاف ليس موضعها نصب لأن إضافة حسب إليها إضافة
صحيحة انتهى.
وقوله سبحانه: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال...) الآية: (حرض
المؤمنين)، أي: حثهم وحضهم، وقوله سبحانه: (إن يكن منكم...) إلى آخر الآية،
لفظ خبر، مضمنه وعد بشرط، لأن قوله: (إن يكن / منكم عشرون صابرون)، بمنزلة أن
يقال: إن بصبر منكم عشرون يغلبوا، وفي ضمنه الأمر بالصبر، قال الفخر: وحسن هذا
التكليف لما كان مسبوقا بقوله: (حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، فلما وعد الله
المؤمنين بالكفاية والنصر، كان هذا التكليف سهلا، لأن من تكلف الله بنصره، فإن أهل
العالم لا يقدرون على إذاءته انتهى، وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة،
بأن ثبوت الواحد للعشرة، كان فرضا على المؤمنين، ثم لما شق ذلك عليهم، حط الله
154

الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين، وهذا هو نسخ الأثقل بالأخف، وقوله: (لا
يفقهون): معناه: لا يفهمون مراشدهم، ولا مقصد قتالهم، لا يريدون به إلا الغلبة
الدنيوية، فهم يخافون الموت، إذا صبر لهم، ومن يقاتل، ليغلب، أو يستشهد، فيصير إلى
الجنة، أثبت قدما لا محالة.
وقوله: (والله مع الصابرين): لفظ خبر في ضمنه وعد وحض على الصبر، ويلحظ
منه وعيد لمن لم يصبر، بأنه يغلب.
وقوله سبحانه: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى...) الآية: قال * ع *: هذه
آية تتضمن عندي معاتبة من الله عز وجل لأصحاب نبيه عليه السلام والمعنى: ما كان ينبغي
لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان، ولذلك استمر
الخطاب لهم ب‍ (تريدون) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد صلى الله عليه وسلم
قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية، مشيرا
إلى دخوله عليه السلام في العتب، حين لم ينه عن ذلك حين رآه من العريش، وأنكره
سعد بن معاذ، ولكنه صلى الله عليه وسلم شغله بغت الأمر، وظهور النصر، عن النهي ومر كثير من
المفسرين، على أن هذا التوبيخ إنما كان بسبب إشارة من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم، بأخذ
الفدية، حين استشارهم في شأن الأسرى، والتأويل الأول أحسن، والإثخان: هو المبالغة
في القتل والجراحة، ثم أمر مخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (تريدون عرض الدنيا)،
أي: مالها الذي يعز ويعرض، والمراد: ما أخذ من الأسرى من الأموال، (والله يريد
الآخرة)، أي: عمل الآخرة، وذكر الطبري وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: " إن
155

شئتم، أخذتم فداء الأسرى، ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم، وإن شئتم،
قتلوا وسلمتم، فقالوا: نأخذ المال، ويستشهد منا "، وذكر عبد بن حميد بسنده، أن
جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا، وعلى هذا، فالأمر في هذا التخيير من عند
الله، فإنه إعلام بغيب، وإذا خيروا رضي الله عنهم، فكيف يقع التوبيخ بعد بقوله تعالى:
(لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، فهذا يدلك على صحة ما قدمناه، أن العتب لهم إنما
هو على استبقاء الرجال وقت الهزيمة، رغبة في أخذ المال، وهو الذي أقول به، وذكر
المفسرون أيضا في هذه الآيات تحليل / المغانم، ولا أقول ذلك، لأن تحليل المغانم قد
تقدم قبل بدر في السرية التي قتل فيها ابن الحضرمي، وإنما المبتدع في بدر استبقاء
الرجال، لأجل المال، والذي من الله به فيها: إلحاق فدية الكافر بالمغانم التي تقدم
تحليلها، وقوله سبحانه: (لو كتاب من الله سبق...) الآية: قال ابن عباس، وأبو
هريرة، والحسن، وغيرهم: الكتاب: هو ما كان الله قضاه في الأزل من إحلال الغنائم
والفداء لهذه الأمة، وقال مجاهد وغيره: الكتاب السابق: مغفرة الله لأهل بدر، وقيل:
الكتاب السابق: هو ألا يعذب الله أحد بذنب إلا بعد النهي عنه، حكاه الطبري.
قال ابن العربي في " أحكام القرآن ": وهذه الأقوال كلها صحيحة ممكنة، لكن أقواها
ما سبق من إحلال الغنيمة، وقد كانوا غنموا أول غنيمة في الإسلام حين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم
عبد الله بن جحش. انتهى، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو نزل في هذا الأمر عذاب،
لنجا منه عمر بن الخطاب "، وفي حديث آخر: " وسعد بن معاذ "، وذلك أن رأيهما كان
156

أن تقتل الأسرى، وقوله سبحانه: (فكلوا مما غنمتم...) الآية: نص على إباحة المال
الذي أخذ من الأسرى، وإلحاق له بالغنيمة التي كان تقدم تحليها.
وقوله سبحانه: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم
خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم)، روي أن الأسرى ببدر أعلموا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، أن لهم ميلا إلى الإسلام، وأنهم إن رجعوا إلى قومهم، سعوا في جلبهم إلى
الإسلام، قال ابن عباس: الأسرى في هذه الآية: عباس وأصحابه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا
بما جئت به، ونشهد إنك لرسول الله، ولننصحن لك على قومنا، فنزلت هذه الآية،
ومعنى الكلام: إن كان هذا عن جد منكم، وعلم الله من أنفسكم الخير والإسلام، فإنه
سيجبر عليكم أفضل مما أعطيتم فدية، ويغفر لكم جميع ما اجترمتموه، وروي أن
العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: في وفي أصحابي نزلت هذه الآية، وقال حين
أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال البحرين ما قدر أن يقول: هذا خير مما أخذ مني، وأنا بعد
أرجو أن يغفر الله لي، وروي عنه، أنه قال: ما أود أن هذه الآية لم تنزل، ولي الدنيا
بأجمعها، وذلك أن الله تعالى قد أتاني خيرا مما أخذ مني، وأنا أرجو أن يغفر لي، وقوله:
(فقد خانوا الله من قبل) أي: بالكفر، (فأمكن منهم) أي: بأن جعلهم أسرى، (والله
عليم) فيما يبطنونه، (حكيم) فيما يجازيهم به.
وقوله سبحانه: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله
157

والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض)، مقصد هذه الآية وما بعدها: تبيين منازل
المهاجرين والأنصار، والمؤمنين الذين لم يهاجروا، وذكر المهاجرين بعد الحديبية، فقدم
أولا ذكر المهاجرين، وهم أصل الإسلام، وتأمل تقديم عمر لهم في الاستشارة، وهاجر:
معناه /: هجر أهله وقرابته، وهجروه، (والذين آووا ونصروا): هم الأنصار، فحكم
سبحانه على هاتين الطائفتين، بأن بعضهم أولياء بعض، فقال كثير من المفسرين: هذه
الموالاة: هي المؤازرة، والمعاونة، واتصال الأيدي، وعليه فسر الطبري الآية، وهذا الذي
قالوه لازم من دلالة لفظ الآية، وقال ابن عباس وغيره: هذه الموالاة هي في المواريث،
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجري إذا مات، ولم يكن له
بالمدينة ولي مهاجري، ورثه أخوه الأنصاري، وكان المسلم الذي لم يهاجر لا ولاية بينه،
وبين قريبه المهاجري، ولا يرثه، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: (وأولوا الأرحام...) الآية
[الأنفال: 75]، وعلى التأويلين، ففي الآية حض على الهجرة، قال أبو عبيدة: الولاية
- بالكسر - من وليت الأمر إليه، فهي في السلطان، وبالفتح هي من المولى، يقال: مولى
بين الولاية - بفتح الواو -.
وقوله سبحانه: (وإن استنصروكم)، يعني: إن استدعى هؤلاء - المؤمنين الذين لم
يهاجروا نصركم - (فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق)، فلا تنصروهم
عليهم، لأن ذلك غدر ونقض للميثاق.
وقوله سبحانه: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض)، وذلك يجمع الموارثة
والمعاونة والنصرة، وهذه العبارة تحريض وإقامة لنفوس المؤمنين، كما تقول لمن تريد
تحريضه: عدوك مجتهد أي: فاجتهد أنت، وحكى الطبري في تفسير هذه الآية، عن
158

قتادة، أنه قال: أبى الله أن يقبل إيمان من آمن ولم يهاجر، وذلك في صدر الإسلام،
وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم " أنا بريء من مسلم أقام بين المشركين لا تتراءى نارهما " الحديث
على اختلاف ألفاظه، وقول قتادة، إنما هو فيمن كان يقيم متربصا يقول: من غلب، كنت
معه، وكذلك ذكر في كتاب " الطبري "، وغيره، والضمير في قوله: (إلا تفعلوه)، قيل:
هو عائد على المؤازرة والمعاونة، ويحتمل على الميثاق المذكور، ويحتمل على النصر
للمسلمين المستنصرين، ويحتمل على الموارثة والتزامها، ويجوز أن يعود مجملا على
جميع ما ذكر، والفتنة: المحنة بالحرب وما انجر معها، من الغارات، والجلاء، والأسر،
والفساد الكبير: ظهور الشرك.
وقوله سبحانه: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا
أولئك هم المؤمنون حقا)، تضمنت الآية تخصيص المهاجرين والأنصار، وتشريفهم بهذا
الوصف العظيم.
* ت *: وهي مع ذلك عند التأمل يلوح منها تأويل قتادة المتقدم، فتأمله، والرزق
الكريم: هو طعام الجنة، كذا ذكر الطبري وغيره.
قال ابن العربي في " أحكامه ": وإذا كان الإيمان في القلب حقا، ظهر ذلك في
159

استقامة الأعمال، بامتثال الأمر واجتناب المنهي عنه، وإذا كان مجازا، قصرت الجوارح في
الأعمال، إذ لم تبلغ قوته إليها. انتهى.
(والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم): قوله: " من بعد "، يريد به من بعد
الحديبية، وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك، وكان يقال
لها الهجرة الثانية، (وجاهدوا معكم): لفظ يقتضي / أنهم تبع لا صدر.
وقوله سبحانه: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)، قال من تقدم
ذكره: هذه في المواريث، وهي ناسخة للحكم المتقدم ذكره.
وقالت فرقة، منها مالك: إن الآية ليست في المواريث، وهذا فرار من توريث الخال
والعمة ونحو ذلك.
وقالت فرقة: هي في المواريث، إلا أنها نسخت بآية المواريث المبينة، وقوله: (في
كتاب الله): معناه: القرآن، أي: ذلك مثبت في كتاب الله.
وقيل: في اللوح المحفوظ.
كمل تفسير السورة، والحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
تسليما.
160

تفسير سورة التوبة
وهي مدنية إلا آيتين
قوله سبحانه: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم...) [التوبة: 128] إلى آخرها،
وتسمى " سورة التوبة "، قاله حذيفة وغيره، وتسمى " الفاضحة "، قاله ابن عباس، وقال: ما
زال ينزل: ومنهم، ومنهم حتى ظن أنه لا يبقى أحد، وهي من آخر ما أنزل على
النبي صلى الله عليه وسلم. قال علي رضي الله عنه لابن عباس: (بسم الله الرحمن الرحيم) أمان
وبشارة، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود، فلذلك لم تبدأ بالأمان.
قوله عز وجل: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)، التقدير:
هذه الآيات براءة، ويصح أن يرتفع " براءة "، بالابتداء، والخبر في قوله: (إلى الذين).
و (براءة) معناه: تخلص وتبر من العهود التي بينكم، وبين الكفار البادئين بالنقض.
قال ابن العربي في " أحكامه ": تقول: برأت من الشئ أبرأ براءة، فأنا منه بريء،
إذا أنزلته عن نفسك، وقطعت سبب ما بينك وبينه. انتهى.
ومعنى السياحة في الأرض: الذهاب فيها مسرحين آمنين، كالسيح من الماء، وهو
الجاري المنبسط، قال الضحاك، وغيره من العلماء: كان من العرب من لا عهد بينه وبين
النبي صلى الله عليه وسلم جملة، وكان منهم من بينه وبينهم عهد، وتحسس منهم نقض، وكان منهم من
بينه وبينهم عهد ولم ينقضوا، فقوله: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) هو أجل ضربه الله
161

لمن كان بينه وبينهم عهد، وتحسس منهم نقضه، وأول هذا الأجل يوم الأذان، وآخره
انقضاء العشر الأول من ربيع الآخر، وقوله سبحانه: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا
المشركين) [التوبة: 5] حكم مباين للأول، حكم به في المشركين الذي لا عهد لهم ألبتة،
فجاء أجل تأمينهم خمسين يوما، أولها يوم الأذان، وآخرها انقضاء المحرم.
وقوله: (إلى الذين عاهدتم)، يريد به الذين لهم عهد، ولم ينقضوا، ولا تحسس
منهم نقض، وهم فيما روي بنو ضمرة من كنانة، كان بقي من عهدهم يوم الأذان تسعة
أشهر.
وقوله عز وجل: (واعلموا أنكم غير معجزي الله)، أي: لا تفلتون الله، ولا
تعجزونه هربا.
وقوله: (وأذان من الله ورسوله...) الآية: أي: إعلام، و (يوم الحج الأكبر) قال
عمر وغيره: هو يوم عرفة، وقال أبو هريرة وجماعة: هو يوم النحر، وتظاهرت
الروايات /، أن عليا أذن بهذه الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر، ثم رأى أنه لم يعم
الناس بالاستماع، فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر من يعينه
في الأذان بها، كأبي هريرة وغيره، وتتبعوا بها أيضا أسواق العرب، كذي المجاز
وغيره، وهذا هو سبب الخلاف، فقالت طائفة: يوم الحج الأكبر: عرفة، حيث وقع أول
الأذان.
وقالت أخرى: هو يوم النحر، حيث وقع إكمال الأذان.
وقال سفيان بن عيينة: المراد باليوم أيام الحج كلها، كما تقول: يوم صفين، ويوم
162

الجمل، ويتجه أن يوصف ب‍ " الأكبر "، على جهة المدح، لا بالإضافة إلى أصغر معين، بل
يكون المعنى: الأكبر من سائر الأيام، فتأمله.
واختصار ما تحتاج إليه هذه الآية، على ما ذكر مجاهد وغيره من صورة تلك الحال:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح مكة سنة ثمان، فاستعمل عليها عتاب بن أسيد، وقضى أمر حنين
والطائف، وانصرف إلى المدينة، فأقام بها حتى خرج إلى تبوك، ثم انصرف من تبوك في
رمضان سنة تسع، فأراد الحج، ثم نظر في أن المشركين يحجون في تلك السنة، ويطوفون
عراة، فقال: لا أريد أن أرى ذلك، فأمر أبا بكر على الحج بالناس، وأنفذه، ثم أتبعه
علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ناقته العضباء، وأمره أن يؤذن في الناس بأربعين آية:
صدر صورة " براءة "، وقيل: ثلاثين، وقيل: عشرين، وفي بعض الروايات: عشر آيات،
وفي بعضها: تسع آيات، وأمره أن يؤذن الناس بأربعة أشياء، وهي: ألا يحج بعد العام
مشرك، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وفي بعض الروايات: ولا يدخل الجنة كافر، ولا
يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد، فهو إلى مدته، وفي بعض
الروايات: ومن كان بينه وبين رسول الله عهد، فأجله أربعة أشهر يسيح فيها، فإذا انقضت،
فإن الله بريء من المشركين ورسوله.
قال * ع *: وأقول: إنهم كانوا ينادون بهذا كله، فأربعة أشهر، للذين لهم عهد
وتحسس منهم نقضه، والإبقاء إلى المدة لمن لم يخبر منه نقض، وذكر الطبري أن العرب
قالت يومئذ: نحن نبرأ من عهدك، ثم لام بعضهم بعضا، وقالوا: ما تصنعون، وقد
أسلمت قريش؟ فأسلموا كلهم، ولم يسح أحد.
قال * ع *: وحينئذ دخل الناس في دين الله أفواجا.
وقوله سبحانه: (أن الله بريء من المشركين ورسوله) أي: ورسوله بريء منهم.
وقوله: (فإن تبتم)، أي: عن الكفر.
وقوله سبحانه: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا
عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم)، هذا هو الاستثناء الذي تقدم ذكره، وقرأ
عكرمة وغيره: " ينقضوكم " - بالضاد المعجمة -، و (يظاهروا): معناه: يعاونوا،
163

والظهير: المعين.
وقوله: (إن الله يحب المتقين): تنبيه على أن الوفاء بالعهد من التقوى.
وقوله سبحانه: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم): الانسلاخ: خروج الشئ عن الشئ
المتلبس به، كانسلاخ الشاة عن الجلد، فشبه انصرام الأشهر بذلك.
وقوله سبحانه: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...) الآية: قال ابن زيد: هذه
الآية، وقوله سبحانه: (فإما منا بعد وإما فداء) [محمد: 4]: هما محكمتان، أي: ليست
إحداهما بناسخة للأخرى.
قال * ع *: هذا هو الصواب.
وقوله: (وخذوهم) معناه: الأسر.
وقوله: (كل مرصد): معناه: مواضع الغرة، حيث يرصدون ونصب " كل " على
الظرف أو بإسقاط الخافض، التقدير: في كل مرصد.
وقوله: (فإن تابوا)، أي: عن الكفر.
وقوله سبحانه: (وإن أحد من المشركين استجارك)، أي: جلب منك عهدا
وجوارا / يأمن به، (حتى يسمع كلام الله)، يعني القرآن، والمعنى: يفهم أحكامه، قال
الحسن: وهذه آية محكمة، وذلك سنة إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام...) الآية: قال ابن
إسحاق: هي قبائل بني بكر، كانوا دخلوا وقت الحديبية في العهد، فأمر المسلمون بإتمام
العهد لمن لم يكن نقض منهم.
164

وقوله سبحانه: (كيف وإن يظهروا عليكم...) الآية: في الكلام حذف، تقديره:
كيف يكون لهم عهد ونحوه، وفي " كيف " هنا تأكيد للاستبعاد الذي في الأولى، و (لا
يرقبوا) معناه: لا يراعوا، ولا يحفظوا، وقرأ الجمهور: " إلا "، وهو الله عز وجل، قاله
مجاهد، وأبو مجلز، وهو اسمه بالسريانية، وعرب، ويجوز أن يراد به العهد، والعرب
تقول للعهد والحلف والجوار ونحو هذه المعاني: " إلا "، والذمة أيضا: بمعنى الحلف
والجوار ونحوه.
وقوله سبحانه: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم...) الآية،
ويليق هنا ذكر شئ من حكم طعن الذمي في الدين، والمشهور من مذهب مالك: أنه إذا
فعل شيئا من ذلك، مثل تكذيب الشريعة، وسب النبي صلى الله عليه وسلم قتل.
وقوله سبحانه: (فقاتلوا أئمة الكفر)، أي: رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس
إليه، وأصوب ما يقال في هذه الآية: أنه لا يعنى بها معين وإنما وقع الأمر بقتال أئمة
الناكثين للعهود من الكفرة إلى يوم القيامة، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي النبي صلى الله عليه وسلم،
أن تكون الإشارة إليهم أولا، ثم كل من دفع في صدر الشريعة إلى يوم القيامة فهو
بمنزلتهم.
وقرأ الجمهور: " لا أيمان لهم " (جمع يمين)، أي: لا إيمان لهم يوفى بها وتبر،
وهذا المعنى يشبه الآية، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة: " لا إيمان لهم "، وهذا يحتمل
وجهين:
165

أحدهما: لا تصديق لهم، قال أبو علي: وهذا غير قوي، لأنه تكرير، وذلك أنه
وصف أئمة الكفر بأنه لا إيمان لهم، والوجه في كسر الألف أنه مصدر من آمنته إيمانا،
ومنه قوله تعالى: (وآمنهم من خوف) [قريش: 4] فالمعنى: أنهم لا يؤمنون كما يؤمن
أهل الذمة الكتابيون، إذ المشركون ليس لهم إلا الإسلام أو السيف، قال أبو حاتم: فسر
الحسن قراءته: لا إسلام لهم.
قال * ع *: والتكرير الذي فر أبو علي منه متجه، لأنه بيان المهم الذي يوجب
قتلهم.
وقوله عز وجل: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول...) الآية
" ألا ": عرض وتحضيض، قال الحسن: والمراد ب‍ (إخراج الرسول): إخراجه من
المدينة، وهذا مستقيم، كغزوة أحد والأحزاب.
وقال السدي: المراد من مكة.
وقوله سبحانه: (وهم بدؤوكم أول مرة)، قيل: يراد أفعالهم بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم،
وبالمؤمنين.
وقال مجاهد: يراد به ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم، على خزاعة
حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا بدء النقض.
وقال الطبري: يعني فعلهم يوم بدر.
قال الفخر: قال ابن إسحاق والسدي والكلبي: نزلت هذه الآية في كفار مكة،
نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة. انتهى.
وقوله سبحانه: (أتخشونهم): استفهام على معنى التقرير والتوبيخ، (فالله أحق أن
تخشوه إن كنتم مؤمنين)، أي: كاملي الإيمان.
166

وقوله سبحانه: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم)، قررت الآيات قبلها أفعال الكفرة،
ثم حض على القتال مقترنا بذنوبهم، لتنبعث الحمية مع ذلك، ثم جزم الأمر بقتالهم في
هذه الآية مقترنا بوعد وكيد يتضمن النصر عليهم، والظفر بهم.
وقوله سبحانه: (يعذبهم الله بأيديكم)، معناه: بالقتل والأسر، و (ويخزهم)،
معناه: يذلهم على ذنوبهم، يقال: خزي الرجل يخزى خزيا، إذا ذل من حيث وقع في عار،
وأخزاه غيره، وخزي يخزى خزاية / إذا استحى، وأما قوله تعالى: (ويشف صدور قوم
مؤمنين)، فيحتمل أن يريد جماعة المؤمنين، لأن كل ما يهد من الكفر هو شفاء من هم
صدور المؤمنين، ويحتمل أن يريد تخصيص قوم من المؤمنين، وروي أنهم خزاعة، قاله
مجاهد والسدي، ووجه تخصيصهم أنهم الذين نقض فيهم العهد، ونالتهم الحرب، وكان
يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير، ويقتضي ذلك قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى الله عليه وسلم: [الرجز]
ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
وفي آخر الرجز:
وقتلونا ركعا وسجدا
167

وقرأ جمهور الناس: و " يتوب " - بالرفع -، على القطع مما قبله، والمعنى أن الآية
استأنفت الخبر بأنه قد يتوب على بعض هؤلاء الكفرة الذين أمر بقتالهم.
وعبارة * ص *: و " يتوب "، الجمهور بالرفع على الاستئناف، وليس بداخل في
جواب الأمر، لأن توبته سبحانه على من يشاء ليست جزاء على قتال الكفار. انتهى.
وقوله عز وجل: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم...)
الآية: خطاب للمؤمنين، كقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة...) الآية [آل عمران:
142] ومعنى الآية: أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحان، والمراد بقوله: (ولما يعلم
الله)، أي: لم يعلم الله ذلك موجودا، كما علمه أزلا بشرط الوجود، وليس يحدث له
علم تبارك وتعالى عن ذلك، و (وليجة): معناه: بطانة ودخيلة، وهو مأخوذ من الولوج،
فالمعنى: أمرا باطنا مما ينكر، وفي الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج، قال
الفخر: قال أبو عبيدة: كل شئ أدخلته في شئ ليس منه، فهو وليجة، وأصله من
الولوج، قال الواحدي يقال: هو وليجة، للواحد والجمع. انتهى.
وقوله سبحانه: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله)، إلى قوله: (إنما يعمر
مساجد الله من آمن بالله...) الآية، لفظ هذه الآية الخبر، وفي ضمنها أمر المؤمنين
بعمارة المساجد، وروى أبو سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم الرجل يعتاد
المساجد، فاشهدوا له بالإيمان ".
168

* ت *: زاد ابن الخطيب في روايته: " فإن الله تعالى يقول: (إنما يعمر مساجد
الله من آمن بالله واليوم الآخر). انتهى من ترجمة محمد بن عبد الله، وفي الحديث
عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن الله ضمن لمن كانت المساجد بيته الأمن، والأمان، والجواز على
الصراط يوم القيامة " خرجه علي بن عبد العزيز البغوي في " المسند المنتخب " له، وروى
البغوي أيضا في هذا " المسند "، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إذا أوطن الرجل المساجد
بالصلاة، والذكر، تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب لغائبهم إذا قدم عليهم ". انتهى
من " الكوكب الدري "، قيل: ومعنى " يتبشبش ": أي يفرح به.
وقوله سبحانه: (ولم يخش إلا الله)، يريد: خشية التعظيم والعبادة، وهذه مرتبة
العدل من الناس، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره، ويخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي
أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه.
وقوله سبحانه: (أجعلتم سقاية الحاج...) الآية: (سقاية الحاج): كانت في بني
هاشم، وكان العباس يتولاها، قال الحسن: ولما نزلت هذه الآية، قال العباس: ما أراني
إلا أترك السقاية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أقيموا عليها فهي خير لكم " و (عمارة المسجد
الحرام): قيل: هي حفظه ممن يظلم فيه، أو يقول هجرا، وكان ذلك إلى العباس، وقيل:
هي السدانة وخدمة البيت خاصة، وكان ذلك في بني عبد الدار، وكان يتولاها عثمان بن
طلحة، وابن عمه شيبة، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم لهما ثاني يوم الفتح، وقال: " خذاها خالدة تالدة
169

لا ينازعكموها إلا ظالم ".
واختلف الناس في سبب نزول هذه الآية، فقال مجاهد: أمروا بالهجرة، فقال
العباس: أنا أسقي الحاج، وقال عثمان بن طلحة: أنا حاجب الكعبة، وقال محمد بن
كعب: إن العباس وعليا وعثمان بن طلحة تفاخروا فنزلت الآية، وقيل غير هذا.
/ وقوله سبحانه: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم
أعظم درجة عند الله...) الآية: لما حكم سبحانه في الآية المتقدمة بأن الصنفين لا
يستوون، بين ذلك في هذه الآية الأخيرة، وأوضحه، فعدد الإيمان والهجرة والجهاد بالمال
والنفس، وحكم على أن أهل هذه الخصال أعظم درجة عند الله من جميع الخلق، ثم
حكم لهم بالفوز برحمته ورضوانه، والفوز: بلوغ البغية، إما في نيل رغيبة، أو نجاة من
هلكة، وينظر إلى معنى هذه الآية الحديث: " دعوا لي أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل
أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "، ولأن أصحاب هذه الخصال على سيوفهم
انبنى الإسلام، وتمهد الشرع.
وقوله سبحانه: (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان)، هذا وعد كريم من رب
رحيم، وفي الحديث الصحيح: " إذا استقر أهل الجنة في الجنة، يقول الله عز وجل لهم:
هل رضيتم؟ فيقولون: وكيف لا نرضى، يا ربنا؟ فيقول: إني سأعطيكم أفضل من ذلك!
رضواني أرضي عليكم، فلا أسخط عليهم أبدا... " الحديث.
170

وقوله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا
الكفر على الإيمان "، ظاهر هذه المخاطبة: أنها لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية الحكم
إلى يوم القيامة، وروت فرقة أنها نزلت في الحض على الهجرة، ورفض بلاد الكفر.
وقوله سبحانه: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم...)
الآية: هذه الآية تقوي مذهب من رأى أن هذه الآية والتي قبلها إنما مقصودهما الحض على
الهجرة، وفي ضمن قوله: (فتربصوا): وعيد بين.
وقوله: (بأمره)، قال الحسن: الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله تعالى.
وقال مجاهد: الإشارة إلى فتح مكة، وذكر الأبناء في هذه الآية دون التي قبلها،
لما جلبت ذكرهم المحبة، والأبناء: صدر في المحبة وليسوا كذلك، في أن تتبع آراؤهم،
كما في الآية المتقدمة، واقترفتموها: معناه: اكتسبتموها، ومساكن: جمع مسكن - بفتح
الكاف:، مفعل من السكنى، وما كان من هذا معتل الفاء، فإنما يأتي على مفعل (بكسر
العين)، كموعد وموطن.
وقوله سبحانه: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين)، هذه مخاطبة لجميع
المؤمنين يعدد الله تعالى نعمه عليهم، والمواطن المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة
وخيبر وغيرها، وحنين واد بين مكة والطائف.
وقوله: (إذ أعجبتكم كثرتكم)، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين رأى جملته اثني عشر
171

ألفا: " لن تغلب اليوم من قلة "، وروي أن رجلا من أصحابه قالها فأراد الله تعالى إظهار
العجز، فظهر حين فر الناس.
* ت *: العجب جائز في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معصوم منه صلى الله عليه وسلم، والصواب في
فهم الحديث، أنه خرج مخرج الإخبار، لا على وجه العجب، وعلى هذا فهمه ابن رشد
وغيره، وأنه إذا بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا حرم الفرار، وإن زاد عدد المشركين على
الضعف، وعليه عول في الفتوى، وقوله تعالى: (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت)،
معناه: برحبها، كأنه قال: على ما هي عليه في نفسها رحبة واسعة، لشدة الحال
وصعوبتها، ف‍ " ما ": مصدرية.
وقوله سبحانه: (ثم وليتم مدبرين)، أي: فرارا عن النبي صلى الله عليه وسلم واختصار هذه القصة: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، وكان في عشرة آلاف من أصحابه، وانضاف إليهم ألفان من
الطلقاء، فصار في اثني عشر ألفا، سمع بذلك كفار العرب، فشق عليهم، فجمعت له هوازن
وألفاها، وعليهم ملك بن عوف النصري، وثقيف، وعليهم عبد يا ليل بن عمرو / وانضاف
إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا
بحنين، فلما تصاف الناس، حمل المشركون من محاني الوادي، وانهزم المسلمون، قال
قتادة: وكان يقال: إن الطلقاء من أهل مكة فروا، وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء قد اكتنفه العباس عمه، وابن عمه أبو سفيان بن
الحارث بن عبد المطلب، وبين يديه أيمن بن أم أيمن، وثم قتل رحمه الله والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
فلما رأى نبي الله صلى الله عليه وسلم شدة الحال، نزل عن بغلته إلى الأرض، قاله البراء بن
عازب، واستنصر الله عز وجل، فأخذ قبضه من تراب وحصى، فرمى بها في وجوه
الكفار، وقال: " شاهت الوجوه "، ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار، وأمر العباس أن ينادي:
" أين أصحاب الشجرة؟ أين أصحاب سورة البقرة؟ " فرجع الناس عنقا واحدا للحرب،
وتصافحوا بالسيوف والطعن والضرب، وهناك قال عليه السلام: " الآن حمي الوطيس "
172

وهزم الله المشركين، وأعلى كلمة الإسلام إلى يوم الدين، قال يعلى بن عطاء: فحدثني
أبناء المنهزمين عن آبائهم، قالوا: لم يبق منا أحد إلا دخل عينيه من ذلك التراب واستيعاب
هذه القصة في كتب " السير ".
و (مدبرين): نصب على الحال المؤكدة، كقوله: (وهو الحق مصدقا) [البقرة:
91]، والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الإدبار.
وقوله سبحانه: (ثم أنزل الله سكينته...) الآية: السكينة: النصر الذي سكنت إليه
ومعه النفوس، والجنود: الملائكة، والرعب، قال أبو حاجز يزيد بن عامر: كان في
أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب، (وعذب الذين كفروا)، أي: بالقتل
والأسر، وروى أبو داود، عن سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
حنين، فأطنبوا السير حتى كان عشية، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل
فارس، فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم حي طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا
بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم، وشياههم، اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " تلك غنيمة المسلمين غدا، إن شاء الله... " الحديث. انتهى، فكانوا
كذلك غنيمة بحمد الله، كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
173

وقوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس)، قال ابن عباس وغيره:
معنى الشرك هو الذي نجسهم، كنجاسة الخمر، ونص الله سبحانه في هذه الآية على
المشركين، وعلى المسجد الحرام، فقاس مالك رحمه الله وغيره جميع الكفار من أهل الكتاب
وغيرهم، على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام، ومنع من دخول
الجميع في جميع المساجد، وقوة قوله سبحانه: (فلا يقربوا) يقتضي أمر المسلمين بمنعهم.
وقوله: (بعد عامهم هذا)، يريد: بعد عام تسع من الهجرة، وهو عام حج أبو بكر
بالناس.
وقوله سبحانه: (وإن خفتم عيلة)، أي: فقرا، (فسوف يغنيكم الله من فضله)،
وكان المسلمون، لما منع المشركون من الموسم، وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات،
قذف الشيطان في نفوسهم الخوف من الفقر، وقالوا: من أين نعيش؟ فوعدهم الله سبحانه
بأن يغنيهم من فضله، فكان الأمر كما وعد الله سبحانه، فأسلمت العرب، فتمادى حجهم
وتجرهم، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم.
وقوله سبحانه: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر /...) الآية: هذه
الآية تضمنت قتال أهل الكتاب، قال مجاهد: وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في
غزو الروم، ومشى نحو تبوك، ونفى سبحانه عن أهل الكتاب الإيمان بالله واليوم الآخر،
حيث تركوا شرع الإسلام، وأيضا فكانت اعتقاداتهم غير مستقيمة، لأنهم تشعبوا، وقالوا
عزير ابن الله، والله ثالث ثلاثة، وغير ذلك، ولهم أيضا في البعث آراء فاسدة، كشراء
منازل الجنة من الرهبان، إلى غير لك من الهذيان، (ولا يدينون دين الحق)، أي: لا
يطيعون، ولا يمتثلون، ومنه قول عائشة: " ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين "، والدين
هنا: الشريعة، قال ابن القاسم وأشهب وسحنون: وتؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم
كلها، وأما عبدة الأوثان والنيران وغير ذلك، فجمهور العلماء على قبول الجزية منهم، وهو
قول مالك في " المدونة ".
وقال الشافعي وأبو ثور: لا تؤخذ الجزية إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط،
وأما قدرها في مذهب مالك وغيره، فأربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على
أهل الفضة، وهذا في العنوة، وأما الصلح، فهو ما صالحوا عليه، قليل أو كثير.
وقوله: (عن يد) يحتمل وجوها:
174

منها: أن يريد عن قوة منكم عليهم، وقهر، واليد في كلام العرب: القوة.
ومنها: أن يريد سوق الذمي لها بيده، لا أن يبعثها مع رسول، ليكون في ذلك إذلال
لهم.
ومنها: أن يريد نقدها ناجزا، تقول: بعته يدا بيد، أي: لا يؤخروا بها.
ومنها: أن يريد عن استسلام، يقال: ألقى فلان بيده، إذا عجز واستسلم.
وقوله سبحانه: (وقالت اليهود عزير ابن الله): الذي كثر في كتب أهل العلم، أن
فرقة من اليهود قالت هذه المقالة وروي أنه قالها نفر يسير منهم فنحاص وغيره، قال
النقاش: ولم يبق الآن يهودي يقولها، بل انقرضوا.
قال * ع *: فإذا قالها ولو واحد من رؤسائهم، توجهت شنعة المقالة على
جماعتهم، وحكى الطبري وغيره، أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وجلاء، وقيل: مرض،
وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك، ونسوها، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك
البلاء، فلما طالت المدة، فقدت التوراة جملة، فحفظها الله عزيرا، كرامة منه له، فقال
لبني إسرائيل: إن الله قد حفظني التوراة، فجعلوا يدرسونها من عنده، ثم إن التوراة
المدفونة وجدت، فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس، فضلوا عند ذلك، وقالوا: إن هذا
لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله، نعوذ بالله من الضلال.
وقوله: (بأفواهم)، أي: بمجرد الدعوى من غير حجة ولا برهان، و (يضاهئون)،
قراءة الجماعة، ومعناه: يحاكون ويماثلون، والإشارة بقوله: (الذين كفروا من قبل):
175

إما لمشركي العرب، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، قاله الضحاك، وإما لأمم سالفة قبلها،
وإما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى، ويكون (يضاهئون) لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم،
وإن كان الضمير في (يضاهئون) للنصارى فقط، كانت الإشارة ب‍ (الذين كفروا من قبل)
إلى اليهود، وعلى هذا فسر الطبري، وحكاه غيره عن قتادة.
وقوله: (قاتلهم الله): دعاء عليهم عام لأنواع الشر، وعن ابن عباس، أن المعنى:
لعنهم الله. قال الداوودي: وعن ابن عباس قاتلهم الله: لعنهم الله، وكل شئ في
القرآن: قتل، فهو لعن. انتهى. و (أنى يؤفكون)، أي: يصرفون عن الخير.
وقوله سبحانه: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم...) الآية: هذه الآية يفسرها ما حكاه
الطبري، أن عدي بن حاتم قال: " جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب ذهب،
فقال: يا عدي / اطرح هذا الصليب من عنقك، فسمعته يقرأ: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم
أربابا من دون الله)، فقلت: يا رسول الله، وكيف ذلك، ونحن لم نعبدهم؟ فقال: أليس
تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا؟ قلت: نعم، قال: فذلك ".
ومعنى: (سبحانه) تنزيها له، و (نور الله)، في هذه الآية: هداه الصادر عن القرآن
والشرع.
وقوله: (بأفواههم)، عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها.
وقوله: (بالهدى): يعم القرآن وجميع الشرع.
وقوله: (ليظهره على الدين كله)، وقد فعل ذلك سبحانه، فالضمير في (ليظهره):
عائد على الدين، وقيل: على الرسول، وهذا وإن كان صحيحا، فالتأويل الأول أبرع منه،
وأليق بنظام الآية.
176

وقوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال
الناس بالباطل)، المراد بهذه الآية: بيان نقائص المذكورين، ونهي المؤمنين عن تلك
النقائص مترتب ضمن ذلك، واللام في (ليأكلون): لام التوكيد، وصورة هذا الأكل هي
بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما
يوهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتقرب إلى الله، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك
الأموال، كالذي ذكره سلمان في كتاب " السير "، عن الراهب الذي استخرج كنزه،
وقوله سبحانه: (ويصدون عن سبيل الله)، أي: عن شريعة الإسلام والإيمان بنبينا
محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: (والذين) ابتداء، وخبره (فبشرهم) والذي يظهر من ألفاظ الآية:
أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين للمال بالباطل، ذكر بعد ذلك بقول عام نقص
الكانزين المانعين حق المال، وقرأ طلحة بن مصرف: " الذين يكنزون " بغير واو،
وعلى هذه القراءة يجرى قول معاوية: أن الآية في أهل الكتاب، وخالفه أبو ذر، فقال: بل
هي فينا.
و (يكنزون): معناه: يجمعون ويحفظون في الأوعية، وليس من شرط الكنز:
الدفن، والتوعد في الكنز، إنما وقع على منع الحقوق منه، وعلى هذا كثير من العلماء،
وقال علي رضي الله عنه: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، وما زاد عليها فهو كنز، وإن
أديت زكاته.
وقال أبو ذر وجماعة معه: ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه، فهو كنز،
وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال، لا في منع زكاته فقط.
* ت *: وحدث أبو بكر بن الخطيب بسنده، عن علي بن أبي طالب، وابن عمر،
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء قدر ما يسعهم، فإن
177

منعوهم حتى يجوعوا ويعروا ويجهدوا، حاسبهم الله حسابا شديدا، وعذبهم عذابا نكرا "
انتهى.
وقوله سبحانه: (فتكوى بها جباههم...) الآية: قال ابن مسعود: والله، لا يمس
دينار دينارا، بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار، وبكل درهم قال الفخر: قال أبو
بكر الوراق: وخصت هذه المواضع بالذكر، لأن صاحب المال، إذا رأى الفقير، قبض
جبينه، وإذا جلس إلى جنبه، تباعد عنه، وولاه ظهره. انتهى.
وقوله سبحانه: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله)، هذه الآية
والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب عليه في جاهليتها من تحريم شهور الحل، وتحليل
شهور الحرمة، وإذا نص ما كانت العرب تفعله، تبين معنى الآيات، فالذي تظاهرت به
الروايات، ويتخلص من مجموع ما ذكره الناس: أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من
الغارات وإعمال سلاحها، فكانوا إذا توالت عليهم حرمة الأشهر الحرم، صعب عليهم،
وأملقوا / وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين في العرب، وتمسك بشرع إبراهيم عليه
السلام، فانتدب منهم القلمس، وهو حذيفة بن عبد فقيم، فنسي الشهور للعرب، ثم خلفه
على ذلك بنوه، وذكر الطبري وغيره، أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة،
وكانت صورة فعلهم: أن العرب كانت إذا فرغت من حجها، جاء إليه من شاء منهم
مجتمعين، فقالوا: أنسانا شهرا، أي: أخر عنا حرمة المحرم، فاجعلها في صفر، فيحل
لهم المحرم، فيغيرون فيه، ثم يلتزمون حرمة صفر، ليوافقوا عدة الأشهر الحرم الأربعة قال
مجاهد: ويسمون ذلك الصفر المحرم، ثم يسمعون ربيعا الأول صفرا وربيعا الآخر ربيعا
الأول، وهكذا في سائر الشهور، وتجئ السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها: المحرم
178

المحلل، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، وفي هذا قال الله عز وجل: (إن عدة
الشهور عند الله اثنا عشر شهرا)، أي: ليس ثلاثة عشر، ثم كانت حجة أبي بكر في ذي
القعدة حقيقة، وهم يسمونه ذا الحجة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة
حقيقة، فذلك قوله عليه السلام: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات
والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم،
ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ".
وقوله في (كتاب الله)، أي: فيما كتبه، وأثبته في اللوح المحفوظ، أو غيره، فهي
صفة فعل مثل خلقه ورزقه، وليست بمعنى قضاءه وتقديره، لأن تلك هي قبل خلق
السماوات والأرض.
وقوله سبحانه: (منها أربعة حرم): نص على تفضيل هذه الأربعة وتشريفها، قال
قتادة: " اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلا، ومن الشهور المحرم ورمضان، ومن البقع
المساجد، ومن الأيام الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الكلام ذكره، فينبغي أن يعظم
ما عظم الله ".
وقوله سبحانه: (ذلك الدين القيم)، قالت فرقة: معناه: الحساب المستقيم، وقال
ابن عباس، فيما حكى المهدوي: معناه: القضاء المستقيم.
179

قال * ع *: والأصوب عندي أن يكون (الدين) ههنا على أشهر وجوهه، أي:
ذلك الشرع والطاعة.
وقوله: (فلا تظلموا فيهن)، أي: في الاثني عشر شهرا، أي: لا تظلموا أنفسكم
بالمعاصي في الزمان كله، وقال قتادة: المراد الأربعة الأشهر، وخصصت تشريفا لها.
قال سعيد بن المسيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرم القتال في الأشهر الحرم، بما أنزل الله
في ذلك، حتى نزلت " براءة ".
وقوله تعالى: (وقاتلوا المشركين)، معناه: فيهن فأحرى في غيرهن، وقوله:
(كافة)، معناه: جميعا.
وقوله سبحانه: (إنما النسيء)، يعني: فعل العرب في تأخيرهم الحرمة، (زيادة في
الكفر)، أي: جار مع كفرهم بالله، وخلافهم للحق، فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو
باطل في نفسه، ومما وجد في أشعارهم قول جذل الطعان: [الوافر]
وقد علمت معد أن قومي * كرام الناس إن لهم كراما
ألسنا الناسئين على معد * شهور الحل نجعلها حراما
وقوله سبحانه: (يحلونه عاما ويحرمونه عاما)، معناه: عاما من الأعوام، وليس
يريد أن تلك كانت مداولة.
وقوله سبحانه: (ليواطئوا عدة ما حرم الله)، معناه: ليوافقوا، والمواطأة: الموافقة.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم
180

إلى الأرض)، هذه الآية بلا خلاف أنها نزلت عتابا على تخلف من تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم
في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد / الفتح بعام، غزا فيها الروم في عشرين
ألفا بين راكب وراجل، والنفر: هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان، وقوله: " أثاقلتم "
أصله تثاقلتم، وكذلك قرأ الأعمش وهو نحو قوله: (أخلد إلى الأرض) [الأعراف:
176] وقوله: (أرضيتم) تقرير، والمعنى: أرضيتم نزر الدنيا، على خطير الآخرة، وحظها
الأسعد.
قال ابن هشام ف‍ " من " من قوله: (من الآخرة) للبدل. انتهى. ثم أخبر سبحانه، أن
الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر، فتعطي قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر
الفاني بدل الكثير الباقي.
* ت *: وفي " صحيح مسلم " و " الترمذي "، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما الدنيا في
الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بماذا ترجع ". قال أبو عيسى: هذا
حديث حسن صحيح. انتهى.
وقوله سبحانه: (إلا تنفروا يعذبكم): شرط وجواب، ولفظ " العذاب " عام يدخل
تحته أنواع عذاب الدنيا والآخرة.
وقوله: (ويستبدل قوما غيركم): توعد بأن يبدل لرسوله عليه السلام قوما لا
يقعدون عند استنفاره إياهم، والضمير في قوله: (ولا تضروه شيئا) عائد على الله عز
وجل، ويحتمل أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم هو أليق.
181

وقوله سبحانه: (إلا تنصروه فقد نصره الله) هذا أيضا شرط وجواب، ومعنى الآية:
إنكم إن تركتم نصره، فالله متكفل به، إذ قد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو،
ولن يترك نصره الآن.
وقوله: (إذ أخرجه الذين كفروا)، أسند الإخراج إليهم، تذنيبا لهم، ولما كان
مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله: من طردت كل مطرد، لم يقره النبي صلى الله عليه وسلم
على ما علم في كتب " السيرة "، والإشارة إلى خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وفي
صحبته أبو بكر، واختصار القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظر إذن الله سبحانه في الهجرة
من مكة، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
" أصبر، لعل الله أن يسهل الصحبة " فلما أذن الله لنبيه في الخروج، تجهز من دار أبي بكر،
وخرجا، فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال، وخرج المشركون في
إثرهم، حتى انتهوا إلى الغار، فطمس الله عليهم الأثر، وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نظر
أحدهم إلى قدمه، لرآنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " هكذا في
الحديث الصحيح، ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار.
ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن
فهيرة.
وقوله: (ثاني اثنين)، معناه: أحد اثنين، وقوله: (إن الله معنا)، يريد: بالنصر
والنجاة واللطف.
وقوله سبحانه: (وكلمة الله هي العليا)، قيل: يريد: لا إله إلا الله، وقيل: الشرع
بأسره.
182

وقوله سبحانه: (انفروا خفافا وثقالا) معنى الخفة والثقل ههنا: مستعار لمن يمكنه
السفر بسهولة، ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه، كالعمي ونحوهم، فخارج عن
هذا.
وقال أبو طلحة: ما سمع الله عذر أحد، وخرج إلى الشام، فجاهد حتى مات.
وقال أبو أيوب: ما أجدني أبدا إلا خفيفا أو ثقيلا.
وقوله سبحانه: (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون): تنبيه وهز للنفوس.
وقوله سبحانه: (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك)، هذه الآية في
المنافقين المتخلفين في غزوة تبوك، وكشف ضمائرهم، وأما الآيات التي قبلها، / فعامة
فيهم وفي غيرهم، والمعنى: لو كان هذا الغزو لعرض، أي: لمال وغنيمة تنال قريبا، بسفر
قاصد يسير، لبادروا لا لوجه الله، (ولكن بعدت عليهم الشقة) وهي المسافة الطويلة.
وقوله: (وسيحلفون بالله)، يريد: المنافقين، وهذا إخبار بغيب.
وقوله عز وجل: (عفا الله عنك لم أذنت لهم)، هذه الآية هي في صنف مبالغ في
النفاق، استأذنوا دون اعتذار، منهم: الجد بن قيس ورفاعة بن التابوت ومن اتبعهم، قال
مجاهد: وذلك أن بعضهم قال: نستأذنه، فإن أذن في القعود قعدنا، وإلا قعدنا، وقدم
له العفو قبل العتاب: إكراما له صلى الله عليه وسلم، وقالت فرقة: بل قوله سبحانه (عفا الله عنك):
استفتاح كلام كما تقول: أصلحك الله، وأعزك الله، ولم يكن منه عليه السلام ذنب يعفى
عنه، لأن صورة الاستنفار وقبول الأعذار مصروفة إلى اجتهاده.
183

وقوله: (حتى يتبين لك الذين صدقوا)، يريد: في استئذانك، وأنك لو لم تأذن
لهم، خرجوا معك.
وقوله: (وتعلم الكاذبين)، أي: بمخالفتك، لو لم تأذن، لأنهم عزموا على
العصيان، أذنت لهم أو لم تأذن، وقال الطبري: معناه: حتى تعلم الصادقين، في أن لهم
عذرا، والكاذبين، في أن لا عذر لهم، والأول أصوب، والله أعلم، وأما قوله سبحانه:
في سورة النور: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم...) [النور: 62] الآية، ففي غزوة
الخندق نزلت: (وارتابت قلوبهم)، أي: شكت و (يترددون)، أي: يتحيرون، إذ كانوا
تخطر لهم صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا، وأنه غير صحيح أحيانا، فهم مذبذبون.
وقوله سبحانه: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة)، أي: لو أرادوا الخروج
بنياتهم، لنظروا في ذلك واستعدوا له.
وقوله: (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم).
* ص *: (ولكن): أصلها أن تقع بين نقيضين أو ضدين، أو خلافين، على
خلاف فيه. انتهى. و (انبعاثهم): نفوذهم لهذه الغزوة، والتثبيط: التكسيل وكسر
العزم.
وقوله سبحانه: (وقيل اقعدوا)، يحتمل أن يكون حكاية عن الله، أي: قال الله في
سابق قضائه: أقعدوا مع القاعدين، ويحتمل أن يكون حكاية عنهم، أي: كانت هذه مقالة
بعضهم لبعض، ويحتمل أن يكون عبارة عن إذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم في العقود، أي: لما كره
الله خروجهم، يسر أن قلت لهم: اقعدوا مع القاعدين، والقعود، هنا: عبارة عن التخلف،
وكراهية الله انبعاثهم: رفق بالمؤمنين.
وقوله سبحانه: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) الخبال: الفساد في الأشياء
المؤتلفة، كالمودات، وبعض الأجرام، (لا أوضعوا) معناه: لأسرعوا السير،
184

و (خلالكم) معناه: فيما بينكم.
قال * ص *: (خلالكم) جمع خلل، وهو الفرجة بين الشيئين، وانتصب على
الظرف ب‍ (لا أوضعوا)، و (يبغونكم): حال، أي: باغين. انتهى. والإيضاع: سرعة
السير، ووقعت (لا أوضعوا) بألف بعد " لا " في المصحف، وكذلك وقعت في قوله: (أو
لأذبحنه) [النمل: 21] (يبغونكم الفتنة)، أي: يطلبون لكم الفتنة، (وفيكم سماعون
لهم)، قال مجاهد وغيره: معناه: جواسيس يسمعون الأخبار، وينقلونها إليهم، وقال
الجمهور: معناه: وفيكم مطيعون سامعون لهم.
وقوله سبحانه: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل)، في هذه الآية تحقير لشأنهم، ومعنى
قوله: (من قبل): ما كان من حالهم في أحد وغيرها، ومعنى قوله: (وقلبوا لك
الأمور): دبروها ظهرا لبطن، وسعوا بكل حيلة (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني)،
نزلت في الجد بن قيس، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم / قال: " اغزوا تبوك، تغنموا
بنات الأصفر " فقال الجد: ائذن لنا ولا تفتنا بالنساء، وقال ابن عباس: إن الجد قال:
ولكني أعينك بمالي.
وقوله سبحانه: (ألا في الفتنة سقطوا)، أي: في الذي أظهروا الفرار منه.
وقوله سبحانه: (إن تصبك حسنة...) الآية: الحسنة هنا بحسب الغزوة: هي
الغنيمة والظفر، والمصيبة: الهزيمة والخيبة، واللفظ عام بعد ذلك في كل محبوب
ومكروه، ومعنى قوله: (قد أخذنا أمرنا من قبل)، أي: قد أخذنا بالحزم في تخلفنا
185

ونظرنا لأنفسنا، ثم أمر تعالى نبيه، فقال: قل لهم يا محمد: (لن يصيبنا إلا ما كتب الله
لنا)، وهو إما ظفرا وسرورا عاجلا، وإما أن نستشهد فندخل الجنة، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين)، أي: قل للمنافقين،
و (الحسنيين): الظفر، والشهادة.
وقوله: (أو بأيدينا)، يريد: القتل.
وقوله سبحانه: (قل أنفقوا طوعا أو كرها) الآية: سببها أن الجد بن قيس حين
قال: ائذن لي ولا تفتني، قال: إني أعينك بمالي، فنزلت هذه الآية فيه، وهي عامة
بعده.
وقوله عز وجل: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله).
وفي " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن ثواب الكافر على أفعاله البرة هو في
الطعمة يطعمها " ونحو ذلك، وهذا مقنع لا يحتاج معه إلى نظر، وأما أن ينتفع بها في
الآخرة فلا، و (كسالى): جمع كسلان.
وقوله سبحانه: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في
الحياة الدنيا...) الآية: حقر في الآية شأن المنافقين، وعلل إعطاء الله لهم الأموال
والأولاد، بإرادته تعذيبهم بها في الحياة الدنيا، وفي الآخرة.
قال ابن زيد وغيره: تعذيبهم بها في الدنيا هو بمصائبها ورزاياها، هي لهم عذاب، إذ
لا يؤجرون عليها، ومن ذلك قهر الشرع لهم على أداء الزكاة والحقوق والواجبات.
186

قال الفخر: أما كون كثيرة الأموال والأولاد سببا للعذاب في الدنيا، فحاصل من
وجوه: منها: أن كلما كان حب الإنسان للشيء أشد وأقوى، كان حزنه وتألم قلبه على
فراقه أعظم وأصعب، ثم عند الموت يعظم حزنه، وتشتد حسرته، لمفارقته المحبوب،
فالمشغوف بحب المال والولد لا يزال في تعب، فيحتاج في اكتساب الأموال وتحصيلها
إلى تعب شديد ومشقة عظيمة، ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأصعب في حفظها
وصونها، لأن حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه، ثم إنه لا ينتفع، إلا بالقليل من
تلك الأموال، فالتعب كثير، والنفع قليل، ثم قال: واعلم أن الدنيا حلوة خضرة،
والحواس الخمس مائلة إليها، فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها، وانصرف الإنسان بكليته
إليها، فيصير ذلك سببا لحرمانه من ذكر الله، ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوه وقهر،
وكلما كان المال والجاه أكثر، كانت تلك القسوة أقوى، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
(إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى) [العلق: 6، 7] فظهر أن كثرة الأموال والأولاد
سبب قوي في زوال حب الله تعالى وحب الآخرة من القلب، وفي حصول الدنيا وشهواتها
في القلب، وعند الموت: كأن الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن، ومن مجالسة الأقرباء
والأحبة إلى موضع الغربة والكربة، فيعظم تألمه، ويقوى حزنه، ثم عند الحشر: حلالها
حساب، وحرامها عقاب، فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا
والآخرة. انتهى.
ثم أخبر سبحانه، أنهم ليسوا من المؤمنين، / وإنما هم يفزعون منهم، والفرق:
الخوف.
وقوله سبحانه: (لو يجدون ملجأ): الملجأ من لجأ يلجأ، إذا أوى واعتصم، وقرأ
الجمهور: " أو مغارات " - بفتح الميم -، وهي الغيران في أعراض الجبال، (أو
مدخلا)، معناه: السرب والنفق في الأرض، وهو تفسير ابن عباس في هذه الألفاظ،
وقرأ جمهور الناس: " يجمحون ": ومعناه يسرعون.
187

قال الفخر: قوله: (وهم يجمحون) أي: يسرعون إسراعا لا يرد وجوههم
شئ، ومن هذا يقال: جمح الفرس، وفرس جموح، وهو الذي إذا حمل، لم يرده
اللجام، انتهى.
وقوله عز وجل: (ومنهم من يلمزك...) الآية: أي: ومن المنافقين من يلمزك،
أي: يعيبك ويأخذ منك في الغيبة، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة * وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه
ومنه قوله سبحانه: (ويل لكل همزة لمزة) [الهمزة: 1] وقوله سبحانه: (ولو أنهم
رضوا ما آتاهم الله ورسوله...) الآية: المعنى: لو أن هؤلاء المنافقين رضوا قسمة الله
الرزق لهم، وما أعطاهم على يد رسوله، وأقروا بالرغبة إلى الله، لكان خيرا لهم، وحذف
الجواب، لدلالة ظاهر الكلام عليه، وذلك من فصيح الكلام وإيجازه.
وقوله سبحانه: (إنما الصدقات للفقراء...) الآية: (إنما) في هذه الآية حاصرة
تقتضي وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف، وإنما أختلف في صورة القسمة، ومذهب
مالك وغيره، أن ذلك على قدر الاجتهاد، وبحسب الحاجة، وأما الفقير والمسكين، فقال
ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وغيرهم: المساكين: الذين يسعون
ويسألون، والفقراء: الذين يتصاونون، وهذا القول أحسن ما قيل في هذا، وتحريره أن
الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل نفسه، ولا يذل وجهه، وذلك إما لتعفف مفرط،
188

وإما لبلغة تكون له، كالحلوبة وما أشبهها، والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع
وسؤال، فهذه هي المسكنة، ويقوي هذا أن الله سبحانه قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة،
وقرنها بالذلة مع غناهم، وإذا تأملت ما قلناه، بأن أنهما صنفان موجودان في المسلمين.
* ت *: وقد أكثر الناس في الفرق بين الفقير والمسكين، وأولى ما يعول عليه ما
ثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى مالك، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي
هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان،
والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي ليس له غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا
يقوم فيسأل الناس "، انتهى. وأول أبو عمر في " التمهيد " هذا الحديث، فقال: كأنه أراد
- والله أعلم - ليس المسكين على تمام المسكنة، وعلى الحقيقة، إلا الذي لا يسأل الناس.
انتهى.
189

وأما العاملون: فهم جباتها يستنيبهم الإمام في السعي على الناس، وجمع صدقاتهم،
قال الجمهور: لهم قدر تعبهم ومؤنتهم، وأما (المؤلفة قلوبهم)، فكانوا مسلمين وكافرين
مستترين مظهرين للإسلام، حتى وثقه الاستئلاف في أكثرهم، واستئلافهم إنما كان لتجلب
إلى الإسلام منفعة، أو تدفع عنه مضرة، والصحيح بقاء حكمهم، إن احتيج إليهم، وأما
(الرقاب)، فمذهب مالك وغيره هو ابتداء عتق مؤمن، وأما الغارم: فهو الرجل يركبه دين
في غير معصية ولا سفه، كذا قال العلماء، وأما (في سبيل الله)، فهو الغازي، وإن كان
مليا ببلده، وأما (ابن السبيل)، فهو المسافر، وإن كان غنيا ببلده، وسمي المسافر ابن
السبيل لملازمته السبيل.
ومن ادعى الفقر صدق إلا لريبة، فيكلف حينئذ / البينة، وأما إن ادعى أنه غارم أو
ابن السبيل أو غاز، ونحو ذلك مما لا يعلم إلا منه، فلا يعطى إلا ببينة، وأهل بلد الصدقة
أحق بها إلا أن تفضل فضلة، فتنقل إلى غيرهم.
قال ابن حبيب: وينبغي للإمام أن يأمر السعاة بتفريقها في المواضع التي جبيت فيها،
ولا يحمل منها شئ إلى الإمام، وفي الحديث: " تؤخذ من أغنيائهم، فترد على
فقرائهم ".
وقوله سبحانه: (فريضة من الله): أي: موجبة محدودة.
190

وقول سبحانه: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن
بالله ويؤمن للمؤمنين): أي: ومن المنافقين، و (يؤذون): لفظ يعم أنواع إذاءتهم له صلى الله عليه وسلم،
وخص بعد ذلك من قولهم: (هو أذن)، وروي أن قائل هذه المقالة نبتل بن الحارث،
وكان من مردة المنافقين، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: " من سره أن ينظر إلى
الشيطان، فلينظر إلى
نبتل بن الحارث "، وكان ثائر الرأس، منتفش الشعر، أحمر العينين، أسفع الخدين،
مشوها.
قال الحسن البصري ومجاهد: قولهم: (هو أذن): أي: يسمع معاذيرنا ويقبلها،
أي: فنحن لا نبالي من الوقوع فيه، وهذا تنقص بقلة الحزم، وقال ابن عباس وغيره: إنهم
أرادوا بقولهم: (هو أذن): أي: يسمع كل ما ينقل إليه عنا، ويصغي إليه ويقبله، فهذا
تشك منه عليه السلام، ومعنى (أذن): سماع، وهذا من باب تسمية الشئ بالشيء إذا
كان منه بسبب، كما يقال للرؤية: عين، وكما يقال للمسنة من الإبل التي قد بزل نابها:
ناب.
وقيل: معنى الكلام: ذو أذن، أي: ذو سماع، وقيل: إنه مشتق من قولهم: أذن إلى
شئ، إذا استمع، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقرأ نافع: " أذن " - بسكون الذال فيهما -، وقرأ الباقون بضمها فيهما، وكلهم قرأ
بالإضافة إلى " خير " إلا ما روي عن عاصم، وقرأ الحسن وغيره: " قل أذن خير " - بتنوين
191

" أذن "، ورفع " خير "، - وهذا جار على تأويله المتقدم، والمعنى: من يقبل معاذيركم خير
لكم، ورويت هذه القراءة عن عاصم، ومعنى " أذن خير " على الإضافة: أي سماع خير
وحق، و (يؤمن بالله): معناه: يصدق بالله، (ويؤمن للمؤمنين): قيل: معناه: ويصدق
المؤمنين، واللام زائدة، وقيل: يقال: آمنت لك، بمعنى: صدقتك، ومنه: (وما أنت
بمؤمن لنا) [يوسف: 17].
قال * ع *: وعندي أن هذه التي معها اللام في ضمنها باء، فالمعنى: ويصدق
للمؤمنين بما يخبرونه به، وكذلك قوله: (وما أنت بمؤمن لنا) بما نقوله.
* ت *: ولما كانت أخبار المنافقين تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة بإخبار الله له، وتارة
بإخبار المؤمنين، وهم عدول، ناسب اتصال قوله سبحانه: (يؤمن بالله ويؤمن
للمؤمنين)، بما قبله، ويكون التصديق هنا خاصا بهذه القضية، وإن كان ظاهر اللفظ عاما،
إذ من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل مصدقا بالله، وقرأ جميع السبعة إلا حمزة و " رحمة "
- بالرفع -، عطفا على " أذن "، وقرأ حمزة وحده: و " رحمة " - بالخفض -، عطفا على
" خير "، وخصص الرحمة للذين آمنوا، إذ هم الذين فازوا ونجوا بالرسول عليه السلام،
(يحلفون بالله لكم): يعني: المنافقين.
وقوله: (والله ورسوله أحق أن يرضوه): التقدير عند سيبويه: والله أحق أن
يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه، فحذف الخبر من الجملة الأولى، لدلالة الثانية عليه.
وقيل: الضمير في " يرضوه " عائد على المذكور، كما قال رؤبة: [الرجز]
فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع البهق
أي: كأن المذكور.
192

وقوله: (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله...) الآية: (يحادد): معناه:
يخالف ويشاق.
وقوله سبحانه (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم):
(يحذر): خبر عن حال قلوبهم.
وقال الزجاج وغيره: " يحذر ": الأمر، وإن كان لفظه لفظ الخبر، كأنه قال:
" ليحذر ".
وقوله سبحانه: (قل استهزءوا): لفظه لفظ الأمر، / ومعناه التهديد، ثم أخبر
سبحانه، أنه مخرج لهم ما يحذرونه إلى حين الوجود، وقد فعل ذلك تبارك وتعالى في
" سورة براءة "، فهي تسمى " الفاضحة "، لأنها فضحت المنافقين.
وقوله سبحانه: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب...) الآية: نزلت
على ما ذكر جماعة من المفسرين في وديعة بن ثابت، وذلك أنه مع قوم من المنافقين كانوا
يسيرون في غزوة تبوك، فقال بعضهم: هذا يريد أن يفتح قصور الشام، ويأخذ حصون بني
الأصفر، هيهات هيهات! فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال لهم: قلتم كذا وكذا،
فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر، أنه قال: رأيت
قائل هذه المقالة " وديعة " متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها، والحجارة تنكبه، وهو
يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقوله: (أبالله وآياته ورسوله كنتم
تستهزءون)، ثم حكم سبحانه عليهم بالكفر، فقال لهم: (لا تعتذروا قد كفرتم) الآية.
193

وقوله سبحانه: (إن نعف عن طائفة منكم)، يريد، فيما ذكره المفسرون، رجلا
واحدا، قيل: اسمه مخشي بن حمير، قاله ابن إسحاق، وذكر جميعهم أنه استشهد
باليمامة، وقد كان تاب، وتسمى عبد الرحمن، فدعا الله أن يستشهد، ويجهل أمره، فكان
كذلك، ولم يوجد جسده، وكان مخشي مع المنافقين الذين قالوا: إنما كنا نخوض
ونلعب، فقيل: كان منافقا، ثم تاب توبة صحيحة، وقيل: كان مسلما مخلصا إلا أنه سمع
المنافقين، فضحك لهم، ولم ينكر عليهم، فعفا الله عنه في كلا الوجهين، ثم أوجب
العذاب لباقي المنافقين الذين قالوا ما تقدم.
وقوله سبحانه: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض): يريد: في الحكم
والمنزلة في الكفر، ولما تقدم قبل: (وما هم منكم) [التوبة: 56] حسن هذه الإخبار،
و (يقبضون أيديهم): أي: عن الصدقة، وفعل الخير، (نسوا الله): أي: تركوه، حين
تركوا اتباع نبيه وشرعه، (فنسيهم): أي: فتركهم حين لم يهدهم، والكفار، في الآية:
المعلنون، وقوله: (هي حسبهم): أي: كافيتهم.
وقوله تعالى: (كالذين من قبلكم): أي: أنتم، أيها المنافقون، كالذين من قبلكم
كانوا أشد منكم قوة، فعصوا، فأهلكوا، فأنتم أولى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم،
والخلاق: الحظ من القدر والدين وجميع حال المرء، فخلاق المرء: الشئ الذي هو به
خليق، والمعنى: عجلوا حظهم في دنياهم، وتركوا الآخرة، فاتبعتموه أنتم، (أولئك
194

حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة): المعنى: وأنتم أيضا كذلك، ويحتمل أن يريد
ب‍ (أولئك): المنافقين.
وقوله سبحانه: (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود...) الآية:
المعنى ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السالفة التي عصت الله، بتكذيب رسله،
فأهلكها، و (قوم إبراهيم): نمرود وأصحابه وأتباع دولته، (وأصحاب مدين) قوم
شعيب، (والمؤتفكات): أهل القرى الأربعة أو السبعة التي بعث إليهم لوط عليه السلام،
ومعنى (المؤتفكات): المنصرفات والمنقلبات أفكت فائتفكت لأنها جعل عاليها سافلها،
ولفظ البخاري: (المؤتفكات): ائتفكت: انقلبت بهم الأرض. انتهى.
والضمير في (أتتهم رسلهم): عائد على هذه الأمم المذكورة، ثم عقب سبحانه
بذكر المؤمنين، وما من به عليهم من حسن الأعمال، ترغيبا وتنشيطا، لمبادرة ما به أمر،
لطفا منه بعباده سبحانه، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
وقوله سبحانه: (ويقيمون الصلاة): قال ابن عباس: هي الصلوات الخمس.
قال * ع *: وبحسب هذا تكون الزكاة هي المفروضة، والمدح عندي بالنوافل
أبلغ، إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة / الفرض، والسين في قوله: (سيرحمهم): مدخلة
في الوعد مهلة، لتكون النفوس تنعم برجائه سبحانه، وفضله سبحانه زعيم بالإنجاز، وذكر
الطبري في قوله تعالى: (ومساكن طيبة)، عن الحسن أنه سأل عنها عمران بن حصين
وأبا هريرة، فقالا: على الخبير سقطت! سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " قصر في الجنة
من اللؤلؤ، فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زمرذة خضراء،
في كل بيت سبعون سريرا " ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ، ويقرب منها، فاختصرتها
طلب الإيجاز.
* ت *: وتمام الحديث من " الإحياء "، وكتاب الآجري المعروف ب‍ " كتاب
النصيحة "، عن الحسن عن عمران بن حصين وأبي هريرة، قالا: " على كل سرير سبعون
فراشا من كل لون، على كل فراش زوجة من الحور العين، وفي كل بيت سبعون مائدة،
195

على كل مائدة سبعون لونا من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفة، ويعطى المؤمن في كل
غداة من القوة ما يأتي على ذلك أجمع "، وأما قوله سبحانه: (ورضوان من الله أكبر)،
ففي الحديث الصحيح، أن الله عز وجل يقول لعباده إذا استقروا في الجنة: " هل رضيتم؟!
فيقولون: وكيف لا نرضى، يا ربنا؟ فيقول: إني سأعطيكم أفضل من هذا كله، رضواني،
أرضي عنكم، فلا أسخط عليكم أبدا... " الحديث، وقوله: (أكبر): يريد: أكبر من
جميع ما تقدم، ومعنى الآية والحديث متفق، وقال الحسن بن أبي الحسن: وصل إلى
قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شئ أصابوه
من لذة الجنة، قال الإمام الفخر: وإنما كان الرضوان أكبر، لأنه عند العارفين نعيم
روحاني، وهو أشرف من النعيم الجسماني. انتهى. أنظره في أوائل " آل عمران ".
قال * ع *: ويظهر أن يكون قوله تعالى: (ورضوان من الله أكبر) إشارة إلى
منازل المقربين الشاربين من تسنيم، والذين يرون كما يرى النجم الغابر في الأفق، وجميع
من في الجنة راض، والمنازل مختلفة، وفضل الله متسع، و (الفوز): النجاة والخلاص،
ومن أدخل الجنة فقد فاز، والمقربون هم في الفوز العظيم، والعبارة عندي ب‍ " سرور
وكمال " أجود من العبارة عنها ب‍ " لذة "، واللذة أيضا مستعملة في هذا.
وقوله سبحانه: (يا أيها النبي جاهد الكفار): أي: بالسيف و (المنافقين)، أي:
باللسان والتعنيف والاكفهرار في الوجه، وبإقامة الحدود عليهم.
قال الحسن: وأكثر ما كانت الحدود يومئذ تصيب المنافقين، ومذهب الطبري، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم ويسترهم، وأما قوله: (واعظ عليهم)، فلفظة عامة في
الأفعال والأقوال، ومعنى الغلظ: خشن الجانب، فهو ضد قوله تعالى: (واخفض جناحك
196

لمن اتبعك من المؤمنين) [الشعراء: 215]، وقوله عز وجل: (يحلفون بالله ما
قالوا...) الآية، نزلت في الجلاس بن سويد، وقوله: لئن كان ما يقول محمد حقا،
لنحن شر من الحمر، فسمعها منه ربيبه أو رجل آخر، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الجلاس،
فحلف بالله، ما قال هذه الكلمة، فنزلت الآية، فكلمة الكفر: هي مقالته هذه، لأن
مضمنها قوي في التكذيب، قال مجاهد: وقوله: (وهموا بما لم ينالوا): يعني: أن
الجلاس قد كان هم بقتل صاحبه الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: نزلت في عبد الله بن
أبي ابن سلول، وقوله في غزوة المريسيع: ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك
يأكلك، و (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) [المنافقون: 8]، فبلغ ذلك
النبي صلى الله عليه وسلم، فوقفه، فحلف أنه لم يقل ذلك، فنزلت الآية مكذبة له.
* ت *: وزاد ابن العربي في " أحكامه " قولا ثالثا، أن الآية نزلت في جماعة
المنافقين قاله الحسن، وهو الصحيح، / لعموم القول ووجود المعنى فيه، وفيهم، انتهى.
وحدث أبو بكر بن الخطيب بسنده، قال: سئل سفيان بن عيينة عن الهم: أيؤاخذ به
صاحبه؟ قال: نعم، إذا كان عزما، ألم تسمع إلى قوله تعالى: (وهموا بما لم
ينالوا...) الآية، إلى قوله: (فإن يتوبوا يك خيرا لهم)، فجعل عليهم فيه التوبة، قال
سفيان: الهم يسود القلب انتهى.
قال * ع *: وعلى تأويل قتادة، فالإشارة ب‍ (كلمة الكفر) إلى تمثيل ابن أبي
" سمن كلبك يأكلك ".
قال قتادة: والإشارة ب‍ (هموا) إلى قوله: (لئن رجعنا إلى المدينة) [المنافقون:
8].
وقال الحسن: هم المنافقون من إظهار الشرك ومكابرة النبي صلى الله عليه وسلم بما لم ينالوا،
وقال تعالى: (بعد إسلامهم)، ولم يقل: " بعد إيمانهم "، لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم.
وقوله سبحانه: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله...) الآية: كان الكلام، وما نقموا
إلا ما حقه أن يشكر، وذكر رسول الله في إغنائهم من حيث كثرت أموالهم من الغنائم،
197

ورسول الله صلى الله عليه وسلم سبب في ذلك، وعلى هذا الحد قال عليه السلام للأنصار في غزوة
حنين: " كنتم عالة، فأغناكم الله "، قال العراقي: (نقموا): أي: أنكروا.
وقال * ص *: (إلا أن أغناهم الله): إن وصلتها: مفعول (نقموا): أي: ما
كرهوا إلا إغناء الله إياهم، وقيل: هو مفعول من أجله، والمفعول به محذوف، أي: ما كرهوا الإيمان إلا للإغناء. انتهى.
ثم فتح لهم سبحانه باب التوبة، رفقا بهم ولطفا، فروي أن الجلاس تاب من النفاق،
وقال: إن الله قد ترك لي باب التوبة، فاعترف وأخلص، وحسنت توبته.
وقوله سبحانه: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن...) الآية: هذه
الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري، قال الحسن: وفي معتب بن قشير معه،
198

واختصار ما ذكره الطبري وغيره من أمره: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله،
أدع الله أن يجعل لي مالا، فإني لو كنت ذا مال، لقضيت حقوقه، وفعلت فيه الخير، فراده
النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " فعاود، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا
تريد أن تكون مثل رسول الله، ولو دعوت الله أن يسير الجبال معي ذهبا، لسارت " فأعاد
عليه حتى دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فاتخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود، حتى ضاقت به
المدينة، فتنحى عنها، وكثرت غنمه، حتى كان لا يصلي إلا الجمعة، ثم كثرت حتى تنحى
بعيدا، فترك الصلاة، ونجم نفاقه، ونزل خلال ذلك فرض الزكاة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم
مصدقين بكتابه في أخذ زكاة الغنم، فلما بلغوا ثعلبة، وقرأ الكتاب، قال: هذه أخت
الجزية، ثم قال لهم: دعوني حي أرى رأيي، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه، قال:
" ويح ثعلبة " ثلاثا، ونزلت الآية فيه، فحضر القصة قريب لثعلبة، فخرج إليه، فقال: أدرك
أمرك، فقد نزل فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرغب أن يؤدي
زكاته، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " إن الله أمرني ألا آخذ زكاتك "، فبقي كذلك
حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ورد ثعلبة على أبي بكر، ثم على عمر، ثم على عثمان،
يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة، فكلهم رد ذلك وأباه، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم،
فبقي ثعلبة كذلك حتى هلك في مدة عثمان.
وفي قوله تعالى: (فأعقبهم): نص في العقوبة على الذنب بما هو أشد منه.
وقوله: (إلى يوم يلقونه): يقتضي موافاتهم على النفاق، قال ابن العربي: في ضمير
199

(يلقونه) قولان:
أحدهما: أنه عائد على الله / تعالى.
والثاني: أنه عائد على النفاق مجازا، على تقدير الجزاء، كأنه قال: فأعقبهم نفاقا في
قلوبهم إلى يوم يلقون جزاءه. انتهى من " الأحكام ".
و (يلمزون): معناه: ينالون بألسنتهم، وأكثر الروايات في سبب نزول الآية أن عبد
الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف، وأمسك مثلها.
وقيل: هو عمر بن الخطاب تصدق بنصف ماله، وقيل: عاصم بن عدي تصدق
بمائة وسق، فقال المنافقون: ما هذا إلا رياء، فنزلت الآية في هذا كله، وأما المتصدق
بقليل، فهو أبو عقيل تصدق بصاع من تمر، فقال بعضهم: إن الله غني عن صاع أبي
عقيل، وخرجه البخاري، وقيل: إن الذي لمز في القليل هو أبو خيثمة، قاله كعب بن
مالك.
(فيسخرون منهم): معناه: يستهزئون ويستخفون وروى مسلم عن جرير بن
200

عبد الله، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: " فجاءه قوم حفاة عراة
مجتابي النمار متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا، فأذن وأقام، فصلى
ثم خطب، فقال: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة...) إلى آخر
الآية: (إن الله كان عليكم رقيبا) [النساء: 1] والآية التي في سورة الحشر: (واتقوا الله
ولتنظر نفس ما قدمت لغد) [الحشر: 18] تصدق رجل، من ديناره، من درهمه، من
ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من
الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت
كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من
غير أن ينقص من أجورهم شئ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر
من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ ". انتهى.
وقوله سبحانه: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم): المعنى: أن الله خير نبيه في هذا،
فكأنه قال له: إن شئت فاستغفر لهم، وإن شئت لا تستغفر، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم، وإن
استغفر سبعين مرة، وهذا هو الصحيح في تأويل الآية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: " إن الله قد
خيرني فاخترت، ولو علمت أني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت... "
الحديث، وظاهر لفظ الحديث رفض إلزام دليل الخطاب، وظاهر صلاته صلى الله عليه وسلم على ابن أبي
أن كفره لم يكن يقينا عنده، ومحال أن يصلي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار
201

ووكل سريرته إلى الله عز وجل، وعلى هذا كان ستر المنافقين، وإذا ترتب كما قلنا التخيير
في هذه الآية، صح أن ذلك التخيير هو الذي نسخ بقوله تعالى في " سورة المنافقين: [6] ":
(سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم).
* ت *: والظاهر أن الآيتين بمعنى، فلا نسخ، فتأمله، ولولا الإطالة لأوضحت
ذلك.
قال * ع *: وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الأعداد، فلأنه عدد كثيرا ما
يجيء غاية ومقنعا في الكثرة.
وقوله: (ذلك) إشارة إلى امتناع الغفران.
وقوله عز وجل: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله...) الآية: هذه آية
تتضمن وصف حالهم، على جهة التوبيخ، وفي ضمنها وعيد، وقوله: (المخلفون): لفظ
يقتضي تحقيرهم، وأنهم الذين أبعدهم الله من رضاه / و " مقعد ": بمعنى القعود،
و " خلاف ": معناه: " بعد "، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى * تأهب لأخرى مثلها فكأن قد
يريد: بعد الذي مضى.
وقال الطبري: هو مصدر: خالف يخالف، وقولهم: (لا تنفروا في الحر): كان
هذا القول منهم، لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر وطيب الثمار.
وقوله سبحانه: (فليضحكوا قليلا)، إشارة إلى مدة العمر في الدنيا.
وقوله: (وليبكوا كثيرا)، إشارة إلى تأبيد الخلود في النار، فجاء بلفظ الأمر، ومعناه
الخبر عن حالهم، وتقدير الكلام: ليبكوا كثيرا، إذ هم معذبون، جزاء بما كانوا يكسبون
202

وخرج ابن ماجة بسنده، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يرسل
البكاء على أهل النار، فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى تصير في وجوههم
كهيئة الأخدود لو أرسلت فيها السفن لجرت "، وخرجه ابن المبارك أيضا عن أنس،
قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يا أيها الناس، أبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار
تسيل دموعهم في وجوههم، كأنها جداول حتى تنقطع الدموع، فتسيل الدماء، فتقرح
العيون، فلو أن سفنا أجريت فيها، لجرت "، انتهى من " التذكرة ".
وقوله سبحانه: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم...) الآية: يشبه أن تكون هذه
الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وماتوا وهم فاسقون): نص في موافاتهم على ذلك، ومما يؤيد هذا ما روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم عينهم لحذيفة بن اليمان، وكان الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على
جنازة، تأخروا هم عنها، وروي عن حذيفة، أنه قال يوما: بقي من المنافقين كذا وكذا.
وقوله: (أول) هو بالإضافة إلى وقت الاستئذان، و " الخالفون ": جمع من تخلف
من نساء، وصبيان، وأهل عذر، وتظاهرت الروايات أنه صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله بن أبي
ابن سلول، وأن وقوله: (ولا تصل على أحد منهم) نزلت بعد ذلك، وقد خرج ذلك
البخاري من رواية عمر بن الخطاب. انتهى.
203

وقوله سبحانه: (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم): تقدم تفسير مثل هذه الآية،
والطول في هذه الآية المال، قاله ابن عباس وغيره، والإشارة بهذه الآية إلى الجد بن
قيس ونظرائه، و " القاعدون ": الزمني وأهل العذر في الجملة، و (الخوالف): النساء جمع
خالفة، هذا قول جمهور المفسرين.
وقال أبو جعفر النحاس: يقال للرجل الذي لا خير فيه: خالفة، فهذا جمعه بحسب
اللفظ، والمراد أخسة الناس وأخلافهم، ونحوه عن النضر بن شميل، وقالت فرقة:
الخوالف: جمع خالف، كفارس وفوارس.
(وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون): أي: لا يفهمون، و (الخيرات): جمع
خيرة، وهو المستحسن من كل شئ.
وقوله سبحانه: (أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز
العظيم): (أعد): معناه يسر وهيأ، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (وجاء المعذرون من الأعراب...) الآية: قال ابن عباس وغيره:
هؤلاء كانوا مؤمنين، وكانت أعذارهم صادقة، وأصل اللفظة: " المعتذرون "، فقلبت التاء
ذالا وأدغمت، وقال قتادة، وفرقة معه: بل الذين جاؤوا كفرة، وقولهم وعذرهم كذب.
قال * ص *: والمعنى: تكلفوا العذر، ولا عذر لهم، و (كذبوا الله ورسوله)،
204

أي: في إيمانهم. انتهى.
وقوله: (سيصيب الذين كفروا منهم...) الآية / قوله: (منهم) يؤيد أن
المعذرين كانوا مؤمنين، فتأمله، قال ابن إسحاق: المعذرون: نفر من بني غفار، وهذا
يقتضي أنهم مؤمنون.
وقوله جلت عظمته: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى...) الآية: يقول:
ليس على أهل الأعذار من ضعف بدن أو مرض أو عدم نفقة إثم، والحرج: الإثم.
وقوله: (إذا نصحوا): يريد: بنياتهم وأقوالهم سرا وجهرا، (ما على المحسنين من
سبيل): أي: من لائمة تناط بهم، ثم أكد الرجاء بقوله سبحانه: (والله غفور رحيم)،
وقرأ ابن عباس: " والله لأهل الإساءة غفور رحيم "، وهذا على جهة التفسير أشبه منه
على جهة التلاوة، لخلافه المصحف، واختلف في من المراد بقوله: (الذين لا يجدون ما
ينفقون): فقالت فرقة: نزلت في بني مقرن: ستة إخوة، وليس في الصحابة ستة إخوة
غيرهم، وقيل: كانوا سبعة.
وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو المزني، قاله قتادة، وقيل: في عبد الله بن معقل
المزني. قاله ابن عباس.
وقوله عز وجل: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) هذه الآية نزلت في
البكائين، واختلف في تعيينهم، فقيل: في أبي موسى الأشعري ورهطه، وقيل: في بني
مقرن، وعلى هذا جمهور المفسرين، وقيل: نزلت في سبعة نفر من بطون شتى، فهم
205

البكاؤون، وقال مجاهد: البكاؤون هم بنو مقرن من مزينة، ومعنى قوله: (لتحملهم):
أي: على ظهر يركب، ويحمل عليه الأثاث.
* ت *: وقصة أبي موسى الأشعري ورهطه مذكورة في الصحيح، قال ابن العربي
في " أحكامه ": القول بأن الآية نزلت في أبي موسى وأصحابه هو الصحيح، انتهى.
وقوله سبحانه: (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء...) الآية: هذه الآية
نزلت في المنافقين المتقدم ذكرهم: عبد الله بن أبي، والجد بن قيس، ومعتب، وغيرهم.
وقوله: (إذا رجعتم): يريد: من غزوة تبوك، ومعنى: (لن نؤمن لكم): لن
نصدقكم، والإشارة بقوله: (قد نبأنا الله من أخباركم) إلى قوله: (ما زادوكم إلا خبالا
ولا أوضعوا خلالكم) [التوبة: 47]، ونحوه من الآيات.
وقوله سبحانه: (وسيرى الله عملكم): توعد، والمعنى: فيقع الجزاء عليه، قال
الأستاذ أبو بكر الطرطوشي: أعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، واعمل للآخرة بقدر بقائك
فيها، واستحيي من الله تعالى بقدر قربه منك، وأطعه بقدر حاجتك إليه، وخفه بقدر قدرته
عليك، واعصه بقدر صبرك على النار. انتهى من " سراج الملوك ".
وقوله: (ثم تردون): يريد البعث من القبور.
وقوله عز وجل: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم...) الآية: قيل: إن هذه
206

الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك.
وقوله: (إنهم رجس): أي: نتن وقذر، وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية، ثم
عطف بمحطة الآخرة، فقال: (ومأواهم جهنم)، أي: مسكنهم.
وقوله: (فإن ترضوا....) إلى آخر الآية: شرط يتضمن النهي عن الرضا عنهم،
وحكم هذه الآية يستمر في كل مغموص عليه ببدعة ونحوها.
وقوله سبحانه: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا): هذه الآية نزلت في منافقين كانوا في
البوادي، ولا محالة أن خوفهم هناك كان أقل من خوف منافقي المدينة، فألسنتهم لذلك
مطلقة، ونفاقهم أنجم، و (أجدر): معناه أحرى.
وقال * ص *: معناه / أحق، والحدود هنا: السنن والأحكام.
وقوله سبحانه: (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما...) الآية نص في
المنافقين منهم، و " الدوائر ": المصائب، ويحتمل أن تشتق من دوران الزمان، والمعنى:
ينتظر بكم ما تأتي به الأيام، وتدور به، ثم قال على جهة الدعاء: (عليهم دائرة السوء)،
وكل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل، فإنما هو بمعنى إيجاب الشئ، لأن الله لا
يدعو على مخلوقاته، وهي في قبضته، ومن هذا (ويل لكل همزة لمزة) [الهمزة: 1]،
(ويل للمطففين) [المطففين: 1]، فهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى.
* ت *: وهذه قاعدة جيدة، وما وقع له رحمه الله مما ظاهره مخالف لهذه
القاعدة، وجب تأويله بما ذكره هنا، وقد وقع له ذلك بعد هذا في قوله: (صرف الله
قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) [التوبة: 127]، قال: يحتمل أن يكون دعاء عليهم،
ويحتمل أن يكون خبرا، أي: استوجبوا ذلك، وقد أوضح ذلك عند قوله تعالى: (قتل
أصحاب الأخدود) [البروج: 4]، فانظره هناك.
وقوله سبحانه: (ومن الأعراب من يؤمن بالله) قال قتادة: هذه ثنية الله تعالى من
207

الأعراب، وروي أن هذه الآية نزلت في بني مقرن، وقاله مجاهد (ويتخذ)، في الآيتين
بمعنى: يجعله قصده، والمعنى: ينوي بنفقته ما ذكره الله عنهم، و (صلوات الرسول):
دعاؤه، ففي دعائه خير الدنيا والآخرة، والضمير في قوله: (إنها): يحتمل عوده على
النفقة، ويحتمل عوده على الصلوات، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار...) الآية: قال أبو موسى
الأشعري وغيره: السابقون الأولون من صلى القبلتين، وقال عطاء: هم من شهد بدرا.
وقال الشعبي: من أدرك بيعة الرضوان، (والذين اتبعوهم بإحسان): يريد: سائر
الصحابة، ويدخل في هذا اللفظ: التابعون وسائر الأمة، لكن بشريطة الإحسان، وقرأ
عمر بن الخطاب وجماعة: و " الأنصار " - بالرفع -، عطفا على " والسابقون "، وقرأ ابن
كثير: " من تحتها الأنهار "، وقرأ الباقون: " تحتها "، بإسقاط " من ".
وقوله سبحانه: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على
النفاق): الإشارة ب‍ " من حولكم " إلى جهينة، ومزينة، وأسلم، وغفار، وعصية، ولحيان،
وغيرهم من القبائل المجاورة للمدينة، فأخبر الله سبحانه عن منافقيهم، وتقدير الآية: ومن
أهل المدينة قوم أو منافقون، هذا أحسن ما حمل اللفظ، (ومردوا): قال أبو عبيدة معناه:
208

مرنوا عليه، ولجوا فيه، وقيل غير هذا مما هو قريب منه.
وقال ابن زيد: قاموا عليه، لم يتوبوا، كما تاب الآخرون، والظاهر من اللفظة أن
التمرد في الشئ أو المرود عليه إنما هو اللجاج والاشتهار به، والعتو على الزاجر،
وركوب الرأس في ذلك، وهو مستعمل في الشر لا في الخير، ومنه: شيطان مريد ومارد،
وقال ابن العربي في " أحكامه ": (مردوا على النفاق): أي: استمروا عليه، وتحققوا به.
انتهى، ذكره بعد قوله تعالى: (الذين اتخذوا مسجدا ضررا) [التوبة: 107].
ثم نفى عز وجل علم نبيه لهم على التعيين.
وقوله سبحانه: (سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم): لفظ الآية يقتضي
ثلاث مواطن من العذاب، ولا خلاف بين المتأولين أن العذاب العظيم الذي يردون إليه
هو عذاب الآخرة، وأكثر الناس أن العذاب المتوسط / هو عذاب القبر، واختلف في
عذاب المرة الأولى: فقال ابن عباس: عذابهم بإقامة حدود الشرع عليهم، مع كراهيتهم
فيه.
وقال إسحاق: عذابهم: هو همهم بظهور الإسلام، وعلو كلمته. وقال ابن عباس
أيضا - وهو الأشهر عنه -: عذابهم هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق. وقيل غير هذا.
وقوله عز وجل:
(وآخرون اعترفوا بذنوبهم) الآية. قال ابن عباس، وأبو عثمان: هذه الآية في
209

الأعراب، وهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة. قال أبو عثمان: ما في القرآن آية أرجى
عندي لهذه الأمة منها. وقال مجاهد: بل نزلت هذه الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة
في شأنه مع بني قريظة لما أشار لهم إلى حلقه، ثم ندم وربط نفسه في سارية من سواري
المسجد، وقالت فرقة عظيمة: بل نزلت هذه الآية في شأن المخلفين عن غزوة تبوك.
* ت *: وخرج " البخاري " بسنده عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أتاني الليلة آتيان، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال
شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء. وشطر كأقبح ما أنت راء. قالا لهم: اذهبوا فقعوا في
ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن
صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم
حسن وشطر منهم قبيح خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فتجاوز الله عنهم ". انتهى.
وقوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة...) الآية: روي أن الجماعة التائبة لما
تيب عليها، قالوا: يا رسول الله، إنا نريد أن نتصدق بأموالنا زيادة في توبتنا، فقال
لهم صلى الله عليه وسلم: " إني لا أعرض لأموالكم إلا بأمر من الله "، فتركهم حتى نزلت هذه الآية،
فهم المرا د بها، فروي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثلث أموالهم، مراعاة لقوله تعالى: (من أموالهم)،
210

فهذا هو الذي تظاهرت به أقوال المتأولين، وقالت جماعة من الفقهاء: المراد بهذه الآية
الزكاة المفروضة، وقوله تعالى: (تطهرهم وتزكيهم بها): أحسن ما يحتمل أن تكون هذه
الأفعال مسندة إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: (وصل عليهم): معناه: ادع لهم، فإن في دعائك لهم سكونا
لأنفسهم وطمأنينة ووقارا، فهي عبارة عن صلاح المعتقد، والضمير في قوله: (ألم
يعلموا) قال ابن زيد: يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين، ويحتمل أن يراد به الذين
تابوا، وقوله: (ويأخذ الصدقات) قال الزجاج: معناه: ويقبل الصدقات، وقد جاءت
أحاديث صحاح في معنى الآية، منها حديث أبي هريرة: " إن الصدقة قد تكون قدر اللقمة
يأخذها الله بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل
الجبل "، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد.
وقوله: (عن عباده): هي بمعنى " من ".
211

وقوله سبحانه: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى
عالم الغيب والشهادة...) الآية: هذه الآية صيغتها صيغة أمر مضمنها الوعيد.
وقال الطبري: المراد بها الذين اعتذروا من المتخلفين وتابوا.
قال * ع *: والظاهر أن المراد بها الذين اعتذروا، ولم يتوبوا وهم المتوعدون،
وهم الذي في ضمير (ألم يعلموا)، ومعنى: (فسيرى الله عملكم)، أي: موجودا
معرضا للجزاء عليه بخير أو بشر.
وقال ابن العربي في " أحكامه ": قوله سبحانه: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم
ورسوله) هذه الآية نزلت بعد ذكر المؤمنين، ومعناها: الأمر، أي: اعملوا بما يرضي الله
سبحانه، وأما الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: (قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله
عملكم ورسوله) [التوبة: 94]، فإنها نزلت بعد ذكر المنافقين، ومعناها: التهديد، وذلك
لأن / النفاق موضع ترهيب، والإيمان موضع ترغيب، فقوبل أهل كل محل من الخطاب
بما يليق بهم. انتهى.
وقوله سبحانه: (وآخرون مرجون لأمر الله): عطف على قوله أولا: (وآخرون
اعترفوا): ومعنى الإرجاء: التأخير، والمراد بهذه الآية فيما قال ابن عباس وجماعة: الثلاثة
الذين خلفوا، وهم كعب بن مالك، وصاحباه، على ما سيأتي إن شاء الله، وقيل: إنما
نزلت في غيرهم من المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار، وعلى
هذا: يكون (الذين اتخذوا) بإسقاط واو العطف بدلا من (آخرون)، أو خبر مبتدأ،
تقديره: هم الذين، وقرأ عاصم وعوام القراء، والناس في كل قطر إلا ب‍ " المدينة ":
212

(والذين اتخذوا)، وقرأ أهل المدينة، نافع وغيره الذين اتخذوا - بإسقاط الواو -، على أنه
مبتدأ، والخبر: (لا يزال بنيانهم) وأما الجماعة المرادة ب‍ (الذين اتخذوا مسجدا)، فهم
منافقو بني غنيم بن عوف، وبني سالم بن عوف، وأسند الطبري، عن ابن إسحاق، عن
الزهري وغيره، أنه قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، حتى نزل بذي أوان - بلد بينه وبين
المدينة ساعة من نهار - وكان أصحاب مسجد الضرار، قد أتوه صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك،
فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدا، لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب
أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: " إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله
أتيناكم، فصلينا لكم فيه "، فلما قفل، ونزل بذي أوان، نزل عليه القرآن في شأن مسجد
الضرار، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشن ومعن بن عدي، أو أخاه عاصم بن
عدي، فقال: " انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه، وحرقاه " فانطلقا مسرعين
ففعلا وحرقاه، وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمه وتحريقه عمار بن ياسر ووحشيا
مولى المطعم بن عدي، وكان بانوه اثني عشر رجلا، منهم ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن
قشير، ونبتل بن الحارث وغيرهم، وروي أنه لما بني صلى الله عليه وسلم مسجدا في بني عمرو بن عوف
وقت الهجرة، وهو مسجد " قباء " وتشرف القوم بذلك، حسدهم حينئذ رجال من بني عمهم
من بني غنم بن عوف، وبنى سالم بن عوف، وكان فيهم نفاق، وكان موضع مسجد " قباء "
مربطا لحمار امرأة من الأنصار، اسمها: لية، فكان المنافقون يقولون: والله لا نصبر على
الصلاة في مربط حمار لية، ونحو هذا من الأقوال، وكان أبو عامر المعروف بالراهب
منهم، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، وكان سيدا من نظراء عبد الله بن أبي ابن سلول،
فلما جاء الله بالإسلام، نافق، ولم يزل مجاهرا بذلك، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، ثم
خرج في جماعة من المنافقين، فخرب على النبي صلى الله عليه وسلم الأحزاب، فلما ردهم الله بغيظهم،
أقام أبو عامر ب‍ " مكة " مظهرا لعداوته، فلما فتح الله " مكة "، هرب إلى " الطائف "، فلما
أسلم أهل الطائف، خرج هاربا إلى الشام، يريد قيصر مستنصرا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكتب إلى المنافقين من قومه أن ابنوا مسجدا، مقاومة لمسجد " قباء "، وتحقيرا له، فإني
سآتي بجيش من الروم، أخرج به محمدا، وأصحابه من " المدينة "، فبنوه وقالوا: سيأتي أبو
عامر ويصلي فيه، فذلك قوله: (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله) يعني: أبا عامر،
وقولهم: سيأتي أبو عامر، وقوله: (ضرارا) أي: داعية للتضارر من / جماعتين.
213

وقوله: (تفريقا بين المؤمنين): يريد: تفريقا بين الجماعة التي كانت تصلي في
مسجد " قباء "، فإن من جاور مسجدهم كانوا يصرفونه إليه، وذلك داعية إلى صرفه عن
الإيمان، وقيل: أراد بقوله: (بين المؤمنين) جماعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي: أن
مسجد الضرار، لما هدم وأحرق، اتخذ مزبلة ترمى فيه الأقذار والقمامات، وروي: أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت: (لا تقم فيه أبدا) كان لا يمر بالطريق التي هو فيها.
وقوله: (لمسجد): قيل: إن اللام لام قسم، وقيل: هي لام ابتداء، كما تقول:
لزيد أحسن الناس فعلا وهي مقتضية تأكيدا، وذهب ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين
إلى أن المراد ب‍ " مسجد أسس على التقوى ": مسجد " قباء " وروي عن ابن عمر وأبى
سعيد وزيد بن ثابت، أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويليق القول الأول بالقصة إلا أن القول الثاني
مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نظر مع الحديث، قال ابن العربي في " أحكامه ": وقد روى ابن
وهب وأشهب، عن مالك، أن المراد ب‍ " مسجد أسس على التقوى ": مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
حيث قال الله تبارك وتعالى: (وتركوك قائما) [الجمعة: 11] وكذلك روى عنه ابن
القاسم، وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: تمارى رجلان في المسجد الذي
أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد " قباء "، وقال الآخر: هو مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو مسجدي هذا ". قال أبو عيسى: هذا حديث
صحيح، وخرجه مسلم انتهى.
ومعنى: (أن تقوم فيه): أي: بصلاتك وعبادتك.
214

وقوله: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) اختلف في الضمير أيضا، هل يعود على
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو على مسجد " قباء "؟ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا معشر الأنصار، إني
رأيت الله أثنى عليكم بالطهور، فماذا تفعلون؟ " قالوا: يا رسول الله، إنا رأينا جيراننا من
اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء، ففعلنا نحن ذلك، فلما جاء الإسلام، لم ندعه،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلا تدعوه إذن ".
والبنيان الذي أسس على شفا جرف: هو مسجد الضرار، بإجماع، و " الشفا ":
الحاشية والشفير، و (هار): معناه متهدم بال، وهو من: هار يهور، البخاري: هار هائر
تهورت البئر، إذا تهدمت وانهارت مثله. انتهى.
وتأسيس البناء على تقوى، إنما هو بحسن النية فيه وقصد وجه الله تعالى، وإظهار
شرعه، كما صنع في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مسجد " قباء "، والتأسيس على شفا جرف هار
إنما هو بفساد النية وقصد الرياء، والتفريق بين المؤمنين، فهذه تشبيهات صحيحة بارعة.
وقوله سبحانه: (فانهار به في نار جهنم): الظاهر منه أنه خارج مخرج المثل،
وقيل: بل ذلك حقيقة، وأن ذلك المسجد بعينه أنهار في نار جهنم، قاله قتادة وابن
جريج، وروي عن جابر بن عبد الله وغيره، أنه قال: رأيت الدخان يخرج منه على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي في بعض الكتب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه حين أنهار بلغ الأرض
السابعة، ففزع لذلك صلى الله عليه وسلم، وروي أنهم لم يصلوا فيه أكثر من ثلاثة / أيام، وهذا كله بإسناد
لين، والله أعلم، وأسند الطبري عن خلف بن ياسين، أنه قال: رأيت مسجد المنافقين
الذي ذكره الله في القرآن، فرأيت فيه مكانا يخرج منه الدخان وذلك في زمن أبي جعفر
المنصور، وروي شبيه بهذا أو نحوه عن ابن جريج: أسنده الطبري.
215

قال ابن العربي في " أحكامه " وفي قوله تعالى: (فانهار به في نار جهنم)، مع
قوله: (فأمه هاوية) [القارعة: 9] إشارة إلى أن النار تحت، كما أن الجنة فوق. انتهى.
والريبة: الشك، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد، ومعنى الريبة، في هذه الآية: أمر
يعم الغيظ والحنق، ويعم اعتقاد صواب فعلهم ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الارتياب في
الإسلام، فمقصود الكلام: لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم، يبقي في قلوبهم حزازة وأثر
سوء، وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا.
وبالجملة إن الريبة هنا تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق.
وقوله: (إلا أن تقطع قلوبهم " - بضم التاء - يعني: بالموت، قاله ابن عباس وغيره
وفي مصحف أبي: " حتى الممات "، وفيه: " حتى تقطع ".
وقوله عز وجل: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم
الجنة...) الآية: هذه الآية نزلت في البيعة الثالثة، وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي
أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وذلك أنهم اجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة،
فقالوا: اشترط لك، ولربك، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة فاشترط نبي الله
216

حمايته مما يحمون منه أنفسهم، واشترط لربه التزام الشريعة، وقتال الأحمر والأسود في
الدفع عن الحوزة، فقالوا: ما لنا على ذلك، يا نبي الله؟ فقال: الجنة، فقالوا: نعم، ربح
البيع، لا تقيل ولا تقال، وفي بعض الروايات: " ولا نستقيل " فنزلت الآية في ذلك.
وهكذا نقله ابن العربي في " أحكامه "، عن عبد اله بن رواحة، ثم ذكر من طريق
الشعبي، عن أبي أمامة أسعد بن زرارة نحو كلام ابن رواحة.
قال ابن العربي: وهذا وإن كان سنده مقطوعا، فإن معناه ثابت من طرق. انتهى.
ثم الآية بعد ذلك عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى
يوم القيامة، قال بعض العلماء: ما من مسلم إلا ولله في عنقه هذه البيعة، وفى بها أو لم
يف، وفي الحديث: " إن فوق كل بر برا حتى يبذل العبد دمه، فإذا فعل، فلا بر فوق
ذلك ". وأسند الطبري عن كثير من أهل العلم، أنهم قالوا: ثامن الله تعالى في هذه الآية
عبادة، فأغلى لهم، وقاله ابن عباس وغيره، وهذا تأويل الجمهور.
وقال ابن عيينة: معنى الآية: اشترى منهم أنفسهم ألا يعملوها إلا في طاعته،
وأموالهم ألا ينفقوها إلا في سبيله، فالآية على هذا: أعم من القتل في سبيل الله.
وقوله: (يقاتلون في سبيل الله) على تأويل ابن عيينة: مقطوع، ومستأنف، وأما
على تأويل الجمهور من أن الشراء والبيع إنما هو مع المجاهدين، فهو في موضع الحال.
وقوله سبحانه: (وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن): قال المفسرون:
يظهر من قوله: (في التوراة والإنجيل والقرآن) أن كل أمة أمرت بالجهاد، ووعدت عليه.
قال * ع *: ويحتمل أن ميعاد أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تقدم ذكره في هذه الكتب،
والله أعلم.
217

قال * ص *: وقوله: (فاستبشروا): ليس للطلب، بل بمعنى: أبشروا، كاستوقد،
قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه المسمى ب‍ " بهجة المجالس ": وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " من وعده الله على عمل ثوابا، فهو منجز له ما وعده، ومن أوعده على عمل عقابا،
فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له ". وعن ابن عباس مثله. انتهى. وباقي الآية بين.
قال الفخر: واعلم أن هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيدات:
فأولها: قوله سبحانه: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم)، فكون
المشتري هو الله المقدس عن الكذب والحيلة من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد.
والثاني: أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد.
وثالثها: قوله: (وعدا)، ووعد الله حق.
ورابعها: قوله: (عليه)، وكلمة " على " للوجوب.
وخامسها: قوله: (حقا)، وهو تأكيد للتحقيق.
وسادسها: قوله: (في التوراة والإنجيل والقرآن)، وذلك يجري مجرى إشهاد جميع
الكتب الإلهية، وجميع الأنبياء والمرسلين على هذه المبايعة.
وسابعها: قوله: (ومن أوفى بعهده من الله)، وهو غاية التأكيد.
وثامنها: قوله: (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به)، وهو أيضا مبالغة في التأكيد.
وتاسعها: قوله: (وذلك هو الفوز).
وعاشرها: قوله: (العظيم).
فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق.
انتهى.
وقوله عز وجل: (التائبون العابدون)، إلى قوله: (وبشر المؤمنين)، هذه
الأوصاف هي من صفات المؤمنين الذين ذكر الله أنه اشتري منهم أنفسهم وأموالهم، ومعنى
الآية، على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع: أنها أوصاف الكملة من المؤمنين، ذكرها
سبحانه، ليستبق إليها أهل التوحيد، حتى يكونوا في أعلى رتبة، والآية الأولى مستقلة
218

بنفسها، يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله، لتكون كلمة الله هي العليا،
وإن لم يتصف بهذه الصفات التي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها، وقالت فرقة: بل هذه
الصفات جاءت على جهة الشرط، والآيتان مرتبطتان، فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون
الذين هم على هذه الأوصاف، وهذا تحريج وتضييق، والأول أصوب، والله أعلم.
والشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد، وقد روي أن الله عز وجل يحمل على
الشهيد مظالم العباد، ويجازيهم عنه، ختم الله لنا بالحسنى.
(والسائحون): معناه: الصائمون، وروي عن عائشة، أنها قالت: سياحة هذه الأمة
الصيام، أسنده الطبري، وروي أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الفخر: ولما كان أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض، سمي
الصائم سائحا، لاستمراره على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من المفطرات.
قال الفخر: وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب
والوقاع، وسد على نفسه باب الشهوات، انفتحت له أبواب الحكمة وتجلت له أنوار عالم
الجلال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " من أخلص لله أربعين صباحا، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه
على لسانه فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام، ومن
219

درجة إلى درجة ". انتهى.
قال * ع *: وقال بعض الناس، وهو في كتاب النقاش: (السائحون): هم
الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته وهذا قول حسن، وهو من أفضل العبادات،
و (الراكعون الساجدون): هم المصلون الصلوات، كذا قال أهل العلم، ولكن لا يختلف
في أن من يكثر النوافل هو أدخل في الاسم، وأعرق في الاتصاف.
وقوله: (والحافظون لحدود الله) لفظ عام تحته / التزام الشريعة.
* ت *: قال البخاري: قال ابن عباس: الحدود: الطاعة.
قال ابن العربي في " أحكامه "، وقوله: (والحافظون لحدود الله) خاتمة البيان،
وعموم الاشتمال لكل أمر ونهي. انتهى.
220

وقوله سبحانه: (وبشر المؤمنين): قيل: هو لفظ عام، أمر صلى الله عليه وسلم أن يبشر أمته جميعا
بالخير من الله، وقيل: بل هذه الألفاظ خاصة لمن لم يغز، أي: لما تقدم في الآية وعد
المجاهدين وفضلهم، أمر صلى الله عليه وسلم، أن يبشر سائر المؤمنين ممن لم يغز بأن الإيمان مخلص من
النار، والحمد لله رب العالمين.
وقوله سبحانه: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين...) الآية:
جمهور المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن أبي طالب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل
عليه حين احتضر، فوعظه، وقال: " أي عم، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند
الله "، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقالا له: يا أبا طالب، أترغب عن
ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب: يا محمد، والله، لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من
بعدي، لأقررت بها عينك، ثم قال: هو على ملة عبد المطلب، ومات على ذلك، إذ لم
يسمع منه صلى الله عليه وسلم ما قال العباس، فنزلت (إنك لا تهدي من أحببت) [القصص: 56] فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله، لأستغفرن لك ما لم أنه عنك "، فكان يستغفر له حتى نزلت هذه
الآية، فترك نبي الله الاستغفار لأبي طالب، وروي أن المؤمنين لما رأوا نبي الله يستغفر
لأبي طالب، جعلوا يستغفرون لموتاهم، فلذلك دخلوا في النهي، والآية على هذا ناسخة
221

لفعله صلى الله عليه وسلم، إذ أفعاله في حكم الشرع المستقر، وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: إنما
نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا: نستغفر لموتانا، كما استغفر إبراهيم عليه
السلام، فنزلت الآية في ذلك، وقوله سبحانه: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه...)
الآية: المعنى: لا حجة أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم عليه السلام، فإن ذلك لم يكن
إلا عن موعدة، واختلف في ذلك، فقيل: عن موعدة من إبراهيم، وذلك قوله: (سأستغفر
لك ربي إنه كان بي حفيا) [مريم: 47] وقيل: عن موعدة من أبيه له في أنه سيؤمن،
فقوي طمعه، فحمله ذلك على الاستغفار له، حتى نهي عنه، وموعدة من الوعد، وأما تبينه
أنه عدو لله، قيل: ذلك بموت آزر على الكفر، وقيل: ذلك بأنه نهي عنه، وهو حي،
وقوله سبحانه: (إن إبراهيم لأواه حليم) ثناء من الله تعالى على إبراهيم، و " الأواه " معناه
الخائف الذي يكثر التأوه من خوف الله عز وجل، والتأوه: التوجع الذي يكثر حتى ينطق
الإنسان معه ب‍ " أوه "، ومن هذا المعنى قول المثقب العبدي: [الوافر]
إذا ما قمت أرحلها بليل * تأوه أهة ولا الرجل الحزين
ويروي: أهة.
وروي أن إبراهيم عليه السلام كان يسمع وجيب قلبه من الخشية، كما تسمع
أجنحة النسور، وللمفسرين في " الأواه " عبارات كلها ترجع إلى ما ذكرته.
* ت *: روى ابن المبارك في " رقائقه "، قال: أخبرنا عبد الحميد بن بهرام، قال:
حدثنا شهر بن حوشب، قال: حدثني عبد الله بن شداد، قال: قال رجل: يا رسول الله،
ما الأواه؟ قال: " الأواه الخاشع الدعاء المتضرع، قال الله سبحانه: (إن إبراهيم لأواه
حليم) " انتهى.
و (حليم) معناه: صابر، محتمل، عظيم العقل، والحلم: العقل. وقوله سبحانه:
(وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم...) الآية: معناه التأنيس للمؤمنين، وقيل: إن
222

بعضهم خاف على نفسه من الاستغفار للمشركين، فنزلت الآية مؤنسة، أي: ما كان الله
بعد / أن هدى إلى الإسلام، وأنقذ من النار ليحبط ذلك، ويضل أهله، لمواقعتهم ذنبا لم
يتقدم من الله عنه نهي، فأما إذا بين لهم ما يتقون من الأمور، ويتجنبون من الأشياء،
فحينئذ من واقع شيئا من ذلك بعد النهي، استوجب العقوبة، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار...) الآية: التوبة
من الله تعالى هو رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها، فقد تكون من الأكثر رجوعا من
حالة طاعة إلى أكمل منها، وهذه توبته سبحانه في هذه الآية على نبيه عليه السلام، وأما
توبته على المهاجرين والأنصار، فمعرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو
ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق الذي كاد يزيغ، فرجوع من حالة محطوطة إلى حال
غفران ورضا، وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله: في هذه الآية ذكر الله سبحانه
توبة من لم يذنب لئلا يستوحش من أذنب، لأنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ولم
يذنبوا، ثم قال: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا)، فذكر من لم يذنب ليونس من قد أذنب،
انتهى من " لطائف المنن ".
و (ساعة العسرة) يريد: وقت العسرة، والعسرة الشدة، وضيق الحال، والعدم،
وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: " من جهز جيش العسرة، فله الجنة "، فجهزه
عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل، وألف دينار، وجاء أيضا رجل من الأنصار
بسبعمائة وسق من تمر، وهذه غزوة تبوك.
* ت *: وعن ابن عباس، أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة
العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى
ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي
223

على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله،
فقال: " أتحب ذلك؟ " قال: نعم فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى مالت السماء، فأظلت،
ثم سكبت فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر، رواه الحاكم في
" مستدركه على الصحيحين "، وقال: صحيح على شرط الشيخين، يعني: مسلما
والبخاري انتهى في " السلاح "، ووصل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك إلى أوائل بلد العدو
فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما على الجزية ونحوها، وانصرف، والزيغ المذكور هو ما
همت به طائفة من الانصراف، لما لقوا من المشقة والعسرة. قاله الحسن.
وقيل: زيغها إنما كان بظنون لها ساءت في معنى عزم النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الغزوة،
لما رأته من شدة الحال وقوة العدو والمقصود، ثم أخبر عز وجل، أنه تاب أيضا على هذا
الفريق، وراجع به، وآنس بإعلامه للأمة بأنه رؤوف رحيم، والثلاثة الذين خلفوا هم
كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري، وقد خرج حديثهم
بكماله البخاري ومسلم، وهو في السير، فلذلك اختصرنا سوقه، وهم الذين تقدم فيهم:
(وآخرون مرجون لأمر الله) [التوبة: 106]، ومعنى (خلفوا) أخروا، وترك النظر في
أمرهم، قال كعب: وليس بتخلفنا عن الغزو، وهو بين من لفظ الآية.
وقوله: (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه)، (ظنوا)، هنا بمعنى: أيقنوا، قال
224

الشيخ ابن أبي جمرة رحمه الله: قال بعض أهل التوفيق: إذا نزلت بي نازلة ما من أي نوع
كانت، فألهمت فيها اللجأ، فلا أبالي بها، / واللجأ على وجوه، منها: الاشتغال بالذكر
والتعبد وتفويض الأمر له عز وجل، لقوله تعالى على لسان نبيه: " من شغله ذكرى عن
مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين "، ومنها: الصدقة، ومنها: الدعاء، فكيف
بالمجموع. انتهى.
وقوله سبحانه: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) لما كان هذا القول في تعديد النعم، بدأ في
ترتيبه بالجهة التي هي عن الله عز وجل، ليكون ذلك منها على تلقي النعمة من عنده لا
رب غيره، ولو كان هذا القول في تعديد ذنب، لكان الابتداء بالجهة التي هي على
المذنب، كما قال عز وجل: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) [الصف: 5] ليكون ذلك أشد
تقريرا للذنب عليهم، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه.
وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا في
الكتب المذكورة، فانظره، وإنما عظم ذنبهم، واستحقوا عليه ذلك، لأن الشرع يطلبهم من
الجد فيه بحسب منازلهم منه، وتقدمهم فيه، إذ هم أسوة وحجة للمنافقين، والطاعنين، إذ
كان كعب من أهل العقبة، وصاحباه من أهل بدر، وفي هذا ما يقتضي أن الرجل العالم
والمقتدى به أقل عذرا في السقوط من سواه، وكتب الأوزاعي رحمه الله إلى أبي جعفر
المنصور في آخر رسالة: واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا
عظما، ولا طاعته إلا وجوبا، ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارا، والسلام.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) هذا الأمر بالكون
مع الصادقين حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق، وذهب بهم عن منازل المنافقين،
225

وكان ابن مسعود يتأول الآية في صدق الحديث، وإليه نحا كعب بن مالك.
وقوله سبحانه: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن
رسول الله...) الآية، هذه الآية معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة
لها، على التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، وقوة الكلام تعطي الأمر بصحبته أين ما توجه
غازيا وبذل النفوس دونه، و " المخمصة " مفعلة من خموص البطن، وهو ضموره واستعير
ذلك لحالة الجوع، إذ الخموص ملازم له، ومن ذلك قول الأعشى: [الطويل]
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم * وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وقوله: (ولا ينالون من عدو نيلا): لفظ عام لقليل ما يصنعه المؤمنون بالكفرة - من
أخذ مال، أو إيراد هوان - وكثيره و (نيلا): مصدر نال ينال، وفي الحديث: " ما ازداد قوم
من أهليهم في سبيل الله بعدا إلا ازدادوا من الله قربا ".
* ت *: وروى أبو داود في " سننه "، عن أبي مالك الأشعري، قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من فصل في سبيل الله، فمات أو قتل، فهو شهيد، أو وقصه
فرسه أو بعيره أو لدغته هامة، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد، وإن له
الجنة "، انتهى.
قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله عز وجل: (ولا يقطعون واديا إلا كتب
لهم): يعني إلا كتب لهم ثوابه، وكذلك قال في المجاهد: " إن أرواث دوابه وأبوالها
حسنات له " وكذلك أعطى سبحانه لأهل العذر من الأجر ما أعطى للقوي العامل بفضله،
226

ففي الصحيح، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الغزوة بعينها: " إن بالمدينة قوما ما سلكتم واديا
ولا قطعتم شعبا إلا وهم معكم حبسهم العذر " انتهى.
وقوله سبحانه: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة...) الآية: قالت فرقة: إن
المؤمنين الذين / كانوا بالبادية سكانا ومبعوثين لتعليم الشرع، لما سمعوا قول الله عز
وجل: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب...) الآية [التوبة: 120]،
أهمهم ذلك، فنفروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، خشية أن يكونوا عصاة في التخلف عن الغزو، فنزلت
هذه الآية في نفرهم ذلك.
وقالت فرقة: سبب هذه الآية أن المنافقين، لما نزلت الآيات في المتخلفين، قالوا:
هلك أهل البوادي، فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي.
قال * ع *: فيجئ قوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب):
عموم في اللفظ، والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر، وتجئ هذه الآية مبينة لذلك.
وقالت فرقة: هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال، وقال ابن
عباس ما معناه: أن هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع
خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، وقالت فرقة: يشبه أن يكون التفقه في الغزو وفي
227

السرايا، لما يرون من نصرة الله لدينه، وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من
الكافرين، وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته.
قال * ع *: والجمهور على أن التفقه إنما هو بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته،
وقيل غير هذا.
* ت *: وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا
استنفرتم فانفروا "، وقد استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في غزوة تبوك، وأعلن بها حسب
228

ما هو مصرح به في حديث كعب بن مالك في " الصحاح "، فكان العتب متوجها على من
229

تأخر عنه بعد العلم، فيظهر والله أعلم، أن الآية الأولى باق حكمها، كما قال ابن عباس،
وتكون الثانية ليست في معنى الغزو، بل في شأن التفقه في الدين على الإطلاق وهذا هو
الذي يفهم من استدلالهم بالآية على فضل العلم، وقد قالت فرقة: إن هذه الآية ليست في
معنى الغزو، وإنما سببها قبائل من العرب أصابتهم مجاعة، فنفروا إلى المدينة لمعنى
المعاش، فكادوا يفسدونها، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان، وإنما أضرعه الجوع،
فنزلت الآية في ذلك، والإنذار في الآية عام للكفر والمعاصي، والحذر منها أيضا، كذلك
قال ابن المبارك في " رقائقه " أخبرنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال
إذا أراد الله تبارك وتعالى بعبد خيرا، جعل فيه ثلاث خصال: فقها في الدين، وزهادة في
الدنيا، وبصره بعيوبه. انتهى.
وقوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) قيل: إن هذه الآية
نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة، فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام.
قال * ع *: وهذا ضعيف فإن هذه السورة من آخر ما نزل.
وقالت فرقة: معنى الآية أن الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق
منهم الجنس الذي يليه من الكفرة.
وقوله سبحانه: (وليجدوا فيكم غلظة): أي: خشونة وبأسا، ثم وعد سبحانه في
آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا، وبها يلقى العدو، وقد قال
230

بعض الصحابة: إنما تقاتلون الناس بأعمالكم، ووعد سبحانه أنه مع المتقين، ومن كان الله
معه، فلن يغلب.
وقوله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا...)
الآية: هذه الآية نزلت في شأن المنافقين، وقولهم: (أيكم زادته هذه إيمانا) يحتمل أن
يكون لمنافقين مثلهم، أو لقوم من قراباتهم، على جهة الاستخفاف والتحقير لشأن السورة،
ثم ابتدأ عز وجل الرد عليهم بقوله: (فأما / الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) وذلك أنه إذا نزلت
سورة، حدث للمؤمنين بها تصديق خاص، لم يكن قبل، فتصديقهم بما تضمنته السورة من
أخبار وأمر ونهي أمر زائد على الذي كان عندهم قبل، وهذا وجه من زيادة الإيمان.
ووجه آخر، أن السورة ربما تضمنت دليلا أو تنبيها على دليل، فيكون المؤمن قد
عرف الله بعدة أدلة، فإذا نزلت السورة، زادت في أدلته، ووجه آخر من وجوه الزيادة أن
الإنسان ربما عرضه شك يسير، أو لاحت له شبهة مشغبة، فإذا نزلت السورة، ارتفعت تلك
الشبهة، وقوي إيمانه وارتقى اعتقاده عن معارضة الشبهات، و (الذين في قلوبهم مرض):
هم المنافقون، و " الرجس "، في اللغة: يجيء بمعنى القذر، ويجيء بمعنى العذاب، وحال
هؤلاء المنافقين هي قذر، وهي عذاب عاجل، كفيل بآجل، وإذا تجدد كفرهم بسورة، فقد
زاد كفرهم، فذلك زيادة رجس إلى رجسهم.
وقوله سبحانه: (أو لا يرون) يعني: المنافقين، وقرأ حمزة: " أو لا ترون " - بالتاء من
فوق -، على معنى: أو لا ترون أيها المؤمنون، (أنهم يفتنون)، أي: يختبرون، وقرأ
مجاهد: " مرضة أو مرضتين "، والذي يظهر مما قبل الآية، ومما بعدها أن الفتنة والاختبار
إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم، إذ يعلمون أن ذلك من عند الله، وبهذا
تقوم الحجة عليهم وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين.
وقوله سبحانه: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم المعنى: وإذا ما أنزلت سورة
فيها فضيحة أسرار المنافقين، (نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد أي: هل
معكم من ينقل عنكم هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم ثم (انصرفوا) عن طريق
الاهتداء، وذلك أنهم وقت كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم، يقع لهم لا محالة
تعجب وتوقف ونظر فلو أريد بهم خير، لكان ذلك الوقت مظنة الاهتداء، وقد تقدم بيان
قوله (صرف الله قلوبهم).
231

وقوله عز وجل: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم...) الآية مخاطبة للعرب في
قول الجمهور، وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم، إذ جاءهم بلسانهم، وبما يفهمونه من
الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الدهر.
وقوله: (من أنفسكم): يقتضي مدحا لنسبه صلى الله عليه وسلم، وأنه من صميم العرب، وشرفها،
وقرأ عبد الله بن قسيط المكي: " من أنفسكم " - بفتح الفاء -، من النفاسة، ورويت عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (ما عنتم): معناه عنتكم، ف‍ " ما " مصدرية، والعنت: المشقة، وهي
هنا لفظة عامة، أي: عزيز عليه ما شق عليكم: من قتل وإسار وامتحان، بحسب الحق
واعتقادكم أيضا معه، (حريص عليكم) أي: على إيمانكم وهداكم.
وقوله: (بالمؤمنين رؤوف) أي: مبالغ في الشفقة عليهم، قال أبو عبيدة: الرأفة أرق
الرحمة.
ثم خاطب سبحانه نبيه بقوله: (فإن تولوا)، أي: أعرضوا، (فقل حسبي الله لا إله
إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم): هذه الآية من آخر ما نزل، وصلى الله على
سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم.
232

تفسير سورة يونس
بعضها نزل بمكة، وبعضها بالمدينة
قوله عز وجل: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) المراد ب‍ (الكتاب): القرآن،
و (الحكيم): بمعنى محكم، ويمكن أن يكون: " حكيم " بمعنى ذي حكمة، فهو على
النسب.
وقوله عز وجل: (أكان للناس عجبا...) الآية: قال ابن عباس وغيره: سبب هذه
الآية استبعاد قريش أن يبعث الله بشرا رسولا، والقدم هنا ما قدم، واختلف في المراد
بها ههنا، فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم: هي الأعمال الصالحات من
العبادات. وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن
عباس أيضا وغيره: هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ، وهذا أليق الأقوال
233

بالآية، ومن هذه اللفظة قول حسان رضي الله عنه: [الطويل]
لنا القدم العليا إليك وخلفنا * لأولنا في طاعة الله تابع
ومن هذه اللفظة قوله صلى الله عليه وسلم: " حتى يضع الجبار فيها قدمه " أي ما قدم لها، هذا على
أن الجبار اسم الله تعالى، و " الصدق " هنا بمعنى الصلاح، وقال البخاري: قال زيد بن
أسلم: (قدم صدق) محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقولهم: (إن هذا لسحر مبين): إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم، وحال بين
القريب وقريبه، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر في ظنهم القاصر، فسموه ساحرا.
وقوله سبحانه: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام...)
الآية: هذا ابتداء دعاء إلى عبادة الله عز وجل وتوحيده، وذكر بعض الناس أن الحكمة في
خلق الله تعالى هذه الأشياء في مدة محدودة ممتدة، وفي القدرة أن يقول لها: كن،
فتكون، إنما هي ليعلم عباده التؤدة والتماهل في الأمور، قال * ع *: وهذا مما لا
يوصل إلى تعليله، وعلى هذا هي الأجنة في البطون، وخلق الثمار، وغير ذلك، والله عز
وجل قد جعل لكل شئ قدرا، وهو أعلم بوجه الحكمة في ذلك.
234

وقوله سبحانه: (يدبر الأمر) يصح أن يريد بالأمر اسم الجنس من الأمور، ويصح
أن يريد الأمر الذي هو مصدر أمر يأمر، وتدبيره لا إله إلا هو إنما هو الإنفاذ، لأنه قد
أحاط بكل شئ علما، قال مجاهد: (يدبر الأمر): معناه: يقضيه وحده.
وقوله سبحانه: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه)، رد على العرب في اعتقادها، أن
الأصنام تشفع لها عند الله.
ذلكم الله) أي: الذي هذه صفاته فاعبدوه، ثم قررهم على هذه الآيات والعبر،
فقال: (أفلا تذكرون).
وقوله: (إليه مرجعكم جميعا...) الآية إنباء بالبعث.
وقوله: (يبدأ الخلق) يريد: النشأة الأولى، الإعادة: هي البعث من القبور.
(ليجزي): هي لام كي، والمعنى: أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال.
وقوله: (بالقسط): أي: بالعدل.
وقوله: (الذين كفروا): ابتداء، والحميم الحار المسخن، وحميم النار فيما ذكر عن
النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أدناه الكافر من فيه، تساقطت فروة رأسه " وهو كما وصفه سبحانه:
(يشوي الوجوه) [الكهف: 29].
235

وقوله سبحانه: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا...) الآية: هذا
استمرار على وصف / آياته سبحانه، والتنبيه على صنعته الدالة على وحدانيته، وعظيم
قدرته.
وقوله: (قدره منازل): يحتمل أن يعود الضمير على " القمر " وحده، لأنه المراعى
في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب، ويحتمل أن يريد الشمس والقمر معا، لكنه
اجتزأ بذكر أحدهما، كما قال: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) [التوبة: 62].
وقوله: (لتعلموا عدد السنين والحساب) أي: رفقا بكم، ورفعا للالتباس في
معايشكم وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ.
وقوله: (لقوم يعلمون): إنما خصهم، لأن نفع هذا فيهم ظهر.
وقوله سبحانه: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات
والأرض...) الآية: آية اعتبار وتنبيه، والآيات: العلامات، وخصص القوم المتقين،
تشريفا لهم، إذ الاعتبار فيهم يقع، ونسبتهم إلى هذه الأشياء المنظور فيها أفضل من نسبة
من لم يهتد ولا اتقى.
وقوله سبحانه: (إن الذين لا يرجون لقاءنا...) الآية: قال أبو عبيدة وغيره:
(يرجون)، في هذه الآية: بمعنى يخافون، واحتجوا ببيت أبي ذؤيب: [الطويل]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وحالفها في بيت نوب عوامل
وقال ابن سيدة والفراء: لفظة الرجاء، إذا جاءت منفية، فإنها تكون بمعنى الخوف،
فعلى هذا التأويل معنى الآية: إن الذين لا يخافون لقاءنا، وقال بعض أهل العلم: الرجاء،
في هذه الآية: على بابه، وذلك أن الكافر المكذب بالبعث لا يحسن ظنا بأنه يلقى الله،
ولا له في الآخرة أمل، إذ لو كان له فيها أمل، لقارنه لا محالة خوف، وهذه الحال من
الخوف المقارن هي القائدة إلى النجاة.
قال * ع *: والذي أقول به: إن الرجاء في كل موضع هو على بابه، وأن بيت
236

الهذلي معناه: لم يرج فقد لسعها، قال ابن زيد: هذه الآية في الكفار.
وقوله سبحانه: (ورضوا بالحياة الدنيا): يريد: كانت منتهى غرضهم، وقال قتادة
في تفسير هذه الآية: إذا شئت رأيت هذا الموصوف صاحب دنيا، لها يغضب، ولها
يرضى، ولها يفرح، ولها يهتم ويحزن، فكأن قتادة صورها في العصاة، ولا يترتب ذلك
إلا مع تأول الرجاء على بابه، لأن المؤمن العاصي مستوحش من آخرته، فأما على التأويل
الأول، فمن لا يخاف الله، فهو كافر.
وقوله: (واطمأنوا بها): تكميل في معنى القناعة بها، والرفض لغيرها.
وقوله: (والذين هم عن آياتنا غافلون): يحتمل أن يكون ابتداء إشارة إلى فرقة
أخرى، ثم عقب سبحانه بذكر الفرقة الناجية، فقال: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
يهديهم ربهم...) الآية، الهداية في هذه الآية تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يريد أنه يديمهم ويثبتهم.
الثاني: أن يريد أنه يرشدهم إلى طريق الجنان في الآخرة.
وقوله: بإيمانهم) يحتمل أن يريد: بسبب إيمانهم، ويحتمل أن يكون الإيمان هو
نفس الهدى، أي: يهديهم إلى طريق الجنة بنور إيمانهم. قال مجاهد: يكون لهم إيمانهم
نورا يمشون به، ويتركب هذا التأويل، على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن العبد المؤمن، إذا
قام من قبره للحشر تمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا
عملك الصالح فيقوده إلى الجنة، وبعكس هذا في الكافر، ونحو هذا ما أسنده الطبري
وغيره.
وقوله سبحانه: (دعواهم): أي: دعاؤهم فيها و (سبحانك اللهم): تقديس وتسبيح
وتنزيه لجلاله سبحانه عن كل ما لا يليق به، وقال علي بن أبي طالب في ذلك: هي
كلمات رضيها الله تعالى لنفسه، وقال طلحة بن عبيد الله /: قلت: يا رسول الله، ما
237

معنى سبحان الله؟ فقال: معناها: " تنزيها لله من السوء "، وحكي عن بعض المفسرين أنهم
رووا أن هذه الكلمة إنما يقولها المؤمن عند ما يشتهي الطعام، فإنه إذا رأى طائرا أو غير
ذلك، قال: (سبحانك اللهم)، فنزلت تلك الإرادة بين يديه فوق ما اشتهى. رواه ابن
جريج وسفيان بن عيينة، وعبارة الداوودي عن ابن جريج: " دعواهم فيها ": قال: إذا مر
بهم الطائر يشتهونه، كان دعواهم به (سبحانك اللهم)، فيأكلون منه ما يشتهون، ثم يطير،
وإذا جاءتهم الملائكة بما يشتهون، سلموا عليهم، فذلك قوله: (وتحيتهم فيها سلام)،
وإذا أكلوا حاجتهم، قالوا: (الحمد لله رب العالمين)، فذلك قوله: (وآخر دعواهم أن
الحمد لله رب العالمين).
وقوله سبحانه: (وتحيتهم فيها سلام): يريد تسليم بعضهم على بعض، والتحية:
مأخوذة من تمني الحياة للإنسان والدعاء بها، يقال: حياه ويحييه، ومنه قول زهير بن
جناب: [الكامل]
من كل ما نال الفتى * قد نلته إلا التحيه
يريد: دعاء الناس للملوك بالحياة، وقال بعض العلماء: (وتحيتهم) يريد: تسليم
الله تعالى عليهم، والسلام: مأخوذ من السلامة، (وآخر دعواهم): أي: خاتمة دعائهم
وكلامهم في كل موطن حمد الله وشكره، على ما أسبغ عليهم من نعمه، وقال ابن العربي
في " أحكامه ". في تفسير هذه الآية قولان:
الأول: أن الملك يأتيهم بما يشتهون، فيقول: سلام عليكم، أي: سلمتم، فيردون
عليه، فإذا أكلوا، قالوا: (الحمد لله رب العالمين).
الثاني: أن معنى " تحيتهم ": أي: تحية بعضهم بعضا، فقد ثبت في الخبر: " أن الله
تعالى خلق آدم، ثم قال له: اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم، فجاءهم،
فقال لهم: سلام عليكم، فقالوا له: وعليك السلام ورحمة الله، فقال له: هذه تحيتك،
وتحية ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة "، وبين في القرآن ههنا أنها تحيتهم في الجنة،
238

فهي تحية موضوعة من أول الخلقة إلى غير نهاية، وقد روى ابن القاسم، عن مالك في
قوله تعالى: (وتحيتهم فيها سلام) أي: هذا السلام الذي بين أظهركم، وهذا أظهر
الأقوال، والله أعلم. انتهى.
وقرأ الجمهور: " أن الحمد لله "، وهي عند سيبويه " أن " المخففة من الثقيلة،
قال أبو الفتح: فهي بمنزلة قول الأعشى: [البسيط]:
في فتية كسيوف الهند قد علموا * أن هالك كل من يحفى وينتعل
وقوله سبحانه: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم
أجلهم...) الآية: هذه الآية نزلت، في دعاء الرجل على نفسه أو ولده، أو ماله، فأخبر
سبحانه أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريد فعله معهم في إجابته إلى
الخير، لأهلكهم، وحذف بعد ذلك جملة يتضمنها الظاهر، تقديرها: فلا يفعل ذلك،
ولكن يذر (الذين لا يرجون لقاءنا...) الآية، وقيل: إن هذه الآية نزلت في قولهم:
(إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) [الأنفال: 32]، وقيل:
نزلت في قولهم: (ائتنا بما تعدنا) [هود: 32]، وما جرى مجراه، والعمه: الخبط في
ضلال.
وقوله سبحانه: (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه...) الآية: هذه الآية أيضا
239

عتاب على سوء الخلق من بعض الناس، ومضمنه النهي عن مثل هذا، والأمر بالتسليم إلى
الله والضراعة إليه في كل حال، والعلم بأن الخير والشر منه، لا رب غيره، وقوله:
(لجنبه)، في موضع الحال، كأنه قال: مضطجعا، والضر عام لجميع الأمراض والرزايا.
وقوله: (مر) يقتضي أن نزولها في الكفار، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت
معناها من كافر وعاص.
وقوله سبحانه: (ولقد أهلكنا القرون من / قبلكم...) الآية: آية وعيد للكفار،
وضرب أمثال لهم، و (خلائف): جمع خليفة.
وقوله: لننظر): معناه: لنبين في الوجود ما علمناه أزلا، لكن جرى القول على
طريق الإيجاز والفصاحة والمجاز، وقال عمر رضي الله عنه: إن الله تعالى إنما جعلنا
خلفاء، لينظر كيف عملنا، فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية.
وقوله سبحانه: (وإذ تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا) يعني:
بعض كفار قريش: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله)، ثم أمر سبحانه نبيه أن يرد عليهم بالحق
الواضح، فقال: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم) ولا أعلمكم به، و (أدراكم) بمعنى:
أعلمكم، تقول: دريت بالأمر، وأدريت به غيري، ثم قال: (فقد لبثت فيكم عمرا من
قبله) يعني: الأربعين سنة قبل بعثته عليه السلام، أي: فلم تجربوني في كذب، ولا
تكلمت في شئ من هذا (أفلا تعقلون)، أن من كان على هذه الصفة لا يصح منه كذب
بعد أن ولى عمره، وتقاصر أمله، واشتدت حنكته وخوفه لربه.
240

وقوله: (فمن أظلم): استفهام وتقرير، أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله
كذبا، أو ممن كذب بآياته، بعد بيانها، والضمير في (يعبدون) لكفار قريش، وقولهم:
(هؤلاء شفعاؤنا عند الله): هذا قول النبلاء منهم، ثم أمر سبحانه نبيه أن يقررهم
ويوبخهم بقوله: (أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض)، وذكر
السماوات، لأن من العرب من يعبد الملائكة والشعرى، وبحسب هذا حسن أن يقول:
(هؤلاء شفعاؤنا)، وقيل: ذلك على تجاوز في الأصنام التي لا تعقل.
وقوله سبحانه: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) قالت فرقة: المراد آدم كان
أمة وحده، ثم اختلف الناس بعده، وقالت فرقة: المراد آدم وبنوه من لدن نزوله إلى قتل
أحد ابنيه الآخر، ويحتمل أن يريد: كان الناس صنفا واحدا بالفطرة معدا للاهتداء، وقد
تقدم الكلام على هذا في قوله سبحانه: (كان الناس أمة واحدة) [البقرة: 213].
وقوله سبحانه: (ولولا كلمة سبقت من ربك) يريد: قضاءه وتقديره لبني آدم
بالآجال المؤقتة، ويحتمل أن يريد: الكلمة في أمر القيامة، وأن العقاب والثواب إنما يكون
حينئذ.
وقوله: (فقل إنما الغيب لله) أي: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.
وقوله: (فانتظروا): وعيد.
وقوله سبحانه: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم...) الآية: هذه
الآية في الكفار، وهي بعد تتناول من العصاة من لا يؤدي شكر الله عند زوال المكروه
عنه، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير، والرحمة هنا بعد الضراء،
كالمطر بعد القحط، والأمن بعد الخوف ونحو هذا مما لا ينحصر، والمكر: الاستهزاء
والطعن عليها من الكفار واطراح الشكر والخوف من العصاة.
وقال أبو علي: (أسرع) من " سرع " لا من " أسرع يسرع "، إذ لو كان من " أسرع "،
لكان شاذا.
241

قال * ع *: وفي الحديث في نار جهنم: " لهي أسود من القار " وما حفظ
للنبي صلى الله عليه وسلم، فليس بشاذ. * ص *: ورد بأن " أسود " من " فعل " لا من " أفعل ": تقول: سود
فهو أسود، وإنما امتنع من " سود " ونحوه عند البصريين، لأنه لون. انتهى.
وقوله سبحانه: (هو الذي يسيركم في البر والبحر...) الآية: تعديد نعم منه
سبحانه على عباده.
وقوله سبحانه (دعوا الله مخلصين له الدين): أي: نسوا الأصنام والشركاء،
وأفردوا الدعاء لله سبحانه، وذكر الطبري في ذلك، عن بعض العلماء حكاية قول العجم:
" هيا شرا هيا "، ومعناه: يا حي يا قيوم، و (يبغون): معناه: يفسدون.
وقوله: (متاع الحياة الدنيا) متاع: خبر مبتدأ محذوف، تقديره هو متاع، أو ذلك
متاع، ومعنى الآية: إنما بغيكم وإفسادكم / مضر لكم، وهو في حالة الدنيا، ثم تلقون
عقابه في الآخرة، قال سفيان بن عيينة: إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا: أي
تعجل لكم عقوبته، وعلى هذا قالوا: البغي يصرع أهله.
قال * ع *: وقالوا: الباغي مصروع: قال تعالى: (ثم بغي عليه لينصرنه الله)
[الحج: 60]، وقال النبي عليه السلام: " ما ذنب أسرع عقوبة من بغي ".
وقوله سبحانه: (إنما مثل الحياة الدنيا) أي: تفاخر الحياة الدنيا وزينتها بالمال
242

والبنين، إذ مصير ذلك إلى الفناء، كمطر نزل من السماء، (فاختلط به نبات الأرض)،
أي: اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء، ولفظ البخاري: قال ابن عباس: (فاختلط به
نبات الأرض): فنبت بالماء من كل لون انتهى. و (أخذت الأرض) لفظة كثرت في
مثل هذا، كقوله: (خذوا زينتكم) [الأعراف: 31] والزخرف: التزيين بالألوان، وقرأ ابن
مسعود وغيره: " وتزينت "، وهذه أصل قراءة الجمهور.
وقوله: (وظن أهلها): على بابها، وهذا الكلام فيه تشبيه جملة أمر الحياة الدنيا
بهذه الجملة الموصوفة أحوالها، و (حتى) غاية، وهي حرف ابتداء، لدخولها على " إذا "،
ومعناهما متصل إلى قوله: (قادرون عليها)، ومن بعد ذلك بدأ الجواب، والأمر الآتي:
واحد الأمور، كالريح، والصر، والسموم، ونحو ذلك، وتقسيمه (ليلا أو نهارا)، تنبيه
على الخوف وارتفاع الأمن في كل وقت، و (حصيدا)، بمعنى محصود، أي: تالفا
مستهلكا، (كأن لم تغن): أي: كان لم تنضر، ولم تنعم، ولم تعمر بغضارتها، ومعنى الآية:
التحذير من الاغترار بالدنيا، إذ هي معرضة لتلف، كنبات هذه الأرض وخص المتفكرين
بالذكر، تشريفا للمنزلة، وليقع التسابق إلى هذه الرتبة.
(والله يدعوا إلى دار السلام...) الآية: نص أن الدعاء إلى الشرع عام في كل
بشر، والهداية التي هي الإرشاد مختصة بمن قدر إيمانه، و (السلام)، هنا: قيل: هو اسم
من أسماء الله تعالى، والمعنى: يدعو إلى داره التي هي الجنة، وقيل: (السلام) بمعنى
السلامة.
243

وقوله سبحانه: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة): قال الجمهور: (الحسنى):
الجنة، وال‍ (زيادة): النظر إلى وجه الله عز وجل، وفي " صحيح مسلم " من حديث
صهيب: " فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل "،
وفي رواية: ثم تلا هذه الآية (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) وأخرج هذه الزيادة النسائي
عن صهيب، وأخرجها عن صهيب أيضا أبو داود الطيالسي انتهى من " التذكرة ".
وقوله سبحانه: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة...) الآية. و (يرهق) معناه:
يغشى مع غلبة وتضييق، وال‍ (قتر): الغبار المسود.
وقوله سبحانه: (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها) قالت فرقة: التقدير لهم
جزاء سيئة بمثلها، وقالت فرقة: التقدير جزاء سيئة مثلها، والباء زائدة، تعم السيئات ههنا
الكفر والمعاصي، وال‍ (عاصم): المنجي والمجير، و (أغشيت): كسيت، و " القطع ":
جمع قطعة، وقرأ ابن كثير والكسائي: " قطعا من الليل " - بسكون الطاء -، وهو الجزء
من الليل، والمراد: الجزء من سواده، وباقي الآية بين.
و (مكانكم): اسم فعل الأمر، ومعناه: قفوا وأسكنوا، * ت *: قال * ص *:
وقدر ب‍ " أثبتوا " وأما من قدره ب‍ " ألزموا مكانكم "، فمردود، لأن " الزموا " متعد،
و (مكانكم): لا يتعدى، فلا يقدر به، وإلا لكان متعديا، واسم الفعل على حسب الفعل
إن متعديا فمتعد، وإن لازما فلازم، ثم اعتذر بأنه يمكن أن يكون تقديره ب‍ " ألزموا " تقدير
معنى، لا تقدير إعراب، فلا اعتراض، انتهى.
قال * ع *: فأخبر سبحانه عن حالة تكون لعبدة الأوثان يوم القيامة يؤمرون
244

بالإقامة في موقف الخزي مع أصنامهم، ثم ينطق الله شركاءهم بالتبري منهم.
وقوله: (فزيلنا بينهم): معناه: فرقنا في الحجة، والمذهب / روي عن النبي صلى الله عليه وسلم،
أن الكفار، إذا رأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب، قيل لهم: اتبعوا ما كنتم تعبدون،
فيقولون: كنا نعبد هؤلاء، فتقول الأصنام: والله، ما كنا نسمع، ولا نعقل، وما كنتم إيانا
تعبدون، فيقولون: والله، لإياكم كنا نعبد، فتقول الآلهة: (فكفى بالله شهيدا بيننا
وبينكم...) الآية، وظاهر الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة
وعيسى، بدليل القول لهم: (مكانكم أنتم وشركاؤكم)، ودون فرعون ومن عبد من
الجن، بدليل القول قولهم: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين)، و " إن " هذه عند سيبويه المخففة
من الثقيلة موجبة، ولزمتها اللام، فرقا بينها وبين " إن " النافية، وعند الفراء: " إن " نافية
بمعنى " ما "، واللام بمعنى " إلا "، وقرأ نافع وغيره، " تبلوا " - بالباء الموحدة -، بمعنى:
تختبر، وقرأ حمزة والكسائي: " تتلوا " - بتاءين -، بمعنى تتبع وتطلب ما أسلفت من أعمالها
* ت *: قال * ص *: كقوله: [الرجز].
إن المريب يتبع المريبا * كما رأيت الذيب يتلو الذيبا
أي: يتبعه. انتهى. ويصح أن يكون بمعنى تقرأ كتبها التي تدفع إليها.
وقوله: (ومن يدبر الأمر...) الآية: تدبير الأمر عام في جميع الأشياء، وذلك
استقامة الأمور كلها على إرادته عز وجل، وليس تدبيره سبحانه بفكر وروية وتغييرات
- تعالى عن ذلك - بل علمه سبحانه محيط كامل دائم.
(فسيقولون الله): أي: لا مندوحة لهم عن ذلك، ولا تمكنهم المباهتة بسواه، فإذا
أقروا بذلك، (فقل أفلا تتقون) في افترائكم، وجعلكم الأصنام آلهة.
245

وقوله: (فذلكم الله ربكم...) الآية: يقول: فهذا الذي هذه صفاته ربكم الحق،
أي: المستوجب للعبادة والألوهية، وإذا كان كذلك، فتشريك غيره ضلال وغير حق.
قال * ع *: وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوت كل تفسير براعة وإيجازا
ووضوحا، وحكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة التي
هي توحيد الله تعالى، وكذلك هو الأمر في نظائرها من مسائل الأصول التي الحق فيها في
طرف واحد، لأن الكلام فيها إنما في تقرير وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل
الفروع التي قال الله تعالى فيها: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) [المائدة: 48].
وقوله: (فأنى تصرفون): تقرير، كما قال: (فأين تذهبون) [التكوير: 26] ثم
قال: (كذلك حقت) أي: كما كانت صفات الله كما وصف، وعبادته واجبة كما تقرر،
وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم، (كذلك حقت كلمة ربك...) الآية، وقرأ أبو
عمرو وغيره: " كلمة "، على الإفراد الذي يراد به الجمع، كما يقال للقصيدة " كلمة " فعبر
عن وعيد الله تعالى ب‍ " كلمة ".
وقوله سبحانه: (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده...) الآية توقيف
على قصور الأصنام وعجزها، وتنبيه على قدرة الله عز وجل، و (تؤفكون): معناه:
تصرفون وتحرمون، وأرض مأفوكة، إذا لم يصبها مطر، فهي بمعنى الخيبة.
246

وقوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق): أي: يبين طرق
الصواب، ثم وصف الأصنام بأنها لا تهدي إلا أن تهدى.
وقوله: (إلا أن يهدي): فيه تجوز، لأنا نجدها لا تهدى وإن هديت، وقال
بعضهم: هي عبارة عن أنها لا تنتقل إلا أن تنقل، ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح
الجمادات هو اهتداؤها، وقرأ نافع وأبو عمر: " يهدي " - بسكون الهاء، وتشديد
الدال -، وقرأ ابن كثير وابن عامر: يهدي - بفتح الياء / والهاء، وتشديد الدال - وهذه
رواية ورش عن نافع، وقرأ حمزة والكسائي: " يهدي " - بفتح الياء، وسكون الهاء
ومعنى هذه القراءة: أمن لا يهدي أحدا إلا أن يهدى ذلك الأحد، ووقف القراء: (فما
لكم)، ثم يبدأ: (كيف تحكمون).
وقوله سبحانه: (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا...) الآية: أخبر الله سبحانه عن فساد
طريقتهم، وضعف نظرهم، وأنه ظن، ثم بين منزلة الظن من المعارف، وبعده عن الحق.
وقوله سبحانه: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين
يديه): هذا رد لقول من يقول: إن محمدا يفتري القرآن، و (الذي بين يديه): التوراة
والإنجيل، وهم يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب، ولا هي في بلده، ولا في قومه،
و (تفصيل الكتاب) هو تبيينه.
وقوله: (أم يقولون افتراه...) الآية: " أم " هذه ليست بالمعادلة لهمزة الاستفهام،
247

في قوله: أزيد قام أم عمرو؟ ومذهب سيبويه: أنها بمنزلة " بل " ثم عجزهم سبحانه بقوله:
(قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم...) الآية: والتحدي في هذه الآية عند
الجمهور وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن:
إحداهما: النظم والرصف والإيجاز والجزالة، كل ذلك في التعريف.
والأخرى: المعاني من الغيب لما مضى، ولما يستقبل.
وحين تحداهم ب‍ " عشر مفتريات " إنما تحداهم بالنظم وحده، ثم قال * ع *:
هذا قول جماعة المتكلمين، ثم اختار أن الإعجاز في الآيتين إنما وقع في النظم لا في
الإخبار بالغيوب.
* ت *: والصواب ما تقدم للجمهور، وإليه رجع في " سورة هود " وأوجه إعجاز
القرآن أكثر من هذا وانظر " الشفا ".
وقوله: (من استطعتم): إحالة على شركائهم.
وقوله سبحانه: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه...) الآية: المعنى: ليس الأمر
كما قالوا من أنه مفترى، (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)، أي:
تفسيره، وبيانه، ويحتمل أن يريد بما لم يأتهم تأويله، أي: ما يؤول إليه أمره، كما هو في
قوله: (هل ينظرون إلا تأويله) [الأعراف: 5] وعلى هذا، فالآية تتضمن وعيدا،
و (الذين من قبلهم): من سلف من أمم الأنبياء.
وقوله سبحانه: (ومنهم من يؤمن به...) الآية: أي: ومن قريش من يؤمن بهذا
الرسول، ولهذا الكلام معنيان:
قالت فرقة: معناه: من هؤلاء القوم من سيؤمن في المستقبل، ومنهم من حتم الله
عليه أنه لا يؤمن به أبدا.
وقالت فرقة: معناه: ومنهم من يؤمن بهذا الرسول إلا أنه يكتم إيمانه حفظا لرياسته،
أو خوفا من قومه، كالفتية الذين قتلوا مع الكفار ببدر.
قال * ع *: وفائدة الآية على هذا التأويل: التفريق لكلمة الكفار، وإضعاف
248

نفوسهم، وفي قوله: (وربك أعلم بالمفسدين) تهديد ووعيد.
وقوله سبحانه: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم) الآية فيها منابذة
ومتاركة، قال كثير من المفسرين، منهم ابن زيد: هذه الآية منسوخة بالقتال، وباقي الآية
بين.
وقوله سبحانه: (ويوم نحشرهم...) الآية: وعيد بالحشر وخزيهم فيه، وتعارفهم
على جهة التلاؤم والخزي من بعضهم لبعض، حيث لا ينفع ذلك.
وقوله سبحانه: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله...) إلى آخرها: حكم من الله
عز وجل على المكذبين بالخسران، وفي اللفظ إغلاظ، وقيل: إن هذا الكلام من كلام
المحشورين، على جهة التوبيخ لأنفسهم.
* ت *: والأول أبين.
وقوله: (وإما نرينك...) الآية: " إما " شرط، وجوابه: (فإلينا)، والرؤية في
(نرينك) بصرية، ومعنى هذه الآية: الوعيد بالرجوع إلى الله تعالى، أي: إن أريناك
عقوبتهم، أو لم نركها، فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب، ثم مع
ذلك، فالله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم، و " ثم " لترتيب الأخبار / لا لترتيب
القصص في أنفسها، و " إما " هي " إن "، زيدت عليها " ما "، ولأجلها جاز دخول النون
الثقيلة، ولو كانت " إن " وحدها، لم يجز.
* ص *: واعترض بأن مذهب سيبويه جواز دخولها، وإن لم تكن " ما " انتهى.
249

وقوله سبحانه: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط): قال
مجاهد وغيره: المعنى: فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم، صير قوم للجنة،
وقوم للنار، فذلك القضاء بينهم بالقسط.
وقوله سبحانه: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لا أملك لنفسي
ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون...) الآية:
الضمير في (يقولون) لكفار قريش، وسؤالهم عن الوعد تحرير منهم - بزعمهم - للحجة
أي: هذا العذاب الذي توعدنا به، حدد لنا وقته، لنعلم الصدق في ذلك من الكذب، ثم
أمر الله تعالى نبيه أن يقول على جهة الرد عليهم: (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما
شاء الله)، ولكن (لكل أمة أجل) انفرد الله بعلم حده ووقته، وباقي الآية بين.
وقوله (ماذا يستعجل منه المجرمون): أي: فما تستعجلون منه، وأنتم لا قبل لكم
به، والضمير في " منه " يحتمل أن يعود على الله عز وجل، ويحتمل أن يعود على العذاب.
وقوله: أثم إذا ما وقع آمنتم به) المعنى: إذا وقع العذاب وعاينتموه، آمنتم حينئذ،
وذلك غير نافعكم، بل جوابكم: الآن وقد كنتم تستعجلونه مكذبين به، (ويستنبئونك): معناه: يستخبرونك، وهي على هذا تتعدى إلى مفعولين، أحدهما: الكاف، والآخر:
الجملة، وقيل: هي بمعنى يستعملونك، فعلى هذا تحتاج إلى ثلاثة مفاعيل.
* ص *: ورد بأن الاستنباء لا يحفظ تعديه إلى ثلاثة، ولا استعلم الذي هو بمعناه.
انتهى.
و (أحق هو) قيل: الإشارة إلى الشرع والقرآن، وقيل: إلى الوعيد، وهو أظهر.
وقوله: (إي وربي): أي: بمعنى " نعم "، وهي لفظة تتقدم القسم، ويجيء بعدها
250

حرف القسم، وقد لا يجيء، تقول: إي وربي: وإي ربي، و (معجزين): معناه مفلتين.
وقوله سبحانه: (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا
الندامة...) الآية، و (أسروا): لفظة تجيء بمعنى " أخفوا "، وهي حينئذ من السر،
وتجئ بمعنى " أظهروا "، وهي حينئذ من أسارير الوجه.
* ص *: قال أبو البقاء: وهو مستأنف، وهو حكاية ما يكون في الآخرة.
وقوله تعالى: (ألا إن لله ما في السماوات والأرض...) الآية، " ألا " استفتاح
وتنبيه، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم...) الآية: هذه آية
خوطب بها جميع العالم، وال‍ (موعظة): القرآن، لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر
بالمعروف ويزجر، ويرقق القلوب، وبعد ويوعد، وهذه صفة " الكتاب العزيز "، وقوله:
(من ربكم) يريد: لم يختلقها محمد ولا غيره، و (ما في الصدور): يريد به الجهل
ونحوه، وجعله موعظة بحسب الناس أجمع، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين فقط،
وهذا تفسير صحيح المعنى، إذا تؤمل، بأن وجهه.
وقوله سبحانه: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)، الذي قال ابن عباس
وغيره: الفضل: الإسلام، والرحمة: القرآن، وقال أبو سعيد الخدري: الفضل: القرآن،
والرحمة: أن جعلهم من أهله.
وقال زيد بن أسلم والضحاك: الفضل: القرآن، والرحمة: الإسلام.
251

قال * ع *: ولا وجه عندي لشئ من هذا التخصيص إلا أن يستند شئ منه إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي يقتضيه اللفظ، ويلزم منه أن الفضل: هو هداية الله تعالى إلى دينه،
والتوفيق إلى اتباع شرعه، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع
بالإسلام والإيمان به، ومعنى / الآية: قل، يا محمد، لجميع الناس: بفضل الله ورحمته
فليقع الفرح منكم، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها، فإن قيل: كيف أمر الله بالفرح
في هذه الآية، وقد ورد ذمه في قوله: (فرح فخور) [هود: 10] وفي قوله: (لا تفرح إن
الله لا يحب الفرحين) [القصص: 76].
قيل: إن الفرح إذا ورد مقيدا في خير، فليس بمذموم، وكذلك هو في هذه الآية،
وإذا ورد مقيدا في شر، أو مطلقا لحقه ذم، إذ ليس من أفعال الآخرة، بل ينبغي أن يغلب
على الإنسان حزنه على دينه، وخوفه لربه.
وقوله: (مما يجمعون): يريد: مال الدنيا وحطامها الفاني المردي في الآخرة.
وقوله سبحانه: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما
وحلالا...) الآية.
قال * ص *: (أرأيتم): مضمن معنى: أخبروني، و " ما " موصولة.
قال * ع *: هذه المخاطبة لكفار العرب الذين جعلوا البحائر والسوائب وغير
ذلك، وقوله: (أنزل): لفظة فيها تجوز.
وقوله: (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) آية وعيد - لما تحقق
عليهم بتقسيم الآية التي قبلها، أنهم مفترون على الله - عظم في هذه الآية جرم الافتراء،
أي: ظنهم في غاية الرداءة، بحسب سوء أفعالهم، ثم ثنى بذكر الفضل على الناس في
الإمهال لهم مع الافتراء والعصيان، إذ الإمهال لهم داعية إلى التوبة والإنابة، ثم الآية تعم
252

جميع فضل الله سبحانه، وجميع تقصير الخلق.
وقوله سبحانه: (وما تكون في شأن...) الآية: مقصد هذه الآية وصف إحاطة
الله عز وجل بكل شئ، لا رب غيره، ومعنى اللفظ: وما تكون يا محمد، والمراد هو
وغيره في شأن من جميع الشؤون، (وما تتلو منه): الضمير عائد على شأن أي: فيه
وبسببه " من قرآن "، ويحتمل أن يعود الضمير على جميع القرآن.
وقال * ص *: ضمير " منه " عائد على " شأن " و (من قرآن): تفسير للضمير.
انتهى. وهو حسن، ثم عم سبحانه بقوله: (ولا تعملون من عمل)، وفي قوله سبحانه:
(إلا كنا عليكم شهودا) تحذير وتنبيه.
* ت * وهذه الآية عظيمة الموقع لأهل المراقبة تثير من قلوبهم أسرارا، ويغترفون
من بحر فيضها أنوارا، و (تفيضون) معناه: تأخذون وتنهضون بجد، (وما يعزب):
معناه: وما يغيب (عن ربك من مثال ذرة) والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ، ويحتمل
ما كتبته الحفظة.
وقوله سبحانه: (ألا إن أولياء الله...) الآية: " ألا " استفتاح وتنبيه، و (أولياء
الله): هم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة، وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن
واتقى الله، فهو داخل في أولياء الله، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي، وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل، من أولياء الله؟ فقال: " الذين إذا رأيتهم ذكرت الله ".
قال * ع *: وهذا وصف لازم للمتقين، لأنهم يخشعون ويخشعون، وروي
عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال: " أولياء الله قوم تحابوا في الله، واجتمعوا في ذاته، لم تجمعهم
قرابة ولا مال يتعاطونه ". وروي الدارقطني في " سننه " عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " خيار عباد
253

الله الذين إذا رؤوا، ذكر الله، وشر عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة،
الباغون للبرآء العيب ". انتهى من " الكوكب الدري ".
وقوله: (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يعني: في الآخرة، ويحتمل في الدنيا لا
يخافون أحدا من أهل الدنيا، ولا من أعراضها، ولا يحزنون على ما فاتهم منها، والأول
أظهر، والعموم في ذلك صحيح: لا يخافون في الآخرة جملة، ولا في الدنيا الخوف
الدنيوي.
وذكر الطبري عن جماعة / من العلماء مثل ما في الحديث في الأولياء، أنهم هم
الذين إذا رآهم أحد، ذكر الله، وروي فيهم حديث، " أن أولياء الله هم قوم يتحابون في
الله ويجعل لهم يوم القيامة منابر من نور، وتنير وجوههم، فهم في عرصات القيامة لا
يخافون ولا يحزنون " وروى عمر بن الخطاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من عباد
الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء، لمكانتهم من الله، قالوا: ومن
هم، يا رسول الله؟ قال: قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام، ولا أموال... "
الحديث، ثم قرأ: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
* ت *: وقد خرج هذا الحديث أبو داود والنسائي، قال أبو داود في هذا الحديث:
فوالله، إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، ذكره بإسناد آخر. انتهى.
ورواه أيضا ابن المبارك في " رقائقه " بسنده، عن أبي مالك الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم
أقبل على الناس، فقال: " يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عبادا ليسوا بأنبياء
ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله عز وجل "، فقال
أعرابي: انعتهم لنا، يا نبي الله، فقال: هم ناس من أبناء الناس، لم تصل بينهم أرحام
متقاربة، تحابوا في الله، وتصافوا فيه، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم
عليها فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة، وهم لا يفزعون، وهم
254

أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ". انتهى.
وقوله تعالى: (لهم البشرى...) الآية: أما بشرى الآخرة، فهي بالجنة، بلا
خلاف قولا واحدا، وذلك هو الفضل الكبير، وأما بشرى الدنيا، فتظاهرت الأحاديث من
طرق، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنها " الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له "، وقال قتادة
والضحاك: البشرى في الدنيا: هي ما يبشر به المؤمن عند موته، وهو حي عند المعاينة،
ويصح أن تكون بشرى الدنيا ما في القرآن من الآيات المبشرات، ويقوي ذلك بقوله: (لا
تبديل لكلمات الله)، ويؤول قوله صلى الله عليه وسلم: " هي الرؤيا " أنه أعطى مثالا يعم جميع الناس.
وقوله سبحانه: (لا تبديل لكلمات الله): يريد: لا خلف لمواعيده، ولا رد في
أمره، وقد أخذ ذلك ابن عمر على نحو غير هذا، وجعل التبديل المنفي في الألفاظ، وذلك
أنه روي أن الحجاج خطب، فقال: ألا إن عبد الله بن الزبير قد بدل كتاب الله، فقال له
255

عبد الله بن عمر: إنك لا تطيق ذلك أنت، ولا ابن الزبير، لا تبديل لكلمات الله، وقد
روي هذا النظر عن ابن عباس في غير مقاولة الحجاج، ذكره البخاري.
وقوله تعالى: (ولا يحزنك قولهم): أي: قول قريش، فهذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم،
ولفظة القول تعم جحودهم واستهزاءهم وخداعهم وغير ذلك، ثم ابتدأ تعالى، فقال (إن
العزة لله جميعا) أي: لا يقدرون لك على شئ، ولا يؤذونك، إلا بما شاء الله، ففي
الآية وعيد لهم، ثم استفتح بقوله: (ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض) أي:
بالملك والإحاطة.
وقوله تعالى: (وما يتبع): يصح أن تكون " ما " استفهاما، ويصح أن تكون نافية.
* ت *: ورجح هذا الثاني.
وقوله: (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) " إن ": نافية، و (يخرصون):
معناه: يحدسون ويخمنون.
وقوله عز وجل: (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه...) الآية: في هذه
الألفاظ إيجاز وإحالة على ذهن السامع، لأن العبرة في أن الليل مظلم يسكن فيه، والنهار
مبصر يتصرف فيه، فذكر طرفا من هذا وطرفا من الجهة الثانية، ودل المذكوران على
المتروكين.
وقوله: (يسمعون) / يريد: يوعون، والضمير في (قالوا) لكفار العرب، ثم الآية
256

بعد تعم كل من قال نحو هذا القول، كالنصارى، و (سبحانه) معناه: " تنزيها له، وبراءة
من ذلك "، فسره بهذا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (إن عندكم من سلطان بهذا) " إن " نافية، والسلطان: الحجة، وكذلك معناه
حيث تكرر في القرآن، ثم وبخهم تعالى بقوله: (أتقولون على الله ما لا تعلمون).
وقوله سبحانه: (إن الذين يفترون...) الآية: توعد لهم بأنهم لا يظفرون ببغية،
ولا يبقون في نعمة، إذ هذه حال من يصير إلى العذاب، وإن نعم في دنياه يسيرا.
وقوله تعالى: (متاع) مرفوع على خبر ابتداء، أي: ذلك متاع.
قال * ص *: (متاع) جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: كيف لا يفلحون، وهم في
الدنيا مفلحون بأنواع التلذذات؟! فقيل: ذلك متاع، فهو خبر مبتدأ محذوف. انتهى، وهذا
الذي قدره * ص *: يفهم من كلام * ع *.
وقول نوح عليه السلام: (يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي...) الآية: المقام:
وقوف الرجل لكلام أو خطبة أو نحوه، والمقام - بضم الميم -: إقامته ساكنا في موضع أو
بلد، ولم يقرأ هنا بضم الميم فيما علمت، وتذكيره: وعظه وزجره، وقوله: (فأجمعوا):
من أجمع الرجل على الشئ، إذا عزم عليه، ومنه الحديث: ما لم يجمع مكثا،
و (أمركم): يريد به: قدرتكم وحيلكم، ونصب " الشركاء " بفعل مضمر، كأنه قال: وادعوا
شركاءكم، فهو من باب: [الرجز]
علفتها تبنا وماء باردا * حتى شتت همالة عيناها
257

وفي مصحف أبي: " فأجمعوا أمركم، وادعوا شركاءكم " قال الفارسي: وقد
ينتصب " الشركاء " ب‍ " واو مع "، كما قالوا: جاء البرد والطيالسة.
وقوله: (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة): أي: ملتبسا مشكلا، ومنه قوله عليه
السلام في الهلال: " فإن غم عليكم ".
وقوله: (ثم اقضوا إلى ولا تنظرون): أي: أنفذوا قضاءكم إن نحوي، ولا تؤخروني،
والنظرة: التأخير.
وقوله سبحانه: (فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف): مضى
شرح هذه المعاني.
وقوله سبحانه: (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين): مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم يشاركه في
معناها جميع الخلق.
وقوله سبحانه: (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم): الضمير في (من بعده) عائد
على نوح عليه السلام.
وقوله تعالى: (فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع
على قلوب المعتدين ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا
وكانوا قوما مجرمين): معنى هذه الآية ضرب المثل لحاضري نبينا محمد عليه السلام،
ليعتبروا بمن سلف، و (البينات) المعجزات، والضمائر في (ما كانوا ليؤمنوا) وفي
(كذبوا) تعود الثلاثة على قوم الرسل، وقيل: الضمير في كذبوا يعود على " قوم نوح " وقد
تقدم تفسير نظيرها " في الأعراف ".
258

وقوله سبحانه: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين) الآية: يريد
ب‍ (الحق) آيتي العصا واليد.
وقوله: (أسحر هذا): قالت فرقة: هو حكاية عن موسى عنهم، ثم أخبرهم موسى
عن الله، أن الساحرين لا يفلحون، ثم اختلفوا في معنى قول قوم فرعون، فقال بعضهم:
قالها منهم كل مستفهم جاهل بالأمر، فهو يسأل عنه، وهذا ضعيف، وقال بعضهم: بل
قالوا ذلك على معنى التعظيم للسحر الذي رأوه، وقالت فرقة: ليس ذلك حكاية عن موسى
عنهم، وإنما هو من كلام موسى، وتقدير الكلام: أتقولون للحق لما جاءكم سحر، ثم ابتدأ
يوقفهم بقوله: (أسحر / هذا) على جهة التوبيخ.
وقولهم: (لتلفتنا): أي: لتصرفنا وتلوينا وتردنا عن دين آبائنا، يقال: لفت الرجل
عنق الآخر، إذا ألواه، ومنه قولهم: التفت، فإنه افتعل من لفت عنقه إذا ألواه،
و (الكبرياء): مصدر من الكبر، والمراد به في هذا الموضع الملك، قاله أكثر المتأولين،
لأنه أعظم تكبر الدنيا، وقرأ أبو عمر وحده: " به السحر " - بهمزة استفهام ممدودة -، وفي
قراءة أبي: " ما أتيتم به سحر "، والتعريف هنا في السحر أرتب، لأنه تقدم منكرا في
قولهم: (إن هذا لسحر)، فجاء هنا بلام العهد.
قال * ص *: قال الفراء: إنما قال: " السحر " ب‍ " أل "، لأن النكرة إذا أعيدت،
أعيدت ب‍ " أل "، وتبعه ابن عطية، ورد بأن شرط ما ذكراه اتحاد مدلول النكرة المعادة،
كقوله تعالى: (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) [المزمل: 15،
16] وهنا السحر المنكر هو ما أتى به موسى، والمعروف ما أتوا به هم، فاختلف
259

مدلولهما، والاستفهام هنا: على سبيل التحقير. انتهى. وهو حسن.
وقوله: (إن الله سيبطله): إيجاب عن عدة من الله تعالى.
وقوله (إن الله لا يصلح عمل المفسدين): يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله عز
وجل، ويحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام، وكذلك قوله: (ويحق الله
الحق...) الآية، محتمل للوجهين، وكون ذلك كله من كلام موسى أقرب، وهو الذي
ذكر الطبري، وأما قوله: (بكلماته): فمعناه بكلماته السابقة الأزلية في الوعد بذلك.
وقوله عز وجل: (فما آمن لموسى إلا ذرية وهو من قومه على خوف من فرعون
وملئهم) واختلف المتأولون في عود الضمير الذي في (قومه)، فقالت فرقة: هو عائد على
موسى، وذلك في أول مبعثه، وملأ الذرية، هم أشراف بني إسرائيل.
قال * ص *: وهذا هو الظاهر، وقالت فرقة: الضمير في (قومه) عائد على
(فرعون)، وضمير (ملئهم) عائد على الذرية.
قال * ع *: ومما يضعف عود الضمير على موسى: أن المعروف من أخبار بني
إسرائيل أنهم كانوا قوما تقدمت فيهم النبوات، ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل
كفرت به، فدل على أن الذرية من قوم فرعون.
وقوله سبحانه: (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا...) الآية:
هذا ابتداء حكاية قول موسى لجماعة بني إسرائيل، مؤنسا لهم، ونادبا إلى التوكل على الله
عز وجل الذي بيده النصر قال المحاسبي: قلت لأبي جعفر محمد بن موسى: إن الله عز
وجل يقول: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) [المائدة: 23] فما السبيل إلى هذا
التوكل الذي ندب الله إليه، وكيف دخول الناس فيه؟ قال: إن الناس متفاوتون في التوكل،
وتوكلهم على قدر إيمانهم وقوة علومهم، قلت: فما معنى إيمانهم؟ قال: تصديقهم
بمواعيد الله عز وجل، وثقتهم بضمان الله تبارك وتعالى، قلت: من أين فضلت الخاصة
260

منهم على العامة، والتوكل في عقد الإيمان مع كل من آمن بالله عز وجل؟ قال: إن الذي
فضلت به الخاصة على العامة دوام سكون القلب عن الاضطراب والهدو عن الحركة،
فعندها، يا فتى، استراحوا من عذاب الحرص، وفكوا من أسر الطمع، وأعتقوا من عبودية
الدنيا، وأبنائها، وحظوا بالروح في الدارين جميعا، فطوبى لهم وحسن مآب، قلت: فما
الذي يولد هذا؟ قال: حالتان:
دوام لزوم المعرفة، والاعتماد على الله عز وجل، وترك الحيل.
والثانية: الممارسة حتى يألفها إلفا، ويختارها اختيارا، فيصير التوكل والهدو
والسكون والرضا والصبر له شعارا ودثارا. انتهى من " كتاب القصد إلى الله سبحانه ".
وقولهم: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين): المعنى: لا تنزل بنا بلاء بأيديهم أو
بغير ذلك / مدة محاربتنا لهم، فيفتنون لذلك، ويعتقدون صلاح دينهم، وفساد ديننا، قاله
مجاهد وغيره، فهذا الدعاء على هذا التأويل يتضمن دفع فصلين:
أحدهما: القتل والبلاء الذي توقعه المؤمنون.
والآخر: ظهور الشرك باعتقاد أهله أنهم أهل الحق.
ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " بئس الميت أبو أمامة ليهود والمشركين يقولون: لو كان نبيا لم
يمت صاحبه ".
ورجح * ع *: في " سورة الممتحنة: 5 " قول ابن عباس: إن معنى: " لا تجعلنا
فتنة للذين كفروا): لا تسلطهم علينا، فيفتنونا، أنظره هناك.
261

وقوله سبحانه: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) روي: أن
فرعون أخاف بني إسرائيل، وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة، ونحو هذا، فأوحى
الله إلى موسى وهارون، أن تبوأا، أي: اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بمصر بيوتا، قال
مجاهد: مصر، في هذه الآية: الإسكندرية، ومصر ما بين أسوان والإسكندرية.
وقوله سبحانه: (واجعلوا بيوتكم قبلة): قيل: معناه: مساجد، قاله ابن عباس
وجماعة، قالوا: خافوا، فأمروا بالصلاة في بيوتهم، وقيل: معناه موجهة إلى القبلة، قاله
ابن عباس، ومن هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " خير بيوتكم ما استقبل به
القبلة ".
وقوله: (وأقيموا الصلاة): خطاب لبني إسرائيل، وهذا قبل نزول التوراة، لأنها لم
تنزل إلا بعد إجازة البحر.
وقوله: (وبشر المؤمنين): أمر لموسى عليه السلام، وقال الطبري ومكي: هو أمر
لنبينا محمد عليه السلام، وهذا غير متمكن.
وقوله سبحانه: (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة...) الآية: هذا
262

غضب من موسى على القبط، ودعاء عليهم، لما عتوا وعاندوا، وقدم للدعاء تقرير نعم الله
عليهم وكفرهم بها، و (آتيت) معناه: أعطيت، واللام في (ليضلوا) لام كي، ويحتمل أن
تكون لام الصيرورة والعاقبة، المعنى: آتيتهم ذلك، فصار أمرهم إلى كذا، وقرأ حمزة
وغيره: " ليضلوا " (بضم الياء)، على معنى: ليضلوا غيرهم.
وقوله: (ربنا اطمس على أموالهم): هو من طموس الأثر والعين، وطمس الوجوه
منه، وتكرير قوله: (ربنا) استغاثة، كما يقول الداعي: يا الله، يا الله، روي أنهم حين
دعا موسى بهذه الدعوة، رجع سكرهم حجارة، ودراهمهم ودنانيرهم وحبوب أطعمتهم،
رجعت حجارة، قاله قتادة وغيره، وقال مجاهد وغيره: معناه: أهلكها ودمرها.
وقوله: (واشدد على قلوبهم): بمعنى: اطبع واختم عليهم بالكفر، قاله مجاهد
والضحاك.
وقوله: (فلا يؤمنوا): مذهب الأخفش وغيره: أن الفعل منصوب، عطفا على
قوله: (ليضلوا)، وقيل: منصوب في جواب الأمر، وقال الفراء والكسائي: هو مجزوم
على الدعاء، وجعل رؤية العذاب نهاية وغاية، وذلك لعلمه من الله أن المؤمن عند رؤية
العذاب لا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت، ولا يخرجه من كفره، ثم أجاب الله دعوتهما، قال
ابن عباس: العذاب هنا: الغرق، وروي أن هارون كان يؤمن على دعاء موسى، فلذلك
نسب الدعوة إليهما، قاله محمد بن كعب القرظي، قال البخاري: (وعدوا): من
العدوان. انتهى.
263

وقول فرعون: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل...) الآية: روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن جبريل عليه السلام قال: ما أبغضت أحدا قط بغضي لفرعون، ولقد
سمعته يقول: (آمنت...) الآية، فأخذت من حال البحر، فملأت فمه، مخافة أن
تلحقه رحمة الله "، وفي بعض الطرق: " مخافة أن يقول لا إله إلا الله، فتلحقه
الرحمة ".
قال * ع *: فانظر إلى كلام فرعون، ففيه مجهلة وتلعثم، ولا عذر لأحد في
جهل هذا، وإنما العذر فيما لا سبيل / إلى علمه، كقول علي رضي الله عنه: أهللت
بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، والحال: الطين، والآثار بهذا كثيرة مختلفة الألفاظ، والمعنى
واحد.
وقوله سبحانه: (الآن وقد عصيت قبل)، وهذا على جهة التوبيخ له، والإعلان
بالنقمة منه، وهذا الكلام يحتمل أن يكون من ملك موصل عن الله، أو كيف شاء الله،
ويحتمل أن يكون هذا الكلام معنى حاله وصورة خزيه، وهذه الآية نص في رد توبة
المعاين.
وقوله سبحانه: (فاليوم ننجيك ببدنك...) الآية: يقوي أنه صورة حاله، لأن هذه
الألفاظ إنما يظهر أنها قيلت بعد غرقه، وسبب هذه المقالة، على ما روي: أن بني إسرائيل
بعد عندهم غرق فرعون وهلاكه، لعظمه في نفوسهم، وكذب بعضهم أن يكون فرعون
264

يموت، فنجي على نجوة من الأرض، حتى رآه جميعهم ميتا، كأنه ثور أحمر، وتحققوا
غرقه.
والجمهور على تشديد (ننجيك)، فقالت فرقة: معناه: من النجاة، أي: من
غمرات البحر والماء، وقال جماعة: معناه: نلقيك على نجوة من الأرض، وهي: ما ارتفع
منها، وقرأ يعقوب بسكون النون وتخفيف الجيم، وقوله: (ببدنك) قالت فرقة: معناه:
بشخصك، وقالت فرقة: معناه: بدرعك، وقرأ الجمهور: " خلفك "، أي: من أتى
بعدك، وقرئ شاذا: " لمن خلفك " - بفتح اللام -، والمعنى: ليجعلك الله آية له في
عباده، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما
اختلفوا حتى جاءهم العلم): المعنى: ولقد اخترنا لبني إسرائيل أحسن اختيار، وأحللناهم
من الأماكن أحسن محل، و (مبوأ صدق): أي: يصدق فيه ظن قاصده وساكنه، ويعني
بهذه الآية إحلالهم بلاد الشام وبيت المقدس، قاله قتادة وابن زيد، وقيل: بلاد الشام
ومصر، والأول أصح، وقوله سبحانه: (فما اختلفوا) أي: في نبوة نبينا محمد عليه
السلام، وهذا التخصيص هو الذي وقع في كتب المتأولين كلهم، وهو تأويل يحتاج إلى
سند، والتأويل الثاني الذي يحتمله اللفظ: أن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى
في أول حاله، فلما جاءهم العلم والأوامر، وغرق فرعون، اختلفوا، فالآية ذامة لهم.
* ت *: فر رحمه الله من التخصيص، فوقع فيه، فلو عمم اختلافهم على أنبيائهم
موسى وغيره، وعلى نبينا، لكان أحسن، وما ذهب إليه المتأولون من التخصيص أحسن
لقرينة قوله: (فإن كنت في شك)، فالربط بين الآيتين واضح، والله أعلم.
265

وقوله عز وجل: (فإن كنت في شك...) الآية: الصواب في معنى الآية: أنها
مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض.
* ت *: وروينا عن أبي داود سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا أحمد بن حنبل،
قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة
رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " المراء في القرآن كفر "، قال عياض في " الشفا ":
تأول بمعنى " الشك "، وبمعنى " الجدال ". انتهى.
(والذين يقرءون الكتاب من قبلك): من أسلم من أهل الكتاب، كابن سلام وغيره،
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه الآية: " أنا لا أشك ولا أسأل "، ثم جزم
سبحانه الخبر بقوله: (لقد جاءك الحق من ربك)، واللام في " لقد " لام قسم.
وقوله: (مما أنزلنا إليك) يريد به: من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في أمره إلا من
بعد مجيئه عليه السلام، هذا قول أهل التأويل قاطبة.
قال * ع *: وهذا هو الذي يشبه أن ترجى إزالة الشك فيه من قبل أهل الكتاب،
266

ويحتمل اللفظ أن يريد ب‍ (ما أنزلنا) / جميع الشرع.
* ت *: وهذا التأويل عندي أبين إذا لخص، وإن كان قد استبعده * ع *:
ويكون المراد ب‍ (ما أنزلنا): ما ذكره سبحانه من قصصهم، وذكر صفته عليه السلام،
وذكر أنبيائهم وصفتهم وسيرهم وسائر أخبارهم الموافقة لما في كتبهم المنزلة على أنبيائهم،
كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف، وتكون هذه الآية تنظر إلى قوله سبحانه: (ما كان
حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه...) [يوسف: 111]، فتأمله، والله أعلم.
وأما قوله: هذا قول أهل التأويل قاطبة، فليس كذلك، وقد تكلم صاحب " الشفا "
على الآية، فأحسن، ولفظه: واختلف في معنى الآية، فقيل: المراد: قل يا محمد للشاك:
(إن كنت في شك...) الآية، قالوا: وفي السورة نفسها ما دل على هذا التأويل، وهو
قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني...) الآية [يونس: 104]، ثم
قال عياض: وقيل: إن هذا الشك: الذي أمر غير النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الذين يقرؤون الكتاب
عنه، إنما هو في ما قصه الله تعالى من أخبار الأمم، لا فيما دعا إليه من التوحيد
والشريعة. انتهى.
وقوله سبحانه: (فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات
الله...) الآية: مما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد سواه.
قال * ع *: ولهذا فائدة ليست في مخاطبة الناس به، وذلك شدة التخويف، لأنه
إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من مثل هذا، فغيره من الناس أولى أن يحذر ويتقى على
نفسه.
وقوله سبحانه: (إن الذين حقت عليهم كلمت ربك): أي: حق عليهم في الأزل
وخلقهم لعذابه (لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية) إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه
الإيمان، كما صنع فرعون وأشباهه، وذلك وقت المعاينة.
267

وقوله سبحانه: (فلولا كانت قرية آمنت...) الآية: وفي مصحف أبي وابن
مسعود: " فهلا "، والمعنى فيهما واحد، وأصل " لولا " التحضيض، أو الدلالة على منع أمر
لوجود غيره، ومعنى الآية: فهلا آمن أهل قرية، وهم على مهل لم يتلبس العذاب بهم،
فيكون الإيمان نافعا لهم في هذا الحال، ثم استثنى قوم يونس، فهو بحسب اللفظ استثناء
منقطع، وهو بحسب المعنى متصل لأن تقديره: ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس، وروي في
قصة قوم يونس: أن القوم لما كفروا، أي: تمادوا على كفرهم، أوحى الله تعالى إليه، أن
أنذرهم بالعذاب لثالثة، ففعل، فقالوا: هو رجل لا يكذب، فارقبوه فإن أقام بين أظهركم،
فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم، فهو نزول العذاب لا شك فيه، فلما كان الليل، تزود
يونس، وخرج عنهم، فأصبحوا فلم يجدوه، فتابوا ودعوا الله، وآمنوا، ولبسوا المسوح،
وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وكان العذاب فيما روي عن ابن عباس:
على ثلثي ميل منهم، وروي: على ميل، وقال ابن جبير: غشيهم العذاب، كما
يغشى الثوب القبر، فرفع الله عنهم العذاب، فلما مضت الثالثة، وعلم يونس أن العذاب لم
ينزل بهم، قال: كيف أنصرف، وقد وجدوني في كذب، فذهب مغاضبا، كما ذكر الله
سبحانه في غير هذه الآية، وذهب الطبري إلى أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن
تيب عليهم من بعد معاينة العذاب، وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين، وليس كذلك،
والمعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي تلبس العذاب أو الموت بشخص الإنسان، كقصة
فرعون، وأما قوم يونس فلم يصلوا هذا الحد.
* ت *: وما قاله الطبري عندي أبين، (ومتعناهم إلى حين): يريد: إلى آجالهم
المقدرة في الأزل، وروي أن قوم يونس / كانوا ب‍ " نينوى " من أرض الموصل.
وقوله سبحانه: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين): المعنى: أفأنت تكره
268

الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم، والله عز وجل قد شاء غير ذلك، و (الرجس) هنا
بمعنى العذاب.
وقوله سبحانه: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض...) الآية: هذه الآية أمر
للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع من آيات السماوات وأفلاكها
وكواكبها وسحابها ونحو ذلك، والأرض ونباتها ومعادنها وغير ذلك، المعنى: انظروا في
ذلك بالواجب، فهو ينهيكم إلى المعرفة بالله وبوحدانيته، ثم أخبر سبحانه أن الآيات والنذر
- وهم الأنبياء - لا تغنى إلا بمشيئته، ف‍ " ما "، على هذا: نافية، ويجوز أن تكون استفهاما
في ضمنه نفي وقوع الغنى، وفي الآية على هذا: توبيخ لحاضري النبي صلى الله عليه وسلم.
قال * ص *: و (النذر): جمع نذير، إما مصدر بمعنى الإنذارات، وإما بمعنى
منذر. انتهى.
وقوله سبحانه: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم...) الآية:
وعيد إذا لجوا في الكفر، حل بهم العذاب.
وقوله سبحانه: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا): أي: عادة الله سلفت بانجاء رسله
ومتبعيهم عند نزول العذاب بالكفرة (كذلك حقا علينا ننج المؤمنين).
قال * ص *: أي: مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم ننجي من آمن
بك. انتهى، وخط المصحف في هذه اللفظة " ننج " بجيم مطلقة دون ياء، وكلهم قرأ " ننج "
- مشددة الجيم - إلا الكسائي وحفصا عن عاصم، فإنهما قرآ بسكون النون وتخفيف
الجيم.
269

وقوله سبحانه: (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني...) الآية، مخاطبة
عامة للناس أجمعين إلى يوم القيامة.
وقوله: (وأن أقم وجهك للدين...) الآية: الوجه في هذه الآية بمعنى المنحى
والمقصد، أي: اجعل طريقك واعتمالك للدين والشرع.
وقوله تعالى: (ولا تكونن من المشركين * ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا
يضرك...) الآية، قد تقدم أن ما كان من هذا النوع، فالخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد
غيره.
وقوله سبحانه: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو...) الآية: مقصود
هذه الآية أن الحول والقوة لله، وال‍ (ضر) لفظ جامع لكل ما يكرهه الإنسان.
وقوله: (وإن يردك بخير) لفظ تام العموم.
وقوله سبحانه: (قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي
لنفسه): هذه مخاطبة لجميع الكفار ومستمرة مدى الدهر، و (الحق): هو القرآن والشرع
الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وما أنا عليكم بوكيل): منسوخة بالقتال.
وقوله سبحانه: (واتبع ما يوحى إليك وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين).
قوله: (حتى يحكم الله): وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يغلبهم، كما وقع، وهذا الصبر منسوخ
أيضا بالقتال، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
270

تفسير سورة هود
مكية
إلا نحو ثلاث آيات
قال الداوودي: وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قلت: يا رسول الله، لقد
أسرع إليك الشيب؟! قال: " شيبتي " هود " و " الواقعة " و " المرسلات " و " عم يتساءلون " و " إذا
الشمس كورت "، وفي رواية عن ابن عباس: " هود وأخواتها ". انتهى.
271

قوله عز وجل: (الر كتاب أحكمت آياته) أي: أتقنت وأجيدت، وبهذه الصفة كان
القرآن في الأزل، ثم فصل بتقطيعه، وتبيين أحكامه وأوامره على محمد نبيه عليه السلام في
أزمنة مختلفة، ف‍ " ثم " على بابها، / فالإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من
يفصل له، والكتاب بأجمعه محكم ومفصل، والإحكام الذي هو ضد النسخ، والتفصيل
الذي هو خلاف الإجمال، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك.
قال * ص *: (ثم فصلت): " ثم " لترتيب الأخبار، لا لترتيب الوقوع في الزمان،
و (لدن) بمعنى: " عند ". انتهى.
قال الداوودي: وعن الحسن: (أحكمت آياته): قال: أحكمت بالأمر والنهي، ثم
فصلت بالوعد والوعيد، وعنه: فصلت بالثواب والعقاب. انتهى. وقدم ال‍ (نذير)، لأن
التحذير من النار هو الأهم. (وأن استغفروا ربكم)، أي: اطلبوا مغفرته، وذلك بطلب
دخولكم في الإسلام، (ثم توبوا) من الكفر (يمتعكم متاعا حسنا)، ووصف المتاع
بالحسن، لطيب عيش المؤمن برجائه في ثواب ربه، وفرحه بالتقرب إليه بأداء مفترضاته،
والسرور بمواعيده سبحانه، والكافر ليس في شئ من هذا، (ويؤت كل ذي فضل)، أي:
كل ذي إحسان (فضله)، فيحتمل أن يعود الضمير من " فضله " على " ذي فضل " أي:
ثواب فضله، ويحتمل أن يعود على الله عز وجل، أي: يؤتي الله فضله كل ذي فضل
وعمل صالح من المؤمنين، ونحو هذا المعنى ما وعد به سبحانه من تضعيف الحسنات،
(وإن تولوا فإني أخاف عليكم)، أي: فقل: إني أخاف عليكم عذاب يوم كبير، وهو يوم
القيامة.
وقوله سبحانه: (ألا أنهم يثنون صدورهم...) الآية: قيل: إن هذه الآية نزلت
في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم، كالمتستر، وردوا إليه
ظهورهم، وغشوا وجوههم بثيابهم، تباعدا منهم، وكراهية للقائه، وهم يظنون أن ذلك
يخفى عليه، أو عن الله عز وجل، وقيل: هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون
272

عليه، فمعنى الآية: ألا إنهم يسرون العداوة، ويتكتمون بها، لتخفى في ظنهم عن الله وهو
سبحانه حين تغشيهم بثيابهم، وإبلاغهم في التستر، يعلم ما يسرون، و (يستغشون): معناه
يجعلونها أغشية وأغطية.
قال * ص *: قرأ الجمهور: " يثنون " - بفتح الياء -، مضارع ثنى الشئ ثنيا:
طواه. انتهى، وقرأ ابن عباس وجماعة: " تثنوني صدورهم " - بالرفع -، على وزن
" تفعوعل "، وهي تحتمل المعنيين المتقدمين، وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه
القراءة. أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يأتون النساء والحدث إلا ويستغشون ثيابهم،
كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء.
وقوله عز وجل: (وما من دابة في الأرض إلى على الله رزقها...) الآية، المراد
جميع الحيوان المحتاج إلى رزق، والمستقر: صلب الأب، و " المستودع ": بطن الأم، وقيل
غير هذا، وقد تقدم.
وقوله: (في كتاب): إشارة إلى اللوح المحفوظ.
قال * ص *: (ليبلوكم) اللام متعلقة ب‍ " خلق " وقيل: بفعل محذوف، أي: أعلم
بذلك ليبلوكم، انتهى.
(ولئن قلت): اللام في " لئن ": مؤذنة بأن اللام في (ليقولن) لام قسم، لا جواب
شرط، وقولهم: (إن هذا إلا سحر مبين) تناقض منهم، لأنهم مقرون بأن الله خلق
السماوات والأرض، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر من ذلك، وهو البعث من القبور،
وإذ خلق السماوات والأرض، أكبر من خلق الناس.
273

(ولئن أخرنا عنهم العذاب)، أي: المتوعد به (إلى أمة معدودة)، أي مدة معدودة
(ليقولن ما يحبسه)، أي: ما هذا الحابس لهذا العذاب، على جهة التكذيب، (وحاق):
معناه: حل وأحاط. البخاري: حاق: نزل.
(ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة...) الآية: " الرحمة " هنا: تعم جميع ما ينتفع به
من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك، و (الإنسان) هنا اسم جنس، والمعنى: إن هذا
الخلق في سجية الإنسان، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان / إلى الصبر
والعمل الصالح، و (كفور) هنا: من كفر النعمة، وال‍ (نعماء): تشمل الصحة والمال،
وال‍ (ضراء): من الضر، وهو أيضا شامل، ولفظة (ذهب السيئات عني): يقتضي بطرا
وجهلا أن ذلك بإنعام من الله تعالى، و (السيئات) هنا: كل ما يسوء في الدنيا،
وال‍ (فرح)، هنا: مطلق، فلذلك ذم، إذ الفرح انهمال النفس، ولا يأتي الفرح في القرآن
ممدوحا إلا إذا قيد بأنه في خير.
وقوله: (إلا الذين صبروا): استثناء متصل، على ما قدمنا من أن الإنسان عام يراد
به الجنس، وهو الصواب، ومن قال: إنه مخصوص بالكافر قال: ههنا الاستثناء منقطع،
وهو قول ضعيف من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ، لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع
الناس، كما تقتضي لفظة الإنسان واستثنى الله تعالى من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء
الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره، والمثابرة على عبادة الله، وليس شئ من
ذلك في سجية البشر، وإنما حمل على ذلك خوف الله وحب الدار الآخرة، والصبر على
العمل الصالح لا ينفع إلا مع هداية وإيمان، ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة بالمغفرة
للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم.
وقوله سبحانه: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا
أنزل عليه كنز): سبب هذه الآية: أن كفار قريش قالوا: يا محمد، لو تركت سب آلهتنا،
وتسفيه آبائنا، لجالسناك واتبعناك، وقالوا له: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو هذا من
274

الأقوال، فخاطب الله تعالى نبيه عليه السلام على هذه الصورة من المخاطبة، ووقفه بها
توقيفا رادا على أقوالهم ومبطلا لها، وليس المعنى أنه عليه السلام هم بشئ من ذلك،
فزجر عنه، فإنه لم يرد قط ترك شئ مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره به، وإنما كان يضيق
صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.
قال * ص *، وع *: وعبر ب‍ (ضائق) وإن كان أقل استعمالا من " ضيق " لمناسبة
(تارك)، ولأن (ضائق) وصف عارض، بخلاف " ضيق "، فإنه يدل على الثبوت،
والصالح هنا الأول بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، والضمير في " به " عائد على البعض، ويحتمل أن يعود
على " ما " و (أن يقولوا) أي: كراهة أن يقولوا، أو لئلا يقولوا، ثم آنسه تعالى بقوله: (إنما
أنت نذير)، أي: هذا القدر هو الذي فوض إليك، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل
الممضي لإيمان من شاء، وكفر من شاء (أم يقولون افتراه): " أم " بمعنى: " بل "، والافتراء
أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر.
وقوله سبحانه: (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله
إن كنتم صادقين) تقدم تفسير نظيرها، وقال بعض الناس: هذه الآية متقدمة على التي في
يونس، إذ لا يصح أن يعجزوا في واحدة، ثم يكلفوا عشرا.
قال * ع *: وقائل هذا القول لم يلحظ ما ذكرناه من الفرق بين التكليفين، في
كمال المماثلة مرة كما هو في " سورة يونس "، ووقوفها على النظم مرة كما هو هنا، وقوله:
(إن كنتم صادقين): يريد في أن القرآن مفترى.
275

وقوله سبحانه: (فإن لم يستجيبوا لكم)، لهذه الآية تأويلان:
أحدهما: أن تكون المخاطبة من النبي صلى الله عليه وسلم للكفار، أي: ويكون ضمير
(يستجيبوا)، على هذا التأويل عائدا على معبوداتهم.
والثاني: أن تكون المخاطبة من الله تعالى للمؤمنين، ويكون قوله، على هذا
(فاعلموا) بمعنى: دوموا على عملكم قال مجاهد: قوله تعالى: (فهل أنتم مسلمون):
هو لأصحاب محمد عليه السلام.
وقوله سبحانه: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها...) الآية: قالت قتادة وغيره:
هي في الكفرة، وقال مجاهد: هي في الكفرة وأهل الرياء من المؤمنين.
/ وإليه ذهب معاوية، والتأويل الأول أرجح، بحسب تقدم ذكر الكفار، وقال ابن
العربي في " أحكامه ": بل الآية عامة في كل من ينوي غير الله بعمله، كان معه إيمان أو لم
يكن، وفي هذه الآية بيان لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى "،
وذلك أن العبد لا يعطى إلا على وجه قصده، وبحكم ما ينعقد في ضميره، وهذا أمر متفق
عليه.
وقوله: (نوف إليهم أعمالهم فيها): قيل: ذلك في صحة أبدانهم وإدرار أرزاقهم،
وقيل: إن هذه الآية مطلقة، وكذلك التي في " حم عسق ": (من كان يريد حرث الآخرة نزد
له في حرثه) الآية [الشورى: 20] إلى آخرها، قيدتهما وفسرتهما الآية التي في " سورة
سبحان "، وهي قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد...)
الآية [الإسراء: 18]، فأخبر سبحانه أن العبد ينوي ويريد، والله يحكم ما يريد، ثم ذكر
ابن العربي الحديث الصحيح في النفر الثلاثة الذين كانت أعمالهم رياء، وهم رجل جمع
القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، وقول الله لكل واحد منهم: " ماذا
عملت؟ " ثم قال في آخر الحديث: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي، وقال: يا أبا هريرة،
276

أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار، ثم قرأ قوله تعالى: (أولئك الذين ليس لهم
في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها) "، أي: في الدنيا وهذا نص في مراد الآية،
والله أعلم. انتهى.
و (حبط): معناه: بطل وسقط، وهي مستعملة في فساد الأعمال.
قال * ص *: قوله: (ما صنعوا): " ما " بمعنى: " الذي "، أو مصدرية، و " فيها ":
متعلق ب‍ " حبط "، والضمير في " فيها " عائد على الآخرة، أي: ظهر حبوط ما صنعوا في
الآخرة، أو متعلق ب‍ " صنعوا "، فيكون عائدا على الدنيا. انتهى.
و " ال‍ (باطل): كل ما تقتضي ذاته ألا تنال به غاية في ثواب ونحوه، وقوله سبحانه:
(أفمن كان على بينة من ربه): في الآية تأويلات.
قال * ع *: والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية: أن يكون " أفمن "
للمؤمنين، أو لهم وللنبي صلى الله عليه وسلم معهم، وال‍ (بينة): القرآن وما تضمن، وال‍ (شاهد):
الإنجيل، يريد: أو إعجاز القرآن في قول، والضمير في " يتلوه " للبينة، وفي " منه " للرب،
والضمير في " قبله " للبينة أيضا، وغير هذا مما ذكر محتمل، فإن قيل: إذا كان الضمير في
" قبله " عائدا على القرآن، فلم لم يذكر الإنجيل، وهو قبله، وبينه وبين كتاب موسى؟،
فالجواب: أنه خص التوراة بالذكر، لأنه مجمع عليه، والإنجيل ليس كذلك، لأن اليهود
تخالف فيه، فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الجميع أولى، وهذا يجري مع قول
الجن: (إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى) [الأحقاف: 30] و (الأحزاب)، هاهنا يراد
بهم جميع الأمم، وروى سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه
قال: " ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل
النار "، قال سعيد: فقلت: أين مصداق هذا في كتاب الله؟ حتى وجدته في هذه الآية،
وكنت إذا سمعت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم طلبت مصداقه في كتاب الله عز وجل، وقرأ
277

الجمهور: " في مرية " - بكسر الميم -، وهو الشك، والضمير في " منه " عائد على كون
الكفرة موعدهم النار، وسائر الآية بين.
وقوله تعالى: (ويقول الأشهاد): قالت فرقة: يريد الشهداء من الأنبياء والملائكة،
وقالت فرقة: الأشهاد: بمعنى المشاهدين، ويريد جميع الخلائق، وفي ذلك إشادة بهم
وتشهير لخزيهم، وروي في نحو هذا حديث: " أنه لا يخزي أحد يوم القيامة / إلا ويعلم
ذلك جميع من شهد المحشر "، وباقي الآية بين مما تقدم في غيرها.
قال * ص *: وقوله: (ألا لعنة الله على الظالمين) يحتمل أن يكون داخلا في
مفعول القول، وإليه نحا بعضهم. انتهى.
وقوله سبحانه: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون): يحتمل وجوها:
أحدها: أنه وصف سبحانه هؤلاء الكفار بهذه الصفة في الدنيا، على معنى أنهم لا
يسمعون سماعا ينتفعون به، ولا يبصرون كذلك.
والثاني: أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يستطيعون أن
يحملوا نفوسهم على السمع منه، والنظر إليه.
" وما "، في هذين الوجهين: نافية.
الثالث: أن يكون التقدير: يضاعف لهم العذاب بما كانوا، أي: بسبب ما كانوا،
ف‍ " ما " مصدرية، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون * إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم...) الآية: (لا جرم) تقدم بيانها،
(وأخبتوا): قال قتادة: معناه: خشعوا، وقيل: معناه أنابوا، قاله ابن عباس،
278

وقيل: اطمأنوا، قاله مجاهد وقيل: خافوا، قاله ابن عباس أيضا، وهذه أقوال
بعضها قريب من بعض.
وقوله سبحانه: (مثل الفريقين...) الآية، " الفريقان " الكافرون والمؤمنون، شبه
الكافر بالأعمى والأصم، وشبه المؤمن بالبصير والسميع، فهو تمثيل بمثالين.
وقوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين * ألا تعبدوا إلا الله
إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم * فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا
مثلنا...) الآية: فيها تمثيل لقريش وكفار العرب، وإعلام بأن محمدا عليه السلام ليس
ببدع من الرسل، و " الأراذل " جمع الجمع، فقيل: جمع أرذل، وقيل: جمع أرذال، وهم
سفلة الناس، ومن لا خلاق له ولا يبالي ما يقول، ولا ما يقال له، وقرأ الجمهور:
" بادي الرأي " - بياء دون همز -، من بدا يبدو، فيحتمل أن يتعلق " بادي الرأي " ب‍ " نراك "،
أي: وما نراك بأول نظر وأقل فكرة، وذلك هو بادي الرأي إلا ومتبعوك أراذلنا، ويحتمل
أن يتعلق بقوله: " اتبعك "، أي: وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل، ثم يحتمل على
هذا قوله: (بادي الرأي) معنيين:
أحدهما: أن يريدوا: اتبعك في ظاهر أمرهم، وعسى أن بواطنهم ليست معك.
والثاني: أن يريدوا: اتبعوك بأول نظر، وبالرأي البادي، دون تثبت.
ويحتمل أن يكون قولهم: (بادي الرأي) وصفا منهم لنوح، أي: تدعي عظيما
وأنت مكشوف الرأي، لا حصافة لك، ونصبه على الحال، أو على الصفة ل‍ " بشر ".
279

وقوله سبحانه: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من
عنده...) الآية: كأنه قال: أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى، وأنتم له
كارهون، وعبارة نوح عليه السلام كانت بلغته دالة على المعنى القائم بنفسه، وهو هذا
المفهوم من هذه العبارة العربية، فبهذا استقام أن يقال: كذا وكذا، إذ القول ما أفاد
المعنى القائم في النفس، وقوله: (على بينة) أي: على أمر بين جلي، وقرأ الجمهور:
" فعميت " ولذلك وجهان من المعنى:
والثاني: أن يكون المعنى: فعميتم أنتم عنها.
وقوله: (أنلزمكموها): يريد إلزام جبر، كالقتال ونحوه، وأما إلزام الإيجاب، فهو
حاصل.
وقوله: (وما أنا بطارد الذين آمنوا): يقتضي أن قومه طلبوا طرد الضعفاء الذين
بادروا إلى الإيمان به نظير ما اقترحت قريش، و (تزدري): أصله: تزتري، تفتعل من زرى
يزري، ومعنى: (تزدري): تحتقر، و " الخير "، هنا: يظهر فيه أنه خير الآخرة، اللهم إلا
أن يكون ازدراؤهم من جهة الفقر، فيكون الخير المال، وقد قال بعض المفسرين: حيث ما
ذكر الله الخير / في القرآن، فهو المال.
280

قال * ع *: وفي هذا الكلام تحامل، والذي يشبه أن يقال: إنه حيث ما ذكر
الخير، فإن المال يدخل فيه.
* ت *: وهذا أيضا غير ملخص، والصواب: أن الخير أعم من ذلك كله، وانظر
قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) [الزلزلة: 7] فإنه يشمل المال وغيره،
ونحوه: (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) [الحج: 77]، وانظر قوله عليه السلام: " اللهم
لا خير إلا خير الآخرة "، وقوله تعالى: (إن علمتم فيهم خيرا) [النور: 33]، فهاهنا لا
مدخل للمال إلا على تجوز، وقد يكون الخير المراد به المال فقط، وذلك بحسب القرائن،
كقوله تعالى: (إن ترك خيرا...) الآية [البقرة: 18].
وقوله: (الله أعلم بما في أنفسهم) تسليم لله تعالى، وقال بعض المتأولين: هي
رد على قولهم: اتبعك أراذلنا في ظاهر أمرهم، حسب ما تقدم في بعض التأويلات، ثم
قال: (إني إذا) لو فعلت ذلك، (لمن الظالمين)، وقولهم: (قد جادلتنا): معناه: قد
طال منك هذا الجدال، والمراد بقولهم: (بما تعدنا) العذاب والهلاك، (وما أنتم
بمعجزين)، أي: بمفلتين.
وقوله سبحانه: (أم يقولون افتراه...) الآية: قال الطبري وغيره: هذه الآية
اعترضت في قصة نوح، وهي في شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش.
قال * ع *: ولو صح هذا بسند، لوجب الوقوف عنده، وإلا فهو يحتمل أن
281

يكون في شأن نوح عليه السلام، وتتسق الآية، ويكون الضمير في " افتراه " عائد على ما
توعدهم به، أو على جميع ما أخبرهم به، و " أم " بمعنى " بل ".
وقوله سبحانه: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن...)
الآية، قيل لنوح هذا بعد أن طال عليه كفر القرن بعد القرن به، وكان يأتيه الرجل بابنه،
فيقول: يا بني، لا تصدق هذا الشيخ، فهكذا عهده أبي وجدي كذابا مجنونا، رواه
عبيد بن عمير وغيره، فروي أنه لما أوحي إليه ذلك، دعا، فقال: (رب لا تذر على
الأرض من الكافرين ديارا) [نوح: 26]، و (تبتئس) من البؤس، ومعناه: لا تحزن.
وقوله: (بأعيننا): يمكن أن يريد بمرأى منا، فيكون عبارة عن الإدراك والرعاية
والحفظ، ويكون جمع الأعين، للعظمة لا للتكثير، كما قال عز من قائل: (فنعم
القادرون) [المرسلات: 23]، والعقيدة أنه تعالى منزه عن الحواس، والتشبيه، والتكييف،
لا رب غيره، ويحتمل قوله: (بأعيننا) أي: بملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع
حفظك ومعونتك، فيكون الجمع على هذا التأويل: للتكثير.
وقوله: (ووحينا) معناه: وتعليمنا له صورة العمل بالوحي، وروي في ذلك: " أن
نوحا عليه السلام لما جهل كيفية صنع السفينة، أوحى الله إليه، أن أصنعها على مثال
جؤجؤ الطائر " إلى غير ذلك مما علمه نوح من عملها. وقوله: (ولا تخاطبني في الذين
ظلموا...) الآية، قال ابن جريج في هذه الآية: تقدم الله إلى نوح ألا يشفع فيهم.
وقوله: (ويصنع الفلك): التقدير: فشرع يصنع، فحكيت حال الاستقبال،
وال‍ (ملأ) هنا: الجماعة.
وقوله: (سخروا منه...) الآية: السخر: الاستجهال مع استهزاء، وإنما سخروا
منه في أن صنعها في برية.
وقوله: (فإنا نسخر منكم) قال الطبري: يريد في الآخرة.
قال * ع *: ويحتمل الكلام - وهو الأرجح - أن يريد: إنا نسخر منكم الآن،
282

والعذاب المخزي: هو الغرق، وال‍ (مقيم): هو عذاب الآخرة، و " الأمر ": واحد الأمور،
ويحتمل أن يكون مصدر " أمر "، فمعناه: أمرنا للماء بالفوران، (وفار) معناه: انبعث بقوة،
واختلف الناس في التنور، والذي عليه الأكثر، منهم ابن عباس وغيره: أنه هو تنور الخبز
الذي يوقد فيه، وقالوا: كانت هذه أمارة، جعلها الله لنوح، أي: إذا فار التنور، فاركب
في السفينة.
وقوله سبحانه: (قلنا احمل فيه من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول
ومن آمن...) الآية، الزوج: يقال في مشهور كلام العرب: للواحد مما له ازدواج،
فيقال: هذا زوج / هذا، وهما زوجان، والزوج أيضا في كلام العرب: النوع، وقوله:
(وأهلك): عطف على ما عمل فيه (احمل) والأهل، هنا: القرابة، وبشرط من آمن
منهم، خصصوا تشريفا، ثم ذكر (من آمن)، وليس من الأهل، واختلف في الذي سبق
عليه القول بالعذاب، فقيل: ابنه يام، أو كنعان، وقيل: امرأته والعة - بالعين المهملة -،
وقيل: هو عموم فيمن لم يؤمن من أهل نوح، ثم قال سبحانه إخبارا عن حالهم: (وما آمن
معه إلا قليل).
وقوله تعالى: (وقال اركبوا فيها): أي: وقال نوح لمن معه: اركبوا فيها، وقوله:
(باسم الله) يصح أن يكون في موضع الحال من ضمير " اركبوا "، أي: اركبوا متبركين
باسم الله، أو قائلين: باسم الله، ويجوز أن يكون: (باسم الله مجراها ومرساها) جملة
ثانية من مبتدأ وخبر، لا تعلق لها بالأولى كأنه أمرهم أولا بالركوب، ثم أخبر أن مجراها
ومرساها باسم الله. قال الضحاك: كان نوح إذا أراد جري السفينة، جرت، وإذا أراد
وقوفها، قال: باسم الله، فتقف، وقرأ الجمهور بضم الميم من " مجراها ومرساها "
283

على معنى إجرائها وإرسائها، وقر الأخوان حمزة والكسائي وحفص بفتح ميم " مجريها "
وكسر الراء، وكلهم ضم الميم في " مرساها ".
* ت *: قوله: " وكسر الراء ": يريد إمالتها، وفي كلامه تسامح، ولفظ البخاري:
مجراها: مسيرها، ومرساها: موقفها، وهو مصدر: أجريت وأرسيت. انتهى.
قال النووي: وروينا في " كتاب ابن السني " بسنده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أمان
لأمتي من الغرق، إذا ركبوا أن يقولوا: (باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم)
(وما قدروا الله حق قدره...) الآية [الأنعام: 91] "، هكذا هو في النسخ: " إذا
ركبوا "، ولم يقل: " في السفينة " انتهى.
وقوله: (وكان في معزل) أي: في ناحية، أي: في بعد عن السفينة، أو عن الدين،
واللفظ يعمها.
وقوله: (ولا تكن مع الكافرين): يحتمل أن يكون نهيا محضا مع علمه بأنه كافر،
ويحتمل أن يكون خفي عليه كفره، والأول أبين.
وقوله: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم): الظاهر أن (لا عاصم) اسم
284

فاعل على بابه، وقوله: (إلا من رحم): يريد: إلا الله الراحم، ف‍ " من " كناية عن الله،
المعنى: لا عاصم اليوم إلا الذي رحمنا.
وقوله سبحانه: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك...) الآية: البلع: تجرع الشئ،
وازدراده، والإقلاع عن الشئ: تركه، و (غيض) معناه: نقص، وأكثر ما يجيء فيما هو
بمعنى الجفوف، وقوله: (وقضي الأمر): إشارة إلى جميع القصة: بعث الماء، وإهلاك
الأمم، وإنجاء أهل السفينة.
قال * ع *: وتظاهرت الروايات وكتب التفسير بأن الغرق نال جميع أهل
الأرض، وعم الماء جميعها، قاله ابن عباس وغيره، وذلك بين من أمر نوح بحمل الأزواج
من كل الحيوان، ولولا خوف فنائها من جميع الأرض، ما كان ذلك، وروي أن نوحا عليه
السلام ركب في السفينة من عين الوردة بالشام أول يوم من رجب، واستوت [السفينة] على
الجودي في ذي الحجة، وأقامت عليه شهرا، وقيل له: (اهبط) في يوم عاشوراء، فصامه
هو ومن معه، وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال، أن السفينة ترسى على واحد منها،
فتطاولت كلها، وبقي الجودي، وهو جبل بالموصل في ناحية الجزيرة، لم يتطاول،
تواضعا لله، فاستوت السفينة بأمر الله عليه، وقال الزجاج: الجودي: هو بناحية " آمد "،
وقال قوم: هو عند باقردي، وأكثر الناس في قصص هذه الآية، والله أعلم بما صح من
ذلك.
وقوله: (وقيل بعدا): يحتمل أن يكون من قول الله عز وجل، عطفا على قوله:
(وقيل) الأول، ويحتمل أن يكون من قول نوح والمؤمنين، والأول أظهر.
وقوله: (إن ابني من أهلي...) الآية: احتجاج من نوح عليه السلام أن الله أمره
285

بحمل أهله، وابنه من أهله، فينبغي أن يحمل، فأظهر الله له أن المراد من آمن من الأهل،
وهذه الآية تقتضي أن نوحا عليه السلام ظن أن ابنه مؤمن /.
وقوله: (إنه ليس من أهلك) أي: الذين عمهم الوعد، لأنه ليس على دينك، وإن
كان ابنك بالولادة.
وقوله: (عمل غير صالح): جعله وصفا له بالمصدر، على جهة المبالغة في وصفه
بذلك، كما قالت الخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها: [البسيط]
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت * فإنما هي إقبال وإدبار
أي: ذات إقبال وإدبار، ويبين هذا قراءة الكسائي " إنه عمل غير صالح " فعلا ماضيا،
ونصب " غير " على المفعول ل " عمل "، وقول من قال: " إن الولد كان لغية " خطأ محض،
وهذا قول ابن عباس والجمهور، قالوا: وأما قوله تعالى: (فخانتاهما) [التحريم: 10]
فإن الواحدة كانت تقول للناس: هو مجنون، والأخرى كانت تنبه على الأضياف، وأما
خيانة غير هذا، فلا، ويعضده المعنى، لشرف النبوة، وجوز المهدوي أن يعود الضمير في
" إنه " على السؤال، أي: إن سؤالك إياي ما ليس لك به علم عمل غير صالح، قاله النخعي
وغيره. انتهى. والأول أبين، وعليه الجمهور، وبه صدر المهدوي، ومعنى قوله: (فلا
تسألن ما ليس لك به علم) أي: إذا وعدتك، فأعلم يقينا، أنه لا خلف في الوعد، فإذا
رأيت ولدك لم يحمل، فكان الواجب عليك أن تقف، وتعلم أن ذلك بحق واجب عند
الله.
قال * ع *: ولكن نوحا عليه السلام حملته شفقة الأبوة وسجية البشر على
التعرض لنفحات الرحمة، وعلى هذا القدر وقع عتابه، ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله
سبحانه: (إني أعظك أن تكون من الجاهلين)، ويحتمل قوله: (فلا تسألني ما ليس لك به
علم) أي: لا تطلب مني أمرا لا تعلم المصلحة فيه علم يقين، ونحا إلى هذا أبو علي
286

الفارسي، وهذا والأول في المعنى واحد.
وقوله: (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم): إنابة منه عليه السلام،
وتسليم لأمر ربه، والسؤال الذي وقع النهي عنه، إنما هو سؤال العزم الذي معه محاجة
وطلبة ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه، وأما السؤال، على جهة الاسترشاد والتعلم،
فغير داخل في هذا، ثم قيل له: (اهبط بسلام)، وذلك عند نزوله من السفينة،
وال‍ (سلام)، هنا: السلامة والأمن، وال‍ (بركات) الخير والنمو في كل الجهات، وهذه
العدة، تعم جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، قاله محمد بن كعب القرظي، ثم قطع قوله:
(وأمم) على وجه الابتداء، وهؤلاء هم الكفار إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: (تلك) إشارة إلى القصة، وباقي الآية بين.
وقوله عز وجل: (وإلى عاد أخاهم هودا...) الآية: عطف على قوله: (ولقد
أرسلنا نوحا إلى قومه) [هود: 25].
وقوله: (ويا قوم استغفروا ربكم...) الآية: الاستغفار: طلب المغفرة، فقد
يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد.
وقوله: (ثم توبوا إليه)، أي: بالإيمان من كفركم، والتوبة: عقد في ترك متوب
287

منه، يتقدمها علم بفساد المتوب منه، وصلاح ما يرجع إليه، ويقترن بها ندم على فارط
المتوب منه، لا ينفك منه، وهو من شروطها و (مدرارا) بناء تكثير، وهو من در يدر، وقد
تقدمت قصة " عاد ".
وقوله سبحانه: (ويزدكم قوة إلى قوتكم) ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله
تعالى فيه إلى العباد، ويحتمل أن خص القوة بالذكر، إذ كانوا أقوى العوالم، فوعدوا
بالزيادة فيما بهروا فيه، ثم نهاهم عن التولي عن الحق، وقولهم: (عن قولك)، أي: لا
يكون قولك سبب تركنا، وقال * ص *: (عن قولك): حال من الضمير في " تاركي "،
أي: صادرين عن قولك، وقيل: " عن ": للتعليل، كقوله: (إلا عن موعدة) [التوبة:
114] وقولهم: (إن نقول...) الآية: معناه: ما نقول إلا أن بعض آلهتنا التي ضللت
عبدتها أصابك بجنون، يقال: / عر يعر، واعترى يعتري، إذا ألم بالشيء.
وقوله: (فكيدوني جميعا): أي: أنتم وأصنامكم، ويذكر أن هذه كانت له عليه
السلام معجزة، وذلك أنه حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكفرهم، فلم يقدروا
على نيله بسوء، و (تنظرون): معناه: تؤخروني، أي: عاجلوني بما قدرتم عليه.
وقوله: (إن ربي على صراط مستقيم) يريد: إن أفعال الله عز وجل في غاية
الإحكام، وقوله الصدق ووعده الحق، و (عنيد): من " عند " إذا عتا.
وقوله سبحانه: (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة...) الآية: حكم عليهم سبحانه بهذا،
لموافاتهم على الكفر، ولا يلعن معين حي: لا من كافر، ولا من فاسق، ولا من بهيمة،
288

كل ذلك مكروه بالأحاديث.
* ت *: وتعبيره بالكراهة، لعله يريد التحريم، (ويوم): ظرف، ومعناه: إن اللعنة
عليهم في الدنيا، وفي يوم القيامة، ثم ذكر العلة الموجبة لذلك، وهي كفرهم بربهم،
وباقي الآية بين.
وقوله عز وجل: (وإلى ثمود أخاهم صالحا...) الآية: التقدير: وأرسلنا إلى ثمود
و (أنشأكم من الأرض): أي: اخترعكم، وأوجدكم، وذلك باختراع آدم عليه السلام.
وقال * ص *: (من الأرض): لابتداء الغاية باعتبار الأصل المتولد منه النبات
المتولد منه الغذاء المتولد منه المني ودم الطمث المتولد عنه الإنسان. انتهى.
وقد نقل * ع *: في غير هذا الموضع نحو هذا، ثم أشار إلى مرجوحيته، وأنه
داع إلى القول بالتولد، قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: (واستعمركم فيها):
أي: خلقكم لعمارتها، ولا يصح أن يقال: هو طلب من الله لعمارتها، كما زعم بعض
الشافعية.
* ت *: والمفهوم من الآية أنها سيقت مساق الامتنان عليهم. انتهى. وقولهم:
(يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا)، قال جمهور المفسرين: معناه: مسودا نؤمل فيك
أن تكون سيدا سادا مسد الأكابر، وقولهم: (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب)،
معنى: (مريب): ملبس متهم، وقوله: (أرأيتم): أي: أتدبرتم، فالرؤية قلبية، و (آتاني
منه رحمة)، يريد: النبوة وما انضاف إليها.
289

وقال * ص *: قد تقرر في (أرأيتم)، أنها بمعنى أخبروني. انتهى.
وال‍ (تخسير) هو من الخسارة، وليس التخسير في هذه الآية:: إلا لهم، وفي
حيزهم، وهذا كما تقول لمن توصيه: أنا أريد بك خيرا، وأنت تريد بي شرا.
وقال * ص *: (غير تخسير): من خسر، وهو هنا للنسبية ك‍ " فسقته وفجرته "،
إذا نسبته إليهما.
* ت *: ونقل الثعلبي عن الحسين بن الفضل، قال: لم يكن صالح في خسارة،
حين قال: (فما تزيدونني غير تخسير)، وإنما المعنى: ما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي
إياكم للخسارة، وهو من قول العرب: فسقته وفجرته، إذا نسبته إلى الفسوق والفجور.
انتهى. وهو حسن. وباقي الآية: بين قد تقدم الكلام في قصصها.
وأخذ الذين ظلموا الصحية): قال أبو البقاء: في حذف التاء من " أخذ " ثلاثة
أوجه:
أحدها: أنه فصل بين الفعل والفاعل.
والثاني: أن التأنيث غير حقيقي.
والثالث: أن الصيحة بمعنى الصياح، فحمل على المعنى، انتهى.
وقد أشار * ع *: إلى الثلاثة، واختار الأخير.
وقوله سبحانه: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى): الرسل: الملائكة، قال
المهدوي: (بالبشرى) يعنى: بالولد، وقيل: البشرى بهلاك قوم لوط انتهى.
290

(قالوا سلاما): أي: سلمنا عليك سلاما، وقرأ حمزة والكسائي: " قالوا سلاما
قال سلم "، فيحتمل أن يريد ب‍ " السلم " السلام، ويحتمل أن يريد ب‍ " السلم " ضد الحرب،
و (حنيذ): بمعنى: محنوذ، ومعناه: بعجل مشوي نضج، يقطر ماؤه، وهذا القطر يفصل
الحنيذ من جملة المشويات، وهيئة المحنوذ في اللغة: / الذي يغطى بحجارة أو رمل محمى
أو حائل بينه وبين النار يغطى به، والمعرض: من الشواء الذي يصفف على الجمر،
والمضهب: الشواء الذي بينه وبين النار حائل، ويكون الشواء عليه، لا مدفونا به، والتحنيذ
في تضمير الخيل: هو أن يغطى الفرس بجل على جل، ليتصبب عرقه، و (نكرهم) على
ما ذكر كثير من الناس، معناه: أنكرهم (وأوجس منهم خيفة)، من أجل امتناعهم من
الأكل، إذ عرف من جاء بشر ألا يأكل طعام المنزول به، قال ابن العربي في " أحكامه ":
ذهب الليث بن سعد إلى أن الضيافة واجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر،
فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، وما وراء ذلك صدقة "، وفي رواية: " ثلاثة أيام، ولا
يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه " وهذا حديث صحيح، خرجه الأئمة، واللفظ
للترمذي، وذهب علماء الفقه إلى: أن الضيافة لا تجب، وحملوا الحديث على الندب.
قال ابن العربي: والذي أقول به أن الضيافة فرض على الكفاية، ومن الناس من قال:
إنها واجبة في القرى حيث لا مأوى ولا طعام، بخلاف الحواضر، لتيسر ذلك فيها.
291

قال ابن العربي: ولا شك أن الضيف كريم، والضيافة كرامة، فإن كان عديما، فهي
فريضة انتهى، و (أوجس) معناه: أحس والتوجيس: ما يعتري النفس عند الحذر، وأوائل
الفزع.
وقوله سبحانه: (فضحكت) قال الجمهور: هو الضحك المعروف، وذكر الطبري
أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل، قالوا له: إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن، فقال لهم:
ثمنه: أن تذكروا الله تعالى عليه في أوله، وتحمدوه في آخره، فقال جبريل لأصحابه: بحق
اتخذ الله هذا خليلا، ثم بشر الملائكة سارة بإسحاق، وبأن إسحاق سيلد يعقوب، ويسمى
ولد الولد وراء، وهو قريب من معنى " وراء " في الظرف، إذ هو ما يكون خلف الشئ
وبعده.
وقال * ص *: " وراء "، هنا: استعمل غير ظرف، لدخول " من " عليه، أي: ومن
بعد إسحاق. انتهى.
وقولها: (يا ويلتى): الألف بدل من ياء الإضافة، أصلها: يا ويلتي، ومعنى:
" يا ويلتا " في هذا الموضع: العبارة عما دهم النفس من العجب في ولادة عجوز، و (من
أمر الله): واحد الأمور.
وقوله سبحانه: (رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت): يحتمل أن يكون دعاء،
وأن يكون خبرا.
* ص *: ونصب (أهل البيت) على النداء أو على الاختصاص، أو على المدح،
انتهى. وهذه الآية: تعطي أن زوجة الرجل من أهل بيته.
* ت *: وهي هنا من أهل البيت على كل حال، لأنها من قرابته، وابنة عمه،
و " البيت "، في هذه الآية، وفي " سورة الأحزاب " بيت السكنى.
وقوله: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا): أي: أخذ يجادلنا
" في قوم لوط ".
292

وقوله تعالى: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) وصف عليه السلام بالحلم، لأنه لم
يغضب قط لنفسه إلا أن يغضب لله، وأمره بالاعتراض عن المجادلة يقتضي أنها إنما كانت
في الكفرة، حرصا على إسلامهم، و (أمر ربك) واحد الأمور، أي: نفذ فيهم قضاؤه
سبحانه، وهذه الآية مقتضية أن الدعاء إنما هو أن يوفق الله الداعي إلى طلب المقدور، فأما
الدعاء في طلب غير المقدور، فغير مجد ولا نافع.
* ت *: والكلام في هذه المسألة متسع رحب، ومن أحسن ما قيل فيها قول
الغزالي في " الإحياء ": فإن قلت: فما فائدة الدعاء، والقضاء لا يرد؟ فالجواب: أن من
القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، واستجلاب الرحمة، كما أن الترس
سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات، انتهى. وقد أطال في المسألة، ولولا
الإطالة لأتيت بنبذ يثلج لها الصدر، وخرج الترمذي في " جامعه " عن أبي خزامة، واسمه
رفاعة، عن أبيه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول / الله، أرأيت رقى
نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: " هي من قدر
الله "، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وفي بعض نسخه: حسن صحيح، انتهى.
فليس وراء هذا الكلام من السيد المعصوم مرمى لأحد، وتأمل جواب الفاروق لأبي عبيدة،
حين هم بالرجوع من أجل الدخول على أرض بها الطاعون، وهي الشام.
293

وقوله سبحانه: (ولما جاءت رسلنا لوطا): الرسل هنا: الملائكة أضياف إبراهيم.
قال المهدوي: والرسل هنا: جبريل وميكائيل وإسرافيل، ذكره جماعة من
المفسرين. انتهى، والله أعلم بتعيينهم، فإن صح في ذلك حديث، صير إليه، وإلا
فالواجب الوقف، و (سئ بهم) أي: أصابه سوء، و " الذرع ": مصدر مأخوذ من الذراع،
ولما كان الذراع موضع قوة الإنسان، قيل في الأمر الذي لا طاقة له به: ضاق بهذا الأمر
ذراع فلان، وذرع فلان، أي: حيلته بذراعه، وتوسعوا في هذا حتى قلبوه، فقالوا: فلان
رحب الذراع، إذا وصفوه باتساع القدرة، و (عصيب): بناء اسم فاعل، معناه: يعصب
294

الناس بالشر، فهو من العصابة، ثم كثر وصفهم لليوم بعصيب، ومنه: [الوافر]
................ * وقد سلكوك في يوم عصيب
وبالجملة ف‍ " عصيب ": في موضع شديد وصعب الوطأة، و (يهرعون) معناه:
يسرعون، (ومن قبل كانوا يعملون السيئات): أي: كانت عادتهم إتيان الفاحشة في
الرجال.
وقوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم): يعني: بالتزويج، وقولهم: (وإنك لتعلم ما
نريد): إشارة إلى الأضياف، فلما رأى لوط استمرارهم في غيهم، قال: على جهة التفجع
والاستكانة: (لو أن لي بكم قوة).
قال * ع *: " لو أن ": جوابها محذوف، أي: لفعلت كذا وكذا، ويروى أن
الملائكة وجدت عليه، حين قال هذه الكلمات، وقالوا: إن ركنك لشديد، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد فالعجب منه لما استكان ".
قال * ع *: وإنما خشي لوط عليه السلام أن يمهل الله أولئك العصابة حتى
يعصوه في الأضياف، كما أمهلهم فيما قبل ذلك، ثم إن جبريل عليه السلام ضرب القوم
بجناحه، فطمس أعينهم، ثم أمروا لوطا بالسرى، وأعلموه بأن العذاب نازل بالقوم، فقال
لهم لوط: فعذبوهم الساعة، فقالوا له: (إن موعدهم الصبح)، أي: بهذا أمر الله، ثم
أنسوه في قلقه بقولهم: (أليس الصبح بقريب)، و " القطع ": القطعة من الليل.
قال * ص *: (إلا امرأتك): ابن كثير وأبو عمرو بالرفع، والباقون بالنصب،
فقيل: كلاهما استثناء من (أحد)، وقيل: النصب على الاستثناء من (أهلك) انتهى.
295

وقوله سبحانه: (وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) ذهبت فرقة، منهم ابن عباس
إلى أن الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ، كانت من طين قد تحجر، وأن
سجيلا معناها: ماء وطين، وهذا القول هو الذي عليه الجمهور، وقالت فرقة: " من
سجيل ": معناه: من جهنم، لأنه يقال: سجيل وسجين، حفظ فيها بدل النون لاما، وقيل
غير هذا (ومنضود): معناه: بعضه فوق بعض، متتابع، و (مسومة): أي: معلمة بعلامة.
وقوله تعالى: (وما هي): إشارة إلى الحجارة، والظالمون: قيل: يعني قريشا،
وقيل: يريد عموم كل من اتصف بالظلم، وهذا هو الأصح، وقيل: يعني بهذا الإعلام بأن
هذه البلاد قريبة من مكة، وما تقدم أبين.
وقوله عز وجل: (وإلى مدين أخاهم شعبيا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير...) الآية: قوله: (بخير): قال ابن
عباس: معناه: في رخص من الأسعار، وقيل: قوله: (بخير): عام في جميع نعم الله
تعالى، و (تعثوا): معناه تسعون في فساد، يقال: عثا يعثو، وعثي يعثى، إذا أفسد.
296

وقوله: (بقيت الله خير لكم): قال ابن عباس: معناه: الذي يبقي الله لكم من
أموالكم بعد توفيتكم / الكيل والوزن خير لكم مما تستكثرون به على غير وجهه، وهذا
تفسير يليق بلفظ الآية، وقال مجاهد: معناه: طاعة الله، وهذا لا يعطيه لفظ الآية.
قال * ص *: وقرأ الحسن: " تقية الله "، أي: تقواه.
قال * ع *: وإنما المعنى عندي: إبقاء الله عليكم إن أطعتم، وقولهم:
(أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا): قالت فرقة: أرادوا الصلوات المعروفة، وروي
أن شعيبا عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة، وقال الحسن: لم يبعث الله نبيا إلا فرض
عليه الصلاة والزكاة، وقيل: أرادوا: أدعواتك، وذلك أن من حصل في رتبة من خير أو
شر، ففي الأكثر تدعوه رتبته إلى التزيد من ذلك النوع، فمعنى هذا: لما كنت مصليا،
تجاوزت إلى ذم شرعنا وحالنا، فكأن حاله من الصلاة جسرته على ذلك، فقيل: أمرته،
كما قال تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) [العنكبوت: 45].
قال * ص *: وع *: (أو أن نفعل): معطوف على (ما يعبد)، و " أو " للتنويع،
انتهى. وظاهر حالهم الذي أشاروا إليه هو بخس الكيل والوزن الذي تقدم ذكره، وروي أن
الإشارة إلى قرضهم الدينار والدرهم، وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس، قاله
محمد بن كعب القرضي، وتؤول أيضا بمعنى تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال
الناس، قال ابن العربي: قال ابن المسيب: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في
297

الأرض، وكذلك قال زيد بن أسلم في هذه الآية، وفسرها به، ومثله عن يحيى بن
سعيد من رواية مالك، قال ابن العربي: وإذا كان قطع الدنانير والدراهم وقرضها من
الفساد، عوقب من فعل ذلك، وقرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر: فساد الوصف،
والقرض: تنقيص للقدر، وهو أشد من كسرها، فهو كالسرقة. انتهى من " الأحكام "
مختصرا، وبعضه بالمعنى، وقولهم: (إنك لأنت الحليم الرشيد): قيل: إنهم قالوه، على
جهة الحقيقة، أي: أنت حليم رشيد، فلا ينبغي لك أن تنهانا عن هذه الأحوال، وقيل:
إنما قالوا هذا، على جهة الاستهزاء.
وقوله: (ورزقني منه رزقا حسنا): أي: سالما من الفساد الذي أدخلتم في
أموالكم، وجواب الشرط الذي في قوله: (إن كنت على بينة من ربي) محذوف، تقديره:
أأضل كما ضللتم، أو أترك تبليغ رسالة ربي، ونحو هذا.
وقوله: (لا يجرمنكم): معناه: لا يكسبنكم، و (شقاقي): معناه: مشاقتي،
وعداوتي و " أن ": مفعولة ب‍ (يجرمنكم).
قال * ص *: وع *: (وما قوم لوط منكم ببعيد *: أي: بزمان بعيد، أو بمكان.
قال * ص *: (ودود) بناء مبالغة من ود الشئ، إذا أحبه، وآثره.
* ع *: ومعناه: أن أفعاله سبحانه ولطفه بعباده لما كانت في غاية الإحسان
إليهم، كانت كفعل من يتودد ويود المصنوع له، وقولهم: (ما نفقه): كقول قريش:
(قلوبنا في أكنة) [فصلت: 5]، والظاهر من قولهم: (إنا لنراك فينا ضعيفا): أنهم أرادوا
ضعف الانتصار والقدرة، وأن رهطه الكفرة يراعون فيه، والرهط: جماعة الرجل،
وقولهم: (لرجمناك) أي: بالحجارة، قاله ابن زيد، وقيل: بالسب باللسان، وقولهم:
(بعزيز) أي: بذي منعة وعزة، ومنزلة، و " الظهري ": الشئ الذي يكون وراء الظهر،
وذلك يكون في الكلام على وجهين: إما بمعنى الاطراح، كما تقول: جعلت كلامي وراء
298

ظهرك، ودبر أذنك، وعلى هذا المعنى حمل الجمهور الآية، أي: اتخذتم أمر الله وشرعه
وراء ظهوركم، أي: غير مراعي، وإما بأن يستند إليه ويلجأ، كما قال عليه السلام:
" وألجأت ظهري إليك "، وعلى هذا المعنى حمل الآية قوم: أي: وأنتم تتخذون الله سند
ظهوركم وعماد آمالكم.
وقوله: (اعملوا على مكانتكم) معناه: على حالاتكم، وفيه تهديد.
وقوله: (سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم
رقيب): والصحيح: أن الوقف في قوله: (إني عامل).
وقوله سبحانه: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة...) الآية: (الصيحة): هي
صيحة / جبريل عليه السلام.
وقوله سبحانه: (كأن لم يغنوا فيها...) الآية: (يغنوا): معناه: يقيمون بنعمة
وخفض عيش، ومنه المغاني، وهي المنازل المعمورة بالأهل، وضمير " فيها " عائد على
الديار.
وقوله: (بعدا): مصدر دعاء به، كقولك: سحقا للكافرين، وفارقت هذه قولهم:
(سلام عليكم) [النحل: 32]، لأن (بعدا) إخبار عن شئ قد وجب وتحصل، وتلك
إنما هي دعاء مرتجي، ومعنى البعد في قراءة: " بعدت " - بكسر العين -: الهلاك، وهي
قراءة الجمهور، ومنه قول خرنق بنت هفان: [الكامل]
لا يبعدن قومي الذين هم * سم العداة وآفة الجزر
299

ومنه قول مالك بن الربيع: [الطويل]
يقولن لا تبعد وهم يدفنونني * وأين مكان البعد إلا مكانيا
وأما من قرأ: " بعدت "، وهو السلمي وأبو حيوة فهو من البعد الذي هو ضد
القرب، ولا يدعى به إلا على مبغوض.
قال * ص *: وقال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو
ضد القرب، فيقولون فيهما: بعد يبعد، وبعد يبعد. انتهى.
وقوله سبحانه: (فاتبعوا أمر فرعون): أي: وخالفوا أمر موسى، (وما أمر فرعون
برشيد)، أي: بمرشد إلى خير.
وقال * ع *: (برشيد): أي: بمصيب في مذهبه (يقدم قومه): أي: يقدمهم
إلى النار، و (الورد)، في هذه الآية: هو ورود دخول.
قال * ص *: و (الورد): فاعل " بئس "، و (المورود): المخصوص بالذم، وفي
الأول حذف، أي: مكان الورد، ليطابق المخصوص بالذم.
وجوز * ع *: وأبو البقاء أن يكون " المورود " صفة لمكان الورد، والمخصوص
محذوف، أي: بئس مكان الورد المورود النار، و " الورد ": يجوز أن يكون مصدرا بمعنى
الورود، أو بمعنى الواردة من الإبل، وقيل: الورد: بمعنى الجمع للوارد، والمورود: صفة
لهم، والمخصوص بالذم ضمير محذوف، أي: بئس القوم المورود بهم هم، انتهى.
(وأتبعوا في هذه لعنة): يريد: دار الدنيا.
وقوله: (بئس الرفد المرفود) أي: بئس العطاء المعطى لهم، وهو العذاب، والرفد
300

في كلام العرب: العطية.
وقوله سبحانه: (ذلك من أنباء القرى...) الآية: (ذلك): إشارة إلى ما تقدم
من ذكر العقوبات النازلة بالأمم المذكورة، (منها قائم وحصيد): أي: منها قائم الجدرات، ومتهدم دائر، والآية بحملتها متضمنة التخويف وضرب المثل للحاضرين من
أهل مكة وغيرهم، وال‍ (تتبيب): الخسران، ومنه: (تبت يدا أبي لهب) [المسد: 1].
وقوله: (وكذلك): الإشارة إلى ما ذكر من الأخذات في الأمم، وهذه آية وعيد يعم
قرى المؤمنين والكافرين، فإن " ظالمة ": أعم من " كافرة "، وقد يمهل الله تعالى بعض
الكفرة، وأما الظلمة، فمعاجلون في الغالب، وقد يملي لبعضهم، وفي الحديث، من رواية
أبي موسى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه، لم يفلته "، ثم
قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة...) الآية، وهذه قراءة الجماعة،
وهي تعطي بقاء الوعيد، واستمراره في الزمان، (إن في ذلك لآية): أي: لعبرة وعلامة
اهتداء، (لمن خاف عذاب الآخرة)، ثم عظم الله أمر الآخرة، فقال: (ذلك يوم مجموع
له الناس)، وهو يوم الحشر، (وذلك يوم مشهود) يشهده الأولون والآخرون، من
الملائكة، والإنس، والجن والحيوان، في قول الجمهور، (وما نؤخره إلا لأجل معدود)
لا يتقدم عنه ولا يتأخر.
301

قال * ص *: والظاهر أن ضمير فاعل: يأت ": يعود على ما عاد عليه ضمير
" نؤخره "، والناصب ل‍ " يوم " " لا تكلم "، والمعنى: لا تكلم نفس يوم يأتي ذلك اليوم إلا
بإذنه سبحانه. انتهى.
وقوله تعالى: (فمنهم): عائد على الجمع الذي يتضمنه قوله: (نفس)، إذ هو
اسم جنس يراد به الجمع (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق) وهي أصوات
المكروبين والمحزونين والمعذبين، ونحو ذلك، قال قتادة: الزفير: أول صوت الحمار،
والشهيق: آخره، فصياح أهل النار كذلك، وقال أبو العالية: " الزفير ": من الصدر،
و " الشهيق ": من الحلق، والظاهر ما قال أبو العالية.
وقوله سبحانه: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض): يروى عن ابن عباس:
أن الله خلق السماوات والأرض من نور العرش، ثم يردهما إلى هنالك / في الآخرة،
فلهما ثم بقاء دائم، وقيل: معنى: (ما دامت السماوات والأرض): العبارة عن التأبيد بما
تعهده العرب، وذلك أن من فصيح كلامها، إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شئ أن تقول: لا
أفعل كذا وكذا أمد الدهر، وما ناح الحمام، وما دامت السماوات والأرض، وقيل غير هذا.
قال * ص *: وقيل: المراد سماوات الآخرة، وأرضها، يدل عليه قوله: (يوم تبدل
الأرض غير الأرض والسماوات) [إبراهيم: 48] انتهى. وأما قوله: (إلا ما شاء ربك):
في الاستثناء ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه متصل، أي: إلا ما شاء ربك من إخراج الموحدين، وعلى هذا يكون
قوله: (فأما الذين شقوا) عام في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من (خالدين)،
302

وهذا قول قتادة وجماعة.
الثاني: أن هذا الاستثناء ليس بمتصل ولا منقطع، وإنما هو على طريق الاستثناء الذي
ندب إليه الشرع في كل كلام، فهو على نحو قوله: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله)
[الفتح: 27].
الثالث: أن " إلا " في هذه الآية بمعنى " سوى "، والاستثناء منقطع، وهذا قول الفراء،
فإنه يقدر الاستثناء المنقطع ب‍ " سوى " وسيبويه يقدره ب‍ " لكن "، أي: سوى ما شاء الله زائدا
على ذلك، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد: (عطاء غير مجذود)، وقيل: سوى ما أعد الله
لهم من أنواع العذاب، وأشد من ذلك كله سخطه سبحانه عليهم، وقيل: الاستثناء في
الآيتين من الكون في النار والجنة، وهو زمان الموقف، وقيل: الاستثناء، في الآية الأولى:
من طول المدة، وذلك على ما روي أن جهنم تخرب، ويعدم أهلها، وتخفق أبوابها، فهم
على هذا يخلدون حتى يصير أمرهم إلى هذا.
قال * ع *: وهذا قول محتمل، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره أن ما
يخلى من النار إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين، وهذا الذي يسمى
جهنم، وسمي الكل به تجوزا.
* ت *: وهذا هو الصواب - إن شاء الله - وهو تأويل صاحب " العاقبة "، أن الذي
يخرب ما يخص عصاة المؤمنين، وتقدم الكلام على نظير هذه الآية، وهو قوله في
" الأنعام ": (خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم) [الأنعام: 218].
قال * ع *: والأقوال المترتبة في الاستثناء الأول مرتبة في الاستثناء الثاني في
الذين سعدوا إلا تأويل من قال: هو استثناء المدة التي تخرب فيها جهنم، فإنه لا يترتب
هنا، وال‍ (مجذوذ): المقطوع، والإشارة بقوله: (مما يعبد هؤلاء إلى كفار العرب،
وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) معناه: من العقوبة، وقال الداوودي عن ابن عباس:
(وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص): قال: ما قدر لهم من خير وشر انتهى.
303

وقوله: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه): أي: اختلف الناس عليه، فلا
يعظم عليك، يا محمد، أمر من كذبك.
وقال * ص *: " فيه ": الظاهر عوده على الكتاب، ويجوز أن يعود على موسى،
وقيل: " في " بمعنى " على "، أي: عليه، انتهى.
وال‍ (كلمة)، هنا عبارة عن الحكم والقضاء (لقضي بينهم): أي: لفصل بين
المؤمن والكافر، بنعيم هذا وعذاب هذا، ووصف الشك بالريب، تقوية لمعنى الشك،
فهذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها أمة موسى، ويحتمل أن يراد بها معاصرو النبي صلى الله عليه وسلم،
وأن يعمهم اللفظ أحسن، ويؤيده قوله: (وإن كلا)، وقرأ نافع وابن كثير: " وإن كلا
" لما "، وقرأ أبو عمرو، والكسائي بتشديد " إن "، وقرأ حمزة وحفص بتشديد " إن "، وتشديد
" لما " فالقراءتان المتقدمتان بمعنى ف‍ " إن " فيهما على بابها، و " كلا "، اسمها، وعرفها أن
تدخل على خبرها لام، وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضا على خبر " إن "، فلما اجتمع
لأمان، فصل بينهما ب‍ " ما "، هذا قول أبي علي، والخبر في قوله: (ليوفينهم)، وهذه الآية
وعيد، ومعنى الآية: أن كل الخلق موفى في عمله.
وقوله عز وجل: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك): أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة،
/ وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت، وهو أمر لسائر الأمة، وروي أن بعض العلماء
رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: يا رسول الله، بلغنا عنك أنك قلت: " شيبتني هود
وأخواتها "، فما الذي شيبك من هود؟ فقال: له قوله عز وجل: (فاستقم كما أمرت).
قال * ع *: والتأويل المشهور في قوله عليه السلام: " شيبتني هود وأخواتها " أنه
إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السالفة، فكأن حذره على هذه مثل ذلك شيبه عليه
السلام.
304

وقوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا...) الآية: الركون: السكون إلى
الشئ، والرضا به، قال أبو العالية: الركون: الرضا. قال ابن زيد: الركون: الادهان.
قال * ع *: فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره، والنهي هنا يترتب من
معنى الركون على الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع
القدرة، و (الذين ظلموا) هنا: هم الكفرة، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي.
وقوله سبحانه: (وأقم الصلاة طرفي النهار...) الآية: لا خلاف أن (الصلاة) في
هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة، واختلف في طرفي النهار وزلف الليل، فقيل:
الطرف الأول: الصبح، والثاني: الظهر والعصر، والزلف: المغرب والعشاء، قاله مجاهد وغيره، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في المغرب والعشاء: " هما زلفتا الليل " وقيل:
الطرف الأول: الصبح، والثاني: العصر، قاله الحسن وقتادة، والزلف: المغرب
والعشاء، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول، بل هي في غيرها.
قال * ع *: والأول أحسن الأقوال عندي، ورجح الطبري القول بأن الطرفين
الصبح والمغرب، وهو قول ابن عباس وغيره، وإنه لظاهر، إلا أن عموم الصلوات الخمس
بالآية أولى، والزلف: الساعات القريب بعضها من بعض.
وقوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، ذهب جمهور المتأولين من صحابة
وتابعين إلى أن الحسنات يراد بها الصلوات الخمس، وإلى هذه الآية ذهب عثمان
رضي الله عنه في وضوئه على المقاعد، وهو تأويل مالك، وقال مجاهد: (الحسنات):
305

قول الرجل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
قال * ع *: وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات، ومن أجل أن
الصلوات الخمس هي معظم الأعمال، والذي يظهر أن لفظ الآية عام في الحسنات، خاص
في السيئات، بقوله عليه السلام: " ما اجتنبت الكبائر "، وروي أن هذه الآية نزلت في رجل
من الأنصار، وهو أبو اليسر بن عمرو، وقيل: اسمه عباد، خلا بامرأة، فقبلها، وتلذذ بها
فيما دون الجماع، ثم جاء إلى عمر، فشكا إليه، فقال له: قد ستر الله عليك، فاستر على
نفسك، فقلق الرجل، فجاء أبا بكر، فشكا إليه، فقال له مثل مقالة عمر، فقلق الرجل،
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى معه، ثم أخبره، وقال: اقض في ما شئت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لعلها زوجة غاز في سبيل الله؟! " قال: نعم، فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " ما أدري "، فنزلت
هذه الآية، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليه، فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله: أهذا له
خاصة؟ فقال: " بل للناس عامة ".
قال ابن العربي في " أحكامه ": وهذا الحديث صحيح، رواه الأئمة كلهم، انتهى.
قال * ع *: وروي: أن الآية قد كانت نزلت قبل ذلك، واستعملها النبي صلى الله عليه وسلم في
ذلك الرجل، وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الجمعة إلى الجمعة، والصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينها، إن
اجتنبت الكبائر ".
306

وقوله: (ذلك ذكرى): إشارة إلى الصلوات، أي: هي سبب الذكرى، وهي العظة،
ويحتمل أن تكون إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيئات.
/ ويحتمل أن تكون إشارة إلى جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي والقصص في هذه
السورة، وهو تفسير الطبري.
(فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية...) الآية، (لولا): هي التي
للتحضيض، لكن، يقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على
هذه الأمم التي لم تهتد، وهذا نحو قوله سبحانه: (يا حسرة على العباد) [يس: 30]،
والقرون من قبلنا قوم نوح وعاد وثمود، ومن تقدم ذكره.
وقوله: (أولوا بقية): أي: أولوا بقية من عقل وتمييز ودين، (ينهون عن الفساد)
وإنما قيل: (بقية)، لأن الشرائع والدول ونحوها، قوتها في أولها، ثم لا تزال تضعف
فمن ثبت في وقت الضعف، فهو بقية الصدر الأول.
و (الفساد في الأرض): هو الكفر وما اقترن به من المعاصي، وهذه الآية فيها تنبيه
لهذه الأمة وحض على تغيير المنكر، ثم استثنى عز وجل القوم الذين نجاهم مع أنبيائهم،
وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم، و (قليلا) استثناء منقطع، أي: لكن قليلا ممن أنجينا
منهم، نهوا عن الفساد، و " المترف ": المنعم الذي شغلته ترفته عن الحق حتى هلك، (وما
كان ربك ليهلك القرى بظلم) منه سبحانه وتعالى عن ذلك، (ولو شاء ربك لجعل الناس
أمة واحدة): أي مؤمنة لا يقع منهم كفر، قاله قتادة، ولكنه عز وجل لم يشأ ذلك، فهم
لا يزالون مختلفين في الأديان والآراء والملل، هذا تأويل الجمهور، (إلا من رحم
ربك)، أي: بأن هداه إلى الإيمان، وقوله تعالى: (ولذلك خلقهم): قال الحسن: أي:
وللاختلاف خلقهم.
307

قال * ع *: وذلك أن الله تعالى خلق خلقا للسعادة، وخلقا للشقاوة، ثم يسر
كلا لما خلق له، وهذا نص في الحديث الصحيح، وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدين
على الحق هو أمارة الشقاوة، وبه علق العقاب، فيصح أن يحمل قول الحسن هنا:
وللاختلاف خلقهم، أي: لثمرة الاختلاف، وما يكون عنه من شقاوة أو سعادة، وقال
أشهب: سألت مالكا عن هذه الآية، فقال: خلقهم، ليكون فريق في الجنة، وفريق في
السعير، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: (وتمت كلمة ربك) أي: نفذ قضاؤه، وحق أمره، واللام في
(لأملأن): لام قسم.
وقوله سبحانه: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك)، و " كلا "
مفعول مقدم ب‍ " نقص "، و " ما " بدل من قوله: و " كلا "، و (نثبت به فؤادك) أي: نؤنسك
فيما تلقاه، ونجعل لك الإسوة.
(وجاءك في هذه الحق) قال الحسن: (هذه) إشارة إلى دار الدنيا، وقال ابن
عباس: (هذه)، إشارة إلى السورة، وهو قول الجمهور.
قال * ع *: ووجه تخصيص هذه السورة بوصفها بحق، والقرآن كله حق أن ذلك
يتضمن معنى الوعيد للكفرة، والتنبيه للناظر، أي: جاءك في هذه السورة الحق الذي أصاب
الأمم الماضية، وهذا كما يقال عند الشدائد: جاء الحق، وإن كان الحق يأتي في غير
الشدائد، ثم وصف سبحانه أن ما تضمنته السورة هو موعظة وذكرى للمؤمنين.
308

وقوله سبحانه: (وقل للذين لا يؤمنون...) الآية: آية وعيد.
وقوله تعالى: (ولله غيب السماوات والأرض...) الآية: أية تعظيم وانفراد بما لا
حظ لمخلوق فيه، ثم أمر سبحانه العبد بعبادته، والتوكل عليه، وفيهما زوال همه
وصلاحه، ووصوله إلى رضوان الله تعالى، فقال: (فاعبدوه وتوكل عليه وما ربك بغافل
عما تعملون)، اللهم اجعلنا ممن توكل عليك، ووفقته لعبادتك كما ترضى، وصلى الله
على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، والحمد لله على جزيل ما به أنعم.
309

تفسير سورة يوسف
هذه السورة مكية، والسبب في نزولها أن اليهود أمروا كفار مكة، أن يسألوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر، فنزلت السورة.
وقيل: سبب نزولها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما / يفعله به قومه بما فعل إخوة يوسف
بيوسف، وسورة يوسف لم يتكرر من معانيها في القرآن شئ، كما تكررت قصص الأنبياء،
ففيها حجة على من اعترض بأن الفصاحة تمكنت بترداد القول، وفي تلك القصص حجة
على من قال في هذه: لو كررت، لفترت فصاحتها.
وقوله عز وجل: (الر تلك آيات الكتاب المبين) (الكتاب)، هنا القرآن، ووصفه
ب‍ (المبين) من جهة بيان أحكامه وحلاله وحرامه، ومواعظه وهداه ونوره، ومن جهة بيان
اللسان العربي وجودته، والضمير في (أنزلناه): للكتاب، و (قرآنا) حال، و (عربيا):
صفة له، وقيل: (قرآنا): توطئة للحال، و (عربيا) حال.
وقوله سبحانه: (نحن نقص عليك أحسن القصص...) الآية: روى ابن مسعود،
أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ملوا ملة، فقالوا: لو قصصت علينا، يا رسول الله! فنزلت هذه
الآية، ثم ملوا ملة أخرى، فقالوا: لو حدثتنا، يا رسول الله، فنزلت: (الله نزل أحسن
الحديث كتابا متشابها...) الآية [الزمر: 23] و (القصص): الإخبار بما جرى من
الأمور.
310

وقوله: (بما أوحينا إليك): أي: بوحينا إليك هذا، و (القرآن): نعت ل‍ " هذا "
ويجوز فيه البدل، والضمير في " قبله ": للقصص العام، لما في جميع القرآن منه، و (من
الغافلين)، أي: عن معرفة هذا القصص، وعبارة المهدوي: قال قتادة: أي: نحن نقص عليك
من الكتب الماضية، وأخبار الأمم السالفة أحسن القصص، بوحينا إليك هذا القرآن، (وإن
كنت من قبله لمن الغافلين) عن أخبار الأمم، انتهى.
وقوله سبحانه: (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس
والقمر رأيتهم لي ساجدين): قيل: إنه رأى كواكب حقيقة، والشمس والقمر، فتأولها
يعقوب إخوته وأبويه، وهذا هو قول الجمهور، وقيل: الإخوة والأب والخالة، لأن أمه
كانت ميتة، وروي أن رؤيا يوسف خرجت بعد أربعين سنة، وقيل: بعد ثمانين سنة.
وقوله: (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) من هنا ومن فعل
إخوة يوسف بيوسف: يظهر أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت، وما وقع في " كتاب
الطبري " لابن زيد، أنهم كانوا أنبياء يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي، وعن
عقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك، والتآمر في قتله.
(وكذلك يجتبيك ربك): أي: يختارك ويصطفيك.
(ويعلمك من تأويل الأحاديث) قال مجاهد وغيره: هي عبارة الرؤيا وقال
الحسن: هي عواقب الأمور وقيل: هي عامة لذلك وغيره من المغيبات.
(ويتم نعمته عليك...) الآية: يريد بالنبوة وما انضاف إليها من سائر النعم،
ويروى: أن يعقوب علم هذا من دعوة إسحاق له حين تشبه ب‍ " عيصو "، وباقي الآية بين.
311

وقوله سبحانه: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين)، إذ كل أحد ينبغي أن
يسأل عن مثل هذا القصص، إذ هي مقر العبر والاتعاظ، وقولهم: (وأخوه): يريدون به
" يامين "، وهو أصغر من يوسف، ويقال له: " بنيامين " قيل: وهو شقيقه، (أحب إلى أبينا
منا): أي: لصغرهما وموت أمهما، وهذا من حب الصغير هي فطرة البشر، وقولهم:
(ونحن عصبة): أي: جماعة تضر وتنفع، وتحمي وتخذل، أي: لنا كانت تنبغي المحبة
والمراعاة، والعصبة في اللغة: الجماعة، وقولهم: (لفي ضلال مبين)، أي: لفي انتلاف
وخطأ في محبة يوسف وأخيه، وهذا هو معنى الضلال، وإنما يصغر قدره، ويعظم بحسب
الشئ الذي فيه يقع الانتلاف، و (مبين): معناه: ظاهر للمتأمل، وقولهم: (أو اطرحوه
أرضا): أي: بأرض بعيدة، ف‍ " أرضا " مفعول ثان بإسقاط حرف الجر، والضمير في
" بعده " عائد على يوسف، أو قتله، أو طرحه، (وصالحين): قال مقاتل وغيره: إنهم
أرادوا صلاح الحال عند أبيهم، والقائل منهم: " لا تقتلوه " هو: " روبيل " أسنهم، قاله
قتادة وأبن إسحاق، وقيل: هو شمعون، قاله مجاهد، وهذا عطف منه على أخيه لا
محالة، لما أراد الله من إنفاذ قضائه، و " الغيابة ": ما غاب عنك، و (الجب) البئر التي لم
تطو، لأنها جبت من الأرض فقط، قال المهدوي: والجب، في اللغة: البئر المقطوعة
التي لم تطو، انتهى. وال‍ (سيارة): جمع سيار، وروي أن جماعة من الأعراب التقطت
يوسف عليه السلام.
وقوله سبحانه: (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون...)
الآية: المتقدمة تقتضي أن أباهم قد كان علم منهم إرادتهم السوء في جهة يوسف، وهذه
312

الآية تقتضي أنهم علموا هم منه بعلمه ذلك، وقرأ أبو عامر وابن عمرو: " نرتع ونلعب "
- بالنون فيهما وإسكان العين والباء -، و " نرتع "، على هذا: من الرتوع، وهي الإقامة في
الخصب والمرعى في أكل وشرب، وقرأ ابن كثير: " نرتع ونلعب " - بالنون فيهما وكسر
العين وإسكان الباء -، وقد روي عنه " ويلعب " - بالياء - " ونرتع " على هذا: من رعاية
الإبل. وقال مجاهد: من المراعاة، أي: يرعى بعضنا بعضا، ويحرسه، وقرأ عاصم
وحمزة والكسائي: " يرتع ويلعب " بإسناد ذلك كله إلى يوسف، وقرأ نافع " يرتع ويلعب "،
ف‍ " يرتع "، على هذا: من رعاية الإبل، قال أبو علي: وقراءة ابن كثير " نرتع " - بالنون -
و " يلعب " - بالياء -: منزعها حسن، لإسناد النظر في المال، والرعاية إليهم، واللعب إلى
يوسف لصباه، ولعبهم هذا داخل في اللعب المباح والمندوب كاللعب بالخيل والرمي،
وعللوا طلبه والخروج به بما يمكن أن يستهوي يوسف لصباه من الرتوع واللعب والنشاط،
وإنما خاف يعقوب عليه السلام الذئب دون سواه، وخصصه، لأنه كان الحيوان العادي
المنبث في القطر، ولصغر يوسف، و (أجمعوا): معناه: عزموا.
وقوله سبحانه: (وأوحينا إليه) يحتمل أن يكون الوحي إلى يوسف حينئذ برسول،
ويحتمل أن يكون بإلهام أو بنوم، وكل ذلك قد قيل، وقرأ الجمهور: لتنبئنهم بالتاء من
فوق.
وقوله: (وهم لا يشعرون): قال ابن جريج: معناه: لا يشعرون وقت التنبئة، أنك
يوسف، وقال قتادة: لا يشعرون بوحينا إليك.
313

وقوله: (وجاؤا أباهم عشاء يبكون): أي: وقت العشاء، وقرأ الحسن:
" عشى "، على مثال " دجى "، جمع " عاش "، ومعنى ذلك: أصابهم عشى من البكاء أو
شبه العشى، إذ كذلك هي عين الباكي، لأنه يتعاشى، ومثل شريح امرأة بكت، وهي مبطلة
ببكاء هؤلاء، وقرأ الآية، و (نستبق): معناه: على الأقدام، وقيل: بالرمي، أي: ننتضل،
وهو نوع من المسابقة، قاله الزجاج، وقولهم: (وما أنت بمؤمن لنا): أي: بمصدق لنا،
(ولو كنا صادقين)، وأي: ولو كنا موصوفين بالصدق، ويحتمل أن يكون قولهم: (ولو كنا
صادقين): بمعنى: وإن كنا صادقين في معتقدنا.
وقوله سبحانه: (وجاؤا على قميصه بدم كذب): روي أنهم أخذوا سخلة أو
جديا، فذبحوه، ولطخوا به قميص يوسف، وقالوا ليعقوب: هذا قميصه، فأخذه وبكى ثم
تأمله، فلم ير خرقا، ولا أثر ناب، فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب
حليما يأكل يوسف، ولا يخرق قميصه، قص هذا القصص ابن عباس وغيره، وأجمعوا
على أنه استدل على كذبهم بصحة القميص، واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في
مسائل، كالقسامة بها في قول مالك إلى غير ذلك. قال الشعبي: كان في القميص ثلاث
314

آيات: دلالته على كذبهم، وشهادته في قده، ورد بصر يعقوب به، ووصف الدم بالكذب
الذي هو مصدر على / جهة المبالغة، ثم قال لهم يعقوب: (بل سولت لكم)، أي:
رضيت وجعلت سؤلا ومرادا (أمرا)، أي: صنعا قبيحا بيوسف.
وقوله: (فصبر جميل): إما على حذف المبتدأ، أي: فشأني صبر جميل، وإما على
حذف الخبر، تقديره: فصبر جميل أمثل، وجميل الصبر: ألا تقع شكوى إلى البشر، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: " من بث، لم يصبر صبرا جميلا ".
وقوله: (والله المستعان على ما تصفون): تسليم لأمر الله تعالى، وتوكل عليه.
وقوله سبحانه: (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم): قيل: إن السيارة جاءت في اليوم
الثاني من طرحه، و " السيارة ": بناء مبالغة للذين يرددون السير في الطرق.
قال * ص *: و " السيارة ": جمع سيار، وهو الكثير السير في الأرض. انتهى.
و " الوارد " هو الذي يأتي الماء يستقي منه لجماعته، وهو يقع على الواحد وعلى الجماعة.
315

وروي أن مدلي الدلو كان يسمى مالك بن دعر، ويروى أن هذا الجب كان بالأردن على
ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، ويقال: أدلى دلوه، إذا ألقاه ليستقي الماء، وفي الكلام
حذف، تقديره: فتعلق يوسف بالحبل، فلما بصر به المدلي، قال: (يا بشراي)، وروي
أن يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين، ويرجح هذا لفظة (غلام)، فإنها لما بين الحولين
إلى البلوغ، فإن قيلت فيما فوق ذلك، فعلى استصحاب حال، وتجوز، وقرأ نافع
وغيره: " يا بشراي " بإضافة البشرى إلى المتكلم، وبفتح الياء على ندائها، كأنه يقول:
احضري، فهذا وقتك، وقرأ حمزة والكسائي: " يا بشرى "، ويميلان ولا يضيفان، وقرأ
عاصم كذلك إلا أنه بفتح الراء ولا يميل، واختلف في تأويل هذه القراءة، فقال السدي:
كان في أصحاب هذا الوارد رجل اسمه " بشرى "، فناداه، وأعلمه بالغلام، وقيل: هو
على نداء البشرى، كما قدمنا.
وقوله سبحانه: (وأسروه بضاعة) قال مجاهد: وذلك أن الوراد خشوا من تجار
الرفقة، إن قالوا وجدناه، أن يشاركوهم في الغلام الموجود، يعني: أو يمنعوهم من
تملكه، إن كانوا أخيارا، فأسروا بينهم أن يقولوا: أبضعه معنا بعض أهل المصر،
و " بضاعة ": حال، والبضاعة: القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح، مأخوذ من
قولهم: " بضعة "، أي: قطعة، وقيل: الضمير في " أسروه " يعود على إخوة يوسف.
وقوله سبحانه: (وشروه بثمن بخس): " شروه "، هنا: بمعنى باعوه، قال
الداوودي: وعن أبي عبيدة: (وشروه) أي: باعوه، فإذا ابتعت أنت، قلت: اشتريت
316

انتهى، وقال ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس): يقال:
اشتريت بمعنى بعت، وشريت بمعنى اشتريت، لغة انتهى، وعلى هذا، فلا مانع من حمل
اللفظ على ظاهره، ويكون " شروه " بمعنى: " اشتروه ".
قال * ع *: روي أن إخوة يوسف لما علموا أن الوراد قد أخذوه جاؤوهم،
فقالوا: هذا عبد قد أبق منا، ونحن نبيعه منكم، فقارهم يوسف على هذه المقالة، خوفا
منهم، ولينفذ الله أمره، وال‍ (بخس): مصدر وصف به الثمن، وهو بمعنى النقص.
وقوله: (دراهم معدودة): عبارة عن قلة الثمن، لأنها دراهم، لم تبلغ أن توزن
لقلتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهما.
وقوله سبحانه: (وكانوا فيه من الزاهدين): وصف يترتب في إخوة يوسف، وفي
الوراد، ولكنه في إخوة يوسف أرتب، إذ حقيقة الزهد في الشئ إخراج حبه من القلب
ورضفه من اليد، وهذه كانت حال إخوة يوسف في يوسف، وأما الوراد، فإن تمسكهم به
وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوز، قال ابن العربي في " أحكامه ": (وكانوا فيه من
الزاهدين): أي: إخوته والواردة، أما إخوته، فلأن مقصودهم زوال عينه، وأما الواردة،
فلأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم. انتهى.
وقوله سبحانه: (وقال الذي اشتراه من مصر لأمرته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا):
روي أن مبتاع يوسف ورد به مصر البلد المعروف، ولذلك لا ينصرف، فعرضه في السوق،
وكان أجمل الناس، فوقعت فيه مزايدة / حتى بلغ ثمنا عظيما، فقيل: وزنه من ذهب، ومن
فضة، ومن حرير، فاشتراه العزيز، وهو كان حاجب الملك وخازنه، واسم الملك
الريان بن الوليد، وقيل: مصعب بن الريان، وهو أحد الفراعنة، واسم العزيز المذكور:
" قطيفين "، قاله ابن عباس، وقيل: " أظفير "، وقيل: " قنطور "، واسم امرأته: " راعيل "، قاله
ابن إسحاق، وقيل: " زليخا "، قال البخاري: و (مثواه): مقامه.
وقوله: (أو نتخذه ولدا) أي: نتبناه، وكان فيما يقال: لا ولد له، ثم قال تعالى:
(وكذلك)، أي: وكما وصفنا (مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه) فعلنا ذلك،
و (الأحاديث): الرؤيا في النوم، قاله مجاهد، وقيل: أحاديث الأنبياء والأمم، والضمير
317

في " أمره " يحتمل أن يعود على يوسف، قاله الطبري، ويحتمل أن يعود على الله عز
وجل، قاله ابن جبير، فيكون إخبارا منبها على قدرة الله عز وجل ليس في شأن يوسف
خاصة، بل عاما في كل أمر، و " الأشد ": استكمال القوة وتناهي بنية الإنسان، وهما
أشدان: أولهما، البلوغ، والثاني: الذي يستعمله العرب.
وقوله سبحانه: و (آتيناه حكما وعلما): يحتمل أن يريد بالحكم: الحكمة والنبوة،
وهذا على الأشد الأعلى، ويحتمل أن يريد بالحكم: السلطان في الدنيا وحكما بين الناس،
وتدخل النبوة وتأويل الأحاديث وغير ذلك في قوله: (وعلما)، وقال ابن العربي:
(آتيناه حكما وعلما): الحكم هو العمل بالعلم. انتهى.
وقوله سبحانه: (وكذلك نجزي المحسنين): عبارة فيها وعد للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: فلا
يهولنك فعل الكفرة وعتوهم عليك، فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع.
وقوله سبحانه: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه): المراودة: الملاطفة في
السوق إلى غرض، و (التي هو في بيتها) هي زليخا امرأة العزيز، وقوله: (عن نفسه):
كناية عن غرض المواقعة، وظاهر هذه النازلة أنها كانت قبل أن ينبأ عليه السلام، وقولها:
(هيت لك): معناه: الدعاء، أي: تعال وأقبل على هذا الأمر، قال الحسن: معناها:
هلم، قال البخاري: قال عكرمة: (هيت لك) بالحورانية: هلم.
وقال ابن جبير: تعاله، انتهى.
وقرأ هشام عن ابن عامر: " هئت لك " - بكسر الهاء والهمز وضم التاء -، ورويت
عن أبي عمرو، وهذا يحتمل أن يكون من هاء الرجل يهئ، إذا حسن هيئته، ويحتمل أن
يكون بمعنى: تهيأت، و (معاذ): نصب على المصدر، ومعنى الكلام: أعوذ بالله، ثم
318

قال: (إنه ربي أحسن مثواي)، فيحتمل أن يعود الضمير في " إنه " على الله عز وجل،
ويحتمل أن يريد العزيز سيده، أي: فلا يصلح لي أن أخونه، وقد أكرم مثواي، وائتمنني،
قال مجاهد وغيره: " ربي " معناه سيدي وإذا حفظ الآدمي لإحسانه فهو عمل زاك،
وأحرى أن يحفظ ربه، والضمير في قوله: (إنه لا يفلح) مراد به الأمر والشأن فقط،
وحكى بعض المفسرين أن يوسف عليه السلام لما قال: معاذ الله، ثم دافع الأمر باحتجاج
وملاينة، امتحنه الله تعالى بالهم بما هم به، ولو قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ودافع
بعنف وتغيير، لم يهم بشئ من المكروه.
وقوله سبحانه: (وهم بها): اختلف في هم يوسف.
قال * ع *: والذي أقول به في هذه الآية: أن كون يوسف عليه السلام نبيا في
وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية، فإذا كان ذلك، فهو مؤمن قد أوتي
حكما وعلما، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشئ دون مواقعته، وأن يستصحب الخاطر
الردئ، على ما في ذلك من الخطيئة، وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت، فلا يجوز عليه
عندي إلا الهم الذي هو الخاطر، ولا يصح عندي شئ مما ذكر من حل تكة، ونحو
ذلك، لأن العصمة مع النبوة، وللهم بالشيء مرتبتان، فالخاطر المجرد دون استصحاب
يجوز عليه، ومع استصحاب لا يجوز عليه، إذ الإجماع منعقد أن الهم بالمعصية
واستصحاب التلذذ بها غير جائز، / ولا داخل في التجاوز.
* ت *: قال عياض: والصحيح إن شاء الله تنزيههم أيضا قبل النبوة من كل عيب،
وعصمتهم من كل ما يوجب الريب، ثم قال عياض بعد هذا: وأما قول الله سبحانه:
(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)، فعلى طريق كثير من الفقهاء
والمحدثين، أن هم النفس لا يؤاخذ به، وليس بسيئة، لقوله عليه السلام عن ربه: " إذا هم
عبدي بسيئة، فلم يعملها كتبت له حسنة "، فلا معصية في همه إذن، وأما على مذهب
المحققين من الفقهاء والمتكلمين، فإن الهم إذا وطنت عليه النفس سيئة، وأما ما لم توطن
عليه النفس من همومها وخواطرها، فهو المعفو عنه، وهذا هو الحق، فيكون إن شاء الله
هم يوسف من هذا، ويكون قوله: (وما أبرئ نفسي...) الآية [يوسف: 53]: أي:
319

من هذا الهم، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع. انتهى.
واختلف في البرهان الذي رآه يوسف، فقيل: ناداه جبريل: يا يوسف، تكون في
ديوان الأنبياء، وتفعل فعل السفهاء، وقيل: رأى يعقوب عاضا على إبهامه، وقيل غير هذا،
وقيل: بل كان البرهان فكرته في عذاب الله ووعيده على المعصية، والبرهان في كلام
العرب: الشئ الذي يعطي القطع واليقين، كان مما يعلم ضرورة أو بخبر قطعي أو بقياس
نظري " وأن " في قوله: (لولا أن رأى) في موضع رفع، تقديره: لولا رؤيته برهان ربه،
لفعل، وذهب قوم إلى أن الكلام تم في قوله: (ولقد همت به)، وأن جواب " لولا " في
قوله: (وهم بها)، وأن المعنى: لولا أن رأى البرهان لهم، أي: فلم يهم عليه السلام،
وهذا قول يرده لسان العرب، وأقوال السلف * ت *: وقد ساق عياض هذا القول مساق
الاحتجاج به متصلا بما نقلناه عنه آنفا، ولفظه: فكيف، وقد حكى أبو حاتم عن أبي عبيدة،
أن يوسف لم يهم، وأن الكلام فيه تقديم وتأخير، أي: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان
ربه لهم بها، وقد قال الله تعالى عن المرأة (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم)، [يوسف:
23] وقال تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)، وقال: (معاذ الله...) الآية.
انتهى. وكذا نقله الداوودي ولفظه: وقد قال سعيد بن الحداد: في الكلام تقديم وتأخير،
ومعناه: أنه لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فلما رأى البرهان لم يهم، انتهى. قال ابن
العربي في " أحكامه ": وقد أخبر الله سبحانه عن حال يوسف من حين بلوغه بأنه آتاه
حكما وعلما، والحكم: هو العمل بالعلم، وكلام الله صادق، وخبره صحيح، ووصفه
حق، فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنا، وتحريم خيانة السيد في أهله، فما
تعرض لامرأة العزيز، ولا أناب إلى المراودة، بل أدبر عنها، وفر منها، حكمة خص بها،
وعمل بما علمه الله تعالى، وهذا يطمس وجوه الجهلة من الناس والغفلة من العلماء في
نسبتهم إلى الصديق ما لا يليق، وأقل ما اقتحموا من ذلك هتك السراويل، والهم بالفتك
فيما رأوه من تأويل، وحاشاه من ذلك، فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفقهون حديثا،
يقولون: فعل فعل، والله تعالى إنما قال هم بها، قال علماء الصوفية: إن فائدة قوله
تعالى: (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما...) [يوسف: 22] أن الله عز وجل أعطاه
العلم والحكمة، بأن غلب الشهوة، ليكون ذلك سببا للعصمة، انتهى.
والكاف من قوله تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء): متعلقة بمضمر، تقديره:
جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك، لنصرف، ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير
320

عصمتنا له كذلك، وقرأ ابن كثير وغيره: " المخلصين " - بكسر اللام - في سائر القرآن،
ونافع وغيره بفتحها.
وقوله تعالى: (واستبقا الباب...) الآية: معناه: سابق كل واحد منهما صاحبه
إلى الباب، هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فقبضت في أعلى قميصه، فتخرق
القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص، قال البخاري: (وألفيا): أي:
وجدا، (ألفوا آباءهم) [الصافات: 69]: وجدوهم. انتهى، و " القد ": القطع، وأكثر ما
يستعمل فيما كان طولا، والقط: يستعمل فيما كان / عرضا، و (ألفيا): وجدا، والسيد:
الزوج، قاله زيد بن ثابت ومجاهد.
وقوله سبحانه: (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا...) الآية: قال نوف
الشامي: كان يوسف عليه السلام لم يبن على كشف القصة، فلما بغت عليه، غضب، فقال
الحق، فأخبر أنها هي راودته عن نفسه، فروي أن الشاهد كان ابن عمها، قال: انظروا إلى
القميص، وقال ابن عباس: كان رجلا من خاصة الملك، وقاله مجاهد وغيره،
والضمير في " رأى " هو للعزيز، وهو القائل: (إنه من كيدكن)، قال الطبري، وقيل: بل
321

الشاهد، قال ذلك، ونزع بهذه الآية من يرى الحكم بالإمارة من العلماء، فإنها معتمدهم،
و " يوسف " في قوله: (يوسف أعرض عن هذا): منادى، قال ابن عباس: ناداه الشاهد،
وهو الرجل الذي كان مع العزيز، و (أعرض عن هذا): معناه: عن الكلام به، أي:
اكتمه، ولا تتحدث به، ثم رجع إليها، فقال: (واستغفري لذنبك)، أي: استغفري
زوجك وسيدك، وقال: (من الخاطئين)، ولم يقل " من الخاطئات "، لأن الخاطئين أعم.
وقوله سبحانه: (وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه):
(نسوة): جمع قلة، وجمع التكثير نساء، ويروى أن هؤلاء النسوة كن أربعا: امرأة خبازة،
وامرأة ساقية، وامرأة بوابة، وامرأة سجانة، والعزيز: الملك، والفتى: الغلام، وعرفه في
المملوك، ولكنه قد قيل في غير المملوك، ومنه: (إذ قال موسى لفتاه) [الكهف: 60]،
وأصل الفتى، في اللغة: الشاب، ولكن لما كان جل الخدمة شبابا، استعير لهم اسم الفتى،
و (شغفها): معناه بلغ حتى صار من قلبها موضع الشغاف، وهو، على أكثر القول: غلاف
من أغشية القلب.
وقيل: الشغاف: سويداء القلب.
وقيل: الشغاف: داء يصل إلى القلب.
(فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن)، ليحضرن.
(وأعتدت لهن متكأ): أي: أعدت ويسرت ما يتكأ عليه من فرش ووسائد وغير
ذلك، وقرأ ابن عباس وغيره: " متكأ " - بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف -،
322

واختلف في معناها، فقيل: هو الأترنج، وقيل: هو اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين،
وقولها: (أخرج عليهن): أمر ليوسف، وأطاعها بحسب الملك.
وقوله: (أكبرنه): معناه: أعظمنه واستهولن جماله، هذا قول الجمهور.
(وقطعن أيديهن): أي: كثرن الحز فيها بالسكاكين، وقرأ أبو عمرو وحده:
" حاشى لله "، وقرأ سائر السبعة: (حاش لله)، فمعنى " حاش لله ": أي: حاشى يوسف،
لطاعته لله، أو لمكانه من الله أن يرمى بما رميته به، أو يدعى إلى مثله، لأن تلك أفعال
البشر، وهو ليس منهم، إنما هو ملك، هكذا رتب بعضهم معنى هذا الكلام على
القراءتين، وقرأ الحسن وغيره: " ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم " - بكسر اللام من
" ملك "، وعلى هذه القراءة، فالكلام فصيح: لما استعظمن حسن صورته، قلن ما هذا مما
يصلح أن يكون عبدا بشرا، إن هذا إلا مما يصلح أن يكون ملكا كريما.
* ت *: وفي " صحيح مسلم " من حديث الإسراء: " ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة،
ففتح لنا، فإذا بيوسف صلى الله عليه وسلم، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب بي، ودعا لي
بخير " انتهى.
وقولها: (فذلكن الذي لمتنني فيه): المعنى: فهذا الذي لمتنني فيه، وقطعتن
أيديكن بسببه: هو الذي جعلني ضالة في هواه، ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة،
323

واستأمنت إليهن في ذلك، إذ علمت أنهن قد عذرنها.
و (استعصم) معناه طلب العصمة، وتمسك بها، وعصاني، ثم جعلت تتوعده، وهو
يسمع بقولها.
(ولئن لم يفعل ما أمره...) إلى آخر الآية.
* ت *: واعترض * ص *: بأن تفسير " استعصم " ب‍ " اعتصم " أولى من جعله
للطلب، إذ لا يلزم من طلب الشئ حصوله. انتهى، واللام في " ليسجنن ": لام قسم،
واللام الأولى هي المؤذنة بالمجئ بالقسم، و " الصاغرون ": الأذلاء، وقول يوسف عليه
السلام: (رب السجن أحب إلي) إلى قوله: (من الجاهلين)، كلام يتضمن التشكي إلى
الله تعالى من حاله معهن، / و (أصب): مأخوذ من الصبوة، وهي أفعال الصبا، ومن ذلك
قول دريد بن الصمة: [الطويل]
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه * فلما علاه قال للباطل أبعد
قال * ص *: " أصب " معناه: أمل، وهو جواب الشرط، والصبابة: إفراط الشوق.
انتهى.
(فاستجاب له ربه) أي: أجابه إلى إرادته، وصرف عنه كيدهن، في أن حال بينه
وبين المعصية.
324

وقوله سبحانه: (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين): (بدا)
معناه: ظهر، ولما أبى يوسف عليه السلام من المعصية، ويئست منه امرأة العزيز، طالبته
بأن قالت لزوجها: إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس، وهو يعتذر إليهم،
ويصف الأمر بحسب اختياره، وأنا محبوسة محجوبة، فإما أذنت لي، فخرجت إلى الناس،
فاعتذرت وكذبته، وإما حبسته كما أنا محبوسة، فحينئذ بدا لهم سجنه.
* ع *: و (ليسجننه): جملة دخلت عليها لام قسم، و (الآيات): ذكر فيها أهل
التفسير، أنها قد القميص، وخمش الوجه، وحز النساء أيديهن، وكلام الصبي، على ما
روي.
قال * ع *: ومقصد الكلام إنما هو أنهم رأوا سجنه بعد ظهور الآيات المبرئة له
من التهمة، فهكذا يبين ظلمهم له وال‍ (حين)، في كلام العرب، وفي هذه الآية الوقت
من الزمان غير محدود يقع للقليل والكثير، وذلك بين من موارده في القرآن.
وقوله سبحانه: (ودخل معه السجن فتيان...) الآية: المعنى: فسجنوه، فدخل
معه السجن، غلامان سجنا أيضا، وروي أنهما كانا لملك الأعظم الوليد بن الريان،
أحدهما: خبازه، واسمه مجلث، والآخر: ساقيه، واسمه نبو، وروي أن الملك اتهمهما
بأن الخباز منهما أراد سمه، ووافقه على ذلك الساقي، فسجنهما، قاله السدي، فلما
دخل يوسف السجن، استمال الناس فيه بحسن حديثه وفضله ونبله، وكان يسلي حزينهم،
ويعود مريضهم، ويسأل لفقيرهم، ويندبهم إلى الخير، فأحبه الفتيان، ولزماه، وأحبه
صاحب السجن، والقيم عليه، وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن: إني أعبر
325

الرؤيا، وأجيد، فروي عن ابن مسعود: أن الفتيين استعملا هاتين المنامتين ليجرباه.
وروي عن مجاهد: أنهما رأيا ذلك حقيقة، فقال أحدهما: إني أراني أعصر خمرا: قيل
فيه: إنه سمى العنب خمرا، بالمآل، وقيل: هي لغة أزد عمان، يسمون العنب خمرا، وفي
قراءة أبي وابن مسعود: " أعصر عنبا ".
وقوله: (إنا نراك من المحسنين): قال الجمهور: يريدان في العلم، وقال الضحاك
وقتادة: المعنى: من المحسنين في جريه مع أهل السجن وإجماله معهم.
وقوله عز وجل: (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما):
روي عن السدي وابن إسحاق: أن يوسف عليه السلام لما علم شدة تعبير منامة الرائي
الخبز، وأنها تؤذن بقتله، ذهب إلى غير ذلك من الحديث عسى ألا يطالباه بالتعبير، فقال
لهما، معلما بعظيم عمله للتعبير: إنه لا يجيئكما طعام في نومكما تريان أنكما رزقتماه إلا
أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام، أي: بما يؤول إليه أمره في اليقظة قبل أن يظهر ذلك التأويل
الذي أعلمكما به، فروي أنهما قالا: ومن أين لك ما تدعيه من العلم، وأنت لست
بكاهن ولا منجم؟! فقال لهما: ذلك مما علمني ربي، ثم نهض ينحي لهما على الكفر
ويقبحه، ويحسن الإيمان بالله، فروي أنه قصد بذلك وجهين، أحدهما: تنسيتهما أمر تعبير
ما سألا عنه، إذ في ذلك النذارة بقتل أحدهما، والآخر: الطماعية في إيمانهما، ليأخذ
المقتول بحظه من الإيمان، وتسلم له آخرته، وقال ابن جريج: أراد يوسف عليه السلام لا
يأتيكما طعام في / اليقظة.
326

قال * ع *: فعلى هذا إنما أعلمهم بأنه يعلم مغيبات لا تعلق لها برؤيا، وقصد
بذلك أحد الوجهين المتقدمين، وهذا على ما روي أنه نبئ في السجن فإخباره كإخبار
عيسى عليه السلام.
وقوله: (تركت)، مع أنه لم يتشبث بها جائز صحيح، وذلك أنه أخبر عن تجنبه من
أول بالترك، وساق لفظ الترك استجلابا لهما عسى أن يتركا الترك الحقيقي الذي هو بعد
الأخذ في الشئ، والقوم المتروك ملتهم: الملك وأتباعه.
وقوله: (وأتعبت...) الآية: تماد من يوسف عليه السلام في دعائهما إلى الملة
الحنيفية.
وقوله: (ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ)، " من ": هي الزائدة المؤكدة التي
تكون مع الجحود.
وقوله: (لا يشكرون): يريد: الشكر التام الذي فيه الإيمان بالله عز وجل.
وقوله: (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار): وصفه
لهما ب‍ (صاحبي السجن) من حيث سكناه، كما قال: (أصحاب الجنة) و (أصحاب
النار) ونحو ذلك، ويحتمل أن يريد صحبتهما له في السجن، كأنه قال: يا صاحباي في
السجن، وعرضه عليهما بطلان أمر الأوثان بأن وصفها بالتفرق، ووصف الله تعالى بالوحدة
والقهر تلطف حسن، وأخذ بيسير الحجة قبل كثيرها الذي ربما نفرت منه طباع الجاهل
وعاندته، وهكذا الوجه في محاجة الجاهل: أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها،
فإذا قبلها، لزمته عنها درجة أخرى فوقها، ثم كذلك أبدا حتى يصل إلى الحق، وإن أخذ
الجاهل بجميع المذهب الذي يساق إليه دفعة أباه للحين وعانده، ولقد ابتلي بأرباب
327

متفرقين من يخدم أبناء الدنيا ويؤملهم.
وقوله: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء): أي: مسميات، ويحتمل - وهو الراجح
المختار - أن يريد: ما تعبدون من دونه ألوهية، ولا لكم تعلق بإله إلا بحسب أن سميتم
أصنامكم آلهة، فليست عبادتكم لا لله إلا بالاسم فقط لا بالحقيقة، وأما الحقيقة: فهي
وسائر الحجارة والخشب سواء، وإنما تعلقت عبادتكم بحسب الاسم الذي وضعتم، فذلك
هو معبودكم، ومفعول " سميتم " الثاني محذوف، تقديره: آلهة، هذا على أن الأسماء يراد
بها ذوات الأصنام، وأما على المعنى المختار من أن عبادتهم إنما هي لمعان تعطيها
الأسماء، وليست موجودة في الأصنام، فقوله: (سميتموها) بمنزلة وضعتموها، (إن
الحكم إلا لله): أي ليس لأصنامكم، و (القيم): معناه المستقيم، و (أكثر الناس لا
يعلمون)، لجهالتهم وكفرهم، ثم نادى: (يا صاحبي السجن) ثانية، لتجتمع أنفسهما،
لسماع الجواب، فروي أنه قال لنبو: أما أنت، فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك، وقال
لمجلث: أما أنت، فتصلب، وذلك كله بعد ثلاث، فروي أنهما قالا له: ما رأينا شيئا،
وإنما تحالمنا لنجربك، وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب، وقيل: كانا رأيا،
ثم أنكرا، ثم أخبرهما / يوسف عن غيب علمه من الله تعالى، أن الأمر قد قضي ووافق
القدر.
وقوله: (وقال للذي ظن أنه ناج منهما...) الآية: الظن، هنا: بمعنى اليقين،
لأن ما تقدم من قوله: (قضي الأمر) يلزم ذلك، وقال قتادة: الظن هنا على بابه، لأن
عبارة الرؤيا ظن.
قال * ع *: وقول يوسف عليه السلام: (قضي الأمر): دال على وحي، ولا
يترتب قول قتادة إلا بأن يكون معنى قوله: (قضي الأمر): أي: قضي كلامي، وقلت ما
عندي، وتم، والله أعلم بما يكون بعد، وفي الآية تأويل آخر: وهو أن يكون " ظن " مسندا
إلى الذي قيل له: إنه يسقي ربه خمرا، لأنه داخله السرور بما بشر به، وغلب على ظنه
ومعتقده أنه ناج.
وقوله: (اذكرني عند ربك): يحتمل أن يريد أن يذكره بعلمه ومكانته، ويحتمل: أن
يذكره بمظلمته، وما امتحن به بغير حق، أو يذكره بجملة ذلك، والضمير في (أنساه)
328

قيل: هو عائد إلى يوسف، أي: نسي في ذلك الوقت أن يشتكي إلى الله، فروي أن جبريل
جاءه، فعاتبه عن الله عز وجل في ذلك، قيل: أوحي إليه: يا يوسف، اتخذت من دوني
وكيلا، لأطيلن سجنك، والله أعلم بصحته، وقيل: الضمير في (أنساه) عائد على
الساقي، قاله ابن إسحاق، أي: نسي ذكر يوسف عند ربه، وهو الملك، وال‍ (بضع):
اختلف فيه، والأكثر أنه من الثلاثة إلى العشرة، قاله ابن عباس: وعلى هذا فقه مذهب
مالك في الدعاوي والأيمان، وقال قتادة: ال‍ (بضع): من الثلاثة إلى التسعة، ويقوي
هذا قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق في قصة خطره مع قريش في غلبة الروم لفارس: " أما
علمت أن البضع من الثلاث إلى التسع.
وقوله سبحانه: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف):
روي أنه قال: رأيتها خارجة من نهر، وخرجت وراءها سبع عجاف، فأكلت تلك السمان،
وحصلت في بطونها، ورأى السنابل أيضا، كما ذكر، وال‍ (عجاف): التي بلغت غاية
الهزال، ثم قال لحاضريه: (يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون)، وعبارة
الرؤية: مأخوذة من عبر النهر، وهو تجاوزه من شط إلى شط، فكأن عابر الرؤيا ينتهي إلى
آخر تأويلها.
قال * ص *: وإنما لم يضف " سبع " إلى عجاف، لأن اسم العدد لا يضاف إلى
الصفة إلا في الشعر، انتهى.
وقوله سبحانه: (قالوا أضغاث أحلام...) الآية: " الضغث "، في كلام العرب:
أقل من الحزمة، وأكثر من القبضة من النبات والعشب ونحوه، وربما كان ذلك من جنس
329

واحد، وربما كان من أخلاط النبات، والمعنى: أن هذا الذي رأيت أيها الملك اختلاط من
الأحلام بسبب النوم، ولسنا من أهل العلم بما هو مختلط وردئ، و (الأحلام): جمع
حلم، وهو ما يخيل إلى الإنسان في منامه، والأحلام والرؤيا مما أثبتته الشريعة، وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا من الله، وهي من المبشرة والحلم المحزن من الشيطان، فإذا رأى
أحدكم ما يكره فليتفل عن يساره / ثلاث مرات، وليقل: أعوذ بالله من شر ما رأيت، فإنها
لا تضره ". وما كان عن حديث النفس في اليقظة، فإنه لا يلتفت إليه، ولما سمع الساقي
الذي نجا هذه المقالة من الملك، ومراجعة أصحابه، تذكر يوسف، وعلمه بالتأويل، فقال
مقالته في هذه الآية، (وادكر): أصله " اذتكر " من الذكر، فقلبت التاء دالا، وأدغم الأول
في الثاني، وقرا جمهور الناس: " بعد أمة "، وهي المدة من الدهر، وقرأ ابن عباس
وجماعة: " بعد أمه "، وهو النسيان، وقرأ مجاهد وشبل: " بعد أمه " - بسكون الميم -،
وهو مصدر من " أمه "، إذا نسي، وبقوله: (ادكر) يقوي قول من قال: إن الضمير في
" أنساه " عائد على الساقي، والأمر محتمل، وقرأ الجمهور: " أنا أنبئكم "، وقرأ
330

الحسن بن أبي الحسن: " أنا آتيكم "، وكذلك في مصحف أبي.
وقوله: (فأرسلون): استئذان في المضي.
وقوله: (يوسف أيها الصديق أفتنا): المعنى: فجاء الرسول، وهو الساقي، إلى
يوسف، فقال له: يوسف أيها الصديق، وسماه صديقا من حيث كان جرب صدقه في غير
ما شئ، وهو بناء مبالغة من الصدق، ثم قال له: (أفتنا في سبع بقرات)، أي: فيمن
رأى في المنام سبع بقرات.
وقوله: (لعلهم يعلمون)، أي: تأويل هذه الرؤيا، فيزول هم الملك لذلك، وهم
الناس، وقيل: (لعلهم يعلمون) مكانتك من العلم، وكنه فضلك، فيكون ذلك سببا
لتخلصك و (دأبا): معناه: ملازمة لعادتكم في الزراعة.
وقوله: (فما حصدتم فذروه في سنبله): إشارة برأي نافع، بحسب طعام مصر
وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، والمعنى: اتركوا الزرع في
السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل فيجتمع الطعام هكذا، ويتركب ويؤكل الأقدم فالأقدم،
وروي أن يوسف عليه السلام لما خرج ووصف هذا الترتيب للملك، وأعجبه أمره، قال له
الملك: قد أسندت إليك تولي هذا الأمر في الأطعمة هذه السنين المقبلة، فكان هذا أول ما
ولي يوسف، و (تحصنون) معناه: تحرزون وتخزنون، قاله ابن عباس، وهو مأخوذ من
الحصن، وهو الحرز والملجأ، ومنه: تحصن النساء، لأنه بمعنى التحرز.
وقوله: (يغاث الناس): جائز أن يكون من الغيث، وهو قول ابن عباس،
331

وجمهور المفسرين، أي: يمطرون، وجائز أن يكون من أغاثهم الله: إذا فرج عنهم، ومنه
الغوث، وهو الفرج، (وفيه يعصرون): قال جمهور المفسرين: هي من عصر النباتات،
كالزيتون، والعنب، والقصب، والسمسم، والفجل، ومصر بلد عصر لأشياء كثيرة.
وقوله سبحانه: (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول...) الآية: لما رأى
الملك وحاضروه نبل التعبير وحسن الرأي، وتضمن الغيب في أمر العام الثامن، مع ما
وصف به من الصدق عظم يوسف في نفس الملك، وقال: (ائتوني به فلما جاءه الرسول
قال ارجع إلى ربك): يعني: الملك، (فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن)،
وقصده عليه السلام بيان براءته، وتحقق منزلته من العفة والخير، فرسم القصة بطرف منها،
إذا وقع النظر عليه، بأن الأمر كله، ونكب عن ذكر امرأة العزيز، حسن عشرة ورعاية لذمام
ملك العزيز له، وفي " صحيح البخاري "، عن عبد الرحمن / بن القاسم صاحب مالك، عن
النبي صلى الله عليه وسلم: " ولو لبثت في السجن لبث يوسف لأجبت الداعي ": المعنى: لو كنت أنا،
لبادرت بالخروج، ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك، وذلك أن هذه القصص والنوازل، إنما
هي معرضة ليقتدي الناس بها إلى يوم القيامة، فأراد صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من
الأمور، وذلك أن التارك لمثل هذه الفرصة ربما نتج له بسبب التأخير خلاف مقصوده، وإن
كان يوسف قد آمن ذلك، بعلمه من الله، فغيره من الناس لا يأمن ذلك، فالحالة التي ذهب
النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم ومدح، ليقتدى به، وما فعله يوسف عليه السلام حالة صبر
وتجلد، قال ابن العربي في " أحكامه ": وانظر إلى عظيم حلم يوسف عليه السلام ووفور
أدبه، كيف قال: (ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن)، فذكر النساء جملة، لتدخل فيهن
امرأة العزيز مدخل العموم، بالتلويح دون التصريح. انتهى. وهذه كانت أخلاق نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم، لا يقابل أحدا بمكروه، وإنما يقول: " ما بال أقوام يفعلون كذا "، من غير
تعيين، وبالجملة فكل خصلة حميدة مذكورة في القرآن اتصف بها الأنبياء والأصفياء، فقد
332

اتصف بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان خلقه القرآن، كما روته عائشة في الصحيح، وكما ذكر
الله سبحانه: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [الأنعام: 90] انتهى.
وقوله: (إن ربي بكيدهن عليم)، فيه وعيد، وقوله: (ما خطبكن إذ راودتن يوسف
عن نفسه): المعنى: فجمع الملك النسوة، وامرأة العزيز معهن، وقال لهن: (ما
خطبكن...) الآية: أي: أي: شئ كانت قصتكن، فجاوب النساء بجواب جيد، تظهر
منه براءة أنفسهن، وأعطين يوسف بعض براءة، فقلن: (حاش لله ما علمنا عليه من
سوء)، فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن وحيدتهن، حضرتها نية وتحقيق، فقالت: (الآن
حصحص الحق)، أي: تبين الحق بعد خفائه، قاله الخليل وغيره، قال البخاري: حاش
وحاشى: تنزيه واستثناء وحصحص: وضح. انتهى.
ثم أقرت على نفسها بالمراودة، والتزمت الذنب، وأبرأت يوسف البراءة التامة.
وقوله: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) إلى قوله: (إن غفور رحيم):
اختلف فيه أهل التأويل، هل هو من قول يوسف أو من قول امرأة العزيز.
وقوله سبحانه: (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي): المعنى: أن الملك، لما
تبينت له براءة يوسف وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضا صبره وعلو همته، عظمت عنده
منزلته، وتيقن حسن خلاله، فقال: (ائتوني به أستخلصه لنفسي)، فلما جاءه وكلمه قال:
(إنك اليوم لدينا مكين أمين): قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله: (إنك اليوم لدينا
مكين أمين): أي: متمكن مما أردت، أمين على ما ائتمنت عليه من شئ، أما أمانته
فلظهور براءته، وأما مكانته، فلثبوت عفته: ونزاهته / انتهى، ولما فهم يوسف عليه السلام
من الملك أنه عزم على تصريفه والاستعانة بنظره، قال: (اجعلني على خزائن الأرض)،
لما في ذلك من مصالح العباد.
قال * ع *: وطلبة يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه السلام في رغبته في أن
333

يقع العدل، وجائز أيضا للمرء أن يثني على نفسه بالحق، إذا جهل أمره، وال‍ (خزائن):
لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره.
وقوله سبحانه: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض): الإشارة ب‍ " ذلك " إلى جميع ما
تقدم من جميل صنع الله به، فروي أن العزيز مات في تلك الليالي، وقال ابن إسحاق: بل
عزله الملك، ثم مات أظفير، فولاه الملك مكانه، وزوجه زوجته، فلما دخلت عليه
عروسا، قال لها: أليس هذا خيرا مما كنت أردت، فدخل يوسف بها، فوجدها بكرا،
وولدت له ولدين، وروي أيضا، أن الملك عزل العزيز، وولى يوسف موضعه، ثم عظم
ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع، قال مجاهد: وأسلم الملك آخر أمره،
ودرس أمر العزيز، وذهبت دنياه، ومات، وافتقرت زوجته، وشاخت، فلما كان في بعض
الأيام، لقيت يوسف في طريق، والجنود حوله ووراءه، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب:
(هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)
[يوسف: 108] فصاحت به، وقالت: سبحان الله من أعز العبيد بالطاعة، وأذل الأرباب
بالمعصية، فعرفها، وقالت له: تعطف علي وارزقني شيئا، فدعا لها، وكلمها، وأشفق
لحالها، ودعا الله تعالى فرد عليها جمالها، وتزوجها، وروي في نحو هذا من القصص ما
لا يوقف على صحته، ويطول الكلام بسوقه، وباقي الآية بين واضح للمستبصرين، ونور
وشفاء لقلوب العارفين.
وقوله: " ليوسف ": أبو البقاء: اللام زائدة، أي: مكنا يوسف، ويجوز ألا تكون
زائدة، فالمفعول محذوف، أي: مكنا ليوسف الأمور. انتهى.
334

وقوله عز وجل: (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون)، قال
السدي وغيره: سبب مجيئهم أن المجاعة اتصلت ببلادهم، وكان الناس يمتارون من عند
يوسف، وهو في رتبة العزيز المتقدم، وكان لا يعطي الوارد أكثر من حمل بعير يسوي بين
الناس، فلما ورد إخوته، عرفهم، ولم يعرفوه لبعد العهد وتغير سنه، ولم يقع لهم بسبب
ملكه ولسانه القبطي ظن عليه، وروي في بعض القصص، أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه
بجميع أمرهم، فباحثهم بأن قال لهم بترجمان: " أظنكم جواسيس "، فاحتاجوا حينئذ إلى
التعريف بأنفسهم، فقالوا: نحن أبناء رجل صديق، وكنا اثني عشر ذهب منا واحد في
البرية، وبقي أصغرنا عند أبينا، وجئنا نحن للميرة، وسقنا بعير الباقي منا، وكنا عشرة،
ولهم أحد عشر بعيرا، فقال لهم يوسف: ولم تخلف أحدكم؟ قالوا: لمحبة أبينا فيه، قال:
فأتوا بهذا الأخ، حتى / أعلم حقيقة قولكم، وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم، إن كنتم
صادقين، وروي في القصص أنهم وردوا مصر واستأذنوا على العزيز، وانتسبوا في
الاستئذان، فعرفهم، وأمر بإنزالهم وأدخلهم في ثاني يوم على هيئة عظيمة لملكه، وروي
أنه كان متلثما أبدا سترا لجماله، وأنه كان يأخذ الصواع، فينقره، ويفهم من طنينه صدق
الحديث من كذبه، فسئلوا عن أخبارهم، فكلما صدقوا، قال لهم يوسف: صدقتم، فلما
قالوا: وكان لنا أخ أكله الذئب، أطن يوسف الصواع، وقال: كذبتم، ثم تغير لهم، وقال:
أراكم جواسيس، وكلفهم سوق الأخ الباقي، ليظهر صدقهم في ذلك، في قصص طويل،
جاءت الإشارة إليه في القرآن، " والجهاز " ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع.
وقوله: (بأخ لكم) * ص *: نكره، ليريهم أنه لا يعرفه، وفرق بين غلام لك،
وبين غلامك، ففي الأول أنت جاهل به، وفي الثاني أنت عالم، لأن التعريف به يفيد نوع
عهد في الغلام بينك وبين المخاطب، انتهى.
وقول يوسف: (ألا ترون أني أوفي الكيل...) الآية: يرغبهم في نفسه آخرا
335

ويؤنسهم ويستميلهم، و (المنزلين): يعني: المضيفين، ثم توعدهم بقوله: (فإن لم تأتوني
به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون)، أي: في المستأنف، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان
يوسف يلقي حصاة في إناء فضة مخوص بالذهب فيطن، فيقول لهم: إن هذا الإناء يخبرني أن
لكم أبا شيخا "، وروي أن ذلك الإناء به كان يكيل الطعام، إظهارا لعزته بحسب غلائه،
وروي أن يوسف استوفى في تلك السنين أموال الناس، ثم أملاكهم، وظاهر كل ما فعله
يوسف معهم أنه بوحي وأمر، وإلا فكان بر يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه، لكن الله
تعالى أعلمه بما يصنع، ليكمل أجر يعقوب ومحنته، وتفسير الرؤيا الأولى.
وقوله: (لعلهم يعرفونها): يريد: لعلهم يعرفون لها يدا وتكرمة يرون حقها،
فيرغبون في الرجوع إلينا، وأما ميز البضاعة، فلا يقال فيه: " لعل " وقيل: قصد يوسف برد
البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن، فيرجعوا لدفع الثمن، وهذا ضعيف من
وجوه، وسرورهم بالبضاعة، وقولهم: (هذه بضاعتنا ردت إلينا) يكشف أن يوسف لم
يقصد هذا، وإنما قصد أن يستميلهم، ويصلهم، ويظهر أن ما فعله يوسف من صلتهم
وجبرهم في تلك الشدة كان واجبا عليه، وقيل: علم عدم البضاعة والدرهم عند أبيه، فرد
البضاعة إليهم، لئلا يمنعهم العدم من الرجوع إليه، وقيل: جعلها توطئة لجعل السقاية في
رحل أخيه بعد ذلك، ليبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة، والظاهر من القصة أنه إنما أراد
الاستئلاف وصلة الرحم، وأصل " نكتل ": " نكتئل "، وقولهم: (منع منا الكيل): ظاهره
أنهم أشاروا إلى قوله: (فلا كيل لكم عندي)، فهو خوف من المستأنف، وقيل: أشاروا
إلى بعير يامين، والأول أرجح، ثم تضمنوا له حفظه وحيطته، وقول يعقوب عليه السلام:
(هل آمنكم عليه...) الآية: " هل " توقيف وتقرير / ولم يصرح بمنعهم من حمله، لما
رأى في ذلك من المصلحة، لكنه أعلمهم بقلة طمأنينته إليهم، ولكن ظاهر أمرهم أنهم قد
أنابوا إلى الله سبحانه، وانتقلت حالهم، فلم يخف على يامين، كخوفه على يوسف، وقرأ
نافع وغيره: " خير حفظا "، وقرأ حمزة وغيره: " خير حافظا "، ونصب ذلك في
القراءتين، على التمييز والمعنى: أن حفظ الله خير من حفظكم، فاستسلم يعقوب عليه
336

السلام لله، وتوكل عليه، وقولهم: (ما نبغي): يحتمل أن تكون " ما " استفهاما، قاله
قتادة: و (نبغي): من البغية، أي: ماذا نطلب بعد هذه التكرمة، هذا مالنا رد إلينا مع
ميرتنا، قال الزجاج: ويحتمل أن تكون " ما " نافية، أي: ما بقي لنا ما نطلب، ويحتمل
أن تكون أيضا نافية، و (نبغي) من البغي، أي: ما تعدينا فكذبنا على هذا الملك، ولا في
وصف إجماله وإكرامه، هذه البضاعة ردت إلينا، وقرأ أبو حيوة: " ما تبغي "، على
مخاطبة يعقوب، وهي بمعنى ما تريد، وما تطلب وقولهم: (ونزداد كيل بعير) يريدون
بعير أخيهم، إذ كان يوسف إنما حمل لهم عشرة أبعرة، ولم يحمل الحادي عشر، لغيب
صاحبه، وقولهم: (ذلك كيل يسير): قيل: معناه: يسير على يوسف أن يعطيه.
وقال السدي: (يسير)، أي: سريع لا نحبس فيه ولا نمطل.
وقوله تعالى: (فلما آتوه موثقهم) الآية: أي لما عاهدوه، أشهد الله بينه وبينهم
بقوله: (الله على ما نقول وكيل)، و " الوكيل ": القيم الحافظ الضامن.
وقوله: (إلا أن يحاط بكم): لفظ عام لجميع وجوه الغلبة، وانظر أن يعقوب عليه
السلام قد توثق في هذه القصة، وأشهد الله تعالى، ووصى بنيه، وأخبر بعد ذلك بتوكله،
فهذا توكل مع سبب، وهو توكل جميع المؤمنين إلا من شذ في رفض السعي بالكلية، وقنع
بالماء وبقل البرية، فتلك غاية التوكل، وعليها بعض الأنبياء عليهم السلام، والشارعون
منهم مثبتون سنن التسبب الجائز، قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي حمزة رضي الله
عنه: وقد اشتمل القرآن على أحكام عديدة، فمنها: التعلق بالله تعالى، وترك الأسباب،
ومنها: عمل الأسباب في الظاهر، وخلو الباطن من التعلق بها، وهو أجلها وأزكاها، لأن
ذلك جمع بين الحكمة وحقيقة التوحيد، وذلك لا يكون إلا للأفذاذ الذين من الله عليهم
بالتوفيق، ولذلك مدح الله تعالى يعقوب عليه الصلاة والسلام في كتابه، فقال: (وإنه لذو
علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [يوسف: 68] لأنه عمل الأسباب، واجتهد
/ في توفيتها، وهو مقتضى الحكمة، ثم رد الأمر كله لله تعالى، واستسلم إليه، وهو حقيقة
التوحيد، فقال: (وما أغني عنكم من الله من شئ إن الحكم إلا لله...) الآية، فأثنى
337

الله تعالى عليه من أجل جمعه بين هاتين الحالتين العظيمتين.
وقوله: (لا تدخلوا من باب واحد): قيل: خشي عليهم العين، لكونهم أحد عشر
لرجل واحد، وكانوا أهل جمال وبسطة، قاله ابن عباس وغيره.
وقوله سبحانه: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم)، روي أنه لما ودعوا أباهم،
قال لهم: بلغوا ملك مصر سلامي، وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك، ويدعو لك، ويشكر
صنيعك معنا، وفي كتاب أبي منصور المهراني أنه خاطبه بكتاب قرئ على يوسف،
فبكى.
وقوله سبحانه: (ما كان يغنى عنهم من الله من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب
قضاها): بمثابة قولهم: لم يكن في ذلك دفع قدر الله، بل كان أربا ليعقوب قضاه،
فالاستثناء ليس من الأول، والحاجة هي أن يكون طيب النفس بدخولهم من أبواب متفرقة،
خوف العين، ونظير هذا الفعل أن النبي صلى الله عليه وسلم سد كوة في قبر بحجر، وقال: " إن هذا لا
يغني شيئا، ولكنه تطييب لنفس الحي "، ثم أثنى الله عز وجل على يعقوب، بأنه لقن ما
علمه الله من هذا المعنى، وأن أكثر الناس ليس كذلك، وقال قتادة: معناه: لعامل بما
علمناه، وقال سفيان: من لا يعمل لا يكون عالما.
قال * ع *: وهذا لا يعطيه اللفظ، أما أنه صحيح في نفسه يرجحه المعنى وما
تقتضيه منزلة يعقوب عليه السلام.
وقوله: (إني أنا أخوك) قال ابن إسحاق وغيره: أخبره بأنه أخوه حقيقة،
واستكتمه، وقال له: لا تبال بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم، وكان
338

يامين شقيق يوسف.
وقوله: (فلا تبتئس بما كانوا يعملون): يحتمل أن يشير إلى ما عمله الإخوة،
ويحتمل الإشارة إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية، ونحو ذلك، و (تبتئس): من
البؤس، أي: لا تحزن، ولا تهتم، وهكذا عبر المفسرون.
وقوله سبحانه: (فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن
أيتها العير إنكم لسارقون): هذا من الكيد الذي يسره الله ليوسف عليه السلام، وذلك أنه
كان في دين يعقوب، أن يستبعد السارق، وكان في دين مصر، أن يضرب، ويضعف عليه
العزم، فعلم يوسف أن إخوته لثقتهم ببراءة ساحتهم سيدعون في السرقة إلى حكمهم،
فتحيل لذلك، واستسهل الأمر على ما فيه من رمي أبرياء وإدخال الهم على يعقوب
وعليهم، لما علم في ذلك من الصلاح في الآجل، وبوحي لا محالة، وإرادة من الله
محنتهم بذلك، و (السقاية): الإناء الذي به يشرب الملك، وبه كان يكيل الطعام للناس،
هكذا نص جمهور المفسرين ابن عباس وغيره، وروي أنه كان من فضة، وهذا قول
الجمهور، وكان هذا الجعل بغير علم من " يامين "، / قاله السدي وهو الظاهر، " فلما
فصلت العير " بأوقارها، وخرجت من مصر فيما روي أمر بهم فحبسوا، وأذن مؤذن أيتها
العير إنكم لسارقون، ومخاطبة العير مجاز، والمراد أربابها.
* ت *: قال الهروي: قوله تعالى: (أيتها العير): الإبل والحمير التي
يحمل عليها الأحمال، وأراد أصحاب العير، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: " يا خيل الله، اركبي "
أراد: يا أصحاب خيل الله اركبي، وأنث " أيا "، لأنه للعير، وهي جماعة، انتهى. فلما
339

سمع إخوة يوسف هذه المقالة، أقبلوا عليهم، وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة، وقالوا: ماذا
تفقدون، ليقع التفتيش، فتظهر براءتهم، ولم يلوذوا بالإنكار من أول، بل سألوا إكمال
الدعوى، عسى أن يكون فيها ما تبطل به، فلا يحتاج إلى خصام، قالوا: نفقد صواع
الملك، وهو المكيال، وهو السقاية، قال أبو عبيدة: يؤنث الصواع، من حيث سمي
سقاية، ويذكر من حيث هو صاع.
* ت *: ولفظ أبي عبيدة الهروي قال الأخفش: الصاع: يذكر ويؤنث، قال الله
تعالى: (ثم استخرجها من وعاء أخيه) فأنث، وقال: (لمن جاء به حمل بعير) فذكر لأنه،
عنى به الصواع. انتهى.
وقوله: (ولمن جاء به حمل بعير): أي: لمن دل على سارقه، وجبر الصواع،
وهذا جعل.
وقوله: (وأنا به زعيم): حمالة، قال مجاهد: " الزعيم ": هو المؤذن الذي قال أيتها
العير و " الزعيم ": الضامن في كلام العرب.
340

وقوله تعالى: (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض): روي أن إخوة
يوسف كانوا ردوا البضاعة الموجودة في الرحال، وتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن،
فلذلك قالوا: (لقد علمتم)، أي: لقد علمتم منا التحري، وروي أنهم كانوا قد اشتهروا
بمصر بصلاح وتعفف، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم، لئلا تنال زروع الناس،
فلذلك قالوا: (لقد علمتم)، والتاء في " تالله " بدل من الواو، ولا تدخل التاء في القسم
إلا في هذا الاسم.
قال ابن العربي في " أحكامه ": قال الطبري: قوله تعالى: (قالوا جزاؤه من
وجد في رحله) على حذف مضاف، تقديره: جزاؤه استعباد أو استرقاق من وجد في
رحله. انتهى.
وقولهم: (كذلك نجزي الظالمين): أي: هذه سنتنا وديننا في أهل السرقة، أن
يتملك السارق، كما تملك هو الشئ المسروق.
وقوله سبحانه: (فبدأ بأوعيتهم...) الآية: بدؤه أيضا من أوعيتهم تمكين للحيلة،
وإبعاد لظهور أنها حيلة، وأضاف الله سبحانه الكيد إلى ضميره، لما خرج القدر الذي أباح
به ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتقاد الناس كيد، وقال السدي والضحاك:
(كدنا): معناه: صنعنا، و (دين الملك): فسره ابن عباس بسلطانه، وفسره قتادة
بالقضاء والحكم، وهذا متقارب، قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: (كذلك
341

كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك)، إذ كان الملك لا يرى استرقاق السارق،
وإنما كان دينه أن يأخذ المجني / عليه من السارق مثلي السرقة. (إلا أن يشاء الله): التزام
الإخوة لدين يعقوب بالاسترقاق، فقضى عليهم به، انتهى.
قال * ع *: والاستثناء في هذه الآية حكاية حال التقدير، إلا أن يشاء الله ما وقع
من هذه الحيلة، وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده، عن مالك، عن زيد بن أسلم، أنه قال
في قوله عز وجل: (نرفع درجات من نشاء): قال: بالعلم، انتهى من " كتاب العلم ".
وقوله سبحانه: (وفوق كل ذي علم عليم)، المعنى: أن البشر في العلم درجات،
فكل عالم فلا بد من أعلم منه، فإما من البشر، وإما الله عز وجل، فهذا تأويل الحسن
وقتادة وابن عباس وروي أيضا عن ابن عباس: إنما العليم الله، وهو فوق كل ذي
علم.
قال ابن عطاء في " التنوير ": أعلم أن العلم حيث ما تكرر في الكتاب العزيز، أو في
السنة، فإنما المراد به العلم النافع الذي تقارنه الخشية، وتكتنفه المخافة. انتهى.
قال الشيخ العارف أبو القاسم عبد الرحمن بن يوسف اللجائي رحمه الله: إذا كملت
للعبد ثلاث خصال، وصدق فيها، تفجر العلم من قلبه على لسانه، وهي الزهد،
والإخلاص، والتقوى، قال: ولا مطمع في هذا العلم المذكور إلا بعد معالجة القلب من
علله التي تشينه، كالكبر، والحسد، والغضب، والرياء، والسمعة، والمحمدة والجاه،
والشرف، وعلو المنزلة، والطمع، والحرص، والقسوة، والمداهنة، والحقد، والعداوة،
وكل ما عددناه من العلل، وما لم نعده راجع إلى أصل واحد، وهو حب الدنيا، لأن حبها
عنه يتفرع كل شر، وعنه يتشعب كل قبيح، فإذا زالت هذه العلل ظهر الصدق،
والإخلاص، والتواضع، والحلم، والورع، والقناعة، والزهد، والصبر، والرضا، والأنس،
والمحبة، والشوق، والتوكل، والخشية، والحزن، وقصر الأمل، ومزاج النية بالعمل، فينبع
342

العلم، وينتفي الجهل، ويضيء القلب بنور إلهي، ويتلألأ الإيمان، وتوضح المعرفة،
ويتسع اليقين، ويتقوى الإلهام، وتبدو الفراسات، ويصفى السر، وتتجلى الأسرار، وتوجد
الفوائد. قال رحمه الله: وليس بين العبد والترقي من سفل إلى علو إلا حب الدنيا، فإن
الترقي يتعذر من أجل حبها، لأنها جاذبة إلى العالم الظلماني، وطباع النفوس لذلك مائلة،
فإن أردت أن تقتفي أثر الذاهبين إلى الله تعالى، فاستخفف بدنياك، وانظرها بعين الزوال،
وأنزل نفسك عند أخذ القوت منها منزلة المضطر إلى الميتة، والسلام. انتهى.
وروي أن المفتش كان إذا فرغ من رحل رجل، فلم يجد فيه شيئا، استغفر الله عز
وجل من فعله ذلك، وظاهر كلام قتادة وغيره: أن المستغفر هو يوسف حتى انتهى إلى
رحل بنيامين، فقال: ما أظن هذا الفتى رضي بهذا، ولا أخذ شيئا، فقال له إخوته: والله،
لا تبرح حتى تفتشه، فهو أطيب / لنفسك ونفوسنا، ففتش حينئذ، فأخرج السقاية، وروي
أن أخوة يوسف لما رأوا ذلك، عنفوا بنيامين، وقالوا له: كيف سرقت هذه السقاية؟ فقال
لهم: والله، ما فعلت، فقالوا له: فمن وضعها في رحلك؟ قال: الذي وضع البضاعة في
رحالكم، والضمير في قوله: (استخرجها): عائد على السقاية، ويحتمل على السرقة.
وقوله سبحانه: (قالوا إن يسرق) أي: قالوا إخوة يوسف: إن كان هذا قد سرق،
فغير بدع من ابني راحيل، لأن أخاه يوسف قد كان سرق، فهذا من الإخوة إنحاء على ابني
راحيل يوسف ويامين، وهذه الأقوال منهم عليهم السلام إنما كانت بحسب الظاهر،
وموجب الحكم في النازلتين، فلم يعنوا في غيبة ليوسف، وإنما قصدوا الإخبار بأمر جرى،
ليزول بعض المعرة عنهم، ويختص بها هذان الشقيقان، وأما ما روي في سرقة يوسف،
فالجمهور على أن عمته كانت ربته، فلما شب، أراد يعقوب أخذه منها، فولعت به،
وأشفقت من فراقه، فأخذت منطقة إسحاق، وكانت متوارثة عندهم، فنطقته بها من تحت
ثيابه، ثم صاحت، وقالت: إني قد فقدت المنطقة، ويوسف قد خرج بها، ففتشت،
فوجدت عنده، فاسترقته، حسب ما كان في شرعهم، وبقي عندها حتى ماتت، فصار عند
أبيه.
وقوله: (فأسرها يوسف): يعني: أسر الحزة التي حدثت في نفسه من قول الإخوة.
343

وقوله: (أنتم شر مكانا...) الآية: الظاهر منه أنه قالها إفصاحا، كأنه أسر لهم
كراهية مقالتهم، ثم نجههم بقوله: (أنتم شر مكانا): أي: لسوء أفعالكم، والله أعلم، أن
كان ما وصفتموه حقا، وفي اللفظ إشارة إلى تكذيبهم، ومما يقوي هذا عندي أنهم تركوا
الشفاعة بأنفسهم، وعدلوا إلى الشفاعة بأبيهم عليه السلام، وقالت فرقة: لم يقل هذا الكلام
إلا في نفسه، وإنه تفسير للذي أسر في نفسه، فكأن المراد: قال في نفسه: أنتم شر مكانا،
وذكر الطبري هنا قصصا اختصاره أنه لما استخرجت السقاية من رحل يامين، قال إخوته:
يا بني راحيل، لا يزال البلاء ينالنا من جهتكم، فقال يامين: بل بنو راحيل ينالهم البلاء
منكم، ذهبتم بأخي، فأهلكتموه، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في
رحالكم، فقالوا: لا تذكر الدراهم، لئلا نؤخذ بها، ثم دخلوا على يوسف، فأخذ الصواع،
فنقره، فطن، فقال: إنه يخبر أنكم ذهبتم بأخ لكم، فبعتموه، فسجد يامين، وقال: أيها
العزيز، سل صواعك هذا يخبرك بالحق، في قصص يطول آثرنا اختصاره.
وروي أن روبيل غضب، وقف شعره، حتى خرج من ثيابه، فأمر يوسف بنيا له،
فمسه فسكن غضبه، فقال روبيل: لقد مسني أحد من ولد يعقوب، ثم إنهم تشاوروا في
محاربة يوسف، وكانوا أهل قوة، لا / يدانون في ذلك، فلما أحس يوسف بذلك، قام إلى
روبيل، فلببه وصرعه، فرأوا من قوته ما استعظموه، وقالوا: (يا أيها العزيز...) الآية،
وخاطبوه باسم العزيز، إذ كان في تلك الخطة بعزل الأول أو موته، على ما روي في ذلك،
وقولهم: (فخذ أحدنا مكانه) يحتمل أن يكون ذلك منهم مجازا، ويحتمل أن يكون حقيقة
على طريق الحمالة، حتى يصل يامين إلى أبيه، ويعرف يعقوب جلية الأمر، فمنع يوسف
من ذلك، وقال: (معاذ الله...) الآية.
وقوله سبحانه: (فلما استيأسوا منه...) الآية: يقال: يئس واستيأس بمعنى
واحد، قال البخاري: (خلصوا نجيا): اعتزلوا، والجمع أنجية، وللاثنين والجمع نجي
344

وأنجية انتهى.
وقال الهروي: (خلصوا نجيا): أي تميزوا عن الناس متناجين انتهى.
و (كبيرهم): قال مجاهد هو شمعون، كان كبيرهم رأيا وعلما، وإن كان روبيل
أسنهم، وقال قتادة: هو روبيل، لأنه أسنهم، وهذا أظهر ورجحه الطبري، وذكرهم
أخوهم ميثاق أبيهم: (لتأتنني به إلا أن يحاط بكم) [يوسف: 66].
وقوله: (فلن أبرح الأرض): قال * ص *: " برح " التامة بمعنى ذهب وظهر،
ومنه: برح الخفاء، أي: ظهر، والمتوجه هنا: معنى " ذهب "، لكنه لا ينصب الظرف
المكاني المختص إلا بواسطة، فاحتيج إلى تضمينه معنى " فارق "، والأرض مفعول به، ولا
يجوز أن تكون " أبرح ": ناقصة انتهى.
وقوله: (ارجعوا إلى أبيكم): الأمر بالرجوع قيل: هو من قول كبيرهم، وقيل: من
قول يوسف، والأول أظهر، وذكر الطبري أن يوسف قال لهم: إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه
السلام، وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك ألا تموت حتى ترى ولدك يوسف، ليعلم أن
في أرض مصر صديقين مثله، وقرأ الجمهور: " سرق "، وروي عن الكسائي وغيره:
" سرق " - ببنائه للمفعول -.
(وما شهدنا إلا بما علمنا): أي: باعتبار الظاهر، والعلم في الغيب إلى الله، ليس
ذلك في حفظنا، هذا تأويل ابن إسحاق، ثم استشهدوا بالقرية التي كانوا فيها، وهي مصر،
قاله ابن عباس، والمراد أهلها، قال البخاري: (سولت): أي: زبنت، وقول يعقوب:
(عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) يعني بيوسف ويامين وروبيل الذي لم يبرح الأرض،
345

ورجاؤه هذا من جهات، منها: حسن ظنه بالله سبحانه في كل حال، ومنها: رؤيا يوسف
المتقدمة، فإنه كان ينتظرها، ومنها: ما أخبروه عن ملك مصر، أنه يدعو له برؤية ابنه.
وقوله سبحانه: (وتولى عنهم): أي: زال بوجهه عنهم ملتجئا إلى الله: (وقال:
يا أسفي على يوسف).
قال الحسن: خصت هذه الأمة بالاسترجاع، ألا ترى إلى قول يعقوب:
(يا أسفى).
قال * ع *: والمراد يا أسفي، لكن هذه لغة من يرد ياء الإضافة ألفا، نحو:
يا غلاما، ويا أبتا، ولا يبعد أن يجتمع الاسترجاع، ويا أسفى لهذه الأمة، وليعقوب عليه
السلام، وروي أن يعقوب عليه السلام / حزن حزن سبعين ثكلى، وأعطي أجر مائة شهيد،
وما ساء ظنه بالله قط، رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، (فهو كظيم) بمعنى: كاظم، كما
قال: (والكاظمين الغيظ) [آل عمران: 134] ووصف يعقوب بذلك، لأنه لم يشك إلى
أحد، وإنما كان يكمد في نفسه، ويمسك همه في صدره، فكان يكظمه، أي: يرده إلى
قلبه.
* ت *: وهذا ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول إلا ما
يرضي الرب...) الحديث، ذكر هذا صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم، قال ابن المبارك في
" رقائقه ": أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى: (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم)،
قال: كظم على الحزن، فلم يقل إلا خيرا انتهى، قال ابن العربي في " أحكامه ": وفي
الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في ابنه إبراهيم: " إن العين تدمع، والقلب يحزن،
ولا نقول إلا ما يرضى الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون "، وقال أيضا في
الصحيح صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بهذا - وأشار
إلى لسانه - أو يرحم " انتهى. خرجه البخاري وغيره.
346

وقوله تعالى: (قالوا تالله تفتؤا) الآية: المعنى: تالله لا تفتأ فتحذف " لا " في هذا
الموضع من القسم، لدلالة الكلام عليها، فمن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ومنه قول الآخر: [البسيط]
تالله يبقى على الأيام ذو حيد *.................
347

أراد: لا أبرح، ولا يبقى، و " فتىء ": بمنزلة زال وبرح في المعنى والعمل، تقول:
والله، لا فتئت قاعدا، كما تقول: لا زلت ولا برحت، وعبارة الداوودي: وعن ابن
عباس: تفتأ، أي: لا تزال تذكر يوسف، (حتى تكون حرضا). انتهى، والحرض:
الذي قد نهاه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس، يقال:
رجل حارض، أي: ذو هم وحزن، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني * حتى بليت وحتى شفني السقم
والحرض بالجملة الذي فسد ودنا موته، قال مجاهد: الحرض: ما دون الموت،
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من مؤمن يمرض حتى يحرضه المرض إلا غفر له " انتهى من
" رقائق ابن المبارك ".
ثم أجابهم يعقوب عليه السلام بقوله: (إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله): أي: إني
لست ممن يجزع ويضجر، وإنما أشكوا إلى الله، والبث: ما في صدر الإنسان مما هو
معتزم أن يبثه وينشره.
وقال أبو عبيدة وغيره: البث: أشد الحزن قال الداوودي عن ابن جبير، قال: من
بث، فلم يصبر، ثم قرأ: (إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله). انتهى.
وقوله: (ولا تيأسوا من روح الله...) الآية: " الروح ": الرحمة، ثم جعل اليأس
من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين، إذ فيه إما التكذيب بالربوبية، وإما الجهل
بصفات الله تعالى، / وال‍ (بضاعة): القطعة من المال يقصد بها شراء شئ، ولزمها عرف
الفقه فيما لا حظ لحاملها من الربح، وال‍ (مزجاة): معناها: المدفوعة المتحيل لها،
348

وبالجملة، فمن يسوق شيئا، ويتلطف في تسييره، فقد أزجاه، فإذا كانت الدراهم مدفوعة
نازلة القدر، تحتاج أن يعتذر معها، ويشفع لها، فهي مزجاة، فقيل: كان ذلك لأنها كانت
زيوفا، قاله ابن عباس.
وقيل: كانت بضاعتهم عروضا، وقولهم: (وتصدق علينا): معناه ما بين الدراهم
الجياد وبين هذه المزجاة، قاله السدي وغيره وقال الداوودي عن ابن جريج: (وتصدق
علينا): قال: أردد علينا أخانا، انتهى، وهو حسن.
وقوله تعالى: (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون)، روي أن
يوسف عليه السلام لما قال له إخوته: (مسنا وأهلنا الضر) [يوسف: 88]، واستعطفوه
رق ورحمهم، قال ابن إسحاق: وارفض دمعه باكيا، فشرع في كشف أمره إليهم، فروي أنه
حسر قناعه، وقال لهم: (هل علمتم...) الآية، و (ما فعلتم بيوسف وأخيه): أي:
التفريق بينهما في الصغر وما نالهما بسببكم من المحن، (إذ أنتم جاهلون)، نسبهم إما إلى
جهل المعصية، وإما إلى جهل الشباب وقلة الحنكة، فلما خاطبهم هذه المخاطبة، تنبهوا،
ووقع لهم من الظن القوي وقرائن الحال، أنه يوسف فقالوا: (أئنك لأنت يوسف)،
مستفهمين، فأجابهم يوسف كاشفا عن أمره، (قال أنا يوسف وهذا أخي) وباقي الآية
بين.
وقوله سبحانه: (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين): هذا منهم استنزال
ليوسف، وإقرار بالذنب في ضمنه استغفار منه، و (آثرك): لفظ يعم جميع التفضيل.
349

وقوله: (لا تثريب عليكم) عفو جميل، وقال عكرمة: أوحى الله إلى يوسف بعفوك
عن إخوتك، رفعت لك ذكرك، و " التثريب ": اللوم والعقوبة وما جرى معهما من سوء
معتقد ونحوه، وعبر بعض الناس عن التثريب بالتعيير، ووقف بعض القراءة (عليكم)،
وابتدأ: (اليوم يغفر الله لكم)، ووقف أكثرهم: (اليوم) وابتدأ: (يغفر الله لكم) على
جهة الدعاء وهو تأويل ابن إسحاق والطبري، وهو الصحيح الراجح في المعنى، لأن
الوقف الآخر فيه حكم على مغفرة الله، اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي.
وقوله: (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي): قال النقاش: روي أن هذا
القميص كان من ثياب الجنة، كساه الله إبراهيم، ثم توارثه بنوه.
قال * ع *: وهذا يحتاج إلى سند والظاهر أنه قميص يوسف كسائر القمص،
وقول يوسف: (يأت بصيرا) فيه دليل على أن هذا كله بوحي وإعلام من الله تعالى،
وروي أن يعقوب وجد ريح يوسف وبينه وبين القميص مسيرة ثمانية أيام، قاله ابن
عباس، وقال: هاجت ريح، فحملت عرفه، وقول يعقوب: (إني لأجد ريح يوسف):
مخاطبة لحاضريه، فروي أنهم كانوا حفدته، وقيل: كانوا بعض بنيه، وقيل: كانوا / قرابته
و (تفندون) معناه: تردون رأيي، وتدفعون في صدره، وهذا هو التفنيد لغة، قال منذر بن
سعيد: يقال: شيخ مفند، أي: قد فسد رأيه والذي يشبه أن تفنيدهم ليعقوب، إنما كان
لأنهم كانوا يعتقدون أن هواه قد غلبه في جانب يوسف.
350

وقال * [ص] *: معنى (تفندون): تسفهون، انتهى، وقولهم: (إنك لفي ضلالك
القديم): يريدون: لفي انتلافك في محبة يوسف، وليس بالضلال الذي هو في العرف ضد
الرشاد، لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به.
وقوله سبحانه: (فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا): روي عن ابن
عباس، أن البشير كان يهوذا، لأنه كان جاء بقميص الدم و (بصيرا): معناه: مبصرا،
وروي أنه قال للبشير: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام، قال: الحمد لله،
الآن كملت النعمة.
وقوله تعالى: (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا...) الآية: روي أن يوسف عليه
السلام لما غفر لإخوته، وتحققوا أن أباهم يغفر لهم، قال بعضهم لبعض: ما يغنى عنا هذا
إن لم يغفر الله لنا، فطلبوا حينئذ من يعقوب عليه السلام أن يطلب لهم المغفرة من الله
تعالى، واعترفوا بالخطإ، فقال لهم يعقوب: (سوف أستغفر لكم ربي).
* ت *: وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: " إذا كان ليلة
الجمعة، فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر، فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها
مستجاب، وقد قال أخي يعقوب لبنيه: (سوف أستغفر لكم ربي)، يقول: حتى تأتي ليلة
الجمعة... " وذكر الحديث، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من
حديث الوليد بن مسلم، ورواه الحاكم في " المستدرك على الصحيحين "، وقال: صحيح
351

على شرط الشيخين، يعني البخاري ومسلما انتهى من " السلاح ".
وقوله سبحانه: (آوى إليه أبويه) قال ابن إسحاق، والحسن: أراد بالأبوين: أباه
وأمه، وقيل: أراد، أباه وخالته.
قال * ع *: والأول أظهر، بحسب اللفظ، إلا أن يثبت بسند أن أمه قد كانت
ماتت.
وقوله: (إن شاء الله) هذا الاستثناء هو الذي ندب القرآن إليه، أن يقوله الإنسان في
جميع ما ينفذه في المستقبل، و (العرش): سرير الملك، و (خروا له سجدا): أي:
سجود تحية، فقيل: كان كالسجود المعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض.
وقيل: بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك
الزمان، وأجمع المفسرون، أنه كان سجود تحية لا سجود عبادة، وقال الحسن: الضمير
في " له " لله عز وجل، ورد هذا القول على الحسن.
وقوله عز وجل: (وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا):
المعنى: قال يوسف ليعقوب، هذا السجود الذي كان منكم هو ما آلت إليه رؤياي قديما في
الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر، (قد جعلها ربي حقا) ثم أخذ عليه السلام يعدد نعم
الله عليه، وقال: وقد أخرجني من السجن، وترك ذكر إخراجه من الجب، لأن في ذكره
تجديد فعل / إخوته وخزيهم، وتحريك تلك الغوائل، وتخبيث النفوس، ووجه آخر أنه
خرج من الجب إلى الرق، ومن السجن إلى الملك، فالنعمة هنا أوضح، (إن ربي لطيف
لما يشاء)، أي: من الأمور أن يفعله، (إنه هو العليم الحكيم).
قال * ع *: ولا وجه في ترك تعريف يوسف أباه بحاله منذ خرج من السجن إلى
العز إلا الوحي من الله تعالى، لما أراد أن يمتحن به يعقوب وبنيه، وأراد من صورة
جمعهم، لا إله إلا هو.
وقال النقاش: كان ذلك الوحي في الجب، وهو قوله سبحانه: (وأوحينا إليه لتنبئنهم
بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) [يوسف: 15]، وهذا محتمل.
352

وقوله: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث...) الآية: ذكر
كثير من المفسرين أن يوسف عليه السلام لما عدد في هذه الآية نعم الله عنده، تشوق إلى
لقاء ربه ولقاء الجلة وصالحي سلفه وغيرهم من المؤمنين، ورأى أن الدنيا قليلة فتمنى
الموت في قوله: (توفني مسلما وألحقني بالصالحين).
وقال ابن عباس: لم يتمن الموت نبي غير يوسف، وذكر المهدوي تأويلا آخر،
وهو الأقوى عندي: أنه ليس في الآية تمني موت، وإنما تمنى عليه السلام الموافاة على
الإسلام لا الموت، وكذا قال القرطبي في " التذكرة "، أن معنى الآية: إذا جاء أجلي،
توفني مسلما، قال: وهذا القول هو المختار عند أهل التأويل، والله أعلم، انتهى،
وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به "، إنما يريد ضرر الدنيا، كالفقر،
والمرض ونحو ذلك، ويبقى تمني الموت، مخافة فساد الدين مباحا، وقد قال صلى الله عليه وسلم في
بعض أدعيته: " وإذا أردت بالناس فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون ".
وقوله: (أنت ولي): أي القائم بأمري، الكفيل بنصرتي ورحمتي.
وقوله عز وجل: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك): (ذلك): إشارة إلى ما تقدم
من قصة يوسف، وهذه الآية تعريض لقريش، وتنبيه على آية صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي
353

ضمن ذلك الطعن على مكذبيه، والضمير في (لديهم): عائد على إخوة يوسف،
و (أجمعوا): معناه: عزموا، و " الأمر "، هنا: هو إلقاء يوسف في الجب، وحكى
الطبري عن أبي عمران الجوني، أنه قال: والله ما قص الله نبأهم، ليعيرهم، إنهم
الأنبياء من أهل الجنة، ولكن الله قص علينا نبأهم، لئلا يقنط عبده.
وقوله سبحانه: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين...) الآية خطاب
للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وما تسألهم عليه من أجر...) الآية توبيخ للكفرة، وإقامة للحجة
عليهم، ثم ابتدأ الإخبار عن كتابه العزيز، أنه ذكر وموعظة لجميع العالم، نفعنا الله به،
ووفر حظنا منه.
وقوله سبحانه: (وكأين من آية في السماوات والأرض): يعني ب‍ (الآية)، هنا:
المخلوقات المنصوبة للاعتبار الدالة على توحيد خالقها سبحانه، وفي مصحف
عبد الله: " يمشون / عليها ".
وقوله سبحانه: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون): قال ابن عباس: هي
في أهل الكتاب، وقال مجاهد وغيره: هي في العرب، وقيل: نزلت بسبب قول
قريش في الطواف، والتلبية: " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك "،
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع أحدهم يقول: لبيك لا شريك لك، يقول له: قط قط،
أي: قف هنا، لا تزد: إلا شريكا هو لك، وال‍ (غاشية): ما يغشى ويغطي ويغم،
و (بغتة): أي: فجأة، وهذه الآية من قوله: (وكأين من آية)، وإن كانت في الكفار، فإن
العصاة يأخذون من ألفاظها بحظ ويكون الإيمان حقيقة، والشرك لغويا، كالرياء، فقد قال
354

عليه السلام: " الرياء الشرك الأصغر ".
وقوله سبحانه: (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله...) الآية: إشارة إلى دعوة
الإسلام والشريعة بأسرها، قال ابن زيد: المعنى هذا أمري وسنتي ومنهاجي
وال‍ (بصيرة): اسم لمعتقد الإنسان في الأمر من الحق واليقين.
وقوله: (أنا ومن اتبعني): يحتمل أن يكون " أنا " تأكيدا للضمير المستكن في " أدعو "
و " من " معطوف عليه، وذلك بأن تكون الأمة كلها أمرت بالمعروف داعية إلى الله الكفرة
والعصاة.
قال * ص *: ويجوز أن يكون " أنا " مبتدأ، و " على بصيرة " خبر مقدم، و " من "
معطوف عليه انتهى، و (سبحان الله) تنزيه لله، أي: وقل: سبحان الله متبريا من الشرك.
وقوله سبحانه: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم...) الآية: تتضمن
الرد على من استغرب إرسال الرسل من البشر، و (القرى): المدن. قال الحسن: لم
يبعث الله رسولا قط من أهل البادية.
قال * ع *: والتبدي مكروه إلا في الفتنة، وحين يفر بالدين، ولا يعترض هذا
ببدو يعقوب، لأن ذلك البدو لم يكن في أهل عمود، بل هو بتقر، وفي منازل وربوع،
وأيضا إنما جعله بدوا بالإضافة إلى مصر، كما هي بنات الحواضر بدو بالإضافة إلى
355

الحواضر، ثم أحال سبحانه على الاعتبار في الأمم السالفة، ثم حض سبحانه على الآخرة،
والاستعداد لها بقوله: (ولدار الآخرة خير...) الآية.
قال * ص *: (ولدار الآخرة): خرجه الكوفيون على أنه من إضافة الموصوف
لصفته، وأصله: " وللدار الآخرة "، والبصريون على أنه من حذف الموصوف، وإقامة صفته
مقامه، وأصله: " ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة ". انتهى.
ويتضمن قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من
قبلهم)، أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى، دعوا أممهم، فلم يؤمنوا بهم، حتى
نزلت بهم المثلات، فصاروا في حيز من يعتبر بعاقبته، فلهذا المضمن حسن أن تدخل
" حتى " في قوله: (حتى إذا استيأس الرسل).
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: " وظنوا أنهم قد كذبوا / - بتشديد
الذال -، وقرأ الباقون: " كذبوا " - بضم الكاف، وكسر الذال المخففة، فأما الأولى، فمعناها
أن الرسل ظنوا أن أممهم قد كذبتهم، و " الظن "، هنا: يحتمل أن يكون بمعنى اليقين،
ويحتمل أن يكون الظن على بابه، ومعنى القراءة الثانية، على المشهور من قول ابن عباس
وابن جبير: أي: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن المرسل إليهم أن
الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوة، أو فيما توعدوهم به من العذاب، لما طال
الإمهال، واتصلت العافية، جاءهم نصرنا.
وأسند الطبري أن مسلم بن يسار، قال لسعيد بن جبير: يا أبا عبد الله، آية بلغت
مني كل مبلغ: " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا "، فهذا هو الموت أن تظن
الرسل الرسل أنهم قد كذبوا - مخففة -، فقال له ابن جبير: يا أبا عبد الرحمن، إنما يئس الرسل
من قومهم، أن يجيبوهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم، فقام مسلم إلى سعيد،
356

فاعتنقه، وقال: فرجت عني، فرج الله عنك.
قال * ع *: فرضي الله عنهم، كيف كان خلقهم في العلم، وقال بهذا التأويل
جماعة، وهو الصواب، وأما تأويل من قال: إن المعنى: وظنوا أنهم قد كذبهم من أخبرهم
عن الله، فغير صحيح، ولا يجوز هذا على الرسل، وأين العصمة والعلم.
* ت *: قال عياض: فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل
وظنوا أنهم قد كذبوا)، على قراءة التخفيف؟ قلنا: المعنى في ذلك ما قالته عائشة
رضي الله عنها معاذ الله، أن تظن الرسل ذلك بربها، وإنما معنى ذلك أن الرسل، لما
استيأسوا، ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم، كذبوهم، وعلى هذا أكثر المفسرين،
وقيل: الضمير في " ظنوا " عائد على الأتباع والأمم، لا على الأنبياء والرسل، وهو قول ابن
عباس والنخعي وابن جبير وجماعة، وبهذا المعنى قرأ مجاهد: " كذبوا " بالفتح، فلا
تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء، فكيف بالأنبياء، انتهى من
" الشفا ".
وقوله سبحانه: (جاءهم نصرنا): أي: بتعذيب أممهم الكافرة.
(فنجي من نشاء): أي: من أتباع الرسل.
(ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين): أي: الكافرين، و " البأس ": العذاب.
وقوله سبحانه: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب): أي: في قصص
يوسف وإخوته وسائر الرسل الذين ذكروا على الجملة، ولما كان ذلك كله في القرآن، قال
عنه: (ما كان حديثا يفترى)، و (الذي بين يديه) التوراة والإنجيل، وباقي الآية بين
واضح.
* ت *: كنت في وقت أنظر في " السيرة " لابن هشام، وأتأمل أبو في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم،
وهي أول خطبة خطبها بالمدينة، فإذا هاتف يقول: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي
الألباب ما كان حديثا يفترى)، وقد كان حصل في القلب عبرة في أمره صلى الله عليه وسلم وأفاضل
أصحابه، رضي الله عنهم أجمعين، وسلك بنا مناهجهم المرضية، والحمد لله، وسلام
على عباده الذين اصطفى / وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
357

تفسير سورة الرعد
قيل: مكية إلا بعض آيات، وقيل: مدنية، والظاهر أن المدني فيها كثير.
قوله عز وجل: (آلمر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق): قال ابن
عباس: هذه الحروف هي من قوله: " أنا الله أعلم وأرى ".
وقوله سبحانه: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد...) الآية: قال جمهور
الناس، لا عمد للسموات ألبتة، وهذا هو الحق و " العمد ": اسم جمع.
قوله سبحانه: (ثم استوى على العرش): " ثم "، هنا: لعطف الجمل، لا للترتيب،
لأن الاستواء على العرش قبل رفع السماوات، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان
الله ولم يكن شئ قبله وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض " وقد تقدم
القول في هذا، وفي معنى الاستواء.
* ت *: والمعتقد في هذا: أنه سبحانه مستو على العرش على الوجه الذي قاله،
وبالمعنى الذي أراده استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا
358

يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، كان الله
ولا شئ معه، كان سبحانه قبل أن يخلق المكان والزمان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقوله سبحانه: (وسخر الشمس والقمر): تنبيه على القدرة، وفي ضمن الشمس
والقمر الكواكب، ولذلك قال: (كل يجري) أي: كل ما هو في معنى الشمس والقمر،
و " الأجل المسمى ": هو انقضاء الدنيا، وفساد هذه البنية.
(يدبر الأمر): معناه: يبرمه وينفذه، وعبر بالتدبير، تقريبا للأفهام، وقال مجاهد:
(يدبر الأمر): معناه يقضيه وحده.
و (لعلكم بلقاء ربكم توقنون): أي: توقنون بالبعث.
وقوله سبحانه: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي): لما فرغت آيات
السماء، ذكرت آيات الأرض، وال‍ (رواسي): الجبال الثابتة.
وقوله سبحانه: (جعل فيها زوجين اثنين): " الزوج "، في هذه الآية: الصنف
والنوع، وليس بالزوج المعروف في المتلازمين الفردين من الحيوان وغيره: ومنه قوله
سبحانه: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض...) الآية: [يس: 36]،
ومنه: (وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) [ق: 7]، وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة،
فموجود منها نوعان، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين، فغير ضار في معنى
الآية: و (قطع): جمع قطعة، وهي الأجزاء، وقيد منها في هذا المثال ما جاور وقرب
بعضه من بعض، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب، وقرأ الجمهور: " وجنات "
- بالرفع -، عطفا على " قطع "، وقرأ نافع وغيره: " وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ".
359

- بالخفض في الكل -، عطفا على " أعناب "، وقرأ ابن كثير وغيره: / " وزرع " - بالرفع في
الكل -، عطفا على " قطع "، و (صنوان): جمع صنو، وهو الفرع يكون مع الآخر في أصل
واحد، قال البراء بن عازب: " الصنوان ": المجتمع، وغير الصنوان: المفترق فردا فردا
وفي " الصحيح ": " العم صنو الأب "، وإنما نص على الصنوان في هذه الآية، لأنها بمثابة
التجاور في القطع تظهر فيها غرابة اختلاف الأكل، و (الأكل) - بضم الهمزة -: اسم ما
يؤكل، والأكل المصدر، وحكى الطبري عن ابن عباس وغيره: (قطع متجاورات):
أي: واحدة سبخة، وأخرى عذبة، ونحو هذا من القول، وقال قتادة: المعنى: قرى
متجاورات.
قال * ع *: وهذا وجه من العبرة، كأنه قال: وفي الأرض قطع مختلفات
بتخصيص الله لها بمعان فهي تسقى بماء واحد، ولكن تختلف فيما تخرجه، والذي يظهر
من وصفه لها بالتجاور، أنها من تربة واحدة، ونوع واحد، وموضع العبرة في هذا أبين،
وعلى المعنى الأول قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم: الأرض واحدة،
وينزل عليها ماء واحد من السماء، فتخرج هذه زهرة وثمرة، وتخرج هذه سبخة وملحا
وخبثا، وكذلك الناس خلقوا من آدم، فنزلت عليهم من السماء تذكرة، فرقت قلوب
وخشعت، وقست قلوب ولهت.
قال الحسن: فوالله، ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، قال الله
تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)
[الإسراء: 82].
360

وقوله سبحانه: (وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد)،
المعنى: وإن تعجب، يا محمد، من جهالتهم وإعراضهم عن الحق، فهم أهل لذلك،
وعجب غريب قولهم: أنعود بعد كوننا ترابا، خلقا جديدا، (أولئك الذين كفروا بربهم)،
لتصميمهم على الجحود وإنكارهم للبعث، (وأولئك الأغلال في أعناقهم): أي: في
الآخرة، ويحتمل أن يكون خبرا عن كونهم مغللين عن الإيمان، كقوله تعالى: (إنا جعلنا
في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقحمون) [يس: 8].
وقوله سبحانه: (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة...) الآية: تبيين لخطئهم
كطلبهم سقوط كسف من السماء، وقولهم: (أمطر علينا حجارة من السماء) [الأنفال:
32] ونحو هذا مع نزول ذلك بأناس كثير، وقرأ الجمهور: (المثلات) - بفتح الميم
وضم الثاء - وقرأ مجاهد " المثلات " - بفتح الميم والثاء - أي: الأخذة الفذة بالعقوبة
ثم رجى سبحانه بقوله: (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم)، ثم خوف بقوله:
(وإن ربك لشديد العقاب): قال ابن المسيب: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لولا عفو الله ومغفرته ما تهنأ أحد عيشا، ولولا عقابه لاتكل كل أحد "، وقال ابن
عباس: ليس في القرآن أرجى من هذه الآية: (والمثلات): هي العقوبات المنكلات
التي تجعل الإنسان مثلا يتمثل به، ومنه التمثيل بالقتلى، ومنه المثلة بالعبيد.
ويقولون: (لولا أنزل عليه آية من ربه): هذه من اقتراحاتهم، / والآية هنا يراد بها
الأشياء التي سمتها قريش، كالملك، والكنز، وغير ذلك، ثم أخبر تعالى بأنه منذر وهاد،
قال عكرمة، وأبو الضحى: المراد ب‍ " الهادي " محمد صلى الله عليه وسلم، ف‍ " هاد " عطف على " منذر "،
361

كأنه قال: إنما أنت منذر وهاد لكل قوم، و " هاد "، على هذا التأويل: بمعنى داع إلى طريق
الهدى، وقال مجاهد وابن زيد: المعنى: إنما أنت منذر، ولكل أمة سلفت هاد، أي: نبي
يدعوهم، أي: فليس أمرك يا محمد ببدع، ولا منكر، وهذا يشبه غرض الآية، وقالت
فرقة: " الهادي " في هذه الآية: الله عز وجل، والألفاظ تقلق بهذا المعنى، ويعرف أن الله
تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع، والقولان الأولان أرجح ما تؤول في الآية.
وقوله سبحانه: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد): هذه
الآيات أمثال منبهات على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث، (وما تغيض الأرحام): معناه: ما تنقص، ثم اختلف المتأولون في صورة الزيادة والنقصان، وجمهور المتأولين
على أن غيض الرحم هو نقص الدم على الحمل، وقال الضحاك: غيض الرحم: أن تسقط
المرأة الولد، والزيادة أن تضعه لمدة كاملة، ونحوه لقتادة.
وقوله: (وكل شئ عنده بمقدار): عام في كل ما يدخله التقدير، و (الغيب): ما
غاب عن الإدراكات، و (الشهادة): ما شوهد من الأمور.
وقوله: (الكبير) صفة تعظيم، و (المتعال): من العلو.
وقوله سبحانه: (سواء منكم من أسر القول...) الآية: أي: لا يخفى على الله
شئ وال‍ (سارب)، في اللغة: المتصرف كيف شاء.
وقوله سبحانه: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله):
المعنى: جعل الله للعبد معقبات يحفظونه في كل حال من كل ما جرى القدر باندفاعه،
362

فإذا جاء المقدور الواقع، أسلم المرء إليه، وال‍ (معقبات)، على هذا التأويل: الحفظة
على العباد أعمالهم، والحفظة لهم أيضا، قاله الحسن، وروى فيه عن عثمان بن عفان
حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أقوى التأويلات في الآية، وعبارة البخاري: (معقبات):
ملائكة حفظة يعقب الأول منها الآخر. انتهى.
وقالت فرقة: الضمير في " له " عائد على اسم الله المتقدم ذكره، أي: لله معقبات
يحفظون عبده، والضمير في قوله: (يديه) وما بعده من الضمائر عائد على العبد، ثم ذكر
سبحانه أنه لا يغير هذه الحالة من الحفظ للعبد، حتى يغير العبد ما بنفسه،
وال‍ (معقبات): الجماعات التي يعقب بعضها بعضا، وهي الملائكة، وينظر هذا إلى قول
النبي صلى الله عليه وسلم: " يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار... " الحديث، وفي قراءة
أبي بن كعب: " من بين يديه / ورقيب من خلفه "، وقرأ ابن عباس: " ورقباء من خلفه
يحفظونه بأمر الله "، وقوله: (يحفظونه): أي: يحرسونه ويذبون عنه، ويحفظون أيضا
أعماله، ثم أخبر تعالى، أنه إذا أراد بقوم سوءا، فلا مرد له، ولا حفظ منه.
وقوله سبحانه: (هو الذي يريكم البرق...) الآية: قد تقدم في أول البقرة
تفسيره، والظاهر أن الخوف إنما هو من صواعق البرق، والطمع في الماء الذي يكون معه،
وهو قول الحسن، و (السحاب): جمع سحابة، ولذلك جمع الصفة، و (الثقال):
معناه: بحمل الماء، قاله قتادة ومجاهد، والعرب تصفها بذلك، وروى أبو هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد، قال: " سبحان من يسبح الرعد بحمده "، وقال ابن أبي
363

زكرياء: من قال إذا سمع الرعد: سبحان الله، وبحمده، لم تصبه صاعقة.
* ت *: وعن عبد الله بن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد
والصواعق، قال: " اللهم، لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك "
رواه الترمذي والنسائي والحاكم في " المستدرك "، ولفظهم واحد انتهى من " السلاح "، قال
الداوودي: وعن ابن عباس، قال: من سمع الرعد، فقال: " سبحان الذي يسبح الرعد
بحمده، والملائكة من خيفته، وهو على كل شئ قدير "، فإن أصابته صاعقة، فعلي ديته،
انتهى.
وقوله سبحانه: (ويرسل الصواعق...) الآية: قال ابن جريج: كان سبب نزولها
قصة أربد، وعامر بن الطفيل، سألا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأمر بعده لعامر بن الطفيل،
ويدخلا في دينه، فأبى عليه السلام ثم تآمرا في قتل النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر لأربد: أنا أشغله
لك بالحديث، واضربه أنت بالسيف، فجعل عامر يحدثه، وأربد لا يصنع شيئا، فلما
انصرفا، قال له عامر: والله، يا أربد، لا خفتك أبدا، ولقد كنت أخافك قبل هذا، فقال له
أربد: والله، لقد أردت إخراج السيف، فما قدرت على ذلك، ولقد كنت أراك بيني وبينه،
أفأضربك، فمضيا للحشد على النبي صلى الله عليه وسلم، فأصابت أربد صاعقة، فقتلته، و (المحال):
القوة والإهلاك.
* ت *: وفي " صحيح البخاري ": (المحال): العقوبة.
وقوله عز وجل: (له دعوة الحق): الضمير في " له " عائد على اسم الله عز وجل.
قال ابن عباس: و (دعوة الحق): " لا إله إلا الله "، يريد: وما كان من الشريعة
في معناها.
364

وقوله: (والذين): يراد به ما عبد من دون الله، والضمير في (يدعون) لكفار
قريش وغيرهم، ومعنى الكلام: والذين يدعونهم الكفار في حوائجهم ومنافعهم (لا
يجيبونهم بشئ إلا)، ثم مثل سبحانه مثالا لإجابتهم بالذي يبسط كفيه نحو الماء، ويشير
إليه بالإقبال إلى فيه، فلا / يبلغ فمه أبدا، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع.
وقوله: (هو): يريد به الماء، وهو البالغ، والضمير في (بالغة) لفم، ويصح أن
يكون هو يراد به الفم، وهو البالغ أيضا، والضمير في (بالغة) للماء، لأن الفم لا يبلغ
الماء أبدا على تلك الحال، ثم أخبر سبحانه عن دعاء الكافرين، أنه في انتلاف وضلال لا
يفيد.
وقوله تعالى: (ولله يسجد من في السماوات والأرض...) الآية: تنبيه على قدرته
وعظمته سبحانه، وتسخير الأشياء له، والطعن على الكفار التاركين للسجود، و (من):
تقع على الملائكة عموما، و " سجودهم ": طوع، وأما أهل الأرض، فالمؤمنون داخلون في
(من)، وسجودهم أيضا طوع، وأما سجود الكفرة، فهو الكره، وذلك على معنيين، فإن
جعلنا السجود هذه الهيئة المعهودة، فالمراد من الكفرة من أسلم، خوف سيف الإسلام،
كما قاله قتادة، وإن جعلنا السجود الخضوع والتذلل، حسب ما هو في اللغة، فيدخل
الكفار أجمعون في (من)، لأنه ليس من كافر إلا ويلحقه من التذلل والاستكانة لقدرة الله
تعالى أنواع أكثر من أن تحصى بحسب رزاياه، واعتباراته.
وقوله سبحانه: (وظلالهم بالغدو والآصال): إخبار عن أن الضلال لها سجود لله
365

تعالى، كقوله تعالى: (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤا ضلاله...) الآية:
[النحل: 48]، وقال مجاهد: ظل الكافر يسجد طوعا، وهو كاره وروي أن الكافر إذا
سجد لصنمه، فإن ظله يسجد لله حينئذ، وباقي الآية بين، ثم مثل الكفار والمؤمنين بقوله:
(قل هل يستوي الأعمى والبصير)، وشبه الكافر بالأعمى، والكفر بالظلمات، وشبه
المؤمن بالبصير، والإيمان بالنور.
وقوله سبحانه: (قل الله خالق كل شئ): لفظ عام يراد به الخصوص، كما تقدم
ذكره في غير هذا الموضع.
وقوله سبحانه: (أنزل من السماء ماء): يريد به المطر، (فسالت أودية بقدرها):
" الأودية ": ما بين الجبال من الانخفاض والخنادق، وقوله: (بقدرها): يحتمل أن يريد بما
قدر لها من الماء، ويحتمل أن يريد بقدر ما تحمله على قدر صغرها وكبرها.
* ت *: وقوله: (فاحتمل) بمعنى: حمل، كاقتدر وقدر قاله * [ص] *.
و (الزبد) ما يحمله السيل من غثاء ونحوه، و " الرابي ": المنتفخ الذي قد ربا، ومنه
الربوة.
وقوله سبحانه: (ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله): المعنى:
ومن الأشياء التي توقدون عليها ابتغاء الحلي، وهي الذهب والفضة، أو ابتغاء الاستمتاع بها
في المرافق، وهي الحديد والرصاص والنحاس ونحوها من الأشياء التي توقدون عليها،
فأخبر تعالى أن من هذه أيضا إذا أحمي عليها يكون لها زبد مماثل للزبد الذي يحمله
السيل، ثم ضرب سبحانه ذلك مثلا للحق والباطل، أي: إن الماء الذي / تشربه الأرض من
السيل، فيقع النفع به هو كالحق، والزبد الذي يخمد وينفش ويذهب هو كالباطل، وكذلك
ما يخلص من الذهب والفضة والحديد ونحوه هو كالحق، وما يذهب في الدخان هو
كالباطل.
وقوله: (جفاء): مصدر من قولهم: " أجفأت القدر " إذا غلت حتى خرج زبدها
وذهب.
وقال * ص *: (جفاء): حال، أي: مضمحلا متلاشيا، أبو البقاء: وهمزته منقلبة
366

عن واو، وقيل: أصل. انتهى.
وقوله: (ما ينفع الناس): يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار.
وقوله سبحانه: (للذين استجابوا لربهم الحسنى): ابتداء كلام، و (الحسنى):
الجنة. (والذين لم يستجيبوا): هم الكفرة، و (سوء الحساب): هو التقصي على
المحاسب، وألا يقع في حسابه من التجاوز شئ، قاله شهر بن حوشب والنخعي وفرقد
السبخي وغيرهم.
وقوله سبحانه: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كم هو أعمى...)
المعنى: أسواء من هداه الله، فعلم صدق نبوتك، وآمن بك، كمن هو أعمى البصيرة باق
على كفره، روي أن هذه الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل، وهي بعد
هذا مثال في جميع العالم، (إنما يتذكر أولوا الألباب): " إنما "، في هذه الآية: حاصرة،
أي: إنما يتذكر، فيؤمن ويراقب الله من له لب، ثم أخذ في وصفهم، فقال: (الذين
يوفون بعهد الله...) الآية: قال الثعلبي: قال عبد الله بن المبارك: هذه ثمان خلال
مسيرة إلى ثمانية أبواب الجنة، وقال أبو بكر الوراق: هذه ثمان جسور، فمن أراد القربة
من الله عبرها. انتهى. وباقي الآية ألفاظها واضحة، وأنوارها لذوي البصائر لائحة.
(ويدرءون): يدفعون.
قال الغزالي: لما ذكر هذه الآية: والذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة، فليس من
367

ذوي الألباب، ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب، انتهى.
و (جنات): بدل من (عقبى) وتفسير لها، و (عدن): هي مدينة الجنة ووسطها،
ومعناها: جنات الإقامة، من عدن في المكان، إذا أقام فيه طويلا، ومنه المعادن، و (جنات
عدن): يقال: هي مسكن الأنبياء والشهداء والعلماء فقط، قاله عبد الله بن عمرو بن
العاص، ويروى أن لها خمسة آلاف باب، وقوله: (ومن صلح) أي: عمل صالحا،
(والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم): أي: يقولون: سلام عليكم،
والمعنى: هذا بما صبرتم، وباقي الآية واضح.
وقوله سبحانه: (والذين ينقضون عهد الله...) الآية: هذه صفة حال مضادة
للمتقدمة - نعوذ بالله من سخطه -.
وقوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء...) الآية: لما أخبر عمن تقدم وصفه
بأن لهم اللعنة وسوء الدار، أنحى بعد ذلك على أغنيائهم، / وحقر شأنهم وشأن أموالهم،
المعنى: إن هذا كله بمشيئة الله يهب الكافر المال، ليهلكه به، ويقدر على المؤمن، ليعظم
ذلك أجره وذخره.
وقوله (ويقدر): من التقدير المناقض للبسط والاتساع.
(ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء...)
الآية: رد على مقترحي الآيات من كفار قريش، كما تقدم.
وقوله سبحانه: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله): " الذين ": بدل من " من "
في قوله: (من أناب)، وطمأنينة القلوب هي الاستكانة والسرور بذكر الله، والسكون به،
كمالا به، ورضا بالثواب عليه، وجودة اليقين، ثم قال سبحانه: (ألا بذكر الله تطمئن
القلوب): أي: لا بالآيات المقترحة التي ربما كفر بعدها، فنزل العذاب، " والذين " الثاني:
368

مبتدأ، وخبره (طوبى) لهم.
واختلف في معنى (طوبى)، فقال ابن عباس: (طوبى): اسم الجنة بالحبشية،
وقيل: (طوبى): اسم الجنة بالهندية، وقيل: (طوبى): اسم شجرة في الجنة، وبهذا
تواترت الأحاديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى اسم شجرة في الجنة يسير الراكب المجد
في ظلها مائة عام لا يقطعها... " الحديث.
قال * ص *: (طوبى): " فعلى " من الطيب، والجمهور أنها مفرد مصدر،
ك‍ " سقيا وبشرى ".
قال الضحاك: ومعناها: غبطة لهم، قال القرطبي: والصحيح أنها شجرة،
للحديث المرفوع. انتهى.
* ت *: وروى الشيخ الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن الخطيب
البغدادي في " تاريخه "، عن شيخه أبي نعيم الأصبهاني بسنده عن أبي سعيد الخدري، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك! قال: " طوبى لمن
رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني "، فقال له رجل:
يا رسول الله، ما طوبى؟ قال: " شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج
من أكمامها ". انتهى من ترجمة " أحمد بن الحسن ".
369

وقوله تعالى: " كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم ": أي: كما أجرينا
عادتنا، (كذلك أرسلناك...) الآية.
وقوله: (وهم يكفرون بالرحمن): قال قتادة: نزلت في قريش: لما كتب في
الكتاب: (بسم الله الرحمن الرحيم) في قصة الحديبية، فقال قائلهم: نحن لا نعرف
الرحمن.
قال * ع *: وذلك منهم إباءة اسم فقط، وهروب عن هذه العبارة التي لم
يعرفوها إلا من قبل النبي عليه السلام، وال‍ (متاب): المرجع، ك‍ " المآب " لأن التوبة هي
الرجوع.
وقوله سبحانه: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض...) الآية:
قال ابن عباس وغيره: إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أزح عنا وسير جبلي مكة، فقد ضيقا
علينا، واجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا، / وفلانا وفلانا،
فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون، ولو كان ذلك كله.
وقوله تعالى: (أفلم ييئس الذين آمنوا...) الآية: " ييئس ": معناه: يعلم، وهي
لغة هوازن، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وجماعة: " أفلم يتبين "، ثم أخبر سبحانه
عن كفار قريش والعرب، أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغزواته، ثم
قال: " أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم ". [هذا تأويل ابن عباس وغيره.
وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى: أو تحل القارعة قريبا من دارهم]، و (وعد
الله)، على قول ابن عباس وغيره: هو فتح مكة، وقال الحسن: الآية عامة في الكفار إلى
370

يوم القيامة، وإن حال الكفرة هكذا هي إلى يوم القيامة، و (وعد الله): قيام الساعة،
وال‍ (قارعة): الرزية التي تقرع قلب صاحبها.
وقوله سبحانه: (ولقد استهزئ برسل...) الآية: تأنيس وتسلية له عليه السلام،
قال البخاري: (فأمليت): أي: أطلت من المليي والملاوة، ومنه: مليا، ويقال للواسع
الطويل من الأرض: ملى من الأرض. انتهى.
وقوله تعالى: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت): أي: أهو أحق بالعبادة أم
الجمادات.
وقوله: (قل سموهم): أي: سموا من له صفات يستحق بها الألوهية،
و (مكرهم): يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانت بسبيل مناقضة الشرع، و (لهم عذاب في
الحياة الدنيا): أي: بالقتل والأسر والجدوب وغير ذلك، و (أشق): من المشقة، أي:
أصعب، والواقي الساتر على جهة الحماية من الوقاية.
وقوله سبحانه: (مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم
وظلها): قد تقدم تفسير نظيره، وقوله: (أكلها): معناه: ما يؤكل فيها.
وقوله سبحانه: (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون...) الآية: قال ابن زيد: المراد
371

بالآية: من آمن من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وغيره.
قال * ع *: والمعنى مدحهم، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت): المعنى أن الله سبحانه يمحو من
الأمور ما يشاء، ويغيرها عن أحوالها مما سبق في علمه محوه وتغييره، ويثبتها في الحالة
التي ينقلها إليها حسب ما سبق في علمه.
قال * ع *: وأصوب ما يفسر به (أم الكتاب): أنه كتاب الأمور المجزومة التي
قد سبق في القضاء فيها بما هو كائن، وسبق ألا تبدل ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي
سبق في القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت، قال نحوه قتادة، وقوله سبحانه: (وإن ما
نرينك بعض الذي نعدهم): " إن ": شرط دخلت عليها " ما "، وقوله: (أو نتوفينك)، " أو "
عاطفة، وقوله: (فإنما): جواب الشرط، ومعنى الآية: إن نبقك يا محمد، لترى بعض
الذي نعدهم، أو نتوفينك قبل ذلك، فعلى كلا الوجهين، فإنما يلزمك البلاغ فقط،
والضمير في قوله: (أو لم يروا): عائد على كفار قريش، كالذي في (نعدهم).
وقوله: (نأتي): معناه: بالقدرة والأمر. و (الأرض): يريد بها اسم الجنس،
وقيل: يريد أرض الكفار المذكورين، المعنى: أو لم يروا أنا نأتي أرض هؤلاء بالفتح
عليك، فننقصها بما يدخل في دينك من القبائل والبلاد المجاورة لهم، فما يؤمنهم أن
نمكنك منهم أيضا، قاله ابن عباس، وهذا على أن الآية مدنية، ومن قال: إن الأرض
372

اسم جنس، جعل انتقاص الأرض بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفار، وقيل:
الانتقاص بموت البشر، ونقص الثمرات والبركة، وقيل: بموت العلماء والأخيار، قاله ابن
عباس أيضا، وكل ما ذكر يدخل في لفظ الآية، وجملة معنى هذه الآية: الموعظة
وضرب المثل، وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب العلم بسنده عن عطاء بن أبي رباح في
معنى (ننقصها من أطرافها) قال: بذهاب فقهائها، وخيار أهلها، وعن وكيع نحوه.
وقال الحسن: نقصانها: هو بظهور المسلمين على المشركين.
قال أبو عمر: وقول عطاء في تأويل الآية حسن جدا، تلقاه أهل العلم بالقبول، وقول
الحسن أيضا حسن. انتهى.
وقوله سبحانه: (فلله المكر جميعا): أي: العقوبات التي أحلها بهم، وسماها مكرا
على عرف تسمية العقوبة باسم الذنب، وباقي الآية تحذير ووعيد.
(ويقول الذين كفروا لست مرسلا): المعنى: ويكذبك يا محمد هؤلاء الكفرة،
ويقولون: لست مرسلا. (قل كفا بالله شهيدا): أي: شاهدا بيني وبينكم، (ومن عنده
علم الكتاب): قال قتادة: يريد من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وغيره، كمل تفسير
السورة، وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
373

تفسير سورة إبراهيم
هذه السورة مكية إلا آيتين، وهما قوله عز وجل: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله
كفرا...) [إبراهيم: 28] إلى آخر الآيتين، ذكره مكي والنقاش.
قوله عز وجل: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) قال
القاضي ابن الطيب، وأبو المعالي وغيرهما: إن الإنزال لم يتعلق بالكلام القديم الذي هو
صفة الذات، لكن بالمعاني التي أفهمها الله تعالى جبريل عليه السلام من الكلام.
وقوله: (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور): في هذه اللفظة تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم
وعم الناس، إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق، وقرأ نافع وابن عامر: " الله الذي له ما في
السماوات وما في الأرض " برفع اسم الله، على القطع والابتداء، وقرأ الباقون بخفض
الهاء، (وويل): معناه: وشدة وبلاء، وباقي الآية بين.
374

وقوله سبحانه: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم...) الآية، هذه
الآية طعن ورد على المستغربين أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه لموسى: (وذكرهم بأيام الله): أي: عظهم بالتهديد بنقم الله التي /
أحلها بالأمم الكافرة قبلهم، وبالتعديد لنعمه عليهم، وعبر عن النعم والنقم ب‍ " الأيام "، إذ
هي في أيام، وفي هذه العبارة تعظيم هذه الكوائن المذكر بها، وفي الحديث الصحيح:
" بينما موسى في قومه يذكرهم أيام الله... " الحديث، في قصة موسى مع الخضر.
قال عياض في " الإكمال ": " أيام الله ": نعماؤه وبلاؤه، انتهى. وقال الداوودي: وعن
النبي صلى الله عليه وسلم: " (وذكرهم بأيام الله): قال: بنعم الله " وعن قتادة: (لآيات لكل صبار
شكور): قال: نعم، والله، العبد إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر. انتهى.
وقال ابن العربي في " أحكامه ": وفي (أيام الله) قولان أحدهما: نعمه. والثاني:
نقمه. انتهى.
وقوله: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم...) الآية: " تأذن ": بمعنى آذن،
أي: أعلم.
قال بعض العلماء: الزيادة على الشكر ليست في الدنيا، وإنما هي من نعم الآخرة،
والدنيا أهون من ذلك.
قال * ع *: وجائز أن يزيد الله المؤمن على شكره من نعم الدنيا والآخرة،
والكفر "، هنا: يحتمل أن يكون على بابه، ويحتمل أن يكون كفر النعم لا كفر الجحد،
375

وفي الآية ترجية وتخويف، وحكى الطبري عن سفيان وعن الحسن، أنهما قالا: معنى
الآية: لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي.
قال * ع *: وضعفه الطبري، وليس كما قال، بل هو قوي حسن، فتأمله.
* ت *: وتضعيف الطبري بين، من حيث التخصيص، والأصل التعميم.
وقوله: (ألم يأتكم): هذا أيضا من التذكير بأيام الله، وقوله سبحانه: (فردوا
أيديهم في أفواههم): قيل: معناه: ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم، إشارة على
الأنبياء بالسكوت، وقال الحسن: ردوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتا لهم، وهذا
أشنع في الرد.
وقوله عز وجل: (قالت رسلهم أفي الله شك): التقدير: أفي إلاهية الله شك أو:
أفي وحدانية الله شك، و " ما " في قوله (ما آذيتمونا) مصدرية، ويحتمل أن تكون
موصولة بمعنى " الذي "، قال الداوودي: عن أبي عبيدة (لمن خاف مقامي): مجازه حيث
أقيمه بين يدي للحساب انتهى. قال عبد الحق في العاقبة قال الربيع بن خيثم من
خاف الوعيد، قرب عليه البعيد، ومن طال أمله، ساء عمله. انتهى، وباقي الآية بين.
376

وقوله سبحانه: (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد): (استفتحوا): أي: طلبوا
الحكم، و " الفتاح " الحاكم، والمعنى: أن الرسل استفتحوا، أي: سألوا الله تبارك وتعالى
إنفاذ الحكم بنصرهم.
وقيل: بل استفتح الكفار على نحو قول قريش: (عجل لنا قطنا...) [ص: 16]
وعلى نحو قول أبي جهل يوم بدر: اللهم، أقطعنا للرحم، وأتيانا بما لا نعرف، فاحنه
الغداة، وهذا قول ابن زيد، وقرأت فرقة: " واستفتحوا " - بكسر التاء -، على معنى
الأمر للرسل، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن محيصن: (وخاب): معناه: خسر ولم
ينجح، وال‍ (جبار): المتعظم في نفسه، وال‍ (عنيد): الذي يعاند ولا يناقد.
وقوله: (من ورائه): قال الطبري وغيره: من أمامه، وعلى ذلك حملوا قوله
تعالى: (وكان وراءهم ملك) [الكهف: 79]، وليس الأمر كما ذكروا، بل الوراء هنا
وهناك على بابه، أي: هو / ما يأتي بعد في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحوادث
بالأمام والوراء، إنما هو بالزمان، وما تقدم فهو أمام، وهو بين اليد، كما نقول في التوراة
والإنجيل: إنهما بين يدي القرآن، والقرآن وراءهم، وعلى هذا فما تأخر في الزمان فهو
وراء المتقدم، (ويسقى من ماء صديد): " الصديد ": القيح والدم، وهو ما يسيل من
أجساد أهل النار، قاله مجاهد والضحاك.
377

وقوله: (يتجرعه ولا يكاد يسيغه): عبارة عن صعوبة أمره عليهم، وروي أن الكافر
يؤتى بالشربة من شراب أهل النار، فيتكرهها، فإذا أدنيت منه، شوت وجهه، وسقطت فيها
فروة رأسه، فإذا شربها، قطعت أمعاءه، وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله عز
وجل، (ويأتيه الموت من كل مكان)، أي: من كل شعرة في بدنه، قاله إبراهيم
التيمي، وقيل: من جميع جهاته الست، (وما هو بميت): لا يراح بالموت، (ومن
ورائه عذاب غليظ) قال الفضيل بن عياض: العذاب الغليظ: حبس الأنفاس في الأجساد،
وفي الحديث: " تخرج عنق من النار تكلم بلسان طلق ذلق لها عينان تبصر بهما، ولها لسان
تكلم به، فتقول: إني أمرت بمن جعل مع الله إلها آخر، وبكل جبار عنيد، وبمن قتل نفسا
بغير نفس، فتنطلق بهم قبل سائر الناس بخمسمائة عام، فتنطوي عليهم، فتقذفهم في
جهنم "، خرجه البزار، انتهى من " الكوكب الدري ".
وقوله: (في يوم عاصف) وصف اليوم بالعصوف، وهي من صفات الريح
بالحقيقة، لما كانت في اليوم، كقول الشاعر: [الطويل]
............. * ونمت وما ليل المطي بنائم
وباقي الآية بين.
378

(وبرزوا لله جميعا): معناه: صاروا في البراز، وهي الأرض المتسعة، (فقال
الضعفاء)، وهم الأتباع (للذين استكبروا)، وهم القادة وأهل الرأي، وقولهم: (سواء
علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيض): " المحيص ": المفر والملجأ مأخوذ من حاص
يحيص، إذ نفر وفر، ومنه في حديث هرقل: " فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب "
وروي عن ابن زيد، وعن محمد بن كعب، أن أهل النار يقولون: إنما نال أهل الجنة
الرحمة بالصبر على طاعة الله، فتعالوا فلنصبر، فيصبرون خمسمائة سنة، فلا ينتفعون،
فيقولون: هلم فلنجزع، فيضجون ويصيحون ويبكون خمسمائة سنة أخرى، فحينئذ يقولون
هذه المقالة (سواء علينا...) الآية، وظاهر الآية أنهم إنما يقولونها في موقف العرض
وقت البروز بين يدي الله عز وجل.
وقوله عز وجل: (وقال الشيطان لما قضي الأمر): المراد هنا ب‍ " الشيطان " إبليس
الأقدم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عقبة بن عامر، أنه قال: يقوم يوم القيامة خطيبان،
أحدهما: إبليس يقوم في الكفرة بهذه الألفاظ، والثاني: عيسى ابن مريم يقوم بقوله: (ما
قلت لهم إلا ما أمرتني به...) الآية [المائدة: 117]، وروي في حديث، أن إبليس إنما
يقوم بهذه الألفاظ في النار على أهلها عند قولهم: (ما لنا من محيص) [إبراهيم: 21] في
الآية المتقدمة، فعلى هذه الرواية، يكون معنى قوله: (قضي الأمر)، أي: حصل أهل
/ النار في النار، وأهل الجنة في الجنة، وهو تأويل الطبري.
وقوله: (وما كان لي عليكم من سلطان): أي: من حجة بينة، و (إلا أن
دعوتكم)، استثناء منقطع، ويحتمل أن يريد ب‍ " السلطان " في هذه الآية: الغلبة والقدرة
والملك، أي: ما اضطررتكم، ولا خوفتكم بقوة مني، بل عرضت عليكم شيئا فأتى رأيكم
عليه.
379

وقوله: (فلا تلوموني): يريد: بزعمه، إذ لا ذنب لي، (ولوموا أنفسكم)، أي:
في سوء نظركم في اتباعي، وقلة تثبتكم، (ما أنا بمصرخكم): " المصرخ ": المغيث،
والصارخ: المستغيث، وأما الصريخ، فهو مصدر بمنزلة البريح، وقوله: (إني كفرت بما
أشركتمون): " ما " مصدرية، وكأنه يقول: إني الآن كافر بإشراككم إياي مع الله قبل هذا
الوقت، فهذا تبر منه، وقد قال تعالى: (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) [فاطر: 14].
وقوله عز وجل: (وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها بإذن ربهم): " الإذن "، هنا: عبارة عن القضاء والإمضاء.
وقوله سبحانه: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة): (ألم تر): بمعنى: ألم
تعلم، قال ابن عباس وغيره: الكلمة الطيبة: هي لا إله إلا الله، مثلها الله سبحانه بالشجرة
الطيبة، وهي النخلة في قول أكثر المتأولين، فكان هذه الكلمة أصلها ثابت في قلوب
المؤمنين، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية وأنواع الحسنات هو فرعها يصعد إلى
السماء من قبل العبد، والحين: القطعة من الزمان غير محدودة، كقوله تعالى: (ولتعلمن نبأه
بعد حين) [ص: 88]، وقد تقتضي لفظة " الحين " بقرينتها تحديدا، كهذه الآية، و " الكلمة
الخبيثة ": هي كلمة الكفر، وما قاربها من كلام السوء في الظلم ونحوه، و " الشجرة
الخبيثة ": قال أكثر المفسرين: هي شجرة الحنظل، ورواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عندي
على جهة المثل، " اجتثت ": أي: اقتلعت جثتها بنزع الأصول، وبقيت في غاية الوهن
والضعف، فتقلبها أقل ريح، فالكافر يرى أن بيده شيئا، وهو لا يستقر ولا يغني عنه، كهذه
الشجرة الذي يظن بها على بعد أو للجهل بها أنها شئ نافع، وهي خبيثة الجني غير باقية.
380

وقوله سبحانه: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة):
(القول الثابت في الحياة الدنيا): كلمة الإخلاص والنجاة من النار: " لا إله إلا الله "،
والإقرار بالنبوة، وهذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة. قال
طاوس، وقتادة، وجمهور من العلماء: (الحياة الدنيا) هي مدة حياة الإنسان، وفي
الآخرة) وقت سؤاله في قبره، وقال البراء بن عازب وجماعة: (في الحياة الدنيا): هي
وقت سؤاله في قبره، ورواه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ متأول، وفي الآخرة: هو يوم
القيامة عند العرض، والأول أحسن، ورجحه الطبري.
* ت *: ولفظ البخاري عن البراء بن عازب / أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المسلم
إذا سئل في القبر، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: (يثبت
الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ". انتهى، وحديث البراء خرجه
البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، قال صاحب " التذكرة ": وقد روى
هذا الحديث أبو هريرة وابن مسعود وابن عباس وأبو سعيد الخدري قال أبو سعيد
381

الخدري: كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا
الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه، جاءه ملك بيده مطراق، فأقعده، فقال: ما تقول في هذا
الرجل... " الحديث، وفيه: قال بعص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحد يقوم على رأسه
ملك بيده مطراق إلا هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة
الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) انتهى.
قال أبو عمر بن عبد البر: وروينا من طرق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: كيف بك
يا عمر، إذا جاءك منكر ونكير، إذا مت، وانطلق بك قومك، فقاسوا ثلاثة أذرع وشبرا في
ذراع وشبر، ثم غسلوك، وكفنوك، وحنطوك، ثم احتملوك، فوضعوك فيه، ثم أهالوا
عليك التراب، فإذا انصرفوا عنك أتاك فتانا القبر: منكر ونكير، أصواتهما كالرعد القاصف،
وأبصارهما كالبرق الخاطف يجران شعورهما، معهما مرزبة، لو اجتمع عليها أهل الأرض
لم يقلبوها، فقال عمر: يا رسول الله، إن فرقنا فحق لنا أن نفرق أنبعث على ما نحن
عليه؟ قال: نعم، إن شاء الله، قال: إذن أكفيكهما "، انتهى، و " الظالمون "، في هذه
الآية: الكافرون، (ويفعل الله ما يشاء)، أي: بحق الملك، فلا راد لأمره، ولا معقب
لحكمه، وجاءت أحاديث صحيحة في مساءلة العبد في قبره، وجماعة السنة تقول: إن الله
سبحانه يخلق للعبد في قبره إدراكات وتحصيلا: إما بحياة، كالمتعارفة، وإما بحضور
النفس، وإن لم تتلبس بالجسد كالعرف، كل هذا جائز في قدرة الله تبارك وتعالى غير أن
في الأحاديث الصحيحة، " أنه يسمع خفق النعال "، ومنها: أنه يرى الضوء كأن الشمس
دنت للغروب، وفيها أنه يراجع، وفيها: " فيعاد روحه إلى جسده "، وهذا كله يتضمن
الحياة، فسبحان من له هذه القدرة العظيمة، وقوله سبحان: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت
الله كفرا): المراد ب‍ (الذين بدلوا نعمت الله): كفرة قريش، وقد خرجه البخاري وغيره
مسندا عن ابن عباس انتهى، والتقدير: بدلوا شكر نعمة الله كفرا، ونعمة الله تعالى، في
382

هذه الآية: هو محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، (وأحلوا / قومهم)، أي: من أطاعهم، وكأن الإشارة
والتعنيف إنما هو للرؤوس والأعلام، و (البوار): الهلاك، قال عطاء بن يسار: نزلت هذه
الآية في قتلى بدر، و " الأنداد ": جمع ند، وهو المثيل، والمراد: الأصنام، واللام في قوله:
(ليضلوا) - بضم الياء -: لام كي، وبفتحها: لام عاقبة وصيرورة، والقراءتان سبعيتان.
وقوله سبحانه: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة...) الآية: " العباد ": جمع
عبد، وعرفه في التكرمة بخلاف العبيد، و " السر ": صدقة التنفل، و " العلانية ": المفروضة،
هذا هو مقتضى الأحاديث، وفسر ابن عباس هذه الآية بزكاة الأموال مجملا، وكذلك فسر
الصلاة، بأنها الخمس وهذا عندي منه تقريب للمخاطب. و " الخلال ": مصدر من
" خالل "، إذا واد وصافى، ومنه الخلة والخليل، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة.
وقوله سبحانه: (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به
من الثمرات رزقا لكم): هذه الآية تذكير بآلائه سبحانه، وتنبيه على قدرته التي فيها إحسان
إلى البشر، لتقوم الحجة عليهم، وقوله: (بأمره): مصدر أمر يأمر، وهذا راجع إلى
الكلام القديم القائم بالذات، و (دائبين): معناه: متماديين، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب الجمل
383

الذي بكى وأجهش إليه: " إن هذا الجمل شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه "، أي: تديمه في
الخدمة والعمل، وظاهر الآية أن معناه: دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع
للناس التي لا تحصى كثرة، وعن ابن عباس أنه قال: معناه: دائبين في طاعة الله، وقوله
سبحانه: (وآتاكم من كل ما سألتموه) المعنى: أن جنس الإنسان بجملته قد أوتي من كل
ما شأنه أن يسأل وينتفع به، وقرأ ابن عباس وغيره: " من كل ما سألتموه " - بتنوين كل -،
ورويت عن نافع، وقوله تعالى: (وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها)، أي: لكثرتها
وعظمها في الحواس والقوى، والإيجاد بعد العدم والهداية للإيمان وغير ذلك، وقال
طلق بن حبيب: إن حق الله تعالى: أثقل من أن يقوم به العباد، ونعمه أكثر من أن يحصيها
العباد، ولكن أصبحوا توابين، وأمسوا توابين.
* ت *: ومن " الكلم الفارقية ": أيها الحريص على نيل عاجل حظه ومراده،
الغافل عن الاستعداد لمعاده تنبه لعظمة من وجودك بإيجاده، وبقاؤك بإرفاده، ودوامك
بإمداده، وأنت طفل في حجر لطفه، ومهد عطفه، وحضانة حفظه، يغذك بلبان بره،
ويقلبك بأيدي أياديه وفضله، وأنت غافل عن تعظيم أمره، جاهل بما أولاك من لطيف
سره، وفضلك به على كثير من خلقه، وأذكر عهد الإيجاد، ودوام الإمداد والإرفاد،
وحالتي الإصدار والإيراد، وفاتحة المبدأ وخاتمة المعاد. انتهى.
وقوله سبحانه: (إن الإنسان): يريد به النوع والجنس، المعنى: توجد فيه هذه
384

الخلال، وهي الظلم والكفر، فإن كانت هذه الخلال من جاحد، فهي بصفة، / وإن كانت
من عاص فهي بصفة أخرى.
وقوله سبحانه: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا) تقدم تفسيره.
وقوله: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام): و (اجنبني): معناه: امنعني، يقال:
جنبه كذا، وأجنبه، إذا منعه من الأمر وحماه منه.
* ت *: وكذا قال * ص *: و " اجنبني ": معناه: امنعني، أصله من الجانب،
وعبارة المهدوي: أي: اجعلني جانبا من عبادتها.
وقال الثعلبي: (واجنبني)، أي: بعدني واجعلني منها على جانب بعيد. انتهى،
وهذه الألفاظ كلها متقاربة المعاني، وأراد إبراهيم عليه السلام بني صلبه، وأما باقي نسله،
فمنهم من عبد الأصنام، وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه
ومن حصل في رتبته، فكيف يخاف أن يعبد صنما، لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في
الخوف، وطلب حسن الخاتمة، و (الأصنام): هي المنحوتة على خلقة البشر، وما كان
منحوتا على غير خلقه البشر، فهي أوثان، قاله الطبري عن مجاهد، ونسب إلى الأصنام
أنها أضلت كثيرا من الناس تجوزا، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعها سبحانه، وقيل:
أراد ب‍ (الأصنام) هنا: الدنانير والدراهم.
وقوله: (ومن عصاني): ظاهره بالكفر، لمعادلة قوله: (فمن تبعني فإنه مني)،
وإذا كان ذلك كذلك، فقوله: (فإنك غفور رحيم): معناه: بتوبتك على الكفرة، حتى
يؤمنوا لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر، وحمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من
القول الجميل، والنطق الحسن، وجميل الأدب صلى الله عليه وسلم، قال قتادة: اسمعوا قول الخليل صلى الله عليه وسلم
والله ما كانوا طعانين ولا لعانين، وكلك قول نبي الله عيسى عليه السلام: (وإن تغفر
385

لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) [المائدة: 118]، وأسند الطبري عن عبد الله بن
عمرو حديثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم، تلا هاتين الآيتين، ثم دعا لأمته فبشر فيهم، وكان إبراهيم
التيمي يقول: من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام.
وقوله: و (من ذريتي): يريد: إسماعيل عليه السلام، وذلك أن سارة لما غارت
بهاجر بعد أن ولدت إسماعيل، تشوش قلب إبراهيم منهما، فروي أنه ركب البراق هو
وهاجر، والطفل، فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، فتركهما هناك، وركب
منصرفا من يومه ذلك، وكان ذلك كله بوحي من الله تعالى، فلما ولى، دعا بمضمن هذه
الآية، وأما كيفية بقاء هاجر، وما صنعت، وسائر خبر إسماعيل، ففي كتاب البخاري
وغيره، وفي السير، ذكر ذلك كله مستوعبا.
* ت *: وفي " صحيح البخاري " من حديث الطويل في قصة إبراهيم مع هاجر
وولدها، لما حملهما إلى مكة، قال: وليس / بمكة يومئذ أحد، وليس فيها ماء، فوضعهما
هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم
إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس، ولا
شئ، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا، قال: نعم،
قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه،
استقبل بوجهه البيت، ثم دعاء بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه، فقال: " رب (إني أسكنت من
ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم)، حتى بلغ: (يشكرون)... " الحديث
بطوله وفي طريق: " قالت: يا إبراهيم إلى من تتركنا، قال: إلى الله عز وجل، قالت:
رضيت. انتهى. وفي هذا الحديث من الفوائد لأرباب القلوب والمتوكلين وأهل الثقة بالله
سبحانه ما يطول بنا سردها، فإليك استخراجها، ولما انقطعت هاجر وابنها إلى الله تعالى،
آواهما الله، وأنبع لهما ماء زمزم المبارك الذي جعله غذاء، قال ابن العربي: وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم: " ماء زمزم لما شرب له ".
قال ابن العربي: ولقد كنت مقيما بمكة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وكنت أشرب
386

ماء زمزم كثيرا، وكلما شربت، نويت به العلم والإيمان، ونسيت أن أشربه للعمل، ففتح
لي في العلم، ويا ليتني شربته لهما معا، حتى يفتح لي فيهما، ولم يقدر، فكان صغوي
إلى العلم أكثر منه إلى العمل، انتهى من " الأحكام ".
و " من "، في قوله: و (من ذريتي)، للتبعيض، لأن إسحاق كان بالشام، و " الوادي ":
ما بين الجبلين، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء، وجمعه الضمير في قوله: (ليقيموا):
يدل على أن الله قد أعلمه أن ذلك الطفل سيعقب هناك، ويكون له نسل، واللام في
(ليقيموا): لام كي، هذا هو الظاهر، ويصح أن تكون لام الأمر، كأنه رغب إلى الله
سبحانه أن يوفقهم لإقامة الصلاة، و " الأفئدة " القلوب جمع فؤاد، سمي بذلك، لاتقاده،
(مأخوذ من " فأد "، ومنه: " المفتأد "، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم.
وقوله: (من الناس): تبعيض، ومراده المؤمنون، وباقي الآية بين.
وقوله: (رب اجعلني مقيم الصلاة): دعاء إبراهيم عليه السلام في أمر كان مثابرا
عليه، متمسكا به، ومتى دعا الإنسان في مثل هذا، فإنما المقصد إدامة ذلك الأمر،
واستمراره، قال السهيلي: قوله تعالى: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) بحرف
التبعيض، ولذلك أسلم بعض ذريته دون بعض، انتهى، وفاقا لما تقدم الآن.
وقوله: (ربنا اغفر لي ولوالدي): اختلف في تأويل ذلك، فقالت فرقة: كان ذلك قبل
يأسه من إيمان أبيه، وتبينه أنه عدو لله، فأراد أباه وأمه، لأنها كانت مؤمنة، وقيل: أراد آدم
/ ونوحا عليهما السلام، وقرأ الزهري وغيره: " ولولدي "، على أنه دعاء لإسماعيل
وإسحاق، وأنكرها عاصم الجحدري، وقال: " إن في مصحف أبي بن كعب ولأبوي ".
387

وقوله عز وجل: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم...)
الآية: هذه الآية بجملتها فيها وعيد للظالمين، وتسلية للمظلومين، والخطاب بقوله:
(تحسبن) للنبي صلى الله عليه وسلم، و (تشخص فيه الأبصار)، معناه: تحد النظر، لفرط الفزع ولفرط
ذلك يشخص المحتضر، و " المهطع " المسرع في مشيه، قاله ابن جبير وغيره، وذلك بذلة
واستكانة، كإسراع الأسير ونحوه، وهذا أرجح الأقوال، وقال ابن عباس وغيره: الإهطاع
شدة النظر من غير أن يطرف، وقال ابن زيد: " المهطع ": الذي لا يرفع رأسه، قال
أبو عبيدة: قد يكون: الإهطاع للوجهين جميعا: الإسراع، وإدامة النظر، و " المقنع ": هو
الذي يرفع رأسه قدما بوجهه نحو الشئ، ومن ذلك قول الشاعر: [الوافر]
يباكرن على العضاه بمقنعات * نواجذهن كالحدإ الوقيع
يصف الإبل عند رعيها أعالي الشجر، وقال الحسن في تفسير هذه الآية: وجوه
الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد، وذكر المبرد فيما حكى عنه مكي:
أن الإقناع يوجد في كلام العرب بمعنى: خفض الرأس من الذلة.
قال * ع *: والأول أشهر.
وقوله سبحانه: (لا يرتد إليهم طرفهم)، أي: لا يطرفون من الحذر والجزع وشدة
الحال.
وقوله: (وأفئدتهم هواء): تشبيه محض، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فراغ الأفئدة
من الخير والرجاء والطمع في الرحمة، فهي متخرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء،
388

وانخراقه، ويحتمل أن تكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم، وأنها تذهب
وتجئ وتبلغ على ما روي حناجرهم، فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبدا في اضطراب.
وقوله سبحانه: (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب): المراد باليوم: يوم القيامة،
ونصبه على أنه مفعول ب‍ " أنذر "، ولا يجوز أن يكون ظرفا، لأن القيامة ليست بموطن
إنذار، قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة: يجب التصديق بكل ما أخبر الله
ورسوله به، ولا يتعرض إلى الكيفية في كل ماء جاء من أمر الساعة وأحوال يوم القيامة، فإنه
أمر لا تسعه العقول، وطلب الكيفية فيه ضعف في الإيمان، وإنما يجب الجزم بالتصديق
بجميع ما أخبر الله به، انتهى.
قال الغزالي: فأعلم العلماء وأعرف الحكماء ينكشف له عقيب الموت من العجائب
والآيات ما لم يخطر قط بباله، ولا اختلج به ضميره، فلو لم يكن للعاقل هم ولا غم، إلا
التفكر في خطر تلك الأحوال، وما الذي ينكشف عنه الغطاء من شقاوة لازمة، أو سعادة
دائمة / لكان ذلك كافيا في استغراق جميع العمر، والعجب من غفلتنا، وهذه العظائم بين
أيدينا. انتهى من " الإحياء ".
وقوله: (أو لم تكونوا...) الآية: معناه: يقال لهم، وقوله: (ما لكم من
زوال): هو المقسم عليه، وهذه الآية ناظرة إلى ما حكى الله سبحانه عنهم في قوله:
(وأقسموا بالله جهدا أيمانهم لا يبعث الله من يموت) [النحل: 38].
وقوله سبحانه: (وسكنتم...) الآية: المعنى: بقول الله عز وجل: وسكنتم أيها
المعرضون عن آيات الله من جميع العالم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر من الأمم
السالفة، فنزلت بهم المثلات، فكان حقكم الاعتبار والاتعاظ. وقوله: (وعند الله
مكرهم): أي: جزاء مكرهم، وقرأ السبعة سوى الكسائي: " وإن كان مكرهم لتزول "
389

- بكسر اللام من " لتزول " وفتح الأخيرة -، وهذا على أن تكون " إن " نافيه بمعنى " ما "،
ومعنى الآية تحقير مكرهم، وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وإقدار الله بها التي هي
كالجبال في ثبوتها وقوتها، هذا هو تأويل الحسن وجماعة المفسرين وتحتمل عندي هذه
القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم، أي: وإن كان شديدا، وقرأ الكسائي: " وإن كان
مكرهم لتزول منه الجبال " - بفتح اللام الأولى من لتزول، وضم الأخيرة -، وهي قراءة ابن
عباس وغيره، ومعنى الآية: تعظيم مكرهم وشدته، أي: أنه مما يشقى به، ويزيل
الجبال عن مستقراتها، لقوته، ولكن الله تعال أبطله ونصر أولياءه، وهذا أشد في العبرة،
وقرأ علي وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبي: " وإن كاد مكرهم "، وذكر أبو حاتم أن في
قراءة أبي: " ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال ".
وقوله سبحان: (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله...) الآية: تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم
ولغيره من أمته، ولم يكن النبي عليه السلام ممن يحسبن مثل هذا، ولكن خرجت العبارة
هكذا، والمراد بما فيها من الزجر غيره، (إن الله عزيز): لا يمتنع منه شئ، (ذو
انتقام): من الكفرة.
وقوله سبحانه: (يوم تبدل الأرض...)، الآية: (يوم) ظرف للانتقام المذكور
قبله، وروي في تبديل الأرض أخبار منها في الصحيح: " يبدل الله هذه الأرض بأرض
عفراء بيضاء كأنها قرصة نقي "، وفي الصحيح: " إن الله يبدلها خبزة يأكل المؤمن منها من
390

تحت قدميه " وروي أنها تبدل أرضا من فضة، وروي أنها أرض كالفضة من بياضها،
وروي أنها تبدل من نار.
قال * ع *: وسمعت من أبي رحمه الله، أنه روي أن التبديل يقع في الأرض،
ولكن يبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته
إليه، وفريق يكون على فضة، إن صح السند بها، وفريق الكفرة يكونون على نار، ونحو
هذا مما كله واقع تحت قدرة الله عز وجل، وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض
بيضاء عفراء لم يعص الله فيها، ولا سفك فيها دم، وليس فيها معلم لأحد، وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش "، وروي عنه أنه قال: " الناس
وقت التبديل / على الصراط "، وروي أنه قال: الناس حينئذ أضياف الله، فلا يعجزهم ما
لديه " وفي " صحيح مسلم " من حديث ثوبان في سؤال الحبر، وقوله: يا محمد، أين
يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " هم في الظلمة دون
الجسر " الحديث بطوله، وخرجه مسلم وابن ماجة جميعا، قالا: حدثنا أبو بكر بن ابن أبي
شيبة، ثم أسندا عن عائشة، قالت: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: (يوم تبدل الأرض
غير الأرض والسماوات) فأين يكون الناس؟ قال: على الصراط "، وخرجه الترمذي من
حديث عائشة، قالت: يا رسول الله، (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات
391

مطويات بيمينه) [الزمر: 67]، فأين يكون المؤمنون يومئذ؟ قال: " على الصراط
يا عائشة "، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى من " التذكرة ".
(وترى المجرمين): أي الكفار، و (مقرنين): أي: مربوطين في قرن، وهو الحبل
الذي تشد به رؤوس الإبل والبقر، و (الأصفاد): هي الأغلال، واحدها صفد، والسرابيل:
القمص، وال‍ (قطران): هو الذي تهنأ به الإبل، وللنار فيه اشتعال شديد، فلذلك جعل
الله قمص أهل النار منه، وقرأ عمر بن الخطاب وعلي وأبو هريرة وابن عباس وغيرهم:
" من قطر آن "، والقطر: القصدير، وقيل: النحاس، وروي عن عمر أنه قال: ليس بالقطران، ولكنه النحاس يسر بلونه، و " آن ": صفة، وهو الذائب الحار الذي تناهى
حره، قال الحسن: قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت، فتناهى حره.
وقوله سبحانه: (ليجزي الله كل نفس ما كسبت...) الآية: جاء من لفظة الكسب
بما يعم المسئ والمحسن، لينبه على أن المحسن أيضا يجازى بإحسانه خيرا.
وقوله سبحانه: (هذا بلاغ للناس...) الآية: إشارة إلى القرآن والوعيد الذي
تضمنه، والمعنى: هذا بلاغ للناس، وهو لينذروا به وليذكر أولوا الألباب، وصلى الله على
سيدنا محمد وآله وصبحه وسلم تسليما.
392

تفسير سورة الحجر
مكية
قوله عز وجل: (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين): قال مجاهد وقتادة:
(الكتاب): في الآية: ما نزل من الكتب قبل القرآن، ويحتمل أن يراد ب‍ (الكتاب)
القرآن: ثم تعطف الصفة عليه، و " ربما ": للتقليل، وقد تجيء شاذة للتكثير.
وقال قوم: إن هذه من ذلك، وأنكر الزجاج أن تجيء " رب " للتكثير، واختلف
المتأولون في الوقت الذي يود فيه الكفار أن يكونوا مسلمين، فقالت فرقة: هو عند معاينة
الموت، حكي ذلك الضحاك، وقالت فرقة: هو عند معاينة أهوال يوم القيامة، وقال ابن
عباس وغيره: هو عند دخولهم النار، ومعرفتهم، بدخول المؤمنين الجنة، وروي فيه
حديث من طريق أبي موسى.
393

وقوله سبحانه: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا...) الآية: وعيد وتهديد، وما فيه من
المهادنة منسوخ بآية السيف، وروى ابن المبارك في " رقائقه "، قال: أخبرنا الأوزاعي عن
عروة بن رويم، قال: قال رسول الله / صلى الله عليه وسلم: " شرار أمتي الذين ولدوا في النعيم، وغذوا
به، همتهم ألوان الطعام، وألوان الثياب، يتشدقون بالكلام ". انتهى.
وقوله:) فسوف يعلمون): وعيد ثان، وحكى الطبري عن بعض العلماء، أنه
قال: الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين.
وقوله: (ويلههم الأمل): أي: يشغلهم أملهم في الدنيا، والتزيد منها.
قال عبد الحق في " العاقبة ": اعلم رحمك الله أن تقصير الأمل مع حب الدنيا متعذر،
وانتظار الموت مع الإكباب عليها غير متيسر، ثم قال: واعلم أن كثرة الاشتغال بالدنيا
والميل بالكلية إليها، ولذة أمانيها تمنع مرارة ذكر الموت، أن ترد على القلب، وأن تلج
فيه، لأن القلب إذا امتلأ بشئ، لم يكن لشئ آخر فيه مدخل، فإذا أراد صاحب هذا
القلب سماع الحكمة، والانتفاع بالموعظة، لم يكن له بد من تفريقه، ليجد الذكر فيه
منزلا، وتلفي الموعظة فيه محلا قابلا، قال ابن السماك رحمه الله: إن الموتى لم يبكوا من
الموت، لكنهم بكوا من حسرة الفوت، فأتتهم والله، دار لم يتزودوا منها، ودخلوا دار لم
يتزودوا لها. انتهى. وإنما حصل لهم الفوت، بسبب استغراقهم في الدنيا، وطول الأمل
الملهى عن المعاد، ألهمنا الله رشدنا بمنه.
وقوله سبحانه: (وما أهلكنا من قرية...) الآية: أي: فلا تستبطئن هلاكهم،
فليس من قرية مهلكة إلا بأجل، وكتاب معلوم محدود.
(وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر...) الآية: القائلون هذه المقالة هم كفار
قريش، و " لو ما " بمعنى: لولا، فتكون تحضيضا، كما هي في هذه الآية، وفي البخاري:
394

(لو ما تأتينا): هلا تأتينا.
وقوله: (إلا بالحق): قال مجاهد: المعنى: بالرسالة والعذاب، والظاهر أن معناه
كما ينبغي ويحق من الوحي والمنافع التي أراها الله لعباده، لا على اقتراح كافر، ثم ذكر
عادته سبحانه في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح، إلا ومعها العذاب في إثرها إن لم
يؤمنوا، والنظرة: التأخير.
وقوله سبحانه: (إنا نحن نزلنا الذكر): رد على المستخفين في قولهم: (يا أيها الذي
نزل عليه الذكر)، وقوله: (وإنا له لحافظون): قال مجاهد وغيره: الضمير في " له " عائد
على القرآن، المعنى: وإنا له لحافظون من أن يبدل أو يغير.
وقوله سبحانه: (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين) الآية: تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم:
أي: لا يضق صدرك، يا محمد، بما يفعله قومك من الاستهزاء في قولهم: (يا أيها الذي
نزل عليه الذكر)، وغير ذلك، و " الشيعة ": الفرقة التابعة لرأس ما.
* ت *: قال الفراء (في شيع الأولين) إنه من إضافة الموصوف إلى صفته
ك‍ (حق اليقين) [الواقعة: 95]، و " جانب الغربي " [القصص: 44]، وتأوله البصريون
على حذف الموصوف، أي: شيع الأمم / الأولين. انتهى من * ص *.
وقوله سبحانه: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به وقد خلت سنة
الأولين): يحتمل أن يكون الضمير في (نسلكه) يعود على الذكر المحفوظ المتقدم، وهو
القرآن، ويكون الضمير في " به " عائدا عليه أيضا، ويحتمل أن يعود الضميران معا على
الاستهزاء والشرك ونحوه، والباء في " به ": باء السبب، أي: لا يؤمنون بسبب شركهم
واستهزائهم، ويحتمل أن يكون الضمير في (نسلكه) عائدا على الاستهزاء والشرك،
والضمير في " به " عائدا على القرآن، والمعنى، في ذلك كله، ينظر بعضه إلى بعض،
395

و (نسلكه): معناه: ندخله، و (المجرمين)، هنا: يراد بهم كفار قريش، ومعاصرو
النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (لا يؤمنون به) عموم، معناه الخصوص فيمن حتم عليه، وقوله: (وقد
خلت سنة الأولين): أي: على هذه الوتيرة، (ولو فتحنا عليهم)، أي: على قريش وكفرة
العصر، والضمير في قوله: (فظلوا) عائد عليهم، وهو تأويل الحسن، و (يعرجون):
معناه يصعدون، ويحتمل أن يعود على الملائكة، أي: ولو رأو الملائكة يصعدون
ويتصرفون في باب مفتوح في السماء لما آمنوا، وهذا تأويل ابن عباس، وقرأ السبعة
سوى ابن كثير: " سكرت " - بضم السين وشد الكاف -، وقرأ ابن كثير بتخفيف الكاف،
تقول العرب: سكرت الريح تسكر سكورا، إذا ركدت، ولم تنفذ لما كانت بسبيله أولا،
وسكر الرجل من الشراب، إذا تغيرت حاله وركد، ولم ينفذ لما كان بسبيله أن ينفذ فيه،
وتقول العرب: سكرت البثق في مجاري الماء سكرا، إذا طمسته وصرفت الماء عنه،
فلم ينفذ لوجهه.
قال * ع *: فهذه اللفظة " سكرت " - بشد الكاف - إن كانت من سكر الشراب،
أو من سكور الريح، فهي فعل عدي بالتضعيف، وإن كانت من سكر مجاري الماء،
فتضعيفها للمبالغة، لا للتعدي، لأن المخفف من فعله متعد، ومعنى هذه المقالة منهم:
أي: غيرت أبصارنا عما كانت عليه، فهي لا تنفذ وتعطينا حقائق الأشياء: كما كانت تفعل.
396

وقوله سبحانه: (ولقد جعلنا في السماء بروجا): " البروج ": المنازل، واحدها برج،
وسمي بذلك لظهوره، ومنه تبرج المرأة: ظهورها وبدوها، و " حفظ السماء ": هو بالرجم
بالشهب، على ما تضمنته الأحاديث الصحاح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الشياطين تقرب من
السماء أفواجا، قال: فينفرد المارد منها، فيعلو فيسمع، فيرمى بالشهاب، فيقول لأصحابه:
إنه من الأمر كذا وكذا، فيزيد الشياطين في ذلك، ويلقون إلى الكهنة، فيزيدون مع الكلمة
مائة ونحو هذا... " الحديث: و " إلا ": بمعنى: " لكن "، ويظهر أن الاستثناء من
الحفظ، وقال محمد بن يحيى عن أبيه: (إلا من استرق السمع)، فإنها لم تحفظ منه.
وقوله: / (موزون): قال الجمهور: معناه: مقدر محرر بقصد وإرادة، فالوزن على
هذا: مستعار.
وقال ابن زيد: المراد ما يوزن حقيقة، كالذهب والفضة وغير ذلك مما يوزن،
وال‍ (معايش): جمع معيشة، وقوله: (ومن لستم له برازقين): يحتمل أن يكون عطفا
على (معايش)، كأن الله تعالى عدد النعم في المعايش، وهي ما يؤكل ويلبس، ثم عدد
النعم في الحيوان والعبيد وغير ذلك مما ينتفع به الناس، وليس عليهم رزقهم.
وقوله تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه).
قال ابن جريج: هو المطر خاصة.
قال * ع *: وينبغي أن يكون أعم من هذا في كثير من المخلوقات.
وقوله سبحانه: (وأرسلنا الرياح لواقح): أي: ذات لقح، يقال: لقحت الناقة
والشجر، فهي لاقحة، إذا حملت، فالوجه في الريح ملقحة، لا لاقحة، قال الداوودي:
397

وعن ابن عمر: الرياح ثمان: أربع رحمة، وأربع عذاب، فالرحمة: المرسلات،
والمبشرات، والناشرات، والذاريات، وأما العذاب: فالصرصر، والعقيم، والقاصف،
والعاصف، وهما في البحر. انتهى.
وقوله جلت عظمته: (وإنا لنحن نحيي ونميت...) الآيات: هذه الآيات مع
الآيات التي قبلها تضمنت العبرة والدلالة على قدرة الله تعالى، وما يوجب توحيده
وعبادته، المعنى: وإنا لنحن نحيي من نشاء بإخراجه من العدم إلى وجود الحياة، ونميت
بإزالة الحياة عمن كان حيا، (ونحن الوارثون)، أي: لا يبقى شئ سوانا، وكل شئ
هالك إلا وجهه، لا رب غيره.
(ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين): أي: من لدن آدم إلى يوم
القيامة، قال ابن العربي في " أحكامه ": روى الترمذي وغيره في سبب نزول هذه الآية، عن
ابن عباس، أنه قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: ولا،
والله، ما رأيت مثلها قط، قال: فكان بعض المسلمين، إذا صلوا تقدموا، وبعضهم
يستأخر، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم، فأنزل الله الآية، ثم قال ابن العربي:
في شرح المراد بهذه الآية خمسة أقوال:
أحدها: هذا.
القول الثاني: المتقدمين في الخلق إلى اليوم، والمتأخرين الذين لم يخلقوا بعد، بيان
أن الله يعلم الموجود والمعدوم، قاله قتادة وجماعة.
الثالث: من مات، ومن بقي، قاله ابن عباس أيضا.
398

الرابع: المستقدمين: سائر الأمم، والمستأخرين أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قاله مجاهد.
الخامس: قال الحسن: معناه: المتقدمين في الطاعة، والمستأخرين في المعصية.
انتهى.
* ت *: والحديث المتقدم، إن صح، فلا بد من تأويله، فإن الصحابة ينزهون عن
فعل ما ذكر فيه، فيؤول بأن ذلك صدر من بعض المنافقين، أو بعض الأعراب الذين قرب
عهدهم بالإسلام، ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم، وأما ابن عباس، فإنه كان يومئذ / صغيرا
بلا شك، هذا إن كانت الآية مدنية، فإن كانت مكية، فهو يومئذ في سن الطفولية،
وبالجملة فالظاهر ضعف هذا الحديث من وجوه. انتهى، وباقي الآية بين.
(ولقد خلقنا الإنسان): يعني: آدم، قال ابن عباس: خلق من ثلاثة: من طين
لازب، وهو اللازق الجيد، ومن صلصال، وهو الأرض الطيبة يقع عليها الماء، ثم
ينحسر، فيتشقق وتصير مثل الخزف، ومن حمإ مسنون، وهو الطين فيه الحمأة،
وال‍ (مسنون): قال معمر: هو المنتن، وهو من أسن الماء، إذا تغير، ورد من جهة
التصريف، وقيل غير هذا، وفي الحديث: " إن الله تعالى عز وجل خلق آدم من جميع أنواع
التراب: الطيب والخبيث، والأسود والأحمر ".
وقوله: (والجان): يراد به: جنس الشياطين، وسئل وهب بن منبه عنهم، فقال هم
399

أجناس.
قال * ع *: والمراد بهذه الخلقة إبليس أبو الجن، وقوله: (من قبل)، لأن
إبليس خلق قبل آدم بمدة، و (السموم)، في كلام العرب: إفراط الحر حتى يقتل: من
نار، أو شمس، أو ريح، وأما إضافة " النار " إلى " السموم " في هذه الآية، فيحتمل أن تكون
النار أنواعا، ويكون السموم أمرا يختص بنوع منها، فتصح الإضافة حينئذ، وإن لم يكن
هذا، فيخرج هذا على قولهم: " مسجد الجامع، ودار الآخرة "، على حذف مضاف.
قوله عز وجل: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون *
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا
إبليس أبى أن يكون من الساجدين * قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم
أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون):
أخبر الله سبحانه الملائكة بعجب عندهم، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور، فهي
مخلوقات لطاف، فأخبرهم سبحانه أنه يخلق جسما حيا ذا بشرة، وأنه يخلقه من صلصال،
والبشرة هي وجه الجلد في الأشهر من القول، وقوله: (من روحي): إضافة خلق وملك
إلى خالق ومالك، وقول إبليس: (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال...) الآية:
ليس إباءته نفس كفره عند الحذاق، لأن إباءته إنما هي معصية فقط، وإنما كفره بمقتضى
قوله، وتعليله، إذ يقتضي أن الله خلق خلقا مفضولا، وكلف خلقا أفضل منه، أن يذل له،
فكأنه قال: وهذا جور، وقد تقدم تفسير أكثر هذه المعاني.
وقوله عز وجل: (قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين *
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم * قال
رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض...) الآية: قوله: (بما أغويتني): قال أبو
عبيدة وغيره: أقسم بالإغواء.
400

قال * ع *: كأنه جعله بمنزلة قوله: رب بقدرتك علي، وقضائك، ويحتمل أن
تكون باء السبب.
وقوله سبحانه: (هذا صراط علي مستقيم): المعنى: هذا أمر إلي يصير، والعرب
تقول: طريقك في هذا / الأمر على فلان، أي: إليه يصير النظر في أمرك، والآية تتضمن
وعيدا، وظاهر قوله: (عبادي): الخصوص في أهل الإيمان والتقوى، فيكون الاستثناء
منقطعا، وإن أخذنا العباد عموما، كان الاستناء متصلا، ويكون الأقل في القدر من حيث
لا قدر للكفار، والنظر الأول أحسن، وإنما الغرض ألا يقع في الاستثناء الأكثر من الأقل،
وإن كان الفقهاء قد جوزوه.
وقوله: (لموعدهم): أي: موضع اجتماعهم، عافانا الله من عذابه بمنه، وعاملنا
بمحض جوده وكرمه.
وقوله سبحانه: (إن المتقين في جنات وعيون * ادخلوها بسلام...) الآية:
ال‍ (سلام)، هنا: يحتمل أن يكون السلامة، ويحتمل أن يكون التحية، وال‍ (غل):
الحقد، قال الداوودي: عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ونزعنا ما في صدورهم...) الآية، قال: " إذا
خلص المؤمنون من الصراط، حبسوا على صراط بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من
بعض بمظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة،
والله، لأحدهم أهدى بمنزلة في الجنة من منزله في الدنيا ". انتهى.
وال‍ (سرر): جمع سرير، و (متقابلين): الظاهر أن معناه: في الوجوه، إذ الأسرة
متقابلة، فهي أحسن في الرتبة.
401

قال مجاهد: لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه، وقيل غير هذا مما لا يعطيه اللفظ،
وال‍ (نصب): التعب، و (نبئ): معناه: أعلم.
قال الغزالي رحمه الله في " منهاجه ": " ومن الآيات اللطيفة الجامعة بين الرجاء
والخوف قوله تعالى: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم)، ثم قال في عقبه: (وأن
عذابي هو العذاب الأليم)، لئلا يستولي عليك الرجاء بمرة، وقوله تعالى: (شديد
العقاب) [غافر: 3]، ثم قال في عقبه: (ذي الطول) [غافر: 3]، لئلا يستولي عليك
الخوف، وأعجب من ذلك قوله تعالى: (ويحذركم الله نفسه) [آل عمران: 30]، ثم قال
في عقبه: (والله رؤوف بالعباد) [آل عمران: 30]، وأعجب منه قوله تعالى: (خشي
الرحمن بالغيب) [ق: 33]، فعلق الخشية باسم الرحمن، دون اسم الجبار أو المنتقم أو
المتكبر ونحوه، ليكون تخويفا في تأمين، وتحريكا في تسكين كما تقول: " أما تخشى
الوالدة الرحيمة، أما تخشى الوالد الشفيق "، والمراد من ذلك أن يكون الطريق عدلا، فلا
تذهب إلى أمن وقنوط جعلنا الله وإياكم من المتدبرين لهذا الذكر الحكيم، العاملين بما
فيه، إنه الجواد الكريم انتهى.
وقوله سبحانه: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم...) الآية: هذا ابتداء قصص بعد
انصرام الغرض الأول، و " الضيف ": مصدر وصف به، فهو للواحد والاثنين والجمع،
والمذكر والمؤنث، بلفظ واحد، وقوله: (إنا منكم وجلون)، أي: فزعون، وإنما وجل
منهم، لما قدم إليهم العجل الحنيذ، فلم يرهم يأكلون، وكانت عندهم العلامة المؤمنة أكل
الطعام، وكذلك هو في غابر الدهر أمنة للنازل، والمنزول به.
وقوله: (أن مسني الكبر)، أي: في حالة قد مسني فيها الكبر، وقول إبراهيم عليه
السلام: (فبم تبشرون): / تقرير على جهة التعجب والاستبعاد، لكبرهما، أو على جهة
الاحتقار وقلة المبالاة بالمسرات الدنيوية، لمضي العمر، واستيلاء الكبر، وقولهم:
402

(بشرناك بالحق): فيه شدة ما، أي: أبشر بما بشرت به، ولا تكن من القانطين،
والقنوط: أتم اليأس.
وقوله سبحانه: (قال فما خطبكم أيها المرسلون): لفظة الخطب إنما تستعمل في
الأمور الشداد، وقولهم: (إلا آل لوط): استثناء منقطع، و " الآل ": القوم الذي يؤول
أمرهم إلى المضاف إليه، كذا قال سيبويه، وهذا نص في أن لفظة " آل " ليست لفظة " أهل "،
كما قال النحاس، و (إلا امرأته): استثناء متصل، والاستثناء بعد الاستثناء يرد المستثنى
الثاني في حكم الأمر الأول، و (الغابرين)، هنا: أي: الباقين في العذاب، و " وغبر ": من
الأضداد، يقال في الماضي وفي الباقي، وقول الرسل للوط: (بل جئناك بما كانوا فيه
يمترون)، أي: بما وعدك الله من تعذيبهم الذي كانوا يشكون فيه، و " القطع ": الجزء من
الليل.
وقوله سبحانه: (واتبع أدبارهم)، أي: كن خلفهم، وفي ساقتهم، حتى لا يبقى
منهم أحد، (ولا يلتفت): مأخوذ من الالتفات الذي هو نظر العين، قال مجاهد:
المعنى: لا ينظر أحد وراءه، ونهوا عن النظر مخافة العلقة، وتعلق النفس بمن خلف،
وقيل: لئلا تنفطر قلوبهم من معاينة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها.
وقوله سبحانه: (وقضينا إليه ذلك الأمر)، أي: أمضيناه وحتمنا به، ثم أدخل في
403

الكلام إليه من حيث أوحي ذلك إليه، وأعلمه الله به، وقوله: (يستبشرون)، أي:
بالأضياف طمعا منهم في الفاحشة، وقولهم: (أو لم ننهك عن العالمين): روي أنهم
كانوا تقدموا إليه في ألا يضيف أحدا، والعمر والعمر - بفتح العين وضمها - واحد، وهما
مدة الحياة، ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح، وفي هذه الآية شرف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن
الله عز وجل أقسم بحياته، ولم يفعل ذلك مع بشر سواه، قاله ابن عباس.
* ت *: وقال * ص *: اللام في (لعمرك) للابتداء، والكاف خطاب للوط
عليه السلام، والتقدير: قالت الملائكة له: لعمرك، واقتصر على هذا.
وما ذكره * ع *: هو الذي عول عليه عياض وغيره.
وقال ابن العربي في " أحكامه ": قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله في هذه الآية
بحياة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أدري ما أخرجهم عن ذكر لوط إلى ذكر محمد عليه السلام، وما
المانع أن يقسم الله بحياة لوط، ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطي الله للوط من
فضل، ويؤتيه من شرف، فلنبينا محمد عليه السلام، ضعفاه، لأنه أكرم على الله منه، وإذا
أقسم الله بحياة لوط، فحياة نبينا محمد عليه السلام أرفع، ولا يخرج من كلام إلى كلام
آخر غيره، لم يجر له ذكر، لغير ضرورة. انتهى.
* ت *: وما ذكره الجمهور أحسن، لأن الخطاب خطاب مواجهة، ولأنه تفسير
صحابي، وهو مقدم على غيره.
و (يعمهون): معناه: يترددون / في حيرتهم، و (مشرقين): معناه: قد دخلوا في
الإشراق، وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره، قاله ابن زيد، وهذه الصيحة هي صحية
الوجبة، وليست كصيحة ثمود، وأهلكوا بعد الفجر مصبحين، واستوفاهم الهلاك مشرقين،
وباقي قصص الآية تقدم تفسير.
404

و " المتوسمين ": قال مجاهد: المتفرسون، وقال أيضا: المعتبرون، وقيل غير
هذا، وهذا كله تفسير بالمعنى، وأما تفسير اللفظة، فالمتوسم هو الذي ينظر في وسم
المعنى، فيستدل به على المعنى، وكأن معصية هؤلاء أبقت من العذاب والإهلاك وسما،
فمن رأى الوسم، استدل على المعصية به واقتاده النظر إلى تجنب المعاصي، لئلا ينزل به
ما نزل بهم، ومن الشعر في هذه اللفظة قول الشاعر: [الطويل]
توسمته لما رأيت مهابة * عليه وقلت المرء من آل هاشم
والضمير في قوله: (وإنها لبسبيل مقيم): يحتمل أن يعود على المدينة المهلكة،
أي: أنها في طريق ظاهر بين للمعتبر، وهذا تأويل مجاهد وغيره، ويحتمل أن يعود على
الآيات، ويحتمل أن يعود على الحجارة، ويقويه ما روي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن حجارة
العذاب معلقة بين السماء والأرض منذ ألفي سنة لعصاة أمتي ".
وقوله سبحانه: (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين * فانتقمنا منهم): (الأيكة):
الغيضة والشجر الملتف المخضر، قال الشاعر: [الطويل]
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة * إذا أحضر منها جانب جف جانب
وكان هؤلاء قوما يسكنون غيضة، ويرتفقون بها في معايشهم، فبعث إليهم شعيب،
فكفروا به، فسلط الله عليهم الحر، فدام عليهم سبعة أيام، ثم رأوا سحابة، فخرجوا،
405

فاستظلوا بها، فأمطرت عليهم نارا، وحكى الطبري قال: بعث شعيب إلى أمتين،
فكفرتا، فعذبتا بعذابين مختلفين: أهل مدين عذبوا بالصيحة، وأصحاب الأيكة بالظلة.
وقوله: (وإنهما لبإمام مبين): الضمير في " إنهما ": يحتمل أن يعود على مدينة قوم
لوط، ومدينة أصحاب الأيكة، ويحتمل أن يعود على لوط وشعيب عليهما السلام، أي:
إنهما على طريق من الله وشرع مبين، و " الإمام "، في كلام العرب: الشئ الذي يهتدي به،
ويؤتم به، فقد يكون الطريق، وقد يكون الكتاب، وقد يكون الرجل المقتدى به، ونحو
هذا، ومن رأى عود الضمير على المدينتين، قال: " الإمام ": الطريق، وقيل على ذلك
الكتاب الذي سبق فيه إهلاكهما، و (أصحاب الحجر): هم ثمود، وقد تقدم قصصهم،
و " الحجر ": مدينتهم، وهي ما بين المدينة وتبوك، وقال: (المرسلين)، من حيث يلزم من
تكذيب رسول واحد تكذيب الجميع، إذ القول في المعتقدات واحد.
وقوله: (ينحتون من الجبال بيوتا آمنين): " النحت ": النقر بالمعاول، و " آمنين ":
قيل: معناه: من انهدامها، وقيل: من حوادث الدنيا، وقيل: من الموت، لاغترارهم بطول
الأعمار، وأصح ما يظهر في ذلك، أنهم كانوا يأمنون عواقب / الآخرة، فكانوا لا يعملون
بحسبها.
(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)، أي: لم تخلق عبثا ولا
سدى، (وإن الساعة لآتية)، أي: فلا تهتم يا محمد بأعمال الكفرة، فإن الله لهم
بالمرصاد، وقوله عز وجل، (ولقد آتيناك سبعا من المثاني): ذهب ابن مسعود وغيره إلى
أن السبع المثاني هنا هي السبع الطوال: " البقرة "، و " آل عمران "، و " النساء "، و " المائدة "،
و " الأنعام "، و " المص "، و " الأنفال " مع " براءة "، وذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم
406

إلى أن السبع هنا: آيات الفاتحة، وهو نص حديث أبي بن كعب وغيره.
* ت *: وهذا هو الصحيح، وقد تقدم بيان ذلك أول الكتاب.
وقوله سبحانه: (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم): حكى الطبري عن
سفيان بن عيينة، أنه قال: هذه الآية آمرة بالاستغناء بكتاب الله عن جميع زينة الدنيا.
قال * ع *: فكأنه قال: آتيناك عظيما خطيرا، فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور
الدنيا وزينتها التي متعنا بها أنواعا من هؤلاء الكفرة، ومن هذا المعنى: قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أوتي القرآن، فرأى أن أحد أعطي أفضل مما أعطي، فقد عظم صغيرا وصغر
عظيما ".
* ت *: وفي " صحيح مسلم " عن أبي سعيد قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب
الناس، فقال: " لا والله، ما أخشى عليكم، أيها الناس، إلا ما يخرج الله لكم من زهرة
الدنيا... " الحديث، وفي رواية: " أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة
الدنيا "، قالوا: وما زهرة الدنيا، يا رسول الله؟ قال: " بركات الأرض... " الحديث،
وفي رواية: " إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح لكم من زهرة الدنيا وزينتها... ".
الحديث، انتهى. والأحاديث في هذه الباب أكثر من أن يحصيها كتاب، قال الغزالي في
" المنهاج ": وإذا أنعم الله عليك بنعمة الدين، فإياك أن تلتفت إلى الدنيا وحطامها، فإن ذلك
منك لا يكون إلا بضرب من التهاون بما أولاك مولاك من نعم الدارين، أما تسمع قوله
تعالى لسيد المرسلين: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم * لا تمدن عينيك إلى
ما متعنا به أزواجا منهم...) الآية، تقديره: إن من أوتي القرآن العظيم حق له ألا ينظر
إلى الدنيا الحقيرة نظرة باستحلاء، فضلا عن أن يكون له فيها رغبة، فليلتزم الشكر على
ذلك، فإنه الكرامة التي حرص عليها الخليل لأبيه، والمصطفى عليه السلام لعمه، فلم
يفعل، وأما حطام الدنيا، فإن الله سبحانه يصبه على كل كافر وفرعون وملحد وزنديق
407

وجاهل وفاسق، الذين هم أهون خلقه عليه، ويصرفه عن كل نبي وصفي وصديق وعالم
وعابد، الذين هم أعز خلقه عليه، حتى إنهم لا يكادون يصيبون كسرة وخرقة، ويمن عليهم
سبحانه بألا يلطخهم بقذرها، انتهى.
وقال ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به
أزواجا منهم): المعنى: أعطيناك الآخرة، فلا تنظر إلى الدنيا، وقد أعطيناك العلم، فلا
تتشاغل / بالشهوات، وقد منحناك لذة القلب، فلا تنظر إلى لذة البدن، وقد أعطيناك
القرآن، فاستغن به، فمن استغنى به، لا يطمح بنظره إلى زخارف الدنيا، وعنده معارف
المولى، حيي بالباقي، وفني عن الفاني. انتهى.
وقوله سبحانه: (وقل إني أنا النذير المبين * كما أنزلنا على المقتسمين).
قال * ع *: والذي أقول به في هذا: أن المعنى: وقل أنا نذير، كما قال قبلك
رسلنا، ونزلنا عليهم كما أنزلنا عليك، واختلف في (المقتسمين)، من هم؟ فقال ابن
عباس، وابن جبير: " المقتسمون ": هم أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم، وجعلوا كتاب الله
أعضاء، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وقال نحوه مجاهد، وقالت فرقة: " المقتسمون ":
هم كفار قريش جعلوا القرآن سحرا وشعرا وكهانة، وجعلوه أعضاء بهذا التقسيم، وقالت
فرقة: " عضين ": جمع عضة، وهي اسم للسحر خاصة بلغة قريش، وقاله عكرمة.
* ت *: وقال الواحدي: كما أنزلنا عذابا على المقتسمين الذين اقتسموا طرق مكة
يصدون الناس عن الإيمان. انتهى من " مختصره ".
408

وقوله سبحانه: (فوربك لنسألنهم أجمعين...) الآية: ضمير عام، ووعيد
محض، يأخذ كل أحد منه بحسب جرمه وعصيانه، فالكافر يسأل عن التوحيد والرسالة،
وعن كفره وقصده به، والمؤمن العاصي يسأل عن تضييعه، وكل مكلف عما كلف القيام
به، وفي هذا المعنى أحاديث، قال ابن عباس في هذه الآية: يقال لهم: لم عملتم كذا وكذا،
قال: وقوله تعالى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) [الرحمن: 39]: معناه: لا
يقال له: ماذا أذنبت، لأن الله تعالى أعلم بذنبه منه، وقوله سبحانه: (فاصدع بما
تؤمر): " اصدع ": معناه: أنفذ، وصرح بما بعثت به.
وقوله: (وأعرض عن المشركين): من آيات المهادنة التي نسختها آية السيف،
قاله ابن عباس، ثم أعلمه الله تعالى بأنه قد كفاه المستهزئين به من كفار مكة ببوائق
أصابتهم من الله تعالى.
قال ابن إسحاق وغيره: وهم الذين قذفوا في قليب بدر، كأبي جهل وغيره. انتهى.
وقوله سبحانه: (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون): آية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم،
و (اليقين)، هنا: الموت، قاله ابن عمر وجماعة، قال الداوودي: وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه
قال: " ما أوحي إلي أن أجمع المال، وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد
ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. انتهى، وباقي الآية بين،
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
409

تفسير سورة النحل
وهي مكية غير آيات يسيرة يأتي بيانها إن شاء الله
قوله سبحانه: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه): روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال
جبريل في سرد الوحي: (أتى أمر الله)، وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما، فلما قال: / (فلا
تستعجلوه)، سكن، وقوله: (أمر الله): قال فيه جمهور المفسرين: إنه يريد القيامة،
وفيها وعيد للكفار، وقيل: المراد نصر محمد صلى الله عليه وسلم، فمن قال: إن
الأمر القيامة، قال: إن
قوله تعالى: (فلا تستعجلوه): رد على المكذبين بالبعث، القائلين: متى هذا الوعد،
واختلف المتأولون في قوله تعالى: (ينزل الملائكة بالروح)، فقال مجاهد: الروح:
النبوة، وقال ابن عباس: الروح الوحي، وقال قتادة: بالرحمة والوحي، وقال
الربيع بن أنس: كل كلام الله روح، ومنه قوله تعالى: (أوحينا إليك روحا من أمرنا)
[الشورى: 52]، وقال الزجاج: الروح: ما تحيا به القلوب من هداية الله عز وجل،
وهذا قول حسن، قال الداوودي، عن ابن عباس قال: الروح: خلق من خلق الله، وأمر
410

من أمر الله على صور بني آدم، وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه روح، كالحفيظ عليه، لا
يتكلم ولا يراه ملك، ولا شئ مما خلق الله، وعن مجاهد: الروح: خلق من خلق الله،
لهم أيد وأرجل. انتهى، والله أعلم بحقيقة ذلك، وهذا أمر لا يقال بالرأي، فإن صح فيه
شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجب الوقوف عنده انتهى، و " من " في قوله: (من يشاء) هي للأنبياء.
وقوله تعالى: (خلق الإنسان من نطفة): يريد ب‍ " الإنسان " الجنس، وقوله:
(خصيم) يحتمل أن يريد به الكفرة الذين يجادلون في آيات الله، قاله الحسن البصري،
ويحتمل أن يريد أعم من هذا، على أن الآية تعديد نعمة الذهن والبيان على البشر.
وقوله سبحانه: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء): ال‍ (دفء): السخانة، وذهاب
البرد بالأكسية ونحوها، وقيل: ال‍ (دفء): تناسل الإبل، وقال ابن عباس: هو نسل كل
شئ، والمعنى الأول هو الصحيح، وال‍ (منافع): ألبانها وما تصرف منها، وحرثها
والنضح عليها وغير ذلك.
وقوله: (جمال)، أي: في المنظر، و (تريحون): معناه: حين تردونها وقت
الرواح إلى المنازل، و (تسرحون): معناه: تخرجونها غدوة إلى السرح، و " الأثقال ":
الأمتعة، وقيل: الأجسام، كقوله: (وأخرجت الأرض أثقالها) [الزلزلة: 2] أي: أجساد
بني آدم، وسميت الخيل خيلا، لاختيالها في مشيتها.
411

* ت *: ويجب على من ملكه الله شيئا من هذا الحيوان أن يرفق به، ويشكر الله
تعالى على هذه النعمة التي خولها، وقد روى مالك في " الموطأ " عن أبي عبيد مولى
سليمان بن عبد الملك، عن خالد بن معدان يرفعه، قال: " إن الله رفيق يحب الرفق،
ويرضاه، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدواب العجم، فأنزلوها
منازلها، فإن كانت الأرض جدبة، فانجوا عليها بنقيها، وعليكم بسير الليل، فإن الأرض
تطوى بالليل مالا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطريق، فإنها طرق الدواب،
ومأوى الحيات ".
قال أبو عمر في " التمهيد ": هذا الحديث يستند عن / النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، فأما
" الرفق "، فمحمود في كل شئ، وما كان الرفق في شئ إلا زانه، وقد روى مالك بسنده
عن عائشة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله "، وأمر
المسافر في الخصب بأن يمشي رويدا، ويكثر النزول، لترعى دابته، فأما الأرض الجدبة،
فالسنة للمسافر أن يسرع السير، ليخرج عنها، وبدابته شئ من الشحم والقوة، و " النقي " في
كلام العرب: الشحم والودك. انتهى.
وروى أبو داود عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم
منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل
لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم " انتهى.
وقوله سبحانه: (ويخلق ما لا تعلمون): عبرة منصوبة على العموم، أي: إن
مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر، بل ما يخفى عنه أكثر مما يعلمه.
وقوله سبحانه: (وعلى الله قصد السبيل...) الآية: هذه أيضا من أجل نعم الله
تعالى، أي: على الله تقويم طريق الهدى، وتبيينه بنصب الأدلة، وبعث الرسل، وإلى هذا
ذهب المتأولون، ويحتمل أن يكون المعنى: أن من سلك السبيل القاصد، فعلى الله،
412

ورحمته وتنعيمه طريقه، وإلى ذلك مصيره، و " طريق قاصد ": معناه: بين مستقيم قريب،
والألف واللام في (السبيل)، للعهد، وهي سبيل الشرع.
وقوله: (ومنها جائر): يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم، فالضمير في (منها)
يعود على السبل التي يتضمنها معنى الآية.
وقوله سبحانه: (فيه تسيمون): يقال: أسام الرجل ماشيته، إذا أرسلها ترعى.
وقوله سبحانه: (وما ذرأ لكم): ذرأ: معناه: بث ونشر.
و (مختلفا ألوانه) أي أصنافه، ويحتمل أن يكون التنبيه على اختلاف الألوان من
حمرة وصفرة وغير ذلك، والأول أبين.
وقوله سبحانه: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية
تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون): البحر: الماء
الكثير، ملحا كان أو عذبا.
قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها):
يعني به اللؤلؤ والمرجان، وهذا امتنان عام للرجال والنساء، فلا يحرم عليهم شئ من
ذلك. انتهى. و (مواخر): جمع ماخرة، والمخر، في اللغة: الصوت الذي يكون من
هبوب الريح على شئ يشق أو يصحب في الجملة الماء، فيترتب منه أن يكون المخر من
الريح، وأن يكون من السفينة ونحوها، وهو في هذه الآية من السفن، وقال بعض النحاة:
المخر، في كلام العرب: الشق، يقال: مخر الماء الأرض، وهذا أيضا بين أن يقال فيه
للفلك مواخر.
وقوله: (وسبلا لعلكم تهتدون): يحتمل: تهتدون في مشيكم وتصرفكم في السبل،
413

ويحتمل تهتدون بالنظر في دلالة هذه المصنوعات على صانعها. / (وعلامات وبالنجم هم
يهتدون): قال ابن عباس: العلامات: معالم الطرق بالنهار، والنجوم: هداية الليل،
وهذا قول حسن، فإنه عموم بالمعنى، واللفظة عامة، وذلك أن كل ما دل على شئ وأعلم
به، فهو علامة، و (النجم): هنا: اسم جنس، وهذا هو الصواب.
وقوله سبحانه: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها...) الآية: وبحسب العجز عن
عد نعم الله تعالى يلزم أن يكون الشاكر لها مقصرا عن بعضها، فلذلك قال عز وجل:
(لغفور رحيم)، أي: عن تقصيركم في الشكر عن جميعها، نحا هذا المنحى الطبري،
ويرد عليه أن نعمة الله في قول العبد: " الحمد لله رب العالمين "، مع شرطها من النية
والطاعة يوازي جميع النعم، ولكن أين قولها بشروطها، والمخاطبة بقوله: (وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها). عامة لجميع الناس. (والذين يدعون من دون الله)، أي:
تدعونهم آلهة، و (أموات): يراد به الذين يدعون من دون الله، ورفع (أموات)، على أنه
خبر مبتدأ مضمر، تقديره: هم أموات، وقوله: (غير أحياء): أي: لم يقبلوا حياة قط،
ولا اتصفوا بها، وقوله سبحانه: (وما يشعرون أيان يبعثون): أي: وما يشعر الكفار متى
يبعثون إلى التعذيب.
وقوله سبحانه: (إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة) أي:
منكرة اتحاد الإله.
* ت *: وهذا كما حكى عنهم سبحانه في قولهم: (أجعل الآلهة إلها واحدا إن
هذا لشئ عجاب) [ص: 5].
414

وقوله: (لا جرم) عبرت فرقة من اللغويين عن معناها ب‍ " لا بد ولا محالة "، وقالت
فرقة: معناها: حق أن الله، ومذهب سيبويه أن " لا " نفي لما تقدم من الكلام، و " جرم ":
معناه: وجب أو حق ونحوه، هذا مذهب الزجاج، ولكن مع مذهبهما، " لا " ملازمة
ل‍ " جرم " لا تنفك هذه من هذه.
وقوله سبحانه: (إنه لا يحب المستكبرين): عام في الكافرين والمؤمنين يأخذ كل
أحد منهم بقسطه، قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله موت النفوس
حياتها، من أحب أن يحيا يموت، ببذل أهل التوفيق نفوسهم وهوانها عليهم، نالوا ما
نالوا، وبحب أهل الدنيا نفوسهم هانوا وطرأ عليهم الهوان هنا وهناك، وقد ورد في
الحديث: " أنه ما من عبد إلا وفي رأسه حكمة بيد ملك، فإن تعاظم، وارتفع، ضرب
الملك في رأسه، وقال له: اتضع وضعك الله، وإن تواضع رفعه الملك، وقال له: ارتفع،
رفعك الله "، من الله علينا بما به يقربنا إليه بمنه. انتهى.
وقوله سبحانه: (وإذا قيل لهم): يعني: كفار قريش: (ماذا أنزل ربكم...)
الآية، يقال: إن سببها النضر بن الحارث، واللام في قوله: (ليحملوا) يحتمل أن تكون
لام العاقبة، ويحتمل أن تكون لام كي، ويحتمل أن تكون لام الأمر، على معنى الحتم
عليهم والصغار الموجب لهم.
وقوله / سبحانه: (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم): " من ": للتبعيض، وذلك
أن هذا الرأس المضل يحمل وزر نفسه ووزرا من وزر كل من ضل بسببه، ولا ينقص من
أوزار أولئك شئ، والأوزار هي الأثقال.
وقوله سبحانه: (قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم...) الآية: قال ابن
415

عباس وغيره من المفسرين: الإشارة ب‍ (الذين من قبلهم) إلى نمرود الذي بنى صرحا،
ليصعد فيه إلى السماء بزعمه، فلما أفرط في علوه، وطوله في السماء فرسخين، على ما
حكى النقاش، بعث الله عليه ريحا، فهدمته، وخر سقفه عليه، وعلى أتباعه، وقيل: أن
جبريل هدمه بجناحه، وألقى أعلاه في البحر، وانجعف من أسفله، وقالت فرقة: المراد
ب‍ (الذين من قبلهم): جميع من كفر من الأمم المتقدمة، ومكر، ونزلت به عقوبة،
وقوله، على هذا: (فأتى الله بنيانهم من القواعد...) إلى آخر الآية، تمثيل وتشبيه،
أي: حالهم كحال من فعل به هذا.
وقوله: (يخزيهم): لفظ يعم جميع المكاره التي تنزل بهم، وذلك كله راجع إلى
إدخالهم النار، ودخولهم فيها.
و (تشاقون): معناه: تحاربون، أي: تكونون في شق، والحق في شق، و (الذين
أوتوا العلم): هم الملائكة فيما قال بعض المفسرين، وقال يحيى بن سلام: هم
المؤمنون.
قال * ع *: والصواب أن يعم جميع من آتاه الله علم ذلك من ملائكة وأنبياء
وغيرهم، وقد تقدم تفسير الخزي، وأنه الفضيحة المخجلة، وفي الحديث: " إن العار
والتخزية لتبلغ من العبد في المقام بين يدي الله تعالى ما أن يتمنى أن ينطلق به إلى النار
وينجو من ذلك المقام " أخرجه البغوي في " المسند المنتخب " له. انتهى من " الكوكب
الدري ".
وقوله سبحانه: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم): (الذين): نعت
ل‍ (الكافرين)، في قول أكثر المتأولين، و (الملائكة) يريد القابضين لأرواحهم،
و (السلم)، هنا: الاستسلام، واللام في قوله: (فلبئس) لام تأكيد، وال‍ (مثوى):
موضع الإقامة.
416

وقوله سبحانه: (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم...) الآية: لما وصف سبحانه
مقالة الكفار الذين قالوا: (أساطير الأولين...) [النحل: 24]، عادل ذلك بذكر مقالة
المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق، وقولهم: (خيرا) جواب
بحسب السؤال، واختلف في قوله تعالى: (للذين أحسنوا...) إلى آخر الآية، هل هو
ابتداء كلام أو هو تفسير ل‍ " الخير " الذي أنزل الله في الوحي على نبينا خبرا أن من أحسن
في الدنيا بالطاعة، فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة، وروى أنس بن مالك، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى
بها في الآخرة ".
وقوله سبحانه: (جنات عدن يدخلونها...) الآية: تقدم تفسير نظيرها،
و (طيبين): عبارة عن صالح حالهم، واستعدادهم للموت، و " الطيب "، الذي لا خبث
معه، وقول الملائكة: (سلام عليكم): بشارة من الله تعالى، / وفي هذا المعنى أحاديث
صحاح يطول ذكرها، وروى ابن المبارك في " رقائقه " عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا
استنقعت نفس العبد المؤمن، جاءه ملك، فقال: السلام عليك، ولي الله، الله يقرئ
عليك السلام، ثم نزع بهذه الآية: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام
عليكم...) انتهى.
وقوله سبحانه: (بما كنتم تعملون): علق سبحانه دخولهم الجنة بأعمالهم، من
حيث جعل الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنة، ولا معارضة بين الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا
يدخل أحد الجنة بعمله! " قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله
بفضل منه ورحمة "، فإن الآية ترد بالتأويل إلى معنى الحديث.
417

قال * ع *: ومن الرحمة والتغمد أن يوفق الله العبد إلى أعمال برة، ومقصد
الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة.
وقوله سبحانه: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل
الذين من قبلهم): (ينظرون): معناه: ينتظرون، " ونظر " متى كانت من رؤية العين، فإنما
تعديها العرب ب‍ " إلى " ومتى لم تتعد ب‍ " إلى "، فهي بمعنى " انتظر "، ومنها: (انظرونا
نقتبس من نوركم) [الحديد: 13]، ومعنى الكلام: أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم
ظالمي أنفسهم.
وقوله: (أو يأتي أمر ربك): وعيد يتضمن قيام الساعة، أو عذاب الدنيا، ثم ذكر
تعالى أن هذا كان فعل الأمم قبلهم، فعوقبوا.
وقوله سبحانه: (فأصابهم سيئات ما عملوا): أي: جزاء ذلك في الدنيا والآخرة،
و (حاق): معناه: نزل وأحاط.
وقوله سبحانه: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ...)
الآية: قال تقدم تفسير نظيرها في " الأنعام "، وقولهم: (ولا حرمنا): يريد: من البحيرة
والسائبة والوصيلة وغير ذلك.
418

وقوله سبحانه: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله...) الآية: إلى
قوله: (فإن الله لا يهدي من يضل)، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: " لا يهدي " - بفتح
الياء وكسر الدال -، وذلك على معنيين: أي: إن الله لا يهدي من قضى بإضلاله، والمعنى
الثاني: أن العرب تقول: هدى الرجل، بمعنى اهتدى.
وقوله سبحانه: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت): الضمير في
(أقسموا) لكفار قريش، ثم رد الله تعالى عليهم بقوله: (بلى)، فأوجب بذلك البعث،
و (أكثر الناس) في هذه الآية: الكفار المكذبون بالبعث.
وقوله سبحانه: (ليبين): التقدير: بلى يبعثه، ليبين لهم الذي يختلفون فيه.
وقوله سبحانه: (إنما قولنا لشئ إذا أردناه...) الآية: المقصد بهذه الآية إعلام
منكري البعث بهوان أمره على الله تعالى، وقربه في قدرته، لا رب غيره.
وقوله سبحانه: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا): هؤلاء هم الذين
هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور، / وهو الصحيح في سبب نزول الآية، لأن
هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية، والآية تتناول كل من هاجر أولا وآخرا، وقرأ
جماعة خارج السبع: " لنثوينهم "، واختلف في معنى ال‍ (حسنة) هنا، فقالت فرقة:
الحسنة عدة ببقعة شريفة، وهي المدينة، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل أمر
419

مستحسن يناله ابن آدم، وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: أنه كان يعطي المال وقت القسمة الرجل من المهاجرين، ويقول له: خذ ما وعدك الله
في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر، ثم يتلو هذه الآية، ويدخل في هذا القول النصر على
العدو، وفتح البلاد، وكل أمل بلغه المهاجرون، والضمير في (يعلمون) عائد على كفار
قريش.
وقوله: (الذين صبروا): من صفة المهاجرين.
وقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم): هذه الآية رد على
كفار قريش الذين استبعدوا أن يبعث الله بشرا رسولا، ثم قال تعالى: (فسألوا)، أي: قل
لهم: (فسألوا)، و (أهل الذكر)، هنا: أحبار اليهود والنصارى، قاله ابن عباس
وغيره، وهو أظهر الأقوال، وهم في هذه النازلة خاصة إنما يخبرون بأن الرسل من
البشر، وأخبارهم حجة على هؤلاء، وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألونهم ويسندون
إليهم.
وقوله: (بالبينات): متعلق بفعل مضمر، تقديره: أرسلناهم بالبينات، وقالت فرقة:
الباء متعلقة ب‍ (أرسلنا) في أول الآية، والتقدير على هذا: وما أرسلنا من قبلك بالبينات
والزبر إلا رجالا، ففي الآية تقديم وتأخير، و (الزبر): الكتب المزبورة.
وقوله سبحانه: (لتبين للناس ما نزل إليهم...) الآية.
* ت *: وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، فبين عن الله، وأوضح، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع
الكلم، فأعرب عن دين الله، وأفصح، ولنذكر الآن طرفا من حكمه، وفصيح كلامه بحذف
أسانيده، قال عياض في " شفاه ": وأما كلامه صلى الله عليه وسلم المعتاد، وفصاحته المعلومة، وجوامع
كلمه، وحكمه المأثورة، فمنها ما لا يوازي فصاحة، ولا يبارى بلاغة، كقوله: " المسلمون
تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم "، وقوله: " الناس
420

[...]
421

كأسنان المشط "، " والمرء مع من أحب "، و " لا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى
له "، و " الناس معادن "، و " ما هلك امرؤ عرف قدره "، و " المستشار مؤتمن "، و " هو
بالخيار ما لم يتكلم "، و " رحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت عن شر فسلم "،
422

وقوله: " أسلم تسلم "، و " أسلم يؤتك الله أجرك مرتين "، و " إن أحبكم إلي وأقربكم مني
423

مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الوطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون "، وقوله: " لعله
كان يتكلم بما لا يعنيه، ويبخل بما لا يغنيه "، وقوله: " ذو الوجهين لا يكون عند الله
وجيها " / ونهيه عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ومنع وهات، وعقوق
الأمهات، ووأد البنات، وقوله: " اتق الله حيث كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها،
424

وخالق الناس بخلق حسن "، وخير الأمور أوساطها "، وقوله: " أحبب حبيبك هونا ما،
عسى أن يكون بغيضك يوما ما "، وقوله: " الظلم ظلمات يوم القيامة "، وقوله في بعض
دعائه: " اللهم، إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها
شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي،
وترد بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم، إني أسألك الفوز في القضاء، ونزل
الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء "، إلى غير ذلك من بيانه، وحسن كلامه
مما روته الكافة عن الكافة مما لا يقاس به غيره، وحاز فيه سبقا لا يقدر قدره، كقوله:
" السعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه "، في أخواتها مما يدرك الناظر
العجب في مضمنها، ويذهب به الفكر في أداني حكمها، وقال صلى الله عليه وسلم: " بيد أني من قريش،
ونشأت في بنى سعد "، فجمع الله له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ
الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي، الذي لا يحيط بعلمه
بشري. انتهى. وبالجملة فليس بعد بيان الله ورسوله بيان لمن عمر الله قلبه بالإيمان.
وقوله سبحانه: (أفأمن الذين مكروا السيئات...) الآية: تهديد لكفار مكة ونصب
السيئات ب‍ (مكروا) وعدي (مكروا) لأنه في معنى عملوا، قال البخاري: قال ابن
عباس: (في تقلبهم)، أي: في اختلافهم انتهى.
وقال المهدوي: قال قتادة: (في تقلبهم): في أسفارهم، الضحاك: (في
تقلبهم): بالليل انتهى.
وقوله: (على تخوف)، على جهة التخوف، والتخوف التنقص، وروي أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه خفي عليه معنى التخوف في هذه الآية، وأراد الكتب إلى الأمصار
يسأل عن ذلك، فيروي أنه جاءه فتى من العرب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبي يتخوفني
مالي، فقال عمر: الله أكبر! (أو يأخذهم على تخوف)، ومنه قول النابغة: [الطويل]
425

تخوفهم حتى أذل سراتهم * بطعن ضرار بعد فتح الصفائح
وهذا التنقص يتجه به الوعيد على معنيين:
أحدهما: أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف، أي: أفذاذا يتنقصهم بذلك
الشئ بعد الشئ، ويصيرهم إلى ما أعد لهم من العذاب، وفي هذه الرتبة الثالثة من الوعيد
رأفة ورحمة وإمهال، ليتوب التائب، ويرجع الراجع، والثاني: ما قاله الضحاك: أن يأخذ
بالعذاب طائفة أو قرية، ويترك أخرى، ثم كذلك حتى يهلك الكل.
وقالت فرقة: " التخوف " هنا: من الخوف، أي: فيأخذهم بعد تخوف ينالهم /
يعذبهم به.
وقوله سبحانه: (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ...) الآية: قوله: (من
شئ) لفظ عام في كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، وفاء الظل
رجع، ولا يقال: الفيء إلا من بعد الزوال، في مشهور كلام العرب، لكن هذه الآية:
الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره فكأن الآية جارية في بعض، على تجوز كلام العرب
واقتضائه، والرؤية، هنا: رؤية القلب ولكن الاعتبار برؤية القلب هنا إنما تكون في مرئيات
بالعين، و (عن اليمين والشمائل)، هنا: فيه تجوز واتساع، وذكر الطبري عن الضحاك،
قال: إذا زالت الشمس، سجد كل شئ قبل القبلة من نبت أو شجر، ولذلك كان
الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت. قال الداوودي: وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أربع
426

قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن في صلاة السحر "، قال: " وليس شئ إلا يسبح لله
تلك الساعة "، وقرأ: (يتفيؤا ظلاله...) الآية كلها. انتهى. و " الداخر ": المتصاغر
المتواضع.
وقوله سبحانه: (يخافون ربهم): عام لجميع الحيوان، و (من فوقهم): يريد:
فوقية القدر والعظمة والقهر.
وقوله سبحانه: (وله ما في السماوات والأرض): (السماوات) هنا: كل ما ارتفع
من الخلق من جهة فوق، فيدخل في ذلك العرش والكرسي وغيرهما، و (الدين): الطاعة
والملك، و " الواصب ": الدائم، قاله ابن عباس.
ثم ذكر سبحانه بنعمه، ثم ذكر بأوقات المرض، والتجاء العباد إليه سبحانه،
و " الضر "، وإن كان يعم كل مكروه، فأكثر ما يجيء عن أرزاء البدن، و (تجأرون) معناه:
ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرع.
(ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون): ال‍ (فريق)، هنا: يراد
به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالا من شفاء المرضى، وجلب النفع، ودفع الضر،
فهم إذا شفاهم الله، عظموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاء إليها.
وقوله سبحانه: (ليكفروا): يجوز أن تكون اللام لام الصيرورة، ويجوز أن تكون
لام أمر، على معنى التهديد.
وقوله: (بما آتيناهم): أي: بما أنعمنا عليهم.
427

وقوله سبحانه: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم): أي: لما لا يعلمون
له حجة، ولا برهانا، ويحتمل أن يريد بنفي العلم الأصنام، أي: لجمادات لا تعلم شيئا
نصيبا، و " النصيب " المشار إليه هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها، والقسم من
الغلات وغيره.
وقوله سبحانه: (ويجعلون لله البنات سبحانه...) الآية: تعديد لقبائح الكفرة في
قولهم: " الملائكة بنات الله "، تعالى الله عن قولهم، والمراد بقوله: (ولهم ما يشتهون)،
الذكران من الأولاد.
وقوله: (ظل وجهه مسودا): عبارة عما / يعلو وجه المغموم.
قال * ص *: " ظل ": تكون بمعنى " صار "، وبمعنى " أقام نهارا "، على الصفة
المسندة إلى اسمها، وتحتمل هنا الوجهين. انتهى، و (كظيم): بمعنى: كاظم، والمعنى:
أنه يخفي وجده وهمه بالأنثى، ومعنى (يتوارى): يتغيب من القوم، وقرأ الجحدري:
" أيمسكها أم يدسها "، وقرأ الجمهور: " على هون "، وقرأ عاصم الجحدري: " على
هوان "، ومعنى الآية: يدبر، أيمسك هذه الأنثى علي هوان يتحمله، وهم يتجلد له، أم
يئدها فيدفنها حية، وهو الدس في التراب.
وقوله سبحانه: (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء): قالت فرقة: (مثل)، في
هذه الآية: بمعنى صفة، أي: لهؤلاء صفة السوء ولله المثل الأعلى.
428

قال * ع *: وهذا لا يضطر إليه، لأنه خروج عن اللفظ، بل قوله: (مثل) على
بابه، فلهم على الإطلاق مثل السوء في كل سوء، ولا غاية أخزى من عذاب النار، ولله
سبحانه (المثل الأعلى) على الإطلاق أيضا، أي: الكمال المستغني.
وقوله سبحانه: (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة): الضمير في
" عليها " عائد على الأرض، وتمكن ذلك مع أنه لم يجر لها ذكر، لشهرتها وتمكن الإشارة
إليها، وسمع أبو هريرة رجلا يقول: " إن الظالم لا يهلك إلا نفسه " فقال أبو هريرة: بلى،
إن الله ليهلك الحبارى في وكرها هزلا بذبوب الظلمة. و " الأجل المسمى "، في هذه
الآية: هو بحسب شخص شخص.
وقوله: (ما يكرهون) يريد البنات.
وقوله سبحانه: (وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى): قال مجاهد وقتادة
(الحسنى): الذكور من الأولاد، وقالت فرقة: يريد الجنة.
قال * ع *: ويؤيده قوله: (لا جرم أن لهم النار)، وقرأ السبعة سوى نافع:
" مفرطون " - بفتح الراء وخفتها - أي: مقدمون إلى النار، وقرأ نافع: " مفرطون " - بكسر
الراء المخففة -، أي: متجاوزون الحد في معاصي الله.
429

وقوله سبحانه: (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك...) الآية: هذه آية ضرب
مثل لهم بمن سلف، في ضمنها وعيد لهم، وتأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (فهو وليهم
اليوم): يحتمل أن يريد ب‍ (اليوم) يوم الإخبار، ويحتمل أن يريد يوم القيامة، أي: وليهم
في اليوم المشهور.
وقوله سبحانه: (إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه): (لتبين): في موضع المفعول
من أجله، أي: إلا لأجل البيان، و (الذي اختلفوا فيه): لفظ عام لأنواع كفر الكفرة، لكن
الإشارة هنا إلى تشريكهم الأصنام في الإلهية.
ثم أخذ سبحانه ينص العبر المؤدية إلى بيان وحدانيته، وعظيم قدرته، فبدأ بنعمة
المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور، لا يخالف فيها
عاقل.
وقوله: (مما في بطونه): الضمير عائد على الجنس، وعلى المذكور، وهذا كثير.
وقوله سبحانه: (سائغا للشاربين) / " السائغ ": السهل في الشرب اللذيذ.
* ت *: وعن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أطعمه الله طعاما، فليقل:
اللهم بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه، ومن سقاه الله لبنا، فليقل: اللهم بارك لنا فيه،
وزدنا منه "، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس شئ يجزئ مكان الطعام والشراب غير
اللبن "، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي، واللفظ له: هذا حديث
حسن، انتهى من " السلاح ".
430

وقوله سبحانه: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا...) الآية:
" السكر ": ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل
تحريم الخمر، وأراد ب‍ " السكر ": الخمر، وب‍ " الرزق الحسن " جميع ما يشرب ويؤكل
حلالا من هاتين الشجرتين، فالحسن، هنا: الحلال، وقال بهذا القول ابن جبير وجماعة
وصحح ابن العربي هذا القول، ولفظه: والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر، فإن
هذه الآية مكية باتفاق العلماء، وتحريم الخمر مدني انتهى من " أحكام القرآن "، وقال
مجاهد وغيره: السكر المائع من هاتين الشجرتين، كالخل، والرب، والنبيذ، والرزق
الحسن: العنب والتمر.
قال الطبري: والسكر أيضا في كلام العرب ما يطعم، ورجح الطبري هذا القول،
ولا مدخل للخمر فيه، ولا نسخ في الآية.
وقوله تعالى: (وأوحى وفي ربك إلى النحل...) الآية: الوحي، في كلام العرب:
إلقاء المعنى من الموحي إلى الموحى إليه في خفاء، فمنه الوحي إلى الأنبياء برسالة
الملك، ومنه وحي الرؤيا، ومنه وحي الإلهام، وهو الذي في آيتنا، باتفاق من المتأولين،
والوحي أيضا بمعنى الأمر، كما قال تعالى: (بأن ربك أوحى لها) [الزلزلة: 5]، وقد
جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع: إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف
الأشجار، وإما في يعرش ابن آدم من الأجباح والحيطان، ونحوها، وعرش: معناه: هيأ،
وال‍ (سبل) الطرق، وهي مسالكها في الطيران وغيره، و (ذللا): يحتمل أن يكون حالا
من " النحل "، أي: مطيعة منقادة، قاله قتادة. قال ابن زيد: فهم يخرجون بالنحل
431

ينتجعون، وهي تتبعهم وقرأ: (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما...)
[يس: 71] الآية، ويحتمل أن يكون حالا من " السبل "، أي: مسهلة مستقيمة، قاله
مجاهد، لا يتوعر عليها سبيل تسلكه.
ثم ذكر تعالى، على جهة تعديد النعمة، والتنبيه على العبرة - أمر العسل في قوله:
(يخرج من بطونها شراب)، وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل،
واختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النحل والمراعي، أي والفصول.
* ت *: قال الهروي: قوله تعالى: (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه)،
وذلك أنه يستحيل في بطونها، ثم تمجه من أفواهها انتهى.
وقوله: (فيه شفاء للناس) الضمير للعسل، قاله الجمهور: / قال ابن العربي في
" أحكامه " وقد روى الأئمة، واللفظ للبخاري، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحب الحلواء والعسل، وروى أبو سعيد الخدري: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن
أخي يشتكي بطنه فقال: " اسقه عسلا "، ثم أتاه الثانية، فقال: " اسقه عسلا "، ثم أتاه فقال:
فعلت فما زاده ذلك إلا استطلاقا، فقال عليه السلام: " صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه
عسلا " فسقاه، فبرأ، وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض، فقيل له: ألا نعالجك؟
فقال: ائتوني بماء سماء، فإن الله تعالى يقول: (ونزلنا من السماء ماء مباركا) [ق: 9]
432

وائتوني بعسل، فإن الله تعالى يقول: (فيه شفاء للناس) وائتوني بزيت، فإن الله تعالى
يقول: (من شجرة مباركة) [النور: 35] فجاءوه بذلك كله فخلطه جميعا، ثم شربه، فبرأ
انتهى.
وقوله سبحانه: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر)، وأرذل العمر الذي تفسد فيه
الحواس، ويختل العقل، وخص ذلك بالرذيلة، وإن كانت حالة الطفولة كذلك من حيث
كانت هذه لا رجاء معها، وقال بعض الناس: أول أرذل العمر خمس وسبعون سنة، روي
ذلك عن علي رضي الله عنه.
قال * ع *: وهذا في الأغلب، وهذا لا ينحصر إلى مدة معينة، وإنما هو بحسب
إنسان إنسان، ورب من يكون ابن خمسين سنة، وهو في أرذل عمره، ورب ابن تسعين
ليس في أرذل عمره، واللام في (لكي) يشبه أن تكون لام الصيرورة، والمعنى: ليصير
أمره بعد العلم بالأشياء إلى ألا يعلم شيئا، وهذه عبارة عن قلة علمه، لا أنه لا يعلم شيئا
ألبتة.
وقوله سبحانه: (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) إخبار يراد به العبرة
وإنما هي قاعدة بني المثل عليها، والمثل هو أن المفضلين لا يصح منهم أن يساهموا
مماليكهم فيما أعطوا، حتى تستوي أحوالهم، فإذا كان هذا في البشر، فكيف تنسبون أيها
الكفرة إلى الله، أنه يسمح بأن يشرك في الألوهية الأوثان والأصنام وغيرها مما عبد من
دونه، وهم خلقه وملكه، هذا تأويل الطبري، وحكاه عن ابن عباس قال المفسرون:
هذه الآية كقوله تعالى: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت إيمانكم من
433

شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء...) الآية [الروم: 28] ثم وقفهم سبحانه على
جحدهم بنعمته في تنبيهه لهم على مثل هذا من مواضع النظر المؤدية إلى الإيمان.
وقوله سبحانه: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) هذه أيضا آية تعديد نعم،
" والأزواج "، هنا: الزوجات، وقوله: (من أنفسكم): يحتمل أن يريد خلقة حواء من نفس
آدم، وهذا قول قتادة والأظهر عندي أن يريد بقوله (من أنفسكم)، أي: من نوعكم
كقوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) [التوبة: 128]، وال‍ (حفدة): قال ابن عباس:
هم أولاد البنين وقال الحسن: هم بنوك وبنو بنيك، / وقال مجاهد: ال‍ (حفدة)
الأنصار والأعوان وقيل غير هذا، ولا خلاف أن معنى " الحفد " الخدمة والبر والمشي
مسرعا في الطاعة، ومنه في القنوت: " وإليك نسعى ونحفد "، والحفدان أيضا: خبب فوق
المشي.
وقوله سبحانه: (فلا تضربوا لله الأمثال...) الآية: أي: لا تمثلوا لله الأمثال،
وهو مأخوذ من قولك: هذا ضريب هذا، أي: مثيله، والضرب: النوع.
وقوله تعالى: (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا) الآية: الذي هو مثال في هذه الآية هو
434

عبد بهذه الصفة، مملوك لا يقدر على شئ من المال، ولا أمر نفسه، وإنما هو مسخر
بإرادة سيده، مدبر، وبإزاء العبد في المثال رجل موسع عليه في المال، فهو يتصرف فيه
بإرادته، واختلف الناس في الذي له المثل، فقال ابن عباس وقتادة: هو مثل الكافر
والمؤمن، وقال مجاهد والضحاك: هذا المثال والمثال الآخر الذي بعده، إنما هو مثال
لله تعالى، والأصنام، فتلك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شئ، والله تعالى
تتصرف قدرته دون معقب، وكذلك فسر الزجاج على نحو قول مجاهد، وهذا التأويل
أصوب، لأن الآية تكون من معنى ما قبلها، ومدارها في تبيين أمر الله والرد على أمر
الأصنام.
وقوله: (الحمد لله) أي: على ظهور الحجة.
وقوله سبحانه: (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم...) الآية: هذا مثل لله عز
وجل والأصنام، فهي كالأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شئ، " والكل " الثقيل
المؤونة، كما الأصنام تحتاج إلى أن تنقل وتخدم ويتعذب بها، ثم لا يأتي من جهتها خير
أبدا، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى.
وقوله تعالى: (وما أمر الساعة...) الآية: المعنى، على ما قاله قتادة وغيره: ما
تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها: كن، فلو اتفق أن يقف على
ذلك محصل من البشر، لكانت من السرعة بحيث يشك، هل هي كلمح البصر أو هي
أقرب، و " لمح البصر " هو وقوعه على المرئي.
435

وقوله سبحانه: (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء...) الآية: " الجو
مسافة ما بين السماء والأرض، وقيل: هو ما يلي الأرض منها، والآية عبرة بينة المعنى،
تفسيرها تكلف محت، و (يوم ظعنكم) معناه رحيلكم، والأصواف: للضأن، والأوبار:
للإبل، والأشعار: للمعز، ولم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان، فلذلك اقتصر على هذه
ويحتمل أن ترك ذكر القطن والكتان والحرير إعراض عن السرف، إذ ملبس عباد الله
الصالحين إنما هو الصوف، قال ابن العربي في " أحكامه " عند قوله تعالى: (لكم فيها
دفء) [النحل: 5]: في هذه الآية دليل على لباس الصوف، فهو أول ذلك وأولاه، لأنه
شعار المتقين، ولباس الصالحين، وشارة الصحابة والتابعين، واختيار الزهاد والعارفين،
وإليه نسب جماعة من الناس " الصوفية "، لأنه لباسهم في الغالب انتهى.
/ " والأثاث " متاع البيت، واحدها أثاثة، هذا قول أبي زيد الأنصاري وقال غيره:
" الأثاث ": جميع أنواع المال، ولا واحد له من لفظه.
قال * ع *: والاشتقاق يقوي هذا المعنى الأعم، لأن حال الإنسان تكون
بالمال أثيثة، كما تقول: شعر أثيث، ونبات أثيث، إذا كثر والتف، وال‍ (سرابيل): جميع
ما يلبس على جميع البدن، وذكر وقاية الحر، إذ هو أمس بتلك البلاد، والبرد فيها معدوم
في الأكثر، وأيضا: فذكر أحدهما يدل على الآخر، وعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من لبس ثوبا جديدا، فقال: " الحمد لله الذي كساني ما أواري به
عورتي وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الذي خلق، فتصدق به - كان في كنف
الله، وفي حفظ الله، وفي ستر الله حيا وميتا " رواه الترمذي، واللفظ له، وابن ماجة،
والحاكم في " المستدرك "، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما اشترى عبد ثوبا
436

بدينار أو نصف دينار، فحمد الله عليه إلا لم يبلغ ركبتيه حتى يغفر الله له " رواه الحاكم
في " المستدرك " وقال: هذا الحديث لا أعلم في إسناده أحدا ذكر بجرح. انتهى من
" السلاح ". والسرابيل التي تقي البأس: هي الدروع ونحوها، ومنه قول كعب بن زهير في
المهاجرين: [البسيط]
شم العرانين أبطال لبوسهم * من نسج داود في الهيجا سرابيل
والبأس: مس الحديد في الحرب، وقرأ الجمهور " تسلمون " وقرأ ابن عباس:
" تسلمون "، من السلامة، فتكون اللفظة مخصوصة في بأس الحرب.
وقوله سبحانه: (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) أي: شاهدا على كفرهم وإيمانهم،
(ثم لا يؤذن)، أي: لا يؤذن لهم في المعذرة، وهذا في موطن دون موطن،
و (يستعتبون) بمعنى: يعتبون، تقول: أعتبت الرجل، إذا كفيته ما عتب فيه، كما تقول:
أشكيته، إذا كفيته ما شكا.
وقال قوم: معناه: لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدنيا.
وقال الطبري: معنى (يستعتبون) يعطون الرجوع إلى الدنيا فتقع منهم توبة وعمل.
* ت *: وهذا هو الراجح، وهو الذي تدل عليه الأحاديث، وظواهر الآيات في غير
ما موضع.
437

وقوله سبحانه: (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم) أي: إذا رأوهم بأبصارهم
(قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا...) الآية، كأنهم أرادوا بهذه المقالة تذنيب المعبودين، وقوله
سبحانه: (فألقوا إليهم القول...) الآية: الضمير في (ألقوا) للمعبودين، أنطقهم الله
بتكذيب المشركين، وقد قال سبحانه في آية أخرى: (فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم
إيانا تعبدون) [يونس: 28] الآية، انظر تفسيرها في سورة يونس وغيرها.
وقوله: (وألقوا إلى الله يومئذ السلم) الضمير في (ألقوا) هنا عائد على
" المشركين "، و (السلم) الاستسلام.
وقوله تعالى: (زدناهم عذابا فوق العذاب...) الآية: روي في ذلك عن ابن
مسعود، أن الله سبحانه يسلط عليهم عقارب وحيات، لها أنياب، كالنخل الطوال، وقال
عبيد بن عمير: حياة لها أنياب كالنخل ونحو / هذا، وروي عن عبد الله بن عمرو بن
العاص: أن لجهنم سواحل، فيها هذه الحيات وهذه العقارب، فيفر الكافرون إلى
السواحل، فتلقاهم هذه الحيات والعقارب فيفرون منها إلى النار، فتتبعهم حتى تجد حر
النار، فترجع. قال: وهي في أسراب.
وقوله سبحانه: (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا) يعني: رسولها، ويجوز أن يبعث
الله شهودا من الصالحين مع الرسل، وقد قال بعض الصحابة: إذا رأيت أحدا على معصية،
438

فانهه، فإن أطاعك، وإلا كنت شاهدا عليه يوم القيامة.
وقوله سبحانه: (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) الإشارة ب‍ " هؤلاء " إلى هذه الأمة.
وقوله عز وجل: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان...) الآية: قال ابن مسعود رضي
الله عنه: أجمع آية في كتاب الله هذه الآية، وروي عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه،
أنه قال: لما نزلت هذه الآية، قرأتها على أبي طالب، فعجب، وقال: يا آل غالب، اتبعوه
تفلحوا فوالله، إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق.
قال * ع *: و (العدل) فعل كل مفروض، و (الإحسان) فعل كل مندوب إليه،
(وإيتاء ذي القربى): لفظ يقتضي صلة الرحم، ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة،
و (الفحشاء) الزنا، قاله ابن عباس ويتناول اللفظ سائر المعاصي التي شنعتها ظاهرة،
(والمنكر) أعم منه، لأنه يعم جميع المعاصي والرذائل، والإذاءات على اختلاف أنواعها،
و (البغي) هو إنشاء ظلم الإنسان، والسعاية فيه، و (كفيلا) معناه: متكفلا بوفائكم، وباقي
الآية بين.
وقوله سبحانه: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها...) الآية: شبهت هذه الآية الذي
يحلف أو يعاهد ويبرم عقده، بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما، ثم تنقض قوى ذلك
الغزل، فتحله بعد إبرامه، و (أنكاثا) نصب على الحال، " والنكث " النقض، والعرب تقول
انتكث الحبل، إذا انتقضت قواه، و " الدخل " الدغل بعينه، وهو الذرائع إلى الخدع والغدر،
439

وذلك أن المحلوف له مطمئن، فيتمكن الحالف من ضرره بما يريد.
وقوله سبحانه: (أن تكون أمة هي أربى من أمة) المعنى: لا تنقضوا الأيمان من
أجل أن تكون قبيلة أزيد من قبيلة في العدد والعزة والقوة، و (يبلوكم) أي: يختبركم،
والضمير في " به " يحتمل أن يعود على " الربا "، أي: أن الله ابتلى عباده بالربا، وطلب
بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك، ليرى من يجاهد بنفسه، ممن يتبع هواها،
وباقي الآية وعيد بيوم القيامة.
وقوله سبحانه: (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم...) الآية: " الدخل "، كما تقدم:
الغوائل والخدائع، وكرر مبالغة، قال الثعلبي: قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو
دخل انتهى.
وقوله: (فتنزل قدم بعد ثبوتها) استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم.
وقوله سبحانه: (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا...) الآية: هذه آية نهي عن
الرشا، وأخذ الأموال، ثم أخبر تعالى أن ما عنده من نعيم الجنة، ومواهب الآخرة خير
لمن اتقى وعلم واهتدى، ثم بين سبحانه / الفرق بين حال الدنيا، وحال الآخرة، بأن هذه
تنفد وتنقضي عن الإنسان أو ينقضي عنها، ومنن الآخرة باقية دائمة، و (صبروا) معناه
عن الشهوات وعلى مكاره الطاعات، وهذه إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه
المكروهة.
واختلف الناس في معنى " الحياة الطيبة " فقال ابن عباس: هو الرزق الحلال وقال
440

الحسن وعلي بن أبي طالب: هي القناعة.
قال * ع *: والذي أقول به أن طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط
نفوسهم ونبلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، فبهذا تطيب حياتهم، وأنهم احتقروا
الدنيا، فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلال، وصحة أو قناعة، فذلك
كمال، وإلا فالطيب فيما ذكرناه راتب.
وقوله سبحانه: (ولنجزينهم) الآية: وعد بنعيم الجنة.
قال أبو حيان: وروي عن نافع: " وليجزينهم " بالياء، التفاتا من ضمير المتكلم إلى
ضمير الغيبة، وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفا على " فلنحيينه "، فيكون من
عطف جملة قسمية على جملة قسمية، وكلتاهما محذوفة، وليس من عطف جواب، لتغاير
الإسناد. انتهى.
وقوله سبحانه: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله...) الآية: التقدير فإذا أخذت في
قراءة القرآن، والاستعاذة ندب، وعن عطاء أن التعوذ واجب، ولفظ الاستعاذة هو على
رتبة هذه الآية، والرجيم: المرجوم باللعنة، وهو إبليس ثم أخبر تعالى أن إبليس ليس له
ملكة ولا رياسة، هذا ظاهر السلطان عندي في هذه الآية، وذلك أن السلطان إن جعلناه
الحجة، فليس لإبليس حجة في الدنيا على أحد لا على مؤمن ولا على كافر، إلا أن يتأول
متأول: ليس له سلطان يوم القيامة، فيستقيم أن يكون بمعنى الحجة، لأن إبليس له حجة
على الكافرين، أنه دعاهم بغير دليل، فاستجابوا له من قبل أنفسهم، و (يتولونه): معناه
يجعلونه وليا، والضمير في " به " يحتمل أن يعود على اسم الله عز وجل، والظاهر أنه يعود
على اسم العدو الشيطان، بمعنى من أجله، وبسببه، فكأنه قال: والذين هم بسببه مشركون
441

بالله، وهذا الإخبار بأن لا سلطان للشيطان على المؤمنين بعقب الأمر بالاستعاذة - يقتضي
أن الاستعاذة تصرف كيده، كأنها متضمنة للتوكل على الله، والانقطاع إليه.
وقوله سبحانه: (وإذا بدلنا آية مكان آية) يعني بهذا التبديل النسخ، (قالوا إنما أنت
مفتر): أي قال كفار مكة، و (روح القدس): هو جبريل، بلا خلاف.
وقوله سبحانه: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) قال ابن عباس: كان بمكة
غلام أعجمي لبعض قريش يقال له: " بلعام "، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه الإسلام، ويرومه
عليه، فقال بعض الكفار هذا يعلم محمدا، وقيل: اسم الغلام " جبر "، وقيل: يسار،
وقيل: يعيش، والأعجمي هو الذي لا يتكلم بالعربية، وأما العجمي، فقد يتكلم بالعربية،
ونسبته قائمة.
وقوله: (وهذا) إشارة إلى القرآن والتقدير: وهذا سرد لسان، أو نطق لسان.
وقوله / سبحانه: (إنما يفترى الكذب): بمعنى: إنما يكذب، وهذه مقاومة للذين
قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت مفتر) [النحل: 101]، ومن في قوله (من كفر) بدل من
قوله: (الكاذبون)، فروي: أن قوله سبحانه: (وأولئك هم الكاذبون) يراد به مقيس بن
ضبابة وأشباه ممن كان آمن، ثم ارتد باختياره من غير إكراه.
وقوله سبحانه: (إلا من أكره)، أي: كبلال وعمار بن ياسر وأمه وخباب وصهيب
442

وأشباههم، ممن كان يؤذى في الله سبحانه، فربما سامح بعضهم بما أراد الكفار من القول،
لما أصابه من تعذيب الكفرة، فيروى: أن عمار بن ياسر فعل ذلك، فاستثناه الله في هذه
الآية، وبقية الرخصة عامة في الأمر بعده، ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما
صنع به من العذاب، وما سامح به من القول، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " كيف تجد قلبك " قال:
أجده مطمئنا بالإيمان، قال: " فأجبهم بلسانك، فإنه لا يضرك، وإن عادوا فعد ".
وقوله سبحانه: (ولكن من شرح بالكفر صدرا) معناه: انبسط إلى الكفر باختياره.
* ت *: وقد ذكر * ع * هنا نبذا من مسائل الإكراه، تركت ذلك خشية
التطويل، وإذ محل بسطها كتب الفقه.
وقوله سبحانه: (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة...) الآية: (ذلك)
إشارة إلى الغضب، والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية، والضمير في أنهم لمن شرح
بالكفر صدرا.
وقوله سبحانه: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا...) الآية: قال ابن
443

إسحاق: نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد.
قال * ع *: وذكر عمار في هذا عندي غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما
هؤلاء من تاب ممن شرح بالكفر صدرا، فتح الله له باب التوبة في آخر الآية، وقال
عكرمة والحسن: نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه فكأنه يقول:
من بعد ما فتنهم الشيطان، وهذه الآية مدنية بلا خلاف، وإن وجد، فهو ضعيف، وقرأ
الجمهور: " من بعد ما فتنوا "، مبنيا للمفعول، وقرأ أبن عامر وحده: " من بعد ما فتنوا " -
بفتح الفاء والتاء أي فتنوا أنفسهم، والضمير في (بعدها) عائد على الفتنة، أو على الفعلة،
أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها، وإن لم يجر لها ذكر صريح.
وقوله: (يوم تأتي كل نفس): المعنى لغفور رحيم يوم، " ونفس " الأولى: هي
النفس المعروقة، والثانية هي بمعنى الذات.
* ت *: قال المهدوي: يجوز أن ينتصب (يوم)، على تقدير لغفور رحيم يوم،
فلا يوقف على (رحيم).
وقال * ص *: (يوم) تأتي ظرف منصوب ب‍ (رحيم) أو مفعول به ب‍ (أذكر)
انتهى، وهذا الأخير أظهر، والله أعلم.
وقوله سبحانه: (وتوفى كل نفس ما عملت)، أي: يجازى كل من أحسن بإحسانه،
وكل من أساء بإساءته.
444

وقوله سبحانه: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة...) الآية: قال ابن
عباس: القرية، هنا مكة، والمراد الضمائر كلها في الآية أهل القرية، ويتوجه عندي في
الآية أنها قصد بها قرية غير معينة جعلت مثلا لمكة، على معنى التحذير، لأهلها ولغيرها
من القرى إلى يوم القيامة / وهو الذي يفهم من كلام حفصة أم المؤمنين، و " أنعم " جمع
نعمة.
وقوله سبحانه: (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) استعارات، أي: لما باشرهم
ذلك، صار كاللباس، والضمير في (جاءهم) لأهل مكة، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم،
و (العذاب): الجوع وأمر بدر ونحو ذلك، إن كانت الآية مدنية، وإن كانت مكية، فهو
الجوع فقط.
وقوله سبحانه: (فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا...) الآية: هذا ابتداء كلام
آخر، أي: وأنتم أيها المؤمنون، لستم كهذه القرية فكلوا واشكروا الله على تباين حالكم،
من حال الكفرة، وقوله: (حلالا) حال، وقوله: (طيبا): أي مستلذا، إذ فيه ظهور
النعمة، ويحتمل أن يكون " الطيب " بمعنى الحلال، كرر مبالغة وتأكيدا.
وقوله سبحانه: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام...)
الآية: هذه الآية مخاطبة للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب، قال ابن العربي في
" أحكامه " ومعنى الآية: لا تصفوا الأعيان بأنها حلال أو حرام من قبل أنفسكم، إنما المحرم
والمحلل هو الله سبحانه، قال ابن وهب: قال مالك لم يكن من فتيا الناس أن يقال لهم:
هذا حلال، وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره هذا، ولم أكن لأصنع هذا، فكان الناس
445

يطيعون ذلك، ويرضونه، ومعنى هذا: أن التحليل والتحريم إنما هو لله، كما تقدم بيانه،
فليس لأحد أن يصرح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون الباري تعالى يخبر بذلك عنه،
وما يؤدي إليه الاجتهاد أنه حرام يقول فيه: إني أكره كذا، وكذلك كان مالك يفعل، اقتداء
بمن تقدم من أهل الفتوى انتهى.
وقوله: (متاع قليل) إشارة إلى عيشهم في الدنيا، (ولهم عذاب أليم) بعد ذلك في
الآخرة، وقوله: (ما قصصنا عليك من قبل) إشارة إلى ما في " سورة الأنعام " من ذي
الظفر والشحوم.
وقوله سبحانه: (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك
وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) هذه آية تأنيس لجميع العالم فهي تتناول كل
كافر وعاص تاب من سوء حاله، قالت فرقة: " الجهالة "، هنا: العمد، والجهالة، عندي في
هذا الموضع: ليست ضد العلم، بل هي تعدي الطور وركوب الرأس. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " أو
أجهل أو يجهل علي " وقد تقدم بيان هذا، وقلما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم
بحظر المعصية التي يواقع.
وقوله سبحانه: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله...) الآية: لما كشف الله فعل اليهود
وتحكمهم في شرعهم بذكر ما حرم عليهم - أراد أن يبين بعدهم عن شرع إبراهيم عليه
السلام، " والأمة "، في اللغة: لفظة مشتركة تقع للحين، وللجمع الكثير، وللرجل المنفرد
بطريقة وحده، وعلى هذا الوجه سمي إبراهيم عليه السلام أمة، قال مجاهد: سمي إبراهيم
أمة، لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما، وفي البخاري، أنه قال لسارة: " ليس على
الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك "، وفي البخاري قال ابن مسعود: الأمة معلم الخير
446

والقانت: المطيع الدائم على العبادة، والحنيف: المائل إلى الخير والصلاح.
/ وقوله سبحانه: (وآتيناه في الدنيا حسنة)، الآية " الحسنة ": لسان الصدق، وإمامته
لجميع الخلق، هذا قول جميع المفسرين، وذلك أن كل أمة متشرعة، فهي مقرة أن إيمانها
إيمان إبراهيم، وأنه قدوتها، وأنه كان على الصواب.
* ت *: وهذا كلام فيه بعض إجمال، وقد تقدم في غير هذا الموضع بيانه، فلا
نطول بسرده.
وقوله سبحانه: (أن اتبع ملة إبراهيم...) الآية: ال‍ (ملة): الطريقة في عقائد
الشرع.
وقوله سبحانه: (إنما جعل السبت...) الآية: أي: لم يكن من ملة إبراهيم، وإنما
جعل الله فرضا عاقب به القوم المختلفين فيه، قاله ابن زيد، وذلك أن موسى عليه السلام
أمر بني إسرائيل أن يجعلوا من الجمعة يوما مختصا بالعبادة، وأمرهم أن يكون الجمعة،
فقال جمهورهم: بل يكون يوم السبت، لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق مخلوقاته، وقال
غيرهم: بل نقبل ما أمر به موسى، فراجعهم الجمهور، فتابعهم الآخرون، فألزمهم الله يوم
السبت إلزاما قويا، عقوبة لهم، ثم لم يكن منهم ثبوت، بل عصوا فيه، وتعدوا
فأهلكهم، وورد في الحديث الصحيح، أن اليهود والنصارى اختلفوا في اليوم الذي
يختص من الجمعة، فأخذ هؤلاء السبت، وأخذ هؤلاء الأحد، فهدانا الله نحن إلى يوم
الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم: " فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه " فليس الاختلاف المذكور في الآية هو
الاختلاف في هذا الحديث.
447

* ت *: يعنى أن الاختلاف المذكور في الآية هو بين اليهود فيما بينهم، والاختلاف
المذكور في الحديث الصحيح هو فيما بين اليهود والنصارى.
وقوله سبحانه: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) هذه الآية نزلت
بمكة، أمر عليه السلام أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف، وهكذا ينبغي أن يوعظ
المسلمون إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به...) الآية: أطبق أهل
التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد، ووقع ذلك
في " صحيح البخاري " وغيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بثلاثين "
كتاب " النحاس " وغيره: " بسبعين منهم "، فقال الناس: إن ظفرنا، لنفعلن ولنفعلن، فنزلت
هذه الآية، ثم عزم على النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر عن المجازاة بالتمثيل في القتلى، ويروى أنه
عليه السلام قال لأصحابه: " أما أنا فأصبر كما أمرت، فما ذا تصنعون؟ فقالوا: نصبر يا
رسول الله كما ندبنا!!! ".
وقوله: (وما صبرك إلا بالله) أي: بمعونة الله وتأييده على ذلك.
وقوله سبحانه: (ولا تحزن عليهم) قيل: الضمير في قوله: (عليهم) يعود على
الكفار، أي: لا تتأسف على أن لم يسلموا، وقالت فرقة: بل يعود على القتلى حمزة
وأصحابه الذين حزن عليهم صلى الله عليه وسلم والأول أصوب. (ولا تك في ضيق مما يمكرون) قرأ
الجمهور: " في ضيق " - بفتح الضاد -، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، وهما لغتان.
إن الله مع الذين اتقوا) أي بالنصر والمعونة، و (اتقوا) يريد المعاصي،
و (محسنون) هم الذين يتزيدون فيما ندب إليه من فعل الخير / وصلى الله على سيدنا
محمد وآله وصبحه وسلم تسليما.
448

تفسير سورة الإسراء
هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات، قال ابن مسعود: في " بني إسرائيل "، و " الكهف ":
إنها من العتاق الأول، وهن من تلادي، يريد أنهن من قديم كسبه.
قوله عز وجل: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام): جل العلماء
على أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم، وأنه ركب البراق من مكة، ووصل إلى بيت المقدس،
وصلى فيه، وقالت عائشة ومعاوية: إنما أسري بروحه، والصحيح ما ذهب إليه
الجمهور، ولو كانت منامة، ما أمكن قريشا التشنيع، ولا فضل أبو بكر بالتصديق، ولا
قالت له أم هانئ: لا تحدث الناس بهذا، فيكذبوك، إلى غير هذا من الدلائل، وأما قول
عائشة فإنها كانت صغيرة، ولا حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك معاوية.
قال ابن العربي: قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) قال علماؤنا: لو كان
للنبي صلى الله عليه وسلم اسم هو أشرف منه، لسماه الله تعالى به في تلك الحالة العلية، وقد قال الأستاذ
جمال الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن: لما رفعه الله إلى حضرته السنية وأرقاه فوق
الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية، تواضعا وإجلالا للألوهية. انتهى من " الأحكام ".
و (سبحان) مصدر معناه: تنزيها لله، وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد
العشرة، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ قال: تنزيه الله من كل سوء، وكان
449

الإسراء فيما قال مقاتل وقتادة: قبل الهجرة بعام، وقيل: بعام ونصف، والمتحقق أن
ذلك كان بعد شق الصحيفة، وقبل بيعة العقبة، ووقع في " الصحيحين " لشريك بن أبي
نمر، وهم في هذا المعنى، فإنه روى حديث الإسراء، فقال فيه: وذلك قبل أن يوحى إليه،
ولا خلاف بين المحدثين، أن هذا وهم من شريك.
قال * ص *: (أسرى بعبده) بمعنى: سرى، وليست همزته للتعدية، بل ك‍ " سقى
وأسقى "، والباء للتعدية، و (ليلا) ظرف للتأكيد، لأن السرى لا يكون لغة إلا بليل،
وقيل: يعني به في جوف الليل، فلم يكن إدلاجا ولا أدلاجا انتهى.
و (المسجد الأقصى): بيت المقدس، " والأقصى " البعيد، والبركة حوله من وجهين:
أحدهما: النبوة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر، وفي نواحيه.
والآخر: النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة.
وقوله سبحانه: (لنريه) يريد لنري محمدا بعينه آياتنا في السماوات والملائكة والجنة
والسدرة وغير ذلك من العجائب، مما رآه تلك الليلة، ولا خلاف أن في هذا الإسراء
فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة.
وقوله سبحانه: (إنه هو / السميع البصير) وعيد للمكذبين بأمر الإسراء، أي: هو
السميع لما تقولون، البصير بأفعالكم.
(وآتينا موسى الكتاب)، أي: التوراة.
وقوله: (ألا تتخذوا من دوني وكيلا...) الآية: التقدير: فعلنا ذلك، لئلا تتخذوا
يا ذرية ف‍ (ذرية): منصوب على النداء، وهذه مخاطبة للعالم، ويتجه نصب (ذرية) على أنه
مفعول ب‍ " تتخذوا "، ويكون المعنى ألا يتخذوا بشرا إلاها من دون الله، وقرأ أبو عمرو
450

وحده: " ألا يتخذوا " بالياء، على لفظ الغائب، " والوكيل "، هنا من التوكيل، أي: متوكلا
عليه في الأمور، فهو ند لله بهذا الوجه، وقال مجاهد: (وكيلا): شريكا، ووصف
نوح بالشكر، لأنه كان يحمد الله في كل حال، وعلى كل نعمة من المطعم والمشرب
والملبس والبراز وغير ذلك صلى الله عليه وسلم، قاله سلمان الفارسي وغيره، وقال ابن المبارك في
" رقائقه ": أخبرنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن عبد الله بن سلام: أن موسى
عليه السلام قال: يا رب، ما الشكر الذي ينبغي لك؟ قال: يا موسى لا يزال لسانك رطبا
من ذكري، انتهى، وقد رويناه مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم أعني قوله: " لا يزال لسانك رطبا من
ذكر الله ".
وقوله سبحانه: (وقضينا إلى بني إسرائيل...) الآية: قالت فرقة: (قضينا) معناه:
في أم الكتاب.
قال * ع *: وإنما يلبس في هذا المكان تعدية (قضينا) ب‍ " إلى "، وتلخيص
المعنى عندي: أن هذا الأمر هو مما قضاه الله عز وجل في أم الكتاب على بني إسرائيل،
451

وألزمهم إياه، ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى، فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين
جميعا في إيجاز، جعل (قضينا) دالة على النفوذ في أم الكتاب، وقرن بها " إلى " دالة على
إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ، ولهذا
فسر ابن عباس مرة بأن قال: (قضينا إلى بني إسرائيل)، معناه: أعلمناهم، وقال مرة:
" قضينا عليهم "، و (الكتاب) هنا، التوراة لأن القسم في قوله: (لتفسدن) غير متوجه
مع أن نجعل (الكتاب) هو اللوح المحفوظ.
وقال * ص *: و (قضينا): مضمن معنى " أوحينا "، ولذلك تعدى ب‍ " إلى "، وأصله
أن يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد، كقوله سبحانه: (فلما قضى موسى الأجل) [القصص:
29] انتهى، وهو حسن موافق لكلام * ع *، وقوله " ولتعلن " أي: لتتجبرن، وتطلبون في
الأرض العلو، ومقتضى الآيات أن الله سبحانه أعلم بني إسرائيل في التوراة، أنه سيقع
منهم عصيان وكفر لنعم الله، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتذلهم، ثم يرحمهم بعد
ذلك، ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم من الظهور، ثم تقع منهم أيضا تلك المعاصي
والقبائح، فيبعث الله تعالى عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم، وتقتلهم، وتجليهم جلاء،
مبرحا، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله، قيل: كان بين المرتين مائتا سنة، وعشر
سنين ملكا مؤيدا بأنبياء، وقيل: سبعون سنة.
وقوله سبحانه: (فإذا جاء وعد أولهما) الضمير في قوله: (أولاهما) عائد / على
قوله (مرتين)، وعبر عن الشر ب‍ " الوعد "، لأنه قد صرح بذكر المعاقبة.
قال * ص *: (وعد أولاهما)، أي: موعود، وهو العقاب، لأن الوعد سبق
452

بذلك، وقيل: هو على حذف مضاف، أي وعد عقاب أولاهما. انتهى، وهو معنى ما تقدم
واختلف الناس في العبيد المبعوثين، وفي صورة الحال اختلافا شديدا متباعدا، عيونه
أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكريا عليه السلام، فغزاهم سنجاريب ملك بابل، قاله ابن
إسحاق وابن جبير.
وقال ابن عباس: غزاهم جالوت من أهل الجزيرة، وقيل: غزاهم بخت نصر،
وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس، وهو خامل يسير في مطبخ الملك، فاطلع من
جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس، فلما انصرف الجيش، ذكر ذلك للملك
الأعظم، فلما كان بعد مدة، جعله الملك رئيس جيش، وبعثه فخرب بيت المقدس،
وقتلهم، وأجلاهم، ثم انصرف، فوجد الملك قد مات، فملك موضعه، واستمرت حاله
حتى ملك الأرض بعد ذلك، وقالت فرقة: إنما غزاهم بخت نصر في المرة الأخيرة حين
عصوا وقتلوا يحيى بن زكريا، وصورة قتله: أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته، فنهاه
يحيى عنها، فعز ذلك على امرأته، فزينت بنتها، وجعلتها تسقي الملك الخمر، وقالت لها:
إذا راودك عن نفسك، فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمنين، فإذا قال لك: تمني علي ما
أردت، فقولي: رأس يحيى بن زكريا، ففعلت الجارية ذلك، فردها الملك مرتين، وأجابها
في الثالثة، فجيء بالرأس في طست، ولسانه يتكلم، وهو يقول: لا تحل لك، وجرى دم
يحيى، فلم ينقطع، فجعل الملك عليه التراب، حتى ساوى سور المدينة، والدم ينبعث،
فلما غزاهم الملك الذي بعث عليهم بحسب الخلاف الذي فيه، قتل منهم على الدم سبعين
ألفا حتى سكن، هذا مقتضى خبرهم، وفي بعض الروايات زيادة ونقص، وقرأ الناس:
" فجاسوا "، وقرأ أبو السمال: بالحاء، وهما بمعنى الغلبة والدخول قهرا، وقال مؤرج:
جاسوا خلال الأزقة.
* ت *: قال * ص *: (جاسوا) مضارعه يجوس، ومصدره جوس وجوسان،
453

ومعناه: التردد، (وخلال) ظرف، أي: وسط الديار انتهى.
وقوله سبحانه: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم...) الآية عبارة عما قاله سبحانه لبني
إسرائيل في التوراة، وجعل " رددنا " موضع " نرد "، لما كان وعد الله في غاية الثقة، وأنه
واقع لا محالة، فعبر عن المستقبل بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجولة الأولى، كما
وصفنا، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس، وملكوا فيه، وحسنت حالهم برهة من
الدهر، وأعطاهم الله الأموال والأولاد وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس، فلما قال
الله: إني سأفعل بكم هكذا، عقب بوصيتهم في قوله: (إن أحسنتم أحسنتم
لأنفسكم...) الآية، المعنى: إنكم بعملكم تجاوزن، و (وعد الآخرة) معناه: من
المرتين.
/ وقوله: (ليسوءوا) اللام لام أمر، وقيل: المعنى: بعثناهم، ليسوؤوا وليدخلوا،
فهي لام كي كلها، والضمير للعباد أولي البأس الشديد، و (المسجد) مسجد بيت
المقدس، " وتبر " معناه: أفسد بغشم وركوب رأس.
وقوله: (ما علوا)، أي: ما علوا عليه من الأقطار، وملكوه من البلاد، وقيل: " ما "
ظرفية، والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد.
وقوله سبحانه: (عسى ربكم أن يرحمكم...) الآية: يقول الله عز وجل لبقية بني
إسرائيل: عسى ربكم إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أن يرحمكم، وهذه العدة ليست
برجوع دولة، وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد
عليهما السلام، فلم يفعلوا، وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقاب الله عليهم بضرب
الذلة عليهم، وقتلهم وإذلالهم بيد كل أمة، و " الحصير ": من الحصر بمعنى السجن، وبنحو
هذا فسره مجاهد وغيره، وقال الحسن: " الحصير " في الآية: أراد به ما يفترش ويبسط،
كالحصير المعروف عند الناس.
قال * ع *: وذلك الحصير أيضا هو مأخوذ من الحصر.
454

وقوله سبحانه: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم...) الآية: (يهدي)، في
هذه الآية بمعنى يرشد، ويتوجه فيها أن تكون بمعنى " يدعو " و " التي " يريد بها الحالة
والطريقة، وقالت فرقة: " التي هي أقوم ": لا إله إلا الله، والأول أعم، " والأجر الكبير "
الجنة، وكذلك حيث وقع في كتاب الله فضل كبير، وأجر كبير، فهو الجنة، قال الباجي
قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: إن استطعت أن تجعل القرآن إماما، فافعل، فهو الإمام
الذي يهدي إلى الجنة. قال أبو سليمان الداراني: ربما أقمت في الآية الواحدة خمس ليال،
ولولا أني أدع التفكر فيها، ما جزتها، وقال: إنما يؤتى على أحدكم من أنه إذا ابتدأ
السورة، أراد آخرها. قال الباجي. وروى ابن لبابة عن العتبي عن سحنون، أنه رأى
عبد الرحمن بن القاسم في النوم، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: وجدت عنده ما
أحببت! قال له: فأي أعمالك وجدت أفضل؟ قال: تلاوة القرآن، قال: قلت له:
فالمسائل، فكان يشير بأصبعه، كأنه يلشيها، فكنت أسأله عن ابن وهب، فيقول لي: هو
في عليين. انتهى من " سنن الصالحين ".
وقوله سبحانه: (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا): سقطت
الواو من (يدع) في خط المصحف.
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: هذه الآية نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على
أموالهم في وقت الغضب والضحر، فأخبر سبحانه أنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت، كما
يدعون بالخير في وقت التثبت، فلو أجاب الله دعاءهم، أهلكهم، لكنه سبحانه يصفح ولا
يجيب دعاء الضجر المستعجل، ثم عذر سبحانه بعض العذر في أن الإنسان له عجلة
455

فطرية، (والإنسان) هنا: يراد به / الجنس، قاله مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس وسليمان: الإشارة إلى آدم لما نفخ الروح في رأسه، عطس وأبصر،
فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقيه، أعجبته نفسه، فذهب ليمشي مستعجلا لذلك، فلم
بقدر، والمعنى، على هذا فأنتم ذووا عجلة موروثة من أبيكم، وقالت فرقة: معنى الآية:
معاتبة الناس في دعائهم بالشر مكان ما يجب أن يدعوه بالخير.
* ت *: قول هذه الفرقة نقله * ع * غير ملخص، فأنا لخصته.
وقوله سبحانه: (وجعلنا الليل والنهار آيتين...) الآية هنا العلامة المنصوبة للنظر
والعبرة.
وقوله سبحانه: (فمحونا آية الليل) قالت فيه فرقة: سبب تعقيب الفاء أن الله تعالى
خلق الشمس والقمر مضيئين، فمحا بعد ذلك القمر، محاه جبريل بجناحه ثلاث مرات،
فمن هنالك كلفه، وقالت فرقة: إن قوله: (فمحونا آية الليل) إنما يريد في أصل خلقته،
(وجعلنا آية النهار مبصرة)، أي: يبصر بها ومعها، ليبتغي الناس الرزق وفضل الله،
وجعل سبحانه القمر مخالفا لحال الشمس، ليعلم به العدد من السنين والحساب للأشهر
والأيام، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة القمر، لا من جهة الشمس، وحكى
عياض في " المدارك " في ترجمة الغازي بن قيس قال: روي عن الغازي بن قيس، أنه كان
يقول: ما من يوم يأتي إلا ويقول: أنا خلق جديد، وعلى ما يفعل في شهيد، فخذوا مني
قبل أن أبيد، فإذا أمسى ذلك اليوم، خر لله ساجدا، وقال: الحمد لله الذي لم يجعلني
اليوم العقيم. انتهى. " والتفصيل " البيان.
وقوله سبحانه: (وكل إنسان ألزمناه طائره) قال ابن عباس: (طائره) ما قدر له
456

وعليه، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف، وذلك أنه كان من عادتها التيمن
والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة، وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلا،
وسمت ذلك كله تطيرا، وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر،
فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية بأوجز لفظ، وأبلغ إشارة، أن جميع ما يلقى الإنسان من
خير وشر قد سبق به القضاء، وألزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه، وذلك في قوله عز
وجل: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه)، فعبر عن الحظ والعمل، إذ هما متلازمان،
بالطائر، قاله مجاهد وقتادة، بحسب معتقد العرب في التطير، (ونخرج له يوم القيامة
كتابا يلقاه منشورا): هذا الكتاب هو عمل الإنسان وخطيئاته، (اقرأ كتابك) أي: يقال له:
اقرأ كتابك، وأسند الطبري عن الحسن، أنه قال: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك
ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يحفظ سيئاتك
فأملل ما شئت وأقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في
قبرك حتى تخرج لك / يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك
حسيبا) قد عدل والله فيك، من جعلك حسيب نفسك.
قال * ع *: فعلى هذه الألفاظ التي ذكر الحسن يكون الطائر ما يتحصل مع ابن آدم
من عمله في قبره، فتأمل لفظه، وهذا قول ابن عباس، وقال قتادة في قوله: اقرأ كتابك:
إنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرأ.
457

وقوله سبحانه: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها) قرأ الجمهور: " أمرنا "،
على صيغة الماضي، وعن نافع وابن كثير، في بعض ما روي عنهما: " آمرنا " بمد الهمزة،
بمعنى كثرنا، وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه: " أمرنا " بتشديد الميم، وهي قراءة أبي عثمان
النهدي، وأبي العالية وابن عباس، ورويت عن علي، قال الطبري القراءة الأولى معناها:
أمرناهم بالطاعة، فعصوا وفسقوا فيها، وهو قول ابن عباس وابن جبير، والثانية: معناها:
كثرناهم، والثالثة: هي من الإمارة، أي ملكناهم على الناس، قال الثعلبي: واختار أبو عبيد
وأبو حاتم قراءة الجمهور، قال أبو عبيد: وإنما اخترت هذه القراءة، لأن المعاني الثلاثة
مجتمعة فيها، وهي معنى الأمر والإمارة والكثرة انتهى.
* ت *: وعبارة ابن العربي: (أمرنا مترفيها) يعني بالطاعة، ففسقوا
بالمخالفة انتهى من كلامه على الأفعال الواقعة في القرآن، " والمترف ": الغني من المال
المتنعم، والترفة: النعمة، وفي مصحف أبي بن كعب: " قرية بعثنا أكابر مجرميها
فمكروا فيها ".
وقوله سبحانه: (فحق عليها القول)، أي: وعيد الله لها الذي قاله رسولهم،
" والتدمير " الإهلاك مع طمس الآثار وهدم البناء.
(وكم أهلكنا من القرون...) الآية: مثال لقريش ووعيد لهم، أي: لستم ببعيد مما
حصلوا فيه إن كذبتم، واختلف في القرن، وقد روى محمد بن القاسم في ختنه عبد
الله بن بسر، قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه، وقال: " سيعيش هذا الغلام قرنا "
458

قلت: كم القرن؟ قال: مائة سنة قال محمد بن القاسم: فما زلنا نعد له حتى كمل مائة
سنة، ثم مات رحمه الله.
والباء في قوله: (بربك) زائدة، التقدير وكفى ربك، وهذه الباء إنما تجيء في
الأغلب في مدح أو ذم، وقد يجيء " كفى " دون باء، كقول الشاعر: [الطويل]
........... * كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وكقول الآخر: [الطويل]
ويخبرني عن غائب المرء هديه * كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
وقوله سبحانه: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد...) الآية:
المعنى فإن الله يعجل لمن يريد من هؤلاء ما يشاء سبحانه، على قراءة النون، أو ما يشاء
هذا المريد، على قراءة الياء، وقوله: (لمن نريد) شرط كاف على القراءتين، وقال أبو
إسحاق الفزاري: المعنى: لمن نريد هلكته، و " المدحور ": المهان المبعد المذلل
المسخوط عليه.
وقوله سبحانه: (ومن أراد الآخرة)، أي: إرادة يقين وإيمان بها، وبالله ورسالاته،
ثم شرط / سبحانه في مريد الآخرة أن يسعى لها سعيها، وهو ملازمة أعمال الخير على
459

حكم الشرع، (فأولئك كان سعيهم مشكورا) ولا يشكر الله سعيا ولا عملا إلا أثاب عليه،
وغفر بسببه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي سقى الكلب العاطش: " فشكر الله له
فغفر له ".
وقوله سبحانه: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك) يحتمل أن يريد ب‍ " العطاء "
الطاعات لمريد الآخرة، والمعاصي لمريد العاجلة، وروي هذا التأويل عن ابن عباس،
ويحتمل أن يريد بالعطاء رزق الدنيا، وهو تأويل الحسن بن أبي الحسن، وقتادة، المعنى
أنه سبحانه يرزق في الدنيا من يريد العاجلة ومريد الآخرة، وإنما يقع التفاضل والتباين في
الآخرة، ويتناسب هذا المعنى مع قوله: (وما كان عطاء ربك محظورا)، أي: ممنوعا،
وقل ما تصلح هذه العبارة لمن يمد بالمعاصي.
وقوله: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) الآية تدل دلالة ما على أن العطاء
في التي قبلها الرزق، وباقي الآية معناه أوضح من أن يبين.
وقوله سبحانه: (لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا) هذه الآية خطاب
للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد لجميع الخلق، قاله الطبري وغيره، ولا مرية في ذم من نحت عودا أو
حجرا، وأشركه في عبادة ربه.
قال * ص *: (فتقعد)، أي: فتصير، بهذا فسره الفراء وغيره اه‍.
" والخذلان "، في هذا بإسلام الله لعبده، ألا يتكفل له بنصر، والمخذول الذي أسلمه
ناصروه، والخاذل من الظباء التي تترك ولدها.
460

وقوله سبحانه: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه...) الآية: (قضى)، في هذه
الآية: هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم، وهكذا قال الناس، وأقول: إن المعنى وقضى
ربك أمره، فالمقضي هنا هو الأمر، وفي مصحف ابن مسعود: " ووصى ربك "، وهي
قراءة ابن عباس وغيره، والضمير في (تعبدوا) لجميع الخلق، وعلى هذا التأويل مضى
السلف والجمهور، ويحتمل أن يكون (قضى) على مشهورها في الكلام، ويكون الضمير
في (تعبدوا) للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة.
وقوله: (فلا تقل لهما أف) معنى اللفظة أنها اسم فعل، كأن الذي يريد أن يقول:
أضجر أو أتقذر أو أكره، ونحو هذا، يعبر إيجازا بهذه اللفظة، فتعطي معنى الفعل
المذكور، وإذا كان النهي عن التأفيف فما فوقه من باب أحرى، وهذا هو مفهوم الخطاب
الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور.
قال * ص *: وقرأ الجمهور (الذل) بضم الذال، وهو ضد العز، وقرأ ابن
عباس وغيره بكسرها، وهو الانقياد ضد الصعوبة انتهى، وباقي الآية بين.
قال ابن الحاجب في " منتهى الوصول "، وهو المختصر الكبير: المفهوم ما دل عليه
اللفظ في غير محل النطق، وهو: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، فالأول: أن يكون حكم
المفهوم موافقا للمنطوق في الحكم، ويسمى فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، كتحريم
الضرب من قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) وكالجزاء / بما فوق المثقال من قوله تعالى:
461

(ومن يعمل مثقال ذرة) [الزلزلة: 7]، وكتأدية ما دون القنطار من قوله تعالى: (ومن أهل
الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) [آل عمران: 75] وعدم تأدية ما فوق الدينار من
قوله تعالى: (بدينار لا يؤده إليك) [آل عمران: 75] وهو من قبيل التنبيه بالأدنى على
الأعلى، والأعلى على الأدنى، فلذلك كان الحكم في المسكوت أولى، وإنما يكون ذلك
إذا عرف المقصود من الحكم، وأنه أشد مناسبة في المسكوت، كهذه الأمثلة، ومفهوم
المخالفة: أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق به في الحكم ويسمى دليل الخطاب
وهو أقسام: مفهوم الصفة، مثل: " في الغنم السائمة الزكاة "،..........
462

ومفهوم الشرط، مثل: (وإن كن أولات حمل) [الطلاق: 6]..............
463

[...
464

ومفهوم الغاية، مثل: (حتى تنكح زوجا غيره) [البقرة: 230].............
465

ومفهوم إنما مثل: " إنما الربا في النسيئة " ومفهوما الاستثناء مثل: (لا إله إلا الله)
ومفهوم العدد الخاص، مثل: (فاجلدوهم ثمانين جلدة) [النور: 4]، ومفهوم حصر
466

المبتدأ مثل: العالم زيد، وشرط مفهوم المخالفة عند قائله ألا يظهر أن المسكوت عنه
أولى ولا مساويا، كمفهوم الموافقة، ولا خرج مخرج الأعم الأغلب، مثل: (وربائبكم
اللاتي في حجوركم) [النساء: 23] فأما مفهوم الصفة، فقال به الشافعي، ونفاه الغزالي
وغيره. انتهى.
وفسر الجمهور الأوابين بالرجاعين إلى الخير، وهي لفظة لزم عرفها أهل الصلاح.
* ت *: قال عبد الحق الأشبيلي: واعلم أن الميت كالحي فيما يعطاه ويهدى إليه،
بل الميت أكثر وأكثر، لأن الحي قد يستقل ما يهدى إليه، ويستحقر ما يتحف به، والميت
لا يستحقر شيئا من ذلك، ولو كان مقدار جناح بعوضة، أو وزن مثال ذرة، لأنه يعلم
قيمته، وقد كان يقدر عليه، فضيعه، وقد قال عليه السلام: " إذا مات الإنسان انقطع عمله
إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " فهذا دعاء
467

الولد يصل إلى والده، وينتفع به، وكذلك أمره عليه السلام بالسلام على أهل القبور
والدعاء لهم ما ذاك إلا لكون ذلك الدعاء لهم والسلام عليهم، يصل إليهم ويأتيهم، والله
468

أعلم، وروي عنه عليه السلام، أنه قال: " لكون الميت في قبره كالغريق ينتظر دعوة تلحقه
من ابنه أو أخيه أو صديقه، فإذا لحقته، كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها " والأخبار في
هذا الباب كثيرة انتهى من " العاقبة ".
* ت *: وروى مالك في " الموطإ " عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه
قال: كان يقال: إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده وأشار بيده نحو السماء. قال أبو
عمرو: وقد رويناه بإسناد جيد، ثم أسند عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله
ليرفع العبد الدرجة، فيقول: أي رب، أني لي هذه الدرجة؟ فيقال: باستغفار ولدك لك "
انتهى من " التمهيد "، وروينا في " سنن أبي داود "، " أن رجلا من بني سلمة قال: يا رسول
الله، هل بقي من بر أبوي شئ، أبرهما / به بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما،
والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام
صديقهما " انتهى.
وقوله سبحانه: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل...) الآية: قال
الجمهور: الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم، خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة،
" والحق "، في هذه الآية، ما يتعين له، من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند
الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه، قال بنحو هذا الحسن وابن عباس وعكرمة وغيرهم،
" والتبذير " إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح.
وقوله تعالى: (وإما تعرضن عنهم)، أي: عمن تقدم ذكره من المساكين وابن
السبيل، (فقل لهم قولا ميسورا)، أي: فيه ترجية بفضل الله، وتأنيس بالميعاد الحسن،
ودعاء في توسعة الله وعطائه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد نزول هذه الآية، " إذا لم يكن
عنده ما يعطي: يرزقنا الله وإياكم من فضله " وال‍ (رحمة) على هذا التأويل: الرزق
469

المنتظر، وهذا قول ابن عباس وغيره، والميسور: من اليسر.
وقوله سبحانه: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) استعارة لليد المقبوضة عن
الانفاق جملة، واستعير لليد التي تستنفذ جميع ما عندها غاية البسط ضد الغل، وكل هذا
في إنفاق الخير، وأما إنفاق الفساد، فقليله وكثيره حرام، أو الملامة هنا لاحقة ممن يطلب
من المستحقين، فلا يجد ما يعطى، " والمحسور " الذي قد استنفدت قوته، تقول: حسرت
البعير، إذا أتعبته حتى لم تبق له قوة، ومنه البصر الحسير.
قال ابن العربي وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، وكثيرا ما جاء هذا
المعنى في القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم، عبر به عنهم، على
عادة العرب في ذلك. انتهى من " الأحكام "، " والحسير ": هو الكال.
(إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) معنى (يقدر): يضيق.
وقوله سبحانه: (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا)، أي: يعلم مصلحة قوم في الفقر،
ومصلحة آخرين في الغنى.
وقال بعض المفسرين: الآية إشارة إلى حال العرب التي كانت يصلحها الفقر، وكانت
إذا شبعت، طغت.
* ت *: وهذا التأويل يعضده قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في
الأرض...) الآية [الشورى: 27] ولا خصوصية لذكر العرب إلا من حيث ضرب المثل.
وقوله سبحانه: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق...) الآية: نهي عن الوأد الذي
470

كانت العرب تفعله، " والإملاق ". الفقر وعدم المال، وروى أبو داود عن ابن عباس، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له ابنة فلم يئدها، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها - قال:
يعني الذكور - أدخله الله الجنة " انتهى. والحق الذي تقتل به النفس: قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم
في قوله: " لا يحل دم المسلم إلا إحدى ثلاث خصال: كفر بعد / إيمان، أو زنا بعد
إحصان، أو قتل نفس " أي: وما في هذا المعنى من حرابة أو زندقة ونحو ذلك.
(ومن قتل مظلوما) أي: بغير الوجوه المذكورة، (فقد جعلنا لوليه سلطانا)، ولا
مدخل للنساء في ولاية الدم، عند جماعة من العلماء، ولهن ذلك عند آخرين،
" والسلطان ": الحجة والملك الذي جعل إليه من التخيير في قبول الدية أو العفو، قاله ابن
عباس. قال البخاري: قال ابن عباس: كل سلطان في القرآن فهو حجة. انتهى، وقال
قتادة: " السلطان ": القود.
471

وقوله سبحانه: (فلا يسرف في القتل) المعنى: فلا يتعد الولي أمر الله بأن يقتل غير
قاتل وليه، أو يقتل اثنين بواحد إلى غير ذلك من وجوه التعدي، وقرأ حمزة والكسائي،
وابن عامر: " فلا تسرف " - بالتاء من فوق -، قال الطبري: على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
والأئمة بعده.
قال * ع *: ويصح أن يراد به الولي، أي: فلا تسرف أيها الولي، والضمير في
" إنه " عائد على " الولي "، وقيل: على المقتول، وفي قراءة أبي بن كعب: " فلا تسرفوا
في القتال إن ولي المقتول كان منصورا "، وباقي الآية تقدم بيانه، قال الحسن:
(القسطاس) هو القبان، وهو القرسطون، وقيل: (القسطاس): هو الميزان، صغيرا
كان أو كبيرا.
قال * ع *: وسمعت أبي رحمه الله تعالى يقول: رأيت الواعظ أبا الفضل
الجوهري رحمه الله في جامع عمرو بن العاص يعظ الناس في الوزن، فقال في جملة
كلامه: إن في هيئة اليد بالميزان عظة، وذلك أن الأصابع يجيء منها صورة المكتوبة ألف
ولامان وهاء، فكأن الميزان يقول: الله، الله.
قال * ع *: وهذا وعظ جميل، " والتأويل "، في هذه الآية المآل، قاله قتادة،
472

ويحتمل أن يكون التأويل مصدر تأول، أي: يتأول عليكم الخير في جميع أموركم، إذا
أحسنتم الكيل والوزن.
وقال * ص *: (تأويلا) أي: عاقبة انتهى.
وقوله سبحانه: (ولا تقف) معناه لا تقل ولا تتبع، واللفظة تستعمل في القذف،
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " نحن بنو النضر لا نقفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا "، وأصل هذه
اللفظة من اتباع الأثر، تقول: قفوت الأثر، وحكى الطبري عن فرقة، أنها قالت: قفا
وقاف، مثل عثا وعاث، فمعنى الآية: ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به،
وبالجملة: فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة
والمردية.
(إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) عبر عن هذه الحواس
ب‍ (أولئك). لأن لها إدراكا وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل.
* ت *: قال * ص *: وما توهمه ابن عطية (أولئك) تختص بمن يعقل ليس
كذلك، إذ لا خلاف بين النحاة في جواز إطلاق " أولاء " و " أولئك " على من لا يعقل.
* ت *: وقد نقل * ع * الجواز عن الزجاج وفي ألفية ابن مالك: [الرجز]
وبأولى أشر لجمع مطلقا...........
473

فقال ولده بدر الدين: أي سواء كان مذكرا أو مؤنثا، وأكثر ما يستعمل فيمن يعقل،
وقد يجيء / لغيره، كقوله: [الكامل]
ذم المنازل بعد منزلة اللوى * والعيش بعد أولئك الأيام
وقد حكى * ع *: البيت، وقال: الرواية فيه " الأقوام "، والله أعلم انتهى.
والضمير في (عنه) يعود على ما ليس للإنسان به علم، ويكون المعنى: إن الله
تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من
جوارحه، وتلك غاية الخزي، ويحتمل أن يعود على (كل) التي هي السمع والبصر
والفؤاد، والمعنى: إن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده.
قال صاحب " الكلم الفارقية ": لا تدع جدول سمعك يجري في أجاج الباطل، فيلهب
باطنك بناء الحرص على العاجل، السمع قمع تغور فيه المعاني المسموعة إلى قرار وعاء
القلب، فإن كانت شريفة لطيفة، شرفته ولطفته وهذبته وزكته، وإن كانت رذيلة دنية، رذلته
وخبثته، وكذلك البصر منفذ من منافذ القلب، فالحواس الخمس كالجداول والرواضع
474

ترضع من أثداء الأشياء التي تلابسها، وتأخذ ما فيها من معانيها وأوصافها، وتؤديها إلى
القلب وتنهيها. انتهى.
وقوله سبحانه: (ولا تمش في الأرض مرحا) قرأ الجمهور (مرحا) بفتح الحاء
مصدر: مرح يمرح، إذا تسيب مسرورا بدنياه، مقبلا على راحته، فنهي الإنسان أن يكون
مشيه في الأرض على هذا الوجه، وقرأت فرقة: " مرحا " بكسر الراء، ثم قيل له: إنك
أيها المرح المختال الفخور، لن تخرق الأرض، ولن تطاول الجبال بفخرك وكبرك،
" وخرق الأرض " قطعها ومسحها واستيفاؤها بالمشي.
وقوله سبحانه: (كل ذلك كان سيئة) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: " سيئة "
فالإشارة بذلك على هذه القراءة إلى ما تقدم ذكره مما نهي عنه كقوله: (أف) [الإسراء:
23] وقذف الناس، والمرح، وغير ذلك، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي " سيئه "
على إضافة " سييء " إلى الضمير، فتكون الإشارة، على هذه القراءة إلى جميع ما ذكر في
هذه الآيات، من بر ومعصية، ثم اختص ذكر السيىء منه، بأنه مكروه عند الله تعالى.
وقوله سبحانه: (ذلك مما أوحى إليك ربك...) الآية: الإشارة ب‍ (ذلك) إلى
هذه الآداب التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة، و (الحكمة): قوانين المعاني المحكمة،
والأفعال الفاضلة.
* ت *: فينبغي للعاقل أن يتأدب بآداب الشريعة، وأن يحسن العشرة مع عباد الله،
قال الإمام فخر الدين ابن الخطيب في " شرح أسماء الله الحسنى " كان بعض المشايخ
يقول: مجامع الخيرات محصورة في أمرين صدق مع الحق، وخلق مع الخلق انتهى، وذكر
هشام بن عبد الله القرطبي في تاريخه المسمى ب‍ " بهجة النفس "، قال: دخل عبد
475

الملك بن مروان على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فلم يلبث أن نهض، فقال
معاوية / لعمرو: ما أكمل مروءة هذا الفتى! فقال له عمرو: إنه أخذ بأخلاق أربعة، وترك
أخلاقا ثلاثة، أخذ بأحسن البشر إذا لقي، وبأحسن الاستماع إذا حدث، وبأحسن الحديث
إذا حدث، وبأحسن الرد إذا خولف، وترك مزاح من لا يوثق بعقله، وترك مخالطة لئام
الناس، وترك من الحديث ما يعتذر منه. انتهى.
وقوله سبحانه: (ولا تجعل مع الله إلها آخر...) الآية: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
والمراد غيره، " والمدحور " المهان المبعد.
وقوله سبحانه: (أفأصفاكم...) الآية خطاب للعرب، وتشنيع عليهم فساد قولهم.
وقوله سبحانه: (ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا)، أي صرفنا فيه الحكم
والمواعظ.
وقوله سبحانه: (إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) قال سعيد بن جبير وغيره: معنى
الكلام: لابتغوا إليه سبيلا في إفساد ملكه ومضاهاته في قدرته، وعلى هذا: فالآية بيان
للتمانع، وجارية مع قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) [الأنبياء: 22].
قال * ع *: ونقتضب شيئا من الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مع الله تبارك
وتعالى إله غيره، على ما قال أبو المعالي وغيره: أنا لو فرضناه، لفرضنا أن يريد أحدهما
تسكين جسم والآخر تحريكه، ومستحيل أن تنفذ الإرادتان ومستحيل ألا تنفذا جميعا،
فيكون الجسم لا متحركا، ولا ساكنا، فإن صحت إرادة أحدهما دون الآخر، فالذي لم تتم
إرادته ليس بإله، فإن قيل: نفرضهما لا يختلفان، قلنا: اختلافهما جائز غير ممتنع عقلا،
والجائز في حكم الواقع، ودليل آخر: أنه لو كان الاثنان، لم يمتنع أن يكونوا ثلاثة،
وكذلك ويتسلسل إلى ما لا نهاية له، ودليل آخر: أن الجزء الذي لا يتجزأ من المخترعات لا
تتعلق به إلا قدرة واحدة لا يصح فيها اشتراك، والآخر كذلك دأبا، فكل جزء إنما يخترعه
476

واحد، وهذه نبذة شرحها بحسب التقصي يطول.
وقوله سبحانه: (وإن من شئ إلا يسبح بحمده...) الآية: اختلف في هذا
" التسبيح "، هل هو حقيقة أو مجاز، * ت *: والصواب أنه حقيقة، ولولا خشية الإطالة،
لأتينا من الدلائل على ذلك بما يثلج له الصدر.
وقوله سبحانه: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة) يعني
كفار مكة و (حجابا مستورا) يحتمل أن يريد به حماية نبيه منهم وقت قراءته وصلاته
بالمسجد الحرام، كما هو معلوم مشهور ويحتمل أنه أراد أنه جعل بين فهم الكفرة وبين فهم
ما يقرؤه صلى الله عليه وسلم حجابا، فالآية على هذا التأويل: في معنى التي بعدها.
وقال الواحدي: قوله تعالى: (وإذا قرأت القرآن...) الآية: نزلت في قوم كانوا
يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قرأ القرآن فحجبه الله عن أعينهم عند قراءة القرآن، حتى يكونوا
يمرون به ولا يرونه.
وقوله: (مستورا) معناه: ساترا انتهى.
" والأكنة " جمع كنان، وهو ما غطى الشئ، " والوقر ": الثقل في الأذن، المانع / من
السمع، وهذه كلها استعارات للإضلال الذي حفهم الله به.
وقوله سبحانه: (نحن أعلم بما يستمعون به...) الآية: هذا كما تقول: فلان
يستمع بإعراض وتغافل واستخفاف، " وما " بمعنى " الذي "، قيل: المراد بقوله: (وإذ هم
نجوى) اجتماعهم في دار الندوة، ثم انتشرت عنهم.
وقوله سبحانه: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال...) الآية: حكى الطبري أنها
477

نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه.
وقوله سبحانه: (فلا يستطيعون سبيلا)، أي: إلى إفساد أمرك وإطفاء نورك،
وقولهم: (أئذا كنا عظاما ورفاتا) الآية: في إنكارهم البعث، وهذا منهم تعجب وإنكار
واستبعاد و " الرفات " من الأشياء: ما مر عليه الزمان حتى بلغ غاية البلى، وقربه من حالة
التراب.
وقال ابن عباس: (رفاتا) غبارا وقال مجاهد: ترابا، وقوله سبحانه: (قل
كونوا حجارة أو حديدا...) الآية: المعنى: قل لهم، يا محمد، كونوا إن استطعتم هذه
الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي لا بد من بعثكم، ثم احتج عليهم سبحانه في الإعادة بالفطرة
الأولى من حيث خلقهم واختراعهم من تراب.
وقوله سبحانه: (فسينغضبون) معناه: يرفعون ويخفضون، يريد على جهة التكذيب
والاستهزاء. قال الزجاج: وهو تحريك من يبطل الشئ ويستبطئه ومنه قول الشاعر:
[الرجز]
أنغض نحوي رأسه وأقنعا * كأنما أبصر شيئا أطمعا
ويقال: أنغضت السن، إذا تحركت، قال الطبري وابن سلام: (عسى) من الله
واجبة، فالمعنى: هو قريب، وفي ضمن اللفظ توعد.
وقوله سبحانه: (يوم يدعوكم): بدل من قوله: (قريبا) ويظهر أن يكون المعنى " هو
يوم " جوابا لقولهم: " متى هو "، ويريد يدعوكم من قبوركم بالنفخ في الصور لقيام الساعة.
وقوله: (فتستجيبون)، أي: بالقيام، والعودة والنهوض نحو الدعوة.
478

وقوله: (بحمده) قال ابن جبير: إن جميع العالمين يقومون، وهم يحمدون الله
ويمجدونه، لما يظهر لهم من قدرته * ص *: أبو البقاء (بحمده) أي: حامدين،
وقيل: (بحمده) من قول الرسول، أي: وذلك بحمد الله على صدق خبري، ووقع في
لفظ * ع * حين قرر هذا المعنى: " عسى أن الساعة قريبة " وهو تركيب لا يجوز، لا
تقول: عسى أن زيدا قائم انتهى.
وقوله سبحانه: (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) يحتمل معنيين.
أحدهما: أنهم لما رجعوا إلى حالة الحياة، وتصرف الأجساد، وقع لهم ظن أنهم لم
ينفصلوا عن حال الدنيا إلا قليلا لمغيب علم مقدار الزمان عنهم، إذ من في الآخرة لا يقدر
زمن الدنيا، إذ هم لا محالة أشد مفارقة لها من النائمين، وعلى هذا التأويل عول
الطبري.
والآخر: أن يكون الظن بمعنى اليقين، فكأنه قال: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده،
وتتيقنون أنكم إنما لبثتم قليلا من حيث هو منقض منحصر.
وحكى الطبري عن قتادة أنهم لما رأوا هول يوم القيامة، احتقروا / الدنيا، فظنوا أنهم
لبثوا فيها قليلا.
وقوله سبحانه: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) اختلف الناس في (التي هي
أحسن): فقالت فرقة: هي لا إله إلا الله، وعلى هذا، ف‍ " العباد ": جميع الخلق، وقال
الجمهور (التي هي أحسن): هي المحاورة الحسنة، بحسب معنى معنى، قال الحسن
يقول: يغفر الله لك، يرحمك الله وقوله: (لعبادي) خاص بالمؤمنين، قالت فرقة: أمر
479

الله المؤمنين فيما بينهم بحسن الأدب، وخفض الجناح، وإلانة القول، واطراح نزعات
الشيطان، ومعنى النزغ: حركات الشيطان بسرعة، ليوجب فسادا، وعداوة الشيطان البينة:
هي من قصة آدم عليه السلام، فما بعد، وقالت فرقة: إنما أمر الله في هذه الآية المؤمنين
بإلانة القول للمشركين بمكة أيام المهادنة، ثم نسخت بآية السيف.
وقوله سبحانه: (ربكم أعلم بكم): يقوي هذا التأويل، إذ هو مخاطبة لكفار مكة،
بدليل قوله: (وما أرسلناك عليهم وكيلا) فكأن الله عز وجل أمر المؤمنين ألا يخاشنوا
الكفار في الدين، ثم قال للكفار إنه أعلم بهم ورجاهم وخوفهم، ومعنى (يرحمكم)
بالتوبة عليكم من الكفر، قاله ابن جريج وغيره.
وقوله سبحانه: (وآتينا داود زبورا) قرأ الجمهور: " زبورا " بفتح الزاي، وهو
فعول بمعنى مفعول، وهو قليل، لم يجئ إلا في قدوع وركوب وحلوب، وقرأ حمزة:
بضم الزاي قال قتادة: زبور داود مواعظ ودعاء، وليس فيه حلال وحرام.
وقوله سبحانه: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا
تحويلا) هذه الآية ليست في عبدة الأصنام، وإنما هي في عبدة من يعقل، كعيسى وأمه
وعزير وغيرهم. قاله ابن عباس، فلا يملكون كشف الضر ولا تحويله، ثم أخبر تعالى،
480

أن هؤلاء المعبودين يطلبون التقرب إلى الله والتزلف إليه، وأن هذه حقيقة حالهم.
وقوله سبحانه: (ويرجون رحمته...) الآية: قال عز الدين بن عبد السلام، في
اختصاره ل‍ " رعاية المحاسبي ": الخوف والرجاء: وسيلتان إلى فعل الواجبات والمندوبات،
وترك المحرمات والمكروهات، ولكن لا بد من الإكباب على استحضار ذلك واستدامته في
أكثر الأوقات، حتى يصير الثواب والعقاب نصب عينيه، فيحثاه على فعل الطاعات، وترك
المخالفات، ولن يحصل له ذلك إلا بتفريغ القلب من كل شئ سوى ما يفكر فيه، أو يعينه
على الفكر، وقد مثل القلب المريض بالشهوات بالثوب المتسخ الذي لا تزول أدرانه إلا
بتكرير غسله وحته وقرضه، انتهى. وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها...) الآية: أخبر سبحانه في هذه
الآية أنه ليس مدينة من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة بالموت والفناء، هذا مع
السلامة وأخذها جزءا جزءا، أو هي معذبة مأخوذة مرة واحدة.
/ وقله: (في الكتاب): يريد في سابق القضاء، وما خطه القلم في اللوح
المحفوظ، " والمسطور ": المكتوب أسطارا.
وقوله سبحانه: (وما منعنا أن نرسل بالآيات...) الآية: هذه العبارة في (منعنا)
هي على ظاهر ما تفهم العرب، فسمى سبحانه سبق قضائه بتكذيب من كذب وتعذيبه -
منعا، وسبب هذه الآية أن قريشا اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، ونحو
هذا من الاقتراحات، فأوحى الله إلى نبيه عليه السلام: إن شئت أفعل لهم ذلك، ثم إن لم
يؤمنوا، عاجلتهم بالعقوبة، وإن شئت، استأنيت بهم، عسى أن أجتبي منهم مؤمنين، فقال
عليه السلام: بل استأن بهم يا رب، فأخبر سبحانه في هذه الآية، أنه لم يمنعه جل وعلا
من إرسال الآيات المقترحة إلا الاستئناء، إذ قد سلفت عادته سبحانه بمعالجة الأمم الذين
481

جاءتهم الآيات المقترحة، فلم يؤمنوا كثمود وغيرهم. قال الزجاج: أخبر تعالى أن موعد
كفار هذه الأمة الساعة، بقوله سبحانه: (بل الساعة موعدهم) [القمر: 46] فهذه الآية
تنظر إلى ذلك، و (مبصرة) أي: ذات إبصار وهي عبارة عن بيان أمر الناقة، ووضوح
إعجازها، وقوله: (فظلموا بها)، أي: بعقرها، وبالكفر في أمرها، ثم أخبر تعالى أنه إنما
يرسل بالآيات غير المقترحة، تخويفا للعباد، وهي آيات معها إمهال، فمن ذلك الكسوف
والرعد والزلزلة وقوس قزح، وغير ذلك، وآيات الله المعتبر بها ثلاث أقسام: فقسم عام في
كل شئ، إذ حيث ما وضعت نظرك، وجدت آية، وهنا فكرة للعلماء، وقسم معتاد غالبا،
كالكسوف ونحوه، وهنا فكرة الجهلة، وقسم خارق للعادة، وقد انقضى بانقضاء النبوة،
وإنما يعتبر به، توهما لما سلف منه.
وقوله سبحانه: (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) هذه الآية إخبار للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه
محفوظ من الكفرة آمن، أي: فلتبلغ رسالة ربك، ولا تتهيب أحدا من المخلوقين، قاله
الطبري، ونحوه للحسن والسدي.
وقوله سبحانه: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك...) الآية: الجمهور أن هذه الرؤيا
رؤيا عين ويقظة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان صبيحة الإسراء، وأخبر بما رأى في تلك
الليلة من العجائب، قال الكفار: إن هذا لعجب، واستبعدوا ذلك، فافتتن بهذا قوم من
ضعفة المسلمين، فارتدوا، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فعلى هذا يحسن
482

أن يكون معنى قوله: (أحاط بالناس) في إضلالهم وهدايتهم، أي: فلا تهتم /، يا محمد،
بكفر من كفر، وقال ابن عباس: الرؤيا في هذه الآية هي رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة،
فعجل في سنة الحديبية، فصد فافتنن المسلمون لذلك، يعني بعضهم، وليس بفتنة كفر.
وقوله: (والشجرة الملعونة في القرآن) معطوفة على قوله: (الرؤيا)، أي جعلنا
الرؤيا والشجرة فتنة (والشجرة الملعونة)، في قول الجمهور: هي شجرة الزقوم، وذلك
أن أمرها لما نزل في سورة " والصافات " قال أبو جهل وغيره: هذا محمد يتوعدكم بنار
تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر، والنار تأكل الشجر، وما نعرف الزقوم إلا التمر
بالزبد، ثم أحضر تمرا وزبدا، وقال لأصحابه، تزقموا، فافتتن أيضا بهذه المقالة بعض
الضعفاء، قال الطبري عن ابن عباس: أن الشجرة الملعونة يريد الملعون أكلها، لأنها
لم يجر لها ذكر.
قال * ع *: ويصح أن يريد الملعونة هنا، فأكد الأمر بقوله: (في القرآن)،
وقالت فرقة: (الملعونة)، أي: المبعدة المكروهة، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله،
ولا شك أن ما ينبت في أصل الجحيم هو في نهاية البعد من رحمة الله سبحانه.
وقوله سبحانه: (ونخوفهم) يريد كفار مكة.
وقوله: (أرأيتك هذا الذي كرمت علي) الكاف في " أرأيتك " هي كاف خطاب
ومبالغة في التنبيه، لا موضع لها من الإعراب، فهي زائدة، ومعنى " أرأيت ": أتأملت
ونحوه، كأن المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه بعد.
وقوله: (لأحتنكن) معناه لأميلن ولأجرن، وهو مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن
يشد على حنكها بحبل أو غيره، فتقاد، والسنة تحتنك المال، أي: تجتره، وقال الطبري
" لأحتنكن " معناه لأستأصلن، وعن ابن عباس: لأستولين، وقال ابن زيد: لأضلن.
483

قال * ع *: وهذا بدل اللفظ، لا تفسير.
وقوله: (اذهب فمن تبعك منهم)، وما بعده من الأوامر: هي صيغة " افعل " بمعنى
التهديد، كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) [فصلت: 40] " الموفور "، المكمل،
(واستفزز) معناه: استخف واخدع، وقوله: (بصوتك): قيل: هو الغناء والمزامير
والملاهي، لأنها أصوات كلها مختصة بالمعاصي، فهي مضافة إلى الشيطان، قاله
مجاهد، وقيل: بدعائك إياهم إلى طاعتك. قال ابن عباس: صوته دعاء كل من دعاء إلى
معصية الله، والصواب أن يكون الصوت يعم جميع ذلك.
وقوله: (وأجلب)، أي: هول، و " الجلبة " الصوت الكثير المختلط الهائل.
وقوله: (بخيلك ورجلك) قيل: هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك، وأبلغ جهدك،
وقيل: حقيقة وإن له خيلا ورجلا من الجن، قاله قتادة، وقيل: المراد فرسان الناس،
ورجالتهم المتصرفون في الباطل، فإنهم كلهم أعوان لإبليس على غيرهم، قاله مجاهد.
(وشاركهم / في الأموال والأولاد) عام لكل معصية يصنعها الناس بالمال، ولكل ما
يصنع في أمر الذرية من المعاصي، كالإيلاد بالزنا وكتسميتهم عبد شمس، وأبا الكويفر،
وعبد الحارث، وكل اسم مكروه، ومن ذلك: وأد البنات، ومن ذلك: صبغهم في أديان
الكفر، وغير هذا، وما أدخله النقاش من وطء الجن، وأنه يحبل المرأة من الإنس،
فضعيف كله.
* ت *: أما ما ذكره من الحبل، فلا شك في ضعفه، وفساد قول ناقله، ولم أر في
ذلك حديثا لا صحيحا ولا سقيما، ولو أمكن أن يكون الحبل من الجن، كما زعم ناقله،
484

لكان ذلك شبهة يدرأ بها الحد عمن ظهر بها حبل من النساء اللواتي لا أزواج لهن،
لأحتمال أن يكون حبلها من الجن، كما زعم هذا القائل، وهو باطل، وأما ما ذكره من
الوطء، فقد قيل ذلك، وظواهر الأحاديث تدل عليه، وقد خرج البخاري ومسلم وأبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة، عن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أن أحدكم إذا
أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن
يقدر بينهما ولد في ذلك، لم يضره الشيطان أبدا " فظاهر قوله عليه السلام: " اللهم، جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا " - يقتضي أن لهذا اللعين مشاركة ما في هذا الشأن،
وقد سمعت من شيخنا أبي الحسن علي بن عثمان الزواوي المانجلاتي سيد علماء بجاية في
وقته، قال: حدثني بعض الناس ممن يوثق به يخبر عن زوجته، أنها تجد هذا الأمر، قال
المخبر: وأصغيت إلى ما أخبرت به الزوجة، فسمعت حس ذلك الشئ، والله أعلم.
وقوله سبحانه: (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر): إزجاء الفلك: سوقه
بالريح اللينة والمجاذيف، و (لتبتغوا من فضله) لفظ يعم التجر وغيره، وهذه الآية المباركة
485

توقيف على آلاء الله وفضله ورحمته بعباده، و (الضر)، هنا لفظ يعم الغرق وغيره،
وأهوال حالات البحر واضطرابه وتموجه، و (ضل) معناه تلف وفقد.
وقوله: (أعرضتم)، أي: فلم تفكروا في جميل صنع الله بكم.
وقوله: (كفورا) أي: بالنعم و (الإنسان)، هنا: الجنس، " والحاصب ": العارض
الرامي بالبرد والحجارة، ومنه الحاصب الذي أصاب قوم لوط، " والحصب " الرمي
بالحصباء، " والقاصف ": الذي يكسر كل ما يلقى ويقصفه، و " تارة " معناه: مرة أخرى،
" والتبيع " الذي يطلب ثارا أو دينا، ومن هذه اللفظة قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتبع أحدكم على ملي
فليتبع " فالمعنى: لا تجدون من يتتبع فعلنا بكم، ويطلب نصرتكم وهذه الآيات أنوارها
واضحة للمهتدين.
وقوله جلت عظمته (ولقد كرمنا بني آدم...) الآية: عدد الله سبحانه على بني آدم
ما خصهم به من المزايا من بين سائر الحيوان، ومن أفضل ما أكرم به الآدمي / العقل الذي
به يعرف الله تعالى، ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه.
وقوله سبحانه: (على كثير ممن خلقنا) المراد ب‍ " الكثير المفضول " الحيوان والجن،
وأما الملائكة، فهم الخارجون عن الكثير المفضول، وليس في الآية ما يقتضي أن الملائكة
أفضل من الإنس، كما زعمت فرقة، بل الأمر محتمل أن يكونوا أفضل من الإنس،
ويحتمل التساوي.
وقوله سبحانه: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) يحتمل أن يريد باسم إمامهم،
فيقول: يا أمة محمد، ويا أتباع فرعون، ونحو هذا، ويحتمل أن يريد: مع إمامهم،
كل أمة معها إمامها من هاد ومضل، واختلف في " الإمام "، فقال ابن عباس والحسن:
كتابهم الذي فيه أعمالهم، وقال قتادة ومجاهد: نبيهم، وقال ابن زيد: كتابهم الذي
486

نزل عليم، وقالت فرقة: متبعهم من هاد أو مضل، ولفظة " الإمام " تعم هذا كله.
وقوله سبحانه: (فمن أوتي كتابه بيمينه): حقيقة في أن في القيامة صحائف تتطاير،
وتوضع في الأيمان لأهل الأيمان، وفي الشمائل لأهل الكفر والخذلان، وتوضع في أيمان
المذنبين الذين ينفذ عليهم الوعيد، فيستفيدون منها أنهم غير مخلدين في النار.
وقوله سبحانه: (يقرءون كتابهم): عبارة عن السرور بها، أي: يرددونها ويتأملونها.
وقوله سبحانه: (ولا يظلمون فتيلا) أي: ولا أقل، وقوله سبحانه: (ومن كان في
هذه أعمى): قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الإشارة ب‍ (هذه) إلى الدنيا، أي:
من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره، والإيمان بأنبيائه، فهو في
الآخرة أعمى، على معنى أنه حيران لا يتوجه لصواب ولا يلوح له نجح. قال مجاهد: فهو
في الآخرة أعمى عن حجته، ويحتمل أن يكون صفة تفضيل، أي: أشد عمى وحيرة،
لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخايل العذاب، ويقوي هذا التأويل قوله، عطفا عليه: (وأضل
سبيلا) الذي هو " أفعل من كذا " والعمى في هذه الآية هو عمى القلب، وقول سيبويه: لا
يقال أعمى من كذا، إنما هو في عمى العين الذي لا تفاضل فيه، وأما في عمى القلب،
فيقال ذلك، لأنه يقع فيه التفاضل * ت *: وكذا قال * ص * وقوله سبحانه: (وإن كادوا
ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره...) الآية: الضمير في قوله: (كادوا)
هو لقريش، وقيل: لثقيف، فأما لقريش، فقال ابن جبير ومجاهد: نزلت الآية، لأنهم قالوا
للنبي صلى الله عليه وسلم لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تمس أيضا أوثاننا على معنى التشرع،
وقال ابن إسحاق وغيره: إنهم اجتمعوا إليه ليلة، فعظموه، وقالوا له: أنت سيدنا، ولكن
أقبل على بعض أمرنا، ونقبل على بعض أمرك، فنزلت الآية في ذلك.
487

قال * ع *: فهي في معنى قوله: (ودوا لو تدهن فيدهنون) [القلم: 9]، وأما
لثقيف، فقال ابن عباس وغيره: لأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم بعد إسلامهم
سنة يعبدون فيها اللات، وقالوا: إنما نريد أن نأخذ ما يهدى لها ولكن إن خفت أن
تنكر / ذلك عليك العرب، فقل: أوحى الله ذلك إلي، فنزلت الآية في ذلك. * ت
*: والله أعلم بصحة هذه التأويلات، وقد تقدم ما يجب اعتقاده في حق النبي صلى الله عليه وسلم،
فالتزمه تفلح.
وقوله (وإذا لاتخذوك خليلا): توقيف على ما نجاه الله منه من مخالة الكفار،
والولاية لهم.
وقوله سبحانه: (ولولا أن ثبتناك...) الآية تعديد نعمه على النبي صلى الله عليه وسلم، وروي أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية، قال: " اللهم، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " وقرأ
الجمهور (تركن) بفتح الكاف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يركن، لكنه كاد بحسب همه بموافقتهم،
طمعا منه في استئلافهم، وذهب ابن الأنباري إلى أن معنى الآية: لقد كادوا أن يخبروا عنك
أنك ركنت ونحو هذا، ذهب في ذلك إلى نفي الهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحمل اللفظ ما لا
يحتمل، وقوله: (شيئا قليلا) يبطل ذلك.
* ت *: وجزى الله ابن الأنباري خيرا، وإن تنزيه سائر الأنبياء لواجب، فكيف
بسيد ولد آدم صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
قال أبو الفضل عياض في " الشفا ": قوله تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن
إليهم شيئا قليلا): قال بعض المتكلمين: عاتب الله تعالى نبينا عليه السلام قبل وقوع ما
يوجب العتاب، ليكون بذلك أشد انتهاء ومحافظة لشرائط المحبة، وهذه غاية العناية، ثم
انظر كيف بدأ بثباته وسلامته قبل ذكر ما عاتبه عليه، وخيف أن يركن إليه، وفي أثناء عتبه
488

براءته، وفي طي تخويفه تأمينه.
قال عياض رحمه الله: ويجب على المؤمن المجاهد نفسه الرائض بزمام الشريعة
خلقه، أن يتأدب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته فهو عنصر المعارف
الحقيقية، وروضة الآداب الدينية والدنيوية انتهى.
قال * ع *: وهذا الهم من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان خطرة مما لا يمكن دفعه، ولذلك
قيل: (كدت) وهي تعطي أنه لم يقع ركون، ثم قيل: (شيئا قليلا)، إذ كانت المقاربة
التي تضمنتها (كدت) قليلة خطرة لم تتأكد في النفس.
وقوله: (إذا لأذقناك...) الآية: يبطل أيضا ما ذهب إليه ابن الأنباري.
* ت *: وما ذكره * ع * رحمه الله تعالى من البطلان لا يصح، وما قدمناه عن
عياض حسن، فتأمله.
وقوله (ضعف الحياة): قال ابن عباس وغيره: يريد ضعف عذاب الحياة،
وضعف عذاب الممات.
وقوله سبحانه: (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها...) الآية: قال
الحضرمي: الضمير في " كادوا " ليهود المدينة وناحيتها، ذهبوا إلى المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا
له: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، فإن كنت نبيا، فأخرج إلى الشام، فإنها أرض
الأنبياء، فنزلت الآية، وأخبر سبحانه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خرج، / لم يلبثوا بعده إلا
قليلا، وقالت فرقة: الضمير لقريش، قال ابن عباس: وقد وقع استفزازهم وإخراجهم له،
فلم يلبثوا خلفه إلا قليلا يوم بدر.
489

وقال مجاهد: ذهبت قريش إلى هذا، ولكنه لم يقع منها، لأنه لما أراد الله سبحانه
استبقاء قريش، وألا يستأصلها، أذن لرسوله في الهجرة، فخرج من الأرض بإذن الله، لا
بقهر قريش، واستبقيت قريش، ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم.
* ت *: قال * ص *: قوله (لا يلبثون) جواب قسم محذوف، أي: والله، إن
استفززت، فخرجت، لا يلبثون خلفك إلا قليلا. انتهى.
وقوله سبحانه: (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا...) الآية: معنى الآية الإخبار
أن سنة الله تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا أخرجت نبيها من بين أظهرها، نالها
العذاب، واستأصلها، فلم تلبث خلفه إلا قليلا.
وقوله سبحانه: (أقم الصلاة لدلوك الشمس...) الآية: إجماع المفسرين على أن
الإشارة هنا إلى الصلوات المفروضة، والجمهور أن دلوك الشمس زوالها، والإشارة إلى
الظهر والعصر، و (غسق الليل): أشير به إلى المغرب والعشاء، و (قرآن الفجر): يريد به
صلاة الصبح، فالآية تعم جميع الصلوات، " والدلوك "، في اللغة: هو الميل، فأول الدلوك
هو الزوال، وآخره هو الغروب، قال أبو حيان: واللام في (لدلوك الشمس): للظرفية
بمعنى بعد انتهى، (وغسق الليل): اجتماعه وتكاثف ظلمته، وعبر عن صلاة الصبح
خاصة بالقرآن، لأن القرآن هو عظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها.
وقوله سبحانه: (إن قرآن الفجر كان مشهودا) معناه: يشهده حفظة النهار وحفظة
الليل من الملائكة، حسبما ورد في الحديث الصحيح: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل،
وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر... " الحديث بطوله، وفي
" مسند البزار " عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن أفضل الصلوات صلاة الصبح يوم الجمعة،
في جماعة، وما أحسب شاهدها منكم إلا مغفور له " انتهى من " الكوكب الدري ".
490

(ومن الليل فتهجد به) " من " للتبعيض، التقدير: ووقتا من الليل، أي: قم وقتا،
والضمير في " به " عائد على هذا المقدر، ويحتمل أن يعود على القرآن، و " تهجد " معناه:
أطرح الهجود عنك، " والهجود ": النوم، المعنى: ووقتا من الليل اسهر به في صلاة
وقراءة، وقال علقمة وغيره: التهجد بعد نومة، وقال الحجاج بن عمرو: إنما التهجد
بعد رقدة، وقال الحسن: التهجد ما كان بعد العشاء الآخرة.
وقوله: (نافلة لك) قال ابن عباس: معناه: زيادة لك في الفرض، قال: وكان قيام
الليل فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد: إنما هي نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه مغفور
له، والناس يحطون بمثل ذلك خطاياهم، يعني: ويجبرون بها فرائضهم، حسبما / ورد في
الحديث، قال صاحب " المدخل "، وهو أبو عبد الله بن الحاج، وقد قالوا: إن من كان
يتفلت منه القرآن، فليقم به في الليل، فإن ذلك يثبته له ببركة امتثال السنة سيما الثلث
الأخير من الليل، لما ورد في ذلك من البركات والخيرات، وفي قيام الليل من الفوائد
جملة، فلا ينبغي لطالب العلم أن يفوته منها شئ.
فمنها: أنه يحط الذنوب، كما يحط الريح العاصف الورق اليابس من الشجرة.
491

الثاني: أنه ينور القلب.
الثالث: أنه يحسن الوجه.
الرابع: أنه يذهب الكسل، وينشط البدن.
الخامس: أن موضعه تراه الملائكة من السماء، كما يتراءى الكوكب الدري لنا في
السماء، وقد روى الترمذي عن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بقيام الليل،
فإنه من دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الآثام،
وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد " وروى أبو داود في " سننه " عن عبد الله بن
عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين،
ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية، كتب من المقنطرين " انتهى من
" المدخل ".
وقوله سبحانه: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا): عدة من الله عز وجل لنبيه،
وهو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه صلى الله عليه وسلم، والحديث بطوله في البخاري
ومسلم.
قال ابن العربي في " أحكامه ": واختلف في وجه كون قيام الليل سببا للمقام
المحمود، على قولين للعلماء:
أحدهما: أن الباري تعالى يجعل ما يشاء من فضله سببا لفضله من غير معرفة لنا
492

بوجه الحكمة.
الثاني: أن قيام الليل فيه الخلوة بالباري تعالى، والمناجاة معه دون الناس، فيعطى
الخلوة به ومناجاته في القيامة، فيكون مقاما محمودا، ويتفاضل فيه الخلق، بحسب
درجاتهم، وأجلهم فيه درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيعطى من المحامد ما لم يعط أحد، ويشفع
فيشفع. انتهى.
وقوله سبحانه: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق...)
الآية: ظاهر الآية: والأحسن أن يكون دعا عليه السلام في أن يحسن الله حالته في كل ما
يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال، وينتظر من تصرف المقادير في الموت
والحياة، فهي على أتم عموم، معناه: رب، أصلح لي وردي في كل الأمور، وصدري.
وذهب المفسرون إلى تخصيص اللفظ، فقال ابن عباس وغيره: أدخلني المدينة،
وأخرجني من مكة، وقال ابن عباس أيضا: الإدخال بالموت في القبر، والإخراج:
البعث، وقيل غير هذا وما قدمت من العموم التام الذي يتناول هذا كله أصوب،
" والصدق "، هنا صفة تقتضي رفع المذام واستيعاب المدح، (واجعل لي من لدنك سلطانا
/ نصيرا) قال مجاهد: يعني حجة تنصرني بها على الكفار.
وقوله سبحانه: (وقل جاء الحق...) الآية: قال قتادة: (الحق) القرآن،
و (الباطل) الشيطان.
وقالت فرقة: (الحق) الإيمان، و (الباطل): الكفران، وقيل غير هذا، والصواب
تعميم اللفظ بالغاية الممكنة، فيكون التفسير: جاء الشرع بجميع من انطوى فيه، وزهق
الكفر بجميع ما انطوى فيه، وهذه الآية: نزلت بمكة، وكان يستشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح
مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بالمخصرة.
493

وقوله سبحانه: (وننزل من القرآن ما هو شفاء...) الآية: أي شفاء بحسب إزالته
للريب، وكشفه غطاء القلب، وشفاء أيضا من الأمراض بالرقى والتعويذ ونحوه.
وقوله سبحانه: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه): يحتمل أن يكون
(الإنسان) عاما للجنس، فالكافر يبالغ في الإعراض، والعاصي يأخذ بحظ منه و (نأى)
أي: بعد، (قل كل يعمل على شاكلته)، أي: على ما يليق به قال ابن عباس: على
شاكلته) معناه: على ناحيته، وقال قتادة: معناه: على ناحيته وعلى ما ينوي. وقوله
سبحانه: (فربكم على أعلم بمن هو أهدى سبيلا) توعد بين.
وقوله سبحانه: (ويسئلونك عن الروح) روى ابن مسعود أن اليهود قال بعضهم
لبعض: سلوا محمدا عن الروح فإن أجاب فيه، عرفتم أنه ليس بنبي.
قال * ع *: وذلك أنه كان عندهم في التوراة، أن الروح مما انفرد الله بعلمه،
ولا يطلع عليه أحد من عباده، فسألوه، فنزلت الآية.
وقيل: إن الآية مكية، والسائلون هم قريش، بإشارة اليهود، واختلف الناس في
الروح المسؤول عنه، أي روح هو؟ فقال الجمهور: وقع السؤال عن الأرواح التي في
الأشخاص الحيوانية ما هي، فالروح: اسم جنس على هذا، وهذا هو الصواب، وهو
المشكل الذي لا تفسير له.
494

وقوله سبحانه: (من أمر ربي) يحتمل أن يريد أن الروح من جملة أمور الله التي
استأثر سبحانه بعلمها، وهي إضافة خلق إلى خالق، قال ابن راشد في " مرقبته ": أخبرني
شيخي شهاب الدين القرافي عن ابن دقيق العيد، أنه رأى كتابا لبعض الحكماء في حقيقة
النفس، وفيه ثلاثمائة قول، قال رحمة الله: وكثرة الخلاف تؤذن بكثرة الجهالات، ثم
علماء الإسلام اختلفوا في جواز الخوض فيها على قولين، ولكل حجج يطول بنا سردها،
ثم القائلون بالجواز اختلفوا، هل هي عرض أو جوهر، أو ليست بجوهر ولا عرض، ولا
توصف بأنها داخل الجسم ولا خارجه، وإليه ميل الإمام أبي حامد وغيره، والذي عليه
المحققون من المتأخرين أنها جسم نوراني شفاف سار في الجسم سريان النار في الفحم،
والدليل على أنها في الجسم قوله تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم) [الواقعة: 83] فلو لم
تكن في الجسم، لما قال ذلك، وقد أخرني الفقيه الخطيب أبو / محمد البرجيني رحمه الله
عن الشيخ الصالح أبي الطاهر الركراكي رحمه الله قال: حضرت عند ولي من الأولياء حين
النزع، فشاهدت نفسه قد خرجت من مواضع من جسده، ثم تشكلت على رأسه بشكله
وصورته، ثم صعدت إلى السماء، وصعدت نفسي معها، فلما انتهينا إلى السماء الدنيا،
شاهدت بابا ورجل ملك ممدودة عليه، فأزال ذلك الملك رجله، وقال لنفس لك الولي:
اصعدي، فصعدت، فأرادت نفسي أن تصعد معها، فقال لها: ارجعي، فقد بقي لك وقت،
قال: فرجعت فشاهدت الناس دائرين على جسمي، وقائل يقول: مات، وآخر يقول: لم
يمت، فدخلت من أنفي، أو قال: من عيني، وقمت. انتهى.
* ت *: وهذه الحكاية صحيحة، ورجال إسنادها ثقات معروفون بالفضل، فابن
راشد هو شارح ابن الحاجب الفرعي، والبرجيني معروف عند أهل إفريقية وأبو الطاهر من
أكابر الأولياء معظم عند أهل تونس، مزاره وقبره بالزلاج معروف زرته رحمه الله، وقرأ
الجمهور: " وما أوتيتم "، واختلف فيمن خوطب بذلك، فقال فرقة: السائلون فقط،
وقالت فرقة: العالم كله، وقد نص على ذلك صلى الله عليه وسلم، على ما حكاه الطبري.
وقوله: (ولئن شئنا لنذهبن...) الآية: المعنى وما أوتيتم أنت يا محمد، وجميع
الخلائق من العلم إلا قليلا، فالله يعلم من علمه بما شاء، ويدع ما شاء، ولو شاء لذهب
بالوحي الذي آتاك، وقوله (إلا رحمة) استثناء منقطع، أي: لكن رحمة من ربك تمسك
495

عليك قال الداوودي: وما روي عن ابن مسعود من أنه سينزع القرآن من الصدور، وترفع
المصاحف لا يصبح وإنما قال سبحانه: (ولئن شئنا) فلم يشأ سبحانه، وفي الحديث
عنه صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون "
قال البخاري: وهم أهل العلم، ولا يكون العلم مع فقد القرآن. انتهى كلام الداوودي،
وهو حسن جدا، وقد جاء في الصحيح ما هو أبين من هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا
ينتزع العلم انتزاعا ولكن يقبض العلم بقبض العلماء... "، الحديث.
وقوله سبحانه: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن...)
الآية: سبب هذه الآية أن جماعة من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو جئتنا بآية غريبة غير هذا
القرآن، فإنا نقدر نحن على المجيء بمثله، فنزلت هذه الآية المصرحة بالتعجيز لجميع
الخلائق.
قال * ص *: واللام في (لئن اجتمعت) اللام الموطئة للقسم، وهي الداخلة على
الشرط، كقوله: (لئن أخرجوا) [الحشر: 12] (ولئن قوتلوا) [الحشر: 12] والجواب
بعد للقسم لتقدمه، إذا لم يسبق ذو خبره لا للشرط، هذا مذهب البصريين خلافا للفراء في
إجازته الأمرين، إلا أن الأكثر أن يجيء جواب قسم، " والظهير " المعين.
/ قال * ع *: وفهمت العرب الفصحاء بخلوص فهمها في ميز الكلام ودربتها به
496

ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة، ففهموا العجز عنه ضرورة ومشاهدة، وعلمه
الناس بعدهم استدلالا ونظرا، ولكل حصل علم قطعي، لكن ليس في مرتبة واحدة.
وقوله سبحانه: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا...) الآية:
روي في قول هذه المقالة للنبي صلى الله عليه وسلم حديث طويل، مقتضاه: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة،
وعبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث وغيرهم من مشيخة قريش وساداتها، اجتمعوا
عليه، فعرضوا عليه أن يملكوه إن أراد الملك، أو يجمعوا له كثيرا من المال، إن أراد الغنى
ونحو هذا من الأقاويل، فدعاهم صلى الله عليه وسلم عند ذلك إلى الله، وقال: إنما جئتكم بأمر من الله
فيه صلاح دنياكم ودينكم، فإن أطعتم، فحسن، وإلا صبرت حتى يحكم الله بيني
وبينكم فقالوا له حينئذ: فإن كان ما تزعم حقا، ففجر لنا من الأرض ينبوعا... الحديث
بطوله، " والينبوع ": الماء النابع، (وخلالها) ظرف، ومعناه أثناءها وفي داخلها.
وقوله: (كما زعمت) إشارة إلى ما تلا عليهم قبل ذلك في قوله سبحانه: (إن نشأ
نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء...) الآية [سبأ: 9] " والكسف "
الشئ المقطوع، وقال الزجاج المعنى: أو تسقط السماء علينا طبقا، وقوله: (قبيلا)
قيل: معناه مقابلة وعيانا، وقيل: معناه ضامنا وزعيما بتصديقك، ومنه القبالة وهي
الضمان، وقيل: معناه نوعا وجنسا لا نظير له عندنا، (أو يكون لك بيت من زخرف)،
قال المفسرون: الزخرف الذهب في هذا الموضع، (أو ترقى في السماء)، أي: في الهواء
497

علوا، ويحتمل أن يريد السماء المعروفة، وهو أظهر.
* ت *: وذكر * ع * هنا كلمات الواجب طرحها، ولهذا أعرضت عنها،
و (ترقى) معناه تصعد، ويروى أن قائل هذه المقالة هو عبد الله بن أبي أمية، ويروى أن
جماعتهم طلبت هذه النحو منه، فأمره عز وجل أن يقول: (سبحان ربي)، أي: تنزيها له
من الإتيان إليكم مع الملائكة قبيلا، ومن اقتراحي أنا عليه هذه الأشياء وهل أنا إلا بشر،
إنما علي البلاغ المبين فقط.
وقوله: (مطمئنين)، أي: وادعين فيها مقيمين.
وقوله سبحانه: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) روي أن من تقدم الآن ذكرهم
من قريش، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في آخر قولهم: فلتجئ معك بطائفة من الملائكة تشهد لك
بصدقك في نبوتك، وروي أنهم قالوا: فمن يشهد لك؟ ففي ذلك نزلت الآية، أي: الله
يشهد بيني وبينكم، ثم أخبر سبحانه، أنه يحشرهم على الوجوه حقيقة، وفي هذا المعنى
حديث، " قيل: يا رسول الله، كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: أليس الذي أمشاه في
الدنيا على رجلين قادرا على أن يمشيه / في الآخرة على وجهه؟ " قال قتادة: بلى، وعزة
ربنا.
* ت *: وهذا الحديث قد خرجه الترمذي من طريق أبي هريرة، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: ركبانا، ومشاة، وعلى
498

وجوههم... " الحديث، وقوله: (كلما خبت) أي: كلما فرغت من إحراقهم، فسكن
اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون، ثم يثور، فتلك زيادة السعير، قاله ابن عباس.
قال * ع *: فالزيادة في حيزهم، وأما جهنم، فعلى حالها من الشدة، لا فتور،
وخبت النار، معناه: سكن اللهيب، والجمر على حاله، وخمدت معناه، سكن الجمر
وضعف، وهمدت معناه: طفئت جملة.
وقوله سبحانه: (ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا...) الآية: الإشارة ب‍ (ذلك)
إلى الوعيد المتقدم بجهنم.
قوله عز وجل: (أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض...) الآية:
الرؤية في هذه الآية هي رؤية القلب، وهذه الآية احتجاج عليهم فيما استبعدوه من البعث،
" والأجل "، ههنا: يحتمل أن يريد به القيامة، ويحتمل أن يريد أجل الموت.
وقوله سبحانه: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي...) الآية: ال‍ (رحمة)،
في هذه الآية: المال والنعم التي تصرف في الأرزاق.
وقوله: (خشية الإنفاق) المعنى: خشية عاقبة الإنفاق، وهو الفقر، وقال بعض
اللغويين، أنفق الرجل معناه: افتقر، كما تقول أترب وأقتر.
وقوله: (وكان الإنسان قتورا) أي: ممسكا، يريد أن في طبعه ومنتهى نظره أن
الأشياء تتناهى وتفنى، فهو لو ملك خزائن رحمة الله، لأمسك خشية الفقر، وكذلك يظن
أن قدرة الله تقف دون البعث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى.
499

وقوله سبحانه: (لقد آتينا موسى تسع آيات بينات...) الآية: اتفق المتأولون
والرواة، أن الآيات الخمس التي في " سورة الأعراف " هي من هذه التسع، وهي: الطوفان
والجراد والقمل والضفادع والدم، واختلفوا في الأربع. * ت *: وفي هذا الاتفاق نظر،
وروي في هذا صفوان بن عسال، أن يهوديا من يهود المدينة، قال لآخر: سر بنا إلى هذا
النبي نسأله عن آيات موسى، فقال له الآخر: لا تقل له إنه نبي، فإنه لو سمعها، صار له
أربعة أعين، قال: فسارا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه، فقال: " هي لا تشركوا بالله شيئا، ولا
تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببرئ إلى
السلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا يوم
الزحف، وعليكم - خاصة معشر اليهود ألا تعدوا في السبت ". انتهى، وقد ذكر * ع
* هذا الحديث.
وقوله سبحانه: (فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم)، أي: إذ جاءهم موسى واختلف
في قوله: (مسحورا) فقالت فرقة: هو مفعول على بابه، وقال الطبري: هو بمعنى
ساحر، كما قال / (حجابا مستورا) [الإسراء: 45] وقرأ الجمهور: " لقد علمت "، وقرأ
الكسائي: " لقد علمت " بتاء المتكلم مضمومة، وهي قراءة علي بن أبي طالب وغيره،
وقال: ما علم عدو الله قط، وإنما علم موسى والإشارة ب‍ (هؤلاء) إلى التسع.
وقوله: (بصائر): جمع بصيرة، وهي الطريقة، أي: طرائق يهتدى بها، و " المثبور "
المهلك، قاله مجاهد، (فأراد أن يستفزهم من الأرض)، أي: يستخفهم ويقتلهم،
500

والأرض هنا أرض مصر، ومتى ذكرت الأرض عموما، فإنما يراد بها ما يناسب القصة
المتكلم فيها، واقتضبت هذه الآية قصص بني إسرائيل مع فرعون، وإنما ذكرت عظم الأمر
وخطيره، وذلك طرفاه، أراد فرعون غلبتهم وقتلهم، وهذا كان بدء الأمر، فأغرقه الله
وجنوده، وهذا كان نهاية الأمر، ثم ذكر سبحانه أمر بني إسرائيل بعد إغراق فرعون بسكنى
أرض الشام و (وعد الآخرة) هو يوم القيامة، و " اللفيف ": الجمع المختلط الذي قد لف
بعضه إلى بعض.
وقوله سبحانه: (وبالحق أنزلناه) يعني القرآن نزل بالمصالح والسداد للناس،
و (بالحق نزل) يريد: بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره، وقرأ جمهور الناس: " فرقناه "
بتخفيف الراء، ومعناه: بيناه وأوضحناه وجعلناه فرقانا، وقرأ جماعة خارج السبع.
" فرقناه " بتشديد الراء، أي: أنزلناه شيئا بعد شئ، لا جملة واحدة، ويتناسق هذا المعنى
مع قوله: (لتقرأه على الناس على مكث)، وتأولت فرقة قوله: (على مكث) أي: على
ترسل في التلاوة، وترتل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد، والتأويل
الآخر، أي: على مكث وتطاول في المدة شيئا بعد شئ.
وقوله سبحانه: (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) فيه تحقير للكفار، وضرب من التوعد،
(والذين أوتوا العلم من قبله): قالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب، و (الأذقان): أسافل
الوجوه حيث يجتمع اللحيان.
501

قال الواحدي: (إن كان وعد ربنا) أي: بإنزال القرآن، وبعث محمد (لمفعولا).
انتهى.
وقوله سبحانه: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) هذه مبالغة في صفتهم،
ومدح لهم وحض لكل من توسم بالعلم، وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه الرتبة النفيسة
وحكى الطبري عن التميمي، أن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علما
ينفعه، لأن الله سبحانه نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية كلها.
* ت *: وإنه والله لكذلك، وإنما يخشى الله من عباده العلماء، اللهم انفعنا بما
علمتنا، ولا تجعله علينا حجة بفضلك، ونقل الغزالي عن ابن عباس، أنه قال: إذا قرأتم
سجدة " سبحان "، فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم، فليبك قلبه،
قال الغزالي: فإن لم يحضره حزن وبكاء، كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على
فقد الحزن والبكاء، فإن ذلك من أعظم المصائب. قال الغزالي: واعلم أن الخشوع ثمرة
الإيمان، ونتيجة / اليقين الحاصل بعظمة الله تعالى، ومن رزق ذلك، فإنه يكون خاشعا في
الصلاة وغيرها، فإن موجب الخشوع استشعار عظمة الله، ومعرفة اطلاعه على العبد،
ومعرفة تقصير العبد، فمن هذه المعارف يتولد الخشوع، وليست مختصة بالصلاة، ثم قال:
وقد دلت الأخبار على أن الأصل في الصلاة الخشوع، وحضور القلب، وأن مجرد
الحركات مع الغفلة قليل الجدوى في المعاد، قال: وأعلم أن المعاني التي بها تتم حياة
الصلاة تجمعها ست جمل، وهي: حضور القلب، والتفهم، والتعظيم، والهيبة، والرجاء،
والحياء، فحضور القلب: أن يفرغه من غير ما هو ملابس له، والتفهم: أمر زائد على
الحضور، وأما التعظيم، فهو أمر وراء الحضور والفهم، وأما الهيبة، فأمر زائد علي
التعظيم، وهي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم، وأما التعظيم، فهو حالة للقلب تتولد من
معرفتين: إحداهما: معرفة جلال الله سبحانه وعظمته، والثانية: معرفة حقارة النفس،
واعلم أن حضور القلب سببه الهمة، فإن قلبك تابع لهمتك، فلا يحضر إلا فيما أهمك،
ومهما أهمك أمر، حضر القلب، شاء أم أبى، والقلب إذا لم يحضر في الصلاة، لم يكن
متعطلا، بل يكون حاضرا فيما الهمة مصروفة إليه. انتهى من " الإحياء ".
502

وقوله سبحانه: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن...) الآية: سبب نزول هذه الآية:
أن بعض المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: يا الله يا رحمان، فقالوا: كان محمد يأمرنا
بدعاء إله واحد، وهو يدعو إلهين، قاله ابن عباس، فنزلت الآية مبينة، أنها أسماء
لمسمى واحد، وتقدير الآية: أي الأسماء تدعو به، فأنت مصيب، فله الأسماء الحسنى،
وفي " صحيح البخاري " بسنده عن ابن عباس في قوله سبحانه: (ولا تجهر بصلاتك ولا
تخافت بها) قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه، رفع
صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون، سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله
تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ولا تجهر بصلاتك)، أي: بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا
القرآن، (ولا تخافت بها) عن أصحابك، فلا تسمعهم، (وابتغ بين ذلك سبيلا)،
وأسند البخاري عن عائشة: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) قالت: أنزل ذلك في
الدعاء انتهى.
قال الغزالي في " الإحياء ": وقد جاءت أحاديث تقتضي استحباب السر بالقرآن،
وأحاديث تقتضي استحباب الجهر به، والجمع بينهما أن يقال: إن التالي إذا خاف على
نفسه الرياء والتصنع أو تشويش مصل، / فالسر أفضل، وإن أمن ذلك، فالجهر أفضل، لأن
العمل فيه أكثر، ولأن فائدته أيضا تتعدى إلى غيره، والخير المتعدي أفضل من اللازم،
ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همته إلى الفكر فيه، ويصرف إليه سمعه، ويطرد عنه
النوم برفع صوته، ولأنه يزيد في نشاطه في القراءة، ويقلل من كسله، ولأنه يرجو بجهره
تيقظ نائم، فيكون سببا في إعانته على الخير، ويسمعه بطال غافل، فينشط بسببه، ويشتاق
لخدمة خالقه، فمهما حضرت نية من هذه النيات، فالجهر أفضل، وإن اجتمعت هذه
النيات، تضاعف الأجر، وبكثرة النيات يزكو عمل الأبرار وتتضاعف أجورهم. انتهى.
وقوله سبحانه: (ولم يكن له ولي من الذل) هذه الآية رادة على كفرة العرب في
503

قولهم: لولا أولياء الله، لذل - تعالى الله عن قولهم - وقيد سبحانه نفي الولاية له بطريق
الذل، وعلى جهة الانتصار، إذ ولايته سبحانه موجودة بفضله ورحمته لمن والى من صالح
عباده.
قال مجاهد: المعنى لم يخالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد سبحانه، لا إله إلا هو
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليما.
504

تفسير سورة الكهف
هذه السورة مكية في قول جميع المفسرين، وروي عن قتادة أن أول سورة نزل
بالمدينة إلى قوله: (جرزا) والأول أصح، وهي من أفضل سور القرآن، وروي أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السماوات والأرض، ولمن جاء بها من
الأجر مثل ذلك؟ قالوا: أي سورة هي، يا رسول الله؟ قال: سورة الكهف، من قرأ بها يوم
الجمعة، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام " وفي رواية أنس: " من
قرأ بها، أعطي نورا بين السماء والأرض، ووقي بها فتنة القبر ".
* ت *: وعن البراء بن عازب، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه
فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح
أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: " تلك السكينة نزلت بالقرآن " رواه البخاري، واللفظ
له، ومسلم والترمذي والنسائي، والرجل المبهم في الحديث هو أسيد بن حضير، وفي
الحديث الصحيح من طريق النواس بن سمعان، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " فمن أدرك الدجال منكم
فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف... " وذكر الحديث. رواه مسلم وغيره، زاد أبو داود:
" فإنها جوازكم من فتنته ". وعن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ عشر آيات من أول
سورة الكهف، عصم من الدجال " رواه مسلم وأبو داود والترمذي / والنسائي، واللفظ
505

لمسلم، وفي رواية لمسلم وأبي داود: " من آخر الكهف "، وعن أبي سعيد الخدري، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ سورة الكهف كما أنزلت، كانت له نورا من مقامه إلى مكة، ومن
قرأ بعشر آيات من آخرها، فخرج الدجال، لم يسلط عليه رواه الترمذي والحاكم في
" المستدرك " والنسائي، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وله في رواية: " من قرأ
سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين "، وقال: صحيح الإسناد،
وأخرجه الدارمي في مسنده موقوفا ورواته متفق على الاحتجاج بهم إلا أبا هاشم
يحيى ابن دينار الرماني وقد وثقه أحمد ويحيى وأبو زرعة وأبو حاتم. انتهى من " السلاح ".
قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) كان حفص عن عاصم
يسكت عند قوله: (عوجا) سكتة خفيفة، وعند (مرقدنا) في يس [يس: 52] وسبب
هذه البداءة في هذه السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته قريش عن المسائل الثلاث: الروح،
وأصحاب الكهف، وذي القرنين، حسب ما أمرتهم به يهود - قال لهم صلى الله عليه وسلم: " غدا أخبركم
بجواب ما سألتم " ولم يقل: إن شاء الله، فعاتبه الله عز وجل، وأمسك عنه الوحي خمسة
عشر يوما، وأرجف به كفار قريش، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ منه، فلما انقضى الأمد
الذي أراد الله عتاب نبيه، جاءه الوحي بجواب ما سألوه، وغير ذلك، فافتتح الوحي
ب‍ (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)، وهو القرآن.
وقوله: (ولم يجعل له عوجا)، أي: لم ينزله عن طريق الاستقامة، " والعوج " فقد
الاستقامة، ومعنى (قيما)، أي: مستقيما، قاله ابن عباس وغيره، وقيل: معناه أنه قيم
506

على سائر الكتب بتصديقها، ولم يرتضه * ع *: قال: ويصح أن يكون معنى " قيم "
قيامه بأمر الله على العالم وهذا معنى يؤيده ما بعده من النذارة والبشارة اللتين عمتا العالم،
" والبأس الشديد " عذاب الآخرة، ويحتمل أن يندرج معه في النذارة عذاب الدنيا ببدر
وغيرها، (ومن لدنه)، أي: من عنده، والمعنى: لينذر العالم و " الأجر الحسن " نعيم
الجنة، ويتقدمه خير الدنيا.
وقوله تعالى: (إن يقولون إلا كذبا)، أي: ما يقولون، فهي النافية.
وقوله سبحانه: (فلعلك باخع نفسك) هذه آية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، والباخع نفسه هو
مهلكها.
قال * ص *: " لعل " للترجي في المحبوب، وللإشفاق في المحذور، وهي هنا
للإشفاق. انتهى.
وقوله: (على آثارهم): استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان،
فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا، فهو في آثارهم يحزن عليهم.
وقوله: (بهذا / الحديث)، أي: بالقرآن، " والأسف " المبالغة في حزن أو غضب،
وهو في هذا الموضع الحزن، لأنه على من لا يملك، ولا هو تحت يد الآسف، ولو كان
الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه، لكان غضبا، كقوله تعالى: (فلما
أسفونا) [الزخرف: 55] أي: أغضبونا. قال قتادة: (أسفا): حزنا.
وقوله سبحانه: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها...) الآية: بسط في التسلية،
أي: لا تهتم بالدنيا وأهلها، فإن أمرها وأمرهم أقل، لفناء ذلك وذهابه، فإنا إنما جعلنا ما
على الأرض زينة وامتحانا واختبارا، وفي معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: " الدنيا حلوة خضرة،
507

وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ".
(لنبلوهم) أي: لنختبرهم، وفي هذا وعيد ما.
قال سفيان الثوري: أحسنهم عملا: أزهدهم فيها، وقال أبو عاصم العسقلاني:
(أحسن عملا). الترك لها.
قال * ع *: وكان أبي رحمه الله يقول: أحسن العمل: أخذ بحق، وإنفاق في
حق، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه.
وقوله سبحانه: (وإنا فيها لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) أي: يرجع ذلك كله
ترابا، " والجرز ": الأرض التي لا شئ فيها من عمارة وزينة، فهي البلقع، وهذه حالة
الأرض العامرة لا بد لها من هذا في الدنيا جزءا جزءا من الأرض، ثم يعمها ذلك بأجمعها
عند القيامة، و " الصعيد " وجه الأرض، وقيل: " الصعيد ": التراب خاصة.
وقوله سبحانه: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا)، أي:
ليسوا بعجب من آيات الله، أي: فلا يعظم ذلك عليك بحسب ما عظمه السائلون، فإن سائر
آيات الله أعظم من قصتهم، وهو قول ابن عباس وغيره، واختلف الناس في (الرقيم)
ما هو؟ اختلافا كثيرا، فقيل: " الرقيم " كتاب في لوح نحاس، وقيل: في لوح رصاص،
وقيل: في لوح حجارة كتبوا فيه قصة أهل الكهف، وقيل غير هذا، وروي عن ابن عباس،
508

أنه قال: ما أدري ما الرقيم؟
قال * ع *: ويظهر من هذه الروايات، أنهم كانوا قوما مؤرخين، وذلك من نبل
المملكة، وهو أمر مفيد.
وقوله سبحانه: (إذ أوى الفتية إلى الكهف): (الفتية)، فيما روي، قوم من أبناء
أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، ويقال فيه " دقيانوس "، وروي أنهم كانوا مطوقين
مسورين بالذهب، وهم من الروم، واتبعوا دين عيسى، وقيل: كانوا قبل عيسى، واختلف
الرواة في قصصهم، ونذكر من الخلاف عيونه، وما لا تستغنى الآية عنه: فروي عن مجاهد
عن ابن عباس، أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام، فوقع للفتية علم من
بعض الحواريين، حسبما ذكره النقاش، أو من مؤمني الأمم قبلهم، فآمنوا بالله، ورأوا
ببصائرهم قبيح فعل الناس، فرفع أمرهم إلى الملك، فاستحضرهم، وأمرهم بالرجوع إلى
دينه، فقالوا / له فيما روي: (ربنا رب السماوات والأرض...) [الكهف: 14] الآية،
فقال لهم الملك: إنكم شبان أغمار، لا عقل لكم، وأنا لا أعجل عليكم، وضرب لهم
أجلا ثم سافر خلال الأجل، فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إني
أعرف كهفا في جبل كذا، فلنذهب إليه.
وروت فرقة أن أمر أصحاب الكهف إنما كان أنهم من أبناء الأشراف، فحضر عيد
لأهل المدينة، فرأى الفتية ما ينتحله الناس في ذلك العيد من الكفر وعبادة الأصنام، فوقع
الإيمان في قلوبهم، وأجمعوا على مفارقة دين الكفرة، وروي أنهم خرجوا، وهم يلعبون
بالصولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم، لئلا يشعر الناس بهم، حتى وصلوا
إلى الكهف، وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لبعضهم، وروي أنهم وجدوا في
طريقهم راعيا له كلب، فاتبعهم الراعي على رأيهم، وذهب الكلب معهم، فدخلوا الغار،
فروت فرقة أن الله سبحانه ضرب على آذانهم عند ذلك، لما أراد من سترهم وخفي على
أهل المملكة مكانهم، وعجب الناس من غرابة فقدهم، فأرخوا ذلك ورقموه في لوحين من
رصاص أو نحاس، وجعلوه على باب المدينة، وقيل على الرواية: إن الملك بنى باب
509

الغار، وإنهم دفنوا ذلك في بناء الملك على الغار، وروت فرقة، أن الملك لما علم بذهاب
الفتية، أمر بقص آثارهم إلى باب الغار، وأمر بالدخول عليهم، فهاب الرجال ذلك، فقال له
بعض وزرائه: " ألست أيها الملك إن أخرجتهم قتلتهم؟ قال: نعم، قال: فأي قتلة أبلغ من
الجوع والعطش، ابن عليهم باب الغار، ودعهم يموتوا فيه، ففعل، وقد ضرب الله على
آذانهم كما تقدم، ثم أخبر الله سبحانه عن الفتية أنهم لما أووا إلى الكهف، أي: دخلوه
وجعلوه مأوى لهم وموضع اعتصام دعوا الله تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمة، وهي الرزق
فيما ذكره المفسرون، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشدا، خلاصا جميلا، وهذا الدعاء منهم
كان في أمر دنياهم، وألفاظهم تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها،
وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه بهذه الآية الكريمة فقط، فإنها كافية،
ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة.
وقوله تعالى: (فضربنا على آذانهم...) الآية: عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم
عليهم.
وقوله: (عددا) نعت ل‍ " لسنين " والقصد به العبارة عن التكثير.
وقوله: (لنعلم): عبارة عن خروج ذلك الشئ إلى الوجود، أي: لنعلم ذلك
موجودا وإلا فقد كان سبحانه علم أي الحزبين أحصى الأمد، و " الحزبان ": الفريقان،
والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية، إذ ظنوا لبثهم قليلا، والحزب الثاني هم
أهل المدينة الذين بعث الفتية على / عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية، وهذا قول
الجمهور من المفسرين، وأما قوله: (أحصى) فالظاهر الجيد فيه أنه فعل ماض، و (أمدا)
منصوب به على المفعول، " والأمد ": الغاية، ويأتي عبارة عن المدة، وقال الزجاج:
(أحصى) هو " أفعل "، ويعترض بأن " أفعل " لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ،
510

و (أحصى): فعل رباعي، ويحتج لقول الزجاج بأن " أفعل " من الرباعي قد كثر كقولك: ما
511

أعطاه للمال، وكقوله عليه الصلاة والسلام في صفة جهنم: " أسود من القار " وفي صفة
حوضه " أبيض من اللبن ".
* ت *: وقد تقدم أن " أسود " من " سود "، وما في ذلك من النقد، وقال مجاهد:
(أمدا) معناه عددا، وهذا تفسير بالمعنى.
وقوله سبحانه: (وزدناهم هدى)، أي: يسرناهم للعمل الصالح، والانقطاع إلى الله
عز وجل، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا، وهذه زيادات على الإيمان.
وقوله سبحانه: (وربطنا على قلوبهم): عبارة عن شدة عزم، وقوة صبر، ولما كان
الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال، حسن في شدة النفس، وقوة التصميم أن يشبه
الربط، ومنه يقال: فلان رابط الجأش، إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحروب وغيرها،
ومنه الربط على قلب أم موسى.
وقوله تعالى: (إذا قاموا) يحتمل أن يكون وصف قيامهم بين يدي الملك الكافر،
فإنه مقام يحتاج إلى الربط على القلب، ويحتمل أن يعبر بالقيام على انبعاثهم بالعزم على
512

الهروب إلى الله ومنابذة الناس، كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا، إذا اعتزم عليه بغاية
الجد، وبهذه الألفاظ التي هي: (قاموا فقالوا)، تعلقت الصوفية في القيام والقول،
" والشطط ": الجور وتعدي الحد والحق بحسب أمر أمر، و " السلطان ": الحجة، وقال
قتادة: المعنى بعذر بين، ثم عظموا جرم الداعين مع الله غيره، وظلمهم بقولهم: (فمن
أظلم ممن افترى على الله كذبا)، وقولهم: (وإذ اعتزلتموهم...) الآية: المعنى قال
بعضهم لبعض، وبهذا يترجح أن قوله تعالى: (إذ قاموا فقالوا) إنما المراد به إذ عزموا
ونفذوا لأمرهم، وفي مصحف ابن مسعود: " وما يعبدون من دون الله "، ومضمن هذه الآية
الكريمة أن بعضهم قال لبعض: إذ قد فارقنا الكفار، وانفردنا بالله تعالى، فلنجعل الكهف
مأوى، ونتكل على الله تعالى، فإنه سيبسط علينا رحمته، وينشرها علينا ويهيئ لنا من
أمرنا مرفقا، وهذا كله دعاء بحسب الدنيا، وهم على ثقة من الله في أمر آخرتهم، وقرأ
نافع وغيره: " مرفقا " بفتح الميم وكسر الفاء، وقرأ حمزة وغيره بكسر الميم وفتح الفاء،
ويقالان معا في الأمر، وفي الجارحة، حكاه الزجاج.
وقوله سبحانه: (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين)
و (تزاور)، أي: تميل، و (تقرضهم) معناه / تتركهم، والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم
شمس ألبتة، وهو قول ابن عباس، وحكى الزجاج وغيره، قال: كان باب الكهف
ينظر إلى بنات نعش، وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله تعالى دون أن
يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك، وال‍ (فجوة): المتسع، قال قتادة: في فضاء
منه، ومنه الحديث: " فإذا وجد فجوة نص ".
513

وقوله سبحانه: (ذلك من آيات الله) الإشارة إلى الأمر بجملته.
وقوله سبحانه: (ونقلبهم ذات اليمين...) الآية: ذكر بعض المفسرين أن تقليبهم
إنما كان حفظا من الأرض، وروي عن ابن عباس، أنه قال لو مستهم الشمس، لأحرقتهم،
ولولا التقليب، لأكلتهم الأرض، وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان بأمر الله وفعل
ملائكته، ويحتمل أن يكون ذلك بإقدار الله إياهم على ذلك، وهم في غمرة النوم.
وقوله: (وكلبهم): أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة.
قال * ع *: وحدثني أبي رحمه الله قال: سمعت أبا الفضل بن الجوهري في
جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة: من أحب أهل الخير، نال من
بركتهم، كلب أحب أهل الفضل، وصحبهم، فذكره الله في محكم تنزيله.
و " الوصيد " العتبة التي لباب الكهف أو موضعها إن لم تكن، وقال ابن عباس:
" الوصيد " الباب والأول أصح، والباب الموصد هو المغلق، ثم ذكر سبحانه ما حفهم به
من الرعب، واكتنفهم من الهيبة، حفظا منه سبحانه لهم، فقال: (لو اطلعت عليهم...)
الآية.
وقوله سبحانه: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم) الإشارة ب‍ " ذلك " إلى الأمر الذي
ذكره الله في جهتهم، والعبرة التي فعلها فيهم، " والبعث ": التحريك عن سكون، واللام في
قوله: (ليتساءلوا) لام الصيرورة، وقول القائل: (كم لبثتم) يقتضي أنه هجس في خاطره
514

طول نومهم، واستشعر أن أمرهم خرج عن العادة بعض الخروج، وظاهر أمرهم أنهم
انتبهوا في حال من الوقت، والهواء الزماني لا يباين الحالة التي ناموا عليها، وقولهم:
(فابعثوا أحدكم بورقكم) يروي أنهم انتبهوا، وهم جياع، وأن المبعوث هو تمليخا،
وروي أن باب الكهف انهدم بناء الكفار منه، لطول السنين، ويروى أن راعيا هدمه، ليدخل
فيه غنمه، فأخذ تمليخا ثيابا رثة منكرة ولبسها، وخرج من الكهف، فأنكر ذلك البناء
المهدوم، إذ لم يعرفه بالأمس، ثم مشى، فجعل ينكر الطريق والمعالم، ويتحير وهو في
ذلك لا يشعر شعورا تاما، بل يكذب ظنه فيما تغير عنده حتى بلغ باب المدينة، فرأى على
بابها أمارة الإسلام، فزادت حيرته، وقال: كيف هذا ببلد دقيوس، وبالأمس كنا معه تحت
ما كنا، فنهض إلى باب آخر، فرأى نحوا من ذلك، حتى مشى الأبواب كلها، فزادت
حيرته، ولم يميز بشرا، وسمع الناس يقسمون باسم عيسى، فاستراب بنفسه، وظن أنه
جن، أو انفسد عقله، فبقي حيران يدعو الله تعالى، ثم نهض إلى باب الطعام الذي أراد
/ اشتراءه، فقال: يا عبد الله، بعني من طعامك بهذه الورق، فدفع إليه دراهم، كأخفاف
الربع فيما ذكر، فعجب لها البائع ودفعها إلى آخر يعجبه، وتعاطاها الناس، وقالوا له: هذه
دراهم عهد فلان الملك، من أين أنت؟ وكيف وجدت هذا الكنز، فجعل يبهت ويعجب
وقد كان بالبلد مشهورا هو وبيته، فقال: ما أعرف غير أني وأصحابي خرجنا بالأمس من
هذه المدينة، فقال الناس: هذا مجنون، اذهبوا به إلى الملك، ففزع عند ذلك، فذهب به
حتى جيء به إلى الملك، فلما لم ير دقيوس الكافر، تأنس، وكان ذلك الملك مؤمنا فاضلا
يسمى تبدوسيس، فقال له الملك: أين وجدت هذا الكنز؟ فقال له: إنما خرجت أنا
وأصحابي أمس من هذه المدينة، فأوينا إلى الكهف الذي في جبل أنجلوس، فلما سمع
الملك ذلك، قال في بعض ما روي: لعل الله قد بعث لكم أيها النساء آية فلنسر إلى
الكهف، حتى نرى أصحابه، فساروا، وروي أنه أو بعض جلسائه قال: هؤلاء هم الفتية
الذين ورخ أمرهم على عهد دقيوس الملك، وكتب على لوح النحاس بباب المدينة، فسار
الملك إليهم، وسار الناس معه فلما انتهوا إلى الكهف، قال تمليخا: أدخل عليهم لئلا
يرعبوا، فدخل عليهم، فأعلمهم بالأمر، وأن الأمة أمة إسلام، فروي أنهم سروا وخرجوا
إلى الملك، وعظموه، وعظمهم، ثم رجعوا إلى الكهف، وأكثر الروايات على أنهم ماتوا
حين حدثهم تمليخا، فانتظرهم الناس، فلما أبطأ خروجهم، دخل الناس إليهم، فرعب كل
من دخل، ثم أقدموا فوجدوهم موتى، فتنازعوا بحسب ما يأتي، وفي هذه القصص من
الاختلاف ما تضيق به الصحف فاختصرته، وذكرت المهم الذي به تتفسر ألفاظ الآية،
واعتمدت الأصح والله المعين برحمته، وفي هذا البعث بالورق جواز الوكالة، وصحتها.
515

(وأزكى) معناه: أكثر فيما ذكر عكرمة، وقال ابن جبير: المراد أحل،
وقولهم: (يرجموكم) قال الزجاج: بالحجارة، وهو الأصح وقال حجاج: " يرجموكم "
معناه: بالقول وقوله سبحانه: (وكذلك أعثرنا عليهم): الإشارة في قوله: (وكذلك) إلى
بعثهم ليتساءلوا، أي: كما بعثناهم، أعثرنا عليهم، والضمير في قوله: (ليعلموا) يحتمل
أن يعود على الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم، وإلى هذا ذهب
الطبري، وذلك أنهم فيما روي دخلتهم حينئذ فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من
القبور، فشك في ذلك بعض الناس، واستبعدوه، وقالوا: إنما تحشر الأرواح، فشق ذلك
على ملكهم، وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم، حتى لبس المسوح، وقعد على
الرماد وتضرع إلى الله في حجة وبيان، فأعثرهم الله على أهل الكهف، فلما / بعثهم الله،
وتبين الناس أمرهم، سر الملك، ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين به،
وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله: (إذ يتنازعون بينهم أمرهم)، على هذا التأويل، ويحتمل
أن يعود الضمير في (يعلموا) على أصحاب الكهف، وقوله: (إذ يتنازعون)، على هذا
التأويل: ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم، والتنازع على هذا التأويل إنما هو
في أمر البناء أو المسجد، لا في أمر القيامة، وقد قيل: إن التنازع إنما هو في أن اطلعوا
عليهم، فقال بعضهم: هم أموات، وبعض: هم أحياء، وروي أن بعض القوم ذهبوا إلى
طمس الكهف عليهم، وتركهم فيه مغيبين، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر: (لنتخذن
عليهم مسجدا)، فاتخذوه، قال قتادة: (الذين غلبوا) هم الولاة.
وقوله سبحانه: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم...) الآية: الضمير في (سيقولون)
يراد به أهل التوراة من معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل
الكهف.
516

وقوله: (رجما بالغيب): معناه ظنا وهو مستعار من الرجم، كأن الإنسان يرمي
الموضع المشكل المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة يرجمه به، عسى أن يصيبه، والواو
في قوله: (وثامنهم كلبهم): طريق النحاة فيها أنها واو عطف دخلت في آخر الكلام،
إخبارا عن عددهم، لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذا نهاية ما قيل، ولو سقطت، لصح
الكلام، وتقول فرقة منهم ابن خالويه: هي واو الثمانية، وذكر ذلك الثعلبي عن أبي
بكر بن عياش وأن قريشا كانت تقول في عددها: ستة، سبعة وثمانية تسعة، فتدخل الواو
في الثمانية.
قال * ع *: وهي في القرآن في قوله: (والناهون عن المنكر) [التوبة: 112]
وفي قوله: (وفتحت أبوابها) [الزمر: 73] وأما قوله: (وأبكارا) [التحريم: 5] وقوله
(وثمانية أيام) [الحاقة: 7] فليست بواو الثمانية بل هي لازمة إذ لا يستغني الكلام عنها،
وقد أمر الله سبحانه نبيه في هذه الآية، أن يرد علم عدتهم إليه، ثم قال: (ما يعلمهم إلا
قليل) يعني: من أهل الكتاب، وكان ابن عباس، يقول: أنا من ذلك القليل، وكانوا
سبعة، وثامنهم كلبهم.
517

قال * ع *: ويدل على هذا من الآية أنه سبحانه لما حكى قول من قال: ثلاثة،
وخمسة، قرن بالقول، أنه رجم بالغيب، ثم حكى هذه المقالة، ولم يقدح فيها بشئ،
وأيضا فيقوى ذلك على القول بواو الثمانية، لأنها إنما تكون حيث عدد الثمانية صحيح.
وقوله سبحانه: (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا) معناه على بعض الأقوال: أي:
بظاهر ما أوحينا إليك، وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى، وقيل: معنى الظاهر، أن
يقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا يحتج هو على أمر مقرر في ذلك، وقال
التبريزي: (ظاهرا) معناه: ذاهبا وأنشد: [الطويل]
............... * وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
ولم يبح له في هذه / الآية أن يماري، ولكن قوله: (إلا مراء) مجاز من حيث
يماريه أهل الكتاب، سميت مراجعته لهم مراء، ثم قيد بأنه ظاهر، ففارق المراء الحقيقي
المذموم، و " المراء ": مشتق من المرية، وهو الشك، فكأنه المشاككة. * ت *: وفي
سماع ابن القاسم، قال: كان سليمان بن يسار، إذا ارتفع الصوت في مجلسه، أو كان
مراء، أخذ نعليه، ثم قام. قال ابن رشد: هذا من ورعه وفضله، و " المراء " في العلم منهي
عنه، فقد جاء أنه لا تؤمن فتنته، ولا تفهم حكمته انتهى من " البيان ".
والضمير في قوله: (ولا تستفت فيهم) عائد على أهل الكهف، وفي قوله:
(منهم) عائد على أهل الكتاب.
وقوله: (فلا تمار فيهم)، أي: في عدتهم.
وقوله سبحانه: (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله) قد تقدم
518

أن هذه الآية عتاب من الله تعالى لنبيه حيث لم يستثن، والتقدير: إلا أن تقول إلا أن يشاء
الله أو إلا أن تقول: إن شاء الله، والمعنى: إلا أن تذكر مشيئة الله.
وقوله سبحانه: (واذكر ربك إذا نسيت) قال ابن عباس والحسن معناه:
الإشارة به إلى الاستثناء، أي: ولتستثن بعد مدة إذا نسيت، أو لا لتخرج من جملة من لم
يعلق فعله بمشيئة الله، وقال عكرمة: واذكر ربك إذا غضبت، وعبارة الواحدي:
(واذكر ربك إذا نسيت)، أي: إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله، فاذكره وقله إذا تذكرت.
اه‍.
وقوله سبحانه: (وقل عسى أن يهدين ربي...) الآية: الجمهور أن هذا دعاء مأمور
به، والمعنى: عسى أن يرشدني ربي فيما أستقبل من أمري، والآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم،
وهي بعد تعم جميع أمته.
وقال الواحدي: (وقل عسى أن يهديني)، أي: يعطيني ربي الآيات من الدلالات
على النبوة ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف، ثم فعل الله له ذلك
حيث آتاه علم غيوب المرسلين وخبرهم. انتهى.
وقوله سبحانه: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين...) الآية: قال قتادة وغيره:
الآية حكاية عن بني إسرائيل، أنهم قالوا ذلك، واحتجوا بقراءة ابن مسعود وفي
مصحفه: " وقالوا لبثوا في كهفهم "، ثم أمر الله نبيه بأن يرد العلم إليه، ردا على مقالهم
وتفنيدا لهم، وقال المحققون: بل قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم...) الآية خبر من الله
تعالى عن مدة لبثهم، وقوله تعالى: (قل الله أعلم بما لبثوا)، أي: فليزل اختلافكم أيها
المخرصون، وظاهر قوله سبحانه: (وازدادوا تسعا) أنها أعوام.
519

وقوله سبحانه: (أبصر به وأسمع)، أي: ما أسمعه سبحانه، وما أبصره، قال قتادة:
لا أحد أبصر من الله، ولا أسمع.
قال * ع *: وهذه عبارة عن الإدراك، ويحتمل أن يكون المعنى: أبصر به أي:
بوحيه وإرشاده، هداك، وحججك، والحق من الأمور، وأسمع به العالم، فتكون
اللفظتان / أمرين لا على وجب التعجب.
وقوله سبحانه: (ما لهم من دونه من ولي): الضمير في (لهم) يحتمل أن يرجع
إلى أهل الكهف، ويحتمل أن يرجع إلى معاصري النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار، ويكون في الآية
تهديد لهم.
وقوله سبحانه: (أتل ما أوحي إليك)، أي: اتبع، وقيل: اسرد بتلاوتك ما أوحي
إليك من كتاب ربك، لا نقض في قوله، ولا مبدل لكلماته، وليس لك سواه جانب تميل
إليه، وتستند، و " الملتحد " الجانب الذي يمال إليه، ومنه اللحد.
* ت *: قال النووي: يستحب لتالي القرآن إذا كان منفردا أن يكون ختمه في
الصلاة، ويستحب أن يكون ختمه أول الليل أو أول النهار، وروينا في مسند الإمام المجمع
على حفظه وجلالته وإتقانه وبراعته أبي محمد الدارمي رحمه الله تعالى، عن سعد بن أبي
وقاص رضي الله عنه قال: إذ وافق ختم القرآن أول الليل، صلت عليه الملائكة حتى
يصبح، وإن وافق ختمه أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي. قال الدارمي: هذا
حديث حسن وعن طلحة بن مطرف، قال: من ختم القرآن أية ساعة كانت من النهار،
صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وأية ساعة كانت من الليل، صلت عليه الملائكة حتى
يصبح، وعن مجاهد نحوه انتهى.
520

وقوله سبحانه: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم...) الآية: تقدم تفسيرها.
وقوله سبحانه: (ولا تعد عيناك عنهم)، أي: لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا،
وقرأ الجمهور: " من أغفلنا قلبه " بنصب الباء على معنى جعلناه غافلا، " والفرط ":
يحتمل أن يكون بمعنى التفريط، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، وقد فسره
المتأولون بالعبارتين.
وقوله سبحانه: (وقل الحق من ربكم) المعنى: وقل لهم يا محمد هذا القرآن هو
الحق * ت *: وقد ذم الله تعالى الغافلين عن ذكره والمعرضين عن آياته في غير ما آية من
كتابه، فيجب الحذر مما وقع فيه أولئك، ولقد أحسن العارف في قوله: غفلة ساعة عن
ربك مكدرة لمرآة قلبك، فكيف بغفلتك جميع عمرك. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم
ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن
521

حبان في " صحيحهما " وهذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح
على شرط مسلم، " والترة " - بكسر التاء المثناة من فوق وتخفيف الراء - النقص، وقيل:
التبعة، ولفظ ابن حبان: " إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة، وإن دخلوا الجنة " انتهى من
" السلاح ".
وقوله: (فمن شاء فليؤمن...) الآية: توعد وتهديد، أي: فليختر كل امرئ لنفسه
ما يجده غدا عند الله عز وجل، وقال الداوودي، عن ابن عباس: (فمن شاء فليؤمن ومن
شاء فليكفر) يقول: من شاء الله له الإيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر، هو كقوله:
(وما تشاءون / إلا أن يشاء الله رب العالمين) [التكوير: 29] وقال غيره: هو كقوله:
(اعملوا ما شئتم) [فصلت: 40] بمعنى الوعيد، والقولان معا صحيحان. انتهى
و (أعتدنا) مأخوذ من العتاد، وهو الشئ المعد الحاضر، " والسرادق " هو الجدار المحيط
كالحجرة التي تدور وتحيط بالفسطاط، قد تكون من نوع الفسطاط أديما أو ثوبا أو نحوه،
وقال الزجاج: " السرادق ": كل ما أحاط بشئ، واختلف في سرادق النار، فقال ابن
عباس: سرادقها حائط من نار، وقالت فرقة: سرادقها دخان يحيط بالكفار، وهو قوله
تعالى: (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) [المرسلات: 30] وقيل غير هذا، وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي سعيد الخدري، أنه قال سرادق النار أربعة جدر كثف عرض كل
جدار مسيرة أربعين سنة و " المهل " قال أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو دردي الزيت، إذا
انتهى حره، وقال أبو سعيد وغيره: هو كل ما أذيب من ذهب أو فضة، وقالت فرقة:
" المهل " هو الصديد والدم إذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر رضي الله عنه في الكفن: إنما هو
للمهلة، يريد لما يسيل من الميت في قبره، ويقوى هذا بقوله سبحانه: (ويسقى من ماء
صديد) [إبراهيم: 16] و (المرتفق): الشئ الذي بطلب رفقه.
522

وقوله سبحانه: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن
عملا) تقدم تفسير نظيره، والله الموفق بفضله، و (أساور) جمع " أسوار "، وهي ما كان
من الحلي في الذراع، وقيل: " أساور " جمع أسورة، وأسورة جمع أسوار، و " السندس ":
رقيق الديباج " والإستبرق " ما غلظ منه، قيل: إستبرق من البريق، و (الأرائك) جمع
أريكة، وهي السرير في الحجال، والضمير في قوله: (وحسنت) للجنات، وحكى النقاش
عن أبي عمران الجوني، أنه قال: " الإستبرق ": الحرير المنسوج بالذهب.
وقوله سبحانه: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب...)
الآية الضمير في (لهم) عائد على الطائفة المتجبرة التي أرادت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد فقراء
المؤمنين، فالمثل مضروب للطائفتين، إذ الرجل الكافر صاحب الجنتين هو بإزاء متجبري
قريش، أو بني تميم، على الخلاف في ذلك، والرجل المؤمن المقر بالربوبية هو بإزاء فقراء
المؤمنين، " وحففنا " بمعنى جعلنا ذلك لهما من كل جهة، وظاهر هذا المثل أنه بأمر وقع
في الوجود، وعلى ذلك فسره أكثر المتأولين، فروي في ذلك أنهما كانا أخوين من بني
إسرائيل، ورثا أربعة آلاف دينار، فصنع أحدهما بماله ما ذكر، واشترى عبيدا، وتزوج،
وأثرى، وأنفق الآخر ماله في طاعة الله عز وجل حتى افتقر، والتقيا، فافتخر الغني، ووبخ
المؤمن، فجرت بينهما هذه المحاورة، وروي أنهما كانا شريكين حدادين كسبا مالا كثيرا،
وصنعا نحو ما روي / في أمر الأخوين، فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه.
قال السهيلي: وذكر أن هذين الرجلين هما المذكوران في " والصافات " في قوله
تعالى: (قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين) إلى قوله (فاطلع
فرآه في سواء الجحيم) وإلى قوله: (لمثل هذا فليعمل العاملون) [الصافات: 5 - 55،
61] انتهى.
وقوله سبحانه: (كلتا الجنتين آتت أكلها) الأكل: ثمرها الذي يؤكل (ولم تظلم منه
شيئا) أي لم تنقص عن العرف الأتم الذي يشبه فيها، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
523

ويظلمني مالي كذا ولوى يدي * لوى يده الله الذي هو غالبه
وقرأ الجمهور: " ثمر " و " بثمره " [الكهف: 42] - بضم الثاء والميم - جمع
" ثمار "، وقرأ أبو عمرو - بسكون الميم - فيهما، واختلف المتأولون في " الثمر " - بضم
الثاء والميم - فقال ابن عباس وغيره: " الثمر ": جميع المال من الذهب والفضة والحيوان
وغير ذلك، وقال ابن زيد: هي الأصول، و " المحاورة ": مراجعة القول، وهو من
" حار يحور ".
وقوله: (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا): هذه المقالة بإزاء مقالة متجبري قريش، أو
بني تميم، على ما تقدم في " سورة الأنعام. * ت * وقوله: (وأعز نفرا) يضعف قول
من قال: " إنهما أخوان " فتأمله، والله أعلم بما صح من ذلك.
وقوله سبحانه: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه...) الآية: أفرد الجنة من حيث
الوجود كذلك إذ لا يدخلهما معا في وقت واحد، وظلمه لنفسه هو كفره وعقائده الفاسدة
في الشك في البعث، وفي شكه في حدوث العالم، إن كانت إشارته ب‍ (هذه) إلى الهيئة
من السماوات والأرض وأنواع المخلوقات، وإن كانت إشارته إلى جنته فقط، فإنما الكلام
تساخف واغترار مفرط، وقلة تحصيل، كأنه من شدة العجب بها والسرور، أفرط في
وصفها بهذا القول، ثم قاس أيضا الآخرة على الدنيا وظن أنه لم يمل له في دنياه إلا لكرامة
يستوجبها في نفسه، فقال: فإن كان ثم رجوع، فستكون حالي كذا وكذا.
524

وقوله: (قال له صاحبه) يعني المؤمن.
وقوله: (خلقك من تراب) إشارة إلى آدم عليه السلام.
وقوله: (لكنا هو الله ربي) معناه: لكن أنا أقول هو الله ربي، وروى هارون عن
أبي عمرو " لكنه هو الله ربي "، وباقي الآية بين.
وقوله: (ولولا إذ دخلت جنتك...) الآية: وصية من المؤمن للكافر، (ولولا):
تحضيض بمعنى " هلا "، و (ما) تحتمل أن تكون بمعنى " الذي " بتقدير: الذي شاء الله
كائن، وفي (شاء) ضمير عائد على " ما "، ويحتمل أن تكون شرطية بتقدير: ما شاء الله
كان، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو ما شاء الله، أو الأمر ما شاء الله.
وقوله: (لا قوة إلا بالله): تسليم، وضد لقول الكافر: (ما أظن أن تبيد هذه أبدا)
[الكهف: 35]، وفي الحديث: " إن هذه الكلمة كنز من كنوز الجنة، إذا قالها العبد، قال
الله عز وجل: " أسلم / عبدي واستسلم "، قال النووي: وروينا في " سنن أبي داود والترمذي
والنسائي " وغيرهما، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال يعنى - إذا خرج من بيته -
بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هديت، وكفيت،
ووقيت، وتنحى عنك الشيطان ". قال الترمذي: حديث حسن، زاد أبو داود في روايته:
" فيقول: - يعني الشيطان لشيطان آخر - كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي " انتهى.
وروى الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكثر من قول لا حول ولا
قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة " انتهى.
قال المحاسبي في " رعايته ": وإذا عزم العبد في القيام بجميع حقوق الله سبحانه،
525

فليرغب إليه في المعونة من عنده على أداء حقوقه، ورعايتها، وناجاه بقلب راغب راهب،
إني أنسى إن لم تذكرني، وأعجز إن لم تقوني، وأجزع إن لم تصبرني، وعزم وتوكل،
واستغاث واستعان، وتبرأ من الحول والقوة إلا بربه، وقطع رجاءه من نفسه، ووجه رجاءه
كله إلى خالقه، فإنه سيجد الله عز وجل قريبا مجيبا متفضلا متحننا. انتهى.
قال ابن العربي في " أحكامه " قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول كما
قال الله تعالى: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) انتهى.
وقوله: (فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك) هذا الترجي ب‍ " عسى " يحتمل أن
يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخرة، وتمنى ذلك في الآخرة أشرف وأذهب
مع الخير والصلاح، وأن يكون ذلك يراد به الدنيا - أذهب في نكاية هذا المخاطب،
و " الحسبان " العذاب، كالبرد والصرد ونحوه، و " الصعيد " وجه الأرض، " والزلق ": الذي لا
تثبت فيه قدم، يعنى: تذهب منافعها حتى منفعة المشي فهي وحل لا تثبت فيه قدم.
وقوله سبحانه: (وأحيط بثمره...) الآية: هذا خبر من الله عز وجل عن إحاطة
العذاب بحال هذا الممثل به، و (يقلب كفيه): يريد يضع بطن إحداهما على ظهر
الأخرى، وذلك فعل المتلهف المتأسف.
وقوله: (خاوية على عروشها) يريد أن السقوف وقعت، وهي العروش، ثم تهدمت
الحيطان عليها، فهي خاوية والحيطان على العروش.
* ت *: فسر * ع * رحمه الله لفظ (خاوية) في " سورة الحج والنمل "
ب‍ " خالية "، والأحسن أن تفسر هنا وفي الحج ب‍ " ساقطة "، وأما التي في " النمل "، فيتجه أن
تفسر ب‍ " خالية " وب‍ " ساقطة " قال الزبيدي في " مختصر العنين " خوت الدار: باد أهلها،
وخوت: تهدمت انتهى، وقال الجوهري في كتابه المسمى ب‍ " تاج اللغة وصحاح العربية ":
خوت النجوم خيا: أمحلت، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها، وأخوت مثله، وخوت
526

الدار خواء ممدودا: / أقوت وكذلك إذا سقطت، ومنه قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية
بما ظلموا) [النمل: 52] أي: خالية، ويقال: ساقطة، كما قال: (فهي خاوية على
عروشها) [الحج: 45] أي ساقطة على سقوفها / انتهى وهو تفسير بارع. وبه أقول، وقد
تقدم إيضاح هذا المعنى في " سورة البقرة ".
وقوله: (يا ليتني لم أشرك بربي أحدا) قال بعض المفسرين: هي حكاية عن مقالة
هذا الكافر في الآخرة، ويحتمل أن يكون قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلول
المصيبة، ويكون فيها زجر لكفرة قريش وغيرهم، " والفئة ": الجماعة التي يلجأ إلى
نصرها.
وقوله سبحانه: (هنالك) يحتمل أن تكون ظرفا لقوله: (منتصرا) ويحتمل أن
يكون (الولاية) مبتدأ، و (هنالك): خبره، وقرأ حمزة والكسائي: " الولاية - بكسر
الواو -، وهي بمعنى الرياسة ونحوه، وقرأ الباقون: " الولاية " - بفتح الواو - وهي بمعنى
الموالاة والصلة ونحوه، وقرأ أبو عمرو والكسائي: " الحق " بالرفع، على النعت
ل‍ " الولاية " وقرأ الباقون بالخفض على النعت ل‍ (الله) عز وجل، وقرأ الجمهور: " عقبا " -
بضم العين والقاف - وقرأ حمزة وعاصم - بسكون القاف - والعقب والعقب: بمعنى
العاقبة.
(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا) يريد حياة الإنسان، كما أنزلناه من السماء (فاختلط
527

به)، أي: فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب النماء، (فأصبح هشيما) أصبح عبارة عن
صيرورته إلى ذلك، و " الهشيم " المتفتت من يابس العشب، و (تذروه) بمعنى تفرقه،
فمعنى هذا المثل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وبطره، بالنبات الذي له خضرة
ونضرة عن الماء النازل، ثم يعود بعد ذلك هشيما، ويصير إلى عدم، فمن كان له عمل
صالح يبقى في الآخرة، فهو الفائز.
وقوله سبحانه: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) لفظه الخبر، لكن معه قرينة الصفة
للمال والبنين، لأنه في المثل قبل حقر أمر الدنيا وبينه، فكأنه يقول: المال والبنون زينة هذه
الحياة الدنيا المحقرة، فلا تتبعوها نفوسكم، والجمهور أن (الباقيات الصالحات). هي
الكلمات المذكور فضلها في الأحاديث: " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله
أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم "، وقد جاء ذلك مصرحا به من لفظ
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " وهن الباقيات الصالحات ".
وقوله سبحانه: (خير عند ربك ثوابا وخير أملا) أي: صاحبها ينتظر الثواب،
وينبسط أمله، فهو خير من حال ذي المال والبنين، دون عمل صالح، وعن أبي سعيد
الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " استكثروا من الباقيات الصالحات " قيل: وما هن، يا
رسول الله؟ قال: " التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة / إلا بالله "
رواه النسائي وابن حبان في " صحيحه " انتهى من " السلاح ".
وفي " صحيح مسلم " عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحب الكلام إلى
الله تعالى أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن
بدأت " وفي " صحيح مسلم "، عن أبي مالك الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الطهور
شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين
السماوات والأرض... " الحديث انتهى.
قال ابن العربي في " أحكامه ": وروى مالك عن سعيد بن المسيب، أن الباقيات
الصالحات قول العبد: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، ولا حول
528

ولا قوة إلا بالله " وروي عن ابن عباس وغيره، أن الباقيات الصالحات الصلوات
الخمس. انتهى.
* ت *: وما تقدم أولى، ومن كلام الشيخ الولي العارف أبي الحسن الشاذلي رضي
الله عنه قال: عليك بالمطهرات الخمس في الأقوال، والمطهرات الخمس في الأفعال،
والتبري من الحول والقوة في جميع الأحوال، وغص بعقلك إلى المعاني القائمة بالقلب،
واخرج عنها وعنه إلى الرب واحفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده أمامك واعبد الله بها،
وكن من الشاكرين، فالمطهرات الخمس في الأقوال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا
الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والمطهرات الخمس في الأفعال: الصلوات
الخمس، والتبري من الحول والقوة: هو قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله. انتهى.
وقوله سبحانه: (وترى الأرض بارزة): يحتمل أن الأرض، لذهاب الجبال،
والضراب والشجر - برزت، وانكشفت ويحتمل أن يريد بروز أهلها من بطنها للحشر،
و " المغادرة ": الترك، (وعرضوا على ربك صفا)، أي: صفوفا وفي الحديث الصحيح:
" يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي، وينفذهم
البصر... " الحديث بطوله، وفي حديث آخر: " أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون
صفا، أنتم منها ثمانون صفا ".
وقوله سبحانه: (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة): يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم
تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا (كما بدأنا أول خلق نعيده) [الأنبياء: 104] ".
وقوله سبحانه: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه...) الآية:
529

(الكتاب) اسم جنس يراد به كتب الناس التي أحصتها الحفظة لواحد واحد، ويحتمل أن
يكون الموضوع كتابا واحدا حاضرا، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (إلا إبليس كان من الجن) قالت فرقة: إبليس لم يكن من الملائكة،
بل هو من الجن، وهم الشياطين المخلوقون من مارج من نار، وجميع الملائكة إنما خلقوا
من نور، واختلفت هذه الفرقة، فقال بعضهم: إبليس من الجن، وهو أولهم وبدأتهم، كآدم
من الإنس، وقالت فرقة: بل كان إبليس وقبيله جنا، لكن جميع الشياطين اليوم من ذريته،
فهو كنوح في الإنس، واحتجوا بهذه الآية.
وقوله: (ففسق) معناه فخرج عن أمر ربه وطاعته.
وقوله عز وجل: (أفتتخذونه) يريد: أفتتخذون إبليس.
وقوله: (وذريته): ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين، الذين يأمرون
بالمنكر، ويحملون على الأباطيل.
وقوله تعالى: (بئس للظالمين بدلا) أي: بدل ولاية الله عز وجل بولاية إبليس
وذريته، وذلك هو التعوض من الحق بالباطل.
وقوله سبحانه: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض...) الآية: الضمير في
(أشهدتهم) عائد على الكفار، وعلى الناس بالجملة / فتتضمن الآية الرد على طوائف من
المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء، وسواهم من كل من يتخرص في هذه
الأشياء، وقيل: عائد على ذرية إبليس، فالآية على هذا تتضمن تحقيرهم، والقول الأول
أعظم فائدة، وأقول: إن الغرض أولا بالآية هم إبليس وذريته، وبهذا الوجه يتجه الرد على
الطوائف المذكورة، وعلى الكهان والعرب المصدقين لهم، والمعظمين للجن، حين
يقولون: أعوذ بعزيز هذا الوادي، إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته، وهم
أضل الجميع، فهم المراد الأول ب‍ (المضلين)، وتندرج هذه الطوائف في معناهم، وقرأ
الجمهور: " وما كنت "، وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن، بخلاف " وما كنت "،
" والعضد ": استعارة للمعين والمؤازر، (ويوم يقول نادوا شركائي) أي: على جهة
530

الاستغاثة بهم، واختلف في قوله: (مؤبقا)، فقال ابن عباس: معناه مهلكا، وقال
عبد الله بن عمر وأنس بن مالك ومجاهد: (موبقا) هو واد في جهنم يجرى بدم
وصديد. قال أنس: يحجز بين أهل النار وبين المؤمنين.
وقوله سبحانه: (فظنوا أنهم مواقعوها)، أي: مباشروها، وأطلق الناس أن الظن هنا
بمعنى اليقين.
قال * ع *: والعبارة بالظن لا تجيء أبدا في موضع يقين تام قد قاله الحسن
بل أعظم درجاته أن يجيء، في موضع متحقق، لكنه لم يقع ذلك المظنون، وإلا فمذ يقع
ويحس لا يكاد توجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن، وتأمل هذه الآية، وتأمل كلام
العرب، وروى أبو سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الكافر ليرى جهنم، ويظن أنها
مواقعته من مسيرة أربعين سنة "، و " المصرف ": المعدل والمراغ، وهو مأخوذ من
الانصراف من شئ إلا شئ.
531

وقوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر
شئ جدلا) (الإنسان) هنا يراد به الجنس، وقد استعمل صلى الله عليه وسلم الآية على العموم في مروره
بعلي ليلا، وأمره له بالصلاة بالليل، فقال علي: إنما أنفسنا يا رسول الله بيد الله، أو كما
قال، فخرج صلى الله عليه وسلم، وهو يضرب فخذه بيده، ويقول: (وكان الإنسان أكثر شئ جدلا).
وقوله سبحانه: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى...) الآية: (الناس)،
هنا يراد بهم كفار عصر النبي صلى الله عليه وسلم، و (سنة الأولين)، هي عذاب الأمم المذكورة في
القرآن، (أو يأتيهم العذاب قبلا)، أي: مقابلة عيانا، والمعنى: عذابا غير المعهود، فتظهر
فائدة التقسيم، وقد وقع ذلك بهم يوم بدر، وكأن حالهم تقتضي التأسف عليهم، وعلى
ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إلى الخسران - عافانا الله من ذلك -.
و (يدحضوا) معناه: يزهقوا، " والدحض ": الطين.
وقوله: (فلن يهتدوا إذا): لفظ عام يراد به الخاص ممن حتم الله عليه أنه لا يؤمن،
ولا يهتدي أبدا، كأبي جهل وغيره.
/ وقوله: (بل لهم موعد) قالت فرقة: هو أجل الموت، وقالت فرقة: هو عذاب
الآخرة، وقال الطبري هو يوم بدر والحشر.
وقوله سبحانه: (لن يجدوا من دونه موئلا)، أي: لا يجدون عنه منجى، يقال:
وأل الرجل يئل، إذ نجا، ثم عقب سبحانه توعدهم بذكر الأمثلة من القرى التي نزل بها ما
توعد هؤلاء بمثله، و (القرى): المدن، والإشارة إلى عاد وثمود وغيرهم، وباقي الآية
بين.
قال * ص *: وقوله: (لما ظلموا) في (لما ظلموا): إشعار بعلة الإهلاك، وبهذا
استدل ابن عصفور على حرفية " لما "، لأن الظرف لا دلالة فيه على العلية.
وقوله سبحانه: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح...) الآية: (موسى) هو ابن
عمران، وفتاه هو يوشع بن نون، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن موسى عليه
السلام جلس يوما في مجلس لبني إسرائيل، وخطب، فأبلغ، فقيل له: هل تعلم أحدا أعلم
532

منك؟ قال: لا، فأوحى الله إليه: بلى عبدنا خضر، فقال: يا رب، دلني على السبيل إلى
لقيه، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر، حتى يبلع مجمع البحرين، فإذا فقد
الحوت، فإنه هنالك، وأمر أن يتزود حوتا، ويرتقب زواله عنه، فعل موسى ذلك، وقال
لفتاه على جهة إمضاء العزيمة: لا أبرح أسير، أي: لا أزال، وإنما قال هذه المقالة، وهو
سائر، قال السهيلي: كان موسى عليه السلام أعلم بعلم الظاهر، وكان الخضر أعلم بعلم
الباطن، وأسرار الملكوت، فكانا بحرين اجتمعا بمجمع البحرين، والخضر شرب من عين
الحياة، فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال، وقال البخاري
وطائفة من أهل الحديث، منهم شيخنا أبو بكر بن العربي رحمه الله: مات الخضر قبل
انقضاء المائة من قوله صلى الله عليه وسلم: " أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن إلى رأس مائة عام منها لا يبقى على
الأرض ممن هو عليها أحد " يعني من كان حيا حين قال هذه المقالة، وأما اجتماع
الخضر مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل بيته، فمروي من طرق صحاح، وصح عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إنما سمي الخضر، لأنه جلس على فروة بيضاء، فاهتزت تحته
خضراء ".
قال الخطابي: الفروة وجه الأرض، ثم أنشد على ذلك شاهدا انتهى.
533

واختلف الناس في " مجمع البحرين "، فقال مجاهد وقتادة هو مجمع بحر فارس
وبحر الروم، وقالت فرقة (مجمع البحرين): هو عند طنجة، وقيل غير هذا، واختلف
في " الحقب "، فقال ابن عباس وغيره: الحقب: أزمان غير محدودة، وقال عبد الله بن
عمرو ثمانون سنة، وقال مجاهد: سبعون، وقيل: سنة.
وقوله سبحانه: (فلما بلغا مجمع بينهما) الضمير في (بينهما): للبحرين، قاله
534

مجاهد، وفي الحديث الصحيح: " ثم انطلق، وانطلق معه / فتاه يوشع بن نون، حتى أتيا
الصخرة وضعا رؤوسهما، فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في
البحر، واتخذ سبيله في البحر سربا، أي: مسلكا في جوف الماء، وأمسك الله عن الحوت
جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ، نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا
بقية يومهما، وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: (آتنا غداءنا لقد لقينا من
سفرنا هذا نصبا) ويعني ب‍ " النصب " تعب الطريق، قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز
المكان الذي أمره الله به، قال له فتاه: (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت)،
يريد: ذكر ما جرى فيه، (وما أنسانيه)، أي أن أذكره (إلا الشيطان)، و (اتخذ سبيله في
البحر عجبا) قال: فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا، فقال موسى: (ذلك ما كنا
نبغ فارتدا على آثارهما قصصا)، قال: فرجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا
رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام قال: أنا
موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا، (قال:
إنك لن تستطيع معي صبرا) يعني: لا تطيق أن تصبر على ما تراه من عملي لأن الظواهر
التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ، ولم تخبر بوجه الحكمة فيه؟ يا
موسى، إني على علم من علم الله، علمنيه لا تعلمه، يريد: علم الباطن، وأنت على علم
من علم الله علمكه الله، لا أعلمه، يريد: علم الظاهر، فقال له موسى: (ستجدني إن
شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا)، فقال له الخضر: (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ
حتى أحدث لك منه ذكرا)، أي: حتى أشرح لك ما ينبغي شرحه، فانطلقا يمشيان على
ساحل البحر، فمرت بهم سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير
نول، يقول: بغير أجر، فلما ركبا في السفينة، لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع لوحا من
ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى، قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم،
فخرقتها لتغرق أهلها، (لقد جئت شيئا إمرا)، أي شنيعا من الأمور، وقال مجاهد: الأمر
المنكر، (قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا
ترهقني من أمري عسرا) قال أبي كعب، النبي صلى الله عليه وسلم: (فكانت الأولى من موسى
نسيانا، قال: وجاء عصفور، فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له
الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر "،
535

وفي رواية: " والله، ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ / هذا الطائر بمنقاره
من البحر "، وفي رواية: " ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس
هذا العصفور منقاره ".
قال * ع *: وهذا التشبيه فيه تجوز، إذ لا يوجد في المحسوسات أقوى في القلة
من نقطة بالإضافة إلى البحر، فكأنها لا شئ، ولم يتعرض الخضر لتحرير موازنة بين
المثال بين علم الله تعالى، إذ علمه سبحانه غير متناه، ونقط البحر متناهية، ثم خرج من
السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ
الخضر رأسه بيده، فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أقتلت نفسا زاكية.
قال * ع *: قيل: كان هذا الغلام لم يبلغ الحلم، فلهذا قال موسى: نفسا زاكية،
وقالت فرقة: بل كان بالغا.
وقوله: (بغير نفس) يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس، لم يكن به بأس، وهذا يدل
على كبر الغلام، وإلا فلو كان لم يحتلم، لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس. * ت *:
وهذا إذا كان شرعهم كشرعنا، وقد يكون شرعهم أن النفس بالنفس عموما في البالغ
وغيره، وفي العمد والخطأ، فلا يلزم من الآية ما ذكر.
وقوله: (لقد جئت شيئا نكرا) معناه: شيئا ينكر.
قال * ع *: ونصف القرآن بعد الحروف. انتهى إلى النون من قوله: (نكرا).
536

(قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا) قال: وهذه أشد من الأولى - (قال
إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا
أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض)، قال:
مائل، فقال الخضر بيده هكذا، فأقامه، فقال موسى: قوم أتيناهم، فلم يطعمونا، ولم
يضيفونا (لو شئت لتخذت عليه أجرا) قال سعيد بن جبير: أجرا نأكله - " قال هذا فراق
بيني وبينك " إلى قوله: (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما " قال سعيد: فكان ابن عباس
يقرأ: " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة [صالحة] غصبا "، وكان يقرأ: " وأما الغلام [فكان
كافرا] وكان أبواه مؤمنين "، وفي رواية للبخاري: يزعمون عن غير سعيد بن جبير، أن اسم
الملك: هدد بن بدد، والغلام المقتول اسمه يزعمون حيسور، ويقال: جيسور ملك (يأخذ
كل سفينة غصبا)، فأردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها،
فانتفعوا بها، ومنهم من يقول: سدوها بقارورة، ومنهم من يقول بالقار، كان أبواه مؤمنين،
وكان كافرا، (فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على
دينه، (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة) لقوله: " أقتلت نفسا زاكية "، (وأقرب
رحما) هما به أرحم منهما بالأول الذي قتله خضر، وزعم غير سعيد أنهما أبدلا جارية،
وأما داود بن أبي عاصم، فقال عن غير واحد: إنها جارية. انتهى لفظ البخاري.
* ت *: وقد تحرينا / في هذا المختصر بحمد الله التحقيق فيما علقناه جهد
الاستطاعة، والله المستعان، وهو المسؤول أن ينفع به بجوده وكرمه.
قال * ع *: ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي
537

ثلاثة، وأيام التلوم ثلاثة، فتأمله.
وقوله سبحانه: (فأبوا أن يضيفوهما) وفي الحديث: " أنهما كانا يمشيان على
مجالس أولئك القوم يستطعمانهم ".
قال * ع *: وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله عز وجل. * ص *:
وقوله: (فراق بيني) الجمهور بإضافة " فراق "، أبو البقاء، تفريق وصلنا، وقرأ ابن أبي
عبلة " فراق بالتنوين، أبو البقاء و " بين ": منصوب على الظرف انتهى.
قال * ع *: و (وراءهم) هو عندي على بابه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء
مراعي بها الزمان، وذلك أن الحادث المقدم الوجود هو الأمام، والذي يأتي بعد هو
الوراء، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، ومن قرأ:
" أمامهم "، أراد في المكان.
قال * ع *: وفي الحديث، " أن هذا الغلام طبع يوم طبع كافرا "، والضمير في
" خشينا " للخضر، قال الداوودي: قوله: (فخشينا أن يرهقهما)، أي: علمنا انتهى.
" والزكاة " شرف الخلق والوقار والسكينة المنطوية على خير ونية، " والرحم " الرحمة، وروي
عن ابن جريج، أنهما بدلا غلاما مسلما، وروي عنه أنهما بدلا جارية، وحكى النقاش
أنها ولدت هي وذريتها سبعين نبيا، وذكره المهدوي عن ابن عباس، وهذا بعيد، ولا
تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم، واختلف الناس في هذا
الكنز المذكور هنا، فقال ابن عباس: كان علما في صحف مدفونة، وقال عمر مولى
غفرة: كان لوحا من ذهب قد كتب فيه: " عجبا للموقن بالرزق كيف يتعب، وعجبا للموقن
بالحساب كيف يغفل، وعجبا للموقن بالموت كيف يفرح "، وروي نحو هذا مما هو في
538

معناه، وقال الداوودي: (كان تحته كنز لهما)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ذهب وفضة " انتهى،
فإن صح هذا الحديث، فلا نظر لأحد معه، فالله أعلم أي ذلك كان.
وقوله سبحانه: (وكان أبوهما صالحا) ظاهر اللفظ، والسابق منه إلى الذهن أنه
والدهما دنية، وقيل: هو الأب السابع، وقيل: العاشر، فحفظا فيه، وفي الحديث: " أن
الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته "، وقول الخضر: (وما فعلته عن أمري)،
يقتضي أنه نبي، وقد اختلف فيه، فقيل: هو نبي، وقيل: عبد صالح، وليس بنبي، وكذلك
اختلف في موته وحياته، والله أعلم بجميع ذلك، ومما يقضى بموت الخضر قوله صلى الله عليه وسلم:
" أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن إلى رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض
أحد ".
قال القرطبي في " تذكرته ": وذكر عن عمرو بن دينار: الخضر وإلياس عليهما السلام
حيان، فإذا رفع القرآن ماتا / قال القرطبي: وهذا هو الصحيح انتهى، وحكايات من رأى
الخضر من الأولياء لا تحصى كثرة فلا نطيل بسردها، وانظر " لطائف المنن " لابن عطاء
الله.
وقوله: (ذلك تأويل): أي مآل، وحكى السهيلي أنه لما حان للخضر وموسى أن
يفترقا، قال له الخضر: لو صبرت، لأتيت على ألف عجب، كلها أعجب مما رأيت،
فبكى موسى، وقال للخضر: أوصني يرحمك الله، فقال: يا موسى، اجعل همك في
معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تأمن من الخوف في أمنك، ولا تيئس من الأمن في
خوفك، وتدبر الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك، فقال له موسى: زدني
يرحمك الله، فقال له الخضر: يا موسى، إياك واللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا
تضحك من غير عجب، ولا تعير أحدا، وابك على خطيئتك يا بن عمران. انتهى.
539

وقوله سبحانه: (ويسألونك عن ذي القرنين...) الآية: " ذو القرنين "، هو الملك
الإسكندر اليوناني، واختلف في وجه تسميته ب‍ " ذي القرنين " وأحسن ما قيل فيه: أنه كان
ذا ظفيرتين، من شعرهما قرناه، والتمكين له في الأرض: أنه ملك الدنيا، ودانت له الملوك
كلها، وروي أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة، مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن
داود عليهما السلام، والإسكندر، والكافران: نمرود، وبخت نصر.
وقوله سبحانه: (واتيناه من كل شئ سببا) معناه: علما في كل أمر، وأقيسة يتوصل
بها إلى معرفة الأشباء، وقوله: (كل شئ) عموم معناه الخصوص في كل ما يمكنه أن
يعلمه ويحتاج إليه، وقوله: (فأتبع سببا)، أي: طريقا مسلوكة، وقرأ نافع وابن كثير:
وحفص عن عاصم: " في عين حمئة "، أي: ذات حمأة، وقرأ الباقون: " في عين حامية "،
أي: حارة، وذهب الطبري إلى الجمع بين الأمرين، فقال: يحتمل أن تكون العين حارة
ذات حمأة، واستدل بعض الناس على أن ذا القرنين نبي بقوله تعالى: (قلنا يا ذا
القرنين)، ومن قال: إنه ليس بنبي، قال كانت هذه المقالة من الله له بإلهام.
قال * ع *: والقول بأنه نبي ضعيف، و (إما أن تعذب) معناه: بالقتل على
الكفر، (وإما أن تتخذ فيهم حسنا)، أي: إن آمنوا، وذهب الطبري إلى أن اتخاذه
الحسن هو الأسر مع كفرهم، ويحتمل أن يكون الاتخاذ ضرب الجزية، ولكن تقسيم ذي
القرنين بعد هذا الأمر إلى كفر وإيمان يرد هذا القول بعض الرد، و (ظلم)، في هذه الآية:
بمعنى كفر، وقوله: (عذابا نكرا)، أي: تنكره الأوهام، لعظمه، وتستهوله، و (الحسنى)
يراد بها الجنة.
وقوله تعالى: (ثم أتبع سببا) المعنى: ثم سلك ذو القرنين الطرق المؤدية إلى
مقصده، وكان ذو القرنين، على ما وقع في كتب التاريخ يدوس الأرض بالجيوش الثقال،
540

والسيرة الحميدة، والحزم المستيقظ، والتأييد المتواصل، وتقوى الله عز وجل، فما لقي
أمة، ولأمر بمدينة إلا ذلت ودخلت في طاعته، وكل من / عارضه أو توقف عن أمره،
جعله عظة وآية لغيره، وله في هذا المعنى أخبار كثيرة وغرائب، محل ذكرها كتب التاريخ.
وقوله: (وجدها تطلع على قوم) المراد ب‍ " القوم " الزنج، قاله قتادة، وهم الهنود
وما وراءهم، وقال الناس في قوله سبحانه: (لم نجعل لهم من دونها سترا) معناه: أنهم
ليس لهم بنيان، إذ لا تحتمل أرضهم البناء وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب،
وقيل: يدخلون في ماء البحر، قاله الحسن وغيره، وأكثر المفسرون في هذا المعنى،
والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم، ولو كان لهم أسراب تغنى لكان
سترا كثيفا.
وقوله: (كذلك) معناه: فعل معهم كفعله مع الأوليين أهل المغرب، فأوجز بقوله:
(كذلك)
وقوله: (حتى إذا بلغ بين السدين...) الآية: " السدان "، فيما ذكر أهل التفسير:
جبلان سدا مسالك تلك الناحية، وبين طرفي الجبلين فتح هو موضع الردم، وهذان الجبلان
في طرف الأرض مما يلي المشرق، ويظهر من ألفاظ التواريخ، أنهما إلى ناحية الشمال.
وقوله تعالى: (ووجد عندها قوما): قال السهيلي: هم أهل جابلص، ويقال لها
بالسريانية " جرجيسا " يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح.
وقوله تعالى: (وجدها تطلع على قوم) هم: أهل جابلق، وهم من نسل مؤمني قوم
عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لها بالسريانية: " مرقيسيا " ولكل واحدة من المدينتين عشرة
آلاف باب، بين كل بابين فرسخ، ومر بهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، فدعاهم،
فأجابوه، وآمنوا به، ودعا من ورائهم من الأمم، فلم يجيبوه في حديث طويل رواه الطبري
عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. انتهى،
541

والله أعلم بصحته.
و (يأجوج ومأجوج): قبيلان من بني آدم، لكنهم ينقسمون أنواعا كثيرة، اختلف
الناس في عددها، واختلف في إفسادهم الذي وصفوهم به، فقيل: أكل بني آدم، وقالت
فرقة: إفسادهم: هو الظلم والغشم وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، وهذا أظهر
الأقوال، وقولهم: (فهل نجعل لك خرجا): استفهام على جهة حسن الأدب، " والخرج ":
المجبى، وهو الخراج، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: " خراجا "، وروي في أمر يأجوج
ومأجوج أن أرزاقهم هي من التنين يمطرون به، ونحو هذا مما لم يصح، وروي أيضا أن
الذكر منهم لا يموت حتى يولد له ألف والأنثى كذلك، وروي أنهم يتسافدون في الطرق
كالبهائم، وأخبارهم تضيق بها الصحف، فاختصرت ذلك، لعدم صحته.
* ت *: والذي يصح من ذلك كثرة عددهم على الجملة، على ما هو معلوم من
حديث: " أخرج بعث النار " وغيره من الأحاديث.
وقوله: (ما مكني / فيه ربي خير) المعنى: قال لهم ذو القرنين: ما بسطه الله لي
من القدرة والملك خير من خراجكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، وهذا من تأييد الله
تعالى له، فإنه تهدى في هذه المحاورة إلى الأنفع الأنزه، فإن القوم لو جمعوا له الخراج
الذي هو المال، لم يعنه منهم أحد، ولو كلوه إلى البنيان، ومعونتهم بالقوة أجمل به.
وقوله: (آتوني زبر الحديد...) الآية: قرأ حمزة وغيره: " ائتوني " بمعنى
" جيئوني "، وقرأ نافع وغيره: " آتوني " بمعنى " أعطوني "، وهذا كله إنما هو استدعاء
542

المناولة، وأعمال القوة " والزبر " جمع زبرة، وهي القطعة العظيمة منه، والمعنى: فرصفه
وبناه (حتى إذا ساوى بين الصدفين)، وهما الجبلان، وقوله: (قال انفخوا...) إلى
آخر الآية، معناه: أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها حتى تحمى
ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد، بحسب الخلاف في " القطر "، فيفرغه
على تلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد، استأنف رصف طاقة أخرى إلى أن استوى
العمل، وقال أكثر المفسرين: " القطر ": النحاس المذاب، ويؤيد هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
جاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني رأيت سد يأجوج ومأجوج، فقال: كيف رأيته؟ قال:
رأيته كالبرد المحبر، طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قد
رأيته " و (يظهروه) ومعناه: يعلونه بصعود فيه، ومنه قوله في " الموطإ "، " والشمس في
حجرتها قبل أن تظهر "، (وما استطاعوا له نقبا) لبعد عرضه وقوته، ولا سبيل سوى
هذين: إما ارتقاء، وإما نقب، وروي أن في طوله ما بين طرفين الجبلين مائة فرسخ، وفي
عرضه خمسين فرسخا، وروي غير هذا مما لم نقف على صحته، فاختصرناه، إذ لا غاية
للتخرص، وقوله في الآية (انفخوا) يريد بالأكيار.
وقوله: (هذا رحمة من ربي...) الآية: القائل ذو القرنين، وأشار ب‍ (هذا) إلى
الردم والقوة عليه، والانتفاع به، والوعد يحتمل أن يريد به يوم القيامة، ويحتمل أن يريد به
وقت خروج يأجوج ومأجوج، وقرأ نافع وغيره: " دكا " مصدر " دك يدك "، إذا هدم
ورض، وناقة دكاء لا سنام لها، والضمير في (تركنا) لله عز وجل.
وقوله: (يومئذ) يحتمل أن يريد به يوم القيامة، ويحتمل أن يريد به يوم كمال السد،
والضمير في قوله: (بعضهم) على هذا ليأجوج ومأجوج، واستعارة الموج لهم عبارة عن
الحيرة، وتردد بعضهم في بعض، كالمولهين من هم وخوف ونحوه، فشبههم بموج البحر
الذي يضطرب بعضه في بعض.
وقوله: (ونفح في الصور...) إلى آخر الآية: يعني به يوم القيامة بلا احتمال
543

لغيره، (والصور) في قول الجمهور وظاهر الأحاديث الصحاح: هو القرن الذي ينفخ فيه
إسرافيل للقيامة.
وقوله سبحانه: (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) معناه / أبرزناها لهم،
لتجمعهم وتحطمهم، ثم أكد بالمصدر عبارة عن شدة الحال.
وقوله: (أعينهم) كناية عن البصائر، والمعنى: الذين كانت فكرهم بينها، وبين
ذكري والنظر في شرعي - حجاب، وعليها غطاء (وكانوا لا يستطيعون سمعا) يريد
لإعراضهم ونفارهم عن دعوة الحق، وقرأ الجمهور، " أفحسب الذين كفروا " - بكسر
السين - بمعنى " أظنوا " وقرأ علي بن أبي طالب وغيره وابن كثير، بخلاف عنه:
" أفحسب " بسكون السين وضم الباء، بمعنى " أكافيهم ومنتهى غرضهم "، وفي مصحف ابن
مسعود: " أفظن الذين كفروا " وهذه حجة لقراءة الجمهور.
وقوله: (أن يتخذوا عبادي) قال جمهور المفسرين: يريد كل من عبد من دون الله،
كالملائكة وعزير وعيسى، والمعنى: أن الأمر ليس كما ظنوا، بل ليس لهم من ولاية هؤلاء
المذكورين شئ، ولا يجدون عندهم منتفعا و (أعتدنا) معناه: يسرنا، و " النزل " موضع
النزول، و " النزل " أيضا: ما يقدم للضيف أو القادم من الطعام عند نزوله، ويحتمل أن يريد
بالآية هذا المعنى: أن المعد لهؤلاء بدل النزل جهنم، والآية تحتمل الوجهين، ثم قال
544

تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) الآية: المعنى قل لهؤلاء الكفرة، على جهة
التوبيخ: هل نخبركم بالذين خسر عملهم، وضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم مع ذلك
يظنون أنهم يحسنون فيما يصنعوه، فإذا طلبوا ذلك، فقل لهم: (أولئك الذين كفروا بآيات
ربهم ولقائه)، وعن سعد بن أبي وقاص في معنى قوله تعالى: (وهم يحسبون أنهم
يحسنون صنعا) قال: هم عباد اليهود والنصارى، وأهل الصوامع والديارات وعن علي:
هم الخوارج، ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك: (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم
ولقائه)، وليس هذه الطوائف ممن يكفر بالله ولقائه، وإنما هذه صفة مشركي عبدة
الأوثان، وعلي وسعد رضي الله عنهما، ذكرا قوما أخذوا بحظهم من صدر الآية.
وقوله سبحانه: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) يريد أنهم لا حسنة لهم توزن، لأن
أعمالهم قد حبطت، أي: بطلت، ويحتمل المجاز والاستعارة، كأنه قال: فلا قدر لهم
عندنا يومئذ، وهذا معنى الآية عندي، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يؤتي بالأكول
الشروب الطويل فلا يزن جناح بعوضة ثم قرأ: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) " وقوله:
(ذلك) إشارة إلى ترك إقامة الوزن.
وقوله سبحانه: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس):
اختلف المفسرون في " الفردوس " فقال قتادة: إنه أعلى الجنة وربوتها، وقال أبو هريرة:
إنه جبل تتفجر منه أنهار الجنة، وقال أبو أمامة: إنه سرة الجنة ووسطها، وروى أبو
سعيد الخدري، أنه تتفجر منه أنهار الجنة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إذا سألتم
الله فاسألوه الفردوس ".
545

* ت *: ففي " البخاري " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم / قال: " إن في الجنة
مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجين كما بين السماء والأرض،
فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن،
ومنه تفجر أنهار الجنة " انتهى.
وقوله تعالى: (لا يبغون عنها حولا) " الحول " بمعنى المتحول.
قال مجاهد: متحولا.
وأما قوله سبحانه: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي...) الآية: فروي أن
سبب الآية أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها وأنك أعطيت ما
يحتاجه الناس من العلم، وأنت مقصر، قد سئلت عن الروح، فلم تجب فيه؟، ونحو هذا
من القول، فأنزل الله الآية معلمة باتساع معلومات الله عز وجل، وأنها غير متناهية، وأن
الوقوف دونها ليس ببدع، فالمعنى: لو كان البحر مدادا تكتب به معلوماته تعالى، لنفد قبل
أن يستوفيها، " وكلمات ربي " هي المعاني القائمة بالنفس، وهي المعلومات، ومعلومات
الله عز وجل لا تتناهى والبحر متناه ضرورة، وذكر الغزالي في آخر " المنهاج " أن المفسرين
يقولون في قوله تعالى: (لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي)، أن هذه هي الكلمات التي
يقول الله عز وجل لأهل الجنة في الجنة باللطف والإكرام، مما لا تكيفه الأوهام، ولا
يحيط به علم مخلوق، وحق أن يكون ذلك كذلك، وهو عطاء العزيز العليم، على مقتضى
الفضل العظيم، والجود الكريم، إلا لمثل هذا فليعمل العاملون. انتهى.
وقوله: (مددا)، أي: زيادة. * ت *: وكذا فسره الهروي ولفظه: وقوله تعالى:
(ولو جئنا بمثله مددا)، أي زيادة انتهى.
546

وقوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم) أي: أنا بشر ينتهي علمي إلى حيث يوحى
إلي، ومما يوحى إلى (أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا)
وباقي الآية بين في الشرك بالله تعالى، وقال ابن جبير في تفسيرها لا يرائي في عمله، وقد
ورد حديث أنها نزلت في الرياء.
* ت *: وروى ابن المبارك في " رقائقه "، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم، عن أبيه، أنه كان يصف أمر الرياء، فيقول: ما كان من نفسك فرضيته نفسك لها،
فإنه من نفسك فعاتبها، وما كان من نفسك، فكرهته نفسك لها، فإنه من الشيطان، فتعوذ
بالله منه، وكان أبو حازم يقول ذلك، وأسند ابن المبارك عن عبد الرحمن بن أبي أمية،
قال: كل ما كرهه العبد فليس منه انتهى، وخرج الترمذي عن أبي سعيد بن أبي فضالة
الأنصاري، وكان من الصحابة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا جمع الله الناس
يوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا، فليطلب
ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك "، قال أبو عيسى: هذا حديث
حسن غريب انتهى، وقد خرج مسلم معناه.
* ت *: ومما جربته، وصح من خواص هذه السورة، أن من أراد أن يستيقظ أي
وقت شاء من الليل، فليقرأ عند نومه قوله سبحانه: (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا
عبادي / من دوني أولياء...) إلى آخر السورة، فإنه يستيقظ بإذن الله في الوقت الذي
نواه، ولتكن قراءته عند آخر ما يغلب عليه النعاس، بحيث لا يتجدد له عقب القراءة
خواطر، هذا مما لا شك فيه، وهو من عجائب القرآن المقطوع بها، والله الموفق بفضله.
تنبيه: روينا في " صحيح مسلم "، عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا
أعطاه إياه "، وذلك كل ليلة، فإن أردت أن تعرف هذه الساعة، فأقرأ عند نومك من قوله
547

تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس) إلى آخر السورة،
فأنك تستيقظ في تلك الساعة - إن شاء الله تعالى - بفضله، ويتكرر تيقظك، ومهما
استيقظت، فادع لي ولك، وهذا مما ألهمنيه الله سبحانه، فاستفده، وما كتبته إلا بعد
استخارة، وإياك أن تدعو هنا على مسلم، ولو كان ظالما، فإن خالفتني، فالله حسيبك
وبين يديه أكون خصيمك، وأنا أرغب إليك أن تشركني في دعائك، إذ أفدتك هذه الفائدة
العظيمة وكنت شيخك فيها، وللقرآن العظيم أسرار يطلع الله عليها من يشاء من أوليائه،
جعلنا الله منهم بفضله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
تم بحمد الله وحسن توفيقه
الجزء الثالث من تفسير الثعالبي
ويليه الجزء الرابع وأوله:
سورة مريم
ولله الحمد والمنة
548