الكتاب: البرهان
المؤلف: الزركشي
الجزء: ٣
الوفاة: ٧٩٤
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٧٦ - ١٩٥٧ م
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي وشركاءه
ردمك:
ملاحظات:

البرهان
في علوم القران
للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي
تحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الثالث
الطبعة الأولى
1377 ه‍ - 1958 م
دار أحياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

[جميع الحقوق محفوظة]
2

بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الحادي عشر
المثنى وإرادة الواحد
كقوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)، وإنما يخرج من أحدهما.
ونظيره قوله تعالى: (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية
تلبسونها)، وإنما تخرج الحلية من " الملح "، وقد غلط في هذا المعنى أبو ذؤيب
الهذلي حيث قال يذكر الدرة:
فجاء بها ما شئت من لطمية * يدوم الفرات فوقها ويموج
والفرات لا يدوم فوقها، وإنما يدوم الأجاج.
وقال أبو علي في قوله تعالى: (على رجل من القريتين عظيم): إن ظاهر
اللفظ يقتضي أن يكون من مكة والطائف جميعا، ولما لم يمكن أن يكون منهما دل المعنى على
تقدير: " رجل من إحدى القريتين ".
وقوله تعالى: (وجعل القمر فيهن نورا) أي في إحداهن.
3

وقوله تعالى: (نسيا حوتهما) والناسي كان يوشع، بدليل قوله لموسى: (فإني
نسيت الحوت)، ولكن أضيف النسيان لهما جميعا لسكوت موسى عنه.
وقوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه)
والتعجيل يكون في اليوم الثاني، وقوله: (فمن تأخر فلا إثم عليه) قيل: إنه من
هذا أيضا، وإن موضع الإثم والتعجيل يجعل المتأخر الذي لم يقصر مثل ما جعل للمقصر.
ويحتمل أن يراد: لا يقولن أحدهما لصاحبه: أنت مقصر، فيكون المعنى: لا يؤثم أحدهما
صاحبه.
وقوله تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس).
وقوله تعالى: (جعلا له شركاء)، أي أحدهما، على أحد القولين.
وقوله: (فإن خفتم الا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به)
فالجناح على الزوج لأنه أخذ ما أعطى، قال أبو بكر الصيرفي: المعنى: فإن خيف من أحدهما
ذلك جازت الفدية، وليس الشرط أن يجتمعا على عدم الإقامة.
وقوله تعالى: (ألقيا في جهنم) قيل هو خطاب للملك. وقال المبرد: ثناه
على " ألق "، والمعنى: ألق ألق، وكذلك القول في " قفا " وخالفه أبو إسحاق،
وقال: بل هو مخاطبة للملكين.
4

وقال الفراء في قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال: يخاطب
الانسان مخاطبه بالتثنية.
وجعل منه قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان): وقوله تعالى:
(جنتين) فقيل: جنة واحدة بدليل قوله تعالى آخر الآية: (ودخل جنته)
فأفرد بعد ما ثنى.
وقوله: (كلتا الجنتين آتت أكلها) فإنه ما ثنى إلا للإشعار بأن لها
وجهين، وأنك إذا نظرت عن يمينك ويسارك رأيت في كلتا الناحيتين ما يملأ عينيك قرة،
وصدرك مسرة.
وقوله تعالى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) وإنما
المتخذ إلها عيسى دون مريم، فهو من باب " والنجوم الطوالع " قاله أبو الحسن، وحكاه
عنه ابن جنى في كتاب " القد "، وعليه حمل ابن جنى وغيره قول امرئ القيس:
* قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *
5

ويؤيده قوله بعده:
* أصاح ترى برقا أريك ومضيه *
وقول الفرزدق:
عشية سال المربدان كلاهما سحابة موت بالسيوف الصوارم
وإنما هو مربد البصرة فقط.
وقوله: " ودار لها بالرقمتين ".
وقوله: " ببطن المكتين ".
وقول جرير:
لما مررت بالديرين أرقني صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
قالوا: أراد " دير الوليد "، من فثناه باعتبار ما حوله.
القسم الثاني عشر
إطلاق الجمع وإرادة الواحد
كقوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات)، إلى قوله: (فذرهم
6

في غمرتهم حتى حين)، قال أبو بكر الصيرفي: فهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
وحده، إذ لا نبي معه ولا بعده.
ومثله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا...) الآية،
وهذا مما لا شريك فيه، والحكمة في التعبير بصيغة الجمع أنه لما كانت تصاريف أقضيته
سبحانه وتعالى تجري على أيدي خلقه نزلت أفعالهم منزلة قبول القول بمورد الجمع.
وجعل منه ابن فارس قوله تعالى: (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع
المرسلون)، والرسول كان واحدا، بدليل قوله تعالى: (ارجع إليهم).
وفيه نظر، من جهة أنه يحتمل مخاطبة رئيسهم، فإن العادة جارية - لا سيما من الملوك -
ألا يرسلوا واحدا.
ومنه: (ففررت منكم لما خفتكم) وغير ذلك، وقد تقدم في وجوه
المخاطبات.
ومنه: (ينزل الملائكة بالروح من أمره) والمراد جبريل.
وقوله: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)، والمراد محمد صلى الله
عليه وسلم.
وقوله: (الذين قال لهم الناس)، والمراد بهم ابن مسعود الثقفي، وإنما
7

جاز إطلاق لفظ " الناس " على الواحد، لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل
قوله، حسن إضافة ذلك الفعل إلى الكل، قال الله تعالى: (وإذا قتلتم نفسا فادارأتم
فيها)، (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) والقائل
ذلك رؤوسهم. وقيل: المراد بالناس ركب من عبد القيس دسهم أبو سفيان إلى المسلمين
وضمن لهم عليه جعلا، قاله ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما.
القسم الثالث عشر
إطلاق لفظ التثنية والمراد الجمع
كقوله تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين) فإنه وإن كان لفظه لفظ التثنية
فهو جمع، والمعنى " كرات " لأن البصر لا يحسر إلا بالجمع.
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: (الطلاق مرتان).
القسم الرابع عشر
التكرار على وجه التأكيد
وهو مصدر كرر إذا ردد وأعاد، هو " تفعال " بفتح التاء، وليس بقياس، بخلاف
التفعيل.
8

وقال الكوفيون: هو مصدر " فعل " والألف عوض من الياء في التفعيل.
والأول مذهب سيبويه.
وقد غلط من أنكر كونه من أساليب الفصاحة، ظنا أنه لا فائدة له، وليس كذلك
بل هو من محاسنها، لا سيما إذا تعلق بعضه ببعض، وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذا
أبهمت بشئ إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه، أو قصدت الدعاء عليه، كررته توكيدا، وكأنها
تقيم تكراره مقام المقسم، عليه أو الاجتهاد في الدعاء عليه، حيث تقصد الدعاء، وإنما نزل
القرآن بلسانهم، وكانت مخاطباته جارية فيما بين بعضهم وبعض، وبهذا المسلك تستحكم
الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة. وعلى ذلك يحتمل ما ورد من تكرار المواعظ والوعد
والوعيد، لأن الانسان مجبول من الطبائع المختلفة، وكلها داعية إلى الشهوات، ولا يقمع
ذلك إلا تكرار المواعظ والقوارع، قال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر)
قال في " الكشاف ": أي سهلناه للادكار والاتعاظ بأن نسجناه بالمواعظ الشافية
وصرفنا فيه من الوعد والوعيد.
ثم تارة يكون التكرار مرتين، كقوله: (فقتل كيف قدر. ثم قتل كيف
قدر).
وقوله: (أولى لك فأولى. ثم أولى لك فأولى).
وقوله: (لترون الجحيم. ثم لترونها عين اليقين).
وقوله: (كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون).
9

وقوله تعالى: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من
الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله).
وقوله: (فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلافكم كما استمتع الذين من
قبلكم بخلاقهم).
وفائدته العظمى التقرير، وقد قيل: الكلام إذا تكرر تقرر.
وقد أخبر الله سبحانه بالسبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والأخبار في القرآن فقال:
(ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون).
وقال: (وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا).
وحقيقته إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى، خشية تناسي الأول، لطول العهد به.
فإن أعيد لا لتقرير المعنى السابق لم يكن منه، كقوله تعالى: (قل إني أمرت أن
أعبد الله مخلصا له الدين. وأمرت لأن أكون أول المسلمين. قل إني أخاف إن
عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قل الله أعبد مخلصا له ديني. فاعبدوا ما شئتم من
دونه).
فأعاد قوله: (قل الله أعبد مخلصا له ديني) بعد قوله: (قل إني أمرت أن
أعبد الله مخلصا له الدين)، لا لتقرير الأول، بل لغرض آخر، لأن معنى الأول
الأمر بالإخبار أنه مأمور بالعبادة لله والإخلاص له فيها، ومعنى الثاني أنه يخص الله
وحده دون غيره بالعبادة والإخلاص، ولذلك قدم المفعول على فعل العبادة في الثاني،
10

وأخر في الأول، لأن الكلام أولا في الفعل، وثانيا فيمن فعل لأجله الفعل.
واعلم أنه إنما يحسن سؤال الحكمة عن التكرار إذا خرج عن الأصل، أما إذا وافق
الأصل فلا، ولهذا لا يتجه سؤالهم: لم كرر " إياك " في قوله: (إياك نعبد وإياك
نستعين).
فقيل: إنما كررت للتأكيد، كما تقول: " بين زبد وبين عمرو مال ".
وقيل: إنما كررت لارتفاع أن يتوهم - إذا حذفت - أن مفعول " نستعين " ضمير متصل
واقع بعد الفعل، فتفوت إذ ذاك الدلالة على المعنى المقصود، بتقديم المعمول على عامله.
والتحقيق أن السؤال غير متجه، لأن هنا عاملين متغايرين، كل منهما يقتضي
معمولا، فإذا ذكر معمول كل واحد منهما بعده فقد جاء الكلام على أصله، والحذف
خلاف الأصل، فلا وجه للسؤال عن سبب ذكر ما الأصل ذكره، ولا حاجة إلى تكلف
الجواب عنه، وقس بذلك نظائره.
[فوائد التكرير]
وله فوائد:
أحدها: التأكيد، واعلم أن التكرير أبلغ من التأكيد، لأنه وقع في تكرار
التأسيس، وهو أبلغ من التأكيد، فإن التأكيد يقرر إرادة معنى الأول وعدم التجوز،
فلهذا قال الزمخشري في قوله تعالى: (كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف
تعلمون): إن الثانية تأسيس لا تأكيد، لأنه جعل الثانية أبلغ في الانشاء فقال: وفي
(ثم) تنبيه على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول.
11

وكذا قوله: (وما أدراك ما يوم الدين. ثم ما أدراك ما يوم الدين)،
وقوله: (فقتل كيف قدر. ثم قتل كيف قدر)، يحتمل أن يكون منه، وأن يكون
من المتماثلين.
والحاصل أنه: هل هو إنذار تأكيد، أو إنذاران؟ فإن قلت: " سوف تعلم،
ثم سوف تعلم " كان أجود منه بغير عطف، لتجريه على غالب استعمال التأكيد، ولعدم
احتماله لتعدد المخبر به.
وأطلق بدر الدين بن مالك في شرح " الخلاصة " أن الجملة التأكيدية
قد توصل بعاطف، ولم تختص بثم، وإن كان ظاهر كلام والده التخصيص، وليس كذلك،
فقد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا
الله)، فإن المأمور فيهما واحد، كما قاله النحاس والزمخشري والإمام فخر الدين والشيخ
عز الدين، ورجحوا ذلك على احتمال أن تكون " التقوى " الأولى مصروفة لشئ غير
" التقوى " الثانية، مع شأن إرادته.
وقولهم: إنه تأكيد، فمرادهم تأكيد المأمور به بتكرير الانشاء، لا أنه تأكيد
لفظي، ولو كان تأكيدا لفظيا لما فصل بالعطف، ولما فصل بينه وبين غيره: (ولتنظر
نفس).
فإن قلت: " اتقوا " الثانية معطوفة على " ولتنظر ".
12

أجيب بأنهم قد اتفقوا على أن: (وقولوا للناس حسنا)، معطوف على
(لا تعبدون إلا الله)، لا على قوله: (وبالوالدين إحسانا)، وهو نظير
ما نحن فيه.
وقوله تعالى: (يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء
العالمين)، وقوله: (فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم)
ويحتمل أن يكون " اصطفاءين " و " ذكرين "، وهو الأقرب في الذكر، لأنه محل
طلب فيه تكرار الذكر.
وكقوله تعالى حكاية عن موسى: (كي نسبحك كثيرا. ونذكرك كثيرا).
وقوله: (أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك
أصحاب النار)، كرر " أولئك ".
وكذلك قوله: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون).
وكذا قوله: (فلما أن أراد أن يبطش بالذي...) إلى قوله: (من
المصلحين)، كررت " أن " في أربع مواضع تأكيدا.
وقوله: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين. وأمرت لأن أكون أول
المسلمين).
الثاني: زيادة التنبيه على ما ينفى التهمة، ليكمل تلقي الكلام بالقبول، ومنه قوله
13

تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة
الدنيا متاع) فإنه كرر فيه النداء لذلك.
* * *
الثالث: إذا طال الكلام وخشي تناسى الأول أعيد ثانيا تطرية له، وتجديدا
لعهده، كقوله تعالى: (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك
وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم).
(ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا...) الآية.
وقوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله) ثم قال:) فلما جاءهم ما عرفوا)
فهذا تكرار للأول، ألا ترى أن لما لا تجئ بالفاء!
ومثله: (لا تحسبن الذين يفرحون)، ثم قال: (فلا تحسبنهم).
وقوله: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم)، ثم قال: (ولو شاء الله
ما اقتتلوا).
ومنه قوله: (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي
ساجدين).
وقوله: (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون)
فقوله: (إنكم) الثاني بناء على الأول، إذ كارا به خشية تناسيه.
وقوله: (وهم عن الآخرة هم غافلون).
14

وكذلك قوله: (إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه
بذبح عظيم) إلى قوله: (كذلك نجزي المحسنين).
بغير (إنا) وفي غيره من مواضع ذكر (إنا كذلك)، لأنه يبنى على ما سبقه في
هذه القصة من قوله (إنا كذلك)، فكأنه طرح فيما اكتفى بذكره أولا عن ذكره
ثانيا. ولأن التأكيد بالنسبة، فاعتبر اللفظ من حيث هو دون توكيده.
ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء، وهذا أسلوب غريب، وقل في القرآن وجوده،
وأكثر ما يكون عند تقدم مقتضيات الألفاظ، كالمبتدأ، وحروف الشرطين الواقعين في الماضي
والمضارع. ويستغنى عنه عند أمر محذور التناسي.
وقد يرد منه شئ يكون بناؤه بطريق الاجمال والتفصيل بأن تتقدم التفاصيل والجزئيات
في القرآن، فإذا خشى عليها التناسي لطول العهد بها بنى على ما سبق بها بالذكر الجملي،
كقوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم) إلى قوله:
(وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما) فقوله " فبظلم " بيان لذكر الجملي على ما سبق
في القول من التفصيل، وذلك أن الظلم جملي على ما سبق من التفاصيل من النقض والكفر
وقتل الأنبياء، (وقولهم قلوبنا غلف) والقول على مريم بالبهتان، ودعوى قتل
المسيح عليه السلام، إلى ما تخلل ذلك من أسلوب الاعتراض بها موضعين. وهما قوله:
(بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا)، وقوله: (وما قتلوه
وما صلبوه) إلى إلى قوله: (شهيدا)، وأنه لما ذكر بالبناء جملي الظلم من قوله " فبظلم "
لأنه يعم على كل ما تقدم وينطوي عليه، ذكر حينئذ متعلق الجملي من قوله: (فبما نقضهم
ميثاقهم) عقب الباء لأن العامل في الأصل حقه أن يلي معموله، فقال: (فبظلم من
15

الذين هادوا حرمنا)، هو متعلق بقوله: (فبظلم)، وقد اشتمل الظلم على كل
ما تقدم قبله، كما أنه أيضا اشتمل على كل ما تأخر من المحرمات الأخر التي عددت بعد
ما اشتملت على ذكر الشئ بالعموم والخصوص، فذكرت الجزئيات الأولى بخصوص كل
واحد، ثم ذكر العام المنطوي عليها، فهذا تعميم بعد تخصيص. ثم ذكرت جزئيات أخر
بخصوصها، فتركيب الأساليب من وجوه كثيرة في الآية، وهو التعميم بعد التخصيص، ثم
التخصيص بعد التعميم، ثم البناء بعد الاعتراض.
ومنه قوله تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) إلى قوله: (عذابا
أليما)، فقوله: (ولولا رجال مؤمنون) إلى قوله: (بغير علم) هو
المقتضى الأول المتقدم، وقوله (لو تزيلوا) هو المقتضى الثاني وهو البناء، لأنه
المذكر بالمقتضى الأول الذي هو " لولا " خشية تناسيه، فهو مبنى على الأول، ثم أورد
مقتضاها من الجواب بقوله: (لعذبنا الذين كفروا منهم) ورودا واحدا من حيث
أخذا معا، كأنهما مقتضى منفرد، من حيث هما واحد بالنوع، وهو الشرط الماضي. فقوله:
(لو تزيلوا) بناء على قوله: (ولولا رجال) نظر في المضارعة. وأما قوله: (ثم
إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من
بعدها لغفور رحيم) فيجوز أن يكون تكريرا، ويجوز أن يكون الكلام عند قوله:
(وأصلحوا) ويكون الثاني بيانا لمجمل لا تكرير.
وقد جعل ابن المنير من هذا القسم قوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه)
ثم قال: (من شرح بالكفر صدرا).
16

وقوله: (ولولا رجال مؤمنون...) ثم قال: (لو تزيلوا) ونازعه
العراقي لأن المعاد فيهما أخص من الأول، وهذا يجئ في كثير مما ذكرنا، ولا بد أن
يكون وراء التكرير شئ أخص منه كما بينا.
* * *
الرابع: في مقام التعظيم والتهويل، كقوله تعالى: (الحاقة. ما الحاقة). (القارعة.
ما القارعة). (إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر).
وقوله: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين).
وقوله: (فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة. وأصحاب المشأمة ما أصحاب
المشأمة).
وقوله: (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب).
* * *
الخامس: في مقام الوعيد والتهديد، كقوله تعالى: (كلا سوف تعلمون. ثم كلا
سوف تعلمون) وذكر " ثم " في المكرر دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول،
وفيه تنبيه على تكرر ذلك مرة بعد أخرى، وإن تعاقبت عليه الأزمنة لا يتطرق إليه تغيير،
بل هو مستمر دائما.
* * *
17

السادس: التعجب، كقوله تعالى: (فقتل كيف قدر. ثم قتل كيف قدر)،
فأعيد تعجبا من تقديره وإصابته الغرض، على حد: قاتله الله ما أشجعه!
السابع: لتعدد المتعلق، كما في قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)،
فإنها وإن تعددت، فكل واحد منها متعلق بما قبله، وإن الله تعالى خاطب بها الثقلين
من الإنس والجن، وعدد عليهم نعمه التي خلقها لهم، فكلما ذكر فصلا من فصول النعم
طلب إقرارهم واقتضاهم الشكر عليه، وهي أنواع مختلفة، وصور شتى.
فان قيل: فإذا كان المعنى في تكريرها عد النعم واقتضاء الشكر عليها، فما معنى
قوله: (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران)؟ وأي نعمة هنا،
وإنما هو وعيد!
قيل: إن نعم الله فيما أنذر به وحذر من عقوباته على معاصيه ليحذروها فيرتدعوا عنها،
نظير أنعمه على ما وعده، وبشر من ثوابه على طاعته، ليرغبوا فيها، ويحرصوا عليها، وإنما
تتحقق معرفة الشئ بأن تعتبره بضده، والوعد والوعيد وإن تقابلا في ذواتهما، فإنهما
متقاربان في موضع النعم بالتوقيف على ملاك الأمر منها، وعليه قول بعض حكماء
الشعراء:
والحادثات وإن أصابك بؤسها * فهو الذي أنباك كيف نعيمها
وإنما ذكرنا هذا، لتعلم الحكمة في كونها زادت على ثلاثة، ولو كان عائدا لشئ واحد
لما زاد على ثلاثة، لأن التأكيد لا يقع به أكثر من ثلاثة.
فإن قيل: فإذا كان المراد بكل ما قبله، فليس ذلك بإطناب، بل هي ألفاظ أريد بها
غير ما أريد بالآخر!
18

قلت: إن قلنا: العبرة بعموم اللفظ، فكل واحد أريد به غير ما أريد بالآخر.
وقد تكلف لتوجيه العدة التي جاءت عليها هذه الآية مكررة، قال الكرماني:
جاءت آية واحدة في هذه السورة كررت نيفا وثلاثين مرة، لأن ست عشرة راجعة
إلى الجنان، لأن لها ثمانية أبواب، وأربعة عشر منها راجعة إلى النعم والنقم، فأعظم النقم
جهنم، ولها سبعة أبواب. وجاءت سبعة في مقابلة تلك الأبواب، وسبعة عقب كل نعمة
ذكرها للثقلين.
وقال غيره: نبه في سبع منها على ما خلقه الله للعباد من نعم الدنيا المختلفة على عدة
أمهات النعم، وأفرد سبعا منها للتخويف، وإنذارا على عدة أبواب المخوف منه، وفصل
بين الأول والسبع الثواني بواحدة سوى فيها بين الخلق كلهم فيما كتبه عليهم من الفناء،
حيث اتصلت بقوله: (كل من عليها فان)، فكانت خمس عشرة، أتبعت
بثمانية في وصف الجنان وأهلها على عدة أبوابها، ثم بثمانية أخر في وصف الجنتين اللتين
من دون الأولتين لذلك أيضا فاستكملت إحدى وثلاثين.
ومن هذا النوع قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين)، في سورة المرسلات
عشر مرات، لأنه سبحانه ذكر قصصا مختلفة، وأتبع كل قصة بهذا القول، فصار كأنه
قال عقب كل قصة: ويل للمكذب بهذه القصة! وكل قصة مخالفة لصاحبتها،
فأثبت الويل لمن كذب بها.
ويحتمل أنه لما كان جزاء الحسنة بعشر أمثالها، جعل للكفار في مقابلة كل مثل
من الثواب ويل.
ومنها في سورة الشعراء قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.
19

وإن ربك لهو العزيز الرحيم) في ثمانية مواضع، لأجل الوعظ، فإنه قد يتأثر
بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحدة.
وأما قوله: (إن في ذلك لآية) فذلك لظهور آيات الأنبياء عليهم السلام،
والعجب من تخلف من لا يتأملها مع ظهورها.
وأما مناسبة قوله: (العزيز الرحيم) فإنه تعالى نفى الإيمان عن الأكثر، فدل
بالمفهوم على إيمان الأقل، فكانت العزة على من لم يؤمن، والرحمة لمن آمن، وهما مرتبتان
كترتيب الفريقين. ويحتمل أن يكون من هذا النوع قوله تعالى: (كلا سوف تعلمون.
ثم كلا سوف تعلمون...) الآية، لأن علمهم يقع أولا وثانيا على نوعين مختلفين
بحسب المقام، وهذا أقرب للحقيقة الوضعية وحال المعبر عنه، فإن المعاملات الإلهية للطائع
والعاصي متغيرة الأنواع الدنيوية، ثم البرزخية، ثم الحشرية، كما أن أحوال الاستقرار بعد
الجميع في الغاية، بل كل مقام من هذه أنواع مختلفة، وفي " ثم " دلالة على الترقي؟ إن
لم يجعل الزمان مرتبا في الإنذار على التكرار، وفي المنذر به على التنويع.
ومنه تكرار: (فذوقوا عذابي ونذر)، قال الزمخشري: كرر ليجدوا
عند سماع كل نبأ منها اتعاظا وتنبيها، وأن كلا من تلك الأنباء مستحق باعتبار يختص به،
وأن يتنبهوا كيلا يغلبهم السرور والغفلة.
ومنه قوله تعالى: (قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون...) إلى آخرها
20

يحكى أن بعض الزنادقة سأل الحسن بن علي رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: إني أجد في
القرآن تكرارا، وذكر له ذلك، فأجابه الحسن بما حاصله: إن الكفار قالوا: نعبد إلهك
شهرا وتعبد آلهتنا شهرا، فجاء النفي متوجها إلى ذلك. والمقصود أن هذه ليست من
التكرار في شئ، بل هي بالحذف والاختصار أليق، وذلك لأن قوله: (لا أعبد
ما تعبدون)، أي لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل، وقوله: (ولا أنا عابد
ما عبدتم)، أي ولا أنا عابد في الحال ما عبدتم في المستقبل، (ولا أنتم عابدون)، في
الحال ما أعبد في المستقبل.
والحاصل أن القصد نفى عبادته لآلهتهم في الأزمنة الثلاثة: الحال، والماضي،
والاستقبال، والمذكور في الآية النفي في الحال والاستقبال، وحذف الماضي من جهته ومن
جهتهم، ولا بد من نفيه، لكنه حذف لدلالة الأولين عليه.
وفيه تقدير آخر، وهي أن الجملة الأولى فعلية، والثانية إسمية، وقولك: لا " أفعله " و " لا أنا
فاعله " أحسن من قولك: " لا أفعله "، " ولا أفعله "، فالجملة الفعلية نفي لإمكانه، والاسمية
نفى لاتصافه، كما في قوله تعالى: (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم) (وما أنت
بمسمع من في القبور). والمعنى أنه تبرأ من فعله ومن الاتصاف به، وهو أبلغ في النفي،
وأما المشركون فلم ينتف عنهم إلا بصيغة واحدة، وهي قوله: (ولا أنتم عابدون
ما أعبد) في الموضعين.
وفرق آخر، وهو أنه قال في نفيه الجملة الاسمية: (ولا أنا عابد ما عبدتم) وقال في النفي
عنهم: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) عائد في حقه بين الجملتين، وقال: (لا أعبد
ما تعبدون) بالمضارع، وفي الثاني: (ولا أنا عابد ما عبدتم) بالماضي، فإن المضارع يدل
على الدوام، بخلاف الماضي، فأفاد ذلك أن ما عبدتموه ولو مرة ما أنا عابد له البتة، ففيه كمال
21

براءته ودوامها مما عبدوه ولو مرة، بخلاف قوله: (لا أعبد ما تعبدون) فإن النفي
من جنس الإثبات، وكلاهما مضارع يظهران جملة ومنفردا.
ومنه تكرير الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات من سورة البقرة، لأن
المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس: اليهود، لأنهم لا يقولون بالنسخ
في أصل مذهبهم. وأهل النفاق أشد إنكارا له، لأنه كان أول نسخ نزل. وكفار قريش
قالوا: ندم محمد على فراق ديننا فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا، وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه
فيقولون: يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل، وقد فارق قبلتهما وآثر عليها
قبلة اليهود، وقال الله تعالى حين أمره بالصلاة إلى الكعبة: (لئلا يكون للناس
عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) والاستثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم
لا يرجعون ولا يهتدون. وقال سبحانه: (الحق من ربك فلا تكونن من
الممترين) أي الذين أشركوا فلا تمتر في ذلك، وقال تعالى: (وإن فريقا منهم
ليكتمون الحق وهم يعلمون)، أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة
الأنبياء.
ومنه قوله تعالى: (فتول عنهم حتى حين. وأبصرهم فسوف يبصرون).
وقال صاحب " الينبوع ": لم يبلغني عن المفسرين فيه شئ.
22

وقال المفسرون في غريب القرآن: هما في المعنى كالآيتين المتقدمتين، فكرر للتأكيد
وتشديد الوعيد.
ويحتمل أن يكون " الحين " في الأوليين يوم بدر، و " الحين " في هاتين
يوم فتح مكة.
ومن فوائد قوله تعالى في الأوليين: (وأبصرهم) وفي هاتين: (فأبصر) أن الأولى
بنزول العذاب بهم يوم بدر قتلا وأسرا وهزيمة ورعبا، فما تضمنت التشفي بهم قيل له:
(أبصرهم)، وأما يوم الفتح فإنه اقترن بالظهور عليهم الإنعام بتأمينهم والهداية إلى إيمانهم،
فلم يكن وفقا للتشفي بهم، بل كان في استسلامهم، وإسلامهم لعينه قرة، ولقلبه مسرة،
فقيل له: (أبصر).
ويحتمل على هذا - إن شاء الله - أن يكون من فوائد قوله تعالى في هذه: (فسوف
يبصرون) أي يبصرون منك عليهم بالأمان، ومننا عليهم بالإيمان.
ومنه قوله تعالى: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن).
وللتكرار [هنا] فائدتان:
إحداهما: أن التحريم قد يكون في الطرفين، ولكن يكون المانع من إحداهما،
كما لو ارتدت الزوجة قبل الدخول، يحرم النكاح من الطرفين، والمانع من جهتهما،
فذكر الله سبحانه الثانية، ليدل على أن التحريم كما هو ثابت في الطرفين كذلك
المانع منهما.
والثانية: أن الأولى دلت على ثبوت التحريم في الماضي، ولهذا أتى فيها بالاسم الدال
على الثبوت، والثانية في المستقبل، ولهذا أتى فيها بالفعل المستقبل.
23

ومنه تكرار الإضراب.
واعلم أن " بل " إذا ذكرت بعد كلام موجب فمعناها الإضراب.
وهو إما أن يقع في كلام الخلق، ومعناه إبطال ما سبق على طريق الغلط من المتكلم،
أو أن الثاني أولى.
وإما أن يقع في كلام الله تعالى، وهو ضربان:
أحدهما: أن يكون ما فيها من الرد راجعا إلى العباد، كقوله تعالى: (قالوا أضغاث
أحلام بل افتراه بل هو شاعر).
والثاني: أن يكون إبطالا، ولكنه على أنه قد انقضى وقته، وأن الذي بعده
أولى بالذكر، كقوله تعالى: (بل أدارك علمهم في الآخرة). (بل هم في شك من
ذكرى بل لما يذوقوا عذاب).
وزعم ابن مالك في شرح " الكافية "، أن " بل " حيث وقعت في القرآن فإنها
للاستئناف لغرض آخر، لا لإبطال الأول، وهو مردود بما سبق، وبقوله: (وقالوا
اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون)، فأضرب بها عن قولهم،
وأبطل كذبهم.
وقوله: (بل أنتم قوم عادون)، إن أضرب بها عن حقيقة إتيانهم الذكور
وترك الأزواج.
ومنه قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله)،
24

فالأول للمطلقين والثاني للشهود، نحو: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا
تعضلوهن)، أولها للأزواج، وآخرها للأولياء.
ومنه تكرار الأمثال، كقوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير. ولا الظلمات
ولا النور. ولا الظل ولا الحرور. وما يستوي الأحياء ولا الأموات).
وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة ثناه الله تعالى.
قال الزمخشري: " والثاني أبلغ من الأول لأنه أدل على فرط الحيرة، وشدة
الأمر وفظاعته "، قال: " ولذلك أخر، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون
إلى الأغلظ ".
ومنه تكرار القصص في القرآن، كقصة إبليس في السجود لآدم، وقصة موسى
وغيره من الأنبياء، قال بعضهم: ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من كتابه،
قال ابن العربي في " القواصم ": ذكر الله قصة نوح في خمسة وعشرين آية، وقصة
موسى في سبعين آية. انتهى.
وإنما كررها لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر وهي أمور:
25

أحدها: أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا، ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى
عليه السلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا، ففائدته أن ليس كل حية ثعبانا، وهذه
عادة البلغاء، أن يكرر أحدهم في آخر خطبته أو قصيدته كلمة، لصفة زائدة.
الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده
آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين، وكان أكثر من آمن به مهاجريا،
فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى آخرين، وكذلك سائر
القصص، فأراد الله سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها، فيكون فيه إفادة القوم، وزيادة
[تأكيد وتبصرة]، لآخرين وهم الحاضرون، وعبر عن هذا ابن الجوزي وغيره.
الثالثة: تسليته لقلب النبي صلى الله عليه وسلم مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم قال
تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك).
الربعة: أن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه
من الفصاحة.
الخامسة: أن الدواعي لا تتوفر على نقلها كتوفرها على نقل الأحكام، فلهذا كررت القصص
دون الأحكام.
26

السادسة: أن الله تعالى أنزل هذا القرآن، وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية لصحة
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم، بأن كرر ذكر القصة
في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاءوا، بأي عبارة عبروا،
قال ابن فارس: وهذا هو الصحيح.
السابعة: أنه لما سخر العرب بالقرآن قال: (فأتوا بسورة من مثله)، وقال
في موضع آخر: (فأتوا بعشر سور)، فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد
واكتفى بها لقال العربي بما قال الله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله)، (إيتونا أنتم
بسورة من مثله "، فأنزلها سبحانه في تعداد السور، دفعا لحجتهم من كل وجه.
الثامنة: أن القصة الواحدة من هذه القصص، كقصة موسى مع فرعون - وإن ظن
أنها لا تغاير الأخرى - فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان وتقديم وتأخير، وتلك حال
المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ، فأن كل واحدة لا بد وأن تخالف نظيرتها من نوع
معنى زائد فيه، لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها، فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار
بينهما وجعله أجزاء، ثم قسم تلك الأجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها،
ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب
المتقدمة، من انفراد كل قصة منها بموضع، كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام
خاصة، فاجتمعت في هذه الخاصية، من نظم القرآن عدة معان عجيبة:
منها: أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة، ولا أحدث مللا،
فباين بذلك كلام المخلوقين.
ومنها: أنه ألبسها زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا، ليخرج بذلك الكلام أن
27

تكون ألفاظه واحدة بأعيانها، فيكون شيئا معادا، فنزهه عن ذلك بهذه التغييرات.
ومنها: أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقة
في تارات التكرير فيجد البليغ - لما فيها من التغيير - ميلا إلى سماعها، لما جبلت عليه
النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ
به مستأنفة.
ومنها: ظهور الأمر العجيب في اخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد، وقد كان
المشركون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه
القصص والأنباء مع تغاير أنواع النظم، وبيان وجوه التأليف، فعرفهم الله سبحانه أن
الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية، ولا يقع على كلامه عدد، لقوله
تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي
ولو جئنا بمثله مددا) وكقوله: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر
يمده...) الآية.
* * *
وقال القفال في تفسيره: ذكر الله في أقاصيص بني إسرائيل وجوها من المقاصد:
أحدها: الدلالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أخبر عنها من غير تعلم،
وذلك لا يمكن إلا بالوحي.
الثاني: تعديد النعم على بني إسرائيل، وما من الله على أسلافهم من الكرامة والفضل،
كالنجاة من آل فرعون، وفرق البحر لهم، وما أنزل عليه في التيه من المن والسلوى،
وتفجر الحجر، وتظليل الغمام.
28

الثالث: إخبار الله نبيه بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاوتهم وتعنتهم على الأنبياء،
فكأنه تعالى يقول: إذا كانت هذه معاملتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به، وأنقذهم من
العذاب بسببه، فغير بدع ما يعامله به أخلافهم محمدا صلى الله عليه وسلم.
الرابع: تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من نزول
العذاب بهم، كما نزل بأسلافهم.
* * *
وهنا سؤالان:
أحدهما: ما الحكمة في عدم تكرر قصة يوسف عليه السلام، وسوقها مساقا واحدا في
موضع واحد، دون غيرها من القصص؟.
والجواب من وجوه:
الأول: ما فيها من تشبيب النسوة به، وتضمن الإخبار عن حال امرأة ونسوة
افتتن بأبدع الناس جمالا، وأرفعهم مثالا، فناسب عدم تكرارها لما فيها من
الإغضاء والستر عن ذلك. وقد صحح الحاكم في مستدركه حديثا مرفوعا: النهي عن تعليم
النساء سورة يوسف.
الثاني: أنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة، بخلاف غيرها من القصص، فإن
مآلها إلى الوبال، كقصة إبليس، وقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وغيرهم، فلما
اختصت هذه القصة في سائر القصص: بذلك اتفقت الدواعي على نقلها لخروجها عن
سمت القصص.
الثالث: قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني إنما كرر الله قصص الأنبياء، وساق قصة
يوسف مساقا واحدا، إشارة إلى عجز العرب، كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم:
29

إن كان من تلقاء نفسي تصديره على الفصاحة، فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في قصص
سائر الأنبياء.
السؤال الثاني: أنه سبحانه وتعالى ذكر قصة قوم نوح، وهود، وصالح، وشعيب،
ولوط، وموسى، في سورة الأعراف وهود والشعراء، ولم يذكر معهم قصة إبراهيم،
وإنما ذكرها في سورة الأنبياء، ومريم، والعنكبوت، والصافات.
والسر في ذلك أن تلك السور الأول ذكر الله فيها نصر رسله بإهلاك قومهم، ونجاء
الرسل وأتباعهم، وهذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الأمم، بل كان
المقصود ذكر الأنبياء وإن لم يذكر قومهم، ولهذا سميت سورة الأنبياء، فذكر فيها إكرامه
للأنبياء، وبدأ فيها بقصة إبراهيم، إذ كان المقصود ذكر كرامته الأنبياء قبل محمد، وإبراهيم
أكرمهم على الله، وهو خير البرية، وهو أب أكثرهم، وليس هو أب نوح ولوط، لكن
لوط من أتباعه، وأيوب من ذريته، بدليل قوله تعالى في سورة الأنعام: (ومن ذريته
داود وسليمان وأيوب).
وأما سورة العنكبوت، فإنه سبحانه وتعالى ذكر فيها امتحانه للمؤمنين، ونصره لهم،
وحاجتهم إلى الجهاد، وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر، وعاقبة من كذب الرسل، فذكر
قصة إبراهيم، لأنها من النمط الأول.
وكذلك في سورة الصافات قال فيها: (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين. ولقد
أرسلنا فيهم منذرين. فأنظر كيف كان عاقبة المنذرين)، وهذا يقتضي أنها
عاقبة رديئة، إما بكونهم غلبوا وذلوا، وإما بكونهم أهلكوا، ولهذا ذكر قصة إلياس
دون غيرها ولم يذكر إهلاك قومه، بل قال: (فكذبوهم فإنهم لمحضرون). وقد
30

روى أن الله رفع إلياس، وهذا يقتضي عذابهم في الآخرة، فإن إلياس لم يقم بينهم،
وإلياس المعروف بعد موسى من بني إسرائيل، وبعد موسى لم يهلك المكذبين بعذاب
الاستئصال، وبعد نوح لم يهلك جميع النوع، وقد بعث الله في كل أمة نذيرا، والله سبحانه
لم يذكر عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا، كما ذكر ذلك عن غيرهم، بل ذكر أنهم ألقوه
في النار، فجعلها بردا وسلاما، وفي هذا ظهور برهانه وآياته، حيث أذلهم ونصره، (وأرادوا
به كيدا فجعلناهم الأسفلين) وهذا من جنس المجاهد [الذي يعرض عدوه،
والقصص الأول من جنس المجاهد الذي] قتل عدوه، وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم
بل هاجر وتركهم، وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين أظهرهم حتى هلكوا، ولم يوجد
في حق إبراهيم سبب الهلاك، وهو إقامته فيهم، وانتظار العذاب النازل، وهكذا محمد صلى
الله عليه وسلم مع قومه، لم يقم فيهم، بل خرج عنهم حتى أظهره الله عليهم بعد ذلك، ومحمد
وإبراهيم أفصل الرسل، فإنهم إذا علموا حصل المقصود، وقد يتوب منهم من تاب، كما جرى
لقوم يونس، فهذا - والله أعلم - هو السر في أنه سبحانه لم يذكر قصة إبراهيم مع هؤلاء،
لأنها ليست من جنس واقعتهم.
فإن قيل: فما وجه الخصوصية بمحمد وإبراهيم بذلك؟
فالجواب: أما حالة إبراهيم فكانت إلى الرحمة أميل، فلم يسع في هلاك قومه
لا بالدعاء ولا بالمقام ودوام إقامة الحجة عليهم، وقد قال الله تعالى: (وقال الذين كفروا
لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن
الظالمين. ولنسكننكم الأرض من بعدهم)، وكان كل قوم يطلبون هلاك
نبيهم فعوقبوا، وقوم إبراهيم وإن أوصلوه إلى العذاب، لكن جعله الله عليه بردا وسلاما،
31

ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب، إذ الدنيا ليست دار الجزاء العام، وإنما فيها
من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة، كما في العقوبات الشرعية، فمن أرادوا عداوة
[أحد] من أتباع الأنبياء ليهلكوه فعصمه الله، وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه، ولم يهلك
أعداءه بل أخزاهم ونصره، فهو أشبه بإبراهيم عليه السلام، إذ عصمه الله من كيدهم،
وأظهره حتى صارت الحرب بينهم وبينه سجالا، ثم كانت له العاقبة فهو أشبه بحال محمد
صلى الله عليه وسلم، فإن محمدا سيد الجميع، وهو خليل الله، كما أن إبراهيم عليه السلام
خليله، والخليلان هما أفضل الجميع، وفي طريقهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريق
غيرهما، ولم يذكر الله عن قوم إبراهيم ذنبا غير الشرك، وكذلك عن قوم نوح، وأما عاد
فذكر عنهم التجبر، وعمارة الدنيا، وقوم صالح ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الأنبياء،
وأهل مدين الظلم في الأموال مع الشرك، وقوم لوط استحلال الفاحشة، ولم يذكر أنهم
أقروا بالتوحيد، بخلاف سائر الأمم، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين، وإنما
كان دينهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك، وكانت عقوبتهم أشد.
وهذه الأمور تدل على حكمة الرب وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم، ولما لم يكن
في قوم نوح خير يرجى غرق الجميع. والله المستعان.
* * *
فتأمل هذا الفصل وعظم فوائده وتدبر حكمته، فإنه سر عظيم من أسرار القرآن
العظيم، كقوله تعالى: (أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه
وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى)، فأعاد ذكر " الأنهار "
مع كل صنف، وكان يكفي أن يقال فيها: " أنهار من ماء، ومن لبن، ومن خمر، ومن
32

عسل "، لكن لما كانت الأنهار من الماء حقيقة، وفيما عدا الماء مجازا للتشبيه، فلو اقتصر
على ذكرها مع الماء وعطف الباقي عليه لجمع بين الحقيقة والمجاز.
فإن قلت: فهلا أفرد ذكر الماء وجمع الباقي صيغة واحدة؟ قيل: لو فعل
ذلك لجمع بين محامل من المجاز مختلفة في صيغة واحدة، وهو قريب في المنع من
الذي قبله.
فائدة
[في صنيعهم عند استثقال تكرار اللفظ]
قد يستثقلون تكرار اللفظ فيعدلون لمعناه، كقوله تعالى: (فمهل الكافرين
أمهلهم رويدا)، فإنه لما أعيد اللفظ غير " فعل " إلى " أفعل " فلما ثلث ترك اللفظ
أصلا، فقال: " رويدا ".
وقوله تعالى: (لقد جئت شيئا نكرا)، ثم قال: (إمرا).
قال الكسائي: معناه شيئا منكرا كثير الدهاء من جهة الانكار، من قولهم:
أمر القوم إذا كثروا.
قال الفارسي: وأنا استحسن قوله هذا.
وقوله تعالى: (ارجعوا وراءكم)، قال الفارسي: (وراءكم) في موضع فعل الأمر،
أي تأخروا، والمعنى ارجعوا تأخروا، فهو تأكيد وليست ظرفا، لأن الظروف لا يؤكد بها.
وإذا تكرر اللفظ بمرادفه جازت الإضافة، كقوله تعالى: (عذاب من رجز
33

أليم)، والقصد المبالغة، أي عذاب مضاعف، وبالعطف كقوله تعالى: (إنما أشكو
بثي وحزني إلى الله)، وقوله: (فاعفوا واصفحوا).
القسم الخامس عشر
الزيادة في بنية الكلمة
واعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه، فلا بد
أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا، لأن الألفاظ أدلة على المعاني، فإذا زيدت
في الإلفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة.
ومنه قوله تعالى: (فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر)، فهو أبلغ من " قادر "
لدلالته على أنه قادر متمكن القدرة، لا يرد شئ عن اقتضاء قدرته، ويسمى هذا قوة اللفظ
لقوة المعنى.
وكقوله تعالى: (واصطبر) فإنه أبلغ من الأمر بالصبر من " اصبر ".
وقوله: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) لأنه لما كانت السيئة ثقيلة وفيها
تكلف زيد في لفظ فعلها.
وقوله تعالى: (وهم يصطرخون فيها)، فإنه أبلغ من " يتصارخون ".
وقوله تعالى: (فكبكبوا فيها) ولم يقل " وكبوا " قال الزمخشري: والكبكبة
تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقى
34

في جهنم [ينكب] كبة مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها، اللهم أجرنا منها خير
مستجار!
وقريب من هذا قول الخليل في قول العرب: صر الجندب، وصرصر البازي، كأنهم
توهموا في صوت الجندب استطالة، فقالوا: صر صريرا، فمدوا وتوهموا في صوت البازي
تقطيعا، فقالوا: " صرصر ".
ومنه الزيادة بالتشديد أيضا، فإن " ستارا " و " غفارا " أبلغ من " ساتر " و " غافر "،
ولهذا قال تعالى: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا)، ومن هذا رجح
بعضهم معنى " الرحمن " على معنى " الرحيم، لما فيه من زيادة البناء، وهو الألف والنون، وقد
سبق في السادس.
ويقرب منه التضعيف - ويقال التكثير - وهو أن يؤتى بالصيغة دالة على وقوع الفعل
مرة بعد مرة. وشرطه أن يكون في الأفعال المتعدية قبل التضعيف، وإنما جعله متعديا
تضعيفه، ولهذا رد على الزمخشري في قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على
عبدنا)، حيث جعل (نزلنا)، هنا للتضعيف.
وقد جاء التضعيف دالا على الكثرة في اللازم قليلا، نحو موت المال.
وجاء حيث لا يمكن فيه التكثير، كقوله تعالى: (لولا أنزل عليه آية من
ربه) (لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا).
فإن قلت: (فأمتعه قليلا) مشكل على هذه القاعدة، لأنه إذا كان " فعل "
للتكثير، فكيف جاء " قليلا " نعتا لمصدر " متع " وهذا وصف كثير بقليل، وإنه ممنوع.
35

قلت: وصفت بالقلة من حيث صيرورته إلى نفاد ونقص وفناء.
واعلم أن زيادة المعنى في هذا القسم مقيد بنقل صيغة الرباعي غير موضوعة لمعنى، فإنه
لا يراد به ما أريد من نقل الثلاثي إلى مثل تلك الصيغة، فقوله تعالى: (وكلم الله
موسى تكليما)، لا يدل على كثرة صدور الكلام منه، لأنه غير منقول عن ثلاثي.
وكذا قوله: (ورتل القرآن ترتيلا) يدل على كثرة القراءة على هيئة التأني
والتدبر.
وكذا قوله تعالى: (وما علمناه الشعر)، ليس النفي للمبالغة، بل نفي أصل الفعل.
القسم السادس عشر
التفسير
وتفعله العرب في مواضع التعظيم، كقوله تعالى: (الله لا إله الا هو الحي القيوم
لا تأخذه سنة ولا نوم)، قال البيهقي في شرح الأسماء الحسنى: قرأت في تفسير الجنيدي
أن قوله: (لا تأخذه سنة)، تفسير للقيوم.
وقوله تعالى: (إن الانسان خلق هلوعا. إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا).
وقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم)
فإن هذا تفسير للوعد.
36

وقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم)
تفسير للوعد وتبيين له، لا مفعول ثان، فلم يتعد الفعل منها إلا إلى واحد.
وقوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) ف‍ " خلقه "
تفسير للمثل.
وقوله تعالى: (يسومونكم سوء العذاب يذبحون)، ف‍ " يذبحون " وما بعده
تفسير للسوم، وهو في القرآن كثير.
قال أبو الفتح بن جنى: ومتى كانت الجملة تفسيرا لم يحسن الوقف على ما قبلها دونها،
لأن تفسير الشئ لاحق به، ومتمم له، وجار مجرى بعض أجزائه، كالصلة من الموصول،
والصفة من الموصوف.
وقد يجئ لبيان العلة والسبب، كقوله تعالى: (فلا يحزنك قولهم إنا نعلم
ما يسرون وما يعلنون)، وليس هذا من قولهم، وإلا لما حزن الرسول، وإنما يجئ به
لبيان السبب في أنه لا يحزنه قولهم.
وكذلك قوله: (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا).
ولو جاءت الآيتان على حد ما جاء قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا
الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم)، لكانت " أن " مفتوحة، لكنها جاءت
على حد قوله...
37

فائدة
قيل: الجملة التفسيرية لا موضع لها من الإعراب. وقيل: يكون لها موضع إذا كان
للمفسر موضع، ويقرب منها ذكره تفصيلا، كما سبق في قوله: (وواعدنا موسى ثلاثين
ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة).
ومثل: (فصيام ثلاثة أيام في الحج).
القسم السابع عشر
خروج اللفظ مخرج الغالب
كقوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم)، فإن الحجر
ليس بقيد عند العلماء، لكن فائدة التقييد تأكيد الحكم في هذه الصورة مع ثبوته
عند عدمها، ولهذا قال بعده: (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم)
ولم يقل: " (فإن لم تكونوا دخلتم بهن) ولم يكن في حجوركم " فدل على أن الحجر
خرج مخرج العادة.
واعترض بأن الحرمة إذا كانت بالمجموع فالحل يثبت بانتفاء المجموع، والمجموع ينتفى
بانتفاء جزئه، كما ينتفي بانتفاء كل فرد من المجموع.
وأجيب بأنه إذا نفي أحد شطري العلة كان جزء العلة ثابتا، فيعمل عملها.
فإن قيل: لما قال: (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن)، قال في الآية بعدها:
38

(وأحل لكم ما وراء ذلكم) علم من مجموع ذلك أن الربيبة لا تحرم إذا لم يدخل
بأمها، فما فائدة قوله تعالى: (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم)؟
قيل: فائدته ألا يتوهم أن قيد الدخول خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط، كما في الحجر
المفهوم إذا خرج مخرج الغالب، فلا تقييد فيه عند الجمهور، خلافا لإمام الحرمين والشيخ
عز الدين بن عبد السلام والعراقي، حيث قالوا: إنه ينبغي أن يكون حجة بلا خلاف
إذا لم تغلب، لأن الصفة إذا كانت غالبة دلت العادة عليها، فاستغنى المتكلم بالعادة عن
ذكرها، فلما ذكرها مع استغنائه عنها دل ذلك على أنه لم يرد الإخبار بوقوعها للحقيقة،
بل ليترتب عليها نفي الحكم من المسكوت، أما إذا لم تكن غالبة أمكن أن يقال: إنما
ذكرها ليعرف السامع أن هذه الصفة تعرض لهذه الحقيقة.
ومنه قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق).
وقوله تعالى: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة)،
وجوزوا أن الرهن لا يختص بالسفر، لكن ذكر لأن فقد الكاتب يكون فيه غالبا،
فلما كان السفر مظنة إعواز الكاتب والشاهد الموثوق بهما، أمر على سبيل الإرشاد بحفظ
مال المسافرين بأخذ الوثيقة الأخرى، وهي الرهن.
وقوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم)،
والقصر جائز مع أمن السفر، لأن ذلك خرج مخرج الغالب لا الشرط، وغالب أسفار
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تخل من خوف العدو.
ومنهم من جعل الخوف هنا شرطا إن حمل القصر على ترك الركوع والسجود والنزول
39

عن الدابة والاستقبال ونحوه، لا في عدد الركعات، لكن ذلك شدة خوف لا خوف،
وسبب النزول لا يساعده.
وكقوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا).
القسم الثامن عشر
القسم
وهو عند النحويين جملة يؤكد بها الخبر، حتى إنهم جعلوا قوله تعالى: (والله
يشهد إن المنافقين لكاذبون)، قسما وإن كان فيه إخبار، إلا أنه لما جاء
توكيدا للخبر سمى قسما.
ولا يكون إلا باسم معظم، كقوله: (فورب السماء والأرض إنه لحق).
وقوله: (قل أي وربي إنه لحق).
وقوله: (قل بلى وربي لتبعثن).
وقوله: (فوربك لنحشرنهم والشياطين).
وقوله: (فوربك لنسألنهم أجمعين).
وقوله: (فلا وربك لا يؤمنون).
وقوله: (فلا أقسم برب المشارق والمغارب).
فهذه سبعة مواضع أقسم الله فيها بنفسه والباقي كله أقسم بمخلوقاته.
40

كقوله: (والتين والزيتون).
(فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم).
(فلا أقسم بالخنس. الجواري الكنس).
وإنما يحسن في مقام الانكار.
فإن قيل: ما معنى القسم منه سبحانه؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن، فالمؤمن يصدق مجرد
الإخبار، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.
فالجواب: قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: إن الله ذكر القسم لكمال الحجة
وتأكيدها، وذلك أن الحكم يفصل باثنين: إما بالشهادة، وإما بالقسم، فذكر تعالى في كتابه
النوعين حتى لا يبقى لهم حجة.
وقوله: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون).
وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون.
فورب السماء والأرض إنه لحق) صاح وقال: من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه
إلى اليمين؟ قالها ثلاثا، ثم مات.
* * *
فإن قيل: كيف أقسم بمخلوقاته وقد ورد النهي علينا ألا نقسم بمخلوق؟
قيل: فيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه حذف مضاف، أي " ورب الفجر " و " رب التين "، وكذلك الباقي.
والثاني: أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها، فنزل القرآن على ما يعرفون.
41

والثالث: أن الأقسام إنما تجب بأن يقسم الرجل بما يعظمه، أو بمن يجله، وهو فوقه
والله تعالى ليس شئ فوقه، فأقسم تارة بنفسه، وتارة بمصنوعاته، لأنها تدل على بارئ
وصانع، واستحسنه ابن خالويه.
وقسمه بالنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لعمرك) ليعرف الناس عظمته عند الله،
ومكانته لديه، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في " كنز اليواقيت ": والقسم بالشىء
لا يخرج عن وجهين: إما لفضيلة أو لمنفعة، فالفضيلة كقوله تعالى: (وطور سنين وهذا
البلد الأمين)، والمنفعة نحو: (والتين والزيتون).
* * *
وأقسم سبحانه بثلاثة أشياء:
أحدها: بذاته، كقوله تعالى: (فورب السماء والأرض) (فوربك لنسألنهم
أجمعين).
والثاني: بفعله، نحو: (والسماء وما بناها. والأرض وما طحاها. ونفس وما
سواها).
والثالث: مفعوله، نحو: (والنجم إذا هوى)، (والطور وكتاب
مسطور).
* * *
وهو ينقسم باعتبار آخر إلى مظهر ومضمر:
فالمظهر كقوله تعالى: (فورب السماء والأرض) ونحوه.
42

والمضمر على قسمين: قسم دلت عليه لام القسم، كقوله: (لتبلون هذا في أموالكم
وأنفسكم) وقسم دل عليه المعنى، كقوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)
تقديره " والله ".
وقد أقسم تعالى بطوائف من الملائكة في أول سورة الصافات، والمرسلات،
والنازعات.
* * *
فوائد
الأولى: أكثر الأقسام المحذوفة الفعل في القرآن، لا تكون إلا بالواو، فإذا
ذكرت الباء أتى بالفعل، كقوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) (يحلفون
بالله). ولا تجئ الباء والفعل محذوف إلا قليلا، وعليه حمل بعضهم قوله: (يا بني
43

لا تشرك بالله) وقال: الباء باء القسم، وليست متعلقه ب‍ " تشرك "، وكأنه يقول:
(يا بني لا تشرك) ثم ابتدأ فقال: (بالله) لا تشرك، وحذف " لا تشرك " لدلالة
الكلام عليه. وكذلك قوله: (ادع لنا ربك بما عهد عندك)، قيل: إن قوله:
" بما عهد " قسم، والأولى أن يقال: إنه سؤال لا قسم.
وقوله: (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته) فتقف على
(لي) وتبتدئ (بحق) فتجعله قسما.
هذا مع قول النحويين: إن الواو فرع الباء، لكنه قد يكثر الفرع في الاستعمال
ويقل الأصل.
* * *
الثانية: قد علمت أن القسم إنما جئ به لتوكيد المقسم عليه، فتارة يزيدون فيه
للمبالغة في التوكيد، وتارة يحذفون منه للاختصار وللعلم بالمحذوف.
فما زادوه لفظ " إي " بمعنى " نعم "، كقوله تعالى: (قل إي وربي).
وما يحذفونه فعل القسم وحرف الجر، ويكون الجواب مذكورا، كقوله تعالى:
(لقد كان لكم في رسول الله) أي " والله ".
وقوله: (لأقطعن أيديكم)، (لنسفعا بالناصية)، (ليسجنن وليكونا
من الصاغرين).
وقد يحذفون الجواب ويبقون القسم للعلم به، كقوله تعالى: (ص. والقرآن
44

ذي الذكر) على أحد الأقوال، أن الجواب حذف لطول الكلام، وتقديره
" لأعذبنهم على كفرهم ".
وقيل: الجواب: إن ذلك لحق.
ومما حذف فيه المقسم به قوله تعالى: (قالوا نشهد إنك لرسول الله)، أي نحلف
إنك لرسول الله، لأن الشهادة بمعنى اليمين، بدليل قوله: (أيمانهم جنة).
وأما قوله تعالى: (فالحق والحق أقول)، فالأول قسم بمنزلة، " والحق " وجوابه
" لأملأن "، وقوله: (والحق أقول) توكيد للقسم.
وأما قوله: (والسماء ذات البروج)، ثم قال: (قتل أصحاب الأخدود)
قالوا: وهو جواب القسم، وأصله " لقد قتل " ثم حذف اللام وقد.
* * *
الثالثة: قال الفارسي في الحجة: الألفاظ الجارية مجرى القسم ضربان:
أحدهما: ما تكون جارية كغيرها من الأخبار التي ليست بقسم، فلا تجاب بجوابه، كقوله
تعالى: (وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين)، (وإذ أخذنا ميثاقكم
ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة)، (فيحلفون له كما يحلفون
لكم)، فهذا ونحوه يجوز أن يكون قسما وأن يكون حالا لخلوه من الجواب.
والثاني: ما يتعلق بجواب القسم، كقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا
45

الكتاب لتبيننه للناس)، (وأقسموا بالله جهد أيمانهم).
* * *
الرابعة: القسم والشرط، يدخل كل منهما على الآخر، فإن تقدم القسم ودخل الشرط
بينه وبين الجواب كان الجواب للقسم، وأغنى عن جواب الشرط، وإن عكس فبالعكس،
وأيهما تصدر كان الاعتماد عليه والجواب له.
ومن تقدم القسم قوله تعالى: (لئن لم تنته لأرجمنك)، تقديره " والله لئن لم
تنته "، فاللام الداخلة على الشرط ليست بلام القسم، ولكنها زائدة، وتسمى الموطئة للقسم
ويعنون بذلك أنها مؤذنة بأن جواب القسم منتظر، أي الشرط لا يصلح أن يكون جوابا،
لأن الجواب لا يكون إلا خبرا.
وليس دخولها على الشرط بواجب، بدليل حذفها في قوله تعالى: (وإن لم ينتهوا
عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم).
والذي يدل على الجواب للقسم لا للشرط دخول اللام فيه، وأنه ليس بمجزوم، بدليل
قوله تعالى: (لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله) ولو كان جواب الشرط لكان مجزوما.
وأما قوله تعالى: (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون)، فاللام في " ولئن "
هي الموطئة للقسم، واللام في (لإلى الله) هي لام القسم، ولم تدخل نون التوكيد على
الفعل للفصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور. والأصل " لئن متم أو قتلتم لتحشرون إلى
الله " فلما قدم معمول الفعل عليه حذف منه.
46

القسم التاسع عشر
إبراز الكلام في صورة المستحيل على طريق المبالغة ليدل على بقية جمله
كقول العرب: لا أكلمك حتى يبيض القار، وحتى يشيب الغراب، وكقوله تعالى:
(ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)، يعنى والجمل لا يلج
في السم، فهؤلاء لا يدخلون، فهو في المعنى متعلق بالحال، فالمعنى أنهم لا يدخلون الجنة
أصلا، وليس للغاية هنا مفهوم، ووجه التأكيد فيه كدعوى الشئ ببينة، لأنه جعل
ولوج الجمل في السم غاية لنفي دخولهم الجنة، وتلك غاية لا توجد، فلا يزال دخولهم
الجنة منتفيا.
وغالى بعض الشعراء في وصف جسمه بالنحول، فجاء بما يزيد على الآية، فقال:
ولو أن ما بي من جوى وصبابة * على جمل لم يبق في النار خالد
وهذا على طريقة الشعراء في اعتبار المبالغة، وإلا فمعارضات القرآن لا تجوز، كما سبق
التنبيه عليه.
ومنه قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف)،
فإن المعنى: إن كان ما سلف في الزمن السالف يمكن رجوعه فحله ثابت، لكن لا يمكن
رجوعه أبدا، ولا يثبت حله أبدا، وهو أبلغ في النهي المجرد.
ومنه قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)، أي
ولكن ليس له ولد، فلا أعبد سواه.
47

وقوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما)، أي إن كان تسليم بعضهم
على بعض، أو تسليم الملائكة عليهم لغوا، فلا يسمعون لغوا إلا ذلك، فهو من باب قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
ومنه قوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى)، فإن الناس
استشكلوا وجه الاستثناء، مع أنهم لا يذوقون فيها الموت مطلقا. ومقتضى استثنائها من
النفي أنهم يذوقونها في الجنة وليس كذلك.
ووجهه الزمخشري بأنه من التوكيد في الدلالة، والموتة الأولى لا يذوقونها أصلا،
إذ يستحيل عود ما وقع، فلا يذوقون فيها الموت أصلا، أي إن كانوا يذوقون فلا يكون
ذلك إلا الموتة الأولى، وإن كان إيقاع الموتة الأولى في الجنة مستحيلا، فعرض بالاستثناء
إلى استحالة الموت فيها.
هذا إن جعلنا الاستثناء متصلا، فإن كان منقطعا، فالمعنى: " لكن الموتة الأولى
قد ذاقوها ".
ويحتمل على الاتصال أن يكون المعنى فيها، أي في مقدماتها، لأن الذي يرى مقامه
في الجنة عند موته ينزل منزلة من هو فيها، بتأويل الذوق على معنى المستحيل.
فهذه ثلاثة أوجه.
القسم الموفى العشرين
الاستثناء والاستدراك
ووجه التأكيد فيه أنه ثنى ذكره مرتين، مرة في الجملة ومرة في التفصيل.
48

فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا، فكأنه كان في جملتهم، ثم خرج منهم، كقوله تعالى:
(فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس)، فإن فيه معنى زائدا على
الاستثناء، هو تعظيم أمر الكبيرة التي أتى بها إبليس، من كونه خرق إجماع الملائكة
وفارق جميع الملأ الأعلى بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم، وهو بمثابة قولك: أمر
الملك بكذا فأطاع أمره جميع الناس، من أمير ووزير إلا فلانا، فإن الإخبار عن معصية
الملك بهذه الصيغة، أبلغ من قولك: أمر الملك فعصاه فلان.
وفي ضمن ذلك وصف الله سبحانه بالعدل فيما ضربه على إبليس من خزي الدنيا،
وختم عليه من عذاب الآخرة.
ومنه قوله تعالى: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) فإن في الإخبار عن
المدة بهذه الصيغة تهويلا على السامع، ليشهد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه.
وحكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تعظيم للمدة، ليكون أول ما يباشر السمع ذكر
" الألف " واختصار اللفظ، فإن لفظ القرآن أخصر من " تسعمائة وخمسين عاما "، ولأن
لفظ القرآن يفيد حصر العدد المذكور ولا يحتمل الزيادة عليه ولا النقص.
ومنه قوله تعالى: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين
فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) فإنه سبحانه لما علم أن وصف
الشقاء يعم المؤمن العاصي والكافر، استثنى من حكم بخلوده في النار بلفظ مطمع، حيث
أثبت الاستثناء المطلق، وأكده بقوله: (إن ربك فعال لما يريد)، أي أنه لا اعتراض
عليه في اخراج أهل الشقاء من النار. ولما علم أن أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة
أكد خلودهم بعد الاستثناء بما يرفع أصل الاستثناء، حيث قال: (عطاء غير
49

مجذوذ) أي غير منقطع، ليعلم أن عطاءه لهم الجنة غير منقطع. وهذه المعاني زائدة
على الاستثناء اللغوي.
وقيل: وجه الاستثناء فيه الخروج من الجنة إلى منزلة أعلى كالرضوان والرؤية، ويؤيده
قول بعض الصحابة:
* وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا *
وصوبه النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الزمخشري الاستثناء الأول لخروج أهل النار
إلى الزمهرير، أو إلى نوع آخر من العذاب بناء على مذهبه من تخليد أهل الكبائر في
النار، وجعل الاستثناء الثاني دالا على نجاة أهل الكبائر من العذاب، فكأنه تصور
أن الاستثناء الثاني لما لم يحمل على انقطاع النعيم، لقوله تعالى: (عطاء غير مجذوذ)
فكذا الاستثناء الأول لا يحمل على انقطاع عذاب الجحيم لتناسب أطراف الكلام. وقال:
معنى قوله: (إن ربك فعال لما يريد) عقب الاستثناء الأول في مقابلة قوله: (عطاء
غير مجذوذ) عقب الثاني، أن الله تعالى يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطى لأهل
الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له.
قيل: وما أصدق في سياق الزمخشري في هذا الموضع قول القائل:
* حفظت شيئا وغابت عنك أشياء *
وذلك لأن ظاهر الاستثناء، هو الإخراج عن حكم ما قبله، ولا موجب للعدول عن
50

الظاهر في الاستثناء الأول، فحمل على النجاة. ولما كان إنجاء المستحق العذاب محل تعجب
وإنكار، عقبه بقوله: (إن ربك فعال لما يريد)، أي من العذاب والإنجاء منه،
بفضله، ولا يتوجه عليه اعتراض أحد، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وأما الاستثناء الثاني فلما لم يكن على ظاهره، كان اخراج أهل الجنة المستحقين
للثواب وقطع النعيم لا يناسب إنحاء أهل النار المستحقين للعذاب، فلذا عقب بقوله:
(عطاء غير مجذوذ) بيانا للمقصود.
ورعاية هذا الباب أولى من رعاية الباب الذي توهم الزمخشري، فإن حاصله يرجع
إلى أن الاستثناء الثاني لما لم يكن على ما هو الظاهر في باب الاستثناء، ينبغي ألا
يكون الاستثناء الأول أيضا على ما هو الظاهر. ولا يخفى على المنصف أنه تعسف.
وأما قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع) فالمعنى لا طعام لهم أصلا، لأن
الضريع ليس بطعام البهائم فضلا عن الإنس، وذلك كقولك: ليس لفلان ظل إلا الشمس،
تريد بذلك نفي الظل عنه على التوكيد، والضريع نبت ذو شوك يسمى الشبرق في حال
خضرته وطراوته، فإذا يبس سمى الضريع، والإبل ترعاه طريا لا يابسا.
وقريب منه تأكيد المدح بما يشبه الذم، بأن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشئ صفة
مدح، بتقدير دخولها فيها، كقوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلا قيلا
سلاما سلاما) التأكيد فيه من وجهين: على الاتصال في الاستثناء والانقطاع.
القسم الحادي والعشرون
المبالغة
وهي أن يكون للشئ صفة ثابتة، فتزيد في التعريف بمقدار شدته أو ضعفه، فيدعى
51

له من الزيادة في تلك الصفة ما يستبعد عند السماع، أو يحيل عقله ثبوته.
ومن أحسنها قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج
من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض) وهي ظلمة البحر، وظلمة الموج فوقه،
وظلمة السحاب فوق الموج.
وقوله تعالى: (بلغت القلوب الحناجر)، أي كادت تبلغ، لأن القلب إذا زال
عن موضعه مات صاحبه.
وقيل: هو حقيقة، وإن الخوف والروع يوجب للخائف أن تنتفخ رئته، ولا يبعد أن
ينهض بالقلب نحو الحنجرة. ذكره الفراء وغيره.
أو أنها لما أتصل وجيبها واضطرابها بلغت الحناجر.
ورد ابن الأنباري تقدير " كادت " فإن " كاد " لا تضمر.
وقوله تعالى: (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال).
وقوله تعالى: (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا.
أن دعوا للرحمن ولدا).
ومنه المبالغة في الوصف بطريق التشبيه، كقوله تعالى: (إنها ترمى بشرر كالقصر.
كأنه جمالة صفر).
52

وقد يخرج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة وهو مجاز، كقوله تعالى:
(وجاء ربك والملك صفا صفا)، فجعل مجئ جلائل آياته، مجيئا له سبحانه،
على المبالغة.
وكقوله سبحانه: (ووجد الله عنده فوفاه حسابه)، فجعل نقله بالهلكة من
دار العمل إلى دار الجزاء وجدانا للمجازي.
ومنه ما جرى مجرى الحقيقة، كقوله تعالى: (يكاد سنا برقه يذهب
بالأبصار)، فإن اقتران هذه ب‍ " يكاد " صرفها إلى الحقيقة، فانقلب من الامتناع
إلى الإمكان.
وقد تجئ المبالغة مدمجة، كقوله تعالى: (سواء منكم من أسر القول ومن جهر
به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار)، فإن المبالغة في هذه الآية مدمجة
في المقابلة، وهي بالنسبة إلى المخاطب، لا إلى المخاطب، معناه أن علم ذلك متعذر عندكم،
وإلا فهو بالنسبة إليه سبحانه ليس بمبالغة.
وأما قوله تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي...) الآية، فقيل:
سببها أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: كيف عنفنا بهذا القول:
(وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، ونحن قد أوتينا التوراة، وفيها كلام الله
وأحكامه، ونور وهدى! فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " التوراة قليل من كثير "،
ونزلت هذه الآية.
53

وقيل: إنما نزلت (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام).
قال المفسرون: والغرض من ذلك الإعلام بكثرة كلماته، وهي في نفسها غير متناهية،
وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة.
وقال بعض المحققين: إن ما تضمنت الآية أن كلمات الله تعالى لم تكن لتنفد، ولم
تقتض الآية أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور، وكما قال الخضر عليه السلام:
ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من ماء البحر حين غمس
منقاره فيها.
وعد بعضهم من هذا القبيل ما جاء من المبالغة في القرآن من الإغضاء عن العيوب،
والصفح عن الذنوب، والتغافل عن الزلات، والستر على أهل المروءات، كقوله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين).
وقيل في تفسيره: أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك.
وقوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن...) الآية.
54

تنبيه
تحصل مما سبق أن قصد المبالغة يستلزم في الحال الإيجاز، إما بالحذف، وإما بجعل
الشئ نفس الشئ، أو بتكرر لفظ يتم بتكرره التهويل والتعظيم، ويقوم مقام أوصاف،
كقوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة).
وقد نص سيبويه على هذا كله في مواضع شتى من كتابه لافتراقها في أحكام.
فائدة
[في اختلاف الأقوال في تقدير المبالغة في الكلام]
اختلف في المبالغة على أقوال:
أحدها: إنكار أن تكون من محاسن الكلام لاشتمالها على الاستحالة.
والثاني: أنها الغاية في الحسن، وأعذب الكلام ما بولغ فيه، وقد قال النابغة:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
والثالث: وهو الأصح، أنها من محاسن الكلام، ولا ينحصر الحسن فيها - فإن
فضيلة الصدق لا تنكر - ولو كانت معيبة لم ترد في كلام الله تعالى، ولها طريقان:
أحدهما: أن يستعمل اللفظ في غير معناه لغة، كما في الكناية والتشبيه والاستعارة
وغيرها، من أنواع المجاز.
والثاني: أن يشفع ما يفهم المعنى بالمعنى على وجه يقتضى زيادة، فتترادف الصفات
55

بقصد التهويل، كما في قوله تعالى: (في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه
سحاب ظلمات بعضها فوق بعض).
القسم الثاني والعشرون
الاعتراض
وأسماه قدامة: " التفاتا "، وهو أن يؤتى في أثناء كلام أو كلامين
متصلين معنى، بشئ يتم الغرض الأصلي بدونه، ولا يفوت بفواته، فيكون فاصلا بين
الكلام والكلامين، لنكتة.
وقيل: هو إرادة وصف شيئين: الأول منهما قصدا، والثاني بطريق الانجرار، وله تعلق
بالأول بضرب من التأكيد.
وعند النحاة جملة صغرى تتخلل جملة كبرى، على جهة التأكيد.
وقال الشيخ عز الدين في أماليه: الجملة المعترضة تارة تكون مؤكدة، وتارة تكون
مشددة، لأنها إما ألا تدل على معنى زائد على ما دل عليه الكلام، بل دلت عليه فقط،
فهي مؤكدة. وإما أن تدل عليه وعلى معنى زائد، فهي مشددة. انتهى.
وذكر النحاة مما تتميز به الجملة الاعتراضية عن الحالية كونها طلبية، كقوله تعالى:
56

(ومن يغفر الذنوب إلا الله)، فإنه معترض بين: (فاستغفروا لذنوبهم)
وبين: (ولم يصروا على ما فعلوا).
وله أسباب:
منها تقرير الكلام، كقولك: فلان أحسن بفلان - ونعم ما فعل. ورأى من
الرأي كذا - وكان صوابا.
ومنه قوله تعالى: (تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض)، (لقد علمتم)
اعتراض، والمراد تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة.
وقوله: (وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم).
(وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)، واعترض بقوله: (وكذلك
يفعلون)، بين كلامها.
وقوله: (وأتوا به متشابها).
ومنها قصد التنزيه، كقوله تعالى: (ويجعلون لله البنات، سبحانه ولهم
ما يشتهون)، فاعتراض (سبحانه) لغرض التنزيه والتعظيم، وفيه الشناعة على من جعل
البنات لله.
ومنها قصد التبرك، كقوله تعالى: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله
آمنين).
57

ومنها قصد التأكيد، كقوله: (فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون
عظيم).
وفيها اعتراضان، فإنه اعترض بقوله: (وإنه لقسم) بين القسم وجوابه، واعترض
بقوله: (لو تعلمون) بين الصفة والموصوف، والمراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع
النجوم، وتأكيد إجلاله في النفوس، لا سيما بقوله: (لو تعلمون).
وقوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا.
أولئك لهم جنات عدن) ف‍ " أولئك " الخبر و " إنا لا نضيع " اعتراض.
ومنها كون الثاني بيانا للأول، كقوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب
المتطهرين)، فإنه اعتراض وقع بين قوله: (فأتوهن)، وبين قوله: (نساؤكم
حرث لكم)، وهما متصلان معنى، لأن الثاني بيان للأول، كأنه قيل: فأتوهن
من حيث يحصل منه الحرث. وفيه اعتراض بأكثر من جملة.
ومنها تخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد على أمر علق بهما، كقوله تعالى:
(ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي
ولوالديك)، فاعترض بقوله: (حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين)
بين " ووصينا " وبين الموصي به، وفائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه من المشقة
في حمله وفصاله، فذكر الحمل والفصال يفيد زيادة التوصية بالأم، لتحملها من المشاق
والمتاعب في حمل الولد ما لا يتكلفه الوالد، ولهذا جاء في الحديث التوصية بالأم ثلاثا،
وبالأب مرة.
58

ومنها زيادة الرد على الخصم، كقوله تعالى: (وإذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها...)
الآية فقوله: (والله مخرج) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وفائدته أن يقرر
في أنفس المخاطبين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل تلك الأنفس لم يكن نافعا لهم في إخفائه
وكتمانه، لأن الله تعالى مظهر لذلك ومخرجه، ولو جاء الكلام خاليا من هذا الاعتراض
لكان (وإذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها) (فقلنا اضربوه ببعضها).
وقوله: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر)،
فاعترض بين " إذ " وجوابها بقوله: (والله أعلم بما ينزل)، فكأنه أراد أن يجيبهم
عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا.
وقوله: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة)
إلى قوله: (بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون).
وقوله: (قل اللهم فاطر السماوات والأرض) إلى قوله: (وحاق بهم ما كانوا
به يستهزئون) اعتراض في أثناء الكلام. وهو قوله: (وإذا ذكر الله وحده
اشمأزت) الآية، وذلك لأن قوله: (فإذا مس الانسان ضر) سبب عن قوله: (وإذا
ذكر الله وحده اشمأزت) على معنى أنهم يشمئزون من توحيد الله تعالى، ويستبشرون
بالشرك الذي هو ذكر الآلهة، فإذا مس أحدهم ضر أو أصابته شدة تناقض في دعواه،
فدعا من اشمأز من ذكره وانقبض من توحيده ولجأ إليه دون الآلهة، فهو اعتراض بين
السبب والمسبب، فقيد القول بما فيه من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بأمره بذلك، وبقوله:
(أنت تحكم بين عبادك)، ثم عقبه من الوعيد العظيم أشد التأكيد وأعظمه وأبلغه
59

ولذلك كان اتصال قوله: (وإذا مس الانسان ضر دعا ربه) للسبب الواقع فيها، وخلو الأول،
منه من الأمر اشتراك جملة مع جملة، ومناسبة أوجبت العطف بالواو الموضوعة لمطلق الجمع،
كقولهم: قام زيد وعمرو. وتسبيب السبب مع ما في ظاهر الآية من اشمئزازهم ليس يقتضى
التجاءهم إلى الله تعالى، وإنما يقتضى إعراضهم عنه من جهة أن سياق الآية يقتضى إثبات
التناقض، وذلك أنك تقول: زيد يؤمن بالله تعالى، فإذا مسه الضر لجأ إليه فهذا سبب
ظاهر مبنى على اطراد الأمر، وتقول: زيد كافر بالله، فإذا مسه ضر لجأ إليه، فتجئ بالفاء
هنا كالأول لغرض التزام التناقض، أو العكس، حيث أنزل الكافر كفره منزلة الإيمان
في فصل سبب الالتجاء، فأنت تلزمه العكس، بأنك إنما تقصد بهذا الكلام الانكار
والتعجب من فعله.
وقوله: (وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون)
بقوله: (الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل. له مقاليد السماوات
والأرض) اعتراض واقع في أثناء كلام متصل، وهو قوله: (وينجى الله الذين اتقوا
بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون)، (والذين كفروا بآيات الله أولئك هم
الخاسرون)، وهو على مهيع أسلوب القرآن، من ذكر الضد عقب الضد، كما قيل:
* وبضدها تتبين الأشياء *
ومنها الإدلاء بالحجة، كقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي
إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر)، فاعترض
بقوله: (فاسألوا) بين قوله: (نوحي إليهم) وبين قوله: (بالبينات والزبر)
إظهار لقوة الحجة عليهم.
60

وبهذه الآية رد ابن مالك على أبي علي الفارسي قوله: إنه لا يعترض بأكثر من
جملة واحدة.
ورود بأن جملة الأمر دليل للجواب عند الأكثرين ونفسه عند آخرين، فهو مع جملة
الشرط، كالجملة الواحدة. نعم جوزوا في قوله تعالى: (متكئين على فرش بطائنها من
إستبرق)، أن يكون حالا من قوله: (ولمن خاف مقام ربه جنتان)، فلزم
الاعتراض بسبع جمل مستقلات، إن كان: (ذواتا أفنان)، خبر مبتدأ محذوف،
وإلا فيكون بست جمل.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم
بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون. أفأمن
أهل القرى...) الآية: إن في هذه الآية الكريمة سبع جمل معترضة: جملة الشرط،
و " اتقوا " و " فتحنا " و " كذبوا " و " أخذناهم " و " بما كانوا يكسبون ". وزعم أن
(أفأمن) معطوف على (فأخذناهم بغتة)، وكذا نقله ابن مالك عن الزمخشري
وتبعه أبو حيان، ولم يوجد ذلك في كلام الزمخشري.
قال ابن مالك: ورد عليه من ظن أن الجملة والكلام مترادفان، قال: وإنما اعترض
بأربع جمل، وزعم أن من عند (ولو أن) إلى (والأرض) جملة، لأن الفائدة
إنما تتم بمجموعه. انتهى.
وفي القولين نظر، أما على قول ابن مالك فينبغي أن يكون بعدها ثمان جمل، أحدها:
61

(وهم لا يشعرون) وأربعة في حيز " لو " وهي (آمنوا) و (اتقوا) و " فتحنا "،
والمركبة مع أن وصلتها مع " ثبت " مقدرا على الخلاف في أنها فعلية أو اسمية، والسادسة
(ولكن كذبوا) والسابعة (فأخذناهم) والثامنة (بما كانوا يكسبون).
وأما قول المعترض فلأنه كان من حقه أن يعدها ثلاث جمل، أحدها (وهم لا يشعرون)،
لأنها حال مرتبطة بعاملها وليست مستقلة برأسها، والثانية لو وما في حيزها، جملة واحدة فعلية
إن قدر: " ولو ثبت أن أهل القرى آمنوا واتقوا "، أو اسمية وفعلية إن قدر: إيمانهم،
واتقوا ثابتان، والثالثة: (ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)،
كله جملة.
وينبغي على قواعد البيانيين أن يعدوا الكل جملة واحدة لارتباط بعضها ببعض،
وعلى رأي النحاة ينبغي أن يكون (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا) جملة واحدة
لارتباط الشرط بالجزاء لفظا، (ولكن كذبوا) ثانية أو ثالثة (فأخذناهم) ثالثة
أو رابعة، و (بما كانوا يكسبون) متعلق ب‍ " أخذناهم " فلا يعد اعتراضا.
وقوله: (وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودي)، فهذه ثلاث
جمل معترضة بين (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) وبين (وقيل بعدا).
وفيه اعتراض في اعتراض، فإن (وقضى الأمر) معترض بين (غيض الماء)
وبين (واستوت).
ولا مانع من وقوع الاعتراض في الاعتراض، كقوله: (وإنه لقسم لو تعلمون
عظيم).
62

ومنه قوله تعالى في سورة العنكبوت ذاكرا عن إبراهيم قوله: (اعبدوا الله
واتقوه)، ثم اعترض تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وإن تكذبوا
فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين)، وذكر آيات،
إلى أن قال: (فما كان جواب قومه) يعنى قوم إبراهيم، فرجع إلى الأول.
وجعل الزمخشري قوله تعالى: (فاستفتهم)، في آخر الصافات معطوفا على
(فاستفتهم) في أول السورة: وقال في قول بعضهم في: (نذيرا للبشر):
إنه حال من فاعل (قم) في أول هذه السورة، هذا من بدع التفاسير وهذا الذي
ذكره في الصافات منه.
ومن العجب دعوى بعضهم كسر همزة " إن " في قوله تعالى: (إن ذلك لحق تخاصم
أهل النار) على جواب القسم في قوله تعالى: (والقرآن ذي الذكر)،
حكاه الرماني.
فإن قيل: أين خبر " إن " في قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر
لما جاءهم)؟ قيل الخبر: (أولئك ينادون من مكان بعيد).
63

فوائد
قال ابن عمرون: لا يجوز وقوع الاعتراض بين واو العطف وما دخلت عليه، وقد
أجازه قوم في " ثم " و " أو " فتقول: " زيد قائم ثم والله عمرو ".
وقوله تعالى: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) اعتراض بين
الشرط وجوابه مع أن فيه فاء والجملة مسندة ل‍ " يكن ".
قال الطيبي: سئل الزمخشري عن قوله تعالى: (فمن شاء ذكره) أهو
اعتراض، قال؟ لا، لأن من شرط الاعتراض أن يكون بالواو ونحوها، وأما بالفاء فلا.
وفهم صاحب " فرائد القلائد " من هذا اشتراط الواو، فقال: وقد ذكر الزمخشري:
إنه كان صديقا نبيا) هذه الجملة اعتراض بين البدل وبين المبدل منه، أعني
" إبراهيم " و " إذ " قال: هذا معترض لأنه اعتراض بدون الواو بعيد عن الطبع وعن الاستعمال،
وليس كما قال فقد يأتي بالواو كما سبق في الأمثلة، وبدونها كقوله سبحانه: (ولهم
ما يشتهون). وقد اجتمعا في قوله: (فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم
لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم).
القسم الثالث والعشرون
الاحتراس
وهو أن يكون الكلام محتملا لشئ بعيد فيؤتى بما يدفع ذلك الاحتمال، كقوله
64

تعالى: (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء)، فاحترس سبحانه بقوله:
(من غير سوء) عن إمكان أن يدخل في ذلك البهق والبرص.
وقوله تعالى: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) فإنه لو اقتصر على
وصفهم بالذلة وهو السهولة لتوهم أن ذلك لضعفهم، فلما قيل: أعزه على الكافرين)
علم أنها منهم تواضع، ولهذا عدي " الذل " بعلى لتضمنه معنى العطف.
وكذلك قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار
رحماء بينهم).
وقوله تعالى: (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) فقوله:
(وهم لا يشعرون) احتراس بين أن من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده أنهم لا يحطمون
نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا بها.
وقد قيل: إنما كان تبسم سليمان سرورا بهذه الكلمة منها، ولذلك أكد
التبسم بالضحك، لأنهم يقولون: تبسم كتبسم الغضبان، لينبه على أن تبسمه
تبسم سرور.
ومثله قوله تعالى: (فتصيبكم منهم معرة بغير علم) التفات إلى أنهم لا يقصدون
ضرر مسلم.
وقوله تعالى: (وقيل بعدا للقوم الظالمين)، فإنه سبحانه لما أخبر بهلاك من
هلك بالطوفان، عقبهم بالدعاء عليهم، ووصفهم بالظلم، ليعلم أن جميعهم كان مستحقا للعذاب،
65

احتراس من ضعف يوهم أن الهلاك بعمومه ربما شمل من لا يستحق العذاب، فلما دعا على
الهالكين، ووصفهم بالظلم علم استحقاقهم لما نزل بهم وحل بساحتهم، مع قوله أولا:
(ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون).
وأعجب احتراس وقع في القرآن قوله تعالى مخاطبا لنبيه عليه السلام: (وما كنت
بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر...) الآية.
وقال حكاية عن موسى: (وناديناه من جانب الطور الأيمن)، فلما نفى
سبحانه عن سوله أن يكون بالمكان الذي قضى لموسى فيه الأمر عرف المكان بالغربي،
ولم يقل في هذا الموضع " الأيمن " كما قال: (وناديناه من جانب الطور الأيمن)
أدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفي عنه كونه بالجانب الأيمن، أو يسلب عنه لفظا
مشتقا من اليمن، أو مشاركا لمادته، ولما أخبر عن موسى عليه السلام ذكر الجانب الأيمن
تشريفا لموسى، فراعى في المقامين حسن الأدب معهما، تعليما للأمة وهو أصل عظيم في الأدب
في الخطاب.
وقوله: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) فإنه لو اختصر لترك: (والله يعلم)، لأن
سياق الآية لتكذيبهم في دعوى الإخلاص في الشهادة، لكن حسن ذكره رفع توهم أن
التكذيب للمشهود به في نفس الأمر.
وقوله حاكيا عن يوسف عليه السلام: (وقد أحسن بي إذ أخرجني من
السجن)، ولم يذكر الجب مع أن النعمة فيه أعظم لوجهين:
66

أحدهما: لئلا يستحيي إخوته، والكريم يغضى، ولا سيما في وقت الصفاء.
والثاني: لأن السجن كان باختياره، فكان الخروج منه أعظم، بخلاف الجب.
وقوله: (تكلم الناس في المهد وكهلا)، وإنما ذكر الكهولة مع أنه لا إعجاز
فيه، لأنه كان في العادة، أن من يتكلم في المهد أنه لا يعيش ولا يتمادى به العمر فجعل
الاحتراس بقوله: (وكهلا).
ومنه قوله تعالى: (فخر عليهم السقف من فوقهم)، والسقف لا يكون إلا من
فوق، لأنه سبحانه رفع الاحتمال الذي يتوهم من أن السقف قد يكون من تحت بالنسبة،
فإن كثيرا من السقوف يكون أرضا لقوم وسقفا لآخرين، فرفع تعالى هذا الاحتمال بشيئين:
وهما قوله: (عليهم)، ولفظة (خر) لأنها لا تستعمل إلا فيما هبط أو سقط من العلو إلى
سفل.
وقيل: إنما أكد ليعلم أنهم كانوا حالين تحته، والعرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا
حائط، فجاء بقوله: (من فوقهم)، ليخرج هذا الشك الذي في كلامهم، فقال:
(من فوقهم)، أي عليهم وقع، وكانوا تحته، فهلكوا وما أفلتوا.
وقوله تعالى: (فأتوا حرثكم أنى شئتم)، لأنه لما كان يحتمل معنى " كيف "
و " أين " احترس بقوله: (حرثكم)، لأن الحرث لا يكون إلا حيث تنبت البذور، وينبت
الزرع، وهو المحل المخصوص.
وقوله: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون)،
وذلك لأن الاشتراك في المصيبة يخفف منها، ويسلي عنها، فأعلم سبحانه أنه
لا ينفعهم ذلك.
67

فائدة
عاب قدامة على ذي الرمة قوله:
ألا يا أسلمى يا دار مي على البلى * ولا زال منهلا بجرعائك القطر
فإنه لم يحترس، وهلا قال كما قال طرفة:
* فسقى ديارك غير مفسدها *
وأجيب بأنه قدم الدعاء بالسلامة للدار.
وقيل: لم يرد بقوله: " ولا زال منهلا " اتصال الدوام بالسقيا من غير إقلاع، وإنما
ذلك بمثابة من يقول: ما زال فلان يزورني، إذا كان متعاهدا له بالزيارة.
القسم الرابع والعشرون
التذييل
مصدر " ذيل " للمبالغة، وهي لغة، جعل الشئ ذيلا للآخر. واصطلاحا أن يؤتى
بعد تمام الكلام بكلام مستقل في معنى الأول، تحقيقا لدلالة منطوق الأول، أو مفهومه،
ليكون معه كالدليل، ليظهر المعنى عند من لا يفهم، ويكمل عند من فهمه.
كقوله تعالى: (ذلك جزيناهم بما كفروا)، ثم قال عز من قائل: (وهل
68

نجازي إلا الكفور)، أي هل يجازى ذلك الجزاء الذي يستحقه الكفور
إلا الكفور، فإن جعلنا الجزاء عاما كان الثاني مفيدا فائدة زائدة.
وقوله: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا).
وقوله: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون).
وقوله: (والذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير. إن تدعوهم لا يسمعوا
دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك
مثل خبير).
فقوله: (ولا ينبئك مثل خبير) تذييل لاشتماله على...
وقوله: (فاستكبروا و كانوا قوما عالين).
وقوله: (فاستكبروا و كانوا قوما مجرمين).
وجعل القاضي أبو بكر في كتابه " الإعجاز " منه قوله تعالى: (إن فرعون
علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي
نساءهم إنه كان من المفسدين).
وقوله: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان
وجنودهما كانوا خاطئين).
ويحتمل أن يكون من التعليل.
وقوله: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)، فقوله:
69

(وكذلك)، تذييل، أي فذلك شأن الأمم مع الرسل، وقوله: (ما أرسلنا من قبلك
في قرية من نذير)، جعل التذييل هنا من التفسير.
القسم الخامس والعشرون
التتميم
وهو أن يتم الكلام، فيلحق به ما يكمله، إما مبالغة، أو احترازا، أو احتياطا.
وقيل: هو أن يأخذ في معنى فيذكره غير مشروح، وربما كان السامع لا يتأمله ليعود
المتكلم إليه شارحا، كقوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما
وأسيرا)، فالتتميم في قوله: (على حبه)، جعل الهاء كناية عن الطعام مع اشتهائه.
وكذلك قوله: (وآتى المال على حبه).
وكقوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فأولئك يدخلون الجنة)، فقوله: (وهو مؤمن) تتميم في غاية الحسن.
القسم السادس والعشرون
الزيادة
والأكثرون ينكرون إطلاق هذه العبارة في كتاب الله، ويسمونه التأكيد. ومنهم
من يسميه بالصلة. ومنهم من يسميه المقحم.
70

قال ابن جنى: كل حرف زيد في كلام العرب فهو قائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى.
وبابها الحروف والأفعال.
كقوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم). (فبما رحمة من الله).
وقوله: (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا) قيل: (كان) هاهنا
زائدة، وإلا لم يكن فيه إعجاز، لأن الرجال كلهم كانوا في المهد، وانتصب (صبيا)
على الحال.
وقال ابن عصفور: هي في كلامهم زيدت في وسط الكلام للتأكيد، وهي مؤكدة
للماضي في (قالوا).
ومنه زيادة " أصبح "، قال حازم: إن كان الأمر الذي ذكر أنه فيه أصبح فيه لم يكن
أمسى فيه، فليست زائدة، وإلا فهي زائدة، كقوله: أصبح العسل حلوا.
وأجاب الرماني عن قوله: (فأصبحوا خاسرين)، فإن العادة أن من به علة
تزاد عليه بالليل يرجو الفرج عند الصباح، فاستعمل " أصبح " لأن الخسران جعل لهم
في الوقت الذي يرجون فيه الفرج، فليست زائدة.
وهو معنى قول غيره: إنها تأتي للدوام واستمرار الصفة، كقوله تعالى: (فأصبحوا
لا يرى إلا مساكنهم)، (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس).
وأما قوله تعالى: (ظل وجهه مسودا وهو كظيم) فهو على الأصل، لظهور
الصفة نهارا، والمراد الدوام أيضا، أي استقرت له الصفة نهاره.
71

واعلم أن الزيادة واللغو من عبارة البصريين، والصلة والحشو من عبارة الكوفيين،
قال سيبويه عقب قوله تعالى: (فبما نقضهم): إن " ما " لغو، لأنها لم
تحدث شيئا.
والأولى اجتناب مثل هذه العبارة في كتاب الله تعالى، فإن مراد النحويين بالزائد
من جهة الإعراب، لا من جهة المعنى، فإن قوله: (فبما رحمة من الله لنت لهم)
معناه: " ما لنت لهم إلا رحمة "، وهذا قد جمع نفيا وإثباتا، ثم اختصر على هذه الإرادة،
وجمع فيه بين لفظي الإثبات وأداة النفي التي هي " ما ".
وكذا قوله تعالى: (إنما الله إله واحد) ف‍ " إنما " هاهنا حرف تحقيق
وتمحيق، إن هنا للتحقيق، وما للتمحيق فاختصر، والأصل: " ما الله اثنان فصاعدا، وأنه
إله واحد ".
* * *
وقد اختلف في وقوع الزائد في القرآن، فمنهم من أنكره، قال الطرطوسي في
: العمدة ": زعم المبرد وثعلب ألا صلة في القرآن، والدهماء من العلماء والفقهاء
والمفسرين على إثبات الصلات في القرآن، وقد وجد ذلك على وجه لا يسع إنكاره
فذكر كثيرا.
وقال ابن الخباز في التوجيه: وعند ابن السراج أنه ليس في كلام العرب زائد،
لأنه تكلم بغير فائدة، وما جاء منه حمله على التوكيد.
72

ومنهم من جوزه وجعل وجوده كالعدم، وهو أفسد الطرق.
وقد رد على فخر الدين الرازي قوله: إن المحققين على أن المهمل لا يقع في كلام الله
سبحانه، فأما في قوله تعالى: (فبما رحمة من الله) فيمكن أن تكون استفهامية
للتعجب، والتقدير " فبأي رحمة "؟ فجعل الزائد مهملا، وليس كذلك، لأن الزائد ما أتى
به لغرض التقوية والتوكيد، والمهمل ما لم تضعه العرب، وهو ضد المستعمل، وليس المراد
من الزيادة - حيث ذكرها النحويون - إهمال اللفظ، ولا كونه لغوا فتحتاج إلى التنكب عن
التعبير بها إلى غيرها، فإنهم إنما سموا " ما " زائدة هنا لجواز تعدى العامل قبلها إلى
ما بعدها، لا لأنها ليس لها معنى.
وأما ما قاله في الآية: إنها للاستفهام التعجبي، فقد انتقد عليه بأن قيل: تقديره " فبأي
رحمة " دليل على أنه جعل " ما " مضافة للرحمة، وأسماء الاستفهام التعجبي لا يضاف منها
غير " أي "، وإذا لم تصح الإضافة كان ما بعدها بدلا منها، والمبدل من اسم الاستفهام
يجب معه ذكر همزة الاستفهام، وليست الهمزة مذكورة، فدل على بطلان هذه الدعوى،
وسنبين في فصل زيادة الحروف الفائدة في إدخال " ما " هاهنا، فانظر هناك.
تنبيهات
الأول: أهل الصناعة يطلقون الزائد على وجوه: منها ما يتعلق به هنا وهو ما أقحم تأكيدا،
نحو: (فبما رحمة من الله لنت لهم). (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما
بعوضة). (ليس كمثله شئ).
73

ومعنى كونه زائدا أن أصل المعنى حاصل بدونه دون التأكيد، فبوجوده حصل
فائدة التأكيد، والواضع الحكيم لا يضع الشئ إلا لفائدة.
وسئل بعض العلماء عن التوكيد بالحرف، وما معناه، إذ اسقاط كل الحرف لا يخل بالمعنى؟
فقال: هذا يعرفه أهل الطباع إذ يجدون أنفسهم بوجود الحرف على معنى زائد لا يجدونه
بإسقاط الحرف، قال: ومثال ذلك مثال العارف بوزن الشعر طبعا، فإذا تغير البيت
بزيادة أو نقص أنكره وقال: أجد في نفسي على خلاف ما أجده بإقامة الوزن، فكذلك
هذه الحروف تتغير نفس المطبوع عند نقصانها، ويجد نفسه بزيادتها على معنى بخلاف
ما يجدها بنقصانه.
* * *
الثاني: حق الزيادة أن تكون في الحرف وفي الأفعال كما سبق، وأما الأسماء فنص
أكثر النحويين على أنها لا تزاد. ووقع في كلام كثير من المفسرين الحكم عليها في بعض
المواضع بالزيادة، كقول الزمخشري في قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا):
إن اسم الجلالة مقحم، ولا يتصور مخادعتهم لله تعالى.
* * *
الثالث: حقها أن تكون آخرا وحشوا، وأما وقوعها أولا فلما فيه من التناقض، إذ
قضية الزيادة إمكان اطراحها، وقضية التصدير الاهتمام، ومن ثم ضعف قول بعضهم
بزيادة " لا " في قوله تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة). وأبعد منه قول آخر:
إنها بمعنى " إلا "، والظاهر أنها ردا لكلام تقدم في إنكار البعث، أي ليس الأمر
كما تقولون، ثم قال بعده: (أقسم بيوم القيامة)، وعليه فيجوز الوقف على
" لا " وفيه بعد.
74

فصل
[في حروف الزيادة]
الزيادة إما أن تكون لتأكيد النفي، كالباء في خبر ليس وما، أو للتأكيد الإيجاب،
كاللام الداخلة على المبتدأ.
وحروف الزيادة سبعة: إن، وأن، ولا، وما، ومن، والباء، واللام. بمعنى أنها
تأتي في بعض الموارد زائدة، لا أنها لازمة للزيادة. ثم ليس المراد حصر الزوائد فيها، فقد
زادوا الكاف وغيرها، بل المراد أن الأكثر في الزيادة أن تكون بها.
* * *
[زيادة " إن "]
فأما إن الخفيفة فتطرد زيادتها مع ما النافية، كقول امرئ القيس:
حلفت لها بالله حلفة فاجر * لناموا فما إن من حديث ولا صال
أي فما حديث. فزاد " إن " للتوكيد، قال الفراء: إن الخفيفة زائدة، فجمعوا بينها
وبين ما النافية، تأكيدا للنفي، فهو بمنزلة تكرارها، فهو عند الفراء من التأكيد اللفظي،
وعند سيبويه من التأكيد المعنوي.
وقيل: قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه): أنها زائدة.
وقيل نافية، والأصل " في الذي ما مكناكم فيه " بدليل: (مكناهم في الأرض ما لم
نمكن لكم)، وكأنه إنما عدل عن " ما " لئلا تتكرر فيثقل اللفظ.
ووهم ابن الحاجب، حيث زعم أنها تزاد بعد " لما " الإيجابية، وإنما تلك
في " أن " المفتوحة.
75

[زيادة " أن "]
وأما أن المفتوحة فتزاد بعد لما الظرفية، كقوله تعالى: (ولما أن جاءت رسلنا لوطا
سئ بهم)، وإنما حكموا بزيادتها، لأن " لما " ظرف زمان، ومعناها وجود الشئ
لوجود غيره، وظروف الزمان غير المتمكنة لا تضاف إلى المفرد، " وأن " المفتوحة تجعل
الفعل بعدها في تأويل المفرد، فلم تبق " لما " مضافة إلى الجمل، فلذلك حكموا
بزيادتها.
وجعل الأخفش من زيادتها قوله تعالى: (وما لنا ألا نتوكل على الله)،
(وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله). وقيل: بل هي مصدرية، والأصل " وما لنا
في ألا نفعل كذا "! فليست زائدة، لأنها عملت النصب في المضارع.
* * *
[زيادة " ما "]
وأما " ما " فتزاد بعد خمس كلمات من حروف الجر، فتزاد بعد " من " و " عن " غير
كافة لهما عن العمل، وتزاد بعد الكاف، ورب، والباء، كافة وغير كافة أخرى.
والكافة إما أن تكف عن عمل النصب والرفع، وهي المتصلة بإن وأخواتها، نحو:
(إنما الله إله واحد). (كأنما يساقون إلى الموت). وجعلوا منها:
(إنما يخشى الله من عباده العلماء)، ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى " الذي "
و " العلماء " خبر، والعائد مستتر في " يخشى "، وأطلقت " ما " على جماعة العقلاء،
76

كما في في قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم).
وإما أن تكف عن عمل الجر، كقوله تعالى: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)
وقيل: بل موصولة، أي " كالذي هو لهم آلهة ".
وغير الكافة تقع بعد الجازم، نحو: (وإما ينزعنك)، (أيا ما تدعوا).
(أينما تكونوا).
وبعد الخافض، حرفا كان، نحو: (فبما رحمة من الله). (فبما نقضهم ميثاقهم).
(عما قليل). (مما خطيئاتهم)، أو اسما، نحو: (أيما الأجلين قضيت).
وتزاد بعد أداة الشرط، جازمة كانت، نحو: (أينما تكونوا يدرككم
الموت). أو غير جازمة، نحو: (حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم).
وبين المتبوع وتابعه، نحو: (مثلا ما بعوضة)، قال الزجاج: ما حرف زائد
للتوكيد عند جميع البصريين. انتهى.
ويؤيده سقوطها في قراءة ابن مسعود. و " بعوضة " بدل. وقيل " ما " أسم نكرة
صفة ل‍ " مثلا "، أو بدل و " بعوضة " عطف بيان.
وقيل في قوله: (فقليلا ما يؤمنون) بأنها زائدة لمجرد تقوية الكلام، نحو:
77

(فبما رحمة) و " قليلا " في معنى النفي، أو لإفادة التقليل كما في نحو " أكلت أكلا ما "،
وعلى هذا فيكون: " فقليلا بعد قليل ".
* * *
[زيادة " لا "]
وأما " لا " فتزاد مع الواو بعد النفي، كقوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا
السيئة)، لأن " استوى " من الأفعال التي تطلب اسمين أي لا تليق بفاعل واحد،
نحو " اختصم "، فعلم أن " لا " زائدة. وقيل: دخلت في السيئة لتحقق أنه لا تساوي الحسنة
السيئة، ولا السيئة الحسنة.
وتزاد بعد " أن " المصدرية، كقوله: (لئلا يعلم أهل الكتاب)،
أي ليعلم، ولولا تقدير الزيادة لانعكس المعنى، فزيدت " لا " لتوكيد النفي. قاله
ابن جنى.
واعترضه ابن ملكون، بأنه ليس هناك نفي حتى تكون هي مؤكدة له. ورد عليه
السكوني بأن هنا ما معناه النفي، وهو ما وقع عليه العلم من قوله: (ألا يقدرون على
شئ)، ويكون هذا من وقوع النفي على العلم، والمراد ما وقع عليه العلم كقوله: " ما علمت
أحدا يقول ذلك إلا زيدا " فأبدلت من الضمير الذي في " يقول " ما بعد " إلا "، وإن
كان البدل لا يكون إلا في النفي، فكما كان النفي هنا واقعا على العلم وحكم لما وقع عليه
العلم بحكمه، كذلك يكون تأكيد النفي أيضا على ما وقع عليه العلم، ويحكم للعلم بحكم النفي،
فيدخل عل العلم توكيد النفي، والمراد تأكيد نفي ما دخل عليه العلم.
78

وإذا كانوا قد زادوا " لا " في الموجب المعنى لما توجه عليه فعل منفى في المعنى، كقوله
تعالى: (ما منعك ألا تسجد)، المعنى " أن تسجد "، فزاد " لا " تأكيدا للنفي المعنوي
الذي تضمنه " منعك "، فكذلك تزاد " لا " في العلم الموجب توكيدا للنفي الذي تضمنه
الموجه عليه.
قال الشلوبين: وأما زيادة " لا " في قوله: (لئلا يعلم أهل الكتاب)،
فشئ متفق عليه، وقد نص عليه سيبويه، ولا يمكن أن تحمل الآية إلا على زيادة " لا "
فيها، لأن ما قبله من الكلام وما بعده يقتضيه.
ويدل عليه قراءة ابن عباس وعاصم والحميدي: " ليعلم أهل الكتاب " وقرأ
ابن مسعود وابن جبير " لكي يعلم " وهاتان القراءتان تفسير لزيادتها، وسبب النزول
يدل على ذلك أيضا، وهو أن المشركين كانوا يقولون: إن الأنبياء منا، وكفروا
مع ذلك بهم، فأنزل الله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب...) الآية.
ومنه: (ما منعك أن لا تسجد)، بدليل الآية الأخرى: (ما منعك أن
تسجد)، وليس المعنى: ما منعك من ترك السجود؟ فإنه ترك، فلا يستقيم
التوبيخ عليه.
وقيل: ليست بزائدة من وجهين:
أحدهما: أن التقدير ما دعاك إلى ألا تسجد؟ لأن الصارف عن الشئ داع إلى
تركه، فيشتركان في كونهما من أسباب عدم الفعل.
الثاني: أن التقدير ما منعك من ألا تسجد.
79

وهذا أقرب مما قبله، لأن فيه إبقاء المنع على أصله، وعدم زيادتها أولى، لأن حذف
حرف الجر مع " أن " كثير كثرة لا تصل إلى المجاز، والزيادة في درجتها.
قالوا: وفائدة زيادتها تأكيد الإثبات، فإن وضع " لا " نفي ما دخلت عليه، فهي
معارضة للإثبات، ولا يخفى أن حصول الحكم مع المعارض أثبت مما إذا لم يعترضه المعارض،
أو أسقط معنى ما كان من شأنه أن يسقط.
ومنه: (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن).
قيل: وقد تزاد قبل القسم، نحو: (فلا أقسم برب المشارق والمغارب).
(فلا أقسم بمواقع النجوم). (لا أقسم بيوم القيامة)، أي
أقسم بثبوتها.
وضعف في الأخيرة، بأنها وقعت صدرا، بخلاف ما قبلها، لوقوعها بين الفاء
ومعطوفها.
وقيل: زيدت توطئة لنفي الجواب، أي لا أقسم بيوم القيامة، فلا يتركون سدى.
ورد بقوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد...) الآيات، فإن جوابه مثبت، وهو:
(لقد خلقنا الانسان في كبد).
وقيل غير زائدة:
وقيل: هي رد لكلام قد تقدم من الكفار، فإن القرآن كله كالسورة الواحدة،
فيجوز أن يكون الادعاء في سورة، والرد عليهم في أخرى، فيجوز الوقف على
" لا " هذه.
80

واختلف في قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا
تشركوا به).
فقيل: زائدة ليصح المعنى، لأن المحرم الشرك.
وقيل: نافية أو ناهية.
وقيل: الكلام تم عند قوله: (حرم ربكم)، ثم ابتدأ: (عليكم ألا
تشركوا به).
وقوله تعالى: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون)، فيمن فتح الهمزة،
فقيل " لا " زائدة، وإلا لكان عذرا للكفار.
ورده الزجاج بأنها نافية في قراءة الكسر، فيجب ذلك في قراءة الفتح.
وقيل: نافية وحذف المعطوف، أي وأنهم يؤمنون.
وقوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون).
وقيل: " لا زائدة، والمعنى: ممتنع على أهل قرية قدرنا إهلاكهم لكفرهم أنهم
لا يرجعون عن الكفر إلى قيام الساعة.
وعلى هذا ف‍ " حرام " خبر مقدم وجوبا، لأن المخبر عنه " أن وصلتها ".
وقوله تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم
81

يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعملون
الكتاب وبما كنتم تدرسون. ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين
أربابا) على قراءة من نصب (يأمركم) عطفا على (يؤتيه) ف‍ " لا " زائدة
مؤكدة لمعنى النفي السابق.
وقيل: عطف على (يقول)، والمعنى: ما كان لبشر أن ينصبه الله للدعاء إلى عبادته
وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة
والنبيين أربابا.
وقيل: ليست زائدة لأنه عليه الصلاة والسلام كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة،
وأهل الكتاب عن عبادة عزير وعيسى، فلما قالوا له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم:
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة، ثم يأمر الناس بعبادته، وينهاهم عن
عبادة الملائكة والأنبياء.
* * *
[زيادة " من "]
وأما " من " فإنها تزاد في الكلام الوارد بعد نفي أو شبهه، نحو: (وما تسقط من
ورقة إلا يعلمها). (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى
من فطور). (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله).
82

وجوز الأخفش زيادتها مطلقا، محتجا بنحو قوله تعالى: (ولقد جاءك من نبأ
المرسلين). (يغفر لكم من ذنوبكم). (يحلون فيها من أساور من
ذهب). (ويكفر عنكم من سيئاتكم).
وأما " ما " في نحو قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم)، وقوله: (فبما
نقضهم ميثاقهم لعناهم) " ما " في هذين الموضعين زائدة، إلا أن فيها فائدة جليلة،
وهي أنه لو قال: فبرحمة من الله لنت لهم، وبنقضهم، جوزنا أن اللين واللعن كانا للسببين
المذكورين ولغير ذلك، فلما أدخل " ما " في الموضوعين قطعنا بأن اللين لم يكن إلا للرحمة،
وأن اللعن لم يكن إلا لأجل نقض الميثاق.
* * *
[زيادة الباء]
وأما الباء فتزاد في الفاعل، نحو " كفى بالله "، أي كفى الله، ونحو " أحسن نزيد "!
إلا أنها في التعجب لازمة. ويجوز حذفها في فاعل (كفى بالله شهيدا)، (وكفى بنا
حاسبين) وإنما هو " كفى الله " و " كفينا ".
وقال الزجاج: دخلت لتضمن " كفى " معنى اكتفى، وهو حسن.
وفى المفعول، نحو: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، لأن الفعل يتعدى
بنفسه، بدليل قوله: (وألقينا فيها رواسي)، ونحو: (وهزي إليك بجذع
النخلة). (ألم يعلم بأن الله يرى). (فليمدد بسبب إلى السماء).
83

(ومن يرد فيه بإلحاد بظلم). (فطفق مسحا بالسوق والأعناق)، أي يمسح
السوق مسحا.
وقيل في الأول: ضمن " تلقوا " معنى " تفضوا ".
وقيل: المعنى لا تلقوا أنفسكم بسبب أيديكم، كما يقال: لا تفسد أمرك برأيك.
وقيل في قوله تعالى: (تنبت بالدهن): إن الباء زائدة، والمراد: " تنبت
الدهن ".
وفى المبتدأ، وهو قليل، ومنه عند سيبويه: (بأيكم المفتون).
وقال أبو الحسن: (بأيكم) متعلق باستقرار محذوف مخبر عنه بالمفتون،
ثم اختلف فقيل: " المفتون " مصدر بمعنى الفتنة، وقيل: الباء ظرفية، أي
في أيكم الجنون.
وفى خبر المبتدأ، نحو: (جزاء سيئة بمثلها). وقال أبو الحسن: الباء زائدة،
بدليل قوله في موضع آخر: (وجزاء سيئة سيئة مثلها).
وفى خبر ليس، كقوله تعالى: (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى).
(أليس الله بكاف عبده).
وقال ابن عصفور في " المقرب ": وتزاد في نادر كلام لا يقاس عليه، كقوله
تعالى: (بقادر على أن يحيى الموتى). انتهى.
84

ومراده الآية التي أولها: (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض
ولم يعي بخلقهن بقادر)، ولذا صرح به ابن أبي الربيع بعد في القراءتين.
ويدل على الزيادة الآية التي في: (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات
والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعلي لهم أجلا لا ريب فيه).
وزعم ابن النحاس أنه أراد الآية الأولى، أعني قوله: (أليس ذلك بقادر
على أن يحيى الموتى)، فاعتذر عنه بأنه: إنما قال ذلك - وإن كان في خبر ليس -
لأن " ليس " هنا بدخول الهمزة عليها لم يبق معناها من النفي، فصار الكلام تقريرا
ويعني بقوله: " في نادر " في القياس لا في الاستعمال.
[زيادة اللام]
وأما اللام، فتزاد معترضة بين الفعل ومفعوله، كقوله:
وملكت ما بين العراق ويثرب ملكا أجار لمسلم ومعاهد
وجعل منه المبرد قوله تعالى: (ردف لكم)، والأكثرون على أنه ضمن
(ردف) معنى: " اقترب "، كقوله: (اقترب للناس حسابهم).
واختلف في قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم)، فقيل
زائدة، وقيل للتعليل والمفعول محذوف، أي يريد الله التبيين وليبين لكم ويهديكم، أي
فيجمع لكم بين الأمرين.
85

وقال الزمخشري في قوله تعالى: (وأمرت لأن أكون أول المسلمين)،
في سورة الزمر: لك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في " أردت لأن أفعل "، ولا تزاد
إلا مع " أن " خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم
مقامه، كما أتت السين في " أسطاع " يعنى بقطع الهمزة عوضا من ترك الأصل
الذي هو " أطوع " والدليل على هذا مجيئه بغير لام، في قوله تعالى: (وأمرت لأن أكون
أول المسلمين). انتهي.
وزيادة في " أردت " لأن أفعل " لم يذكره أكثر النحويين، وإنما تعرضوا لها
في إعراب: (يريد الله ليبين لكم).
وتزاد لتقوية العامل الضعيف إما لتأخره، نحو: (هدى ورحمة للذين هم لربهم
يرهبون)، ونحو: (إن كنتم للرؤيا تعبرون).
أو لكونه فرعا في العمل، نحو: (مصدقا لما معهم)، فعال لما يريد *
(نزاعة للشوى).
وقيل منه: (إن هذا عدو لك ولزوجك)، وقيل: بل يتعلق بمستقر محذوف
صفة لعدو، وهي للاختصاص.
وقد اجتمع وهو التأخر والفرعية، في نحو: (وكنا لحكمهم شاهدين).
86

وأما قوله تعالى: (نذيرا للبشر)، فإن كان " نذيرا " بمعنى المنذر،
فهو مثل: (فعال لما يريد)، وإن كان بمعنى الإنذار، فاللام مثلها في:
" سقيا لزيد ".
وقد تجئ اللام للتوكيد بعد النفي، وتسمى لام الجحود، وتقع بعد " كان " مثل:
(وما كان الله ليعذبهم)، وهذه اللام لتأكيد النفي، كالباء الداخلة في خبر " ليس "،
ومعنى قوله: " إنها للتأكيد " أنك إذا قلت: " ما كنت أضربك "، بغير لام، جاز
أن يكون الضرب مما يجوز كونه، فإذا قلت: " ما كنت لأضربك "، فاللام جعلت بمنزلة
مالا يكون أصلا.
* * *
وقد تأتي مؤكدة في موضع، وتحذف في آخر لاقتضاء المقام ذلك.
ومن أمثلته قوله تعالى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة
تبعثون)، فإنه سبحانه أكد إثبات الموت الذي لا ريب فيه تأكيدين، وأكد
إثبات البعث الذي أنكروه تأكيدا واحدا، وكان المتبادر العكس، لأن التأكيد إنما يكون
حيث الانكار، لكن في النظم وجوه:
أحدها: أن البعث لما قامت البراهين القطعية عليه صار المنكر له كالمنكر للبديهيات،
فلم يحتج إلى تأكيد، وأما الموت فإنه - وإن أقروا به - لكن لما لم يعلموا ما بعده نزلوا منزلة من
لم يقر به فاحتاج إلى تأكيد ذلك، لأنه ثم قد ينزل المنكر كغير المنكر إذا كان معه ما لو
تأمله ارتدع من الانكار. ولما ظهر على المخاطبين من التمادي في الغفلة والإعراض عن العمل
87

لما بعده والانهماك في الدنيا، وهي من أمارات إنكار الموت، فلهذا قال: " ميتون " ولم
يقل: تموتون، وإنما أكد إثبات البعث الذي أنكروه تأكيدا واحدا، لظهور أدلته
المزيلة للإنكار، إذا تأملوا فيها، ولهذا قيل: " تبعثون " على الأصل، وهو الاستقبال
بخلاف " تموتون ".
الثاني: أن دخول اللام على " ميتون " أحق، لأنه تعالى يرد على الدهرية القائلين
ببقاء النوع الإنساني، خلفا عن سلف، وقد أخبر تعالى عن البعث في مواضع من القرآن،
وأكده وكذب منكره، كقوله: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي
لتبعثن) قاله الشيخ تاج الدين بن الفركاح.
الثالث: أنه لما كان العطف يقتضى الاشتراك في الحكم استغنى به عن إعارة لفظ
اللام، وكأنه قيل: " لتبعثون " واستغنى بها في الثاني لذكرها في الأول.
الرابع: قال الزمخشري: بولغ في تأكيد الموت، تنبيها للإنسان أن يكون الموت
نصب عينيه، ولا يغفل عن ترقبه، فإن مآله إليه، فكأنه أكدت جملته ثلاث مرات،
لهذا المعنى لأن الانسان في الدنيا يسعى فيها غاية السعي، حتى كأنه مخلد، ولم يؤكد جملة
البعث إلا ب‍ " إن " لأنه أبرز بصورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع، ولا يقبل إنكارا.
قلت: وهذه الأجوبة من جهة المعنى وأما الصناعة فتوجب ما جاءت الآية
الشريفة عليه وهو حذف اللام في " تبعثون "، لأن اللام تخلص المضارع للحال، فلا
يجاء [به] مع يوم القيامة، لأنه مستقبل، ولأن " تبعثون " عامل في الظرف المستقبل.
وأما قوله: (وأن ربك ليحكم بينهم)، فيمكن تأويلها بتقدير عامل.
88

ونظير هذا آية الواقعة، وهي قوله سبحانه: (لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون).
وقال سبحانه في الماء: (لو نشاء جعلناه أجاجا) بغير لام، والفرق بينهما من
أربعة أوجه:
أحدها: أن صيرورة الماء ملحا أسهل وأكثر من جعل الحرث حطاما، إذ الماء
العذب يمر بالأرض السبخة فيصير ملحا، فالتوعد به لا يحتاج إلى تأكيد، وهذا كما أن
الانسان إذا توعد عبده بالضرب بعصا ونحوه لم يحتج إلى توكيد، وإذا توعد بالقتل احتاج
إلى تأكيد.
والثاني: إن جعل الحرث حطاما - قلب للمادة والصورة، وجعل الماء أجاجا قلب:
للكيفية فقط، وهو أسهل وأيسر.
الثالث: أن " لو " لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعليق
الجزاء [بالشرط] أتى باللام علما على ذلك، ثم حذف الثاني للعلم بها، لأن الشئ
إذا علم [وشهر موقعه، وصار مألوفا ومأنوسا به) لم يبال بإسقاطه عن اللفظ استغناء
بمعرفة السامع] ويساوى لشهرته حذفه وإثباته، مع ما في حذفه من خفة اللفظ ورشاقته،
لأن تقدم ذكرها - والمسافة قصيرة يغنى عن ذكرها ثانيا.
الرابع: أن اللام أدخلت في آية المطعوم، للدلالة على أنه يقدم على أمر المشروب،
وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب، من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم،
ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب. ذكرها والذي قبله الزمخشري.
ومن ذلك حذف اللام في قوله تعالى: (يسألونك عليه عن الأنفال قل الأنفال لله
89

والرسول) وإثباتها بعد قوله: (فإن لله خمسه وللرسول...) الآية، والجواب
أنك إذا عطفت على مجرور...
القسم السابع والعشرون
باب الاشتغال
فإن الشئ إذا أضمر ثم فسر كان أفخم، مما إذا لم يتقدم إضمار، ألا ترى أنك تجد
اهتزازا في نحو قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره).
وفي قوله: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي).
وفى قوله: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما).
وفى قوله: (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) - لا تجد مثله إذا قلت: وإن
استجارك أحد من المشركين فأجره. وقولك: لو تملكون خزائن رحمة ربي. وقولك:
يدخل من يشاء في رحمته وأعد للظالمين عذابا أليما، وقولك: هدى فريقا وأضل
فريقا، إذ الفعل المفسر في تقدير المذكور مرتين.
وكذا قوله تعالى: (إذا السماء انشقت)، (إذا السماء انفطرت)، ونظائره،
فهذه فائدة اشتغال الفعل عن المفعول بضميره.
90

القسم الثامن والعشرون
التعليل
بان يذكر الشئ معللا، فإنه أبلغ من ذكره بلا علة، لوجهين:
أحدهما: أن العلة المنصوصة قاضية بعموم المعلول، ولهذا اعترفت الظاهرية بالقياس في
العلة المنصوصة.
الثاني: أن النفوس تنبعث إلى نقل الأحكام المعللة، بخلاف غيرها، وغالب التعليل في
القرآن فهو على تقدير جواب سؤال اقتضته الجملة الأولى، وهو سؤال عن العلة.
ومنه: (إن النفس لأمارة بالسوء). (إن زلزلة الساعة شئ عظيم).
(إن صلاتك سكن لهم).
وتوضيح التعليل أن الفاء السببية لو وضعت مكان " إن " لحسن.
* * *
والطرق الدالة على العلة أنواع:
الأول: التصريح بلفظ الحكم، كقوله تعالى: (حكمة بالغة).
وقال: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة)، والحكمة هي العلم النافع.
والعمل الصالح.
* * *
91

الثاني: أنه فعل كذا لكذا، أو أمر بكذا لكذا، كقوله تعالى: (ذلك لتعلموا
أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض).
وقوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر
بينهن لتعلموا).
(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس).
(لئلا يعلم أهل الكتاب).
(وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم).
(وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به).
(وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به)، وهو كثير.
فإن قيل: اللام فيه للعاقبة، كقوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم
عدوا وحزنا)، وقوله: (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة)، وإنما قلنا ذلك لأن
أفعال الله تعالى لا تعلل!
فالجواب أن معنى قولنا: إن أفعال الله تعالى لا تعلل، أي لا تجب، ولكنها لا تخلو عن
الحكمة، وقد أجاب الملائكة عن قولهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها) بقوله:
(إني أعلم مالا تعلمون).
ولو كان فعله سبحانه مجردا عن الحكم والغايات لم يسأل الملائكة عن حكمته،
ولم يصح الجواب بكونه يعلم ما لا يعلمون من الحكمة والمصالح، وفرق بين العلم والحكمة،
92

ولأن لام العاقبة إنما تكون في حق من يجهل العاقبة، كقوله: (فالتقطه آل فرعون
ليكون لهم عدوا وحزنا)، وأما من هو بكل شئ عليم فمستحيلة في حقه، وإنما
اللام الواردة في أحكامه وأفعاله لام الحكمة والغاية المطلوبة من الحكمة. ثم قوله:
(ليكون لهم عدوا وحزنا) هو تعليل لقضاء الله بالتقاطه وتقديره لهم، فإن التقاطهم له
إنما كان بقضائه وقدره، وذكر فعلهم دون قضائه، لأنه أبلغ في كونه حزنا لهم وحسرة
عليهم.
قاعدة تفسيرية:
حيث دخلت واو العاطف على لام التعليل فله وجهان:
أحدهما: أن يكون تعليلا معللة محذوف، كقوله تعالى: (وليبلى المؤمنين منه
بلاء حسنا)، فالمعنى وللإحسان إلى المؤمنين فعل ذلك.
الثاني: أن يكون معطوفا على علة أخرى، مضمرة ليظهر صحة العطف، كقوله تعالى:
(وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى)، التقدير: ليستدل بها المكلف
على قدرته تعالى ولتجزى: وكقوله: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه)
التقدير: ليتصرف فيها ولنعلمه.
والفرق بين الوجهين أنه في الأول عطف جملة على جملة، وفي الثاني عطف مفرد
على مفرد.
وقد يحتملهما الكلام، كقوله تعالى: (ولنجعلك آية للناس)، فالتقدير على
الأول ولنجعله آية فعلنا ذلك، وعلى الثاني ولنبين للناس قدرتنا ولنجعله آية. ويطرد الوجهان
في نظائره ويرجح كل واحد بحسب المقام، وحذف المعلل هاهنا أرجح، إذ لو فرض علة
أخرى لم يكن بد من معلل محذوف، وليس قبلها ما يصلح له.
93

فإن قلت: لم قدر المعلل مؤخرا؟
قلت: فائدة هذا الأسلوب هو أن يجاء بالعلة بالواو للاهتمام بشأن العلة المذكورة،
لأنه إما أن يقدر علة أخرى ليعطف عليها، فيكون اختصاص ذكرها لكونها أهم،
وإما أن يكون على تقدير معلل، فيجب أن يكون مؤخرا ليشعر تقديمه بالاهتمام.
* * *
الثالث: الإتيان بكى، كقوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من
أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا
يكون دولة بين الأغنياء منكم)، فعلل سبحانه قسمة الفئ بين هذه الأصناف
كيلا يتداوله الأغنياء دون الفقراء.
وقوله: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل
أن نبرأنها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا
بما آتاكم)، وأخبر سبحانه أنه قدر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن تبرأ
الأنفس أو المصيبة أو الأرض أو المجموع، ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنه هين عليه،
وحكمته البالغة التي منها ألا يحزن عباده على ما فاتهم، ولا يفرحوا بما آتاهم، فإنهم
إذا علموا أن المصيبة فيه مقدرة كائنة ولا بد قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت،
فلم يأسوا عليه ولم يفرحوا.
* * *
الرابع: ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به، كقوله: (ونزلنا عليك الكتاب
تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة).
94

ونصب ذلك على المفعول له أحسن من غيره، كما صرح به في قوله: (لتبين للناس
ما نزل إليهم).
وقوله: (ولأتم نعمتي علكيم ولعلكم تهتدون).
وقوله: (ولقد يسرنا القرآن للذكر)، أي لأجل الذكر، كما قال تعالى:
(فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون).
وقوله: (فالملقيات ذكرا. عذرا أو نذرا)، أي للإعذار والإنذار.
وقد يكون معلولا بعلة أخرى، كقوله تعالى: (يجعلون أصابعهم في آذانهم
من الصواعق حذر الموت)، ف‍ " من الصواعق " يحتمل أن تكون فيه " من " لابتداء
الغاية فتتعلق بمحذوف، أي خوفا من الصواعق، ويجوز أن تكون معللة بمعنى اللام
كما في قوله تعالى: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم)، أي لغم.
وعلى كلا التقديرين ف‍ " من الصواعق " في محل نصب، على أنه مفعول له، والعامل فيه
(يجعلون). و (حذر الموت) مفعول له أيضا فالعامل فيه (من الصواعق) ف‍ " من الصواعق "
علة ل‍ " يجعلون "، معلول لحذر الموت، لأن المفعول الأول الذي هو " من الصواعق "
يصلح جوابا لقولنا: لم يجعلون أصابعهم في آذانهم؟ والمفعول الثاني الذي هو " حذر الموت "
يصلح جوابا لقولنا: لم يخافون من الصواعق؟ فقد ظهر ذلك.
* * *
الخامس: اللام في المفعول له وتقوم مقامه الباء، نحو: (فبظلم من الذين
هادوا).
95

ومن، نحو: (من أجل ذلك كتبنا).
والكاف، نحو: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم)، وقال: (فاذكروني
أذكركم)، وقال: (فإذ كروا الله كما علمكم)، أي لإرسالنا وتعليمنا.
* * *
السادس: الإتيان بإن، كقوله تعالى: (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم).
(وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم).
(وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
(فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا).
وكقوله: (فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون)، وليس هذا
من قولهم، لأنه لو كان قولهم لما حزن الرسول، وإنما جئ بالجملة لبيان العلة والسبب في أنه
لا يحزنه قولهم.
وكذلك قوله تعالى: (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا) والوقف على
القول في هاتين الآيتين والابتداء بإن لازم.
وقد يكون علة لعلة كقوله: (إن عذابها كان غراما. إنها ساءت مستقرا ومقاما)
وفيها وجهان لأهل المعاني.
96

أحدهما: أن سؤالهم لصرف العذاب معلل بأنه غرام، أي ملازم الغريم، وبأنها
ساءت مستقرا ومقاما.
الثاني: أن " ساءت ". تعليل لكونه غراما.
* * *
السابع: أن والفعل المستقبل بعدها، تعليلا لما قبله، كقوله تعالى: (أن تقولوا إنما أنزل
الكتاب على طائفتين من قبلنا).
وقوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله).
وقوله: (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون)،
كأنه قيل: لم فاضت أعينهم من الدمع؟ قيل: للحزن، فقيل: لم حزنوا؟ فقيل:
لئلا يجدوا.
وقوله: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى).
ونظائره كثيرة. وفي ذلك طريقان:
أحدهما للكوفيين، أن المعنى لئلا يقولوا، ولئلا تقول نفس.
الثاني للبصريين، أن المفعول له محذوف، أي كراهة أن يقولوا، أو حذار أن يقولوا.
فإن قيل: كيف يستقيم الطريقان في قوله: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما
الأخرى)؟ فإنك إذا قدرت: " لئلا تضل إحداهما " لم يستقم عطف " فتذكر "
عليه، وإن قدرت " حذار أن تضل إحداهما " لم يستقم العطف أيضا، لأنه لا يصح أن
تكون الضلالة علة لشهادتهما.
97

قيل: بظهور المعنى يزول الإشكال، فإن المقصود إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت
ونسيت، فلما كان الضلال سببا للإذكار جعل موضع العلة، تقول: " أعددت هذه الخشبة
أن تميل الحائط فأدعم بها "، فإنما أعددتها للدعم لا للميل، وأعددت هذا الدواء
أن أمرض فأداوى به ونحوه، هذا قول سيبويه والبصريين.
وقال الكوفيون: تقديره في " تذكر إحداهما الأخرى ": إن ضلت، فلما تقدم الجزاء
اتصل بما قبله، ففتحت أن.
* * *
الثامن: " من أجل " في قوله تعالى: " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل
أنه من قتل نفسا بغير نفس) فإنه لتعليل الكتب، وعلى هذا فيجب الوقف على:
(من النادمين). وظن قوم أنه تعليل لقوله: (من النادمين)، أي من أجل
قتله لأخيه، وهو غلط، لأنه يشوش صحة النظم، ويخل بالفائدة.
فإن قلت: كيف يكون قتل أحد ابني آدم للآخر علة للحكم على أمة أخرى بذلك
الحكم؟ وإذا كان علة فكيف كان قتل نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلهم؟.
قيل: إن الله - سبحانه - يجعل أقضيته وأقداره عللا لأسبابه الشرعية وأمره، فجعل
حكمه الكوني القدري علة لحكمة أمره الديني، لأن القتل لما كان من أعلى
98

أنواع الظلم والفساد، فخم أمره، وعظم شأنه، وجعل إثمه أعظم من إثم غيره، ونزل قاتل
النفس الواحدة منزلة قاتل الأنفس كلها في أصل العذاب، لا في وصفه.
* * *
التاسع: التعليل بلعل، كقوله تعالى: (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من
قبلكم لعلكم تتقون)، قيل: هو تعليل لقوله: (اعبدوا)، وقيل لقوله:
(خلقكم).
وقوله: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم
تتقون)، حيث لمح فيها معنى الرجاء رجعت إلى المخاطبين.
* * *
العاشر: ذكر الحكم الكوني أو الشرعي عقب الوصف المناسب له، فتارة يذكر
بأن، وتارة بالفاء، وتارة يجرد.
فالأول: كقوله تعالى: (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت
خير الوارثين) إلى قوله: (خاشعين). وقوله: (إن المتقين في جنات وعيون.
آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين).
والثاني: كقوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما). (الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة).
والثالث: كقوله: (إن المتقين في جنات وعيون. ادخلوها بسلام). (إن الذين
99

آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف
عليهم ولا هم يحزنون).
* * *
الحادي عشر: تعليله سبحانه عدم الحكم بوجود المانع منه، كقوله تعالى: (ولولا
أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن...) الآية.
وقوله: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض).
(وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون)، أي آيات
الاقتراح، لا الآيات الدالة على صدق الرسل التي تأتي منه سبحانه ابتداء.
وقوله: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا في لقالوا لولا فصلت آياته).
وقوله: (لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر)، فأخبر
سبحانه عما يمنع من إنزال الملك عيانا بحيث يشاهدونه، وإن عنايته وحكمته بخلقه
اقتضت منع ذلك، بأنه لو أنزل عليه الملك ثم عاينوه ولم يؤمنوا به لعوجلوا بالعقوبة، وجعل
الرسول بشرا ليمكنهم التلقي عنه، والرجوع إليه. ولو جعله ملكا، فإما أن يدعه
على هيئته الملكية، أو يجعله على هيئة البشر، والأول يمنعهم من التلقي عنه، والثاني
لا يحصل مقصوده، إذ كانوا يقولون: هو بشر لا ملك.
* * *
الثاني عشر: اخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه وأمره، كقوله:
100

(الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء...) الآية.
وقوله: (ألم نجعل الأرض مهادا...) الآيات.
وقوله: (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا...) الآية.
* * *
وكما يقصدون البسط والاستيفاء، يقصدون الاجمال والإيجاز، كما قيل:
يرمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خيفة الرقباء
وقوله: (ومن آياته أن جعل لكم من أنفسكم أزواجا)
101

الأسلوب الثاني
الحذف
وهو لغة الإسقاط، ومنه حذفت الشعر إذا أخذت منه.
واصطلاحا اسقاط جزء الكلام أو كله لدليل. وأما قول النحويين: الحذف
لغير دليل، ويسمى اقتصارا، فلا تحرير فيه، لأنه لا حذف فيه بالكلية كما سنبينه فيما
يلتبس به الإضمار والإيجاز.
والفرق بينهما أن شرط الحذف والإيجاز أن يكون [في الحذف] ثم مقدر، نحو:
(واسأل القرية)، بخلاف الإيجاز، فإنه عبارة عن اللفظ القليل الجامع للمعاني الجمة بنفسه.
والفرق بينه وبين الإضمار أن شرط المضمر بقاء أثر المقدر في اللفظ، نحو: (يدخل
من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما). ويعذب المنافقين).
(انتهوا خيرا لكم). أي أئتوا أمرا خيرا لكم، وهذا لا يشترط في الحذف.
ويدل على أنه لا بد في الإضمار من ملاحظة المقدر باب الاشتقاق، فإنه من أضمرت
الشئ: أخفيته، قال:
* سيبقى لها في مضمر القلب والحشا *
102

وأما الحذف، فمن حذفت الشئ قطعته، وهو يشعر بالطرح، بخلاف الإضمار،
ولهذا قالوا: " أن " تنصب ظاهرة ومضمرة.
ورد ابن ميمون قول النحاة: إن الفاعل يحذف في باب المصدر، وقال: الصواب
أن يقال: يضمر ولا يحذف، لأنه عمدة في الكلام.
وقال ابن جنى في خاطرياته: من اتصال الفاعل بالفعل أنك تضمره في لفظ إذا عرفته
نحو قم، ولا تحذفه كحذف المبتدأ، ولهذا لم يجز عندنا ما ذهب إليه الكسائي في
" ضربني، وضربت قومك ".
فصل
[في أن الحذف نوع من أنواع المجاز على المشهور]
المشهور أن الحذف مجاز، وحكى إمام الحرمين في " التلخيص " عن بعضهم:
أن الحذف ليس بمجاز، إذ هو استعمال اللفظ في غير موضعه، والحذف ليس كذلك.
قال ابن عطية في تفسير سورة يوسف: وحذف المضاف هو عين المجاز أو معظمه،
وهذا مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر، وليس كل حذف مجازا. انتهى.
وقال الزنجاني في " المعيار ": إنما يكون مجازا إذا تغير بسببه حكم،
103

فأما إذا لم يتغير به حكم، كقولك: زيد منطلق وعمرو، بحذف الخبر فلا يكون مجازا
إذا لم يتغير حكم ما بقي من الكلام.
والتحقيق أنه إن أريد بالمجاز استعمال اللفظ في غير موضعه فالمحذوف ليس كذلك،
لعدم استعماله، وإن أريد بالمجاز إسناد الفعل إلى غيره - وهو المجاز العقلي - فالحذف كذلك.
فصل
[في أن الحذف خلاف الأصل]
والحذف خلاف الأصل، وعليه ينبني فرعان:
أحدهما: إذا دار الأمر بين الحذف وعدمه كان الحمل على عدمه أولى، لأن الأصل
عدم التغيير.
والثاني: إذا دار الأمر بين قلة المحذوف وكثرته، كان الحمل على قلته أولى.
[أوجه الكلام على الحذف]
ويقع الكلام في الحذف من خمسة أوجه: في فائدته، وفي أسبابه، ثم في أدلته، ثم في
شروطه، ثم في أقسامه.
[فوائد الحذف]
الوجه الأول في فوائده:
فمنها التفخيم والإعظام، لما فيه من الإبهام، لذهاب الذهن في كل مذهب، وتشوفه
إلى ما هو المراد، فيرجع قاصرا عن إدراكه، فعند ذلك يعظم شأنه، ويعلو في
النفس مكانه. ألا ترى أن المحذوف إذا ظهر في اللفظ زال ما كان يختلج في الوهم من
المراد، وخلص للمذكور!
104

ومنها: زيادة لذة بسبب استنباط الذهن للمحذوف، وكلما كان الشعور بالمحذوف
أعسر، كان الالتذاذ به أشد وأحسن.
ومنها: زيادة الأجر بسبب الاجتهاد في ذلك، بخلاف غير المحذوف، كما تقول في العلة
المستنبطة والمنصوصة.
ومنها: طلب الإيجاز والاختصار، وتحصيل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
ومنها: التشجيع على الكلام، ومن ثم سماه ابن جنى: " شجاعة العربية ".
ومنها: موقعه في النفس في موقعه على الذكر، ولهذا قال شيخ الصناعتين عبد القاهر
الجرجاني: ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره.
ولله در القائل:
إذا نطقت جاءت بكل مليحة * وإن سكتت جاءت بكل مليح
[أسباب الحذف]
الثاني في أسبابه:
فمنها: مجرد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر، نحو: الهلال والله، أي هذا،
فحذف المبتدأ استغناء عنه بقرينة شهادة الحال، إذ لو ذكره مع ذلك لكان عبثا من القول.
ومنها: التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف، وأن الاشتغال بذكره
يفضى إلى تفويت المهم، وهذه هي فائدة باب التحذير، نحو: إياك والشر، والطريق،
الطريق، الله الله. وباب الإغراء هو لزوم أمر يحمد به، وقد اجتمعا في قوله تعالى: (ناقة
الله وسقياها) على التحذير، أي احذروا ناقة الله فلا تقربوها، و " سقياها "، إغراء
بتقدير ألزموا ناقة الله.
ومنها التفخيم والإعظام، قال حازم في " منهاج البلغاء ": إنما يحسن الحذف ما لم
105

يشكل به المعنى، لقوة الدلالة عليه، أو يقصد به تعديد أشياء، فيكون في تعدادها طول
وسآمة، فيحذف ويكتفى بدلالة الحال عليه، وتترك النفس تجول في الأشياء المكتفى بالحال
عن ذكرها على الحال. قال: وبهذا القصد يؤثر في المواضع التي يراد بها التعجب والتهويل
على النفوس، ومنه قوله تعالى في وصف أهل الجنة: (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها)
فحذف الجواب، إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى، فجعل الحذف
دليلا على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه، وتركت النفوس تقدر ما شأنه، ولا يبلغ
مع ذلك كنه ما هنالك، لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا
خطر على قلب بشر ".
قلت: ومنه: (فغشيهم من أليم ما غشيهم) مالا يعلم كنهه إلا الله، قال الزمخشري:
وهذا من باب الاختصار ومن جوامع الكلم المتحملة مع قلتها للمعاني الكثيرة.
ومنها: التخفيف، لكثرة دورانه في كلامهم، كما حذف حرف النداء، في نحو:
(يوسف أعرض عن هذا) وغيره. قال سيبويه: العرب تقول لا أدر، فيحذفون
الياء، والوجه " لا أدري "، لأنه رفع، وتقول: " لم أبل "، فيحذفون الألف، والوجه
" لم أبال ". ويقولون: " لم يك "، فيحذفون النون، كل ذلك يفعلونه استخفافا لكثرته
في كلامهم.
ومنها: حذف نون التثنية والجمع وأثرها باق، نحو " الضاربا زيد " والضاربو زيد
وقراءة من قرأ: (والمقيمي الصلاة) كأن النون ثابتة، فعلوا ذلك لاستطالة الموصول
106

في الصلة، نحو: (والليل إذا يسر) حذفت الياء للتخفيف.
ويحكى عن الأخفش أن المؤرج السدوسي سأله: [عن ذلك] فقال: لا أجيبك حتى
تنام على بابي ليلة، ففعل، فقال له: إن عادة العرب إذا عدلت بالشئ عن معناه
نقصت حروفه، والليل لما كان لا يسري، وإنما يسري فيه، نقص منه حرف، كما في قوله:
(وما كانت أمك بغيا)، الأصل " بغية " فلما حول ونقل عن فاعل نقص منه
حرف. انتهى.
ومنها: رعاية الفاصلة، نحو: (ما ودعك ربك وما قلى). (والليل إذا يسر)
ونحوه. وقال الرماني: إنما حذفت الياء في الفواصل لأنها على نية الوقف، وهي في ذلك
كالقوافي التي لا يوقف عليها بغير ياء.
ومنها: أن يحذف صيانة له، كقوله تعالى: (قال فرعون وما رب العالمين)
إلى قوله: (إن كنتم تعقلون)، حذف المبتدأ في ثلاثة مواضع: قبل ذكر الرب،
أي هو رب السماوات. والله ربكم. والله رب المشرق، لأن موسى عليه السلام استعظم
حال فرعون وإقدامه على السؤال تهيبا وتفخيما، فاقتصر على ما يستدل به من أفعاله
الخاصة به، ليعرفه أنه ليس كمثله شئ، وهو السميع البصير.
ومنها: صيانة اللسان عنه، كقوله تعالى: (صم بكم عمي)، أي هم.
107

ومنها: كونه لا يصلح إلا له، كقوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة). (فعال
لما يريد).
ومنها شهرته حتى يكون ذكره وعدمه سواء، قال الزمخشري: وهو نوع من دلالة
الحال التي لسانها أنطق من لسان المقال، كقول رؤبة: خير، جواب من قال: كيف
أصبحت؟ فحذف الجار، وعليه حمل قراءة حمزة: (تساءلون به والأرحام) لأن هذا
مكان شهر بتكرير الجار، فقامت الشهرة مقام الذكر.
وكذا قال الفارسي متخلصا من عدم إعادة حرف الجر في المعطوف على الضمير
المجرور: إنه مجرور بالجار المقدر أي و " بالأرحام " وإنما حذفت استغناء به في المضمر
المجرور قبله.
فأن قلت: هذا المقدر يحيل المسألة، لأنه يصير من عطف الجار والمجرور على مثله!
قلت: إعادة الجار شرط لصحة العطف، لا أنه مقصود لذاته.
[أدلة الحذف]
الوجه الثالث في أدلته:
ولما كان الحذف لا يجوز إلا لدليل احتيج إلى ذكر دليله.
والدليل تارة يدل على محذوف مطلق، وتارة على محذوف معين.
فمنها: أن يدل عليه العقل حيث تستحيل صحة الكلام عقلا إلا بتقدير
محذوف، كقوله تعالى: (واسأل القرية)، فإنه يستحيل عقلا تكلم الأمكنة
إلا معجزة.
ومنها: أن تدل عليه العادة الشرعية، كقوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة)
108

فإن الذات لا تتصف بالحل والحرمة شرعا، إنما هما من صفات الأفعال الواقعة على الذوات،
فعلم أن المحذوف التناول، ولكنه لما حذف وأقيمت الميتة مقامه أسند إليها الفعل، وقطع
النظر عنه، فلذلك أنث الفعل في بعض الصور، كقوله تعالى: (حرمت عليكم
الميتة)، وقول صاحب التلخيص: إن هذه الآية من باب دلالة العقل ممنوع،
لأن العقل لا يدرك محل الحل ولا الحرمة، فلهذا جعلناه من دلالة العادة الشرعية.
ومنها: أن يدل العقل عليهما، أي على الحذف والتعيين، كقوله تعالى: (وجاء
ربك)، أي أمره أو عذابه أو ملائكته، لأن العقل دل على أصل الحذف،
ولاستحالة مجئ البارئ عقلا، لأن المجئ من سمات الحدوث. ودل العقل أيضا
على التعيين، وهو الأمر ونحوه، وكلام الزمخشري يقتضي أنه لا حذف البتة، فإنه قال: هذه
الآية الكريمة تمثيل، مثلت حاله سبحانه وتعالى في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه.
وكقوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله)، لأنه في معرض التوحيد
فعدم الفساد دليل على عدم تعدد الآلهة، وإنما حذف لأن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم
ضرورة، ولذلك لم يذكر المقدمة الثانية عند استعمال الشرط بلوغا لها.
ومنها: أن يدل العقل على أصل الحذف، وتدل عادة الناس على تعيين المحذوف،
كقوله تعالى: (فذلك الذي لمتنني فيه) فإن يوسف عليه السلام ليس ظرفا
للومهن، فتعين أن يكون غيره، فقد دل العقل على أصل الحذف. ثم يجوز أن يكون
الظرف جثة، بدليل: (شغفا حبا)، أو مراودته بدليل: (تراود فتاها)، ولكن
109

العقل لا يعين واحدا منها، بل العادة دلت على أن المحذوف هو الثاني، فإن الحب لا يلام
عليه صاحبه، لأنه يقهره ويغلبه، وإنما اللوم فيما للنفس فيه اختيار، وهو المراودة،
لقدرته على دفعها.
ومنها: أن تدل العادة على تعيين المحذوف، كقوله تعالى: (لو نعلم قتالا)،
أي مكان قتال، والمراد مكانا صالحا للقتال، لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال، والعادة
تمنع أن يريدوا: لو نعلم حقيقة القتال، فلذلك قدره مجاهد: " مكان قتال ".
وقيل: إن تعيين المحذوف هنا من دلالة السياق لا العادة.
ومنها: أن يدل اللفظ على الحذف، والشروع في الفعل على تعيين المحذوف كقوله:
(بسم الله) فإن اللفظ يدل على أن فيه حذفا، لأن حرف الجر لا بد له من متعلق،
ودل الشروع على تعيينه، وهو الفعل الذي جعلت التسمية في مبدئه، من قراءة، أو أكل
أو شرب ونحوه، ويقدر في كل موضع ما يليق، ففي القراءة: أقرأ، وفي الأكل:
آكل، ونحوه.
وقد اختلف: هل يقدر الفعل أو الاسم؟ وعلى الأول فهل يقدر عام كالابتداء
أو خاص كما ذكرنا؟
ومنها اللغة كضربت، فإن اللغة قاضية أن الفعل المتعدي لا بد له من مفعول،
نعم هي تدل على أصل الحدث لا تعيينه. وكذلك حذف المبتدأ والخبر.
ومنها: تقدم ما يدل على المحذوف وما في سياقه، كقوله: (وأبصر فسوف
يبصرون)، وفي موضع آخر نحو: (ما منعك أن تسجد). وفي موضع:
110

(ألا تسجد). وكقوله: (لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ) أي هذا، بدليل
ظهوره في سورة إبراهيم، فقال تعالى: (هذا بلاغ للناس)، ونظائره.
ومنها اعتضاده بسبب النزول، كما في قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة)، فإنه
لا بد فيه من تقدير فقال زيد بن أسلم: أي قمتم من المضاجع - يعني النوم - وقال غيره:
إنما يعني إذا قمتم محدثين.
واحتج لزيد بأن هذه الآية إنما نزلت بسبب فقدان عائشة رضي الله عنها عقدها،
فأخروا الرحيل إلى أن أضاء الصبح، فطلبوا الماء عند قيامهم من نومهم فلم يجدوه، فأنزل الله
هذه الآية.
وربما رجح من طريق النظر بأن الأحداث المذكورة بعد قوله: (إذا قمتم)
الأولى أن يحمل قوله (إذا قمتم) معنى غير الحدث، لما فيه من زيادة الفائدة، فتكون
الآية جامعة للحدث ولسبب الحدث، فإن النوم ليس بحدث بل سبب للحدث.
[شروط الحذف]
الوجه الرابع في شروطه:
فمنها أن تكون في المذكور دلالة على المحذوف، إما من لفظه أو من سياقه، وإلا
لم يتمكن من معرفته، فيصير اللفظ مخلا بالفهم. ولئلا يصير الكلام لغزا فيهجن في
الفصاحة، وهو معنى قولهم: لا بد أن يكون فيما أبقى دليل على ما ألقى.
وتلك الدلالة مثالية وحالية.
فالمثالية قد تحصل من إعراب اللفظ، وذلك كما إذا كان منصوبا، فيعلم أنه لا بد له
111

من ناصب، وإذا لم يكن ظاهرا لم يكن بد من أن يكون مقدرا، نحو: أهلا وسهلا
ومرحبا، أي وجدت أهلا وسلكت سهلا، وصادفت رحبا. ومنه قوله تعالى:
(الحمد لله) على قراءة النصب. وكذلك قوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به
والأرحام) والتقدير: احمدوا الحمد، واحفظوا الأرحام، وكذلك قوله تعالى: (ومن
أحسن من الله صبغة). (ملة أبيكم إبراهيم).
والحالية قد تحصل من النظر إلى المعنى والنظر والعلم، فإنه لا يتم إلا بمحذوف، وهذا
يكون أحسن حالا من النظم الأول لزيادة عمومه، كما في قولهم: فلان يحل ويربط، أي
يحل الأمور ويربطها، أي ذو تصرف.
وقد تدل الصناعة النحوية على التقدير، كقولهم في: (لا أقسم بيوم القيامة)
إن التقدير لأنا أقسم، لأن فعل الحال لا يقسم عليه. وقوله تعالى: (تفتأ تذكر
يوسف)، التقدير: لا تفتأ، لأنه لو كان الجواب مثبتا لدخلت اللام والنون، كقوله:
(بلى وربي لتبعثن).
وهذا كله عند قيام دليل واحد، وقد يكون هناك أدلة يتعدد التقدير بحسبها، كما في
قوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا)، فإنه يحتمل ثلاثة أمور:
أحدها: كمن لم يزين له سوء عمله، والمعنى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه
112

حسنا) من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما، كمن لم يزين له! ثم كأن النبي صلى الله
عليه وسلم لما قيل له ذلك، قال: لا، فقيل: (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات).
ثانيها: تقدير: ذهبت نفسك عليهم حسرات، فحذف الخبر لدلالة (فلا تذهب
نفسك عليهم حسرات).
ثالثها: تقدير: " كمن هداه الله "، فحذف لدلالة: (فإن الله يضل من يشاء
ويهدي من يشاء).
* * *
واعلم أن هذا الشرط إنما يحتاج إليه إذا كان المحذوف الجملة بأسرها، نحو: (قالوا
سلاما)، أي سلمنا سلاما، أو أحد ركنيها نحو: (قال سلام قوم منكرون)
أي " سلام عليكم أنتم قوم منكرون "، فحذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية.
وأما إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط لحذفه دليل، ولكن يشترط ألا يكون في
حذفه إخلال بالمعنى أو اللفظ، كما في حذف العائد المنصوب ونحوه.
وشرط ابن مالك في حذف الجار أيضا أمن اللبس، ومنع الحذف في نحو: رغبت في
أن تفعل، أو عن أن تفعل، لإشكال المراد يعد الحذف.
وأورد عليه (وترغبون أن تنكحوهن)، فحذف الحرف.
وجوابه أن النساء يشتملن على وصفين؟ وصف الرغبة فيهن وعنهن، فحذف للتعميم.
113

وشرط بعضهم في الدليل اللفظي أن يكون على وفق المحذوف. وأنكر قول الفراء
في قوله تعالى: (أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه. بلى قادرين على أن نسوي
بنانه) أن التقدير: بلى حسبنا قادرين، والحساب المذكور بمعنى الظن، والمحذوف
بمعنى العلم، إذ التردد في الإعادة كفر، فلا يكون مأمورا به.
ويجاب بأن الحساب المقدر بمعنى الجزم والاعتقاد، لا بمعنى الظن، وتقديره بذلك
أولى، لموافقته الملفوظ.
وقد يدل على المحذوف ذكره في مواضع أخر.
منها: وهو أقواها، كقوله: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي
ربك) أي أمره، بدليل قوله: (أو يأتي أمر ربك).
وقوله في آل عمران: (وجنة عرضها السماوات والأرض)، أي كعرض،
بدليل التصريح به في آية الحديد.
وفيه إيجاز بليغ، فإنه إذا كان العرض كذلك، فما ظنك بالطول! كقوله: (بطائنها
من إستبرق).
وقيل: إنما أراد التعظيم والسعة لأحقية العرض، كقوله:
كأن بلاد الله وهي عريضة * على الخائف المظلوم كفة حابل
ومنها: ألا يكون الفعل طالبا له بنفسه، فإن كان امتنع حذفه كالفاعل، ومفعول
ما لم يسم فاعله، واسم كان وأخواتها، وإنما لم يحذف لما في ذلك من نقض الغرض.
114

ومنها: قال أبو الفتح بن جنى: ومن حق الحذف أن يكون في الأطراف لا في الوسط،
لأن طرف الشيء أضعف من قلبه ووسطه، قال تعالى: (أولم يروا أنا نأتي الأرض
ننقصها من أطرافها)، وقال الطائي الكبير:
كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا
فكأن الطرفين سياج للوسط ومبذولان للعوارض دونه، ولذلك تجد الإعلال
عند التصريفيين، بالحذف منها، فحذفوا الفاء في المصادر من باب وعد، نحو العدة والزنة
والهبة، واللام في نحو اليد والدم والفم والأب والأخ، وقلما تجد الحذف في العين لما ذكرنا،
وبهذا يظهر لطف هذه اللغة العربية.
تنبيهات
الأول: قد توجب صناعة النحو التقدير وإن كان المعنى غير متوقف عليه، كما في قوله:
" لا إله إلا الله " فإن الخبر محذوف، وقدره النحاة ب‍ " موجود " أو " لنا ".
وأنكره الإمام فخر الدين، وقال: هذا كلام لا يحتاج إلى تقدير، وتقديرهم فاسد،
لأن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة، فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلا على سلب
الماهية مع القيد، وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر.
ولا معنى لهذا الانكار، فإن تقدير " في الوجود "، يستلزم نفي كل إله غير الله قطعا
فإن العدم لا كلام فيه، فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة. ثم لا بد من تقدير
خبر لاستحالة مبتدأ بلا خبر، ظاهرا أو مقدرا، وإنما يقدر النحوي ليعطى القواعد
حقها وإن كان المعنى مفهوما، وتقديرهم هنا أو غيره ليروا صورة التركيب من حيث
115

اللفظ مثالا، لا من حيث المعنى، ولهم تقديران: إعرابي، وهو الذي خفي على المعترض،
ومعنوي وهو الذي ألزمه وهو غير لازم.
ومن المنكر في هذا أيضا قول ابن الطراوة: إن الخبر في هذا " إلا الله "، وكيف
يكون المبتدأ نكرة والخبر معرفة!
الثاني: اعتبر أبو الحسن في الحذف التدريج حيث أمكن، ولهذا قال في قوله تعالى:
(واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا): إن أصل الكلام: " يوم لا تجزي
فيه " فحذف حرف الجر، فصار " تجزيه "، ثم حذف الضمير فصار " تجزي ".
وهذا ملاطفة في الصناعة، ومذهب سيبويه أنه حذف فيه دفعة واحدة.
قال أبو الفتح في " المحتسب ": وقول أبي الحسن أوثق في النفس وآنس
من أن يحذف الحرفان معا في وقت واحد.
الثالث: المشهور في قوله تعالى: (فانفجرت منه)، أنه معطوف على جملة
محذوفة، التقدير: " فضرب فانفجرت "، ودل " انفجرت " على المحذوف، لأنه يعلم
من الانفجار أنه قد ضرب.
وكذا: (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق)، إذ لا جائز أن يحصل الانفجار
والانفلاق دون ضرب.
وابن عصفور يقول في مثل هذا: إن حرف العطف المذكور مع المعطوف هو الذي كان
مع المعطوف عليه، وإن المحذوف هو المعطوف عليه، وحذف حرف العطف من المعطوف،
116

فالفاء في " انفلق " هي فاء الفعل المحذوف وهو " ضرب " فذكرت فاؤه وحذف فعلها
وذكر فعل " انفلق " وحذفت فاؤه ليدل المذكور على المحذوف، وهو تحيل غريب.
[أقسام الحذف]
الخامس في أقسامه:
الأول: الاقتطاع، وهو ذكر حرف من الكلمة وإسقاط الباقي، كقوله:
* درس المنا بمتالع فأبان *
أي المنازل، وأنكر صاحب " المثل السائر " ورود هذا النوع في القرآن العظيم،
وليس كما قال.
وقد جعل منه بعضهم فواتح السور، لأن كل حرف منها يدل على اسم من أسماء الله
تعالى، كما روى ابن عباس " آلم " معناه: " أنا الله أعلم وأرى "، و " المص " أنا الله
أعلم وأفصل، وكذا الباقي.
وقيل في قوله: (وامسحوا برءوسكم): إن الباء هنا أول كلمة " بعض "، ثم حذف
الباقي، كقوله:
* قلت لها قفي لنا قالت قاف *
أي وقفت، وفي الحديث: " كفى بالسيف شا " أي شاهدا.
117

وقال الزمخشري في قوله: " من الله " في القسم: إنها " أيمن " التي تستعمل في القسم،
حذفت نونها.
ومن هذا الترخيم، ومنه: قراءة بعضهم: (يا مال) على لغة من ينتظر، ولما سمعها
بعض السلف قال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم! وأجاب بعضهم بأنهم لشدة ما هم فيه
عجزوا عن إتمام الكلمة.
* * *
الثاني: الاكتفاء وهو أن يقتضى المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط، فيكتفى
بأحدهما عن الآخر، ويخص بالارتباط العطفي غالبا، فإن الارتباط خمسة أنواع: وجودي،
ولزومي، وخبري، وجوابي، وعطفي.
ثم ليس المراد الاكتفاء بأحدهما كيف اتفق، بل لأن فيه نكتة تقتضي
الاقتصار عليه.
والعلم المشهور في مثال هذا النوع قوله تعالى: (سرابيل تقيكم الحر) أي
والبرد، هكذا قدروه. وأوردوا عليه سؤال الحكمة من تخصيص الحر بالذكر. وأجابوا
بأن الخطاب للعرب، وبلادهم حارة، والوقاية عندهم من الحر أهم، لأنه أشد من
البرد عندهم.
والحق أن الآية ليست من هذا القسم، فإن البرد ذكر الامتنان بوقايته قبل ذلك
صريحا في قوله: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها) وقوله: (وجعل لكم من
118

الجبال أكنانا)، وقوله في صدر السورة: (والأنعام خلقها لكم فيها دف ء).
فإن قيل: فما الحكمة في ذكر الوقايتين بعد قوله: (والله جعل لكم مما خلق
ظلالا) فإن هذه وقاية الحر، ثم قال: (وجعل لكم من الجبال أكنانا)، فهذه
وقاية البرد على عادة العرب؟
قيل: لأن ما تقدم بالنسبة إلى المساكن، وهذه إلى الملابس، وقوله: (وجعل
لكم من الجبال أكنانا) لم يذكره السهيلي، وفيه الجوابان السابقان.
وأمثله هذا القسم كثيرة، كقوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار)
فإنه قيل: المراد: " وما تحرك "، وإنما آثر ذكر السكون لأنه أغلب الحالين على المخلوق
من الحيوان والجماد، ولأن الساكن أكثر عددا من المتحرك. أو لأن كل متحرك يصير إلى
السكون، ولأن السكون هو الأصل، والحركة طارئة.
وقوله: (بيدك الخير) تقديره " والشر "، إذ مصادر الأمور كلها بيده جل جلاله،
وإنما آثر ذكر الخير، لأنه مطلوب العباد ومرغوبهم إليه، أو لأنه أكثر وجودا في العالم
من الشر، ولأنه يجب في باب الأدب ألا يضاف إلى الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" والشر ليس إليك ".
وقيل: إن الكلام إنما ورد ردا على المشركين فيما أنكروه مما وعده الله به على لسان
جبريل، من فتح بلاد الروم وفارس، ووعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فلما
كان الكلام في الخير خصه بالذكر باعتبار الحال.
119

وقوله: (الذين يؤمنون بالغيب) أي والشهادة، لأن الإيمان بكل منهما
واجب، وآثر الغيب لأنه أبدع، ولأنه يستلزم الإيمان بالشهادة من غير عكس.
ومثله: (أم يجعل له ربى أمدا. عالم الغيب)، أي والشهادة، بدليل
التصريح به في موضع آخر.
وقوله: (يكاد البرق يخطف أبصارهم)، فإنه سبحانه ذكر أولا الظلمات
والرعد والبرق، وطوى الباقي.
ومنه قوله تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر) أي والبر، وإنما آثر ذكر
البحر لأن ضرره أشد.
وقوله: (وما بينهما ورب المشارق)، أي والمغارب.
وقوله: (لا يسألون الناس إلحافا)، أي ولا غير إلحاف.
وقوله: (من أهل الكتاب أمة قائمة)، أي وأخرى غير قائمة.
وقوله: (ولتستبين سبيل المجرمين)، أي والمؤمنين.
وقوله: (هدى للمتقين)، أي والكافرين. قاله ابن الأنباري، ويؤيده
قوله: (هدى للناس).
120

وقوله: (ولا تكونوا أول كافر به)، قيل: المعنى وآخر كافر به، فحذف المعطوف
لدلالة قوة الكلام، من جهة أن أول الكفر وآخره سواء، وخصت الأولوية بالذكر
لقبحها بالابتداء.
وقوله: (أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن)، أي
ويبسطن، قاله الفارسي.
وحكى في " التذكرة " عن بعض أهل التأويل في قوله تعالى: (أكاد أخفيها
لتجزى) أن المعنى: " أكاد أظهرها أخفيها لتجزي "، فحذف " أظهرها " لدلالة
" أخفيها " عليه.
قال: وعندي أن المعنى: " أزيل خفاءها "، فلا حذف.
وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله)، أي بين أحد وأحد.
وقوله: (لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل)، أي ومن أنفق
بعده وقاتل، لأن الاستواء يطلب اثنين، وحذف المعطوف لدلالة الكلام عليه، ألا
تراه قال بعده: (أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا).
وقوله: (ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا)،
أي ومن لا يستنكف ولا يستكبر، بدليل التقسيم بعده بقوله: (فأما الذين آمنوا)
(وأما الذين استنكفوا).
121

وقوله (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن
شمائلهم)، فاكتفى هنا بذكر الجهات الأربع عن الجهتين.
وقوله: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم)، الاكتفاء بجهتين
عن سائرها.
وقوله: (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل)، أي ولم تعبدني.
وقوله: (إن امرؤ هلك ليس له ولد)، أي ولا والد، بدليل أنه أوجب
للأخت النصف، وإنما يكون ذلك مع فقد الأب، فإن الأب يسقطها.
وقوله: (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين)
ولم يذكر القسم الآخر الذي تقتضيه " أما "، إذ وضعها لتفصيل كلام مجمل، وأقل
أقسامها قسمان، ولا ينفك عنهما في جميع القرآن إلا في موضعين هذا أحدهما، والتقدير
وأما من لم يتب ولا يؤمن ولم يعمل صالحا فلا يكون من المفلحين. والثاني في آل عمران:
(فأما الذين في قلوبهم زيغ) إلى قوله (إلا الله) هذا أحد القسمين، والقسم
الثاني ما بعده، وتقديره: وأما الراسخون في العلم فيقولون.
وقوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم)، أي وفعلا غير الذي
أمروا به، لأنهم أمروا بشيئين: بأن يدخلوا الباب سجدا، وبأن يقولوا حطة، فبدلوا
القول في " حنطة " " حطة " وبدلوا الفعل بأن دخلوا يزحفون على أستاههم، ولم يدخلوا
ساجدين، والمعنى: إرادتنا حطة، أي حط عنا ذنوبنا.
وقوله: (وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل
122

ولا الحرور)، قال ابن عطية: دخول " لا " على نية التكرار كأنه قال: ولا الظلمات
النور، ولا النور والظلمات، واستغنى بذكر الأوائل عن الثواني، ودل بمذكور الكلام
على متروكه.
وقوله: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر).
فإن قيل: ليس للفجر خيط أسود، إنما الأسود من الليل.
فأجيب: إن (من الفجر) متصل بقوله: (الخيط الأبيض) والمعنى: حتى يتبين
لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل، لكن حذف " من الليل "
لدلالة الكلام ثم عليه ولوقوع الفجر في موضعه، لأنه لا يصح أن يكون (من الفجر)
متعلقا بالخيط الأسود، ولو وقع (من الفجر) في موضعه متصلا بالخيط الأبيض لضعفت
الدلالة على المحذوف، وهو " من الليل " فحذف " من الليل " للاختصار، وأخر " من
الفجر " للدلالة عليه.
* * *
الثالث: من هذا قسم يسمى الضمير والتمثيل، وأعني بالضمير أن يضمر من القول
المجاور لبيان أحد جزأيه، كقول الفقيه: النبيذ مسكر فهو حرام، فإنه أضمر " وكل
مسكر حرام ".
ويكون في القياس الاستثنائي، كقوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).
وقوله: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، وقد شهد
الحسن والعيان أنهم ما انفضوا من حوله، وهي المضمرة، وانتفى عنه صلى الله عليه وسلم أنه
فظ غليط القلب.
123

وقوله: (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون)،
المعنى لو أفهمتهم لما أجدى فيهم التفهيم، فكيف وقد سلبوا القوة الفاهمة! فعلم بذلك أنهم
مع انتفاء الفهم أحق بفقد القبول والهداية.
* * *
الرابع: أن يستدل بالفعل لشيئين وهو في الحقيقة لأحدهما، فيضمر للآخر فعل
يناسبه، كقوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان) أي واعتقدوا الإيمان.
وقوله تعالى: (سمعوا لها تغيظا وزفيرا)، أي وشموا لها زفيرا.
وقوله تعالى: (لهدمت صوامع وبيع وصلوات)، والصلوات لا تهدم، فالتقدير:
ولتركت صلوات.
وقوله: (يطوف عليهم ولدان مخلدون) فالفاكهة ولحم الطير والحور العين
لا تطوف، وإنما يطاف بها.
وأما قوله تعالى: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم)، فنقل ابن فارس عن
البصريين أن الواو بمعنى " مع " أي شركائكم، كما يقال: لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها،
أي مع فصليها.
وقال الآخرون: أجمعوا أمركم وادعوا شهداءكم، اعتبارا بقوله تعالى: (وادعوا
من استطعتم).
واعلم أن تقدير فعل محذوف للثاني ليصح العطف هو قول الفارسي والفراء وجماعة من
البصريين والكوفيين لتعذر العطف. وذهب أبو عبيدة والأصمعي واليزيدي وغيرهم إلى أن
ذلك من عطف المفردات، وتضمين العامل معنى ينتظم المعطوف والمعطوف عليه جميعا، فيقدر
124

آثروا الدار والإيمان، ويبقى النظر في أنه: أيهما أولى؟ ترجيح الإضمار أو التضمين؟ واختار
الشيخ أبو حيان تفصيلا حسنا وهو: إن كان العامل الأول تصح نسبته إلى الاسم الذي
يليه حقيقة كان الثاني محمولا على الإضمار، لأنه أكثر من التضمين، نحو " يجدع الله أنفه
وعينيه "، أي ويفقأ عينيه، فنسبة الجدع إلى الأنف حقيقة، وإن كان لا يصح فيه ذلك
كان العامل مضمنا معنى ما يصح نسبته إليه، لأنه لا يمكن الإضمار، كقولهم:
* علفتها تبنا وماء باردا *
وجعل ابن مالك من هذا القبيل قوله تعالى: (اسكن أنت وزوجك الجنة)
قال: لأن فعل أمر المخاطب لا يعمل في الظاهر، فهو على معنى " أسكن أنت ولتسكن
زوجك "، لأن شرط المعطوف أن يكون صالحا لأن يعمل فيه ما عمل في المعطوف عليه،
وهذا متعذر هنا، لأنه لا يقال: " أسكن زوجك ".
ومنه قوله تعالى: (لا تضار والدة بولدها ولا مولود) ولا يصح أن يكون
" مولود " معطوفا على " والدة " لأجل تاء المضارعة، أو للأمر، فالواجب في ذلك أن
تقدر مرفوعا بمقدر من جنس المذكور، أي ولا يضار مولود له.
وقوله تعالى: (والطير)، قال الفراء: التقدير: " وسخرنا له الطير " عطفا
على قوله: (فضلا) وقيل: هو مفعول معه، ومن رفعه فقيل: على المضمر في " آتي "،
125

وجاز ذلك لطول الكلام بقوله: (معه)، وقيل: بإضمار فعل، أي ولتؤوب معه الطير.
* * *
الخامس: أن يقتضى الكلام شيئين فيقتصر على أحدهما، لأنه المقصود، كقوله تعالى
حكاية عن فرعون: (فمن ربكما يا موسى)، ولم يقل: (وهارون) لأن موسى
المقصود المتحمل أعباء الرسالة، كذا قاله ابن عطية.
وغاص الزمخشري فقال: أراد أن يتم الكلام فيقول: " وهارون "، ولكنه نكل
عن خطاب هارون توقيا لفصاحته وحدة جوابه ووقع خطابه، إذ الفصاحة تنكل الخصم
عن الخصم للجدل، وتنكبه عن معارضته.
* * *
السادس: أن يذكر شيئان، ثم يعود الضمير إلى أحدهما دون الآخر، كقوله تعالى:
(وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها)، قال الزمخشري: تقديره: إذا رأوا تجارة
انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.
ويبقى عليه سؤال، وهو أنه: لم أوثر ذكر التجارة؟ وهلا أوثر اللهو؟
وجوابه ما قاله الراغب في تفسير سورة البقرة: إن التجارة لما كانت سبب انفضاض
الذين نزلت فيهم هذه الآية أعيد الضمير إليها. ولأنه قد تشغل التجارة عن العبادة
ما لا يشغله اللهو.
واختلف في مواضع: منها قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة
ولا ينفقونها في سبيل الله)، فإنه سبحانه ذكر الذهب والفضة، وأعاد الضمير
126

على الفضة وحدها، لأنها أقرب المذكورين، ولأن الفضة أكثر وجودا في أيدي
الناس، والحاجة إليها أمس، فيكون كنزها أكثر. وقيل: أعاد الضمير على المعنى، لأن
المكنوز دنانير ودراهم وأموال.
ونظيره: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)، لأن الطائفة جماعة. وقيل:
من عادة العرب إذا ذكرت شيئين مشتركين في المعنى تكتفي بإعادة الضمير على أحدهما
استغناء بذكره عن الآخر اتكالا على فهم السامع، كقول حسان:
إن شرح الشباب والشعر الأسود * ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل " يعاصا ".
ومنها قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) وقد جعل ابن
لأنباري في كتاب " الهاءات " ضمير (لم تروها) راجعا إلى الجنود.
ونقل عن قتادة قال: هم الملائكة. والأشبه أن يأتي هنا بما سبق.
ومنها قوله تعالى: (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين)
فقيل: " أحق " خبر عنهما، وسهل إفراد الضمير بعدم إفراد " أحق " وأن إرضاء الله
سبحانه إرضاء لرسوله.
وقيل: " أحق " خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه.
وقيل: العكس، وإنما أفرد الضمير لئلا يجمع بين اسم الله ورسوله في ضمير واحد، كما
جاء في الحديث: " قل ومن يعص الله ورسوله ". قال الزمخشري: قد يقصدون ذكر الشيء
127

فيذكرون قبله ما هو سبب منه، ثم يعطفونه عليه مضافا إلى ضميره، وليس لهم قصد إلى
الأول كقوله: سرني زيد وحسن حاله، والمراد حسن حاله. وفائدة هذا الدلالة على قوة
الاختصاص بذكر المعنى، ورسول الله أحق أن يرضوه. ويدل عليه ما تقدمه من قوله:
(والذين يؤذون رسول الله)، ولهذا وحد الضمير، ولم يثن.
ومنها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه).
ومنها قوله: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة)، فقيل: الضمير للصلاة
لأنها أقرب المذكورين. وقيل: أعاده على المعنى، وهو الاستعانة المفهومة من استعينوا. وقيل:
المعنى على التثنية، وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه.
ومنه قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا)، وهو
نظير آية الجمعة كما سبق.
وفى هاتين الآيتين لطيفتان: وهما أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما
أعاده في آية الجمعة على التجارة وإن كانت أبعد، ومؤنثة أيضا، لأنها أجذب للقلوب عن
طاعة الله من اللهو، لأن المشتغلين بالتجارة أكثر من المشتغلين باللهو، أو لأنها أكثر نفعا
من اللهو، أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا، لأنه ضرب بالطبل لقدومها، كما جاء في صحيح
البخاري: " أقبلت عير يوم الجمعة "، وأعاده في قوله: (ومن يكسب خطيئة أو إثما)
على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكير، فتدبر ذلك.
وأما قوله تعالى: (فبذلك فليفرحوا)، أي بذلك القول.
* * *
128

السابع الحذف المقابلي: وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحذف من واحد منهما
مقابلة، لدلالة الآخر عليه، كقوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى
إجرامي وأنا برئ مما تجرمون)، الأصل: فإن افتريته فعلى إجرامي وأنتم برآء منه،
وعليكم إجرامكم وأنا برئ مما تجرمون، فنسبة قوله تعالى: " إجرامي "، وهو الأول
إلى قوله " وعليكم إجرامكم " - وهو الثالث - كنسبة قوله " وأنتم برآء منه " - وهو الثاني -
إلى قوله تعالى: (وأنا برىء مما تجرمون)، وهو الرابع، واكتفى من كل
متناسبين بأحدهما.
ومنه قوله تعالى: (فليأتينا بآية كما أرسل الأولون)، تقديره: إن أرسل
فليأتنا بآية كما أرسل الأولون فأتوا بآية.
وقوله تعالى: (ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم)، تقديره كما قال
المفسرون: " ويعذب المنافقين إن شاء فلا يتوب عليهم، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم "،
وعند ذلك يكون مطلق قوله: فلا يتوب عليهم أو يتوب عليهم مقيدا بمدة الحياة الدنيا.
وقوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن
فآتوهن من حيث أمركم الله)، فتقديره: لا تقربوهن حتى يطهرن ويطهرن،
فإذا طهرن وتطهرن فأتوهن، وهو قول مركب من أربعة أجزاء، نسبة الأول إلى الثاني
كنسبة الثاني إلى الرابع، ويحذف من أحدهما لدلالة الآخر عليه.
واعلم أن دلالة السياق قاطعة بهذه المحذوفات، وبهذا التقدير يعتضد القول بالمنع
من وطء الحائض إلا بعد الطهر والتطهر جميعا، وهو مذهب الشافعي.
129

ومنه قوله تعالى: (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء)،
تقديره: " أدخل يدك تدخل، وأخرجها تخرج "، إلا أنه قد عرض في هذه المادة تناسب
بالطباق، فلذلك بقي القانون فيه، الذي هو نسبة الأول إلى الثالث، ونسبة الثاني إلى الرابع
على حالة الأكثرية، فلم يتغير عن موضعه، ولم يجعل بالنسبة التي بين الأول والثاني،
وبين الثالث والرابع وهي نسبة النظير، كقوله:
وإني لتعروني لذكراك هزة * كما انتفض العصفور بلله القطر
أي هزة بعد انتفاضة، كما انتفض العصفور بلله القطر، ثم اهتز. كذا قاله جماعة.
وأنكره ابن الصائغ، وقال: هذا التقدير لا يحتاج إليه ولو يكون لكان خلفا،
وإنما أحوجهم إليه أنهم رأوا أنه لا يلزم من إدخالها خروجها، و " يخرج " مجزوم على الجواب،
فاحتاج أن نقدر جوابا لازما، وشرطا ملزوما، حذفا لأنهما نظير ما ثبت، لكن وقع
في تقدير ما لا يفيد، لأنه معلوم أنه إن أدخلها تدخل، لكنه قد يقدره تقديرا بعيدا،
وهو: أدخلها تدخل كما هي، وأخرجها تخرج بيضاء، وهو بعد ذلك ضعيف، فيقال له:
لا يلزم في الشرط وجوابه أن يكون اللزوم بينهما ضروريا بالفعل، فإذا قيل: إن جاءني
زيد أكرمته، فهذا اللازم بالوضع، وليس بالضرورة، والإكرام لازم للمجئ، بل لوضع
المتكلم فالموضوع هنا أن الإدخال سبب في خروجها بيضاء بقدرة الله تعالى، ألا ترى أنه
لا يلزم من اخراجها أن تخرج بيضاء لزوما ضروريا إلا بضرورة صدق الوعد. فإن قال:
لم أرد هذا، وإنما أردت أنها لا تخرج إلا حتى تخرج. قيل: هذا من المعلوم الذي لا معنى
للتنصيص عليه.
ومنه قوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا)،
أصل الكلام: خلطوا عملا صالحا بسئ، وآخر سيئا بصالح، لأن الخلط يستدعي مخلوطا
130

ومخلوطا به، أي تارة أطاعوا وخلطوا الطاعة بكبيرة، وتارة عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة.
وقوله: (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي...) الآية.
فإن مقتضى التقسيم اللفظي: من اتبع الهدى فلا خوف ولا حزن يلحقه وهو صاحب
الجنة، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن وهو صاحب النار، فحذف من كل ما أثبت
نظيره في الأخرى.
قيل: ومنه قوله تعالى: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع
إلا دعاء ونداء)، قال سيبويه في " باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى "
لم يشبهوا بالناعق، وإنما شبهوا بالمنعوق به، وإنما المعنى: ومثلكم ومثل الذين كفروا
كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع إلا دعاء، ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز
لعلم المخاطب بالمعنى. انتهى.
والذي أحوجه إلى هذا التقدير، أنه لما شبه الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم،
وهذا بناه على أن الناعق بمعنى الداعي، وليس بمتعين، لجواز ألا يراد به الداعي،
بل الناعق من الحيوان، شبههم في تألفهم وتأتيهم بما ينعق من الغنم بصاحبه، من أنهم
يدعون مالا يسمع ولا يبصر ولا يفهم ما يريده، فيكون ثم حذف.
وقيل: ليس من هذا النوع إلا الاكتفاء من الأول بالثالث، لنسبة بينهما، وذلك
أنه اكتفى بالذي ينعق - وهو الثالث المشبه به - عن المشبه، وهو الكناية المضاف إليها في
قوله: ومثلك، وهو الأول وأقرب إلى هذا التشبيه المركب والمقابلة، وهو الذي غلط من
وضعه في هذا النوع، وإنما هو من نوع الاكتفاء للارتباط العطفي، على ما سلف. وقد
131

قال الصفار: هذا الذي صار إليه سيبويه - من أنه حذف من الأول المعطوف عليه، ومن
الثاني المعطوف - ضعيف لا ينبغي أن يصار إليه إلا عند الضرورة، لأن فيه حذفا كثيرا مع
إبقاء حرف العطف، وهو الواو. ألا ترى أن ما قبلها مستأنف، والأصل مثلك ومثلهم،
إلا أن يدعى أن الأصل ومثلك ومثلهم، ثم حذف " مثلك " والواو التي عطفت ما بعدها،
وبقيت الواو الأولى. ويزعم أن الكلام ربط مع ما قبله بالواو، وليس بينهما ارتباط.
وفيه ما ترى!
وقال ابن الحجاج: عندي أنه لا حذف في الآية، والقصد تشبيه الكفار في عبادتهم
الأصنام بالذي ينعق بما لا يسمع، فهو تمثيل داع بداع محقق لا حذف فيه، والكفار على
هذا داعون، وعلى التأويل الأول مدعوون.
ونظيرها قوله تعالى: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على
صراط مستقيم) فإن فيه جملتين، حذف نصف كل واحدة منهما اكتفاء بنصف
الأخرى. وأصل الكلام: أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ممن يمشي سويا على صراط
مستقيم، أمن يمشي سويا على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبا!
وإنما قلنا: إن أصله هكذا، لأن أفعل التفضيل لا بد في معناه من المفضل عليه.
وهاهنا وقع السؤال عمن في نفس الأمر: هل هذا أهدى من ذلك أم ذاك أهدى من هذا؟
فلا بد من ملاحظة أربعة أمور، وليس في الآية إلا نصف إحدى الجملتين ونصف الأخرى،
والذي حذف من هذه مذكور في تلك، والذي حذف من تلك مذكور في هذه، فحصل
المقصود مع الإيجاز والفصاحة. ثم ترك أمر آخر لم يتعرض له، وهو الجواب الصحيح
لهذين الاستفهامين، وأيهما هو الأهدى؟ لم يذكره في الآية أصلا، اعتمادا على أن العقل
يقول: الذي يمشي على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبا على وجهه.
132

وهذا كقوله تعالى: (أفمن يخلق كمن لا يخلق). وقوله: (قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
* * *
فائدة
قد يحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وقد يعكس، وقد يحتمل اللفظ الأمرين.
فالأول كقوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) في قراءة من رفع
" ملائكته "، أي إن الله يصلي، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وليس عطفا عليه.
والثاني كقوله: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) أي ما يشاء.
وقوله: (أن الله برئ من المشركين ورسوله)، أي برئ أيضا.
وقوله: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات).
وقوله: (يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهم ثلاثة أشهر
واللائي لم يحضن)، أي كذلك.
وجعل منه أبو الفتح قوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر) التقدير: وأبصر بهم،
لكنه حذف لدلالة ما قبله عليه، حيث كان بلفظ الفضلة، وإن كان ممتنعا في الفاعل. وهذا
التوجيه إنما يتم إذا قلنا: إن الجار والمجرور، في " أسمع بهم وأبصر " في محل الرفع: فإن
قلنا في محل النصب فلا.
133

وقوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)،
والتقدير خلقهن الله، فحذف " خلقهن " لقرينة تقدمت في السؤال.
وقوله: (سلام على إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين)، ولم يقل
" إنا كذلك " اختيارا واستغناء عنه، بقوله فيما سبق: (إنا كذلك).
والثالث كقوله: (والله ورسوله أحق أن يرضوه)، فقد قيل: إن " أحق "
خبر عن اسم الله تعالى، وقيل بالعكس.
وأما قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر
بها ويستهزأ بها)، فالفائدة في إعادة الجار والمجرور، أعني " بها ". لأنه لو حذف من
الثاني لم يحصل الربط لوجوب الضمير فيما وقع مفعولا ثانيا، أو كالمفعول الثاني ل‍ " سمعتم "،
ولو حذف من الأول لم يكن نصا على أن الكفر يتعلق بالإثبات، لجواز أن يكون متعلق
الأول غير متعلق الثاني...
* * *
الثامن الاختزال، وهو الافتعال، من خزله، قطع وسطه، ثم نقل في الاصطلاح إلى
حذف كلمة أو أكثر. وهي إما اسم، أو فعل، أو حرف.
* * *
134

الأول الاسم
[حذف المبتدأ]
فمنه حذف المبتدأ، كقوله تعالى: (ثلاثة) و (خمسة)، و (سبعة)، أي
هم ثلاثة، وهم خمسة، وهم سبعة.
وقوله: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة)، أي إحداهما، بدليل قوله
بعده: (وأخرى كافرة).
وقوله: (بلاغ فهل يهلك)، أي هذا بلاغ.
وقوله: (بل عباد مكرمون)، أي هم عباد.
وعلى هذا قال أبو علي: قوله تعالى: (بشر من ذلكم النار)،
أي هي النار.
وقوله: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب. النار)، أي هو النار.
ويمكن أن يكون " النار " في الآيتين مبتدأ والخبر الجملة التي بعدها، ويمكن في الثانية
أن تكون النار بدلا من " سوء العذاب ".
135

وقوله: (فقالوا ساحر كذاب)، أي هذا ساحر.
وقوله: (إلا قالوا ساحر أو مجنون). (وقالوا أساطير الأوليين).
(وقل الحق من ربكم)، أي هذا الحق من ربكم، وليس هذا كما يظنه بعض
الجهال، أي قل القول الحق، فإنه لو أريد هذا لنصب " الحق "، والمراد
إثبات أن القرآن حق، ولهذا قال: (من ربكم)، وليس المراد هنا قول حق مطلق،
بل هذا المعنى مذكور في قوله: (وإذا قلتم فاعدلوا)، وقوله: (ألم يؤخذ عليهم
ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق).
وقوله: (سورة أنزلناها)، أي هذه سورة.
(من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها)، أي فعمله لنفسه وإساءته عليها.
وقوله: (وإن مسه الشر فيئوس قنوط) أي فهو يئوس.
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل)، أي تقلبهم متاع،
أو ذاك متاع.
(وما أدراك ما الحطمة. نار الله الموقدة)، أي والحطمة نار الله.
(إنها ترمي بشرر كالقصر)، أي كل واحدة منها كالقصر، فيكون من باب
قوله: (فاجلدوهم ثمانين جلدة)، أي كل واحد منهم، والمحوج إلى ذلك
أنه لا يجوز أن يكون الشرر كله كقصر واحد، والقصر هو البيت من أدم، كان يضرب
136

على المال، ويؤيده قوله: (جمالة صفر)، أفلا تراه كيف شبهه بالجماعة! أي كل
واحدة من الشرر كالجمل لجماعاته، فجماعاته إذن مثل الجمالات الصفر، وكذلك الأول،
شرره منه كالقصر. قاله أبو الفتح بن جنى.
وأما قوله: (ولا تقولوا ثلاثة)، فقيل 6 إن " ثلاثة " خبر مبتدأ محذوف
تقديره: " آلهتنا ثلاثة ".
واعترض باستلزامه إثبات الإلهية لانصراف النفي الداخل على المبتدأ أو الخبر
إلى المعنى المستفاد من الخبر لا إلى معنى المبتدأ، وحينئذ يقتضى نفى عدة الآلهة،
لا نفى وجودهم.
قيل: وهو مردود، لأن نفي كون آلهتهم ثلاثة يصدق بألا يكون للآلهة الثلاثة وجود
بالكلية، لأنه من السالبة المحصلة، فمعناه: ليس آلهتكم ثلاثة، وذلك يصدق
بألا يكون لهم آلهة، وإنما حذف إيذانا بالنهي عن مطلق العدد المفهم للمساواة بوجه ما،
فما ظنك بمن صرح بالشركة، كما قال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث
ثلاثة)، وقال سبحانه: (وما من إله إلا إله واحد)، فأفهم أنه لو وجد
الإله يكون غيره معه خطأ لإفهامه مساواة ما، كقوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم
يعدلون)، ولزم من نفي الثلاثة لامتناع المساواة المعلومة عقلا، والمدلول عليها بقوله:
(إنما الله إله واحد)، نفي الشركة مطلقا، فإن تخصيص النهي وقع في مقابلة الفعل،
ودليلا عليه، فإنهم كانوا يقولون في الله وعيسى وأمه: ثلاثة.
137

ونحوه في الخروج على السبب: (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة).
وقال صاحب " إسفار الصباح ": الوجه تقدير كون ثلاثة، أو " في الوجود "، ثم
حذف الخبر الذي هو " لنا "، أو " في الوجود " الحذف المطرد، وما دل عليه توحيد
لا إله إلا الله.
ثم حذف المبتدأ حذف الموصوف كالعدد، إذا كان معلوما. كقولك: عندي ثلاثة.
أي دراهم، وقد علم بقرينة قوله: (إنما الله إله واحد).
وقد عورض هذا بأن نفي وجود ثلاثة لا ينفى وجود إلهين. وأجيب بأن تقديره
" آلهتنا ثلاثة " يوجب ثبوت الآلهة، وتقدير " لنا آلهة " لا يوجب ثبوت إلهين.
فعورض بأنه كما لا يوجبه فلا ينفيه.
فأجيب بأنه إذا لم ينفه فقد نفاه ما بعده من قوله: (إنما الله إله واحد).
فعورض بأن ما بعده إن نفي ثبوت إلهين فكيف ثبوت آلهة!
فأجاب بأنه لا ينفيه، ولكن يناقضه، لأن تقدير آلهتنا ثلاثة يثبت وجود إلهين،
لانصراف النفي في الخبر عنه، بخلاف تقدير: " لنا آلهة ثلاثة "، فإنه لا يثبت وجود
إلهين لانصراف النفي إلى أصل الإثبات للآلهة.
وفى أجوبة هذه المقدمات نظر.
قلت: وذكر ابن جني أن الآية من حذف المضاف، أي ثالث ثلاثة لقوله في موضع
آخر: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة).
138

حذف الخبر
نحو: (أكلها دائم وظلها)، أي دائم.
وقوله في سورة ص بعد ذكر من اقتص ذكره من الأنبياء، فقال: (هذا ذكر)
ثم لما ذكر مصيرهم إلى الجنة وما أعد لهم فيها من النعيم قال: (هذا وإن للطاغين
لشر مآب. جهنم يصلونها فبئس المهاد. هذا) قد أشارت الآية إلى مآل أمر
الطاغين، ومنه يفهم الخبر.
وقوله: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) أي أهذا
خير أمن جعل صدره ضيقا حرجا وقسا قلبه، فحذف بدليل قوله: (فويل للقاسية قلوبهم
من ذكر الله).
وقوله تعالى: (قالوا لا ضير).
(ولو ترى إذا فزعوا فلا فوت).
وقوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا) قال سيبويه: الخبر محذوف، أي فيما
أتلوه السارق والسارقة، وجاء (فاقطعوا) جملة أخرى. وكذا قوله: (الزانية والزاني)
فيما نقص لكم.
وقال غيره: السارق مبتدأ، فاقطعوا خبره، وجاز ذلك لأن الاسم عام، فإنه لا يريد
139

به سارقا مخصوصا، فصار كأسماء الشرط، تدخل الفاء في خبرها لعمومها، وإنما قدر
سيبويه ذلك لجعل الخبر أمرا، وإذا ثبت الإضمار فالفاء داخلة في موضعها، تربط بين
الجملتين. ومما يدل على أنه على الإضمار إجماع القراء على الرفع، مع أن الأمر الاختيار فيه
النصب. قال: وقد قرأ ناس بالنصب ارتكانا للوجه القوي في العربية، ولكن
أبت العامة إلا الرفع. وكذا قال في قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون):
مثل، هنا خبر مبتدأ محذوف، أي فيما نقص عليكم مثل الجنة. وكذا قال أيضا في قوله
تعالى: (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما): إنه على الإضمار.
وقد رد بأنه أي ضرورة تدعو إليه هنا؟ فإنه إنما صرنا إليه في السارق ونحوه لتقدير
دخول الفاء في الخبر، فاحتيج للإضمار حتى تكون الفاء على بابها في الربط، وأما هذا فقد
وصل بفعل هو بمنزلة: الذي يأتيك فله درهم.
وأجاب الصفار بأن الذي حمله على هذا أن الأمر دائر مع الضرورة كيف كان، لأنه
إذا أضمر فقد تكلف، وإن لم يضمر كان الاسم مرفوعا وبعده الأمر، فهو قليل بالنظر
إلى " اللذين يأتيانها " فكيفما عمل لم يخل من قبح.
وإن قدر منصوبا، وجاء القرآن بالألف على لغة من يقول " الزيدان " في جميع
الأحوال وقع أيضا في محذور آخر، فلهذا قدره هذا التقدير، لأن الإضمار مع الرفع
يتكافآن.
وقوله: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم)، الخبر محذوف، أي
يعذبون. ويجوز أن يكون الخبر: (أولئك ينادون من مكان بعيد)،
140

وقوله: (لولا أنتم لكنا مؤمنين)، فأنتم مبتدأ والخبر محذوف، أي
حاضرون، وهو لازم الحذف هنا.
وقوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم
والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم)،
أي حل لكم كذلك.
وأما قوله تعالى: (وقالت اليهود عزيز ابن الله)، أما على قراءة التنوين فلا حذف
لأنه يجعله مبتدأ، و " ابن الله " خبر، حكاية عن مقالة اليهود، وأما على قراءة من لم ينون،
فقيل: إنه صفة والخبر محذوف، أي عزيز ابن الله إلهنا، وقيل: بل المبتدأ محذوف، أي
إلهنا عزير، وابن صفة.
ورد بوجهين:
أحدهما: أنه لا يطابق: (وقالت النصارى المسيح ابن الله).
والثاني: أنه يلزم عليه أن يكون التكذيب ليس عائدا إلى البنوة، فكذب لأن
صدق الخبر وكذبه راجع إلى نسبة الخبر لا إلى الصفة. فلو قيل: زيد القائم فقيه، فكذب،
انصرف التكذيب لإسناد فقهه، لا لوصفه بالقائم.
وفيه نظر، لأن الصفة ليست إنشاء فهي خبر، إلا أنها غير تامة الإفادة، فيصح
تكذيبها. والأولى تقويته وأن يقال الصفة والإضافة ونحوهما في المسند إليه لواحق بصورة
الإفراد، أي يريد أن يصوره بهيئة خاصة، ويحكم عليه كذلك، لكن لا سبيل إلى
كذبها، مع أنها تصورت، فالوجه أن يقال: إن كذب الصفة بإسناد مسندها إلى
141

معدوم الثبوت. ونظير هذه المسألة في الفقه ما لو قال: والله لا أشرب ماء هذا الكوز،
ولا ماء فيه.
وقال بعضهم: (عزير ابن الله) خبر الجملة، أي حكى فيه لفظهم، أي قالوا هذه
العبارة القبيحة، وحينئذ فلا يقدر خبر ولا مبتدأ.
وقيل: " ابن الله " خبر وحذف التنوين من " عزير " للعجمة والعلمية.
وقيل: حذف تنوينه لالتقاء الساكنين، لأن الصفة مع الموصوف كشئ واحد،
كقراءة: (قل هو الله أحد. الله الصمد)، على إرادة التنوين، بل هنا أوضح،
لأنه في جملة واحدة.
وقيل: " ابن الله " نعت ولا محذوف، وكأن الله تعالى حكى أنهم ذكروا هذا اللفظ
إنكارا عليهم، إلا أن فيه نعتا، لأن سيبويه قال: إن قلت وضعته العرب لتحكي به ما كان
كلاما لا قولا. وأيضا إنه لا يطابق قوله: (وقالت النصارى المسيح ابن الله)،
والظاهر أنه خبر. والقولان منقولان.
والصحيح في هذه القراءة أنه ليس الغرض إلا أن اليهود قد بلغوا في رسوخ الاعتقاد
في هذا الشئ إلى أن يذكرون هذا النكر، كما تقول في قوم تغالوا في تعظيم صاحبهم:
أراهم اعتقدوا فيه أمرا عظيما ثابتا، يقولون: زيد الأمير!
ما يحتمل الأمرين
قوله تعالى: (فصبر جميل) يحتمل حذف الخبر، أي أجمل، أو حذف المبتدأ،
أي فأمري صبر جميل. وهذا أولى لوجود قرينة حالية - هي قيام الصبر به - دالة على
142

المحذوف، وعدم قرينة حالية أو مقالية تدل على خصوص الخبر، وأن الكلام مسوق للإخبار
بحصول الصبر له واتصافه به، وحذف المبتدأ يحصل ذلك دون حذف الخبر، لأن معناه أن
الصبر الجميل، أجمل ممن لأن المتكلم متلبس به.
وكذلك يقوله من لم يكن وصفا له، ولأن الصبر مصدر، والمصادر معناها الإخبار،
فإذا حمل على حذف المبتدأ فقد أجرى على أصل معناه، من استعماله خبرا، وإذا حمل على
حذف الخبر فقد أخرج عن أصل معناه.
ومثاله قوله: (طاعة معروفة). أي أمثل، أو أولى لكم من هذا، أو أمركم الذي يطلب منكم.
ومثله قوله: (سورة أنزلناها)، إما أن يقدر: فيما أوحينا إليك سورة،
أو هذه سورة.
وقد يحذفان جملة، كقوله تعالى: (واللائي يئسن من المحيض من
نسائكم....) الآية.
حذف الفاعل
المشهور امتناعه إلا في ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا بنى الفعل للمفعول.
ثانيها: في المصدر، إذا لم يذكر معه الفاعل، مظهرا يكون محذوفا، ولا يكون مضمرا،
نحو (أو إطعام).
143

ثالثها: إذا لاقى الفاعل ساكنا من كلمة أخرى، كقولك للجماعة: اضرب القوم،
وللمخاطبة: اضرب القوم.
وجوز الكسائي حذفه مطلقا إذا ما وجد ما يدل عليه، كقوله تعالى: (كلا إذا بلغت
التراقي) أي بلغت الروح.
وقوله: (حتى توارت بالحجاب) أي الشمس.
(فإذا نزل بساحتهم) يعنى العذاب، لقوله قبله: (أفبعذابنا يستعجلون).
(فلما جاء سليمان) تقديره فلما جاء الرسول سليمان.
والحق أنه في المذكورات مضمر لا محذوف، وقد سبق الفرق بينهما.
* * *
أما حذفه وإقامة المفعول مقامه، مع بناء الفعل للمفعول فله أسباب:
منها العلم به، كقوله تعالى: (خلق الانسان من عجل). (وخلق الانسان
ضعيفا)، ونحن نعلم أن الله خالقه.
قال ابن جنى: وضابطه أن يكون الغرض إنما هو الإعلام بوقوع الفعل بالمفعول،
ولا غرض في إبانة الفاعل من هو.
ومنها تعظيمه، كقوله: (قضى الأمر الذي فيه تستفتيان)، إذ كان الذي
قضاه عظيم القدر.
وقوله: (وغيض الماء وقضي الأمر).
144

وقوله: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) قال الزمخشري في كشافه القديم:
هذا أدل على كبرياء المنزل وجلالة شأنه من القراءة الشاذة " أنزل " مبنيا للفاعل، كما
تقول: الملك أمر بكذا، ورسم بكذا، وخاصة إذا كان الفعل فعلا لا يقدر عليه إلا الله،
كقوله: (وقضى الأمر) قال: كأن طي ذكر الفاعل كالواجب، لأمرين:
أحدهما: أنه إن تعين الفاعل وعلم أن الفعل مما لا يتولاه إلا هو وحده، كان ذكره
فضلا ولغوا.
والثاني: الإيذان بأنه منه، غير مشارك ولا مدافع عن الاستئثار به والتفرد بإيجاده.
وأيضا فما في ذلك من مصير أن اسمه جدير بأن يصان ويرتفع به عن الابتذال والامتهان.
وعن الحسن: لولا أني مأذون لي في ذكر اسمه لربأت به عن مسلك الطعام والشراب.
ومنها مناسبة الفواصل، نحو: (وما لأحد عنده من نعمة تجزى)، ولم
يقل: يجزيها.
ومنها مناسبة ما تقدمه، كقوله في سورة براءة: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف
وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون)، لأن قبلها: (وإذا أنزلت سورة) على
بناء الفعل للمفعول، فجاء قوله: (وطبع) ليناسب بالختام المطلع، بخلاف قوله فيما بعدها:
(وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون)، فإنه لم يقع قبلها ما يقتضى البناء، فجاءت
على الأصل.
145

حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
وهو كثير، قال ابن جنى: وفي القرآن منه زهاء ألف موضع. وأما أبو الحسن، فلا
يقيس عليه، ثم رده بكثرة المجاز في اللغة، وحذف المضاف مجاز. انتهى.
وشرط المبرد في كتاب " ما اتفق لفظه واختلف معناه " لجوازه وجود دليل
على المحذوف من عقل أو قرينة، نحو: (واسأل القرية)، أي أهلها، قال: ولا
يجوز على هذا أن نقول: جاء زيد، وأنت تريد غلام زيد، لأن المجئ يكون له،
ولا دليل [في مثل هذا] على المحذوف.
وقال الزمخشري في الكشاف القديم: لا يستقيم تقدير حذف المضاف في كل موضع،
ولا يقدم عليه إلا بدليل واضح وفي غير ملبس، كقوله: (واسأل القرية).
وضعف بذلك قول من قدر في قوله: (وهو خادعهم)، أنه على حذف مضاف.
فإن قلت: كمالا يجوز مجيئه لا يجوز خداعه، فحين جرك إلى تقدير المضاف امتناع
مجيئه، فهلا جرك إلى مثله امتناع خداعه!
قلت: يجوز في اعتقاد المنافقين تصور خداعه، فكان الموضع ملبسا فلا يقدر. انتهى.
فمنه قوله تعالى: (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)، أي رحمته
ويخاف عذابه.
146

(حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج) أي سد يأجوج ومأجوج.
(واشتعل الرأس شيبا)، أي شعر الرأس.
(ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها)، أي بقراءة صلاتك، ولا تخافت
بقراءتها.
(ولكن البر من آمن بالله)، أي بر من آمن بالله.
(فلما أتاها نودي) أي ناحيتها، والجهة التي هو فيها.
و (هل يسمعونكم إذ تدعون) أي هل يسمعون دعاءكم، بدليل الآية الأخرى.
(إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم).
(على خوف من فرعون وملئهم)، أي من آل فرعون.
(إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات)، أي ضعف عذابهما.
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق)، أي ومثل واعظ الذين كفروا
كناعق الأنعام.
(وأزواجه أمهاتهم)، أي مثل أمهاتهم.
(وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون)، أي شكر رزقكم. وقيل: تجعلون
التكذيب شكر رزقكم.
وقوله: (وآتنا ما وعدتنا على رسلك)، أي على ألسنة رسلك.
وقوله: (وتخونوا أماناتكم)، أي ذوي أماناتكم، كالمودع والمعير والموكل
147

والشريك، ومن يدك في ماله أمانة لا يد ضمان، ويجوز أن لا حذف فيه، لأن " خنت "
من باب " أعطيت "، فيتعدى إلى مفعولين، ويقتصر على أحدهما.
وقوله: (وإلى مدين أخاهم شعيبا)، أي أهل مدين، بدليل قوله: (وما كنت
ثاويا في أهل مدين).
(وأسأل القرية التي كنا فيها)، أي أهل القرية، وأهل العير.
وقيل: فيه وجهان: أحدهما أن القرية يراد بها نفس الجماعة، والثاني أن المراد سؤال
الأبنية نفسها، لأن المخاطب نبي صاحب معجزة.
(الحج أشهر معلومات)، ويجوز أن يقدر: الحج حج أشهر معلومات.
(وجاء ربك والملك) أي أمر ربك.
(وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم)، أي حب العجل، قال الراغب:
إنه على بابه، فإن في ذكر العجل تنبيها على أنه لفرط محبتهم صار صورة العجل في قلوبهم
لا تمحى.
وقوله: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم)، فإرم اسم لموضع وهو في موضع
جر، إلا أنه منع الصرف للعلمية والتأنيث، أما العلمية فواضح، وأما التأنيث، فلقوله:
(ذات العماد).
وقوله: (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) أي بسؤالها،
فحذف المضاف، ولم يكفروا بالسؤال، إنما كفروا بربهم المسؤول عنه، فلما كان السؤال
سببا للكفر فيما سألوا عنه نسب الكفر إليه على الاتساع.
148

وقيل: الهاء عائدة على غير ما تقدم لقوة هذا الكلام، بدليل أن الفعل تعدى بنفسه
والأول بغيره، وإنما هذه الآية كناية عما سأل قوم موسى، وقوم عيسى من الآيات، ثم
كفروا، فمعنى السؤال الأول والثاني الاستفهام، ومعنى الثالث طلب الشئ.
وقوله: (حرمت عليكم الميتة)، أي تناولها، لأن الأحكام لا تتعلق
بالأجرام إلا بتأويل الأفعال.
وقيل: إن الميتة يعبر بها عن تناولها فلا حذف، ولو كان ثم حذف لم يؤنث الفعل،
ولأن المركب إنما يحذف إذا كان للكلام دلالة غير الدلالة الإفرادية، والمفهوم من هذا
التركيب التناول من غير تقدير، فيكون اللفظ موضوعا له، والمشهور في الأصول أنه من محال الحذف.
وقوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين)،
فهاهنا إضمار، لأن قائلا لو قال: " من عمل صالحا جعلته في جملة الصالحين " لم يكن فائدة،
وإنما المعنى لندخلنهم في زمرة الصالحين.
وقوله: (تجعلونه قراطيس)، أي ذا قراطيس، أو مكتوب في قراطيس،
(تبدونها)، أي تبدون مكتوبها.
وقوله: (وتخفون كثيرا)، ليس المعنى تخفونها إخفاء كثيرا، ولكن التقدير:
تخفون كثيرا من إنكار ذي القراطيس، أي يكتمونه فلا يظهرونه، كما قال تعالى:
(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في
149

الكتاب). ويدل له قوله: (قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم
تخفون من الكتاب).
وقوله: (فسألت أودية بقدرها)، أي بقدر مياهها.
وقوله: (ولقد همت به وهم بها)، أي هم بدفعها: أي عن نفسه في هذا
التأويل بتنزيله يوسف صلى الله عليه وسلم عما لا يليق به، لأن الأنبياء صلوات الله
وسلامه عليهم معصومون من الصغائر والكبائر، وعليه فينبغي الوقف على قوله: (ولقد
همت به).
تنبيه
[في جواز حذف المضاف مع الالتفات إليه]
اعلم أن المضاف إذا علم جاز حذفه مع الالتفات إليه، فيعامل معاملة الملفوظ به،
من عود الضمير عليه. ومع اطراحه يصير الحكم في عود الضمير للقائم مقامه.
فمثال استهلاك حكمه وتناسى أمره قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه
موج)، فإن الضمير في (يغشاه) عائد على المضاف المحذوف بتقدير:
أو كذى ظلمات.
وقوله: (أو كصيب) أي كمثل ذوي صيب، ولهذا رجع الضمير إليه مجموعا
في قوله: (يجعلون أصابعهم في آذانهم)، ولو لم يراع لأفرده أيضا.
150

وقوله: (كذبت قوم نوح)، ولولا ذلك لحذفت التاء، لأن القوم مذكر،
ومنه قول حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم * بردى يصفق بالرحيق السلسل
بالياء، أي ماء بردى، ولو راعى المذكور لأتى بالتاء.
قالوا: وقد جاء في آية واحدة مراعاة التأنيث والمحذوف، وهي قوله تعالى: (وكم من
قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون) أنث الضمير في (أهلكناها)،
و (فجاءها)، لإعادتهما على القرية المؤنثة، وهي الثابتة، ثم قال: (أو هم قائلون)
فأتى بضمير من يعقل حملا على " أهلها " المحذوف.
وفى تأويل إعادة الضمير على التأنيث وجهان: أحدهما أنه لما قام مقام المحذوف صارت
المعاملة معه. والثاني أن يقدر في الثاني حذف المضاف، كما قدر في الأول. فإذا قلت:
سألت القرية وضربتها، فمعناه: وضربت أهلها، فحذف المضاف كما حذف من الأول
إذ وجه الجواز قائم.
وقيل: هنا مضاف محذوف، والمعنى أهلكنا أهلها. وبياتا، حال منهم، أي مبيتين
و (أوهم قائلون) جملة معطوفة عليها، ومحلها النصب.
وأنكر الشلوبين مراعاة المحذوف، وأول ما سبق على أنه من باب الحمل على المعنى
ونقله عن المحققين، لأن القوم جماعة ولهذا يؤنث تأنيث الجمع، نحو هي الرجال، وجمع
التكسير عندهم مؤنث وأسماء الجموع تجري مجراها، وعلى هذا جاء التأنيث، لا على الحذف،
وكذا القول في البيت.
151

وفى قراءة بعضهم: (والله يريد الآخرة)، قد رووه " عرض الآخرة "
والأحسن أن يقدر ثواب الآخرة، لأن العرض لا يبقى، بخلاف الثواب.
حذف عند المضاف إليه
وهو أقل استعمالا، كقوله: (كل في فلك يسبحون).
وقوله: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض).
وكذا كل ما قطع عن الإضافة، مما وجبت إضافته معنى لا لفظا، كقوله تعالى:
(لله الأمر من قبل ومن بعد)، أي من قبل ذلك ومن بعده.
حذف المضاف والمضاف إليه
قد يضاف المضاف إلى مضاف، فيحذف الأول والثاني ويبقى الثالث، كقوله تعالى:
(وتجعلون رزقكم) أي بدل شكر رزقكم.
وقوله: (تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت)، أي كدوران عين
الذي يغشى عليه من الموت.
وقيل: الرزق في الآية الأولى الحظ والنصيب، فلا حاجة إلى تقدير. وكذلك،
إذا قدرت في الثانية " كالذي " حالا من الهاء والميم في " أعينهم "، لأن المضاف بعض
فلا تقدير.
152

وقوله: (فما أصبرهم على النار)، وقدره أبو الفتح في " المحتسب " على
أفعال أهل النار.
وأما قوله: (من الموت) فالتقدير من مداناة الموت أو مقاربته، ولا ينكر
عسره على الانسان ولكن إذا دفع إلى أمر هابه.
ومثله الآية الأخرى: (ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت).
وقوله: (فقبضت قبضة من أثر الرسول)، أي من أثر حافر فرس الرسول.
وقوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى)، أي من أموال كفار
أهل القرى.
وقوله: (فإنها من تقوى القلوب)، أي من أفعال ذوي تقوى القلوب.
وقوله: (أو كصيب من السماء...) الآية، فإن التقدير كمثل ذوي صيب،
فحذف المضاف والمضاف إليه، أما حذف المضاف فلقرينة عطفه على: (كمثل الذي
استوقد نارا) وأما المضاف إليه فلدلالة: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) عليه
فأعاد الضمير عليه مجموعا، وإنما صير إلى هذا التقدير، لأن التشبيه بين صفة المنافقين وصفة
ذوي الصيب، لا بين صفة المنافقين وذوي الصيب.
حذف الجار والمجرور
كقوله: (خلطوا عملا صالحا)، أي بسيء (وآخر سيئا) أي بصالح،
153

وكذا بعد أفعل التفضيل، كقوله تعالى: (ولذكر الله أكبر)، أي من
كل شيء.
(فإنه يعلم السر وأخفى) أي من السر، وكلام الزمخشري في المفصل يقتضي أنه
مما قطع فيه عن متعلقة قصدا لنفي الزيادة، نحو فلان يعطى، ليكون كالفعل المتعدي.
إذا جعل قاصر للمبالغة، فعلى هذا لا يكون من الحذف، فإنه قال: أفعل التفضيل له معنيان:
أحدهما أن يراد أنه زائد على المضاف إليه في الجملة التي هو وهم فيها شركاء. والثاني أن
يوجد مطلقا له الزيادة فيها إطلاقا، ثم يضاف للتفضيل على المضاف إليه، لكن بمجرد
التخصيص كما يضاف مالا تفضيل فيه، نحو قولك: الناقص والأشج أعدلا بني مروان،
كأنك قلت: عادلا. انتهى.
حذف الموصوف
يشترط فيه أمران:
أحدهما: كون الصفة خاصة بالموصوف، حتى يحصل العلم بالموصوف، فمتى كانت
الصفة عامة امتنع حذف الموصوف. نص عليه سيبويه في آخر باب ترجمة " هذا باب
مجارى أواخر الكلم العربية ". وكذلك نص عليه أرسطاطا ليس في كتابه الخطابة.
الثاني: يعتمد على مجرد الصفة من حيث هي، لتعلق غرض السياق، كقوله تعالى:
(والله عليم بالمتقين). (والله عليم بالظالمين)، فإن الاعتماد في سياق
القول على مجرد الصفة لتعلق غرض القول من المدح أو الذم بها.
154

كقوله تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف)، أي حور قاصرات.
وقوله: (ودانية عليهم ظلالها)، أي وجنة دانية.
وقوله: (وقليل من عبادي الشكور)، أي العبد الشكور.
وقوله: (هدى للمتقين)، أي القوم المتقين.
وقوله: (وحملناه على ذات ألواح ودسر)، أي سفينة ذات ألواح.
وقوله: (ذلك دين القيمة)، أي الأمة القيمة.
وقوله: (أن أعمل سابغات)، أي دروعا سابغات.
وقوله: (يا أيه الساحر)، أي يا أيها الرجل الساحر.
وقوله: (أيه المؤمنون)، أي القوم المؤمنون.
وقوله: (وعمل صالحا)، أي عملا صالحا.
حذف الصفة
وأكثر ما يرد للتفخيم والتعظيم في النكرات، وكأن التنكير حينئذ علم عليه، كقوله تعالى:
(فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا)، أي وزنا نافعا.
وقوله: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، أي من جوع شديد
وخوف عظيم.
وقوله: (يأهل الكتاب لستم على شيء)، أي شيء نافع.
155

وقوله: (ما تذر من شيء)، أي سلطت عليه.
وقوله: (وأرسلناك للناس رسولا)، أي جامعا لأكمل كل صفات الرسل.
وقوله: (يأخذ كل سفينة غصبا)، أي صالحة.
وقيل: إنها قراءة ابن عباس. وفيه بحث وهو أنا لا نسلم الإضمار، بل هو عام مخصوص.
وقوله: (بفاكهة كثيرة وشراب)، أي كثير، بدليل ما قبله.
ويجىء في العرف، كقوله تعالى: (الآن جئت بالحق)، أي المبين.
وقوله: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم)، أي الناس الذين يعادونكم.
وقوله: (ليس من أهلك)، أي الناجين
وقوله: (وكذب به قومك)، أي قومك المعاندون.
ومنه: (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة)،
أي من أولى الضرر، (وفضل الله المجاهدين على القاعدين)، أي من غير أولى الضرر،
قاله بن مالك وغيره. وبهذا التقدير يزول إشكال التكرار من الآية.
وقوله تعالى (لقد لبثت فيكم عمرا من قبله) أي لم أتل عليكم فيه شيئا،
فحذفت الصفة أو الحال، قيل والعمر هنا أربعون سنة.
حذف المعطوف
قوله تعالى: (أو لم ينظروا)، (أفلم يسيروا)، (أثم إذا ما وقع)،
التقدير: أعموا! أمكثوا! أكفرتم!
156

وقوله: (ما شهدنا مهلك أهله)، أي ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه، بدليل قوله:
(لنبيتنه وأهله)، وما روى أنهم كانوا عزموا على قتله وقتل أهله، وعلى هذا
فقولهم: (وإنا لصادقون) كذب في الإخبار، وأوهموا قومهم أنهم قتلوه وأهله
سرا ولم يشعر بهم أحد، وقالوا تلك المقالة يوهمون أنهم صادقون وهم كاذبون.
ويحتمل أن يكون من حذف المعطوف عليه، أي ما شهدنا مهلكه ومهلك أهله.
وقال بعض المتأخرين: أصله ما شهدنا مهلك أهلك بالخطاب، ثم عدل عنه إلى الغيبة،
فلا حذف.
وقد يحذف المعطوف مع حرف العطف، مثل: (لا يستوى منكم من أنفق
من قبل الفتح وقاتل).
وقوله تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)،
أي أمرنا مترفيها، فخالفوا الأمر، ففسقوا. وبهذا التقدير يزول الإشكال من الآية،
وأنه ليس الفسق مأمورا به. ويحتمل أن يكون: (أمرنا مترفيها) صفة للقرية لا جوابا
لقوله: (وإذا أردنا)، التقدير: وإذا أردنا أن نهلك قرية من صفتها أنا أمرنا مترفيها
ففسقوا فيها، ويكون إذا على هذا لم يأت لها جواب ظاهر استغناء بالسياق، كما في قوله:
(حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها).
حذف المعطوف عليه
(فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به)، أي لو ملكه
ولو افتدى به.
157

ويجوز حذفه مع حرف العطف، كقوله: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر
فعدة من أيام أخر)، أي فأفطر فعدة.
وقوله: (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) التقدير: فضرب فانفلق،
فحذف المعطوف عليه، وهو " ضرب "، وحرف العطف وهو الفاء المتصلة ب‍ " انفلق "
فصار: (فانفلق) فالفاء الداخلة، على " انفلق " هي الفاء التي كانت متصلة ب‍ (ضرب)
وأما المتصلة ب‍ " انفلق " فمحذوفة.
كذا زعم ابن عصفور والأبذي قالوا: والذي دل على ذلك أن حرف العطف
إنما نوى به مشاركة الأول للثاني، فإذا حذف أحد اللفظين أعني لفظ المعطوف أو المعطوف
عليه - ينبغي ألا يؤتى به ليزول ما أتى به من أجله.
وقال ابن الضائع: ليس هذا من الحذف بل من إقامة المعطوف مقام المعطوف عليه،
لأنه سببه، ويقام السبب كثيرا مقام مسببه، وليس ما بعدها معطوفا على الجواب، بل صار
هو الجواب، بدليل (فانبجست) هو جواب الأمر.
حذف المبدل منه
اختلفوا فيه، وخرج عليه قوله: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب.
هذا حلال وهذا حرام).
حذف الموصول
قوله: (آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم)، أي والذي أنزل إليكم،
لأن الذي أنزل إلينا ليس هو الذي أنزل إلى من قبلنا، ولذلك أعيدت " ما " بعد " ما "
158

في قوله: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم). وهو نظير قوله:
(آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل)
وقوله: (ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار).
وقوله: (وما منا إلا له مقام معلوم) أي من له.
وشرط ابن مالك في بعض كتبه لجواب الحذف كونه معطوفا على موصول آخر،
ويؤيده هذه الآية. قال: ولا يحذف موصول حرفي إلا " أن " كقوله تعالى: (ومن آياته
يريكم البرق).
حذف المخصوص في باب نعم
إذا علم من سياق الكلام
كقوله تعالى: (نعم العبد إنه أواب) التقدير: نعم العبد أيوب، أو نعم العبد هو،
لأن القصة في ذكر أيوب، فإن قدرت: نعم العبد هو، لم يكن " هو " عائدا على العبد
بل على أيوب.
وكذلك قوله تعالى: (ووهبنا لداود وسليمان نعم العبد) فسليمان هو المخصوص
الممدوح، وإنما لم يكرر لأنه تقدم منصوبا.
وكذلك قوله تعالى: (فقدرنا فنعم القادرون) أي نحن.
وقوله تعالى: (ولنعم دار المتقين)، أي الجنة، أو دارهم.
(فنعم عقبى الدار) أي عقباهم.
159

(ونعم أجر العاملين) أي أجرهم.
وقال: (لبئس المولى ولبئس العشير) أي من ضره أقرب من نفعه.
وقال تعالى: (قل بئسما يأمركم به إيمانكم)، أي إيمانكم بما أنزل عليكم،
وكفركم بما وراءه.
وقد يحذف الفاعل والمخصوص كقوله تعالى: (بئس للظالمين بدلا)، أي
بئس البدل إبليس وذريته، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " فبها ونعمت "،
أي نعمت الرخصة.
حذف الضمير المنصوب المتصل
يقع في أربعة أبواب:
أحدها: الصلة، كقوله تعالى: (أهذا الذي بعث الله رسولا).
الثاني: الصفة، كقوله تعالى: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا)، أي
فيه، بدليل قوله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) ولذلك يقدر في الجمل
المعطوفة على الأولى، لأن حكمهن حكمها، فالتقدير: (ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ
منها عدل ولا هم ينصرون) فيه.
ثم اختلفوا، فقال الأخفش: حذفت على التدريج، أي حذف العطف فاتصل الضمير،
فحذف. وقال سيبويه: حذفا معا لأول وهلة.
160

وقيل: عدى الفعل إلى الضمير أولا اتساعا، وهو قول الفارسي.
وجعل الواحدي من هذا قوله تعالى: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا)، أي
منه. وقوله: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع)، أي ما للظالمين منه.
وفيه نظر، أما الأولى فلأن (يغنى) جملة قد أضيف إليها اسم الزمان، وليست صفة.
وقد نصوا على أن عود ضمير إلى المضاف من الجملة التي أضيف إليها الظرف غير
جائز، حتى قال ابن السراج: فإن قلت: أعجبني يوم قمت فيه امتنعت الإضافة، لأن الجملة
حينئذ صفة، ولا يضاف موصوف إلى صفته. قال ابن مالك: وهذا مما خفي على أكثر
النحويين. وأما الثانية، فكأنه يريد أن (ما للظالمين من حميم) صفة ليوم، المضاف
إليها الأزمنة، وذلك متعذر، لأن الجملة لا تقع صفة للمعرفة، والظاهر أن الجملة حال منه،
ثم حذف العائد المجرور ب‍ " في "، كما يحذف من الصفة. الثالث: الخبر، كقوله تعالى: (وكل وعد الله الحسنى) في قراءة ابن عامر.
الرابع: الحال.
تنبيه
[عن ابن الشجري في تفاوت أنواع الحذف]
قال ابن الشجري: أقوى هذه الأمور في الحذف الصلة، لطول الكلام فيها،
لأنه أربع كلمات، نحو: جاء الذي ضربت، وهو الموصول، والفعل، والفاعل، والمفعول.
ثم الصفة، لأن الموصوف قائم بنفسه، وإنما أتى بالصفة للتوضيح. ثم الخبر، لانفصاله عن
المبتدأ باعتبار أنه محكوم عليه.
161

ووجه التفاوت أن الصفة رتبة متوسطة بين الصلة والخبر، لأن الموصول وصلته
كالكلمة الواحدة، ولهذا لا يفصل بينهما، والصفة دونها في ذلك، ولهذا يكثر حذف
الموصوف وإقامة الصفة مقامه، والخبر دون ذلك، فكان الحذف آكد في الصلة
من الصفة، لأن هناك شيئين يدلان على الحذف، الصفة تستدعي موصوفا، والعامل
يستدعيه أيضا.
ويستحسن ابن مالك هذا الكلام، ولم يتكلم على الحال لرجوعه إلى الصفة.
* * *
حذف المفعول
وهو ضربان:
أحدهما: أن يكون مقصودا مع الحذف فينوي لدليل، ويقدر في كل موضع ما يليق به،
كقوله تعالى: (فعال لما يريد) أي يريده.
(فغشاها ما غشى) أي غشاها إياه.
(الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر).
(لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
(وسلام على عباده الذين اصطفى).
(أين شركائي الذين كنتم تزعمون).
وكل هذا على حذف ضمير المفعول، وهو مراد، حذف تخفيفا لطول الكلام بالصفة،
ولولا إرادة المفعول - وهو الضمير - لخلت الصلة من ضمير يعود على الموصول، وذلك لا يجوز،
162

وكان في حكم المنطوق به، فالدلالة عليه من وجهين: اقتضاء الفعل له، واقتضاء الصلة إذا
كان العائد.
ومنه قوله تعالى: (وما عملت أيديهم) في قراءة حمزة والكسائي بغير هاء، أي
ما عملته، بدليل قراءة الباقين، ف‍ " ما " في موضع خفض للعطف على (ثمره).
ويجوز أن تكون " ما " نافية، والمعنى: ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم، فيكون أبلغ
في الامتنان. ويقوى ذلك قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم
نحن الزارعون)، وعلى هذا فلا تكون الهاء مراده، لأنها غير موصولة.
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: (ويشرب مما تشربون)، وهو فاسد، لأن
" شرب " يتعدى بنفسه.
والغرض حينئذ بالحذف أمور:
منها: قصد الاختصار عند قيام القرائن، والقرائن إما حالية كما في قوله تعالى: (رب
أرني أنظر إليك)، لظهور أن المراد: أرني ذاتك. ويحتمل أن يكون هاب المواجهة
بذلك، ثم براه الشوق. ويجوز أن يكون أخر ليأتي به مع الأصرح، لئلا يتكرر هذا
المطلوب العظيم على المواجهة إجلالا.
ومنه قوله تعالى: (على أن تأجرني)، الظاهر أنه متعد حذف مفعوله، أي
تأجرني نفسك.
وجعل منه السكاكي قوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس
يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر
163

الرعاء) فمن قرأ بكسر الدال من (يصدر) فإنه حذف المفعول في خمسة مواضع، والأقرب
أنه من الضرب الثاني كما سنبينه فيه إن شاء الله تعالى.
وقوله: (فإذا أفضتم من عرفات)، أي أنفسكم.
وقوله: (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا)، أي فذوقوا العذاب.
وقوله: (إني أسكنت من ذريتي)، أي ناسا أو فريقا.
وقوله: (فادع لنا ربك يخرج لنا) أي شيئا.
وقوله: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات)، أي غير السماوات.
وقوله: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن): على أن الدعاء بمعنى التسمية،
التي تتعدى إلى مفعولين، أي سموه الله، أو سموه الرحمن، أيا ما تسموه، فله الأسماء
الحسنى، إذ لو كان المراد بمعنى الدعاء المتعدى لواحد لزم الشرك إن كان مسمى الله غير
مسمى الرحمن، وعطف الشئ على نفسه إن كان عينه.
ومنها قصد الاحتقار كقوله: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي)، أي الكفار.
ومنها قصد التعميم، ولا سيما إذا كان في حيز النفي، كقوله تعالى: (وما تغني
الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون). وكذا (وما كانوا مؤمنين) وكثيرا
ما يعترى الحذف في رؤوس الآي نحو: (لو كانوا يعلمون).
و (لقوم يشكرون).
164

(أفلا تسمعون).
(أفلا تبصرون).
(أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون).
(إنما نحن مستهزئون).
(فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون).
وكذا كل موضع كان الغرض إثبات المعنى الذي دل عليه الفعل لفاعل غير
متعلق بغيره.
ومنه قوله تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام)، أي كل أحد، لأن الدعوة عامة
والهداية خاصة.
وأما قوله تعالى: (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون)، فكال ووزن
يتعديان إلى مفعولين. أحدهما باللام، والتقدير: كالوا ووزنوا لهم، وحذف المفعول الثاني
لقصد التعميم.
وما ذكرناه من كون " هم " منصوبا في الموضع بعد حذف اللام هو الظاهر، وقرره
ابن الشجري في أماليه، قال: وأخطأ بعض المتأولين حيث زعم أن " هم " ضمير
مرفوع أكدت به الواو كالضمير في قولك: " خرجوا هم "، ف‍ " هم " على هذا التأويل عائد
على المطففين.
ويدل على بطلان هذا القول أمران:
165

أحدهما: عدم ثبوت الألف في " كالوهم " و " وزنوهم "، ولو كان كما قال لأثبتوها
في خط المصحف، كما أثبتوها في قوله تعالى: (خرجوا من ديارهم) (قالوا
لنبي لهم) ونحوه.
والثاني أن تقدم ذكر " الناس " يدل على أن الضمير راجع إليهم، فالمعنى: (إذا
اكتالوا على الناس يستوفون) وإذا كالوا للناس أو وزنوا للناس يخسرون.
وجعل الزمخشري من حذف المفعول قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر
فليصمه)، أي في المصر. وعند أبي على أن الشهر ظرف، والتقدير: فمن شهد منكم
المصر في الشهر.
ومنها تقدم مثله في اللفظ، كقوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)، أي
ويثبت ما يشاء.
فلما كان المفعول الثاني بلفظ الأول في عمومه واحتياجه إلى الصلة جاز حذفه، لدلالة
ما ذكر عليه، كقوله: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم).
وقوله: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) أي غير السماوات.
وقوله: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل)، أي ومن
أنفق من بعده وقاتل، بدليل ما بعده.
وقوله: (وأبصر فسوف يبصرون) أي أبصرهم، بدليل قوله: (وأبصرهم).
وسبق عن ابن ظفر السر في ذكر المفعول في الأول وحذفه في الثاني في هذه الآية الشريفة
166

أن الأولى اقتضت نزول العذاب بهم يوم بدر، فلما تضمنت التشفي بهم قيل: (أبصرهم).
وأما الثاني فالمراد بها يوم الفتح، واقترن بها مع الظهور عليهم تأمينهم والدعاء إلى إيمانهم،
فلم يكن وقتا للتشفي بل للبروز، فقيل له: (أبصر) والمعنى: فسيبصرون منك عليهم.
وقوله: (فهل وجدتم ما وعد ربكم) أي وعدكم ربكم، فحذف لدلالة قوله
قبله: (ما وعدنا ربنا)، قاله الزمخشري.
وقد يقال: أطلق ذلك ليتناول كل ما وعد الله من الحساب والبعث والثواب والعقاب
وسائر أحوال القيامة، لأنهم كانوا يكذبون بذلك أجمع، ولأن الموعود كله مما ساءهم،
وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم، فأطلق لذلك ليكون من الضرب الآتي.
وقوله: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل
للقاسية).
ومنها رعاية الفاصلة، نحو: (والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى)
أي ما قلاك، فحذف المفعول، لأن فواصل الآي على الألف.
ويحتمل أنه للاختصار لظهور المحذوف قبله، أي أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن
أقسى قلبه؟ فحذف لدلالة: (فويل للقاسية).
ومنها البيان بعد الإبهام، كما في مفعول المشيئة والإرادة، فإنهم لا يكادون يذكرونه،
كقوله تعالى: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم).
(ولو شاء الله لجمعهم على الهدى).
167

(ولو شاء الله لهداكم أجمعين).
(فإن يشأ الله يختم على قلبك).
(من يشاء الله يضلله).
(ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها).
التقدير: لو شاء الله أن يفعل ذلك لفعل.
وشرط ابن النحويه في حذفه دخول أداة الشرط عليه، كما سبق من قوله: (فإن
يشأ الله يختم على قلبك).
و (لو نشاء لقلنا مثل هذا).
(من يشاء الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم).
والحكمة في كثرة حذف مفعول المشيئة المستلزمة لمضمون الجواب لا يمكن أن تكون
إلا مثيلة الجواب، ولذلك كانت الإرادة كالمشيئة في جواز اطراد حذف مفعولها، صرح به
الزمخشري في تفسير سورة البقرة، وابن الزملكاني في البرهان، والتنوخي في الأقصى،
كقوله: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم)، وإنما حذفه لأن في الآية قبلها
ما يدل على أنهم أمروا لكذب، وهو بزعمهم إطفاء نور الله، فلو ذكر أيضا لكان
168

كالمتكرر، فحذف وفسر بقوله: (ليطفئوا نور الله بأفواههم)، وكان في الحذف
تنبيه على هذا المعنى الغريب.
وينبغي أن يتمهل في تقدير مفعول المشيئة، فإنه يختلف المعنى بحسب التقدير، ألا ترى
إلى قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)، فإن التقدير كما قاله
عبد القاهر الجرجاني: ولو شئنا أن نؤتي كل نفس هداها لآتيناها، لا يصح إلا على ذلك،
لأنه إن لم يقدر هذا المفعول أدى والعياذ بالله إلى أمر عظيم، وهو نفي أن يكون
لله مشيئة على الإطلاق، لأن من شأن " لو " أن يكون الإثبات بعدها نفيا، ألا ترى
أنك إذا قلت: لو جئتني أعطيتك، كان المعنى على أنه لم يكن مجئ ولا إعطاء، وأما قوله
تعالى: (ولو شئنا لرفعناه بها) فقدره النحويون: فلم نشأ فلم نرفعه.
وقال ابن الخباز: الصواب أن يكون التقدير " فلم نرفعه فلم نشأ "، لأن نفي اللازم
يوجب نفي الملزوم، فوجود الملزوم يوجب وجود اللازم، فيلزم من وجود المشيئة وجود الرفع،
ومن نفي الرفع نفي المشيئة، وأما نفي الملزوم فلا يوجب نفي اللازم، ولا وجود اللازم وجود
الملزوم. انتهى.
ويؤيده قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)، فإن المقصود انتفاء
وجود الآلهة لانتفاء لازمها وهو الفساد.
ويمكن توجيه كلام النحويين بأنهم جعلوا الأول شرطا للثاني، لأنهم عدوا " لو "
من حروف الشرط، وانتفاء الشرط يوجب انتفاء المشروط. وقد يكون الشرط مساويا
للمشروط، بحيث يلزم من وجوده وجود المشروط، ومن عدمه عدمه. والمقصود في الآية
تعليل عدم الرفع بعدم المشيئة لا العكس.
169

وأوضح منه قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات
من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)، جعل انتفاء
الملزوم سببا لانتفاء اللازم، لأن " كذبوا " ملزوم عدم الإيمان والتقوى، فأخذهم بذلك ملزوم
عدم فتح بركات السماء والأرض عليهم. والفاء في قوله (فأخذناهم) للسببية، وجعل
التكذيب سببا لأخذهم بكفرهم، ولعل ذلك يختلف باختلاف المواد ووقوع الأفراد
مع أن القول ما قاله ابن الخباز. وأما ما جاء على خلافه فذلك من خصوص المادة، وذلك
لا يقدح في القضية الكلية، ألا ترى أنا نقول: الموجبة الكلية لا تنعكس كلية
مع أنها تنعكس كلية في بعض المواضع، كقولنا: كل انسان ناطق، ولا يعد ذلك
مبطلا للقاعدة.
تنبيهان
التنبيه الأول
[متى يذكر مفعول المشيئة والإرادة]
يستثنى من هذه القاعدة ثلاثة أمور: أحدها ما إذا كان مفعول المشيئة عظيما أو غريبا،
فإنه لا يحذف، كقوله تعالى: (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء
سبحانه...) الآية، أراد رد قول الكفار: " اتخذ الله ولدا " بما يطابقه في اللفظ،
ليكون أبلغ في الرد، لأنه لو حذفه فقال: " لو أراد الله لاصطفى " لم يظهر المعنى المراد،
لأن الاصطفاء قد لا يكون بمعنى التبني، ولو قال: لو أراد الله لاتخذ ولدا لم يكن فيه
ما في إظهاره من تعظيم جرم قائله.
ومثله صاحب كتاب " القول الوجيز في استنباط علم البيان من الكتاب
170

العزيز " بقوله تعالى: (لو نشاء لقلنا مثل هذا). وقوله: (فإن يشأ الله يختم
على قلبك). و (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم).
وفيما ذكره نظر.
قلت: يجيء الذكر في مفعول الإرادة أيضا إذ كان كقوله تعالى: (لو أردنا
أن نتخذ لهوا).
الثاني: إذا احتيج لعود الضمير عليه، فإنه يذكر، كقوله: (لو أردنا أن نتخذ
لهوا لاتخذناه)، فإنه لو حذف لم يبق للضمير ما يرجع عليه.
وقد يقال: الضمير لم يرجع عليه وإنما عاد على معمول معموله.
الثالث: أن يكون السامع منكرا لذلك، أو كالمنكر، فيقصد إلى إثباته عنده،
فإن لم يكن منكرا، فالحذف.
والحاصل أن حذف مفعول " أراد " و " شاء " لا يذكر إلا لأحد هذه الثلاثة.
التنبيه الثاني
[في إنكار أبي حيان للقاعدة السابقة]
أنكر الشيخ أبو حيان في باب عوامل الجزم من شرح " التسهيل " هذه القاعدة
وقال: غلط البيانيون في دعواهم لزوم حذف مفعول المشيئة، إلا فيما إذا كان مستغربا،
وفي القرآن: (لمن شاء منكم أن يستقيم). (لمن شاء منكم أن يتقدم
أو يتأخر). ولهم أن يقولوا: إن المفعول هاهنا عظيم، فلهذا صرح به فلا غلط
171

على القوم، وأما قوله تعالى: (فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا)، فإذا جعلت
" ماذا " بمعنى " الذي "، فمفعول " أراد " متقدم عليه، وإن جعلت " ذا " وحدها
بمعنى " الذي " فيكون مفعول " أراد " محذوفا، وهو ضمير " ذا " ولا يجوز أن يكون
" مثلا " مفعول " أراد " لأنه أحد معموليه ولكنه حال.
فصل
وقد كثر حذف مفعول أشياء غير ما سبق، منها الصبر، نحو: (فاصبروا أو لا تصبروا)،
(اصبروا وصابروا).
وقد يذكر، نحو: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) قال الزمخشري
في تفسير سورة الحجرات: قولهم: صبر عن كذا، محذوف منه المفعول، وهو النفس.
ومنها مفعول " رأى "، كقوله: (أعنده علم الغيب فهو يرى).
قال الفارسي: الوجه أن " يرى " هنا للتعدية لمفعولين، لأن رؤية الغائب لا تكون
إلا علما، والمعنى عليه قوله: (عالم الغيب) وذكره العلم، قال: والمفعولان محذوفان،
فكأنه قال: فهو يرى الغائب حاضرا، أو حذف، كما حذف في قوله: (أين شركاؤكم
الذين كنتم تزعمون)، أي تزعمونهم إياهم.
172

وقال ابن خروف: هو من باب الحذف لدليل، لأن المعنى دال على المفعولين، أي
فهو يعلم ما يفعله ويعتقده حقا وصوابا، ولا فائدة في الآية مع الاقتصار، لأنه لا يعلم منه
المراد. وقد ذهب إليه بعض المحققين وعدل عن الصواب.
ومنها وعد يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما كأعطيت، قال تعالى:
(وواعدناكم جانب الطور الأيمن)، ف‍ " جانب " مفعول ثان، ولا يكون ظرفا
لاختصاصه. والتقدير واعدناكم إتيانه أو مكثا فيه.
(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة).
(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) فإحدى الطائفتين في موضع
نصب، بأنه المفعول الثاني، وأنها لكم، بدل منه، والتقدير: وإذ يعدكم الله ثبات إحدى
الطائفتين أو ملكها.
وقال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم
في الأرض) فلم يعد الفعل فيها إلا إلى واحد، (وليستخلفنهم) تفسير للوعد ومبين
له، كقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)، فالجملة
الثانية تبيين للوصية، لا مفعول ثان.
وأما قوله: (ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا)، (إن الله وعدكم وعد الحق)
فإن هذا ونحوه يحتمل أمرين: انتصاب الوعد بالمصدر، وبأنه المفعول الثاني على تسمية
الموعود به وعدا.
وأما قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) فمما تعدى فيه " وعد "
173

إلى اثنين، لأن " الأربعين " لو كان ظرفا لكان الوعد في جميعه، يعني من حيث إنه
معدود، فيلزم وقوع المظروف في كل فرد من أفراده، وليس الوعد واقعا في " الأربعين "
بل ولا في بعضها.
ثم قدر الواحدي وغيره محذوفا مضافا إلى " الأربعين، وجعلوه المفعول الثاني،
فقالوا: التقدير: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين، أو تمام أربعين، ثم حذف وأقيم
المضاف إليه مقامه.
قال بعضهم: ولم يظهر لي وجه عدولهم عن كون " أربعين " هو نفس المفعول إلى
تقدير هذا المحذوف، إلا أن يقال: نفس الأربعين ليلة لا توعد، لأنها واجبة الوقوع،
وإنما المعنى على تعليق الوعد بابتدائها وتمامها، ليترتب على الانتهاء شيء.
قلت: وقال أبو البقاء: ليس أربعين ظرفا، إذ ليس المعنى وعده في أربعين.
وقال غيره: لا يجوز أن يكون ظرفا، لأنه لم يقع الوعد في كل من أجزائه،
ولا في بعضه.
ومنها " اتخذ " تتعدى لواحد أو لاثنين فمن الأول قوله تعالى: (لو أردنا أن
نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا) (واتخذوا من دونه آلهة) (أم اتخذ مما
يخلق بنات) (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) ومن الثاني: (اتخذوا
أيمانهم جنة) (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) (فاتخذتموهم سخريا)
والثاني من المفعولين هو الأول في المعنى.
174

قال الواحدي فأما قوله تعالى: (ثم اتخذتم العجل من بعده) وقوله:
(باتخاذكم العجل) (اتخذوه وكانوا ظالمين) (إن الذين اتخذوا
العجل) فالتقدير في هذا كله: اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني.
والدليل على ذلك أنه لو كان على ظاهره، لكان من صاغ عجلا أو نحوه، أو عمله
بضرب من الأعمال، استحق الغضب من الله، لقوله: (سينالهم غضب من ربهم)
وفيما قاله نظر، لأن الواقع أن أولئك عبدوه، فالتقدير على هذا في المتعدي لواحد أن
الذين اتخذوا العجل وعبدوه، ولهذا جوز الشيخ أثير الدين في هذه الآيات كلها أن تكون
" اتخذ " فيها متعدية إلى واحد، قال: ويكون ثم جملة محذوفة، تدل على المعنى، وتقديره:
" وعبدتموه إلها " ورجحه على القول الآخر بأنها لو كانت متعدية في هذه القصة لاثنين
لصرح بالثاني ولو في موضع واحد.
* * *
الضرب الثاني
ألا يكون المفعول مقصودا أصلا، وينزل الفعل المتعدي منزلة القاصر، وذلك عند
إرادة وقوع نفس الفعل فقط، وجعل المحذوف نسيا منسيا، كما ينسى الفاعل عند بناء
الفعل، فلا يذكر المفعول، ولا يقدر، غير أنه لازم الثبوت عقلا لموضوع كل فعل
متعد، لأن الفعل لا يدري تعيينه.
وبهذا يعلم أنه ليس كل ما هو لازم من موضوع الكلام مقدرا فيه، كقوله تعالى:
(فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا).
175

وقوله: (كلوا واشربوا)، لأنه لم يرد الأكل من معين، وإنما أراد وقوع
هذين الفعلين.
وقوله: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، ويسمى المفعول
حينئذ مماتا.
ولما كان التحقيق أنه لا يعد هذا من المحذوف، فإنه لا حذف فيه بالكلية، ولكن
تبعناهم في العبارة، نحو فلان يعطى، قاصدا أنه يفعل الإعطاء. وتوجد هذه الحقيقة إيهاما
للمبالغة بخلاف ما يقصد فيه تعميم الفعل، نحو: هو يعطى ويمنع، فإنه أعم تناولا،
من قولك: يعطى الدرهم ويمنعه، والغالب أن هذا يستعمل في النفي، كقوله: (وتركهم
في ظلمات لا يبصرون)، والآخر في الإثبات، كقوله: (إن في ذلك لآيات
لقوم يعقلون).
ومن أمثلة هذا الضرب قوله تعالى: (يحيى ويميت).
وقوله: (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر).
وقوله: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس) الخ الآية، حذف منها
المفعول خمس مرات، لأنه غير مراد، وهو قوله (يسقون)، وقوله (تذودان) وقوله:
(لا نسقي حتى يصدر الرعاء) مواشيهم، (فسقى لهما) غنمهما.
وقوله: (لنخرجنك يا شعيب) قيل: لو ذكر المفعول فيها نقص المعنى، والمراد
176

أن الله تعالى له الإحياء والإماتة، وأن إلههم ليس له سمع ولا بصر، وأن موسى عليه السلام
وجد قوما يعانون السقي، وامرأتين تعانيان الذود، وأخبرتاه أنا لا نستطيع السقي، فوجدا
من موسى عليه السلام لهما السقي، ووجد من أبيهما مكافأة على السقي. وهذا مما حذف
لظهور المراد، وأن القصد الإعلام بأنه كان من الناس في تلك الحالة سقى، ومن المرأتين
ذود، وأنهما قالتا: لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء، وأن موسى سقى بعد ذلك،
فأما أن المسقى غنم أو إبل أو غيره فخارج عن المقصود، لأنه لو قيل: يذودان غنمهما
لجاز أن يكون الانكار لم يتوجه من موسى على الذود من حيث هو ذود، بل من حيث
هو ذود غنم، حتى لو كان ذود إبل لم ينكره.
واعلم أنا جعلنا هذا من الضرب الثاني موافقة للزمخشري، فإنه قال: ترك المفعول
لأن الغرض هو الفعل لا المفعول، ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على
السقي، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل. وكذلك قولهما: (لا نسقي حتى
يصدر الرعاء)، المقصود منه السقي لا المسقى.
وجعله السكاكي من الضرب الأول، أعني مما حذف فيه للاختصار مع الإرادة.
والأقرب قول الزمخشري، ورجح الجزري قول السكاكي أنه للاختصار، فإن الغنم
ليست ساقطة عن الاعتبار بالأصالة، فإن فيها ضعفا عن المزاحمة، والمرأتان فيهما ضعف،
فإذا انضم إلى ضعف المسقى ضعف الساقي، كان ذلك أدعى للرحمة والإعانة.
وكقوله تعالى: (فأما من أعطى وأتقى).
وقوله: (وأنه هو أغنى وأقنى).
177

وقوله: (وأنه هو أضحك وأبكى. وأنه هو أمات وأحيى).
وإنما ذكر المفعول في قوله: (وأنه خلق الزوجين)، لأن المراد جنس الزوجين
فكأنه قال: يخلق كل ذكر وكل أنثى، وكان ذكره هنا أبلغ ليدل على عموم ثبوت
الخلق له بالتصريح.
وليس منه قوله تعالى: (وأصلح لي في ذريتي)، لوجود العوض من المفعول به
لفظا، أو هو المفعول به، وهو قوله: (في ذريتي)، ومعنى الدعاء به قصر الإصلاح له على
الذرية، إشعارا بعنايته بهم.
وقوله: (كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون)، أي عاقبة أمركم،
لأن سياق القول في التهديد والوعيد.
واعلم أن الغرض حينئذ بالحذف في هذا الضرب أشياء:
منها: البيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة على ما سبق، نحو: أمرته فقام، أي
بالقيام. وعليه قوله تعالى: (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) أي أمرناهم بالفسق، وهو
مجاز عن تمكينهم وإقدارهم.
ومنها: المبالغة بترك التقييد، نحو: (هو يحيى ويميت)، وقوله: (فهم
لا يبصرون) ونفى الفعل غير متعلق أبلغ من نفيه متعلقا به، لأن المنفي في الأول
نفس الفعل، وفي الثاني متعلقة.
178

تنبيه
قد يلحظ الأمران، فيجوز الاعتباران، كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) أجاز الزمخشري في حذف المفعول
منه الوجهين.
وكذلك في قوله في آخر سورة الحج: (وجاهدوا في الله).
حذف الحال
كقوله تعالى: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم)،
أي قائلين سلام عليكم.
قال ابن أبي الربيع: اعلم أن العرب قد تحذف الحال إذا كانت بالفعل لدلالة
مصدر الفعل عليه، فتقول: قتلته صبرا، وأتيته ركضا، قال تعالى: (تزرعون سبع
سنين دأبا)، فدأبا يقدر بالفعل، تقديره: " تدأبون "، في موضع الحال.
قال أبو علي: لا خلاف بين سيبويه وأبي العباس في الحال المحذوف الذي المصدر منصوب
به، وإنما الخلاف بينهما في القياس، فسيبويه يذهب إلى السماع ولا يقيس، والأخفش
والمبرد يقيسان.
179

حذف المنادى
قوله تعالى: (ألا سجدوا)، على قراءة الكسائي بتخفيف " ألا " على أنها
تنبيه و " يا " نداء، والتقدير ألا يا هؤلاء اسجدوا لله. ويجوز أن يكون " يا " تنبيها
ولا منادى هناك، وجمع بينهن تأكيدا، لأن الأمر قد يحتاج إلى استعطاف المأمور
واستدعاء إقباله على الآمر.
وأما على قراءة الأكثر بالتشديد، فعلى أن أن الناصبة للفعل دخلت عليها لا النافية،
والفعل المضارع بعدها منصوب، وحذفت النون علامة النصب، فالفعل هنا معرب، وفي تلك
القراءة مبني، فاعرفه.
فائدة
[في حذف الياء من المنادى المضاف إلى ياء المتكلم]
كثر في القرآن حذف الياء من المنادى المضاف إلى ياء المتكلم، نحو يا رب، يا قوم،
وعلل ذلك بأن النداء باب حذف، ألا ترى أنه يحذف منه التنوين وبعض الاسم للترخيم،
وجاء فيه إثباتها ساكنة، كقراءة من قرأ: (يا عبادي فاتقون)، ومحركة بالفتح كقراءة
من قرأ: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)، ومنقلبة عن الياء في قوله تعالى:
(أن تقول نفس يا حسرتي).
حذف الشرط
(قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة)، أي إن قلت لهم: أقيموا يقيموا.
180

وجعل منه الزمخشري: (ولن يخلف الله وعده).
وجعل أبو حيان منه قوله تعالى: (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم
مؤمنين) أي إن كنتم آمنتم بما أنزل إليكم فلم تقتلون؟ وجواب " إن كنتم "
محذوف دل عليه ما تقدم، أي فلم فعلتم؟ وكرر الشرط وجوابه مرتين للتأكيد، إلا أنه
حذف الشرط من الأول وبقي جوابه، وحذف الجواب من الثاني وبقي شرطه. انتهى.
وهو حسن، إلا أنه قد كان خالف الزمخشري، وأنكر قوله بحذف الشرط في: (فتاب
عليكم) وفي: (فانفجرت)، وقال: إن الشرط لا يحذف في غير الأجوبة،
والآن قد رجع إلى موافقته.
وقوله: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم
البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون)، تقديره إن كنتم منكرين فهذا
يوم البعث، أي فقد تبين بطلان إنكاركم.
وقوله: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم)، بمعنى إن افتخرتم بقتلهم فلم
تقتلوهم، فعدل عن الافتخار بقتلهم، فحذف لدلالة الفاعلية.
وقوله: (فالله هو الولي)، تقديره: إن أرادوا أولياء فالله هو الولي بالحق،
لأولى سواه.
حذف جواب الشرط
قوله: (إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل
181

على مثله فآمن واستكبرتم)، أي أفلستم ظالمين؟ بدليل قوله عقبه: (إن الله
لا يهدي القوم الظالمين) وقدره البغوي: من المحق منا ومن المبطل؟ ونقله
عن أكثر المفسرين.
ومن حذف جواب الفعل: (اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم)،
تقديره: " فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم "، والفاء العاطفة على الجواب المحذوف هي
المسماة عندهم بالفاء الفصيحة.
وقال صاحب المفتاح: وانظر إلى الفاء الفصيحة في قوله تعالى: (فتوبوا إلى بارئكم
فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم) كيف أفادت:
" ففعلتم فتاب عليكم "!
وقوله: (اضربوه ببعضها)، تقديره فضربوه فحيى (كذلك يحيى الله
الموتى).
وقال صاحب الكشاف في قوله تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا
الحمد لله الذي فضلنا على كثير) تقديره: فعملا به وعلماه، وعرفا حق النعمة فيه
والفضيلة (وقالا الحمد لله).
وقال السكاكي هو إخبار عما صنع بهما وعما قالاه، حتى كأنه قيل: نحن فعلنا
إيتاء العلم، وهما فعلا الحمد، تعريضا لاستثارة الحمد على إيتاء العلم إلى فهم السامع، مثله " قم
يدعوك " بدل " قم فإنه يدعوك ".
182

حذف الأجوبة
ويكثر ذلك في جواب لو، ولولا، كقوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار).
وقوله: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم).
وقوله: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم).
وقوله: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم).
وقوله: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم).
وقوله: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت)، تقديره في هذه المواضع
" لرأيت عجبا " أو " أمرا عظيما "، " ولرأيت سوء منقلبهم "، أو " لرأيت سوء حالهم ".
والسر في حذفه في هذه المواضع أنها لما ربطت إحدى الجملتين بالأخرى حتى صارا
جملة واحدة، أوجب ذلك لها فضلا وطولا، فخفف بالحذف، خصوصا مع الدلالة
على ذلك.
قالوا: وحذف الجواب يقع في مواقع التفخيم والتعظيم، ويجوز حذفه لعلم المخاطب به،
وإنما يحذف لقصد المبالغة، لأن السامع مع أقصى تخيله يذهب منه الذهن كل مذهب،
ولو صرح بالجواب لوقف الذهن عند المصرح به فلا يكون له ذلك الوقع، ومن ثم لا يحسن
تقدير الجواب مخصوصا إلا بعد العلم بالسياق، كما قدر بعض النحويين في قوله تعالى:
(ولو أن قرآنا سيرت به الجبال...) الآية، فقال: تقديره: لكان هذا القرآن
183

وحكاه أبو عمرو الزاهد في " الياقوتة " عن ثعلب والمبرد، وهو مردود، لأن الآية
ما سيقت لتفضيل القرآن، بل سيقت في معرض ذم الكفار، بدليل قوله قبلها: (وهم
يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب)،
وبعدها: (أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) فلو قدر الخبر
" لما آمنوا به " لكان أشد.
ونقل الشيخ محيي الدين النووي في كتاب " رؤوس المسائل " كون الجواب " كان
هذا القرآن "، عن الأكثرين. وفيه ما ذكرت.
وقيل تقديره: لو قضيت أنه لا يقرأ القرآن على الجبال إلا سارت ورأوا
ذلك، لما آمنوا.
وقيل: جواب " لو " مقدم، معناه: يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيرت به الجبال،
وهذا قول الفراء.
وقوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده
سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله)، محذوف، والتقدير: لنفدت هذه الأشياء وما
نفدت كلمات الله ويحتمل أن يكون " ما نفدت " هو الجواب مبالغة في نفي النفاد، لأنه
إذا كان نفي النفاد لازما على تقدير كون ما في الأرض من شجرة أقلاما والبحر مدادا
لكان لزومها على تقدير عدمها أولى.
وقوله تعالى: (ولو فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك).
184

فإنه قد قيل: ظاهره نفى وجود الهم منهم بإضلاله، وهو خلاف الواقع، فإنهم هموا
وردوا القول.
وقيل: قوله: (لهمت) ليس جواب " لو " بل هو كلام تقدم على " لو "
وجوابها مقول على طريق القسم، وجواب " لو " محذوف تقديره (لهمت طائفة منهم
أن يضلوك) لولا فضل الله عليك لأضلوك.
وقوله: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)، أي همت
بمخالطته، وجواب " لولا " محذوف، أي لولا أن رأى برهان ربه لخالطها.
وقيل: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، والوقف على هذا (ولقد همت به)،
والمعنى أنه لم يهم بها.
ذكره أبو البقاء. والأول للزمخشري.
ولا يجوز تقديم جواب " لو " عليها لأنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام.
وقوله: (وإنا إن شاء الله لمهتدون) جواب الشرط محذوف، يدل عليه
قوله: (إنا لمهتدون) أي إن شاء الله اهتدينا. وقد توسط الشرط هنا بين جزأي الجملة
بالجزاء، لأن التقديم على الشرط، فيكون دليل الجواب متقدما على الشرط، والذي حسن
تقديم الشرط عليه الاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله تعالى.
وقوله تعالى: (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار)،
تقديره: لما استعجلوا فقالوا متى هذا الوعد.
185

وقال الزجاج: تقديره " لعلموا صدق الوعد " لأنهم قالوا: متى هذا الوعد، وجعل الله
الساعة موعدهم فقال تعالى: (بل تأتيهم بغتة).
وقيل: تقديره " لما أقاموا على كفرهم ولندموا أو تابوا ".
وقوله في سورة التكاثر: (لو تعلمون علم اليقين) تقديره لما: ألهاكم
التكاثر).
وقيل: تقديره: لشغلكم ذلك عما أنتم فيه.
وقيل: لرجعتم عن كفركم أو لتحققتم مصداق ما تحذرونه.
وقوله: (قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون
شيئا) أي لا يتبعونهم.
وقوله: (قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون) تقديره:
" لآمنتم " أو " لما كفرتم " أو " لزهدتم الذي في الدنيا " أو " لتأهبتم للقائنا ".
ونحوه: (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب
لو أنهم كانوا يهتدون) أي يهتدون في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة،
أو لما اتبعوهم.
وقوله: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد)، قال محمد بن
إسحاق: معناه لو أن لي قوة لحلت بينكم وبين المعصية.
وقوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت)، أي رأيت ما يعتبر به عبرة عظيمة.
186

وقوله عقب آية اللعان: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب
حكيم)، قال الواحدي: قال الفراء: جواب " لو محذوف لأنه معلوم المعنى،
وكل ما علم فإن العرب تكتفي بترك جوابه، ألا ترى أن الرجل يشتم الرجل، فيقول المشتوم:
أما والله لولا أبوك... فيعلم أنك تريد: لشتمتك.
وقال المبرد: تأويله والله أعلم: لهلكتم، أو لم يبق لكم باقية، أو لم يصلح أمركم،
ونحوه من الوعيد الموجع، فحذف لأنه لا يشكل.
وقال الزجاج: المعنى لنال الكاذب منكم أمر عظيم، وهذا أجود مما قدره المبرد.
وكذلك " لولا " التي بعدها في قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته
وأن الله رؤوف رحيم)، جوابها محذوف، وقدره بعضهم في الأولى: لافتضح فاعل
ذلك، وفي الثانية: لعجل عذاب فاعل ذلك، وسوغ الحذف طول الكلام بالمعطوف،
والطول داع للحذف.
وقوله: (ولولا أن تصبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت
إلينا رسولا فنتبع آياتك) جوابها محذوف، أي لولا احتجاجهم بترك الإرسال
إليهم لعاجلناهم بالعقوبة.
وقال مقاتل: تقديره لأصابتهم مصيبة.
وقال الزجاج: لولا ذلك لم يحتج إلى إرسال الرسول ومواترة الاحتجاج.
وقوله: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا
على قلبها)، أي لأبدت.
187

وقوله تعالى: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي)، تقديره:
لو تملكون، [تملكون] فأضمر " تملك " الأولى على شريطة التفسير وأبدل من
الضمير المتصل، الذي هو " الواو " ضمير منفصل، وهو " أنتم " لسقوط ما يتصل به من
الكلام، ف‍ " أنتم " فاعل الفعل المضمر، " وتملكون " تفسيره.
قال الزمخشري: هذا ما يقتضيه الإعراب، فأما ما يقتضيه علم البيان،
فهو أن [أنتم] تملكون فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون
بالشح المتتابع، وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة
المبتدأ والخبر.
ومن حذف الجواب قوله تعالى: (وإذ قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم
وما خلفكم لعلكم ترحمون)، أي أعرضوا، بدليل قوله بعده: (إلا كانوا عنها
معرضين).
وقوله في قصة إبراهيم في الحجر: (فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون)،
وفي غيرها من السور: (قالوا سلاما) (قال سلام)، قال الكرماني: لأن هذه
السورة متأخرة عن الأولى، فاكتفى بما في هذه، ولو ثبت تعدد الوقائع لنزلت على واقعتين.
188

وكقوله تعالى: (إذا السماء انشقت)، قال الزمخشري: حذف الجواب،
وتقديره مصرح به في سورتي التكوير والانفطار، وهو قوله (علمت نفس).
وقل في (والسماء ذات البروج): الجواب محذوف، أي أنهم ملعونون، يدل
عليه قوله: (قتل أصحاب الأخدود).
وكقوله تعالى: (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها)، أي " حتى إذا جاؤوها
وقد فتحت أبوابها "، والواو واو حال، وفي هذا ما حكى أنه اجتمع أبو علي الفارسي مع
أبي عبد الله الحسين بن خالويه في مجلس سيف الدولة، فسئل ابن خالويه عن قوله تعالى:
(حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها) في النار بغير واو، وفي الجنة بالواو! فقال
ابن خالويه: هذه الواو تسمى واو الثمانية لأن العرب لا تعطف الثمانية إلا بالواو، قال:
فنظر سيف الدولة إلى أبي علي، وقال: أحق هذا! فقال أبو علي: لا أقول كما قال، إنما
تركت الواو في النار، لأنها مغلقة، وكان مجيئهم شرطا في فتحها، فقوله: (فتحت) فيه
معنى الشرط، وأما قوله: (وفتحت) في الجنة، فهذه واو الحال، كأنه قال: جاؤوها وهي
مفتحة الأبواب، أو هذه حالها.
وهذا الذي قاله أبو علي هو الصواب، ويشهد له أمران:
أحدهما: أن العادة مطردة شاهدة في إهانة المعذبين بالسجون، من إغلاقها حتى يردوا
عليها، وإكرام المنعمين بإعداد فتح الأبواب لهم مبادرة واهتماما.
189

والثاني: النظير في قوله: (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب).
وللنحويين في الآية ثلاثة أقوال:
أحدهما: أن الواو زائدة، والجواب قوله " فتحت " وهؤلاء قسمان: منهم من جعل
هذه الواو مع أنها زائدة واو الثمانية، ومنهم من لم يثبتها.
والثاني: أن الجواب محذوف عطف عليه قوله: (وفتحت) كأنه قال " حتى إذا جاؤوها
[جاؤوها] وفتحت " قال الزجاج وغيره: وفي هذا حذف المعطوف وإبقاء المعطوف عليه.
والثالث: أن الجواب محذوف آخر الكلام، كأنه قال بعد الفراغ: استقروا،
أو خلدوا، أو استووا، مما يقتضيه المقام، وليس فيه حذف معطوف. ويحتمل أن يكون
التقدير: إذا جاؤوها أذن لهم في دخولها وفتحت أبوابها، المجئ ليس سببا مباشرا للفتح،
بل الإذن في الدخول هو السبب في ذلك.
وكذلك قوله تعالى: (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم
أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا) أي رحمهم
ثم تاب عليهم، وهذا التأويل أحسن من القول بزيادة " ثم ".
وحذف المعطوف عليه وإبقاء المعطوف سائغ، كقوله تعالى: (فقلنا اذهبا إلى القوم
الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا)، التقدير والله أعلم: فذهبا فبلغا، فكذبا
فدمرناهم، لأن المعنى يرشد إلى ذلك.
وكذا قوله تعالى: (ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم)،
أي فامتثلتم، أو فعلتم فتاب عليكم.
190

وقوله: (فلما أسلما وتله للجبين)، أي رحما وسعدا وتله. وابن عطية يجعل
التقدير: فلما أسلما أسلما، وهو مشكل.
وقوله: (واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا
يا ويلنا)، المعنى حتى إذا كان ذلك ندم الذين كفروا ولم ينفعهم، إيمانهم، لأنه من
الآيات والأشراط.
* * *
وقد يجيء في الكلام شرطان، ويحذف جواب أحدهما اكتفاء بالآخر كقوله تعالى:
(وأما إن كان من أصحاب اليمين) في الاعتراض به مجرى الظرف، لأن الشرط
وإن كان جملة، فإنه لما لم يقم بنفسه جرى مجرى الجزء الواحد، ولو كان عنده جملة لما جاز الفصل به
بين " أما " وجوابها، لأنه لا يجوز: أما زيد فمنطلق، وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لهما.
ونظيره: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم
منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا
منهم) فقوله: (لعذبنا) جواب للولا ولو جميعا.
واختار ابن مالك قول سيبويه أن الجواب " لأما " واستغنى به عن جواب " إن " لأن
الجواب لأول الشرطين المتواليين في قوله: (إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله
يريد أن يغويكم) ونظائره.
فإذا كان أول الشرطين " أما " كانت أحق بذلك لوجهين:
أحدهما: أن جوابها إذا انفردت لا يحذف أصلا، وجواب غيرها إذا انفرد يحذف كثيرا.
لدليل، وحذف ما عهد حذفه أولى من حذف ما لم يعهد.
191

والثاني: أن " أما " قد التزم معها حذف فعل الشرط، وقامت هي مقامة، فلو حذف
جوابها لكان ذلك إجحافا، وإن ليست كذلك. انتهى.
والظاهر أنه لا حذف في الآية الكريمة، وإما الشرط الثاني وجوابه جواب الأول،
والمحذوف إنما هو أحد الفاءين.
وقال الفارسي في قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك...) الآية: إنه حذف منه:
أعزنا ولا تذلنا.
وقال في قوله تعالى: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم)
تقديره " فكيف تجدونهم مسرورين " أو " محزونين "، ف‍ " كيف " في موضع نصب
بهذا الفعل المضمر، وهذا الفعل المضمر قد سد مسد جواب إذا.
حذف جواب القسم
لعلم السامع المراد منه، كقوله تعالى: (والنازعات غرقا. والناشطات نشطا.
والسابحات سبحا. فالسابقات سبقا. فالمدبرات أمرا. يوم ترجف الراجفة)
تقديره: لتبعثن ولتحاسبن، بدليل إنكارهم للبعث في قولهم: (أئنا لمردودون في
الحافرة).
وقيل: القسم وقع على قوله: (إن في ذلك لعبرة لمن يخشى).
وكقوله تعالى: (لن نؤثرك) وحذف لدلالة الكلام السابق عليه.
192

واختلف في جواب القسم في: (ص والقرآن ذي الذكر) فقال الزجاج:
(إن ذلك لحق تخاصم أهل النار)، واستبعده الكسائي.
وقال الفراء: قد تأخر كثيرا وجرت بينهما قصص مختلفة، فلا يستقيم ذلك
في العربية.
وقيل: (كم أهلكنا) ومعناه: لكم أهلكنا، وما بينهما اعتراض، وحذفت
اللام لطول الكلام.
وقال الأخفش: (إن كل إلا كذب الرسل) والمعترض بينهما قصة واحدة.
وعن قتادة: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق)، مثل: (ق. والقرآن المجيد.
بل عجبوا).
وقال صاحب النظم في هذا القول: معنى " بل " توكيد الأمر بعده، فصار مثل أن
الشديدة تثبت ما بعدها، وإن كان لها معنى آخر في نفي خبر متقدم، كأنه قال: إن الذين
كفروا في عزة وشقاق.
وقال أبو القاسم الزجاجي: إن النحويين قالوا: إن " بل " تقع في جواب القسم كما
تقع " إن " لأن المراد بها توكيد الخبر، وذلك في (ص والقرآن...) الآية. وفي (ق.
والقرآن...) الآية، وهذا من طريق الاعتبار، ويصلح أن يكون بمعنى " إن " لأنه
سائغ في كلامهم، أو يكون " بل " جوابا للقسم، لكن لما كانت متضمنة رفع خبر وإتيان خبر
بعده كانت أوكد من سائر التوكيدات، فحسن وضعها موضع " إن ".
193

وقيل: الجواب محذوف، أي والقرآن المجيد، ما الأمر كما يقول هؤلاء. أو الحق ما جاء به
النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الفراء في قوله تعالى: (إذا السماء انشقت) جوابه محذوف، أي فيومئذ
يلاقي حسابه.
وعن قتادة أن جوابه: (وأذنت لربها وحقت) يعني أن الواو فيها بمعنى السقوط،
كقوله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه)، أي ناديناه.
حذف الجملة
هي أقسام: قسم هي مسببة عن المذكور، وقسم هي سبب له، وقسم خارج عنهما،
فالأول: كقوله تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل) فإن اللام الداخلة على الفعل لابد
لها من متعلق، يكون سببا عن مدخول اللام، فلما لم يوجد لها متعلق في الظاهر وجب تقديره
ضرورة، فيقدر: فعل ما فعل ليحق الحق.
والثاني: كقوله تعالى: (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا)، فإن الفاء، إنما
تدخل على شيء مسبب عن شيء، ولا مسبب إلا له سبب، فإذا وجد المسبب - ولا سبب له
ظاهرا - أوجب أن يقدر ضرورة، فيقدر: فضربه فانفجر.
والثالث: كقوله تعالى: (فنعم الماهدون) أي نحن هم، أو هم نحن.
وقد يكون المحذوف أكثر من جملة كقوله تعالى: (فأرسلون. يوسف...) الآية،
فإن التقدير: " فأرسلون إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه لذلك، فجاء فقال له:
194

يا يوسف "، وإنما قلنا: إن هذا الكل محذوف، لأن قوله: (أرسلون) يدل لا محالة
على المرسل إليه، فثبت أن " إلى يوسف " محذوف. ثم إنه لما طلب الإرسال إلى يوسف
عند العجز الحاصل للمعبرين عن تعبير رؤيا الملك دل ذلك على أن المقصود من طلب الإرسال
إليه استعباره الرؤيا التي عجزوا عن تعبيرها ومنه قوله تعالى: (اذهب بكتابي هذا فألقه
إليهم...) الآية، فأعقب بقوله حكاية عنها: (قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلى
كتاب كريم) تقديره: فأخذ الكتاب فألقاه إليهم، فرأته بلقيس، وقرأته، و (قالت)
يا أيها الملأ).
وقوله: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا)، حذف يطول،
تقديره: فلما ولد يحيى ونشأ وترعرع قلنا: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة).
ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم موسى: (لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع
إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا. ألا تتبعن أفعصيت أمري).
وقوله: (فلما رآه مستقرا عنده) إلى قوله (نكروا لها عرشها).
وقوله: (أفمن شرح الله صدره للإسلام) أي كمن قسا قلبه ترك على ظلمه
وكفره، ودل على المحذوف قوله: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله).
ومن حذف الجملة قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض
خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) قيل: المعنى جاعل في الأرض خليفة
يفعل كذا وكذا، وإلا فمن أين علم الملائكة أنهم يفسدون! وباقي الكلام يدل
على المحذوف.
وقوله: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه)، قال
195

الفارسي: المعنى فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة:) واتقوا الله)، عطف على قوله:
" فاكرهوا " وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه، كقوله تعالى: (فانفجرت)، أي
فضرب فانفجرت. فقوله: (كرهتموه) كلام مستأنف، وإنما دخلت الفاء لما في الكلام
من معنى الجواب، لأن قوله: (أيحب أحدكم) كأنهم قالوا في جوابه: لا، فقال: فكرهتموه،
أي فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة.
قال ابن الشجري: وهذا التقدير بعيد، لأنه قدر المحذوف موصولا، وهو " ما "
المصدرية، وحذف الموصول، وإبقاء صلته ضعيف، وإنما التقدير: فهذا كرهتموه، والجملة
المقدرة المحذوفة ابتدائية لا أمرية، والمعنى: فهذا كرهتموه والغيبة مثله، وإنما قدرها أمرية
ليعطف عليها الجملة الأمرية، في قوله: (واتقوا الله).
حذف القول
قد كثر في القرآن العظيم حتى إنه في الإضمار بمنزلة الإظهار، كقوله تعالى: (والذين
اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، أي يقولون:
ما نعبدهم إلا للقربة.
ومنه: (ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا)، أي وقلنا كلوا، أو قائلين.
وقوله: (قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا)، أي قلنا.
(وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا)، أي وقلنا: خذوا.
196

(وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)،
أي وقلنا: اتخذوا.
وقوله: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا)، أي
يقولان: ربنا. وعليه قراءة عبد الله.
(فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم)، أي فيقال لهم، لأن " أما "
لا بد لها في الخبر من فاء، فلما أضمر القول أضمر الفاء.
وقوله: (وعندهم قاصرات الطرف أتراب. هذا ما توعدون)، أي
يقال لهم هذا.
وقوله: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم)، أي
يقولون سلام.
وقوله: (وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم)، أي يقولون لهم ذلك.
وقوله، (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم)، أي يقولون ما نعبدهم.
وقوله: (فضلتم تفكهون. إنا لمغرمون)، أي يقولون إنا لمغرمون،
أي معذبون، وتفكهون: تندمون.
وقوله: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا
وسمعنا) أي يقولون ربنا.
197

وقوله: (ماذا قال ربكم قالوا الحق)، أي قالوا: قال الحق.
حذف الفعل
وينقسم إلى عام وخاص:
[الخاص]
فأخاص نحو " أعني " مضمرا، وينتصب المفعول به في المدح، نحو (والصابرين
في البأساء والضراء)، وقوله: (والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة)،
أي أمدح.
واعلم أنه إذا كان المنعوت متعينا لم يجز تقدير ناصب نعته بأعني، نحو الحمد لله الحميد،
بل المقدر فيه، وفي نحوه أذكر أو أمدح، فاعرف ذلك. والذم نحو قوله تعالى: (وامرأته
حمالة الحطب)، في قراءة النصب، والأخفش ينصب في المدح بأمدح، وفي
الذم بأذم.
واعلم أن مراد المادح إبانة الممدوح من غيره، فلا بد من إبانة إعرابه عن غيره، ليدل
اللفظ على المعنى المقصود، ويجوز فيه النصب بتقدير أمدح، والرفع على معنى " هو "، ولا
يظهران لئلا يصيرا بمنزلة الخبر.
والذي لا مدح فيه فاختزال العامل فيه واجب، كاختزاله في " والله لأفعلن "، إذ
لو قيل: " أحلف بالله " لكان عدة لا قسما.
198

[العام]
والعام كل منصوب دل عليه الفعل لفظا، أو معنى، أو تقديرا. ويحذف لأسباب:
* * *
أحدها: أن يكون مفسرا، كقوله تعالى: (إذا السماء انشقت)، (وإياي
فارهبون).
ومنه: (أبشرا منا واحدا نتبعه). (والسماء رفعها). (إذا الشمس
كورت). (وإن أحد من المشركين استجارك). (وإن طائفتان)
فإنه ارتفع ب‍ " اقتتل " مقدرا.
قالوا: ولا يجوز حذف الفعل مع شيء من حروف الشرط العاملة، سوى " إن "
لأنها الأصل.
وجعل ابن الزملكاني هذا مما هو دائر بين الحذف والذكر، فإن الفعل المفسر
كالمتسلط على المذكور، ولكن لا يتعين إلا بعد تقدم إبهام، ولقد يزيده الإضمار إبهاما،
إذا لم يكن المضمر من جنس الملفوظ به، نحو: (والظالمين أعد لهم عذابا أليما).
* * *
الثاني: أن يكون هناك حرف جر، نحو (بسم الله الرحمن الرحيم) فإنه يفيد
199

أن المراد: بسم الله أقرأ أو أقوم، أو أقعد عند القراءة، وعند الشروع في القيام أو القعود،
أي فعل كان.
واعلم أن النحاة اتفقوا على أن " بسم الله " بعض جملة، واختلفوا.
فقال البصريون: الجملة اسمية، أي ابتدائي بسم الله.
وقال الكوفيون: الجملة فعلية، وتابعهم الزمخشري في تقدير الجملة فعلية، ولكن
خالفهم في موضعين: أحدهما أنهم يقدرون الفعل مقدما، وهو يقدره مؤخرا. والثاني:
أنهم يقدرونه فعل البداية، وهو يقدره في كل موضع بحسبه، فإذا قال الذابح: بسم الله،
كان التقدير: بسم الله أذبح، وإذا قال القارئ: بسم الله، فالتقدير: بسم الله أقرأ.
وما قال أجود مما قالوا: لأن مراعاة المناسبة أولى من إهمالها، ولأن اسم الله
أهم من الفعل، فكان أولى بالتقديم، ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
" باسمك ربي وضعت جنبي "، فقدم اسم الله على الفعل المتعلق ثم الجار، وهو
" وضعت ".
* * *
الثالث: أن يكون جوابا لسؤال وقع، كقوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق
السماوات والأرض ليقولن الله).
وقوله: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيى به الأرض من بعد موتها
ليقولن الله).
وقوله: (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم) أي بل نتبع.
200

أو جوابا لسؤال مقدر، كقراءة: (يسبح له فيها بالغدو والآصال. رجال)
ببناء الفعل للمفعول، فإن التقدير: يسبحه رجال.
وفيه فوائد: منها الإخبار بالفعل مرتين. ومنها جعل الفضلة عمدة.
ومنها: أن الفاعل فسر بعد اليأس منه كضالة وجدها بعد اليأس، ويصح أن
يكون " يسبح " بدل من " يذكر " على طريقة: (سبح اسم ربك الأعلى)
و " له فيها " خبر مبتدأ هو " رجال ".
مثله قراءة من قرأ: (زين لكثير من المشركين قتل أولادهم
شركاؤهم)، قال أبو العباس: المعنى زينه شركاؤهم، فيرفع الشركاء بفعل مضمر
دل عليه " زين ".
ومثله قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء) إن جعلنا قوله " لله شركاء " مفعولي
" جعلوا "، لأن " لله " في موضع الخبر المنسوخ، وشركاء نصب في موضع المبتدأ.
وعلى هذا فيحتمل وجهين: أحدهما أن يكون مفعولا بفعل محذوف دل عليه سؤال مقدر،
كأنه قيل: أجعلوا لله شركاء؟ قيل جعلوا الجن، فيفيد الكلام إنكار الشريك مطلقا،
فدخل اعتقاد الشريك من غير الجن في إنكار دخول اتخاذه من الجن.
والثاني: ذكره الزمخشري أن الجن بدل من " شركاء "، فيفيد إنكار الشريك
مطلقا، كما سبق، وإن جعل " لله " صلة كان " شركاء الجن " مفعولين، قدم ثانيهما على
أولهما، وعلى هذا فلا حذف.
فأما على الوجه الأول فقيل: (وجعلوا لله شركاء الجن)، ولم يقل: " وجعلوا
201

الجن شركاء لله " تعظيما لاسم الله تعالى، لأن شأن الله أعظم في النفوس، فإذا قدم " لله "
والكلام فيه يستدعي طلب المجعول له ما هو؟ فقيل: شركاء وقع في غاية التشنيع،
لأن النفس منتظرة لهذا المهم المعلق بهذا المعظم نهاية التعظيم، فإذا علم أنه علق به هذا
المستبشع في النهاية، كان أعظم موقعا من العكس، لأنه إذا قيل: وجعلوا شركاء لم يعطه
تشوف النفوس، لجواز أن يكون: جعلوا شركاء في أموالهم وصدقاتهم أو غير ذلك.
الثالث: أن الجعل غالبا لا يتعلق بالله ويخبر به إلا وهو جعل مستقبح كاذب، إذ لا
يستعمل جعل الله رحمة ومشيئة وعلما، ونحوه لا سيما بالاستقراء القرآني، ك‍ (ويجعلون لله
البنات) (ويجعلون لله ما يكرهون) إلى غير ذلك.
الرابع: أن أصل الجعل وإن جاز إسناده إلى الله فيما إذا كان الأمر لائقا، فإن بابه
مهول، لأن الله تعالى قد علمنا عظيم خطره، وألا نقول فيه إلا بالعلم، كقوله: (وأن
تقولوا على الله ما لا تعلمون) (وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا)، إلى غير
ذلك، مع ما دل عليه الأدب عقلا، وكان نفس الجعل مستنكرا إن لم يتبع بمجعول لائق،
فإذا أتبع بمجعول غير لائق منهم ثم فسر بخاص مستنكر، صار قوله: (وجعلوا لله
شركاء الجن) في قوة إنكار ذلك ثلاث مرات: الأول جسارتهم في أصل الجعل،
الثاني في كون المجعول شركاء، الثالث في أنهم شركاء جن.
الخامس: أن في تقديم " لله " إفادة تخصيصهم إياه بالشركة على الوجه الثالث، دون
جميع ما يعبدون، لأنه الإله الحق.
السادس: أنه جئ بكلمة " جعلوا " لا " اعتقدوا " ولا " قالوا " لأنه أدل على
إثبات المعتقد، لأنه يستعمل في الخلق والإبداع.
202

السابع: كلمة " شركاء " ولم يقل " شريكا " وفاقا لمزيد ما فتحوا من اعتقادهم.
الثامن: لم يقل " جنا "، وإنما قال " الجن "، دلالة على أنهم اتخذوا الجن كلها
وجعلوه من حيث هو صالح لذلك، وهو أقبح من التنكير الذي وضعه للمفردات المعدولة.
* * *
الرابع: أن يدل عليه معنى الفعل الظاهر، كقوله تعالى: (انتهوا خيرا لكم)،
أي وائتوا أمرا خيرا لكم، فعند سيبويه أن " خيرا " انتصب بإضمار " ائت " لأنه
لما نهاه علم أنه يأمره بما هو خير، فكأنه قال: " وأتوا خيرا "، لأن النهي عن الشيء
أمر بضده، ولأن النهي تكليف، وتكليف العدم محال، لأنه ليس مقدورا، فثبت أن
متعلق التكليف أمر وجودي، ينافي المنهى عنه وهو الضد.
وحمله الكسائي على إضمار " كان " أي يكن الانتهاء خيرا لكم. ويمنعه إضمار
كان، ولا تضمر في كل موضع، ومن جهة المعنى إذ من ترك ما نهى عنه فقد سقط عنه اللوم،
وعلم أن ترك المنهي عنه خير من فعله، فلا فائدة في قوله " خيرا ".
وحمله الفراء على أنه صفة لمصدر محذوف، أي انتهوا انتهاء خيرا لكم. وقال: إن
هذا الحذف لم يأت إلا فيما كان أفعل، نحو خير لك، وأفعل.
ورد مذهبه ومذهب الكسائي بقوله تعالى: (ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا
لكم)، لو حمل على ما قالا لا يكون خيرا، لأن من انتهى عن التثليث وكان معطلا
لا يكون خيرا له. وقول سيبويه وائت خيرا يكون أمرا بالتوحيد الذي هو خير.
فلله در الخليل وسيبويه، ما أطلعهما على المعاني!
203

وقوله: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم)، إن لم يجعل مفعولا معه، أي وادعوا
شركاءكم، وبإظهار " ادعوا " قرأ أبي، وكذلك هو مثبت في مصحف ابن مسعود.
وقوله تعالى: (فراغ عليهم ضربا باليمين)، قال ابن الشجري: معناه
مال عليهم يضربهم ضربا. ويجوز نصبه على الحال، نحو أتيته مشيا، أي ماشيا.
(ثم ادعهن يأتينك سعيا) أي ساعيات. وقوله: " باليمين " إما اليد أو القوة.
وجوز ابن الشجري إرادة القسم والباء للتعليل، أي لليمين التي حلفها، وهي قوله تعالى:
(لأكيدن أصنامكم).
وزعم النووي في قوله تعالى: (قل لا تقسموا طاعة معروفة)، أن التقدير
ليكن منكم طاعة معروفة.
* * *
الخامس: أن يدل عليه العقل كقوله تعالى: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر
فانفجرت)، أي فضرب فانفجرت.
وقوله: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر. ففتحنا)، قال النحاس: التقدير
فنصرناه ففتحنا أبواب السماء، لأن ما ظهر من الكلام يدل على ما حذف.
وقوله: (يمده من بعده سبعة أبحر) أي يكتب بذلك كلمات الله ما نفدت،
قاله أبو الفتح:
وقوله: (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم).
فقوله: " ثم أحياهم " معطوف على فعل محذوف تقديره فماتوا ثم أحياهم، ولا يصح
204

عطف قوله: " ثم أحياهم " على قوله: " موتوا " لأنه أمر، وفعل الأمر لا يعطف
على الماضي.
وقوله: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين)، أي فاختلفوا فبعث،
وحذف لدلالة قوله: (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)، وهي في قراءة
عبد الله كذلك.
وقيل: تقديره كان الناس أمة واحدة كفارا، فبعث الله النبيين، فاختلفوا.
والأول أوجه.
وقوله: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم)، فالهمزة للإنكار، والواو
للعطف، والمعطوف عليه محذوف تقديره: أكذبتم وعجبتم أن جاءكم.
وقوله: (قال نعم وإنكم لمن المقربين)، هو معطوف على محذوف
سد مسده حرف الإيجاب، كأنه قال إيجابا لقولهم: (إن لنا لأجرا)، نعم إن لكم
أجرا وإنكم لمن المقربين.
وقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر)، أي فأفطر فعدة، خلافا
للظاهرية حيث أوجبوا الفطر على المسافر أخذا من الظاهر.
وقوله: (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية)، أي
فحلق ففدية.
وقوله: (فقلنا اضربوه ببعضها)، قال الزمخشري: التقدير فضربوه فحيى،
205

فحذف ذلك لدلالة قوله: (كذلك يحيى الله الموتى).
وزعم ابن جنى أن التقدير في قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد) أن التقدير فكيف يكون إذا جئنا.
* * *
السادس: أن يدل عليه ذكره في موضع آخر، كقوله: (وإذ قتلتم نفسا)،
قال الواحدي: هو بإضمار " اذكر "، ولهذا لم يأت لإذ بجواب. ومثله قوله تعالى:
(وإلى ثمود أخاهم صالحا)، وليس شيء قبله تراه ناصبا ل‍ " صالحا " بل علم بذكر
النبي والمرسل إليه أن فيه إضمار " أرسلنا ".
وقوله: (ولسليمان الريح) أي وسخرنا.
ومثله: (ونوحا إذ نادى من قبل) (وذا النون).
وكذا: (وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث)، أي واذكر.
قال: ويدل على " اذكر " في هذه الآيات قوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم
قليل مستضعفون في الأرض)، (وإذ كروا إذ كنتم قليلا فكثركم).
وما قاله ظاهر، إلا أن مفعول " اذكر " يكون محذوفا أيضا تقديره: " واذكروا
أخالكم " ونحوه إذا كان كذا، وذلك ليكون " إذ " في موضع نصب على الظرف، ولو لم
يفد ذلك المحذوف لزم وقوع " إذ مفعولا به، والأصح أنها لا تفارق الظرفية.
* * *
206

السابع: المشاكلة، كحذف الفاعل في " بسم الله " لأنه موطن لا ينبغي أن يتقدم
فيه سوى ذكر الله، فلو ذكر الفعل وهو لا يستغني عن فاعله كان ذلك مناقضا للمقصود
وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى، ليكون المبدوء به اسم الله، كما تقول في الصلاة:
الله أكبر، ومعناه " من كل شئ "، ولكن لا تقول هذا المقدر ليكون اللفظ في
اللسان مطابقا لمقصود الجنان، وهو أن يكون في القلب ذكر الله وحده. وأيضا فلأن
الحذف أعم من الذكر، فإن أي فعل ذكرته كان المحذوف أعم منه، لأن التسمية
تشرع عند كل فعل.
الثامن: أن يكون بدلا من مصدره، كقوله تعالى: (فضرب الرقاب)، وقوله
(فإما منا بعد وإما فداء)، أي فإما أن تمنوا، وإما أن تفادوا.
وقد اختلف في نصب " السلام " في قوله تعالى في سورة هود: (ولقد جاءت رسلنا
إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما) وفي الذاريات: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم
المكرمين. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما)، وفي نصبها وجهان:
أحدهما: أن يكون منصوبا بالقول، أي يذكرون قولا " سلاما " فيكون من باب:
قلت حقا وصدقا.
الثاني: أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره: فقالوا سلمنا سلاما، أي سلمنا
تسليما، فيكون قد حكى الجملة بعد القول، ثم حذفها واكتفى ببعضها.
والحاصل أنه هل هو منصوب بالقول، أو بكونه مصدرا لفعل محذوف؟.
ومثله قوله تعالى: (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا)،
207

منصوب، " بقالوا " كقولك فقلت حقا، أو منصوب بفعل مضمر أي قالوا: أنزل خيرا، فيكون
من باب حذف الجملة المحكية وتبقية بعضها.
وأما قوله تعالى: (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين)
فمرفوع، لأنه لا يمكن نصبه على تقدير " قالوا أساطير الأولين "، لأنهم لم يكونوا يرونه
من عند الله حتى يقولوا ذلك، ولا هو أيضا من باب: قلت حقا وصدقا، فلم يبق إلا رفعه.
تنبيه
قد يشتبه الحال في أمر المحذوف وعدمه لعدم تحصيل معنى الفعل، كما قالوا في قوله
تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى)،
فإنه قد يظن أن الدعاء فيه بمعنى النداء، فلا يقدر في الكلام حذف، وليس كذلك،
وإلا لزم الاشتراك إن كانا متفاوتين، أو عطف الشيء على نفسه، وإنما الدعاء هنا بمعنى
التسمية التي تتعدى لمفعولين، أي سموه الله أو الرحمن.
وقد يشتبه في تعيين المحذوف لقيام قرينتين، كقوله تعالى: (بلى قادرين)
قدره سيبويه ب‍ " بلى نجمعها قادرين "، فقادرين حال وحذف الفعل لدلالة: (أن لن
نجمع) عليه.
وقدره الفراء " نحسب " لدلالة (أيحسب الانسان) أي بلى تحسبنا قادرين.
208

وتقدير سيبويه أولى، لأن " بلى " ليس جوابا ل‍ " يحسب " إنما هو جواب ل‍ " أن لن نجمع "
وقدره بعضهم: بلى نقدر قادرين.
وقيل: منصوب، لوقوعه موقع الفعل، وهو باطل، لأنه ليس من نواصب الاسم وقوعه
موقع الفعل.
تنبيه آخر
إن الحذف على ضربين: أحدهما ألا يقام شيء مقام المحذوف كما سبق. والثاني: أن
يقام مقامه ما يدل عليه، كقوله تعالى: (فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به
إليكم)، ليس الإبلاغ هو الجواب لتقدمه على قولهم، والتقدير: فإن تولوا
فلا ملام على، لأني قد أبلغتكم.
وقوله: (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك)، فلا تحزن واصبر.
وقوله: (وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) أي يصيبهم ما أصاب الأولين.
حذف الحرف
قال أبو الفتح في " المحتسب ": أخبرنا أبو علي قال: قال أبو بكر بن السراج:
حذف الحرف ليس يقاس، وذلك لأن الحرف نائب عن الفعل بفاعله، ألا تراك إذا قلت:
ما قام زيد، فقد نابت " ما " عن أنفي كما نابت " إلا " عن أستثني، وكما نابت الهمزة
وهل عن " أستفهم "، وكما نابت حروف العطف عن أعطف، ونحو ذلك. فلو ذهبت
209

تحذف الحرف، لكان ذلك اختصارا، واختصار المختصر إجحاف به، إلا إذا صح
التوجه إليه، وقد جاز في بعض الأحوال حذفه لقوة الدلالة عليه. انتهى.
فمنه الواو، تحذف لقصد البلاغة، فإن في إثباتها ما يقتضى تغاير المتعاطفين، فإذا حذفت
أشعر بأن الكل كالواحد: كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من
دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي
صدورهم أكبر)، تقديره: ولا يألونكم خبالا.
وقوله تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة)، أي ووجوه.
وخرج عليه الفارسي قوله تعالى: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد
ما أحملكم عليه تولوا...) الآية. وقال: تقديره: " وقلت لا أجد "، فهو معطوف
على قوله: " أتوك " لأن جواب " إذا " قوله: (تولوا).
ومنعه ابن الشجري في أماليه، وعلى هذا فلا موضع له من الإعراب، لأنه معطوف
على الصلة، والصلة لا موضع لها من الإعراب، فكذلك ما عطف عليها.
وقال الزمخشري: هي حال من الكاف في " أتوك "، و " قد " قبله مضمرة كما في قوله:
(أو جاؤوكم حصرت صدورهم) أي إذا ما أتوك قائلا: لا أجد تولوا. وعلى هذا فله
موضع من الإعراب لأنه حال.
قال السهيلي في أماليه: ليس معنى الآية كما قالوا، لأن رفع الحرج عن القوم ليس
مشروطا بالبكاء عند التولي، وإنما شرطه عدم الجدة، والآية نزلت في السبعة الذين سمى
أبو إسحاق، ولو كان جواب " إذا أتوك " في قوله: (تولوا وأعينهم تفيض) لكان
من لم تفض عيناه من الدمع هو الذي حرج وأثم، وما رفع الله الحرج عنهم إلا لأن الرسول
210

لم يجد ما يحملهم عليه. وإذا عطفت " قلت لا أجد " على " أتوك " كان الحرج غير مرفوع
عنهم حتى يقال: (وأعينهم تفيض)، فجواب " إذا " في قوله " لا أجد "، وما بعد
ذلك خبر ونبأ على هؤلاء السبعة الذين كانوا سبب نزول هذه الآية، ففضيلة البكاء
مخصوصة بهم، ورفع الحرج بشرط عدم الجدة عام فيهم وفي غيرهم.
وقال الواحدي في قوله تعالى: (قالوا اتخذ الله ولدا): آية البقرة في مصاحف الشام
بغير واو، يعني قراءة ابن عامر، لأن هذه الآية ملابسة لما قبلها من قوله: (ومن أظلم
ممن منع مساجد الله) لأن القائلين: " اتخذ الله ولدا " من جملة المتقدم ذكرهم، فيستغنى
عن ذكر الواو لالتباس الجملة بما قبلها، كما استغنى عنها في نحو قوله: (والذين كفروا
وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) ولو كان " وهم " كان حسنا،
إلا أن التباس إحدى الجملتين بالأخرى وارتباطها بها أغنى عن الواو.
ومثله: (سيقولون ثلاثة رابعهم) ولم يقل: " ورابعهم " كما قال:
(وثامنهم) ولو حذف الواو منها كما حذف من التي قبلها واستغنى عن الواو بالملابسة
التي بينهما كان حسنا. ويمكن أن يكون حذف الواو لاستئناف الجملة، ولا يعطف على
ما تقدم. انتهى.
وحصل من كلامه أنه عند حذف الواو يجوز أن يلاحظ معنى العطف، ويكتفى
للربط بينها وبين ما قبلها بالملابسة كما ذكر. ويجوز ألا يلاحظ ذلك، فتكون
الجملة مستأنفة.
قال ابن عمرون: وحذف الواو في الجمل أسهل منه في المفرد، وقد كثر حذفها في الجمل
211

في الكلام المحمول بعضه على بعض، نحو قوله تعالى: (قال لو فرعون وما رب العالمين.
قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. قال لمن حوله ألا
تستمعون. قال ربكم ورب آبائكم الأولين. قال إن رسولكم الذي أرسل
إليكم لمجنون. قال رب المشرق والمغرب) كله محمول بعضه على بعض، والواو
مزادة، حذفت لاستقلال الجمل بأنفسها بخلاف المفرد، ولأنه في المفرد ربما أوقع لبسا
في نحو " رأيت زيدا ورجلا عاقلا "، ولو جاز حذف الواو احتمل أن يكون " رجلا "
بدلا بخلاف الجملة.
وقريب منه قوله تعالى: (فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون)،
أي " وقال ".
ومنه الفاء في جواب الشرط على رأى، وخرج عليه قوله تعالى: (إن ترك خيرا
الوصية) أي فالوصية.
والفاء في العطف كقوله: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا
قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) تقديره " فقال أعوذ بالله "، ذكره
ابن الشجري في أماليه.
وقوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله) حذف حرف
العطف من قوله: " قال "، ولم يقل: " فقال " كما في قصة نوح، لأنه على تقدير
سؤال سائل قال: ما قال لهم هود؟ فقيل: قال يا قوم اعبدوا الله واتقوه.
212

ومنه حذف همزة الاستفهام، كقوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا
قال هذا ربي)، أي أهذا ربي؟
وقوله: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) أي أفمن نفسك!
وقوله: (وتلك نعمة تمنها علي) أي أو تلك نعمة؟
وقوله: (إنك لأنت يوسف) على قراءة ابن كثير بكسر الهمزة، على خلاف
في ذلك جميعه.
ومنه حذف ألف ما الاستفهامية مع حرف الجر للفرق بين الاستفهامية والخبرية كقوله
تعالى: (فلم تقتلون أنبياء الله) (فيم أنت من ذكراها) (عم يتساءلون)
و (مم خلق).
ومنه حذف الياء في (والليل إذا يسر) للتخفيف ورعاية الفاصلة.
ومنه حذف حرف النداء، كقوله: (ها أنتم هؤلاء)، أي يا هؤلاء.
وقوله: (يوسف)، أي يا يوسف.
وقوله: (رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس)، أي يا رب.
ويكثر في المضاف نحو: (فاطر السماوات الذي) (ربنا أنزل علينا مائدة).
وكثر ذلك في نداء الرب سبحانه، وحكمة ذلك دلالته على التعظيم والتنزيه، لأن النداء
يتشرب معنى الأمر، لأن إذا قلت: يا زيد، فمعناه أدعوك يا زيد، فحذفت " يا " من نداء
الرب، ليزول معنى الأمر، ويتمحص التعظيم والإجلال.
213

وقال الصفار: يجوز حذف حرف النداء من المنادى، إلا إذا كان المنادى نكرة مقبلا
عليها، إذ لا دليل عليه، وإلا إذا كان اسم إشارة.
ومنه حذف " لو " في قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا
لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض)، تقديره: لو كان معه إله لذهب
كل إله بما خلق.
وقوله: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب
المبطلون)، معناه لو كان كذلك لارتاب المبطلون.
ومنه حذف " قد " في قوله تعالى: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)، أي
وقد اتبعك، لأن الماضي لا يقع موقع الحال إلا و " قد " معه ظاهرة أو مقدرة.
ومثلها: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) أي وقد كنتم.
وقوله: (أو جاؤوكم حصرت صدورهم) قيل معناه " قد حصرت " بدلالة
قراءة يعقوب. " حصرة صدورهم ". وقال الأخفش: الحال محذوفة، و " حصرت
صدورهم " صفتها، أي جاؤوكم يوما حصرت، دعاء عليهم بأن تحصر صدورهم عن قتالهم
لقومهم طريقته قاتلهم الله. ورده أبو علي بقوله أي قاتلوا قومهم فلا يجوز أن يدعى عليهم
بأن تحصر صدورهم عن قتالهم لقومهم، لكن بقول: اللهم ألق بأسهم بينهم.
ومنه حذف " أن " في قوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا)،
المعنى أن يريكم.
214

وحذف " لا " في قوله: " تالله تفتأ تذكر)، أي لا تفتأ، لأنها ملازمة للنفي،
ومعناها لا تبرح.
وقوله: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم)، أي لا تميد.
وقوله: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك)، أي لا تبوء.
وبهذا يزول الإشكال من الآية: (وعلى الذين يطيقونه فدية) أي
لا يطيقونه، على قول.
فائدة
[في حذف الجار ثم إيصال الفعل إلى المجرور]
كثر في القرآن حذف الجار، ثم إيصال الفعل إلى المجرور به، كقوله تعالى: (واختار
موسى قومه)، أي من قومه.
(ورفع بعضهم درجات).
(ولا تعزموا عقدة النكاح)، أي على عقدة.
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه)، أي يخوفكم بأوليائه، ولذلك قال:
(فلا تخافوهم).
(ويبغونها عوجا)، أي يبغون لها.
215

(والقمر قدرناه) أي قدرنا له.
(سنعيدها سيرتها) أي على سيرتها.
فصل
[فيما حذف في آية وأثبت في أخرى]
من الأنواع ما حذف في آية، وأثبت في أخرى، وهو قسمان:
أحدهما: أن يكون ما حذف منه محمولا على المذكور، كالمطلق في الرقبة في كفارة
الظهار، مقيدا بالمؤمنة في كفارة القتل.
وكقوله: (وجنة عرضها السماوات والأرض) قيدت بالتشبيه في موضع آخر.
ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من
الغمام والملائكة) وقوله في سورة النحل: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة
أو يأتي أمر ربك)، فإن هذه تقتضي أن الأولى على حذف مضاف.
* * *
216

والقسم الثاني: لا يكون مرادا. فمنه قوله تعالى في سورة المؤمنين: (لكم فيها
فواكه كثيرة ومنها تأكلون)، وفي الزخرف: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها
تأكلون).
وقوله في البقرة: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) وفي
سورة الأعراف: (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون).
وحكمته أنه قد اختلف الخبران في سورة البقرة، فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين
في الأعراف، فإنهما متفقان، لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم واحد، فكانت
الجملة الثالثة مقررة ما في الأولى فهي من العطف بمعزل.
ومنه قوله تعالى في البقرة: (إن الذين كفروا سواء عليهم) وقال في يس: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) مع العاطف، وحكمته أن ما في يس وما بعده
جملة معطوفة على جملة أخرى، فاحتاجت إلى العاطف. والجملة هنا ليست معطوفة،
فهي من العطف بمعزل.
ومنه قوله تعالى: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم) فأثبت الواو في
الأعراف، وحذفها في الكهف، فقال: (وإن تدعهم إلى الهدى) والفرق بينهما
أن الذي في الأعراف خطاب لجمع، وأصله " تدعونهم "، حذفت للجزم، والتي في
الكهف خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو واحد، وعلامة الجزم فيه سقوط الواو.
ومنه في آل عمران: (جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير) وفي فاطر:
217

(جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير) والفرق أن الأولى
حذفت الباء فيها للاختصار استغناء بالتي قبلها، والثانية وخرجت عن الأصل للتوكيد،
وتقدير المعنى كما تقول: مررت بك وبأخيك وبأبيك، إذا اختصرت.
ومنه قوله في قصة ثمود: (ما أنت إلا بشر مثلنا)، وفي قصة شعيب:
(وما أنت)، بالواو، والفرق أن الأولى جرى على انقطاع الكلام عند النحويين،
واستئناف (ما أنت)، فاستغنى عن الواو لما تقرر من الابتداء، وفي الثانية جرى في
العطف، وأن يكون قوله (وما أنت) معطوفا على (إنما أنت).
ومنه قوله تعالى في سورة النحل: (ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما
يمكرون)، وفي سورة النمل (ولا تكن في ضيق)، بإثبات النون،
وحكمته أن القصة لما طالت في سورة النحل ناسب التخفيف بحذف النون، بخلافه في سورة
النمل، فإن الواو استئنافية، ولا تعلق لها بما قبلها.
وقوله في البقرة: (فلا تكونن من الممترين)، وفي آل عمران: (فلا تكن
من الممترين)، وحكمته أن الخطاب في البقرة لليهود وهم أشد جدالا.
ومنه قوله في الأعراف: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) وفي الأنعام:
(يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم
لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا).
218

ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: (ويقتلون النبيين بغير الحق)، وفي سورة
آل عمران: (بغير حق). والحكمة فيه أن الجملة في آل عمران خرجت مخرج
الشرط، وهو عام، فناسب أن يكون النفي بصيغة التنكير، حتى يكون عاما، وفي سورة
البقرة جاء عن أناس معهودين، وهو قوله تعالى: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون
بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق)، فناسب أن يؤتى بالتعريف، لأن الحق
الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفا، كقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها
أن النفس بالنفس)، فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف، بخلاف
ما في سورة آل عمران.
ومنه قوله تعالى في هود حاكيا عن شعيب: (ويا قوم اعملوا على مكانتكم
إني عامل سوف تعلمون)، وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقول لقريش:
(ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون).
ويمكن أن يقال: لما كررت مراجعته لقومه، ناسب اختصاص قصته بالاستئناف
الذي هو أبلغ في الإنذار والوعيد، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فكانت مدة إنذاره لقومه
قصيرة، فعقب عملهم على مكافأتهم بوعيدهم بالفاء، إشارة إلى قرب نزول الوعيد لهم
بخلاف شعيب، فإنه طالت مدته في قومه، فاستأنف لهم ذكر الوعيد.
ولعل قوم شعيب سألوه السؤال المتقدم، فأجابهم بهذا الجواب، والفاء لا تحسن فيه،
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك جوابا للسؤال، ولا يحسن معه الحذف.
ومنه أنه تعالى قال في خطاب المؤمنين: (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من
219

عذاب أليم)، إلى أن قال: (يغفر لكم ذنوبكم)، وقال في خطاب
الكافرين: (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم)، (يا قومنا أجيبوا داعي الله
وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم).
قال الزمخشري في تفسير سورة إبراهيم: ما علمته جاء الخطاب هكذا في القرآن
إلا في خطاب الكافرين، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوي بين الفريقين
في الميعاد.
واعترض الإمام فخر الدين بأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا
الجواب، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا.
وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان في تفسيره: ويقال: ما فائدة الفرق في الخطاب
والمعنى مشترك؟ إذ الكافر إذا آمن والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران، وما تخيلت فيه
مغفرة بعض الذنوب من الكافر إذا هو آمن، موجود في المؤمن إذا تاب.
وسيأتي بسط الكلام على ذلك في آخر الكتاب.
الإيجاز
وهو قسم من الحذف، ويسمى إيجاز القصر، فإن الإيجاز عندهم قسمان: وجيز بلفظ،
ووجيز بحذف.
220

فالوجيز باللفظ أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدر المعهود عادة،
وسبب حسنه أنه يدل على التمكن في الفصاحة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " أوتيت
جوامع الكلم ".
واللفظ لا يخلو إما أن يكون مساويا لمعناه وهو المقدر، أو أقل منه وهو المقصور.
أما المقدر فكقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان...) الآية.
وقوله: (قتل الانسان ما أكفره)، وهو كثير.
وأما المقصور، فإما أن يكون نقصان لفظه عن معناه لاحتمال لفظه لمعان كثيرة، أولا.
* * *
الأول كاللفظ المشترك الذي له مجازان، أو حقيقة ومجاز إذا أريد معانيه، كما في قوله
تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي)، فإن الصلاة من الله مغايرة للصلاة
من الملائكة، والحق أنه من القدر المشترك وهو الاعتناء والتعظيم.
وكذلك قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات...) الآية،
فإن السجود في الكل يجمعه معنى واحد، وهو الانقياد.
* * *
والثاني كقوله: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين).
وقوله: (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
221

وكذلك قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)، إذ معناه كبير،
ولفظه يسير.
وقد نظر لقول العرب: " القتل أنفى للقتل "، وهو بنون ثم فاء، ويروي بتاء ثم قاف،
ويروي " أوقى ". والمعنى أنه إذا أقيم وتحقق حكمه خاف من يريد قتل أحد أن يقتص منه،
وقد حكاه الحوفي في تفسيره عن علي بن أبي طالب، وقال: قول علي في غاية البلاغة، وقد
أجمع الناس على بلاغته وفصاحته، وأبلغ منه قوله تعالى: (ولكم في القصاص
حياة) وقد تكلموا في وجه الأبلغية، انتهى.
وقد أشار صاحب " المثل السائر " إلى إنكار ذلك، وقال: لا نسبة بين كلام الخالق
عز وجل وكلام المخلوق، وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك، وهو كما قال،
وكيف يقابل المعجز بغيره مفاضلة، وهو منه في مرتبة العجز عن إدراكه:
وماذا يقول القائلون إذا بدا * جمال خطاب فات فهم الخلائق
وجملة ما ذكروا في ذلك وجوه:
أحدها أن قوله (القصاص حياة) أوجز، فإن حروفه عشرة، وحروف " القتل أنفى
للقتل " أربعة عشر حرفا، والتاء وألف الوصل ساقطان لفظا، وكذا التنوين لتمام الكلام
المقتضى للوقف.
الثاني: أن قولهم فيه كلفة بتكرير القتل، ولا تكرير في الآية.
الثالث: أن لفظ " القصاص "، فيه حروف متلائمة، لما فيه من الخروج من القاف
إلى الصاد، إذ القاف من حروف الاستعلاء، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق،
222

بخلاف الخروج من القاف إلى التاء، التي هي حرف منخفض، فهو غير ملائم، وكذا
الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد ما دون طرف
اللسان وأقصى الحلق.
الرابع: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك تكرير
القاف والفاء.
الخامس: تكرير ذلك في كلمتين متماثلتين بعد فصل طويل، وهو ثقل في الحروف
أو الكلمات.
السادس: الإثبات أول والنفي ثان عنه، والإثبات أشرف.
السابع: أن القصاص المبني على المساواة أوزن في المعادلة من مطلق القتل، ولذلك
يلزم التخصيص، بخلاف الآية.
الثامن: الطباع أقبل للفظ " الحياة " من كلمة " القتل "، لما فيه من الاختصار،
وعدم تكرار الكلمة، وعدم تنافر الحروف، وعدم تكرار الحرفين، وقبول الطبع
للفظ " الحياة " وصحة الإطلاق.
التاسع: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، والآية ناصة على ثبوتها التي هي الغرض
المطلوب منه.
العاشر: أن قولهم لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة، وقوله: (في
القصاص حياة) مفهوم لأول وهلة.
الحادي عشر: أن قولهم خطأ، فإن القتل كله ليس نافيا للقتل، فإن القتل
العدواني لا ينفى القتل، وكذا القتل في الردة والزنا لا ينفيه، وإنما ينفيه قتل خاص
223

وهو قتل القصاص، فالذي في الآية تنصيص على المقصود، والذي في المثل لا يمكن
حمله على ظاهره.
الثاني عشر: فيه دلالة على ربط المقادير بالأسباب، وإن كانت الأسباب أيضا
بالمقادير، وكلام العرب يتضمنه، إلا أن فيه زيادة وهي الدلالة على ربط الأجل في الحياة،
بالسبب، لا من مجرد نفي القتل.
الثالث عشر: في تنكير " حياة " نوع تعظيم، يدل على أن في القصاص حياة
متطاولة، كقوله: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) ولا كذلك المثل،
فإن اللام فيه للجنس، ولهذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.
الرابع عشر: فيه بناء أفعل التفضيل من متعد، والآية سالمة منه.
الخامس عشر: أن " أفعل " في الغالب تقتضي الاشتراك، فيكون ترك
القصاص نافيا للقتل، ولكن القصاص أكثر نفيا، وليس الأمر كذلك، والآية
سالمة من هذا.
السادس عشر: أن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به،
وظهرت فصاحته، بخلافه إذا تعقب كل حركة سكون، والحركات تنقطع بالسكنات. نظيره:
إذا تحركت الدابة أدنى حركة، فخنست، ثم تحركت فخنست، لا يتبين انطلاقها،
ولا تتمكن من حركتها على ما نختاره، وهي كالمقيدة، وقولهم: " القتل أنفي للقتل "،
حركاته متعاقبة بالسكون بخلاف الآية.
السابع عشر: الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء
والموت محلا ومكانا لضده الذي هو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة ذكره
في الكشاف.
224

الثامن عشر: أن في الآية طباقا، لأن القصاص مشعر بضد الحياة، بخلاف المثل.
التاسع عشر: القصاص في الأعضاء والنفوس، وقد جعل في الكل حياة، فيكون
جمعا بين حياة النفس والأطراف، وإن فرض قصاص بما لا حياة فيه كالسن، فإن مصلحة
الحياة تنقص بذهابه، ويصير كنوع آخر، وهذه اللطيفة لا يتضمنها المثل.
العشرون: أنها أكثر فائدة لتضمنه القصاص في الأعضاء، وأنه نبه على حياة
النفس من وجهين: من وجه به القصاص صريحا، ومن وجه القصاص في الطرف، لأن
أحد أحوالها أن يسرى إلى النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل.
وقد قيل غير ذلك.
وأما زيادة (لكم) ففيها لطيفة، وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص،
وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم.
والحاصل أن هذا من البيان الموجز الذي لا يقترن به شيء.
* * *
ومن بديع الإيجاز قوله تعالى: (قل هو الله أحد. الله الصمد...) الآية،
فإنها نهاية التنزيه.
وقوله: (كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم)، وهذا
ببيان عجيب يوجب التحذير من الاغترار بالإمهال.
وقوله: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين).
وقوله: (إن المتقين في مقام أمين)، وهذا من أحسن الوعد والوعيد.
225

وقوله: (فاصدع بما تؤمر)، فهذه ثلاث كلمات اشتملت على جميع
ما في الرسالة.
وقوله: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، فهذه جمعت
مكارم الأخلاق كلها، لأن في (خذ العفو) صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وفي
الأمر بالمعروف تقوى الله وصلة الأرحام، وصرف اللسان عن الكذب، وفي الإعراض
عن الجاهلين الصبر والحلم، وتنزيه النفس عن مماراة السفيه.
وقوله: (مدهامتان)، معناه مسودتان من شدة الخضرة.
وقوله: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).
وقوله: (أخرج منها ماءها ومرعاها)، فدل بأمرين على جميع ما أخرجه
من الأرض قوتا ومتاعا للأنام، من العشب، والشجر، والحب، والتمر، والعصف،
والحطب، واللباس، والنار، والملح، لأن النار من العيدان، والملح من الماء.
وقوله: (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل)، فدل
على نفسه ولطفه ووحدانيته وقدرته، وهدى للحجة عل من ضل عنه، لأنه لو كان ظهور
الثمرة بالماء والتربة، لوجب في القياس ألا تختلف الطعوم والروائح، ولا يقع التفاضل
في الجنس الواحد إذا نبت في مغرس واحد، ولكنه صنع اللطيف الخبير.
وقوله: (لا يصدعون عنها ولا ينزفون) كيف نفى بهذين جميع عيوب
الخمر، وجمع بقوله: (لا ينزفون) عدم العقل وذهاب المال ونفاد الشراب.
226

وقوله: (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون.
ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) فدل على
فضل السمع والبصر، حيث جعل مع الصم فقدان العقل، ولم يجعل مع العمي إلا فقدان
البصر وحده.
وقوله: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر
واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) كيف أمر ونهى، وأخبر
ونادى، ونعت وسمى، وأهلك وأبقى، وأسعد وأشقى، وقص من الأنباء ما لو شرح
ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام
وانحسرت الأيدي.
وقوله تعالى عن النملة: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) فجمع في هذه
اللفظة أحد عشر جنسا من الكلام، نادت، وكنت ونبهت وسمت، وأمرت، وقضت
وحذرت، وخصت، وعمت، وأشارت، وغدرت، فالنداء " يا "، والكناية " أي "
والتنبيه " ها "، والتسمية النمل، والأمر، " ادخلوا "، والقصص " مساكنكم "
والتحذير " لا يحطمنكم "، والتخصيص سليمان، والتعميم جنوده، والإشارة " وهم "،
والغدر لا يشعرون. فأدت خمس حقوق: حق الله، وحق رسوله، وحقها، وحق رعيتها
وحق جنود سليمان. فحق الله أنها استرعيت على النمل فقامت بحقهم، وحق سليمان أنها
نبهته على النمل، وحقها اسقاطها حق الله عن الجنود في نصحهم، وحق الجنود
بنصحها لهم ليدخلوا مساكنهم، وحق الجنود إعلامها إياهم وجميع الخلق أن من
227

استرعاه رعية فوجب عليه حفظها والذب عنها، وهو داخل في الخبر المشهور: " كلكم
راع وكلكم مسؤول عن رعيته ".
ويقال: إن سليمان عليه السلام لم يضحك في عمره إلا مرة واحدة، وأخرى حين
أشرف على وادي النمل فرآها على كبر الثعالب، لها خراطيم وأنياب، فقال رئيسهم: ادخلوا
مساكنكم، فخرج كبير النمل في عظم الجواميس، فلما نظر إليه سليمان هاله، فأراه
الخاتم، فخضع له، ثم قال: أهذه كلها نمل؟ فقال: إن النمل لكبير، إنها ثلاثة أصناف: صنف
في الجبال، وصنف في القرى، وصنف في المدن. فقال سلميان عليه السلام: اعرضها علي،
فقال له: قف. فبقي سليمان عليه السلام تسعين يوما واقفا، يمر عليه النمل، فقال:
هل انقطعت عساكركم، فقال ملك النمل: لو وقفت إلى يوم القيامة ما انقطعت.
فذكر الجنيد أن سليمان عليه السلام قال لعظيم النمل: لم قلت للنمل: ادخلوا مساكنكم؟
أخفت عليهم من ظلمنا؟ قال: لا، ولكن خفت أن يفتتنوا بما رأوا من ملكك،
فيشغلهم ذلك عن طاعة الله.
وقوله: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم. قل
يحييها الذي أنشأها أول مرة)، وهذا أشد ما يكون من الحجاج.
وقوله: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون)،
وهذا أعظم ما يكون من التحسير.
وقوله: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)، وهذا أشد
ما يكون من التنفير عن الخلة إلا على التقوى.
228

وقوله: (أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله)، وهذا أشد
ما يكون من التحذير من التفريط.
وقوله: (أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة)، وهذا أشد
ما يكون من التبعيد.
وقوله: (اعلموا ما شئتم)، فهذا أعظم ما يكون من التخيير.
وقوله: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد. لقد كنت في غفلة من
هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)، وهذا أبلغ ما يكون
من التذكير.
وقوله: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون.
أتواصوا به بل هم قوم طاغون)، وهذا أشد ما يكون في التقريع على التمادي
في الباطل.
وقوله: (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون. يطوفون بينها وبين
حميم آن)، وهذا أشد ما يكون من التقريع.
(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)، وهذا غاية الترهيب.
وقوله: (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون)، وهذه
غاية الترغيب.
229

وقوله: (ما أتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق
ولعلا بعضهم على بعض).
وقوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)، وهذا أبلغ ما يكون من الحجاج،
وهو الأصل الذي عليه أثبتت دلالة التمانع في علم الكلام.
وقوله: (فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون)،
وهذا أبلغ ما يكون من الوصف بكل ما تميل إليه النفس من الشهوات، وتلذ الأعين من
المرئيات، ليعلم أن هذا اللفظ القليل جدا، حوى معاني كثيرة لا تنحصر عددا.
وقوله: (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو)، وهذا أشد ما يكون
من الخوف.
وقوله: (لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله).
وقوله: (إنما بغيكم على أنفسكم).
وقوله: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب).
وقوله: (هدى للمتقين).
وقوله: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع).
وقوله: (فانبذ إليهم على سواء)، معناه قابلهم بما يفعلونه معك، وعاملهم مثل
معاملتهم لك سواء، مع ما يدل عليه " سواء " من الأمر بالعدل.
وقوله: (وغيض الماء وقضى الأمر)، فإنه أشار به إلى انقطاع مدة الماء النازل
230

من السماء والنابع من الأرض. وقوله: (وقضى الأمر) أي هلك من قضى هلاكه،
ونجا من قدرت نجاته، وإنما عدل عن لفظه إلى لفظ التمثيل، لأمرين اختصار اللفظ، وكون
الهلاك والنجاة كانا بأمر مطاع، إذ الأمر يستدعى آمرا ومطاعا، وقضاؤه يدل على قدرته.
* * *
ومن أقسام الإيجاز الاقتصار على السبب الظاهر للشيء، اكتفاء بذلك عن جميع
الأسباب، كما يقال: فلان لا يخاف الشجعان، والمراد لا يخاف أحدا.
ومنه قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن)، ولا شك أن من فسخت
النكاح أيضا تتربص، لأن السبب الغالب للفراق الطلاق.
وقوله: (أو جاء أحد منكم من الغائط)، ولم يذكر النوم وغيره، لأن السبب
الضروري الناقض خروج الخارج: فإن النوم الناقض ليس بضروري، فذكر السبب الظاهر،
وعلم منه الحكم في الباقي.
ومنه قوله: (يعلم السر وأخفى)، أي وهو ما لم يقع في وهم الضمير من الهواجس،
ولم يخطر على القلوب من مخيلات الوساوس.
ومنه: (إن الله وملائكته يصلون على النبي)، ونظائره.
وكذلك زيد وعمرو قائم، على القول بأن " قائم " خبر عن أحدهما، واستغنى به عن
خبر الآخر.
ومنها الاقتصار على المبتدأ وإقامة الشيء مقام الخبر نحو: أقائم الزيدان، فإن " قائم "
مبتدأ لا خبر له.
ومنها باب " علمت أنك قائم "، إذا جعلنا الجملة سادة مسد المفعولين، فإن الجملة
231

محلة لاسم واحد سد مسد اسمين مفعولين من غير حذف.
ومنه باب النائب عن الفاعل، في " ضرب زيد " ف‍ " زيد " دل على الفاعل بإعطائه
حكمه، وعلى المفعول بوضعه.
ومنها جميع أدوات الاستفهام والشرط، فإن " كم مالك "؟ يغنى عن عشرين
أو ثلاثين، و " من يقم أكرمه " يغنى عن زيد وعمرو، قاله ابن الأثير
في " الجامع ".
ومنه الألفاظ اللازمة للعموم، مثل أحد وديار، قاله ابن الأثير أيضا.
ومنه لفظ الجمع، فإن " الزيدين " يغنى عن زيد وزيد وزيد، وكذا التثنية أصلها
رجل ورجل، فحذفوا العطف والمعطوف، وأقاموا حرف الجمع والتثنية مقامهما اختصارا،
وصح ذلك لاتفاق الذاتين في التسمية بلفظ واحد، فإن اختلف لفظ الاسمين رجعوا إلى
التكرار بالعطف، نحو مررت بزيد وبكر.
ومنه باب الضمائر على ما سيأتي بيانه، في قاعدة الضمير.
ومنه لفظ " فعل " فإنه يجيء كثيرا كناية عن أفعال متعددة، قال تعالى: (لبئس
ما كانوا يفعلون) (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به).
(فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا)، أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا
بسورة من مثله.
232

القول في التقديم والتأخير
هو أحد أساليب البلاغة، فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة، وملكتهم
في الكلام وانقياده لهم. وله في القلوب أحسن موقع، وأعذب مذاق.
وقد اختلف في عدة من المجاز، فمنهم من عده منه، لأنه تقديم ما رتبته التأخير،
كالمفعول، وتأخير ما رتبته التقديم، كالفاعل، نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه.
والصحيح أنه ليس منه، فإن المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع.
ويقع الكلام فيه في فصول:
الفصل الأول
[في أسباب التقديم والتأخير]
الأول: في أسبابه، وهي كثيرة:
أحدها: أن يكون أصله التقديم، ولا مقتضى للعدول عنه، كتقديم الفاعل على المفعول،
والمبتدأ على الخبر، وصاحب الحال عليها، نحو جاء زيد راكبا.
* * *
والثاني: أن يكون في التأخير إخلال ببيان المعنى، كقوله تعالى: (وقال رجل
مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)، فإنه لو أخر قوله: (من آل فرعون)،
فلا يفهم أنه منهم.
وجعل السكاكي من الأسباب كون التأخير مانعا، مثل الإخلال بالمقصود،
233

كقوله تعالى: (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في
الحياة الدنيا)، بتقديم الحال أعني (من قومه) على الوصف، أعني (الذين كفروا)
ولو تأخر لتوهم أنه من صفة الدنيا، لأنها هاهنا اسم تفضيل، من الدنو، وليست اسما،
والدنو يتعدى ب‍ " من "، وحينئذ يشتبه الأمر في القائلين أنهم أهم: من قومه. أم لا؟ فقدم
لاشتمال التأخير على الإخلال ببيان المعنى المقصود، وهو كون القائلين من قومه. وحين
أمن هذا الإخلال بالتأخير قال تعالى في موضع آخر من هذه السورة: (فقال الملأ
الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم)، بتأخير المجرور عن
صفة المرفوع.
* * *
الثالث: أن يكون في التأخير إخلال بالتناسب، فيقدم لمشاكلة الكلام،
ولرعاية الفاصلة، كقوله: (واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون)،
بتقديم " إياه " على " تعبدون " لمشاكلة رؤوس الآي، وكقوله: (فأوجس في نفسه
خيفة موسى)، فإنه لو أخر (في نفسه) عن (موسى)، فات تناسب الفواصل،
لأن قبله: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى)، وبعده: (إنك أنت
الأعلى).
وكقوله: (وتغشى وجوههم النار)، فإن تأخير الفاعل عن المفعول
لمناسبته لما بعده.
وكقوله: (إن الله سريع الحساب)، وهو أشكل بما قبله، لأن قبله:
(مقرنين في الأصفاد).
234

وجعل منه السكاكي: (آمنا برب هارون وموسى)، بتقديم (هارون)
مع أن (موسى) أحق بالتقديم.
* * *
الرابع: لعظمة والاهتمام به، وذلك أن من عادة العرب الفصحاء، إذا أخبرت عن
مخبر ما - وأناطت به حكما - وقد يشركه غيره في ذلك الحكم، أو فيما أخبر به عنه
وقد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب - فإنهم مع ذلك إنما يبدأون
بالأهم والأولى. قال سيبويه: كأنهم يقدمون الذي شأنه أهم لهم، وهم ببيانه أعني، وإن كانا
جميعا يهمانهم ويعنيانهم. انتهى.
قال تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)، فبدأ بالصلاة لأنها أهم.
وقال سبحانه: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول).
وقال تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)، فقدم العبادة للاهتمام بها.
ومنه تقدير المحذوف في بسم الله مؤخرا.
وأوردوا: (اقرأ باسم ربك)، وأجيب بوجهين:
أحدهما: أن تقديم الفعل هناك أهم، لأنها أول سورة نزلت.
والثاني: أن (باسم ربك) متعلق ب‍ (اقرأ) الثاني، ومعنى الأول: أوجد
القراءة، والقصد التعميم.
* * *
الخامس: أن يكون الخاطر ملتفتا إليه والهمة معقودة به، وذلك كقوله تعالى:
235

(وجعلوا لله شركاء)، بتقديم المجرور على المفعول الأول، لأن الانكار متوجه
إلى الجعل لله، لا إلى مطلق الجعل.
* * *
السادس: أن يكون التقديم لإرادة التبكيت والتعجيب من حال المذكور، كتقديم
المفعول الثاني على الأول في قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن)، والأصل
" الجن شركاء "، وقدم، لأن المقصود التوبيخ، وتقديم الشركاء أبلغ في حصوله.
ومنه قوله تعالى في سورة يس: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى)،
وسنذكره.
* * *
السابع: الاختصاص، وذلك بتقديم المفعول، والخبر، والظرف، والجار والمجرور،
ونحوها على الفعل، كقوله تعالى: (إياك نعبد)، أي نخصك بالعبادة فلا نعبد غيرك.
وقوله: (إن كنتم إياه تعبدون)، أي إن كنتم تخصونه بالعبادة.
والخبر كقوله: (قال أراغب أنت عن آلهتي) وقوله: (وظنوا أنهم ما نعتهم
حصونهم من الله).
وأما تقديم الظرف، ففيه تفصيل، فإن كان في الإثبات دل على الاختصاص، كقوله
تعالى: (إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم)، وكذلك: (له الملك
وله الحمد)، فإن ذلك يفيد اختصاص ذلك بالله تعالى. وقوله: (لإلى الله تحشرون
236

أي لا إلى غيره، وقوله: (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيدا)، أخرت صلة الشهادة في الأول وقدمت في الثاني، لأن الغرض في الأول
إثبات شهادتهم على الأمم، وفي اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.
وقوله: (وأرسلناك للناس رسولا)، أي لجميع الناس من العجم والعرب، على أن
التعريف للاستغراق.
وإن كان في النفي فإن تقديمه يفيد تفضيل المنفى عنه، كما في قوله تعالى: (لا فيها
غول ولا هم عنها ينزفون)، أي ليس في خمر الجنة ما في خمرة غيرها من الغول.
وأما تأخيره فإنها تفيد النفي فقط، كما في قوله: (لا ريب فيه) فكذلك إذا قلنا
لا عيب في الدار، كان معناه: نفي العيب في الدار، وإذا قلنا لا في الدار عيب، كان معناه:
أنها تفضل على غيرها بعدم العيب.
تنبيه
ما ذكرناه من أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص، فهمه الشيخ أبو حيان في كلام
الزمخشري وغيره، والذي عليه محققو البيانيين أن ذلك غالب لا لازم، بدليل قوله تعالى:
(كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل)، وقوله: (أفي الله شك)، إن جعلنا
ما بعد الظرف مبتدأ.
وقد رد صاحب " الفلك الدائر " القاعدة بالآية الأولى، وكذلك ابن
الحاجب والشيخ أبو حيان، وخالفوا البيانيين في ذلك، وأنت إذا علمت أنهم
237

ذكروا في ذلك قيد الغلبة سهل الأمر. نعم له شرطان:
أحدهما ألا يكون المعمول مقدما بالوضع، فإن ذلك لا يسمى تقديما حقيقة، كأسماء
الاستفهام، وكالمبتدأ عند من يجعله معمولا لخبره.
والثاني: ألا يكون التقديم لمصلحة التركيب، مثل: (وأما ثمود فهديناهم)
على قراءة النصب.
وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة، وهي قوله: (أغير الله تدعون إن
كنتم صادقين. بل إياه تدعون فيكشف)، التقديم في الأول قطعا ليس للاختصاص،
بخلاف الثاني.
الفصل الثاني
في أنواعه
وهي إما أن يقدم والمعنى عليه، أو يقدم وهو في المعنى مؤخر، أو بالعكس.
النوع الأول
ما قدم والمعنى عليه
ومقتضياته كثيرة، قد يسر الله منها خمسا وعشرين، ولله در ابن عبدون في قوله:
سقاك الحيا من معان سفاح * فكم لي بها من معان فصاح
238

أحدها
السبق
وهو أقسام: منها السبق بالزمان والإيجاد، كقوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم
للذين اتبعوه وهذا النبي) قال ابن عطية: المراد بالذين اتبعوه في زمن الفترة.
وقوله: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس)، فإن مذهب أهل
السنة تفضيل البشر، وإنما قدم الملك لسبقه في الوجود.
وقوله: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك)، فإن الأزواج أسبق بالزمان،
لأن البنات أفضل منهن، لكونهن بضعة منه صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين).
واعلم أنه ينضم إليه مع ذلك التشريف، كقوله: (إن الله اصطفى آدم ونوحا
وآل إبراهيم وآل عمران).
وقوله: (ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى).
(صحف إبراهيم وموسى).
وأما قوله: (أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم الذي وفى) فإنما
قدم ذكر موسى لوجهين: أحدهما أنه في سياق الاحتجاج عليهم بالترك وكانت صحف
موسى منتشرة أكثر انتشارا من صحف إبراهيم، وثانيهما مراعاة رؤوس الآي.
239

وقد ينضم إليه التحقير، كما في قوله: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)،
تقدم اليهود لأنهم كانوا أسبق من النصارى، ولأنهم كانوا أقرب إلى المؤمنين بالمجاورة.
وقد لا يلحظ هذا كقوله تعالى: (وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم)
وقوله: (وأنه أهلك عادا الأولى. وثمود فما أبقى).
ومن التقديم بالإيجاد تقديم السنة على النوم في قوله: (لا تأخذه سنة ولا نوم)
لأن العادة في البشر أن تأخذ العبد السنة قبل النوم، فجاءت العبارة على حسب
هذه العادة.
ذكره السهيلي وذكر معه وجها آخر، وهو أنها وردت في معرض التمدح والثناء
وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه فبدئ بالأفضل، لأنه إذا استحالت عليه السنة فأحرى أن
يستحيل عليه النوم.
ومنه تقديم الظلمة على النور في قوله تعالى: (وجعل الظلمات والنور) فإن
الظلمات سابقة على النور في الإحساس، وكذلك الظلمة المعنوية سابقة على النور المعنوي،
قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم
السمع والأبصار والأفئدة)، فانتفاء العلم ظلمة، وهو متقدم بالزمان على
نور الإدراكات.
ومنه تقديم الليل على النهار: (وجعلنا الليل والنهار آيتين) (سيروا فيها
ليالي وأياما آمنين). (بل مكر الليل والنهار). (حين تمسون وحين
240

تصبحون)، ولذلك اختارت العرب التاريخ بالليالي دون الأيام، وإن كانت الليالي
مؤنثة والأيام مذكرة، وقاعدتهم تغليب المذكر إلا في التاريخ.
فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل
سابق النهار).
قلت: استشكل الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في قواعده بالإجماع على سبق الليلة
على اليوم. وأجاب بأن المعنى: تدرك القمر في سلطانه، وهو الليل، أي لا تجئ الشمس
في [أثناء] الليل، فقوله بعده: (ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون)،
أي لا يأتي في بعض سلطان الشمس وهو النهار. وبين الجملتين مقابلة.
فإن قيل: قوله تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)،
مشكل على هذا، لأن الإيلاج إدخال الشيء في الشيء، وهذا البحث ينافيه.
قلت: المشهور في معنى الآية أن الله يزيد في زمن الشتاء مقدارا من النهار، ومن
النهار في الصيف مقدارا من الليل، وتقدير الكلام: يولج بعض مقدار الليل في النهار،
وبعض مقدار النهار في الليل. وعلى غير المشهور، يجعل الليل في المكان الذي كان فيه النهار
ويجعل النهار في المكان الذي كان فيه الليل، والتقدير: يولج الليل في مكان النهار ويولج النهار
في مكان الليل.
ومنه تقديم المكان على الزمان في قوله: (خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات
241

والنور)، أي الليل والنهار، وقوله: (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها
معرضون. وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون).
وهذه مسألة مهمة قل من تعرض لها، أعني سبق المكان على الزمان، وقد صرح بها
الإمام أبو جعفر الطبري في أول تاريخه، واحتج على ذلك بحديث ابن عباس: إن الله
خلق التربة يوم السبت، وخلق الشمس والقمر، وكان ذلك كله ولا ليل ولا نهار، إذ كانا
إنما هما أسماء لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر [درج الفلك] وإذا كان ذلك صحيحا
وأنه لا شمس ولا قمر، كان معلوما أنه لا ليل ولا نهار. قال: وحديث أبي هريرة
- يعنى في صحيح مسلم - صريح فيه، فإن فيه: " وخلق [الله] النور يوم الأربعاء "،
قال: ويعني به الشمس إن شاء الله.
والحاصل أن تأخر خلق الأيام عن بعض الأشياء المذكورة في الخبر لازم.
فإن قلت: الحديث كالمصرح بخلافه، فإنه قال: حين خلق الله التربة يوم السبت،
حين خلق البرية وهي أول المخلوقات المذكورة، فلا يمكن أن يكون خلق الأيام كلها متأخر
عن ذلك.
قلت: قد نبه الطبري على جواب ذلك بما حاصله: أن الله تعالى سمى أسماء الأيام
قبل خلق التربة، وخلق الأيام كلها، ثم قدر كل يوم مقدارا، فخلق التربة في مقدار يوم
السبت قبل خلقه يوم السبت، وكذا الباقي.
وهذا وإن كان خلاف الظاهر لكن أوجبه ما قاله الطبري، من أنه يتعين تأخير خلق
الأيام لما ذكرناه من الدليل المستفاد من الخبرين.
والحاصل أن الزمان قسمان: تحقيقي وتقديري، والمذكور في الحديث التقديري.
242

ومنه قوله تعالى: (رب المشرقين ورب المغربين). (مشارق الأرض
ومغاربها)، ولذلك لما استغنى عن أحدهما ذكر المشرق فقط، فقال: (ورب
المشارق). (إنا زينا السماء الدنيا).
ومنه قوله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة)، وقوله: (وأنه هو أمات
وأحيا). (وكنتم أمواتا فأحياكم).
ويمكن فيه وجوه آخر:
منها أن فيه قهرا للخلق، والمقام يقتضيه.
ومنها أن حياة الانسان كلا حياة، ومآله إلى الموت، ولا حياة إلا بعد الموت.
ومنها أن الموت تقدم في الوجود، إذ الانسان قبل نفخ الروح فيه كان ميتا لعدم الروح.
وهذا إن أريد بالموت عدم الوجود، بدليل: (وكنتم أمواتا فأحياكم)، وإن أريد به
بعد الوجود، فالناس متنازعون في الموت: هل هو أمر وجودي كالحياة أولا؟
وقيل بالوقف، فقالت الفلاسفة: الموت عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا.
والجمهور على أنه أمر وجودي يضاد الحياة، محتجين بقوله: (الذي خلق الموت والحياة)،
والحديث في الإتيان بالموت في صورة كبش وذبحه.
وأجيب عن الآية بأن الخلق بمعنى التقدير، ولا يجب في المقدر أن يكون وجوديا،
وعن الثاني بأن ذلك على طريق التمثيل، لبيان انقطاع الموت وثبوت الخلود.
فإن قلنا: عدمي فالتقابل بينه وبين الحياة تقابل العدم والملكة، وعلى الصحيح
تقابل التضاد. وعلى القول بأنه وجودي يجب أن يقال: تقديم الموت الذي هو عدم الوجود،
243

لكونه سابقا أو معدوم الحياة، الذي هو مفارقة الروح البدني يجوز أن يكون لكونه الغاية
التي يساق إليها الانسان في دار الدنيا، فهي العلة الغائبة بعدم تحقيقها، لتحققه فخص العلة العامة
كما وقع تأكيده في قوله: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون)، أو تزهيدا في الدار
الفانية، وترغيبا فيما بعد الموت.
فإن قيل: فما وجه تقدم " الحياة " في قوله: (قال فيها تحيون وفيها تموتون)
وقوله: (ومحياي ومماتي لله رب العالمين)؟
قلنا: إن كان الخطاب لآدم وحواء، فلأن حياتهما في الدنيا سبقت الموت، وإن
كان للخلق فالخطاب لمن هو حي يعقبه الموت، فما التقديم بالترتيب، وكذا الآية بعده.
فإن قيل: فما وجه تقديم الموت على الحياة في الحكاية عن منكري البعث: (إن
هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا)؟
قلت: لأجل مناسبة رؤوس الآي.
فإن قلت: فما وجه تقدم التوفي على الرفع في قوله: (إني متوفيك ورافعك إلي)
مع أن الرفع سابق؟
قيل: فيه جوابان:
أحدهما: المراد بالتوفي النوم، كقوله تعالى: (يتوفاكم بالليل).
وثانيهما: أن التاء في " متوفيك " زائدة، أي موفيك عملك.
ومنها سبق إنزال، كقوله: (وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل
الفرقان). وقوله: (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل).
244

وأما قوله: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل
إليهم)، فإنما قدم القرآن منبها له على فضيلة المنزل إليهم.
ومنها سبق وجوب، كقوله تعالى: (واركعوا واسجدوا)، وقوله: (تراهم
ركعا سجدا).
فإن قيل: فقد قال: (اسجدي واركعي مع الراكعين).
قيل: يحتمل أنه كان في شريعتهم السجود قبل الركوع، ويحتمل أن يراد بالركوع
ركوع الركعة الثانية.
وقيل: المراد ب‍ " اركعي " أشكري.
وقيل: أراد ب‍ " اسجدي " صلى وحدك، و ب‍ " اركعي " صلى في جماعة، ولذلك قال:
(مع الراكعين).
ومنها سبق تنزيه، كقوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون
كل آمن بالله وملائكته وكتبه)، فبدأ بالرسول قبل المؤمنين، ثم قال: (كل آمن
بالله وملائكته)، فبدأ بالإيمان بالله، لأنه قد يحصل بدليل العقل، والعقل سابق في الوجود
على الشرع، ثم قال: " وملائكته " مراعاة لإيمان الرسول، فإنه يتعلق بالملك الذي هو
جبريل أولا، ثم بالكتاب الذي نزل به جبريل، ثم بمعرفة نفسه أنه رسول. وإنما عرف
نبوة نفسه بعد معرفته بجبريل عليه السلام وإيمانه، فترتب الذكر المنزل عليه بحسب ذلك،
فظهرت الحكمة والإعجاز، فقال: (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله)، لأن
الملك هو النازل بالكتاب، وإن كان الكتاب أقدم من الملك، ولكن رؤية النبي صلى
الله عليه وسلم للملك كانت قبل سماعه الكتاب. وأما إيماننا نحن بالعقل. آمنا بالله، أي
245

بوجوده، ولكن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عرفنا اسمه وجوب النظر المؤدي إلى معرفته،
فآمنا بالرسول ثم بالكتاب المنزل عليه، وبالملك النازل به، فلو ترتب اللفظ على حسب
إيماننا لبدأ بالرسول قبل الكتاب، ولكن إنما ترتب على حسب إيمان الرسول صلى الله
تعالى عليه وسلم، الذي هو إمام المؤمنين. ذكره السهيلي في أماليه.
وقال غيره: في هذا الترتيب سر لطيف، وذلك لأن النور والكمال والرحمة والخير كله
مضاف إلى الله تعالى، والوسائط في ذلك الملائكة، والمقابل لتلك الرحمة هم الأنبياء والرسل،
فلا بد أولا من أصل، وثانيا من وسائط، وثالثا من حصول تلك الرحمة، ورابعا من
وصولها إلى المقابل لها، والأصل المقتضى للخيرات والرحمة هو الله، ومن أعظم رحمة رحم بها
عباده إنزال كتبه إليهم، والموصل لها هم الملائكة، والمقابل لها المنزلة عليهم هم الأنبياء،
فجاء الترتيب على ذلك بحسب الوقائع.
الثاني
بالذات
كقوله تعالى: (مثنى وثلاث ورباع). ونحوه (ما يكون من نجوى ثلاثة
إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم)، وقوله: (سيقولون ثلاثة رابعهم
كلبهم) وكذلك جميع الأعداد كل مرتبة هي متقدمة على ما فوقها بالذات.
وأما قوله تعالى: (إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم
تتفكروا ما بصاحبكم) فوجه تقديم المثنى أن المعنى حثهم على القيام بالنصيحة لله،
وترك الهوى، مجتمعين متساويين أو منفردين متفكرين. ولا شك أن الأهم حالة
الاجتماع فبدأ بها.
246

الثالث
بالعلة والسببية
كتقديم " العزيز " على " الحكيم "، لأنه عز فحكم، وتقديم " العليم " على
" الحكيم "، لأن الإتقان ناشئ عن العلم، وكذا أكثر ما في القرآن من تقديم وصف
العلم على الحكمة: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم
الحكيم).
ويجوز أن يكون قدم وصف العلم هنا ليتصل بما يناسبه، وهو (لا علم لنا)، وفي غيره
من نظائره، لأنه صفات ذات فيكون من القسم قبله.
ومنه قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين)، قدمت العبادة لأنها سبب
حصول الإعانة.
وقوله: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)، فإن التوبة
سبب الطهارة.
وكذا: (ويل لكل أفاك أثيم) لأن الإفك سبب الإثم.
وكذا: (وما يكذب به إلا كل معتد أثيم).
وقوله: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا. لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا
أنعاما وأناسي كثيرا) قدم إحياء الأرض، لأنه سبب إحياء الأنعام والأناسي،
وقدم إحياء الأنعام، لأنه مما يحيا به الناس، بأكل لحومها وشرب ألبانها.
247

وكذا كل علة مع معلولها، كقوله: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة)،
قيل: قدم الأموال من باب تقديم السبب، فإنه إنما شرع النكاح عند قدرته على
مؤونته، فهو سبب التزويج، والتزويج سبب للتناسل، ولأن المال سبب للتنعيم بالولد،
وفقده سبب لشقائه.
وكذا تقديم البنات على البنين في قوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من
النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة)، وأخر ذكر الذهب
والفضة عن النساء والبنين لأنهما أقوى في الشهوة الجبلية من المال، فإن الطبع يحث
على بذل المال، فيحصل النكاح، والنساء أقعد من الأولاد في الشهوة الجبلية، والبنون
أقعد من الأموال، والذهب أقعد من الفضة، والفضة أقعد من الأنعام، إذ هي وسيلة إلى
تحصيل النعم، فلما صدرت الآية بذكر الحب، وكان المحبوب مختلف المراتب، اقتضت
حكمة الترتيب أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، في رتبة المحبوبات.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم)،
قدم الشكر على الإيمان، لأن العاقل ينظر [إلى] ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه
وتعريضه للمنافع، فيشكر شكرا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به،
ثم شكر شكرا متصلا فكان الشكر متقدما على الإيمان، وكأنه أصل التكليف
ومداره. انتهى.
وجعله غيره من عطف الخاص على العام، لأن الإيمان من الشكر، وخص
بالذكر لشرفه.
248

الرابع
بالمرتبة
كتقديم " سميع " على " عليم " فإنه يقتضى التخويف والتهديد، فبدأ بالسميع لتعلقه
بالأصوات، وإن من سمع حسك فقد يكون أقرب إليك في العادة ممن يعلم، وإن كان
علم الله تعلق بما ظهر وما بطن.
وكقوله: (غفور رحيم)، فإن المغفرة سلامة، والرحمة غنيمة، والسلامة مطلوبة
قبل الغنيمة، وإنما تأخرت في آية سبأ في قوله، (الرحيم الغفور)، لأنها منتظمة
في سلك تعداد أصناف الخلق من المكلفين وغيرهم، وهو قوله: (ما يلج في الأرض
وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور)، فالرحمة
شملتهم جميعا، والمغفرة تخص بعضا، والعموم قبل الخصوص بالرتبة.
وقوله تعالى: (هماز مشاء بنميم) فإن الهماز هو المغتاب، وذلك لا يفتقر إلى
شيء بخلاف النميمة.
وقوله: (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) فإن الغالب أن الذين يأتون
رجالا من مكان قريب، والذين يأتون على الضامر من البعيد. ويحتمل أن يكون من
التقديم بالشرف، لأن الأجر في المشي مضاعف.
وأما قوله تعالى: (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) مع أن الراكب متمكن
من الصلاة أكثر من الماشي، فجبرا له في باب الرخصة.
249

ومنه قوله تعالى: (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود)،
فقدم الطائفين لقربهم من البيت، ثم ثنى بالقائمين وهم العاكفون، لأنهم يخصون موضعا
بالعكوف والطواف بخلافه فكان أعم منه، والأعم قبل الأخص، ثم ثلث بالركوع،
لأن الركوع لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده.
ثم في هذه الآية ثلاثة أسئلة:
الأول: كيف جمع الطائفين والقائمين جمع سلامة، والركع جمع تكسير؟ والجواب أن
جمع السلامة أقرب إلى لفظ الفعل، فطائفون بمنزلة يطوفون، ففي لفظة إشعار بصلة التطهير،
وهو حدوث الطواف وتجدده، ولو قال: بالطواف لم يفد ذلك، لأن لفظ المصدر يخفى
ذلك، وكذا القول في القائمين، وأما الراكعون فلما سبق أنه لا يلزم كونه في البيت
ولا عنده، فلهذا لم يجمع جمع سلامة، إذ لا يحتاج فيه إلى بيان الفعل الباعث على التطهير،
كما احتيج فيما قبله.
الثاني: كيف وصف الركع بالسجود، ولم يعطف بالواو؟
والجواب، لأن الركع هم السجود، والشيء لا يعطف على نفسه، لأن السجود
يكون عبارة عن المصدر، وهو هنا عبارة عن الجمع، فلو عطف بالواو لأوهم إرادة
المصدر دون اسم الفاعل، لأن الراكع إن لم يسجد فليس براكع شرعا، ولو عطف
بالواو لأوهم أنه مستقل، كالذي قبله.
الثالث: هلا قيل: السجد كما قيل الركع، وكما جاء في آية أخرى: (تراهم ركعا
سجدا)، والركوع قبل السجود! والجواب أن السجود يطلق على وضع الجبهة
بالأرض وعلى الخشوع، فلو قال: السجد، لم يتناول إلا المعنى الظاهر، ومنه: (تراهم
250

ركعا سجدا)، وهو من رؤية العين، ورؤية العين لا تتعلق إلا بالظاهر، فقصد بذلك
الرمز إلى السجود المعنوي والصوري، بخلاف الركوع، فإنه ظاهر في أعمال الظاهر
التي يشترط فيها البيت كما في الطواف والقيام المتقدم، دون أعمال القلب، فجعل السجود
وصفا للركوع وتتميما له، لأن الخشوع روح الصلاة وسرها الذي شرعت له.
الخامس
بالداعية
كتقدم الأمر بغض الأبصار على حفظ الفروج في قوله تعالى: (قل للمؤمنين
يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم)، لأن البصر داعية إلى الفرج، لقوله صلى الله
عليه وسلم: " العينان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ".
السادس
التعظيم
كقوله: (ومن يطع الله والرسول).
وقوله: (إن الله وملائكته يصلون على النبي).
(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم).
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا).
251

السابع
الشرف وهو أنواع
منها شرف الرسالة، كقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي)،
فإن الرسول أفضل من النبي، خلافا لابن عبد السلام.
وقوله: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي). (وكان رسولا نبيا).
ومنها شرف الذكورة:
كقوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات).
وقوله: (ألكم الذكر وله الأنثى).
وقوله 6 (رجالا كثيرا ونساء).
وأما تقديم الإناث في قوله تعالى: (يهب لمن يشاء إناثا)، فلجبرهن، إذ هن
موضع الانكسار، ولهذا جبر الذكور بالتعريف، للإشارة إلى ما فاتهم من فضيلة التقديم.
ويحتمل أن تقديم الإناث، لأن المقصود بيان أن الخلق كله بمشيئة الله تعالى، لا على وفق
غرض العباد.
ومنها شرف الحرية، كقوله تعالى: (الحر بالحر والعبد بالعبد)، ومن الغريب
حكاية بعضهم قولين في أن الحر أشرف من العبد أم لا، حكاه القرطبي، في تفسير سورة
النساء فلينظر فيه.
252

ومنها شرف العقل، كقوله تعالى: (يسبح له من في السماوات والأرض والطير
صافات).
وقوله: (متاعا لكم ولأنعامكم).
وأما تقديم الأنعام عليهم في قوله: (تأكل منه أنعامهم وأنفسهم)، فمن باب
تقديم السبب، وقد سبق.
ومنها شرف الإيمان، كقوله تعالى: (وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي
أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا)، وكذلك تقديم المسلمين على الكافرين في كل موضع،
والطائع على العاصي، وأصحاب اليمين عن أصحاب الشمال.
ومنها شرف العلم، كقوله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين
لا يعلمون).
ومنها شرف الحياة، كقوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت
من الحي).
وقوله: (وما يستوي الأحياء ولا الأموات). وأما تقديم الموت في قوله
تعالى: (الذي خلق الموت والحياة)، فمن تقدم السبق بالوجود، وقد سبق.
ومنها شرف المعلوم، نحو: (عالم الغيب والشهادة)، فإن علم الغيبيات أشرف
من المشاهدات.
ومنه: (يعلم سركم وجهركم). (ويعمل ما تسرون وما تعلنون)،
253

وأما قوله: (فإنه يعلم السر وأخفى)، أي من السر، فعن ابن عباس وغيره:
السر: ما أسررت في نفسك، وأخفى منه ما لم تحدث به نفسك، مما يكون في عد علم الله فيهما
سواء، ولا شك أن الآتي أبلغ، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أفعل تفضيل يستدعي مفضلا عليه، علم حتى يتحقق في نفسه، فيكون
حينئذ تقديم السر من النوع الأول.
وثانيهما: مراعاة رؤوس الآي.
ومنها شرف الإدراك، كتقديم السمع على البصر، والسميع على البصير، لأن السمع
أشرف على أرجح القولين عند جماعة، وقدم القلب عليهما في قوله تعالى: (ختم الله
على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة)، لأن الحواس خدمة القلب،
وموصلة إليه، وهو المقصود، وأما قوله: (وختم على سمعه وقلبه)، فأخر
القلب فيها، لأن العناية هناك بذم المتصامين عن السماع، ومنهم الذين كانوا يجعلون القطن
في آذانهم حتى لا يسمعوا، ولهذا صدرت السورة بذكرهم في قوله: (ويل لكل أفاك أثيم.
يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها).
ومنها شرف المجازاة، كقوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء
بالسيئة).
ومنها شرف العموم، فإن العام أشرف من الخاص، كتقديم العفو على الغفور،
أي عفو عما لم يؤاخذنا به مما نستحقه بذنوبنا، غفور لما واخذنا به في الدنيا، قبلنا
ورجعنا إليه، فتقدم العفو على الغفور، لأنه أعم، وأخرت المغفرة لأنها أخص.
254

ومنها شرف الإباحة للإذن بها، كقوله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم
الكذب هذا حلال وهذا حرام)، وإنما تقديم الحرام في قوله: (فجعلتم منه
حراما وحلالا) فللزيادة في التشنيع عليهم، أو لأجل السياق، لأن قبله: (فكلوا
مما رزقكم الله حلالا طيبا). ثم (إنما حرم عليكم الميتة).
ومنها الشرف بالفضيلة، كقوله تعالى: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين).
وقوله: (ومنك ومن نوح).
وقوله: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء
بينهم...) الآية.
وقوله: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان).
(ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون).
وقوله: (رب موسى وهارون) في الأعراف والشعراء، فإن موسى استأثر
باصطفائه تعالى له بتكليمه، وكونه من أولى العزم.
فإن قلت: فقد جاء هارون وموسى في سورة طه بتقديم هارون؟
قلنا: لتناسب رؤوس الآي.
ومنه تقديم جبريل على ميكائيل في قوله تعالى: (من كان عدوا لله وملائكته
ورسله وجبريل وميكال) لأن جبريل صاحب الوحي والعلم، وميكائيل
255

صاحب الأرزاق، والخيرات النفسانية أفضل من الخيرات الجسمانية.
ومنه تقديم المهاجرين في قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين
والأنصار).
وقوله: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار)، ويدل على فضيلة
الهجرة قوله صلى الله عليه وسلم: " لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار "، وبالآية احتج
الصديق على تفضيلهم وتعيين الإمامة فيهم.
ومنه قوله: (صلوا عليه وسلموا تسليما)، فإن الصلاة أفضل من السلام.
وقوله: (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين)، قدم
القريب لأن الصدقة عليه أفضل من الأجنبي.
ومنه تقديم الوجه في قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم).
وتقديم اليمين على الشمال في نحو: (جنتان عن يمين وشمال)، (عن اليمين
وعن الشمال).
ومنه تقديم الأنفس على الأموال في قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم وأموالهم). وأما تقديم الأموال في سورة الأنفال في قوله: (وجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، فوجه التقديم أن الجهاد يستدعي تقديم إنفاق
الأموال، فهو من باب السبق بالسببية.
ومنه: (محلقين رءوسكم ومقصرين)، فإن الحلق أفضل من التقصير.
256

ومنه تقديم السماوات على الأرض كقوله: (خلق الله السماوات والأرض بالحق)،
وهو كثير، وكذلك كثيرا ما يقع " السماوات " بلفظ الجمع، و " الأرض " لم تقع
إلا مفردة.
وأما تأخيرها عنها في قوله: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا
في السماء)، فلأنه لما ذكر المخاطبين، وهو قوله: (ولا تعملون من عمل إلا كنا
عليكم شهودا إذ تفيضون فيه)، وهو خطاب لأهل الأرض، وعملهم يكون
في الأرض، وهذا بخلاف الآية التي في سبأ، فإنها منتظمة في سياق علم الغيب.
وكذلك قوله: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء).
وأما تأخيرها عنها في قوله: (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات
مطويات بيمينه)، فلأن الآية في سياق الوعد والوعيد، وإنما هو لأهل الأرض.
وكذا قوله: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات).
ومنه تقديم الإنس على الجن في قوله: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن
يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله...) الآية.
وقوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان).
وقوله: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان).
وقوله: (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا).
257

وقوله: (خلق الانسان من صلصال كالفخار. وخلق الجان من مارج
من نار).
وأما تقديم الجن في مواضع أخر، كقوله: (يا معشر الجن والإنس)، فلأنهم
أقدم في الخلق، فيكون من النوع الأول - أعني التقديم بالزمان - ولهذا لما أخر
في آية الحجر صرح بالقبلية بذكر الانسان، ثم قال: (والجان خلقناه من
قبل).
ويجوز أن يكون في الأمثلة السالفة من باب تقديم الأعجب، لأن خلقها أغرب،
كقوله تعالى: (فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من
يمشي على أربع).
أو لأنهم أقوى أجساما، وأعظم أقداما، ولهذا قدموا في: (يا معشر الجن والإنس
إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض)، وفي: (وحشر لسليمان
جنوده من الجن والإنس والطير).
ومنه تقديم السجد على الراكعين في قوله: (واسجدي واركعي مع الراكعين)
وسبق فيه شيء آخر.
ومنه تقديم الخيل على البغال، والبغال على الحمير في قوله تعالى: (والخيل والبغال
والحمير لتركبوها).
ومنه تقديم الذهب على الفضة في قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة).
258

فإن قلت: فهل يجوز أن يكون من تقديم المذكر على المؤنث؟
قلت: هيهات، الذهب أيضا مؤنث، ولهذا يصغر على ذهيبة ك‍ " قدم ".
ومنه تقديم الصوف في قوله: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها)، ولهذا
احتج به بعض الصوفية على اختيار لبس الصوف على غيره من الملابس، وأنه شعار الملائكة
في قوله: (مسومين) قيل: سيماهم يومئذ الصوف. وعن علي: الصوف الأبيض،
رواه أبو نعيم في مدح الصوف، وقال: إنه شعار الأنبياء. وقال ابن مسعود: كانت الأنبياء
قبلكم يلبسون الصوف، وفي الصحيح في موسى عليه السلام: " عليه عباءة ".
ومنه تقديم الشمس على القمر في قوله تعالى: (والشمس والقمر)، وقوله:
(وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا)، ولهذا قال تعالى: (جعل الشمس ضياء
والقمر نورا)، والحكماء يقولون: إن نور القمر مستمد من نور الشمس، قال الشاعر:
يا مفردا بالحسن والشكل * من دل عينيك على قتلي
البدر من شمس الضحى نوره * والشمس من نورك تستملي
وأما قوله تعالى: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا. وجعل القمر
فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) فيحتمل وجهين: مناسبة رؤوس الآي أو أن انتفاع
أهل السماوات به أكثر، قال ابن الأنباري: يقال إن القمر وجهه يضيء لأهل الشمس،
259

وظهره إلى الأرض، ولهذا قال تعالى: (فيهن) لما كان أكثر نوره يضئ إلى
أهل السماء.
الثامن
الغلبة والكثرة
كقوله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات
بإذن الله)، قدم الظالم لكثرته، ثم المقتصد، ثم السابق.
وقوله: (فمنهم شقي وسعيد).
(منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة).
(الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين).
وجعل منه الزمخشري: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) يعني بدليل قوله:
(وأما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وحديث بعث النار.
(وأما قوله: (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا)، قدم ذكر العذاب
لكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله.
وجعل من هذا النوع قوله تعالى: (والسارق والسارقة)، لأن السرقة
في الذكور أكثر.
وقدم في الزنى المرأة في قوله: (الزانية والزاني) لأن الزنى فيهن أكثر. وأما قوله:
260

(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك)،
فقال الزمخشري: سيقت الآية التي قبلها لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي نشأت منها
الخيانة، لأنها لو لم تطمع الرجل، [ولم تومض له] وتمكنه لم يطمع ولم يتمكن،
فلما كانت أصلا وأولا في ذلك بدأ بذكرها، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح، والرجل
أصل، [فيه] لأنه هو الراغب والخاطب، ومنه يبدأ الطلب.
ومنه قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم)، قال
الزمخشري: قدم غض البصر، لأن النظر بريد الزنى، ورائد الفجور، والبلوى به أشد
وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه.
ومنه تقديم الرحمة على العذاب حيث وقع في القرآن، ولهذا ورد: " إن رحمتي
غلبت غضبي ".
وأما تقديم التعذيب على المغفرة في آية المائدة فللسياق.
ومنه قوله تعالى: (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم)، قال
ابن الحاجب في أماليه: إنما قدم الأزواج لأن المقصود الإخبار أن فيهم أعداء، ووقوع
ذلك في الأزواج أقعد منه في الأولاد، فكان أقعد في المعنى المراد فقدم، ولذلك قدمت
الأموال في قوله: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)، لأن الأموال لا تكاد
تفارقها الفتنة: (إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى). (أمرنا مترفيها ففسقوا
فيها)، وليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها، وكان تقدمها أولى.
261

التاسع
سبق ما يقتضى تقديمه
وهو دلالة السياق، كقوله تعالى: (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين
تسرحون)، لما كان إسراحها وهي خماص، وإراحتها وهي بطان، قدم الإراحة
لأن الجمال بها حينئذ أفخر.
وقوله: (وجعلناها وابنها آية للعالمين)، لأن السياق في ذكر مريم في قوله:
(والتي أحصنت فرجها)، ولذلك قدم الابن في غير هذا المكان، قال تعالى: (وجعلنا
ابن مريم وأمه آية).
وقوله: (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما)، فإنه قدم الحكم مع أن
العلم لا بد من سبقه للحكم، ولكن لما كان السياق في الحكم قدمه، قال تعالى: (وداود
وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم
شاهدين) ويحتمل أن المراد بالحكم الحكمة، وبها فسر الزمخشري قوله تعالى في سورة
يوسف: (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما)، وأما تقديم الحكيم على العليم
في سورة الأنعام، فلأنه مقام تشريع الأحكام، وأما في أول سورة يوسف فقدم العليم
على الحكيم، لقوله في آخرها: (وعلمتني من تأويل الأحاديث).
262

ومنه تقديم المحو على الإثبات في قوله: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)، فإن
قبله: (لكل أجل كتاب). ويمكن أن يقال: ما يقع عليه المحو أقل مما يقع عليه
غيره، ولا سيما على قراءة تشديد " يثبت " فإنها ناصة على الكثرة، والمراد به الاستمرار
لا الاستئناف.
وقوله: (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته).
ومنه قوله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا)، قدم
" رسلا " هنا على " من قبلك " وفي غير هذه بالعكس، لأن السياق هنا في الرسل.
ومنه قوله تعالى: (والله يقبض ويبسط)، قدم القبض لأن قبله (من ذا الذي
يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة)، وكان هذا بسطا، فلا يناسب
تلاوة البسط، فقدم القبض لهذا، وللترغيب في الانفاق، لأن الممتنع منه سببه خوف القلة،
فبين أن هذا لا ينجيه، فإن القبض مقدر ولا بد.
العاشر
مراعاة اشتقاق اللفظ
كقوله: (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر).
(علمت نفس ما قدمت وأخرت).
(ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وأخر).
263

(قل إن الأولين والآخرين لمجموعون. إلى ميقات يوم معلوم)
(ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين).
(ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين).
وأما قوله: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، فقدم
نفي التأخير، لأنه الأصل في الكلام، وإنما ذكر التقدم مع عدم إمكان التقدم، نفيا
لأطراف الكلام كله.
وكقوله: (إنه هو يبدئ ويعيد).
وقوله: (كما بدأكم تعودون).
(لله الأمر من قبل ومن بعد).
(له الحمد في الأولى والآخرة).
وقوله: (هو الأول والآخر).
(في الدنيا والآخرة).
فإن قلت قد جاء: (فأخذ الله نكال الآخرة والأولى). (أم للإنسان
ما تمنى. فلله الآخرة والأولى).
قلت: لمناسبة رؤوس الآي.
264

ومثله: (هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين)، ولأن الخطاب لهم، فقدموا.
الحادي عشر
للحث عليه خيفة من التهاون به
كتقديم تنفيذ الوصية على وفاء الدين، في قوله: (من بعد وصية يوصى بها
أو دين)، فإن وفاء الدين سابق على الوصية، لكن قدم الوصية، لأنهم كانوا
يتساهلون بتأخيرها، بخلاف الدين.
ونظيره: (يهب لمن يشاء إناثا)، قدم الإناث حثا على الإحسان إليهم.
وقال السهيلي في " النتائج ": إنما قدمت الوصية لوجهين:
أحدهما: أنها قربة إلى الله تعالى، بخلاف الدين الذي تعوذ الرسل منه،
فبدئ بها للفضل.
والثاني: أن الوصية للميت، والدين لغيره، ونفسك قبل نفس غيرك، تقول: هذا لي
وهذا لغيري، ولا تقول في فصيح الكلام هذا لغيري وهذا لي.
الثاني عشر
لتحقق ما بعده واستغنائه هو عنه في تصوره
كقوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات).
265

وقوله: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا).
وقوله: (والذين عملوا السيئات ثم تابوا).
الثالث عشر
الاهتمام عند المخاطب
كقوله: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها).
ونظيره قوله عليه السلام: " وأن تقرأ السلام على من عرفته ومن لم تعرفه ".
وقوله: (ولذي القربى واليتامى والمساكين) لفضل الصدقة على القريب.
وكقوله: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة).
وقوله: (ودية مسلمة إلى أهله)، فقدم الكفارة على الدية، وعكس في قتل
المعاهد حيث قال: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله
وتحرير رقبة مؤمنة).
قال الماوردي في " الحاوي ": ووجهه أن المسلم يرى تقديم حق الله على نفسه
والكافر يرى تقديم نفسه على حق الله، قال: وقال ابن أبي هريرة: إنما خالف بينهما
ولم يجعلهما على نسق واحد، لئلا يلحق بهما ما بينهما من قتل المؤمن في دار الحرب، في
قوله: (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة)، فضم إليه
الدية إلحاقا بأحد الطرفين، فأزال هذا الاحتمال باختلاف اللفظين.
266

وقال الفقيه نجم الدين بن الرفعة: يحتمل أن يقال: إنه لما كان الكفر يهدر
الدماء وهو موجود، كان الغاية ببذل الدم عند العصمة لأجل الميثاق أتم، لأنه يغمض
حكمه، فلذلك قدمت الدية فيه، وأخرت الكفارة، لأن حكمها قد سبق. ولما كانت
عصمة المسلم ثابتة، وقياس الأصول أنه لا تجب الكفارة في قتل الخطأ، لأنه لا إثم فيه،
خصوصا على المسلمين لرفع القلم عن الخطأ، كانت العناية بذكر الكفارة فيه أتم، لأنها التي
تغمض، فقدمت.
ومن هذا النوع قوله تعالى: (فأتبع سببا. حتى إذا بلغ مغرب الشمس)
قيل: لماذا بدأ بالمغرب قبل المشرق، وكان مسكن ذي القرنين من ناحية المشرق؟ قيل:
لقصد الاهتمام، إما لتمرد أهله وكثرة طغيانهم في ذلك الوقت، أو غير ذلك مما لم ينته إلينا علمه.
ومن هذا أن تأخر المقصود بالمدح والذم أولى من تقدمه، كقوله: نعم الرجل زيد، أحسن
من قولك: زيد نعم الرجل، لأنهم يقدمون الأهم، وهم في هذا بذكر المدح والذم أهم.
فأما تقديمه في قوله تعالى: (نعم العبد إنه أواب) فإن الممدوح هنا ب‍ " نعم
العبد " هو سليمان عليه السلام، وقد تقدم ذكره. وكذلك أيوب في الآية الأخرى
والمخصوص بالمدح في الآيتين ضمير سليمان وأيوب، وتقديره: نعم العبد هو إنه أواب.
الرابع عشر
للتنبيه على أنه مطلق لا مقيد
كقوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن)، على القول بأن " الله " في موضع
المفعول الثاني ل‍ " جعل " و " شركاء " مفعول أول، ويكون " الجن " في كلام ثان مقدر،
267

كأنه قيل: فمن جعلوا شركاء؟ قيل: الجن، وهذا يقتضى وقوع الانكار على جعلهم
" لله شركاء " على الإطلاق، فيدخل مشركة غير الجن، ولو أخر فقيل: وجعلوا الجن
شركاء لله، كان الجن مفعولا أولا، وشركاء ثانيا، فتكون الشركة مقيدة غير مطلقة،
لأنه جرى على الجن، فيكون الانكار توجه لجعل المشاركة للجن خاصة، وليس كذلك،
وفيه زيادة سبقت.
الخامس عشر
للتنبيه على أن السبب مرتب
كقوله تعالى: (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم
وظهورهم) قدم الجباه ثم الجنوب، لأن مانع الصدقة في الدنيا كان يصرف وجهه أولا
عن السائل، ثم ينوء بجانبه، ثم يتولى بظهره.
السادس عشر
التنقل
وهو أنواع: إما من الأقرب إلى الأبعد، كقوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم
الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون. الذي جعل لكم الأرض
فراشا والسماء بناءا) قدم ذكر المخاطبين على من قبلهم، وقدم الأرض على السماء.
وكذلك قوله: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)،
لقصد الترقي.
268

وقوله: (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم).
وأما بالعكس كقوله في أول الجاثية: (إن في السماوات والأرض لآيات
للمؤمنين. وفي خلقكم وما يبث من دابة).
وإما من الأعلى، كقوله: (شهد الله أنه لا إله إلا هو).
وقوله: (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك).
وإما من الأدنى، كقوله: (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة).
وقوله: (مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة).
وقوله: (لا تأخذه سنة ولا نوم).
فإن قلت: لم لا اكتفي بنفي الأدنى، ليعلم منه نفى الأعلى بطريق الأولى؟ قلت: يعلم
جوابه مما سبق من التقديم بالزمان.
وكقوله: (ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون...) الآية،
وبهذا يتبين فساد استدلال المعتزلة على تفضيل الملك على البشر بقوله: (لن يستنكف
المسيح أن يكون عبدا لله) فإنهم زعموا أن سياقها يقتضي الترقي من الأدنى إلى
الأعلى، إذ لا يحسن أن يقال: لا يستنكف فلان عن خدمتك، ولا من دونه بل ولا
من فوقه.
وجوابه أن هؤلاء لما عبدوا المسيح، واعتقدوا فيه الولدية لما فيه من القدرة على الخوارق
269

والمعجزات، من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وغيره، ولكونه خلق من غير
تراب. والتزهيد في الدنيا وغالب هذه الأمور هي للملائكة أتم، وهم فيها أقوى، فإن
كانت هذه الصفات أوجبت عبادته، فهو مع هذه الصفات لا يستنكف عن عبادة الله،
بل ولا من هو أكبر منه في هذه الصفات، للترقي من الأدنى إلى الأعلى في المقصود، ولم
يلزم منه الشرف المطلق والفضيلة على المسيح.
السابع عشر
الترقي
كقوله: (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها...) الآية،
فإنه سبحانه بدأ منها بالأدنى لغرض الترقي، لأن منفعة الرابع أهم من منفعة الثالث، فهو
أشرف منه، ومنفعة الثالث أعم من منفعة الثاني، ومنفعة الثاني أعم من منفعة الأول، فهو
أشرف منه.
وقد قرن السمع بالعقل ولم يقرن به البصر في قوله: (ومنهم من يستمعون إليك
أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون. ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي
العمي ولو كانوا لا يبصرون)، وما قرن بالأشرف كان أشرف، وحكى ذلك
عن علي بن عيسى الربعي.
قال الشيخ أبو الفتح القشيري:
فإن قيل: قد كان الأولى أن يقدم الوصف الأعلى، ثم ما دونه، حتى ينتهى
إلى أضعفها، لأنه إذا بدا بسلب الوصف الأعلى، ثم بسلب ما دونه، كان ذلك أبلغ في الذم،
270

لأنه لا يلزم من سلب الأعلى سلب ما دونه، كما تقول: ليس زيد بسلطان، ولا وزير،
ولا أمير، ولا وال. والغرض من الآية المبالغة في الذم.
قلت: ما ذكرته طريقة حسنة في علم المعاني، والمقصود من الآية طريقة أخرى، وهي
أنه تعالى أثبت أن الأصنام التي تعبدها الكفار أمثال الكفار، في أنها مقهورة مربوبة،
ثم حطها عن درجة المثلية بنفي هذه الصفات الثابتة للكفار عنها. وقد علمت أن المماثلة
بين الذوات المتنائية إنما تكون باعتبار الصفات الجامعة بينها، إذ هي أسباب في ثبوت
المماثلة بينها، وتقوى المماثلة بقوة أسبابها، وتضعف بضعفها، فإذا سلب وصف ثابت
لإحدى الذاتين عن الأخرى انتفى وجه من المماثلة بينهما، ثم إذا سلب وصف من الأول
انتفى وجه من المماثلة أقوى من الأول، ثم لا يزال يسلب أسباب المماثلة، أقواها فأقواها،
حتى تنتفي المماثلة كلها بهذا التدريج. وهذه الطريقة ألطف من سلب أسباب المماثلة، أقواها
ثم أضعفها فأضعفها.
الثامن عشر
مراعاة الإفراد
فإن المفرد سابق على الجمع، كقوله تعالى: (المال والبنون). وقوله: (من
مال وبنين)، ولهذا لما عبر عن المال بالجمع أخر عن البنين في قوله: (زين للناس
حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة).
271

ومنه تقديم الوصف بالمفرد على الوصف بالجملة، في قوله: (وقال رجل مؤمن من آل
فرعون يكتم إيمانه)، وقوله: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه).
التاسع عشر
التحذير منه والتنفير عنه
كقوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)، قرن الزنى
بالشرك وقدمه.
وقوله: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة)،
قدمهن في الذكر، لأن المحنة بهن أعظم من المحنة بالأولاد، وفي صحيح مسلم: (ما تركت
بعدي [في الناس] فتنة أضر على الرجال من النساء ". ومن الحكمة العظيمة أنه بدأ
بذكر النساء في الدنيا، وختم ب‍ " الحرث " وهما طرفان متشابهان، وفيهما الشهوة والمعاش الدنيوي،
ولما ذكر بعد ذلك ما أعده للمتقين أخر ذكر الأزواج كما يجب في الترتيب الأخروي،
وختم بالرضوان. وكم في القرآن من مثل هذا العجب إذا حضر له الذهن، وفرغ له الفهم!
ومنه تقديم نفي الولد على نفي الوالد، في قوله: (لم يلد ولم يولد)، فإنه لما
وقع في الأول منازعة الكفرة وتقولهم اقتضت الرتبة بالطبع تقديمه في الذكر، اعتناء به، قبل
التنزيه عن الوالد الذي لم ينازع فيه أحد من الأمم.
العشرون
التخويف منه
كقوله تعالى: (فمنهم شقى وسعيد)، ونظائره السابقة في الثامن.
272

الحادي والعشرون
التعجيب من شأنه
كقوله تعالى: (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير).
قال الزمخشري: قدم الجبال على الطير، لأن تسخيرها له وتسبيحها أعجب وأدل
على القدرة، وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد، والطير حيوان ناطق.
قال ابن النحاس: وليس مراد الزمخشري ب‍ " ناطق " ما يراد به في حد الانسان.
الثاني والعشرون
كونه أدل على القدرة
كقوله تعالى: (فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم
من يمشي على أربع).
الثالث والعشرون
قصد الترتيب
كما في آية الوضوء، فإن إدخال المسح بين الغسلين، وقطع النظر عن النظير مع مراعاة
ذلك في لسانهم، دليل على قصد الترتيب.
273

وكذلك البداءة في الصفا بالسعي. ومثله الكفارة المرتبة في الظهار والقتل.
وهنا قاعدة ذكرها أصحابنا، وهي أن الكفارة المرتبة بدأ الله فيها بالأغلظ، والمخيرة
بدأ فيها بالأخف، كما في كفارة اليمين، ولهذا حملوا آية المحاربة في قوله: (إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا...)، الآية
على الترتيب لا التخيير، لأنه بدأ فيها بالأغلظ طردا للقاعدة، خلافا لمالك حيث جعلها
على التخيير.
الرابع والعشرون
خفة اللفظ
كما في قولهم: ربيعة ومضر، مع أن مضر أشرف لكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم،
لأنهم لو قدموا مضر لتوالي حركات كثيرة، وذلك يثقل، فإذا قدموا ربيعة ووقفوا
على مضر، بسكون الراء، نقص الثقل لقلة الحركات المتوالية.
وقد يكون تقديم الإنس على الجن من ذلك، فالإنس أخف لمكان النون
والسين المهموسة.
الخامس والعشرون
رعاية الفواصل
كتأخير الغفور في قوله: (لعفو غفور)، وقوله: (وكان رسولا نبيا)،
274

وإن كانت القاعدة في علم البيان تأخير ما هو الأبلغ، فإنه يقال: عالم نحرير، وشجاع باسل،
وسبق له نظائر.
وكقوله: (خذوه فغلوه. ثم الجحيم صلوه)، ولو قال: صلوه الجحيم لأفاد
المعنى، ولكن يفوت الجمع.
وقيل: فائدته الاختصاص.
وقوله: (إن كنتم إياه تعبدون)، فقدم " إياه " على " تعبدون " لمشاكلة
رؤوس الآي.
تنبيه
قد يكون في كل واحد مما ذكرنا من الأمثلة سببان فأكثر للتقديم، فإما أن يعتقد
إرادة الكل، أو يرجح بعضها لكونه أهم في ذلك المحل. وإن كانت الأخرى أهم
في محل آخر. وإذا تعارضت الأسباب روعى أقواها، فإن تساوت كان المتكلم بالخيار
في تقديم أي الأمرين شاء.
النوع الثاني
مما قدم والنية به التأخير
فمنه ما يدل على ذلك الإعراب، كتقديم المفعول على الفاعل في نحو قوله: (إنما يخشى
الله من عباده العلماء)، و (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها)، (وإذا ابتلى
275

إبراهيم ربه).
ونحوه مما يجب في الصناعة النحوية كذلك، ولكن ذلك لقصد الحصر.
كتقديم المفعول، كقوله: (أفغير الله تأمروني أعبد). (قل الله أعبد).
وكتقديم الخبر على المبتدأ في قوله: (وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله)
ولو قال " وظنوا أن حصونهم مانعتهم " لما أشعر بزيادة وثوقهم بمنعها إياهم.
وكذا: (أراغب أنت عن آلهتي)، ولو قال: " أأنت راغب عنها "؟ ما أفادت
زيادة الانكار على إبراهيم.
وكذلك: (واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا)،
ولم يقل: " فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة "، وكان يستغنى عن الضمير، لأن هذا لا يفيد
اختصاص الذين كفروا بالشخوص.
ومنه ما يدل على المعنى، كقوله تعالى: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها)، قال
البغوي: هذا أول القصة، وإن كانت مؤخرة في التلاوة.
وقال الواحدي: كان الاختلاف في القاتل قبل ذبح البقرة، وإنما أخر في الكلام
لأنه سبحانه لما قال: (إن الله يأمركم...) الآية علم المخاطبون أن البقرة لا تذبح
إلا للدلالة على قاتل خفيت عينه عليهم، فلما استقر علم هذا في نفوسهم أتبع بقوله:
(وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) على جهة التوكيد، لا أنه عرفهم الاختلاف
في القاتل بعد أن دلهم على ذبح البقرة. وقيل: إنه من المؤخر الذي يراد به التقدم،
276

وتأويله: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فسألتم موسى فقال لكم: (إن الله يأمركم أن
تذبحوا بقرة).
وأما الزمخشري ففي كلامه ما يدل على أن إيرادها إنما كان يتأتى على الوجه الواقع
في القرآن، لمعنى حسن لطيف استخرجه وأبداه.
ومنه قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، وأصل الكلام: " هواه
إلهه " كما تقول: اتخذ الصنم معبودا، لكن قدم المفعول الثاني على الأول للعناية، كما
تقول: علمت منطلقا زيدا، لفضل عنايتك بانطلاقه.
ومنه قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب...) الآية، أي
أنزله قيما ولم يجعل له عوجا. قاله جماعة منهم الواحدي.
ورده فخر الدين في تفسيره بأن قوله: (ولم يجعل له عوجا. قيما)، معناه أنه
كامل في ذاته، وأن " قيما "، معناه أنه مكمل لغيره، وكونه كاملا في ذاته، سابق على
كونه مكملا لغيره، لأن معنى كونه " قيما " أنه قائم بمصالح الغير. قال: فثبت بالبرهان العقلي
أن الترتيب الصحيح ما ذكر في الآية، وما ذكر من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من
الذهاب إليه. انتهى.
وهذا فهم عجيب من الإمام، لأن القائل بالتقديم والتأخير لا يقول بأن كونه غير
ذي عوج متأخر عن كونه " قيما " في المعنى، وإنما الكلام في ترتيب اللفظ لأجل الإعراب.
وقد يكون أحد المعنيين ثابتا قبل الآخر ويذكر بعده.
وأيضا فإن هذا البحث إنما هو على تفسير القيم بالمستقيم، فأما إذا فسر بالقيام على
غيره فلا نسلم أن القائل يقول بالتقديم والتأخير.
وهاهنا أمران:
* * *
277

أحدهما: أن الأظهر جعل هذه الجملة - أعني قوله: (ولم يجعل له عوجا. قيما) -
من جملة صلة " الذي " وتمامها، وعلى هذا لا موضع لها من الإعراب لوجهين: أحدهما
أنها في حيز الصلة، لأنها معطوفة عليها. والثاني أنها اعتراض بين الحال وعاملها. ويجوز
في الجملة المذكورة أن يكون موضعها النصب، على أنها حال من " الكتاب "، والعامل
فيها " أنزل ".
قاله جماعة، وفيه نظر.
وأما قوله: " قيما " فيجوز في نصبه وجوه:
أحدها - وهو قول الأكثر - أنه منصوب على الحال من " الكتاب " والعامل فيه
" أنزل "، وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب
قيما، ولم يجعل له عوجا "، فتكون الجملة على هذا اعتراضا.
والثاني أن يكون منصوبا بفعل مقدر، وتقديره: " ولكن جعله قيما "، فيكون مفعولا
للفعل المقدر.
والثالث أن يكون حالا من الضمير في قوله: (ولم يجعل له عوجا)، وتكون
حالا مؤكدة.
واختار صاحب الكشاف أن يكون " قيما " مفعولا لفعل مقدر كما ذكرناه، لأن
الجملة التي قبلها عنده معطوفة على الصلة، و " قيما " من تمام الصلة، وإذا كان حالا يكون
فيه فصل بين بعض الصلة وتمامها، فكان الأحسن جعله معمولا لمقدر.
وقال جماعة منهم ابن المنير في تفسير البحر بعد نقله كلام الزمخشري: وعجيب من كونه
لم يجعل الفاصل المذكور حالا أيضا، ولا فصل، بل هما حالان متواليان من شيء واحد،
والتقدير: أنزل الكتاب غير معوج.
278

وهذا القول - وهو جعل الجملة حالا - قد ذكره جماعة قبل ابن المنير. والظاهر أن الزمخشري
لم يرتض هذا القول، لأن جعل الجملة حالا لا يفيده ما يفيد العطف، من نفي العوج عن
الكتاب مطلقا، غير مقيد بالإنزال وهو المقصود. فالفائدة التي هي أتم إنما تكون على
تقدير استقلال الجملة. كيف والقول بالتقديم والتأخير منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما!
نقله الطبري وغيره.
وقال الواحدي: هو قول جميع أهل اللغة والتفسير. والزمخشري ربما لاحظ هذا
المعنى، ولم يمنع جواز غير ما قال، لكن ما قال هو الأحسن.
وقال غير ابن المنير في الاعتراض على الزمخشري: إن الجملة وإن كانت مستقلة فهي
في حيز الصلة للعطف، فلم يقع فصل، ويؤيد ما ذكره صاحب الكشاف أن بعض القراء
يسكت عند قوله: " عوجا " ويفصل بينه وبين " قيما " بسكتة لطيفة، وهي رواية حفص
عن عاصم، وذلك يحتمل أن يكون لما ذكرنا من تقدير الفصل وانقطاع الكلام عما قبله.
قال ابن المنير: وتحتمل السكتة وجها آخر، وهو أن يكون ذلك لرفع توهم أن يكون
" قيما " نعتا للعوج، لأن النكرة تستدعي النعت غالبا، وقد كثر في كلامهم إيلاء النكرة
الجامدة نعتها، كقوله: (صراطا مستقيما)، و (قرآنا عربيا)، فإذا ولي النكرة
الجامدة اسم مشتق نكرة ظهر فيه معنى الوصف، فربما خيف اللبس في جعل " قيما " نعتا
ل‍ " عوج "، فوقع اللبس بهذه السكتة.
وهذا أيضا فيه نظر، لأن ذلك إنما يتوهم فيما يصلح أن يكون وصفا، ولا يصلح " قيما "
أن يكون وصفا ل‍ " عوج " فإن الشيء لا يوصف بضده، لأن العوج لا يكون قيما، والأولى
ما ذكرناه أولا.
* * *
279

الثاني: نقل الإمام عن بعضهم أن " قيما " بدل من قوله: " عوجا "، وهو مشكل،
لأنه لا يظهر له وجه.
* * *
وقوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها)، قيل: التقدير: لقد همت به لولا أن
رأى برهان ربه وهم بها. وهذا أحسن، لكن في تأويله قلق، ولا يحتاج إلى هذا
التأويل إلا على قول من قال: إن الصغائر يجوز وقوعها منهم.
وقوله: (فضحكت، فبشرناها بإسحاق) قيل: أصله: فبشرناها بإسحاق
فضحكت. وقيل: ضحكت أي حاضت بعد الكبر عند البشرى، فعادت إلى عادات
النساء من الحيض والحمل والولادة.
وقوله: (فأردت أن أعيبها)، قدم على ما بعده، وهو مؤخر عنه في المعنى،
لأن ذلك يحصل للتوافق.
وقوله: (فجعله غثاء أحوى) أي أحوى غثاء، أي أخضر، يميل إلى السواد،
والموجب لتأخير (أحوى) رعاية الفواصل.
وقوله: (ومن يبتغ غير الاسلام دينا)، قال ابن برهان النحوي: أصله:
ومن يبتغ دينا غير الاسلام.
وقوله: (وغرابيب سود)، قال أبو عبيد: الغربيب الشديد السواد، ففي
الكلام تقديم وتأخير. وقال صاحب " العجائب والغرائب ": قال ابن عيسى:
280

الغربيب الذي لونه لون الغراب، فصار كأنه غراب. قال: والغراب يكون أسود وغير
أسود، وعلى هذا فلا تقديم ولا تأخير فيه.
وقوله: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) على قول من يقول: إن
الذكر هنا القرآن.
وقوله: (حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها).
وقوله: (اقتربت الساعة وانشق القمر).
وقوله: (فكذبوه فعقروها) أي فعقروها ثم كذبوه في عقرها وفي إجابتهم.
وقوله: (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده)، تقديره: ثم قضى أجلا وعنده
أجل مسمى، أي وقت مؤقت.
وقوله: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) أي الأوثان من الرجس.
(هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) أي يرهبون ربهم.
(والذين هم لفروجهم حافظون)، أي الذين هم حافظون لفروجهم.
(فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) أي مخلف رسله وعده.
(بل الانسان على نفسه بصيرة)، أي بل الانسان بصير على نفسه في
شهود جوارحه عليه.
(خلق الانسان من عجل)، أي خلق العجل من الانسان.
(ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى)، أي ولولا
281

كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان العذاب لازما لهم.
(ألم تر إلى ربك كيف مد الظل)، أي كيف مده ربك.
(وإنه لحب الخير لشديد) أي لشديد لحب الخير.
(وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم) أي زين للمشركين
شركاؤهم قتل أولادهم، لأن الشياطين كانوا يحسنون لهم قتل بناتهم خشية العار.
وقوله: (لعله الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته).
وقوله: (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا)، أي فلا تعجبك
أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وقوله: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح)،
تقديره: مثل الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح.
وقوله: (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين)، أي فأنا عدو آلهتهم وأصنامهم،
وكل معبود يعبدونه من دون الله.
وقوله: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا)، أي فزعوا وأخذوا،
فلا فوت، لأن الفوت يكون بعد الأخذ.
وقوله: (هل آتاك حديث الغاشية)، يعني القيامة. (وجوه يومئذ خاشعة)،
282

وذلك يوم القيامة. ثم قال: (عاملة ناصبة)، والنصب والعمل يكونان في الدنيا،
فكأنه على التقديم والتأخير، معناه: وجوه عاملة ناصبة ويوم القيامة خاشعة، والدليل عليه
قوله: (وجوه يومئذ ناعمة).
وقوله: (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم
إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون)، تقديره: لمقت الله إياكم في الدنيا حين دعيتم
إلى الإيمان فكفرتم، ومقته إياكم اليوم أكبر من مقتكم أنفسكم إذ دعيتم إلى النار.
وقوله: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)،
لأن الفجر ليس له سواد، والتقدير: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط
الأسود من الليل، أي حتى يتبين لكم بياض الصبح من بقية سواد الليل.
وقوله: (ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه
مودة).
وقوله: (كأن لم تكن) منظوم بقوله: (قال قد أنعم الله على)، لأنه
موضع الشماتة.
وقوله: (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين)، أي اثنين إلهين، لأن اتخاذ
اثنين يقع على ما يجوز وما لا يجوز، و " إلهين " لا يقع إلا على ما لا يجوز، ف‍ " إلهين "
أخص، فكان جعله صفة أولى.
283

النوع الثالث
ما قدم في آية وأخر في أخرى
فمن ذلك قوله في فاتحة الفاتحة: (الحمد لله) وفي خاتمة الجاثية (فلله الحمد)،
فتقديم " الحمد " في الأول جاء على الأصل، والثاني على تقدير الجواب، فكأنه قيل
عند وقوع الأمر: لمن الحمد؟ ومن أهله؟ فجاء الجواب على ذلك، نظيره: (لمن الملك
اليوم)، ثم قال: (لله الواحد القهار).
وقوله في سورة يس: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى)، قدم المجرور
على المرفوع، لاشتمال ما قبله من سوء معاملة أصحاب القرية الرسل، وإصرارهم
على تكذيبهم، فكان مظنة التتابع على مجرى العبارة، تلك القرية، ويبقى مخيلا
في فكره: أكانت كلها كذلك، أم كان فيها... على خلاف ذلك، بخلاف
ما في سورة القصص.
ومنها قوله في سورة النمل: (ولقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل)، وفي سورة
المؤمنين: (ولقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل)، فإن ما قبل الأولى (أئذا كنا
ترابا وآباؤنا)، وما قبل الثانية: (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما)، فالجهة
المنظور فيها هناك كون أنفسهم وآبائهم ترابا، والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابا وعظاما،
ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث.
284

ومنها قوله في سورة المؤمنين: (وقال الملأ من قومه الذين كفروا)، فقدم
المجرور على الوصف، لأنه لو أخبر عنه - وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل عليه
الموصوف، وتمامه: (وأترفناهم في الحياة الدنيا) - لاحتمل أن يكون من نعيم
الدنيا. واشتبه الأمر في القائلين: أهم من قومه، أم لا؟ بخلاف قوله في موضع آخر منها:
(فقال الملأ الذين كفروا من قومه)، فإنه جاء على الأصل.
ومنها قوله في سورة طه: (آمنا برب هارون وموسى)، تتميما على الفاصلة،
بخلاف قوله في سورة الشعراء: (رب موسى وهارون).
ومنها قوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم)،
وقال في سورة الإسراء: (نحن نرزقهم وإياكم)، قدم المخاطبين في الأولى
دون الثانية، لأن الخطاب في الأولى في الفقراء، بدليل قوله: (من إملاق)، فكان
رزقهم عندهم أهم من رزق أولادهم، فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم، والخطاب
في الثانية للأغنياء، بدليل (خشية إملاق)، فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع، فكان
رزق أولادهم هو المطلوب، دون رزقهم، لأنه حاصل، فكان أهم، فقدم الوعد برزق
أولادهم على الوعد برزقهم.
ومنها ذكر الله في أواخر سورة الملائكة: (إن الله عالم غيب السماوات
والأرض) فقدم ذكر السماوات، لأن معلوماتها أكثر، فكان تقديمها أدل على
صفة العالمية، ثم قال: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا
خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات) فبدأ بذكر الأرض، لأنه في
285

سياق تعجيز الشركاء عن الخلق والمشاركة، وأمر الأرض في ذلك أيسر من السماء بكثير،
فبدأ بالأرض مبالغة في بيان عجزهم، لأن من عجز عن أيسر الأمرين كان عن أعظمهما أعجز،
ثم قال سبحانه: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا)، فقدم السماوات
تنبيها على عظم قدرته سبحانه، لأنه خلقها أكبر من خلق الأرض، كما صرح به في
سور المؤمن، ومن قدر على إمساك الأعظم كان على إمساك الأصغر أقدر.
فإن قلت: فهلا اكتفى من ذكر الأرض بهذا التنبيه البين، الذي لا يشك
فيه أحد!
قلت: أراد ذكرها مطابقة، لأنه على كل حال أظهر وأبين، فانظر أيها العاقل
حكمة القرآن، وما أودعه غير من البيان والتبيان، تحمد عاقبة النظر، وتنتظر خير منتظر!
* * *
ومن أنواعه أن يقدم اللفظ في الآية ويتأخر فيها، لقصد أن يقع البداءة والختم به،
للاعتناء بشأنه، وذلك كقوله تعالى 6 (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فأما الذين
اسودت وجوههم).
وقوله: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها...) إلى قوله: (قل ما عند
الله خير من اللهو ومن التجارة).
وكذلك قوله: (إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم
تكتمون) فإنه لولا ما أسلفناه، لقيل: ما تكتمون وتبدون، لأن الوصف بعلمه
286

أمدح، كما قيل: (يعلم سركم وجهركم)، و (عالم الغيب والشهادة)
(والله يعلم يعلم ما تسرون وما تعلنون).
فإن قلت: فقد قال تعالى: (يعلم السر وأخفى).
قلت: لأجل تناسب رؤوس الآي.
ومنها أن يقع التقديم في موضع والتأخير في آخر، واللفظ واحد، والقصة واحدة،
للتفنن في الفصاحة، وإخراج الكلام على عدة أساليب، كما في قوله تعالى:
(وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة)، وقوله: (وقولوا حطة وادخلوا الباب
سجدا).
وقوله: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)، وقوله: (وختم على سمعه
وقلبه)، قال الزمخشري في كشافه القديم: علم بذلك أن كلا الطريقين داخل تحت
الحسن، وذلك لأن العطف في المختلفين، كالتثنية في المتفقين، فلا عليك أن تقدم
أيهما شئت، فإنه حسن مؤد إلى الغرض. وقد قال سيبويه: ولم يجعل للرجل منزلة بتقديمك
إياه، بكونه أولى بها من الجائي، كأنك قلت: مررت بهما، يعني في قولك: مررت
برجل وجاءني، إلا أن الأحسن تقديم الأفضل، فالقلب رئيس الأعضاء، والمضغة لها
الشأن، ثم السمع طريق إدراك وحي الله، وكلامه الذي قامت به السماوات والأرض، وسائر
العلوم التي هي الحياة كلها.
قلت: وقد سبق توجيه كل موضع بما ورد فيه من الحكمة.
287

القلب
وفى كونه من أساليب البلاغة خلاف، فأنكره جماعة، منهم حازم في كتاب
" منهاج البلغاء " وقال: إنه مما يجب أن ينزه كتاب الله عنه، لأن العرب إن صدر
ذلك منهم فبقصد العبث أو التهكم أو المحاكاة أو حال اضطرار، والله منزه عن ذلك.
وقبله جماعة مطلقا، بشرط عدم اللبس كما قاله المبرد في كتاب " ما اتفق لفظه
واختلف معناه ".
وفصل آخرون بين أن يتضمن اعتبارا لطيفا، فبليغ وإلا فلا، ولهذا قال ابن الضائع:
يجوز القلب على التأويل، ثم قد يقرب التأويل فيصح في فصيح الكلام، وقد يبعد
فيختص بالشعر.
وهو أنواع:
أحدها
قلب الإسناد
وهو إن أن يشمل الإسناد إلى شيء والمراد غيره، كقوله تعالى: (ما إن مفاتحه لتنوء
بالعصبة)، إن لم تجعل الباء للتعدية، لأن ظاهره أن المفاتح تنوء بالعصبة، ومعناه
أن العصبة تنوء بالمفاتح لثقلها، فأسند " لتنوء " إلى " المفاتح "، والمراد إسناده إلى العصبة
288

لأن الباء للحال والعصبة مستصحبة المفاتح، لا تستصحبها المفاتح. وفائدته المبالغة، يجعل
المفاتح كأنها مستتبعة للعصبة القوية بثقلها.
وقيل: لا قلب فيه، والمراد - والله أعلم - أن المفاتح تنوء بالعصبة، أي تميلها من ثقلها.
وقد ذكر هذا الفراء وغيره.
وقال ابن عصفور: والصحيح ما ذهب إليه الفارسي أنها بالنقل ولا قلب، والفعل
غير متعد، فصار متعديا بالباء، لأن " ناء " غير متعد، يقال: ناء النجم، أي نهض، ويقال:
ناء، أي مال للسقوط. فإذا نقلت الفعل بالباء قلت: نؤت به، أي أنهضته وأملته للسقوط،
فقوله: (لتنوء بالعصبة) أي تميلها المفاتح للسقوط لثقلها.
قال: وإنما كان مذهب الفارسي أصح، لأن نقل الفعل غير المتعدي بالباء مقيس،
والقلب غير مقيس، فحمل الآية على ما هو مقيس أولى.
ومنه قوله تعالى: (خلق الانسان من عجل)، أي خلق العجل من الانسان.
قاله ثعلب وابن السكيت.
قال الزجاج: ويدل على ذلك: (وكان الانسان عجولا).
قال ابن جنى: والأحسن أن يكون تقديره: خلق الانسان من العجلة، لكثرة فعله
إياه، واعتماده له، وهو أقوى في المعنى من القلب، لأنه أمر قد اطرد واتسع، فحمله على
القلب يبعد في الصنعة، ويضعف المعنى.
ولما خفي هذا على بعضهم قال: إن العجل هاهنا الطين، قال: ولعمري إنه في اللغة
كما ذكر، غير أنه ليس المراد هنا إلا نفس العجل، ألا ترى إلى قوله عقبه: (سأريكم آياتي
فلا تستعجلون)، ونظيره قوله: (وكان الانسان عجولا)، وخلق الانسان
289

ضعيفا)، لأن العجلة ضرب من الضعف، لما تؤذن به الضرورة والحاجة.
وقيل في قوله: (وجاءت سكرة الموت بالحق): أي إنه من المقلوب، وأنه
(وجائت سكرة الحق بالموت)، وهكذا في قراءة أبي بكر.
ومثله: (لكل أجل كتاب)، قال الفراء: أي لكل أمر كتبه الله
أجل مؤجل.
وقيل في قوله: (وإن يردك بخير): هو من المقلوب، أي يريد بك الخير،
ويقال: أراده بالخير وأراد به الخير.
وجعل ابن الضائع منه: (فتلقى آدم من ربه كلمات)، قال: فآدم صلوات الله
على نبينا وعليه هو المتلقي للكلمات حقيقة، ويقرب أن ينسب التلقي للكلمات، لأن
من تلقى شيئا، أو طلب أن يتلقاه فلقيه كان الآخر أيضا قد طلب ذلك، لأنه قد لقيه قال:
ولقرب هذا المعنى قرئ بالقلب.
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: (فعميت علكيم)، أي فعميتم عليها.
وقوله: (فاختلط به نبات الأرض).
وقوله: (وقد بلغت من الكبر عتيا)، (وقد بلغني الكبر)،
أي بلغت الكبر.
وقوله: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، وقوله: (فإنهم عدو لي
290

إلا رب العالمين)، فإن الأصنام لا تعادي، وإنما المعنى: فإني عدو لهم، مشتق
من عدوت الشيء، إذا جاوزته وخلفته، وهذا لا يكون إلا فيمن له إرادة، وأما " عاديته "
فمفاعلة لا يكون إلا من اثنين.
وجعل منه بعضهم: (وإنه لحب الخير لشديد)، أي إن حبه للخير لشديد.
وقيل: ليس منه، لأن المقصود منه أنه لحب المال لبخيل، والشدة: البخل، أي من أجل
حبه للمال يبخل.
وجعل الزمخشري منه قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار)،
كقوله: عرضت الناقة على الحوض، لأن المعروض ليس له اختيار، وإنما الاختيار
للمعروض عليه، فإنه قد يفعل ويريد، وعلى هذا فلا قلب في الآية، لأن الكفار مقهورون
فكأنهم لا اختيار لهم، والنار متصرفة فيهم، وهو كالمتاع الذي يقرب منه من يعرض عليه،
كما قالوا: عرضت الجارية على البيع.
وقوله: (وحرمنا عليه المراضع من قبل)، ومعلوم أن التحريم لا يقع
إلا على المكلف، فالمعنى: وحرمنا على المراضع أن ترضعه. ووجه تحريم إرضاعه عليهن
ألا يقبل إرضاعهن حتى يرد إلى أمه.
وقوله تعالى: (وما يخادعون إلا أنفسهم)، قيل: الأصل وما تخدعهم
إلا أنفسهم، لأن الأنفس هي المخادعة، والمسولة، قال تعالى: (بل سولت لكم
أنفسكم).
ورد بأن الفاعل في مثل هذا هو المفعول في المعنى، وأن التغاير في اللفظ فقط، فعلى هذا
يصح إسناد الفعل إلى كل منهما، ولا حاجة إلى القلب.
291

الثاني
قلب المعطوف
إما بأن تجعل المعطوف عليه معطوفا والمعطوف معطوفا عليه، كقوله تعالى: (فألقه
إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون)، حقيقته: فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم،
لأن نظره ما يرجعون من القول غير متأت مع توليه عنهم. وما يفسر به التولي من أنه
يتوارى في الكوة التي ألقى منها الكتاب مجاز، والحقيقة راجحة عليه.
وقوله: (ثم دنا فتدلى)، أي تدلى فدنا، لأنه بالتدلي نال الدنو والقرب إلى
المنزلة الرفيعة وإلى المكانة، لا إلى المكان.
وقيل: لا قلب، والمعنى: ثم أراد الدنو فتدلى، وفي صحيح البخاري: (فإذا قرأت
القرآن فاستعذ)، المعنى فإذا استعذت فأقرأ.
وقوله: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا)، وقال صاحب الإيضاح:
لا قلب فيه، لعدم تضمنه اعتبارا لطيفا.
ورد بتضمنه المبالغة في شدة سورة البأس، يعنى هلكت بمجرد توجه الناس إليها،
ثم جاءها.
الثالث
العكس
العكس، وهو أمر لفظي، كقوله: (ما عليك من حسابهم من شيء وما من
حسابك عليهم من شيء).
292

وقوله: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).
(لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن).
(يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل).
الرابع
المستوي
وهو أن الكلمة أو الكلمات تقرأ من أولها إلى آخرها، ومن آخرها إلى أولها،
لا يختلف لفظها ولا معناها، كقوله: و (ربك فكبر).
(كل في فلك).
الخامس
مقلوب البعض
وهو أن تكون الكلمة الثانية مركبة من حروف الكلمة الأولى، مع بقاء بعض
حروف الكلمة الأولى، كقوله تعالى: (فرقت بين بني إسرائيل)، ف‍ " بني "
مركب من حروف " بين "، وهو مفرق، إلا أن الباقي بعضها في الكلمتين،
وهو أولها.
293

المدرج
هذا النوع سميته بهذه التسمية، بنظير المدرج من الحديث، وحقيقته في أسلوب
القرآن أن تجئ الكلمة إلى جنب أخرى كأنها في الظاهر معها، وهي في الحقيقة غير
متعلقة بها، كقوله تعالى ذاكرا عن بلقيس: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها
وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) هو من قول الله لا من قول المرأة.
ومنه قوله تعالى: (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن
الصادقين). انتهى قول المرأة، ثم قال يوسف عليه السلام: (ذلك ليعلم أني لم
أخنه بالغيب)، معناه ليعلم الملك أني لم أخنه.
ومنه: (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا)، تم الكلام، فقالت الملائكة: (هذا
ما وعد الرحمن وصدق المرسلون).
وقوله: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)
فهذه صفة لأتقياء المؤمنين، ثم قال: (يمدونهم في الغي)، فهذا يرجع إلى كفار مكة
تمدهم إخوانهم من الشياطين في الغي.
294

وقوله: (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) ثم أخبر عن فرعون متصلا:
(فماذا تأمرون).
وقوله: (هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار)، فالظاهر
أن الكلام كله من كلام الزبانية، والأمر ليس كذلك.
وقوله: (إذ جاء ربه بقلب سليم) من كلامه تعالى، وقال: (إلا من أتى الله
بقلب سليم).
295

الترقي
كقوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم)، (لا يغادر صغيرة
ولا كبيرة).
فإن قيل: فقد ورد: (فلا يخاف ظلما ولا هضما)، والغالب أن يقدم في القليل
على الكثير، مع أن الظلم منع للحق من أصله، والهضم منع له من وجه كالتطفيف، فكان
يناسبه تقديم الهضم.
قلت: لأجل فواصل الآي، فإنه تقدم قبله: (وقد خاب من حمل ظلما)،
فعدل عنه في الثاني، كيلا يكون أبطأ، وقد سيقت أمثلة الترقي في أسباب التقديم.
296

الاقتصاص
ذكره أبو الحسين بن فارس، وهو أن يكون كلام في سورة مقتصا من كلام
في سورة أخرى، أو في السورة نفسها، ومثله بقوله تعالى: (وآتيناه أجره في الدنيا وإنه
في الآخرة لمن الصالحين)، والآخرة دار ثواب لا عمل فيها، فهذا مقتص من قوله:
(ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى).
ومنه قوله تعالى: (ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين)، مأخوذ
من قوله تعالى: (فأولئك في العذاب محضرون).
وقوله: (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا).
فأما قوله تعالى: (ويوم يقوم الأشهاد)، فيقال: إنها مقتصة من أربع آيات،
لأن الأشهاد أربعة:
الملائكة عليهم السلام في قوله: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد).
والأنبياء عليهم السلام لقوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد
وجئنا بك على هؤلاء شهيدا).
وأمه محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا
شهداء على الناس).
297

والأعضاء لقوله: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا
يعملون).
ومنه قوله تعالى: (إني أخاف عليكم يوم التناد)، وقرئت مخففة ومثقلة،
فمن شدد فهو من " ند " إذا نفر، وهو مقتص من قوله: (يوم يفر المرء من
أخيه..) الآية، ومن خفف فهو تفاعل من النداء، مقتص من قوله تعالى: (ونادى
أصحاب الجنة أصحاب النار).
298

الألغاز
واللغز الطريق المنحرف، سمى به لانحرافه عن نمط ظاهر الكلام، ويسمى أيضا
أحجية، لأن الحجى هو العقل، وهذا النوع يقوي العقل عند التمرن والارتماض، بحله
والفكر فيه.
وذكر بعضهم أنه وقع في القرآن العظيم، وجعل منه ما جاء في أوائل السور من الحروف
المفردة والمركبة التي جهل معناها، وحارت العقول في منتهاها.
ومنه قوله تعالى في قصة إبراهيم لما سئل عن كسر الأصنام، وقيل له: أنت فعلته،
فقال: (بل فعله كبيرهم هذا)، قابلهم بهذه المعارضة ليقيم عليهم الحجة،
ويوضح لهم المحجة.
وكذلك قول نمروذ: (أنا أحيي وأميت)، أتى باثنين فقتل أحدهما، وأرسل
الآخر، فإن هذه مغالطة.
299

الاستطراد
وهو التعريض بعيب انسان بذكر عيب غيره، كقوله تعالى: (وسكنتم في مساكن
الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم).
وكقوله: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود).
وقوله: (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود).
300

الترديد
وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام ثم يردها بعينها، ويعلقها بمعنى آخر كقوله:
(حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم....)، الآية، فإن الأول مضاف
إليه، والثاني مبتدأ.
وقوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة
الدنيا).
وقوله: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه
فيه رجال).
وقد يحذف أحدها ويضمر، أولا يلاحظ، وإن على الخلاف في قوله تعالى: (لا ريب
فيه هدى للمتقين).
301

التغليب
وحقيقته إعطاء الشيء حكم غيره. وقيل ترجيح أحد المغلوبين على الآخر، أو إطلاق
لفظة عليهما، إجراء للمختلفين مجرى المتفقين.
وهو أنواع:
الأول
تغليب المذكر
كقوله تعالى: (وجمع الشمس والقمر) غلب المذكر، لأن الواو جامعة،
لأن لفظ الفعل مقتض، ولو أردت العطف امتنع.
وقوله: (ولو كانت من القانتين).
وقوله: (إلا امرأته كانت من الغابرين)، والأصل " من القانتات والغابرات "
فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب.
هكذا قالوا، وهو عجيب، فإن العرب تقول: نحن من بني فلان، لا تريد إلا موالاتهم،
والتصويب لطريقتهم، وفي الحديث الصحيح في الأشعريين: " هم مني وأنا منهم " فقوله
سبحانه: (من القانتين) ولم يقل: " من القانتات "، إيذانا بأن وضعها في العباد جدا
واجتهادا، وعلما وتبصرا ورفعة من الله لدرجاتها في أوصاف الرجال القانتين وطريقهم.
ونظيره، ولكن بالعكس قول عقبة بن أبي معيط لأمية بن خلف لما أجمع القعود
302

عن وقعة بدر، لأنه كان شيخا فجاء بمجمرة، فقال: يا أبا علي استجمر، فإنما أنت من
النساء، فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به! ثم تجهز.
ونازع بعضهم في ذلك من وجه آخر، فقال: يحتمل ألا يكون " من " للتبعيض
بل لابتداء الغاية، أي كانت ناشئة من القوم القانتين، لأنها من أعقاب، هارون أخي
موسى عليه السلام.
الثاني
تغليب المتكلم على المخاطب والمخاطب على الغائب
فيقال: أنا وزيد فعلنا، وأنت وزيد تفعلان. ومنه قوله تعالى: (بل أنتم قوم
تجهلون)، بتاء الخطاب، غلب جانب " أنتم " على جانب " قوم "، والقياس
أن يجئ بالياء، لأنه وصف القوم، وقوم اسم غيبة، ولكن حسن آخر الخطاب، وصفا
ل‍ " قوم " لوقوعه خبرا عن ضمير المخاطبين. قاله ابن الشجري.
ولو قيل: إنه حال ل‍ (فتلك بيوتهم خاوية)، لأن في الضمير الخطاب معنى
الإشارة لملازمته لها، أو لمعناها لكان متجها وإن لم تساعده الصناعة، لكن يبعده أن
المراد وصفهم بجهل مستمر، لا مخصوص بحال الخطاب، ولم يقل " جاهلون "، إيذانا
بأنهم يتجددون عند كل مصيبة لطلب آيات جهلهم.
وقال أبو البركات بن الأنباري: ولو قيل: إنما قال: (تجهلون) بالتاء - لأن
" قوم " هو " أنتم " في المعنى فلذلك، قال: " تجهلون " حملا على المعنى - لكان حسنا،
ونظيره قوله:
* أنا الذي سمتني أمي حيدره *
303

بالياء حملا على " أنا " لأن " الذي " هو " أنا " في المعنى.
ومنه قوله تعالى: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك)، غلب فيه جانب
" أنت " على جانب " من " فأسند إليه الفعل، وكان تقديره: فاستقيموا، فغلب الخطاب
على الغيبة، لأن حرف العطف فصل بين المسند إليهم الفعل، فصار كما ترى. قال صاحب
الكشاف: تقديره: فاستقم كما أمرت وليستقم كذلك من تاب معك.
وما قلنا أقل تقديرا من هذا فاختر أيهما شئت.
وقوله تعالى: (اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم)، فأعاد الضمير
بلفظ الخطاب، وإن كان " من تبعك " يقتضى الغيبة، تغليبا للمخاطب وجعل الغائب
تبعا له، كما كان تبعا له في المعصية والعقوبة، فحسن أن يجعل تبعا له في اللفظ، وهو من
محاسن ارتباط اللفظ بالمعنى.
وكقوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم
لعلكم تتقون)، فإن الخطاب في (لعلكم) متعلق بقوله: (خلقكم) لا بقوله
(اعبدوا) حتى يختص بالناس المخاطبين، إذ لا معنى لقوله: " اعبدوا لعلكم تتقون ".
ومنه قوله تعالى: (وما ربك بغافل عما تعملون)، فيمن قرأ بالتاء. ويجوز
أن يكون المراد ب‍ " ما تعملون " الخلق كلهم، والمخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وكل سامع
أبدا، فيكون تغليبا، ولا يجوز أن يعتبر خطاب من سواه بدونه من غير اعتبار التغليب،
لامتنان أن يخاطب في كلام واحد اثنان أو أكثر من غير عطف أو تثنية أو جمع.
ومنه قوله تعالى:...
304

الثالث
تغليب العاقل على غيره
بأن يتقدم لفظ يعم من يعقل ومن لا يعقل، فيطلق اللفظ المختص بالعاقل على الجميع كما
تقول: " خلق الله الناس والأنعام ورزقهم "، فإن لفظ " هم مختص بالعقلاء. ومنه قوله
تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء)، لما تقدم لفظ الدابة، والمراد بها عموم من يعقل
ومن لا يعقل غلب من يعقل، فقال: (فمنهم من يمشي).
فإن قيل: هذا صحيح في " فمنهم " لأنه لمن يعقل، وهو راجع إلى الجميع، فلم قال:
" من " وهو لا يقع على العام، بل خاص بالعاقل؟
قلت: " من " هنا بعض " هم "، وهو ضمير من يعقل.
فإن قلت: فكيف يقع على بعضه لفظ ما لا يعقل؟
قلت: من هنا قال أبو عثمان: إنه تغليب من غير عموم لفظ متقدم، فهو بمنزلة من
يقول: رأيت ثلاثة: زيدا وعمرا وحمارا.
وقال ابن الضائغ: هم لا تقع إلا على من يعقل، فلما أعاد الضمير على كل دابة غلب
من يعقل، فقال: " هم "، و " من " بعض هذا الضمير، وهو للعاقل، فلزم أن يقول " من "
فلما قال: بوقوع التغليب في الضمير، صار ما يقع عليه حكمه حكم العاقلين، فتمم ذلك بأن
أوقع " من ".
وقوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض (قالتا أتينا طائعين)، إنما جمعهما جمع
305

السلامة، ولم يقل " طائعين " ولا " طائعات "، لأنه أراد ائتيا بمن فيكم من الخلائق
طائعين، فخرجت الحال على لفظ الجمع، وغلب من يعقل من الذكور.
وقال بعض النحويين: لما أخبر عنهما أنهما يقولان كما يقول الآدميون أشبهتا
الذكور من بني آدم. وإنما قال: " طائعين " ولم يقل: " مطيعين " لأنه من طعنا
أي انقدنا، وليس من أطعنا، يقال: طاعت الناقة تطوع طوعا، إذا انقادت.
وقوله تعالى: (بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون)، قيل: أوقع
" ما " لأنها تقع على أنواع من يعقل، لأنه إذا اجتمع من يعقل ومالا يعقل فغلب مالا يعقل،
كان الأمر بالعكس. ويناقضه: (كل له قانتون).
وقال الزمخشري: جاء ب‍ " ما " تحقيرا لشأنهم وتصغيرا، قال:
" له قانتون " تعظيم.
ورد عليه ابن الضائع بصحة وقوعها على الله عز وجل، قال: وهذا غاية الخطأ،
وقوله في دعاء الأصنام: (هل يسمعونكم إذ تدعون).
وقوله: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا).
وأما قوله: (فظلت أعناقهم لها خاضعين)، وقوله: (في فلك يسبحون)،
(لقد علمت ما هؤلاء ينطقون).
(إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين).
(لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها). (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم)
306

لما أخبر عنها بأخبار الآدميين جرى ضميرها على حد من يعقل، وكذا البواقي.
فإن قيل: فقد غلب غير العاقل على العاقل في قوله: (ولله يسجد ما في السماوات
وما في الأرض من دابة) فإنه لو غلب العاقل على غير العاقل لأتى ب‍ " من ".
فالجواب أن هذا الموضع غلب فيه من يعقل، وعبر عن ذلك ب‍ " ما "، لأنها واقعة
على أجناس من يعقل خاصة، كهذه الآية.
قوله: (لله ملك السماوات والأرض وما فيهن)، ولم يقل " ومن فيهن "
قيل: لأن كلمة " ما " تتناول الأجناس كلها تناولا عاما بأصل الوضع، و " من "
لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع، فكان استعمال " ما " هنا أولى.
وقد يجتمع في لفظ واحد تغليب المخاطب على الغائب، والعقلاء على غيرهم، كقوله:
(جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه)، أي خلق
لكم أيها الناس من جنسكم ذكورا وإناثا، وخلق الأنعام أيضا من أنفسها ذكورا وإناثا،
يذرؤكم، أي ينبتكم ويكثركم أيها الناس والأنعام، في هذا التدبير والجعل، فهو خطاب
للجميع، للناس المخاطبين وللأنعام المذكورة بلفظ الغيبة، ففيه تغليب المخاطب على
الغائب، وإلا لما صح ذكر الجميع - أعني الناس والأنعام - بطريق الخطاب، لأن الأنعام
غيب، و [فيه] تغليب العقلاء على غيرهم، وإلا لما صح خطاب الجمع بلفظ " كم " المختص
بالعقلاء، ففي لفظ " كم " تغليبان، ولولا التغليب لكان القياس أن يقال: يذرؤكم وإياها.
هكذا قرره السكاكي والزمخشري.
ونوزعا فيه، بأن جعل الخطاب شاملا للأنعام تكلف لا حاجة إليه، لأن الغرض
إظهار القدرة وبيان الألطاف في حق الناس، فالخطاب مختص بهم، والمعنى: يكثركم
307

أيها الناس في التدبير حيث مكنكم من التوالد والتناسل، وهيأ لكم من مصالحكم
ما تحتاجون إليه في ترتيب المعاش وتدبير التوالد، وجعلها أزواجا تبقى ببقائكم، وعلى هذا
يكون التقدير: وجعل لكم من الأنعام أزواجا. وهذا أنسب بنظم الكلام مما قرروه،
وهو جعل الأنعام أنفسها أزواجا.
وقوله: (يذرؤكم فيه) أي في هذا التدبير، كأنه محل لذلك، ولم يقل " به " كما
قال: (ولكم في القصاص حياة)، لأنه مسوق لإظهار الاقتدار مع الوحدانية،
فأسقط السببية، وأثبت " في " الظرفية، وهذا وجه من إعجاز قوله تعالى: (ولكم في القصاص
حياة)، لأن الحياة من شأنها الاستناد إليه سبحانه لا إلى غيره، فاختيرت " في " على
" الباء "، لأنه مسوق لبيان الترغيب والمعنى مفهوم، والقصاص مسوق للتجويز وحسن
المشروعية، (وأن تعفوا أقرب للتقوى).
الرابع
تغليب المتصف بالشيء على ما لم يتصف به
كقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)، قيل: غلب
غير المرتابين على المرتابين، واعترض بقوله تعالى: (وادعوا شهداءكم من دون الله إن
كنتم صادقين)، وهذا خطاب للكفار فقط قطعا، فهم المخاطبون أولا بذلك،
ثم " إن كنتم صادقين 2 لا يتميز فيها التغليب، ثم هي شاهدة بأن المتكلم معهم يخص
308

الجاحدين بقوله: (إن كنتم صادقين)، وإذا لم يكن الخطاب إلا فيهم، فتغليب
حال من لم يدخل في الخطاب، لا عهد به في مخاطبات العرب.
الخامس
تغليب الأكثر على الأقل
بأن ينسب إلى الجميع وصف يختص بالأكثر، كقوله تعالى: (لنخرجنك يا شعيب
والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا)، أدخل شعيب عليه السلام
في قوله: (لتعودن) بحكم التغليب، إذ لم يكن في ملتهم أصلا حتى يعود إليها. ومثله
قوله: (إن عدنا في ملتكم)، واعترض بأن " عاد " بمعنى " صار " لغة
معروفة، وأنشدوا:
فإن تكن الأيام أحسن مرة * إلى فقد عادت لهن ذنوب
ولا حجة فيه، لجواز أن يكون ضمير " الأيام " فاعل " عادت "، وإنما الشاهد
في قول أمية:
تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعاد بعد أبوالا
ويحتمل جوابا ثالثا، وهو أن يكون قولهم لشعيب ذلك، من تعنتهم وبهتانهم وادعائهم
أن شعيبا كان على ملتهم، لا كما قال فرعون لموسى. وقوله: (وما يكون لنا أن نعود
فيها) كناية عن أتباعه لمجرد فائدتهم، وأنه صلى الله عليه وسلم إن قال ذلك عن نفسه
وأتباعه فقد استثنى، والمعلق بالمشيئة لا يلزم إمكانه شرعا تقديرا، والاعتراف بالقدرة
والرجوع لعلمه سبحانه، وأن علم العبد عصمة نفسه أدبا مع ربه لا شكا.
309

ويجوز أن يراد بالعود في ملتهم مجرد المساكنة والاختلاط، بدليل قوله: (إذ نجانا
الله منها). ونظيره: (ومطهرك من الذين كفروا)، ويكون ذلك إشارة إلى
الهجرة عنهم، وترك الإجابة لهم، لا جوابا لهم. وفيه بعد.
السادس
تغليب الجنس الكثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس
مغموز فيما بينهم، بأن يطلق اسم الجنس على الجميع
كقوله: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس)، وأنه عد منهم، مع
أنه كان من الجن، تغليبا لكونه جنيا واحدا فيما بينهم. ولأن حمل الاستثناء على الاتصال
هو الأصل. ويدل على كونه من غير الملائكة ما رواه مسلم في صحيحه: " خلقت الملائكة
من نور والجن من النار ".
وقيل: إنه كان ملكا فسلب الملكية، وأجيب عن كونه من الجن بأنه اسم لنوع
من الملائكة.
قال الزمخشري: كان مختلطا بهم، فحينئذ عمته الدعوة بالخلطة لا بالجنس، فيكون
من تغليب الأكثر.
هذا إن جعلنا الاستثناء متصلا، ولم يجعل " إلا " بمعنى " لكن ".
وقال ابن جنى في " القد ": قال أبو الحسن في قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى
310

ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله)، وإنما المتخذ إلها
عيسى دون أمه، فهو من باب:
* لنا قمراها والنجوم الطوالع *
السابع
تغليب الموجود على ما لم يوجد
كقوله: (بما أنزل إليك) قال الزمخشري: فإن المراد: المنزل كله، وإنما
عبر عنه بلفظ المضي وإن كان بعضه مترقبا، تغليبا للموجود على ما لم يوجد.
الثامن
تغليب الاسلام
كقوله تعالى: (ولكل درجات) قاله الزمخشري: لأن الدرجات للعلو
والدركات للسفل، فاستعمل الدرجات في القسمين تغليبا.
التاسع
تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه
كقوله تعالى: (ذلك بما قدمت أيديكم)، ذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال
311

نزاول بها، فحصل الجمع بالواقع بالأيدي، تغليبا أشار إليه الزمخشري في آخر آل عمران.
ويشاكله ما أنشده الغزنوي في " العامريات " لصفية بنت عبد المطلب:
فلا والعاديات غداة جمع * بأيديها إذا سطع الغبار
العاشر
تغليب الأشهر
كقوله تعالى: (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) أراد المشرق والمغرب،
فغلب المشرق، لأنه أشهر الجهتين، قاله ابن الشجري وسيأتي فيه وجه آخر.
فائدتان
إحداهما:
جميع باب التغليب من المجاز، لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أن القانتين
موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف، فإطلاقه على الذكور والإناث على غير ما وضع له،
وقس على هذا جميع الأمثلة السابقة.
الثانية:
الغالب من التغليب أن يراعى الأشرف كما سبق، ولهذا قالوا في تثنية الأب والأم:
أبوان، وفي تثنية المشرق والمغرب: المشرقان، لأن الشرق دال على الوجود، والغرب
دال على العدم، والوجود لا محالة أشرف، وكذلك القمران، قال:
* لنا قمراها والنجوم الطوالع *
أراد الشمس والقمر، فغلب القمر لشرف التذكير. وأما قولهم سنة العمرين، يريدون
312

أبا بكر وعمر، قال ابن سيده في " المحكم ": إنما فعلوا ذلك إيثارا للخفة، أي
غلب الأخف على الأثقل، لأن لفظ " عمر " مفرد ولفظ أبي بكر مركب.
وذكر أبو عبيد في " غريب الحديث " أن ذلك للشهرة وطول المدة.
وذكر غيرهما أن المراد به عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وعلى هذا
فلا تغليب.
ورد بأنهم نطقوا بالعمرين قبل أن يعرفوا عمر بن عبد العزيز، فقالوا يوم الجمل
لعلي بن أبي طالب: سنة العمرين.
313

الالتفات
وفيه مباحث:
الأول: في حقيقته
وهو نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب آخر تطرية واستدرارا للسامع، وتجديدا
لنشاطه، وصيانة لخاطره من الملال والضجر، بدوام الأسلوب الواحد على سمعه،
كما قيل:
لا يصلح النفس إن كانت مصرفة * إلا التنقل من حال إلى حال
قال حازم في " منهاج البلغاء ": وهم يسأمون الاستمرار على ضمير متكلم
أو ضمير مخاطب، فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة. وكذلك أيضا يتلاعب المتكلم بضميره،
فتارة يجعله تاء على جهة الإخبار عن نفسه، وتارة يجعله كافا فيجعل نفسه مخاطبا
وتارة يجعله هاء، فيقيم نفسه مقام الغائب. فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضمير
المتكلم والمخاطب لا يستطاب، وإنما يحسن الانتقال من بعضها إلى بعض، وهو نقل
معنوي لا لفظي، وشرطه أن يكون الضمير في المتنقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى
الملتف عنه، ليخرج نحو أكرم زيدا، وأحسن إليه، فضمير " أنت " الذي هو
" أ كرم " غير الضمير في " إليه ".
* * *
واعلم أن للتكلم والخطاب والغيبة مقامات، والمشهور أن الالتفات هو الانتقال من
أحدها إلى الآخر بعد التعبير بالأول.
314

وقال السكاكي: إما ذلك، وإما التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره.
البحث الثاني: في أقسامه
وهي كثيرة:
الأول
الالتفات من التكلم إلى الخطاب
ووجهه حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأنه أعطاه فضل
عناية وتخصيص بالمواجهة، كقوله تعالى: (ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون)،
الأصل: " وإليه أرجع " فالتفت من التكلم إلى الخطاب، وفائدته أنه أخرج الكلام
في معرض مناصحته لنفسه، وهو يريد نصح قومه، تلطفا وإعلاما أنه يريده لهم يريده لنفسه،
ثم التفت إليهم لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله.
وأيضا فإن قومه لما أنكروا عليه عبادته لله، أخرج الكلام معهم بحسب حالهم،
فاحتج عليهم بأنه يقبح منه أنه لا يعبد فاطره ومبدعه، ثم حذرهم بقوله: (وإليه
ترجعون).
لذا جعلوه من الالتفات، وفيه نظر لأنه، إنما يكون منه إذا كان القصد الإخبار
عن نفسه في كلتا الجملتين، وهاهنا ليس كذلك، لجواز أن يكون أراد بقوله: (وإليه
ترجعون) المخاطبين، ولم يرد نفسه، ويؤيده ضمير الجمع، ولو أراد نفسه لقال:
" نرجع ".
315

وأيضا فشرط الالتفات أن يكون في جملتين، و " فطرني " و " وإليه ترجعون "
كلام واحد.
وأجيب بأنه لو كان المراد بقوله: (ترجعون) ظاهره لما صح الاستفهام الإنكاري،
لأن رجوع العبد إلى مولاه ليس بمعنى أن يعبده غير ذلك الراجع. فالمعنى: كيف أعبد
من إليه رجوعي، وإنما ترك " وإليه أرجع " إلى (وإليه ترجعون) لأنه داخل فيهم.
ومع ذلك أفاد فائدة حسنة، وهي أنه نبههم أنهم مثله في وجوب عبادة من إليه الرجوع،
فعلى هذا، الواو للحال، وعلى الأول واو العطف.
ومنه قوله: (رحمه من ربك) عدل عن قوله: " رحمة منا " إلى قوله:
(رحمة من ربك)، لما فيه من الإشعار بأن ربوبيته تقتضي رحمته، وأنه رحيم بعبده،
كقوله: (كلوا من رزق ربكم).
وقوله: (ادعوا ربكم)، (واعبدوا ربكم)، وهو كثير.
وقوله: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله) ولم يقل: " لنغفر لك "
تعليقا لهذه المغفرة التامة باسمه المتضمن لسائر أسمائه الحسنى، ولهذا علق به النصر، فقال:
(وينصرك الله نصرا عزيزا).
الثاني
من التكلم إلى الغيبة
ووجهه أن يفهم السامع أن هذا نمط المتكلم وقصده من السامع، حضر أو غاب،
316

وأنه في كلامه ليس ممن يتلون ويتوجه، فيكون في المضمر ونحوه ذا لونين، وأراد
بالانتقال إلى الغيبة الإبقاء على المخاطب، من قرعه في الوجه بسهام الهجر، فالغيبة
أروح له، وأبقى على ماء وجهه أن يفوت، كقوله: (إنا أعطيناك الكوثر. فصل
لربك)، حيث لم يقل " لنا " تحريضا على فعل الصلاة لحق الربوبية.
وقوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم. أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين. رحمة
من ربك إنه هو السميع العليم).
وقوله: (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا...) إلى قوله: (فآمنوا بالله
ورسوله)، ولم يقل: " بي ".
وله فائدتان: إحداهما دفع التهمة عن نفسه بالعصبية لها، والثاني تنبيههم على استحقاقه
الاتباع بما اتصف به من الصفات المذكورة، من النبوة والأمية، التي هي أكبر دليل
على صدقه، وأنه لا يستحق الاتباع لذاته، بل لهذه الخصائص.
الثالث
من الخطاب إلى التكلم
كقوله: (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. إنا آمنا بربنا)،
وهذا إنما يتمشى على قول من لم يشترط أن يكون المراد بالالتفات واحدا، فأما من اشترطه
فلا يحسن أن يمثل به، ويمكن أن يمثل بقوله تعالى: (قل الله أسرع مكرا إن رسلنا
يكتبون ما تمكرون) على أنه سبحانه نزل نفسه منزلة المخاطب.
317

الرابع
من الخطاب إلى الغيبة
كقوله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم)، فقد التفت عن
(كنتم) إلى (جرين بهم)، وفائدة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم، لتعجبه
من فعلهم وكفرهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة.
وقيل: لأن الخطاب أولا كان مع الناس: مؤمنهم وكافرهم، بدليل قوله: (هو الذي
يسيركم في البر والبحر)، فلو قال: " وجرين بكم " للزم الذم للجميع، فالتفت
عن الأول للإشارة إلى الاختصاص بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية،
فعدل عن الخطاب العام إلى الذم الخاص ببعضهم، وهم الموصوفون بما أخبر به عنهم.
وقيل: لأنهم وقت الركوب حصروا، لأنهم خافوا الهلاك وتقلب الرياح، فناداهم
نداء الحاضرين. ثم إن الرياح لما جرت بما تشتهي النفوس، وأمنت الهلاك لم يبق
حضورهم كما كان على ما هي عادة الانسان، أنه إذا أمن غاب، فلما غابوا عند جريه بريح
طيبة فكرهم الله بصيغة الغيبة، فقال: (وجرين بهم).
وقوله: (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) ثم قال: يطاف
عليهم) فانتقل عن الخطاب إلى الغيبة، ولو ربط بما قبله لقال: " يطاف عليكم "،
لأنه مخاطب لا مخبر، ثم التفت فقال: (وأنتم فيها خالدون) فكرر الالتفات.
وقوله: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون).
318

وقوله: (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون).
وقوله: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون. وتقطعوا أمرهم بينهم)،
والأصل " فقطعتم " عطفا على ما قبله، لكن عدل من الخطاب إلى الغيبة، فقيل،
إنه سبحانه نعى عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين، ووبخهم عليه قائلا:
ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله!.
وجعل منه ابن الشجري: (ما ودعك ربك وما قلى)، وقد سبق أنه على
حذف المفعول، فلا التفات.
الخامس
من الغيبة إلى التكلم
كقوله: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى الذي باركنا حوله).
(وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا).
(وقالوا اتخذ الرحمن ولدا. لقد جئتم شيئا إدا).
وقوله: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه) وفائدته أنه لما كان
319

سوق السحاب إلى البلد إحياء للأرض بعد موتها بالمطر، دالا على القدرة الباهرة، والآية
العظيمة التي لا يقدر عليها غيره، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم، لأنه أدخل في
الاختصاص، وأدل عليه وأفخم.
وفيه معنى آخر، وهو أن الأقوال المذكورة في هذه الآية، منها ما أخبر به سبحانه
بسببه، وهو سوق السحاب، فإنه يسوق الرياح، فتسوقه الملائكة بأمره، وإحياء الأرض
به بواسطة إنزاله، وسائر الأسباب التي يقتضيها حكمه وعلمه وعادته سبحانه في كل هذه الأفعال
أن يخبر بها بنون التعظيم، الدالة على أن له جندا وخلقا قد سخرهم في ذلك، كقوله
تعالى: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)، أي إذا قرأه رسولنا جبريل. وقوله: (يوم
ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ رزقا).
وأما إرسال السحاب فهو سحاب يأذن في إرسالها، ولم يذكر له سببا، بخلاف سوق
السحاب، وإنزال المطر فإنه قد ذكر أسبابه: (أنزل من السماء ماء فأخرجنا به
ثمرات مختلفا ألوانها). (أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من
السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة).
وجعل الزمخشري منه قوله: في سورة طه: (وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به
أزواجا من نبات شتى). وزعم الجرجاني أن في هذه الآية التفاتا، وجعل قوله:
(وأنزل من السماء ماء) آخر كلام موسى، ثم ابتدأ الله تعالى فأخبر عن نفسه
بأوصافه لمعالجتها.
وأشار الزمخشري إلى أن فائدة الالتفات إلى التكلم في هذه المواضع التنبيه على
320

التخصيص بالقدرة، وأنه لا يدخل تحت قدرة واحد، وهو معنى قول غيره: إن الإشارة إلى
حكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة. وكذا يفعلون لكل فعل
فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، أو تهم المخاطب، وإنما قال: (فتصبح الأرض
مخضرة)، لإفادة بقاء المطر زمانا بعد زمان.
ومثله: (فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء
الدنيا بمصابيح) عدل عن الغيبة في " قضاهن " و " سواهن " إلى التكلم في قوله:
(وزينا)، فقيل للاهتمام بذلك، والإخبار عن نفسه، بأنه جعل الكوكب زينة السماء
الدنيا، وحفظا تكذيبا لمن أنكر ذلك.
وقيل: لما كانت الأفعال المذكورة في هذه الآية نوعين:
أحدهما وجه الإخبار عنه بوقوعه في الأيام المذكورة، وهو خلق الأرض في يومين،
وجعل الرواسي من فوقها وإلقاء البركة فيها، وتقدير الأقوات في تمام أربعة أيام، ثم الإخبار
بأنه استوى إلى السماء، وأنه أتمها وأكملها سبعا في يومين، فأتى في هذا النوع بضمير
الغائب، عطفا على أول الكلام في قوله: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق
الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي...)
إلى قوله: (فقضاهن سبع سموات...) الآية.
والثاني قصد به الإخبار مطلقا، من غير قصد مدة خلقه، وهو تزيين سماء الدنيا بمصابيح،
وجعلها حفظا، فإنه لم يقصد بيان مدة ذلك، بخلاف ما قبله، فإن نوع الأول يتضمن
إيجادا لهذه المخلوقات العظيمة في هذه المدة اليسيرة، وذلك من أعظم آثار قدرته. وأما تزيين
321

السماء الدنيا بالمصابيح فليس المقصود به الإخبار عن مدة خلق النجوم، فالتفت من الغيبة
إلى التكلم، فقال: (زينا).
فائدة
[في تكرار الالتفات في موضع واحد]
وقد تكرر الالتفات في قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع
البصير) في أربعة مواضع، فانتقل عن الغيبة في قوله: (سبحان الذي أسرى
بعبده)، إلى التكلم في قوله: (باركنا حوله)، ثم عن التكلم إلى الغيبة في قوله:
(ليريه)، بالياء على قراءة الحسن، ثم عن الغيبة إلى التكلم في قوله: (آياتنا) ثم
عن التكلم إلى الغيبة في قوله: (إنه هو السميع البصير).
وكذلك في الفاتحة، فإن من أولها إلى قوله: (مالك يوم الدين) أسلوب غيبة،
ثم التفت بقوله: (أياك نعبد وإياك نستعين) إلى أسلوب خطاب في قوله:
(أنعمت عليهم)، ثم التفت إلى الغيبة بقوله: (غير المغضوب عليهم)، ولم
يقل " الذين غضبت " كما قال: (أنعمت عليهم).
السادس
من الغيبة إلى الخطاب
كقوله: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا. لقد جئتم شيئا إدا)، ولم يقل:
322

" لقد جاءوا " للدلالة على أن من قال مثل قولهم ينبغي أن يكون موبخا عليه، منكرا
عليه قوله، كأنه يخاطب به قوما حاضرين.
وقوله: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر)، ثم قال: (وإن منكم
إلا واردها).
وقوله: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء).
وقوله: (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم).
وقوله: (فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم).
وقوله: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل)، ثم قال: (ثم جعلنا
الشمس عليه دليلا).
وقوله: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم...) الآية.
وقوله: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى).
وقوله: (إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين).
وقوله: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض
ما لم نمكن لكم).
وقوله حكاية عن الخليل: (اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم
323

تعلمون. إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا)، إلى قوله: (فما كان
جواب قومه).
وقوله: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز.
وبرزوا لله جميعا).
وقوله: (واتل عليهم نبأ الذين آتيناه آياتنا فانسلخ منها) إلى قوله: (فمثله
كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث).
وقوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله
عزيز حكيم. فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح...) الآية.
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا)، وهو عجيب لأن " الذين " موصول لفظه للغيبة، ولا بد له من عائد وهو الضمير
في " آمنوا "، فكيف يعود ضمير مخاطب على غائب! فهذا مما لا يعقل.
وقوله: (مالك يوم الدين. إياك نعبد)، فقد التفت عن الغيبة وهو (مالك)
إلى الخطاب وهو: (إياك نعبد).
ولك أن تقول: إن كان التقدير: قولوا الحمد لله، ففيه التفاتان - أعني في الكلام
المأمور به:
أحدهما: في لفظ الجلالة، فإن الله تعالى حاضر، فأصله الحمد لك.
والثاني: (إياك " لمجيئه على خلاف الأسلوب السابق وإن لم يقدر: " قولوا " كان
في " الحمد لله " التفات عن التكلم إلى الغيبة، فإن الله سبحانه حمد نفسه، ولا يكون في (إياك
324

نعبد) التفات، لأن " قولوا " مقدرة معها قطعا، فإما أن يكون في الآية التفات، أولا
التفات بالكلية.
السابع
بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه
فيكون التفاتا عنه، كقوله تعالى: (غير المغضوب عليهم) بعد (أنعمت)،
فإن المعنى " غير الذين غضبت عليهم " ذكره التنوخي في " الأقصى القريب " والخفاجي،
وابن الأثير وغيرهم.
واعلم أنه على رأى السكاكي تجئ الأقسام الستة في القسم الأخير، وهو الانتقال
التقديري.
وزعم صاحب " ضوء المصباح " أنه لم يستعمل منها إلا وضع الخطاب والغيبة موضع
التكلم، ووضع التكلم موضع الخطاب، ومثل الثالث بقوله: (ومالي لا أعبد الذي فطرني)،
مكان " ومالكم لا تعبدون الذي فطركم ".
وجعل بعضهم من الالتفات قوله تعالى: (والموفون بعهدهم) ثم قال:
(والصابرين في البأساء والضراء)، وقوله: (والمقيمين الصلاة والمؤتون
الزكاة).
البحث الثالث في أسبابه
اعلم أن للالتفات فوائد عامة وخاصة، فمن العامة التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر
325

لما في ذلك من تنشيط السامع، واستجلاب صفائه، واتساع مجاري الكلام، وتسهيل
الوزن والقافية.
وقال البيانيون: إن الكلام إذا جاء على أسلوب واحد وطال حسن تغيير الطريقة.
ونازعهم القاضي شمس الدين بن الجوزي وقال: الظاهر أن مجرد هذا لا يكفى
في المناسبة، فإنا رأينا كلاما أطول في هذا، والأسلوب محفوظ، قال تعالى: (إن المسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات...) إلى أن ذكر عشرة أصناف، وختم
ب‍ (الذاكرين الله كثيرا والذاكرات)، ولم يغير الأسلوب، وإنما المناسبة أن الانسان
كثير التقلب، وقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء، فإنه يكون غائبا
فيحضر بكلمة واحدة، وآخر يكون حاضرا فيغيب، فالله تعالى لما قال: (الحمد لله
رب العالمين) تنبه السامع وحضر قلبه، فقال: (إياك نعبد وإياك نستعين).
وأما الخاصة فتختلف باختلاف محاله ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم.
* * *
فمنها قصد تعظيم شأن المخاطب، كما في: (الحمد لله رب العالمين)، فإن
العبد إذا افتتح حمد مولاه بقوله: " الحمد لله " الدال على اختصاصه بالحمد وجد من نفسه
التحرك للإقبال عليه سبحانه، فإذا انتقل إلى قوله: (رب العالمين) الدال على
ربوبيته لجميعهم قوى تحركه، فإذا قال: (الرحمن الرحيم) الدال على أنه منعم بأنواع
النعم، جليلها وحقيرها تزايد التحرك عنده، فإذا وصل ل‍ (مالك يوم الدين) وهو خاتمة
الصفات الدالة على أنه مالك الأمر يوم الجزاء، فيتأهب قربه، وتيقن الإقبال عليه
بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات.
326

وقيل: إنما اختير للحمد لفظ الغيبة، وللعبادة الخطاب، للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة
في الرتبة، فإنك تحمد نظيرك ولا تعبده، إذ الانسان يحمد من لا يعبده، ولا يعبد من
لا يحمده، فلما كان كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر فقال: " الحمد لله "
ولم يقل " الحمد لك "، ولفظ العبادة مع الخطاب فقال: (إياك نعبد) لينسب إلى العظيم
حال المخاطبة والمواجهة، على ما هو أعلى رتبة، وذلك على طريق التأدب. وعلى نحو من
ذلك جاء آخر السورة فقال: (الذين أنعمت عليهم) مصرحا بذكر المنعم، وإسناد
الإنعام إليه لفظا ولم يقل " صراط المنعم عليهم "، فلما صار إلى ذكر الغضب روى عنه
لفظ الغضب في النسبة إليه لفظا، وجاء باللفظ متحرفا عن ذكر الغاضب، فلم يقل " غير الذين
غضبت عليهم "، تفاديا عن نسبة الغضب في اللفظ حال المواجهة.
ومن هذا قوله: (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا)، فإن التأدب في الغيبة
دون الخطاب.
وقيل: لأنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه بالصفات العظيمة من كونه ربا للعالمين
ورحمانا ورحيما، ومالكا ليوم الدين، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بأن
يكون معبودا دون غيره، مستعانا به، فخوطب بذلك لتميزه بالصفات المذكورة، تعظيما
لشأنه كله، حتى كأنه قيل: إياك، يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا غيرك.
قيل: ومن لطائف التنبيه على أن مبتدأ الخلق الغيبة منهم عنه سبحانه، وقصورهم
عن محاضرته ومخاطبته، وقيام حجاب العظمة عليهم، فإذا عرفوه بما هو له، وتوسلوا
للقرب بالثناء عليه، وأقروا بالمحامد له وتعبدوا له بما يليق بهم، تأهلوا لمخاطباته ومناجاته
فقالوا: (إياك نعبد وإياك نستعين).
327

وفيه أنهم يبدون بين يدي كل دعاء له سبحانه ومناجاة له صفات عظمته لمخاطبته
على الأدب والتعظيم، لا عن الغفلة والإغفال، ولا عن اللعب والاستخفاف، كمن
يدعو بلا نية أو على تلعب وغفلة، وهم كثير.
ومنه أن مناجاته لا تصعد إلا إذا تطهر من أدناس الجهالة به، كما لا تسجد الأعضاء إلا
بعد التطهير من حدث الأجسام، ولذلك قدمت الاستعاذة على القرآن.
قال الزمخشري: وكما في قوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا
الله واستغفر لهم الرسول)، ولم يقل " واستغفرت لهم " [وعدل عنه إلى طريق
الالتفات] لأن في هذا الالتفات بيان تعظيم استغفاره، وأن شفاعة من اسمه
الرسول بمكان.
* * *
ومنها: التنبيه على ما حق الكلام أن يكون واردا عليه، كقوله تعالى: (ومالي لا أعبد
الذي فطرني وإليه ترجعون)، أصل الكلام " وما لكم لا تعبدون الذي
فطركم " ولكنه أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه، وهو يريد مناصحتهم، ليتلطف
بهم، ويريهم أنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، ثم لما انقضى غرضه من ذلك، قال:
(وإليه ترجعون) ليدل على ما كان من أصل الكلام، ومقتضيا له، ثم ساقه هذا
المساق إلى أن قال: (آمنت بربكم فاسمعون).
* * *
ومنها: أن يكون الغرض به التتميم لمعنى مقصود للمتكلم، فيأتي به محافظة على تتميم
328

ما قصد إليه من المعنى المطلوب له، كقوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم. أمرا من
عندنا إنا كنا مرسلين. رحمة من ربك إنه هو السميع العليم)، أصل الكلام
" إنا مرسلين رحمة منا "، ولكنه وضع الظاهر موضع المضمر، للإنذار بأن الربوبية
تقتضي الرحمة للمربوبين، للقدرة عليهم، أو لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر،
أو الإشارة إلى أن الكتاب إنما هو إليه دون غيره، ثم التفت بإعادة الضمير إلى
الرب الموضوع موضع المضمر، للمعنى المقصود من تتميم المعنى.
* * *
ومنها: قصد المبالغة، كقوله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم)
كأنه يذكر لغيرهم حالهم، ليتعجب منها ويستدعي منه الانكار والتقبيح لها، إشارة
منه على سبيل المبالغة إلى أن ما يعتمدونه بعد الإنجاء من البغي في الأرض بغير الحق،
مما ينكر ويقبح.
* * *
ومنها: قصد الدلالة على الاختصاص، كقوله: (والله الذي أرسل الرياح
فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به) فإنه لما كان سوق السحاب
إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالا على القدرة الباهرة التي لا يقدر
عليها غيره، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم، لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه:
" سقنا " و " أحيينا ".
* * *
329

ومنها: قصد الاهتمام، لقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها و للأرض
ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى
في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم)،
فعدل عن الغيبة في " قضاهن " " وأوحى " إلى التكلم في " وزينا السماء الدنيا " للاهتمام
بالإخبار عن نفسه، فإنه تعالى جعل الكواكب في سماء الدنيا للزينة والحفظ، وذلك لأن
طائفة اعتقدت في النجوم أنها ليست في سماء الدنيا، وأنها ليست حفظا ولا رجوما، فعدل
إلى التكلم والإخبار عن ذلك، لكونه مهما من مهمات الاعتقاد، ولتكذيب الفرقة
المعتقدة بطلانه.
* * *
ومنها: قصد التوبيخ، كقوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا. لقد جئتم شيئا
إدا)، عدل عن الغيبة إلى الخطاب، للدلالة على أن قائل مثل قولهم، ينبغي أن يكون
موبخا ومنكرا عليه، ولما أراد توبيخهم على هذا أخبر عنه بالحضور، فقال: (لقد
جئتم)، لأن توبيخ الحاضر أبلغ في الإهانة له.
ومنه قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون. وتقطعوا
أمرهم بينهم)، قال: (تقطعوا أمرهم بينهم) دون " تقطعتم أمركم بينكم "،
كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين وتقبح عندهم ما فعلوه، ويوبخهم
عليه قائلا: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، فجعلوا أمر دينهم به قطعا،
تمثيلا لأخلاقهم في الدين.
330

فائدة
اختلف في قوله تعالى: (إن الله لا يخلف الميعاد) بعد (ربنا إنك جامع
الناس ليوم لا ريب فيه).
فقيل: إن الكلام تم عند قوله: (لا ريب فيه)، وهذا الذي بعده من مقول الله
تصديقا لهم.
وقيل: بل هو من بقية كلامهم الأول على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة،
كقوله: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم).
فإن قلت: قد قال في آخر السورة: (ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف
الميعاد)، فلم عدل عن الخطاب هنا؟ قلت: إنما جاء الالتفات في صدر السورة، لأن
المقام يقتضيه، فإن الإلهية تقتضي الخير والشر لتنصف المظلومين من الظالمين، فكان
العدول إلى ذكر الاسم الأعظم أولى. وأما قوله تعالى في آخر السورة: (إنك لا تخلف
الميعاد): فذلك المقام مقام الطلب للعبد من ربه أن ينعم عليه بفضله، وأن يتجاوز
عن سيئاته، فلم يكن فيه ما يقتضى العدول عن الأصل المستمر.
البحث الرابع في شرطه
تقدم أن شرط الالتفات أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر
إلى المنتقل عنه، وشرطه أيضا أن يكون في جملتين، أي كلامين مستقلين، حتى يمتنع
بين الشرط وجوابه.
331

وفى هذا الشرط نظر، فقد وقع في القرآن مواضع، الالتفات فيها وقع في كلام واحد،
وإن لم يكن بين جزأي الجملة، كقوله تعالى: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه
أولئك يئسوا من رحمتي).
وقوله: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم
آياتنا).
وقوله: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي)، بعد قوله: (أنا أحللنا
لك)، التقدير: إن وهبت امرأة نفسها للنبي (إنا أحللنا لك)، وجملتا الشرط
والجزاء كلام واحد.
وقوله: (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول).
وقوله: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. لتؤمنوا بالله ورسوله)،
وفيه التفاتان: أحدهما بين " أرسلنا " والجلالة، والثاني بين الكاف في " أرسلناك "
" ورسوله " وكل منهما في كلام واحد.
وقوله: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله).
وقوله: (فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا)، وجوز
الزمخشري فيه أن يكون ضمير " جزاؤكم " يعود على " التابعين " على طريق الالتفات.
وقوله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله)، على قراءة الياء.
332

وقوله: (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا)، قال التنوخي في " الأقصى
القريب ": الواو للحال.
وقوله: (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون).
البحث الخامس
أنه يقرب من الالتفات نقل الكلام إلى غيره
وإنما يفعل ذلك إذا ابتلي العاقل بخصم جاهل متعصب، فيجب أن يقطع الكلام معه
في تلك المسألة، لأنه كلما كان خوضه معه أكثر، كان بعده عن القبول أشد، فالوجه
حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة، وأن يؤخذ في كلام آخر أجنبي، ويطنب
فيه، بحيث ينسى الأول، فإذا اشتغل خاطره به أدرج له أثناء الكلام الأجنبي مقدمة
تناسب ذلك المطلب الأول، ليتمكن من انقياده.
وهذا ذكره الإمام أبو الفضل في كتاب " درة التنزيل "، وجعل منه قوله تعالى:
(اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود)، قال: إن قوله " واذكر " ليس متصلا
بما قبله، بل نقلا لهم عما هم عليه، والمقدمة المدرجة قوله: (وما خلقنا السماء والأرض
وما بينهما باطلا) إلى قوله: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب).
وهذا الذي قاله يخرج الآية عن الاتصال، مع أن في الاتصال وجوها مذكورة
في موضعها.
333

وألحق به الأستاذ وأبو جعفر بن الزبير قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد. بل
عجبوا...) الآية، فهذا إنكار منهم للبعث واستبعاد، نحو الوارد في سورة " ص "،
فأعقب ذلك بما يشبه الالتفات بقوله: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف
بنيناها...) إلى قوله: (وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج)، فبعد
العدول عن مجاوبتهم، في قولهم: (ذلك رجع بعيد)، وذكر اختلافهم المسبب
عن تكذيبهم، في قوله: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج)،
صرف تعالى الكلام إلى نبيه والمؤمنين، فقال: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف
بنيناها...) إلى قوله: (وأحيينا به بلدة ميتا)، وذلك حكمة تدرك
مشاهدة، لا يمكنهم التوقف في شيء منه ولا حفظ عنهم إنكاره، فعند تكرر هذا، قال
تعالى: (كذلك الخروج).
ومما يقرب من الالتفات أيضا الانتقال من خطاب الواحد والاثنين والجمع إلى خطاب
آخر، وهو ستة أقسام، كما سبق تقسيم الالتفات:
أحدها: الانتقال من خطاب الواحد لخطاب الاثنين، كقوله تعالى: (أجئتنا
لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض).
الثاني: منه خطاب الواحد إلى خطاب الجمع: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء).
334

الثالث: من الاثنين إلى الواحد، كقوله: (فمن ربكما يا موسى)،
(فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى).
الرابع: من الاثنين إلى الجمع، كقوله: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا
لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين)،
وفيه انتقال آخر من الجمع إلى الواحد، فإنه ثنى ثم جمع، ثم وحد، توسعا في الكلام. وحكمة
التثنية أن موسى وهارون هما اللذان يقرران قواعد النبوة، ويحكمان في الشريعة، فخصهما
بذلك، ثم خاطب الجميع باتخاذ البيوت قبلة للعبادة، لأن الجميع مأمورون بها،
ثم قال لموسى وحده: (وبشر المؤمنين)، لأنه الرسول الحقيقي الذي إليه
البشارة والإنذار.
الخامس: من الجمع إلى الواحد، كقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين)
وقد سبق حكمته. ومن نظائره قول بعضهم في قوله تعالى: (قلنا اهبطوا
منها جميعا)، ثم قال: (فإما يأتينكم مني هدى)، ولم يقل " منا " مع أنه
للجمع أو للواحد المعظم نفسه، وحكمته المناسبة للواقع، فالهدى لا يكون إلا من الله،
فناسب الخاص للخاص.
السادس: من الجمع إلى التثنية، كقوله: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن
تنفذوا...) إلى قوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان).
السابع: ذكر بعضهم من الالتفات تعقيب الكلام بجملة مستقلة ملاقية له في
المعنى على طريق المثل ألى الدعاء، فالأول كقوله: (وزهق الباطل إن الباطل كان
زهوقا)، والثاني كقوله: (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم).
335

الثامن: من الماضي إلى الأمر، كقوله: (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم
عند كل مسجد وادعوه) وقوله: (وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم
فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور).
التاسع: من المستقبل إلى الأمر، تعظيما لحال من أجرى عليه المستقبل. وبالضد
من ذلك في حق من أجرى عليه الأمر، كقوله تعالى: (يا هود ما جئتنا ببينة...)
إلى قوله: (بريء مما تشركون)، فإنه إنما قال: (أشهد الله)، و (أشهدوا)
ولم يقل: " وأشهدكم " ليكون موازنا له، ولا شك أن معنى إشهاد الله على
البراءة صحيح في معنى يثبت التوحيد، بخلاف إشهادهم، فما هو إلا تهاون بدينهم، ودلالة
على قلة المبالاة به، فلذلك عدل عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجئ به على لفظ
الأمر، كما تقول للرجل منكرا: اشهد على أني أحبك.
العاشر: من الماضي إلى المستقبل، نحو: (والله الذي أرسل الرياح فتثير)،
(فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير)، (إن الذين كفروا ويصدون عن
سبيل الله).
والحكمة في هذه أن الكفر لما كان من شأنه إذا حصل أن يستمر حكمه عبر عنه
بالماضي، ليفيد ذلك مع كونه نافيا أنه قد مضى عليه زمان، ولا كذلك الصد عن
سبيل الله، فإن حكمه إنما ثبت حال حصوله مع أن في الفعل المستقبل إشعارا بالتكثير،
336

فيشعر قوله: " ويصدون "، أنه في كل وقت بصدد ذلك، ولو قال: " وصدوا " لأشعر
بانقطاع صدهم.
الحادي عشر: عكسه، كقوله: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في
السماوات)، (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم).
قالوا: والفائدة في الفعل الماضي إذا أخبر به عن المستقبل الذي لم يوجد أنه أبلغ وأعظم
موقعا، لتنزيله منزلة الواقع. والفائدة في المستقبل إذا أخبر به عن الماضي لتتبين هيئة الفعل
باستحضار صورته، ليكون السامع كأنه شاهد، وإنما عبر في الأمر بالتوبيخ بالماضي
بعد قوله: (ينفخ) للإشعار بتحقيق الوقوع وثبوته، وأنه كائن لا محالة، كقوله:
(وبرزوا لله جميعا)، والمعنى: " يبرزون "، وإنما قال: (وحشرناهم) بعد
(نسير) (وترى)، وهما مستقبلان، لذلك.
337

التضمين
وهو إعطاء الشيء معنى الشيء، وتارة يكون في الأسماء، وفي الأفعال، وفي الحروف،
فأما في الأسماء فهو أن تضمن اسما معنى اسم، لإفادة معنى الاسمين جميعا، كقوله تعالى:
(حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق)، ضمن " حقيق " معنى " حريص "
ليفيد أنه محقوق بقول الحق وحريص عليه.
وأما الأفعال فأن تضمن فعلا معنى فعل آخر، ويكون فيه معنى الفعلين جميعا،
وذلك بأن يكون الفعل يتعدى بحرف، فيأتي متعديا بحرف آخر ليس من عادته التعدي به،
فيحتاج إما إلى تأويله أو تأويل الفعل، ليصح تعديه به.
واختلفوا أيهما أولى؟ فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أن التوسع في الحرف
وأنه واقع موقع غيره من الحروف أولى.
وذهب المحققون إلى أن التوسع في الفعل وتعديته بما لا يتعدى لتضمنه معنى ما يتعدى
بذلك الحرف أولى، لأن التوسع في الأفعال أكثر.
مثاله قوله تعالى: (عينا يشرب بها عباد الله)، فضمن " يشرب " معنى
" يروي "، لأنه لا يتعدى بالباء، فلذلك دخلت الباء، وإلا ف‍ " يشرب " يتعدى
بنفسه، فأريد باللفظ الشرب والري معا، فجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد.
وقيل: التجوز في الحرف، وهو الباء، فإنها بمعنى " من ".
وقيل: لا مجاز أصلا، بل العين هاهنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء،
338

لا إلى الماء نفسه، نحو نزلت بعين، فصار كقوله: مكانا يشرب به.
وعلى هذا: (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب)، قاله الراغب.
وهذا بخلاف المجاز، فإن فيه العدول عن مسماه بالكلية، ويراد به غيره، كقوله:
(جدارا يريد أن ينقض)، فإنه استعمل " أراد " في معنى مقاربة السقوط، لأنه
من لوازم الإرادة، وإن من أراد شيئا فقد قارب فعله، ولم يرد باللفظ هذا المعنى الحقيقي
الذي هو الإرادة البتة. والتضمين أيضا مجاز، لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا،
والجمع بينهما مجاز خاص يسمونه بالتضمين، تفرقه بينه وبين المجاز المطلق.
ومن التضمين قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)،
لأنه لا يقال: رفثت إلى المرأة، لكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك.
وهكذا قوله: (هل لك إلى أن تزكى)، وإنما يقال: هل لك في كذا؟
لكن المعنى أدعوك إلى أن تزكى.
وقوله: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)، فجاء ب‍ " عن "، لأنه ضمن
التوبة معنى العفو والصفح.
وقوله: (وإذا خلوا إلى شياطينهم)، وإنما يقال: خلوت به، لكن ضمن
" خلوا " معنى " ذهبوا " " وانصرفوا "، وهو معادل لقوله: (لقوا)، وهذا أولى
من قول من قال: إن " إلى " هنا بمعنى الباء، أو بمعنى " مع ".
وقال مكي: إنما لم تأت الباء، لأنه يقال: خلوت به إذا سخرت منه، فأتى ب‍ " إلى "
لدفع هذا الوهم.
339

وقوله: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم)، قيل: الصراط منصوب على
المفعول به، أي لألزمن لك صراطك، أو لأملكنه لهم، و " أقعد " وإن كان غير متعد ضمن
معنى فعل متعد.
وقوله: (ولا تعد عيناك عنهم)، ضمن " تعد " معنى " تنصرف "، فعدى
ب‍ " عن ". قال ابن الشجري: ومن زعم أنه كان حق الكلام، " لا تعد عينيك عنهم "
بالنصب، لأن " تعد " متعد بنفسه فباطل، لأن عدوت وجاوزت بمعنى واحد. وأنت
لا تقول: جاوز فلان عينه عن فلان، ولو كانت التلاوة بنصب العين لكان اللفظ يتضمنها
محمولا أيضا على: لا تصرف عينك عنهم، وإذا كان كذلك، فالذي وردت به التلاوة
من رفع العين يئول إلى معنى النصب فيها، إذ كان " لا تعد عيناك " بمنزلة " لا تنصرف "،
ومعناه لا تصرف عينك عنهم، فالفعل مسند إلى العين، وهو في الحقيقة موجه إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، كما قال: (ولا تعجبك أموالهم)، أسند الإعجاب إلى الأموال،
والمعنى لا تعجب بأموالهم.
وقوله: (أو لتعودن في ملتنا)، ضمن معنى " لتدخلن " أو " لتصيرن "،
وأما قول شعيب: (وما يكون لنا أن نعود فيها) فليس اعترافا بأنه كان فيهم،
بل مؤول على ما سبق. وتأويل آخر وهو أن يكون من نسبة فعل البعض إلى الجماعة،
أو قاله على طريق المشاكلة لكلامهم، وهذا أحسن.
وقوله: (ألا تشرك بي شيئا)، ضمن " لا تشرك " معنى " لا تعدل " والعدل:
التسوية، أي لا تسوى به شيئا.
340

وقوله: (وأخبتوا إلى ربهم) ضمن معنى " أنابوا " فعدى بحرفه.
وقوله: (إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها) ضمن (لتبدى به)
معنى " تخبر به " أو " لتعلم " ليفيد الإظهار معنى الإخبار، لأن الخبر قد يقع سرا
غير ظاهر.
وقوله: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا)، جوز الزمخشري نصب
(مقاما)، على الظرف على تضمين (يبعثك) معنى " يقيمك ".
وقوله: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم)، قال الفارسي: ومن قرأ " فأجمعوا "
بالقطع أراد فأجمعوا أمركم وشركاءكم، كقوله:
* متقلدا سيفا ورمحا *
وقوله: (حتى إذا فزع عن قلوبهم)، قال ابن سيده: عداه ب‍ " عن " لأنه
في معنى كشف الفزع.
وقوله: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)، فإنه يقال: ذل له،
لا عليه، ولكنه هنا ضمن معنى التعطف والتحنن.
وقوله: (للذين يؤلون نسائهم) ضمن (يؤلون) معنى " يمتنعون " من
وطئهن بالآلية.
وقوله: (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى)، أي لا يصغون.
(إن الذي فرض عليك القرآن)، أي أنزل.
(فيما فرض الله له)، أي أحل له.
341

(ومطهرك من الذين كفروا) أي مميزك.
(إن الله لا يصلح عمل المفسدين) أي لا يرضى.
(فاستقيموا إليه)، أي أنيبوا إليه وارجعوا.
(هلك عني سلطانيه)، أي زال.
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره)، فإنه يقال: خالفت زيدا، من غير
احتياج لتعديه بالجار، وإنما جاء محمولا على " ينحرفون " أو " يزيغون ".
ومثله تعدية " رحيم " بالباء، في نحو: (وكان بالمؤمنين رحيما) حملا على
" رؤوف "، في نحو: (رؤوف رحيم)، ألا ترى أنك تقول: رأفت به، ولا تقول:
رحمت به، ولكن لما وافقه في المعنى تنزل منزلته في التعدية.
وقوله: (إني لما أنزلت إلى من خير فقير)، ضمن معنى " سائل ".
(الذين إذا اكتالوا على الناس)، قال الزمخشري: ضمن معنى " تحاملوا "،
فعداه ب‍ " على "، والأصل فيه " من ".
تنبيهان
الأول: الأكثر أن يراعى في التعدية ما ضمن منه، وهو المحذوف لا المذكور،
كقوله تعالى: (الرفث إلى نسائكم)، أي الإفضاء.
وقوله: (عينا يشرب بها عباد الله)، أي يروى بها، وغيره مما سبق.
342

ولم أجد مراعاة الملفوظ به إلا في موضعين: أحدهما قوله تعالى: (يقال له
إبراهيم)، على قول ابن الضائع أنه ضمن " يقال " معنى " ينادي " وإبراهيم " نائب "
عن الفاعل، وأورد على نفسه: كيف عدى باللام والنداء لا يتعدى به؟ وأجاب بأنه روعى
الملفوظ به، وهو القول، لأنه يقال: قلت له.
الثاني: قوله: (وحرمنا عليه المراضع من قبل)، فإنه قد يقال: كيف
يتعلق التكليف بالمرضع؟ فأجيب بأنه ضمن " حرم " المعنى اللغوي، وهو المنع.
فاعترض كيف عدى ب‍ " على " والمنع لا يتعدى به، فأجيب بأنه روعى صورة اللفظ.
* * *
الثاني: أن التضمين يطلق على غير ما سبق، قال القاضي أبو بكر في كتاب
" إعجاز القرآن ": هو حصول معنى فيه من غير ذكره له باسم [أو صفة] هي عبارة عنه، ثم
قسمه إلى قسمين: أحدهما ما يفهم من البنية، كقولك: معلوم، فإنه يوجب أنه لا بد من عالم.
والثاني من معنى العبارة [من حيث لا يصح إلا به] كالصفة، فضارب يدل على مضروب.
قال: والتضمين كله إيجاز، قال: وذكر أن (بسم الله الرحمن الرحيم) من باب التضمين،
لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله تعالى، أو التبرك باسمه.
* * *
وذكر ابن الأثير في كتاب " المعاني المبتدعة ": أن التضمين واقع في القرآن خلافا
لما أجمع عليه أهل البيان، وجعل منه قوله تعالى في الصافات: (لو أن عندنا ذكرا من
الأولين. لكنا عباد الله المخلصين).
* * *
ويطلق التضمين أيضا على إدراج كلام الغير في أثناء الكلام لتأكيد المعنى،
343

أو لترتيب النظم، ويسمى الإبداع كإبداع الله تعالى في حكايات أقوال المخلوقين، كقوله
تعالى حكاية عن قول الملائكة: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء).
ومثل ما حكاه عن المنافقين: (قالوا إنما نحن مصلحون).
وقوله: (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء).
(وقالت اليهود).
(وقالت النصارى)، ومثله في القرآن كثير.
وكذلك ما أودع في القرآن من اللغات الأعجمية.
* * *
ويقرب من التضمين في إيقاع فعل موقع آخر إيقاع الظن موقع اليقين في الأمور المحققة،
كقوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم).
(الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة).
(ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها).
(وظن داود أنما فتناه).
(وظنوا مالهم من محيص).
وشرط ابن عطية في ذلك ألا يكون متعلقة حسيا، كما تقول العرب في رجل يرى
حاضرا: أظن هذا إنسانا، وإنما يستعمل ذلك فيما لم يخرج إلى الحس بعد،
كالآيات السابقة.
344

قال الراغب في " الذريعة ": الظن إصابة المطلوب بضرب من الأمارة متردد
بين يقين وشك، فيقرب تارة من طرف اليقين، وتارة من طرف الشك، فصار أهل
اللغة يفسرونه بهما، فمتى رئي إلى طرف اليقين أقرب استعمل معه " أن " المثقلة والمخففة
فيهما، كقوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقو الله) (وظنوا أنه واقع بهم).
ومتى رئي إلى الشك أقرب استعمل معه " أن " التي للمعدومين من الفعل، نحو ظننت أن يخرج.
قال: وإنما استعمل الظن بمعنى العلم في قوله: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم)
لأمرين:
أحدهما: للتنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالنسبة إلى علمهم في الآخرة، كالظن
في جنب العلم.
والثاني: أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين المعنيين بقوله:
(الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)، والظن متى كان عن أمارة قوية فإنه
يمدح به، ومتى كان عن تخمين لم يمدح، كما قال تعالى: (إن بعض الظن إثم).
وجوز أبو الفتح في قوله: (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم) أن
يكون المراد بها اليقين، وأن تكون على بابها، وهو أقوى في المعنى، أي فقد يمنع من هذا
التوهم، فكيف عند تحقيق الأمر، فهذا أبلغ كقوله: " يكفيك من شر سماعه " أي لو توهم
البعث والنشور وما هناك من عظم الأمر وشدته لاجتنب المعاصي، فكيف عند تحقق
الأمر! وهذا أبلغ.
وقيل: آيتا البقرة بمعنى الاعتقاد، والباقي بمعنى اليقين، والفرق بينهما أن الاعتقاد
يقبل التشكيك بخلاف اليقين، وإن اشتركا جميعا في وجوب الجزم بهما.
345

وكذلك قوله: (إني ظننت أني ملاق حسابيه).
وقد جاء عكسه وهو التجوز عن الظن بالعلم، كقوله تعالى: (وما شهدنا إلا بما
علمنا)، ولم يكن ذلك علما جازما بل اعتقادا ظنيا.
وقوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم)، وكان يحكم بالظن وبالظاهر.
وقوله: (فإن علمتموهن مؤمنات) وإنما يحصل بالامتحان في الحكم، ووجه
التجوز أن بين الظن والعلم قدرا مشتركا وهو الرجحان، فتجوز بأحدهما عن الآخر.
346

وضع الخبر موضع الطلب
في الأمر والنهي
كقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن).
(والمطلقات يتربصن).
(سلام عليكم).
(اليوم يغفر الله لكم).
وقوله: (فكفارته إطعام عشرة مساكين...) الآية، ولهذا جعلها العلماء
من أمثلة الواجب:
(فلا رفث ولا فسوق) على قراءة نافع، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا.
(وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) قالوا: هو خبر، وتأويله نهى، أي لا تنفقوا
إلا ابتغاء وجه الله، كقوله: (لا يمسه إلا المطهرون) وكقوله: (لا تضار والدة
بولدها)، على قراءة الرفع. وقيل: إنه نهى مجزوم - أعني قوله: (لا يمسه) - ولكن
ضمت اتباعا للضمير، كقوله صلى الله عليه وسلم: " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ".
وقوله: (و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)، ضمن
" لا تعبدون " معنى " لا تعبدوا " بدليل قوله بعده: (وقولوا للناس حسنا)، وبه يزول
الإشكال في عطف الانشاء على الخبر، لكن إن كان " حسنا " معمولا لأحسنوا، فعطف
347

" قولوا " عليه أولى لاتفاقهما لفظا ومعنى، وإن كان التقدير و " يحسنون " فهو الذي قبله،
والعطف على القريب أولى. وقيل: (لا تعبدون) أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام
أن المنهي يسارع إلى الانتهاء، فهو مخبر عنه.
وكذا قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) في موضع
" لا تسفكوا ".
وقوله في سورة الصف: (وبشر المؤمنين) عطفا على قوله: (تؤمنون بالله
ورسوله)، ولهذا جزم الجواب.
وقوله: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) إلى قوله: (وامتازوا
اليوم)، فإن المقام يشتمل على تضمين (إن أصحاب الجنة اليوم) معنى الطلب، بدليل
ما قبله: (فاليوم لا تظلم نفس شيئا)، فإنه كلام وقت الحشر لوروده معطوفا بالفاء، على
قوله: (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) وعام لجميع الخلق
لعموم قوله: (لا تظلم نفس شيئا)، وإن الخطاب الوارد بعده على سبيل الالتفات، وهو قوله:
(ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون)، خطاب عام لأهل المحشر، فيكون قوله:
(إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) إلى قوله: (أيها المجرمون)
مقيدا بهذا الخطاب لكونه تفصيلا لما أجمله: (ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون)،
وإن التقدير أن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر، ثم جاء في التفسير أن قوله هذا: (إن
أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) يقال لهم حين يساق بهم إلى الجنة، بتنزيل
ما هو للتكوين منزلة الكائن، أي إن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر، يؤول حالهم
348

إلى أسعد حال، والتقدير حينئذ " فامتازوا عنكم إلى الجنة "، هكذا قرره السكاكي
في " المفتاح ".
قيل: وفيه نظر، لأنها إذا كانت طلبية ومعناها أمر المؤمنين بالذهاب إلى الجنة،
فليكن الخطاب معهم لا مع أهل المحشر.
ولهذا قال بعضهم: إن تضمين أصحاب أهل الجنة للطلب ليس المراد منه أن الجملة
نفسها طلبية، بل معناه أن يقدر جملة إنشائية بعدها، بخلاف قوله: (وقولوا للناس
حسنا).
ومنه قوله تعالى: (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم
وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم)، فإنه
يقال: كيف جاء الجزم في جواب الخبر؟ وجوابه أنه لما كان في معنى الأمر جاز ذلك،
إذ المعنى: آمنوا وجاهدوا.
وقال ابن جنى: لا يكون " يغفر " جوابا ل‍ " هل أدلكم " وإن كان أبو العباس
قد قاله، لأن المغفرة تحصل بالإيمان لا بالدلالة. انتهى. وقد يقال الدلالة: سبب السبب.
إذا علمت هذا، فإنما يجئ الأمر بلفظ الخبر الحاصل تحقيقا لثبوته، وأنه مما ينبغي
أن يكون واقعا ولا بد، وهذا هو المشهور.
وفيه طريقة أخرى نقلت عن القاضي أبي بكر وغيره، وهي أن هذا خبر حقيقة غير
مصروف عن جهة الخبرية، ولكنه خبر عن حكم الله وشرعه ليس خبرا عن الواقع، حتى
يلزم ما ذكره من الإشكال، وهو احتمال عدم وقوع مخبره، فإن هذا إنما يلزم الخبر عن
الواقع، أما الخبر عن الحكم فلا، لأنه لا يقع خلافه أصلا.
349

وضع الطلب موضع الخبر
كقوله تعالى: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا).
وقوله: (قل أنفقوا طوعا أو كرها).
وقوله: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام
إبراهيم مصلى).
وقوله: (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله
رب العالمين. يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم. وألق عصاك) فقوله:
(وألق) معطوف على قوله: (أن بورك) ف‍ " ألق " وإن كان إنشاء لفظا، لكنه
خبر معنى. والمعنى: فلما جاءها قيل بورك من في النار. وقيل: ألق.
والموجب لهذا قول النحاة إن " أن " هذه مفسرة لا تأتي إلا بعد فعل في معنى القول،
وإذا قيل: كتبت إليه أن أرجع، وناداني أن قم، كله بمنزلة: قلت له، وقال لي قم. كذا
قاله صاحب المفتاح.
وما ذكره من أن " بورك " خبرية لفظا ومعنى ممنوع، لجواز أن يكون دعاء
وهو إنشاء، وقد ذكر هذا التقدير الفارسي وأبو البقاء، فتكون الجملتان متفقتين في معنى
الانشاء، فتكون مثل (لا تعبدون إلا الله).
وقوله: (يا ليتنا نرد ولا نكذب) إلى قوله: (وإنهم لكاذبون)،
فإنه يقال: كيف ورد التمني على التكذيب وهو إنشاء؟
350

وأجاب الزمخشري أنه ضمن معنى العدة، وأجاب غيره بأنه محمول على المعنى من
الشرط والخبر، كأنه قيل: إن رددنا لم نكذب وآمنا. والشرط خبر، فصح ورود
التكذيب عليه.
وقوله: (اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم)، أي ونحن حاملون، بدليل قوله:
(وإنهم لكاذبون) والكذب إنما يرد على الخبر.
وقوله: (أسمع بهم وأبصر)، تقديره: ما أسمعهم وأبصرهم! لأن الله تعالى
لم يتعجب منهم، ولكنه دل المكلفين على أن هؤلاء قد نزلوا منزلة من يتعجب منه.
ومما يدل على كونه ليس أمرا حقيقيا ظهور الفاعل الذي هو الجار والمجرور في الأول،
وفعل الأمر لا يبرز فاعله أبدا.
ووجه التجوز في هذا الأسلوب أن الأمر شأنه أن يكون ما فيه داعية للأمر، وليس
الخبر كذلك، فإذا عبر عن الخبر بلفظ الأمر أشعر ذلك بالداعية، فيكون ثبوته وصدقه
أقرب. هذا بالنسبة لكلام العرب لا لكلام الله، إذ يستحيل في حقه سبحانه
الداعية للفعل.
بقي الكلام في أيهما أبلغ؟ هذا القسم أو الذي قبله؟.
قال الكواشي في قوله تعالى: (فليمدد له الرحمن مدا)، الأمر بمعنى
الخبر، لتضمنه اللزوم، نحو إن زرتنا فلنكرمك، يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: (لا تعبدون إلا الله)، ورود الخبر، والمراد الأمر
أو النهي، أبلغ من صريح الأمر والنهي، كأنه سورع فيه إلى الامتثال والخبر عنه.
351

وقال النووي في شرح " مسلم " في باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها: وقوله
صلى الله عليه وسلم: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه "، هكذا هو
في جميع النسخ، " ولا يسوم " بالواو " ولا يخطب " بالرفع، وكلاهما لفظه لفظ الخبر،
والمراد به النهى وهو أبلغ في النهى، لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافه، والنهي
قد يقع مخالفته، فكأن المعنى: عاملوا هذا النهي معاملة خبر الحتم، ثم قال صلى الله عليه
وسلم: " ولا تسأل المرأة طلاق أختها " يجوز في " تسأل " الرفع والكسر، والأول على الخبر
الذي يراد به النهي، وهو المناسب لقوله قبله: " لا يخطب ولا يسوم "، والثاني على النهى
الحقيقي. انتهى.
352

وضع النداء موضع التعجب
كقوله تعالى: (يا حسرة على العباد)، قال الفراء: معناه: فيا لها من حسرة!
والحسرة في اللغة أشد الندم، لأن القلب يبقى حسيرا.
وحكى أبو الحسين بن خالويه في كتاب " المبتدأ " عن البصريين أن هذه من أصعب
مسألة في القرآن، لأن الحسرة لا تنادي، وإنما تنادى الأشخاص، لأن فائدته التنبيه،
ولكن المعنى على التعجب، كقوله: يا عجبا لم فعلت! (يا حسرتا على ما فرطت)،
وهو أبلغ من قولك: العجب. قيل: فكأن التقدير يا عجبا احضر، يا حسرة احضري!
وقرأ الحسن: (يا حسرة العباد).
ومنهم من قال: الأصل " يا حسرتاه " ثم أسقطوا الهاء تخفيفا، ولهذا قرأ عاصم
(يا أسفاه على يوسف).
وقال ابن جنى في كتاب " الفسر ": معناه أنه لو كانت الحسرة مما يصح نداؤه
لكان هذا وقتها.
وأما قوله تعالى: (يا بشرى)، فقالوا: معنى النداء فيما لا يعقل تنبيه المخاطب
وتوكيد القصة، فإذا قلت: يا عجبا! فكأنك قلت: اعجبوا، فكأنه قال:
يا قوم أبشروا.
قال أبو الفتح في " الخاطريات ": وقد توضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع
353

المفعول به، كقوله تعالى: (ولكم فيها منافع) بعد قوله: (الذي جعل لكم
الأنعام لتركبوا منها)، المعنى: ولتنتفعوا بها، عطفا على قوله: (لتركبوها منها).
وعلى هذا قال: (ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم). وكذلك قوله: (ومنها
تأكلون)، أي ولتأكلوا منها. ولذلك أتى: (وعليها وعلى الفلك تحملون)،
فعطف الجملة من الفعل ومرفوعة على المفعول له.
ونظيره قوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم)، أي ولأني
ربكم فاتقون، فوضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع المفعول له.
وبهذا يبطل تعلق من تعلق على ثبوته في قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله
إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله)، وقوله:
إن هذا ليس من مواضع الابتداء لجواز تقدير: وأذان بأن الله برئ، وبأن
رسوله كذلك.
354

وضع جمع القلة موضع الكثرة
لأن الجموع يقع بعضها موقع بعض، لاشتراكها في مطلق الجمعية، كقوله تعالى:
(وهم في الغرفات آمنون)، فإن المجموع بالألف والتاء للقلة، وغرف
الجنة لا تحصى.
وقوله: (هم درجات عند الله)، ورتب الناس في علم الله أكثر من
العشرة لا محالة.
وقوله: (الله يتوفى الأنفس).
وقوله: (واستيقنتها أنفسهم)، وهو كثير.
وقيل: سبب ذلك في الآية الأولى دخول الألف واللام الجنسية، فيكون ذلك تكثيرا
لها، وكان دخولها على جمع القلة أولى من دخولها على جمع الكثرة، إشارة إلى قلة من يكون
فيها، ألا ترى أنه لا يكون فيها إلا المؤمنون!
وقد نص سبحانه على قتلهم بالإضافة إلى غيرهم في قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات وقليل ما هم)، فيكون التكثير الداخل في قوله: (وهم
في الغرفات)، لا من جهة وضع جمع القلة موضع جمع الكثرة، ولكن من جهة
ما اقتضته الألف واللام للجنس.
واعلم أن جموع التكسير الأربعة وجمعي التصحيح - أعني جمع التأنيث وجمع
التذكير - كل ذلك للقلة، أما جموع التكسير فبالوضع، وأما جمعا التصحيح، فلأنهما
355

أقرب إلى التثنية، وهي أقل العدد، فوجب أن يكون الجمع المشابه لها بمنزلتها في القلة،
وما عداها من الجموع فيرد تارة للقلة وتارة للكثرة بحسب القرائن، قال تعالى: (الذين
أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين). (هدى للمتقين).
(وأولئك هم المفلحون). (إنما نحن مصلحون). (ألا إنهم هم
المفسدون). (مستهزئون) (وما كانوا مهتدين). (وكنتم
أمواتا). (وعلم آدم الأسماء كلها). (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن
كنتم صادقين). (بسمعهم وأبصارهم). (أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم). (إذا طلقتم النساء). (ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون). (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم). (ولا تقولوا لمن
يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء). (وبينات من الهدى). (واتقون
يا أولي الألباب). (باللغو في أيمانكم). (أن ينكحن أزواجهن).
(حافظوا على الصلوات). فإن قلت: ليس هذا منه، بل هي للقلة،
لأنها خمس.
قلت: لو كان كذلك لما صح: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء).
356

(فيما عرضتم به من خطبة النساء)، فالمراد منها واحد، والجواب عن أحدهما
الجواب عن الآخر.
وقوله تعالى: (من كل الثمرات). (إن تبدوا الصدقات)،
(الصابرين والصادقين) الآية: (والمؤمنين والمؤمنات) الآية
ولا تحصى كثرة.
ومن شواهد مجئ جمع القلة مرادا به الكثرة قول حسان رضي الله عنه:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى * وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وحكى أن النابغة قال له: قد قللت جفناتك وأسيافك.
وطعن الفارسي في هذه الحكاية لوجود وضع جمع القلة موضع الكثرة فيما له جمع
كثرة، وفيما لا جمع له كثرة في كلامهم. وصححها بعضهم قال: يعنى أنه كان ينبغي لحسان
تجنب اللفظ الذي أصله أن يكون في القلة، وإن كان جائزا في اللسان وضعه لقرينة إذا كان
الموضع موضع مدح، أو أنه وإن كانت القلة توضح لمعنى الكثرة، لكن ليس في كل مقام.
ومن المشكل قوله تعالى: (فيضاعفه له أضعافا كثيرة) فإن " أضعافا "
جمع قلة فكيف جاء بعده كثرة؟
والجواب أن جمع القلة يستعمل مرادا به الكثرة، وهذا منه.
تنبيهان
الأول: إنما يسأل عن حكمة ذلك حيث كان له جمع كثرة، فإن لم يكن فلا،
357

كقوله: (أياما معدودات)، فإن " أياما " أفعال مع أنها ثلاثون، لكن ليس
لليوم جمع غيره، ومن ثم أفرد السمع وجمع الأبصار في قوله: (وعلى سمعهم وعلى
أبصارهم) لأن " فعلا " ساكن العين صحيحها لا يجمع على " أفعال " غالبا، وليس
له جمع تكسير، فلما كان كذلك اكتفى بدلالة الجنس على الجمع.
وجعل بعضهم من هذا " أنفسكم " على كثرتها في القرآن، وليس كذلك، فقد
جاء (وإذا النفوس زوجت)، وحكمته هنا ظاهرة، لأن المراد استيعاب جميع
الخلق في المحشر.
ونظيره: (من كل الثمرات) لإمكان " الثمار " وليس رأس آية.
ومنه: (آيات محكمات) لإمكان " آي "، ولا يقال إنه لطلب المشاكلة
فقد قال تعالى بعده (وأخر متشابهات)، فدل على عدم المشاكلة لإمكان " أخريات ".
وكذلك قوله: (تجرى من تحتها الأنهار)، وليس رأس آية، ولا فيه
مشاكلة، لإمكان " الأنهر ".
وقد جاء أنفس للقلة، كقوله: (وأنفسنا وأنفسكم)، وقيل: المراد نفسان
من باب: (فقد صغت قلوبكما).
* * *
الثاني: إنما يتم في المنكر أما المعرف فيستغنى بالعموم عن ذلك، وبهذا يخدش في
كثير مما سبق جعله من هذا النوع. وقد قال الزمخشري في قوله تعالى: (من الثمرات):
إنه جمع قلة، وضع موضع جمع الكثرة، ورد عليه بأن " أل " في " الثمرات " للعموم
فيصير كالثمار، ولا حاجة إلى ارتكاب وضع جمع قلة موضع جمع كثرة، وكذلك بيت
حسان السابق فإن الجفنات معرفة ب‍ " أل " " وأسيافنا " مضاف، ليعم.
358

تذكير المؤنث
يكثر في تأويله بمذكر، كقوله تعالى: (فمن جاءه موعظة من ربه)،
على تأويلها بالوعظ.
وقوله: (وأحيينا به بلدة ميتا)، على تأويل البلدة بالمكان، وإلا لقال:
" ميتة ".
وقوله: (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي)، أي الشخص أو الطالع.
وقوله: (قد جاءتكم بينة من ربكم)، أي بيان ودليل وبرهان.
وقوله: (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا).
وإنما يترك التأنيث كما يترك في صفات المذكر، لا كما في قولهم، امرأة معطار، لأن
السماء بمعنى المطر، مذكر، قال:
إذا نزل السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا
ويجمع على أسمية وسمى، قال العجاج:
* تلفه الأرواح والسمى *
وقوله: (وإذا حضر القسمة)، إلى قوله: (فارزقوهم منه)، ذكر الضمير،
لأنه ذهب بالقسمة إلى المقسوم.
359

وقوله: (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه)، ذهب بالأنعام
إلى معنى النعم، أو حمله على معنى الجمع.
وقوله: (إن رحمة الله قريب من المحسنين)، ولم يقل " قريبة " قال الجوهري:
ذكرت على معنى الإحسان. وذكر الفراء أن العرب تفرق بين النسب، والقرب
من المكان، فيقولون: هذه قريبتي من النسب، وقريبي من المكان، فعلوا ذلك فرقا
بين قرب النسب والمكان.
قال الزجاج: وهذا غلط، لأن كل ما قرب من مكان ونسب، فهو جار على ما يقتضيه
من التذكير والتأنيث، يريد أنك إذا أردت القرب من المكان، قلت: زيد قريب
من عمرو، وهند قريبة من العباس، فكذا في النسب.
وقال أبو عبيدة: ذكر " قريب " لتذكير المكان، أي مكانا قريبا. ورده
ابن الشجري بأنه لو صح لنصب " قريب " على الظرف.
وقال الأخفش: المراد بالرحمة هنا المطر، لأنه قد تقدم ما يقتضيه، فحمل
المذكر عليه.
وقال الزجاج: لأن الرحمة والغفران بمعنى واحد، وقيل: لأنها والرحم سواء.
ومنه: (وأقرب رحما)، فحملوا الخبر على المعنى، ويؤيده قوله تعالى: (هذا
رحمة من ربي).
وقيل: الرحمة مصدر، والمصادر كما لا تجمع لا تؤنث.
وقيل: " قريب " على وزن " فعيل " و " فعيل " يستوي فيها المذكر والمؤنث حقيقيا
كان أو غير حقيقي. ونظيره قوله تعالى: (وهي رميم).
360

وقيل: من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، مع الالتفات إلى المحذوف،
فكأنه قال: وإن مكان رحمة الله قريب، ثم حذف المكان وأعطى الرحمة
إعرابه وتذكيره.
وقيل: من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، أي إن رحمة الله شيء قريب
أو لطيف، أو بر أو إحسان.
وقيل: من باب إكساب المضاف حكم المضاف إليه، إذا كان صالحا للحذف
والاستغناء عنه بالثاني، والمشهور في هذا تأنيث المذكر لإضافته إلى مؤنث، كقوله:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت * أعاليها مر الرياح النواسم
فقال: " تسفهت " والفاعل مذكر، لأنه اكتسب تأنيثا من الرياح، إذ الاستغناء
عنه جائز، وإذا كانت الإضافة على هذا تعطى المضاف تأنيثا لم يكن له، فلأن تعطيه
تذكيرا لم يكن له - كما في الآية الكريمة - أحق وأولى، لأن التذكير أولى والرجوع إليه
أسهل من الخروج عنه.
وقيل: من الاستغناء بأحد المذكورين لكون الآخر تبعا له، ومعنى من معانيه.
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: (فظلت أعناقهم لها خاضعين)، فاستغنى عن
خبر الأعناق بخبر أصحابها، والأصل هنا إن رحمة الله قريب، وهو قريب من المحسنين،
فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود، وسوغ ذلك ظهور المعنى.
ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: (وما يدريك لعل الساعة قريب)،
قال البغوي: لم يقل " قريبة " لأن تأنيثها غير حقيقي، ومجازها الوقت.
361

وقال الكسائي: إتيانها قريب.
وقيل في قوله تعالى: (بريح صرصر)، ولم يقل: " صرصرة " كما قال:
(بريح صرصر عاتية)، لأن الصرصر وصف مخصوص بالريح لا يوصف به
غيرها، فأشبه باب " حائض " ونحوه، بخلاف " عاتية " فإن غير الريح من الأسماء
المؤنثة يوصف به.
وأما قوله تعالى: (السماء منفطر به)، ففي تذكير " منفطر " خمسة أقوال:
أحدها: للفراء، أن السماء تذكر وتؤنث، فجاء " منفطر " على التذكير.
والثاني: لأبي على أنه من باب اسم الجنس الذي بينه وبين واحده التاء، مفردة سماءة،
واسم الجنس يذكر ويؤنث، نحو: (أعجاز نخل منقعر).
والثالث: للكسائي، أنه ذكر حملا على معنى السقف.
والرابع: لأبي على أيضا على معنى النسب، أي ذات انفطار، كقولهم: امرأة مرضع،
أي ذات رضاع.
والخامس: للزمخشري، أنه صفة لخبر محذوف مذكر، أي شئ منفطر.
وسأل أبو عثمان المازني بحضرة المتوكل قوما من النحويين، منهم ابن السكيت
وأبو بكر بن قادم عن قوله تعالى: (وما كانت أمك بغيا): كيف جاء بغيرها،
ونحن نقول: امرأة كريمة: إذا كانت هي الفاعل وليست بمنزلة " القتيل " التي هي بمعنى
" المفعول "؟ فأجاب ابن قادم وخلط، فقال له المتوكل: أخطأت، قل يا - بكر - للمازني،
قال: " بغى " ليس ل‍ " فعيل " وإنما هو " فعول " والأصل فيه " بغوى "، فلما التقت
واو وياء، وسبقت إحداهما بالسكون أدغمت الواو في الياء، فقيل: " بغى " كما تقول: امرأة
362

صبور، بغير هاء، لأنها بمعنى صابرة، فهذا حكم " فعول " إذا عدل عن فاعله، فإن عدل
عن مفعوله جاء بالهاء، كما قال:
* منها اثنتان وأربعون حلوبة *
بمعنى " محلوبة " حكاه التوحيدي في " البصائر ".
وقال البغوي في قوله تعالى: (من يحيي العظام وهي رميم)، ولم يقل " رميمة "،
لأنه معدول عن فاعلة، وكلما كان معدولا عن جهته ووزنه كان مصروفا عن فاعلة، كقوله:
(وما كانت أمك بغيا)، أسقط الهاء، لأنها مصروفة عن " باغية ".
وقال الشريف المرتضى في قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك
ولذلك خلقهم) إن الضمير في ذلك يعود للرحمة، وإنما لم يقل و " لتلك "، لأن
تأنيث الرحمة غير حقيقي، كقوله تعالى: (هذا رحمة من ربي) ولم يقل " هذه "،
على أن قوله: (إلا من رحم)، كما يدل على الرحمة يدل على " أن يرحم " ويجوز
رجوع الكتابة إلى قوله إلا أن يرحم، والتذكير في موضعه.
قال: ويجوز أن يكون قوله: (ولذلك خلقهم) كناية عن اجتماعهم على الإيمان،
وكونهم فيه أمة واحدة، ولا محالة أنه لهذا خلقهم.
ويطابق هذه الآية قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، قال:
فأما قوله: (ولا يزالون مختلفين) فمعناه الاختلاف في الدين والذهاب عن الحق فيه
363

بالهوى والشبهات. وذكر أبو مسلم بن بحر فيه معنى غريبا، فقال: معناه أن خلف هؤلاء
الكفار يخلف سلفهم في الكفر، لأنه سواء قولك: خلف بعضهم بعضا، وقولك
اختلفوا كما سواء قولك: قتل بعضهم بعضا، وقولهم: اقتتلوا. ومنه قولهم: لا أفعله ما اختلف
العصران، [والجديدان]، أي جاء كل واحد منهم بعد الآخر.
واختلف في قوله: (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه)،
فقال الكسائي، أي من بطون ما ذكرنا.
وقال الفراء: ذكر لأنه ذهب إلى المعنى، يعنى معنى النعم، وقيل: الأنعام
تذكر وتؤنث.
وقال أبو عبيدة: أراد البعض، أي من بطون أيها كان ذا لبن.
وأنكر أبو حاتم تذكير الأنعام، لكنه أراد معنى النعم.
364

تأنيث المذكر
كقوله تعالى: (الذين يرثون الفردوس هم فيها)، فأنث " الفردوس "، وهو
مذكر، حملا على معنى الجنة.
وقوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)، فأنث " عشر " حيث جردت
من الهاء مع إضافته إلى الأمثال، وواحدها مذكر، وفيه أوجه:
أحدها: أنث لإضافة الأمثال إلى مؤنث، وهو ضمير الحسنات، والمضاف يكتسب
أحكام المضاف إليه، فتكون كقوله: (يلتقطه بعض السيارة).
والثاني: هو من باب مراعاة المعنى، لأن الأمثال في المعنى مؤنثة، لأن مثل الحسنة
حسنة لا محالة، فلما أريد توكيد الإحسان إلى المطيع، وأنه لا يضيع شيء من علمه، كأن
الحسنة المنتظرة واقعة، جعل التأنيث في أمثالها منبهة على ذلك الوضع، وإشارة إليه، كما
جعلت الهاء في قولهم: راوية وعلامة، تنبيها على المعنى المؤنث المراد في أنفسهم، وهو الغاية
والنهاية، ولذلك أنث المثل هنا توكيدا لتصوير الحسنة في نفس المطيع، ليكون ذلك أدعى له
إلى الطاعة، حتى كأنه قال: " فله عشر حسنات أمثالها " حذف وأقيمت صفته مقامه، وروعي
ذلك المحذوف الذي هو المضاف إليه، كما يراعى المضاف في نحو قوله: (أو كظلمات
في بحر لجي)، أي " أو كذى ظلمات "، وراعاه في قوله: (يغشاه موج)، وهذا
الوجه هو الذي عول عليه الزمخشري، ولم يذكر سواه.
وأما ابن جنى فذكر في " المحتسب " الوجه الأول، وقال: فإن قلت: فهلا حملته
365

على حذف الموصوف، فكأنه قال: " فله عشر حسنات وأمثالها "؟ قيل: حذف الموصوف
وإقامة الموصوف مقامه ليس بمستحسن في القياس، وأكثر ما أتى في الشعر، ولذلك حمل
(دانية) من قوله: (ودانية عليهم ظلالها)، على أنه وصف جنة أو " وجنه
دانية " عطف على " جنة " من قولهم: (وجزاهم بما صبروا جنة)، لما قدر حذف
الموصوف وإقامة الصفة مقامه، حتى عطف على قوله: (متكئين فيها على الأرائك)
فكانت حالا معطوفة على حال.
وفى " كشف المشكلات " للأصبهاني. حذف الموصوف هو اختيار سيبويه،
وإن كان لا يرى حسن " ثلاثة مسلمين "، بحذف الموصوف.
وقوله تعالى حكاية عن لقمان: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة) فأنث
الفعل المسند ل‍ " مثقال " وهو مذكر، لكن لما أضيف إلى " حبة " اكتسب منه
التأنيث، فساغ تأنيث فعله.
وذكر أبو البقاء في قوله تعالى. (كل نفس ذائقة الموت) أن التأنيث في
" ذائقة " باعتبار معنى " كل " لأن معناها التأنيث، قال: لأن كل نفس نفوس،
ولو ذكر على لفظ " كل " جاز - يعنى أنه لو قيل: كل نفس ذائق، جاز.
وهو مردود، لأنه يجب اعتبار ما يضاف إليه " كل " إذا كانت نكرة، ولا يجوز
أن يعتبر كل.
366

وقوله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي)، فإن الظاهر عود الضمير
إلى الإبداء، بدليل قوله: (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم)،
فذكر الضمير العائد على الإخفاء، ولو قصد الصدقات لقال. " فهي "، وإنما
أنث " هي " والذي عاد إليه مذكر، على حذف مضاف، أي وإبداؤها نعم ما هي، كقوله:
القرية اسألها.
ومنه (سعيرا) وهو مذكر، ثم قال: (إذا رأتهم) فحمله على النار.
وأما قوله: (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن)،
فقيل: الضمير عائد على الآيات المتقدمة في اللفظ.
وقال البغوي: إنما قال: (خلقهن)، بالتأنيث، لأنه أجرى على طريق جمع
التكسير، ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث، لأنه فيما لا يعقل.
وقيل في قوله: (الذي خلقكم من نفس واحدة): إن المراد آدم فأنثه
ردا إلى النفس. وقد قرئ شاذا " من نفس واحد ".
وحكى الثعلبي في تفسيره في سورة " اقترب " بإسناده إلى المبرد، سئل عن
ألف مسألة، منها: ما الفرق بين قوله تعالى: (جاءتها ريح عاصف) وقوله:
(ولسليمان الريح عاصفة) وقوله: (أعجاز نخل خاوية) و (كأنهم أعجاز
367

نخل منقعر)، فقال: كل ما ورد عليك من هذا الباب، فلك أن ترده إلى اللفظ
تذكيرا، ولك أن ترده إلى المعنى تأنيثا، وهذا من قاعدة أن اسم الجنس تأنيثه غير حقيقي،
فتارة يلحظ معنى الجنس فيذكر، وتارة معنى الجماعة فيؤنث، قال تعالى في قصة شعيب:
(وأخذت الذين ظلموا الصيحة)، وفي قصة صالح: (وأخذ الذين ظلموا
الصيحة). وقال: (إن البقر تشابه علينا)، وقرئ " تشابهت ".
وأبدى السهيلي للحذف والإثبات معنى حسنا فقال: إنما حذفت منه، لأن " الصيحة "
فيها بمعنى العذاب والخزي، إذ كانت منتظمة بقوله: (ومن خزي يومئذ)،
فقوى التذكير، بخلاف قصة شعيب، فإنه لم يذكر فيها ذلك.
وأجاب غيره: بأن الصيحة يراد بها المصدر بمعنى الصياح، فيجئ فيها التذكير، فيطلق
ويراد بها الوحدة من المصدر، فيكون التأنيث أحسن.
وقد أخبر سبحانه عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور، كلها
مفردة اللفظ:
أحدها: الرجفة. في قوله: (فأخذتهم الرجفة).
والثاني: الظلة. في قوله: (فأخذهم عذاب يوم الظلة).
والثالث: الصيحة. وجمع لهم الثلاثة، لأن الرجفة بدأت بهم فأصحروا في الفضاء،
خوفا من سقوط الأبنية عليهم، فضربتهم الشمس بحرها، ورفعت لهم الظلة، فهرعوا إليها
يستظلون بها من الشمس، فنزل عليهم العذاب وفيه الصيحة، فكان ذكر الصيحة
مع الرجفة والظلة أحسن من ذكر الصياح، فكان ذكر التاء أحسن.
368

فإن قلت: ما الفرق بين قوله سبحانه: (فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت
عليه الضلالة)، وبين قوله: (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة).
قيل: الفرق بينهما من وجهين:
لفظي ومعنوي.
أما اللفظي، فهو أن الفصل بين الفعل والفاعل في قوله: (حق عليهم
الضلالة)، أكثر منها في قوله: (حقت عليه الضلالة)، والحذف مع كثرة
الحواجز أحسن.
وأما المعنوي فهو أن " من " في قوله: (ومنهم من حقت عليه الضلالة)،
راجعة على الجماعة، وهي مؤنثة لفظا، بدليل: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا)،
ثم قال: (ومنهم من حقت عليه الضلالة)، أي من تلك الأمم، ولو قال " ضلت "
لتعينت التاء - والكلامان واحد وإن كان معناهما واحدا - فكان إثبات التاء أحسن من
تركها، لأنها ثابتة فيما هو من معنى الكلام المتأخر.
وأما (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة)، فالفريق مذكر، ولو قال:
" ضلوا " لكان بغير تاء، وقوله: (حق عليهم الضلالة) في معناه، فجاء
بغير تاء، وهذا أسلوب لطيف من أساليب العرب، أن يدعوا حكم اللفظ الواجب في قياس
لغتهم، إذا كان في مركبه كلمة لا يجب لها حكم ذلك الحكم.
تنبيه
جاء عن ابن مسعود: ذكروا القرآن. ففهم منه ثعلب أن ما احتمل تأنيثه وتذكيره
كان تذكيره أجود.
369

ورد بأنه يمتنع إرادة تذكير غير الحقيقي التأنيث، لكثرة ما في القرآن منه بالتأنيث:
(النار وعدها الله). (والتفت الساق بالساق). (قالت لهم رسلهم).
وإذا امتنع إرادة غير الحقيقي، فالحقيقي أولى.
قالوا: ولا يستقيم إرادة أن ما احتمل التذكير والتأنيث غلب فيه التذكير، لقوله تعالى:
(والنخل باسقات). (أعجاز نخل خاوية)، فأنث مع جواز التذكير، قال
تعالى: (أعجاز نخل منقعر)، (من الشجر الأخضر): قال فليس المراد ما فهم، بل المراد
الموعظة والدعاء، كما قال تعالى: (فذكر بالقرآن...) إلا أنه، حذف الجار
والمقصود ذكروا الناس بالقرآن، أي ابعثوهم على حفظه كيلا ينسوه.
وقال الواحدي: إن قول ابن مسعود على ما ذهب إليه ثعلب، والمراد أنه إذا احتمل
اللفظ التذكير والتأنيث ولم يحتج في التذكير إلى مخالفة المصحف ذكر، نحو: (ولا يقبل
منها شفاعة).
قال: ويدل على إرادته هذا أن أصحاب عبد الله من قراء الكوفة كحمزة والكسائي
ذهبوا إلى هذا فقرأوا ما كان من هذا القبيل بالتذكير، نحو: (يوم يشهد عليهم
ألسنتهم). وهذا في غير الحقيقي.
[ضابط التأنيث]
ضابط التأنيث ضربان:
حقيقي وغيره، فالحقيقي لا يحذف التأنيث من فعله غالبا إلا أن يقع فصل، نحو:
370

قام اليوم هند، وكلما كثر الفصل حسن الحذف، والإثبات مع الحقيقي أولى ما لم يكن جمعا.
وأما غير الحقيقي فالحذف فيه مع الفصل حسن، قال تعالى: (فمن جاءه موعظة)،
فإن كثر الفصل ازداد حسنا، ومنه: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) ويحسن الإثبات
أيضا، نحو: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة) فجمع بينهما في سورة هود.
وأشار بعضهم إلى ترجيح الحذف، واستدل عليه بأن الله تعالى قدمه عليه حيث جمع
بينهما في سورة واحدة. وفيما قاله نظر.
371

التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه
قد سبق منه كثير في نوع الالتفات، ويغلب ذلك فيما إذا كان مدلول الفعل من الأمور
الهائلة المهددة المتوعد بها، فيعدل فيه إلى لفظ الماضي تقريرا وتحقيقا لوقوعه، كقوله تعالى:
(ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات).
وقوله في الزمر: (ونفخ في الصور فصعق).
وقوله: (وبرزوا لله جميعا).
وقوله: (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم)،
أي نحشرهم.
وقوله: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا). ثم تارة يجعل المتوقع فيه كالواقع،
فيؤتى بصيغة الماضي مرادا به المضي، تنزيلا للمتوقع منزلة ما وقع، فلا يكون تعبيرا عن
المستقبل بلفظ الماضي، بل جعل المستقبل ماضيا مبالغة.
ومنه: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه). (ونادى أصحاب الجنة)، ونحوه.
* * *
وقد يعبر عن المستقبل بالماضي مرادا به المستقبل، فهو مجاز لفظي، كقوله تعالى:
372

(ويوم ينفخ في الصور ففزع)، فإنه لا يمكن أن يراد به المضي، لمنافاة (ينفخ)
الذي هو مستقبل في الواقع. وفائدة التعبير عنه بالماضي الإشارة إلى استحضار التحقق، وإنه
من شأنه لتحققه أن يعبر عنه بالماضي وإن لم يرد معناه. والفرق بينهما أن الأول مجاز، والثاني
لا مجاز فيه إلا من جهة اللفظ فقط.
* * *
وقوله: (وإذ قال الله يا عيسى)، أي يقول، عكسه لأن المضارع يراد به
الديمومة والاستمرار، كقوله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون
الكتاب).
وقوله: (ثم قال له كن فيكون)، أي فكان استحضارا لصورة تكونه.
وقوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) أي ما تلت.
وقوله تعالى: (ولقد نعلم)، أي علمنا.
فإن قيل: كيف يتصور التقليل في علم الله؟
قيل: المراد أنهم أقل معلوماته، ولأن المضارع هنا بمعنى الماضي ف‍ " قد " فيه للتحقيق
لا التقليل.
وقوله: (فلم تقتلون أنبياء الله)، أي فلم قتلتم!
وقوله: (حتى تأتيهم البينة)، أي لم يتعارفوا حتى تأتيهم.
وقوله: (منفكين)، قال مجاهد: " منتهين " وقيل: زائلين من الدنيا.
373

وقال الأزهري: ليس هو من باب " ما انفك " و " ما زال " إنما هو من انفكاك
الشيء إذا نفصل عنه.
وقوله: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم
يعذبكم)، المعنى: فلم عذب آباءكم بالمسخ والقتل؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يؤمر بأن يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد، لأن الجاحد يقول: إني لا أعذب، لكن
احتج عليهم بما قد كان.
وقوله: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة).
فعدل عن لفظ " أصبحت " إلى " تصبح "، قصدا للمبالغة في تحقيق اخضرار الأرض
لأهميته، إذ هو المقصود بالإنزال.
فإن قلت: كيف قال النحاة: إنه يجب نصب الفعل المقرون بالفاء إذا وقع في جواب
الاستفهام، كقوله: (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا) و " فتصبح "
هنا مرفوع؟
قلت: لوجوه:
أحدها: أن شرط الفاء المقتضية للنصب أن تكون سببية، وهنا ليست كذلك، بل
هي للاستئناف، لأن الرؤية ليست سببا للإصباح.
الثاني: أن شرط النصب أن ينسبك من الفاء وما قبلها شرط وجزاء، وهنا ليس
كذلك، لأنه لو قيل: إن تر أن الله أنزل ماء تصبح، لم يصح، لأن إصباح الأرض حاصل،
سواء رئي أم لا.
فإن قيل: شاع في كلامهم إلغاء فعل الرؤية، كما في قوله: " ولا تزال - تراها - ظالمة "
374

أي ولا تزال ظالمة، وحينئذ فالمعنى منصب إلى الإنزال لا إلى الرؤية، ولا شك أنه يصح
أن يقال: " إن أنزل تصبح "، فقد انعقد الشرط والجزاء.
قلت: إلغاء فعل الرؤية في كلامهم جائز لا واجب، فمن أين لنا ما يقتضي تعيين حمل
الآية عليه؟
الثالث: إن همزة الاستفهام إذا دخلت على موجب تقلبه إلى النفي، كقوله تعالى:
(أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين)، وإذا دخلت على نفي تقلبه إلى
الإيجاب، فالهمزة في الآية للتقرير، فلما انتقل الكلام من النفي إلى الإيجاب
لم ينتصب الفعل، لأن شرط النفي كون السابق منفيا محضا: ذكره العزيزي
في " البرهان ".
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة السجدة: (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى
الأرض الجرز فنخرج به زرعا).
الرابع: أنه لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه إثبات الاخضرار،
فكان ينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت
فتشكر! إن نصبت فأنت ناف لشكره، شاك تفريصه، وإن رفعت فأنت مثبت
لشكره. ذكر هذا الزمخشري في الكشاف، قال: وهذا ومثاله مما يجب أن يرغب له من
اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.
وقال ابن الخباز: النصب يفسد المعنى، لأن رؤية المخاطب الماء الذي أنزله الله ليس
سببا للاخضرار، وإنما الماء نفسه هو سبب الاخضرار.
ومنه قوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت)،
375

فقال: " تثير " مضارعا، وما قبله وما بعده ماضيا، مبالغة في تحقيق إثارة الرياح السحاب
للسامعين وتقدير تصوره في أذهانهم.
فإن قيل: أهم الأفعال المذكورة في الآية إحياء الموتى، وقد ذكر بلفظ الماضي،
وما ذكرته يقتضي أولوية ذكره بلفظ المضارع، إذ هو أهم، وإثارة السحاب سبب أعيد
على قريب.
قيل: لا نسلم بأهمية إحياء الأرض بعد موتها، فالمقدمات المذكورة أهمها وأدلها على
القدرة أعجبها وأبعدها عن قدرة البشر، وإثارة السحاب أعجبها، فكان أولى بالتخصيص
بالمضارع، وإنما قال: إن إثارة السحاب أعجب لأن سببها أخفى، من حيث إنا نعلم
بالفعل أن نزول الماء سبب في اخضرار الأرض، وإثارة السحاب وسوقه سبب نزول الماء.
فلو خلينا وظاهر العقل لم نقل: إن الرياح سببها، لعدم إحساسنا بمادة السحاب وجهته.
ومن لواحق ذلك العدول عن المستقبل إلى اسم المفعول، لتضمنه معنى الماضي،
كقوله: (يوم مجموع له الناس)، تقريرا للجمع فيه، وأنه لا بد أن يكون
معادا للناس، مضروبا لجميعهم، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله: (يوم يجمعكم
ليوم الجمع) لتعرف صحة هذا المعنى.
فإن قلت: الماضي أدل على المقصود من اسم المفعول، فلم عدل عنه إلى ما دلالته
أضعف؟ قلت: لتحصل المناسبة بين " مجموع " و " مشهور " في استواء شأنهما طلبا
للتعديل في العبارة.
ومنه العدول عن المستقبل إلى اسم الفاعل، كقوله تعالى: (وإن الدين لواقع)،
فإن اسم الفاعل ليس حقيقة في الاستقبال، بل في الحال.
376

مشاكلة اللفظ للفظ
هي قسمان: أحدهما - وهو الأكثر - المشاكلة بالثاني للأول، نحو " أخذه ما قدم
وما حدث ". وقوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم)، على مذهب الجمهور
وأن الجر للجوار: (والنجم والشجر يسجدان. والسماء رفعها).
وقد تقع المشاكلة بالأول للثاني كما في قراءة إبراهيم بن أبي عبيلة: (الحمد لله)
بكسر الدال، وهي أفصح من ضم اللام للدال.
377

مشاكلة اللفظ للمعنى
ومتى كان اللفظ جزلا كان المعنى كذلك، ومنه قوله تعالى: (إن مثل عيسى
عند الله كمثل آدم خلقه من تراب)، ولم يقل من " طين " كما أخبر به سبحانه
في غير موضع: (إني خالق بشرا من طين) إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع
الماء والتراب إلى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف، وذلك أنه أدنى العنصرين وأكثفهما،
لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية أتى بما يصغر أمر خلقه عند من ادعى
ذلك، فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمس في المعنى من غيره من العناصر، ولما أراد
سبحانه الامتنان على بني إسرائيل أخبرهم أن يخلق لهم من الطين كهيئة الطير، تعظيما لأمر
ما يخلقه بإذنه، إذ كان المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به.
ومنه قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء) فإنه سبحانه إنما اقتصر
على ذكر الماء دون بقية العناصر، لأنه أتى بصيغة الاستغراق، وليس في العناصر الأربع
ما يعم جميع المخلوقات إلا الماء، ليدخل الحيوان البحري فيها.
ومنه قوله تعالى: (تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من
الهالكين)، فإنه سبحانه أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها، فإن
" والله " و " بالله " أكثر استعمالا وأعرف من " تالله " لما كان الفعل الذي جاور القسم
أغرب الصيغ التي في بابه، فإن " كان " وأخواتها أكثر استعمالا من " تفتأ "، وأعرف
عند العامة، ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك بالنسبة، وهي لفظة " حرض "،
378

ولما أراد غير ذلك قال: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)، لما كانت جميع
الألفاظ مستعملة.
ومنه قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)، فإنه
سبحانه لما نهى عن الركون إلى الظالمين، وهو الميل إليهم والاعتماد عليهم، وكان
دون ذلك مشاركتهم في الظلم، أخبر أن العقاب على ذلك دون العقاب على الظلم،
وهو مس النار الذي هو دون الإحراق والاضطرام، وإن كان المس قد يطلق ويراد به
الإشعار بالعذاب.
ومنه قوله تعالى: (لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك
لأقتلك)، فإنه نشأ في الآية سؤال، وهو أن الترتيب في الجمل الفعلية تقديم الفعل
وتعقيبه بالفاعل، ثم بالمفعول، فإن كان في الكلام مفعولان: أحدهما يعدى وصول الفعل
إليه بالحرف، والآخر بنفسه، قدم ما تعدى إليه الفعل بنفسه، وعلى ذلك جاء قوله تعالى:
(وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم).
إذا ثبت هذا، فقد يقال: كيف توخى حسن الترتيب في عجز الآية دون صدرها؟
والجواب أن حسن الترتيب منع منه في صدر الآية مانع أقوى، وهو مخافة أن يتوالى ثلاثة
أحرف متقاربات المخرج، فيثقل الكلام بسبب ذلك، فإنه لو قيل " لئن بسطت يدك
إلى " والطاء والتاء متقاربة المخرج، فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه
بالحرف على الفعل الذي تعدى إليه بنفسه، ولما أمن هذا المحذور في عجز الآية لما اقتضته
البلاغة من الإتيان باسم الفاعل موضع الجملة الفعلية، لتضمنه معنى الفعل الذي تصح به
المقابلة، جاء الكلام على ترتيبه، من تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بنفسه، على
379

المفعول الذي يعدى إليه بحرف الجر. وهذا أمر يرجع إلى تحسين اللفظ، وأما المعنى فعلى
نظم الآية، لأنه لما كان الأول حريصا على التعدي على الغير قدم المتعدى على الآلة،
فقال: إلى يدك، ولما كان الثاني غير حريص على ذلك، لأنه نفاه عنه، قدم الآلة فقال:
" يدي إليك "، ويدل لهذا أنه عبر عن الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم.
ويؤيد ذلك أيضا قوله في سورة الممتحنة: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء
ويبسطوا إليكم أيديهم)، لأنه لما نسبهم للتعدي الزائد قدم ذكر المبسوط إليهم
على الآلة، وذلك الجواب السابق لا يمكن في هذه الآية.
ومثله قوله: (ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا
بالحسنى)، مقتضى الصناعة أن يؤتى بالتجنيس للازدواج في صدر الآية، كما أتى به
في عجزها، لكن منعه توخى الأدب والتهذيب في نظم الكلام، وذلك أنه لما كان الضمير
الذي في " يجزي " عائدا على الله سبحانه، وجب أن يعدل عن لفظ المعنى الخاص إلى رديفه،
حتى لا تنسب السيئة إليه سبحانه، فقال في موضع السيئة: " بما عملوا "، فعوض عن تجنيس
المزاوجة بالإرداف لما فيه من الأدب مع الله، بخلاف قوله: (وجزاء سيئة سيئة
مثلها)، فإن هذا المحذور منه مفقود، فجرى الكلام على مقتضى الصناعة.
ومنه قوله تعالى: (وأنه هو رب الشعرى)، فإنه سبحانه خص الشعري
بالذكر دون غيرها من النجوم، وهو رب كل شيء، لأن العرب ظهر فيهم رجل يعرف
بابن أبي كبشة عبد الشعري، ودعا خلقا إلى عبادتها.
وقوله: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)،
ولم يقل: " لا تعلمون " لما في الفقه من الزيادة على العلم.
380

وقوله حكاية عن إبراهيم: (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن)
فإنه لم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه، حيث لم يصرح فيه بأن العذاب لاحق
له، ولكنه قال: (إني أخاف) فذكر الخوف والمس، وذكر العذاب ونكره
ولم يصفه بأنه يقصد التهويل بل قصد استعطافه، ولهذا ذكر " الرحمن " ولم يذكر " المنتقم "
ولا " الجبار " على، حد قوله:
فما يوجع الحرمان من كف حارم * كما يوجع الحرمان من كف رازق
ومنه قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم
ما كانوا به يستهزئون)، فإنه قد يقال: ما الحكمة في التعبير بالسخرية دون الاستهزاء؟
وهلا قيل: " فحاق بالذين استهزؤا بهم " ليطابق ما قبله؟
والجواب أن الاستهزاء هو إسماع الإساءة، والسخرية قد تكون في النفس
ولهذا يقولون: سخرت منه كما يقولون: عجبت منه، ولا يقال: تجنب ذلك لما في ذلك
من تكرار الاستهزاء ثلاث مرات، لأنه قد كرر السخرية ثلاثا في قوله تعالى: (إن
تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون)، وإنما لم يقل: " نستهزئ بكم "
لأن الاستهزاء ليس من فعل الأنبياء.
وأما قوله: (الله يستهزئ بهم) فالعرب تسمى الجزاء على الفعل باسم الفعل،
كقوله: (نسوا الله فنسيهم)، وهو مجاز حسن، وأما الاستهزاء الذي نحن بصدده
فهو استهزاء حقيقة، لا يرضى به إلا جاهل.
ثم قال سبحانه: (فحاق بالذين سخروا منهم)، أي حاق بهم من الله الوعيد
381

البالغ لهم على ألسنة الرسل ما كانوا به يستهزئون بألسنتهم، فنزلت كل كلمة منزلتها.
وقوله: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) ولم يذكر
الكعبة، لأن البعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها حرج عليه، بخلاف القريب،
ولما خص الرسول بالخطاب تعظيما وإيجابا لشرعته عمم تصريحا بعموم الحكم، وتأكيدا
لأمر القبلة.
قاعدة
إذا اجتمع الحمل على اللفظ والمعنى، بدئ باللفظ ثم بالمعنى، هذا هو الجادة في القرآن،
كقوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا)، أفرد أولا باعتبار اللفظ، ثم جمع
ثانيا باعتبار المعنى، فقال: (وما هم بمؤمنين) فعاد الضمير مجموعا، كقوله تعالى:
(ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار)،
فعاد الضمير من " يدخله " مفردا على لفظ " من "، ثم قال: " خالدين " وهو حال
من الضمير.
وقوله: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم).
وقوله: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا).
وقوله: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله...) إلى قوله: (فلما
آتاهم من فضله بخلوا به).
وقد يجرى الكلام على أوله في الإفراد، كقوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك
382

قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام...) الآيتين،
فكرر فيها ثمانية ضمائر، كلها عائد على لفظ " من "، ولم يرجع منها شيء على معناها، مع
أن المعنى على الكثرة.
وقد يقتصر على معناها في الجميع، كقوله تعالى في سورة يونس: (ومنهم من
يستمعون إليك). وما ذكرنا من البداءة باللفظ عند الاجتماع هو الكثير، قال الشيخ
علم الدين العراقي: ولم يجئ في القرآن البداءة بالحمل على المعنى إلا في موضع واحد،
وهو قوله تعالى: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على
أزواجنا) فأنث " خالصة " حملا على معنى " ما "، ثم راعى اللفظ فذكر، وقال:
(ومحرم على أزواجنا).
واعترض بعض الفضلاء وقال: إنما يتم ما قاله من البداءة بالحمل على المعنى في ذلك،
إذا كان الضمير الذي في الصلة التي في بطون هذه الأنعام يقدر مؤنثا، أما إذا قدر مذكرا
فالبداءة إنما هو بالحمل على اللفظ.
وأجيب بأن اعتبار اللفظ والمعنى أمر يرجع إلى الأمور التقديرية، لأن اعتبار
الأمرين أو أحدهما إنما يظهر في اللفظ، وإذا كان كذلك صدق أنه إنما بدئ في الآية بالحمل
على المعنى، فيتم كلام العراقي.
ونقل الشيخ أبو حيان في تفسيره عن ابن عصفور: أن الكوفيين لا يجيزون الجمع بين
الجملتين إلا بفاصل بينهما، ولم يعتبر البصريون الفاصل، قال: ولم يرد السماع إلا بالفاصل،
كما ذهب إليه الكوفيون. ونازعه الشيخ أثير الدين بقوله تعالى: (وقالوا لن يدخل
383

الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، وقال: ألا تراه كيف جمع بين الجملتين
دون فصل! انتهى.
والذي ذكره ابن عصفور في شرح " المقرب " له: شرط الكوفيون في جواز
اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى الفصل، فيجوزون: من يقومون اليوم وينظر في أمرنا
إخوتنا، ولا يجوزون: من يقومون وينظر في أمرنا إخوتنا، لعدم الفصل، وإنما ورد السماع
بالفصل. انتهى.
وهذا يقتضى أن الكوفيين لا يشترطون الفصل عند اجتماع الجملتين إلا أن يقدم
اعتبار المعنى ويؤخر اعتبار اللفظ كما في قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان
هودا أو نصارى) إنما بدئ فيه بالحمل على اللفظ.
وقال ابن الحاجب: إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى، وإذا حمل على
المعنى ضعف الحمل بعده على اللفظ، لأن المعنى أقوى، فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار
اللفظ، ويضعف بعد اعتبار المعنى القوي الرجوع إلى الأضعف.
وهذا معترض بأن الاستقراء دل على أن اعتبار اللفظ أكثر من اعتبار المعنى،
وكثرة موارده تدل على قوله، وأما العود إلى اللفظ بعد اعتبار المعنى فقد ورد به التنزيل،
كما ورد باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ، فثبت أنه يجوز الحمل على كل واحد منهما، بعد
الآخر من غير ضعف.
وأما قوله تعالى: (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا) فقرأه
الجماعة بتذكير " يقنت " حملا على لفظ " من " في التذكير " وتعمل " بالتأنيث، حملا على
معناها، لأنها للمؤنث. وقرأ حمزة والكسائي " يعمل " بالتذكير فيهما حملا على لفظها
384

رعاية للمناسبة في المتعاطفين. وتوجيه الجماعة أنه لما تقدم على الثاني صريح التأنيث في
" منكن " حسن الحمل على المعنى.
وقال أبو الفتح في " المحتسب ": لا يجوز مراجعة اللفظ بعد انصرافه عنه إلى المعنى:
وقد يورد عليه قوله: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين.
وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) ثم قال: (حتى إذا جاءنا)،
فقد راجع اللفظ بعد الانصراف عنه إلى المعنى، إلا أن يقال: إن الضمير في " جاء " يرجع
إلى الكافر لدلالة السياق عليه، لا إلى " من ".
ومنه الفرق بين " أسقى " و " سقى " بغير همز، لما لا كلفة معه في السقيا، ومنه قوله تعالى:
(وسقاهم ربهم شرابا طهورا) فأخبر أن السقيا في الآخرة لا يقع فيها كلفة، بل جميع
ما يقع فيها من الملاذ يقع فرصة وعفوا، بخلاف " أسقى " بالهمزة، فإنه لا بد فيه من
الكلفة بالنسبة للمخاطبين، كقوله تعالى: (وأسقيناكم ماء فراتا)، (لأسقيناهم
ماء غدقا)، لأن الإسقاء في الدنيا لا يخلو من الكلفة أبدا.
ومنه قوله تعالى: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل
شيء موزون)، قال أبو سلمة محمد بن بحر الأصبهاني في تفسيره: إنما خص الموزون
بالذكر دون المكيل، لأمرين:
أحدهما: أن غاية المكيل ينتهى إلى الموزون، لأن سائر المكيلات إذا صارت قطعا
دخلت في باب الموزون وخرجت عن المكيل، فكان الوزن أعم من المكيل.
والثاني: أن في الموزون معنى المكيل، لأن الوزن هو طلب مساواة الشيء بالشيء
385

ومقايسته وتعديله به، وهذا المعنى ثابت في المكيل، فخص الوزن بالذكر لاشتماله على
معنى المكيل.
وقال الشريف المرتضى في " الغرر ": هذا خلاف المقصود، بل المراد بالموزون
القدر الواقع بحسب الحاجة، فلا يكون ناقصا عنها ولا زائدا عليها زيادة مضرة.
ومنه قوله تعالى: فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما)، فذكر في مدة
اللبث السنة، وفي الانفصال العام، للإشارة إلى أنه كان في شدائد في مدته كلها، إلا خمسين
عاما قد جاءه الفرج والغوث، فإن السنة تستعمل غالبا في موضع الجدب، ولهذا سموا شدة
القحط سنة.
قال السهيلي: ويجوز أن يكون الله سبحانه قد علم أن عمره كان ألفا، إلا أن الخمسين
منها كانت أعواما، فيكون عمره ألف سنة ينقص منها ما بين السنين الشمسية والقمرية
في الخمسين خاصة، لأن الخمسين عاما بحسب الأهلة أقل من خمسين سنة شمسية، بنحو
عام ونصف.
وابن علي هذا المعنى قوله: (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) وقوله:
(ألف سنة مما تعدون)، فإنه كلام ورد في موضع التكثير والتتميم بمدة ذلك اليوم،
والسنة أطول من العام.
386

النحت
نحو الحوقلة والبسملة، جعله ابن الزملكاني من نظوم القرآن، ومثله بقوله: (وكفى بالله
شهيدا)، قال: وكفى، من كفتيه الشيء، ولم يجئ للعرب كفتيه بالشيء، فجعل بين
الفعلين الفعل المذكور، وهو متعد، وخص من الفعل اللازم وهو اكتفيت به، بالباء،
وكذلك انتصب " شهيدا " على التمييز أو الحال، كأنه قيل: كفى بالله فاكتف به،
فاجتمع فيه الخبر والأمر.
387

الإبدال
من كلامهم إبدال الحروف، وإقامة بعضها مقام بعض، يقولون: مدحه ومدهه،
وهو كثير، ألف فيه المصنفون، وجعل منه ابن فارس قوله تعالى: (فانفلق فكان
كل فرق كالطود العظيم)، فقال: فالراء واللام متعاقبان، كما تقول العرب:
فلق الصبح وفرقه. قال: وذكر عن الخليل - ولم أسمعه سماعا - أنه قال في قوله تعالى:
(فجاسوا خلال الديار)، إنما أراد " فحاسوا " فقامت الجيم مقام الحاء.
قال ابن فارس: وما أحسب الخليل قال هذا، ولا أحقه عنه.
قلت: ذكر ابن جنى في " المحتسب ": أنها قراءة أبو السمال، وقال: قال
أبو زيد - أو غيره - قلت له: إنما هو " فجاسوا "، فقال: حاسوا وجاسوا واحد. وهذا
يدل على أن بعض القراء يتخير بلا رواية، ولذلك نظائر. انتهى.
وهذا الذي قاله ابن جنى غير مستقيم، ولا يحل لأحد أن يقرأ إلا بالرواية. وقوله:
" إنهما بمعنى واحد " لا يوجب القراءة بغير الرواية كما ظنه أبو الفتح وقائل ذلك،
والقارئ به هو أبو السوار الغنوي لا أبو السمال فاعلم ذلك. كذلك أسنده الحافظ
أبو عمرو الداني، فقال: حدثنا المازني، قال: سألت أبا السوار الغنوي، فقرأ: " فحاسوا "
بالحاء غير الجيم، فقلت: إنما هو " فجاسوا " قال: حاسوا وجاسوا واحد، يعنى أن اللفظين
بمعنى واحد، وإن كان أراد أن القراءة بذلك تجوز في الصلاة، والغرض كما جازت بالأولى،
فقد غلط في ذلك وأساء.
388

وزعم الفارسي في تذكرته في قوله: (إني أحببت حب الخير)، أنه بمعنى
حب الخيل، وسميت الخيل خيرا لما يتصل بها من العز والمنعة، كما روى: " الخيل معقود
بنواصيها الخير "، وحينئذ فالمصدر مضاف إلى المفعول به.
وقيل في قوله تعالى: (وأرسلنا الرياح لواقح): إن أصله " ملاقح "، لأنه
يقال: ألقحت الريح السحاب، أي جمعته، وكل هذا تفسير معنى، وإلا فالواجب صون
القرآن أن يقال فيه مثل ذلك.
وذكر أبو عبيدة في قوله: (إلا مكاء وتصدية)، معناه " تصدده "،
فأخرج الدال الثانية ياء لكسرة الدال الأولى، كما حكاه صاحب " الترقيص ".
وحكى عن أبي رياش في قول امرئ القيس:
* فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي *
معناه " تنسلل " فأخرج اللام الثانية [ياء] لكسرة اللام الأولى، ومثله قول الآخر:
وإني لأستنعي سعيد وما بي نعسة * لعل خيالا منك يلقى خياليا
أراد أستنعس، فأخرج السين ياء.
وقال الفارسي في " التذكرة ": قرأ أبو الحسن - أو من قرأ له - قوله تعالى
فيما حكى عن يعقوب في القلب والإبدال: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد)، " غير
389

عائد "، واستحسنه الفارسي ألا يعود إليه كما يعود في حال السعة من العشاء إلى الغذاء.
وقيل في قوله تعالى: (وخرفوا له بنين وبنات): إن خرقه واخترقه،
وخلقه، واختلقه، بمعنى: هو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير، وقول قريش
في الملائكة.
وجوز الزمخشري كونه من خرق الثوب، إذا شقه، أي أنهم اشتقوا له
بنين وبنات.
390

المحاذاة
ذكره ابن فارس، وحقيقته أن يؤتى باللفظ على وزن الآخر لأجل انضمامه إليه،
وإن كان لا يجوز فيه ذلك لو استعمل منفردا، كقولهم: أتيته الغدايا والعشايا، فقالوا: الغدايا،
لانضمامها إلى العشايا.
قيل: ومن هذا كتابه المصحف، كتبوا: (والليل إذا سجى) بالياء، وهو
من ذوات الواو، لما قرن بغيره مما يكتب بالياء.
ومنه قوله تعالى: (لسلطهم) فاللام التي في (لسلطهم) جواب (لو).
ثم قال: (فلقاتلوكم) فهذه حوذيت بتلك اللام، وإلا فالمعنى: لسلطهم
عليكم فقاتلوكم.
ومثله: لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه) فهما لاما قسم - ثم قال:
(أو ليأتيني)، فليس ذا موضع قسم، لأنه عذر للهدهد، فلم يكن ليقسم على
الهدهد أن يأتي بعذر، لكنه لما جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجراه مجراه.
391

ومنه الجزاء عن الفعل بمثل لفظه نحو: (إنما نحن مستهزئون. الله يستهزئ
بهم) أي يجازيهم جزاء الاستهزاء.
وقوله: (ومكروا ومكر الله) (فيسخرون منهم سخر الله منهم).
(وجزاء سيئة سيئة مثلها).
392

قواعد في النفي
قد تقدم في شرح معاني الكلام جمل من قواعده، ونذكر هاهنا زيادات.
اعلم أن نفي الذات الموصوفة قد يكون نفيا للصفة دون الذات، وقد يكون نفيا
للذات. وانتفاء النهي عن الذات الموصوفة قد يكون نهيا عن الذات، وقد يكون نهيا عن
الصفة دون الذوات، قال الله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله
إلا بالحق)، فإنه نهى عن القتل بغير الحق. وقال: (ولا تقتلوا أولادكم
من إملاق).
ومن الثاني قوله: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم)، (ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون) أي فلا يكون موتكم إلا على حال كونكم ميتين على الاسلام، فالنهي
في الحقيقة على خلاف حال الاسلام، كقول القائل: لا تصل إلا وأنت خاشع، فإنه ليس
نهيا عن الصلاة، بل عن ترك الخشوع.
وقوله: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى...) الآية.
وقد ذكروا أن النفي بحسب ما يتسلط عليه يكون أربعة أقسام:
الأول: بنفي المسند نحو، ما قام زيد بل قعد، ومنه قوله تعالى: (لا يسألون
الناس إلحافا) فالمراد نفي السؤال من أصله، لأنهم متعففون، ويلزم من نفيه
نفى الإلحاف.
393

الثاني: أن ينفى المسند إليه، فينتفي المسند، نحو ما قام زيد إذا كان زيد غير موجود،
لأنه يلزم من عدم زيد نفي القيام. ومنه قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين)،
أي لا شافعين لهم فتنفعهم شفاعتهم.
ومنه قول الشاعر:
* على لاحب لا يهتدي لمناره *
أي: على طريق لا منار له، فيهتدي به، ولم يكن مراده أن يثبت المنار فينتفى
الاهتداء به.
الثالث: أن ينفى المتعلق دون المسند والمسند إليه، نحو ما ضربت زيدا بل عمرا.
الرابع: أن ينفى قيد المسند إليه أو المتعلق، نحو ما جاءني رجل كاتب بل شاعر، وما رأيت
رجلا كاتبا بل شاعرا، فلما كان النفي قد ينصب على المسند وقد ينصب على المسند إليه
أو المتعلق، وقد ينصب على القيد احتمل في قولنا: ما رأيت رجلا كاتبا أن يكون المنفى
هو القيد، فيفيد الكلام رؤية غير الكاتب، وهو احتمال مرجوح، ولا يكون المنفى
المسند، أي الفعل، بمعنى أنه لم يقع منه رؤية عليه، لا على رجل ولا على غيره، وهو
في المرجوحية كالذي قبله.
394

نفى الشيء رأسا
لأنه عدم كمال وصفه أو لانتفاء ثمرته، كقوله تعالى في صفة أهل النار: (لا يموت
فيها ولا يحيى) فنفى عنه الموت، لأنه ليس بموت صريح، ونفى عنه الحياة، لأنها ليست
بحياة طيبة ولا نافعة، كقوله تعالى: وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) أي
ما هم بسكارى مشروب، ولكن سكارى فزع.
وقوله: (لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون)، وهم قد نطقوا بقولهم:
(يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا)، ولكنهم لما نطقوا بما لم ينفع فكأنهم
لم ينطقوا.
وقوله: (لهم قلوب لا يفقهون بها).
وقوله: (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير).
ومنه قوله: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم
لا يبصرون)، فإن المعتزلة احتجوا على نفى الرؤية، لأن النظر لا يستلزم الإبصار،
ولا يلزم من قوله: (إلى ربها ناظرة) إبصار.
وهذا وهم، لأن الرؤية تقال على أمرين: أحدهما الحسبان والثاني العلم، والآية من
المعنى الأول، أي تحسبهم ينظرون إليك، لأن لهم أعينا مصنوعة بأجفانها وسوادها، يحسب
الانسان أنها تنظر إليه بإقبالها عليه، وليست تبصر شيئا.
395

ومنه: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم).
ومنه قوله تعالى: (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس
ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)، فإنه وصفهم أولا بالعلم على سبيل التوكيد القسمي،
ثم نفاه أخيرا عنهم لعدم جريهم على موجب العلم، كذا قاله السكاكي وغيره.
وقد يقال: لم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد، لأن المثبت أولا نفس العلم،
والمنفي إجراء العمل بمقتضاه. ويحتمل حذف المفعولين أو اختلاف أصحاب الضميرين.
قال: ونظيره في النفي والإثبات قوله: (وما رميت إذ رميت ولكن
الله رمى).
قلت: المنفي أولا التأثير، والمثبت ثانيا نفس الفعل.
ومن هذه القاعدة يزول الإشكال في قوله: (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)
والمعنى: إن لم تفعل بمقتضى ما بلغت فأنت في حكم غير المبلغ، كقولك لطالب العلم: إن لم
تعمل بما علمت فأنت لم تعلم شيئا، أي في حكم من لم يعلم.
* * *
ومنه نفي الشيء مقيدا والمراد نفيه مطلقا، وهذا من أساليب العرب يقصدون به المبالغة
في النفي وتأكيده، كقولهم: فلان لا يرجى خيره، ليس المراد أن فيه خيرا لا يرجى، وإنما
غرضهم أنه لا خير فيه على وجه من الوجوه.
ومنه: (ويقتلون النبيين بغير حق)، فإنه يدل [على] أن قتلهم لا يكون
إلا بغير حق، ثم وصف القتل بما لا بد أن يكون من الصفة، وهي وقوعه على
خلاف الحق.
396

وكذلك قوله: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به)، إنها وصف لهذا
الدعاء، وأنه لا يكون إلا عن غير برهان.
وقوله: (ولا تكونوا أول كافر به)، تغليظ وتأكيد في تحذيرهم الكفر.
وقوله: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا)، لأن كل ثمن لها لا يكون إلا قليلا،
فصار نفى الثمن القليل نفيا لكل ثمن.
وقوله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافا)، فإن ظاهره نفي الإلحاف في المسألة،
والحقيقة نفي المسألة البتة، وعليه أكثر المفسرين، بدليل قوله: (يحسبهم الجاهل أغنياء
من التعفف)، ومن لا يسأل لا يلحف قطعا، ضرورة أن نفي الأعم يستلزم
نفي الأخص.
ومثله قوله: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع)، ليس المراد نفي الشفيع
بقيد الطاعة، بل نفيه مطلقا، وإنما قيده بذلك لوجوه:
أحدها: أنه تنكيل بالكفار، لأن أحدا لا يشفع إلا بإذنه، وإذا شفع يشفع،
لكن الشفاعة مختصة بالمؤمنين، فكان نفى الشفيع المطاع تنبيها على حصوله لأضدادهم،
كقولك لمن يناظر شخصا ذا صديق نافع: لقد حدثت صديقا نافعا، وإنما تريد التنويه بما
حصل لغيره، لأن له صديقا ولم ينفع.
الثاني: أن الوصف اللازم للموصوف ليس بلازم أن يكون للتقييد، بل يدل لأغراض
من تحسينه أو تقبيحه، نحو: له مال يتمتع به، وقوله تعالى: (وما آتيناهم من كتب
يدرسونها) (ولهم عذاب أليم).
397

الثالث: قد يكون الشفيع غير مطاع في بعض الشفاعات، وقد ورد في بعض الحديث ما يوهم
صورة الشفاعة من غير إجابة، كحديث الخليل مع والده يوم القيامة، وإنما دل على التلازم
دليل الشرع.
وقوله: (ولم يكن له ولي من الذل) أي من خوف الذل، فنفي الولي
لانتفاء خوف الذل، فإن اتخاذ الولي فرع عن خوف الذل وسبب عنه.
وقوله: (لا تأخذه سنة ولا نوم)، نفى الغلبة، والمراد نفي أصل النوم والسنة
عن ذاته، ففي الآية التصريح بنفي النوم وقوعا وجوازا، أما وقوعا فبقوله: (لا تأخذه
سنة ولا نوم)، وأما جوازا فبقوله: (القيوم)، وقد جمعهما قوله صلى الله عليه
وسلم: " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ".
وقوله: (قل أتنبئون الله بما لا يعلم)، أي بما لا وجود له، لأنه لو وجد
لعلمه بوجود الوجوب، تعلق علم الله بكل معلوم.
وقوله تعالى: (لن تقبل توبتهم)، على قول من نفى القبول لانتفاء سببه،
وهو التوبة، لا يوجد توبة فيوجد قبول.
وعكسه: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد)، فإنه نفى لوجدان العهد، لانتفاء
سببه، وهو الوفاء بالعهد.
وقوله: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها
من سلطان)، أي من حجة، أي لا حجة عليها، فيستحيل إذن أن ينزل بها حجة.
398

ونظيره من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " الدجال أعور والله ليس بأعور "، أي بذي
جوارح كوامل بتخيل جوارح له نواقص.
ونظيره قوله تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن
تنفد كلمات ربي) ليس المراد أن كلمات الله تنفد بعد نفاد البحر، بل
لا تنفد أبدا،
لا قبل نفاد البحر ولا بعده. وحاصل الكلام: لنفد البحر ولا تنفد كلمات ربي.
ووقع في شعر جرير قوله:
فيا لك يوما خيره قبل شره * تغيب واشيه وأقصر عاذله
قال الأصمعي: أنشدته كذلك لخلف الأحمر، فقال: أصلحه:
* فيا لك يوما خيره دون شره *
فإنه لا خير لخير بعده شر، وما زال العلماء يصلحون أشعار العرب، قال الأصمعي:
فقلت: والله لا أرويه أبدا إلا كما أوصيتني.
399

نقل ابن رشيق هذه الحكاية في " العمدة " وصوبها.
قال ابن المنير: ووقع لي أن الأصمعي وخلف الأحمر وابن رشيق أخطئوا جميعا وأصاب
جرير وحده، لأنه لم يرد إلا فيا لك يوم خير لا شر فيه، وأطلق " قبل " للنفي كما قلناها،
في قوله تعالى: (لنفد البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي)، وقوله تعالى: (الله
الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها) وقوله: (أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم
آذان يسمعون)، فإن ظاهره نفي هذه الجوارح، والحقيقة توجب نفي الآية عمن
يكون له فضلا عمن لا يكون له.
وقوله: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم)، فالمراد
لا ذاك ولا علمك به، أي كلاهما غير ثابت.
وقوله: (بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا)، أي شركاء لا ثبوت
لها أصلا، ولا أنزل الله بإشراكها حجة، أي تلك، وإنزال الحجة كلاهما منتف.
وقوله: (أتنبئون الله بما لا يعلم)، أي ما لا ثبوت لها له ولا علم الله متعلقا به،
نفيا للملزوم وهو النيابة بنفي لازمه، وهو وجوب كونه معلوما للعالم بالذات، لو كان له ثبوت،
بأي اعتبار كان.
وقوله: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم)
400

أصله لن يتوبوا فلن يكون لهم قبول توبة، فأوثر الإلحاق ذهابا إلى انتفاء الملزوم بانتفاء
اللازم، وهو قبول التوبة الواجب في حكمه تعالى وتقدس.
وقوله 6 (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا)، معلوم أنه
لا إكراه على الفاحشة لمن لا يريد تحصنا، لأنها نزلت فيمن يفعل ذلك.
ونظيره: (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة)، وأكل الربا منهى عنه
قليلا وكثيرا، لكنها نزلت على سبب، وهو فعلهم ذلك، ولأنه مقام تشنيع عليهم،
وهو بالكثير أليق.
وقوله: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به
مشركين...) الآية، المعنى آمنا بالله دون الأصنام وسائر ما يدعى إليه دونها،
إلا أنهم نفوا الإيمان بالملائكة والرسل والكتب المنزلة والدار الآخرة والأحكام الشرعية،
ولهذا أنه لما رد بقوله: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا)، بعد
إثباته إيمانهم، لأنه ضروري لا اختياري، أوجب ألا يكون الكلام مسوقا لنفي أمور،
يراعي فيها الحصر والتقييد، كقوله: (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا)،
فإنه لم يقدم المفعول في " آمنا " حيث لم يرد ذلك المعنى، فركب تركيبا يوهم إفراد الإيمان
بالرحمن عن سائر ما يلزم من الإيمان.
وقوله: (يتكبرون في الأرض بغير الحق)، فقيل من هذا الباب، فهي
صفة لازمة، وقيل التكبر قد يكون بحق، وهو التنزه عن الفواحش والدنايا والتباعد من فعلها.
وأما قوله: (والإثم والبغي بغير الحق)، فإن أريد بالبغي الظلم كان قوله:
(بغير الحق) تأكيدا، وإن أريد به الطلب كان قيدا.
401

قاعدة
اعلم أن نفي العام يدل على نفي الخاص، وثبوته لا يدل على ثبوته، وثبوت الخاص
يدل على ثبوت العام، ولا يدل نفيه على نفيه، ولا شك أن زيادة المفهوم من اللفظ
توجب الالتذاذ به، فلذلك كان نفي العام أحسن من نفي الخاص، وإثبات الخاص أحسن
من إثبات العام.
* * *
فالأول: كقوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله
ذهب الله بنورهم)، ولم يقل: " بضوئهم " بعد قوله (أضاءت) لأن النور
أعم من الضوء، إذ يقال على القليل والكثير، وإنما يقال الضوء على النور الكثير،
ولذلك قال تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا)، ففي الضوء دلالة
على الزيادة، فهو أخص من النور، وعدمه لا يوجب عدم الضوء، لاستلزام عدم العام عدم
الخاص، فهو أبلغ من الأول، والغرض إزالة النور عنهم أصلا، ألا ترى ذكره بعده:
(وتركهم في ظلمات).
وهاهنا دقيقة، وهي أنه قال: (ذهب الله بنورهم)، ولم يقل: " أذهب نورهم "
لأن الإذهاب بالشيء إشعار له بمنع عودته، بخلاف الذهاب، إذ يفهم من الكثير
استصحابه في الذهاب، ومقتضى منعه من الرجوع.
ومنه قوله تعالى: (يا قوم ليس بي ضلالة)، ولم يقل: " ضلال "، كما قالوا:
402

(إنا لنراك في ضلال)، لأن نفي الواحد يلزم منه نفي الجنس البتة.
وقال الزمخشري: لأن الضلالة أخص من الضلال، فكان أبلغ في نفي الضلال
عنه، فكأنه قال: ليس به شيء من الضلال، كما لو قيل [لك] لك تمرة؟
فقلت: ما لي تمرة.
ونازعه ابن المنير وقال: تعليله نفيها أبلغ [من نفي الضلال] لأنها أخص
[منه] وهذا غير مستقيم، فإن نفي الأعم أخص من نفي الأخص، ونفي الأخص أعم من
نفي الأعم، فلا يستلزمه لأن الأعم لا يستلزم الأخص. فإذا قلت: هذا ليس بإنسان
لم يلزم سلب الحيوانية عنه، وإذا قلت: هذا ليس بحيوان، لم يكن إنسانا، والحق
أن يقال: الضلالة أدنى من الضلال [وأقل]، لأنها لا تطلق إلا على الفعلة
[الواحدة] منه، والضلال يصلح للقليل والكثير، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى
لامن جهة كونه أخص، بل من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
* * *
والثاني: كقوله تعالى: (وجنة عرضها السماوات والأرض)، ولم يقل
" طولها "، لأن العرض أخص، إذ كل ماله عرض فله طول، ولا ينعكس. وأيضا
إذا كان للشيء صفة يغني ذكرها عن ذكر صفة أخرى، تدل عليها كان الاقتصار عليها
أولى من ذكرها، لأن ذكرها كالتكرار، وهو ممل، وإذا ذكرت فالأولى تأخير الدلالة
على الأخرى، حتى لا تكون المؤخرة قد تقدمت الدلالة عليها.
403

وقد يخل بذلك مقصود آخر كما في قوله: (وكان رسولا نبيا) لأجل السجع
وإذا كان ثبوت شيء أو نفيه يدل على ثبوت آخر أو نفيه، كان الأولى الاقتصار على
الدال على الآخر، فإن ذكر فالأولى تأخير الدال.
وقد يخل بذلك لمقصود آخر، كما في قوله تعالى: (مال هذا الكتاب لا يغادر
صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) وعلى قياس ما قلنا ينبغي الاقتصار على صغيرة،
وإن ذكرت الكبيرة منها فلتذكر أولا.
وكذلك قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما) وعلى ذلك القياس
يكفي " لهما أف " أو يقول " ولا تنهرهما " فلا تقل لهما أف "، وإنما عدل عن ذلك
للاهتمام بالنهي عن التأفيف، والعناية بالنهي، حتى كأنه قال: نهى عنه مرتين: مرة
بالمفهوم، وأخرى بالمنطوق.
وكذلك قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) فإن النوم غشية ثقيلة تقع على
القلب تمنعه معرفة الأشياء، والسنة مما يتقدمه من النعاس، فلم يكتف بقوله: (لا تأخذه
سنة)، دون ذكر النوم، لئلا يتوهم أن السنة إنما لم تأخذه لضعفها، ويتوهم أن
النوم قد يأخذه لقوته، فجمع بينهما لنفي التوهمين، أو السنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم
في القلب، تلخيصه هو منزه عن جميع المفترات، ثم أكد نفي السنة والنوم بقوله: (له ما في
السماوات وما في الأرض) لأنه خلقهما بما فيهما، والمشاركة إنما تقع فيما فيهما، ومن
يكن له ما فيهما، فمحال نومه ومشاركته، إذ لو وجد شيء من ذلك لفسدتا بما فيهما.
وأيضا فإنه يلزم من نفي السنة نفي النوم أنه لم يقل: لا ينام، وإنما قال: (لا تأخذه)
404

يعنى لا تغلبه، فكأنه يقول: لا يغلبه القليل ولا الكثير من النوم. والأخذ في اللغة بمعنى
القهر والغلبة، ومنه سمى الأسير: مأخوذا وأخيذا. وزيدت " لا " في قوله: (ولا نوم)
لنفيهما عنه بكل حال، ولولاها لاحتمل أن يقال: لا تأخذه سنة ولا نوم في حال واحدة،
وإذا ذكرت صفات فإن كانت للمدح فالأولى الانتقال فيها من الأدنى إلى الأعلى،
ليكون المدح متزايدا بتزايد الكلام، فيقولون: فقيه عالم، وشجاع باسل، وجواد
فياض، ولا يعكسون هذا لفساد المعنى، لأنه لو تقدم الأبلغ لكان الثاني داخلا تحته،
فلم يكن لذكره معنى، ولا يوصف بالعالم بعد الوصف بالعلام.
وقد اختلف الأدباء في الوصف بالفاضل والكامل: أيهما أبلغ على ثلاثة أقوال:
ثالثهما أنهما سواء.
قال الأقليشي: والحق أنك مهما نظرت إلى شخص، فوجدته مع شرف العقل
والنفس كريم الأخلاق والسجايا، معتدل الأفعال وصفته بالكمال، وإن وجدته وصل
إلى هذه الرتب بالكسب والمجاهدة وإماطة الرذائل وصفته بالفضل، وهذا يقتضي أنهما
متضادان، فلا يوصف الشخص الواحد بهما ألا بتجوز.
وقال ابن عبد السلام في قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة) إنما قدم الغيب
مع أن علم المغيبات أشرف من المشاهدات، والتمدح به أعظم، وعلم البيان يقتضي تأخير
الأمدح. وأجاب بأن المشاهدات له أكثر من الغائب عنا، والعلم يشرف بكثرة متعلقاته،
فكان تأخير الشهادة أولى.
وقوله الشيخ: إن المشاهدات له أكثر فيه نظر، بل في غيبه ما لا يحصى (ويخلق
405

مالا تعلمون)، وإنما الجواب أن الانتقال للأمدح ترق، فالمقصود هنا بيان أن
الغيب والشهادة في علمه سواء، فنزل الترقي في اللفظ منزلة ترق في المعنى، لإفادة استوائهما
في علمه تعالى. ويوضحه قوله تعالى: (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به)
فصرح بالاستواء.
هذا كله في الصفات، وأما الموصوفات فعلى العكس من ذلك، فإنك تبدأ
بالأفضل، فتقول: قام الأمير ونائبه وكاتبه، قال تعالى: (والخيل والبغال والحمير
لتركبوها...) الآية، فقدم الخيل لأنها أحمد وأفضل من البغال، وقدم البغال على
الحمير لذلك أيضا.
فإن قلت: قاعدة الصفات منقوضة بالقاعدة الأخرى، وهي أنهم يقدمون الأهم فالأهم
في كلامهم كما نص عليه سيبويه وغيره.
وقال الشاعر:
أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا * وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمها * ودع أمرنا إن المهم المقدم
قلت: المراد بقوله: " فقدم الأهم فالأهم " فيما إذا كانا شيئين متغايرين مقصودين،
وأحدهما أهم من الآخر، فإنه يقدم، وأما تأخر الأمدح في الصفات فذلك فيما إذا كانتا
صفتين لشيء واحد، فلو أخرنا الأمدح لكان تقديم الأول نوعا من العبث.
هذا كله في صفات المدح، فإن كانت للذم فقد قالوا: ينبغي الابتداء بالأشد ذما،
كقوله تعالى: (من الشيطان الرجيم)، قال ابن النفيس: في كتاب
406

" طريق الفصاحة ": وهو عندي مشكل، ولم يذكر توجيهه.
وقال حازم في " منهاجه ": يبدأ في الحسن بما ظهور الحسن فيه أوضح، وما النفس
بتقديمه أعني، ويبدأ في الذم بما ظهور القبح فيه أوضح، والنفس بالالتفات إليه أعني،
ويتنقل في الشيء إلى ما يليه من المزية في ذلك، ويكون بمنزلة المصور الذي يصور أولا
ما حل من رسوم تخطيط الشيء، ثم ينتقل إلى الأدق فالأدق.
فائدة
نفى الاستطاعة قد يراد به نفي الامتناع، أو عدم إمكان وقوع الفعل مع إمكانه،
نحو هل تستطيع أن تكلمني؟ بمعنى هل تفعل ذلك وأنت تعلم أنه قادر على الفعل؟
وقد حمل قوله تعالى حكاية عن الحواريين: (هل يستطيع ربك) على المعنى
الأول، أي هل يجيبنا إليه؟ أو هل يفعل ربك؟ وقد علموا أن الله قادر على الإنزال،
وأن عيسى قادر على السؤال، وإنما استفهموا هل هنا صارف أو مانع؟.
وقوله: (فلا يستطيعون توصية). (فلا يستطيعون ردها). (فما
اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا.
وقد يراد به الوقوع بمشقة وكلفة كقوله تعالى: (لن تستطيع معي صبرا).
407

فائدة
قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، قالوا: المجاز يصح نفيه
بخلاف الحقيقة، لا يقال للأسد ليس بشجاع.
وأجيب بأن المراد بالرمي هنا المرتب عليه، وهو وصوله إلى الكفار، فالوارد عليه
السلب هنا مجاز لا حقيقة، والتقدير: وما رميت خلقا إذ رميت كسبا، أو ما رميت انتهاء
إذ رميت ابتداء، وما رميت مجازا إذ رميت حقيقة.
408

اخراج الكلام مخرج الشك في اللفظ
دون الحقيقة لضرب من المسامحة وحسم العناد
كقوله: (وإنا أو إياكم لعلي هدى أو في ضلال مبين)، وهو يعلم أنه على
الهدى، وأنهم على الضلال، لكنه أخرج الكلام مخرج الشك، تقاضيا ومسامحة،
ولا شك عنده ولا ارتياب.
وقوله: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين).
ونحوه 6 (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)
أورده على طريق الاستفهام، والمعنى: هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم
عليهم لما تبين لكم من المشاهد ولاح منكم في المخايل: (أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا
أرحامكم) تهالكا على الدنيا؟
وإنما أورد الكلام في الآية على طريق سوق غير المعلوم سياق غيره، ليؤديهم
التأمل في التوقع عمن يتصف بذلك إلى ما يجب أن يكون مسببا عنه من أولئك الذين أصمهم
الله وأعمى أبصارهم فيلزمهم به على ألطف وجه، إبقاء عليهم من أن يفاجئهم به، وتأليفا
لقلوبهم، ولذلك التفت عن الخطاب إلى الغيبة، تفاديا عن مواجهتهم بذلك.
وقد يخرج الواجب في صورة الممكن، كقوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما
محمودا).
(فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده).
409

و (عسى ربكم أن يرحمكم).
(وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم).
وقد يخرج الإطلاق في صورة التقييد كقوله: (حتى يلج الجمل في سم
الخياط).
ومنه قوله تعالى حاكيا عن شعيب: (وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء
الله ربنا) فالمعنى لا يكون أبدا من حيث علقه بمشيئة الله، لما كان معلوما أنه يشاؤه،
إذ يستحيل ذلك على الأنبياء، وكل أمر قد علق بما لا يكون فقد نفى كونه على
أبعد الوجوه.
وقال قطرب: في الكلام تقديم وتأخير، والاستثناء من الكفار لا من شعيب،
والمعنى: لنخرجنك يا شعيب، والذين آمنوا معك من قريتنا، إلا أن يشاء الله أن تعودوا
في ملتهم. ثم قال تعالى حاكيا عن شعيب: (وما يكون لنا أن نعود فيها)،
على كل حال.
وقيل الهاء عائدة إلى القرية، لا إلى الله.
410

الإعراض عن صريح الحكم
كقوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت
فقد وقع أجره على الله)، أعرض عن ذكر مقدار الجزاء والثواب، وذكر ما هو
معلوم مشترك بين جميع أعمال البشر، تفخيما لمقدار الجزاء، لما فيه من إبهام المقدار،
وتنزيلا له منزلة ما هو غير محتاج إلى بيانه، على حد " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله "،
أعرض عن ذكر الجزاء إلى إعادة الشرط، تنبيها على عظم ما ينال، وتفخيما لبيان ما أتى به
من العمل، فصار السكوت عن مرتبة الثواب أبلغ من ذكرها.
وكقوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن
عملا)، وهذه الآية تتضمن الرجوع والبقاء والجمع، ألا تراه كيف رجع بعد ذكره
المبتدأ الذي هو الذين عن ذكر خبره إلى الشروع في كلام آخر، فبنى مبتدأ على مبتدأ
وجمع؟ والمعنى قوله: (إنا لا نضيع) من خبر المبتدأ الأول، وتقديره: إنا لا نضيع
أجرهم، لأنا لا نضيع أجر من أحسن عملا.
411

الهدم
وهو أن يأتي الغير بكلام يتضمن معنى، فتأتي بضده، فإنك قد هدمت ما بناه
المتكلم الأول، كقوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه)
هدمه بقوله: (ما اتخذ الله من ولد)، وبقوله: (والله لا يحب الظالمين)،
وبقوله: (فلم يعذبكم بذنوبكم)، تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم.
ومنه: (وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله)
هدمه بقوله: (ذلك قولهم بأفواههم)، وقوله: (ما اتخذ الله من ولد).
ومنه: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله) هدمه بقوله:
(والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)، أي في دعواهم الشهادة.
412

التوسع
منه الاستدلال بالنظر في الملكوت، كقوله تعالى: (إن في خلق السماوات
والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس
وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل
دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم
يعقلون).
ويكثر ذلك في تقديرات العقائد الإلهية: لتتمكن في النفوس، كقوله: (أليس
ذلك بقادر على أن يحيى الموتى)، وذلك بعد ذكر النطفة وتقلبها في مراتب
الوجود، وتطورات الخلقة.
وكقوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة
والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون).
ومنه التوسع في ترادف الصفات، كقوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه
موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم
يكد يراها)، فإنه لو أريد اختصاره لكان: (أو كظلمات في بحر لجي) مظلم.
ومنه التوسع في الذم كقوله تعالى: (ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء
بنميم) إلى قوله: (على الخرطوم).
413

التشبيه
اتفق الأدباء على شرفه في أنواع البلاغة، وأنه إذا جاء في أعقاب المعاني أفادها كمالا،
وكساها حلة وجمالا، قال المبرد في " الكامل ": هو جار في كلام العرب حتى لو قال
قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد.
وقد صنف فيه أبو القاسم بن البنداري البغدادي كتاب " الجمان في
تشبيهات القرآن ".
[مباحث التشبيه]
وفيه مباحث:
الأول
في تعريفه
وهو إلحاق شيء بذي وصف في وصفه.
وقيل: أن تثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به.
وقيل: الدلالة على اشتراك شيئين في وصف هو من أوصاف الشيء الواحد، كالطيب
في المسك، والضياء في الشمس، والنور في القمر. وهو حكم إضافي لا يرد إلا بين الشيئين
بخلاف الاستعارة.
414

الثاني
في الغرض منه
وهو تأنيس النفس بإخراجها من خفي إلى جلي، وإدنائه البعيد من القريب،
ليفيد بيانا.
وقيل: الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار، فإنك إذا قلت: زيد أسد، كان
الغرض بيان حال زيد، وأنه متصف بقوة البطش والشجاعة وغير ذلك، إلا أنا لم نجد
شيئا يدل عليه سوى جعلنا إياه شبيها بالأسد، حيث كانت هذه الصفات مختصة به،
فصار هذا أبين وأبلغ من قولنا: زيد شهم شجاع قوى البطش ونحوه.
الثالث
في أنه حقيقة أو مجاز
والمحققون على أنه حقيقة، قال الزنجاني في " المعيار ": التشبيه ليس بمجاز،
لأنه معنى من المعاني، وله ألفاظ تدل عليه وضعا، فليس فيه نقل اللفظ عن موضوعه،
وإنما هو توطئة لمن سلك سبيل الاستعارة والتمثيل، لأنه كالأصل لهما، وهما كالفرع له.
والذي يقع منه في حيز المجاز عند البيانيين هو الذي يجئ على حد الاستعارة.
وتوسط الشيخ عز الدين، فقال: إن كان بحرف فهو حقيقة، أو بحذفه فمجاز، بناء
على أن الحذف من باب المجاز.
415

الرابع
في أدواته
وهي أسماء، وأفعال، وحروف.
فالأسماء: مثل، وشبه، ونحوهما، قال تعالى: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة
الدنيا كمثل ريح فيها صر). (مثل الفريقين كالأعمى). (وأتوا به
متشابها) (إن البقر تشابه علينا).
والأفعال كقوله: (يحسبه الظمآن ماء). (يخيل إليه من سحرهم
أنها تسعى).
والحروف إما بسيطة كالكاف، نحو: (كرما اشتدت به الريح) (كدأب
آل فرعون) وإما مركبة، كقوله تعالى: (كان رؤوس الشياطين).
الخامس
في أقسامه
وهو ينقسم باعتبارات:
الأول
أنه إما أن يشبه بحرف، أولا.
* * *
وتشبيه الحرف ضربان:
أحدهما: يدخل عليه حرف التشبيه فقط، كقوله تعالى: (مثل نوره كمشكاة).
وقوله: (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام).
416

(فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان).
(خلق الانسان من صلصال كالفخار).
(وحور عين. كأمثال اللؤلؤ المكنون).
(وجنة عرضها كعرض السماء والأرض).
وثانيها: (أن يضاف إلى حرف التشبيه حرف مؤكد، ليكون ذلك علما على قوة
التشبيه وتأكيده، كقوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان).
(كأنهن بيض مكنون).
(وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة).
(تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر).
(كأنهم أعجاز نخل خاوية).
فإن قيل: كيف استرسل أهل الجنة وقوله: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا
هذا الذي رزقنا من قبل)، ولا شك أنه ليس به، واحترزت بلقيس فقالت:
(كأنه هو)، ولم تقل: هو هو؟
قيل: أهل الجنة وثقوا بأن الغرض مفهوم، وأن أحدا لا يعتقد في الحاضر أنه
عين المستهلك الماضي، وأما بلقيس فالتبس عليها الأمر، وظنت أنه يشبهه،
417

لأنها بنت على العادة، وهو أن السرير لا ينتقل من إقليم إلى آخر في طرفة عين.
* * *
وأما التشبيه بغير حرف، فيقصد به المبالغة، تنزيلا للثاني منزلة الأول تجوزا، كقوله:
(وأزواجه أمهاتهم).
وقوله: (وسراجا منيرا).
وقوله: (وجنة عرضها السماوات والأرض).
وكذلك: (تمر مر السحاب).
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: (قواريرا. قواريرا من فضة)، أي كأنها
في بياضها من فضة، فهو على التشبيه، لا على أن القوارير من فضة، بدليل قوله: (بكأس
من معين. بيضاء)، فقوله: (بيضاء) مثل قوله: (من فضة).
تنبيهان
الأول: هذا القسم يشبه الاستعارة في بعض المواضع، والفرق بينهما - كما قاله حازم
وغيره - أن الاستعارة، وإن كان فيها معنى التشبيه، فتقدير حرف التشبيه لا يجوز فيها،
والتشبيه بغير حرف على خلاف ذلك، لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه.
وقال الرماني في قوله تعالى: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة)، أي تبصر،
لأنه لا يجوز تقدير حرف التشبيه فيها.
418

وقد اختلف البيانيون في نحو قوله تعالى: (صم بكم عمي)، إنه تشبيه بليغ
أو استعارة؟ والمحققون - كما قاله الزمخشري - على الأول، قال: لأن المستعار له مذكور
- وهم المنافقون -، أي مذكور في تقدير الآية، والاستعارة لا يذكر فيها المستعار له،
ويجعل الكلام خلوا عنه، بحيث يصلح لأن يراد به المنقول عنه و [المنقول]
إليه، لولا القرينة، ومن ثم ترى المفلقين السحرة [منهم كأنهم] يتناسون التشبيه
ويضربون عنه صفحا.
وقال السكاكي: لأن من شرط الاستعارة إمكان حمل الكلام على الحقيقة
في الظاهر، وتناسي التشبيه، وزيد أسد لا يمكن كونه حقيقة، فلا يجوز أن يكون استعارة.
* * *
الثاني: قد يترك التشبيه لفظا ويراد معنى، إذ لو لم يرد معنى ولم يكن منويا،
كان استعارة.
مثاله قوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من
الفجر)، فهذا تشبيه لا استعارة، لذكر الطرفين: الخيط الأسود، وهو ما يمتد معه من
غسق الليل شبيها بخيط أسود وأبيض، وبينا بقوله: (من الفجر) والفجر - وإن كان
بيانا للخيط الأبيض - لكن لما كان أحدهما بيانا للآخر لدلالته عليه، اكتفى به عنه، ولولا
البيان كان من باب الاستعارة، كما أن قولك: رأيت أسدا، استعارة، فإذا زدت " من
فلان " صار تشبيها، وأما أنه لم زيد (من الفجر) حتى صار تشبيها؟ وهلا اقتصر به
419

على الاستعارة التي هي أبلغ! فلأن شرط الاستعارة أن يدل عليه الحال، ولو لم يذكر
(من الفجر) لم يعلم أن الخيطين مستعاران من " بدا الفجر "، فصار تشبيها.
التقسيم الثاني
ينقسم باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام، لأنهما:
إما حسيان، كقوله تعالى: (حتى عاد كالعرجون القديم)، وقوله: (كأنهم
أعجاز نخل منقعر).
أو عقليان، كقوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة
أو أشد قسوة).
وإما تشبيه المعقول بالمحسوس، كقوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله
أولياء كمثل العنكبوت)، وقوله: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد
اشتدت به الريح)، وقوله: (كمثل الحمار يحمل أسفارا)، لأن حملهم
التوراة ليس كالحمل على العاتق، إنما هو القيام بما فيها.
وأما عكسه فمنعه الإمام، لأن العقل مستفاد من الحس، ولذلك قيل: من فقد حسا
فقد فقد علما، وإذا كان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيهه به يستلزم جعل الأصل فرعا والفرع
أصلا، وهو غير جائز.
420

وأجازه غيره كقوله:
وكأن النجوم بين دجاه * سنن لاح بينهن ابتداع
* * *
وينقسم باعتبار آخر إلى خمسة أقسام:
الأول: قد يشبه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع، اعتمادا على معرفة النقيض والضد،
فإن إدراكهما أبلغ من إدراك الحاسة، كقوله تعالى: (كأنه رؤوس الشياطين)،
فشبه بما لا نشك أنه منكر قبيح، لما حصل في نفوس الناس من بشاعة صور الشياطين،
وإن لم ترها عيانا.
الثاني: عكسه، كقوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب)،
أخرج مالا يحس - وهو الإيمان - إلى ما يحس - وهو السراب - والمعنى الجامع بطلان
التوهم بين شدة الحاجة وعظم الفاقة.
الثالث: اخراج ما لم تجر العادة به إلى ما جرت به، نحو: (وإذ نتقنا الجبل
فوقهم كأنه ظلة)، والجامع بينهما الانتفاع بالصورة. وكذا قوله: (إنما مثل
الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء)، والجامع البهجة والزينة، ثم الهلاك،
وفيه العبرة.
الرابع: اخراج ما لا يعرف بالبديهة، إلى ما يعرف بها، كقوله: (وجنة عرضها
السماوات والأرض)، الجامع العظم، وفائدته التشويق إلى الجنة بحسن الصفة.
421

الخامس: اخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ماله قوة فيها، كقوله: (وله الجوار
المنشآت في البحر كالأعلام)، والجامع فيهما العظم، والفائدة البيان عن القدرة على
تسخير الأجسام العظام في أعظم ما يكون من الماء.
وعلى هذه الأوجه تجري تشبيهات القرآن.
التقسيم الثالث
ينقسم إلى مفرد ومركب:
والمركب أن ينزع من أمور مجموع بعضها إلى بعض، كقوله تعالى: (كمثل الحمار
يحمل أسفارا)، فالتشبيه مركب من أحوال الحمار، وذلك هو حمل الأسفار التي هي
أوعية العلم، وخزائن ثمرة العقول، ثم لا يحسن ما فيها، ولا يفرق بينها وبين سائر الأحمال
التي ليست من العلم في شيء، فليس له مما يحمل حظ سوى أنه يثقل عليه ويتعبه.
وقوله: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت
اتخذت بيتا).
وقوله: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء)، قال
بعضهم: شبه الدنيا بالماء، ووجه الشبه أمران: أحدهما أن الماء إذا أخذت منه فوق حاجتك
تضررت، وإن أخذت قدر الحاجة انتفعت به، فكذلك الدنيا. وثانيهما أن الماء إذا
أطبقت كفك عليه لتحفظه لم يحصل فيه شيء، فكذلك الدنيا، وليس المراد تشبيهها بالماء
وحده، بل المراد تشبيهه بهجة الدنيا في قلة البقاء والدوام بأنيق النبات الذي يصير بعد تلك
البهجة والغضاضة والطراوة إلى ما ذكر.
422

ومن تشبيه المفرد بالمركب قوله: (مثل نوره كمشكاة)، فإنه سبحانه أراد
تشبيه نوره الذي يلقيه في قلب المؤمن، ثم مثله بمصباح، ثم لم يقنع بكل مصباح، بل بمصباح
اجتمعت فيه أسباب الإضاءة، بوضعه في مشكاة، وهي الطاقة غير النافذة، وكونها لا تنفذ،
لتكون أجمع للتبصر، وقد جعل فيها مصباح في داخل زجاجة، فيه الكوكب الدري
في صفائها، ودهن المصباح من أصفى الأدهان وأقواها وقودا، لأنه من زيت شجر في
أوسط الزجاج لا شرقية ولا غربية، فلا تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار بل تصيبها
أعدل إصابة.
وهذا مثل ضربه الله للمؤمن، ثم ضرب للكافر مثلين: أحدهما: (كسراب
بقيعة)، والثاني: (كظلمات في بحر لجي) شبه في الأول ما يعلمه من لا يقدر
الإيمان المعتبر بالأعمال التي يحسبها بقيعة، ثم يخيب أمله، بسراب يراه الكافر بالساهرة،
وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيجيئه فلا يجده ماء، ويجد زبانية الله عنده، فيأخذونه
فيلقونه إلى جهنم.
البحث السادس
ينتظم قواعد تتعلق بالتشبيه
الأولى: قد تشبه أشياء بأشياء، ثم تارة يصرح بذكر المشبهات، كقوله تعالى:
423

(وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ)، وتارة
لا يصرح به بل يجئ مطويا على سنن الاستعارة، كقوله: (وما يستوي البحران
هذا عذاب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج)، (ضرب الله مثلا رجلا فيه
شركاء متشاكسون....) الآية.
قال الزمخشري: والذي عليه علماء البيان أن التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات
المركبة لا المفردة، بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى [معزولا بعضها من بعض،
لم يأخذ هذا بحجزة ذاك] فتشبهها بنظائرها كما ذكرنا، وتشبه كيفية حاصلة من
مجموع أشياء تضامت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى، كقوله تعالى: (مثل الذين حملوا
التوراة...) الآية.
ونظائره من حيث اجتمعت تشبيهات، كما في تمثيل الله حال المنافقين أول سورة البقرة،
قال الزمخشري: وأبلغه الثاني، لأنه أدل على فرط الحيرة، وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أخر،
قال: وهم يتدرجون في نحو هذا، من الأهون إلى الأغلظ.
* * *
الثانية: أعلى مراتب التشبيه في الأبلغية ترك وجه الشبه وأداته، نحو زيد أسد،
أما ترك وجهه وحده، فكقوله: زيد كالأسد، وأما ترك أداته وحدها، فكقوله زيد
الأسد شدة.
وفى كلام صاحب " المفتاح " إشارة إلى أن ترك وجه الشبه أبلغ من ترك أداته،
قال: لعموم وجه الشبه.
424

وخالفه صاحب " ضوء المصباح " لأنه إذا عم واحتمل التعدد، ولم تبق دلالته
على ما به الاشتراك دلالة منطوق بل دلالة مفهوم، فيحتمل أن يكون ما به الاشتراك صفة
ذم لا مدح، وهو غير لازم في ترك الأداة، إلا أن يقال: يلزم مثله من تركها، لأن قرينة
ترك الأداة، تصرف إرادة المدح دون الذم.
وذكرهما كقولك: زيد كالأسد شدة.
* * *
الثالثة: قد تدخل الأداة على شيء وليس هو عين المشبه، ولكنه ملتبس به، واعتمد
على فهم المخاطب، كما قال تعالى: (كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم...)
الآية، المراد: كونوا أنصار الله خالصين في الانقياد، كشأن مخاطبي عيسى إذ قالوا.
ومما دل على السياق قوله تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة)، وفيه
زيادة، وهو تشبيه الخارق بالمعتاد.
* * *
الرابعة: إذا كانت فائدته، إنما هي تقريب الشبه في فهم السامع وإيضاحه له، فحقه
أن يكون وجه الشبه في المشبه به أتم، والقصد التنبيه بالأدنى على الأعلى، مثل قياس
النحوي، ولا سيما إذا كان الدنو جدا أو العلو جدا، وعليه بني المعري قوله:
ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك * وقاعدة التشبيه نقصان ما يحكى
وقول آخر:
كالبحر والكاف أني ضفت زائدة * فيه فلا تظننها كاف تشبيه
425

وأما قوله تعالى: (مثل نوره كمشكاة) فيمكن أن يكون المشبه به أقوى،
لكونه في الذهن أوضح، إذ الإحاطة به أتم.
وأما قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم)، فهو من تشبيه
الغريب بالأغرب، لأن خلق آدم من خلق عيسى ليكون أقطع للخصم، وأوقع في
النفس. وفيه دليل على جواز القياس، وهو رد فرع إلى أصل لشبه ما، لأن عيسى
رد إلى آدم لشبه بينهما، والمعنى أن آدم خلق من تراب ولم يكن له أب ولا أم، فكذلك
خلق عيسى من غير أب.
وقوله: (كأنهم خشب مسندة) شبههم بالخشب، لأنه لا روح فيها، وبالمسندة
لأنه لا انتفاع بالخشب في حال تسنيده.
* * *
الخامسة: الأصل دخول أداة التشبيه على المشبه به، وهو الكامل، كقولك:
ليس الفضة كالذهب، وليس العبد كالحر، وقد تدخل على المشبه لأسباب:
منها وضوح الحال، كقوله تعالى: (وليس الذكر كالأنثى)، فإن الأصل
وليس الأنثى كالذكر، وإنما عدل عن الأصل، لأن معنى: (وليس الذكر) الذي
طلبت (كالأنثى) التي وهبت لها، لأن الأنثى أفضل منه. وقيل: لمراعاة الفواصل، لأن
قبله: (إني وضعتها أنثى).
ووهم ابن الزملكاني في " البرهان " حيث زعم أن هذا من التشبيه المقلوب، وليس
كذلك لما ذكرنا من المعنى.
426

وقيل: لما كان جعل الفرع أصلا والأصل فرعا في التشبيه في حالة الإثبات يقتضى
المبالغة في التشبيه، كقولهم: القمر كوجه زيد، والبحر ككفيه، كان جعل الأصل
فرعا والفرح أصلا في كماله الذي يقتضى نفي المبالغة في المشابهة، لا نفي المشابهة، وذلك
هو المقصود هنا، لأن المشابهة واقعة بين الذكر والأنثى في أعم الأوصاف وأغلبها، ولهذا
يقاد أحدهما بالآخر.
ومنها قصد المبالغة، فيقلب التشبيه، ويجعل المشبه هو الأصل ويسمى تشبيه العكس،
لاشتماله على جعل المشبه مشبها به، والمشبه به مشبها، كقوله تعالى: (قالوا إنما البيع
مثل الربا) كان الأصل أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع، لأن الكلام في الربا
لا في البيع، لكن عدلوا عن ذلك وتجرأوا، إذ جعلوا الربا أصلا ملحقا به البيع في الجواز،
وأنه الخليق بالحل.
ويحتمل أن يكون المراد إلزام الاسلام، فيحرم البيع قياسا على الربا، لاشتماله
على الفضل طردا لأصلهم، وهو في المعنى نقض على علة التحريم، ويؤيده قوله تعالى:
(وأحل الله البيع وحرم الربا)، وفيه إشارة إلى أن الواجب اتباع أحكام الله
واقتفاؤها من غير تعرض لإجرائها على قانون واحد، وأن الأسرار الإلهية كثيرا ما تخفى،
وهو أعلم بمصالح عباده فيسلم له عنان الانقياد، وأنهم جعلوا ذلك من باب إلزام الجدلي،
وجاء الجواب بفك الملازمة، وأن الحكمة فرقت بينهما. وفيه إبطال القياس
في مقابلة النص.
ومنه قوله تعالى: (أفمن يخلق كمن لا يخلق)، فإن الظاهر العكس، لأن
427

الخطاب لعبدة الأوثان، وسموها آلهة تشبيها بالله سبحانه، وقد جعلوا غير الخالق، مثل الخالق
فخولف في خطابهم، لأنهم بالغوا في عبادتهم وغلوا، حتى صارت عندهم أصلا في العبادة،
والخالق سبحانه فرعا، فجاء الإشكال على وفق ذلك.
والظاهر أنهم لما قاسوا غير الخالق خوطبوا بأشد الإلزامين، وهو تنقيص المقدس
لا تقديس الناقص.
قال السكاكي: وعندي أن المراد ب‍ " من لا يخلق " الحي القادر من الخلق
تعريضا بإنكار تشبيه الأصنام بالله تعالى من طريق الأولى. وجعل منه قوله تعالى:
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) بدل " هواه إلهه "، فإنه جعل المفعول الأول ثانيا
والثاني أولا، للتنبيه على أن الهوى أقوى وأوثق عنده من إلاهه.
ومنه قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين).
وقوله: (أم نجعل المتقين كالفجار)، فإن بعضهم أورد أن أصل التشبيه أن
يشبه الأدنى بالأعلى فيقال: " أفتجعل المجرمين كالمسلمين، والفجار كالمتقين " فلم
خولفت القاعدة!.
ويقال: فيه وجهان:
أحدهما: أن الكفار كانوا يقولون: نحن نسود في الآخرة، كما نسود في الدنيا
ويكونون أتباعا لنا، فكما أعزنا الله في هذه الدار يعزنا في الآخرة، فجاء الجواب على معتقدهم
أنهم أعلى، وغيرهم أدنى.
الثاني: لما قيل قبل الآية: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك
428

ظن الذين كفروا)، أي يظنون أن الأمر يهمل، وأن لا حشر ولا نشر، أم لم يظنوا
ذلك ولكن يظنون أنا نجعل المؤمنين كالمجرمين، والمتقين كالفجار.
* * *
السادسة: أن التشبيه في الذم يشبه الأعلى بالأدنى، لأن الذم مقام الأدنى،
والأعلى ظاهر عليه فيشبه به في السلب، ومنه قوله: (يا نساء النبي لستن كأحد من
النساء)، أي في النزول لا في العلو.
ومنه: (أم نجعل المتقين كالفجار) أي في سوء الحال، وإذا كان في المدح
يشبه الأدنى بالأعلى فيقال: تراب كالمسك وحصى كالياقوت، وفي الذم مسك كالتراب
وياقوت كالزجاج.
* * *
السابعة: قد يدخل التشبيه على لفظ وهو محذوف لامتناع ذلك، لأنه بسبب المحذوف
كقوله تعالى: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع).
فإن التقدير: ومثل واعظ الذين كفروا، فالمشبه الواعظ، والمقصود تشبيه حال الواعظ
منهم بالناعق للأغنام، وهي لا تعقل معنى دعائه وإنما تسمع صوته ولا تفهم غرضه،
وإنما وقع التشبيه على الغنم التي ينعق بها الراعي، ويمد صوته إليها، وفيه وجوه:
أحدها: أن المعنى: مثل الذين كفروا كمثل الغنم لا تفهم نداء الناعق، فأضاف المثل
إلى الناعق، وهو في المعنى للمنعوق به، على القلب.
ثانيها: ومثل الذين كفروا ومثلنا ومثلك، كمثل الذي ينعق، أي مثلهم في الإعراض
429

ومثلنا في الدعاء والإرشاد، كمثل الناعق بالغنم، فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول، كقوله:
(سرابيل تقيكم الحر).
وثالثها: أن المعنى: ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام - وهي لا تعقل ولا تسمع -
كمثل الذي ينعق بما لا يسمع، وعلى هذا فالنداء والدعاء منتصبان ب‍ " ينعق " و " لا " توكيد
للكلام، ومعناها الإلغاء.
رابعها: أن المعنى ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وعبادتهم لها واسترزاقهم
إياها، كمثال الراعي الذي ينعق بغنمه ويناديها، فهي تسمع نداء ولا تفهم معنى كلامه،
فيشبه من يدعوه الكفار من المعبودات من دون الله بالغنم من حيث لا تعقل الخطاب.
وهذا قريب من الذي قبله، ويفترقان في أن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع
الدعاء والنداء جملة، ويجب صرفه إلى غير الغنم، وهذا يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع
الدعاء والنداء جملة، وإن لم يفهمهما، والأصنام - من حيث كانت لا تسمع الدعاء جملة -
يجب أن يكون داعيها وناديها أسوأ حالا من منادى الغنم. ذكر ذلك الشريف المرتضى
في كتاب " غرر الفوائد ".
ومنه قوله تعالى: (كمثل ريح فيها صر...) الآية، وإنما وقع التشبيه
على الحرث الذي أهلكته الريح، قيل فيه إضمار، أي مثل إهلاك ما ينفقون كمثل
إهلاك ريح.
قال ثعلب: فيه تقديم وتأخير، أي كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح
فيها صر فأهلكته.
430

وأما قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب
الله)، فإن التقدير: كما يحب المؤمنون الله، قال: وحذف الفاعل، لأنه غير ملتبس.
واعترض عليه بأنه لا حاجة لذلك، فإن المعنى حاصل بتقديره مبنيا للفاعل.
وأجيب بأنه تقدير معنى، لكن محافظة على اللفظ فلا يقدر الفاعل، إذ الفاعل في باب
المصدر فضلة، فلذلك جعله كذلك في التقدير.
431

الاستعارة
هي من أنواع البلاغة، وهي كثيرة في القرآن، ومنهم من أنكره، بناء على إنكار
المجاز في القرآن، والاستعارة مجاز، وقد سبق تقديره. ومنع القاضي عبد الوهاب المالكي
إطلاق لفظ الاستعارة فيه، لأن فيها إيهاما للحاجة، وهكذا كما منع بعضهم لفظي القرآن
مخلوق، وهو لا ينكر وقوع المجاز، والاستعارة فيه إنما توقف على إذن الشرع.
ولا شك أن المجوزين للإطلاق شرطوا عدم الإبهام، وقد يمنعون الإبهام المذكور
لأنه في الاصطلاح اسم لأعلى مراتب الفصاحة.
وقال الطرطوسي: إن أطلق المسلمون الاستعارة فيه أطلقناها وإن امتنعوا
امتنعنا، ويكون هذا من قبيل أن الله تعالى عالم، والعلم هو العقل، ثم لا نصفه به
لعدم التوقيف. انتهى.
والمشهور تجويز الإطلاق.
[مباحث الاستعارة]
ثم فيها مباحث:
الأول
وهي " استفعال "، من العارية، ثم نقلت إلى نوع من التخييل لقصد المبالغة
432

في التخييل والتشبيه مع الإيجاز، نحو لقيت أسدا، وتعنى به الشجاع.
وحقيقتها أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها، وحكمة ذلك
إظهار الخفي وإيضاح الظاهر الذي ليس بجلي، أو بحصول المبالغة أو للمجموع.
فمثال إظهار الخفي قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب)، فإن حقيقته أنه في
أصل الكتاب، فاستعير لفظ " الأم " للأصل، لأن الأولاد تنشأ من الأم، كما تنشأ
الفروع من الأصول. وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيا، فينتقل السامع من
حد السماع إلى حد العيان، وذلك أبلغ في البيان.
ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جليا، قوله تعالى: (واخفض لهما جناح
الذل)، لأن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة، فاستعير للولد أولا جانب، ثم
للجانب جناح، وتقدير الاستعارة القريبة: واخفض لهما جانب الذل، أي اخفض
جانبك ذلا.
وحكمة الاستعارة في هذا جعل ما ليس بمرئي مرئيا، لأجل حسن البيان، ولما كان المراد
خفض جانب الولد للوالدين، بحيث لا يبقى الولد من الذل لهما والاستكانة مركبا، احتيج
من الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى، فاستعير الجناح، لما فيه من المعاني التي لا تحصل
من خفض الجناح، لأن من ميل جانبه إلى جهة السفل أدنى ميل، صدق عليه أنه خفض
جانبه، والمراد خفض يلصق الجنب بالإبط، ولا يحصل ذلك إلا بخفض الجناح كالطائر،
وأما قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني * صب قد استعذبت ماء بكائي
فيقال: إنه أرسل إليه قارورة، وقال: ابعث إلى فيها شيئا من ماء الملام، فأرسل
433

أبو تمام: أن ابعث لي ريشة من جناح الذل أبعث إليك من ماء الملام.
وهذا لا يصح له تعلق به، والفرق بين التشبيهين ظاهر، لأنه ليس جعل الجناح للذل
كجعل الماء للملام، فإن الجناح للذل مناسب، فإن الطائر إذا وهي وتعب بسط جناحه وألقى
نفسه إلى الأرض. وللإنسان أيضا جناح، فإن يديه جناحاه، وإذا خضع واستكان
يطأطئ من رأسه، وخفض من بين يديه، فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل، وصار
شبها مناسبا. وأما ماء الملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه، فلذلك استهجن منه. على أنه
قد يقال: إن الاستعارة التخييلية فيه تابعة للاستعارة بالكناية، فإن تشبيه الملام بظرف
الشراب لاشتماله على ما يكرهه الشارب لمرارته، ثم استعار الملام له كمائه، ثم يخرج منه شيء
يشبه بالماء، فالاستعارة في اسم الماء.
الثاني
في أنها قسم من أقسام المجاز، لاستعمال اللفظ في غير ما وضع له.
وقال الإمام فخر الدين: ليس بمجاز لعدم النقل. وفي الحقيقة هي تشبيه محذوف الأداة
لفظا وتقديرا، ولهذا حدها بعضهم بادعاء معنى الحقيقة في الشيء، مبالغة في " التشبيه،
كقولهم: انشقت عصاهم، إذا تفرقوا، وذلك للعصا لا للقوم، ويقولون: كشفت الحرب
عن ساق.
ويفترقان في أن التشبيه إذا ذكرت معه الأداة فلا خفاء أنه تشبيه، وإن حذفت فهذا
يلتبس بالاستعارة، فإذا ذكرت المشبه كقولك: زيد الأسد فهذا تشبيه بليغ، كقوله
تعالى: (صم بكم عمي)، وإن لم يذكر المشبه به فهو استعارة، كقوله:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم
434

فهذه استعارة نقلت لها وصف الشجاع، إلى عبارة صالحة للأسد، لولا قرينة السلاح
لشككت: هل أراد الرجل الشجاع أو الأسد الضاري؟
الثالث
لا بد فيها من ثلاثة أشياء أصول: مستعار، ومستعار منه، وهو اللفظ، ومستعار له
وهو المعنى، ففي قوله تعالى: (واشتعل الرأس شيبا) المستعار الاشتعال، والمستعار
منه النار، والمستعار له الشيب، والجامع بين المستعار منه والمستعار له مشابهة ضوء النهار
لبياض الشيب.
وفائدة ذلك وحكمته وصف ما هو أخفى بالنسبة إلى ما هو أظهر. وأصل الكلام أن
يقال: واشتعل شيب الرأس، وإنما قلب للمبالغة لأنه يستفاد منه عموم الشيب لجميع
الرأس، ولو جاء الكلام على وجهه لم يفد ذلك العموم. ولا يخفى أنه أبلغ من قولك: كثر
الشيب في الرأس، وإن كان ذلك حقيقة المعنى، والحق أن المعنى يعار، أولا ثم بواسطته يعار
اللفظ، ولا تحسن الاستعارة إلا حيث كان الشبه مقررا بينهما ظاهرا، وإلا فلا بد من
التصريح بالشبه، فلو قلت: رأيت نخلة أو خامة وأنت تريد مؤمنا إشارة إلى قوله: " مثل
المؤمن كمثل النخلة " أو " الخامة " لكنت كالملغز.
ومن أحسن الاستعارة قوله تعالى: (والصبح إذا تنفس)، وحقيقته " بدأ
انتشاره "، و " تنفس " أبلغ، فإن ظهور الأنوار في المشرق من أشعة الشمس قليلا قليلا، بينه وبين
اخراج النفس مشاركة شديدة.
435

وقوله: (الليل نسلخ منه النهار) لأن انسلاخ الشيء عن الشيء أن يبرأ منه،
ويزول عنه حالا فحالا، كذلك انفصال الليل عن النهار، والانسلاخ أبلغ من الانفصال لما
فيه من زيادة البيان.
وقوله: (أحاط بهم سرادقها).
(سنسمه على الخرطوم).
وقوله 6 (كأنهم حمر مستنفرة)، ويقولون للرجل المذموم: إنما هو حمار.
وقوله: (والتفت الساق بالساق).
(أئنا لمردودون في الحافرة)، أي في الخلق الجديد.
(بل ران على قلوبهم).
(خلقنا الانسان في كبد).
(لنسفعا بالناصية).
(وامرأته حمالة الحطب).
(فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين).
(ويتخطف الناس من حولهم).
436

ألم تر أنهم في كل واد يهيمون).
(ألا إنما طائرهم عند الله)، والمراد حفظهم وما يحصل لهم.
وقوله تعالى: (أقم الصلاة)، أي أتمها كما أمرت.
(إن ربك أحاط بالناس)، أي عصمك منهم، رواه شعبة عن أبي
وجاء عن الحسن.
(وإنه في أم الكتاب).
(وعنده مفاتيح الغيب).
(ولما سكت عن موسى الغضب).
(فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة).
(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)، فالدمغ
والقذف مستعار.
(فضربنا على آذانهم)، يريد لا إحساس بها، من غير صمم.
وقوله: (فاصدع بما تؤمر)، فإنه أبلغ من " بلغ "، وإن كان بمعناه، لأن تأثير الصدع أبلغ من تأثير التبليغ، فقد لا يؤثر التبليغ، والصدع يؤثر جزما.
437

الرابع
تنقسم إلى مرشحة - وهي أحسنها - وهي أن تنظر إلى جانب المستعار وتراعيه، كقوله
تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم)، فإن
المستعار منه الذي هو الشراء هو المراعي هنا، وهو الذي رشح لفظتي الربح والتجارة للاستعارة،
لما بينهما من الملاءمة.
وإلى تجريدية، وهي أن تنظر إلى جانب المستعار له، ثم تأتي بما يناسبه ويلائمه،
كقوله تعالى: (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف)، فالمستعار اللباس، والمستعار له
الجوع، فمجرد الاستعارة، بذكر لفظ الأداة المناسبة للمستعار له وهو الجوع، لا المستعار
وهو اللباس، ولو أراد ترشيحها لقال: وكساها لباس الجوع. وفي هذه الآية مراعاة المستعار له،
الذي هو المعنى، وهو الجوع والخوف، لأن ألمهما يذاق ولا يلبس.
وقد تجئ ملاحظة المستعار الذي هو اللفظ، كقوله تعالى: (وامرأته حمالة
الحطب)، إذا حملنا الحطب على النميمة، فاعتبر اللفظ فقال: " حمالة " ولم يقل: " راوية "
فيلاحظ المعنى.
وأما الاستعارة بالكناية فهي ألا يصرح بذكر المستعار، بل تذكر بعض لوازمه
تنبيها به عليه، كقوله: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس، تنبيها على أن
الشجاع أسد والعالم بحر.
ومنه المجاز العقلي كله عند السكاكي.
438

ومن أقسامها - وهو دقيق - أن يسكت عن ذكر المستعار ثم يومي إليه بذكر شيء من
توابعه وروادفه، تنبيها عليه، فيقول: شجاع يفترس أقرانه، فنبهت بالافتراس على أنك
قد استعرت له الأسد.
ومنه قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه)، فنبه بالنقض
الذي هو من توابع الحبل وروادفه، على أنه قد استعار للعهد الحبل لما فيه من باب الوصلة
بين المتعاهدين.
ومنها قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)،
لأن حقيقته " عملنا " لكن (قدمنا) أبلغ، لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم
من سفره، لأنه من أجل إمهالهم السابق عاملهم، كما يفعل الغائب عنهم إذا قدم فرآهم
على خلاف ما أمر به. وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال.
وقوله: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية)، لأن حقيقة " طغى "
علا، والاستعارة أبلغ، لأن " طغى "، علا قاهرا.
وكذلك: (بريح صرصر عاتية)، لأن لأن حقيقة " عاتية " شديدة، والعتو
أبلغ، لأنه شدة فيها تمرد.
وقوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك...)، الآية، وحقيقته: لا تمنع
ما تملك كل المنع، والاستعارة أبلغ، لأنه جعل منع النائل بمنزلة غل اليدين إلى العنق،
وحال الغلول أظهر.
439

وقوله تعالى: (وأخرجت الأرض أثقالها)، قيل: أخرجت ما فيها
من الكنوز.
وقيل: يحيى به الموتى، وأنها أخرجت موتاها، فسمى الموتى ثقلا تشبيها بالحمل الذي
يكون في البطن، لأن الحمل يسمى ثقلا، قال تعالى: (فلما أثقلت).
ومنها: جعل الشيء للشيء وليس له من طريق الادعاء والإحاطة به نافعة في
آيات الصفات، كقوله تعالى: (تجرى بأعيننا).
وقوله: (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه).
ويسمى التخييل: قال الزمخشري: ولا تجد بابا في علم البيان أدق ولا أعون في تعاطى
المشبهات منه، وأما قوله تعالى: (كأنه رؤوس الشياطين) قال الفراء: فيه
ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه جعل طلعها رؤوس الشياطين في القبح.
والثاني: أن العرب تسمى بعض الحيات شيطانا، وهو ذو القرن.
والثالث: أنه شوك قبيح المنظر، يسمى رؤوس الشياطين.
فعلى الأول يكون تخييلا، وعلى الثاني يكون تشبيها مختصا.
تقسيم آخر
الاستعارة فرع التشبيه، فأنواعها كأنواعه خمسة:
* * *
440

الأول: استعارة حسي لحسي بوجه لحسي، كقوله تعالى: (واشتعل الرأس
شيبا)، فإن المستعار منه هو النار، والمستعار له هو الشيب، والوجه هو الانبساط،
فالطرفان حسيان والوجه أيضا حسي، وهو استعارة بالكناية، لأنه ذكر التشبيه،
وذكر المشبه وذكر المشبه به مع لازم من لوازم المشبه به، وهو الاشتعال.
وقوله: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض)، أصل الموج حركة المياه،
فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة.
* * *
الثاني: حسي لحسي بوجه عقلي، كقوله تعالى: (أرسلنا عليهم الريح العقيم)
فالمستعار له الريح والمستعار منه المرأة، وهما حسيان، والوجه المنع من ظهور النتيجة، والأثر
وهو عقلي وهو أيضا استعارة بالكناية.
قال في الإيضاح: وفيه نظر، لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها، ولهذا جعل صفة
للريح، لا اسما. والحق أن المستعار منه ما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحبل والمستعار
له ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر وإلقاح شجر [والجامع لهما ما ذكر].
وهو مندفع بالعناية، لأن المراد من قوله: " المستعار منه " المرأة التي عبر عنها بالعقيم، ذكرها
السكاكي بلفظ ما صدق عليه.
ومنه قوله تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار)، المستعار له ظلمة النهار
من ظلمة الليل، والمستعار منه ظهور المسلوخ عند جلدته، والجامع عقلي وهو ترتب أحدهما
على الآخر.
441

وقوله: (فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس)، أصل الحصيد النبات
والجامع الهلاك، وهو أمر عقلي.
* * *
الثالث: معقول لمعقول، كقوله تعالى: (من بعثنا من مرقدنا)، فالرقاد
مستعار للموت، وهما أمران معقولان، والوجه عدم ظهور الأفعال، وهو عقلي، والاستعارة
تصريحية لكون المشبه به مذكورا.
وقوله: (ولما سكت عن موسى الغضب)، المستعار السكوت، والمستعار له
الغضب، والمستعار منه الساكت، وهذه ألطف الاستعارات، لأنها استعارة معقول
لمعقول، لمشاركته في أمر معقول.
* * *
الرابع: محسوس لمعقول، كقوله تعالى: (مستهم البأساء والضراء)،
أصل التماس في الأجسام، فاستعير لمقاساة الشدة، وكون المستعار منه حسيا، والمستعار له
عقليا، وكونها تصريحية ظاهر، والوجه اللحوق وهو عقلي.
وقوله: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) فالقذف والدمغ مستعاران.
وقوله: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل
من الناس).
وقوله: (فنبذوه وراء ظهورهم).
442

وقوله: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) وكل
خوض ذكره الله في القرآن فلفظه مستعار من الخوض في الماء.
وقوله: (فاصدع بما تؤمر) استعارة لبيانه عما أوحى إليه، كظهور ماء في
الزجاجة عند انصداعها.
وقوله: (أفمن أسس بنيانه)، البنيان مستعار وأصله للحيطان.
وقوله: (ويبغونها عوجا) العوج مستعار.
وقوله: (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) وكل ما في القرآن من
الظلمات والنور مستعار.
وقوله: (فجعلناه هباء منثورا).
(ألم تر أنهم في كل واد يهيمون)، الوادي مستعار، وكذلك الهيمان،
وهو على غاية الإيضاح.
(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك).
* * *
الخامس: استعارة معقول لمحسوس: (إنا لما طغى الماء) المستعار منه التكبر،
والمستعار له الماء، والجامع الاستعلاء المفرط.
وقوله: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية)، العتو هاهنا مستعار.
443

وقوله: (تكاد تميز من الغيظ) فلفظ الغيظ مستعار.
وقوله: (وجعلنا آية النهار مبصرة) فهو أفصح من مضيئة.
(حتى تضع الحرب أوزارها).
ومنها الاستعارة بلفظين، كقوله تعالى: (قوارير من فضة)، يعني تلك
الأواني ليس من الزجاج، ولا من الفضة، بل في صفاء القارورة وبياض الفضة. وقد
سبق عن الفارسي جعله من التشبيه.
ومثله: (فصب عليهم ربك سوطا عذاب)، ينبئ عن الدوام والسوط ينبي عن
الإيلام، فيكون المراد - والله أعلم - تعذيبهم عذابا دائما مؤلما.
444

التورية
وتسمى الإيهام والتخييل والمغالطة والتوجيه، وهي أن يتكلم المتكلم بلفظ مشترك بين
معنيين: قريب وبعيد، ويريد المعنى البعيد، يوهم السامع أنه أراد القريب، مثاله قوله
تعالى: (والنجم والشجر يسجدان)، أراد بالنجم النبات الذي لا ساق له، والسامع
يتوهم أنه أراد الكوكب، لا سيما مع تأكيد الإيهام بذكر الشمس والقمر.
وقوله: (وهو قائم يصلي في المحراب) والمراد المعرفة.
وقوله: (وجوه يومئذ ناعمة)، أراد بها في نعمة وكرامة، والسامع يتوهم أنه أراد
من النعومة.
وقوله: (والسماء بنيناها بأيد) أراد بالأيد القوة الخارجة.
وقوله: (ويطوف عليهم ولدان مخلدون)، أي مقرطون تجعل في آذانهم
القرطة، والحلق الذي في الأذن يسمى قرطا وخلدة، والسامع يتوهم أنه من الخلود.
وقوله: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم)، أي علمهم منازلهم فيها، أو يوهم إرادة
العرف، الذي هو الطيب.
وقوله: (وما علمتم من الجوارح مكلبين).
وقوله: (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات) فذكر " رضوان "
مع " الجنات " مما يوهم إرادة خازن الجنات.
445

وكان الأنصار يقولون: (راعنا)، ي أرعنا سمعنا وانظر إلينا والكفار يقولونها
" فاعل " من الرعونة. وقال أبو جعفر: هي بالعبرانية، فلما عوتبوا قالوا: إنما نقول مثل
ما يقول المسلمون، فنهي المسلمون عنها.
وقوله: (وهو الذي ينزل الغيث من بعدما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي
الحميد) فقوله (الولي) هو من أسماء الله، ومعناه الولي لعباده بالرحمة والمغفرة، وقوله:
(الحميد) يحتمل أن يكون من " حامد " لعباده المطيعين، أو " محمود " في السراء والضراء، وعلى
هذا فالضمير راجع إلى الله سبحانه. ويحتمل أن يكون الولي من أسماء المطر، وهو مطر
الربيع، والحميد بمعنى المحمود، وعلى هذا فالضمير عائد على الغيث.
وقوله: (اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه)، فإن لفظة
" ربك " رشحت لفظة " ربه "، لأن يكون تورية، إذ يحتمل أنه أراد بها الإله سبحانه
والملك، فلو اقتصر على قوله: (فأنساه الشيطان ذكر ربه)، ولم تدل لفظة " ربه "
إلا على الإله فلما تقدمت لفظة " ربك " احتمل المعنيين.
تنبيه
[في الفرق بين التورية والاستخدام]
كثيرا تلتبس التورية بالاستخدام، والفرق بينهما أن التورية استعمال المعنيين
في اللفظ وإهمال الآخر، وفي الاستخدام استعمالهما معا بقرينتين.
446

وحاصله أن المشترك إن استعمل في مفهومين معا فهو الاستخدام، وإن أريد أحدهما
مع لمح الآخر باطنا فهو التورية.
ومثال الاستخدام قوله تعالى: (لكل أجل كتاب. يمحو الله ما يشاء ويثبت)،
فإن لفظة " كتاب " يراد بها الأمد المحتوم والمكتوب، وقد توسطت بين لفظتين،
فاستخدمت أحد مفهوميها، وهو الأمد واستخدمت " يمحو " المفهوم الآخر، وهو المكتوب.
وقوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا
إلا عابري سبيل)، فإن الصلاة تحتمل إرادة نفس الصلاة، وتحتمل إرادة موضعها
فقوله: (حتى تعلموا) استخدمت إرادة نفس الصلاة، وقوله: (إلا عابري
سبيل)، استخدمت إرادة موضعها.
447

التجريد
وهو أن تعتقد أن في الشيء من نفسه معنى آخر، كأنه مباين له، فتخرج ذلك إلى ألفاظه
بما اعتقدت ذلك، كقولهم: لئن لقيت زيدا لتلقين معه الأسد، ولئن سألته لتسألن منه
البحر. فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسدا وبحرا وهو عينه هو الأسد والبحر، لا أن هناك شيئا
منفصلا عنه، كقوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل
والنهار لآيات لألي الألباب)، فظاهر هذا أن في العالم من نفسه آيات، وهو عينه
ونفسه تلك الآيات.
وكقوله تعالى: (واعلم أن الله عزيز حكيم)، وإنما هذا ناب عن قوله:
" واعلم أني عزيز حكيم ".
ومنه قوله تعالى: (إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب).
وقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
وقوله: (لهم فيها دار الخلد)، ليس المعنى أن الجنة فيها دار خلد وغير
دار خلد، بل كلها دار خلد، فكأنك لما قلت:، في الجنة دار الخلد اعتقدت أن الجنة منطوية
على دار نعيم ودار أكل وشرب وخلد، فجردت منها هذا الواحد، كقوله:
* وفي الله إن لم تنصفوا حكم عدل *
وقوله: (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي)، على أحد
448

التأويلات في الآية عن ابن مسعود: هي النطفة تخرج من الرجل ميتة، وهو حي، ويخرج
الرجل منها حيا وهي ميتة، قال ابن عطية: في تفسيره هذه الآية: إن لفظة الإخراج في تنقل
النطفة حتى تكون رجلا، إنما هو عبارة عن تغيير الحال، كما تقول في صبي جيد البنية:
يخرج من هذا رجل قوي.
وقد يحتمل قوله: (ومخرج الميت من الحي)، أي الحيوان كله ميتة، ثم يحييه
قال: وهو معنى التجريد.
وذكر الزمخشري أن عمرو بن عبيد قرأ في قوله تعالى: (فكانت وردة
كالدهان)، بالرفع، بمعنى حصلت منها [سماء] وردة، قال: وهو من التجريد.
وقرأ على وابن عباس في سورة مريم: (يرثني وارث من آل يعقوب)،
قال ابن جنى: هذا هو التجريد، وذلك أنه يريد: وهب لي من لدنك وليا يرثني
منه وارث من آل يعقوب، وهو الوارث نفسه، فكأنه جرد منه وارثا.
449

التجنيس
وهو إما تام بأن تتساوى حروف الكلمتين، كقوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة
يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة).
(ولقد أرسلنا فيهم منذرين. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين)، وفي
ذلك رد على من قال: ليس منه في القرآن غير الآية الأولى.
وإما بزيادة في إحدى الكلمتين، كقوله تعالى: (والتقت الساق بالساق. إلي
ربك يومئذ المساق).
وإما لاحق، بأن يختلف أحد الحرفين، كقوله: (وإنه على ذلك لشهيد. وإنه لحب
الخير لشديد).
(وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة).
(وهم ينهون عنه وينأون عنه).
(بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون).
وقوله: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف).
وإما في الخط، وهو أن تشتبها في الخط لا اللفظ، كقوله تعالى: (وهم يحسبون أنهم
يحسنون صنعا).
450

وقوله: (والذي يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين).
وإما في السمع لقرب أحد المخرجين من الآخر، كقوله تعالى: (وجوه يومئذ
ناضرة. إلى ربها ناظرة).
تنبيهات
الأول: نازع ابن أبي الحديد في الآية الأولى وقال: عندي أنه ليس
بتجنيس أصلا، وأن الساعة في الموضعين بمعنى واحد، والتجنيس أن يتفق اللفظ
ويختلف المعنى، وألا تكون إحداهما حقيقة والأخرى مجازا، بل تكونا حقيقتين، وإن
زمان القيامة - وإن طال - لكنه عند الله تعالى في حكم الساعة الواحدة، لأن قدرته
لا يعجزها أمر، ولا يطول عندها زمان، فيكون إطلاق لفظة " الساعة " على أحد الموضعين
حقيقة، وعلى الآخر مجازا، وذلك يخرج الكلام من التجنيس، كما لو قلت: ركبت
حمارا، ولقيت حمارا، وأردت بالثاني البليد. وأيضا لا يجوز أن يكون المراد بالساعة
الساعة الأولى خاصة، وزمان البعث، فيكون لفظ الساعة مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى
واحد، فيخرج عن التجنيس.
* * *
الثاني: يقرب منه الاقتضاب، وهو أن تكون الكلمات يجمعها أصل واحد في اللغة،
كقوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم).
وقوله: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات).
وقوله: (فروح وريحان).
451

وقوله: (وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء
عريض).
(قال إني لعملكم من القالين).
(وجنى الجنتين دان).
(يا أسفى على يوسف).
(تتقلب فيه القلوب والأبصار).
(إني وجهت وجهي).
(اثاقلتم إلى الأرض).
* * *
الثالث: اعلم أن الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية، ولهذا تركوه عند قوة المعنى
يتركه، ولذلك مثالان:
أحدهما قوله: (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين)، فذكر الرازي
في تفسيره أن الكاتب الملقب بالرشيدي، قال: لو قيل: " أتدعون بعلا وتدعون أحسن
الخالقين " [أوهم أنه أحسن، لأنه كان] تحصل به رعاية معنى التجنيس أيضا، مع كونه
موازنا ل‍ " تذرون ".
وأجاب الرازي: بأن فصاحة القرآن ليس لأجل رعاية هذه التكلفات، بل لأجل قوة
المعاني وجزالة الألفاظ.
وقال بعضهم: مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ، فلو كان " أتدعون "
452

" وتدعون " كما قال هذا القائل لوقع الإلباس على القارئ فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفا منه،
وحينئذ فينخرم اللفظ، إذا قرأ و " تدعون " الثانية بسكون الدال، لا سيما وخط المصحف
الإمام لا ضبط [فيه] ولا نقط.
قال: ومما صحف من القرآن بسبب ذلك وليس بقراءة قوله تعالى: (قال عذابي
أصيب به من أشاء) بالسين المهملة.
وقوله: (إلا عن موعدة وعدها إياه) بالباء الموحدة.
وقوله: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) بالعين المهملة.
وقرأ ابن عباس " من فرعون " على الاستفهام.
قلت: وأجاب الجويني عن هذا بما يمكن أن يتخلص منه: أن " يذر " أخص من
" يدع " وذلك لأن الأول، بمعنى ترك الشيء اعتناء به، بشهادة الاشتقاق، نحو الإيداع،
فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها، ولهذا يختار لها من هو مؤتمن عليها، ومن ذلك
الدعة بمعنى الراحة. وأما " تذر " فمعناها الترك مطلقا، والترك مع الإعراض والرفض
الكلي، ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول، فأريد هنا تبشيع حالهم
في الإعراض عن ربهم، وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض.
قلت: ويؤيده قول الراغب: يقال: فلا يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به.
والوذرة قطعة من اللحم [وتسميتها بذلك] لقلة الاعتداد به، نحو قولهم [فيم لا يعتد به]: هو
لحم على وضم، قال تعالى: (أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا). وقال تعالى:
(ويذرك وآلهتك). (فذرهم وما يفترون) (وذروا ما بقي من الربا)
453

وإنما قال (يذرون) ولم يقل " يتركون " و " يخلفون " لذلك. انتهى.
وعن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أنه أجاب عن هذا السؤال بأن التجنيس تحسين،
وإنما يستعمل في مقام الوعد والإحسان، وهذا مقام تهويل، والقصد فيه المعنى، فلم يكن
لمراعاة اللفظة فائدة.
وفيه نظر، فإنه ورد في قوله: (ويوم تقوم الساعة).
المثال الثاني: قوله تعالى: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) قال:
معناه: وما أنت مصدق لنا، فيقال: ما الحكمة في العدول عن الجناس، وهلا قيل:
" وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين "، فإنه يؤدي معنى الأول مع زيادة رعاية
التجنيس اللفظي؟
والجواب أن في " مؤمن لنا " من المعنى ما ليس في " مصدق "، وذلك أنك إذا قلت:
" مصدق لي " فمعناه. قال لي: صدقت، وأما " مؤمن " فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن،
ومقصودهم التصديق وزيادة، وهو طلب الأمن، فلهذا عدل إليه.
فتأمل هذه اللطائف الغريبة والأسرار العجيبة فإنه نوع من الإعجاز!
فائدة
قال الخفاجي: إذا دخل التجنيس نفي عد طباقا، كقوله تعالى: (قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، لأن " الذين لا يعلمون " هم الجاهلون، قال:
وفي هذا يختلط التجنيس بالطباق.
454

الطباق
هو أن يجمع بين متضادين مع مراعاة التقابل، كالبياض والسواد، والليل والنهار،
وهو قسمان: لفظي ومعنوي، كقوله تعالى: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا)،
طابق بين الضحك والبكاء، والقليل والكثير.
ومثله: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم).
(وأنه هو أضحك وأبكى. وأنه هو أمات وأحيا).
(وتحسبهم أيقاظا وهم رقود).
(سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب
بالنهار).
وقوله تعالى: (تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء...) الآية.
(وما يستوي الأعمى والبصير. ولا الظلمات ولا النور. ولا الظل ولا الحرور.
وما يستوي الأحياء ولا الأموات).
ثم إذا شرط فيهما شرط وجب أن يشترط في ضديهما ضد ذلك الشرط، كقوله
تعالى: (فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى...) الآية، لما جعل التيسير
455

مشتركا بين الإعطاء والتقى والتصديق، وجعل ضده وهو التعسير مشتركا بين أضداد
تلك الأمور، وهي المنع والاستغناء والتكذيب.
ومنه: (في جنة عالية. قطوفها دانية)، قابل بين العلو والدنو.
وقوله: (فيها سرر مرفوعة. وأكواب موضوعة).
وقوله: (ومن لم رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من
فضله)، فذكر الليل والنهار وهما ضدان، تم قابلهما بضدين وهما الحركة والسكون
على الترتيب، ثم عبر عن الحركة بلفظ " الإرداف " فاستلزم الكلام ضربا من المحاسن
زائدا على المبالغة، وعدل عن لفظ الحركة إلى لفظ " ابتغاء الفضل " لكون الحركة
تكون للمصلحة دون المفسدة، وهي تسير إلى الإعانة بالقوة وحسن الاختيار الدال
على رجاحة العقل، وسلامة الحس، وإضافة الظرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه،
ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المأرب.
* * *
ومن الطباق المعنوي قوله تعالى: (إن أنتم إلا تكذبون. قالوا ربنا يعلم إنا إليكم
لمرسلون)، معناه: ربنا يعلم إنا لصادقون.
وقوله: (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء)، قال أبو علي
في " الحجة ": لما كان البناء رفعا للمبنى قوبل بالفراش الذي هو على خلاف البناء،
ومن ثم وقع البناء على ما فيه ارتفاع في نصيبه إن لم يكن مدرا.
* * *
456

ومنه نوع يسمى الطباق الخفي، كقوله تعالى: (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا
نارا)، لأن الغرق من صفات الماء فكأنه جمع بين الماء في النار والنار، قال
ابن منقذ: وهي أخفى مطابقة في القرآن.
قلت: ومنه قوله تعالى: (من الشجر الأخضر نارا)، فكأنه جمع بين الأخصر
والأحمر، وهذا أيضا فيه تدبيج بديعي.
ومنه: (ولكم في القصاص حياة)، لأن معنى القصاص القتل، فصار القتل
سبب الحياة.
قال ابن المعتز، وهذا من أملح الطباق وأخفاه.
وقوله تعالى في الزخرف: (وظل وجهه مسودا)، لأن " ظل " لا تستعمل
إلا نهارا، فإذا لمح مع ذكر السواد كأنه طباق يذكر البياض مع السواد.
وقوله: (ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار).
457

المقابلة
[مباحث المقابلة]
وفيها مباحث:
الأول: في حقيقتها
وهي ذكر الشيء مع ما يوازيه في بعض صفاته، ويخالفه في بعضها، وهي من باب
" المفاعلة "، كالمقابلة والمضاربة، وهي قريبة من الطباق، والفرق بينهما من وجهين:
الأول: أن الطباق لا يكون إلا بين الضدين غالبا، والمقابلة تكون لأكثر
من ذلك غالبا.
والثاني: لا يكون الطباق إلا بالأضداد، والمقابلة بالأضداد وغيرها، ولهذا جعل
ابن الأثير الطباق أحد أنواع المقابلة.
الثاني: في أنواعها
وهي ثلاثة: نظيري، ونقيضي، وخلافي. والخلافي أتمها في التشكيك، وألزمها
بالتأويل، والنقيضي ثانيها، والنظيري ثالثها.
وذكر الشيخ أبو الفضل يوسف بن محمد النحوي القلعي أن القرآن كله وارد عليها
بظهور نكته الحكمية العلمية، من الكائنات والزمانيات والوسائط الروحانيات،
والأوائل الإلهيات، حيث اتحدت من حيث تعددت، واتصلت من حيث
انفصلت، وأنها قد ترد على شكل المربع تارة، وشكل المسدس أخرى، وعلى شكل
458

المثلث، إلى غير ذلك من التشكيلات العجيبة، والترتيبات البديعة، ثم أورد أمثلة
من ذلك.
مثال مقابلة النظيرين، مقابلة السنة والنوم في قوله تعالى: (لا تأخذه سنة
ولا نوم) لأنهما جميعا من باب الرقاد المقابل باليقظة.
وقوله: (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود)، وهذه هي مقابلة النقيضين أيضا، ثم السنة
والنوم بانفرادهما متقابلان في باب النظيرين ومجموعهما يقابلان النقيض الذي هو اليقظة.
ومثال مقابلة الخلافين، مقابلة الشر بالرشد في قوله تعالى: (وأنا لا ندري أشر أريد
بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) فقابل الشر بالرشد، وهما خلافيان، وضد
الرشد الغي، وضد الشر الخير، والخير الذي يخرجه لفظ الشر ضمنا نظير الرشد قطعا، والغي
الذي يخرجه لفظ الرشد ضمنا نظير الشر قطعا، فقد حصل من هذا الشكل أربعة ألفاظ:
نطقان وضمنان، فكان بهما رباعيان.
وهذا الشكل الرباعي يقع في تفسيره على وجوه، فقد يرد وبعضه مفسر، مثل
ما ذكرناه، وقد يرد وكله مفسر، كقوله تعالى: (فلا صدق ولا صلى. ولكن كذب
وتولى) فقابل " صدق " ب‍ " كذب " " وصلى " الذي هو أقبل ب‍ " تولى ".
وقوله: (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلا قيلا سلاما سلاما)، اللغو
في الحيثية المنكرة والتأثيم في الحيثية الناكرة، واللغو منشأ المنكر ومبدأ درجاته، والتأثيم
منشأ التكبر ومبدأ درجاته، فلا نكير إلا بعد منكر، ولا اعتقاد إنكار إلا بعد إعتقاد
تأثيم، ومنشأ اللغو في أول طرف المكروهات وآخره في طرف المحظورات ومبدأ التأثيم.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن
نسبح بحمدك ونقدس لك) فقابل الإفساد بالتسبيح والحمد، وسفك الدماء بالتقديس،
459

فالتسبيح بالحمد إذن ينفي الفساد، والتقديس ينفي سفك الدماء، والتسبيح شريعة للإصلاح،
والتقديس شريعة حقن الدماء، وشريعة التقديس أشرف من شريعة التسبيح، فإن
التسبيح بالحمد للإصلاح لا للفساد، وسفك الدماء للتسبيح لا للتقديس، وهذا شكل
مربع، من أرضى وهو الإفساد وسفك الدماء، وسمائي وهو التسبيح والتقديس، والأرضي
ذو فصلين، والسمائي ذو فصلين، ووقع النفس من الطرفين المتوسطين، فالطرفان الإفساد
في الطرف الأول، والتقديس في الطرف الآخر، والوسطان آخر الأرض، وأول السماء،
فالأول متشرف على الآتي والآخر ملفت إلى الماضي:
وكم في كتاب الله من كل موجز * يدور على المعنى وعنه يماصع
لقد جمع الاسم المحامد كلها * مقاسيمها مجموعة والمشايع
وهذا القدر الذي ذكره هذا الحبر مرمى عظيم، يوصل إلى أمور غير متجاسر عليها،
كما في آية الكرسي وغيرها.
* * *
وقسم بعضهم المقابلة إلى أربع:
أحدها: أن يأتي بكل واحد من المقدمات مع قرينة من الثواني، كقوله تعالى: (وجعلنا الليل لباسا. وجعلنا النهار معاشا).
والثانية: أو يأتي بجميع الثواني مرتبة من أولها، كما قال تعالى: (ومن رحمته جعل
لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله).
وكذلك: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت
أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
460

الثالث: أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجمع الثواني مرتبة من آخرها، ويسمى رد العجز
على الصدر، كقوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت
وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. وأما الذين
ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون).
الرابع: أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مختلطة غير مرتبة، ويسمى اللف،
كقوله تعالى: (وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن
نصر الله قريب) فنسبة قوله: (متى نصر الله) إلى قوله: (والذين آمنوا)،
كنسبة قوله: (يقول الرسول) إلى: (ألا إن نصر الله قريب)، لأن القولين المتباينين
يصدران عن متباينين.
وكما قال تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه
ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من
الظالمين) فنسبة قوله: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون
وجهه) إلى قوله: (فتكون من الظالمين) كنسبة قوله: (ما عليك من
حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم) إلى قوله: (فتطردهم) فجمع المقدمين
التاليين بالالتفات.
* * *
وجعل بعضهم من أقسام التقابل مقابلة الشيء بمثله وهو ضربان:
مقابل في اللفظ دون المعنى كقوله تعالى: (ومكروا مكرا ومكرنا
مكرا).
461

ومقابل في المعنى دون اللفظ، كقوله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي
وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربي)، فإنه لو كان التقابل هنا من جهة اللفظ، لكان
التقدير: " وإن اهتديت، فإنما اهتديت لها ".
وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى، أن النفس كل ما هو عليها لها، فهو أعني أن
كل ما هو وبال عليها وصار لها فهو بسببها ومنها، لأنها أمارة بالسوء، وكل ما هو مما ينفعها
فبهداية ربها وتوفيقه إياها، وهذا حكم لكل مكلف، وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يسند إلى نفسه، لأنه إذا دخل تحته مع علو محله كان غيره أولى به.
ومن هذا الضرب قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار
مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون)، فإنه لم يدع التقابل في قوله:
(ليسكنوا فيه والنهار مبصرا)، لأن القياس يقتضى أن يكون " والنهار لتبصروا
فيه "، وإنما هو مراعي من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، لأن معنى " مبصرا " تبصرون
فيه طرق التقلب في الحاجات.
* * *
واعلم أن في تقابل المعاني بابا عظيما يحتاج إلى فضل تأمل، وهو يتصل غالبا بالفواصل،
كقوله تعالى: (إنما نحن مصلحون) إلى قوله (لا يشعرون).
وقوله: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) إلى قوله: (لا يعلمون).
فانظر فاصلة الثانية (يعلمون) والتي قبلها) يشعرون) لأن أمر الديانة والوقوف
على أن المؤمنين: يجتمعون وهم مطيعون يحتاج إلى نظر واستدلال، حتى يكسب الناظر
462

المعرفة والعلم، وإنما النفاق - وما فيه من الفتنة والفساد - أمر دنيوي مبني على العادات معلوم
عند الناس، فلذلك قال فيه (يعلمون).
وأيضا فإنه لما ذكر السفه في الآية الأخرى - وهو جهل - كان ذكر العلم طباقا،
وعلى هذا تجئ فواصل القرآن، وقد سبق في بابه.
* * *
ومن المقابلة قوله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله
يعدكم مغفرة منه وفضلا)، فتقدم اقتران الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء، ثم قوبل
بشيء واحد وهو الوعد، فأوهم الإخلال بالثاني، وليس كذلك، وإنما لما كان الفضل
مقابلا للفقر، والمغفرة مقابلة للأمر بالفحشاء، لأن الفحشاء توجب العقوبة، والمغفرة
تقابل العقوبة، استغنى بذكر المقابل عن ذكر مقابله، لأن ذكر أحدهما ملزوم
ذكر الآخر.
463

تقسيم
من مقابلة اثنين باثنين: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا).
ومن مقابلة أربعة بأربعة: (فأما من أعطى واتقى...) الآية.
ومن مقابله خمس بخمس قوله تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة
فما فوقها)، للدلالة على الحقير والكبير، وهو من الطباق الخفي، الثاني: (فأما الذين
آمنوا) و (أما الذين كفروا)، الثالث: (يضل) و (يهدي) به، الرابع (ينقضون
عهد الله من بعد ميثاقه)، الخامس (يقطعون) و (أن يوصل).
ومن مقابلة ست بست: قوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين
والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك
متاع الحياة الدنيا)، ثم قال تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم
للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة
464

ورضوان من الله)، قابل الجنات والأنهار والخلد والأزواج والتطهير والرضوان
بإزاء النساء في الدنيا، وختم بالحرث، وهما طرفان متشابهان، وفيهما الشهوة والمعاش
الدنياوي، وأخر ذكر الأزواج كما يجب في الترتيب الأخروي، وختم بالرضوان.
فائدة
قد يجئ نظم الكلام على غير صورة المقابلة في الظاهر، وإذا تؤمل كان من أكمل
المقابلات، ولذلك أمثلة:
ومنها قوله تعالى: (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها
ولا تضحى) فقابل الجوع بالعري، والظمأ بالضحى، والواقف مع الظاهر ربما
يحيل أن الجوع يقابل بالظمأ، والعري بالضحى.
والمدقق يرى هذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحة، لأن الجوع ألم الباطن والضحى
موجب لحرارة الظاهر، فاقتضت الآية جميع نفى الآفات ظاهرا وباطنا، وقابل الخلو بالخلو،
والاحتراق بالاحتراق. وهاهنا موضع الحكاية المشهورة بين المتنبي وسيف الدولة،
لما أنشده:
وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم
465

ومنها قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)،
فإنه يتبادر فيه سؤال، وهو أنه لم لا قيل: " مثل الفريقين كالأعمى والبصير، والأصم
والسميع "، لتكون المقابلة في لفظ " الأعمى " وضده بالبصير، وفي لفظ " الأصم "
وضده السميع!
والجواب أنه يقال: لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع، وبضد ذلك لما
ذكر انفتاح البصر أعقبه بانفتاح السمع، فما تضمنته الآية الكريمة هو الأنسب في المقابلة
والأتم في الإعجاز.
466

رد العجز على الصدر وعكسه
(خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون).
(وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما).
العكس
وهو أن يقدم في الكلام جزء ثم يؤخر، كقوله تعالى: (لا هن حل لهم ولا هم
يحلون لهن) وقدره الزمخشري، أي لا حل بين المؤمن والمشرك، والآية صرحت بنفي
الحل من الجهتين، فقد يستدل بها من قال: إن الكفار مخاطبون بالفروع.
ومثله قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل
لهم) أي ذبائحكم، وهذه رخصة للمسلمين.
467

إلجام الخصم بالحجة
وهو الاحتجاج على المعنى المقصود بحجة عقلية، تقطع المعاند له فيه. والعجب من
ابن المعتز في بديعه، حيث أنكر وجود هذا النوع في القرآن، وهو من أساليبه.
ومنه قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) ثم قال النحاة:
إن الثاني امتنع لأجل امتناع الأول، وخالفهم ابن الحاجب وقال: الممتنع الأول لأجل امتناع
الثاني، فالتعدد منتف لأجل امتناع الفساد.
وقوله: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة).
وقوله: (أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم).
وقوله حكاية عن الخليل: (وحاجة قومه) إلى قوله: (وتلك حجتنا
آتيناها إبراهيم على قومه).
وقوله: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه)، المعنى أن
الأهون أدخل في الإمكان من غيره، وقد أمكن هو، فالإعادة أدخل في الإمكان من
بدء الخلق.
وقوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله
بما خلق...) الآية، وهذه حجة عقلية، تقديرها أنه لو كان خالقان لاستبد
كل منهما بخلقه، فكان الذي يقدر عليه أحدهما لا يقدر عليه الآخر، ويؤدي إلى تناهى
468

مقدوراتهما، وذلك يبطل الإلهية، فوجب أن يكون الإله واحدا، ثم زاد في الحجاج
فقال: (ولعلا بعضهم على بعض)، أي ولغلب بعضهم بعضا في المراد، ولو أراد
أحدهما إحياء جسم والآخر إماتته لم يصح ارتفاع مرادهما، لأن رفع النقيضين
محال، ولا وقوعهما للتضاد، فنفى وقوع أحدهما دون الآخر، وهو المغلوب، وهذه
تسمى دلالة التمانع، وهي كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: (إذن لابتغوا إلى
ذي العرش سبيلا).
وقوله: (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم).
وقوله: (أفرأيتم ما تمنون. أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) فبين أنا
لم نخلق المنى لتعذره علينا، فوجب أن يكون الخالق غيرنا.
* * *
ومنه نوع منطقي وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين، وذلك من أول سورة الحج
إلى قوله: (وأن الله يبعث من في القبور)، فنطق على خمس نتائج من عشر
مقدمات، فالمقدمات من أول السورة: (وأنبتت فيها من كل زوج بهيج)،
والنتائج من قوله: (ذلك بأن الله هو الحق) إلى قوله: (وأن الله يبعث من
في القبور).
وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقال: أخبر الله أن زلزلة الساعة شيء عظيم،
وخبره هو الحق، ومن أخبر عن الغيب بالحق فهو حق بأنه هو الحق، وأنه يأتي بالساعة
469

على تلك الصفات، ولا يعلم صدق الخبر إلا بإحياء الموتى، ليدركوا ذلك، ومن يأتي بالساعة
يحيى الموتى، فهو يحيي الموتى. وأخبر أنه يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب،
ولا يقدر على عموم الناس لشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير، فإنه على كل شيء
قدير. وأخبر أن الساعة يجازي فيها من يجادل في الله بغير علم، ولا بد من مجازاته،
ولا يجازي حتى تكون الساعة آتية، ولا تأتي الساعة حتى يبعث من في القبور، فهو يبعث
من في القبور. والله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج، والقادر
على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من في القبور.
ومن قوله تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون
عن سبيل الله لهم عذاب شديد) مقدمتان ونتيجة، لأن اتباع الهوى يوجب
الضلال، والضلال يوجب سوء العذاب، فأنتج أن اتباع الهوى يوجب سوء العذاب.
وقوله: (فلما أفل قال لا أحب الآفلين)، أي القمر أفل، وربي فليس
بآفل، فالقمر ليس بربي، أثبته بقياس اقتراني جلى من الشكل الثاني، واحتج بالتعبير
على الحدوث، والحدوث على المحدث.
470

التقسيم
وليس المراد به القسمة العقلية التي يتكلم عليها المتكلم، لأنها قد تقتضي أشياء مستحيلة
كقولهم: الجواهر لا تخلو إما أن تكون مجتمعة أو متفرقة، أو لا مفترقة ولا مجتمعة، أو مجتمعة
ومفترقة معا، أو بعضها مجتمع وبعضها مفترق، فإن هذه القسمة صحيحة عقلا، لكن بعضها
يستحيل وجوده، وهو استيفاء المتكلم أقسام الشيء، بحيث لا يغادر شيئا وهو آلة الحصر
ومظنة الإحاطة بالشيء، كقوله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق
بالخيرات بإذن الله) فإنه لا يخلو العالم جميعا من هذه الأقسام الثلاثة، إما ظالم نفسه،
وإما سابق مبادر إلى الخيرات، وإما مقتصد فيها، وهذا من أوضح التقسيمات وأكملها.
ومثله قوله: (وكنتم أزواجا ثلاثة. فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة.
وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة. والسابقون السابقون)، وهذه الآية مماثلة
في المعنى للتي قبلها، وأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم، وأصحاب الميمنة هم المقتصدون،
والسابقون هم السابقون بالخيرات.
وكذلك قوله تعالى: (له ما بين أيدينا وما خلفنا) الآية، فاستوفى أقسام
الزمان ولا رابع لها.
وقوله: (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه) إلى قوله
(ما يشاء)، وهو في القرآن كثير، وخصوصا في سورة براءة.
ومنه قوله تعالى: (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا)، وليس في رؤية
البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهما.
471

وقوله: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات
والأرض وعشيا وحين تظهرون)، فاستوفت أقسام الأوقات، من طرفي كل يوم
ووسطه مع المطابقة والمقابلة.
وقوله: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم)، فلم يترك سبحانه
قسما من أقسام الهيئات.
ومثله آية يونس: (وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما).
لكن وقع بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها المبالغة، وذلك أن المراد بالذكر في الأولى
الصلاة فيجب فيها تقديم القيام، ثم عند العجز القعود، ثم الاضطجاع، وهذه بخلاف الضر،
فإنه يجب فيها تقديم الاضطجاع، وإذا زال بعض الضر قعد المضطجع، وإذا زال كل الضر
قام القاعد، فدعا لتتم الصحة، وتكمل القوة.
فإن قلت: هذا التأويل لا يتم إلا إذا كانت الواو عاطفة، فإنها تحصل في الكلام
حسن اتساق، وائتلاف الألفاظ مع المعاني، وقد عدل عنها إلى " أو " التي سقط
معها ذلك.
قلت: يأتي التضرع على أقسام، فإن منه ما يتضرع المضرور عند وروده، ومنه ما يقعده،
ومنه ما يأتي وصاحبه قائم لا يبلغ به شيئا، والدعاء عنده أولى من التضرع، فإن الصبر
والجزع عند الصدمة الأولى، فوجب العدول عن الواو، لتوخي الصدق في الخبر، والكلام
بالائتلاف، ويحصل النسق، والخبر بذلك التأويل الأول عن شخص واحد، وبالثاني عن
أشخاص فغلب الكثرة، فوجب الإتيان ب‍ " أو " وابتدأ بالشخص الذي تضرع لأن،
خبره أشد فهو أشد تضرعا، فوجب تقديم ذكره، ثم القاعد، ثم القائم، فحصل حسن الترتيب
وائتلاف الألفاظ ومعانيها.
472

وقوله: (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكرانا
وإناثا ويجعل من يشاء عقيما)، قسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها
الوجود، لأنه سبحانه إما أن يفرد العبد بهبة الإناث، أو بهبة الذكور، أو يجمعهما له،
أو لا يهب شيئا. وقد جاءت الأقسام في هذه الآية لينتقل منها إلى أعلى منها، وهي هبة الذكور
فيه، ثم انتقل إلى أعلى منها وهي هبتهما جميعا، وجاءت كل أقسام العطية بلفظ الهبة،
وأفرد معنى الحرمان بالتأخير، وقال فيه (يجعل) فعدل عن لفظ الهبة للتغاير بين المعاني،
كقوله: (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون. لو نشاء لجعلناه
حطاما)، فذكر امتداد إنمائه بلفظ الزرع، ومعنى الحرمان بلفظ الجعل.
وقيل: إنما بدأ سبحانه بالإناث لوجوه غير ما سبق.
أحدها: جبرا لهن، لأجل استثقال الأبوين لمكانهن.
الثاني: أن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاء، لا ما يشاء الأبوان، فإن الأبوين
لا يريدان إلا الذكور غالبا، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء، فبدأ بذكر الصنف
الذي يشاؤه ولا يريده الأبوان غالبا.
الثالث: أنه قدم ذكر ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن،
أي هذا النوع الحقير عندكم مقدم عندي في الذكر.
الرابع: قدمهن لضعفهن، وعند العجز والضعف تكون العناية أتم.
وقيل: لينقله من الغم إلى الفرج.
وتأمل كيف عرف سبحانه الذكور بعد تنكير، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر
نقص المتأخر بالتعريف فإن التعريف تنويه.
473

وهذا أحسن مما ذكره الواحدي أنه عرف الذكور لأجل الفاصلة.
ولما ذكر الصنفين معا قدم الذكور، فأعطى لكل من الجنسين حقه من التقديم
والتأخير. والله أعلم بما أراد.
بقي سؤال آخر، وهو أنه عطف الثاني والرابع بالواو، والثالث ب‍ " أو " ولعله،
لأن هبة كل من الإناث والذكور قد لا يقترن بها، فكأنه وهب لهذا الصنف وحده
أو مع غيره فلذلك تعينت " أو ". فتأمل لطائف القرآن وبدائعه!
ومن هذا التقسيم أخذ بعض العلماء أن الخنثى لا وجود له، لأنه ليس واحدا من
المذكورين، ولا حجة فيه، لأنه مقام امتنان، والمنة بغير الخنثى أحسن وأعظم. أو لأنه
باعتبار ما في نفس الأمر، والخنثى لا يخرج عن أحدهما.
474

التعديد
هي إيقاع الألفاظ المبددة على سياق واحد، وأكثر ما يؤخذ في الصفات، ومقتضاها
ألا يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها ويجريها مجرى الوصف في الصدق على ما صدق،
ولذلك يقل عطف بعض صفات الله على بعض في التنزيل، وذلك كقوله: (الله لا إله
إلا هو الحي القيوم)
وقوله: (الخالق البارئ المصور).
وقوله: (الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار).
وإنما عطف قوله: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن)، لأنها أسماء
متضادة المعاني في موضوعها، فوقع الوهم بالعطف عمن يستبعد ذلك في ذات واحدة،
لأن الشيء الواحد لا يكون ظاهرا باطنا من وجه، وكان العطف فيه أحسن. ولذلك
عطف " الناهون " على " الآمرون "، " وأبكارا " على " ثيبات " من قوله: (التائبون
العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون
عن المنكر والحافظون لحدود الله).
وقوله: (أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات
ثيبات وأبكارا)، فجاء العطف لأنه لا يمكن اجتماعهما في محل واحد
بخلاف ما قبله.
وقوله: (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول)، إنما عطف
475

فيه بعضا ولم يعطف بعضا، لأن " غافرا " و " قابلا " يشعران بحدوث المغفرة والقبول، وهما
من صفات الأفعال وفعله في غيره لا في نفسه، فدخل العطف للمغايرة لتنزلهما منزلة الجملتين،
تنبيها على أنه سبحانه يفعل هذا ويفعل هذا. وأما شديد العقاب فصفة مشبهة، وهي تشعر
بالدوام والاستمرار، فتدل على القوة، ويشبه ذلك صفات الذات.
وقوله: (ذي الطول)، المراد به ذاته، فترك العطف لاتحاد المعنى.
وقد جاء قليلا في غير الصفات، كقوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات...) الآية، قال الزمخشري: العطف الأول كقوله: (ثيبات
وأبكارا)، في أنهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسيط العاطف
بينهما، وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكان معناه:
أن الجامعين والجامعات لهذه الصفات أعد لهم مغفرة. انتهى.
وقال بعضهم: الصفات المتعاطفة إن علم أن موصوفها واحد من كل وجه، كقوله:
(غافر الذنب وقابل التوب)، فإن الموصوف " الله "، وإما في النوع كقوله:
(ثيبات وأبكارا) فإن الموصوف الأزواج، وقوله: (الآمرون بالمعروف
والناهون عن المنكر)، فإن الموصوف النوع الجامع للصفات المتقدمة. وإن لم يعلم
أن موصوفها واحد من جهة وضع اللفظ. فإن دل دليل على أنه من عطف الصفات اتبع كهذه
الآية، فإن هذه الأعداد لمن جمع الطاعات العشر، لا لمن انفرد بواحدة منها، إذ الاسلام
والإيمان كل منهما شرط في الآخر، وكلاهما شرط في حصول الأجر على البواقي، ومن
كان مسلما مؤمنا فله أجره، ولكن ليس هذا الأجر العظيم الذي أعده الله في هذه الآية
476

الكريمة، وقرن به إعداد المغفرة زائدا على المغفرة، فلخصوص هذه الآية جعل الزمخشري
ذلك من عطف الصفات، والموصوف واحد، فلو لم يكن كذلك واحتمل تقدير موصوف
مع كل صفة وعدمه حمل على التقدير، فإن ظاهر العطف التغاير. ولا يقال: الأصل عدم
التقدير، لأن الظاهر يقدم على رعاية ذلك الأصل.
ومثاله قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين...) الآية، ولو كان
من عطف الصفات لم يستحق الصدقة إلا من جميع الصفات الثمان، ولذلك إذا وقف
على الفقهاء والنحاة والفقراء استحق من فيه إحدى الصفات.
تم بعون الله وجميل توفيقه الجزء الثالث من كتاب البرهان في علوم القرآن
للإمام بدر الدين الزركشي
ويليه الجزء الرابع وأوله: مقابلة الجمع بالجمع، وهو أحد أساليب القرآن المندرجة تحت النوع
السادس والأربعين.
477