الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٢٤
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

قوله تعالى
* (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والاصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتآء الزكوة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار * ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشآء بغير حساب) *.
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (في بيوت أذن الله) * يقتضي محذوفا يكون فيها وذكروا فيه وجوه: أحدها: أن التقدير كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله وهو اختيار كثير من المحققين، اعترض أبو مسلم بن بحر الأصفهاني عليه من وجهين: الأول: أن المقصود من ذكر المصباح المثل وكون المصباح في بيوت أذن الله لا يزيد في هذا المقصود لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضاءة الثاني: أن ما تقدم ذكره فيه وجوه تقتضي كونه واحدا كقوله: * (كمشكاة) * وقوله: * (فيها مصباح) * وقوله: * (في زجاجة) * وقوله: * (كأنها كوكب دري) * (النور: 35) ولفظ البيوت جمع ولا يصح كون هذا الواحد في كل البيوت والجواب عن الأول أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم فكان أضوأ، فكان التمثيل به أتم وأكمل وعن الثاني: أنه لما كان القصد بالمثل هو الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل كمشكاة فيها مصباح في زجاجة تتوقد من الزيت، وتكون الفائدة في ذلك أن ضوأها يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله تعالى، ولو أن رجلا قال الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وكفاية وقناعة يلتزم بيته لكان وإن ذكره بلفظ الواحد فالمراد النوع فكذا ما ذكره الله سبحانه في هذه الآية وثانيها: التقدير توقد من شجرة مباركة في بيوت أذن الله أن ترفع وثالثها: وهو قول
2

أبي مسلم أنه راجع إلى قوله: * (ومثلا من الذين خلوا من قبلكم) * (النور: 34) أي ومثلا من الذين خلوا من قبلكم في بيوت أذن الله أن ترفع، ويكون المراد بالذين خلوا الأنبياء والمؤمنين والبيوت المساجد، وقد اقتص الله أخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذكر أماكنهم فسماها محاريب بقوله: * (إذ تسوروا المحراب) * و * (كلما دخل عليها زكريا المحراب) * (ص: 21) فيقول: ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات، وأنزلنا أقاصيص من بعث قبلكم من الأنبياء والمؤمنين في بيوت أذن الله أن ترفع ورابعها: قول الجبائي إنه كلام مستأنف لا تعلق له بما تقدم والتقدير صلوا في بيوت أذن الله أن ترفع وخامسها: وهو قول الفراء والزجاج إنه لا حذف في الآية بل فيه تقديم وتأخير كأنه قال يسبح في بيوت أذن الله أن ترفع رجال صفتهم كيت وكيت، وأما قول أبي مسلم فقد اعترض عليه القاضي من وجهين: الأول: أن قوله: * (ومثلا من الذين خلوا من قبلكم) * (النور: 34) المراد منه خلا من المكذبين للرسل لتعلقه بما تقدم من الإكراه على الزنا ابتغاء للدنيا فلا يليق ذلك بوصف هذه البيوت لأنها بيوت أذن أن يذكر فيها اسمه الثاني: أن هذه الآية صارت منقطعة عن تلك الآية بما تخلل بينهما من قوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض) * (النور: 35) وأما قول الجبائي فقيل الإضمار لا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة وعلى التأويل الذي ذكره الفراء والزجاج لا حاجة إليه فلا يجوز المصير إليه فإن قيل على قول الزجاج يتوجه عليه إشكال أيضا لأن على قوله يصير المعنى في بيوت أذن الله يسبح له فيها فيكون قوله فيها تكرارا من غير فائدة، فلم قلتم إن تحمل هذه الزيادة أولى من تحمل مثل ذلك النقصان؟ قلنا الزيادة لأجل التأكيد كثيرة فكان المصير إليها أولى.
المسألة الثانية: أكثر المفسرين قالوا المراد من قوله: * (في بيوت) * المساجد وعن عكرمة * (في بيوت) * قال هي البيوت كلها والأول أولى لوجهين: الأول: أن في البيوت ما لا يمكن أن يوصف بأن الله تعالى أذن أن ترفع الثاني: أنه تعالى وصفها بالذكر والتسبيح والصلاة وذلك لا يليق إلا بالمساجد ثم للقائلين بأن المراد هو المساجد قولان: أحدهما: أن المراد أربع مساجد الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، ومسجد المدينة بناه النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء الذي أسس على التقوى بناه نبي صلى الله عليه وسلم وعن الحسن هو بيت المقدس يسرج فيه عشرة آلاف قنديل والثاني: أن المراد هو جميع المساجد والأول ضعيف لأنه تخصيص بلا دليل فالأول حمل اللفظ على جميع المساجد، قال ابن عباس رضي الله عنهما المساجد بيوت الله في الأرض وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض.
المسألة الثالثة: اختلفوا في المراد من قوله: * (أن ترفع) * على أقوال أحدها: المراد من رفعها بناؤها لقوله: * (بناها رفع سمكها فسواها) * (النازعات: 27، 28) وقوله: * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) * (البقرة: 127) وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي المساجد أمر الله أن تبنى وثانيها: ترفع أي تعظم وتطهر عن الأنجاس وعن اللغو من الأقوال عن الزجاج وثالثها: المراد مجموع الأمرين.
3

والقول الثاني أولى لأن قوله: * (في بيوت أذن الله أن ترفع) * ظاهره أنها كانت بيوتا قبل الرفع فأذن الله أن ترفع.
المسألة الرابعة: اختلفوا في المراد من قوله: * (ويذكر فيها اسمه) * فالقول الأول: أنه عام في كل ذكر والثاني: أن يتلى فيها كتابه عن ابن عباس والثالث: لا يتكلم فيها بما لا ينبغي والأول أولى لعموم اللفظ.
المسألة الخامسة: قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم * (يسبح) * بفتح الباء والباقون بكسرها فعلى القراءة الأولى يكون القول ممتدا إلى آخر الظروف الثلاثة أعني له فيها بالغدو والآصال، ثم قال الزجاج * (رجال) * مرفوع لأنه لما قال * (يسبح له فيها) * فكأنه قيل من يسبح؟ فقيل يسبح رجال.
المسألة السادسة: اختلفوا في هذا التسبيح فالأكثرون حملوه على نفس الصلاة، ثم اختلفوا فمنهم من حمله على كل الصلوات الخمس ومنهم من حمله على صلاتي الصبح والعصر فقال كانتا واجبتين في ابتداء الحال ثم زيد فيهما، ومنهم من حمله على التسبيح الذي هو تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في ذاته وفعله، واحتج عليه بأن الصلاة والزكاة قد عطفهما على ذلك من حيث قال عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهذا الوجه أظهر.
المسألة السابعة: الآصال جمل أصل والأصل جميع أصيل وهو العشي وإنما وجد الغدو لأنه في الأصل مصدر لا يجمع والأصيل اسم جمع، قال صاحب " الكشاف " بالغدو أي بأوقات الغدو أي بالغدوات وقرئ * (والإيصال) * وهو الدخول في الأصيل يقال آصال كأعتم وأظهر، قال ابن عباس رحمهما الله إن صلاة الضحى لفي كتاب الله تعالى مذكورة وتلا هذه الآية وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد يؤثره على ما سواه إلا وله عند الله نزل يعد له في الجنة " وفي رواية سهل بن سعد مرفوعا " من غدا إلى المسجد وراح ليعلم خيرا أو ليتعلمه كما كمثل المجاهد في سبيل الله يرجع غانما ".
المسألة الثامنة: اختلفوا في قوله تعالى: * (لا تلهيهم تجارة) * فقال بعضهم نفى كونهم تجارا وباعة أصلا، وقال بعضهم بل أثبتهم تجارا وباعة وبين أنهم مع ذلك لا يشغلهم عنها شاغل من ضروب منافع التجارات، وهذا قول الأكثرين، قال الحسن أما والله إن كانوا ليتجرون، ولكن إذا جاءت فرائض الله لم يلههم عنها شيء فقاموا بالصلاة والزكاة، وعن سالم نظر إلى قوم من أهل السوق تركوا بياعاتهم وذهبوا إلى الصلاة فقال هم الذين قال تعالى فيهم: * (لا تلهيهم تجارة) *، وعن ابن مسعود مثله، واعلم أن هذا القول أولى من الأول، لأنه لا يقال إن فلانا لا تلهيه التجارة عن كيت وكيت إلا وهو تاجر، وإن احتمل الوجه الأول وههنا سؤالات:
السؤال الأول: لما قال: * (لا تلهيهم تجارة) * دخل فيه البيع فلم أعاد ذكر البيع؟ قلنا الجواب عنه من وجوه: الأول: أن التجارة جنس يدخل تحت أنواع الشراء والبيع إلا أنه
4

سبحانه خص البيع بالذكر لأنه في الإلهاء أدخل، لأن الربح الحاصل في البيع يقين ناجز، والربح الحاصل في الشراء شك مستقبل الثاني: أن البيع يقتضي تبديل العرض بالنقد، والشراء بالعكس والرغبة في تحصيل النقد أكثر من العكس الثالث: قال الفراء: التجارة لأهل الجلب، يقال: أتجر فلان في كذا إذا جلبه من غير بلده، والبيع ما باعه على يديه.
السؤال الثاني: لم خص الرجال بالذكر؟ والجواب: لأن النساء لسن من أهل التجارات أو الجماعات.
المسألة التاسعة: اختلفوا في المراد بذكر الله تعالى، فقال قوم: المراد الثناء على الله تعالى والدعوات، وقال آخرون: المراد الصلوات، فإن قيل فما معنى قوله: * (وإقام الصلاة) *؟ قلنا عنه جوابان: أحدهما: قال ابن عباس رضي الله عنهما المراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها والثاني: يجوز أن يكون قوله: * (وإقام الصلاة) * (البقرة: 3) تفسيرا لذكر الله فهم يذكرون الله قبل الصلاة وفي الصلاة.
المسألة العاشرة: قد ذكرنا في أول تفسير سورة البقرة في قوله: * (ويقيمون الصلاة) * أن إقام الصلاة هو القيام بحقها على شروطها، والوجه في حذف الهاء ما قاله الزجاج، يقال أقمت الصلاة إقامة وكان الأصل إقواما، ولكن قلبت الواو ألفا فاجتمع ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي أقمت الصلاة إقاما، فأدخلت الهاء عوضا من المحذوف وقامت الإضافة ههنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة، قال وهذا إجماع من النحويين.
المسألة الحادية عشرة: اختلفوا في الصلاة فمنهم من قال هي الفرائض، ومنهم من أدخل فيه النقل على ما حكيناه في صلاة الضحى عن ابن عباس، والأول أقرب لأنه إلى التعريف أقرب وكذلك القول في الزكاة أن المراد المفروض لأنه المعروف في الشرع المسمى بذلك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما المراد من الزكاة طاعة الله تعالى والإخلاص، وكذا في قوله: * (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) * (مريم: 55) وقوله: * (ما زكى منكم من أحد) * (النور: 21) وقوله: * (تطهرهم وتزكيهم بها) * (التوبة: 103) وهذا ضعيف لما تقدم ولأنه تعالى علق الزكاة بالإيتاء، وهذا لا يحمل إلا على ما يعطى من حقوق المال.
المسألة الثانية عشرة: أنه سبحانه بين أن هؤلاء الرجال وإن تعبدوا بذكر الله والطاعات فإنهم مع ذلك موصوفون بالوجل والخوف فقال: * (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار) * وذلك الخوف إنما كان لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته. واختلفوا في المراد بتقلب القلوب والأبصار على أقوال: فالقول الأول أن القلوب تضطرب من الهول والفزع وتشخص الأبصار لقوله: * (وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر) * (الأحزاب: 10) الثاني: أنها تتغير أحوالها فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها لا تفقه وتبصر الأبصار بعد أن كانت لا تبصر، فكأنهم انقلبوا من الشك إلى الظن، ومن الظن إلى اليقين، ومن اليقين إلى المعاينة، لقوله: * (وبدا لهم من الله ما لم
5

يكونوا يحتسبون) * (الزمر: 47) وقوله: * (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك) * (ق: 22)، الثالث: أن القلوب تتقلب في ذلك اليوم طمعا في النجابة وحذرا من الهلاك والأبصار تنقلب من أي ناحية يؤمر بهم، أمن ناحية اليمين أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم أمن قبل الإيمان أم من قبل الشمائل؟ والمعتزلة لا يرضون بهذا التأويل، فإنهم قالوا إن أهل الثواب لا خوف عليهم البتة في ذلك اليوم، وأهل العقاب لا يرجون العفو، لكنا بينا فساد هذا المذهب غير مرة الرابع: أن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر، والأبصار تصير زرقا، قال الضحاك: يحشر الكافر وبصره حديد وتزرق عيناه ثم يعمى، ويتقلب القلب من الخوف حيث لا يجد مخلصا حتى يقع في الحنجرة فهو قوله: * (إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين) * (غافر: 18)، الخامس: قال الجبائي المراد بتقلب القلوب والأبصار تغير هيئاتهما بسبب ما ينالها من العذاب، فتكون مرة بهيئة ما أنضج بالنار ومرة بهيئة ما احترق، قال ويجوز أن يريد به تقلبها على جمر جهنم وهو معنى قوله تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) * (الأنعام: 110).
المسألة الثالثة عشرة: قوله: * (ليجيزهم الله أحسن ما عملوا) * أي يفعلون هذه القربات ليجزيهم الله ويثيبهم على أحسن ما عملوا، وفيه وجوه: الأول: المراد بالأحسن الحسنات أجمع، وهي الطاعات فرضها ونفلها، قال مقاتل: إنما ذكر الأحسن تنبيها على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم. الثاني: أنه سبحانه يجزيهم جزاء أحسن ما عملوا على الواحد عشرا إلى سبعمائة الثالث: قال القاضي: المراد بذلك أن تكون الطاعات منهم مكفرة لمعاصيهم وإنما يجزيهم الله تعالى
بأحسن الأعمال، وهذا مستقيم على مذهبه في الإحباط والموازنة.
أما قوله تعالى: * (ويزيدهم من فضله) * فالمعنى أنه تعالى يجزيهم بأحسن الأعمال ولا يقتصر على قدر استحقاقهم بل يزيدهم من فضله على ما ذكره تعالى في سائر الآيات من التضعيف، فإن قيل فهذا يدل على أن لفعل الطاعة أثرا في استحقاق الثواب، لأنه تعالى ميز الجزاء عن الفضل وأنتم لا تقولون بذلك، فإن عندكم العبد لا يستحق على ربه شيئا، قلنا نحن نثبت الاستحقاق لكن بالوعد فذاك القدر هو المستحق والزائد عليه هو الفضل ثم قال: * (والله يرزق من يشاء بغير حساب) * نبه به على كمال قدرته وكمال جوده ونفاذ مشيئته وسعة إحسانه، فكان سبحانه لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة، ومع ذلك يكونون في نهاية الخوف، فالحق سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم.
قوله تعالى
* (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده
6

شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذآ أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) *.
اعلم أنه سبحانه لما بين حال المؤمن، وأنه في الدنيا يكون في النور وبسببه يكون متمسكا بالعمل الصالح، ثم بين أنه في الآخرة يكون فائزا بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبع ذلك بأن بين أن الكافر يكون في الآخرة في أشد الخسران، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات، وضرب لكل واحد منهما مثلا، أما المثل الدال على خيبته في الآخرة فهو قوله: * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) * قال الأزهري: السراب ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات شبيه الماء الجاري وليس بماء ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جاريا يقال سرب الماء يسرب سروبا إذا جرى فهو سارب، أما الآل فهو ما يتراءى للعين في أول النهار فيرى الناظر الصغير كبيرا، وظاهر كلام الخليل أن الآل والسراب واحد، وأما القيعة فقال الفراء: هو جمع قاع مثل جار وجيرة والقاع المنبسط المستوي من الأرض وقال صاحب " الكشاف " القيعة بمعنى القاع، وقال الزجاج الظمآن: قد يخفف همزه، وهو الشديد العطش، ثم وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال البر فهو لا يستحق عليه ثوابا، مع أنه يعتقد أن له ثوابا عليه، وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه عقابا مع أنه يعتقد أنه يستحق عليه ثوابا، فكيف كان فهو يعتقد أن له ثوابا عند الله تعالى، فإذا وافى عرصات القيامة، ولم يجد الثواب بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه، فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الماء فإذا شاهد السراب تعلق قلبه به ويرجو به النجاة ويقوى طمعه فإذا جاءه وأيس مما كان يرجوه فيعظم ذلك عليه وهذا المثال في غاية الحسن، قال مجاهد السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته ومفارقة الدنيا فإن قيل قوله: * (حتى إذا جاءه) * يدل على كونه شيئا وقوله: * (لم يجده شيئا) * مناقض له؟ قلنا الجواب عنه من وجوه ثلاثة: الأول: المراد معناه أنه لم يجده شيئا نافعا كما يقال فلان ما عمل شيئا وإن كان قد اجتهد الثاني:
7

حتى إذا جاءه أي جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه الثالث: الكناية للسراب لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء وإذا قرب منه رق وانتثر وصار كالهواء.
أما قوله: * (ووجد الله عنده فوفاه حسابه) * أي وجد عقاب الله الذي توعد به الكافر عند ذلك فتغير ما كان فيه من ظن النفع العظيم إلى تيقن الضرر العظيم، أو وجد زبانية الله عنده يأخذونه فيقبلون به إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق، وهم الذين قال الله تعالى فيهم * (عاملة ناصبة) * (الغاشية: 3)، * (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) * (الكهف: 104)، * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) * (الفرقان: 23) وقيل نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام.
أما قوله: * (والله سريع الحساب) * فذاك لأنه سبحانه عالم بجميع المعلومات فلا يشق عليه الحساب، وقال بعض المتكلمين معناه لا يشغله محاسبة واحد عن آخر كنحن، ولو كان يتكلم بآلة كما يقوله المشبهة لما صح ذلك، وأما المثل الثاني فهو قوله: * (أو كظلمات في بحر لجي) * وفي لفظة (أو) ههنا وجوه: أحدها: اعلم أن الله تعالى بين أن أعمال الكفار إن كانت حسنة فمثلها السراب وإن كانت قبيحة فهي الظلمات وثانيها: تقدير الكلام أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة وإما كظلمات في بحر وذلك في الدنيا وثالثها: الآية الأولى في ذكر أعمالهم وأنهم لا يتحصلون منها على شيء، والآية الثانية في ذكر عقائدهم فإنها تشبه الظلمات كما قال: * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) * (البقرة: 257) أي من الكفر إلى الإيمان يدل عليه قوله تعالى: * (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) * (النور: 40) وأما البحر اللجي فهو ذو اللجنة التي هي معظم الماء الغمر البعيد القعر، وفي اللجي لغتان كسر اللام وضمها، وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلما جدا بسبب غمورة الماء، فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى، فالواقع في قعر هذا البحر اللجي يكون في نهاية شدة الظلمة، ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب ما يراها ومن أبعد ما يظن أنه لا يراها فقال تعالى: * (لم يكد يراها) * وبين سبحانه بهذا البلوغ تلك الظلمة إلى أقصى النهايات ثم شبه به الكافر في اعتقاده وهو ضد المؤمن في قوله تعالى: * (نور على نور) * (النور: 35) وفي قوله: * (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) * (الحديد: 12) ولهذا قال أبي بن كعب الكافر يتقلب في خمس من الظلم كلامه وعمله ومدخله ومخرجه ومصيره إلى النار، وفي كيفية هذا التشبيه وجوه أخر: أحدها: أن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب وكذا الكافر له ظلمات ثلاثة ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل عن الحسن وثانيها: شبهوا قلبه وبصره وسمعه بهذه الظلمات الثلاث عن ابن عباس وثالثها: أن الكافر لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ويعتقد أنه يدري،
فهذه المراتب الثلاث تشبه تلك الظلمات ورابعها: أن هذه الظلمات متراكمة فكذا الكفار لشدة إصراره على كفره، قد تراكمت عليه
8

الضلالات حتى أن أظهر الدلائل إذا ذكرت عنده لا يفهمها وخامسها: قلب مظلم في صدر مظلم.
أما قوله: * (ظلمات بعضها فوق بعض) * فروي عن ابن كثير أنه قرأ (سحاب) وقرأ (ظلمات) بالجر على البدل من قوله: * (أو كظلمات) * وعنه أيضا أنه قرأ * (سحاب ظلمات) * كما يقال سحاب رحمة وسحاب عذاب على الإضافة وقراءة الباقين * (سحاب ظلمات) * كلاهما بالرفع والتنوين وتمام الكلام عند قوله: * (سحاب) * ثم ابتدأ * (ظلمات) * أي ما تقدم ذكره ظلمات بعضها فوق بعض.
أما قوله: * (لم يكد يراها) * ففيه قولان: أحدهما: أن كاد نفيه إثبات وإثباته نفي فقوله: * (وما كادوا يفعلون) * (البقرة: 71) نفي في اللفظ ولكنه إثبات في المعنى لأنهم فعلوا ذلك وقوله عليه الصلاة والسلام: " كاد الفقر أن يكون كفرا " إثبات في اللفظ لكنه نفي في المعنى لأنه لم يكفر فكذا ههنا قوله: * (لم يكد يراها) * معناه أنه رآها والثاني: أن كاد معناه المقاربة فقوله: * (لم يكد يراها) * معناه لم يقارب الوقوع ومعلوم أن الذي لم يقارب الوقوع لم يقع أيضا وهذا القول هو المختار والأول ضعيف لوجهين: الأول: أن ما يكون أقل من هذه الظلمات فإنه لا يرى فيه شيء فكيف مع هذه الظلمات الثاني: أن المقصود من هذا التمثيل المبالغة في جهالة الكفار وذلك إنما يحصل إذا لم توجد الرؤية البتة مع هذه الظلمات.
أما قوله: * (ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور) * فقال أصحابنا إنه سبحانه لما وصف هداية المؤمن بأنها في نهاية الجلاء والظهور عقبها بأن قال: * (يهدي الله لنوره من يشاء) * ولما وصف ضلالة الكافر بأنها في نهاية الظلمة عقبها بقوله: * (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) * والمقصود من ذلك أن يعرف الإنسان أن ظهور الدلائل لا يفيد الإيمان وظلمة الطريق لا تمنع منه، فإن الكل مربوط بخلق الله تعالى وهدايته وتكوينه، وقال القاضي المراد بقوله: * (ومن لم يجعل الله له نورا) * أي في الدنيا بالألطاف * (فما له من نور) * أي لا يهتدي فيتحير ويحتمل * (ومن لم يجعل الله له نورا) * أي مخلصا في الآخرة وفوزا بالثواب * (فما له من نور) * والكلام عليه تزييفا وتقريرا معلوم.
قوله تعالى
* (ألم تر أن الله يسبح له من فى السماوات والارض والطير صآفات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون * ولله ملك السماوات والارض وإلى الله المصير) *
اعلم أنه سبحانه لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد:
فالنوع الأول: ما ذكره في هذه الآية ولا شبهة في أن المراد ألم تعلم لأن التسبيح لا
9

تتناوله الرؤية بالبصر ويتناوله العلم بالقلب، وهذا الكلام وإن كان ظاهره استفهاما فالمراد التقرير والبيان، فنبه تعالى على ما يلزم من تعظيمه بأن من في السماوات يسبح له وكذلك من في الأرض.
واعلم أنه إما أن يكون المراد من التسبيح دلالة هذه الأشياء على كونه تعالى منزها عن النقائص موصوفا بنعوت الجلال، وإما أن يكون المراد منه أنها تنطق بالتسبيح وتتكلم به، وإما أن يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان، والقسم الأول أقرب لأن القسم الثاني متعذر، لأن في الأرض من لا يكون مكلفا لا يسبح بهذا المعنى، والمكلفون منهم من لا يسبح أيضا بهذا المعنى كالكفار، أما القسم الثالث وهو أن يقال إن من في السماوات وهم الملائكة يسبحون باللسان، وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح باللسان ومنهم من يسبح على سبيل الدلالة فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معا وهو غير جائز فلم يبق إلا القسم الأول وذلك لأن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله سبحانه وتعالى وعلى قدرته وإلهيته وتوحيده وعدله فسمى ذلك تنزيها على وجه التوسع. فإن قيل فالتسبيح بهذا المعنى حاصل لجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه ههنا بالعقلاء؟ قلنا لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر وهي العقل والنطق والفهم.
أما قوله تعالى: * (والطير صافات) * فلقائل أن يقول ما وجه اتصال هذا بما قبله؟ والجواب: أنه سبحانه لما ذكر أن أهل السماوات وأهل الأرض يسبحون ذكر أن الذين استقروا في الهواء الذي هو بين السماء والأرض وهو الطير يسبحون، وذلك لأن إعطاء الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه وجعل طيرانها سجودا منها له سبحانه، وذلك يؤكد ما ذكرناه من أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأحوال على التنزيه لا النطق اللساني.
أما قوله: * (كل قد علم صلاته وتسبيحه) * ففيه ثلاثة أوجه: الأول: المراد كل قد علم الله صلاته وتسبيحه قالوا ويدل عليه قوله سبحانه: * (والله عليم بما يفعلون) * وهو اختيار جمهور المتكلمين والثاني: أن يعود الضمير في الصلاة والتسبيح على لفظ * (كل) * أي إنهم يعلمون ما يجب عليهم من الصلاة والتسبيح والثالث: أن تكون الهاء راجعة على ذكر الله يعني قد علم كل مسبح وكل مصل صلاة الله التي كلفه إياها وعلى هذين التقديرين فقوله: * (والله عليم) * استئناف وروي عن أبي ثابت قال كنت جالسا عند محمد بن جعفر الباقر رضي الله عنه فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها؟ قال لا، قال فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن. واستبعد المتكلمون ذلك فقالوا الطير لو كانت عارفة بالله تعالى لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا لكنها ليست كذلك، فإنا نعلم بالضرورة أنها أشد نقصانا من الصبي الذي
10

لا يعرف هذه الأمور فبأن يمتنع ذلك فيها أولى، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله تعالى استحال كونها مسبحة له بالنطق، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال على ما تقدم تقريره.
قال بعض العلماء إنا نشاهد أن الله تعالى ألهم الطيور وسائر الحشرات أعمالا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه، وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه: أحدها: احتيالها في كيفية الاصطياد فتأمل في العنكبوت كيف يأتي بالحيل اللطيفة في اصطياد الذباب، ويقال إن الدب يستلقي في ممر الثور فإذا أرام نطحه شبث ذراعيه بقرنيه ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه، وأنه يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويضرب الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه وربما عاود يتشممه ويتجسس نفسه ويصعد الشجر أخف صعود ويهشم الجوز بين كفيه تعريضا بالواحدة وصدمة بالأخرى ثم ينفخ فيه فيذر قشره ويستف لبه، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة. وثانيها: أمر النحل ومالها من الرياسة وبناء البيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين وثالثها: انتقال الكراكي من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلبا لما يوافقها من الأهوية، ويقال إن من خواص الخيل أن كل واحد منها يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتا ما والكلاب تتصايح بالعية المعروفة لها، والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق الفهد عمد إلى زبل الإنسان فأكله، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها كالعقعق وينظف ما بين أسنانها، وعلى رأس ذلك الطير كالشوك فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من ذلك الشوك فيفتح فاه فيخرج الطائر، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعترا جبليا ثم تعود وقد عوفيت من ذلك، وحكى بعض الثقات المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود ولا يزال ذلك دأبه فكان ذلك الشيخ قاعدا في كن غائر فعل القنصة وكانت البقلة قريبة من مكمنه فما اشتغل الحبارى بالأفعى قلع البقلة فعادت الحبارى إلى منبتها ففقدته وأخذت تدور حول منبتها دورانا متتابعا حتى خر ميتا فعلم الشيخ أنه كان يتعالج بأكلها من اللسع، وتلك البقلة كانت هي الجرجير البري، وأما ابن عرس فيستظهر في قتال الحية بأكل السذاب فإن النكهة السذابية مما تنفر منها الأفعى والكلاب إذا دودت بطونها أكلت سنبل القمح، وإذا جرحت اللقالق بعضها بعضا داوت جراحها بالصعتر الجبلي ورابعها: القنافذ قد تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى جحرها وكان بالقسطنطينية رجل قد أثرى بسبب أنه كان ينذر بالرياح قبل هبوبها وينتفع الناس بإنذاره وكان السبب فيه قنفذا في داره يفعل الصنيع المذكور فيستدل به، والخطاف صانع جيد في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب ليحمل جناحاه قدرا من الطين، وإذا أفرخ بالغ في تعهد الفراخ ويأخذ ذرقها بمنقاره ويرميها عن العش، ثم يعلمها إلقاء الذرق نحو طرف العش، وإذا دنا الصائد من مكان فراخ القبجة ظهرت له القبجة وقربت منه مطمعة له
11

ليتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب فراخها، وناقر الخشب قلما يقع على الأرض بل على الشجر ينقر الموضع الذي يعلم أن فيه دودا، والغرانيق تصعد في الجو جدا عند الطيران فإن حجب بعضها عن بعض ضباب أو سحاب أحدثت عن أجنحتها حفيفا مسموعا يلزم به بعضها بعضا، فإذا نامت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلا القائد فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه، وإذا سمع حرسا صاح، وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضا أمر عجيب، واعلم أن الاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب طبائع الحيوان، والمقصود أن الأكياس من العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال إنها ملهمة من عند الله تعالى بمعرفته والثناء عليه وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس؟ ولله در شهاب الإسلام السمعاني حيث قال: جل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال.
أما قوله سبحانه: * (ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير) * فهو مع وجازته فيه دلالة على تمام علم المبدأ والمعاد، فقوله: * (ولله ملك السماوات والأرض) * تنبيه على أن الكل منه لأن كل ما سواه ممكن ومحدث والممكن والمحدث لا يوجدان إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب فدخل في هذه القضية جميع الأجرام والأعراض وأفعال العباد وأقوالهم وخواطرهم.
وأما قوله: * (وإلى الله المصير) * فهو عبارة تامة في معرفة المعاد وهو أنه لا بد من مصير الكل إليه سبحانه، وله وجه آخر وهو أن الوجود يبدأ من الأشرف فالأشرف نازلا إلى الأخس فالأخس ثم يأخذ من الأخس فالأخس مترقيا إلى الأشرف فالأشرف، فإنه يكون جسما ثم يصيره موصوفا بالنباتية ثم الحيوانية ثم الإنسانية ثم الملكية ثم ينتهي إلى واجب الوجود لذاته، فالاعتبار الأول هو قوله: * (ولله ملك السماوات والأرض) * والثاني هو قوله: * (وإلى الله المصير) *.
12

اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الدلائل وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: * (ألم تر) * بعين عقلك والمراد التنبيه والإزجاء السوق قليلا قليلا، ومنه البضاعة المزجاة التي يزجيها كل أحد وإزجاء السير في الإبل الرفق بها حتى تسير شيئا فشيئا ثم يؤلف بينه، قال الفراء (بين) لا يصلح إلا مضافا إلى اسمين فما زاد، وإنما قال * (بينه) * لأن السحاب واحد في اللفظ، ومعناه الجمع والواحد سحابة، قال الله تعالى: * (وينشئ السحاب الثقال) * (الرعد: 12) والتأليف ضم شيء إلى شيء أي يجمع بين قطع السحاب فيجعلها سحابا واحدا * (ثم يجعله ركاما) * أي مجتمعا، والركم جمعك شيئا فوق شيء حتى تجعله مركوما، والودق: المطر، قاله ابن عباس وعن مجاهد: القطر، وعن أبي مسلم الأصفهاني: الماء. * (من خلاله) * من (شقوقه ومخارقه) جمع خلل كجبال في جمع جبل، وقرئ * (من خلله) *.
المسألة الثانية: اعلم أن قوله: * (يزجي سحابا) * يحتمل أنه سبحانه ينشئه شيئا بعد شيء، ويحتمل أن يغيره من سائر الأجسام لا في حالة واحدة، فعلى الوجه الأول يكون نفس السحاب محدثا، ثم إنه سبحانه يؤلف بين أجزائه، وعلى الثاني يكون المحدث من قبل الله تعالى تلك الصفات التي باعتبارها صارت تلك الأجسام سحابا، وفي قوله: * (ثم يؤلف بينه) * دلالة على وجودها متقدما متفرقا إذ التأليف لا يصح إلا بين موجودين، ثم إنه سبحانه يجعله ركاما، وذلك بتركب بعضها على
البعض، وهذا مما لا بد منه لأن السحاب إنما يحمل الكثير من الماء إذا كان بهذه الصفة وكل ذلك من عجائب خلقه ودلالة ملكه واقتداره، قال أهل الطبائع إن تكون السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار وفي الأقل من تكاثف الهواء، أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلا وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء. وأما إن كان البخار كثيرا ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فتلك الأبخرة المتصاعدة إما أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ فإن بلغت فإما أن يكون البرد هناك قويا أو لا يكون، فإن لم يكن البرد هناك قويا تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد، واجتمع وتقاطر فالبخار المجتمع هو السحاب، والمتقاطر هو المطر، والديمة والوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم، وأما إن كان البرد شديدا فلا يخلو إما أن يصل البرد إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبارا أو بعد صيرورتها كذلك، فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجا، وإن كان على الوجه الثاني نزل بردا، وأما إذا لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فهي إما أن تكون كثيرة أو تكون قليلة، فإن كانت كثيرة فهي قد تنعقد سحابا ماطرا وقد لا تنعقد، أما الأول فذاك لأحد أسباب خمسة: أحدها: إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة وثانيها: أن تكون الرياح ضاغطة إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الريح. وثالثها:
13

أن تكون هناك رياح متقابلة متصادمة فتمنع صعود الأبخرة حينئذ ورابعها: أن يعرض للجزء المتقدم وقوف لثقله وبطء حركته، ثم يلتصق به سائر الأجزاء الكثيرة المدد وخامسها: لشدة برد الهواء القريب من الأرض. وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعودا يسيرا حتى كأنه مكبة موضوعة على وهدة، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس، وأما إذا كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة فإذا ضربها برد الليل كثفها وعقدها ماء محسوسا فنزل نزولا متفرقا لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به، فإن لم يجمد كان طلا، وإن جمد كان صقيعا، ونسبة الصقيع إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر، وأما تكون السحاب من انقباض الهواء فذلك عندما يبرد الهواء وينقبض، وحينئذ يحصل منه الأقسام المذكورة والجواب: أنا لما دللنا على حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادرا مختارا يمكنه إيجاد الأجسام لم يمكنا القطع بما ذكرتموه لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه، وأيضا فهب أن الأمر كما ذكرتم، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر. ثم إنها متماثلة، فاختصاص كل واحد منها بصفته المعينة من الصعود والهبوط واللطافة والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص، فإذا كان هو سبحانه خالقا لتلك الطبائع وتلك الطبائع مؤثرة في هذه الأحوال وخالق السبب خالق المسبب، فكان سبحانه هو الذي يزجي سحابا، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جو الهواء، ثم إن تلك الأبخرة إذا ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض فهو سبحانه هو الذي جعلها ركاما، فثبت على جميع التقديرات أن وجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة ظاهر بين.
أما قوله سبحانه: * (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في هذه الآية قولان: أحدهما: أن في السماء جبالا من برد خلقها الله تعالى كذلك، ثم ينزل منها ما شاء وهذا القول عليه أكثر المفسرين، قال مجاهد والكلبي: جبال من برد في السماء والقول الثاني: أن السماء هو الغيم المرتفع على رؤوس الناس سمي بذلك لسموه وارتفاعه، وأنه تعالى أنزل من هذا الغيم الذي هو سماء البرد وأراد بقوله * (من جبال) * السحاب العظام لأنها إذا عظمت أشبهت الجبال، كما يقال فلان يملك جبالا من مال ووصفت بذلك توسعا وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله تعالى في السحاب، ثم أنزله إلى الأرض، وقال بعضهم إنما سمى الله ذلك الغيم جبالا، لأنه سبحانه خلقها من البرد، وكل جسم شديد متحجر فهو من الجبال، ومنه قوله تعالى: * (واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين) * (الشعراء: 184) ومنه فلان مجبول على كذا، قال المفسرون والأول أولى لأن السماء اسم لهذا الجسم المخصوص، فجعله اسما للسحاب بطريقة الاشتقاق مجاز، وكما يصح أن يجعل الله الماء في السحاب ثم ينزله بردا، فقد يصح أن يكون في
14

السماء جبال من برد، وإذا صح في القدرة كلا الأمرين فلا وجه لترك الظاهر.
المسألة الثانية: قال أبو علي الفارسي قوله تعالى: * (من السماء من جبال فيها من برد) * فمن الأولى لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء، والثالثة للتبيين لأن جنس تلك الجبال جنس البرد، ثم قال ومفعول الإنزال محذوف والتقدير وينزل من السماء من جبال فيها من برد، إلا أنه حذف للدلالة عليه.
أما قوله: * (فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء) * فالظاهر أنه راجع إلى البرد، ومعلوم من حاله أنه قد يضر ما يقع عليه من حيوان ونبات، فبين سبحانه أنه يصيب به من يشاء على وفق المصلحة ويصرفه، أي يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقط عليه، ومن الناس من حمل البرد على الحجر وجعل نزوله جاريا مجرى عذاب الاستئصال وذلك بعيد.
أما قوله تعالى: * (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء * (يكاد سنا برقه) * على الإدغام وقرئ (برقه) جمع برقة وهي المقدار من البرق وبرقه بضمتين للاتباع كما قيل في جمع فعلة فعلات كظلمات، و (سناء برقه) على المد والمقصور بمعنى الضوء والممدود بمعنى العلو والارتفاع من قولك سنى للمرتفع و * (يذهب بالأبصار) * على زيادة الباء كقوله: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (البقرة: 195) عن أبي جعفر المدني.
المسألة الثانية: وجه الاستدلال بقوله: * (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) * أن البرق الذي يكون صفته ذلك لا بد وأن يكون نارا عظيمة خالصة، والنار ضد الماء والبرد فظهوره من البرد يقتضي ظهور الضد من الضد، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم.
المسألة الثالثة: اختلف النحويون في أنك إذا قلت ذهبت بزيد إلى الدار فهل يجب أن تكون ذاهبا معه إلى الدار، فالمنكرون احتجوا بهذه الآية.
أما قوله: * (يقلب الله الليل والنهار) * فقيل فيه وجوه: منها تعاقبهما ومجئ أحدهما بعد الآخر وهو كقوله: * (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) * (الفرقان: 62) ومنها ولوج أحدهما في الآخر وأخذ أحدهما من الآخر. ومنها تغير أحوالهما في البرد والحر وغيرهما ولا يمتنع في مثل ذلك أن يريد تعالى معاني الكل لأنه في الإنعام والاعتبار أولى وأقوى.
أما قوله تعالى: * (إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) * فالمعنى أن فيما تقدم ذكره دلالة لمن يرجع إلى بصيرة، فمن هذا الوجه يدل أن الواجب على المرء أن يتدبر ويتفكر في هذه الأمور، ويدل أيضا على فساد التقليد.
قوله تعالى (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين
15

ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير. لقد أنزلنا آيات مبينات
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الدلائل على الوحدانية وذلك لأنه لما استدل أولا بأحوال السماء والأرض وثانيا بالآثار العلوية استدل ثالثا بأحوال الحيوانات، واعلم أن على هذه الآية سؤالات:
السؤال الأول: لم قال الله تعالى: * (والله خلق كل دابة من ماء) * مع أن كثيرا من الحيوانات غير مخلوقة من الماء؟ أما الملائكة فهم أعظم الحيوانات عددا وهم مخلوقون من النور، وأما الجن فهم مخلوقون من النار، وخلق الله آدم من التراب لقوله: * (خلقه من تراب) * (آل عمران: 59) وخلق عيسى من الريح لقوله: * (فنفخنا فيه من روحنا) * (التحريم: 12) وأيضا نرى أن كثيرا من الحيوانات متولد لا عن النطفة والجواب من وجوه: أحدها: وهو الأحسن ما قاله القفال وهو أن قوله: * (من ماء) * صلة كل دابة وليس هو من صلة خلق، والمعنى أن كل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى وثانيها: أن أصل جميع المخلوقات الماء على ما يروى " أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور "، ولما كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة وكان الأصل الأول هو الماء لا جرم ذكره على هذا الوجه وثالثها: أن المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنهم هناك فيخرج عنه الملائكة والجن، ولما كان الغالب جدا من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء، إما لأنها متولدة من النطفة، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء لا جرم أطلق لفظ الكل تنزيلا للغالب منزلة الكل. السؤال الثاني: لم نكر الماء في قوله: * (من ماء) * وجاء معرفا في قوله: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) * (الأنبياء: 30) والجواب: إنما جاء ههنا منكرا لأن المعنى أنه خلق كل دابة من نوع من الماء يختص بتلك الدابة، وإنما جاء معرفا في قوله: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) * لأن المقصود هناك كونهم مخلوقين من هذا الجنس، وههنا بيان أن ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة.
السؤال الثالث: قوله: * (فمنهم) * ضمير العقلاء وكذلك قوله: * (من) * فلم استعمله في غير العقلاء؟ والجواب: أنه تعالى ذكر ما لا يعقل مع من يعقل وهم الملائكة والإنس والجن فغلب
16

اللفظ اللائق بمن يعقل، لأن جعل الشريف أصلا والخسيس تبعا أولى من العكس، ويقال في الكلام: من المقبلان؟ لرجل وبعير.
السؤال الرابع: لم سمى الزحف على البطن مشيا؟ ويبين صحة هذا السؤال أن الصبي قد يوصف بأنه يحبو ولا يقال إنه يمشي وإن زحف على حد ما تزحف الحية والجواب: هذا على سبيل الاستعارة كما قالوا في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر، ويقال فلان لا يتمشى له أمر أو على طريق المشاكلة (لذلك) الزاحف مع الماشين.
السؤال الخامس: أنه لم يستوف القسمة لأنا نجد ما يمشي على أكثر من أربع مثال العناكب والعقارب والرتيلات بل مثل الحيوان الذي له أربعة وأربعون رجلا الذي يسمى دخال الأذن والجواب: القسم الذي ذكرتم كالنادر فكان ملحقا بالعدم ولأن الفلاسفة يقرون بأن ما له قوائم كثيرة فاعتماده إذا مشى على أربع جهاته لا غير فكأنه يمشي على أربع، ولأن قوله تعالى: * (يخلق الله ما يشاء) * كالتنبيه على سائر الأقسام.
السؤال السادس: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ والجواب: قد قدم ما هو (أعجب) وهو الماشي بغير آله مشى من أجل أو قوائم ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع، واعلم أن قوله: * (يخلق الله ما يشاء) * تنبيه على أن الحيوانات كما اختلفت بحسب كيفية المشي فكذا هي مختلفة بحسب أمور أخر، فلنذكر ههنا بعض التقسيمات:
التقسيم الأول: الحيوانات قد تشترك في أعضاء وقد تتباين بأعضاء، أما الشركة فمثل اشتراك الإنسان والفرس في أن لهما لحما وعصبا وعظما، وأما التباين فإما أن يكون في نفس العضو أو في صفته، أما التباين في نفس العضو فعلى وجهين: أحدهما: أن لا يكون العضو حاصلا للآخر، وإن كانت أجزاؤه حاصلة للثاني كالفرس والإنسان، فإن الفرس له ذنب والإنسان ليس له ذنب ولكن أجزاء الذنب ليست إلا العظم والعصب واللحم والجلد والشعر، وكل ذلك حاصل للإنسان والثاني: أن لا يكون ذلك العضو حاصلا للثاني لا بذاته ولا بأجزائه مثل أن للسلحفاة صدفا يحيط به وليس للإنسان ذلك وكذا للسمك فلوس وللقنفذ شوك وليس شيء منها للإنسان وأما التباين في صفة العضو، فإما أن يكون من باب الكمية أو الكيفية أو الوضع أو الفعل أو الانفعال، أما الذي في الكم، فإما أن يتعلق بالمقدار مثل أن عين البوم كبيرة وعين العقاب صغيرة أو بالعدد مثل أن أرجل ضرب من العناكب ستة وأرجل ضرب آخر ثمانية أو عشرة، والذي في الكيف فكاختلافها في الألوان والأشكال والصلابة واللين
، والذي في الوضع فمثل اختلاف وضع ثدي الفيل فإنه يكون قريبا من الصدر وثدي الفرس فإنه عند السرة. وأما الذي في الفعل فمثل كون أذن الفيل صالحا للذب مع كونه آلة للسمع وليس كذلك في الإنسان وكون
17

أنفه آلة للقبض دون أنف غيره. وأما الذي في الانفعال فمثل كون عين الخفاش سريعة التحير في الضوء وعين الخطاف بخلاف ذلك.
التقسيم الثاني: الحيوان إما أن يكون مائيا بمعنى أن مسكنه الأصلي هو الماء أو أرضيا أو يكون مائيا ثم يصير أرضيا، أما الحيوانات المائية فتغير أحوالها من وجوه: الأول: أنه إما أن يكون مكانه وغذاؤه ونفسه مائيا فله بدل التنفس في الهواء التنشق المائي فهو يقبل الماء إلى باطنه ثم يرده ولا يعيش إذا فارقه، والسمك كله كذلك ومنه ما مكانه وغذاؤه مائي ولكنه يتنفس من الهواء مثل السلحفاة المائية، ومنه ما مكانه وغذاؤه مائي وليس يتنفس ولا يستنشق مثل أصناف من الصدف لا تظهر للهواء ولا تستدخل الماء إلى باطنها الوجه الثاني: الحيوانات المائية بعضها مأواها مياه الأنهار الجارية وبعضها مياه البطائح مثل الضفادع وبعضها مأواها مياه البحر الوجه الثالث: منها لجية ومنها شطية ومنها طينية ومنها صخرية الوجه الرابع: الحيوان المنتقل في الماء منه ما يعتمد في غوصه على رأسه وفي السباحة على أجنحته كالسمك ومنه ما يعتمد في السباحة على رجليه كالضفدع ومنه ما يمشي في قعر الماء كالسرطان ومنه ما يزحف مثل ضرب من السمك لا جناح له وكالدود، أما الحيوانات البرية فتغير أحوالها أيضا من وجهين: الأول: أن منها ما يتنفس من طريق واحد كالفم والخيشوم ومنها ما لا يتنفس كذلك بل على نحو آخر من مسامه مثل الزنبور والنحل الثاني: أن الحيوانات الأرضية منها ما له مأوى معلوم، ومنها ما مأواه كيف اتفق إلا أن يلد فيقيم للحضانة واللواتي لها مأوى فبعضها مأواه شق وبعضها حفر وبعضها مأواه قلة رابية وبعضها مأواه وجه الأرض الثالث: الحيوان البري كل طائر منه ذو جناح فإنه يمشي برجليه، ومن جملة ذلك ما مشيه صعب عليه كالخطاف الكبير الأسود والخفاش. وأما الذي جناحه جلد أو غشاء فقد يكون عديم الرجل كضرب من الحيات الحبشية يطير الرابع: الطير يختلف فبعضها يتعايش معا كالكراكي وبعضها يؤثر التفرد كالعقاب وجميع الجوارح التي تتنازع على الطعم لاحتياجها إلى الاحتيال لتصيد ومنافستها فيه، ومنها ما يتعايش زوجا ويكون معا كالقطا، ومنه ما يجتمع تارة وينفرد أخرى والحيوانات المنفردة قد تكون مدنية وقد تكون برية صرفة وقد تكون بستانية والإنسان من بين الحيوان هو الذي لا يمكنه أن يعيش وحده فإن أسباب حياته ومعيشته تلتئم بالمشاركة المدنية والنحل والنمل وبعض الغرانيق يشارك الإنسان في ذلك لكن النحل والكراكي تطيع رئيسا واحدا والنمل له اجتماع ولا رئيس الخامس: الطير منه آكل لحم ومنه لاقط حب ومنه آكل عشب، وقد يكون لبعض الطير طعم معين كالنحل فإن غذاءه زهر والعنكبوت فإن غذاءه الذباب وقد يكون بعضه متفق الطعم أما القسم الثالث: وهو الحيوان الذي يكون تارة مائيا، وأخرى بريا فيقال إنه حيوان يكون في البحر ويعيش فيه ثم إنه يبرز إلى البر ويبقى فيه.
18

التقسيم الثالث: الحيوان منه ما هو إنسي بالطبع كالإنسان ومنه ما هو إنسي بالمولد كالهرة والفرس ومنه ما هو إنسي بالقسر كالفهد ومنه ما لا يأنس كالنمر والمستأنس بالقسر منه ما يسرع استئناسه ويبقى مستأنسا كالفيل ومنه ما يبطئ كالأسد ويشبه أن يكون من كل نوع صنف إنسي وصنف وحشي حتى من الناس.
التقسيم الرابع: من الحيوان ما هو مصوت ومنه ما لا صوت له وكل مصوت فإنه يصير عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتا إلا الإنسان، وأيضا لبعض الحيوان شبق يشتد كل وقت كالديك ومنه عفيف له وقت معين.
التقسيم الخامس: بحسب الأخلاق بعض الحيوانات هادئ الطبع قليل الغضب مثل البقرة وبعضه شديد الجهل حاد الغضب كالخنزير البري وبعضها حليم خدوع كالبعير وبعضها رديء الحركات مغتال كالحية وبعضها جريء قوي شهم كبير النفس كريم الطبع كالأسد ومنها قوي مغتال وحشي كالذئب وبعضها محتال مكار رديء الحركات كالثعلب وبعضها غضوب شديد الغضب سفيه إلا أنه ملق متودد كالكلب وبعضها شديد الكيس مستأنس كالفيل والقرد وبعضها حسود متباه بجماله كالطاووس وبعضها شديد التحفظ كالجمل والحمار.
التقسيم السادس: من الحيوان ما تناسله بأن تلد أنثاه حيوانا وبعضها ما تناسله بأن تلد أنثاه دودا كالنحل والعنكبوت فإنها تلد دودا، ثم إن أعضاءه تستكمل بعد وبعضها تناسله بأن تبيض أنثاه بيضا.
واعلم أن العقول قاصرة عن الإحاطة بأحوال أصغر الحيوانات على سبيل الكمال، ووجه الاستدلال بها على الصانع ظاهر لأنه لو كان الأمر بتركيب الطبائع الأربع فذلك بالنسبة إلى الكل على السوية فاختصاص كل واحد من هذه الحيوانات بأعضائها وقواها ومقادير أبدانها وأعمارها وأخلاقها لا بد وأن يكون بتدبير مدبر قاهر حكيم سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون. وأحسن كلام في هذا الموضع قوله سبحانه: * (يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير) * لأنه هو القادر على الكل والعالم بالكل فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات، فأي عقل يقف عليها وأي خاطر يصل إلى ذرة من أسرارها، بل هو الذي يخلق ما يشاء ولا يمنعه منه مانع ولا دافع.
وأما قوله: * (لقد أنزلنا آيات مبينات) * فالأولى حمله على كل الأدلة والعبر، ولما كان القرآن كالمشتمل على كل ذلك صح أن يكون هو المراد.
أما قوله: * (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * فاستدلال أصحابنا به كما تقدم والجواب: أجاب القاضي عنه بأن المراد يهدي من بلغه حد التكليف دون غيره، أو يكون المراد من أطاعه واستحق الثواب فيهديه إلى الجنة على ما تقدم في نظائره، وجوابنا عن هذا الجواب أيضا كما تقدم في نظائره والله أعلم.
19

قوله تعالى
* (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين...) *
اعلم أنه سبحانه لما ذكر دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالدين بألسنتهم ولكنهم ل يقبلوه بقلوبهم وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال مقاتل: نزلت هذه الآية في بشر المنافق وكان قد خاصم يهوديا في أرض وكان اليهودي يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما،
وجعل المنافق يجره إلى كعب بن الأشرف، ويقول إن محمدا يحيف علينا وقد مضت قصتهما في سورة النساء، وقال الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض فتقاسما فوقع إلى علي منها ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة، فقال المغيرة بعني أرضك فباعها إياه وتقابضا فقيل للمغيرة أخذت سبخة لا ينالها الماء. فقال لعلي اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها فلا ينالها الماء فقال علي بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة أما محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي فنزلت هذه الآية، وقال الحسن نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر.
المسألة الثانية: قوله: * (ويقولون آمنا) * إلى قوله: * (وما أولئك بالمؤمنين) * يدل على أن الإيمان لا يكون بالقول إذ لو كان به لما صح أن ينفي كونهم مؤمنين. وقد فعلوا ما هو إيمان في الحقيقة، فإن قيل إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون آمنا، ثم حكى عن فريق منهم التولي
20

فكيف يصح أن يقول في جميعهم * (وما أولئك بالمؤمنين) * مع أن الذي تولى منهم هو البعض؟ قلنا إن قوله: * (وما أولئك بالمؤمنين) * راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى، وأيضا فلو رجع إلى الأول يصح ويكون معنى قوله: * (ثم يتولى فريق منهم) * أي يرجع هذا الفريق إلى الباقين منهم فيظهر بعضهم لبعض الرجوع عما أظهروه، ثم بين سبحانه أنهم إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وهذا ترك للرضا بحكم الرسول، ونبه بقوله تعالى: * (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) * على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أوشكوا فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض بل سارعوا إلى الحكم وأذعنوا ببذل الرضا، وفي ذلك دلالة على أنه ليس بهم اتباع الحق، وإنما يريدون النفع المعجل، وذلك أيضا نفاق.
أما قوله تعالى: * (أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: كلمة (أم) للاستفهام وهو غير جائز على الله تعالى والجواب: اللفظ استفهام ومعناه الخبر كما قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا * (وأندى العالمين بطون راح)
السؤال الثاني: أنهم لو خافوا أن يحيف الله عليهم فقد ارتابوا في الدين وإذ ارتابوا ففي قلوبهم مرض، فالكل واحد، فأي فائدة في التعديد؟ الجواب: قوله: * (أفي قلوبهم مرض) * إشارة إلى النفاق وقوله: * (أم ارتابوا) * إشارة إلى أنه حدث هذا الشك والريب بعد تقرير الإسلام في القلب، وقوله: * (أم يخافون أن يحيف الله عليهم) * إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه.
السؤال الثالث: هب أن هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة فكيف أدخل عليها كلمة (أم)؟ الجواب: الأقرب أنه تعالى ذمهم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق، وكان فيها شك وارتياب، وكانوا يخافون الحيف من الرسول عليه الصلاة والسلام وكل واحد من ذلك كفر ونفاق، ثم بين تعالى بقوله: * (بل أولئك هم الظالمون) * بطلان ما هم عليه لأن الظلم يتناول كل معصية كما قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * إذ المرء لا يخلو من أن يكون ظالما لنفسه أو ظالما لغيره، ويمكن أن يقال أيضا لما ذكر تعالى في الأقسام كونهم خائفين من الحيف، أبطل ذلك بقوله: * (بل أولئك هم الظالمون) * أي لا يخافون أن يحيف الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم لمعرفتهم بأمانته وصيانته وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم وهم له جحود، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يأبون المحاكمة إليه.
21

قوله تعالى
* (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفآئزون * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون * قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى قول المنافقين وما قالوه وما فعلوه أتبعه بذكر ما كان يجب أن يفعلوه وما يجب أن يسلكه المؤمنون فقال تعالى: * (إنما كان قول المؤمنين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الحسن * (قول المؤمنين) * بالرفع، والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسما لكان أوغلهما في التعريف و * (أن يقولوا) * أوغل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف * (قول المؤمنين) *.
المسألة الثانية: قوله: * (إنما كان قول المؤمنين) * معناه كذلك يجب أن يكون قولهم وطريقتهم إذا دعوا إلى حكم كتاب الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا، فيكون إتيانهم إليه وانقيادهم له سمعا وطاعة، ومعنى * (سمعنا) * أجبنا على تأويل قول المسلمين سمع الله لمن حمده أي قبل وأجاب، ثم قال: * (ومن يطع الله ورسوله) * أي فيما ساءه وسره * (ويخش الله) * فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي * (ويتقه) * فيما بقي من عمره * (فأولئك هم المفلحون) * وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه.
أما قوله: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن) * فقال مقاتل: من حلف بالله
22

فقد أجهد في اليمين، ثم قال لما بين الله تعالى كراهية المنافقين لحكم رسول الله، فقالوا والله لئن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، ثم إنه تعالى أمر رسوله أن ينهاهم عن هذا القسم بقوله: * (قل لا تقسموا) * ولو كان قسمهم كما يجب لم يجز النهي عنه لأن من حلف على القيام بالبر
والواجب لا يجوز أن ينهى عنه، وإذا ثبت ذلك ثبت أن قسمهم كان لنفاقهم وأن باطنهم خلاف ظاهرهم، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه لا يكون إلا قبيحا.
أما قوله: * (طاعة معروفة) * فهو إما خبر مبتدأ محذوف، أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا أيمان كاذبة، أو مبتدأ خبره محذوف أي طاعة معروفة أمثل من قسمكم بما لا تصدقون فيه، وقيل معناه دعوا القسم ولا تغتروا به وعليكم طاعة معروفة فتمسكوا بها. وقرأ اليزيدي * (طاعة معروفة) * بالنصب على معنى أطيعوا طاعة (الله) * (إن الله خبير بما تعملون) * أي بصير لا يخفى عليه شيء من سرائركم، وإنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم.
أما قوله: * (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) * فاعلم أنه تعالى صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات، وهو أبلغ في تبكيتهم * (فإن تولوا) * يعني إن تولوا عن طاعة الله وطاعة رسوله فإنما على الرسول ما حمل من تبليغ الرسالة وعليكم ما حملتم من الطاعة * (وإن تطيعوه تهتدوا) * أي تصيبوا الحق وإن عصيتموه فما على الرسول إلا البلاغ المبين، والبلاغ بمعنى التبليغ، والمبين الواضح، والموضح لما بكم إليه الحاجة، وعن نافع أنه قرأ * (فإنما عليه ما حمل) * بفتح الحاء والتخفيف أي فعليه إثم ما حمل من المعصية.
قوله تعالى
* (وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) *.
23

اعلم أن تقدير النظم بلغ أيها الرسول وأطيعوه أيها المؤمنون، فقد وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات أي الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض فيجعلهم الخلفاء والغالبين والمالكين كما استخلف عليها من قبلهم في زمن داود وسليمان عليهما السلام وغيرهما، وأنه يمكن لهم دينهم وتمكينه ذلك هو أن يؤيدهم بالنصرة والإعزاز ويبدلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا بأن ينصرهم عليهم فيقتلوهم ويأمنوا بذلك شرهم، فيعبدونني آمنين لا يشركون بي شيئا ولا يخافون * (ومن كفر) * أي من بعد هذا الوعد وارتد * (فأولئك هم الفاسقون) *.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على بيان أكثر المسائل الأصولية الدينية فلنشر إلى معاقدها:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا منكم) * يدل على أنه سبحانه متكلم لأن الوعد نوع من أنواع الكلام والموصوف بالنوع موصوف بالجنس، ولأنه سبحانه ملك مطاع والملك المطاع لا بد وأن يكون بحيث يمكنه وعد أوليائه ووعيد أعدائه فثبت أنه سبحانه متكلم.
المسألة الثانية: الآية تدل على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافا لهشام بن الحكم، فإنه قال لا يعلمها قبل وقوعها ووجه الاستدلال به أنه سبحانه أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إخبارا على التفصيل وقد وقع المخبر مطابقا للخبر ومثل هذا الخبر لا يصح إلا مع العلم.
المسألة الثالثة: الآية تدل على أنه سبحانه حي قادر على جميع الممكنات لأنه قال: * (ليستخلفنهم في الأرض وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) * وقد فعل كل ذلك وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل المقدورات.
المسألة الرابعة: الآية تدل على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة لأنه قال * (يعبدونني) *، وقالت المعتزلة الآية تدل على أن فعل الله تعالى معلل بالغرض لأن المعنى لكي يعبدوني وقالوا أيضا الآية دالة على أنه سبحانه يريد العبادة من الكل، لأن من فعل فعلا لغرض فلا بد وأن يكون مريدا لذلك الغرض.
المسألة الخامسة: دلت الآية على أنه تعالى منزه عن الشريك لقوله: * (لا يشركون بي شيئا) * وذلك يدل على نفي الإله الثاني، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله تعالى سواء كان كوكبا كما تقوله الصابئة أو صنما كما تقوله عبدة الأوثان.
المسألة السادسة: دلت الآية على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن الغيب في قوله: * (ليستخلفنهم في الأرض وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) * وقد وجد هذا المخبر موافقا للخبر ومثل هذا الخبر معجز، والمعجز دليل الصدق فدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم.
المسألة السابعة: دلت الآية على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان، خلافا للمعتزلة لأنه عطف العمل الصالح عن الإيمان والمعطوف خارج عن المعطوف عليه.
24

المسألة الثامنة: دلت الآية على إمامة الأئمة الأربعة وذلك لأنه تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم وهو المراد بقوله ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وأن يمكن لهم دينهم المرضي وأن يبدلهم بعد الخوف أمنا، ومعلوم أن المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء لأن استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ومعلوم أنه لا نبي بعده لأنه خاتم الأنبياء، فإذن المراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة ومعلوم أن بعد الرسول الاستخلاف الذي هذا وصفه إنما كان في أيام أبي بكر وعمر وعثمان لأن في أيامهم كانت الفتوح العظيمة وحصل التمكين وظهور الدين والأمن ولم يحصل ذلك في أيام علي رضي الله عنه لأنه لم يتفرغ لجهاد الكفار لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة فثبت بهذا دلالة الآية على صحة خلافة هؤلاء، فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي حصول الخلافة لكل من آمن وعمل صالحا ولم يكن الأمر كذلك. نزلنا عنه، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله: * (ليستخلفنهم) * هو أنه تعالى يسكنهم الأرض ويمكنهم من التصرف لا أن المراد منه خلافة الله تعالى ومما يدل عليه قوله: * (كما استخلف الذين من قبلهم) * واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الإمامة فوجب أن يكون الأمر في حقهم أيضا كذلك. نزلنا عنه، لكن ههنا ما يدل على أنه لا يجوز حمله على خلافة رسول الله لأن من مذهبكم أنه عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحدا وروي عن علي عليه السلام أنه قال أترككم كما ترككم رسول الله. نزلنا عنه، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه عليا عليه السلام والواحد قد يعبر عنه بلفظ
الجمع على سبيل التعظيم كقوله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) وقال في حق علي عليه السلام: * (والذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) * (المائدة: 55) نزلنا عنه، ولكن نحمله على الأئمة الاثني عشر والجواب عن الأول أن كلمة من للتبعيض فقوله: * (منكم) * يدل على أن المراد بهذا الخطاب بعضهم وعن الثاني: أن الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق فالذكور ههنا في معرض البشارة لا بد وأن يكون مغايرا له.
وأما قوله تعالى: * (كما استخلف الذين من قبلهم) * فالذين كانوا قبلهم كانوا خلفاء تارة بسبب النبوة وتارة بسبب الإمامة والخلافة حاصلة في الصورتين وعن الثالث: أنه وإن كان من مذهبنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحدا بالتعيين ولكنه قد استخلف بذكر الوصف والأمر بالاختيار فلا يمتنع في هؤلاء الأئمة الأربعة أنه تعالى يستخلفهم وأن الرسول استخلفهم، وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر يا خليفة رسول الله، فالذي قيل إنه عليه السلام لم يستخلف أريد به على وجه التعيين وإذا قيل استخلف فالمراد على طريقة الوصف والأمر وعن الرابع: أن حمل لفظ الجمع على الواحد مجاز وهو خلاف الأصل وعن الخامس: أنه باطل لوجهين: أحدهما: قوله تعالى: * (منكم) * يدل على أن هذا الخطاب كان مع الحاضرين وهؤلاء الأئمة ما كانوا حاضرين الثاني: أنه تعالى وعدهم القوة والشوكة والنفاذ في العالم ولم يوجد ذلك فيه فثبت بهذا صحة إمامة الأئمة
25

الأربعة وبطل قول الرافضة الطاعنين على أبي بكر وعمر وعثمان وعلى بطلان قول الخوارج الطاعنين على عثمان وعلي، ولنرجع إلى التفسير.
أما قوله: * (ليستخلفنهم) * فلقائل أن يقول أين القسم المتلقى باللام والنون في * (ليستخلفنهم) *، قلنا: هو محذوف تقديره: وعدهم الله (وأقسم) ليستخلفنهم أو نزل وعد الله في تحققه منزلة القسم فتلقى بما يتلقى به القسم كأنه قال أقسم الله ليستخلفنهم.
أما قوله: * (كما استخلف الذين من قبلهم) * يعني * (كما استخلف) * هارون ويوشع وداود وسليمان وتقدير النظم ليستخلفنهم استخلافا كاستخلاف من قبلهم من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وقرئ كما استخلف بضم التاء وكسر اللام، وقرئ بالفتح.
أما قوله تعالى: * (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) * فالمعنى أنه يثبت لهم دينهم الذي ارتضى لهم وهو الإسلام، وقرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب * (وليبدلنهم) * ومن الإبدال بالتخفيف والباقون بالتشديد، وقد ذكرنا الفرق بينهما في قوله تعالى: * (بدلناهم جلودا غيرها) * (النساء: 56).
أما قوله: * (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) * ففيه دلالة على أن الذين عناهم لا يتغيرون عن عبادة الله تعالى إلى الشرك. وقال الزجاج يجوز أن يكون في موضع الحال على معنى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات في حال عبادتهم وإخلاصهم لله ليفعلن بهم كيت وكيت ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم.
أما قوله: * (ومن كفر بعد ذلك) * أي جحد حق هذه النعم * (فأولئك هم الفاسقون) * أي العاصون.
* (وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون * لا تحسبن الذين كفروا معجزين فى الارض ومأواهم النار ولبئس المصير) *.
أما تفسير إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولفظة لعل ولفظة الرحمة، فالكل قد تقدم مرارا.
وأما قوله: * (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض) * فالمعنى لا تحسبن يا محمد الذين كفروا سابقين فائقين حتى يعجزونني عن إدراكهم. وقرئ * (لا يحسبن) * بالياء المعجمة من تحتها، وفيه أوجه: أحدها: أن يكون معجزين في الأرض هما المفعولان، والمعنى لا يحسبن الذين كفروا
26

أحدا يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا هم في مثل ذلك وثانيها: أن يكون فيه ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره في قوله: * (وأطيعوا الرسول) * (النور: 54) والمعنى: لا يحسبن الذين كفروا معجزين وثالثها: أن يكون الأصل ولا يحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول.
وأما قوله: * (ومأواهم النار ولبئس المصير) * فقال صاحب (الكشاف): النظم لا يحتمل أن يكون متصلا بقوله: * (لا تحسبن) * لأن ذلك نفي وهذا إيجاب، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله تقديره لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض بل هم مقهورون ومأواهم النار.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلوة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلوة العشآء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الايات والله عليم حكيم * وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم ءاياته والله عليم حكيم * والقواعد من النسآء اللاتى لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم) *.
27

اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال القاضي: قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) * وإن كان ظاهره الرجال فالمراد به الرجال والنساء لأن التذكير يغلب على التأنيث فإذا لم يميز فيدخل تحت قوله: * (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم) * الكل ويبين ذلك قوله تعالى: * (الذين ملكت أيمانكم) * لأن ذلك يقال في الرجال والنساء والأولى عندي أن الحكم ثابت في النساء بقياس جلي، وذلك لأن النساء في باب حفظ العورة أشد حالا من الرجال، فهذا الحكم لما ثبت في الرجال فثبوته في النساء بطريق الأولى، كما أنا نثبت حرمة الضرب بالقياس الجلي على حرمة التأفيف.
المسألة الثانية: ظاهر قوله: * (الذين ملكت أيمانكم) * يدخل فيه البالغون والصغار، وحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد الصغار، واحتجوا بأن الكبير من المماليك ليس له أن ينظر من المالك إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه، قال ابن المسيب: لا يغرنكم قوله: * (وما ملكت أيمانكم) * لا ينبغي للمرأة أن ينظر
عبدها إلى قرطها وشعرها وشئ من محاسنها، وقال الآخرون: بل البالغ من المماليك له أن ينظر إلى شعر مالكته وما شاكله، وظاهر الآية يدل على اختصاص عبيد المؤمنين والأطفال من الأحرار بإباحة ما حظره الله تعالى من قبل على جماعة المؤمنين بقوله: * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم) * (النور: 27) فإنه أباح لهم إلا في الأوقات الثلاثة وجوز دخولهم مع من لم يبلغ بغير إذن ودخول الموالي عليهم بقوله تعالى: * (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم) * أي يطوف بعضكم على بعض فيما عدا الأوقات الثلاثة، وأكد ذلك بأن أوجب على من بلغ الحلم الجري على سنة من قبلهم من البالغين في الاستئذان في سائر الأوقات وألحقهم بمن دخل تحت قوله: * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) *.
المسألة الثالثة: قوله: * (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) * إن أريد به العبيد والإماء إذا كانوا بالغين فغير ممتنع أن يكون أمرا لهم في الحقيقة، وإن أريد * (الذين لم يبلغوا الحلم) * لم يجز أن يكون أمرا لهم، ويجب أن يكون أمرا لنا بأن نأمرهم بذلك ونبعثهم عليه كما أمرنا بأمر الصبي، وقد عقل الصلاة أن يفعلها لا على وجه التكليف لهم، لكنه تكليف لنا لما فيه من المصلحة لنا ولهم بعد البلوغ، ولا يبعد أن يكون لفظ الأمر وإن كان في الظاهر متوجها عليهم إلا أنه يكون في الحقيقة متوجها على المولى كقولك للرجل: ليخفك أهلك وولدك، فظاهر الأمر لهم وحقيقة الأمر له بفعل ما يخافون عنده.
المسألة الرابعة: قال ابن عباس رضي الله عنهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار إلى عمر ليدعوه فوجده نائما في البيت فدفع الباب وسلم فلم يستيقظ عمر فعاد ورد الباب
28

وقام من خلفه وحركه فلم يستيقظ فقال الغلام اللهم أيقظه لي ودفع الباب ثم ناداه فاستيقظ وجلس ودخل الغلام فانكشف من عمر شيء وعرف عمر أن الغلام رأى ذلك منه فقال وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا في هذه الساعات إلا بإذن ثم انطلق معه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوجده قد نزل عليه * (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) * فحمد الله تعالى عمر عند ذلك فقال عليه السلام وما ذاك يا عمر؟ فأخبره بما فعل الغلام فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صنعه وتعرف اسمه ومدحه، وقال: إن الله يحب الحليم الحي العفيف المتعفف، ويبغض البذيء الجرئ السائل الملحف " فهذه الآية إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر. وقال بعضهم: نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قالت إنا لندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحاف واحد، وقيل دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت الآية.
المسألة الخامسة: قال ابن عمر ومجاهد قوله: * (ليستأذنكم) * عنى به الذكور دون الإناث لأن قوله: * (الذين ملكت أيمانكم) * صيغة الذكور لا صيغة الإناث، وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي في الرجال والنساء يستأذنون على كل حال بالليل والنهار، والصحيح أنه يجب إثبات هذا الحكم في النساء، لأن الإنسان كما يكره اطلاع الذكور على أحواله فقد يكره أيضا اطلاع النساء عليها ولكن الحكم يثبت في النساء بالقياس لا بظاهر اللفظ على ما قدمناه.
المسألة السادسة: من العلماء من قال الأمر في قوله: * (ليستأذنكم) * على الندب والاستحباب ومنهم من قال إنه على الإيجاب وهذا أولى، لما ثبت أن ظاهر الأمر للوجوب.
أما قوله تعالى: * (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عمر * (الحلم) * بالسكون.
المسألة الثانية: اتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ واختلفوا إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة رحمه الله لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها وفي الجارية سبع عشرة سنة، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله في الغلام والجارية خمس عشرة سنة قال أبو بكر الرازي قوله تعالى: * (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) * يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة إذا لم يحتلم لأن الله تعالى لم يفرق بين من بلغها وبين من قصر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة: " رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم " ولم يفرق بين من بلغ خمس عشرة سنة وبين من لم يبلغها، فإن قيل فهذا الكلام يبطل التقدير أيضا بثماني عشرة سنة أجاب بأنا قد علمنا بأن العادة في البلوغ خمس عشرة سنة وكل ما كان مبنيا على طريق العادات فقد تجوز الزيادة فيه والنقصان منه، وقد وجدنا من بلغ في اثنتي عشرة سنة، وقد بينا أن الزيادة على
29

المعتاد جائزة كالنقصان منه فجعل أبو حنيفة رحمه الله الزيادة كالنقصان، وهي ثلاث سنين، وقد حكى عن أبي حنيفة رحمه الله تسع عشرة سنة للغلام، وهو محمول على استكمال ثماني عشرة سنة والدخول في التاسعة عشرة. حجة الشافعي رحمه الله ما روى ابن عمر أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه اعترض أبو بكر الرازي عليه فقال هذا الخبر مضطرب لأن أحدا كان في سنة ثلاث والخندق في سنة خمس فكيف يكون بينهما سنة؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ لأنه قد يرد البالغ لضعفه ويؤذن غير البالغ لقوته ولطاقته حمل السلاح ويدل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام ما سأله عن الاحتلام والسن.
البحث الثاني: اختلفوا في الإنبات هل يكون بلوغا، فأبو حنيفة وأصحابه ما جعلوه بلوغا والشافعي رحمه الله جعله بلوغا، قال أبو بكر الرازي رحمه الله ظاهر قوله: * (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) * ينفي أن يكون الإنبات بلوغا إذا لم يحتلم كما نفى كون خمس عشرة سنة بلوغا وكذلك قوله عليه السلام " وعن الصبي حتى يحتمل " حجة الشافعي رحمه الله تعالى ما روى عطية القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت قال فنظروا إلى فلم أكن قد أنبت فاستبقاني قال أبو بكر الرازي هذا الحديث لا يجوز إثبات الشرع به وبمثله لوجوه: أحدها: أن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر لا سيما مع اعتراضه على
الآية، والخبر في نفي البلوغ إلا بالاحتلام وثانيها: أنه مختلف الألفاظ ففي بعضها أنه أمر بقتل من جرت عليه الموسى، وفي بعضها من اخضر عذاره ومعلوم أنه لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدم بلوغه ولا يكون قد جرت عليه الموسى إلا وهو رجل كبير، فجعل الإنبات وجرى الموسى عليه كناية عن بلوغ القدر الذي ذكرنا من السن وهي ثماني عشرة سنة فأكثر وثالثها: أن الإنبات يدل على القوة البدنية فالأمر بالقتل لذاك لا للبلوغ، قال الشافعي رحمه الله هذه الاحتمالات مردودة بما روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سئل عن غلام فقال هل اخضر عذاره؟ وهذا يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة.
البحث الثالث: ويروى عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار، روي عن علي عليه السلام أنه قال إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتص له ويقتص منه، وعن ابن سيرين عن أنس قال أتى أبو بكر بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلى عنه، وهذا المذهب أخذ به الفرزدق في قوله: ما زال مذ عقدت يداه إزاره * وسما فأدرك خمسة الأشبار
وأكثر الفقهاء لا يقولون بهذا المذهب، لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلا، وفوق البلوغ ويكون قصيرا فلا عبرة به.
30

المسألة الثالثة: قال أبو بكر الرازي دلت هذه الآية على أن من لم يبلغ، وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات، وقال عليه السلام: " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر " وعن ابن عمر رضي الله عنه قال نعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله، وعن زين العابدين أنه كان يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا، فقيل له يصلون الصلاة لغير وقتها فقال خير من أن يتناهوا عنها، وعن ابن مسعود رض الله عنه إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات حتى يحتلم، ثم قال أبو بكر الرازي إنما يؤمر بذلك على وجه التعليم وليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفورا منه، وكذلك يجنب شرب الخمر ولحم الخنزير وينهى عن سائر المحظورات لأنه لو لم يمنع منه في الصغر لصعب عليه الامتناع بعد الكبر، وقال الله تعالى: * (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * (التحريم: 6) قيل في التفسير أدبوهم وعلموهم.
المسألة الرابعة: قال الأخفش: يقال في الحلم حلم الرجل بفتح اللام، يحلم حلما بضم اللام، ومن الحلم حلم بضم اللام، يحلم حلما بكسر اللام.
أما قوله تعالى: * (ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (ثلاث مرات) * يعني ثلاث أوقات، لأنه تعالى فسرهن بالأوقات، وإنما قيل ثلاث مرات للأوقات لأنه أراد مرة في كل وقت من هذه الأوقات، لأنه يكفيهم أن يستأذنوا في كل واحد من هذه الأوقات مرة واحدة، ثم بين الأوقات فقال: * (من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء) *، يعني الغالب في هذه الأوقات الثلاثة أن يكون الإنسان متجردا عن الثياب مكشوف العورة.
المسألة الثانية: قوله: * (ثلاث عورات) * قرأ أهل الكوفة: * (ثلاث) * بالنصب على البدل من قوله: * (ثلاث مرات) * وكأنه قال في أوقات ثلاث عورات لكم، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه وقراءة الباقين بالرفع أي: هي ثلاث عورات فارتفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، قال القفال فكأن المعنى ثلاث انكشافات والمراد وقت الانكشاف.
المسألة الثالثة: العورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان والأعور المختل العين، فسمى الله تعالى كل واحدة من تلك الأحوال عورة، لأن الناس يختل حفظهم وتسترهم فيها.
المسألة الرابعة: الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين: أحدهما: بقوله تعالى: * (ثلاث عورات لكم) * والثاني: بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة وبين ما عداها بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة، وأنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات.
31

المسألة الخامسة: من الناس من قال إن قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) * (النور: 27) فهذا يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال، وصار ذلك منسوخا بهذه الآية في غير هذه الأحوال الثلاثة، ومن الناس من قال الآية الأولى أريد بها المكلف لأنه خطاب لمن آمن، وما ذكره الله تعالى في هذه الآية فهو فيمن ليس بمكلف فقيل فيه إن في بعض الأحوال لا يدخل إلا بإذن، وفي بعضها بغير إذن. فلا وجه لحمل ذلك على النسخ، لأن ما تناولته الآية الأولى من المخاطبين لم تتناوله الآية الثانية أصلا، فإن قيل بتقدير أن يكون قوله تعالى: * (الذين ملكت أيمانكم) * يدخل فيه من قد بلغ فالنسخ لازم، قلنا لا يجب ذلك أيضا، لأن قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم) * لا يدخل إلا من يملك البيوت لحق هذه الإضافة، وإذا صح ذلك لم يدخل تحت العبيد والإماء، فلا يجب النسخ أيضا على هذا القول، فأما إن حمل الكلام على صغار المماليك فالقول فيه أبين.
المسألة السادسة: قال أبو حنيفة رحمه الله: لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس ولا أرى أحدا يعمل بهن، قال عطاء حفظت اثنتين ونسيت واحدة، وقرأ هذه الآية وقوله: * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) * (الحجرات: 13) وذكر سعيد بن جبير أن الآية الثالثة قوله: * (وإذا حضر القسمة أولو القربى) * (النساء: 8) الآية.
أما قوله تعالى: * (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: أتقولون في قوله: * (ليس عليكم ولا عليهم جناح) * أنه يقتضي الإباحة على كل حال؟ الجواب: قد بينا أن ذلك هو في الصغار خاصة، فمباح لهم الدخول للخدمة بغير الإذن في غير الأوقات الثلاثة، ومباح لنا تمكينهم من ذلك والدخول عليهم أيضا.
السؤال الثاني: فهل يقتضي ذلك إباحة كشف العورة لهم؟ الجواب: لا وإنما أباح الله تعالى ذلك من حيث كانت العادة أن لا تكشف العورة في غير تلك الأوقات، فمتى كشفت المرأة عورتها مع ظن دخول الخدم إليها فذلك يحرم عليها، فإن كان الخادم ممن يتناوله التكليف فيحرم عليه الدخول أيضا إذا ظن أن هناك كشف عورة، فإن قيل أليس من الناس من جوز للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مولاته؟ قلنا من جوز ذلك أخرج الشعر من أن يكون عورة لحق الملك، كما يخرج من أن يكون عورة لحق الرحم، إذ العورة تنقسم ففيه ما يكون عورة على كل حال. وفيه ما يختلف حاله بالإضافة فيكون عورة مع الأجنبي غير عورة غيره على ما تقدم ذكره. السؤال الثالث: أتقولون هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم؟ الجواب: نعم
32

وفي قوله: * (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن) * دلالة على أن هذا الحكم يختص بالصغار دون البالغين على ما تقدم ذكره وقد نص تعالى على ذلك من بعد فقال: * (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم) * والمراد من تجدد منه البلوغ يجب أن يكون بمنزلة من تقدم بلوغه في وجوب الاستئذان، فهذا معنى قوله: * (كما استأذن الذين من قبلهم) * وقد يجوز أن يظن ظان أن من خدم في حال الصغر، فإذا بلغ يجوز له أن لا يستأذن ويفارق حاله حال من لم يخدم ولم يملك، فبين تعالى أنه كما حظر على البالغين الدخول إلا بالاستئذان فكذلك على هؤلاء إذا بلغوا وإن تقدمت لهم خدمة أو ثبت فيهم ملك لهن.
السؤال الرابع: الأمر بالاستئذان هل هو مختص بالمملوك ومن لم يبلغ الحلم أو يتناول الكل من ذوي الرحم؟ والأجنبي أيضا لو كان المملوك من ذوي الرحم هل يجب عليه الاستئذان؟ الجواب: أما الصورة الأولى فنعم، إما لعموم قوله تعالى: * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا) * (النور: 27) أو بالقياس على المملوك، ومن لم يبلغ الحلم بطريق الأولى، وأما الصورة الثانية فيجب عليه الاستئذان لعموم الآية.
السؤال الخامس: ما محل * (ليس عليكم) *؟ الجواب: إذا رفعت * (ثلاث عورات) * كان ذلك في محل الرفع على الوصف، والمعنى هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت لم يكن له محل، وكان كلاما مقررا للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة.
السؤال السادس: ما معنى قوله: * (طوافون عليكم) *؟ الجواب: قال الفراء والزجاج إنه كلام مستأنف كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم، والطوافون الذين يكثرون الدخول والخروج والتردد، وأصله من الطواف، والمعنى يطوف بعضكم على بعض بغير إذن.
السؤال السابع: بم ارتفع * (بعضكم) *؟ الجواب: بالابتداء وخبره * (على بعض) * على معنى طائف على بعض، وإنما حذف لأن * (طوافون) * يدل عليه.
أما قوله: * (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن السكيت: امرأة قاعد إذا قعدت عن الحيض والجمع قواعد، وإذا أردت القعود قلت قاعدة، وقال المفسرون: القواعد هن اللواتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر ولا مطمع لهن في الأزواج، والأولى أن لا يعتبر قعودهن عن الحيض لأن ذلك ينقطع والرغبة فيهن باقية، فالمراد قعودهن عن حال الزوج، وذلك لا يكون إلا إذا بلغن في السن بحيث لا يرغب فيهن الرجال.
المسألة الثانية: قوله تعالى في النساء: * (لا يرجون) * كقوله: * (إلا أن يعفون) * (البقرة: 237).
المسألة الثالثة: لا شبهة أنه تعالى لم يأذن في أن يضعن ثيابهن أجمع لما فيه من كشف كل عورة، فلذلك قال المفسرون: المراد بالثياب ههنا الجلباب والبرد والقناع الذي فوق الخمار، وروي
33

عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ * (أن يضعن جلابيبهن) * وعن السدي عن شيوخه (أن يضعن خمرهن رؤوسهن) وعن بعضهم أنه قرأ (أن يضعن من ثيابهن)، وإنما خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن، وقد بلغن هذا المبلغ فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع الثياب ولذلك قال: * (وأن يستعففن خير لهن) * وإنما جعل ذلك أفضل من حيث هو أبعد من المظنة وذلك يقتضي أن عند المظنة يلزمهن أن لا يضعن ذلك كما يلزم مثله في الشابة.
المسألة الرابعة: حقيقة التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم سفينة بارج لا غطاء عليها، والبرج سعة العين التي يرى بياضها محيطا بسوادها كله، لا يغيب منه شيء إلا أنه اختص بأن تنكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها.
* (ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت ءابآئكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الايات لعلكم تعقلون) *.
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في المراد من رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض فقال
34

ابن زيد: المراد أنه لا حرج عليهم ولا إثم في ترك الجهاد، وقال الحسن نزلت الآية في ابن أم مكتوم وضع الله الجهاد عنه وكان أعمى وهذا القول ضعيف لأنه تعالى عطف عليه قوله: * (أن تأكلوا) * فنبه بذلك على أنه إنما رفع الحرج في ذلك، وقال الأكثرون المراد منه أن القوم كانوا يحظرون الأكل مع هؤلاء الثلاثة وفي هذه المنازل، فالله تعالى رفع ذلك الحظر وأزاله، واختلفوا في أنهم لأي سبب اعتقدوا ذلك الحظر، أما في حق الأعمى والأعرج والمريض فذكروا فيه وجوها: أحدها: أنهم كانوا لا يأكلون مع الأعمى لأنه لا يبصر الطعام الجيد فلا يأخذه، ولا مع الأعرج لأنه لا يتمكن من الجلوس فإلى أن يأكل لقمة يأكل غيره لقمتين، وكذا المريض لأنه لا يتأتى له أن يأكل كما يأكل الصحيح، قال الفراء: فعلى هذا التأويل تكون (على) بمعنى في يعني ليس عليكم في مواكلة هؤلاء حرج وثانيها: أن العميان
والعرجان والمرضى تركوا مواكلة الأصحاء، أما الأعمى فقال إني لا أرى شيئا فربما آخذ الأجود وأترك الأردأ، وأما الأعرج والمريض فخافا أن يفسدا الطعام على الأصحاء لأمور تعتري المرضى، ولأجل أن الأصحاء يتكرهون منهم ولأجل أن المريض ربما حمله الشره على أن يتعلق نظره وقلبه بلقمة الغير، وذلك مما يكرهه ذلك الغير فلهذه الأسباب احترزوا عن مواكلة الأصحاء، فالله تعالى أطلق لهم في ذلك وثالثها: روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله في هذه الآية أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يسلمون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا فكانوا يتحرجون من ذلك قالوا لا ندخلها وهم غائبون، فنزلت هذه الآية رخصة لهم وهذا قول عائشة رضي الله عنها فعلى هذا معنى الآية نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج إلى الغزو ورابعها: نقل عن ابن عباس ومقاتل بن حيان نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو وذلك أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا وخلف بن مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، وأما في حق سائر الناس فذكروا وجهين: الأول: كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وقراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فلما نزل قوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة) * (النساء: 29) أي بيعا فعند ذلك امتنع الناس أن يأكل بعضهم من طعام بعض فنزلت هذه الآية الثاني: قال قتادة: كانت الأنصار في أنفسها قزازة وكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا، قال السدي كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فيتحرج، لأنه ليس ثم رب البيت. فأنزل الله تعالى هذه الرخصة.
المسألة الثانية: قال الزجاج الحرج في اللغة الضيق ومعناه في الدين الإثم.
المسألة الثالثة: أنه سبحانه أباح الأكل للناس من هذه المواضع وظاهر الآية يدل على
35

أن إباحة الأكل لا تتوقف على الاستئذان، واختلف العلماء فيه فنقل عن قتادة أن الأكل مباح ولكن لا يجمل، وجمهور العلماء أنكروا ذلك ثم اختلفوا على وجوه: الأول: كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ لك بقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " ومما يدل على هذا النسخ قوله: * (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) * (الأحزاب: 53) وكان في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من لهن الآباء والأخوة والأخوات، فعم بالنهي عن ذهول بيوتهن إلا بعد الإذن في الدخول وفي الأكل، فإن قيل إنما أذن تعالى في هذا لأن المسلمين لم يكونوا يمنعون قراباتهم هؤلاء من أن يأكلوا من بيوتهم حضروا أو غابوا، فجاز أن يرخص في ذلك، قلنا لو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص هؤلاء الأقارب بالذكر معنى لأن غيرهم كهم في ذلك الثاني: قال أبو مسلم الأصفهاني: المراد من هؤلاء الأقارب إذا لم يكونوا مؤمنين، وذلك لأنه تعالى نهى من قبل عن مخالطتهم بقوله: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) * (المجادلة: 22) ثم إنه سبحانه أباح في هذه الآية ما حظره هناك، قال ويدل عليه أن في هذه السورة أمر بالتسليم على أهل البيوت فقال: * (حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) * (النور: 27) وفي بيوت هؤلاء المذكورين لم يأمر بذلك، بل أمر أن يسلموا على أنفسهم، والحاصل أن المقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة، لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات الثالث: أنه لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب أنفسهم بأكل من يدخل عليهم والعادة كالإذن في ذلك، فيجوز أن يقال خصهم الله بالذكر، لأن هذه العادة في الأغلب توجد فيهم ولذلك ضم إليهم الصديق، ولما علمنا أن هذه الإباحة إنما حصلت في هذه الصورة لأجل حصول الرضا فيها، فلا حاجة إلى القول بالنسخ.
المسألة الرابعة: أن الله تعالى ذكر أحد عشر موضعا في هذه الآية أولها: قوله: * (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) * وفيه سؤال وهو أن يقال أي فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه في بيته؟ وجوابه المراد في بيوت أزواجكم وعيالكم أضافه إليهم، لأن بيت المرأة كبيت الزوج، وهذا قول الفراء. وقال ابن قتيبة: أراد بيوت أولادهم فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء لأن الولد كسب والده وماله كماله، قال عليه السلام: " إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه " والدليل على هذا أنه سبحانه وتعالى عدد الأقارب ولم يذكر الأولاد لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى وثانيها: بيوت الآباء وثالثها: بيوت الأمهات ورابعها: بيوت الإخوان وخامسها: بيوت الأخوات وسادسها: بيوت الأعمام وسابعها: بيوت العمات وثامنها: بيوت الأخوال وتاسعها: بيوت الخالات وعاشرها: قوله تعالى: * (أو ما ملكتم مفاتحه) * وقرئ * (مفتاحه) * وفيه وجوه: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر
36

ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته، وملك المفاتح كونها في يده وفي حفظه الثاني: قال الضحاك: يريد الزمنى الذين كانوا يحرسون للغزاة الثالث: المراد بيوت المماليك لأن مال العبد لمولاه قال الفضل المفاتح واحدها مفتح بفتح الميم، وواحد المفاتيح مفتح بالكسر الحادي عشر: قوله: * (أو صديقكم) * والمعنى أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون واحدا وجمعا، وكذلك الخليط والقطين والعدو ويحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد (أخرجوا) سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الصديق أكثر من الوالدين، لأن أهل الجنة لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات بل بالأصدقاء، فقالوا مالنا من شافعين ولا صديق حميم، وحكي أن أخا للربيع بن خيثم في الله دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل، فلما عاد أخبرته بذلك، فلسروره بذلك قال إن صدقت فأنت حرة.
المسألة الخامسة: احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع لإباحة الله تعالى بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم، فلا يكون ماله محرزا منهم، فإن قيل فيلزم أن لا يقطع إذا سرق من مال صديقه، قلنا من أراد سرقة ماله لا يكون صديقا له.
أما قوله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا) * فقال أكثر المفسرين: نزلت الآية في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا، وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فأعلم الله تعالى أن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه، هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، وقال عكرمة وأبو صالح رحمهما الله: كانت الأنصار إذا نزل بواحد منهم ضيف لم يأكل إلا وضيفه معه، فرخص الله لهم أن يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين ومتفرقين. وقال الكلبي: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى طعاما على حدة، وكذلك للزمن والمريض، فبين الله لهم أن ذلك غير واجب، وقال آخرون: كانوا يأكلون فرادى خوفا من أن يحصل عند الجمعية ما ينفر أو يؤذي، فبين الله تعالى أنه غير واجب وقوله: * (جميعا) * نصب على الحال * (وأشتاتا) * جمع شت وشتى جمع شتيت وشتان تثنية شت قاله المفضل وقيل الشت مصدر بمعنى التفرق ثم يوصف به ويجمع.
أما قوله تعالى: * (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) * فالمعنى أنه تعالى جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * (النساء: 29) قال ابن عباس: فإن لم يكن أحد فعلى نفسه ليقل السلام علينا من قبل ربنا، وإذا دخل المسجد فليقل السلام على رسول الله وعلينا من ربنا. قال قتادة: وحدثنا أن الملائكة ترد عليه. قال القفال: وإن كان في البيت أهل الذمة
37

فليقل السلام على من اتبع الهدى وقوله * (تحية) * نصب على المصدر، كأنه قال: فحيوا تحية من عند الله، أي مما أمركم الله به. قال ابن عباس رضي الله عنهما: من قال السلام عليكم معناه اسم الله عليكم وقوله: * (مباركة طيبة) * قال الضحاك: معنى البركة فيه تضعيف الثواب وقال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك ثابت لما فيه من الأجر والثواب وأنه إذا أطاع الله فيه أكثر خيره وأجزل أجره * (كذلك يبين الله لكم الآيات) * أي يفصل الله شرائعه لكم * (لعلكم تعقلون) * لتفهموا عن الله أمره ونهيه، وروى حميد عن أنس قال: " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته لم فعلته ولا قال لي في شيء تركته لم تركته، وكنت واقفا على رأس النبي صلى الله عليه وسلم أصب الماء على يديه فرفع رأسه إلي وقال: ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بهن؟ قلت بأبي وأمي أنت يا رسول الله بلى، فقال من لقيت من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك، وإذا دخلت بيتا فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة (الأبرار) الأوابين ".
* (إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستاذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم * لا تجعلوا دعآء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم * ألا إن لله ما فى السماوات والارض قد يعلم مآ أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شىء عليم) *.
وفي الآية مسائل:
38

المسألة الأولى: قرىء * (على أمر جميع) * ثم ذكروا في قوله * (على أمر جامع) * وجوها: أحدها: أن الأمر الجامع هو الأمر الموجب للاجتماع عليه فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز، وذلك نحو مقاتلة عدو أو تشاور في خطب مهم أو الأمر الذي يعم ضرره ونفعه وفي قوله: * (إذا كانوا معه على أمر جامع) * إشارة إلى أنه خطب جليل لا بد لرسول صلى الله عليه وسلم من أرباب التجارب والآراء ليستعين بتجاربهم فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يشق على قلبه وثانيها: عن الضحاك في أمر جامع الجمعة والأعياد وكل شيء تكون فيه الخطبة وثالثها: عن مجاهد في الحرب وغيره.
المسألة الثانية: اختلفوا في سبب نزوله قال الكلبي: كان صلى الله عليه وسلم يعرض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم فينظر المنافقون يمينا وشمالا فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفا، فنزلت هذه الآية فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المنافقون يخرجون بغير إذن.
المسألة الثالثة: قال الجبائي هذا يدل على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم، ولولا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي الإيمان وإن تركوا الاستئذان، وذلك يدل على أن كل فرض لله تعالى واجتناب محرم من الإيمان والجواب: هذا بناء على أن كلمة * (إنما) * للحصر وأيضا فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافا ولا نزاع في أنه كفر.
أما قوله تعالى: * (إن الذين يستأذنونك) * إلى قوله: * (إن الله غفور رحيم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: * (إن الذين يستأذنونك) * المعنى تعظيما لك ورعاية للأدب * (أولئك هم الذين يؤمنون بالله ورسوله) * أي يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه، قال الضحاك ومقاتل: المراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك لأنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله فأذن له وقال له انطلق فوالله ما أنت بمنافق يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم، وإذا استأذناه لم يأذن لنا فوالله ما نراه يعدل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما إن عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له، ثم قال يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك، وفي قوله: * (واستغفر لهم الله) * وجهان: أحدهما: أن يستغفر لهم تنبيها على أن الأولى أن لا يقع الاستئذان منهم وإن أذن، لأن الاستغفار يدل على الذنب وربما ذكر عند بعض الرخص الثاني: يحتمل أنه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة على تمسكهم بآداب الله تعالى في الاستئذان.
المسألة الثانية: قال قتادة نسخت هذه الآية قوله تعالى: * (لم أذنت لهم) * (التوبة: 43).
المسألة الثالثة: الآية تدل على أنه سبحانه فوض إلى رسوله بعض أمر الدين ليجتهد فيه برأيه.
أما قوله تعالى: * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) * ففيه وجوه: أحدها: وهو اختيار المبرد والقفال، ولا تجعلوا أمره إياكم ودعاءه لكم كما
يكون من بعضكم لبعض إذ كان
39

أمره فرضا لازما، والذي يدل على هذا قوله عقيب هذا * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * وثانيها: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا يا محمد، ولكن قولوا يا رسول الله يا نبي الله، عن سعيد بن جبير وثالثها: لا ترفعوا أصواتكم في دعائه وهو المراد من قوله: * (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) * (الحجرات: 3) عن ابن عباس ورابعها: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، والوجه الأول أقرب إلى نظم الآية.
أما قوله تعالى: * (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا) * فالمعنى (يتسللون) قليلا قليلا، ونظير تسلل تدرج وتدخل، واللواذ: الملاوذة وهي أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا، يعني (يتسللون) عن الجماعة (على سبيل الخفية) واستتار بعضهم ببعض، و (لواذا) حال أي ملاوذين وقيل كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيؤذن له فينطلق الذي لم يؤذن له معه، وقرئ * (لواذا) * بالفتح ثم اختلفوا على وجوه: أحدها: قال مقاتل: كان المنافقون تثقل عليهم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحابه ويخرجون من غير استئذان وثانيها: قال مجاهد يتسللون من الصف في القتال وثالثها: قال ابن قتيبة هذا كان في حفر الخندق ورابعها: يتسللون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن كتابه وعن ذكره، وقوله: * (قد يعلم الله) * معناه التهديد بالمجازاة.
أما قوله: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الأخفش (عن) صلة والمعنى يخالفون أمره وقال غيره معناه يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته فدخلت (عن) لتضمين المخالفة معنى الإعراض.
المسألة الثانية: كما تقدم ذكر الرسول فقد تقدم ذكر الله تعالى لكن القصد هو الرسول فإليه ترجع الكناية، وقال أبو بكر الرازي: الأظهر أنها لله تعالى لأنه يليه، وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها. المسألة الثالثة: الآية تدل على أن ظاهر الأمر للوجوب، ووجه الاستدلال به أن نقول: تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ومخالف الأمر مستحق للعقاب فتارك المأمور به مستحق للعقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك، إنما قلنا إن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر، لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، والمخالفة ضد الموافقة فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه فثبت أن تارك المأمور به مخالف، وإنما قلنا إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * فأمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العقاب، والأمر بالحذر عن العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضى لنزول العقاب، فثبت أن مخالف أمر الله تعالى أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب، فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر قوله موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ومخالفته عبارة عن الإخلال بمقتضاه، قلنا لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، فما الدليل عليه؟ ثم
40

إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين أحدهما: أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب، وأنت تأتي به على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة للأمر الثاني: أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقا واجب القبول فمخالفته تكون عبارة عن إنكار كونه حقا واجب القبول، سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكنه معارض بوجوه أخر، وهو أنه لو كان ترك المأمور به مخالفة للأمر لكان ترك المندوب لا محالة مخالفة لأمر الله تعالى، وذلك باطل وإلا لاستحق العقاب على ما بينتموه في المقدمة الثانية، سلمنا أن تارك المأمور به مخالف للأمر فلم قلت إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) *؟ قلنا لا نسلم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفا للأمر بالحذر بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالفة الأمر، فلم لا يجوز أن يكون كذلك؟ سلمنا ذلك لكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر، فلم قلت إن مخالف الأمر لا يلزمه الحذر؟ فإن قلت لفظة (عن) صلة زائدة فنقول الأصل في الكلام لا سيما في كلام الله تعالى أن لا يكون زائدا، سلمنا دلالة الآية على أن مخالف أمر الله تعالى مأمور بالحذر عن العذاب، فلم قلت إنه يجب عليه الحذر عن العذاب؟ أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به لكن لم قلت إن الأمر للوجوب؟ وهذا أول المسألة، فإن قلت هب أنه لا يدل على وجوب الحذر لكن لا بد وأن يدل على حسن الحذر، وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب قلت: لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام المقتضي لنزول العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب ولهذا يحسن الاحتياط وعندنا مجرد الاحتمال قائم لأن هذه المسألة احتمالية لا قطعية، سلمنا دلالة الآية على وجود ما يقتضي نزول العقاب، لكن لا في كل أمر بل في أمر واحد لأن قوله * (عن أمره) * لا يفيد إلا أمرا واحدا، وعندما أن أمرا واحدا يفيد الوجوب، فلم قلت إن كل أمر كذلك؟ سلمنا أن كل أمر كذلك، لكن الضمير في قوله: * (عن أمره) * يحتمل عوده إلى الله تعالى وعوده إلى الرسول، والآية لا تدل إلا على أن الأمر للوجوب في حق أحدهما، فلم قلتم إنه في حق الآخر كذلك؟ الجواب: قوله لم قلتم إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه؟ قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال إن هذا العبد موافق للسيد ويجري على وفق أمره، ولو لم يمتثل أمره يقال إنه ما وافقه بل خالفه، وحسن هذا الإطلاق معلوم بالضرورة من أهل اللغة فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، قوله الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر، قلنا لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر، فنقول لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله: افعل لا يدل إلا على اقتضاء الفعل، وإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر، فلا توجد الموافقة فوجب حصول المخالفة لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة قوله: الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك
41

الأمر حقا واجب القبول، قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر بل يكون موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق، فإن موافقة الشيء عبارة عن الإتيان بما يقتضي تقرير مقتضاه، فإذا دل على حقية الشيء كان الاعتراف بحقيته يقتضي تقرير مقتضى ذلك الدليل، أما الأمر فلما اقتضى دخول الفعل في الوجود كانت موافقته عبارة عما يقرر
ذلك الدخول وإدخاله في الوجود يقتضي تقرير دخوله في الوجود فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه. قوله لو كان كذلك لكان تارك المندوب مخالفا فوجب أن يستحق العقاب، قلنا هذا الإلزام إنما يصح أن لو كان المندوب مأمورا به وهو ممنوع، قوله لم لا يجوز أن يكون قوله: * (فليحذر) * أمرا بالحذر عن المخالف لا أمرا للمخالف بالحذر؟ قلنا لو كان كذلك لصار التقدير فليحذر المتسللون لواذا عن الذين يخالفون أمره وحينئذ يبقى قوله: * (أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * ضائعا لأن الحذر ليس فعلا يتعدى إلى مفعولين. قوله كلمة (عن) ليست بزائدة، قلنا ذكرنا اختلاف الناس فيها في المسألة الأولى. قوله لم قلتم إن قوله: * (فليحذر) * يدل على وجوب الحذر عن العقاب؟ قلا لا ندعي وجوب الحذر، ولكن لا أقل من جواز الحذر، وذلك مشروط بوجود ما يقتضي وقوع العقاب. قوله لم قلت إن الآية تدل على أن كل مخالف للأمر يستحق العقاب؟ قلنا لأنه تعالى رتب نزول العقاب على المخالفة فوجب أن يكون معللا به، فيلزم عمومه لعموم العلة. قوله هب أن أمر الله أو أمر رسوله للوجوب، فلم قلتم إن الأمر كذلك؟ قلنا لأنه لا قائل بالفرق والله أعلم.
(المسألة الرابعة) من الناس من قال لفظ الامر مشترك بين الامر القولي، وبين الشأن
والطريق، كما يقال أمر فلان مستقيم وإذا ثبت ذلك كان قوله تعالى (عن أمره) يتناول قول
الرسول وفعله وطريقته، وذلك يقتضى أن كل ما فعله عليه الصلاة والسلام يكون واجبا
علينا، وهذه المسألة مبنية على أن الكناية في قوله عن أمره راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
أما لو كانت راجعة إلى الله تعالى فالبحث ساقط بالكلية، وتمام تقرير ذلك ذكرناه في أصول
الفقه، والله أعلم.
أما قوله تعالى (أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) فالمراد أن مخالفة الامر توجب أحد
هذين الامرين، والمراد بالفتنة العقوبة في الدنيا، وبالعذاب الأليم عذاب الآخرة، وإنما ردد
الله تعالى حال ذلك المخالف بين هذين الامرين لان ذلك المخالف قد يموت من دون عقاب
الدنيا وقد يعرض له ذلك في الدنيا، فلهذا السبب أورده تعالى على سبيل الترديد، ثم قال الحسن:
الفتنة هي ظهور نفاقهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: القتل. وقيل: الزلازل والأهوال،
وعن جعفر بن محمد يسلط عليهم سلطان جائز.
أما قوله تعالى (ألا إن الله ما في السماوات والأرض) فذاك كالدلالة على قدرته تعالى عليهما
42

وعلى ما بينهما وما فيهما، واقتداره على المكلف فيما يعامل به من المجازاة بثواب أو بعقاب، وعلمه
بما يخفيه ويعلنه، وكل ذلك كالزجر عن مخالفة أمره.
أما قوله تعالى (قد يعلم ما أنتم عليه) فإنما أدخل قد لتوكيد علمه بما هم عليه من المخالفة
في الدين والنفاق. ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد: وذلك لان قد إذا أدخلت على المضارع
كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير. كما في قول الشاعر:
فان يمس مهجور الفناء فربما... أقام به بعد الوفود وفود
والخطاب والغيبة في قوله تعالى (قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه) يجوز أن يكونا
جمعيا للمنافقين على طريق الالتفات، ويجوز أن يكون، ما أنتم عليه عاما ويرجعون للمنافقين،
وقد تقدم في غير موضع أن الرجوع إليه هو الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له فلا وجه لإعادته
والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
43

سورة الفرقان
سبع وسبعون آية مكية
قوله تعالى
* (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذى له ملك السماوات والارض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك وخلق كل شىء فقدره تقديرا) *.
اعلم أن الله سبحانه وتعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة، ثم ختمها بذكر صفات العباد المخلصين الموقنين، ولما كان إثبات الصانع وإثبات صفات جلاله يجب أن يكون مقدما على الكل لا جرم افتتح الله هذه السورة بذلك فقال: * (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: تبارك: تفاعل من البركة، والبركة كثرة الخير وزيادته وفيه معنيان: أحدهما: تزايد خيره وتكاثر، وهو المراد من قوله: * (وإن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34) والثاني: تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو المراد من قوله: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) وأما تعاليه عن كل شيء في ذاته، فيحتمل أن يكون المعنى جل بوجوب وجوده وقدمه عن جواز الفناء والتغير عليه، وأن يكون المعنى جل بفردانيته ووحدانيته عن مشابهة شيء من الممكنات، وأما تعاليه عن كل شيء في صفاته فيحتمل أن يكون المعنى جل أن يكون علمه ضروريا أو كسبيا أو تصورا أو تصديقا وفي قدرته أن يحتاج إلى مادة ومدة ومثال وجلب غرض ومنال، وأما في أفعاله فجل أن يكون الوجود والبقاء وصلاح حال الوجود إلا من قبله، وقال آخرون: أصل الكلمة تدل على البقاء، وهو مأخوذ من بروك البعير، ومن بروك الطير على الماء، وسميت البركة بركة لثبوت الماء فيها، والمعنى أنه سبحانه وتعالى باق في ذاته أزلا وأبدا ممتنع التغير وباق
44

في صفاته ممتنع التبدل، ولما كان سبحانه وتعالى هو الخالق لوجوه المنافع والمصالح والمبقى لها وجب وصفه سبحانه بأنه تبارك وتعالى.
المسألة الثانية: قال أهل اللغة: كلمة (الذي) موضوعة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه بقضية معلومة، وعند هذا يتوجه الإشكال، وهو أن القوم ما كانوا عالمين بأنه سبحانه هو الذي نزل الفرقان فكيف حسن ههنا لفظ (الذي)؟ وجوابه: أنه لما قامت الدلالة على كون القرآن معجزا ظهر بحسب الدليل كونه من عند الله، فلقوة الدليل وظهوره أجراه سبحانه وتعالى مجرى المعلوم.
المسألة الثالثة: لا نزاع أن الفرقان هو القرآن وصف بذلك من حيث إنه سبحانه فرق به بين الحق والباطل في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبين الحلال والحرام، أو لأنه فرق في النزول كما قال: * (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) * (الإسراء: 106) وهذا التأويل أقرب لأنه قال: * (نزل الفرقان) * ولفظة (نزل) تدل على التفريق، وأما لفظة (أنزل) فتدل على الجمع، ولذلك قال في سورة آل عمران: * (نزل عليك الكتاب بالحق... وأنزل التوراة والإنجيل) * (آل عمران: 3) واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال أولا * (تبارك) * ومعناه كثرة الخير والبركة، ثم ذكر عقبه أمر القرآن دل ذلك على أن القرآن منشأ الخيرات وأعم البركات، لكن القرآن ليس إلا منبعا للعلوم والمعارف والحكم، فدل هذا على أن العلم أشرف المخلوقات وأعظم الأشياء خيرا وبركة.
المسألة الرابعة: لا نزاع أن المراد من العبد ههنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن الزبير على عباده وهم رسول الله وأمته كما قال: * (لقد أنزلنا إليكم) * (الأنبياء: 10)، * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) * (البقرة: 136)، وقوله: * (ليكون للعالمين نذيرا) * فالمراد ليكون هذا العبد نذيرا للعالمين، وقول من قال: إنه راجع إلى الفرقان فأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله: * (إن هذا القرآن يهدي) * (الأسراء: 9) فبعيد وذلك لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف، وإذا وصف به القرآن فهو مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن هو الواجب، ثم قالوا هذه الآية تدل على أحكام: الأول: أن العالم كل ما سوى الله تعالى ويتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، لكنا أجمعنا أنه عليه السلام لم يكن رسولا إلى الملائكة فوجب أن يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعا، ويبطل بهذا قول من قال إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض الثاني: أن لفظ * (العالمين) * يتناول جميع المخلوقات فدلت الآية على أنه رسول للخلق إلى يوم القيامة، فوجب أن يكون خاتم الأنبياء والرسل الثالث: قالت المعتزلة دلت الآية على أنه سبحانه أراد الإيمان وفعل الطاعات من الكل، لأنه إنما بعثه إلى الكل ليكون نذيرا للكل، وأراد من الكل الاشتغال بالحسن والإعراض عن القبيح وعارضهم أصحابنا بقوله تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم) * (لأعراف: 179) الآية، الرابع: لقائل أن يقول إن قوله * (تبارك) * كما دل على كثرة الخير والبركة لا بد وأن يكون المذكور عقيبه ما يكون سببا لكثرة الخير
45

والمنافع، والإنذار يوجب الغم والخوف فكيف يليق هذا لهذا الموضع؟ جوابه: أن هذا الإنذار يجري مجرى تأديب الولد، وكما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر كان الإحسان إليه أكثر، لما أن ذاك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة، فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيرا كان رجوع الخلق إلى الله أكثر، فكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة، وذلك لأنه سبحانه لما وصف نفسه بأنه الذي يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين، ولم يذكر البتة شيئا من منافع الدنيا.
ثم إنه سبحانه وصف ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء أولها: قوله: * (الذي له ملك السماوات والأرض) * وهذا كالتنبيه على الدلالة على وجوده سبحانه لأنه لا طريق إلى إثباته إلا بواسطة احتياج أفعاله إليه، فكان تقديم هذه الصفة على سائر الصفات كالأمر الواجب وقوله: * (له ما في السماوات والأرض) * إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه بزمان حدوثها وزمان بقائها في ماهيتها وفي وجودها، وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء وثانيها: قوله: * (ولم يتخذ ولدا) * فبين سبحانه أنه هو المعبود أبدا، ولا يصح أن يكون غيره معبودا ووارثا للملك عنه فتكون هذه الصفة كالمؤكدة لقوله: * (تبارك) * ولقوله: * (الذي له ملك السماوات والأرض) * وهذا كالرد على النصارى وثالثها: قوله: * (ولم يكن له شريك في الملك) * والمراد أنه هو المنفرد بالإلهية، وإذا عرف العبد ذلك انقطع خوفه ورجاؤه عن الكل، ولا يبقى مشغول القلب إلا برحمته وإحسانه. وفيه الرد على الثنوية والقائلين بعبادة النجوم والقائلين بعبادة الأوثان ورابعها: قوله: * (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) * وفيه سؤالات:
الأول: هل في قوله: * (وخلق كل شيء) * دلالة على أنه سبحانه خالق لأعمال العباد؟ والجواب: نعم من وجهين: الأول: أن قوله: * (وخلق كل شيء) * يتناول جميع الأشياء فيتناول أفعال العباد، والثاني: وهو أنه تعالى بعد أن نفى الشريك ذكر ذلك، والتقدير أنه سبحانه لما نفى الشريك كأن قائلا قال: ههنا أقوام يعترفون بنفي الشركاء والأنداد، ومع ذلك يقولون إنهم يخلقون أفعال أنفسهم فذكر الله تعالى هذه الآية لتكون معينة في الرد عليهم، قال القاضي الآية لا تدل عليه لوجوه: أحدها: أنه سبحانه صرح بكون العبد خالقا في قوله: * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير) * (المائدة: 110) وقال: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14
) وثانيها: أنه سبحانه تمدح بذلك فلا يجوز أن يريد به خلق الفساد وثالثها: أنه سبحانه تمدح بأنه قدره تقديرا ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره، فثبت بهذه الوجوه أنه لا بد من التأويل لو دلت الآية بظاهرها عليه، فكيف ولا دلالة فيها البتة، لأن الخلق عبارة عن التقدير فهو لا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير، وذلك إنما يظهر في الأجسام لا في الأعراض والجواب:
أما قوله: * (وإذ تخلق) * وقوله: * (أحسن الخالقين) * فهما معارضان بقوله: * (الله خالق كل شيء) * (الزمر: 62)
46

وبقوله: * (هل من خالق غير الله) * (فاطر: 3) وأما قوله لا يجوز التمدح بخلق الفساد، قلنا لم لا يجوز أن يقع التمدح به نظرا إلى تقادير القدرة وإلى أن صفة الإيجاد من العدم والإعدام من الوجود ليست إلا له؟ وأما قوله: الخلق لا يتناول إلا الأجسام، فنقول لو كان كذلك لكان قوله * (خلق كل شيء) * خطأ لأنه يقتضي إضافة الخلق إلى جميع الأشياء مع أنه لا يصح في العقل إضافته إليها.
السؤال الثاني: في الخلق معنى التقدير (فقوله): * (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) * (معناه) وقدر كل شيء فقدره تقديرا؟ والجواب: المعنى (أنه) أحدث كل شيء إحداثا يراعي فيه التقدير والتسوية، فقدره تقديرا وهيأه لما يصلح له، مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر (المستوي) الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة (به في باب) الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير فقدره لأمر ما ومصلحة ما مطابقا لما قدر (له) غير (متخلف) عنه.
السؤال الثالث: هل في قوله: * (فقدره تقديرا) * دلالة على مذهبكم؟ الجواب: نعم وذلك من وجوه: أحدها: أن التقدير في حقنا يرجع إلى الظن والحسبان، أما في حقه سبحانه فلا معنى له إلا العلم به والإخبار عنه، وذلك متفق عليه بيننا وبين المعتزلة، فلما علم في الشيء الفلاني أنه لا يقع فلو وقع ذلك الشيء لزم انقلاب علمه جهلا وانقلاب خبره الصدق كذبا، وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فإذن وقوع ذلك الشيء محال والمحال غير مراد فذلك الشيء غير مراد وإنه مأمور به، فثبت أن الأمر والإرادة لا يتلازمان، وظهر أن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه وثانيها: أنه عند حصول القدرة والداعية الخالصة إن وجب الفعل، كان فعل العبد يوجب فعل الله تعالى، وحينئذ يبطل قول المعتزلة، وإن لم يجب فإن استغنى عن المرجح فقد وقع الممكن لا عن مرجح وتجويزه يسد باب إثبات الصانع وإن لم يستغن عن المرجح، فالكلام يعود في ذلك المرجح، ولا ينقطع إلا عند الانتهاء إلى واجب الوجود وثالثها: أن فعل العبد لو وقع بقدرته لما وقع إلا الشيء الذي أراد تكوينه وإيجاده، لكن الإنسان لا يريد إلا العلم والحق فلا يحصل له إلا الجهل والباطل، فلو كان الأمر بقدرته لما كان كذلك، فإن قيل إنما كان لأنه اعتقد شبهة أوجبت له ذلك الجهل، قلنا إن اعتقد تلك الشبهة لشبهة أخرى لزم التسلسل وهو محال فلا بد من الانتهاء إلى جهل أول، ووقع في قلب الإنسان لا بسبب جهل سابق، بل الإنسان أحدثه ابتداء من غير موجب، وذلك محال لأن الإنسان قط لا يرضى لنفسه بالجهل ولا يحاول تحصيل الجهل لنفسه بل لا يحاول إلا العلم، فوجب أن لا يحصل له إلا ما قصده وأراده، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الكل بقضاء سار وقدر نافذ، وهو المراد من قوله: * (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) *.
47

قوله تعالى
* (واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيوة ولا نشورا) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردف ذلك بتزييف مذهب عبدة الأوثان وبين نقصانها من وجوه: أحدها: أنها ليست خالقة للأشياء، والإله يجب أن يكون قادرا على الخلق والإيجاد وثانيها: أنها مخلوقة والمخلوق محتاج، والإله يجب أن يكون غنيا وثالثها: أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا، ومن كان كذلك فهو لا يملك لغيره أيضا نفعا، ومن كان كذلك فلا فائدة في عبادته ورابعها: أنها لا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا، أي لا تقدر على الإحياء والإماتة في زمان التكليف وثانيا في زمان المجازاة، ومن كان كذلك كيف يسمى إلها؟ وكيف يحسن عبادته مع أن حق من يحق له العبادة أن ينعم بهذه النعم المخصوصة، وههنا سؤالات:
الأول: قوله: * (واتخذوا من دونه آلهة) * هل يختص بعبدة الأوثان أو يدخل فيه النصارى وعبدة الكواكب وعبدة الملائكة؟ والجواب: قال القاضي: بعيد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع، فالأقرب أن المراد به عباد الأصنام، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لمعبودهم كثرة، ولقائل أن يقول قوله * (واتخذوا) * صيغة جمع وقوله * (آلهة) * جمع، والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل المفرد بالمفرد، فلم يكن كون معبود النصارى واحدا مانعا من دخوله تحت هذا اللفظ. السؤال الثاني: احتج بعض أصحابنا بقوله: * (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) * على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقال: إن الله تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئا، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد، فلو كان العبد خالقا لكان معبودا إلها، أجاب الكعبي عنه بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى. وقال بعض أصحابنا في الخلق إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب، ولا يكون ذلك إلا لله تعالى، ثم قال: وقد قال تعالى: * (ألهم أرجل يمشون بها) * (الأعراف: 195) في وصف الأصنام أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد؟ فإذا قالوا لا قيل فكذلك ما ذكرتم، وقد قال تعالى: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14) هذا كله كلام الكعبي والجواب: قوله لا يطلق اسم الخالق على العبد، قلنا بل يجب ذلك لأن الخلق في اللغة هو التقدير، والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان، فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في
48

العبد مجازا في الله تعالى، فكيف يمكنكم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد؟ أما قوله تعالى: * (ألهم أرجل يمشون بها) * فالعيب إنما وقع عليهم بالعجز فلا جرم أن كل من تحقق العجز في حقه من بعض الوجوه لم يحسن عبادته. وأما قوله تعالى: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * فقد تقدم الكلام عليه.
واعلم أن هذه الآية لا يقوى استدلال أصحابنا بها لاحتمال أن العيب لا يحصل إلا بمجموع أمرين: أحدهما أنهم ليسوا بخالقين، والثاني أنهم مخلوقون، والعبد وإن كان خالقا إلا أنه مخلوق فلزم أن لا يكون إلها معبودا.
السؤال الثالث: هل تدل هذه الآية على البعث؟ الجواب: نعم لأنه تعالى ذكر النشور ومعناه أن المعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال الثواب إلى المطيعين والعقاب إلى العصاة، فمن لا يكون كذلك وجب أن لا يصلح للإلهية.
قوله تعالى
* (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون فقد جآءوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذى يعلم السر فى السماوات والارض إنه كان غفورا رحيما * وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الاسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) *.
49

اعلم أنه سبحانه تكلم أولا في التوحيد، وثانيا في الرد على عبدة الأوثان، وثالثا في هذه الآية تكلم في مسألة النبوة، وحكى سبحانه شبههم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الشبهة الأولى: قولهم: * (إن هذا إلا إفك افتراه) * وأعانه عليه قوم آخرون، ونظيره قوله تعالى: * (إنما يعلمه بشر) * (النحل: 103) واعلم أنه يحتمل أن يريدوا به أنه كذب في نفسه، ويحتمل أن يريدوا به أنه كذب في إضافته إلى الله تعالى، ثم ههنا بحثان:
الأول: قال أبو مسلم: الافتراء افتعال من فريت، وقد يقال في تقدير الأديم فريت الأديم، فإذا أريد قطع الإفساد قيل أفريت وافتريت وخلقت واختلقت، ويقال فيمن شتم امرءا بما ليس فيه افترى عليه.
البحث الثاني: قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث فهو الذي قال هذا القول * (وأعانه عليه قوم آخرون) * يعني عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار (غلام عامر) بن الحضرمي، وجبر مولى عامر، وهؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب، وكانوا يقرأون التوراة ويحدثون أحاديث منها فلما أسلموا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال. واعلم أن الله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: * (فقد جاءوا ظلما وزورا) * وفيه أبحاث:
الأول: أن هذا القدر إنما يكفي جوابا عن الشبهة المذكورة، لأنه قد علم كل عاقل أنه عليه السلام تحداهم بالقرآن وهم النهاية في الفصاحة، وقد بلغوا في الحرص على إبطال أمره كل غاية، حتى أخرجهم ذلك إلى ما وصفوه به في هذه الآيات، فلو أمكنهم أن يعارضوه لفعلوا، ولكان ذلك أقرب إلى أن يبلغوا مرادهم فيه مما أوردوه في هذه الآية وغيرها، ولو استعان محمد عليه السلام في ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا بغيرهم، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم كأولئك المنكرين في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة، فلما لم يفعلوا ذلك والحالة هذه علم أن القرآن قد بلغ النهاية في الفصاحة وانتهى إلى حد الإعجاز، ولما تقدمت هذه الدلالة مرات وكرات في القرآن وظهر بسببها سقوط هذا السؤال، ظهر أن إعادة هذا السؤال بعد تقدم هذه الأدلة الواضحة لا يكون إلا للتمادي في الجهل والعناد، فلذلك اكتفى الله في الجواب بقوله: * (فقد جاءوا ظلما وزورا) *.
البحث الثاني: قال الكسائي: قوله تعالى: * (فقد جاءوا ظلما وزورا) * أي أتوا ظلما وكذبا وهو كقوله: * (لقد جئتم شيئا إدا) * فانتصب بوقوع المجيء عليه، وقال الزجاج: انتصب بنزع الخافض، أي جاءوا بالظلم والزور.
البحث الثالث: أن الله تعالى وصف كلامهم بأنه ظلم وبأنه زور، أما أنه ظلم فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه وذلك هو الظلم، وأما الزور فلأنهم كذبوا فيه، وقال أبو مسلم: الظلم تكذيبهم الرسول والرد عليه، والزور كذبهم عليهم.
50

الشبهة الثانية لهم: قوله تعالى: * (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: الأساطير ما سطره المتقدمون كأحاديث رستم واسفنديار، جمع أسطار أو أسطورة كأحدوثة * (اكتتبها) * انتسخها محمد من أهل الكتاب يعني عامرا ويسارا وجبرا، ومعنى اكتتب ههنا أمر أن يكتب له كما يقال احتجم وافتصد إذا أمر بذلك * (فهي تملى عليه) * أي تقرأ عليه والمعنى أنها كتبت له وهو أمي فهي تلقي عليه من كتابه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب.
أما قوله: * (بكرة وأصيلا) * قال الضحاك ما يملى عليه بكرة يقرؤه عليكم عشية، وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة.
البحث الثاني: قال الحسن قوله: * (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) * كلام الله ذكره جوابا عن قولهم كأنه تعالى قال إن هذه الآيات تملى عليه بالوحي حالا بعد حال، فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين، وأما جمهور المفسرين فقد اتفقوا على أن ذلك من كلام القوم، وأرادوا به أن أهل الكتاب أملوا عليه في هذه الأوقات هذه الأشياء ولا شك أن هذا القول أقرب لوجوه: أحدها: شدة تعلق هذا الكلام بما قبله، فكأنهم قالوا اكتتب أساطير الأولين فهي تملى عليه وثانيها: أن هذا هو المراد بقولهم: * (وأعانه عليه قوم آخرون) * وثالثها: أنه تعالى أجاب بعد ذلك عن كلامهم بقوله: * (قل أنزله الذي يعلم السر) * قال صاحب " الكشاف "، وقول الحسن إنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار وحق الحسن أن يقف على * (الأولين) *، وأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله: * (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: في بيان أن هذا كيف يصلح أن يكون جوابا عن تلك الشبهة؟ وتقريره ما قدمنا أنه عليه السلام تحداهم بالمعارضة وظهر عجزهم عنها ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن بأن استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضا أن يستعينوا بأحد فيأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه، فلهذا قال: * (قل
أنزله الذي يعلم السر) * وذلك لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالما بكل المعلومات ظاهرها وخافيها من وجوه: أحدها: أن مثل هذه الفصاحة لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات وثانيها: أن القرآن مشتمل على الإخبار عن الغيوب، وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات وثالثها: أن القرآن مبرأ عن النقص وذلك لا يتأتى إلا من العالم على ما قال تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82) ورابعها: اشتماله على الأحكام التي هي مقتضية لمصالح العالم ونظام العباد، وذلك لا يكون إلا من العالم بكل المعلومات وخامسها: اشتماله على أنواع العلوم وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل
51

المعلومات، فلما دل القرآن من هذه الوجوه على أنه ليس إلا كلام بكل المعلومات لا جرم اكتفى في جواب شبههم بقوله: * (قل أنزله الذي يعلم السر) *.
البحث الثاني: اختلفوا في المراد بالسر، فمنهم من قال المعنى أن العالم بكل سر في السماوات والأرض هو الذي يمكنه إنزال مثل هذا الكتاب، وقال أبو مسلم: المعنى أنه أنزله من يعلم السر فلو كذب عليه لانتقم منه لقوله تعالى: * (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين) * (الحاقة: 44) وقال آخرون: المعنى أنه يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض، ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله مع علمكم بأن ما يقوله حق ضرورة، وكذلك باطن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبراءته مما تتهمونه به، وهو سبحانه مجازيكم ومجازيه على ما علم منكم وعلم منه.
البحث الثالث: إنما ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع لوجهين: الأول: قال أبو مسلم المعنى أنه إنما أنزله لأجل الإنذار فوجب أن يكون غفورا رحيما غير مستعجل في العقوبة الثاني: أنه تنبيه على أنهم استوجبوا بمكايدتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صبا ولكن صرف ذلك عنهم كونه غفورا رحيما يمهل ولا يعجل.
الشبهة الثالثة: وهي في نهاية الركاكة ذكروا له صفات خمسة فزعموا أنها تخل بالرسالة إحداها: قولهم: * (مال هذا الرسول يأكل الطعام) * وثانيتها: قولهم: * (ويمشي في الأسواق) * يعني أنه لما كان كذلك فمن أين له الفضل علينا وهو مثلنا في هذه الأمور وثالثتها: قولهم: * (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) * يصدقه أو يشهد له ويرد على من خالفه ورابعتها: قولهم: * (أو يلقى إليه كنز) * أي من السماء فينفقه فلا يحتاج إلى التردد لطلب المعاش وخامستها: قولهم: * (أو تكون له جنة يأكل منها) * قرأ حمزة والكسائي * (نأكل منها) * بالنون وقرأ الباقون بالياء والمعنى إن لم يكن لك كنز فلا أقل من أن تكون كواحد من الدهاقين فيكون لك بستان تأكل منه وسادستها: قولهم: * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * وقد تقدمت هذه القصة في آخر سورة بني إسرائيل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه: أحدها: قوله: * (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) * وفيه أبحاث:
الأول: أن هذا كيف يصلح أن يكون جوابا عن تلك الشبهة؟ وبيانه أن الذي يتميز الرسول به عن غيره هو المعجزة وهذه الأشياء التي ذكروها لا يقدح شيء منها في المعجزة فلا يكون شيء منها قادحا في النبوة، فكأنه تعالى قال انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلا البتة إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول وفيه وجه آخر وهو أنهم لما ضلوا لم يبق فيهم استطاعة قبول الحق، وهذا إنما يصح على مذهبنا وتقريره بالعقل ظاهر، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مستوى الداعي إلى الحق والباطل، وإما أن يكون داعيته إلى أحدهما أرجح من داعيته إلى الثاني، فإن كان الأول فحال الاستواء ممتنع الرجحان فيمتنع الفعل
52

وإن كان الثاني فحال رجحان أحد الطرفين يكون حصول الطرف الآخر ممتنعا، فثبت أن حال رجحان الضلالة في قلبه استحال منه قبول الحق، وما كان محالا لم يكن عليه قدرة، فثبت أنهم لما ضلوا ما كانوا مستطيعين.
قوله تعالى
* (تبارك الذى إن شآء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجرى من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا * بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا * وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) *.
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة فقوله: * (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) * أي من الله ذكروه من نعم الدنيا كالكنز والجنة وفسر ذلك الخير بقوله: * (جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا) * نبه بذلك سبحانه على أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه، ولكنه تعالى يدبر عباده بحسب الصالح أو على وفق المشيئة ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، فيفتح على واحد أبواب المعارف والعلوم، ويسد عليه أبواب الدنيا، وفي حس الآخر بالعكس وما ذاك إلا أنه فعال لما يريد، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: خير من ذلك مما عيروك بفقده الجنة، لأنهم عيروك بفقد الجنة الواحدة وهو سبحانه قادر على أن يعطيك جنات كثيرة، وقال في رواية عكرمة: * (خيرا من ذلك) * أي من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش.
المسألة الثانية: قوله: * (إن شاء) * معناه أنه سبحانه قادر على ذلك لا أنه تعالى شاك لأن الشك لا يجوز على الله تعالى، وقال قوم: * (إن) * ههنا بمعنى إذا، أي قد جعلنا لك في الآخرة جنات وبنينا لك قصورا وإنما أدخل إن تنبيها للعباد على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته، وأنه معلق على
53

محض مشيئته وأنه ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة.
المسألة الثالثة: القصور جماعة قصر وهو المسكن الرفيع ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكنا ومتنزها، ويجوز أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة. وقال مجاهد: إن شاء جعل لك جنات في الآخرة وقصورا في الدنيا.
المسألة الرابعة: اختلف الفراء في قوله * (ويجعل) * فرفع ابن كثير وابن عامر وعاصم اللام وجزمه الآخرون، فمن جزم فلأن المعنى إن شاء يجعل لك جنات
ويجعل لك قصورا ومن رفع فعلى الاستئناف والمعنى سيجعل لك قصورا، هذا قول الزجاج: قال الواحدي وبين القراءتين فرق في المعنى، فمن جزم فالمعنى إن شاء يجعل لك قصورا في الدنيا ولا يحسن الوقوف على الأنهار، ومن رفع حسن له الوقوف على الأنهار، واستأنف أي ويجعل لك قصورا في الآخرة. وفي مصحف أبي وابن مسعود: (تبارك الذي إن شاء يجعل).
المسألة الخامسة: عن طاوس عن ابن عباس قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وجبريل عليه السلام عنده قال جبريل عليه السلام هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء الملك وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطها أحدا قبلك ولا يعطيه أحدا بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئا، فقال عليه السلام بل يجمعها جميعا لي في الآخرة، فنزل قوله تبارك الذي إن شاء " الآية، وعن ابن عباس قال عليه السلام " عرض علي جبريل بطحاء مكة ذهبا فقلت بل شبعة وثلاث جوعات " وذلك أكثر لذكري ومسألتي لربي، وفي رواية صفوان بن سليم عن عبد الوهاب قال عليه السلام: " أشبع يوما وأجوع ثلاثا، فأحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت " وعن الضحاك " لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فنزل جبريل عليه السلام معزيا له، وقال إن الله يقرؤك السلام ويقول: * (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام) * (الفرقان: 20) الآية، قال فبينما جبريل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم يتحدثان إذ فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك، ثم قال أبشر يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضا من ربك فسلم عليه وقال إن ربك يخيرك بين أن تكون نبيا ملكا وبين أن تكون نبيا عبدا ومعه سفط من نور يتلألأ ثم قال هذه مفاتيح خزائن الدنيا فاقبضها من غير أن ينقصك الله مما أعد لك في الآخرة جناح بعوضة فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير فأومأ بيده أن تواضع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل نبيا عبدا " قال فكان عليه السلام بعد ذلك لم يأكل متكئا حتى فارق الدنيا.
أما قوله تعالى: * (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) * فهذا جواب ثالث عن تلك الشبهة كأنه سبحانه قال ليس ما تعلقوا به شبهة عليمة في نفس المسألة، بل الذي حملهم على تكذيبك تكذيبهم بالساعة استثقالا للاستعداد لها، ويحتمل أن يكون المعنى أنهم يكذبون
54

بالساعة فلا يرجون ثوابا ولا عقابا ولا يتحملون كلفة النظر والفكر، فلهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل، ثم قال: * (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو مسلم: * (وأعتدنا) * أي جعلناها عتيدا ومعدة لهم، والسعير النار الشديدة الاستعار، وعن الحسن أنه اسم من أسماء جهنم.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى: * (أعدت للمتقين) * (آل عمران: 133) وعلى أن النار التي هي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية وهي قوله: * (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) * وقوله: * (أعتدنا) * إخبار عن فعل وقع في الماضي، فدلت الآية على أن دار العقاب مخلوقة قال الجبائي يحتمل وأعتدنا النار في الدنيا وبها نعذب الكفار والفساق في قبورهم ويحتمل نار الآخرة ويكون معنى * (وأعتدنا) * أي سنعدها لهم كقوله: * (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) * (الأعراف: 44) واعلم أن هذا السؤال في نهاية السقوط لأن المراد من السعير، إما نار الدنيا وإما نار الآخرة، فإن كان الأول فإما أن يكون المراد أنه تعالى يعذبهم في الدنيا بنار الدنيا أو يعذبهم في الآخرة بنار الدنيا، والأول باطل لأنه تعالى ما عذبهم بالنار في الدنيا، والتالي أيضا باطل لأنه لم يقل أحد من الأمة أنه تعالى يعذب الكفرة في الآخرة بنيران الدنيا، فثبت أن المراد نار الآخرة وثبت أنها معدة، وحمل الآية على أن الله سيجعلها معدة ترك للظاهر من غير دليل، وعلى أن الحسن قال السعير اسم من أسماء جهنم فقوله: * (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) * صريح في أنه تعالى أعد جهنم.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن السعيد من سعد في بطن أمه فقالوا إن الذين أعد الله تعالى لهم السعير وأخبر عن ذلك وحكم به أن صاروا مؤمنين من أهل الثواب انقلب حكم الله بكونهم من أهل السعير كذبا وانقلب بذلك علمه جهلا، وهذا الانقلاب محال والمؤدي إلى المحال محال فصيرورة أولئك مؤمنين من أهل الثواب محال، فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا، والشقي لا ينقلب سعيدا، ثم إنه سبحانه وتعالى وصف السعير بصفات إحداها قوله: * (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: السعير مذكر ولكن جاء ههنا مؤنثا لأنه تعالى قال: * (رأتهم) * وقال: * (سمعوا لها) * وإنما جاء مؤنثا على معنى النار.
المسألة الثانية: مذهب أصحابنا أن البنية ليست شرطا في الحياة، فالنار على ما هي عليه يجوز أن يخلق الله الحياة والعقل والنطق فيها، وعند المعتزلة ذلك غير جائز، وهؤلاء المعتزلة ليس لهم في هذا الباب حجة إلا استقراء العادات، ولو صدق ذلك لوجب التكذيب بانخراق العادات في حق الرسل، فهؤلاء قولهم متناقض، بل إنكار العادات لا يليق إلا بأصول الفلاسفة، فعلى هذا قال أصحابنا قول الله تعالى في صفة النار: * (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) * يجب إجراؤه على الظاهر، لأنه لا امتناع في أن تكون النار حية رائية مغتاظة على الكفار، أما
55

المعتزلة فقد احتاجوا إلى التأويل وذكروا فيه وجوها: أحدها: قالوا معنى رأتهم ظهرت لهم من قولهم دورهم تتراءى وتتناظر، وقال عليه السلام: " إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما " أي لا تتقابلان لما يجب على المؤمن من مجانبة الكافر والمشرك، ويقال دور فلان متناظرة، أي متقابلة وثانيها: أن النار لشدة اضطرامها وغليانها صارت ترى الكفار وتطلبهم وتتغيظ عليهم وثالثها: قال الجبائي: إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة الموكلة بتعذيب أهل النار، لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار فهو كقوله: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) أراد أهلها.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعا، فكيف قال الله تعالى: * (سمعوا لها تغيظا وزفيرا) *؟ والجواب عنه من وجوه
: أحدها: أن التغيظ وإن لم يسمع فإنه قد يسمع ما يدل عليه من الصوت وهو كقوله: رأيت غضب الأمير على فلان إذا رأى ما يدل عليه، وكذلك يقال في المحبة فكذا ههنا، والمعنى سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ وهو قول الزجاج وثانيها: المعنى علموا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا وهذا قول قطرب، وهو كقول الشاعر: مقلدا سيفا ورمحا وثالثها: المراد تغيظ الخزنة.
المسألة الرابعة: قال عبيد بن عمير: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا وترعد فرائصه حتى إن إبراهيم عليه السلام يجثو على ركبتيه ويقول نفسي نفسي.
الصفة الثانية للسعير: قوله تعالى: * (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا) * واعلم أن الله سبحانه لما وصف حال الكفار حينما يكونون بالبعد من جهنم وصف حالهم عند ما يلقون فيها، نعوذ بالله منه بما لا شيء أبلغ منه، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في * (ضيقا) * قراءتان التشديد والتخفيف وهو قراءة ابن كثير. المسألة الثانية: نقل في تفسير الضيق أمور، قال قتادة: ذكر لنا عبد الله بن عمر قال: " إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج على الرمح " وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط " قال الكلبي: الأسفلون يرفعهم اللهيب، والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة، قال صاحب " الكشاف ": الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السماوات والأرض، وجاء في الأحاديث " إن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا " ولقد جمع الله على أهل النار أنواع (البلاء حيث ضم إلى العذاب الشديد الضيق).
المسألة الثالثة: قالوا في تفسير قوله تعالى: * (مقرنين في الأصفاد) * إن أهل النار مع ما هم فيه من العذاب الشديد والضيق الشديد، يكونون مقرنين في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم وقيل يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة، وفي أرجلهم الأصفاد، ثم إنه سبحانه حكى عن أهل النار أنهم حين ما يشاهدون هذا النوع من العقاب الشديد دعوا ثبورا، والثبور الهلاك، ودعاؤهم
56

أن يقولوا وا ثبوراه، أي يقولوا يا ثبور هذا حينك وزمانك، وروى أنس مرفوعا: " أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على جانبيه ويسحبها من خلفه ذريته وهو يقول يا ثبوراه وينادون يا ثبورهم حتى يردوا النار ".
أما قوله: * (لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا) * أي يقال لهم ذلك، وهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن ثم قول، ومعنى * (وادعوا ثبورا كثيرا) *، أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم منه واحدا، إنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان لكل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها، أو لأن ذلك العذاب دائم خالص عن الشوب فلهم في كل وقت من الأوقات التي لا نهاية لها ثبور، أو لأنهم ربما يجدون بسبب ذلك القول نوعا من الخفة، فإن المعذب إذا صاحب وبكى وجد بسببه نوعا من الخفة فيزجرون عن ذلك، ويخبرون بأن هذا الثبور سيزداد كل يوم ليزداد حزنهم وغمهم نعوذ بالله منه، قال الكلبي نزل هذا كله في حق أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات.
قوله تعالى
* (قل أذلك خير أم جنة الخلد التى وعد المتقون كانت لهم جزآء ومصيرا * لهم فيها ما يشآءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما وصف حال العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة، فقال لرسوله: * (قل أذلك خير أم جنة الخلد) * أن يلتمسوها بالتصديق والطاعة، فإن قيل: كيف يقال العذاب خير أم جنة الخلد، وهل يجوز أن يقول العاقل السكر أحلى أم الصبر؟ قلنا هذا يحسن في معرض التفريع، كما إذا أعطى السيد عبده مالا فتمرد وأبى واستكبر فيضربه ضربا وجيعا، ويقول على سبيل التوبيخ: هذا أطيب أم ذاك؟
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بقوله: * (وعد المتقون) * على أن الثواب غير واجب على الله تعالى، لأن من قال السلطان وعد فلانا أن يعطيه كذا، فإنه يحمل ذلك على التفضيل، فأما لو كان ذلك الإعطاء واجبا لا يقال إنه وعده به، أما المعتزلة فقد احتجوا به أيضا على مذهبهم قالوا لأنه سبحانه أثبت ذلك الوعد للموصوفين بصفة التقوى، وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فكذا يدل هذا على أن ذلك الوعد إنما حصل معللا بصفة التقوى، والتفضيل غير مختص بالمتقين فوجب أن يكون المختص بهم واجبا.
المسألة الثالثة: قال أبو مسلم: جنة الخلد هي التي لا ينقطع نعيمها، والخلد والخلود سواء، كالشكر
57

والشكور قال الله تعالى: * (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) * (الإنسان: 9) فإن قيل: الجنة اسم لدار الثواب وهي مخلدة فأي فائدة في قوله: * (جنة الخلد) *؟ قلنا الإضافة قد تكون للتمييز وقد تكون لبيان صفة الكمال، كما يقال الله الخالق البارئ، وما هنا من هذا الباب.
أما قوله: * (كانت لهم جزاء ومصيرا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المعتزلة احتجوا بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين: الأول: أن اسم الجزاء لا يتناول إلا المستحق، فأما الوعد بمحض التفضيل فإنه لا يسمى جزاء، والثاني: لو كان المراد من الجزاء الأمر الذي يصيرون إليه بمجرد الوعد فحينئذ لا يبقى بين قوله: * (جزاء) * وبين قوله: * (مصيرا) * تفاوت فيصير ذلك تكرارا من غير فائدة. قال أصحابنا رحمهم الله لا نزاع في كونه * (جزاء) *، إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق، وليس في الآية ما يدل على التعيين.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة الآية تدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة من وجهين: الأول: أن صاحب الكبيرة يستحق العقاب فوجب أن لا يكون مستحقا للثواب، لأن الثواب هو النفع الدائم الخالص عن شوب الضرر، والعقاب هو الضرر الدائم الخالص عن شوب النفع، والجمع بينهما محال، وما كان ممتنع الوجود امتنع أن يحصل استحقاقه، فإذن متى ثبت استحقاق العقاب وجب أن يزول استحقاق الثواب فنقول: لو عفا الله عن صاحب الكبيرة لكان إما أن يخرجه من النار ولا يدخله الجنة، وذلك باطل بالإجماع لأنهم أجمعوا على أن المكلفين يوم القيامة، إما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار، لأنه تعالى قال: * (فريق في الجنة وفريق في السعير) * (الشورى: 7) وإما أن يخرجه من النار ويدخله الجنة وذلك باطل لأن الجنة حق المتقين لقوله تعالى: * (كانت لهم جزاء ومصيرا) * فجعل الجنة لهم ومختصة بهم وبين أنها إنما كانت لهم لكونها جزاء لهم على أعمالهم فكانت حقا لهم، وإعطاء حق الإنسان لغيره لا يجوز، ولما بطلت الأقسام ثبت أن العفو غير جائز أجاب أصحابنا لم لا يجوز أن يقال: المتقون يرضون بإدخال الله أهل العفو في الجنة؟ فحينئذ لا يمتنع دخولهم فيها، الوجه الثاني: قالوا: المتقي في عرف الشرع مختص بمن اتقى الكفر والكبائر، وإن اختلفنا في أن صاحب الكبيرة هل يسمى مؤمنا أم لا، لكنا اتفقنا على أنه لا يسمى متقيا، ثم قال في وصف الجنة إنها كانت لهم جزاء ومصيرا وهذا للحصر، والمعنى أنها مصير للمتقين لا لغيرهم، وإذا كان كذلك وجب أن لا يدخلها صاحب الكبيرة، قلنا أقصى ما في الباب أن هذا العموم صريح في الوعيد فتخصه بآيات الوعد.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيرا، لكنها بعد ما صارت كذلك، فلم قال الله تعالى: * (كانت لهم جزاء ومصيرا) *؟ جوابه من وجهين: الأول: أن ما وعد الله فهو في تحققه كأنه قد كان والثاني: أنه كان مكتوبا في اللوح قبل أن يخلقهم
58

الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم.
أما قوله تعالى: * (لهم فيها ما يشاءون خالدين) * فهو نطير قوله: * (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) * (فصلت: 31) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها، فإذا سألوها ربهم، فإن أعطاهم إياها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله: * (لهم فيها ما يشاءون) * وأيضا فالأب إذا كان ولده في درجات النيران وأشد العذاب إذا اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه، فإن فعل الله تعالى ذلك قدح في أن عذاب الكافر مخلد، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله: * (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) * وفي قوله: * (لهم فيها ما يشاءون) * وجوابه: أن الله تعالى يزيل ذلك الخاطر عن قلوب أهل الجنة بل يكون اشتغال كل واحد منهم بما فيه من اللذات شاغلا عن الالتفات إلى حال غيره.
المسألة الثانية: شرط نعيم الجنة أن يكون دائما، إذ لو انقطع لكان مشوبا بضرب من الغم ولذلك قال المتنبي: أشد الغم عندي في سرور * تيقن عنه صاحبه انتقالا
ولذلك اعتبر الخلود فيه فقال: * (لهم فيها ما يشاءون خالدين) *.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (لهم فيها ما يشاءون) * كالتنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة فأما في غيرها فلا يحصل ذلك، بل لا بد في الدنيا من أن تكون راحاتها مشوبة بالجراحات، ولذلك قال عليه السلام: " من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق، فقيل وما هو يا رسول الله؟ فقال سرور يوم ".
أما قوله: * (كان على ربك وعدا مسؤولا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: كلمة (على) للوجوب قال عليه السلام: " من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى " فقوله: * (كان على ربك) * يفيد أن ذلك واجب على الله تعالى، والواجب هو الذي لو لم يفعل لاستحق تاركه بفعله الذم، أو أنه الذي يكون عدمه ممتنعا، فإن كان الوجوب على التفسير الأول كان تركه محالا، لأن تركه لما استلزم استحقاق الذم واستحقاق الله تعالى الذم محال، ومستلزم المحال محال كان ذلك الترك محالا والمحال غير مقدور، فلم يكن الله تعالى قادرا على أن لا يفعل فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل، وإن كان الوجوب على التفسير الثاني وهو أن يقال الواجب ما يكون عدمه ممتنعا يكون القول بالإلجاء لازما، فلم يكن الله قادرا، فإن قيل إنه ثبت بحكم الوعد، فنقول لو لم يفعل لانقلب خبره الصدق كذبا وعلمه جهلا وذلك محال، والمؤدي إلى المحال محال فالترك محال فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل والملجأ إلى الفعل لا يكون قادرا، ولا يكون مستحقا للثناء والمدح،
59

تمام السؤال وجوابه: أن فعل الشيء متقدم على الإخبار عن فعله وعن العلم بفعله، فيكون ذلك الفعل فعلا لا على سبيل الإلجاء، فكان قادرا ومستحقا للثناء والمدح.
المسألة الثانية: قوله: * (وعدا) * يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق وقد تقدم تقريره.
المسألة الثالثة: قوله: * (مسؤولا) * ذكروا فيه وجوها أحدها: أن المكلفين سألوه بقولهم: * (ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك) * (آل عمران: 194)، وثانيها: أن المكلفين سألوه بلسان الحال لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته كان ذلك قائما مقام السؤال، قال المتنبي: وفي النفس حاجات وفيك فطانة * سكوتي كلام عندها وخطاب
وثالثها: الملائكة سألوا الله تعالى ذلك بقولهم: * (ربنا وأدخلهم جنات عدن) * (غافر: 8) ورابعها: * (وعدا مسؤولا) * أي واجبا، يقال لأعطينك ألفا وعدا مسؤولا أي واجبا وإن لم تسأل، قال الفراء. وسائر الوجوه أقرب من هذا لأن سائر الوجوه أقرب إلى الحقيقة، وما قاله الفراء مجاز وخامسها: مسؤولا أي من حقه أن يكون مسؤولا لأنه حق واجب، إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة.
قوله تعالى
* (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أءنتم أضللتم عبادى هؤلاء أم هم اضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغى لنآ أن نتخذ من دونك من أوليآء ولكن متعتهم وءابآءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا * فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا * ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام
60

ويمشون فى الاسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) *.
اعلم أن قوله تعالى: * (ويوم يحشرهم) * راجع إلى قوله: * (واتخذوا من دونه آلهة) * (الفرقان: 3) ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: * (يحشرهم) * فنقول كلاهما بالنون والياء وقرئ * (نحشرهم) * بكسر الشين.
المسألة الثانية: ظاهر قوله: * (وما يعبدون) * أنها الأصنام، وظاهر قوله: * (فيقول أأنتم أضللتم عبادي) * أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وغيرهما، لأن الإضلال وخلافه منهم يصح فلأجل هذا اختلفوا، فمن الناس من حمله على الأوثان، فإن قيل لهم الوثن جماد فكيف خاطبه الله تعالى، وكيف قدر على الجواب؟ فعند ذلك ذكروا وجهين: أحدهما: أن الله تعالى يخلق فيهم الحياة، فعند ذلك يخاطبهم فيردون الجواب وثانيها: أن يكون ذلك الكلام لا بالقول اللساني بل على سبيل لسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات وكلام الأيدي والأرجل، وكما قيل: سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك؟ فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا! وأما الأكثرون فزعموا أن المراد هو الملائكة وعيسى وعزير عليهم السلام، قالوا ويتأكد هذا القول بقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * (سبأ: 40) وإذا قيل لهم: لفظة (ما) لا تستعمل في العقلاء أجابوا عنه من وجهين: الأول: لا نسلم أن كلمة (ما) لما لا يعقل بدليل أنهم قالوا (من) لما لا يعقل والثاني: أريد به الوصف كأنه قيل (ومعبودهم)، وقوله تعالى: * (والسماء وما بناها) * (الشمس: 5) * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * (لكافرون: 3) لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين، وكيف كان فالسؤال ساقط.
المسألة الثالثة: حاصل الكلام أن الله تعالى يحشر المعبودين، ثم يقول لهم أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال عن طريق الحق، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ قالت المعتزلة: وفيه كسر بين لقول من يقول إن الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقولوا إلهنا ههنا قسم ثالث غيرهما هو الحق وهو أنك أنت أضلتهم، فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا إضلالهم إلى أنفسهم، علمنا أن الله تعالى لا يضل أحدا من عباده. فإن قيل لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه، فإنهم قالوا: * (ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر) * وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم وهو أنه سبحانه وتعالى متعهم وآباءهم بنعيم الدنيا. قلنا: لو كان الأمر كذلك لكان يلزمهم أن يصير الله محجوبا في يد أولئك المعبودين، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجا مفحما ملزما هذا تمام تقرير المعتزلة في الآية، أجاب أصحابنا بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله تعالى، وإن صلحت له لم تترجح مصدريتها للإضلال على مصدريتها للاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى، وعند
61

لذلك يعود السؤال، وأما ظاهر هذه الآية فهو وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظواهر المطابقة لقولنا.
المسألة الرابعة: ظاهر الآية يدل على أن هذا السؤال من الله تعالى وإن احتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى. بقي على الآية سؤالات.
الأول: ما فائدة أنتم وهم؟ وهلا قيل أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟ الجواب: ليس السؤال عن الفعل ووجوده، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن فاعله فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسؤول عنه.
السؤال الثاني: أنه سبحانه كان عالما في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال؟ الجواب: هذا استفهام على سبيل التقريع للمشركين كما قال لعيسى: * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * (المائدة: 116) ولأن أولئك المعبودين لما برؤا أنفسهم، وأحالوا ذلك الضلال عليهم صار تبرؤ المعبودين عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم.
السؤال الثالث: قال تعالى: * (أم هم ضلوا السبيل) * والقياس أن يقال ضل عن السبيل، الجواب: الأصل ذلك، إلا أن الإنسان إذا كان متناهيا في التفريط وقلة الاحتياط، يقال ضل السبيل.
أما قوله: * (سبحانك) * فاعلم أنه سبحانه حكى جوابهم، وفي قوله: * (سبحانك) * وجوه: أحدها: أنه تعجب منهم فقد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وثانيها: أنهم نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون (المقدسون المؤمنون) بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده وثالثها: قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، سواء كان وثنا أو نبيا أو ملكا ورابعها: قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إيذاء من كان بريئا عن الجرم، بل إنه إنما سألهم تقريعا للكفار وتوبيخا لهم.
أما قوله: * (ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: القراءة المعروفة * (أن نتخذ) * بفتح النون وكسر الخاء وعن أبي جعفر وابن عامر برفع النون وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله، قال الزجاج أخطأ من قرأ * (أن نتخذ) * بضم النون لأن (من) إنما تدخل في هذا الباب في الأسماء إذا كان مفعولا أولا ولا تدخل على مفعول الحال تقول ما اتخذت من أحد وليا، ولا يجوز ما اتخذت أحدا من ولي، قال صاحب " الكشاف " اتخذ يتعدى إلى مفعول واحد كقولك اتخذ وليا، وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلانا وليا، قال الله تعالى: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * (النساء: 125) والقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو * (من أولياء) *، والأصل أن نتخذ أولياء فزيدت من لتأكيد معنى النفي،
والثانية من المتعدي إلى مفعولين، فالأول ما بني له الفعل، والثاني * (من
62

أولياء) * من للتبعيض، أي لا نتخذ بعض أولياء وتنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام.
المسألة الثانية: ذكروا في تفسير هذه الآية وجوها: أولها: وهو الأصح الأقوى، أن المعنى إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك أولياء فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك وثانيها: ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما يوليهم الكفار، قال تعالى: * (فقاتلوا أولياء الشيطان) * (النساء: 76) يريد الكفرة، وقال * (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) * (البقرة: 257) عن أبي مسلم وثالثها: ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء، أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلناه، والحاصل أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ورابعها: قالت الملائك إنهم عبيدك، فلا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك وليا ولا حبيبا، فضلا عن أن يتخذ عبد عبدا آخر إلها لنفسه وخامسها: أن على قراءة أبي جعفر الإشكال زائل، فإن قيل هذه القراءة غير جائزة لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء، قلنا: المراد إنا لا نصلح لذلك، فكيف ندعوهم إلى عبادتنا وسادسها: أن هذا قول الأصنام، وأنها قالت لا يصح منا أن نكون من العابدين، فكيف يمكننا ادعاؤنا أنا من المعبودين.
المسألة الثالثة: الآية تدل على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله، فكل ولاية مبنية على ميل النفس ونصيب الطبع فذاك على خلاف الشرع.
أما قوله تعالى: * (ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى الآية أنك يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم وهي توجب الشكر والإيمان لا الإعراض والكفران، والمقصود من ذلك بيان أنهم ضلوا من عند أنفسهم لا بإضلالنا، فإنه لولا عنادهم الظاهر، وإلا فمع ظهور هذه الحجة لا يمكن الإعراض عن طاعة الله تعالى وقال آخرون إن هذا الكلام كالرمز فيما صرح به موسى عليه السلام في قوله: * (إن هي إلا فتنتك) * (الأعراف: 155) وذلك لأن المجيب قال: إلهي أنت الذي أعطيته جميع مطالبه من الدنيا حتى صار كالغريق في بحر الشهوات، واستغراقه فيها صار صادا له عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك، فإن هي إلا فتنتك.
المسألة الثانية: الذكر ذكر الله والإيمان به (و) القرآن والشرائع، أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة.
المسألة الثالثة: قال أبو عبيدة: يقال رجل بور ورجلان بور ورجال بور، وكذلك الأنثى، ومعناه هالك، وقد يقال رجل بائر وقوم بور، وهو مثل هائر وهور، والبوار الهلاك، وقد احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر، ولا شك أن المراد منه وكانوا من الذين حكم عليهم في الآخرة بالعذاب والهلاك، فالذي حكم الله عليه بعذاب الآخرة وعلم ذلك وأثبته
63

في اللوح المحفوظ وأطلع الملائكة عليه، لو صار مؤمنا لصار الخبر الصدق كذبا، ولصار العلم جهلا ولصارت الكتابة المثبتة في اللوح المحفوظ باطلة، ولصار اعتقاد الملائكة جهلا وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال، فصدور الإيمان منه محال، فدل على أن السعيد لا يمكنه أن ينقلب شقيا، والشقي لا يمكنه أن ينقلب سعيدا، ومن وجه آخر هو أنهم ذكروا أن الله تعالى آتاهم أسباب الضلال وهو إعطاء المرادات في الدنيا واستغراق النفس فيها، ودلت الآية على أن ذلك السبب بلغ مبلغا يوجب البوار، فإن ذكر البوار عقيب ذلك السبب يدل على أن البوار إنما حصل لأجل ذلك السبب، فرجع حاصل الكلام إلى أنه تعالى فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر، وحينئذ ظهر أن السعيد لا ينقلب شقيا، وأن الشقي لا ينقلب سعيدا.
أما قوله تعالى: * (فقد كذبوكم بما تقولون) * فاعلم أنه قرىء * (يقولون) * بالياء والتاء، فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة، أي كذبوكم في قولكم إنهم آلهة، ومن قرأ بالياء المنقوطة من تحت، فالمعنى أنهم كذبوكم (بقولكم) * (سبحانك) *، ومثاله قولك كتبت بالقلم. أما قوله: * (فما تستطيعون صرفا ولا نصرا) * فاعلم أنه قرىء * (يستطيعون) * بالياء والتاء أيضا، يعني فما تستطيعون أنتم يا أيها الكفار صرف العذاب عنكم، وقيل الصرف التوبة، وقيل الحيلة من قولهم إنه ليتصرف، أي يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب (و) أن يحتالوا لكم.
أما قوله تعالى: * (ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرىء * (يذقه) * بالياء وفيه ضمير الله تعالى أو ضمير (الظلم).
المسألة الثانية: أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في القطع بوعيد أهل الكبائر، فقالوا ثبت أن (من) للعموم في معرض الشرط، وثبت أن الكافر ظالم لقوله: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) والفاسق ظالم لقوله: * (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) * (الحجرات: 11) فثبت بهذه الآية أن الفاسق لا يعفى عنه، بل يعذب لا محالة والجواب: أنا لا نسلم أن كلمة (من) في معرض الشرط للعموم، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه، سلمنا أنه للعموم ولكن قطعا أم ظاهرا؟ ودعوى القطع ممنوعة، فإنا نرى في العرف العام المشهور استعمال صيغ العموم، مع أن المراد هو الأكثر، أو لأن المراد أقوام معينون، والدليل عليه قوله تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6) ثم إن كثيرا من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع له إلا أن يقال قوله: * (الذين كفروا) * وإن كان يفيد العموم، لكن المراد منه الغالب أو المراد منه أقوام مخصوصون، وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر، وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة، وذلك لا ينفي تجويز العفو. سلمنا دلالته قطعا، ولكنا أجمعنا على أن قوله: * (ومن يظلم منكم) * مشروط بأن لا يوجد ما يزيله، وعند هذا نقول هذا مسلم، لكن لم قلت بأن لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور التي تزيله، وذلك هو أحد الثلاثة أول المسألة سلمنا
64

دلالته على ما قال، ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) * (الكهف: 107) فإن قيل آيات الوعيد أولى لأن السارق يقطع على سبيل التنكيل ومن لم يكن مستحقا للعقاب لا يجوز قطع يده على سبيل التنكيل، فإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب أحبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال. قلنا لا نسلم أن السارق يقطع على سبيل التنكيل، ألا ترى أنه لو تاب فإنه يقطع لا على سبيل التنكيل بل على سبيل المحنة، نزلنا عن هذه المقامات، ولكن قوله تعالى: * (ومن يظلم منكم) * إنه خطاب مع قوم مخصوصين معينين فهب أنه لا يعفو عنهم فلم قلت إنه لا يعفو عن غيرهم؟
أما قوله تعالى: * (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا جواب عن قولهم: * (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) * (الفرقان: 7) بين الله تعالى أن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن.
المسألة الثانية: حق الكلام أن يقال: * (إلا أنهم) * بفتح الألف لأنه متوسط والمكسورة لا تليق إلا بالابتداء، فلأجل هذا ذكروا وجوها: أحدها: قال الزجاج: الجملة بعد (إلا) صفة لموصوف محذوف، والمعنى وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين، وإنما حذف لأن في قوله: * (من المرسلين) * دليلا عليه، ونظيره قوله تعالى: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) على معنى وما منا أحد وثانيها: قال الفراء إنه صلة لاسم متروك اكتفى بقوله: * (من المرسلين) * عنه، والمعنى إلا من أنهم كقوله: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * أي من له مقام معلوم، وكذلك قوله: * (وإن منكم إلا واردها) * (مريم: 71) أي إلا من يردها فعلى قول الزجاج: الموصوف محذوف، وعلى قول الفراء: الموصول هو المحذوف، ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين، وثالثها: قال ابن الأنباري: تكسر إن بعد الاستثناء بإضمار واو على تقدير إلا وإنهم ورابعها: قال بعضهم المعنى إلا قيل إنهم.
المسألة الثالثة: قرىء * (يمشون) * على البناء للمفعول أي تمشيهم حوائجهم أو الناس، ولو قرىء * (يمشون) * لكان أوجه لولا الرواية. أما قوله تعالى: * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: فيه أقوال: أحدها: أن هذا في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة، فإذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أنف أن يسلم فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه، ودليله قوله تعالى: * (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) * (الأحقاف: 11) وهذا قول الكلبي والفراء والزجاج وثانيها: أن هذا عام في جميع الناس، روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ويل للعالم من الجاهل، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان، وويل للمالك من
65

المملوك، وويل للشديد من الضعيف، وللضعيف من الشديد، بعضهم لبعض فتنة " وقرأ هذه الآية وثالثها: أن هذا في أصحاب البلاء والعافية، هذا يقول لم لم أجعل مثله في الخلق والخلق وفي العقل وفي العلم وفي الرزق وفي الأجل؟ وهذا قول ابن عباس والحسن ورابعها: هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية وصفاتها، فابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وأنواع أذاهم على ما قال: * (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) * (آل عمران: 186) والمرسل إليهم يتأذون أيضا من المرسل بسبب الحسد وصيرورته مكلفا بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيسا مخدوما، والأولى حمل الآية على الكل لأن بين الجميع قدرا مشتركا.
المسألة الثانية: قال أصحابنا الآية تدل على القضاء والقدر لأنه تعالى قال: * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) * قال الجبائي هذا الجعل هو بمعنى التعريف كما يقال فيمن سرق، إن فلانا لص جعله لصا، وهذا التأويل ضعيف لأنه تعالى أضاف الجعل إلى وصف كونه فتنة لا إلى الحكم بكونه كذلك، بل العقل يدل على أن المراد غير ما ذكره وذلك لأن فاعل السبب فاعل للمسبب، فمن خلقه الله تعالى على مزاج الصفراء والحرارة وخلق الغضب فيه ثم خلق فيه الإدراك الذي يطلعه على الشيء المغضب فمن فعل هذا المجموع كان هو الفاعل للغضب لا محالة، وكذا القول في الحسد وسائر الأخلاق والأفعال، وعند هذا يظهر أنه سبحانه هو الذي جعل البعض فتنة للبعض. سلمنا أن المراد ما قاله الجبائي أن المراد من الجعل هو الحكم ولكن المجعول إن انقلب لزم انقلابه انقلاب حكم الله تعالى من الصدق إلى الكذب وذلك محال، فانقلاب ذلك الجعل محال، فانقلاب المجعول أيضا محال، وعند ذلك يظهر القول بالقضاء والقدر.
المسألة الثالثة: الوجه في تعلق هذه الآية بما قبلها أن القوم لما طعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وبأنه فقير كانت هذه الكلمات جارية مجرى الخرافات، فإنه لما قامت الدلالة على النبوة لم يكن لشيء من هذه الأشياء أثر في القدح فيها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأذى منهم من حيث إنهم كانوا يشتمونه، ومن حيث إنهم كانوا يذكرون الكلام المعوج الفاسد وما كانوا يفهمون الجواب الجيد، فلا جرم صبره الله تعالى على كل تلك الأذية، وبين أنه جعل الخلق بعضهم فتنة للبعض.
أما قوله تعالى: * (أتصبرون وكان ربك بصيرا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة لو كان المراد من قوله: * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) * الخبر لما ذكر عقيبه * (أتصبرون) * لأن أمر العاجز غير جائز.
المسألة الثانية: المعنى أتصبرون على البلاء فقد علمتم ما وعد الله الصابرين * (وكان ربك بصيرا) * أي هو العالم بمن يصبر ومن لا يصبر، فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب.
66

المسألة الثالثة: قوله: * (أتصبرون) * استفهام والمراد منه التقرير وموقعه بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله: * (لنبلوكم أيكم أحسن عملا) *.
قوله تعالى
* (وقال الذين لا يرجون لقآءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا فى أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا * يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا * وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا * أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) *.
اعلم أن قوله تعالى: * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) * هو الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحاصلها: لم لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محق في دعواه * (أو نرى ربنا) * حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا؟ وتقرير هذه الشبهة أن من أراد تحصيل شيء، وكان له إلى تحصيله طريقان، أحدهما يفضي إليه قطعا والآخر قد يفضي وقد لا يفضي، فالحكيم يجب عليه في حكمته أن يختار في تحصيل ذلك المقصود الطريق الأقوى والأحسن، ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم أكثر إفضاء إلى المقصود، فلو أراد الله تعالى تصديق محمد صلى الله عليه وسلم لفعل ذلك وحيث لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أراد تصديقه هذا حاصل الشبهة، ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء قوله تعالى: * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) * معناه لا يخافون لقاءنا ووضع الرجاء في موضع الخوف لغة تهامية، إذا كان معه جحد، ومثله قوله تعالى: * (مالكم لا ترجون لله وقارا) * (نوح: 13) أي لا تخافون له عظمة، وقال القاضي لا وجه لذلك، لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز، ومعلوم أن من حال عباد الأصنام أنهم كما لا يخافون العقاب لتكذيبهم بالمعاد، فكذلك لا يرجون لقاءنا ووعدنا على الطاعة من الجنة والثواب، ومعلوم أن من
67

لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضا، فالخوف تابع لهذا الرجاء.
المسألة الثانية: المجسمة تمسكوا بقوله تعالى: * (لقاءنا) * أنه جسم وقالوا اللقاء هو الوصول يقال هذا الجسم لقي ذلك أي وصل إليه واتصل به، وقال تعالى: * (فالتقى الماء على أمر قد قدر) * (القمر: 12) فدلت الآية على أنه سبحانه جسم والجواب على طريقين الأول: طريق بعض أصحابنا قال المراد من اللقاء هو الرؤية، وذلك لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمى اللقاء أحد أنواع الرؤية والنوع الآخر الاتصال والمماسة، فدلت الآية من هذا الوجه على جواز الرؤية الطريق الثاني: وهو كلام المعتزلة، قال القاضي تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة، فيقال في الدعاء لقاك الله الخير وقد يقول القائل لم ألق الأمير وإن رآه من بعد أو حجب عنه، ويقال في الضرير لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب وقد يلقاه في الليلة الظلماء، ولا يراه بل المراد من اللقاء ههنا هو المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم لا تملك نفس لنفس شيئا لا أن رؤية البصر، واعلم أن هذا الكلام ضعيف لأنا لا نفسر اللقاء برؤية البصر بل نفسره بمعنى مشترك بين رؤية البصر، وبين الاتصال والمماسة وهو الوصول إلى الشيء، وقد بينا أن الرائي يصل برؤيته إلى المرئي واللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة، ينطلق على كل واحد من تلك المعاني فيصح قوله لقاك الخير، ويصح قول الأعمى لقيت الأمير، ويصح قول البصير لقيته بمعنى رأيته وما لقيته بمعنى ما وصلت إليه، وإذا ثبت هذا فنقول قوله: * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) * مذكور في معرض الذم لهم، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلا، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني، وبين الوصول بالرؤية، وقد تعذر الأول فتعين الثاني، وقوله المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل، فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل على وجوبها، بل على أن إنكارها ليس إلا من دين الكفار.
المسألة الثالثة: قوله: * (لولا أنزل) * معناه هلا أنزل، قال الكلبي ومقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما الذين كانوا منكرين للنبوة والبعث.
أما قوله تعالى: * (لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) * فاعلم أن هذا هو الجواب عن تلك الشبهة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تقرير كونه جوابا، وذلك من وجوه: أحدها: أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد ثبتت دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض الاستكبار والتعنت وثانيها: أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك، بل لعموم كونه معجزا، فيكون قبول ذلك المعجز ورد ذلك المعجز الآخر ترجيحا لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجح، وهو محض الاستكبار والتعنت وثالثها: أنهم بتقدير أن يروا الرب ويسألوه عن
68

صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه يقول نعم هو رسولي، فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد صلى الله عليه وسلم، لأنا بينا أن المعجز يقوم مقام التصديق بالقول إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول اللهم إن كنت صادقا فأحيى هذا الميت فيحييه الله تعالى والعادة لم تجر بمثله وبين أن يقول له صدقت، وإذا كان التصديق الحاصل بالقول أو الحاصل بالمعجز..... في كونه تصديقا للمدعى كان تعيين أحدهما محض الاستكبار والتعنت ورابعها: وهو أنا نعتقد أن الله سبحانه وتعالى يفعل بحسب المصالح على ما يقوله المعتزلة، أن نقول إن الله تعالى يفعل بحسب المشيئة على ما يقوله أصحابنا، فإن كان الأول لم يجز لهم أن يعينوا المعجز إذ ربما كان إظهار ذلك المعجز مشتملا على مفسدة لا يعرفها إلا الله تعالى، وكان التعيين استكبارا وعتوا من حيث إنه لما ظنه مصلحة قطع بكونه مصلحة، فمن قال ذلك فقد اعتقد في نفسه أنه عالم بكل المعلومات، وذلك استكبار عظيم، وإن كان الثاني وهو قول أصحابنا فليس للعبد أن يقترح على ربه فإنه سبحانه فعال لما يريد فكان الاقتراح استكبارا وعتوا وخروجا عن حد العبودية إلى مقام المنازعة والمعارضة وخامسها: وهو أن المقصود من بعثة الأنبياء الإحسان إلى الخلق فالملك الكبير إذا أحسن إلى بعض الضعفاء رحمة عليه فأخذ ذلك الضعيف إلى اللجاج والنزاع، ويقول لا أريد هذا بل أريد ذاك، حسن أن يقال إن هذا المكدي قد استكبر في نفسه وعتا عتوا شديدا من حيث لا يعرف قدر نفسه ومنتهى درجته فكذا ههنا وسادسها: يمكن أن يكون المراد أن الله تعالى قال لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل
الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم، ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به فلا جرم لا أعطيهم ذلك، وهذا التأويل يعرف من اللفظ وسابعها: لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا، وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل التعنت أو على سبيل الاستهزاء.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: الآية دلت على أن الله تعالى لا تجوز رؤيته لأن رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتوا واستكبارا، قالوا وقوله: * (لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) * ليس إلا لأجل سؤال الرؤية حتى لو أنهم اقتصروا على نزول الملائكة لما خوطبوا بذلك، والدليل عليه أن الله تعالى ذكر أمر الرؤية في آية أخرى على حدة وذكر الاستعظام وهو قوله: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة) * (البقرة: 55) وذكر نزول الملائكة على حدة في آية أخرى فلم يذكر الاستعظام وهو قولهم: * (لولا أنزل علينا الملائكة) * وهل نرى الملائكة فثبت بهذا أن الاستكبار والعتو في هذه الآية إنما حصل لأجل سؤال الرؤية.
واعلم أن الكلام على ذلك قد تقدم في سورة البقرة، والذي نريده ههنا أنا بينا أن قوله
69

* (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) * يدل على الرؤية، وأما الاستكبار والعتو، فلا يمكن أن يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة لأن من طلب شيئا محالا، لا يقال إنه عتا واستكبر، ألا ترى أنهم لما قالوا: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتوا واستكبارا، بل قال: * (إنكم قوم تجهلون) * (الأعراف: 138) بل العتو والاستكبار لا يثبت إلا إذا طلب الإنسان ما لا يليق به ممن فوقه أو كان لائقا به، ولكنه يطلبه على سبيل التعنت. وبالجملة فقد ذكرنا وجوها كثيرة في تحقيق معنى الاستكبار والعتو سواء كانت الرؤية ممتنعة أو ممكنة، ومما يدل عليه أن موسى لما سأل الرؤية ما وصفه الله تعالى بالاستكبار والعتو، لأنه عليه السلام طلب الرؤية شوقا، وهؤلاء طلبوها امتحانا وتعنتا، لا جرم وصفهم بذلك فثبت فساد ما قاله المعتزلة.
المسألة الثالثة: إنما قال * (في أنفسهم) * لأنهم أضمروا الاستكبار (عن الحق وهو الكفر والعناد) في قلوبهم واعتقدوه كما قال: * (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) * (غافر: 56) وقوله: * (وعتوا عتوا كبيرا) * أي تجاوزوا الحد في الظلم يقال عتا (عتا) فلان وقد وصف العتو بالكبر فبالغ في إفراطه، يعني أنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو.
أما قوله تعالى: * (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) * فهو جواب لقولهم: * (لولا أنزل علينا الملائكة) * فبين تعالى أن الذي سألوه سيوجد، ولكنهم يلقون منه ما يكرهون، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في انتصاب * (يوم) * وجهين: الأول: أن العامل ما دل عليه * (لا بشرى) * أي يوم يرون الملائكة (يبغون البشرى) و * (يومئذ) * للتكرير الثاني: أن التقدير أذكر يوم يرون الملائكة.
المسألة الثانية: اختلفوا في ذلك اليوم، فقال ابن عباس يريد عند الموت، وقال الباقون يريد يوم القيامة.
المسألة الثالثة: إنما يقال للكافر لا بشرى لأن الكافر وإن كان ضالا مضلا إلا أنه يعتقد في نفسه أنه كان هاديا مهتديا، فكان يطمع في ذلك الثواب العظيم، ولأنهم ربما عملوا ما رجوا فيه النفع كنصرة المظلوم وعطية الفقير وصلة الرحم، ولكنه أبطلها بكفره فبين سبحانه أنهم في أول الأمر يشافهون بما يدل على نهاية اليأس والخيبة، وذلك هو النهاية في الإيلام وهو المراد من قوله: * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) * (الزمر: 47).
المسألة الرابعة: حق الكلام أن يقال يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم، لكنه قال لا بشرى للمجرمين وفيه وجهان: أحدهما: أنه ظاهر في موضع ضمير والثاني: أنه عام فقد تناولهم بعمومه، قالت المعتزلة تدل الآية على القطع بوعيد الفساق وعدم العفو لأن قوله: * (لا بشرى للمجرمين) * نكرة في سياق النفي فيعم جميع أنواع البشرى في جميع الأوقات بدليل أن من
70

أراد تكذيب هذه القضية قال بل له بشرى في الوقت الفلاني، فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية، علمنا أن قوله تعالى: * (لا بشرى) * يقتضي نفي جميع أنواع البشرى في كل الأوقات، ثم إنه سبحانه أكد هذا النفي بقوله: * (حجرا محجورا) * والعفو من الله من أعظم البشرى، والخلاص من النار بعد دخولها من أعظم البشرى، وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين، والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم غير مرة، قال المفسرون المراد بالمجرمين ههنا الكفار بدليل قوله: * (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) * (المائدة: 72).
المسألة الخامسة: في تفسير قوله: * (حجرا محجورا) * ذكر سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو معاذ الله وقعدك (الله) وعمرك (الله)، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو (موتور) أو هجوم نازلة ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة، قال سيبويه: يقول الرجل للرجل (يفعل) كذا وكذا فيقول حجرا، وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه، فكان المعنى أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد، فإن قيل: لما ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه بكونه محجورا؟ قلنا: جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر كما قالوا (ذبل ذابل فالذبل) الهوان وموت مائت وحرام محرم. المسألة السادسة: اختلفوا في أن الذين يقولون حجرا محجورا من هم؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنهم هم الكفار وذلك لأنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه، (ثم) إذا رأوهم عند الموت (و) يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو (الموتور) ونزول الشدة القول الثاني: أن القائلين هم الملائكة ومعناه حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى، أي جعل الله ذلك حراما عليكم، ثم اختلفوا على هذا القول فقال بعضهم إن الكفار إذا خرجوا من قبورهم، قالت الحفظة
لهم حجرا محجورا، وقال الكلبي الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين حجرا محجورا، وقال عطية إذا كان يوم القيامة يلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم بشرونا فيقولون حجرا محجورا القول الثالث: وهو قول القفال والواحدي وروي عن الحسن أن الكفار يوم القيامة إذا شاهدوا ما يخافونه فيتعوذون منه ويقولون حجرا محجورا، فتقول الملائكة لا يعاذ من شر هذا اليوم.
أما قوله تعالى: * (وقدمنا) * فقد استدلت المجسمة بقوله: * (وقدمنا) * لأن القدوم لا يصح إلا على الأجسام، وجوابه أنه لما قامت الدلالة على امتناع القدوم عليه لأن القدوم حركة والموصوف بالحركة محدث، ولذلك استدل الخليل عليها السلام بأفول الكواكب على حدوثها وثبت أن الله عز
71

وجل لا يجوز أن يكون محدثا، فوجب تأويل لفظ القدوم وهو من وجوه: أحدها: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) * أي وقصدنا إلى أعمالهم، فإن القادم إلى الشيء قاصد له، فالقصد هو المؤثر في المقدوم إليه وأطلق المسبب على السبب مجازا وثانيها: المراد قدوم الملائكة إلى موضع الحساب في الآخرة، ولما كانوا بأمره يقدمون جاز أن يقول * (وقدمنا) * على سبيل التوسع ونظيره قوله: * (فلما آسفونا انتقمنا منهم) * (الزخرف: 55) وثالثها: * (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) * (النمل: 34) فلما أباد الله أعمالهم وأفسدها بالكلية صارت شبيهة بالمواضع التي يقدمها الملك فلا جرم قال * (وقدمنا) *.
أما قوله: * (إلى ما عملوا من عمل) * يعني الأعمال التي اعتقدوها برا وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى، والمعنى إلى ما عملوا من أي عمل كان.
أما قوله: * (فجعلناه هباء منثورا) * فالمراد أبطلناه وجعلناه بحيث لا يمكن الانتفاع به كالهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه ونظيره قوله تعالى: * (كسراب بقيعة) * (النور: 39) * (كرماد اشتدت به الريح) * (إبراهيم: 18) * (كعصف مأكول) * (الفيل: 5) قال أبو عبيدة والزجاج: الهباء مثل الغبار يدخل من الكوة مع ضوء الشمس. وقال مقاتل: إنه الغبار الذي يستطير من حوافر الدواب.
أما قوله: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * فاعلم أنه سبحانه لما بين حال الكفار في الخسار الكلي والخيبة التامة شرح وصف أهل الجنة تنبيها على أن الحظ كل الحظ في طاعة الله تعالى، وههنا سؤالات:
الأول: كيف يكون أصحاب الجنة خيرا مستقرا من أهل النار، ولا خير في النار، ولا يقال في العسل هو أحل من الخل؟ والجواب من وجوه: الأول: ما تقدم في قوله: * (أذلك خير أم جنة الخلد) * (الفرقان: 15) والثاني: يجوز أن يريد أنهم في غاية الخير، لأن مستقر خير من النار، كقول الشاعر: فإن الذي سمك السماء بنى لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول
الثالث: التفاضل الذي ذكر بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع، والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه الرابع: هذا التفاضل واقع على هذا التقدير، أي لو كان لهم مستقر فيه خير لكان مستقر أهل الجنة خيرا منه.
السؤال الثاني: الآية دلت على أن مستقرهم غير مقيلهم فكيف ذلك؟ والجواب من وجوه: الأول: أن المستقر مكان الاستقرار، والمقيل زمان القيلولة، فهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان، ومن الزمان في أطيب زمان الثاني: أن مستقر أهل الجنة غير مقيلهم، فإنهم يقيلون في الفردوس، ثم يعودون إلى مستقرهم الثالث: أن بعد الفراغ من المحاسبة والذهاب إلى الجنة يكون الوقت وقت القيلولة، قال ابن مسعود: " لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار " وقرأ ابن مسعود: (ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم).
72

وقال سعيد بن جبير: إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم بقدر ما بين صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وقال مقاتل: يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا، ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة.
السؤال الثالث: كيف يصح القيلولة في الجنة والنار، وعندكم أن أهل الجنة في الآخرة لا ينامون، وأهل النار أبدا في عذاب يعرفونه، وأهل الجنة في نعيم يعرفونه؟ والجواب: قال الله تعالى: * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * (مريم: 62) وليس في الجنة بكرة وعشى، لقوله تعالى: * (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) * (الإنسان: 13) ولأنه إذا لم يكن هناك شمس لم يكن هناك نصف النهار ولا وقت القيلولة، بل المراد منه بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع وأحسنها، كما أن موضع القيلولة يكون أطيب المواضع والله أعلم.
قوله تعالى
* (ويوم تشقق السمآء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا * الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا * ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا * ياويلتا ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جآءنى وكان الشيطان للإنسان خذولا) *.
اعلم أن هذا الكلام مبني على ما استدعوه من إنزال الملائكة فبين سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له صفات:
الصفة الأولى: أن في ذلك اليوم تشقق السماء بالغمام، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (إذا السماء انفطرت) * (الانفطار: 1) يدل على التشقق وقوله: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) * (البقرة: 210) يدل على الغمام فقوله: * (تشقق السماء بالغمام) * جامع لمعنى الآيتين ونظيره قوله تعالى: * (وفتحت السماء فكانت أبوابا) * (النبأ: 19) وقوله: * (فهي يومئذ واهية) * (الحاقة: 16).
73

المسألة الثانية: قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بتخفيف الشين ههنا وفي سورة ق، والباقون بالتشديد، قال أبو عبيدة: الاختيار التخفيف كما يخفف تساءلون ومن شدد فمعناه
تتشقق.
المسألة الثالثة: قال الفراء: المراد من قوله: * (بالغمام) * أي عن الغمام، لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام، وقال القاضي: لا يمتنع أن يجعل تعالى الغمام بحيث تشقق السماء باعتماده عليه وهو كقوله: * (السماء منفطر به) * (المزمل: 18).
المسألة الرابعة: لا بد من أن يكون لهذا التشقق تعلق بنزول الملائكة، فقيل الملائكة في أيام الأنبياء عليهم السلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة والسماء على اتصالها، ثم في ذلك اليوم تتشقق السماء فإذا انشقت خرج من أن يكون حائلا بين الملائكة وبين الأرض فنزلت الملائكة إلى الأرض.
المسألة الخامسة: قوله: * (ونزل الملائكة) * صيغة عموم فيتناول الكل، ولأن السماء مقر الملائكة فإذا تشقق وجب أن ينزلوا إلى الأرض، ثم قال مقاتل: تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر من سكان الدنيا، كذلك تتشقق سماء سماء، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش، ثم ينزل الرب تعالى. وروى الضحاك عن ابن عباس: قال تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصيرون سبع صفوف حول العالم، واعلم أن نزول الرب بالذات باطل قطعا، لأن النزول حركة والموصوف بالحركة محدث والإله لا يكون محدثا. وأما نزول الملائكة إلى الأرض فعليه سؤال، وذلك لأنه ثبت أن الأرض بالقياس إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة، فكيف بالقياس إلى الكرسي والعرش فملائكة هذه المواضع بأسرها كيف تتسع لهم الأرض جميعا؟ فلعل الله تعالى يزيد في طول الأرض وعرضها ويبلغها مبلغا يتسع لكل هؤلاء، ومن المفسرين من قال: الملائكة يكونون في الغمام منه، والله تعالى يسكن الغمام فوق أهل القيامة ويكون ذلك الغمام مقر الملائكة. قال الحسن: والغمام سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه بنسخ أعمال بني آدم والمحاسبة تكون في الأرض.
المسألة السادسة: أما نزول الملائكة فظاهر، ومعنى * (تنزيلا) * توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه.
المسألة السابعة: الألف واللام في الغمام ليس للعموم فهو للمعهود، والمراد ما ذكروه في قوله: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) * (البقرة: 210).
المسألة الثامنة: قرىء: * (وننزل الملائكة) *، * (وننزل الملائكة) *، * (ونزل الملائكة) *، * (ونزل الملائكة) * * (ونزل الملائكة) * على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل قراءة أهل مكة.
الصفة الثانية لذلك اليوم: قوله: * (الملك يومئذ الحق الرحمن) * قال الزجاج الحق صفة للملك وتقديره الملك الحق يومئذ للرحمن، ويجوز الحق بالنصب على تقدير أعني ولم يقرأ به ومعنى
74

وصفه بكونه حقا أنه لا يزول ولا يتغير، فإن قيل: مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن فما الفائدة في قوله * (يومئذ) *؟ قلنا: لأن في ذلك اليوم لا مالك سواه لا في الصورة ولا في المعنى، فتخضع له الملوك وتعنوا له الوجوه وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام، واعلم أن هذه الآية دالة على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على الله الثواب والعوض وذلك لأنه لو وجب لاستحق الذم بتركه فكان خائفا من أن لا يفعل فلم يكن ملكا مطلقا وأيضا فقوله: * (الملك يومئذ الحق للرحمن) * يفيد أنه ليس لغيره ملك وذلك لا يتم على قول المعتزلة، لأن كل من استحق عليه شيئا فإنه يكون مالكا له، ولا يكون هو سبحانه مالكا لذلك المستحق، لأنه سبحانه إذا استحق على أحد شيئا أمكنه أن يعفو عنه، أما غيره إذا استحق عليه شيئا فإنه لا يصح إبراؤه عنه، فكانت العبودية ههنا أتم، ولأن من كفر بالله إلى آخر عمره ثم في آخر عمره عرف الله لحظة ومات فهو سبحانه لو أعطاه ألف ألف سنة أنواع الثواب وأراد بعد ذلك أن لا يعطيه لحظة واحدة صار سفيها، وهذا نهاية العبودية والذل فكيف يليق بمن هذا حاله أن يقال له: * (الملك يومئذ الحق للرحمن) * وأيضا فكل من فعل فعلا لو لم يفعله لكان مستوجبا للذم وكان بذلك الفعل مكتسبا للكمال وبتركه مكتسبا للنقصان فلم يكن ملكا بل فقيرا مستحقا، فثبت أن قوله سبحانه: * (الملك يومئذ الحق للرحمن) * غير لائق بأصول المعتزلة.
الصفة الثالثة: قوله: * (وكان يوما على الكافرين عسيرا) * فالمعنى ظاهر لأنه تعالى عالم بالأحوال قادر على كل ما يريده وأما غيره فالكل في ربقة العجز ولجام القهر، فكان في نهاية العسر على الكافر.
الصفة الرابعة: قوله: * (ويوم يعض الظالم على يديه) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الألف واللام في الظالم فيه قولان: أحدهما: أنه للعموم والثاني: أنه للمعهود، والقائلون بالمعهود على قولين: الأول: قال ابن عباس المراد عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس كان لا يقدم من مقر إلا صنع طعاما يدعو إليه جيرته من أهل مكة ويكثر مجالسة الرسول ويعجبه حديثه فصنع طعاما ودعا الرسول فقال صلى الله عليه وسلم ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين ففعل فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه فبلغ أمية بن خلف فقال صبوت يا عقبة وكان خليله فقال إنما ذكرت ذلك ليأكل من طعامي فقال لا أرضى أبدا حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ على عنقه ففعل، فقال عليه السلام لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فنزل * (ويوم يعض الظالم على يديه) * ندامة يعني عقبة يقول: يا ليتني لم أتخذ أمية خليلا لقد أضلني عن الذكر. أي صرفني عن الذكر وهو القرآن والإيمان بعد إذ جاءني مع محمد صلى الله عليه وسلم فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا ولم يقتل يومئذ من الأسارى غيره وغير النضر بن الحارث الثاني: قالت الرافضة: هذا الظالم هو رجل بعينه وإن المسلمين غيروا اسمه
75

وكتموه وجعلوا فلانا بدلا من اسمه، وذكروا فاضلين من أصحاب رسول الله، واعلم أن إجراء اللفظ على العموم ليس لنفس اللفظ، لأنا بينا في أصول الفقه أن الألف واللام إذا دخل على الاسم المفرد لا يفيد العموم بل إنما يفيده للقرينة من حيث إن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف، فدل ذلك على أن المؤثر في العض
على اليدين كونه ظالما وحينئذ يعم الحكم لعموم علته وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة لأن هذا الذي ذكرناه يقتضي العموم، ونزوله في واقعة أخرى خاصة لا ينافي أن يكون المراد هو العموم حتى يدخل فيه تلك الصورة وغيرها ولأن المقصود من الآية زجر الكل عن الظلم وذلك لا يحصل إلا بالعموم، وأما قول الرافضة فذلك لا يتم إلا بالطعن في القرآن وإثبات أنه غير وبدل ولا نزاع في أنه كفر.
المسألة الثانية: استدلت المعتزلة بقوله: * (ويوم يعض الظالم على يديه) * قالوا الظالم يتناول الكافر والفاسق، فدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة والكلام عليه تقدم.
المسألة الثالثة: قوله: * (يعض الظالم على يديه) * قال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت، وقال أهل التحقيق هذه اللفظة مشعرة بالتحسر والغم، يقال عض أنامله وعض على يديه.
المسألة الرابعة: كما بينا أن الظالم غير مخصوص بشخص واحد بل يعم جميع الظلمة فكذا المراد بقوله فلانا ليس شخصا واحدا بل كل من أطيع في معصية الله، واستشهد القفال بقوله: * (وكان الكافر على ربه ظهيرا) * (الفرقان: 55)، * (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) * (النبأ: 40) يعني به جماعة الكفار.
المسألة الخامسة: قرىء * (يا ويلتي) * بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها: تعالى فهذا أوانك، وإنما قلبت الياء ألفا كما في صحارى و (عذارى).
المسألة السادسة: قوله: * (عن الذكر) * أي عن ذكر الله أو القرآن وموعظة الرسول ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق (وغيرته) على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة، أو أراد إبليس فإنه هو الذي حمله على أن صار خليلا لذلك المضل ومخالفة الرسول ثم خذله أو أراد الجنس وكل من تشيطن من الجن والإنس، ويحتمل أن يكون * (وكان الشيطان) * حكاية كلام الظالم وأن يكون كلام الله.
قوله تعالى
* (وقال الرسول يارب إن قومى اتخذوا هذا القرءان مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا) *.
76

اعلم أن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إلى الله تعالى وقال: * (يا رب إن قومي اتخذوا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أكثر المفسرين أنه قول واقع من الرسول صلى الله عليه وسلم وقال أبو مسلم بل المراد أن الرسول عليه السلام يقوله في الآخرة وهو كقوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * (النساء: 41) والأول أولى لأنه موافق للفظ ولأن ما ذكره الله تعالى من قوله: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) * (الفرقان: 31) تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ولا يليق إلا إذا كان وقع ذلك القول منه.
المسألة الثانية: ذكروا في المهجور قولين: الأول: أنه من الهجران أي تركوا الإيمان به ولم يقبلوه وأعرضوا عن استماعه الثاني: أنه من أهجر أي مهجورا فيه ثم حذف الجار ويؤكده قوله تعالى: * (مستكبرين به سامرا تهجرون) * (المؤمنون: 67) ثم هجرهم فيه أنهم كانوا يقولون إنه سحر وشعر وكذب وهجر أي هذيان، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من تعلم القرآن (وعلمه) وعلق مصحفا لم يتعهده ولم ينطر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا، اقض بيني وبينه " ثم إنه تعالى قال مسليا لرسوله عليه الصلاة والسلام ومعزيا له * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) * وبين بذلك أن له أسوة بسائر الرسل، فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا ثم فيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر لأن قوله تعالى: * (جعلنا لكل نبي عدوا) * يدل على أن تلك العداوة من جعل الله ولا شك أن تلك العداوة كفر قال الجبائي: المراد من الجعل التبيين، فإنه تعالى لما بين أنهم أعداؤه، جاز أن يقول: جعلناهم أعداءه، كما إذا بين الرجل أن فلانا لص يقال جعله لصا كما يقال في الحاكم عدل فلانا وفسق فلانا وجرحه، قال الكعبي: إنه تعالى لما أمر الأنبياء بعداوة الكفار وعداوتهم للكفار تقتضي عداوة الكفار لهم، فلهذا جاز أن يقول: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) * لأنه سبحانه هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك العداوة، وقال أبو مسلم: يحتمل في العدو أنه البعيد لا القريب إذ المعاداة المباعدة كما أن النصر القرب والمظاهرة، وقد باعد الله تعالى بين المؤمنين والكافرين والجواب عن الأول: أن التبيين لا يسمونه البتة جعلا لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال إنه جعل الصانع وجعل قدمه والجواب عن الثاني: أن الذي أمره الله تعالى به هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم أو ليس له تأثير؟ فإن كان الأول فقد تم الكلام لأن عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم كفر فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك العداوة فقد أمره بما له أثر في وقوع الكفر وإن لم يكن فيه تأثير البتة كان منقطعا عنه بالكلية فيمتنع إسناده إليه، وهذا هو الجواب عن قول أبي مسلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول إن قول محمد عليه السلام: * (يا رب إن قومي اتخذوا هذا
77

القرآن مهجورا) * في المعنى كقول نوح عليه السلام * (رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) * (نوح: 5، 6) وكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا ههنا فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107)؟ جوابه: أن نوحا عليه السلام لما ذكر ذلك دعا عليهم، وأما محمد عليه الصلاة والسلام فلما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر فلما قال تعالى: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) * كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فظهر الفرق.
المسألة الثالثة: قوله * (جعلنا) * صيغة العظماء والتعظيم إذا ذكر نفسه في كل معرض من التعظيم وذكر أنه يعطي فلا بد وأن تكون تلك العطية عظيمة كقوله: * (ولقد أتيناك سبعا من المثاني) * (الحجر: 87) وقوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * (الكوثر: 1) فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي هي منشأ الضرر في الدين والدنيا؟ وجوابه: أن خلق العداوة سبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب والله أعلم.
المسألة الرابعة: يجوز أن يكون العدو واحدا وجمعا كقوله: * (فإنهم عدو لي) * (الشعراء: 77) وجاء في التفسير أن عدو الرسول صلى الله عليه وسلم أبو جهل.
أما قوله: * (وكفى بربك هاديا ونصيرا) * فقال الزجاج الباء زائدة يعني كفى ربك وهاديا ونصيرا منصوبان على الحال هاديا إلى مصالح الدين والدنيا، ونصيرا على الأعداء، ونظيره * (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) *. (الأنفال: 64)
قوله تعالى
* (وقال الذين كفروا لولا انزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا * ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا * الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا) *.
اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أهل مكة قالوا تزعم أنك رسول من عند الله أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة جملة على موسى والإنجيل على عيسى
78

والزبور على داود، وعن ابن جريج بين أوله وآخره اثنتان أو ثلاث وعشرون سنة وأجاب الله بقوله: * (كذلك لنثبت به فؤادك) * وبيان هذا الجواب من وجوه: أحدها: أنه عليه السلام لم يكن من أهل القراءة والكتابة فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه ولجاز عليه الغلط والسهو، وإنما نزلت التوراة جملة لأنها مكتوبة يقرؤها موسى وثانيها: أن من كان الكتاب عنده، فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ فالله تعالى ما أعطاه الكتاب دفعة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ليكون حفظه له أكمل فيكون أبعد له عن المساهلة وقلة التحصيل وثالثها: أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة على الخلق فكان يثقل عليهم ذلك، أما لما نزل مفرقا منجما لا جرم نزلت التكاليف قليلا قليلا فكان تحملها أسهل ورابعها: أنه إذا شاهد جبريل حالا بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته فكان أقوى على أداء ما حمل، وعلى الصبر على عوارض النبوة وعلى احتماله أذية قومه وعلى الجهاد وخامسها: أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجما ثبت كونه معجزا، فإنه لو كان ذلك في مقدور البشر لوجب أن يأتوا بمثله منجما مفرقا وسادسها: كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم والوقائع الواقعة لهم فكانوا يزدادون بصيرة، لأن بسبب ذلك كان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب وسابعها: أن القرآن لما نزل منجما مفرقا وهو عليه السلام كان يتحداهم من أول الأمر فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن فلما عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكل أولى فبهذا الطريق ثبت في فؤاده أن القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة وثامنها: أن السفارة بين الله تعالى وبين أنبيائه وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم فيحتمل أن يقال إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة لبطل ذلك المنصب على جبريل عليه السلام فلما أنزله مفرقا منجما بقي ذلك المنصب العالي عليه فلأجل ذلك جعله الله سبحانه وتعالى مفرقا منجما.
أما قوله: * (كذلك) * ففيه وجهان: الأول: أنه من تمام كلام المشركين أي جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل، وعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار في الآية وهو أن يقول: أنزلناه مفرقا لتثبت به فؤادك الثاني: أنه كلام الله تعالى ذكره جوابا لهم أي كذلك أنزلناه مفرقا فإن قيل: ذلك في * (كذلك) * يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه والذي تقدم فهو إنزاله جملة (واحدة) فكيف فسر به كذلك أنزلناه مفرقا؟ قلنا لأن قولهم * (لولا نزل عليه جملة واحدة) * معناه لم نزل مفرقا فذلك إشارة إليه.
أما قوله تعالى: * (ورتلناه ترتيلا) * فمعنى الترتيل في الكلام أن يأتي بعضه على أثر بعض على تؤدة وتمهل وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها يقال ثغر رتل وهو ضد المتراص، ثم إنه سبحانه وتعالى لما بين فساد قولهم بالجواب الواضح قال: * (ولا يأتونك بمثل) * من الجنس الذي تقدم ذكره من الشبهات إلا جئناك بالحق الذي يدفع قولهم، كما قال تعالى: * (بل نقذف بالحق على الباطل
79

فيدمغه فإذا هو زاهق) * (الأنبياء: 18) وبين أن الذي يأتي به أحسن تفسيرا لأجل ما فيه من المزية في البيان والظهور، ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه، فقالوا تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل معناه كذا وكذا.
أما قوله: * (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحشر الناس على ثلاثة أصناف صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه " وعنه عليه السلام: " إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن مشيهم على وجوههم ".
المسألة الثانية: الأقرب أنه صفة للقوم الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت، وإن كان غيرهم من أهل النار يدخل معهم.
المسألة الثالثة: حمله بعضهم على أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين، وجوههم إلى القرار وأرجلهم إلى فوق، روي ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقال آخرون المراد أنهم يحشرون ويسحبون على وجوههم، وهذا أيضا مروي عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أولى، وقال الصوفية: الذين تعلقت قلوبهم بما سوى الله فإذا ماتوا بقي ذلك التعلق فعبر عن تلك الحالة بأنهم يحشرون على وجوههم إلى جهنم، ثم بين تعالى أنهم شر مكانا من أهل الجنة وأضل سبيلا وطريقا، والمقصود منه
الزجر عن طريقهم والسؤال عليه كما ذكرناه على قوله: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) * (الفرقان: 24) وقد تقدم الجواب عنه.
واعلم أنه تعالى بعد أن تكلم في التوحيد ونفي الأنداد وإثبات النبوة والجواب عن شبهات المنكرين لها وفي أحوال القيامة شرع في ذكر القصص على السنة المعلومة. القصة الأولى - قصة موسى عليه السلام
قوله تعالى
* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا * فقلنا اذهبآ إلى القوم الذين كذبوا
باياتنا فدمرناهم تدميرا) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا) * (الفرقان: 31) أتبعه بذكر جماعة من الأنبياء وعرفه بما نزل بمن كذب من أممهم فقال: * (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا) * والمعنى: لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب، وآتيناه الآيات فرد، فقد آتينا موسى التوراة وقوينا عضده بأخيه هارون ومع ذلك فقد رد، وفيه مسائل:
80

المسألة الأولى: كونه وزيرا لا يمنع من كونه شريكا له في النبوة، فلا وجه لقول من قال في قوله: * (فقلنا اذهبا) * إنه خطاب لموسى عليه السلام وحده بل يجري مجرى قوله: * (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) * (طه: 43) فإن قيل إن كونه وزيرا كالمنافي لكونه شريكا بل يجب أن يقال إنه لما صار شريكا خرج عن كونه وزيرا، قلنا لا منافاة بين الصفتين لأنه لا يمتنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيرا وظهيرا ومعينا له.
المسألة الثانية: قال الزجاج الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويتحصن برأيه والوزر ما يعتصم به ومنه * (كلا لا وزر) * (القيامة: 11) أي لا منجى ولا ملجأ، قال القاضي: ولذلك لا يوصف تعالى بأن له وزيرا ولا يقال فيه أيضا بأنه وزير لأن الالتجاء إليه في المشاورة والرأي على هذا الحد لا يصح.
المسألة الثالثة: * (دمرناهم) * أهلكناهم إهلاكا فإن قيل: الفاء للتعقيب والإهلاك لم يحصل عقيب ذهاب موسى وهارون إليهم بل بعد مدة مديدة، قلنا: التعقيب محمول ههنا على الحكم لا على الوقوع، وقيل: إنه تعالى أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة بطولها أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا) * إن حملنا تكذيب الآيات على تكذيب آيات الإلهية فلا إشكال، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ، وإن كان للماضي إلا أن المراد هو المستقبل.
القصة الثانية - قصة نوح عليه السلام
قوله تعالى
* (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس ءاية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما) *.
اعلم أنه تعالى إنما قال: * (كذبوا الرسل) * إما لأنهم كانوا من البراهمة المنكرين لكل الرسل أو لأنه كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيبا للجميع، لأن تكذيب الواحد منهم لا يمكن إلا بالقدح في المعجز، وذلك يقتضي تكذيب الكل، أو لأن المراد بالرسل وإن كان نوحا عليه السلام وحده ولكنه كما يقال فلان يركب الأفراس.
أما قوله: * (أغرقناهم) * فقال الكلبي: أمطر الله عليهم السماء أربعين يوما وأخرج ماء الأرض أيضا في تلك الأربعين فصارت الأرض بحرا واحدا * (وجعلناهم) * أي وجعلنا إغراقهم أو قصتهم آية، * (وأعتدنا للظالمين) * أي لكل من سلك سبيلهم في تكذيب الرسل عذابا أليما، ويحتمل أن يكون المراد قوم نوح.
81

القصة الثالثة - قصة عاد وثمود وأصحاب الرس
قوله تعالى
* (وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا * وكلا ضربنا له الامثال وكلا تبرنا تتبيرا) *.
المسألة الأولى: عطف * (عادا) * على (هم) في * (وجعلناهم) * أو على (الظالمين) لأن المعنى ووعدنا الظالمين.
المسألة الثانية: قرىء و * (ثمود) * على تأويل القبيلة، وأما على المنصرف فعلى تأويل الحي أو لأنه اسم للأب الأكبر.
المسألة الثالثة: قال أبو عبيدة الرس هو البئر غير المطوية، قال أبو مسلم: في البلاد موضع يقال له الرس فجائز أن يكون ذلك الوادي سكنا لهم، والرس عند العرب الدفن، ويسمى به الحفر يقال رس الميت إذا دفن وغيب في الحفرة، وفي التفسير أنه البئر، وأي شيء كان فقد أخبر الله تعالى عن أهل الرس بالهلاك انتهى.
المسألة الرابعة: ذكر المفسرون في أصحاب الرس وجوها: أحدها: كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، فبعث الله تعالى إليهم شعيبا عليه السلام فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه فبينما هم حول الرس خسف الله بهم وبدارهم وثانيها: الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وثالثها: أصحاب النبي حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء، وهي أعظم ما يكون من الطير سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا ورابعها: هم أصحاب الأخدود، والرس هو الأخدود وخامسها: الرس أنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار، وقيل (كذبوه) ورسوه في بئر أي دسوه فيها وسادسها: عن علي عليه السلام أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة الصنوبر وإنما سموا بأصحاب الرس لأنهم رسوا نبيهم في الأرض وسابعها: أصحاب الرس قوم كانت لهم قرى على شاطئ نهر يقال له الرس من بلاد المشرق فبعث الله تعالى إليهم نبيا من
ولد يهودا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمنا فشكى إلى الله تعالى منهم فحفروا بئرا ورسوه فيها وقالوا نرجو أن يرضى عنا إلهنا وكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم يقول: إلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف قلبي وقلة حيلتي فعجل قبض روحي حتى مات، فأرسل الله تعالى ريحا
82

عاصفة شديدة الحمرة فصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقد وأظلتهم سحابة سوداء فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص وثامنها: روى ابن جرير عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا عبد أسود ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئرا فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه حجرا ضخما، وكان ذلك العبد يحتطب فيشتري له طعاما وشرابا ويرفع الصخرة ويدليه إليه فكان ذلك ما شاء الله فاحتطب يوما فلما أراد أن يحملها وجد نوما فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما، ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر فنام سبع سنين أخرى، ثم هب فحمل حزمته فظن أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته واشترى طعاما وشرابا وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحدا، وكان قومه قد استخرجوه وآمنوا به وصدقوه، وكان ذلك النبي يسألهم عن الأسود، فيقولون لا ندري حاله حتى قبض الله النبي وقبض ذلك الأسود، فقال عليه السلام: " إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة " واعلم أن القول ما قاله أبو مسلم وهو أن شيئا من هذه الروايات غير معلوم بالقرآن، ولا بخبر قوي الإسناد، ولكنهم كيف كانوا فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم أهلكوا بسبب كفرهم.
المسألة الخامسة: قال النخعي: القرن أربعون سنة، وقال علي عليه السلام: بل سبعون سنة، وقيل مائة وعشرون.
المسألة السادسة: قوله بين ذلك أي * (بين ذلك) * المذكور وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة، ثم يقول فذلك كيت وكيت على معنى فذلك المحسوب أو المعدود.
أما قوله: * (وكلا ضربنا له الأمثال) * فالمراد بينا لهم وأزحنا عللهم فلما كذبوا تبرناهم تتبيرا ويحتمل * (وكلا ضربنا له الأمثال) * بأن أجبناهم عما أوردوه من الشبه في تكذيب الرسل كما أورده قومك يا محمد، فلما لم ينجع فيه تبرناهم تتبيرا، فحذر تعالى بذلك قوم محمد صلى الله عليه وسلم في الاستمرار على تكذيبه لئلا ينزل بهم مثل الذي نزل بالقوم عاجلا وآجلا.
المسألة السابعة: (كلا) الأول منصوب بما دل عليه * (ضربنا له الأمثال) * وهو أنذرنا أو حذرنا، والثاني بتبرنا لأنه فارغ له.
المسألة الثامنة: التتبير التفتيت والتكسير، ومنه التبر وهو كسارة الذهب والفضة والزجاج. القصة الرابعة - قصة لوط عليه السلام
قوله تعالى
* (ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا
83

لا يرجون نشورا) *.
واعلم أنه تعالى أراد بالقرية سدوم من قرى قوم لوط عليه السلام وكانت خمسا أهلك الله تعالى أربعا بأهلها وبقيت واحدة، و (مطر السوء) الحجارة يعني أن قريشا مروا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشأم على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء، * (أفلم يكونوا) * في (مرار) مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله تعالى ونكاله (ويذكرون) * (بل كانوا) * قوما كفرة * (لا يرجون نشورا) * وذكروا في تفسير * (يرجون) * وجوها: أحدها: وهو الذي قاله القاضي وهو الأقوى أنه محمول على حقيقة الرجاء لأن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف ومشاق النظر والاستدلال إلا لرجاء ثواب الآخرة فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها فلا يتحمل تلك المشاق والمتاعب وثانيها: معناه لا يتوقعون نشورا (وعاقبة)، فوضع الرجاء موضع التوقع لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن، وثالثها: معناه لا يخافون على اللغة التهامية، وهو ضعيف والأول هو الحق.
قوله تعالى
* (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذى بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا * أرءيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا) *.
اعلم أنه سبحانه لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته وفي إيراد الشبهات في ذلك، بين بعد ذلك أنهم إدا رأوا الرسول اتخذوه هزوا فلم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار، ويقول بعضهم لبعض * (أهذا الذي بعث الله رسولا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف " (إن) الأولى نافية والثانية مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينهما.
84

المسألة الثانية: جواب (إذا) هو ما أضمر من القول يعني وإذا رأوك مستهزئين قالوا أبعث الله هذا رسولا، وقوله: * (إن يتخذونك) * جملة اعترضت بين (إذا) وجوابها.
المسألة الثالثة: اتخذوه هزوا في معنى استهزؤا به والأصل اتخذوه موضع هزء أو مهزوءا به.
المسألة الرابعة: اعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول أتوا بنوعين من الأفعال أحدهما أنهم يستهزئون به، وفسر ذلك الاستهزاء بقوله: * (أهذا الذي بعث الله رسولا) * وذلك جهل عظيم لأن الاستهزاء إما أن يقع بصورته أو بصفته. أما الأول فباطل لأنه عليه الصلاة والسلام كان أحسن منهم صورة وخلقة، وبتقدير أنه لم يكن كذلك، لكنه عليه السلام ما كان يدعي التمييز عنهم بالصورة بل بالحجة. وأما الثاني فباطل لأنه عليه السلام ادعى التميز عنهم في ظهور المعجز عليه دونهم، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ودلالته، ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم، ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية واستهزؤا بالرسول عليه السلام،
وذلك يدل على أنه ليس للمبطل في كل الأوقات إلا السفاهة والوقاحة. وثانيهما أنهم كانوا يقولون فيه: * (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها) * وذلك يدل على أمور: الأول: أنهم سموا ذلك إضلالا، وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم وفي استعظام صنيعه صلى الله عليه وسلم في صرفهم عنه، وذلك يدل على أنهم كانوا يعتقدون أن هذا هو الحق، فمن هذا الوجه يبطل قول أصحاب المعارف في أنه لا يكفر إلا من يعرف الدلائل لأنهم جهلوه، ثم نسبهم الله تعالى إلى الكفر واضلال، وقولهم: * (لولا أن صبرنا عليها) * يدل أيضا على ذلك الثاني: يدل هذا القول منهم على جد الرسول عليه السلام واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان، ولولا ذلك لما قالوا: * (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها) * وهكذا كان عليه السلام فإنه في أول الأمر بالغ في إيراد الدلائل والجواب عن الشبهات وتحمل ما كانوا يفعلونه من أنواع السفاهة وسوء الأدب الثالث: أن هذا يدل على اعتراف القوم بأنهم لم يعترضوا البتة على دلائل الرسول صلى الله عليه وسلم وما عارضوها إلا بمحض الجحود والتقليد لأن قولهم: * (لولا أن صبرنا عليها) * إشارة إلى الجحود والتقليد، ولو ذكروا اعتراضا على دلائل الرسول عليه السلام لكان ذكر ذلك أولى من ذكر مجرد الجحود والإصرار الذي هو دأب الجهال، وذلك يدل على أن القوم كانوا مقهورين تحت حجته عليه السلام، وأنه ما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة الرابع: الآية تدل على أن القوم صاروا في ظهور حجته عليه السلام عليهم كالمجانين لأنهم استهزؤا به أولا، ثم وصفوه بأنه كاد يضلنا عن آلهتنا لولا أن قابلناه بالجحود والإصرار، فهذا الكلام الأخير يدل على أن القوم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل والكلام الأول وهو السخرية والاستهزاء لا يليق إلا بالجاهل العاجز، فالقوم لما جمعوا بين هذين الكلامين دل ذلك على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره، فتارة بالوقاحة يستهزئون منه، وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل، ثم إنه سبحانه لما حكى عنهم هذا
85

الكلام زيف طريقتهم في ذلك من ثلاثة أوجه أولها: قوله: * (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) * لأنهم لما وصفوه بالإضلال في قولهم: * (إن كان لضلنا) * بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه فهو وعيد شديد لهم على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر وثانيها: قوله تعالى: * (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) * والمعنى أنه سبحانه بين أن بلوغ هؤلاء في جهالتهم وإعراضهم عن الدلائل إنما كان لاستيلاء التقليد عليهم وأنهم اتخذوا أهواءهم آلهة، فكل ما دعاهم الهوى إليه انقادوا له، سواء منع الدليل منه أو لم يمنع، ثم ههنا أبحاث:
الأول: قوله: * (أرأيت) * كلمة تصلح للإعلام والسؤال، وههنا هي تعجيب من جهل من هذا وصفه ونعته.
الثاني: قوله: * (اتخذ إلهه هواه) * معناه اتخذ إلهه ما يهواه أو إلها يهواه، وقيل هو مقلوب ومعناه اتخذ هواه إلهه وهذا ضعيف، لأن قوله: * (اتخذ إلهه هواه) * يفيد الحصر، أي لم يتخذ لنفسه إلها إلا هواه، وهذا المعنى لا يحصل عند القلب. قال ابن عباس: الهوى إله يعبد، وقال سعيد بن جبير: كان الرجل من المشركين يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده.
الثالث: قوله: * (أفأنت تكون عليه وكيلا) * أي حافظا تحفظه من اتباع هواه أي لست كذلك.
الرابع: نظير هذه الآية قوله تعالى: * (لست عليهم بمسيطر) * (الغاشية: 22) وقوله: * (وما أنت عليهم بجبار) * (ق: 45) وقوله: * (لا إكراه في الدين) * (البقرة: 256) قال الكلبي: نسختها آية القتال وثالثها: قوله: * (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون) * أم ههنا منقطعة، معناه بل تحسب، وذلك يدل على أن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها، وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول، لأنهم لشدة عنادهم لا يصغون إلى الكلام، وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه، فكأنه ليس لهم عقل ولا سمع البتة، فعند ذلك شبههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكر وإقبالهم على اللذات الحاضرة الحسية وإعراضهم عن طلب السعادات الباقية العقلية وها هنا سؤالات:
السؤال الأول: لم قال: * (أم تحسب أن أكثرهم) * فحكم بذلك على الأكثر دون الكل؟ والجواب: لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق، إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل. السؤال الثاني: لم جعلوا أضل من الأنعام؟ الجواب: من وجوه: أحدها: أن الأنعام تنقاد لأربابها وللذي يعلفها ويتعهدها وتميز بين من يحسن إليها وبين من يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يميزون بين إحسانه إليهم وبين إساءة الشيطان إليهم الذين هو عدو لهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يحترزون من العقاب الذي هو أعظم المضار وثانيها: أن قلوب الأنعام كما أنها تكون خالية عن العلم فهي
86

خالية عن الجهل الذي هو اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو عليه مع التصميم. وأما هؤلاء فقلوبهم كما خلت عن العلم فقد اتصفت بالجهل فإنهم لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون، بل هم مصرون على أنهم يعلمون وثالثها: أن عدم علم الأنعام لا يضر بأحد أما جهل هؤلاء فإنه منشأ للضرر العظيم، لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجا ورابعها: أن الأنعام لا تعرف شيئا ولكنهم عاجزون عن الطلب وأما هؤلاء الجهال فإنهم ليسوا عاجزين عن الطلب، والمحروم عن طلب المراتب العالية إذا عجز عنه لا يكون في استحقاق الذم كالقادر عليه التارك له لسوء اختياره وخامسها: أن البهائم لا تستحق عقابا على عدم العلم، أما هؤلاء فإنهم يستحقون عليه أعظم العقاب وسادسها: أن البهائم تسبح الله تعالى على مذهب بعض الناس على ما قال * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الأسراء: 44) وقال: * (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات) * إلى قوله: * (والدواب) * (الحج: 18) وقال: * (والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه) * (النور: 41) وإذا كان كذلك فضلال الكفار أشد وأعظم من ضلال هذه الأنعام.
السؤال الثالث: أنه سبحانه لما نفى عنهم السمع والعقل، فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث الرسول إليهم فإن من شرط التكليف العقل؟ الجواب: ليس المراد أنهم لا يعقلون بل إنهم لا ينتفعون بذلك العقل، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم إنما أنت أعمى وأصم.
قوله تعالى
* (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شآء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا * وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا * وهو الذى أرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته وأنزلنا من السمآء مآء طهورا * لنحيى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنآ أنعاما وأناسى كثيرا) *.
87

اعلم أنه تعالى لما بين جهل المعرضين عن دلائل الله تعالى وفساد طريقهم في ذلك ذكر بعده أنواعا من الدلائل الدالة على وجود الصانع.
النوع الأول: الاستدلال بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (ألم تر) * فيه وجهان: أحدهما: أنه من رؤية العين والثاني: أنه من رؤية القلب يعني العلم، فإن حملناه على رؤية العين فالمعنى أم تر إلى الظل كيف مده ربك وإن كان تخريج لفظه على عادة العرب أفصح وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج، فالمعنى ألم تعلم وهذا أولى وذلك أن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله تعالى في تمديده غير مرئي بالاتفاق، ولكنه معلوم من حيث إن كل متغير جائز فله مؤثر فحمل هذا اللفظ على رؤية القلب أولى من هذا الوجه.
المسألة الثانية: المخاطب بهذا الخطاب وإن كان هو الرسول عليه السلام بحسب ظاهر اللفظ ولكن الخطاب عام في المعنى، لأن المقصود من الآية بيان نعم الله تعالى بالظل، وجميع المكلفين مشتركون في أنه يجب تنبههم لهذه النعمة وتمكنهم من الاستدلال بها على وجود الصانع.
المسألة الثالثة: الناس أكثروا في تأويل هذه الآية والكلام الملخص يرجع إلى وجهين:
الأول: أن الظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص وبين الظلمة الخالصة وهو ما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس، وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران وهذه الحالة أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس، وأما الضوء الخالص وهو الكيفية الفائضة من الشمس فهي لقوتها تبهر الحس البصري وتفيد السخونة القوية وهي مؤذية، فإذن أطيب الأحوال هو الظل ولذلك وصف الجنة به فقال: * (وظل ممدود) * (الواقعة: 30) وإذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه بين أنه من النعم العظيمة والمنافع الجليلة، ثم إن الناظر إلى الجسم الملون وقت الظل كأنه لا يشاهد شيئا سوى الجسم وسوى اللون، ونقول الظل ليس أمرا ثالثا، ولا يعرف به إلا إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم زال ذلك الظل فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجودا وماهية لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها، فلولا الشمس لما عرف الظل، ولولا الظلمة لما عرف النور، فكأنه سبحانه وتعالى لما طلع الشمس على الأرض وزال الظل، فحينئذ ظهر للعقول أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون، فلهذا قال سبحانه * (ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) * أي خلقنا الظل أولا بما فيه من المنافع واللذات ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت الشمس دليلا على وجود هذه النعمة، ثم قبضناه أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيرا يسيرا فإن كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل في جانب المغرب، ولما كان الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيرا يسيرا فكذا زوال الإظلال لا يكون
88

دفعة بل يسيرا يسيرا، ولأن قبض الظل لو حصل دفعة لاختلت المصالح، ولكن قبضها يسيرا يسيرا يفيد معه أنواع مصالح العالم، والمراد بالقبض الإزالة والإعدام هذا أحد التأويلين.
التأويل الثاني: وهو أنه سبحانه وتعالى لما خلق الأرض والسماء وخلق الكواكب والشمس والقمر وقع الظل على الأرض، ثم إنه سبحانه خلق الشمس دليلا عليه وذلك لأن بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فإنهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر، وكما أن المهتدي يهتدي بالهادي والدليل ويلازمه، فكذا الأظلال كأنها مهتدية وملازمة للأضواء فلهذا جعل الشمس دليلا عليها.
وأما قوله: * (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) * فأما أن يكون المراد منه انتهاء الأظلال يسيرا يسيرا إلى غاية نقصاناتها، فسمى إزالة الأظلال قبضا لها أو يكون المراد من قبضها يسيرا قبضها عند قيام الساعة، وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الأظلال وقوله: * (يسيرا) * هو كقوله: * (ذلك حشر علينا يسير) * (ق: 44) فهذا هو التأويل الملخص.
المسألة الرابعة: وجه الاستدلال به على وجود الصانع المحسن أن حصول الظل أمر نافع للأحياء والعقلاء، وأما حصول الضوء الخالص، أو الظلمة الخالصة، فهو ليس من باب المنافع، فحصول ذلك الظل، إما أن يكون من الواجبات أو من الجائزات، والأول باطل وإلا لما تطرق التغير إليه، لأن الواجب لا يتغير فوجب أن يكون من الجائزات، فلا بد له في وجوده بعد العدم، وعدمه بعد الوجود، من صانع قادر مدبر محسن يقدره بالوجه النافع، وما ذاك إلا من يقدر على تحريك الأجرام العلوية وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن والترتيب الأكمل، وما هو إلا الله سبحانه وتعالى. فإن قيل: الظل عبارة عن عدم الضوء عما شأنه أن يضيء، فكيف استدل بالأمر العدمي على ذاته، وكيف عده من النعم؟ قلنا: الظل ليس عدما محضا، بل هو أضواء مخلوطة بظلم، والتحقيق أن الظل عبارة عن الضوء الثاني وهو أمر وجودي، وفي تحقيقه وبسطه كلام دقيق يرجع فيه إلى كتبنا العقلية.
النوع الثاني: قوله تعالى: * (وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا) * اعمل أنه تعالى شبه الليل من حيث إنه يستر الكل ويغطي باللباس الساتر للبدن، ونبه على ما لنا فيه من النفع بقوله: * (والنوم سباتا) * والسبات هو الراحة وجعل النوم سباتا لأنه سبب للراحة قال أبو مسلم: السبات الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت، وقال صاحب " الكشاف " السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة قال: وهذا كقوله: * (وهو الذي يتوفاكم بالليل) * (الأنعام: 60) وإنما قلنا إن تفسيره بالموت أولى من تفسيره بالراحة، لأن النشور في مقابلته يأباه،
قال أبو مسلم: وجعل النهار نشورا) * هو بمعنى الانتشار والحركة كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة، فقال: * (الله يتوفى الأنفس
89

حين موتها) * (الزمر: 42) والتي لم تمت في منامها كذلك وفق بين القيام من النوم والقيام من الموت في التسمية بالنشور، وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمه على خلقه، لأن الاحتجاب بستر الليل كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية، والنوم واليقظة شبههما بالموت والحياة، وعن لقمان أنه قال لابنه: كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
النوع الثالث: قوله: * (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يديه رحمته) * وقد تقدم تفسيره في سورة الأعراف، ثم فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء (الريح) و (الرياح)، قال الزجاج: وفي (نشرا) خمسة أوجه بفتح النون وبضمها وبضم النون والشين وبالباء الموحدة مع ألف والمؤنث وبشرا بالتنوين، قال أبو مسلم في قرأ (بشرا) أراد جمع بشير مثل قوله تعالى: * (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) * (الروم: 46) وأما بالنون فهو في معنى قوله: * (والناشرات نشرا) * (المرسلات: 3) وهي الرياح، والرحمة الغيث والماء والمطر.
المسألة الثانية: قوله: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * نص في أنه تعالى ينزل الماء من السماء، لا من السحاب. وقول من يقول السحاب سماء ضعيف لأن ذاك بحسب الاشتقاق، وأما بحسب وضع اللغة فالسماء اسم لهذا السقف المعلوم فصرفه عنه ترك للظاهر.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن الطهور ما هو؟ قال كثير من العلماء الطهور ما يتطهر به كالفطور ما يفطر به، والسحور ما يتسحر به وهو مروي أيضا عن ثعلب، وأنكر صاحب " الكشاف " ذلك، وقال ليس فعول من التفعيل في شيء والطهور على وجهين في العربية: صفة واسم غير صفة فالصفة قولك: ماء طهور كقولك طاهر، والاسم قولك طهور لما يتطهر به كالوضوء والوقود لما يتوضأ به ويوقد به النار. حجة القول الأول قوله عليه السلام: " التراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج " ولو كان معنى الطهور الطاهر لكان معناه التراب طاهر للمسلم وحينئذ لا ينتظم الكلام، وكذا قوله عليه السلام: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا " ولو كان الطهور الطاهر لكان معناه طاهر إناء أحدكم وحينئذ لا ينتظم الكلام، ولأنه تعالى قال: * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) * (الأنفال: 11) فبين أن المقصود من الماء إنما هو التطهر به فوجب أن يكون المراد من كونه طهورا أنه هو المطهر به لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام، فوجب حمله على الوصف الأكمل ولا شك أن المطهر أكمل من الطاهر.
المسألة الرابعة: اعلم أن الله تعالى ذكر من منافع الماء أمرين: أحدهما: ما يتعلق بالنبات والثاني: ما يتعلق بالحيوان، أما أمر النبات فقوله: * (لنحيي به بلدة ميتا) * وفيه سؤالات:
السؤال الأول: لم قال * (لنحيي به بلدة) * ميتا ولم يقل ميتة؟ الجواب: لأن البلدة في معنى البلد في قوله: * (فسقناه إلى بلد ميت) * (فاطر: 9).
السؤال الثاني: ما المراد من حياة البلد وموتها؟ الجواب: الناس يسمون ما لا عمارة فيه من الأرض مواتا، وسقيها المقتضي لعمارتها إحياء لها.
90

السؤال الثالث: أن جماعة الطبائعيين وكذا الكعبي من المعتزلة قالوا إن بطبع الأرض والماء وتأثير الشمس فيهما يحصل النبات وتمسكوا بقوله تعالى: * (لنحيي به بلدة ميتا) * فإن الباء في (به) تقتضي أن للماء تأثيرا في ذلك الجواب: الظاهر وإن دل عليه لكن المتكلمون تركوه لقيام الدلالة على فساد الطبع وأما أمر الحيوان فقوله سبحانه: * (ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) * وفيه سؤالات:
السؤال الأول: لم خص الإنسان والأنعام ههنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء؟ الجواب: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام لأنها قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها فكأن الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم بسقيهم.
السؤال الثاني: ما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفهما بالكثرة؟ الجواب: معناه أن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار (ومنافع) المياه فهم في غنية (في شرب المياه عن المطر)، وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وذلك قوله: * (لنحيي به بلدة ميتا) * يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظان الماء ويحتمل في (كثير) أن يرجع إلى قوله: * (ونسقيه) * لأن الحي يحتاج إلى الماء حالا بعد حال وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين، حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان إلى الضرر أقرب، والحيوان يحتاج إليه حالا بعد حال ما دام حيا.
السؤال الثالث: لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي الجواب: لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا لأرضهم ومواشيهم فقد ظفروا أيضا بسقياهم وأيضا فقوله تعالى: * (ولقد صرفناه بينهم) * (الفرقان: 50) يعني صرف المطر كل سنة إلى جانب آخر، وإذا كان كذلك فلا يسقي الكل منه بل يسقي كل سنة أناسي كثيرا منه.
السؤال الرابع: ما الأناسي؟ الجواب: قال الفراء والزجاج: الإنسي والأناسي كالكرسي والكراسي، ولم يقل كثيرين لأنه قد جاء فعيل مفردا ويراد به الكثرة كقوله: * (وقرونا بين ذلك كثيرا) * (الفرقان: 38) * (وحسن أولئك رفيقا) * (النساء: 69).
واعلم أن الفقهاء قد استنبطوا أحكام المياه من قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * ونحن نشير إلى معاقد تلك المسائل فنقول ههنا نظران: أحدهما: أن الماء مطهر والثاني: أن غير الماء هل هو مطهر أم لا؟ النظر الأول: أن نقول الماء إما أن لا يتغير أو يتغير القسم الأول وهو الذي لا يتغير فهو طاهر في ذاته مطهر لغيره، إلا الماء المستعمل
91

فإنه عند الشافعي طاهر وليس بمطهر، وقال مالك والثوري يجوز الوضوء به، وقال أبو حنيفة في رواية أبي يوسف إنه نجس فههنا مسائل:
المسألة الأولى: في بيان أنه ليس بمطهر، ودليلنا قوله عليه السلام: " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا لما كان للمنع منه معنى، ومن وجه القياس أن الصحابة كانوا يتوضؤون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء، ولو كان ذلك الماء مطهرا لحملوه ليوم الحاجة، واحتج مالك بالآية والخبر والقياس. أما الآية فمن وجهين: الأول: قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * وقوله: * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) * (الأنفال: 11) فدلت الآية على حصول وصف المطهرية للماء، والأصل في الثابت بقاؤه، فوجب الحكم ببقاء هذه الصفة للماء بعد صيرورته مستعملا، وأيضا قوله: * (طهورا) * يقتضي جواز التطهر به مرة بعد أخرى والثاني: أنه أمر بالغسل مطلقا في قوله: * (فاغسلوا) * (المائدة: 6) واستعمال كل المائعات غسل، لأنه لا معنى للغسل إلا إمرار الماء على العضو، قال الشاعر:
فمن اغتسل بالماء المستعمل فقد أتى بالغسل، فوجب أن يكون مجزئا له لأنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة وأما السنة فما روي أنه عليه السلام " توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده " وعنه عليه السلام: " أنه توضأ فأخذ من بلل لحيته فمسح به رأسه " وعن ابن عباس أنه عليه السلام: " اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء، فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة ". وأما القياس فإنه ماء طاهر لقي جسدا طاهرا فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديدا، وكذا الماء المستعمل في الكرة الرابعة والمستعمل في التبرد والتنظيف، ولأنه لا خلاف أنه إذا وضع الماء على أعلى وجهه وسقط به فرض ذلك الموضع، ثم نزل ذلك الماء بعينه إلى بقية الوجه فإنه يجزيه مع أن ذلك الماء صار مستعملا في أعلى الوجه.
المسألة الثانية: الدليل على أن الماء المستعمل طاهر قوله تعالى: * (وأنزلنا من المساء ماء طهورا) * ومن السنة أنه عليه السلام: أخذ من بلل لحيته ومسح به رأسه، وقال: " خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه " وقال الشافعي: إنه عليه السلام توضأ ولا شك أنه أصابه ما تساقط منه، ولم ينقل أنه غير ثوبه ولا أنه غسله، ولا أحد من المسلمين فعل ذلك، فثبت أنهم أجمعوا على أنه ليس بنجس، ولأنه ماء طاهر لقي جسما طاهرا فأشبه ما إذا لاقى حجارة.
المسألة الثالثة: الماء المستعمل إما أن يكون مستعملا في أعضاء الوضوء أو في غسل الثياب، أما المستعمل في أعضاء الوضوء فإما أن يكون مستعملا فيما كان فرضا وعبادة، أو فيما كان فرضا ولا يكون عبادة، أو فيما كان عبادة ولا يكون فرضا، أو فيما لا يكون فرضا ولا عبادة.
أما القسم الأول: وهو المستعمل فيما كان فرضا وعبادة فهو غير مطهر باتفاق أصحاب الشافعي.
وأما القسم الثاني: فهو كالماء الذي استعملته الذمية التي تحت الزوج المسلم، أي في غسل
92

حيضها ليحل للزوج غشيانها. وأما القسم الثالث: فهو كالماء المستعمل في الكرة الثانية والثالثة، والماء المستعمل في تجديد الوضوء، والماء المستعمل في الأغسال المسنونة، فلأصحاب الشافعي في هذين القسمين وجهان: وأما القسم الرابع: فهو كالماء المستعمل في الكرة الرابعة، وفي التبرد والتنظف، فذاك باتفاق أصحاب الشافعي غير مستعمل، وهو طاهر مطهر، أما الماء المستعمل في غسل الثياب، فإذا غسل ثوبا من نجاسة وطهر بغسلة واحدة، يستحب أن يغسله ثلاثا فالمنفصل في الكرة الثانية والثالثة مطهر على الأصح القسم الثاني: الماء الذي يتغير فنقول الماء إذا تغير، فإما أن يتغير بنفسه أو بغيره، أما الأول فكالمتغير بطول المكث فيجوز الوضوء به، لأنه عليه السلام كان يتوضأ من بئر (قضاعة)، وكان ماؤها كأنه نقاعة الحناء، وأما المتغير بسبب غيره فذلك الغير إما أن لا يكون متصلا به أو يكون متصلا به. أما الذي لا يكون متصلا به فهو كما لو وقع بقرب الماء جيفة فصار الماء منتنا بسببها فهو أيضا مطهر، وأما إذا تغير بسبب شيء متصل به فذلك المتصل إما أن يكون طاهرا أو نجسا القسم الأول: إذا كان طاهرا فهو إما أن لا يخالطه أو يخالطه، فإن لم يخالطه فهو كالماء المتغير بسبب وقوع الدهن والطيب والعود والعنبر والكافور الصلب فيه وهذا أيضا مطهر كما لو كان بقرب الماء جيفة، ولأن الطهورية ثبتت بقوله: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * والأصل في الثابت بقاؤه، وأما المتغير بسبب شيء يخالطه، فذلك المخالط إما أن لا يمكن صون الماء عنه أو يمكن، أما الذي لا يمكن فكالمتغير بالتراب والحمأة والأوراق التي تقع فيه والطحلب الذي يتولد فيه، وهذا أيضا مطهر، لأن الطهورية ثبتت بالآية والاحتراز عن ذلك عسير، فيكون مرفوعا لقوله: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وكذا لو جرى الماء في طريقه على معدن زرنيخ أو نورة أو كحل أو وقع شيء منها فيه أو نبع من معادنها، أما إذا تغير الماء بسبب مخالطة ما يستغنى الماء عن جنسه نظر إن كان التغير قليلا، بحيث لا يضاف الماء إليه بأن وقع فيه زعفران فاصفر قليلا، أو دقيق فابيض قليلا، جاز الوضوء به على الصحيح من المذهب، لأنه لم يسلبه إطلاق اسم الماء، وأما إن كان التغير كثيرا فإن استحدث اسما جديدا كالمرقة لم يجز الوضوء به بالاتفاق، وإن لم يستحدث اسما جديدا فعند الشافعي لا يجوز الوضوء به، وعند أبي حنيفة يجوز. حجة الشافعي من وجوه: أحدها: أنه عليه السلام توضأ ثم قال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " فذلك الوضوء إن كان واقعا بالماء المتغير وجب أن لا يجوز إلا به، وبالاتفاق ليس الأمر كذلك، فثبت أنه كان بماء غير متغير وهو المطلوب وثانيها: أنه إذا اختلط ماء الورد بالماء ثم توضأ الإنسان به، فيحتمل أن بعض الأعضاء قد انغسل بماء الورد دون الماء، وإذا كان كذلك فقد وقع الشك في حصول الوضوء وكان تيقن الحدث قائما، والشك لا يعارض اليقين فوجب أن يبقى على الحدث، بخلاف ما إذا كان قليلا لا يظهر أثره فإنه صار كالمعدوم،
93

أما إذا ظهر أثره علمنا أنه باق فيتوجه ما ذكرناه وثالثها: أن الوضوء تعبد لا يعقل معناه، فإنه لو توضأ بماء الورد لا يصح وضوؤه ولو توضأ بالماء الكدر المتعفن صح وضوؤه. وما لا يعقل معناه وجب الاقتصار فيه على مورد النص وترك القياس.
حجة أبي حنيفة وجوه: أحدها: قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * دلت الآية على كون الماء مطهرا والأصل في الثابت بقاؤه، فوجب بقاء هذه الصفة بعد التغير بالمخالطة وثانيها: قوله تعالى: * (فاغسلوا) * (المائدة: 6) أمر بمطلق الغسل وقد أتى به فوجب أن يخرج عن العهدة وقد بينا تقرير هذا الوجه فيما
تقدم وثالثها: قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * (النساء: 43) علق جواز التيمم بعدم وجدان الماء وواجد هذا الماء المتغير واجد للماء لأن الماء المتغير ماء مع صفة التغير، والموصوف موجود حال وجود الصفة، فوجب أن لا يجوز له التيمم ورابعها: قوله عليه السلام في البحر: " هو الطهور ماؤه " ظاهره يقتضي جواز الطهارة به وإن خالطه غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق ذلك وخامسها: أنه عليه السلام أباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن خالطه شيء من لعابهما وسادسها: لا خلاف في الوضوء بماء المدر والسيول مع تغير لونه بمخالطة الطين وما يكون في الصحارى من الحشيش والنبات، ومن أجل مخالطة ذلك له يرى تارة متغيرا إلى السواد وأخرى إلى الحمرة والصفرة فصار ذلك أصلا في جميع ما خالط الماء إذا لم يغلب عليه فيسلبه اسم الماء القسم الثاني: إذا كان المخالط للماء شيئا نجسا فمن الناس من زعم أن الماء لا ينجس ما لم يتغير بالنجاسة سواء كان قليلا أو كثيرا وهو قول الحسن البصري والنخعي ومالك وداود، وإليه مال الشيخ الغزالي في كتاب " الإحياء "، وقال أبو بكر الرازي مذهب أصحابنا أن كل ما تيقنا فيه جزأ من النجاسة أو غلب على الظن ذلك لم يجز استعماله ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري، لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري، وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر، فإنما هو كلام في جهة تغليب الظن في بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر، وليس هو كلامنا في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعمالها، وبعضها لا يجوز استعماله هذا كله كلام أبي بكر وأقول: من الناس من فرق بين القليل والكثير فعن عبد الله بن عمر: " إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شيء " وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " الحوض لا يغتسل فيه جنب إلا أن يكون فيه أربعون غربا " وهو قول محمد بن كعب القرظي، وقال مسروق وابن سيرين: إذا كان الماء كثيرا لا ينجسه شيء، وقال سعيد بن جبير: الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال وقال الشافعي: إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه، وإن كان أقل ينجس لظهور النجاسة فيه.
واعلم أنه يمكن التمسك لنصرة قول مالك بوجوه: أحدها: قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء
94

ماء طهورا) * ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه فيبقى فيما عداه على الأصل وثانيها: قوله عليه السلام: " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه " وهو نص في الباب وثالثها: قوله تعالى: * (فاغسلوا وجوهكم) * (المائدة: 6) المتوضئ بهذا الماء قد غسل وجهه فيكون آتيا بما أمر به فيخرج عن العهدة ورابعها: أن من شأن كل مختلطين كان أحدهما غالبا على الآخر أن يتكيف المغلوب بكيفية الغالب فالقطرة من الخل لو وقعت في الماء الكثير بطلت صفة الخلية عنها واتصفت بصفة الماء، وكون أحدهما غالبا على الآخر إنما يعرف بغلبة الخواص والآثار المحسوسة وهي الطعم أو اللون أو الريح، فلا جرم مهما ظهر طعم النجاسة أو لونها أو ريحها كانت النجاسة غالبة على الماء وكان الماء مستهلكا فيها، فلا جرم يغلب حكم النجاسة فإذا لم يظهر شيء من ذلك كان الغالب هو الماء وكانت النجاسة مستهلكة فيه فيغلب حكم الطهارة وخامسها: ما روي عن عمر (أنه) توضأ من جرة نصرانية، مع أن نجاسة أواني النصارى معلومة بظن قريب من العلم، وذلك يدل على أن عمر لم يعول إلا على عدم التغير وسادسها: أن تقدير الماء بمقدار معلوم ولو كان معتبرا كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند أبي حنيفة رضي الله عنه لكان أولى المواضع بالطهارة مكة والمدينة لأنه لا تكثر المياه هناك لا الجارية وإلا الراكدة الكثيرة ومن أول عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصر الصحابة لم ينقل أنهم خاضوا في تقدير المياه بالمقادير المعينة، ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظ المياه عن النجاسات وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات وسابعها: إصغاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء للهرة وعدم منعهم الهرة من شرب الماء من أوانيهم بعد أن كانوا يرون أنه تأكل الفأرة ولم يكن في بلادهم حياض تلغ السنانير فيها وكانت لا تنزل إلى الآبار وثامنها: أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسات طاهرة إذا لم تتغير ونجسة إذا تغيرت، وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه؟ وأي معنى لقول القائل إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم تمنع المخالطة وتاسعها: أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة، ولا خلاف أن مذهب الشافعي إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير أنه يجوز الوضوء به وإن كان قليلا، وأي فرق بين الجاري والراكد؟ وليت شعري الحوالة على عدم التغير أولى أو على قوة الماء بسبب الجريان؟ وعاشرها: إذا وقع بول في قلتين ثم فرقتا فكل كوز يؤخذ منه فهو ظاهر على قول الشافعي ومعلوم أن البول منتشر فيه وهو قليل، فأن فرق بينه إذا وقع ذلك القليل في ذلك القدر من الماء ابتداء، وبينه إذا وصل إليه عند اتصال غيره به؟ وحادي عشرها: أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ فيها المتقشفون ويغمسون الأيدي والأواني في ذلك القليل من الماء من تلك الحياض مع علمهم بأن الأيدي الطاهرة والنجسة كانت تتوارد عليها ولو كان التقدير بالقلتين معتبرا لاشتهر ذلك ولبلغ ذلك إلى حد التواتر، لأن الأمر الذي تشتد حاجة
95

الجمهور إليه يجب بلوغ نقله إلى حد التواتر لما لم يكن كذلك علمنا أنه غير معتبر وثاني عشرها: أنا لو حكمنا بنجاسة الماء فلا يمكننا أن نحكم بنجاسة الماء إن كان في غاية الكثرة مثل ماء الأودية العظيمة والغدران الكبار، فإن ذلك بالإجماع باطل، فلا بد من التقدير بمقدار معين، وقد نقلنا عن الناس تقديرات مختلفة فليس بعضها أولى من بعض فوجب التعارض والتساقط، أما تقدير أبي حنيفة بعشر في عشر فمعلوم أنه مجرد تحكم، وأما تقدير الشافعي بالقلتين بناء على قوله عليه السلام: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا " فضعيف أيضا لأن الشافعي لما روى هذا الخبر، قال أخبرني رجل فيكون الراوي مجهولا، ويكون الحديث مرسلا وهو عنده ليس بحجة، وأيضا زعم كثير من المحدثين أنه موقوف على ابن عمر رضي الله عنه، سلمنا صحة الرواية لكنه إحالة مجهول على مجهول لأن القلة غير معلومة فإنها تصلح للكوز والجرة ولكل ما نقل باليد، وهو أيضا اسم لهامة الرجل ولقلة الجبل، سلمنا كون القلة معلومة لكن في متن الخبر اضطراب فإنه روي " إذا بلغ الماء قلتين "، وروي " إذا بلغ قلة "، وروي " أربعين قلة "، وروي " إذا بلغ قلتين أو ثلاثا "، وروي " إذا بلغ كوزين " سلمنا صحة المتن ولكنه متروك الظاهر لأن قوله " لم يحمل خبثا " لا
يمكن إجراؤه على ظاهره، فإن الخبث إذا ورد عليه فقد حمله، سلمنا إمكان إجرائه على ظاهره لكن الخبث على قسمين خبث شرعي وخبث حقيقي، والاسم إذا دار بين المسمى اللغوي والمسمى الشرعي، كان حمله على المسمى اللغوي أولى، لأن الاسم حقيقة في المسمى اللغوي مجاز في المسمى الشرعي، دفعا للاشتراك والنقل، وإذا كان كذلك وجب حمله عليه، والمسمى اللغوي للخبث المستقذر بالطبع قال عليه السلام: " ما استخبثته العرب فهو حرام " إذا ثبت هذا فنقول: معنى قوله " لم يحمل خبثا " أي لا يصير مستقذرا طبعا، ونحن نقول بموجبه لكن لم قلت إنه لا ينجس شرعا، سلمنا أن المراد من الخبث النجاسة الشرعية لكن قوله " لم يحمل خبثا " أي يضعف عن حمله ومعنى الضعف تأثره به، فيكون هذا دليلا على صيرورته نجسا لا على بقائه طاهرا. لا يقال: الجواب عن هذه الأسئلة أن يقال إن الشافعي وإن لم يذكر اسم الراوي في بعض المواضع فقد ذكره في سائر المواضع فخرج عن كونه مرسلا، ولأن سائر المحدثين قد عينوا اسم الراوي. قوله إنه موقوف على ابن عمر، قلنا لا نسلم فإن يحيى بن معين قال إنه جيد الإسناد فقيل له إن ابن علية وقفه على ابن عمر، فقال إن كان ابن علية وقفه فحماد بن سلمة رفعه وقوله القلة مجهولة قلنا لا نسلم لأن ابن جريج قال في روايته " بقلال هجر ". ثم قال: وقد شاهدت قلال هجر فكانت القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا. قوله في متنه اضطراب قلنا لا نسلم لأنا وأنتم توافقنا على أن سائر المقادير غير معتبرة فيبقى ما ذكرناه معتبرا. قوله إنه متروك الظاهر قلنا إذا حملناه على الخبث الشرعي اندفع ذلك، وذلك أولى لأن حمل كلام الشرع على الفائدة الشرعية أولى من حمله على المعنى العقلي، لا سيما وفي حمله على المعنى العقلي يلزم التعطيل، قوله المراد أنه يضعف عن حمله قلنا صح في بعض الروايات أنه قال: " إذا كان الماء قلتين لم ينجس "، ولأنه عليه السلام جعل القلتين شرطا لهذا الحكم، والمعلق على الشرط عدم
96

عند عدم الشرط وعلى ما ذكروه لا يبقى للقلتين فائدة لأنا نقول: لا شك أن هذا الخبر بتقدير الصحة يقتضي تخصيص عموم قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * وعموم قوله: * (ولكن يريد ليطهركم) * (المائدة: 6) وعموم قوله: * (فاغسلوا وجوهكم) * (المائدة: 6) وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء " وهذا المتخصص لا بد وأن يكون بعيدا عن الاحتمال والاشتباه وقلال هجر مجهولة وقول ابن جريج القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا ليس بحجة، لأن القلة كما أنها مجهولة فكذا القربة مجهولة فإنها قد تكون كبيرة، وقد تكون صغيرة، ولأن الروايات أيضا مختلفة فتارة قال " إذا بلغ الماء قلتين "، وتارة " أربعين قلة "، وتارة كرين فإذا تدافعت وتعارضت لم يجز تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر. هذا تمام الكلام في نصرة قول مالك، واحتج من حكم بنجاسة الماء الذي تقع النجاسة فيه بوجوه: أولها: قوله تعالى: * (ويحرم عليهم الخبائث) * (الأعراف: 157) والنجاسات من الخبائث، وقال تعالى: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم) * (النحل: 115)، وقال في الخمر: * (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) * (المائدة: 90) ومر عليه السلام بقبرين فقال: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير إن أحدهما كان لا يستبرئ من البول والآخر كان يمشي بالنميمة " فحرم الله هذه الأشياء تحريما مطلقا، ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء، فوجب تحريم استعمال كل ما يبقى فيه جزء من النجاسة أكثر ما في الباب أن الدلائل الدالة على كون الماء مطهرا تقتضي جواز الطهارة به، ولكن تلك الدلائل مبيحة والدلائل التي ذكرناها حاظرة والمبيح والحاظر إذا اجتمعا فالغلبة للحاظر، ألا ترى أن الجارية بين رجلين لو كان لأحدهما منها مائة جزء وللآخر جزء واحد، أن جهة الحظر فيها أولى من جهة الإباحة، وأنه غير جائز لواحد منهما وطؤها فكذا ههنا وثانيها: قوله عليه السلام: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة " ذكره على الإطلاق من غير فرق بين القليل والكثير وثالثها: قوله عليه السلام: " إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده " فأمر بغسل اليد احتياطا من نجاسة قد أصابته من موضع الاستنجاء، ومعلوم أن مثلها إذا أدخلت الماء لم تغيره ولولا أنها تفسده ما كان للأمر بالاحتياط منها معنى ورابعها: قوله عليه السلام: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا " يدل بمفهومه على أنه إذا لم يبلغ قلتين وجب أن يحمل الخبث. أجاب مالك عن الوجه الأول فقال لا نزاع في أنه يحرم استعمال النجاسة ولكن الجزء القليل من النجاسة المائعة إذا وقع في الماء لم يظهر فيه لونه ولا طعمه ولا رائحته، فلم قلتم إن تلك النجاسة بقيت، ولم لا يجوز أن يقال إنها انقلبت عن صفتها؟ وتقريره ما قدمناه. وأما قوله عليه السلام: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم " فلم قلتم إن هذا النهي ليس إلا لما ذكرتموه، بل لعل النهي إنما كان لأنه ربما شربه إنسان وذلك مما ينفر طبعه عنه، وليس الكلام في نفرة الطبع، وأما قوله: " إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثا " فقد أجمعنا على أن هذا الأمر استحباب، فالمرتب عليه كيف يكون أمر إيجاب
97

ثم بتقدير أن يكون أمر إيجاب، فلم قلتم إنه لم يوجه ذلك الإيجاب إلا لما ذكرتموه؟ وأما قوله عليه السلام: " إذا بلغ الماء قلتين " فقد سبق الكلام عليه، ثم بعد النزول عن كل ما قلناه فهو تمسك بالمفهوم والنصوص التي ذكرناها منطوقة والمنطوق راجح على المفهوم، والله أعلم.
النظر الثاني: في أن غير الماء هل هو طهور أم لا؟ فقال الأصم والأوزاعي يجوز الوضوء بجميع المائعات، وقال أبو حنيفة يجوز الوضوء بنبيذ التمر في السفر، وقال أيضا تجوز إزالة النجاسة بجميع المائعات التي تزيل أعيان النجاسات، وقال الشافعي رضي الله عنه الطهورية مختصة بالماء على الإطلاق ودليله في صورة الحدث قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * (النساء: 43) أوجب التيمم عند عدم الماء، ولو جاز الوضوء بالخل أو نبيذ التمر لما وجب التيمم عند عدم الماء، وأما في صورة الخبث، فلأن الخل لو أفاد طهارة الخبث لكان طهورا لأنه لا معنى للطهور إلا المطهر ولو كان طهورا لوجب أن يجوز به طهارة الحدث لقوله عليه السلام: " لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه " وكلمة (حتى) لانتهاء الغاية فوجب انتهاء عدم القبول عند استعمال الطهور وانتهاء عدم القبول يكون بحصول القبول، فلو كان الخل طهورا لحصل باستعماله قبول الصلاة، وحيث لم يحصل علمنا أن الطهورية في الخبث أيضا مختصة بالماء.
قوله تعالى
* (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا * ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) *.
المسألة الأولى: اعلم أنهم اختلفوا في أن الهاء في قوله: * (ولقد صرفناه) * إلى أي شيء يرجع وذكروا فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الذي عليه الجمهور أنه يرجع إلى المطر، ثم من هؤلاء من قال معنى (صرفناه) أنا أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب وبالزراعات وأنواع المعاش به، وقال آخرون معناه أنه سبحانه ينزله في مكان دون مكان وفي عام دون عام، ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام الأول، قال ابن عباس ما عام بأكثر مطرا من عام، ولكن الله يصرفه في الأرض، ثم قرأ هذه الآية، وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من عام بأمطر من عام، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي " وثانيها: وهو قول أبي مسلم: أن قوله: * (صرفناه) * راجع إلى المطر والرياح والسحاب والأظلال وسائر ما ذكر الله تعالى من الأدلة وثالثها: * (ولقد صرفناه) * أي هذا القول بين الناس في القرآن وسائر الكتب والصحف التي أنزلت على
98

الرسل وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع، والوجه الأول أقرب لأنه أقرب المذكورات إلى الضمير.
المسألة الثانية: قال الجبائي قوله تعالى: * (ليذكروا) * يدل على أنه تعالى مريد من الكل أن يتذكروا ويشكروا ولو أراد منهم أن يكفروا ويعرضوا لما صح ذلك، وذلك يبطل قول من قال إن الله تعالى مريد للكفر ممن يكفر، قال ودل قوله: * (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) * على قدرتهم على فعل هذا التذكر إذ لو لم يقدروا لما جاز أن يقال أبوا أن يفعلوه كما لا يقال في الزمن أبى أن يسعى، وقال الكعبي قوله: * (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا) * حجة على من زعم أن القرآن وبال على الكافرين وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا لأن قوله: * (ليذكروا) * عام في الكل، وقوله: * (فأبى أكثر الناس) * يقتضي أن يكون هذا الأكثر داخلا في ذلك العام لأنه لا يجوز أن يقال أنزلناه على قريش ليؤمنوا، فأبى أكثر - بني تميم - إلا كفورا. واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مرارا.
المسألة الثالثة: قوله: * (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) * المراد كفران النعمة وجحودها من حيث لا يتفكرون فيها ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه، وقيل المراد من الكفور هو الكفر وذلك الكفر إنما حصل لأنهم يقولون مطرنا بنوء كذا لأن من جحد كون النعم صادرة من المنعم، وأضاف شيئا من هذه النعمة إلى الأفلاك والكواكب فقد كفر، واعلم أن التحقيق أن من جعل الأفلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره، وأما من قال الصانع تعالى جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث، فلعله لا يبلغ خطؤه إلى حد الكفر.
المسألة الرابعة: قالوا الآية دلت على أن خلاف معلوم الله مقدور له لأن كلمة لو دلت على أنه تعالى ما شاء أن يبعث في كل قرية نذيرا، ثم إنه تعالى أخبر عن كونه قادرا على ذلك فدل ذلك على أن خلاف معلوم الله مقدور له.
أما قوله تعالى: * (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) * فالأقوى أن المراد من ذلك تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لوجوه: أحدها: كأنه تعالى بين له أنه مع القدرة على بعثة رسول ونذير في كل قرية خصه بالرسالة وفضله بها على الكل ولذلك أتبعه بقوله: * (فلا تطع الكافرين) * أي لا توافقهم وثانيها: المراد ولو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة إلى كل العالمين ولبعثنا في كل قرية نذيرا ولكنا قصرنا الأمر عليك وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل، فقابل هذا الإجلال بالتشدد في الدين وثالثها: أن الآية تقتضي مزج اللطف بالعنف لأنها تدل على القدرة على أن يبعث في كل قرية نذيرا مثل محمد، وأنه لا حاجة بالحضرة الإلهية إلى محمد البتة، وقوله: * (ولو) * يدل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك، فبالنظر إلى الأول يحصل التأديب، وبالنظر إلى الثاني يحصل الإعزاز.
99

أما قوله: * (فلا تطع الكافرين) * فالمراد نهيه عن طاعتهم، ودلت هذه الآية على أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلا به.
وأما قوله: * (وجاهدهم به جهادا كبيرا) * فقال بعضهم: المراد بذل الجهد في الأداء، والدعاء وقال بعضهم: المراد القتال، وقال آخرون: كلاهما، والأقرب الأول لأن السورة مكية، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان وإنما قال: * (جهادا كبيرا) * لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لوجب على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله تلك المجاهدات وكثر جهاده من أجل ذلك وعظم فقال له: * (وجاهدهم) * بسبب كونك نذير كافة القرى * (جهادا كبيرا) * جامعا لكل مجاهدة.
قوله تعالى
* (وهو الذى مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) *.
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من دلائل التوحيد وقوله: * (مرج البحرين) * أي خلاهما وأرسلهما يقال: مرجت الدابة إذا خليتها ترعى، وأصل المرج الإرسال والخلط، ومنه قوله تعالى: * (فهم في أمر مريج) * (ق: 5) سمى الماءين الكبيرين الواسعين بحرين. قال ابن عباس: مرج البحرين، أي أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج وهما يلتقيان، وقوله: * (هذا عذاب فرات) * والمقصود من الفرات البليغ في العذوبة حتى (يصير) إلى الحلاوة، والأجاج نقيضه، وأنه سبحانه بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج، وجعل من عظيم اقتداره برزخا حائلا من قدرته، وههنا سؤالات: السؤال الأول: ما معنى قوله: * (وحجرا محجورا) *؟ الجواب: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها، وهي ههنا واقعة على سبيل المجاز، كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له حجرا محجورا، كما قال: * (لا يبغيان) * (الرحمن: 20) أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة فانتفاء البغي (ثمة) كالتعوذ، وههنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوذ منه وهي من أحسن الاستعارات.
السؤال الثاني: لا وجود للبحر العذب، فكيف ذكره الله تعالى ههنا؟ لا يقال: هذا مدفوع من وجهين: الأول: أن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون الثاني: لعله جعل في البحار موضعا يكون أحد جانبيه عذبا والآخر ملحا، لأنا نقول: أما الأول فضعيف لأن هذه الأودية ليس فيها ملح، والبحار ليس فيها ماء عذب، فلم
يحصل البتة موضع التعجب وأما
100

الثاني فضعيف، لأن موضع الاستدلال لا بد وأن يكون معلوما، فأما بمحض التجويز فلا يحسن الاستدلال، لأنا نقول المراد من البحر العذب هذه الأودية، ومن الأجاج البحار الكبار، وجعل بينهما برزخا، أي حائلا من الأرض، ووجه الاستدلال ههنا بين، لأن العذوبة والملوحة إن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء، فلا بد من الاستواء، وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة معينة.
قوله تعالى
* (وهو الذى خلق من المآء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) *.
واعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد وفيه بحثان:
الأول: ذكروا في هذا الماء قولين: أحدهما: أنه الماء الذي خلق منه أصول الحيوان، وهو الذي عناه بقوله: * (والله خلق كل دابة من ماء) * (النور: 45) والثاني: أن المراد النطفة لقوله: * (خلق من ماء دافق) * (الطارق: 6)، * (من ماء مهين) * (المرسلات: 20).
البحث الثاني: المعنى أنه تعالى قسم البشر قسمين ذوي نسب، أي ذكورا ينسب إليهم، فيقال فلان بن فلان، وفلانة بنت فلان، وذوات صهر، أي إناثا (يصاهرن) ونحوه، قوله تعالى: * (فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى) * (القيامة: 39)، * (وكان ربك قديرا) * حيث خلق من النطفة الواحدة نوعين من البشر الذكر والأنثى.
قوله تعالى
* (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا * ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * قل مآ أسألكم عليه من أجر إلا من شآء أن يتخذ إلى ربه سبيلا * وتوكل على الحى الذى لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا) *.
واعلم أنه تعالى لما شرح دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم في عبادة الأوثان، وفي الآية مسائل:
101

المسألة الأولى: قيل المراد بالكافر أبو جهل لأن الآية نزلت فيه، والأولى حمله على العموم، لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، ولأنه أوفق بظاهر قوله: * (ويعبدون من دون الله) *.
المسألة الثانية: ذكروا في الظهير وجوها: أحدها: أن الظهير بمعنى المظاهر، كالعوين بمعنى المعاون، وفعيل بمعنى مفاعل غير (غريب)، والمعنى أن الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة. فإن قيل كيف يصح في الكافر أن يكون معاونا للشيطان على ربه بالعداوة؟ قلنا إنه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله كقوله: * (إن الذين يؤذون الله) * (الأحزاب: 57) وثانيها: يجوز أن يريد بالظهير الجماعة، كقوله: * (والملائكة بعد ذلك ظهير) * (التحريم: 4) كما جاء الصديق والخليط، وعلى هذا التفسير يكون المراد بالكافر الجنس، وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور (دين) الله تعالى، قال تعالى: * (وإخوانهم يمدونهم في الغي) * (الأعراف: 202)، وثالثها: قال أبو مسلم الأصفهاني: الظهير من قولهم: ظهر فلان بحاجتي إذا نبذها وراء ظهره، وهو من قوله تعالى: * (واتخذتموه وراءكم ظهريا) * (هود: 92) ويقال فيمن يستهين بالشيء: نبذه وراء ظهره، وقياس العربية أن يقال مظهور، أي مستخف به متروك وراء الظهر، فقيل فيه ظهير في معنى مظهور، ومعناه هين على الله أن يكفر الكافر وهو تعالى مستهين بكفره.
أما قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) * فتعلق ذلك بما تقدم، هو أن الكفار يطلبون العون على الله تعالى وعلى رسوله، والله تعالى بعث رسوله لنفعهم، لأنه بعثه ليبشرهم على الطاعة، وينذرهم على المعصية، فيستحقوا الثواب ويحترزوا عن العقاب، فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرغ جهده في إصلاح مهماته دينا ودنيا، ولا يسألهم على ذلك البتة أجرا.
أما قوله: * (إلا من شاء) * فذكروا فيه وجوها متقاربة أحدها: لا يسألهم على الأداء والدعاء أجرا إلا أن يشاءوا أن يتقربوا بالإنفاق في الجهاد وغيره، فيتخذوا به سبيلا إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه وثانيها: قال القاضي: معناه لا أسألكم عليه أجرا لنفسي وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم وثالثها: قال صاحب " الكشاف ": مثال قوله: * (إلا من شاء) * والمراد إلا فعل من شاء، واستثناؤه عن الأجر قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه، فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه فأفاد فائدتين إحداهما قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله كأنه يقول لك إن كان حفظك لمالك ثوابا، فإني أطلب الثواب، والثانية إظهار الشفقة البالغة، وأن حفظك لمالك يجري مجرى الثواب العظيم الذي توصله إلي، ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلا، تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة، وقيل المراد التقرب بالصدقة والنفقة في سبيل الله.
102

أما قوله: * (وتوكل على الحي الذي لا يموت) * فالمعنى أنه سبحانه لما بين أن الكفار متظاهرون على إيذائه، فأمره بأن لا يطلب منهم أجرا البتة، أمره بأن يتوكل عليه في دفع جميع المضار، وفي جلب جميع المنافع، وإنما قال: * (على الحي الذي لا يموت) * لأن من توكل على الحي الذي يموت، فإذا مات المتوكل عليه صار المتوكل ضائعا، أما هو سبحانه وتعالى فإنه حي لا يموت فلا يضيع المتوكل عليه البتة.
أما قوله: * (وسبح بحمده) * فمنهم من حمله على نفس التسبيح بالقول، ومنهم من حمله على الصلاة، ومنهم من حمله على التنزيه لله تعالى عما لا يليق به في توحيده وعدله وهذا هو الظاهر ثم قال: * (وكفى به بذنوب عباده خبيرا) * وهذه كلمة يراد بها المبالغة يقال: كفى بالعلم جمالا، وكفى بالأدب مالا وهو بمعنى حسبك
، أي لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم وذلك وعيد شديد، كأنه قال إن أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة.
قوله تعالى
* (الذى خلق السماوات والارض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا * وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) *.
اعلم أنه سبحانه لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور: أولها: بأنه حي لا يموت وهو قوله: * (وتوكل على الحي الذي لا يموت) * (الفرقان: 58) وثانيها: أنه عالم بجميع المعلومات وهو قوله: * (وكفى به بذنوب عباده خبيرا) * (الفرقان: 58) وثالثها: أنه قادر على كل الممكنات وهو المراد من قوله: * (الذي خلق السماوات والأرض) * فقوله: * (الذي خلق) * متصل بقوله: * (الحي الذي لا يموت) * لأنه سبحانه لما كان هو الخالق للسموات والأرضين ولكل ما بينهما ثبت أنه هو القادر على جميع وجوه المنافع ودفع المضار، وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه. وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: الأيام عبارة عن حركات الشمس في السماوات فقبل السماوات لا أيام، فكيف قال الله خلقها في ستة أيام؟ الجواب: يعني في مدة مقدارها هذه المدة لا يقال الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة لا يكون عدما محضا، بل لا بد وأن يكون موجودا فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان، لأنا نقول هذا
103

معارض بنفس الزمان، لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل خمسة أيام، والمدة المتوهمة التي تحتمل خمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام، فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى، فلما لم يلزم هذا لم يلزم ما قلتموه وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولا ثم السماوات والأرض فيها بمقدار ستة أيام، ومن الناس من قال في ستة أيام من أيام الآخرة وكل يوم ألف سنة وهو بعيد لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول.
السؤال الثاني: لم قدر الخلق والإيجاد بهذا التقدير؟ الجواب: أما على قولنا فالمشيئة والقدرة كافية في التخصيص، قالت المعتزلة بل لا بد من داعي حكمة وهو أن تخصيص خلق العالم بهذا المقدار أصلح للمكلفين وهذا بعيد لوجهين: أحدهما: أن حصول تلك الحكمة، إما أن يكون واجبا لذاته أو جائزا فإن كان واجبا وجب أن لا يتغير فيكون حاصلا في كل الأزمنة، فلا يصلح أن يكون سببا لتخصيص زمان معين وإن كان جائزا افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر ويلزم التسلسل والثاني: أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله، فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعورا به كيف يقدح في حصول المصالح.
واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة، فإنه بحر لا ساحل له. من ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار بتسعة عشر وحملة العرش بالثمانية وشهور السنة باثني عشر والسماوات السبع وكذا الأرض وكذا القول في عدد الصلوات ومقادير النصب في الزكوات وكذا مقادير الحدود والكفارات فالإقرار بأن كل ما قاله الله تعالى حق هو الدين، وترك البحث عن هذه الأشياء هو الواجب وقد نص عليه تعالى في قوله: * (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا) * ثم قال: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * (المدثر: 31) وهذا هو الجواب أيضا في أنه لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك وعن سعيد بن جبير أنه إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة تعليما لخلقه الرفق والتثبت، قيل تم خلقها يوم الجمعة فجعلها الله تعالى عيدا للمسلمين.
السؤال الثالث: ما معنى قوله: * (ثم استوى على العرش) *؟ ولا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة، لأن الاستيلاء والقدرة في أوصاف الله لم تزل ولا يصح دخول (ثم) فيه والجواب: الاستقرار غير جائز، لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب والبعضية وكل ذلك على الله محال بل المراد ثم خلق العرش ورفعه وهو مستول كقوله تعالى: * (ولنبلونكم حتى نعلم) * (محمد: 31) فإن المراد حتى يجاهد المجاهدون ونحن بهم عالمون، فإن قيل فعلى هذا التفسير يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السماوات وليس كذلك لقوله تعالى: * (وكان عرشه على الماء) * (هود: 7) قلنا: كلمة (ثم)
104

ما دخلت على خلق العرش، بل على رفعه على السماوات.
السؤال الرابع: كيف إعراب قوله: * (الرحمن فاسأل به خبيرا) *؟ الجواب: * (الذي خلق) * مبتدأ و * (الرحمن) * خبره، أو هو صفة للحي، والرحمن خبر مبتدأ محذوف ولهذا أجاز الزجاج وغيره أن يكون الوقف على قوله * (على العرش) * ثم يبتدئ بالرحمن أي هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له، ويجوز أن يكون الرحمن مبتدأ وخبره قوله: * (فاسأل به خبيرا) *.
السؤال الخامس: ما معنى قوله: * (فاسأل به خبيرا) *؟ الجواب: ذكروا فيه وجوها أحدها: قال الكلبي معناه فاسأل خبيرا به وقوله: * (به) * يعود إلى ما ذكرنا من خلق السماء والأرض والاستواء على العرش والباء من صلة الخبير وذلك الخبير هو الله عز وجل لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق الله السماوات والأرض فلا يعلمها أحد إلا الله تعالى وعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبريل عليه السلام وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم وثانيها: قال الزجاج قوله: * (به) * معناه عنه والمعنى فاسأل عنه خبيرا، وهو قول الأخفش، ونظيره قوله: * (سأل سائل بعذاب واقع) * (المعارج: 1) وقال علقمة بن عبدة: فإن تسألوني بالنساء فإنني * بصير بأدواء النساء طبيب
وثالثها: قال ابن جرير الباء في قوله: * (به) * صلة والمعنى فسله خبيرا، وخبيرا نصب على الحال ورابعها: أن قوله * (به) * يجري مجرى القسم كقوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به) * (النساء: 1).
أما قوله: * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) * فهو خبر عن قوم قالوا هذا القول. ويحتمل أنهم جهلوا الله تعالى، ويحتمل أنهم إن عرفوه لكنهم جحدوه، ويحتمل أنهم وإن اعترفوا به لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى وكثير من المفسرين على هذا القول الأخير قالوا الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة، والعرب ما عرفوه قال مقاتل: إن أبا جهل قال إن الذي يقوله محمد شعر، فقال عليه السلام الشعر غير هذا إن هذا إلا كلام الرحمن فقال أبو جهل بخ بخ لعمري والله إنه لكلام الرحمن الذي باليمامة هو يعلمك فقال عليه السلام: " الرحمن الذي هو إله السماء ومن عنده يأتيني الوحي " فقال يا آل غالب من يعذرني من محمد يزعم أن الله واحد، وهو يقول الله يعلمني والرحمن، ألستم تعلمون أنهما إلهان ثم قال ربكم الله الذي خلق هذه الأشياء، أما الرحمن فهو مسيلمة. قال القاضي والأقرب أن المراد إنكارهم لله لا للاسم، لأن هذه اللفظة عربية، وهم كانوا يعلمون أنها تفيد المبالغة في الإنعام، ثم إن قلنا بأنهم كانوا منكرين لله كان قولهم: * (وما الرحمن) * سؤال طالب عن الحقيقة، وهو يجري مجرى قول فرعون * (وما رب العالمين) * (الشعراء: 23) وإن قلنا بأنهم كانوا مقرين بالله لكنهم جهلوا كونه تعالى مسمى بهذا الاسم كان قولهم * (وما الرحمن) * سؤالا عن الاسم.
أما قوله: * (أنسجد لما تأمرنا) * فالمعنى للذي تأمرنا بسجوده على قوله أمرتك بالخير، أو لأمرك
105

لنا، وقرئ * (يأمرنا) * بالياء كأن بعضهم قال لبعض أنسجد لما يأمرنا محمد أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو، وزادهم أمره نفورا، ومن حقه أن يكون باعثا على الفعل والقبول. قال الضحاك: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي عثمان بن مظعون وعمرو بن عنبسة، ولما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين. فهذا هو المراد من قوله: * (وزادهم نفورا) * أي فزادهم سجودهم نفورا.
قوله تعالى
* (تبارك الذى جعل فى السمآء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا * وهو الذى جعل اليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) *.
اعلم أنه سبحانه لما حكى عن الكفار مزيد النفرة عن السجود ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعباد للرحمن فقال: * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) * أما تبارك فقد تقدم القول فيه، وأما البروج فهي منازل السيارات وهي مشهورة سميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها، واشتقاق البروج من التبرج لظهوره، وفيه قول آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن البروج هي الكواكب العظام والأول أولى لقوله تعالى: * (وجعل فيها) * أي في البروج فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون قوله * (فيها) * راجعا إلى السماء دون البروج؟ قلنا لأن البروج أقرب فعود الضمير إليها أولى. والسراج الشمس لقوله تعالى: * (وجعل الشمس سراجا) * (نوح: 16) وقرئ * (سرجا) * وهي الشمس والكواكب الكبار فيها وقرأ الحسن والأعمش * (وقمرا منيرا) * وهي جمع ليلة قمراء كأنه قيل وذا قمرا منيرا، لأن الليالي تكون قمراء بالقمر فأضافه إليها، ولا يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب. وأما الخلفة ففيها قولان: الأول: أنها عبارة عن كون الشيئين بحيث أحدهما يخلف الآخر ويأتي خلفه، يقال بفلان خلفة واختلاف، إذا اختلف كثيرا إلى متبرزه، والمعنى جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا. قال ابن عباس رضي الله عنهما جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه فمن فرط في عمل في أحدهما قضاه في الآخر، قال أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب وقد فاتته قراءة القرآن بالليل: " يا ابن الخطاب لقد أنزل الله فيك آية وتلا: * (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر) * ما فاتك من النوافل بالليل فاقضه في نهارك، وما فاتك من النهار فاقضه في ليلك " القول الثاني: وهو قول مجاهد وقتادة والكسائي يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان فقوله * (خلفة) * أي مختلفين وهذا أسود وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير، والقول الأول أقرب.
106

أما قوله تعالى: * (أن يذكر) * فقراءة العامة بالتشديد وقراءة حمزة بالتخفيف وعن أبي بن كعب (يتذكر)، والمعنى لينظر الناظر في اختلافهما فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال (وتغيرهما) من ناقل ومغير وقوله: * (أن يذكر) * راجع إلى كل ما تقدم من النعم، بين تعالى أن الذين قالوا وما الرحمن لو تفكروا في هذه النعم وتذكروها لاستدلوا بذلك على عظيم قدرته، ولشكر الشاكرين على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى: * (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) * (القصص: 73) أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين، من فاته في أحدهما ورد من العبادة قام به في الآخر، والشكور مصدر شكر يشكر شكورا.
قوله تعالى
* (وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها سآءت مستقرا ومقاما * والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) *.
اعلم أن قوله: * (وعباد الرحمن) * مبتدأ خبره في آخر السورة كأنه قيل وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم أولئك يجزون الغرفة، ويجوز أن يكون خبره * (الذين يمشون) *، واعلم أنه سبحانه خص اسم العبودية بالمشتغلين بالعبودية، فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات، وقرئ * (وعباد الرحمن) * واعلم أنه سبحانه وصفهم بتسعة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: قوله: * (الذين يمشون على الأرض هونا) * وهذا وصف سيرتهم بالنهار وقرئ * (يمشون) * * (هونا) * حال أو صفة للمشي بمعنى هينين أو بمعنى مشيا هينا، إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة، والهون الرفق واللين ومنه الحديث " أحبب حبيبك هونا ما " وقوله: " المؤمنون هينون لينون " والمعنى أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع، ولا يضربون بأقدامهم (ولا يخفقون بنعالهم) أشرا وبطرا، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء كما قال: * (ولا تمش في الأرض مرحا) * (الإسراء: 37) وعن زيد بن
107

أسلم التمست تفسير * (هونا) * فلم أجد، فرأيت في النوم فقيل لي هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض، وعن ابن زيد لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علوا في الأرض.
الصفة الثانية: قوله تعالى: * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) * معناه لا نجاهلكم ولا خير بيننا ولا شر أي نسلم منكم تسليما، فأقيم السلام مقام التسليم، ثم يحتمل أن يكون مرادهم طلب السلامة والسكوت، ويحتمل أن يكون المراد التنبيه على سوء طريقتهم لكي يمتنعوا، ويحتمل أن يكون مرادهم العدول عن طريق المعاملة، ويحتمل أن يكون المراد إظهار الحلم في مقابلة الجهل، قال الأصم: * (قالوا سلاما) * أي سلام توديع لا تحية، كقول إبراهيم لأبيه: * (سلام عليك) * (مريم: 47) ثم قال الكلبي وأبو العالية نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في العقل والشرع وسبب لسلامة العرض والورع.
الصفة الثالثة: قوله: * (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) * واعلم أنه تعالى لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين: أحدهما: ترك الإيذاء، وهو المراد من قوله: * (يمشون على الأرض هونا) * والآخر تحمل التأذي، وهو المراد من قوله: * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) * فكأنه شرح سيرتهم مع الخلق في النهار، فبين في هذه الآيات سيرتهم في الليالي عند الاشتغال بخدمة الخالق وهو كقوله: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * (السجدة: 16) ثم قال الزجاج: كل من أدركه الليل قيل بات وإن لم ينم كما يقال بات فلان قلقا، ومعنى * (يبيتون لربهم) * أن يكونوا في لياليهم مصلين، ثم اختلفوا فقال بعضهم: من قرأ شيئا من القرآن في صلاة وإن قل، فقد بات ساجدا وقائما، وقيل ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء الأخيرة، والأولى أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره يقال فلان يظل صائما ويبيت قائما، قال الحسن يبيتون لله على أقدمهم ويفرشون له وجوههم تجري دموعهم على خدودهم خوفا من ربهم. الصفة الرابعة: قوله: * (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما) * قال ابن عباس رضي الله عنهما يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول، وقال الحسن خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرقا من عذاب جهنم، وقوله: * (غراما) * أي هلاكا وخسرانا ملحا لازما، ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه، ويقال فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعا بهن، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الغرام فقال هو الموجع، وعن محمد بن كعب في * (غراما) * أنه سأل الكفار ثمن نعمه فما أدوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار، واعلم أنه تعالى وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم كقوله: * (والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة) * (المؤمنون: 60).
أما قوله تعالى: * (إنها ساءت مستقرا ومقاما) * فقوله: * (ساءت) * في حكم بئست وفيها ضمير مبهم تفسيره (مستقرا)، والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقرا ومقاما هي (وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن وجعلها خبرا، لها، ويجوز أن يكون ساءت بمعنى أحزنت، وفيها ضمير اسم إن) ومستقرا حال أو
108

تمييز، فإن قيل دلت الآية على أنهم سألوا الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين: إحداهما أن عذابها كان غراما، وثانيهما: أنها ساءت مستقرا ومقاما، فما الفرق بين الوجهين؟ وأيضا فما الفرق بين المستقر والمقام؟ قلنا المتكلمون ذكروا أن عقاب الكافر يجب أن يكون مضرة خالصة عن شوائب النفع دائمة، فقوله: * (إن عذابها كان غراما) * إشارة إلى كونه مضرة خالصة عن شوائب النفع، وقوله: * (إنها ساءت مستقرا ومقاما) * إشارة إلى كونها دائمة، ولا شك في المغايرة، أما الفرق بين المستقر والمقام فيحتمل أن يكون المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون في النار ولا يقيمون فيها، وأم الإقامة فللكفار، واعلم أن قوله: * (إنها ساءت مستقرا ومقاما) * يمكن أن يكون من كلام الله تعالى ويمكن أن يكون حكاية لقولهم.
الصفة الخامسة: قوله: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) * قرىء * (يقتروا) * بكسر التاء وضمها ويقتروا بضم الياء وتخفيف القاف وكسر التاء وأيضا بضم الباء وفتح القاف وكسر التاء وتشديدها وكلها لغات. والقتر والإقتار والتقتير التضييق الذي هو نقيض الإسراف، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة. وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوها: أحدها: وهو الأقوى أنه تعالى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير وبمثله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) * (الإسراء: 29) وعن وهيب بن الورد قال لعالم: ما البناء الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر، فقال له فما الطعام الذي لا سرف فيه؟ قال ما سد الجوعة، فقال له في اللباس، قال ما ستر عورتك ووقاك من البرد، وروي أن رجلا صنع طعاما في إملاك فأرسل إلى الرسول عليه السلام فقال: " حق فأجيبوا " ثم صنع الثانية فأرسل إليه فقال: " حق فمن شاء فليجب وإلا فليقعد " ثم صنع الثالثة فأرسل إليه فقال: " رياء ولا خير فيه " وثانيها: وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك أن الإسراف الإنفاق في معصية الله تعالى، والإقتار منع حق الله تعالى، قال مجاهد: لو أنفق رجل مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله تعالى لم يكن سرفا ولو أنفق صاعا في معصية الله تعالى كان سرفا، وقال الحسن لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي، وذلك قد يكون في الإمساك عن حق الله، وهو أقبح التقتير، وقد يكون عما لا يجب، ولكن يكون مندوبا مثل الرجل الغني الكثير المال إذا منع
الفقراء من أقاربه وثالثها: المراد بالسرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا، وإن كان من حلال، فإن ذلك مكروه لأنه يؤدي إلى الخيلاء، والإقتار هو التضييق فالأكل فوق الشبع بحيث يمنع النفس عن العبادة سرف وإن أكل بقدر الحاجة فذاك إقتار، وهذه الصفة صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة، ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعهم ويعينهم على عبادة ربهم، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد، وههنا مسألتان:
109

المسألة الأولى: القوام قال ثعلب: القوام بالفتح العدل والاستقامة، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر، قال صاحب " الكشاف ": القوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما، ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء، وقرئ * (قواما) * بالكسر وهو ما يقام به الشيء، يقال أنت قوامنا، يعني ما يقام به الحاجة لا يفضل عنه ولا ينقص.
المسألة الثانية: المنصوبان أعني * (بين ذلك قواما) * جائز أن يكونا خبرين معا، وأن يجعل بين ذلك لغوا وقواما مستقرا، وأن يكون الظرف خبرا وقواما حالا مؤكدة، قال الفراء: وإن شئت جعلت * (بين ذلك) * اسم كان، كما تقول كان دون هذا كافيا، تريد أقل من ذلك، فيكون معنى * (بين ذلك) *، أي كان الوسط من ذلك قواما، أي عدلا، وهذا التأويل ضعيف، لأن القوام هو الوسط فيصير التأويل، وكان الوسط وسطا وهذا لغو. الصفة السادسة
قوله تعالى
* (والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن من صفة عباد الرحمن الاحتراز عن الشرك والقتل الزنا، ثم ذكر بعد ذلك حكم من يفعل هذه الأشياء من العقاب، ثم استثنى من جملتهم التائب، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى قبل ذكر هذه الصفة نزه عباد الرحمن عن الأمور الخفيفة، فكيف يليق بعد ذلك أن يطهرهم عن الأمور العظيمة مثل الشرك والقتل والزنا، أليس أنه لو كان الترتيب بالعكس منه كان أولى؟ الجواب: أن الموصوف بتلك الصفات السالفة قد يكون
110

متمسكا بالشرك تدينا ومقدما على قتل الموءودة تدينا وعلى الزنا تدينا، فبين تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن، حتى يضاف إلى ذلك كونه مجانبا لهذه الكبائر، وأجاب الحسن رحمه الله من وجه آخر فقال: المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار، كأنه قال: وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلها آخر وأنت تدعون * (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق) * وأنتم تقتلون الموءودة، * (ولا يزنون) * وأنتم تزنون.
السؤال الثاني: ما معنى قوله: * (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق) * ومعلوم أنه من يحل قتله لا يدخل في النفس المحرمة فكيف يصح هذا الاستثناء؟ الجواب: المقتضى لحرمة القتل قائم أبدا، وجواز القتل إنما ثبت بالمعارض فقوله: * (حرم الله) * إشارة إلى المقتضى وقوله * (إلا بالحق) * إشارة إلى المعارض.
السؤال الثالث: بأي سبب يحل القتل؟ الجواب: بالردة وبالزنا بعد الإحصان، وبالقتل قودا على ما في الحديث، وقيل وبالمحاربة وبالبينة، وإن لم يكن لما شهدت به حقيقة.
السؤال الرابع: منهم من فسر قوله: * (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق) * بالردة فهل يصح ذلك؟ الجواب: لفظ القتل عام فيتناول الكل. وعن ابن مسعود " قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قلت ثم أي؟ قال أن تزني بحليلة جارك " فأنزل الله تصديقه.
السؤال الخامس: ما الأثام؟ الجواب: فيه وجوه: أحدها: أن الأثام جزاء الإثم، بوزن الوبال والنكال وثانيها: وهو قول أبي مسلم: أن الأثام والإثم واحد، والمراد ههنا جزاء الأثام فأطلق اسم الشيء على جزائه وثالثها: قال الحسن: الأثام اسم من أسماء جهنم وقال مجاهد: * (آثاما) * واد في جهنم، (وقرأ ابن مسعود * (آثاما) * أي شديدا، يقال يوم ذو أثام لليوم العصيب).
أما قوله: * (يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: * (يضاعف) * بدل من * (يلق) * لأنهما في معنى واحد، وقرئ (يضعف) و (نضعف له العذاب) بالنون ونصب العذاب، وقرئ بالرفع على الاستئناف أو على الحال، وكذلك (يخلد) (وقرئ) (ويخلد) على البناء للمفعول مخففا ومثقلا من الإخلاد والتخليد، وقرئ (وتخلد) بالتاء على الالتفات.
المسألة الثانية: سبب تضعيف العذاب أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعا، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع.
المسألة الثالثة: قال القاضي: بين الله تعالى أن المضاعفة والزيادة يكون حالهما في الدوام كحال الأصل، فقوله: * (ويخلد فيه) * أي ويخلد في ذلك التضعيف، ثم إن ذلك التضعيف إنما حصل بسبب العقاب على المعاصي، فوجب أن يكون عقاب هذه المعاصي في حق الكافر دائما،
111

وإذا كان كذلك وجب أن يكون في حق المؤمن كذلك، لأن حاله فيما يستحق به لا يتغير سواء فعل مع غيره أو منفردا والجواب: لم لا يجوز أن يكون للإتيان بالشيء مع
غيره أثر في مزيد القبح، ألا ترى أن الشيئين قد يكون كل واحد منهما في نفسه حسنا وإن كان الجمع بينهما قبيحا، وقد يكون كل واحد منهما قبيحا، ويكون الجمع بينهما أقبح، فكذا ههنا.
المسألة الرابعة: قوله: * (ويخلد فيه مهانا) * إشارة إلى ما ثبت أن العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإذلال والإهانة، كما أن الثواب هو المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم.
أما قوله تعالى: * (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: دلت الآية على أن التوبة مقبولة، والاستثناء لا يدل على ذلك لأنه أثبت أنه يضاعف له العذاب ضعفين، فيكفي لصحة هذا الاستثناء أن لا يضاعف للتائب العذاب ضعفين، وإنما الدال عليه قوله: * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) *.
المسألة الثانية: نقل عن ابن عباس أنه قال: توبة القاتل غير مقبولة، وزعم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) * (النساء: 93) وقالوا نزلت الغليظة بعد اللينة بمدة يسيرة، وعن الضحاك ومقاتل بثمان سنين، وقد تقدم الكلام في ذلك في سورة النساء.
المسألة الثالثة: فإن قيل: العمل الصالح يدخل فيه التوبة والإيمان، فكان ذكرهما قبل ذكر العمل الصالح حشوا، قلنا: أفردهما بالذكر لعلو شأنهما، ولما كان لا بد معهما من سائر الأعمال لا جرم ذكر عقيبهما العمل الصالح.
المسألة الرابعة: اختلفوا في المراد بقوله: * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) * على وجوه: أحدها: قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: إن التبديل إنما يكون في الدنيا، فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام فيبدلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا، فكأنه تعالى يبشرهم بأنه يوفقهم لهذه الأعمال الصالحة فيستوجبوا بها الثواب وثانيها: قال الزجاج: السيئة بعينها لا تصير حسنة، ولكن التأويل أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات. وثالثها: قال قوم: إن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة بحكم هذه الآية، وهذا قول سعيد بن المسيب ومكحول، ويحتجون بما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات، قيل من هم يا رسول الله؟ قال الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات " وعلى هذا التبديل في الآخرة ورابعها: قال القفال والقاضي: أنه تعالى يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد ما يستحق بهما، وإذا حمل على ذلك كانت الإضافة إلى الله حقيقة لأن الإثابة لا تكون إلا من الله تعالى.
أما قوله تعالى: * (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) * ففيه سؤالان:
112

السؤال الأول: ما فائدة هذا التكرير؟ الجواب: من وجهين: الأول: أن هذا ليس بتكرير لأن الأول لما كان في تلك الخصال بين تعالى أن جميع الذنوب بمنزلتها في صحة التوبة منها الثاني: أن التوبة الأولى رجوع عن الشرك والمعاصي، والتوبة الثانية رجوع إلى الله تعالى للجزاء والمكافأة كقوله تعالى: * (عليه توكلت وإليه متاب) * (الرعد: 30) أي مرجعي.
السؤال الثاني: هل تكون التوبة إلا إلى الله تعالى فما فائدة قوله: * (فإنه يتوب إلى الله متابا) *؟ الجواب: من وجوه: الأول: ما تقدم من أن التوبة الأولى الرجوع عن المعصية والثانية الرجوع إلى حكم الله تعالى وثوابه الثاني: معناه أن من تاب إلى الله فقد أتى بتوبة مرضية لله مكفرة للذنوب محصلة للثواب العظيم الثالث: قوله: * (ومن تاب) * يرجع إلى الماضي فإنه سبحانه ذكر أن من أتى بهذه التوبة في الماضي على سبيل الإخلاص فقد وعده بأنه سيوفقه للتوبة في المستقبل، وهذا من أعظم البشارات.
الصفة السابعة
قوله تعالى
* (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: الزور يحتمل إقامة الشهادة الباطلة، ويكون المعنى أنهم لا يشهدون شهادة الزور فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ويحتمل حضور مواضع الكذب كقوله تعالى: * (فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) * (الأنعام: 68) ويحتمل حضور كل موضع يجري فيه ما لا ينبغي ويدخل فيه أعياد المشركين ومجامع الفساق، لأن من خالط أهل الشر ونظر إلى أفعالهم وحضر مجامعهم فقد شاركهم في تلك المعصية، لأن الحضور والنظر دليل الرضا به، بل هو سبب لوجوده والزيادة فيه، لأن الذي حملهم على فعله استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما المراد مجالس الزور التي يقولون فيها الزور على الله تعالى وعلى رسوله، وقال محمد بن الحنفية الزور الغناء، واعلم أن كل هذه الوجوه محتملة ولكن استعماله في الكذب أكثر.
المسألة الثانية: الأصح أن اللغو كل ما يجب أن يلغى ويترك، ومنهم من فسر اللغو بكل ما ليس بطاعة، وهو ضعيف لأن المباحات لا تعد لغوا فقوله: * (وإذا مروا باللغو) * أي بأهل اللغو.
المسألة الثالثة: لا شبهة في أن قوله: * (مروا كراما) * معناه أنهم يكرمون أنفسهم عن مثل حال اللغو وإكرامهم لها لا يكون إلا بالإعراض وبالإنكار وبترك المعاونة والمساعدة، ويدخل فيه الشرك واللغو في القرآن وشتم الرسول، والخوض فيما لا ينبغي وأصل الكلمة من قولهم ناقة كريمة إذا كانت تعرض عند الحلب تكرما، كأنها
لا تبالي بما يحلب منها للغزارة،
113

فاستعير ذلك للصفح عن الذنب، وقال الليث يقال تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه ونظير هذه الآية قوله: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) * (القصص: 55) وعن الحسن لم تسفههم المعاصي وقيل إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا، وقيل إذا ذكر النكاح كنوا عنه.
الصفة الثامنة
* (والذين إذا ذكروا بايات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) *.
قال صاحب " الكشاف " قوله: * (لم يخروا عليها صما وعميانا) * ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى كما يقال لا يلقاني زيد مسلما، هو نفي للسلام لا للقاء، والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها، وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها مظهرين الحرص الشديد على استماعها وهم كالصم والعميان حيث لا (يفهمونها ولا يبصرون) ما فيها كالمنافقين.
الصفة التاسعة
قوله تعالى * (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم * (ذرياتنا) * بألف الجمع وحذفها الباقون على التوحيد والذرية تكون واحدا وجمعا.
المسألة الثانية: أنه لا شبهة أن المراد أن يكون قرة أعين لهم في الدين لا في الأمور الدنيوية من المال والجمال ثم ذكروا فيه وجهان: أحدهما: أنهم سألوا أزواجا وذرية في الدنيا يشاركونهم فأحبوا أن يكونوا معهم في التمسك بطاعة الله فيقوى طمعهم في أن يحصلوا معهم في الجنة فيتكامل سرورهم في الدنيا بهذا الطمع وفي الآخرة عند حصول الثواب والثاني: أنهم سألوا أن يلحق الله أزواجهم وذريتهم بهم في الجنة ليتم سرورهم بهم.
المسألة الثالثة: فإن قيل: (من) في قوله: * (من أزواجنا) * ما هي؟ قلنا: يحتمل أن تكون بيانية كأنه قيل: هب لنا قرة أعين ثم بينت القرة وفسرت بقوله: * (من أزواجنا) * وهو من قولهم:
114

رأيت منك أسدا أي أنت أسد، وأن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا من طاعة وصلاح، فإن قيل لم قال * (قرة أعين) * فنكر وقلل؟ قلنا أما التنكير فلأجل تنكير القرة لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه كأنه قال: هب لنا منهم سرورا وفرحا وإنما قال (أعين) دون عيون لأنه أراد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم، قال تعالى: * (وقليل من عبادي الشكور) * (سبأ: 13).
المسألة الرابعة: قال الزجاج أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يحبه، وقال المفضل في قرة العين ثلاثة أقوال: أحدها: يرد دمعتها وهي التي تكون مع الضحك والسرور ودمعة الحزن حارة والثاني: نومها لأنه يكون مع ذهاب الحزن والوجع والثالث: حضور الرضا.
المسألة الخامسة: قوله: * (واجعلنا للمتقين إماما) * الأقرب أنهم سألوا الله تعالى أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم، قال بعضهم في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها قال الخليل عليه الصلاة والسلام: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * (الشعراء: 84) وقيل نزلت هذه الآيات في العشرة المبشرين بالجنة.
المسألة السادسة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، قالوا لأن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل، فدل على أن العلم والعمل إنما يكون بجعل الله تعالى وخلقه، وقال القاضي المراد من السؤال الألطاف التي إذا كثرت صاروا مختارين لهذه الأشياء فيصيرون أئمة والجواب: أن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثا.
المسألة السابعة: قال الفراء: قال (إماما)، ولم يقل أئمة كما قال للاثنين * (إني رسول رب العالمين) * (الزخرف: 46) ويجوز أن يكون المعنى اجعل كل واحد منا إماما كما قال: * (يخرجكم طفلا) * (غافر: 67) وقال الأخفش: الإمام جمع واحده آم كصائم وصيام. وقال القفال وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل اجعلنا حجة للمتقين، ومثله البينة يقال هؤلاء بينة فلان. واعلم أنه سبحانه وتعالى لما عدد صفات المتقين المخلصين بين بعد ذلك أنواع إحسانه إليهم وهي مجموعة في أمرين المنافع والتعظيم.
قوله تعالى
* (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما) *.
أما المنافع: فهي قوله:
والمراد أولئك يجزون الغرفات والدليل عليه قوله: * (وهم في الغرفات آمنون) * (سبأ: 37) وقال: * (لهم غرف من فوقها غرف) * (الزمر: 20) والغرفة في اللغة العلية وكل بناء عال فهو غرفة والمراد به الدرجات العالية. وقال المفسرون الغرفة اسم الجنة، فالمعنى يجزون الجنة وهي جنات كثيرة، وقرأ بعضهم: (
أولئك يجزون في الغرفة) وقوله: * (بما صبروا) * فيه بحثان:
البحث الأول: احتج بالآية من ذهب إلى أن الجنة بالاستحقاق فقال الباء في قوله: * (بما
115

صبروا) * تدل على ذلك ولو كان حصولها بالوعد لما صدق ذلك.
البحث الثاني: ذكر الصبر ولم يذكر المصبور عنه، ليعم كل نوع فيدخل فيه صبرهم على مشاق التفكر والاستدلال في معرفة الله تعالى، وعلى مشاق الطاعات، وعلى مشاق ترك الشهوات وعلى مشاق أذى المشركين وعلى مشاق الجهاد والفقر ورياضة النفس فلا وجه لقول من يقول المراد الصبر على الفقر خاصة، لأن هذه الصفات إذا حصلت مع الغنى استحق من يختص بها الجنة كما يستحقه بالفقر.
وثانيهما التعظيم: وهو قوله تعالى:
(ويلقون فيها تحية وسلاما): قرىء * (يلقون) * كقوله: * (ولقاهم نضرة وسرورا) * (الإنسان: 11) و * (يلقون) * كقوله: * (يلق آثاما) * (الفرقان: 68)، والتحية الدعاء بالتعمير والسلام الدعاء بالسلامة، فيرجع حاصل التحية إلى كون نعيم الجنة باقيا غير منقطع، ويرجع السلام إلى كون ذلك النعيم خالصا عن شوائب الضرر، ثم هذه التحية والسلام يمكن أن يكون من الله تعالى لقوله: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) ويمكن أن يكون من الملائكة لقوله: * (والملائك يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم) * (الرعد: 23، 24) ويمكن أن يكون من بعضهم على بعض. أما قوله:
* (خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما) *.
فالمراد أنه سبحانه لما وعد بالمنافع أولا وبالتعظيم ثانيا، بين أن من صفتهما الدوام وهو المراد من قوله: * (خالدين فيها) * ومن صفتهما الخلوص أيضا وهو المراد من قوله: * (حسنت مستقرا ومقاما) * وهذا في مقابلة قوله: * (ساءت مستقرا ومقاما) * أي ما أسوأ ذلك وما أحسن هذا. أما قوله:
* (قل ما يعبؤا بكم ربى لولا دعآؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) *.
فاعلم أنه سبحانه لما شرح صفات المتقين، وشرح حال ثوابهم أمر رسوله أن يقول: * (قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم) * فدل بذلك على أنه تعالى غني عن عبادتهم، وأنه تعالى إنما كلفهم لينتفعوا بطاعتهم وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الخليل ما أعبأ بفلان أي ما أصنع به كأنه (يستقله) ويستحقره، وقال أبو عبيدة ما أعبأ به أي وجوده وعدمه عندي سواء، وقال الزجاج معناه أي لا وزن لكم عند ربكم، والعبء في اللغة الثقل، وقال أبو عمرو بن العلاء ما يبالي بكم ربي.
المسألة الثانية: في * (ما) * قولان أحدهما أنها متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر، كأنه قيل وأي عبء يعبأ بكم لولا دعاؤكم، والثاني أن تكون ما نافية.
116

المسألة الثالثة: ذكروا في قوله: * (لولا دعاؤكم) * وجهين: أحدهما: لولا دعاؤه إياكم إلى الدين والطاعة والدعاء على هذا مصدر مضاف إلى المفعول وثانيهما: أن الدعاء مضاف إلى الفاعل وعلى هذا التقدير ذكروا فيه وجوها: أحدها: لولا دعاؤكم لولا إيمانكم وثانيها: لولا عبادتكم وثالثها: لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كقوله: * (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله) * (العنكبوت: 65) ورابعها: دعاؤكم يعني لولا شكركم له على إحسانه لقوله: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم) * (النساء: 147) وخامسها: ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم.
أما قوله: * (فقد كذبتم) * فالمعنى أني إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم وهو عقاب الآخرة، ونظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه: إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني، وقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك. فإن قيل إلى من يتوجه هذا الخطاب؟ قلنا إلى الناس على الإطلاق، ومنهم (مؤمنون) عابدون ومكذبون عاصون، فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب، وقرئ (فقد كذب الكافرون) (فسوف) يكون العذاب لزاما، وقرئ * (لزاما) * بالفتح بمعنى اللزوم كالثبات والثبوت، والوجه أن ترك اسم كان غير منطوق به بعد ما علم أنه مما توعد به لأجل الإبهام ويتناول ما لا يحيط به الوصف، ثم قيل هذا العذاب في الآخرة، وقيل كان يوم بدر وهو قول مجاهد رحمه الله، والله أعلم.
تم تفسير هذه السورة والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين
117

سورة الشعراء
مكية إلا أربع آيات فإنها مدنية وهي * (والشعراء يتبعهم الغاوون) * إلى آخرها وهي مايتان أو ست أو سبع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (طسم * تلك ءايات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السمآء ءاية فظلت أعناقهم لها خاضعين) *.
الطاء إشارة إلى طرب قلوب العارفين، والسين سرور المحبين، والميم مناجاة المريدين، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ قتادة * (باخع نفسك) * على الإضافة، وقرئ * (فظلت أعناقهم لها خاضعة) *.
المسألة الثانية: البخع أن يبلغ بالذبح البخاع، وهو الخرم النافذ في ثقب الفقرات وذلك أقصى حد الذابح، ولعل للإشفاق.
المسألة الثالثة: قوله: * (طسم تلك آيات الكتاب المبين) * معناه: آيات هذه السورة تلك آيات الكتاب المبين، وتمام تقريره ما مر في قوله تعالى: * (ذلك الكتاب)
* (البقرة: 2) ولا شبهة في أن المراد بالكتاب هو القرآن والمبين وإن كان في الحقيقة هو المتكلم فقد يضاف إلى الكلام من حيث يتبين به عند النظر فيه، فإن قيل القوم لما كانوا كفارا فكيف تكون آيات القرآن مبينة لهم ما يلزمهم، وإنما يتبين بذلك الأحكام؟ قلنا ألفاظ القرآن من حيث تعذر عليهم أن يأتوا بمثله يمكن أن يستدل به على فاعل مخالف لهم كما يستدل بسائر ما لا يقدر العباد على مثله، فهو دليل التوحيد من هذا الوجه ودليل النبوة من حيث الإعجاز، ويعلم به بعد ذلك أنه إذا كان من عند الله
118

تعالى فهو دلالة الأحكام أجمع، وإذا ثبت هذا صارت آيات القرآن كافية في كل الأصول والفروع أجمع، ولما ذكر الله تعالى أنه بين الأمور قل بعده: * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) * منبها بذلك على أن الكتاب وإن بلغ في البيان كل غاية فغير مدخل لهم في الإيمان لما أنه سبق حكم الله بخلافه، فلا تبالغ في الحزن والأسف على ذلك لأنك إن بالغت فيه كنت بمنزلة من يقتل نفسه ثم لا ينتفع بذلك أصلا فصبره وعزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا نفع فيه كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه لا نفع لهم فيه، ثم بين تعالى أنه قادر على أن ينزل آية يذلون عندها ويخضعون، فإن قيل: كيف صح مجيء * (خاضعين) * خبرا عن الأعناق؟ قلنا أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فذكرت الأعناق لبيان موضع الخضوع، ثم ترك الكلام على أصله، ولما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء، قيل * (خاضعين) * كقوله: * (لي ساجدين) * (يوسف: 4)، وقيل أعناق الناس رؤساؤهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما يقال هم الرؤوس والصدور، وقيل هم جماعات الناس، يقال جاءنا عنق من الناس لفوج منهم.
المسألة الرابعة: نظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الكهف: * (فلعلك باخع نفسك) * وقوله: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) * (فاطر: 8).
قوله تعالى
* (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزءون * أولم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
المسألة الأولى: قوله: * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين) * من تمام قوله: * (إن نشأ ننزل عليهم) * (الشعراء: 4) فنبه تعالى على أنه مع قدرته على أن يجعلهم مؤمنين بالإلجاء رحيم بهم من حيث يأتيهم حالا بعد حال بالقرآن، وهو الذكر ويكرره عليهم وهم مع ذلك على حد واحد في الإعراض والتكذيب والاستهزاء، ثم عند ذلك زجر وتوعد لأن المرء إذا استمر على كفره فليس ينفع فيه إلا الزجر الشديد فلذلك قال: * (فقد كذبوا) * أي بلغوا النهاية
119

في رد آيات الله تعالى * (فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون) * وذلك إما عند نزول العذاب عليهم في الدنيا أو عند المعاينة أو في الآخرة، فهو كقوله تعالى: * (ولتعلمن نبأه بعد حين) * وقد جرت العادة فيمن يسيء أن يقال له سترى حالك من بعد على وجه الوعيد، ثم إنه تعالى بين أنه مع إنزاله القرآن حالا بعد حال قد أظهر أدلة تحدث حالا بعد حال فقال: * (أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم) * والزوج هو الصنف (من النبات) والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه، يقال وجه كريم إذا كان مرضيا في حسنه وجماله. وكتاب كريم إذا كان مرضيا في فوائده ومعانيه، والنبات الكريم هو المرضي فيما يتعلق به من المنافع، وفي وصف الزوج بالكريم وجهان: أحدهما: أن النبات على نوعين نافع وضار، فذكر سبحانه كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع وترك ذكر الضار والثاني: أنه عم جميع النبات نافعه وضاره ووصفهما جميعا بالكرم، ونبه على أنه ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة وإن غفل عنها الغافلون.
أما قوله: * (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) * فهو كقوله: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) والمعنى أن في ذلك دلالة لمن يتفكر ويتدبر وما كان أكثرهم مؤمنين أي مع كل ذلك يستمر أكثرهم على كفرهم، فأما قوله: * (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) * فإنما قدم ذكر العزيز على ذكر الرحيم لأنه لو لم يقدمه لكان ربما قيل إنه رحمهم لعجزه عن عقوبتهم، فأزال هذا الوهم بذكر العزيز وهو الغالب القاهر، ومع ذلك فإنه رحيم بعباده، فإن الرحمة إذا كانت عن القدرة الكاملة كانت أعظم وقعا. والمراد أنهم مع كفرهم وقدرة الله على أن يعجل عقابهم لا يترك رحمتهم بما تقدم ذكره من خلق كل زوج كريم من النبات، ثم من إعطاء الصحة والعقل والهداية.
المسألة الثانية: أنه تعالى وصف الكفار بالإعراض أولا وبالتكذيب ثانيا وبالاستهزاء ثالثا وهذه درجات من أخذ يترقى في الشقاوة، فإنه يعرض أولا ثم يصرح بالتكذيب والإنكار إلى حيث يستهزئ به ثالثا.
المسألة الثالثة: فإن قلت ما معنى الجمع بين كم وكل، ولم لم يقل كم أنبتنا فيها من زوج كريم؟ قلت: قد دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة، فهذا معنى الجمع (رتبه) على كمال قدرته، فإن قلت: فحين ذكر الأزواج ودل عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة وكانت بحيث لا يحصيها إلا عالم الغيب فكيف قال: * (إن في ذلك لآية) * وهلا قال لآيات؟ قلت فيه وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك مشارا به إلى مصدر أنبتنا، فكأنه قال إن في ذلك الإنبات لآية أي آية والثاني: أن يراد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية.
المسألة الرابعة: احتجت المعتزلة على خلق القرآن بقوله تعالى: * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث) * فقالوا الذكر هو القرآن لقوله تعالى: * (وهذا ذكر مبارك) * (الأنبياء: 50) وبين في هذه الآية أن الذكر محدث فيلزم من هاتين الآيتين أن القرآن محدث، وهذا الاستدلال بقوله تعالى: * (الله نزل
120

أحسن الحديث كتابا) * (الزمر: 23) وبقوله: * (فبأي حديث بعده يؤمنون) * (المرسلات: 50) وإذا ثبت أنه محدث فله خالق فيكون مخلوقا لا محالة والجواب: أن كل ذلك يرجع إلى هذه الألفاظ ونحن نسلم حدوثها إنما ندعي قدم أمر آخر وراء هذه الحروف، وليس في الآية دلالة على ذلك.
قوله تعالى
* (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون) *.
اختلف أهل السنة في النداء الذي سمعه موسى عليه السلام من الله تعالى، هل هو كلامه القديم أو هو ضرب من الأصوات، فقال أبو الحسن الأشعري: المسموع هو الكلام القديم، وكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الأشياء، مع أن الدليل دل على أنها معلومة ومرتبة فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحروف والأصوات مع أنه مسموع، وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات، وذلك لأن الدليل لما دل على أنا رأينا الجوهر والعرض، ولا بد من علة مشتركة بينهما لصحة الرؤية، ولا علة إلا الوجود، حكمنا بأن كل موجود يصح أن يرى، ولم يثبت عندنا أنا نسمع الأصوات والأجسام حتى يحكم بأنه لا بد من مشترك بين الجسم والصوت، فلم يلزم صحة كون كل موجود مسموعا فظهر الفرق، أما المعتزلة فقد اتفقوا على أن ذلك المسموع ما كان إلا حروفا وأصواتا، فعند هذا قالوا إن ذلك النداء وقع على وجه علم به موسى عليه السلام أنه من قبل الله تعالى، فصار معجزا علم به أن الله مخاطب له فلم يحتج مع ذلك إلى واسطة، وكفى في الوقت أن يحمله الرسالة التي هي * (أن ائت القوم الظالمين) * لأن في بدء البعثة يجب أن يأمره بالدعاء إلى التوحيد، ثم بعده يأمره بالأحكام، ولا يجوز أن يأمره تعالى بذلك إلا وقد عرفه أنه ستظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك.
أما قوله تعالى: * (أن ائت القوم الظالمين) * فالمعنى أنه تعالى سجل عليهم بالظلم، وقد استحقوا هذا الاسم من وجهين من وجه ظلمهم أنفسهم بكفرهم، ومن وجه ظلمهم لبني إسرائيل.
أما قوله: * (قوم فرعون) * فقد عطف (قوم فرعون) على (القوم الظالمين) عطف بيان، كأن القوم الظالمين وقوم فرعون لفظان يدلان على معنى واحد.
وأما قوله: * (ألا يتقون) * فقرئ (ألا يتقون) بكسر النون، بمعنى ألا يتقونني، فحذفت النون لاجتماع النونين والياء للاكتفاء بالكسرة، وقوله: * (ألا يتقون) * كلام مستأنف أتبعه تعالى إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم، تعجيبا لموسى عليه السلام من حالهم (التي شفت) في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم (وحذرهم من أيام الله) (1)، ويحتمل أن يكون * (ألا يتقون) * حالا من الضمير في (الظالمين)
121

أي يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال، ووجه ثالث وهو أن يكون المعنى ألا يا ناس اتقون، كقوله: (ألا يسجدوا). وأما من قرأ (ألا تتقون) على الخطاب، فعلى طريقة الالتفات إليهم وصرف وجوههم بالإنكار والغضب عليهم، كما يرى من يشكو ممن ركب جناية والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية وحمى غضبه، قطع مباحثة صاحبه وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه به، ويقول له ألا تتقي الله ألا تستحي من الناس، فإن قلت: فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى عليه السلام في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون؟ قلت: إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم، لأنه (مبلغهم) (2) ومنهيه إليهم، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية نزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بمواردها.
قوله تعالى
* (قال رب إنى أخاف أن يكذبون * ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى فأرسل إلى هارون * ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى قوم فرعون، طلب موسى عليه السلام أن يبعث معه هارون إليهم، ثم ذكر الأمور الداعية له إلى ذلك السؤال وحاصلها أنه لو لم يكن هارون، لاختلت المصلحة المطلوبة من بعثة موسى عليه السلام، وذلك من وجهين: الأول: أن فرعون ربما كذبه، والتكذيب سبب لضيق القلب، وضيق القلب سبب لتعسر الكلام على من يكون في لسانه حبسة، لأن عند ضيق القلب تنقبض الروح والحرارة الغريزية إلى باطن القلب، وإذا انقبضا إلى الداخل وخلا منهما الخارج ازدادت الحبسة في اللسان، فالتأذي من التكذيب سبب لضيق القلب، وضيق القلب سبب للحبسة، فلهذا السبب بدأ بخوف التكذيب، ثم ثنى بضيق الصدر، ثم ثلث بعدم انطلاق اللسان. وأما هارون فهو أفصح لسانا مني وليس في حقه هذا المعنى، فكان إرساله لائقا الثاني: أن لهم عندي ذنبا فأخاف أن يبادروا إلى قتلي، وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة. وأما هارون فليس كذلك فيحصل المقصود من البعثة.
المسألة الثانية: قرىء (يضيق) و (ينطلق) بالرفع، لأنهما معطوفان على خبر (إن)، وبالنصب لعطفهما على صلة أن، والمعنى: أخاف أن يكذبون، وأخاف أن يضيق صدري، وأخاف أن لا ينطلق لساني، والفرق أن الرفع يفيد ثلاث علل في طلب إرسال هارون، والنصب يفيد علة
122

واحدة، وهي الخوف من هذه الأمور الثلاثة، فإن قلت: الخوف غم يحصل لتوقع مكروه سيقع وعدم انطلاق اللسان كان حاصلا، فكيف جاز تعلق الخوف به؟ قلت: قد بينا أن التكذيب الذي سيقع يوجب ضيق القلب، وضيق القلب يوجب زيادة الاحتباس، فتلك الزيادة ما كانت حاصلة في الحال بل كانت متوقعة، فجاز تعليق الخوف عليها.
أما قوله تعالى: * (فأرسل إلى هارون) * فليس في الظاهر ذكر من الذي يرسل إليه، وفي الخبر أن الله تعالى أرسل موسى عليه السلام إليه، قال السدي: إن موسى عليه السلام سار بأهله إلى مصر والتقى بهارون وهو لا يعرفه، فقال أنا موسى، فتعارفا وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة، فصاحت أمهما لخوفهما عليهما فذهبا إليه، ويحتمل أن يكون المراد أرسل إليه جبريل، لأن رسول الله إلى الأنبياء جبريل عليه السلام، فلما كان هو متعينا لهذا الأمر حذف ذكره لكونه معلوما، وأيضا ليس في الظاهر أنه يرسل لماذا، لكن فحوى الكلام يدل على أنه طلبه للمعونة فيما سأل، كما يقال إذا نابتك نائبة، فأرسل إلى فلان أي ليعينك فيها وليس
في الظاهر أنه التمس كون هارون نبيا معه، لكن قوله: * (فقولا إنا رسول رب العالمين) * يدل عليه.
أما قوله: * (ولهم علي ذنب) * فأراد بالذنب قتله القبطي، وقد ذكر الله تعالى هذه القصة مشروحة في سورة القصص.
واعلم أنه ليس في التماس موسى عليه السلام، أن يضم إليه هارون ما يدل على أنه استعفى من الذهاب إلى فرعون بل مقصوده فيما سأل أن يقع ذلك الذهاب على أقوى الوجوه في الوصول إلى المراد، واختلفوا فقال بعضهم إنه وإن كان نبيا فهو غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة لأنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين، وهذا قول الكعبي وغيره من البغداديين لأنهم يجوزون دخول الشرط في تكليف الله تعالى العبد، والذي ذهب إليه الأكثرون أن ذلك لا يجوز لأنه تعالى إذا أمر فهو عالم بما يتمكن منه المأمور وبأوقات تمكنه، فإذا علم أنه غير متمكن منه فإنه لا يأمره به، وإذا صح ذلك فالأقرب في الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أنه تعالى يمكنهم من أدائها وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت، ومثل ذلك لا يكون إغراء في الأنبياء وإن جاز أن يكون إغراء في غيرهم.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول قول موسى عليه السلام: * (ولهم علي ذنب) * هل يدل على صدور الذنب منه؟ جوابه: لا والمراد لهم علي ذنب في زعمهم.
قوله تعالى
* (قال كلا فاذهبا باياتنآ إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب
123

العالمين * أن أرسل معنا بنى إسراءيل) *.
اعلم أن موسى عليه السلام طلب أمرين: الأول: أن يدفع عنه شرهم والثاني: أن يرسل معه هارون فأجابه الله تعالى إلى الأول بقوله: * (كلا) * ومعناه ارتدع يا موسى عما تظن وأجابه إلى الثاني بقوله: * (فاذهبا) * أي اذهب أنت والذي طلبته وهو هارون فإن قيل علام عطف قوله: * (فاذهبا) * قلنا على الفعل الذي يدل عليه (كلا) كأنه قال: ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهارون.
وأما قوله: * (إنا معكم مستمعون) * فمن مجاز الكلام يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا أحضر وأستمع ما يجري بينكما فأظهركما عليه وأعليكما وأكسر شوكته عنكما، وإنما جعلنا الاستماع مجازا لأن الاستماع عبارة عن الإصغاء وذلك على الله تعالى محال.
وأما قوله: * (إنا رسول رب العالمين) * ففيه سؤال وهو أنه هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله: * (إنا رسولا ربك) * جوابه من وجوه: أحدها: أن الرسول اسم للماهية من غير بيان أن تلك الماهية واحدة أو كثيرة والألف واللام لا يفيدان إلا الوحدة لا الاستغراق، بدليل أنك تقول الإنسان هو الضحاك ولا تقول كل إنسان هو الضحاك ولا أيضا هذا الإنسان هو الضحاك، وإذا ثبت أن لفظ الرسول لا يفيد إلا الماهية وثبت أن الماهية محمولة على الواحد وعلى الاثنين ثبت صحة قوله: * (إنا رسول رب العالمين) * وثانيها: أن الرسول قد يكون بمعنى الرسالة قال الشاعر:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم * بسر ولا أرسلتهم برسول
فيكون المعنى إنا ذو رسالة رب العالمين وثالثها: أنهما لاتفاقهما على شريعة واحدة واتحادهما بسبب الأخوة كأنهما رسول واحد ورابعها: المراد كل واحد منا رسول وخامسها: ما قاله بعضهم أنه إنما قال ذلك لا بلفظ التثنية لكونه هو الرسول خاصة وقوله: * (إنا) * فكما في قوله تعالى: * (إنا أنزلناه) * (يوسف: 2) وهو ضعيف.
وأما قوله: * (أن أرسل معنا بني إسرائيل) * فالمراد من هذا الإرسال التخلية والإطلاق كقولك أرسل البازي، يريد خلهم يذهبوا معنا.
قوله تعالى
* (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين) *.
124

اعلم أن في الكلام حذفا وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به فعند ذلك قال فرعون ما قال، يروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن ههنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال ائذن له لعلنا نضحك منه، فأديا إليه الرسالة فعرف موسى عليه السلام فعدد عليه نعمه أولا، ثم إساءة موسى إليه ثانيا، أما النعم فهي قوله: * (ألم نربك فينا وليدا) * والوليد: الصبي لقرب عهده من الولادة * (ولبثت فينا من عمرك) * وعن أبي عمرو بسكون الميم * (سنين) * قيل لبث عندهم ثلاثين سنة وقيل وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة وفر منهم (على أثرها) والله أعلم بصحيح ذلك، وعن الشعبي * (فعلتك) * بالكسر وهي قتله القبطي لأنه قتله بالوكز وهو ضرب من القتل، وأما الفعلة فلأنها (كانت) (1) وكزة واحدة عدد عليه نعمه من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه وعظم ذلك (وفظعه) (1) بقوله: * (وفعلت فعلتك التي فعلت) *.
وأما قوله: * (وأنت من الكافرين) * ففيه وجوه: أحدها: يجوز أن يكون حالا أي قتلته وأنت بذاك من الكافرين بنعمتي وثانيها: وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة وقد افترى عليه أو جهل أمره لأنه كان (يعاشرهم) بالتقية فإن الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة وثالثها: * (وأنت من الكافرين) * معناه وأنت ممن عادته كفران النعم ومن كان هذا حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمته ورابعها: * (وأنت من الكافرين) * بفرعون وإلهيته أو من الذين (كانوا) يكفرون في دينهم فقد كانت لهم آلهة يعبدونها، يشهد بذلك قوله تعالى: * (ويذرك وآلهتك) * (الأعراف: 127).
قوله تعالى
* (قال فعلتهآ إذا وأنا من الضآلين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لى ربى حكما وجعلنى من المرسلين * وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى إسراءيل) *.
اعلم أن فرعون لما دكر التربية وذكر القتل وقد كانت تربيته له معلومة ظاهرة، لا جرم أن موسى عليه السلام ما أنكرها، ولم يشتغل بالجواب عنها، لأنه تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجز وحجة لم يتغير حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم يفعل ذلك، فصار قول فرعون لما قاله غير مؤثر البتة، ومثل هذا الكلام الإعراض عنه أولى ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب وهو قوله: * (فعلتها إذا وأنا من الضالين) * والمراد بذلك الذاهلين عن معرفة ما يؤول إليه من القتل لأنه فعل الوكزة على وجه التأديب، ومثل ذلك ربما
125

حسن وإن أدى إلى القتل فبين له أنه فعله على وجه لا يجوز معه أن يؤاخذ به أو يعد منه كافرا أو كافرا لنعمه، فأما قوله: * (ففررت منكم لما خفتكم) * فالمراد أني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكا وكان مني في حكم السهو، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار ومع ذلك فررت منكم عند قولكم: * (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) * (القصص: 20) فبين بذلك أنه لا نعمة له عليه في باب تلك الفعلة، بل بأن يكون مسيئا فيه أقرب من حيث خوف تخويفا أوجب الفرار، ثم بين نعمة الله تعالى عليه بعد الفرار، فكأنه قال أسأتم وأحسن الله إلي بأن وهب لي حكما وجعلني من المرسلين، واختلفوا في الحكم والأقرب أنه غير النبوة لأن المعطوف غير المعطوف عليه، والنبوة مفهومة من قوله: * (وجعلني من المرسلين) * فالمراد بالحكم العلم ويدخل في العلم العقل والرأي والعلم بالدين الذي هو التوحيد، وهذا أقرب لأنه لا يجوز أن يبعثه تعالى إلا مع كماله في العقل والرأي والعلم بالتوحيد وقوله: * (فوهب لي ربي حكما) * كالتنصيص على أن ذلك الحكم من خلق الله تعالى، وقالت المعتزلة: المراد منه الألطاف وهو ضعيف جدا لأن الألطاف مفعولة في حق الكل من غير بخس ولا تقصير، فالتخصيص لا بد فيه من فائدة، فأما قوله: * (وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل) * فهو جواب قوله: * (ألم نربك فينا وليدا) * يقال عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا، فإن قيل كيف يكون ذلك جوابه ولا تعلق بين الأمرين؟ قلنا بيان التعلق من وجوه: أحدها: أنه إنما وقع في يده وفي تربيته لأنه قصد تعبيد بني إسرائيل وذبح أبنائهم، فكأنه عليه السلام قال له كنت مستغنيا عن تربيتك لو لم يكن منك ذلك الظلم المتقدم علينا وعلى أسلافنا وثانيها: أن هذا الإنعام المتأخر صار معاضا بذلك الظلم العظيم على أسلافنا وإذا تعارضا تساقطا وثالثها: ما قاله الحسن: إنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت علي فلا نعمة لك بالتربية ورابعها: المراد أن الذي تولى تربيتي هم الذين قد استعبدتهم فلا نعمة لك علي لأن التربية كانت من قبل أمي وسائر من هو من قومي ليس لك إلا أنك ما قتلتني، ومثل هذا لا يعد إنعاما وخامسها: أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في أن يطعمه ويعطيه ما يحتاج إليه.
واعلم أن في الآية دلالة على أن كفر الكافر لا يبطل نعمته على من يحسن إليه ولا يبطل منته لأن موسى عليه السلام إنما أبطل ذلك بوجه آخر على ما بينا، واختلف العلماء فقال بعضهم إذا كان كافرا لا يستحق الشكر على نعمه على الناس إنما يستحق الإهانة بكفره، فلو استحق الشكر بإنعامه والشكر لا يوجد إلا مع التعظيم فيلزم كونه مستحقا للإهانة وللتعظيم معا، واستحقاق الجمع بين الضدين محال، وقال آخرون لا يبطل الشكر بالكفر وإنما يبطل بالكفر الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان، والآية تدل على هذا القول الثاني.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف " إنما جمع الضمير في * (منكم) * و * (خفتكم) * مع إفراده في * (ثمنها) * و * (عبدت) * لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملائه المؤتمرين بقتله، بدليل
126

قوله: * (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) * (القصص: 20) وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد، فإن قلت: * (تلك) * إشارة إلى ماذا و * (أن عبدت) * ما محلها من الإعراب؟ قلت: (تلك) إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها وهي * (أن عبدت) * فإن * (أن عبدت) * عطف بيان ونظيره قوله تعالى: * (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) * (الحجر: 66) والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي، وقال الزجاج: ويحوز أن يكون (أن) في موضع نصب، والمعنى إنما صارت نعمة علي، لأن عبدت بني إسرائيل أي لو لم تفعل ذلك لكفاني أهلي.
قوله تعالى
* (قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والارض وما بينهمآ إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب ءابآئكم الاولين * قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهمآ إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلها غيرى لأجعلنك من المسجونين * قال أولو جئتك بشىء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين) *.
اعلم أن فرعون لم يقل لموسى * (وما رب العالمين) *، إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين، يبين ذلك ما تقدم من قوله: * (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) * (الشعراء: 16) فلا بد عند دخولهما عليه أنهما قالا ذلك، فعند ذلك قال فرعون: * (وما رب العالمين) * ثم ههنا بحثان:
الأول: أن فرعون يحتمل أن يقال إنه كان عارفا بالله، ولكنه قال ما قال طلبا للملك والرياسة، وقد ذكر الله تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفا بالله، وهو قوله: * (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض) * (الإسراء: 102) فإذا قرىء بفتح التاء من * (علمت) * فالمراد أن فرعون علم ذلك، وذلك يدل على أنه كان عارفا بالله، لكنه كان يستأكل قومه بما يظهره من
127

إلهيته، والقراءة الأخرى برفع التاء من * (علمت) * فهي تقتضي أن موسى عليه السلام هو الذي عرف ذلك، وأيضا فإن فرعون إن لم يكن عاقلا لم يجز من الله تعالى بعثة الرسول إليه، وإن كان عاقلا فهو يعلم بالضرورة أنه ما كان موجودا ولا حيا ولا عاقلا ثم صار كذلك، وبالضرورة يعلم أن كل ما كان كذلك فلا بد له من مؤثر، فلا بد وأن يتولد له من هذين العلمين علم ثالث بافتقاره في تركيبه وفي حياته وعقله إلى مؤثر موجد، ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك
واجبة الوجود في ذواتها ومتحركة لذواتها، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث في هذا العالم، أو يقال إنه كان من الفلاسفة القائلين بالعلة الموجبة لا بالفاعل المختار، ثم اعتقد أنه بمنزلة الإله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك ذماتهم وزمام أمرهم، ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الحلولية، القائلين بأن ذات الإله يتدرع بجسد إنسان معين، حتى يكون الإله سبحانه لذلك الجسد بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلها.
البحث الثاني: وهو أنه قال لموسى عليه السلام: * (وما رب العالمين) *؟ واعلم أن السؤال بما طلب لتعريف حقيقة الشيء، وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة أو بشيء من أجزائها أو بأمر خارج عنها أو بما يتركب من الداخل والخارج. أما تعريفها بنفسها فمحال، لأن المعرف معلوم قبل المعرف، فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوما قبل أن يكون معلوما وهو محال. وأما تعريفها بالأمور الداخلة فيها فههنا في حق واجب الوجود محال، لأن التعريف بالأمور الدخلة لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركبا، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركبا، لأن كل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه فهو غيره، فكل مركب محتاج إلى غيره، وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته، وكل مركب فهو ممكن، فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركبا، فواجب الوجود ليس بمركب، وإذا لم يكن مركبا استحال تعريفه بأجزائه، ولما بطل هذان القسمان ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود إلا بلوازمه وآثاره، ثم إن اللوازم قد تكون خفية، وقد تكون جلية، ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية، وأظهر آثار ذات واجب الوجود هو هذا العالم المحسوس وهو السماوات والأرض وما بينهما فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون * (وما رب العالمين) * إلا ما قاله موسى عليه السلام، وهو أنه رب السماوات والأرض وما بينهما، فأما قوله: * (إن كنتم موقنين) * فمعناه: إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته، ثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره، وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره، وأبعدها عن الخفاء وما ذاك إلا السماوات
128

والأرض وما بينهما، فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال إلا هذا الجواب، ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق قال فرعون لمن حوله ألا تستمعون وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى، يعني أنا أطلب منه الماهية وخصوصية الحقيقة، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية، وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء إنه الذي يلزمه اللازم الفلاني، فهذا المذكور، إما أن يكون معروفا لمجرد كونه أمرا ما يلزمه ذلك اللازم أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزومية، والأول محال لأن كونه أمرا يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفا فلو كان المكشوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معروفا لنفسه وهو محال، والثاني محال لأن العلم بأنه أمر ما يلزمه اللازم الفلاني لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزومة، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية فثبت أن التعريف بالوصف الخارجي لا يفيد معرفة نفس الحقيقة فلم يكن كونه ربا للسموات والأرض وما بينهما جوابا عن قوله: * (وما رب العالمين) * فأجاب موسى عليه السلام: بأن * (قال ربكم ورب آبائكم الأولين) * وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقا لنا ولآبائنا، وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السماوات والأرضين واجبة لذواتها فهي غنية عن الخالق والمؤثر، ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده كونهم واجبين لذواتهم، لم أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم ثم عدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبا لذاته، وما لم يكن واجبا لذاته استحال وجوده إلا لمؤثر، فكان التعريف بهذا الأثر أظهر فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه فقال فرعون: * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * يعني المقصود من سؤال ما طلب الماهية وخصوصية الحقيقة والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه، فقال موسى عليه السلام: * (رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) * فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة وهو الذي ذكره موسى عليه السلام ههنا بقوله: * (ربكم ورب آبائكم الأولين) * فأجابه نمروذ بقوله: * (أنا أحيي وأميت) * (البقرة: 258) فقال: * (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر) * (البقرة: 258) وهو الذي ذكره موسى عليه السلام ههنا بقوله: * (رب المشرق والمغرب) *.
وأما قوله: * (إن كنتم تعقلون) * فكأنه عليه السلام قال إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته، وقد ثبت
129

أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته، فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته، وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته فقد ثبت أن كل من كان عاقلا يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته.
واعلم أنا قد بينا في سورة الأنعام (18) في تفسير قوله تعالى: * (وهو القاهر فوق عباده) * أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي هي غير معقولة للبشر، وإذا كان كذلك استحال من موسى عليه السلام أن يذكر ما تعرف به تلك الحقيقة، إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة فكان حاصل كلام موسى عليه السلام أن ادعاء رسالة رب العالمين تتوقف صحته على إثبات أن للعالمين ربا وإلها ولا تتوقف على العلم بخصوصية الرب تعالى وماهيته المعينة، فكأن موسى عليه السلام يقيم الدلالة على إثبات القدر المحتاج إليه في صحة دعوى الرسالة، وفرعون يطالبه ببيان الماهية، وموسى عليه السلام كان يعرض عن سؤاله لعلمه بأنه لا تعلق لذلك السؤال نفيا ولا إثباتا في هذا المطلوب، فهذا تمام القول في هذا البحث والله أعلم، ثم إن موسى عليه السلام لما خشن في آخر الكلام بقوله: * (إن كنتم تعقلون)
* فعند ذلك قال فرعون: * (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) * فإنه لما عجز عن الحجاج عدل إلى التخويف، فعند ذلك ذكر موسى عليه السلام كلاما مجملا ليعلق قلبه به فيعدل عن وعيده فقال: * (أو لو جئتك بشيء مبين) *؟ أي هل تستجيز أن تسجنني مع اقتداري على أن آتيك بأمر بين في باب الدلالة على وجود الله تعالى وعلى أني رسوله؟ فعند ذلك قال: * (فأت به إن كنت من الصادقين) * وههنا فروع: الفرع الأول: الآية تدل على أنه تعالى ليس بجسم لأنه لو كان جسما وله صورة لكان جواب موسى عليه السلام بذكر حقيقته ولكان كلام فرعون لازما له لعدوله عن الجواب الحق الثاني: الواجب على من يدعو غيره إلى الله تعالى أن لا يجيب عن السفاهة لأن موسى عليه السلام لما قال له فرعون إنه مجنون لم يعدل عن ذكر الدلالة وكذلك لما توعده أن يسجنه الثالث: أنه يجوز للمسؤول أن يعدل في حجته من مثال إلى مثال لإيضاح الكلام ولا يدل ذلك على الانقطاع الرابع: إن قيل: كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول وهو قوله: * (أو لو جئتك بشيء مبين) * والمعجز لا يدل على الله تعالى كدلالة سائر ما تقدم؟ قلنا بل يدل ما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حية على الله تعالى وعلى توحيده، وعلى أنه صادق في الرسالة فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم وأجمع الخامس: فإن قيل كيف قال: * (رب السماوات والأرض وما بينهما) * على التثنية والمرجوع إليه مجموع؟ جوابه أريد ما بين الجهتين، فإن قيل: ذكر السماوات والأرض وما بينهما قد استوعب الخلائق كلهم، فما معنى ذكرهم وذكر آبائهم بعد ذلك وذكر المشرق والمغرب؟ جوابه: قد عمم أولا ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم لأن أقرب الأشياء من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد من انتقاله من وقت ميلاده إلى وقت وفاته من حالة إلى
130

حالة أخرى، ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها على تقدير مستقيم في فصول السنة من أظهر الدلائل السادس: فإن قيل لم قال: * (لأجعلنك من المسجونين) * ولم يقل لأسجننك مع أنه أخصر؟ جوابه: لأنه لو قال لأسجننك لا يفيد إلا صيرورته مسجونا. أما قوله: * (لأجعلنك من المسجونين) * فمعناه أني أجعلك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني، وكان من عادته أن يأخذ من يريد أن يسجنه فيطرحه في بئر عميقة فردا لا يبصر فيها ولا يسمع فكان ذلك أشد من القتل السابع: الواو في قوله: * (أو لو جئتك) * واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام معناه أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي جائيا بالمعجزة.
قوله تعالى
* (فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هى بيضآء للناظرين * قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث فى المدآئن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الأعمش: * (بكل ساحر عليم) *.
المسألة الثانية: اعلم أن قوله: * (أو لو جئتك بشيء مبين) * (الشعراء: 30) يدل على أن الله تعالى قبل أن ألقى العصا عرفه بأنه يصيرها ثعبانا، ولولا ذلك لما قال ما قال: فلما ألقى عصاه ظهر ما وعده الله به فصار ثعبانا مبينا، والمراد أنه تبين للناظرين أنه ثعبان بحركاته وبسائر العلامات، روي أنه لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت، ويقول فرعون يا موسى أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها فعادت عصا فإن قيل كيف قال ههنا: * (ثعبان مبين) * وفي آية أخرى: * (فإذا هي حية تسعى) * (طه: 20) وفي آية ثالثة: * (كأنها جان) * (القصص: 31) والجان مائل إلى الصغر والثعبان مائل إلى الكبر؟ جوابه: أما الحية فهي اسم الجنس ثم إنها لكبرها صارت ثعبانا، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها فصح الكلامان، ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله تعالى: * (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) * (الحجر: 27) ويحتمل أنها كانت أولا صغيرة كالجان ثم عظمت
131

فصارت ثعبانا، ثم إن موسى عليه السلام لما أتى بهذه الآية قال له فرعون هل غيرها؟ قال نعم فأراه يده ثم أدخلها جيبه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء يضيء الوادي من شدة بياضها من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس، فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر فيها أمورا ثلاثة: أحدها: قوله: * (إن هذا لساحر عليم) * وذلك لأن الزمان كان زمان السحرة وكان عند كثير منهم أن الساحر قد يجوز أن ينتهي بسحره إلى هذا الحد فلهذا روج عليهم هذا القول وثانيها: قوله: * (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) * وهذا يجري مجرى التنفير عنه لئلا يقبلوا قوله، والمعنى يريد أن يخرجكم من أرضكم بما يلقيه بينكم من العداوات فيفرق جمعكم، ومعلوم أن مفارقة الوطن أصعب الأمور فنفرهم عنه بذلك، وهذا نهاية ما يفعله المبطل في التنفير عن المحق وثالثها: قوله لهم: * (فماذا تأمرون) * أي فما رأيكم فيه وما الذي أعمله، يظهر من نفسه أني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم، ومثل هذا الكلام يوجب جذب القلوب وانصرافها عن العدو فعند هذه الكلمات اتفقوا على جواب واحد وهو قوله: * (أرجه) * قرىء (أرجئه) و (أرجه) بالهمز والتخفيف، وهما لغتان يقال: أرجأته وأرجيته إذا أخرته، والمعنى أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة، وقيل احبسه وذلك محتمل، لأنك إذا حبست الرجل عن حاجته فقد أخرته. روي أن فرعون أراد قتله ولم يكن يصل إليه، فقالوا له لا تفعل، فإنك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهة، ولكن أرجئه وأخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه فلا يثبت له عليك حجة، ثم أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة، ظنا منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله وعارضوا قوله: * (إن هذا لساحر عليم) * بقولهم: * (بكل سحار عليم) * فجاءوا بكلمة الإحاطة وبصيغة المبالغة ليطيبوا قلبه وليسكنوا بعض قلقه، قال صاحب " الكشاف " فإن قلت: قوله تعالى: * (قال للملأ حوله) * ما العامل في (حوله)؟ قلت: هو منصوب نصبين نصب في اللفظ ونصب في المحل والعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال.
قوله تعالى
* (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جآء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) *.
وفيه مسألتان:
132

المسألة الأولى: اليوم المعلوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى عليه السلام من يوم الزينة في قوله: * (موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) * (طه: 59) والميقات ما وقت به أي حدد من مكان وزمان ومنه مواقيت الإحرام.
المسألة الثانية: اعلم أن القوم لما أشاروا بتأخير أمره وبأن يجمع له السحرة ليظهر عند حضورهم فساد قول موسى عليه السلام، رضي فرعون بما قالوه وعمي عما شاهده وحب الشيء يعمي ويصم فجمع السحرة ثم أراد أن تقع تلك المناظرة يوم عيد لهم ليكون ذلك بمحضر الخلق العظيم وكان موسى عليه السلام يطلب ذلك لتظهر حجته عليهم عند الخلق العظيم وكان هذا أيضا من لطف الله تعالى في ظهور أمر موسى عليه السلام.
أما قوله: * (وقيل للناس هل أنتم مجتمعون) * فالمراد أنهم بعثوا على الحضور ليشاهدوا ما يكون من الجانبين.
وأما قوله: * (لعلنا نتبع السحرة) * فالمراد إنا نرجو أن يكون الغلبة لهم فنتبعهم فلما جاء السحرة ابتدأوا بطلب الجزاء، وهو إما المال وإما الجاه فبذل لهم ذلك وأكده بقوله: * (وإنكم إذا لمن المقربين) * لأن نهاية مطلوبهم منه البذل ورفع المنزلة فبذل كلا الأمرين.
* (قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفكون * فألقى السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون) *.
اعلم أنهم لما اجتمعوا كان لا بد من أن يبدأ موسى أو يبدأوا ثم إنهم تواضعوا له فقدموه على أنفسهم، وقالوا: * (إما أن تلقى وإما أن تكون أول من ألقى) * (طه: 65) فلما تواضعوا له تواضع هو أيضا لهم فقدمهم على نفسه، وقال: * (ألقوا ما أنتم ملقون) * فإن قيل كيف جاز لموسى عليه السلام أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصي وذلك سحر وتلبيس وكفر والأمر بمثله لا يجوز الجواب: لا شبهة في أن ذلك ليس بأمر لأن مراد موسى عليه السلام منهم كان أن يؤمنوا به ولا يقدموا على ما يجري
133

مجرى المغالبة، وإذا ثبت هذا وجب تأويل صيغة الأمر وفيه وجوه: أحدها: ذلك الأمر كان مشروطا والتقدير ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين كما في قوله: * (فأتوا بسورة من مثله... إن كنتم صادقين) * (البقرة: 23) وثانيها: لما تعين ذلك طريقا إلى كشف الشبهة صار جائزا وثالثها: أن هذا ليس بأمر بل هو تهديد، أي إن فعلتم ذلك أتينا بما تبطله، كقول القائل لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن ثم يفوق له السهم فيقول له ارم فيكون ذلك منه تهديدا ورابعها: ما ذكرنا أنهم لما تواضعوا له وقدموه على أنفسهم فهو قدمهم على نفسه على رجاء أن يصير ذلك التواضع سببا لقبول الحق ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب، وهذا تنبيه على أن اللائق بالمسلم في كل الأحوال التواضع، لأن مثل موسى عليه السلام لما لم يترك التواضع مع أولئك السحرة، فبأن يفعل الواحد منا أولى.
أما قوله تعالى: * (فألقوا حبالهم وعصيهم) * فروي عن ابن عباس أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق فلما حميت اشتدت حركتها فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض فهاب موسى عليه السلام ذلك، فقيل له ألق ما في يمينك فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ثم فتحت فاها فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم حتى أكلت الكل ثم أخد موسى عصاه، فإذا هي كما كانت فلما رأت السحرة ذلك قالت لفرعون كنا نساحر الناس فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي، وكذلك إن غلبونا ولكن هذا حق فسجدوا وآمنوا برب العالمين.
واعلم أن في الآثار اختلافا فمنهم من كثر الحبال والعصي، ومنهم من توسط والله أعلم بعدد ذلك، والذي يدل القرآن عليه أنها كثيرة من حيث حشروا من كل بلد، ولأن الأمر بلغ عند فرعون وقومه في العظم مبلغا يبعد أن يدخر عنه ما يمكن من جمع السحرة.
وأما قوله: * (وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) * فالمراد أنهم أظهروا ما يجري مجرى القطع على أنهم يغلبون، وكل ذلك لما ظهر كان أقوى لأمر موسى عليه السلام.
أما قوله: * (فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون) * فالمراد من قوله: * (ما يأفكون) * ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم (ويزورونه) فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، (بالتمويه على الناظرين أو إفكهم) وسمى تلك الأشياء إفكا مبالغة.
أما قوله: * (فألقى السحرة ساجدين) * فالمراد خروا سجدا لأنهم كانوا في الطبقة العالية من علم السحر، فلا جرم كانوا عالمين بمنتهى السحر، فلما رأوا ذلك وشاهدوه خارجا عن حد السحر علموا أنه ليس بسحر، وما كان ذلك إلا ببركة تحقيقهم في علم السحر، ثم إنهم عند ذلك لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا، فإن قيل فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ جوابه: هو الله تعالى بما (حصل في قلوبهم من الدواعي الجازمة الخالية عن المعارضات
134

ولكن الأولى) أن لا نقدر فاعلا لأن ألقى بمعنى خر وسقط.
أما قوله: * (رب موسى وهارون) * فهو عطف بيان لرب العالمين لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام أنه الذي دعا موسى وهارون عليهما السلام إليه.
قوله تعالى
* (قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنآ إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانآ أن كنآ أول المؤمنين) *.
اعلم أنهم لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول الناس إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وتظاهرهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى عليه السلام فيسلكون مثل طريقهم فلبس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى عليه السلام من وجوه: أولها: قوله: * (آمنتم له قبل أن آذن لكم) * وهذا فيه إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على أنكم كنتم مائلين إليه، وذلك يطرق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله وثانيها: قوله: * (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) * وهذا تصريح بما رمز به أولا، وغرضه منه أنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى عليه السلام وقصروا في السحر ليظهر أمر موسى عليه السلام، وإلا ففي قوة السحرة أن يفعلوا مثل ما فعل موسى عليه السلام، وهذه شبهة قوية في تنفير من يقبل قوله وثالثها: قوله: * (فلسوف تعلمون) * وهو وعيد مطلق وتهديد شديد ورابعها: قوله: * (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين) * وهذا هو الوعيد المفصل وقطع اليد والرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والصلب معلوم، وليس في الإهلاك أقوى من ذلك وليس في الآية أنه فعل ذلك أو لم يفعل، ثم إنه أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين: الأول: قولهم: * (لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون) * الضر والضير واحد، وليس المراد أن ذلك إن وقع لم يضر وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عرفوه من دار الجزاء.
واعلم أن قولهم: * (إنا إلى ربنا منقلبون) * فيه نكتة شريفة وهي أنهم قد بلغوا في حب الله
135

تعالى أنهم ما أرادوا شيئا سوى الوصول إلى حضرته، وأنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب، وإنما مقصودهم محض الوصول إلى مرضاته والاستغراق في أنوار معرفته، وهذا أعلى درجات الصديقين الجواب الثاني: قولهم: * (إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا) * فهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما، والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين كقول إبراهيم * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * (الشعراء: 82) ويحتمل الظن لأن المرء لا يعلم ما سيجيء من بعد.
أما قوله: * (أن كنا أول المؤمنين) * فالمراد لأن كنا أول المؤمنين من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف، أو يكون المراد من السحرة خاصة، أو من رعية فرعون أو من أهل زمانهم، وقرئ (إن كنا) بالكسر، وهو من الشرط الذي يجيء به المدل (بأمره لصحته وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين)، ونظيره قول (القائل) لمن يؤخر جعله: إن كنت عملت لك فوفني حقي.
قوله تعالى
* (وأوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم متبعون * فأرسل فرعون فى المدآئن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغآئظون * وإنا لجميع حاذرون * فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بنى إسراءيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما ترآءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معى ربى سيهدين) *.
قرىء * (أسر) * بقطع الهمزة ووصلها وسر. لما ظهر أمر موسى عليه السلام بما شاهدوه من الآية، أمره الله تعالى بأن يخرج ببني إسرائيل لما كان في المعلوم من تدبير الله تعالى في موسى وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم، ولم يأمن وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع من فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال، فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل،
136

وهم الذين آمنوا وكانوا من قوم موسى، ولا شبهة أن في الكلام حذفا وهو أنه أسرى بهم كما أمره الله تعالى، ثم إن قوم موسى عليه السلام قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيدا، ثم استعاروا منهم حليهم وحللهم بهذا السبب، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر، فلما سمع ذلك فرعون أرسل في المدائن حاشرين، ثم إنه قوى نفسه ونفس أصحابه بأن وصف قوم موسى بوصفين من أوصاف الذم، ووصف قوم نفسه بصفة المدح أما وصف قوم موسى عليه السلام بالذم.
فالصفة الأولى: قوله: * (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) * والشرذمة الطائفة القليلة، ومنه قولهم ثوب شراذم للذي بلي، وتقطع قطعا ذكرهم بالاسم الدال على القلة، ثم جعلهم قليلا بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلا واختار جمع السلامة الذي هو للقلة (وقد يجمع القليل على أقلة وقلل)، ويجوز أن يريد بالقلة الذلة (والقماءة) لا قلة العدد، والمعنى أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم، ثم اختلف المفسرون في عدد تلك الشرذمة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة، ولا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم، وفرعون يقللهم لكثرة من معه، وهذا الوصف قد يستعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه، فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حصان وفي عسكره على لون فرسه ثلثمائة ألف.
الصفة الثانية: قوله: * (وإنهم لنا لغائظون) * يعني يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا، واختلفوا في تلك الأفعال على وجوه: أحدها: ما تقدم من أمر الحلي وغيره وثانيها: خروج بني إسرائيل عن عبودية فرعون واستقلالهم بأنفسهم وثالثها: مخالفتهم لهم في الدين وخروجهم عليهم ورابعها: ليس إلا أنهم لم يتخذوا فرعون إلها. أما الذي وصف فرعون به قومه فهو قوله: * (وإنا لجميع حذرون) * وفيه ثلاث قراءات (حذرون) و (حاذرون) و (حادرون) بالدال غير المعجمة.
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهي اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث، وإذا لم تكن كذلك وهي الشبهة أفادت الثبوت، فمن قرأ * (حذرون) * ذهب إلى إنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم، ومن قرأ * (حاذرون) * فكأنه ذهب إلى معنى إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا. وأما من قرأ * (حادرون) * بالدال غير المعجمة فكأنه ذهب إلى نفي الحذر أصلا، لأن الحادر هو المشمر، فأراد إنا قوم أقوياء أشداء، أو أراد إنا مدججون في
السلاح، والغرض من هذه المعاذير أن لا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى أو خائف منهم.
أما قوله تعالى: * (فأخرجناهم) * فالمراد إنا جعلنا في قلوبهم داعية الخروج فاستوجبت الداعية الفعل، فكان الفعل مضافا إلى الله تعالى لا محالة.
وأما قوله: * (من جنات وعيون وكنوز) * فقال مجاهد: سماها كنوزا، لأنهم لم ينفقوا منها في
137

طاعة الله تعالى، والمقام الكريم يريد المنازل الحسنة والمجالس البهية، والمعنى إنا أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة، والمواضع التي كانوا يتنعمون فيها لنسلمها إلى بني إسرائيل. أما قوله كذلك فيحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، والجر على أنه وصف لمقام كريم، أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك.
أما قوله: * (فأتبعوهم) * أي فلحقوهم، وقرئ (فاتبعوهم) * (مشرقين) * داخلين في وقت الشروق من أشرقت الشمس شروقا إذا طلعت.
أما قوله: * (فلما تراءى الجمعان) * أي رأى بعضهم بعضا، قال أصحاب موسى: * (إنا لمدركون) * أي لملحقون * (وقالوا يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) * كانوا يذبحون أبناءنا، من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا يدركوننا، أي في الساعة فيقتلوننا، وقرئ * (فلما تراءت الفئتان) * * (إنا لمدركون) * بتشديد الدال وكسر الراء من أدرك الشيء إذا تتابع ففنى، ومنه قوله تعالى: * (بل دارك علمهم في الآخرة) * (النمل: 66) قال الحسن: جهلوا علم الآخرة، والمعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد، فعند ذلك قال لهم كلا وذلك كالمنع مما توهموه، ثم قوى نفوسهم بأمرين: أحدهما: * (إن معي ربي) * وهذا دلالة النصرة والتكفل بالمعونة والثاني: قوله: * (سيهدين) * والهدى هو طريق النجاة والخلاص، وإذا دله على طريق نجاته وهلاك أعدائه، فقد بلغ النهاية في النصرة.
قوله تعالى
* (فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الاخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الاخرين * إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام قوله: * (إن معي ربي سيهدين) * (الشعراء: 62) بين تعالى بعده كيف هداه ونجاه، وأهلك أعداءه بذلك التدبير الجامع لنعم الدين والدنيا، فقال: * (فأوحينا
138

إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * ولا شبهة في أن المراد فضرب فانفلق لأنه كالمعلوم من الكلام إذ لا يجوز أن ينفلق من غير ضرب ومع ذلك يأمره بالضرب لأنه كالعبث ولأنه تعالى جعله من معجزاته التي ظهرت بالعصا ولأن انفلاقه بضربه أعظم في النعمة عليه، وأقوى لعلمهم أن ذلك إنما حصل لمكان موسى عليه السلام، واختلفوا في البحر، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر مع بني إسرائيل أمرهم أن يخوضوا البحر فامتنعوا إلا يوشع بن نون فإنه ضرب دابته وخاض في البحر حتى عبر ثم رجع إليهم فأبوا أن يخوضوا فقال موسى للبحر انفرق لي فقال ما أمرت بذلك ولا يعبر عن العصاة، فقال موسى يا رب قد أبى البحر أن ينفرق، فقيل له اضرب بعصاك البحر فضربه فانفرق فكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل العظيم وصار فيه اثنا عشر طريقا لكل سبط منهم طريق فقال كل سبط قتل أصحابنا فعند ذلك دعا موسى عليه السلام ربه فجعلها مناظر كهيئة الطبقات حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة، وعن عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون وكان يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم بأولكم، ويستقبل القبط فيقول رويدكم ليلحق آخركم، وروي أن موسى عليه السلام قال عند ذلك: " يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء ".
فأما قوله: * (فكان كل فرق كالطود العظيم) * فالفرق الجزء المنفرق منه، وقرئ (كل فلق) والمعنى واحد والطود الجبل المتطاول أي المرتفع في السماء وهو معجز من وجوه: أحدها: أن تفرق ذلك الماء معجز وثانيها: أن اجتماع ذلك الماء فوق كل طرف منه حتى صار كالجبل من المعجزات أيضا لأنه كان لا يمتنع في الماء الذي أزيل بذلك التفريق أن يبدده الله تعالى حتى يصير كأنه لم يكن فلما جمع على الطرفين صار مؤكدا لهذا الإعجاز وثالثها: أنه إن ثبت ما روي في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم فاحتبسوا القدر الذي يتكامل معه عبور بني إسرائيل فهو معجز ثالث ورابعها: أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر منها بعضهم إلى بعض فهو معجز رابع وخامسها: أن أبقى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب منها آل فرعون وطمعوا أن يتخلصوا من البحر كما تخلص قوم موسى عليه السلام فهو معجز خامس.
أما قوله تعالى: * (وأزلفنا ثم الآخرين) * ففيه بحثان:
البحث الأول: قال ابن عباس وابن جريج وقتادة والسدي * (وأزلفنا) * أي وقربنا ثم أي حيث انفلق البحر للآخرين قوم فرعون ثم فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قربناهم من بني إسرائيل وثانيها: قربنا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد وثالثها: قدمناهم إلى البحر ومن الناس من قال: * (وأزلفنا) * أي حبسنا فرعون وقومه عند طلبهم موسى عليه السلام بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم فوقفوا حيارى، وقرئ * (وأزلقنا) * بالقاف أي أزللنا أقدامهم
139

والمعنى أذهبنا عزهم ويحتمل أن يجعل الله طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبسا وأزلقهم.
البحث الثاني: أنه تعالى أضاف ذلك الإزلاف إلى نفسه مع أن اجتماعهم هنالك في طلب موسى كفر أجاب الجبائي عنه من وجهين: الأول: أن قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل وبنو إسرائيل إنما فعلوا ذلك بأمر الله تعالى فلما كان مسيرهم بتدبيره وهؤلاء تبعوا ذلك أضافه إلى نفسه توسعا وهذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيجوز أن
يقول أتعبني الغلام لما حدث ذلك فعله الثاني: قيل: * (وأزلفنا ثم الآخرين) * أي أزلفناهم إلى الموت لأجل أنهم في ذلك الوقت قربوا من أجلهم وأنشد: وكل يوم مضى أو ليلة سلفت * فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
وأجاب الكعبي عنه من وجهين: الأول: أنه تعالى لما حلم عنهم، وترك البحر لهم يبسا وطمعوا في عبوره جازت الإضافة كالرجل يسفه عليه صاحبه مرارا فيحلم عنه، فإذا تمادى في غيه وأراه قدرته عليه قال له أنا أحوجتك إلى هذا وصيرتك إليه بحلمي، لا يريد بذلك أنه أراد ما فعل الثاني: يحتمل أنه أزلفهم أي جمعهم ليغرقهم عند ذلك ولكي لا يصلوا إلى موسى وقومه والجواب: عن الأول أن الذي فعله بنو إسرائيل هل له أثر في استجلاب داعية قوم فرعون إلى الذهاب خلفهم أوليس له أثر فيه فإن كان الأول فقد حصل المقصود لأن لفعل الله تعالى أثرا في حصول الداعية المستلزمة لذلك الإزلاف، وإن لم يكن له فيه أثر البتة فقد زال التعلق فوجب أن لا تحسن الإضافة، وأما إذا تعب أحدنا في طلب غلام له، فإنما يجوز أن يقول أتعبني ذلك الغلام لما أن فعل ذلك الغلام صار كالمؤثر في حصول ذلك التعب لأنه متى فعل ذلك الفعل فالظاهر أنه يصير معلوما للسيد، ومتى علمه صار علمه داعيا له إلى ذلك التعب ومؤثرا فيه فصحت الإضافة. وبالجملة فعندنا القادر لا يمكنه الفعل إلا بالداعي فالداعي مؤثر في صيرورة القادر مؤثرا في ذلك الفعل فلا جرم حسنت الإضافة والجواب: عن الثاني وهو أنه أزلفهم ليغرقهم فهو أنه تعالى ما أزلفهم بل هم بأنفسهم ازدلفوا ثم حصل الغرق بعده، فكيف يجوز إضافة هذا الإزلاف إلى الله تعالى؟ أما على قولنا فإنه جائز لأنه تعالى هو الذي خلق الداعية المستعقبة لذلك الازدلاف والجواب: عن الثالث وهو أن حلمه تعالى عنهم وحملهم على ذلك، فنقول ذلك الحلم هل له أثر في استجلاب هذه الداعية أم لا؟ وباقي التقرير كما تقدم والجواب: عن الرابع هو بعينه الجواب عن الثاني والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين) * فالمعنى أنه تعالى جعل البحر يبسا في حق موسى وقومه حتى خرجوا منه وأغرق فرعون وقومه لأنه لما تكامل دخولهم البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا في ذلك الماء.
140

أما قوله تعالى: * (إن في ذلك لآية) * فالمعنى أن الذي حدث في البحر آية عجيبة من الآيات العظام الدالة على قدرته لأن أحدا من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته من حيث وقع ما كان مصلحة في الدين والدنيا، وعلى صدق موسى عليه السلام من حيث كان معجزة له، وعلى اعتبار المعتبرين به أبدا فيصير تحذيرا من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله، ويكون فيه اعتبار لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قال عقيب ذلك: * (وما كان أكثرهم مؤمنين) * وفي ذلك تسلية له فقد كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات عليه فنبهه الله تعالى بهذا الذكر على أن له أسوة بموسى وغيره، فإن الذي ظهر على موسى من هذه المعجزات العظام التي تبهر العقول لم يمنع من أن أكثرهم كذبوه وكفروا به مع مشاهدتهم لما شاهدوه في البحر وغيره. فكذلك أنت يا محمد لا تعجب من تكذيب أكثرهم لك واصبر على إيذائهم فلعلهم أن يصلحوا ويكون في هذا الصبر تأكيد الحجة عليهم.
وأما قوله: * (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) * فتعلقه بما قبله أن القوم مع مشاهدة هذه الآية الباهرة كفروا، ثم إنه تعالى كان عزيزا قادرا على أن يهلكهم، ثم إنه تعالى ما أهلكهم بل أفاض عليهم أنواع رحمته فدل ذلك على كمال رحمته وسعة جوده وفضله. القصة الثانية - قصة إبراهيم عليه السلام
قوله تعالى
* (واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنآ ءابآءنا كذلك يفعلون * قال أفرءيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وءابآؤكم الاقدمون * فإنهم عدو لى إلا رب العالمين) *.
اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة شدة حزن محمد صلى الله عليه وسلم بسبب كفر قومه
141

ثم إنه ذكر قصة موسى عليه السلام ليعرف محمد أن مثل تلك المحنة كانت حاصلة لموسى: ثم ذكر عقبها قصة إبراهيم عليه السلام ليعرف محمد أيضا أن حزن إبراهيم عليه السلام بهذا السبب كان أشد من حزنه، لأن من عظيم المحنة على إبراهيم عليه السلام أن يرى أباه وقومه في النار وهو لا يتمكن من إنقاذهم إلا بقدر الدعاء والتنبيه فقال لهم: * (ما تعبدون) * وكان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء كما تقول لتاجر الرقيق ما مالك؟ وأنت تعلم أن ماله الرقيق، ثم تقول: الرقيق جمال وليس بمال. فأجابوا إبراهيم عليه السلام بقولهم: * (نعبد أصناما فنظل لها عاكفين) * والعكوف: الإقامة على الشيء، وإنما قالوا: * (نظل) * لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل، واعلم أنه كان يكفيهم في الجواب أن يقولوا نعبد أصناما، ولكنهم ضموا إليه زيادة على الجواب وهي قولهم: * (فنظل لها عاكفين) * وإنما ذكروا هذه الزيادة إظهارا لما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار بعبادة الأصنام فقال إبراهيم عليه السلام منبها على فساد مذهبهم * (هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون) * قال صاحب " الكشاف ": لا بد في يسمعونكم من تقدير حذف المضاف معناه هل يسمعون دعاءكم وقرأ قتادة * (هل يسمعونكم) * أي هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم وهل يقدرون على ذلك وتقرير هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام أن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجئ إليه في المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة، فقال لهم فإذا كان من تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم، ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرر فكيف تستجيزون أن تعبدوا ما هذا وصفه؟ فعند هذه الحجة القاهرة لم يجد أبوه وقومه ما يدفعون به هذه الحجة فعدلوا إلى أن قالوا: * (وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) * وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال، إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا الاستدلال لكان ذلك مدحا لطريقة الكفار التي ذمها الله تعالى وذما لطريقة إبراهيم عليه السلام التي مدحها الله تعالى فأجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله: * (أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنم وآباؤكم الأقدمون) * أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديما أو حديثا، ولا بأن يكون في فاعلية كثرة أو قلة.
أما قوله: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) * ففيه أسئلة:
السؤال الأول: كيف يكون الصنم عدوا مع أنه جماد؟ جوابه من وجهين: أحدهما: أنه تعالى قال في سورة مريم (82) في صفة الأوثان * (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) * فقيل في تفسيره إن الله يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يقع منهم التوبيخ لهم والبراءة منهم، فعلى هذا الوجه أن الأوثان ستصير أعداء لهؤلاء الكفار في الآخرة فأطلق إبراهيم عليه السلام لفظ العداوة عليهم على هذا التأويل وثانيها: أن الكفار لما عبدوها وعظموها ورجوها في طلب
142

المنافع ودفع المضار نزلت منزلة الأحياء العقلاء في اعتقاد الكفار، ثم إنها صارت أسبابا لانقطاع الإنسان عن السعادة ووصوله إلى الشقاوة، فلما نزلت هذه الأصنام منزلة الأحياء وجرت مجرى الدافع للمنفعة والجالب للمضرة لا جرم جرت مجرى الأعداء، فلا جرم أطلق إبراهيم عليه السلام عليها لفظ العدو وثالثها: المراد في قوله: * (فإنهم عدو لي) * عداوة من يعبدها، فإن قيل فلم لم يقل إن من يعبد الأصنام عدو لي ليكون الكلام حقيقة؟ جوابه: لأن الذي تقدم ذكره ما عبدوه دون العابدين.
السؤال لثاني: لم قال: * (فإنهم عدو لي) * ولم يقل فإنها عدو لكم؟ جوابه: أنه عليه السلام صور المسألة في نفسه على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها، (وآثرت عبادة من الخير كله منه) وأراهم (بذلك) أنها نصيحة نصح بها نفسه، فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى للقبول.
السؤال الثالث: لم لم يقل فإنهم أعدائي؟ جوابه العدو والصديق يجيئان في معنى الواحد والجماعة، قال: فوقوم علي ذوي (مرة) * أراهم عدوا وكانوا صديقا
ومنه قوله تعالى: * (وهم لكم عدو) * (الكهف: 50) وتحقيق القول فيه ما تقدم في قوله: * (إنا رسول رب العالمين) * (الشعراء: 16).
السؤال الرابع: ما هذا الاستثناء؟ جوابه أنه استثناء منقطع كأنه قال لكن رب العالمين.
قوله تعالى
* (الذى خلقنى فهو يهدين * والذى هو يطعمنى ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذى يميتنى ثم يحيين * والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عنه أنه استثنى رب العالمين، حكى عنه أيضا ما وصفه به مما يستحق العبادة لأجله، ثم حكى عنه ما سأله عنه، أما الأوصاف فأربعة: أولها: قوله: * (الذي خلقني فهو يهدين) *.
واعلم أنه سبحانه أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله: * (الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى) * (الأعلى: 2، 3) واعلم أن الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع عليه، فلنتكلم في الإنسان فنقول إنه مخلوق، فمنهم من قال هو من عالم الخلق والجسمانيات، ومن قال هو من عالم الأمر الروحانيات، وتركيب البدن الذي هو من عالم الخلق مقدم على إعطاء القلب الذي هو من عالم
143

الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) * (ص: 72) فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج وتركيب الأمشاج، ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربانية النورانية التي هي من عالم الأمر، وأيضا قال: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنون: 12) ولما تمم مراتب تغيرات الأجسام قال: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * (المؤمنون: 14) وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة، ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح، فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية.
أما تحقيقه بحسب المباحث الحقيقية، فهو أن بدن الإنسان إنما يتولد عند امتزاج المني بدم الطمث، وهما إنما يتولدان من الأغذية المتولدة من تركب العناصر الأربعة وتفاعلها، فإذا امتزج المني بالدم فلا يزال ما فيها من الحار والبارد والرطب واليابس متفاعلا، وما في كل واحد منها من القوى كاسرا سورة كيفية الآخر، فحينئذ يحصل من تفاعلهما كيفية متوسطة تستحر بالقياس إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار، وكذا القول في الرطب واليابس، وحينئذ يحصل الاستعداد لقبول قوى مدبرة لذلك المركب فبعضها قوى نباتية وهي التي تجذب الغذاء، ثم تمسكه ثم تهضمه ثم تدفع الفضلة المؤذية، ثم تقيم تلك الأجزاء بدل ما تحلل منها، ثم تزيد في جوهر الأعضاء طولا وعرضا، ثم يفضل عن تلك المواد فضلة يمكن أن يتولد عنها مثل ذلك، ومنها قوى حيوانية بعضها مدركة كالحواس الخمس والخيال والحفظ والذكر، وبعضها فاعلة: إما آمرة كالشهوة والغضب أو مأمورة كالقوى المركوزة في العضلات، ومنها قوى إنسانية وهي إما مدركة أو عاملة، والقوى المدركة هي القوى القوية على إدراك حقائق الأشياء الروحانية والجسمانية والعلوية والسفلية، ثم إنك إذا فتشت عن كل واحدة من مركبات هذا العالم الجسماني، ومفرداتها وجدت لها أشياء تلائمها وتكمل حالها وأشياء تنافرها وتفسد حالها، ووجدت فيها قوى جذابة للملائم دفاعة للمنافي، فقد ظهر أن صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتم إلا بالخلق والهداية. أما الخلق فبتصييره موجودا بعد أن كان معدوما، وأما الهداية فبتلك القوى الجذابة للمنافع والدفاعة للمضار فثبت أن قوله: * (خلقني فهو يهدين) * كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدنيا والدين، ثم ههنا دقيقة وهو أنه قال: * (خلقني) * فذكره بلفظ الماضي وقال: * (يهدين) * ذكره بلفظ المستقبل، والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم. أما هدايته تعالى فهي مما يتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدنيوية، وذلك بأن تحكم الحواس بتمييز المنافع عن المضار أو في المنافع الدينية وذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر، فبين بذلك أنه سبحانه هو الذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة، وأنه يهديه إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة وثانيها: قوله: * (والذي هو يطعمني ويسقين) * وقد دخل فيه كل ما يتصل بنافع الرزق، وذلك لأنه سبحانه إذا خلق له الطعام وملكه، فلو لم يكن معه ما يتمكن به من أكله والاغتذاء به نحو الشهوة والقوة
144

والتمييز لم تكمل هذه النعمة، وذكر الطعام والشراب ونبه بذكرهما على ما عداهما وثالثها: قوله: * (وإذا مرضت فهو يشفين) * وفيه سؤال وهو أنه لم قال: * (
مرضت) * دون أمرضني؟ وجوابه من وجوه: الأول: أن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم؟ لقالوا التخم الثاني: أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض، وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي. أما الصحة فهي إنما تحصل عند بقاء الأخلاط على اعتدالها وبقاؤها على اعتدالها، إنما يكون بسبب قاهر يقهرها على الاجتماع، وعودها إلى الصحة إنما يكون أيضا بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع والاعتدال بعد أن كانت بطباعها مشتاقة إلى التفرق والنزاع، فلهذا السبب أضاف الشفاء إليه سبحانه وتعالى، وما أضاف المرض إليه وثالثها: وهو أن الشفاء محبوب وهو من أصول النعم، والمرض مكروه وليس من النعم، وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إليه تعالى، فإن نقضته بالإماتة فجوابه: أن الموت ليس بضرر، لأن شرط كونه ضررا وقوع الإحساس به، وحال حصول الموت لا يقع الإحساس به، إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض، وأيضا فلأنك قد عرفت أن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصتها عنها عين السعادة بخلاف المرض ورابعها: قوله: * (والذي يميتني ثم يحيين) * والمراد منه الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها وعقوباتها، والمراد من الإحياء المجازاة وخامسها: قوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * فهو إشارة إلى ما هو مطلوب كل عاقل من الخلاص عن العذاب والفوز بالثواب.
واعلم أن إبراهيم عليه السلام جمع في هذه الألفاظ جميع نعم الله تعالى من أول الخلق إلى آخر الأبد في الدار الآخرة، ثم ههنا أسئلة:
السؤال الأول: لم قال: * (والذي أطمع) * والطمع عبارة عن الظن والرجاء، وإنه عليه السلام كان قاطعا بذلك؟ جوابه: أن هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهبنا، حيث قلنا إنه لا يجب على الله لأحد شيء، وأنه يحسن منه كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله، وأجاب الجبائي عنه من وجهين: الأول: أن قوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي) * أراد به سائر المؤمنين لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به الثاني: المراد من الطمع اليقين، وهو مروي عن الحسن وأجاب صاحب " الكشاف ": بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليما منه لأمته كيفية الدعاء.
واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة، أما الأول: فلأن الله تعالى حكى عنه الثناء أولا والدعاء ثانيا ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم عليه السلام فجعل الشيء الواحد وهو قوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * كلام غيره مما يبطل نظم الكلام ويفسده، وأما الثاني: وهو أن الطمع هو اليقين فهذا على خلاف اللغة، وأما الثالث: وهو أن الغرض منه تعليم
145

الأمة فباطل أيضا لأن حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة، وهو باطل قطعا. السؤال الثاني: لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزعون عن الخطايا قطعا؟، وفي جوابه ثلاثة وجوه: أحدها: أنه محمول على كذب إبراهيم عليه السلام في قوله: * (فعله كبيرهم) * (الأنبياء: 63) وقوله: * (إني سقيم) * (الصافات: 89) وقوله لسارة: (إنها أختي) وهو ضعيف لأن نسبة الكذب إليه غير جائزة وثانيها: أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس وهذا ضعيف لأنه إن كان صادقا في هذا التواضع فقد لزم الإشكال، وإن كان كاذبا فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به لأجل تنزيهه عن المعصية وثالثها: وهو الجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى ذلك خطأ فإن من ملك جوهرة وأمكنه أن يبيعها بألف ألف دينار فإن باعها بدينار، قيل إنه أخطأ، وترك الأولى على الأنبياء جائز.
السؤال الثالث: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا؟ جوابه: لأن أثرها يظهر يوم الدين وهو الآن خفي لا يعلم.
السؤال الرابع: ما فائدة (لي) في قوله: * (يغفر لي خطيئتي) *؟ وجوابه من وجوه: أحدها: أن الأب إذا عفا عن ولده والسيد عن عبده والزوج عن زوجته فذلك في أكثر الأمر إنما يكون طلبا للثواب وهربا عن العقاب أو طلبا لحسن الثناء والمحمدة أو دفعا للألم الحاصل من الرقة الجنسية وإذا كان كذلك لم يكن المقصود من ذلك العفو رعاية جانب المعفو عنه بل رعاية جانب نفسه، إما لتحصيل ما ينبغي أو لدفع ما لا ينبغي، أما الإله سبحانه فإنه كامل لذاته فيستحيل أن تحدث له صفات كمال لم تكن أو يزول عنه نقصان كان، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه فقوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي) * يعني هو الذي إذا غفر كان غفرانه لي ولأجلي لا لأجل أمر عائد إليه البتة وثانيها: كأنه قال خلقتني لا لي فإنك حين خلقتني ما كنت موجودا وإذا لم أكن موجودا استحال تحصيل شيء لأجلي ثم مع هذا فأنت خلقتني، أما لو عفوت كان ذلك العفو لأجلي، فلما خلقتني أولا مع أني كنت محتاجا إلى ذلك الخلق فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى وثالثها: أن إبراهيم عليه السلام كان لشدة استغراقه في بحر المعرفة شديد الفرار عن الالتفات إلى الوسائط، ولذلك لما قال له جبريل عليه السلام: " ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا " فههنا قال: * (أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * أي لمجرد عبوديتي لك واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي لا أن تغفرها لي بواسطة شفاعة شافع.
قوله تعالى
* (رب هب لى حكما وألحقنى بالصالحين * واجعل لى لسان صدق فى الاخرين *
146

واجعلنى من ورثة جنة النعيم * واغفر لابى إنه كان من الضآلين * ولا تخزنى يوم يبعثون * يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم) *.
اعلم أن الله تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام ثناءه على الله تعالى ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته وذلك تنبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات وتحقيق الكلام فيه أن هذه الأرواح البشرية من جنس الملائكة فكلما كان اشتغالها بمعرفة الله تعالى ومحبته والانجذاب إلى عالم الروحانيات أشد كانت مشاكلتها للملائكة أتم، فكانت
أقوى على التصرف في أجسام هذا العالم، وكلما كان اشتغالها بلذات هذا العالم واستغراقها في ظلمات هذه الجسمانيات أشد كانت مشاكلتها للبهائم أشد فكانت أكثر عجزا وضعفا وأقل تأثيرا في هذا العالم، فمن أراد أن يشتغل بالدعاء يجب أن يقدم عليه ثناء الله تعالى وذكر عظمته وكبريائه حتى أنه بسبب ذلك الذكر يصير مستغرقا في معرفة الله ومحبته ويصير قريب المشاكلة من الملائكة فتحصل له بسبب تلك المشاكلة قوة إلهية سماوية فيصير مبدأ لحدوث ذلك الشيء الذي هو المطلوب بالدعاء فهذا هو الكشف عن ماهية الدعاء وظهر أن تقديم الثناء على الدعاء من الواجبات وطهر به تحقيق قوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " فإن قال قائل: لم لم يقتصر إبراهيم عليه السلام على الثناء، لا سيما ويروى عنه أيضا أنه قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي؟ فالجواب: أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين كان مشتغلا بدعوة الخلق إلى الحق ألا ترى أنه قال: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) * (الشعراء: 77) ثم ذكر الثناء، ثم ذكر الدعاء لأن الشارع لا بد له من تعليم الشرع، فأما حين ما خلا بنفسه، ولم يكن غرضه تعليم الشرع كان يقتصر على قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
البحث الثاني: في الأمور التي طلبها في الدعاء وهي مطاليب:
المطلوب الأول: قوله: * (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) *، ولقد أجابه الله تعالى حيث قال: * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) * (البقرة: 130) وفيه مطالب: أحدها: أنه لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأن النبوة كانت حاصلة فلو طلب النبوة لكانت النبوة المطلوبة، أما عين النبوة الحاصلة أو غيرها، والأول محال لأن تحصيل الحاصل محال، والثاني محال لأنه يمتنع أن يكون الشخص الواحد نبيا مرتين، بل المراد من الحكم ما هو كمال القوة النظرية، وذلك بإدراك الحق ومن قوله
147

* (وألحقني بالصالحين) * كمال القوة العملية، وذلك بأن يكون عاملا بالخير فإن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وإنما قدم قوله: * (رب هب لي حكما) * على قوله: * (وألحقني بالصالحين) * لما أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف وبالذات، وأيضا فإنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعلم بالخير وعكسه غير ممكن، ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن، ولما كان الروح أشرف من البدن كان العلم أفضل من العمل، وإنما فسرنا معرفة الأشياء بالحكم وذلك لأن الإنسان لا يعرف حقائق الأشياء إلا إذا استحضر في ذهنه صور الماهيات، ثم نسب بعضها إلى بعض بالنفي أو بالإثبات، وتلك النسبة وهي الحكم، ثم إن كانت النسب الذهنية مطابقة للنسب الخارجية كانت النسب الذهنية ممتنعة التغير فكانت مستحكمة قوية، فمثل هذا الإدراك يسمى حكمة حكما، وهو المراد من قوله عليه السلام: " أرنا الأشياء كما هي " وأما الصلاح فهو كون القوة العاقلة متوسطة بين رذيلتي الإفراط والتفريط، وذلك لأن الإفراط في أحد الجانبين تفريط في الجانب الآخر وبالعكس فالصلاح لا يحصل إلا بالاعتدال، ولما كان الاعتدال الحقيقي شيئا واحدا لا يقبل القسمة البتة والأفكار البشرية في هذا العالم قاصرة على إدراك أمثال هذه الأشياء، لا جرم لا ينفك البشر عن الخروج عن ذلك الحد وإن قل، إلا أن خروج المقربين عنه يكون في القلة بحيث لا يحس به وخروج العصاة عنه يكون متفاحشا جدا فقد ظهر من هذا تحقيق ما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وظهر احتياج إبراهيم عليه السلام إلى أن يقول: * (وألحقني بالصالحين) *.
المطلب الثاني: لما ثبت أن المراد من الحكم العلم، ثبت أنه عليه السلام طلب من الله أن يعطيه العلم بالله تعالى وبصفاته، وهذا يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل في قلب العبد إلا بخلق الله تعالى، وقوله: * (وألحقني بالصالحين) * يدل على أن كون العبد صالحا ليس إلا بخلق الله تعالى وحمل هذه الأشياء على الألطاف بعيد، لأن عند الخصم كل ما في قدرة الله تعالى من الألطاف فقد فعله فلو صرفنا الدعاء إليه لكان ذلك طلبا لتحصيل الحاصل وهو فاسد.
المطلب الثالث: أن الحكم المطلوب في الدعاء إما أن يكون هو العلم بالله أو بغيره والثاني باطل، لأن الإنسان حال كونه مستحضرا للعلم بشيء لا يمكنه أن يكون مستحضرا للعلم بشيء آخر فلو كان المطلوب بهذا الدعاء العلم بغير الله تعالى، والعلم بغير الله تعالى شاغل عن الاستغراق في العلم بالله كان هذا السؤال طلبا لما يشغله عن الاستغراق في العلم بالله تعالى، وذلك غير جائز لأنه لا كمال فوق ذلك الاستغراق فإذن المطلوب بهذا الدعاء هو العلم بالله، ثم إن ذلك العلم إما أن يكون هو العلم بالله تعالى الذي هو شرط صحة الإيمان أو غيره، والأول باطل لأنه لما وجب أن يكون حاصلا لكل المؤمنين فكيف لا يكون حاصلا عند إبراهيم عليه السلام، وإذا كان حاصلا عنده امتنع طلب تحصيله، فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء درجات في معرفة الله تعالى أزيد من العلم
148

بوجوده وبأنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وبأنه عالم قادر حي، وما ذاك إلا الوقوف على صفات الجلال أو الوقوف على حقيقة الذات أو ظهور نور تلك المعرفة في القلب. ثم هناك أحوال لا يعبر عنها المقال ولا يشرحها الخيال، ومن أراد أن يصل إليها فليكن من الواصلين إلى العين، دون السامعين للأثر.
المطلوب الثاني: قوله: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * وفيه ثلاث تأويلات: التأويل الأول: أنه عليه السلام ابتدأ بطلب ما هو الكمال الذاتي للإنسان في الدنيا والآخرة وهو طلب الحكم الذي هو العلم، ثم طلب بعده كمالات الدنيا وبعد ذلك طلب كمالات الآخرة، فأما كمالات الدنيا فبعضها داخلية وبعضها خارجية، أما الداخلية فهي الخلق الظاهر والحلق الباطن والحلق الظاهر أشد جسمانية والخلق الباطن أشد روحانية، فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو الخلق الظاهر وطلب الأمر الروحاني وهو الخلق الباطن، وهو المراد بقوله: * (وألحقني بالصالحين) * وأما الخارجية فهي المال والجاه، والمال أشد جسمانية والجاه أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو المال وطلب الأمر الروحاني وهو الجاه والذكر الجميل الباقي على وجه الدهر، وهو المراد بقوله: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * قال ابن عباس رضي الله عنهما وقد أعطاه ذلك بقوله: * (وتركنا عليه في الآخرين) * فإن قيل وأي غرض له في أن يثني عليه ويمدح؟ جوابه من وجهين: الأول: وهو على لسان الحكمة أن الأرواح البشرية قد بينا أنها مؤثرة في الجملة إلا أن بعضها قد يكون ضعيفا فيعجز عن التأثير فإذا اجتمعت طائفة منها فربما قوي مجموعها على ما عجزت الآحاد عنه، وهذا المعنى مشاهد في المؤثرات الجسمانية، إذا ثبت هذا فالإنسان الواحد إذا كان بحيث يثنى عليه الجمع العظيم
ويمدحونه ويعظمونه، فربما صار انصراف هممهم عند الاجتماع إليه سببا لحصول زيادة كمال له الثاني: وهو على لسان الكمال أن من صار ممدوحا فيما بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل، فإنه يصير ذلك المدح وتلك الشهرة داعيا لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل.
التأويل الثاني: أنه سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى الله تعالى، وذلك هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد من قوله: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
التأويل الثالث: قال بعضهم المراد اتفاق أهل الأديان على حبه، ثم إن الله تعالى أعطاه ذلك لأنك لا ترى أهل دين إلا ويتوالون إبراهيم عليه السلام، وقدح بعضهم فيه بأنه لا تقوى الرغبة في مدح الكافر وجوابه: أنه ليس المقصود مدح الكافر من حيث هو كافر، بل المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحبوب كل قلب.
المطلوب الثالث: قوله: * (واجعلني من ورثة جنة النعيم) * اعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا
149

طلب بعدها سعادة الآخرة وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا.
المطلوب الرابع: قوله: * (واغفر لأبي إنه كان من الضالين) * واعلم أنه لما فرغ من طلب السعادات الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقا به وهو أبوه فقال: * (واغفر لأبي) * ثم فيه وجوه: الأول: أن المغفرة مشروطة بالإسلام وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط فقوله: * (واغفر لأبي) * يرجع حاصله إلى أنه دعاء لأبيه بالإسلام الثاني: أن أباه وعده الإسلام كما قال تعالى: * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) * (التوبة: 114) فدعا له لهذا الشرط ولا يمتنع الدعاء للكافر على هذا الشرط * (فلما تبين أنه عدو لله تبرأ منه) * (التوبة: 114) وهذا ضعيف لأن الدعاء بهذا الشرط جائز للكافر فلو كان دعاؤه مشروطا لما منعه الله عنه الثالث: أن أباه قال له إنه على دينه باطنا وعلى دين نمروذ ظاهرا تقية وخوفا، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، لذلك قال في دعائه: * (إنه كان من الضالين) * فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك.
المطلوب الخامس: قوله: * (ولا تخزني يوم يبعثون) * قال صاحب " الكشاف ": الإخزاء من الخزي وهو الهوان، أو من الخزاية وهي الحياء وههنا أبحاث:
أحدها: أن قوله: * (ولا تخزني) * يدل على أنه لا يجب على الله تعالى شيء على ما بيناه في قوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * (الشعراء: 82).
وثانيها: أن لقائل أن يقول لما قال أولا: * (واجعلني من ورثة جنة النعيم) * ومتى حصلت الجنة، امتنع حصول الخزي، فكيف قال بعده: * (ولا تخزني يوم يبعثون) * وأيضا فقد قال تعالى: * (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) * (النحل: 27) فما كان نصيب الكفار فقط فكيف يخافه المعصوم؟ جوابه: كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذا درجات الأبرار دركات المقربين وخزي كل واحد بما يليق به.
وثالثها: قال صاحب " الكشاف ": في (يبعثون) ضمير العباد لأنه معلوم أو ضمير الضالين.
أما قوله: * (إلا من أتي الله بقلب سليم) * فاعلم أنه تعالى أكرمه بهذا الوصف حيث قال: * (وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلب سليم) * (الصافات: 83، 84).
ثم في هذا الاستثناء وجوه: أحدها: أنه إذا قيل لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول ماله وبنوه سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك، فكذا في هذه الآية وثانيها: أن نحمل الكلام على المعنى ونجعل المال والبنين في معنى الغنى كأنه قيل يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه وثالثها: أن نجعل (من) مفعولا لينفع أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلا سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله تعالى، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين، ويجوز على هذا * (إلا من أتى الله
150

بقلب سليم) * من فتنة المال والبنين، أما السليم ففي ثلاثة أوجه: الأول: وهو الأصح أن المراد منه سلامة القلب عن الجهل والأخلاق الرذيلة، وذلك لأنه كما أن صحة البدن وسلامته عبارة عن حصول ما ينبغي من المزاج والتركيب والاتصال ومرضه عبارة عن زوال أحد تلك الأمور فكذلك سلامة القلب عبارة عن حصول ما ينبغي له وهو العلم والخلق الفاضل ومرضه عبارة عن زوال أحدهما فقوله: * (إلا من أتى الله بقلب سليم) * أن يكون خاليا عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها فإن قيل فظاهر هذه الآية يقتضي أن من سلم قلبه كان ناجيا وأنه لا حاجة فيه إلى سلامة اللسان واليد جوابه: أن القلب مؤثر واللسان والجوارح تبع فلو كان القلب سليما لكانا سليمين لا محالة، وحيث لم يسلما ثبت عدم سلامة القلب التأويل الثاني: أن السليم هو اللديغ من خشية الله تعالى التأويل الثالث: أن السليم هو الذي سلم وأسلم وسالم واستسلم والله أعلم.
قوله تعالى
* (وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين * وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفى ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * ومآ أضلنآ إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين * إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
151

اعلم أن إبراهيم عليه السلام ذكر في وصف هذا اليوم أمورا: أحدها: قوله: * (وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين) * والمعنى أن الجنة قد تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم يتحسرون على أنهم المسوقون إليها قال الله تعالى في
صفة أهل الثواب * (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد) * (ق: 31) وقال في صفة أهل العقاب: * (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا) * (الملك: 27) وإنما يفعل الله تعالى ذلك ليكون سرورا معجلا للمؤمنين وغما عظيما للكافرين ثانيها: قوله: * (وقيل لهم أين ما كنتم) * إلى قوله: * (وجنود إبليس أجمعون) * والمعنى أين آلهتكم هل ينفعونكم بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وهو قوله: * (فكبكبوا فيها هم والغاوون) * أي الآلهة وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم، والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها * (وجنود إبليس) * متبعوه من عصاة الإنس والجن وثالثها: قوله: * (قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) *.
واعلم أن ظاهر ذلك أن من عبد خاصم المعبود وخاطبه بهذا الكلام، فليس يخلو حال الأصنام من وجهين إما أن يخلقها الله تعالى في الآخرة جمادا يعذب بها أهل النار فحينئذ لا يصح أن تخاطب ويجب حمل قولهم: * (إذ نسويكم برب العالمين) * على أنه ليس بخطاب لهم أو يقال إنه تعالى يحييها في النار، وذلك أيضا غير جائز لأنه لا ذنب لها بأن عبدها غيرها. فالأقرب أنهم ذكروا ذلك لما رأوا صورها على وجه الاعتراف بالخطأ العظيم وعلى وجه الندامة لا على سبيل المخاطبة، والذي يحمل على أنه خطاب في الحقيقة قولهم: * (وما أضلنا إلا المجرمون) * وأرادوا بذلك من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس وهو كقولهم: * (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) * (الأحزاب: 67) فأما قولهم: * (فما لنا من شافعين) * كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين * (ولا صديق) * كما نرى لهم أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض قال تعالى: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * (الزخرف: 67) أو * (فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم) * (الشعراء: 100، 101) من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس، أو أرادوا أنهم إن وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم، فقصدوا بنفيهم نفي ما تعلق بهم من النفع، لأن مالا ينفع فحكمه حكم المعدوم، والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام وهو الذي يهمه ما يهمك، أو من الحامة بمعنى الخاصة وهو الصديق الخالص، وإنما جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، فإن الرجل الممتحن بإرهاق الظالم قد ينهض جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة له، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك، فأعز من بيض الأنوق، ويجوز أن
152

يريد بالصديق الجمع ثم حكى تعالى عنهم قولهم: * (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين) * وأنهم تمنوا الرجعة إلى الدنيا، ولو في مثل هذا الوضع في معنى التمني كأنه قيل فليت لنا كرة، وذلك لما بين معنى لو وليت من التلاقي في التقدير، ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب وهو لفعلنا كيت وكيت. قال الجبائي: إن قولهم * (فنكون من المؤمنين) * ليس بخبر عن إيمانهم لكنه خبر عن عزمهم لأنه لو كان خبرا عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقا، لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة، وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (الأنعام: 28) وقد تقدم في سورة الأنعام بيان فساد هذا الكلام. ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال: * (وما كان أكثرهم مؤمنين) * والأكثرون من المفسرين حملوه على قوم إبراهيم ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به فيكون هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، فيما يجده من تكذيب قومه.
فأما قوله: * (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) * فمعناه أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا.
القصة الثالثة - قصة نوح عليه السلام
قوله تعالى
* (كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * فاتقوا الله وأطيعون * قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون * قال وما علمى بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربى لو تشعرون * ومآ أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين * قالوا لئن لم تنته يانوح لتكونن من
153

المرجومين * قال رب إن قومى كذبون * فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى ومن معى من المؤمنين * فأنجيناه ومن معه فى الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين * إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
اعلم أنه تعالى لما قص على محمد صلى الله عليه وسلم خبر موسى وإبراهيم تسلية له فيما يلقاه من قومه قص عليه أيضا نبأ نوح عليه السلام، فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره، لأنه كان يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع ذلك كذبه قومه فقال: * (كذبت قوم نوح) * وإنما قال (كذبت) لأن القوم مؤنث وتصغيرها قويمة، وإنما حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين: أحدهما: أنهم وإن كذبوا نوحا لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره، لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف فمن حيث المعنى حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين وثانيهما: أن قوم نوح كذبوا بجميع رسل الله تعالى، إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة.
وأما قوله: * (أخوهم) * فلأنه كان منهم، من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحدا منهم، ثم إنه سبحانه حكى عن نوح عليه السلام أنه أولا خوفهم، وثانيا أنه وصف نفسه، أما التخويف فهو قوله: * (ألا تتقون) *.
واعلم أن القوم إنما قبلوا تلك الأديان للتقليد والمقلد إذا خوف خاف، وما لم يحصل الخوف في قلبه لا يشتغل بالاستدلال، فلهذا السبب قدم على جميع كلماته قوله: * (ألا تتقون) *. وأما وصفه نفسه فذاك بأمرين: أحدهما: قوله: * (إني لكم رسول أمين) * وذلك لأنه كان فيهم مشهورا بالأمانة كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش فكأنه قال كنت أمينا من قبل، فكيف تتهموني اليوم؟ وثانيهما: قوله: * (وما أسألكم عليه من أجر) * أي على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة لئلا يظن به أنه
دعاهم للرغبة، فإن قيل: ولماذا كرر الأمر بالتقوى؟ جوابه: لأنه في الأول أراد ألا تتقون مخالفتي وأنا رسول الله، وفي الثاني: ألا تتقون مخالفتي ولست آخذ منكم أجرا فهو في المعنى مختلف ولا تكرار فيه، وقد يقول الرجل لغيره: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرا! ألا تتقي الله في
154

عقوقي وقد علمتك كبيرا، وإنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله علة لطاعته فقدم العلة على المعلول، ثم إن نوحا عليه السلام لما قال لهم ذلك أجابوه بقولهم: * (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) *.
قال صاحب " الكشاف ": وقرى * (وأتباعك الأرذلون) * جمع تابع كشاهد وأشهاد أو جمع تبع كبطل وأبطال والواو للحال وحقها أن يضمر بعدها قد في * (واتبعك) * وقد جمع الأرذل على الصحة وعلى التكسير في قولهم: * (الذين هم أراذلنا) * (هود: 27) والرذالة الخسة، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة.
واعلم أن هذه الشبهة في نهاية الركاكة، لأن نوحا عليه السلام بعث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال في ذلك بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب ودناءتها، فأجابهم نوع عليه السلام بالجواب الحق وهو قوله: * (وما علمي بما كانوا يعملون) * وهذا الكلام يدل على أنهم نسبوهم مع ذلك إلى أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا بالهوى والطمع كما حكى الله تعالى عنهم في قوله: * (الذين هم أراذلنا بادي الرأي) * (هود: 27) ثم قال: * (إن حسابهم إلا على ربي) * معناه لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى، ولما قال: * (إن حسابهم إلا على ربي) * وكانوا لا يصدقون بذلك أردفه بقوله: * (لو تشعرون) * ثم قال: * (وما أنا بطارد المؤمنين) * وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم لكي يتبعوه أو ليكونوا أقرب إلى ذلك، فبين أن الذي يمنعه عن طردهم أنهم آمنوا به ثم بين أن غرضه بما حمل من الرسالة يمنع من ذلك بقوله: * (إن أنا إلا نذير مبين) * والمراد إني أخوف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد، ثم إن نوحا عليه السلام لما تمم هذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد، فقالوا: * (لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) * والمعنى أنهم خوفوه بأن يقتل بالحجارة، فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم، وقال: * (رب إن قومي كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحا) * وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد إني لا أدعوك عليهم لما آذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك * (فافتح بيني وبينهم) * أي فاحكم بيني وبينهم والفتاحة الحكومة، والفتاح الحاكم لأنه يفتح المستغلق، والمراد من هذا الحكم إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه: * (ونجني) * ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى، وقد تقدم القول في قصته مشروحا في سورة الأعراف وسورة هود.
ثم قال تعالى: * (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) * قال صاحب " الكشاف ": الفلك السفينة وجمعه فلك قال تعالى: * (وترى الفلك فيه مواخر) * (فاطر: 12) فالواحد بوزن قفل والجمع بوزن أسد والمشحون المملوء يقال شحنها عليهم خيلا ورجالا، فدل ذلك على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة، وأن
155

الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم، وبين تعالى أنه بعد أن أنجاهم أغرق الباقين وأن إغراقه لهم كان كالمتأخر عن نجاتهم.
القصة الرابعة - قصة هود عليه السلام
قوله تعالى
* (كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذى أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا سوآء علينآ أوعظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الاولين * وما نحن بمعذبين * فكذبوه فأهلكناهم إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
156

اعلم أن فاتحة هذه القصة وفاتحة قصة نوح عليه السلام واحدة فلا فائدة في إعادة التفسير ثم إنه تعالى ذكر الأمور التي تكلم فيها هود عليه السلام معهم وهي ثلاثة: فأولها: قوله: * (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) * قرىء * (بكل ريع) * بالكسر والفتح وهو المكان المرتفع، ومنه قوله كم ريع أرضك وهو ارتفاعها، والآية العلم، ثم فيه وجوه: أحدها: عن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل ريع علما يعبئون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود عليه السلام والثاني: أنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخرا فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث والثالث: أنهم كانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم فاتخذوا في طريقهم أعلاما طوالا فكان ذلك عبثا لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم الرابع: بنوا بكل ريع بروج الحمام وثانيها: قوله: * (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) * المصانع مآخذ الماء، وقيل القصور المشيدة والحصون * (لعلكم تخلدون) * ترجون الخلد في الدنيا أو يشبه حالكم حال من يخلد، وفي مصحف أبي: (كأنكم)، وقرئ (تخلدون) بضم التاء مخففا ومشددا، واعلم أن الأول إنما صار مذموما لدلالته إما على السرف، أو على الخيلاء، والثاني: إنما صار مذموما لدلالته على الأمل الطويل والغفلة عن أن الدنيا دار ممر لا دار مقر وثالثها: قوله: * (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) * بين أنهم مع ذلك السرف والحرص فإن معاملتهم مع غيرهم معاملة الجبارين، وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا الوصف في العباد ذم وإن كان في وصف الله تعالى مدحا فكأن من يقدم على الغير لا على طريق الحق ولكن على طريق الاستعلاء يوصف بأن بطشه بطش جبار، وحاصل الأمر في هذه الأمور الثلاثة أن اتخاذ الأبنية العالية، يدل على حب العلو، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو، فيرجع الحاصل إلى أنهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو وهذه صفات الإلهية، وهي ممتنعة الحصول للعبد، فدل ذلك على أن حب الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه وخرجوا عن حد العبودية وحاموا حول ادعاء الربوبية، وكل ذلك ينبه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وعنوان كل كفر ومعصية، ثم لما ذكر هود عليه
السلام هذه الأشياء قال: * (فاتقوا الله وأطيعون) * زيادة في دعائهم إلى الآخرة وزجرا لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالسرف والحرص والتجبر، ثم وصل بهذا الوعظ ما يؤكد القبول وهو التنبيه على نعم الله تعالى عليهم بالإجمال أولا ثم التفصيل ثانيا فأيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حيث قال: * (أمدكم بما تعلمون) * ثم فصلها من بعد بقوله: * (أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * فبلغ في دعائهم بالوعظ والترغيب والتخويف والبيان النهاية فكان جوابهم * (سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين) * أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه، واستخفافهم بما أورده فإن قيل لو قال أوعظت أم لم تعظ كان أخصر والمعنى واحد جوابه: ليس المعنى بواحد (وبينهما فرق) لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلا من أهله (ومباشرته)، فهو أبلغ في
157

قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ، ثم احتجوا على قلة اكتراثهم بكلامه بقولهم: * (إن هذا إلا خلق الأولين) * فمن قرأ * (خلق الأولين) * بالفتح فمعناه أن ما جئت به اختلاق الأولين، وتخرصهم كما قالوا * (أساطير الأولين) * (الأنعام: 25) أو ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية نحيا كحياتهم ونموت كمماتهم ولا بعث ولا حساب، ومن قرأ * (خلق) * بضمتين وبواحدة، فمعناه ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم كانوا به يدينون ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر، أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله ويسطرونه، ثم قالوا: * (وما نحن بمعذبين) * أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكار المعاد، فعند هذا بين الله تعالى أنه أهلكهم، وقد سبق شرح كيفية الهلاك في سائر السور. والله أعلم.
القصة الخامسة - قصة صالح عليه السلام
قوله تعالى
* (كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتتركون فى ما هاهنآ ءامنين * فى جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون فى الارض ولا يصلحون * قالوا إنمآ أنت من المسحرين * مآ أنت إلا بشر مثلنا فأت باية إن كنت من الصادقين *
158

قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم * ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم * فعقروها فأصبحوا نادمين * فأخذهم العذاب إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
اعلم أن صالحا عليه السلام خاطب قومه بأمور: أحدها: قوله: * (أتتركون فيما ههنا آمنين) * أي أتظنون أنكم تتركون في دياركم آمنين وتطمعون في ذلك وأن لا دار للمجازاة. وقوله: * (فيما ههنا آمنين) * في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسره بقوله: * (في جنات وعيون) * وهذا أيضا إجمال ثم تفصيل، فإن قيل: لم قال * (ونخل) * بعد قوله: * (في جنات) * والجنة تتناول النخل جوابه من وجهين: الأول: أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيها على فضله على سائر الأشجار والثاني: أن يراد بالجنات غيرها من الشجر، لأن اللفظ يصلح لذلك، ثم يعطف عليها النخل، والطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ، والهضيم اللطيف أيضا من قولهم: كشح هضيم، وقيل الهضيم اللين النضيج كأنه قال: ونخل قد أرطب ثمره وثانيها: قوله تعالى: * (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) * قرأ الحسن * (وتنحتون) * بفتح الحاء، وقرئ * (فرهين) * و * (فارهين) * والفراهة الكيس والنشاط، فقوله: * (فارهين) * حال من الناحيتين.
واعلم أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن الغالب على قوم هود هو اللذات الحالية، وهي طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر، والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية، وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة وثالثها: قوله تعالى: * (ولا تطيعوا أمر المسرفين) * وهذا إشارة إلى أنه يجب الاكتفاء من الدنيا بقدر الكفاف، ولا يجوز التوسع في طلبها والاستكثار من لذاتها وشهواتها، فإن قيل ما فائدة قوله: * (ولا يصلحون) * جوابه: فائدته بيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح، كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح، ثم إن القوم أجابوه من وجهين: أحدهما: قولهم: * (إنما أنت من المسحرين) * وفيه وجوه: أحدها: المسحر هو الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله وثانيها: * (من المسحرين) * أي من له
159

سحر، وكل دابة تأكل فهي مسحرة، والسحر أعلى البطن، وعن الفراء المسحر من له جوف، أراد أنك تأكل الطعام وتشرب الشراب وثالثها: عن المؤرج المسحر هو المخلوق بلغة بجيلة وثانيهما: قولهم: * (ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين) * وهذا يحتمل أمرين: الأول: أنك بشر مثلنا فكيف تكون نبيا؟ وهذا بمنزلة ما كانوا يذكرون في الأنبياء أنهم لو كانوا صادقين، لكانوا من جنس الملائكة الثاني: أن يكون مرادهم إنك بشر مثلنا، فلا بد لنا في إثبات نبوتك من الدليل، فقال صالح عليه السلام: * (هذه ناقة لها شرب) * وقرئ بالضم، روي أنهم قالوا: نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقبا، فقعد صالح يتفكر، فقال له جبريل عليه السلام: صل ركعتين وسل ربك الناقة، ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم وحصل لها سقب مثلها في العظم، ووصاهم صالح عليه السلام بأمرين: الأول: قوله: * (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) * قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، وشربهم في اليوم الذي لا تشرب هي والثاني: قوله: * (ولا تمسوها بسوء) * أي بضرب أو عقر أو غيرهما * (فيأخذكم عذاب يوم عظيم) * عظم اليوم لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد، ثم إن الله تعالى حكى عنهم أنهم عقروها. روي أن (مصدعا) ألجأها إلى مضيق (في شعب) فرماها بسهم (فأصاب رجلها) (2) فسقطت، ثم ضربها قدار، فإن قيل لم أخذهم العذاب وقد ندموا جوابه من وجهين: الأول: أنه لم يكن ندمهم ندم التائبين، لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل
الثاني: أن الندم وإن كان ندم التائبين، ولكن كان ذلك في غير وقت التوبة، بل عند معاينة العذاب، وقال تعالى: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) * (النساء: 18) الآية. واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم.
القصة السادسة - قصة لوط عليه السلام
قوله تعالى
* (كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتأتون
160

الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين * قال إنى لعملكم من القالين * رب نجنى وأهلى مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين * ثم دمرنا الاخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين * إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
أما قوله تعالى: * (أتأتون الذكران من العالمين) * فيحتمل عوده إلى الآتي: أي أنتم من جملة العالمين صرتم مخصوصين بهذه الصفة، وهي إتيان الذكران، ويحتمل عوده إلى المأتي، أي أنتم اخترتم الذكران من العالمين لا الإناث منهم.
وأما قوله تعالى: * (من أزواجكم) * فيصلح أن يكون تبيينا لما خلق وأن يكون للتبعيض، ويراد بما خلق العضو المباح منهن، وكأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم، والعادي هو المتعدي في ظلمه، ومعناه أترتكبون هذه المعصية على عظمها بل أنتم قوم عادون في جميع المعاصي فهذا من جملة ذاك، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم مثل هذه الفاحشة، فقالوا له عليه السلام: * (لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين) * أي لتكونن من جملة من أخرجناه من بلدنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوء الأحوال، فقال لهم لوط عليه السلام: * (إني لعملكم من القالين) * القلي البغض الشديد، كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد، وقوله: * (من القالين) * أبلغ من أن يقول إني لعملكم قال، كما يقال فلان من العلماء فهو أبلغ من قولك فلان عالم، ويجوز أن يراد من الكاملين في قلاكم، ثم قال تعالى: * (فنجيناه وأهله) * والمراد: فنجيناه وأهله من عقوبة عملهم * (إلا عجوزا في الغابرين) * فإن قيل: * (في الغابرين) * صفة لها كأنه قيل إلا عجوزا غابرة، ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم جوابه: معناه إلا عجوزا مقدرا غبورها، قيل إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة، قال القاضي عبد الجبار في " تفسيره " في قوله
161

تعالى: * (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) * دلالة على بطلان الجبر من جهات أحدها: أنه لا يقال تذرون إلا مع القدرة على خلافه، ولذلك لا يقال للمرء لم تذر الصعود إلى السماء، كما يقال له لم تذر الدخول والخروج وثانيها: أنه قال: * (ما خلق لكم) * ولو كان خلق الفعل لله تعالى لكان الذي خلق لهم ما خلقه فيهم وأوجبه لا ما لم يفعلوه وثالثها: قوله تعالى: * (بل أنتم قوم عادون) * فإن كان تعالى خلق فيهم ما كانوا يعملون فكيف ينسبون إلى أنهم تعدوا، وهل يقال للأسود إنك متعد في لونك؟ فنقول حاصل هذه الوجوه يرجع إلى أن العبد لو لم يكن موجدا الأفعال نفسه لما توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه، ولهذه الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة موسى عليه السلام وإبراهيم ونوح وسائر القصص، فكيف خص هذه القصة بهذه الوجوه دون سائر القصص، وإذا ثبت بطلان هذه الوجوه بقي ذلك الوجه المشهور فنحن نجيب عنها بالجوابين المشهورين الأول: أن الله تعالى لما علم وقوع هذه الأشياء فعدمها محال لأن عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلا وهو محال والمفضي إلى المحال محال، وإذا كان عدمها محالا كان التكليف بالترك تكليفا بالمحال الثاني: أن القادر لما كان قادرا على الضدين امتنع أن يترجح أحد المقدورين على الآخر إلا لمرجح وهو الداعي أو الإرادة وذلك المرجح محدث فله مؤثر وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل وهو محال وإن كان هو الله تعالى فذلك هو الجبر على قولك، فثبت بهذين البرهانين القاطعين سقوط ما قاله والله أعلم.
القصة السابعة - قصة شعيب عليه السلام
قوله تعالى
* (كذب أصحاب اليكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا
162

تعثوا فى الارض مفسدين * واتقوا الذى خلقكم والجبلة الاولين * قالوا إنمآ أنت من المسحرين * ومآ أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السمآء إن كنت من الصادقين * قال ربى أعلم بما تعملون * فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم * إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *.
قرىء * (أصحاب الأيكة) * بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الإضافة وهو الوجه، ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد يعرف فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة ص بغير ألف لكن قد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة على أن ليكة اسم لا يعرف، روي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وتلك الشجر هي التي حملها المقل، فإن قيل هلا قال أخوهم شعيب كما في سائر المواضع جوابه: أن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة، وفي الحديث: " إن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة " ثم إن شعيبا عليه السلام أمرهم بأشياء أحدها: قوله: * (أوفوا الكيل ولا تكونوا
من المخسرين) * وذلك لأن الكيل على ثلاثة أضرب واف وطفيف وزائد فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله: * (أوفوا الكيل) * ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله: * (ولا تكونوا من المخسرين) * ولم يذكر الزائد لأنه بحيث إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا إثم عليه، ثم إنه لما أمر بالإيفاء بين أنه كيف يفعل فقال: * (وزنوا بالقسطاس المستقيم) * قرىء * (بالقسطاس) * مضموما ومكسورا وهو الميزان، وقيل القرسطون وثانيها: قوله تعالى: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) * يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه وهذا عام في كل حق يثبت لأحد أن لا يهضم وفي كل ملك أن لا يغصب (علية) مالكه (ولا يتحيف منه) (1) ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفا شرعيا وثالثها: قوله تعالى: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * يقال عثا في الأرض وعثى وعاث وذلك نحو قطع الطريق والغارة وإهلاك الزرع، وكانوا يفعلون ذلك مع
163

توليتهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك ورابعها: قوله تعالى: * (واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين) * وقرئ (الجبلة) بوزن الأبلة وقرئ (الجبلة) بوزن الخلقة ومعناهن واحد أي ذوي الجبلة، والمراد أنه المتفضل بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لولا خلقهم لما كانوا مخلوقين، فلم يكن للقوم جواب إلا ما لو تركوه لكان أولى بهم وهو من وجهين: الأول: قولهم: * (إنما أنت من المسحرين) * * (ما أنت إلا بشر مثلنا) * فإن قيل: هل اختلف المعنى بإدخال الواو ههنا وتركها في قصة ثمود؟ جوابه: إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم السحر والبشرية وإذا تركت الواو فلم يقصدوا إلا معنى واحدا وهو كونه مسحرا ثم قرره بكونه بشرا مثلهم الثاني: قولهم: * (وإن نظنك لمن الكاذبين) * ومعناه ظاهر، ثم إن شعيبا عليه السلام كان يتوعدهم بالعذاب إن استمروا على التكذيب فقالوا: * (فأسقط علينا كسفا من السماء) * قرىء * (كسفا) * بالسكون والحركة وكلاهما جمع كسفة وهي القطعة والسماء السحاب أو الظلة، وهم إنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فظنوا أنه إذا لم يقع ظهر كذبه فعنده قال شعيب عليه السلام: * (ربي أعلم بما تعملون) * فلم يدع عليهم بل فوض الأمر فيه إلى الله تعالى فلما استمروا على التكذيب أنزل الله عليهم العذاب على ما اقترحوا من عذاب يوم الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب، وإن أرادوا الظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم يروى أنه حبس عنهم الريح سبعا وسلط عليهم الرمل فأخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم ظل ولا ماء فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا، وروي أن شعيبا بعث إلى أمتين أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلكت مدين بصيحة جبريل عليه السلام وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة، وههنا آخر الكلام في هذه القصص السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما ناله من الغم الشديد، بقي ههنا سؤالان:
السؤال الأول: لم لا يجوز أن يقال: إن العذاب النازل بعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ما كان ذلك بسبب كفرهم وعنادهم، بل كان ذلك بسبب قرانات الكواكب واتصالاتها على ما اتفق عليه أهل النجوم؟ وإذا قام هذا الاحتمال لم يحصل الاعتبار بهذه القصص، لأن الاعتبار إنما يحصل أن لو علمنا أن نزول هذا العذاب كان بسبب كفرهم وعنادهم.
الثاني: أن الله تعالى قد ينزل العذاب محنة للمكلفين وابتلاء لهم على ما قال: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) * (محمد: 31) ولأنه تعالى قد ابتلى المؤمنين بالبلاء العظيم في مواضع كثيرة وإذا كان كذلك لم يدل نزول البلاء بهم على كونهم مبطلين والجواب: أن الله
تعالى أنزل هذه القصص على محمد صلى الله عليه وسلم تسلية وإزالة للحزن عن قلبه، فلما أخبر الله تعالى محمدا أنه هو الذي أنزل العذاب عليهم، وأنه إنما أنزله عليهم جزاء على كفرهم، على محمد صلى الله عليه وسلم أن الأمر كذلك، فحينئذ يحصل به التسلية والفرح له عليه السلام، واحتج بعض الناس على القدح في علم الأحكام
164

بأن قال المؤثر في هذه الأشياء، إما الكواكب أو البروج أو كون الكوكب في البرج المعين، والأول باطل، وإلا لحصلت هذه الآثار أين حصل الكوكب والثاني أيضا باطل، وإلا لزم دوام الأثر بدوام البرج والثالث أيضا باطل، لأن الفلك على قولهم بسيط لا مركب فيكون طبع كل برج مساويا لطبع البرج الآخر في تمام الماهية، فيكون حال الكوكب وهو في برجه كحاله وهو في برج آخر، فيلزم أن يدوم ذلك الأثر بدوام الكوكب، وللقوم أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون صدور الأثر عن الكوكب المعين موقوفا على كونه مسامتا مسامتة مخصوصة لكوكب آخر، فإذا فقدت تلك المسامتة فقد شرط التأثير فلا يحصل التأثير؟ ولهم أن يقولوا هذه الدلالة، إنما تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب ذواتها وطبائعها، ولكنها لا تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب جري العادة، فإذا أجرى الله تعالى عادته بحصول تأثيرات مخصوصة عقيب اتصالات الكواكب وقراناتها وأدوارها لم يلزم من حصول هذه الآثار القطع بأن الله تعالى إنما خلقها لأجل زجر الكفار بل لعله تعالى خلقها تكريرا لتلك العادات والله أعلم.
القول فيما ذكره الله تعالى من أحوال محمد عليه الصلاة والسلام
قوله تعالى
* (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الامين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين * وإنه لفى زبر الاولين) *.
اعلم أن الله تعالى لما ختم ما اقتصه من خبر الأنبياء ذكر بعد ذلك ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم وهو من وجهين: الأول: قوله: * (وإنه لتنزيل رب العالمين) * وذلك لأنه لفصاحته معجز فيكون ذلك من رب العالمين، أو لأنه إخبار عن القصص الماضية من غير تعليم البتة، فلا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى، وقوله بعده: * (وإنه لقي زبر الأولين) * كأنه مؤكد لهذا الاحتمال، وذلك لأنه عليه السلام لما ذكر هذه القصص السبع على ما هي موجودة في زبر الأولين من غير تفاوت أصلا مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستعداد، دل ذلك على أنه ليس إلا من عند الله تعالى، فهذا هو المقصود من الآية.
فأما قوله تعالى: * (وإنه لتنزيل رب العالمين) * فالمراد بالتنزيل المنزل، ثم قد كان يجوز في القرآن وهذه القصص أن يكون تنزيلا من الله تعالى إلى محمد صلى الله
عليه وسلم بلا واسطة فقال: * (نزل به الروح الأمين) * والباء في قوله: * (نزل به الروح) * و * (نزل به الروح) * على القراءتين للتعدية، ومعنى * (نزل به الروح) * جعل الله الروح نازلا به * (على قلبك) * (حفظكه و) أي فهمك إياه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى كقوله تعالى: * (سنقرئك
165

فلا تنسى) * (الأعلى: 6) والروح الأمين جبريل عليه السلام وسماه روحا من حيث خلق من الروح، وقيل لأنه نجاة الخلق في باب الدين فهو كالروح الذي تثبت معه الحياة، وقيل لأنه روح كله لا كالناس الذين في أبدانهم روح وسماه أمينا لأنه مؤتمن على ما يؤديه إلى الأنبياء عليهم السلام، وإلى غيرهم.
وأما قوله: * (على قلبك) * ففيه قولان: الأول: أنه إنما قال: * (على قلبك) * وإن كان إنما أنزله عليه ليؤكد به أن ذلك المنزل محفوظ للرسول متمكن في قلبه لا يجوز عليه التغيير فيوثق بالإنذار الواقع منه الذي بين الله تعالى أنه هو المقصود ولذلك قال: * (لتكون من المنذرين) * الثاني: أن القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختبار، وأما سائر الأعضاء فمسخرة له والدليل عليه القرآن والحديث والمعقول، أما القرآن فآيات إحداها قوله تعالى في سورة البقرة (97): * (فإنه نزله على قلبك) * وقال ههنا: * (نزل به الروح الأمين على قلبك) * وقال: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) * (ق: 37)، وثانيها: أنه ذكر أن استحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب من المساعي فقال: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * (البقرة: 225) وقال: * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) * (الحج: 37) والتقوى في القلب لأنه تعالى قال: * (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) * (الحجرات: 3) وقال تعالى: * (وحصل ما في الصدور) * (العاديات: 10). وثالثها: قوله حكاية عن أهل النار: * (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) * (الملك: 10) ومعلوم أن العقل في القلب والسمع منفذ إليه، وقال: * (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * (الإسراء: 36) ومعلوم أن السمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب، فكان السؤال عنهما في الحقيقة سؤالا عن القلب وقال تعالى: * (يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور) * (غافر: 19)، ولم تخف الأعين إلا بما تضمر القلوب عند التحديق بها ورابعها: قوله: * (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) * (السجدة: 9) فخص هذه الثلاثة بإلزام الحجة منها واستدعاء الشكر عليها، وقد قلنا لا طائل في السمع والأبصار إلا بما يؤديان إلى القلب ليكون القلب هو القاضي فيه والمتحكم عليه، وقال تعالى: * (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء) * (الأحقاف: 26) فجعل هذه الثلاثة تمام ما ألزمهم من حجته، والمقصود من ذلك هو الفؤاد القاضي فيما يؤدي إليه السمع والبصر وخامسها: قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم) * (البقرة: 7) فجعل العذاب لازما على هذه الثلاثة وقال: * (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها) * (الأعراف: 179) وجه الدلالة أنه قصد إلى نفي العلم عنهم رأسا، فلو ثبت العلم في غير القلب كثباته في القلب لم يتم الغرض فهذه الآيات ومشاكلها ناطقة بأجمعها أن القلب هو المقصود بإلزام الحجة، وقد بينا أن ما قرن بذكره من ذكر السمع والبصر فذلك لأنهما آلتان للقلب في تأدية صور المحسوسات والمسموعات.
وأما الحديث فما روى النعمان بن بشير قال سمعته عليه السلام يقول: " ألا وإن في الجسد مضغة
166

إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " وأما المعقول فوجوه: أحدها: أن القلب إذا غشي عليه فلو قطع سائر الأعضاء لم يحصل الشعور به وإذا أفاق القلب فإنه يشعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات فدل ذلك على أن سائر الأعضاء تبع للقلب ولذلك فإن القلب إذا فرح أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك، وكذا القول في سائر الأعراض النفسانية وثانيها: أن القلب منبع المشاق الباعثة على الأفعال الصادرة من سائر الأعضاء وإذا كانت المشاق مبادئ للأفعال ومنبعها هو القلب كان الآمر المطلق هو القلب وثالثها: أن معدن العقل هو القلب وإذا كان كذلك كان الآمر المطلق هو القلب. أما المقدمة الأولى: ففيها النزاع فإن طائفة من القدماء ذهبوا إلى أن معدن العقل هو الدماغ والذي يدل على قولنا وجوه: الأول: قوله تعالى: * (أولم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) * (الحج: 46) وقوله: * (لهم قلوب لا يفقهون بها) * (الأعراف: 179) وقوله: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) * (ق: 37) أي عقل، أطلق عليه اسم القلب لما أنه معدنه الثاني: أنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب، وقال: * (في قلوبهم مرض) * (البقرة: 10)، * (ختم الله على قلوبهم) * (البقرة: 7) وقولهم: * (قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم) * (النساء: 155)، * (يحذر المنافقين أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) * (التوبة: 64)، * (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) * (الفتح: 11)، * (كلا بل ران على قلوبهم) * (المطففين: 14)، * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) * (محمد: 24)، * (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) * (الحج: 46) فدلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضا هو القلب الثالث: وهو أنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا علومنا حاصلة في ناحية القلب، ولذلك فإن الواحد منا إذا أمعن في الفكر وأكثر منه أحس من قلبه ضيقا وضجرا حتى كأنه يتألم بذلك، وكل ذلك يدل على أن موضع العقل هو القلب، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم الرابع: وهو أن القلب أول الأعضاء تكونا، وآخرها موتا، وقد ثبت ذلك بالتشريح ولأنه متمكن في الصدر الذي هو أوسط الجسد، ومن شأن الملوك المحتاجين إلى الخدم أن يكونوا في وسط المملكة لتكتنفهم الحواشي من الجوانب فيكونوا أبعد من الآفات، واحتج من قال العقل في الدماغ بأمور: أحدها: أن الحواس التي هي الآلات للإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب وثانيها: أن الأعصاب التي هي الآلات في الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب وثالثها: أن الآفة إذا حلت في الدماغ اختل العقل ورابعها: أن في العرف كل من أريد وصفه بقلة العقل قيل إنه خفيف الدماغ خفيف الرأس وخامسها: أن العقل أشرف فيكون مكانه أشرف، والأعلى هو الأشرف وذلك هو الدماغ لا القلب فوجب أن يكون محل العقل هو الدماغ والجواب عن الأول: لم لا يجوز أن يقال الحواس تؤدي آثارها إلى
الدماغ، ثم إن الدماغ يؤدي تلك الآثار إلى القلب، فالدماغ آلة قريبة للقلب
167

للقلب والحواس آلات بعيدة فالحس يخدم الدماغ، ثم الدماغ يخدم القلب وتحقيقه أنا ندرك من أنفسنا أنا إذا عقلنا أن الأمر الفلاني يجب فعله أو يجب تركه، فإن الأعضاء تتحرك عند ذلك، ونحن نجد التعقلات من جانب القلب لا من جانب الدماغ وعن الثاني: أنه لا يبعد أن يتأدى الأثر من القلب إلى الدماغ، ثم الدماغ يحرك الأعضاء بواسطة الأعصاب النابتة منه، وعن الثالث: لا يبعد أن يكون سلامة الدماغ شرطا لوصول تأثير القلب إلى سائر الأعضاء، وعن الرابع: أن ذلك العرف إنما كان لأن القلب إنما يعتدل مزاحه بما يستمد من الدماغ من برودته، فإذا لحق الدماغ خروج عن الاعتدال خرج القلب عن الاعتدال أيضا، إما لازدياد حرارته عن القدر الواجب أو لنقصان حراراته عن ذلك القدر فحينئذ يختل العقل وعن الخامس: أنه لو صح ما قالوه لوجب أن يكون موضع العقل هو القحف، ولما بطل ذلك ثبت فساد قولهم والله أعلم.
فرع: اعلم أن المعاني التي بينا كونها مختصة بالقلوب قد تضاف إلى الصدر تارة وإلى الفؤاد أخرى، أما الصدر فلقوله تعالى: * (وحصل ما في الصدور) * (العاديات: 10) وقوله: * (وليبتلي الله ما في صدوركم) * (آل عمران: 154) وقوله تعالى: * (إنه عليم بذات الصدور) * (هود: 5)، * (وإن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه) * (آل عمران: 29) وأما الفؤاد فقوله: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * ومن الناس من فرق بين القلب والفؤاد فقال: القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد دون ما يكتنفها من اللحم والشحم، ومجموع ذلك هو الفؤاد ومنهم من قال القلب والفؤاد لفظان مترادفان، وكيف كان فيجب أن يعلم أن من جملة العضو المسمى قلبا وفؤادا موضعا هو الموضع في الحقيقة للعقل والاختيار، وأن معظم جرم هذا العضو مسخر لذلك الموضع، كما أن سائر الأعضاء مسخرة للقلب، فإن العضو قد تزيد أجزاؤه من غير ازدياد المعاني المنسوبة إليه أعني العقل والفرح والحزن وقد ينقص من غير نقصان في تلك المعاني، فيشبه أن يكون اسم القلب اسما للأجزاء التي تحل فيها هذه المعاني بالحقيقة، واسم الفؤاد يكون اسما لمجموع العضو، فهذا هو الكلام في هذا الباب والله الموفق للصواب.
وأما قوله تعالى: * (لتكون من المنذرين) * فيدخل تحت الإنذار الدعاء إلى كل واجب من علم وعمل والمنع من كل قبيح لأن في الوجهين جميعا يدخل الخوف من العقاب.
وأما قوله تعالى: * (بلسان عربي مبين) * فالباء إما أن تتعلق بالمنذرين فيكون المعنى لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان، وهم خمسة هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم السلام، وإما أن تتعلق بنزل فيكون المعنى نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجمي (لتجافوا عنه أهلا و) لقالوا له ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به، وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك لأنك تفهمه ويفهمه قومك، ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها.
168

وأما قوله تعالى: * (وإنه لفي زبر الأولين) * فيحتمل هذه الأخبار خاصة، ويحتمل أن يكون المراد صفة القرآن، ويحتمل صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المراد وجوه التخويف، لأن ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم.
قوله تعالى
* (أو لم يكن لهم ءاية أن يعلمه علماء بنى إسراءيل * ولو نزلناه على بعض الاعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين * كذلك سلكناه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم * فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) *.
اعلم أن قوله تعالى: * (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) * المراد منه ذكر الحجة الثانية على نبوته عليه السلام وصدقه، وتقريره أن جماعة من علماء بني إسرائيل أسلموا ونصوا على مواضع في التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بصفته ونعته، وقد كان مشركو قريش يذهبون إلى اليهود ويتعرفون منهم هذا الخبر، وهذا يدل دلالة ظاهرة على نبوته لأن تطابق الكتب الإلهية على نعته ووصفه يدل قطعا على نبوته، واعلم أنه قرىء * (يكن) * بالتذكير، وآية النصب على أنها خبره و (أن يعلمه) هو الاسم، وقرئ * (تكن) * بالتأنيث وجعلت (آية) اسما و (أن يعلمه) خبرا، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا، ويجوز مع نصب الآية تأنيث (يكن) كقوله: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا) * (الأنعام: 23).
وأما قوله: * (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) * فاعلم أنه تعالى لما بين بالدليلين المذكورين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق لهجته بين بعد ذلك أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين، فقال: * (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) * يعني إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته، وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به، فلم يؤمنوا به وجحدوه، وسموه شعرا تارة وسحرا أخرى، فلو نزلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية لكفروا به أيضا ولتمحلوا لجحودهم عذرا، ثم قال: * (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) * أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم، وهكذا مكناه وقررناه فيها
169

وكيفما فعل بهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار، وهذا أيضا مما يفيد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه إذا عرف رسول الله إصرارهم على الكفر، وأنه قد جرى القضاء الأزلي بذلك حصل اليأس، وفي المثل: اليأس إحدى الراحتين.
المسألة الرابعة: قوله: * (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) * يدل على أن الكل بقضاء الله وخلقه، قال صاحب " الكشاف ": أراد به أنه صار ذلك التكذيب متكمنا في قلوبهم أشد التمكن فصار ذلك كالشئ الجبلي والجواب: أنه إما أن يكون قد فعل الله فيهم ما يقتضي رجحان التكذيب على التصديق أو ما فعل ذلك فيهم، فإن كان
الأول فقد دللنا في سورة الأنعام على أن الترجيح لا يتحقق ما لم ينته إلى حد الوجوب وحينئذ يحصل المقصود، فإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح البتة، امتنع قوله: * (كذلك سلكناه) * كما أن طيران الطائر لما لم يكن له تعلق بكفرهم، امتنع إسناد الكفر إلى ذلك الطيران.
المسألة الخامسة: قال صاحب " الكشاف ": فإن قلت: ما موقع * (لا يؤمنون به) * من قوله * (سلكناه في قلوب المجرمين) *؟ قلت موقعه منه موقع الموضح (والمبين)، لأنه مسوق (لبيانه مؤكد للجحود) في قلوبهم، فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به حتى يعاينوا الوعيد.
قوله تعالى
* (فيقولوا هل نحن منظرون * أفبعذابنا يستعجلون * أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جآءهم ما كانوا يوعدون * مآ أغنى عنهم ما كانوا يمتعون * ومآ أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أنهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، وأنه يأتيهم العذاب بغتة أتبعه بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة فقال: * (فيقولوا هل نحن منظرون) * كما يستغيث المرء عند تعذر الخلاص، لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجأ، لكنهم يذكرون ذلك استرواحا.
فأما قوله تعالى: * (أفبعذابنا يستعجلون) * فالمراد أنه تعالى بين أنهم كانوا في الدنيا يستعجلون العذاب، مع أن حالهم عند نزول العذاب طلب النظرة ليعرف تفاوت الطريقين فيعتبر به، ثم بين
170

تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يقع منهم ليتمتعوا في الدنيا، إلا أن ذلك جهل، وذلك لأن مدة التمتع في الدنيا متناهية قليلة، ومدة العذاب الذي يحصل بعد ذلك غير متناهية، وليس في العقل ترجيح لذات متناهية قليلة على آلام غير متناهية، وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف، فقال له عظني، فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت، وقرئ * (يمتعون) * بالتخفيف، ثم بين أنه لم يهلك قرية إلا وهناك نذير يقيم عليهم الحجة.
أما قوله تعالى: * (ذكرى) * فقال صاحب " الكشاف ": ذكرى منصوبة بمعنى تذكرة، إما لأن أنذر وذكر متقاربان، فكأنه قيل مذكرون تذكرة، وإما لأنها حال من الضمير في * (منذرون) *، أي ينذرونهم ذوي تذكرة، وإما لأنها مفعول له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة، أو مرفوعة عل أنها خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى، والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى، وجعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها، ووجه آخر وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولا له، والمعنى وما أهلكنا من أهل قرية قوم ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم، * (وما كنا ظالمين) * فنهلك قوما غير ظالمين، وهذا الوجه عليه المعول، فإن قلت كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا، ولم تعزل عنه في قوله: * (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) * (الحجر: 4) قلت: الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف.
قوله تعالى
* (وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغى لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون * فلا تدع مع الله إلها ءاخر فتكون من المعذبين) *.
اعلم أنه تعالى لما احتج على صدق محمد صلى الله عليه وسلم بكون القرآن تنزيل رب العالمين، وإنما يعرف ذلك لوقوعه من الفصاحة في النهاية القصوى، ولأنه مشتمل على قصص المتقدمين من غير تفاوت، مع أنه عليه السلام لم يشتغل بالتعلم والاستفادة، فكان الكفار يقولون لم لا يجوز أن يكون هذا من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة؟، فأجاب الله تعالى عنه بأن ذلك لا يتسهل للشياطين لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء، ولقائل أن يقول العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بواسطة خبر النبي الصادق، فإذا أثبتنا كون
171

محمد صلى الله عليه وسلم صادقا بفصاحة القرآن وإخباره عن الغيب، ولا يمكن إثبات كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزا إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك، لزم الدور وهو باطل وجوابه: لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يستفاد إلا من قول النبي، وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى من الاهتمام بشأن العدو، ونعلم بالضرورة أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم، فلو كان هذا الغيب إنما حصل من إلقاء الشياطين، لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم، فكان يجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى، فلما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون عن ذلك، وأنهم معزولون عن تعرف الغيوب، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب ابتدأ بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: * (فلا تدع مع الله إلها آخر) * وذلك في الحقيقة خطاب لغيره، لأن من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد خطاب الغير أن يوجهه إلى الرؤساء في الظاهر، وأن كان المقصود بذلك هم الأتباع، ولأنه تعالى أراد أن يتبعه ما يليق بذلك، فلهذه العلة أفرده بالمخاطبة.
قوله تعالى
* (وأنذر عشيرتك الاقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم * الذى يراك حين تقوم * وتقلبك فى الساجدين * إنه هو السميع العليم) *.
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تسلية رسوله أولا، ثم أقام الحجة على نبوته، ثانيا ثم أورد سؤال المنكرين، وأجاب عنه ثالثا، أمره بعد ذلك بما يتعلق بباب التبليغ والرسالة وهو ههنا أمور ثلاثة: الأول: قوله: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعده إن دعا مع الله إلها آخر، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، وذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولا، ثم بالأقرب فالأقرب ثانيا، لم يكن لأحد فيه طعن البتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع، وروي " أنه لما نزلت هذه الآية صعد الصفا
فنادى الأقرب فالأقرب وقال: يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، يا عباس عم محمد، يا صفية عمة محمد؛ إني لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من المال
172

ما شئتم " وروي " أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا على رجل شاة وقعب من لبن، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس، فأكلوا وشربوا، ثم قال يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا، أكنتم مصدقي؟ قالوا نعم فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ".
الثاني: قوله: * (واخفض جناحك) * واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلا في التواضع ولين الجانب، فإن قيل المتبعون للرسول هم المؤمنون وبالعكس فلم قال: * (لمن اتبعك من المؤمنين) *؟ جوابه: لا نسلم أن المتبعين للرسول هم المؤمنون فإن كثيرا منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين.
فأما قوله: * (فإن عصوك فقل إني بري مما تعملون) * فمعناه ظاهر، قال الجبائي هذا يدل على أنه عليه السلام كان بريئا من معاصيهم، وذلك يوجب أن الله تعالى أيضا بريء من عملهم كالرسول وإلا كان مخالفا لله، كما لو رضي عمن سخط الله عليه لكان كذلك، وإذا كان تعالى بريئا من عملهم فكيف يكون فاعلا له ومريدا له؟ الجواب: أنه تعالى بريء من المعاصي بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها، فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم والدليل عليه أنه علم وقوعها، وعلم أن ما هو معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع وإلا لانقلب علمه جهلا وهو محال والمفضي إلى المحال محال، وعلم أن ما هو واجب الوقوع فإنه لا يراد عدم وقوعه فثبت ما قلناه والثالث: قوله: * (وتوكل) * والتوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره، وقوله: * (على العزيز الرحيم) * أي على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته ثم أتبع كونه رحيما على رسوله ما هو كالسبب لتلك الرحمة، وهو قيامه وتقلبه في الساجدين وفيه وجوه: أحدها: المراد ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد وتقلبه في تصفح أحوال (المجتهدين) ليطلع على أسرارهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه على ما يوجد منهم من الطاعات، فوجدها كبيوت الزنابير لما يسمع منها من دندنتهم بذكر الله تعالى والمراد بالساجدين المصلين وثانيها: المعنى يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة وتقلبه في الساجدين تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذ كان إماما لهم وثالثها: أنه لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين ورابعها: المراد تقلب بصره فيمن (يلي) خلفه من قوله صلى الله عليه وسلم: " أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي " ثم قال: * (إنه هو السميع) * أي لما تقوله * (العليم) * أي بما تنويه وتعمله، وهذا يدل على أن كونه سميعا أمر مغاير لعلمه بالمسموعات وإلا لكان لفظ العليم مفيدا فائدته. واعلم أنه قرىء * (ونقلبك) *.
واعلم أن الرافضة ذهبوا إلى أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين وتمسكوا في ذلك بهذه الآية
173

وبالخبر، أما هذه الآية فقالوا قوله تعالى: * (وتقلبك في الساجدين) * يحتمل الوجوه التي ذكرتم ويحتمل أن يكون المراد أن الله تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد كما نقوله نحن، وإذا احتمل كل هذه الوجوه وجب حمل الآية على الكل ضرورة أنه لا منافاة ولا رجحان، وأما الخبر فقوله عليه السلام: " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " وكل من كان كافرا فهو نجس لقوله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) قالوا: فإن تمسكتم على فساد هذا المذهب بقوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) * (الأنعام: 74) قلنا الجواب عنه أن لفظ الأب قد يطلق على العم كما قال أبناء يعقوب له: * (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق) * (البقرة: 133) فسموا إسماعيل أبا له مع أنه كان عما له، وقال عليه السلام: " ردوا على أبي " يعني العباس، ويحتمل أيضا أن يكون متخذا لأصنام أب أمه فإن هذا قد يقال له الأب قال تعالى: * (ومن ذريته داود وسليمان) * إلى قوله: * (وعيسى) * (الأنعام: 84، 85) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم كان جده من قبل الأم.
واعلم أنا نتمسك بقوله تعالى: * (لأبيه آزر) * وما ذكروه صرف للفظ عن ظاهره، وأما حمل قوله: * (وتقلبك في الساجدين) * على جميع الوجوه فغير جائز لما بينا أن حمل المشترك على كل معانيه غير جائز، وأما الحديث فهو خبر واحد فلا يعارض القرآن.
قوله تعالى
* (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) *.
اعلم أن الله تعالى أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين: الأول: قوله: * (تنزل على كل أفاك أثيم) * وذلك هو الذي قررناه فيما تقدم أن الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان، ومحمدا عليه السلام كان يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة عنه والثاني: قوله: * (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) * والمراد أنهم كان يقيسون حال النبي صلى الله عليه وسلم على حال سائر الكهنة فكأنه قيل لهم إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب فيجب أن يكون حال الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك أيضا، فلما لم يظهر في إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن المغيبات إلا الصدق علمنا أن حاله بخلاف حال الكهنة، ثم إن المفسرين ذكروا في الآية وجوها: أحدها: أنهم الشياطين روي أنهم كانوا قبل أن حجبوا بالرجم يسمعون إلى الملأ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم * (وأكثرهم كاذبون) * فيما (يوحى) به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا وثانيها: يلقون إلى أوليائهم السمع أي المسموع من الملائكة وثالثها: الأفاكون
174

يلقون السمع إلى الشياطين فيلقون وحيهم إليهم ورابعها: يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم، فإن
قلت * (يلقون) * ما محله؟ قلت يجوز أن يكون في محل النصب على الحال أي تنزل ملقين السمع، وفي محل الجر صفة لكل أفاك لأنه في معنى الجمع، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف كأن قائلا قال: لم ننزل على الأفاكين؟ فقيل يفعلون كيت وكيت، فإن قلت كيف قال: * (وأكثرهم كاذبون) * بعدما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك؟ قلت: الأفاكون هم الذين يكثرون الكذب، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الجن وأكثرهم يفتري عليهم.
قوله تعالى
* (والشعرآء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون) *.
اعلم أن الكفار لما قالوا: لم لا يجوز أن يقال إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء؟ ثم إنه سبحانه فرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين الكهنة، فذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه عليه السلام وبين الشعراء، وذلك هو أن الشعراء يتبعهم الغاوون، أي الضالون، ثم بين تلك الغواية بأمرين: الأول: * (أنهم في كل واد يهيمون) * والمراد منه الطرق المختلفة كقولك أنا في واد وأنت في واد، وذلك لأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق بخلاف أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى والترغيب في الآخرة والإعراض عن الدنيا الثاني: * (أنهم يقولون ما لا يفعلون) * وذلك أيضا من علامات الغواة، فإنهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه، وينفرون عن البخل ويصرون عليه، ويقدحون في الاس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم، ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش، وذلك يدل على الغواية والضلالة.
175

وأما محمد صلى الله عليه وسلم فإنه بدأ بنفسه حيث قال الله تعالى له: * (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين) * (الشعراء: 213) ثم بالأقرب فالأقرب حيث قال الله تعالى له: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (الشعراء: 214) وكل ذلك على خلاف طريقة الشعراء، فقد ظهر بهذا الذي بيناه أن حال محمد صلى الله عليه وسلم ما كان يشبه حال الشعراء، ثم إن الله تعالى لما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بيانا لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين بأمور أربعة: أحدها: الإيمان وهو قوله: * (إلا الذين آمنوا) *، وثانيها: العمل الصالح وهو قوله: * (وعملوا الصالحات) *، وثالثها: أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق، وهو قوله: * (وذكروا الله كثيرا) *، ورابعها: أن لا يذكروا هجو أحد إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم، وهو قوله: * (وانتصروا من بعد ما ظلموا) * قال الله تعالى: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * (النساء: 148) ثم إن الشرط فيه ترك الاعتداء لقوله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194) وقيل المراد بهذا الاستثناء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشا، وعن كعب بن مالك: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أهجهم، فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل " وكان يقول لحسان بن ثابت " قل وروح القدس معك ".
فأما قوله تعلى: * (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) * فالذي عندي فيه والله أعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسوله صلى الله عليه وسلم من الدلائل العقلية، ومن أخبار الأنبياء المتقدمين، ثم ذكر الدلائل على نبوته عليه السلام، ثم ذكر سؤال المشركين في تسميتهم محمدا صلى الله عليه وسلم تارة بالكاهن، وتارة بالشاعر، ثم إنه تعالى بين الفرق بينه وبين الكاهن أولا ثم بين الفرق بينه وبين الشاعر ثانيا ختم السورة بهذا التهديد العظيم، يعني إن الذين ظلموا أنفسهم وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات، والتأمل في هذه البينات فإنهم سيعلمون بعد ذلك أي منقلب ينقلبون وقال الجمهور: المراد منه الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء، والأول أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
176

سورة النمل
تسعون وثلاث أو أربع أو خمس آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (طس تلك ءايات القرءان وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم بالاخرة هم يوقنون) *.
اعلم أن قوله: * (تلك) * إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ وإبانته أنه قد خط فيه كل ما هو كائن، فالملائكة الناظرون فيه يبينون الكائنات، وإنما نكر الكتاب المبين ليصير مبهما بالتنكير فيكون أفخم له كقوله: * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) * (القمر: 55) وقرأ ابن أبي عبلة * (وكتاب مبين) * بالرفع على تقدير وآيات كتاب مبين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين قوله: * (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) * (الحجر: 1)؟ قلت: لا فرق لأن واو العطف لا تقتضي الترتيب.
أما قوله: * (هدى وبشرى للمؤمنين) * فهو في محل النصب أو الرفع فالنصب على الحال أي هادية ومبشرة، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة، والرفع على ثلاثة أوجه على معنى هي هدى وبشرى، وعلى البدل من الآيات، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر، أي جمعت آياتها آيات الكتاب وأنها هدى وبشرى، واختلفوا في
وجه تخصيص الهدى بالمؤمنين على وجهين: الأول: المراد أنه يهديهم إلى الجنة وبشرى لهم كقوله تعالى: * (فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) * (النساء: 175) فلهذا اختص به المؤمنون الثاني: المراد بالهدى الدلالة ثم ذكروا في تخصيصه بالمؤمنين وجوها: أحدها: أنه إنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى، والبشرى
177

إنما تكون للمؤمنين وثانيها: أن وجه الاختصاص أنهم تمسكوا به فخصهم بالذكر كقوله: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45)، وثالثها: المراد من كونها * (هدى للمؤمنين) * أنها زائدة في هداهم، قال تعالى: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * (مريم: 76).
أما قوله: * (الذين يقيمون الصلاة) * فالأقرب أنها الصلوات الخمس لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك، وإقامة الصلاة أن يؤتى بها بشرائطها، وكذا القول في الزكاة فإنها هي الواجبة، وإقامتها وضعها في حقها.
أما قوله: * (وهم بالآخرة هم يوقنون) * ففيه سؤال وهو: أن المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لا بد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة، فما الوجه من ذكره مرة أخرى؟ جوابه من وجهين: الأول: أن يكون من جملة صلة الموصول، ثم فيه وجهان: الأول: أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخبر لأجل العمل به، وأما عرفان الحق فأقسام كثيرة لكن الذي يستفاد منه طريق النجاة معرفة المبدأ، ومعرفة المعاد، وأما الخير الذي يعمل به فأقسام كثيرة وأشرفها قسمان: الطاعة بالنفس والطاعة بالمال فقوله: * (للمؤمنين) * إشارة إلى معرفة المبدأ، وقوله: * (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) * إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال، وقوله: * (وهم بالآخرة هم يوقنون) * إشارة إلى علم المعاد فكأنه سبحانه وتعالى جعل معرفة المبدأ طرفا أولا، ومعرفة المعاد طرفا أخيرا وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطا بينهما الثاني: أن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، منهم من هو جازم بالحشر والنشر، ومنهم من يكون شاكا فيه إلا أنه يأتي بهذه الطاعات للاحتياط، فيقول إن كنت مصيبا فيها فقد فزت بالسعادة، وإن كنت مخطئا فيها لم يفتني إلا خيرات قليلة في هذه المدة اليسيرة، فمن يأتي بالصلاة والزكاة على هذا الوجه لم يكن في الحقيقة مهتديا بالقرآن، أما من كان حازما بالآخرة كان مهتديا به، فلهذا السبب ذكر هذا القيد الثاني: أن يجعل قوله: * (وهم بالآخرة هم يوقنون) * جملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة، وهذا هو الأقرب ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو * (هم) * حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق.
قوله تعالى
* (إن الذين لا يؤمنون بالاخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم فى الاخرة هم الاخسرون) *.
178

اعلم أنه تعالى لما بين ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما على الكفار من سوء العذاب فقال: * (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم) *، واختلف الناس في أنه كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله: * (فزين لهم الشيطان أعمالهم) * (النحل: 63)؟ فأما أصحابنا فقد أجروا الآية على ظاهرها وذلك لأن الإنسان لا يفعل شيئا البتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم والاعتقاد والظن بكون الفعل مشتملا على منفعة، وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل الله تعالى لوجهين: الأول: أنه لو كان من فعل العبد لافتقر فيه إلى داع آخر ويلزم التسلسل وهو محال الثاني: وهو أن العلم إما أن يكون ضروريا أو كسبيا، فإن كان ضروريا فلا بد فيه من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسبا لأن المكتسب إن كان شاعرا به فهو متصور له، وتحصيل الحاصل محال وإن لم يكن شاعرا به كان غافلا عنه والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالبا له، فإن قلت هو مشعور به من وجه دون وجه، قلت فالمشعور به غير ما هو غير مشعور به فيعود التقسيم المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين، وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب البتة والعلم الضروري هو الذي يكون حضور كل واحد من تصوريه كافيا في حصول التصديق، فالتصورات غير كسبية وهي مستلزمة للتصديقات، فإذن متى حصلت التصورات حصل التصديق لا محالة، ومتى لم تحصل لم يحصل التصديق البتة، فحصول هذه التصديقات البديهية ليس بالكسب، ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة للتصديقات النظرية لم تكن التصديقات النظرية كسبية، لأن لازم الضروري ضروري، وإن لم تكن مستلزمة لها لم تكن تلك الأشياء التي فرضناها علوما نظرية كذلك بل هي اعتقادات تقليدية، لأنه لا معنى لاعتقاد المقلد إلا اعتقاد تحسيني يفعله ابتداء من غير أن يكون له موجب فثبت بهذا أن العلوم بأسرها ضرورية، وثبت أن مبادئ الأفعال هي العلوم فأفعال العباد بأسرها ضرورية، والإنسان مضطر في صورة مختار، فثبت أن الله تعالى هو الذي زين لكل عامل عمله. والمراد من التزيين هو أنه يخلق في قلبه العلم بما فيه من المنافع واللذات ولا يخلق في قلبه العلم بما فيه من المضار والآفات، فقد ثبت بهذه الدلائل القاطعة العقلية وجوب إجراء هذه الآية على ظاهرها، أما المعتزلة فإنهم ذكروا في تأويلها وجوها: أحدها: أن المراد بينا لهم أمر الدين وما يلزمهم أن يتمسكوا به وزيناه بأن بينا حسنه وما لهم فيه من الثواب، لأن التزيين من الله تعالى للعمل ليس إلا وصفه بأنه حسن وواجب وحميد العاقبة، وهو المراد من قوله: * (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) * (الحجرات: 7) ومعنى * (فهم يعمهون) * يدل على ذلك لأن المراد فهم يعدلون وينحرفون عما زينا من أعمالهم وثانيها: أنه تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق جعلوا إنعام الله تعالى بذلك عليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وعدم الانقياد لما يلزمهم من التكاليف، فكأنه تعالى زين بذلك أعمالهم وإليه إشارة الملائكة عليهم السلام في قولهم: * (ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر) * (الفرقان: 18) وثالثها: أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة
179

للتزيين فأسند إليه والجواب: عن الأول أن قوله تعالى: * (أعمالهم) * صيغة عموم توجب أن يكون الله تعالى قد زين لهم كل أعمالهم حسنا كان العمل أو قبيحا ومعنى التزيين قد قدمناه، وعن الثاني أن الله تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق فهل لهذه الأمور أثر في ترجيح فاعلية المعصية على تركها أوليس لها فيه أثر، فإن كان
الأول فقد دللنا على أن الترجيح متى حصل فلا بد وأن ينتهي إلى حد الاستلزام وحينئذ يحصل الغرض وإن لم يكن فيه أثر صارت هذه الأشياء بالنسبة إلى أعمالهم كصرير الباب ونعيق الغراب، وذلك يمنع من إسناد فعلهم إليها وهذا بعينه هو الجواب عن التأويل الثالث الذي ذكروه والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (فهم يعمهون) * فالعمه التحير والتردد كما يكون حال الضال عن الطريق.
أما قوله: * (أولئك الذين لهم سوء العذاب) * ففيه وجهان: الأول: أنه القتل والأسر يوم بدر والثاني: مطلق العذاب سواء كان في الدنيا أو في الآخرة والمراد بالسوء شدته وعظمه.
وأما قوله: * (هم الأخسرون) * ففيه وجهان: الأول: أنه لا خسران أعظم من أن يخسر المرء نفسه بأن يسلب عنه الصحة والسلامة في الدنيا ويسلم في الآخرة إلى العذاب العظيم الثاني: المراد أنهم خسروا منازلهم في الجنة لو أطاعوا، فإنه لا مكلف إلا وعين له منزل في الجنة لو أطاع فإذا عصى عدل به إلى غيره فيكون قد خسر ذلك المنزل.
قوله تعالى
* (وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم * إذ قال موسى لاهله إنى آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون * فلما جآءها نودى أن بورك من فى النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين * يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم) *.
أما قوله: * (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) * فمعناه لتؤتاه (وتلقاه) من عند أي حكيم وأي عليم، وهذا معنى مجيئهما نكرتين وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص، و (إذ) منصوب بمضمر وهو أذكر كأنه قال على أثر ذلك خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى، ويجوز أن ينتصب بعليم فإن قيل الحكمة أما أن تكون نفس العلم، والعلم إما أن يكون
180

داخلا فيها، فلما ذكر الحكمة فلم ذكر العلم؟ جوابه: الحكمة هي العلم بالأمور العملية فقط والعلم أعم منه، لأن العلم قد يكون عمليا وقد يكون نظريا والعلوم النظرية أشرف من العلوم العملية، فذكر الحكمة المشتملة على العلوم العملية، ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم وكمال العلم يحصل من جهات ثلاثة وحدته وعموم تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصونا عن كل التغيرات، وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه سبحانه وتعالى.
واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة أنواعا من القصص. القصة الأولى - قصة موسى عليه الصلاة والسلام أما قوله: * (إذ قال موسى لأهله) * فيدل على أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته ابنة شعيب عليه السلام، وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله * (امكثوا) * (القصص: 29).
أما قوله: * (إني آنست نارا) * فالمعنى أنهما كانا يسيران ليلا، وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء فلذلك بشرها فقال: * (إني آنست نارا) * وقد اختلفوا فقال بعضهم المراد أبصرت ورأيت، وقال آخرون بل المراد صادفت ووجدت فآنست به، والأول أقرب، لأنهم لا يفرقون بين قول القائل آنست ببصري ورأيت ببصري.
أما قوله: * (سآتيكم منها بخبر) * فالخبر ما يخبر به عن حال الطريق لأنه كان قد ضل، ثم في الكلام حذف وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها وقال: * (سآتيكم منها بخبر) * يعرف به الطريق.
أما قوله: * (أو آتيكم بشهاب قبس) * فالشهاب الشعلة والقبس النار المقبوسة. وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبسا وغير قبس ومن قرأ بالتنوين جعل القبس بدلا أو صفة لما فيه من معنى القبس ثم ههنا أسئلة:
السؤال الأول: * (سآتيكم منها بخبر) * و * (لعلي آتيكم منها بخبر) * (القصص: 29) كالمتدافعين لأن أحدهما ترج والآخر تيقن؟ نقول جوابه: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة.
السؤال الثاني: كيف جاء بسين التسويف؟ جوابه: عدة منه لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ أو كانت المسافة بعيدة.
السؤال الثالث: لماذا أدخل (أو) بين الأمرين وهلا جمع بينهما لحاجته إليهما معا؟ جوابه: بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين ظفر بأحدهما، إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار ثقة بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده.
181

وأما قوله تعالى: * (لعلكم تصطلون) * فالمعنى لكي تصطلون وذلك يدل على حاجة بهم إلى الاصطلاء وحينئذ لا يكون ذلك إلا في حال برد.
أما قوله تعالى: * (نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: * (أن) * أن هي المفسرة لأن النداء فيه معنى القول، والمعنى قيل له بورك.
البحث الثاني: اختلفوا فيمن في النار على وجوه: أحدها: * (أن بورك) * بمعنى تبارك والنار بمعنى النور والمعنى تبارك من في النور، وذلك هو الله سبحانه * (ومن حولها) * يعني الملائكة وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وإن كنا نقطع بأن هذه الرواية موضوعة مختلفة وثانيها: * (من في النار) * هو نور الله، * (ومن حولها) * الملائكة، وهو مروي عن قتادة والزجاج وثالثها: أن الله تعالى ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة فكانت الشجرة محلا للكلام، والله هو المكلم له بأن فعله فيه دون الشجرة. ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها ملائكة فلذلك قال: * (بورك من في النار ومن حولها) * وهو قول الجبائي ورابعها
: * (من في النار) * هو موسى عليه السلام لقربه منها * (من حولها) * يعني الملائكة، وهذا أقرب لأن القريب من الشيء قد يقال إنه فيه وخامسها: قول صاحب " الكشاف ": * (بورك من في النار) * أي من في مكان النار ومن حول مكانها هي البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: * (من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة) * (القصص: 30) ويدل عليه قراءة أبي (تباركت الأرض ومن حولها) وعنه أيضا (بوركت النار).
البحث الثالث: السبب الذي لأجله بوركت البقعة، وبورك من فيها وحواليها حدوث هذا الأمر العظيم فيها وهو تكليم الله موسى عليه السلام وجعله رسولا وإظهار المعجزات عليه ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله: * (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) * (الأنبياء: 71) وحقت أن تكون كذلك فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي وكفاتهم أحياء وأمواتا.
البحث الرابع: أنه سبحانه جعل هذا القول مقدمة لمناجاة موسى عليه السلام فقوله: * (بورك من في النار ومن حولها) * يدل على أنه قد قضى أمر عظيم تنتشر البركة منه في أرض الشام كلها. وقوله: * (وسبحان الله رب العالمين) * فيه فائدتان: إحداهما: أنه سبحانه نزه نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام الثانية: أن يكون ذلك إيذانا بأن ذلك الأمر مريده ومكونه رب العالمين تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الوقائع.
أما قوله: * (إنه أنا الله العزيز الحكيم) * فقال صاحب " الكشاف " الهاء في (إنه) يجوز أن يكون ضمير الشأن و * (أنا الله) * مبتدأ وخبر، و * (العزيز الحكيم) * صفتان للخبر، وأن يكون راجعا إلى ما دل عليه ما قبله يعني أن مكلمك أنا والله بيان لأنا والعزيز الحكيم صفتان (للتعيين) وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية، الفاعل (كل) ما أفعله بحكمة وتدبير. فإن قيل هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى، فكيف علم موسى
182

عليه السلام أنه من الله؟ جوابه: لأهل السنة فيه طريقان: الأول: أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات فعلم بالضرورة أنه صفة الله تعالى الثاني: قول أئمة ما وراء النهر وهو أنه عليه السلام سمع الصوت من الشجرة فنقول إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور: أحدها: أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة علم أنه من قبل الله تعالى لأن أحدا منا لا يقدر عليه وهو ضعف لاحتمال أن يقال الشيطان دخل في النار والشجرة ثم نادى وثانيها: يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغا لا يكون إلا معجزا، وهو أيضا ضعيف لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم وثالثها: أنه قد اقترن به معجز دل على ذلك، فقيل إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق فصار ذلك كالمعجز، وهذا هو الأصح والله أعلم.
قوله تعالى
* (وألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إنى لا يخاف لدى المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم * وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء فى تسع ءايات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما جآءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) *.
اعلم أن أكثر ما في هذا الآيات قدر مر شرحه، ولنذكر ما هو من خواص هذا الموضع: يقال علام عطف قوله: * (وألق عصاك) *؟ جوابه: على * (بورك من في النار) * (النمل: 8) (وأن ألق عصاك، كلاهما تفسير لنودي).
183

أما قوله: * (كأنها جان) * فالجان الحية الصغيرة، سميت جانا، لأنها تستتر عن الناس، وقرأ الحسن * (جان) * على لغة من يهرب من التقاء الساكنين، فيقول شأبة ودأبة. أما قوله: * (ولم يعقب) * معناه لم يرجع، يقال عقب المقاتل إذا (مر) بعد الفرار، وإنما خاف لظنه أن ذلك لأمر أريد به، ويدل عليه * (إني لا يخاف لدي المرسلون) * وقال بعضهم: المراد إني إذا أمرتهم بإظهار معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة.
أما قوله تعالى: * (إلا من ظلم) * معناه لكن من ظلم وهو محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل أو الصغيرة، ويحتمل أن يكون المقصود منه التعريض بما وجد من موسى وهو من التعريضات اللطيفة. قال الحسن رحمه الله: كان والله موسى ممن ظلم بقتل القبطي ثم بدل، فإنه عليه السلام قال: * (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) * (القصص: 16) وقرئ (ألا من ظلم) بحرف التنبيه.
أما قوله تعالى: * (ثم بدل حسنا بعد سوء) * فالمراد حسن التوبة وسوء الذنب، وعن أبي بكر في رواية عاصم (حسنا). أما قوله: * (في تسع آيات) * فهو كلام مستأنف، وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف، والمعنى اذهب في تسع آيات إلى فرعون، ولقائل أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة، اثنتان منها اليد والعصا، والتسع: الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم.
أما قوله: * (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) * فقد جعل الإبصار لها، وهو في الحقيقة لمتأملها، وذلك بسبب نظرهم وتفكرهم فيها، أو جعلت كأنها لظهورها تبصر فتهتدي، وقرأ علي بن الحسين وقتادة * (مبصرة) * وهو نحو مجبنة ومبخلة، أي مكانا يكثر فيه التبصر.
أما قوله: * (واستيقنتها أنفسهم) * فالواو فيها واو الحال، وقد بعدها مضمرة وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم، والاستيقان أبلغ من الإيقان.
أما قوله: * (ظلما وعلوا) * فأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله تعالى، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا. وأما العلو فهو التكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى كقوله: * (فاستكبروا وكانوا قوما عالين) * (المؤمنون: 46) وقرئ (عليا) و (عليا) بالضم والكسر، كما قرىء (عتيا) * (عتيا) *
(مريم: 8، 69) والله أعلم.
القصة الثانية - قصة داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام
قوله تعالى
* (ولقد ءاتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين * وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء إن هذا
184

لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون * حتى إذآ أتوا على وادى النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين) *.
أما قوله تعالى: * (علما) * فالمراد طائفة من العلم أو علما سنيا (عزيزا)، فإن قيل أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك أعطيته فشكر (ومنعته) (1) فصبر؟ جوابه: أن الشكر باللسان إنما يحسن موقعه إذا كان مسبوقا بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية، وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات، ولما كان الشكر باللسان يجب كونه مسبوقا بهما فلا جرم صار كأنه قال: ولقد آتيناهما علما، فعملا به قلبا وقالبا، وقالا باللسان الحمد لله الذي فعل كذا وكذا.
وأما قوله تعالى: * (الحمد الله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) * ففيها أبحاث:
أحدها: أن الكثير المفضل عليه هو من لم يؤت علما أو من لم يؤت مثل علمهما، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وثانيها: في الآية دليل على علو مرتبة العلم لأنهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم وثالثها: أنهم لم يفضلوا أنفسهم على الكل وذلك يدل على حسن التواضع ورابعها: أن الظاهر يقتضي أن تلك الفضيلة ليست إلا ذلك العلم، ثم العلم بالله وبصفاته أشرف من غيره، فوجب أن يكون هذا الشكر ليس إلا على هذا العلم، ثم إن هذا العلم حاصل لجميع المؤمنين فيستحيل أن يكون ذلك سببا لفضيلتهم على المؤمنين فإذن الفضيلة هو أن يصير العلم بالله وبصفاته جليا بحيث يصير المرء مستغرقا
185

فيه بحيث لا يخطر بباله شيء من الشبهات ولا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان ولا ساعة من الساعات.
أما قوله تعالى: * (وورث سليمان داود) * فقد اختلفوا فيه، فقال الحسن المال لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث، وقال غيره بل النبوة، وقال آخرون بل الملك والسياسة، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضا عطية مبتدأة من الله تعالى، ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمنا ولا يرث إذا كان كافرا أو قاتلا، لكن الله تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط، وليس كذلك النبوة لأن الموت لا يكون سببا لنبوة الولد فمن هذا الوجه يفترقان، وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته، كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته ومما يبين ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال وورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله: * (وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير) * معنى، وإذا قلنا وورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك لأن تعليم منطق الطير يكون داخلا في جملة ما ورثه، وكذلك قوله تعالى: * (وأوتينا من كل شيء) * لأن وارث الملك يجمع ذلك ووارث المال لا يجمعه وقوله: * (إن هذا لهو الفضل المبين) * لا يليق أيضا إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل والناقص، وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلا بما ذكرناه، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال، فأما إذا قيل ورث المال والملك معا فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها، بل بظاهر قوله عليه السلام: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ".
فأما قوله: * (يا أيها الناس) * فالمقصود منه تشهير نعمة الله تعالى والتنويه بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، قال صاحب " الكشاف " المنطق كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، وقد ترجم يعقوب كتابه " بإصلاح المنطق " وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم، وقالت العرب نطقت الحمامة (وكل صنف من) الطير يتفاهم أصواته فالذي علم سليمان عليه السلام من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من مقاصده وأغراضه.
أما قوله تعالى: * (وأوتينا من كل شيء) * فالمراد كثرة ما أوتي وذلك لأن الكل والبعض الكثير يشتركان في صفة الكثرة، والمشاركة سبب لجواز الاستعارة فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثير ومثله قوله: * (وأوتيت من كل شيء) * (النمل: 23).
أما قوله: * (إن هذا لهو الفضل المبين) * فهو تقرير لقوله: * (الحمد لله الذي فضلنا) * والمقصود منه الشكر والمحمدة كما قال عليه السلام: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " فإن قيل كيف قال: * (علمنا... وأوتينا) * وهو من كلام المتكبرين؟ جوابه من وجهين: الأول: أن يريد نفسه وأباه والثاني: أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكا مطاعا، وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح فيصير ذلك التعظيم واجبا.
186

وأما قوله: * (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير) * فالحشر هو الإحضار والجمع من الأماكن المختلفة، والمعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده ولا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده، ولا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف، أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف فلذلك قلنا إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل، وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل وغيره.
وأما قوله تعالى: * (فهم يوزعون) * معناه يحبسون وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع، ويكون له تسلط على من يرده ويكفه ويصرفه، فالظاهر يشهد بهذا القدر والذي جاء في الخبر من أنهم كانوا يمنعون من يتقدم ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب فغير ممتنع.
أما قوله تعالى: * (حتى إذا أتوا على وادي النمل) * فقيل هو واد بالشام كثير النمل، ويقال لم عدي * (أتوا) * بعلى؟ فجوابه من وجهين: الأول: أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء والثاني: أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا (أنفذه و) بلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، وقرئ * (نملة يا أيها النمل) * بضم الميم وبضم النون والميم وكان الأصل النمل بوزن الرجل والنمل الذي عليه الاستعمال تخفيف عنه (كقولهم السبع في السبع) (1).
أما قوله تعالى: * (قالت نملة) * فالمعنى أنها تكلمت بذلك وهذا غير مستبعد، فإن الله تعالى قادر على أن يخلق فيها العقل والنطق. وعن قتادة: أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضرا وهو غلام حدث فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه كانت أنثى فقيل له من أين عرفت؟ فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله: * (قالت نملة) * ولو كان ذكرا لقال (قال نملة)، وذلك لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي.
أما قوله تعالى: * (ادخلوا مساكنكم) * فاعلم أن النملة لما قاربت حد العقل، لا جرم ذكرت بما يذكر به العقلاء فلذلك قال تعالى: * (أدخلوا مساكنكم) * فإن قلت * (لا يحطمنكم) * ما هو؟ قلت يحتمل أن يكون جوابا للأمر وأن يكون نهيا بدلا من الأمر، والمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة: لا أرينك ههنا. وفي هذه الآية تنبيه على أمور: أحدها: أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز، وإنما يلزم من في الطريق التحرز وثانيها: أن النملة قالت: * (وهم لا يشعرون) * كأنها عرفت أن النبي معصوم فلا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو، وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء عليهم السلام وثالثها: ما رأيت في بعض الكتب أن تلك النملة إنما أمرت غيرها بالدخول لأنها خافت على قومها أنها إذا رأت سليمان في جلالته، فربما وقعت في كفران نعمة الله تعالى وهذا هو المراد بقوله: * (لا يحطمنكم
187

سليمان) * فأمرتها بالدخول في مساكنها لئلا ترى تلك النعم فلا تقع في كفران نعمة الله تعالى، وهذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة ورابعها: قرىء (مسكنكم) و (لا يحطمنكم) بتخفيف النون، وقرئ (لا يحطمنكم) بفتح الطاء وكسرها وأصلها يحطمنكم.
أما قوله تعالى: * (فتبسم ضاحكا من قولها) * يعني تبسم شارعا في الضحك (وآخذا فيه)، بمعنى أنه قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك، وإنما ضحك لأمرين: أحدهما: إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده (وشفقتهم) وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى، وذلك قولها: * (وهم لا يشعرون) * والثاني: سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا من سماعه لكلام النملة وإحاطته بمعناه.
أما قوله تعالى: * (رب أوزعني) * فقال صاحب " الكشاف ": حقيقة أوزعني: اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأكفه عن أن ينقلب عني، حتى أكون شاكرا لك أبدا، وهذا يدل على مذهبنا فإن عند المعتزلة كل ما أمكن فعله من الألطاف فقد صارت مفعولة وطلب تحصيل الحاصل عبث.
وأما قوله تعالى: * (وعلى والدي) * فذلك لأنه عد نعم الله تعالى على والديه نعمة عليه. ومعنى قوله: * (وأن أعمل صالحا ترضاه) * طلب الإعانة في الشكر وفي العمل الصالح، ثم قال: * (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) * فلما طلب في الدنيا الإعانة على الخيرات طلب أن يجعل في الآخرة من الصالحين، وقوله: * (برحمتك) * يدل على أن دخول الجنة برحمته وفضله لا باستحقاق من جانب العبد واعلم أن سليمان عليه السلام طلب ما يكون وسيلة إلى ثواب الآخرة أولا ثم طلب ثواب الآخرة ثانيا، أما وسيلة الثواب فهي أمران: أحدهما: شكر النعمة السالفة والثاني: الاشتغال بسائر أنواع الخدمة، أما الاشتغال بشكر النعمة السالفة، فهي قوله تعالى: * (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي) * ولما كان الإنعام على الآباء إنعاما على الأبناء لأن انتساب الابن إلى أب شريف نعمة من الله تعالى على الابن، لا جرم اشتغل بشكر نعم الله على الآباء بقوله: * (وعلى والدي) * وأما الاشتغال بسائر أنواع الخدمة، فقوله: * (وأن أعمل صالحا ترضاه) * وأما طلب ثواب الآخرة فقوله: * (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) * فإن قيل درجات الأنبياء أعظم من درجات الأولياء والصالحين، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين فقال يوسف: * (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) * وقال سليمان: * (أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) *؟ جوابه: الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغآئبين * لأعذبنه عذابا
188

شديدا أو لاذبحنه أو ليأتينى بسلطان مبين * فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شىء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون) *.
اعلم أن سليمان عليه السلام لما تفقد الطير أوهم ذلك أنه إنما تفقده لأمر يختص به ذلك الطير، واختلفوا فيما لأجله تفقده على وجوه: أحدها: قول وهب أنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها فلذلك تفقده وثانيها: أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه، وكان يعرف الفصل بين قريبه وبعيده، فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه وتفقده وثالثها: أنه كان يظله من الشمس، فلما فقد ذلك تفقده.
أما قوله: * (فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) * فأم هي المنقطعة نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال ما لي لا أراه، على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، ومثله قولهم: إنها لإبل أم شاء.
أما قوله: * (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) * فهذا لا يجوز أن يقوله إلا فيمن هو مكلف أو فيمن قارب العقل فيصلح لأن يؤدب، ثم اختلفوا في قوله: * (لأعذبنه) * فقال ابن عباس إنه نتف الريش والإلقاء في الشمس، وقيل أن يطلى بالقطران ويشمس، وقيل أن يلقى للنمل فتأكله، وقيل إيداعه القفص، وقيل التفريق بينه وبين إلفه، وقيل لألزمنه صحبة الأضداد، وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد، وقيل لألزمنه خدمة أقرانه.
أما قوله: * (فمكث) * فقد قرىء بفتح الكاف وضمها * (غير بعيد) * (غير زمان بعيد) كقولك عن قريب،
189

ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان وليعلم كيف كان الطير مسخرا له.
أما قوله: * (أحطت بما لم تحط به) * ففيه تنبيه لسليمان على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به، فيكون ذلك لطفا في ترك الإعجاب والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته.
أما قوله: * (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) * فاعلم أن سبأ قرىء بالصرف ومنعه، وقد روي بسكون الباء، وعن ابن كثير في رواية سبا بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسما للحي أو للأب الأكبر صرف، ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، والنبأ الخبر الذي له شأن.
وقوله: * (من سبأ بنبأ) * من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ وشرط حسنه صحة المعنى، ولقد جاء ههنا زائدا على الصحة فحسن لفظا ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان (بنبأ) بخبر لكان المعنى صحيحا، ولكن لفظ النبأ أولى لما فيه من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
أما قوله: * (إني وجدت امرأة تملكهم) * فالمرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس، والضمير في تملكهم راجع إلى سبأ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريدت المدين فمعناه تملك أهلها.
وأما قوله: * (وأوتيت من كل شيء) * ففيه سؤال وهو أنه كيف قال: * (وأوتيت من كل شيء) * مع قول سليمان * (وأوتينا من كل شيء) * (النمل: 16) فكأن الهدهد سوى بينهما جوابه: أن قول سليمان عليه السلام يرجع إلى ما أوتي من النبوة والحكمة، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وأما قول الهدهد فلم يكن إلا إلى ما يتعلق بالدنيا.
وأما قوله: * (ولها عرش عظيم) * ففيه سؤال، وهو أنه كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ وأيضا فكيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الله تعالى في الوصف بالعظيم؟ والجواب عن الأول: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مع جلالته مثله كما قد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله عند السلطان، وعن الثاني: أن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض، واعلم أن ههنا بحثين:
البحث الأول: أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجوه: أحدها: أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء وذلك يجر إلى السفسطة، فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا، أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس، وبالنحو من سيبويه، وكذا القول في القملة والصئبان، ويجوز أن يكون فيهم
190

الأنبياء والتكاليف والمعجزات، ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب وثانيها: أن سليمان عليه السلام كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ثم رجع إليه؟ وثالثها: كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان، وإنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية وكان تحت راية بلقيس على ما يقال اثنا عشر ألف ملك تحت راية كل واحد منهم مائة ألف، ومع أنه يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ورابعها: من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ والجواب عن الأول: أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل، وإنما يدفع ذلك بالإجماع، وعن البواقي أن الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك.
البحث الثاني: قالت المعتزلة قوله: * (يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم) * يدل على أن فعل العبد من جهته لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ولأنه أورده مورد الذم ولأنه بين أنهم لا يهتدون والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا قول الهدهد فلا يكون حجة وثانيها: أنه متروك الظاهر، فإنه قال: * (فصدهم عن السبيل) * وعندهم الشيطان ما صد الكافر عن السبيل إذ لو كان مصدودا ممنوعا لسقط عنه التكليف، فلم يبق ههنا إلا التمسك بفصل المدح والذم والجواب: قد تقدم عنه مرارا فلا فائدة في الإعادة والله أعلم.
قوله تعالى
* (ألا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء فى السماوات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم * قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابى هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن في قوله تعالى: * (ألا يسجدوا) * قراءات أحدها قراءة من قرأ بالتخفيف (ألا) للتنبيه ويا حرف النداء ومناداه محذوف، كما حذفه من قال: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى * (ولا زال منهلا بجرعائك القطر)
191

وثانيها: بالتشديد أراد فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا، فحذف الجار مع أن ويجوز أن تكون لا مزيدة، ويكون المعنى فهم لا يهتدون (إلا) أن يسجدوا وثالثها: وهي حرف عبد الله و (هي) قراءة الأعمش هلا بقلب الهمزة هاء، وعن عبد الله هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب ورابعها: قراءة أبي * (ألا يسجدون لله الذي يخرج الخبء (في السماوات) والأرض ويعلم سركم وما تعلنون) *.
المسألة الثانية: قال أهل التحقيق قوله: * (ألا يسجدوا) * يجب أن يكون بمعنى الأمر لأنه لو كان بمعنى المنع من السجدة لم يكن لوصفه تعالى بما يوجب أن يكون السجود له وهو كونه قادرا على إخراج الخبء عالما بالأسرار معنى.
المسألة الثالثة: الآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم، أما القدرة فقوله: * (يخرج الخبء في السماوات والأرض) * وسمي المخبوء بالمصدر، وهو يتناول جميع أنواع الأرزاق والأموال وإخراجه من السماء بالغيث، ومن الأرض بالنبات. وأما العلم فقوله: * (ويعلم ما تخفون وما تعلنون) *. واعلم أن المقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وتحرير الدلالة هكذا: الإله يجب أن يكون قادرا على إخراج الخبء وعالما بالخفيات، والشمس ليست كذلك فهي لا تكون إلها وإذا لم تكن إلها لم يجز السجود لها، أما أنه سبحانه وتعالى يجب أن يكون قادرا عالما على الوجه المذكور، فلما أنه واجب لذاته فلا تختص قادريته وعالميته ببعض المقدورات والمعلومات دون البعض، وأما أن الشمس ليست كذلك فلأنها جسم متناه، وكل ما كان متناهيا في الذات كان متناهيا في الصفات، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يعلم كونها قادرة على إخراج الخبء عالمة بالخفيات، فإذا لم يعلم من حالها ذلك لم يعلم من حالها كونها قادرة على جلب المنافع ودفع المضار، فرجع حاصل الدلالة إلى ما ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * (مريم: 42) وفي قوله: * (لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض) * وجه آخر وهو أن هذا إشارة إلى ما استدل به إبراهيم عليه السلام في قوله: * (ربي الذي يحيي ويميت) * (البقرة: 258) وفي قوله: * (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * (البقرة: 258) وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخرج الشمس من المشرق بعد أفولها في المغرب فهذا هو إخراج الخبء في السماوات وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) ومن قوله: * (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * ومن قوله موسى عليه السلام: * (رب المشرق والمغرب) * (الشعراء: 28) وحاصله يرجع إلى أن أفول الشمس وطلوعها يدلان على كونها تحت تدبير مدبر قاهر فكانت العبادة لقاهرها والمتصرف فيها أولى، وأما إخراج الخبء من الأرض فهو يتناول إخراج النطفة من الصلب والترائب وتكوين الجنين منه، فإن قيل إن إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق فإن إبراهيم قال: * (ربي الذي يحيي ويميت) * ثم قال: * (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق) * وموسى عليه السلام قال: * (ربكم ورب آبائكم
192

الأولين) * (الشعراء: 26) ثم قال: * (رب المشرق والمغرب) * فلم كان الأمر ههنا بالعكس فقدم خبء السماوات على خبء الأرض؟ جوابه: أن إبراهيم وموسى عليهما السلام ناظرا مع من ادعى إلهية البشر، فلا جرم ابتدأ بإبطال إلهية البشر ثم انتقلا إلى إبطال إلهية السماوات، وههنا المناظرة مع من ادعى إلهية الشمس لقوله: * (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) * فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات ثم بالأرضيات.
أما قوله: * (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) * فالمراد منه أنه سبحانه لما بين افتقار السماوات والأرض وما بينهما إلى المدبر ذكر بعد ذلك أن ما هو أعظم الأجسام فهي مخلوقة ومربوبة وذلك يدل على أنه سبحانه هو المنتهى في القدرة والربوبية إلى ما لا يزيد عليه والله أعلم.
المسألة الرابعة: قيل من * (أحطت) * إلى * (العظيم) * كلام الهدهد وقيل كلام رب العزة.
المسألة الخامسة: الحق أن سجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا وهو قول الشافعي وأبي حنيفة رحمة الله عليهما لأنهم أجمعوا على أن سجدات القرآن أربع عشرة سجدة، وهذا واحد منها ولأن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك فثبت أن الذي ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد غير ملتفت إليه.
المسألة السادسة: يقال هل يفرق الواقف بين القراءتين؟ جوابه: نعم إذا خفف وقف على * (فهم لا يهتدون) * (النمل: 24) ثم ابتدأ بألا يسجدوا وإن شاء وقف على ألا يا ثم ابتدأ اسجدوا وإذا شدد لم يقف إلا على (العرش العظيم).
أما قوله: * (سننظر) * فمن النظر الذي هو التأمل، وأراد صدقت أم كذبت إلا أن * (أم كنت من الكاذبين) * أبلغ، لأنه إذا كان معروفا بالكذب كان متهما بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به، وإنما قال: * (فألقه إليهم) * على لفظ الجمع لأنه قال: * (وجدتها وقومها يسجدون للشمس) * (النمل: 24) فقال: * (فألقه إليهم) * أي إلى الذين هذا دينهم.
أما قوله: * (ثم تول عنهم) * أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك و * (يرجعون) * من قوله تعالى: * (يرجع بعضهم إلى بعض القول) * (سبأ: 30) ويقال دخل عليها من كوة وألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة.
قوله تعالى
* (قالت ياأيها الملأ إنى ألقى إلى كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن
193

الرحيم * ألا تعلوا على وأتونى مسلمين * قالت يا أيها الملا أفتونى فى أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد والامر إليك فانظرى ماذا تأمرين) *.
اعلم أن قوله: * (قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم) * بمعنى أن يقال إن الهدهد ألقى إليها الكتاب فهو محذوف كأنه ثابت، روي أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية، وقيل نقرها فانتبهت فزعة.
أما قوله: * (كتاب كريم) * ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: حسن مضمونه وما فيه وثانيها: وصفته بالكريم لأنه من عند ملك كريم وثالثها: أن الكتاب كان مختوما وقال عليه السلام: " كرم الكتاب ختمه " وكان عليه السلام " يكتب إلى العجم، فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم فاتخذ لنفسه خاتما ".
أما قوله: * (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: أنه استئناف وتبيين لما ألقى إليها كأنها لما قالت إني ألقي إلي كتاب كريم قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه من سليمان وإنه كيت وكيت، وقرأ عبد الله * (إنه من سليمان وإنه بسم الله) * عطفا على * (إني) * وقرئ * (أنه من سليمان وأنه) * بالفتح وفيه وجهان: أحدهما: أنه بدل من كتاب كأنه قيل ألقي إلي أنه من سليمان وثانيهما: أن يريد أن من سليمان ولأنه بسم الله كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله وقرأ أبي (أن من سليمان وأن بسم الله) على أن المفسرة، وأن في (ألا تعلوا) مفسرة أيضا ومعنى لا تعلوا لا تتكبروا كما تفعل الملوك، وقرأ ابن عباس بالغين معجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد.
البحث الثاني: يقال لما قدم سليمان اسمه على قوله: * (بسم الله الرحمن الرحيم) *؟ جوابه: حاشاه من ذلك بل ابتدأ هو ببسم الله الرحمن الرحيم، وإنما ذكرت بلقيس أن هذا الكتاب من سليمان ثم حكت ما في الكتاب والله تعالى حكى ذلك فالتقديم واقع في الحكاية.
البحث الثالث: أن الأنبياء عليهم السلام لا يطيلون بل يقتصرون على المقصود، وهذا الكتاب مشتمل على تمام المقصود، وذلك لأن المطلوب من الخلق، إما العلم أو العمل والعلم مقدم على العمل فقوله: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * مشتمل على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وإثبات كونه عالما قادرا حيا مريدا حكيما رحيما.
194

وأما قوله: * (ألا تعلوا علي) * فهو نهي عن الانقياد لطاعة النفس والهوى والتكبر.
وأما قوله: * (وأتوني مسلمين) * فالمراد من المسلم إما المنقاد أو المؤمن، فثبت أن هذا الكتاب على وجازته يحوي كل ما لا بد منه في الدين والدنيا، فإن قيل النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولا حقا يدل على الاكتفاء بالتقليد جوابه: معاذ الله أن يكون هناك تقليد وذلك لأن رسول سليمان إلى بلقيس كان الهدهد ورسالة الهدهد معجز، والمعجز يدل على وجود الصانع وعلى صفاته ويدل على صدق المدعي فلما كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة لا جرم لم يذكر في الكتاب دليلا آخر.
أما قوله: * (يا أيها الملأ أفتوني في أمري) * فالفتوى هي الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن أي أجيبوني في الأمر الفتى، وقصدت بالانقطاع إليهم واستطلاع رأيهم تطييب قلوبهم * (ما كنت قاطعة أمرا أي لا أبت أمرا) * إلا بمحضركم.
أما قوله: * (قالوا نحن أولو قوة) * فالمراد قوة الأجسام وقوة الآلات (والعدد) والمراد بالبأس النجدة (والثبات) في الحرب، وحاصل الجواب أن القوم ذكروا أمرين: أحدهما: إظهار القوة الذاتية والعرضية ليظهر أنها إن أرادتهم للدفع والحرب وجدتهم بحيث تريد، والآخر قولهم: * (والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين) * وفي ذلك إظهار الطاعة لها إن أرادت السلم، ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا والله أعلم.
قوله تعالى
* (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة وكذلك يفعلون * وإنى مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جآء سليمان قال أتمدونن بمال فمآ ءاتانى الله خير ممآ ءاتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منهآ أذلة وهم صاغرون) *.
195

اعلم أنها لما عرضت الواقعة على أكابر قومها وقالوا ما تقدم أظهرت رأيها، وهو أن الملوك إذا دخلوا قرية بالقهر أفسدوها، أي خربوها وأذلوا أعزتها، فذكرت لهم عاقبة الحرب.
وأما قوله: * (وكذلك يفعلون) * فقد اختلفوا أهو من كلامها أو من كلام الله تعالى كالتصويب لها والأقرب أنه من كلامها، وأنها ذكرته تأكيدا لما وصفته من حال الملوك. أما الكلام في صفة الهدية فالناس أكثروا فيها لكن لا ذكر لها في الكتاب وقولها: * (فناظرة بم يرجع المرسلون) * فيه دلالة على أنها لم تثق بالقبول وجوزت الرد، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان، ولما وصلت الهدايا إلى سليمان عليه السلام ذكر أمرين: الأول: قوله: * (أتمدونن بمال) * فأظهر بهذا الكلام قلة الاكتراث بذلك المال.
أما قوله: * (بل أنتم بهديتكم تفرحون) * ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الهدية اسم للمهدي، كما أن العطية اسم للمعطي، فتضاف إلى المهدي وإلى المهدى إليه، والمضاف إليه ههنا هو المهدى إليه، والمعنى أن الله تعالى آتاني الدين الذي هو السعادة القصوى، وآتاني من الدنيا ما لا مزيد عليه، فكيف يستمال مثلي بمثل هذه الهدية، بل أنتم تفرحون بما يهدى إليكم، لكن حالي خلاف حالكم وثانيها: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثلها وثالثها: كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها الثاني: قوله: * (ارجع إليهم) * فقيل ارجع خطاب للرسول، وقيل للهدهد محملا كتابا آخر.
أما قوله تعالى: * (لا قبل) * أي لا طاقة، وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة، أي لا يقدرون أن يقابلوهم. وقرأ ابن مسعود: (لا قبل لهم بهم)، والضمير في (منها) لسبأ، والذل أن يذهب عنهم ما كان عندهم من العز والملك، والصغار أن يقعوا في أسر واستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا.
قوله تعالى
* (قال يا أيها الملا أيكم يأتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين * قال عفريت من الجن أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنى عليه لقوى أمين * قال الذى عنده علم من الكتاب
196

أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رءاه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربى ليبلونى أءشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم) *.
اعلم أن في قوله تعالى: * (قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها) * دلالة على أنها عزمت على اللحوق بسليمان، ودلالة على أن أمر ذلك العرش كان مشهورا، فأحب أن يحصل عنده قبل حضورها، واختلفوا في غرض سليمان عليه السلام من إحضار ذلك العرض على وجوه: أحدها: أن المراد أن يكون ذلك دلالة لبلقيس على قدرة الله تعالى وعلى نبوة سليمان عليه السلام، حتى تنضم هذه الدلالة إلى سائر الدلائل التي سلفت وثانيها: أراد أن يؤتى بذلك العرش فيغير وينكر، ثم يعرض عليها حتى أنها هل تعرفه أو تنكره، والمقصود اختبار عقلها، وقوله تعالى: * (قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي) * (النمل: 41) كالدلالة على ذلك وثالثها: قال قتادة: أراد أن يأخذه قبل إسلامها، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها ورابعها: أن العرش سرير المملكة، فأراد أن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه.
أما قوله: * (قال عفريت من الجن) * فالعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين الخبيث المارد.
أما قوله: * (قبل أن تقوم من مقامك) * فالمعنى من مجلسك، ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت، فقيل المراد مجلس الحكم بين الناس، وقيل الوقت الذي يخطب فيه الناس، وقيل إلى انتصاف النهار.
وأما قوله: * (لقوي) * أي على حمله * (أمين) * آتي به كما هو لا أختزل منه شيئا.
أما قوله: * (قال الذي عنده علم من الكتاب) * ففيه بحثان:
الأول: اختلفوا في ذلك الشخص على قولين: قيل كان من الملائكة، وقيل كان من الإنس، فمن قال بالأول اختلفوا، قيل هو جبريل عليه السلام، وقيل هو ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، ومن قال بالثاني اختلفوا على وجوه: أحدها: قول ابن مسعود: إنه الخضر عليه السلام وثانيها: وهو المشهور من قول ابن عباس: إنه آصف بن برخيا وزير سليمان، وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم إذا دعا به أجيب وثالثها: قول قتادة: رجل من الإنس كان يعلم اسم الله الأعظم ورابعها: قول ابن زيد: كان رجلا صالحا في جزيرة في البحر، خرج ذلك اليوم ينظر إلى سليمان وخامسها: بل هو سليمان نفسه والمخاطب هو العفريت الذي كلمه، وأراد سليمان عليه السلام إظهار معجزة فتحداهم أولا، ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت، وهذا القول أقرب لوجوه: أحدها: أن لفظة (الذي) موضوعة في
197

اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفه بقصة معلومة والشخص المعروف بأنه عنده علم الكتاب هو سليمان عليه السلام، فوجب انصرافه إليه، أقصى ما في الباب أن يقال، كان آصف كذلك أيضا لكنا نقول إن سليمان عليه السلام، كان أعرف بالكتاب منه لأنه هو النبي، فكان صرف هذا اللفظ إلى سليمان عليه السلام أولى الثاني: أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية، فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك تفضيل آصف على سليمان عليه السلام، وأنه غير جائز الثالث: أن سليمان عليه السلام، لو افتقر في ذلك إلى آصف لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق الرابع: أن سليمان قال: * (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) * وظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.
البحث الثاني: اختلفوا في الكتاب، فقيل اللوم المحفوظ، والذي عنده علم منه جبريل عليه السلام. وقيل كتاب سليمان، أو كتاب بعض الأنبياء، ومعلوم في الجملة أن ذلك مدح، وأن لهذا الوصف تأثيرا في نقل ذلك العرش، فلذلك قالوا إنه الاسم الأعظم وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات.
أما قوله تعالى: * (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) * ففيه بحثان:
الأول: (آتيك) في الموضعين، يجوز أن يكون فعلا واسم فاعل.
الثاني: اختلفوا في قوله: * (قبل أن يرتد إليك طرفك) * على وجهين: الأول: أنه أراد المبالغة في السرعة، كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة، وهذا قول مجاهد الثاني: أن نجريه على ظاهره، والطرف تحريك الأجفان عند النظر، فإذا فتحت الجفن فقد يتوهم أن نور العين امتد إلى المرئي، وإذا أغمضت الجفن فقد يتوهم أن ذلك النور ارتد إلى العين، فهذا هو المراد من ارتداد الطرف وههنا سؤال: وهو أنه كيف يجوز والمسافة بعيدة أن ينقل العرش في هذا القدر من الزمان، وهذا يقتضي إما القول بالطفرة أو حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في مكانين جوابه: أن المهندسين قالوا كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة، ثم إن زمان طلوعها زمان قصير فإذا قسمنا زمان طلوع تمام القرص على زمان القدر الذي بين الشام واليمن كانت اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلا إمكان وجود هذه الحركة السريعة، وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال، ثم إنه عليه السلام لما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر والكلام في تفسير الابتلاء قد مر غير مرة، ثم إنه عليه السلام بين أن نفع الشكر عائد إلى الشاكر لا إلى الله تعالى، أما أنه عائد إلى الشاكر فلوجوه: أحدها: أنه يخرج عن عهدة ما وجب عليه من الشكر وثانيها: أنه يستمد به المزيد على ما قال: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * (إبراهيم: 7)، وثالثها: أن المشتغل بالشكر مشتغل باللذات الحسية وفرق ما بينهما كفرق ما بين المنعم والنعمة في الشرف، ثم قال: * (ومن كفر فإن
198

ربي غني كريم) * غني عن شكره لا يضره كفرانه، كريم لا يقطع عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر.
قوله تعالى
* (قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جآءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين) *.
اعلم أن قوله: * (نكروا) * معناه اجعلوا العرش منكرا مغيرا عن شكله كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه، وذلك لأنه لو ترك على ما كان لعرفته لا محالة، وكان لا تدل معرفتها به على ثبات عقلها وإذا غير دلت معرفتها أو توقفها فيه على فضل عقل، ولا يمتنع صحة ما قيل إن سليمان عليه السلام ألقى إليه أن فيها نقصان عقل لكي لا يتزوجها أو لا تحظى عنده على وجه الحسد، فأراد بما ذكرنا اختبار عقلها.
أما قوله: * (ننظر) * فقرئ بالجزم على الجواب وبالرفع على الاستئناف، واختلفوا في * (أتهتدي) * على وجهين: أحدهما: أتعرف أنه عرشها أم لا؟ كما قدمنا الثاني: أتعرف به نبوة سليمان أم لا ولذلك قال: * (أم تكون من الذين لا يهتدون) * وذلك كالذم ولا يليق إلا بطريقة الدلالة، فكأنه عليه السلام أحب أن تنظر فتعرف به نبوته من حيث صار متنقلا من المكان البعيد إلى هناك، وذلك يدل على قدرة الله تعالى وعلى صدق سليمان عليه السلام، ويعرف بذلك أيضا فضل عقلها لأغراض كانت له، فعند ذلك سألها.
أما قوله: * (أهكذا عرشك) * فاعلم أن هكذا ثلاث كلمات، حرف التنبيه وكاف التشبيه واسم الإشارة، ولم يقل أهذا عرشك، ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقينا فقالت: * (كأنه هو) * ولم تقل هو هو ولا ليس به وذلك من كمال عقلها حيث توقفت في محل التوقف.
أما قوله: * (وأوتينا العلم من قبلها) * ففيه سؤالان، وهو أن هذا الكلام كلام من؟ وأيضا فعلى أي شيء عطف هذا الكلام؟ وعنه جوابان: الأول: أنه كلام سليمان وقومه، وذلك لأن بلقيس
199

لما سئلت عن عرشها، ثم إنها أجابت بقولها: * (كأنه هو) * فالظاهر أن سليمان وقومه قالوا إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام، ثم عطفوا على ذلك قولهم وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته قبل علمها ويكون غرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزية التقدم في الإسلام الثاني: أنه من كلام بلقيس موصولا بقولها: * (كأنه هو) * والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة، ثم أن قوله: * (وصدها ما كانت تعبد من دون الله) * إلى آخر الآية يكون من كلام رب العزة.
أما قوله تعالى: * (وصدها ما كانت تعبد من دون الله) * ففيه وجهان: الأول: المراد: وصدها عبادتها لغير الله عن الإيمان الثاني: وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل، وقرئ أنها بالفتح على أنه بدل من فاعل صد وبمعنى لأنها، واحتجت المعتزلة بهذه الآية فقالوا لو كان تعالى خلق الكفر فيها لم يكن الصاد لها كفرها المتقدم ولا كونها من جملة الكفار، بل كان يكون الصاد لها عن الإيمان تجدد خلق الله الكفر فيها والجواب: أما على التأويل الثاني فلا شك في سقوط الاستدلال، وأما على الأول فجوابنا أن كونها من جملة الكفار صار سببا لحصول الداعية المستلزمة للكفر، وحينئذ يبقى ظاهر الآية موافقا لقولنا والله أعلم.
* (قيل لها ادخلى الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إنى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى إقامتها على الكفر مع كل ما تقدم من الدلائل ذكر أن سليمان عليه السلام أظهر من الأمر ما صار داعيا لها إلى الإسلام وهو قوله * (قيل لها ادخلي الصرح) * والصرح القصر كقوله: * (يا هامان ابن لي صرحا) * وقيل صحن الدار، وقرأ ابن كثير عن * (سأقيها) * بالهمز ووجهه أنه سمع سؤقا فأجرى عليه الواحد، والممرد المملس، روي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض كالماء بياضا، ثم أرسل الماء تحته وألقى فيه السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الإنس والجن والطير، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره وتحققا لنبوته، وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي
200

إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية، وقيل خافوا أن يولد له منها ولد فيجتمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد، فقالوا إن في عقلها نقصانا وإنها شعراء الساقين ورجلها كحافر حمار فاختبر سليمان عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها، ومعلوم من حال الزجاج الصافي أنه يكون كالماء فلما أبصرت ذلك ظنته ماءا راكدا فكشفت عن ساقيها لتخوضه، فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما، وهذا على طريقة من يقول تزوجها، وقال آخرون كان المقصود من الصرح تهويل المجلس وتعظيمه، وحصل كشف الساق على سبيل التبع، فلما قيل لها هو صرح ممرد من قوارير استترت، وعجبت من ذلك واستدلت به على التوحيد والنبوة، فقالت: * (رب إني ظلمت نفسي) * فيما تقدم بالثبات على الكفر ثم قالت: * (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) * وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة، فقالت ظلمت نفسي بسوء ظني سليمان، واختلفوا في أنه هل تزوجها أم لا، وأنه تزوجها في هذه الحال أو قبل أن كشفت عن ساقيها، والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته، ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها اختاري من قومك من أزوجك منه فقالت مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال النكاح من الإسلام، فقالت إن كان كذلك فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكا والله أعلم. القصة الثالثة - قصة صالح عليه السلام
قوله تعالى
* (ولقد أرسلنآ إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون * قال ياقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون * قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون * وكان فى المدينة تسعة رهط يفسدون فى الارض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون *
201

ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن فى ذلك لاية لقوم يعلمون * وأنجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *.
قرىء * (أن اعبدوا الله) * بالضم على اتباع النون الباء.
أما قوله: * (فإذا هم فريقان) * ففيه قولان: أحدهما: المراد فريق مؤمن وفريق كافر الثاني: المراد قوم صالح قبل أن يؤمن منهم أحد.
أما قوله: * (يختصمون) * فالمعنى أن الذين آمنوا إنما آمنوا لأنهم نظروا في حجته فعرفوا صحتها، وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون خصما لمن لم يقبلها، وإذا كان هذا الاختصام في باب الدين دل ذلك على أن الجدال في باب الدين حق وفيه إبطال التقليد.
أما قوله: * (يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة) * ففيه بحثان: الأول: في تفسير استعجال السيئة قبل الحسنة وجهان: أحدهما: أن الذين كذبوا صالحا عليه السلام لما لم ينفهم الحجاج توعدهم صالح عليه السلام بالعذاب فقالوا: * (ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) * (العنكبوت: 29) على وجه الاستهزاء، فعنده قال صالح: * (لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة) * والمراد أن الله تعالى قد مكنكم من التوصل إلى رحمة الله تعالى وثوابه، فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه وثانيهما: أنهم كانوا يقولون لجهلهم إن العقوبة التي يعدها صالح إن وقعت على زعمه أتينا حينئذ واستغفرنا فحينئذ يقبل الله توبتنا ويدفع العذاب عنا، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم، وقال هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر.
البحث الثاني: أن المراد بالسيئة العقاب وبالحسنة الثواب، فأما وصف العذاب بأنه سيئة فهو مجاز وسبب هذا التجويز، إما لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروها، وأما وصف الرحمة بأنها حسنة فمنهم من قال إنه حقيقة ومنهم من قال إنه مجاز والأول أقرب، ثم إن صالحا عليه السلام لما قرر هذا الكلام الحق أجابوه بكلام فاسد، وهو قولهم: * (اطيرنا بك) * أي
202

تشاءمنا بك لأن الذي يصيبنا من شد وقحط فهو بشؤمك وبشؤم من معك.
قال صاحب " الكشاف " كان الرجل يخرج مسافرا فيمر بطائر فيزجره فإن مر سانحا تيمن وإن مر بارحا تشاءم فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان للخير والشر وهو قدر الله وقسمته، فأجاب صالح عليه السلام بقوله: * (طائركم عند الله) * أي السبب الذي منه يجيء خيركم وشركم عند الله وهو قضاؤه وقدره إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم وقيل بل المراد إن جزاء الطيرة منكم عند الله وهو العقاب، والأقرب الوجه الأول لأن القوم أشاروا إلى الأمر الحاصل فيجب في جوابه أن يكون فيه لا في غيره، ثم بين أهذا جهل منهم بقوله: * (بل أنتم قوم تفتنون) * فيحتمل أن غيرهم دعاهم إلى هذا القول، ويحتمل أن يكون المراد أن الشيطان يفتنكم بوسوسته، ثم إنه سبحانه قال: * (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض) * والأقرب أن يكون المراد تسعة جمع إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد لاختلاف صفتهم وأحوالهم لا لاختلاف السبب، فبين تعالى أنهم يفسدون في الأرض ولا يمزجون ذلك الفساد بشيء من الصلاح، فلهذا قال: * (يفسدون في الأرض ولا يصلحون) * ثم بين تعالى أن من جملة ذلك ما هموا به من أمر صالح عليه السلام.
أما قوله: * (تقاسموا بالله) * فيحتمل أن يكون أمرا أو خبرا في محل الحال بإضمار قد، أي قالوا متقاسمين، والبيات متابعة العدو ليلا.
أما قوله: * (ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله) * يعني لو اتهمنا قومه حلفنا لهم أنا لم نحضر. وقرئ (مهلك) بفتح الميم واللام وكسرها من هلك ومهلك بضم الميم من أهلك، ويحتمل المصدر والمكان والزمان، ثم إنه سبحانه قال: * (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون) * وقد اختلفوا في مكر الله تعالى على وجوه: أحدها: أن مكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة، روي أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه، ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله تعالى صخرة فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فهلكوا وهلك الباقون بالصيحة وثانيها: جاؤوا بالليل شاهرين سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة، يرون الأحجار ولا يرمون راميا وثالثها: أن الله تعالى أخبر صالحا بمكرهم فتحرز عنهم فذاك مكر الله تعالى في حقهم.
أما قوله: * (أنا دمرناهم) * استئناف، ومن قرأ بالفتح رفعه بدلا من العاقبة أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هي تدمرهم أو نصبه على معنى لأنا أو على أنه خبر كان أي كان عاقبة مكرهم الدمار.
أما قوله: * (خاوية) * فهو حال عمل فيها ما دل عليه تلك، وقرأ عيسى بن عمر (خاوية) بالرفع على خبر المبتدأ المحذوف والله أعلم.
203

القصة الرابعة - قصة لوط عليه السلام
قوله تعالى
* (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون * أءنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء بل أنتم قوم تجهلون * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين) *.
قال صاحب " الكشاف "، واذكر لوطا أو أرسلنا لوطا بدلالة * (ولقد أرسلنا) * (النمل: 45) عليه، و (إذ) بدل على الأول ظرف على الثاني.
أما قوله: * (أتأتون الفاحشة) * فهو على وجه التنكير وإن كان بلفظ الاستفهام وربما كان التوبيخ بمثل هذا اللفظ أبلغ.
أما قوله: * (وأنتم تبصرون) * ففيه وجوه: أحدها: أنهم كانوا لا يتحاشون من إظهار ذلك على وجه الخلاعة ولا يتكاتمون وذلك أحد ما لأجله عظم ذلك الفعل منهم فذكر في توبيخه لهم ماله عظم ذلك الفعل وثانيها: أن المراد بصر القلب أي تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها وأن الله تعالى لم يخلق الذكر للذكر فهي مضادة لله في حكمته وثالثها: تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم، فإن قلت فسرت (تبصرون) بالعلم وبعده * (بل أنتم قوم تجهلون) * فكيف يكونون علماء وجهلاء؟ قلت أراد تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك أو تجهلون العاقبة أو أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها، ثم إنه تعالى بين جهلهم بأن حكى عنهم أنهم أجابوا عن هذا الكلام بما لا يصلح أن يكون جوابا له فقال: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) * فجعلوا الذي لأجله يخرجون أنهم يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش وهذا يوجب تنعيمهم وتعظيمهم أولى لكن في المفسرين من قال: إنما قالوا ذلك على
204

وجه الهزء، ثم بين تعالى أنه نجاه وأهله إلا امرأته وأهلك الباقين وقد تقدم كل ذلك مشروحا والله أعلم، وههنا آخر القصص في هذه السورة والله أعلم. القول في خطاب الله عز وجل مع محمد صلى الله عليه وسلم
* (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ءآلله خير أما يشركون) *.
في هذه الآية قولان: الأول: أنه متعلق بما قبله من القصص والمعنى الحمد لله على إهلاكهم وسلام على عباده الذين اصطفى بأن أرسلهم ونجاهم الثاني: أنه مبتدأ فإنه تعالى لما ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام وكان محمد صلى الله عليه وسلم كالمخالف لمن قبله في أمر العذاب لأن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه، أمره تعالى بأن يشكر ربه على ما خصه بهذه النعم، وبأن يسلم على الأنبياء عليهم السلام الذين صبروا على مشاق الرسالة.
فأما قوله: * (آلله خير أما يشركون) * فهو تبكيت للمشركين وتهكم بحالهم، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى، ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة، فقيل لهم هذا الكلام تنبيها على نهاية ضلالهم وجهلهم وقرئ * (يشركون) * بالياء والتاء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: " بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم ".
ثم اعلم أنه سبحانه وتعالى تكلم بعد ذلك في عدة فصول:
الفصل الأول: في الرد على عبدة الأوثان، ومدار هذا الفصل على بيان أنه سبحانه وتعالى هو الخالق لأصول النعم وفروعها، فكيف تحسن عبادة ما لا منفعة منه البتة، ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر أنواعا:
النوع الأول - ما يتعلق بالسموات
قوله تعالى
* (أمن خلق السماوات والارض وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": الفرق بين أم وأم في * (أما يشركون) * و * (أمن خلق) * أن الأولى متصلة لأن المعنى أيهما خير وهذه منقطعة بمعنى بل، والحديقة البستان عليه سور من الإحداق وهو الإحاطة، وقيل * (ذات) * لأن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة، كما يقال النساء ذهبت
205

والبهجة الحسن، لأن الناظر يبتهج به * (أإله مع الله) * أغيره يقرن به ويجعل شريكا له وقرئ * (أإلها مع الله) * بمعنى (تدعون أو تشركون).
المسألة الثانية: أنه تعالى بين أنه الذي اختص بأن خلق السماوات والأرض، وجعل السماء مكانا للماء، والأرض للنبات، وذكر أعظم النعم وهي الحدائق ذات البهجة، ونبه تعالى على أن هذا الإنبات في الحدائق لا يقدر عليه إلا الله تعالى، لأن أحدنا لو قدر عليه لما احتاج إلى غرس ومصابرة على ظهور الثمرة وإذا كان تعالى هو المختص بهذا الإنعام وجب أن يخص بالعبادة، ثم قال: * (بل هم قوم يعدلون) * وقد اختلفوا فيه فقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر وقيل، يعدلون بالله سواه ونظير هذه الآية أول سورة الإنعام.
المسألة الثالثة: يقال ما حكمة الالتفات في قوله: * (فأنبتنا) *؟ جوابه: أنه لا شبهة للعاقل في أن خالق السماوات والأرض ومنزل الماء من السماء ليس إلا الله تعالى، وربما عرضت الشبهة في أن منبت الشجرة هو الإنسان، فإن الإنسان يقول أنا الذي ألقى البذر في الأرض الحرة وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها، وفاعل السبب فاعل للمسبب، فإذن أنا المنبت للشجرة فلما كان هذا الاحتمال قائما، لا جرم أزال هذا الاحتمال فرجع من لفظ الغيبة إلى قوله: * (فأنبتنا) * وقال: * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) * لأن الإنسان قد يأتي بالبذر والسقي والكرب والتشميس ثم لا يأتي على وفق مراده والذي يقع على وفق مراده فإنه يكون جاهلا بطبعه ومقداره وكيفيته فكيف يكون فاعلا لها، فلهذه النكتة حسن الالتفات ههنا.
النوع الثاني - ما يتعلق بالأرض
قوله تعالى
* (أمن جعل الارض قرارا وجعل خلالهآ أنهارا وجعل لها رواسى وجعل بين البحرين حاجزا أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون) *.
قال صاحب " الكشاف " * (أمن جعل) * وما بعده بدل من * (أمن خلق) * (النمل: 6) فكان (حكمها) حكمه.
واعلم أنه تعالى ذكر من منافع الأرض أمورا أربعة:
المنفعة الأولى: كونها قرارا وذلك لوجوه: الأول: أنه دحاها وسواها للاستقرار الثاني: أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة والرخاوة فليست في الصلابة كالحجر الذي يتألم الإنسان بالاضطجاع عليه وليست في الرخاوة كالماء الذي يغوص فيه الثالث: أنه تعالى جعلها كثيفة
206

غبراء ليستقر عليها النور، ولو كانت لطيفة لما استقر النور عليها، ولو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات الرابع: أنه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكل بحيث تبعد تارة وتقرب أخرى من سمت الرأس، ولولا ذلك لما اختلفت الفصول، ولما حصلت المنافع الخامس: أنه سبحانه وتعالى جعلها ساكنة فإنها لو كانت متحركة لكانت إما متحركة على الاستقامة أو على الاستدارة، وعلى التقديرين لا يحصل الانتفاع بالسكنى على الأرض السادس: أنه سبحانه جعلها كفاتا للأحياء والأموات وأنه يطرح عليها كل قبيح ويخرج منها كل مليح.
المنفعة الثانية الأرض: قوله: * (وجعل خلالها أنهارا) * فاعلم أن أقسام المياه المنبعثة عن الأرض أربعة: الأول: ماء العيون السيالة وهي تنبعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة، ثم لا يزال يستتبع جزء منها جزءا الثاني: ماء العيون الراكدة وهي تحدث من أبخرة بلغت من قوتها أن اندفعت إلى وجه الأرض ولم تبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد تاليها سابقها الثالث: مياه القنى والأنهار وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة على أن تشق الأرض، فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صادفت حينئذ تلك الأبخرة منفذا تندفع إليه بأدنى حركة الرابع: مياه الآبار وهي نبعية كمياه الأنهار إلا أنه لم يجعل له سيل إلى موضع يسيل إليه ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون الراكدة فقد ظهر أنه لولا صلابة الأرض لما اجتمعت تلك الأبخرة في باطنها إذ لولا اجتماعها في باطنها لما حدثت هذه العيون في ظاهرها.
المنفعة الثالثة للأرض: قوله: * (وجعل لها رواسي) * والمراد منها الجبال، فنقول أكثر العيون والسحب والمعدنيات إنما تكون في الجبال أو فيما يقرب منها، أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به، فإذن هذه الأبخرة لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرض، فلا جرم كانت أقواها على حبس هذا البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءا ماء، ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئا من البخار يتحلل ونفس الأرض التي تحته كالقرعة والعيون كالأذناب والبخار كالقوابل، ولذلك فإن أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري، وذلك الأقل لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة. وأما أن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه ثلاثة: أحدها: أن في باطن الجبال من النداوات مالا يكون في باطن الأرضين الرخوة وثانيها: أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء ومن الثلوج ما لا يبقى على ظهر سائر الأرضين وثالثها: أن الأبخرة الصاعدة تكون محبوسة بالجبال فلا تتفرق ولا تتحلل، وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب كثرة السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهرا وباطنا أكثر، والاحتقان أشد السبب المحلل وهو الحر أقل، فلذلك كانت السحب في الجبال أكثر. وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة يكون اختلاطها بالأرضية أكثر
207

وإلى بقاء مدة طويلة يتم النضج فيها فلا شيء لها في هذا المعنى كالجبال.
المنفعة الرابعة للأرض: قوله: * (وجعل بين البحرين حاجزا) * فالمقصود منه أن لا يفسد العذب بالاختلاط، وأيضا فلينتفع بذلك الحاجز، وأيضا المؤمن في قلبه بحران بحر الإيمان والحكمة وبحر الطغيان والشهوة وهو بتوفيقه جعل بينهما حاجزا لكي لا يفسد أحدهما بالآخر، وقال بعض الحكماء في قوله: * (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان) * (الرحمن: 19، 20) قال عند عدم البغي * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * (الرحمن: 22) فعند عدم البغي في القلب يخرج الدين والإيمان بالشكر، فإن قيل ولم جعل البحر ملحا؟ قلنا لولا ملوحته لأجن وانتشر فساد أجونته في الأرض وأحدث الوباء العام، واعلم أن اختصاص البحر بجانب من الأرض دون جانب أمر غير واجب بل الحق أن البحر ينتقل في مدد لا تضبطها التواريخ المنقولة من قرن إلى قرن لأن استمداد البحر في الأكثر من الأنهار، والأنهار تستمد في الأكثر من العيون، وأما مياه السماء فإن حدوثها في فصل بعينه دون فصل، ثم لا العيون ولا مياه السماء يجب أن تتشابه أحوالها في بقاع واحدة بأعيانها تشابها مستمرا فإن كثيرا من العيون يغور، وكثيرا ما تقحط السماء فلا بد حينئذ من نضوب الأودية والأنهار فيعرض بسبب ذلك نضوب البحار، وإذا حدثت العيون من جانب آخر حدثت الأنهار هناك فحصلت البحار من ذلك الجانب، ثم إنه سبحانه لما بين أنه هو المختص بالقدرة على خلق الأرض التي فيها هذه المنافع الجليلة وجب أن يكون هو المختص بالإلهية، ونبه بقوله تعالى: * (بل أكثرهم لا يعقلون) * على عظم جهلهم بالذهاب عن هذا التفكر.
النوع الثالث - ما يتعلق باحتياج الخلق إليه سبحانه
وهو قوله تعالى
* (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم حلفآء الارض أءله مع الله قليلا ما تذكرون) *.
اعلم أنه سبحانه نبه في هذه الآية على أمرين: أحدهما: قوله: * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) * قال صاحب " الكشاف ": الضرورة الحالة المحوجة إلى الالتجاء والاضطرار افتعال منها: يقال اضطره إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر، واعلم أن المضطر هو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى التضرع إلى الله تعالى، وعن السدي: الذي لا حول له ولا قوة، وقيل المذنب إذا استغفر، فإن قيل قد عم المضطرين بقوله: * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) * وكم من مضطر يدعو فلا يجاب؟ جوابه: قد بينا في أصول الفقه أن المفرد المعرف لا يفيد
208

العموم وإنما يفيد الماهية فقط، والحكم المثبت للماهية يكفي في صدقه ثبوته في فرد واحد من أفراد الماهية، وأيضا فإنه تعالى وعد بالاستجابة ولم يذكر أنه يستجيب في
الحال وتمام القول في شرائط الدعاء والإجابة مذكور في قوله تعالى: * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) فأما قوله تعالى: * (ويكشف السوء) * فهو كالتفسير للاستجابة، فإنه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة وضيق إلى سعة إلا القادر الذي لا يعجز والقاهر الذي لا ينازع وثانيهما: قوله: * (ويجعلكم خلفاء الأرض) * فالمراد توارثهم سكناها والتصرف فيها قرنا بعد قرن وأراد بالخلافة الملك والتسلط، وقرئ * (يذكرون) * بالياء مع الإدغام وبالتاء مع الإدغام وبالحذف وما مزيدة أي يذكرون تذكرا قليلا، والمعنى نفي التذكر والقلة تستعمل في معنى النفي.
النوع الرابع - ما يتعلق أيضا باحتياج الخلق ولكنه حاجة خاصة في وقت خاص
قوله تعالى
* (أمن يهديكم فى ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته أءله مع الله تعالى الله عما يشركون) *.
اعلم أنه تعالى نبه في هذه الآية على أمرين: الأول: قوله: * (أمن يهديكم) * والمراد يهديكم بالنجوم في السماء والعلامات في الأرض إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر الثاني: قوله: * (ومن يرسل الرياح) * فإنه سبحانه هو الذي يحرك الرياح فتثير السحاب ثم تسوقه إلى حيث يشاء، فإن قيل لا نسلم أنه تعالى هو الذي يحرك الرياح، فإن الفلاسفة قالت الرياح إنما تتولد عن الدخان وليس الدخان كله هو الجسم الأسود المرتفع مما احترق بالنار، بل كل جسم أرضي يرتفع بتصعيد الحرارة سواء كانت الحرارة حرارة النار أو حرارة الشمس فهو دخان قالوا وتولد الرياح من الأدخنة على وجهين أحدهما أكثري، والآخر أقلي، أما الأكثري فهو أنه إذا صعدت أدخنة كثيرة إلى فوق فعند وصولها إلى الطبقة الباردة إما أن ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء أو لا ينكسر فإن انكسر فلا محالة يثقل وينزل فيحصل من نزولها تموج الهواء فتحدث الريح، وإن لم ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء فلا بد وأن يتصاعد إلى أن يصل إلى كرة النار المتحركة بحركة الفلك وحينئذ لا يتمكن من الصعود بسبب حركة النار فترجع تلك الأدخنة وتصير ريحا، لا يقال لو كان اندفاع هذه الأدخنة بسبب حركة الهواء العالي لما كانت حركتها إلى أسفل بل إلى جهة حركة الهواء العالي لأنا نقول الجواب من وجهين: أحدهما: أنه ربما أوجبت هيئة صعود تلك الأدخنة وهيئة لحوق المادة بها أن يتحرك إلى خلاف جهة المتحرك
209

المانع، كالسهم يصيب جسما متحركا فيعطفه تارة إلى جهته إن كان الحابس كما يقدر على صرف المتحرك عن متوجهه يقدر أيضا على صرفه إلى جهة حركة نفسه وتارة إلى خلاف تلك الجهة إذا كان المفارق يقدر على الحبس ولا يقدر على الصرف الثاني: أنه ربما كان صعود بعض الأدخنة من تحت مانعا للأدخنة النازلة من فوق إلى أن يتسفل ذلك فلأجل هذا السبب يتحرك إلى سائر الجوانب، واعلم أن لأهل الإسلام ههنا مقامين: الأول: أن يقيم الدلالة على فساد هذه العلة وبيانه من وجهين: الأول: أن الأجزاء الدخانية أرضية فهي أثقل من الأجزاء البخارية المائية، ثم إن البخار لما يبرد ينزل على الخط المستقيم مطرا فالدخان لما برد فلماذا لم ينزل على الخط المستقيم بل ذهب يمنة ويسرة؟ الثاني: أن حركة تلك الأجزاء إلى أسفل طبيعية وحركتها يمنة ويسرة عرضية والطبيعية أقوى من العرضية، وإذا لم يكن أقوى فلا أقل من المساواة، ثم إن الريح عند حركتها يمنة ويسرة ربما تقوى على قلع الأشجار ورمي الجدار بل الجبال، فتلك الأجزاء الدخانية عندما تحركت حركتها الطبيعية التي لها وهي الحركة إلى السفل وجب أن تهدم السقف، ولكنا نرى الغبار الكثير ينزل من الهواء ويسقط على السقف ولا يحس بنزوله فضلا عن أن يهدمه فثبت فساد ما ذكروه المقام الثاني: هب أن الأمر كما ذكروه ولكن الأسباب الفاعلية والقابلية لها مخلوقة لله سبحانه وتعالى، فإنه لولا الشمس وتأثيرها في تصعيد الأبخرة والأدخنة ولولا طبقات الهواء، وإلا لما حدثت هذه الأمور، ومعلوم أن من وضع أسبابا فأدته إلى منافع عجيبة وحكم بالغة فذلك الواضع هو الذي فعل تلك المنافع، فعلى جميع الأحوال لا بد من شهادة هذه الأمور على مدبر حكيم واجب لذاته، قطعا لسلسلة الحاجات.
النوع الخامس - ما يتعلق بالحشر والنشر
قوله تعالى
* (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السمآء والارض أءله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *.
اعلم أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا أتبع ذلك بنعم الآخرة بقوله: * (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده) * لأن نعم الآخرة بالثواب لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء والإبلاغ إلى حد التكليف فقد تضمن الكلام كل هذه النعم، ومعلوم أنها لا تتم إلا بالأرزاق فلذلك قال: * (ومن يرزقكم من السماء والأرض) *، ثم قال: * (أإله مع الله) * منكرا لما هم عليه، ثم بين بقوله: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * أن لا برهان لكم فإذن هم مبطلون، وهذا يدل على أنه لا بد في الدعوى من
210

وعلى فساد التقليد، فإن قيل كيف قيل لهم: * (أم من يبدؤ الخلق ثم يعيده) * وهم منكرون للإعادة؟ جوابه: كانوا معترفين بالابتداء، ودلالة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية، فلما كان الكلام مقرونا بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار، وههنا آخر الدلائل المذكورة على كمال قدرة الله تعالى.
قوله تعالى
* (قل لا يعلم من فى السماوات والارض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون * بل ادارك علمهم فى الاخرة بل هم فى شك منها بل هم منها عمون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أنه المختص بالقدرة فكذلك بين أنه هو المختص بعلم الغيب، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه هو الإله المعبود، لأن الإله هو الذي يصح منه مجازاة من يستحق الثواب على وجه لا يلتبس بأهل العقاب، فإن قيل الاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت المستثنى منه ودلت الآية ههنا على استثناء الله سبحانه وتعالى عمن في السماوات والأرض فوجب كونه ممن في السماوات والأرض وذلك يوجب كونه تعالى في المكان والجواب: هذه الآية متروكة الظاهر لأن من قال إنه تعالى في المكان زعم أنه فوق السماوات، ومن قال إنه ليس في مكان فقد نزهه عن كل الأمكنة، فثبت بالإجماع أنه تعالى ليس في السماوات والأرض فإذن
وجب تأويله فنقول إنه تعالى ممن في السماوات والأرض كما يقول المتكلمون: الله تعالى في كل مكان على معنى أن علمه في الأماكن كلها، لا يقال إن كونه في السماوات والأرض مجاز وكونهم فيهن حقيقة وإرادة المتكلم بعبارة واحدة ومجازا غير جائزة، لأنا نقول كونهم في السماوات والأرض، كما أنه حاصل حقيقة وهو حصول ذواتهم في الأحياز فكذلك حاصل مجازا، وهو كونهم عالمين بتلك الأمكنة فإذا حملنا هذه الغيبة على المعنى المجازي وهو الكون فيها بمعنى العلم دخل الرب سبحانه وتعالى والعبيد فيه فصح الاستثناء.
أما قوله: * (وما يشعرون) * فهو صفة لأهل السماوات والأرض نفى أن يكون لهم علم الغيب وذكر في جملة الغيب متى البعث بقوله: * (أيان يبعثون) * فأيان بمعنى متى وهي كلمة مركبة من أي والآن وهو الوقت وقرئ * (إيان) * بكسر الهمزة.
أما قوله: * (بل ادارك علمهم في الآخرة) * فاعلم أن كلام صاحب " الكشاف " فيه مرتب على ثلاثة أبحاث:
211

البحث الأول: فيه اثنتا عشرة قراءة بل أدرك بل أدرك بل ادارك بل تدارك بل أأدرك بهمزتين بل آأدرك بألف بينهما بل آدرك بالتخفيف والنقل بل أدرك بفتح اللام وتشديد الدال وأصله بل أدرك على الاستفهام بلى أدرك بلى أأدرك أم تدارك أو أدرك.
البحث الثالث: ادارك أصله تدارك فأدغمت التاء في الدال وادرك افتعل.
البحث الثالث: معنى ادرك علمهم انتهى وتكامل وأدرك تتابع واستحكم ثم فيه وجوه: أحدها: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفتها وهم شاكون جاهلون، وذلك قوله: * (بل هم في شك منها بل هم منها عمون) * يريد المشركين ممن في السماوات والأرض لأنهم لما كانوا من جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع كما يقال بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم. فإن قيل الآية سيقت لاختصاص الله تعالى بعلم الغيب وإن العباد لا علم لهم بشيء منه وإن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به، فكيف ناسب هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة؟ والجواب: كأنه سبحانه قال كيف يعلمون الغيب مع أنهم شكوا في ثبوت الآخرة التي دلت الدلائل الظاهرة القاهرة عليها فمن غفل عن هذا الشيء الظاهر كيف يعلم الغيب الذي هو أخفى الأشياء الوجه الثاني: أن وصفهم باستحكام العلم تهكم بهم كما تقول لأجهل الناس ما أعلمك على سبيل الهزء وذلك حيث شكوا في إثبات ما الطريق إليه واضح ظاهر الوجه الثالث: أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى من قولك أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك، أما وجه قراءة من قرأ بل أأدرك على الاستفهام فهو أنه استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم وكذا من قرأ أم أدرك وأم تدارك لأنها أم هي التي بمعنى بل والهمزة وأما من قرأ بلى أدرك فإنه لما جاء ببلى بعد قوله: * (وما يشعرون) * كان معناه بلى يشعرون ثم فسر الشعور بقوله أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم، فكأنه قال شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون، وأما من قرأ بلى أأدرك على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها وإذ أنكر علمهم بكونها وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها. فإن قلت هذه الإضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت ما هي إلا بيان درجاتهم وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، ثم بما هو أسوأ حالا وهو العمى وفيه نكتة وهي أنه تعالى جعل الآخرة مبدأ عماهم فلذلك عداه بمن دون عن لأن الفكر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم.
212

قوله تعالى * (وقال الذين كفروا أءذا كنا ترابا وءابآؤنآ أءنا لمخرجون * لقد وعدنا هذا نحن وءابآؤنا من قبل إن هذآ إلا أساطير الاولين * قل سيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين * ولا تحزن عليهم ولا تكن فى ضيق مما يمكرون * ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذى تستعجلون * وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون * وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون * وما من غآئبة فى السمآء والارض إلا فى كتاب مبين) *.
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في حال المبدأ تكلم بعده في حال المعاد، وذلك لأن الشك في
المعاد لا ينشأ إلا من الشك في كمال القدرة، أو في كمال العلم فإذا ثبت كونه تعالى
قادرا على كل الممكنات، وعالما بكل المعلومات، ثبت أنه تعالى يمكنه تمييز أجزاء بدن كل
واحد من المكلفين عن أجزاء بدن غيره، وثبت أنه قادر على أن يعيد التركيب والحياة إليها وإذا
ثبت إمكان ذلك ثبت صحة القول بالحشر فلما بين الله تعالى هذين الأصلين فيما قبل هذه الآية،
لا جرم لم يحكه في هذه الآية، فحكى عنهم أنهم تعجبوا من إخراجهم أحياء وقد صاروا ترابا وطعنوا
فيه من وجهين: الأول: قولهم: * (لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا) * أي هذا كلام كما قيل لنا فقد قيل لمن
213

قبلنا، ولم يظهر له أثر فهو إذن من أساطير الأولين يريدون ما لا يصح من الأخبار، فإن قيل ذكر ههنا * (لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا) * وفي آية أخرى: * (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا) * (المؤمنون: 83) فما الفرق؟ قلنا التقديم دليل على أن المقدم هو المقصود الأصلي وأن الكلام سيق لأجله، ثم إنه سبحانه لما كان قد بين الدلالة على هذين الأصلين، ومن الظاهر أن كل من أحاط بهما فقد عرف صحة الحشر والنشر ثبت أنهم أعرضوا عنها ولم يتأملوها، وكان سبب ذلك الإعراض حب الدنيا وحب الرياسة والجاه وعدم الانقياد للغير، لا جرم اقتصر على بيان أن الدنيا فانية زائلة فقال: * (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) *
وفيه سؤالان:
السؤال الأول: لم لم يقل: كيف كانت عاقبة المجرمين؟ جوابه: لأن تأنيثها غير حقيقي ولأن المعنى كيف كان آخر أمرهم.
السؤال الثاني: لم لم يقل عاقبة الكافرين؟ جوابه: الغرض أن يحصل التخويف لكل العصاة ثم إنه تعالى صبر رسوله على ما يناله من هؤلاء الكفار فقال: * (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون) * فجمع بين إزالة الغم عنه بكفرهم وبين إزالة الخوف من جانبهم، وصار ذلك كالتكفل بنصرته عليهم وقوله: * (ولا تكن في ضيق) * أي في حرج قلب يقال ضاق الشيء ضيقا وضيقا بالفتح والكسر والضيق تخفيف الضيق، ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم الوجه الثاني: للكفار قولهم: * (متى هذا الوعد) * وقوله: * (إن كنتم صادقين) * دل على أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية فأجاب الله تعالى بقوله: * (عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون) * وهو عذاب يوم بدر، فزيدت اللام للتأكيد كالباء في * (ولا تلقوا بأيديكم) * (البقرة: 195) أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو دنا لكم وأزف لكم، ومعناه تبعكم ولحقكم، وقرأ الأعرج * (ردف لكم) * بوزن ذهب وهما لغتان، والكسر أفصح، وههنا بحثان:
البحث الأول: أن عسى ولعل في وعد الملوك ووعيدهم يدلان على صدق الأمر، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجلون بالانتقام لوثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده.
الثاني: أنه قد ثبت بالدلائل العقلية أن عذاب الحجاب أشد من عذاب النار، ولذلك قال: * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنه لصالوا الجحيم) * (المطففين: 15، 16) فقدم الحجاب على الجحيم، ثم إنهم كانوا محجوبين في الحال، فكان سبب العذاب بكماله حاصلا، إلا أن الاشتغال بالدنيا ولذاتها كالعائق عن إدراك ذلك الألم، كما أن العضو الخدر إذا مسته النار، فإن سبب الألم حاصل في الحال، لكنه لا يحصل الشعور بذلك الألم لقيام العائق، فإذا زال العائق عظم البلاء، فكذا ههنا إذا زال البدن عظم عذاب الحجاب، فقوله سبحانه: * (عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون) * يعني المقتضي له والمؤثر فيه حاصل، وتمامه إنما يحصل بعد الموت، ثم إنه سبحانه بين
214

السبب في ترك تعجيل العذاب فقال: * (وإن ربك لذو فضل على الناس) * والفضل الإفضال ومعناه أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة، وأكثرهم لا يعرفون هذه النعمة ولا يشكرونها، وهذه الآية تبطل قول من قال إنه لا نعمة لله على الكفار ثم بين سبحانه أنه مطلع على ما في قلوبهم فقال: * (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون) * وههنا بحث عقلي، وهو أنه قدم ما تكنه صدورهم على ما يعلنون من العلم والسبب أن ما تكنه صدورهم هو الدواعي والقصود، وهي أسباب لما يعلنون، وهي أفعال الجوارح، والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، فهذا هو السبب في ذلك التقديم، قرىء (تكن) يقال كننت الشيء وأكننته إذا سترته وأخفيته، يعني أنه تعالى يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة الرسول ومكايدهم.
أما قوله: * (وما من غائبة) * فقال صاحب " الكشاف ": سمى الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية، فكانت التاء فيها بمنزلتها في العاقبة والعافية والنطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة كالراوية في قولهم: ويل للشاعر من راوية السوء، كأنه تعالى قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء، إلا وقد علمه الله تعالى وأحاط به، وأثبته في اللوح المحفوظ والمبين الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة.
قوله تعالى
* (إن هذا القرءان يقص على بنى إسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون * وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين * إن ربك يقضى بينهم بحكمه وهو العزيز العليم * فتوكل على الله إنك على الحق المبين * إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين * ومآ أنت بهادى العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن باياتنا فهم مسلمون) *.
اعلم أنه سبحانه لما تمم الكلام في إثبات المبدأ والمعاد، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالنبوة، ولما كانت العمدة الكبرى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن، لا جرم بين الله تعالى أولا كونه
215

معجزة من وجوه: أحدها: أن الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة لما كانت مذكورة في التوراة والإنجيل مع العلم بأنه عليه الصلاة والسلام كان أميا، وأنه لم يخالط أحدا من العلماء ولم يشتغل قط بالاستفادة والتعلم، فإذن لا يكون ذلك إلا من قبل الله تعالى، واختلفوا فقال بعضهم أراد به ما اختلفوا فيه وتباينوا، وقال آخرون أراد به ما حرفه بعضهم، وقال بعضهم بل أراد به أخبار الأنبياء، والأول أقرب وثانيها: قوله: * (وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين) * وذلك لأن بعض الناس قال إنا لما تأملنا القرآن فوجدنا فيه من الدلائل العقلية على التوحيد والحشر والنبوة، وشرح صفات الله تعالى وبيان نعوت جلاله ما لم نجده في شيء من الكتب، ووجدنا ما فيه من الشرائع مطابقة للعقول موافقة لها، وجدناه مبرأ عن التناقض والتهافت، فكان هدى ورحمة من هذه الجهات ووجدنا القوى البشرية قاصرة على جمع كتاب على هذا الوجه، فعلمنا أنه ليس إلا من عند الله تعالى، فكان القرآن معجزا من هذه الجهة وثالثها: أنه هدى ورحمة للمؤمنين، لبلوغه في الفصاحة إلى حيث عجزوا عن معارضته وذلك معجز، ثم إنه تعالى لما بين كونه معجزا دالا على الرسالة ذكر بعده أمرين: الأول: قوله: * (إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم) * والمراد أن القرآن وإن كان يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، لكن لا تكن أنت في قيدهم، فإن ربك هو الذي يقضي بينهم، أي بين المصيب والمخطئ منهم، وذلك كالزجر للكفار فلذلك قال: * (وهو العزيز) * أي القادر الذي لا يمنع العليم بما يحكم فلا يكون إلا الحق، فإن قيل القضاء والحكم شيء واحد فقوله: * (يقضي بحكمه) * كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه والجواب: معنى قوله: * (بحكمه) * أي بما يحكم به وهو عدله، لأنه لا يقضي إلا بالعدل، أو أراد بحكمه، ويدل عليه قراءة من قرأ (بحكمه) جمع حكمة الثاني: أنه تعالى أمره بعد ظهور حجة رسالته بأن يتوكل على الله، ولا يلتفت إلى أعداء الله، ويشرع في تمشية
مهمات الرسالة بقلب قوي، فقال * (فتوكل على الله) * ثم علل ذلك بأمرين: أحدهما: قوله: * (إنك على الحق المبين) * وفيه بيان أن المحق حقيق بنصرة الله تعالى وأنه لا يخذل وثانيهما: قوله: * (إنك لا تسمع الموتى) * وإنما حسن جعله سببا للأمر بالتوكل، وذلك لأن الإنسان ما دام يطمع في أحد أن يأخذ منه شيئا فإنه لا يقوى قلبه على إظهار مخالفته، فإذا قطع طمعه عنه قوي قلبه على إظهار مخالفته، فالله سبحانه وتعالى قطع محمدا صلى الله عليه وسلم عنهم بأن بين له أنهم كالموتى وكالصم وكالعمى فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، وهذا سبب لقوة قلبه عليه الصلاة والسلام على إظهار الدين كما ينبغي، فإن قيل ما معنى قوله: * (إذا ولوا مدبرين) * جوابه: هو تأكيد لحال الأصم، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبرا كان أبعد عن إدراك صوته.
أما قوله تعالى: * (إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا) * فالمعنى ما يجدي إسماعك إلا الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته، أي يصدقون بها فهم مسلمون، أي مخلصون من قوله: * (بلى من أسلم وجهه لله) * (البقرة: 112)
216

يعني جعله سالما لله تعالى خالصا له، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دآبة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا باياتنا لا يوقنون * ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب باياتنا فهم يوزعون * حتى إذا جآءوا قال أكذبتم باياتى ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون * ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون * ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذلك لايات لقوم يؤمنون) *.
اعلم أن الله تعالى بين بالدلائل القاهرة كمال القدرة وكمال العلم، ثم فرع عليهما القول بإمكان الحشر، ثم بين الوجه في كون القرآن معجزا، ثم فرع عليه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تكلم الآن في مقدمات قيام القيامة، وإنما أخر تعالى الكلام في هذا الباب عن إثبات النبوة، لما أن هذه الأشياء لا يمكن معرفتها إلا بقول النبي الصادق وهذا هو النهاية في جودة الترتيب. واعلم أنه تعالى ذكر تارة ما يكون كالعلامة لقيام القيامة، وتارة الأمور التي تقع عند قيام القيامة، فذكر أولا من علامات القيامة دابة الأرض، والناس تكلموا فيها من وجوه: أحدها: في مقدار جسمها، وفي الحديث أن طولها ستون ذراعا، وروي أيضا أن رأسها تبلغ السحاب. وعن أبي هريرة ما بين قرنيها فرسخ للراكب وثانيها: في كيفية خلقتها، فروي أن لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها: رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن إيل وصدر أسد ولون نمر وخاصرة (بقرة) وذنب كبش وخف بعير وثالثها: في كيفية خروجها عن علي عليه السلام أنه تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن الحسن: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام ورابعها: في موضع خروجها " سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أين تخرج الدابة؟ فقال من أعظم المساجد
217

حرمة على الله تعالى المسجد الحرام " وقيل تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية وخامسها: في عدد خروجها فروي أنها تخرج ثلاث مرات، تخرج بأقصى اليمن، ثم تكمن، ثم تخرج بالبادية، ثم تكمن دهرا طويلا، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون وقوم يقفون (نظارة).
واعلم أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور، فإن صح الخبر فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وإلا لم يلتفت إليه.
أما قوله تعالى: * (وإذا وقع القول عليهم) * فالمراد من القول متعلقه وهو ما وعدوا به من قيام الساعة ووقوعه حصوله، والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها، أما دابة الأرض فقد عرفتها. وأما قوله: * (تكلمهم) * فقرئ (تكلمهم) من الكلم وهو الجرح، روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا موسى عليه السلام وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى عليه السلام فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه، وتنكت الكافر في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه. واعلم أنه يجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضا على معنى التكثير يقال فلان مكلم، أي مجرح. وقرأ أبي (تنبئهم)، وقرأ ابن مسعود تكلمهم بأن الناس، والقراءة بإن مكسورة حكاية لقول الدابة ذلك، أو هي حكاية لقول الله تعالى بين به أنه أخرج الدابة لهذه العلة. فإن قيل إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف يقول (بآياتنا)؟ جوابه: أن قولها حكاية لقول الله تعالى، أو على معنى بآيات ربنا، أو لاختصاصها بالله تعالى أضافت آيات الله إلى نفسها، كما يقال بعض خاصة الملك خيلنا وبلادنا، وإنما هي خيل مولاه وبلاده، ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار، أي تكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.
وأما قوله: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا) * فاعلم أن هذا من الأمور الواقعة بعد قيام القيامة، فالفرق بين من الأولى والثانية، أن الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين كقوله: * (من الأوثان) * (الحج: 30).
أما قوله: * (فهم يوزعون) * معناه يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار، وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه، كما وصفت جنود سليمان بذلك وقوله: * (حتى إذا جاؤوا قال أكذبتم بآياتي) * فهذا وإن احتمل معجزات الرسل كما قاله بعضهم، فالمراد كل الآيات فيدخل فيه سائر الكفار الذين كذبوا بآيات الله أجمع أو بشيء منها.
أما قوله: * (ولم تحيطوا بها علما) * فالواو للحال كأنه قال أكذبتم بها، بادي الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها.
أما قوله: * (أماذا كنتم تعملون) * فالمراد لما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم، فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك؟! كأنه قال كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل، ثم قال: * (ووقع القول عليهم) * يريد أن
218

العذاب الموعود يغشاهم بسبب تكذيبهم بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار كقوله: * (هذا يوم لا ينطقون) * (المرسلات: 35) ثم إنه سبحانه بعد أن خوفهم بأحوال القيامة ذكر كلاما يصلح أن يكون دليلا على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال: * (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا) * أما وجه دلالته على التوحيد فلما ظهر في العقول أن التقليب من النور إلى الظلمة، ومن الظلمة إلى النور، لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية. وإما وجه دلالته على الحشر فلأنه لما ثبتت قدرته تعالى في هذه الصورة على القلب من النور إلى الظلمة وبالعكس، فأي امتناع في ثبوت قدرته على القلب من الحياة إلى الموت مرة، ومن الموت إلى الحياة أخرى. وأما وجه دلالته على النبوة فلأنه تعالى يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين، وفي بعثة الأنبياء والرسل إلى الخلق منافع عظيمة، فما المانع من بعثتهم إلى الخلق لأجل تحصيل تلك المنافع؟ فقد ثبت أن هذه الكلمة الواحدة كافية في إقامة الدلالة على تصحيح الأصول الثلاثة التي منها منشؤ كفرهم واستحقاقهم العذاب، ثم في الآية سؤالان:
السؤال الأول: ما السبب في أن جعل الإبصار للنهار وهو لأهله؟ جوابه: تنبيها على كمال هذه الصفة فيه.
السؤال الثاني: لما قال: * (جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) * فلم لم يقل والنهار لتبصروا فيه؟ جوابه: لأن السكون في الليل هو المقصود من الليل، وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود بل هو وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية.
وأما قوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) * خص المؤمنين بالذكر، وإن كانت أدلة للكل من حيث اختصوا بالقبول والانتفاع على ما تقدم في نظائره.
قوله تعالى
* (ويوم ينفخ فى الصور ففزع من فى السماوات ومن فى الارض إلا من شآء الله وكل أتوه داخرين) *.
اعلم أن هذا هو العلامة الثانية لقيام القيامة.
أما قوله: * (ويوم ينفخ في الصور) * ففيه وجوه: أحدها: أنه شيء شبيه بالقرن، وأن إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه بإذن الله تعالى، فإذا سمع الناس ذلك الصوت وهو في الشدة بحيث لا تحتمله طبائعهم يفزعون عنده ويصعقون ويموتون وهو كقوله تعالى: * (فإذا نقر في الناقور) * (المدثر: 8) وهذا قول الأكثرين وثانيها: يجوز أن يكون تمثيلا لدعاء الموت فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش
219

عند سماع صوت الآلة وثالثها: أن الصور جمع الصور وجعلوا النفخ فيها نفخ الروح والأول أقرب لدلالة الظاهر عليه ولا مانع يمنع منه.
أما قوله: * (ففزع من في السماوات ومن في الأرض) * فاعلم أنه إنما قال (ففزع) ولم يقل فيفزع للإشعار بتحقيق الفزع وثبوته، وأنه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به والمراد فزعهم عند النفخة الأولى.
أما قوله: * (إلا من شاء الله) * فالمراد إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة قالوا هم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وملك الموت، وقيل الشهداء، وعن الضحاك الحور وخزنة النار وحملة العرش، وعن جابر موسى منهم لأنه صعق مرة ومثله قوله تعالى: * (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) * (الزمر: 68) وليس فيه خبر مقطوع، والكتاب إنما يدل على الجملة.
أما قوله: * (وكل أتوه داخرين) * فقرئ (أتوه) و (أتاه) ودخرين وداخرين فالجمع على المعنى والتوحيد على اللفظ والداخر والدخر الصاغر، وقيل معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية، ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمر الله وانقيادهم له.
* (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله الذى أتقن كل شىء إنه خبير بما تفعلون) *.
اعلم أن هذا هو العلامة الثالثة لقيام القيامة وهي تسيير الجبال، والوجه في حسبانهم أنها جامدة فلأن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر إليها أنها واقفة مع أنها تمر مرا حثيثا.
أما قوله: * (صنع الله) * فهو من المصادر المؤكدة كقوله: * (وعد الله) * (النساء: 95) و * (صبغة الله) * (البقرة: 138) إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ، والمعنى أنه لما قدم ذكر هذه الأمور التي لا يقدر عليها سواه جعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب قال القاضي عبد الجبار فيه دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه والجواب: أن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات فيمتنع وصف الأعراض بها والله أعلم.
قوله تعالى
* (من جآء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون * ومن جآء بالسيئة فكبت
220

وجوههم فى النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) *.
اعلم أنه تعالى لما تكلم في علامات القيامة شرح بعد ذلك أحوال المكلفين بعد قيام القيامة والمكلف إما أن يكون مطيعا أو عاصيا، أما المطيع فهو الذي جاء بالحسنة وله أمران: أحدهما: أن له ما هو خير منها وذلك هو الثواب، فإن قيل الحسنة التي جاء العبد بها يدخل فيها معرفة الله تعالى والإخلاص في الطاعات والثواب، إنما هو الأكل والشرب فكيف يجوز أن يقال الأكل والشرب خير من معرفة الله جوابه من جوابه: أحدها: أن ثواب المعرفة النظرية الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة، ولذة النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة، ولو لم تحمل الآية على ذلك لزم أن يكون
الأكل والشرب خيرا من معرفة الله تعالى وأنه باطل وثانيها: أن الثواب خير من العمل من حيث إن الثواب دائم والعمل منقضي ولأن العمل فعل العبد، والثواب فعل الله تعالى وثالثها: * (فله خير منها) * أي له خير حاصل من جهتها وهو الجنة.
السؤال الثاني: الحسنة لفظة مفردة معرفة، وقد ثبت أنها لا تفيد العموم بل يكفي في تحققها حصول فرد، وإذا كان كذلك فلنحملها على أكمل الحسنات شأنا وأعلاها درجة وهو الإيمان، فلهذا قال ابن عباس من أفراد الحسنة كلمة الشهادة، وهذا يوجب القطع بأن لا يعاقب أهل الإيمان وجوابه: ذلك الخير هو أن لا يكون عقابه مخلدا الأمر الثاني: للمطيع هو أنهم آمنون من كل فزع، لا كما قال بعضهم إن أهوال القيامة تعم المؤمن والكافر، فإن قيل أليس أنه تعالى قال في أول الآية: * (ففزع من في السماوات ومن في الأرض) * (النمل: 87) فكيف نفى الفزع ههنا؟ جوابه: أن الفزع الأول هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس لشدة تقع وهو يفجأ من رعب وهيبة وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه كما قيل، يدخل الرجل بصدر هياب وقلب وجاب، وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة، وأما الثاني فالخوف من العذاب. أما قراءة من قرأ من فزع بالتنوين فهي تحتمل معنيين من فزع واحد وهو خوف العقاب، وأما ما يلحق الإنسان من الهيبة والرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد، وفي الأخبار ما يدل عليه، ومن فزع شديد مفرط الشدة لا يكتنهه الوصف، وهو خوف النار وأمن يعدي بالجار وبنفسه كقوله تعالى: * (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله) * (الأعراف: 99) فهذا شرح حال المطيعين، أما شرح حال العصاة فهو قوله: * (ومن جاء بالسيئة) * قيل السيئة الإشراك وقوله: * (فكبت وجوههم في النار) * فاعلم أنه يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة فكأنه قيل فكبوا في النار كقوله: * (فكبكبوا) * (الشعراء: 94) ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذانا بأنهم يلقون على وجوههم فيها (مكبوبين).
221

أما قوله: * (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) * فيجوز فيه الالتفات، وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول.
قوله تعالى
* (إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها وله كل شىء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرءان فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فقل إنمآ أنا من المنذرين * وقل الحمد لله سيريكم ءاياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين المبدأ والمعاد والنبوة ومقدمات القيامة وصفة أهل القيامة من الثواب والعقاب، وذلك كمال ما يتعلق ببيان أصول الدين ختم الكلام بهذه الخاتمة اللطيفة فقال: قل يا محمد إني أمرت بأشياء: الأول: أني أمرت أن أخص الله وحده بالعبادة ولا أتخذ له شريكا، وأن الله تعالى لما قدم دلائل التوحيد فكأنه أمر محمدا بأن يقول لهم هذه الدلائل التي ذكرتها لكم إن لم تفد لكم القول بالتوحيد فقد أفادت لي ذلك فسواء قبلتم هذه الدعوة أو أعرضتم عنها، فإني مصر عليها غير مرتاب فيها ثم إنه وصف الله تعالى بأمرين: أحدهما: أنه رب هذه البلدة والمراد مكة وإنما اختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه وأشار إليها إشارة تعظيم لها دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه.
أما قوله: * (الذي حرمها) * فقرئ (التي حرمها)، وإنما وصفها بالتحريم لوجوه: أحدها: أنه حرم فيها أشياء على من يحج وثانيها: أن اللاجئ إليها آمن وثالثها: لا ينتهك حرمتها إلا ظالم ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها وإنما ذكر ذلك لأن العرب كانوا معترفين بكون مكة محرمة وعلموا أن تلك الفضيلة ليست من الأصنام بل من الله تعالى، فكأنه قال لما علمت وعلمتم أنه سبحانه هو المتولي لهذه النعم وجب علي أن أخصه بالعبادة وثانيها: وصف الله تعالى بقوله: * (وله كل شيء) * وهذا إشارة إلى ما تقدم من الدلائل المذكورة في هذه السورة على التوحيد من كونه تعالى خالقا لجميع النعم فأجمل ههنا تلك المفصلات، وهذا كمن أراد صفة بعض الملوك بالقوة فيعد تلك التفاصيل ثم بعد التطويل يقول إن كل العالم له وكل الناس في طاعته الثاني: أمر بأن يكون
222

من المسلمين الثالث: أمر بأن يتلو القرآن عليهم، ولقد قام بكل ذلك صلوات الله عليه أتم قيام فمن اهتدى في هذه المسائل الثلاث المتقدمة وهي التوحيد والحشر والنبوة * (فإنما يهتدي لنفسه) * أي منفعة اهتدائه راجعة إليه * (ومن ضل) * فلا علي وما أنا إلا رسول منذر، ثم إنه سبحانه ختم هذه (السورة) بخاتمة في نهاية الحسن وهي قوله: * (وقل الحمد لله) * على ما أعطاني من نعمة العلم والحكمة والنبوة أو على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة وبالإنذار * (سيريكم آياته) * القاهرة * (فتعرفونها) * لكن حين لا ينفعكم الإيمان * (وما ربك بغافل عما تعملون) * لأنه من وراء جزاء العاملين، والله أعلم. تم تفسير السورة والحمد لله رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين على أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
223

سورة القصص
مكية كلها إلا قوله * (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله - لا نبتغي الجاهلين) * وقيل إلا آية وهي * (إن الذي فرض عليك القرآن) * الآية وهي سبعا وثمان وثمانون آية
قوله تعالى
* (طسم * تلك ءايات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون * إن فرعون علا فى الارض وجعل أهلها شيعا يستضعف طآئفة منهم يذبح أبنآءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم فى الارض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) *.
اعلم أن قوله تعالى: * (طسم) * كسائر الفواتح وقد تقدم القول فيها و * (تلك) * إشارة إلى آيات السورة و * (الكتاب المبين) * هو إما اللوح وإما الكتاب الذي
وعد الله إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم فبين أن آيات هذه السورة هي آيات ذلك الكتاب ووصفه بأنه مبين لأنه بين فيه الحلال والحرام، أو لأنه بين بفصاحته أنه من كلام الله دون كلام العباد، أو لأنه يبين صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو لأنه يبين خبر الأولين والآخرين، أو لأنه يبين كيفية التخلص عن شبهات أهل الضلال.
224

أما قوله تعالى: * (نتلو عليك) * أي على لسان جبريل عليه السلام لأنه كان يتلو على محمد حتى يحفظه، وقوله: * (من نبأ موسى وفرعون) * فهو مفعول * (نتلو عليك) * أي نتلو عليك بعض خبرهما بالحق محقين، كقوله: * (تنبت بالدهن) * (المؤمنون: 20) وقوله: * (لقوم يؤمنون) * فيه وجهان: أحدهما: أنه تعالى قد أراد بذلك من لا يؤمن أيضا لكنه خص المؤمنين بالذكر لأنهم قبلوا وانتفعوا فهو كقوله: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2)، والثاني: يحتمل أنه تعالى علم أن الصلاح في تلاوته هو إيمانهم وتكون إرادته لمن لا يؤمن كالتبع، قوله تعالى: * (إن فرعون علا في الأرض) * قرىء فرعون بضم الفاء وكسرها، والكسر أحسن وهو كالقسطاس والقسطاس * (علا) * استكبر وتجبر وتعظم وبغى، والمراد به قوة الملك والعلو في الأرض يعني أرض مملكته، ثم فصل الله تعالى بعض ذلك بقوله: * (وجعل أهلها شيعا) * أي فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم مخالفته أو يشيع بعضهم بعضا في استخدامه أو أصنافا في استخدامه أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة ليكونوا له أطوع أو المراد ما فسره بقوله: * (يستضعف طائفة منهم) * أي يستخدمهم * (ويذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم) * فهذا هو المراد بالشيع. قوله: * (يستضعف طائفة منهم) * تلك الطائفة بنو إسرائيل، وفي سبب ذبح الأبناء وجوه: أحدها: أن كاهنا قال له يولد مولود في بني إسرائيل في ليلة كذا يذهب ملكك على يده، فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاما فقتلهم، وعند أكثر المفسرين بقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة، قال وهب قتل القبط في طلب موسى عليه السلام تسعين ألفا من بني إسرائيل. قال بعضهم في هذا دليل على حمق فرعون، فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن وإن كذب فما وجه القتل؟ وهذا السؤال قد يذكر في تزييف علم الأحكام من علم النجوم ونظيره ما يقوله نفاة التكليف إن كان زيد في علم الله وفي قضائه من السعداء فلا حاجة إلى الطاعة، وإن كان من الأشقياء فلا فائدة في الطاعة، وأيضا فهذا السؤال لو صح لبطل علم التعبير ومنفعته، وأيضا فجواب المنجم أن النجوم دلت على أنه يولد ولد لو لم يقتل لصار كذا وكذا، وعلى هذا التقدير لا يكون السعي في قتله عبثا.
واعلم أن هذا الوجه ضعيف لأن إسناد مثل هذا الخبر إلى الكاهن اعتراف بأنه قد يخبر عن الغيب على سبيل التفصيل، ولو جوزناه لبطلت دلالة الأخبار عن الغيب على صدق الرسل وهو بإجماع المسلمين باطل وثانيها: وهو قول السدي أن فرعون رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس واشتملت على مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل فسأل عن رؤياه فقالوا يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يده هلاك مصر، فأمر بقتل الذكور وثالثها: أن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه وفرعون كان قد سمع ذلك فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل، وهذا الوجه هو الأولى بالقبول، قال صاحب " الكشاف ": * (يستضعف) * حال من الضمير في * (وجعل) * أو صفة لشيعا، أو كلام مستأنف و * (يذبح) * بدل من * (يستضعف) *
225

وقوله: * (إنه كان من المفسدين) * يدل على أن ذلك القتل ما حصل منه إلا الفساد، وأنه لا أثر له في دفع قضاء الله تعالى.
أما قوله: * (ونريد أن نمن) * فهو جملة معطوفة على قوله: * (إن فرعون علا في الأرض) * لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيرا لنبأ موسى عليه السلام وفرعون واقتصاصا له، واللفظ في قوله: * (ونريد) * للاستقبال ولكن أريد به حكاية حال ماضية ويجوز أن يكون حالا من * (يستضعف) * أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم، فإن قيل كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله تعالى المن عليهم وإذا أراد الله شيئا كان ولم يتوقف إلى وقت آخر؟ قلنا لما كان منة الله عليهم بتخليصهم من فرعون قريبة الوقوع جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم.
أما قوله: * (ونجعلهم أئمة) * أي متقدمين في الدنيا والدين وعن مجاهد دعاة إلى الخير وعن قتادة ولاة كقوله: * (وجعلكم ملوكا) * (المائدة: 20)، * (ونجعلهم الوارثين) * يعني لملك فرعون وأرضه وما في يده.
أما قوله: * (ونمكن لهم في الأرض) * فاعلم أنه يقال مكن له إذا جعل له مكانا يقعد عليه (أو يرقد) فوطأه ومهده، ونظيره أرض له ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام أن ينفذ أمرهم ويطلق أيديهم وقوله: * (ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) * قرىء * (ويرى فرعون وهامان وجنودهما) * أي يرون منهم ما كانوا خائفين منه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود بني إسرائيل.
قوله تعالى
* (وأوحينآ إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنى إنا رآدوه إليك وجاعلوه من المرسلين * فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين * وقالت امرأت فرعون قرة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون) *.
226

اعلم أنه تعالى لما قال: * (ونريد أن نمن على الذين) * (القصص: 5) ابتدأ بذكر أوائل نعمه في هذا الباب بقوله: * (وأوحينا إلى أم موسى) * والكلام في هذا الوحي ذكرناه في سورة طه (37، 38) في قوله: * (ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) * وقوله: * (أن أرضعيه) * كالدلالة على أنها أرضعته وليس في القرآن حد ذلك، * (فإذا خفت عليه) * أن يفطن به جيرانك ويسمعون صوته عند البكاء * (فألقيه في اليم) * قال ابن جريج: إنه بعد أربعة أشهر صاح فألقى في اليم والمراد بأليم ههنا النيل * (ولا تخافي ولا تحزني) * والخوف غم يحصل بسبب مكروه يتوقع حصوله في المستقبل، والحزن غم يلحقه بسبب مكروه حصل في الماضي، فكأنه قيل ولا تخافي من هلاكه ولا تحزني بسبب فراقه * (إنا راده إليك) * لتكوني أنت المرضعة له * (وجاعلوه من المرسلين) * إلى
أهل مصر والشام وقصة الإلقاء في اليم قد تقدمت في سورة طه. وقال ابن عباس: إن أم موسى عليه السلام لما تقارب ولادها كانت قابلة من القوابل التي وكلهم فرعون بالحبالى مصافية لأم موسى عليه السلام فلما أحست بالطلق أرسلت إليها وقالت لها قد نزل بي ما نزل ولينفعني اليوم حبك إياي فجلست القابلة فلما وقع موسى عليه السلام إلى الأرض هالها نور بين عينيه فارتعش كل مفصل منها، ودخل حب موسى عليه السلام قلبها فقالت يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك، ولكني وجدت لابنك هذا حبا شديدا فاحتفظي بابنك، فإنه أراه عدونا، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته يا أماه هذا الحرس فلفته ووضعته في تنور مسجور فطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع، فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا لم دخلت القابلة عليك؟ قالت إنها حبيبة لي دخلت للزيارة فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى أين الصبي؟ قالت لا أدري فسمعت بكاء في التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما فأخذته، ثم إن أم موسى عليه السلام لما رأت فرعون جد في طلب الولدان خافت على ابنها فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت في النيل، فذهبت إلى نجار من أهل مصر فاشترت منه تابوتا فقال لها ما تصنعين به؟ فقالت ابن لي أخشى عليه كيد فرعون أخبؤه فيه وما عرفت أنه يفشي ذلك الخبر، فلما انصرفت ذهب النجار ليخبر به الذباحين فلما جاءهم أمسك الله لسانه وجعل يشير بيده، فضربوه وطردوه فلما عاد إلى موضعه رد الله عليه نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم به فضربوه وطردوه فلما عاد إلى موضعه رد الله نطقه، فذهب مرة أخرى ليخبرهم به فضربوه وطردوه فأخذ الله بصره ولسانه، فجعل لله تعالى أنه إن رد عليه بصره ولسانه فإنه لا يد لهم عليه فعلم الله تعالى منه الصدق فرد عليه بصره ولسانه وانطلقت أم موسى وألقته في النيل، وكان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها، فقالوا أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم
227

كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه آسية بنت مزاحم وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطئ إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأمواج وتعلق بشجرة، فقال فرعون ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته وفتحته، فإذا هي بصبي صغير في المهد وإذا نور بين عينيه فألقى الله محبته في قلوب القوم، وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت وضمته إلى صدرها فقالت الغواة من قوم فرعون إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر فرقا منك فهم فرعون بقتله فاستوهبته امرأة فرعون وتبنته فترك قتله.
أما قوله: * (فالتقطه آل فرعون) * فالالتقاط إصابة الشيء من غير طلب، والمراد بآل فرعون جواريه.
أما قوله: * (ليكون لهم عدوا وحزنا) * فالمشهور أن هذه اللام يراد بها العاقبة قالوا وإلا نقض قوله: * (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك) * ونقض قوله: * (وألقيت عليك محبة مني) * (طه: 39) ونظير هذه اللام قوله تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم) * (الأعراف: 179) وقوله الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب (c)
واعلم أن التحقيق ما ذكره صاحب " الكشاف " وهو أن هذه اللام هي لام التعليل على سبيل المجاز، وذلك لأن مقصود الشيء وغرضه يؤول إليه أمره فاستعملوا هذه اللام فيما يؤول إليه الشيء على سبيل التشبيه، كإطلاق لفظ الأسد على الشجاع والبليد على الحمار، قرأ حمزة والكسائي (حزنا) بضم الحاء وسكون الزاي والباقون بالفتح وهما لغتان مثل السقم والسقم.
أما قوله: كانوا خاطئين ففيه وجهان: أحدهما: قال الحسن معنى * (كانوا خاطئين) * ليس من الخطيئة بل المعنى وهم لا يشعرون أنه الذي يذهب بملكهم، وأما جمهور المفسرين فقالوا معناه كانوا خاطئين فيما كانوا عليه من الكفر والظلم، فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم، وقرئ * (خاطين) * تخفيف خاطئين أي خاطين الصواب إلى الخطأ وبين تعالى أنها التقطته ليكون قرة عين لها وله جميعا، قال ابن إسحاق إن الله تعالى ألقى محبته في قلبها لأنه كان في وجهه ملاحة كل من رآه أحبه، ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور، ولأنها لما فتحت التابوت رأته يمتص إصبعه، ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال برصها ويقال ما كان لها ولد فأحبته، قال ابن عباس لما قالت: * (قرة عين لي ولك) * فقال فرعون يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه، فقال عليه السلام " والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت لهداه الله تعالى كما هداها " قال صاحب " الكشاف " * (قرة عين) * خبر مبتدأ محذوف ولا يقوى أن يجعل مبتدأ * (ولا تقتلوه) * خبرا ولو نصب لكان أقوى، وقراءة ابن مسعود دليل على أنه خبر، قرأ * (لا تقتلوه قرة عين لي ولك) *، وذلك لتقديم لا تقتلوه، ثم قالت المرأة * (عسى أن ينفعنا) * فنصيب
228

منه خيرا * (أو نتخذه ولدا) * لأنه أهل للتبني.
أما قوله: * (وهم لا يشعرون) * فأكثر المفسرين على أنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وعلى يده، وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل، وقال ابن عباس يريد لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه السلام. وقال آخرون هذا من تمام كلام المرأة أي لا يشعر بنو إسرائيل وأهل مصر أن التقطناه، وهذا قول الكلبي.
قوله تعالى
* (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين * وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون) *.
ذكروا في قوله: * (فؤاد أم موسى فارغا) * وجوها: أحدها: قال الحسن فارغا من كل هم إلا من هم موسى عليه السلام وثانيها: قال أبو مسلم فراغ الفؤاد هو الخوف والإشفاق كقوله: * (وأفئدتهم هواء) * (إبراهيم: 43)، وثالثها: قال صاحب " الكشاف " فارغا صفرا من العقل، والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والخوف ورابعها: قال الحسن ومحمد بن إسحاق فارغا من الوحي الذي أوحينا إليها أن ألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك فجاءها الشيطان فقال لها كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجر فتوليت إهلاكه، ولما أتاها خبر موسى عليه السلام أنه وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها، وخامسها: قال أبو عبيدة: فارغا من الحزن لعلمها بأنه لا يقتل اعتمادا على تكفل الله بمصلحته قال ابن قتيبة: وهذا من العجائب كيف يكون فؤادها فارغا من الحزن والله تعالى يقول: * (لولا أن ربطنا على قلبها) * وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون، ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يمتنع أنها لشدة ثقتها بوعد الله لم تخف عند إظهار اسمه، وأيقنت أنها وإن أظهرت فإنه يسلم لأجل ذلك الوعد إلا أنه كان في المعلوم أن الإظهار يضر فربط الله على قلبها، ويحتمل قوله: * (إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها) * بالوحي فأمنت وزال عن قلبها الحزن، فعلى هذا الوجه يصح أن يتأول على أن قلبها سلم من الحزن على موسى أصلا، وفيه وجه ثالث: وهو أنها سمعت أن امرأة فرعون عطفت عليه وتبنته إن كادت لتبدي به بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحا بما سمعت، لولا أن سكنا ما بها من شدة الفرح والابتهاج * (لتكون من المؤمنين) * الواثقين
229

بوعد الله تعالى لا يتبنى امرأة فرعون اللعين وبعطفها، وقرئ (قرعا) أي خاليا من قولهم أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء وفرغا من قولهم: دماؤهم بينهم فرغ أي هدر يعني بطل قلبها من شدة ما ورد عليها.
أما قوله: * (إن كادت لتبدي به) * فاعلم أن على قول من فسر الفراغ بالفراغ من الحزن، قد ذكرنا تفسير قوله: * (إن كادت لتبدي) * وأما على قول من فسر الفراغ بحصول الخوف فذكروا وجوها: أحدها: قال ابن عباس كادت تخبر بأن الذي وجدتموه ابني، وقال في رواية عكرمة كادت تقول وا إبناه من شدة وجدها به وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع، وقال الكلبي ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون وقال السدي لما أخذ ابنها كادت تقول هو ابني فعصمها الله تعالى، ثم قال: * (لولا أن ربطنا على قلبها) * بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن * (لتكون من المؤمنين) * من المصدقين بوعد الله وهو قوله: * (إنا رادوه إليك) * (القصص: 7).
أما قوله: * (وقالت لأخته قصيه) * أي اتبعي أثره وانظري إلى أن وقع وإلى من صار وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم * (فبصرت به) * قال ابن عباس رضي الله عنهما أبصرته، قال المبرد: أبصرته وبصرت به بمعنى واحد وقوله: * (عن جنب) * أي عن بعد وقرئ عن جانب وعن جنب والجنب الجانب أي نظرت نظرة مزورة متجانبة * (وهم لا يشعرون) * بحالها وغرضها.
قوله تعالى
* (وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون * فرددناه إلى أمه كى تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) *.
اعلم أن قوله: * (وحرمنا عليه المراضع من قبل) * يقتضي تحريمها من قبله فإذا لم يصح بالتعبد والنهي لتعذر التمييز فلا بد من فعل سواه وذلك الفعل يحتمل أنه تعالى مع حاجته إلى اللبن أحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء، فلذلك لم يرضع أو أحدث في لبنهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه أو وضع في لبن أمه لذة فلما تعودها لا جرم كان يكره لبن غيرها، وعن الضحاك كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها والمراضع جمع مرضع، وهي المرأة التي ترضع أو جمع مرضع وهو موضع الرضاع أي الثدي أو الرضاع وقوله: * (من قبل) * أي من قبل أن رددناه إلى أمه ومن قبل مجيء أخت موسى عليه السلام، ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا فعند ذلك قالت
230

أخته * (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم) * أي يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه وهم له ناصحون لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وإغذائه، ولا يخونونكم فيه والنصح إخلاص العمل من شائبة الفساد، وقال السدي إنها لما قالت: * (وهم له ناصحون) * دل ظاهر ذلك على أن أهل البيت يعرفونه فقال لها هامان قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله فقالت ما أعرفه، ولكني إنما قلت هم للملك ناصحون ليزول شغل قلبه، وكل ما روي في هذا الباب يدل على أن فرعون كان بمنزلة آسية في شدة محبته لموسى عليه السلام، لا على ما قال من زعم أنها كانت مختصة بذلك فقط ثم قال تعالى: * (فرددناه إلى أمه) * بهذا الضرب من اللطف * (كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق) * أي فيما كان وعدها من أنه يرده إليها، ولقد كانت عالمة بذلك، ولكن ليس الخبر كالعيان فتحققت بوجود الموعود * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * فيه وجوه أربعة: أحدها: ولكن أكثر الناس في ذلك العهد وبعد لا يعلمون لإعراضهم عن النظر في آيات الله وثانيها: قال الضحاك ومقاتل يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعدها برده إليها وثالثها: هذا كالتعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى عليه السلام فجزعت وأصبح فؤادها فارغا ورابعها: أن يكون المعنى إنا إنما رددناه إليها * (لتعلم أن وعد الله حق) * والمقصود الأصلي من ذلك الرد هذا الغرض الديني، ولكن الأكثر لا يعلمون أن هذا هو الغرض الأصلي، وأن ما سواه من قرة العين وذهاب الحزن تبع، قال الضحاك لما قبل ثديها قال هامان إنك لأمه، قالت لا قال فما بالك قبل ثديك من بين النسوة قالت أيها الملك إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن ما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي، قالوا صدقت فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر.
قوله تعالى
* (ولما بلغ أشده واستوى ءاتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين * ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو
231

مضل مبين * قال رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بمآ أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) *.
اعلم أن في قوله: * (بلغ أشده واستوى) * قولين: أحدهما: أنهما بمعنى واحد وهو استكمال القوة واعتدال المزاج والبنية والثاني: وهو الأصح أنهما معنيان متغايران ثم اختلفوا على وجوه: أحدها: وهو الأقرب أن الأشد عبارة عن كمال القوة الجسمانية البدنية، والاستواء عبارة عن كمال القوة العقلية وثانيها: الأشد عبارة عن كمال القوة، والاستواء عبارة عن كمال البنية والخلقة وثالثها: الأشد عبارة عن البلوغ، والاستواء عبارة عن كمال الخلقة ورابعها: قال ابن عباس الأشد ما بين الثمان عشرة سنة إلى الثلاثين ثم من الثلاثين سنة إلى الأربعين يبقى سواء من غير زيادة ولا نقصان، ومن الأربعين يأخذ في النقصان، وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما حق، لأن الإنسان يكون في أول العمر في النمو والتزايد ثم يبقى من غير زيادة ولا نقصان، ثم يأخذ في الانتقاص فنهاية مدة الازدياد من أول العمر إلى العشرين ومن العشرين إلى الثلاثين يكون التزايد قليلا والقوة قوية جدا ثم من الثلاثين إلى الأربعين يقف فلا يزداد ولا ينتقص ومن الأربعين إلى الستين يأخذ في الانتقاص الخفي، ومن الستين إلى آخر العمر يأخذ في الانتقاص البين الظاهر، ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة والحكمة فيه ظاهرة لأن الإنسان يكون إلى رأس الأربعين قواه الجسمانية من الشهوة والغضب والحس قوية مستكملة فيكون الإنسان منجذبا إليها فإذا انتهى إلى الأربعين أخذت القوى الجسمانية في الانتقاص، والقوة العقلية في الازدياد فهناك يكون الرجل أكمل ما يكون فلهذا السر اختار الله تعالى هذا السن للوحي.
المسألة الثانية: اختلفوا في واحد الأشد، قال الفراء: الأشد واحدها شد في القياس ولم يسمع لها بواحد. وقال أبو الهيثم: واحد الأشد شدة، كما أن واحدة الأنعم نعمة، والشدة القوة والجلادة.
أما قوله: * (آتيناه حكما وعلما) * ففيه وجهان الأول: أنها النبوة وما يقرن بها من العلوم والأخلاق، وعلى هذا التقدير ليس في الآية دليل على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده، لأن الواو في قوله: * (ودخل المدينة) * لا تفيد الترتيب الثاني: آتيناه الحكمة والعلم قال تعالى: * (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) * (الأحزاب: 34) وهذا القول أولى لوجوه: أحدها: أن النبوة أعلى الدرجات البشرية فلا بد وأن تكون مسبوقة بالكمال في العلم والسيرة المرضية التي هي
232

أخلاق الكبراء والحكماء وثانيها: أن قوله: * (وكذلك نجزي المحسنين) * يدل على أنه إنما أعطاه الحكم والعلم مجازاة على إحسانه والنبوة لا تكون جزاء على العمل وثالثها: أن المراد بالحكم والعلم لو كان هو النبوة، لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين لقوله: * (وكذلك نجزي المحسنين) * لأن قوله: * (وكذلك) * إشارة إلى ما تقدم ذكره من الحكم والعلم، ثم بين إنعامه عليه قبل قتل القبطي. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في المدينة فالجمهور على أنها هي المدينة التي كان يسكنها فرعون، وهي قرية على رأس فرسخين من مصر، وقال الضحاك: هي عين شمس.
المسألة الثانية: اختلفوا في معنى قوله: * (على حين غفلة من أهلها) * على أقوال: فالقول الأول: أن موسى عليه السلام لما بلغ أشده واستوى وآتاه الله الحكم والعلم في دينه ودين آبائه، علم أن فرعون وقومه على الباطل، فتكلم بالحق وعاب دينهم، واشتهر ذلك منه حتى آل الأمر إلى أن أخافوه وخافهم، وكان له من بني إسرائيل شيعة يقتدون به ويسمعون منه، وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفا، فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها، ثم الأكثرون على أنه عليه السلام دخلها نصف النهار وقت ما هم قائلون، وعن ابن عباس يريد بين المغرب والعشاء والأول أولى، لأنه تعالى أضاف الغفلة إلى أهلها، وإذا دخل المرء مستترا لأجل خوف، لا تضاف الغفلة إلى القوم القول الثاني: قال السدي: إن موسى عليه السلام حين كبر كان يركب مراكب فرعون، ويلبس مثل ما يلبس، ويدعى موسى ابن فرعون، فركب يوما في أثره فأدركه المقيل في موضع، فدخلها نصف النهار، وقد خلت الطرق، فهو قوله: * (على حين غفلة) * القول الثالث: قال ابن زيد: ليس المراد من قوله: * (على حين غفلة من أهلها) * حصول الغفلة في تلك الساعة، بل المراد الغفلة من ذكر موسى وأمره، فإن موسى حين كان صغيرا ضرب رأس فرعون بالعصا ونتف لحيته، فأراد فرعون قتله، فجيء بجمر فأخذه وطرحه في فيه، فمنه عقدة لسانه، فقال فرعون: لا أقتله، ولكن أخرجوه عن الدار والبلد، فأخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر، والقوم نسوا ذكره وذلك قوله: * (على حين غفلة) * ولا مطمع في ترجيح بعض هذه الروايات على بعض، لأنه ليس في القرآن ما يدل على شيء منها.
المسألة الثالثة: قال تعالى: * (فوجد فيها رجلين يقتتلان، هذا من شيعته وهذا من عدوه) * قال الزجاج: قال: هذا وهذا وهما غائبان على وجه الحكاية، أي وجد فيها رجلين يقتتلان، إذا نظر الناظر إليهما قال هذا من شيعته وهذا من عدوه، ثم اختلفوا فقال مقاتل: الرجلان كانا كافرين، إلا أن أحدهما من بني إسرائيل، والآخر من القبط، واحتج عليه بأن موسى عليه السلام قال له في اليوم الثاني * (إنك لغوي مبين) * (القصص: 18) والمشهور أن الذي من شيعته كان مسلما، لأنه لا يقال فيمن يخالف الرجل في دينه وطريقه: إنه من شيعته، وقيل إن القبطي الذي سخر الإسرائيلي كان
233

طباخ فرعون، استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه، وقيل الرجلان المقتتلان: أحدهما السامري وهو الذي من شيعته، والآخر طباخ فرعون والله أعلم بكيفية الحال، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه، أي سأله أن يخلصه منه واستنصره عليه، فوكزه موسى عليه السلام، الوكز الدفع بأطراف الأصابع، وقيل بجمع الكف.
وقرأ ابن مسعود: (فلكزه موسى)، وقال بعضهم: الوكز في الصدر واللكز في الظهر، وكان عليه السلام شديد البطش، وقال بعض المفسرين: فوكزه بعصاه، قال المفضل هذا غلط، لأنه لا يقال وكزه بالعصا * (فقضى عليه) * أي أماته وقتله.
المسألة الرابعة: احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء عليه السلام من وجوه: أحدها: أن ذلك القبطي إما أن يقال إنه كان مستحق القتل أو لم يكن كذلك، فإن كان الأول فلم قال: * (هذا من عمل الشيطان) * ولم قال: * (رب إني ظلمت نفس فاغفر لي فغفر له) * ولم قال في سورة أخرى * (فعلتها إذا وأنا من الضالين) * (الشعراء: 20)؟ وإن كان الثاني وهو أن ذلك القبطي لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنبا وثانيها: أن قوله: * (وهذا من عدوه) * يدل على أنه كان كافرا حربيا فكان دمه مباحا فلم استغفر عنه، والاستغفار عن الفعل المباح غير جائز، لأنه يوهم في المباح كونه حراما؟ وثالثها: أن الوكز لا يقصد به القتل ظاهرا، فكان ذلك القتل قتل خطأ، فلم استغفر منه؟ والجواب: عن الأول لم لا يجوز أن يقال إنه كان لكفره مباح الدم.
أما قوله: * (هذا من عمل الشيطان) * ففيه وجوه: أحدها: لعل الله تعالى وإن أباح قتل الكافر إلا أنه قال الأولى تأخير قتلهم إلى زمان آخر، فلما قتل فقد ترك ذلك المندوب فقوله: * (هذا من عمل الشيطان) * معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان وثانيها: أن قوله (هذا) إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه فقوله: * (هذا من عمل الشيطان) * أي عمل هذا المقتول من عمل الشيطان، المراد منه بيان كونه مخالفا لله تعالى مستحقا للقتل وثالثها: أن يكون قوله (هذا) إشارة إلى المقتول، يعني أنه من جند الشيطان وحزبه، يقال فلان من عمل الشيطان، أي من أحزابه. أما قوله: * (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) * فعلى نهج قول آدم عليه السلام: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * (الأعراف: 23) والمراد أحد وجهين، إما على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه، وإن لم يكن هناك ذنب قط، أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب.
أما قوله: * (فاغفر لي) * أي فاغفر لي ترك هذا المندوب، وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المراد رب إني ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الملعون، فإن فرعون لو عرف ذلك لقتلني به * (فاغفر لي) * أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون * (فغفر له) * أي ستره عن الوصول إلى فرعون، ويدل على هذا التأويل أنه على عقبه قال: * (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) * ولو كانت إعانة المؤمن ههنا سببا للمعصية لما قال ذلك.
وأما قوله: * (فعلتها إذا وأنا من الضالين) * فلم يقل إني صرت بذلك ضالا، ولكن فرعون لما
234

ادعى أنه كان كافرا في حال القتل نفى عن نفسه كونه كافرا في ذلك الوقت، واعترف بأنه كان ضالا أي متحيرا لا يدري ما يجب عليه أن يفعله وما يدبر به في ذلك. أما قوله إن كان كافرا حربيا فلم استغفر عن قتله؟ قلنا كون الكافر مباح الدم أمر يختلف باختلاف الشرائع فلعل قتلهم كان حراما في ذلك الوقت، أو إن كان مباحا لكن الأولى تركه على ما قررنا، قوله ذلك القتل كان قتل خطأ، قلنا لا نسلم فلعل الرجل كان ضعيفا وموسى عليه السلام كان في نهاية الشدة، فوكزه كان قاتلا قطعا. ثم إن سلمنا ذلك ولكن لعله عليه السلام كان يمكنه أن يخلص الإسرائيلي من يده بدون ذلك الوكز الذي كان الأولى تركه، فلهذا أقدم على الاستغفار على أنا وإن سلمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية لكنا بينا أنه لا دليل البتة على أنه كان رسولا في ذلك الوقت فيكون ذلك صادرا منه قبل النبوة، وذلك لا نزاع فيه
المسألة الخامسة: قالت المعتزلة الآية دلت على بطلان قول من نسب المعاصي إلى الله تعالى لأنه عليه السلام قال: * (هذا من عمل الشيطان) * فنسب المعصية إلى الشيطان، فلو كانت بخلق الله تعالى لكانت من الله لا من الشيطان وهو كقول يوسف عليه السلام * (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) * (يوسف: 100) وقول صاحب موسى عليه السلام: * (وما أنسانيه إلا الشيطان) * (الكهف: 63) وقوله تعالى: * (لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) * (الأعراف: 27).
أما قوله: * (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) * ففيه وجوه: أحدها: أن ظاهره يدل على أنه قال إنك لما أنعمت علي بهذا الإنعام فإني لا أكون معاونا لأحد من المجرمين بل أكون معاونا للمسلمين، وهذا يدل على أن ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي كان طاعة لا معصية، إذ لو كانت معصية، لنزل الكلام منزلة ما إذا قيل إنك لما أنعمت علي بقبول توبتي عن تلك المعصية فإني أكون مواظبا على مثل تلك المعصية وثانيها: قال القفال: كأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرما، والباء للقسم أي بنعمتك علي وثالثها: قال الكسائي والفراء إنه خبر، ومعناه الدعاء كأنه قال فلا تجعلني ظهيرا، قال الفراء وفي حرف عبد الله * (فلا تجعلني ظهيرا) *، واعلم أن في الآية دلالة على أنه لا يجوز معاونة الظلمة والفسقة. وقال ابن عباس: لم يستثن ولم يقل فلن أكون ظهيرا إن شاء الله، فابتلي به في اليوم الثاني، وهذا ضعيف لأنه في اليوم الثاني ترك الإعانة، وإنما خاف منه ذلك العدو فقال: * (إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض) * (القصص: 19) لا أنه وقع منه.
قوله تعالى
* (فأصبح فى المدينة خآئفا يترقب فإذا الذى استنصره بالامس يستصرخه قال له
235

موسى إنك لغوى مبين * فلمآ أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما قال ياموسى أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا بالامس إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الارض وما تريد أن تكون من المصلحين * وجآء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من الناصحين * فخرج منها خآئفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين) *.
اعلم أن عند موت ذلك الرجل من الوكز أصبح موسى عليه السلام من غد ذلك اليوم خائفا من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب به، وخرج على استتار * (فإذا الذي
استنصره) * وهو الإسرائيلي * (بالأمس يستصرخه) * يطلب نصرته بصياح وصراخ، قال له موسى: * (إنك لغوي مبين) * قال أهل اللغة الغوي يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعل أي إنك لمغو لقومي فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه بسببك، ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي. واحتج به من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام، فقال كيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول لرجل من شيعته يستصرخه * (إنك لغوي مبين) *؟ الجواب من وجهين: الأول: أن قوم موسى عليه السلام كانوا غلاظا جفاة ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * (الأعراف: 138) فالمراد بالغوي المبين ذلك الثاني: أنه عليه السلام إنما سماه غويا لأن من تكثر منه المخاصمة على وجه يتعذر عليه دفع خصمه عما يرومه من ضرره يكون خلاف طريقة الرشد. واختلفوا في قوله تعال: * (قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت) * أهو من كلام الإسرائيلي أو القبطي؟ فقال بعضهم لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غوي ورآه على غضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده، فقال هذا القول، وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس للرجل إلا هو، وصار ذلك سببا لظهور القتل ومزيد الخوف، وقال آخرون بل هو
236

قول القبطي، وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي، والظاهر هذا الوجه لأنه تعالى قال: * (فلما أن أراد يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى) * فهذا القول إذن منه لا من غيره وأيضا فقوله: * (إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض) * لا يليق إلا بأن يكون قولا للكافر.
واعلم أن الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن وقيل المتعظم الذي لا يتواضع لأمر أحد، ولما وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وانتهى إلى فرعون وهموا بقتله.
أما قوله: * (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) * قال صاحب " الكشاف " يسعى يجوز ارتفاعه وصفا لرجل، وانتصابه حالا عنه، لأنه قد تخصص بقوله: * (من أقصى المدينة) * والائتمار التشاور يقال الرجلان (يتآمران) يأتمران لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر والمعنى يتشاورون بسببك. وأكثر المفسرين على أن هذا الرجل مؤمن آل فرعون، فعلى وجه الإشفاق أسرع إليه ليخوفه بأن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك.
أما قوله: * (فخرج منها خائفا يترقب) * أي خائفا على نفسه من آل فرعون ينتظر هل يلحقه طلب فيؤخذ، ثم التجأ إلى الله تعالى لعلمه بأنه لا ملجأ سواه فقال: * (رب نجني من القوم الظالمين) * وهذا يدل على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنبا، وإلا لكان هو الظالم لهم وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم إياه ليقتلوه قصاصا.
قوله تعالى
* (ولما توجه تلقآء مدين قال عسى ربى أن يهدينى سوآء السبيل * ولما ورد مآء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعآء وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إنى لمآ أنزلت إلى من خير فقير * فجآءته إحداهما تمشى على استحيآء قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جآءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين * قالت إحداهما يا أبت استاجره
237

إن خير من استاجرت القوى الأمين * قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك ومآ أريد أن أشق عليك ستجدنى إن شاء الله من الصالحين * قال ذلك بينى وبينك أيما الاجلين قضيت فلا عدوان على والله على ما نقول وكيل) *.
اعلم أن الناس اختلفوا في قوله: * (ولما توجه تلقاء مدين) * فال بعضهم إنه خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة فأوصله الله تعالى إلى مدين، وهذا قول ابن عباس، وقال آخرون لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى، ومن الناس من قال بل جاءه جبريل عليه السلام، وعلمه الطريق وذكر ابن جرير عن السدي لما أخذ موسى عليه السلام في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح، فقال لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين، واحتج من قال إنه خرج وما قصد مدين بأمرين: أحدهما: قوله: * (ولما توجه تلقاء مدين) * ولو كان قاصدا للذهاب إلى مدين لقال، ولما توجه إلى مدين فلما لم يقل ذلك بل قال: * (توجه تلقاء مدين) * علمنا أنه لم يتوجه إلا إلى ذلك الجانب من غير أن يعلم أن ذلك الجانب إلى أين ينتهي والثاني: قوله: * (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) * وهذا كلام شاك لا عالم والأقرب أن يقال إنه قصد الذهاب إلى مدين وما كان عالما بالطريق. ثم إنه كان يسأل الناس عن كيفية الطريق لأنه يبعد من موسى عليه السلام في عقله وذكائه أن لا يسأل، ثم قال ابن إسحاق خرج من مصر إلى مدين بغير زاد ولا ظهر، وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر.
238

أما قوله: * (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) * فهو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام: * (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) * (الصافات: 99) وموسى عليه السلام قلما يذكر كلاما في الاستدلال والجواب والدعاء والتضرع إلا ما ذكره إبراهيم عليه السلام، وهكذا الخلف الصدق للسلف الصالح صلوات الله عليهم وعلى جميع الطيبين المطهرين * (ولما ورد ماء مدين) * وهو الماء الذي يسقون منه وكان بئرا فيما روي ووروده مجيئه والوصول إليه * (وجد عليه) * أي فوق شفيره ومستقاه * (أمة) * جماعة كثيرة العدد * (من الناس) * من أناس مختلفين * (ووجد من دونهم) * في مكان أسفل من مكانهم * (امرأتين تذودان) * والذود الدفع والطرد فقوله (تذودان) أي تحبسان ثم فيه أقوال: الأول: تحبسان أغنامهما واختلفوا في علة ذلك الحبس على وجوه: أحدها: قال الزجاج لأن على الماء من كان أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي وثانيها: كانتا تكرهان المزاحمة على الماء وثالثها: لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ورابعها: لئلا تختلطا بالرجال القول الثاني: كانتا تذودان عن وجوههما نظرا الناظر ليراهما والقول الثالث: تذودان الناس عن غنمهما القول الرابع: قال الفراء تحبسانها عن أن تتفرق وتتسرب * (قال ما خطبكما) * أي ما شأنكما وحقيقته ما مخطوبكما أي مطلوبكما من الذياد فسمى المخطوب خطبا كما يسمى المشئون شأنا في قولك ما شأنك * (فقالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) * وذلك يدل على ضعفهما عن السقي من وجوه: أحدها: أن العادة في السقي للرجال، والنساء يضعفن عن ذلك وثانيها: ما ظهر من ذودهما الماشية على طريق التأخير
وثالثها: قولهما حتى يصدر الرعاء ورابعها: انتظارهما لما يبقى من القوم من الماء وخامسها: قولهما: * (وأبونا شيخ كبير) * ودلالة ذلك على أنه لو كان قويا حضر ولو حضر لم يتأخر السقي، فعند ذلك سقى لهما قبل صدر الرعاء، وعادتا إلى أبيهما قبل الوقت المعتاد. قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال، وقرأ الباقون بضم الياء، وكسر الدال فالمعنى في القرارة الأولى حتى ينصرفوا عن الماء ويرجعوا عن سقيهم وصدر ضد ورد، ومن قرأ بضم الياء فالمعنى في القراءة حتى يصدر القوم مواشيهم.
أما قوله: * (فسقى لهما) * أي سقى غنمهما لأجلهما، وفي كيفية السقي أقوال: أحدها: أنه عليه السلام سأل القوم أن يسمحوا فسمحوا وثانيهما: قال قوم عمد إلى بئر على رأسه صخرة لا يقلها إلا عشرة، وقيل أربعون، وقيل مائة فنحاها بنفسه واستقى الماء من ذلك البئر وثالثها: أن القوم لما زاحمهم موسى عليه السلام تعمدوا إلقاء ذلك الحجر على رأس البئر فهو عليه السلام رمى ذلك الحجر وسقى لهما وليس بيان ذلك في القرآن والله أعلم بالصحيح منه، لكن المرأة وصفت موسى عليه السلام بالقوة فدل ذلك على أنها شاهدت منه ما يدل على فضل قوته، وقال تعالى: * (ثم تولى إلى الظل) * وفيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر، وفيه دلالة أيضا على كمال قوة موسى عليه السلام، قال الكلبي: أتى موسى أهل الماء فسألهم دلوا من ماء، فقالوا له إن
239

شئت ائت الدلو فاستق لهما قال نعم، وكان يجتمع على الدلو أربعون رجلا حتى يخرجوه من البئر فأخذ موسى عليه السلام الدلو فاستقى به وحده وصب في الحوض ودعا بالبركة ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما. فإن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب أن يرضى لابنتيه بسقي الماشية؟ قلنا ليس في القرآن ما يدل على أن أباهما كان شعيبا والناس مختلفون فيه، فقال ابن عباس رضي الله عنهما إن أباهما هو بيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعدما عمي وهو اختيار أبي عبيد وقال الحسن إنه رجل مسلم قبل الدين عن شعيب على أنا وإن سلمنا أنه كان شعيبا عليه السلام لكن لا مفسدة فيه لأن الدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس فيها مختلفون وأحوال أهل البادية غير أحوال أهل الحضر، لا سيما إذا كانت الحالة حالة الضرورة.
وأما قوله: * (قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) * فالمعنى إني لأي شيء أنزلت إلي من خير قليل أو كثير غث أو سمين لفقير، وإنما عدى فقيرا باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب.
واعلم أن هذا الكلام يدل على الحاجة، إما إلى الطعام أو إلى غيره، إلا أن المفسرين حملوه على الطعام قال ابن عباس يريد طعاما يأكله، وقال الضحاك مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاما إلا بقل الأرض، وروي أن موسى عليه السلام لما قال ذلك رفع صوته ليسمع المرأتين ذلك، فإن قيل إنه عليه السلام لما بقي معه من القوة ما قدر بها على حمل ذلك الدلو العظيم، فكيف يليق بهمته العالية أن يطلب الطعام، أليس أنه عليه السلام قال: " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي قوة سوي "؟ قلنا أما رفع الصوت بذلك لإسماع المرأتين وطلب الطعام فذاك لا يليق بموسى عليه السلام البتة فلا تقبل تلك الرواية ولكن لعله عليه السلام قال ذلك في نفسه مع ربه تعالى، وفي الآية وجه آخر كأنه قال رب إني بسبب ما أنزلت إلي من خير الدين صرت فقيرا في الدنيا لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، فقال ذلك رضي بهذا البدل وفرحا به وشكرا له، وهذا التأويل أليق بحال موسى عليه السلام.
أما قوله تعالى: * (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) * فقوله * (على استحياء) * في موضع الحال أي مستحيية، قال عمر بن الخطاب قد استترت بكم قميصها، وقيل ماشية على بعد مائلة عن الرجال وقال عبد العزيز بن أبي حازم على إجلال له ومنهم من يقف على قوله: * (تمشي) * ثم يبتدئ فيقول: * (على استحياء) * قالت: * (إن أبي يدعوك) * يعني أنها على الاستحياء قالت هذا القول لأن الكريم إذا دعا غيره إلى الضيافة يستحيي، لا سيما المرأة وفي ذلك دلالة على أن شعيبا لم يكن له معين سواهما وروي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس، قال لهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا، فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي، أما الاختلاف في أن ذلك الشيخ كان شعيبا عليه السلام أو غيره فقد تقدم، والأكثرون على أنه شعيب. وقال محمد بن إسحاق في البنتين اسم الكبرى صفورا، والصغرى ليا، وقال غيره صفرا وصفيرا، وقال الضحاك صافورا والتي جاءت إلى
240

موسى عليه السلام هي الكبرى على قول الأكثرين، وقال الكلبي الصغرى، وليس في القرآن دلالة على شيء من هذه التفاصيل.
أما قوله: * (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) * ففيه إشكالات: أحدها: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية، فإن ذلك يورث التهمة العظيمة، وقال عليه السلام: " اتقوا مواضع التهم "؟ وثانيها: أنه سقى أغنامهما تقربا إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه فإن ذلك غير جائز في المروءة، ولا في الشريعة؟ وثالثها: أنه عرف فقرهن وفقر أبيهن وعجزهم وأنه عليه السلام كان في نهاية القوة بحيث كان يمكنه الكسب الكثير بأقل سعي، فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من السقي من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة؟ ورابعها: كيف يليق بشعيب النبي عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون ذلك الرجل عفيفا أو فاسقا؟ والجواب: عن الأول أن نقول: أما العمل بقول امرأة فكما نعمل بقول الواحد حرا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى في الأخبار وما كانت إلا مخبرة عن أبيها، وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع والجواب: عن الثاني، أن المرأة وإن قالت ذلك فلعل موسى عليه السلام ما ذهب إليهم طلبا للأجرة بل للتبرك برؤية ذلك الشيخ، وروي أنها لما قالت ليجزيك كره ذلك، ولما قدم إليه الطعام امتنع، وقال إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا، ولا نأخذ على المعروف ثمنا، حتى قال شعيب عليه السلام هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا، وأيضا فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق تحمله فقبل ذلك على سبيل الاضطرار وهذا هو الجواب: عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات والجواب: عن الرابع لعله عليه السلام كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها فكان يعتمد عليها.
أما قوله: * (فلما جاءه) * قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فكشفت عنها فقال موسى عليه السلام إني من عنصر إبراهيم عليه السلام فكوني من خلفي حتى لا ترفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحل لي، فلما دخل على شعيب فإذا الطعام موضوع، فقال شعيب تناول يا فتى، فقال موسى عليه السلام أعوذ بالله قال شعيب ولم؟ قال لأنا من أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا، فقال شعيب ولكن عادتي وعادة آبائي إطعام الضيف فجلس موسى عليه السلام فأكل، وإنما كره أكل الطعام خشية أن يكون ذلك أجرة له على عمله، ولم يكره ذلك مع الخضر حين قال: * (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) * (الكهف: 77) والفرق أن أخذ الأجر على الصدقة لا يجوز، أما الاستئجار ابتداء فغير مكروه.
أما قوله: * (وقص عليه القصص) * فالقصص مصدر كالعلل سمي به المقصوص، قال الضحاك لما دخل عليه قال له من أنت يا عبد الله، فقال أنا موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم، وقتل
241

القبطي وأنهم يطلبونه ليقتلوه، فقال شعيب: * (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) * أي لا سلطان له بأرضنا فلسنا في مملكته وليس في الآية دلالة على أنه قال ذلك عن الوحي أو على ما تقتضيه العادة. فإن قيل: المفسرون قالوا إن فرعون يوم ركب خلف موسى عليه السلام ركب في ألف ألف وستمائة ألف، فالملك الذي هذا شأنه كيف يعقل أن لا يكون في ملكه قرية على بعد ثمانية أيام من دار مملكته؟ قلنا هذا وإن كان نادرا إلا أنه ليس بمحال.
أما قوله: * (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: وصفته بالقوة لما شاهدت من كيفية السقي وبالأمانة لما حكينا من غض بصره حال ذودهما الماشية وحال سقيه لهما وحال مشيه بين يديها إلى أبيها.
المسألة الثانية: إنما جعل * (خير من استأجرت) * اسما و * (القوى الأمين) * خبرا مع أن العكس أولى لأن العناية هي سبب التقديم.
المسألة الثالثة: القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما الفطنة والكياسة، فلم أهمل أمر الكياسة؟ ويمكن أن يقال إنها داخلة في الأمانة، عن ابن مسعود رضي الله: " أفرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف وأبو بكر في عمر ".
أما قوله: * (قال إني أريد أنكحك إحدى ابنتي هاتين) * فلا شبهة في أن هذا اللفظ، وإن كان على الترديد لكنه عند التزويج عين ولا شبهة في أن العقد وقع على أقل الأجلين، فكانت الزيادة كالتبرع، والفقهاء ربما استدلوا به على أن العمل قد يكون مهرا كالمال وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز، ولكنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا، ويدل على أنه قد كان جائزا في تلك الشريعة أن يشرط للولي منفعة، وعلى أنه كان جائزا في تلك الشريعة نكاح المرأة بغير بدل تستحقه المرأة وعلى أن عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد، ثم قال: * (على أن تأجرني ثماني حجج) * تأجرني من أجرته إذا كنت له أجيرا وثماني حجج ظرفه أو من أجرته كذا إذا أثبته إياه ومنه أجركم الله ورحمكم وثماني حجج مفعول به ومعناه رعية ثماني حجج ثم قال: * (وما أريد أن أشق عليك) * وفيه وجهان: الأول: لا أريد أن أشق عليك بإلزام أثم الرجلين، فإن قيل ما حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر؟ قلنا حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين، تقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه الثاني: لا أريد أن أشق عليك في الرعي ولكني أساهلك فيها وأسامحك بقدر الإمكان ولا أكلفك الاحتياط الشديد في كيفية الرعي، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس، ومنه الحديث " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي فكان خير شريك لا يداري ولا يشاري ولا يماري " ثم قال: * (ستجدني إن شاء الله من الصالحين) * وفيه وجهان: الأول: يريد بالصلاح حسن المعاملة ولين الجانب والثاني: يريد الصلاح على العموم ويدخل تحته حسن المعاملة، وإنما قال إن شاء الله للاتكال على توفيقه ومعونته.
242

فإن قيل فالعقد كيف ينعقد مع هذا الشرط، فإنك لو قلت امرأتي طالق إن شاء الله لا تطلق؟ قلنا هذا مما يختلف بالشرائع. أما قوله تعالى: * (قال ذلك بيني وبينك) * فاعلم أن ذلك مبتدأ وبيني وبينك خبره وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب عليه السلام، يريد ذلك الذي قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعا لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما شرطت علي ولا أنت عما شرطت على نفسك، ثم قال: * (أيما الأجلين قضيت) * من الأجلين أطولهما الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان * (فلا عدوان علي) * أي لا يعتدي علي في طلب الزيادة أراد بذلك تقرير أمر الخيار يعني إن شاء هذا وإن شاء هذا ويكون اختيار الأجل الزائد موكولا إلى رأيه من غير أن يكون لأحد عليه إجبار، ثم قال: * (والله على ما نقول وكيل) * والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر ولما استعمل الوكيل في معنى الشاهد عدي بعلي لهذا السبب.
قوله تعالى
* (فلما قضى موسى الاجل وسار بأهله ءانس من جانب الطور نارا قال لاهله امكثوا إنى ءانست نارا لعلى ءاتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون * فلمآ أتاها نودى من شاطىء الوادى الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إنى أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الامنين * اسلك يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك
243

برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين) *.
اعلم أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تزوج صغراهما وقضى أوفاهما " أي قضى أوفى الأجلين، وقال مجاهد قضى الأجل عشر سنين ومكث بعد ذلك عنده عشر سنين وقوله: * (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس) * يدل على أن ذلك الإيناس حصل عقيب مجموع الأمرين ولا يدل على أنه حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل، فبطل ما قاله القاضي من أن ذلك يدل على أنه لم يزد عليه وقوله: * (وسار بأهله) * ليس فيه دلالة على أنه خرج منفردا معها وقوله: * (امكثوا) * فيه دلالة على الجمع.
أما قوله: * (إني آنست نارا) * فقد مر تفسيره في سورة طه والنمل.
أما قوله: * (لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) * ففيه أبحاث:
الأول: قال صاحب " الكشاف " الجذوة باللغات الثلاث وقد قرىء بهن جميعا وهو العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن، قال الزجاج الجذوة القطعة الغليظة من الحطب.
الثاني: قد حكينا في سورة طه أنه أظلم عليه الليل في الصحراء وهبت ريح شديدة فرقت ماشيته وضل وأصابهم مطر فوجدوا بردا شديدا فعنده أبصر نارا بعيدة فسار إليها يطلب من يدله على الطريق وهو قوله: * (آتيكم منها بخبر) * أو آتيكم من هذه النار بجذوة من الحطب لعلكم تصطلون وفي قوله: * (لعلي آتيكم منها بخبر) * دلالة على إنه ضل وفي قوله: * (لعلكم تصطلون) * دلالة على البرد.
أما قوله: * (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) * فاعلم أن شاطئ الوادي جانبه وجاء النداء عن يمين موسى من شاطئ الوادي من قبل الشجرة وقوله: * (من الشجرة) * بدل من قوله: * (من شاطئ الوادي) * بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ كقوله: * (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم) * (الزخرف: 33) وإنما وصف البقعة بكونها مباركة لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة وتكليم الله تعالى إياه وههنا مسائل:
المسألة الأولى: احتجت المعتزلة على قولهم إن الله تعالى متكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله: * (من الشجرة) * فإن هذا صريح في أن موسى عليه السلام سمع النداء من الشجرة والمتكلم بذلك النداء هو الله سبحانه وهو تعالى منزه أن يكون في جسم فثبت أنه تعالى إنما يتكلم بخلق الكلام في جسم أجاب القائلون بقدم الكلام فقالوا لنا مذهبان الأول: قول أبي منصور الماتريدي وأئمة ما وراء النهر وهو أن الكلام القديم القائم بذات الله تعالى غير مسموع إنما المسموع هو الصوت والحرف وذلك كان مخلوقا في الشجرة ومسموعا منها، وعلى هذا التقدير زال السؤال
244

الثاني: قول أبي الحسن الأشعري وهو أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعا، كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية فعلى هذا القول لا يبعد أنه سمع الحرف والصوت من الشجرة وسمع الكلام القديم من الله تعالى لا من الشجرة فلا منافاة بين الأمرين، واحتج أهل السنة بأن محل قوله: * (إني أنا الله رب العالمين) * لو كان هو الشجرة لكان قد قالت الشجرة إني أنا الله، والمعتزلة أجابوا بأن هذا إنما يلزم لو كان المتكلم بالكلام هو محل الكلام لا فاعله وهذا هو أصل المسألة، أجاب أهل السنة بأن الذراع المسموم قال لا تأكل مني فإني مسموم ففاعل ذلك الكلام هو الله تعالى، فإن كان المتكلم بالكلام هو فاعل ذلك الكلام لزم أن يكون الله قد قال لا تأكل مني فإني مسموم، وهذا باطل وإن كان المتكلم هو محل الكلام لزم أن تكون الشجرة قد قالت إني أنا الله وكل ذلك باطل.
المسألة الثانية: يحتمل أن يقال إنه تعالى خلق فيه علما ضروريا بأن ذلك الكلام كلام الله، والمعتزلة لا يرضون بذلك قالوا لأنه لو علم بالضرورة أن ذلك الكلام كلام الله لوجب أن يعلم بالضرورة وجود الله تعالى لأنه يستحيل أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلومة بالنظر ولو علم موسى أنه الله تعالى بالضرورة لزال التكليف ويحتمل أن يقال إنه تعالى لما أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت عرف أن مثل ذلك الكلام لا يمكن أن يكون كلام الخلق ويحتمل أن يقال إن ظهور الكلام من الشجرة كظهور التسبيح من الحصى في أنه يعلم أن مثل ذلك لا يكون إلا من الله تعالى، ويحتمل أن يكون المعجز هو أنه رأى النار في الشجرة الرطبة فعلم أنه لا يقدر على الجمع بين النار وبين خضرة الشجرة إلا الله تعالى، ويحتمل أن يصح ما يروى أن إبليس لما قال له كيف عرفت أنه نداء الله تعالى؟ قال لأني سمعته بجميع أجزائي، فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء علم أن ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى، وهذا إنما يصح على مذهبنا حيث قلنا البنية ليست شرطا.
المسألة الثالثة: قال في سورة النمل (8) * (نودي أن بورك من في النار ومن حولها) * وقال ههنا * (نؤذي... إني أنا الله رب العالمين) * وقال في طه (11، 12): * (نودي... إني أنا ربك) * ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء.
المسألة الرابعة: قال الحسن إن موسى عليه السلام نودي نداء الوحي لا نداء الكلام والدليل عليه قوله تعالى: * (فاستمع لما يوحى) * قال الجمهور إن الله تعالى كلمه من غير واسطة والدليل عليه قوله تعالى: * (وكلم الله موسى تكليما) * (النساء: 164) وسائر الآيات، وأما الذي تمسك به الحسن فضعيف لأن قوله: * (فاستمع لما يوحى) * لم يكن بالوحي لأنه لو كان ذلك أيضا بالوحي لانتهى آخر الأمر إلى كلام يسمعه المكلف لا بالوحي وإلا لزم التسلسل بل المراد من قوله: * (فاستمع لما يوحى) * وصيته بأن يتشدد في الأمور التي تصل إليه في مستقبل الزمان بالوحي.
245

أما قوله: * (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) * فقد تقدم تفسير كل ذلك، وقوله * (كأنها جان) * صريح في أنه تعالى شبهها بالجان ولم يقل إنه في نفسه جان، فلا يكون هذا مناقضا لكونه ثعبانا بل شبهها بالجان من حيث الاهتزاز والحركة لا من حيث المقدار، وقد تقدم الكلام في خوفه، ومعنى * (ولم يعقب) * لم يرجع، يقال عقب المقاتل إذا كر بعد الفر، وقال وهب إنها لم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعتها حتى سمع موسى عليه السلام صرير أسنانها وسمع قعقعة الصخر في جوفها فحينئذ ولى، واختلفوا في العصا على وجوه: أحدها: قالوا إن شعيبا كانت عنده عصي الأنبياء عليهم السلام، فقال لموسى بالليل إذا دخلت ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي، فأخذ عصا هبط بها آدم عليه السلام من الجنة ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب عليه السلام فقال أرني العصا فلمسها وكان مكفوفا فضن بها فقال خذ غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له معها شأنا. وروي أيضا أن شعيبا عليه السلام أمر ابنته أن تأتي بعصا لأجل موسى عليه السلام فدخلت البيت وأخذت العصا وأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلم يقع
في يدها غيرها، فلما رأى الشيخ ذلك رضي به ثم ندم بعد ذلك وخرج يطلب موسى عليه السلام فلما لقيه قال أعطني العصا، قال موسى هي عصاي فأبى أن يعطيه إياها فاختصما، ثم توافقا على أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما فأتاهما ملك يمشي فقضى بينهما فقال ضعوها على الأرض فمن حملها فهي له فعالجها الشيخ فلم يطق وأخذها موسى عليه السلام بسهولة، فتركها الشيخ له ورعى له عشر سنين وثانيها: روى ابن صالح عن ابن عباس قال كان في دار بيرون ابن أخي شعيب بيت لا يدخله إلا بيرون وابنته التي زوجها من موسى عليه السلام، وأنها كانت تكنسه وتنظفه، وكان في ذلك البيت ثلاث عشرة عصا، وكان لبيرون أحد عشر ولدا من الذكور فكلما أدرك منهم ولد أمره بدخول البيت وإخراج عصا من تلك العصي فرجع موسى ذات يوم إلى منزله، فلم يجد أهله واحتج إلى عصا لرعيه فدخل ذلك البيت وأخذ عصا من تلك العصي وخرج بها فلما علمت المرأة ذلك انطلقت إلى أبيها وأخبرته بذلك فسر بذلك بيرون وقال لها إن زوجك هذا لنبي، وإن له مع هذه العصا لشأنا وثالثها: في بعض الأخبار أن موسى عليه السلام لما عقد العقد مع شعيب وأصبح من الغد وأراد الرعي قال له شعيب عليه السلام اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ بها أكثر فإن بها تنينا عظيما فأخشى عليك وعلى الأغنام منه، فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يردها فلم يقدر فسار على أثرها فرأى عشبا كثيرا، ثم إن موسى عليه السلام نام والأغنام ترعى وإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى عليه السلام فقاتلته حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى وهي دامية فلما استيقظ موسى عليه السلام رأى العصا دامية والتنين
246

مقتولا فارتاح لذلك وعلم أن لله تعالى في تلك العصا قدرة وآية، وعاد إلى شعيب عليه السلام وكان ضريرا فمس الأغنام فإذا هي أحسن حالا مما كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى عليه السلام بالقصة ففرح بذلك وعلم أن لموسى عليه السلام وعصاه شأنا، فأراد أن يجازي موسى عليه السلام على حسن رعيه إكراما وصلة لابنته فقال إني وهبت لك من السخال التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء، فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقي الغنم منه ففعل ثم سقى الأغنام منه فما أخطت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى عليه السلام وامرأته فوفى له شرطه ورابعها: قال بعضهم تلك العصا هي عصا آدم عليه السلام وإن جبريل عليه السلام أخذ تلك العصا بعد موت آدم عليه السلام فكانت معه حتى لقي بها موسى عليه السلام ربه ليلا وخامسها: قال الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا أي أخذها من عرض الشجر يقال اعترض إذا لم يتخير، وعن الكلبي: الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه ولا مطمع في ترجيح بعض هذه الوجوه على بعض لأنه ليس في القرآن ما يدل عليها والأخبار متعارضة والله أعلم بها.
أما قوله تعالى: * (أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) * فاعلم أن الله تعالى قد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات أحدها: هذه وثانيها: قوله في طه (22) * (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء) * وثالثها: قوله في النمل (12) * (وأدخل يدك في جيبك) * قال العزيزي في غريب القرآن: * (اسلك يدك في جيبك) * أدخلها فيه.
أما قوله: * (واضمم إليك جناحك من الرهب) * فأحسن الناس كلاما فيه، قال صاحب " الكشاف ": فيه معنيان أحدهما: أن موسى عليه السلام لما قلب الله له العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء، فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار معجزة أخرى، والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه الثاني: أن يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعاره من فعل الطائر، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران، ومعنى قوله: * (من الرهب) * من أجل الرهب، أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك وقوله: * (أسلك يدك في جيبك) * على أحد التفسيرين واحد، ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني إخفاء الرهب، فإن قيل قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين
247

مضموما وفي الآخر مضموما إليه، وذلك قوله: * (واضمم إليك جناحك) * وقوله: * (واضمم يدك إلى جناحك) * (طه: 22) فما التوفيق بينهما؟ قلنا المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى، وبالمضموم إليه اليد اليسرى، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح، هذا كله كلام صاحب " الكشاف " وهو في نهاية الحسن.
أما قوله تعالى: * (فذانك) * قرىء مخففا ومشددا، فالمخفف مثنى (ذا)، والمشدد مثنى (ذان)، قوله: * (برهانان من ربك) * حجتان نيرتان على صدقه في النبوة وصحة ما دعاهم إليه من التوحيد، وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون حتى عرف ما الذي يظهره عنده من المعجزات، لأنه تعالى حكى بعد ذلك عن موسى عليه السلام أنه قال: * (إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون) * (القصص: 33) قال القاضي: وإذا كان كذلك فيجب أن يكون في حال ظهور البرهانين هناك من دعاه إلى رسالته من أهله أو غيرهم، إذا المعجزات إنما تظهر على الرسل في حال الإرسال لا قبله، وإنما تظهر لكي يستدل بها غيرهم على الرسالة وهذا ضعيف، لأنه ثبت أنه لا بد في إظهار المعجزة من حكمة ولا حكمة أعظم من أن يستدل بها الغير على صدق المدعي، وأما كونه لا حكمة ههنا فلا نسلم، فلعل هناك أنواعا من الحكم والمقاصد سوى ذلك، لا سيما وهذه الآيات متطابقة على أنه لم يكن هناك مع موسى عليه السلام أحد.
قوله تعالى
* (قال رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخى هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردءا يصدقنى إنى أخاف أن يكذبون * قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما باياتنآ أنتما ومن تبعكما الغالبون * فلما جآءهم موسى باياتنا بينات قالوا
248

ما هذآ إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا فى ءابآئنا الاولين * وقال موسى ربى أعلم بمن جآء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه) * (القصص: 32) تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه، فعند ذلك طلب من الله تعالى ما يقوي قلبه ويزيل خوفه فقال: * (رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون، وأخي هارون هو أفصح مني لسانا) * لأنه كان في لسانه حبسة، إما في أصل الخلقة، وإما لأجل أنه وضع الجمرة في فيه عندما نتف لحية فرعون.
أما قوله: * (فأرسله معي ردءا يصدقني) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: الردء اسم ما يستعان به، فعل بمعنى مفعول به، كما أن الدفء اسم لما يدفأ به، يقال ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشب أو غيره لئلا يسقط.
البحث الثاني: قرأ نافع (ردا) بغير همز والباقون بالهمز، وقرأ عاصم وحمزة (يصدقني) برفع القاف، ويروى ذلك أيضا عن أبي عمرو والباقون بجزم القاف وهو المشهور عن أبي عمرو، فمن رفع فالتقدير ردءا مصدقا لي، ومن جزم كان على معنى الجزاء، يعني أن أرسلته صدقني ونظيره قوله: * (فهب لي من لدنك وليا * يرثني) * (مريم: 5، 6) بجزم الثاء من يرثني. وروى السدي عن بعض شيوخه ردءا كيما يصدقني.
البحث الثالث: الجمهور على أن التصديق لهارون، وقال مقاتل: المعنى كي يصدقني فرعون والمعنى أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان، فعند اجتماع البرهانين ربما حصل المقصود من تصديق فرعون.
البحث الرابع: ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت، أو يقول للناس صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد، ألا ترى إلى قوله: * (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي) * وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا في مجرد قوله: صدقت.
البحث الخامس: قال الجبائي: إنما سأل موسى عليه السلام أن يرسل هارون بأمر الله تعالى وإن كان لا يدري هل يصلح هارون للبعثة أم لا؟ فلم يكن ليسأل مالا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة، ويحتمل أيضا أن يقال إنه سأله لا مطلقا بل مشروطا على معنى، إن اقتضت الحكمة ذلك كما يقوله الداعي في دعائه.
البحث السادس: قال السدي: إن نبيين وآيتين أقوى من نبي واحد وآية واحدة. قال القاضي والذي قاله من جهة العادة أقوى، فأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ونبي ونبيين، لأن المبعوث إليه إن نظر في أيهما كان علم، وإن لم ينظر فالحالة واحدة، هذا إذا
249

كانت طريقة الدلالة في المعجزتين واحدة، فإما إذا اختلفت وأمكن في إحداهما إزالة الشبهة ما لا يمكن في الأخرى، فغير ممتنع أن يختلفا ويصلح عند ذلك أن يقال إنهما بمجموعهما أقوى من إحداهما على ما قاله السدي، لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهارون عليهما السلام، لأن معجزتهما كانت واحدة لا متغايرة.
أما قوله: * (سنشد عضدك بأخيك) * فاعلم أن العضد قوام اليد وبشدتها تشتد، يقال في دعاء الخير شد الله عضدك، وفي ضده فت الله في عضدك. ومعنى سنشد عضدك بأخيك سنقويك به، فإما أن يكون ذلك لأن اليد تشتد لشدة العضد والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور، وإما لأن الرجل شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة.
أما قوله: * (ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما) * فالمقصود أن الله تعالى آمنه مما كان يحذر فإن قيل بين تعالى أن السلطان هو بالآيات فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة وإن كانت هذه الآيات ظاهرة، قلنا إن الآية التي هي قلب العصا حية كما أنها معجزة فهي أيضا تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون عليهما السلام، لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره وصارت آية ومعجزة فجمعت بين الأمرين، فأما صلب السحرة ففيه خلاف فمنهم من قال ما صلبوا وليس في القرآن ما يدل عليه وإن سلمنا ذلك ولكنه تعالى قال: * (فلا يصلون إليكما) * فالمنصوص أنهم لا يقدرون على إيصال الضرر إليهما وإيصال الضرر إلى غيرهما لا يقدح فيه، ثم قال: * (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) * والمراد إما الغلبة بالحجة والبرهان في الحال، أو الغلبة في الدولة والمملكة في ثاني الحال والأول أقرب إلى اللفظ.
أما قوله: * (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات) * فقد بينا في سورة طه أنه كيف أطلق لفظ الآيات وهو جمع على العصا واليد.
أما قوله: * (قالوا ما هذا إلا سحر مفترى) * فقد اختلفوا في مفترى، فقال بعضهم المراد أنه إذا كان سحرا وفاعله يوهم خلافه فهو المفترى، وقال الجبائي المراد أنه منسوب إلى الله تعالى وهو من قبله فكأنهم قالوا هو كذب من هذا الوجه ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم وهو قولهم: * (وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) * أي ما حدثنا بكونه فيهم، ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا مثله، أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته، أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى عليه السلام ومجيئه بما جاء به. واعلم أن هذه الشبهة ساقطة لأن حاصلها يرجع إلى التقليد ولأن حال الأولين لا يخلو من وجهين، إما أن لا يورد عليهم بمثل هذه الحجة فحينئذ الفرق ظاهر أو أورد عليهم فدفعوه فحينئذ
250

لا يجوز جعل جهلهم وخطئهم حجة، فعند ذلك قال موسى عليه السلام وقد عرف منهم العناد * (ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار) * فإن من أظهر الحجة ولم يجد من الخصم اعتراضا عليها وإنما لما وجد منه العناد صح أن يقول ربي أعلم بمن معه الهدى والحجة منا جميعا ومن هو على الباطل ويضم إليه طريق الوعيد والتخويف وهو قوله: * (ومن تكون له عاقبة الدار) * من ثواب على تمسكه بالحق أو من عقاب وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة والدليل عليه قوله تعالى: * (أولئك لهم عقبى الدار * جنات عدن) * (الرعد: 22، 23) وقوله: * (وسيعلم الكفار لمن عقبى لدار) * (البلد: 42) والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها
وعقباها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت فإن قيل العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار، لأن الدنيا قد تكون خاتمتها بخير في حق البعض وبشر في حق البعض الآخر، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلنا إنه قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازا إلى الآخرة وأمر عباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليبلغوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق، فمن عمل فيها خلاف ما وضعها الله له فقد حرف، فإذن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير، وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله: * (إنه لا يفلح الظالمون) * والمراد أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع بل يحصلون على ضد ذلك وهذا نهاية في زجرهم عن العناد الذي ظهر منهم.
قوله تعالى
* (وقال فرعون يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيرى فأوقد لى ياهامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه من الكاذبين * واستكبر هو وجنوده فى الارض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم فانظر كيف كان
251

عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين * ولقد ءاتينا موسى الكتاب من بعد مآ أهلكنا القرون الاولى بصآئر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) *.
اعلم أن فرعون كانت عادته متى ظهرت حجة موسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروجها على أغمار قومه وذكر ههنا شبهتين الأولى: قوله: * (ما علمت لكم من إله غيري) * وهذا في الحقيقة يشتمل على كلامين: أحدهما: نفى إله غيره والثاني: إثبات إلهية نفسه، فأما الأول فقد كان اعتماده على أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته، أما أنه لا دليل عليه فلأن هذه الكواكب والأفلاك كافية في اختلاف أحوال هذا العالم السفلي فلا حاجة إلى إثبات صانع، وأما أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته فالأمر فيه ظاهر.
واعلم أن المقدمة الأولى كاذبة فإنا لا نسلم أنه لا دليل على وجود الصانع وذلك لأنا إذا عرفنا بالدليل حدوث الأجسام عرفنا حدوث الأفلاك والكواكب، وعرفنا بالضرورة أن المحدث لا بد له من محدث فحينئذ نعرف بالدليل أن هذا العالم له صانع، والعجب أن جماعة اعتمدوا في نفي كثير من الأشياء على أن قالوا لا دليل عليه فوجب نفيه، قالوا وإنما قلنا إنه لا دليل لأنا بحثنا وسبرنا فلم نجد عليه دليلا، فرجع حاصل كلامهم بعد التحقيق إلى أن كل ما لا يعرف عليه دليل وجب نفيه، وإن فرعون لم يقطع بالنفي بل قال لا دليل عليه فلا أثبته بل أظنه كاذبا في دعواه، ففرعون على نهاية جهله أحسن حالا من هذا المستدل. أما الثاني وهو إثباته إلهية نفسه، فاعلم أنه ليس المراد منه أنه كان يدعي كونه خالقا للسموات والأرض والبحار والجبال وخالقا لذوات الناس وصفاتهم، فإن العلم بامتناع ذلك من أوائل العقول فالشك فيه يقتضي زوال العقل، بل الإله هو المعبود فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره، فهذا هو المراد من ادعائه الإلهية لا ما ظنه الجمهور من ادعائه كونه خالقا للسماء والأرض، لا سيما وقد دللنا في سورة طه (49) في تفسير قوله: * (فمن ربكما يا موسى) * على أنه كان عارفا بالله تعالى وأنه كان يقول ذلك ترويجا على الأغمار من الناس الشبهة الثانية: قوله: * (فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين) * وههنا أبحاث:
الأول: تعلقت المشبهة بهذه الآية في أن الله تعالى في السماء قالوا لولا أن موسى عليه السلام دعاه إلى ذلك لما قال فرعون هذا القول والجواب: أن موسى عليه السلام دل فرعون بقوله:
252

* (رب السماوات والأرض) * (الشعراء: 24) ولم يقل هو الذي في السماء دون الأرض، فأوهم فرعون أنه يقول إن إلهه في السماء، وذلك أيضا من خبث فرعون ومكره ودهائه.
الثاني: اختلفوا في أن فرعون هل بنى هذا الصرح؟ فال قوم إنه بناه قالوا إنه لما أمر ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل وقطعة وقعت في البحر وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك، ويروى في هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه ورمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردت إليهم وهي ملطوخة بالدم، فقال قد قتلت إله موسى فعند ذلك بعث الله تعالى جبريل عليه السلام لهدمه. ومن الناس من قال إنه لم يبن ذلك الصرح لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها حين كان على قرار الأرض، ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل، وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء ورجوعه متلطخا بالدم، فإن كل من كان كامل العقل يعلم أنه لا يمكنه إيصال السهم إلى السماء، وأن من حاول ذلك كان من المجانين فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها الله تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل، فيصير ذلك مشرعا قويا لمن أحب الطعن في القرآن، فالأقرب أنه كان أوهم البناء ولم يبن أو كان هذا من تتمة قوله: * (ما علمت لكم من إله غيري) * يعني لا سبيل إلى إثباته بالدليل، فإن حركات الكواكب كافية في تغير هذا العالم ولا سبيل إلى إثباته بالحس، فإن الإحساس به لا يمكن إلا بعد صعود السماء وذلك مما لا سبيل إليه، ثم قال عند ذلك لهامان: * (ابن لي صرحا أبلغ به أسباب السماوات) * وإنما قال ذلك على سبيل التهكم فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع، ثم إنه رتب النتيجة عليه فقال: * (وإني لأظنه من الكاذبين) * فهذا التأويل أولى مما عداه.
الثالث: إنما قال: * (أوقد لي يا هامان على الطين) * ولم يقل اطبخ لي الآجر واتخذه لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة ولأن هذه العبارة أليق بفصاحة القرآن وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان، وهو وزيره بالإيقاد على الطين فنادى باسمه بيا في وسط الكلام دليل على التعظم والتجبر، والطلوع والاطلاع الصعود يقال طلع الجبل واطلع بمعنى واحد.
أما قوله: * (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق) * فاعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وهو المتكبر في الحقيقة أي المبالغ في كبرياء الشأن، قال عليه السلام فيما حكى عن ربه " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار " وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق.
253

المسألة الثانية: قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى ما أعطاه الملك وإلا لكان ذلك بحق وهكذا كل متغلب، لا كما ادعى ملوك بني أمية عند تغلبهم أن ملكهم من الله تعالى فإن الله تعالى قد بين في كل غاصب لحكم الله أنه أخذ ذلك بغير حق، واعلم أن هذا ضعيف لأن وصول ذلك الملك إليه، إما أن يكون منه أو من الله تعالى، أو لا منه ولا من الله تعالى، فإن كان منه فلم لم يقدر عليه غيره، فربما كان العاجز أقوى وأعقل بكثير من المتولي للأمر؟ وإن كان من الله تعالى فقد صح الغرض، وإن كان من سائر الناس فلم اجتمعت دواعي الناس على نصرة أحدهما وخذلان الآخر؟ واعلم أن هذا أظهر من أن يرتاب فيه العاقل.
أما قوله: * (وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون) * فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين بالله تعالى إلا أنهم كانوا ينكرون البعث فلأجل ذلك تمردوا وطغوا.
أما قوله: * (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) * فهو من الكلام المفحم الذي دل به على عظم شأنه وكبرياء سلطانه، شبههم استحقارا لهم واستقلالا لعددهم، وإن كانوا الكبير الكثير والجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر ونحو ذلك وقوله: * (وجعلنا فيها رواسي شامخات) * (المرسلات: 27) * (وحملت الأرض والجبال. فدكتا دكة واحدة) * (الحاقة: 14) * (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) * (الزمر: 67) سبحانه وتعالى وليس الغرض منه إلا تصوير أن كل مقدور وإن عظم فهو حقير بالقياس إلى قدرته.
أما قوله: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) * فقد تمسك به الأصحاب في كونه تعالى خالقا للخير والشر، قال الجبائي المراد بقوله: * (وجعلناهم) * أي بينا ذلك من حالهم وسميناهم به، ومنه قوله: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * (الزخرف: 19) وتقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله جعله فاسقا وبخيلا، لا أنه خلقهم أئمة لأنهم حال خلقهم لهم كانوا أطفالا، وقال الكعبي: إنما قال: * (وجعلناهم أئمة) * من حيث خلى بينهم وبين ما فعلوه ولم يعاجل بالعقوبة، ومن حيث كفروا ولم يمنعهم بالقسر، وذلك كقوله: * (فزادتهم رجسا) * (التوبة: 125) لما زادوا عندها ونظير ذلك أن الرجل يسأل ما يثقل عليه، وإن أمكنه فإذا بخل به قيل للسائل جعلت فلانا بخيلا أي قد بخلته، وقال أبو مسلم معنى الإمامة التقدم فلما عجل الله تعالى لهم العذاب صاروا متقدمين لمن وراءهم من الكافرين. واعلم أن الكلام فيه قد تقدم في سورة مريم (83) في قوله: * (أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) * ومعنى دعوتهم إلى النار دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي فإن أحدا لا يدعو إلى النار البتة، وإنما جعلهم الله تعالى أئمة في هذا الباب لأنهم بلغوا في هذا الباب أقصى النهايات، ومن كان كذلك استحق أن يكون إماما يقتدى به في ذلك الباب، ثم بين تعالى أن ذلك العقاب سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه وهو معنى قوله: * (ويوم القيامة لا ينصرون) * أو يكون معناه ويوم القيامة لا ينصرون كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة.
254

أما قوله: * (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة) * معناه لعنة الله والملائكة لهم وأمره تعالى بذلك فيها للمؤمنين، وبين أنهم يوم القيامة من المقبوحين أي المبعدين الملعونين، والقبح هو الإبعاد، قال الليث يقال قبحه الله، أي نحاه عن كل خير. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من المشئومين بسواد الوجه وزرقة العين، وعلى الجملة فالأولون حملوا القبح على القبح الروحاني وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، والباقون حملوه على القبح في الصور. وقيل فيه إنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم ويجمع بين الفضيحتين. ثم بين تعالى أن الذي يجب التمسك به ما جاء به موسى عليه السلام فقال: * (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) * والكتاب هو التوراة، ووصفه تعالى بأنه بصائر للناس، من حيث يستبصر به في باب الدين، وهدى من حيث يستدل به، ومن حيث إن المتمسك به يفوز بطلبته من الثواب، ووصفه بأنه رحمة لأنه من نعم الله تعالى على من تعبد به. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أهلك الله تعالى قرنا من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة، غير أهل القرية التي مسخها قردة ".
أما قوله: * (لعلهم يتذكرون) * فالمراد لكي يتذكروا، قال القاضي: وذلك يدل على إرادة التذكر من كل مكلف سواء اختار ذلك أو لم يختره، ففيه إبطال مذهب المجبرة الذين يقولون ما أراد التذكر إلا ممن يتذكر، فأما من لا يتذكر فقد كره ذلك منه، ونص القرآن دافع لهذا القول، قلنا أليس أنكم حملتم قوله تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم) * (الأعراف: 179) على العاقبة، فلم لا يجوز حمله ههنا على العاقبة، فإن عاقبة الكل حصول هذا التذكر له وذلك في الآخرة.
قوله تعالى
* (وما كنت بجانب الغربى إذ قضينآ إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين * ولكنآ أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا فى أهل مدين تتلو عليهم ءاياتنا ولكنا كنا مرسلين * وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير
255

من قبلك لعلهم يتذكرون * ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك ونكون من المؤمنين) *.
اعلم أن في الآية سؤالات:
السؤال الأول: الجانب موصوف، والغربي صفة، فكيف أضاف الموصوف إلى الصفة؟ الجواب: هذه مسألة خلافية بين النحويين، فعند البصريين لا يجوز إضافة
الموصوف إلى الصفة إلا بشرط خاص سنذكره، وعند الكوفيين يجوز ذلك مطلقا حجة البصريين، أن إضافة الموصوف إلى الصفة تقتضي إضافة الشيء إلى نفسه، وهذا غير جائز فذاك أيضا غير جائز، بيان الملازمة أنك إذا قلت جاءني زيد الظريف، فلفظ الظريف يدل على شيء معين في نفسه مجهول بحسب هذا اللفظ حصلت له الظرافة، فإذا نصصت على زيد عرفنا أن ذلك الشيء الذي حصلت له الظرافة هو زيد، إذا ثبت هذا، فلو أضفت زيدا إلى الظريف، كنت قد أضفت زيدا إلى زيد، وإضافة الشيء إلى نفسه غير جائزة، فإضافة الموصوف إلى صفته وجب أن لا تجوز، إلا أنه جاء على خلاف هذه القاعدة ألفاظ، وهي قوله تعالى في هذه الآية: * (وما كنت بجانب الغربي) * وقوله: * (وذلك دين القيمة) * (البينة: 5) وقوله: * (حق اليقين) * (الواقعة: 95) * (ولدار الآخرة) * (النحل: 30) ويقال صلاة الأولى ومسجد الجامع وبقلة الحمقاء، فقالوا التأويل فيه جانب المكان الغربي ودين الملة القيمة وحق الشيء اليقين ودار الساعة الآخرة وصلاة الساعة الأولى ومسجد المكان الجامع وبقلة الحبة الحمقاء، ثم قالوا في هذه المواضع: المضاف إليه ليس هو النعت، بل المنعوت، إلا أنه حذف المنعوت وأقيم النعت مقامه فههنا ينظر إن كان ذلك النعت كالمتعين لذلك المنعوت، حسن ذلك وإلا فلا، ألا ترى أنه ليس لك أن تقول عندي جيد على معنى عندي درهم جيد، ويجوز مررت بالفقيه على معنى مررت بالرجل الفقيه، لأن الفقيه يعلم أنه لا يكون إلا من الناس والجيد قد يكون درهما وقد يكون غيره، وإذا كان كذلك حسن قوله جانب الغربي، لأن الشيء الموصوف بالغربي الذي يضاف إليه الجانب لا يكون إلا مكانا أو ما يشبهه، فلا جرم حسنت هذه الإضافة، وكذا القول في البواقي والله أعلم.
السؤال الثاني: ما معنى قوله: * (إذ قضينا إلى موسى الأمر) *؟ الجواب: الجانب الغربي هو المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور، وكتب الله (له) في الألواح والأمر المقضي إلى موسى عليه السلام الوحي الذي أوحى إليه، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام، ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه أو على (الموحى) إليه، (وهي لأن الشاهد لا بد وأن يكون حاضرا)، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات.
256

السؤال الثالث: لما قال * (وما كنت بجنب الغربي) * ثبت أنه لم يكن شاهدا، لأن الشاهد لا بد أن يكون حاضرا، فما الفائدة في إعادة قوله: * (وما كنت من الشاهدين) *؟ الجواب: قال ابن عباس رضي الله عنهما: التقدير لم تحضر ذلك الموضع، ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع، فإنه يجوز أن يكون هناك، ولا يشهد ولا يرى.
السؤال الرابع: كيف يتصل قوله: * (ولكنا أنشأنا قرونا) * بهذا الكلام ومن أي وجه يكون استدراكا له؟ الجواب: معنى الآية: ولكنا أنشأنا بعد عهد موسى عليه السلام إلى عهدك قرونا كثيرة فتطاول عليهم العمر وهو القرن الذي أنت فيه، فاندرست العلوم فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وعرفناك أحوال الأنبياء وأحوال موسى، فالحاصل كأنه قال وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب، فإذن هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده. واعلم أن هذا تنبيه على المعجز كأنه قال إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله، دلالة ظاهرة على نبوتك كما قال: * (أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) * (طه: 133).
أما قوله: * (وما كنت ثاويا في أهل مدين) * فالمعنى ما كنت مقيما فيه.
وأما قوله: * (تتلو عليهم آياتنا) * ففيه وجهان: الأول: قال مقاتل: يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم * (ولكنا كنا مرسلين) * أي أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها الثاني: قال الضحاك: يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولا، فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء.
أما قوله: * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) * يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه * (ولكن رحمة من ربك) * أي علمناك رحمة، وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي هي رحمة، وذكر المفسرون في قوله: * (إذ نادينا) * وجوها أخر أحدها: إذ نادينا أي قلنا لموسى * (ورحمتي وسعت كل شيء) * إلى قوله: * (أولئك هم المفلحون) * (الأعراف: 156، 157). وثانيها: قال ابن عباس إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم: " يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني " قال وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى عليه السلام سبعين رجلا لميقات ربه وثالثها: قال وهب: " لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال رب أرنيهم قال إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم قال بلى يا رب فقال سبحانه يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فأسمعه الله تعالى أصواتهم ثم قال: أجبتكم قبل أن تدعوني " الحديث كما ذكره ابن عباس ورابعها: روى سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) * قال كتب الله كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم
257

نادى " يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أدخلته الجنة ".
أما قوله: * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) * فالإنذار هو التخويف بالعقاب على المعصية. واعلم أنه تعالى لما بين قصة موسى عليه السلام قال لرسوله: * (وما كنت بجانب الغربي... وما كنت ثاويا في أهل مدين... وما كنت بجانب الطور) * فجمع تعالى بين كل ذلك لأن هذه الأحوال الثلاثة هي الأحوال العظيمة التي اتفقت لموسى عليه السلام إذ المراد بقوله: * (إذ قضينا إلى موسى الأمر) * إنزال التوراة حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله: * (وما كنت ثاويا) * أول أمره والمراد ناديناه وسط أمره وهو ليلة المناجاة، ولما بين تعالى أنه عليه السلام لم يكن في هذه الأحوال حاضرا بين تعالى أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال رحمة
للعالمين ثم فسر تلك الرحمة بأن قال: * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) * واختلفوا فيه فقال بعضهم لم يبعث إليهم نذير منهم: وقال بعضهم: حجة الأنبياء كانت قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجد تلك الحجة عليهم، وقال بعضهم لا يبعد وقوع الفترة في التكاليف فبعثه الله تعالى تقريرا للتكاليف وإزالة لتلك الفترة.
أما قوله: * (ولولا أن تصيبهم مصيبة) * الآية فقال صاحب " الكشاف ": (لولا) الأولى امتناعية وجوابها محذوف، والثانية تحضيضية، والفاء في قوله * (فيقولوا) * للعطف، (وفي قوله للعطف). وفي قوله: * (فنتبع) * جواب (لولا) لكونها في حكم الأمر من قبل أن الأمر باعث على الفعل، والباعث والمحضض من واد واحد، والمعنى لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي: هلا أرسلت إلينا رسولا، محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم، يعني إنما أرسلنا الرسول إزالة لهذا العذر وهو كقوله: * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * (النساء: 165) * (أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) * (المائدة: 19) * (لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك) * واعلم أنه تعالى لم يقل ولولا أن يقولوا هذا العذر لما أرسلنا، بل قال: * (ولولا أن تصيبهم مصيبة... فيقولوا) * هذا العدو لما أرسلنا وإنما قال ذلك لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلا وقد عرفوا بطلان دينهم لما قالوا ذلك، بل إنما يقولون ذلك إذا نالهم العقاب فيدل ذلك على أنهم لم يذكروا هذا العذر تأسفا على كفرهم، بل لأنهم ما أطاقوا وفيه تنبيه على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم كقوله: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (الأنعام: 28) وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: احتج الجبائي على وجوب فعل اللطف قال لو لم يجب ذلك لم يكن لهم أن يقولوا: هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك، إذ من الجائز أن لا يبعث إليهم وإن كانوا لا يختارون الإيمان إلا عنده على قول من خالف في وجوب اللطف كما مر أن الجائز إذا كان في المعلوم لو خلق له لم يمكن إلا أن يفعل ذلك.
258

المسألة الثانية: احتج الكعبي به على أن الله تعالى يقبل حجة العباد وليس الأمر كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا يقبل الحجة وظهر بهذا أنه ليس المراد من قوله: * (لا يسأل عما يفعل) * (الأنبياء: 23) ما يظنه أهل السنة، وإذا ثبت أنه يقبل الحجة وجب أن لا يكون فعل العبد بخلق الله تعالى وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى.
المسألة الثالثة: قال القاضي: فيه إبطال القول بالجبر من جهات: إحداها: أن اتباعهم وإيمانهم موقوف على أن يخلق الله ذلك فيهم سواء أرسل الرسول إليهم أم لا وثانيتها: أنه إذا خلق القدرة على ذلك فيهم وجب سواء أرسل الرسول أم لا وثالثتها: إذا أراد ذلك وجب أرسل الرسول إليهم أم لا، فأي فائدة في قولهم هذا لو كانت أفعالهم خلقا لله تعالى؟ فيقال للقاضي هب أنك نازعت في الخلق والإرادة ولكنك وافقت في العلم فإذا علم الكفر منهم فهل يجب أم لا، فإن لم يجب أمكن أن لا يوجد الكفر مع حصول العلم بالكفر وذلك جمع بين الضدين وإن وجب لزمك ما أوردته علينا، واعلم أن الكلام وإن كان قويا حسنا إلا أنه إذا توجه عليه النقض الذي لا محيص عنه، فكيف يرضى العاقل بأن يعول عليه؟
قوله تعالى
* (فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتى مثل مآ أوتى موسى أو لم يكفروا بمآ أوتى موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون * قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهمآ أتبعه إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين * ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون * الذين ءاتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا ءامنا به إنه
259

الحق من ربنآ إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عند الخوف قالوا هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك، بين أيضا أنه بعد الإرسال إلى أهل مكة قالوا * (لولا أوتي مثل ما أوتي موسى) * فهؤلاء قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى، فظهر أنه لا مقصود لهم سوى الزيغ والعناد.
أما قوله: * (فلما جاءهم الحق من عندنا) * أي جاءهم الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر وتظليل الغمام وانفجار الحجر بالماء والمن والسلوى ومن أن الله كلمه وكتب له في الألواح وغيرها من الآيات فجاؤوا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد كما قالوا * (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) * (هود: 12) وما أشبه ذلك.
واعلم أن الذي اقترحوه غير لازم لأنه لا يجب في معجزات الأنبياء عليهم السلام أن تكون واحدة ولا فيما ينزل إليهم من الكتب أن يكون على وجه واحد إذ الصلاح قد يكون في إنزاله مجموعا كالتوراة ومفرقا كالقرآن، ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: * (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل) * واختلفوا في أن الضمير في قوله: * (أو لم يكفروا) * إلى من يعود، وذكروا وجوها: أحدها: أن اليهود أمروا قريشا أن يسألوا محمدا أن يؤتى مثل ما أوتي موسى عليه السلام فقال تعالى: * (أو لم يكفروا بما أوتي موسى) * يعني أو لم تكفروا يا هؤلاء اليهود الذين استخرجوا هذا السؤال بموسى عليه السلام مع تلك الآيات الباهرة وثانيها: أن الذين أوردوا هذا الاقتراح كفار مكة، والذين كفروا بموسى هم الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام إلا أنه تعالى جعلهم كالشئ الواحد لأنهم في الكفر والتعنت كالشئ الواحد وثالثها: قال الكلبي إن مشركي مكة بعثوا رهطا إلى يهود المدينة ليسألهم عن محمد وشأنه فقالوا إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما
260

رجع الرهط إليهم وأخبروهم بقول اليهود قالوا إنه كان ساحرا كما أن محمدا ساحر، فقال تعالى: * (أو لم يكفروا بما أوتى موسى) * ورابعها: قال الحسن قد كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام فمعناه على هذا أو لم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهارون ساحران وخامسها: قال قتادة أو لم يكفر اليهود في عصر محمد
بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام فقالوا ساحران وسادسها: وهو الأظهر عندي أن كفار قريش ومكة كانوا منكرين لجميع النبوات ثم إنهم لما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم معجزات موسى عليه السلام قال الله تعالى: * (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل) * بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل، فعلمنا أنه لا غرض لكم في هذا الاقتراح إلا التعنت، ثم إنه تعالى حكى كيفية كفرهم بما أوتي موسى من وجهين: الأول: قولهم: * (ساحران تظاهرا) * قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة (ساحران) بالألف وقرأ أهل الكوفة بغير ألف وذكروا في تفسير الساحرين وجوها: أحدها: المراد هارون وموسى عليهما السلام تظاهرا أي تعاونا وقرئ (اظاهرا) على الإدغام وسحران بمعنى ذوي سحر وجعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر وكثير من المفسرين فسروا قوله: * (سحران) * بأن المراد هو القرآن والتوراة واختار أبو عبيدة القراءة بالألف لأن المظاهرة بالناس وأفعالهم أشبه منها بالكتب وجوابه: إنا بينا أن قوله: * (سحران) * يمكن حمله على الرجلين وبتقدير أن يكون المراد الكتابين لكن لما كان كل واحد من الكتابين يقوي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما تقول تظاهرت الأخبار وهذه التأويلات إنما تصح إذا حملنا قوله: * (أو لم يكفروا بما أوتي موسى) * إما على كفار مكة أو على الكفار الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام ولا شك أن ذلك أليق بمساق الآية الثاني: قولهم: * (إنا بكل كافرون) * أي بما أنزل على محمد وموسى وسائر الأنبياء عليهم السلام ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق إلا بالمشركين لا باليهود وذلك مبالغة في أنهم مع كثرة آيات موسى عليه السلام كذبوه فما الذي يمنع من مثله في محمد صلى الله عليه وسلم وإن ظهرت حجته، ولما أجاب الله تعالى عن شبههم ذكر الحجة الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فقال: * (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه) * وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله، قال الزجاج (أتبعه) بالجزم على الشرط ومن قرأ (أتبعه) بالرفع فالتقدير أنا أتبعه، ثم قال: * (فإن لم يستجيبوا لك) * قال ابن عباس يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج، وقال مقاتل فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما وهذا أشبه بالآية فإن قيل الاستجابة تقتضي دعاء فأين الدعاء ههنا؟ قلنا قوله: * (فأتوا بكتاب) * أمر والأمر دعاء إلى الفعل ثم قال: * (فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) * يعني قد صاروا ملزمين ولم يبق لهم شيء إلا اتباع الهوى ثم زيف طريقتهم بقوله: * (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) * وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد وأنه لا بد من الحجة والاستدلال * (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * وهو عام يتناول الكافر لقوله: * (إن الشرك لظلم عظيم) * واحتج الأصحاب به في أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمنين.
261

وقالت المعتزلة: الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقا ومنها ما لا يحسن إلا بعد الإيمان والدليل عليه قوله: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (محمد: 17) فقوله: * (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * محمول على القسم الثاني ولا يجوز حمله على القسم الأول، لأنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن عدم بعثة الرسول جار مجرى العذر لهم، فبأن يكون عدم الهداية عذرا لهم أولى، ولما بين تعالى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الدلالة قال: * (ولقد وصلنا لهم القول) * وتوصيل القول هو إتيان بيان بعد بيان، وهو من وصل البعض بالبعض، وهذا القول الموصل يحتمل أن يكون المراد منه إنا أنزلنا القرآن منجما مفرقا يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكير والتنبيه، فإنهم كل يوم يطلعون على حكمة أخرى وفائدة زائدة فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر، وعلى هذا التقدير يكون هذا جوابا عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة كما أوتي موسى كتابه كذلك، ويحتمل أن يكون المراد وصلنا أخبار الأنبياء بعضها ببعض وأخبار الكفار في كيفية هلاكهم تكثيرا لمواضع الاتعاظ والانزجار ويحتمل أن يكون المراد: بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزا مرة بعد أخرى لعلهم يتذكرون. ثم إنه تعالى لما أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بأن قال: * (الذين آتيناهم الكتاب من قبله) * أي من قبل القرآن أسلموا بمحمد فمن لا يعرف الكتب أولى بذلك، واختلفوا في المراد بقوله: * (الذين آتيناهم الكتاب) * وذكروا فيه وجوها: أحدها: قال قتادة إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها فلما بعث الله تعالى محمدا آمنوا به من جملتهم سلمان وعبد الله بن سلام وثانيها: قال مقاتل نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل وهم أصحاب السفينة جاؤوا من الحبشة مع جعفر وثالثها: قال رفاعة بن قرظة نزلت في عشرة أنا أحدهم، وقد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من حصل في حقه تلك الصفة كان داخلا في الآية ثم حكى عنهم ما يدل على تأكيد إيمانهم وهو قولهم: * (آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) * فقوله: * (إنه الحق من ربنا) * يدل على التعليل يعني أن كونه حقا من عند الله يوجب الإيمان به وقوله: * (إنا كنا من قبله مسلمين) * بيان لقوله: * (آمنا به) * لأنه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد وبعيده، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم وذلك لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدمه، ثم إنه تعالى لما مدحهم بهذا المدح العظيم قال: * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) * وذكروا فيه وجوها: أحدها: أنهم يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته وبعد بعثته وهذا هو الأقرب لأنه تعالى لما بين أنهم آمنوا به بعد البعثة وبين أيضا أنهم كانوا به قبل مؤمنين البعثة ثم أثبت الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك وثانيها: يؤتون الأجر مرتين مرة بإيمانهم بالأنبياء الذي كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ومرة أخرى بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وثالثها: قال مقاتل هؤلاء لما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران أجر على الصف وأجر على الإيمان، يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه، قال السدي اليهود
262

عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول سلام عليكم ثم قال: * (ويدرءون بالحسنة السيئة) * والمعنى (يدفعون) بالطاعة المعصية المتقدمة، ويحتمل أن يكون المراد دفعوا بالعفو والصفح الأذى، ويحتمل أن يكون المراد من الحسنة امتناعهم من المعاصي لأن نفس الامتناع حسنة ويدفع به ما لولاه لكان سيئة، ويحتمل التوبة والإنابة والاستقرار عليها، ثم قال: * (ومما رزقناهم ينفقون) *.
واعلم أنه تعالى مدحهم أولا بالإيمان ثم بالطاعات البدنية في قوله: * (ويدرءون بالحسنة السيئة) * ثم بالطاعات المالية في قوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) * قال القاضي دل هذا المدح على أن الحرام لا يكون رزقا جوابه: أن كلمة من للتبعيض فدل على أنهم استحقوا المدح بإنفاق بعض ما كان رزقا، وعلى هذا التقدير يسقط
استدلاله، ثم لما بين كيفية اشتغالهم بالطاعات والأفعال الحسنة بين كيفية إعراضهم عن الجهال فقال: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) * واللغو ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وغيره وكانوا يسمعون ذلك فلا يخوضون فيه بل يعرضون عنه إعراضا جميلا فلذلك قال تعالى: * (وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم) * وما أحسن ما قال الحسن رحمه الله في أن هذه الكلمة تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) * (الفرقان: 63) ثم أكد تعالى ذلك بقوله حاكيا عنهم * (لا نبتغي الجاهلين) * والمراد لا نجازيهم بالباطل على باطلهم، قال قوم نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأن ترك المسافهة مندوب، وإن كان القتال واجبا.
263