الكتاب: فتح القدير
المؤلف: الشوكاني
الجزء: ٣
الوفاة: ١٢٥٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: عالم الكتب
الناشر: عالم الكتب
ردمك:
ملاحظات:

فتح القدير
الجامع
بين فني الرواية والدراية من علم التفسير
تأليف
محمد بن علي بن محمد الشوكاني
وفاته بصنعاء 1250 ه‍
الجزء الثالث
عالم الكتاب
2

كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون
(قرآن كريم)
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة يوسف (1)
عليه السلام
قيل هي مائة وإحدى عشرة آية
وهى مكية كلها، وقيل نزلت ما بين مكة والمدينة وقت الهجرة. وقال ابن عباس في رواية عنه وقتادة:
إلا أربع آيات. وأخرج النحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة يوسف بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع الزرقي: أنه خرج هو وابن
خالته معاذ بن عفراء حتى قدما مكة، وذكر قصة وفي آخرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمهما سورة
يوسف. واقرأ باسم ربك، ثم رجعا. وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
" أن حبرا من اليهود دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف، فقال: يا محمد
من علمكها؟ قال: الله علمنيها، فعجب الحبر لما سمع منه، فرجع إلى اليهود، فقال لهم: والله إن محمدا ليقرأ
القرآن كما أنزل في التوراة، فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة، ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه
فجعلوا سمعهم إلى قراءته لسورة يوسف فتعجبوا منه، وأسلموا عند ذلك ". وأخرج الثعلبي عن أبي بن كعب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " علموا أقاربكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها أو علمها أهله
وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت، وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما ". وفي إسناده سلام بن سالم،
ويقال ابن سليم المدائني، وهو متروك عن هارون بن كثير. قال أبو حاتم: مجهول، وقد ذكر له الحافظ ابن
عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم عن هارون بن كثير ومن طريق شبابة عن مجلز بن عبد الواحد البصري

(1) تنبيه جرى المفسر رحمه الله في ضبط ألفاظ القرآن في تفسيره هذا على رواية نافع مع تعرضه للقراءات السبع وأثبتنا القرآن طبق رسم
المصحف العثماني.
3

عن علي بن زيد بن جدعان، وعن عطاء بن ميمون عن ذر بن حبيش عن أبي بن كعب مرفوعا فذكر نحوه.
وهو منكر من جميع طرقه. قال القرطبي: قال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: لو حدثتنا، فنزل قوله تعالى - الله نزل أحسن الحديث - قال: قال العلماء:
وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة بألفاظ متباينة على درجات البلاغة.
وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب المبين (1) إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2) نحن
نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن
الغافلين (3) إذ قال يوسف لأبيه يأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر
رأيتهم لي ساجدين (4) قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن
الشيطان للإنسان عدو مبين (5) وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث
و يتم عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن
ربك عليم حكيم (6).
قوله (الر) قد تقدم الكلام فيه في فاتحة سورة يونس، والإشارة بقوله (تلك) إلى آيات السورة. والكتاب
المبين: السورة، أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب
وتبكيتهم، والمبين من أبان بمعنى بان: أي الظاهر أمره في كونه من عند الله وفي إعجازه، أو المبين بمعنى الواضح
المعنى بحيث لا يلتبس على قارئه وسامعه، أو المبين لما فيه من الأحكام (إنا أنزلناه) أي الكتاب المبين حال كونه
(قرآنا عربيا)، فعلى تقدير أن الكتاب السورة تكون تسميتها قرآنا باعتبار أن القرآن اسم جنس يقع على الكل وعلى
البعض، وعلى تقدير أن المراد بالكتاب كل القرآن، فتكون تسميته قرآنا واضحة، وعربيا صفة لقرآنا: أي على
لغة العرب (لعلكم تعقلون) أي لكي تعلموا معانيه وتفهموا ما فيه (نحن نقص عليك أحسن القصص) القصص
تتبع الشئ، ومنه قوله تعالى - وقالت لأخته قصيه -، أي تتبعي أثره وهو مصدر، والتقدير: نحن نقص عليك
قصصا أحسن القصص، فيكون بمعنى الاقتصاص، أو هو بمعنى المفعول: أي المقصوص (بما أوحينا إليك)
أي بإيحائنا إليك (هذا القرآن) وانتصاب القرآن على أنه صفة لاسم الإشارة، أو بدل منه، أو عطف بيان. وأجاز
الزجاج الرفع على تقدير مبتدأ، وأجاز الفراء الجر، ولعل وجهه أن يقدر حرف الجر في بما أوحينا داخلا على اسم
الإشارة، فيكون المعنى: نحن نقص عليك أحسن القصص بهذا القرآن (وإن كنت من قبله لمن الغافلين) إن هي
المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة بينها وبين النافية، والضمير في من قبله عائد على الايحاء المفهوم من أوحينا
المعنى: أنك قبل إيحائنا إليك من الغافلين عن هذه القصة.
4

واختلف في وجه كون ما في هذه السورة هو أحسن القصص، فقيل: لأن ما في هذه السورة من القصص
يتضمن من العبر والمواعظ والحكم ما لم يكن في غيرها، وقيل لما فيها من حسن المحاورة وما كان من يوسف عليه
من الصبر على أذاهم وعفوه عنهم، وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والجن والإنس
والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن، وقيل
لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وما دار بينهما، وقيل إن أحسن هنا بمعنى أعجب، وقيل إن كل من ذكر فيها
كان مآله السعادة. قوله (إذ قال يوسف لأبيه) إذ منصوب على الظرفية بفعل مقدر: أي أذكر وقت قال يوسف.
قرأ الجمهور " يوسف " بضم السين. وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها مع الهمز مكان الواو. وحكى ابن زيد الهمز
وفتح السين، وهو غير منصرف للعجمة والعلمية، وقيل هو عربي. والأول أولى بدليل عدم صرفه (لأبيه) أي
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (يا أبت) بكسر التاء في قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ونافع وابن كثير
وهي عند البصريين علامة التأنيث، ولحقت في لفظ أب في النداء خاصة بدلا من الياء وأصله يا أبي، وكسرها
للدلالة على أنها عوض عن حرف يناسب الكسر. وقرأ ابن عامر بفتحها، لأن الأصل عنده يا أبتا، ولا يجمع
بين العوض والمعوض، فيقال يا أبتي، وأجاز الفراء يا أبت بضم التاء (إني رأيت) من الرؤيا النومية لا من الرؤية
البصرية كما يدل عليه (لا تقصص رؤياك على إخوتك). قوله (أحد عشر كوكبا) قرئ بسكون العين تخفيفا لتوالي
الحركات. وقرأ بفتحها على الأصل (والشمس والقمر) إنما أخرهما عن الكواكب لإظهار مزيتهما وشرفهما
كما في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وقيل إن الواو بمعنى مع، وجملة (رأيتهم لي ساجدين) مستأنفة
لبيان الحالة التي رآهم عليها، وأجريت مجرى العقلاء في الضمير المختص بهم لوصفها بوصف العقلاء، وهو كونها
ساجدة كذا قال الخليل وسيبويه، والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته (قال يا بني لا تقصص
رؤياك على إخوتك) الرؤيا مصدر رأي في المنام رؤيا على وزن فعلي كالسقيا والبشرى، وألفه للتأنيث ولذلك لم
يصرف، نهي يعقوب عليه السلام ابنه يوسف عن أن يقص رؤياه على إخوته، لأنه قد علم تأويلها وخاف أن
يقصها على إخوته فيفهمون تأويلها ويحصل منهم الحسد له، ولهذا قال (فيكيدوا لك كيدا) وهذا جواب النهي
وهو منصوب بإضمار أن: أي فيفعلوا لك: أي لأجلك كيدا مثبتا راسخا لا تقدر على الخلوص منه أو كيدا خفيا
عن فهمك، وهذا المعنى الحاصل بزيادة اللام آكد من أن يقال فيكيدوا كيدا، وقيل إنما جئ باللام لتضمينه معنى
الاحتيال المتعدي باللام، فيفيد هذا التضمين معنى الفعلين جميعا الكيد والاحتيال كما هو القاعدة في التضمين
أن يقدر أحدهما أصلا والآخر حالا. وجملة (إن الشيطان للإنسان عدو مبين) مستأنفة، كأن يوسف عليه السلام
قال: كيف يقع منهم، فنبهه بأن الشيطان يحملهم على ذلك، لأنه عدو للإنسان مظهر للعداوة مجاهر بها. قوله
(وكذلك يجتبيك ربك) أي مثل ذلك الاجتباء البديع الذي رأيته في النوم من سجود الكواكب والشمس والقمر
يجتبيك ربك، ويحقق فيك تأويل تلك الرؤيا، فيجعلك نبيا ويصطفيك على سائر العباد، ويسخرهم لك كما تسخرت
لك تلك الأجرام التي رأيتها في منامك فصارت ساجدة لك. قال النحاس: والاجتباء أصله من جبيت الشئ
حصلته، ومنه جبيت الماء في الحوض جمعته. ومعنى الاجتباء: الاصطفاء، وهذا يتضمن الثناء على يوسف
وتعديد نعم الله عليه، ومنها (ويعلمك من تأويل الأحاديث) أي تأويل الرؤيا. قال القرطبي: وأجمعوا أن ذلك في
تأويل الرؤيا، وقد كان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها، وقيل المراد: ويعلمك من تأويل أحاديث الأمم
والكتب، وقيل المراد به إحواج إخوته إليه، وقيل إنجاؤه من كل مكروه، وقيل إنجاؤه من القتل خاصة (ويتم
5

نعمته عليك) فيجمع لك بين النبوة والملك كما تدل عليه هذه الرؤيا التي أراك الله، أو يجمع لك بين خيري الدنيا
والآخرة (وعلى آل يعقوب) وهم قرابته من إخوته وأولاده ومن بعدهم، وذلك أن الله سبحانه أعطاهم النبوة كما
قاله جماعة من المفسرين، ولا يبعد أن يكون إشارة إلى ما حصل لهم بعد دخولهم مصر من النعم التي من جملتها كون
الملك فيهم مع كونهم أنبياء (كما أتمها على أبويك) أي إتماما مثل إتمامها على أبويك: وهي نعمة النبوة عليهما،
مع كون إبراهيم اتخذه الله خليلا، ومع كون إسحاق نجاه الله سبحانه من الذبح وصار لهما الذرية الطيبة: وهم
يعقوب، ويوسف، وسائر الأسباط، ومعنى (من قبل) من قبل هذا الوقت الذي أنت فيه، أو من قبلك،
وإبراهيم وإسحق عطف بيان لأبويك، وعبر عنهما بالأبوين مع كون أحدهما جدا: وهو إبراهيم، لأن الجد أب
(إن ربك عليم) بكل شئ (حكيم) في كل أفعاله، والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها تعليلا له: أي فعل
ذلك لأنه عليم حكيم، وكان هذا كلام من يعقوب مع ولده يوسف تعبيرا لرؤياه على طريق الإجمال، أو علم
ذلك من طريق الوحي، أو عرفه بطريق الفراسة وما تقتضيه المخايل اليوسفية.
وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله (تلك آيات الكتاب المبين) قال: بين الله حلاله وحرامه. وأخرج
ابن جرير عن معاذ قال: بين الله الحروب التي سقطت عن ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف. وأخرج الحاكم عن
جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا قرآنا عربيا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ألهم إسماعيل
هذا اللسان العربي إلهاما ". وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزل القرآن بلسان قريش. وهو كلامهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزلت (نحن نقص عليك أحسن
القصص). وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (نحن
نقص عليك أحسن القصص) قال: من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم. (وإن كنت من قبله) أي من
قبل هذا القرآن (لمن الغافلين). وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك (نحن نقص عليك أحسن القصص) قال: القرآن.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (إني رأيت
أحد عشر كوكبا) قال: رؤيا الأنبياء وحى. وأخرج سعيد بن منصور والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والعقيلي وابن حبان في الضعفاء وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن
جابر بن عبد الله قال: " جاء بستاني اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب
التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجبه بشئ، فنزل عليه جبريل
فأخبره بأسمائها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البستاني اليهودي فقال: هل أنت مؤمن إن أخبرتك
بأسمائها؟ قال نعم، قال: خرثان، والطارق، والذيال، وذو الكتفان، وقابس، ووثاب. وعمودان، والفيلق،
والمصبح، والضروح، وذو الفرغ، والضياء والنور: رآها في أفق السماء ساجدة له، فلما قص يوسف على
يعقوب قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله من بعد. فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها " هكذا ساقه السيوطي في
الدر المنثور، وأما ابن كثير فجعل قوله " فلما قص الخ " رواية منفردة وقال: تفرد بها الحكم بن ظهيرة الفزاري:
وقد ضعفوه وتركه الأكثرون. وقال الجوزجاني: ساقط. وقال ابن الجوزي: هو موضوع. وأخرج ابن
المنذر عن ابن عباس في قوله (أحد عشر كوكبا) قال: إخوته، والشمس قال: أمه، والقمر قال: أبوه.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه أيضا. وأخرج
ابن جرير عن ابن زيد نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس (وكذلك يجتبيك ربك) قال:
6

يصطفيك. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن
مجاهد (ويعلمك من تأويل الأحاديث) قال: عبارة الرؤيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد
(ويعلمك من تأويل الأحاديث) قال: تأويل العلم والحلم، وكان يوسف من أعبر الناس. وأخرج ابن جرير عن
عكرمة (كما أتمها على أبويك) قال: فنعمته على إبراهيم: أن نجاه من النار، وعلى إسحاق: أن نجاه من الذبح.
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين (7) إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب
إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين (8) اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا
يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9) قال قائل منهم لا تقتلوا
يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين (10).
أي (لقد كان) في قصتهم علامات دالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه (للسائلين) من الناس عنها. وقرأ
أهل مكة آية على التوحيد. وقرأ الباقون على الجمع، واختار قراءة الجمع أبو عبيد. قال النحاس: وآية ها هنا
قراءة حسنة، وقيل المعنى: لقد كان في يوسف وإخوته آيات دالة عل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسائلين
له من اليهود، فإنه روى أنه قال له جماعة من اليهود وهو بمكة: أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج
ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمى، ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا من يعرف خبر الأنبياء، وإنما وجهوا
إليه من أهل المدينة من يسأله عن هذا، فأنزل الله سورة يوسف جملة واحدة كما في التوراة. وقيل معنى (آيات
للسائلين) عجب لهم، وقيل بصيرة. وقيل عبرة. قال القرطبي: وأسماؤهم يعني إخوة يوسف: روبيل، وهو
أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وريالون، ويشجر. وأمهم ليا بنت ليان وهي بنت خال يعقوب، وولد
له من سريتين أربعة، وهم: دان، ونفتالي، وجاد، وآشر. ثم ماتت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له
يوسف، وبنيامين. وقال السهيلي: إن أم يوسف اسمها وقفا، وراحيل ماتت من نفاس بنيامين وهو أكبر من
يوسف (إذ قالوا ليوسف وأخوه) أي وقت قالوا، والظرف متعلق بكان (أحب إلى أبينا منا) والمراد بقوله
(وأخوه) هو بنيامين، وخصوه بكونه أخاه مع أنهم جميعا إخوته، لأنه أخوه لأبويه كما تقدم، ووحد الخبر
فقال: أحب مع تعدد المبتدأ، لأن أفعل التفضيل يستوي فيه الواحد وما فوقه إذا لم يعرف، واللام في ليوسف
هي الموطئة للقسم، وإنما قالوا هذه لأنه بلغهم خبر الرؤيا فأجمع رأيهم على كيده، وجملة (ونحن عصبة) في محل
نصب عل الحال، والعصبة: الجماعة، قيل وهي ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل إلى الخمسة عشر، وقيل من
العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها بل هي كالنفر والرهط، وقد كانوا عشرة (إن أبانا لفي ضلال مبين)
أي في ذهاب عن وجه التدبير بالترجيح لهما علينا وإيثارهما دوننا مع استوائنا في الانتساب إليه ولا يصح أن
يكون مرادهم أنه في دينه في ضلال مبين (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا) أي قالوا: افعلوا به أحد الأمرين:
إما القتل، أو الطرح في أرض. أو المشير بالقتل بعضه والمشير بالطرح البعض الآخر، أو كان المتكلم بذلك
واحد منهم فوافقه الباقون. فكانوا كالقائل في نسبة هذا المقول إليهم. وانتصاب أرضا على الظرفية، والتنكير
للإبهام: أي أرضا مجهولة. وجواب الأمر (يخل لكم وجه أبيكم) أي يصف ويخلص فيقبل عليكم ويحبكم حبا
7

كاملا (وتكونوا) معطوف على يخل، ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن (من بعده) أي من بعد يوسف،
والمراد بعد الفراغ من قتله أو طرحه، وقيل من بعد الذنب الذي اقترفوه في يوسف (قوما صالحين) في أمور دينكم
وطاعة أبيكم، أو صالحين في أمور دنياكم لذهاب ما كان يشغلكم عن ذلك، هو الحسد ليوسف وتكدر
خواطركم بتأثيره عليكم هو وأخوه، أو المراد بالصالحين: التائبون من الذنب (قال قائل منهم) أي من الإخوة،
قيل هو يهوذا، وقيل روبيل، وقيل شمعون (لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب) قيل ووجه الإظهار في
لا تقتلوا يوسف استجلاب شفقتهم عليه. قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام في غيابة الجب
بالإفراد. وقرأ أهل المدينة " في غيابات " بالجمع، واختار أبو عبيد الإفراد وأنكر الجمع، لأن الموضع الذي ألقوه
فيه واحد. قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة، وغيابات على الجمع تجوز، والغيابة كل شئ غيب عنك
شيئا، وقيل للقبر غيابة، والمراد بها هنا غور البئر الذي لا يقع البصر عليه، أو طاقة فيه. قال الشاعر:
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث * إلى ذا كما قد غيبتني غيابيا
والجب: البئر التي لم تطو. ويقال لها قبل الطي ركية، فإذا طويت قيل لها بئر. سميت جبا لأنها قطعت في
الأرض قطعا، وجمع الجب جبب وجباب وأجباب. وجمع بين الغيابة والجب مبالغة في أن يلقوه في مكان من
الجب شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين. قيل وهذه البئر ببيت المقدس، وقيل بالأردن، وجواب الأمر
(يلتقطه بعض السيارة) قرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة تلتقطه بالمثناة الفوقية، ووجهه أن بعض السيارة
سيارة. وحكى عن سيبويه سقطت بعض أصابعه، ومنه قول الشاعر:
أرى مر السنين أخذن مني * كما أخذ السرار من الهلال *
وقرأ الباقون " يلتقطه " بالتحتية، والسيارة: الجمع الذي يسيرون في الطريق، والالتقاط: هو أخذ شئ
مشرف على الضياع، وكأنهم أرادوا أن بعض السيارة إذا التقطه حمله إلى مكان بعيد بحيث يخفي عن أبيه ومن يعرفه،
ولا يحتاجون إلى الحركة بأنفسهم إلى المكان البعيد، فربما أن والدهم لا يأذن لهم بذلك، ومعنى (إن كنتم فاعلين)
إن كنتم عاملين بما أشرت به عليكم في أمره، كأنه لم يجزم بالأمر وبل وكله إلى ما يجمعون عليه كما يفعله المشير مع
من استشاره. وفي هذا دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء، فإن الأنبياء لا يجوز عليهم التواطؤ على القتل
لمسلم ظلما وبغيا، وقيل كانوا أنبياء، وكان ذلك منهم زلة قدم وأوقعهم فيها التهاب نار الحسد في صدورهم
واضطرام جمرات الغيظ في قلوبهم. ورد بأن الأنبياء معصومون عن مثل هذه المعصية الكثيرة المتبالغة في الكبر.
مع ما في ذلك من قطع الرحم وعقوق الوالد وافتراء الكذب، وقيل إنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء، بل صاروا
أنبياء من بعد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله (آيات للسائلين) قال: عبرة. وأخرج أيضا عن قتادة في الآية
يقول: من سأل عن ذلك فهو هكذا ما قص الله عليكم وأنبأكم به. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك نحوه.
وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال: إنما قص الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم خبر يوسف وبغي إخوته
عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بغي قومه عليه وحسدهم إياه
حين أكرمه الله بنبوته ليأتسى به. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (إذا قالوا ليوسف وأخوه)
يعني بنيامين هو أخوه لأبيه وأمه، وفي قوله (ونحن عصبة) قال: العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين
8

وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: العصبة الجماعة (إن أبانا لفي ضلال مبين) قال: لفي
خطأ من رأيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في قوله (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف) قال: قاله
كبيرهم الذي تخلف، قال: والجب بئر بالشام (يلتقطه بعض السيارة) قال: التقطه ناس من الأعراب. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (وألقوه في غيابة الجب) يعني الركية. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال
الجب البئر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ قال: هي بئر ببيت المقدس، يقول في
بعض نواحيها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: الجب بحذاء طبرية بينه وبينها أميال.
قالوا يأبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون (11) أرسله معنا غدا
يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (12) قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن
يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13) قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا
لخاسرون (14) فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب وأوحينا إليه
لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون (15) وجاؤوا أباهم عشاء يبكون (16) قالوا يأبانا
إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو
كنا صادقين (17) وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (18).
لما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجب جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوة استعطافا له وتحريكا
للحنو الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء، وتوسلا بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبروه، واستفهموه
استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه، ف‍ (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف) أي أي شئ
لك لا تجعلنا أمناء عليه، وكأنهم قد كانوا سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبى. وقرأ يزيد بن القعقاع
وعمرو بن عبيد والزهري " لا تأمنا " بالإدغام بغير إشمام. وقرأ طلحة بن مصرف (لا تأمننا) بنونين ظاهرتين على
الأصل. وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين والأعمش " لا تيمنا " وهو لغة تميم كما تقدم. وقرأ سائر القراء بالإدغام
والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه (وإنا له لناصحون) في حفظه وحيطته حتى نرده إليك (أرسله معنا
غدا) أي إلى الصحراء التي أرادوا الخروج إليها، وغدا ظرف، والأصل عند سيبويه غدوة. قال النضر بن شميل:
ما بين الفجر وطلوع الشمس، يقال له غدوة. وكذا يقال له بكرة (نرتع ونلعب) هذا جواب الأمر. قرأ أهل
البصرة وأهل مكة وأهل الشام بالنون وإسكان العين كما رواه البعض عنهم. وقرأوا أيضا بالاختلاس، وقرأ
الباقون بالنون وكسر العين. والقراءة الأولى مأخوذة من قول العرب رتع الإنسان أو البعير: إذا أكل كيف شاء،
أو المعنى: نتسع في الخصب، وكل مخصب راتع: قال الشاعر * فارعي فزارة لا هناك المرتع * ومنه قول
الشاعر:
9

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت * فإنما هي إقبال وإدبار
والقراءة الثانية مأخوذة من رعي الغنم. وقرأ مجاهد وقتادة (يرتع ويلعب) بالتحتية فيهما، ورفع يلعب على
الاستئناف، والضمير ليوسف. وقال القتيبي: معنى نرتع نتحارس ونتحافظ ويرعى بعضنا بعضا، من قولهم
رعاك الله: أي حفظك، ونلعب من اللعب. قيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا ونلعب وهم أنبياء؟ فقال: لم
يكونوا يومئذ أنبياء، وقيل المراد به اللعب المباح من الأنبياء. وهو مجرد الانبساط، وقيل هو اللعب الذي يتعلمون
به الحرب ويتقوون به عليه كما في قولهم (إنا ذهبنا نستبق) لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق. ولذلك لم ينكر
يعقوب عليهم لما قالوا ونلعب، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لجابر " فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك " فأجابهم
يعقوب بقوله (إني ليحزنني أن تذهبوا به) أي ذهابكم به، واللام في (ليحزنني) لام الابتداء للتأكيد ولتخصيص
المضارع بالحال، أخبرهم أنه يحزن لغيبة يوسف عنه لفرط محبته له وخوفه عليه (وأخاف أن يأكله الذئب) أي
ومع ذلك أخاف أن يأكله الذئب. قال يعقوب هذا تخوفا عليه منهم، فكنى عن ذلك بالذئب. وقيل إنه خاف أن
يأكله الذئب حقيقة، لأن ذلك المكان كان كثير الذئاب. ولو خاف منهم عليه أن يقتلوه لأرسل معهم من يحفظه.
قال ثعلب: والذئب مأخوذ من تذأبت الريح: إذا هاجت من كل وجه. قال: والذئب مهموز لأنه يجئ من
كل وجه. وقد قرأ ابن كثير ونافع في رواية عنه بالهمز على الأصل، وكذلك أبو عمرو في رواية عنه وابن عامر
وعاصم وحمزة. وقرأ الباقون بالتخفيف (وأنتم عنه غافلون) لاشتغالكم بالرتع واللعب. أو لكونهم غير مهتمين
بحفظه (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة) اللام هي الموطئة للقسم. والمعنى: والله لئن أكله الذئب والحال
إن نحن عصبة أي جماعة كثيرة عشرة (إنا إذا لخاسرون) أي إنما في ذلك الوقت. وهو أكل الذئب له لخاسرون
هالكون ضعفا وعجزا، أو مستحقون للهلاك لعدم الاعتداد بنا. وانتفاء القدرة على أيسر شئ وأقله. أو مستحقون
لأن يدعى علينا بالخسار والدمار، وقيل لخاسرون لجاهلون حقه، وهذه الجملة جواب القسم المقدر في الجملة
التي قبلها (فلما ذهبوا به) من عند يعقوب (وأجمعوا) أمرهم (أن يجعلوه في غيابة الجب) قد تقدم تفسير الغيابة
والجب قريبا، وجواب لما محذوف لظهوره ودلالة المقام عليه. والتقدير: فعلوا به ما فعلوا، وقيل جوابه
(قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق) وقيل الجواب المقدر جعلوه فيها. وقيل الجواب أوحينا والواو مقحمة. ومثله
قوله تعالى - فلما أسلما وتله للجبين وناديناه - أي ناديناه (وأوحينا إليه) أي إلى يوسف تيسيرا له وتأنيسا لوحشته
مع كونه صغيرا اجتمع على إنزال الضرر به عشرة رجال من إخوته. بقلوب غليظة فقد نزعت عنها الرحمة وسلبت
منها الرأفة، فإن الطبع البشري، دع عنك الدين يتجاوز عن ذنب الصغير ويغتفره لضعفه عن الدفع وعجزه عن
أيسر شئ يراد منه، فكيف بصغير لا ذنب له. بل كيف بصغير هو أخ وله وهم أب مثل يعقوب. فلقد أبعد
من قال إنهم كانوا أنبياء في ذلك الوقت. فما هكذا عمل الأنبياء ولا فعل الصالحين. وفي هذا دليل على أنه يجوز
أن يوحى الله إلى من كان صغيرا ويعطيه النبوة حينئذ كما وقع في عيسى ويحيى بن زكريا، وقد قيل إنه كان في
ذلك الوقت قد بلغ مبالغ الرجال، وهو بعيد جدا، فإن من كان قد بلغ مبالغ الرجال لا يخاف عليه أن يأكله
الذئب (لتنبئنهم بأمرهم هذا) أي لتخبرن إخوتك بأمرهم هذا الذي فعلوه معك بعد خلوصك عليه مما أرادوه بك من
الكيد وأنزلوه عليك من الضرر، وجملة (وهم لا يشعرون) في محل نصب على الحال: أي لا يشعرون بأنك
أخوهم يوسف لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجب. ولبعد عهدهم بك. ولكونك قد صرت عند ذلك
في حال غير ما كنت عليه وخلاف ما عهدوه منك، وسيأتي ما قاله لهم عند دخولهم عليه بعد أن صار إليه ملك مصر.
10

قوله (وجاءوا أباهم عشاء يبكون) عشاء منتصب على الظرفية، وهو آخر النهار، وقيل في الليل، ويبكون في
محل نصب على الحال: أي باكين أو متباكين لأنهم لم يبكوا حقيقة، بل فعلوا فعل من يبكي ترويجا لكذبهم
وتنفيقا لمكرهم وغدرهم، فلما وصلوا إلى أبيهم (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق) أي نتسابق في العدو أو في الرمي،
وقيل ننتضل، ويؤيده قراءة ابن مسعود " ننتضل " قال الزجاج: وهو نوع من المسابقة. وقال الأزهري:
النضال في السهام. والرهان في الخيل، والمسابقة تجمعهما. قال القشيري: نستبق، أي في الرمي أو على الفرس أو
على الأقدام. والغرض من المسابقة التدرب بذلك في القتال (وتركنا يوسف عند متاعنا) أي عند ثيابنا ليحرمها
(فأكله الذئب) الفاء للتعقيب: أي أكله عقب ذلك. وقد اعتذروا عليه بما خافه سابقا عليه، ورب كلمة تقول
لصاحبها دعني (وما أنت بمؤمن لنا) بمصدق لنا في هذا العذر الذي أبدينا، والكلمة التي قلناها (ولو كنا)
عندك أو في الواقع (صادقين) لما قد علق بقلبك من التهمة لنا في ذلك مع شدة محبتك له. قال الزجاج: والمعنى
ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا في هذه القضية لشدة محبتك ليوسف. وكذا ذكره ابن جرير
وغيره (وجاءوا على قميصه بدم كذب) على قميصه في محل نصب على الظرفية: أي جاءوا فوق قميصه بدم،
ووصف الدم بأنه كذب مبالغة كما هو معروف في وصف اسم العين باسم المعنى، وقيل المعنى: بدم ذي كذب
أو بدم مكذوب فيه. وقرأ الحسن وعائشة " بدم كدب " بالدال المهملة: أي بدم طري، يقال للدم الطري
كدب. وقال الشعبي: إنه المتغير، والكذب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث، فيجوز أن يكون
شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اللونين. وقد استدل يعقوب على كذبهم بصحة
القميص. وقال لهم: متى كان هذا الذئب حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص؟ ثم ذكر الله سبحانه ما أجاب
به يعقوب عليهم فقال (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا) أي زينت وسهلت. قال النيسابوري: التسويل تقرير
في معنى النفس مع الطمع في تمامه. وهو تفعيل من السول وهو الأمنية. قال الأزهري: وأصله مهموز غير أن
العرب استثقلوا فيه الهمزة (فصبر جميل) قال الزجاج: أي فشأني أو الذي أعتقده صبر جميل. وقال قطرب:
أي فصبري صبر جميل، وقيل فصبر جميل أولى بي. قيل والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه. قال الزجاج:
قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف " فصبرا جميلا " قال: وكذا في مصحف أنس. قال المبرد: فصبر جميل
بالرفع أولى من النصب. لأن المعنى: قال رب عندي صبر جميل، وإنما النصب على المصدر أي فلأصبرن صبرا
جميلا. قال الشاعر:
شكا إلي جملي طول السرى * صبرا جميلا فكلانا مبتلى
(والله المستعان) أي المطلوب منه العون (على ما تصفون) أي على إظهار حال ما تصفون، أو على احتمال
ما تصفون، وهذا منه عليه السلام إنشاء لا إخبار.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أرسله معنا غدا نرتع ونلعب) قال: نسعى
و ننشط ونلهو. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والسلفي في الطيوريات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " لا تلقنوا الناس فيكذبوا، فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس، فلما لقنهم أبوهم
كذبوا، فقالوا أكله الذئب ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله
11

(وأوحينا إليه) الآية قال: أوحى إلى يوسف وهو في الجب لتنبئن إخوتك بما صنعوا وهم لا يشعرون بذلك الوحي.
وأخرج هؤلاء عن قتادة قال: أوحى الله إليه وحيا وهو في الجب أن سينبئهم بما صنعوا وهم: أي إخوته لا يشعرون
بذلك الوحي، فهون ذلك الوحي عليه ما صنع به. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (وهم
لا يشعرون) قال: لم يعلموا بوحي الله إليه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: لما دخل إخوة يوسف
على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جئ بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فطن، فقال: إنه ليخبرني هذا
الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم
أباكم فقلتم: إن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كذب، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره ويخبركم،
فقال ابن عباس: فلا نرى هذه الآية نزلت إلا في ذلك لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون. وأخرج ابن أبي حاتم
وابن مردويه عن أبي بكر بن عياش قال: كان يوسف في الجب ثلاثة أيام. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك
(وما أنت بمؤمن لنا) قال: بمصدق لنا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وجاءوا
على قميصه بدم كذب قال: كان دم سخلة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس (وجاءوا على قميصه بدم كذب) قال: لما أتى يعقوب بقميص
يوسف فلم ير فيه خرقا قال: كذبتم لو كان كما تقولون أكله الذئب لخرق القميص. وأخرج ابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) قال: أمرتكم أنفسكم. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) يقول: بل زينت لكم أنفسكم أمرا (فصبر
جميل والله المستعان على ما تصفون) أي على ما تكذبون. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن حبان بن أبي حبلة قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله (فصبر جميل)
قال: لا شكوى فيه، من بث لم يصبر " وهو من طريق هشيم عن عبد الرحمن عن حبان بن أبي حبلة، وهو مرسل.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (فصبر جميل)
قال: ليس فيه جزع.
و جاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلم وأسروه بضعة
والله عليم بما يعملون (19) وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من
الزاهدين (20) وقال الذي اشتريه من مصر لامرأته أكرمي مثويه عسى أن ينفعنا أو
نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله
غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (21) ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما
و كذلك نجزى المحسنين (22).
هذا شروع في حكاية خلاص يوسف وما كان بعد ذلك من خبره وقد تقدم تفسير السيارة والمراد بها هنا رفقة
مارة تسير من الشام إلى مصر، فأخطئوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان في قفرة بعيدة
12

العمران. والوارد: الذي يرد الماء ليستقي للقوم، وكان اسمه فيما ذكر المفسرون مالك بن ذعر من العرب العاربة
(فأدلى دلوه) أي أرسله، يقال أدلى دلوه: إذا أرسلها ليملأها، ودلاها: إذا أخرجها قاله الأصمعي وغيره.
فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج الدلو من البئر أبصره الوارد ف‍ (قال يا بشراى) هكذا قرأ أهل المدينة وأهل مكة
وأهل البصرة، وأهل الشام بإضافة البشرى إلى الضمير. وقرأ أهل الكوفة (يا بشرى) غير مضاف، ومعنى
مناداته للبشرى: أنه أراد حضورها في ذلك الوقت، فكأنه قال: هذا وقت مجيئك وأوان حضورك، وقيل
إنه نادى رجلا اسمه بشرى. والأول أولى. قال النحاس: والمعنى من نداء البشرى التبشير لمن حضر، وهو
أوكد من قولك بشرته كما تقول يا عجبا: أي يا عجب هذا من أيامك فاحضر. قال: وهذا مذهب سيبويه
(وأسروه) أي أسر الوارد وأصحابه الذين كانوا معه يوسف فلم يظهروه لهم، وقيل إنهم لم يخفوه، بل أخفوا وجدانه
لهم في الجب، وزعموا أنه دفعه إليهم أهل الماء ليبيعوه لهم بمصر، وقيل ضمير الفاعل في أسروه لإخوة يوسف،
وضمير المفعول ليوسف، وذلك أنه كان يأتيه أخوه يهوذا كل يوم بطعام، فأتاه يوم خروجه من البئر فأخبر إخوته
فأتوا الرفقة وقالوا: هذا غلام أبق منا فاشتروه منهم، وسكت يوسف مخافة أن يأخذوه فيقتلوه. والأول أولى.
وانتصاب بضاعة على الحال: أي أخفوه حال كونه بضاعة: أي متاعا للتجارة، والبضاعة: ما يبضع من المال:
أي يقطع منه لأنها قطعة من المال الذي يتجر به، قيل قاله لهم الوارد وأصحابه أنه بضاعة استبضعناها من الشام
مخافة أن يشاركوهم فيه، وفي قوله (والله عليم بما يعملون) وعيد شديد لمن كان فعله سببا لما وقع فيه يوسف من
المحن وما صار فيه من الابتذال بجري البيع والشراء فيه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف
ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كما قال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في وصفه بذلك. قوله (وشروه بثمن
بخس دراهم معدودة) يقال شراه بمعنى اشتراه. وشراه بمعنى باعه. قال الشاعر:
وشريت بردا ليتني * من بعد برد كنت هامه أي بعته.
وقال آخر * فلما شراها فاضت العين عبرة * أي اشتراها * والمراد هنا: وباعوه: اي باعه الوارد
وأصحابه (بثمن بخس) أي ناقص أو زائف، وقيل يعود إلى إخوة يوسف على القول السابق، وقيل عائد
إلى الرفقة، والمعنى: اشتروه، وقيل بخس: ظلم، وقيل حرام. قيل باعوه بعشرين درهما، وقيل بأربعين،
ودراهم بدل من ثمن: أي دنانير. ومعدودة وصف لدراهم، وفيه إشارة إلى أنها قليلة تعد ولا توزن، لأنهم
كانوا لا يزنون ما دون أوقية وهى أربعون درهما (وكانوا فيه من الزاهدين) يقال زهدت وزهدت بفتح
الهاء وكسرها. قال سيبويه والكسائي: قال أهل اللغة: يقال زهد فيه: أي رغب عنه، وزهد عنه: أي رغب
فيه. والمعنى: أنهم كانوا فيه من الراغبين عنه الذين لا يبالون به فلذلك باعوه بذلك الثمن البخس، وذلك لأنهم
التقطوه، والملتقط للشئ: متهاون به، والضمير من كانوا يرجع إلى ما قبله على حسب اختلاف الأقوال فيه
(وقال الذي اشتراه من مصر) هو العزيز الذي كان على خزائن مصر، وكان وزيرا لملك مصر، وهو الريان بن
الوليد من العمالقة، وقيل إن الملك هو فرعون موسى، قيل اشتراه بعشرين دينارا، وقيل تزايدوا في ثمنه فبلغ
أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلئ وجواهر، فلما اشتراه العزيز قال (لامرأته) واللام
متعلقة باشتراه (أكرمي مثواه) أي منزله الذي يثوي فيه بالطعام الطيب واللباس الحسن، يقال ثوى بالمكان: أي
أقام به (عسى أن ينفعنا) أي يكفينا بعض المهمات مما نحتاج إلى مثله فيه (أو نتخذه ولدا) أي نتبناه فنجعله ولدا
لنا. قيل كان العزيز حصورا لا يولد له، وقيل كان لا يأتي النساء، وقد كان تفرس فيه أنه ينوب عنه فيما إليه
13

من أمر المملكة. قوله (وكذلك مكنا ليوسف) الكاف في محل نصب على أنه نعت مصدر محذوف، والإشارة
إلى ما تقدم من إنجائه من إخوته وإخراجه من الجب، وعطف قلب العزيز عليه: أي مثل ذلك التمكين البديع مكنا
ليوسف حتى صار متمكنا من الأمر والنهى، يقال مكنه فيه: أي أثبته فيه، ومكن له فيه: أي: أي جعل له فيه
مكانا، ولتقارب المعنيين يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر. قوله (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) هو علة
لمعلل محذوف كأنه قيل فعلنا ذلك التمكين لنعلمه من تأويل الأحاديث أو كان ذلك الإنجاء لهذه العلة، أو معطوف
على مقدر، وهو أن يقال: مكنا ليوسف ليترتب على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز، ولنعلمه من
تأويل الأحاديث، ومعنى تأويل الأحاديث: تأويل الرؤيا فإنها كانت من الأسباب التي بلغ بها ما بلغ من التمكن،
وقيل معنى تأويل الأحاديث فهم أسرار الكتب الإلهية وسنن من قبله من الأنبياء، ولا مانع من حمل ذلك على
الجميع (والله غالب على أمره) أي على أمر نفسه لا يمتنع منه شئ، ولا يغالبه عليه غيره من مخلوقاته - إنما أمره إذا
أراد شيئا أن يقول له كن فيكون -، ومن جملة ما يدخل تحت هذا العام كما يفيد ذلك إضافة اسم الجنس إلى
الضمير ما يتعلق بيوسف عليه السلام من الأمور التي أرادها الله سبحانه في شأنه، وقيل معنى (والله غالب على أمره)
أنه كان من أمر يعقوب أن لا يقص رؤيا يوسف على إخوته، فغلب أمر الله سبحانه حتى قصت عليهم حتى وقع
منهم ما وقع، وهذا بعيد جدا (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي لا يطلعون على غيب الله وما في طيه من
الأسرار العظيمة والحكم النافعة، وقيل المراد بالأكثر: الجميع لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وقيل إن الله سبحانه قد
يطلع بعض عبيده على بعض غيبه كما في قوله - فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول -، وقيل المعنى:
ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الله غالب على أمره وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر. قوله (ولما بلغ أشده
آتيناه حكما وعلما) الأشد. قال سيبويه: جمع واحده شدة. وقال الكسائي: واحده شد. وقال أبو عبيد: إنه
لا واحد له من لفظه عند العرب، ويرده قول الشاعر:
عهدي به شد النهار * كأنما خضب البنان ورأسه بالعظلم
والأشد: هو وقت استكمال القوة ثم يكون بعده النقصان قيل هو ثلاث وثلاثون سنة وقيل بلوغ الحلم
وقيل ثماني عشرة سنة، وقيل غير ذلك مما قد قدمنا بيانه في النساء والأنعام. والحكم: هو ما كان يقع منه من
الأحكام في سلطان ملك مصر. والعلم: هو العلم بالحكم الذي كان يحكمه، وقيل العقل والفهم والنبوة، وقيل
الحكم: هو النبوة، والعلم: هو العلم بالدين، وقيل علم الرؤيا. ومن قال إنه أوتى النبوة صبيا قال: المراد بهذا
الحكم والعلم الذي آتاه الله هو الزيادة فيهما (وكذلك نجزى المحسنين) أي ومثل ذلك الجزاء العجيب نجزي المحسنين،
فكل من أحسن في عمله أحسن الله جزاءه، وجعل عاقبة الخير من جملة ما يجزيه به، وهذه عام يدخل تحته جزاء
يوسف على صبره الحسن دخولا أوليا. قال الطبري: هذا وإن كان مخرجه ظاهرا على كل محسن فالمراد به محمد
صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الله تعالى كما فعل هذا بيوسف ثم أعطيته ما أعطيته كذلك أنجيك من مشركي
قومك الذين يقصدونك بالعداوة وأمكن لك في الأرض. والأولى ما ذكرناه من حمل العموم على ظاهره فيدخل تحته
ما ذكره ابن جرير الطبري.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله (وجاءت سيارة) قال:
جاءت سيارة فنزلت على الجب (فأرسلوا واردهم) فاستسقى الماء فاستخرج يوسف، فاستبشروا بأنهم أصابوا
غلاما لا يعلمون علمه ولا منزلته من ربه، فزهدوا فيه فباعوه، وكان بيعه حراما، وباعوه بدراهم معدودة
14

وأخرج عبد الرزاق وابن بن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة (فأرسلوا واردهم) يقول: فأرسلوا
رسولهم (فأدلى دلوه) فنشب الغلام بالدلو، فلما خرج (قال يا بشراي هذا غلام) تباشروا به حين استخرجوه،
وهى بئر ببيت المقدس معلوم مكانها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في
قوله (يا بشراى) قال: كان اسم صاحبه بشرى كما تقول يا زيد، وهذا على ما فيه من البعد لا يتم إلا على قراءة من
قرأ يا بشرى بدون إضافة. وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (وأسروه
بضاعة) يعني إخوة يوسف أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته
واختار البيع فباعه إخوته بثمن بخس. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال: أسره التجار بعضهم من
بعض. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه (وأسروه بضاعة) قال:
صاحب الدلو ومن معه، قالوا لأصحابهم: إنا استبضعناه خيفة أن يشركوهم فيه إن علموا به، واتبعهم إخوته
يقولون للمدلى وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوا بمصر، فقال: من يبتاعني ويبشر، فابتاعه الملك
والملك مسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله (وشروه) قال: إخوة يوسف باعوه حين
أخرجه المدلي دلوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: بيع بينهم بثمن بخس، قال:
حرام لم يحل لهم بيعه، ولا أكل ثمنه. وأخرج ابن جرير عن قتادة (وشروه بثمن بخس) قال: هم السيارة
وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب أنه قضى في اللقيط أنه حر، وقرأ (وشروه بثمن بخس). وأخرج ابن
جرير عن مجاهد قال: البخس القليل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي مثله. وأخرج ابن أبي شيبة
وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنما اشترى يوسف بعشرين درهما،
وكان أهله حين أرسل إليهم بمصر ثلاثمائة وتسعين إنسانا: رجالهم أنبياء، ونساؤهم صديقات، والله ما خرجوا مع
موسى حتى بلغوا ستمائة ألف وسبعين ألفا. وقد روى في مقدار ثمن يوسف غير هذا المقدار مما لا حاجة إلى
التطويل بذكره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وقال الذي اشتراه من مصر) قال:
كان اسمه قطفير. وأخرج أبو الشيخ عن شعيب الجبائي: أن اسم امرأة العزيز زليخا. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: الذي اشتراه أطيفير بن روحب، وكان اسم امرأته راعيل بنت رعاييل.
وأخرج ابن جرير وابن إسحاق وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: اسم الذي باعه من العزيز مالك بن ذعر. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله (أكرمي مثواه) قال: منزلته. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة مثله
وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ
والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه
عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف
عمر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (ولنعلمه من
تأويل الأحاديث) قال: عبارة الرؤيا. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في
كتاب الأضداد والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (ولما بلغ أشده) قال: ثلاثا وثلاثين
سنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: أربعين سنة. وأخرج عن عكرمة قال: خمسا وعشرين سنة. وأخرج
عن السدي قال: ثلاثين سنة. وأخرج عن سعيد بن جبير قال: ثمانية عشر سنة. وأخرج عن ربيعة قال: الحلم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: عشرين
15

سنة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد (آتيناه حكما وعلما) قال: هو الفقه والعلم والعقل قبل النبوة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (وكذلك نجزى المحسنين) قال: المهتدين.
و رودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ
الله إنه ربى أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون (23) ولقد همت به وهم بها لولا أن
رآ برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)
و استبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد
بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم (25) قال هي روادتنى عن نفسي وشهد شاهد
من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكذبين (26) وإن كان قميصه
قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رآ قميصه قد من دبر قال إنه من
كيد كن إن كيد كن عطيم (28) يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت
من الخاطئين (29).
المراودة الإرادة والطلب برفق ولين - وقيل هي مأخوذة من الرود: أي الرفق والتأني، يقال أرودني:
أمهلني، وقيل المراودة مأخوذة من راد يرود: إذا جاء وذهب، كأن المعنى: أنها فعلت في مراودتها له فعل
المخادع، ومنه الرائد لمن يطلب الماء والكلأ، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال: راود فلان جاريته عن نفسها
وراودته هي عن نفسه: إذا حاول كل واحد منهما الوطء والجماع، وهى مفاعلة، وأصلها أن تكون من
الجانبين، فجعل السبب هنا في أحد الجانبين قائما مقام المسبب، فكأن يوسف عليه السلام لما كان ما أعطيه من
كمال الخلق والزيادة في الحسن سببا لمراودة امرأة العزيز له مراود. وإنما قال (التي هو في بيتها) ولم يقل امرأة العزيز،
وزليخا قصدا إلى زيادة التقرير مع استهجان التصريح باسم المرأة والمحافظة على الستر عليها (وغلقت الأبواب)
قيل في هذه الصيغة ما يدل على التكثير، فيقال غلق الأبواب، ولا يقال غلق الباب، بل يقال أغلق الباب، وقد
يقال أغلق الأبواب، ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:
ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها * حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
قيل وكانت الأبواب سبعة. قوله (هيت لك). قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي وحمزة والأعمش بفتح الهاء
وسكون الياء وفتح التاء، وبها قرأ ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة. قال ابن
مسعود: لا تنطعوا في القراءة، فإنما هو مثل قول أحدكم هلم وتعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي بفتح الهاء وكسر
التاء. وقرأ عبد الرحمن السلمي وابن كثير هيت بفتح الهاء وضم التاء، ومنه قول طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما * قال داع من العشيرة هيت
وقرأ أبو جعفر ونافع بكسر الهاء وسكون الياء وفتح التاء. وقرأ علي وابن عباس في رواية عنه وهشام بكسر
16

الهاء وبعدها همزة ساكنة وضم التاء. وقرأ ابن عامر وأهل الشام بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء. ومعنى هيت على
جميع القراءات معنى هلم وتعال، لأنها من أسماء الأفعال إلا في قراءة من قرأ بكسر الهاء بعدها همزة وتاء
مضمومة، فإنها بمعنى: تهيأت لك. وأنكر أبو عمرو هذه القراءة. وقال أبو عبيدة: سئل أبو عمرو عن قراءة من
قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء فقال: باطل جعلها بمعنى تهيأت اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن،
هل تعرف أحدا يقول هكذا؟ وأنكرها أيضا الكسائي، وقال النحاس: هي جيدة عند البصريين، لأنه يقال:
هاء الرجل يهاء ويهىء هيئة، ورجح الزجاج القراءة الأولى، وأنشد بيت طرفة المذكور هيتا بالفتح، ومنه قول
الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أبلغ أمير المؤمنين * أخا العراق إذا أتيتا
إن العراق وأهله * سلم إليك فهيت هيتا
وتكون اللام في (لك) على القراءات الأولى التي هي فيها بمعنى اسم الفعل للبيان: أي لك. أقول هذا كما في
هلم لك. قال النحويون: هيت جاء بالحركات الثلاث: فالفتح للخفة، والكسر لالتقاء الساكنين، والضم
تشبيها بحيث، وإذا بين باللام نحو هيت لك فهو صوت قائم مقام المصدر كأف له: أي لك أقول هذا وإن لم يبين
باللام فهو صوت قائم مقام مصدر الفعل فيكون اسم فعل، إما خبر: أي تهيأت، وإما أمر: أي أقبل. وقال
في الصحاح: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه، ومنه قول الشاعر: * يحذو بها كل فتى هيات *
وقد روى عن ابن عباس والحسن أنها كلمة سريانية معناها أنها تدعوه إلى نفسها. قال أبو عبيدة: كان الكسائي
يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناها تعال. قال أبو عبيدة: فسألت شيخا عالما من
حوران فذكر أنها لغتهم (قال معاذ الله) أي أعوذ بالله معاذا مما دعوتني إليه. فهو مصدر منتصب بفعل
محذوف مضاف إلى اسم الله سبحانه، وجملة (إنه ربى أحسن مثواي) تعليل للامتناع الكائن منه ببعض الأسباب
التي هي أقرب إلى فهم امرأة العزيز، والضمير للشأن: أي إن الشأن ربي، يعني العزيز: أي سيدي الذي رباني
وأحسن مثواي حيث أمرك بقوله (أكرمي مثواه)، فكيف أخونه في أهله وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك؟ وقال
الزجاج: إن الضمير لله سبحانه: أي إن الله ربي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرمه. وجملة (إنه لا يفلح الظالمون)
تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها، والفلاح: الظفر. والمعنى: أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومن جملة
الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تطلبها امرأة العزيز من يوسف. قوله (ولقد همت به وهم بها) يقال
هم بالأمر: إذا قصده وعزم عليه. والمعنى: أنه هم بمخالطتها كما همت بمخالطته ومال كل واحد منهما إلى الآخر
بمقتضى الطبيعة البشرية والجبلة الخلقية، ولم يكن من يوسف عليه السلام القصد إلى ذلك اختيارا كما يفيده ما تقدم
من استعاذته بالله، وإن ذلك نوع من الظلم. ولما كان الأنبياء معصومين عن الهم بالمعصية والقصد إليها شطح أهل
العلم في تفسير هذه الآية بما فيه نوع تكلف، فمن ذلك ما قاله أبو حاتم قال: كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب
القرآن، فلما أتيت على (ولقد همت به وهم بها) قال: هذا على التقديم والتأخير: كأنه قال: ولقد همت به
ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، وقال أحمد بن يحيى ثعلب: أي همت زليخا بالمعصية وكانت مصرة، وهم
يوسف ولم يوقع ما هم به، فبين الهمين فرق، ومن هذا قول الشاعر:
هممت بهم من ثنية لؤلؤ * شفيت غليلات الهوى من فؤاديا
فهذا إنما هو حديث نفس من غير عزم، وقيل هم بها: أي هم بضربها، وقيل هم بها بمعنى تمنى أن
17

يتزوجها. وقد ذهب جمهور المفسرين من السلف والخلف إلى ما قدمنا من حمل اللفظ على معناه اللغوي، ويدل
على هذا ما سيأتي من قوله - ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب -، وقوله - وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء -
ومجرد الهم لا ينافي العصمة، فإنها قد وقعت العصمة عن الوقوع في المعصية، وذلك المطلوب، وجواب لو في
(لولا أن رأى برهان ربه) محذوف: أي لولا أن رأى برهان ربه لفعل ما هم به.
واختلف في هذا البرهان الذي رآه ما هو؟ فقيل إن زليخا قامت عند أن همت به وهم بها إلى صنم لها في زاوية
البيت فسترته بثوب فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه الصورة، فقال يوسف:
أنا أولى أن أستحي من الله تعالى. وقيل إنه رأى في سقف البيت مكتوبا - ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة - الآية،
وقيل رأى كفا مكتوب عليها - وإن عليكم لحافظين - وقيل إن البرهان هو تذكره عهد الله وميثاقه وما أخذه على
عباده، وقيل نودي: يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟ وقيل رأى صورة يعقوب على
الجدار عاضا على أنملته يتوعده، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره. والحاصل أنه رأى شيئا حال بينه وبين ما هم به
قوله (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) الكاف نعت مصدر محذوف، والإشارة بذلك إلى الإراءة المدلول
عليها بقوله (لولا أن رأى برهان ربه) أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك: أي مثل تلك الإراءة أريناه، أو مثل ذلك
التثبيت ثبتناه (لنصرف عنه السوء) أي كل ما يسوؤه، والفحشاء كل أمر مفرط القبح، وقيل السوء: الخيانة
للعزيز في أهله، والفحشاء: الزنا، وقيل السوء: الشهوة، والفحشاء: المباشرة، وقيل السوء: الثناء القبيح.
والأولى الحمل على العموم فيدخل فيه ما يدل عليه السياق دخولا أوليا، وجملة (إنه من عبادنا المخلصين) تعليل لما
قبله. قرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو " المخلصين " بكسر اللام. وقرأ الآخرون بفتحها، والمعنى على القراءة الأولى
أن يوسف عليه السلام كان ممن أخلص طاعته لله، وعلى الثانية أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة، وقد كان عليه
السلام مخلصا مستخلصا (واستبقا الباب) أي تسابقا إليه، فحذف حرف الجر وأوصل الفعل بالمفعول، أو ضمن
الفعل معنى فعل آخر يتعدى بنفسه كابتدرا الباب، وهذا الكلام متصل بقوله (ولقد همت به وهم بها لولا أن
رأى برهان ربه) وما بينهما اعتراض، ووجه تسابقهما أن يوسف يريد الفرار والخروج من الباب، وامرأة العزيز
تريد أن تسبقه إليه لتمنعه، ووحد الباب هنا وجمعه فيما تقدم، لأن تسابقهما كان إلى الباب الذي يخلص منه إلى
خارج الدار (وقدت قميصه من دبر) أي جذبت قميصه من ورائه فانشق إلى أسفله، والقد: القطع، وأكثر
ما يستعمل فيما كان طولا، والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا، وقع منها ذلك عند أن فر يوسف لما رأى
برهان ربه فأرادت أن تمنعه من الخروج بجذبها لقميصه (وألفيا سيدها لدى الباب) أي وجدا العزيز هنالك،
وعنى بالسيد: الزوج لأن القبط يسمون الزوج سيدا، وإنما لم يقل سيدهما، لأن ملكه ليوسف لم يكن صحيحا فلم
يكن سيدا له، وجملة (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فما كان
منهما عند أن ألفيا سيدها لدى الباب، وما استفهامية، والمراد بالسوء هنا الزنا، قالت هذه المقالة طلبا منها للحيلة
وللستر على نفسها، فنسبت ما كان منها إلى يوسف: أي جزاء يستحقه من فعل مثل فعل هذا، ثم أجابت عن
استفهامها بقولها (إلا أن يسجن) أي ما جزاؤه إلا أن يسجن، ويحتمل أن تكون ما نافية: أي ليس جزاؤه إلا
السجن أو العذاب الأليم، قيل والعذاب الأليم هو الضرب بالسياط، والظاهر أنه ما يصدق عليه العذاب الأليم من
ضرب أو غيره، وفي الإبهام للعذاب زيادة تهويل، وجملة (قال هي راودتني عن نفسي) مستأنفة كالجملة
الأولى. وقد تقدم بيان معنى المراودة: أي هي التي طلبت منى ذلك ولم أرد بها سوءا (وشهد شاهد من أهلها)
18

أي من قرابتها وسمى الحكم بينهما شهادة لما يحتاج فيه من التثبت والتأمل، قيل لما التبس الأمر على العزيز احتاج
إلى حاكم يحكم بينهما ليتبين له الصادق من الكاذب. قيل كان ابن عم لها واقفا مع العزيز في الباب، وقيل ابن
خال لها، وقيل إنه طفل في المهد تكلم. قال السهيلي: وهو الصحيح للحديث الوارد في ذلك عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في ذكر من تكلم في المهد، وذكر من جملتهم شاهد يوسف، وقيل إنه رجل حكيم كان العزيز
يستشيره في أموره، وكان من قرابة المرأة (إن كان قميصه قد من قبل) أي فقال الشاهد هذه المقالة مستدلا على
بيان صدق الصادق منهما وكذب الكاذب بأن قميص يوسف إن كان مقطوعا من قبل: أي من جهة القبل
(فصدقت) أي فقد صدقت بأنه أراد بها سوءا (وهو من الكاذبين) في قوله إنها راودته عن نفسه. وقرأ يحيى بن
يعمر وابن أبي إسحاق " من قبل " بضم اللام. وكذا قرأ (من دبر) قال الزجاج: جعلاهما غايتين كقبل وبعد كأنه
قيل من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه: وهو مراد صار المضاف غاية بعد أن كان المضاف إليه هو
الغاية (وإن كان قميصه قد من دبر) أي من ورائه (فكذبت) في دعواها عليه (وهو من الصادقين) في دعواه
عليها، ولا يخفى أن هاتين الجملتين الشرطيتين لا تلازم بين مقدميهما وتالييهما، لا عقلا ولا عادة، وليس هاهنا
إلا مجرد أمارة غير مطردة، إذ من الجائز أن تجذبه إليها وهو مقبل عليها فينقد القميص من دبر، وأن تجذبه وهو
مدبر عنها فينقد القميص من قبل (فلما رأى) أي العزيز (قميصه) أي قميص يوسف (قد من دبر قال إنه)
أي هذا الأمر الذي وقع فيه الاختلاف بينكما، أو أن قولك: " ما جزاء من أراد بأهلك سوءا " (من كيدكن) أي
من جنس كيدكن يا معشر النساء (إن كيدكن عظيم) والكيد: المكر والحيلة، ثم خاطب العزيز يوسف عليه
السلام بقوله (يوسف أعرض عن هذا) أي عن هذا الأمر الذي جرى واكتمه ولا تتحدث به، ثم أقبل عليها
بالخطاب فقال (واستغفري لذنبك) الذي وقع منك (إنك كنت) بسبب ذلك (من الخاطئين) أي من جنسهم،
والجملة تعليل لما قبلها من الأمر بالاستغفار ولم يقل من الخاطئات تغليبا للمذكر على المؤنث كما في قوله - وكانت
من القانتين - ومعنى من الخاطئين من المتعمدين، يقال خطئ إذا أذنب متعمدا، وقيل إن القائل ليوسف ولامرأة
العزيز بهذه المقالة هو الشاهد الذي حكم بينهما.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه) قال: هي امرأة
العزيز. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: راودته حين بلغ مبلغ الرجال. وأخرج أبو عبيد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله (هيت لك) قال: هلم لك تدعوه إلى نفسها، وأخرج
ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: هلم لك بالقبطية، وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: هي
كلمة بالسريانية: أي عليك. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: معناها تعال. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد: إنها لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها وأخرج أبو عبيد وابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قرأ " هئت لك " مكسورة الهاء مضمومة التاء مهموزة قال: تهيأت لك.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (إنه ربى) قال:
سيدي، قال: يعنى زوج المرأة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: لما همت به تزينت ثم استلقت على فراشها، وهم بها
جلس بين رجليها يحل ثيابه، فنودي من السماء يا بن يعقوب لا تكن كطائر نتف ريشه فبقى لا ريش له، فلم يتعظ
على النداء شيئا حتى رأى برهان ربه جبريل في صورة يعقوب عاضا على أصبعه، ففزع فخرجت شهوته من أنامله
19

فوثب إلى الباب فوجده مغلقا، فرفع يوسف رجله فضرب بها الباب الأدنى فانفرج له واتبعته فأدركته، فوضعت
يديها في قميصه فشقته حتى بلغت عضلة ساقه فألفيا سيدها لدى الباب. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن
أبي طالب في قوله (همت به وهم بها) قال: طمعت فيه وطمع فيها، وكان فيه من الطمع أن هم أن يحل التكة،
فقامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه، فقال: أي شئ
تصنعين؟ فقالت: أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوءة، فقال يوسف: تستحين من صنم لا يأكل ولا
يشرب، ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: لا تناليها مني أبدا، وهو
البرهان الذي رأى. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله (لولا
أن رأى برهان ربه) قال: مثل له يعقوب، فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقد أطال
المفسرون في تعيين البرهان الذي رآه، واختلفت أقوالهم في ذلك اختلافا كثيرا، وأخرج ابن جرير عن زيد بن
ثابت: قال السيد: الزوج، يعنى في قوله (وألفيا سيدها لدى الباب). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (إلا أن يسجن أو عذاب أليم) قال: القيد.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (وشهد شاهد من أهلها) قال: صبي أنطقه
الله كان في الدار. وأخرج أحمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال " تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم ".
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في
قوله (وشهد شاهد من أهلها) قال: كان رجلا ذا لحية. وأخرج الفريابي وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال:
كان من خاصة الملك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: هو رجل له فهم وعلم. وأخرج ابن
أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: ابن عم لها كان حكيما. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد
قال: إنه ليس بإنسي ولا جنى هو خلق من خلق الله. قلت: ولعله لم يستحضر قوله تعالى (من أهلها).
20

يقال نسوة بضم النون، وهى قراءة الأعمش والفضل وسليمان، ويقال نسوة بكسر النون، وهى قراءة الباقين،
والمراد جماعة من النساء، ويجوز التذكير في الفعل المسند إليهن كما يجوز التأنيث، قيل: وهن امرأة ساقى العزيز
وامرأة خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه، وامرأة حاجبه. والفتى في كلام العرب: الشاب،
والفتاة: الشابة، والمراد به هنا: غلامها يقال فتاي وفتاتي: أي غلامي وجاريتي، وجمله (قد شغفها حبا) في محل
رفع على أنها خبر ثان للمبتدأ، أو في محل نصب على الحال، ومعنى شغفها حبا: غلبها حبه، وقيل دخل حبه في
شغافها. قال أبو عبيدة: وشغاف القلب غلافه وهو جلدة عليه، وقيل هو وسط القلب، وعلى هذا يكون
المعنى: دخل حبه إلى شغافها فغلب عليه، وأنشد الأصمعي قول الراجز: * يتبعها وهى له شغاف * وقرأ
جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن " شعفها " بالعين المهملة. قال ابن الأعرابي: معناه أجرى حبه عليها. وقرأ
غيرهم بالمعجمة. قال الجوهري: شعفه الحب أحرق قلبه. وقال أبو زيد: أمرضه. قال النحاس: معناه عند أكثر
أهل اللغة: قد ذهب بها كل مذهب، لأن شعاف الجبال: أعاليها، وقد شغف بذلك شغفا باسكان الغين المعجمة:
إذا ولع به، وأنشد أبو عبيدة بيت امرئ القيس:
أتقتلني من قد شغفت فؤادها * كما شغف المهنوة الرجل الطالي
قال: فشبهت لوعة الحب بذلك. وقرأ الحسن " قد شغفها " بضم الغين، قال النحاس: وحكى قد شغفها
بكسر الغين، ولا يعرف ذلك في كلام العرب إلا شغفها بفتح الغين، ويقال إن الشغاف: الجلدة اللاصقة بالكبد
التي لا ترى، وهى الجلدة البيضاء، فكأنه لصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالكبد، وجملة (إنا لنراها في ضلال
مبين) مقررة لمضمون ما قبلها. والمعنى: إنا لنراها: أي نعلمها في فعلها هذا، وهو المراودة لفتاها قبل في ضلال عن
طريق الرشد والصواب مبين: واضح لا يلتبس على من نظر فيه (فلما سمعت) امرأة العزيز (بمكرهن) أي بغيبتهن
إياها، سميت الغيبة مكرا لاشتراكهما في الإخفاء، وقيل أردن أن يتوسلن بذلك إلى رؤية يوسف، فلهذا سمى
قولهن مكرا، وقيل إنها أسرت عليهن فأفشين سرها فسمى ذلك مكرا (أرسلت إليهن) أي تدعوهن إليها لينظرن
إلى يوسف حتى يقعن فيما وقعت فيه (وأعتدت لهن متكأ) أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها، وأعتدت من
الاعتداد، وهو كل ما جعلته عدة لشئ. وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير " متكا " مخففا غير مهموز، والمتك: هو
الأترج بلغة القبط، ومنه قول الشاعر:
نشرب الإثم بالصواع جهارا * وترى المتك بيننا مستعارا
وقيل إن ذلك هو لغة أزدشنوءة، وقيل حكى ذلك عن الأخفش. وقال الفراء: إنه ماء الورد. وقرأ الجمهور
" متكأ " بالهمز والتشديد، وأصح ما قيل فيه إنه المجلس، وقيل هو الطعام، وقيل المتكأ كل ما اتكىء عليه عند
طعام أو شراب أو حديث، وحكى القتيبي أنه يقال اتكأنا عند فلان: أي أكلنا، ومنه قول الشاعر:
فظللنا بنعمة واتكأنا * وشربنا الحلال من قلله
ويؤيد هذا قوله (وآتت كل واحدة منهن سكينا) فإن ذلك إنما يكون لشئ يأكلنه بعد أن يقطعنه،
والسكين تذكر وتؤنث، قاله الكسائي والفراء. قال الجوهري: والغالب عليه التذكير، والمراد من إعطائها لكل
واحدة سكينا أن يقطعن ما يحتاج إلى التقطيع من الأطعمة، ويمكن أنها أرادت بذلك ما سيقع منهن من تقطيع
أيديهن (وقالت) ليوسف (اخرج عليهن) أي في تلك الحالة التي هن عليها من الاتكاء والأكل وتقطيع
ما يحتاج إلى التقطيع من الطعام. قوله (فلما رأينه أكبرنه) أي عظمنه، وقيل أمذين، ومنه قول الشاعر:
21

إذا ما رأين الفحل من فوق قلة * صهلن وأكبرن المنى المقطرا
وقيل حضن. قال الأزهري: أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت، يقال أكبرت المرأة: أي دخلت في
الكبر بالحيض، وقع منهن ذلك دهشا وفزعا لما شاهدنه من جماله الفائق، وحسنه الرائق، ومن ذلك قول الشاعر:
نأتي النساء على أطهارهن ولا * نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا: ليس ذلك في كلام العرب. قال الزجاج: يقال أكبرنه ولا يقال
حضنه، فليس الإكبار بمعنى الحيض. وأجاب الأزهري فقال: يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية. وقد
زيف هذا بأن هاء الوقف تسقط في الوصل. وقال ابن الأنباري: إن الهاء كناية عن مصدر الفعل: أي أكبرن
إكبارا بمعنى حضن حيضا (وقطعن أيديهن) أي جرحنها، وليس المراد به القطع الذي تبين منه اليد، بل المراد به
الخدش والحز، وذلك معروف في اللغة كما قال النحاس، يقال قطع يد صاحبه: إذا خدشها، وقيل المراد بأيديهن
هنا: أناملهن، وقيل أكمامهن. والمعنى: أنه لما خرج يوسف عليهن أعظمنه ودهشن وراعهن حسنه حتى
اضطربت أيديهن فوقع القطع عليها وهن في شغل عن ذلك بما دهمهن، مما تطيش عنده الأحلام وتضطرب له
الأبدان وتزول به العقول (وقلن حاشا لله) كذا قرأ أبو عمرو بن العلاء بإثبات الألف في حاشا. وقرأ الباقون
بحذفها. وقرأ الحسن " حاش لله " بإسكان الشين. وروى عنه أنه قرأ " حاش الإله " وقرأ ابن مسعود وأبي " حاشا
الله ". قال الزجاج: وأصل الكلمة من الحاشية بمعنى الناحية، تقول كنت في حاشية فلان: أي في ناحيته،
فقولك حاشا لزيد من هذا: أي تباعد منه. وقال أبو علي: هو من المحاشاة: وقيل إن حاش حرف. وحاشا
فعل، وكلام أهل النحو في هذه الكلمة معروف، ومعناها هنا التنزيه كما تقول: أسى القوم حاشا زيدا، فمعنى
حاشا لله: براءة لله وتنزيه له. قوله (ما هذا بشرا) إعمال " ما " عمل ليس هي لغة أهل الحجاز، وبها نزل القرآن كهذه
الآية، وكقوله سبحانه - ما هن أمهاتهم -، وأما بنو تميم فلا يعملونها عمل ليس. وقال الكوفيون: أصله ما هذا
ببشر، فلما حذفت الباء انتصب. قال أحمد بن يحيى ثعلب: إذا قلت ما زيد بمنطلق، فموضع الباء موضع نصب،
وهكذا سائر حروف الخفض. وأما الخليل وسيبويه وجمهور النحويين فقد أعملوها عمل ليس، وبه قال البصريون
والبحث مقرر في كتب النحو بشواهده وحججه، وإنما نفين عنه البشرية لأنه قد برز في صورة قد لبست من
الجمال البديع ما لم يعهد على أحد من البشر، ولا أبصر المبصرون ما يقاربه في جميع الصور البشرية ثم لما نفين
عنه البشرية لهذه العلة أثبتن له الملكية وإن كن لا يعرفن الملائكة لكنه قد تقرر في الطباع أنهم على شكل فوق شكل
البشر في الذات والصفات وأنهم فائقون في كل شئ. كما تقرر أن الشياطين على العكس من ذلك، ومن هذا
قول الشاعر:
فلست لإنسي ولكن لملأك * تنزل من جو السماء يصوت *
وقرأ الحسن " ما هذا بشراء " على أن الباء حرف جر، والشين مكسورة: أي ما هذا بعبد يشترى، وهذه قراءة
ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله (إن هذا إلا ملك كريم). واعلم أنه لا يلزم من قول النسوة هذا أن الملائكة
صورهم أحسن من صور بني آدم، فإنهن لم يقلنه لدليل، بل حكمن على الغيب بمجرد الاعتقاد المرتكز عند في طباعهن
وذلك ممنوع، فإن الله سبحانه يقول - لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم -. وظاهر هذا أنه لم يكن شئ مثله من
أنواع المخلوقات في حسن تقويمه وكمال صورته، فما قاله صاحب الكشاف في هذا المقام هو من جملة تعصباته لما
رسخ في عقله من أقوال المعتزلة، على أن هذه المسألة: أعني مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر ليست من مسائل
22

الدين في ورد ولا صدر، فما أغنى عباد الله عنها وأحوجهم إلى غيرها من مسائل التكليف (قالت فذلكن الذي
لمتنني فيه) الإشارة إلى يوسف. والخطاب للنسوة: أي عيرتنني فيه. قالت لهن هذا لما رأت افتتانهن بيوسف
إظهارا لعذر نفسها، ومعنى فيه: أي في حبه، وقيل الإشارة إلى الحب، والضمير له أيضا، والمعنى: فذلك
الحب الذي لمتنني فيه هو ذلك الحب، والأول أولى. ورجحه ابن جرير. وأصل اللوم: الوصف بالقبيح. ثم
لما أظهرت عذر نفسها عند النسوة بما شاهدته مما وقعن فيه عند ظهوره لهن ضاق صدرها عن كتم ما تجده في قلبها
من حبه. فأقرت بذلك وصرحت بما وقع منها من المراودة له، فقالت (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) أي
استعف وامتنع مما أريده طالبا لعصمة نفسه عن ذلك، ثم توعدته إن لم يفعل ما تريده كاشفة لجلباب الحياء هاتكة
لستر العفاف فقالت (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين) أي لئن لم يفعل ما قد أمرته به فيما تقدم
ذكره عند أن غلقت الأبواب وقالت هيت لك ليسجنن: أي يعتقل في السجن وليكونن من الصاغرين الأذلاء لما
يناله من الإهانة. ويسلب عنه من النعمة والعزة في زعمها، قرىء " ليكونن " بالتثقيل والتخفيف قيل والتخفيف
أولى لأن النون كتبت في المصحف ألفا على حكم الوقف. وذلك لا يكون إلا في الخفيفة، وأما ليسجنن فبالتثقيل
لا غير. فلما سمع يوسف مقالها هذا، وعرف أنها عزمة منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز قال
مناجيا لربه سبحانه (رب السجن) أي يا رب السجن الذي أوعدتني هذه به (أحب إلى مما يدعونني إليه) من
مؤاتاتها والوقوع في المعصية العظيمة التي تذهب بخير الدنيا والآخرة. قال الزجاج: أي دخول السجن، فحذف
المضاف. وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ " السجن " بفتح السين. وقرأ كذلك ابن أبي إسحاق
وعبد الرحمن الأعرج ويعقوب، وهو مصدر سجنه سجنا، وإسناد الدعوة إليهن جميعا، لأن النسوة رغبنه يكون في
مطاوعتها وخوفنه من مخالفتها، ثم جرى على هذا في نسبته الكيد إليهن جميعا، فقال (وإلا تصرف عنى كيدهن)
أما الكيد من امرأة العزيز فما قد قصه الله سبحانه في هذه السورة، وأما كيد سائر النسوة فهو ما تقدم من الترغيب
له في المطاوعة والتخويف من المخالفة، وقيل إنها كانت كل واحدة تخلو به وحدها وتقول له: يا يوسف اقض
لي حاجتي فأنا خير لك من امرأة العزيز، وقيل إنه خاطب امرأة العزيز بما يصلح لخطاب جماعة النساء تعظيما لها،
أو عدولا عن التصريح إلى التعريض، والكيد: الاحتيال، وجزم (أصب إليهن) على أنه جواب الشرط: أي
أمل إليهن، من صبا يصبو: إذا مال واشتاق، ومنه قول الشاعر:
إلى هند صبا قلبي * وهند حبها يصبي
(وأكن من الجاهلين) معطوف على أصب: أي أكن ممن يجهل ما يحرم ارتكابه ويقدم عليه، أو ممن يعمل
عمل الجهال. قوله (فاستجاب له ربه) لما قال: وإلا تصرف عنى كيدهن كان ذلك منه تعرضا للدعاء، وكأنه
قال: اللهم اصرف عني كيدهن، فالاستجابة من الله تعالى له هي بهذا الاعتبار، لأنه لم يتقدم دعاء صريح منه
عليه السلام، والمعنى: أنه لطف به وعصمه عن الوقوع في المعصية. لأنه إذا صرف عنه كيدهن لم يقع شئ مما
رمنه منه، ووجه إسناد الكيد قد تقدم، وجملة (إنه هو السميع العليم) تعليل لما قبلها من صرف كيد النسوة عنه:
أي إنه هو السميع لدعوات الداعين له: العليم بأحوال الملتجئين إليه.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (قد شغفها) قال: غلبها. وأخرج ابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عنه (قد شغفها) قال: قتلها حب يوسف، الشغف: الحب القاتل، والشعف: حب دون ذلك،
والشغاف: حجاب القلب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا (قد شغفها) قال: قد علقها. وأخرج
23

ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (فلما سمعت بمكرهن) قال: بحديثهن. وأخرج ابن أبي حاتم عن
سفيان (فلما سمعت بمكرهن) قال: بعملهن، وكل مكر في القرآن فهو عمل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله (وأعتدت لهن متكأ) قال: هيأت لهن مجلسا، وكان سنتهم إذا وضعوا المائدة
أعطوا كل إنسان سكينا يأكل بها (فلما رأينه) قال: فلما خرج عليهن يوسف (أكبرنه) قال: أعظمنه ونظرن
إليه، وأقبلن يحززن أيديهن بالسكاكين وهن يحسبن أنهن يقطعن الطعام. وأخرج ابن جرير وابن مردويه
عن ابن عباس (وأعتدت لهن متكأ) قال: أعطتهن أترنجا، وأعطت كل واحدة منهن سكينا، فلما
رأين يوسف أكبرنه، وجعلن يقطعن أيديهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترنج. وأخرج مسدد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه المتكأ: الأترنج. وكان يقرؤها خفيفة. وأخرج ابن
أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد (متكأ) قال: طعاما. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عنه قال هو
الأترنج. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: هو كل شئ يقطع بالسكين. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ
عن الضحاك مثله. وأخرج أبو الشيخ من طريق عبد العزيز بن الوزير بن الكميت بن زيد قال حدثني أبي عن
جدي يقول في قوله (فلما رأينه أكبرنه) قال: أمنين. وأنشد:
ولما رأته الخيل من رأس شاهق * صهلن وأمنين المني المدفقا
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن
جده ابن عباس في قوله (فلما رأينه أكبرنه) قال: لما خرج عليهن يوسف حضن من الفرح وذكر قول الشاعر
الذي قدمنا ذكره * نأتي النساء لدى أطهارهن... * البيت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (أكبرنه) قال: أعظمنه (وقطعن أيديهن) قال: حزا بالسكين
حتى ألقينها (وقلن حاشا لله) قال: معاذ الله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (إن هذا إلا ملك كريم) قال: قلن ملك من الملائكة من حسنه. وأخرج أبو الشيخ
عن منبه عن أبيه قال: مات من النسوة التي قطعن أيديهن تسع عشرة امرأة كمدا. وأخرج أحمد وابن جرير وابن
أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أعطى يوسف وأمه شطر الحسن
وقد وردت روايات عن جماعة من السلف في وصف حسن يوسف، والمبالغة في ذلك، ففي بعضها أنه أعطى
نصف الحسن، وفي بعضها ثلثه، وفي بعضها ثلثيه، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن
ابن عباس (فاستعصم) قال: امتنع. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة (فاستعصم) قال: فاستعصى.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله (وإلا تصرف عنى كيدهن) قال: إن لا تكن منك أنت
القوى والمنعة لا تكن مني ولا عندي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ (أصب إليهن) قال: أتبعهن
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: أطاوعهن.
سورة يوسف الآية (35 36)
24

سورة يوسف الآية (37 40)
معنى (بدا لهم) ظهر لهم، والضمير للعزيز وأصحابه الذين يدبرون الأمر معه ويشيرون عليه، وأما فاعل
(بدا لهم) فقال سيبويه هو ليسجننه: أي ظهر لهم أن يسجنوه. قال المبرد: وهذا غلط لأن الفاعل لا يكون جملة،
ولكن الفاعل ما دل عليه " بدا " وهو المصدر كما قال الشاعر: وحق لمن أبو موسى أبوه * يوفقه الذي نصب الجبالا
أي وحق الحق فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه - وقيل الفاعل المحذوف هو رأي: أي وظهر لهم رأي لم
يكونوا يعرفونه من قبل، وهذا الفاعل حذف لدلالته ليسجننه عليه. واللام في ليسجننه جواب قسم محذوف على
تقدير القول: أي ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين والله ليسجننه. وقرئ " لتسجننه " بالمثناة الفوقية على
الخطاب. إما للعزيز ومن معه، أو له وحده على طريق التعظيم. والآيات قيل هي القميص وشهادة الشاهد وقطع
الأيدي، وقيل هي البركات التي فتحها الله عليهم بعد وصول يوسف إليهم ولم يجد ذلك فيهم بل كانت امرأته هي
الغالبة على رأيه الفاعلة لما يطابق هواها في يوسف. وإنفاذ ما تقدم منها من الوعيد له بقولها - ولئن لم يفعل ما آمره
به ليسجنن وليكونا من الصاغرين - قيل وسبب ظهور هذا الرأي لهم في سجن يوسف أنهم أرادوا ستر القالة،
وكتم ما شاع في الناس من قصة امرأة العزيز معه، وقيل إن العزيز قصد بسجنه الحيلولة بينه وبين امرأته لما علم
أنها قد صارت بمكان من حبه لا تبالي معه بحمل نفسها عليه على أي صفة كانت، ومعنى قوله (حتى حين) إلى
مدة غير معلومة كما قاله أكثر المفسرين، وقيل إلى انقطاع ما شاع في المدينة. وقال سعيد بن جبير: إلى سبع
سنين. وقيل إلى خمس. وقيل إلى ستة أشهر، وقد تقدم في البقرة الكلام في تفسير الحين، وحتى بمعنى إلى.
قوله (ودخل معه السجن فتيان، في الكلام حذف متقدم عليه، والتقدير: وبدا لهم من بعد ما رأوا الآيات
ليسجننه حتى حين فسجنوه، ودخل معه السجن فتيان، ومع للمصاحبة، وفتيان تثنية فتى، وذلك يدل على
أنهما عبدان له، ويحتمل أن يكون الفتى اسما للخادم وإن لم يكن مملوكا، وقد قيل إن أحدهما خباز الملك، والآخر
ساقيه، وقد كانا وضعا للملك سما لما ضمن لهما أهل مصر مالا في مقابلة ذلك، ثم إن الساقي رجع عن ذلك وقال
للملك: لا تأكل الطعام فإنه مسموم، وقال الخباز: لا تشرب فإن الشراب مسموم، فقال الملك للساقي: اشرب
25

فشرب فلم يضره، وقال للخباز كل فأبى، فجرب الطعام على حيوان فهلك مكانه فحبسهما، وكان دخولهما
السجن مع دخول يوسف، وقيل قبله، وقيل بعده. قال ابن جرير: إنهما سألا يوسف عن علمه فقال: إني أعبر
الرؤيا، فسألاه عن رؤياهما كما قص الله سبحانه (قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا) أي رأيتني، والتعبير
بالمضارع لاستحضار الصورة. والمعنى: إني أراني أعصر عنبا، فسماه باسم ما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر.
وفي قراءة ابن مسعود أعصر عنبا. قال الأصمعي: أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقى أعرابيا ومعه عنب، فقال له:
ما معك؟ فقال خمر. وقيل معنى أعصر خمرا: أي عنب خمر، فهو على حذف المضاف، وهذا الذي رأى هذه
الرؤيا هو الساقي، وهذه الجملة مستأنفة بتقدير سؤال، وكذلك الجملة التي بعدها وهى (وقال الآخر إني أراني
أحمل فوق رأسي خبزا) ثم وصف الخبز هذا بقوله (تأكل الطير منه) وهذا الرائي لهذه الرؤيا هو الخباز، ثم قالا
ليوسف جميعا بعد أن قصا رؤياهما عليه (نبئنا بتأويله) أي بتأويل ما قصصناه عليك من مجموع المرئيين، أو بتأويل
المذكور لك من كلامنا، وقيل إن كل واحد منهما قال له ذلك عقب قص رؤياه عليه، فيكون الضمير راجعا
إلى ما رآه كل واحد منهما، وقيل إن الضمير في بتأويله موضوع موضع اسم الإشارة، والتقدير بتأويل ذلك
(إنا نراك من المحسنين) أي من الذين يحسنون عبارة الرؤيا وكذا قال الفراء: إن معنى من المحسنين من العالمين الذين
أحسنوا العلم. وقال ابن إسحاق: من المحسنين إلينا إن فسرت ذلك، أو من المحسنين إلى أهل السجن، فقد روى أنه
كان كذلك، وجملة (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) مستأنفة جواب سؤال مقدر،
ومعنى ذلك أنه يعلم شيئا من الغيب، وأنه لا يأتيهما إلى السجن طعام إلا أخبرهما بماهيته قبل أن يأتيهما، وهذا ليس
من جواب سؤالهما تعبير ما قصاه عليه، بل جعله عليه السلام مقدمة قبل تعبيره لرؤياهما بيانا لعلو مرتبته في العلم،
وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون الرؤيا عن ظن وتخمين، فهو كقول عيسى عليه السلام - وأنبئكم بما تأكلون -
وإنما قال يوسف عليه السلام لهما بهذا ليحصل الانقياد منهما له فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج
من الكفر، ومعنى ترزقانه: يجري عليهما من جهة الملك أو غيره، والجملة صفة لطعام، أو يرزقكما الله سبحانه.
والاستثناء بقوله (إلا نبأتكما بتأويله) مفرغ من أعم الأحوال: أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال
ما نبأتكما: أي بينت لكما ماهيته وكيفيته قبل أن يأتيكما، وسماه تأويلا بطريق المشاكلة، لأن الكلام في تأويل
الرؤيا، أو المعنى: إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبركما به للواقع، والإشارة بقوله (ذلكما) إلى
التأويل، والخطاب للسائلين له عن تعبير رؤياهما (مما علمني ربى) بما أوحاه إلي وألهمني إياه لا من قبيل الكهانة
والتنجيم ونحو ذلك مما يكثر فيه الخطأ، ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم الجمة هو بسبب ترك
الملة التي لا يؤمن أهلها بالله ولا بالآخرة واتباعه لملة الأنبياء من آبائه فقال (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) وهو
كلام مستأنف يتضمن التعليل لما قبله، والمراد بالترك هو عدم التلبس بذلك من الأصل، لا أنه قد كان تلبس به،
ثم تركه كما يدل عليه قوله (ما كان لنا أن نشرك بالله) ثم وصف هؤلاء القوم بما يدل على تصلبهم في الكفر
وتهالكهم عليه. فقال (وهم بالآخرة هم كافرون) أي هم مختصون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله.
وقوله (واتبعت) معطوف على تركت، وسماهم آباء جميعا لأن الأجداد آباء، وقدم الجد الأعلى، ثم الجد
الأقرب ثم الأب لكون إبراهيم هو أصل هذه الملة التي كان عليها أولاده ثم تلقاها عنه إسحاق ثم يعقوب. وهذا منه
عليه السلام لترغيب صاحبيه في الإيمان بالله (ما كان لنا أن نشرك بالله) أي ما صح لنا ذلك فضلا عن وقوعه.
والضمير في لنا له وللأنبياء المذكورين، والإشارة بقوله (ذلك) إلى الإيمان المفهوم من قوله ما كان لنا أن نشرك
26

بالله، و (من فضل الله علينا) خبر اسم الإشارة: أي ناشئ من تفضلات الله علينا ولطفه بنا بما جعله لنا من
النبوة المتضمنة للعصمة عن معاصيه، ومن فضل الله على الناس كافة ببعثة الأنبياء إليهم وهدايتهم إلى ربهم وتبيين
طرائق الحق لهم (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) الله سبحانه على نعمه التي أنعم بها عليهم فيؤمنون به ويوحدونه
ويعملون بما شرعه لهم، قوله (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) جعلهما مصاحبين
للسجن لطول مقامهما فيه، وقيل المراد: يا صاحبي في السجن، لأن السجن ليس بمصحوب بل مصحوب فيه،
وأن ذلك من باب يا سارق الليلة. وعلى الأول يكون من باب قوله - أصحاب الجنة أصحاب النار - والاستفهام
للإنكار مع التقريع والتوبيخ، ومعنى التفرق هنا هو التفرق في الذوات والصفات والعدد: أي هل الأرباب
المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن، أم الله المعبود بحق
المتفرد في ذاته وصفاته الذي لا ضد له ولا ند ولا شريك، القهار الذي لا يغالبه مغالب ولا يعانده معاند؟ أورد
يوسف عليه السلام على صاحبي السجن هذه الحجة القاهرة على طريق الاستفهام، لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام،
وقد قيل إنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب، ولهذا قال لهما (ما تعبدون من دونه
إلا أسماء سميتموها) أي إلا أسماء فارغة سميتموها ولا مسميات لها، وإن كنتم تزعمون أن لها مسميات، وهى
الآلهة التي تعبدونها، لكنها لما كانت لا تستحق التسمية بذلك صارت الأسماء كأنها لا مسميات لها، وقيل المعنى:
ما تعبدون من دون الله إلا مسميات أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من تلقاء أنفسكم، وليس لها من الإلهية شئ إلا
مجرد الأسماء لكونها جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، وإنما قال (ما تعبدون) على خطاب الجمع
وكذلك ما بعده من الضمائر، لأنه قصد خطاب صاحبي السجن ومن كان على دينهم، ومفعول سميتموها الثاني
محذوف: أي سميتموها آلهة من عند أنفسكم (ما أنزل الله بها) أي بتلك التسمية (من سلطان) من حجة تدل على
صحتها (إن الحكم إلا لله) أي ما الحكم إلا لله في العبادة، فهو الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها
معبودة بدون حجة ولا برهان، وجملة (أمر ألا تعبدوا إلا إياه) مستأنفة، والمعنى: أنه أمركم بتخصيصه بالعبادة
دون غيره مما تزعمون أنه معبود، ثم بين لهم أن عبادته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره فقال (ذلك)
أي تخصيصه بالعبادة (الدين القيم) أي المستقيم الثابت (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أن ذلك هو دينه القويم،
وصراطه المستقيم، لجهلكم وبعدكم عن الحقائق.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: سألت ابن عباس عن قوله (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا
الآيات) فقال: ما سألني عنها أحد قبلك، من الآيات قد القميص وأثرها في جسده، وأثر السكين، وقالت
امرأة العزيز إن أنت لم تسجنه ليصدقنه الناس. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال: من الآيات كلام الصبي.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: الآيات حزهن أيديهن وقد القميص.
وأقول: إن كان المراد بالآيات: الآيات الدالة على براءته فلا يصح عد قطع أيدي النسوة منها، لأنه وقع
منهن ذلك لما حصل لهن من الدهشة عند ظهوره لهن مع ما ألبسه الله سبحانه من الجمال الذي تنقطع عند مشاهدته
عري الصبر وتضعف عند رؤيته قوى التجلد. وإن كان المراد الآيات الدالة على أنه قد أعطى من الحسن ما يسلب
عقول المبصرين، ويذهب بإدراك الناظرين، فنعم يصح عد قطع الأيدي من جملة الآيات، ولكن ليس هذه
الآيات هي المرادة هنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه
عن ابن عباس قال: عوقب يوسف ثلاث مرات: أما أول مرة فبالحبس لما كامن همه بها، والثانية لقوله
27

- اذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين - عوقب بطول الحبس، والثالثة حيث قال - أيتها العير إنكم
لسارقون - فاستقبل في وجهه - إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل - وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما) خازن الملك على طعامه، والآخر ساقيه على شرابه. وأخرج ابن جرير
عنه في قوله (إني أراني أعصر خمرا) قال: عنبا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد (نبئنا بتأويله) قال:
عبارته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (إنا نراك من المحسنين) قال: كان
إحسانه فيما ذكر لنا أنه كان يعزي حزينهم ويداوي مريضهم، ورأوا منه عبادة واجتهادا فأحبوه. وأخرج سعيد
ابن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال: كان إحسانه
أنه إذا مرض إنسان في السجن قام عليه، وإذا ضاق عليه المكان أوسع له، وإذا احتاج جمع له. وأخرج أبو الشيخ
عن ابن عباس قال: دعا يوسف لأهل السجن فقال: اللهم لا تعم عليهم الأخبار وهون عليهم مر الأيام.
وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله (لا يأتيكما طعام) الآية قال:
كره العبارة لهما فأجابهما بغير جوابهما ليريهما أن عنده علما، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما
معلوما فأرسل به إليه، فقال يوسف (لا يأتيكما طعام ترزقانه) إلى قوله (يشكرون) فلم يدعه صاحبا الرؤيا حتى
يعبر لهما، فكره العبارة فقال (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون) إلى قوله (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
قال: فلم يدعاه فعبر لهما. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس)
قال: إن المؤمن ليشكر ما به من نعمة الله، ويشكر ما بالناس من نعم الله، ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول:
يا رب شاكر نعمة غير منعم عليه لا يدري، ويا رب حامل فقه غير فقيه. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة
في قوله (أأرباب متفرقون) الآية قال: لما عرف يوسف أن أحدهما مقتول دعاهما إلى حظهما من ربهما وإلى
نصيبهما من آخرتهما. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج في قوله (ذلك الدين القيم) قال: العدل، فقال:
سورة يوسف الآية (41 42)
هذا هو بيان ما طلباه منه من تعبير رؤياهما. والمراد بقوله (أما أحدكما) هو الساقي، وإنما أبهمه لكونه مفهوما
أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب (فيسقى ربه خمرا) أي مالكه. وهى عهدته التي كان قائما بها في
خدمة الملك، فكأنه قال: أما أنت أيها الساقي فستعود فلا إلى ما كنت عليه ويدعو بك الملك ويطلقك من الحبس
(وأما الآخر) وهو الخباز (فيصلب فتأكل الطير من رأسه) تعبيرا لما رآه من أنه يحمل فوق رأسه خبزا فتأكل
الطير منه (قضى الأمر الذي فيه تستفتيان) وهو ما رأياه وقصاه عليه، يقال استفتاه: إذا طلب منه بيان حكم
شئ سأله عنه مما أشكل عليه، وهما قد سألاه تعبير ما أشكل عليهما من الرؤيا (وقال للذي ظن أنه ناج منهما) أي
قال يوسف، والظان هو أيضا يوسف، والمراد بالظن العلم لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز،
هكذا قال جمهور المفسرين - وقبل الظاهر على معناه، لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظنا، والأول أولى وأنسب بحال
28

الأنبياء. ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على شئ من علم الغيب كما في قوله لا يأتيكما
طعام ترزقانه " الآية، وجملة (اذكرني عند ربك) هي مقول القول أمره بأن يذكره عند سيده ويصفه بما شاهده
منه من جودة التعبير والاطلاع على شئ من علم الغيب، وكانت هذه المقالة منه عليه السلام صادرة عن ذهول
ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائدا إلى يوسف، هكذا قال بعض المفسرين
ويكون المراد بربه في قوله (ذكر ربه) هو الله سبحانه: أي إنساء الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال
(وقال للذي ظن أنه ناج منهما) يذكره عند سيده ليكون ذلك سببا لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه
بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته. وذهب كثير من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه
هو الذي نجا من الغلامين: وهو الشرابي، والمعنى: إنساء لشيطان الشرابي ذكر سيده: أي ذكره لسيده فلم يبلغ
إليه ما أوصاه به يوسف من ذكره عند سيده، ويكون المعنى: فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع
خلوصه من السجن ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك، وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على
الأنبياء. وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف، ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز، والأنبياء غير معصومين عن
النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " إنما أنا
بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني " ورجح أيضا بأن النسيان ليس بذنب، فلو كان الذي أنساه الشيطان
ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين. وأجيب بأن النسيان هنا بمعنى الترك،
وأنه عوقب بسبب إستعانته بغير الله سبحانه، ويؤيد رجوع الضمير إلى يوسف ما بعده من قوله (فلبث في السجن
بضع سنين) ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة) سنة
(فلبث) أي يوسف (في السجن) بسبب ذلك القول الذي قاله للذي نجا من الغلامين، أو بسبب ذلك الإنساء
(بضع سنين) البضع: ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب، وحكى عن أبي عبيدة أن البضع: ما دون
نصف العقد، يعني ما بين واحد إلى أربعة، وقيل ما بين ثلاث إلى سبع، حكاه قطرب، وحكى الزجاج أنه
ما بين الثلاث إلى الخمس. وقد اختلف في تعيين قدر المدة التي لبث فيها يوسف في السجن فقيل سبع سنين،
وقيل اثنتا عشرة سنة، وقيل أربع عشرة سنة، وقيل خمس سنين.
وقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله (أما أحدكما) قال: أتاه فقال: رأيت فيما يرى النائم أني غرست
حبلة من عنب فنبتت، فخرج فيه عناقيد فعصرتهن ثم سقيتهن الملك، فقال: تمكث في السجن ثلاثة أيام، ثم
تخرج فتسقيه خمرا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال:
ما رأى صاحبا يوسف شيئا، إنما تحالما ليجربا علمه، فلما أول رؤياهما قالا: إنما كنا نلعب ولم نر شيئا، فقال
(قضى الأمر الذي فيه تستفتيان) يقول: وقعت العبارة فصار الأمر على ما عبر يوسف. وأخرج أبو عبيد وابن
المنذر وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال: كان أحد اللذين قصا على يوسف الرؤيا كاذبا. وأخرج ابن جرير
وأبو الشيخ عن ابن ساباط (وقال للذي ظن أنه ناج اذكرني عند ربك) قال: عند ملك الأرض، وأخرج
ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغى الفرج من عند غير
الله " وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة مرفوعا نحوه وهو مرسل. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا نحوه وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
أبو الشيخ عن الحسن مرفوعا نحوه وهو مرسل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة فذكر نحوه وهو مرسل
29

أيضا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أنس
قال: أوحى إلى يوسف: من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك؟ قال: أنت يا رب، قال: فمن
استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه؟ قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك؟ قال: أنت
يا رب، قال: فما لك نسيتني وذكرت آدميا؟ قال: جزعا وكلمة تكلم بها لساني، قال: فوعزتي لأخلدنك في
السجن بضع سنين، فلبث فيه سبع سنين: وقد اختلف السلف في تقدير مدة لبثه في السجن على حسب ما قدمنا
ذكره، فلم نشتغل هاهنا يذكر من قال بذلك ومن خرجه.
سورة يوسف الآية (43 49)
المراد بالملك هنا: هو الملك الأكبر، وهو الريان بن الوليد الذي كان العزيز وزيرا له. رأى في نومه لما دنى
فرج يوسف عليه السلام أنه خرج من نهر يابس (سبع بقرات سمان) جمع سمين وسمينة. في إثرهن سبع عجاف:
أي مهازيل، وقد أقبلت العجاف على السمان فأكلتهن. والمعنى: إني رأيت. ولكنه عبر بالمضارع لاستحضار
الصورة وكذلك قوله (يأكلهن) عبر بالمضارع للاستحضار. والعجاف جمع عجفاء، وقياس جمعه عجف.
لأن فعلاء وأفعل لا تجمع على فعال، ولكنه عدل عن القياس حملا على سمان (وسبع سنبلات) معطوف على سبع
بقرات، والمراد بقوله (خضر) أنه قد انعقد حبها، واليابسات التي قد بلغت حد الحصاد، والمعنى: وأرى سبعا
أنحر يابسات، وكان قد رأى أن السبع السنبلات اليابسات قد أدركت الخضر والتوت عليها حتى غلبتها. ولعل
عدم التعرض لذكر هذا في النظم القرآني للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات (يا أيها الملأ) خطاب للأشراف من
قومه (أفتوني في رؤياي) أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا (إن كنتم للرؤيا تعبرون) أي تعلمون عبارة الرؤيا،
وأصل العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يخبر بما يؤول إليه أمرها.
قال الزجاج: اللام في للرؤيا للتبيين: أي إن كنتم تعبرون، ثم بين فقال " للرؤيا " وقيل هو للتقوية، وتأخير الفعل
العامل فيه لرعاية الفواصل، وجملة (قالوا أضغاث أحلام) مستأنفة جواب سؤال مقدر، الأضغاث جمع
30

ضغث، وهو كل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما، والمعنى: أخاليط أحلام، والأحلام جمع حلم: وهى
الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها كما يكون من حديث النفس ووسواس الشيطان، والإضافة بمعنى من، وجمعوا
الأحلام ولم يكن من الملك إلا رؤيا واحدة مبالغة منهم في وصفها بالبطلان. ويجوز أن يكون رأى مع هذه الرؤيا
غيرها مما لم يقصه الله علينا (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) قال الزجاج: المعنى بتأويل الأحلام المختلطة، نفوا
عن أنفسهم علم ما لا تأويل له، لا مطلق العلم بالتأويل، وقيل إنهم نفوا عن أنفسهم علم التعبير مطلقا، ولم يدعوا
أنه لا تأويل لهذه الرؤيا، وقيل إنهم قصدوا محوها من صدر الملك حتى لا يشتغل بها، ولم يكن ما ذكروه من نفى
العلم حقيقة (وقال الذي نجا منهما) أي من الغلامين، وهو الساقي الذي قال له يوسف - اذكرني عند ربك -
(وادكر بعد أمة) بالدال المهملة على قراءة الجمهور، وهى القراءة الفصيحة: أي تذكر الساقي يوسف وما
شاهده منه من العلم بتعبير الرؤيا. وقرئ بالمعجمة، ومعنى (بعد أمة): بعد حين، ومنه - إلى أمة معدودة - أي
إلى وقت. قال ابن درستويه: والأمة لا تكون على الحين إلا على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه
قال: والله أعلم وادكر بعد حين أمة أو بعد زمن أمة. والأمة: الجماعة الكثيرة من الناس. قال الأخفش: هو
في اللفظ واحد وفي المعنى جمع، وكل جنس من الحيوان أمة. وقرأ ابن عباس وعكرمة " بعد أمة " بفتح الهمزة
وتخفيف الميم: أي بعد نسيان، ومنه قول الشاعر:
أممت وكنت لا أنسى حديثا * كذاك الدهر يودى بالعقول
ويقال أمه يأمه أمها: إذا نسي. وقرأ الأشهب العقيلي " بعد إمة " بكسر الهمزة: أي بعد نعمة: وهى نعمة
النجاة (أنا أنبئكم بتأويله) أي أخبركم به بسؤالي عنه من له علم بتأويله، وهو يوسف (فأرسلون) خاطب الملك
بلفظ التعظيم، أو خاطبه ومن كان عنده من الملأ، طلب منهم أن يرسلوه إلى يوسف ليقص عليه رؤيا الملك حتى
يخبره بتأويلها فيعود بذلك إلى الملك (يوسف أيها الصديق أفتنا) أي يا يوسف، وفي الكلام حذف، والتقدير:
فأرسلوه إلى يوسف فسار إليه، فقال له " يوسف أيها الصديق " إلى آخر الكلام، والمعنى: أخبرنا في رؤيا من رأى
سبع بقرات الخ وترك ذكر ذلك اكتفاء بما هو واثق به من فهم يوسف بأن ذلك رؤيا، وأن المطلوب منه
تعبيرها (لعلى أرجع إلى الناس) أي إلى الملك ومن عنده من الملأ (لعلهم يعلمون) ما تأتي به من تأويل هذه الرؤيا
أو يعلمون فضلك ومعرفتك لفن التعبير، وجملة (قال تزرعون) الخ مستأنفة جواب سؤال مقدر كغيرها مما يرد
هذا المورد (سبع سنين دأبا) أي متوالية متتابعة، وهو مصدر، وقيل هو حال: أي دائبين، وقيل صفة لسبع:
أي دائبة، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه قرأ (دأبا) بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم وهما لغتان
قال الفراء: حرك لأن فيه حرفا من حروف الحلق. وكذلك كل حرف فتح أوله وسكن ثانيه فتثقيله جائز في كلمات
معروفة. فعبر يوسف عليه السلام السبع البقرات السمان بسبع سنين فيها خصب، والعجاف بسبع سنين فيها جدب
وهكذا عبر السبع السنبلات الخضر والسبع السنبلات اليابسات، واستدل بالسبع السنبلات الخضر على ما ذكره في
التعبير من قوله (فما حصدتم فذروه في سنبله) أي ما حصدتم في كل سنة من السنين المخصبة فذروا ذلك المحصود
في سنبله ولا تفصلوه عنها لئلا يأكله السوس إلا قليلا مما تأكلون في هذه السنين المخصبة فإنه لا بد لكم من فصله
عن سنبله وإخراجه عنها، واقتصر على استثناء المأكول دون ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم
لأنه قد علم من قوله تزرعون (ثم يأتي من بعد ذلك) أي من بعد السبع السنين المخصبة (سبع شداد) أي سبع سنين
مجدبة يصعب أمرها على الناس (يأكلن ما قدمتم لهن) من تلك الحبوب المتروكة في سنابلها، وإسناد الأكل إلى
31

السنين مجاز، والمعنى: يأكل الناس فيهن أو يأكل أهلهن ما قدمتم لهن: أي ما ادخرتم لأجلهن فهو من باب:
نهاره صائم، ومنه قول الشاعر:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة * وليلك نوم والردى لك لازم
(إلا قليلا مما تحصنون) أي مما تحبسون من الحب لتزرعوا به، لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات.
وقال أبو عبيدة: معنى تحصنون: تحرزون، وقيل تدخرون، والمعنى واحد. قوله (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه
يغاث الناس وفيه يعصرون) أي من بعد السنين المجدبات، فالإشارة إليها، والعام السنة (فيه يغاث الناس) من
الإغاثة أو الغوث. والغيث المطر. وقد غاث الغيث الأرض: أي أصابها، وغاث الله البلاد يغيثها غوثا:
أمطرها، فمعنى يغاث الناس: يمطرون (وفيه يعصرون) أي يعصرون الأشياء التي تعصر كالعنب والسمسم والزيتون
وقيل أراد حلب الألبان، وقيل معنى يعصرون، ينجون. مأخوذ من العصرة وهى المنجاة. قال أبو عبيدة: والعصر
بالتحريك الملجأ والمنجاة، ومنه قول الشاعر:
صاديا يستغيث غير مغاث * ولقد كان عصره المنجود
و اعتصرت بفلان: التجأت به. وقرأ حمزة والكسائي (تعصرون) بتاء الخطاب. وقرئ " يعصرون " بضم
حرف المضارعة وفتح الصاد، ومعناه يمطرون، ومنه قوله تعالى - وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا -.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال يوسف للساقي: اذكرني عند ربك: أي الملك
الأعظم ومظلمتي وحبسي في غير شيء، فقال أفعل، فلما خرج الساقي رد على ما كان عليه ورضى عنه صاحبه
وأنساه الشيطان ذكر الملك الذي أمره يوسف أن يذكره له، فلبث يوسف بعد ذلك في السجن بضع سنين، ثم
إن الملك ريان بن الوليد رأى رؤياه التي أرى فيها فهالته وعرف أنها رؤيا واقعة ولم يدر ما تأويلها، فقال للملأ
حوله من أهل مملكته (إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات) فلما
سمع من الملك ما سمع منه ومسألته عن تأويلها ذكر يوسف ما كان عبر له ولصاحبه وما جاء من ذلك على ما قال
فقال: أنا أنبئكم بتأويله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (أضغاث أحلام) يقول: مشتبهة. وأخرج
أبو يعلى وابن جرير عنه قال: من الأحلام الكاذبة. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله. وأخرج عبد الرزاق
والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله (وادكر بعد أمة)
قال: بعد حين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد والحسن وعكرمة وعبد الله بن كثير والسدي مثله. وأخرج ابن
جرير عن ابن عباس قال: بعد سنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بعد أمة من الناس. وأخرج
عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (أفتنا في سبع بقرات) الآية،
قال: أما السمان فسنون فيها خصب، وأما العجاف فسنون مجدبة، وسبع سنبلات خضر هي السنون المخاصيب
تخرج الأرض نباتها وزرعها وثمارها، وآخر يابسات المحول الجدوب لا تنبت شيئا. وأخرج عبد الرزاق وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لقد عجبت من
يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى
أشترط عليهم أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول، ولو كنت
مكانه لبادرتهم الباب ولكنه أراد أن يكون له العذر ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس
32

في قوله (إلا قليلا مما تحصنون) يقول: تخزنون، وفي قوله (وفيه يعصرون) يقول: الأعناب والدهن. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (فيه يغاث الناس) يقول: يصيبهم فيه غيث (وفيه يعصرون) يقول:
يعصرون وفيه العنب ويعصرون فيه الزبيب ويعصرون من كل الثمرات. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضا (وفيه يعصرون) قال: يحتلبون. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه
أيضا (ثم يأتي من بعد ذلك عام) قال: أخبرهم بشئ لم يسألوه عنه كأن الله قد علمه إياه فيه يغاث الناس بالمطر،
وفيه يعصرون السمسم دهنا والعنب خمرا والزيتون زيتا.
سورة يوسف الآية (50 57)
(وقال الملك ائتوني به) في الكلام حذف قبل هذا، والتقدير: فذهب الرسول إلى الملك فأخبره بما أخبره
به يوسف من تعبير تلك الرؤيا، وقال الملك لمن بحضرته ائتوني به: أي بيوسف، رغب إلى رؤيته ومعرفة حاله
بعد أن علم من فضله ما علمه من وصف الرسول له ومن تعبيره لرؤياه (فلما جاءه) أي جاء إلى يوسف (الرسول)
واستدعاه إلى حضرة الملك وأمره بالخروج من السجن (قال) يوسف للرسول (ارجع إلى ربك) أي سيدك (فاسأله
ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) أمره بأن يسأل الملك عن ذلك وتوقف عن الخروج من السجن، ولم يسارع إلى
إجابة الملك، ليظهر للناس براءة ساحته ونزاهة جانبه، وأنه ظلم بكيد امرأة العزيز ظلما بينا، ولقد أعطى عليه
السلام من الحلم والصبر والأناة ما تضيق الأذهان عن تصوره، ولهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله
وسلم " ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي " يعني الرسول الذي جاء يدعوه إلى الملك. قال ابن
عطية: هذا الفعل من يوسف أناة وصبرا، وطلبا لبراءة ساحته، وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة.
ويسكت عن أمر ذنبه فيراه الناس بتلك العين يقولون هذا الذي راود امرأة العزيز، وإنما قال (فاسأله ما بال
33

النسوة وسكت عن امرأة العزيز رعاية لذمام الملك العزيز، أو خوفا منه من كيدها وعظيم شرها - وذكر السؤال
عن تقطيع الأيدي ولم يذكر مراودتهن له، تنزها منه عن نسبة ذلك إليهن، ولذلك لم ينسب المراودة فيما تقدم إلى
امرأة العزيز إلا بعد أن رمته بدائها وانسلت. وقد اكتفى هنا بالإشارة الإجمالية بقوله (إن ربى بكيدهن عليم)
فجعل علم الله سبحانه بما وقع عليه من الكيد منهن مغنيا عن التصريح، وجملة (قال فما خطبكن إذ راودتن
يوسف عن نفسه) مستأنفة جواب سؤال مقدر. كأنه قيل: فماذا قال الملك بعد أن أبلغه الرسول ما قال يوسف؟
والخطب: الشأن العظيم الذي يحق له أن يخاطب فيه صاحبه خاصة. والمعنى: ما شأنكن إذا راودتن يوسف عن
نفسه. وقد تقدم معنى المراودة، وإنما نسب إليهن المراودة، لأن كل واحدة منهن وقع منها ذلك كما تقدم، ومن
جملة من شمله خطاب الملك امرأة العزيز، أو أراد بنسبة ذلك إليهن وقوعه منهن في الجملة كما كان من امرأة العزيز
تحاشيا عن التصريح منه بنسبة ذلك إليها لكونها امرأة وزيره وهو العزيز، فأجبن عليه بقولهن (قلن حاش لله) أي
معاذ الله (ما علمنا عليه من سوء) أي من أمر سئ ينسب إليه، فعند ذلك (قالت امرأة العزيز) منزهة لجانبه مقرة
على نفسها بالمراودة له (الآن حصحص الحق) أي تبين وظهر. وأصله حص، فقيل حصحص كما قيل في كبوا
كبكبوا، قاله الزجاج، وأصل الحص: استئصال الشئ، يقال حص شعره: إذا استأصله، ومنه قول
أبي قيس بن الأسلت:
قد حصت البيضة رأسي فما * أطعم نوما غير تهجاع
والمعنى أنه انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه، ومنه:
فمن مبلغ عني خداشا فإنه * كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم
وقيل هو مشتق من الحصة. والمعنى: بانت حصة الباطل. قال الخليل: معناه ظهر الحق بعد خفائه، ثم
أوضحت ذلك بقولها (أنا راودته عن نفسه) ولم تقع منه المراودة لي أصلا (وإنه لمن الصادقين) فيما قاله من تبرئة
نفسه ونسبة المراودة إليها، وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام. قوله (ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب) ذهب
أكثر المفسرين إلى هذا من كلام يوسف عليه السلام. قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان
آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به، والإشارة إلى الحادثة الواقعة منه، وهى تثبته وتأنيه:
أي فعلت ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه في أهله بالغيب، والمعنى بظهر الغيب، والجار والمجرور في محل نصب
على الحال: أي وهو غائب عني، أو وأنا غائب عنه. قيل إنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما
قالته النسوة، وما قالته امرأة العزيز، وقيل إنه قال ذلك وقد صار عند الملك، والأول أولى. وذهب الأقلون
من المفسرين إلى أن هذا من كلام امرأة العزيز، والمعنى: ذلك القول الذي قلته في تنزيهه، والإقرار على نفسي
بالمراودة ليعلم يوسف أني لم أخنه فأنسب إليه ما لم يكن منه وهو غائب عني، أو وأنا غائبة عنه (وأن الله لا يهدى
كيد الخائنين) أي لا يثبته ويسدده، أولا يهديهم في كيدهم حتى يوقعوه على وجه يكون له تأثير يثبت به ويدوم
وإذا كان من قول يوسف ففيه تعريض بامرأة العزيز حيث وقع منها الكيد له والخيانة لزوجها، وتعريض بالعزيز
حيث ساعدها على حبسه بعد أن علم براءته ونزاهته (وما أبرئ نفسي) إن كان من كلام يوسف فهو من باب الهضم
للنفس، وعدم التزكية بها مع أنه قد علم هو وغيره من الناس أنه برئ وظهر ذلك ظهور الشمس، وأقرت به
المرأة التي ادعت عليه الباطل، ونزهته النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وإن كان من كلام امرأة العزيز فهو واقع
على الحقيقة، لأنها قد أقرت بالذنب، واعترفت بالمراودة وبالافتراء على يوسف. وقد قيل إن هذا من قول العزيز
34

وهو بعيد جدا، ومعناه: وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف، والمساعدة على حبسه بعد أن علمت ببراءته
(إن النفس لأمارة بالسوء) أي إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات، وتأثيرها
بالطبع، وصعوبة قهرها، وكفها عن ذلك (إلا ما رحم ربى) أي إلا من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون
أمارة بالسوء، أو إلا وقت رحمة ربى وعصمته لها، وقيل الاستثناء منقطع، والمعنى: لكن رحمة ربي هي التي
تكفها عن أن تكون أمارة بالسوء وجملة (إن ربى غفور رحيم) تعليل لما قبلها: أي إن من شأنه كثرة المغفرة لعباده
والرحمة لهم. قوله (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي) الملك هو الريان بن الوليد لا العزيز كما تقدم،
ومعنى (أستخلصه لنفسي): أجعله خالصا لي دون غيري، وقد كان قبل ذلك خالصا للعزيز، والاستخلاص:
طلب خلوص الشئ من شوائب الشركة، قال ذلك لما كان يوسف نفيسا، وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة
خالصة لهم دون غيرهم (فلما كلمه) في الكلام حذف، وتقديره فأتوه به فلما كلمه: أي فلما كلم الملك يوسف
ويحتمل أن يكون المعنى: فلما كلم يوسف الملك. قيل والأول أولى، لأن مجالس الملوك لا يتكلم فيها ابتداء إلا هم
دون من يدخل عليهم، وقيل الثاني أولى لقول الملك (قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) فإن هذا يفيد أنه لما تكلم
يوسف في مقام الملك جاء بما حببه إلى الملك، وقربه من قلبه، فقال له هذه المقالة، ومعنى مكين: ذو مكانة
وأمانة بحيث يتمكن مما يريده من الملك ويأمنه الملك على ما يطلع عليه من أمره، أو على ما يكله إليه من ذلك، قيل
إنه لما وصل إلى الملك أجلسه على سريرة، وقال له: إني أحب أن أسمع منك تعبير رؤياي، فعبرها له بأكمل بيان
وأتم عبارة، فلما سمع الملك منه ذلك قال له (إنك اليوم لدينا مكين أمين) فلما سمع يوسف منه ذلك (قال اجعلني
على خزائن الأرض) أي ولني أمر الأرض التي أمرها إليك وهى أرض مصر، أو اجعلني على حفظ خزائن
الأرض، وهي الأمكنة التي تخزن فيها الأموال طلب يوسف عليه السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل
ورفع الظلم، ويتوسل به إلى دعاء أهل مصر إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأوثان وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق
من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق ويهدم ما أمكنه من الباطل طلب ذلك لنفسه ويجوز
له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ترغيبا فيما يرومه، وتنشيطا لمن يخاطبه من الملوك بالقاء مقاليد الأمور إليه
وجعلها منوطة به ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من النهي عن طلب الولاية
والمنع من تولية من طلبها أو حرص عليها. والخزائن جمع خزانة، وهى اسم للمكان الذي يخزن فيه الشئ والحفيظ
الذي يحفظ الشئ: أي (إني حفيظ) لما جعلته إلى من حفظ الأموال لا أخرجها في غير مخارجها، ولا أصرفها
في غير مصارفها (عليم) بوجود جمعها وتفريقها ومدخلها ومخرجها (وكذلك مكنا ليوسف) أي ومثل ذلك
التمكن العجيب مكنا ليوسف في الأرض: أي جعلنا له مكانا، وهو عبارة عن كمال قدرته ونفوذ أمره ونهيه حتى
صار الملك يصدر عن رأيه، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه (يتبوأ منها حيث يشاء) أي ينزل منها حيث أراد
ويتخذه مباءة، وهو عبارة عن كمال قدرته كما تقدم، وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر كما
يتصرف الرجل في منزله. وقرأ ابن كثير بالنون. وقد استدل بهذه الآية على أنه يجوز تولي الأعمال من جهة السلطان
الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق. وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفى في قوله سبحانه - ولا تركنوا
إلى الذين ظلموا - (نصيب برحمتنا من نشاء) من العباد فنرحمه في الدنيا بالإحسان إليه والإنعام عليه، وفي الآخرة
بإدخاله الجنة وإنجائه من النار (ولا نضيع
أجر المحسنين) في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوب الله منهم: أي لا نضيع
ثوابهم فيها، ومجازاتهم عليها (ولأجر الآخرة) أي أجرهم في الآخرة، وأضيف الأجر إلى الآخرة للملانسة لأن،
35

وأجرهم هو الجزاء الذي يجازيهم الله به فيها، وهو الجنة التي لا ينفد نعيمها ولا تنقضي مدتها (خير للذين آمنوا)
بالله (وكانوا يتقون) الوقوع فيما حرمه عليهم، والمراد بهم المحسنون المتقدم ذكرهم، وفيه تنبيه على أن الإحسان
المعتد به هو الإيمان والتقوى.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (ما بال النسوة) قال: أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من
السجن. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عنه قال: لما
قالت امرأة العزيز: أنا راودته، قال يوسف (ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب) فغمزه جبريل فقال: ولا حين
هممت بها؟ فقال (وما أبرئ نفسي) الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (حصحص
الحق) قال: تبين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد والسدي مثله. وأخرج سعيد بن
منصور وابن أبي حاتم عن حكيم بن حزام في قوله (ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب) فقال له جبريل، ولا حين
حللت السراويل؟ فقال عند ذلك (وما أبرئ نفسي). وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر من طريق الكلبي
عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي) قال: فأتاه الرسول فقال: ألق
عنك ثياب السجن والبس ثيابا جددا وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة. فلما أتاه
رأى غلاما حدثا، فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة؟ وأقعده قدامه وقال لا تخف، وألبسه
طوقا من ذهب وثياب حرير، وأعطاه دابة مسروجة مزينة كدابة الملك، وضرب الطبل بمصر: إن يوسف
خليفة الملك. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قال الملك
ليوسف: إني أحب أن تخالطني في كل شئ إلا في أهلي. وأنا آنف تأكل معي. فغضب يوسف وقال: أنا
أحق أن آنف، أنا ابن إبراهيم خليل الله، وأنا ابن إسحاق ذبيح الله، وأنا ابن يعقوب نبي الله. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن شيبة بن نعامة الضبي في قوله (اجعلني على خزائن الأرض) يقول على جميع الطعام
(إني حفيظ) لما استودعتني (عليم) بسني المجاعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله (وكذلك
مكنا ليوسف في الأرض) قال: ملكناه فيها يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا يصنع فيها ما يشاء. وأخرج
أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أن يوسف تزوج امرأة العزيز فوجدها بكرا، وكان زوجها عنينا.
سورة يوسف الآية (58 63)
36

سورة يوسف الآية (64 - 66)
قوله (وجاء إخوة يوسف) أي جاءوا إلى مصر من أرض كنعان ليمتاروا لما أصابهم القحط (فدخلوا) على
يوسف (فعرفهم) لأنه فارقهم رجالا (وهم له منكرون) لأنهم فارقوه صبيا يباع بالدراهم في أيدي السيارة بعد
أن أخرجوه من الجب، ودخلوا عليه الآن وهو رجل عليه أبهة الملك، ورونق الرئاسة، وعنده الخدم والحشم
وقيل إنهم أنكروه لكونه كان في تلك الحال على هيئة ملك مصر، ولبس تاجه وتطوق بطوقه - وقيل كانوا بعيدا
منه فلم يعرفوه، وقيل غير ذلك (ولما جهزهم بجهازهم) المراد به هنا أنه أعطاهم ما طلبوه من الميرة وما يصلحون به سفرهم من العدة التي يحتاجها المسافر. يقال جهزت القوم تجهيزا: إذا تكلفت لهم جهازا للسفر. قال الأزهري
القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة جيدة (قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم) قيل لابد من كلام ينشأ عنه طلبه
لهم بأن يأتوه بأخ لهم من أبيهم، فروى أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: ما أنتم وما شأنكم فإني أنكركم؟
فقالوا: نحن قوم من أهل الشام جئنا نمتار ولنا أب شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟
قالوا عشرة وقد كنا اثنى عشر، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك، وكان أحبنا إلى أبينا، وقد سكن بعده إلى أخ
له أصغر منه هو باق لديه يتسلى به، فقال لهم حينئذ (ائتوني بأخ لكم من أبيكم) يعني أخاه بنيامين الذي تقدم
ذكره، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه، فوعدوه بذلك، فطلب منهم أن يتركوا أحدهم رهينة عنده حتى
يأتوه بالأخ الذي طلبه، فاقترعوا فأصابت القرعة شمعون فخلفوه عنده، ثم قال لهم (ألا ترون أنى أوفي الكيل)
أي أتممه، وجاء بصيغة الاستقبال مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرة،
ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقا به وتصديقا لقوله، فقال (وأنا خير المنزلين) أي والحال أني خير المنزلين لمن نزل بي
كما فعلته بكم من حسن الضيافة وحسن الإنزال. قال الزجاج: قال يوسف (وأنا خير المنزلين) لأنه حين أنزلهم
أحسن ضيافتهم، ثم توعدهم إذا لم يأتوه به فقال (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون) أي فلا أبيعكم
شيئا فيما بعد، وأما في الحال فقد أوفاهم كيلهم، ومعنى لا تقربون: لا تدخلون بلادي فضلا عن أن أحسن إليكم
وقيل معناه: لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرة، ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده، وتقربون مجزوم إما على أن
لا ناهية أو على أنها نافية، وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه كأنه قال: فإن لم تأتوني تحرموا ولا تقربوا
فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم ف‍ (قالوا سنراود عنه أباه) أي سنطلبه منه، ونجتهد في ذلك بما نقدر عليه
وقيل معنى المراودة هنا: المخادعة منهم لأبيهم والاحتيال عليه حتى ينتزعوه منه (وإنا لفاعلون هذه المراودة غير
مقصرين فيها. وقيل معناه: وإنا لقادرون على ذلك. لا نتعانى به ولا نتعاظمه (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم
37

في رحالهم) قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم من رواية شعبة وابن عامر " لفتيته " واختار هذه القراءة أبو حاتم
والنحاس وغيرهما. وقرأ سائر الكوفيين " لفتيانه " وأختار هذه القراءة أبو عبيد، وفي مصحف عبد الله بن مسعود
كالقراءة الآخرة. قال النحاس: لفتيانه مخالف للسواد الأعظم، ولا يترك السواد المجمع عليه لهذا الإسناد المنقطع
وأيضا فإن فتية أشبه من فتيان، لأن فتية عند العرب لأقل العدد، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه
والجملة مستأنفة جواب سؤال كأنه قيل: فما قال يوسف بعد وعدهم له بذلك؟ فأجيب بأنه قال لفتيته. قال الزجاج
الفتية والفتيان في هذا الموضع المماليك، وقال الثعلبي: هما لغتان جيدتان مثل الصبيان والصبية. والمراد بالبضاعة
هنا هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام، وكانت نعالا وأدما، فعل يوسف عليه السلام ذلك تفضلا
عليهم، وقيل فعل ذلك ليرجعوا إليه مرة أخرى لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمن، قاله الفراء، وقيل فعل ذلك
ليستعينوا بها على الرجوع إليه لشراء الطعام، وقيل إنه استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام، ثم علل يوسف
عليه السلام ما أمر به من جعل البضاعة في رحالهم بقوله (لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم) فجعل علة جعل
البضاعة في الرحال هي معرفتهم لها إذا انقلبوا إلى أهلهم، وذلك لأنهم لا يعلمون برد البضاعة إليهم إلا عند تفريغ
الأوعية التي جعلوا فيها الطعام، وهم لا يفرغونها إلا عند الوصول إلى أهلهم، ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة
إليهم المجعولة في رحالهم بقوله (لعلهم يرجعون) فإنهم إذا عرفوا ذلك وعلموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن، وأن
ما دفعوه عوضا عنه قد رجع إليهم، وتفضل به من وصلوا إليه عليهم نشطوا إلى العود إليه، ولا سيما مع ما هم فيه من
الجدب الشديد والحاجة إلى الطعام وعدم وجوده لديهم، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع،
وبهذا يظهر أن يوسف عليه السلام لم يرد البضاعة إليهم إلا لهذا المقصد، وهو رجوعهم إليه فلا يتم تعليل ردها
بغير ذلك، والرحال جمع رحل. والمراد به هنا ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث. قال الواحدي: الرحل كل
شئ معد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير ومجلس ورسن انتهى. والمراد هنا الأوعية التي يجعلون فيها
ما يمتارونه من الطعام. قال ابن الأنباري: يقال للوعاء رحل وللبيت رحل (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا
منع منا الكيل) أرادوا بهذا ما تقدم من قول يوسف لهم: (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي): أي منع منا الكيل
في المستقبل، وفيه دلالة على أن الامتيار فإن مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه، ولعلهم قالوا له بهذه المقالة قبل أن
يفتحوا متاعهم ويعلموا برد بضاعتهم كما يفيد ذلك قوله فيما بعد ولما فتحوا متاعهم - إلى آخره، ثم ذكروا له ما أمرهم
به يوسف، فقالوا (فأرسل معنا أخانا) يعنون بنيامين و (نكتل) جواب الأمر: أي نكتل بسبب إرساله معنا
ما نريده من الطعام. قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر وعاصم " نكتل " بالنون. وقرأ سائر الكوفيون بالياء
التحتية. واختار أبو عبيد القراءة الأولى قال: ليكونون كلهم داخلين فيمن يكتال، وزعم أنه إذا كان بالياء
كان للأخ وحده: أي يكتال أخونا بنيامين، واعترضه النحاس مما حاصله أن إسناد الكيل إلى الأخ لا ينافي كونه
للجميع. والمعنى: يكتال بنيامين لنا جميعا. قال الزجاج: أي إن أرسلته اكتلنا وإلا منعنا الكيل (وإنا له) أي
لأخيهم بنيامين (لحافظون) من أن يصيبه سوء أو مكروه. وجملة (قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه
من قبل) مستأنفة جواب سؤال مقدر كما تقدم في نظائر ذلك في مواضع كثيرة، والمعنى: أنه لا يأمنهم على بنيامين
إلا كما أمنهم على أخيه يوسف وقد قالوا له في يوسف - وإنا له لحافظون - كما قالوا هنا (وإنا له لحافظون) ثم
خانوه في يوسف فهو إن أمنهم في بنيامين خاف أن يخونوه فيه كما خانوه في يوسف (فالله خير حفظا وهو أرحم
الراحمين) لعل هنا إضمارا والتقدير فتوكل يعقوب على (الله ودفعه إليهم وقال: فالله خير حفظا. قرأ أهل المدينة
38

" حفظا " وهو منتصب على التمييز، وهى قراءة أبي عمرو وعاصم وابن عامر. وقرأ سائر الكوفيين " حافظا "
منتصب على الحال. وقال الزجاج: على البيان يعني التمييز، ومعنى الآية: أن حفظ الله إياه خير من حفظهم له،
لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه، ولما قال في يوسف - وأخاف أن يأكله الذئب - وقع
له من الامتحان ما وقع. (ولما فتحوا متاعهم) أي أوعية الطعام أو ما هو أعم من ذلك مما يطلق عليه لفظ المتاع
سواء كان الذي فيه طعاما أو غير طعام (وجدوا بضاعتهم ردت إليهم) أي البضاعة التي حملوها إلى مصر ليمتاروا
بها، وقد تقدم بيانها، وجملة (قالوا يا أبانا) مستأنفة كما تقدم (ما نبغي) ما استفهامية والمعنى: أي شئ نطلب من
هذا الملك بعد أن صنع معنا ما صنع من الإحسان برد البضاعة والإكرام عند القدوم إليه، وتوفير ما أردناه من المبرة،
ويكون الاستفهام للإنكار، وجملة (هذه بضاعتنا ردت إلينا) مقررة لما دل عليه الاستفهام من الإنكار لطلب
شئ مع كونها قد ردت إليهم. وقيل إن " ما " في ما نبغي نافية أي ما نبغي في القول وما نتزيد فيما وصفنا لك من
إحسان الملك إلينا وإكرامه لنا. ثم برهنوا على ما لقوه من التزيد في وصف الملك بقولهم (هذه بضاعتنا ردت إلينا)
فإن من تفضل عليهم برد ذلك حقيق بالثناء عليه منهم، مستحق لما وصفوه به، ومعنى (ونمير أهلنا) نجلب إليهم
الميرة وهى الطعام، والمائر الذي يأتي بالطعام. وقرأ السلمي بضم النون، وهو معطوف على مقدر يدل عليه السياق
والتقدير: هذه بضاعتنا ردت إلينا فنحن نستعين بها على الرجوع ونمير أهلنا (ونحفظ أخانا) بنيامين مما تخافه
عليه (ونزداد) بسبب إرساله معنا (كيل بعير) أي حمل بعير زائد على ما جئنا به هذه المرة، لأنه كان يكال لكل
رجل وقر بعير، ومعنى (ذلك كيل يسير) أن زيادة كيل بعير لأخينا يسهل على الملك، ولا يمتنع علينا من زيادته
له لكونه يسيرا لا يتعاظمه ولا يضايقنا فيه، وقيل إن المعنى: ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه حمل
بعير لأخينا. واختار الزجاج الأول. وقيل إن هذا من كلام يعقوب جوابا على ما قاله أولاده: (ونزداد كيل بعير)
يعني إن حمل بعير شئ يسير لا يخاطر لأجله بالولد وهو ضعيف، لأن جواب يعقوب هو (قال لن أرسله معكم
حتى تؤتون موثقا من الله) أي حتى تعطوني ما أثق به وأركن إليه من جهة الله سبحانه، وهو الحلف به، واللام
في (لتأتنني به) جواب القسم: لأن معنى (حتى تؤتون موثقا من الله): حتى تحلفوا بالله لتأتني به: أي لتردن
بنيامين إلى. والاستثناء بقوله (إلا أن يحاط بكم) هو من أعم العام، لأن (لتأتنني به) وإن كان كلاما مثبتا فهو في
معنى النفي. فكأنه قال: لا تمنعون من إتياني به في حال من الأحوال لعله من العلل إلا لعلة الإحاطة بكم، والإحاطة
مأخوذة من إحاطة العدو. ومن أحاط به العدو فقد غلب أو هلك. فأخذ يعقوب عليهم العهد بأن يأتوه ببنيامين
إلا أن تغلبوا عليه أو تهلكوا دونه، فيكون ذلك عذرا لكم عندي (فلما آتوه موثقهم) أي أعطوه ما طلبه منهم من
اليمين (قال الله على ما نقول وكيل) أي قال يعقوب: الله على ما قلناه من طلبي الموثق منكم وإعطائكم لي ما طلبته
منكم مطلع رقيب لا يخفى عليه منه خافية، فهو المعاقب لمن خاس في عهده وفجر في الحلف به، أو موكول إليه
القيام بما شهد عليه منا.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن إخوة يوسف لما دخلوا عليه فعرفهم
وهم له منكرون، جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه، فوضعه على يده فجعل ينقره ويطن وينقره ويطن،
فقال: إن هذا الجام ليخبرني عنكم خبرا، هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف؟ وكان أبوه يحبه دونكم،
وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في الجب وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كذب؟ قال: فجعل
بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون. وأخرج أبو الشيخ عن وهيب قال: لما جعل يوسف ينقر الصواع ويخبرهم قام
39

إليه بعض إخوته فقال: أنشدك بالله أن لا تكشف لنا عورة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله
(ائتوني بأخ لكم من أبيكم) قال: يعني بنيامين، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ
عن ابن عباس في قوله (وأنا خير المنزلين) قال: خير من يضيف بمصر. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله
(لفتيته) أي لغلمانه (اجعلوا بضاعتهم) أي أوراقهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في
قوله (ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا) يقولون ما نبغي وراء هذا (ونزداد كيل بعير) أي حمل بعير. وأخرج
أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد (ونزداد كيل بعير) قال: حمل حمار، قال وهى لغة، قال أبو عبيد:
يعنى مجاهدا أن الحمار يقال له في بعض اللغات بعير. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (إلا أن يحاط بكم) قال: تهلكوا جميعا، وفي قوله (فلما آتوه موثقهم) قال:
عهدهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (إلا أن يحاط بكم) قال
إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك.
سورة يوسف الآية (67 - 76)
لما تجهز أولاد يعقوب للمسير إلى مصر خاف عليهم أبوهم أن تصيبهم العين لكونهم كانوا ذوي جمال ظاهر
وثياب حسنة مع كونهم أولاد رجل واحد، فنهاهم أن يدخلوا مجتمعين من باب واحد لأن في ذلك مظنة لإصابة
الأعين لهم، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، ولم يكتف بقوله (لا تدخلوا من باب واحد) عن قوله
40

(وادخلوا من أبواب متفرقة) لأنهم لو دخلوا من بابين مثلا كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد،
ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلا نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين أمرهم أن يدخلوا من أبواب
متفرقة، قيل وكانت أبواب مصر أربعة.
وقد أنكر بعض المعتزلة كأبي هاشم والبلخي أن للعين تأثيرا، وقالا: لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشئ
وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشئ، حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقا به. وليس
هذا بمستنكر من هذين وأتباعهما. فقد صار دفع أدلة الكتاب والسنة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم،
وأي مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه لذلك؟ وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن العين حق، وأصيب
بها جماعة في عصر النبوة، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به
نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الإزراء على من يعمل بالدليل المخالف لمجرد الاستبعاد العقلي والتنطع
في العبارات كالزمخشري في تفسيره، فإنه في كثير من المواطن لا يقف على دفع دليل الشرع بالاستبعاد الذي
يدعيه على العقل حتى يضم إلى ذلك الوقاحة في العبارة على وجه يوقع المقصرين في الأقوال الباطلة والمذاهب
الزائفة. وبالجملة فقول هؤلاء مدفوع بالأدلة المتكاثرة وإجماع من يعتد به من هذه الأمة سلفا وخلفا، وبما هو
مشاهد في الوجود، فكم من شخص من هذا النوع الإنساني وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب،
وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين، فقال قوم: يمنع من الاتصال بالناس دفعا لضرره بحبس
أو غيره من لزوم بيته - وقيل ينفى، وأبعد من قال إنه يقتل إلا إذا كان يتعمد ذلك وتتوقف إصابته على اختياره
وقصده ولم ينزجر عن ذلك، فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل. ثم قال يعقوب لأولاده (وما أغنى عنكم من الله
من شئ) أي لا أدفع عنكم ضررا ولا أجلب إليكم نفعا بتدبيري هذا، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة.
قال الزجاج وابن الأنباري: لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم. وقال
آخرون: ما كان يغنى عنهم يعقوب شيئا قط حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم، ثم
صرح يعقوب بأنه لا حكم إلا لله سبحانه فقال (إن الحكم إلا لله) لا لغيره ولا يشاركه فيه مشارك في ذلك (عليه
توكلت) في كل إيراد وإصدار لا على غيره: أي اعتمدت ووثقت (وعليه) لا على غيره (فليتوكل المتوكلون)
على العموم، ويدخل فيه أولاده دخولا أوليا (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم) أي من الأبواب المتفرقة ولم
يجتمعوا داخلين من باب واحد. وجواب لما (ما كان يغنى عنهم) ذلك الدخول (من الله) أي من جهته (من
شئ) من الأشياء مما قدره الله عليهم لأن الحذر لا يدفع القدر. والاستثناء بقوله (إلا حاجة في نفس يعقوب
قضاها) منقطع، والمعنى: ولكن حاجة كانت في نفس يعقوب. وهى شفقته عليهم ومحبته لسلامتهم قضاها
يعقوب: أي أظهرها لهم ووصاهم بها غير معتقد أن للتدبير الذي دبره لهم تأثيرا في دفع ما قضاه الله عليهم - وقيل
إنه خطر ببال يعقوب أن الملك إذا رآهم مجتمعين مع ما يظهر فيهم من كمال الخلقة، وسيما الشجاعة أوقع بهم حسدا
وحقدا أو خوفا منهم. فأمرهم بالتفرق لهذه العلة. وقد اختار هذا النحاس وقال: لا معنى للعين ها هنا، وفيه أن
هذا لو كان هو السبب لأمرهم بالتفرق ولم يخص النهي عن ذلك بالاجتماع عند الدخول من باب واحد، لأن هذا
الحسد أو الخوف يحصل باجتماعهم داخل المدينة كما يحصل باجتماعهم عند الدخول من باب واحد. وقيل إن
فاعل في قضاها ضمير يعود إلى الدخول لا إلى يعقوب. والمعنى: ما كان الدخول يغني عنهم من جهة الله شيئا،
و لكنه قضى ذلك الدخول حاجة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته (وإنه لذو علم لما علمناه) أي وإن
41

يعقوب لصاحب علم لأجل تعليم الله إياه بما أوحاه الله من أن الحذر لا يدفع القدر. وأن ما قضاه الله سبحانه فهو
كائن لا محالة (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) بذلك كما ينبغي، وقيل لا يعلمون أن الحذر مندوب إليه وإن كان
لا يغني من القدر شيئا، والسياق يدفعه، وقيل المراد بأكثر الناس المشركون (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه
أخاه) أي ضم إليه أخاه بنيامين، قيل إنه أمر بإنزال كل اثنين في منزل فبقى أخوه منفردا فضمه إليه و (قال إني
أنا أخوك) يوسف، قال له ذلك سرا، من دون أن يطلع عليه إخوته (فلا تبتئس) أي فلا تحزن (بما كانوا
يعملون) أي إخوتك من الأعمال الماضية التي عملوها، وقيل إنه لم يخبره بأنه يوسف، بل قال له: إني أخوك
مكان أخيك يوسف فلا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الجفاء حسدا وبغيا، وقيل إنه أخبره بما سيدبره هو معهم من جعل
السقاية في رحله، فقال لا أبالي، وقيل إنه لما أخبر يوسف أخاه بنيامين بأنه أخوه قال: لا تردني إليهم، فقال
قد علمت اغتمام أبينا يعقوب فإذا حبستك عندي ازداد غمه، فأتى بنيامين فقال له يوسف: لا يمكن حبسك عندي
إلا بأن أنسبك إلى مالا يجمل بك، فقال لا أبالي. فدس الصاع في رحله، وهو المراد بالسقاية وأصلها المشربة
التي يشرب بها جعلت صاعا يكال به، وقيل كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحب، وقيل كانت من فضة
وقيل كانت من ذهب. وقيل غير ذلك. وقد تقدم تفسير الجهاز والرحل. والمعنى: أنه جعل السقاية التي هو
الصواع في رحل أخيه الذي هو الوعاء الذي يجعل فيه ما يشتريه من الطعام من مصر (ثم) بعد ذلك (أذن مؤذن)
أي نادى مناد قائلا (أيتها العير) قال الزجاج: معناه يا أصحاب العير. وكل ما امتير عليه من الإبل والحمير
والبغال فهو عير، وقيل هي قافلة الحمير. وقال أبو عبيدة: العير الإبل المرحولة المركوبة (إنكم لسارقون) نسبة
السرق إليهم على حقيقتها، لأن المنادي غير عالم بما دبره يوسف. وقيل إن المعنى: إن حالكم حال السارقين
كون الصواع صار لديكم من غير رضا من الملك (قالوا) أي إخوة يوسف (وأقبلوا عليهم) أي حال كونهم
مقبلين على من نادى منهم المنادي من أصحاب الملك (ماذا تفقدون) أي ما الذي فقدتموه. يقال فقدت الشئ إذا
عدمته بضياع أو نحوه، فكأنهم قالوا ماذا ضاع عليكم؟ وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة (قالوا) في جوابهم
(نفقد صواع الملك) قرأ يحيى بن يعمر " صواغ " بالغين المعجمة. وقرأ أبو رجاء " صوع " بضم الصاد المهملة
وسكون الواو بعدها عين مهملة. وقرأ أبي " صياع ". وقرأ أبو جعفر صاع. وبها قرأ أبو هريرة. وقرأ الجمهور
" صواع " بالصاد والعين المهملتين. قال الزجاج: الصواع هو الصاع بعينه. وهو يذكر ويؤنث، وهو السقاية،
ومنه قول الشاعر: نشرب الخمر بالصواع جهارا (ولمن جاء به حمل بعير) أي قالوا: ولمن جاء
بالصواع من جهة نفسه حمل بعير. والبعير الجمل، وفي لغة بعض العرب أنه الحمار، والمراد بالحمل ها هنا
ما يحمله البعير من الطعام، ثم قال المنادي (وأنا به زعيم) أي بحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصواع قبل التفتيش
للأوعية، والزعيم هو الكفيل، ولعل القائل نفقد صواع الملك هو المنادى، وإنما نسب القول إلى الجماعة لكونه
واحدا منهم، ثم رجع الكلام إلى نسبة القول إلى المنادى وحده لأنه القائل بالحقيقة (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا
لنفسد في الأرض) التاء بدل من واو القسم عند الجمهور، وقيل من الباء، وقيل أصل بنفسها، ولا تدخل إلا
على هذا الاسم الشريف دون سائر أسمائه سبحانه، وقد دخلت نادرا على الرب، وعلى الرحمن، والكلام على هذا
مستوفى في علم الإعراب، وجعلوا المقسم عليه هو علم يوسف وأصحابه بنزاهة جانبهم وطهارة ذيلهم عن التلوث
بقذر الفساد في الأرض الذي من أعظم أنواعه السرقة، لأنهم قد شاهدوا منهم في قدومهم عليه المرة الأولى، وهذه
المرة من التعفف والزهد عما هو دون السرقة بمراحل ما يستفاد منه العلم الجازم بأنهم ليسوا بمن يتجارأ على هذا
42

النوع العظيم من أنواع الفساد، ولو لم يكن من ذلك إلا ردهم لبضاعتهم التي وجدوها في رحالهم، والمراد بالأرض
هنا أرض مصر، ثم أكدوا هذه الجملة التي أقسموا بالله عليها بقولهم (وما كنا سارقين) لزيادة التبري مما قرفوهم
به والتنزه عن هذه النقيصة الخسيسة والرذيلة الشنعاء (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين) هذه الجملة مستأنفة كما
تقدم غير مرة في نظائرها. والقائلون هم أصحاب يوسف، أو المنادى منهم وحده كما مر، والضمير في جزاؤه
للصواع على حذف مضاف: أي فما جزاء سرقة الصواع عندكم، أو الضمير للسارق، أي فما جزاء سارق الصواع
عندكم (إن كنتم كاذبين) فيما تدعونه لأنفسكم من البراءة عن السرقة، وذلك بأن يوجد الصواع معكم، فأجاب
أخوة يوسف و (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) أي جزاء سرقة الصواع أو جزاء سارق الصواع
وجزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية: وهى من وجد في رحله فهو جزاؤه خبر المبتدأ على إقامة الظاهر مقام المضمر
فيها، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو، فيكون الضمير الثاني عائد إلى المبتدأ، والأول إلى من، ويجوز
أن يكون خبر المبتدأ من وجد في رحله، والتقدير: جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد في رحله، وتكون جملة
فهو جزاؤه لتأكيد الجملة الأولى وتقريرها، قال الزجاج: وقوله (فهو جزاؤه) زيادة في البيان: أي جزاؤه أخذ
السارق فهو جزاؤه لا غير. قال المفسرون: وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوهم
في جزائه (كذلك نجزى الظالمين) أي مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الظالمين لغيرهم من الناس بسرقة أمتعتهم، وهذه
الجملة مؤكدة لما قبلها إذا كانت من كلام إخوة يوسف، ويجوز أن تكون من كلام أصحاب يوسف: أي كذلك
نحن نجزي الظالمين بالسرق. ثم لما ذكروا جزاء السارق أرادوا أن يفتشوا أمتعتهم حتى يتبين الأمر، فأقبل يوسف
على ذلك (فبدأ) تفتيش (أوعيتهم) أي أوعية الإخوة العشرة (قبل وعاء أخيه) أي قبل تفتيشه لوعاء أخيه بنيامين
دفعا للتهمة ورفعا لما دبره من الحيلة (ثم استخرجها) أي السقاية أو الصواع، لأنه يذكر ويؤنث (كذلك كدنا
ليوسف) أي مثل ذلك الكيد العجيب كدنا ليوسف: يعني علمناه إياه وأوحيناه إليه. والكيد مبدؤه السعي في الحيلة
والخديعة، ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه، وهو محمول في حق الله
سبحانه على النهاية لا على البداية. قال القتيبي: معنى كدنا دبرنا. وقال ابن الأنباري: أردنا. وفي الآية دليل على
جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعا ثابتا (ما كان ليأخذ
أخاه في دين الملك) أي ما كان يوسف ليأخذ أخاه بنيامين في دين الملك: أي ملك مصر، وفي شريعته التي كان
عليها، بل كان دينه وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة كما هو دين يعقوب
وشريعته. وحاصله أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفا لدين الملك
وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأراده حتى وجد السبيل إليه: وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم: إن
جزاء السارق الاسترقاق. فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله وتدبيره. وهو معنى قوله (إلا أن يشاء الله) أي إلا حال
مشيئته وإذنه بذلك وإرادته له. وهذه الجملة: أعني ما كان ليأخذ أخاه الخ تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف
أو تفسير له (نرفع درجات من نشاء) بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف بذلك
(وفوق كل ذي علم) ممن رفعه الله بالعلم (عليم) أرفع رتبة منهم وأعلى درجة لا يبلغون مداه ولا يرتقون شأوه.
وقيل معنى ذلك: أن فوق كل أهل العلم عليم وهو الله سبحانه
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وقال يا بنى لا تدخلوا من باب واحد) قال:
رهب يعقوب عليهم العين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب قال: خشي عليهم
العين. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وأبو الشيخ عن النخعي في قوله (وادخلوا من أبواب متفرقة) قال:
43

أحب يعقوب أن يلقى يوسف أخاه في خلوة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) قال: خيفة العين على بنيه وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (وإنه لذو علم لما علمناه) قال: إنه لعامل بما علم، ومن لا يعمل
لا يكون عالما. وأخرج هؤلاء عنه في قوله (آوى إليه أخاه) قال: ضمه إليه. وفى قوله (فلا تبتئس) قال:
لا تحزن ولا تيأس، وفى قوله (فلما جهزهم بجهازهم) قال: قضى حاجتهم وكال لهم طعامهم، وفي قوله (جعل
السقاية) قال: هو إناء الملك الذي يشرب منه (في رحل أخيه) قال: في متاع أخيه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن
الأنباري في المصاحف عن ابن عباس في قوله (جعل السقاية) قال: هو الصواع. وكل شئ يشرب منه فهو
صواع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن
زيد نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (أيتها العير) قال: كانت العير
حميرا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (ولمن جاء به حمل بعير) قال: حمل حمار طعام، وهى لغة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وأنا به زعيم) يقول: كفيل.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ
عن الربيع بن أنس في قوله (ما جئنا لنفسد في الأرض) يقول: ما جئنا لنعصي في الأرض. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله (فما جزاؤه) قال: عرفوا الحكم في حكمهم فقالوا من وجد في رحله فهو
جزاؤه، وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يؤخذ السارق بسرقته عبدا يسترق. وأخرج عبد الرزاق وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (فبدأ بأوعيتهم) قال: ذكر لنا أنه كان كلما
فتح متاع رجل استغفر تأثما مما صنع حتى بقي متاع الغلام قال ما أظن أن هذا أخذ شيئا. قالوا بلى فاستبره،
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله (كذلك كدنا ليوسف) قال:
كذلك صنعنا ليوسف (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) يقول: في سلطان الملك. قال: كان في دين ملكهم أنه
من سرق أخذت منه السرقة ومثلها معها من ماله فيعطيه المسروق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ
عن ابن عباس في قوله (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) يقول: في سلطان الملك. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (إلا أن يشاء الله) قال: إلا بعلة كادها الله ليوسف فاعتل
بها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله (نرفع درجات من نشاء) قال: يوسف وإخوته
أوتوا علما فرفعنا يوسف في العلم فوقهم درجة. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ
عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس فحدث بحديث. فقال رجل عنده (وفوق كل ذي علم عليم)
فقال ابن عباس: بئس ما قلت، الله العليم الخبير، وهو فوق كل عالم. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال:
سأل رجل عليا عن مسألة، فقال فيها، فقال الرجل ليس هكذا ولكن كذا وكذا، قال علي: أصبت وأخطأت
(وفوق كل ذي علم عليم). وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء
والصفات عن عكرمة في قوله (وفوق كل ذي علم عليم) قال: علم الله فوق كل عالم.
سورة يوسف الآية (77)
44

سورة يوسف الآية (78 82)
قوله (قالوا إن يسرق) أي بنيامين (فقد سرق أخ له من قبل) يعنون يوسف. وقد اختلف المفسرون
في هذه السرقة التي نسبوها إلى يوسف ما هي؟ فقيل إنه كان ليوسف عمة هي أكبر من
يعقوب. وكانت عندها منطقة إسحاق لكونها أسن أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سنا من ذكر أو
أنثى. وكانت قد حضنت يوسف وأحبته حبا شديدا. فلما ترعرع قال لها يعقوب: سلمي يوسف إلي فأشفقت
من فراقه واحتالت في بقائه لديها، فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها، ثم قالت: قد سرقت منطقة إسحاق
فانظروا من سرقها. فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل
إبراهيم. وقد سبق بيان شريعتهم في السرقة - وقيل إن يوسف أخذ صنما كان لجده أبي أمه فكسره وألقاه على الطريق
تغييرا للمنكر. وحكى عن الزجاج أنه كان صنما من ذهب. وحكى الواحدي عن الزجاج أنه قال: الله أعلم.
أسرق أخ له أم لا؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن الزجاج أنه قال: كذبوا عليه فيما نسبوه إليه. قلت: وهذا
أولى. فما هذه الكذبة بأول كذباتهم، وقد قدمنا ما يدفع قول من قال إنهم قد كانوا أنبياء عند صدور هذه
الأمور منهم. قوله (فأسرها يوسف في نفسه) قال الزجاج وغيره: الضمير في أسرها يعود إلى الكلمة أو الجملة.
كأنه قيل فأسر الجملة في نفسه (ولم يبدها لهم) ثم فسرها بقوله (قال أنتم شر مكانا) وقد رد أبو علي الفارسي
هذا فقال: إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل، وقيل الضمير عائد إلى الإجابة: أي أسر
يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر، وقيل أسر في نفسه قولهم: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل،
وهذا هو الأولى، ويكون معنى (ولم يبدها لهم) أنه لم يبد لهم هذه المقالة التي أسرها في نفسه بأن يذكر لهم صحتها أو
بطلانها، وجملة (قال أنتم شر مكانا) مفسرة على القول الأول، ومستأنفة على القولين الآخرين، كأنه قيل:
فماذا قال يوسف لما قالوا هذه المقالة؟ أي أنتم شر مكانا: أي موضعا ومنزلا ممن نسبتموه إلى السرقة وهو برئ،
فإنكم قد فعلتم ما فعلتم من إلقاء يوسف إلى الجب والكذب على أبيكم وغير ذلك من أفاعيلكم، ثم قال (والله أعلم
بما تصفون) من الباطل بنسبة السراق إلى يوسف، وأنه لا حقيقة لذلك، ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق له أخاهم
بنيامين يكون معهم يرجعون به إلى أبيهم لما تقدم من أخذه الميثاق عليهم بأن يردوه إليه، (فقالوا يا أيها العزيز
إن له أبا شيخا كبيرا) أي إن لبنيامين هذا أبا متصفا بهذه الصفة، وهى كونه شيخا كبيرا لا يستطيع فراقه ولا
يصبر عنه ولا يقدر على الوصول إليه (فخذ أحدنا مكانه) يبقى لديك، فإن له منزلة في قلب أبيه ليست لواحد منا
فلا يتضرر بفراق أحدنا كما لا يتضرر بفراق بنيامين، ثم عللوا ذلك بقوله (إنا نراك من المحسنين) إلى الناس كافة.
45

وإلينا خاصة، فتمم إحسانك إلينا بإجابتنا إلى هذا المطلب، فأجاب يوسف عليهم بقوله (معاذ الله أن نأخذ إلا من
وجدنا متاعنا عنده) أي نعوذ بالله معاذا، أنه فهو مصدر منصوب بفعل محذوف، والمستعيذ بالله هو المعتصم به. وأن
نأخذ منصوب بنزع الخافض، والأصل من أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، وهو بنيامين لأنه الذي وجد
الصواع في رحله فقد حل لنا استعباده بفتواكم التي أفتيتمونا بقولكم - جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه -،
(إنا إذا لظالمون) أي إنا إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده لظالمون في دينكم وما تقتضيه فتواكم (فلما استيئسوا
منه) أي يئسوا من يوسف وإسعافهم منه إلى مطلبهم الذي طلبوه. والسين والتاء للمبالغة (خلصوا نجيا) أي
انفردوا حال كونهم متناجين فيما بينهم، وهو مصدر يقع على الواحد والجمع كما في قوله - وقربناه نجيا -. قال
الزجاج: معناه انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون به في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم (قال
كبيرهم)، قيل هو روبيل لأنه الأسن، وقيل يهوذا لأنه الأوفر عقلا، وقيل شمعون لأنه رئيسهم (ألم تعلموا أن
أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله) أي عهدا من الله في حفظ ابنه ورده إليه. ومعنى كونه من الله أنه بإذنه (ومن
قبل ما فرطتم في يوسف) معطوف على ما قبله، والتقدير: ألم تعلموا أن أباكم وتعلموا تفريطكم في يوسف، ذكر
هذا النحاس وغيره، ومن قبل متعلقة بتعلموا: أي وتعلموا تفريطكم في يوسف من قبل، على أن ما مصدرية،
ويجوز أن تكون زائدة، وقيل ما فرطتم مرفوع المحل على الابتداء، وخبره من قبل، وقيل إن ما موصولة أو
موصوفة، وكلاهما في محل النصب أو الرفع، وما ذكرناه هو الأولى، ومعنى فرطتم: قصرتم في شأنه، ولم
تحفظوا عهد أبيكم فيه (فلن أبرح الأرض)، يقال برح براحا وبروحا: أي زال، فإذا دخله النفي صار مثبتا:
أي لن أبرح من الأرض، بل ألزمها ولا أزال مقيما فيها (حتى يأذن لي أبى) في مفارقتها والخروج منها. وإنما قال
ذلك لأنه يستحى من أبيه أن يأتي إليه بغير ولده الذي أخذ عليهم الموثق بإرجاعه إليه إلا أن يحاط بهم كما تقدم
(أو يحكم الله لي) بمفارقتها والخروج منها، وقيل المعنى: أو يحكم الله لي بخلاص أخي من الأسر حتى يعود إلى
أبي وأعود معه، وقيل المعنى: أو يحكم الله لي بالنصر على من أخذ أخي فأحاربه وآخذ أخي منه. أو أعجز
فأنصرف بعد ذلك (وهو خير الحاكمين) لأن أحكامه لا تجرى إلا على ما يوافق الحق. ويطابق الصواب. ثم قال
كبيرهم مخاطبا لهم (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق) قرأ الجمهور " سرق " على البناء للفاعل، وذلك
لأنهم قد شاهدوا استخراج الصواع من وعائه. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين على البناء للمفعول. وروى
ذلك النحاس عن الكسائي. قال الزجاج: إن سرق يحتمل معنيين: أحدهما علم منه السرق. والآخر اتهم بالسرق
(وما شهدنا إلا بما علمنا) من استخراج الصواع من وعائه: وقيل المعنى: ما شهدنا عند يوسف بأن السارق
يسترق إلا بما علمنا من شريعتك وشريعة آبائك (وما كنا للغيب حافظين) حتى يتضح لنا هل الأمر على ما شاهدناه
أو على خلافه؟ وقيل المعنى: ما كنا وقت أخذنا له منك ليخرجا معنا إلى مصر للغيب حافظين بأنه سيقع منه
السرق الذي افتضحنا به، وقيل الغيب هو الليل، ومرادهم أنه سرق وهم نيام. وقيل مرادهم أنه فعل ذلك وهو
غائب عنهم، فخفي عليهم فعله (واسأل القرية التي كنا فيها) هذا من تمام قول كبيرهم لهم: أي قولوا لأبيكم
اسأل القرية التي كنا فيها: أي مصر، والمراد أهلها: أي اسأل أهل القرية: وقيل هي قرية من قرى مصر نزلوا فيها
و امتاروا منها، وقيل المعنى: واسأل القرية نفسها وإن كانت جمادا فإنك نبي الله، والله سبحانه سينطقها فتجيبك،
ومما يؤيد هذا أنه قال سيبويه: لا يجوز كلم هندا وأنت تريد غلام هند (والعير التي أقبلنا فيها) أي وقولوا لأبيكم
اسأل العير التي أقبلنا فيها: أي أصحابها وكانوا قوما معروفين من جيران يعقوب (وإنا لصادقون) فيما قلنا، جاءوا
46

بهذه الجملة مؤكدة هذا التأكيد لأن ما قد تقدم منهم مع أبيهم يعقوب يوجب كمال الريبة في خبرهم هذا عند السامع.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) قال: يعنون
يوسف. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: سرق مكحلة لخالته، يعنى يوسف. وأخرج أبو الشيخ عن
عطية قال: سرق في صباه ميلين من ذهب. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال " سرق يوسف صنما لجده أبي أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره بذلك إخوته ". وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير مثله غير مرفوع. وقد روى نحوه عن جماعة
من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فأسرها يوسف في نفسه) قال: أسر في
نفسه قوله (أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون) وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة
مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق في قوله (فلما استيئسوا منه) قال: أيسوا منه. ورأوا شدته في أمره.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (خلصوا نجيا) قال: وحدهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (قال كبيرهم) قال: شمعون الذي تخلف أكبرهم
عقلا، وأكبر منه في الميلاد روبيل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة (قال كبيرهم) هو
روبيل، وهو الذي كان نهاهم عن قتله وكان أكبر القوم. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله (أو يحكم الله لي)
قال: أقاتل بسيفي حتى أقتل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن أبي صالح نحوه. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة (وما كنا للغيب حافظين) قال: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق. وأخرج عبد الرزاق
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس
في قوله (واسأل القرية) قال: يعنون مصر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة مثله.
سورة يوسف الآية (83 88)
قوله (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا) أي زينت. والأمر هنا قولهم (إن ابنك سرق) وما سرق في الحقيقة.
وقيل المراد بالأمر إخراجهم بنيامين. والمضي به إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد ذلك بالمضرة، وقيل التسويل:
التخييل: أي خيلت لكم أنفسكم أمرا لا أصل له، وقيل الأمر الذي سولت لهم أنفسهم فتياهم بأن السارق يؤخذ
بسرقته. والإضراب هنا هو باعتبار ما أثبتوه من البراءة لأنفسهم، لا باعتبار أصل الكلام فإنه صحيح، والجملة
47

مستأنفة مبنية على سؤال مقدر كغيرها، وجملة (فصبر جميل) خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف: أي فأمري
صبر جميل أو فصبر جميل أجمل بي وأولى لي والصبر الجميل هو الذي لا يبوح صاحبه بالشكوى بل يفوض أمره إلى الله
ويسترجع، وقد ورد أن الصبر عند أول الصدمة (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) أي بيوسف وأخيه بنيامين،
والأخ الثالث الباقي بمصر، وهو كبيرهم كما تقدم، وإنما قال هكذا لأنه قد كان عنده أن يوسف لم يمت، وأنه
باق على الحياة وإن غاب عنه خبره (إنه هو العليم) بحالي (الحكيم) فيما يقضي به (وتولى عنهم) أي أعرض عنهم،
وقطع الكلام معهم (وقال يا أسفا على يوسف). قال الزجاج: الأصل يا أسفي. فأبدل من الياء ألفا لخفة الفتحة،
والأسف: شدة الجزع، وقيل شدة الحزن، ومنه قول كثير:
فيا أسفا للقلب كيف انصرافه * وللنفس لما سليت فتسلت
قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين،
وبلوغ ما بلغه من كونه أسيرا عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر
الأخير. وقد روى عن سعيد بن جبير أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع والصبر على
المصائب، ولو كان عنده ذلك لما قال: يا أسفا على يوسف. ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره، كأنه قال:
تعال يا أسفي وأقبل إلى (وابيضت عيناه من الحزن) أي انقلب سواد عينيه بياضا من كثرة البكاء. قيل إنه زال
إدراكه بحاسة البصر بالمرة، وقيل كان يدرك إدراكا ضعيفا. وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام
من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كلا أو بعضا بأنه إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف حي، فخاف
على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حينئذ كفار، وقيل إن مجرد الحزن ليس بمحرم، وإنما المحرم ما يفضى منه
إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند موت ولده إبراهيم " تدمع
العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ". ويؤيد هذا قوله (فهو كظيم)
أي مكظوم، فإن معناه: أنه مملوء من الحزن ممسك له لا يبثه، ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه، فالمكظوم المسدود
عليه طريق حزنه، من كظم السقاء: إذا سده على ما فيه، والكظم بفتح الظاء: مخرج النفس، يقال أخذ بأكظامه
وقيل الكظيم بمعنى الكاظم: أي المشتمل على حزنه الممسك له، ومنه:
فإن أك كاظما لمصاب ناس * فإني اليوم منطلق لساني
ومنه - والكاظمين الغيظ -. وقال الزجاج: معنى كظيم: محزون. وروى عن ابن عباس أنه قال: معناه
مغموم مكروب. قال بعض أهل اللغة: الحزن بالضم والسكون: البكاء، وبفتحتين: ضد الفرح. وقال أكثر
أهل اللغة: هما لغتان بمعنى (قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف) أي لا تفتؤ، فحذف حرف النفي لعدم اللبس. قال
الكسائي: فتأت وفتئت أفعل كذا: أي ما زلت. وقال الفراء: إن لا مضمرة: أي لا تفتأ. قال النحاس: والذي
قال صحيح. وقد روى عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء، وأنشد الفراء محتجا على ما قاله:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ويقال فتئ وفتأ لغتان، ومنه قول الشاعر:
فما فتئت حتى كأن غبارها * سرادق يوم ذي رياح ترفع
(حتى تكون حرضا) الحرض مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والصفة المشبهة، حرض
48

بكسر الراء كدنف ودنف، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، حكى ذلك
عن أبي عبيدة وغيره، ومنه قول الشاعر:
سرى همي فأمرضني * وقد ما زادني مرضا *
كذاك الحب قبل اليوم * مما يورث الحرضا
وقيل الحرض: ما دون الموت، وقيل الهرم، وقيل الحارض: البالي الدائر. وقال الفراء: الحارض: الفاسد
الجسم والعقل، وكذا الحرض. وقال مؤرج: هو الذائب من الهم، ويدل عليه قول الشاعر:
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني * حتى بليت وحتى شفني السقم
ويقال رجل محرض، ومنه قول الشاعر:
طلبته الخيل يوما كاملا * ولو ألفته لأضحى محرضا
قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهم: إذا أسقمه. ورجل حارض: أي أحمق. وقال الأخفش:
الحارض الذاهب. وقال ابن الأنباري: هو الهالك. والأولى تفسير الحرض هنا بغير الموت والهلاك من هذه
المعاني المذكورة حتى يكون لقوله (أو تكون من الهالكين) معنى غير معنى الحرض، فالتأسيس أولى من التأكيد،
ومعنى من الهالكين: من الميتين، وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه وإن كانوا هم سبب أحزانه
ومنشأ همومه وغمومه (قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) هذه الجملة مستأنفة، كأنه قيل فما قال يعقوب لما
قالوا له ما قالوا؟ والبث: ما يرد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على إخفائها.
كذا قال أهل اللغة، وهو مأخوذ من بثثته: أي فرقته، فسميت المصيبة بثا مجازا. قال ذو الرمة:
وقفت على ربع لمية يا فتى * فما زلت أبكى عنده وأخاطبه
* وأسقيه حتى كاد مما أبثه * تكلمني أحجاره وملاعبه
وقد ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان ذلك حزنا، وإن لم يقدر على
كتمه كان ذلك بثا، فالبث على هذا: أعظم الحزن وأصعبه، وقيل البث: الهم، وقيل هو الحاجة، وعلى هذا
القول يكون عطف الحزن على البث واضح المعنى. وأما على تفسير البث بالحزن العظيم، فكأنه قال: إنما أشكو
حزني العظيم وما دونه من الحزن إلى الله لا إلى غيره من الناس. وقد قرئ " حزني " بضم الحاء وسكون الزاي
" وحزني " بفتحهما (وأعلم من الله ما لا تعلمون) أي أعلم من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة ما لا تعلمونه أنتم،
وقيل أراد علمه بأن يوسف حي، وقيل أراد علمه بأن رؤياه صادقة، وقيل أعلم من إجابة المضطرين إلى الله مالا
تعلمون (يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) التحسس بمهملات: طلب الشئ بالحواس، مأخوذ من
الحس، أو من الإحساس: أي اذهبوا فتعرفوا خبر يوسف وأخيه وتطلبوه. وقرئ بالجيم، وهو أيضا التطلب
(ولا تيأسوا من روح الله) أي لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم
الهواء فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة. فكل ما يهتز الإنسان بوجوده ويلتذ به فهو روح وحكى
الواحدي عن الأصمعي أيضا أنه قال: الروح الاستراحة من غم القلب. وقال أبو عمرو: الروح الفرج، وقيل
الرحمة (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) لكونهم لا يعلمون بقدرة الله سبحانه، وعظيم صنعه،
7 - فتح القدير - 3 -
49

وخفى ألطافه. قوله (فلما دخلوا عليه) أي على يوسف. وفي الكلام حذف، والتقدير: فذهبوا كما أمرهم
أبوهم إلى مصر ليتحسسوا من يوسف وأخيه. فلما دخلوا على يوسف (قالوا يا أيها العزيز) أي الملك الممتنع
القادر (مسنا وأهلنا الضر) أي الجوع والحاجة. وفيه دليل على أنه تجوز الشكوى عند الضرورة إذا خاف من
إصابته على نفسه كما يجوز للعليل أن يشكو إلى الطبيب ما يجده من العلة. وهذه المرة التي دخلوا فيها مصر هي
المرة الثالثة كما يفيده ما تقدم من سياق الكتاب العزيز (وجئنا ببضاعة مزجاة) البضاعة هي القطعة من المال يقصد
بها شراء شئ، يقال أبضعت الشئ واستبضعته: إذا جعلته بضاعة، وفي المثل " كمستبضع التمر إلى هجر ".
والإزجاء: السوق بدفع. قال الواحدي: الإزجاء في اللغة السوق والدفع قليلا قليلا، ومنه قوله تعالى - ألم تر أن
الله يزجى سحابا -، والمعنى: أنها بضاعة تدفع ولا يقبلها التجار. قال ثعلب: البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة.
قال أبو عبيدة: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة.
واختلف في هذه البضاعة ما هي؟ فقيل كانت قديدا وحيسا. وقيل صوف وسمن. وقيل الحبة الخضراء
والصنوبر، وقيل دراهم رديئة، وقيل النعال والأدم. ثم طلبوا منه بعد أن أخبروه بالبضاعة التي معهم أن يوفى
لهم الكيل: أي يجعله تاما لا نقص فيه، وطلبوا منه أن يتصدق عليهم إما بزيادة يزيدها لهم على ما يقابل بضاعتهم.
أو بالإغماض عن رداءة البضاعة التي جاءوا بها، وأن يجعلها كالبضاعة الجيدة في إيفاء الكيل لهم بها. وبهذا قال
أكثر المفسرين، وقد قيل كيف يطلبون التصدق عليهم وهم أنبياء والصدقة محرمة على الأنبياء. وأجيب باختصاص
ذلك بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله يجزى المتصدقين) بما يجعله لهم من الثواب الأخروي، أو
التوسيع عليهم في الدنيا.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) قال:
يوسف وأخيه وروبيل. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: يوسف وأخيه وكبيرهم الذي تخلف
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله (يا أسفا على يوسف) قال: يا حزنا
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن قتادة مثله. وأخرجوا عن مجاهد قال: يا جزعا. وأخرج ابن
جرير عن ابن عباس في قوله (فهو كظيم) قال: حزين. وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال كظم على الحزن فلم يقل إلا خيرا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن
عطاء الخراساني قال: كظيم مكروب. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك قال: الكظيم الكمد. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة
وابن الجرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (تالله تفتؤا تذكر يوسف قال: لا تزال
تذكر يوسف (حتى تكون حرضا) قال: دنفا من المرض (أو تكون من الهالكين) قال: الميتين. وأخرج هؤلاء
عن مجاهد نحوه وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (تفتؤا تذكر يوسف)
قال: لا تزال تذكر يوسف (حتى تكون حرضا) قال: هرما (أو تكون من الهالكين) قال: أو تموت. وأخرج
ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك (حتى تكون حرضا) قال: الحرض
البالي (أو تكون من الهالكين) قال: من الميتين. وأخرج ابن جرير وعبد الرزاق عن مسلم بن يسار يرفعه إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من بث لم يصبر، ثم قرأ (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) " وأخرج ابن منده
في المعرفة عن مسلم بن يسار عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره. وأخرج ابن
50

مردويه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا مثله. وأخرجه ابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن يعمر مرفوعا
مرسلا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (إنما أشكو بثي) قال: همى. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (وأعلم من الله ما لا تعلمون) قال: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأنى سأسجد
له. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله (ولا تيأسوا من روح الله
قال: من رحمة الله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: من
فرج الله يفرج عنكم الغم الذي أنتم فيه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (مسنا وأهلنا الضر)
قال أي الضر في المعيشة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ببضاعة) قال: دراهم
(مزجاة) قال: كاسدة. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ
عنه قال: مزجاة رثة المتاع خلقة الحبل والغرارة والشئ. وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضا مزجاة قال: الورق الزيوف التي لا تنفق حتى يوضع منها. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جرير في قوله (وتصدق علينا) قال: أردد علينا أخانا.
سورة يوسف الآية (89 - 98)
الاستفهام في قوله (هل علمتم) للتوبيخ والتقريع، وقد كانوا عالمين بذلك، ولكنه أراد ما ذكرناه، ويستفاد
منه تعظيم الواقعة لكونه في قوة: ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وأخيه، وما أقبح ما أقدمتم عليه؟ كما
يقال للمذنب: هل تدري من عصيت؟ والذي فعلوا بيوسف هو ما تقدم مما قصه الله سبحانه علينا في هذه السورة
وأما ما فعلوا بأخيه. فقال جماعة من المفسرين هو ما أدخلوه عليه من الغم بفراق أخيه يوسف، وما كان يناله منهم
من الاحتقار والإهانة، ولم يستفهمهم عما فعلوا بأبيهم يعقوب مع أنه قد نالهم منهم ما قصه الله فيما سبق من صنوف
الأذى. قال الواحدي: ولم يذكر أباه يعقوب مع عظم ما دخل عليه من الغم بفراقه تعظيما له ورفعا من قدره،
51

وعلما بأن ذلك كان بلاء له من الله عز وجل ليزيد في درجته عنده (إذ أنتم جاهلون) نفى عنهم العلم وأثبت لهم
صفة الجهل، لأنهم لم يعملوا بما يقتضيه العلم - وقيل إنه أثبت لهم صفة الجهل لقصد الاعتذار عنهم وتخفيف الأمر
عليهم، فكأنه قال: إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر وقت عدم علمكم بما فيه من الإثم وقصور معارفكم
عن عاقبته، وما يترتب عليه، أو أراد أنهم عند ذلك في أوان الصبا وزمان الصغر، اعتذارا لهم ودفعا لما يدهمهم
من الخجل والحيرة مع علمه وعلمهم بأنهم كانوا في ذلك الوقت كبارا (قالوا أإنك لأنت يوسف) قرأ ابن كثير
" إنك " على الخبر بدون استفهام. وقرأ الباقون على الاستفهام التقريري، وكان ذلك منهم على طريق التعجب
والاستغراب: قيل سبب معرفتهم له بمجرد قوله لهم (ما فعلتم بيوسف وأخيه) أنهم لما قال لهم ذلك تنبهوا وفهموا أنه
لا يخاطبهم بمثل هذا إلا هو، وقيل إنه لما قال لهم بهذه المقالة وضع التاج عن رأسه فعرفوه، وقيل إنه تبسم فعرفوا
ثناياه (قال أنا يوسف وهذا أخي) أجابهم بالاعتراف بما سألوه عنه، قال ابن الأنباري: أظهر الاسم فقال أنا
يوسف ولم يقل أنا هو. تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته. كأنه قال: أنا المظلوم المستحل منه المحرم المراد قتله.
فاكتفى باظهار الاسم عن هذه المعاني. وقال: وهذا أخي مع كونهم يعرفونه ولا ينكرونه. لأن قصده وهذا
أخي المظلوم كظلمي (قد من الله علينا) بالخلاص عما ابتلينا به، وقيل من الله علينا بكل خير في الدنيا والآخرة.
وقيل بالجمع بيننا بعد التفرق. ولا مانع من إرادة جميع ذلك (إنه من يتق ويصبر) قرأ الجمهور بالجزم على أن من
شرطية. وقرأ ابن كثير بإثبات الياء في يتقي. كما في قول الشاعر:
ألم يأتيك والأنباء تنمى * بما لاقت لبون بنى زياد
وقيل إنه جعل من موصولة لا شرطية، وهو بعيد. والمعنى: إنه من يفعل التقوى أو يفعل ما يقيه عن الذنوب
ويصبر على المصائب (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) على العموم، فيدخل فيه ما يفيده السياق دخولا أوليا،
وجاء بالظاهر، وكان المقام مقام المضمر: أي أجرهم للدلالة على أن الموصوفين بالتقوى موصوفون بصفة الإحسان
(قالوا تالله لقد آثرك الله علينا) أي لقد اختارك وفضلك علينا بما خصك به من صفات الكمال. وهذا اعتراف
منهم بفضله وعظيم قدره، ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا أنبياء. فإن درج الأنبياء متفاوتة، قال الله تعالى - تلك
الرسل فضلنا بعضهم على بعض - (وإن كنا لخاطئين) أي وإن الشأن ذلك. قال أبو عبيدة: خطئ وأخطأ بمعنى
واحد. وقال الأزهري: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره. ومنه قولهم: المجتهد يخطئ ويصيب،
والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي. قالوا هذه المقالة المتضمنة للاعتراف بالخطأ والذنب استجلابا لعفوه واستجذابا
لصفحه (قال لا تثريب عليكم) التثريب التعيير والتوبيخ: أي لا تعيير ولا توبيخ. ولا لوم عليكم. قال الأصمعي
ثربت عليه: قبحت عليه فعله. وقال الزجاج: المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة وحق الأخوة. ولكم
عندي الصلح والعفو، وأصل التثريب الإفساد، وهى لغة أهل الحجاز. وقال ابن الأنباري: معناه قد انقطع
عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب. قال ثعلب: ثرب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه، وأصل التثريب من
الثرب، وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش، ومعناه إزالة التثريب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع
وانتصاب اليوم بالتثريب: أي لا أثرب عليكم أو منتصب بالعامل المقدر في عليكم وهو مستقر أو ثابت أو نحوهما
أي لا تثريب مستقر أو ثابت عليكم. وقد جوز الأخفش الوقف على عليكم. فيكون اليوم متعلق بالفعل الذي
بعده. وقد ذكر مثل هذا ابن الأنباري، ثم دعا لهم بقوله (يغفر الله لكم) على تقدير الوقف على اليوم،
52

أو أخبرهم بأن الله قد غفر لهم ذلك اليوم على تقدير الوقف على عليكم (وهو أرحم الراحمين) يرحم عباده رحمة لا يتراحمون
بها فيما بينهم فيجازى محسنهم ويغفر لمسيئهم. قوله (اذهبوا بقميصي هذا) قيل هذا القميص هو القميص الذي
ألبسه الله إبراهيم لما ألقى في النار وكساه إبراهيم إسحاق وكساه إسحاق يعقوب. وكان يعقوب أدرج هذا القميص
في قضيبه وعلقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، فأخبر جبريل يوسف أن يرسل به إلى يعقوب
ليعود عليه بصره لأن فيه ريح الجنة. وريح الجنة لا يقع على سقيم إلا شفى ولا مبتلى إلا عوفي (فألقوه على وجه أبى
يأت بصيرا) أي يصر بصيرا على أن " يأت " هي التي من أخوات كان. قال الفراء: يرجع بصيرا. وقال السدي:
يعد بصيرا. وقيل معناه: يأت إلى إلى مصر وهو بصير قد ذهب عنه العمى. ويؤيده قوله (وأتوني بأهلكم
أجمعين) أي جميع من شمله لفظ الأهل من النساء والذراري، قيل كانوا نحو سبعين. وقيل ثلاثة وتسعين (ولما
فصلت العير) أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال فصل فصولا، وفصلته فصلا، لازم ومتعد،
ويقال فصل من البلد فصولا: إذا انفصل عنه وجاوز حيطانه (قال أبوهم) أي يعقوب لمن عنده في أرض كنعان
من أهله (إني لأجد ريح يوسف) قيل إنها هاجت ريح فحملت ريح القميص إلى يعقوب مع طول المسافة،
فأخبرهم بما وجد، ثم قال (لولا أن تفندون) لولا أن تنسبوني إلى الفند. وهو ذهاب العقل من الهرم. يقال أفند
الرجل: إذا خرف وتغير عقله. وقال أبو عبيدة: لولا أن تسفهون، فجعل الفند السفه. وقال الزجاج: لولا
أن تجهلون، فجعل الفند الجهل. ويؤيد قول من قال إنه السفه قول النابغة:
إلا سليمان إذ قال المليك له * قم في البرية فاحددها عن الفند
أي امنعها عن السفه. وقال أبو عمرو الشيباني: التفنيد التقبيح، ومنه قول الشاعر:
يا صاحبي دعا لومي وتفنيد * فليس ما فات من أمري بمردود
وقيل هو الكذب، ومنه قول الشاعر:
هل في افتخار الكريم من أود * أم هل لقول الصديق من فند
وقال ابن الأعرابي (لولا أن تفندون) لولا أن تضعفوا رأيي. وروى مثله عن أبي عبيدة. وقال الأخفش:
التفنيد اللوم وضعف الرأي. وكل هذه المعاني راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي. يقال فنده تفنيدا: إذا عجزه،
وأفند: إذا تكلم بالخطأ. والفند: الخطأ من الكلام، ومما يدل على إطلاقه على اللوم قول الشاعر:
يا عاذلي دعا الملام وأقصرا * طال الهوى وأطلتما التفنيدا
أخبرهم يعقوب بأن الصبا قد حملت إليه ريح حبيبه. وأنه لولا ما يخشاه من التفنيد لما شك في ذلك:
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست * على نفس مهموم تجلت همومها
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني * نسيم الصبا من حيث ما يطلع الفجر
ولقد تهب لي الصبا من أرضها * فيلذ مس هبوبها ويطيب
(قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم) أي قال الحاضرون عنده من أهله: إنك يا يعقوب لفي ذهابك عن طريق
الصواب الذي كنت عليه قديما من إفراط حبك ليوسف لا تنساه، ولا تفتر عنه، ولسان حال يعقوب يقول لهم:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده * ولا الصبابة إلا من يعانيها
53

لا تعذل المشتاق في أشواقه * حتى تكون حشاك في أحشائه
وقيل المعنى: إنك لفي جنونك القديم، وقيل في محبتك القديمة. قالوا له ذلك لأنه لم يكن قد بلغهم قدوم
البشير (فلما أن جاء البشير) قال المفسرون البشير: هو يهوذا بن يعقوب قال لإخوته: أنا جئته بالقميص ملطخا
بالدم، فأعطني اليوم قميصك لأخبره أنك حي، فأفرحه كما أحزنته (ألقاه على وجهه) أي ألقى البشير قميص
يوسف على وجه يعقوب، أو ألقاه يعقوب على وجه نفسه (فارتد بصيرا) الارتداد: انقلاب الشئ إلى حال قد
كان عليها، والمعنى: عاد ورجع إلى حالته الأولى من صحة بصره (قال ألم أقل لكم) أي قال يعقوب لمن كان
عنده من أهله الذين قال لهم: إني لأجد ريح يوسف: ألم أقل لكم هذا القول فقلتم ما قلتم، ويكون قوله (إني أعلم
من الله ما لا تعلمون) كلاما مبتدأ لا يتعلق بالقول، ويجوز أن تكون جملة (إني أعلم من الله ما لا تعلمون) مقول
القول، ويريد بذلك إخبارهم بما قاله لهم سابقا - إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون - (قالوا
يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) طلبوا منه أن يستغفر لهم، واعترفوا بالذنب، وفي الكلام حذف،
والتقدير: ولما رجعوا من مصر ووصلوا إلى أبيهم قالوا هذا القول، فوعدهم بما طلبوه منه و (قال سوف استغفر
لكم ربى) قال الزجاج: أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وقت السحر، لأنه أخلق بإجابة الدعاء، لا أنه بخل عليهم
بالاستغفار، وقيل أخره إلى ليلة الجمعة، وقيل أخره إلى أن يستحل لهم من يوسف، ولم يعلم أنه قد عفا عنهم،
وجملة (إنه هو الغفور الرحيم) تعليل لما قبله.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله (لا تثريب) قال: لا تعيير، وأخرج أبو الشيخ عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال " لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة التفت إلى الناس
فقال: ماذا تقولون وماذا تظنون؟ فقالوا: ابن عم كريم، فقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم " وأخرج
ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا نحوه. وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة مرفوعا نحوه. وأخرج ابن
أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء الخراساني قال: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ، ألم تر إلى قول
يوسف لا تثريب عليكم اليوم؟. وقال يعقوب (سوف أستغفر لكم ربى).
أقول: وفى هذا الكلام نظر فإنهم طلبوا من يوسف أن يعفو عنهم بقولهم: لقد آثرك الله علينا، فقال:
لا تثريب عليكم اليوم، لأن مقصودهم صدور العفو منه عنهم، وطلبوا من أبيهم يعقوب أن يستغفر الله لهم وهو
لا يكون إلا بطلب ذلك منه إلى الله عز وجل، وبين المقامين فرق، فلم يكن وعد يعقوب لهم بخلا عليهم بسؤال الله
لهم، ولا سيما إذا صح ما تقدم من أنه أخر ذلك إلى وقت الإجابة. فإنه لو طلبه لهم في الحال لم يحصل له علم بالقبول
وأخرج الحكيم الترمذي وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال: لما كان من أمر إخوة يوسف ما كان، كتب
يعقوب إلى يوسف وهو لا يعلم أنه يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم، من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم إلى عزيز آل
فرعون، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنا أهل بيت مولع بنا أسباب البلاء.
كان جدي إبراهيم خليل الله ألقى في النار في طاعة ربه. فجعلها الله عليه بردا وسلاما. وأمر الله جدي أن يذبح
له أبي ففداه الله بما فداه، وكان لي ابن وكان من أحب الناس إلي ففقدته، فأذهب حزني عليه نور بصرى، وكان
له أخ من أمه كنت إذا ذكرته ضممته إلى صدري فأذهب عني بعض وجدي. وهو المحبوس عندك في السرقة.
وإني أخبرك أنى لم أسرق، ولم ألد سارقا، فلما قرأ يوسف الكتاب بكى وصاح وقال (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه
على وجه أبى يأت بصيرا) وأخرج أبو الشيخ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في قوله (اذهبوا
54

بقميصي هذا) أن نمروذ لما ألقى إبراهيم في النار نزل إليه جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة، فألبسه
القميص وأقعده على الطنفسة، وقعد معه يتحدث، فأوحى الله إلى النار - كوني بردا وسلاما -. ولولا أنه قال و
سلاما لأذاه البرد. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعا " إن الله كسا إبراهيم ثوبا من الجنة، فكساه إبراهيم
إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، فأخذه يعقوب فجعله في قصبة من حديد وعلقه في عنق يوسف، ولو علم إخوته
إذ ألقوه في الجب لأخذوه، فلما أراد الله أن يرد يوسف على يعقوب كان بين رؤياه وتعبيره أربعون سنة أمر
البشير أن يبشره من ثمان مراحل، فوجد يعقوب ريحه فقال: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون، فلما ألقاه
على وجهه ارتد بصيرا، وليس يقع شئ من الجنة على عاهة من عاهات الدنيا إلا أبرأها بإذن الله ". وأخرج
عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن
عباس في قوله (ولما فصلت العير) قال: لما خرجت العير هاجت، الريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف
فقال (إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون) تسفهون، فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام. وأخرج ابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عنه قال: وجد ريحه من مسيرة عشرة أيام. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عنه قال: وجده من
مسيرة ثمانين فرسخا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضا (لولا أن تفندون) قال: تجهلون. وأخرج ابن جرير
عنه أيضا: قال تكذبون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: تهرمون، يقولون قد
ذهب عقلك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع قال: لولا أن تحمقون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن ابن عباس (إنك لفي ضلالك القديم) يقول: خطئك القديم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد
ابن جبير قال: جنونك القديم. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: حبك القديم. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عن ابن عباس قال: البشير البريد. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك مثله. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سفيان قال: البشير هو يهوذا بن يعقوب. وأخرج ابن أبي حاتم عن
الحسن قال: لما أن جاء البشير إلى يعقوب فألقى عليه القميص قال: على أي دين خلفت يوسف؟ قال: على
الإسلام. قال: الآن تمت النعمة. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والطبراني عن ابن مسعود في قوله (سوف أستغفر لكم ربى) قال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر. وأخرج ابن
المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: أخرهم إلى السحر، وكان يصلي بالسحر. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه
عنه قال: أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضا قال: قال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في قصه " هو قول أخي يعقوب لبنيه: سوف أستغفر لكم ربى " يقول حتى تأتي ليلة الجمعة
سورة يوسف الآية (99 - 100)
55

سورة يوسف الآية (101)
قوله (فلما دخلوا على يوسف) لعل في الكلام محذوفا مقدرا. وهو فرحل يعقوب وأولاده وأهله إلى مصر
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه: أي ضمهما وأنزلهما عنده. قال المفسرون: المراد بالأبوين هنا يعقوب
وزوجته خالة يوسف. لأن أمه قد كانت ماتت في ولادتها لأخيه بنيامين كما تقدم، وقيل أحيا الله له أمه تحقيقا
للرؤيا حتى سجدت له (وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) مما تكرهون، وقد كانوا فيما مضى يخافون ملوك
مصر، ولا يدخلونها إلا بجواز منهم. قيل والتقييد بالمشيئة عائد إلى الأمن، ولا مانع من عوده إلى الجميع. لأن
دخولهم لا يكون إلا بمشيئة الله سبحانه، كما أنهم لا يكونون آمنين إلا بمشيئته، وقيل إن التقييد بالمشيئة راجع إلى
قوله (سوف أستغفر لكم ربى) وهو بعيد. وظاهر النظم القرآني: أن يوسف قال لهم هذه المقالة: أي ادخلوا
مصر قبل دخولهم، وقد قيل في توجيه ذلك أنه تلقاهم إلى خارج مصر، فوقف منتظرا لهم في مكان أو خيمة.
فدخلوا عليه ف (آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر) فلما دخلوا مصر ودخلوا عليه دخولا أخر في المكان الذي له بمصر
(رفع أبويه على العرش) أي أجلسهما معه على السرير الذي يجلس عليه كما هو عادة الملوك (وخروا له سجدا) أي
الأبوان والأخوة، والمعنى: أنهم خروا ليوسف سجدا، وكان ذلك جائزا في شريعتهم منزلا منزلة التحية، وقيل
لم يكن ذلك سجودا بل هو مجرد إيماء. وكانت تلك تحيتهم. وهو يخالف معنى: وخروا له سجدا. فإن الخرور
في اللغة المقيد بالسجود لا يكون إلا بوضع الوجه على الأرض، وقيل الضمير في قوله " له " راجع إلى الله سبحانه
أي وخروا لله سجدا، وهو بعيد جدا، وقيل إن الضمير ليوسف، واللام للتعليل: أي وخروا لأجله، وفيه أيضا
بعد وقال يوسف (يا أبت هذا تأويل رؤياي) يعنى التي تقدم ذكرها (من قبل) أي من قبل هذا الوقت (قد
جعلها ربى حقا) بوقوع تأويلها على ما دلت عليه (وقد أحسن ربى إذ أخرجني من السجن) الأصل أن يتعدى فعل
الإحسان بإلى، وقد يتعدى بالباء كما في قوله تعالى - وبالوالدين إحسانا - وقيل إنه ضمن أحسن معنى لطف: أي
لطف بي محسنا، ولم يذكر إخراجه من الجب، لأن في ذكره نوع تثريب للإخوة، وقد قال: لا تثريب عليكم.
وقد تقدم سبب سجنه ومدة بقائه فيه، وقد قيل إن وجه عدم ذكر إخراجه من الجب أن المنة كانت في إخراجه
من السجن أكبر من المنة في إخراجه من الجب. وفيه نظر (وجاء بكم من البدو) أي البادية. وهى أرض كنعان
بالشام، وكانوا أهل مواش وبرية، وقيل إن الله لم يبعث نبيا من البادية، وأن المكان الذي كان فيه يعقوب يقال
له بدا، وإياه عنى جميل بقوله:
وأنت الذي حببت شعبا إلى بدا * إلى وأوطاني بلاد سواهما
وفيه نظر (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) أي أفسد بيننا وحمل بعضنا على بعض، يقال نزغه
إذا نحسه، فأصله من نحس الدابة ليقوى مشيها، وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرما منه وتأدبا (إن
ربى لطيف لما يشاء) اللطيف الرفيق، قال الأزهري: اللطيف من أسماء الله تعالى معناه الرفيق بعباده. يقال لطف
فلان بفلان يلطف: إذا رفق به، وقال عمرو بن أبي عمرو: اللطيف الذي يوصل إليك أربك في لطف. قال
الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون
56

وقيل اللطيف العالم بدقائق الأمور، ومعنى لما يشاء: لأجل ما يشاء حتى يجئ على وجه الصواب (إنه هو العليم
الحكيم) أي العليم بالأمور الحكيم في أفعاله، ولما أتم الله نعمته على يوسف عليه السلام بما خلصه منه من المحن العظيمة
وبما خوله من الملك وعلمه من العلم، تاقت نفسه إلى الخير الأخروي الدائم الذي لا ينقطع، فقال (رب قد آتيتني
من الملك) من للتبعيض: أي بعض الملك، لأنه لم يؤت كل الملك، وإنما أوتي ملكا خاصا، وهو ملك مصر في زمن
خاص (وعلمتني من تأويل الأحاديث) أي بعضها، لأنه لم يؤت جميع علم التأويل سواء أريد به مطلق
العلم والفهم، أو مجرد تأويل الرؤيا، وقيل من للجنس كما في قوله - فاجتنبوا الرجس من الأوثان - وقيل زائدة:
أي آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث (فاطر السماوات والأرض) منتصب على أنه صفة لرب، لكونه
منادى مضافا. ويجوز أن يكون انتصابه على أنه منادى بحرف مقدر: أي يا فاطر، والفاطر الخالق المنشي
والمخترع والمبدع (أنت وليي) أي ناصري ومتولي أموري (في الدنيا والآخرة) تتوالاني فيهما (توفني مسلما
وألحقني بالصالحين) أي توفني على الإسلام لا يفارقني حتى أموت، وألحق بالصالحين من النبيين من آبائي وغيرهم
فأظفر بثوابهم منك ودرجاتهم عندك. قيل إنه لما دعا بهذا الدعاء توفاه الله عز وجل. قيل كان عمره عند أن
ألقى في الجب سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة إلى قدوم أبيه يعقوب عليه، ثم عاش
بعد اجتماع شملهم حتى كمل عمره المقدار الذي سيأتي وتوفاه الله. قيل لم يتمن الموت أحد غير يوسف لا نبي ولا
غيره. وذهب الجمهور إلى أنه لم يتمن الموت بهذا الدعاء. وإنما دعا ربه أن يتوفاه على الإسلام ويلحقه
بالصالحين من عباده عند حضور أجله.
وقد أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال: دخل يعقوب مصر في ملك يوسف وهو ابن مائة وثلاثين سنة،
وعاش في ملكه ثلاثين سنة، ومات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة. قال أبو هريرة: وبلغني أنه كان عمر
إبراهيم خليل الله مائة وخمسة وتسعين سنة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (آوى إليه أبويه)
قال: أبوه وأمه ضمهما. وأخرجا عن وهب قال أبوه وخالته. وكانت توفيت أم يوسف في نفاس أخيه بنيامين
وأخرج أبو الشيخ نحوه عن سفيان بن عيينة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ورفع
أبويه على العرش) قال: السرير. وأخرج ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم في قوله (وخروا له سجدا) قال:
كانت تحية من كان قبلكم فأعطاكم الله السلام مكانها. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: ذلك سجود تشرفة كما
سجدت الملائكة تشرفة لآدم. وليس سجود عبادة. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله (إن ربى لطيف لما يشاء)
قال: لطيف ليوسف وصنع له حين أخرجه من السجن. وجاء بأهله من البدو. ونزع من قلبه نزغ الشيطان
وتحريشه على إخوته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما سأل نبي الوفاة غير يوسف. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وأبو الشيخ عنه قال: اشتاق إلى لقاء الله وأحب أن يلحق به وبآبائه، فدعا الله أن يتوفاه، وأن يلحقه
بهم. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله (وألحقني بالصالحين) قال: يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: يعني أهل الجنة.
سورة يوسف الآية (102 - 103)
8 - فتح القدير - 3
57

سورة يوسف الآية (104 - 108).
الخطاب بقوله (ذلك) لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مبتدأ خبره (من أنباء الغيب)، و (نوحيه
إليك) خبر ثان. قال الزجاج: ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي ونوحيه إليك خبره: أي الذي من أنباء الغيب
نوحيه إليك: والمعنى: الإخبار من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن هذا الذي قصه عليه من أمر
يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأوحاه الله إليه وأعلمه به
ولم يكن عنده قبل الوحي شئ من ذلك، وفيه تعريض بكفار قريش، لأنهم كانوا مكذبين له صلى الله عليه وآله
وسلم بما جاء به جحودا وعنادا وحسدا مع كونهم يعلمون حقيقة الحال (وما كنت لديهم) أي لدى إخوة يوسف
(إذ أجمعوا أمرهم) إجماع الأمر: العزم عليه: أي وما كانت لدى إخوة يوسف إذ عزموا جميعا على إلقائه في الجب
(وهم) في تلك الحالة (يمكرون) به: أي بيوسف في هذا الفعل الذي فعلوه به ويبغونه الغوائل - وقيل الضمير
ليعقوب: أي يمكرون بيعقوب حين جاءوه بقميص يوسف ملطخا بالدم وقالوا أكله الذئب. وإذا لم يكن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لديهم عند أن فعلوا ذلك، انتفى علمه بذلك مشاهدة، ولم يكن بين قوم لهم علم بأحوال
الأمم السالفة ولا خالطهم ولا خالطوه، فانتفى علمه بذلك بطريق الرواية عن الغير، فلم يبق لعلمه بذلك طريق
إلا مجرد الوحي من الله سبحانه، فهذا يستلزم الإيمان بما جاء به، فلما لم يؤمن بذلك من عاصره من الكفار، قال
الله سبحانه ذاكرا لهذا (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) أي وما أكثر الناس المعاصرين لك يا محمد، أو ما
أكثر الناس على العموم ولو حرصت على هدايتهم وبالغت في ذلك بمؤمنين بالله لتصميمهم على الكفر الذي هو
دين آبائهم، يقال حرص يحرص مثل ضرب يضرب. وفى لغة ضعيفة حرص يحرص مثل حمد يحمد. والحرص
طلب الشئ باجتهاد. قال الزجاج: ومعناه وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم، لأنك لا تهدي
من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. قال ابن الأنباري: إن قريشا واليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عن قصة يوسف وإخوته فشرحهما ابن شرحا شافيا وهو يؤمل أن يكون ذلك سببا لإسلامهم، فخالفوا ظنه، وحزن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك فعزاه الله بقوله (وما أكثر الناس) الآية (وما تسألهم عليه من أجر)
أي على القرآن وما تتلوه عليهم منه، أو على الإيمان وحرصك على وقوعه منهم أو على ما تحدثهم به من هذا الحديث
من أجر من مال يعطونك إياه ويجعلونه لك كما يفعله أحبارهم (إن هو) أي القرآن أو الحديث الذي حدثتهم
به (إلا ذكر للعالمين) أي ما هو إلا ذكر للعالمين كافة لا يختص بهم وحدهم (وكأين من آية في السماوات والأرض)
قال الخليل وسيبويه: والأكثرون أن كأين أصلها أي دخل عليها كاف التشبيه، لكنه انمحى عن الحرفين المعنى
الإفرادى، وصار المجموع كاسم واحد بمعنى كم الخبرية، والأكثر إدخال من في مميزه، وهو تمييز عن الكاف
لا عن أي كما في مثلك رجلا وقد مر الكلام على هذا المستوفى في آل عمران. والمعنى: كم من آية تدلهم على توحيد
الله كائنة في السماوات من كونها منصوبة بغير عمد، مزينة بالكواكب النيرة السيارة والثوابت، وفى الأرض
58

من جبالها وقفارها وبحارها ونباتها وحيواناتها تدلهم على توحيد الله سبحانه، وأنه الخالق لذلك، الرزاق له المحيى
والمميت، ولكن أكثر الناس يمرون على هذه الآيات غير متأملين لها، ولا مفكرين فيها، ولا ملتفتين إلى ما تدل
عليه من وجود خالقها، وأنه المتفرد بالألوهية مع كونهم مشاهدين لها (يمرون عليها وهم عنها معرضون) وإن
نظروا إليها بأعيانهم فقد أعرضوا عما هو الثمرة للنظر بالحدقة، وهى التفكر والاعتبار والاستدلال. وقرأ عكرمة
وعمرو بن فايد برفع الأرض على أنه مبتدأ. وخبره يمرون عليها. وقرأ السدي بنصب الأرض بتقدير فعل. وقرأ
ابن مسعود " يمشون عليها " (وما يؤمن أكثرهم بالله) أي وما يصدق ويقر أكثر الناس بالله من كونه الخالق الرزاق
المحيى المميت (إلا وهم مشركون) بالله يعبدون معه غيره كما كانت تفعله الجاهلية، فإنهم مقرون بالله سبحانه وبأنه
الخالق لهم - ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله - لكنهم
كانوا يثبتون له شركاء فيعبدونهم ليقربوهم إلى الله - إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله - ومثل هؤلاء الذين اتخذوا
أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله المعتقدون في الأموات بأنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه كما
يفعله كثير من عباد القبور، ولا ينافي هذا ما قيل من أن الآية نزلت في قوم مخصوصين فالاعتبار بما يدل عليه
اللفظ لا بما يفيده السبب من الاختصاص بمن كان سببا لنزول الحكم (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله)
الاستفهام للإنكار. والغاشية ما يغشاهم ويغمرهم من العذاب كقوله تعالى - يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن
تحت أرجلهم - وقيل هي الساعة. وقيل الصواعق والقوارع، ولا مانع من الحمل على العموم (أو تأتيهم الساعة
بغتة) أي فجأة، وانتصاب بغتة على الحال. قال المبرد: جاء عن العرب حال بعد نكرة، وهو قولهم وقع أمر
بغتة. يقال بغتهم الأمر بغتا وبغتة: إذا فاجأهم (وهم لا يشعرون) بإتيانه، ويجوز انتصاب بغتة على أنها صفة
مصدر محذوف (قل هذه سبيلي) أي قل يا محمد للمشركين هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها
سبيلي: أي طريقتي وسنتي. فاسم الإشارة مبتدأ وخبره سبيلي، وفسر ذلك بقوله (أدعو إلى الله على بصيرة)
أي على حجة واضحة. والبصيرة المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل والجملة في محل نصب على الحال (أنا ومن
اتبعني) أي ويدعو إليها من اتبعني واهتدى بهديي. قال الفراء: والمعنى ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو. وفى
هذا دليل على أن كل متبع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حق عليه أن يقتدى به في الدعاء إلى الله: أي الدعاء
إلى الإيمان به وتوحيده والعمل بما شرعه لعباده (وسبحان الله وما أنا من المشركين) أي وقل يا محمد لهم سبحان الله
وما أنا من المشركين بالله الذين يتخذون من دونه أندادا. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله
(ادعوا إلى الله) ثم ابتدأ. فقال (على بصيرة أنا ومن اتبعني).
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (وما كنت لديهم إذ
أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) قال: هم بنو يعقوب إذ يمكرون بيوسف. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة
في الآية يقول: وما كنت لديهم وهم يلقونه في غيابة الجب وهم يمكرون بيوسف. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك
(وكأين من آية) قال: كم من آية في السماء يعنى شمسها وقمرها ونجومها وسحابها، وفى الأرض ما فيها من الخلق
والأنهار والجبال والمدائن والقصور. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (وما
يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) قال: سلهم من خلقهم ومن خلق السماوات والأرض فسيقولون الله،
فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عطاء في قوله
(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) قال: كانوا يعلمون أن الله ربهم وهو خالقهم وهو رازقهم، وكانوا
59

مع ذلك يشركون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك في الآية قال: كانوا يشركون به في تلبيتهم يقولون
لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في الآية قال:
ذلك المنافق يعمل بالرياء وهو مشرك بعمله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة
في قوله (غاشية من عذاب الله) قال: وقيعة تغشاهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (هذه سبيلي)
قل هذه دعوتي. وأخرج أبو الشيخ عنه (قل هذه سبيلي) قال: صلاتي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
ابن زيد في الآية قال: أمري ومشيئتي ومنهاجي، وأخرجا عن قتادة في قوله (على بصيرة) أي على هدى (أنا
ومن اتبعني):
سورة يوسف الآية (109 - 111).
قوله (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا) هذا رد على من قال - لولا أنزل عليه ملك -: أي لم نبعث من الأنبياء
إلى من قبلهم إلا رجالا لا ملائكة، فكيف ينكرون إرسالنا إياك. وتدل الآية على أن الله سبحانه لم يبعث نبيا
من النساء ولا من الجن، وهذا يرد على من قال: إن في النساء أربع نبيات: حواء، وآسية، وأم موسى، ومريم.
وقد كان بعثة الأنبياء من الرجال دون النساء أمرا معروفا عند العرب، حتى قال قيس بن عاصم في سجاح المتنبئة:
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها * وأصبحت أنبياء الله ذكرانا
فلعنة الله والأقوام كلهم * على سجاح ومن باللوم أغرانا
(نوحي إليهم) كما نوحي إليك (من أهل القرى) أي المدائن دون أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على البدو
ولكون أهل الأمصار أتم عقلا وأكمل حلما وأجل فضلا (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة
الذين من قبلهم) يعنى المشركين المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أي أفلم يسر المشركون هؤلاء
فينظروا إلى مصارع الأمم الماضية فيعتبروا بهم حتى ينزعوا عما هم فيه من التكذيب (ولدار الآخرة خير للذين اتقوا)
أي لدار الساعة الآخرة، أو الحالة الآخرة على حذف الموصوف. وقال الفراء: إن الدار هي الآخرة، وأضيف
الشئ إلى نفسه لاختلاف اللفظ كيوم الجمعة وصلاة الأولى ومسجدا لجامع، والكلام في ذلك مبين
في كتب الإعراب، والمراد بهذه الدار: الجنة: أي هي خير للمتقين من دار الدنيا. وقرئ وللدار الآخرة " وقرأ
نافع وعاصم ويعقوب (أفلا تعقلون) بالتاء الفوقية على الخطاب. وقرأ الباقون بالتحتية (حتى إذا استيأس الرسل)
هذه الغاية لمحذوف دل عليه الكلام، وتقديره: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا ولم نعاجل له أممهم الذين لم
60

يؤمنوا بما جاءوا به بالعقوبة (حتى إذا استيأس الرسل) من النصر بعقوبة قومهم، أو حتى إذ استيأس الرسل من إيمان
قومهم لانهماكهم في الكفر (وظنوا أنهم قد كذبوا). قرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي
وأبو جعفر بن القعقاع والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش
وخلف " كذبوا " بالتخفيف: أي ظن القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا - وقيل
المعنى: ظن القوم أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من نصرهم، وقيل المعنى: وظن الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم
حين حدثتهم بأنهم ينصرون عليهم، أو كذبهم رجاؤهم للنصر. وقرأ الباقون " كذبوا " بالتشديد، والمعنى عليها
واضح: أي ظن الرسل بأن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب، ويجوز في هذا أن يكون فاعل ظن
القوم المرسل إليهم على معنى أنهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد. وقرأ مجاهد وحميد " قد
كذبوا " بفتح الكاف والذال مخففتين على معنى: وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا، وقد قيل إن الظن في هذه
الآية بمعنى اليقين، لأن الرسل قد تيقنوا أن قومهم كذبوهم، وليس ذلك مجرد ظن منهم. والذي ينبغي أن يفسر
الظن باليقين في مثل هذه الصورة ويفسر بمعناه الأصلي فيما يحصل فيه مجرد ظن فقط من الصور السابقة (جاءهم
نصرنا، أي فجاء الرسل نصر الله سبحانه فجأة. أو جاء قوم الرسل الذين كذبوهم نصر الله لرسله بإيقاع العذاب
على المكذبين (فننجي من نشاء) قرأ عاصم " فنجى " بنون واحدة. وقرأ الباقون " فننجى " بنونين. واختار أبو عبيدة
القراءة الأولى، لأنها في مصحف عثمان كذلك. وقرأ ابن محيصن " فنجا " على البناء للفاعل، فتكون من على القراءة
الأولى في محل رفع على أنها نائب الفاعل، وتكون على القراءة الثانية في محل نصب على أنها مفعول، وعلى القراءة
الثالثة في محل رفع على أنها فاعل، والذين نجاهم الله هم الرسل ومن آمن معهم. وهلك المكذبون (ولا يرد بأسنا
عن القوم المجرمين) عند نزوله بهم. وفيه بيان من يشاء الله نجاته من العذاب وهم من عدا هؤلاء المجرمين (لقد
كان في قصصهم) أي قصص الرسل ومن بعثوا إليه من الأمم، أو في قصص يوسف وإخوته وأبيه (عبرة لأولي الألباب
) والعبرة: الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة. وقيل هي نوع من الاعتبار، وهى العبور من
الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، وأولوا الألباب هم ذوو العقول السليمة الذين يعتبرون بعقولهم فيدرون ذلك ما فيه
مصالح دينهم، وإنما كان هذا القصص عبرة لما اشتمل عليه من الإخبارات المطابقة للواقع مع بعد المدة بين النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وبين الرسل الذين قص حديثهم. ومنهم يوسف وإخوته وأبوه مع كونه لم يطلع على
أخبارهم ولا اتصل بأحبارهم (ما كان حديثا يفترى) أي ما كان هذا المقصوص الذي يدل عليه ذكر القصص
وهو القرآن المشتمل على ذلك حديثا يفترى (ولكن تصديق الذي بين يديه) أي ما قبله من الكتب المنزلة
كالتوراة والإنجيل والزبور. وقرئ برفع " تصديق " على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو تصديق وتفصيل كل
شئ من الشرائع المجملة المحتاجة إلى تفصيلها، لأن الله سبحانه لم يفرط في الكتاب من شئ، وقيل تفصيل كل
شئ من قصة يوسف مع إخوته وأبيه. قيل وليس المراد به ما يقتضيه من العموم، بل المراد به الأصول والقوانين
وما يؤول إليها (وهدى) في الدنيا يهتدى به كل من أراد الله هدايته (ورحمة) في الآخرة يرحم الله بها عباده العاملين
بما فيه شرط الإيمان الصحيح. ولهذا قال (لقوم يؤمنون) أي يصدقون به وبما تضمنه من الإيمان بالله وملائكته
وكتبه ورسله وشرائعه وقدره. وأما من عداهم فلا ينتفع به ولا يهتدى بما اشتمل عليه من الهدى، فلا يستحق ما يستحقونه.
61

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا) قال: أي ليسوا من أهل
السماء كما قلتم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: ما نعلم أن الله أرسل رسولا
قط إلا من أهل القرى، لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل المعمور. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله (كيف
كان عاقبة الذين من قبلهم) قال: كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط وقوم صالح والأمم التي عذب الله. وأخرج
البخاري وغيره من طريق عروة أنه سأل عائشة عن قول الله سبحانه (يعنى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا)
قال: قلت أكذبوا أم كذبوا؟ يعنى على هذه الكلمة مخففة أم مشددة، فقالت: بل كذبوا تعني بالتشديد، قلت:
والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن. قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك، فقلت: لعلها وظنوا
أنهم قد كذبوا مخففة. قالت: معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع
الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عليهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم
من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني
وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن أبي مليكة أن ابن عباس قرأها عليه (وظنوا أنهم قد كذبوا) مخففة يقول:
أخلفوا. وقال ابن عباس: كانوا بشرا، وتلا - حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله - قال ابن
أبي مليكة: وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته، وقالت: والله ما وعد الله رسوله من شئ إلا علم
أنه سيكون قبل أن يموت، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم، وكانت
تقرؤها مثقلة. وأخرج ابن مردويه من طريق عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ: وظنوا أنهم
قد كذبوا مخففة. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ
وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ (قد كذبوا) مخففة، قال: يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا
لهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم بما جاءوا به (جاءهم نصرنا) قال: جاء الرسل نصرنا. وأخرج عبد الرزاق
وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ عن تميم بن حذلم قال: قرأت على ابن مسعود
القرآن فلم يأخذ علي إلا حرفين - كل آتوه داخرين - فقال: أتوه مخففة. وقرأت عليه (وظنوا أنهم قد كذبوا)
فقال: كذبوا مخففة، قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم
قد كذبوا. وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الأحوص عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم في سورة يوسف (وظنوا أنهم قد كذبوا) خفيفة. وللسلف في هذا كلام يرجع إلى ما ذكرناه من؟؟؟؟؟
عن الصحابة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (فننجى من نشاء) قال: فننجي الرسل ومن نشاء (ولا يرد بأسنا
عن القوم المجرمين) وذلك أن الله بعث الرسل يدعون قومهم، فأخبروهم أن من أطاع الله نجا ومن عصاه؟؟؟؟
وغوى. وأخرج أبو الشيخ عنه قال (جاءهم نصرنا) العذاب. وأخرج أبو الشيخ عن السدي (ولا يرد بأسنا)
قال: عذابه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (لقد كان في قصصهم) قال:
يوسف وإخوته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ (عبرة لأولي الألباب) قال: معروفة لذوي العقول.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة (ما كان حديثا يفترى) قال: الفرية الكذب (ولكن تصديق الذي بين
يديه) قال: القرآن يصدق الكتب التي كانت قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور.
ويصدق ذلك كله ويشهد عليه أن جميعه حق من عند الله (وتفصيل كل شئ) فصل الله بين حلاله وحرامه وطاعته
ومعصيته
62

تفسير سورة الرعد
قد وقع الخلاف هل هي مكية أو مدنية؟ فروى النحاس في ناسخه عن ابن عباس أنها نزلت بمكة. وروى
أبو الشيخ وابن مردويه عنه أنها نزلت بالمدينة. وممن ذهب إلى أنها مكية سعيد بن جبير والحسن وعكرمة وعطاء
وجابر بن زيد. وممن ذهب إلى أنها نزلت بالمدينة ابن الزبير والكلبي ومقاتل. وقول ثالث أنها مدنية إلا آيتين
منها فإنهما نزلتا بمكة، وهما قوله تعالى - ولو أن قرآنا سيرت به الجبال - وقيل قوله - ولا يزال الذين كفروا تصيبهم
بما صنعوا قارعة -. وقد روى هذا عن ابن عباس أيضا وقتادة. وقد أخرج ابن أبي شيبة والمروزي في الجنائز
عن جابر بن زيد قال: كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وإنه أهون
لقبضه وأيسر لشأنه.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد الآية (1 - 4)
قوله (المر) قد تقدم الكلام في هذه الحروف الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة. وهو اسم للسورة
مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده. والتقدير على الأول هذه السورة اسمها
هذا، والإشارة بقوله (تلك) إلى آيات هذه السورة، والمراد بالكتاب السورة: أي تلك الآيات آيات السورة
الكاملة العجيبة الشأن، ويكون قوله (والذي أنزل إليك من ربك الحق) مرادا به القرآن كله: أي هو الحق البالغ
في اتصافه بهذه الصفة، أو تكون الإشارة بقوله (تلك) إلى آيات القرآن جميعه على أن المراد بالكتاب جميع القرآن
ويكون قوله (والذي أنزل إليك من ربك الحق) جملة مبينة لكون هذا المنزل هو الحق. قال الفراء: والذي رفع
بالاستئناف وخبره الحق. قال: وإن شئت جعلت الذي خفضا نعتا للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما في
قوله: * إلى الملك القرم وابن الهمام * ويجوز أن يكون محل والذي أنزل إليك الجر على تقدير: وآيات الذي أنزل
إليك، فيكون الحق على هذا خبرا لمبتدأ محذوف (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) بهذا الحق الذي أنزله الله عليك
63

قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال (الله الذي رفع السماوات
بغير عمد) والعمد: الأساطين جمع عماد: أي قائمات بغير عمد تعتمد عليه، وقيل لها عمد ولكن لا نراه. قال الزجاج
العمد قدرته التي يمسك بها السماوات، وهى غير مرئية لنا، وقرئ " عمد " على أنه جمع عمود يعمد به: أي يسند
إليه. قال النابغة:
وخبر الجن أنى قد أذنت لهم * يبنون تذمر بالصفاح والعمد
وجملة ترونها مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك، وقيل هي صفة لعمد، وقيل في الكلام تقديم وتأخير،
والتقدير: رفع السماوات ترونها بغير عمد، ولا ملجئ إلى مثل هذا التكلف (ثم استوى على العرش) أي استولى
عليه بالحفظ والتدبير، أو استوى أمره، أو أقبل على خلق العرش، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى، والاستواء
على العرش صفة لله سبحانه بلا كيف كما هو مقرر في موضعه من علم الكلام (وسخر الشمس والقمر) أي ذللهما
لما يراد منهما من منافع الخلق ومصالح العباد (كل يجرى إلى أجل مسمى) أي كل من الشمس والقمر يجري إلى
وقت معلوم: وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكور عندها الشمس ويخسف القمر وتنكدر النجوم وتنتثر. وقيل
المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي تنتهيان إليها لا يجاوزنها. وهى سنة للشمس، وشهر للقمر (يدبر
الأمر) أي يصرفه على ما يريد. وهو أمر ملكوته وربوبيته (يفصل الآيات) أي يبينها: وهى الآيات الدالة
على كمال قدرته وربوبيته، ومنها ما تقدم من رفع السماء بغير عمد وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى
والجملتان محل نصب على الحال أو خبر إن لقوله (الله الذي رفع) على أن الموصول صفة للمبتدأ. والمراد من
هذا تنبيه العباد أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة. ولذا قال (لعلكم بلقاء ربكم توقنون)
أي لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه ولا تمترون في صدقه. ولما ذكر الدلائل السماوية
أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال (وهو الذي مد الأرض) قال الفراء: بسطها طولا وعرضا. وقال الأصم:
إن المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، وهذا المد الظاهر للبصر لا ينافي كريتها في نفسها لتباعد أطرافها (وجعل
فيها رواسي) أي جبالا ثوابت. واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها: أي تثبت، والإرساء: الثبوت. قال
عنترة:
فصرت عارفة لذلك حرة * ترسو إذا نفس الجبان تطلع
وقال جميل:
أحبها والذي أرسى قواعده * حتى إذا ظهرت آياته بطنا
(وأنهارا) أي مياها جارية في الأرض فيها منافع الخلق، أو المراد جعل فيها مجاري الماء (ومن كل الثمرات
جعل فيها زوجين اثنين) من كل الثمرات متعلق بالفعل الذي بعده: أي جعل فيها من كل الثمرات زوجين اثنين.
الزوج يطلق على الاثنين، وعلى الواحد المزاوج لآخر، والمراد هنا بالزوج الواحد، ولهذا أكد الزوجين بالاثنين
لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الاثنين. وقد تقدم تحقيق هذا مستوفى. أي جعل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا
صنفين، إما في اللونية: كالبياض والسواد ونحوهما. أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما، أو في القدر
كالصغر والكبر، أو في الكيفية كالحر والبرد. قال الفراء: يعني بالزوجين هنا الذكر والأنثى، والأول أولى
(يغشى الليل النهار) أي يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلما بعدما كان أبيض منيرا شبه إزالة نور الهدى بالظلمة بتغطية
الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها، وقد سبق تفسير هذه في الأعراف (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)
64

أي فيما ذكر من مد الأرض وإثباتها بالجبال، وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة، وتعاقب النور والظلمة آيات
بينة للناظرين المتفكرين المعتبرين (وفى الأرض قطع متجاورات) هذا كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع آخر
من أنواع الآيات، قيل وفى الكلام حذف: أي قطع متجاورات، وغير متجاورات كما في قوله - سرابيل تقيكم
الحر - أي وتقيكم البرد. قيل والمتجاورات: المدن وما كان عامرا، وغير المتجاورات: الصحارى وما كان غير عامر
وقيل المعنى: متجاورات متدانيات، ترابها واحد وماؤها واحد، وفيها زرع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار فيكون
البعض حلوا والبعض حامضا، والبعض طيبا والبعض غير طيب، والبعض يصلح فيه نوع والبعض الآخر نوع
آخر (وجنات من أعناب) الجنات: البساتين، قرأ الجمهور برفع جنات على تقدير: وفى الأرض جنات، فهو
معطوف على قطع متجاورات، أو على تقدير: وبينها جنات. وقرأ الحسن بالنصب على تقدير: وجعل فيها
جنات، وذكر سبحانه الزرع بين الأعناب والنخيل، لأنه يكون في الخارج كثيرا كذلك، ومثله في قوله سبحانه
- جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا - (صنوان وغير صنوان) قرأ ابن كثير
وأبو عمرو وحفص (وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) برفع هذه الأربع عطفا على جنات. وقرأ الباقون بالجر
عطفا على أعناب وقرأ مجاهد والسلمي بضم الصاد من صنوان وقرأ الباقون بالكسر، وهما لغتان. قال أبو عبيدة
صنوان: جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحدا، ثم يتفرع فيصير نحيلا، ثم يحمل، وهذا قول جميع أهل اللغة
والتفسير. قال ابن الأعرابي: الصنو: المثل: ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " عم الرجل صنو أبيه " فمعنى الآية
على هذا: أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون. قال في الكشاف: والصنوان جمع صنو، وهى النخلة لها
رأسان وأصلها واحد، وقيل الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المفترق. النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال
للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر: صنوان. والصنو: المثل، ولا فرق بين التثنية والجمع إلا بكسر النون
في المثنى، وبما يقتضيه الإعراب في الجمع (يسقى بماء واحد) قرأ عاصم وابن عامر: يسقى بالتحتية: أي يسقى ذلك
كله. وقرأ الباقون بالفوقية بإرجاع الضمير إلى جنات. واختاره أبو حاتم وأبو عبيد وأبو عمرو. قال أبو عمرو:
التأنيث أحسن لقوله (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) ولم يقل بعضه. وقرأ حمزة والكسائي " يفضل " بالتحتية
كما في قوله - يدبر الأمر يفصل الآيات - وقرأ الباقون بالنون على تقدير: ونحن نفضل
وفى هذه الدلالة على بديع صنعه وعظيم قدرته ما لا يخفى على من له عقل - فإن القطع المتجاورة والجنات
المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل، فيكون طعم بعضها
حلوا والآخر حامضا، وهذا في غاية الجودة، وهذا ليس بجيد، وهذا فائق في حسنه. وهذا غير فائق مما يقطع
من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلا قدرة الصانع الحكيم جل سلطانه
وتعالى شأنه، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلا لسببين: إما اختلاف
المكان الذي هو المنبت، أو اختلاف الماء الذي تسقى به، فإذا كان المكان متجاورا، وقطع الأرض متلاصقة، والماء
الذي تسقى به واحدا، لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلا تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب، ولهذا قال الله
سبحانه (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) أي يعملون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر
في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات
وقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (المر) قال: أنا الله أرى. وأخرج ابن جرير
وأبو الشيخ عن مجاهد " المر " فواتح يفتتح بها كلامه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله (تلك آيات الكتاب)
65

قال: التوراة والإنجيل (والذي أنزل إليك من ربك الحق) قال: القرآن. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن
قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (رفع السماء بغير عمد ترونها) قال: وما
يدريك لعلها بعمد لا ترونها. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وأبو الشيخ عنه في الآية قال: يقول لها عمد ولكن
لا ترونها يعني الأعماد. وأخرج ابن جرير عن إياس بن معاوية في الآية قال: السماء مقببة على الأرض مثل القبة
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك. وأخرج ابن جرير
وأبو الشيخ في قوله (لأجل مسمى) قال: الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله
(يدبر الأمر) قال: يقضيه وحده وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: الدنيا مسيرة خمسمائة عام:
أربعمائة خراب، ومائة عمران في أيدي المسلمين من ذلك مسيرة سنة. وقد روى عن جماعة من السلف في ذلك
تقديرات لم يأت عليها دليل يصح. وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب قال: لما خلق الله الأرض قمصت
وقالت: أي رب تجعل علي بني آدم يعملون علي الخطايا ويجعلون على الخبث، فأرسل الله فيها من الجبال ما ترون
وما لا ترون فكان إقرارها كاللحم ترجرج. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله (وجعل فيها زوجين اثنين)
قال: ذكرا وأنثى من كل صنف. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (يغشى الليل النهار) أي يلبس
الليل النهار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (وفى الأرض قطع
متجاورات) قال: يريد الأرض الطيبة العذبة التي يخرج نباتها بإذن ربها تجاورها السبخة القبيحة المالحة التي
لا تخرج، وهما أرض واحدة، وماؤها شئ واحد، ملح أو عذب، ففصلت إحداهما على الأخرى. وأخرج ابن
جرير وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: قرئ " متجاورات " قريب بعضها من بعض. وأخرج ابن جرير عن ابن
عباس في الآية قال: الأرض تنبت حلوا، والأرض تنبت حامضا، وهى متجاورات تسقى بماء واحد. وأخرج
الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن البراء بن عازب
في قوله (صنوان وغير صنوان) قال: الصنوان ما كان أصله واحدا وهو متفرق، وغير صنوان التي تنبت
وحدها، وفى لفظ: صنوان النخلة في النخلة ملتصقة، وغير صنوان النخل المتفرق. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (صنوان) قال: مجتمع النخل في أصل واحد (وغير صنوان) قال: النخل
المتفرق. وأخرج الترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) قال: الدقل والفارسي والحلو والحامض
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هذا حامض، وهذا حلو، وهذا دقل، وهذا فارسي.
سورة الرعد الآية (5 - 7)
66

سورة الرعد (8 - 11)
قوله (وإن تعجب فعجب قولهم) أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم من الصادقين
فأعجب منه تكذيبهم بالبعث، والله تعالى لا يجوز عليه التعجب، لأنه تغير النفس بشئ تخفى أسبابه وإنما ذكر
ذلك ليعجب منه رسوله وأتباعه. قال الزجاج: أي هذا موضوع عجب أيضا أنهم أنكروا البعث، وقد بين لهم
من خلق السماوات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة، وقيل الآية في منكري الصانع: أي إن تعجب
من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير، فهو محل التعجب، والأول أولى لقوله
(أإذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد) وهذه الجملة في محل رفع على البدلية من قولهم، ويجوز أن تكون في محل نصب
على أنها مقول القول والعجب على الأول كلامهم، وعلى الثاني تكلمهم بذلك، والعامل في " إذا " ما يفيده قوله
(أئنا لفي خلق جديد) وهو نبعث أو نعاد، والاستفهام منهم للإنكار المفيد لكمال الاستبعاد، وتقديم الظرف في
قوله (لفي خلق) لتأكيد الإنكار بالبعث، وكذلك تكرير الهمزة في قوله: أئنا. ثم لما حكى الله سبحانه ذلك
عنهم حكم عليهم بأمور ثلاثة: الأول (أولئك الذين كفروا بربهم) أي أولئك المنكرون لقدرته سبحانه على البعث
هم المتمادون في الكفر الكاملون فيه. والثاني (وأولئك الأغلال في أعناقهم) الأغلال: جمع غل، وهو طوق تشد
به اليد إلى العنق: أي يغلون بها يوم القيامة. وقيل الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم لزوم الأطواق للأعناق:
والثالث (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لا ينفكون عنها بحال من الأحوال، وفى توسيط ضمير الفصل
دلالة على تخصيص الخلود بمنكري البعث (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) السيئة العقوبة المهلكة، والحسنة:
العافية والسلامة، قالوا هذه المقالة لفرط إنكارهم وشدة تصميمهم وتهالكهم على الكفر، وقيل معنى الآية: أنهم
طلبوا العقوبة قبل الحسنة، وهى الإيمان (وقد خلت من قبلهم المثلات) قرأ الجمهور " مثلات " بفتح الميم وضم
المثلثة جمع مثلة كسمرة، وهى العقوبة. قال ابن الأنباري: المثلة العقوبة التي تبقى في المعاقب شينا بتغيير بعض
خلقه من قولهم: مثل فلان بفلان إذا شان خلقه بقطع أنفه وسمل عينيه وبقر بطنه. وقرأ الأعمش بفتح الميم وإسكان
المثلثة تخفيفا لثقل الضمة، وفى لغة تميم بضم الميم والمثلثة جميعا، واحدتها على لغتهم: مثلة، بضم الميم وسكون المثلثة مثل
غرفة وغرفات. وحكى عن الأعمش في رواية أخرى أنه قرا هذا الحرف بضمها على لغة تميم. والمعنى: أن هؤلاء
يستعجلونك بإنزال العقوبة بهم، وقد مضت من قبلهم عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لا يعتبرون بهم ويحذرون
من حلول ما حل بهم، والجملة في محل نصب على الحال، وهذا الاستعجال من هؤلاء هو على طريقة الاستهزاء
كقولهم (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) الآية (وإن ربك لذو مغفرة) أي لذو تجاوز عظيم (للناس على
ظلمهم) أنفسهم باقترافهم الذنوب ووقوعهم في المعاصي إن تابوا عن ذلك، ورجعوا إلى الله سبحانه، والجار
67

والمجرور: أي على ظلمهم في محل نصب على الحال أي حال كونهم ظالمين، وعلى بمعنى مع: أي مع ظلمهم
وفى الآية بشارة عظيمة ورجاء كبير، لأن من المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائبا، ولهذا قيل إنها
في عصاة الموحدين خاصة، وقيل المراد بالمغفرة هنا تأخير العقاب إلى الآخرة ليطابق ما حكاه الله من استعجال
الكفار للعقوبة، وكما تفيده الجملة المذكورة بعد هذه الآية، وهى (وإن ربك لشديد العقاب) يعاقب العصاة
المكذبين من الكافرين عقابا شديدا على ما تقتضيه مشيئته في الدار الآخرة (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه
آية من ربه) أي هلا أنزل عليه آية غير ما قد جاء به من الآيات، وهؤلاء الكفار القائلون هذه المقالة هم المستعجلون
للعذاب. قال الزجاج: طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى، فقال الله تعالى (إنما
أنت منذر) تنذرهم بالنار، وليس إليك من الآيات شئ انتهى، وهذا مكابرة من الكفار وعناد، وإلا فقد أنزل
الله على رسوله من الآيات ما يغني البعض منه وجاء في - إنما أنت منذر - بصيغة الحصر لبيان أنه صلى الله عليه
وآله وسلم مرسل لإنذار العباد، وبيان ما يحذرون عاقبته، وليس عليه غير ذلك، وقد فعل ما هو عليه، وأنذر
أبلغ إنذار، ولم يدع شيئا مما يحصل به ذلك إلا أتى به وأوضحه وكرره، فجزاه الله عن أمته خيرا (ولكل قوم
هاد) أي نبي يدعوهم إلى ما فيه هدايتهم ورشادهم، وإن لم تقع الهداية لهم بالفعل ولم يقبلوها، وآيات الرسل مختلفة
هذا يأتي بآية أو آيات لم يأت بها الآخر بحسب ما يعطيه الله منها، ومن طلب من بعضهم ما جاء به البعض الآخر فقد
بلغ في التعنت إلى مكان عظيم، فليس المراد من الآيات إلا الدلالة على النبوة لكونها معجزة خارجة عن القدرة
البشرية، وذلك لا يختص بفرد منها، ولا بأفراد معينة. وقيل إن المعنى ولكل قوم هاد، وهو الله عز وجل فإنه
القادر على ذلك، وليس على أنبيائه إلا مجرد الإنذار (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان
إحاطته بالعلم سبحانه، وعلمه بالغيب الذي هذه الأمور المذكورة منه. قيل ويجوز أن يكون الاسم الشريف خبرا
لمبتدأ محذوف: أي ولكل قوم هاد وهو الله، وجملة (يعلم ما تحمل كل أنثى) تفسير لهاد على الوجه الأخير.
وهذا بعيد جدا، وما موصولة: أي يعلم الذي تحمله كل أنثى في بطنها من علقة، أو مضغة، أو ذكر، أو أنثى،
أو صبيح، أو قبيح، أو سعيد، أو شقي. ويجوز أن تكون استفهامية: أي يعلم أي شئ في بطنها، وعلى أي
حال هو. ويجوز أن تكون مصدرية: أي يعلم حملها (وما تغيض الأرحام وما تزداد) الغيض النقص: أي يعلم
لذي تغيضه الأرحام: أي تنقصه، ويعلم ما تزداده. فقيل المراد نقص خلقة الحمل وزيادته كنقص أصبع أو زيادتها:
وقيل إن المراد نقص مدة الحمل على تسعة أشهر، أو زيادتها، وقيل إذا حاضت المرأة في حال حملها كان ذلك نقصا
في ولدها، وقيل الغيض: ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداده منه، و " ما في ما تغيض وما تزداد
تحتمل الثلاثة الوجوه المتقدمة في ما تحمل كل أنثى (وكل شئ عنده بمقدار) أي كل شئ من الأشياء التي من
جملتها الأشياء المذكورة عند الله سبحانه بمقدار، والمقدار: القدر الذي قدره الله، وهو معنى قوله سبحانه - إنا
كل شئ خلقناه بقدر - أي كل الأشياء عند الله سبحانه جارية على قدره الذي قد سبق وفرغ منه، لا يخرج عن
ذلك شئ (عالم الغيب والشهادة) أي عالم كل غائب عن الحس، وكل مشهود حاضر، أو كل معدوم وموجود
ولا مانع من حمل الكلام على ما هو أعم من ذلك (الكبير المتعال) أي العظيم الذي كل شئ دونه، المتعالى عما يقوله
المشركون، أو المستعلى على كل شئ بقدرته وعظمته وقهره، ثم لما ذكر سبحانه أنه يعلم تلك المغيبات لا يغادره
شئ منها، بين أنه عالم بما يسرونه في أنفسهم وما يجهرون به لغيره، وأن ذلك لا يتفاوت عنده فقال (سواء منكم
من أسر القول ومن جهر به) فهو يعلم ما أسره الإنسان كعلمه بما جهر به من خير وشر وقوله منكم متعلق
68

بسواء على معنى يستوى منكم من أسر ومن جهر، أو سر من أسر وجهر من جهر (ومن هو مستخف بالليل)
أي مستتر في الظلمة الكائنة في الليل متوار عن الأعين، يقال خفى الشئ واستخفى: أي أستتر وتوارى (وسارب
بالنهار) قال الكسائي: سرب يسرب سربا وسروبا إذا ذهب، ومنه قول الشاعر.
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم * ونحن خلعنا قيده فهو سارب
أي ذهب. وقال القتيبي: سارب بالنهار متصرف في حوائجه بسرعة، من قولهم: أسرب الماء. قال الأصمعي
حل سربه: أي طريقته. وقال الزجاج: معنى الآية الجاهر بنطقه، والمضمر في نفسه، والظاهر في الطرقات
والمستخفي في الظلمات علم الله فيهم جميعا سوى، وهذا ألصق بمعنى الآية كما تفيده المقابلة بين المستخفي والسارب
فالمستخفي المستتر، والسارب البارز الظاهر (له معقبات) الضمير في " له " راجع إلى من في قوله: من أسر القول
ومن جهر به ومن هو مستخف: أي لكل من هؤلاء معقبات، والمعقبات المتناوبات أبي التي يخلف كل واحد منها
صاحبه ويكون بدلا منه، وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين. قال الزجاج: المعقبات ملائكة يأتي
بعضهم بعقب بعض، وإنما قال: معقبات مع كون الملائكة ذكورا لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة، ثم
جمع معقبة على معقبات: ذكر معناه الفراء، وقيل أنث لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة. قال الجوهري:
والتعقب العود بعد البدء. قال الله تعالى - ولى مدبرا ولم يعقب - وقرئ " معاقيب " جمع معقب (من بين يديه ومن
خلفه) أي من بين يدي من له المعقبات والمراد إن الحفظة من الملائكة من جميع جوانبه، وقيل المراد بالمعقبات
الأعمال، ومعنى من بين يديه ومن خلفه: ما تقدم منها وما تأخر (يحفظونه من أمر الله) أي من أجل أمر الله،
وقيل يحفظونه من يأس الله إذا أذنب بالاستمهال له والاستغفار حتى يتوب. قال الفراء: في هذا قولان: أحدهما
أنه على التقديم والتأخير، تقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. والثاني أن كون الحفظة
يحفظونه هو مما أمر الله به. قال الزجاج: المعنى حفظهم إياه من أمر الله: أي مما أمرهم به لا أنهم يقدرون أن يدفعوا
أمر الله. قال ابن الأنباري: وفى هذا قول آخر، وهو أن " من " بمعنى الباء: أي يحفظونه بأمر الله، وقيل إن من
بمعنى عن: أي يحفظونه عن أمر الله بمعنى من عند الله، لا من عند أنفسهم، كقوله - أطعمهم من جوع - أي عن
جوع، وقيل يحفظونه من ملائكة العذاب، وقيل يحفظونه من الجن. واختار ابن جرير أن المعقبات المواكب
بين أيدي الأمراء، على معنى أن ذلك لا يدفع عنه القضاء (إن الله لا يغير ما بقوم) من النعمة والعافية (حتى يغيروا
ما بأنفسهم) من طاعة الله. والمعنى: أنه لا يسلب قوما نعمة أنعم بها عليهم حتى يغيروا الذي بأنفسهم من الخير
والأعمال الصالحة، أو يغيروا الفطرة التي فطرهم الله عليها. قيل وليس المراد أنه لا ينزل بأحد من عباده عقوبة حتى
يتقدم له ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير كما في الحديث إنه " سأل رسول الله سائل فقال: أنهلك
وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث " (وإذا أراد الله بقوم سوءا) أي هلاكا وعذابا (فلا مرد له) أي
فلا رد له، وقيل المعنى: إذا أراد الله بقوم سوءا أعمى قلوبهم حتى يختاروا ما فيه البلاء (وما لهم من دونه من
وال) يلي أمرهم ويلتجئون إليه، فيدفع عنهم ما ينزل بهم من الله سبحانه من العقاب. أو من ناصر ينصرهم ويمنعهم
من عذاب الله. والمعنى: أنه لا راد لعذاب الله ولا ناقص لحكمه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله (وإن تعجب فعجب قولهم) قال: إن تعجب يا محمد
من تكذيبهم إياك فعجب قولهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية قال: إن تعجب
يا محمد من تكذيبهم، وهم رأوا من قدرة الله وأمره، وما ضرب لهم من الأمثال وأراهم من حياة الموتى والأرض
69

الميتة (فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد) أو لا يرون أنه خلقهم من نطفة، فالخلق من نطفة أشد من
الخلق من تراب وعظام. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله وقد
خلت من قبلهم المثلات) قال: العقوبات. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في المثلات
قال: وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: المثلات ما أصاب القرون
الماضية من العذاب. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية (وإن ربك
لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لولا عفو الله
وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش: ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو
الشيخ عن ابن عباس (ولكل قوم هاد) قال: داع. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) قال: المنذر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، (ولكل
قوم هاد) نبي يدعوهم إلى الله. وأخرج ابن جرير وابن منذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: محمد المنذر
والهادي الله عز وجل. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه
أيضا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المنذر وهو الهادي.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة وأبي الضحى نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والديلمي
وابن عساكر وابن النجار عن ابن عباس قال: لما نزلت (إنما أنت منذر ولكل هاد) " وضع رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يده على صدره فقال: أنا المنذر، وأومأ بيده إلى منكب على فقال: أنت الهادي يا علي
بك يهتدى المهتدون من بعدي " قال ابن كثير في تفسيره: وهذا الحديث فيه نكارة شديدة. وأخرج ابن مردويه
عن أبي برزة الأسلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر نحوه. وأخرج ابن مردويه والضياء
في المختارة عن ابن عباس مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن أبي حاتم والطبراني
في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب في الآية نحوه أيضا. وأخرج ابن
جرير عن الضحاك (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) قال: كل أنثى من خلق الله، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في الآية قال: يعلم ذكرا هو أو أنثى (وما تغيض الأرحام) قال: هي المرأة ترى
الدم في حملها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (وما تغيض
الأرحام) قال: خروج الدم (وما تزداد) قال: استمساكه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وما تغيض
الأرحام) قال: أن ترى الدم في حملها (وما تزداد) قال: في التسعة أشهر: وأخرج ابن أبي حاتم من طريق
الضحاك عنه في الآية قال: ما تزداد على تسعة، وما تنقص من التسعة. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عنه أيضا
في الآية (ما تغيض الأرحام) قال: السقط (وما تزداد) ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما.
وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تنقص، فذلك الغيض والزيادة
التي ذكر الله، وكل ذلك يعلمه تعالى. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قوله (عالم الغيب والشهادة) قال: السر
والعلانية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله (ومن هو مستخف
بالليل) قال: راكب رأسه في المعاصي (وسارب بالنهار) قال: ظاهر بالنهار بالمعاصي. وأخرج أبو عبيد وابن
جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس (وسارب بالنهار) قال: الظاهر: وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عنه في الآية قال: هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه برئ من الإثم. وأخرج
70

ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن
عباس أن سبب نزول الآية قدوم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في القصة المشهورة، وأنه لما أصيب عامر بن الطفيل بالغدة نزل قوله تعالى (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) إلى قوله
معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمدا صلى الله عليه
وآله وسلم، ثم ذكر أربد بن قيس وما قتله، فقال (هو الذي يريكم البرق) إلى قوله (وهو شديد المحال).
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (معقبات) الآية قال
هذه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (يحفظونه من أمر الله) قال: ذلك الحفظ
من أمر الله بأمر الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (من أمر الله) قال: بإذن الله.
وأخرج ابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: ولي السلطان يكون عليه
الحراس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، يقول: يحفظونه من أمري، فإني إذا أردت بقوم سوءا فلا مرد له.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في الآية قال: الملوك يتخذون الحرس يحفظونه من
أمامه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله يحفظونه من القتل: ألم تسمع أن الله يقول (إذا أراد الله بقوم سوءا فلا
مرد له) أي إذا أراد سوءا لم يغن الحرس عنه شيئا. وأخرج ابن جرير عن عكرمة في الآية قال: هؤلاء الأمراء
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هم الملائكة تعقب بالليل تكتب على ابن آدم. وأخرج
عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه
ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن علي في الآية قال: ليس من عبد إلا
ومعه ملائكة يحفظونه من أن تقع عليه حائط. أو ينزوي في بئر، أو يأكله سبع أو غرق أو حرق، فإذا جاء
القدر خلوا بينه وبين القدر، وقد ورد في ذكر الحفظة الموكلين بالإنسان أحاديث كثيرة مذكورة في كتب الحديث.
سورة الرعد الآية (12 - 16)
71

سورة الرعد الآية (17 - 18)
لما خوف سبحانه عباده بإنزال ما لا مرد له أتبعه بأمور ترجى من بعض الوجوه ويخاف من بعضها، وهى
البرق والسحاب والرعد والصاعقة وقد مر في أول البقرة تفسير هذه الألفاظ وأسبابها:
وقد اختلف في وجه انتصاب (خوفا وطمعا) فقيل على المصدرية: أي لتخافوا خوفا ولتطمعوا طمعا - وقيل
على العلة بتقدير إرادة الخوف والطمع لئلا يختلف فاعل الفعل المعلل وفاعل المفعول له، أو على الحالية من
البرق، أو من المخاطبين بتقدير ذوي خوف - وقيل غير ذلك مما لا حاجة إليه. قيل والمراد بالخوف هو الحاصل
من الصواعق، وبالطمع هو الحاصل في المطر. وقال الزجاج: الخوف للمسافر لم يتأذى به المطر. والطمع
للحاضر، لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر الذي هو سبب الخصب (وينشئ السحاب الثقال) التعريف للجنس
والواحدة سحابة، والثقال جمع ثقيلة. والمراد أن الله سبحانه يجعل السحاب التي ينشئها ثقالا بما يجعله فيها من الماء
(ويسبح الرعد بحمده) أي يسبح الرعد نفسه بحمد الله: أي متلبسا بحمده، وليس هذا بمستبعد، ولا مانع من أن
ينطقه الله بذلك - وإن من شئ إلا يسبح بحمده -، وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد في ذلك.
ويكون ذكره على الإفراد مع ذكر الملائكة بعده لمزيد خصوصية له، وعناية به، وقيل المراد ويسبح سامعوا الرعد:
أي يقولون: سبحان الله والحمد لله (والملائكة من خيفته) أي ويسبح الملائكة من خيفة الله سبحانه، وقيل من
خيفة الرعد. وقد ذكر جماعة من المفسرين أن هؤلاء الملائكة هم أعوان الرعد. وأن الله سبحانه جعل له أعوانا
(ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) من خلقه فيهلكه، وسياق هذه الأمور هنا للغرض الذي سيقت له الآيات
التي قبلها، وهى الدلالة على كمال قدرته (وهم يجادلون في الله) الضمير راجع إلى الكفار المخاطبين في قوله (هو الذي
يريكم البرق) أي وهؤلاء الكفرة مع هذه الآيات التي أراهم الله يجادلون في شأن الله سبحانه فينكرون البعث تارة
و يستعجلون العذاب آخري، ويكذبون الرسل ويعصون الله. وهذه الجملة في محل نصب على الحال. ويجوز
أن تكون مستأنفة (وهو شديد المحال) قال ابن الأعرابي: المحال المكر، والمكر من الله: التدبير بالحق. وقال
النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر. وقال الأزهري: المحال القوة والشدة،
والميم أصلية، وما حلت فلانا محالا أينا أشد. وقال أبو عبيد: المحال العقوبة والمكروه قال الزجاج: يقال
ما حلته محالا: إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد، والمحل في اللغة: الشدة. وقال ابن قتيبة: أي شديد الكيد،
وأصله من الحيلة جعل الميم كميم المكان، وأصله من الكون، ثم يقال تمكنت قال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن
الميم فيه زائدة بل هي أصلية، وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية مثل مهاد وملاك
ومراس وغير ذلك من الحروف وقرأ الأعرج (وهو شديد المحال) بفتح الميم، وقد فسرت هذه القراءة بالحول.
72

وللصحابة والتابعين في تفسير المحال هنا أقوال ثمانية: الأول العداوة، الثاني الحول، الثالث الأخذ، الرابع
الحقد، الخامس القوة، السادس الغضب، السابع الهلاك، الثامن الحيلة (له دعوة الحق) إضافة الدعوة إلى الحق
للملابسة: أي الدعوة الملابسة للحق المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه كما يقال كلمة الحق،
والمعنى أنها دعوة مجابة واقعة في موقعها، لا كدعوة من دونه. وقيل الحق هو الله سبحانه، والمعنى: أن لله
سبحانه دعوة المدعو الحق وهو الذي يسمع فيجيب. وقيل المراد بدعوة الحق ها هنا كلمة التوحيد والإخلاص،
والمعنى: لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له. وقيل دعوة الحق دعاؤه سبحانه عند الخوف فإنه لا يدعى فيه سواه
كما قال تعالى - ضل من تدعون إلا إياه -. وقيل الدعوة العبادة، فإن عبادة الله هي الحق والصدق (والذين
يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ) أي والآلهة الذين يدعونهم يعني الكفار من دون الله عز وجل لا يستجيبون
لهم بشئ مما يطلبونه منهم كائنا ما كان إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فإنه لا يجيبه. لأنه
جماد لا يشعر بحاجته إليه. ولا يدري أنه طلب منه أن يبلغ فاه. ولهذا قال (وما هو) أي الماء (ببالغه) أي يبالغ
فيه. قال الزجاج: إلا كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء يدعو الماء إلى فيه، والماء لا يستجيب، أعلم الله
سبحانه أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان إلى الماء يدعوه إلى بلوغ فمه، وما الماء ببالغه. وقيل المعنى: أنه
كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفه شئ منه. وقد ضربت العرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا
بالقبض على الماء كما قال الشاعر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها * من الود مثل القابض الماء باليد
وقال الآخر:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض * على الماء خانته فروج الأصابع
وقال الفراء: إن المراد بالماء هنا ماء البئر لأنها معدن للماء، وأنه شبهه بمن مد يده إلى البئر بغير رشاء،
ضرب الله سبحانه هذا مثلا لمن يدعو غيره من الأصنام (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) أي يضل عنهم ذلك
الدعاء فلا يجدون منه شيئا. ولا ينفعهم بوجه من الوجوه بل هو ضائع ذاهب (ولله يسجد من في السماوات
والأرض طوعا وكرها) إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي، وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع
والتذلل. فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجن، وأما في الكفار فلا يصح تأويل السجود بهذا في
حقهم. فلا بد أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى حق لله السجود ووجب حتى يناول السجود بالفعل
وغيره. أو يفسر للسجود بالانقياد. لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره، وحكمه فيهم
بالصحة والمرض والحياة والموت والفقر والغنى، ويدل على إرادة هذا المعنى قوله (طوعا وكرها) فإن الكفار
ينقادون كرها كما ينقاد المؤمنون طوعا، وهما منتصبان على المصدرية: أي انقياد طوع وانقياد كره، أو على
الحال: أي طائعين وكارهين. وقال الفراء: الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعا، وبعض الكفار
يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين. فالآية محمولة على هؤلاء، وقيل الآية في المؤمنين، فمنهم من سجد طوعا
لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة ولكنهم يتحملون المشقة إيمانا بالله وإخلاصا له
(وظلالهم بالغدو والآصال) وظلالهم جمع ظل. والمراد به ظل الإنسان الذي يتبعه، جعل ساجدا بسجوده حيث
صار لازما له لا ينفك عنه. قال الزجاج وابن الأنباري: ولا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاما تسجد بها لله سبحانه
كما جعل للجبال أفهاما حتى اشتغلت بتسبيحه. فظل المؤمن يسجد لله طوعا، وظل الكافر يسجد لله كرها
وخص الغدو والآصال بالذاكر لأنه يزداد ظهور الظلال فيهما، وهما ظرف للسجود المقدر: أي ويسجد ظلالهم
73

في هذين الوقتين. وقد تقدم تفسير الغدو والآصال في الأعراف. وفى معنى هذه الآية قوله سبحانه - أو لم يروا
إلى ما خلق الله من شئ يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون - وجاء بمن في من في السماوات
والأرض تغليبا للعقلاء على غيرهم، ولكون سجود غيرهم تبعا لسجودهم، ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد
ما يفيده تقديم لله على الفعل من الاختصاص، فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم. ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله
في الأمور التي يقرون على أنفسهم بأنها من الله، كالخلق والحياة والموت ونحو ذلك (قل من رب السماوات
والأرض، أمر الله سبحانه رسوله أن يسأل الكفار من رب السماوات والأرض؟ ثم لما كانوا يقرون بذلك
ويعترفون به كما حكاه الله سبحانه في قوله - ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز
العليم - وقوله - ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله - أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب، فقال (قل الله)
فكأنه حكى جوابهم وما يعتقدونه. لأنهم ربما تلعثموا في الجواب حذرا مما يلزمهم، ثم أمره بأن يلزمهم الحجة
ويبكتهم فقال (قل أفتخذتم الله من دونه أولياء) والاستفهام للإنكار: أي إذا كان رب السماوات والأرض هو الله
كما تقرون بذلك وتعترفون به كما حكاه سبحانه عنكم بقوله - قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم.
سيقولون لله - فما بالكم اتخذتم لأنفسكم من دونه أولياء عاجزين (لا يملكون لأنفسهم نفعا) ينفعونها به (ولا ضرا)
يضرون به غيرهم أو يدفعونه عن أنفسهم، فكيف ترجون منهم النفع والضر وهم لا يملكونهما لأنفسهم والجملة
في محل نصب على الحال، ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلا وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله لهم، فقال
(قل هل يستوى الأعمى والبصير) أي هل يستوى الأعمى في دينه وهو الكافر، والبصير فيه وهو الموحد، فإن
الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه، والثاني عالم بذلك. قرأ بن محيصن وأبو بكر والأعمش وحمزة والكسائي (أم
هل يستوى الظلمات والنور) بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية، واختار القراءة الثانية أبو عبيد. والمراد بالظلمات
الكفر، وبالنور الإيمان، والاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي كيف يكونان مستويين وبينهما من التفاوت ما بين
الأعمى والبصير، وما بين الظلمات والنور، ووحد النور وجمع الظلمة، لأن طريق الحق واحدة لا تختلف،
وطرائق الباطل كثيرة غير محصرة (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه) أم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة:
أي بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه والاستفهام لإنكار الوقوع. قال ابن الأنباري: معناه أجعلوا لله شركاء
خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم: أي ليس الأمر على هذا حتى يشتبه الأمر عليهم. بل
إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المنفرد بالخلق، وسائر الشركاء لا يخلقون شيئا، وجملة: خلقوا كخلقه في محل
نصب صفة لشركاء. والمعنى: أنهم لم يجعلوا لله شركاء متصفين بأنهم خلقوا كخلقه (فتشابه) بهذا السبب
(الخلق عليهم) حتى يستحقوا بذلك العبادة منهم. بل إنما جعلوا له شركاء الأصنام ونحوها. وهى بمعزل عن أن
تكون كذلك، ثم أمره الله سبحانه بأن يوضح لهم الحق ويرشدهم إلى الصواب فقال (قل الله خالق كل شئ) كائنا
ما كان ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه. قال الزجاج: والمعنى أنه خالق كل شئ مما يصح أن يكون
مخلوقا، ألا ترى أنه تعالى شئ وهو غير مخلوق (وهو الواحد) أي المتفرد بالربوبية (القهار) لما عداه. فكل
ما عداه مربوب مقهور مغلوب، ثم ضرب سبحانه مثلا آخر للحق وذويه، وللباطل ومنتحليه فقال (أنزل من
السماء ماء) أي من جهتها والتنكير للتكثير أو للنوعية (فسالت أودية) جمع واد. وهو كل منفرج بين جبلين أو
نحوهما. قال أبو علي الفارسي: لا نعلم فاعلا جمع على أفعلة إلا هذا، وكأنه حمل على فعيل فجمع على أفعلة مثل
جريب وأجربة. كما أن فعيلا حمل على فاعل، فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف، كأصحاب
74

وأنصار في صاحب وناصر قال: وفى قوله (فسالت أودية) توسع: أي سال ماؤها. قال: ومعنى (بقدرها)
بقدر مائها، لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. قال الواحدي: والقدر مبلغ الشئ. والمعنى: بقدرها من الماء،
فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع كثر، وقال في الكشاف: بقدرها بمقدارها الذي يعرف الله أنه نافع
للممطور عليهم غير ضار. قال ابن الأنباري: شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر، إذ نفع نزول
القرآن يعم كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب: إذ الأودية يستكن فيها الماء كما يستكن القرآن
والإيمان في قلوب المؤمنين (فاحتمل السيل زبدا رابيا) الزبد: هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل. ويقال
له الغثاء والرغوة، والرابي: العالي المرتفع فوق الماء. قال الزجاج: هو الطافي فوق الماء. وقال غيره: هو الزائد
بسبب انتفاخه، من ربا يربو إذا زاد. والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق
بجنبات الوادي وتدفعه الرياح، فكذلك يذهب الكفر ويضمحل. وقد تم المثل الأول، ثم شرح سبحانه في
ذكر المثل الثاني فقال (ومما يوقدون عليه في النار) من لابتداء الغاية: أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، أو
للتبعيض بمعنى: وبعضه زبد مثله، والضمير للناس، أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره، هذا على قراءة
يوقدون بالتحتية، وبها قرأ حميد وابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وحفص. وقرأ الباقون بالفوقية على
الخطاب، واختار القراءة الأولى أبو عبيد. والمعنى: ومما توقدون عليه في النار فيذوب من الأجسام المنطرقة
الذائبة (ابتغاء حلية) أي لطلب اتخاذ حلية تتزينون بها وتتجملون في كالذهب والفضة (أو متاع) أي أو طلب متاع
تتمتعون به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والصفر والنحاس والرصاص (زبد مثله) المراد بالزبد هنا
الخبث. فإنه يعلو فوق ما أذيب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء فالضمير في مثله يعود إلى زبدا رابيا،
وارتفاع زبد على الابتداء وخبره مما يوقدون (كذلك يضرب الله الحق والباطل) أي مثل ذلك الضرب البديع
يضرب لله مثل الحق ومثل الباطل. ثم شرع في تقسيم المثل فقال: (فأما الزبد فيذهب جفاء) يقال جفأ الوادي
بالهمز جفاء: إذا رمى بالقذر والزبد. قال الفراء: الجفاء الرمي. يقال: جفأ الوادي غثاء جفاء: إذا رمى به،
والجفاء بمنزلة الغثاء. وكذا قال أبو عمرو بن العلاء، وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ جفالا. قال أبو عبيدة:
يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها. وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته. قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة،
لأنه كان يأكل الفأر. واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام
المنطرقة أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبدا رابيا فوقه. وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب
من الأجسام المنطرقة، فإن أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب، فإذا أذيبت صار ذلك التراب
الذي خالطها خبثا مرتفعا فوقها (وأما ما ينفع الناس) منهما وهو الماء الصافي، والذائب الخالص من الخبث
(فيمكث في الأرض) أي يثبت فيها. أما الماء فإنه يسلك في عروق الأرض فتنتفع الناس به، وأما ما أذيب من
تلك الأجسام فإنه يصاغ حلية وأمتعة. وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل. يقول: إن الباطل وإن
ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه. فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي
يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحل وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه، فهذا مثل
الباطل، وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعى فيمكث في الأرض، وكذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه
يبقى خالصا لا شوب فيه، وهو مثل الحق. قال الزجاج: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء
المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شئ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعا
75

بها، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء. وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة
والذهب الذي لا ينتفع به. وقد حكينا عن ابن الأنباري فيما تقدم أنه شبه نزول القرآن إلى آخر ما ذكرناه فجعل ذلك
مثلا ضربه الله للقرآن (كذلك يضرب الله الأمثال) أي مثل ذلك الضرب العجيب يضرب الله الأمثال في كل باب
لكمال العناية بعباده واللطف بهم، وهذا تأكيد لقوله: كذلك يضرب الله الحق والباطل، ثم بين سبحانه من
ضرب له مثل الحق ومثل الباطل من عباده، فقال فيمن ضرب له مثل الحق (للذين استجابوا لربهم) أي أجابوا
دعوته إذ دعاهم إلى توحيده وتصديق أنبيائه والعمل بشرائعه، والحسنى صفة موصوف محذوف. أي المثوبة
الحسنى وهى الجنة، وقال سبحانه فيمن ضرب له مثل الباطل (والذين لم يستجيبوا) لدعوته إلى ما دعاهم إليه،
والموصول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية، وهى (لو أن لهم ما في الأرض جميعا) من أصناف الأموال التي يتملكها
العباد ويجمعونها بحيث لا يخرج عن ملكهم منها شئ (ومثله معه) أي مثل ما في الأرض جميعا كائنا معه ومنضما إليه
(لافتدوا به) أي بمجموع ما ذكر وهو ما في الأرض ومثله. والمعنى: ليخلصوا به مما هم فيه من العذاب الكبير
والهول العظيم، ثم بين الله سبحانه ما أعده لهم فقال (أولئك) يعنى الذين لم يستجيبوا (لهم سوء الحساب) قال
الزجاج: لأن كفرهم أحبط أعمالهم، وقال غيره: سوء الحساب المناقشة فيه، وقيل هو أن يحاسب الرجل بذنبه
كله لا يغفر منه شئ (ومأواهم جهنم) أي مرجعهم إليها (وبئس المهاد) أي المستقر الذي يستقرون فيه. والمخصوص
بالذم محذوف.
وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (هو الذي يريكم
البرق خوفا وطمعا) قال: خوفا للمسافر يخاف أذاه ومشقته، وطمعا للمقيم يطمع في رزق الله ويرجو بركة المطر
ومنفعته. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: خوفا لأهل البحر وطمعا لأهل البر. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك
قال: الخوف ما يخاف من الصواعق والطمع: الغيث. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ والخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في سننه من طرق عن علي بن أبي طالب قال: البرق مخاريق من
نار بأيدي ملائكة السحاب يزجرون به السحاب. وروى عن جماعة من السلف ما يوافق هذا ويخالفه. ولعلنا قد
قدمنا في سورة البقرة شيئا من ذلك. وأخرج أحمد عن شيخ من بني غفار قد صحب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال: سمعت رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إن الله ينشئ السحاب فتنطق أحسن النطق وتضحك
أحسن الضحك " قيل والمراد بنطقها الرعد، وبضحكها البرق. وقد ثبت عند أحمد والترمذي والنسائي في اليوم
والليلة والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سمع الرعد
والصواعق قال " اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك ". وأخرج العقيلي وضعفه وابن
مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ينشئ الله السحاب ثم ينزل فيه الماء. فلا
شئ أحسن من ضحكه، ولا شئ أحسن من نطقه، ومنطقه الرعد وضحكه البرق ". وأخرج ابن مردويه عن
جابر بن عبد الله " أن خزيمة بن ثابت، وليس بالأنصاري، سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن منشأ
السحاب فقال: إن ملكا موكلا يلم القاصية ويلحم الدانية في يده مخراق، فإذا رفع برقت وإذا زجر رعدت، وإذا
ضرب صعقت ". وأخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن
مردويه وأبو نعيم في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ
76

إسرائيل على بنيه إذ قال الله على ما نقول وكيل، قال هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ قال: تنام عيناه ولا
ينام قلبه، قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟ قال: يلتقى الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة
أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت، قالوا: أخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يشتكى
عرق النساء، فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا: يعنى الإبل، فحرم لحومها، قالوا: صدقت، قالوا أخبرنا
ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره
الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته. قالوا: صدقت إنما بقيت واحدة، وهى التي نتابعك
إن أخبرتنا، إنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل، قالوا: جبريل ذاك
ينزل بالخراب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان، فأنزل الله - قل
من كان عدوا لجبريل - إلى آخر الآية. وأخرج البخاري في الأدب المفرد وابن أبي الدنيا في المطر وابن جرير عن
ابن عباس أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له، وقال: إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما
ينعق الراعي بغنمه. وقد روى نحو هذا عنه من طرق. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن الرعد صوت الملك،
وكذا أخرج نحوه أبو الشيخ عن ابن عمر. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: الرعد ملك اسمه
الرعد، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره احتك السحاب واضطرم من خوفه فتخرج الصواعق من بينه.
وأخرج ابن أبي حاتم والخرائطي وأبو الشيخ في العظمة عن أبي عمران الجوني قال: إن بحورا من نار دون العرش
يكون منها الصواعق. وأخرج أبو الشيخ عن السدى قال: الصواعق نار. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن
ابن عباس (وهو شديد المحال) قال: شديد القوة. وأخرج ابن جرير عن علي قال: شديد الأخذ. وأخرج ابن
جرير وأبو الشيخ عنه في قوله (له دعوة الحق) قال: التوحيد: لا إله إلا الله. وأخرج عبد الرزاق والفريابي
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات من طرق عن ابن عباس في قوله
دعوة الحق قال: شهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير عن علي في قوله (إلا كباسط كفيه إلى السماء ليبلغ فاه
وما هو ببالغه) قال: كان الرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: هذا مثل المشرك الذي عبد مع الله غيره، فمثله
كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه. وأخرج أبو الشيخ
عنه في قوله (هل يستوى الأعمى والبصير) قال: المؤمن والكافر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عنه أيضا في قوله (أنزل من السماء ماء) الآية قال: هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر
يقينها وشكها. فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله. وهو قوله (فأما الزبد فيذهب جفاء)
وهو الشك (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) وهو اليقين، وكما يجعل الحلى في النار فيؤخذ خالصه ويترك
خبثه، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك. وأخرج هؤلاء عنه أيضا (فسالت أودية بقدرها) قال: الصغير قدر
صغره، والكبير قدر كبره.
سورة الرعد الآية (19 - 20)
77

سورة الرعد الآية (21 - 25)
الهمزة في قوله (أفمن يعلم) للإنكار على من يتوهم المماثلة بين من يعلم أنما أنزله الله سبحانه إلى رسوله صلى الله
عليه وآله وسلم من الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، وهو القرآن. وبين من هو أعمى لا يعلم ذلك، فإن الحال بينهما
متباعد جدا كالتباعد الذي بين الماء والزبد. وبين الخبث والخالص من تلك الأجسام، ثم بين سبحانه أنه إنما
يقف على تفاوت المنزلتين، وتباين الرتبتين أهل العقول الصحيحة. فقال (إنما يتذكر أولو الألباب) ثم وصفهم
بهذه الأوصاف المادحة، فقال (الذين يوفون بعهد الله) أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم، أو فيما
بينهم وبين العباد (ولا ينقضون الميثاق) الذي وثقوه على أنفسهم. وأكدوه بالأيمان ونحوها، وهذا تعميم بعد
التخصيص، لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها، ويحتمل أن يكون الأمر
بالعكس فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله. وهى أوامره ونواهيه التي وصى
بها عبيده، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه. ويراد بالميثاق ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم
من صلب آدم في عالم الذر المذكور في قوله سبحانه - وإذ أخذ ربك من بني آدم - الآية (والذين يصلون ما أمر الله
به أن يوصل) ظاهره شمول كل ما أمر الله بصلته * ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق عباده. ويدخل
تحت ذلك صلة الأرحام دخولا أوليا. وقد قصره كثير من المفسرين على صلة الرحم. واللفظ أوسع من ذلك
(ويخشون ربهم) خشية تحملهم على فعل ما وجب. واجتناب ما لا يحل (ويخافون سوء الحساب) وهو الاستقصاء
فيه والمناقشة للعبد، فمن نوقش الحساب عذب. ومن حق هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا (والذين
صبروا ابتغاء وجه ربهم) قيل هو كلام مستأنف. وقيل معطوف على ما قبله والتعبير عنه بلفظ المضي للتنبيه على
أنه ينبغي تحققه. والمراد بالصبر الصبر على الإتيان بما أمر الله به. واجتناب ما نهى عنه، وقيل على الرزايا
والمصائب، ومعنى كون ذلك الصبر لابتغاء وجه الله: أن يكون خالصا له. لا شائبة فيه لغيره (وأقاموا الصلاة)
أي فعلوها في أوقاتها على ما شرعه الله سبحانه في أذكارها وأركانها مع الخشوع والإخلاص. والمراد بها الصلوات
المفروضة، وقيل أعم من ذلك (وأنفقوا مما رزقناهم) أي أنفقوا بعض ما رزقناهم. والمراد بالسر: صدقة النفل.
والعلانية: صدقة الفرض، وقيل السر لمن لم يعرف بالمال. أو لا يتهم بترك الزكاة. والعلانية لمن كان يعرف بالمال
أو يتهم بترك الزكاة (ويدرؤن بالحسنة السيئة) أي يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه كما في قوله تعالى
- ادفع بالتي هي أحسن -، أو يدفعون بالعمل الصالح العمل السئ، أو يدفعون الشر بالخير. أو المنكر
78

بالمعروف. أو الظلم بالعفو، أو الذنب بالتوبة. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور، والإشارة بقوله
(أولئك) إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة (لهم عقبى الدار) العقبى مصدر كالعاقبة، والمراد بالدار الدنيا،
وعقباها الجنة، وقيل المراد بالدار: الدار الآخرة، وعقباها الجنة للمطيعين. والنار للعصاة (جنات عدن
يدخلونها) بدل من عقبى الدار أي لهم جنات عدن، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره يدخلونها. والعدن أصله
الإقامة، ثم صار علما لجنة من الجنان. قال القشيري: وجنات عدن: وسط الجنة وقصبتها وسقفها عرش الرحمن،
ولكن في صحيح البخاري وغيره " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش
الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة ". (ومن صلح من آبائهم) يشمل الآباء والأمهات (وأزواجهم وذرياتهم)
معطوف على الضمير في يدخلون. وجاز ذلك للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه: أي ويدخلها أزواجهم
وذرياتهم. وذكر الصلاح دليل على أنه لا يدخل الجنة إلا من كان كذلك من قرابات أولئك، ولا ينفع مجرد
كونه من الآباء أو الأزواج أو الذرية بدون صلاح (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب) أي من جميع أبواب
المنازل التي يسكنونها، أو المراد من كل باب من أبواب التحف والهدايا من الله سبحانه (سلام عليكم) (أي قائلين
سلام عليكم: أي سلمتم من الآفات أو دامت لكم السلامة (بما صبرتم) أي بسبب صبركم وهو متعلق بالسلام:
أي إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم أو متعلق بعليكم. أو بمحذوف: أي هذه الكرامة بسبب صبركم
أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر (فنعم عقبى الدار) جاء سبحانه بهذه الجملة المتضمنة لمدح ما أعطاهم من عقبى
الدار المتقدم ذكرها للترغيب والتشويق، ثم اتبع أحوال السعداء بأحوال الأشقياء. فقال (والذين ينقضون عهد الله
من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) وقد مر تفسير عدم النقض وعدم القطع فعرف منهما تفسير النقض
والقطع. ولم يتعرض لنفى الخشية والخوف عنهم وما بعدهما من الأوصاف المتقدمة لدخولها في النقض والقطع (ويفسدون
في الأرض) بالكفر وارتكاب المعاصي والأضرار بالأنفس والأموال (أولئك) الموصوفون بهذه الصفات الذميمة
(لهم) بسبب ذلك (اللعنة): أي الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه (ولهم سوء الدار) أي سوء عاقبة دار الدنيا،
وهى النار أو عذاب النار.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله تعالى (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك
الحق) قال: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه (كمن هو أعمى) قال: عن الحق فلا
يبصره ولا يعقله (إنما يتذكر أولوا الألباب) فبين من هم؟ فقال (الذين يوفون بعهد الله). وأخرج ابن أبي حاتم
عن سعيد بن جبير أولوا الألباب قال: من كان له لب: أي عقل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ
عن قتادة أن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين آية من القرآن. وأخرج الخطيب وابن عساكر عن
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن البر والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة، ثم
تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء
الحساب). وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل)
يعنى من إيمان بالنبيين وبالكتب كلها (ويخشون ربهم) يعنى يخافون من قطيعة ما أمر الله به أن يوصل (ويخافون
سوء الحساب) يعنى شدة الحساب.
وقد ورد في صلة الرحم وتحريم قطعها أحاديث كثيرة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عن الضحاك (ويدرءون بالحسنة السيئة) قال: يدفعون بالحسنة السيئة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي
79

وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله (جنات عدن) قال: بطنان
الجنة، يعنى وسطها. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن عمر قال لكعب، ما عدن؟ قال: هو قصر في الجنة
لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل. وأخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " جنة عدن قضيب غرسه الله بيده، ثم قال له كن فكان ". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد (ومن صلح من آبائهم) قال: من آمن في الدنيا، وأخرج عبد الرزاق
وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله (سلام عليكم بما صبرتم) قال: على دينكم
(فنعم عقبى الدار) قال: نعم ما أعقبكم الله من الدنيا في الجنة. وأخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن
حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أول من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسد
بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء. فيقول الله لمن يشاء من
ملائكته: ائتوهم فحيوهم. فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك. أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء
فنسلم عليهم؟ قال الله: إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدونني ولا يشركون بي شيئا. وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم
المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل
باب (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة " إن المؤمن
ليكون متكئا على أريكة إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين باب مبوب، فيقبل الملك
فيستأذن، فيقول أقصى الخدم للذي يليه: ملك يستأذن، ويقول الذي يليه: ملك يستأذن، حتى يبلغ المؤمن،
فيقول ائذنوا له، فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا له. ويقول الذي يليه للذي يليه ائذنوا له حتى يبلغ أقصاهم
الذي عند الباب فيفتح له فيدخل ويسلم عليه، ثم ينصرف ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (ولهم سوء
الدار) قال: سوء العاقبة.
سورة الرعد الآية (26 - 30) لما ذكر الله سبحانه عاقبة المشركين بقوله (ولم سوء الدار) كان لقائل أن يقول: قد نرى كثيرا منهم قد
وفر الله له الرزق وبسط له فيه، فأجاب عن ذلك بقوله (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) فقد يبسط الرزق لمن
كان كافرا. ويقتره على من كان مؤمنا ابتلاء وامتحانا. ولا يدل البسط على الكرامة ولا القبض على الإهانة،
80

ومعنى يقدر: يضيق، ومنه - ومن قدر عليه رزقه - أي ضيق، وقيل معنى يقدر: يعطى بقدر الكفاية، ومعنى
الآية: أنه الفاعل لذلك وحده القادر عليه دون غيره (وفرحوا بالحياة الدنيا) أي مشركو مكة فرحوا بالدنيا وجهلوا
ما عند الله، قيل وفى هذه الآية تقديم وتأخير، والتقدير: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر
الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا، فيكون وفرحوا معطوفا على يفسدون (وما الحياة
الدنيا في الآخرة إلا متاع) أي ما هي إلا شئ يستمتع به، وقيل المتاع واحد الأمتعة كالقصعة والسكرجة ونحوهما،
وقيل المعنى: شئ قليل ذاهب، من متع النهار: إذا ارتفع فلا بد له من زوال، وقيل زاد كزاد الراكب
يتزود به منها إلى الآخرة (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه) أي يقول أولئك المشركون من أهل مكة
هلا أنزل على محمد آية من ربه؟ وقد تقدم تفسير هذا قريبا، وتكرر في مواضع (قل إن الله يضل من يشاء)
أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بهذا، وهو أن الضلال بمشيئة الله سبحانه، من شاء أن يضله ضل كما ضل
هؤلاء القائلون " لولا أنزل عليه آية من ربه " (ويهدى إليه من أناب) أي ويهدى إلى الحق، أو إلى الإسلام، أو إلى
جنابه عز وجل (من أناب): أي من رجع إلى الله بالتوبة والإقلاع عما كان عليه، وأصل الإنابة الدخول في نوبة
الخير، كذا قال النيسابوري، ومحل الذين آمنوا النصب على البدلية من قوله " من أناب " أي أنهم هم الذين هداهم
الله وأنابوا إليه، ويجوز أن يكون الذين آمنوا خبر مبتدأ محذوف: أي هم الذين آمنوا، أو منصوب على المدح
(وتطمئن قلوبهم بذكر الله) أي تسكن وتستأنس بذكر الله سبحانه بألسنتهم كتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد
والتكبير والتوحيد، أو بسماع ذلك من غيرهم، وقد سمى سبحانه القرآن ذكرا قال - وهذا ذكر مبارك أنزلناه -،
وقال - إنا نحن نزلنا الذكر - قال الزجاج: أي إذا ذكر الله وحده آمنوا به غير شاكين بخلاف من وصف بقوله
- وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة - وقيل تطمئن قلوبهم بتوحيد الله، وقيل المراد
بالذكر هنا الطاعة، وقيل بوعد الله، وقيل بالحلف بالله، فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه، وقيل بذكر رحمته،
وقيل بذكر دلائله الدالة على توحيده (ألا بذكر الله) وحده دون غيره (تطمئن القلوب) والنظر في مخلوقات الله
سبحانه وبدائع صنعه وإن كان يفيد طمأنينة في الجملة، لكن ليست كهذه الطمأنينة، وكذلك النظر في المعجزات
من الأمور التي لا يطيقها البشر، فليس إفادتها للطمأنينة كإفادة ذكر الله، فهذا وجه ما يفيده هذا التركيب من
القصر (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب) الموصول مبتدأ خبره الجملة الدعائية، وهى طوبى لهم
على التأويل المشهور، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المدح، وطوبى لهم خبر مبتدأ محذوف،
ويجوز أن يكون الموصول بدلا من القلوب على حذف مضاف: أي قلوب الذين آمنوا. قال أبو عبيدة والزجاج
وأهل اللغة: طوبى فعلى من الطيب. قال ابن الأنباري: وتأويلها الحال المستطابة، وقيل طوبى شجرة في الجنة،
وقيل هي الجنة، وقيل هي البستان بلغة الهند، وقيل معنى طوبى لهم: حسنى لهم، وقيل خير لهم، وقيل كرامة لهم،
وقيل غبطة لهم. قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة، والأصل طيبي فصارت الياء واوا لسكونها وضم ما قبلها،
واللام في لهم للبيان مثل سقيا لك ورعيا لك. وقرئ " حسن مآب " بالنصب والرفع، من آب إذا رجع: أي
وحسن مرجع، وهو الدار الآخرة (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم) أي مثل ذلك الإرسال العظيم
الشأن المشتمل على المعجزة الباهرة أرسلناك يا محمد. وقيل شبه الأنعام على من أرسل إليه محمد صلى الله عليه وآله
وسلم بالأنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله، ومعنى (في أمة قد خلت من قبلها أمم) في قرن قد مضت من قبله
قرون، أو في جماعة من الناس قد مضت من قبلها جماعات (لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك) أي لتقرأ عليهم القرآن،
81

(و) الحال أن (هم يكفرون بالرحمن) أي بالكثير الرحمة لعباده، ومن رحمته لهم إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب
عليهم كما قال سبحانه - وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين - وجملة (قل هو ربى) مستأنفة بتقدير سؤال كأنهم قالوا:
وما الرحمن؟ فقال سبحانه (قل) يا محمد (هو ربى) أي خالقي (لا إله إلا هو) أي لا يستحق العبادة له والإيمان
به سواه (عليه توكلت) في جميع أموري (وإليه) لا إلى غيره (متاب) أي توبتي، وفيه تعريض بالكفار وحث.
لهم على الرجوع إلى الله والتوبة من الكفر والدخول في الإسلام.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن سابط في قوله (وما الحياة الدنيا في الآخرة
إلا متاع) قال: كزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشئ من الدقيق أو الشئ يشرب عليه اللبن. وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل يخرج في الزمان الأول في إبله، أو غنمه فيقول لأهله
متعوني فيمتعونه فلقة الخبز أو التمر، فهذا مثل ضربه الله للدنيا. وأخرج الترمذي وصححه عن عبد الله بن مسعود
قال " نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك؟
فقال مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها ". وأخرج مسلم والترمذي
والنسائي وابن ماجة عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل
ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع، وأشار بالسبابة ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (وتطمئن قلوبهم بذكر الله) قال: هشت إليه واستأنست به. وأخرج
أبو الشيخ عن السدي في الآية قال: إذا حلف لهم بالله صدقوا (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) قال: تسكن.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال، بمحمد وأصحابه. وأخرج
أبو الشيخ عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه حين نزلت هذه الآية " (ألا بذكر الله
تطمئن القلوب) هل تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: من أحب الله ورسوله وأحب
أصحابي ". وأخرج ابن مردويه عن علي " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الآية (ألا بذكر الله
تطمئن القلوب) قال: ذلك من أحب الله ورسوله، وأحب أهل بيتي صادقا غير كاذب، وأحب المؤمنين
شاهدا وغائبا، ألا بذكر الله يتحابون ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس
في قوله (طوبى لهم) قال: فرح وقرة عين. وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله (طوبى لهم) قال نعم ما لهم.
وقد روى عن جماعة من السلف نحو ما قدمنا ذكره من الأقوال، والأرجح تفسير الآية بما روى مرفوعا إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أخرجه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وابن مردويه والبيهقي
عن عتبة بن عبد قال " جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله في الجنة فاكهة؟
قال: نعم فيها شجرة تدعى طوبى " الحديث. وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والخطيب
في تاريخه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أن رجلا قال: يا رسول الله طوبى لمن
رآك وآمن بك، قال: طوبى لمن آمن بي ورآني، ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني، فقال رجل:
وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسير مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " وفى باب أحاديث وآثار
عن السلف، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، اقرءوا إن شئتم - وظل ممدود - " وفى بعض الألفاظ " إنها شجرة
82

الخلد ". وأخرج أبو الشيخ عن السدي (وحسن مآب) قال: حسن منقلب. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وهم يكفرون بالرحمن) قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب في الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم، فقالت قريش: أما
الرحمن فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم، فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم، فقال لا، ولكن اكتبوا
كما يريدون ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في هذه الآية نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد
(وإليه متاب) قال: توبتي.
سورة الرعد الآية (31 - 35)
قوله (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) قيل هذا متصل بقوله - لولا أنزل عليه آية من ربه - وأن جماعة
من الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسير لهم جبال مكة حتى تنفسح فإنها أرض ضيقة، فأمره
الله سبحانه بأن يجيب عليهم بهذا الجواب المتضمن لتعظيم شأن القرآن وفساد رأي الكفار حيث لم يقنعوا به وأصروا
على تعنتهم وطلبهم ما لو فعله الله سبحانه لم يبق ما تقتضيه الحكمة الإلهية من عدم إنزال الآيات التي يؤمن عندها
جميع العباد. ومعنى سيرت به الجبال: أي بإنزاله وقراءته فسارت عن محل استقرارها (أو قطعت به الأرض) أي
صدعت حتى صارت قطعا متفرقة (أو كلم به الموتى) أي صاروا أحياء بقراءته عليهم. فكانوا يفهمونه عند
تكليمهم به كما يفهمه الأحياء.
وقد اختلف في جواب لو ماذا هو؟ فقال الفراء: هو محذوف. وتقديره: لكان هذا القرآن. وروى عنه أنه
قال: إن الجواب لكفروا بالرحمن: أي لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن، وقيل جوابه لما آمنوا كما سبق في قوله
83

- وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله - وقيل الجواب متقدم، وفى الكلام تقديم وتأخير: أي وهم يكفرون
بالرحمن لو أن قرآنا إلى آخره، وكثيرا ما تحذف العرب جواب لو إذا دل عليه سياق الكلام، ومنه قول امرئ القيس
فلو أنها نفس تموت جميعة * ولكنها نفس تساقط أنفسا
أي لهان علي ذلك (بل لله الأمر جميعا) أي لو أن قرآنا فعل به ذلك لكان هذا القرآن، ولكن لم يفعل بل فعل
ما عليه الشأن الآن، فلو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وإذا لم يشأ أن يؤمنوا لم ينفع تسيير الجبال وسائر ما اقترحوه من
الآيات، فالإضراب متوجه إلى ما يؤدى إليه كون الأمر لله سبحانه ويستلزمه من توقف الأمر على ما تقتضيه حكمته
ومشيئته، ويدل على أن هذا هو المعنى المراد من ذلك قوله (أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) *
قال الفراء: قال الكلبي أفلم ييأس بمعنى أفلم يعلم، وهى لغة النخع. قال في الصحاح: وقيل هي لغة هوازن،
وبهذا قال جماعة من السلف. قال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا. قال الزجاج: وهو مجاز لأن اليائس من الشئ
عالم بأنه لا يكون، نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في الترك لتضمنهما إياهما، ويؤيده قراءة على
وابن عباس وجماعة: أفلم يتبين، ومن هذا قول رباح بن عدي:
ألم ييأس الأقوام أنى أنا ابنه * وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
أي ألم يعلم، وأنشد في هذا أبو عبيدة قول مالك بن عوف النضري:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني الرحمن * ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم
أي ألم تعلموا، فمعنى الآية على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا
الآيات، وقيل إن الإياس على معناه الحقيقي: أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن الله
تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم، لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعا في إيمانهم (ولا يزال
الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) هذا وعيد للكفار على العموم أو لكفار مكة على الخصوص: أي لا يزال
الذين كفروا تصيبهم بسبب ما صنعوا من الكفر والتكذيب للرسل قارعة: أي داهية تفجؤهم، يقال قرعه الأمر
إذا أصابه، والجمع قوارع، والأصل في القرع الضرب. قال الشاعر:
أفنى تلادى وما جمعت من نشب * قرع القراقير أفواه الأباريق
والمعنى: أن الكفار لا يزالون كذلك حتى تصيبهم داهية مهلكة من قتل أو أسر أو جدب أو نحو ذلك من
العذاب، وقد قيل إن القارعة: النكبة، وقيل الطلائع والسرايا، ولا يخفى أن القارعة تطلق على ما هو أعم من ذلك
(أو تحل) أي القارعة (قريبا من دارهم) فيفزعون منها ويشاهدون من آثارها ما ترجف له قلوبهم وترعد منه
بوادرهم، وقيل إن الضمير في (تحل) للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى: أو تحل أنت يا محمد قريبا من
دارهم محاصرا لهم آخذا بمخانقهم كما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الطائف (حتى يأتي وعد الله) وهو
موتهم، أو قيام الساعة عليهم، فإنه إذا جاء وعد الله المحتوم حل بهم من عذابه ما هو الغاية في الشدة، وقيل المراد
بوعد الله هنا الإذن منه بقتال الكفار. والأول أولى (إن الله لا يخلف الميعاد) فما جرى به وعده فهو كائن لا محالة
(ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا) التنكير في رسل للتكثير: أي برسل كثيرة، والإملاء:
الإمهال، وقد مر تحقيقه في الأعراف (ثم أخذتهم) بالعذاب الذي أنزلته بهم (فكيف كان عقاب) الاستفهام
للتقريع والتهديد: أي فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذين استهزءوا بالرسل، فأمليت لهم ثم أخذتهم. ثم استفهم
84

سبحانه استفهاما آخر للتوبيخ والتقريع يجرى مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم، فقال
(أفمن هو قائم على كل نفس) القائم الحفيظ والمتولي للأمور، وأراد سبحانه نفسه، فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر
لأحوالهم بالآجال والأرزاق، وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت، والجواب محذوف:
أي أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضر. قال الفراء: كأنه في المعنى أفمن
هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما،
وقيل المراد بمن هو قائم على كل نفس الملائكة الموكلون ببني آدم، والأول أولى، وجملة (وجعلوا لله شركاء)
معطوفة على الجواب المقدر مبينة له أو حالية بتقدير قد: أي وقد جعلوا، أو معطوفة على (ولقد استهزئ) أي
استهزءوا وجعلوا (قل سموهم) أي قل يا محمد جعلتم له شركاء فسموهم من هم؟ وفى هذا تبكيت لهم وتوبيخ، لأنه
إنما يقال هكذا في الشئ المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه، فيقال: سمه إن شئت: يعنى أنه أحقر من أن
يسمى، وقيل إن المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون، فيكون ذلك تهديدا لهم (أم تنبئونه) أي بل أتنبئون الله (بما
لا يعلم في الأرض) من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السماوات والأرض (أم بظاهر من القول)
أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن تكون له حقيقة، وقيل المعنى: قل لهم أتنبئون الله بباطن
لا يعلمه أم بظاهر يعلمه؟ فإن قالوا بباطن لا يعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم
سموهم، فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما، فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكا، وإنما خص الأرض بنفي الشريك
عنها، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض، لأنهم ادعوا له شريكا في الأرض، وقيل معنى (أم بظاهر من
القول) أم بزائل من القول باطل، ومنه قول الشاعر:
أعيرتنا ألبانها ولحومها * وذلك عار يا بن ريطة ظاهر
حديث أي زائل باطل، وقيل بكذب من القول، وقيل معنى بظاهر من القول بحجة من القول ظاهرة على زعمهم (بل
زين للذين كفروا مكرهم) أي ليس لله شريك، بل زين للذين كفروا مكرهم. وقرأ ابن عباس " زين " على البناء
للفاعل على أن الذي زين لهم ذلك هو مكرهم. وقرأ من عداه بالبناء عند للمفعول، والمزين هو الله سبحانه، أو الشيطان
ويجوز أن يسمى المكر كفرا، لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان كفرا، وأما معناه الحقيقي فهو
الكيد، أو التمويه بالأباطيل (وصدوا عن السبيل) قرأ حمزة والكسائي وعاصم (صدوا) على البناء للمفعول: أي
صدهم الله، أو صدهم الشيطان. وقرأ الباقون على البناء للفاعل: أي صدوا غيرهم، واختار هذه القراءة أبو حاتم
وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الصاد (ومن يضلل الله فما له من هاد) أي يجعله ضالا وتقتضي مشيئته إضلاله، فما له
من هاد يهديه إلى الخير. قرأ الجمهور (هاد) من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة. وقرئ بإثباتها على
اللغة القليلة، ثم بين سبحانه ما يستحقونه، فقال (لهم عذاب في الحياة الدنيا) بما يصابون به من القتل والأسر وغير
ذلك (ولعذاب الآخرة أشق) عليهم من عذاب الحياة الدنيا (وما لهم من الله من واق) يقيهم عذابه، ولا عاصم
يعصمهم منه، ثم لما ذكر سبحانه ما يستحقه الكفار من العذاب في الأولى والأخرى، ذكر ما أعده للمؤمنين،
فقال (مثل الجنة التي وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار) أي صفقتها العجيبة الشأن التي هي في الغرابة كالمثل،
قال ابن قتيبة: المثل الشبه في أصل اللغة، ثم قد يصير بمعنى صورة الشئ وصفته، يقال مثلت لك كذا: أي
صورته ووصفته، فأراد هنا بمثل الجنة صورتها وصفتها، ثم ذكرها، فقال (تجرى من تحتها الأنهار) وهو
كالتفسير للمثل. قال سيبويه: وتقديره فيما قصصنا عليك مثل الجنة. وقال الخليل وغيره: إن مثل الجنة مبتدأ
85

والخبر تجرى، وقال الزجاج: إنه تمثيل للغائب بالشاهد. ومعناه مثل الجنة جنة تجرى من تحتها الأنهار، وقيل إن
فائدة الخبر ترجع إلى (أكلها دائم) أي لا ينقطع، ومثله قوله سبحانه - لا مقطوعة ولا ممنوعة - وقال الفراء: المثل
مقحم للتأكيد، والمعنى: الجنة التي وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار، والعرب تفعل ذلك كثيرا (وظلها) أي
كذلك دائم لا يتقلص ولا تنسخه الشمس، والإشارة بقوله (تلك) إلى الجنة الموصوفة بالصفات المتقدمة، وهو
مبتدأ خبره (عقبى الذين اتقوا) أي عاقبة الذين اتقوا المعاصي. ومنتهى أمرهم (وعقبى الكافرين النار) ليس لهم
عاقبة ولا منتهى إلا ذلك.
وقد أخرج الطبراني وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن كان كما تقول
فأرنا أشياخنا الأول من الموتى نكلمهم، وافسح لنا هذه الجبال جبال مكة التي قد ضمتنا، فنزلت - ولو أن قرآنا
سيرت به الجبال - الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عطية العوفي قال: قالوا لمحمد صلى الله
عليه وآله وسلم: لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه
بالريح. أو أحييت لنا الموتى كما كان يحيى عيسى الموتى لقومه، فأنزل الله - ولو أن قرآنا سيرت به الجبال - الآية
إلى قوله (أفلم ييأس الذين آمنوا) قال: أفلم يتبين الذين آمنوا. قالوا هل تروى هذا الحديث عن أحد من أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرجه أيضا
ابن أبي حاتم قال: حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب بن الحرث، أخبرنا بشر بن عمارة. حدثنا عمر بن حسان عن
عطية العوفي فذكره. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه مختصرا. وأخرج
أبو يعلى وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه عن الزبير بن العوام في ذكر سبب نزول الآية نحو ما تقدم مطولا.
وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (بل لله الأمر جميعا) لا يصنع من ذلك إلا ما يشاء ولم يكن
ليفعل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (أفلم ييأس) يقول يعلم، وأخرج ابن جرير
وأبو الشيخ من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ
عن أبي العالية (أفلم ييأس) قال: قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ولو شاء الله لهدى الناس جميعا. وأخرج الفريابي وابن
جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (تصيبهم بما صنعوا قارعة) قال: السرايا. وأخرج الطيالسي وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه نحوه. وزاد (أو تحل قريبا من
دارهم) قال: أنت يا محمد حتى يأتي وعد الله. قال: فتح مكة. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد نحوه. وأخرج
عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (قارعة) قال: نكبة. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من
طريق العوفي عنه قارعة قال: عذاب من السماء. أو تحل قريبا من دارهم: يعنى نزول رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم بهم وقتاله آباءهم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا في قوله (أفمن هو قائم على كل نفس بما
كسبت) قال: يعنى بذلك نفسه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء في الآية قال: الله تعالى قائم بالقسط
والعدل على كل نفس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله
(أم بظاهر من القول) قال: الظاهر من القول هو الباطل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله
(مثل الجنة) قال: نعت الجنة، ليس للجنة مثل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم التيمي في قوله
(أكلها دائم) قال: لذاتها دائمة في أفوائهم.
86

سورة الرعد الآية (36 - 39)
اختلف المفسرون في تفسير الكتاب المذكور فقيل: هو التوراة والإنجيل، والذين يفرحون بما أنزل إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم من أسلم من اليهود والنصارى. وقيل الذين يفرحون هم أهل الكتابين لكون
ذلك موافقا لما في كتبهم مصدقا له، فعلى الأول يكون المراد بقوله (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) من لم يسلم
من اليهود والنصارى، وعلى الثاني يكون المراد به المشركين من أهل مكة ومن يماثلهم، أو يكون المراد به البعض من
أهل الكتابين: أي من أحزابهما، فإنهم أنكروه لما يشتمل عليه من كونه ناسخا لشرائعهم فيتوجه فرح من فرح به منهم
إلى ما هو موافق لما في الكتابين، وإنكار من أنكر منهم إلى ما خالفهما، وقيل المراد بالكتاب القرآن، والمراد بمن
يفرح به المسلمون، والمراد بالأحزاب المتحزبون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين واليهود
والنصارى. والمراد بالبعض الذي أنكروه من خالف ما يعتقدونه على اختلاف اعتقادهم. واعترض على هذا بأن
فرح المسلمين بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره. وأجيب عنه بأن المراد زيادة الفرح والاستبشار. وقال كثير
من المفسرين: إن عبد الله بن سلام والذين آمنوا معه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة
ذكره في التوراة. فأنزل الله (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) ففرحوا بذلك، ثم لما بين ما يحصل بنزول القرآن من
الفرح للبعض والإنكار للبعض صرح بما عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره أن يقول لهم ذلك، فقال
(قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به) أي لا أشرك به بوجه من الوجوه: أي قل لهم يا محمد إلزاما للحجة وردا
للإنكار إنما أمرت فيما أنزل إلى بعبادة الله وتوحيده، وهذا أمر اتفقت عليه الشرائع وتطابقت على عدم إنكاره
جميع الملل المقتدية بالرسل، وقد اتفق القراء على نصب ولا أشرك به عطفا على أعبد. وقرأ أبو خليد بالرفع على
الاستئناف. وروى هذه القراءة عن نافع (إليه ادعوا) أي إلى الله لا إلى غيره أو إلى ما أمرت به وهو عبادة الله
وحده. والأول أولى لقوله (وإليه مآب) فإن الضمير لله سبحانه: أي إليه وحده: لا إلى غيره مرجعي. ثم
ذكر بعض فضائل القرآن. وأوعد على الإعراض عن اتباعه مع التعرض لرد ما أنكروه من اشتماله على نسخ بعض
شرائعهم فقال (وكذلك أنزلناه حكما عربيا) أي مثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا القرآن مشتملا على أصول الشرائع
وفروعها، وقيل المعنى: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا عليك القرآن بلسان العرب، ونريد
بالحكم ما فيه من الأحكام أو حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، وانتصاب حكما على الحال (ولئن اتبعت أهواءهم)
التي يطلبون منك موافقتهم عليها كالاستمرار منك على التوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتك لشئ مما يعتقدونه (بعد
87

ما جاءك من العلم) الذي علمك الله إياه (مالك من الله) أي من جنابه (من ولى) يلي أمرك وينصرك (ولا واق)
يقيك من عذابه، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعريض لأمته، واللام في ولئن اتبعت هي
الموطئة للقسم، ومالك ساد مسد جواب القسم والشرط (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية)
أي إن الرسل الذين أرسلناهم قبلك هم من جنس البشر لهم أزواج من النساء ولهم ذرية توالدوا منهم ومن أزواجهم،
ولم نرسل الرسل من الملائكة الذين لا يتزوجون ولا يكون لهم ذرية. وفى هذا رد على من كان ينكر على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم تزوجه بالنساء: أي أن هذا شأن رسل الله المرسلين قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه
ما كانوا عليه (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) أي لم يكن لرسول من الرسل أن يأتي بآية من الآيات،
ومن جملتها ما اقترحه عليه الكفار إلا بإذن الله سبحانه. وفيه رد على الكفار حيث اقترحوا على رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم من الآيات ما اقترحوا بما سبق ذكره (لكل أجل كتاب) أي لكل أمر مما قضاه الله، أو لكل
وقت من الأوقات التي قضى الله بوقوع أمر فيها كتاب عند الله يكتبه على عباده ويحكم به فيهم. وقال الفراء: فيه
تقديم وتأخير. والمعنى: لكل كتاب أجل: أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤجل ووقت معلوم كقوله سبحانه
- لكل نبأ مستقر - وليس الأمر على حسب إرادة الكفار واقتراحاتهم: بل على حسب ما يشاؤه ويختاره (يمحو الله
ما يشاء ويثبت) أي يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه، يقال محوت الكتاب محوا إذا أذهبت أثره. قرأ ابن
كثير وأبو عمرو وعاصم " ويثبت " بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد.
وظاهر النظم القرآني العموم في كل شئ مما في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو
خير أو شر، ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا - لا يسأل عما يفعل وهم يسألون - وإلى هذا ذهب عمر بن
الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم، وقيل الآية خاصة
بالسعادة والشقاوة، وقيل يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه الثواب
والعقاب، وقيل يمحو ما يشاء من الرزق، وقيل يمحو من الأجل، وقيل يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه ويثبت
ما يشاء فلا ينسخه، وقيل يمحو ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء، وقيل يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة
ويترك ما يشاء منها مع عدم التوبة، وقيل يمحو الآباء ويثبت الأبناء، وقيل يمحو القمر ويثبت الشمس كقوله
- فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة - وقيل يمحو ما يشاء من الأرواح التي يقبضها حال النوم فيميت صاحبه
ويثبت ما يشاء فيرده إلى صاحبه، وقيل يمحو ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها، وقيل يمحو الدنيا ويثبت
الآخرة، وقيل غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره، والأول أولى كما تفيده ما في قوله: ما يشاء من العموم مع تقدم
ذكر الكتاب في قوله (لكل أجل كتاب) ومع قوله (وعنده أم الكتاب) أي أصله، وهو اللوح المحفوظ،
فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجرى فيه قضاؤه
وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته، وهذا لا ينافي ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله " جف القلم "
وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه الله سبحانه، وقيل إن أم الكتاب هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (يفرحون بما أنزل إليك)
قال: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرحوا بكتاب الله وبرسله وصدقوا به (ومن الأحزاب من
ينكر بعضه) يعنى اليهود والنصارى والمجوس. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية: قال هؤلاء
من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب يفرحون بذلك، ومنهم من يؤمن به، ومنهم من
88

لا يؤمن به (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) قال: الأحزاب الأمم اليهود والنصارى والمجوس. وأخرج عبد الرزاق
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (وإليه مآب) قال: إليه مصير كل عبد.
وأخرج ابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق قتادة عن الحسن عن
سمرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن التبتل. وقرأ قتادة (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك) الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن هشام قال: دخلت على عائشة فقلت: إني أريد أن أتبتل؟ قالت
لا تفعل، أما سمعت الله يقول (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) وقد ورد في النهي عن
التبتل والترغيب في النكاح ما هو معروف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد
قال: قالت قريش حين أنزل (ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) ما نراك يا محمد تملك من شئ. ولقد فرغ
من الأمر، فأنزلت هذه الآية تخويفا لهم ووعيدا لهم (يمحو الله ما يشاء ويثبت) إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا شيئا،
ويحدث الله في كل رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم. وأخرج
عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله
(يمحو الله ما يشاء ويثبت) قال: ينزل الله في كل شهر رمضان إلى سماء الدنيا. فيدبر أمر السنة إلى السنة فيمحو
ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو الرجل
يعمل الزمان بطاعة الله، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة، فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل يعمل
بمعصية الله وقد سبق له خير حتى يموت على طاعة الله. وأخرج ابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن
أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أيضا في الآية قال: هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما ويثبت، وعنده أم
الكتاب: أي جملة الكتاب. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال " إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة
بيضاء له دفتان من ياقوت، والدفتان لوحان: لله كل يوم ثلاث وستون لحظة يمحو الله ما يشاء ويثبت عنده
أم الكتاب ". وإسناده عند ابن جرير: هكذا حدثنا محمد بن شهر بن عسكر حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن
جريج عن عطاء عن ابن عباس فذكره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن أبي الدرداء
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله ينزل في ثلاث ساعات يبقين من الليل فيفتح الذكر في
الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو الله ما يشاء ويثبت الحديث ". وأخرج الطبراني
في الأوسط وابن مردويه بإسناد. قال السيوطي: ضعيف عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول " يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والممات ". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس
مرفوعا نحوه وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال " لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء
من القدر ". وأخرج ابن جرير عن قيس بن عباد قال " العاشر من رجب وهو يوم يمحو الله فيه ما يشاء ".
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عنه نحوه بأطول منه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال وهو يطوف بالبيت " اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه، فإنك
تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة ". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن
المنذر والطبراني عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في المدخل عن ابن
عباس في قوله (يمحو الله ما يشاء ويثبت) قال: يبدل الله ما يشاء من القرآن فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله
(وعنده أم الكتاب) يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب: الناسخ والمنسوخ، ما يبدل. وما يثبت كل ذلك
89

في كتاب. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (وعنده أم الكتاب) قال: الذكر. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد
مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن يسار عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن أم الكتاب؟ فقال: علم الله
ما هو خالق، وما خلقه عالمون، فقال لعلمه كن كتابا، فكان كتابا.
سورة الرعد الآية (40 - 43)
(وإما نرينك) ما زائدة وأصله: وإن نرك (بعض الذي نعدهم) من العذاب كما وعدناهم بذلك بقولنا - لهم
عذاب في الحياة الدنيا -، وبقولنا - ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة -. والمراد أريناك بعض ما نعدهم
قبل موتك، أو توفيناك قبل إراءتك لذلك (فإنما عليك البلاغ) أي فليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة، ولا
يلزمك حصول الإجابة منهم لما بلغته إليهم (وعلينا الحساب) أي محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك
عليك، وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به، وليس
عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته، ويصدق نبوته فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك (أو لم
يروا) يعنى أهل مكة، والاستفهام للإنكار: أي أو لم ينظروا (أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) أي نأتي
أرض الكفر كمكة ننقصها من أطرافها بالفتوح على المسلمين منها شيئا فشيئا. قال الزجاج: أعلم الله أن بيان ما وعد
المشركين من قهرهم قد ظهر، يقول أو لم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم، فكيف
لا يعتبرون؟ وقيل إن معنى الآية: موت العلماء والصلحاء. قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف،
وقد قال ابن الأعرابي: الطرف الرجل الكريم. قال القرطبي: وهذا القول بعيد، لأن مقصود الآية: أنا أريناهم
النقصان في أمرهم ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز إلا أن يحمل على موت أحبار اليهود والنصارى
وقيل المراد من الآية: خراب الأرض المعمورة حتى يكون العمران في ناحية منها، وقيل المراد بالآية: هلاك من
هلك من الأمم، وقيل المراد: نقص ثمرات الأرض، وقيل المراد: جور ولاتها حتى تنقص (والله يحكم لا معقب
لحكمه) أي يحكم ما يشاء في خلقه، فيرفع هذا ويضع هذا، ويحيى هذا ويميت هذا، ويغني هذا ويفقر هذا،
وقد حكم بعزة الإسلام وعلوه على الأديان، وجملة (لا معقب لحكمه) في محل نصب على الحال، وقيل معترضة:
والمعقب: الذي يكر على الشئ فيبطله، وحقيقته الذي يقفيه بالرد والإبطال. قال الفراء: معناه لا راد لحكمه:
قال: والمعقب الذي يتبع الشئ فيستدركه، ولا يستدرك أحد عليه، والمراد من الآية أنه لا يتعقب أحد حكم الله
سبحانه بنقص ولا تغيير (وهو سريع الحساب) فيجازى المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته على السرعة (وقد
مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا) أي قد مكر الكفار الذين من قبل كفار مكة بمن أرسله الله إليهم من الرسل
90

فكادوهم وكفروا بهم، وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أخبره أن هذا ديدن
الكفار من قديم الزمان مع رسل الله سبحانه، ثم أخبره بأن مكرهم هذا كالعدم، وأن المكر كله لله، فقال
(فلله المكر جميعا) لا اعتداد بمكر غيره، ثم فسر سبحانه هذا المكر الثابت له دون غيره، فقال (يعلم ما تكسب كل
نفس) من خير وشر فيجازيها على ذلك، ومن علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها كان المكر كله له، لأنه
يأتيهم من حيث لا يشعرون. وقال الواحدي: إن مكر الماكرين مخلوق فلا يضر إلا بإرادته، وقيل المعنى: فلله
جزاء مكر الماكرين (وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " الكافر " بالإفراد، وقرأ
الباقون " الكفار " بالجمع: أي سيعلم جنس الكافر لمن العاقبة المحمودة من الفريقين في دار الدنيا، أو في الدار
الآخرة، أو فيهما، وقيل المراد بالكافر: أبو جهل (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) أي يقول المشركون أو جميع
الكفار: لست يا محمد مرسلا إلى الناس من الله، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم، فقال (قل كفى بالله شهيدا
بيني وبينكم) فهو يعلم صحة رسالتي، وصدق دعواتي، ويعلم كذبكم (ومن عنده علم الكتاب) أي علم جنس
الكتاب كالتوراة والإنجيل، فإن أهلهما العالمين بهما يعلمون صحة رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد
أخبر بذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري ونحوهم، وقد كان المشركون من العرب
يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم، فأرشدهم الله سبحانه في هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك، وقيل
المراد بالكتاب القرآن ومن عنده علم منه هم المسلمون، وقيل المراد من عنده علم اللوح المحفوظ، وهو الله سبحانه
واختار هذا الزجاج وقال: لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (ننقصها من
أطرافها) قال: ذهاب العلماء. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد في الفتن وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله (ننقصها من أطرافها) قال: موت علمائها وفقهائها وذهاب
خيار أهلها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية قال: موت العلماء. وأخرج ابن جرير
عن ابن عباس في الآية قال: أولم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من
طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك
في الآية قال: يعنى أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتقص له ما حوله من الأرضين ينظرون إلى ذلك
فلا يعتبرون. وقال الله في سورة الأنبياء - نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون -، بل نبي الله وأصحابه
هم الغالبون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: نقصان أهلها وبركتها.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: إنما تنقص الأنفس والثمرات وأما الأرض فلا تنقص. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: أولم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية منها. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد (والله يحكم لا معقب لحكمه) ليس أحد يتعقب
حكمه فيرده كما يتعقب أهل الدنيا بعضهم حكم بعض فيرده. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قدم على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسقف من اليمن فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " هل تجدني في
الإنجيل؟ قال لا، فأنزل الله (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) " يقول عبد الله بن سلام.
وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال: جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب
المسجد. ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أنى الذي أنزلت في (ومن عنده علم الكتاب)؟ قالوا: اللهم نعم. وأخرج
91

ابن جرير وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس (ومن
عنده علم الكتاب) قال: أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم في الآية قال: كان قوم من أهل الكتاب يشهدون بالحق ويعرفونه، منهم عبد الله بن سلام والجارود وتميم
الداري وسلمان الفارسي. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن مردويه وابن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ (ومن عنده علم الكتاب) قال ومن عند الله علم الكتاب. وأخرج أبو عبيد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يقرأ (ومن عنده علم الكتاب) يقول: ومن عند الله
علم الكتاب. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عن سعيد بن
جبير أنه سئل عن وقوله (ومن عنده علم الكتاب) أهو عبد الله بن سلام؟ قال: كيف وهذه السورة مكية؟ وأخرج
ابن المنذر عن الشعبي قال " ما نزل في عبد الله بن سلام شئ من القرآن ". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن
جبير في قوله (ومن عنده علم الكتاب) قال: جبريل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد
قال: هو الله.
تفسير سورة إبراهيم
عليه السلام
اثنتان وخمسون آية. وقيل إحدى وخمسون
وهى مكة كما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه أيضا عن الزبير: وحكاه القرطبي
عن الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وقتادة إلا آيتين منها وقيل إلا ثلاث آيات نزلت في الذين حاربوا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وهى قوله - ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا - إلى قوله - فإن مصيركم إلى
النار -. وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس قال: هي مكية سوى آيتين منها نزلتا بالمدينة، وهى - ألم تر إلى
الذين بدلوا نعمة الله كفرا - الآيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين:
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة إبراهيم الآية (1 - 4)
92

سورة إبراهيم الآية (5)
قوله (الر) قد تقدم الكلام في أمثال هذا، وبيان قول من قال إنه متشابه، وبيان قول من قال إنه غير متشابه
وهو إما مبتدأ خبره كتاب، أو خبر مبتدأ محذوف، ويكون (كتاب) خبر المحذوف مقدر أو خبرا ثانيا لهذا المبتدأ
أو يكون (الر) مسرودا على نمط التعديد فلا محل له. و (أنزلناه إليك) صفة لكتاب: أي أنزلنا الكتاب إليك
يا محمد، ومعنى (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) لتخرجهم من ظلمات الكفر والجهل والضلالة إلى نور
الإيمان والعلم والهداية، جعل الكفر بمنزلة الظلمات، والإيمان بمنزلة النور على طريق الاستعارة. واللام في
لتخرج للغرض والغاية، والتعريف في الناس للجنس، والمعنى: أنه صلى الله عليه وآله وسلم يخرج بالكتاب
المشتمل على ما شرعه الله لهم من الشرائع مما كانوا فيه من الظلمات إلى ما صاروا إليه من النور، وقيل إن الظلمة
مستعارة للبدعة، والنور مستعار للسنة، وقيل من الشك إلى اليقين، ولا مانع من إرادة جميع هذه الأمور، والباء
في (بإذن ربهم) متعلقة بتخرج، وأسند الفعل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه الداعي والهادي والمنذر
قال الزجاج: بما أذن لك من تعليمهم ودعائهم إلى الإيمان (إلى صراط العزيز الحميد) هو بدل من إلى النور بتكرير
العامل كما يقع مثله كثيرا: أي لتخرج الناس من الظلمات إلى صراط العزيز الحميد، وهو طريقة الله الواضحة التي
شرعها لعباده، وأمرهم بالمصير إليها والدخول فيها، ويجوز أن يكون مستأنفا بتقدير سؤال كأنه قيل ما هذا النور
الذي أخرجه إليه؟ فقيل صراط العزيز الحميد. والعزيز هو القادر الغالب، والحميد هو الكامل في استحقاق
الحمد (الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) قرأ نافع وابن عامر بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي
هو الله المتصف بملك ما في السماوات وما في الأرض. وقرأ الجمهور بالجر على أنه عطف بيان لكونه من الأعلام
الغالبة، فلا يصح وصف ما قبله به، لأن العلم لا يوصف به، وقيل يجوز أن يوصف به من حيث المعنى. وقال
أبو عمرو: إن قراءة الجر محمولة على التقديم والتأخير، والتقدير: إلى صراط الله العزيز الحميد. وكان يعقوب
إذا وقف على الحميد رفع، وإذا وصل خفض. قال ابن الأنباري: من خفض وقف على وما في الأرض. ثم
توعد من لا يعترف بربوبيته فقال (وويل للكافرين من عذاب شديد) قد تقدم بيان معنى الويل، وأصله النصب
كسائر المصادر، ثم رفع للدلالة على الثبات. قال الزجاج: هي كلمة تقال للعذاب والهلكة، فدعا سبحانه وتعالى
بذلك على من لم يخرج من الكفار بهداية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بما أنزله الله عليه مما هو فيه من ظلمات
الكفر إلى نور الإيمان و (من عذاب شديد) متعلق بويل على معنى يولولون ويضجون من العذاب الشديد الذي
صاروا فيه. ثم وصف هؤلاء الكفار بقوله (الذين يستحبون الحياة الدنيا) أي يؤثرونها لمحبتهم لها (على
الآخرة) الدائمة والنعيم الأبدي، وقيل إن الموصول في موضع رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي هم الذين،
وقيل الموصول مبتدأ وخبره أولئك، وجملة (ويصدون) وكذلك ويبغون معطوفتان على يستحبون، ومعنى الصد
(عن سبيل الله) صرف الناس عنه ومنعهم منه، وسبيل الله دينه الذي شرعه لعباده (ويبغونها عوجا) أي يطلبون
لها زيغا وميلا لموافقة أهوائهم وقضاء حاجاتهم وأغراضهم، والعوج بكسر العين في المعاني وبفتح العين في الأعيان
وقد سبق تحقيقه. والأصل يبغون لها فحذف الحرف وأوصل الفعل إلى الضمير، واجتماع هذه الخصال نهاية
93

الضلال، ولهذا وصف ضلالهم بالبعد عن الحق فقال (أولئك في ضلال بعيد)، والإشارة إلى الموصوفين بتلك
الصفات القبيحة والبعد وإن كان من صفة الضال لكنه يجوز وصف الضلال به مجازا لقصد المبالغة، ثم لما من على
المكلفين بإنزال الكتاب وإرسال الرسول ذكر من كمال تلك النعمة أن ذلك المرسل بلسان قومه فقال (وما أرسلنا من رسول
إلا بلسان قومه) أي متلبسا بلسانهم متكلما بلغتهم لأنه إذا كان كذلك فهم عنه المرسل إليهم ما يقوله لهم وسهل عليهم ذلك
بخلاف ما لو كان بلسان غيرهم فإنهم لا يدرون ما يقول ولا يفهمون ما يخاطبهم به حتى يتعلموا ذلك اللسان دهرا طويلا
ومع ذلك فلا بد أن يصعب عليهم فهم ذلك بعض صعوبة، ولهذا علل سبحانه ما أمتن به على العباد بقوله
(ليبين لهم) أي ليوضح لهم ما أمرهم الله به من الشريعة التي شرعها لهم ووحد اللسان لأن المراد بها اللغة. وقد قيل في
هذه الآية إشكال، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل إلى الناس جميعا بل إلى الجن والإنس ولغاتهم متباينة
وألسنتهم مختلفة. وأجيب بأنه وإن كان صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا إلى الثقلين كما مر لكن لما كان قومه العرب
وكانوا أخص به وأقرب إليه كان إرساله بلسانهم أولى من إرساله بلسان غيرهم، وهم يبينونه لمن كان على غير
لسانهم ويوضحونه حتى يصير فاهماله كفهمهم إياه، ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم، وبينه رسول
الله لكل قوم بلسانهم لكان ذلك مظنة للاختلاف وفتحا لباب التنازع لأن كل أمة قد تدعى من المعاني في لسانها ما لا
يعرفه غيرها، وربما كان ذلك أيضا مفضيا إلى التحريف والتصحيف بسبب الدعاوي الباطلة التي يقع فيها المتعصبون
وجملة (فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء) مستأنفة: أي يضل من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته. قال
الفراء: إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لم يكن النسق مشاكلا للأول فالرفع على الاستئناف هو الوجه، فيكون
معنى هذه الآية: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم تلك الشرائع باللغة التي ألفوها وفهموها، ومع ذلك
فإن المضل والهادي هو الله عز وجل، والبيان لا يوجب حصول الهداية إلا إذا جعله الله سبحانه واسطة وسببا،
وتقديم الإضلال على الهداية لأنه متقدم عليها، إذ هو إبقاء على الأصل والهداية إنشاء ما لم يكن (وهو العزيز)
الذي لا يغالبه مغالب (الحكيم) الذي يجرى أفعاله على مقتضى الحكمة، ثم لما بين أن المقصود من بعثة نبينا صلى
الله عليه وآله وسلم هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور أراد أن يبين أن الغرض من إرسال الأنبياء لم يكن إلا
ذلك، وخص موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم المتقدمة على هذه الأمة المحمدية فقال (ولقد أرسلنا موسى
بآياتنا) أي متلبسا بها. والمراد بالآيات: المعجزات التي لموسى، ومعنى (أن أخرج) أي أخرج، لأن الإرسال
فيه معنى القول، ويجوز أن يكون التقدير بأن أخرج، والمراد بقومه بنو إسرائيل بعد ملك فرعون (من الظلمات)
من الكفر أو من الجهل الذي قالوا بسببه: - اجعل لنا إلها كما لهم آلهة - (إلى النور) إلى الإيمان أو إلى العلم (وذكرهم
بأيام الله) أي بوقائعه. قال ابن السكيت: العرب تقول الأيام في معنى الوقائع، يقال فلان عالم بأيام العرب:
أي بوقائعها. وقال الزجاج: أي ذكرهم بنعم الله عليهم وبنقم منه أيام الله التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمود.
والمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد (إن في ذلك) أي في التذكير بأيام الله أو في نفس أيام الله
(لآيات) لدلالات عظيمة دالة على التوحيد وكمال القدرة (لكل صبار) أي كثير الصبر على المحن والمنح (شكور)
كثير الشكر للنعم التي أنعم الله بها عليه، وقيل المراد بذلك كل مؤمن، وعبر عنه بالوصفين المذكورين لأنهما ملاك
الإيمان، وقدم الصبار على الشكور، لكون الشكر عاقبة الصبر.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور)
قال: من الضلالة إلى الهدى. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله (يستحبون) قال: يختارون. وأخرج
94

عبد بن حميد وأبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس
قال: إن الله فضل محمدا على أهل السماء وعلى الأنبياء، قيل ما فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله قال لأهل
السماء - ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم - وقال - لمحمد ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر -
فكتب له براءة من النار، قيل فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله يقول (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)
وقال لمحمد - وما أرسلناك إلا كافة للناس - فأرسله إلى الإنس والجن. وأخرج ابن مردويه عن عثمان بن عفان
(إلا بلسان قومه) قال: نزل القرآن بلسان قريش. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد وعطاء وعبيد بن عمير في قوله (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) قال: بالآيات التسع
الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا ويده والسنين ونقص من الثمرات. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عن ابن عباس (أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) قال: من الضلالة إلى الهدى. وأخرج النسائي
وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي
ابن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وذكرهم بأيام الله) قال: بنعم الله وآلائه. وأخرج عبد الرزاق
وابن المنذر عن ابن عباس (وذكرهم بأيام الله) قال: نعم الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (وذكرهم
بأيام الله) قال: وعظهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال: بوقائع الله في القرون الأولى. وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) قال:
نعم العبد عبد إذا ابتلى صبر، وإذا أعطى شكر.
سورة إبراهيم الآية (6 - 10)
95

سورة إبراهيم الآية (11 - 12)
قوله (وإذ قال موسى) الظرف متعلق بمحذوف هو أذكر: أي أذكر وقت قول موسى و (إذ أنجاكم)
متعلق باذكروا: أي اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائه لكم من آل فرعون، أو بالنعمة، أو بمتعلق عليكم: أي
مستقرة عليكم وقت إنجائه، وهو بدل اشتمال من النعمة مرادا بها الإنعام أو العطية (يسومونكم سوء العذاب) أي
يبغونكم، يقال سامه ظلما، وأصل السوم الذهاب في طلب الشئ وسوء العذاب: مصدر
ساء يسوء، والمراد حبس العذاب السيئ، وهو استعبادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة، وعطف (يذبحون
أبناءكم) على (يسومونكم سوء العذاب) وإن كان التذبيح من جنس سوء العذاب إخراجا له عن مرتبة العذاب المعتاد
حتى كأنه جنس آخر لما فيه من الشدة، ومع طرح الواو كما في الآية الأخرى يكون التذبيح تفسيرا لسوء العذاب
(ويستحيون نساءكم) أي يتركونهن في الحياة لإهانتهن وإذلالهن (وفى ذلكم) المذكور من أفعالهم (بلاء من ربكم
عظيم) أي ابتلاء لكم، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة مستوفى (وإذ تأذن ربكم) تأذن بمعنى أذن
قاله الفراء. قال في الكشاف: ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليست في أفعل، كأنه قيل: وإذ أذن ربكم إيذانا
بليغا تنتفي عنه الشكوك وتنزاح الشبه. والمعنى: وإذ تأذن ربكم فقال (لئن شكرتم) أو أجرى تأذن مجرى قال.
لأنه ضرب من القول انتهى، وهذا من قول موسى لقومه، وهو معطوف على نعمة الله: أي اذكروا نعمة الله
عليكم واذكروا حين تأذن ربكم، وقيل هو معطوف على قوله: إذ أنجاكم: أي اذكروا نعمة الله تعالى في هذين
الوقتين، فإن هذا التأذن أيضا نعمة - وقيل هو من قول الله سبحانه: أي واذكر يا محمد إذ تأذن ربكم. وقرأ ابن
مسعود " وإذ قال ربكم " والمعنى واحد كما تقدم، واللام في لئن شكرتم غير الموطئة للقسم، وقوله (لأزيدنكم)
ساد مسد جوابي الشرط والقسم، وكذا اللام في (ولئن كفرتم) وقوله (إن عذابي لشديد) ساد مسد الجوابين
أيضا، والمعنى: لأن شكرتم إنعامي عليكم بما ذكر لأزيدنكم نعمة إلى نعمة تفضلا منى، وقيل لأزيدنكم من
طاعتي، وقيل لأزيدنكم من الثواب، والأول أظهر فالشك سبب المزيد، ولئن كفرتم ذلك وجحدتموه إن
عذابي لشديد، فلا بد أن يصيبكم منه ما يصيب، وقيل إن الجواب محذوف: أي ولئن كفرتم لأعذبنكم، والمذكور
تعليل للجواب المحذوف (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا) أي إن تكفروا نعمته تعالى أنتم
وجميع الخلق ولم تشكروها (فإن الله) سبحانه (لغنى) عن شكركم لا يحتاج إليه ولا يلحقه بذلك نقص (حميد) أي
مستوجب للحمد لذاته لكثرة إنعامه، وإن لم تشكروه، أو يحمده غيركم من الملائكة (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم) يحتمل
أن يكون هذا خطابا من موسى لقومه، فيكون داخلا تحت التذكير بأيام الله، ويحتمل أن يكون من كلام الله
سبحانه ابتداء خطابا لقوم موسى وتذكيرا لهم بالقرون الأولى وأخبارهم ومجئ رسل الله إليهم، ويحتمل أنه ابتداء
خطاب من الله سبحانه لقوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحذيرا لهم عن مخالفته، النبأ: الخبر، والجمع الأنباء
ومنه قول الشاعر:
ألم تأتيك والأنباء تنمى * بما لاقت لبون بنى زياد
و (قوم نوح) بدل من الموصول، أو عطف بيان (وعاد وثمود والذين من بعدهم) أي من بعد هؤلاء
96

المذكورين (لا يعلمهم إلا الله) أي لا يحصى عددهم ويحيط بهم علما إلا الله سبحانه، والموصول مبتدأ وخبره
لا يعلمهم إلا الله والجملة معترضة، أو يكون الموصول معطوفا على ما قبله ولا يعلمهم إلا الله اعتراض، وعدم
العلم من غير الله إما أن يكون راجعا إلى صفاتهم وأحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم: أي هذه الأمور لا يعلمها
إلا الله ولا يعلمها غيره، أو يكون راجعا إلى ذواتهم: أي أنه لا يعلم ذوات أولئك الذين من بعدهم إلا الله سبحانه
وجملة (جاءتهم رسلهم بالبينات) مستأنفة لبيان النبأ المذكور في (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم) أي جاءتهم الرسل
بالمعجزات الظاهرة وبالشرائع الواضحة (فردوا أيديهم في أفواههم) أي جعلوا أيدي أنفسهم في أفواههم
ليعضوها غيظا مما جاءت به الرسل كما في قوله تعالى - عضوا عليكم الأنامل من الغيظ - لأن الرسل جاءتهم بتسفيه
أحلامهم وشتم أصنامهم، وقيل إن المعنى: أنهم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم لما جاءتهم الرسل بالبينات: أي
اسكتوا واتركوا هذا الذي جئتم به تكذيبا لهم ورد لقولهم، وقيل المعنى أنهم أشاروا إلى أنفسهم وما يصدر عنها
من المقالة، وهى قولهم (إنا كفرنا بما أرسلتم به) أي لا جواب لكم سوى هذا الذي قلناه لكم بألسنتنا هذه، وقيل وضعوا
أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجبا كما يفعله من غلبه الضحك من وضع يده على فيه، وقيل المعنى: ردوا على
الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم، فالضمير الأول للرسل والثاني للكفار، وقيل جعلوا أيديهم في أفواه الرسل
ردا لقولهم، فالضمير الأول على هذا للكفار والثاني للرسل، وقيل معناه: أومئوا إلى الرسل أن اسكتوا، وقيل
أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم، وقيل إن الأيدي هنا النعم: أي ردوا
نعم الرسل بأفواههم: أي بالنطق والتكذيب، والمراد بالنعم هنا ما جاءهم به من الشرائع. وقال أبو عبيدة: ونعم
ما قال: هو ضرب مثل: أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت: قد
رد يده في فيه. وهكذا قال الأخفش، واعترض ذلك القتيبي فقال: لم يسمع أحد من العرب يقول رد يده
في فيه: إذا ترك ما أمر به. وإنما المعنى عضوا على الأيدي حنقا وغيظا، كقول الشاعر:
يردن في فيه غيظ الحسود * حتى يعض على الأكفا
وهذا هو القول الذي قدمناه على جميع هذه الأقوال، ومنه قول الشاعر:
لو أن سلمى أبصرت تجددي بعد * عضت من الوجد بأطراف اليد
وهو أقرب التفاسير للآية إن لم يصح عن العرب ما ذكره أبو عبيدة والأخفش، فإن صح ما ذكراه فتفسير
الآية به أقرب (وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به) أي قال الكفار للرسل إنا كفرنا بما أرسلتم به من البينات على زعمكم
(وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه) أي في شك عظيم مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده وترك ما سواه (مريب)
أي موجب للريب. يقال أربته: إذا فعلت أمرا أوجب ريبة وشكا، والريب قلق النفس وعدم سكونها. وقد
قيل كيف صرحوا بالكفر ثم أمرهم على الشك. وأجيب بأنهم أرادوا إنا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام
فلا أقل من أنا نشك في صحة نبوتكم. ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم، وجملة (قالت رسلهم أفي
الله شك) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قالت لهم الرسل؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي أفي وحدانيته
سبحانه شك. وهى في غاية الوضوح والجلاء، ثم إن الرسل ذكروا بعد إنكارهم على الكفار ما يؤكد ذلك الإنكار
من الشواهد الدالة على عدم الشك في وجوده سبحانه ووحدانيته. فقالوا (فاطر السماوات والأرض) أي خالقهما
ومخترعهما ومبدعهما وموجدهما بعد العدم (يدعوكم) إلى الإيمان به وتوحيده (ليغفر لكم من ذنوبكم) قال
13 - فتح القدير - 3
97

أبو عبيدة: من زائدة، ووجه ذلك قوله في موضع آخر - إن الله يغفر الذنوب جميعا - وقال سيبويه: هي للتبعيض.
ويجوز أن يذكر البعض ويراد منه الجميع، وقيل التبعيض على حقيقته ولا يلزم من غفران جميع الذنوب لأمة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم غفران جميعها لغيرهم، وبهذه الآية احتج من جوز زيادة من في الإثبات، وقيل من للبدل
وليست بزائدة ولا تبعيضية: أي لتكون المغفرة بدلا من الذنوب (ويؤخركم إلى أجل مسمى) أي إلى وقت مسمى
عنده سبحانه، وهو الموت فلا يعذبكم في الدنيا (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا أي ما أنتم إلا بشر مثلنا في الهيئة
والصورة، تأكلون وتشربون كما نأكل ونشرب ولستم ملائكة (تريدون أن تصدونا) وصفوهم بالبشر أولا،
ثم بإرادة الصد لهم عما كان يعبد آباؤهم ثانيا: أي تريدون أن تصرفونا عن معبودات آبائنا من الأصنام ونحوها (فأتونا
إن كنتم صادقين بأنكم مرسلون من عند الله (بسلطان مبين) أي بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدعونه، وقد جاءوهم
بالسلطان المبين والحجة الظاهرة، ولكن هذا النوع من تعنتاتهم، ولون من تلوناتهم (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا
بشر مثلكم) أي ما نحن في الصورة والهيئة إلا بشر مثلكم كما قلتم (ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) أي
يتفضل على من يشاء منهم بالنبوة، وقيل بالتوفيق والهداية (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان) أي ما صح ولا استقام
لأن لنا أن نأتيكم بحجة من الحجج (إلا بإذن الله) أي إلا بمشيئته وليس ذلك في قدرتنا. قيل المراد بالسلطان هنا هو
ما يطلبه الكفار من الآيات على سبيل التعنت، وقيل أعم من ذلك، فإن ما شاءه الله كان وما لم يشأه لم يكن (وعلى
الله فليتوكل المؤمنون) أي عليه وحده، وهذا أمر منهم للمؤمنين بالتوكل على الله دون من عداه، وكأن الرسل
قصدوا بهذا الأمر للمؤمنين الأمر لهم أنفسهم قصدا أوليا، ولهذا قالوا (وما لنا ألا نتوكل على الله) أي وأي عذر
لنا في ألا نتوكل عليه سبحانه (وقد هدانا سبلنا) أي والحال أنه قد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه من هدايتنا إلى
الطريق الموصل إلى رحمته، وهو ما شرعه لعباده وأوجب عليهم سلوكه (ولنصبرن على ما آذيتمونا) بما يقع
منكم من التكذيب لنا والاقتراحات الباطلة (وعلى الله) وحده دون من عداه (فليتوكل المتوكلون) قيل المراد بالتوكل
الأول استحداثه، وبهذا السعي في بقائه وثبوته، وقيل معنى الأول: إن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم
أن يتوكلوا في حصولها على الله سبحانه لا علينا، فإن شاء سبحانه أظهرها وإن شاء لم يظهرها. ومعنى الثاني: إبداء
التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم) قال: أخبرهم موسى
عن ربه أنهم إن شكروا النعمة زادهم من فضله وأوسع لهم من الرزق وأظهرهم على العالم. وأخرج ابن جرير عن
الحسن لأزيدنكم قال: من طاعتي. وأخرج ابن المبارك وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن علي
ابن صالح مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سفيان الثوري في الآية قال: لا تذهب أنفسكم إلى الدنيا
فإنها أهون عند الله من ذلك، ولكن يقول لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي. وأخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال
" أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها، وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقبلها وقال: تمرة
من رسول الله، فقال للجارية: اذهبي إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهما التي عندها " وفى إسناد أحمد عمارة بن
زاذان، وثقه أحمد ويعقوب بن سفيان وابن حبان. وقال ابن معين: صالح، وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال
أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به ليس بالمتين، وقال البخاري: ربما يضطرب في حديثه، وقال أحمد: روى
عنه أحاديث منكرة، وقال أبو داود: ليس بذلك، وضعفه الدارقطني، وقال ابن عدي: لا بأس به. وأخرج
البخاري في تاريخه والضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من ألهم خمسة
98

لم يحرم خمسة، وفيها: ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة ". وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأغر أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أربع من أعطيهن لم يمنع من الله أربعا، وفيها: ومن أعطى الشكر لم يمنع
الزيادة؟ ولا وجه لتقييد الزيادة بالزيادة في الطاعة بل الظاهر من الآية العموم كما يفيده جعل الزيادة جزاء للشكر، فمن
شكر الله على ما رزقه وسع الله عليه في رزقه، ومن شكر الله على ما أقدره عليه من طاعته زاده من طاعته، ومن شكره على
ما أنعم عليه به من الصحة زاده الله صحة ونحو ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود
أنه كان يقرأ (والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) ويقول: كذب النسابون. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر
عن عمرو بن ميمون مثله. وأخرج ابن الضريس عن أبي مجلز قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب: أنا أنسب
الناس، قال: إنك لا تنسب الناس، فقال بلى، فقال له على: أرأيت قوله - وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا
بين ذلك كثيرا - قال أنا أنسب ذلك الكثير، قال: أرأيت قوله (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد
وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) فسكت. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عروة بن
الزبير قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء معد بن عدنان. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس قال:
بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (فردوا أيديهم في
أفواههم) قال: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواهم (وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي
شك مما تدعوننا إليه مريب) يقولون: لا نصدقكم فيما جئتم به فإن عندنا فيه شكا قويا. وأخرج عبد الرزاق
والفريابي وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود: فردوا
أيديهم في أفواههم قال: عضوا عليها. وفى لفظ: على أناملهم غيظا على رسلهم.
سورة إبراهيم الآية (13 - 18)
قوله (وقال الذين كفروا) هؤلاء القائلون هم طائفة من المتمردين عن إجابة الرسل، واللام في " لنخرجنكم "
هي الموطئة للقسم: أي والله لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، لم يقنعوا بردهم لما جاءت به الرسل وعدم
امتثالهم لما دعوهم إليه حتى اجترؤا عليهم بهذا. وخيروهم بين الخروج من أرضهم، أو العود في ملتهم الكفرية
وقد قيل إن " أو " في " أو لتعودن " بمعنى حتى أو: يعنى إلا أن تعودوا كما قاله بعض المفسرين، ورد بأنه لا حاجة
إلى ذلك. بل أو على بابها للتخيير بين أحد الأمرين، وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأعراف. قيل والعود هنا
بمعنى الصيرورة لعصمة الأنبياء عن أن يكونوا على ملة الكفر قبل النبوة وبعدها، وقيل إن الخطاب للرسل ولمن
99

آمن بهم فغلب الرسل على أتباعهم (فأوحى إليهم ربهم) أي إلى الرسل (لنهلكن الظالمين) أي قال لهم: لنهلكن الظالمين
(ولنسكننكم الأرض) أي أرض هؤلاء الكفار الذين توعدوكم بما توعدوا من الإخراج أو العود، ومثل هذه الآية
قوله سبحانه - وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها -، وقال - وأورثكم أرضهم
وديارهم -. وقرئ ليهلكن وليسكننكم بالتحتية في الفعلين اعتبارا بقوله فأوحى، والإشارة بقوله (ذلك) إلى
ما تقدم من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين في مساكنهم (لمن خاف مقامي) أي موقفي، وذلك يوم الحساب،
فإنه موقف الله سبحانه، والمقام بفتح الميم مكان الإقامة، وبالضم فعل الإقامة: وقيل إن المقام هنا مصدر
بمعنى القيام: أي لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي له كقوله تعالى - أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت - وقال
الأخفش: ذلك لمن خاف مقامي: أي عذابي (وخاف وعيد) أي خاف وعيدي بالعذاب، وقيل بالقرآن
وزواجره، وقيل هو نفس العذاب، والوعيد الاسم من الوعد (واستفتحوا) معطوف على أوحى، والمعنى:
أنهم استنصروا بالله على أعدائهم، أو سألوا الله القضاء بينهم، من الفتاحة وهى الحكومة، ومن المعنى الأول
قوله - إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح - أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، ومن المعنى الثاني قوله - ربنا افتح
بيننا وبين قومنا بالحق - أي احكم، والضمير في استفتحوا للرسل، وقيل للكفار، وقيل للفريقين (وخاب كل
جبار عنيد) الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقا، هكذا حكاه النحاس عن أهل اللغة، والعنيد المعاند للحق
والمجانب له، وهو مأخوذ من العند، وهو الناحية أي أخذ في ناحية معرضا. قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلوني وسطا * إني كبير لا أطيق العندا
قال الزجاج: العنيد الذي يعدل عن القصد، وبمثله قال الهروي. وقال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى، وقال
بن كيسان: هو الشامخ بأنفه، وقيل المراد به العاصي، وقيل الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله، ومعنى الآية: أنه
خسر وهلك من كان متصفا بهذه الصفة (من ورائه جهنم) أي من بعده جهنم، والمراد بعد هلاكه على أن وراء
ها هنا بمعنى بعد، ومنه قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وليس وراء الله للمرء مذهب
أي ليس بعد الله، ومثله قوله (ومن ورائه عذاب غليظ) أي من بعده. كذا قال الفراء، وقيل من ورائه:
أي من أمامه. قال أبو عبيد: هو من أسماء الأضداد، لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر، ومنه قول الشاعر:
ومن ورائك يوم أنت بالغه * لا حاضر معجز عنه ولا بادي
وقال آخر: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي * وقومي تميم والفلاة ورائيا
أي أمامي، ومنه قوله تعالى - وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا - أي أمامهم، وبقول أبي عبيدة هذا
قال قطرب. وقال الأخفش: هو كما يقال: هذا الأمر من ورائك: أي سوف يأتيك، وأنا من وراء فلان
أي في طلبه. وقال النحاس: من ورائه: أي من أمامه، وليس من الأضداد، ولكنه من توارى: أي استتر
فصارت جهنم من ورائه، لأنها لا ترى، وحكى مثله ابن الأنباري (ويسقى من ماء صديد) معطوف على مقدر
جوابا عن سؤال سائل، كأنه قيل فماذا يكون إذن؟ قيل يلقي فيها ويسقى، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار
واشتقاقه من الصد. لأنه يصد الناظرين عن رؤيته، وهو دم مختلط بقيح، والصديد صفة لماء، وقيل عطف
بيان منه (ويتجرعه في محل على أنه صفة لماء. أو في محل نصب على أنه حال، وقيل هو استئناف مبني
على سؤال، والتجرع التحسي: أي يتحساه مرة بعد مرة لا مرة واحدة لمرارته وحرارته (ولا يكاد يسيغه) أي
100

يبتلعه، يقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا: إذا كان سهلا، والمعنى: ولا يقارب إساغته، فكيف تكون
الإساغة؟ بل يغص به فيطول عذابه بالعطش تارة، ويشربه على هذه الحال أخرى، وقيل إنه يسيغه بعد شدة
وإبطاء، كقوله - وما كادوا يفعلون - أي يفعلون بعد إبطاء، كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى - يصهر به
ما في بطونهم - (ويأتيه الموت من كل مكان) أي تأتيه أسباب الموت من كل جهة من الجهات، أو من كل موضع
من مواضع بدنه. وقال الأخفش: المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار، سماها موتا لشدتها
(وما هو بميت) أي والحال أنه لم يمت حقيقة فيستريح، وقيل تعلق نفسه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت.
ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا. ومثله قوله تعالى - لا يموت فيها ولا يحيا -، وقيل معنى وما هو بميت:
لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه. والأولى تفسير الآية بعدم الموت حقيقة لما ذكرنا من قوله سبحانه
لا يموت فيها ولا يحيا - وقوله - لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها - (ومن ورائه عذاب غليظ)
أي من أمامه، أو من بعده عذاب شديد، وقيل هو الخلود، وقيل حبس النفس (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم
كرماد) قال سيبويه: مثل مرتفع على الابتداء، والخبر مقدر: أي فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا وبه قال
الزجاج. وقال الفراء: التقدير مثل أعمال الذين كفروا فحذف المضاف. وروى عنه أنه قال بإلغاء مثل، والتقدير
الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد. وقيل هو: أعني مثل مبتدأ وخبره أعمالهم كرماد على أن معناه الصفة، فكأنه قال
صفتهم العجيبة أعمالهم كرماد. والمعنى: أن أعمالهم باطلة غير مقبولة، والرماد ما يبقى بعد احتراق الشئ ضرب الله
سبحانه هذه الآية مثلا لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. ومعنى اشتدت
به الريح: حملته بشدة وسرعة، والعصف شدة الريح، وصف به زمانها مبالغة كما يقال: يوم حار ويوم بارد،
والبرد والحر فيهما لا منهما (لا يقدرون مما كسبوا على شئ) أي لا يقدر الكفار مما كسبوا من تلك الأعمال الباطلة
على شئ منها، ولا يرون له أثرا في الآخرة يجازون به ويثابون عليه، بل جميع ما عملوه في الدنيا باطل ذاهب
كذهاب الريح بالرماد عند شدة هبوبها، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما دل عليه التمثيل: أي هذا البطلان لأعمالهم
وذهاب أثرها (هو الضلال البعيد) عن طريق الحق المخالف لمنهج الصواب، لما كان هذا خسرانا لا يمكن تداركه
سماه بعيدا.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (لنخرجنكم من أرضنا) الآية، قال
كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم ويقهرونهم ويكذبونهم ويدعونهم إلى أن يعودوا في ملتهم، فأبى الله
لرسوله والمؤمنين أن يعودوا في ملة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا على الله، وأمرهم أن يستفتحوا على الجبابرة، ووعدهم
أن يسكنهم الأرض من بعدهم، فأنجز لهم ما وعدهم، واستفتحوا كما أمرهم الله أن يستفتحوا، وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: وعدهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فبين الله
من يسكنها من عباده فقال - ولمن خاف مقام ربه جنتان - وإن لله مقاما هو قائمه، وإن أهل الإيمان خافوا ذلك
المقام فنصبوا ودأبوا الليل والنهار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (واستفتحوا)
قال: للرسل كلها يقول استنصروا، وفى قوله (وخاب كل جبار عنيد) قال: معاند للحق مجانب له، وأخرج
عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: استنصرت الرسل على قومها (وخاب
كل جبار عنيد) يقول: عنيد عن الحق معرض عنه، أبى أن يقول لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم
النخعي قال: العنيد الناكب عن الحق. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن جرير وابن
101

المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في قوله (ويسقى من ماء صديد يتجرعه) قال: يقرب إليه فيتكرهه، فإذا دنا منه شوى وجهه،
ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره. يقول الله تعالى - وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم -
وقال - وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه -. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس في قوله (من ماء صديد)
قال: يسيل من جلد الكافر ولحمه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال (من ماء صديد) هو
القيح والدم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ويأتيه الموت من كل مكان) قال: أنواع العذاب،
وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت، ولكنه لا يموت لأن الله يقول - لا يقضى عليهم فيموتوا -.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران (ويأتيه الموت من كل مكان) قال: من كل عظم وعرق
وعصب. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي قال: من موضع كل شعرة في جسده (ومن ورائه عذاب غليظ) قال: الخلود.
وأخرج ابن المنذر عن الفضيل بن عياض (ومن ورائه عذاب غليظ) قال: حبس الأنفاس. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (مثل الذين كفروا بربهم) الآية قال: مثل الذين عبدوا غيره فأعمالهم يوم
القيامة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون على شئ من أعمالهم ينفعهم كما لا يقدر على الرماد إذا
أرسل في يوم عاصف.
سورة إبراهيم الآية (19 - 23)
قوله (ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق) الرؤية هنا هي القلبية. والخطاب لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم تعريضا لأمته، أو الخطاب لكل من يصلح له. وقرأ حمزة والكسائي " خالق السماوات " ومعنى
بالحق: بالوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقها عليه ليستدل بها على كمال قدرته. ثم بين كمال قدرته سبحانه
واستغناءه عن كل واحد من خلقه فقال (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) فيعدم الموجودين ويوجد المعدومين
102

ويهلك العصاة ويأتي بمن يطيعه من خلقه، والمقام يحتمل أن يكون هذا الخلق الجديد من نوع الإنسان، ويحتمل
أن يكون من نوع آخر (وما ذلك على الله بعزيز) أي بممتنع، لأنه سبحانه قادر على كل شئ، وفيه أن الله تعالى
هو الحقيق بأن يرجى ثوابه ويخاف عقابه، فلذلك أتبعه بذكر أحوال الآخرة فقال (وبرزوا لله جميعا) أي برزوا
من قبورهم يوم القيامة، والبروز الظهور، والبراز المكان الواسع لظهوره، ومنه امرأة برزة: أي تظهر للرجال،
فمعنى برزوا ظهروا من قبورهم. وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه كما هو مقرر في علم المعاني،
وإنما قال: وبرزوا لله مع كونه سبحانه عالما بهم لا تخفى عليه خافية من أحوالهم برزوا أو لم يبرزوا، لأنهم كانوا
يستترون عن العيون عند فعلهم للمعاصي ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى، فالكلام خارج على ما يعتقدونه
(فقال الضعفاء للذين استكبروا) أي قال الأتباع الضعفاء للرؤساء الأقوياء المتكبرين لما هم فيه من الرياسة (إنا
كنا لكم تبعا) أي في الدنيا، فكذبنا الرسل وكفرنا بالله متابعة لكم، والتبع جمع تابع، أو مصدر وصف به للمبالغة
أو على تقدير ذوي تبع، قال الزجاج: جمعهم في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع، فقال الضعفاء للذين استكبروا
من أكابرهم عن عبادة الله إنا كنا لكم تبعا جمع تابع مثل خادم وخدم وحارس وحرس وراصد ورصد (فهل أنتم مغنون
عنا) أي دافعون عنا من عذاب الله من شئ، من الأولى للبيان، والثانية للتبعيض: أي بعض الشئ الذي هو
عذاب الله، يقال أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع (قالوا لو هدانا الله لهديناكم)
أي قال المستكبرون مجيبين عن قول المستضعفين، والجملة مستأنفة بتقدير سؤال كأنه قيل كيف أجابوا؟ أي لو
هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه، وقيل لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها، وقيل: لو نجانا فإن الله من العذاب
لنجيناكم منه (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيض) أي مستو علينا الجزع والصبر، والهمزة وأم لتأكيد
التسوية كما في قوله - سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم - (ما لنا من محيص) أي من منجا ومهرب من العذاب،
يقال: حاص فلان عن كذا: أي فر وزاغ يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا، والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن
النار. ويجوز أن يكون هذا من كلام الفريقين. وإن كان الظاهر أنه من كلام المستكبرين (وقال الشيطان لما قضى
الأمر) أي قال للفريقين هذه المقالة، ومعنى لما قضى الأمر: لما دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار على
ما يأتي بيانه في سورة مريم (إن الله وعدكم وعد الحق) وهو وعده سبحانه بالبعث والحساب، ومجازاة المحسن
بإحسانه والمسئ بإساءته (ووعدتكم فأخلفتكم) أي وعدتكم وعدا باطلا. بأنه لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار
فأخلفتكم ما وعدتكم به من ذلك. قال الفراء: وعد الحق هو من إضافة الشئ إلى نفسه كقولهم: مسجد الجامع
وقال البصريون: وعدكم وعد اليوم الحق (وما كان لي عليكم من سلطان) أي تسلط عليكم باظهار حجة على
ما وعدتكم به وزينته لكم (إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) أي إلا مجرد دعائي لكم إلى الغواية والضلال بلا حجة ولا برهان،
ودعوته إياهم ليست من جنس السلطان حتى تستثنى منه، بل الاستثناء منقطع: أي لكن دعوتكم فاستجبتم لي:
أي فسارعتم إلى إجابتي، وقيل المراد بالسلطان هنا القهر: أي ما كان لي عليكم من قهر يضطركم النبي إلى إجابتي،
وقيل هذا الاستثناء هو من باب * تحية بينهم ضرب وجيع * مبالغة في نفيه للسلطان عن نفسه كأنه قال: إنما يكون
لي عليكم سلطان إذا كان مجرد الدعاء من السلطان، وليس منه قطعا (فلا تلوموني) بما وقعتم فيه بسبب وعدي
لكم بالباطل وإخلافى لهذا الموعد (ولوموا أنفسكم) باستجابتكم كما لي بمجرد الدعوة التي لا سلطان عليها ولا حجة،
فإن من قبل المواعيد الباطلة والدعاوى الزائغة عن طريق الحق فعلى نفسه جنى، ولمارنه قطع ولا سيما ودعوتي
هذه الباطلة وموعدي الفاسد وقعا معارضين لوعد الله لكم وعد الحق ودعوته لكم إلى الدار السلام مع قيام الحجة
103

التي لا تخفى على عاقل ولا تلتبس إلا على مخذول. وقريب من هذا من يقتدى بآراء الرجال المخالفة لما في كتاب الله
سبحانه، ولما في سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ويؤثرها على ما فيهما، فإنه قد استجاب للباطل الذي لم تقم
عليه حجة ولا دل عليه برهان، وترك الحجة والبرهان خلف ظهره كما يفعله كثير من المقتدين بالرجال المتنكبين
طريق الحق بسوء اختيارهم، اللهم غفرا (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) يقال صرخ فلان إذا استغاث يصرخ
صراخا وصرخا، واستصرخ بمعنى صرخ، والمصرخ المغيث، والمستصرخ المستغيث، يقال استصرخنى فأصرخته
والصريخ: صوت المستصرخ، والصريخ أيضا: الصارخ وهو المغيث والمستغيث، وهو من أسماء الأضداد
كما في الصحاح. قال ابن الأعرابي: الصارخ المستغيث، والمصرخ: المغيث. ومعنى الآية: ما أنا بمغيثكم
مما أنتم فيه من العذاب، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه، وفيه إرشاد لهم إلى أن الشيطان في تلك الحالة مبتلى بما ابتلوا به
من العذاب محتاج إلى من يغيثه ويخلصه مما هو فيه، فكيف يطمعون في إغاثة من هو محتاج إلى من يغيثه؟ ومما ورد
مورد هذه الأقوال من قول العرب قول أمية بن أبي الصلت:
فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ * وليس لكم عندي غناء ولا نفر
و " مصرخي " بفتح الياء في قراءة الجمهور. وقرأ الأعمش وحمزة بكسر الياء على أصل التقاء الساكنين. قال
الفراء: قراءة حمزة وهم منه، وقل من سلم عن خطأ. وقال الزجاج: هي قراءة رديئة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف
يعنى ما ذكرناه من أنه كسرها على الأصل في التقاء الساكنين. وقال قطرب: هذه لغة بنى يربوع يزيدون على ياء
الإضافة ياء، وأنشد الفراء فيما ورد على هذه القراءة قول الشاعر:
قلت لها يا تاء هل لك في * قالت له ما أنت بالمرضى
(إني كفرت بما أشركتمون من قبل) لما كشف لهم القناع بأنه لا يغنى عنهم من عذاب الله شيئا، ولا ينصرهم
بنوع من أنواع النصر، صرح لهم بأنه كافر بإشراكهم له مع الله في الربوبية من قبل هذا الوقت الذي قال لهم الشيطان
فيه هذه المقالة، وهو ما كان منهم في الدنيا من جعله شريكا، ولقد قام لهم الشيطان في هذا اليوم مقاما يقصم ظهورهم
ويقطع قلوبهم، فأوضح لهم أولا أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله سبحانه
وأنه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد ولم يف لهم بشئ منها، ثم أوضح لهم ثانيا بأنهم قبلوا قوله بما لا يوجب
القبول، ولا ينفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لا بد للعاقل منها في قبول قول غيره، ثم أوضح ثالثا بأنه لم يكن
منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان الخالية عن أيسر شئ مما يتمسك به العقلاء، ثم نعى عليهم رابعا ما وقعوا
فيه، ودفع لومهم له وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم، لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذي لا يلتبس بطلانه على من
له أدنى عقل، ثم أوضح لهم خامسا بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة ولا يستطيع لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرا، بل هو
مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص عن هذه المحنة، ثم صرح لهم سادسا بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه
وأثبتوه له فتضاعفت عليهم الحسرات وتوالت عليهم المصائب وإذا كان جملة (إن الظالمين لم عذاب أليم) من
تتمة كلامه كما ذهب إليه البعض فهو نوع سابع من كلامه الذي خاطبهم به، فأثبت لهم الظلم، ثم ذكر ما هو
جزاؤهم عليه من العذاب الأليم، لا على قول من قال: إنه ابتداء كلام من جهة الله سبحانه. وقد ذهب جمهور
المفسرين إلى أن ما مصدرية في " ما أشركتمون " وقيل يجوز أن تكون موصولة على معنى إني كفرت بالذي
أشركتمونيه وهو الله عز وجل، ويكون هذا حكاية لكفره بالله عند أن أمره بالسجود لآدم (وأدخل الذين آمنوا
وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار) لما أخبر سبحانه بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة. وقرأ الجمهور
104

" أدخل " على البناء للمفعول، وقرأ الحسن " وأدخل " على الاستقبال والبناء للفاعل: أي وأنا أدخل الذين آمنوا،
ثم ذكر سبحانه خلودهم في الجنات وعدم انقطاع نعيمهم، ثم ذكر أن ذلك بإذن ربهم: أي بتوفيقه ولطفه
وهدايته، هذا على قراءة الجمهور، وأما على قراءة الحسن فيكون " بإذن ربهم " متعلقا بقوله (تحيتهم فيها
سلام) أي تحية الملائكة في الجنة سلام بإذن ربهم. وقد تقدم تفسير هذا في سورة يونس
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله (ويأت بخلق جديد) قال: بخلق آخر. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله (وقال الضعفاء) قال: الأتباع (للذين استكبروا) قال: للقادة.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا) قال زيد بن أسلم: جزعوا مائة سنة،
وصبروا مائة سنة. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن كعب بن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في قوله (سواء علينا) الآية قال: يقول أهل النار هلموا فلنصبر، فيصبرون خمسمائة عام، فلما رأوا
ذلك لا ينفعهم قالوا: هلموا فلنجزع، فبكوا خمسمائة عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: سواء علينا أجزعنا أم
صبرنا ما لنا من محيص. والظاهر أن هذه المراجعة كانت بينهم بعد دخولهم النار كما في قوله تعالى - وإذ يتحاجون
في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار. قال الذين استكبروا إنا كل
فيها إن الله قد حكم بين العباد -. وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وابن
عساكر عن عقبة بن عامر يرفعه، وذكر فيه حديث الشفاعة، ثم قال: ويقول الكافر عند ذلك: قد وجد
المؤمنون من يشفع لهم، فمن يشفع لنا؟ ما هو إلا إبليس فهو الذي أضلنا، فيأتون إبليس فيقولون: قد وجد
المؤمنون من يشفع لهم قم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا، فيقوم إبليس فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد
قط، ثم يعظهم بجهنم، ويقول عند ذلك (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) الآية، وضعف
السيوطي إسناده، ولعل سبب ذلك كون في إسناده رشدين بن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن دجين
الحجزى عن عقبة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال " إذا كان يوم القيامة قام إبليس
خطيبا على منبر من نار فقال (إن الله وعدكم) إلى قوله (وما أنتم بمصرخي) قال: بناصري (إني كفرت بما
أشركتموني من قبل) قال: بطاعتكم إياي في الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي في هذه الآية قال
" خطيبان يقومان يوم القيامة: إبليس، وعيسى، فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول هذا القول: يعنى المذكور
في الآية، وأما عيسى فيقول - ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت
فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد -. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) قال: ما أنا بنافعكم وما أنتم بنافعي (إني كفرت ما أشركتموني من قبل)
قال شركه: عبادته. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة (ما أنا بمصرخكم) قال: ما أنا بمغيثكم. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله (تحيتهم فيها سلام) قال: الملائكة يسلمون عليهم في الجنة.
سورة إبراهيم الآية (24 - 25)
105

سورة إبراهيم الآية (26 - 27)
لما ذكر سبحانه مثل أعمال الكفار، وأنها كرماد اشتدت به الريح، ثم ذكر نعيم المؤمنين، وما جازاهم الله به
من إدخالهم الجنة خالدين فيها، وتحية الملائكة لهم ذكر تعالى ها هنا مثلا للكلمة الطيبة، وهى كلمة الإسلام: أي
لا إله إلا الله، أو ما هو أعم من ذلك من كلمات الخير، وذكر مثلا للكلمة الخبيثة، وهى كلمة الشرك، أو ما هو
أعم من ذلك من كلمات الشر، فقال مخاطبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو مخاطبا لمن يصلح للخطاب
(ألم تر كيف ضرب الله مثلا) أي اختار مثلا وضعه في موضعه اللائق به، وانتصاب مثلا على أنه مفعول ضرب
وكلمة بدل منه. ويجوز أن تنتصب الكلمة على أنها عطف بيان لمثلا. ويجوز أن تنتصب الكلمة بفعل مقدر: أي
جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وحكم بأنها مثلها، ومحل كشجرة النصب على أنها صفة لكلمة، أو الرفع على
تقدير مبتدإ: أي هي كشجرة، ويجوز أن تكون كلمة أول مفعولي ضرب، وأخرت عن المفعول الثاني، وهو
مثلا لئلا تبعد عن صفتها، والأول أولى، وكلمة وما بعدها تفسير للمثل، ثم وصف الشجرة بقوله (أصلها ثابت
أي راسخ آمن من الانقلاع بسبب تمكنها من الأرض بعروقها (وفروعها في السماء) أي أعلاها ذاهب إلى جهة
السماء مرتفع في الهواء، ثم وصفها سبحانه بأنها (تؤتى أكلها كل حين) كل وقت (بإذن ربها) بإرادته ومشيئته،
قيل وهى النخلة، وقيل غيرها. قيل والمراد بكونها تؤتى أكلها كل حين: أي كل ساعة من الساعات من ليل أو
نهار في جميع الأوقات من غير فرق بين شتاء وصيف، وقيل المراد في أوقات مختلفة من غير تعيين، وقيل كل
غدوة وعشية، وقيل كل شهر، وقيل كل ستة أشهر. قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة لأن
الخبر عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره، وأنشد الأصمعي قول النابغة:
* تطلقه حينا وحينا تراجع * قال النحاس: وهذا يبين لك أن الحين بمعنى الوقت. وقد ورد الحين في بعض
المواضع يراد به أكثر كقوله - هل أتى على الإنسان حين من الدهر -. وقد تقدم بيان أقوال العلماء في الحين في
سورة البقرة في قوله - ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين -. وقال الزجاج: الحين الوقت طال أم قصر
(ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) يتفكرون أحوال المبدأ والمعاد، وبدائع صنعه سبحانه الدالة على
وجوده ووحدانيته، وفى ضرب الأمثال زيادة تذكير وتفهيم وتصوير للمعاني (ومثل كلمة خبيثة) قد تقدم
تفسيرها، وقيل هي الكافر نفسه، والكلمة الطيبة: المؤمن نفسه (كشجرة خبيثة) أي كمثل شجرة خبيثة، قيل
هي شجرة الحنظل، وقيل هي شجرة الثوم، وقيل الكمأة، وقيل الطحلبة، وقيل هي الكشوث بالضم وآخره مثلثة،
وهى شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض. قال الشاعر: * وهى كشوث فلا أصل ولا ثمر * وقرئ
" ومثلا كلمة " بالنصب عطفا على كلمة طيبة (اجتثت من فوق الأرض) أي استؤصلت واقتلعت من أصلها،
ومنه قول الشاعر: * هو الجلاء الذي يجتث أصلكم * قال المؤرخ: أخذت جثتها وهى نفسها، والجثة
شخص الإنسان، يقال جثة: قلعه، واجتثه: اقتلعه، ومعنى من فوق الأرض: أنه ليس لها أصل راسخ
وعروق متمكنة من الأرض (ما لها من قرار) أي من استقرار على الأرض. وقيل من ثبات على الأرض، كما أن
الكافر وكلمته لا حجة له ولا ثبات فيه ولا خير يأتي منه أصلا، ولا يصعد له قول طيب ولا عمل طيب (يثبت
الله الذين آمنوا بالقول الثابت) أي بالحجة الواضحة، وهى الكلمة الطيبة المتقدم ذكرها وقد ثبت في الصحيح
106

أنها كلمة الشهادة " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " وذلك إذا قعد المؤمن في قبره قال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: فذلك قوله تعالى (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت)، وقيل معنى تثبيت الله لهم هو أن
يدوموا على القول الثابت، ومنه قول عبد الله بن رواحة:
يثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
ومعنى (في الحياة الدنيا) أنهم يستمرون على القول الثابت في الحياة الدنيا، قال جماعة: المراد بالحياة الدنيا في
هذه الآية القبر لأن الموتى في الدنيا حتى يبعثوا، ومعنى (وفى الآخرة) وقت الحساب. وقيل المراد بالحياة الدنيا:
وقت المسألة في القبر، وفى الآخرة: وقت المسألة يوم القيامة: والمراد أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم
أوضحوا ذلك بالقول الثابت من دون تلعثم ولا تردد ولا جهل، كما يقول من لم يوفق: لا أدرى، فيقال له
لا دريت ولا تليت (ويضل الله الظالمين) أي يضلهم عن حجتهم التي هي القول الثابت فلا يقدرون على التكلم بها
في قبورهم ولا عند الحساب، كما أضلهم عن اتباع الحق في الدنيا. قيل والمراد بالظالمين هنا الكفر، وقيل كل من
ظلم نفسه ولو بمجرد الإعراض عن البينات الواضحة فإنه لا يثبت في مواقف الفتن ولا يهتدى إلى الحق، ثم ذكر
سبحانه أنه يفعل ما يشاء من التثبيت والخذلان لا راد لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، قال الفراء: أي لا تنكر له قدرة
ولا يسأل عما يفعل، والإظهار في محل الإضمار في الموضعين لتربية المهابة كما قيل والله أعلم.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله (ألم تر كيف ضرب الله مثلا
كلمة طيبة) قال: شهادة أن لا إله إلا الله (كشجرة طيبة) وهو المؤمن (أصلها ثابت) يقول: لا إله إلا الله
ثابت في قلب المؤمن (وفرعها في السماء) يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء (ومثل كلمة خبيثة) وهى الشرك
(كشجرة خبيثة) يعنى الكافر (اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به
الكافر ولا برهان، ولا يقبل الله مع الشرك عملا. وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين ومن بعدهم. وأخرج
الترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس
قال " أتى رسول الله صلى الله وآله وسلم بقناع من بسر فقال (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة) حتى بلغ
(تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها) قال: هي النخلة (ومثل كلمة خبيثة) حتى بلغ (ما لها من قرار) قال: هي
الحنظلة ". وروى موقوفا على أنس. قال الترمذي: الموقوف أصح. وأخرج أحمد وابن مردويه. قال السيوطي
بسند جيد عن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (كشجرة طيبة): قال هي التي لا ينقص ورقها قال:
هي النخلة. وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما
لأصحابه " إن شجرة من الشجر لا يطرح ورقها مثل المؤمن، قال: فوقع الناس في شجرة البوادي، ووقع في
قلبي أنها النخلة، فاستحييت حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هي النخلة " وفى لفظ للبخاري قال:
" أخبروني عن شجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا تؤتى أكلها كل حين، فذكر نحوه ". وفى لفظ لابن
جرير وابن مردويه من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " هل تدرون ما الشجرة
الطيبة؟، ثم قال: هي النخلة " وروى نحو هذا عن جماعة من الصحابة والتابعين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله (تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها) قال: كل ساعة بالليل والنهار والشتاء والصيف، وذلك مثل
المؤمن يطيع ربه بالليل والنهار والشتاء والصيف. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: يكون أخضر ثم يكون
أصفر. وأخرج عنه أيضا في قوله (كل حين) قال: جذاذ النخل. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن
107

أبى حاتم عنه أيضا (تؤتى أكلها كل حين) قال: تطعم في كل ستة أشهر. وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن
جرير وابن المنذر عنه أيضا قال: الحين هنا سنة، وأخرج البيهقي عنه أيضا قال: الحين قد يكون غدوة وعشية.
وقد روى عن جماعة من السلف في هذا أقوال كثيرة. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن
عازب: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله، فذلك قوله سبحانه (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفى الآخرة). وأخرج ابن
أبي شيبة والبيهقي عن البراء بن عازب في قوله (يثبت الله الذين آمنوا) الآية قال: التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء
الملكان إلى الرجل في القبر فقالا من ربك؟ فقال ربى الله، قال: وما دينك؟ قال ديني الإسلام، قال: ومن نبيك؟
قال نبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك التثبيت في الحياة الدنيا. وأخرج البيهقي عن ابن عباس نحوه.
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي سعيد في الآية قال: في الآخرة القبر. وأخرج ابن مردويه عن
عائشة قالت " قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى (يثبت الله الذين آمنوا) الآية قال: هذا في القبر "
وأخرج البيهقي من حديثها نحوه. وأخرج البزار عنها أيضا قالت " قلت يا رسول الله تبتلى هذه الأمة في قبورها
فكيف بي وأنا امرأة ضعيفة؟ قال (يثبت الله الذين آمنوا) الآية "، وقد وردت أحاديث كثيرة في سؤال الملائكة
للميت في قبره، وفى جوابه عليهم وفى عذاب القبر وفتنته، وليس هذا موضع بسطها، وهى معروفة.
سورة إبراهيم الآية (28 - 34)
قوله (ألم تر) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له، وهو تعجيب من حال
الكفار حيث جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر: أي بدل شكرها الكفر بها، وذلك بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه
وآله وسلم حين بعثه الله منهم وأنعم عليهم به. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أنهم كفار مكة وأن الآية نزلت
فيهم وقيل نزلت في الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، وقيل نزلت في بطنين من بطون
قريش بنى مخزوم وبنى أمية، وقيل نزلت في متنصرة العرب، وهم جبلة بن الأيهم وأصحابه، وفيه نظر، فإن
جبلة وأصحابه لم يسلموا إلا في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل إنها عامة في جميع المشركين، وقيل
108

المراد بتبديل نعمة الله كفرا أنهم لما كفروها سلبهم الله ذلك فصاروا متبدلين بها الكفر (وأحلوا قومهم دار البوار)
أي أنزلوا قومهم بسبب ما زينوه لهم من الكفر دار البوار، وهي جهنم، والبوار الهلاك، وقيل هم قادة قريش
أحلوا قومهم يوم بدر دار البوار: أي الهلاك وهو القتل الذي أصيبوا به، ومنه قول الشاعر:
فلم أر مثلهم أبطال حرب * غداة الحرب إذ خيف البوار
والأول أولى لقوله (جهنم) فإنه عطف بيان لدار البوار، و (يصلونها) في محل نصب على الحال، أو هو
مستأنف لبيان كيفية حلولهم فيها (وبئس القرار) أي بئس القرار قرارهم فيها، أو بئس المقر جهنم، فالمخصوص
بالذم محذوف (وجعلوا لله أندادا) معطوف على: وأحلوا: أي جعلوا لله شركاء في الربوبية، أو في التسمية وهى
الأصنام، قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ليضلوا " بفتح الياء، أي ليضلوا أنفسهم عن سبيل الله، وتكون اللام للعاقبة:
أي ليتعقب جهلهم لله أندادا ضلالهم، لأن العاقل لا يريد ضلال نفسه، وحسن استعمال لام العاقبة هنا لأنها تشبه
الغرض والغاية من جهة حصولها في آخر المراتب، والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز. وقرأ الباقون بضم الياء
ليوقعوا قومهم في الضلال عن سبيل الله، فهذا هو الغرض من جعلهم لله أندادا. ثم هد دهم سبحانه، فقال لنبيه
صلى الله عليه وآله وسلم (قل تمتعوا) بما أنتم فيه من الشهوات، وما زينته لكم أنفسكم من كفران النعم وإضلال
الناس (فإن مصيركم إلى النار) أي مردكم ومرجعكم إليها ليس إلا، ولما كان هذا حالهم، وقد صاروا لفرط
تهالكهم عليه وانهماكهم فيه لا يقلعون عنه، ولا يقبلون فيه نصح الناصحين جعل الأمر بمباشرته مكان النهى قربانه
إيضاحا لما تكون عليه عاقبتهم، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار فلا بد لهم من تعاطى الأسباب المقتضية ذلك،
فجملة (فإن مصيركم إلى النار) تعليل للأمر بالتمتع، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره، ويجوز أن تكون هذه
الجملة جوابا لمحذوف دل عليه سياق الكلام، كأنه قيل، فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار، والأول أولى
والنظم القرآني عليه أدل، وذلك كما يقال لما يسعى في مخالفة السلطان: اصنع ما شئت من المخالفة، فإن
مصيرك إلى السيف (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) لما أمره بأن يقول
للمبدلين نعمة الله كفرا الجاعلين لله أندادا ما قاله لهم أمره سبحانه أن يقول للطائفة المقابلة لهم، وهى طائفة المؤمنين
هذا القول والمقول محذوف دل عليه المذكور أي قل لعبادي أقيموا وأنفقوا ويقيموا وينفقوا، فجزم يقيموا
على أنه جواب الأمر المحذوف، وكذلك ينفقوا، ذكر معنى هذا الفراء. وقال الزجاج: إن يقيموا مجزوم بمعنى
اللام: أي ليقيموا فأسقطت اللام: ثم ذكر وجها آخر للجزم مثل ما ذكره الفراء: وانتصاب سرا وعلانية، إما
على الحال: أي مسرين ومعلنين، أو على المصدر: أي إنفاق سر وإنفاق علانية، أو على الظرف: أي وقت سر
ووقت علانية. قال الجمهور: السر ما خفى، والعلانية ما ظهر: وقيل السر التطوع، العلانية الفرض، وقد
تقدم بيان هذا عند تفسير قوله - إن تبدوا الصدقات فنعما هي - (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال) قال
أبو عبيدة: البيع ها هنا الفداء والخلال المخالة، وهو مصدر. قال الواحدي: هذا قول جميع أهل اللغة. وقال
أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون جمع خلة مثل برمة وبرام وعلبة وعلاب، والمعنى: أن يوم القيامة لا بيع فيه حتى
يفتدى المقصر في العمل نفسه من عذاب الله بدفع عوض عن ذلك، وليس هناك مخاللة حتى يشفع الخليل لخليله
وينقذه من العذاب، فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم الله ما داموا في الحياة الدنيا قادرين على
إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة. فإنهم لا يقدرون على ذلك بل لا مال لهم إذ ذاك، فالجملة أعني " من قبل
أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال " لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله، ويمكن أن يكون فيها أيضا تأكيد
109

لمضمون الأمر بإقامة الصلاة، وذلك لأن تركها كثيرا ما يكون بسبب الاشتغال بالبيع ورعاية حقوق الأخلاء،
وقد تقدم في البقرة تفسير البيع والخلال (الله الذي خلق السماوات والأرض) أي أبدعهما واخترعهما على غير مثال
وخلق ما فيهما من الأجرام العلوية والسفلية، والاسم الشريف مبتدأ وما بعده خبره (وأنزل من السماء ماء) المراد
بالسماء هنا جهة العلو، فإنه يدخل في ذلك الفلك عند من قال إن ابتداء المطر منه، ويدخل فيه السحاب عند من
قال إن ابتداء المطر منها، وتدخل فيه الأسباب التي تثير السحاب كالرياح، وتنكير الماء هنا للنوعية: أي نوعا
من أنواع الماء، وهو ماء المطر (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) أي أخرج بذلك الماء من الثمرات المتنوعة رزقا
لبنى آدم يعيشون به، و " من " في الثمرات للبيان كقولك: أنفقت من الدراهم، وقيل للتبعيض لأن الثمرات منها
ما هو رزق لبنى آدم، ومنها ما ليس برزق لهم، وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به (وسخر لكم الفلك) فجرت على
إرادتكم واستعملتموها في مصالحكم، ولذا قال (لتجرى في البحر) كما تريدون وعلى ما تطلبون (بأمره) أي بأمر
الله ومشيئته، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة (وسخر لكم الأنهار) أي ذللها لكم بالركوب عليها والإجراء لها إلى
حيث تريدون (وسخر لكم الشمس والقمر) لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما، وانتصاب (دائبين، على الحال،
والدؤوب مرور الشئ في العمل على عادة جارية: أي دائبين في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره، وقيل
دائبين في السير امتثالا لأمر الله، والمعنى: يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران ولا ينقطع سيرهما (وسخر لكم الليل
والنهار) يتعاقبان، فالنهار لسعيكم في أمور معاشكم وما تحتاجون إليه من أمور دنياكم، والليل لتسكنوا كما قال
سبحانه - ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله - (وآتاكم من كل ما سألتموه) قال
الأخفش: أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئا فحذف شيئا، وقيل المعنى: وآتاكم من كل ما سألتموه ومن
كل ما لم تسألوه، فحذفت الجملة الأخرى قاله ابن الأنباري، وقيل من زائدة: أي آتاكم كل ما سألتموه، وقيل
للتبعيض: أي آتاكم بعض كل ما سألتموه. وقرأ ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة " من كل " بتنوين كل،
وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون " ما " نافية: أي آتاكم من جميع ذلك حال كونكم غير سائلين له، ويجوز أن تكون
موصولة: أي آتاكم من كل شئ الذي سألتموه (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) أي وإن تتعرضوا لتعداد نعم الله
التي أنعم بها عليكم إجمالا فضلا عن التفصيل لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه، ولا تقوموا بحصرها على حال
من الأحوال، وأصل الإحصاء أن الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظه بها
ومعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصى ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه. أو حاسة من حواسه
لم يقدر على ذلك قط ولا أمكنه أصلا، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه، فكيف بما عدا
ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها واختلاف أجناسها. اللهم إنا نشكرك على كل نعمة أنعمت بها
علينا مما لا يعلمه إلا أنت، ومما علمناه شكرا لا يحيط به حصر ولا يحصره عد، وعدد ما شكرك الشاكرون بكل
لسان في كل زمان (إن الإنسان لظلوم) لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه، وظاهره شمول كل إنسان. وقال الزجاج:
إن الإنسان اسم جنس يقصد به الكافر خاصة كما قال - إن الإنسان لفي خسر - (كفار) أي شديد كفران نعم الله
عليه جاحد لها غير شاكر لله سبحانه عليها، كما ينبغي ويجب عليه.
وقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبخاري والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي
عن ابن عباس في قوله (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) قال: هم كفار أهل مكة. وأخرج البخاري في
تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا)
110

قال: هما الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا
إلى حين. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن عمر نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني
في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه من طرق عن علي في الآية نحوه أيضا، وأخرج عبد الرزاق والفريابي
والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي الطفيل أن ابن
الكواء سأل عليا عن الذين بدلوا نعمة الله كفرا قال: هو الفجار من قريش كفيتهم يوم بدر. قال: فمن الذين
ضل سعيهم في الحياة الدنيا؟ قال: منهم أهل حروراء، وقد روى في تفسير هذه الآية عن علي من طرق نحو هذا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس (وأحلوا قومهم دار البوار) قال: الهلاك. وأخرج عبد بن حميد
وابن المنذر عن قتادة في قوله (وجعلوا لله أندادا) قال: أشركوا بالله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن مجاهد (وسخر لكم الأنهار) قال: بكل فائدة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (وسخر لكم الشمس
والقمر دائبين) قال: دؤوبهما في طاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة (وآتاكم من كل ما سألتموه) قال
من كل شئ رغبتم إليه فيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال:
من كل الذي سألتموه. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن سليمان التيمي قال: إن الله أنعم على العباد على
قدره وكلفهم الشكر على قدرهم. وأخرجا أيضا عن بكر بن عبد الله المزني قال: يا بن آدم إن أردت أن تعلم قدر
ما أنعم الله عليك فغمض عينيك. وأخرج البيهقي عن أبي الدرداء قال: من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه
ومشربه، فقد قل عمله وحضر عذابه. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم قال
قال داود عليه السلام " رب أخبرني ما أدنى نعمتك علي. فأوحى إلي: يا داود تنفس فتنفس. فقال هذا أدنى
نعمتي عليك ". وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري فقال قائل:
يا أمير المؤمنين هذا الظلم، فما بال الكفر؟ قال: إن الإنسان لظلوم كفار.
سورة إبراهيم الآية (35 - 41)
111

قوله (وإذ قال إبراهيم) متعلق بمحذوف: أي أذكر وقت قوله، ولعل المراد بسياق ما قاله إبراهيم عليه
السلام في هذا الموضع بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم، وهى إسكانهم مكة بعد ما بين كفرهم بالنعم العامة،
وقيل إن ذكر قصة إبراهيم ها هنا لمثال الكلمة الطيبة، وقيل لقصد الدعاء إلى التوحيد، وإنكار عبادة الأصنام
(رب اجعل هذا البلد آمنا) المراد بالبلد هنا مكة: دعا إبراهيم ربه أن يجعله آمنا: أي ذا أمن، وقدم طلب الأمن
على سائر المطالب المذكورة بعده، لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشئ آخر من أمور الدين والدنيا، وقد
تقدم تفسير مثل هذه الآية في البقرة عند قوله تعالى - رب اجعل هذا بلدا آمنا -، والفرق بين ما هنا وما هنالك أن
المطلوب هنا مجرد الأمن للبلد، والمطلوب هنالك البلدية والأمن (واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام)، يقال جنبته
كذا وأجنبته وجنبته: أي باعدته عنه، والمعنى: باعدني، وباعد بنى عن عبادة الأصنام، قيل أراد بنيه من
صلبه وكانوا ثمانية، وقيل أراد من كان موجودا حال دعوته من بنيه وبنى بنيه، وقيل أراد جميع ذريته
ما تناسلوا، ويؤيد ذلك ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنما، والصنم هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل
الجاهلية من الأحجار ونحوها فيعبدونه. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر " وأجنبني " بقطع الهمزة على أن أصله
أجنب (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) أسند الإضلال إلى الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل، لأنها سبب
لضلالهم فكأنها أضلتهم، وهذه الجملة تعليل لدعائه لربه، ثم قال (فمن تبعني) أي من تبع ديني من الناس فصار
مسلما موحدا (فإنه منى) أي من أهل ديني: جعل أهل ملته كنفسه مبالغة (ومن عصاني) فلم يتتابعني ويدخل
في ملتي (فإنك غفور رحيم) قادر على أن تغفر له، قيل قال هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به كما وقع
منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك، كذا قال ابن الأنباري، وقيل المراد عصيانه هنا فيما دون الشرك، وقيل إن هذه المغفرة
مقيدة بالتوبة من الشرك، ثم قال (ربنا إني أسكنت من ذريتي) قال الفراء: من للتبعيض: أي بعض ذريتي.
وقال ابن الأنباري: إنها زائدة: أي أسكنت ذريتي، والأول أولى، لأنه إنما أسكن إسماعيل وهو بعض ولده
(بواد غير ذي زرع) أي لا زرع فيه، وهو وادى مكة (عند بيتك المحرم) أي الذي يحرم فيه ما يستباح في غيره،
وقيل إنه محرم على الجبابرة، وقيل محرم من أن تنتهك حرمته، أو يستخف به. وقد تقدم في سورة المائدة ما يغنى
عن الإعادة، ثم قال (ربنا ليقيموا الصلاة) اللام متعلقة بأسكنت: أي أسكنتهم ليقيموا الصلاة فيه، متوجهين
إليه، متبركين به، وخصها دون سائر العبادات لمزيد فضلها، ولعل تكرير النداء لإظهار العناية الكاملة بهذه
العبادة (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم) الأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب، عبر به عن جميع البدن، لأنه
أشرف عضو فيه. وقيل هو جمع وفد والأصل أوقدة رسول فقدمت الفاء، وقلبت الواو ياء، فكأنه قال: وجعل
وفودا من الناس تهوى إليهم، و " من " في من الناس للتبعيض، وقيل زائدة ولا يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى
بدخولهم تحت لفظ الناس، لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب إليهم لا توجيهها إلى
الحج، ولو كان هذا مرادا لقال تهوى إليه، وقيل من للابتداء كقولك: القلب منى سقيم، يريد قلبي، ومعنى
تهوى إليهم: تنزع إليهم، يقال هوى نحوه: إذا مال، وهوت الناقة تهوى هويا فهي هاوية: إذا عدت عدوا
شديدا كأنها تهوى في بئر، ويحتمل أن يكون المعنى: تجئ إليهم أو تسرع إليهم، والمعنى متقارب (وارزقهم
من الثمرات) أي ارزق ذريتي الذين أسكنتهم هنالك أو هم ومن يساكنهم من الناس من أنواع الثمرات التي تنبت فيه،
أو تجلب إليه (لعلهم يشكرون) نعمك التي أنعمت بها عليهم (ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن) أي ما نكتمه وما
نظهره، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليه سبحانه سيان، قيل والمراد هنا بما نخفى ما يقابل ما نعلن، فالمعنى ما نظهره
112

وما لا نظهره، وقدم ما نخفى على ما نعلن للدلالة على أنهما مستويان في علم الله سبحانه. وظاهر النظم القرآني عموم
كل ما لا يظهر وما يظهر من غير تقييد بشئ معين من ذلك، وقيل المراد ما يخفيه إبراهيم من وجده بإسماعيل وأمه
حيث أسكنهما بواد غير ذي زرع، وما يعلنه من ذلك، وقيل ما يخفيه إبراهيم من الوجد ويعلنه من البكاء والدعاء،
والمجئ بضمير الجماعة يشعر بأن إبراهيم لم يرد نفسه فقط، بل أراد جميع العباد، فكأن المعنى: أن الله سبحانه
يعلم بكل ما يظهره العباد وبكل ما لا يظهرونه. وأما قوله (وما يخفى على الله من شئ في الأرض ولا في السماء)
فقال جمهور المفسرين: هو من كلام الله سبحانه تصديقا لما قاله إبراهيم من أنه سبحانه يعلم بما يخفيه العباد
وما يعلنونه، فقال سبحانه: وما يخفى على الله شئ من الأشياء الموجودة كائنا ما كان، وإنما ذكر السماوات
والأرض لأنها المشاهدة للعباد، وإلا فعلمه سبحانه محيط بكل ما هو داخل في العالم، وكل ما هو خارج عنه لا تخفى
عليه منه خافية. قيل ويحتمل أن يكون هذا من قول إبراهيم تحقيقا لقوله الأول، وتعميما بعد التخصيص، ثم حمد
الله سبحانه على بعض نعمه الواصلة إليه فقال (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) أي وهب لي
على كبر سنى وسن امرأتي، قيل ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي
عشرة سنة، قيل و " على " هنا بمعنى مع: أي وهو لي مع كبرى ويأسى عن الولد (إن ربى لسميع الدعاء) أي
لمجيب ولا الدعاء من قولهم سمع كلامه: إذا أجابه واعتد به وعمل بمقتضاه، وهو من إضافة الصفة المتضمنة للمبالغة
إلى المفعول، والمعنى: إنك لكثير إجابة الدعاء لمن يدعوك. ثم سأل الله سبحانه بأن يجعله مقيم الصلاة محافظا
عليها غير مهمل لشئ منها، ثم قال (ومن ذريتي) أي بعض ذريتي: أي اجعلني واجعل بعض ذريتي
مقيمين للصلاة، وإنما خص البعض من ذريته، لأنه علم أن منهم من لا يقيمها كما ينبغي. قال الزجاج: أي
اجعل من ذريتي من يقيم الصلاة، ثم سأل الله سبحانه أن يتقبل دعاءه على العموم، ويدخل في ذلك دعاؤه
في هذا المقام دخولا أوليا. قيل والمراد بالدعاء هنا العبادة، فيكون المعنى: وتقبل عبادتي التي أعبدك بها،
ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه مما يستحق أن يغفره الله وإن لم يكن كبيرا لما هو معلوم
من عصمة الأنبياء عن الكبائر. ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر لوالديه. وقد قيل إنه دعا لهما بالمغفرة لم قبل
أن يعلم أنهما عدوان لله سبحانه كما في قوله سبحانه - وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه
فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه -. وقيل كانت أمه مسلمة، وقيل أراد بوالديه آدم وحواء. وقرأ سعيد بن جبير
" ولوالدي " بالتوحيد على إرادة الأب وحده. وقرأ إبراهيم النخعي " ولولدي " يعنى إسماعيل وإسحاق، وكذا قرأ
يحيى بن يعمر. ثم استغفر للمؤمنين. وظاهره شمول كل مؤمن سواء كان من ذريته أو لم يكن منهم، وقيل أراد
المؤمنين من ذريته فقط (يوم يقوم الحساب) أي يوم يثبت حساب المكلفين في المحشر، استعير له لفظ يقوم الذي
هو حقيقته في قيام الرجل للدلالة على أنه في غاية الاستقامة، وقيل إن المعنى يوم يقوم الناس للحساب، والأول أولى:
وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله (وإذ قال إبراهيم) الآية قال: فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده
فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته، واستجاب الله له، وجعل هذا البلد آمنا، ورزق أهله من الثمرات،
وجعله إماما، وجعل من ذريته من يقيم الصلاة، وتقبل دعاءه فأراه مناسكه وتاب عليه. وأخرج أبو نعيم في
الدلائل عن عقيل بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أتاه الستة النفر من الأنصار جلس إليهم عند
جمرة العقبة، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته والمؤازرة على دينه، فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحى إليه، فقرأ من
سورة إبراهيم (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام) إلى آخر السورة، فرق
113

القوم وأخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا وأجابوه. وأخرج الواقدي وابن عساكر من طريق عامر بن سعد عن أبيه
قال: كانت سارة تحت إبراهيم، فمكثت تحته دهرا لا ترزق منه ولدا، فلما رأت ذلك وهبت له هاجر أمة لها
قبطية، فولدت له إسماعيل، فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها وعتبت على هاجر، فحلفت أن تقطع
منها ثلاثة أطراف، فقال لها إبراهيم: هل لك أن تبرى يمينك؟ قالت: كيف أصنع؟ قال: اثقبي أذنيها
واخفضيها، والخفض: هو الختان، ففعلت ذلك بها فوضعت هاجر في أذنيها قرطين فازدادت بهما حسنا.
فقالت سارة: أراني إنما زدتها جمالا فلم تقاره على كونه معها ووجد بها إبراهيم وجدا شديدا، فنقلها إلى مكة
فكان يزورها في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في
قوله (إني أسكنت من ذريتي) قال: أسكن إسماعيل وأمه مكة. وأخرج ابن المنذر عنه قال: إن إبراهيم حين قال
(فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم) لو قال أفئدة الناس تهوى إليهم لازدحمت عليه فارس والروم. وأخرج ابن
أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحكم قال: سألت عكرمة وطاوسا وعطاء بن أبي رباح عن
هذه الآية (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم فقالوا البيت تهوى إليه قلوبهم يأتونه، وفى لفظ قالوا هواهم إلى
مكة أن يحجوا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله (تهوى إليهم) قال: تنزع إليهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي أن إبراهيم لما دعا للحرم (وارزق أهله من الثمرات)
نقل الله الطائف من فلسطين. وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري قال " إن الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها
بالطائف لدعوة إبراهيم ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان قال السيوطي بسند حسن عن
ابن عباس قالوا: لو كان إبراهيم عليه السلام قال فاجعل أفئدة الناس تهوى إليهم لحج اليهود والنصارى والناس
كلهم، ولكنه قال أفئدة من الناس فخص به المؤمنين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله (ما نخفى وما نعلن)
قال: من الحزن. وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي في قوله (ربنا إنك تعلم ما نخفى) قال: من حب إسماعيل
وأمه (وما نعلن) قال: ما نظهر لسارة من الجفاء لهما. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) قال: هذا بعد ذلك بحين. وأخرج ابن
جرير عن سعيد بن جبير قال: بشر إبراهيم بعد سبع عشرة سنة ومائة سنة.
سورة إبراهيم الآية (42 - 46)
قوله (ولا تحسبن خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو تعريض لأمته. فكأنه قال: ولا تحسب أمتك
114

يا محمد، ويجوز أن يكون خطابا لكل من يصلح له من المكلفين، وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
من غير تعريض لأمته فمعناه التثبيت على ما كان عليه من عدم الحسبان كقوله - ولا تكونن من المشركين -
ونحوه، وقيل المراد: ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم، أو يكون المراد
بالنهي عن الحسبان الإيذان بأنه عالم بذلك لا تخفى عليه منه خافية. وفى هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وإعلام للمشركين بأن تأخير العذاب عنهم ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله سبحانه في إمهال العصاة (إنما
يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) أي يؤخر جزاءهم ولا يؤاخذهم بظلمهم. وهذه الجملة تعليل للنهي السابق.
وقرأ الحسن والسلمي وهو رواية عن أبي عمرو بالنون في نؤخرهم. وقرأ الباقون بالتحتية. واختارها أبو عبيد
وأبو حاتم لقوله (ولا تحسبن الله) ومعنى (ليوم تشخص فيه الأبصار) أي ترفع فيه أبصار أهل الموقف، ولا
تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم، هكذا قال الفراء. يقال: شخص الرجل بصره وشخص البصر نفسه إلى السماء
من هول ما يرى، والمراد أن الأبصار بقيت مفتوحة لا تتحرك من شدة الحيرة والدهشة (مهطعين) أي مسرعين من
أهطع يهطع إهطاعا: إذا أسرع، وقيل المهطع: الذي ينظر في ذل وخشوع. ومنه:
بدجلة دارهم ولقد أراهم * بدجلة مهطعين إلى السماء
وقيل المهطع: الذي يديم النظر. قال أبو عبيدة: قد يكون الوجهان جميعا، يعنى الإسراع مع إدامة النظر،
وقيل المهطع الذي لا يرفع رأسه. وقال ثعلب: المهطع الذي ينظر في ذل وخضوع، وقيل هو الساكت. قال
النحاس: والمعروف في اللغة أهطع: إذا أسرع (مقنعي رؤوسهم) أي رافعي رؤوسهم، وإقناع الرأس: رفعه،
وأقنع صوته: إذا رفعه، والمعنى: أنهم يومئذ رافعون رؤوسهم إلى السماء ينظرون إليها نظر فزع وذل ولا ينظر
بعضهم إلى بعض. وقيل إن إقناع الرأس نكسه، وقيل يقال أقنع: إذا رفع رأسه، وأقنع: إذا طأطأ ذلة
وخضوعا، والآية محتملة للوجهين. قال المبرد: والقول الأول أعرف في اللغة. قال الشاعر:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا * كأنما أبصر شيئا أطمعا
(لا يرتد إليهم طرفهم) أي لا ترجع إليهم أبصارهم. وأصل الطرف: تحريك الأجفان، وسميت العين طرفا
لأنه يكون بها. ومن إطلاق الطرف على العين قول عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي * حتى توارى جارتي مأواها
(وأفئدتهم هواء) الهواء في اللغة: المجرف الخالي الذي لم تشغله الأجرام، والمعنى: أن قلوبهم خالية عن العقل
والفهم لما شاهدوا من الفزع والحياة والدهش، وجعلها نفس الهوى مبالغة، ومنه قيل للأحمق والجبان قلبه هواء:
أي لا رأى فيه ولا قوة، وقيل معنى الآية أنها خرجت قلوبهم عن مواضعها فصارت في الحناجر. وقيل المعنى:
إن أفئدة الكفار في الدنيا خالية عن الخير، وقيل المعنى: وأفئدتهم ذات هواء. ومما يقارب معنى هذه الآية قوله
تعالى - وأصبح فؤاد أم موسى فارغا أي خاليا من كل شئ إلا من هم موسى (وأنذر الناس) هذا رجوع إلى
خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أمره الله سبحانه بأن ينذر الناس، والمراد الناس على العموم، وقيل
المراد كفار مكة، وقيل الكفار على العموم. والأول أولى لأن الإنذار كما يكون للكافر يكون أيضا للمسلم. ومنه
قوله تعالى - إنما تنذر من اتبع الذكر - ومعنى (يوم يأتيهم العذاب) يوم القيامة: أي خوفهم هذا اليوم، وهو يوم
إتيان العذاب. وإنما اقتصر على ذكر إتيان العذاب فيه مع كونه يوم إتيان الثواب، لأن المقام مقام تهديد، وقيل
المراد به يوم موتهم، فإنه أول أوقات إتيان العذاب، وقيل المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، وانتصاب يوم
115

على أنه مفعول ثان لأنذر (فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب) المراد بالذين ظلموا ها هنا هم الناس:
أي فيقولون، والعدول إلى الإظهار مكان الإضمار للإشعار بأن الظلم هو العلة فيما نزل بهم. هذا إذا كان المراد
بالناس هم الكفار. وعلى تقدير كون المراد بهم من يعم المسلمين، فالمعنى: فيقول الذين ظلموا منهم وهم الكفار
ربنا أخرنا أمهلنا إلى أجل قريب إلى أمد من الزمان معلوم غير بعيد (نجب دعوتك) أي دعوتك لعبادك على ألسن
أنبيائك إلى توحيدك (ونتبع الرسل) المرسلين منك إلينا فنعمل بما بلغوه إلينا من شرائعك، ونتدارك له ما فرط منا من
الإهمال، وإنما جمع الرسل، لأن دعوتهم إلى التوحيد متفقة، فاتباع واحد منهم اتباع لجميعهم، وهذا منهم
سؤال للرجوع إلى الدنيا لما ظهر لهم الحق في الآخرة - ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه - ثم حكى سبحانه ما يجاب به
عنهم عند أن يقولوا هذه المقالة. فقال (أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) أي فيقال لهم هذا القول
توبيخا وتقريعا: أي أو لم تكونوا أقسمتم من قبل هذا اليوم ما لكم من زوال من دار الدنيا، وقيل إنه لا قسم منهم
حقيقة، وإنما كان لسان حالهم ذلك لاستغراقهم في الشهوات وإخلادهم إلى الحياة الدنيا، وقيل قسمهم هذا هو
ما حكاه الله عنهم في قوله - وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت -. وجواب القسم (ما لكم من زوال
وإنما جاء بلفظ الخطاب في ما لكم من زوال لمراعاة أقسمتم ولولا ذلك لقال: ما لنا من زوال (وسكنتم في مساكن
الذين ظلموا أنفسهم) أي استقررتم، يقال سكن الدار وسكن فيها، وهى بلاد ثمود ونحوهم من الكفار الذين
ظلموا أنفسهم بالكفر بالله والعصيان له (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) قرأ عبد الرحمن السلمي نبين بالنون والفعل
المضارع. وقرأ من عداه بالتاء الفوقية والفعل الماضي: أي تبين لكم بمشاهدة الآثار كيف فعلنا بهم من العقوبة
والعذاب الشديد بما فعلوه من الذنوب، وفاعل تبين ما دلت عليه الجملة المذكورة بعده: أي تبين لكم فعلنا
العجيب بهم (وضربنا لكم الأمثال) في كتب الله وعلى ألسن رسله إيضاحا لكم وتقريرا وتكميلا للحجة عليكم
(وقد مكروا مكرهم) الجملة في محل نصب على الحال: أي فعلنا بهم ما فعلنا، والحال أنهم قد مكروا في رد
الحق وإثبات الباطل مكرهم العظيم، الذي استفرغوا فيه وسعهم (وعند الله مكرهم) أي وعند الله جزاء مكرهم، أو
وعند الله مكتوب مكرهم فهو مجازيهم، أو وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به على أن يكون المكر مضافا إلى المفعول،
قيل والمراد بهم قوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حين هموا بقتله أو نفيه،
وقيل المراد ما وقع من النمرود حيث حاول الصعود إلى السماء، فاتخذ لنفسه تابوتا وربط قوائمه بأربعة نسور (وإن
كان مكرهم لتزول منه الجبال) قرأ عمر وعلي وابن مسعود وأبى " وإن كاد مكرهم " بالدال المهملة مكان النون.
وقرأ غيرهم من القراء " وإن كان " بالنون. وقرأ ابن محيصن وابن جريج والكسائي " لتزول " بفتح اللام على أنها لام
الابتداء. وقرأ الجمهور بكسرها على أنها لام الجحود. قال ابن جرير: الاختيار هذه القراءة، يعنى قراءة الجمهور
لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة، فعلى قراءة الكسائي ومن معه تكون إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة،
وزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدته: أي وإن الشأن كان مكرهم معدا لذلك. قال الزجاج: وإن كان مكرهم
يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإن الله ينصر دينه، وعلى قراءة الجمهور. يحتمل وجهين: أحدهما أن تكون إن هي
المخففة من الثقيلة، والمعنى كما مر. والثاني أن تكون نافية واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله - وما كان الله
ليضيع إيمانكم - والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها
مدى الدهر، فالجملة على هذا حال من الضمير في مكروا لا من قوله (وعند الله مكرهم) أي والحال أن مكرهم
لم يكن لتزول منه الجبال.
116

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن ميمون بن مهران في قوله
(ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) قال: هي تعزية للمظلوم ووعيد للظالم. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ليوم تشخص فيه الأبصار) قال: شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد
إليهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (مهطعين) قال: يعنى بالإهطاع النظر من غير
أن يطرف (مقنعي رؤوسهم) قال: الإقناع رفع رؤوسهم (لا يرتد إليهم طرفهم) قال: شاخصة أبصارهم
(وأفئدتهم هواء) ليس فيها شئ من الخير، فهي كالخربة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد مهطعين
قال: مديمي النظر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة مهطعين قال: مسرعين. وأخرج
هؤلاء عن قتادة في قوله (وأفئدتهم هواء) قال: ليس فيها شئ، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مرة وأفئدتهم هواء قال: منخرقة لا تعي شيئا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب)
يقول: أنذرهم في الدنيا من قبل أن يأتيهم العذاب. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال (يوم يأتيهم العذاب) هو
يوم القيامة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (ما لكم من زوال) قال: عما أنتم فيه إلى ما تقولون. وأخرج ابن
أبي حاتم عن السدى في قوله (ما لكم من زوال) قال: بعث بعد الموت. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن
الحسن في قوله (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) قال: عملتم بمثل أعمالهم. وأخرج ابن جرير عن ابن
عباس في قوله (وإن كان مكرهم) يقول: ما كان مكرهم (لتزول منه الجبال). وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وإن كان مكرهم) يقول شركهم كقوله - تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق
الأرض وتخر الجبال هدا - وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن علي
ابن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) ثم فسرها فقال: إن جبارا من الجبابرة قال:
لا انتهى حتى أنظر إلى ما في السماء، فأمر بفراخ النسور تعلف اللحم حتى شبت وغلظت. وأمر بتابوت فنجر يسع
رجلين، ثم جعل في وسطه خشبة، ثم ربط أرجلهن بأوتاد، ثم جوعهن، ثم جعل على رأس الخشبة لحما، ثم
دخل هو وصاحبه في التابوت، ثم ربطهن إلى قوائم التابوت، ثم خلى عنهن يردن اللحم، فذهبن به ما شاء الله،
ثم قال لصاحبه افتح فانظر ماذا ترى، ففتح فقال: انظر إلى الجبال كأنها الذباب، قال أغلق فأغلق، فطرن به
ما شاء الله، ثم قال افتح ففتح، فقال انظر ماذا ترى، فقال: ما أرى إلا السماء وما أراها تزداد إلا بعدا، قال
صوب الخشبة فصوبها فانقضت تريد اللحم، فسمع الجبال هدتها فكادت تزول عن مراتبها. وقد روى نحو هذه
القصة لبختنصر وللنمرود من طرق ذكرها في الدر المنثور.
سورة إبراهيم الآية (47 - 50)
117

سورة إبراهيم الآية (51 - 52)
(مخلف) منتصب على أنه مفعول تحسبن. وانتصاب رسله على أنه مفعول وعده، قيل وذلك على الاتساع،
والمعنى: مخلف رسله وعده. قال القتيبي: هو من المقدم الذي يوضحه التأخير، والمؤخر الذي يوضحه التقديم
وسواء في ذلك مخلف وعده رسله ومخلف رسله وعده، ومثل ما في الآية قول الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه * وسائره باد إلى الشمس أجمع
وقال الزمخشري: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا كقوله - إن الله لا يخلف الميعاد - ثم قال رسله
ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته
والمراد بالوعد هنا هو ما وعدهم سبحانه بقوله - إنا لننصر رسلنا - و - كتب الله لأغلبن أنا ورسلي - وقرئ " مخلف
وعده رسله " بجر رسله ونصب وعده. قال الزمخشري: وهذه القراءة في الضعف كمن قرأ: قتل أولادهم شركائهم
(إن الله عزيز) غالب لا يغالبه أحد (ذو انتقام) ينتقم من أعدائه لأوليائه والجملة تعليل للنهي، وقد مر تفسيره في
أول آل عمران (يوم تبدل الأرض غير الأرض) قال الزجاج: انتصاب يوم على البدل من يوم يأتيهم، أو على
الظرف للانتقام انتهى، ويجوز أن ينتصب بمقدر يدل عليه الكلام: أي واذكر أو وارتقب، والتبديل قد يكون
في الذات كما في بدلت الدراهم دنانير، وقد يكون في الصفات كما في بدلت الحلقة خاتما، والآية تحتمل
الأمرين، وقد قيل المراد تغير صفاتها، وبه قال الأكثر، وقيل تغير ذاتها، ومعنى (والسماوات) أي وتبدل
السماوات غير السماوات على الاختلاف الذي مر (وبرزوا لله الواحد القهار) أي برز العباد لله أو الظالمون كما
يفيده السياق: أي ظهروا من قبورهم. أو ظهر من أعمالهم ما كانوا يكتمونه، والتعبير على المستقبل بلفظ الماضي
للتنبيه على تحقق وقوعه كما في قوله - ونفخ في الصور - والواحد القهار المتفرد بالألوهية الكثير القهر لمن عانده
(وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد) معطوف على برزوا أو على تبدل، والمجئ بالمضارع لاستحضار
الصورة، والمجرمون هم المشركون، ويومئذ يعنى يوم القيامة، و (مقرنين) أي مشدودين إما بجعل بعضهم مقرونا
مع بعض، أو قرنوا مع الشياطين كما في قوله - نقيض له شيطانا فهو له قرين - أو جعلت أيديهم مقرونة إلى
أرجلهم، والأصفاد: الأغلال، والقيود، والجار والمجرور متعلق بمقرنين أو حال من ضميره، يقال صفدته
صفدا: أي قيدته، والاسم الصفد، فإذا أردت التكثير قلت صفدته. قال عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا * وأبنا بالملوك مصفدينا
وقال حسان بن ثابت:
من بين مأسور يشد صفاده * صقر إذا لاقى الكريهة حامى
ويقال صفدته وأصفدته: إذا أعطيته، ومنه قول النابغة: * ولم أعرض أبيت اللعن بالصفد *
(سرابيلهم من قطران) السرابيل: القمص، وأحدها سربال، ومنه قول كعب بن مالك:
تلقاكم عصب حول النبي لهم * من نسج داود في الهيجا سرابيل
والقطران: هو قطران الإبل الذي تهنأ به: أي قمصانهم من قطران تطلى به جلودهم حتى يعود ذلك الطلاء
118

كالسرابيل، وخص القطران لسرعة اشتعال النار فيه مع نتن رائحته. وقال جماعة هو النحاس: أي قمصانهم من
نحاس. وقرأ عيسى بن عمر " من قطران " بفتح القاف وتسكين الطاء. وقرئ بكسر القاف وسكون الطاء،
وقرئ بفتح القاف والطاء، رويت هذه القراءة عن ابن عباس وأبي هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير ويعقوب،
وهذه الجملة في محل نصب على الحال (وتغشى وجوههم النار) أي تعلو وجوههم وتضربها، وخص الوجوه
لأنها أشرف ما في البدن، وفيها الحواس المدركة، والجملة في محل نصب على الحال أيضا، و (ليجزى الله)
متعلق بمحذوف: أي بفعل ذلك بهم ليجزى (كل نفس ما كسبت) من المعاصي: أي جزاء موافقا لما كسبت من
خير أو شر (إن الله سريع الحساب) لا يشغله عنه شئ. وقد تقدم تفسيره (هذا بلاغ) أي هذا الذي أنزل إليك
بلاغ: أي تبليغ وكفاية في الموعظة والتذكير. قيل إن الإشارة إلى ما ذكره سبحانه هنا من قوله - ولا تحسبن الله
غافلا - إلى سريع الحساب - أي هذا فيه كفاية من غير ما انطوت عليه السورة، وقيل الإشارة إلى جميع السورة،
وقيل إلى القرآن، ومعنى (للناس) للكفار، أو لجميع الناس على ما قيل في قوله - وأنذر الناس -، (ولينذروا به)
معطوف على محذوف: أي لينصحوا ولينذروا به، والمعنى: وليخوفوا به، وقرئ " ولينذروا " بفتح الياء
التحتية والذال المعجمة، يقال نذرت بالشئ أنذر: إذا علمت به فاستعددت له (وليعلموا أنما هو إله واحد)
أي ليعلموا بالأدلة التكوينية المذكورة سابقا وحدانية الله سبحانه، وأنه لا شريك له (وليذكر أولوا الألباب) أي
وليتعظ أصحاب العقول، وهذه اللامات متعلقة بمحذوف، والتقدير: وكذلك أنزلنا، أو متعلقة بالبلاغ المذكور:
أي كفاية لهم في أن ينصحوا وينذروا ويعلموا بما أقام الله من الحجج والبراهين وحدانيته سبحانه وأنه لا شريك له،
وليتعظ بذلك أصحاب العقول التي تعقل وتدرك.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (إن الله عزيز ذو انتقام) قال: عزيز والله في أمره،
يملى وكيده متين، ثم إذا انتقم انتقم بقدرة. وأخرج مسلم وغيره من حديث ثوبان قال " جاء رجل من اليهود إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: في الظلمة دون الجسر ". وأخرج مسلم أيضا وغيره من حديث عائشة. قالت " أنا أول
من سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية (يوم تبدل الأرض غير الأرض) قلت: أين الناس
يومئذ؟ قال: على الصراط ". وأخرج البزار وابن المنذر والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في البعث وابن
عساكر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " في قول الله (يوم تبدل الأرض غير
الأرض) قال: أرض بيضاء، كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام، ولم يعمل بها خطيئة ". وأخرجه عبد الرزاق
وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ في العظمة والحاكم
وصححه والبيهقي في البعث عنه موقوفا نحوه، قال البيهقي: الموقوف أصح. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن زيد
ابن ثابت قال " أتى اليهود النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: جاءوني يسألونني وسأخبرهم قبل أن يسألوني (يوم
تبدل الأرض غير الأرض) قال: أرض بيضاء كالفضة، فسألهم فقالوا: أرض بيضاء كالنقي ". وأخرج ابن
مردويه مرفوعا عن علي نحو ما تقدم عن ابن مسعود. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أنس موقوفا نحوه،
وقد روى نحو ذلك عن جماعة من الصحابة، وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقى ". وفيهما أيضا من
حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها
119

الجبار بيده " الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (مقرنين في الأصفاد) قال: الكبول.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة (في الأصفاد) قال: القيود والأغلال. وأخرج ابن أبي حاتم عن
سعيد بن جبير قال: في السلاسل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (في الأصفاد)
يقول: في وثاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى (سرابيلهم) قال: قمصهم. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد
مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله (من قطران) قال: قطران
الإبل. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: هذا القطران يطلى به حتى يشتعل نارا. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو النحاس المذاب. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه
قرأ (من قطران) فقال القطر: الصفر، والآن: الحار. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن جرير وابن
المنذر عن عكرمة نحوه، وأخرج مسلم وغيره عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب ". وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله (هذا بلاغ للناس) قال: القرآن (ولينذروا به) قال القرآن.
تفسير سورة الحجر
وهى تسع وتسعون آية
وهى مكية بالاتفاق كما قال القرطبي. وأخرج النحاس في ناسخه وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت
سورة الحجر بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجر الآية (1 - 12)
120

سورة الحجر الآية (13 - 15)
قوله (الر) قد تقدم الكلام في محله مستوفى، والإشارة بقوله (تلك) إلى ما تضمنته السورة من الآيات
والتعريف في الكتاب. قيل هو للجنس، والمراد جنس الكتب المتقدمة، وقيل المراد به القرآن، ولا يقدح في هذا
ذكر القرآن بعد الكتاب، فقد قيل إنه جمع له بين الاسمين، وقيل المراد بالكتاب هذه السورة، وتنكير القرآن
للتفخيم: أي القرآن الكامل (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) قرأ نافع وعاصم بتخفيف الباء من ربما.
وقرأ الباقون بتشديدها، وهما لغتان. قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون، ومنه قول الشاعر:
* ربما ضربة بسيف صقيل * بين بصرى وطعنة نجلاء
وتيم وربيعة يثقلونها. وقد تزداد التاء الفوقية، وأصلها أن تستعمل في القليل. وقد تستعمل في الكثير. قال
الكوفيون أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين. ومنه قول الشاعر:
رب رفد هرقته ذلك اليو * م وأسرى من معشر أقيال
وقيل هي هنا للتقليل لأنهم ودوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب. قيل وما هنا لحقت
رب لتهيئها للدخول على الفعل، وقيل هي نكرة بمعنى شئ، وإنما دخلت رب هنا على المستقبل مع كونها لا تدخل
إلا على الماضي، لأن المترقب في أخباره سبحانه كالواقع المتحقق، فكأنه قيل: ربما ود الذين كفروا لو كانوا
مسلمين أي منقادين لحكمه مذعنين له من جملة أهله. وكانت هذه الودادة منهم عند موتهم أو يوم القيامة. والمراد
أنه لما انكشف لهم الأمر واتضح بطلان ما كانوا عليه من الكفر وأن الدين عند الله سبحانه هو الإسلام لا دين غيره
حصلت منهم هذه الودادة التي لا تسمن ولا تغنى من جوع. بل هي لمجرد التحسر والتندم ولوم النفس على ما فرطت
في جنب الله، وقيل كانت هذه الودادة منهم عند معاينة حالهم وحال المسلمين، وقيل عند خروج عصاة الموحدين
من النار، والظاهر أن هذه الودادة كائنة منهم في كل وقت مستمرة في كل لحظة بعد انكشاف الأمر لهم (ذرهم
يأكلوا ويتمتعوا) هذا تهديد لهم: أي دعهم عما أنت بصدده من الأمر لهم والنهى. فهم لا يرعوون أبدا ولا
يخرجون من باطل ولا يدخلون في حق، بل مرهم بما هم فيه من الاشتغال بالأكل والتمتع بزهرة الدنيا، فإنهم كالأنعام
التي لا تهتم إلا بذلك ولا تشتغل بغيره، والمعنى: اتركهم على ما هم عليه من الاشتغال بالأكل ونحوه من متاع الدنيا
ومن إلهاء الأمل لهم عن اتباعك فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم. وفى هذا من التهديد والزجر ما لا يقدر
قدره، يقال ألهاه كذا: أي شغله، ولهى هو عن الشئ يلهى: أي شغلهم الأمل عن اتباع الحق، وما زالوا
في الآمال الفارغة والتمنيات الباطلة حتى أسفر الصبح لذي عينين وانكشف الأمر ورأوا العذاب يوم القيامة، فعند
ذلك يذوقون وبال ما صنعوا. والأفعال الثلاثة مجزومة على أنها جواب الأمر، وهذه الآية منسوخة بآية السيف
(وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) أي وما أهلكنا قرية من القرى بنوع من أنواع العذاب (إلا ولها) أي
لتلك القرية (كتاب) أي أجل مقدر لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه (معلوم) غير مجهول ولا منسى فلا يتصور
التخلف عنه بوجه من الوجوه. وجملة (لها كتاب) في محل نصب على الحال من قرية وإن كانت نكرة لأنها قد
صارت بما فيها من العموم في حكم الموصوفة، والواو للفرق بين كون هذه الجملة حالا، أو صفة فإنها تعينها للحالية
121

كقولك حالي رجل على كتفه سيف، وقيل إن الجملة صفة لقرية، والواو لتأكيد اللصوق بين الصفة والموصوف
(ما تسبق من أمة أجلها) أي ما تسبق أمة من الأمم أجلها المضروب لها المكتوب في اللوح المحفوظ، والمعنى: أنه
لا يأتي هلاكها قبل مجئ أجلها (وما يستأخرون) أي وما يتأخرون عنه. فيكون مجئ هلاكهم بعد مضى
الأجل المضروب له وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصل، ولذلك
حذف الجار والمجرور والجملة مبينة لما قبلها، فكأنه قيل إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العقلاء، فإن لكل أمة
وقتا معينا في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر. وقد تقدم تفسير الأجل في أول سورة الأنعام. ثم لما فرغ من
تهديد الكفار شرع في بيان بعض عتوهم في الكفر، وتماديهم في الغى مع تضمنه لبيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب
بعد بيان كفرهم بالكتاب، فقال (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر) أي قال: كفار مكة مخاطبين لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ومتهكمين به حيث أثبتوا له إنزال الذكر عليه مع إنكارهم لذلك في الواقع أشد إنكار
ونفيهم له أبلغ نفى، أو أرادوا: بيا أيها الذي نزل عليه الذكر في زعمه، وعلى وفق ما يدعيه (إنك لمجنون) أي إنك
بسبب هذه الدعوى التي تدعيها من كونك رسولا لله مأمورا بتبليغ أحكامه لمجنون، فإنه لا يدعى مثل هذه
الدعوى العظيمة عندهم من كان عاقلا، فقولهم هذا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو كقول فرعون - إن رسولكم
الذي أرسل إليكم لمجنون - (لو ما تأتينا بالملائكة) لوما حرف تحضيض مركب من لو المفيدة للتمني ومن ما المزيدة،
فأفاد المجموع الحث على الفعل الداخلة هي عليه، والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة ليشهدوا على صدقك (إن كنت من
الصادقين). قال الفراء: الميم في لوما بدل من اللام في لولا. وقال الكسائي: لولا ولوما سواء في الخبر والاستفهام.
قال النحاس: لوما ولولا وهلا واحد، وقيل المعنى: لوما تأتينا بالملائكة فيعاقبونا على تكذيبنا لك (ما ننزل
الملائكة إلا بالحق) قرئ " ما ننزل " بالنون مبينا للفاعل، وهو الله سبحانه فهو على هذا من التنزيل، والمعنى على
هذه القراءة: قال الله سبحانه مجيبا على الكفار لما طلبوا إتيان الملائكة إليهم ما ننزل نحن (الملائكة إلا بالحق) أي
تنزيلا متلبسا بالحق الذي يحق عنده تنزيلنا لهم فيما تقتضيه الحكمة الإلهية والمشيئة الربانية وليس هذا الذي اقترحتموه
مما يحق عنده تنزيل الملائكة وقرئ " ننزل " مخففا من الإنزال: أي ما ننزل نحن الملائكة إلا بالحق، وقرئ
" ما تنزل " بالمثناة من فرق مضارعا مثقلا مبنيا للفاعل من التنزيل بحذف إحدى التاءين: أي تتنزل، وقرئ أيضا
بالفوقية مضارعا مبنيا للمفعول، وقيل معنى إلا بالحق: إلا بالقرآن، وقيل بالرسالة، وقيل بالعذاب (وما كانوا
إذا منظرين) في الكلام حذف، والتقدير: ولو أنزلنا الملائكة لعوجلوا بالعقوبة وما كانوا إذا منظرين: فالجملة
المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة، ثم أنكر على الكفار استهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم
(يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون)، فقال سبحانه (إنا نحن نزلنا الذكر) أي نحن نزلنا ذلك الذكر الذي
أنكروه ونسبوك بسببه إلى الجنون (وإنا له لحافظون) عن كل ما لا يليق به من تصحيف وتحريف وزيادة ونقص
ونحو ذلك وفيه وعيد شديد للمكذبين به المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل الضمير في له
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأول أولى بالمقام. ثم ذكر سبحانه أن عادة أمثال هؤلاء الكفار مع أنبيائهم
كذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال (ولقد أرسلنا من قبلك) أي رسلا وحذف لدلالة الإرسال
عليه: أي رسلا كائنة من قبلك (في شيع الأولين) في أممهم وأتباعهم وسائر فرقهم وطوائفهم. قال الفراء:
الشيع الأمة التابعة بعضهم بعضا فيما يجتمعون عليه، وأصله من شاعه إذا تبعه، وإضافته إلى الأولين من إضافة
الصفة إلى الموصوف عند بعض النحاة، أو من حذف الموصوف عند آخرين منهم (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا
122

به يستهزءون) أي ما يأتي رسول من الرسل شيعته إلا كانوا به يستهزءون كما يفعله هؤلاء الكفار مع محمد صلى الله
عليه وآله وسلم وجملة إلا كانوا به يستهزءون في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على أنها صفة رسول،
أو في محل جر على أنها صفة له على اللفظ لا على المحل (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) أي مثل ذلك الذي سلكناه
في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم (نسلكه) أي الذكر (في قلوب المجرمين)، فالإشارة إلى ما دل عليه الكلام
السابق من إلقاء الوحي مقرونا بالاستهزاء، والسلك إدخال الشئ في الشئ كالخيط في المخيط، قاله الزجاج.
قال: والمعنى كما فعل بالمجرمين الذين استهزءوا نسلك الضلال في قلوب المجرمين. وجملة (لا يؤمنون به) في محل
نصب على الحال من ضمير نسلكه: أي لا يؤمنون بالذكر الذي أنزلناه، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما قبلها
فلا محل لها، وقيل إن الضمير في نسلكه للاستهزاء، وفى لا يؤمنون به للذكر، وهو بعيد، والأولى أن الضميرين
للذكر (وقد خلت سنة الأولين) أي مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم، حيث فعلوا ما فعلوا من التكذيب
والاستهزاء. وقال الزجاج: وقد مضت سنة الله في الأولين بأن سلك الكفر والضلال في قلوبهم. ثم حكى الله
سبحانه إصرارهم على الكفر وتصميمهم على التكذيب والاستهزاء، فقال (ولو فتحنا عليهم) أي على هؤلاء
المعاندين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم المكذبين له المستهزئين به (بابا من السماء) أي من أبوابها المعهودة ومكناهم
من الصعود إليه (فظلوا فيه) أي في ذلك الباب (يعرجون) يصعدون بآلة أو بغير آلة حتى يشاهدوا ما في السماء
من عجائب الملكوت التي لا يجحدها جاحد ولا يعاند عند مشاهدتها معاند، وقيل الضمير في فظلوا للملائكة:
أي فظل الملائكة يعرجون في ذلك الباب، والكفار يشاهدونهم وينظرون صعودهم من ذلك الباب (لقالوا) أي
الكفار لفرط عنادهم وزيادة عتوهم (إنما سكرت أبصارنا) قرأ ابن كثير سكرت بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد
وهو من سكر الشراب، أو من السكر، وهو سدها عن الإحساس، يقال سكر النهر: إذا سده وحبسه عن
الجري، ورجع الثاني بقراءة التخفيف. وقال أبو عمرو بن العلاء: سكرت غشيت وغطيت، ومنه قول الشاعر:
وطلعت شمس عليها مغفر * وجعلت عين الجزور تسكر
وبه قال أبو عبيد وأبو عبيدة. وروى عن أبي عمرو أيضا أنه من سكر الشراب: أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما
غشى السكران ما غطى عقله، وقيل معنى سكرت حبست كما تقدم، ومنه قول أوس بن حجر:
فصرت على ليلة ساهره * فليست بطلق ولا ساكره
قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة (بل نحن قوم مسحورون) أضربوا عن قولهم سكرت أبصارنا ثم
ادعوا أنهم مسحورون: أي سحرهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفى هذا بيان لعنادهم العظيم الذي لا يقلعهم
عنه شئ من الأشياء كائنا ما كان، فإنهم إذا رأوا آية توجب عليهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله نسبوا إلى
أبصارهم أن إدراكها غير حقيقي لعارض السكر، أو أن عقولهم قد سحرت فصار إدراكهم غير صحيح، ومن بلغ
في التعنت إلى هذا الحد فلا تنفع فيه موعظة، ولا يهتدى بآية.
وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله (تلك آيات الكتاب) قال: التوراة والإنجيل. وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في (تلك آيات الكتاب) قال: الكتب التي كانت قبل القرآن (وقرآن مبين)
قال: مبين والله هداه ورشده وخيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) قال: ود المشركون يوم بدر حين
123

ضربت أعناقهم فعرضوا على النار أنهم كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن
مسعود في الآية قال: هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار. وأخرج سعيد بن منصور وهناد بن السرى
في الزهد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس قال: ما يزال الله يشفع
ويدخل ويشفع ويرحم حتى يقول: من كان مسلما فليدخل الجنة، فذلك قوله (ربما يود الذين كفروا لو كانوا
مسلمين). وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس
وأنس أنهما تذاكرا هذه الآية (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) فقالا: هذا حيث يجمع الله من أهل
الخطايا من المسلمين والمشركين في النار، فيقول المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون، فيغضب الله لهم
فيخرجهم بفضله ورحمته. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند، قال السيوطي صحيح عن جابر بن
عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء
الله أن يكونوا، ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم، فلا يبقى موحد إلا أخرجه
الله من النار، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) " وأخرج
ابن أبي عاصم في السنة وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي موسى
الأشعري مرفوعا نحوه. وأخرج إسحاق بن راهويه وابن حبان والطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا
نحوه أيضا. وأخرج هناد بن السرى والطبراني في الأوسط وأبو نعيم عن أنس مرفوعا نحوه أيضا. وفى الباب
أحاديث في تعيين هذا السبب في نزول هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله (ذرهم يأكلوا
ويتمتعوا) الآية قال: هؤلاء الكفرة. وأخرج أيضا عن أبي مالك في قوله (ذرهم) قال: خل عنهم. وأخرج ابن
جرير عن الزهري في قوله (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) قال: نرى أنه إذا حضره أجله، فإنه لا يؤخر
ساعة ولا يقدم، وأما ما لم يحضر أجله فإن الله يؤخر ما شاء ويقدم ما شاء. قلت: وكلام الزهري هذا لا حاصل له
ولا مفاد فيه. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) قال: القرآن. وأخرج ابن
أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (ما ننزل الملائكة إلا بالحق) قال: بالرسالة
والعذاب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى في قوله (وما كانوا إذا منظرين) قال: وما كانوا لو نزلت الملائكة
بمنظرين من أن يعذبوا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (وإنا له لحافظون)
قال: عندنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (في شيع الأولين) قال: أمم
الأولين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس في قوله (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) قال: الشرك نسلكه في قلوب
المشركين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن
جرير وابن المنذر عن الحسن مثله أيضا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة
(وقد خلت سنة الأولين) قال: وقائع الله فيمن خلا من الأمم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في
قوله (فظلوا فيه يعرجون) قال ابن جريج: قال ابن عباس: فظلت الملائكة تعرج فنظروا إليهم لقالوا (إنما
سكرت أبصارنا) قال: قريش تقوله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية عن
ابن عباس أيضا يقول: ولو فتحنا عليهم بابا من أبواب السماء فظلت الملائكة تعرج فيه يختلفون فيه ذاهبين وجائين لقال
أهل الشرك: إنما أخذ أبصارنا وشبه علينا، وإنما سحرنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد سكرت
أبصارنا: قال سدت. وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه قال: ومن قرأ " سكرت " مخففة، فإنه يعنى سحرت.
124

سورة الحجر الآية (16 - 25) لما ذكر سبحانه كفر الكافرين وعجزهم وعجز أصنامهم، ذكر قدرته الباهرة وخلقه البديع ليستدل بذلك
على وحدانيته، فقال (ولقد جعلنا في السماء بروجا) الجعل إن كان بمعنى الخلق، ففي السماء متعلق به، وإن كان
بمعنى التصيير ففي السماء خبره، والبروج في اللغة: القصور والمنازل، والمراد بها هنا منازل الشمس والقمر
والنجوم السيارة، وهى الاثنا عشر المشهورة كما تدل على ذلك لتجربة، والعرب تعد المعرفة بمواقع النجوم
ومنازلها من أجل العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب، وقالوا الفلك اثنا عشر
برجا، وأسماء هذه البروج: الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، والقوس،
الجدي، الدلو، الحوت. كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة المشتغلين بهذا العلم، ويسمون الحمل
والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية،
والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. وأصل البروج الظهور. ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها. وقال الحسن
وقتادة: البروج النجوم، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها - وقيل: السبعة السيارة منها قاله أبو صالح:
وقيل: هي قصور وبيوت في السماء فيها حرس، والضمير في وزيناها راجع إلى السماء: أي وزينا السماء بالشمس
والقمر والنجوم والبروج للناظرين إليها: أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين إذا كان من النظر. وهو الاستدلال
(وحفظناها) أي السماء (من كل شيطان رجيم) قال أبو عبيدة الرجيم المرجوم بالنجوم، كما في قوله - رجوما
للشياطين - والرجم في اللغة هو الرمي بالحجارة، ثم قيل للعن والطرد والإبعاد رجم، لأن الرامي بالحجارة يوجب
هذه المعاني (إلا من استرق السمع) استثناء متصل: أي إلا ممن استرق السمع، ويجوز أن يكون منقطعا: أي
ولكن من استرق السمع (فأتبعه شهاب مبين) والمعنى: حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره
إلا من استرق السمع فإنها تتبعه الشهب فتقتله أو تخبله: ومعنى فأتبعه: تبعه ولحقه أو أدركه. والشهاب: الكوكب
أو النار المشتعلة الساطعة كما في قوله - بشهاب قبس - قال ذو الرمة: * كأنه كوكب في إثر عفريت * وسمى
الكوكب شهابا لبريقه شبه النار، والمبين: الظاهر للمبصرين يرونه لا يلتبس عليهم. قال القرطبي: واختلف في
الشهاب هل يقتل أم لا؟ فقال ابن عباس: الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل، وقال الحسن وطائفة: يقتل.
125

فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من
السمع إلى غيرهم فلا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني أنهم يقتلون بعد إلقائهم
ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن، قال ذكره الماوردي، ثم قال: والقول الأول أصح. قال: واختلف
هل كان رمى بالشهب قبل المبعث، فقال الأكثرون نعم، وقيل لا وإنما ذلك بعد المبعث. قال الزجاج: والرمي
بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما حدث بعد مولده لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم.
قال كثير من أهل العلم: نحن نرى انقضاض الكواكب. فيجوز أن يكون ذلك كما نرى، ثم يصير نارا إذا
أدرك الشيطان. ويجوز أن يقال يرمون بشعلة من نار الهواء فيخيل إلينا أنه نجم يسرى (والأرض مددناها) أي
بسطناها وفرشناها كما في قوله - والأرض بعد ذلك دحاها - وفى قوله - والأرض فرشناها فنعم الماهدون - وفيه
رد على من زعم أنها كالكرة (وألقينا فيها رواسي) أي جبال ثابتة لئلا تحرك بأهلها، وقد تقدم بيان ذلك في
سورة الرعد (وأنبتنا فيها من كل شئ موزون) أي أنبتنا في الأرض من كل شئ مقدر معلوم، فعبر عن ذلك
بالوزن لأنه مقدار تعرف به الأشياء ومنه قول الشاعر:
قد كنت قبل لقائكم ذا مرة * عندي لكل مخاصم ميزانه
وقيل معنى موزون مقسوم، وقيل معدود، والمقصود من الإثبات الإنشاء والإيجاد، وقيل الضمير راجع
إلى الجبال: أي أنبتنا في الجبال من كل شئ موزون من الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحو ذلك، وقيل
موزون بميزان الحكمة، ومقدر بقدر الحاجة، وقيل الموزون هو المحكوم بحسنه كما يقال كلام موزون. أي
حسن (وجعلنا لكم فيها معايش) تعيشون بها من المطاعم والمشارب جمع معيشة، وقيل هي الملابس. وقيل هي
التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة. قال الماوردي: وهو الظاهر. قلت: بل القول الأول أظهر، ومنه قول
جرير:
تكلفني معيشة آل زيد * ومن لي بالمرقق والضباب
(ومن لستم له برازقين) معطوف على معايش: أي وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين: وهم المماليك
والخدم والأولاد الذين رازقهم في الحقيقة هو الله. وإن ظن بعض العباد أنه الرازق لهم باعتبار استقلاله بالكسب،
ويجوز أن يكون معطوفا على محل لكم: أي جعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لمن لستم له برازقين فيها معايش، وهم
من تقدم ذكره، ويدخل في ذلك الدواب على اختلاف أجناسها. ولا يجوز العطف على الضمير المجرور في لكم
لأنه لا يجوز عند الأكثر إلا بإعادة الجار، وقيل أراد الوحش (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه) إن هي النافية ومن
مزيدة للتأكيد، وهذا التركيب عام لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة من، ومع لفظ شئ المتناول لكل
الموجودات الصادق على كل فرد منها. فأفاد ذلك أن جميع الأشياء عند الله خزائنها لا يخرج منها شئ: والخزائن
جمع خزانة: وهى المكان الذي يحفظ فيه نفائس الأمور. وذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور، والمعنى:
أن كل الممكنات مقدورة ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجوب بمقدار كيف شاء. وقال جمهور المفسرين: إن
المراد بما في هذه الآية هو المطر. لأنه سبب الأرزاق والمعايش، وقيل الخزائن المفاتيح: أي ما من شئ إلا عندنا
في السماء مفاتيحه. والأولى ما ذكرناه من العموم لكل موجود. بل قد يصدق الشئ على المعدوم على الخلاف
المعروف في ذلك (وما ننزله إلا بقدر معلوم) أي ما ننزله من السماء إلى الأرض أو نوجده للعباد إلا بقدر معلوم.
والقدر والمقدار، والمعنى: أن الله سبحانه لا يوجد للعباد شيئا من تلك الأشياء المذكورة إلا متلبسا ذلك الإيجاد
126

بمقدار معين حسبما تقتضيه مشيئته على مقدار حاجة العباد إليه كما قال سبحانه - ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا
في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء - وقد فسر الإنزال بالإعطاء، وفسر بالإنشاء، وفسر بالإيجاد، والمعنى
متقارب، وجملة وما ننزله معطوفة على مقدر: أي وإن من شئ إلا عندنا خزائنه ننزله وما ننزله، أو في محل
نصب على الحال (وأرسلنا الرياح لواقح) معطوف على (وجعلنا لكم فيها معايش) وما بينهما اعتراض. قرأ حمزة
" الريح " بالتوحيد. وقرأ من عداه " الرياح " بالجمع، وعلى قراءة حمزة فتكون اللام في الريح للجنس قال
الأزهري (وجعل الرياح لواقح) لأنها تحمل السحاب: أي تقله وتصرفه، ثم تمر به فتنزله. قال الله سبحانه
- حتى إذا أقلت سحابا ثقالا -: أي حملت. وناقة لاقح: إذا حملت الجنين في بطنها، وبه قال الفراء وابن قتيبة،
وقيل لواقح بمعنى ملقحة. قال ابن الأنباري: تقول العرب: أبقل النبت فهو بأقل: أي مبقل، والمعنى: أنها
تلقح الشجر: أي بقوتها: وقيل معنى لواقح: ذوات لقح. قال الزجاج: معناه وذات لقحة، لأنها تعصر
السحاب وتدره الله كما تدر اللقحة، يقال رامح: أي ذو رمح، ولابن: أي ذو لبن، وتامر: أي ذو تمر. قال
أبو عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح، ذهب إلى أنها جمع ملقحة. وفى هذه الآية تشبيه الرياح التي تحمل الماء بالحامل،
ولقاح الشجر بلقاح الحمل (وأنزلنا من السماء ماء) أي من الحساب وكل ما علاك فأظلك فهو سماء، وقيل من جهة
السماء، والمراد بالماء هنا ماء المطر (فأسقيناكموه) أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم.
قال أبو علي: يقال سقيته الماء إذا أعطيته قدر ما يروى، وأسقيته نهرا: أي جعلته شربا له، وعلى هذا فأسقيناكموه
أبلغ من سقيناكموه: قال وقيل سقى وأسقى بمعنى واحد (وما أنتم له بخازنين) أي ليست خزائنه عندكم، بل خزائنه
عندنا. ونحن الخازنون له، فنفى عنهم سبحانه ما أثبته لنفسه في قوله - وإن من شئ إلا عندنا خزائنه - وقيل
المعنى: إن ما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم: أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدران والعيون، بل
نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه (وإنا لنحن نحيى ونميت) أي نوجد الحياة في المخلوقات
و نسلبها عنها متى شئنا. والغرض من ذلك الاستدلال بهذه الأمور على كمال قدرته عز وجل، وأنه القادر على
البعث والنشور والجزاء لعباده على حسب ما يستحقونه وتقتضيه مشيئته، ولهذا قال (ونحن الوارثون) أي للأرض
ومن عليها. لأنه سبحانه الباقي بعد فناء خلقه، الحي الذي لا يموت. الدائم الذي لا ينقطع وجوده، - ولله ميراث
السماوات والأرض - (ولقد علمنا المستقدمين منكم) هذه اللام هي الموطئة للقسم، وهكذا اللام في (ولقد علمنا
المستأخرين). والمراد من تقدم ولادة وموتا. ومن تأخر فيهما، وقيل من تقدم طاعة ومن تأخر فيها، وقيل
من تقدم في صف القتال ومن تأخر، وقيل المراد بالمستقدمين الأموات، وبالمستأخرين الأحياء، وقيل المستقدمين
هم الأمم المتقدمون على أمة محمد. والمستأخرون هم أمة محمد، وقيل المستقدمون من قتل في الجهاد، والمستأخرون
من لم يقتل (وإن ربك هو يحشرهم) أي هو المتولي لذلك القادر عليه دون غيره كما يفيده ضمير الفصل من الحصر.
وفيه أنه سبحانه يجازى المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته. لأنه الأمر المقصود من الحشر (إنه حكيم) يجرى
الأمور على ما تقتضيه حكمته البالغة (عليم) أحاط علمه بجميع الأشياء لا يخفى عليه شئ منها، ومن كان كذلك فله
القدرة البالغة على كل شئ مما وسعه علمه، وجرى فيه حكمه سبحانه لا إله إلا هو.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله (ولقد جعلنا في السماء بروجا) قال:
كواكب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: الكواكب
العظام. وأخرج أيضا عن عطية قال: قصورا في السماء فيها الحرس. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن
127

أبى حاتم عن قتادة قال الرجيم: الملعون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إلا من استرق
السمع) أراد أن يخطف السمع كقوله - إلا من خطف الخطفة -. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك
قال: كان ابن عباس " يقول إن الشهب لا تقتل، ولكن تحرق وتخبل وتجرح من غير أن تقتل ". وأخرج ابن
جرير وابن المنذر عنه في قوله (وأنبتنا فيها من كل شئ موزون) قال: معلوم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا
(من كل شئ موزون) قال: بقدر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال الأشياء التي توزن.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: ما أنبتت الجبال مثل الكحل وشبهه. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (ومن لستم له برازقين) قال: الدواب والأنعام. وأخرج
هؤلاء عن منصور قال: الوحش. وأخرج البزار وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " خزائن الله الكلام، فإذا أراد شيئا قال له كن فكان ". وأخرج ابن جرير
عن ابن جريج في قوله (إلا عندنا خزائنه) قال: المطر خاصة. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن
المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال " ما نقص المطر منذ أنزله الله، ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر أخرى
ثم قرأ وما ننزله إلا بقدر معلوم ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال " ما من عام
بأمطر من عام. ولكن الله يصرفه حيث يشاء، ثم قرأ - وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ".
وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في
قوله (وأرسلنا الرياح لواقح) قال: يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال: يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قما. ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب فتجعله كسفا
ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاما، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فتمطر. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير
وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يقول " ريح الجنوب من الجنة. وهى الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه ". وأخرج الطيالسي وسعيد
ابن منصور وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان
والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال " كانت امرأة تصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسناء
من أحسن النساء، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون
في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه، فأنزل الله - ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين "
وهذا الحديث هو من رواية أبى الجوزاء عن ابن عباس. وقد رواه عبد الرزاق وابن المنذر من قول أبى الجوزاء
قال الترمذي: وهذا أشبه أن يكون أصح. وقال ابن كثير: في هذا الحديث نكارة شديدة. وأخرج الحاكم وابن
مردويه عن ابن عباس في الآية قال: المستقدمين الصفوف المقدمة، والمستأخرين: الصفوف المؤخرة. وقد
وردت أحاديث كثيرة في أن خبر صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها
أولها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء ومقاتل بن حبان أن الآية في صفوف القتال. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عن الحسن قال: المستقدمين في طاعة الله، والمستأخرين في معصية الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: يعنى بالمستقدمين من مات، وبالمستأخرين من هو حي لم يمت.
128

وأخرج هؤلاء عنه أيضا قال: المستقدمين آدم ومن مضى من ذريته، والمستأخرين في أصلاب الرجال. وأخرج
عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة نحوه.
سورة الحجر الآية (26 - 44)
المراد بالإنسان في قوله (ولقد خلقنا الإنسان) هو آدم لأنه أصل هذا النوع، والصلصال قال أبو عبيدة:
هو الطين المخلوط بالرمل الذي يتصلصل إذا حرك. فإذا طبخ في النار فهو الفخار. وهذا قول أكثر المفسرين.
وقال الكسائي: هو الطين المنن، مأخوذ من قول العرب صل اللحم وأصل: إذا أنتن، مطبوخا كان أو نيئا.
قال الحطيئة: ذاك فتى يبذل ذا قدرة * لا يفسد اللحم لديه الصلول
والحمأ: الطين الأسود المتغير. أو الطين الأسود من غير تقييد بالمتغير. قال ابن السكيت: تقول منه حمأت
البئر حمأ بالتسكين: إذا نزعت حمأتها. وحمئت البئر حمأ بالتحريك: كثرت حمأتها، وأحميتها إحماء: ألقيت فيها
الحمأة. قال أبو عبيدة: الحمأة بسكون الميم مثل الحمأة يعنى بالتحريك، والجمع حمء مثل تمرة وتمر، والحمأ
المصدر مثل الهلع والجزع. ثم سمى به. والمسنون قال الفراء: هو المتغير، وأصله من سننت الحجر على الحجر:
إذا حككته، وما يخرج بين الحجرين يقال له السنانة والسنين، ومنه قول عبد الرحمن بن حسان:
ثم حاصرتها إلى القبة الحمرا * تمشى في مرمر وسنون
أي محكوك، ويقال: أسن الماء إذا تغير. ومنه قوله - لم يتسنه - وقوله - ماء غير آسن - وكلا الاشتقاقين يدل
على التغير، لأن ما يخرج بين الحجرين لا يكون إلا منتنا. وقال أبو عبيدة: المسنون المصوب، وهو من قول
129

العرب سننت الماء على الوجه: إذا صببته، والسن الصب. وقال سيبويه: المسنون المصور، مأخوذ من سنة
الوجه، وهى صورته، ومنه قول ذي الرمة:
تريك سنة وجه غير مقرفة * ملساء ليس بها خال ولا ندب
وقال الأخفش: المسنون المنصوب القائم، من قولهم وجه مسنون: إذا كان فيه طول. والحاصل على هذه
الأقوال أن التراب لما بل صار طينا، فلما أنتن صار حمأ مسنونا، فلما يئس صار صلصالا. فأصل الصلصال:
هو الحمأ المسنون، ولهذا وصف بهما (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) الجان أبو الجن عند جمهور
المفسرين. وقال عطاء والحسن وقتادة ومقاتل: هو إبليس. وسمى جانا لتواريه عن الأعين. يقال: جن الشئ
إذا ستره. فالجان يستر نفسه عن أعين بني آدم، ومعنى من قبل: من قبل خلق آدم، والسموم: الريح الحادة
النافذة في المسام، تكون بالنهار وقد تكون بالليل، كذا قال أبو عبيدة، وذكر خلق الإنسان والجان في هذا
الموضع للدلالة على كمال القدرة الإلهية، وبيان أن القادر على النشأة الأولى قادر على النشأة الأخرى (وإذ قال ربك
للملائكة) الظرف منصوب بفعل مقدر: أي أذكر، بين سبحانه بعد ذكره لخلق الإنسان ما وقع عند خلقه له
وقد تقدم تفسير ذلك في البقرة، والبشر مأخوذ من البشرة، وهى ظاهر الجلد، وقد تقدم تفسير الصلصال والحمأ
المسنون قريبا مستوفى (فإذا سويته) أي سويت خلقه وعدلت صورته الإنسانية وكملت أجزاءه (ونفخت فيه
من روحي) النفخ: إجراء الريح في تجاويف جسم آخر، فمن قال إن الروح جسم لطيف كالهواء فمعناه ظاهر:
ومن قال: إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز. فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لتعلق النفس الناطقة
به. قال النيسابوري: ولا خلاف في أن الإضافة في روحي للتشريف والتكريم، مثل ناقة الله، وبيت الله. قال
القرطبي: والروح: جسم لطيف أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته إضافة خلق
إلى خالق، فالروح خلق من خلقه اضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما، قال: ومثله - وروح منه -. وقد تقدم في النساء
(فقعوا له ساجدين) الفاء تدل على أن سجودهم واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير تراخ، وهو أمر بالوقوع
من وقع يقع. وفيه دليل على أن المأمور به هو السجود لا مجرد الانحناء كما قيل، وهذا السجود هو سجود تحية وتكريم
لا سجود عبادة ولله أن يكرم من يشاء من مخلوقاته كيف يشاء بما يشاء، وقيل كان السجود لله تعالى وكان آدم قبله
لهم (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) أخبر سبحانه بأن الملائكة سجدوا جميعا عند أمر الله سبحانه لهم بذلك من غير
تراخ، قال المبرد: قوله كلهم أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجد، وقوله أجمعون توكيد بعد توكيد، ورجح
هذا الزجاج. قال النيسابوري: وذلك لأن أجمع معرفة فلا يقع حالا ولو صح أن يكون حالا لكان منتصبا، ثم
استثنى إبليس من الملائكة فقال (إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين) قيل هذا الاستثناء متصل لكونه كان من
جنس الملائكة ولكنه أبى ذلك استكبارا واستعظاما لنفسه وحسدا لآدم فحقت عليه كلمة الله، وقيل إنه لم يكن من
الملائكة ولكنه كان معهم فغلب اسم الملائكة عليه وأمر بما أمروا به، فكان الاستثناء بهذا الاعتبار متصلا، وقيل
إن الاستثناء منفصل بناء على عدم كونه منهم، وعدم تغليبهم عليه: أي ولكن إبليس أبى أن يكون مع الساجدين
وقد تقدم الكلام في هذا في سورة البقرة، وجملة (أبى أن يكون مع الساجدين) استئناف مبين لكيفية ما فيهم
من الاستثناء من عدم السجود، لأن عدم السجود قد يكون مع التردد فبين سبحانه أنه كان على وجه الإباء،
وجملة (قال يا إبليس مالك أن لا تكون مع الساجدين) مستأنفة أيضا جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله
سبحانه لإبليس بعد أن أبى السجود؟ وهذا الخطاب له ليس للتشريف والتكريم، بل للتقريع والتوبيخ. والمعنى:
130

أي غرض لك في الامتناع، وأي سبب حملك عليه على أن لا تكون مع الساجدين لآدم مع الملائكة وهم في الشرف
وعلو المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها، وجملة (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون)
مستأنفة كالتي قبلها، جعل العلة لترك سجوده كون آدم بشرا مخلوقا من صلصال من حمأ مسنون زعما منه أنه مخلوق
من عنصر أشرف من عنصر آدم، وفيه إشارة إجمالية في كونه خيرا منه. وقد صرح بذلك في موضع آخر. فقال
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين - وقال في موضع آخر - أأسجد لمن خلقت طينا - واللام في لأسجد لتأكيد
النفي: أي لا يصح ذلك منى، فأجاب الله سبحانه عليه بقوله (قال فأخرج منها فإنك رجيم) والضمير في منها، قيل
عائد إلى الجنة، وقيل إلى السماء، وقيل إلى زمرة الملائكة: أي فأخرج من زمرة الملائكة فإنك رجيم أي مرجوم
بالشهب. وقيل معنى رجيم ملعون: أي مطرود لأن من يطرد يرجم بالحجارة (وأن عليك اللعنة إلى يوم الدين)
أي عليك الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه مستمرا عليك لازما لك إلى يوم الجزاء، وهو يوم القيامة، وجعل
يوم الدين غاية للعنة لا يستلزم انقطاعها في ذلك الوقت، لأن المراد دوامها من غير انقطاع، وذكر يوم الدين للمبالغة
كما في قوله تعالى - ما دامت السماوات والأرض - أو أن المراد أنه في يوم الدين وما بعده يعذب بما هو أشد من
اللعن من أنواع العذاب. فكأنه لا يجد له ما كان يجده قبل أن يمسه العذاب (قال رب فأنظرني) أي أخرني وأمهلني
ولا تمتني إلى يوم يبعثون: أي آدم وذريته. طلب أن يبقى حيا إلى هذا اليوم لما سمع ذلك علم أن الله قد أخر عذابه
إلى الدار الآخرة وكأنه طلب أن لا يموت أبدا، لأنه إذا أخر موته إلى ذلك اليوم فهو يوم لا موت فيه، وقيل إنه لم
يطلب أن لا يموت، بل طلب أن يؤخر عذابه إلى يوم القيامة ولا يعذب في الدنيا (قال فإنك من المنظرين) لما
سأل الإنظار أجابه الله سبحانه إلى ما طلبه وأخبره بأنه من جملة من أنظره ممن أخر آجالهم من مخلوقاته، أو من جملة
من أخر عقوبتهم بما اقترفوا، ثم بين سبحانه الغاية التي أمهله إليها. فقال (إلى يوم الوقت المعلوم) وهو يوم القيامة
فإن يوم الدين ويوم يبعثون ويوم الوقت المعلوم كلها عبارات عن يوم القيامة، وقيل المراد بالوقت المعلوم هو
الوقت القريب من البعث، فعند ذلك يموت (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض) الباء للقسم، وما
مصدرية، وجواب القسم لأزينن لهم: أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم في الأرض: أي ما داموا في الدنيا،
والتزيين منه إما بتحسين المعاصي لهم وأيقاعهم فيها - أو يشغلهم بزينة الدنيا عن فعل ما أمرهم الله به فلا يلتفتون إلى
غيرها. وإقسامه ها هنا باغواء الله له لا ينافي أقسامه في موضع آخر بعزة الله التي هي سلطانه وقهره، لأن الإغراء
له هو من جملة ما تصدق عليه العزة (ولأغوينهم أجمعين) أي لأضلنهم عن طريق الهدى وأوقعهم في طريق الغواية
وأحملهم عليها (إلا عبادك منهم المخلصين) قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام: أي الذين استخلصتهم من
العباد. وقرأ الباقون بكسر اللام: أي الذين أخلصوا لك العبادة فلم يقصدوا بها غيرك (قال هذا صراط على مستقيم)
أي حق على أن أراعيه. وهو أن لا يكون لك على عبادي سلطان. قال الكسائي: هذا على الوعيد والتهديد،
كقولك لمن تهدده: طريقك على ومصيرك إلي. وكقوله - إن ربك لبالمرصاد - فكأن معنى هذا الكلام هذا طرق
مرجعه إلى فأجازي كلا بعمله وقيل على هنا بمعنى إلي، وقيل المعنى على أن الصراط المستقيم بالبيان والحجة، وقيل
بالتوفيق والهداية. وقرأ ابن سيرين وقتادة والحسن وقيس بن عباد وأبو رجاء وحميد ويعقوب " هذا صراط على "
على أنه صفة مشبهة، ومعناه رفيع (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) المراد بالعباد هنا هم المخلصون، والمراد أنه
لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه. فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء ونحوهما، فإنه
ذنب مغفور لوقوع التوبة عنه (إلا من اتبعك من الغاوين) استثنى سبحانه من عباده هؤلاء، وهم المتبعون لإبليس
131

من الغاوين عن طريق الحق الواقعين في الضلال، وهو موافق لما قاله إبليس اللعين من قوله لأغوينهم أجمعين
إلا عبادك منهم المخلصين، ويمكن أن يقال: إن بين الكلامين فرقاه (فكلام الله سبحانه فيه نفى سلطان إبليس على
جميع عباده إلا من اتبعه من الغاوين، فيدخل في ذلك المخلصون وغيرهم ممن لم يتبع إبليس من الغاوين، وكلام
إبليس اللعين يتضمن إغواء الجميع إلا المخلصين فدخل فيهم من لم يكن مخلصا ولا تابعا لإبليس غاويا. والحاصل
أن بين المخلصين والغاوين التابعين لإبليس طائفة لم تكن مخلصة ولا غاوية تابعة لإبليس، وقد قيل إن الغاوين المتبعين
لإبليس هم المشركون، ويدل على ذلك قوله تعالى - إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون -، ثم
قال الله سبحانه متوعدا لأتباع إبليس (وإن جهنم لموعدهم أجمعين). أي موعد المتبعين الغاوين، وأجمعين
تأكيد للضمير أو حال (لها سبعة أبواب) يدخل أهل النار منها وإنما كانت سبعة لكثرة أهلها (لكل باب منهم
أي من الأتباع الغواة (جزء مقسوم) أي قدر معلوم متميز عن غيره، وقيل المراد بالأبواب الأطباق طبق فوق
طبق، وهى: جهنم، ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير، ثم سقر ثم الجحيم، ثم الهاوية، فأعلاها للموحدين، والثانية
لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين، والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين والسابعة للمنافقين،
فجهنم أعلى الطباق، ثم ما بعدها تحتها، ثم كذلك، كذا قيل:
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: خلق الإنسان من ثلاث من طين
لازب وصلصال وحمأ مسنون، فالطين اللازب: اللازم الجيد، والصلصال: المدقق الذي يصنع منه الفخار،
والحمأ المسنون: الطين الذي فيه الحمأة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن
مردويه عنه قال: الصلصال الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسر عنها فتشقق ثم تصير مثل الخزف الرقاق. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الصلصال هو التراب اليابس الذي يبل بعد يبسه. وأخرج
ابن أبي حاتم عنه أيضا: قال الصلصال طين خلط برمل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا. قال: الصلصال الذي
إذا ضربته صلصل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا. قال: الصلصال الطين تعصر بيدك فيخرج الماء من بين
أصابعك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (من حمأ مسنون) قال، من طين رطب:
وأخرج هؤلاء عنه أيضا (من حمأ مسنون) قال: من طين منتن. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الجان
مسيخ الجن كالقردة والخنازير مسيخ الإنس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
قتادة قال: الجان. هو إبليس خلق من قبل آدم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (والجان خلقناه
من قبل من نار السموم) قال: من أحسن النار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: نار
السموم الحارة التي تقتل. وأخرج الطيالسي والفريابي وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب
عن ابن مسعود قال: السموم. التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، ثم قرأ (والجان خلقناه
من قبل من نار السموم) وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعا. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس
في قوله (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون) قال: أراد إبليس لا يذوق الموت فقيل إنك من المنظرين إلى يوم
الوقت المعلوم، قال: النفخة الأولى يموت فيها إبليس، وبين النفخة والنفخة أربعون سنة. وأخرج أبو عبيد وابن
جرير وابن المنذر عن ابن سيرين (هذا صراط على مستقيم) أي رفيع. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة
نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (لها سبعة أبواب) بعدد أطباق جهنم كما قدمنا. وأخرج ابن
المبارك وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وهناد وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في صفة النار وابن جرير وابن أبي حاتم
132

والبيهقي في البعث من طرق عن علي قال: أطباق جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيملأ الأول، ثم الثاني، ثم
الثالث حتى: تملأ كلها، وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " بجهنم سبعة أبواب: باب منها لمن سل السيف على أمتي ". وقد ورد في صفة النار
أحاديث وآثار. وأخرج ابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" في قوله تعالى (لكل باب منهم جزء مقسوم) قال: جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء غفلوا
عن الله ".
سورة الحجر الآية (45 - 66)
قوله (إن المتقين في جنات وعيون) أي المتقين للشرك بالله كما قاله جمهور الصحابة والتابعين، وقيل هم الذين
اتقوا جميع المعاصي في جنات وهى البساتين، وعيون وهى الأنهار. قرئ بضم العين من عيون على الأصل،
وبالكسر مراعاة للياء. والتركيب يحتمل أن يكون لجميع المتقين جنات وعيون، أو لكل واحد منهم جنات
وعيون، أو لكل واحد منهم جنة وعين (ادخلوها) قرأ الجمهور بلفظ الأمر على تقدير القول: أي قيل لهم
أدخلوها. وقرأ الحسن وأبو العالية وروى عن يعقوب بضم الهمزة مقطوعة. وفتح الخاء على أنه فعل مبنى للمفعول
أي أدخلهم الله إياها. وقد قيل إنهم إذا كانوا في جنات وعيون. فكيف يقال لهم بعد ذلك ادخلوها على قراءة
الجمهور؟ فإن الأمر لهم بالدخول يشعر بأنهم لم يكونوا فيها. وأجيب بأن المعنى أنهم لما صاروا في الجنات، فإذا
133

انتقلوا من بعضها إلى بعض يقال لهم عند الوصول إلى التي أرادوا الإنتقال إليها ادخلوها، ومعنى (بسلام آمنين)
بسلامة من الآفات، وأمن من المخافات، أو مسلمين على بعضهم بعضا، أو مسلما عليهم من الملائكة، أو من الله
عز وجل (ونزعنا ما في صدروهم من غل) الغل: الحقد والعداوة، وقد مر تفسيره في الأعراف، وانتصاب
(إخوانا) على الحال: أي إخوة في الدين والتعاطف (على سرر متقابلين) أي حال كونهم على سرر، وعلى
صورة مخصوصة وهى التقابل، ينظر بعضهم إلى وجه بعض، والسرر جمع سرير، وقيل هو المجلس الرفيع المهيأ
للسرور، ومنه قولهم: سر الوادي لأفضل موضع منه (لا يمسهم فيها نصب) أي تعب وإعياء لعدم وجود ما يتسبب
عنه ذلك في الجنة، لأنها نعيم خالص، ولذة محضة تحصل لهم بسهولة، وتوافيهم مطالبهم بلا كسب ولا جهد،
بل بمجرد خطور شهوة الشئ بقلوبهم يحصل ذلك الشئ عندهم صفوا عفوا (وما هم منها بمخرجين) أبدا، وفى
هذا الخلود الدائم وعلمهم به تمام اللذة وكمال النعيم، فإن علم من هو في نعمة ولذة بانقطاعها وعدمها بعد حين
موجب لتنغص نعيمه وتكدر لذته. ثم قال سبحانه بعد أن قص علينا ما للمتقين عنده من الجزاء العظيم والأجر
الجزيل (نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم) أي أخبرهم يا محمد أنى أنا الكثير المغفرة لذنوبهم، الكثير الرحمة لهم،
كما حكمت به على نفسي " إن رحمتي سبقت غضبى " اللهم اجعلنا من عبادك الذين تفضلت عليهم بالمغفرة، وأدخلتهم
تحت واسع الرحمة. ثم إنه سبحانه لما أمر رسوله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة، أمره بأن يذكر لهم شيئا مما
يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف، ويتقابل التبشير والتحذير ليكونوا راجين خائفين
فقال (وأن عذابي هو العذاب الأليم) أي الكثير الإيلام، وعند أن جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير
والتحذير صاروا في حالة وسطا بين اليأس والرجاء، وخير الأمور أوساطها، وهى القيام على قدمي الرجاء
والخوف، وبين حالتي الأنس والهيبة، وجملة (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) معطوفة على جملة نبئ عبادي: أي
أخبرهم بما جرى على إبراهيم من الأمر الذي اجتمع فيه له الرجاء والخوف. والتبشير الذي خالطه نوع من الوجل
ليعتبروا بذلك ويعلموا أنها سنة الله سبحانه في عباده. وأيضا لما اشتملت القصة على إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين
كان في ذلك تقريرا لكونه الغفور الرحيم وأن عذابه هو العذاب الأليم، وقد مر تفسير هذه القصة في سورة هود،
وانتصاب (إذ دخلوا عليه) بفعل مضمر معطوف على " نبئ عبادي " أي واذكر لهم دخولهم عليه، أو في محل
نصب على الحال، والضيف في الأصل مصدر، ولذلك وحد وإن كانوا جماعة، وسمى ضيفا لإضافته إلى المضيف
(فقالوا سلاما) أي سلمنا سلاما (قال إنا منكم وجلون) أي فزعون خائفون، وإنما قال هذا بعد أن قرب إليهم
العجل فرآهم لا يأكلون منه كما تقدم في سورة هود - فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة -.
وقيل أنكر السلام منهم لأنه لم يكن في بلادهم، وقيل أنكر دخولهم عليه بغير استئذان (قالوا لا توجل) أي قالت
الملائكة لا، تخف وقرئ لا تاجل ولا توجل من أوجله: أي أخافه، وجملة (إنا نبشرك بغلام عليم) مستأنفة
لتعليل النهى عن الوجل، والعليم: كثير العلم، وقيل هو الحليم كما وقع في موضع آخر من القرآن، وهذا الغلام:
هو إسحاق كما تقدم في هود، ولم يسمه هنا ولا ذكر التبشير بيعقوب اكتفاء بما سلف (قال أبشرتموني) قرأ
الجمهور بألف الاستفهام. وقرأ الأعمش " بشرتموني " بغير الألف (على أن مسني الكبر) في محل نصب على
الحال: أي مع حالة الكبر والهرم (فبم تبشرون) استفهام تعجب، كأنه عجب من حصول الولد له مع ما قد صار
إليه من الهرم الذي جرت العادة بأنه لا يولد لمن بلغ إليه، والمعنى: فبأي شئ تبشرون، فإن البشارة بما لا يكون
عادة لا تصح. وقرأ نافع " تبشرون " بكسر النون والتخفيف وإبقاء الكسرة لتدل على الياء المحذوفة. وقرأ ابن كثير
134

وابن محيصن بكسر النون مشددة على إدغام النون في النون، وأصله تبشرونني. وقرأ الباقون " تبشرون " بفتح
النون (قالوا بشرناك بالحق) أي باليقين الذي لا خلف فيه، فإن ذلك وعد الله وهو لا يخلف الميعاد ولا يستحيل
عليه شئ، فإنه القادر على كل شئ (فلا تكن من القانطين) هكذا قرأ الجمهور بإثبات الألف وقرأ الأعمش
ويحيى بن وثاب " من القنطين " بغير ألف، وروى ذلك عن أبي عمرو: أي من الآيسين من ذلك الذي بشرناك
به (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) قرئ بفتح النون من يقنط وبكسرها وهما لغتان. وحكى فيه ضم
النون: والضالون المكذبون، أو المخطئون الذاهبون عن طريق الصواب: أي إنما استبعدت الولد لكبر سنى
لا لقنوطي من رحمة ربى، ثم سألهم عما لأجله أرسلهم الله سبحانه ف (قال فما خطبكم أيها المرسلون) الخطب: الأمر
الخطير والشأن العظيم: أي فما أمركم وشأنكم وما الذي جئتم به غير ما قد بشرتموني به، وكأنه قد فهم أن مجيئهم
ليس لمجرد البشارة، بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) أي إلى قوم له إجرام،
فيدخل تحت ذلك الشرك وما هو دونه، وهؤلاء القوم: هم قوم لوط، ثم استثنى منهم من ليسوا مجرمين فقال (إلا آل
لوط) وهو استثناء متصل، لأنه من الضمير في مجرمين، ولو كان من قوم لكان منقطعا لكونهم قد وصفوا
بكونهم مجرمين، وليس آل لوط مجرمين، ثم ذكر ما سيختص به آل لوط من الكرامة لعدم دخولهم مع القوم في
إجرامهم فقال (إنا لمنجوهم أجمعين) أي آل لوط، وهم أتباعه وأهل دينه، وهذه الجملة مستأنفة على تقدير
كون الاستثناء متصلا كأنه قيل ماذا يكون حال آل لوط؟ فقال: إنا لمنجوهم أجمعين، وأما على تقدير كون
الاستثناء منقطعا فهي خبر: أي لكن آل لوط ناجون من عذابنا. وقرأ حمزة والكسائي " لمنجوهم " بالتخفيف
من أنجا. وقرأ الباقون بالتشديد من نجى، واختار هذه القراءة الأخيرة أبو عبيدة وأبو حاتم، والتنجية والإنجاء
التخليص مما وقع فيه غيرهم (إلا امرأته) هذا الاستثناء من الضمير في منجوهم إخراجا لها من التنجية: أي إلا امرأته
فليست ممن ننجيه بل ممن نهلكه، وقيل إن الاستثناء من آل لوط باعتبار ما حكم لهم به من التنجية، والمعنى:
قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم إلا آل لوط إنا لمنجوهم إلا امرأته فإنها من الهالكين، ومعنى (قدرنا أنها
لمن الغابرين) قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب مع الكفرة، والغابر الباقي، قال الشاعر:
لا تكسح الشول بأغبارها * إنك لا تدرى من الناتج
والإغبار: بقايا اللبن، قال الزجاج: معنى قدرنا دبرنا وهو قريب من معنى قضينا وأصل التقدير: جعل
الشئ على مقدار الكفاية. وقرأ عاصم من رواية أبى بكر والمفضل " قدرنا " بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد.
قال الهروي: هما بمعنى، وإنما أسند التقدير إلى الملائكة مع كونه من فعل الله سبحانه لما لهم من القرب عند الله
(فلما جاء آل لوط المرسلون) هذه الجملة مستأنفة لبيان وإهلاك من يستحق الهلاك وتنجية من يستحق النجاة (قال
إنكم قوم منكرون) أي قال لوط مخاطبا لهم إنكم قوم منكرون: أي لا أعرفكم بل أنكركم (قالوا بل جئناك بما
كانوا فيه يمترون) أي بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه، فالإضراب هو عن مجيئهم بما ينكره، كأنهم قالوا: ما جئناك
بما خطر ببالك من المكروه، بل جئناك بما فيه سرورك، وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه وهم يكذبونك
(وأتيناك بالحق) أي باليقين الذي لا مرية فيه ولا تردد، وهو العذاب النازل بهم لا محالة (وإنا لصادقون) في
ذلك الخبر الذي أخبرناك، وقد تقدم تفسير قوله (فاسر بأهلك بقطع من الليل) في سورة هود (واتبع أدبارهم)
أي كن من ورائهم تذودهم لئلا يختلف منهم أحد فيناله العذاب (ولا يلتفت منكم أحد) أي لا تلتفت أنت ولا
يلتفت أحد منهم فيرى ما نزل بهم من العذاب، فيشتغل بالنظر في ذلك ويتباطأ عن سرعة السير والبعد عن ديار
135

الظالمين، وقيل معنى لا يلتفت: لا يتخلف (وامضوا حيث تؤمرون) أي إلى الجهة التي أمركم الله سبحانه بالمضي
إليها، وهى جهة الشام، وقيل مصر، وقيل قرية من قرى لوط، وقيل أرض الخليل (وقضينا إليه) أي أوحينا
إلى لوط (ذلك الأمر) وهو إهلاك قومه، ثم فسره بقوله (أن دابر هؤلاء مقطوع) قال الزجاج: موضع أن
نصب، وهو بدل من ذلك الأمر: والدابر هو الآخر: أي أن آخر من يبقي منهم يهلك وقت الصبح، وانتصاب
(مصبحين) على الحال: أي حال كونهم داخلين في وقت الصبح، ومثله - فقطع دابر القوم الذين ظلموا -.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله (آمنين) قال: آمنوا الموت فلا يموتون ولا يكبرون ولا يسقمون
ولا يعرون ولا يجوعون. وأخرج ابن جرير عن علي (ونزعنا ما في صدورهم من غل) قال: العداوة. وأخرج
سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن الحسن البصري قال: قال علي بن أبي طالب: فينا
والله أهل الجنة نزلت (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين). وأخرج ابن عساكر وابن
مردويه عنه في الآية قال: نزلت في ثلاثة أحياء من العرب: في بني هاشم، وبني تميم، وبني عدي، في وفى
أبي بكر وعمر. وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن كثير النواء. قال: قلت لأبي جعفر إن فلانا حدثني عن
علي بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي (ونزعنا ما في صدورهم من غل) قال: والله إنها
لفيهم أنزلت، وفيمن تنزل إلا فيهم؟ قلت: وأي غل هو؟ قال: غل الجاهلية، إن بني تميم وبني عدي وبني
هاشم كان بينهم في الجاهلية، فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده
فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن علي من طرق أنه قال لابن طلحة: إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من
الذين قال الله فيهم (ونزعنا ما في صدورهم) الآية، فقال رجل من همدان: الله أعدل من ذلك، فصاح علي
عليه صيحة تداعى لها القصر وقال: فيمن إذن إن لم نكن نحن أولئك. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة
والطبراني وابن مردويه عن علي قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان والزبير وطلحة فيمن قال الله (ونزعنا
ما في صدورهم من غل). وأخرج ابن مردويه وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
في هذه الآية قال: نزلت في عشرة: أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، وسعد وسعيد،
وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح موقوفا عليه.
وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (على سرر متقابلين) قال: لا يرى
بعضهم قفا بعض. وأخرجه ابن المنذر وابن مردويه عن مجاهد عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني
وأبو القاسم البغوي وابن مردويه وابن عساكر عن زيد بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فتلا هذه الآية (إخوانا على سرر متقابلين) قال: المتحابون في الله في الجنة ينظر بعضهم إلى بعض.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله (لا يمسهم فيها نصب) قال: المشقة والأذى. وأخرج ابن جرير وابن
مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اطلع علينا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال: ألا أراكم تضحكون، ثم أدبر حتى إذا
كان عند الحجر رجع القهقري فقال: إني لما خرجت جاء جبريل فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: لم
تقنط عبادي؟ (نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم). وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناس من أصحابه يضحكون فقال:
136

اذكروا الجنة واذكروا النار، فنزلت (نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم). وأخرج الطبراني والبزار وابن
مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر نحوه. وأخرج البخاري ومسلم
وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك
عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر كل الذي عند الله من رحمته لم
ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار " وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة
(قالوا لا توجل) لا تخف. وأخرج بن أبي حاتم عن السدي (من القانطين) قال: الآيسين. وأخرج ابن أبي حاتم
عن قتادة (إنها لمن الغابرين) يعني الباقين في عذاب الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد
في قوله (إنكم قوم منكرون) قال: أنكرهم لوط، وفى قوله (بما كانوا فيه يمترون) قال: بعذاب قوم لوط.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة (بما كانوا فيه يمترون) قال: يشكون. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير
وابن المنذر عن قتادة في قوله (واتبع أدبارهم) قال: أمر أن يكون خلف أهله يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي (وامضوا حيث تؤمرون) قال: أخرجهم الله إلى الشام. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن زيد (وقضينا إليه ذلك الأمر) قال: أوحيناه إليه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (أن
دابر هؤلاء مقطوع) يعنى استئصال هلاكهم.
سورة الحجر الآية (67 - 77)
ذكر سبحانه ما كان من قوم لوط عند وصول الملائكة إلى قريتهم فقال (وجاء أهل المدينة يستبشرون)
أي أهل مدينة قوم لوط، وهى سلوم كما سبق، وجملة يستبشرون في محل نصب على الحال: أي مستبشرون
بأضياف لوط طمعا في ارتكاب الفاحشة منهم ف (قال) لهم لوط (إن هؤلاء ضيفي) وحد الضيف لأنه مصدر كما
تقدم، والمراد أضيافي، وسماهم ضيفا لأنه رآهم على هيئة الأضياف، وقومه رأوهم مردا حسان الوجوه، فلذلك
طمعوا فيهم (فلا تفضحون) يقال: فضحه يفضحه وفضحا إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار باظهاره،
والمعنى: لا تفضحون عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فيعلمون أني عاجز عن حماية من نزل بي، أو لا تفضحون
بفضيحة ضيفي، فإن من فعل ما يفضح الضيف فقد فعل ما يفضح المضيف (واتقوا الله) في أمرهم (ولا تخزون)
يجوز أن تكون من الخزي: وهو الذل والهوان، ويجوز أن يكون من الخزاية وهى الحياء والخجل، وقد تقدم
تفسير ذلك في هود (قالوا) أي قوم لوط مجيبين له (أو لم ننهك عن العالمين) الاستفهام للإنكار، والواو للعطف
على مقدر: أي ألم نتقدم إليك وننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ وقيل نهوه
137

عن ضيافة الناس، ويجوز حمل ما في الآية على ما هو أعم من هذين الأمرين (قال هؤلاء بناتي) فتزوجوهن (إن
كنتم فاعلين) ما عزمتم عليه من فعل الفاحشة بضيفي فهؤلاء بناتي تزوجوهن حلالا ولا تركبوا الحرام، وقيل
أراد ببناته نساء قومه، لكون النبي بمنزلة الأب لقومه، وقد تقدم تفسير هذا في هود (لعمرك إنهم لفي سكرتهم
يعمهون) العمر والعمر بالفتح والضم واحد، لكنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فإنه كثير الدور على
ألسنتهم، ذكر ذلك الزجاج. قال القاضي عياض: اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة
حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي فقال: قال
المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى هاهنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له. قال أبو الجوزاء:
ما أقسم الله سبحانه بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أكرم البرية عنده. قال ابن العربي: ما الذي
يمتنع أن يقسم الله سبحانه بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتى
ضعفه من شرف لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أكرم على الله منه أو لا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى
التكليم، وأعطى ذلك لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإذا أقسم الله سبحانه بحياة لوط فحياة محمد أرفع. قال
القرطبي ما قاله حسن فإنه يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلاما معترضا في قصة لوط فإن
قيل قد أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين، ونحو ذلك فما فيهما من فضل. وأجيب بأنه ما من شئ
أقسم الله به إلا وفى ذلك دلالة على فضله على جنسه، وذكر صاحب الكشاف وأتباعه أن هذا القسم هو من
الملائكة على إرادة القول: أي قالت الملائكة للوط لعمرك، ثم قال: وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له انتهى. وقد كره كثير من العلماء القسم بغير الله سبحانه
وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله فليس لعباده أن يقسموا بغيره، وهو سبحانه
يقسم بما شاء من مخلوقاته - لا يسأل عما يفعل وهم يسألون -، وقيل الإقسام منه سبحانه بالتين والزيتون وطور
سينين والنجم والضحى والشمس والليل ونحو ذلك هو على حذف مضاف هو المقسم به: أي وخالق التين وكذلك
ما بعده، وفى قوله (لعمرك) أي وخالق عمرك، ومعنى " أنهم لفي سكرتهم يعمهون ": لفي غوايتهم يتحيرون، جعل
الغواية لكونها تذهب بعقل صاحبها كما تذهب به الخمر سكرة والضمير لقريش على أن القسم بمحمد صلى الله عليه
وآله وسلم، أو القوم لوط على أن القسم للرسول عليه السلام (فأخذتهم النصيحة) العظيمة أو صيحة جبريل حال كونهم
(مشرقين) أي داخلين في وقت الشروق، يقال أشرقت الشمس: أي أضاءت وشرقت إذا طلعت وقيل هما لغتان بمعنى
واحد وأشرق القوم إذا دخلوا في وقت شروق الشمس، وقيل أراد شروق الفجر، وقيل أول العذاب كان عند شروق
الفجر وامتد إلى طلوع الشمس. والصيحة العذاب (فجعلنا عاليها سافلها) أي عالي المدينة سافلها (وأمطرنا
عليهم حجارة من سجيل) من طين متحجر، وقد تقدم الكلام مستوفى على هذا في سورة هود (إن في ذلك) أي
في المذكور من قصتهم وبيان ما أصابهم (لآيات) لعلامات يستدل بها (للمتوسمين) للمتفكرين الناظرين في الأمر
ومنه قول زهير:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر * أنيق لعين الناظر المتوسم
وقال الآخر: أو كلما وردت عكاظ قبيلة * بعثوا إلي عريفهم يتوسم
وقال أبو عبيدة: للمتبصرين، وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من قرنك إلى قدمك، والمعنى متقارب،
وأصل التوسم التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير (وإنها لسبيل مقيم) يعني قرى
138

قوم لوط أو مدينتهم لأنه على طريق ثابت وهى الطريق من المدينة إلى الشام فإن السالك في هذه الطريق يمر بتلك القرى
(إن في ذلك) المذكور من المدينة أو القرى (لآية للمؤمنين) يعتبرون بها فإن المؤمنين من العباد هم الذين يعتبرون
بما يشاهدونه من الآثار.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وجاء أهل المدينة يستبشرون) قال: استبشروا
بأضياف نبي الله لوط حين نزلوا به لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (أو لم ننهك عن العالمين) قال: يقولون أو لم ننهك أن تضيف أحدا أو تؤويه.
(قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين) أمرهم لوط بتزويج النساء وأراد أن يبقى أضيافه ببناته. وأخرج ابن أبي شيبة
وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس قال: ما خلق الله
وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال (لعمرك
إنهم لفي سكرتهم يعمهون) يقول: وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عنه في قوله (لعمرك) قال: لعيشك. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة
محمد قال (لعمرك) الآية، وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون أن يقول الرجل لعمري
يرونه كقوله وحياتي. ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة (إنهم لفي سكرتهم يعمهون) أي في ضلالهم
يلعبون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الأعمش في الآية لفي غفلتهم يترددون. وأخرج ابن المنذر عن
ابن جريج فأخذتهم الصيحة مثل الصاعقة، وكل شئ أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة. وأخرج ابن جرير عنه
(مشرقين) قال: حين أشرقت الشمس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس
في قوله (إن في ذلك لآية) قال: علامة أما ترى الرجل يرسل خاتمه إلى أهله، فيقول هاتوا كذا وكذا، فإذا
رأوه عرفوا أنه حق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (للمتوسمين) قال: للناظرين. وأخرج
عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة قال: للمعتبرين. وأخرج
ابن جريج وابن المنذر عن مجاهد قال: للمتفرسين، وأخرج البخاري في التاريخ والترمذي وابن جرير وابن
أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) ". وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس (وإنها لبسبيل مقيم) يقول لبهلاك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن مجاهد قال: لبطريق مقيم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: لبطريق واضح.
سورة الحجر الآية (78 - 86)
139

قوله (وإن كان أصحاب الأيكة) إن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف: أي وإن الشأن
كان أصحاب الأيكة. والأيكة الغيضة، وهى جماع الشجر، والجمع الأيك. ويروى أن شجرهم كان دوما،
وهو المقل، فالمعنى: وإن كان أصحاب الشجر المجتمع، وقيل الأيكة اسم القرية التي كانوا فيها. قال أبو عبيدة
الأيكة: وليكة مدينتهم كمكة وبكة، وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب، وقد تقدم خبرهم، واقتصر الله سبحانه
هنا على وصفهم بالظلم، وقد فصل ذلك الظلم فيما سبق، والضمير في (وإنهما لبإمام مبين) يرجع إلى مدينة قوم
لوط، ومكان أصحاب الأيكة: أي وإن المكانين لبطريق واضح، والإمام اسم لما يؤتم به، ومن جملة ذلك
الطريق التي تسلك. قال الفراء والزجاج: سمى الطريق إماما لأنه يؤتم ويتبع. وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم
به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده، وقيل الضمير للأيكة ومدين لأن شعيبا كان ينسب إليهما. ثم إن الله سبحانه
ختم القصص بقصة ثمود فقال (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين) الحجر اسم لديار ثمود. قاله الأزهري،
وهى ما بين مكة وتبوك. وقال ابن جرير: هي أرض بين الحجاز والشام. وقال: المرسلين، ولم يرسل إليهم إلا
صالح، لأن من كذب واحدا من الرسل فقد كذب الباقين لكونهم متفقين في الدعوة إلى الله، وقيل كذبوا صالحا
ومن تقدمه من الأنبياء، وقيل كذبوا صالحا ومن معه من المؤمنين (وآتيناهم آياتنا) أي الآيات المنزلة على نبيهم،
ومن جملتها الناقة فإن فيها آيات جمة كخروجها من الصخرة ودنو نتاجها عند خروجها وعظمها وكثرة لبنها (فكانوا
عنها معرضين) أي غير معتبرين، ولهذا عقروا الناقة وخالفوا ما أمرهم به نبيهم (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا)
النحت في كلام العرب: البري والنجر، نحته ينحته بالكسر نحتا: أي براه، وفى التنزيل - أتعبدون ما تنحتون -
أي تنجرون، وكانوا يتخذون لأنفسهم من الجبال بيوتا: أي يخرقونها في الجبال، وانتصاب (آمنين) على الحال
قال الفراء: آمنين من أن يقع عليهم، وقيل آمنين من الموت، وقيل من العذاب ركونا منهم على قوتها ووثاقتها
(فأخذتهم الصيحة مصبحين) أي داخلين في وقت الصبح، وقد تقدم ذكر الصيحة في الأعراف وفى هود،
وتقدم أيضا قريبا (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) أي لم يدفع عنهم شيئا من عذاب الله ما كانوا يكسبون من
الأموال والحصون في الجبال (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) أي متلبسة بالحق، وهو
ما فيهما من الفوائد والمصالح، وقيل المراد بالحق مجازاة المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته كما في قوله سبحانه - ولله
ما في السماوات وما في الأرض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى - وقيل المراد بالحق
الزوال لأنها مخلوقة وكل مخلوق زائل (وإن الساعة لآتية) وعند إتيانها ينتقم الله ممن يستحق العذاب، ويحسن إلى
من يستحق الإحسان، وفيه وعيد للعصاة وتهديد، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يصفح
عن قومه، فقال (فاصفح الصفح الجميل) أي تجاوز عنهم واعف عفوا حسنا، وقيل فأعرض عنهم إعراضا جميلا
ولا تعجل عليهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. قيل وهذا منسوخ بآية السيف (إن ربك هو الخلاق العليم)
أي الخالق للخلق جميعا العليم بأحوالهم وبالصالح يكون والطالح منهم.
وقد أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن مدين
وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: أصحاب الأيكة
هم قوم شعيب، والأيكة ذات آجام وشجر كانوا فيها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن
عباس قال: الأيكة الغيضة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: أصحاب الأيكة أهل مدين، والأيكة الملتفة من
الشجر. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الأيكة مجمع الشئ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
140

عنه أيضا قال في قوله (وإنهما لبإمام مبين) طريق ظاهر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن قتادة في أصحاب الحجر قال: أصحاب الوادي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كان أصحاب الحجر ثمود
وقوم صالح. وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحاب الحجر " لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا
باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم ". وأخرج ابن مردويه عنه قال: نزل رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب
منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم، فأمره بإهراق القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم
على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، فقال: إني أخشى أن
يصيبكم مثل الذي أصابهم فلا تدخلوا عليهم. وأخرج ابن مردويه عن سبرة بن معبد أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال بالحجر لأصحابه " من عمل من هذا الماء شيئا فليلقه " قال: ومنهم من عجن العجين، ومنهم من حاس
الحيس. وأخرج ابن مردويه وابن النجار عن علي في قوله (فاصفح الصفح الجميل) قال: الرضا بغير عتاب.
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: هذه الآية قبل
القتال. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله.
سورة الحجر الآية (87 - 99)
اختلف أهل العلم في السبع المثاني ماذا هي؟ فقال جمهور المفسرين: إنها الفاتحة. قال الواحدي وأكثر
المفسرين على أنها فاتحة الكتاب، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والربيع والكلبي.
وزاد القرطبي أبا هريرة وأبا العالية، وزاد النيسابوري الضحاك وسعيد بن جبير، وقد روى ذلك من قول رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي بيانه فتعين المصير إليه. وقيل هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران،
والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة الأنفال والتوبة، لأنها كسورة واحدة إذ ليس بينهما تسمية
روى هذا القول عن ابن عباس. وقيل المراد بالمثاني السبعة الأحزاب فإنها سبع صحائف، والمثاني جمع مثناة من
141

التثنية أو جمع مثنية. وقال الزجاج: تثنى بما يقرأ بعدها معها. فعلى القول الأول يكون وجه تسمية الفاتحة مثاني
أنها تثنى: أي تكرر في كل صلاة، وعلى القول بأنها السبع الطوال فوجه التسمية إن العبر والأحكام والحدود
كررت فيها. وعلى القول بأنها السبعة الأحزاب يكون وجه التسمية هو تكرير ما في القرآن من القصص ونحوها
وقد ذهب إلى أن المراد بالسبع المثاني القرآن كله الضحاك وطاوس وأبو مالك، وهو رواية عن ابن عباس واستدلوا
بقوله تعالى - كتابا متشابها مثاني - وقيل المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن: وهى الأمر، والنهى، والتبشير،
والإنذار، وضرب الأمثال، وتعريف النعم، وأنباء قرون ماضية. قاله زياد بن أبي مريم، ولا يخفى عليك أن
تسمية الفاتحة مثاني لا تستلزم نفى تسمية غيرها بهذا الاسم، وقد تقرر أنها المرادة بهذه الآية، فلا يقدح في ذلك
صدق وصف المثاني على غيرها (والقرآن العظيم) معطوف على سبعا من المثاني، ويكون من عطف العام على
الخاص لأن الفاتحة بعض من القرآن، وكذلك إن أريد بالسبع المثاني السبع الطوال لأنها بعض من القرآن، وأما إذا أريد
بها السبعة الأحزاب أو جميع القرآن أو أقسامه، فيكون من باب عطف أحد الوصفين على الآخر، كما قيل في قول
الشاعر: * إلى الملك القرم وابن الهمام * ومما يقوى كون السبع المثاني هي الفاتحة أن هذه السورة مكية، وأكثر السبع
الطوال مدنية، وكذلك أكثر القرآن وأكثر أقسامه، وظاهر قوله (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) أنه قد تقدم
إيتاء السبع على نزول هذه الآية، و " من " في من المثاني للتبعيض أو البيان على اختلاف الأقوال، ذكر معنى
ذلك الزجاج فقال: هي للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال، وللبيان إذا أردت الإشباع. ثم لما بين
لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما أنعم به عليه من هذه النعمة الدينية نفره عن اللذات العاجلة الزائلة فقال (لا تمدن
عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) أي لا تطمح ببصرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة فيها وتمن لها، والأزواج
الأصناف، قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري: الأزواج القرناء. قال الواحدي: إنما يكون مادا عينيه إلى الشئ
إذا أدام النظر نحوه، وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه. وقال بعضهم: معنى الآية لا تحسدن أحدا
على ما أوتى من الدنيا، ورد بأن الحسد منهى عنه مطلقا، وإنما قال في هذه السورة لا تمدن بغير واو، لأنه لم
يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه، ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم فقال
(ولا تحزن عليهم) حيث لم يؤمنوا وصمموا على الكفر والعناد، وقيل المعنى: لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا
فلك الآخرة. والأول أولى، ثم لما نهاه عن أن يمد عينيه إلى أموال الكفار ولا يحزن عليهم. وكان ذلك يستلزم
التهاون بهم وبما معهم أمره أن يتواضع للمؤمنين، فقال (واخفض جناحك للمؤمنين) وخفض الجناح كناية عن
التواضع ولين الجانب، ومنه قوله سبحانه - واخفض لهما جناح الذل -، وقول الكميت:
خفضت لهم منى جناحي مودة * إلى كنف عطفاه أهل ومرحب
وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه، ثم قبضه على الفرخ فجعل ذلك وصفا لتواضع
الإنسان لأتباعه، ويقال فلان خافض الجناح: أي وقور ساكن، والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه - واضمم
يدك إلى جناحك -، ومنه قول الشاعر:
وحسبك فتنة لزعيم قوم * يمد على أخي سقم جناحا
(وقل إني أنا النذير المبين) أي المنذر المظهر لقومه ما يصيبهم من عذاب الله (كما أنزلنا على المقتسمين) قيل
142

المفعول محذوف: أي مفعول أنزلنا، والتقدير: كما أنزلنا على المقتسمين عذابا، فيكون المعنى: إني أنا النذير
المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين الذي أنزلناه عليهم كقوله تعالى - أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد
وثمود -، وقيل إن الكاف زائدة، والتقدير: إني أنا النذير المبين أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين من العذاب،
وقيل هو متعلق بقوله - ولقد آتيناك - أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون، والأولى أن
يتعلق بقوله (إني أنا النذير المبين) لأنه في قوة الأمر بالإنذار. وقد اختلف في المقتسمين من هم؟ فقال الفراء:
هم ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا أنقاب مكة وفجاجها يقولون لمن دخلها: لا تغتروا
بهذا الخارج فينا فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر وربما قالوا شاعر وربما قالوا كاهن، فقيل لهم مقتسمين لأنهم
اقتسموا هذه الطرق، وقيل إنهم قوم من قريش اقتسموا كتاب الله، فجعلوا بعضه شعرا، وبعضه سحرا، وبعضه
كهانة، وبعضه أساطير الأولين. قاله قتادة، وقيل هم أهل الكتاب، وسموا مقتسمين لأنهم كانوا يقتسمون
القرآن استهزاء، فيقول بعضهم هذه السورة لي وهذه لك، روى هذا عن ابن عباس. وقيل إنهم قسموا كتابهم
وفرقوه وبددوه وحرفوه، وقيل المراد قوم صالح تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين كما قال تعالى - تقاسموا بالله
لنبيتنه وأهله - وقيل تقاسموا أيمانا تحالفوا عليها، قاله الأخفش، وقيل إنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا
ربيعة وأبو جهل بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج ذكره الماوردي (الذين جعلوا
القرآن عضين) جمع عضة، وأصلها عضوة فعلة من عضي الشاة إذا جعلها أجزاء، فيكون المعنى على هذا: الذين
جعلوا القرآن أجزاء متفرقة، بعضه شعر، وبعضه سحر، وبعضه كهانة ونحو ذلك، وقيل هو مأخوذ من عضته
إذا بهته، فالمحذوف منه الهاء لا الواو، وجمعت العضة على المعنيين جمع العقلاء لما لحقها من الحذف فجعلوا ذلك
عوضا عما لحقها من الحذف، وقيل معنى عضين إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، ومما يؤيد، أن معنى
عضين التفريق، قول رؤبة: * وليس دين الله بالعضين *: أي بالمفرق، وقيل العضة والعضين في لغة
قريش السحر: وهم يقولون للساحر عاضه، وللساحرة عاضهة، ومنه قول الشاعر:
أعوذ بربي من النافثات * في عقد العاضهة والعضه
وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن العاضهة والمستعضهة، وفسر بالساحرة والمستسحرة
والمعنى: أنهم أكثروا البهت على القرآن، وسموه سحرا وكذبا وأساطير الأولين، ونظير عضة في النقصان شفة،
والأصل شفهة، وكذلك سنة، والأصل سنهة. قال الكسائي: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون. وقال
الفراء: إنه مأخوذ من العضاه، وهي شجر يؤذى ويجرح كالشوك، ويجوز أن يراد بالقرآن التوراة والإنجيل
لكونهما مما يقرأ، ويراد بالمقتسمين هم اليهود والنصارى: أي جعلوهما أجزاء متفرقة، وهو أحد الأقوال المتقدمة
(فوربك لنسألنهم أجمعين) أي لنسألن هؤلاء الكفرة أجمعين يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال
التي يحاسبون عليها ويسألون عنها، وقيل إن المراد سؤالهم عن كلمة التوحيد، والعموم في عما كانوا يعملون، يفيد
ما هو أوسع من ذلك، وقيل إن المسؤولين ها هنا هم جميع المؤمنين والعصاة والكفار، ويدل عليه قوله - ثم لتسألن
يومئذ عن النعيم - وقوله - وقفوهم إنهم مسؤولون -، وقوله - إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم -، ويمكن أن
يقال: إن قصر هذا السؤال على المذكورين في السياق وصرف العموم إليهم لا ينافي سؤال غيرهم (فاصدع بما
تؤمر) قال الزجاج: يقول أظهر ما تؤمر به، أخذ من الصديع وهو الصبح انتهى. وأصل الصدع الفرق والشق
يقال صدعته فانصدع: أي انشق، وتصدع القوم: أي تفرقوا ومنه - يومئذ يصدعون - أي يتفرقون. قال
143

الفراء: أراد فاصدع بالأمر: أي أظهر دينك فما مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر: وقال ابن الأعرابي: معنى
اصدع بما تؤمر: أي اقصد، وقيل فاصدع بما تؤمر: أي فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم
يتفرقون، والأولى أن الصدع الإظهار، كما قاله الزجاج والفراء وغيرهم. قال النحويون: المعنى بما تؤمر به من
الشرائع، وجوزوا أن تكون مصدرية: أي بأمرك وشأنك. قال الواحدي: قال المفسرون: أي اجهر بالأمر:
أي بأمرك بعد إظهار الدعوة، وما زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية، ثم أمره
سبحانه بعد أمره بالصدع بالإعراض وعدم الالتفات إلى المشركين، فقال (وأعرض عن المشركين) أي لا تبال
بهم ولا تلتفت إليهم إذا لاموك قد على إظهار الدعوة، ثم أكد هذا الأمر وثبت قلب رسوله بقوله (إنا كفيناك
المستهزئين) مع كونهم كانوا من أكابر الكفار، وأهل الشوكة فيهم فإذا كفاه الله أمرهم بقمعهم وتدميرهم كفاه أمر
من هو دونهم بالأولى، وهؤلاء المستهزئون كانوا خمسة من رؤساء أهل مكة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل
والأسود بن المطلب بن الحرث بن زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن الطلاطلة. كذا قال القرطبي
ووافقه غيره من المفسرين. وقد أهلكهم الله جميعا وكفاهم أمرهم في يوم واحد، ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك
فقال (الذين يجعلون مع الله إلها آخر) فلم يكن ذنبهم مجرد الاستهزاء، بل لهم ذنب آخر وهو الشرك بالله سبحانه، ثم
توعدهم فقال (فسوف يعلمون) كيف عاقبتهم في الآخرة وما يصيبهم من عقوبة الله سبحانه، ثم ذكر تسلية أخرى
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد التسلية الأولى بكفايته شرهم ودفعه لمكرهم فقال (ولقد نعلم أنك يضيق
صدرك بما يقولون) من الأقوال الكفرية المتضمنة للطعن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسحر والجنون
والكهانة والكذب، وقد كان يحصل ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمقتضى الجبلة البشرية والمزاج
الإنساني، ثم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال (فسبح
بحمد ربك) أي متلبسا بحمده: أي افعل التسبيح المتلبس بالحمد (وكن من الساجدين) أي المصلين فإنك إذا
فعلت ذلك كشف الله همك وأذهب غمك وشرح صدرك، ثم أمره بعبادة ربه: أي بالدوام عليها إلى غاية هي قوله
(حتى يأتيك اليقين) أي الموت. قال الواحدي. قال جماعة المفسرين: يعنى الموت لأنه موقن به. قال الزجاج
المعنى أعبد ربك أبدا، لأنه لو قيل اعبد ربك بغير توقيت لجاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعا، فإذا قال
حتى يأتيك اليقين، فقد أمره بالإقامة على العبادة أبدا ما دام حيا.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر في قوله (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) قال: السبع المثاني فاتحة
الكتاب. وأخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني وابن مردويه والبيهقي
من طرق عن علي بمثله. وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود مثله وزاد: والقرآن
العظيم سائر القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن
عباس في الآية قال: فاتحة الكتاب استثناها الله لأمة محمد. فرفعها في أم الكتاب فادخرها لهم حتى أخرجها ولم
يعطها أحد قبل، قيل فأين الآية السابعة؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم. وروى عنه نحو هذا من طرق. وأخرج
ابن الضريس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. وأخرج ابن جرير عن
أبي بن كعب قال: السبع المثاني الحمد لله رب العالمين. وروى نحو قول هؤلاء الصحابة عن جماعة من التابعين.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى أنه قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ألا أعلمك
أفضل سورة قبل أن أخرج من المسجد، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليخرج فذكرت، فقال: الحمد
144

لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم ". وأخرج البخاري أيضا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم " أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم " فوجب بهذا المصير إلى القول بأنها فاتحة
الكتاب، ولكن تسميتها بذلك لا ينافي تسمية غيرها به كما قدمنا. وأخرج ابن مردويه عن عمر قال في الآية: هي
السبع الطوال. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله. وأخرج الفريابي وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال في الآية: هي السبع
الطوال. وأخرج الدارمي وابن مردويه عن أبي بن كعب مثله. وروى نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج
ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي فاتحة الكتاب والسبع الطوال. وأخرج ابن جرير
عنه في الآية قال: مائتي من القرآن، ألم تسمع لقول الله - الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني -. وأخرج
ابن جرير عن الضحاك قال: المثاني القرآن يذكر الله القصة الواحدة مرارا. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن زياد بن أبي مريم في الآية قال: أعطيتك سبعة أجزاء: مر، وانه، وبشر
وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم، واتل نبأ القرآن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله (لا تمدن عينيك) قال: نهى الرجل أن يتمنى مال، صاحبه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد
في قوله (أزواجا منهم) قال: الأغنياء الأمثال والأشباه. وأخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة قال: من أعطى
القرآن فمد عينه إلى شئ مما صغر القرآن فقد خالف القرآن، ألم يسمع إلى قوله (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) وإلى
قوله (ورزق ربك خير وأبقى) وقد فسر ابن عيينة أيضا الحديث الصحيح " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " فقال:
إن المعنى يستغنى به. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله (واخفض جناحك) قال: اخضع. وأخرج
الفريابي وسعيد بن منصور والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه من طرق عن
ابن عباس في قوله (كما أنزلنا على المقتسمين) الآية قال: هم أهل الكتاب جزؤه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا
ببعضه. وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه قال: عضين فرقا. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم
وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس أنها نزلت في نفر من قريش كانوا يصدون الناس عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم منهم الوليد بن المغيرة. وأخرج الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أنس عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) قال: عن قول لا إله إلا الله.
وأخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عن أنس موقوفا. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
(فاصدع بما تؤمر) فامضه، وفي علي بن أبي طلحة مقال معروف. وأخرج ابن جرير عن أبي عبيدة بن عبد الله
بن مسعود قال: ما زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستخفيا حتى نزل (فاصدع بما تؤمر فخرج هو وأصحابه.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هذا أمر من الله لنبيه بتبليغ رسالته قومه وجميع من
أرسل إليه. وأخرج ابن المنذر عنه (فاصدع بما تؤمر) قال: أعلن بما تؤمر. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي
حاتم عن ابن عباس (وأعرض عن المشركين) قال: نسخه قوله تعالى - فاقتلوا المشركين -. وأخرج الطبراني
في الأوسط وابن مردويه وأبو نعيم والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله (إنا كفيناك المستهزئين) قال:
المستهزئون الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عيطل السهمي والعاص
ابن وائل، وذكر قصة هلاكهم. وقد روى هذا عن جماعة من الصحابة مع زيادة في عددهم ونقص على طول
145

في ذلك. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم في التاريخ وابن مردويه والديلمي عن أبي مسلم الخولاني
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما أوحى إلى أن أجمع المال وأكن من التاجرين، ولكن أوحى
إلى أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين ". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود
مرفوعا مثله. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه. وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق
من طريق عبيد الله بن أبان بن عثمان بن حذيفة ابن أوس الطائفي قال: حدثني أبان بن عثمان عن أبيه عن جده
يرفعه مثل حديث أبي مسلم الخولاني. وأخرج ابن أبي شيبة عن سالم بن عبد الله بن عمر (حتى يأتيك اليقين) قال
الموت. وأخرج ابن المبارك عن الحسن مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله.
تفسير سورة النحل
آياتها مائة آية وثمان وعشرون آية
وهى مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ورواه ابن مردويه عن ابن عباس وعن أبي الزبير.
وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: سورة النحل نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن
نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحد، قيل وهى قوله - وإن عاقبتم
فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به - الآية، وقوله - واصبر وما صبرك إلا بالله - في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد، وقوله - ثم
إن ربك للذين هاجروا - الآية، وقيل الثالثة - ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا - إلى قوله - بأحسن ما كانوا يعملون
وتسمى هذه السورة سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النحل الآية (1 - 9)
قوله (أتى أمر الله) أي عقابه للمشركين، وقال جماعة من المفسرين: القيامة. قال الزجاج: هو ما وعدهم
146

به من المجازاة على كفرهم، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه، وقيل إن المراد بأمر الله حكمه
بذلك، وقد وقع وأتى، فأما المحكوم به فإنه لم يقع، لأنه سبحانه حكم بوقوعه في وقت معين، فقبل مجئ ذلك
الوقت لا يخرج إلى الوجود، وقيل إن المراد بإتيانه إتيان مباديه ومقدماته (فلا تستعجلوه) نهاهم عن استعجاله:
أي فلا تطلبوا حضوره قبل ذلك الوقت، وقد كان المشركون يستعجلون عذاب الله كما قال النضر بن الحارث
- اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك - الآية، والمعنى: قرب أمر الله فلا تستعجلوه، وقد كان استعجالهم له
على طريقة الاستهزاء من دون استعجال على الحقيقة، وفى نهيهم عن الاستعجال تهكم بهم (سبحانه وتعالى عما
يشركون) أي تنزه وترفع عن إشراكهم. أو عن أن يكون له شريك، وشركهم ههنا هو ما وقع منهم من استعجال
العذاب، أو قيام الساعة استهزاء وتكذيبا، فإنه يتضمن وصفهم له سبحانه بأنه لا يقدر على ذلك، وأنه عاجز عنه
والعجز وعدم القدرة من صفات المخلوق لا من صفات الخالق، فكان ذلك شركا (ينزل الملائكة بالروح من أمره)
قرأ المفضل عن عاصم تنزل الملائكة، والأصل تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الأعمش تنزل على البناء
للمفعول، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم " ننزل " بالنون، والفاعل هو الله سبحانه. وقرأ الباقون " ينزل
الملائكة " بالياء التحتية إلا أن ابن كثير وأبا عمرو يسكنان النون، والفاعل هو الله سبحانه، ووجه اتصال هذه
الجملة بما قبلها أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما أخبرهم عن الله أنه قد قرب أمره، ونهاهم عن الاستعجال ترددوا
في الطريق التي علم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فأخبر أنه علم بها بالوحي على ألسن رسل الله
سبحانه من ملائكته، والروح: الوحي، ومثله (يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده) وسمى الوحي روحا
لأنه يحيى قلوب المؤمنين، فإن من جملة الوحي القرآن، وهو نازل من الدين منزلة الروح من الجسد، وقيل المراد
أرواح الخلائق، وقيل الروح الرحمة، وقيل الهداية لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح. قال الزجاج:
الروح ما كان فيه من الله حياة بالإرشاد إلى أمره. وقال أبو عبيد: الروح هنا جبريل، وتكون الباء على هذا بمعنى
مع، " ومن " في " من أمره " بيانية: أي بأشياء أو مبتدئا من أمره أو صفة للروح، أو متعلق بينزل، ومعنى " على
من يشاء من عباده " على من اختصه بذلك، وهم الأنبياء (أن أنذروا). قال الزجاج " أن أنذروا " بدل من الروح
أي ينزلهم بأن أنذروا، وأن إما مفسرة لأن تنزل الوحي فيه معنى القول، وإما مخففة من الثقيلة وضمير الشأن
مقدر: أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا: أي أعلموا الناس (أنه لا إله إلا أنا) أي مروهم بتوحيدي وأعلموهم
ذلك مع تخويفهم. لأن في الإنذار تخويفا وتهديدا، والضمير في أنه للشأن (فاتقون) الخطاب للمستعجلين على
طريق لالتفات، وهو تحذير لهم من الشرك بالله، ثم إن الله سبحانه لما أرشدهم إلى توحيده ذكر دلائل التوحيد
فقال (خلق السماوات والأرض بالحق) أي أوجدهما على هذه الصفة التي هما عليهما بالحق: أي للدلالة على قدرته
ووحدانيته، وقيل المراد بالحق هنا الفناء والزوال (تعالى) الله (عما يشركون) أي ترفع وتقدس عن إشراكهم
أو عن شركة الذي يجعلونه شريكا له، ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع المخلوقات السفلية قدمه وخصه بالذكر
فقال (خلق الإنسان) وهو اسم لجنس هذا النوع (من نطفة) من جماد يخرج من حيوان، وهو المنى فنقله أطوارا
إلى أن كملت صورته، ونفخ فيه الروح وأخرجه من بطن أمه إلى هذه الدار فعاش فيها (فإذا هو) بعد خلقه على
هذه الصفة (خصيم) أي كثير الخصومة والمجادلة. والمعنى: أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته، ومعنى (مبين)
ظاهر الخصومة واضحها، وقيل يبين عن نفسه ما يخاصم به من الباطل، والمبين هو المفصح عما في ضميره بمنطقه
ومثله قوله تعالى - أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين -، ثم عقب ذكر خلق الإنسان بخلق
147

الأنعام لما فيها من النفع لهذا النوع، فالامتنان بها أكمل من الامتنان بغيرها، فقال (والأنعام خلقها لكم) وهى
الإبل والبقر والغنم، وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع، ولا يقال للغنم مفردة، ومنه قول حسان:
وكانت لا يزال بها أنيس * خلال مروجها نعم وشاء
فعطف الشاء على النعم، وهى هنا الإبل خاصة. قال الجوهري: والنعم واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم
على الإبل. ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبنى آدم بين المنفعة التي فيها لهم فقال (فيها دفء) الدفء:
السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، والجملة في محل النصب على الحال (ومنافع)
معطوف على دفء، وهى درها وركوبها ونتاجها والحراثة بها ونحو ذلك. وقد قيل إن الدفء: النتاج واللبن.
قال في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، ثم قال: والدفء أيضا السخونة، وعلى هذا فإن
أريد بالدفء المعنى الأول فلا بد من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها، وإن حمل على المعنى الثاني كان
تفسير المنافع بما ذكرناه واضحا، وقيل المراد بالمنافع النتاج خاصة، وقيل الركوب (ومنها تأكلون) أي من
لحومها وشحومها، وخص هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها، وقيل خصها لأن الانتفاع
بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة
إلى أن الأكل منها هو الأصل، وغيره نادر (ولكم فيها جمال) أي لكم فيها مع ما تقدم ذكره جمال، والجمال:
ما يتجمل به ويتزين، والجمال: الحسن، والمعنى هنا: لكم فيها تجمل وتزين عند الناظرين إليها (حين تريحون
وحين تسرحون) أي في هذين الوقتين، وهما وقت ردها من مراعيها، ووقت تسريحها إليها، فالرواح رجوعها
بالعشي من المراعى، والسراح: مسيرها إلى مراعيها بالغداة، يقال سرحت الإبل أسرحها سرحا وسروحا: إذا
غدوت بها إلى المرعى، وقدم الإراحة على التسريح لأن منظرها عند الإراحة أجمل، وذواتها أحسن لكونها في
تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب، فعظمت بطونها وانتفخت ضروعها، وخص هذين الوقتين
لأنهما وقت نظر الناظرين إليها لأنها عند استقرارها في الحظائر لا يراها أحد، وعند كونها في مراعيها هي متفرقة
غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب (وتحمل أثقالكم) الأثقال جمع ثقل، وهو متاع المسافر من طعام وغيره
وسمى ثقلا لأنه يثقل الإنسان حمله، وقيل المراد أبدانهم (إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) أي لم تكونوا
واصلين إليه لو لم يكن معكم إبل تحمل أثقالكم إلا بشق الأنفس لبعده عنكم، وعدم وجود ما يحمل ما لا بد لكم
منه في السفر. وظاهره يتناول كل بلد بعيدة من غير تعيين، وقيل المراد بالبلد مكة. وقيل اليمن ومصر والشام لأنها
متاجر العرب، وشق الأنفس: مشقتها. قرأ الجمهور بكسر الشين، وقرأ أبو جعفر بفتحها. قال الجوهري:
والشق المشقة، ومنه قوله (لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) وحكى أبو عبيدة بفتح الشين، وهما بمعنى،
ويجوز أن يكون المفتوح مصدرا من شققت عليه أشق شقا، والمكسور بمعنى النصف، يقال أخذت شق الشاة
وشقة الشاة، ويكون المعنى على هذا في الآية: لم تكونوا بالغيه إلا بذهاب نصف الأنفس من التعب، وقد أمتن
الله سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم، ثم خص الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون
البقر والغنم، والاستثناء من أعم العام: أي لم تكونوا بالغيه بشئ من الأشياء إلا بشق الأنفس (والخيل والبغال
والحمير) بالنصب عطفا على الأنعام: أي وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع فيها كلها،
وسميت الخيل خيلا لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل كضائن واحد الضأن، وقيل لا واحد له. ثم علل
سبحانه خلق هذه الثلاثة الأنواع بقوله (لتركبوها) وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها لأن الانتفاع بها في غير
148

الركوب معلوم كالتحميل عليها (و) عطف (زينة) على محل " لتركبوها " لأنه في محل نصب على أنه علة لخلقها
ولم يقل لتتزينوا بها حتى يطابق لتركبوها، لأن الركوب فعل المخاطبين، والزينة فعل الزائن وهو الخالق، والتحقيق
فيه أن الركوب هو المعتبر في المقصود، بخلاف الزينة فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية لأنه يورث العجب،
فكأنه سبحانه قال: خلقتها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة، وأما التزين بها فهو
حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات، وقد استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن
التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها، قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة
بالذكر وإخراجها عن الأنعام فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل. قالوا: ولو كان أكل الخيل جائز لكان
ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب، لأنه أعظم فائدة منه، وقد ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة وأصحابهما
والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم. وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين وغيرهم إلى حل لحوم الخيل،
ولا حجة لأهل القول والأول في التعليل بقوله " لتركبوها " لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره،
ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب، وأيضا لو كانت
هذه الآية تدل على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية، وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتحديد التحريم لها عام
خيبر، وقد قدمنا أن هذه السورة مكية. والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل،
فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكا للقائلين بالتحريم لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا
الاستدلال، وقد أوضحنا هذه المسئلة في مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره (ويخلق ما لا تعلمون) أي يخلق
مالا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدده ها هنا، وقيل المراد من أنواع الحشرات والهوام في أسافل
الأرض، وفى البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به، وقيل هو ما أعد الله لعباده في الجنة وفى النار مما لم تره عين،
ولم تسمع به أذن، ولا خطر على قلب بشر، وقيل هو خلق السوس في النبات والدود في الفواكه، وقيل عين
تحت العرش، وقيل نهر من النور، وقيل أرض بيضاء، ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من
هذه الأنواع، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد، فيشمل كل شئ لا يحيط علمهم به، والتعبير هنا
بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة، لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد (وعلى الله قاصد السبيل) القصد مصدر
بمعنى الفاعل، فالمعنى وعلى الله قاصد السبيل: أي هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعده المحتوم وتفضله
الواسع، وقيل هو على حذف مضاف، والتقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، والسبيل: الإسلام، وبيانه
بإرسال الرسل وإقامة الحجج والبراهين، والقصد في السبيل هو كونه موصلا إلى المطلوب، فالمعنى: وعلى الله
بيان الطريق الموصل إلى المطلوب (ومنها جائر) الضمير في " منها " راجع إلى السبيل بمعنى الطريق، لأنها تذكر
وتؤنث، وقيل راجع إليها بتقدير مضاف: أي ومن جنس السبيل جائر مائل عن الحق عادل عنه، فلا يهتدى
به، ومنه قول امرئ القيس:
ومن الطريقة جائر وهدى * قصد السبيل ومنه ذو دخل
وقيل إن الطريق كناية عن صاحبها، والمعنى: ومنهم جائر عن سبيل الحق: أي عادل عنه، فلا يهتدى إليه
قيل وهم أهل الأهواء المختلفة، وقيل أهل الملل الكفرية، وفى مصحف عبد الله " ومنكم جائر " وكذا قرأ على
(ولو شاء لهداكم أجمعين) أي ولو شاء أن يهديكم جميعا إلى الطريق الصحيح، والمنهج الحق لفعل ذلك، ولكنه لم
149

يشأ، بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق والدلالة عليها - وهديناه النجدين -، وأما الإيصال إليها بالفعل
فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون
البعض مؤمنا والبعض كافرا كما نطق بذلك القرآن في غير موضع.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال " لما نزل أتى أمر الله ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
حتى نزلت (فلا تستعجلوه) فسكنوا ". وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم
عن أبي بكر بن حفص قال " لما نزلت (أتى أمر الله) قاموا، فنزلت (فلا تستعجلوه) ". وأخرج ابن مردويه
من طريق الضحاك عن ابن عباس (أتى أمر الله) قال: خروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر عن ابن جريج قال " لما نزلت هذه الآية (أتى أمر الله) قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض إن
هذا يزعم أن أمر الله أتى، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل
شئ قالوا: ما نراه نزل شئ، - فنزلت - اقترب للناس حسابهم -، فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضا، فلما
رأوا أنه لا ينزل شئ قالوا: ما نراه نزل شئ، فنزلت - ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة - الآية ".
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله (أتى أمر الله) قال: الأحكام والحدود
والفرائض. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله (ينزل الملائكة بالروح) قال: بالوحي. وأخرج سعيد بن
منصور وابن المنذر وبن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي عنه قال الروح: أمر من أمر الله
وخلق من خلق الله، وصورهم على صورة بني آدم، وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح، ثم تلا
يوم يقوم الروح والملائكة صفا -. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن (ينزل الملائكة بالروح) قال: القرآن.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (لكم فيها دفء) قال: الثياب (ومنافع)
قال: ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عنه أيضا قال: نسل كل دابة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وتحمل أثقالكم
إلى بلد) يعنى مكة (لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) قال: لو تكلفتموه لم تطيقوه إلا بجهد شديد.
وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل أحاديث منها في الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء قالت " نحرنا فرسا
على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأكلناه ". وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه والنسائي
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن جابر قال " أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن
لحوم الحمر الأهلية "، وأخرج أبو داود نحوه من حديثه أيضا، وهما على شرط مسلم. وثبت أيضا في الصحيحين
عن حديث جابر قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل ". وأما
ما أخرجه أبو عبيد وأبو داود والنسائي من حديث خالد بن الوليد قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير "، ففي إسناده صالح بن يحيى بن أبي المقدام
وفيه مقال. ولو فرضنا أن الحديث صحيح لم يقو على معارضة أحاديث الحل على أنه يكون أن هذا الحديث المصرح
بالتحريم متقدم على يوم خيبر فيكون منسوخا. وأخرج الخطيب وابن عساكر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في قوله (ويخلق ما لا تعلمون) قال: البراذين. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن مما خلق الله أرضا من لؤلؤة بيضاء ". ثم ساق من أوصافها ما يدل على
أن الحديث موضوع، ثم قال في آخره " فذلك قوله ويخلق ما لا تعلمون ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
150

ابن عباس (وعلى الله قصد السبيل) يقول: على الله أن يبين الهدى والضلالة (ومنها جائر) قال السبل المتفرقة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وعلى الله قصد السبيل) قال: على
الله بيان حلاله، وحرامه، وطاعته، ومعصيته (ومنها جائر) قال: من السبل ناكب عن الحق، قال: وفى
قراءة ابن مسعود " ومنكم جائر ". وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن علي أنه
كان يقرأ هذه الآية " ومنكم جائر ".
سورة النحل الآية (10 - 19)
لما استدل سبحانه على وجوده وكمال قدرته وبديع صنعته بعجائب أحوال الحيوانات أراد أن يذكر الاستدلال
على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال (هو الذي أنزل من السماء) أي من جهة السماء، وهى السحاب (ماء)
أي نوعا من أنواع الماء، وهو المطر (لكم منه شراب) يجوز أن يتعلق لكم بأنزل أو هو خبر مقدم، وشراب
مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لما (ومنه) في محل نصب على الحال، والشراب اسم لما يشرب كالطعام لما يطعم،
والمعنى: أن الماء النازل من السماء قسمان: قسم يشربه الناس، ومن جملته ماء الآبار والعيون، فإنه من المطر لقوله
- فسلكه ينابيع في الأرض - وقسم يحصل منه شجر ترعاه المواشي. قال الزجاج: كل ما ينبت من الأرض
فهو شجر، لأن التركيب يدل على الاختلاط، ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض، ومعنى
الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق. وقال ابن قتيبة: المراد من الشجر في الآية الكلأ، وقيل الشجر
كل ماله ساق كقوله تعالى - والنجم والشجر يسجدان - والعطف يقتضى التغاير، فلما كان النجم ما لا ساق له
وجب أن يكون الشجر ما له ساق، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز (فيه تسيمون) أي في الشجر
ترعون مواشيكم، يقال سامت السائمة تسوم سوما رعت فهي سائمة، وأسمتها: أي أخرجتها إلى الرعى فأنا مسيم
وهى مسامة وسائمة، وأصل السوم الإبعاد في المرعى. قال الزجاج: أخذ من السومة وهى العلامة، لأنها تؤثر
151

في الأرض علامات برعيها (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب) قرأ أبو بكر عن عاصم " ننبت "
بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية: أي ينبت الله لكم بذلك الماء الذي أنزله من السماء، وقدم الزرع لأنه أصل
الأغذية التي يعيش بها الناس. وأتبعه بالزيتون لكونه فاكهة من وجه وإداما من وجه لكثرة ما فيه من الدهن،
وهو جمع زيتونة، ويقال للشجرة نفسها زيتونة، ثم ذكر النخيل لكونه غذاء وفاكهة وهو مع العنب أشرف
الفواكه، وجمع الأعناب لاشتمالها على الأصناف المختلفة، ثم أشار إلى سائر الثمرات فقال (ومن كل الثمرات) كما
أجمل الحيوانات التي لم يذكرها فيما سبق بقوله - ويخلق مالا تعلمون -، وقرأ أبى ابن كعب " ينبت لكم به الزرع "
يرفع الزرع وما بعده (إن في ذلك) أي الإنزال والإنبات (لآية) عظيمة دالة على كمال القدرة والتفرد بالربوبية
(لقوم يتفكرون) في مخلوقات الله ولا يهملون النظر في مصنوعاته (وسخر لكم الليل والنهار) معنى تسخيرهما للناس
تصييرهما نافعين لهم بحسب ما تقتضيه مصالحهم وتستدعيه حاجاتهم، يتعاقبان دائما كالعبد الطائع لسيده لا يخالف
ما يأمره به ولا يخرج عن إرادته ولا يهمل السعي في نفعه، وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم،
فإنها تجرى على نمط متحد يستدل بها العباد على مقادير الأوقات، ويهتدون بها ويعرفون أجزاء الزمان، ومعنى
مسخرات مذللات. وقرأ ابن عامر وأهل الشام (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) بالرفع على الابتداء والخبر.
وقرأ الباقون بالنصب عطفا على الليل والنهار. وقرأ حفص عن عاصم برفع النجوم على أنه مبتدأ وخبره مسخرات
(بأمره) وعلى قراءة النصب في مسخرات يكون حالا مؤكدة. لأن التسخير قد فهم من قوله " وسخر "، وقرأ
حفص في رواية برفع مسخرات مع نصب ما قبله على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي مسخرات (إن في ذلك)
التسخير (لآيات لقوم يعقلون) أي يعملون عقولهم في هذه الآثار الدالة على وجود الصانع وتفرده وعدم وجود
شريك له، وذكر الآيات لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة،
وجمعها ليطابق قوله مسخرات، وقيل: إن وجه الجمع هو أن كلا من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر
والنجوم آية في نفسها بخلاف ما تقدم من الإنبات فإنه آية واحدة، ولا يخلو كل هذا عن تكلف، والأولى أن
يقال: إن هذه المواضع الثلاثة التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار
وللإفراد باعتبار، فلم يجرها على طريقة واحدة افتنانا وتنبيها على جواز الأمرين وحسن كل واحد منهما (وما ذرأ
لكم في الأرض) أي خلق: يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا: خلقهم. فهو ذارئ، ومنه الذرية، وهى نسل
الثقلين، وقد تقدم تحقيق هذا، وهو معطوف على النجوم رفعا ونصبا: أي وسخر لكم ما ذرأ في الأرض.
فالمعنى: أنه سبحانه سخر لهم تلك المخلوقات السماوية والمخلوقات الأرضية، وانتصاب مختلفا ألوانه على الحال،
وألوانه: هيئاته ومناظره، فإن ذرء هذه الأشياء على اختلاف الألوان والأشكال مع تساوى الكل في الطبيعة
الجسمية آية عظيمة دالة على وجود الصانع سبحانه وتفرده (إن في ذلك) التسخير لهذه الأمور (لآية) واضحة
(لقوم يذكرون) فإن من تذكر اعتبر، ومن اعتبر استدل على المطلوب، قيل وإنما خص المقام الأول بالتفكر
لإمكان إيراد الشبهة المذكورة، وخص المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإراحة العلة، فمن لم يعترف
بعدها بالوحدانية فلا عقل له، وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة، فمن شك بعد ذلك فلا حس له،
وفى هذا من التكلف ما لا يخفى. والأولى أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدم في إفراد الآية في البعض وجمعها في البعض
الآخر، وبيانه أن كلا من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر ولذكر التعقل ولذكر التذكر لاعتبارات
152

ظاهرة غير خفية، فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع
المواضع الثلاثة (وهو الذي سخر البحر) أمتن الله سبحانه بتسخير البحر بامكان الركوب عليه واستخراج ما فيه
من صيد وجواهر، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الرب سبحانه
وكمال قدرته، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية،
فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوعة المختلفة الأمكنة إتماما للحجة، وتكميلا للإنذار، وتوضيحا
لمنازع الاستدلال، ومناطات البرهان، ومواضع النظر والاعتبار، ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال (لتأكلوا
منه لحما طريا) المراد به السمك، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته، والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد
بسرعة (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) أي لؤلؤا ومرجانا كما في قوله سبحانه - يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان -
وظاهر قوله " تلبسونها " أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان: أي يجعلونه حلية لهم كما يجوز للنساء،
ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله " تلبسونها " بقوله تلبسه نساؤهم، لأنهن من جملتهم،
أو لكونهن يلبسنها لأجلهم، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضى منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم
يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبها بهن، وقد ورد الشرع
بمنعه لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان (وترى الفلك مواخر فيه) أي ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدرها.
ومخر السفينة: شقها الماء بصدرها. قال الجوهري: مخر السابح: إذا شق الماء بصدره، ومخر الأرض: شقها
للزراعة، وقيل مواخر: جواري، وقيل معترضة، وقيل تذهب وتجئ، وقيل ملججة. قال ابن جرير: المخر
في اللغة: صوت هبوب الريح، ولم يقيد بكونه في ماء (ولتبتغوا من فضله) معطوف على تستخرجوا، وما بينهما
اعتراض، أو على علة محذوفة تقديره لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، أو على تقدير فعل ذلك لتبتغوا: أي لتتجروا فيه
فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه (ولعلكم تشكرون) أي إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم اعترفتم
بنعمته عليكم فشكرتم بعد ذلك باللسان والأركان. قيل ولعل وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث
أن فيها قطعا لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر، بل من غير حركة أصلا مع أنها في تضاعيف
المهالك، ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كون فيه أطيب
مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له، ثم
أردف هذه النعم الموجبة للتوحيد المفيدة للاستدلال على المطلوب بنعمة أخرى وآية كبرى فقال (وألقى في الأرض
رواسي) أي جبالا ثابتة، يقال رسا يرسو: إذا ثبت وأقام، قال الشاعر:
فصبرت عارفة لذلك حرة * ترسو إذا نفس الجبان تطلع
(أن تميد بكم) أي كراهة أن تميد بكم على ما قاله البصريون، أو لئلا تميد بكم على ما قاله الكوفيون. والميد:
الاضطراب يمينا وشمالا، ماد الشئ يميد ميدا تحرك، ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر (وأنهارا)
أي وجعل فيها أنهارا، لأن الإلقاء ها هنا بمعنى الجعل والخلق كقوله - وألقيت عليك محبة منى - (وسبلا) أي وجعل
فيها سبلا وأظهرها وبيتها لأجل تهتدون بها في أسفاركم إلى مقاصدكم. والسبل: الطرق (وعلامات) أي وجعل فيها
علامات وهى معالم الطرق. والمعنى: أنه سبحانه جعل للطرق علامات يهتدون بها (وبالنجم هم يهتدون) المراد
بالنجم الجنس: أي يهتدون به في سفرهم ليلا. وقرأ ابن وثاب وبالنجم بضم النون والجيم، ومراده النجوم فقصره،
أو هو جمع نجم كسقف وسقف، وقيل المراد بالنجم هنا الجدي والفرقدان قاله الفراء، وقيل الثريا، وقيل العلامات
153

الجبال، وقيل هي النجوم، لأن من النجوم ما يهتدى به، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها. وذهب الجمهور
إلى أن المراد في الآية الاهتداء في الأسفار، وقيل هو الاهتداء إلى القبلة، ولا مانع من حمل ما في الآية على ما هو
أعم من ذلك. قال الأخفش: ثم الكلام عند قوله وعلامات، وقوله (وبالنجم هم يهتدون) كلام منفصل عن
الأول، ثم لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال (أفمن
يخلق) هذه المصنوعات العظيمة ويفعل هذه الأفاعيل العجيبة (كمن لا يخلق) شيئا منها ولا يقدر على إيجاد واحد
منها، وهو هذه الأصنام التي تعبدونها وتجعلونها شركاء لله سبحانه، وأطلق عليها لفظ " من " إجراء لها مجرى أولى
العلم جريا على زعمهم بأنها آلهة، أو مشاكلة لقوله " أفمن يخلق " لوقوعها في صحبته، وفى هذا الاستفهام من التقريع
والتوبيخ للكفار ما لا يخفى، وما أحقهم بذلك، فإنهم جعلوا بعض المخلوقات شريكا لخالقه - تعالى الله عما يشركون -
(أفلا تذكرون) مخلوقات الله الدالة على وجوده وتفرده بالربوبية وبديع صنعته فتستدلون بها على ذلك، فإنها
لوضوحها يكفي في الاستدلال بها مجرد التذكر لها، ثم لما فرغ من تعديد الآيات التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم
قال (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) وقد مر تفسير هذا في سورة إبراهيم، قال العقلاء: إن كل جزء من أجزاء
الانسان لو ظهر فيه أدنى خلل وأيسر نقص لنغص النعم على الإنسان، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى
يزول عنه ذلك الخلل، فهو سبحانه يدير بدن هذا الإنسان على الوجه الملائم له، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك
فكيف يطيق حصر بعض نعم الله عليه أو يقدر على إحصائها، أو يتمكن من شكر أدناها؟
يا ربنا هذه نواصينا بيدك خاضعة لعظيم نعمك معترفة بالعجز عن بادية الشكر لشئ منها، لا نحصي ثناء عليك
أنت كما أثنيت على نفسك، ولا نطيق التعبير بالشكر لك، فتجاوز عنا واغفر لنا وأسبل ذيول سترك على عوراتنا
فإنك إن لا تفعل ذلك نهلك بمجرد التقصير في شكر نعمك، فكيف بما قد فرط منا من التساهل في الائتمار بأوامرك
والانتهاء عن مناهيك، وما أحسن ما قال من قال:
العفو يرجى من بني آدم * فكيف لا يرجى من الرب
فقلت مذيلا لهذا البيت الذي هو قصر مشيد:
فإنه أرءف بي منهم * حسبي به حسبي به حسبي
وما أحسن ما ختم به هذا الامتنان الذي لا يلتبس على إنسان مشيرا إلى عظيم غفرانه وسعة رحمته فقال (إن الله
لغفور رحيم) أي كثير المغفرة والرحمة لا يؤاخذكم بالغفلة عن شكر نعمه، والقصور عن إحصائها، والعجز عن
القيام بأدناها، ومن رحمته إدامتها عليكم وإدرارها في كل لحظة وعند كل نفس تتنفسونه وحركة تحتركون بها.
اللهم إني أشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان وعدد ما سيشكرك تعالى الشاكرون بكل لسان في كل
زمان، فقد خصصتني بنعم لم أرها على كثير من خلقك، وإن رأيت منها شيئا على بعض خلقك لم أر عليه بقيتها،
فأنى أطيق شكرك وكيف أستطيع بادية أدنى شكر أدناها فكيف أستطيع أعلاها؟ فكيف أستطيع شكر نوع من
أنواعها؟ ثم بين لعباده بأنه عالم بجميع ما يصدر منهم لا تخفى عليه منه خافية فقال (والله يعلم ما تسرون) أي تضمرونه
من الأمور (وما تعلنون) أي تظهرونه منها، وفيه وعيد وتعريض وتوبيخ، وتنبيه على أن الإله يجب أن يكون
عالما بالسر والعلانية لا كالأصنام التي يعبدونها، فإنها جمادات لا شعور لها بشئ من الظواهر فضلا عن السرائر فكيف
يعبدونها؟.
154

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وما ذرأ لكم في الأرض)
قال: ما خلق لكم في الأرض مختلفا من الدواب، والشجر والثمار نعم من الله متظاهرة فاشكروها لله. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (لتأكلوا منه لحما طريا) يعنى حيتان البحر (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها)
قال: هذا اللؤلؤ. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى في قوله (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) قال:
هو السمك وما فيه من الدواب. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي جعفر قال: ليس في الحلى زكاة، ثم قرأ (وتستخرجوا
منه حلية تلبسونها). أقول: وفى هذا الاستدلال نظر. والذي ينبغي التعويل عليه أن الأصل البراءة من الزكاة
حتى يرد الدليل بوجوبها في شئ من أنواع المال فتلزم، وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف، ولم يرد
في الجواهر على اختلاف أصنافها ما يدل على وجوب الزكاة فيها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن
عباس مواخر قال: جواري. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة (مواخر)
قال: تشق الماء بصدرها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك (مواخر) قال: السفينتان تجريان
بريح واحدة مقبلة ومدبرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى في قوله (ولتبتغوا من فضله) قال: هي التجارة،
وأخرج عبد الرازق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (رواسي) قال: الجبال (أن تميد بكم)
قال: حتى لا تميد بكم، كانوا على الأرض تمور بهم لا تستقر، فأصبحوا صبحا وقد جعل الله الجبال، وهى
الرواسي أوتادا في الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى في قوله (وسبلا) قال: السبل هي الطرق بين
الجبال. وأخرج عبد الرازق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب عن قتادة (وسبلا) قال: طرقا
(وعلامات) قال: هي النجوم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى في الآية قال: علامات النهار الجبال. وأخرج
عبد الرازق وابن جرير وابن المنذر عن الكلبي وعلامات قال: الجبال: وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (وعلامات) يعنى معالم الطرق بالنهار (وبالنجم هم يهتدون) يعنى بالليل.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (أفمن يخلق كمن لا يخلق) قال: الله
هو الخالق الرازق، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تخلق شيئا ولا تملك لأهلها ضرا ولا نفعا.
سورة النحل الآية (20 - 26)
155

شرع سبحانه في تحقيق كون الأصنام التي أشار إليها بقوله (كمن لا يخلق) عاجزة على أن يصدر منها خلق
شئ فلا تستحق عبادة فقال (والذين تدعون من دون الله) أي الآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله سبحانه
صفتهم هذه الصفات المذكورة، وهى أنهم (لا يخلقون شيئا) من المخلوقات أصلا لا كبيرا ولا صغيرا ولا جليلا
ولا حقيرا (وهم يخلقون) أي وصفتهم أنهم يخلقون، فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره؟ ففي هذه الآية
زيادة بيان لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال، بخلاف قوله (أفمن يخلق كمن لا يخلق)
فإنه اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال. وقراءة الجمهور والذين تدعون بالمثناة الفوقية على الخطاب مطابقة لما قبله.
وروى أبو بكر عن عاصم، وروى هبيرة عن حفص يدعون بالتحية، وهى قراءة يعقوب، ثم ذكر صفة أخرى
من صفاتهم فقال (أموات غير أحياء) يعنى أن هذه الأصنام أجسادها ميتة لا حياة بها أصلا، فزيادة " غير أحياء "
لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها بل لا حياة لهذه أصلا، فكيف يعبدونها وهم
أفضل منها؟ لأنهم أحياء (وما يشعرون أيان يبعثون) الضمير في يشعرون للآلهة، وفى يبعثون للكفار الذين يعبدون
الأصنام، والمعنى: ما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أبان يبعث عبدتهم من الكفار، ويكون هذا على طريقة
التهكم بهم، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة فضلا عن الأمور التي لا يعلمها إلا الله سبحانه،
وقيل يجوز أن يكون الضمير في يبعثون للآلهة: أي وما تشعر هذه الأصنام أيان تبعث، ويؤيد ذلك ما روى أن
الله يبعث الأصنام ويخلق لها أرواحا معها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، ويدل على هذا قوله - إنكم وما تعبدون
من دون الله حصب جهنم - وقيل قد تم الكلام عند قوله (وهو يخلقون) ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات
غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون، فيكون الضميران على هذا للكفار، وعلى القول بأن الضميرين أو أحدهما
للأصنام يكون التعبير عنها مع كونها لا تعقل بما هو للعقلاء جريا على اعتقاد من يعبدها بأنها تعقل. وقرأ السلمي
" إيان " بكسر الهمزة، وهما لغتان، وهو في محل نصب بالفعل الذي قبله (إلهكم إله واحد) لما زيف سبحانه
طريقة عبدة الأوثان صرح بما هو الحق في نفس الأمر، وهو وحدانيته سبحانه، ثم ذكر ما لأجله أصر الكفار
على شركهم فقال (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة) للوحدانية لا يؤثر فيها وعظ ولا ينجع فيها تذكير (وهم
مستكبرون) عن قبول الحق، متعظمون عن الإذعان للصواب، مستمرون على الجحد (لا جرم أن الله يعلم
ما يسرون وما يعلنون) قال الخليل: لا جرم كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا: أي حقا أن الله يعلم ما يسرون من
أقوالهم وأفعالهم وما يعلنون من ذلك، وقد مر تحقيق الكلام في لا جرم (إنه لا يحب المستكبرون) أي لا يحب هؤلاء
الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدم (وإذا قيل لهم ماذا
أنزل ربكم) أي وإذا قال لهؤلاء الكفار المنكرين المستكبرين قائل ماذا أنزل ربكم؟ أي أي شئ أنزل ربكم؟
أو ماذا الذي أنزل؟ قيل القائل النضر بن الحارث والآية نزلت فيه، فيكون هذا القول منه على طريق التهكم،
وقيل القائل هو من يفد عليهم، وقيل القائل المسلمون، فأجاب المشركون المنكرون المستكبرون ف‍ (قالوا أساطير
الأولين) بالرفع: أي ما تدعونه أيها المسلمون نزوله أساطير الأولين، أو أن المشركين أرادوا السخرية بالمسلمين
فقالوا المنزل عليكم أساطير الأولين. وعلى هذا فلا يرد ما قيل من أن هذا لا يصلح أن يكون جوابا من المشركين،
وإلا لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأولين والكفار لا يقرون بالإنزال، ووجه عدم وروده هو ما ذكرناه،
وقيل هو كلام مستأنف: أي ليس ما تدعون إنزاله أيها المسلمون منزلا بل هو أساطير الأولين، وقد جوز
على مقتضى علم النحو نصب أساطير وإن لم تقع القراءة به، ولا بد في النصب من التأويل الذي ذكرنا: أي أنزل
156

على دعواكم أساطير الأولين، أو يقولون ذلك من أنفسهم على طريق السخرية. والأساطير: الأباطيل والترهات
التي يتحدث الناس بها عن القرون الأولى. وليس من كلام الله في شئ ولا مما أنزله الله أصلا في زعمهم (ليحملوا
أوزارهم كاملة) أي قالوا هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم كاملة. لم يكفر منها شئ لعدم إسلامهم الذي هو سبب
لتكفير الذنوب، وقيل إن اللام هي لام العاقبة، لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لأجل يحملون الأوزار،
ولكن لما كان عاقبتهم ذلك حسن التعليل به كقوله - ليكون لهم عدوا وحزنا - وقيل هي لام الأمر (ومن أوزار
الذين يضلونهم) أي ويحملون بعض أوزار الذين أضلوهم لأن من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل
بها، وقيل من للجنس لا للتبعيض: أي يحملون كل أوزار الذين يضلونهم، ومحل (بغير علم) النصب على الحال
من فاعل " يضلونهم " أي يضلون الناس جاهلين غير عالمين بما يدعونهم إليه، ولا عارفين بما يلزمهم من الآثام،
وقيل إنه حال من المفعول: أي يضلون من لا علم له، ومثل هذه الآية - وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم -.
وقد تقدم في الأنعام الكلام على قوله - ولا تزر وازرة وزر أخرى - (ألا ساء ما يزرون) أي بئس شيئا يزرونه
ذلك. ثم حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدمين فقال (قد مكر الذين من قبلهم) ذهب أكثر المفسرين إلى أن
المراد به نمروذ بن كنعان حيث بنى بناء عظيما ببابل، ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فأهب الله الريح، فخر
ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا، والأولى أن الآية عامة في جميع المبطلين من المتقدمين الذين يحاولون إلحاق
الضر بالمحقين، ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق، وفى هذا وعيد للكفار المعاصرين له صلى الله
عليه وآله وسلم بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم (فأتى الله بنيانهم) أي أتى أمر الله،
وهو الريح التي أخربت بنيانهم. قال المفسرون: أرسل الله ريحا فألقت رأس الصرح في البحر، وخر عليهم
الباقي (من القواعد) قال الزجاج: من الأساطين، والمعنى: أنه أتاها أمر الله من جهة قواعدها فزعزعها (فخر
عليهم السقف من فوقهم) قرأ ابن أبي هريرة وابن محيصن " السقف " بضم السين والقاف جميعا. وقرأ مجاهد بضم
السين وسكون القاف، وقرأ الباقون " السقف " بفتح السين وسكون القاف، والمعنى: أنه سقط عليهم السقف،
لأنه بعد سقوط قواعد البناء يسقط جميع ما هو معتمد عليها. قال ابن الأعرابي، وإنما قال من فوقهم (ليعلمك
أنهم كانوا حالين تحته، والعرب تقول خر علينا سقف، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه،
فجاء بقوله (من فوقهم) ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب، لقال (من فوقهم) أي عليهم وقع، وكانوا
تحته فهلكوا، وما أفلتوا، وقيل إن المراد بالسقف السماء: أي أتاهم العذاب من السماء التي فوقهم، وقيل إن هذه
الآية تمثيل لهلاكهم، والمعنى: أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه عليه.
وقد اختلف في هؤلاء الذين خر عليهم السقف، فقيل هو نمروذ كما تقدم، وقيل إنه بختنصر وأصحابه، وقيل
هم المقسمون الذين تقدم ذكرهم في سورة الحجر (وأتاهم العذاب) أي الهلاك (من حيث لا يشعرون) به، بل
من حيث أنهم في أمان، ثم بين سبحانه أن عذابهم غير مقصور على عذاب الدنيا. فقال (ثم يوم القيامة يخزيهم)
بإدخالهم النار، ويفضحهم بذلك ويهينهم، وهو معطوف على مقدر: أي هذا عذابهم في الدنيا، ثم يوم القيامة
يخزيهم (ويقول) لهم مع ذلك توبيخا وتقريعا (أين شركائي) كما تزعمون وتدعون، قرأ ابن كثير من رواية البزي
" شركاى " من دون همز، وقرأ الباقون بالهمز، ثم وصف هؤلاء الشركاء بقوله (الذين كنتم تشاقون فيهم) قرأ
نافع بكسر النون على الإضافة، وقرأ الباقون بفتحها، أي تخاصمون الأنبياء والمؤمنين فيهم، وعلى قراءة نافع
تخاصمونني فيهم وتعادونني: ادعوهم فليدفعوا عنكم هذا العذاب النازل بكم.
157

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (لا جرم)
يقول: بلى. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك (لا جرم) قال: يعنى لحق. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك
قال: لا كذب. وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال
ذرة من إيمان، فقال رجل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، فقال: إن الله جميل
يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس " وفى ذم الكبر ومدح التواضع أحاديث كثيرة، وكذلك في إخراج
محبة حسن الثوب وحسن النعل، ونحو ذلك من الكبر أحاديث كثيرة. والحاصل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قد بين ماهية الكبر أنه بطر الحق وغمص الناس، فهذا هو الكبر المذموم. وقد ساق صاحب الدر المنثور عند
تفسيره لهذه الآية: أعني قوله سبحانه (إنه لا يحب المستكبرين) أحاديث كثيرة ليس هذا مقام إيرادها، بل المقام
مقام ذكر ما له علاقة بتفسير الكتاب العزيز، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (قالوا أساطير الأولين) أن
ناسا من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا مروا سألوهم
فأخبروهم بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا إنما هو أساطير الأولين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله (ليحملوا أوزارهم) الآية يقول يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذين يضلونهم بغير علم
وذلك مثل قوله سبحانه - وأثقالا مع أثقالهم -. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
مجاهد نحوه، وزاد ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله (قد مكر الذين من قبلهم) قال: نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح. وأخرج عبد الرزاق وابن
جرير عن زيد بن أسلم أنه النمرود أيضا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله - فأتى الله بنيانهم من القواعد) قال: أتاها
أمر الله من أصلها (فخر عليهم السقف من فوقهم) والسقف: أعالي البيوت فائتكفت بهم بيوتهم، فأهلكهم الله
ودمرهم (وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس (تشاقون فيهم) قال: تخالفوني.
سورة النحل الآية (27 - 32).
158

قوله (قال الذين أوتوا العلم) قيل هم العلماء قالوه لأممهم الذين كانوا يعظونهم ولا يلتفتون إلى وعظهم، وكان
هذا القول منهم على طريق الشماتة، وقيل هم الأنبياء، وقيل الملائكة، والظاهر الأول لأن ذكرهم بوصف العلم
يفيد ذلك وإن كان الأنبياء والملائكة هم من أهل العلم، بل هم أعرق فيه لكن لهم وصف يذكرون به هو أشرف
من هذا الوصف، وهو كونهم أنبياء أو كونهم ملائكة، ولا يقدح في هذا جواز الإطلاق، لأن المراد الاستدلال
على الظهور فقط (إن الخزي اليوم) أي الذل والهوان والفضيحة يوم القيامة (والسوء) أي العذاب (على الكافرين)
مختص بهم (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) قد تقدم تفسيره، والموصول في محل الجر على أنه نعت
للكافرين، أو بدل منه، أو في محل نصب على الاختصاص، أو في محل رفع على تقدير مبتدأ: أي هم الذين
تتوفاهم، وانتصاب ظالمي أنفسهم على الحال (فألقوا السلم) معطوف على " فيقول أين شركائي " وما بينهما اعتراض
أي أقروا بالربوبية، وانقادوا عند الموت، ومعناه الاستسلام قاله قطرب، وقيل معناه المسالمة: أي سالموا
وتركوا المشاقة قاله الأخفش، وقيل معناه الإسلام أي أقروا بالإسلام وتركوا ما كانوا فيه من الكفر، وجملة
(أما كنا نعمل من سوء) يجوز أن تكون تفسيرا للسلم على أن يكون المراد بالسلم الكلام الدال عليه، ويجوز أن يكون
المراد بالسوء هنا الشرك، ويكون هذا القول منهم على وجه الجحود والكذب، ومن لم يجوز الكذب على أهل
القيامة حمله على أنهم أرادوا أنهم لم يعملوا سوءا في اعتقادهم وعلى حسب ظنونهم، ومثله قولهم - والله ربنا ما كنا
مشركين - فلما قالوا هذا أجاب عليهم أهل العلم بقولهم (بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون) أي بلى كنتم تعملون السوء
إن الله عليم بالذي كنتم تعملونه فمجازيكم عليه ولا ينفعكم هذا الكذب شيئا (فأدخلوا أبواب جهنم) أي يقال لهم ذلك
عند الموت. وقد تقدم ذكر أبواب جهنم وأن جهنم درجات بعضها فوق بعض، و (خالدين فيها) حال مقدرة
لأن خلودهم مستقبل (فلبئس مثوى المتكبرين) المخصوص بالذم محذوف، والتقدير، لبئس مثوى المتكبرين
جهنم، والمراد بتكبرهم هنا هو تكبرهم عن الإيمان والعبادة كما في قوله - إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون -
ثم أتبع أوصاف الأشقياء بأوصاف السعداء، فقال (وقيل للذين اتقوا) وهم المؤمنون (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا)
أي أنزل خيرا. قال الثعلبي: فإن قيل لم ارتفع الجواب في قوله " أساطير الأولين " وانتصب في قوله " خيرا "
فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل، فكأنهم قالوا الذي يقولونه محمد هو أساطير الأولين، والمؤمنون آمنوا
بالنزول، فقال أنزل خيرا (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) قيل هذا من كلام الله عز وجل، وقيل هو حكاية
لكلام الذين اتقوا، فيكون على هذا بدلا من خيرا، وعلى الأول يكون كلاما مستأنفا مسوقا للمدح للمتقين،
والمعنى: للذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا حسنة: أي مثوبة حسنة (ولدار الآخرة) أي مثوبتها (خير) مما أوتوا
في الدنيا (ولنعلم دار المتقين) دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لدلالة ما قبله عليه، وارتفاع (جنات عدن)
على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها، أو خبر مبتدأ محذوف، وقيل يجوز أن تكون هي المخصوص بالمدح (يدخلونها)
هو إما خبر المبتدأ، أو خبر بعد خبر، وعلى تقدير تنكير عدن تكون صفة لجنات وكذلك (تجرى من تحتها الأنهار)
وقيل يجوز أن تكون الجملتان في محل نصب على الحال على تقدير أن لفظ عدن علم، وقد تقدم معنى جرى الأنهار
من تحت الجنات (لهم فيها ما يشاءون) أي لهم في الجنات ما تقع عليه مشيئتهم صفوا عفوا يحصل لهم بمجرد ذلك
(كذلك يجزى الله المتقين) أي مثل ذلك الجزاء يجزيهم، والمراد بالمتقين كل من يتقى الشرك وما يوجب النار من
المعاصي، والموصول في قوله (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) في محل نصب نعت للمتقين المذكور قبله، قرأ
الأعمش وحمزة " تتوفاهم " في هذا الموضع، وفى الموضع الأول بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية. واختار
159

القراءة الأولى أبو عبيد مستدلا بما روى عن ابن مسعود أنه قال: إن قريشا زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم.
وطيبين فيه أقوال: طاهرين من الشرك، أو الصالحين، أو زاكية أفعالهم وأقوالهم، أو طيبين الأنفس ثقة بما يلقونه
من ثواب الله، أو طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله، أو طيبين الوفاة: أي هي عليهم سهلة لا صعوبة فيها، وجملة
(يقولون سلام عليكم) في محل نصب على الحال من الملائكة: أي قائلين سلام عليكم، ومعناه يحتمل وجهين:
أحدهما أن يكون السلام إنذارا لهم بالوفاة. الثاني أن يكون تبشيرا لهم بالجنة لأن السلام أمان. وقيل إن الملائكة
يقولون: السلام عليك ولى الله إن الله يقرأ عليك السلام (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) أي بسبب عملكم، قيل
يحتمل هذا وجهين: الأول أن يكون تبشيرا بدخول الجنة عند الموت، الثاني أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة. ولا ينافي
هذا دخول الجنة بالتفضل كما في الحديث الصحيح " سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله
قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " وقد قدمنا البحث عن هذا.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وقيل للذين اتقوا) قال:
هؤلاء المؤمنون، يقال لهم (ماذا أنزل ربكم) فيقولون (خيرا للذين أحسنوا) أي آمنوا بالله وكتبه وأمروا بطاعته
وحثوا عباد الله على الخير ودعوهم إليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (الذين
تتوفاهم الملائكة طيبين) قال: أحياء وأمواتا قدر الله لهم ذلك.
سورة النحل الآية (33 - 40)
قوله (هل ينظرون) الآية هذا جواب شبهة أخرى لمنكري النبوة، فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
160

أن ينزل عليهم ملكا من السماء يشهد على صدقه في ادعاء النبوة فقال: هل ينظرون في تصديق نبوتك (إلا
أن تأتيهم الملائكة) شاهدين بذلك، ويحتمل أن يقال: إنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين أو عدهم الله
بقوله (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) لقبض أرواحهم (أو يأتي أمر ربك) أي عذابه في الدنيا المستأصل لهم،
أو المراد بأمر الله القيامة، وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف " إلا أن يأتيهم الملائكة " بالياء التحتية
وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية، والمراد بكونهم ينظرون: أي ينتظرون إتيان الملائكة أو إتيان أمر الله على التفسير
الآخر أنهم قد فعلوا فعل من وجب عليه العذاب وصار منتظرا له، وليس المراد أنهم ينتظرون ذلك حقيقة،
فإنهم لا يؤمنون بذلك ولا يصدقونه (كذلك فعل الذين من قبلهم) أي مثل فعل هؤلاء من الإصرار على الكفر
والتكذيب والاستهزاء فعل الذين خلوا من قبلهم من طوائف الكفار فأتاهم أمر الله فهلكوا (وما ظلمهم الله)
بتدميرهم بالعذاب فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) بما ارتكبوه من القبائح،
وفيه أن ظلمهم مقصور عليهم باعتبار ما إليه يؤول، وجملة (فأصابهم سيئات ما عملوا) معطوفة على فعل الذين
من قبلهم، وما بينهما اعتراض، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم
سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله، والمعنى: فأصابهم جزاء سيئات أعمالهم، أو جزاء أعمالهم السيئة (وحاق بهم)
أي نزل بهم على وجه الإحاطة (ما كانوا به يستهزئون) أي العذاب الذي كانوا به يستهزئون أو عقاب استهزائهم
(وقال الذين أشركوا) هذا نوع آخر من كفرهم الذي حكاه الله عنهم، والمراد بالذين أشركوا هنا أهل مكة (لو
شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ) أي لو شاء عدم عبادتنا لشئ غيره ما عبدنا ذلك (نحن ولا آباؤنا) الذين
كانوا على ما نحن عليه الآن من دين الكفر والشرك بالله، قال الزجاج: إنهم قالوا هذا على جهة الاستهزاء، ولو
قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة الأنعام (ولا حرمنا من دونه من شئ)
من السوائب والبحائر ونحوهما، ومقصودهم بهذا القول المعلق بالمشيئة الطعن في الرسالة: أي لو كان ما قاله الرسول
حقا من المنع من عبادة غير الله، والمنع من تحريم ما لم يحرمه الله حاكيا ذلك عن الله لم يقع منا ما يخالف ما أراده
منا فإنه قد شاء ذلك، وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، فلما وقع منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه كان ذلك
دليلا على أن ذلك هو المطابق لمراده والموافق لمشيئته، مع أنهم في الحقيقة لا يعترفون بذلك ولا يقرون به لكنهم
قصدوا ما ذكرنا من الطعن على الرسل (كذلك فعل الذين من قبلهم) من طوائف الكفر فإنهم أشركوا بالله وحرموا
ما لم يحرمه وجادلوا رسله بالباطل واستهزءوا بهم، ثم قال (فهل على الرسل) الذين يرسلهم الله إلى عباده بما شرعه
لهم من شرائعه التي رأسها توحيده، وترك الشرك به (إلا البلاغ) إلى من أرسلوا إليهم بما أمروا بتبليغه بلاغا واضحا
يفهمه المرسل إليهم ولا يلتبس عليهم، ثم إنه سبحانه أكد هذا وزاده إيضاحا فقال (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا)
كما بعثنا في هؤلاء لإقامة الحجة عليهم - وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا - و " أن " في قوله (أن اعبدوا الله)
إما مصدرية: أي بعثنا بأن اعبدوا الله، أو مفسرة لأن في البعث معنى القول (واجتنبوا الطاغوت) أي اتركوا
كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم وكل من دعا إلى الضلال (فمنهم) أي من هذه الأمم التي بعث الله
إليها رسله (من هدى الله) أي أرشده إلى دينه وتوحيده وعبادته واجتناب الطاغوت (ومنهم من حقت عليه
الضلالة) أي وجبت وثبتت لإصراره على الكفر والعناد. قال الزجاج: أعلم الله أنه بعث الرسل بالأمر بالعبادة
وهو من وراء الإضلال والهداية، ومثل هذه الآية قوله تعالى - فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة - وفى هذه
الآية التصريح بأن الله أمر جميع عباده بعبادته، واجتناب الشيطان وكل ما يدعو إلى الضلال، وأنهم بعد ذلك
161

فريقان فمنهم من هدى ومنهم من حقت عليه الضلالة، فكان في ذلك دليل على أن أمر الله سبحانه لا يستلزم موافقة
إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان، ولا يريد الهداية إلا للبعض، إذ لو أرادها للكل لم يكفر أحد، وهذا معنى
ما حكيناه عن الزجاج هنا (فسيروا في الأرض) سير معتبرين (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) من الأمم
السابقة عند مشاهدتكم لآثارهم كعاد وثمود: أي كيف صار آخر أمرهم إلى خراب الديار بعد هلاك الأبدان بالعذاب
ثم خصص الخطاب برسوله صلى الله عليه وآله وسلم مؤكدا لما تقدم فقال (إن تحرص على هداهم) أي تطلب
بجهدك ذلك (فإن الله لا يهدى من يضل) قرأ ابن مسعود وأهل الكوفة " لا يهدى " بفتح حرف المضارعة على أنه
فعل مستقبل مسند إلى الله سبحانه: أي فإن الله لا يرشد من أضله، و " من " في موضع نصب على المفعولية. وقرأ
الباقون " لا يهدى " بضم حرف المضارعة على أنه مبنى للمجهول، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم على
معنى أنه لا يهديه هاد كائنا من كان، ومن في موضع رفع على أنها نائب الفاعل المحذوف، فتكون هذه الآية على
هذه القراءة كقوله في الآية الأخرى - من يضلل الله فلا هادي له - والعائد على القراءتين محذوف: أي من يضله.
وروى أبو عبيد عن الفراء على القراءة الأولى أن معنى (لا يهدى) لا يهتدى كقوله تعالى - أمن لا يهدى إلا أن يهدى -
بمعنى يهتدى. قال أبو عبيد: ولا نعلم أحدا روى هذا غير الفراء وليس بمتهم فيما يحكيه. قال النحاس: حكى
عن محمد بن يزيد المبرد، كأن معنى (لا يهدى من يضل) من علم ذلك منه وسبق له عنده (وما لهم من ناصرين)
ينصرونهم على الهداية لمن أضله الله أو ينصرونهم بدفع العذاب عنهم، ثم ذكر عناد قريش وإنكارهم للبعث فقال
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم) مصدر في موضع الحال: أي جاهدين (لا يبعث الله من يموت) من عباده، زعموا
أن الله سبحانه عاجز عن بعث الأموات، فرد الله عليهم ذلك بقوله (بلى وعدا عليه حقا) هذا إثبات لما بعد النفي
أي بلى يبعثهم، ووعدا مصدر مؤكدا لما دل عليه بلى وهو يبعثهم لأن البعث وعد من الله وعد عباده به، والتقدير
وعد البعث وعدا عليه حقا لا خلف فيه، وحقا صفة لوعد، وكذا عليه فإنه صفة لوعد: أي كائنا عليه، أو نصب
حقا على المصدرية: أي حق حقا (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أن ذلك يسير عليه سبحانه غير عسير. وقوله
(ليبين لهم) أي ليظهر لهم، وهو غاية لما دل عليه بلى من البعث، والضمير في (لهم) راجع إلى من يموت،
والموصول في قوله (الذي يختلفون فيه) في محل نصب على أنه مفعول ليبين: أي الأمر الذي وقع الخلاف بينهم
فيه، وبيانه إذ ذاك يكون بما جاءتهم به الرسل، ونزلت عليهم فيه كتب الله، وقيل إن ليبين متعلق بقوله (ولقد
بعثنا) أي بعثنا في كل أمة رسولا ليبين وهو بعيد (وليعلم الذين كفروا) بالله سبحانه وأنكروا البعث (أنهم كانوا
كاذبين) في جدالهم وإنكارهم البعث بقولهم (لا يبعث الله من يموت) وجملة (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول
له كن فيكون) مستأنفة لبيان كيفية الإبداء والإعادة بعد بيان سهولة البعث عليه سبحانه. قال الزجاج: أعلمهم
بسهولة خلق الأشياء عليه فأخبر أنه متى أراد الشئ كان، وهذا كقوله - وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون -
وقرأ ابن عامر والكسائي " فيكون " بالنصب عطفا على أن نقول. قال الزجاج: يجوز أن يكون نصبا على جواب
كن. وقرأ الباقون بالرفع على معنى: فهو يكون. قال ابن الأنباري: أوقع لفظ الشئ على المعلوم عند الله تعالى
قبل الخلق، لأنه بمنزلة ما قد وجد وشوهد. وقال الزجاج: إن معنى لشئ لأجل شئ فجعل اللام سببية، وقيل
هي لام التبليغ، كما في قولك قلت له قم فقام، و (إنما قولنا) مبتدأ (وأن نقول له كن) خبره، وهذا الكلام من
باب التمثيل على معنى: أنه لا يمتنع عليه شئ، وأن وجوده عند إرادته كوجود المأمورية عند أمر الآمر المطاع
162

إذا ورد على المأمور المطيع، وليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال إنه يلزم منه أحد محالين
إما خطاب المعدوم، أو تحصيل لحاصل. وقد مضى تفسير ذلك في سورة البقرة مستوفى.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (هل ينظرون إلا أن تأتيهم
الملائكة) قال: بالموت، وقال في آية أخرى - ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة - وهو ملك الموت، وله
رسل (أو يأتي أمر ربك) وذاكم يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن
عكرمة في قوله (فإن الله لا يهدى من يضل) قال: من يضله الله لا يهديه أحد. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه
فكان فيما تكلم به: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا وكذا، فقال له المشرك: إنك لتزعم أنك تبعث من بعد
الموت، فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت)
الآية. وأخرج ابن العقيلي وابن مردويه عن علي في قوله (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت)
قال: نزلت في. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن أبي هريرة قال: " قال الله تعالى سبني ابن آدم
ولم يكن ينبغي له أن يسبني، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني، أما تكذيبه إياي، فقال: وأقسموا بالله جهد
أيمانهم لا يبعث الله من يموت، وقلت: بلى وعدا عليه حقا. وأما سبه إياي، فقال: إن الله ثالث ثلاثة، وقلت
هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " هكذا ذكره أبو هريرة موقوفا وهو في الصحيحين
مرفوعا بلفظ آخر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ليبين لهم الذي
يختلفون فيه) يقول: للناس عامة.
سورة النحل الآية (41 - 50)
قد تقدم تحقيق معنى الهجرة في سورة النساء، وهى ترك الأهل والأوطان، ومعنى (هاجروا في الله)
163

في شأن الله سبحانه وفى رضاه، وقيل (في الله) في دين الله، وقيل في بمعنى اللام: أي لله (من بعد ما ظلموا) أي
عذبوا وأهينوا فإن أهل مكة عذبوا جماعة من المسلمين حتى قالوا ما أرادوا منهم، فلما تركوهم هاجروا. وقد
اختلف في سبب نزول الآية، فقيل نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار. واعترض بأن السورة مكية، وذلك
يخالف قوله (والذين هاجروا). وأجيب بأنه يمكن أن تكون هذه الآية من جملة الآيات المدنية في هذه السورة كما
قدمنا في عنوانها، وقيل نزلت في أبى جندل بن سهيل، وقيل نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم
لما ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة (لنبوئنهم في الدنيا حسنة).
اختلف في معنى هذا على أقوال، فقيل المراد نزولهم المدينة قاله ابن عباس والحسن والشعبي وقتادة، وقيل
المراد الرزق الحسن قاله مجاهد، وقيل النصر على عدوهم قاله الضحاك، وقيل ما استولوا عليه من فتوح البلاد
وصار لهم فيها من الولايات، وقيل ما بقي لهم فيها من الثناء وصار لأولادهم من الشرف. ولا مانع من حمل الآية
على جميع هذه الأمور، ومعنى " لنبوئنهم في الدنيا حسنة " لنبوئنهم مباءة حسنة أو تبوئة حسنة، فحسنة صفة
مصدر محذوف (ولأجر الآخرة) أي جزاء أعمالهم في الآخرة (أكبر) من أن يعلمه أحد من خلق الله قبل أن
يشاهده، ومنه قوله تعالى - وإذا رأيت ثم رأيت نعيما فيه وملكا كبيرا -. (لو كانوا يعلمون) أي لو كان هؤلاء الظلمة
يعلمون ذلك، وقيل إن الضمير في " يعلمون " راجع إلى المؤمنين: أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه
أكبر من حسنة الدنيا (الذين صبروا) الموصول في محل نصب على المدح، أو الرفع على تقدير مبتدأ، أو هو
بدل من الموصول الأول، أو من الضمير في " لنبوئنهم " (وعلى ربهم يتوكلون) أي على ربهم خاصة يتوكلون
في جميع أمورهم معرضين عما سواه، والجملة معطوفة على الصلة أو في محل نصب على الحال (وما أرسلنا
من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) قرأ حفص عن عاصم " نوحي " بالنون، وقرأ الباقون " يوحى " بالياء التحتية،
وهذه الآية رد على قريش حيث زعموا أن الله سبحانه أجل من أن يرسل رسولا من البشر، فرد الله عليهم بأن
هذه عادته وسنته أن لا يرسل إلا رجالا من البشر يوحى إليهم. وزعم أبو علي الجبائي أن معنى الآية أن الله
سبحانه لم يرسل إلى الأنبياء بوحيه إلا من هو على صورة الرجال من الملائكة. ويرد عليه بأن جبريل كان يأتي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على صور مختلفة، ولما كان كفار مكة مقرين بأن اليهود والنصارى هم أهل
العلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل صرف الخطاب إليهم وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب، فقال (فاسألوا
أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) أي فاسألوا أيها المشركون مؤمن أهل الكتاب إن كنتم لا تعلمون فإنهم سيخبرونكم
أن جميع الأنبياء كانوا بشرا، أو اسألوا أهل الكتاب من غير تقييد بمؤمنيهم كما يفيده الظاهر فإنهم كانوا يعترفون
بذلك ولا يكتمونه، وقيل المعنى: فاسألوا أهل القرآن، و (بالبينات والزبر) يتعلق بأرسلنا، فيكون داخلا
في حكم الاستثناء مع رجالا، وأنكر الفراء ذلك، وقال: إن صفة ما قبل إلا لا تتأخر إلى ما بعدها، لأن المستثنى
عنه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته، كما لو قيل أرسلنا إلا رجالا بالبينات، فلما لم يصر هذا المجموع مذكورا
بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات
والزبر إلا رجالا، وقيل يتعلق بمحذوف دل عليه المذكور: أي أرسلناهم بالبينات والزبر. ويكون جوابا عن
سؤال مقدر كأنه قيل لماذا أرسلهم؟ فقال: أرسلناهم بالبينات والزبر: وقيل متعلق بتعلمون على أنه مفعوله والباء
زائدة: أي إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر، وقيل متعلق برجالا: وقال أي رجالا متلبسين بالبينات والزبر، وقيل
بنوحي: أي نوحي إليهم بالبينات والزبر، وقيل منصوب بتقدير أعني. والباء زائدة، وأهل الذكر هم أهل
164

الكتاب كما تقدم. وقال الزجاج: اسألوا كل من يذكر بعلم، والبينات: الحجج والبراهين، والزبر: الكتب.
وقد تقدم الكلام على هذا في آل عمران (وأنزلنا إليك الذكر) أي القرآن، ثم بين الغاية المطلوبة من الإنزال
فقال (لتبين للناس) جميعا (ما نزل إليهم) في هذا الذكر من الأحكام الشرعية والوعد والوعيد (ولعلهم يتفكرون)
أي إرادة أن يتأملوا ويعملوا أفكارهم فيتعظوا (أفأمن الذين مكروا السيئات) يحتمل أن تكون السيئات صفة
مصدر محذوف: أي مكروا المكرات السيئات، وأن تكون مفعولة للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل: أي
عملوا السيئات، أو صفة لمفعول مقدر: أي أفأمن الماكرون العقوبات السيئات، أو على حذف حرف الجر:
أي مكروا بالسيئات (أن يخسف الله بهم الأرض) هو مفعول أمن، أو بدل من مفعوله على القول بأن مفعوله
محذوف، وأن السيئات صفة للمحذوف، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، ومكر السيئات: سعيهم في إيذاء رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وإيذاء أصحابه على وجه الخفية، واحتيالهم في إبطال الإسلام، وكيد أهله (أن يخسف
الله بهم) كما خسف بقارون، يقال خسف المكان يخسف خسوفا: ذهب في الأرض: وخسف الله به الأرض
خسوفا: أي غاب به فيها، ومنه قوله - فخسفنا به وبداره الأرض - وخسف هو في الأرض وخسف به (أو يأتيهم
العذاب من حيث لا يشعرون) به في حال غفلتهم عنه كما فعل بقوم لوط وغيرهم، وقيل يريد يوم بدر فإنهم أهلكوا
ذلك اليوم ولم يكن في حسبانهم (أو يأخذهم في تقلبهم).
ذكر المفسرون فيه وجوها، فقيل المراد في أسفارهم ومتاجرهم فإنه سبحانه قادر على أن يهلكهم في السفر كما
يهلكهم في الحضر، وهو لا يفوتونه بسبب ضربهم في الأرض، وبعدهم عن الأوطان، وقيل المراد في حال تقلبهم
في قضاء أوطارهم بوجود الحيل، فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم، وقيل المراد في حال تقلبهم في الليل على
فرشهم، وقيل في حال إقبالهم وإدبارهم، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار، والقلب بالمعنى الأول مأخوذ من
قوله - لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد -، وبالمعنى الثاني مأخوذ من قوله - وقلبوا لك الأمور - (فما هم
بمعجزين) أي بفائتين ولا ممتنعين (أو يأخذهم على تخوف) أي حال تخوف وتوقع للبلايا بأن يكونوا متوقعين
للعذاب حذرين منه غير غافلين عنه، فهو خلاف ما تقدم من قوله " أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون "،
وقيل معنى " على تخوف " على تنقص. قال ابن الأعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى
أهلكهم. قال الواحدي: قال عامة المفسرين: على تخوف قال تنقص: إما بقتل أو بموت، يعنى بنقص من
أطرافهم ونواحيهم يأخذهم الأول فالأول حتى يأتي الأخذ على جميعهم. قال، والتخوف التنقص، يقال هو
يتخوف المال: أي يتنقصه. ويأخذ من أطرافه انتهى، يقال تخوفه الدهر وتخونه بالفاء والنون: تنقصه، قال
ذو الرمة:
لا بل هو الشوق من دار تخوفها * مرا سحاب ومرا بارح ترب
وقال لبيد: * تخوفها نزولي وارتحالي * أي تنقص لحمها وشحمها. قال الهيثم بن عدي:
التخوف بالفاء التنقص لغة لأزد شنودة، وأنشد:
تخوف عدوهم مالي وأهدى * سلاسل في الحلوق لها صليل
وقيل على تخوف: على عجل قاله الليث بن سعد، وقيل على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، روى ذلك
عن ابن عباس، وقيل على تخوف: أن يعاقب ويتجاوز قاله قتادة (فإن ربكم لرءوف رحيم، لا يعاجل، بل
يمهل رأفة بكم ورحمة لكم مع استحقاقهم للعقوبة (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ) لما خوف سبحانه الماكرين
165

بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلى ومكانهما، والاستفهام في " أو لم
يروا " للإنكار، وما مبهمة مفسرة بقوله " من شئ "، قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب والأعمش
" تروا " بالمثناة الفوقية على أنه خطاب لجميع الناس، وقرأ الباقون بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الذين مكروا
السيئات. وقرأ أبو عمرو ويعقوب (تتفيؤا ضلاله) بالمثناة الفوقية. وقرأ الباقون بالتحتية، واختارها أبو عبيد: أي
يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص. ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى. قال
الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرف عنه الشمس والقمر،
والذي يكون بالغداة هو الظل. وقل ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس
فزالت عنه فهو فئ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل، ومعنى (من شئ) من شئ له ظل، وهى الأجسام
فهو عام أريد به الخاص، وظلاله جمع ظل، وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة (عن اليمين والشمائل)
أي عن جهة أيمانها وشمائلها: أي عن جانبي كل واحد منها. قال الفراء: وحد اليمين، لأنه أراد واحدا من ذوات
الأظلال، وجمع الشمائل لأنه أراد كلها، لأن ما خلق الله لفظه مفرد ومعناه جمع، وقال الواحدي: وحد اليمين
والمراد به الجميع إيجازا في اللفظ كقوله - ويولون الدبر -، ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع، وقيل إن العرب
إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله - وجعل الظلمات والنور -، و - ختم الله على
قلوبهم وعلى سمعهم -، وقيل المراد باليمين: النقطة التي هي مشرق الشمس، وأنها واحدة. والشمائل عبارة عن
الانحراف في فلك الإظلال بعد وقوعها على الأرض وهى كثيرة، وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي
الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة القوية (سجدا لله) منتصب على الحال: أي حال كون الظلال سجدا لله. قال
الزجاج: يعنى أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة. وقال أيضا: سجود الجسم انقياده وما يرى من أثر الصنعة (وهم
داخرون) في محل نصب على الحال: أي خاضعون صاغرون، والدخور: الصغار والذل، يقال دخر الرجل
فهو داخر وأدخره الله. قال الشاعر:
فلم يبق إلا داخر في مخيس * ومتحجر في غير أرضك في حجر
ومخيس: اسم سجن كان بالعراق (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة) أي له وحده يخضع
وينقاد لا لغيره ما في السماوات جميعا، وما في الأرض من دابة تدب على الأرض، والمراد كل دابة. قال الأخفش:
هو كقولك ما أتاني من رجل مثله، وما أتاني من الرجال مثله. وقد دخل في عموم ما في السماوات وما في الأرض
جميع الأشياء الموجودة فيهما، وإنما خص الدابة بالذكر لأنه قد علم من قوله (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ)
انقياد الجمادات، وعطف الملائكة على ما قبلهم تشريفا لهم، وتعظيما لدخولهم في المعطوف عليه (وهم لا يستكبرون)
أي والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة ربهم والمراد الملائكة، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة. وفى هذا رد على
قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله، ويجوز أن تكون حالا من فاعل يسجد وما عطف عليه: أي يسجد لله
ما في السماوات وما في الأرض والملائكة وهم جميعا لا يستكبرون عن السجود (يخافون ربهم من فوقهم) هذه الجملة
في محل نصب على الحال: أي حال كونهم يخافون ربهم من فوقهم، أو جملة مستأنفة لبيان نفى استكبارهم، ومن آثار
الخوف عدم الاستكبار، ومن فوقهم متعلق بيخافون على حذف مضاف: أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم،
أو يكون حالا من الرب: أي يخافون ربهم حال كونه من فوقهم، وقيل معنى (يخافون ربهم من فوقهم) يخافون
الملائكة فيكون على حذف المضاف: أي يخافون ملائكة ربهم كائنين من فوقهم وهو تكلف لا حاجة إليه، وإنما
166

اقتضى مثل هذه التأويلات البعيدة المحاماة على مذاهب قد رسخت في الأذهان، وتقررت في القلوب، قيل وهذه
المخافة هي مخافة الإجلال، واختاره الزجاج فقال (يخافون ربهم) خوف مجلين، ويدل على صحة هذا المعنى قوله
- وهو القاهر فوق عباده -، وقوله إخبارا عن فرعون - وإنا فوقهم قاهرون - (ويفعلون ما يؤمرون) أي
ما يؤمرون به من طاعة الله: يعنى الملائكة: أو جميع من تقدم ذكره، وحمل هذه الجمل على الملائكة أولى، لأن
في مخلوقات الله من يستكبر عن عبادته، ولا يخافه ولا يفعل ما يؤمر به، كالكفار والعصاة الذين لا يتصفون بهذه
الصفات وإبليس وجنوده.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (والذين هاجروا في الله من بعد
ما ظلموا) قال: هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ظلمهم. وأخرج
عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن داود بن أبي هند قال: نزلت هذه الآية في أبى جندل
ابن سهيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (والذين هاجروا في الله)
الآية قال: هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة،
ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين (ولأجر الآخرة أكبر) قال:
أي والله لما يصيبهم الله من جنته ونعمته أكبر (لو كانوا يعلمون). وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي في
قوله (في الدنيا حسنة) قال: المدينة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد
في الآية قال: لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال " لما بعث
الله محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك، فأنزل الله - وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم -. " وأخرج الفريابي
وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله (فاسألوا أهل الذكر) الآية،
يعنى مشركي قريش أن محمدا رسول الله في التوراة والإنجيل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال:
نزلت في عبد الله بن سلام ونفر من أهل التوراة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن مجاهد في قوله (بالبينات) قال: الآيات (والزبر) قال: الكتب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن
المنذر عن مجاهد في قوله (أفأمن الذين مكروا السيئات) قال: نمروذ بن كنعان وقومه. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: أي الشرك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: تكذيبهم الرسل، وإعمالهم
بالمعاصي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أو يأخذهم في تقلبهم) قال: في اختلافهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (في تقلبهم) قال: إن شئت أخذته في سفره (أو يأخذهم على تخوف) يقول
على أثر موت صاحبه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (على تخوف) قال: تنقص من أعمالهم. وأخرج ابن جرير
عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية " أو يأخذهم على تخوف " فقالوا ما نرى إلا أنه عند تنقص ما يردده من الآيات
فقال عمر ما أرى إلا أنه على ما يتنقصون من معاصي الله، فخرج رجل ممن كان عند عمر فلقى أعرابيا، فقال
يا فلان: ما فعل ربك؟ قال قد تخيفته، يعنى انتقصته، فرجع إلى عمر فأخبره، فقال قد رأيته ذلك. وأخرج
ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله (أو يأخذهم على تخوف) قال: يأخذهم بنقص بعضهم
بعضا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (يتفيؤا) قال: يتميل. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر عن قتادة في قوله (وهم داخرون) قال: صاغرون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ولله يسجد) الآية قال: لم يدع شيئا من
167

خلقه إلا عبده له طائعا أو كارها. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: يسجد من في السماوات طوعا
ومن في الأرض طوعا وكرها.
سورة النحل الآية (51 - 62)
لما بين سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له، خاضعة لجلاله، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك
بقوله (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد) فنهى سبحانه عن اتخاذ إلهين، ثم أثبت أن الإلهية منحصرة
في إله واحد وهو الله سبحانه، وقد قيل إن التثنية في إلهين قد دلت على الاثنينية، والإفراد في إله قد دل على
الوحدة، فما وجه وصف إلهين باثنين، ووصف إله واحد؟ فقيل في الجواب: إن في الكلام تقديما وتأخيرا.
والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين إنما هو واحد إله، وقيل إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك،
وقيل إن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهى راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية، وفائدة زيادة واحد دفع توهم
أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية، مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها، وإنما خلاف المشركين في الواحدية
ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب، فقال (فإياي فارهبون) أي إن
كنتم راهبين شيئا فإياي فارهبون لا غيري، وقد مر مثل هذا في أول البقرة. ثم لما قرر سبحانه وحدانيته، وأنه
الذي يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه، ذكر أن الكل في ملكه وتحت تصرفه فقال (وله ما في السماوات
والأرض) وهذه الجملة مقررة لمن تقدم في قوله - ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض - إلى آخره، وتقديم
168

الخبر لإفادة الاختصاص (وله الدين واصبا) أي ثابتا واجبا دائما لا يزول، والدين هو الطاعة والإخلاص.
قال الفراء (واصبا) معناه دائما، ومنه قول الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه * بذم يكون الدهر أجمع واصبا
أي دائما. وروى عن الفراء أيضا أنه قال: الواصب الخالص، والأول أولى، ومنه قوله سبحانه - ولهم
عذاب واصب - أي دائم. وقال الزجاج: أي طاعته واجبة أبدا. ففسر الواصب بالواجب. وقال ابن قتيبة
في تفسير الواصب: أي ليس أحد يطاع إلا انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى فإن الطاعة تدوم له، ففسر
الواصب بالدائم، وإذا دام الشئ دواما لا ينقطع فقد وجب وثبت، يقال وصب الشئ يصب وصوبا فهو
واصب: إذا دام، ووصب الرجل على الأمر: إذا واظب عليه، وقيل الوصب التعب والإعياء: أي يجب
طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية، والاستفهام في قوله (أفغير الله تتقون) للتقريع
والتوبيخ، وهو معطوف على مقدر كما في نظائره، والمعنى: إذا كان الدين: أي الطاعة واجبا له دائما لا ينقطع
كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره. ثم أمتن سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من
النعم هو منه لا من غيره فقال (وما بكم من نعمة) أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله: أي فهي
منه، فتكون ما شرطية، ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط، وبكم صلتها، ومن نعمة حال من
الضمير في الجار والمجرور، أو بيان لما. وقوله (فمن الله) الخبر، وعلى كون ما شرطية يكون فعل الشرط محذوفا
أي ما يكن، والنعمة إما دينية وهى معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية نفسانية، أو بدنية
أو خارجية كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها، والكل من الله سبحانه
فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه، ثم بين تلون الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال (ثم إذا مسكم الضر فإليه
تجأرون) أي إذا مسكم الضر أي مس فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرعون في كشفه فلا كاشف له إلا هو، يقال
جأر يجأر جؤورا: إذا رفع صوته في تضرع. قال الأعشى يصف بقرة:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة * وكان النكير أن تطيف وتجأرا
والضر: المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان (ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق
منكم بربهم يشركون) أي إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضر - إذا فريق أي جماعة منكم بربهم الذين رفع
الضر عنهم يشركون فيجعلون معه إلها آخر من صنم أو نحوه. والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء حيث
يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضر مكان الشكر له، وهذا المعنى قد تقدم
في الأنعام ويونس، ويأتي في سبحان. قال الزجاج: هذا خاص بمكر وكفر، وقابل كشف الضر عنه بالجحود
والكفر، وعلى هذا فتكون من في منكم للتبعيض حيث كان الخطاب للناس جميعا، والفريق هم الكفرة وإن كان
الخطاب موجها إلى الكفار فمن للبيان، واللام في (ليكفروا بما آتيناهم) لام كي: أي لكي يكفروا بما آتيناهم من
نعمة كشف الضر، حتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من
مقاصدهم. وهذا غاية في العتو والعناد ليس وراءها غاية، وقيل اللام للعاقبة: يعنى ما كانت عاقبة تلك
التضرعات إلا هذا الكفر. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب (فتمتعوا) بما
أنتم فيه من ذلك (فسوف تعلمون) عاقبة أمركم وما يحل بكم في هذه الدار وما تصيرون إليه في الدار الآخرة. ثم
حكى سبحانه نوعا آخر من قبائح أعمالهم فقال (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم) أي يقع منهم هذا الجعل
بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم وما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك
169

به، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات والشياطين نصيبا مما رزقناهم من أموالهم يتقربون به إليه.
وقيل المعنى: أنهم أي الكفار يجعلون للأصنام وهم لا يعلمون شيئا لكونهم جمادات، ففاعل يعلمون على هذا هي
الأصنام وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون جريا على اعتقاد الكفار فيها. وحاصل المعنى: ويجعل
هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعقل شيئا نصيبا من أموالهم التي رزقهم الله إياها (تالله لتسألن عما كنتم تفترون) هذا
رجوع من الغيبة إلى الخطاب، وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ (عما كنتم تفترون) تختلقونه من الكذب على
الله سبحانه في الدنيا (ويجعلون لله البنات) هذا نوع آخر من فضائحهم وقبائحهم، وقد كانت خزاعة وكنانة تقول
الملائكة بنات الله (سبحانه) نزه سبحانه نفسه عما نسبه إليه هؤلاء الجفاة الذين لا عقول لهم صحيحة ولا أفهام
مستقيمة - إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل - وفى هذا التنزيه تعجيب من حالهم (ولهم ما يشتهون) أي ويجعلون
لأنفسهم ما يشتهوونه من البنين على أن " ما " في محل نصب بالفعل المقدر، ويجوز أن تكون في محل رفع على
الابتداء. وأنكر النصب الزجاج قال: لأن العرب لا يقولون جعل له كذا وهو يعنى نفسه، وإنما يقولون جعل
لنفسه كذا، فلو كان منصوبا لقال ولأنفسهم ما يشتهون. وقد أجاز النصب الفراء. ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث
التي جعلوها لله سبحانه فقال (وإذا بشر أحدهم بالأنثى) أي إذا أخبر أحدهم بولادة بنت له (ظل وجهه مسودا)
أي متغيرا، وليس المراد السواد الذي هو ضد البياض، بل المراد الكناية بالسواد عن الانكسار والتغير بما يحصل
من الغم، والعرب تقول لكل من لقى مكروها قد اسود وجهه غما وحزنا قاله الزجاج. وقال الماوردي: بل
المراد سواد اللون حقيقة، قال: وهو قول الجمهور، والأول أولى، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن
واغتم لا يحصل في لونه إلا مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي، وجملة (وهو كظيم) في محل
نصب على الحال: أي ممتلئ من الغم غيظا وحنقا. قال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره، وقيل إنه
المغموم الذي يطبق فاه من الغم، مأخوذ من الكظامة وهو سد فم البئر قاله علي بن عيسى، وقد تقدم في سورة
يوسف (يتوارى من القوم) أي يتغيب ويختفي (من سوء ما بشر به) أي من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه
بسبب حدوث البنت له (أيمسكه على هون) أي لا يزال مترددا بين الأمرين: وهو إمساك البنت التي بشر بها،
أو دفنها في التراب (على هون) أي هوان، وكذا قرأ عيسى الثقفي. قال اليزيدي: والهون الهوان بلغة قريش،
وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائي، وحكى عن الكسائي أنه البلاء والمشقة، قالت الخنساء،
نهين النفوس وهون النفو * س يوم الكريهة أبقى لها *
وقال الفراء: الهون القليل بلغة تميم. وحكى النحاس عن الأعمش أنه قرأ " أيمسكه " " على سوء (أم يدسه
في التراب) أي يخفيه في التراب بالوأد كما كانت تفعله العرب، فلا يزال الذي بشر بحدوث الأنثى مترددا بين
هذين الأمرين، والتذكير في يمسكه ويدسه مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ. وقرأ الجحدري " أم يدسها
في التراب " ويلزمه أن يقرأ أيمسكها، وقيل دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس لإخفائه عن الأبصار
(ألا ساء ما يحكمون) حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم
ومثل هذا قوله تعالى - ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى - (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء) أي
لهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بهذه القبائح الفظيعة مثل السوء: أي صفة السوء من الجهل والكفر بالله، وقيل
هو وصفهم لله سبحانه بالصاحبة والولد، وقيل هو حاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم ووأد البنات لدفع العار وخشية
الإملاق، وقيل العذاب والنار (ولله المثل الأعلى) وهو أضداد صفة المخلوقين من الغنى الكامل والجود الشامل
170

والعلم الواسع، أو التوحيد وإخلاص العبادة، أو أنه خالق رازق قادر مجاز، وقيل شهادة أن لا إله إلا الله،
وقيل - الله نور السماوات والأرض مثل نوره - (وهو العزيز) الذي لا يغالب فلا يضره نسبتهم إليه ما لا يليق به
(الحكيم) في أفعاله وأقواله. ثم لما حكى سبحانه عن القوم عظيم كفرهم بين سعة كرمه وحلمه حيث لم يعاجلهم
بالعقوبة ولم يؤاخذهم بظلمهم، فقال (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم) والمراد بالناس هنا الكفار أو جميع العصاة
(ما ترك عليها) أي على الأرض وإن لم يذكر فقد دل عليها ذكر الناس وذكر الدابة، فإن الجميع مستقرون
على الأرض، والمراد بالدابة الكافر، وقيل كل ما دب، وقد قيل على هذا كيف يعم بالهلاك مع أن فيهم من لا ذنب
له؟ وأجيب بإهلاك الظالم انتقاما منه، وإهلاك غيره إن كان من أهل التكليف فلأجل توفير أجره، وإن كان من
غيرهم فبشؤم ظلم الظالمين، ولله الحكمة البالغة - لا يسأل عما يفعل وهو يسألون -، ومثل هذا قوله - واتقوا فتنة
لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة -. وفى معنى هذا أحاديث منها ما عند مسلم وغيره من حديث ابن عمر قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا
على نياتهم " وكذلك حديث الجيش " الذين يخسف بهم في البيداء " وفى آخره: أنهم يبعثون على نياتهم " وقد قدمنا
عند تفسير قوله سبحانه - واتقوا فتنة - الآية تحقيقا حقيقا بالمراجعة له (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) معلوم عنده
وهو منتهى حياتهم وانقضاء أعمارهم أو أجل عذابهم، وفى هذا التأخير حكمة بالغة منها الإعذار إليهم وإرخاء
العنان معهم، ومنها حصول من سبق في علمه من أولادهم (فإذا جاء أجلهم) الذي سماه لهم حقت عليهم كلمة الله
سبحانه في ذلك الوقت من دون تقدم عليه ولا تأخر عنه، والساعة المدة القليلة، وقد تقدم تفسيرها هذا وتحقيقه.
ثم ذكر نوعا آخر من جهلهم وحمقهم فقال (ويجعلون لله ما يكرهون) أي ينسبون إليه سبحانه ما يكرهون نسبته
إلى أنفسهم من البنات، وهو تكرير لما قد تقدم لقصد التأكيد والتقرير ولزيادة التوبيخ والتقريع (وتصف
ألسنتهم الكذب) هذا من النوع الآخر الذي ذكره سبحانه من قبائحهم وهو: أي هذا الذي تصفه ألسنتهم من
الكذب هو قولهم (أن لهم الحسنى) أي الخصلة الحسنى، أو العاقبة الحسنى، قال الزجاج: يصفون أن لهم مع
قبح قولهم من الله الجزاء الحسن. قال الزجاج أيضا والفراء: أبدل من قوله وتصف ألسنتهم الكذب قوله أن لهم
الحسنى، والكذب منصوب على أنه مفعول تصف. وقرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن الكذب برفع
الكاف والذال والباء على أنه صفة للألسن وهو جمع كذب، فيكون المفعول على هذا هو أن لهم الحسنى. ثم رد الله
سبحانه عليهم بقوله (لا جرم أن لهم النار) أي حقا أن لهم مكان ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى النار، وقد تقدم
تحقيق هذا (وأنهم مفرطون) قال ابن الأعرابي وأبو عبيدة: أي متروكون منسيون في النار، وبه قال الكسائي والفراء
فيكون مشتقا من أفرطت فلانا خلفي: إذا خلفته ونسيته. وقال قتادة والحسن: معجلون إليها مقدمون في دخولها
من أفرطته: أي قدمته في طلب الماء، والفارط هو الذي يتقدم إلى الماء، والفراط المتقدمون في طلب الماء،
والوراد المتأخرون، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " أنا فرطكم على الحوض " أي متقدمكم. قال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا * كما تعجل فراط لوراد
وقرأ نافع في رواية ورش " مفرطون " بكسر الراء وتخفيفها، وهى قراءة ابن مسعود وابن عباس، ومعناه:
مسرفون في الذنوب والمعاصي، يقال أفرط فلان على فلان: إذا أربى عليه وقال له أكثر مما قال من الشر. وقرأ
أبو جعفر القارى " مفرطون " بكسر الراء وتشديدها: أي مضيعون أمر الله، فهو من التفريط في الواجب. وقرأ
الباقون " مفرطون " بفتح الراء مخففا، ومعناه: مقدمون إلى النار.
171

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (وله الدين واصبا) قال:
الدين الإخلاص، وواصبا دائما. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح (وله الدين واصبا) قال: لا إله إلا الله،
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (واصبا) قال: دائما. وأخرج الفريابي وابن جرير
عنه قال واجبا، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (تجأرون) قال: تتضرعون
دعاء، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال: تصيحون بالدعاء، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله
(فتمتعوا فسوف تعلمون) قال: وعيد، وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله (ويجعلون لما لا يعلمون الآية)
قال: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم ولا ينفعهم (نصيبا مما
رزقناهم). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: هم مشركو
العرب جعلوا لأوثانهم وشياطينهم مما رزقهم الله وجزءوا من أموالهم جزءا فجعلوه لأوثانهم وشياطينهم، وأخرج
ابن أبي حاتم عن السدى في الآية قال: هو قولهم هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (ويجعلون لله البنات) الآية يقول: يجعلون لي البنات يرتضونهن لي
ولا يرتضونهن لأنفسهم، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد للرجل منهم جارية أمسكها على هوان أو دسها
في التراب وهى حية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك (ولهم ما يشتهون) قال: يعنى به البنين،
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج (أم يدسه في التراب) قال: يئد ابنته. وأخرج ابن أبي حاتم عن
السدى في قوله (ألا ساء ما يحكمون) قال: بئس ما حكموا، يقول شئ لا يرضونه لأنفسهم فكيف يرضونه لي،
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ولله المثل الأعلى) قال: شهادة
أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس (ولله المثل الأعلى) قال: يقول ليس
كمثله شئ. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله (ما ترك عليها من دابة) قال: ما سقاهم المطر. وأخرج
أيضا عن السدى نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: قد
فعل ذلك في زمن نوح، أهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلا ما حمل في سفينته. وأخرج أحمد في الزهد
عن ابن مسعود قال: ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره، ثم قال: أي والله زمن غرق قوم نوح. وأخرج
ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عنه قال: كاد الجعل أن
يعذب في جحره بذنب ابن آدم، ثم قرأ (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة). وأخرج عبد بن
حميد وابن أبي الدنيا عن أنس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة
أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، قال أبو هريرة: بلى والله إن الحبارى لتموت هزالا
في وكرها من ظلم الظالم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك (ويجعلون لله ما يكرهون) قال: يجعلون لي البنات
ويكرهون ذلك لأنفسهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (وتصف
ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى) قال: قول كفار قريش لنا البنون وله البنات. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد (وأنهم مفرطون)
قال: منسيون. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج
عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: معجلون. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه.
172

سورة النحل الآية (63 - 69)
بين سبحانه أن مثل صنيع قريش قد وقع من سائر الأمم، فقال مسليا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) أي رسلا (فزين لهم الشيطان أعمالهم) الخبيثة (فهو وليهم اليوم) يحتمل أن يكون
اليوم عبارة عن زمان الدنيا، فيكون المعنى: فهو قرينهم في الدنيا، ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة
وما بعده، فيكون للحال الآتية. ويكون الولي بمعنى الناصر، والمراد نفى الناصر عنهم على أبلغ الوجوه، لأن
الشيطان لا يتصور منه النصرة أصلا في الدار الآخرة، وإذا كان الناصر منحصرا فيه لزم أن لا نصرة من غيره، ويحتمل
أن يراد باليوم بعض زمان الدنيا، وهو على وجهين: الأول أن يراد البعض الذي قد مضى، وهو الذي وقع فيه
التزيين من الشيطان للأمم الماضية فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية. الثاني أن يراد البعض الحاضر، وهو
وقت نزول الآية. والمراد تزيين الشيطان لكفار قريش فيكون الضمير في " وليهم " لكفار قريش: أي فهو ولى
هؤلاء اليوم. أو على حذف مضاف: أي فهو ولى أمثال أولئك الأمم اليوم (ولهم عذاب أليم) أي في الآخرة وهو
عذاب النار. ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة عليهم وإزاحة العلة منهم فقال (وما أنزلنا
عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بالكتاب
القرآن. والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي ما أنزلناه عليك لحال من الأحوال ولا لعلة من العلل إلا لعلة
التبيين لهم: أي للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد وأحوال البعث وسائر الأحكام الشرعية، (و) انتصاب
(هدى ورحمة) على أنهما مفعول لهما معطوفان على محل لتبين، ولا حاجة إلى اللام، لأنهما فعلا فاعل الفعل
المعلل، بخلاف التبيين فإنه فعل المخاطب لافعل المنزل (لقوم يؤمنون) بالله سبحانه ويصدقون ما جاءت به الرسل
ونزلت به الكتب. ثم عاد سبحانه إلى تقرير وجوده وتفرده بالإلهية بذكر آياته العظام فقال (والله أنزل من السماء
ماء) أي من السحاب. أو من جهة العلو كما مر: أي نوعا من أنواع الماء (فأحيا به الأرض بعد موتها) أي
173

أحياها بالنبات بعد أن كانت يابسة لا حياة بها (إن في ذلك) الإنزال والإحياء (لآية) أي علامة دالة على وحدانيته
وعلى بعثه للخلق ومجازاتهم (لقوم يسمعون) كلام الله ويفهمون ما يتضمنه من العبر، ويتفكرون في خلق السماوات
والأرض (وإن لكم في الأنعام لعبرة) الأنعام هي الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز، والعبرة أصلها تمثيل
الشئ بالشئ ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة، ومنه - فاعتبروا يا أولي الأبصار - وقال أبو بكر الوارق: العبرة
في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، والظاهر أن العبرة هي قوله (نسقيكم مما في بطونه) فتكون الجملة مستأنفة
لبيان العبرة. قرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر " نسقيكم " بفتح النون من سقى يسقى. وقرأ الباقون
وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقى، قيل هما لغتان. قال لبيد:
سقى قومي بنى مجد وأسقى * نميرا والقبائل من هلال
وقرئ بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الأنعام، وقرئ بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه،
وهما ضعيفتان، وجميع القراء على القراءتين الأوليين، والفتح لغة قريش، والضم لغة حمير، وقيل إن بين سقى وأسقى
فرقا، فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقى فيقال سقيته، وإن كان بمجرد عرضه عليه وتهيئته له قيل أسقاه.
والضمير في قوله " مما في بطونه " راجع إلى الأنعام. قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. وقال الزجاج
لما كان لفظ الجمع يذكر ويؤنث، فيقال هو الأنعام، وهى الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير. وقال الكسائي
معناه مما في بطون ما ذكرنا فهو على هذا عائد إلى المذكور. قال الفراء: وهو صواب. وقال المبرد: هذا فاش
في القرآن كثير مثل قوله للشمس - هذا ربى - يعنى هذا الشئ الطالع، وكذلك - وإني مرسلة إليهم بهدية - ثم قال - فلما
جاء سليمان - ولم يقل جاءت لأن المعنى جاء الشئ الذي ذكرنا انتهى، ومن ذلك قوله - إن هذه تذكرة فمن شاء
ذكره - ومثله قول الشاعر: * مثل الفراخ نيفت حواصله * ولم يقل حواصلها، وقول الآخر:
* وطاب إلقاح اللبان وبرد * ولم يقل وبردت. وحكى عن الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه
وهى الإناث، لأن الذكور لا ألبان لها، وبه قال أبو عبيدة وحكى عن الفراء أنه قال: النعم والأنعام واحد يذكر
ويؤنث، ولهذا تقول العرب: هذه نعم وارد فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام، وهو كقول
الزجاج ورجحه ابن العربي فقال: إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا
باعتبار لفظ الجمع وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة (من بين فرث ودم) الفرث: الزبل الذي ينزل
إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثا: يقال أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الشئ الذي
تأكله يكون منه ما في الكرش، وهو الفرث ويكون منه الدم، فيكون أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه (لبنا)
فيجرى الدم في العروق واللبن في الضروع، ويبقى الفرث كما هو (خالصا) يعنى من حمرة الدم وقذارة الفرث
بعد أن جمعهما وعاء واحد (سائغا للشاربين) أي لذيذا هنيئا لا يغص به من شربه: يقال ساغ الشراب يسوغ سوغا
أي سهل مدخله في الحلق (ومن ثمرات النخيل والأعناب) قال ابن جرير: التقدير، ومن ثمرات النخيل والأعناب
ما تتخذون، فحذف ما ودل على حذفه قوله منه وقيل هو معطوف على الأنعام، والتقدير: وإن لكم من ثمرات
النخيل والأعناب لعبرة، ويجوز أن يكون معطوفا على مما في بطونه: أي نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل،
ويجوز أن يتعلق بمحذوف دل عليه ما قبله تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل، ويكون على هذا (تتخذون
منه سكرا) بيانا للإسقاء له وكشفا عن حقيقته، ويجوز أن يتعلق بتتخذون تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر
تتخذون منه سكرا، ويكون تكرير الظرف، وهو قوله منه للتأكيد كقولك زيد في الدار فيها، وإنما ذكر الضمير
174

في منه لأنه يعود إلى المذكور، أو إلى المضاف المحذوف: وهو العصير كأنه قيل ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب
تتخذون منه، والسكر ما يسكر من الخمر، والرزق الحسن جميع ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالثمر والدبس
والزبيب والخل، وكان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر، وقيل إن السكر الخل بلغة الحبشة، والرزق الحسن
الطعام من الشجرتين، وقيل السكر العصر الحلو الحلال، وسمى سكرا لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي، فإذا بلغ
الإسكار حرم. والقول الأول أولى وعليه الجمهور، وقد صرح أهل اللغة بأن السكر اسم للخمر، ولم يخالف
في ذلك إلا أبو عبيدة فإنه قال: السكر الطعم، ومما يدل على ما قاله جمهور أهل اللغة قول الشاعر:
بئس الصحاب وبئس الشرب شربهم * إذا جرى فيهم الهذي والسكر
ومما يدل على ما قاله أبو عبيدة ما أنشده: * جعلت عيب الأكرمين سكرا * أي جعلت
ذمهم طعما، ورجح هذا ابن جرير فقال: إن السكر ما يطعم من الطعام ويحل شربه من ثمار النخيل والأعناب
وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد مثل - إنما أشكو بثي وحزني إلى الله - قال الزجاج: قول
أبى عبيدة هذا لا يعرف، وأهل التفسير على خلافه ولا حجة في البيت الذي أنشده لأن معناه عند غيره أنه يصف
أنها تتخمر بعيوب الناس، وقد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه
بالطبخ، قالوا: وإنما يمتن الله على عباده بما أحله لهم لا بما حرمه عليهم وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة
المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر اه‍ (إن في ذلك لآية لقوم يعقلون) أي لدلالة لمن يستعمل العقل
ويعمل بما يقتضيه عند النظر في الآيات التكوينية (وأوحى ربك إلى النحل) قد تقدم الكلام في الوحي وأنه يكون
بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، ومنه قوله سبحانه - ونفس وما سواها فألهمها
فجورها وتقواها - ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها وترك ما يضرها، وقرأ يحيى بن وثاب " إلى النحل " بفتح
الحاء. قال الزجاج: وسمى نحلا لأن الله سبحانه نحله العسل الذي يخرج منه. قال الجوهري: والنحل والنحلة
الدبر يقع على الذكر والأنثى (أن اتخذي من الجبال بيوتا) أي بأن اتخذي على أن " أن " هي المصدرية، ويجوز
أن تكون تفسيرية لأن في الإيحاء معنى القول، وأنث الضمير في اتخذي لكونه أحد الجائزين كما تقدم، أو للحمل
على المعنى أو لكون النحل جمعا، وأهل الحجاز يؤنثون النحل " ومن " في من الجبال بيوتا (و) كذا في (من
الشجر و) كذا في (مما يعرشون) للتبعيض: أي مساكن توافقها وتليق بها في كوى الجبال وتجويف محمد الشجر، وفى
العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجناح والحيطان وغيرها، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب، يقال
عرش يعرش بكسر الراء وضمها. وبالضم قرأ ابن عامر وشعبة. وقرأ الباقون بالكسر. وقرئ أيضا بيوتا بكسر
الباء وضمها (ثم كلى من كل الثمرات) من للتبعيض لأنها تأكل النور من الأشجار فإذا أكلتها (فاسلكي سبل ربك)
أي الطرق التي فهمك الله وعلمك، وأضافها إلى الرب لأنه خالقها وملهم النحل أن تسلكها: أي ادخلي طرق
ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر، أو اسلكي ما أكلت في سبل ربك: أي في مسالكه التي يحيل فيها
بقدرته النور عسلا أو إذا أكلت الثمار في الأمكنة البعيدة فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلين فيها،
وانتصاب (ذللا) على الحال من السبل، وهى جمع ذلول: أي مذللة غير متوعرة، واختار هذا الزجاج وابن
جرير، وقيل حال من النحل: يعنى: مطيعة للتسخير وإخراج العسل من بطونها، واختار هذا ابن قتيبة، وجملة
(يخرج من بطونها) مستأنفة عدل به عن خطاب النحل، تعديدا للنعم، وتعجيبا لكل سامع، وتنبيها على الغير،
وإرشادا إلى الآيات العظيمة الحاصلة من هذا الحيوان الشبيه بالذباب، والمراد با (شراب) في الآية هو العسل،
175

ومعنى (مختلف ألوانه) أن بعضه أبيض وبعضه أحمر وبعضه أزرق وبعضه أصفر باختلاف ذوات النحل وألوانها
ومأكولاتها. وجمهور المفسرين على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وقيل من أسفلها، وقيل لا يدرى من أين
يخرج منها، والضمير في قوله (فيه شفاء للناس) راجع إلى الشراب الخارج من بطون النحل وهو العسل. وإلى
هذا ذهب الجمهور. وقال الفراء وابن كيسان وجماعة من السلف: إن الضمير راجع إلى القرآن، ويكون التقدير
فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس، ولا وجه للعدول عن الظاهر ومخالفة المرجع الواضح
والسياق البين.
وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء أو خاص ببعض الأمراض،
فقالت طائفة: هو على العموم، وقالت طائفة: إن ذلك خاص ببعض الأمراض، ويدل على هذا أن العسل
نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاما، وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض
أو أمراض، لا لكل مرض، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم، والظاهر المستفاد من التجربة ومن قوانين علم
الطب، أنه إذا استعمل منفردا كان دواء لأمراض خاصة وإن خلط مع غيره كالمعاجين ونحوها كان مع ما خلط
به دواء لكثير من الأمراض. وبالجملة فهو من أعظم الأغذية وأنفع الأدوية، وقليلا ما يجتمع هذان الأمران في
غيره (إن في ذلك) المذكور من أمر النحل (لآية لقوم يتفكرون) أي يعملون أفكارهم عند النظر في صنع الله
سبحانه وعجائب مخلوقاته فإن أمر النحل من أعجبها وأغربها وأدقها وأحكمها.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والنحاس والحاكم وصححه والبيهقي في سننه وابن مردويه عن ابن عباس أنه سئل عن قوله (تتخذون منه سكرا
ورزقا حسنا) قال: السكر ما حرم من ثمرتهما، والرزق الحسن ما حل. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم وابن
مردويه عنه قال: السكر الحرام، والرزق الحسن زبيبه وخله وعنبه ومنافعه. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: السكر النبيذ. والرزق الحسن الزبيب، فنسختها هذه الآية - إنما الخمر
والميسر -. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه أيضا في الآية قال: فحرم الله بعد ذلك السكر
منع تحريم الخمر لأنه منه، ثم قال (ورزقا حسنا) فهو الحلال من الخل والزبيب والنبيذ وأشباه ذلك. فأقره الله
وجعله حلالا للمسلمين. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه سئل عن السكر، فقال:
الخمر بعينها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال: السكر خمر. وأخرج ابن أبي
حاتم عن ابن عباس (وأوحى ربك إلى النحل) قال: ألهمها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن مجاهد في قوله (فاسلكي سبل ربك ذللا) قال: طرقا لا يتوعر عليها مكان سلكته. وأخرج عبد الرزاق
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة ذللا قال: مطيعة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال:
ذليلة: وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (يخرج من بطونها شراب) قال: العسل. وأخرج ابن أبي شيبة
وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: هو العسل فيه الشفاء وفى القرآن. وأخرج ابن أبي شيبة وابن
جرير عن ابن مسعود قال: إن العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. وأخرج سعيد بن منصور
وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود قال: عليكم بالشفاءين العسل
والقرآن. وأخرج ابن ماجة والحاكم وصححه ابن مردويه والبيهقي في الشعب وابن السني وأبو نعيم والخطيب عن
ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " عليكم بالشفاءين العسل والقرآن ". وقد وردت
176

أحاديث في كون العسل شفاء: منها ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله سلم
قال " الشفاء في ثلاثة في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار وأنا أنهى أمتي عن الكي ". وأخرج البخاري ومسلم
وغيرها من حديث أبي سعيد " أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن أخي استطلق
بطنه، فقال: اسقه عسلا فسقاه عسلا، ثم جاء فقال: سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا، قال اذهب فاسقه
عسلا فذهب فسقاه، ثم جاء فقال: ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدق
الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا، فذهب فسقاه عسلا فبرأ ".
سورة النحل الآية (70 - 74).
لما ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة، وخصائص القدرة القاهرة،
أتبعه بعجائب خلق الإنسان وما فيه من العبر فقال (والله خلقكم) ولم تكونوا شيئا (ثم يتوفاكم) عند انقضاء
آجالكم (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) يقال رذل يرذل رذالة، والأرذل والرذالة أرادأ الشئ وأوضعه.
قال النيسابوري: واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع: أولاها سن النشوء. وثانيها سن الوقوف
وهو سن الشباب. وثالثها سن الانحطاط اليسير، وهو سن الكهولة. ورابعها سن الانحطاط الظاهر، وهو
سن الشيخوخة. قيل وأرذل العمر هو عند أن يصير الإنسان إلى الخرف، وهو أن يصير بمنزلة الصبي الذي
لا عقل له، وقيل خمس وسبعون سنة، وقيل تسعون سنة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه - لقد خلقنا الإنسان
في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين - ثم علل سبحانه رد من يرده إلى أرذل العمر بقوله (لكيلا يعلم
بعد علم) كان قد حصل له (شيئا) من العلم لا كثيرا ولا قليلا أو شيئا من المعلومات إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم،
وقيل المراد بالعلم هنا العقل، وقيل المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك. ثم لما بين سبحانه
خلق الإنسان وتقلبه في أطوار العمر ذكر طرفا من أحواله لعله يتذكر عند ذلك فقال (والله فضل بعضكم على
بعض في الرزق) فجعلكم متفاوتين فيه فوسع على بعض عباده حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفا مؤلفة من بني
آدم، وضيقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر
عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها، وكما جعل التفاوت بين عباده في المال جعله بينهم في العقل
177

والعلم والفهم وقوة البدن وضعفه والحسن والقبح والصحة والسقم وغير ذلك من الأحوال، وقيل معنى الآية:
أن الله سبحانه أعطى الموالي أفضل مما أعطى مماليكهم بدليل قوله (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت
أيمانهم) أي فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم برادي رزقهم الذي رزقهم الله إياه على ما مكلت أيمانهم
من المماليك (فهم) أي المالكون والمماليك (فيه) أي في الرزق (سواء) أي لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم،
فالفاء على هذا للدلالة على أن التساوي مترتب على التراد: أي لا يردونه عليهم ردا مستتبعا للتساوي، وإنما يردون
عليهم منه شيئا يسيرا، وهذا مثل ضربه الله سبحانه بعبدة الأصنام: أي إذا لم يكونوا عبيدكم معكم سواء ولا ترضون
بذلك فكيف تجعلون عبيدي معي سواء والحال أن عبيدكم مساوون لكم في البشرية والمخلوقية، فلما لم تجعلوا
عبيدكم مشاركين لكم في أموالكم، فيكف تجعلون بعض عباد الله سبحانه شركاء له فتعبدونهم معه، أو كيف
تجعلون بعض مخلوقاته كالأصنام شركاء له في العبادة ذكر معنى هذا ابن جرير، ومثل هذه الآية قوله سبحانه
- ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم - وقيل إن الفاء
في " فهم فيه سواء " بمعنى حتى (أفبنعمة الله تجحدون) حيث تفعلون ما تفعلون من الشرك، والنعمة هي كونه
سبحانه جعل المالكين مفضلين على المماليك، وقد قرئ " يجحدون " بالتحتية والفوقية. قال أبو عبيدة وأبو حاتم:
وقراءة الغيبة أولى لقرب المخبر عنه، ولأنه لو كان خطابا لكان ظاهره للمسلمين، والاستفهام للإنكار، والفاء
للعطف على مقدر: أي يشركون به فيجحدون نعمته، ويكون المعنى على قراءة الخطاب أن المالكين ليسوا
برادي رزقهم على مماليكهم، بل أنا الذي أرزقهم وإياهم فلا يظنوا أنهم يعطونهم شيئا، وإنما هو رزقي أجريه
على أيديهم وهم جميعا في ذلك سواء لا مزية لهم على مماليكهم، فيكون المعطوف عليه المقدر فعلا يناسب هذا المعنى
كأن يقال: لا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله. ثم ذكر سبحانه الحالة الأخرى من أحوال الانسان فقال (والله
جعل لكم من أنفسكم أزواجا) قال المفسرون: يعنى النساء فإنه خلق حواء من ضلع آدم، أو المعنى: خلق لكم
من جنسكم أزواجا لتستأنسوا) بها، لأن الجنس يأنس إلى جنسه ويستوحش من غير جنسه، وبسبب هذه الأنسة
يقع بين الرجال والنساء ما هو سبب للنسل الذي هو المقصود بالزواج، ولهذا قال (وجعل لكم من أزواجكم بنين
وحفدة) الحفدة جمع حافد، يقال حفد يحفد حفدا وحفودا: إذا أسرع، فكل من أسرع في الخدمة فهو حافد
قال أبو عبيد: الحفد العمل والخدمة: قال الخليل بن أحمد: الحفدة عند العرب الخدم، ومن ذلك قول الشاعر
وهو الأعشى:
كلفت مجهولنا نوقا يمانية * إذ الحداة على أكتافها حفدوا
أي الخدم والأعوان. وقال الأزهري: قيل الحفدة أولاد الأولاد، وروى عن ابن عباس، وقيل الأختان،
قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحى وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، ومنه قول الشاعر:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت * لها حفد مما تعد كثير
ولكنها نفس على أبية * عيوف لأصهار اللئام قذور
وقيل الحفدة الأصهار. قال الأصمعي: الختن من كان من قبل المرأة كابنها وأخيها وما أشبههما، والأصهار
منهما جميعا، يقال أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر، وقيل هم أولاد امرأة الرجل من غيره، وقيل الأولاد الذين
يخدمونه، وقيل البنات الخادمات لأبيهن. ورجح كثير من العلماء أنهم أولاد الأولاد، لأنه سبحانه أمتن على
178

عباده بأن جعل لهم من الأزواج بنين وحفدة، فالحفدة في الظاهر معطوفون على البنين وإن كان يجوز أن يكون
المعنى: جعل لكم من أزواجكم بنين وجعل لكم حفدة، ولكن لا يمتنع على هذا المعنى الظاهر أن يراد بالبنين من
لايخدم، وبالحفدة من يخدم الأب منهم، أو يراد بالحفدة البنات فقط، ولا يفيد أنهم أولاد الأولاد إلا إذا كان
تقدير الآية: وجعل لكم من أزواجكم بنين، ومن البنين حفدة (ورزقكم من الطيبات) التي تستطيبونها ما وتستلذونها
ومن للتبعيض لأن الطيبات لا تكون مجتمعة إلا في الجنة، ثم ختم سبحانه الآية بقوله (أفبالباطل يؤمنون) والاستفهام
للإنكار التوبيخي، والفاء للعطف على مقدر: أي يكفرون بالله فيؤمنون بالباطل، وفى تقدم " بالباطل " على الفعل
دلالة على أنه ليس لهم إيمان إلا به، والباطل هو اعتقادهم في أصنامهم أنها تضر وتنفع، وقيل الباطل ما زين لهم
الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ونحوهما. قرأ الجمهور " يؤمنون " بالتحتية، وقرأ أبو بكر بالفوقية على الخطاب
(وبنعمة الله هم يكفرون) أي ما أنعم به عليهم مما لا يحيط به حصر، وفى تقديم النعمة وتوسيط ضمير الفصل دليل
على أن كفرهم مختص بذلك لا يتجاوزه لقصد المبالغة والتأكيد (ويعبدون من دون الله) هو معطوف على يكفرون
داخل تحت الإنكار التوبيخي إنكارا منه سبحانه عليهم حيث يعبدون الأصنام، وهى لا تنفع ولا تضر، ولهذا قال
(ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا) قال الأخفش: إن شيئا بدل من الرزق. وقال الفراء: هو
منصوب بإيقاع الرزق عليه، فجعل رزقا مصدرا عاملا في شيئا، والأخفش جعله اسما للرزق، وقيل يجوز أن
يكون تأكيدا لقوله " لا يملك " أي لا يملك شيئا من الملك، والمعنى: أن هؤلاء الكفار يعبدون معبودات لا تملك
لهم رزقا أي رزق، ومن السماوات والأرض صفة لرزق: أي كائنا منهما، والضمير في (ولا يستطيعون)
راجع إلى ما، وجمع جمع العقلاء بناء على زعمهم الباطل، والفائدة في نفى الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئا قد
يكون موصوفا باستطاعة التملك بطريق من الطرق، فبين سبحانه أنها لا تملك ولا تستطيع، وقيل يجوز أن
يكون الضمير في يستطيعون للكفار: أي لا يستطيع هؤلاء الكفار مع كونهم أحياء متصرفين، فكيف
بالجمادات التي لا حياة لها ولا تستطيع التصرف؟ ثم نهاهم سبحانه عن أن يشبهوه بخلقه، فقال (فلا تضربوا لله
الأمثال) فإن ضارب المثل يشبه حالا بحال وقصة بقصة. قال الزجاج: لا تجعلوا لله مثلا لأنه واحد لا مثل له،
وكانوا يقولون: إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب، كما أن
أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن ذلك، وعلل النهى بقوله
(إن الله) عليم (يعلم) ما عليكم من العبادة (وأنتم لا تعلمون) ما في عبادتها من سوء العاقبة، والتعرض لعذاب الله
سبحانه، أو أنتم لا تعلمون بشئ من ذلك، وفعلكم هذا هو عن توهم فاسد وخاطر باطل وخيال مختل، ويجوز
أن يراد فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك.
وقد أخرج ابن جرير عن علي في قوله (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) قال: خمس وسبعون سنة. وأخرج
ابن أبي حاتم عن السدى قال: هو الخرف. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، ثم قرأ (لكيلا يعلم بعد علم شيئا). وأخرج ابن أبي شيبة
عن طاوس قال: العالم لا يخرف. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيح وغيره أنه كان يتعوذ بالله أن
يرد إلى أرذل العمر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (والله فضل بعضكم على بعض
في الرزق) قال: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: هذا مثل لآلهة الباطل مع الله. وأخرج عبد بن حميد
179

وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) قال: خلق آدم،
ثم خلق زوجته منه. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني
والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله (بنين وحفدة) قال: الحفدة الأختان. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الحفدة الأصهار. وأخرجا عنه قال: الحفدة الولد وولد الولد
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الحفدة بنو البنين. وأخرج ابن جرير عن أبي جمرة قال: سئل ابن عباس
عن قوله (بنين وحفدة) قال: من أعابك فقد حفدك، أما سمعت الشاعر يقول:
حفد الولائد حولهن وأسلمت * بأكفهن أزمة الأجمال
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الحفدة بنو امرأة الرجل ليسوا منه. وأخرج ابن أبي حاتم
عن قتادة (أفبالباطل يؤمنون) قال: الشرك. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال هو الشيطان (وبنعمة الله)
قال: محمد. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ويعبدون من دون
الله) الآية قال: هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها (رزقا من السماوات والأرض) ولا خيرا
ولا حياة ولا نشورا (فلا تضربوا لله الأمثال) فإنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه (فلا تضربوا لله الأمثال) يعنى اتخاذهم الأصنام،
يقول لا تجعلوا معي إلها غيري. فإنه لا إله غيري.
سورة النحل الآية (75 - 79)
قوله (ضرب الله مثلا) لما قال سبحانه إن الله يعلم: أي بالمعلومات التي من جملتها كيف يضرب الأمثال
وأنتم لا تعلمون، علمهم سبحانه كيف تضرب الأمثال فقال: ضرب الله مثلا: أي ذكر شيئا يستدل به على
تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه، وبين ما جعلوه شريكا له من الأصنام، ثم ذكر ذلك فقال (عبدا مملوكا)
والمثل في الحقيقة هي حالة للعبد عارضة له، وهى المملوكية والعجز عن التصرف، فقوله (عبدا مملوكا لا يقدر
180

على شئ) تفسير للمثل وبدل منه. ووصفه بكونه مملوكا لأن العبد والحر مشتركان في كون كل واحد منهما
عبدا لله سبحانه، ووصفه بكونه لا يقدر على شئ لأن المكاتب والمأذون يقدران على بعض التصرفات، فهذا
الوصف لتمييزه عنهما (ومن رزقناه) من هي الموصولة، وهى معطوفة على عبدا: أي والذي رزقناه (منا) أي
من جهتنا (رزقا حسنا) من الأحرار الذين يملكون الأموال ويتصرفون بها كيف شاءوا. والمراد بكون الرزق
حسنا أنه مما يحسن في عيون الناس، لكونه رزقا كثيرا مشتملا على أشياء مستحسنة نفيسة تروق الناظرين إليها،
والفاء في قوله (فهو ينفق منه) لترتيب الإنفاق على الرزق: أي ينفق منه في وجوه الخير ويصرف منه إلى أنواع
البر والمعروف، وانتصاب (سرا وجهرا) على الحال: أي ينفق منه في حال السر وحال الجهر، والمراد بيان
عموم الإنفاق للأوقات، وتقديم السر على الجهر مشعر بفضيلته عليه، وأن الثواب فيه أكثر، وقيل أن " من "
في " ومن رزقناه " موصوفة كأنه قيل: وحرا رزقناه ليطابق عبدا (هل يستوون) أي الحر والعبد الموصوفان
بالصفات المتقدمة، وجمع الضمير لمكان من، لأنه اسم مبهم يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر
والمؤنث، وقيل إنه أريد بالعبد والموصول الذي هو عبارة عن الحر الجنس: أي من اتصف بتلك الأوصاف من
الجنسين، والاستفهام للإنكار: أي هل يستوى العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع كون كلا الفريقين
مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر، ومن المعلوم أنهم لا يستوون عندهم، فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء
لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا، ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه؟ وحاصل المعنى: أنه كما لا يستوى
عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شئ ورجل حر قد رزقه الله رزقا حسنا فهو ينفق منه، كذلك لا يستوى
الرب الخالق الرازق والجمادات من الأصنام التي تعبدونها وهى لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، وقيل
المراد بالعبد المملوك في الآية هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته، والآخر هو المؤمن، والغرض أنهما
لا يستويان في الرتبة والشرف، وقيل العبد هو الصنم، والثاني عابد الصنم، والمراد أنهما لا يستويان في القدرة
والتصرف، لأن الأول جماد، والثاني إنسان (الحمد لله) أي الحمد لله كله، لأنه المنعم لا يستحق غيره من العباد
شيئا منه، فكيف تستحق الأصنام منه شيئا ولا نعمة منها أصلا لا بالأصالة ولا بالتوسط، وقيل أراد الحمد لله على
ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد، وقيل أراد قل الحمد لله، والخطاب إما لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أو
لمن رزقه الله رزقا حسنا، وقيل إنه لما ذكر مثلا مطابقا للغرض كاشفا عن المقصود قال الحمد لله: أي على قوة
هذه الحجة (بل أكثرهم لا يعلمون) ذلك حتى يعبدوا من تحق له العبادة ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة، ونفى
العلم عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليهم، أو هم يتركون الحق عنادا مع علمهم به
فكانوا كمن لا علم له، وخص الأكثر بنفي العلم، إما لكونه يريد الخلق جميعا، وأكثرهم المشركون، أو ذكر
الأكثر وهو يريد الكل، أو المراد أكثر المشركين، لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم. ثم ذكر سبحانه
مثلا ثانيا ضربه لنفسه، ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا
تنفع فقال (وضرب الله مثلا) أي مثلا آخر أوضح مما قبله وأظهر منه، و (رجلين) بدل من مثل وتفسير له،
والأبكم العيي المفحم، وقيل هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي
لا يسمع ولا يبصر، ثم وصف الأبكم فقال (لا يقدر على شئ) من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه
وعدم قدرته على النطق. ومعنى (كل على مولاه) ثقيل على وليه وقرابته وعيال على من يلي أمره ويعوله ووبال
على إخوانه، وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكلفه، ومنه قول الشاعر:
181

أكول لمال الكل قبل شبابه * إذا كان عظم الكل غير شديد
وفى هذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شئ مطلقا. ثم وصفه بصفة
رابعة فقال (أينما يوجهه لا يأت بخير) أي إذا وجهه إلى أي جهة لا يأت بخير قط، لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له
ولا يمكنه أن يقول. وقرأ يحيى بن وثاب " أينما يوجه " على البناء للمجهول، وقرأ ابن مسعود " أينما توجه " على
صيغة الماضي (هل يستوى هو) في نفسه مع هذه الأوصاف التي اتصف بها (ومن يأمر بالعدل) أي يأمر الناس
بالعدل مع كونه في نفسه ينطق بما يريد النطق به ويفهم، ويقدر على التصرف في الأشياء (وهو) في نفسه (على
صراط مستقيم) على دين قويم وسيرة صالحة ليس فيه ميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط. قابل أوصاف الأول
بهذين الوصفين المذكورين للآخر، لأن حاصل أوصاف الأول عدم استحقاقه لشئ، وحاصل وصفى هذا أنه
مستحق أكمل استحقاق، والمقصود الاستدلال بعدم تساوى هذين المذكورين على امتناع التساوي بينه سبحانه
وبين ما يجعلونه شريكا له. ولما فرغ سبحانه من ذكر المثلين مدح نفسه بقوله (ولله غيب السماوات والأرض
أي يختص ذلك به لا يشاركه فيه غيره ولا يستقل به، والمراد علم ما غاب عن العباد فيهما، أو أراد بغيبهما يوم
القيامة لأن علمه غائب عن العباد، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما. والمعنى: التوبيخ للمشركين والتقريع لهم:
أي أن العبادة إنما يستحقها من كانت هذه صفته لا من كان جاهلا عاجزا لا يضر ولا ينفع ولا يعلم بشئ من
أنواع العلم (وما أمر الساعة) التي هي أعظم ما وقعت فيه المماراة من الغيوب المختصة به سبحانه (إلا كلمح البصر)
اللمح النظر بسرعة، ولا بد فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة، ولذا قال (أو هو)
أي أمرهما (أقرب) وليس هذا من قبيل المبالغة، بل هو كلام في غاية الصدق، لأن مدة ما بين الخطاب
وقيام الساعة متناهية، ومنها إلى الأبد غير متناه، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي، أو يقال: إن الساعة لما
كانت آتية ولا بد جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتى في لمح البصر، وإنما
وصف سرعة القدرة على الإتيان بها، لأنه يقول للشئ كن فيكون: وقيل المعنى: هي عند الله كذلك وإن لم
تكن عند المخلوقين بهذه الصفة، ومثله قوله سبحانه - إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا - ولفظ أو في " أو هو أقرب "
ليس للشك بل للتمثيل، وقيل دخلت لشك المخاطب، وقيل هي بمنزلة بل (إن الله على كل شئ قدير) ومجئ
الساعة بسرعة من جملة مقدوراته. ثم إنه سبحانه ذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال
(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) وهذا معطوف على قوله (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا)
منتظم معه في سلك أدلة التوحيد: أي أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا لا علم لكم بشئ، وجملة لا تعلمون شيئا
في محل نصب على الحال، وقيل المراد لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق، وقيل لا تعلمون شيئا مما قضى به
عليكم من السعادة والشقاوة، وقيل لا تعلمون شيئا من منافعكم. والأولى التعميم لتشمل الآية هذه الأمور وغيرها
اعتبارا بعموم اللفظ. فإن شيئا نكرة واقعة في سياق النفي. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة " إمهاتكم " بكسر
الهمزة والميم هنا، وفى النور والزمر والنجم. وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح
الميم (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) أي ركب فيكم هذه الأشياء، وهو معطوف على أخرجكم، وليس
فيه دلالة على تأخير هذا الجعل عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو مطلق الجمع، والمعنى: جعل لكم هذه الأشياء
لتحصلوا بها العلم الذي كان مسلوبا عنكم عند إخراجكم من بطون أمهاتكم وتعملوا بموجب العلم من شكر
المنعم وعبادته والقيام بحقوقه، والأفئدة جمع فؤاد، وهو وسط القلب منزل منه بمنزلة القلب من الصدر، وقد
182

قدمنا الوجه في إفراد السمع وجمع الأبصار والأفئدة، وهو أن إفراد السمع لكونه مصدرا في الأصل يتناول القليل
والكثير (لعلكم تشكرون) أي لكي تصرفوا كل آلة فيما خلقت له، فعند ذلك تعرفون مقدار ما أنعم الله به عليكم
فتشكرونه. أو أن هذا الصرف هو نفس الشكر. ثم ذكر سبحانه دليلا آخر على كمال قدرته، فقال (ألم يروا
إلى الطير مسخرات) أي ألم ينظروا إليها حال كونها مسخرات: أي مذللات للطيران بما خلق الله لها من الأجنحة
وسائر الأسباب المواتية لذلك كرقة قوام الهواء وإلهامها بسط الجناح وقبضه كما يفعل السابح في الماء (في جو
لسماء) أي في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو، وإضافته إلى السماء لكونه في جانبها (ما يمسكهن) في الجو
(إلا الله) سبحانه بقدرته الباهرة، فإن ثقل أجسامها ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها، لأنها لم تتعلق بشئ من
فوقها ولا اعتمدت على شئ تحتها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن عامر وحمزة ويعقوب " ألم تروا " بالفوقية
على الخطاب، واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ الباقون بالتحتية (إن في ذلك لآيات) * أي إن في ذلك التسخير
على تلك الصفة لآيات ظاهرات تدل على وحدانية الله سبحانه وقدرته الباهرة (لقوم يؤمنون) بالله سبحانه وبما
جاءت به رسله من الشرائع التي شرعها الله.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا) الآية قال: يعنى
الكافر أنه لا يستطيع أن ينفق نفقة في سبيل الله (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) الآية قال: يعنى المؤمن وهذا المثل
في النفقة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم نحوه بأطول منه. وأخرج ابن أبي شيبة
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية، وفى قوله (مثلا رجلين أحدهما أبكم) قال: كل هذا
مثل إله الحق وما تدعون من دونه الباطل. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: في المثل
الأول يعنى بذلك الآلهة التي لا تملك ضرا ولا نفعا ولا تقدر على شئ ينفعها (ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو
ينفق منه سرا وجهرا) قال: علانية الذي ينفق سرا وجهرا لله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه
وابن عساكر عنه قال: نزلت هذه الآية (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا) في رجل من قريش وعبدة بن هشام بن
عمرو، وهو الذي ينفق سرا وجهرا، وفى عبدة أبى الجوزاء الذي كان ينهاه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عن أيضا في قوله (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم) الآية قال: يعنى بالأبكم الذي هو كل على مولاه
الكافر (ومن يأمر بالعدل) المؤمن، وهذا المثل في الأعمال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن
مردويه وابن عساكر عنه أيضا قال: نزلت هذه الآية - وضرب الله مثلا رجلين - الآية في عثمان بن عفان ومولى له
كافر، وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام، وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤنة، وكان
لآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وابن أبي
حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا في قوله (ومن يأمر بالعدل) قال: عثمان بن عفان. وأخرج
ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (كل) قال: الكل العيال، كانوا إذا ارتحلوا حملوه على بعير ذلول،
وجعلوا معه نفرا يمسكونه خشية أن يسقط عليهم، فهو عناء وعذاب وعيال عليهم (هل يستوى هو ومن يأمر
بالعدل وهو على صراط مستقيم) يعنى نفسه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
قتادة في قوله (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر) هو أن يقول: كن فهو كلمح البصر (أو هو أقرب) فالساعة
كلمح البصر أو هي أقرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى في قوله (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم) قال:
من الرحم، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (في جو السماء) أي في كبد السماء.
183

سورة النحل الآية (80 - 83)
قوله (والله جعل لكم) معطوف على ما قبله وهذا المذكور من جملة أحوال الإنسان، ومن تعديد نعم الله
عليه، والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع، وهو بمعنى مسكون: أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من
الحركة، وهذه نعمة، فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطربا دائما كالأفلاك، ولو شاء لخلقه ساكنا أبدا
كالأرض (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا) لما ذكر سبحانه بيوت المدن، وهى التي للإقامة الطويلة عقبها
بذكر بيوت البادية والرحلة: أي جعل لكم من جلود الأنعام، وهى الأنطاع والأدم بيوتا كالخيام والقباب
(تستخفونها) أي يخف عليكم حملها في الأسفار وغيرها، ولهذا قال (يوم ظعنكم) والظعن بفتح العين وسكونها،
وقرئ بهما: سير أهل البادية للانتجاع والتحول من موضع إلى موضع. ومنه قول عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع * وجرى ببيتهم الغراب الأبقع
والظعن الهودج أيضا (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا) معطوف على " جعل " أي وجعل لكم من
أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها، والأنعام تعم الإبل والبقر والغنم كما تقدم. والأصواف للغنم، والأوبار
للإبل، والأشعار للمعز، وهى من جملة الغنم، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منها لواحد
من الثلاثة، أعني الإبل، ونوعي الغنم، والأثاث متاع البيت. وأصله الكثرة والاجتماع، ومنه شعر أثيث: أي
كثير مجتمع، قال الشاعر:
وفرع يزين المتن أسود فاحم * أثيث كقنو النخلة المتعثكل
قال الخليل أثاثا: أي منضما بعضه إلى بعض، من أث إذا أكثر، قال الفراء: لا واحد له، والمتاع: ما يتمتع
به بأنواع التمتع، وعلى قول أبى زيد الأنصاري: إن الأثاث المال أجمع: الإبل والغنم والعبيد والمتاع، يكون
عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام، وقيل إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء
والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به، ومعنى (إلى حين) إلى أن تقضوا أوطاركم منه، أو إلى أن يبلى
ويفنى، أو إلى الموت، أو إلى القيامة، ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام، أو أبنية يستظل بها لفقر، أو
لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك نبه سبحانه على ذلك فقال (وجعل لكم مما
خلق ظلالا) أي أشياء تستظلون بها كالأشياء المذكورة. والحاصل أن الظلال تعم الأشياء التي تظل، ثم لما كان
184

المسافر قد يحتاج إلى ركن يأوى إليه في نزوله. وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد، نبه سبحانه على ذلك
فقال (وجعل لكم من الجبال أكنانا) وهى جمع كن: وهو ما يستكن به من المطر، وهى هنا الغيران في الجبال،
جعلها الله سبحانه عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها (وجعل لكم سرابيل) جمع
سربال، وهى القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها. قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال،
ومعنى (تقيكم الحر) تدفع عنكم ضرر الحر، وخص الحر ولم يذكر البرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر
الآخر، لأن ما وقي من الحر وقى من البرد. ووجه تخصيص الحر بالذكر أن الوقاية منه كانت أهم عندهم من الوقاية
من البرد لغلبة الحر في بلادهم (وسرابيل تقيكم بأسكم) وهى الدروع والجواشن يتقون بها الطعن والضرب والرمي.
والمعنى: أنها تقيم البأس الذي يصل من بعضهم إلى بعض في الحرب (كذلك يتم نعمته عليكم) أي مثل ذلك الإتمام
البالغ يتم نعمته عليكم، فإنه سبحانه قد من على عباده بصنوف النعم المذكورة هاهنا وبغيرها. وهو بفضله
وإحسانه سيتم لهم نعمة الدين والدنيا (لعلكم تسلمون) إرادة أن تسلموا. فإن من أمعن النظر في هذه النعم لم يسعه
إلا الإسلام والانقياد للحق. وقرأ ابن محيصن وحميد " تتم نعمته " بتاءين فوقيتين على أن فاعله نعمته. وقرأ الباقون
بالتحتية على أن الفاعل هو الله سبحانه. وقرأ ابن عباس وعكرمة " تسلمون " بفتح التاء واللام من السلامة من
الجراح، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر اللام من الإسلام. قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة، لأن ما أنعم الله
به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح، وقيل الخطاب لأهل مكة: أي لعلكم يا أهل مكة
تخلصون لله الربوبية، والأولى الحمل على العموم، وإفراد النعمة هنا لأن المراد بها المصدر (فإن تولوا فإنما عليك
البلاغ المبين) أي إن تولوا عنك ولم يقبلوا ما جئت به فقد تمهد عذرك، فإنما عليك البلاغ لما أرسلت به إليهم
المبين: أي الواضح، وليس عليك غير ذلك، وصرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسلية له،
وجملة (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) استئناف لبيان توليهم: أي هو يعرفون نعمة الله التي عددها، ويعترفون بأنها
من عند الله سبحانه ثم ينكرونها بما يقع من أفعالهم القبيحة من عبادة غير الله وبأقوالهم الباطلة، حيث يقولون هي
من الله ولكنها بشفاعة الأصنام، وحيث يقولون إنهم ورثوا تلك النعم من آبائهم، وأيضا كونهم لا يستعملون
هذه النعم في مرضاة الرب سبحانه، وفى وجوه الخير التي أمرهم الله بصرفها فيها، وقيل نعمة الله نبوة محمد صلى الله
عليه وآله وسلم كانوا يعرفونه ثم ينكرون نبوته (وأكثرهم الكافرون) أي الجاحدون لنعم الله أو الكافرون بالله،
وعبر هنا بالأكثر عن الكل، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم، أو أراد كفر الجحود ولم يكن
كفر كلهم كذلك، بل كان كفر بعضهم كفر جهل، وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته، ومثل هذه الآية قوله تعالى - وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما
وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين -.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد سكنا قال: تسكنون فيها، وأخرج
ابن أبي حاتم عن السدى نحوه قال (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا) وهى خيام العرب (تستخفونها) يقول:
في الحمل (ومتاعا) يقول بلاغا (إلى حين) قال: إلى الموت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (تستخفونها
يوم ظعنكم) قال: بعض بيوت السيارة بنيانه في ساعة، وفى قوله (وأوبارها) قال: الإبل (وأشعارها) قال
الغنم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله (أثاثا) قال: الأثاث المتاع. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال: الأثاث
المال (ومتاعا إلى حين) يقول: تنتفعون به إلى حين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
185

عن قتادة في قوله (والله جعل لكم مما خلق ظلالا) قال: من الشجر ومن غيرها (وجعل لكم من الجبال أكنانا)
قال: غارات يسكن فيها (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر) قال: من القطن والكتان والصوف (وسرابيل تقيكم
بأسكم) من الحديد (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) ولذلك هذه السورة تسمى سورة النعم. وأخرج
أبو عبيد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (سرابيل تقيكم الحر) قال: يعنى الثياب.
(وسرابيل تقيكم بأسكم) قال: يعنى الدروع والسلاح (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) يعنى من
الجراحات وكان ابن عباس يقرؤها تسلمون كما قدمنا، وإسناده ضعيف.
سورة النحل الآية (84 - 90)
لما بين سبحانه من حال هؤلاء أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها، وأن أكثرهم كافرون أتبعه بأصناف وعيد
يوم القيامة، فقال (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) أي واذكر يوم نبعث. أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه،
وشهيد كل أمة نبيها يشهد لهم بالإيمان والتصديق، وعليهم بالكفر والجحود والتكذيب (ثم لا يؤذن للذين كفورا)
أي في الاعتذار، إذ لا حجة لهم ولا عذر كقوله سبحانه - ولا يؤذن لهم فيعتذرون - أو في كثرة الكلام. أو في
الرجوع إلى دار الدنيا، وإيراد ثم ها هنا للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنبئ عن الإقناط الكلى أشد
من ابتلائهم بشهادة الأنبياء (ولا هم يستعتبون) لأن العتاب إنما يطلب لأجل العود إلى الرضا، فإذا كان على عزم
السخط فلا فائدة في العتاب. والمعنى: أنهم لا يسترضون: أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم. لأن الآخرة ليست
بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون، وأصل الكلمة من العتب وهو الموجد، يقال عتب عليه
يعتب: إذا وجد عليه، فإذا أفاض عليه ما عتب فيه عليه قيل عاتبه، فإذا رجع إلى مسرته قيل أعتبه، والاسم
العتبي، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب قاله الهروي، ومنه قول النابغة:
فان كنت مظلوما فعبدا ظلمته * وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب
186

(وإذا رأى الذين ظلموا العذاب) أي وإذا رأى الذين أشركوا العذاب الذي يستحقونه بشركهم، وهو
عذاب جهنم (فلا يخفف) ذلك العذاب (عنهم ولا هم ينظرون) أي ولا هم يمهلون ليتوبوا إذ لا توبة هنالك (وإذا
رأى الذين أشركوا شركاءهم) أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، لما تقرر من أنهم يبعثون مع المشركين ليقال
لهم من كان يعبد شيئا فليتبعه، كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم (قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا
الذين كنا ندعوا من دونك) أي الذين كنا نعبدهم من دونك. قال أبو مسلم الأصفهاني: مقصود المشركين بهذا
القول إحالة الذنب على تلك الأصنام تعللا بذلك واسترواحا مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة،
ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه (فألقوا إليهم القول) أي ألقى أولئك الأصنام والأوثان والشياطين
ونحوهم إلى المشركين القول (إنكم لكاذبون) أي قالوا لهم إنكم أيها المشركون لكاذبون فيما تزعمون من إحالة
الذنب علينا الذي هو مقصودكم من هذا القول. فإن قيل إن المشركين أشاروا إلى الأصنام ونحوها أن هؤلاء
شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، وقد كانوا صادقين في ذلك، فكيف كذبتهم الأصنام ونحوها؟ فالجواب
بأن مرادهم من قولهم هؤلاء شركاؤنا: هؤلاء شركاء الله في المعبودية، فكذبتهم الأصنام في دعوى هذه الشركة،
والأصنام والأوثان وإن كانت لا تقدر على النطق فإن الله سبحانه ينطقها في تلك الحال لتخجيل المشركين
وتوبيخهم، وهذا كما قالت الملائكة - بل كانوا يعبدون الجن - يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم
لهم (وألقوا إلى الله يومئذ السلم) أي ألقى المشركون يوم القيامة الاستسلام والانقياد لعذابه والخضوع لعزته،
وقيل استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي ضاع وبطل ما كانوا يفترونه
من أن لله سبحانه شركاء وما كانوا يزعمون من شفاعتهم لهم، وأن عبادتهم لهم تقربهم إلى الله سبحانه (الذين
كفروا) في أنفسهم (وصدوا) غيرهم (عن سبيل الله) أي عن طريق الحق، وهى طريق الإسلام والإيمان بأن
منعوهم من سلوكها وحملوهم على الكفر، وقيل المراد بالصد عن سبيل الله: الصد عن المسجد الحرام، والأولى
العموم. ثم أخبر عن هؤلاء الذين صنعوا هذا الصنع بقوله (زدناهم عذابا فوق العذاب) أي زادهم الله عذابا لأجل
الإضلال لغيرهم فوق العذاب الذي استحقوه لأجل ضلالهم، وقيل المعنى: زدنا القادة عذابا فوق عذاب أتباعهم
أي أشد منه، وقيل إن هذه الزيادة هي إخراجهم من النار إلى الزمهرير، وقيل غير ذلك (ويوم نبعث في كل أمة
شهيدا عليهم) أي نبيا يشهد عليهم (من أنفسهم) من جنسهم، إتماما للحجة وقطعا للمعذرة، وهذا تكرير لما
سبق لقصد التأكيد والتهديد (وجئنا بك) يا محمد (شهيدا على هؤلاء) أي تشهد على هذه الأمم وتشهد لهم، وقيل
على أمتك. وقد تقدم مثل هذا في البقرة والنساء (ونزلنا عليك الكتاب) أي القرآن، والجملة مستأنفة أو في محل
نصب على الحال بتقدير قد (تبيانا لكل شئ) أي بيانا له، والتاء للمبالغة، ونظيره من المصادر التلقاء، ولم يأت
غيرهما. ومثل هذه الآية قوله سبحانه - ما فرطنا في الكتاب من شئ -، ومعنى كونه تبيانا لكل شئ أن فيه
البيان الكثير من الأحكام، والإحالة فيما بقي منها على السنة، وأمرهم باتباع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما
يأتي به من الأحكام. وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك، وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال
" إني أوتيت القرآن ومثله معه " (وهدى) للعباد (ورحمة) لهم (وبشرى للمسلمين) خاصة دون غيرهم، أو يكون
الهدى والرحمة والبشرى خاصة بهم، لأنهم المنتفعون بذلك. ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شئ ذكر
عقبة آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقا لذلك فقال (إن الله يأمر بالعدل والإحسان).
وقد اختلف أهل العلم في تفسير العدل والإحسان، فقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض،
187

وقيل العدل الفرض، والإحسان النافلة. وقيل العدل استواء العلانية والسريرة، والإحسان أن تكون السريرة
أفضل من العلانية. وقيل العدل الإنصاف، والإحسان التفضل. والأولى تفسير العدل بالمعنى اللغوي وهو التوسط
بين طرفي الإفراط والتفريط، فمعنى أمره سبحانه بالعدل أن يكون عباده في الدين على حالة متوسطة، ليست بمائله
إلى جانب الإفراط وهو الغلو المذموم في الدين، ولا إلى جانب التفريط وهو الإخلال بشئ مما هو من الدين، وأما
الإحسان فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب كصدقة التطوع، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما
لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فسر الإحسان بأن يعبد الله
العبد حتى كأنه يراه، فقال في حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين " والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم
تكن تراه فإنه يراك " وهذا هو معنى الإحسان شرعا (وإيتاء ذي القربى) أي إعطاء القرابة ما تدعو إليه حاجتهم،
وفى الآية إرشاد إلى صلة الأقارب وترغيب في التصدق عليهم، وهو من باب عطف الخاص على العام إن كان
إعطاء الأقارب قد دخل تحت العدل والإحسان، وقيل من باب عطف المندوب على الواجب، ومثل هذه الآية
قوله - وآت ذا القربى حقه - وإنما خص ذوي القربى لأن حقهم آكد، فإن الرحم قد اشتق الله اسمها من اسمه.
وجعل صلتها من صلته وقطيعتها من قطيعته (وينهى عن الفحشاء) هي الخصلة المتزايدة في القبح من قول أو فعل،
وقيل هي الزنا، وقيل البخل (والمنكر) ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي على اختلاف أنواعها
وقيل هو الشرك (و) أما (البغي) هو الكبر، وقيل الظلم، وقيل الحقد وقيل التعدي، وحقيقته تجاوز
الحد فيشمل هذه المذكورة ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر، وإنما خص بالذكر اهتماما به لشدة ضرره
ووبال عاقبته، وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها لقوله سبحانه - إنما بغيكم على أنفسكم - وهذه الآية هي
من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله (يعظكم لعلكم
تذكرون) أي يعظكم بما ذكره في هذه الآية مما أمركم به ونهاكم عنه. فإنها كافية في باب الوعظ والتذكير،
لعلكم تذكرون إرادة أن تتذكروا ما ينبغي تذكره فتتعظوا بما وعظكم الله به.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ويوم نبعث من كل أمة
شهيدا) قال: شهيدها نبيها على أنه قد بلغ رسالات ربه. قال الله (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) قال: ذكر لنا
أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن مجاهد في قوله (فألقوا إليهم القول) قال: حدثوهم. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج (وألقوا إلى
الله يومئذ السلم) قال: استسلموا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج عبد الرزاق
والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد بن السرى وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن ابن مسعود في قوله (زدناهم عذابا فوق العذاب) قال:
زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال. وأخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء " أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم سئل عن قول الله تعالى -: زدناهم عذابا فوق العذاب -. فقال: عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم "
وأخرج أبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (زدناهم عذابا فوق العذاب) قال: خمسة
أنهار من نار صبها الله عليهم يعذبون ببعضها بالليل، وببعضها بالنهار. وقد روى ابن مردويه من حديث جابر عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " الزيادة خمسة أنهار تجرى من تحت العرش على رؤس أهل النار: ثلاثة
أنهار على مقدار الليل، ونهران على مقدار النهار " فذلك قوله (زدناهم عذابا فوق العذاب). وأخرج ابن جرير
188

وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إن الله أنزل في هذا الكتاب تبيانا لكل شئ، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا
في القرآن، ثم قرأ (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ). وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد
في زوائد الزهد وابن الضريس في فضائل القرآن ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والطبراني والبيهقي في الشعب عن
ابن مسعود قال: من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين. وأخرج أحمد عن عثمان بن
أبي العاص قال: " كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا إذ شخص بصره فقال: أتاني جبريل
فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية ". وفى إسناده شهر بن
حوشب. وقال ابن كثير في تفسيره: إسناده لا بأس به. وقد أخرجه مطولا أحمد والبخاري في الأدب وابن
أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس، وحسن ابن كثير إسناده. وأخرج الباوردي وابن السكن
وابن منده وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير أن هذه الآية لما بلغت أكثم بن صيفي حكيم العرب
قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها، ثم قال لقومه: كونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا
تكونوا فيه أذنابا، وكونوا فيه أولا ولا تكونوا فيه آخرا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي
في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (إن الله يأمر بالعدل) قال: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان أداء
الفرائض (وإيتاء ذي القربى) قال: إعطاء ذوي الأرحام الحق الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم (وينهى
عن الفحشاء) قال: الزنا (والمنكر) قال الشرك (والبغي) قال: الكبر والظلم (يعظكم) قال: يوصيكم (لعلكم
تذكرون) وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب ومحمد بن نصر في الصلاة وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب قال: أعظم آية في كتاب الله - الله لا إله إلا هو الحي
القيوم - وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) وأكثر أية في
كتاب الله تفويضا - ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب - وأشد آية في كتاب الله رجاء
- يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم - الآية. وأخرج البيهقي في الشعب عن الحسن أنه قرأ هذه الآية (إن الله يأمر
بالعدل والإحسان) إلى آخرها ثم قال: إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة، فوالله
ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئا إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه.
وأخرج البخاري في تاريخه من طريق الكلبي عن أبيه قال: مر علي بن أبي طالب بقوم يتحدثون فقال: فيم
أنتم؟ قالوا: نتذاكر المروءة. فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذلك في كتابه إذ يقول (إن الله يأمر بالعدل
والإحسان) فالعدل الإنصاف. والإحسان التفضل، فما بقي بعد هذا؟
سورة النحل الآية (91 - 93)
189

سورة النحل الآية (94 - 96)
خص سبحانه من جملة المأمورات التي تضمنها قوله - إن الله يأمر بالعدل - الوفاء بالعهد فقال (وأوفوا بعهد
الله إذا عاهدتم) وظاهره العموم في كل عهد يقع من الإنسان من غير فرق بين عهد البيعة وغيره، وخص هذا
العهد المذكور في هذه الآية بعض المفسرين بالعهد الكائن في بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام وهو
خلاف ما يفيده العهد المضاف إلى اسم الله سبحانه من العموم الشامل لجميع عهود الله، ولو فرض أن السبب خاص
بعهد من العهود لم يكن ذلك موجبا لقصره على السبب، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفسره
بعضهم باليمين، وهو مدفوع بذكر الوفاء بالأيمان بعده حيث قال سبحانه (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها)
أي بعد تشديدها وتغليظها وتوثيقها، وليس المراد اختصاص النهى عن النقض بالأيمان المؤكدة. لا بغيرها مما
لا تأكيد فيه، فإن تحريم النقض يتناول الجميع، ولكن في نقض اليمين المؤكدة من الإثم فوق الإثم الذي في نقض
ما لم يؤكد منها، يقال وكد وأكد توكيدا وتأكيدا، وهما لغتان. وقال الزجاج: الأصل الواو والهمزة بدل منها،
وهذا العموم مخصوص بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم " من حلف على يمين
فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " حتى بالغ في ذلك صلى الله عليه وآله وسلم فقال " والله
لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني " وهذه الألفاظ ثابتة في
الصحيحين وغيرهما، ويخص أيضا من هذا العموم يمين اللغو لقوله سبحانه - لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم -
ويمكن أن يكون التقييد بالتوكيد هنا لإخراج أيمان اللغو، وقد تقدم بسط الكلام على الأيمان في البقرة (وقد
جعلتم الله عليكم كفيلا) أي شهيدا، وقيل حافظا، وقيل ضامنا، وقيل رقيبا لأن الكفيل يراعى حال المكفول به،
وقيل إن توكيد اليمين هو حلف الإنسان على الشئ الواحد مرارا. وحكى القرطبي عن ابن عمر أن التوكيد هو أن
يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة عليه (إن الله يعلم ما تفعلون) فيجازيكم بحسب ذلك، إن خيرا فخير،
وإن شرا فشر، وفيه ترغيب وترهيب. ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض فقال (ولا تكونوا كالتي نقضت
غزلها) أي لا تكونوا فيما تصنعون من النقض بعد التوكيد كالتي نقضت غزلها: أي ما غزلته (من بعد قوة) أي من
بعد إبرام الغزل وإحكامه، وهو متعلق بنقضت (أنكاثا) جمع نكث بكسر النون ما ينكث فتله. قال الزجاج:
انتصب أنكاثا على المصدر، لأن معنى نقضت نكثت، ورد بأن أنكاثا ليس بمصدر، وإنما هو جمع كما ذكرنا.
وقال الواحدي: هو منصوب على أنه مفعول ثان كما تقول كسرته أقطاعا وأجزاء: أي جملته أقطاعا وأجزاء،
ويحتمل أن يكون حالا. قال ابن قتيبة: هذه الآية متعلقة بما قبلها، والتقدير: وأوفوا بعهد الله ولا تنقضو
الأيمان، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلا وأحكمته ثم جعلته أنكاثا. وجملة (تتخذون أيمانكم دخلا
بينكم) في محل نصب على الحال. قال الجوهري: والدخل المكر والخديعة، وقال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن
190

صحيحا فهو دخل. وقيل الدخل ما أدخل في الشئ على فساده. وقال الزجاج غشا وغلا (أن تكون أمة هي أربى
من أمة) أي بأن تكون جماعة هي أربى من جماعة: أي أكثر عددا منها وأوفر مالا. يقال ربا الشئ يربو إذا كثر،
قال الفراء: المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم وقد عزرتموهم بالأيمان. قيل وقد كانت
قريش إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم، وقيل هو تحذير للمؤمنين أن يغتروا
بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنما يبلوكم الله به) أي يختبركم بكونكم
أكثر وأوفر لينظر هل تتمسكون بحبل الوفاء أو تنقضون اغترار بالكثرة؟ فالضمير في به راجع إلى مضمون جملة:
أن تكون أمة هي أربى من أمة: أي إنما يبلوكم الله بتلك الكثرة ليعلم ما تصنعون، أو إنما يبلوكم الله بما يأمركم
وينهاكم (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) فيوضح الحق والمحقين ويرفع درجاتهم، ويبين الباطل
والمبطلين فينزل بهم من العذاب ما يستحقونه، وفى هذا إنذار وتحذير من مخالفة الحق والركون إلى الباطل، أو
يبين لكم ما كنتم تختلفون فيه من البعث والجنة والنار. ثم بين سبحانه أنه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على
الوفاء أو على الإيمان فقال (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) متفقة على الحق (ولكن) بحكم الإلهية (يضل من
يشاء) بخذلانه إياهم عدلا منه فيهم (ويهدى من يشاء) بتوفيقه إياهم فضلا منه عليهم - لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون - ولهذا قال (ولتسألن عما كنتم تعملون) من الأعمال في الدنيا، واللام في وليبينن لكم، وفى ولتسألن
هما الموطئتان للقسم. ثم لما نهاهم سبحانه عن نقض مطلق الأيمان نهاهم عن نقض أيمان مخصوصة فقال (ولا
تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم) وهى أيمان البيعة. قال الواحدي: قال المفسرون: وهذا في نهى الذين بايعوا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نقض العهد على الإسلام ونصرة الدين، واستدلوا على هذا التخصيص بما في قوله
(فتزل قدم بعد ثبوتها) من المبالغة، وبما في قوله (وتذوقوا السوء بما صددتم) لأنهم إذا نقضوا العهد مع رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم صدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام. وعلى تسليم أن هذه الأيمان مع رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم هي سبب نزول هذه الآية، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقال جماعة من
المفسرين: إن هذا تكرير لما قبله لقصد التأكيد والتقرير، ومعنى فتزل قدم بعد ثبوتها فتزل قدم من اتخذ
يمينه دخلا عن محجة الحق بعد ثبوتها عليها ورسوخها فيها. قيل وأفرد القدم للإيذان بأن زلل قدم واحد أي قدم
كانت عزت أو هانت محذور عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ وهذا استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم
ويسقط فيه لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر، ويقال لمن أخطأ في شئ زلت به
قدمه، ومنه قول الشاعر:
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها * وذبيان قد زلت بأقدامها النعل
(وتذوقوا السوء بما صددتم) أي تذوقوا العذاب السئ في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما بما صددتم (عن
سبيل الله) أي بسبب صدودكم أنتم عن سبيل الله وهو الإسلام. أو بسبب صدكم لغيركم عن الإسلام، فإن
من نقض البيعة وارتد اقتدى به غيره في ذلك فكان فعله سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها ولهذا قال (ولكم
عذاب عظيم) أي متبالغ في العظم، وهو عذاب الآخرة إن كان المراد بما قبله عذاب الدنيا. ثم نهاهم سبحانه عن
الميل إلى عرض الدنيا والرجوع عن العهد لأجله فقال (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) أي لا تأخذوا في مقابلة
عهدكم عوضا يسيرا حقيرا، وكل عرض دنيوي وإن كان في الصورة كثيرا فهو لكونه ذاهبا زائلا يسير، ولهذا
ذكر سبحانه بعد تقليل عرض الدنيا خيرية ما عند الله فقال (إنما عند الله هو خير لكم) أي ما عنده من النصر
191

في الدنيا والغنائم والرزق الواسع، وما عنده في الآخرية من نعيم الجنة الذي لا يزول ولا ينقطع هو خير لهم، ثم علل
النهى عن أن يشتروا بعهد الله ثمنا قليلا وأن ما عند الله هو خير لهم بقوله (إن كنتم تعلمون) أي إن كنتم من أهل
العلم والتمييز بين الأشياء. ثم ذكر دليلا قاطعا على حقارة عرض الدنيا وخيرية ما عند الله فقال (ما عندكم ينفد وما
عند الله باق) ومعلوم لكل عاقل أن ما ينفد ويزول وإن بلغ في الكثرة إلى أي مبلغ فهو حقير يسير، وما كان يبقى
ولا يزول فهو كثير جليل، أما نعيم الآخرة فظاهر، وأما نعيم الدنيا الذي أنعم الله به على المؤمنين فهو وإن كان
زائلا لكنه لما كان متصلا بنعيم الآخرة كان من هذه الحيثية في حكم الباقي الذي لا ينقطع، ثم قال (ولنجزين
الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) اللام هي الموطئة: أي لنجزينهم بسبب صبرهم على ما نالهم من مشاق
التكليف وجهاد الكافرين والصبر على ما ينالهم منهم من الإيذاء بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعات. قيل وإنما
خص أحسن أعمالهم، لأن ما عداه وهو الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعة، وقيل المعنى: ولنجزينهم
بجزاء أشرف وأوفر من عملهم كقوله - من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها - أو لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم على
معنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيهم بمقابلة الفرد الأعلى منها من الجزاء الجزيل، لا أنا
نعطى الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزى الحسن منها بالأجر الحسن، والأحسن بالأحسن،
كذا قيل. قرأ عاصم وابن كثير " لنجزين " بالنون. وقرأ الباقون بالياء التحتية.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر في قوله (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) قال: أنزلت
هذه الآية في بيعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كأن من أسلم بايع على الإسلام، فقال (وأوفوا بعهد الله)
الآية فلا يحملنكم قلة محمد وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) يقول: بعد تغليظها، وأخرج
عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن مردويه من
طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن سعيدة الأسدية كانت تجمع الشعر والليف، فنزلت فيها هذه الآية
(ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها). وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص مثله، وفى الروايتين جميعا أنها
كانت مجنونة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى في سبب نزول الآية قال: كانت امرأة بمكة تسمى
خرقاء مكة كانت تغزل فإذا أبرمت غزلها نقضته. وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن كثير معناه. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أن تكون أمة هي أربى من أمة) قال: ناس أكثر من ناس
وأخرجوا عن مجاهد في الآية قال: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء
ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز فنهوا عن ذلك.
سورة النحل الآية (97 - 100)
192

سورة النحل الآية (101 - 105).
هذا شروع في ترغيب كل مؤمن في كل عمل صالح. وتعميم للوعد، ومعنى (من عمل صالحا) من عمل
عملا صالحا أي عمل كان، وزيادة التمييز بذكر أو أنثى مع كون لفظ " من " شاملا لهما لقصد التأكيد والمبالغة
في تقرير الوعد، وقيل إن لفظ " من " ظاهر في الذكور، فكان في التنصيص على الذكر والأنثى بيان لشموله للنوعين
وجملة (وهو مؤمن) في محل نصب على الحال. جعل سبحانه الإيمان قيدا في الجزاء المذكور لأن عمل الكافر
لا اعتداد به لقوله سبحانه - وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا - ثم ذكر سبحانه الجزاء لمن عمل ذلك
العمل الصالح فقال (فلنحيينه حياة طيبة) وقد وقع الخلاف في الحياة الطيبة بماذا تكون؟ فقيل بالرزق الحلال،
وروى ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك. وقيل بالقناعة، قاله الحسن البصري وزيد بن وهب
ووهب بن منبه. وروى أيضا عن علي وابن عباس. وقيل بالتوفيق إلى الطاعة قاله الضحاك. وقيل الحياة الطيبة
هي حياة الجنة، روى عن مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وحكى عن الحسن أنه قال: لا تطيب
الحياة لأحد إلا في الجنة، وقيل الحياة الطيبة هي السعادة، روى ذلك عن ابن عباس. وقيل هي المعرفة بالله،
حكى ذلك عن جعفر الصادق. وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة. وقال سهل بن عبد الله التستري: هي
أن ينزع عن العبد تدبير نفسه ويرد تدبيره إلى الحق. وقيل هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق، وأكثر
المفسرين على أن هذه الحياة الطيبة هي في الدنيا لا في الآخرة، لأن حياة الآخرة قد ذكرت بقوله (ولنجزينهم
أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) وقد قدمنا قريبا تفسير الجزاء بالأحسن، ووحد الضمير في لنحيينه وجمعه في
ولنجزينهم حملا على لفظ من، وعلى معناه. ثم لما ذكر سبحانه العمل الصالح والجزاء عليه أتبعه بذكر الاستعاذة
التي تخلص بها الأعمال الصالحة عن الوساوس الشيطانية فقال (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)
والفاء لترتيب الاستعاذة على العمل الصالح، وقيل هذه الآية متصلة بقوله - ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ -
والتقدير: فإذا أخذت في قراءته فاستعذ. قال الزجاج وغيره من أئمة اللغة: معناه إذا أردت. أن تقرأ القرآن فاستعذ
وليس معناه استعذ بعد أن تقرأ القرآن، ومثله: إذا أكلت فقل بسم الله. قال الواحدي: وهذا إجماع الفقهاء أن
الاستعاذة قبل القراءة، إلا ما روى عن أبي هريرة وابن سيرين وداود ومالك وحمزة من القراء فإنهم قالوا: الاستعاذة
بعد القراءة، ذهبوا إلى ظاهر الآية، ومعنى فاستعذ بالله: أسأله سبحانه أن يعيذك من الشيطان الرجيم: أي من
وساوسه، وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لسائر الأعمال
الصالحة عند إرادتها أهم، لأنه إذا وقع الأمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
193

كانت عند إرادة غيره أولى، كذا قيل. وتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإشعار بأن
غيره أولى منه بفعل الاستعاذة، لأنه إذا أمر بها لدفع وساوس الشيطان مع عصمته، فكيف بسائر أمته؟ وقد
ذهب الجمهور إلى أن الأمر في الآية للندب. وروى عن عطاء الوجوب أخذا بظاهر الأمر. وقد تقدم الكلام في
الاستعاذة مستوفى في أول هذا التفسير، والضمير في (إنه ليس له سلطان) للشأن أو للشيطان: أي ليس له تسلط
(على) إغواء (الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) وحكى الواحدي عن جميع المفسرين أنهم فسروا السلطان بالحجة.
وقالوا: المعنى ليس له حجة على المؤمنين في إغوائهم ودعائهم إلى الضلالة. ومعنى (وعلى ربهم يتوكلون)
يفوضون أمورهم إليه في كل قول وفعل، فإن الإيمان بالله والتوكل عليه يمنعان الشيطان من وسوسته لهم، وإن
وسوس لأحد منهم لا تؤثر فيه وسوسته وهذه الجملة تعليل للأمر بالاستعاذة، وهؤلاء الجامعون بين الإيمان
والتوكل هم الذين قال فيهم إبليس: - إلا عبادك عنهم المخلصين - وقال الله فيهم: - إن عبادي ليس لك عليهم
سلطان إلا من اتبعك من الغاوين - ثم حصر سبحانه سلطان الشيطان - فقال (إنما سلطانه) أي تسلطه على الإغواء
(على الذين يتولونه) أي يتخذونه وليا ويطيعونه في وساوسه (والذين هم به مشركون) الضمير في به يرجع إلى
الله تعالى: أي الذين هم بالله مشركون، وقيل يرجع إلى الشيطان، والمعنى: والذين هم من أجله وبسبب وسوسته
مشركون بالله (وإذا بدلنا آية مكان آية) هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها. ومعنى التبديل:
رفع الشئ مع وضع غيره مكانه، وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها، وهو نسخها بآية سواها، وقد تقدم الكلام
في النسخ في البقرة (قالوا) أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ (إنما أنت) يا محمد (مفتر) أي كاذب
مختلق على الله متقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشئ. ثم تزعم أنه أمرك بخلافه، فرد الله سبحانه عليهم بما
يفيد جهلهم فقال (بل أكثرهم لا يعلمون) شيئا من العلم أصلا، أو لا يعلمون بالحكمة في النسخ، فإنه مبنى على
المصالح التي يعلمها الله سبحانه، فقد يكون في شرع هذا الشئ مصلحة مؤقتة بوقت، ثم تكون المصلحة بعد
ذلك الوقت في شرع غيره، ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق
واللطف. ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله، وأن رسوله صلى
الله عليه وآله وسلم افتراه فقال (قل نزله) أي القرآن المدلول عليه بذكر الآية (روح القدس) أي جبريل.
والقدس التطهير، والمعنى: نزله الروح المطهر من أدناس البشرية. فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة (من
ربك) أي ابتداء تنزيله من عنده سبحانه، و (بالحق) في محل نصب على الحال: أي متلبسا بكونه حقا ثابتا
لحكمة بالغة (ليثبت الذين آمنوا) على الإيمان، فيقولون: كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا، ولأنهم أيضا
إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم. وقرئ " ليثبت " من الإثبات
(وهدى وبشرى للمسلمين) وهما معطوفان على محل ليثبت: أي تثبيتا لهم وهداية وبشارة، وفيه تعريض بحصول
أضداد هذه الخصال لغيرهم. ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبههم فقال (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر)
اللام هي الموطئة: أي ولقد نعلم أن هؤلاء الكفار يقولون إنما يعلم محمدا القرآن بشر من بني آدم غير ملك. وقد
اختلف أهل العلم في تعيين هذا البشر الذي زعموا عليه ما زعموا، فقيل هو غلام الفاكه بن المغيرة، واسمه جبر،
وكان نصرانيا فأسلم، وكان كفار قريش إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار القرون الأولى مع
كونه أميا، قالوا: إنما يعلمه جبر، وقيل اسمه يعيش، عبد لبنى الحضرمي، وكان يقرأ الكتب الأعجمية. وقيل
غلام لبنى عامر بن لؤي. وقيل هما غلامان: اسم أحدهما يسار، واسم الآخر جبر، وكانا صيقليين يعملان
194

السيوف، وكانا يقرآن كتابا لهم. وقيل كانا يقرآن التوراة والإنجيل. وقيل عنوا سلمان الفارسي. وقيل عنوا
نصرانيا بمكة اسمه بلعام، وكان يقرأ التوراة. وقيل عنوا رجلا نصرانيا كان اسمه أبا ميسرة يتكلم بالرومية، وفى
رواية اسمه عداس. قال النحاس: وهذه الأقوال غير متناقضة، لأنه يجوز أنهم زعموا أنهم جميعا يعلمونه، ولكن
لا يمكن الجمع باعتبار قول من قال إنه سلمان، لأن هذه الآية مكية، وهو إنما أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بالمدينة. ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي) الإلحاد: الميل، يقال لحد
وألحد: أي مال عن القصد. وقد تقدم في الأعراف. وقرأ حمزة والكسائي يلحدون بفتح الياء والحاء. وقرأ من
عداهما بضم الياء وكسر الحاء: أي لسان الذين يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمك أعجمي، يقال: رجل أعجم
وامرأة عجماء: أي لا يفصحان، والعجمة الإخفاء، وهى ضد البيان، والعرب تسمى كل من لا يعرف لغتهم
ولا يتكلم بها أعجميا. قال الفراء: الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والأعجمي: هو العجمي
الذي أصله من العجم. وقال أبو علي الفارسي: العجمي المنسوب إلى العجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب
أو من العجم، وكذلك الأعجم، والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا (وهذا لسان عربي مبين)
الإشارة إلى القرآن، وسماه لسانا لأن العرب تقول للقصيدة والبيت لسانا، ومنه قول الشاعر:
لسان الشر تهديها إلينا * وخنت وما حسبتك أن تخونا
أو أراد باللسان البلاغة فكأنه قال: وهذا القرآن ذو بلاغة عربية وبيان واضح، فكيف تزعمون أن بشرا
يعلمه من العجم. وقد عجزتم أنتم عن معارضة سورة منه. وأنتم أهل اللسان العربي ورجال الفصاحة وقادة البلاغة
وهاتان الجملتان مستأنفتان سيقتا لابطال طعنهم ودفع كذبهم. ولما ذكر سبحانه جوابهم وبخهم وهددهم فقال
(إن الذين لا يؤمنون بآيات الله) أي لا يصدقون بها (لا يهديهم الله) إلى الحق الذي هو سبيل النجاة هداية موصلة
إلى المطلوب لما علم من شقاوتهم (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) بسبب ما هم عليه من الكفر والتكذيب بآيات الله.
ثم لما وقع متهم نسبة الافتراء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رد عليهم بقوله (إنما يفترى الكذب الذين
لا يؤمنون بآيات الله) فكيف يقع الافتراء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رأس المؤمنين بها،
والداعين إلى الإيمان بها، وهؤلاء الكفار هم الذين لا يؤمنون بها، فهم المفترون للكذب. قال الزجاج: المعنى
إنما يفترى الكذب الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله كذبوا بها هؤلاء أكذب الكذبة، ثم سماهم
الكاذبين، فقال (وأولئك) أي المتصفون بذلك (هم الكاذبون) أي إن الكذب نعت لازم لهم وعادة من عادتهم
فهم الكاملون في الكذب. إذ لا كذب أعظم من تكذيبهم بآيات الله.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس
أنه سئل عن الحياة الطيبة المذكورة في الآية فقال: الحياة الطيبة الرزق الحلال في هذه الحياة الدنيا، وإذا صار
إلى ربه جازاه بأحسن ما كان يعمل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الكسب الطيب والعمل الصالح. وأخرج
العسكري في الأمثال عن علي في الآية قال: القناعة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال: القنوع، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يدعو " اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير ". وأخرج أحمد ومسلم
والترمذي وابن ماجة عن ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا
وقنعه الله بما آتاه ". وأخرج الترمذي والنسائي من حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله
195

وسلم يقول " قد أفلح من هدى إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع به ". وأخرج عبد الرزاق في المصنف
وابن المنذر عن عطاء قال: الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الصلاة وغيرها من أجل قوله (فإذا قرأت القرآن فاستعذ
بالله من الشيطان الرجيم) وقد ورد في مشروعية الاستعاذة عند التلاوة ما لعلنا قد قدمنا ذكره. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إنما سلطانه على الذين يتولونه) يقول سلطان الشيطان على من تولى الشيطان
وعمل بمعصية الله. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله (وإذا بدلنا
آية مكان آية) وقوله (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) قال: عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله أن يقتل يوم الفتح، فاستجار
له عثمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأجاره. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن مجاهد في قوله (وإذا بدلنا آية مكان آية) قال: هو كقوله - ما ننسخ من آية أو ننسها -. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يعلم بمكة قينا أسمه بلعام، وكان أعجميا، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله (ولقد نعلم أنهم يقولون) الآية. وأخرج
الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عنه في الآية. قال: قالوا إنما يعلم محمدا عبد بن الحضرمي وهو صاحب
الكتب، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج آدم بن أبي إياس وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والبيهقي عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان من أهل عين التمر، يقال لأحدهما يسار والآخر جبر،
وكانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن الإنجيل، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهما يقرآن
فيقف ويستمع، فقال المشركون: إنما يتعلم منهما، فنزلت هذه الآية.
سورة النحل الآية (106 - 111).
قوله (من كفر بالله من بعد إيمانه) قد اختلف أهل العلم في إعرابه فذهب الأكثرون على أنه بدل، إما - من
الذين لا يؤمنون بآيات الله - وما بينهما اعتراض، والمعنى: إنما يفترى الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره فلم
يدخل تحت حكم الافتراء. ثم قال (ولكن من شرح بالكفر صدرا) أي اعتقده وطابت به نفسه واطمأن إليه
196

(فعليهم غضب) وإما من المبتدأ الذي هو - أولئك - أو من الخبر الذي هو - الكاذبون - وذهب الزجاج إلى الأول
وقال الأخفش: إن من مبتدأ وخبره محذوف اكتفى منه بخبر من الثانية كقولك: من يأتنا منكن نكرمه، وقيل
هو: أي " من " في " من كفر " منصوب على الذم وقيل إن من شرطية والجواب محذوف لأن جواب " من شرح " دال
عليه، وهو كقول الأخفش، وإنما خالفه في إطلاق لفظ الشرط على من والجواب على خبرها فكأنه قيل على هذا
من كفر بالله فعليهم غضب إلا من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب، وإنما صح استثناء المكره
من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما لا يظهر إلا من الكافر لولا الإكراه. قال القرطبي: أجمع
أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان،
ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر، وحكى عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر كان مرتدا في
الظاهر، وفيما بينه وبين الله على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات ولا يرث أباه إن مات مسلما،
وهذا القول مردود على قائله مدفوع بالكتاب والسنة، وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسحنون إلى
أن هذه الرخصة المذكورة في هذه الآية إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة، مثل أن يكره على
السجود لغير الله ويدفعه ظاهر الآية، فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل، ولا دليل لهؤلاء
القاصرين للآية على القول وخصوص السبب لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرر في علم الأصول، وجملة (وقلبه
مطمئن بالإيمان) في محل نصب على الحال من المستثنى: أي إلا من كفر بإكراه، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان
لم تتغير عقيدته، وليس بعد هذا الوعيد العظيم وهو الجمع للمرتدين بين غضب الله وعظيم عذابه، والإشارة
بقوله (ذلك) إلى الكفر بعد الإيمان، أو إلى الوعيد بالغضب والعذاب، والباء في (بأنهم استحبوا الحياة الدنيا)
للسببية: أي ذلك بسبب تأثيرهم للحياة الدنيا (على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) معطوف على - أنهم
استحبوا - أي ذلك بأنهم استحبوا، وبأن الله لا يهدي القوم الكافرين إلى الإيمان به، ثم وصفهم بقوله (أولئك)
أي الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة (الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) فلم يفهموا
المواعظ ولا سمعوها، ولا أبصروا الآيات التي يستدل بها على الحق، وقد سبق تحقيق الطبع في أول البقرة، ثم
أثبت لهم صفة نقص غير الصفة المتقدمة فقال (وأولئك هم الغافلون) عما يراد بهم، وضمير الفصل يفيد أنهم
متناهون في الغفلة، إذ لا غفلة أعظم من غفلتهم هذه (لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) أي الكاملون في
الخسران البالغون إلى غاية منه ليس فوقها غاية، وقد تقدم تحقيق الكلام في معنى - لا جرم - في مواضع منها ما هو
في هذه السورة (ثم إن ربك للذين هاجروا) من دار الكفر إلى دار الإسلام، وخبر إن محذوف، والتقدير لغفور
رحيم، وإنما حذف لدلالة خبر إن ربك المتأخرة عليه، وقيل الخبر هو للذين هاجروا: أي إن ربك لهم بالولاية
والنصرة لا عليهم، وفيه بعد، وقيل إن خبرها هو قوله لغفور رحيم، وإن ربك الثانية تأكيد للأولى. قال في
الكشاف: ثم هاهنا للدلالة على تباعد حال هؤلاء، يعني الذين نزلت الآية فيهم عن حال أولئك، وهم عمار
وأصحابه، ويدل على ذلك ما روى أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح، وسيأتي بيان ذلك (من بعد ما فتنوا) أي
فتنهم الكفار بتعذيبهم لهم ليرجعوا في الكفر، وقرئ فتنوا على البناء للفاعل: أي اللذين فتنوا المؤمنين وعذبوهم
على الإسلام (ثم جاهدوا) في سبيل الله وصبروا على ما أصابهم من الكفار. وعلى ما يلقونه من مشاق التكليف
(لغفور رحيم) أي كثير الغفران والرحمة لهم، ومعنى الآية على قراءة من قرأ فتنوا على البناء للفاعل واضح ظاهر:
أي إن ربك لهؤلاء الكفار الذين فتنوا من أسلم وعذبوهم ثم جاهدوا وصبروا لغفور رحيم، وأما على قراءة البناء
197

للمفعول وهى قراءة الجمهور، فالمعنى: أن هؤلاء المفتونين الذين تكلموا بكلمة الكفر مكرهين وصدورهم غير
منشرحة للكفر إذا صلحت أعمالهم وجاهدوا في الله وصبروا على المكاره لغفور لهم رحيم بهم، وأما إذا كان سبب
الآية هذه هو عبد الله بن أبي سرح الذي ارتد عن الإسلام ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام، فالمعنى: أن هذا
المفتون في دينه بالردة إذا أسلم وجاهد وصبر فالله غفور له رحيم به، والضمير في بعدها يرجع إلى الفتنة أو إلى
المهاجرة والجهاد والصبر، أو إلى الجميع (يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها) قال الزجاج: يوم تأتي منتصب
بقوله رحيم، أو بإضمار أذكر، أو ذكرهم، أو أنذرهم، وقد استشكل إضافة ضمير النفس إلى النفس، ولا بد
من التغاير بين المضاف والمضاف إليه. وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الإنسان، وبالنفس الثانية الذات،
فكأن قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه غيرها، ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها، فهو مجادل ومخاصم
عن نفسه لا يتفرغ لغيرها يوم القيامة.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: تفرقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل، ومن لم تكن به قوة
فليذهب في أول الليل، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض فألحقوا بي فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار
وجارية من قريش كانت أسلمت، فأخذهم المشركون وأبو جهل، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى، فجعلوا
يضعون درعا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه، فإذا ألبسوها إياه قال: أحد أحد، وأما خباب فجعلوا
يجرونه في الشوك، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد، ثم مدها
فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فأخبروه بالذي كان من أمرهم، واشتد على عمار الذي كان تكلم به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت، أكان منشرحا بالذي قلت أم لا؟ قال لا، فأنزل الله (إلا من أكره وقلبه
مطمئن بالإيمان) وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه
والبيهقي وابن عساكر من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم
يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم بخير فتركوه، فلما أتى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: ما وراءك؟ قال: شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال:
مطمئنا بالإيمان، قال: إن عادوا فعد، فنزلت (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) قال: ذاك عمار بن ياسر
(ولكن من شرح بالكفر صدرا) عبد الله بن أبي سرح. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن
عساكر عن أبي مالك في قوله (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) قال: نزلت في عمار بن ياسر، وفى الباب
روايات مصرحة بأنها نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: نزلت هذه الآية
(إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) في عياش بن أبي ربيعة. وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس
قال: في سورة النحل - فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم - ثم نسخ واستثنى من ذلك فقال (ثم إن ربك للذين
هاجروا من بعد ما فتنوا) الآية قال: وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتل يوم فتح مكة. فاستجار له
عثمان بن عفان فأجاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن مثله. وأخرج ابن
مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) فيمن
198

كان يفتى من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان قوم من أهل مكة قد
أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فنزلت فيهم (ثم إن ربك للذين هاجروا) الآية فكتبوا إليهم بذلك إن الله قد
جعل لكم مخرجا فأخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم فنجا من نجا، وقتل من قتل. وأخرج ابن أبي شيبة
عن الحسن أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما. فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟
قال: نعم، قال: أتشهد أنى رسول الله؟ فأهوى إلى أذنيه فقال: إني أصم، فأمر به فقتل، وقال للآخر:
أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنى رسول الله؟ قال: نعم، فأرسله فأتى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فقال له أما صاحبك فمضى على إيمانه. وأما أنت فأخذت بالرخصة. وهو مرسل.
سورة النحل الآية (112 - 119)
قوله (وضرب الله مثلا قرية) قد قدمنا أن ضرب مضمن معنى جعل حتى تكون قرية المفعول الأول ومثلا
المفعول الثاني، وإنما تأخرت قرية لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها. وقدمنا أيضا أنه يجوز أن يكون ضرب على
بابه غير مضمن ويكون مثلا مفعوله الأول وقرية بدلا منه. وقد اختلف المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية
معينة، أو المراد قرية غير معينة، بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة؟ فذهب الأكثر إلى الأول وصرحوا
بأنها مكة، وذلك لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها
عليهم سنين كسني يوسف "، فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام. والثاني أرجح لأن تنكير قرية يفيد ذلك، ومكة
تدخل في هذا العموم البدلي دخولا أوليا، وأيضا يكون الوعيد أبلغ، والمثل أكمل، وغير مكة مثلها، وعلى
فرض إرادتها ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها، ثم وصف القرية بأنها (كانت آمنة) غير خائفة (مطمئنة) غير
منزعجة: أي لا يخاف أهلها ولا ينزعجون (يأتيها رزقها) أي ما يرتزق به أهلها (رغدا) واسعا (من كل مكان)
199

من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها (فكفرت) أي كفر أهلها (بأنعم الله) التي أنعم بها عليهم، والأنعم جمع نعمة
كالأشد جمع شدة. وقيل جمع نعمى مثل بؤسي وأبؤس، وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب
رسله (فأذاقها الله) أي أذاق أهلها (لباس الجوع والخوف) سمى ذلك لباسا لأنه يظهر به عليهم من الهزال وشحوبة
اللون وسوء الحال ما هو كاللباس، فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة، وأصلها الذوق بالفم، ثم استعيرت لمطلق
الاتصال مع إنبائها بشدة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين: إدراك اللمس، والذوق. روى أن ابن
الرواندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب: هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها
النسناس، هب أن محمدا ما كان نبيا أما كان عربيا؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال: فكساها الله لباس
الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع، فرد عليه ابن الأعرابي. وقد أجاب علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة،
وذلك أنه استعار اللباس لما غشى الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على
اللابس، ثم ذكر الوصف ملائما للمستعار له وهو الجوع والخوف. لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع
والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة. فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره، فكانت الاستعارة مجردة.
ولو قال فكساها كانت مرشحة. قيل وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسنا من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحا
من حيث إنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحا: وقيل إن أصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع
موضع التعرف والاختبار، ومن ذلك قول الشاعر:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها * وسيق إلينا عذبها وعذابها
وقرأ حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث بنصب الخوف
عطفا على لباس، وقرأ الباقون بالضم عطفا على الجوع. قال الفراء: كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله
(يصنعون) تنبيها على أن المراد في الحقيقة أهلها (ولقد جاءهم) يعنى أهل مكة (رسول منهم) من جنسهم يعرفونه
ويعرفون نسبه، فأمرهم بما فيه نفعهم ونهاهم عما فيه ضرهم (فكذبوه) فيما جاء به (فأخذهم العذاب) النازل بهم من
الله سبحانه، والحال أنهم في حال أخذ العذاب لهم (ظالمون) لأنفسهم بإيقاعها في العذاب الأبدي ولغيرهم
بالإضرار بهم وصدهم عن سبيل الله، وهذا الكلام من تمام المثل المضروب، وقيل إن المراد بالعذاب هنا هو
الجوع الذي أصابهم، وقيل القتل يوم بدر: ثم لما وعظهم الله سبحانه بما ذكره من حال أهل القرية المذكورة
أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم الله من الغنائم ونحوها، وجاء بالفاء للاشعار بأن ذلك متسبب عن ترك الكفر. والمعنى:
أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم (واشكروا نعمة
الله) التي أنعم بها عليكم واعرفوا حقها (إن كنتم إياه تعبدون) ولا تعبدون غيره، أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون
بعبادة الآلهة التي زعمتم عبادة الله تعالى وقيل إن الفاء في فكلوا داخلة على الأمر بالشكر، وإنما أدخلت على الأمر
بالأكل لأن الأكل ذريعة إلى الشكر (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله " كرر سبحانه
ذكر هذه المحرمات في البقرة والمائدة والأنعام وفى هذه السورة قطعا للأعذار وإزالة للشبهة، ثم ذكر الرخصة في
تناول شئ مما ذكر فقال (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) وقد تقدم الكلام على جميع ما هو
مذكور هنا مستوفى. ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة وفى النقصان عنها
كتحليل الميتة والدم فقال (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب) قال الكسائي والزجاج: ما هنا مصدرية
وانتصاب الكذب بلا تقولوا: أي لا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم، ومعناه: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل
200

قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة، ويجوز أن تكون ما موصولة والكذب منتصب بتصف: أي لا تقولوا للذي
تصف ألسنتكم الكذب فيه (هذا حلال وهذا حرام) فحذف لفظة فيه لكونه معلوما، فيكون قوله هذا حلال
وهذا حرام بدلا من الكذب. ويجوز أن يكون في الكلام حذف بتقدير القول: أي ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم
فتقول هذا حلال وهذا حرام، أو قائلة هذا حلال وهذا حرام، ويجوز أن ينتصب الكذب أيضا بتصف وتكون
ما مصدرية: أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب. وقرئ الكذب بضم الكاف والذال
والباء على أنه نعت للألسنة: وقرأ الحسن بفتح الكاف وكسر الذال والباء نعتا لما. وقيل على البدل من ما: أي
ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام، واللام في (لتفتروا على الله الكذب) هي لام
العاقبة لا لام العرض أي فيتعقب حديث ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم وإسناد ذلك إليه من غير أن
يكون منه (إن الذين يفترون على الله الكذب) أي افتراء كان (لا يفلحون) بنوع من أنواع الفلاح وهو الفوز
بالمطلوب، وارتفاع (متاع قليل) على أنه خبر مبتدأ محذوف. قال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل، أو هو مبتدأ
خبره محذوف: أي لهم متاع قليل (ولهم عذاب أليم) يردون إليه في الآخرة. ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال (وعلى
الذين هادوا حرمنا) أي حرمنا عليهم خاصة دون غيرهم (ما قصصنا عليك) بقولنا - حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر
والغنم حرمنا عليهم شحومها - الآية، و (من قبل) متعلق بقصصنا أو بحرمنا (وما ظلمناهم) بذلك التحريم بل جزيناهم
ببغيهم (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) حيث فعلوا أسباب ذلك فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم. ثم بين سبحانه
أن الافتراء على الله سبحانه ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة فقال (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة)
أي متلبسين بجهالة، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة النساء (ثم تابوا من بعد ذلك) أي من بعد عملهم للسوء، وفيه
تأكيد فإن ثم قد دلت على البعدية فأكدها بزيادة ذكر البعدية (وأصلحوا) أعمالهم التي كان فيها فساد بالسوء الذي عملوه،
ثم كرر ذلك تأكيدا وتقريرا فقال (إن ربك من بعدها) أي من بعد التوبة (لغفور رحيم) كثير الغفران واسع الرحمة.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (وضرب الله مثلا قرية) قال: يعني مكة. وأخرج ابن المنذر
وابن أبي حاتم عن عطية في الآية مثله وزاد فقال: ألا ترى أنه قال (ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه). وأخرج
ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: القرية التي
قال الله (كانت آمنة مطمئنة) هي يثرب. قلت: ولا أدري أي دليل دله على هذا التعيين، ولا أي قرينة قامت
له على ذلك. ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله، وأي وقت أذاقها الله لباس الجوع والخوف،
وهى التي تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد كما صح ذلك عن الصادق المصدوق. وصح عنه أيضا أنه قال:
" والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله
(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب) الآية قال: في البحيرة والسائبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال:
قرأت هذه الآية في سورة النحل ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب (هذا حلال وهذا حرام) إلى آخر الآية
فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا قلت: صدق رحمه الله، فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى
بخلاف ما في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وآله سلم، كما يقع كثيرا من المؤثرين للرأي المقدمين له
على الرواية، أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنة كالمقلدة. وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من
جهالاتهم. فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير فضلوا وأضلوا، فهم ومن يستفتيهم كما قال
القائل: كبهيمة عمياء قاد زمامها * أعمى على عوج الطريق الجائر
201

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: عسى رجل أن يقول إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا، فيقول الله
عز وجل له: كذبت، أو يقول: إن الله حرم كذا أو أحل كذا، فيقول الله له: كذبت. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله (وعلى الذين هادوا ما قصصنا عليك) قال: في سورة الأنعام. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة مثله، وقال حيث يقول - وعلى الذين هادوا - إلى قوله - وإنا لصادقون -:
سورة النحل الآية (120 - 128).
لما فرغ سبحانه من دفع شبه المشركين وإبطال مطاعنهم، وكان إبراهيم عليه السلام من الموحدين وهو قدوة
كثير من النبيين ذكره الله في آخر هده السورة فقال (إن إبراهيم كان أمة) قال ابن الأعرابي: يقال للرجل العالم
أمة، والأمة الرجل الجامع للخير، قال الواحدي: قال أكثر أهل التفسير: أي معلما للخير، وعلى هذا فمعنى
كون إبراهيم كان أمة أنه كان معلما للخير أو جامعا لخصال الخير أو عالما بما علمه الله من الشرائع، وقيل أمة
بمعنى مأموم: أي يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير كما قال سبحانه - إني جاعلك للناس إماما - والقانت المطيع، وقد
تقدم بيان معاني القنوت في البقرة: والحنيف المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وقد تقدم بيانه في الأنعام
(ولم يك من المشركين) بالله كما تزعمه كفار قريش أنه كان على دينهم الباطل (شاكرا لأنعمه) التي أنعم الله بها
عليه وإن كانت قليلة كما يدل عليه جمع القلة فهو شاكر لما كثر منها بالأولى (اجتباه) أي اختاره للنبوة واختصه
بها (وهداه إلى صراط مستقيم) وهو ملة الإسلام ودين الحق (وآتيناه في الدنيا حسنة) أي خصلة حسنة أو حالة
حسنة، وقيل هي الولد الصالح، وقيل الثناء الحسن، وقيل النبوة، وقيل الصلاة منا عليه في التشهد، وقيل هي
أنه يتولاه جميع أهل الأديان، ولا مانع أن يكون ما آتاه الله شاملا لذلك كله ولما عداه من خصال الخير (وإنه
في الآخرة لمن الصالحين) حسبما وقع منهم السؤال لربه حيث قال - وألحقني بالصالحين. واجعل لي لسان صدق في
الآخرين. واجعلني من ورثة جنة النعيم - (ثم أوحينا إليك) يا محمد مع علو درجتك وسمو منزلتك وكونك سيد
202

ولد آدم (أن اتبع ملة إبراهيم) وأصل الملة اسم لما شرعه الله لعباده على لسان نبي من أنبيائه، قيل والمراد هنا اتباع
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لملة إبراهيم في التوحيد والدعوة إليه. وقال ابن جرير: في التبري من الأوثان
والتدين بدين الإسلام، وقيل في مناسك الحج، وقيل في الأصول دون الفروع، وقيل في جميع شريعته إلا
ما نسخ منها، وهذا هو الظاهر. وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاقتداء بالأنبياء مع كونه سيدهم فقال
تعالى - فبهداهم اقتده -. وانتصاب (حنيفا) على الحال من إبراهيم، وجاز مجئ الحال منه، لأن الملة كالجزء
منه، وقد تقرر في علم النحو أن الحال من المضاف إليه جائز إذا كان يقتضى المضاف العمل في المضاف إليه أو
كان جزءا منه أو كالجزء (وما كان من المشركين) وهو تكرير لما سبق للنكتة التي ذكرناها (إنما جعل السبت
على الذين اختلفوا فيه) أي إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه. أو إنما جعل فرض تعظيم
السبت وترك الصيد فيه على الذين اختلفوا فيه لا على غيرهم من الأمم.
وقد اختلف العلماء في كيفية الاختلاف الكائن بينهم في السبت، فقالت طائفة: إن موسى أمرهم بيوم الجمعة
وعينه لهم وأخبرهم بفضيلته على غيره، فخالفوه وقالوا إن السبت أفضل، فقال الله له: دعهم وما اختاروا لأنفسهم.
وقيل إن الله سبحانه أمرهم بتعظيم يوم في الأسبوع، فاختلف اجتهادهم فيه، فعينت اليهود السبت لأن الله سبحانه
فرغ فيه من الخلق، وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله بدأ فيه الخلق، فألزم الله كلا منهم ما أدى إليه اجتهاده.
وعين لهذه الأمة الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة. ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن
اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شرائع إبراهيم، فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه
ولم يجعله على إبراهيم ولا على غيره (وإن ربك ليحكم بينهم) أي بين المختلفين فيه (يوم القيامة فيما كانوا فيه
يختلفون) فيجازى كلا فيه بما يستحقه ثوابا وعقابا، كما وقع منه سبحانه من المسخ لطائفة منهم والتنجية لأخرى،
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يدعو أمته إلى الإسلام فقال (ادع إلى سبيل ربك) وحذف المفعول للتعميم لكونه بعث
إلى الناس كافة، وسبيل الله هو الإسلام (بالحكمة) أي بالمقالة المحكمة الصحيحة، قيل وهى الحجج القطعية المفيدة
لليقين (والموعظة الحسنة) وهى المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع وتكون في نفسها حسنة
باعتبار انتفاع السامع بها. قيل وهى الحجج الظنية الاقناعية الموجبة للتصديق بمقدمات مقبولة، قيل وليس للدعوة
إلا هاتان الطريقتان، ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألد إلى استعمال المعارضة والمناقضة ونحو ذلك من
الجدل، ولهذا قال سبحانه (وجادلهم بالتي هي أحسن) أي بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة، وإنما أمر
سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقا وغرضه صحيحا. وكان خصمه مبطلا وغرضه فاسدا (إن ربك هو أعلم
بمن ضل عن سبيله) لما حث سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الرشد والهداية ليس إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وإنما ذلك إليه تعالى فقال (إن ربك هو أعلم) أي هو العالم بمن يضل ومن يهتدى (وهو أعلم
بالمهتدين) أي بمن يبصر الحق فيقصده غير متعنت، وإنما شرع لك الدعوة وأمرك بها قطعا للمعذرة وتتميما للحجة
وإزاحة للشبهة. وليس عليك غير ذلك، ثم لما كانت الدعوة تتضمن تكليف المدعوين بالرجوع إلى الحق فإن
أبوا قوتلوا، أمر الداعي بأن يعدل في العقوبة فقال (وإن عاقبتم) أي أردتم المعاقبة (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)
أي بمثل ما فعل بكم لا تجاوزوا ذلك. قال ابن جرير: أنزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا
تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداها إلى غيرها. وهذا صواب. لأن الآية وإن قيل إن لها سببا خاصا كما سيأتي،
فالاعتبار بعموم اللفظ، وعمومه يؤدي هذا المعنى الذي ذكره، وسمى سبحانه الفعل الأول الذي هو فعل البادئ
203

بالشر عقوبة، مع أن العقوبة ليست إلا فعل الثاني وهو المجاري للمشاكلة، وهى باب معروف وقع في كثير من
الكتاب العزيز. ثم حث سبحانه على العفو فقال (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) أي لئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل
فالصبر خير لكم من الانتصاف، ووضع الصابرين موضع الضمير، ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد.
وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية محكمة لأنها واردة في الصبر عن المعاقبة والثناء على الصابرين على العموم،
وقيل هي منسوخة بآيات القتال. ولا وجه لذلك. ثم أمر الله سبحانه رسوله بالصبر فقال (واصبر) على ما أصابك
من صنوف الأذى (وما صبرك إلا بالله) أي بتوفيقه وتثبيته، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء: أي وما صبرك
مصحوبا بشئ من الأشياء إلا بتوفيقه لك، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم نهاه عن الحزن فقال
(ولا تحزن عليهم) أي على الكافرين في إعراضهم عنك. أو لا تحزن على قتلى أحد، فإنهم قد أفضوا إلى رحمة الله
(ولا تك في ضيق مما يمكرون) قرأ الجمهور بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير بكسرها. قال ابن السكيت: هما سواء،
يعني المفتوح والمكسور. وقال الفراء: الضيق بالفتح ما ضاق عنه صدرك، والضيق بالكسر ما يكون في الذي
يتسع مثل الدار والثوب، وكذا قال الأخفش، وهو من الكلام المقلوب، لأن الضيق وصف للإنسان يكون فيه
ولا يكون الإنسان فيه، وكأنه أراد وصف الضيق بالعظم حتى صار كالشئ المحيط بالإنسان من جميع جوانبه،
ومعنى مما يمكرون: من مكرهم لك فيما يستقبل من الزمان. ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات
والمنهيات فقال (إن الله مع الذين اتقوا) أي اتقوا المعاصي على اختلاف أنواعها (والذين هم محسنون) بتأدية الطاعات
والقيام بما أمروا بها منها، وقيل المعنى: إن الله مع الذين اتقوا الزيادة في العقوبة، والذين هم محسنون في أصل الانتقام
فيكون الأول إشارة إلى قوله (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) والثاني إشارة إلى قوله (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)
وقيل (الذين اتقوا) إشارة إلى التعظيم لأمر الله (والذين هم محسنون) إشارة إلى الشفقة على عباد الله تعالى.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم
وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود: أنه سئل عن الأمة ما هي؟ فقال: الذي يعلم الناس الخير، قالوا: فما
القانت؟ قال: الذي يطيع الله ورسوله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إن إبراهيم كان أمة قانتا
لله) قال: كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره، فلذلك قال الله (كان أمة قانتا
لله). وأخرج ابن المنذر عنه في قوله (كان أمة) قال: إماما في الخير (قانتا) قال: مطيعا. وأخرج ابن مردويه
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما من عبد تشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم "
والأمة الرجل فما فوقه، إن الله يقول (إن إبراهيم كان أمة) والأمة الرجل فما فوقه ". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة
وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر وقال صلى جبريل بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات ثم وقف حتى
إذا غابت الشمس دفع به، ثم صلى المغرب والعشاء بجمع ثم صلى الفجر به كأسرع ما يصلي أحدكم من المسلمين ثم
وقف به حتى إذا كان كأبطإ ما يصلي أحد من المسلمين دفع به، ثم رمى الجمرة ثم ذبح ثم حلق ثم أفاض به إلى
البيت فطاف به، فقال الله لنبيه (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) قال: أراد الجمعة فأخذوا السبت
مكانها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك وسعيد بن جبير في الآية قال:
باستحلالهم إياه، رأى موسى رجلا يحمل حطبا يوم السبت فضرب عنقه: وفى الصحيحين وغيرهما من حديث
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا
204

الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم: يعني الجمعة، فاختلفوا فيه فهدانا الله له
فالناس فيه لنا تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد ". وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة نحوه. وأخرج ابن
أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (وجادلهم بالتي هي أحسن) قال: اعرض
عن أذاهم إياك. وأخرج الترمذي وحسنه وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن خزيمة في الفوائد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة
عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة
فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله تعالى
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
نصبر ولا نعاقب، كفوا عن القوم إلا أربعة ". وأخرج ابن سعد والبزار وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه
وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف على
حمزة حيث استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شئ قط كان أوجع لقلبه منه. ونظر إليه قد مثل به، فقال:
رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمت وصولا للرحم فعولا للخير، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك
حتى يحشرك الله من أرواح شتى، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وآله
وسلم واقف بخواتيم سورة النحل (وإن عاقبتم) الآية، فكفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن يمينه وأمسك عن
الذي أراد وصبر ". وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس مرفوعا نحوه.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وإن عاقبتم) الآية، قال: هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل
من قاتله، ثم نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم فهذا منسوخ. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) قال: اتقوا فيما
حرم عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم.
تفسير سورة الإسراء
آياتها مائة وإحدى عشرة آية، وهى مكية إلا ثلاث آيات
قوله عز وجل - وإن كادوا ليستفزونك - نزلت حين جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفد ثقيف،
وحين قالت اليهود: ليست هذه بأرض الأنبياء، وقوله - وقل رب أدخلني مدخل صدق -، وقوله - إن ربك
أحاط بالناس - وزاد مقاتل قوله - إن الذين أوتوا العلم من قبله -. وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس
قال: نزلت سورة بني إسرائيل بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري وابن الضريس
وابن مردويه عن ابن مسعود قال: في بني إسرائيل والكهف ومريم، إنهن من العتاق الأول وهم من تلادي.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وابن مردويه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عمرو الشيباني قال: صلى بنا عبد الله
الفجر فقرأ السورتين الآخرة منهما بنو إسرائيل.
205

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإسراء الآية (1 - 3).
قوله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) هو مصدر سبح. يقال سبح يسبح تسبيحا وسبحانا، مثل كفر اليمين
تكفيرا وكفرانا، ومعناه التنزيه والبراءة لله من كل نقص. وقال سيبويه: العامل فيه فعل لا من لفظه، والتقدير أنزه
الله تنزيها، فوقع سبحان مكان تنزيها، فهو على هذا مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء، وقيل هو علم للتسبيح
كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبح الله سبحان، ثم نزل منزلة الفعل وسد مسده
وقد قدمنا في قوله - سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا - طرفا من الكلام المتعلق بسبحان. والإسراء قيل: هو سير
الليل، يقال سرى وأسرى: كسقي وأسقى لغتان، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله:
حي النضير وربة الخدر * أسرت إلي ولم تكن تسرى
وقيل هو سير أول الليل خاصة، وإذا كان الإسراء لا يكون إلا في الليل فلا بد للتصريح بذكر الليل بعده
من فائدة، فقيل أراد بقوله ليلا تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسافة أربعين
ليلة. ووجه دلالة ليلا على تقليل المدة ما فيه من التنكير الدال على البعضية. بخلاف ما إذا قلت سريت الليل فإنه
يفيد استيعاب السير له جميعا. وقد استدل صاحب الكشاف على إفادة ليلا للبعضية بقراءة عبد الله وحذيفة من
الليل. وقال الزجاج: معنى أسرى بعبده ليلا سير عبده يعني محمدا ليلا وعلى هذا فيكون معنى أسرى معنى سير
فيكون للتقييد بالليل فائدة، وقال بعبده ولم يقل بنبيه أو رسوله أو بمحمد تشريفا له صلى الله عليه وآله وسلم قال
أهل العلم: لو كان غير هذا الاسم أشرف منه لسماه الله سبحانه به في هذا المقام العظيم والحالة العلية:
لا تدعي إلا بيا عبدها * فإنه أشرف أسمائي *
ادعاء بأسماء نبزا في قبائلها * كأن أسماء أضحت بعض أسمائي
(من المسجد الحرام) قال الحسن وقتادة: يعني المسجد نفسه وهو ظاهر القرآن. وقال عامة المفسرين،:
أسرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دار أم هانئ. فحملوا المسجد الحرام على مكة أو الحرام لإحاطة
كل واحد منهما بالمسجد الحرام. أو لأن الحرم كله مسجد. ثم ذكر سبحانه الغاية التي أسرى برسوله صلى الله عليه
وآله وسلم إليها فقال (إلى المسجد الأقصى) وهو بيت المقدس. وسمى الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد
الحرام ولم يكن حينئذ وراءه مسجد. ثم وصف المسجد الأقصى بقوله (الذي باركنا حوله) بالثمار والأنهار
والأنبياء والصالحين، فقد بارك الله سبحانه حول المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة. وفى باركنا بعد قوله
أسرى التفات من الغيبة إلى التكلم. ثم ذكر العلة التي أسرى به لأجلها فقال (لنريه من آياتنا) أي ما أراه الله
206

سبحانه في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة في جزء من الليل (إنه) سبحانه (هو
السميع) بكل مسموع، ومن جملة ذلك قول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم (البصير) بكل مبصر، ومن جملة
ذلك ذات رسوله وأفعاله.
وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلى الله عليه وآله وسلم مع روحه أو بروحه فقط؟ فذهب
معظم السلف والخلف إلى الأول. وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ومعاوية والحسن وابن إسحاق
وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان. وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا: كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت
المقدس وإلى السماء بالروح، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله إلى المسجد الأقصى، فجعله غاية للإسراء بذاته
صلى الله عليه وآله وسلم. فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء وقع بذاته لذكره، والذي دلت عليه الأحاديث
الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس،
ثم إلى السماوات، ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف
الحقيقة، ولا مقتضى لذلك إلا مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل
عليه سبحانه شئ. ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط، وأن رؤيا الأنبياء
حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند إخباره لهم بذلك حتى ارتد من ارتد ممن لم
يشرح بالإيمان صدرا. فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد. بل ما هو محال ولا ينكر ذلك أحد، وأما
التمسك لمن قال بأن هذا الإسراء إنما كان بالروح على سبيل الرؤيا بقوله - وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنه للناس
فعلى تسليم أن المراد بهذه الرؤيا هو هذا الإسراء. فالتصريح الواقع هنا بقوله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)
والتصريح في الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأنه أسرى به لا تقصر عن الاستدلال بها على تأويل هذه الرؤيا الواقعة
في الآية برؤية العين، فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا. وكيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح
الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركب البراق؟ وكيف يصح وصف الروح بالركوب؟
وهكذا كيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريحه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كان عند أن أسرى به بين
النائم واليقظان:
وقد اختلف أيضا في تاريخ الإسراء، فروى أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة. وروى أن الإسراء كان
قبل الهجرة بأعوام. ووجه ذلك أن خديجة صلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ماتت قبل الهجرة بخمس
سنين، وقيل بثلاث. وقيل بأربع، ولم تفرض الصلاة إلا ليلة الاسراء. وقد استدل بهذا ابن عبد البر على ذلك،
وقد اختلفت الرواية عن الزهري. وممن قال بأن الاسراء كان قبل الهجرة بسنة الزهري في رواية عنه، وكذلك
الحربي فإنه قال: أسرى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة.
وقال ابن القاسم في تاريخه: كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من أهل
السير قال بمثل هذا. وروى عن الزهري أنه أسرى به قبل مبعثه بسبعة أعوام، وروى عنه أنه قال: كان قبل مبعثه
بخمس سنين. وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة.
(وآتينا موسى الكتاب) أي التوراة. قيل والمعنى: كرمنا محمدا بالمعراج وأكرمنا موسى بالكتاب (وجعلناه)
أي ذلك الكتاب، وقيل موسى (هدى لبني إسرائيل) يهتدون به (أن لا تتخذوا). قرأ أبو عمرو بالياء التحتية،
وقرأ الباقون بالفوقية: أي لئلا يتخذوا، والمعنى: آتيناه الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا (من دوني وكيلا)
قال الفراء: أي كفيلا بأمورهم، وروى عنه أنه قال كافيا: وقيل معناه: أي متوكلون عليه في أمورهم، وقيل
207

شريكا، ومعنى الوكيل في اللغة من توكل إليه الأمور (ذرية من حملنا مع نوح) نصب على الاختصاص أو النداء
ذكرهم سبحانه إنعامه عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق، ويجوز أن يكون المفعول الأول لقوله أن لا تتخذوا
أي لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلا كقوله - ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا - وقرئ
بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف أو بدل من فاعل تتخذوا. وقرأ مجاهد بفتح الذال. وقرأ زيد بن ثابت بكسرها،
والمراد بالذرية هنا جميع من في الأرض لأنهم من ذرية من كان في السفينة، وقيل موسى وقومه من بني إسرائيل
وهذا هو المناسب لقراءة النصب على النداء والنصب على الاختصاص، والرفع على البدل وعلى الخبر فإنها كلها
راجعة إلى بني إسرائيل المذكورين، وأما على جعل النصب على أن ذرية هي المفعول الأول لقوله لا تتخذوا،
فالأولى تفسير الذرية بجميع من في الأرض من بني آدم (إنه كان عبدا شكورا) أي نوحا، وصفه الله بكثرة
الشكر وجعله كالعلة لما قبله إيذانا بكون الشكر من أعظم أسباب الخير، ومن أفضل الطاعات حثا لذريته على
شكر الله سبحانه.
وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: أسرى بالنبي صلى الله عليه وآله
وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال: أسرى
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وأخرج البيهقي عن عروة مثله
وأخرج البيهقي أيضا عن السدي قال: أسرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل مهاجره بستة عشر شهرا
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله (الذي باركنا حوله) قال: أنبتنا حوله الشجر. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل) قال: جعله الله هدى يخرجهم
من الظلمات إلى النور وجعله رحمة لهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد
في قوله (ألا تتخذوا من دوني وكيلا) قال: شريكا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله (ذرية من حملنا مع نوح)
قال: هو على النداء يا ذرية من حملنا مع نوح. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ذرية من حملنا مع نوح، ما كان مع نوح إلا أربعة أولاد: حام، وسام،
ويافث، وكوش، فذلك أربعة أولاد انتسلوا هذا الخلق ". واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كابن كثير
والسيوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها. وليس في ذلك
كثير فائدة، فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد
الأقصى، وهو مبحث آخر، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز. وذكر أسباب
النزول، وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية، وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة.
سورة الإسراء الآية (4 - 6)
208

سورة الإسراء الآية (7 - 11)
قوله (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) أي أعلمنا وأخبرنا، أو حكمنا وأتممنا، وأصل القضاء: الإحكام
للشئ والفراغ منه، وقيل أوحينا، ويدل عليه قوله إلى بني إسرائيل، ولو كان بمعنى الإعلام والإخبار لقال
قضينا بني إسرائيل، ولو كان بمعنى حكمنا لقال على بني إسرائيل، ولو كان بمعنى أتممنا لقال لبني إسرائيل، والمراد
بالكتاب: التوراة، ويكون إنزالها على نبيهم موسى كانزالها عليهم لكونهم قومه، وقيل المراد بالكتاب اللوح
المحفوظ. وقرأ أبو العالية وسعيد بن جبير " في الكتب ". وقرأ عيسى الثقفي (لتفسدن في الأرض) بفتح المثناة،
ومعنى هذه القراءة قريب من معنى قراءة الجمهور، لأنهم إذا أفسدوا فسدوا في نفوسهم، والمراد بالفساد مخالفة
ما شرعه الله لهم في التوراة، والمراد بالأرض أرض الشام وبيت المقدس. وقيل أرض مصر. واللام في لتفسدن
جواب قسم محذوف. قال النيسابوري: أو أجرى القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل: وأقسمنا لتفسدن
وانتصاب (مرتين) على أنه صفة مصدر محذوف، أو على أنه في نفسه مصدر عمل فيه ما هو من غير جنسه،
والمرة الأولى قتل شعياء أو حبس أرمياء أو مخالفة أحكام التوراة. والثانية قتل يحيى بن زكريا والعزم على قتل
عيسى (ولتعلن علوا كبيرا) هذه اللام كاللام التي قبلها: أي لتستكبرن عن طاعة الله ولتستعلن علي الناس
بالظلم والبغي مجاوزين للحد في ذلك (فإذا جاء وعد أولاهما) أي أولى المرتين المذكورتين (بعثنا عليكم عبادا لنا
أولى بأس شديد) أي قوة في الحروب وبطش عند اللقاء. قيل هو بختنصر وجنوده، وقيل جالوت، وقيل جند
من فارس، وقيل جند من بابل (فجاسوا خلال الديار) أي عاثوا وترددوا. يقال جاسوا وهاسوا وداسوا
بمعنى، ذكره ابن غرير والقتيبي. قال الزجاج: معناه طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه؟ قال: والجوس
طلب الشئ باستقصاء. قال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار: أي تخللوها كل كما يجوس الرجل
للأخبار، أي يطلبها، وكذا قال أبو عبيدة. وقال: ابن جرير: معنى جاسوا طافوا بين الديار يطلبونهم
ويقتلونهم ذاهبين وجائين. وقال الفراء: معناه قتلوهم بين بيوتهم وأنشد لحسان:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد * فجاس به الأعداء عرض العساكر
وقال قطرب: معناه نزلوا وأنشد قول الشاعر:
فجسنا ديارهم عنوة * وأبنا بساداتهم موثقينا
وقرأ ابن عباس " فحاسوا " بالحاء المهملة. قال أبو زيد: الحوس والجوس والعوس والهوس: الطوف بالليل
وقيل الطوف بالليل هو الجوسان محركا كذا قال أبو عبيدة. وقرئ " خلل الديار " ومعناه معنى خلال وهو وسط
209

الديار (وكان) ذلك (وعدا مفعولا) أي كائنا لا محالة (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) أي الدولة والغلبة والرجعة
وذلك عند توبتهم. قيل وذلك حين قتل داود جالوت، وقيل حين قتل بختنصر (وأمددناكم بأموال وبنين) بعد
نهب أموالكم وسبى أبنائكم حتى عاد أمركم كما كان (وجعلناكم أكثر نفيرا) قال أبو عبيدة: النفير العدد من
الرجال، فالمعنى: أكثر رجالا من عدوكم. والنفير من ينفر مع الرجل من عشيرته، يقال نفير ونافر مثل قدير
وقدر، ويجوز أن يكون النفير جمع نفر (إن أحسنتم): أي أفعالكم وأقوالكم على الوجه المطلوب منكم (أحسنتم
لأنفسكم) لأن ثواب ذلك عائد إليكم (وإن أسأتم) أفعالكم وأقوالكم فأوقعتموها لا على الوجه المطلوب منكم
(فلها) أي فعليها. ومثله قول الشاعر: فخر صريعا لليدين وللفم * أي على اليدين وعلى الفم،
قال ابن جرير: اللام بمعنى إلى: أي فإليها ترجع الإساءة كقوله تعالى - بأن ربك أوحى لها - أي إليها،
وقيل المعنى: فلها الجزاء أو العقاب. وقال الحسين بن الفضل: فلها رب يغفر الإساءة. وهذا الخطاب
قيل هو لبني إسرائيل الملابثين لما ذكر في هذه الآيات، وقيل لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى
الله عليه وآله وسلم، ومعناه: إعلامهم ما حل بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك وقيل هو خطاب لمشركي قريش
(فإذا جاء وعد الآخرة) أي حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة، والمرة الآخرة هي قتلهم يحيى
ابن زكريا كما سبق، وقصة قتله مستوفاة في الإنجيل واسمه فيه يوحنا، قتله ملك من ملوكهم بسبب امرأة حملته
على قتله، واسم الملك لأخت قاله ابن قتيبة. وقال ابن جرير: هيردوس، وجواب إذا محذوف تقديره بعثناهم
لدلالة جواب إذا الأولى عليه، (وليسؤوا وجوهكم) متعلق بهذا الجواب المحذوف: أي ليفعلوا بكم ما
يسوء وجوهكم حتى تظهر عليكم آثار المساءة وتتبين في وجوهكم الكآبة، وقيل المراد بالوجوه السادة منهم. وقرأ
الكسائي " لنسوء " بالنون على أن الضمير لله سبحانه. وقرأ أبى " لنسوءن " بنون التأكيد. وقرأ أبو بكر والأعمش
وابن وثاب وحمزة وابن عامر ليسوء بالتحتية والإفراد. قال الزجاج: كل شئ كسرته وفتته فقد تبرته، والضمير
لله أو الوعد (وليدخلوا المسجد) معطوف على ليسوءوا (كما دخلوه أول مرة وليتبروا) أي يدمروا ويهلكوا،
وقال قطرب: يهدموا، ومنه قول الشاعر:
فما الناس إلا عاملان فعامل * يتبر ما يبنى وآخر رافع
وقرأ الباقون بالتحتية وضم الهمزة وإثبات واو بعدها على أن الفاعل عباد لنا (ما علوا) أي ما غلبوا عليه من
بلادكم أو مدة علوهم (تتبيرا) أي تدميرا، ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقا للخبر (عسى ربكم أن يرحمكم)
يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم في المرة الثانية (وإن عدتم) للثالثة (عدنا) إلى عقوبتكم. قال أهل السير: ثم إنهم
عادوا إلى ما لا ينبغي وهو تكذيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكتمان ما ورد من بعثه في التوراة والإنجيل فعاد الله
إلى عقوبتهم على أيدي العرب، فجرى على بني قريظة والنضير وبنى قينقاع وخيبر ما جرى من القتل والسبي
والإجلاء وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلة والمسكنة (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) وهو المحبس
فهو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. والمعنى: أنهم محبوسون في جهنم لا يتخلصون عنها أبدا. قال الجوهري:
حصره يحصره حصرا: ضيق عليه وأحاط به، وقيل فراشا ومهادا، وأراد على هذا بالحصير الحصير الذي يفرشه
الناس (إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم) يعنى القرآن يهدى الناس الطريقة التي هي أقوم من غيرها من الطرق
وهي ملة الإسلام، فالتي هي أقوم صفة لموصوف محذوف وهى الطريق، وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم
الحالات، وهى توحيد الله والإيمان برسله، وكذا قال الفراء (ويبشر المؤمنين) قرأ حمزة والكسائي " يبشر " بفتح
210

الياء وضم الشين. وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الشين من التبشير: أي يبشر بما اشتمل عليه من الوعد بالخير آجلا
وعاجلا للمؤمنين (الذين يعملون الصالحات) التي أرشد إلى عملها القرآن (أن لهم أجرا كبيرا) أي بأن لهم (وأن
الذين لا يؤمنون بالآخرة) وأحكامها المبينة في القرآن (اعتدنا لهم عذابا أليما) وهو عذاب النار، وهذه الجملة
معطوفة على جملة يبشر بتقدير يخبر: أي ويخبر بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة، وقيل معطوفة على قوله " أن لهم أجرا
كبيرا " ويراد بالتبشير مطلق الإخبار، أو يكون المراد منه معناه الحقيقي، ويكون الكلام مشتملا على تبشير المؤمنين
ببشارتين: الأولى ما لهم من الثواب، والثانية ما لأعدائهم من العقاب (ويدع الإنسان بالشر) المراد بالإنسان هنا
الجنس لوقوع هذا الدعاء من بعض أفراده وهو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب
له (دعاءه بالخير) أي مثل دعائه لربه بالخير لنفسه ولأهله كطلب العافية والرزق ونحوهما، فلو استجاب الله
دعاءه على نفسه بالشر هلك - لكنه لم يستجب تفضلا منه ورحمة، ومثل ذلك - ولو يعجل الله للناس الشر
استعجالهم بالخير - وقد تقدم، وقيل المراد بالإنسان هنا القائل هذه المقالة هو الكافر يدعو لنفسه بالشر، وهو
استعجال العذاب دعاه بالخير كقول القائل: - اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء
أو ائتنا بعذاب أليم -. وقيل هو أن يدعو في طلب المحظور كدعائه في طلب المباح، وحذفت الواو من ويدع
الإنسان في رسم المصحف لعدم التلفظ بها لوقوع اللام الساكنة بعدها كقوله - سندع الزبانية، ويمح الله الباطل -
وسوف يؤت الله المؤمنين - ونحو ذلك (وكان الانسان عجولا) أي مطبوعا على العجلة، ومن عجلته أنه يسأل
الشر كما يسأل الخير، وقيل إشارته إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن تكمل فيه الروح، والمناسب للسياق
هو الأول.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وقضينا إلى بني إسرائيل) قال: أعلمناهم:
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: أخبرناهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قضينا إلى بني إسرائيل:
قضينا عليهم. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن علي في قوله (لتفسدن في الأرض مرتين) قال: الأولى قتل
زكريا، والآخرة قتل يحيى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية قال: كان أول الفساد قتل زكريا،
فبعث الله عليهم ملك النبط. ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله (فرددنا لكم الكرة
عليهم) وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: بعث الله عليهم في الأولى جالوت، وبعث
عليهم في المرة الأخرى بختنصر، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (فجاسوا)
قال: فمشوا. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال (تتبيرا) تدميرا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله (عسى
ربكم أن يرحمكم) قال: كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج عبد الرزاق وابن
جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وإن عدتم عدنا) قال: فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمدا صلى الله
عليه وآله وسلم، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم
في المرتين. وفى تعيين من سلطه الله عليهم، وفى كيفية الانتقام منهم، ولا يتعلق بذلك كثير فائدة. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) قال: سجنا. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عنه. قال: معنى حصيرا: جعل الله مأواهم فيها. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله (حصيرا، قال: فراشا ومهادا. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله
(إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم) قال: للتي هي أصوب. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيرا
211

(إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم ويبشر) بالتخفيف. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (ويدع
الإنسان بالشر دعاءه بالخير) يعنى قول الإنسان: اللهم العنه واغضب عليه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله
(وكان الإنسان عجولا) قال: ضجرا لا صبر له على سراء ولا ضراء. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال: أول ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق
وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال: يا رب أعجل قبل الليل، فذلك قوله (وكان الإنسان عجولا).
سورة الإسراء الآية (12 - 17).
لما ذكر سبحانه دلائل النبوة والتوحيد أكدها بدليل آخر من عجائب صنعه وبدائع خلقه فقال (وجعلنا
الليل والنهار آيتين) وذلك لما فيهما من الإظلام والإنارة مع تعاقبهما وسائر ما اشتملا عليه من العجائب التي تحار
في وصفها الأفهام، ومعنى كونهما آيتين أنهما يدلان على وجود الصانع وقدرته، وقدم الليل على النهار لكونه
الأصل (فمحونا آية الليل) أي طمسنا نورها، وقد كان القمر كالشمس في الإنارة والضوء. قيل ومن آثار المحو
السواد الذي يرى في القمر، وقيل المراد بمحوها أنه سبحانه خلقها ممحوة الضوء مطموسة، وليس المراد أنه محاها
بعد أن لم تكن كذلك (وجعلنا آية النهار مبصرة) أي جعل سبحانه شمسه مضيئة تبصر فيها الأشياء. قال أبو عمرو
ابن العلاء والكسائي: هو من قول العرب: أبصر النهار: إذا صار بحالة يبصر بها، وقيل مبصرة للناس من قوله
أبصره فبصر. فالأول وصف لها بحال أهلها، والثاني وصف لها بحال نفسها، وإضافة آية إلى الليل والنهار بيانية: أي
فمحونا الآية التي هي الليل والآية التي هي النهار كقولهم نفس الشئ وذاته (لتبتغوا فضلا من ربكم) أي لتتوصلوا
ببياض النهار إلى التصرف في وجوه المعاش، واللام متعلق بقوله وجعلنا آية النهار مبصرة: أي جعلناها لتبتغوا
فضلا من ربكم: أي رزقا، إذ غالب تحصيل الأرزاق وقضاء الحوائج يكون بالنهار، ولم يذكر هنا السكون
في الليل اكتفاء بما قاله في موضع آخر - وهو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا - ثم ذكر مصلحة أخرى
في ذلك الجعل فقال (ولتعلموا عدد السنين والحساب) وهذا متعلق بالفعلين جميعا: أعني محونا آية الليل وجعلنا
212

آية النهار مبصرة لا بأحدهما فقط كالأول، إذ لا يكون علم عدد السنين والحساب، إلا باختلاف الجديدين ومعرفة
الأيام والشهور والسنين. والفرق بين العدد والحساب أن العدد إحصاء ماله كمية بتكرير أمثاله من غير أن
يتحصل منه شئ. والحساب إحصاء ماله كمية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له
اسم خاص، فالسنة مثلا إن وقع النظر إليها من حيث عدد أيامها فذلك هو العدد، وإن وقع النظر إليها من حيث
تحققها وتحصلها من عدة أشهر، قد يحصل كل شهر من عدة أيام. قد يحصل كل يوم من عدة ساعات، قد
تحصلت كل ساعة من عدة دقائق، فذلك هو الحساب (وكل شئ فصلناه تفصيلا) أي كل ما تفتقرون إليه في أمر
دينكم ودنياكم بيناه تبيينا واضحا لا يلتبس، وعند ذلك تنزاح العلل وتزول الأعذار - ليهلك من هلك عن بينة -
ولهذا قال (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) قال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ، ويقال له البخت،
فالطائر ما وقع للشخص في الأزل بما هو نصيبه من العقل والعمل والعمر والرزق والسعادة والشقاوة، كأن طائرا
يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيرانا لا نهاية له ولا غاية إلى أن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته
المقدر من غير خلاص ولا مناص. وقال الأزهري: الأصل في هذا أن الله سبحانه لما خلق آدم علم المطيع من
ذريته والعاصي. فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى سعادة من علمه مطيعا وشقاوة من علمه عاصيا فطار لكل
منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه، وذلك قوله (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) أي ما طار له في علم
الله. وفى عنقه عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس. قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم
كلزوم القلادة العنق (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) قرأ ابن عباس والحسن ومجاهد وابن محيصن
وأبو جعفر ويعقوب " ويخرج " بالمثناة التحتية المفتوحة وبالراء المضمومة على معنى ويخرج له الطائر، وكتابا
منصوب على الحال، ويجوز أن يكون المعنى: يخرج لها الطائر فيصير كتابا. وقرأ يحيى بن وثاب " يخرج " بضم
الياء وكسر الراء: أي يخرج الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السميفع. وروى أيضا عن أبي جعفر " يخرج " بضم الياء
وفتح الراء على البناء للمفعول: أي ويخرج له الطائر كتابا. وقرأ الباقون " ونخرج " بالنون على أن المخرج هو الله
سبحانه وكتابا مفعول به. واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله تعالى ألزمناه. وقرأ أبو جعفر والحسن وابن عامر
يلقاه بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف. وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، وإنما قال سبحانه
(يلقاه منشورا) تعجيلا للبشرى بالحسنة وللتوبيخ على السيئة (اقرأ كتابك) أي نقول له اقرأ كتابك، أو قائلين له،
قيل يقرأ ذلك الكتاب من كان قارئا. ومن لم يكن قارئا (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) الباء في بنفسك زائدة
وحسيبا تمييز: أي حاسبا. قال سيبويه: ضريب القداح بمعنى ضاربها. وصريم بمعنى صارم، ويجوز أن
يكون الحسيب بمعنى الكافي، ثم وضع موضع الشهيد فعدي بعلي، والنفس بمعنى الشخص، ويجوز أن يكون
الحسيب بمعنى المحاسب كالشريك والجليس (من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه) بين سبحانه أن ثواب العمل الصالح
وعقاب ضده يختصان بفاعلهما لا يتعدان منه إلى غيره. فمن اهتدى بفعل ما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه، فإنما
تعود منفعة ذلك إلى نفسه، (ومن ضل) عن طريق الحق فلم يفعل ما أمر به، ولم يترك ما نهى عنه (فإنما يضل
عليها) أي فإن وبال ضلاله واقع على نفسه لا يجاوزها، فكل أحد محاسب عن نفسه مجزي بطاعته معاقب بمعصيته،
ثم أكد هذا الكلام بأبلغ تأكيد فقال (ولا تزر وازرة وزر أخرى) والوزر الإثم، يقال وزر يزر وزرا ووزرة،
أي إثما، والجمع أوزار. والوزر الثقل. ومنه - يحملون أوزارهم على ظهورهم - أي أثقال ذنوبهم: ومعنى
الآية: لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلص الأخرى عن وزرها وتؤخذ به الأولى، وقد
تقدم مثل هذا في الأنعام. قال الزجاج في تفسير هذه الآية: إن الآثم والمذنب لا يؤاخذ بذنب غيره (وما كنا
213

معذبين حتى نبعث رسولا) لما ذكر سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته والضال بضلاله. وعدم مؤاخذة
الإنسان بجناية غيره، ذكر أنه لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه، فبين سبحانه
أنه لم يتركهم سدى، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجة عليهم، والظاهر أنه لا يعذبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا
بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل، وبه قالت طائفة من أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن المنفى هنا هو عذاب
الدنيا لا عذاب الآخرة (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا) اختلف المفسرون في معنى أمرنا على قولين: الأول أن
المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي، وعلى هذا اختلفوا في المأمور به، فالأكثر على أنه الطاعة والخير. وقال
في الكشاف: معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا، وأطال الكلام في تقرير هذا وتبعه المقتدون به في التفسير، وما ذكره
هو ومن تابعه معارض بمثل قول القائل أمرته فعصاني، فإن كل من يعرف اللغة العربية يفهم من هذا أن المأمور به
شئ غير المعصية، لأن المعصية منافية للأمر مناقضة له، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شئ غير
الفسق، لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به ويناقضه. القول الثاني
أن معنى (أمرنا مترفيها) أكثرنا فساقها. قال الواحدي: تقول العرب أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا أكثرهم.
وقد قرأ أبو عثمان النهدي وأبو رجاء وأبو العالية والربيع ومجاهد والحسن أمرنا بتشديد الميم: أي جعلناهم أمراء
مسلطين. وقرأ الحسن أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير
وعلي وابن عباس آمرنا بالمد والتخفيف: أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة: آمرته
بالمد وأمرته لغتان بمعنى كثرته، ومنه الحديث " خير المال مهرة مأمورة " أي كثيرة النتاج والنسل. وكذا قال ابن
عزيز. وقرأ الحسن أيضا ويحيى بن يعمر " أمرنا " بالقصر وكسر الميم على معنى فعلنا، ورويت هذه القراءة عن
ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا. وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد وأنكره الكسائي وقال: لا يقال
من الكثرة إلا آمرنا بالمد. قال في الصحاح: وقال أبو الحسن أمر ماله بالكسر: أي كثر، وأمر القوم: أي
كثروا، ومنه قول لبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا * يوما يكن للهلاك والفند
وقرأ الجمهور (أمرنا) من الأمر، ومعناه ما قدمنا في القول الأول، ومعنى (مترفيها) المنعمون الذين قد
أبطرتهم النعمة وسعة العيش، والمفسرون يقولون في تفسير المترفين: إنهم الجبارون المتسلطون والملوك الجائرون
قالوا: وإنما خصوا بالذكر لأن من عداهم أتباع لهم، ومعنى فسقوا فيها: خرجوا عن الطاعة وتمرضوا في كفرهم
لأن الفسوق الخروج إلى ما هو أفحش (فحق عليها القول) أي ثبت وتحقق عليهم العذاب بعد ظهور فسقهم
(فدمرناهم تدميرا) أي تدميرا عظيما لا يوقف على كنهه لشدته وعظم موقعه، وقد قيل في تأويل أمرنا بأنه مجاز عن الأمر
الحامل لهم على الفسق، وهو إدرار النعم عليهم، وقيل أيضا إن المراد بأردنا أن نهلك قرية أنه قرب إهلاك
قرية، وهو عدول عن الظاهر بدون ملجئ إليه. ثم ذكر سبحانه أن هذه عادته الجارية مع القرون الخالية فقال
(وكم أهلكنا من القرون) أي كثيرا ما أهلكنا منهم، فكم مفعول أهلكنا، ومن القرون بيان لكم وتمييز له: أي كم
من قوم كفروا من بعد نوح كعاد وثمود، فحل بهم البوار ونزل بهم سوط العذاب، وفيه تخويف لكفار مكة.
ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة فقال (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) قال الفراء: إنما يجوز إدخال
الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أم يذم به، كقولك كفاك، وأكرم به رجلا. وطاب بطعامك طعاما،
ولا يقال قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك. وفى الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وتخويف شديد لأهل المعصية،
214

لأن العلم التام والخبرة الكاملة والبصيرة النافذة تقتضي إيصال الجزاء إلى مستحقه بحسب استحقاقه، ولا ينافيه
مزيد التفضل على من هو أهل لذلك، والمراد بكونه سبحانه خبيرا بصيرا أنه محيط بحقائق الأشياء ظاهرا وباطنا
لا تخفى عليه منها خافية.
وقد أخرج البيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر عن سعيد المقبري " أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله
عليه وآله وسلم عن السواد الذي في القمر، فقال: كانا شمسين قال الله (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل)
فالسواد الذي رأيت هو المحو. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
معنى هذا بأطول منه. قال السيوطي: وإسناده واه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن الأنباري في المصاحف عن علي في قوله (فمحونا آية الليل) قال: هو السواد الذي في القمر، وأخرج ابن
جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وجعلنا آية النهار
مبصرة) قال: منيرة (لتبتغوا فضلا من ربكم) قال: جعل لكم سبحا طويلا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله (فصلناه) قال: بيناه. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير بسند حسن عن جابر سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " طائر كل إنسان في عنقه ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله (ألزمناه طائره في عنقه) قال: سعادته وشقاوته وما قدر الله له وعليه فهو لازمه أين
كان. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس في قوله (طائره) قال: كتابه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عن ابن عباس قال: عمله (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) قال: هو عمله الذي أحصى عليه فأخرج له
يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشورا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (اقرأ كتابك)
قال. سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا. وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن عائشة في قوله (ولا تزر وازرة
وزر أخرى) قال: سألت خديجة عن أولاد المشركين فقال: هم من آبائهم، ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم
بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فقال: هم على الفطرة
أو قال في الجنة. قال السيوطي: وسنده ضعيف. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما " أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم سئل فقيل له: يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال: هم منهم " وفى ذلك أحاديث
كثيرة وبحث طويل. وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين، ثم
نقل كلام أهل العلم في المسئلة فليرجع إليه. وأخرج إسحاق بن راهويه وأحمد وابن حبان وأبو نعيم في المعرفة والطبراني
وابن مردويه والبيهقي في كتاب الاعتقاد عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " أربعة يحتجون
يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، ثم قال: فيأخذ الله
مواثيقهم ليطيعنه ويرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، قال فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم
بردا وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها " وإسناده عند أحمد، هكذا حدثنا علي بن عبد الله حدثنا معاذ بن هشام
حدثني أبي عن أبي قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع. وأخرج نحوه إسحاق بن راهويه وأحمد وابن
مردويه عن أبي هريرة، وهو عند أحمد بالإسناد المذكور عن قتادة عن الحسن بن أبي رافع عن أبي هريرة. وأخرج
قاسم بن أصبغ والبزار وأبو يعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فذكر نحوه، وجعل مكان الأحمق المعتوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن
معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا وبالهالك في الفترة،
215

وبالهالك صغيرا " فذكر معناه مطولا. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله (أمرنا
مترفيها) قال: بطاعة الله فعصوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي
حاتم عن شهر بن حوشب قال: سمعت ابن عباس يقول في الآية (أمرنا مترفيها) بحق فخالفوه، فحق عليهم
بذلك التدمير. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية قال: سلطنا
شرارنا فعصوا فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب وهو كقوله - وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا
فيها -. وأخرج البخاري وابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية قد أمر بنو فلان:
سورة الإسراء الآية (18 - 24)
قوله (ما كان يريد العاجلة) هذا تأكيد لما سلف من جملة كل إنسان ألزمناه، ومن جملة من اهتدى. والمراد
بالعاجلة: المنفعة العاجلة أو الدار العاجلة. والمعنى: من كان يريد بأعمال البر أو بأعمال الآخرة ذلك، فيدخل
تحته الكفرة والفسقة والمراءون والمنافقون (عجلنا له) أي عجلنا لذلك المريد (فيها): أي في تلك العاجلة، ثم قيد
المعجل بقيدين: الأول: قوله (ما نشاء) أي ما يشاء الله سبحانه تعجيله له منها، لا ما يشاؤه ذلك المريد. ولهذا
ترى كثيرا من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون من الدنيا ما لا ينالون ويتمنون ما لا يصلون إليه، والقيد الثاني قوله
(لمن نريد) أي لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا، وجملة لمن نريد بدل من الضمير في له بإعادة الجار
بدل البعض من الكل، لأن الضمير يرجع إلى من وهو للعموم، وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة كقوله سبحانه -
من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها - وقوله - من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها
لا يبخسون - وقد قيل إنه قرئ ما يشاء بالياء التحتية، ولا ندري من قرأ بذلك من أهل الشواذ. وعلى هذه القراءة
فقيل الضمير لله سبحانه: أي ما يشاؤه الله فيكون معناها معنى القراءة بالنون، وفيه بعد لمخالفته لما قبله: وهو
عجلنا وما بعده وهو لمن نريد، وقيل الضمير راجع إلى من في قوله (من كان يريد) فيكون ذلك مقيدا بقوله
لمن نريد: أي عجلنا له ما يشاؤه. لكن بحسب إرادتنا فلا يحصل لمن أراد العاجلة ما يشاؤه إلا إذا أراد الله له ذلك
216

ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلا بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم، ولهذا
قال (ثم جعلنا له جهنم) أي جعلنا له بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب عذاب جهنم
على اختلاف أنواعه (يصلاها) في محل نصب على الحال: أي يدخلها (مذموما مدحورا) أي مطرودا من رحمة
الله مبعدا عنها. فهذه عقوبته في الآخرة مع أنه لا ينال من الدنيا إلا ما قدره الله سبحانه له، فأين حال هذا الشقي
من حال المؤمن التقى؟ فإنه ينال من الدنيا ما قدره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع، مع سكون نفسه واطمئنان
قلبه وثقته بربه، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه، وهو الجنة، ولهذا قال (ومن أراد
الآخرة) أي أراد بأعماله الدار الآخرة (وسعى لها سعيها) أي السعي الحقيق بها اللائق بطالبها، وهو الإتيان بما أمر
به وترك ما نهى عنه خالصا لله غير مشوب، وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى (وهو
مؤمن) بالله إيمانا صحيحا. لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلا إذا كان من المؤمنين - إنما يتقبل الله
من المتقين - والجملة في محل نصب على الحال، والإشارة بقوله (فأولئك) إلى المريدين للآخرة الساعين لها سعيها
وخبره (كان سعيهم مشكورا) عند الله: أي مقبولا غير مردود، وقيل مضاعفا إلى أضعاف كثيرة، فقد اعتبر
سبحانه في كون السعي مشكورا أمورا ثلاثة: الأول إرادة الآخرة الثاني أن يسعى لها السعي الذي يحق لها. والثالث
أن يكون مؤمنا. ثم بين سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته فقال (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك) التنوين
في كلا عوض عن المضاف إليه، والتقدير كل واحد من الفريقين نمد: أي نزيده من عطائنا على تلاحق من
غير انقطاع، نرزق المؤمنين والكفار وأهل الطاعة وأهل المعصية، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه وما به
الإمداد هو ما عجله لمن يريد الدنيا، وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة، وفى قوله (من عطاء
ربك) إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل وهو متعلق بنمد (وما كان عطاء ربك محظورا) أي ممنوعا، يقال
حظره يحظره حظرا: منعه، وكل ما حال بينك وبين شئ فقد حظره عليك، ومن " هؤلاء " بدل من " كلا " وهؤلاء
معطوف على البدل. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أنه يعطى المسلم الكافر وأنه يرزقهما جميعا الفريقين فقال (هؤلاء
وهؤلاء من عطاء ربك) (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) الخطاب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتمل أن
يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار، وهذه الجملة مقررة لما مر من الإمداد وموضحة له، والمعنى: انظر
كيف فضلنا في العطايا العاجلة بعض العباد على بعض، فمن غنى وفقير، وقوى وضعيف، وصحيح ومريض
وعاقل وأحمق وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) وذلك
لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، وليس للدنيا بالنسبة
إلى الآخرة مقدار، فلهذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا. وقيل المراد أن المؤمنين يدخلون الجنة
والكافرين يدخلون النار فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين. وحاصل المعنى أن التفاضل في الآخرة ودرجاتها
فرق التفاضل في الدنيا ومراتب أهلها فيها من بسط وقبض ونحوهما. ثم لما أجمل سبحانه أعمال البر في قوله (وسعى
لها سعيها وهو مؤمن) أخذ في تفصيل ذلك مبتدئا بأشرفها الذي هو التوحيد فقال (لا تجعل مع الله إلها آخر) والخطاب
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به أمته تهييجا وإلهابا، أو لكل متأهل له صالح لتوجيهه إليه، وقيل هو على
إضمار القول، والتقدير: قل لكل مكلف لا تجعل، وانتصاب تقعد على جواب النهى، والتقدير: لا يكن منك
جعل فقعود، ومعنى تقعد تصير، من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها خربة، وليس المراد حقيقة القعود
المقابل للقيام، وقيل هو كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات، فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام، والعجز
217

عنه يلزمه أن يكون قاعدا عن الطلب، وقيل إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما مفكرا على ما فرط منه
فالقعود على هذا حقيقة، وانتصاب (مذموما مخذولا) على خبرية تقعد أو على الحال: أي فتصير جامعا بين
الأمرين الذم لك من الله ومن ملائكته، ومن صالحي عباده، والخذلان لك منه سبحانه، أو حال كونك جامعا
بين الأمرين. ثم لما ذكر ما هو الركن الأعظم وهو التوحيد أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال (وقضى ربك) أي
أمر أمرا جزما، وحكما قطعا، وحتما مبرما (أن لا تعبدوا) أي بأن لا تعبدوا، فتكون أن ناصبة، ويجوز أن
تكون مفسرة ولا نهى. وقرئ " ووصى ربك " أي وصى عباده بعبادته وحده. ثم أردفه بالأمر ببر الوالدين
فقال (وبالوالدين احسانا) أي وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، أو وأحسنوا بهما إحسانا، ولا يجوز أن
يتعلق بالوالدين بإحسانا، لأن المصدر لا يتقدم عليه ما هو متعلق به. قيل ووجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد
عبادة الله سبحانه أنهما السبب الظاهر في وجود المتولد بينهما، وفى جعل الإحسان إلى الأبوين قرينا لتوحيد الله
وعبادته من الإعلان بتأكد حقهما والعناية بشأنهما مالا يخفى، وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترنا
بشكره فقال - أن اشكر لي ولوالديك - ثم خص سبحانه حالة الكبر بالذكر لكونها إلى البر من الولد أحوج من
غيرها فقال (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) إما مركبة من إن الشرطية وما الإبهامية لتأكيد معنى الشرط
ثم أدخلت نون التوكيد في الفعل لزيادة التقرير كأنه قيل: إن هذا الشرط مما سيقع البتة عادة. قال النحويون:
إن الشرط يشبه النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت، فلهذا صح دخول النون المؤكدة عليه. وقرأ حمزة والكسائي
" يبلغان " قال الفراء: ثنى لأن الوالدين قد ذكرا قبله فصار الفعل على عددهما، ثم قال (أحدهما أو كلاهما) على
الاستئناف، وأما على قراءة " يبلغن " فأحدهما فاعل بالاستقلال وقوله " أو كلاهما " فاعل أيضا لكن لا بالاستقلال
بل بتبعية العطف، والأولى أن يكون أحدهما على قراءة " يبلغان " بدل من الضمير الراجع إلى الوالدين في الفعل
ويكون كلاهما عطفا على البدل، ولا يصح جعل كلاهما تأكيدا للضمير لاستلزام العطف المشاركة، ومعنى عندك
في كنفك وكفالتك، وتوحيد الضمير في عندك ولا تقل وما بعدهما للإشعار بأن كل قرد من الأفراد منهي بما فيه
النهي، ومأمور بما فيه الأمر، ومعنى (فلا تقل لهما أف) لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد،
وليس المراد حالة الاجتماع فقط، وفى أف لغات: ضم الهمزة مع الحركات الثلاث في الفاء، وبالتنوين وعدمه،
وبكسر الهمز والفاء بلا تنوين، وأفي ممالا، وأفة بالهاء. قال الفراء: تقول العرب فلان يتأفف من ريح وجدها:
أي يقول أف أف. وقال الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والثف وسخ الأظفار، يقال ذلك عند استقذار الشئ
ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن الأفف الضجر. وقال القتيبي:
أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله، فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل أف، ثم
توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم. وقال الزجاج: معناه النتن. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأف وسخ
بين الأظفار والثف قلامتها. والحاصل أنه اسم فعل ينبئ عن التضجر والاستثقال، أو صوت ينبئ عن ذلك،
فنهى الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر
ما يؤذيها بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو متقرر في الأصول (ولا تنهرهما) النهر: الزجر والغلظة، يقال نهره
وانتهره: إذا استقبله بكلام يزجره. قال الزجاج: معناه لا تكلمهما ضجرا صائحا في وجوههما (وقل لهما) بدل
التأفيف والنهر (قولا كريما) أي لينا لطيفا أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع التأدب والحياء
والاحتشام (واخفض لها جناح الذل من الرحمة) ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين: الأول أن الطائر
218

إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية خفض لها جناحه، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير، فكأنه قال
للولد اكفل والديك بأن بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك. والثاني أن الطائر إذا أراد
الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد النزول خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية عن التواضع وترك
الارتفاع، وفى إضافة الجناح إلى الذل وجهان: الأول أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك حاتم الجود،
فالأصل فيه الجناح الذليل، والثاني سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذل جناحا ثم أثبت لذلك الجناح خفضا.
وقرأ الجمهور الذل بضم الذال من ذل يذل ذلا وذلة ومذلة فهو ذليل. وقرأ سعيد بن جبير وعروة بن الزبير
بكسر الذال، وروى ذلك عن ابن عباس وعاصم، من قولهم دابة ذلول بنية الذل: أي منقادة سهلة لا صعوبة
فيها، ومن الرحمة فيه معنى التعليل: أي من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما عمر اليوم لمن كان
أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ثم كأنه قال له سبحانه ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها ((و) لكن (قل رب
ارحمهما كما ربياني صغيرا) والكاف في محل نصب على أنه صفة لمصدر محذوف: أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل
رحمتهما لي، وقيل ليس المراد رحمة مثل الرحمة بل الكاف لاقترانهما في الوجود فلتقع هذه كما وقعت تلك. والتربية
التنمية، ويجوز أن يكون الكاف للتعليل: أي لأجل تربيتهما لي كقوله - واذكروه كما هداكم - ولقد بالغ سبحانه
في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعر لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله (من كان يريد العاجلة) قال: من كان يريد بعمله الدنيا
(عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) ذاك به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن الحسن في قوله
(كلا نمد) الآية قال: كل يرزق الله في الدنيا البر والفاجر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس
في الآية قال: يرزق الله من أراد الدنيا ويرزق من أراد الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال (محظورا)
ممنوعا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية
عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة فارتفع بها إلا وضعه
الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول، ثم قرأ (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) " وهو من رواية زاذان
عن سلمان، وثبت في الصحيحين " أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق
السماء ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (مذموما) يقول ملوما. وأخرج
الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن
عباس أنه قرأ: ووصى ربك، مكان وقضى، وقال: التزقت الواو والصاد وأنتم تقرؤنها وقضى ربك.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه مثله. وأخرج أبو عبيد وابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من
طريق ميمون بن مهران عنه أيضا مثله وزاد ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد. وأقول: إنما يلزم هذا لو كان
القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء، كما في قوله - قضى الأمر الذي فيه
تستفتيان -. وقوله - فإذا قضيتم مناسككم - فإذا قضيتم الصلاة - ولكنه ها هنا بمعنى الأمر، وهو أحد معاني
القضاء والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده
وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين، ومن معاني مطلق القضاء معان أخر غير هذين المعنيين كالقضاء
بمعنى الخلق، ومنه - فقضاهن سبع سماوات -. وبمعنى الإرادة كقوله - إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون -.
وبمعنى العهد كقوله - وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر -. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر من
219

طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وقضى ربك) قال: أمر. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية
قال. عهد ربك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله (وبالوالدين إحسانا) يقول: برا. وأخرج ابن
أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (فلا تقل لهما أف) لما تميط عنهما من الأذى:
الخلاء والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول. وأخرج الديلمي عن الحسين بن علي
مرفوعا " لو علم الله شيئا من العقوق أدنى من أف لحرمه " وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في قوله
(وقل لهما قولا كريما) قال: إذا دعواك فقل لبيكما وسعديكما. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة
في الآية قال: قولا لينا سهلا. وأخرج البخاري في الأدب وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عروة
في قوله (واخفض لهما جناح الذل) قال: يلين لهما حتى لا يمتنع من شئ أحباه. وأخرج ابن أبي حاتم عن
سعيد بن جبير في الآية قال: اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ. وأخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وقل رب ارحمهما) ثم أنزل الله بعد هذا - ما كان للنبي
والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى -. وأخرج البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن
جرير وابن المنذر من طرق عنه نحوه، وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما.
وهى معروفة في كتب الحديث.
سورة الإسراء الآية (25 - 33)
قوله (ربكم أعلم بما في نفوسكم) أي بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات، ومن التوبة
من الذنب الذي فرط منكم أو الإصرار عليه، ويندرج تحت هذا العموم ما في النفس من البر والعقوق اندراجا
أوليا، وقيل إن الآية خاصة بما يجب للأبوين من البر، ويحرم على الأولاد من العقوق، والأول أولى اعتبارا بعموم
اللفظ، فلا تخصصه دلالة السياق ولا تقيده (إن تكونوا صالحين) قاصدين الصلاح، والتوبة من الذنب والإخلاص
للطاعة فلا يضركم ما وقع من الذنب الذي تبتم عنه (فإنه كان للأوابين غفورا) أي الرجاعين عن الذنوب إلى
220

التوبة، وعن عدم الإخلاص إلى محض الإخلاص غفورا لما فرط منهم من قول أو فعل أو اعتقاد، فمن تاب تاب
الله عليه، ومن رجع إلى الله رجع الله إليه. ثم ذكر سبحانه التوصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما
فقال (وآت ذا القربى حقه) والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تهييجا وإلهابا لغيره من الأمة، أو لكل
من هو صالح لذلك من المكلفين كما في قوله (وقضى ربك) والمراد بذي القربى ذو القرابة، وحقهم هو صلة الرحم
التي أمر الله بها، وكرر التوصية فيها، والخلاف بين أهل العلم في وجوب النفقة للقرابة، أو لبعضهم كالوالدين
على الأولاد، والأولاد على الوالدين معروف.، والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة
وحسبما يقتضيه الحال (والمسكين) معطوف على ذا القربى، وفى هذا العطف دليل على أن المراد بالحق الحق المالي
(وابن السبيل) معطوف على المسكين. والمعنى: وآت من اتصف بالمسكنة، أو بكونه من أبناء السبيل حقه.
وقد تقدم بيان حقيقة المسكين وابن السبيل في البقرة. وفى التوبة، والمراد في هذه الآية التصدق عليهما بما بلغت
إليه القدرة من صدقة النفل، أو مما فرضه الله لهما من صدقة الفرض. فإنهما من الأصناف الثمانية التي هي مصرف
الزكاة. ثم لما أمر سبحانه بما أمر به هاهنا نهى عن التبذير فقال (ولا تبذر تبذيرا) التبذير تفريق المال كما يفرق
البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه، وهو الإسراف المذموم لمجاوزته للحد المستحسن شرعا في الإنفاق، أو هو
الإنفاق في غير الحق، وإن كان يسيرا. قال الشافعي: التبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير.
قال القرطبي بعد حكايته القول الشافعي هذا: وهذا قول الجمهور. قال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال
من حقه، ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) فإن
هذه الجملة تعليل للنهي عن التبذير، والمراد بالأخوة المماثلة التامة، وتجنب مماثلة الشيطان ولو في خصلة واحدة
من خصاله واجب، فكيف فيما هو أعم من ذلك كما يدل عليه إطلاق المماثلة، والإسراف في الإنفاق من عمل
الشيطان، فإذا فعله أحد من بني آدم فقد أطاع الشيطان واقتدى به (وكان الشيطان لربه كفورا) أي كثير الكفران
عظيم التمرد عن الحق، لأنه مع كفره لا يعمل إلا شرا، ولا يأمر إلا بعمل الشر. ولا يوسوس إلا بما لا خير فيه.
وفى هذه الآية تسجيل على المبذرين بمماثلة الشياطين، ثم التسجيل على جنس الشيطان بأنه كفور، فاقتضى ذلك
أن المنذر مماثل للشيطان، وكل مماثل للشيطان له حكم الشيطان، وكل شيطان كفور، فالمبذر كفور (وإما تعرضن
عنهم) قد تقدم قريبا أن أصل إما هذه مركب من إن الشرطية وما الإبهامية، وأن دخول نون التأكيد على الشرط
لمشابهته للنهي: أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل لأمر اضطرك إلى ذلك الإعراض (ابتغاء
رحمة من ربك) أي لفقد رزق من ربك ولكنه أقام المسيب الذي هو ابتغاه رحمة الله مقام السبب الذي هو فقد
الرزق لأن فاقد الرزق مبتغ له، والمعنى: وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح الله به عليك
(فقل لهم قولا ميسورا) أي قولا سهلا لينا كالوعد الجميل أو الاعتذار المقبول. قال الكسائي: يسرت له القول
أي لينته. قال الفراء: معنى الآية إن تعرض عن السائل إضاقة وإعسارا فقل لهم قولا ميسورا عدهم عدة حسنة
ويجوز أن يكون المعنى: وإن تعرض عنهم ولم تنفعهم لعدم استطاعتك فقل لهم قولا ميسورا، وليس المراد هنا
الإعراض بالوجه: وفى هذه الآية تأديب من الله سبحانه لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون وبما
يردون، ولقد أحسن من قال:
إن لا يكن ورق يوما أجود بها * للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي * إما نوال وإما حسن مردود
221

لما ذكر سبحانه أدب المنع بعد النهى عن التبذير بين أدب الإنفاق فقال (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك
ولا تبسطها كل البسط) وهذا النهي يتناول كل مكلف سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تعريضا
لأمته وتعليما لهم أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين والمراد النهي للإنسان بأن يمسك إمساكا يصير به
مضيقا على نفسه وعلى أهله ولا يوسع في الإنفاق توسيعا لا حاجة إليه بحيث يكون به مسرفا، فهو نهى عن جانبي
الإفراط والتفريط. ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط. وهو العدل الذي ندب الله إليه
ولا تك فيها مفرطا أو مفرطا * كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقد مثل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه بحيث لا يستطيع التصرف
بها، ومثل حال من يجاوز الحد في التصرف بحال من يبسط يده بسطا لا يتعلق بسببه فيها شئ مما تقبض الأيدي
عليه، وفى هذا التصوير مبالغة بليغة. ثم بين سبحانه غائلة الطرفين المنهي عنهما فقال (فتقعد ملوما) عند الناس
بسبب ما أنت عليه من الشح (محسورا) بسبب ما فعلته من الإسراف: أي منقطعا عن المقاصد بسبب الفقر،
والمحسور في الأصل: المنقطع عن السير، من حسره السفر إذا بلغ منه، والبعير الحسير هو الذي ذهبت قوته فلا
انبعاث به، ومنه قوله تعالى - ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير - أي كليل منقطع، وقيل معناه نادما على
ما سلف، فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة، وفيه نظر لأن الفاعل من الحسرة حسران، ولا يقال محسور
إلا للملوم. ثم سلى رسوله والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الاضاقة ليس لهوانهم على الله سبحانه، ولكن لمشيئة
الخالق الرازق فقال (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يوسعه على بعض ويضيقه على بعض لحكمة بالغة
لا لكون من وسع له رزقه مكرما عنده، ومن ضيقه عليه هائنا لديه. قيل ويجوز أن يراد أن البسط والقبض إنما
هما من أمر الله الذي لا تفنى خزائنه، فأما عباده فعليهم أن يقتصدوا، ثم علل ما ذكره من البسط للبعض والتضييق
على البعض بقوله (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) أي يعلم ما يسرون وما يعلنون، لا يخفى عليه من ذلك خافية، فهو
الخبير بأحوالهم البصير بكيفية تدبيرهم في أرزاقهم. وفى هذه الآية دليل على أنه المتكفل بأرزاق عباده، فلذلك
قال بعدها (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) أملق الرجل لم يبق له إلا الملقات: وهى الحجارة العظام الملس:
قال الهذلي يصف صائدا:
أتيح لها أقيدر ذو خشيف * إذا سامت على الملقات ساما
الأقيدر إلا تصغير الأقدر: وهو الرجل القصير، والخشيف من الثياب الخلق، وسامت مرت، ويقال أملق
إذا افتقر وسلب الدهر ما بيده. قال أوس: * وأملق ما عندي خطوب تنبل *
نهاهم الله سبحانه عن أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر، وقد كانوا يفعلون ذلك، ثم بين لهم أن خوفهم من الفقر حتى
يبلغوا بسبب ذلك إلى قتل الأولاد لا وجه له، فإن الله سبحانه هو الرازق لعباده يرزق الأبناء كما يرزق الآباء
فقال (نحن نرزقهم وإياكم) ولستم لهم برازقين حتى تصنعوا بهم هذا الصنع، وقد مر مثل هذه الآية في الأنعام
ثم علل سبحانه النهي عن قتل الأولاد لذلك بقوله (إن قتلهم كان خطئا كبيرا) قرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون
الطاء وبالهمز المقصور. وقرأ ابن عامر خطأ بفتح الخاء والطاء والقصر في الهمز، يقال خطئ في دينه خطئا: إذا
أثم، وأخطأ: إذا سلك سبيل خطأ عامدا أو غير عامد. قال الأزهري، خطئ يخطأ خطئا مثل أثم يأثم إثما: إذا
تعمد الخطأ، وأخطأ: إذا لم يتعمد أخطاء وخطاء، قال الشاعر:
دعيني إنما خطأ وصدا * علي وإنما أهلكت مالي
222

والخطأ الاسم يقوم مقام الأخطاء، وفيه لغتان القصر، وهو الجيد، والمد وهو قليل. وقرأ ابن كثير بكسر الخاء
وفتح الطاء ومد الهمز. قال النحاس: ولا أعرف لهذه القراءة وجها، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطا. وقرأ الحسن
" خطا " بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز. ولما نهى سبحانه عن قتل الأولاد المستدعى لإفناء النسل ذكر النهي
عن الزنا المفضى إلى ذلك لما فيه من اختلاط الأنساب فقال (ولا تقربوا الزنى) وفى النهي عن قربانه بمباشرة مقدماته
نهى عنه بالأولى، فإن الوسيلة إلى الشئ إذا كانت حراما كان المتوسل إليه حراما بفحوى الخطاب، والزنى فيه
لغتان: المد، والقصر. قال الشاعر:
* كانت فريضة ما تقول كما * كان الزناء فريضة الرجم
ثم علل النهي عن الزنا بقوله (إن كان فاحشة) أي قبيحا متبالغا في القبح مجاوزا للحد (وساء سبيلا) أي
بئس طريقا طريقه، وذلك لأنه يؤدي إلى النار، ولا خلاف في كونه من كبائر الذنوب. وقد ورد في تقبيحه
والتنفير عنه من الأدلة ما هو معلوم، ولما فرغ من ذكر النهي عن القتل لخصوص الأولاد وعن النهي عن الزنا
الذي يفضي إلى ما يفضى إليه قتل الأولاد من اختلاط الأنساب وعدم استقرارها نهى عن قتل الأنفس المعصومة
على العموم فقال (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) والمراد بالتي حرم الله التي جعلها معصومة بعصمة
الدين أو عصمة العهد، والمراد بالحق الذي استثناه هو ما يباح به قتل الأنفس المعصومة في الأصل، وذلك كالردة
والزنا من المحصن، وكالقصاص من القاتل عمدا عدوانا وما يلتحق بذلك والاستثناء مفرغ: أي لا تقتلوها
بسبب من الأسباب إلا بسبب متلبس بالحق أو إلا متلبسين بالحق، وقد تقدم الكلام في هذا في الأنعام. ثم بين
حكم بعض المقتولين بغير حق فقال (ومن قتل مظلوما) أي لا بسبب من الأسباب المسوغة لقتله شرعا (فقد جعلنا
لوليه سلطانا) أي لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين، والسلطان
التسلط على القاتل إن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية، ثم لما بين إباحة القصاص لمن هو مستحق لدم
المقتول. أو ما هو عوض عن القصاص نهاه عن مجاوزة الحد فقال (فلا يسرف في القتل) أي لا يجاوز ما أباحه
الله له فيقتل بالواحد اثنين أو جماعة، أو يمثل بالقاتل أو يعذبه. قرأ الجمهور " لا يسرف " بالياء التحتية: أي الولي
وقرأ حمزة والكسائي " تسرف " بالتاء الفوقية. وهو خطاب للقاتل الأول، ونهى له عن القتل: أي فلا تسرف
أيها القاتل بالقتل فإن عليك القصاص مع ما عليك من عقوبة الله وسخطه ولعنته. وقال ابن جرير: الخطاب للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم وللأئمة من بعده: أي لا تقتل يا محمد غير القاتل ولا يفعل ذلك الأئمة بعدك. وفى قراءة
أبي " ولا تسرفوا " ثم علل النهي عن السرف فقال (إنه كان منصورا) أي مؤيدا معانا: يعني الولي، فإن الله سبحانه
قد نصره بإثبات القصاص له بما أبرزه من الحجج، وأوضحه من الأدلة، وأمر أهل الولايات بمعونته والقيام
بحقه حتى يستوفيه، ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى المقتول: أي إن الله نصره بوليه، قيل وهذه الآية من أول
ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكية.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله (إن تكونوا صالحين) قال:
تكون البادرة من الولد إلى الوالد، فقال الله: إن تكونوا صالحين إن تكن النية صادقة (فإنه كان للأوابين غفورا)
للبادرة التي بدرت منه. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عنه في قوله (إنه كان للأوابين غفورا) قال:
الرجاعين إلى الخير. وأخرج سعيد بن منصور وهناد وابن أبي حاتم والبيهقي عن الضحاك في الآية قال: الرجاعين
223

من الذنب إلى التوبة، ومن السيئات إلى الحسنات. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(للأوابين) قال: للمطيعين المحسنين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عنه قال: للتوابين.
وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وآت ذا القربى حقه) قال: أمره بأحق
الحقوق. وعلمه كيف يصنع إذا كان عنده، وكيف يصنع إذا لم يكن عنده فقال (وإما تعرضن عنهم ابتغاء
رحمة من ربك ترجوها) قال: إذا سألوك وليس عندك شئ انتظرت رزقا من الله (فقل لهم قولا ميسورا) يكون
إن شاء الله يكون شبه العدة. قال سفيان والعدة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم دين. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال: هو أن تصل ذا القرابة وتطعم المسكين وتحسن إلى ابن السبيل. وأخرج ابن
جرير عن علي بن الحسن أنه قال لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فما قرأت في بني إسرائيل
(وآت ذا القربى حقه) قال: وإنكم للقرابة التي أمر الله أن يؤتى حقهم؟ قال نعم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي
في الآية. قال: والقربى قربى بني عبد المطلب.
وأقول: ليس في السياق ما يفيد هذا التخصيص: ولا دل على ذلك دليل. ومعنى النظم القرآني واضح
إن كان الخطاب مع كل من يصلح له من الأمة، لأن معناه أمر كل مكلف متمكن من صلة قرابته بأن يعطيهم حقهم
وهو الصلة التي أمر الله بها. وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن كان على وجه التعريض لأمته
فالأمر فيه كالأول، وإن كان خطابا له من دون تعريض. فأمته أسوته، فالأمر له صلى الله عليه وآله وسلم بإيتاء
ذي القربى حقه أمر لكل فرد من أفراد أمته، والظاهر أن هذا الخطاب ليس خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
بدليل ما قبل هذه الآية، وهى قوله (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) وما بعدها، وهى قوله - ولا تبذر تبذيرا
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين -.
وفى معنى هذه الآية الدالة على وجوب صلة الرحم أحاديث كثيرة. وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أنس
" أن رجلا قال: يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة. فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع؟
قال: تخرج الزكاة المفروضة. فإنها طهرة تطهرك وتصل أقاربك وتعرف حق السائل والجار والمسكين، فقال:
يا رسول الله أقلل لي؟ قال: فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا. قال: حسبي يا رسول
الله ". وأخرج البزار وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية
(وآت ذا القربى حقه) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فأعطاها فدك. وأخرج ابن مردويه عن ابن
عباس قال: لما نزلت (وآت ذا القربى حقه) أقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فدك. قال ابن
كثير بعد أن ساق حديث أبي سعيد هذا ما لفظه: وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده، لأن الآية مكية، وفدك
إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة، فكيف يلتئم هذا مع هذا انتهى. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور
وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي
في الشعب عن ابن مسعود في قوله (ولا تبذر تبذيرا) قال: التبذير إنفاق المال في غير حقه. وأخرج ابن جرير
عنه قال: كنا أصحاب محمد نتحدث أن التبذير النفقة في غير حقه. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب
وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (إن المبذرين) قال: هم الذين ينفقون المال في غير
حقه. وأخرج البيهقي في الشعب عن علي قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت
فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس
224

في قوله (فقل لهم قولا ميسورا) قال: العدة. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال.
أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بر من العراق، وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس، فبلغ ذلك قوما
من العرب، فقالوا: إنا نأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم نسأله، فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله (ولا تجعل
يدك مغلولة إلى عنقك) قال محبوسة (ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما) يلومك الناس (محسورا) ليس بيدك
شئ. أقول: ولا أدري كيف هذا؟ فالآية مكية، ولم يكن إذ ذاك عرب يقصدون رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ولا يحمل إليه شئ من العراق ولا مما هو أقرب منه. على أن فتح العراق لم يكن إلا بعد موته صلى الله
عليه وآله وسلم. وأخرج ابن جرير عن المنهال بن عمرو " بعثت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بابنها
فقالت: قل له اكسني ثوبا. فقال: ما عندي شئ. فقالت: ارجع إليه فقل له اكسني قميصك. فرجع إليه
فنزع قميصه فأعطاها إياه، فنزلت (ولا تجعل يدك مغلولة) الآية ". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه.
وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قال لعائشة وضرب بيده: أنفقي ما على ظهر
كفي، قالت: إذن لا يبقى شئ. قال ذلك ثلاث مرات. فأنزل الله (ولا تجعل يدك مغلولة) الآية " ويقدح في
ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتزوج بعائشة إلا بعد الهجرة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله (ولا تجعل يدك مغلولة) قال: يعني بذلك البخل. وأخرجا عنه في الآية قال: هذا في النفقة يقول:
لا تجعلها مغلولة لا تبسطها بخير، ولا تبسطها كل البسط، يعني التبذير (فتقعد ملوما). يلوم نفسه على ما فاته من
ماله (محسورا) ذهب ماله كله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)
قال: ينظر له، فإن كان الغني خيرا له أغناه، وإن كان الفقر خيرا له أفقره، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (خشية إملاق) قال: مخافة الفقر والفاقة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه
في قوله (خطأ) قال: خطيئة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله (ولا تقربوا الزنا) قال: يوم نزلت
هذه الآية لم يكن حدود. فجاءت بعد ذلك الحدود في سورة النور. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أبي بن
كعب أنه قرأ " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا - إلا من تاب فإن الله كان غفورا رحيما " فذكر
لعمر فأتاه فسأله، فقال: أخذتها من في رسول الله وليس لك عمل إلا الصفق بالبقيع. وقد ورد في الترهيب عن
فاحشة الزنا أحاديث كثيرة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك في قوله (ولا تقتلوا النفس) الآية قال:
هذا بمكة ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بها، وهو أول شئ نزل من القرآن في شأن القتل، كان المشركون
من أهل مكة يغتالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الله: من قتلكم من المشركين، فلا يحملنكم
قتله إياكم على أن تقتلوا له أبا أو أخا أو واحدا من عشيرته وإن كانوا مشركين، فلا تقتلوا إلا قاتلكم، وهذا
قبل أن تنزل براءة، وقيل أن يؤمر بقتال المشركين فذلك قوله (فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) يقول
لا تقتل غير قاتلك، وهى اليوم على ذلك الموضع من المسلمين لا يحل لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم. وأخرج البيهقي في سننه
عن زيد بن أسلم أن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلا لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلا شريفا
إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم وقتلوا غيره، فوعظوا في ذلك بقول الله سبحانه (ولا تقتلوا النفس)
إلى قوله (فلا يسرف في القتل). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله (ومن
قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) قال: بينة من الله أنزلها يطلبها ولى المقتول القود أو العقل، وذلك السلطان
225

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عنه (فلا يسرف في القتل) قال: لا يكثر في القتل. وأخرج ابن المنذر من
طريق أبي صالح عنه أيضا: لا يقاتل إلا قاتل رحمه.
سورة الإسراء الآية (34 - 41)
لما ذكر سبحانه النهي عن إتلاف النفوس أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال، وكان أهمها بالحفظ والرعاية
مال اليتيم فقال (ولا تقربوا مال اليتيم) والنهي عن قربانه مبالغة في النهي عن المباشرة له وإتلافه، ثم بين سبحانه
أن النهي عن قربانه، ليس المراد منه النهي عن مباشرته فيما يصلحه ويفسده بل يجوز لولي اليتيم أن يفعل في مال
اليتيم ما يصلحه، وذلك يستلزم مباشرته، فقال (إلا بالتي هي أحسن) أي إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال،
وهى حفظه وطلب الربح فيه والسعي فيما يريد به. ثم ذكر الغاية التي للنهي عن قربان مال اليتيم فقال (حتى يبلغ
أشده) أي لا تقربوه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ اليتيم أشده، فإذا بلغ أشده كان لكم أن تدفعوه إليه، أو
تتصرفوا فيه بإذنه، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام (وأوفوا بالعهد) قد مضى الكلام فيه في غير
موضع. قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد، فيدخل في ذلك ما بين العبد وربه، وما بين
العباد بعضهم البعض. والوفاء بالعهد هو القيام يحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي، إلا إذا دل دليل خاص
على جواز النقض (إن العهد كان مسؤولا) أي مسؤولا عنه، فالمسئول هنا هو صاحبه، وقيل إن العهد يسأل
تبكيتا لناقضه (وأوفوا الكيل إذا كلتم) أي أتموا الكيل ولا تخسروه وقت كيلكم للناس (وزنوا بالقسطاس المستقيم)
قال الزجاج: هو ميزان العدل: أي ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها، وفيه لغتان: ضم القاف، وكسرها -
وقيل هو القبان المسمى بالقرسطون، وقيل هو العدل نفسه، وهى لغة الروم، وقيل لغة سريانية. وقرأ ابن كثير
ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر القسطاس بضم القاف. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن
عاصم بكسر القاف. والإشارة بقوله (ذلك) إلى إيفاء الكيل والوزن، وهو مبتدأ وخبره (خير) أي خير لكم
226

عند الله وعند الناس يتأثر عنه حسن الذكر وترغيب الناس في معاملة من كان كذلك (وأحسن تأويلا) أي أحسن
عاقبة، من آل إذا رجع. ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال (ولا تقف ما ليس لك به علم) أي لا تتبع
ما لا تعلم، من قولك قفوت فلانا إذا اتبعت أثره. ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت، ومنه القبيلة المشهورة
بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس. وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف مثل عثا وعاث. قال
منذر بن سعيد البلوطي: قفا وقاف، مثل جذب وجبذ. وحكى الكسائي عن بعض القراء أنه قرأ " تقف " بضم
القاف وسكون الفاء. وقرأ الفراء بفتح القاف وهى لغة لبعض العرب. وأنكرها أبو حاتم وغيره. ومعنى الآية:
النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به. وهذه قضية كلية، وقد جعلها جماعة من المفسرين
خاصة بأمور: فقيل لا تذم أحدا بما ليس لك به علم، وقيل هي في شهادة الزور، وقيل هي في القذف. وقال
القتيبي: معنى الآية: لا تتبع الحدس والظنون. وهذا صواب، فإن ما عدا ذلك هو العلم، وقيل المراد بالعلم هنا
هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعيا كان أو ظنيا. قال أبو السعود في تفسيره: واستعماله بهذا المعنى مما
لا ينكر شيوعه. وأقول: إن هذه الآية قد دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة
الواردة بجواز العمل بالظن كالعمل بالعام وبخبر الواحد والعمل بالشهادة والاجتهاد في القبلة وفى جزاء الصيد
ونحو ذلك، فلا تخرج من عمومها ومن عموم - إن الظن لا يغني من الحق شيئا - إلا ما قام دليل جواز العمل به،
فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنة، فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ لما بعثه قاضيا " بم تقضى؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم
تجد. قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد رأيي " وهو حديث صالح للاحتجاج به كما
أوضحنا ذلك في بحث مفرد. وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنة، ولكنه قصر صاحب
الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهى دخولا أوليا، لأنه محض رأى في شرع الله، وبالناس
عنه غنى بكتاب الله سبحانه وبسنة رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم تدع إليه حاجة، على أن الترخيص في الرأي
عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصة للمجتهد يجوز له أن يعمل به، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به
وينزله منزلة مسائل الشرع. وبهذا يتضح لك أتم اتضاح ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدونة في الكتب
الفروعية ليست من الشرع في شئ. والعامل بها على شفا جرف هار، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس
له به علم، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده - ظلمات بعضها فوق
بعض - وقد قيل إن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلا. ثم علل سبحانه النهى عن العمل بما ليس
يعلم بقوله (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) إشارة إلى الأعضاء الثلاثة، وأجريت مجرى
العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها. وقال الزجاج: إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل
بأولئك. وأنشد ابن جرير مستدلا على جواز هذا قول الشاعر:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى * والعيش بعد أولئك الأيام
واعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام. وتبعه غيره على هذا الخطأ كصاحب الكشاف. والضمير في كان
من قوله (كان عنه مسؤولا) يرجع إلى كل. وكذا الضمير في عنه، وقيل الضمير في كان يعود إلى القافي المدلول
عليه بقوله (ولا تقف). وقوله " عنه " في محل رفع لإسناد مسؤولا إليه. ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على
عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا أو مجرورا. قيل والأولى أن يقال إنه فاعل مسؤولا المحذوف،
227

والمذكور مفسر له. ومعنى سؤال هذه الجوارح أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات، والمستعمل لها
هو الروح الإنساني، فإن استعملها في الخير استحق الثواب، وإن استعملها في الشر استحق العقاب. وقيل إن
الله سبحانه ينطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها (ولا تمش في الأرض مرحا) المرح: قيل هو
شدة الفرح، وقيل التكبر في المشي، وقيل تجاوز الإنسان قدره. وقيل الخيلاء في المشي، وقيل البطر والأشر
وقيل النشاط. والظاهر أن المراد به هنا الخيلاء والفخر، قال الزجاج في تفسير الآية: لا تمش في الأرض مختالا
فخورا، وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلا عليها أو على ما هو معتمد عليها تأكيدا وتقريرا، ولقد أحسن
من قال:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا * فكم تحتها قوم هم منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومنعة * فكم مات من قوم هم منك أمنع
والمرح مصدر وقع حالا: أي ذا مرح، وفى وضع المصدر موضع الصفة نوع تأكيد. وقرأ الجمهور " مرحا "
بفتح الراء على المصدر. وحكى يعقوب عن جماعة كسرها على أنه اسم فاعل، ثم علل سبحانه هذا النهى فقال (إنك
لن تخرق الأرض) يقال خرق الثوب: أي شقه، وخرق الأرض قطعها، والخرق الواسع من الأرض، والمعنى:
أنك لن تخرق الأرض بمشيك عليها تكبرا، وفيه تهكم بالمختال المتكبر (ولن تبلغ الجبال طولا) أي ولن تبلغ قدرتك
إلى أن تطاول الجبال حتى يكون عظم جئتك حاملا لك على الكبر والاختيال. فلا قوة لك حتى تخرق الأرض
بالمشي عليها، ولا عظم في بدنك حتى تطاول الجبال. فما الحامل لك على ما أنت فيه؟ وطولا مصدر في موضع
الحال أو تمييز أو مفعول له. وقيل المراد بخرق الأرض نقبها لا قطعها بالمسافة. وقال الأزهري: خرقها قطعها.
قال النحاس: وهذا أبين كأنه مأخوذ من الخرق، وهو الفتحة الواسعة، ويقال فلان أخرق من فلان: أي أكثر
سفرا، والإشارة بقوله (كل ذلك) إلى جميع ما تقدم ذكره من الأوامر والنواهي، أو إلى ما نهى عنه فقط من
قوله (ولا تقف - ولا تمش) قرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ومسروق " سيئه " على إضافة سئ إلى الضمير
ويؤيد هذه القراءة قوله (مكروها) فإن السئ هو المكروه، ويؤيدها أيضا قراءة أبي: كان سيئاته. واختار هذه
القراءة أبو عبيد. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو سيئة على أنها واحدة السيئات، وانتصابها على خبرية كان، ويكون
مكروها صفة لسيئة على المعنى، فإنها بمعنى سيئا، أو هو بدل من سيئة، وقيل هو خبر ثان لكان حملا على لفظ
كل ورجح أبو علي الفارسي البدل، وقد قيل في توجيهه بغير هذا مما فيه تعسف لا يخفى. قال الزجاج: والإضافة
أحسن، لأن ما تقدم من الآيات فيها سيئ وحسن، فسيئه المكروه ويقوى ذلك التذكير في المكروه، قال:
ومن قرأ بالتنوين جعل " كل ذلك " إحاطة بالمنهي عنه دون الحسن. المعنى: كل ما نهى الله عنه كان سيئة وكان
مكروها، قال: والمكروه على هذه القراءة بدل من السيئة وليس بنعت، والمراد بالمكروه عند الله هو الذي يبغضه
ولا يرضاه، لا أنه غير مراد مطلقا، لقيام الأدلة القاطعة على أن الأشياء واقعة بإرادته سبحانه. وذكر مطلق
الكراهة مع أن في الأشياء المتقدمة ما هو من الكبائر إشعارا بأن مجرد الكراهة عنده تعالى يوجب انزجار السامع
واجتنابه لذلك. والحاصل أن في الخصال المتقدمة ما هو حسن وهو المأمور به. وما هو مكروه وهو المنهى عنه.
فعلى قراءة الإضافة تكون الإشارة بقوله (كل ذلك) إلى جميع الخصال حسنها ومكروهها، ثم الإخبار بأن ما هو
سيئ من هذه الأشياء وهو المنهي عنه مكروه عند الله، وعلى قراءة الإفراد من دون إضافة تكون الإشارة إلى
المنهيات، ثم الإخبار عن هذه المنهيات بأنها سيئة مكروهة عند الله (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة) الإشارة
228

إلى ما تقدم ذكره من قوله (لا تجعل) إلى هذه الغاية وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفا. (مما أوحى إليك ربك):
أي من جنسه أو بعض منه. وسمى حكمة لأنه كلام محكم، وهو ما علمه من الشرائع أو من الأحكام المحكمة التي
لا يتطرق إليها الفساد. وعند الحكماء أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته. و " من الحكمة " متعلق بمحذوف وقع حالا
أي كائنا من الحكمة، أو بدل من الموصول بإعادة الجار. أو متعلق بأوحى (ولا تجعل مع الله إلها آخر) كرر سبحانه
النهى عن الشرك تأكيدا وتقريرا وتنبيها على أنه رأس خصال الدين وعمدته. قيل وقد راعى سبحانه في هذا التأكيد
دقيقة فرتب على الأول كونه مذموما مخذولا، وذلك إشارة إلى حال الشرك في الدنيا، ورتب على الثاني أنه يلقى
(في جهنم ملوما مدحورا) وذلك إشارة إلى حاله في الآخرة، وفى القعود هناك، والإلقاء هنا إشارة إلى أن للإنسان
في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة. وقد تقدم تفسير الملوم والمدحور (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من
الملائكة إناثا) قال أبو عبيدة: أصفاكم خصكم، وقال الفضل: أخلصكم، وهو خطاب للكفار القائلين بأن
الملائكة بنات الله. وفيه توبيخ شديد وتقريع بالغ لما كان يقوله هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل، والفاء
للعطف على مقدر كنظائره مما قد كررناه. (إنكم لتقولون) يعنى القائلين بأن لهم الذكور ولله الإناث (قولا عظيما)
بالغا في العظم والجراءة على الله إلى مكان لا يقادر قدره (ولقد صرفنا في هذا القرآن) أي بينا ضروب القول فيه
من الأمثال وغيرها. أو كررنا فيه، وقيل " في " زائدة والتقدير ولقد صرفنا هذا القرآن والتصريف في الأصل
صرف الشئ من جهة إلى جهة، وقيل معنى التصريف المغايرة: أي غايرنا بين المواعظ ليتذكروا ويعتبروا،
وقراءة الجمهور صرفنا بالتشديد، وقرأ الحسن بالتخفيف ثم علل تعالى ذلك فقال (ليذكروا) أي ليتعظوا ويتدبروا
بعقولهم ويتفكروا فيه حتى يقفوا على بطلان ما يقولونه. قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي ليذكروا
مخففا، والباقون بالتشديد. واختارها أبو عبيد لما تفيده من معنى التكثير، وجملة (وما يزيدهم إلا نفورا) في محل
نصب على الحال: أي والحال أن هذا التصريف والتذكير ما يزيدهم إلا تباعدا عن الحق وغفلة عن النظر في الصواب
لأنهم قد اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر، وهم لا ينزعون عن هذه الغواية ولا وازع لهم يزعهم
إلى الهداية.
وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله (ولا تقربوا مال اليتيم) قال: كانوا لا يخالطونهم في مال ولا مأكل
ولا مركب حتى نزلت - وإن تخالطوهم فإخوانكم -. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله (إن العهد
كان مسؤولا) قال: يسأل الله ناقض العهد عن نقضه. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: يسأل
عهده من أعطاه إياه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله (وأوفوا الكيل إذا كلتم) يعنى لغيركم
(وزنوا بالقسطاس) يعنى الميزان. وبلغة الروم الميزان القسطاس (ذلك خير) يعنى وفاء الكيل والميزان خير من
النقصان (وأحسن تأويلا) عاقبة. وأخرج ابن أبي شيبة والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن مجاهد قال: القسطاس العدل بالرومية. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: القسطاس القبان. وأخرج ابن
أبي حاتم عن الحسن قال: الحديد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ولا تقف) قال:
لا تقل. وأخرج ابن جرير عنه قال: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن ابن الحنفية في الآية قال: شهادة الزور. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله (إن السمع والبصر والفؤاد
كل أولئك كان عنه مسؤولا) يقول: سمعه وبصره وفؤاده تشهد عليه. وأخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله
(كل أولئك كان عنه مسؤولا) قال: يوم القيامة أكذلك كان أم لا؟ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
229

قتادة في قوله (ولا تمش في الأرض مرحا) قال: لا تمش فخرا وكبرا، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال ولا أن تخرق
الأرض بفخرك وكبرك. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن التوراة في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم
تلا (ولا تجعل مع الله إلها آخر). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس في قوله (مدحورا) قال: مطرودا:
سورة الإسراء الآية (42 - 48)
قوله (قل لو كان معه آلهة كما تقولون) قرأ ابن كثير وحفص يقولون بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالفوقية على
الخطاب للقائلين بأن مع الله آلهة أخرى، وإذن جواب عن مقالتهم الباطلة وجزاء للو (لابتغوا إلى ذي العرش)
وهو الله سبحانه (سبيلا) طريقا للمغالبة والممانعة كما تفعل الملوك مع بعضهم البعض من المقاتلة والمصاولة، وقيل
معناه: إذن لابتغت الآلهة إلى الله القربة والزلفة عنده، لأنهم دونه، والمشركون إنما اعتقدوا أنها تقربهم إلى الله:
والظاهر المعنى الأول، ومثل معناه قوله سبحانه - لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا - ثم نزه تعالى
نفسه، فقال (سبحانه) والتسبيح التنزيه، وقد تقدم (وتعالى) متباعد (عما يقولون) من الأقوال الشنيعة
والفرية العظيمة (علوا) أي تعاليا، ولكنه وضع العلو موضع التعالي كقوله - والله أنبتكم من الأرض نباتا -
ثم وصف العلو بالكبر مبالغة في النزاهة، وتنبيها على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته. وبين الغنى المطلق،
والفقير المطلق مباينة لا تعقل الزيادة عليها. ثم بين سبحانه جلالة ملكه وعظمة سلطانه فقال (يسبح له السماوات
السبع والأرض ومن فيهن) قرئ بالمثناة التحتية في يسبح وبالفوقية، وقال " فيهن " بضمير العقلاء لإسناده إليها
التسبيح الذي هو فعل العقلاء، وقد أخبر سبحانه عن السماوات والأرض بأنها تسبحه. وكذلك من فيها من مخلوقاته
الذين لهم عقول وهم الملائكة والإنس والجن وغيرهم من الأشياء التي لا تعقل، ثم زاد ذلك تعميما وتأكيدا فقال
(وإن من شئ إلا يسبح بحمده) فشمل كل ما يسمى شيئا كائنا ما كان. وقيل إنه يحمل قوله (ومن فيهن) على
الملائكة والثقلين، ويحمل (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) على ما عدا ذلك من المخلوقات.
وقد اختلف أهل العلم في هذا العموم هل هو مخصوص أم لا؟ فقالت طائفة: ليس بمخصوص، وحملوا
التسبيح على تسبيح الدلالة لأن كل مخلوق يشهد على نفسه ويدل غيره بأن الله خالق قادر. وقالت طائفة: هذا
230

التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره. والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله سبحانه هذا التسبيح الذي معناه التنزيه
وإن كان البشر لا يسمعون ذلك ولا يفهمونه، ويؤيد هذا قوله سبحانه (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) فإنه لو كان
المراد تسبيح الدلالة لكان أمرا مفهوما لكل أحد. وأجيب بأن المراد بقوله لا تفقهون الكفار الذين يعرضون عن
الاعتبار. وقالت طائفة: إن هذا العموم مخصوص بالملائكة والثقلين دون الجمادات، وقيل خاص بالأجسام
النامية فيدخل النباتات، كما روى هذا القول عن عكرمة والحسن وخصا تسبيح النباتات بوقت نموها لا بعد قطعها
وقد استدل لذلك بحديث " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر على قبرين " وفيه " ثم دعا بعسيب رطب فشقه
اثنين، وقال: إنه يخفف عنهما ما لم ييبسا " ويؤيد حمل الآية على العموم قوله - إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي
والإشراق - وقوله - وإن منها لما يهبط من خشية الله -، وقوله - وتخر الجبال هدا - ونحو ذلك من الآيات، وثبت
في الصحيح أنهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام، وهم يأكلون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهكذا
حديث حنين الجذع، وحديث أن حجرا بمكة كان يسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكلها في الصحيح
ومن ذلك تسبيح الحصى في كفه صلى الله عليه وآله وسلم. ومدافعه عموم هذه الآية بمجرد الاستبعادات ليس
دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده، ومعنى " إلا يسبح بحمده " إلا يسبح متلبسا بحمده (ولكن
لا تفقهون تسبيحهم). قرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف " تسبح " بالمثناة الفوقية على
الخطاب، وقرأ الباقون بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد (إنه كان حليما غفورا) فمن حلمه الإمهال لكم
وعدم إنزال عقوبته عليكم، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم. ولما فرغ سبحانه من الإلهيات شرع
في ذكر بعض من آيات القرآن وما يقع من سامعيه فقال (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون
بالآخرة حجابا مستورا) جعلنا بينك يا محمد وبين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا: أي إنهم لإعراضهم
عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب يمرون بك ولا يرونك، ذكر معناه الزجاج وغيره، ومعنى
مستورا ساتر. قال الأخفش: أراد ساترا، والفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول: إنك لمشئوم وميمون،
وإنما هو شائم ويامن، وقيل معنى مستورا ذا ستر، كقولهم سيل مفعم: أي ذو إفعام، وقيل هو حجاب لا تراه
الأعين فهو مستور عنها، وقيل حجاب من دونه حجاب فهو مستور بغيره، وقيل المراد بالحجاب المستور الطبع
والختم (وجعلنا على قلوبهم أكنة) الأكنة: جمع كنان. وقد تقدم تفسيره في الأنعام، وقيل هو حكاية لما كانوا
يقولونه من قولهم - قلوبنا غلف - وفى آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب - و (أن يفقهوه) مفعول لأجله: أي
كراهة أن يفقهوه، أو لئلا يفقهوه: أي يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني (وفى آذانهم وقرا)
أي صمما وثقلا، وفى الكلام حذف، والتقدير: إن يسمعوه. ومن قبائح المشركين أنهم كانوا يحبون أن يذكر
آلهتهم كما يذكر الله سبحانه فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا عن المجلس، ولهذا قال الله (وإذا ذكرت
ربك في القرآن وحده) أي واحدا غير مشفوع بذكر آلهتهم. فهو مصدر وقع موقع الحال (ولوا على أدبارهم نفورا)
هو مصدر، والتقدير: هربوا نفورا. أو نفروا نفورا، وقيل جمع نافر كقاعد وقعود. والأول أولى. ويكون
المصدر في موضع الحال: أي ولوا نافرين (نحن أعلم بما يستمعون به) أي يستمعون إليك متلبسين به من الاستخفاف
بك وبالقرآن واللغو في ذكرك لربك وحده وقيل الباء زائدة والظرف في (إذ يستمعون إليك) متعلق بأعلم: أي
نحن أعلم وقت يستمعون إليك بما يستمعون به، وفيه تأكيد للوعيد، وقوله (وإذ هم نجوى) متعلق بأعلم أيضا:
أي ونحن أعلم بما يتناجون به فيما بينهم وقت تناجيهم، وقد كانوا يتناجون بينهم بالتكذيب والاستهزاء،
231

يقول) بدل من " إذ هم نجوى ". (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم:
ما تتبعون إلا رجلا سحر فاختلط عقله وزال عن حد الاعتدال. قال ابن الأعرابي: المسحور الذاهب
العقل الذي أفسد من قولهم طعام مسحور إذا أفسد عمله، وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي
فأفسدها. وقيل المسحور المخدوع، لأن السحر حيلة وخديعة، وذلك لأنهم زعموا أن محمدا صلى الله عليه وآله
وسلم كان يتعلم من بعض الناس. وكانوا يخدعونه بذلك التعليم. وقال أبو عبيدة: معنى مسحورا أن له سحرا: أي
رئة. فهو لا يستغني عن الطعام والشراب فهو مثلكم. وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سحره، وكل من كان يأكل
من آدمي أو غيره مسحور. ومنه قول امرئ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب * ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نغذي ونعلل. قال ابن قتيبة: لا أدرى ما حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة (انظر
كيف ضربوا لك الأمثال) أي قالوا تارة إنك كاهن وتارة ساحر، وتارة شاعر، وتارة مجنون (فضلوا)
عن طريق الصواب في جميع ذلك (فلا يستطيعون سبيلا) إلى الهدى أو إلى الطعن الذي تقبله العقول ويقع التصديق له
لا أصل الطعن، فقد فعلوا منه ما قدروا عليه، وقيل لا يستطيعون مخرجا لتناقض كلامهم كقولهم: ساحر مجنون.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله (إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) قال: على أن يزيلوا ملكه.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الرحمن بن
قرط " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسرى به إلى المسجد الأقصى كان جبريل عن يمينه وميكائيل
عن يساره. فطارا به حتى بلغ السماوات العلى، فلما رجع قال: سمعت تسبيحا من السماوات العلى مع تسبيح كثير
سبحت السماوات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا. سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى ". وأخرج
ابن مردويه عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو جالس مع أصحابه إذ سمع هدة فقال: أطت
السماء ويحقها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا فيه جبهة ملك ساجد يسبح بحمده ". وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ألا أخبركم
بشئ أمر به نوح ابنه؟ إن نوحا قال لابنه: يا بنى آمرك أن تقول سبحان الله، فإنها صلاة الخلائق، وتسبيح
الخلق، وبها يرزق الخلق " قال الله تعالى (وإن من شئ إلا يسبح بحمده). وأخرج أحمد وابن مردويه من
حديث ابن عمر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال: " ما من عبد سبح تسبيحة إلا سبح ما خلق الله من
شئ " قال الله (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) قال ابن كثير إسناده فيه ضعف، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى
الله إليه من أجل نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبح ". وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمرو قال
" نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الضفدع وقال: نقيقها تسبيح ". وأخرج أبو الشيخ
في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) قال: الزرع يسبح وأجره لصاحبه
والثوب يسبح ويقول الوسخ إن كنت مؤمنا فاغسلني إذن. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: كل شئ يسبح إلا الكلب
والحمار. وأخرج ابن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال: أتى أبو بكر بغراب وافر الجناحين، فجعل
ينشر جناحيه ويقول: ما صيد من صيد ولا عضد من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح. وأخرجه أحمد في الزهد
وأبو الشيخ عن ميمون بن مهران قال: أتى أبو بكر الصديق فذكره من قوله غير مرفوع. وأخرجه أبو نعيم
232

في الحلية وابن مردويه من حديث أبي هريرة بنحوه، وأخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود بمعنى بعضه. وأخرج
أبو الشيخ من حديث أبي الدرداء بمعناه. وأخرج ابن عساكر من حديث أبي رهم نحوه. وأخرج ابن المنذر عن
الحسن قال: هذه الآية في التوراة كقدر ألف آية (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) قال: في التوراة تسبح له الجبال
ويسبح له الشجر، ويسبح له كذا ويسبح له كذا. وأخرج أحمد وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: صلى داود ليلة
حتى أصبح، فلما أصبح وجد في نفسه سرورا فنادته ضفدعة يا داود كنت أدأب منك قد أغفيت إغفاء. وأخرج
البيهقي في الشعب عن صدقة بن يسار قال: كان داود في محرابه فأبصر دودة صغيرة ففكر في خلقها وقال: ما يعبأ
الله بخلق هذه، فأنطقها الله فقالت: يا داود أتعجبك نفسك، لأنا على قدر ما آتاني الله أذكر لله وأشكر له منك
على ما آتاك الله. قال الله (وإن من شئ إلا يسبح بحمده). وفى الباب أحاديث وروايات عن السلف فيها التصريح
بتسبيح جميع المخلوقات. وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أسماء
بنت أبي بكر قال: لما نزلت - تبت يدا أبى لهب - أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة، وفى يدها فهر وهى تقول:
مذمما أبينا * ودينه قلينا * وأمره عصينا * ورسول الله جالس وأبو بكر إلى جنبه، فقال أبو بكر: لقد
أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك، فقال: إنها لن تراني، وقرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى (وإذا قرأت القرآن
جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) فجاءت حتى قامت على أبى بكر فلم تر النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني، فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك،
فانصرفت وهى تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا)
قال: الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم. وأخرج ابن
أبي حاتم عن زهير بن محمد في الآية قال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ القرآن على المشركين
بمكة سمعوا قراءته ولا يرونه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله
(ولوا على أدبارهم نفورا) قال: الشياطين. وأخرج ابن مردويه عنه في قوله (إذ يستمعون إليك) قال: عتبة
وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل.
سورة الإسراء الآية (49 - 55)
233

لما فرغ سبحانه من حكاية شبه القوم في النبوات حكى شبهتهم في أمر المعاد فقال (فقالوا أئذا كنا عظاما
ورفاتا) والاستفهام للاستنكار والاستبعاد. وتقرير الشبهة أن الإنسان إذا مات جفت عظامه وتناثرت وتفرقت
في جوانب العالم، واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها، ثم عود الحياة
إلى ذلك المجموع، فأجاب سبحانه عنهم بأن إعادة بدن الميت إلى حال الحياة أمر ممكن، ولو فرضتم أن بدنه قد
صار أبعد شئ من الحياة ومن رطوبة الحي كالحجارة والحديد. فهو كقول القائل: أتطمع في وأنا ابن فلان،
فيقول كن ابن السلطان أو ابن من شئت فسأطلب منك حقي. والرفات: ما تكسر وبلى من كل شئ كالفتات والحطام
والرضاض قاله أبو عبيدة والكسائي والفراء والأخفش، تقول منه: رفت الشئ رفتا: أي حطم فهو مرفوت
وقيل الرفات الغبار، وقيل التراب (أإنا لمبعوثون خلقا جديدا) كرر الاستفهام الدال على الاستنكار والاستبعاد
تأكيدا وتقريرا، والعامل في إذا هو ما دل عليه لمبعوثون، لا هو نفسه. لأن ما بعد إن والهمزة واللام لا يعمل
فيما قبلها، والتقدير: أإذا كنا عظاما ورفاتا نبعث أإنا لمبعوثون. وانتصاب خلقا على المصدرية من غير لفظه،
أو على الحال: أي مخلوقين، وجديدا صفة له (قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا) آخر (مما يكبر في صدوركم)
قال ابن جرير: معناه إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاما ولحما فكونوا أنتم حجارة أو حديدا إن قدرتم على ذلك،
وقال علي بن عيسى: معناه إنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم. إلا أنه خرج مخرج
الأمر لأنه أبلغ في الإلزام، وقيل معناه: لو كنتم حجارة أو حديدا لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم
قال النحاس: وهذا قول حسن، لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة أو حديدا، وإنما المعنى أنهم قد أقروا
بخالقهم وأنكروا البعث، فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديدا لبعثتم كما خلقتم أول
مرة. قلت: وعلى هذا الوجه قررنا جواب الشبهة قبل هذا (أو خلقا مما يكبر في صدوركم) أي يعظم عندكم مما
هو أكبر من الحجارة والحديد مباينة للحياة فإنكم مبعوثون لا محالة، وقيل المراد به السماوات والأرض والجبال
لعظمها في النفوس. وقال جماعة من الصحابة والتابعين: المراد به الموت، لأنه ليس شئ أكبر في نفس ابن
آدم منه. والمعنى: لو كنتم الموت لأماتكم الله ثم بعثكم، ولا يخفى ما في هذا من البعد. فإن معنى الآية الترقي من
الحجارة إلى الحديد، ثم من الحديد إلى ما هو أكبر في صدور القوم منه، والموت نفسه ليس بشئ يعقل ويحس
حتى يقع الترقي من الحديد إليه (فسيقولون من يعيدنا) إذا كنا عظاما ورفاتا، أو حجارة أو حديدا مع ما بين
الحالتين من التفاوت (قل الذي فطركم أول مرة) أي يعيدكم الذي خلقكم واخترعكم عند ابتداء خلقكم من غير
مثال سابق ولا صورة متقدمة (فسينغضون إليك رؤوسهم) أي يحركونها استهزاء، يقال نغض رأسه ينغض
وينغض وينغض نغضا ونغوضا: أي تحرك، وأنغض رأسه حركه كالمتعجب، ومنه قول الراجز:
* أنغض نحوي رأسه وأقنعا * وقول الراجز الآخر: * ونغضت من هرم أسنانها *
وقال آخر: * لما رأتني أنغضت لي رأسها * (ويقولون متى هو) أي البعث والإعادة
استهزاء منهم وسخرية (قل عسى أن يكون قريبا) أي هو قريب، لأن عسى في كلام الله واجب الوقوع، ومثله
- وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا - وكل ما هو آت قريب (يوم يدعوكم) الظرف منتصب بفعل مضمر:
أي أذكر، أو بدل من قريبا، أو التقدير: يوم يدعوكم كان ما كان، الدعاء النداء إلى المحشر بكلام يسمعه
الخلائق، وقيل هو الصيحة التي تسمعونها، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض المحشر (فتستجيبون بحمده)
أي منقادين له حامدين لما فعله بكم فهو في محل نصب على الحال. وقيل المعنى: فتستجيبون والحمد لله كما قال الشاعر:
234

وإني بحمد الله لا ثوب فاخر * لبست ولا من غدرة أتقنع
وقد روى أن الكفار عند خروجهم من قبورهم يقولون: سبحانك وبحمدك، وقيل المراد بالدعاء هنا البعث
وبالاستجابة أنهم يبعثون، فالمعنى: يوم يبعثكم فتبعثون منقادين (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) أي تظنون
عند البعث أنكم ما لبثتم في قبوركم إلا زمنا قليلا، وقيل بين النفختين، وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين
بين النفختين، وذلك أربعون عاما ينامون فيها، فلذلك - قالوا من بعثنا من مرقدنا -. وقيل إن الدنيا تحقرت
في أعينهم وقلت حين رأوا يوم القيامة، فقالوا هذه المقالة (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) أي قل يا محمد
لعبادي المؤمنين إنهم يقولون عند محاورتهم للمشركين الكلمة التي هي أحسن من غيرها من الكلام الحسن كقوله
سبحانه - ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - وقوله - فقولا له قولا لينا - لأن المخاشنة لهم ربما تنفرهم عن
الإجابة أو تؤدي إلى ما قال سبحانه - ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم - وهذا كان قبل
نزول آية السيف، وقيل المعنى: قل لهم يأمروا بما أمر الله وينهوا عما نهى عنه، وقيل هذه الآية للمؤمنين فيما بينهم
خاصة، والأول أولى كما يشهد به السبب الذي سنذكره إن شاء الله (إن الشيطان ينزغ بينهم) أي بالفساد وإلقاء
العداوة والإغراء. قال اليزيدي: يقال نزغ بيننا: أي أفسد. وقال غيره: النزغ الإغراء (إن الشيطان كان للإنسان
عدوا مبينا) أي متظاهرا بالعداوة مكاشفا بها، وهو تعليل لما قبله، وقد تقدم مثل هذا في البقرة (ربكم أعلم بكم
إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم) قيل هذا خطاب للمشركين. والمعنى: إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم أو يميتكم
عن الشرك فيعذبكم، وقيل هو خطاب للمؤمنين: أي إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من الكفار، أو إن يشأ يعذبكم
بتسليطهم عليكم، وقيل إن هذا تفسير للكلمة التي هي أحسن (وما أرسلناك عليهم وكيلا) أي ما وكلناك في منعهم
من الكفر، وقسرهم على الإيمان، وقيل: ما جعلناك كفيلا لهم تؤخذ بهم، ومنه قول الشاعر:
ذكرت أبا أروى فبت كأنني * برد الأمور الماضيات وكيل أي كفيل
(وربك أعلم بمن في السماوات والأرض) أعلم بهم ذاتا وحالا واستحقاقا، وهو أعم من قوله - ربكم
أعلم بكم - لأن هذا يشمل كل ما في السماوات والأرض من مخلوقاته. وذاك خاص ببني آدم أو ببعضهم، وهذا
كالتوطئة لقوله (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) أي أن هذا التفضيل عن علم منه بمن هو أعلى رتبة
وبمن دونه، وبمن يستحق مزيد الخصوصية بتكثير فضائله وفواضله. وقد تقدم هذا في البقرة. وقد اتخذ الله
إبراهيم خليلا، وموسى كليما، وجعل عيسى كلمته وروحه. وجعل لسليمان ملكا عظيما، وغفر لمحمد ما تقدم
من ذنبه وما تأخر، وجعله سيد ولد آدم، وفى هذه الآية دفع لما كان ينكره الكفار مما يحكيه رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم من ارتفع درجته عند ربه عز وجل، ثم ذكر ما فضل به داود. فقال (وآتينا داود زبورا) أي
كتابا مزبورا. قال الزجاج: أي فلا تنكروا تفضيل محمد وإعطاءه القرآن فقد أعطى الله داود زبورا.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ورفاتا) قال: غبارا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (ورفاتا) قال: ترابا، وفى
قوله (قل كونوا حجارة أو حديدا) قال: ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله كما كنتم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله
ابن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله (أو خلقا مما يكبر في صدوركم)
قال: الموت، لو كنتم موتا لأحييتكم. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير والحاكم عن ابن عباس
مثله. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن مثله أيضا. وأخرج عبد الله بن أحمد وابن جرير وابن المنذر عن
235

سعيد بن جبير نحوه، وزاد قال فكونوا الموت إن استطعتم فإن الموت سيموت، وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فسينغضون إليك رؤوسهم) قال: سيحركونها استهزاء. وأخرج ابن المنذر
عن مجاهد في قوله (ويقولون متى هو) قال: الإعادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (فتستجيبون بحمده) قال: بأمره. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال: يخرجون من قبورهم وهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة (فتستجيبون بحمده) قال: بمعرفته وطاعته (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) أي
في الدنيا تحاقرت الدنيا في أنفسهم، وقلت حين عاينوا يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين في قوله
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) قال: لا إله إلا الله. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال:
يعفو عن السيئة. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: يقول له يرحمك الله يغفر الله لك. وأخرج ابن أبي حاتم
عن قتادة قال: نزغ الشيطان تحريشه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وآتينا داود زبورا)
قال: كنا نحدث أنه دعاء علمه داود وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: الزبور ثناء على الله ودعاء وتسبيح. قلت: الأمر كما قاله قتادة
والربيع فإنا وقفنا على الزبور فوجدناه خطبا يخطبها داود عليه السلام ويخاطب بها ربه سبحانه عند دخوله الكنيسة
وجملته مائة وخمسون خطبة كل خطبة تسمى مزمورا بفتح الميم الأولى وسكون الزاي وضم الميم الثانية وآخره راء،
ففي بعض هذه الخطب يشكو داود على ربه من أعدائه ويستنصره عليهم، وفى بعضها يحمد الله ويمجده ويثنى عليه
بسبب ما وقع من النصر عليهم والغلبة لهم، وكان عند الخطبة يضرب بالقيثارة، وهى آلة من آلات الملاهي. وقد
ذكر السيوطي في الدر المنثور هاهنا روايات عن جماعة من السلف يذكرون ألفاظا وقفوا عليها في الزبور ليس
لها كثير فائدة، فقد أغنى عنها وعن غيرها ما اشتمل عليه القرآن من المواعظ والزواجر.
سورة الإسراء الآية (56 - 60)
236

قوله (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) هذا رد على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور
الملائكة، وعلى طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بإلهية عيسى ومريم وعزير، فأمر الله سبحانه رسوله صلى
الله عليه وآله وسلم بأن يقول لهم: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله، وقيل أراد بالذين زعمتم نفرا من الجن
عندهم ناس من العرب، وإنما خصصت الآية بمن ذكرنا لقوله (يبتغون إلى ربهم الوسيلة)، فإن هذا لا يليق
بالجمادات (فلا يملكون كشف الضر عنكم) أي لا يستطيعون ذلك، والمعبود الحق هو الذي يقدر على كشف
الضر، وعلى تحويله من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، فوجب القطع بأن هذه التي تزعمونها آلهة ليست
بآلهة، ثم إنه سبحانه أكد عدم اقتدارهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله في جلب المنافع ودفع المضار، فقال (أولئك
الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) فأولئك مبتدأ والذين يدعون صفته، وضمير الصلة محذوف: أي يدعونهم
وخبر المبتدأ يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويجوز أن يكون الذين يدعون خبر المبتدأ: أي الذين يدعون عباده إلى
عبادتهم، ويكون يبتغون في محل نصب على الحال. وقرأ ابن مسعود " تدعون " بالفوقية على الخطاب. وقرأ
الباقون بالتحتية على الخبر، ولا خلاف في يبتغون أنه بالتحتية والوسيلة القربة بالطاعة والعبادة: أي يتضرعون إلى الله
في طلب ما يقربهم إلى ربهم، والضمير في ربهم يعود إلى العابدين أو المعبودين (أيهم أقرب) مبتدأ وخبر. قال
الزجاج: المعنى أيهم أقرب بالوسيلة إلى الله: أي يتقرب إليه بالعمل الصالح، ويجوز أن يكون بدلا من الضمير
في يبتغون: أي يبتغي من هو أقرب إليه تعالى الوسيلة، فكيف بمن دونه؟ وقيل إن يبتغون مضمن معنى يحرصون
أي يحرصون أيهم أقرب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة (ويرجون رحمته) كما يرجوها غيرهم (ويخافون عذابه) كما
يخافه غيرهم (إن عذاب ربك كان محذورا) تعليل لقوله يخافون عذابه: أي إن عذابه سبحانه حقيق بأن يحذره
العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم. ثم بين سبحانه مآل الدنيا وأهلها فقال (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها
قبل يوم القيامة) إن نافية. ومن للاستغراق: أي ما من قرية، أي قرية كانت من قرى الكفار. قال الزجاج:،
أي ما من أهل قرية إلا سيهلكون إما بموت وإما بعذاب يستأصلهم، فالمراد بالقرية أهلها، وإنما قيل قبل يوم القيامة
لأن الإهلاك يوم القيامة غير مختص بالقرى الكافرة، بل يعم كل قرية لانقضاء عمر الدنيا، وقيل الإهلاك
للصالحة والتعذيب للطالحة، والأول أولى لقوله - وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (كان ذلك) المذكور
من الإهلاك. والتعذيب (في الكتاب) أي اللوح المحفوظ (مسطورا) أي مكتوبا، والسطر الخط وهو في الأصل
مصدر، والسطر بالتحريك مثله. قال جرير:
من شاء بايعته مالي وخلفته * ما تكمل التيم في ديوانها سطرا
والخلفة بضم الخاء خيار المال. والسطر جمع أسطار. وجمع السطر بالسكون أسطر (وما منعنا أن نرسل بالآيات
إلا أن كذب بها الأولون) قال المفسرون: إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل
لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم جبال مكة، فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان ما سأل قومك، ولكنهم إن لم يؤمنوا
لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم. فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: وما منعنا من إرسال الآيات التي سألوها إلا تكذيب
الأولين، فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنة الله سبحانه في عباده، فالمنع مستعار
للترك، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء: أي ما تركنا إرسالها لشئ من الأشياء إلا تكذيب الأولين، فإن
كذب بها هؤلاء كما كذب بها أولئك لاشتراكهم في الكفر والعناد حل بهم ما حل بهم، و " أن " الأولى في محل نصب
بإيقاع المنع عليها، وأن الثانية في محل رفع. والباء في بالآيات زائدة. والحاصل أن المانع من إرسال الآيات التي
237

اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي وهو الاستئصال، وقد عزمنا على أن نؤخر أمر
من بعث إليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة، وقيل معنى الآية: إن هؤلاء الكفار من قريش
ونحوهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون البتة كما لم يؤمن أولئك، فيكون إرسال الآيات ضائعا، ثم إنه سبحانه استشهد
على ما ذكر بقصة صالح وناقته، فإنهم لما اقترحوا عليه ما اقترحوا من الناقة وصفتها التي قد بينت في محل آخر
وأعطاهم الله ما اقترحوا فلم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب، وإنما خص قوم صالح بالاستشهاد. لأن آثار إهلاكهم
في بلاد العرب قريبة من قريش وأمثالهم يبصرها صادرهم وواردهم فقال (وآتينا ثمود الناقة مبصرة) أي ذات
إبصار يدركها الناس بأبصارهم كقوله - وجعلنا آية النهار مبصرة - أو أسند إليها حال من يشاهدها مجازا. أو أنها
جعلتهم ذوي إبصار، من أبصره جعله بصيرا. وقرئ على صيغة المفعول. وقرئ بفتح الميم والصاد وانتصابها على
الحال. وقرئ برفعها على أنها خبر مبتدإ محذوف. والجملة معطوفة على محذوف يقتضيه سياق الكلام: أي
فكذبوها وآتينا ثمود الناقة، ومعنى (فظلموا بها) فظلموا بتكذيبها أو على تضمين ظلموا معنى جحدوا أو كفروا:
أي فجحدوا بها أو كفروا بها ظالمين ولم يكتفوا بمجرد الكفر أو الجحد (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) اختلف
في تفسير الآيات على وجوه: الأول أن المراد بها العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار
تخويفا للمكذبين، الثاني أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي، الثالث تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى
تكهل ثم إلى شيب ليعتبر الإنسان بتقلب أحواله فيخاف عاقبة أمره، الرابع آيات القرآن. الخامس الموت الذريع
والمناسب للمقام أن تفسر الآيات المذكورة بالآيات المقترحة: أي لا نرسل الآيات المقترحة إلا تخويفا من نزول
العذاب، فإن لم يخافوا وقع عليهم. والجملة مستأنفة لا محل لها، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من
ضمير ظلموا بها: أي فظلموا بها ولم يخافوا، والحال أن ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلا تخويفا. قال ابن
قتيبة: وما نرسل بالآيات المقترحة إلا تخويفا من نزول العذاب العاجل. ولما ذكر سبحانه الامتناع من إرسال
الآيات المقترحة على رسوله للصارف المذكور قوى قلبه بوعد النصر والغلبة فقال (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط
بالناس) الظرف متعلق بمحذوف: أي أذكر إذ قلنا لك: أي أنهم في قبضته وتحت قدرته، فلا سبيل لهم إلى
الخروج مما يريده بهم لإحاطته لهم بعلمه وقدرته، وقيل المراد بالناس أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم: أي
إن الله سيهلكهم، وعبر بالماضي تنبيها على تحقق وقوعه، وذلك كما وقع يوم بدر ويوم الفتح، وقيل المراد أنه
سبحانه عصمه من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) لما بين
سبحانه أن إنزال الآيات يتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الإسراء. وهى المذكورة في صدر السورة، وسماها
رؤيا لأنها وقعت بالليل. أو لأن الكفرة قالوا لعلها رؤيا، وقد قدمنا في صدر السورة وجها آخر في تفسير
هذه الرؤيا، وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أسرى به،
وقيل كانت رؤيا نوم، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى أنه يدخل مكة فافتتن المسلمون لذلك، فلما فتح
الله مكة نزل قوله تعالى - لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق - وقد تعقب هذا بأن هذه الآية مكية، والرؤيا المذكورة
كانت بالمدينة، وقيل إن هذه الرؤيا المذكورة في هذه الآية هي أنه رأى بني مروان ينزون على منبره نزو القردة
فساءه ذلك، فقيل إنما هي الدنيا أعطوها فسرى عنه، وفيه ضعف. فإنه لا فتنة للناس في هذه الرؤيا إلا أن يراد
بالناس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده، ويراد بالفتنة ما حصل من المساءة لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، أو يحمل على أنه قد كان أخبر الناس بها فافتتنوا. وقيل إن الله سبحانه أراه في المنام مصارع قريش حتى
238

قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول: هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان،
فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية (والشجرة الملعونة في القرآن) عطف على الرؤيا، قيل وفى الكلام تقديم
وتأخير. والتقدير: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. قال جمهور المفسرين
وهى شجرة الزقوم، والمراد بلعنها لعن آكلها كما قال سبحانه - إن شجرة الزقوم طعام الأثيم -. وقال الزجاج: إن
العرب تقول لكل طعام مكروه ملعون. ومعنى الفتنة فيها أن أبا جهل وغيره قالوا: زعم صاحبكم أن نار جهنم
تحرق الحجر. ثم يقول ينبت فيها الشجر. فأنزل الله هذه الآية. وروى أن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمرا
وزبدا وقال لأصحابه: تزقموا. وقال ابن الزبعري: كثر الله من الزقوم في داركم فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن. وقيل
إن الشجرة الملعونة هي الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتلعها: وهى شجرة الكشوث، وقيل هي الشيطان، وقيل
اليهود، وقيل بنو أمية (ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا) أي نخوفهم بالآيات فما يزيدهم التخويف إلا طغيانا
متجاوزا للحد متماديا غاية التمادي فما يفيدهم إرسال الآيات إلا الزيادة في الكفر، فعند ذلك نفعل بهم ما فعلناه بمن
قبلهم من الكفار. وهو عذاب الاستئصال ولكنا قد قضينا بتأخير العقوبة.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود في قوله (قل ادعوا
الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) قال: كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجن
فأسلم النفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم، فأنزل الله (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة)
كلاهما، يعني الفعلين بالياء التحتية، وروى نحو هذا عن ابن مسعود من طرق أخرى. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيزا. وروى
عنه من وجه آخر بلفظ عيسى وأمه وعزير. وروى عنه أيضا من وجه آخر بلفظ: هم عيسى وعزير، والشمس
والقمر. وأخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سلوا الله
لي الوسيلة. قالوا وما الوسيلة؟ قال القرب من الله. ثم قرأ (يبتغون إلى ربهم الوسيلة أبهم أقرب) ". وأخرج ابن
أبي حاتم عن إبراهيم التيمي في قوله (كان ذلك في الكتاب مسطورا) قال: في اللوح المحفوظ. وأخرج أحمد
والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء
في المختارة عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي
عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما
أهلكت من قبلهم من الأمم، قال: لا بل أستأني بهم، فأنزل الله (وما منعنا أن نرسل بالآيات) الآية. وأخرج
أحمد والبيهقي من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع بن أنس قال: قال الناس لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن
شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم، فإن عصيتم هلكتم، فقالوا لا نريدها ". وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن
ابن عباس (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) قال: الموت. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في الزهد وابن جرير
وابن المنذر عن الحسن قال: هو الموت الذريع. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
الحسن في قوله (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) قال: عصمك من الناس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عن مجاهد في الآية قال: فهم في قبضته. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأحمد والبخاري والترمذي
239

والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس
في قوله (وما جعلنا الرؤيا) الآية قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسرى به إلى
بيت المقدس، وليست برؤيا منام (والشجرة الملعونة في القرآن) قال: هي شجرة الزقوم. وأخرج أبو سعيد
وأبو يعلى وابن عساكر عن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أسرى به أصبح يحدث نفرا من
قريش وهو يستهزئون به. فطلبوا منه آية فوصف لهم بيت المقدس، وذكر لهم قصة العير، فقال الوليد بن
المغيرة: هذا ساحر، فأنزل الله إليه (وما جعلنا الرؤيا) الآية. وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى
مات، فأنزل الله (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس). قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده: وهذا السند
ضعيف جدا، وذكر من جملة رجال السند محمد بن الحسن بن زبان وهو متروك وشيخه عبد المهيمن بن عباس
ابن سهل بن سعد ضعيف جدا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " رأيت
ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة، فأنزل الله (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، والشجرة
الملعونة) ": يعنى الحكم وولده. وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلي بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: " رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء. واهتم رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لذلك، فأنزل الله الآية ". وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي نحوه مرفوعا وهو مرسل. وأخرج
ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن سعيد بن المسيب نحوه وهو مرسل. وأخرج ابن مردويه عن
عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأبيك وجدك " إنكم الشجرة
الملعونة في القرآن " وفى هذا نكارة لقولها يقول لأبيك وجدك ولعل جد مروان لم يدرك زمن النبوة. وأخرج
ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرى أنه دخل مكة
هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكة قبل الأجل فرده المشركون، فقال ناس قد رد. وقد كان حدثنا
أنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم وقد تعارضت هذه الأسباب ولم يمكن الجمع بينها فالواجب المصير إلى الترجيح
والراجح كثرة وصحة هو كون سبب نزول هذه الآية قصة الاسراء فيتعين ذلك. وقد حكى ابن كثير إجماع الحجة
من أهل التأويل على ذلك في الرؤيا، وفى تفسير الشجرة وأنها شجرة الزقوم، فلا اعتبار بغيرهم معهم. وأخرج
ابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لما ذكر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم شجرة الزقوم تخويفا لهم: يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها
محمد؟ قالوا لا قال: عجوة يثرب بالزبد. والله لئن استمكنا منها لنزقمنها تزقما قال الله سبحانه - إن شجرة
لزقوم طعام الأثيم -، " وأنزل والشجرة الملعونة في القرآن " الآية. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله (والشجرة
لملعونة) قال: ملعونة لأنه قال - طلعها كأنه رؤس الشياطين - والشياطين ملعونون.
سورة الإسراء الآية (61 - 63)
240

سورة الإسراء الآية (64 - 65)
لما ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان في بلية عظيمة من قومه ومحنة شديدة أراد أن يبين
أن جميع الأنبياء كانوا كذلك، حتى أن هذه عادة قديمة سنها إبليس اللعين، وأيضا لما ذكر أن الذين يدعون
يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ذكر ها هنا ما يحقق ذلك فقال (وإذ قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم) هذه القصة قد ذكرها الله سبحانه في سبعة مواضع: في البقرة، والأعراف، والحجر،
وهذه السورة، والكهف، وطه، وص، وقد تقدم تفسيرها مبسوطا فلنقتصر هاهنا على تفسير ما لم يتقدم
ذكره من الألفاظ. فقوله (طينا) منتصب بنزع الخافض: أي من طين، أو على الحال. قال الزجاج
المعنى لمن خلقته طينا، وهو منصوب على الحال (أرأيتك) أي أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته؟ وقد
- خلقتني من نار وخلقته من طين - فحذف هذا للعلم به (لأحتنكن ذريته) أي لأستولين عليهم بالإغواء والإضلال
قال الواحدي: أصله من احتناك الجراد الزرع، وهو أن تستأصله بأحناكها وتفسده، هذا هو الأصل، ثم سمى
الاستيلاء على الشئ، وأخذه كله احتناكا، وقيل معناه: لأسوقنهم حيث شئت وأقودنهم حيث أردت، من
قولهم حنكت الفرس أحنكه حنكا: إذا جعلت في فيه الرسن، والمعنى الأول أنسب بمعنى هذه الآية، ومنه
قول الشاعر:
أشكو إليك سنة قد أجحفت * جهدا إلى جهد بنا وأصعقت * واحتنكت أموالنا واختلفت.
أي استأصلت أموالنا، واللام في (لئن أخرتن) هي الموطئة. وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل
بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه، أو قاله لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري
منهم في مجاري الدم، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وتنفق لديهم وسوسته إلا من عصم الله، وهم المرادون بقوله
(إلا قليلا) وفى معنى هذا الاستثناء قوله سبحانه (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى
- ولقد صدق عليهم إبليس ظنه - فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا اعتمادا على الظن، وقيل إنه استنبط ذلك من قول
الملائكة - أتجعل فيها من يفسد فيها -. وقيل علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات، أو ظن ذلك
لأنه وسوس لآدم، فقبل منه ذلك ولم يجد له عزما، كما روى عن الحسن (قال اذهب فمن تبعك منهم) أي أطاعك
(فإن جهنم جزاؤكم) أي إبليس ومن أطاعه (جزاء موفورا) أي وافرا مكملا، يقال: وفرته أفره وفرا، ووفر
المال بنفسه يفر وفورا، فهو وافر، فهو مصدر، ومنه قول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه * يفره ومن لا يتقي الشتم يشتم
ثم كرر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) أي استزعج واستخف
من استطعت من بني آدم، يقال أفزه واستفزه: أي أزعجه واستخفه، والمعنى: استخفهم بصوتك داعيا لهم إلى
معصية الله، وقيل هو الغناء واللهو واللعب والمزامير (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) قال الفراء وأبو عبيدة:
241

أجلب من الجلبة والصياح: أي صح عليهم. وقال الزجاج: أي اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك. فالإجلاب
الجمع، والباء في " بخيلك " زائدة. وقال ابن السكيت: الإجلاب الإعانة، والخيل تقع على الفرسان كقوله صلى الله
عليه وآله وسلم " يا خيل الله اركبي " وتقع على الأفراس. والرجل بسكون الجيم: جمع رجل كتاجر وتجر،
وصاحب وصحب، وقرأ حفص بكسر الجيم على أنه صفة. قال أبو زيد: يقال رجل ورجل، بمعنى راجل،
فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان، أو المراد كل راكب وراجل في معصية الله (وشاركهم في الأموال
والأولاد) أما المشاركة في الأموال، فهي كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذا من غير حق.
أو وضعا في غير حق كالغصب والسرقة والربا، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة، والمشاركة
في الأولاد دعوى الولد بغير سبب شرعي، وتحصيله بالزنا وتسميتهم بعبد اللآت وعبد العزى، والإساءة في
تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق، ووأد البنات
وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها، ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم، ثم قال (وعدهم)
قال الفراء: قل لهم لا جنة ولا نار. وقال الزجاج: وعدهم بأنهم لا يبعثون (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) أي
باطلا، وأصل الغرور تزيين الخطأ بما يوهم الصواب، وقيل معناه: وعدهم النصرة على من خالفهم، وهذه
الأوامر للشيطان من باب التهديد والوعيد الشديد، وقيل هي على طريقة الاستخفاف به وبمن تبعه (إن عبادي
ليس لك عليهم سلطان) يعني عبادة المؤمنين كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز من أن إضافة العباد إليه يراد
بها المؤمنون لما في الإضافة من التشريف، وقيل المراد جميع العباد بدليل الاستثناء بقوله في غير هذا الموضع - إلا
من اتبعك من الغاوين -، والمراد بالسلطان التسلط (وكفى بربك وكيلا) يتوكلون عليه. فهو الذي يدفع عنهم كيد
الشيطان ويعصمهم من إغوائه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال إبليس إن آدم خلق من تراب من طين خلق ضعيفا وإني
خلقت من نار، والنار تحرق كل شئ (لأحتنكن ذريته إلا قليلا) فصدق ظنه عليهم. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه (لأحتنكن ذريته) قال: لأستولين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد (لأحتنكن
ذريته) قال: لأحتوينهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لأضلنهم. وأخرج ابن
أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (موفورا) قال: وافرا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) قال: صوته كل داع دعا إلى معصية
الله (وأجلب عليهم بخيلك) قال: كل راكب في معصية الله (ورجلك) قال كل راجل في معصية الله (وشاركهم
في الأموال) قال: كل مال في معصية الله (والأولاد) قال: كل ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام. وأخرج
الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال: كل خيل تسير في معصية الله، وكل مال أخذ
بغير حقه، وكل ولد زنا. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: (الأموال) ما كانوا
يحرمون من أنعامهم (والأولاد) أولاد الزنا. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال (الأموال) البحيرة والسائبة
والوصيلة لغير الله (والأولاد) سموا عبد الحارث وعبد شمس.
سورة الإسراء الآية (66)
242

سورة الإسراء الآية (67 - 70)
قوله (ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر) الإزجاء: السوق والإجراء والتسير، ومنه قوله سبحانه
- ألم تر أن الله يزجى سحابا - وقول الشاعر:
يا أيها الراكب المزجي مطيته * سائل بني أسد ما هذه الصور
وقول الآخر: عوذا تزجي خلفها أطفالها * والمعنى: أن الله سبحانه يسير الفلك في البحر بالريح
والفلك ها هنا جمع. وقد تقدم، والبحر هو الماء الكثير عذبا كان أو مالحا، وقد غلب هذا الاسم على المشهور
(لتبتغوا من فضله) أي من رزقه الذي تفضل به على عباده أو من الربح بالتجارة، ومن زائدة أو للتبعيض،
وفى هذه الآية تذكير لهم بنعم الله سبحانه عليهم حتى لا يعبدوا غيره ولا يشركوا به أحدا، وجملة (إنه كان بكم رحيما)
تعليل لما تقدم: أي كان بكم رحيما فهداكم إلى مصالح دنياكم (وإذا مسكم الضر) يعنى خوف الغرق (في البحر
ضل من تدعون) من الآلهة وذهب عن خواطركم، ولم يوجد لإغاثتكم ما كنتم تدعون من دونه من صنم،
أو جن، أو ملك، أو بشر (إلا إياه) وحده فإنكم تعقدون رجاءكم برحمته وإغاثته، والاستثناء منقطع، ومعنى
الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم وسائر معبوداتهم أنها نافعة لهم في غير هذه الحالة، فأما في هذه الحالة
فإن كل واحد منهم يعلم بالفطرة علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام ونحوها لا فعل لها (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم)
عن الإخلاص لله وتوحيده ورجعتم إلى دعاء أصنامكم والاستغاثة بها (وكان الإنسان كفورا) أي كثير
الكفران لنعمة الله. وهو تعليل لما تقدمه، والمعنى: أنهم عند الشدائد يتمسكون برحمة الله، وفى الرخاء يعرضون
عنه. ثم أنكر سبحانه عليهم سوء معاملتهم قائلا (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر) الهمزة للإنكار والفاء للعطف
على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض. فبين لهم أنه قادر على هلاكهم في البر وإن سلموا
من البحر. والخسف أن تنهار الأرض بالشئ، يقال بئر خسيف: إذا انهدم أصلها، وعين خاسف: أي
غائرة حدقتها في الرأس، وخسفت عين الماء: إذا غار ماؤها. وخسفت الشمس: إذا غابت عن الأرض
وجانب البر ناحية الأرض، وسماه جانبا. لأنه يصير بعد الخسف جانبا، وأيضا فإن البحر جانب من الأرض
والبر جانب. وقيل إنهم كانوا على ساحل البحر. وساحله جانب البر فكانوا فيه آمنين من مخاوف البحر،
فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر (أو يرسل عليكم حاصبا) قال أبو عبيدة والقتيبي:
الحصب الرمي: أي ريحا شديدة حاصبة. وهى التي ترمى بالحصى الصغار. وقال الزجاج: الحاصب التراب الذي
243

فيه حصباء، فالحاصب ذو الحصباء كاللابن، والتامر، وقيل الحاصب حجارة من السماء تحصبهم كما فعل بقوم
لوط، ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد حاصب، ومنه قول الفرزدق:
مستقبلين جبال الشام تضربنا * بحاصب كنديف القطن منثور
(ثم لا تجدوا لكم وكيلا) أي حافظا ونصيرا يمنعكم من بأس الله (أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى) أي
في البحر مرة أخرى بأن يقوى دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوبه، وجاء بفي ولم يقل إلى البحر للدلالة على
استقرارهم فيه (فيرسل عليكم قاصفا من الريح) القاصف: الريح الشديدة التي تكسر بشدة، من قصف الشئ
يقصفه: أي كسره بشدة، والقصف: الكسر. أو هو الريح التي لها قصيف: أي صوت شديد من قولهم رعد
قاصف: أي شديد الصوت (فيغرقكم) قرأ أبو جعفر وشيبة ورويس ومجاهد " فتغرقكم " بالتاء الفوقية على أن فاعله
الريح وقرأ الحسن وقتادة وابن وردان " فيغرقكم " بالتحتية والتشديد في الراء. وقرأ أبو جعفر أيضا " الرياح ".
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون في جميع هذه الأفعال. وقرأ الباقون بالياء التحتية في جميعها أيضا، والباء في بما كفرتم
للسببية: أي بسبب كفركم (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) أي ثائرا يطالبنا بما فعلنا. قال الزجاج: لا تجدوا من
يتبعنا بإنكار ما نزل بكم. قال النحاس: وهو من الثأر، وكذا يقال لكل من طلب بثأر أو غيره تبيع وتابع (ولقد
كرمنا بني آدم) هذا إجمال لذكر النعمة التي أنعم الله بها على بني آدم: أي كرمناهم جميعا، وهذه الكرامة يدخل
تحتها خلقهم على هذه الهيئة الحسنة وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس على وجه لا يوجد
لسائر أنواع الحيوان مثله. وحكى ابن جرير عن جماعة أن هذا التكريم هو أنهم يأكلون بأيديهم، وسائر الحيوانات
تأكل بالفم، وكذا حكاه النحاس. وقيل ميزهم بالنطق والعقل والتمييز، وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء
بالذوائب. وقال ابن جرير: أكرمهم بتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم، وقيل بالكلام والخط
والفهم، ولا مانع من حمل التكريم المذكور في الآية على جميع هذه الأشياء. وأعظم خصال التكريم العقل، فإن
به تسلطوا على سائر الحيوانات، وميزوا بين الحسن والقبيح، وتوسعوا في المطاعم والمشارب، وكسبوا الأموال
التي تسببوا بها إلى تحصيل أمور لا يقدر عليها الحيوان، وبه قدروا على تحصيل الأبنية التي تمنعهم مما يخافون، وعلى
تحصيل الأكسية التي تقيهم الحر والبرد، وقيل تكريمهم: هو أن جعل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم منهم
(وحملناهم في البر والبحر) هذا تخصيص لبعض أنواع التكريم، حملهم سبحانه في البر على الدواب، وفى البحر
على السفن، وقيل حملناهم فيهما حيث لم نخسف بهم ولم نغرقهم (ورزقناهم من الطيبات) أي لذيذ المطاعم والمشارب
وسائر ما يستلذونه الله وينتفعون به (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه
فأفاد ذلك أن بني آدم فضلهم سبحانه على كثير من مخلوقاته، وقد جعل بعض أهل العلم الكثير هنا بمعنى الجميع
وهو تعسف لا حاجة إليه.
وقد شغل كثير من أهل العلم بما لم تكن إليه حاجة ولا تتعلق به فائدة، وهو مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء
أو الأنبياء على الملائكة، ومن جملة ما تمسك به مفضلو الأنبياء على الملائكة هذه الآية، ولا دلالة لها على المطلوب
لما عرفت من إجمال الكثير وعدم تبيينه، والتعصب في هذه المسئلة هو الذي حمل بعض الأشاعرة على تفسير الكثير
هنا بالجميع حتى يتم له التفضيل على الملائكة، وتمسك بعض المعتزلة بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء،
ولا دلالة بها على ذلك، فإنه لم يقم دليل على أن الملائكة من القليل الخارج عن هذا الكثير، ولو سلمنا ذلك
فليس فيما خرج عن هذا الكثير ما يفيد أنه أفضل من بني آدم، بل غاية ما فيه أنه لم يكن الإنسان مفضلا عليه.
244

فيحتمل أن يكون مساويا للإنسان، ويحتمل أن يكون أفضل منه، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، والتأكيد
بقوله (تفضيلا) يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا
من كفرانه.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (يزجى) قال: يجرى، وأخرجوا
عن قتادة قال: يسيرها في البحر. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (حاصبا) قال: مطر الحجارة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: حجارة من السماء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس
(قاصفا من الريح) قال: التي تغرق. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو قال: القاصف والعاصف
في البحر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (قاصفا) قال: عاصفا، وفى
قوله (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) قال: نصيرا. وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب والخطيب في تاريخه عن
عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما من شئ أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم
قيل يا رسول الله ولا الملائكة؟ قال ولا الملائكة، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر " وأخرجه
البيهقي من وجه آخر عن ابن عمرو موقوفا قال: وهو الصحيح. وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال:
المؤمن أكرم على الله من ملائكته. وأخرج الطبراني عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن
الملائكة قالت يا رب أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا
نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن
قلت له كن فكان ". وأخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قالت الملائكة. وإسناد الطبراني
هكذا: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، حدثنا حجاج
ابن محمد، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكره. وأخرج ابن عساكر من طريق عروة بن رويم قال: حدثني أنس بن مالك
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر نحو حديث ابن عمرو الأول مع زيادة. وأخرج نحوه البيهقي أيضا
في الأسماء والصفات من وجه آخر عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فذكره. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس
في قوله (ولقد كرمنا بني آدم) قال: جعلناهم يأكلون بأيديهم وسائر الخلق يأكلون بأفواههم. وأخرج الحاكم
في التاريخ والديلمي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الكرامة الأكل بالأصابع "
سورة الإسراء الآية (71 - 75)
245

سورة الإسراء الآية (76 - 77)
قوله (يوم ندعوا كل أناس بامامهم) قال الزجاج: يعني يوم القيامة، وهو منصوب على معنى أذكر يوم
ندعوا. وقرئ " يدعو " بالياء التحتية على البناء للفاعل ويدعى على البناء للمفعول، والباء في بامامهم للإلصاق كما
تقول: أدعوك باسمك، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف هو حال، والتقدير: ندعو كل أناس متلبسين بامامهم
أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده، والأول أولى والامام في اللغة كل ما يؤتم به من نبي أو مقدم في الدين
أو كتاب.
وقد اختلف المفسرون في تعيين الإمام الذي تدعى كل أناس به، فقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك
إنه كتاب كل إنسان الذي فيه عمله: أي يدعى كل إنسان بكتاب عمله، ويؤيد هذا قوله - فأما من أوتى كتابه -
الآية، وقال ابن زيد الإمام: هو الكتاب المنزل عليهم فيدعى أهل التوراة بالتوراة، وأهل الإنجيل بالإنجيل،
وأهل القرآن بالقرآن، فيقال: يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل يا أهل القرآن. وقال مجاهد وقتادة: إمامهم نبيهم
فيقال هاتوا متبعي إبراهيم، هاتوا متبعي موسى، هاتوا متبعي عيسى، هاتوا متبعي محمد، وبه قال الزجاج. وقال
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، المراد بالإمام إمام عصرهم، فيدعى أهل كل عصر بإمامهم الذي كانوا يأتمرون
بأمره وينتهون بنهيه. وقال الحسن وأبو العالية: المراد بإمامهم أعمالهم، فيقال مثلا: أين المجاهدون أين الصابرون
أين الصائمون أين المصلون؟ ونحو ذلك. وروى عن ابن عباس وأبي هريرة. وقال أبو عبيدة، المراد بإمامهم
صاحب مذهبهم، فيقال مثلا: أين التابعون للعالم فلان بن فلان، وهذا من البعد بمكان. وقال محمد بن كعب:
بإمامهم بأمهاتهم، على أن إمام جمع أم كخف وخفاف. وهذا بعيد جدا. وقيل الإمام هو كل خلق يظهر من
الإنسان حسن كالعلم والكرم والشجاعة. أو قبيح كأضدادها. فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن هو كالإمام
ذكر معناه الرازي في تفسيره (فمن أوتى كتابه بيمينه) من أولئك المدعوين، وتخصيص اليمين بالذكر للتشريف
والتبشير (فأولئك) الإشارة إلى من باعتبار معناه. قيل ووجه الجمع الإشارة إلى أنهم مجتمعون على شأن جليل،
أو الإشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد (يقرءون كتابهم) الذي أوتوه
(ولا يظلمون فتيلا) أي لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل، وهو القشرة التي في شق النواة، أو هو عبارة عن
أقل شئ ولم يذكر أصحاب الشمال تصريحا. ولكنه ذكر سبحانه ما يدل على حالهم القبيح فقال (ومن كان في هذه
أعمى) أي من كان من المدعوين في هذه الدنيا أعمى: أي فاقد البصيرة. قال النيسابوري: لا خلاف أن المراد
بهذا العمى عمى القلب. وأما قوله (فهو في الآخرة أعمى) فيحتمل أن يراد به عمى البصر كقوله - ونحشره يوم القيامة
أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا - وفى هذا زيادة العقوبة، ويحتمل أن يراد عمى القلب. وقيل المراد
بالآخرة عمل الآخرة: أي فهو في عمل، أو في أمر الآخرة أعمى، وقيل المراد من عمى عن النعم التي أنعم الله بها
عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى، وقيل من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة
فيها أعمى، وقيل من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله فهو في الآخرة أعمى، وقد قيل إن قوله " فهو في الآخرة
أعمى " أفعل تفضيل: أي أشد عمى وهذا مبني على أنه من عمى القلب إذ لا يقال ذلك في عمى العين. قال الخليل
246

وسيبويه: لأنه خلقه بمنزلة اليد والرجل، فلا يقال ما أعماه كما لا يقال ما أيداه. وقال الأخفش: لا يقال فيه ذلك
لأنه أكثر من أحرف. وقد حكى الفراء عن بعض العرب أنه سمعه يقول ما أسود شعره، ومن ذلك قول الشاعر:
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم * لؤما وأبيضهم سربال طباخ
والبحث مستوفى في النحو. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف " أعمى " بالإمالة في الموضعين وقرأهما أبو عمرو
ويعقوب والباقون بغير إمالة، وأمال أبو عبيد الأول دون الثاني (وأضل سبيلا) يعنى أن هذا أضل سبيلا من
الأعمى لكونه لا يجد طريقا إلى الهداية، بخلاف الأعمى فقد يهتدى في بعض الأحوال. ثم لما عدد سبحانه في الآيات
المتقدمة أقسام النعم على بني آدم أردفه بما يجري مجرى التحذير من الاغترار بوساوس الأشقياء فقال (وإن كادوا
ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك) إن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، واللام هي الفارقة
بينها وبين النافية، والمعنى: وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك فاتنين، وأصل الفتنة الاختبار، ومنه فتن الصائغ
الذهب، ثم استعمل في كل من أزال الشئ عن حده وجهته، وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم
القرآن وافتراء على الله سبحانه من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك (عن الذي أوحينا إليك) من الأوامر والنواهي
والوعد والوعيد (لتفتري علينا غيره) لتتقول علينا غير الذي أوحينا إليك مما اقترحه عليك كفار قريش (وإذا
لاتخذوك خليلا) أي لو اتبعت أهواءهم لاتخذوك خليلا لهم: أي والوك وصافوك، مأخوذ من الخلة بفتح الخاء
(ولولا أن ثبتناك) على الحق وعصمناك عن موافقتهم (لقد كدت تركن إليهم) لقاربت أن تميل إليهم أدنى ميل،
والركون هو الميل اليسير. ولهذا قال (شيئا قليلا) لكن أدركته صلى الله عليه وآله وسلم العصمة فمنعته من أن
يقرب من أدنى مراتب الركون إليهم. فضلا عن نفس الركون، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما هم
بإجابتهم، ذكر معناه القشيري وغيره، وقيل المعنى: وإن كادوا ليخبرون في عنك بأنك ملت إلى قولهم، فنسب
فعلهم إليه مجازا واتساعا كما تقول للرجل: كدت تقتل نفسك: أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت، ذكر
معناه المهدوي. ثم توعده سبحانه في ذلك أشد الوعيد فقال (إذ لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) أي
لو قاربت أن تركن إليهم، أي مثلي ما يعذب به غيرك ممن يفعل هذا الفعل في الدارين، والمعنى: عذابا ضعفا
في الحياة وعذابا ضعفا في الممات: أي مضاعفا، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأضيفت، وذلك
لأن خطأ العظيم عظيم كما قال سبحانه - يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين -
وضعف الشئ مثلاه، وقد يكون الضعف النصيب كقوله - لكل ضعف - أي نصيب. قال الرازي: حاصل
الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك
في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة (ثم لا تجد لك علينا نصيرا)
ينصرك فيدفع عنك هذا العذاب. قال النيسابوري: اعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها، والتهديد
على المعصية لا يدل على الإقدام عليها، فلا يلزم من الآية طعن في العصمة (وإن كادوا ليستفزونك) الكلام في هذا
كالكلام في " وإن كادوا ليفنونك ": أي وإن الشأن أنهم قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة لتخرج عنها، ولكنه لم
يقع ذلك منهم، بل منعهم الله منه حتى هاجر بأمر ربه بعد أن هموا به، وقيل إنه أطلق الاخراج على إرادة
الإخراج تجويزا (وإذن لا يلبثون خلفك إلا قليلا) معطوف على ليستفزونك: أي لا يبقون بعد إخراجك إلا زمنا
قليلا. ثم عوقبوا عقوبة تستأصلهم جميعا. وقرأ عطاء بن أبي رباح " لا يلبثوا " بتشديد الباء الموحدة. وقرئ
" لايلبثوا " بالنصب على إعمال إذن على أن الجملة معطوف على جملة - وإن كادوا - لا على الخبر فقط. وقرأ نافع
247

وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو " خلفك " ومعنا بعدك. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي " خلافك "
ومعناه أيضا بعدك. وقال ابن الأنباري: خلافك بمعنى مخالفتك، واختار أبو حاتم القراءة الثانية لقوله - فرح
المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله - ومما يدل على أن خلاف بمعنى بعد قول الشاعر:
عفت الديار خلافها فكأنما * بسط الشواطب بينهن حصيرا
يقال شطبت المرأة الجريد إذا شققته لتعمل منه الحصير. قال أبو عبيدة: ثم تلقيه الشاطبة إلى المثقبة (سنة من
قد أرسلنا قبلك من رسلنا) سنة منتصبة على المصدرية: أي سن الله سنة. وقال الفراء: أي يعذبون كسنة من
قد أرسلنا فلما سقط الخافض عمل الفعل. وقيل المعنى: سنتنا سنة من قد أرسلنا. قال الزجاج: يقول إن سنتنا
هذه السنة فيمن أرسلنا قبلك إليهم أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتلوه أن ينزل العذاب بهم (ولا تجد
لسنتنا تحويلا) أي ما أجرى الله به العادة لم يتمكن أحد من تحويله ولا يقدر على تغييره.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (يوم ندعوا كل
أناس بإمامهم) قال: إمام هدى وإمام ضلالة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس
في الآية قال: نبيهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية
قال: بكتاب أعمالهم. وأخرج ابن مردويه عن علي في الآية قال: يدعى كل قوم بإمام زمانهم. وكتاب ربهم
وسنة نبيهم. وأخرج الترمذي وحسنه والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) قال " يدعى أحدهم فيعطى
كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ستين ذراعا ويبيض وجهه. ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ، فينطلق إلى
أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا، حتى يأتيهم فيقول: أبشروا لكل رجل منكم
مثل هذا، وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستين ذراعا على صورة آدم، ويلبس تاجا فيراه أصحابه
فيقولون: نعود بالله من شر هذا، اللهم لا تأتنا بهذا، قال: فيأتيهم فيقولون اللهم اخزه، فيقول أبعدكم الله،
فإن لكل رجل منكم مثل هذا ". قال البزار بعد إخراجه: لا يروى إلا من هذا الوجه. وأخرج ابن أبي حاتم
وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله (ومن كان في هذه أعمى) يقول من كان في الدنيا أعمى عما يرى من
قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا (فهو) عما وصفت له (في الآخرة)
ولم يره (أعمى وأضل سبيلا) يقول أبعد حجة. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه نحو
هذا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا يقول من عمى عن قدرة الله في الدنيا فهو في الآخرة أعمى. وأخرج
ابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا قال " إن أمية بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالا من قريش
أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: تعال فتمسح آلهتنا وندخل معك في دينك، وكان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم، فأنزل الله (وإن كادوا ليفتنونك) إلى
قوله (نصيرا) ". وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن زاذان عن جابر بن عبد الله مثله. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستلم الحجر. فقالوا لا ندعك
تستلمه حتى تستلم بآلهتنا، فقال سول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما علي لو فعلت والله يعلم مني خلافه؟
فأنزل الله (وإن كادوا ليفتنونك) الآية ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم
عن جبير بن نفير " أن قريشا أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين
248

اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك، فركن إليهم، فأوحى الله إليه (وإن كادوا ليفتنونك)
الآية ". وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: أنزل الله - والنجم إذا هوى - فقرأ عليهم رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية - أفرأيتم اللات والعزى - فألقى عليه الشيطان: تلك الغرانيق العلى، وابن شفاعتهم
لترتجي، فقرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما بقي من السورة وسجد، فأنزل الله (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي
أوحينا إليك) الآية، فما زال مهموما مغموما حتى أنزل الله - وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى -
الآية. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس " أن ثقيفا قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أجلنا
سنة حتى يهدي لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يهدي للآلهة أحرزناه ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة فهم أن يؤجلهم، فنزلت
(وإن كادوا ليفتنونك) الآية. وأخرج ابن جرير عنه في قوله (ضعف الحياة وضعف الممات) يعنى ضعف
عذاب الدنيا والآخرة. وأخرج البيهقي عن الحسن في الآية قال: هو عذاب القبر. وأخرج أيضا عن عطاء مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت الأنبياء تسكن
الشام، فمالك والمدينة؟ فهم أن يشخص، فأنزل الله (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض) الآية. وأخرج ابن
جرير عن حضرمي أنه بلغه أن بعض اليهود فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر
عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا إن كنت نبيا فالحق بالشام فإن الشام أرض
المحشر وأرض الأنبياء فصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قالوا فتحرى غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما
بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة - وإن كادوا ليستفزونك - إلى قوله -
تحويلا - فأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث، وقال له جبريل سل ربك فإن لكل
نبي مسئلة فقال ما تأمرني أن أسأل؟ قال (قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من
لدنك سلطانا نصيرا) فهؤلاء نزلن عليه في رجعته من تبوك. قال ابن كثير: وفى هذا الإسناد نظر، والظاهر أنه
ليس بصحيح فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالا لقوله - قاتلوا
الذين يلونكم من الكفار - وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض) قال هم أهل مكة باخراج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وقد فعلوا بعد ذلك فأهلكهم الله يوم بدر ولم يلبثوا بعده إلا قليلا حتى
أهلكهم الله يوم بدر، وكذلك كانت سنة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا) قال: يعني بالقليل يوم أخذهم ببدر، فكان
ذلك هو القليل الذين لبثوا بعده.
سورة الإسراء الآية (78 - 81)
249

سورة الإسراء الآية (82 - 85)
لما ذكر سبحانه الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات، وهى الصلاة، فقال (أقم الصلاة
لدلوك الشمس). وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية المراد بها الصلوات المفروضة.
وقد اختلف العلماء في الدلوك المذكور في هذه الآية على قولين: أحدهما أنه زوال الشمس عن كبد السماء
قاله عمر وابنه وأبو هريرة وأبو برزة وابن عباس والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو جعفر
الباقر، واختاره ابن جرير. والقول الثاني: أنه غروب الشمس قاله على وابن مسعود وأبي بن كعب، وروى
عن ابن عباس. قال الفراء: دلوك الشمس: من لدن زوالها إلى غروبها. قال الأزهري: معنى الدلوك في كلام
العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة، وقيل لها إذا أفلت دالكة، لأنها في الحالتين
زائلة. قال: والقول عندي أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، والمعنى: أقم الصلاة
من وقت دلوك الشمس (إلى غسق الليل) فيدخل فيها الظهر والعصر وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال
(وقرآن الفجر) هذه خمس صلوات. وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها، ودلكت براح: يعني الشمس: أي
غابت، وأنشد قطرب على هذا قول الشاعر:
هذا مقام قدمي رباح * دبت حتى دلكت براح
اسم من أسماء الشمس على وزن حذام وقطام، ومن ذلك قول ذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها * نجوم ولا بالآفلات الدوالك
أي الغوارب، وغسق الليل اجتماع الظلمة. قال الفراء والزجاج: يقال غسق الليل وأغسق: إذا أقبل بظلامه
قال أبو عبيد: الغسق سواد الليل. قال قيس بن الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا * واستكنت الهم والأرقا
وقيل غسق الليل: مغيب الشفق، ومنه قول زهير:
طلت تجود يداها وهى لاهية * حتى إذا جعجع الإظلام والغسق
وأصل الكلمة من السيلان يقال: غسقت إذا سالت. وحكى الفراء غسق الليل وأغسق، وظلم وأظلم، ودجى
وأدجى وغبش وأغبش، وقد استدل بهذه الغاية أعني قوله (إلى غسق الليل) من قال إن صلاة الظهر يتمادى وقتها من
الزوال إلى الغروب، روى ذلك عن الأوزاعي وأبي حنيفة وجوزه مالك والشافعي في حال الضرورة، وقد وردت
الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعيين أوقات الصلوات، فيجب حمل
مجمل هذه الآية على ما بينته السنة فلا نطيل بذكر ذلك. قوله (وقرآن الفجر) انتصاب قرآن لكونه معطوفا على
250

الصلاة: أي وأقم قرآن الفجر، قاله الفراء. وقال الزجاج والبصريون: انتصابه على الإغراء: أي فعليك قرآن
الفجر. قال المفسرون: المراد بقرآن الفجر صلاة الصبح. قال الزجاج: وفى هذه فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة
لا تكون إلا بقراءة حتى سميت الصلاة قرآنا، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب،
وفى بعض الأحاديث الخارجة من مخرج حسن وقرآن معها، وورد ما يدل على وجوب الفاتحة في كل ركعة، وقد
حررته في مؤلفاتي تحريرا مجودا، ثم علل سبحانه ذلك بقوله (إن قرآن الفجر كان مشهودا) أي تشهده ملائكة
الليل وملائكة النهار كما ورد ذلك في الحديث الصحيح، وبذلك قال جمهور المفسرين (ومن الليل فتهجد به
نافلة لك) من للتبعيض، وانتصابه على الظرفية بمضمر: أي قم بعض الليل فتهجد به، والضمير المجرور راجع
إلى القرآن وما قيل من أنه منتصب على الإغراء، والتقدير عليك بعض الليل فبعيد جدا، والتهجد مأخوذ من
الهجود. قال أبو عبيدة وابن الأعرابي: هو من الأضداد، لأنه يقال هجد الرجل: إذا نام، وهجد إذا سهر فمن
استعماله في السهر قول الشاعر:
ألا زارت وأهل منى هجود * فليت خيالها بمنى يعود
يعني منتبهين، ومن استعماله في النوم قول الآخر:
ألا طرقتنا والرفاق هجود * فباتت بعلات النوال تجود
يعني نياما. وقال الأزهري: الهجود في الأصل هو النوم بالليل، ولكن جاء التفعل فيه لأجل التجنب ومنه تأثم
وتحرج: أي تجنب الإثم والحرج، فالمتهجد من تجنب الهجود، فقام بالليل. وروى عن الأزهري أيضا أنه قال:
المتهجد القائم إلى الصلاة من النوم هكذا حكى عنه الواحدي، فقيد التهجد بالقيام من النوم، وهكذا قال مجاهد
وعلقمة والأسود فقالوا: التهجد بعد النوم. قال الليث: تهجد إذا استيقظ للصلاة (نافلة لك) معنى النافلة في اللغة
الزيادة على الأصل، فالمعنى أنها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم نافلة زائدة على الفرائض، والأمر بالتهجد وإن
كان ظاهره الوجوب لكن التصريح بكونه نافلة قرينة صارفة للأمر، وقيل المراد بالنافلة هنا أنها فريضة زائدة
على الفرائض الخمس في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، ويدفع ذلك التصريح بلفظ النافلة، وقيل كانت صلاة
الليل فريضة في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعا، وعلى هذا يحمل ما ورد
في الحديث أنها عليه فريضة، ولأمته تطوع. قال الواحدي: إن صلاة الليل كانت زيادة للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم خاصة لرفع الدرجات، لا للكفارات، لأنه غفر له من ذنبه ما تقدم وما تأخر، وليس لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا
إنما نعمل لكفارتها، قال: وهو قول جميع المفسرين. والحاصل أن الخطاب في هذه الآية وإن كان خاصا بالنبي
صلى الله عليه وآله وسلم في قوله أقم الصلاة، فالأمر له أمر لأمته، فهو شرع عام، ومن ذلك الترغيب في صلاة
الليل، فإنه يعم جميع الأمة، والتصريح بكونه نافلة يدل على عدم الوجوب، فالتهجد من الليل مندوب إليه
ومشروع لكل مكلف. ثم وعده سبحانه على إقامة الفرائض والنوافل فقال (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا)
قد ذكرنا في مواضع أن عسى من الكريم إطماع واجب الوقوع، وانتصاب مقاما على الظرفية بإضمار فعل،
أو بتضمين البعث معنى الإقامة، ويجوز أن يكون انتصابه على الحال: أي يبعثك ذا مقام محمود، ومعنى كون
المقام محمودا: أنه يحمده كل من علم به. وقد اختلف في تعيين هذا المقام على أقوال: الأول أنه المقام الذي يقومه
النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشفاعة يوم القيامة للناس ليريحهم ربهم سبحانه مما هو فيه، وهذا القول هو الذي
دلت عليه الأدلة الصحيحة في تفسير الآية، وحكاه ابن جرير عن أكثر أهل التأويل قال الواحدي: وإجماع
251

المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة. القول الثاني: أن المقام المحمود إعطاء النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لواء الحمد يوم القيامة. ويمكن أن يقال إن هذا لا ينافي القول الأول، إذ لا منافاة بين كونه قائما مقام الشفاعة
وبيده لواء الحمد. القول الثالث: أن المقام المحمود هو أن الله سبحانه يجلس محمدا صلى الله عليه وآله وسلم معه
على كرسيه، حكاه ابن جرير عن فرقة منهم مجاهد، وقد ورد في ذلك حديث. وحكى النقاش عن أبي داود
السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا الحديث. قال ابن
عبد البر: مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم، أحدهما هذا، والثاني
في تأويل - وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة - قال: معناه تنتظر الثواب، وليس من النظر انتهى، وعلى كل
حال فهذا القول غير مناف للقول الأول لإمكان أن يقعده الله سبحانه هذا المقعد ويشفع تلك الشفاعة. القول
الرابع: أنه مطلق في كل مقام يجلب الحمد من أنواع الكرامات، ذكره صاحب الكشاف والمقتدون به في التفسير،
ويجاب عنه بأن الأحاديث الصحيحة الواردة في تعيين هذا المقام المحمود متواترة، فالمصير إليها متعين، وليس
في الآية عموم في اللفظ حتى يقال: الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى قوله وهو مطلق في كل
ما يجلب الحمد أنه عام في كل ما هو كذلك، ولكنه يعبر عن العام بلفظ المطلق، كما ذكره في ذبح البقرة، ولهذا
قال هنا. وقيل المراد الشفاعة، وهى نوع واحد مما يتناوله يعنى لفظ المقام، والفرق بين العموم
البدلي والعموم الشمولي معروف، فلا نطيل بذكره (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) * قرأ الجمهور
" مدخل صدق ومخرج صدق " بضم الميمين. وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم بفتحهما، وهما مصدران
بمعنى الإدخال والإخراج، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجود: أي إدخالا يستأهل أن يسمى
إدخالا، ولا يرى فيه ما يكره. قال الواحدي: وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما، وكل شئ أضفته إلى الصدق
فهو مدح.
وقد اختلف المفسرون في معنى الآية، فقيل نزلت حين أمر بالهجرة، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة
واختاره ابن جرير، وقيل المعنى: أمتني إماتة صدق وابعثني يوم القيامة مبعث صدق، وقيل المعنى: أدخلني
فيما أمرتني به، وأخرجني مما نهيتني عنه، وقيل إدخاله موضع الأمن وإخراجه من بين المشركين، وهو كالقول
الأول، وقيل المراد إدخال عز وإخراج نصر، وقيل المعنى: أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوة مدخل
صدق، وأخرجني منه إذا أمتني مخرج صدق، وقيل أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق، وأخرجني منه
عند البعث مخرج صدق، وقيل أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق، وقيل الآية عامة في كل
ما تتناوله من الأمور فهي دعاء، ومعناها رب أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري عنها (واجعل لي من لدنك
سلطانا نصيرا) أي حجة ظاهرة قاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني، وقيل اجعل لي من لدنك ملكا وعزا قويا
وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطانا نصيرا. وبه قال الحسن وقتادة
واختاره ابن جرير. قال ابن كثير: وهو الأرجح، لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه، ولهذا يقول
تعالى - لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد
ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب - وفى الحديث " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " أي
ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمنع كثيرا من الناس بالقرآن، وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد
الشديد، وهذا هو الواقع انتهى (وقل جاء الحق وزهق الباطل) المراد بالحق الإسلام. وقيل القرآن، وقيل الجهاد
252

ولامانع من حمل الآية على جميع ذلك وعلى ما هو حق كائنا ما كان، والمراد بالباطل الشرك، وقيل الشيطان ولا يبعد
أن يحمل على كل ما يقابل الحق من غير فرق بين باطل وباطل. ومعنى زهق بطل واضمحل، ومنه زهوق النفس
وهو بطلانها (إن الباطل كان زهوقا) أي إن هذا شأنه فهو يبطل ولا يثبت، والحق ثابت دائما (وننزل من القرآن
ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) قرأ الجمهور " ننزل " بالنون. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف. وقرأ مجاهد بالياء التحتية
والتخفيف، ورواها المروزي عن حفص، ومن لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس، وقيل للتبعيض
وأنكره بعض المفسرين لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه، ورده ابن عطية بأن المبعض هو إنزاله.
واختلف أهل العلم في معنى كونه شفاء على القولين: الأول أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وذهاب
الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه. القول الثاني أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ
ونحو ذلك، ولا مانع من حمل الشفاء على المعنيين من باب عموم المجاز، أو من باب حمل المشترك على معنييه. ثم
ذكر سبحانه أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من العلوم النافعة المشتملة على ما فيه صلاح الدين والدنيا، ولما في تلاوته
وتدبره من الأجر العظيم الذي يكون سببا لرحمة الله سبحانه ومغفرته ورضوانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى - قل
هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى - ثم لما ذكر سبحانه ما في القرآن
من المنفعة لعباده المؤمنين ذكر ما فيه لمن عداهم من المضرة عليهم فقال (ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) أي ولا يزيد
القرآن كله أو كل بعض منه الظالمين الذي وضعوا التكذيب موضع التصديق، والشك والارتياب موضع اليقين
والاطمئنان (إلا خسارا) أي هلاكا، لأن سماع القرآن يغيظهم ويحنقهم ويدعوهم إلى زيادة ارتكاب القبائح
تمردا وعنادا، فعند ذلك يهلكون، وقيل الخسار النقص كقوله - فزادتهم رجسا إلى رجسهم - ثم نبه سبحانه على
فتح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة فقال (وإذا أنعمنا على الإنسان) أي على هذا الجنس بالنعم
التي توجب الشكر كالصحة والغنى (أعرض) عن الشكر لله والذكر له (ونآى بجانبه) النأي البعد والباء للتعدية
أو للمصاحبة، وهو تأكيد للإعراض، لأن الإعراض عن الشئ هو أن يوليه عرض وجهه: أي ناحيته، والنأي
بالجانب أن يلوى عنه عطفه ويوليه ظهره، ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي
كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به، ويراد بالنأي بجانبه التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم. وقرأ بن
عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر ناء مثل باع بتأخير الهمزة على القلب، وقرأ حمزة " ناءي " بإمالة الفتحتين
ووافقه الكسائي، وأمال شعبة والسوسي الهمزة فقط. وقرأ الباقون بالفتح فيهما (وإذا مسه الشر) من مرض
أو فقر (كان يئوسا) شديد اليأس من رحمة الله، والمعنى: أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي، وظفر بالمقصود نسي
المعبود، وإن فاته شئ من ذلك استولى عليه الأسف، وغلب عليه القنوط، وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة
ولا ينافي ما في هذه الآية قوله تعالى - وإن مسه الشر فذو دعاء عريض - ونظائره، فإن ذلك شأن بعض آخر منهم
غير البعض المذكور في هذه الآية، ولا يبعد أن يقال لا منافاة بين الآيتين فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه
كثير الدعاء بلسانه (قل كل يعمل على شاكلته) الشاكلة قال الفراء: الطريقة، وقيل الناحية، وقيل الطبيعة،
وقيل الدين، وقيل النية، وقيل الجبلة، وهى مأخوذة من الشكل، يقال لست على شكلي ولا على شاكلتي
والشكل: هو المثل والنظير. والمعنى: أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر
253

ومدح للمؤمن (فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) لأنه الخالق لكم العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم قد فيه من
الطرائق، فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا يبأس عند المحنة، وبين الكافر الذي شأنه البطر
للنعم والقنوط عند النقم. ثم لما انجر الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الروح فقال (ويسألونك عن الروح) قد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه،
فقيل هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته، وبهذا قال أكثر المفسرين. قال الفراء: الروح الذي يعيش
به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحدا من خلقه، ولم يعط علمه أحدا من عباده فقال (قل الروح من أمر ربى)
أي إنكم لا تعلمونه، وقيل الروح المسؤول عنه جبريل، وقيل عيسى، وقيل القرآن، وقيل ملك من الملائكة
عظيم الخلق، وقيل خلق كخلق بني آدم، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده، والظاهر القول
الأول، وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية، وبيان السائلين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الروح، ثم
الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح، لأن معرفة حقيقة الشئ أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله، ثم أمره
سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال (قل الروح من أمر ربى) من بيانية، والأمر الشأن والإضافة
للاختصاص، أي هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده، وقيل معنى (من أمر ربى)
من وحيه وكلامه لا من كلام البشر، وفى هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ماهيئته
وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتم له المقام، وغالبه
بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا.
وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر مائة قول، فانظر إلى هذا الفضول
الفارغ والتعب العاطل عن النفع، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم
بالسؤال عنه ولا البحث عن حقيقته فضلا عن أممهم المقتدين بهم، فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول
إلى هذا الحد الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسئلة مما أذن الله بالكلام فيه، ولم يستأثر بعلمه. ثم ختم سبحانه
هذه الآية بقوله سبحانه (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) أي أن علمكم الذي علمكم الله، ليس إلا المقدار القليل
بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه، وإن أوتي حظا من العلم وافرا، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى
علم الله سبحانه إلا كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر، كما في حديث موسى والخضر عليهما السلام.
وقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني
والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود قال (دلوك الشمس) غروبها، تقول العرب إذا غربت الشمس
دلكت الشمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي قال: دلوكها غروبها. وأخر
عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، قال (لدلوك الشمس) لزوال الشمس،
وأخرج البزار وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" دلوك الشمس زوالها " وضعف السيوطي إسناده، وأخرجه مالك في الموطأ وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي
شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر من قوله. وأخرج عبد الرزاق عنه قال: " دلوك الشمس
زياغها بعد نصف النهار ". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن ابن عباس قال: دلوكها زوالها. وأخرج
ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه في قوله (لدلوك الشمس) قال: إذا فاء الفئ. وأخرج ابن جرير عن أبي مسعود
وعقبة بن عمرو قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى
254

بي الظهر ". وأخرج ابن جرير عن أبي برزة الأسلمي: قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر
إذا زالت الشمس، ثم تلا (أقم الصلاة لدلوك الشمس). وأخرج ابن مردويه من حديث أنس نحوه، ومما
يستشهد به على أن الدلوك الزوال وسط النهار ما أخرجه ابن جرير عن جابر قال " دعوت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ومن شاء من أصحابه يطعمون عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس ". وفى إسناده رجل مجهول ولكنه
أخرجه عنه من طريق أخرى عن سهل بن بكار عن أبي عوانة عن الأسود بن قيس عن نبيح العنبري عن جابر
فذكر نحوه مرفوعا. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود في قوله (إلى غسق الليل) قال: إلى العشاء الآخرة. وأخرج
ابن المنذر عن ابن عباس قال (غسق الليل) اجتماع الليل وظلمته. وأخرج ابن جرير عنه قال (غسق الليل)
بدو الليل. وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: دلوك الشمس إذا زالت الشمس عن بطن السماء وغسق الليل
غروب الشمس. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (وقرآن الفجر) قال: صلاة الصبح. وأخرج أحمد
والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي
في الشعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا)
قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها، وهو في الصحيحين عنه مرفوعا بلفظ تجتمع ملائكة الليل
وملائكة النهار في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا).
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود موقوفا نحوه. وأخرج الحكيم والترمذي
وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن قرآن الفجر
كان مشهودا) قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن
عباس في قوله (نافلة لك) يعنى خاصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمر بقيام الليل وكتب عليه. وأخرج الطبراني
في الأوسط والبيهقي في سننه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ثلاث هن على فرائض وهن لكم سنة:
الوتر والسواك، وقيام الليل ". وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أمامة في قوله (نافلة
لك) قال: كانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم نافلة ولكم فضيلة، وفى لفظ: إنما كانت النافلة خاصة لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) وسئل عنه، قال:
هو المقام المحمود الذي أشفع فيه لأمتي. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن
مردويه عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي
على تل ويكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود ". وأخرج
البخاري وغيره عن ابن عمر قال: إن كل أمة يوم القيامة تتبع نبيها، يقولون يا فلان اشفع، يا فلان اشفع حتى
تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا. وأخرج عنه نحوه مرفوعا،
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا ثابتة في الصحيحين وغيرهما فلا نطيل بذكرها، ومن رام الاستيفاء نظر
في أحاديث الشفاعة في الأمهات وغيرها. وأخرج الطبراني في قوله (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) قال:
يجلسه فيما بينه وبين جبريل ويشفع لأمته، فذلك المقام المحمود. وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: يجلسني معه على السرير " وينبغي الكشف
255

عن إسناد هذين الحديثين. وأخرج أحمد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه
وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة
ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا
نصيرا) وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن قتادة في قوله. (وقل رب أدخلني) الآية قال: أخرجه
الله من مكة مخرج صدق، وأدخله المدينة مدخل صدق. قال: وعلم نبي الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان
فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله وحدوده وفرائضه ولإقامة كتاب الله، فإن السلطان عزة من الله جعلها بين أظهر
عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، وأكل شديدهم ضعيفهم. وأخرج الخطيب عن عمر بن الخطاب
قال: والله لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال
" دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول
(جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) - جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " وفى الباب أحاديث
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (ونأى بجانبه) قال: تباعد.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (كان يئوسا) قال: قنوطا، وفى قوله (كل
يعمل على شاكلته) قال: على ناحيته. وأخرج هناد وابن المنذر عن الحسن قال: على شاكلته. على نيته. وأخرج
البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال " كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خرب المدينة وهو
متكئ على عسيب، فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض: اسألوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه،
فقالوا: يا محمد ما الروح؟ فما زال متكئا على العسيب فظننت أنه يوحى إليه، فقال - ويسألونك عن الروح قل
الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا - " وأخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن
حبان وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: قالت قريش
لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، قالوا: سلوه عن الروح، فنزلت (ويسألونك عن الروح قل الروح من
أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) قالوا أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتى التوراة فقد أوتى خيرا
كثيرا فأنزل الله - قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله
مددا - وفى الباب أحاديث وآثار.
سورة الإسراء الآية (86 - 91)
256

سورة الإسراء الآية (92 - 93)
لما بين سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلا قليلا بين أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل، فقال (ولئن
شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) واللام هي الموطئة، ولنذهبن جواب القسم ساد مسد جواب الشرط. قال
الزجاج: معناه لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر انتهى، وعبر عن القرآن بالموصول
تفخيما لشأنه (ثم لا تجد لك به) أي بالقرآن (علينا وكيلا) أي لا تحد من يتوكل علينا في رد شئ منه بعد أن ذهبنا
به والاستثناء بقوله (إلا رحمة من ربك) إن كان متصلا فمعناه إلا أن يرحمك ربك فلا نذهب به، وإن كان
منقطعا فمعناه لكن لا يشأ ذلك رحمة من ربك، أو لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به (إن فضله كان عليك
كبيرا) حيث جعلك رسولا وأنزل عليك الكتاب وصيرك سيد ولد آدم، وأعطاك المقام المحمود وغير ذلك
مما أنعم به عليه. ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن
يأتوا بمثل هذا القرآن) المنزل من عند الله الموصوف بالصفات الجليلة من كمال البلاغة وحسن النظم وجزالة
اللفظ (لا يأتون بمثله) أظهر في مقام الإضمار، ولم يكتف بأن يقول لا يأتون به على أن الضمير راجع إلى
المثل المذكور، لدفع توهم أن يكون له مثل معين، وللإشعار بأن المراد نفى المثل على أي صفة كان، وهو
جواب قسم محذوف كما تدل عليه اللام الموطئة، وساد مسد جواب الشرط، ثم أوضح سبحانه عجزهم
عن المعارضة سواء كان المتصدي لها كل واحد منهم على الانفراد، أو كان المتصدر بها المجموع بالمظاهرة فقال
(ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) أي عونا ونصيرا، وجواب لو محذوف، والتقدير: ولو كان بعضهم لبعض
ظهيرا لا يأتون بمثله، فثبت أنهم لا يأتون بمثله على كل حال، وقد تقدم وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة
في هذه الآية رد لما قاله الكفار - لو نشاء لقلنا مثل هذا - وإكذاب لهم. ثم بين سبحانه أن الكفار مع عجزهم
عن المعارضة استمروا على كفرهم وعدم إيمانهم فقال (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) أي رددنا
القول فيه بكل مثل يوجب الاعتبار من الآيات والعبر والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي وأقاصيص الأولين
والجنة والنار والقيامة (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) يعنى من أهل مكة، فإنهم جحدوا وأنكروا كون القرآن
كلام الله بعد قيام الحجة عليهم، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم، وأظهر في مقام الإضمار حيث قال: فأبى
أكثر الناس توكيدا أو توضيحا، ولما كان " أبى " مؤولا بالنفي: أي ما قبل أو لم يرض صح الاستثناء منه قوله (إلا
كفورا وقالوا لن نؤمن لك) أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبى سفيان والنضر بن الحرث، ثم
علقوا نفي إيمانهم بغاية طلبوها فقالوا (حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) قرأ حمزة والكسائي وعاصم " حتى تفجر
مخففا مثل تقتل. وقرأ الباقون بالتشديد، ولم يختلفوا في " فتفجر الأنهار " أنها مشددة، ووجه ذلك أبو حاتم بأن
الأولى بعدها ينبوع وهو واحد، والثانية بعدها الأنهار وهى جمع. وأجنب عنه بأن الينبوع وإن كان واحدا في
اللفظ فالمراد به الجمع، فإن الينبوع العيون التي لا تنضب. ويرد بأن الينبوع عين الماء والجمع الينابيع، وإنما
يقال للعين ينبوع إذا كانت غزيرة من شأنها النبوع كل من غير انقطاع والياء زائدة كيعبوب من عب الماء (أو تكون
لك جنة) أي بستان تستر أشجاره أرضه. والمعنى هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك بأن تكون
لك جنة (من نخيل وعنب فتفجر الأنهار) أي تجريها بقوة (خلالها تفجيرا) أي وسطها تفجيرا كثيرا (أو تسقط
257

السماء كما زعمت علينا كسفا) قرأ مجاهد " أو تسقط " مسندا إلى السماء. وقرأ من عداه " أو تسقط " على الخطاب:
أي أو تسقط أنت يا محمد السماء. والكسف بفتح السين جمع كسفة: وهى قراءة نافع وابن عامر وعاصم، والكسفة
القطعة. وقرأ الباقون " كسفا " بإسكان السين. قال الأخفش: من قرأ بإسكان السين جعله واحدا ومن قرأ بفتحها جعله
جمعا. قال المهدوي: ويجوز أن يكون على قراءة الكون جمع كسفة، ويجوز أن يكون مصدرا. قال الجوهري:
الكسفة القطعة من الشئ، يقال: أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كسف وكسف، ويقال الكسف والكسفة
واحد، وانتصاب كسفا على الحال، والكاف في كما زعمت في محل نصب على أنه صفة مصدر محذوف: أي
إسقاطا ممائلا لما زعمت، يعنون بذلك قول الله سبحانه - إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من
السماء - قال أبو علي: الكسف بالسكون. الشئ المقطوع كالطحن للمطحون واشتقاقه على ما قال أبو زيد من
كسفت الثوب كسفا إذا قطعته. وقال الزجاج: من كسفت الشئ إذا غطيته كأنه قيل أو تسقطها طبقا علينا
(أو تأتى بالله والملائكة قبيلا).
اختلف المفسرون في معنى (قبيلا) فقيل معناه معاينة قاله قتادة وابن جريج، واختاره أبو علي الفارسي
فقال: إذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدرا كالنكير والنذير. وقيل معناه كفيلا قاله الضحاك، وقيل شهيدا
قاله مقاتل، وقيل هو جمع القبيلة: أي تأتى بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة قاله مجاهد وعطاء، وقيل ضمنا، وقيل مقابلا
كالعشير والمعاشر (أو يكون لك بيت من زخرف) أي من ذهب، وبه قرأ ابن مسعود، وأصله الزينة، والمزخرف
المزين، وزخارف الماء طرائقه. وقال الزجاج: هو الزينة فرجع إلى الأصل معنى الزخرف، وهو بعيد لأنه
يصير المعنى: أو يكون لك بيت من زينة (أو ترقى في السماء) أي تصعد في معارجها: يقال رقيت في السلم إذا
صعدت وارتقيت مثله (ولن نؤمن لرقيك) أي لأجل رقيك وهو مصدر نحو مضى يمضي مضيا وهوى يهوى هويا
(حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) أي حتى تنزل علينا من السماء كتابا يصدقك ويدل على نبوتك نقرؤه جميعا، أو يقرؤه
كل واحد منا، وقيل معناه: كتابا من الله إلى كل واحد منا كما في قوله - بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا
منشرة - فأمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي بما يفيد التعجب من قولهم، والتنزيه للرب سبحانه
عن اقتراحاتهم القبيحة فقال (قل سبحان ربى) أي تنزيها لله عن أن يعجز عن شئ. وقرأ أهل مكة والشام " قال
سبحان ربى " يعنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (هل كنت إلا بشرا) من البشر لا ملكا حتى أصعد السماء (رسولا
مأمورا من الله سبحانه بابلاغكم، فهل سمعتم أيها المقترحون لهذه الأمور أن بشرا قدر على شئ منها؟ وإن أردتم
أني أطلب ذلك من الله سبحانه حتى يظهرها على يدي، فالرسول إذا أتى بمعجزة واحدة كفاه ذلك، لأن بها يتبين
صدقه، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة، وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على ربي بما ليس بضروري، ولا دعت
إليه حاجة، ولو لزمتني الإجابة لكل متعنت لاقترح كل معاند في كل وقت اقتراحات، وطلب لنفسه إظهار
آيات، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وتنزه عن تعنتاتهم، وتقدس عن اقتراحاتهم.
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه
وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: إن هذا القرآن سيرفع، قيل كيف يرفع وقد أثبته الله في
قلوبنا وأثبتناه في المصاحف؟ قال: يسرى عليه في ليلة واحدة فلا يترك منه آية في قلب ولا مصحف إلا رفعت،
فتصبحون وليس فيكم منه شئ، ثم قرأ (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) وقد ورى عنه هذا من طرق،
وأخرج ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعا نحوه. وأخرج محمد بن نصر عن عبد الله بن عمرو نحوه موقوفا. وأخرج
258

الديلمي في مسند الفردوس عن معاذ بن جبل مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن
أبي هريرة موقوفا نحوه أيضا. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن حذيفة بن اليمان مرفوعا نحوه أيضا.
وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر مرفوعا نحوه.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال " أتى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم محمود بن شيخان ونعيمان بن آصى وبحري بن عمرو وسلام بن مشكم، فقالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الذي
جئت به أحق من عند الله، فإنا لا نراه متناسقا كما تناسق التوراة؟ فقال لهم: والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله،
قالوا: إنا نجيئك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله - قل لئن اجتمعت الإنس والجن - " الآية. وأخرج ابن إسحاق وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب، ورجلا من بني عبد الدار
وأبا البحتري أخا بني أسيد والأسود بن عبد المطلب وربيعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله
ابن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند
ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه، وذكر حديثا طويلا يشتمل على
ما سألوه عنه وتعنتوه، وأن ذلك كان سبب نزول قوله - وقالوا لن نؤمن لك - إلى قوله - بشرا رسولا -. وإسناده
عن ابن جرير هكذا: حدثنا أبو كريب حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل
مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس فذكره، ففيه هذا الرجل المجهول. وأخرج سعيد
ابن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله - وقالوا لن نؤمن لك - قال: نزلت
في أخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله (ينبوعا)
قال: عيونا، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال: الينبوع هو النهر الذي يجري من العين. وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أو تكون لك جنة) يقول: ضيعة. وأخرج ابن جرير عنه " كسفا " قال: قطعا.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (قبيلا) قال: عيانا. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (من زخرف) قال: من
ذهب. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري وأبو نعيم عن مجاهد
قال: لم أكن أحسن ما الزخرف؟ حتى سمعتها في قراءة عبد الله " أو يكون لك بيت من ذهب ". وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (كتابا نقرؤه) قال: من رب العالمين إلى فلان ابن فلان. يصبح
عند كل رجل صحيفة عند رأسه موضوعة يقرؤها.
سورة الإسراء الآية (94 - 97)
259

سورة الإسراء الآية (98 - 100)
حكى سبحانه عنهم شبهة أخرى قد تكرر في الكتاب العزيز التعرض لإيرادها وردها في غير موضع فقال
(وما منع الناس أن يؤمنوا) المراد الناس على العموم، وقيل المراد أهل مكة على الخصوص: أي ما منعهم الإيمان
بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو المفعول الثاني لمنع، ومعنى (إذ جاءهم الهدى) أنه جاءهم
الوحي من الله سبحانه على رسوله، وبين ذلك لهم وأرشدهم إليه، وهو ظرف لمنع أو يؤمنوا: أي ما منعهم
وقت مجئ الهدى أن يؤمنوا بالقرآن والنبوة (إلا أن قالوا) أي ما منعهم إلا قولهم، فهو في محل رفع على أنه فاعل
منع، والهمزة في (أبعث الله بشرا رسولا) للإنكار منهم أن يكون الرسول بشرا، والمعنى: أن هذا الاعتقاد
الشامل لهم، وهو إنكار أن يكون الرسول من جنس البشر، هو الذي منعهم عن الإيمان بالكتاب وبالرسول، وعبر
عنه بالقول للإشعار بأنه ليس إلا مجرد قول قالوه بأفواههم، ثم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب
عن شبهتهم هذه فقال (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين) أي لو وجد وثبت أن في الأرض بدل
من فيها من البشر ملائكة يمشون على الأقدام كما يمشي الإنس مطمئنين مستقرين فيها ساكنين بها. قال الزجاج:
مطمئنين مستوطنين في الأرض، ومعنى الطمأنينة السكون، فالمراد ها هنا المقام والاستيطان، فإنه يقال سكن البلد
فلان إذا أقام فيها وإن كان ماشيا متقلبا في حاجاته (لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) حتى يكون من جنسهم
وفيه إعلام من الله سبحانه بأن الرسل ينبغي أن تكون من جنس المرسل إليهم، فكأنه سبحانه اعتبر في تنزيل الرسول
من جنس الملائكة أمرين: الأول كون سكان الأرض ملائكة. والثاني كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على
الطيران بأجنحتهم إلى السماء، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا إليها، وسمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه
فلا يكون في بعثة الملائكة إليهم فائدة. وانتصاب بشرا وملكا على أنهما مفعولان للفعلين، ورسولا في الموضعين
وصف لهما. وجوز صاحب الكشاف أن يكونا حالين في الموضعين من رسولا فيهما وقواه صاحب الكشاف،
ولعل وجه ذلك أن الإنكار يتوجه إلى الرسول المتصف بالبشرية في الموضع الأول، فيلزم بحكم التقابل أن يكون
الآخر كذلك، ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد، فقال (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) أي قل لهم يا محمد
من جهتك كفى بالله وحده شهيدا على إبلاغي إليكم ما أمرني به من أمور الرسالة، وقال بيني وبينكم ولم يقل بيننا
تحقيقا للمفارقة الكلية، وقيل إن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله له على الصدق، ثم علل كونه
سبحانه شهيدا كافيا بقوله (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) أي عالما بجميع أحوالهم محيطا بظواهرها وبواطنها بصيرا بما
كان منها وما يكون، ثم بين سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته فقال (ومن يهد الله فهو المهتدى)
أي من يرد الله هدايته فهو المهتدى إلى الحق أو إلى كل مطلوب (ومن يضلل) أي يرد إضلاله (فلن تجد لهم
أولياء) ينصرونهم (من دونه) يعنى الله سبحانه ويهدونهم إلى الحق الذي أضلهم الله عنه أو إلى طريق النجاة، وقوله
(فهو المهتدى) حملا على لفظ من، وقوله (فلن تجد لهم) حملا على المعنى، والخطاب في قوله: فلن تجد إما للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح له (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم) هذا الحشر على الوجوه
260

فيه وجهان للمفسرين: الأول أنه عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم، من قول العرب: قد مر القوم على وجوههم:
إذا أسرعوا. الثاني أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم حقيقة كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه،
وهذا هو الصحيح، لقوله تعالى - يوم يسحبون في النار على وجوههم -، ولما صح في السنة كما سيأتي، ومحل
على وجوههم النصب على الحال من ضمير المفعول و (عميا) منتصب على الحال (وبكما وصما) معطوفان عليه
والأبكم: الذي لا ينطق والأصم: الذي لا يسمع، وهذه هيئة يبعثون عليها في أقبح صورة، وأشنع منظر، قد جمع
الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم، ثم من وراء ذلك (مأواهم
جهنم) أي المكان الذي يأوون إليه، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة لا محل لها (كلما خبت
زدناهم سعيرا) أي كلما سكن لهبها، يقال خبت النار تخبو خبوا: إذا خمدت وسكن لهبا. قال ابن قتيبة
ومعنى زدناهم سعيرا تسعرا، وهو التلهب. وقد قيل إن في خبو النار تخفيفا لعذاب أهلها، فكيف يجمع بينه وبين
قوله - لا يخفف عنهم العذاب -؟ وأجيب بأن المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس بين الخبو والتسعر،
وقيل إنها تخبو من غير تخفيف عنهم من عذابها (ذلك) أي العذاب (جزاؤهم) الذي أوجبه الله لهم واستحقوه
عنده، والباء في قوله (بأنهم كفروا بآياتنا) للسببية: أي بسبب كفرهم بها فلم يصدقوا بالآيات التنزيلية ولا تفكروا
في الآيات التكوينية، واسم الإشارة مبتدأ وخبره جزاؤهم، وبأنهم كفروا خبر آخر، ويجوز أن يكون جزاؤهم
مبتدأ ثانيا، وخبره ما بعده، والجملة خبر المبتدأ الأول (وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا) الهمزة للإنكار، وقد
تقدم تفسير الآية في هذه السورة، وخلقا في قوله (أئنا لمبعوثون خلقا جديدا) مصدر من غير لفظه أو حال:
أي مخلوقين. فجاء سبحانه بحجة تدفعهم عن الإنكار وتردهم عن الجحود. فقال (أو لم يروا أن الله الذي خلق
السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم) أي من هو قادر على خلق هذا، فهو على إعادة ما هو أدون منه
أقدر، وقيل المراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم، وعلى القول الأول يكون الخلق بمعنى الإعادة، وعلى هذا
القول هو على حقيقته، وجملة (وجعل لهم أجلا لا ريب فيه) عطف على أو لم يروا، والمعنى: قد علموا بدليل
العقل أن من قدر على خلق السماوات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم، لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن كما قال
- أأنتم أشد خلقا أم السماء - (وجعل لهم أجلا لا ريب فيه) وهو الموت أو القيامة، ويحتمل أن تكون الواو للاستئناف،
وقيل في الكلام تقديم وتأخير: أي أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض وجعل لهم أجلا لا ريب فيه
قادر على أن يخلق مثلهم (فأبى الظالمون إلا كفورا) أي أبى المشركون إلا جحودا، وفيه وضع الظاهر موضع
المضمر للحكم عليهم بالظلم ومجاوزة الحد، ثم لما وقع من هؤلاء الكفار طلب إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم
لتتسع معايشهم، بين الله سبحانه أنهم لا يقنعون، بل يبقون على بخلهم وشحهم فقال (قل لو أنتم تملكون خزائن
رحمة ربى) أنتم مرتفع على أنه فاعل فعل محذوف يفسره ما بعده: أي لو تملكون أنتم تملكون على أن الضمير المنفصل
مبدل من الضمير المتصل وهو الواو، وخزائن رحمته سبحانه: هي خزائن الأرزاق. قال الزجاج: أعلمهم
الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شحا وبخلا، وهو خشية الإنفاق: أي خشية أن ينفقوا فيفتقروا،
وفى حذف الفعل الذي ارتفع به أنتم، وإيراد الكلام في صورة المبتدأ والخبر دلالة على أنهم هم المختصون بالشح.
قال أهل اللغة: أنفق وأصرم وأعدم وأقتر: بمعنى قل ماله، فيكون المعنى: لأمسكتم خشية قل المال (وكان
الإنسان قتورا) أي بخيلا مضيقا عليه. يقال قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا: ضيق عليهم في النفقة، ويجوز
أن يراد وكان الإنسان قتورا: أي قليل المال، والظاهر أن المراد المبالغة في وصفه بالشح، لأن الإنسان
261

ليس بقليل المال على العموم. بل بعضهم كثير المال، إلا أن يراد أن جميع النوع الإنساني قليل المال بالنسبة إلى
خزائن الله وما عنده. وقد اختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما أنها نزلت في المشركين خاصة، وبه قال
الحسن، والثاني أنها عامة وهو قول الجمهور حكاه الماوردي.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال " قيل يا رسول الله: كيف يحشر الناس على وجوههم؟
قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ". وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن جرير
وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يحشر الناس يوم القيامة على
ثلاثة أصناف: صنف مشاة، وصنف ركبانا، وصنف على وجوههم " ثم ذكر نحو حديث أنس. وفى الباب
أحاديث. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله (مأواهم جهنم) قال: يعني أنهم وقودها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله (كلما خبت)
قال: سكنت. وأخرج هؤلاء عنه أيضا في الآية قال: كلما أحرقهم سعرتهم حطبا، فإذا أحرقتهم فلم يبق
منهم شئ صارت جمرا تتوهج فذلك خبوها، فإذا بدلوا خلقا جديدا عاودتهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن
عطاء في قوله (خزائن رحمة ربى) قال: الرزق. وأخرج أيضا عن عكرمة في قوله (إذا لأمسكتم خشية الإنفاق)
قال: إذا ما أطعمتم أحدا شيئا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (خشية الإنفاق) قال:
الفقر (وكان الإنسان قتورا) قال: بخيلا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة (خشية
الإنفاق) قال: خشية الفاقة (وكان الإنسان قتورا) قال: بخيلا ممسكا.
سورة الإسراء الآية (101 - 109)
قوله (ولقد آتينا موسى تسع آيات): أي علامات دالة على نبوته. قيل ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها
أن المعجزات المذكورة كأنها مساوية لتلك الأمور التي اقترحها كفار قريش، بل أقوى منها، فليس عدم الاستجابة
262

لما طلبوه من الآيات إلا لعدم المصلحة في استئصالهم إن لم يؤمنوا بها. قال أكثر المفسرين: الآيات التسع: هي
الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، والسنين، ونقص الثمرات. وجعل الحسن
مكان السنين ونقص الثمرات البحر والجبل. وقال محمد بن كعب القرظي: هي الخمس التي في الأعراف،
والبحر، والعصا، والحجر، والطمس على أموالهم. وقد تقدم الكلام على هذه الآيات مستوفى، وسيأتي حديث
صفوان بن عسال في تعداد هذه الآيات التسع (فاسأل بني إسرائيل) قرأ ابن عباس وابن نهيك فسأل على الخبر:
أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه، وقرأ الآخرون " فاسأل " على الأمر:
أي سلهم يا محمد حين (جاءهم) موسى، والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان، لأن الأدلة إذا
تظافرت كان ذلك أقوى والمسئولون مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه (فقال له فرعون إني لأظنك
يا موسى مسحورا) الفاء هي الفصيحة: أي فأظهر موسى عند فرعون ما آتيناه من الآيات البينات وبلغه ما أرسل به فقال
له فرعون. والمسحور: الذي سحر فخولط عقله. وقال أبو عبيدة والفراء: هو بمعنى الساحر، فوضع المفعول
موضع الفاعل، ف (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء) يعني الآيات التي أظهرها، وأنزل بمعنى أوجد (إلا رب
السماوات والأرض بصائر) أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته، وانتصاب بصائر على الحال. قرأ
الكسائي بضم التاء من علمت على أنها لموسى، وروى ذلك عن علي، وقرأ الباقون بفتحها على الخطاب لفرعون.
ووجه القراءة الأولى أن فرعون لم يعلم ذلك، وإنما علمه موسى. ووجه قراءة الجمهور أن فرعون كان عالما بذلك
كما قال تعالى - وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا - قال أبو عبيد: المأخوذ به عندنا فتح التاء، وهو الأصح
للمعنى، لأن موسى لا يقول علمت أنا وهو الداعي، وروى نحو هذا عن الزجاج (وإني لأظنك يا فرعون مثبورا)
الظن هنا بمعنى اليقين، والثبور الهلاك والخسران. قال الكميت:
ورأت قضاعة في الأيا * من رأى مثبور وثابر
أي مخسور وخاسر، وقيل المثبور الملعون، ومنه قول الشاعر:
يا قومنا لا تروموا حزينا سفها * إن السفاه وإن البغي مثبور
أي ملعون، وقيل المثبور ناقص العقل، وقيل هو الممنوع من الخير، يقال ما ثبرك عن كذا: ما منعك منه،
حكاه أهل اللغة، وقيل المسحور (فأراد أن يستفزهم من الأرض) أي أراد فرعون أن يخرج بني إسرائيل وموسى
ويزعجهم من الأرض، يعني أرض مصر بإيعادهم عنها، وقيل أراد أن يقتلهم وعلى هذا يراد بالأرض مطلق
الأرض. وقد تقدم قريبا معنى الاستفزاز (فأغرقناه ومن معه جميعا) فوقع عليه وعليهم الهلاك بالغرق، ولم يبق
منهم أحدا (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض) أي من بعد إغراقه ومن معه، والمراد بالأرض هنا:
أرض مصر التي أراد أن يستفزهم منها (فإذا جاء وعد الآخرة) أي الدار الآخرة وهو القيامة، أو الكرة الآخرة،
أو الساعة الآخرة (جئنا بكم لفيفا) قال الجوهري: اللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى، يقال جاء القوم
بلفهم ولفيفهم: أي بأخلاطهم، فالمراد هنا جئنا بكم من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن
بالكافر. قال الأصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل الجمع (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) الضمير
يرجع إلى القرآن. ومعنى (بالحق أنزلناه) أوحيناه متلبسا بالحق ومعنى (وبالحق نزل) أنه نزل وفيه الحق،
وقيل الباقي وبالحق الأول بمعنى مع: أي مع الحق أنزلناه كقولهم ركب الأمير بسيفه: أي مع سيفه، وبالحق
نزل: أي بمحمد كما تقول نزلت يزيد. وقال أبو علي الفارسي: الباء في الموضعين بمعنى مع، وقيل يجوز أن
263

يكون المعنى: وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل، أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا، وما نزل على الرسول
إلا محفوظا من تخليط الشياطين، والتقديم في الموضعين للتخصص (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) أي مبشرا لمن
أطاع بالجنة ونذيرا مخوفا لمن عصى بالنار (وقرآنا فرقناه) انتصاب قرآنا بفعل مضمر يفسره ما بعده، قرأ علي
وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي (فرقناه) بالتشديد: أي أنزلناه شيئا بعد شئ
لا جملة واحدة. وقرأ الجمهور فرقناه بالتخفيف: أي بيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل. وقال
الزجاج: فرقه في التنزيل ليفهمه الناس. قال أبو عبيد: التخفيف أعجب إلي، لأن تفسيره بيناه، وليس للتشديد
معنى إلا أنه نزل متفرقا. ويؤيده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: فرقت مخففا بين الكلام، وفرقت مشددا
بين الأجسام، ثم ذكر سبحانه العلة لقوله: فرقناه، فقال (لتقرأه على الناس على مكث) أي على تطاول في المدة
شيئا بعد شئ على القراءة الأولى، أو أنزلناه آية آية، وسورة سورة. ومعناه على القراءة الثانية على مكث: أي
على ترسل وتمهل في التلاوة، فإن ذلك أقرب إلى الفهم وأسهل للحفظ. وقد اتفق القراء على ضم الميم في مكث
إلا ابن محيصن فإنه قرأ بفتح الميم (ونزلناه تنزيلا) التأكيد بالمصدر للمبالغة، والمعنى: أنزلناه منجما مفرقا لما في
ذلك من المصلحة، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا ولم يطيقوا (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) أمر الله
سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للكافرين المقترحين للآيات آمنوا به أو لا تؤمنوا، فسواء إيمانكم به
وامتناعكم عنه لا يزيده ذلك ولا ينقصه. وفى هذا وعيد شديد لأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عنهم
واحتقارهم، ثم علل ذلك بقوله (إن الذين أوتوا العلم من قبله) أي أن العلماء الذين قرؤا الكتب السابقة قبل
إنزال القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام
(إذا يتلى عليهم) أي القرآن (يخرون للأذقان سجدا) أي يسقطون على وجوههم ساجدين لله سبحانه. وإنما
قيد الخرور، وهو السقوط بكونه للأذقان: أي عليها، لأن الذقن، وهو مجتمع اللحيين أول ما يحاذي
الأرض. قال الزجاج: لأن الذقن مجتمع اللحيين، وكما يبتدئ الإنسان بالخرور للسجود، فأول ما يحاذي الأرض
به من وجهه الذقن، وقيل المراد تعفير اللحية في التراب، فإن ذلك غاية الخضوع، وإيثار اللام في للأذقان على
على للدلالة على الاختصاص، فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور، أو خصوا الخرور بأذقانهم، وقيل الضمير في قوله
(من قبله) راجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأولى ما ذكرناه من رجوعه إلى القرآن لدلالة السياق
على ذلك، وفى هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وحاصلها أنه إن لم يؤمن به هؤلاء الجهال الذين
لا علم عندهم ولا معرفة بكتب الله ولا بأنبيائه، فلا تبال بذلك. فقد آمن به أهل العلم وخشعوا له وخضعوا عند
تلاوته عليهم خضوعا ظهر أثره البالغ بكونهم يخرون على أذقانهم سجدا لله (ويقولون سبحان ربنا) أي يقولون في
سجودهم تنزيها لربنا عما يقوله الجاهلون من التكذيب أو تنزيها له عن خلف وعده (إن كان وعد ربنا لمفعولا) إن
هذه هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة. ثم ذكر أنهم خروا لأذقانهم باكين فقال (ويخرون للأذقان
يبكون) وكرر ذكر الخرور للأذقان لاختلاف السيب، فإن الأول لتعظيم الله سبحانه وتنزيهه، والثاني للبكاء
بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم ومزيد خشوعهم، ولهذا قال (ويزيدهم) أي سماع القرآن، أو القرآن بسماعهم
له (خشوعا) أي لين قلب ورطوبة عين.
وقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(تسع آيات) فذكر ما ذكرناه عن أكثر المفسرين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: يده، وعصاه
264

ولسانه، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. وأخرج الطيالسي وسعيد بن منصور
وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والطبراني وابن قانع والحاكم وصححه وأبو نعيم والبيهقي وابن مردويه عن صفون بن عسال " أن يهوديين قال
أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي نسأله، فأتياه فسألاه عن قول الله (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات
فقال: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرفوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا
ولا تسحروا، ولا تمشوا ببرئ إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة. أو قال: لا تفروا مر
الزحف - شك شعبة - وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت، فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي
الله، قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا: إن داود دعا الله أن يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا
اليهود ". وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن أنس بن مالك أنه سئل عن قوله (وإني لأظنك يا فرعون مثبورا
قال: مخالفا، وقال: الأنبياء أكرم من أن تلعن أو تسب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق
عن ابن عباس مثبورا قال: ملعونا. وأخرج الشيرازي في الألقاب وابن مردويه عنه قال: قليل العقل. وأخرج
ابن جرير عنه أيضا لفيفا قال: جميعا. وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه
والبيهقي عن ابن عباس أنه قرأ " وقرآنا فرقناه " مثقلا قال: نزل القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان
جملة واحدة، فكان المشركون إذا أحدثوا شيئا أحدث الله لهم جوابا، ففرقه الله في عشرين سنة. وقد روى نحو
هذا عنه من طرق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (فرقناه) قال: فصلناه على مكث بأمد (يخرون
للأذقان) يقول للوجوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد (إذا يتلى عليهم) قال: كتابهم.
سورة الإسراء الآية (110 - 111)
أراد سبحانه أن يعلم عباده كيفية الدعاء والخشوع فقال (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) ومعناه: أنهما
مستويان في جواز الإطلاق وحسن الدعاء بهما، ولهذا قال (أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) التنوين في أيا عوض
عن المضاف إليه. وما مزيدة لتوكيد الإبهام في أيا، والضمير في له راجع إلى المسمى، وكان أصل الكلام
أيا ما تدعوا فهو حسن، فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة، وللدلالة على أنها إذا حسنت أسماؤه كلها
حسن هذان الاسمان، ومعنى حسن الأسماء استقلالها بنعوت الجلال والإكرام، ذكر معنى هذا النيسابوري وتبعه
أبو السعود. قال الزجاج: أعلمهم الله أن دعاءهم الله ودعاءهم الرحمن يرجعان إلى قول واحد، وسيأتي ذكر
سبب نزول الآية، وبه يتضح المراد منها، ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها
أي بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت، لا من نعوت أفعال الصلاة
فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، يقال خفت صوته خفوتا: إذا انقطع كلامه وضعف وسكن، وخفت الزرع
إذا ذبل، وخافت الرجل بقراءته: إذا لم يرفع بها صوته، وقيل معناه: لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها
265

والأول أولى (وابتغ بين ذلك) أي الجهر والمخافتة المدلول عليها بالفعلين (سبيلا) أي طريقا متوسطا بين الأمرين
فلا تكن مجهورة ولا مخافتا بها، وعلى التفسير الثاني يكون معنى ذلك النهي عن الجهر بقراءة الصلوات كلها،
والنهي عن المخافتة بقراءة الصلوات كلها، والأمر بجعل البعض منها مجهورا به، وهو صلاة الليل والمخافتة بصلاة
النهار، وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله - ادعوا ربكم تضرعا وخفية - ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادى
إلا بأسمائه الحسنى نبه على كيفية الحمد له فقال (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) كما تقوله اليهود والنصارى،
ومن قال من المشركين إن الملائكة بنات الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا (ولم يكن له شريك في الملك) أي مشارك
له في ملكه وربوبيته كما تزعمه الثنوية ونحوهم من الفرق القائلين بتعدد الآلهة (ولم يكن له ولى من الذل) أي
لم يحتج إلى موالاة أحد لذل يلحقه فهو مستغن عن الولي والنصير. قال الزجاج: أي لم يحتج أن ينتصر بغيره،
وفى التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بأن المستحق للحمد من له هذه الصفات، لأنه القادر على
الإيجاد وإفاضة النعم لكون الولد مجبنة ومبخلة، ولأنه أيضا يستلزم حدوث الأب لأنه متولد من جزء من أجزائه،
والمحدث غير قادر على كمال الإنعام، والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يقدر على الاستقلال به، ومن لا يقدر
على الاستقلال عاجز فضلا عن تمام ما هو له، فضلا عن نظام ما هو عليه، وأيضا الشركة موجبة للتنازع بين
الشريكين فقد يمنعه الشريك من إفاضة الخير إلى أوليائه ومؤديه فإن إلى الفساد - لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا -
والمحتاج إلى ولي يمنعه من الذل وينصره على من أراد إذلاله ضعيف لا يقدر على ما يقدر عليه من هو مستغنى
بنفسه (وكبره تكبيرا) أي عظمه تعظيما وصفه بأنه أعظم من كل شئ.
وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال " صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ذات
يوم فقال في دعائه: يا الله يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا ان ندعوا إلهين، وهو يدعو
إلهين، فأنزل الله - قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن - الآية ". وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي قال: إن اليهود
سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرحمن، وكان لهم كاهن باليمامة يسمونه الرحمن، فنزلت الآية.
وهو مرسل. وأخرج ابن جرير عن مكحول " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتهجد بمكة ذات ليلة يقول
في سجوده يا رحمن يا رحيم، فسمعه رجل من المشركين، فلما أصبح قال لأصحابه: إن ابن أبي كبشة يدعو الليلة
الرحمن الذي باليمن، وكان رجل باليمن يقال له الرحمن، فنزلت ". وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق نهشل بن
سعيد عن الضحاك عن ابن عباس قال " سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله (قل ادعوا الله أو
ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا) إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو أمان من السرق " وإن
رجلا من المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلاها حيث أخذ مضجعه، فدخل عليه سارق
فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجد الباب مردودا، فوضع الكارة، ففعل
ذلك ثلاث مرات، فضحك صاحب الدار ثم قال: إني حصنت بيتي. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن
عباس في قوله (ولا تجهر بصلاتك) الآية قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوار، فكان إذا
صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله لنبيه
(ولا تجهر بصلاتك) أي بقراءتك، فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن (ولا تخافت بها) عن أصحابك، فلا
تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك (وابتغ بين ذلك سبيلا) يقول: بين الجهر والمخافتة. وأخرج ابن مردويه عنه
قال كان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر بالقراءة بمكة فيؤذي، فأنزل الله (ولا تجهر بصلاتك). وأخرج
266

ابن أبي شيبة عنه أيضا نحوه. وأخرج أبو داود في ناسخه عنه نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضا قال:
كان مسيلمة الكذاب قد سمى الرحمن، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
قال المشركون: يذكر إله اليمامة، فأنزل الله (ولا تجهر بصلاتك). وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير
وابن المنذر والبيهقي في الشعب عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا قرأ خفض، وكان عمر إذا
قرأ جهر، فقيل لأبي بكر لم تصنع هذا؟ قال: أنا أناجي ربي، وقد عرف حاجتي، وقيل لعمر لم تصنع هذا؟
قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزل (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) قيل لأبي بكر ارفع شيئا،
وقيل لعمر اخفض شيئا. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وغيرهم عن عائشة قالت: إنما
نزلت هذه الآية (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) في الدعاء. وأخرج ابن جرير والحاكم عنها قالت: نزلت
في التشهد. وأخرج ابن أبي شيبة وابن منيع وابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس
مثل حديث عائشة الأول. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: إن اليهود والنصارى
قالوا اتخذ الله ولدا، وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقال الصابئون
والمجوس: لولا أولياء الله لذل، فأنزل الله هذه الآية (قل الحمد لله) إلى آخرها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (ولم يكن له ولى من الذل) قال: لم يحالف أحدا ولم يبتغ
نصر أحد. وأخرج أحمد والطبراني عن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " آية العز
(الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) الآية كلها ". وأخرج أبو يعلى وابن السني عن أبي هريرة قال " خرجت أنا ورسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ويده في يدي، فأتى علي رجل رث الهيئة فقال: أي فلان ما بلغ بك ما أرى؟ قال:
السقم والضر، قال: ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر؟ توكلت على الحي الذي لا يموت، الحمد لله
الذي لم يتخذ ولدا إلى آخر الآية، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد حسنت حاله فقال مهيم:
قال لم أزل أقول الكلمات التي علمتني ". وفى لفظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم ذلك أبا هريرة. قال ابن
كثير: وإسناده ضعيف وفى متنه نكارة. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال " ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم كان يعلم أهله هذه الآية (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) إلى آخرها الصغير من أهله والكبير ". وأخرج
عبد الرزاق في المصنف عن عبد الكريم بن أبي أمية قال " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم الغلام من
بني هاشم إذا أفصح سبع مرات (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) إلى آخر السورة " وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف
من طريق عبد الكريم عن عمرو بن شعيب فذكره. وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده.
267

تفسير سورة الكهف
وهى مائة وإحدى عشرة آية
قال القرطبي: وهى مكية في قول جميع المفسرين. وروى عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله
" جرزا " والأول أصح انتهى. ومن القائلين إنها مكية جميعها ابن عباس، أخرجه عنه النحاس وابن مردويه ومنهم
ابن الزبير، أخرجه عنه ابن مردويه. وقد ورد في فضلها أحاديث: منها ما أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وغيرهم عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من حفظ عشر آيات من أول سورة
الكهف عصم من فتنة الدجال ". وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن حبان عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ". وأخرج البخاري
ومسلم وغيرهما عن البراء قال " قرأ رجل سورة الكهف وفى الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد
غشيته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: اقرأ فلان، فإن السكينة نزلت للقرآن " وهذا الذي
كان يقرأ هو أسيد بن حضير كما بينه الطبراني. وأخرج الترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال " وفى قراءة العشر الآيات من
أولها أو من آخرها أحاديث. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة تكون، فإن خرج الدجال عصم
منه ". وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي والضياء عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ سورة الكهف كانت له نورا من مقامه إلى مكة، ومن قرأ عشر
آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره ". وأخرج الحاكم وصححه من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين ". وأخرجه البيهقي أيضا
في السنن من هذا الوجه ومن وجه آخر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضئ له يوم القيامة وغفر له
ما بين الجمعتين ". وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ألا أخبركم
بسورة ملأ عظمتها ما بين السماء والأرض ولكاتبها من الأجر مثل ذلك ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين
الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله من أي الليل شاء؟ قالوا: بلى
يا رسول الله، قال: سورة أصحاب الكهف ". وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة " وفى الباب أحاديث وآثار،
وفيما أوردناه كفاية مغنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكهف الآية (1 - 4)
268

سورة الكهف الآية (5 - 8)
علم عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم، ووصفه بالموصول يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله
ووجه كون إنزال الكتاب، وهو القرآن نعمة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كونه اطلع بواسطته على
أسرار التوحيد، وأحوال الملائكة والأنبياء، وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبده الله وتعبد أمته بها، وكذلك
العباد كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم لمثل ما ذكرناه في النبي (ولم يجعل له عوجا) أي شيئا من الغوج بنوع من
أنواع الاختلال في اللفظ والمعنى، والعوج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأعيان كذا قيل، ويرد عليه قوله
سبحانه - لا ترى فيها عوجا ولا أمتا - يعني الجبال، وهى من الأعيان. قال الزجاج: المعنى في الآية لم يجعل فيها
اختلافا كما قال - ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا -. والقيم المستقيم الذي لا ميل فيه، أو القيم
بمصالح العباد الدينية والدنيوية، أو القيم على ما قبله من الكتب السماوية مهيمنا عليها، وعلى الأول يكون تأكيدا لما
دل عليه نفى العوج، فرب مستقيم في الظاهر لا يخلو عن أدنى عوج في الحقيقة، وانتصاب قيما بمضمر: أي جعله
قيما ومنع صاحب الكشاف أن يكون حالا من الكتاب، لأن قوله ولم يجعل معطوف على أنزل فهو داخل في حيز
الصلة، فجاعله حالا من الكتاب فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة. وقال الأصفهاني: هما حالان
متواليان إلا أن الأول جملة والثاني مفرد، وهذا صواب لأن قوله (ولم يجعل) لم يكن معطوفا على ما قبله بل الواو
للحال، فلا فصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وقيل إن قيما حال من ضمير لم يجعل له، وقيل في الكلام
تقديم وتأخير، والتقدير: أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، ثم أراد سبحانه أن يفصل ما أجمله في
قوله قيما فقال (لينذر بأسا شديدا) وحذف المنذر للعلم به مع قصد التعميم، والمعنى لينذر الكافرين. والبأس
العذاب، ومعنى (من لدنه) صادرا من لدنه نازلا من عنده. روى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ من لدنه باشمام الدال
الضمة، وبكسر النون والهاء. وهى لغة الكلابيين. وروى أبو زيد عن جميع القراء فتح اللام وضم الدال وسكون
النون (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات) قرئ يبشر بالتشديد والتخفيف، وأجرى الموصول على
موصوفه المذكور، لأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان (أن لهم أجرا حسنا) وهو الجنة حال كونهم (ماكثين فيه)
أي في ذلك الأجر (أبدا) أي مكثا دائما لا انقطاع له، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار
ثم كرر الإنذار وذكر المنذر لخصوصه وحذف المنذر به، وهو البأس الشديد، لتقدم ذكره فقال (وينذر الذين
قالوا اتخذ الله ولدا) وهم اليهود والنصارى وبعض كفار قريش. القائلون بأن الملائكة بنات الله، فذكر سبحانه
أولا قضية كلية، وهى إنذار عموم الكفار، ثم عطف عليها قضية خاصة هي بعض جزئيات تلك الكلية، تنبيها
على كونها أعظم جزئيات تلك الكلية. فأفاد ذلك أن نسبة الولد إلى الله سبحانه أقبح أنواع الكفر (ما لهم به من علم)
أي بالولد، أو اتخاذ الله إياه، ومن مزيدة لتأكيد النفي، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة،
والمعنى: مالهم بذلك علم أصلا (ولا لآبائهم) علم، بل كانوا في زعمهم هذا على ضلالة، وقلدهم أبناؤهم
فضلوا جميعا (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) انتصاب كلمة على التمييز، وقرئ بالرفع على الفاعلية. قال
الفراء: كبرت تلك الكلمة كلمة. وقال الزجاج: كبرت مقالتهم كلمة، والمراد بهذه الكلمة هي قولهم اتخذ الله
269

ولدا، ثم وصف الكلمة بقوله (تخرج من أفواههم) وفائدة هذا الوصف استعظام اجترائهم على التفوه بها،
والخارج من الفم وإن كان هو مجرد الهوى، لكن لما كانت الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهوى أسند إلى
الحال ما هو من شأن المحل. ثم زاد في تقبيح ما وقع منهم فقال (إن يقولون إلا كذبا) أي ما يقولون إلا كذبا لا مجال
للصدق فيه بحال. ثم سلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) قال الأخفش
والفراء: البخع الجهد. وقال الكسائي: بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة، وبخع
الرجل نفسه إذا نهكها. وقال أبى عبيدة: معناه مهلك نفسك، ومنه قول ذي الرمة:
* ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه * فيكون المعنى على هذه الأقوال لعلك مجهد نفسك أو مضعفها أو مهلكها (على
آثارهم) على فراقهم ومن بعد توليهم وإعراضهم (إن لم يؤمنوا بهذا الحديث) أي القرآن وجواب الشرط محذوف
دل عليه ما قبله. وقرئ بفتح أن: أي لأن لم يؤمنوا (أسفا) أي غيظا وحزنا وهو مفعول له أو مصدر في موضع
الحال كذا قال الزجاج (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) هذه الجملة استئناف. والمعنى: إنا جعلنا ما على
الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها من الحيوانات والنبات والجماد كقوله سبحانه - هو الذي خلق لكم ما في
الأرض جميعا - وانتصاب زينة على أنها مفعول ثان لجعل، واللام في (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) متعلقة بجعلنا،
وهى إما للغرض أو للعاقبة، والمراد بالابتلاء أنه سبحانه يعاملهم معاملة لو كانت تلك المعاملة من غيره لكانت من
قبيل الابتلاء والامتحان. وقال الزجاج أيهم رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى: لنمتحن أهذا
أحسن عملا أم ذاك؟ قال الحسن: أيهم أزهد، وقال مقاتل: أيهم أصلح فيما أوتي من المال، ثم أعلم سبحانه أنه
مبيد لذلك كله ومفنيه فقال (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) أي لجاعلون ما عليها من هذه الزينة عند تناهي
عمر الدنيا صعيدا ترابا. قال أبو عبيدة: الصعيد المستوى من الأرض. وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه
قال الفراء: الجرز الأرض التي لا نبات فيها، ومن قولهم: امرأة جرزا إذا كانت أكولا، وسيفا جرازا إذا كان
مستأصلا، وجرز الجراد والشاة والإبل الأرض إذا أكلت ما عليها. قال ذو الرمة:
طوى النحز والاجراز ما في بطونها * ومعنى النظم لا تحزن يا محمد مما وقع من هؤلاء من التكذيب فانا
قد جعلنا ما على الأرض زينة لاختبار أعمالهم، وإنا لمذهبون ذلك عند انقضاء عمر الدنيا فمجازوهم إن خيرا فخير،
وأن شرا فشر.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في
قوله (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) الآية قال: أنزل الكتاب عدلا قيما (ولم يجعل له عوجا) ملتبسا.
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك (قيما) قال: مستقيما. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة (من لدنه) أي من عنده.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى (حسنا) يعنى الجنة (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) قال: هم اليهود والنصارى
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية
ابن خلف والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأبو البحتري في نفر من قريش، وكان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه، وإنكارهم ما جاء به من النصيحة، فأحزنه حزنا شديدا،
فأنزل الله سبحانه (فلعلك باخع نفسك). وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه (باخع نفسك) يقول: قاتل نفسك
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى مثله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن
مجاهد (أسفا) قال: جزعا. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة (أسفا) قال: حزنا.
270

وأخرج ابن المنذر وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها)
قال: الرجال. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير من قوله مثله. وأخرج أبو نصر السجري في الإبانة من
طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال: العلماء زينة الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: هم الرجال
العباد العمال لله بالطاعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر قال:
تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟
قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة
قال: ليختبرهم (أيهم أحسن عملا) قال: أيهم أتم عقلا. وأخرج عن الحسن (أيهم أحسن عملا) قال: أشدهم
للدنيا تركا، وأخرج أيضا عن الثوري قال: أزهدهم في الدنيا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (وإنا
لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) قال: يهلك كل شئ ويبيد. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
قتادة قال: الصعيد التراب والجبال التي ليس فيها زرع. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: يعنى بالجرز
الخراب.
سورة الكهف الآية (9 - 16)
قوله (أم حسبت) أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة عند الجمهور، وببل وحدها عند بعضهم والتقدير:
بل أحسبت، أو بل حسبت، ومعناها الانتقال من حديث إلى حديث آخر، لا لإبطال الأول والإضراب عنه كما
هو معنى بل في الأصل. والمعنى: أن القوم لما تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل
الامتحان، قال سبحانه: بل أظننت يا محمد أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط؟ لا تحسب ذلك فإن آياتنا كلها
عجب، فإن من كان قادرا على جعل ما على الأرض زينة لها للإبتلاء، ثم جعل ما عليها صعيدا جرزا كأن لم تغن
بالأمس، لا تستبعد قدرته وحفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة، وإن كانت قصتهم خارقة للعادة، فإن
آيات الله سبحانه كذلك وفوق ذلك. و (عجبا) منتصبة على أنه خبر كان: أي ذات عجب، أو موصوفة
بالعجب مبالغة. ومن آياتنا في محل نصب على الحال، و (إذ أوى الفتية) ظرف لحسبت أو لفعل مقدر، وهو
271

ذكر: أي صاروا إليه وجعلوه مأواهم، والفتية هم أصحاب الكهف، والكهف هو الغار الواسع في الجبل. فإن
كان صغيرا سمي غارا، والرقيم قال كعب والسدي: إنه اسم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف، وقال سعيد بن
جبير ومجاهد: إنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف. قال الفراء: ويروي
أنه إنما سمي رقيما لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه. والرقم الكتابة. وروى مثل ذلك عن ابن عباس. ومنه قول
العجاج في أرجوزة له * ومستقري إلا المصحف الرقيم *
وقيل إن الرقيم اسم كلبهم، وقيل هو اسم الوادي الذي كانوا فيه، وقيل اسم الجبل الذي فيه الغار. قال
الزجاج: أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله، لأن خلق السماوات والأرض وما
بنهما أعجب من قصة أصحاب الكهف (فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة) أي من عندك، ومن ابتدائية متعلقة
آتنا، أو لمحذوف وقع حالا، والتنوين في رحمة إما للتعظيم أو للتنويع، وتقديم من لدنك للاختصاص: أي رحمة
مختصة بأنها من خزائن رحمتك، وهى المغفرة في الآخرة والأمن من الأعداء، والرزق في الدنيا (وهيئ لنا من أمرنا
شدا) أي أصلح لنا، من قولك هيأت الأمر فتهيأ، والمراد بأمرهم الأمر الذي هم عليه وهو مفارقتهم للكفار،
الرشد نقيض الضلال، ومن للابتداء. ويجوز أن تكون للتجريد. كما في قولك رأيت منك رشدا: وتقديم
لمجرورين للاهتمام بهما (فضربنا على آذانهم) قال المفسرون: أنمناهم. والمعنى: سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن
سماع الأصوات، والمفعول محذوف: أي ضربنا على آذانهم الحجاب تشبيها للإنامة الثقيلة المانعة من وصول
لأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها، و (في الكهف) ظرف لضربنا، وانتصاب (سنين) على الظرفية،
(عددا) صفة لسنين: أي ذوات عدد على أنه مصدر أو بمعنى معدودة على أنه لمعنى المفعول، ويستفاد من
صف السنين بالعدد الكثرة. قال الزجاج: إن الشئ إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى العدد، وإن كثر
يحتاج إلى أن يعد وقيل يستفاد منه التقليل لأن الكثير قليل عند الله - وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون -
ثم بعثناهم) أي أيقظناهم من تلك النومة (لنعلم) أي ليظهر معلومنا، وقرئ بالتحتية مبنيا للفاعل على طريقة
لالتفات، و (أي الحزبين) مبتدأ معلق عنه العلم لما في أي من الاستفهام، وخبره (أحصى) وهو فعل ماض،
قيل والمراد بالعلم الذي جعل علة للبعث هو الاختبار مجازا فيكون المعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم،
الأولى ما ذكرناه من أن المراد به ظهور معلوم الله سبحانه لعباده، والمراد بالحزبين الفريقان من المؤمنين والكافرين
من أصحاب الكهف المختلفين في مدة لبثهم. ومعنى أحصى أضبط. وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في
الكهف، فبعثهم الله ليتبين لهم ذلك، ويظهر من ضبط الحساب ممن لم يضبطه، وما في (لما لبثوا) مصدرية: أي
حصى للبثهم، وقيل اللام زائدة، وما بمعنى الذي، و (أمدا) تمييز، والأمد الغاية، وقيل إن أحصى أفعل
تفضيل. ورد بأنه خلاف ما تقرر في علم الإعراب، وما ورد من الشاذ لا يقاس عليه كقولهم: أفلس من ابن
لمذلق، وأعدى من الجرب. وأجيب بأن أفعل التفضيل من المزيد قياس مطرد عند سيبويه وابن عصفور، وقيل
إن الحزبين هم أصحاب الكهف اختلفوا بعد انتباههم كم لبثوا، وقيل إن أصحاب الكهف حزب وأصحابهم حزب.
وقال الفراء: إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم (نحن نقص عليك نبأهم
بالحق) هذا شروع في تفصيل ما أجمل في قوله (إذ أوى الفتية) أي نحن نخبرك بخبرهم بالحق أي قصصناه بالحق،
أو متلبسا بالحق (إنهم فتية) أي أحداث شبان، و (آمنوا بربهم) صفة لفتية والجملة مستأنفة بتقدير سؤال،
والفتية جمع قلة، و (زدناهم هدى) بالتثبيت والتوفيق، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب (وربطنا على قلوبهم)
272

أي قويناها بالصبر على هجر الأهل والأوطان، وفراق الخلان والأخدان (إذ قاموا) الظرف منصوب بربطنا.
واختلف أهل التفسير في هذا القيام على أقوال: فقيل إنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد، فقال رجل منهم
هو أكبر القوم: إني لأجد في نفسي شيئا، إن ربي رب السماوات والأرض، فقالوا: ونحن أيضا كذلك نجد في
أنفسنا، فقاموا جميعا (فقالوا ربنا رب السماوات والأرض) قاله مجاهد. وقال أكثر المفسرين: إنه كان لهم ملك
جبار يقال له دقيانوس، وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا
بين يديه (فقالوا ربنا رب السماوات والأرض) وقال عطاء ومقاتل إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم (لن
ندعوا من دونه إلها) أي لن نعبد معبودا آخر غير الله لا اشتراكا ولا استقلالا (لقد قلنا إذا شططا) أي قولا
ذا شطط، أو قولا هو نفس الشطط لقصد المبالغة بالوصف بالمصدر، واللام هي الموطئة للقسم، والشطط الغلو
ومجاوزة الحد. قال أعشى بن قيس:
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط * كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
(هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة) هؤلاء مبتدأ، وخبره اتخذوا، وقومنا عطف بيان، وفى هذا الإخبار
معنى للإنكار، وفى الإشارة إليهم تحقير لهم (لولا يأتون عليهم بسلطان بين) أي هلا يأتون بحجة ظاهرة تصلح
للتمسك بها (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) فزعم أن له شريكا في العبادة: أي لا أحد أظلم منه (وإذا اعتزلتموهم)
أي فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانبا: أي عن العابدين للأصنام، وقوله (وما يعبدون إلا الله) معطوف على الضمير
المنصوب، وما موصولة أو مصدرية: أي وإذا اعتزلتموهم واعتزلتم معبودهم أو الذي يعبدونه، وقوله (إلا الله)
استثناء منقطع على تقدير أنهم لم يعبدوا إلا الأصنام، أو متصل على تقدير أنهم شركوها في العبادة مع الله سبحانه
وقيل هو كلام معترض إخبار من الله سبحانه عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله فتكون ما على هذا نافية (فأووا إلى
الكهف) أي صيروا إليه واجعلوه مأواكم. قال الفراء: هو جواب إذ، ومعناه: اذهبوا إليه واجعلوه مأواكم،
وقيل هو دليل على جوابه، أي إذ اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا، فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا، وإذا أردتم اعتزالهم
فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف (ينشر لكم ربكم من رحمته) أي يبسط ويوسع (ويهيئ لكم من أمركم مرفقا)
أي يسهل وييسر لكم من أمركم الذي أنتم بصدده (مرفقا) المرفق بفتح الميم وكسرها لغتان قرئ بهما، مأخوذ من
الارتفاق وهو الانتفاع، وقيل فتح الميم أقيس، وكسرها أكثر. قال الفراء: وأكثر العرب على كسر الميم من
الأمر ومن مرفق الإنسان، وقد تفتح العرب الميم فيهما فهما لغتان، وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بين
المرفق من الأمر، والمرفق من الإنسان. وقال الكسائي: الكسر في مرفق اليد، وقيل المرفق بالكسر ما ارتفقت به،
والمرفق بالفتح الأمر الرافق، والمراد هنا ما يرتفقون به وينتفعون بحصوله، والتقديم في الموضعين يفيد الاختصاص.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الرقيم الكتاب. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه قال: الرقيم واد دون فلسطين قريب من أيلة، والراويان عن ابن
عباس ضعيفان. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عنه أيضا قال: هو الجبل الذي فيه الكهف. وأخرج ابن
المنذر عنه، قال: والله ما أدري ما الرقيم الكتاب أم بنيان؟ وفى رواية عنه من طريق أخرى قال: وسألت كعبا
فقال: اسم القرية التي خرجوا منها. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال: الرقيم الكلب. وأخرج ابن أبي حاتم عن
ابن عباس في قوله (كانوا من آياتنا عجبا) يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب
الكهف والرقيم. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله (فضربنا على آذانهم) يقول: أرقدناهم (ثم بعثناهم
273

لنعلم أي الحزبين) من قوم الفتية، أهل الهدى، وأهل الضلالة (أحصى لما لبثوا)، وذلك أنهم كتبوا اليوم الذي
خرجوا فيه والشهر والسنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله (وزدناهم هدى) قال: إخلاصا
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وربطنا على قلوبهم) قال: بالإيمان وفى قوله (لقد قلنا إذا شططا) قال:
كذبا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال: جورا. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
عطاء الخراساني في قوله (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله) قال: كان قوم الفتية يعبدون الله ويعبدون معه آلهة
شتى، فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية
قال: هي في مصحف ابن مسعود، وما يعبدون من دون الله، فهذا تفسيرها.
سورة الكهف الآية (17 - 20).
قوله (وترى الشمس إذا طلعت) شرع سبحانه في بيان حالهم، بعد ما أووا إلى الكهف (تزاور) قرأ أهل
الكوفة بحذف تاء التفاعل، وقرأ ابن عامر " تزور " قال الأخفش: لا يوضع الازورار في هذا المعنى، إنما يقال
هو مزور عني: أي منقبض. وقرأ الباقون بتشديد الزاي وإدغام تاء التفاعل فيه بعد تسكينها، وتزاور مأخوذ من
الزور بفتح الواو، وهو الميل، ومنه زاره إذا مال إليه، والزور الميل، فمعنى الآية أن الشمس إذا طلعت تميل
وتتنحى (عن كهفهم) قال الراجز الكلبي * جاب المندا عن هوانا أزور * أي مائل (ذات اليمين) أي ناحية
اليمين، وهى الجهة المسماة باليمين، وانتصاب ذات على الظرف، (وإذا غربت تقرضهم) القرض: القطع. قال
الكسائي والأخفش والزجاج وأبو عبيدة: تعدل عنهم وتتركهم، قرضت المكان: عدلت عنه، تقول
لصاحبك: هل وردت مكان كذا؟ فيقول إنما قرضته: إذا مر به وتجاوز عنه، والمعنى: أن الشمس إذا طلعت
مالت عن كهفهم ذات اليمين: أي يمين الكهف، وإذا غربت تمر (ذات الشمال) أي شمال الكهف لا تصيبه. بل
تعدل عن سمته إلى الجهتين، والفجوة المكان المتسع، وجملة (وهم في فجوة منه) في محل نصب على الحال،
274

وللمفسرين في تفسير هذه الجملة قولان: الأول أنهم مع كونهم في مكان منفتح انفتاحا واسعا في ظل جميع
نهارهم لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا في غروبها، لأن الله سبحانه حجبها عنهم. والثاني أن باب ذلك الكهف
كان مفتوحا إلى جانب الشمال، فإذا طلعت الشمس كانت عن يمين الكهف، وإذا غربت كانت عن يساره،
ويؤيد القول الأول قوله (ذلك من آيات الله) فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة
أنسب بمعنى كونها آية، ويؤيده أيضا إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا، ومما يدل على أن
الفجوة المكان الواسع قول الشاعر:
ألبست قومك مخزاة ومنقصة * حتى أبيحوا وخلوا فجوة الدار
ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله (من يهد الله) أي إلى الحق (فهو المهتد) الذي ظفر بالهدى وأصاب الرشد والفلاح
(ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) أي ناصرا يهديه إلى الحق كدقيانوس وأصحابه. ثم حكى سبحانه طرفا آخر من
غرائب أحوالهم فقال (وتحسبهم أيقاظا) جمع يقظ بكسر القاف وفتحها (وهم رقود) أي نيام، وهو جمع راقد
كقعود في قاعد. قيل وسبب هذا الحسبان أن عيونهم كانت مفتحة وهم نيام. وقال الزجاج: لكثرة تقلبهم
(ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) أي نقلبهم في رقدتهم إلى الجهتين لئلا تأكل الأرض أجسادهم (وكلبهم
باسط ذراعيه) حكاية حال ماضية، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى المضي كما تقرر في علم النحو. قال
أكثر المفسرين: هربوا من ملكهم ليلا، فمروا براع معه كلب فتبعهم. والوصيد. قال أبو عبيد وأبو عبيدة هو
فناء البيت، وكذا قال المفسرون، وقيل العتبة، ورد بأن الكهف لا يكون له عتبة ولا باب، وإنما أراد أن
الكلب موضع العتبة من البيت (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) قال الزجاج: فرارا منصوب على المصدرية
بمعنى التولية، والفرار: الهرب (ولملئت) قرئ بتشديد اللام وتخفيفها (منهم رعبا) قرئ بسكون العين وضمها
أي خوفا يملأ الصدر، وانتصاب رعبا على التمييز، أو على أنه مفعول ثان، وسبب الرعب الهيبة التي ألبسهم الله
إياها، وقيل طول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم، ويدفعه قوله تعالى - لبثنا يوما أو بعض
يوم - فإن ذلك يدل على أنهم لم ينكروا من حالهم شيئا، ولا وجدوا من أظفارهم وشعورهم ما يدل على طول المدة
(وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم) الإشارة إلى المذكور قبله أي وكما فعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات بعثناهم من
نومهم، وفيه تذكير لقدرته على الإماتة والبعث جميعا، ثم ذكر الأمر الذي لأجله بعثهم فقال: ليتساءلوا بينهم:
أي ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور القدرة
الباهرة، والاقتصار على علة التساؤل لا ينفى غيرها، وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار، وجملة (قال قائل منهم كم
لبثتم) مبينة لما قبلها من التساؤل، أي كم مدة لبثكم في النوم؟ قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه
في العادة (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) أي قال بعضهم جوابا عن سؤال من سأل منهم، قال المفسرون: إنهم
دخلوا الكهف غدوة، وبعثهم الله سبحانه آخر النهار. فلذلك قالوا يوما، فلما رأوا الشمس قالوا أو بعض يوم،
وكان قد بقيت بقية من النهار، وقد مر مثل هذا الجواب في قصة عزيز في البقرة - قالوا ربكم أعلم بما لبثتم - أي
قال البعض الآخر هذا القول: إما على طريق الاستدلال، أو كان ذلك إلهاما لهم من الله سبحانه: أي أنكم
لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله سبحانه (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) أعرضوا عن التحاور في
مدة اللبث، وأخذوا في شئ آخر، كأنه قال القائل منهم: اتركوا ما أنتم فيه من المحاورة، وخذوا في شئ آخر
مما يهمكم، والفاء للسببية، والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي
275

وحفص عن عاصم بكسر الراء، وقرأ أبو عمرو وحمزة، وأبو بكر عن عاصم بسكونها، وقرئ بكسر الراء وإدغام
القاف في الكاف، وقرأ ابن محيصن بكسر الواو وسكون الراء. وفى حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن إمساك
بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله، والمدينة دقسوس، وهى مدينتهم التي كانوا فيها، ويقال لها
اليوم طرسوس، كذا قال الواحدي (فلينظر أيها أزكى طعاما) أي ينظر أي أهلها أطيب طعاما، وأحل مكسبا.
أو أرخص سعرا، وقيل يجوز أن يعود الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام كما يقال زيد طبت أبا على أن
الأب هو زيد، وفيه بعد. واستدل بالآية على حل ذبائح أهل الكتاب لأن عامة أهل المدينة كانوا كفارا،
وفيهم قوم يخفون إيمانهم، ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام
(وليتلطف) أي يدقق النظر حتى لا يعرف أو لا يغبن، والأول أولى، ويؤيده (ولا يشعرن بكم أحدا) أي
لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويتسبب له، فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف. ثم علل ما سبق من الأمر
والنهي فقال (إنهم إن يظهروا عليكم) أي يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم، يعني أهل المدينة (يرجموكم) يقتلوكم
بالرجم، وهذه القتلة هي أخبث قتلة، وكان ذلك كان عادة لهم، ولهذا خصه من بين أنواع ما يقع به القتل (أو
يعيدوكم في ملتهم) أي يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله، أو المراد بالعود هنا الصيرورة على
تقدير أنهم لم يكونوا على ملتهم، وإيثار كلمة في علي كلمة إلى للدلالة على الاستقرار (ولن تفلحوا إذا أبدا) في
إذن معنى الشرط، كأنه قال: إن رجعتم إلى دينهم فلن تفلحوا إذا أبدا، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (تزاور) قال: تميل، وفى قوله
(تقرضهم) قال: تذرهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (تقرضهم) قال:
تتركهم (وهم في فجوة منه) قال: المكان الداخل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: الفجوة:
الخلوة من الأرض، ويعني بالخلوة الناحية من الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله
(ونقلبهم) الآية قال: ستة أشهر على ذي الجنب اليمين، وستة أشهر على ذي الجنب الشمال. وأخرج سعيد بن
منصور وابن المنذر عن سعيد بن جبير في الآية قال: كي لا تأكل الأرض لحومهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن
مجاهد أن اسم كلبهم قطمورا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: اسمه قطمير. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله (بالوصيد) قال: بالفناء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه
قال: بالباب. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (أزكى طعاما) قال: أحل
ذبيحة، وكانوا يذبحون للطواغيت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (أزكى طعاما): يعني
أطهر، لأنهم كانوا يذبحون للطواغيت.
سورة الكهف الآية (21)
276

سورة الكهف الآية (22 - 26)
قوله (وكذلك أعثرنا عليهم) أي وكما أنمناهم وبعثناهم، أعثرنا عليهم: أي أطلعنا الناس عليهم وسمى الإعلام
إعثارا، لأن من كان غافلا عن شئ فعثر به نظر إليه وعرفه، فكان الإعثار سببا لحصول العلم (ليعلموا أن وعد
الله حق) أي ليعلم الذين أعثرهم الله عليهم أن وعد الله بالبعث حق. قيل وكان ملك ذلك العصر ممن ينكر البعث،
فأراه الله هذه الآية. قيل وسبب الإعثار عليهم أن ذلك الرجل الذي بعثوه بالورق، وكانت من ضربة دقيانوس
إلى السوق، لما اطلع عليها أهل السوق اتهموه بأنه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك، فقال له: من أين وجدت
هذه الدراهم؟ قال: بعت بها أمس شيئا من التمر، فعرف الملك صدقه، ثم قص عليه القصة فركب الملك وركب
أصحابه معه حتى وصلوا إلى الكهف (وأن الساعة لا ريب فيها) أي وليعلموا أن القيامة لا شك في حصولها، فإن
من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد الله به من البعث (إذ يتنازعون بينهم أمرهم) الظرف متعلق بأعثرنا
أي أعثرنا عليهم وقت التنازع والاختلاف بين أولئك الذين أعثرهم الله في أمر البعث، وقيل في أمر أصحاب
الكهف في قدر مكثهم، وفى عددهم، وفيما يفعلونه بعد أن اطلعوا عليهم (فقالوا ابنوا عليهم بنيانا) لئلا يتطرق
الناس إليهم. وذلك أن الملك وأصحابه لما وقفوا عليهم وهم أحياء أمات الله الفتية، فقال بعضهم: ابنوا عليهم بنيانا
يسترهم عن أعين الناس، ثم قال سبحانه حاكيا لقول المتنازعين فيهم وفى عددهم، وفى مدة لبثهم، وفى نحو ذلك
مما يتعلق بهم (ربهم أعلم بهم) من هؤلاء المتنازعين فيهم، قالوا ذلك تفويضا للعلم إلى الله سبحانه، وقيل هو
من كلام الله سبحانه. ردا لقول المتنازعين فيهم: أي دعوا ما أنتم فيه من التنازع، فإني أعلم بهم منكم، وقيل
إن الظرف في " إذ يتنازعون " متعلق بمحذوف هو أذكر، ويؤيده أن الإعثار ليس في زمن التنازع بل قبله، ويمكن
أن يقال: إن أولئك القوم ما زالوا متنازعين فيما بينهم قرنا بعد قرن. منذ أووا إلى الكهف إلى وقت الإعثار، ويؤيد
ذلك أن خبرهم كان مكتوبا على باب الغار، كتبه بعض المعاصرين لهم من المؤمنين الذين كانوا يخفون إيمانهم كما
قاله المفسرون (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) ذكر اتخاذ المسجد يشعر بأن هؤلاء الذين
غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل هم أهل السلطان، والملك من القوم المذكورين فإنهم الذين يغلبون على أمر
من عداهم، والأول أولى. قال الزجاج: هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور. لأن
المساجد للمؤمنين (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم) هؤلاء القائلون بأنهم ثلاثة أو خمسة أو سبعة، هم المتنازعون
في عددهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب والمسلمين، وقيل هم أهل الكتاب
خاصة، وعلى كل تقدير فليس المراد أنهم جميعا قالوا جميع ذلك، بل قال بعضهم بكذا، وبعضهم بكذا،
وبعضهم بكذا ثلاثة رابعهم كلبهم: أي هم ثلاثة أشخاص، وجملة رابعهم كلبهم في محل نصب على الحال:
277

أي حال كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم (ويقولون خمسة سادسهم كلبهم) الكلام فيه كالكلام فيما قبله،
وانتصاب (رجما بالغيب) على الحال: أي راجمين أو على المصدر أي يرجمون رجما، والرجم بالغيب هو القول
بالظن والحدس من غير يقين، والموصوفون بالرجم بالغيب هم كلا الفريقين القائلين بأنهم ثلاثة، والقائلين
بأنهم خمسة (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) كأن قول هذه الفرقة أقرب إلى الصواب بدلالة عدم إدخالهم في سلك
الراجمين بالغيب. قيل وإظهار الواو في هذه الجملة يدل على أنها مرادة في الجملتين الأوليين. قال أبو علي الفارسي
قوله: رابعهم كلبهم، وسادسهم كلبهم جملتان استغنى عن حرف العطف فيهما بما تضمنتا من ذكر الجملة الأولى
وهى قوله ثلاثة، والتقدير: هم ثلاثة، هكذا حكاه الواحدي عن أبي علي، ثم قال: وهذا معنى قول الزجاج
في دخول الواو في وثامنهم وإخراجها من الأول، وقيل هي مزيدة للتوكيد، وقيل إنها واو الثمانية، وإن ذكره
متداول على ألسن العرب إذا وصلوا إلى الثمانية كما في قوله تعالى - وفتحت أبوابها - وقوله - ثيبات وأبكارا - ثم
أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبر المختلفين في عددهم بما يقطع التنازع بينهم فقال (قل ربى أعلم بعدتهم)
منكم أيها المختلفون ثم أثبت علم ذلك لقليل من الناس فقال (ما يعلمهم) أي يعلم ذواتهم فضلا عن عددهم، أو
ما يعلم عددهم على حذف المضاف (إلا قليل) من الناس، ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن
الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف فقال (فلا تمار فيهم) المراء في اللغة الجدال: يقال ماري يمارى
مماراة ومراء: أي جادل، ثم استثنى سبحانه من المراء ما كان ظاهرا واضحا فقال (إلا مراء ظاهرا) أي غير متعمق فيه
وهو أن يقص عليهم ما أوحى الله إليه فحسب. وقال الرازي: هو أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد، بل يقول
هذا التعيين لا دليل عليه، فوجب التوقف، ثم نهاه سبحانه عن الاستفتاء في شأنهم فقال (ولا تستفت فيهم منهم
أحدا) أي لا تستفت في شأنهم من الخائضين فيهم أحدا منهم، لأن المفتى يجب أن يكون أعلم من المستفتى، وهاهنا
الأمر بالعكس، ولا سيما في واقعة أهل الكهف، وفيما قص الله عليك في ذلك ما يغنيك عن سؤال من لا علم له
(ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا) أي لأجل شئ تعزم عليه فيما يستقبل من الزمان، فعبر عنه بالغد، ولم
يرد الغد بعينه، فيدخل فيه الغد دخولا أوليا. قال الواحدي: قال المفسرون لما سألت اليهود النبي صلى الله عليه
وآله وسلم عن خبر الفتية فقال: أخبركم غدا، ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه حتى شق عليه، فأنزل
الله هذه الآية يأمره بالاستثناء بمشيئة الله يقول: إذا قلت لشئ إني فاعل ذلك غدا، فقل إن شاء الله. وقال الأخفش
والمبرد والكسائي والفراء: لا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول إن شاء الله، فأضمر القول ولما حذف تقول
نقل شاء إلى لفظ الاستقبال، قيل وهذا الاستثناء مفرغ: أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال، إلا حال
ملابسته لمشيئة الله وهو أن تقول إن شاء الله، أو في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله مطلقا،
وقيل الاستثناء جار مجرى التأبيد كأنه قيل: لا تقولنه أبدا كقوله - وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله - لأن
عودهم في ملتهم مما لا يشاؤه الله (واذكر ربك إذا نسيت) الاستثناء بمشيئة الله: أي فقل إن شاء الله، سواء كانت
المدة قليلة أو كثيرة.
وقد اختلف أهل العلم في المدة التي يجوز إلحاق الاستثناء فيما بعد المستثنى منه على أقوال معروفة في مواضعها
وقيل المعنى (واذكر ربك) بالاستغفار (إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربى لأقرب من هذا رشدا) المشار إليه
بقوله من هذا هو نبأ أصحاب الكهف: أي قل يا محمد عسى أن يوفقني ربي لشئ أقرب من هذا النبأ من الآيات
والدلائل الدالة على نبوتي. قال الزجاج: عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في
278

الرشد وأدل من قصة أصحاب الكهف، وقد فعل الله به ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم ما كان
أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف، وقيل الإشارة إلى قوله (واذكر ربك إذا نسيت
أي عسى أن يهديني ربي عند هذا النسيان لشئ آخر بدل هذا المنسي، وأقرب منه رشدا وأدنى منه خيرا ومنفعة،
والأول أولى (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا) قرأ الجمهور بتنوين مائة ونصب سنين، فيكون
سنين على هذه القراءة بدلا أو عطف بيان. وقال الفراء وأبو عبيدة والزجاج والكسائي: فيه تقديم وتأخير،
والتقدير سنين ثلاثمائة. ورجح الأول أبو علي الفارسي. وقرأ حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين، وعلى هذه
القراءة تكون سنين تمييزا على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله تعالى - بالأخسرين أعمالا - قال الفراء:
ومن العرب من يضع سنين موضع سنة. قال أبو علي الفارسي: هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد
نحو ثلاثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى المجموع وفى مصحف عبد الله " ثلاثمائة سنة ". وقال الأخفش: لا تكاد
العرب تقول مائة سنين. وقرأ الضحاك " ثلاثمائة سنون " بالواو. وقرأ الجمهور " تسعا " بكسر التاء. وقرأ أبو عمرو
بفتحها، وهذا إخبار من الله سبحانه بمدة لبثهم. قال ابن جرير: إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة
بعد الإعثار عليهم، فقال بعضهم: إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن
هذه المدة في كونهم نياما، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر، فأمر الله أن يرد علم ذلك إليه، فقال (قل الله أعلم بما
لبثوا) قال ابن عطية: فقوله على هذا لبثوا الأول يريد في يوم الكهف، ولبثوا الثاني يريد بعد الإعثار عليهم إلى
مدة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو إلى أن ماتوا. وقال بعضهم: إنه لما قال (وازدادوا تسعا) لم يدر الناس
أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام، واختلف بنوا إسرائيل بحسب ذلك، فأمر الله برد العلم إليه في
التسع، فهي على هذا مبهمة. والأول أولى، لأن الظاهر من كلام العرب المفهوم بحسب لغتهم أن التسع أعوام،
بدليل أن العدد في هذا الكلام للسنين لا للشهور ولا للأيام ولا للساعات. وعن الزجاج أن المراد ثلاثمائة سنة شمسية
وثلاثمائة وتسع سنين قمرية، وهذا إنما يكون من الزجاج على جهة التقريب. ثم أكد سبحانه اختصاصه بعلم ما لبثوا
بقوله (له غيب السماوات والأرض) أي ما خفى فيهما وغاب من أحوالهما ليس لغيره من ذلك شئ، ثم زاد في
المبالغة والتأكيد فجاء بما يدل على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات فقال (أبصر به وأسمع) فأفاد هذا
التعجب على أن شأنه سبحانه في علمه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين، وأنه يستوي في
علمه الغائب والحاضر، والخفي والظاهر، والصغير والكبير، واللطيف والكثيف، وكأن أصله ما أبصره وما
أسمعه، ثم نقل إلى صيغة الأمر للإنشاء، والباء زائدة عند سيبويه وخالفه الأخفش، والبحث مقرر في علم النحو
(ما لهم من دونه من ولى) الضمير لأهل السماوات والأرض، وقيل لأهل الكهف، وقيل لمعاصري محمد صلى
الله عليه وآله وسلم من الكفار: أي مالهم من موال يواليهم أو يتولى أمورهم أو ينصرهم، وفى هذا بيان لغاية قدرته
وأن الكل تحت قهره (ولا يشرك في حكمه أحدا) قرأ الجمهور برفع الكاف على الخبر عن الله سبحانه. وقرأ ابن
عباس والحسن وأبو رجاء وقتادة بالتاء الفوقية وإسكان الكاف على أنه نهى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
يجعل لله شريكا في حكمه، ورويت هذه القراءة عن ابن عامر. وقرأ مجاهد بالتحتية والجزم. قال يعقوب:
279

لا أعرف وجهها، والمراد بحكم الله: ما يقضيه، أو علم الغيب. والأول أولى. ويدخل علم الغيب في ذلك دخولا
أوليا، فإن علمه سبحانه من جملة قضائه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وكذلك أعثرنا عليهم) قال: أطلعنا. وأخرج عبد الرزاق
وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (قال الذين غلبوا على أمرهم) قال: الأمراء، أو قال: السلاطين. وأخرج ابن
أبي حاتم عن السدى في قوله (سيقولون ثلاثة) قال: اليهود (ويقولون خمسة) قال: النصارى. وأخرج
عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (رجما بالغيب) قال: قذفا بالظن. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
مسعود في قوله (ما يعلمهم إلا قليل) قال: أنا من القليل كانوا سبعة. وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس
قال السيوطي بسند صحيح في قوله (ما يعلمهم إلا قليل) قال: أنا من أولئك القليل كانوا سبعة، ثم ذكر أسماءهم.
وحكاه ابن كثير عن ابن عباس في رواية قتادة وعطاء وعكرمة، ثم قال: فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم
كانوا سبعة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (فلا تمار فيهم) يقول: حسبك ما قصصت عليك.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله (ولا
تستفت فيهم منهم أحدا) قال: اليهود. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس في قوله (ولا
تقولن لشئ) الآية قال: إذا نسيت أن تقول لشئ إني أفعله فنسيت أن تقول إن شاء الله، فقل إذا ذكرت إن
شاء الله. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه عنه أنه
كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة، ثم قرأ (واذكر ربك إذا نسيت). وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه
عنه أيضا في الآية قال: هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس لأحد أن يستثنى إلا في صلة يمين.
وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر قال: كل استثناء موصول فلا حنث على صاحبه، وإذا كان غير موصول
فهو حانث. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة وفى رواية: تسعين تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في
سبيل الله، فقال له الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث. وكان دركا لحاجته ".
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عكرمة (إذا نسيت) قال: إذا غضبت.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن الحسن (إذا نسيت) قال: إذا لم تقل إن شاء الله. وأخرج ابن أبي حاتم
وابن مردويه عن ابن عباس قال " إن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوي أبعد ما بين السماء والأرض، ثم
تلا (ولبثوا في كهفهم) الآية، ثم قال: كم لبث القوم؟ قالوا: ثلاثمائة وتسع سنين، قال: لو كانوا لبثوا كذلك
لم يقل الله (قل الله أعلم بما لبثوا) ولكنه حكى مقالة القوم فقال (سيقولون ثلاثة) إلى قوله (رجما بالغيب) فأخبر
أنهم لا يعلمون، ثم قال سيقولون (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا). وأخرج عبد الرزاق وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في حرف ابن مسعود، وقالوا " ولبثوا في كهفهم " الآية: يعني إنما
قاله الناس ألا ترى أنه قال (قل الله أعلم بما لبثوا): وأخرج ابن مردويه عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما
نزلت هذه الآية (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة) قيل يا رسول الله: أياما أم أشهرا أم سنين؟ فأنزل الله (سنين وازدادوا
تسعا) وأخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك بدون ذكر ابن عباس.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (أبصر به وأسمع) قال: الله يقوله.
280

سورة الكهف الآية (27 - 31).
قوله (واتل ما أوحى إليك) أمره الله سبحانه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه، قيل ويحتمل أن
يكون معنى قوله " واتل " واتبع، أمرا من التلو، لا من التلاوة. و (من كتاب ربك) بيان للذي أوحي إليه
(لا مبدل لكلماته) أي لا قادر على تبديلها وتغييرها. وإنما يقدر على ذلك هو وحده. قال الزجاج: أي ما أخبر
الله به وما أمر به فلا مبدل له، وعلى هذا يكون التقدير: لا مبدل لحكم كلماته (ولن تجد من دونه ملتحدا)
الملتحد: الملتجأ، وأصل اللحد: الميل. قال الزجاج: لن تجد معدلا عن أمره ونهيه، والمعنى: أنك إن لم تتبع
القرآن وتتله وتعمل بأحكامه لن تجد معدلا تعدل إليه ومكانا تميل إليه، وهذه الآية آخر قصة أهل الكهف. ثم
شرح سبحانه في نوع آخر كما هو دأب الكتاب العزيز فقال (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) قد تقدم في
الأنعام نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن طرد فقراء المؤمنين بقوله - ولا تطرد الذين يدعون ربهم - وأمره سبحانه
ههنا بأن يحبس نفسه معهم، فصبر النفس هو حبسها. وذكر الغداة والعشي كناية عن الاستمرار على الدعاء في
جميع الأوقات. وقيل في طرفي النهار، وقيل المراد صلاة العصر والفجر. وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار
وأبو عبد الرحمن وابن عامر " بالواو، واحتجوا بأنها في المصحف كذلك مكتوبة بالواو. قال النحاس:
وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول الغدوة، ومعنى (يريدون وجهه) أنهم
يريدون بدعائهم رضى الله سبحانه، والجملة في محل نصب على الحال. ثم أمره سبحانه بالمراقبة لأحوالهم فقال
(ولا تعد عيناك عنهم) أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم. قال الفراء: معناه لا تصرف عيناك عنهم، وقال الزجاج:
لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، واستعماله بعن لتضمنه معنى النبو، من عدوته عن الأمر:
أي صرفته منه، وقيل معناه لا تحتقرهم عيناك (تريد زينة الحياة الدنيا) أي مجالسة أهل الشرف والغنى، والجملة
في محل نصب على الحال: أي حال كونك مريدا لذلك، هذا إذا كان فاعل تريد هو النبي صلى الله عليه وآله
281

وسلم، وإن كان الفاعل ضميرا يعود إلى العينين، فالتقدير: مريدة زينة الحياة الدنيا، وإسناده الإرادة إلى العينين
مجاز، وتوحيد الضمير للتلازم كقول الشاعر:
لمن زحلوقة زل * بها العينان تنهل
(ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) أي جعلناه غافلا بالختم عليه، نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عن طاعة من جعل الله قلبه غافلا عن ذكره كأولئك الذين طلبوا منه أن ينحي الفقراء عن مجلسه، فإنهم طالبوا
تنحية الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وهم غافلون عن ذكر الله، ومع هذا فهم ممن اتبع
هواه وآثره على الحق فاختار الشرك على التوحيد (وكان أمره فرطا) أي متجاوزا عن حد الاعتدال، من قولهم:
فرس فرط إذا كان متقدما للخيل فهو على هذا من الإفراط وقيل هو من التفريط، وهو التقصير والتضييع. قال
الزجاج: ومن قدم العجز في أمره أضاعه وأهلكه، ثم بين سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ما يقوله لأولئك
الغافلين، فقال (وقل الحق من ربكم) أي قل لهم: إن ما أوحي إليك وأمرت بتلاوته هو الحق الكائن من جهة
الله، لا من جهة غيره حتى يمكن فيه التبديل والتغيير، وقيل المراد بالحق الصبر مع الفقراء. قال الزجاج: أي
الذين أتيتكم به (الحق من ربكم) يعني لم آتكم به من قبل نفسي إنما أتيتكم به من الله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر) قيل هو من تمام القول الذي أمر رسوله أن يقوله، والفاء لترتيب ما قبلها على ما بعدها، ويجوز أن
يكون من كلام الله سبحانه لا من القول الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تهديد شديد،
ويكون المعنى: قل لهم يا محمد الحق من ربكم وبعد أن تقول لهم هذا القول، من شاء أن يؤمن بالله
ويصدقك فليؤمن، ومن شاء أن يكفر به ويكذبك فليكفر. ثم أكد الوعيد وشدده فقال (إنا اعتدنا للظالمين)
أي أعددنا وهيأنا للظالمين الذين اختاروا الكفر بالله والجحد له والإنكار لأنبيائه نارا عظيمة (أحاط بهم سرادقها)
أي اشتمل عليهم. والسرادق: واحد السرادقات. قال الجوهري: وهى التي تمد فوق صحن الدار، وكل بيت من
كرسف فهو سرادق، ومنه قول رؤبة:
يا حكم بن المنذر بن جارود * سرادق المجد عليك ممدود
وقال الشاعر:
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه * صدور الفيول بعد بيت مسردق
يقوله سلام بن جندل لما قتل ملك الفرس ملك العرب النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة. وقال ابن الأعرابي:
سرادقها سورها. وقال القتيبي: السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. والمعنى: أنه أحاط بالكفار سرادق
النار على تشبيه ما يحيط بهم من النار بالسرادق المحيط بمن فيه (وإن يستغيثوا) من حر النار (يغاثوا بماء كالمهل)
وهو الحديد المذاب. قال الزجاج: إنهم يغاثون بماء كالرصاص المذاب أو الصفر، وقيل هو دردي الزيت. وقال
أبو عبيدة والأخفش: هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس. وقيل هو ضرب من
القطران. ثم وصف هذا الماء الذي يغاثون به بأنه (يشوي الوجوه) إذا قدم إليهم صارت وجوههم مشوية
لحرارته (بئس الشراب) شرابهم هذا (وساءت) النار (مرتفقا) متكأ، يقال ارتفقت: أي اتكأت، وأصل
الارتفاق نصب المرفق، ويقال ارتفق الرجل: إذا نام على مرفقه، وقال القتيبي: هو المجلس، وقيل المجتمع (إن
الذين آمنوا وعملوا الصالحات) هذا شروع في وعد المؤمنين بعد الفراغ من وعيد الكافرين. والمعنى: إن الذين
آمنوا بالحق الذي أوحي إليك وعملوا الصالحات من الأعمال (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) هذا خبر إن الذين
282

آمنوا، والعائد محذوف: أي من أحسن منهم عملا، وجملة (أولئك لهم جنات عدن) استئناف لبيان الأجر،
والإشارة إلى من تقدم ذكره، وقيل يجوز أن يكون أولئك خبر إن الذين آمنوا، وتكون جملة (إنا لا نضيع)
اعتراضا، ويجوز أن يكون أولئك خبرا بعد خبر، وقد تقدم الكلام في جنات عدن، وفى كيفية جري الأنهار من
تحتها (يحلون فيها من أساور من ذهب) قال الزجاج: أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، وهى زينة تلبس
في الزند من اليد وهى من زينة الملوك، قيل يحلى كل واحد منهم ثلاثة أسورة: واحد من فضة واحد من لؤلؤ
وواحد من ذهب، وظاهر الآية أنها جميعها من ذهب، ويمكن أن يكون قول القائل هذا جمعا بين الآيات لقوله
سبحانه في آية أخرى - أساور من فضة - ولقوله في آية أخرى (ولؤلؤا) ومن في قوله من أساور للابتداء، وفى
من ذهب للبيان. وحكى الفراء يحلون بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام، يقال حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا
لبست الحلي (ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق) قال الكسائي: السندس الرقيق واحده سندسة، والإستبرق
ماثخن وكذا قال المفسرون، وقيل الإستبرق هو الديباج كما قال الشاعر: * وإستبرق الديباج طورا لباسها *
وقيل هو المنسوج بالذهب. قال القتيبي: هو فارسي معرب. قال الجوهري: وتصغيره أبيرق، وخص الأخضر
لأنه الموافق للبصر ولكونه أحسن الألوان (متكئين فيها على الأرائك) قال الزجاج: الأرائك جمع أريكة، وهى
السرر في الحجال، وقيل هي أسرة من ذهب مكللة بالدر والياقوت، وأصل اتكأ أو تكأ، وأصل متكئين
موتكئين، والاتكاء التحامل على الشئ (نعم الثواب) ذلك الذي أثابهم الله به (وحسنت) تلك الأرائك (مرتفقا)
أي متكأ وقد تقدم قريبا.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (ملتحدا) قال: ملتجأ. وأخرج ابن
مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في: الشعب عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم: عيينة بن بدر، والأقرع
ابن حابس قالوا يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم، يعنون سلمان وأبا ذر
وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف، جالسناك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله (واتل ما أوحى
إليك) إلى قوله (إنا اعتدنا للظالمين نارا) زاد أبو الشيخ عن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام
يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر
نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا والممات. وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن عبد الرحمن بن سهل
ابن حنيف قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بعض أبياته (واصبر نفسك مع الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي) فخرج يلتمسهم فوجد قوما يذكرون الله منهم ثائر الرأس وحاف الجلد وذو الثوب
الخلق، فلما رآهم جلس معهم وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم. وأخرج
البزار عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا " جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة
الكهف فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم " وفى
الباب روايات. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن نافع قال: أخبرني عبد الله بن عمر
في هذه الآية (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) أنهم الذين يشهدون الصلوات الخمس. وأخرج ابن
أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده في قوله (واصبر نفسك) الآية قال: نزلت في صلاة الصبح وصلاة العصر. وأخرج ابن مردويه من
طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) قال: نزلت في أمية بن
283

خلف، وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل
مكة، فأنزل الله هذه الآية. يعنى من ختمنا على قلبه يعني التوحيد (واتبع هواه) يعني الشرك (وكان أمره فرطا)
يعنى فرطا في أمر الله وجهالة بالله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن بريدة قال: دخل عيينة بن حصن على النبي صلى
الله عليه وآله وسلم في يوم حار، وعنده سلمان عليه جبة صوف، فصار منه ريح العرق في الصوف، فقال
عيينة: يا محمد إذا نحن أتيناك فأخرج هذا وضرباءه من عندك لا يؤذينا، فإذا خرجنا فأنت وهم أعلم، فأنزل الله
(ولا تطع من أغفلنا قلبه) الآية. وقد ثبت في صحيح مسلم في سبب نزول الآية المتضمنة لمعنى هذه الآية، وهى
قوله تعالى - ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي - عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال:
وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) الآية. وأخرج ابن
أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (وكان أمره فرطا) قال: ضياعا. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة
(وقل الحق) قال: هو القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء
والصفات عن ابن عباس في قوله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) يقول: من شاء الله له الإيمان آمن، ومن
شاء له الكفر كفر، وهو قوله - وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين -. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: في
الآية هذا تهديد ووعيد. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله (أحاط بهم سرادقها) قال: حائط من نار. وأخرج
أحمد والترمذي وابن أبي الدنيا وابن جرير وأبو يعلي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن
أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " لسرادق النار أربعة جدر، كثافة كل جدار منها مسيرة
أربعين سنة ". وأخرج أحمد والبخاري وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن يعلي بن أمية قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن البحر هو من جهنم، ثم تلا (نارا أحاط بهم سرادقها) ". وأخرج أحمد
والترمذي وأبو يعلي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن
أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (بماء كالمهل) قال " كعكر الزيت، فإذا قرب إليه
سقطت فروة وجهه فيه ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (كالمهل) قال:
أسود كعكر الزيت. وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية قال: سئل ابن
عباس عن المهل فقال: ماء غليظ كدردي الزيت. وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن جرير. وابن المنذر وابن
أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود أنه سئل عن المهل، فدعا بذهب وفضة فأذابه. فلما ذاب قال: هذا أشبه شئ
بالمهل الذي هو شراب أهل النار ولونه لون السماء، غير أن شراب أهل النار أشد حرا من هذا. وأخرج ابن جرير
عن ابن عمر قال: هل تدرون ما المهل؟ المهل سهل الزيت، يعنى آخره. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن
مجاهد في قوله (وساءت مرتفقا) قال: مجتمعا. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ". وأخرج البيهقي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال: في
الجنة شجرة تنبت السندس منه يكون ثياب أهل الجنة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عكرمة قال: الإستبرق
الديباج الغليظ. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الهيثم ابن مالك الطائي
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا
284

يمله، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه ". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأرائك السرر في جوف الحجال عليها الفرش منضود في السماء فرسخ. وأخرج
البيهقي في البعث عنه قال: لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن
عكرمة أنه سئل عن الأرائك فقال: هي الحجال على السرر.
سورة الكهف الآية (32 - 44)
قوله (واضرب لهم مثلا رجلين) هذا المثل ضربه الله سبحانه لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة الفقراء
فهو على هذا متصل بقوله (واصبر نفسك).
وقد اختلف في الرجلين هل هما مقدران أو محققان؟ فقال بالأول بعض المفسرين. وقال بالآخر بعض آخر.
واختلفوا في تعيينهما، فقيل هما أخوان من بني إسرائيل، وقيل هما أخوان مخزوميان من أهل مكة: أحدهما مؤمن،
والآخر كافر، وقيل هما المذكوران في سورة الصافات في قوله - قال قائل منهم إني كان لي قرين - وانتصاب
مثلا ورجلين على أنهما مفعولا اضرب، قيل والأول هو الثاني والثاني هو الأول (جعلنا لأحدهما جنتين) هو
الكافر، و (من أعناب) بيان لما في الجنتين: أي من كروم متنوعة (وحففناهما بنخل) الحف الإحاطة، ومنه
- حافين من حول العرش - ويقال حف القوم بفلان يحفون حفا: أي أطافوا به، فمعنى الآية: وجعلنا النخل مطيفا
285

بالجنتين من جميع جوانبهما (وجعلنا بينهما زرعا) أي بين الجنتين، وهو وسطهما، ليكون كل واحد منهما جامعا
للأقوات والفواكه، ثم أخبر سبحانه عن الجنتين بأن كل واحدة منهما كانت تؤدي حملها وما فيها، فقال (كلتا
الجنتين آتت أكلها) أخبر عن كلتا بآتت، لأن لفظه مفرد، فراعى جانب اللفظ. وقد ذهب البصريون إلى أن
كلتا وكلا اسم مفرد غير مثنى. وقال الفراء: هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف
للتثنية. وقال سيبويه: ألف كلتا للتأنيث، والتاء بدل من لام الفعل، وهى واو، والأصل كلوا. وقال
أبو عمرو: التاء ملحقة وأكلهما: هو ثمرهما، وفيه دلالة على أنه قد صار صالحا للأكل. وقرأ عبد الله بن مسعود
" كل الجنتين آتي أكله " (ولم تظلم منه شيئا) أي لم تنقص من أكلها شيئا، يقال ظلمه حقه: أي نقصه،
ووصف الجنتين بهذه الصفة للإشعار بأنهما على خلاف ما يعتاد في سائر البساتين فإنها في الغالب تكثر في عام،
وتقل في عام (وفجرنا خلالهما نهرا) أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين نهرا ليسقيهما ثم دائما من غير انقطاع، وقرئ
" فجرنا " بالتشديد للمبالغة، وبالتخفيف على الأصل (وكان له) أي لصاحب الجنتين (ثمر) قرأ أبو جعفر وشيبة
وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق " ثمر " بفتح الثاء والميم، وكذلك قرؤا في قوله - أحيط بثمره - وقرأ أبو عمرو
بضم الثاء وإسكان الميم فيهما، وقرأ الباقون بضمهما جميعا في الموضعين. قال الجوهري: الثمرة واحدة الثمر، وجمع
الثمر ثمار مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر. مثل كتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار. مثل عنق وأعناق
وقيل الثمر جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك. وقيل هو الذهب والفضة خالصة (فقال
لصاحبه) أي قال صاحب الجنتين الكافر لصاحبه المؤمن (وهو يحاوره) أي والكافر يحاور المؤمن، والمعنى:
يراجعه الكلام ويجاوبه، والمحاورة المراجعة، والتحاور التجاوب (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) النفر الرهط،
وهو ما دون العشرة، وأراد هاهنا الأتباع والخدم والأولاد (ودخل جنته) أي دخل الكافر جنة نفسه. قال
المفسرون: أخذ بيد أخيه المسلم، فأدخله جنته يطوف به فيها، ويريه عجائبها، وإفراد الجنة هنا يحتمل أن وجهه
كونه لم يدخل أخاه إلا واحدة منهما، أو لكونهما لما اتصلا كانا كواحدة. أو لأنه أدخله في واحدة، ثم واحدة
أو لعدم تعلق الغرض بذكرهما، وما أبعد ما قاله صاحب الكشاف أنه وحد الجنة للدلالة على أنه لا نصيب له في
الجنة التي وعد المؤمنون، وجملة (وهو ظالم لنفسه) في محل نصب على الحال: أي وذلك الكافر ظالم لنفسه بكفره
وعجبه (قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا) أي قال الكافر لفرط غفلته وطول أمله: ما أظن أن تفنى هذه الجنة التي
تشاهدها (وما أظن الساعة قائمة) أنكر البعث بعد إنكاره لفناء جنته. قال الزجاج: أخبر أخاه بكفره بفناء الدنيا
وقيام الساعة (ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منهما منقلبا) اللام هي الموطئة للقسم، والمعنى: أنه إن يرد إلى
ربه فرضا وتقديرا كما زعم صاحبه، واللام في " لأجدن " جواب القسم، والشرط: أي لأجدن يومئذ خيرا من
هذه الجنة، في مصاحف مكة والمدينة والشام " خيرا منهما " وفى مصاحف أهل البصرة والكوفة " خيرا منها " على
الإفراد، و (منقلبا) منتصب على التمييز: أي مرجعا وعاقبة قال هذا قياسا للغائب على الحاضر. وأنه لما كان
غنيا في الدنيا، سيكون غنيا في الأخرى، اغترارا منه بما صار فيه من الغنى الذي هو استدراج له من الله (قال له
صاحبه) أي قال للكافر صاحبه المؤمن حال محاورته له منكرا عليه ما قاله (أكفرت بالذي خلقك من تراب) بقولك
- ما أظن الساعة قائمة - وقال خلقك من تراب: أي جعل أصل خلقك من تراب حيث خلق أباك آدم منه، وهو
أصلك، وأصل البشر فلكل فرد حظ من ذلك، وقيل يحتمل أنه كان كافرا بالله فأنكر عليه ما هو عليه من الكفر،
ولم يقصد أن الكفر حدث له بسبب هذه المقالة (ثم من نطفة) وهى المادة القريبة (ثم سواك رجلا) أي صيرك
286

إنسانا ذكرا وعدل أعضاءك وكملك، وفى هذا تلويح بالدليل على البعث، وأن القادر على الابتداء قادر على
الإعادة، وانتصاب رجلا على الحال أو التمييز (لكنا هو الله ربى) كذا قرأ الجمهور بإثبات الألف بعد لكن
المشددة. وأصله لكن أنا حذفت الهمزة وألقيت حركتها على النون الساكنة قبلها فصار لكننا، ثم استثقلوا اجتماع
النونين فسكنت الأولى وأدغمت الثانية، وضمير هو للشأن، والجملة بعده خبره والمجموع خبر أنا، والراجع ياء
الضمير، وتقدير الكلام: لكن أنا الشأن الله ربي. قال أهل العربية: إثبات ألف أنا في الوصل ضعيف. قال
النحاس: مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا، وذكر نحو ما قدمنا. وروى عن الكسائي أن
الأصل لكن الله هو ربي أنا. قال الزجاج: إثبات الألف في لكنا في الإدراج جيد لأنها قد حذفت الألف من أنا
فجاءوا بها عوضا، قال: وفى قراءة أبي " لكن أنا هو الله ربى " وقرأ ابن عامر والمثنى عن نافع، وورش عن
يعقوب " لكنا " في حال الوصل والوقف معا بإثبات الألف، ومثله قول الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني * فإني قد تذربت السناما
ومنه قول الأعشى:
فكيف أنا وألحان القوافي * وبعد الشيب يكفي ذاك عارا
ولا خلاف في إثباتها في الوقف، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية، وروى عن الكسائي " لكن هو
الله ربي " ثم نفى عن نفسه الشرك بالله، فقال (ولا أشرك بربي أحدا) وفيه إشارة إلى أن أخاه كان مشركا، ثم
أقبل عليه يلومه فقال (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله) لولا للتحضيض: أي هلا قلت عندما دخلتها هذا
القول. قال الفراء والزجاج: ما في موضع رفع على معنى الأمر ما شاء الله: أي هلا قلت حين دخلتها الأمر بمشيئة
الله، وما شاء الله كان، ويجوز أن تكون ما مبتدأ والخبر مقدر: أي ما شاء الله كائن، ويجوز أن تكون ما شرطية
والجواب محذوف: أي أي شئ شاء الله كان (لا قوة إلا بالله) أي هلا قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله، تحضيضا
له على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله، إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها، وعلى الاعتراف بالعجز، وأن ما تيسر له
من عمارتها إنما هو بمعونة الله لا بقوته وقدرته. قال الزجاج: لا يقوى أحد على ما في يده من ملك ونعمة إلا بالله،
ولا يكون إلا ما شاء الله. ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمور إلى الله سبحانه أجابه على افتخاره بالمال والنفر فقال
(إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا) المفعول الأول ياء الضمير، وأنا ضمير فصل، وأقل المفعول الثاني للرؤية
إن كانت علمية، وإن جعلت بصرية كان انتصاب أقل على الحال، ويجوز أن يكون أنا تأكيد لياء الضمير،
وانتصاب مالا وولدا على التمييز (فعسى ربى أن يؤتيني خيرا من جنتك) هذا جواب الشرط: أي إن ترني أفقر
منك، فأنا أرجو أن يرزقني الله سبحانه جنة خيرا من جنتك في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما (ويرسل عليها حسبانا)
أي ويرسل على جنتك حسبانا، والحسبان مصدر: بمعنى الحساب كالغفران: أي مقدار قدره الله عليها، ووقع
في حسابه سبحانه، وهو الحكم بتخريبها. قال الزجاج: الحسبان من الحساب: أي يرسل عليها عذاب الحساب،
هو حساب ما كسبت يداك. وقال الأخفش: حسبانا: أي مرامي (من السماء) واحدها حسبانه، وكذا قال
أبو عبيدة والقتيبي. وقال ابن الأعرابي: الحسبانة السحابة، والحسبانة الوسادة، والحسبانة الصاعقة، وقال النضر
ابن شميل: الحسبان سهام يرمى بها الرجل في جوف قصبة تنزع في قوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة، والمعنى:
يرسل عليها مرامي من عذابه: إما برد، وإما حجارة أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب. ومنه قول أبي زياد
287

الكلابي * أصاب الأرض حسبان * أي جراد (فتصبح صعيدا زلقا) أي فتصبح جنة الكافر بعد إرسال الله
سبحانه عليها حسبانا صعيدا، أي أرضا لا نبات بها وقد تقدم تحقيقه، زلقا: أي تزل فيها الأقدام لملاستها، يقال
مكان زلق بالتحريك: أي دحض. وهو في الأصل مصدر قولك زلقت رجله تزلق زلقا وأزلقها غيره، والمزلقة
الموضع الذي لا يثبت عليه قدم، وكذا الزلاقة، وصف الصعيد بالمصدر مبالغة، أو أريد به المفعول، وجملة
(أو يصبح ماؤها غورا) معطوفة على الجملة التي قبلها: والغور الغائر. وصف الماء بالمصدر مبالغة، والمعنى
أنها تصير عادمة للماء بعد أن كانت واجدة له، وكان خلالها ذلك النهر يسقيها دائما، ويجئ الغور بمعنى
الغروب، ومنه قول أبي ذوئيب:
هل الدهر إلا ليلة ونهارها * وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
(فلن تستطيع له طلبا) أي لن تستطيع طلب الماء الغائر فضلا عن وجوده ورده ولا تقدر عليه بحيلة من
الحيل، وقيل المعنى: فلن تستطيع طلب غيره عوضا عنه. ثم أخبر سبحانه عن وقوع ما رجاه ذلك المؤمن وتوقعه
من إهلاك جنة الكافر فقال (وأحيط بثمره) قد قدمنا اختلاف القراء في هذا الحرف وتفسيره، وأصل الإحاطة
من إحاطة العدو بالشخص كما تقدم في قوله - إلا أن يحاط بكم - وهى عبارة عن إهلاكه وإفنائه، وهو معطوف
على مقدر كأنه قيل فوقع ما توقعه المؤمن وأحيط بثمره (فأصبح يقلب كفيه) أي يضرب إحدى يديه على الأخرى
وهو كناية عن الندم، كأنه قيل فأصبح يندم (على ما أنفق فيها) أي في عمارتها وإصلاحها من الأموال، وقيل
المعنى: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق، لأن الملك قد يعبر عنه باليد من قولهم في يده مال، وهو بعيد
جدا، وجملة (وهى خاوية على عروشها) في محل نصب على الحال: أي والحال أن تلك الجنة ساقطة على دعائمها
التي تعمد بها الكروم أو ساقط بعض تلك الجنة على بعض، مأخوذ من خوت النجوم تخوى إذا سقطت ولم تمطر
في نوئها، ومنه قوله تعالى - فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا - قيل وتخصيص ماله عروش بالذكر دون النخل
والزرع لأنه الأصل، وأيضا إهلاكها مغن عن ذكر إهلاك الباقي، وجملة ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا)
معطوفة على يقلب كفيه، أو حال من ضميره: أي وهو يقول تمنى عند مشاهدته لهلاك جنته بأنه لم يشرك بالله
حتى تسلم جنته من الهلاك، أو كان هذا القول منه على حقيقته، لا لما فاته من الغرض الدنيوي، بل لقصد التوبة
من الشرك والندم على ما فرط منه (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله) فئة اسم كان وله خيرها، وينصرونه صفة
لفئة أي فئة ناصرة، ويجوز أن تكون ينصرونه الخبر، ورجح الأول سيبويه ورجح الثاني المبرد، واحتج بقوله
- ولم يكن له كفوا أحد - والمعنى: أنه لم تكن له فرقة وجماعة يلتجئ إليها وينتصر بها، ولا نفعه النفر الذين افتخر
بهم فيما سبق (وما كان) في نفسه (منتصرا) أي ممتنعا بقوته عن إهلاك الله لجنته، وانتقامه منه (هنالك الولاية لله
الحق) قرأ أبو عمرو والكسائي الحق بالرفع نعتا للولاية، وقرأ أهل المدينة وأهل مكة وعاصم وحمزة الحق بالجر نعتا
لله سبحانه. قال الزجاج: ويجوز النصب على المصدر والتوكيد كما تقول هذا لك حقا. وقرأ الأعمش وحمزة
والكسائي الولاية بكسر الواو، وقرأ الباقون بفتحها، وهما لغتان بمعنى، والمعنى هنالك: أي في ذلك المقام النصرة
لله وحده لا يقدر عليها غيره، وقيل هو على التقديم والتأخير: أي الولاية لله الحق هنالك (هو خير ثوابا وخير
عقبا) أي هو سبحانه خير ثوابا لأوليائه في الدنيا والآخرة (وخير عقبا) أي عاقبة، قرأ الأعمش وعاصم وحمزة
" عقبا " بسكون القاف، وقرأ الباقون بضمها، وهما بمعنى واحد: أي هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به، يقال
هذا عاقبة أمر فلان، وعقباه: أي أخراه.
288

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله (جعلنا لأحدهما جنتين) قال: الجنة هي البستان، فكان له
بستان واحد وجدار واحد، وكان بينهما نهر، فلذلك كانا جنتين، ولذلك سماه جنة من قبل الجدار الذي عليها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: نهر أبي قرطس نهر الجنتين. قال ابن أبي حاتم: وهو
نهر مشهور بالرملة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (ولم تظلم منه شيئا) قال: لم تنقص، كل
شجر الجنة أطعم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه (وكان له ثمر) يقول مال. وأخرج
أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة، قال: قرأها ابن عباس (وكان له ثمر) بالضم، وقال:
هي أنواع المال. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (وكان له ثمر) قال: ذهب وفضة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة (وهو ظالم لنفسه) يقول: كفور لنعمة ربه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت
عميس قالت: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلمات أقولهن عند الكرب " الله الله ربي لا أشرك به
شيئا ". وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن يحيى بن سليم الطائفي عمن ذكره قال: " طلب موسى من ربه
حاجة فأبطأت عليه فقال: ما شاء الله، فإذا حاجته بين يديه، فقال: يا رب إني أطلب حاجتي منذ كذا وكذا
أعطيتها الآن، فأوحى الله إليه: يا موسى، أما علمت أن قولك ما شاء الله أنجح ما طلبت به الحوائج ". وأخرج
أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما أنعم الله على
عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله إلا دفع الله عنه كل آفة حتى تأتيه منيته، وقرأ
(ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) " وفى إسناده عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن
أنس. قال أبو فتح الأزدي: عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه. وأخرج ابن
أبي حاتم من وجه آخر عن أنس نحوه موقوفا. وأخرج البيهقي في الشعب عنه نحوه مرفوعا. وأخرج أحمد من حديث
أبي هريرة قال: قال لي نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قلت
نعم، قال: أن تقول لا قوة إلا بالله ". وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال له " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله " وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في
فضل هذه الكلمة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (فتصبح صعيدا زلقا) قال: مثل
الجرز وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (حسبانا من السماء) قال: عذابا فتصبح
صعيدا زلقا: أي قد حصد ما فيها فلم يترك فيها شئ (أو يصبح ماؤها غورا) أي ذاهبا قد غار في الأرض (وأحيط
بثمره فأصبح يقلب كفيه) قال: يصفق (على ما أنفق فيها) متلهفا على ما فاته.
سورة الكهف الآية (45 - 46)
ثم ضرب سبحانه مثلا آخر لجبابرة قريش فقال (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا) أي أذكر لهم ما يشبه الحياة
الدنيا في حسنها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يركنوا إليها، وقد تقدم هذا المثل في سورة يونس، ثم بين سبحانه
هذا المثل فقال (كماء أنزلناه من السماء) ويجوز أن يكون هذا هو المفعول الثاني لقوله اضرب على جعله بمعنى صير
289

(فاختلط به نبات الأرض) أي اختلط بالماء نبات الأرض حتى استوى، وقيل المعنى: إن النبات اختلط بعضه
ببعض حين نزل عليه الماء، لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر، فتكون الباء في به سببية (فأصبح) النبات
(هشيما) الهشيم الكسير، وهو من النبات ما تكسر بسبب انقطاع الماء عنه وتفتت، ورجل هشيم ضعيف البدن،
وتهشم عليه فلان إذا تعطف، واهتشم ما في ضرع الناقة إذا اختلبه، وهشم الثريد كسره وثرده، ومنه قول ابن
الزبعري:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
(تذروه الرياح) تفرقه. قال أبو عبيدة وابن قتيبة: تذروه تنسفه، وقال ابن كيسان: تذهب به وتجئ،
والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف " تذريه الريح " قال الكسائي: وفى قراءة عبد الله " تذريه " يقال ذرته
الريح تذروه، وأذرته تذريه. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه: أي قلبته (وكان الله على كل شئ
مقتدرا) أي على كل شئ من الأشياء يحييه ويفنيه بقدرته لا يعجز عن شئ (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) هذا
رد على الرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء فأخبرهم سبحانه أن ذلك مما يتزين به في الدنيا لا مما ينفع
في الآخرة، كما قال في الآية الأخرى - إنما أموالكم وأولادكم فتنة - وقال - إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم
فاحذروهم - ولهذا عقب هذه الزينة الدنيوية بقوله (والباقيات الصالحات) أي أعمال الخير، وهى ما كان يفعله
فقراء المسلمين من الطاعات (خير عند ربك ثوابا) أي أفضل من هذه الزينة بالمال والبنين ثوابا، وأكثر عائدة
ومنفعة لأهلها (وخير أملا) أي أفضل أملا، يعنى أن هذه الأعمال الصالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل
المال والبنين، لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل مما كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا، وليس في زينة الدنيا خير
حتى تفضل عليها الآخرة، ولكن هذا التفضيل خرج مخرج قوله تعالى - أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا -،
والظاهر أن الباقيات الصالحات كل عمل خير فلا وجه لقصرها على الصلاة كما قال بعض، ولا لقصرها على نوع
من أنواع الذكر كما قاله بعض آخر، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب، لأن العبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب، وبهذا تعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث بما سيأتي لا ينافي إطلاق هذا
اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال (المال والبنون) حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد
جمعهما الله لأقوام. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (والباقيات الصالحات) قال: سبحان
الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلي وابن جرير وابن أبي حاتم
وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال
" استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول
ولا قوة إلا بالله " وأخرج الطبراني وابن شاهين وابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعا بلفظ " سبحان الله، والحمد
لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هن الباقيات الصالحات " وأخرج النسائي وابن
جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الصغير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا " خذوا
جنتكم، قيل يا رسول الله من أي عدو قد حضر؟ قال: بل جنتكم من النار قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا
الله والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات معقبات ومجنبات، وهى الباقيات الصالحات " وأخرج سعيد
ابن منصور وأحمد وابن مردويه عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " ألا وإن سبحان
290

الله والحمد لله ولا إله إلا الله الباقيات الصالحات " وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أنس مرفوعا، وزاد التكبير
وسماهن الباقيات الصالحات. وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أبي هريرة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر
وابن مردويه من حديث عائشة مرفوعا نحوه، وزادت " ولا حول ولا قوة إلا بالله " وأخرج ابن أبي حاتم وابن
مردويه من حديث علي مرفوعا نحوه. وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس مرفوعا فذكر نحوه
دون الحوقلة. وأخرج الطبراني عن سعد بن جنادة مرفوعا نحوه. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير عن ابن
عمر من قوله نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس من قوله نحوه. وكل هذه
الأحاديث مصرحة بأنها الباقيات الصالحات، وأما ما ورد في فضل هذه الكلمات من غير تقييد بكونها المرادة في
الآية فأحاديث كثيرة لا فائدة في ذكرها هنا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كل
شئ من طاعة الله، فهو من الباقيات الصالحات.
سورة الكهف الآية (47 - 53)
وقوله (ويوم نسير الجبال) قرأ الحسن وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر تسير بمثناة فوقية مضمومة وفتح
الياء التحتية على البناء للمفعول، ورفع الجبال على النيابة عن الفاعل. وقرأ ابن محيصن ومجاهد " تسير " قوله بفتح التاء
الفوقية والتخفيف على أن الجبال فاعل. وقرأ الباقون " نسير " بالنون على أن الفاعل هو الله سبحانه والجبال
منصوبة على المفعولية. ويناسب القراءة الأولى قوله تعالى - وإذا الجبال سيرت -، ويناسب القراءة الثانية قوله تعالى
- وتسير الجبال سيرا -. واختار القراءة الثالثة أبو عبيدة لأنها المناسبة لقوله - وحشرناهم - قال بعض النحويين:
التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال، وقيل العامل في الظرف فعل محذوف، والتقدير:
واذكر يوم نسير الجبال، ومعنى تسيير الجبال إزالتها من أماكنها وتسييرها كما تسير السحاب، ومنه قوله
291

تعالى - وهى تمر مر السحاب -، ثم تعود إلى الأرض بعد أن جعلها الله كما قال - وبست الجبال بسا فكانت هباء
منبثا - والخطاب في قوله (وترى الأرض بارزة) لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح
للرؤية، ومعنى بروزها ظهورها وزوال ما يسترها من الجبال والشجر والبنيان، وقيل المعنى ببروزها بروز ما فيها
من الكنوز والأموات كما قال سبحانه - وألقت ما فيها وتخلت -، وقال - وأخرجت الأرض أثقالها - فيكون
المعنى: وترى الأرض بارزا ما في جوفها (وحشرناهم) أي الخلائق، ومعنى الحشر الجمع: أي جمعناهم إلى
الموقف من كل مكان (فلم نغادر منهم أحدا) فلم نترك منهم أحدا، يقال غادره وأغدره إذا تركه، قال عنترة:
غادرته متعفرا أوصاله * والقوم بين مجرح ومجندل
أي تركته، ومنه الغدر، لأن الغادر ترك الوفاء للمغدور، قالوا: وإنما سمى الغدير غديرا، لأن الماء ذهب
وتركه، ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها (وعرضوا على ربك صفا) انتصاب صفا على الحال: أي مصفوفين
كل أمة وزمرة صف، وقيل عرضوا صفا واحدا كما في قوله - ثم ائتوا صفا - أي جميعا، وقيل قياما. وفى الآية
تشبيه حالهم بحال الجيش الذي يعرض على السلطان (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة هو على إضمار القول: أي
قلنا لهم لقد جئتمونا، والكاف في كما خلقناكم نعت مصدر محذوف: أي مجيئا كائنا كمجيئكم عند أن خلقناكم
أول مرة، أو كائنين كما خلقناكم أول مرة: أي حفاة عراة غرلا، كما ورد ذلك في الحديث. قال الزجاج: أي
بعثناكم وأعدناكم كما خلقناكم، لأن قوله لقد جئتمونا معناه بعثناكم (بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا) هذا
إضراب وانتقال من كلام إلى كلام للتقريع والتوبيخ، وهو خطاب لمنكري البعث: أي زعمتم في الدنيا أن لن
تبعثوا، وأن لن نجعل لكم موعدا نجازيكم بأعمالكم وننجز ما وعدناكم به من البعث والعذاب، وجملة (ووضع
الكتاب) معطوفة على عرضوا، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال، وأفرده لكون التعريف فيه للجنس، والوضع
إما حسي بأن يوضع صحيفة كل واحد في يده: السعيد في يمينه، والشقي في شماله، أو في الميزان. وإما عقلي: أي
أظهر عمل كل واحد من خير وشر بالحساب الكائن في ذلك اليوم (فترى المجرمين مشفقين مما فيه) أي خائفين وجلين
مما في الكتاب الموضوع لما يتعقب ذلك من الافتضاح في ذلك الجمع، والمجازاة بالعذاب الأليم (ويقولون
يا ويلتنا) يدعون على أنفسهم بالويل لوقوعهم في الهلاك، ومعنى هذا النداء قد تقدم تحقيقه في المائدة (مال هذا
الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) أي أي شئ له لا يترك معصية صغيرة ولا معصية كبيرة إلا حواها
وضبطها وأثبتها (ووجدوا ما عملوا) في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة، أو وجدوا جزاء ما عملوا (حاضرا)
مكتوبا مثبتا (ولا يظلم ربك أحدا) أي لا يعاقب أحدا من عباده بغير ذنب، ولا ينقص فاعل الطاعة من أجره
الذي يستحقه، ثم إنه سبحانه عاد إلى الرد على أرباب الخيلاء من قريش، فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه
فقال (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) أي واذكر وقت قولنا لهم اسجدوا سجود تحية وتكريم، كما مر تحقيقه
(فسجدوا) طاعة لأمر الله وامتثالا لطلبه السجود (إلا إبليس) فإنه أبى واستكبر ولم يسجد، وجملة (كان من
الجن) مستأنفة لبيان سبب عصيانه وأنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة فلهذا عصى، ومعنى (ففسق عن أمر
ربه) أنه خرج عن طاعة ربه. قال الفراء: العرب تقول فسقت الرطبة عن قشرها لخروجها منه. قال النحاس:
اختلف في معنى (ففسق عن أمر ربه) على قولين: الأول مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى: أتاه الفسق لما أمر
فعصى فكان سبب الفسق أمر ربه. كما تقول أطعمه عن جوع. والقول الآخر قول قطرب: أن المعنى على
على حذف المضاف: أي فسق عن ترك أمره. ثم إنه سبحانه عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر والمعاصي
292

وخالف أمر الله فقال (أفتتخذونه وذريته أولياء) كأنه قال: أعقيب ما وجد منه من الإباء والفسق تتخذونه
وتتخذون ذريته: أي أولاده، وقيل أتباعه مجازا أولياء (من دوني) فتطيعونهم بدل طاعتي وتستبدلونهم بي،
والحال أنهم: أي إبليس وذريته (لكم عدو) أي أعداء وأفرده لكونه اسم جنس، أو لتشبيهه بالمصادر كما في
قوله - فإنهم عدو لي -، وقوله - هم العدو - أي كيف تصنعون هذا الصنع وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم
بجميع ما أنتم فيه من النعم؟ بمن لم يكن لكم منه منفعة قط، بل هو عدو لكم يترقب حصول ما يضركم في كل
وقت (بئس للظالمين بدلا) أي الواضعين للشئ في غير موضعه المستبدلين بطاعة ربهم طاعة الشيطان، فبئس ذلك
البدل الذي استبدلوه بدلا عن الله سبحانه (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض) قال أكثر المفسرون: إن
الضمير للشركاء، والمعنى: أنهم لو كانوا شركاء لي في خلق السماوات والأرض وفى خلق أنفسهم لكانوا
مشاهدين خلق ذلك مشاركين لي فيه، ولم يشاهدوا ذلك ولا أشهدتهم إياه أنا فليسوا لي بشركاء. وهذا استدلال
بانتفاء الملزوم المساوي على انتفاء اللازم. وقيل الضمير للمشركين الذين التمسوا طرد فقراء المؤمنين، والمراد أنهم
ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض (ولا خلق أنفسهم) وما اعتضدت
بهم بل هم كسائر الخلق، وقيل المعنى: أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل، لأنهم لم يكونوا
مشاهدين خلق العالم، فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله، والأول من هذه الوجوه أولى لما يلزم في
الوجهين الآخرين من تفكيك الضميرين، وهذه الجملة مستأنفة لبيان عدم استحقاقهم للاتخاذ المذكور، وقرأ
أبو جعفر " ما أشهدناهم " وقرأ الباقون " ما أشهدتهم " ويؤيده (وما كنت متخذ المضلين عضدا) والعضد
يستعمل كثيرا في معنى العون، وذلك أن العضد قوام اليد، ومنه قوله - سنشد عضدك بأخيك - أي سنعينك
ونقويك به، ويقال أعضدت بفلان إذا استعنت به، وذكر العضد على جهة المثل، وخص المضلين بالذكر
لزيادة الذم والتوبيخ. والمعنى: ما استعنت على خلق السماوات والأرض بهم ولا شاورتهم وما كنت متخذ
الشياطين أو الكافرين أعوانا، ووحد العضد لموافقة الفواصل. وقرأ أبو جعفر الجحدري " وما كنت " بفتح التاء
على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي وما كنت يا محمد متخذا لهم عضدا ولا صح لك ذلك، وقرأ
الباقون بضم التاء. وفى عضد لغات ثمان أفصحها فتح العين وضم الضاد، وبها قرأ الجمهور. وقرأ الحسن " عضد "
بضم العين والضاد، وقرأ عكرمة بضم العين وإسكان الضاد، وقرأ الضحاك بكسر العين وفتح الضاد، وقرأ عيسى
ابن عمر بفتحهما، ولغة تميم فتح العين وسكون الضاد. ثم عاد سبحانه إلى ترهيبهم بأحوال القيامة فقال (ويوم
يقول نادوا شركائي الذين زعمتم) قرأ حمزة ويحيى بن وثاب وعيسى بن عمر نقول بالنون، وقرأ الباقون بالياء
التحتية: أي أذكر يوم يقول الله عز وجل للكفار توبيخا لهم وتقريعا نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم ينفعونكم
ويشفعون لكم، وأضافهم سبحانه إلى نفسه جريا على ما يعتقده المشركون، تعالى الله عن ذلك (فدعوهم) أي
فعلوا ما أمرهم الله به من دعاء الشركاء (فلم يستجيبوا لهم) إذ ذاك: أي لم يقع منهم مجرد الاستجابة لهم، فضلا عن
أن ينفعوهم أو يدفعوا عنهم (وجعلنا بينهم موبقا) أي جعلنا بين هؤلاء المشركين وبين من جعلوهم شركاء لله
موبقا، ذكر جماعة من المفسرين أنه اسم واد عميق فرق الله به تعالى بينهم، وعلى هذا فهو اسم مكان. قال ابن
الأعرابي: كل حاجز بين شيئين فهو موبق. وقال الفراء: الموبق المهلك. والمعنى: جعلنا تواصلهم في الدنيا
مهلكا لهم في الآخرة، يقال وبق يوبق فهو وبق، هكذا ذكره الفراء في المصادر. وحكى الكسائي وبق يبق وبوقا
فهو وابق، والمراد بالمهلك على هذا هو عذاب النار يشتركون فيه. والأول أولى، لأن من جملة من زعموا أنهم
293

شركاء لله الملائكة وعزير والمسيح، فالموبق هو المكان الحائل بينهم. وقال أبو عبيدة: الموبق هنا الموعد للهلاك،
وقد ثبت في اللغة أوبقه بمعنى أهلكه، ومنه قول زهير:
ومن يشترى حسن الثناء بماله * يصن عرضه عن كل شنعاء موبق
ولكن المناسب لمعنى الآية هو المعنى الأول (ورءا المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها) المجرمون موضوع
موضع الضمير للإشارة إلى زيادة الذم لهم بهذا الوصف المسجل عليهم به، والظن هنا بمعنى اليقين. والمواقعة
المخالطة بالوقوع فيها، وقيل إن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون ذلك ظنا (ولم يجدوا عنها مصرفا) أي
معدلا يعدلون إليه، أو انصرافا، لأن النار قد أحاطت بهم من كل جانب. قال الواحدي: المصرف الموضع
الذي ينصرف إليه. وقال القتيبي: أي معدلا ينصرفون إليه، وقيل ملجأ يلجئأون إليه. والمعنى متقارب في الجميع.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وترى الأرض بارزة) قال: ليس عليها بناء ولا شجر. وأخرج
ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة)
قال: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك. وزاد ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عنه قال: الصغيرة التبسم بالاستهزاء
بالمؤمنين، والكبيرة القهقهة بذلك. وأقول: صغيرة وكبيرة نكرتان في سياق النفي، فيدخل تحت ذلك كل ذنب
يتصف بصغر، وكل ذنب يتصف بالكبر، فلا يبقى من الذنوب شئ إلا أحصاه الله وما كان من الذنوب
ملتبسا بين كونه صغيرا أو كبيرا، فذلك إنما هو بالنسبة إلى العباد لا بالنسبة إلى الله سبحانه. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة يقال لهم الجن فكان
إبليس منهم، وكان يوسوس ما بين السماء والأرض، فعصى فسخط الله عليه فمسخه الله شيطانا رجيما. وأخرج
ابن جرير عنه في قوله (كان من الجن) قال: كان خازن الجنان، فسمى بالجان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
عنه أيضا قال: إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنا على الجنان. وأخرج ابن المنذر
وابن أبي حاتم عن الحسن قال: قاتل الله أقواما زعموا أن إبليس كان من الملائكة، والله يقول كان من الجن.
وأخرج ابن جرير وابن الأنباري عنه أنه قال: ما كان من الملائكة طرفة عين، إنه لأصل الجن كما أن آدم أصل
الإنس. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى في قوله (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض) قال: يقول ما أشهدت
الشياطين الذين اتخذتم معي هذا (وما كنت متخذ المضلين عضدا) قال: الشياطين عضدا، قال: ولا اتخذتهم
عضدا على شئ عضدوني عليه فأعانوني. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس في قوله (وجعلنا بينهم موبقا) يقول: مهلكا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج
أبو عبيد وهناد وابن المنذر عنه قال: واد في جهنم. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن أنس في الآية قال: واد في جهنم من قيح ودم. وأخرج أحمد في الزهد
وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عمرو قال: هو واد عميق في النار فرق الله به يوم القيامة بين أهل
الهدى وأهل الضلالة: وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (فظنوا أنهم مواقعوها)
قال: علموا.
سورة الكهف الآية (54)
294

سورة الكهف الآية (55 - 59)
لما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثال
الواضحة، حكى بعض أهوال الآخرة فقال (ولقد صرفنا) أي كررنا ورددنا (في هذا القرآن للناس) أي لأجلهم
ولرعاية مصلحتهم ومنفعتهم (من كل مثل) من الأمثال التي من جملتها الأمثال المذكورة في هذه السورة، وقد
تقدم تفسير هذه الآية في سورة بني إسرائيل، وحين لم يترك الكفار ما هم فيه من الجدال بالباطل، ختم الآية بقوله
(وكان الإنسان أكثر شئ جدلا) قال الزجاج: المراد بالإنسان الكافر، واستدل على أن المراد الكافر بقوله تعالى
(ويجادل الذين كفروا بالباطل) وقيل المراد به في الآية النضر بن الحرث، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر
الأشياء التي يتأتى منها الجدال جدلا، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث علي " أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم طرقه وفاطمة ليلا، فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا
بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول (وكان الإنسان أكثر شئ
جدلا) " وانتصاب جدلا على التمييز. (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم
سنة الأولين) قد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة بني إسرائيل، وذكرنا أن " أن " الأولى في محل نصب،
والثانية في محل رفع، والهدى القرآن ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، والناس هنا هم أهل مكة، والمعنى على
حذف مضاف: أي ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب إتيان سنة الأولين، أو انتظار إتيان سنة الأولين،
وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة
الأولين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال. قال الزجاج: سنتهم هو قولهم - إن كان هذا هو الحق
من عندك - الآية (أو يأتيهم العذاب) أي عذاب الآخرة (قبلا (قال الفراء: إن قبلا جمع قبيل: أي متفرقا يتلو
بعضه بعضا، وقيل عيانا: وقيل فجأة. ويناسب ما قاله الفراء قراءة أبى جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي
ويحيى بن وثاب وخلف (قبلا) بضمتين فإنه جمع قبيل، نحو سبيل وسبل، والمراد أصناف العذاب، ويناسب
التفسير الثاني: أي عيانا، قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الباء: أي مقابلة ومعاينة، وقرئ بفتحتين على معنى
295

أو يأتيهم العذاب مستقبلا، وانتصابه على الحال. فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول
عذاب الدنيا المستأصل لهم، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته (وما نرسل المرسلين) من رسلنا إلى
الأمم (إلا) حال كونهم (مبشرين) للمؤمنين (ومنذرين) للكافرين، فالاستثناء مفرغ من أعم العام، وقد
تقدم تفسير هذا (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) أي ليزيلوا بالجدال بالباطل الحق ويبطلوه
وأصل الدحض الزلق: يقال دحضت رجله: أي زلقت تدحض دحضا، ودحضت الشمس عن كبد السماء
زالت، ودحضت حجته دحوضا بطلت، ومن ذلك قول طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته * وحدت كما حاد البعير عن الدحض
ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل - ما أنتم إلا بشر مثلنا - ونحو ذلك (واتخذوا آياتي) أي القرآن
(وما أنذروا) به من الوعيد والتهديد (هزؤا) أي لعبا وباطلا، وقد تقدم هذا في البقرة (ومن أظلم ممن ذكر
بآيات ربه فأعرض عنها) أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما فتهاون بها
وأعرض عن قبولها، ولم يتدبرها حق التدبر ويتفكر فيها حق التفكر (ونسي ما قدمت يداه) من الكفر والمعاصي،
فلم يتب عنها. قيل والنسيان هنا بمعنى الترك، وقيل هو على حقيقته (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) أي
أغطية: والأكنة جمع كنان، والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم. قال الزجاج: أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع
على قلوبهم (وفى آذانهم وقرا) أي وجعلنا في آذانهم ثقلا يمنع من استماعه، وقد تقدم تفسير هذا في الأنعام
(وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا) لأن الله قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم (وربك الغفور
ذو الرحمة) أي كثير المغفرة، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شئ فلم يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال (لو
يؤاخذهم بما كسبوا) أي بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض (لعجل لهم العذاب
لاستحقاقهم لذلك (بل) جعل (لهم موعد) أي أجل مقدر لعذابهم، قيل هو عذاب الآخرة، وقيل يوم بدر
(لن يجدوا من دونه موئلا) أي ملجأ يلجئون إليه. وقال أبو عبيدة منجا، وقيل محيصا، ومنه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خليتها * للعامريين ولم تكلم
وقال الأعشى:
وقد أخالس رب البيت غفلته * وقد يحاذر منى ثم مايئل
أي ما ينجو (وتلك القرى) أي قرى عاد وثمود وأمثالها (أهلكناهم) هذا خبر اسم الإشارة والقرى صفته،
والكلام على حذف مضاف: أي أهل القرى أهلكناهم (لما ظلموا) أي وقت وقوع الظلم منهم بالكفر والمعاصي
(وجعلنا لمهلكهم موعدا) أي وقتا معينا، وقرأ عاصم مهلكهم بفتح الميم واللام، وهو مصدر هلك، وأجاز
الكسائي والفراء كسر اللام وفتح الميم، وبذلك قرأ حفص، وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام. وقال الزجاج
مهلك: اسم للزمان، والتقدير: لوقت مهلكهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (إلا أن تأتيهم سنة الأولين) قال: عقوبة الأولين. وأخرج ابن
أبي حاتم عن الأعمش في قوله (قبلا) قال: جهارا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد
قال فجأة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ونسي ما قدمت يداه) قال: نسي ما سلف من الذنوب الكثيرة.
296

وأخرج أيضا عن ابن عباس (بما كسبوا) يقول: بما عملوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى (بل لهم موعد)
قال: الموعد يوم القيامة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله
(موئلا) قال: ملجأ: وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (موئلا) قال: محرزا.
سورة الكهف الآية (60 - 70)
الظرف في قوله (وإذ قال) متعلق بفعل محذوف هو أذكر. قيل ووجه ذكر هذه القصة في هذه السورة،
أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قصة أصحاب الكهف وقالوا: إن أخبركم فهو نبي وإلا فلا.
ذكر الله قصة موسى والخضر تنبيها على أن النبي لا يلزمه أن يكون عالما بجميع القصص والأخبار. وقد اتفق أهل
العلم على أن موسى المذكور هو موسى بن عمران النبي المرسل إلى فرعون، وقالت فرقة لا التفات إلى ما تقوله منهم
نوف البكالي: إنه ليس ابن عمران، وإنما هو موسى بن ميشى بن يوسف بن يعقوب، وكان نبيا قبل موسى بن
عمران، وهذا باطل قد رده السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم كما في صحيح البخاري وغيره، والمراد بفتاه
هنا هو يوشع بن نون. قال الواحدي: أجمعوا على أنه يوشع بن نون، وقد مضى ذكره في المائدة، وفى آخر
سورة يوسف، ومن قال: إن موسى هو ابن ميشى قال: إن هذا الفتى لم يكن هو يوشع بن نون. قال الفراء:
وإنما سمى فتى موسى لأنه كان ملازما له يأخذ عنهم العلم ويخدمه، ومعنى (لا أبرح) لا أزال، ومنه قوله - لن
نبرح عليه عاكفين - ومنه قول الشاعر:
وأبرح ما أدام الله قومي * بمحمد الله منتطقا مجيدا
وبرح إذا كان بمعنى زال فهو من الأفعال الناقصة، وخبره هنا محذوف اعتمادا على دلالة ما بعده وهو (حتى أبلغ
مجمع البحرين) قال الزجاج: لا أبرح بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه، ولأن قوله
" حتى أبلغ " غاية مضروبة، فلا بد من ذي غاية، فالمعنى: لا أزال أسير إلى أن أبلغ، ويجوز أن يراد لا يبرح
297

مسيري حتى أبلغ، وقيل معنى لا أبرح: لا أفارقك حتى أبلغ مجمع البحرين، وقيل يجوز أن يكون من برح
التام، بمعنى زال يزال، ومجمع البحرين ملتقاهما. قيل المراد بالبحرين بحر فارس والروم، وقيل بحر الأردن
وبحر القلزم، وقيل مجمع البحرين عند طنجة، وقيل بإفريقية. وقالت طائفة: المراد بالبحرين موسى والخضر،
وهو من الضعف بمكان، وقد حكى عن ابن عباس ولا يصح (أو أمضى حقبا) أي أسير زمانا طويلا. قال
الجوهري: الحقب بالضم ثمانون سنة. وقال النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر
مبهم غير محدود، كما أن رهطا وقوما منهم غير محدود، وجمعه أحقاب. وسبب هذه العزيمة على السير من موسى
عليه السلام ما روى أنه سئل موسى من أعلم الناس؟ فقال أنا، فأوحى الله إليه: إن أعلم منك عبد لي عند مجمع
البحرين (فلما بلغا) أي موسى وفتاه (مجمع بينهما) أي بين البحرين، وأضيف مجمع إلى الظرف توسعا، وقيل
البين: بمعنى الافتراق: أي البحران المفترقان أبي يجتمعان هناك، وقيل الضمير لموسى والخضر: أي وصلا الموضع
الذي فيه اجتماع شملهما، ويكون البين على هذا بمعنى الوصل، لأنه من الأضداد، والأول أولى (نسيا حوتهما)
قال المفسرون: إنهما تزودا حوتا مملحا في زنبيل، وكانا يصيبان منه عند حاجتهما إلى الطعام، وكان قد جعل
الله فقدانه أمارة لهما على وجدان المطلوب. والمعنى أنهما نسيا بفقد أمره، وقيل الذي نسي إنما هو فتى موسى،
لأنه وكل أمر الحوت إليه، وأمره أن يخبره إذا فقده، فلما انتهيا إلى ساحل البحر وضع فتاه المكتل الذي فيه
الحوت فأحياه الله، فتحرك واضطرب في المكتل، ثم انسرب في البحر، ولهذا قال (فاتخذ سبيله في البحر سربا)
انتصاب سربا على أنه المفعول الثاني لاتخذ، أي اتخذ سبيلا سربا، والسرب النفق الذي يكون في الأرض للضب
ونحوه من الحيوانات، وذلك أن الله سبحانه أمسك جرية الماء على الموضع الذي انسرب فيه الحوت فصار كالطاق
فشبه مسلك الحوت في البحر مع بقائه وانجياب الماء عنه بالسرب الذي هو الكوة المحفورة في الأرض. قال الفراء:
لما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر فكان كالسرب، فلما جاوزا ذلك المكان الذي كانت عنده الصخرة
وذهب الحوت فيه انطلقا، فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال، ولم يجدا النصب حتى جاوزا الموضع
الذي فيه الخضر، ولهذا قال سبحانه (فلما جاوزا) أي مجمع البحرين الذي جعل موعدا للملاقاة (قال لفتاه آتنا
غداءنا) وهو ما يؤكل بالغداة، وأراد موسى أن يأتيه بالحوت الذي حملاه معهما (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا)
أي تعبا وإعياء، قال المفسرون: الإشارة بقوله سفرنا هذا إلى السفر الكائن منهما بعد مجاوزة المكان المذكور،
فإنهما لم يجدا النصب إلا في ذلك دون ما قبله (قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة) أي قال فتى موسى لموسى، ومعنى
الاستفهام تعجيبه لموسى مما وقع له من النسيان هناك مع كون ذلك الأمر مما لا ينسى، لأنه قد شاهد أمرا عظيما من
قدرة الله الباهرة، ومفعول أرأيت محذوف لدلالة ما ذكره من النسيان عليه، والتقدير: أرأيت ما دهاني،
أو نابني في ذلك الوقت والمكان. وتلك الصخرة كانت عند مجمع البحرين الذي هو الموعد، وإنما ذكرها دون أن
يذكر مجمع البحرين لكونها متضمنة لزيادة تعيين المكان، لاحتمال أن يكون المجمع مكانا متسعا يتناول مكان
الصخرة وغيره، وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي تقدم ذكره لبيان أن ذلك الغداء المطلوب هو ذلك
الحوت الذي جعلاه زادا لهما، وأمارة لوجدان مطلوبهما. ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان
فقال (وما أنسانيه إلا الشيطان) بما يقع منه من الوسوسة، و (أن أذكره) بدل اشتمال من الضمير في أنسانيه،
وفى مصحف عبد الله: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان (واتخذ سبيله في البحر عجبا) انتصاب عجبا على أنه
المفعول الثاني كما مر في سربا، والظرف في محل نصب على الحال، يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع، أخبر
298

موسى أن الحوت اتخذ سبيله عجبا للناس، وموضع التعجب أن يحيا حوت قد مات وأكل شقه، ثم يثب إلى البحر
ويبقى أثر جريته في الماء لا يمحو أثرها جريان ماء البحر، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه لبيان طرف آخر
من أمر الحوت، فيكون ما بين الكلامين اعتراضا (قال ذلك ما كنا نبغي) أي قال موسى لفتاه ذلك الذي ذكرت
من فقد الحوت في ذلك الموضع هو الذي كنا نطلبه، فإن الرجل الذي نريده هو هنالك (فارتدا على آثارهما
قصصا) أي رجعا على الطريق التي جاءا منها يقصان أثرهما لئلا يخطئا طريقهما، وانتصاب قصصا على أنه
مصدر لفعل محذوف، أو على الحال: أي قاصين أو مقتصين، والقصص في اللغة اتباع الأثر (فوجدا عبدا من
عبادنا) هو الخضر في قول جمهور المفسرين، وعلى ذلك دلت الأحاديث الصحيحة، وخالف في ذلك من لا يعتد
بقوله، فقال ليس هو الخضر بل عالم آخر، قيل سمى الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، قيل واسمه بليا بن
ملكان، ثم وصفه الله سبحانه فقال (آتيناه رحمة من عندنا) قيل الرحمة هي النبوة، وقيل النعمة التي أنعم الله بها
عليه (وعلمناه من لدنا علما) وهو ما علمه الله سبحانه من علم الغيب الذي استأثر به، وفى قوله من لدنا تفخيم
لشأن ذلك العلم، وتعظيم له. قال الزجاج: وفيما فعل موسى وهو من جملة الأنبياء من طلب العلم، والرحلة في ذلك
ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه. ثم قص الله
سبحانه علينا ما دار بين موسى والخضر بعد اجتماعهما فقال (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت
رشدا) في هذا السؤال ملاطفة ومبالغة في حسن الأدب، لأنه استأذنه أن يكون تابعا له على أن يعلمه مما علمه الله
من العلم. والرشد الوقوف على الخير وإصابة الصواب، وانتصابه على أنه مفعول ثان لتعلمني: أي علما ذا رشد
أرشد به، وقرئ رشدا بفتحتين، وهما لغتان كالبخل والبخل. وفى الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن
تفاوتت المراتب. وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى، فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل وقد يأخذ
الفاضل عن المفضول إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء
بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيب ومعرفة البواطن (قال إنك لن تستطيع معي صبرا) أي قال الخضر
لموسى: إنك لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي، لأن الظواهر التي هي علمك لا توافق ذلك، ثم أكد ذلك
مشيرا إلى علة عدم الاستطاعة، فقال (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) أي كيف تصبر على علم ظاهره منكر،
وأنت لا تعلم، ومثلك مع كونك صاحب شرع لا يسوغ له السكوت على منكر والإقرار عليه، وخبرا منتصب على
التمييز: أي لم تحط به خبرك: والخبر العلم بالشئ، والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها، وبما يحتاج إلى الاختبار منها
(قال ستجدني إن شاء الله صابرا) أي قال موسى للخضر: ستجدني صابرا معك، ملتزما طاعتك (ولا أعصى لك
أمرا) فجملة ولا أعصي معطوفة على صابرا، فيكون التقييد بقوله: إن شاء الله شاملا للصبر ونفى المعصية، وقيل
إن التقييد بالمشيئة مختص بالصبر، لأنه أمر مستقبل لا يدري كيف يكون حاله فيه، ونفى المعصية معزوم عليه في
الحال، ويجاب عنه بأن الصبر، ونفي المعصية متفقان في كون كل واحد منهما معزوم عليه في الحال، وفى كون
كل واحد منهما لا يدري كيف حاله فيه في المستقبل. (قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ) مما تشاهده من أفعالي
المخالفة لما يقتضيه ظاهر الشرع الذي بعثك الله به (حتى أحدث لك منه ذكرا) أي حتى أكون أنا المبتدئ لك
بذكره، وبيان وجهه وما يؤول إليه. وهذه الجمل المعنونة بقال وقال مستأنفة، لأنها جوابات عن سؤالات
مقدرة كل واحدة ينشأ السؤال عنها مما قبلها.
وقد أخرج الدارقطني في الإفراد وابن عساكر من طريق مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس قال:
299

الخضر ابن آدم لصلبه ونسئ له في أجله حتى يكذب الدجال. وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال " إنما سمى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء ".
وأخرجه ابن عساكر من حديث ابن عباس. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن
مجاهد إنما سمى الخضر لأنه إذا صلى اخضر ما حوله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله (لا أبرح حتى أبلغ
مجمع البحرين) قال: حتى انتهى. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (مجمع
البحرين). قال: بحر فارس والروم، وهما نحو المشرق والمغرب وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس مثله.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال (مجمع البحرين) إفريقية. وأخرج ابن أبي حاتم عن
محمد بن كعب قال طنجة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (أو أمضى حقبا)
قال: سبعين خريفا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: دهرا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله (نسيا حوتهما) قال: كان مملوحا مشقوق البطن. وأخرج ابن المنذر عنه
في قوله (فاتخذ سبيله في البحر سربا) قال: أثره يابس في البحر كأنه في حجر. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة
في قوله (فارتدا على آثارهما قصصا) قال: عودهما على بدئهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(آتيناه رحمة من عندنا) قال: أعطيناه الهدى والنبوة.
واعلم أنها قد رويت في قصة الخضر مع موسى المذكورة في الكتاب العزيز أحاديث كثيرة، وأتمها وأكملها
ما روى عن ابن عباس ولكنها اختلفت بعض الألفاظ، وكلها مروية من طريق سعيد بن جبير عنه، وبعضها في
الصحيحين وغيرهما، وبعضها في أحدهما، وبعضها خارج عنهما. وقد رويت من طريق العوفي عنه كما أخرجه
ابن جرير وابن أبي حاتم، ومن طريق هارون بن عنترة عن أبيه عنه عند ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والخطيب وابن عساكر، فلنقتصر على الرواية التي هي أتم الروايات الثابتة في الصحيحين، ففي ذلك ما يغنى عن
غيره، وهى: قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى
صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله. حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يقول: " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ فقال أنا، فعتب الله عليه إذ لم
يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به؟
قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله في مكتل. ثم انطلق
وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رؤسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه
فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما
استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كانا من الغد قال موسى لفتاه
(آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال
له فتاه (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر
عجبا) قال: فكان للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا، فقال موسى: (ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما
قصصا ") قال سفيان: يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة لا يصيب ماؤها ميتا إلا عاش، قال: وكان
الحوت قد أكل منه، فلما قطر عليه الماء عاش، قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل
مسجى بثوب فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟ قال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل؟ قال
300

نعم، قال أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا، قال إنك لن تستطيع معي صبرا، يا موسى إني على علم من الله علمنيه
لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمك الله لا أعلمه، قال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك
أمرا، فقال له الخضر (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا) فانطلقا يمشيان على ساحل
البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ
إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها
لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا؟ قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني
من أمري عسرا. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فكانت الأولى من موسى نسيانا. قال: وجاء
عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل
ما نقص هذا العصفور الذي وقع على حرف السفينة من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على
الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال موسى (أقتلت
نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا) قال: وهذه أشد من الأولى
(قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها
فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه) قال مائل، فقال الخضر بيده هكذا فأقامه، ف‍ (قال)
موسى قوم آتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا (لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل
ما لم تستطع عليه صبرا) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله
علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير: وكان ابن عباس يقرأ (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) وكان
يقرأ (وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين) وبقية روايات سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب
هي موافقة لهذه الرواية في المعنى وإن تفاوتت الألفاظ في بعضها فلا فائدة في الإطالة بذكرها، وكذلك
روايات غير سعيد عنه.
سورة الكهف الآية (71 - 78)
301

سورة الكهف الآية (79 - 82)
قوله (فانطلقا) أي موسى والخضر على ساحل البحر يطلبان السفينة، فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم
فحملوهم (حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) قيل قلع لوحا من ألواحها، وقيل لوحين مما يلي الماء، وقيل خرق
جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها (قال) موسى: (أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا) أي
لقد أتيت أمرا عظيما، يقال أمر الأمر إذا كبر، والأمر الاسم منه. وقال أبو عبيدة: الأمر الداهية العظيمة
وأنشد:
* قد لقى الأقران منى نكرا * داهية دهيا وأمرا إمرا
وقال القتيبي: الأمر العجب. وقال الأخفش: أمر أمره يأمر إذا اشتد، والاسم الأمر. قرأ حمزة والكسائي
(ليغرق أهلها) بالياء التحتية المفتوحة، ورفع أهلها على أنه فاعل. وقرأ الباقون بالفوقية المضمومة ونصب أهلها
على المفعولية (قال) أي الخضر (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا) أذكره ما تقدم من قوله له سابقا (إنك لن
تستطيع معي صبرا) ف (قال) له موسى (لا تؤاخذني بما نسيت) يحتمل أن تكون ما مصدرية، أي لا تؤاخذني
بنسياني أو موصولة أي لا تؤاخذني بالذي نسيته، وهو قول الخضر - فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه
ذكرا - فالنسيان إما على حقيقته على تقدير أن موسى نسي ذلك، أو بمعنى الترك على تقدير أنه لم ينس ما قاله له،
ولكنه ترك العمل به (ولا ترهقني من أمري عسرا) قال أبو زيد: أرهقته عسرا إذا كلفته ذلك: والمعنى عاملني
باليسر لا بالعسر. وقرئ عسرا بضمتين (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله) أي الخضر، ولفظ الغلام يتناول
الشاب البالغ كما يتناول الصغير، قيل كان الغلام يلعب مع الصبيان فاقتلع الخضر رأسه (قال) موسى (أقتلت
نفسا زاكية بغير نفس) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وأويس بألف بعد الزاي وتخفيف الياء اسم
فاعل. وقرأ الباقون بتشديد الياء من دون ألف، الزاكية: البريئة من الذنوب. قال أبو عمرو: الزاكية التي لم
تذنب، والزكية التي أذنبت ثم تابت. وقال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان. وقال الفراء: الزاكية والزكية مثل
القاسية والقسية، ومعنى (بغير نفس) بغير قتل نفس محرمة حتى يكون قتل هذه قصاصا (لقد جئت شيئا نكرا)
أي فظيعا منكرا لا يعرف في الشرع. قيل معناه أنكر من الأمر الأول لكون القتل لا يمكن تداركه، بخلاف نزع
اللوح من السفينة فإنه يمكن تداركه بإرجاعه، وقيل النكر أقل من الأمر، لأن قتل نفس واحدة أهون من
إغراق أهل السفينة. قيل استبعد موسى أن يقتل نفسا بغير نفس، ولم يتأول للخضر بأنه يحل القتل بأسباب أخر
302

(قال) الخضر (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا) زاد هنا لفظ لك، لأن سبب العتاب أكثر، وموجبه
أقوى، وقيل زاد لفظ لك لقصد التأكيد كما تقول لمن توبخه: لك أقول وإياك أعني (قال) موسى (إن سألتك
عن شئ بعدها) أي بعد هذه المرة، أو بعد هذه النفس المقتولة (فلا تصاحبني) أي لا تجعلني صاحبا لك، نهاه
عن مصاحبته مع حرصه على التعلم لظهور عذره، ولذا قال (قد بلغت من لدني عذرا) يريد أنك قد أعذرت
حيث خالفتك ثلاث مرات، وهذا كلام نادم شديد الندامة، اضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف.
قرأ الأعرج " تصحبني " بفتح التاء والباء وتشديد النون. وقرأ الجمهور " تصاحبني " وقرأ يعقوب " تصحبى " بضم التاء
وكسر الحاء ورواها سهل عن أبي عمرو. قال الكسائي: معناه لا تتركني أصحبك. وقرأ الجمهور " لدني " بضم الدال إلا
أن نافعا وعاصما خففا النون، وشددها الباقون. وقرأ أبو بكر عن عاصم " لدني " بضم اللام وسكون الدال. قال
ابن مجاهد: وهى غلط. قال أبو علي: هذا التغليط لعله من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فصحيحة.
وقرأ الجمهور " عذرا " بسكون الذال. وقرأ عيسى بن عمر بضم الذال. وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بكسر الراء وياء بعدها بإضافة العذر إلى نفسه (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية) قيل هي أيلة
وقيل أنطاكية، وقيل برقة، وقيل قرية من قرى أذربيجان، وقيل قرية من قرى الروم (استطعما أهلها) هذه
الجملة في محل الجر على أنها صفة لقرية، ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التأكيد، أو لكراهة اجتماع
الضميرين في هذه الكلمة لما فيه من الكلفة، أو لزيادة التشنيع على أهل القرية بإظهارهم (فأبوا أن يضيفوهما)
أي أبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من ضيافتهما، فمن استدل بهذه الآية على جواز السؤال وحل الكدية
فقد أخطأ خطأ بينا، ومن ذلك قول بعض الأدباء الذين يسألون الناس:
فإن رددت فما في الرد منقصة * على قد رد موسى قبل والخضر
وقد ثبت في السنة تحريم السؤال بما لا يمكن دفعه من الأحاديث الصحيحة الكثيرة (فوجدا فيها) أي في القرية
(جدارا يريد أن ينقض) إسناد الإرادة إلى الجدار مجاز. قال الزجاج: الجدار لا يريد إرادة حقيقية إلا أن هيئة
السقوط قد ظهرت فيه كما تظهر أفعال المريدين القاصدين فوصف بالإراد، ومنه قول الراعي:
في مهمه فلقت به هاماتها * فلق الفؤوس إذا أردن نصولا
ومعنى الانقضاض السقوط بسرعة، يقال انقض الحائط إذا وقع، وانقض الطائر إذا هوى من طيرانه
فسقط على شئ، ومعنى فأقامه فسواه، لأنه وجده مائلا فرده كما كان، وقيل نقضه وبناه، وقيل أقامه بعمود،
وقد تقدم في الحديث الصحيح أنه مسحه بيده (قال) موسى (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) أي على إقامته
وإصلاحه، تحريضا من موسى للخضر على أخذ الأجر. قال الفراء: معناه لو شئت لم تقمه حتى يقرونا فهو
الأجر، قرأ أبو عمرو ويعقوب وابن كثير وابن محيصن واليزيدي والحسن " لتخذت " يقال تخذ فلان يتخذ تخذا مثل
اتخذ. وقرأ الباقون لاتخذت (قال) الخضر (هذا فراق بيني وبينك) على إضافة فراق إلى الظرف اتساعا: أي هذا
الكلام والإنكار منك على ترك الأجر هو المفرق بيننا. قال الزجاج: المعنى هذا فراق بيننا: أي هذا فراق اتصالنا،
وكرر بين تأكيدا، ولما قال الخضر لموسى بهذا أخذ في بيان الوجه الذي فعل بسببه تلك الأفعال التي أنكرها موسى
فقال (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) والتأويل رجوع الشئ إلى مآله. ثم شرع في البيان له فقال (أما
السفينة) يعنى التي خرقها (فكانت لمساكين) لضعفاء لا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم (يعملون في البحر)
ولم يكن لهم مال غير تلك السفينة يكرونها من الذين يركبون البحر ويأخذون الأجرة، وقد استدل الشافعي بهذه
303

الآية على أن الفقير أسوأ حالا من (المسكين فأردت أن أعيبها) أي أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها (وكان
وراءهم ملك) قال المفسرون: يعنى أمامهم، ووراء يكون بمعنى أمام، وقد مر الكلام على هذا في قوله - من
ورائه عذاب غليظ - وقيل أراد خلفهم، وكان طريقهم في الرجوع عليه، وما كان عندهم خبر بأنه (يأخذ
كل سفينة غصبا) أي كل سفينة صالحة لا معيبة، وقد قرئ بزيادة صالحة روى ذلك عن أبي وابن عباس. وقرا
جماعة بتشديد السين من مساكين، واختلف في معناها، فقيل هم ملاحو السفينة، وذلك أن المساك هو الذي
يمسك السفينة، والأظهر قراءة الجمهور بالتخفيف (وأما الغلام) يعنى الذي قتله (فكان أبواه مؤمنين) أي ولم
يكن هو كذلك (فخشينا أن يرهقهما) أي يرهق الغلام أبويه، يقال رهقه: أي غشيه، وأرهقه أغشاه. قال
المفسرون: معناه خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه في دينه، وهو الكفر، (وطغيانا) مفعول يرهقهما
(وكفرا) معطوف عليه، وقيل المعنى: فخشينا أن يرهق الوالدين طغيانا عليهما وكفرا لنعمتهما بعقوقه. قيل
ويجوز أن يكون فخشينا من كلام الله، ويكون المعنى كرهنا كراهة من خشي سوء عاقبة أمره فغيره، وهذا
ضعيف جدا، فالكلام كلام الخضر. وقد استشكل بعض أهل العلم قتل الخضر لهذا الغلام بهذه العلة، فقيل إنه
كان بالغا وقد استحق ذلك بكفره، وقيل كان يقطع الطريق فاستحق القتل لذلك، ويكون معنى فخشينا
أن يرهقهما طغيانا وكفرا: أن الخضر خاف على الأبوين أن يذبا أن عنه ويتعصبا له فيقعا في المعصية، وقد يؤدى ذلك
إلى الكفر والارتداد. والحاصل أنه لا إشكال في قتل الخضر له إذا كان بالغا كافرا أو قاطعا للطريق هذا فيما
تقتضيه الشريعة الإسلامية، ويمكن أن يكون للخضر شريعة من عند الله سبحانه تسوغ له ذلك، وأما إذا كان
الغلام صبيا غير بالغ، فقيل إن الخضر علم بإعلام الله له أنه لو صار بالغا لكان كافرا يتسبب عن كفره إضلال
أبويه وكفرهما، الله وهذا وإن كان ظاهر الشريعة الإسلامية يأباه، فإن قتل من لا ذنب له ولا قد جرى عليه قلم
التكليف لخشية أن يقع منه بعد بلوغه ما يجوز به قتله لا يحل في الشريعة المحمدية، ولكنه حل في شريعة أخرى،
فلا إشكال. وقد ذهب الجمهور إلى أن الخضر كان نبيا (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه) قرأ الجمهور بفتح
الباء الموحدة وتشديد الدال. وقرأ عاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بسكون الباء وتخفيف الدال، والمعنى:
أردنا أن يرزقهما الله بدل هذا الولد ولدا خيرا منه (زكاة) أي دينا وصلاحا وطهارة من (الذنوب وأقرب رحما)
قرأ ابن عباس وحمزة والكسائي وابن كثير وابن عامر " رحما " بضم الحاء. وقرأ الباقون بسكونها، ومعنى الرحم
الرحمة، يقال رحمه الله رحمة ورحمي، والألف للتأنيث (وأما الجدار) يعنى الذي أصلحه (فكان لغلامين يتيمين
في المدينة) هي القرية المذكورة سابقا، وفيه جواز إطلاق اسم المدينة على القرية لغة (وكان تحته كنز لهما) قيل
كان مالا جسيما كما يفيده اسم الكنز، إذ هو المال المجموع. قال الزجاج: المعروف في اللغة ان الكنز إذا أفرد:
فمعناه المال المدفون، فإذا لم يكن مالا قيل: كنز علم وكنز فهم، وقيل لوح من ذهب، وقيل صحف مكتوبة
(وكان أبوهما صالحا) فكان صلاحه مقتضيا لرعاية ولديه وحفظ مالهما، قيل هو الذي دفنه، وقيل هو الأب
السابع من عند الدافن له، وقيل العاشر (فأراد ربك) أي مالكك ومدبر أمرك، وأضاف الرب إلى ضمير موسى
تشريفا له (أن يبلغا أشدهما) أي كمالهما وتمام نموهما (قال ويستخرجا كنزهما) من ذلك الموضع الذي عليه الجدار،
ولو انقض لخرج الكنز من تحته (رحمة من ربك) لهما، وهو مصدر في موضع الحال: أي مرحومين من الله سبحانه (وما فعلته عن أمري) أي عن اجتهادي ورأيي، وهو تأكيد لما قبله، فقد علم بقوله فأراد ربك أنه لم
يفعله الخضر عن أمر نفسه (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) أي ذلك المذكور من تلك البيانات التي بينتها لك
304

وأوضحت وجوهها تأويل ما ضاق صبرك عنه ولم تطق السكوت عليه، ومعنى التأويل هنا هو المآل الذي آلت
إليه تلك الأمور، وهو اتضاح ما كان مشتبها على موسى وظهور وجهه، وحذف التاء من تسطع تخفيفا.
وقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (لقد جئت شيئا إمرا) يقول: نكرا. وأخرج ابن أبي
حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (أمرا) قال:
عجبا. وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب في قوله (لا تؤاخذني بما نسيت) قال: لم ينس، ولكنها من معاريض
الكلام. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان الخضر عبدا لا تراه الأعين، إلا من أراد الله
أن يريه إياه، فلم يره من القوم إلا موسى ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وبين قتل الغلام. وأقول:
ينبغي أن ينظر من أين له هذا؟ فإن لم يكن مستنده إلا قوله: ولو رآه القوم الخ، فليس ذلك بموجب لما ذكره،
أما أولا فإن من الجائز أن يفعل ذلك من غير أن يراه أهل السفينة وأهل الغلام، لا لكونه لا تراه الأعين، بل لكونه
فعل ذلك من غير اطلاعهم. وأما ثانيا فيمكن أن أهل السفينة وأهل الغلام قد عرفوه وعرفوا أنه لا يفعل ذلك إلا
بأمر من الله كما يفعل الأنبياء، فسلموا لأمر الله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (نفسا زاكية) قال:
مسلمة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: لم تبلغ الخطايا. وأخرج
عبد الرزاق وابن المنذر عن الحسن نحوه. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله
(شيئا نكرا) قال: النكر أنكر من العجب. وأخرج أحمد عن عطاء قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس
يسأله عن قتل الصبيان، فكتب إليه إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم. وزاد ابن أبي شيبة من
طريق أخرى عنه: ولكنك لا تعلم، قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتلهم فاعتزلهم. وأخرج مسلم
وأبو داود والترمذي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن مردويه عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا، ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا. وأخرج أبو داود
والترمذي وعبد الله بن أحمد والبزار وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أبي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ
(من لدني عذرا) مثقلة. وأخرج ابن مردويه عن أبي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ (أن يضيفوهما)
مشددة وأخرج ابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أنه قرأ (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض) فهدمه، ثم قعد يبنيه. قلت: ورواية الصحيحين التي قدمناها
أنه مسحه بيده أولى. وأخرج الفريابي في معجمه وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قرأ (لو شئت لتخذت عليه أجرا) مخففة. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والنسائي
والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر لقص الله علينا من خبره، ولكن (قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا
تصاحبني). وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) وأخرج ابن الأنباري
عن أبي بن كعب أنه قرأها كذلك. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن أبي الزاهرية قال: كتب عثمان " وكان
وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا ". وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن
الأنباري عن ابن عباس أنه كان يقرأ " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ". وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عن قتادة قال هي في مصحف عبد الله " فخاف ربك أن يرهقهما طغيانا وكفرا ". وأخرج ابن المنذر وابن
305

أبى حاتم عن ابن عباس في قوله (خيرا منه زكاة) قال: دينا (وأقرب رحما) قال: مودة، فأبدلا جارية ولدت
نبيا. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وكان تحته كنز لهما) قال: كان الكنز
لمن قبلنا وحرم علينا، وحرمت الغنيمة على من كان قبلنا وأحلت لنا، فلا يعجبن الرجل، فيقول فما شأن الكنز،
أحل لمن قبلنا وحرم علينا؟ فإن الله يحل من أمره ما يشاء ويحرم ما يشاء، وهى السنن والفرائض، يحل لأمة
ويحرم على أخرى. وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني
والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وكان تحته كنز لهما)
قال: ذهب وفضة. وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء في قوله (وكان تحته كنز لهما) قال: أحلت لهم الكنوز
وحرمت عليهم الغنائم، وأحلت لنا الغنائم وحرمت علينا الكنوز. وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه عن
أبي ذر رفعه قال: إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر ثم
نصب، وعجبت لمن ذكر النار ثم ضحك، وعجبت لمن ذكر الموت ثم غفل، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وفى نحو هذا روايات كثيرة لا تتعلق بذكرها فائدة. وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وأحمد في الزهد
والحميدي في مسنده وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله (وكان أبوهما صالحا)
قال: حفظا بصلاح أبيهما. وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله
عز وجل يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده وأهل دويرته وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ
الله تعالى ما دام فيهم ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن الله يصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده
ويحفظه في دويرته، والدويرات حوله، فما يزالون في ستر من الله وعافية. وأخرج ابن جرير من طريق الحسن بن
عمارة عن أبيه قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه؟ فقال ابن عباس: قال فيما
يذكر من حديث الفتى إنه شرب من الماء فخلد، فأخذه العالم فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به
إلى يوم القيامة، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه. قال ابن كثير: إسناده ضعيف، الحسن متروك وأبوه غير
معروف.
الكهف الآية (83 - 91)
306

لما أجاب سبحانه عن سؤالين من سؤالات اليهود، وانتهى الكلام إلى حيث انتهى شرع سبحانه في السؤال
الثالث والجواب عنه، فالمراد بالسائلين هنا هم اليهود.
واختلفوا في ذي القرنين اختلافا كثيرا، فقيل هو الإسكندر بن فيلقوس الذي ملك الدنيا بأسرها اليوناني باني
لإسكندريه. وقال ابن إسحاق: هو رجل من أهل مصر، اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني، من ولد يونان بن
يافث بن نوح. وقيل هو ملك اسمه هرمس، وقيل ملك اسمه هردبس، عن وقيل شاب من الروم، وقيل كان نبيا،
وقيل كان عبدا صالحا، قيل اسمه عبد الله بن الضحاك، وقيل مصعب بن عبد الله، من أولاد كهلان بن سبأ.
وحكى القرطبي عن السهيلي أنه قال: إن الظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان: أحدهما كان على عهد إبراهيم عليه
السلام، والآخر كان قريبا من عيسى عليه السلام. وقيل هو أبو كرب الحميري، وقيل هو ملك من الملائكة،
ورجح الرازي القول الأول، قال: لأن من بلغ ملكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو
الإسكندر اليوناني كما تشهد به كتب التاريخ، قال: فوجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر، قال: وفيه
إشكال لأنه كان تلميذا لأرسطاطاليس الحكيم، وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب
أرسطاطا ليس حق وصدق، وذلك مما لا سبيل إليه. قال النيسابوري: قلت ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلا
فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر والله أعلم. ورجح ابن كثير ما ذكره السهيلي أنهما اثنان كما قدمنا ذلك،
وبين أن الأول طاف بالبيت مع إبراهيم أول ما بناه وآمن به واتبعه وكان وزيره الخضر. وأما الثاني فهو الإسكندر
المقدوني اليوناني، وكان وزيره الفيلسوف المشهور إرسطاطاليس، وكان قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة. فأما
الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل، هذا معنى ما ذكره ابن كثير في تفسيره راويا له عن الأزرقي
وغيره، ثم قال: وقد ذكرنا طرفا صالحا في أخباره في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية. وحكى أبو السعود في
تفسيره عن ابن كثير أنه قال: وإنما بينا هذا: يعنى أنهما اثنان، لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن
المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر، فيقع بذلك خطأ كبير وفساد كثير، كيف لا، والأول كان عبدا
صالحا مؤمنا، وملكا عادلا، ووزيره الخضر، وقد قيل إنه كان نبيا. وأما الثاني فقد كان كافرا، ووزيره
إرسطاطاليس الفيلسوف، وكان ما بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة، فأين هذا من ذاك؟ انتهى. قلت: لعله
ذكر هذا في الكتاب الذي ذكره سابقا، وسماه بالبداية والنهاية ولم يقف عليه، والذي يستفاد من كتب التاريخ
هو أنهما اثنان كما ذكره السهيلي والأزرقي وابن كثير وغيرهم لا كما ذكره الرازي وادعى أنه الذي تشهد به كتب
التواريخ وقد وقع الخلاف هل هو نبي أم لا؟ وسيأتي ما يستفاد منه المطلوب آخر هذا البحث إن شاء الله.
وأما السبب الذي لأجله سمى ذا القرنين، فقال الزجاج والأزهري: إنما سمى ذا القرنين، لأنه بلغ قرن الشمس
من مطلعها، وقرن الشمس من مغربها، وقيل إنه كان له ضفيرتان من شعر، والضفائر تسمى قرونا، ومنه قول
الشاعر:
فلثمت فاها آخذا بقرونها * شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
والحشرج ماء من مياه العرب، وقيل إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس فسمى بذلك،
وقيل كان له قرنان تحت عمامته، وقيل إنه دعا إلى الله فشجه قومه على قرنه، ثم دعا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر،
وقيل إنما سمى بذلك لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه، وقيل لأنه انقرض في وقته قرنان من
الناس وهو حي، وقيل لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعا، وقيل لأنه أعطى علم الظاهر والباطن، وقيل
307

لأنه دخل النور والظلمة، وقيل لأنه ملك فارس والروم، وقيل لأنه ملك الروم والترك، وقيل لأنه كان لتاجه
قرنان. قوله (قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) أي سأتلو عليكم أيها السائلون من ذي القرنين خبرا، وذلك بطريق الوحي
المتلو. ثم شرع سبحانه في بيان ما أمر به رسوله أن يقوله لهم من أنه سيتلو عليهم منه ذكرا فقال (إنا مكنا له في
الأرض) أي أقدرناه بما مهدنا له من الأسباب، فجعلنا له مكنة وقدرة على التصرف فيها، وسهل عليه المسير في
مواضعها، وذلل له طرقها حتى تمكن منها أين شاء وكيف شاء؟ ومن جملة تمكينه فيها أنه جعل له الليل والنهار
سواء في الإضاءة (وآتيناه من كل شئ) مما يتعلق بمطلوبه (سببا) أي طريقا يتوصل بها إلى ما يريده (فأتبع سببا)
من تلك الأسباب. قال المفسرون: والمعنى طريقا تؤديه إلى مغرب الشمس. قال الزجاج: فأتبع سببا من
الأسباب التي أوتى، وذلك أنه أوتى من كل شئ سببا فأتبع من تلك الأسباب التي أوتى سببا في المسير إلى المغرب،
وقيل أتبع من كل شئ علما يتسبب به إلى ما يريد، وقيل بلاغا إلى حيث أراد، وقيل من كل شئ يحتاج إليه
الخلق، وقيل من كل شئ تستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء. وأصل السبب الحبل فاستعين لكل
ما يتوصل به إلى شئ. قرأ ابن عامر وأهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي " فأتبع " بقطع الهمزة، وقرأ أهل المدينة
وأهل مكة وأبو عمرو بوصلها. قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى، مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله - فأتبعه
شهاب ثاقب - قال النحاس: واختار أبو عبيده قراءة أهل الكوفة، قال لأنها من السير. وحكى هو والأصمعي أنه
يقال: تبعته وأتبعته إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه. قال أبو عبيدة: ومثله - فأتبعوهم مشرقين -. قال
النحاس: وهذا من الفرق وإن كان الأصمعي قد حكاه فلا يقبل إلا بعلم أو دليل، وقوله عز وجل - فأتبعوهم
مشرقين - ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث لما خرج موسى وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه
في البحر انطبق عليهم البحر. والحق في هذا أن تبع واتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهو بمعنى السير (حتى إذا
بلغ مغرب الشمس) أي نهاية الأرض من جهة المغرب، لأن من وراء هذه النهاية البحر المحيط، وهو لا يمكن
المضي فيه (وجدها تغرب في عين حمئة) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي حامية: أي حارة. وقرأ الباقون
" حمئة " أي كثيرة الحمأة، وهى الطينة السوداء، تقول: حمئت البئر حمأ بالتسكين إذا نزعت حمأتها، وحمأت بن البئر
حمأتها بالتحريك كثرت حمأتها، ويجوز أن تكون حامية من الحمأة، فخففت الهمزة وقلبت ياء، وقد يجمع بين
القراءتين فيقال كانت حارة وذات حمأة. قيل ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك في نظره،
ولا يبعد أن يقال لا مانع من أن يمكنه الله من عبور البحر المحيط حتى يصل إلى تلك العين التي تغرب فيها الشمس،
وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مغرب الشمس، ومكن له في الأرض والبحر من جملتها، ومجرد
الاستبعاد لا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهر (ووجد عندها قوما) الضمير في عندها إما للعين أو للشمس.
قيل هم قوم لباسهم جلود الوحش، وكانوا كفارا، فخيره الله بين أن يعذبهم وبين أن يتركهم، فقال (إما أن
تعذب، وإما أن تتخذ فيهم حسنا) أي إما أن تعذبهم بالقتل من أول الأمر، وإما أن تتخذ فيهم أمرا ذا حسن أو
أمرا حسنا مبالغة بجعل المصدر صفة للأمر، والمراد دعوتهم إلى الحق وتعليمهم الشرائع. (قال) ذو القرنين مختارا
للدعوة التي هي الشق الأخير من الترديد (أما من ظلم) نفسه بالإصرار على الشرك ولم يقبل دعوتي (فسوف نعذبه)
بالقتل في الدنيا (ثم يرد إلى ربه) في الآخرة (فيعذبه) فيها (عذابا نكرا) أي منكرا فظيعا. قال الزجاج: خيره الله
بين الأمرين. قال النحاس: ورد علي بن سليمان قوله لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول
لربه عز وجل (ثم يرد إلى ربه) وكيف يقول (فسوف نعذبه) فيخاطبه بالنون، قال: والتقدير قلنا يا محمد
308

قالوا يا ذا القرنين. قال النحاس: وهذا الذي ذكره لا يلزم لجواز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في
وقته، وكأن ذا القرنين خاطب أولئك القوم فلا يلزم ما ذكره. ويمكن أن يكون مخاطبا للنبي الذي خاطبه الله على
لسانه، أوخاطب قومه الذين وصل بهم إلى ذلك الوضع. قال ثعلب: إن في قوله (إما أن تعذب وإما أن تتخذ)
في موضع نصب، ولو رفعت لكان صوابا بمعنى فأما هو كقول الشاعر:
فسيروا فإما حاجة تقضيانها * وإما مقيل صالح وصديق
(وأما من آمن) بالله وصدق دعوتي (وعمل) عملا (صالحا) مما يقتضيه الإيمان (فله جزاء الحسنى) قرأ أهل المدينة
وأبو عمرو وعاصم وابن كثير وابن عامر " فله جزاء " بالرفع على الابتداء: أي جزاء الخصلة الحسنى عند الله، أو
الفعلة الحسنى وهى الجنة قاله الفراء. وإضافة الجزاء إلى الحسنى التي هي الجنة كإضافة حق اليقين ودار الآخرة،
ويجوز أن يكون هذا الجزاء من ذي القرنين: أي أعطيه وأتفضل عليه، وقرأ سائر الكوفيين " فله جزاء الحسنى "
بنصب جزاء وتنوينه. قال الفراء: انتصابه على التمييز. وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال أي مجزيا بها
جزاء، وقرأ ابن عباس ومسروق بنصب " جزاء " من غير تنوين قال أبو حاتم: هي على حذف التنوين لالتقاء
الساكنين. قال النحاس: وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين. وقرئ برفع
" جزاء " منونا على أنه مبتدأ، والحسنى بدل منه والخبر الجار والمجرور (وسنقول له من أمرنا يسرا) أي مما نأمر به
قولا ذا يسر ليس بالصعب الشاق، أو أطلق عليه المصدر مبالغة (ثم أتبع سببا) أي طريقا آخر غير الطريق الأولى
وهى التي رجع بها من المغرب وسار فيها إلى المشرق (حتى إذا بلغ مطلع الشمس) أي الموضع الذي تطلع عليه
الشمس أولا من معمور الأرض، أو مكان طلوعها لعدم المانع شرعا ولا عقلا من وصوله إليه كما أوضحناه فيما
سبق (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) يسترهم، لا من البيوت ولا من اللباس، بل هم حفاة عراة
لا يأوون إلى شئ من العمارة. قيل لأنهم بأرض لا يمكن أن يستقر عليها البناء (كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا)
أي كذلك أمر ذي القرنين أتبع هذه الأسباب حتى بلغ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك
والاستقلال به، وقيل المعنى: لم نجعل لهم سترا مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية والثياب، وقيل المعنى:
كذلك بلغ مطلع الشمس مثل ما بلغ من مغربها، وقيل المعنى: كذلك تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب
عليهم، فقضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين، ويكون تأويل الإحاطة
بما لديه في هذه الوجوه على ما يناسب ذلك كما قلنا في الوجه الأول.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يا محمد إنك إنما تذكر
إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين. إنك سمعت ذكرهم منا، فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان
واحد. قال: ومن هو؟ قالوا ذو القرنين. قال: ما بلغني عنه شئ، فخرجوا فرحين قد غلبوا في أنفسهم، فلم
يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات (ويسألونك عن ذي القرنين). وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما
أدري أتبع كان نبيا أم لا؟ وما أدري أذو القرنين كان نبيا أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟ "
وأخرج ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل علي عن ذي القرنين أنبي هو؟ قال: سمعت نبيكم صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: هو عبد ناصح الله فنصحه. وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن أبي عاصم في السنة وابن مردويه من طريق أبي الطفيل أن ابن الكواء
309

سأل علي بن أبي طالب عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ قال: لم يكن نبيا ولا ملكا، ولكن كان عبدا صالحا
أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله، بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه فمات، ثم أحياه الله لجهادهم،
ثم بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر فمات، فأحياه الله لجهادهم، فلذلك سمى ذا القرنين، وإن فيكم مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمرو قال: ذو القرنين نبي. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأخرص بن
حكيم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن ذي القرنين فقال: هو ملك مسح الأرض بالأسباب.
وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن خالد بن معدان
الكلاعي مرفوعا مثله. وأخرج ابن عبد الحكم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد
وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب أنه سمع رجلا ينادي بمنى يا ذا القرنين، فقال عمر: ها أنتم قد سمعتم بأسماء الأنبياء
فما بالكم وأسماء الملائكة؟ وفى الباب غير ما ذكرناه مما يغني عنه ما قد أوردناه. وقد أخرج ابن عبد الحكم في
فتوح مصر وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر الجهني حديثا يتضمن أن
نفرا من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء، وكان فيما
أخبرهم به أنه كان شابا من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السد، وإسناده
ضعيف، وفى متنه نكارة، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل، ذكر معنى هذا ابن كثير في تفسيره وعزاه إلى
ابن جرير والأموي في مغازيه، ثم قال بعد ذلك: والعجب أن أبا زرعة الداري مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتابه
دلائل النبوة انتهى. وقد ساقه بتمامه السيوطي في الدر المنثور، وساق أيضا خبرا طويلا عن وهب بن منبه وعزاه
إلى ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والشيرازي في الألقاب وأبي الشيخ، وفيه أشياء منكرة جدا، وكذلك
ذكر خبرا طويلا عن محمد الباقر أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، ولعل هذه الأخبار ونحوها منقولة عن أهل
الكتاب، وقد أمرنا بأن لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما ينقلونه إلينا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله (وآتيناه من كل شئ سببا) قال: علما. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن
أبي سفيان قال لكعب الأحبار: أنت تقول إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا، قال له كعب: إن كنت قلت ذلك
فإن الله قال (وآتيناه من كل شئ سببا). وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاصر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة
الكهف (تغرب في عين حامية) قال ابن عباس: فقلت لمعاوية ما نقرؤها إلا " حمئة " فسأل معاوية عبد بن عمرو
كيف تقرؤها؟ فقال عبد الله: كما قرأتها، قال ابن عباس: فقلت لمعاوية: في بيتي نزل القرآن، فأرسل إلى
كعب، فقال له: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب: سل أهل العربية فإنهم أعلم بها، وأما
أنا فإني أجد في التوراة في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب. قال ابن أبي حاصر: لو أني عندكما أيدتك بكلام
تزداد به بصيرة في حمئة. قال ابن عباس: وما هو؟ قلت: فيما نأثر قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم
واتباعه إياه:
قد كان ذو القرنين عمر مسلما * ملكا تذل له الملوك وتحشد
فأتى المشارق والمغارب يبتغى * أسباب ملك من حكيم مرشد *
فرأى مغيب الشمس عند غروبها * في عين ذي خلب وثاط خرمد *
310

فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم، قال: فما الثاط؟ قلت: الحمأة. قال: فما الخرمد؟
قلت: الأسود، فدعا ابن عباس غلاما فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل. وأخرج الترمذي وأبو داود الطيالسي
وابن جرير وابن المنذر عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " كان يقرأ في عين حمئة ". وأخرج
الطبراني والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا مثله.
(92 - 98)
ثم حكى سبحانه سفر ذي القرنين إلى ناحية أخرى، وهى ناحية القطر الشمالي بعد تهيئة أسبابه فقال (ثم اتبع
سببا) أي طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب (حتى إذا بلغ بين السدين) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص
وابن محيصن ويحيى اليزيدي وأبو زيد عن المفضل بفتح السين. وقرأ الباقون بضمها. قال أبو عبيدة وابن الأنباري
وأبو عمرو بن العلاء: السد إن كان بخلق الله سبحانه فهو بضم السين حتى يكون بمعنى مفعول: أي هو مما فعله الله
وخلقه، وإن كان من عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثا. وقال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فسد
ما وراءه فهو سد وسد نحو الضعف والضعف، والفقر والفقر، والسدان هما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان،
وانتصاب بين على أنه مفعول به كما ارتفع بالفاعلية في قوله - لقد تقطع بينكم -. وقيل موضع بين السدين هو
منقطع أرض الترك مما يلي المشرق لا جبلا أرمينية وأذربيجان. وحكى ابن جرير في تاريخه أن صاحب أذربيجان
أيام فتحها وجه إنسانا من ناحية الجزر فشاهده، ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع، و (وجد من
دونهما) أي من ورائهما مجازا عنهما، وقيل أمامهما (قوما لا يكادون يفقهون قولا) قرأ حمزة والكسائي " يفقهون "
بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان: أي لا يبينون لغيرهم كلاما، وقرأ الباقون بفتح الياء والقاف: أي
لا يفهمون كلام غيرهم، والقراءتان صحيحتان، ومعناهما لا يفهمون عن غيرهم ولا يفهمون غيرهم، لأنهم لا يعرفون
غير لغة أنفسهم (قالوا) أي هؤلاء القوم الذين لا يفهمون قولا، قيل إن فهم ذي القرنين لكلامهم من جملة
الأسباب التي أعطاه الله، وقيل إنهم قالوا ذلك لترجمانهم، فقال لذي القرنين بما قالوا له (يا ذا القرنين إن يأجوج
ومأجوج مفسدون في الأرض) يأجوج ومأجوج اسمان عجميان بدليل منع صرفهما، وبه قال الأكثر. وقيل
مشتقان من أج الظليم في مشيه إذا هرول. وتأججت النار إذا تلهبت، قرأهما الجمهور بغير همز، وقرأ عاصم
311

بالهمز. قال ابن الأنباري: وجه همزهما وإن لم يعرف له أصل أن العرب قد همزت حروفا لا يعرف للهمز فيها أصل
كقولهم: كبأث وكان ورثأت واستشأث روى الريح. قال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين، فمن همز فهو على وزن يفعول
مثل يربوع، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفا مثل رأس. وأما مأجوج، فهو مفعول من أج،
والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق. قال: وترك الصرف فيهما على تقدير كونهما عربيين للتأنيث والتعريف
كأنه اسم للقبيلة.
واختلف في نسبهم، فقيل هم من ولد يافث بن نوح، وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم. وقال
كعب الأحبار: احتلم آدم فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا من ذلك الماء. قال القرطبي: وهذا فيه نظر، لأن
الأنبياء لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، كذلك قال مقاتل وغيره.
وقد وقع الخلاف في صفتهم، فمن الناس من يصفهم بصغر الجثث وقصر القامة، ومنهم من يصفهم بكبر
الجثث وطول القامة، ومنهم من يقول لهم مخالب كمخالب السباع، وإن منهم صنفا يفترش إحدى أذنيه ويلتحف
بالأخرى، ولأهل العلم من السلف ومن بعدهم أخبار مختلفة في صفاتهم وأفعالهم.
واختلف في إفسادهم في الأرض، فقيل هو أكل بني آدم، وقيل هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه
الإفساد، وقيل كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء القوم الذين شكوهم ولم إلى ذي القرنين في أيام الربيع فلا يدعون فيها
شيئا أخضر إلا أكلوه (فهل نجعل لك خرجا) هذا الاستفهام من باب حسن الأدب مع ذي القرنين. وقرئ
" خراجا ". قال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة ويقع على مال الفئ، ويقع على الجزية وعلى الغلة. والخراج
أيضا اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال، والخرج المصدر. وقال قطرب: الخرج الجزية والخراج في الأرض،
وقيل الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله، والخراج ما يجبيه السلطان، وقيل هما بمعنى واحد (على أن تجعل بيننا
وبينهم سدا) أي ردما حاجزا بيننا وبينهم. وقرئ سدا بفتح السين. قال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم،
والفتح المصدر. وقال الكسائي: الفتح والضم لغتان بمعنى واحد، وقد سبق قريبا ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء
وأبي عبيدة وابن الأنباري من الفرق بينهما. وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو سد بالضم، وما لا ترى فهو
سد بالفتح، وقد قدمنا بيان من قرأ بالفتح وبالضم في السدين (قال ما مكنى فيه ربى) أي قال لهم ذو القرنين:
ما بسطه الله لي من القدرة والملك (خير) من خرجكم، ثم طلب منهم المعاونة له فقال (فأعينوني بقوة) أي برجال
منكم يعملون بأيديهم، أو أعينوني بآلات البناء، أو بمجموعهما. قال الزجاج: بعمل تعملونه معي. قرأ ابن
كثير وحده " ما مكنني " بنونين، وقرأ الباقون بنون واحد (أجعل بينكم وبينهم ردما) هذا جواب الأمر،
والردم: ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل. قال الهروي: يقال ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردما: أي
سددتها، والردم أيضا الاسم، وهو السد، وقيل الردم أبلغ من السد، إذ السد كل ما يسد به، والردم: وضع
الشئ على الشئ من حجارة أو تراب أو نحوهما حتى يقوم من ذلك حجاب منيع، ومنه ردم ثوبه: إذا رقعه
برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض، ومنه قول عنترة: * هل غادر الشعراء من متردم *
أي من قول يركب بعضه على بعض (آتوني زبر الحديد) أي أعطوني وناولوني، وزبر الحديد جمع زبرة،
وهى القطعة. قال الخليل: الزبرة من الحديد القطعة الضخمة. قال الفراء: معنى (آتوني زبر الحديد) ائتوني بها
فلما ألقيت الياء زيدت ألفا، وعلى هذا فانتصاب زبر بنزع الخافض (حتى إذا ساوى بين الصدفين) والصدفان:
312

جانبا الجبل. قال الأزهري: يقال لجانبي الجبل صدفان إذا تحاذيا لتصادفهما: أي تلاقيهما، وكذا قال
أبو عبيدة والهروي. قال الشاعر:
كلا الصدفين ينفده سناها * توقد مثل مصباح الظلام
وقد يقال لكل بناء عظيم مرتفع صدف، قاله أبو عبيدة. قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص الصدفين بفتح
الصاد والدال. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب واليزيدي وابن محيصن بضم الصاد والدال. وقرأ
عاصم في رواية أبي بكر بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال، واختار القراءة
الأولى أبو عبيد لأنها أشهر اللغات. ومعنى الآية: أنهم أعطوه زبر الحديد، فجعل يبني بها بين الجبلين حتى
ساواهما (قال انفخوا) أي قال للعملة انفخوا على هذه الزبر بالكيران (حتى إذا جعله نارا) أي جعل ذلك
المنفوخ فيه. وهو الزبر نارا: أي كالنار في حرها وإسناد الجعل إلى ذي القرنين مجاز لكونه الآمر بالنفخ. قيل
كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد
عليه صار كالنار، ثم يؤتى بالنحاس المذاب فيفرغه على تلك الطاقة، وهو معنى قوله (قال آتوني أفرغ عليه قطرا)
قال أهل اللغة: القطر النحاس الذائب، والإفراغ: الصب، وكذا قال أكثر المفسرين. وقالت طائفة: القطر
الحديد المذاب. وقالت فرقة أخرى منهم ابن الأنباري: هو الرصاص المذاب (فما اسطاعوا) أصله استطاعوا،
فلما اجتمع المتقاربان وهما التاء والطاء خففوا بالحذف. قال ابن السكيت: يقال ما أستطيع، وما أسطيع،
وما أستيع. حديث وبالتخفيف قرأ الجمهور وقرأ حمزة وحده " فما اسطاعوا " بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا فأدغم
التاء في الطاء وهى قراءة ضعيفة الوجه، قال أبو علي الفارسي: هي غير جائزة. وقرأ الأعمش " فما استطاعوا " على
الأصل، ومعنى (أن يظهروه) أن يعلوه: أي فما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا على ذلك الردم لارتفاعه
وملاسته (وما استطاعوا له نقبا) يقال نقبت الحائط: إذا خرقت فيه خرقا فخلص إلى ما وراءه. قال الزجاج:
ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وانملاسه، وما استطاعوا أن ينقبوه من أسفله لشدته وصلابته (قال هذا رحمة من
ربى) أي قال ذو القرنين مشيرا إلى السد: هذا السد رحمة من ربي: أي أثر من آثار رحمته لهؤلاء المتجاوزين للسد
ولمن خلفهم ممن يخشى عليه معرتهم لو لم يكن ذلك السد، وقيل الإشارة إلى التمكين من بنائه (فإذا جاء وعد ربى) أي أجل ربي
أن يخرجوا منه، وقيل هو مصدر بمعنى المفعول، وهو يوم القيامة (جعله دكاء) أي مستويا بالأرض
ومنه قوله - حتى إذا دكت الأرض دكا -. قال الترمذي: أي مستويا، يقال ناقة دكاء: إذا ذهب سنامها.
وقال القتيبي أي جعله مدكوكا ملصقا بالأرض. وقال الحليمي: قطعا متكسرا. قال الشاعر:
* هل غير غار دك غارا فانهدم * قال الأزهري: دككته: أي دققته. ومن قرأ دكاء بالمد وهو عاصم
وحمزة والكسائي أراد التشبيه بالناقة الدكاء، وهى التي لا سنام لها: أي مثل دكاء: لأن السد مذكر فلا يوصف
بدكاء. وقرأ الباقون " دكا " بالتنوين على أنه مصدر، ومعناه ما تقدم، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الحال:
أي مدكوكا (وكان وعد ربى حقا) أي وعده بالثواب والعقاب، أو الوعد المعهود حقا ثابتا لا يتخلف، وهذا
آخر قول ذي القرنين.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (حتى إذا بلغ بين السدين) قال: الجبلين أرمينية وأذربيجان.
وأخرج أيضا عن ابن جريج (لا يكادون يفقهون قولا) قال: الترك. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: يأجوج ومأجوج شبر وشبران وأطولهم ثلاثة أشبار، وهم من ولد آدم
313

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث وابن عساكر عن ابن عمرو عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم،
ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا، وإن من ورائهم ثلاث أمم: تأويل، وتاريس، ومنسك ".
وأخرج النسائي من حديث عمرو بن أوس عن أبيه مرفوعا " أنه لا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعد "
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي
في البعث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض
يحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستفتحونه غدا،
فيعودون إليه أشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون
شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستفتحونه غدا إن شاء الله، ويستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته
حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون
بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء، فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسرا وعلوا،
فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فوالذي نفس محمد بيده إن
دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكرا من لحومهم " وقد ثبت في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش
قالت " استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل
للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق، قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا
الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث " وأخرجا نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعا. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فهل نجعل لك خرجا) قال: أجرا عظيما. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله
(ردما) قال: هو كأشد الحجاب. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (زبر الحديد) قال:
قطع الحديد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (بين الصدفين). قال: الجبلين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: رؤوس الجبلين. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله (قطرا) قال
النحاس: وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة (فما استطاعوا أن يظهروه) قال: أن يرتقوه. وأخرج ابن
المنذر عن ابن جريج قال: أن يعلوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (جعله دكاء) قال: لا أدري
الجبلين يعني به أم بينهما.
سورة الكهف الآية (99 - 104)
314

سورة الكهف الآية (105 - 108)
قوله (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) هذا من كلام الله سبحانه بعد انقضاء كلام ذي القرنين،
والضمير في بعضهم ليأجوج ومأجوج: أي تركنا بعض يأجوج ومأجوج يوم مجئ الوعد، أو يوم خروج
يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم، يقال ماج الناس: إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج الماء.
والمعنى أنهم يضطربون ويختلطون، وقيل الضمير في بعضهم للخلق، واليوم يوم القيامة: أي وجعلنا بعض الخلق
من الجن والإنس يموج في بعض، وقيل المعنى: وتركنا يأجوج ومأجوج يوم كمال السد وتمام عمارته بعضهم
يموج في بعض، وقد تقدم تفسير (ونفخ في الصور) في الأنعام، قيل هي النفخة الثانية بدليل قوله بعد (فجمعناهم
جمعا) فإن الفاء تشعر بذلك، ولم يذكر النفخة الأولى لأن المقصود هنا ذكر أحوال القيامة.
والمعنى جمعنا الخلائق بعد تلاشي أبدانهم ومصيرها ترابا جمعا تاما على أكمل صفة وأبدع هيئة وأعجب أسلوب
(وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) المراد بالعرض هنا الإظهار: أي أظهرنا لهم جهنم حتى شاهدوها يوم جمعنا
لهم، وفى ذلك وعيد للكفار عظيم لما يحصل معهم عند مشاهدتها من الفزع والروعة ثم وصف الكافرين المذكورين
بقوله (الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى) أي كانت أعينهم في الدنيا في غطاء وهو ما غطى الشئ وستره من
جميع الجوانب عن ذكرى عن سبب ذكرى وهو الآيات التي يشاهدها من له تفكر واعتبار فيذكر الله بالتوحيد
والتمجيد، فأطلق المسبب على السبب، أو عن القرآن العظيم، وتأمل معانيه وتدبر فوائده. ثم لما وصفهم سبحانه
بالعمى عن الدلائل التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما، أراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال (وكانوا
لا يستطيعون سمعا) أي لا يقدرون على الاستماع لما فيه الحق من كلام الله وكلام رسوله، وهذا أبلغ مما لو قال
وكانوا صما، لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به. وهؤلاء لا استطاعة لهم بالكلية، وفى ذكر غطاء الأعين
وعدم استطاعة السماع تمثيل لتعاميهم عن المشاهدة بالأبصار وإعراضهم عن الأدلة السمعية (أفحسب الذين كفروا)
الحسبان هنا بمعنى الظن. والاستفهام للتقريع والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر كنظائره. والمعنى: أفظنوا أنهم
ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردهم عن قبول الحق، ومعنى (أن يتخذوا عبادي من
دوني) أي يتخذوهم من دون الله، وهم الملائكة والمسيح والشياطين (أولياء) أي معبودين، قال الزجاج:
المعنى أيحسبون أن ينفعهم، ذلك وقرئ " أفحسب " بسكون السين، ومعناه أكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم
أولياء على أنه مبتدأ وخبر، يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا (إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا)
أي هيأناها لهم نزلا يتمتعون به عند ورودهم. قال الزجاج: النزل المأوى والمنزل، وقيل إنه الذي يعد للضيف،
فيكون تهكما بهم كقوله - فبشرهم بعذاب أليم -، والمعنى: أن جهنم معدة لهم عندنا كما يعد النزل للضيف (قل
هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) انتصاب أعمالا على التمييز، والجمع للدلالة على إرادة الأنواع منها، ومحل الموصول
و هو (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا) الرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف، كأنه قيل من هم؟ فقيل هم الذين ضل
315

سعيهم، والمراد بضلال السعي بطلانه وضياعه، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم، ويكون الجواب
(أولئك الذين كفروا بآيات ربهم) ويجوز أن يكون في محل جر على أنه نعت للأخسرين أو بدل منه، ويكون
الجواب أيضا هو أولئك وما بعده، وأول هذه الوجوه هو أولاها، وجملة (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) في
محل نصب على الحال من فاعل ضل: أي والحال أنهم يظنون أنهم محسنون في ذلك منتفعون بآثاره، وتكون
جملة (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم) مستأنفة مسوقة لتكميل الخسران وبيان سببه، هذا على الوجه الأول
الراجح لا على الوجوه الآخرة، فإنها هي الجواب كما قدمنا، ومعنى كفرهم بآيات ربهم: كفرهم بدلائل
توحيده من الآيات التكوينية والتنزيلية، ومعنى كفرهم بلقائه كفرهم بالبعث وما بعده من أمور الآخرة، ثم رتب
على ذلك قوله (فحبطت أعمالهم) أي التي عملوها مما يظنونه حسنا، وهو خسران وضلال، ثم حكم عليهم بقوله
(فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) أي لا يكون لهم عندنا قدر ولا نعبأ بهم، وقيل لا يقام لهم ميزان توزن به أعمالهم، لأن
ذلك إنما يكون لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين، وهؤلاء لا حسنات لهم. قال ابن الأعرابي: العرب تقول
ما لفلان عندنا وزن: أي قدر لخسته، ويوصف الرجل بأنه لا وزن له لخفته، وسرعة طيشه، وقلة تثبته.
والمعنى على هذا أنهم لا يعتد بهم ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة، وقرأ مجاهد " يقيم " بالياء التحتية: أي فلا
يقيم الله، وقرأ الباقون بالنون. ثم بين سبحانه عاقبة هؤلاء وما يؤول إليه أمرهم فقال (ذلك) أي الذي ذكرناه من
أنواع الوعيد جزاؤهم، ويكون قوله: جهنم عطف بيان للجزاء، أو جملة جزاؤهم جهنم مبتدأ وخبر والجملة
خبر ذلك، والسبب في ذلك أنهم ضموا إلى الكفر اتخاذ آيات الله واتخاذ رسله هزوا، فالباء في (بما كفروا)
للسببية، ومعنى كونهم هزوا أنهم مهزوء بهم. وقد اختلف السلف في تعيين هؤلاء الأخسرين أعمالا، فقيل
اليهود والنصارى، وقيل كفار مكة، وقيل الخوارج، وقيل الرهبان أصحاب الصوامع، والأولى حمل الآية على
العموم لكل من اتصف بتلك الصفات المذكورة. ثم ذكر سبحانه بعد هذا الوعيد لهؤلاء الكفار الوعد للمؤمنين
فقال (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي جمعوا بينهما حتى كانوا على ضد صفة من قبلهم (كانت لهم) قال
ابن الأنباري: كانت فيما سبق من علم الله كانت لأهل طاعته (جنات الفردوس نزلا) قال المبرد: الفردوس فيما
سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب. واختار الزجاج ما قاله مجاهد: إن الفردوس البستان
باللغة الرومية، وقد تقدم بيان النزل، وانتصابه على أنه خبر كان. والمعنى: كانت لهم ثمار جنة الفردوس نزلا
معدا لهم مبالغة في إكرامهم، وانتصاب (خالدين فيها) على الحال، وكذلك جملة (لا يبغون عنها حولا) في محل
نصب على الحال، والحول مصدر: أي لا يطلبون تحولا عنها إذ هي أعز من أن يطلبوا غيرها، أو تشتاق أنفسهم
إلى سواها. قال ابن الأعرابي وابن قتيبة والأزهري: الحول اسم بمعنى التحول يقوم مقام المصدر، وقال
أبو عبيدة والفراء: إن الحول التحويل.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس في قوله
(وتركنا بعضهم) الآية قال: الجن والإنس (يموج) بعضهم (في بعض). وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (لا يستطيعون سمعا) قال: يعقلون سمعا. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور
وابن المنذر عن علي أنه قرأ (أفحسب الذين كفروا) قال أبو عبيد بجزم السين وضم الباء. وأخرج أبو عبيد وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قرأ كذلك. وأخرج عبد الرزاق والبخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه من طريق مصعب بن سعد قال: سألت أبى (قل هل ننبئكم بالأخسرين
316

أعمالا) أهم الحرورية؟ قال: لا هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، وأما
النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية - الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه -،
وكان سعد يسميهم الفاسقين. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه وابن مردويه عن مصعب قال: قلت لأبى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) الحرورية هم؟ قال: لا
ولكنهم أصحاب الصوامع، والحرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي
حميصة عبد الله بن قيس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: في هذه الآية (قل هل ننبئكم بالأخسرين
أعمالا) إنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري. وأخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: سمعت علي
ابن أبي طالب وسأله ابن الكوا فقال (هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) قال: فجرة قريش. وأخرج عبد الرزاق
والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريقين عن علي أنه سئل عن هذه الآية (قل هل ننبئكم
بالأخسرين أعمالا) قال: لا أظن إلا أن الخوارج منهم، وفى الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " قال إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرءوا
إن شئتم (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني
والحاكم وابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " سلوا الله الفردوس، فإنها سرة
الجنة، وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش " وفى الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش
الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة " وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد والترمذي وابن جرير والحاكم
والبيهقي وابن مردويه عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن في الجنة مائة درجة، كل
درجة منها ما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومن فوقها يكون العرش، ومنه تفجر أنهار الجنة
الأربعة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس " والأحاديث بهذا المعنى كثيرة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن مجاهد قال: الفردوس بستان بالرومية. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال: هو الكرم بالنبطية،
وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر عن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس سأل كعبا عن الفردوس قال: هي
جنات الأعناب بالسريانية، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (لا يبغون عنها
حولا) قال: متحولا.
سورة الكهف الآية (109 - 110)
لما ذكر سبحانه أنواع الدلائل نبه على كمال القرآن فقال (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى) قال ابن
الأنباري: سمى المداد مدادا لإمداده الكاتب. وأصله من الزيادة ومجئ الشئ بعد الشئ، ويقال للزيت الذي
يوقد به السراج مداد. والمراد بالبحر هنا الجنس. والمعنى: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته، وفرض أن جنس
البحر مدادا لها لنفد البحر قبل نفود الكلمات، ولو جئنا بمثل البحر مدادا لنفد أيضا، وقيل في بيان المعنى لو كان
البحر مدادا للقلم والقلم يكتب (لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى) وقوله (ولو جئنا بمثله مددا) كلام من
317

جهته سبحانه غير داخل تحت قوله " قل لو كان " وفيه زيادة مبالغة وتأكيد، والواو لعطف ما بعده على جملة
مقدرة مدلول عليها بما قبلها: أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجئ بمثله مدادا ولو جئنا بمثله مدادا،
والمدد الزيادة، وقيل عنى سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحدا
فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد، وقد عبرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع. قال الأعشى:
ووجه نقي اللون صاف يزينه * مع الجيد لبات لها ومعاصم
فعبر باللبات عن اللبة. قال الجبائي: إن قوله (قبل أن تنفد كلمات ربى) يدل على أن كلماته قد تنفد
في الجملة، وما ثبت عدمه امتنع قدمه. وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على متعلقات تلك الصفة الأزلية، وقيل
في الجواب إن نفاد شئ قبل نفاد شئ آخر لا يدل على نفاد الشئ الآخر، ولا على عدم نفاده، فلا يستفاد من
الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا تضبطها عقول البشر، أما أنها متناهية، أو غير متناهية فلا دليل على ذلك
في الآية. والحق أن كلمات الله تابعة لمعلوماته، وهى غير متناهية، فالكلمات غير متناهية. وقرأ مجاهد وابن
محيصن وحميد " ولو جئنا بمثله مددا " وهى كذلك في مصحف أبى، وقرأ الباقون " مددا " وقرأ حمزة والكسائي " قبل
أن ينفد " بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسلك مسلك التواضع،
فقال (قل إنما أنا بشر مثلكم) أي إن حالي مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية، ومن كان هكذا فهو
لا يدعى الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه فقال (يوحى إلى) وكفى بهذا
الوصف فارقا بينه وبين سائر أنواع البشر، ثم بين أن الذي أوحى إليه هو قوله (إنما إلهكم إله واحد) لا شريك له
في ألوهيته، وفى هذا إرشاد إلى التوحيد، ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد فقال (فمن كان يرجوا لقاء ربه)
الرجاء توقع وصول الخير في المستقبل، والمعنى: من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين (فليعمل عملا
صالحا) وهو ما دل الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) من خلقه سواء كان
صالحا، أو طالحا، حيوانا أو جمادا، قال الماوردي: قال جميع أهل التأويل في تفسير هذه الآية: إن المعنى
لا يرائي بعمله أحدا. وأقول: إن دخول الشرك الجلي الذي كان يفعله المشركون تحت هذه الآية هو المقدم على
دخول الشرك الخفي الذي هو الرياء، ولا مانع من دخول هذا الخفي تحتها، إنما المانع من كونه هو المراد بهذه الآية.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (لكلمات ربى) يقول: علم ربى. وأخرج ابن أبي
حاتم عن قتادة في الآية قال: يقول ينفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام الله وحكمته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي
حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (فمن كان يرجوا لقاء ربه) الآية قال: أنزلت
في المشركين الذين عبدوا مع الله إلها غيره، وليست هذه في المؤمنين. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن
عباس قال " قال رجل: يا نبي الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله، وأحب ان يرى موطني، فلم يرد عليه شيئا
حتى نزلت هذه الآية (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) " وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة وابن عساكر من
طريق السدى الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو
تصدق فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لقالة الناس فلا يريد به الله، فنزل في ذلك (فمن كان يرجوا لقاء ربه)
الآية. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: " قال رجل: يا رسول الله أعتق وأحب أن يرى، وأتصدق وأحب
أن يرى، فنزلت (فمن كان يرجوا لقاء ربه) الآية " وهو مرسل. وأخرجه هناد في الزهد عنه أيضا. وأخرج ابن
سعد وأحمد والترمذي وابن ماجة والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة:
318

سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى مناد:
من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ". وأخرج
الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة " أن رجلا قال: يا رسول الله الرجل يجاهد في سبيل الله وهو يبتغى عرضا
من الدنيا؟ فقال: لا أجر له، فأعظم الناس ذلك، فعاد الرجل فقال: لا أجر له " وأخرج ابن أبي الدنيا في
الإخلاص وابن جرير في تهذيبه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن شداد بن أوس قال: كنا
نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشرك الأصغر. وأخرج الطيالسي وأحمد وابن أبي الدنيا
والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن شداد بن أوس أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يقول " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك. ومن تصدق يرائي فقد أشرك، ثم قرأ
(فمن كان يرجوا لقاء ربه) الآية ". وأخرج الطيالسي وأحمد وابن مردويه وأبو نعيم عن شداد أيضا قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئا فإن عمله
قليله وكثيره لشريكه الذي أشركه أنا عنه غنى ". وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وابن جرير في تهذيبه والحاكم
وصححه والبيهقي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم
عندي من المسيح الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلى لمكان رجل ". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني
والحاكم وصححه والبيهقي عن شداد بن أوس سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " أتخوف على أمتي
الشرك والشهوة الخفية، قلت: أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا
وثنا، ولكن يراءون الناس بأعمالهم، قلت: يا رسول الله ما الشهوة الخفية؟ قال: يصبح أحدهم صائما فتعرض له
شهوة من شهواته فيترك صومه ويواقع شهوته ". وأخرج أحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه
والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه أنه قال " أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك
فيه غيري فأنا برئ منه، وهو للذي أشرك " وفى لفظ " فمن أشرك بي أحدا فهو له كله " وفى الباب أحاديث كثيرة
في التحذير من الرياء وأنه الشرك الأصغر، وأن الله لا يقبله، وقد استوفاها صاحب الدر المنثور في هذا الموضع
فليرجع إليه، ولكنها لا تدل على أنه المراد بالآية، بل الشرك الجلي يدخل تحتها دخولا أوليا، وعلى فرض أن سبب
النزول هو الرياء كما يشير إلى ذلك ما قدمنا، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في علم الأصول
وقد ورد في فضائل هذه الآية بخصوصها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه عن أبي حكيم قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم ". وأخرج ابن راهويه والبزار
والحاكم وصححه والشيرازي في الألقاب وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " من قرأ في ليلة (فمن كان يرجوا لقاء ربه) الآية، كان له نور من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة " قال
ابن كثير بعد إخراجه: غريب جدا. وأخرج ابن الضريس عن أبي الدرداء قال: من حفظ خاتمة الكهف كان له
نور يوم القيامة من لدن قرنه إلى قدمه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن معاوية بن أبي سفيان أنه تلا هذه الآية
(فمن كان يرجوا لقاء ربه) وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن. قال ابن كثير: وهذا أثر مشكل، فإن هذه
الآية هي آخر سورة الكهف، والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها ما ينسخها ولا يغير
حكمها، بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه
319

تفسير سورة مريم
هي مكية وآياتها ثمان وتسعون آية
أخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت بمكة سورة (كهيعص). وأخرج ابن مردويه عن
ابن الزبير قال: نزلت سورة مريم بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله. وأخرج أحمد وابن أبي حاتم
والبيهقي في الدلائل عن أم سلمة أن النجاشي قال لجعفر بن أبي طالب: هل معك مما جاء به: يعنى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عن الله شئ؟ قال: نعم، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) فبكى النجاشي حتى أخضل
لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به
موسى ليخرج عن مشكاة واحدة. وقد ذكر ابن إسحاق القصة بطولها.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة مريم الآية (1 - 11)
قوله (كهيعص) قرأ أبو جعفر هذه الحروف مقطعة. ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء.
وعكس ذلك ابن عامر وحمزة، وأمالهما جميعا الكسائي وأبو بكر وخلف، وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة وفتحهما
الباقون. وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف، وحكى عن غيره أنه كان يضم ها. وقال أبو حاتم: لا يجوز
ضم الكاف ولا الهاء ولا الياء. قال النحاس: قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا، والإمالة جائزة في هاو في يا
وقد اعترض على قراءة الحسن جماعة. وقيل في تأوليها أنه كان يشم الرفع فقط. وأظهر الدال من هجاء صاد نافع
وأبو جعفر وابن كثير وعاصم ويعقوب. وهو اختيار أبى عبيد وأدغمها الباقون. وقد قيل في توجيه هذه القراءات
320

أن التفخيم هو الأصل، والإمالة فرع عنه، فمن قرأ بتفخيم الهاء والياء فقد عمل بالأصل، ومن أمالهما فقد عمل
بالفرع، ومن أمال أحدهما وفخم الآخر فقد عمل بالأمرين، وقد تقدم الكلام في هذه الحروف الواقعة في
فواتح السورة مستوفى في أوائل البقرة، ومحل هذه الفاتحة إن جعلت اسما للسورة على ما عليه الأكثر الرفع
على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها، قاله الفراء. واعترضه الزجاج فقال: هذا محال لأن كهيعص ليس هو مما أنبأنا الله
عز وجل به عن زكرياء، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عنه وعما بشر به، وليس كهيعص من قصته، أو على أنها
خبر مبتدأ محذوف، وإن جعلت مسرودة على نمط التعديد، فقوله (ذكر رحمة ربك) خبر لمبتدأ محذوف: أي
هذا ذكر رحمة ربك. وقيل هو مبتدأ خبره محذوف: أي فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربك. قال الزجاج: ذكر
مرتفع بالمضمر، والمعنى: هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك (عبده زكرياء) يعنى إجابته إياه حين دعاه
وسأله الولد، وانتصاب عبده على أنه مفعول للرحمة قاله الأخفش. وقيل للذكر. ومعنى ذكر الرحمة بلوغها
وإصابتها، كما يقال ذكرني معروف فلان: أي بلغني. وقرأ يحيى بن يعمر " ذكر " بالنصب، وقرأ أبو العالية
عبده بالرفع على أن المصدر مضاف إلى المفعول، وفاعل الذكر هو عبده، وزكرياء على القراءتين عطف بيان له
أو بدل منه، وقرأ الكلبي " ذكر " على صيغة الفعل الماضي مشددا ومخففا على أن الفاعل عبده، وقرأ ابن معمر
على الأمر، وتكون الرحمة على هذا عبارة عن زكرياء، لأن كل نبي رحمة لأمته (إذ نادى ربه نداء خفيا) العامل
في الظرف رحمة، وقيل ذكر، وقيل هو بدل اشتمال من زكرياء. واختلف في وجه كون ندائه هذا خفيا، فقيل
لأنه أبعد عن الرياء، وقيل أخفاه، لئلا يلام على طلبه للولد في غير وقته، ولكونه من أمور الدنيا، وقيل أخفاه
مخافة من قومه، وقيل كان ذلك منه لكونه قد صار ضعيفا هرما لا يقدر على الجهر (قال رب إني وهن العظم منى)
هذه الجملة مفسرة لقوله: نادى ربه، يقال وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن، وقرئ بالحركات الثلاث،
أراد أن عظامه فترت وضعفت قوته، وذكر العظم، لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنانه، فإذا وهن
تداعى وتساقطت قوته ولأن أشد ما في الإنسان صلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، ووحد العظم قصدا إلى
الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام (واشتعل الرأس شيبا) قرأ أبو عمرو بإدغام السين في الشين،
والباقون بعدمه، والاشتعال في الأصل انتشار شعاع النار، فشبه به انتشار بياض شعر الرأس في سواده بجامع
البياض والإنارة، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكناية، بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه، وهذه الاستعارة من
أبدع الاستعارات وأحسنها. قال الزجاج: يقال للشيب إذا كثر جدا قد اشتعل رأس فلان، وأنشد للبيد:
فإن ترى رأسي أمسى واضحا * سلط الشيب عليه فاشتعل
مع وانتصاب شيبا على التمييز قاله الزجاج. وقال الأخفش: انتصابه على المصدر، لأن معنى اشتعل شاب. قال
النحاس: قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل، والمصدرية أظهر فيما كان كذلك، وكان الأصل اشتعل
شيب رأسي، فأسند الإشتعال إلى الرأس لإفادة الشمول (ولم أكن بدعائك رب شقيا) أي لم أكن بدعائي إياك
خائبا في وقت من الأوقات، بل كلما دعوتك استجبت لي.
قال العلماء: يستحب للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع، وذكر نعم الله عليه كما فعل زكرياء هاهنا،
فإن في قوله (وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا) غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن نيل
مطالبه. وبلوغ مآربه. وفى قوله (ولم أكن بدعائك رب شقيا) ذكر ما عوده الله من الإنعام عليه بإجابة أدعيته،
يقال شقى بكذا: أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده منه (وإني خفت الموالي من ورائي) قرأ عثمان بن عفان ومحمد
321

ابن علي بن الحسين وأبوه علي ويحيى بن يعمر " خفت " بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وفاعله (الموالي) أي
قلوا وعجزوا عن القيام بأمر الدين بعدي، أو انقطعوا بالموت، مأخوذا من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه
قراءة شاذة بعيدة عن الصواب. وقرأ الباقون " خفت " بكسر الخاء وسكون الفاء على أن فاعله ضمير يعود إلى
زكرياء، ومفعوله الموالي، ومن ورائي متعلق بمحذوف لا بخفت، وتقديره: خفت فعل الموالي من بعدي. قرأ
الجمهور " ورائي " بالهمز والمد وسكون الياء، وقرأ ابن كثير بالهمز والمد وفتح الياء. وروى عنه أنه قرأ بالقصر
مفتوح الياء، مثل عصاي، والموالي هنا هم الأقارب الذين يرثون وسائر العصبات من بني العم ونحوهم، والعرب
تسمى هؤلاء موالي، قال الشاعر
مهلا بنى عمنا مهلا موالينا * لا تنشروا سعيد بيننا ما كان مدفونا
قيل الموالي الناصرون له. واختلفوا في وجه المخافة من زكرياء لمواليه من بعده، فقيل خاف أن يرثوا ماله،
وأراد أن يرثه ولده، فطلب من الله سبحانه أن يرزقه ولدا وقال آخرون: إنهم كانوا مهملين لأمر الدين،
فخاف أن يضيع الدين بموته، فطلب وليا يقوم به بعد موته. وهذا القول أرجح من الأول لأن الأنبياء لا يورثون
وهم أجل من أن يعتنوا بأمور الدنيا، فليس المراد هنا وراثة المال، بل المراد وراثة العلم والنبوة والقيام بأمر
الدين وقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " (وكانت
امرأتي عاقرا) العاقر: هي التي لا تلد لكبر سنها، والتي لا تلد أيضا لغير كبر وهى المرادة هنا، ويقال للرجل
الذي لا يلد عاقرا أيضا، ومنه قول عامر بن الطفيل: * لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا * قال ابن جرير:
وكان اسم امرأته أشاع بنت فاقود بن ميل، وهى أخت حنة، وحنة هي أم مريم. وقال القتيبي: هي أشاع بنت
عمران، فعلى القول يكون يحيى بن زكرياء ابن خالة أم عيسى، وعلى القول الثاني يكونان ابني خالة كما ورد في
الحديث الصحيح (فهب لي من لدنك وليا) أي أعطني من فضلك وليا، ولم يصرح بطلب الولد لما علم من نفسه
بأنه قد صار هو وامرأته في حالة لا يجوز فيها حدوث الولد بينهما وحصوله منهما. وقد قيل إنه كان ابن بضع
وتسعين سنة، وقيل بل أراد بالولي الذي طلبه هو الولد، ولا مانع من سؤال من كان مثله لما هو خارق للعادة،
فإن الله سبحانه قد يكرم رسله بما يكون كذلك، فيكون من جملة المعجزات الدالة على صدقهم (يرثني ويرث من
آل يعقوب) قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة وابن محيصن واليزيدي ويحيى بن المبارك بالرفع في
الفعلين جميعا على أنهما صفتان للولي وليسا بجواب للدعاء، وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى ابن وثاب
والأعمش والكسائي بالجزم فيهما على أنهما جواب للدعاء. ورجح القراءة الأولى أبو عبيد وقال: هي أصوب في
المعنى، لأنه طلب وليا هذه صفته فقال: هب لي الذي يكون وارثي. ورجح ذلك النحاس وقال: لأن جواب
الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة، تقول أطع الله يدخلك الجنة: أي إن تطعه يدخلك الجنة، وكيف
يخبر الله سبحانه بهذا، أعني كونه أن يهب له وليا يرثه، وهو أعلم بذلك، والوراثة هنا هي وراثة العلم والنبوة
على ما هو الراجح كما سلف. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن يعقوب المذكور هنا هو يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم. وزعم بعض المفسرين أنه يعقوب بن ما ثان أخو عمران بن ما ثان، وبه قال الكلبي ومقاتل، وآل يعقوب
هم خاصته الذين يؤول أمرهم إليه للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، وقد كان فيهم أنبياء وملوك، وقرئ
322

يرثني وارث من آل يعقوب على أنه فاعل يرثني. وقرئ " وارث آل يعقوب " أي أنا. وقرئ " أو يرث آل يعقوب " بلفظ التصغير على أن هذا المصغر فاعل يرثني، وهذه القراءات في غاية الشذوذ لفظا ومعنى (واجعله
رب رضيا) أي مرضيا في أخلاقه وأفعاله، وقيل راضيا بقضائك وقدرك، وقيل رجلا صالحا ترضى عنه، وقيل
نبيا كما جعلت آباءه أنبياء (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى) قال جمهور المفسرين: إن هذا النداء من الله
سبحانه، وقيل إنه من جهة الملائكة، لقوله في آل عمران - فنادته الملائكة -، وفى الكلام حذف: أي فاستجاب
له دعاءه، فقال يا زكرياء، وقد تقدم في آل عمران وجه التسمية بيحيى وزكرياء. قال الزجاج: سمى يحيى لأنه
حيى بالعلم والحكمة التي أوتيها (لم نجعل له من قبل سميا) قال أكثر المفسرين: معناه لم نسم أحدا قبله يحيى. وقال
مجاهد وجماعة: معنى (لم نجعل له من قبل سميا) أنه لم يجعل له مثلا ولا نظيرا، فيكون على هذا مأخوذ من المساماة
أو السمو، ورد هذا بأنه يقتضى تفضيله على إبراهيم وموسى، وقيل معناه: لم تلد عاقر مثله، والأول أولى.
وفى إخباره سبحانه بأنه لم يسم بهذا الاسم قبله أحد فضيلة له من جهتين: الأولى أن الله سبحانه هو الذي تولى
تسميته به، ولم يكلها إلى الأبوين. والجهة الثانية أن تسميته باسم لم يوضع لغيره يفيد تشريفه وتعظيمه (قال رب
أني يكون لي غلام) أي كيف أو من أين يكون لي غلام؟ وليس معنى هذا الاستفهام الإنكار، بل التعجب من
قدرة الله وبديع صنعه، حيث يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في آل
عمران (وقد بلغت من الكبر عتيا) يقال عتا الشيخ يعتو عتيا إذا انتهى سنه وكبر، وشيخ عات إذا صار إلى حال
اليبس والجفاف، والأصل عتوا لأنه من ذوات الواو فأبدلوه ياء لكونها أخف، ومثل ما في الآية قول الشاعر:
إنما يعذر الوليد ولا يعذر * من كان في الزمان عتيا
وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص والأعمش " عتيا " بكسر العين، وقرأ الباقون بضم العين وهما
لغتان، ومحل جملة (وكانت امرأتي عاقرا) النصب على الحال من ضمير المتكلم، ومحل جملة (وقد بلغت من الكبر
عتيا) النصب أيضا على الحال، وكلا الجملتين لتأكيد الاستبعاد والتعجب المستفاد من قوله (أنى يكون لي غلام)
أي كيف يحصل بيننا ولد الآن، وقد كانت امرأتي عاقرا لم تلد في شبابها وشبابي وهى الآن عجوز، وأنا شيخ
هرم؟ ثم أجاب الله سبحانه على هذا السؤال المشعر بالتعجب والاستبعاد بقوله (قال كذلك قال ربك) الكاف في
محل رفع: أي الأمر كذلك. والإشارة إلى ما سبق من قول زكريا، ثم ابتدأ بقوله (قال ربك) ويحتمل أن يكون
محله النصب على المصدرية: أي قال قولا مثل ذلك، والإشارة بذلك إلى مبهم يفسره قوله (هو على هين) وأما
على الاحتمال الأول فتكون جملة (هو على هين) مستأنفة مسوقة لإزالة استبعاد زكريا بعد تقريره: أي قال هو
مع بعده عندك على هين، وهو فيعل من هان الشئ يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع من المراد. قال الفراء أي خلقه
على هين (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) هذه الجملة مقررة لما قبلها. قال الزجاج: أي فخلق الولد لك
كخلقك، والمعنى: أن الله سبحانه خلقه ابتداء وأوجده من العدم المحض، فإيجاد الولد له بطريق التوالد المعتاد
أهون من ذلك وأسهل منه، وإنما لم ينسب ذلك إلى آدم عليه السلام لكونه المخلوق من العدم حقيقة بأن يقول:
وقد خلقت أباك آدم من قبل ولم يك شيئا، للدلالة على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشاء آدم من العدم
قرأ أهل المدينة وأهل مكة والبصرة وعاصم وابن عامر " وقد خلقتك من قبل " وقرأ سائر الكوفيين " وقد خلقناك من
قبل " (قال رب اجعل لي آية) أي علامة تدلني على وقوع المسؤول وتحققه وحصول الحبل، والمقصود من هذا
السؤال تعريفه وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه. قال ابن الأنباري: وجه ذلك أن نفسه تاقت
323

إلى سرعة الأمر، فسأل الله آية يستدل بها على قرب ما من به عليه، وقيل طلب آية تدله على أن البشرى من الله
سبحانه لا من الشيطان، لأن إبليس أوهمه بذلك، كذا قال الضحاك والسدي وهو بعيد جدا (قال آيتك ألا تكلم
الناس ثلاث ليال سويا) قد تقدم تفسير هذا في آل عمران مستوفى، وانتصاب سويا على الحال، والمعنى: آيتك
أن لا تقدر على الكلام والحال أنك سوي الخلق ليس بك آفة تمنعك منه، وقد دل بذكر الليالي هنا والأيام
في آل عمران أن المراد ثلاثة أيام ولياليهن (فخرج على قومه من المحراب) وهو مصلاه، واشتقاقه من الحرب.
كأن ملازمه يحارب الشيطان، وقيل من الحرب محركا، كأنه ملازمه يلقى حربا وتعبا ونصبا (فأوحى إليهم أن
سبحوا بكرة وعشيا) قيل معنى أوحى: أومأ بدليل قوله في آل عمران - إلا رمزا -، وقيل كتب لهم في الأرض
وبالأول قال الكلبي والقرظي وقتادة وابن منبه، وبالثاني قال مجاهد، وقد يطلق الوحي على الكتابة ومنه قول
ذي الرمة:
سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها * بقية وحى في بطون الصحائف
وقال عنترة: * كوحى وفي صحائف من عهد كسرى * فأهداها لأعجم طمطمي
و " أن " في قوله (أن سبحوا) مصدرية أو مفسرة، والمعنى: فأوحى إليهم بأن صلوا: أو أي صلوا، وانتصاب بكرة
وعشيا على الظرفية. قال الفراء: العشي يؤنث، ويجوز تذكيره إذا أبهم. قال: وقد يقال العشي جمع عشية، قيل
والمراد صلاة الفجر والعصر، وقيل المراد بالتسبيح هو قولهم سبحان الله في الوقتين: أي نزهوا ربكم طرفي النهار.
وقد أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله (كهيعص)
كبير هاد أمين عزيز صادق، وفى لفظ كاف بدل كبير. وأخرج عبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وعثمان بن
سعيد الدارمي في التوحيد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في
الأسماء والصفات عن ابن عباس (كهيعص) قال: كاف من كريم، وهاء من هاد، وياء من حكيم، وعين
من عليم، وصاد من صادق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة (كهيعص) هو الهجاء
المقطع، الكاف من الملك، والهاء من الله، والياء والعين من العزيز، والصاد من المصور. وأخرج ابن مردويه عن الكلبي
أنه سئل عن (كهيعص) فحدث عن أبي صالح عن أم هانئ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال
" كاف هاد عالم صادق ". وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي وابن ماجة وابن جرير عن فاطمة ابنة علي قالت: كان
علي يقول يا كهيعص اغفر لي. وأخرج أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن
ابن عباس في (كهيعص) قال: الكاف الكافي، والهاء الهادي، والعين العالم، والصاد الصادق. وأخرج
أبو عبيد وابن المنذر عن السدى قال: كان ابن عباس يقول في كهيعص وحم ويس وأشباه هذا: هو اسم الله
الأعظم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.
وكما وقع الخلاف في هذا وأمثاله بين الصحابة وقع بين من بعدهم ولم يصح مرفوعا في ذلك شئ. ومن
روى عنه من الصحابة في ذلك شئ فقد روى عن غيره ما يخالفه وقد يروى عن الصحابي نفسه التفاسير المتخالفة
المتناقضة في هذه الفواتح فلا يقوم شئ من ذلك حجة، بل الحق الوقف، ورد العلم في مثلها إلى الله سبحانه.
وقد قدمنا تحقيق هذا في فاتحة سورة البقرة. وأخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " كان زكريا نجارا ". وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: كان
324

آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا بن أزر بن مسلم من ذرية يعقوب دعا ربه سرا (قال رب إني وهن العظم منى) إلى
قوله (خفت الموالي) قال: وهم العصبة (يرثني) يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب، فنادته الملائكة، وهو جبريل:
إن الله يبشرك (بغلام اسمه يحيى) فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس من
الله إنما هو من الشيطان سخر بك، فشك وقال (أنى يكون لي غلام) يقول من أين يكون وقد بلغني الكبر وامرأتي
عاقر، قال الله (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا). وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وإني خفت
الموالي من ورائي) قال: الورثة: وهم عصبة الرجل. وأخرج الفريابي عنه قال: كان زكريا لا يولد له فسأل
ربه فقال (رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب
النبوة. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس
في قوله (لم نجعل له من قبل سميا) قال: مثلا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير
والحاكم وصححه وابن مردويه عنه قال: لا أدري كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ هذا الحرف
عتيا أو عسيا. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله (عتيا) قال: لبث زمانا في الكبر. وأخرج أيضا عن
السدى قال: هرما. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) قال: اعتقل
لسانه من غير مرض، وفى لفظ من غير خرس، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا
(فأوحى إليهم) قال: كتب لهم كتابا. وأخرج ابن أبي الدنيا والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله (أن
سبحوا) قال: أمرهم بالصلاة (بكرة وعشيا).
سورة مريم الآية (12 - 15)
قوله (يا يحيى) هاهنا حذف، وتقديره: وقال الله للمولود يا يحيى. أو فولد له مولود فبلغ المبلغ الذي يجوز
أن يخاطب فيه، فقلنا له يا يحيى. وقال الزجاج: المعنى فوهبنا له وقلنا له يا يحيى. والمراد بالكتاب التوراة لأنه المعهود
حينئذ، ويحتمل أن يكون كتابا مختصا به وإن كنا لا نعرفه الآن، والمراد بالأخذ إما الأخذ الحسي أو الأخذ من
حيث المعنى، وهو القيام بما فيه كما ينبغي، وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به، والإحجام
عن المنهي عنه، ثم أكده بقوله (بقوة) أي بجد وعزيمة واجتهاد (وآتيناه الحكم صبيا) المراد بالحكم الحكمة،
وهى الفهم للكتاب الذي أمر بأخذه وفهم الأحكام الدينية، وقيل هي العلم وحفظه والعمل به، وقيل النبوة،
وقيل العقل، ولا مانع من أن يكون الحكم صالحا لحمله على جميع ما ذكر. قيل كان يحيى عند هذا الخطاب له
ابن سنتين، وقيل ابن ثلاث (وحنانا من لدنا) معطوف على الحكم. قال جمهور المفسرين: الحنان الرحمة والشفقة
والعطف والمحبة، وأصله توقان النفس، مأخوذ من حنين الناقة على ولدها. قال أبو عبيدة: تقول حنانك يا رب
وحنانيك يا رب بمعنى واحد، يريد رحمتك. قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا * حنانيك بعض الشر أهون من بعض
325

وقال امرؤ القيس: ويمنحها بنو سلخ بن بكر * معيزهم حنانك ذا الحنان
قال ابن الأعرابي: الحنان مشددا من صفات الله عز وجل، والحنان مخففا: العطف والرحمة، والحنان الرزق
والبركة. قال ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله، ومنه قول زيد بن عمرو
ابن نفيل، والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا، يعني بلالا، لما مر به، وهو يعذب، وقيل إن القائل
لذلك هو ورقة بن نوفل. قال الأزهري: معنى ذلك لأترحمن عليه، ولأتعطفن عليه لأنه من أهل الجنة، ومثله
قول الحطيئة: تحنن علي هداك المليك * فإن لكل مقام مقالا
ومعنى (من عندنا) من جنابنا، قيل ويجوز أن يكون المعنى أعطيناه رحمة من لدنا كائنة في قلبه يتحنن بها على
الناس، ومنهم أبواه وقرابته حتى يخلصهم من الكفر (وزكاة) معطوف على ما قبله، والزكاة التطهير والبركة
والتنمية والبر: أي جعلناه مباركا للناس يهديهم إلى الخير، وقيل زكيناه بحسن الثناء عليه كتزكية الشهود،
وقيل صدقة تصدقنا به على أبويه قاله ابن قتيبة (وكان تقيا) أي متجنبا لمعاصي الله مطيعا له. وقد روى أنه لم
يعمل معصية قط (وبرا بوالديه) معطوف على تقيا، البر هنا بمعنى البار، فعل بمعنى فاعل، والمعنى: لطيفا بهما
محسنا إليهما (ولم يكن جبارا عصيا) أي لم يكن متكبرا ولا عاصيا لوالديه أو لربه، وهذا وصف له عليه السلام
بلين الجانب وخفض الجناح (وسلام عليه) قال ابن جرير وغيره: معناه أمان عليه من الله. قال ابن عطية
والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف وأنبه من الأمان، لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه،
وهو أقل درجاته، وإنما الشرف في أن يسلم الله عليه، ومعنى (يوم ولد) أنه أمن من الشيطان وغيره في ذلك
اليوم، أو أن الله حياه في ذلك اليوم، وهكذا معنى (يوم يموت) وهكذا معنى (يوم يبعث حيا) قيل أوحش
ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن: يوم ولد لأنه خرج مما كان فيه، ويوم يموت لأنه يرى قوما لم يكن قد عرفهم
وأحكاما ليس له بها عهد، ويوم يبعث لأنه يرى هول يوم القيامة. فخص الله سبحانه يحيى بالكرامة والسلامة في
المواطن الثلاثة.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (يا يحيى خذ الكتاب
بقوة) قال: بجد (وآتيناه الحكم صبيا) قال: الفهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: يقول
اعمل بما فيه من فرائض. وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار قال: اللب. وأخرج أبو نعيم والديلمي وابن
مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وآتيناه الحكم صبيا) قال: أعطي الفهم والعبادة
وهو ابن سبع سنين. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عن قتادة: بدلة وهو ابن ثلاث
سنين. وأخرج الحاكم في تاريخه من طريق نهشل بن سعد عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " قال الغلمان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال يحيى: ما للعب خلقنا، اذهبوا نصلي
فهو قول الله (وآتيناه الحكم صبيا) ". وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتى الحكم صبيا ". وأخرجه ابن أبي حاتم عن
ابن عباس موقوفا. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله (وحنانا قال:
لا أدري ما هو إلا أني أظنه يعطف الله على عبده بالرحمة، وقد فسرها جماعة من السلف بالرحمة. وأخرج
326

ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وزكاة) قال: بركة، وفى قوله (وكان تقيا) قال: طهر
فلم يعمل بذنب.
سورة مريم الآية (16 - 26)
قوله (واذكر في الكتاب مريم) هذا شروع في ابتداء خلق عيسى، والمراد بالكتاب هذه السورة: أي
أذكر يا محمد للناس في هذه السورة قصة مريم، ويجوز أن يراد بالكتاب جنس القرآن، وهذه السورة منه، ولما
كان الذكر لا يتعلق بالأعيان احتيج إلى تقدير مضاف يتعلق به الذكر. وهو قصة مريم، أو خبر مريم (إذ
انتبذت) العامل في الظرف هو ذلك المضاف المقدر، ويجوز أن يجعل بدل اشتمال من مريم، لأن الأزمان مشتملة
على ما فيها، ويكون المراد بمريم خبرها، وفى هذا الإبدال دلالة على تفخيم شأن الوقت لوقوع قصتها العجيبة فيه،
والنبذ الطرح والرمي. قال الله سبحانه - فنبذوه وراء ظهورهم - والمعنى أنها تنحت وتباعدت. وقال ابن قتيبة:
اعتزلت. وقيل انفردت. والمعاني متقاربة. واختلفوا في سبب انتباذها، فقيل لأجل أن تعبد الله سبحانه، وقيل
لتطهر من حيضها، و (من أهلها) متعلق بانتبذت، وانتصاب (مكانا شرقيا) على المفعولية للفعل المذكور: أي
مكانا من جانب الشرق، والشرق بسكون الراء: المكان الذي تشرق فيه الشمس، وإنما خص المكان بالشرق
لأنهم كانوا يعظمون جهة الشرق لأنها مطلع الأنوار، حكى معناه ابن جرير.
وقد اختلف الناس في نبوة مريم، فقيل إنها نبية بمجرد هذا الإرسال إليها ومخاطبتها للملك، وقيل لم تكن
نبية، لأنه إنما كلمها الملك وهو على مثال البشر. وقد تقدم الكلام في هذا في آل عمران (فاتخذت من دونهم
حجابا) أي اتخذت من دون أهلها حجابا يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة، أو حال التطهر من الحيض،
والحجاب الستر والحاجز (فأرسلنا إليها روحنا) هو جبريل عليه السلام، وقيل هو روح عيسى، لأن الله سبحانه
خلق الأرواح قبل الأجساد، والأول أولى لقوله (فتمثل لها بشرا سويا) أي تمثل جبريل لها بشرا مستوى الخلق لم
يفقد من نعوت بني آدم شيئا، قيل ووجه تمثل الملك لها بشرا أنها لا تطيق أن تنظر إلى الملك وهو على صورته، فلما
327

رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء، فاستعاذت بالله منه،
و (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) أي ممن يتقي الله ويخافه، وقيل إن تقيا اسم رجل صالح،
فتعوذت منه تعجبا، وقيل إنه اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت، والأول أولى. وجواب الشرط محذوف:
أي فلا تتعرض لي (قال إنما أنا رسول ربك) أي قال لها جبريل: إنما أنا رسول ربك الذي استعذت به، ولست
ممن يتوقع منه ما خطر ببالك من إرادة السوء (لأهب لك غلاما زكيا) جعل الهبة من قبله لكونه سببا فيها من جهة
كون الإعلام لها من جهته، أو من جهة كون النفخ قام به في الظاهر. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وورش عن نافع
" ليهب " على معنى أرسلني ليهب لك، وقرأ الباقون بالهمز. والزكي الطاهر من الذنوب الذي ينمو على النزاهة
والعفة، وقيل المراد بالزكي النبي (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر) أي لم يقربني زوج ولا غيره (ولم
أك بغيا) البغي هي الزانية التي تبغي الرجال. قال المبرد: أصله بغوي على فعول قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء
وكسرت الغين للمناسبة. وقال ابن جنى: إنه فعيل: وزيادة ذكر كونها لم تك بغيا مع كون قولها لم يمسسني بشر
يتناول الحلال والحرام لقصد التأكيد تنزيها لجانبها من الفحشاء، وقيل ما استبعدت من قدرة الله شيئا، ولكن
أرادت كيف يكون هذا الولد هل من قبل زوج تتزوجه في المستقبل أم يخلقه الله سبحانه ابتداء؟ وقيل إن المس
عبارة عن النكاح الحلال، وعلى هذا لا يحتاج إلى بيان وجه قولها: ولم أك بغيا، وما ذكرناه من شموله أولى
باستعمالات أهل اللغة وما يوجد في محاوراتهم مما يطول تعداده ا ه (ولنجعله آية للناس) أي ولنجعل هذا
الغلام أو خلقه من غير أب أية للناس يستدلون بها على كمال القدرة، وهو علة لمعلل محذوف، والتقدير خلقناه
لنجعله، أو معطوف على علة أخرى مضمرة تتعلق بما يدل عليه قوله سبحانه (وهو على هين) وجملة (قال كذلك
قال ربك هو على هين) مستأنفة، والقائل هو الملك، والكلام فيها كالكلام فيما تقدم من قول زكرياء. وقوله
(ورحمة منا) معطوف على آية: أي ولنجعله رحمة عظيمة كائنة منا للناس لما ينالونه منه من الهداية والخير الكثير،
لأن كل نبي رحمة لأمته (وكان أمرا مقضيا) أي وكان ذلك المذكور أمرا مقدرا قد قدره الله سبحانه وجف به
القلم (فحملته) ها هنا كلام مطوى، والتقدير: فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت
النفخة إلى بطنها فحملته، وقيل كانت النفخة في ذيلها، وقيل في فمها. قيل إن وضعها كان متصلا بهذا الحمل من
غير مضي مدة للحمل، ويدل على ذلك قوله (فانتبذت به مكانا قصيا) أي تنحت واعتزلت إلى مكان بعيد
والقصي هو البعيد. قيل كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل أبعد مكان في تلك الدار، وقيل أقصى الوادي، وقيل
إنها حملت به ستة أشهر، وقيل ثمانية أشهر، وقيل سبعة (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) أي ألجأها واضطرها،
ومنه قول زهير * أجاءته المخافة والرجاء * وقرأ شبل " فاجأها " من المفاجأة، ورويت هذه القراءة عن
عاصم، وقرأ الحسن بغير همز، وفي مصحف أبى " فلما أجاءها " قال في الكشاف: إن أجاءها منقول من جاء،
إلا أن استعماله قد تعين بعد النقل إلى معنى الإلجاء، وفيه بعد، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع
بوضع مستقل، والمخاض مصدر مخضت المرأة تمخض مخضا ومخاضا إذا دنا ولادها. وقرأ الجمهور بفتح الميم،
وقرأ ابن كثير بكسرها. والجذع ساق النخلة اليابسة، كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به كما تتعلق الحامل لشدة
وجع الطلق بشئ مما تجده عندها، والتعريف إما للجنس أو للعهد (قالت يا ليتني مت قبل هذا) أي قبل هذا
الوقت، تمنت الموت لأنها خافت أن يظن بها السوء في دينها، أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان (وكنت نسيا)
328

النسي في كلام العرب: الشئ الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل،
ومنه قول الكميت:
أتجعلنا خسرا لكلب قضاعة * ولسنا بنسى: في معد ولا دخل
وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فتقول مريم (نسيا منسيا) أي حيضة ملقاة، وقد قرئ
بفتح النون وكسرها، وهما لغتان مثل الحجر والحجر، والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي " نساء "
بالهمز مع كسر النون. وقرأ نوف البكالي بالهمز مع فتح النون. وقرا بكر بن حبيب " نسيا " بفتح النون وتشديد
الياء بدون همز، والمنسي المتروك الذي لا يذكر ولا يخطر ببال أحد من الناس (فناداها من تحتها) أي جبريل لما
سمع قولها، وكان أسفل منها تحت الأكمة، وقيل تحت النخلة، وقيل المنادى هو عيسى. وقد قرئ بفتح الميم من
" من " وكسرها. وقوله (ألا تحزني) تفسير للنداء: أي لا تحزني أو المعنى بأن لا تحزني على أنها المصدرية (قد جعل
ربك تحتك سريا) قال جمهور المفسرين: السرى النهر الصغير، والمعنى: قد جعل ربك تحت قدمك نهرا. قيل
كان نهرا قد انقطع عنه الماء، فأرسل الله فيه الماء لمريم، وأحيا به ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه
حتى أورق وأثمر، وقيل المراد بالسرى هنا عيسى، والسري: العظيم من الرجال، ومنه قولهم فلان سرى: أي
عظيم، ومن قوم سراة: أي عظام (وهزى إليك بجذع النخلة) الهز التحريك: يقال هزه فاهتز، والباء في بجذع
النخلة مزيدة للتوكيد. وقال الفراء: العرب تقول هزه وهز به، والجذع هو أسفل الشجرة. قال قطرب: كل
خشبة في أصل شجرة فهي جذع، ومعنى إليك: إلى جهتك، وأصل تساقط تتساقط فأدغم التاء في السين. وقرأ
حمزة والأعمش " تساقط " مخففا. وقرأ عاصم في رواية حفص والحسن بضم التاء مع التخفيف وكسر القاف.
وقرئ " تتساقط " بإظهار التاءين. وقرئ بالتحتية مع تشديد السين. وقرئ " تسقط، ويسقط ". وقرأ الباقون
بإدغام التاء في السين، فمن قرأ بالفوقية جعل الضمير للنخلة، ومن قرأ بالتحتية جعل الضمير للجذع، وانتصاب
(رطبا) على بعض هذه القراءات للتمييز، وعلى البعض الآخر على المفعولية لتساقط. قال المبرد والأخفش:
يجوز انتصاب رطبا بهزي: أي هزي إليك رطبا (جنيا) بجذع النخلة: أي على جذعها، وضعفه الزمخشري،
والجني المأخوذ طريا. وقيل هو ما طلب وصلح للاجتناء، وهو فعيل بمعنى مفعول. قال الفراء: الجني والمجني
واحد، وقيل هو فعيل بمعنى فاعل: أي رطبا طريا طيبا (فكلى واشربي) أي من ذلك الرطب وذلك الماء، أو من
الرطب وعصيره، وقدم الأكل مع أن ذكر النهر مقدم على الرطب، لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من
احتياجها إلى شرب الماء، ثم قال (وقرى عينا) قرأ الجمهور بفتح القاف. وحكى ابن جرير أنه قرئ بكسرها
قال: وهى لغة نجد. والمعنى: طيبي نفسا وارفضي عنك الحزن، وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد،
والمسرور أحمد بارد القلب ساكن الجوارح، وقيل المعنى: وقرى عينا برؤية الولد الموهوب لك. وقال الشيباني:
معناه نامي. قال أبو عمرو: أقر الله عينه: أي أنام عينه وأذهب سهره (فإما ترين من البشر أحدا) أصله ترءيين:
مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت النون للجزم وياء الضمير للساكنين بعد لحوق نون التوكيد، ومثل هذا مع
عدم لحوق نون التوكيد قول ابن دريد:
أما ترى رأسي حاكى لونه * طرة صبح تحت أذيال الدجى
وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة " ترين " بسكون الياء وفتح النون مخففة. قال أبو الفتح: وهى شاذة، وجواب
الشرط (فقولي إني نذرت للرحمن صوما) أي قولي إن طلب منك الكلام أحد من الناس إني نذرت للرحمن صوما
329

أي صمتا، وقيل المراد به الصوم الشرعي، وهو الإمساك عن المفطرات، والأول أولى. وفى قراءة أبى " إني نذرت
للرحمن صوما صمتا " بالجمع بين اللفظين، وكذا روى عن أنس. وروى عنه أنه قرأ " صوما وصمتا " بالواو،
والذي عليه جمهور المفسرين أن الصوم هنا الصمت، ويدل عليه (فلن أكلم اليوم إنسيا) ومعنى الصوم في اللغة
أوسع من المعنيين. قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. وقراءة أبى تدل على أن المراد
بالصوم هنا الصمت، لأنه تفسير للصوم. وقراءة أنس تدل على أن الصوم هنا غير الصمت كما تفيده الواو.
ومعنى (فلن أكلم اليوم إنسيا) أنها لا تكلم أحدا من الإنس بعد إخبارهم بهذا الخبر، بل إنما تكلم الملائكة وتناجي
ربها، وقيل إنها لم تخبرهم هنا باللفظ، بل بالإشارة المفيدة للنذر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) قال: مكانا أظلها الشمس
أن يراها أحد منهم. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال:
إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة، لأن مريم اتخذت من أهلها مكانا شرقيا، فاتخذوا ميلاده قبلة، وإنما سجدت
اليهود على حرف حين نتق فوقهم الجبل، فجعلوا ينحرفون وهم ينظرون إليه، يتخوفون أن يقع عليهم، فسجدوا
سجدة رضيها الله، فاتخذوها سنة. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر من طريق
السدى عن أبي مالك عن ابن عباس. وعن مرة عن ابن مسعود قالا: خرجت مريم بنت عمران إلى جانب المحراب
لحيض أصابها، فلما طهرت إذا هي برجل معها (فتمثل لها بشرا) ففزعت و (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن
كنت تقيا) فخرجت وعليها جلبابها، فأخذ بكمها فنفخ في جنب درعها، وكان مشقوقا من قدامها، فدخلت
النفخة صدرها فحملت، فأتتها أختها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة
زكرياء: يا مريم أشعرت أني حبلى، قالت مريم: أشعرت أنى حبلى، فقالت امرأة زكرياء: فإني وجدت ما في
بطني سجد للذي في بطنك، فذلك قوله تعالى - مصدقا بكلمة من الله - فولدت امرأة زكرياء يحيى، ولما بلغ أن
تضع مريم خرجت إلى جانب (المحراب فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا) الآية (فناداها)
جبريل (من تحتها ألا تحزني) فلما ولدته ذهب الشيطان، فأخبر بني إسرائيل أن مريم ولدت، فلما أرادوها على
الكلام أشارت إلى عيسى فتكلم ف‍ (قال إني عبد الله آتاني الكتاب) الآيات، ولما ولد لم يبق في الأرض صنم إلا
خر لوجهه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في مريم قال:
حين حملت وضعت. وأخرج ابن عساكر عنه قال: وضعت لثمانية أشهر. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في
قوله (فأرسلنا إليها روحنا) قال: جبريل. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء نحوه أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات
وابن عساكر عن أبي بن كعب في الآية قال: تمثل لها روح عيسى في صورة بشر فحملته، قال حملت الذي
خاطبها دخل في فيها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (مكانا قصيا) قال: نائيا. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عنه في قوله (إلى جذع النخلة) قال: كان جذعا يابسا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا
في قوله (وكنت نسيا منسيا) قال لم أخلق ولم أك شيئا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن عكرمة (وكنت نسيا منسيا) قال: حيضة ملقاة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد نحوه
وأخرج عبد بن حميد عن نوف البكالي والضحاك مثله، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله (فناداها من
تحتها) قال: الذي ناداها جبريل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: الذي ناداها
330

من تحتها جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها. وقد اختلفت الروايات عن السلف، هل هذا المنادى هو
جبريل أو عيسى. وأخرج عبد بن حميد عن أبي بكر بن عياش قال: قرأ عاصم بن أبي النجود (فناداها من تحتها)
بالنصب، قال: وقال عاصم من قرأ بالنصب فهو عيسى، ومن قرأ بالخفض فهو جبريل. وأخرج الطبراني وابن
مردويه وابن النجار عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن السرى الذي قال الله
لمريم (قد جعل ربك تحتك سريا) نهر أخرجه الله لها لتشرب منه. وفى إسناده أيوب بن نهيك الجبلي قال فيه أبو حاتم
الرازي: ضعيف، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو فتح الأزدي: متروك الحديث، وقال الطبراني
بعد إخراج هذا الحديث: إنه غريب جدا. وأخرج الطبراني في الصغير وابن مردويه عن البراء بن عازب عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (قد جعل ربك تحتك سريا) قال: النهر: وأخرج عبد الرزاق والفريابي
وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه والحاكم وابن مردويه عن البراء قال في الآية:
هو الجدول، وهو النهر الصغير، فظهر بهذا أن الموقوف أصح. وقد روى عن جماعة من التابعين أن السرى هو
عيسى، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (رطبا جنيا) قال: طريا. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه
في قوله (إني نذرت للرحمن صوما) قال: صمتا. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري عنه أنه قرأ " صوما صمتا "
سورة مريم الآية (27 - 33)
لما اطمأنت مريم عليها السلام بما رأت من الآيات وفرغت من نفاسها (أتت به) أي بعيسى، وجملة (تحمله)
في محل نصب على الحال. وكان إتيانها إليهم من المكان القصي التي انتبذت فيه، فلما رأوا الولد معها حزنوا،
وكانوا أهل بيت صالحين (فقالوا) منكرين لذلك (يا مريم لقد جئت) أي فعلت (شيئا فريا) قال أبو عبيدة:
الفري العجيب النادر. وكذا قال الأخفش. والفري القطع، كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع بكونه عجيبا نادرا.
وقال قطرب: الفري الجديد من الأسقية: أي جئت بأمر بديع جديد لم تسبقي إليه. وقال سعيد بن مسعدة:
الفري المختلق المفتعل. يقال فريت وأفريت بمعنى واحد، والولد من الزنا كالشئ المفتري، قال تعالى - ولا
يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن - وقال مجاهد: الفري العظيم (يا أخت هارون).
قد وقع الخلاف في معنى هذه الأخوة، وفى هارون المذكور من هو؟ فقيل هو هارون أخو موسى،
والمعنى: أن من كانت نظنها مثل هارون في العبادة كيف تأتي بمثل هذا، وقيل كانت مريم من ولد هارون أخي
موسى، فقيل لها يا أخت هارون، كما يقال لمن كان من العرب: يا أخا العرب، وقيل كان لها أخ من أبيها اسمه
هارون، وقيل هارون هذا رجل صالح في ذلك الوقت، وقيل بل كان في ذلك الوقت رجل فاجر اسمه هارون،
331

فنسبوها إليه على وجهة التعيير والتوبيخ، حكاه ابن جرير ولم يسم قائله وهو ضعيف (ما كان أبوك امرأ سوء،
وما كانت أمك بغيا) هذا فيه تقريره لما تقدم من التعيير والتوبيخ، وتنبيه على أن الفاحشة من ذرية الصالحين مما
لا ينبغي أن تكون (فأشارت إليه) أي إلى عيسى، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن
صوما عن الكلام كما تقدم، هذا على تقدير أنها كانت إذ ذاك في أيام نذرها، وعلى تقدير أنها قد خرجت من
أيام نذرها، فيمكن أن يقال إن اقتصارها على الإشارة للمبالغة في إظهار الآية العظيمة، وأن هذا المولود يفهم
الإشارة ويقدر على العبارة (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا) هذا الاستفهام للإنكار والتعجب من
إشارتها إلى ذلك المولود بأن يكلمهم. قال أبو عبيدة: في الكلام حشو زائد. والمعنى: كيف نكلم صبيا في المهد
كقول الشاعر: وجيران لنا كانوا كرام * وقال الزجاج: الأجود أن تكون من في معنى الشرط والجزاء،
والمعنى: من يكون في المهد صبيا فكيف نكلمه. ورجحه ابن الأنباري وقال: لا يجوز أن يقال إن كان زائدة
وقد نصبت صبيا، ويجاب عنه بأن القائل بزيادتها يجعل الناصب له الفعل، وهو نكلم كما سبق تقديره، وقيل إن
كان هنا هي التامة التي بمعنى الحدوث والوجود. ورد بأنها لو كانت تامة لاستغنت عن الخبر، والمهد هو
شئ معروف يتخذ لتنويم لأن الصبي. والمعنى كيف نكلم من سبيله أن ينوم في المهد لصغره وقيل هو هنا حجر
الأم، وقيل سرير كالمهد، فلما سمع عيسى كلامهم (قال إني عبد الله) فكان أول ما نطق به الاعتراف بالعبودية
له (آتاني الكتاب) أي الإنجيل: أي حكم لي بإيتائي الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك
الحال ولا قد صار نبيا، وقيل إنه آتاه الكتاب وجعله نبيا في تلك الحال، وهو بعيد (وجعلني مباركا أين ما كنت)
أي حيثما كنت، والبركة أصلها من بروك البعير، والمعنى: جعلني ثابتا في دين الله، وقيل البركة هي الزيادة
والعلو، فكأنه قال: جعلني في جميع الأشياء زائدا عاليا منجحا، وقيل معنى المبارك النفاع للعباد، وقيل المعلم
للخير، وقيل الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر (وأوصاني بالصلاة) أي أمرني بها (والزكاة) زكاة المال،
أو تطهير النفس (ما دمت حيا) أي مدة دوام حياتي، وهذه الأفعال الماضية هي من باب تنزيل ما لم يقع
منزلة الواقع تنبيها على تحقق وقوعه لكونه قد سبق في القضاء المبرم (وبرا بوالدتي) معطوف على مباركا،
واقتصر على البر بوالدته لأنه قد علم في تلك الحال أنه لم يكن له أب، وقرئ " وبرا " بكسر الباء على أنه مصدر
وصف به مبالغة (ولم يجعلني جبارا شقيا) الجبار المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقا، والشقي العاصي لربه،
وقيل الخائب، وقيل العاق (والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) قال المفسرون: السلام هنا
بمعنى السلامة: أي السلامة علي يوم ولدت. فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت ولا أغواني عند الموت ولا عند
البعث، وقيل المراد به التحية. قيل واللام للجنس، وقيل للعهد: أي وذلك السلام الموجه إلى يحيى في هذه المواطن
الثلاثة موجه إلي. قيل إنه لم يتكلم المسيح بعد هذا الكلام حتى بلغ المدة التي تتكلم فيها الصبيان في العادة.
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس في قوله (فأتت به قومها تحمله) قال: بعد أربعين
يوما بعد ما تعالت من نفاسها. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن
المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل نجران، فقالوا أرأيت ما تقرأون (يا أخت
هارون) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم؟ وهذا التفسير النبوي يغنى عن سائر ما روى
عن السلف في ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال: كان عيسى قد درس الإنجيل وأحكامها في بطن أمه،
332

فذلك قوله (إني عبد الله آتاني الكتاب). وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن عكرمة في قوله (آتاني الكتاب) الآية، قال: قضى أن أكون كذلك. وأخرج الإسماعيلي في
معجمه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه وابن النجار عن أبي هريرة قال " قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قول
عيسى (وجعلني مباركا أين ما كنت) قال: جعلني نفاعا للناس أينما اتجهت ". وأخرج ابن عدي وابن عساكر
عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وجعلني مباركا) قال: معلما ومؤدبا. وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ولم يجعلني جبارا شقيا) يقول: عصيا.
سورة مريم الآية (34 - 40)
الإشارة بقوله (ذلك) إلى المتصف بالأوصاف السابقة. قال الزجاج: ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى ابن
مريم، لا ما تقوله النصارى من أنه ابن الله وأنه إله. وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب (قول الحق) بالنصب. وقرأ
الباقون بالرفع. فوجه القراءة الأولى أنه منتصب على المدح، أو على أنه مصدر مؤكد لقال إني عبد الله قاله
الزجاج. ووجه القراءة الثانية أنه نعت لعيسى: أي ذلك عيسى ابن مريم قول الحق، قاله الكسائي. وسمى قول
الحق كما سمى كلمة الله، والحق هو الله عز وجل. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق، وقيل التقدير: هذا
لكلام قول الحق، وهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة مثل حق اليقين، وقيل الإضافة للبيان، وقرئ
قال الحق " وروى ذلك عن ابن مسعود، وقرأ الحسن " قول الحق " بضم القاف، والقول والقول والقال والمقال
بمعنى واحد. و (الذي فيه يمترون) صفة لعيسى: أي ذلك عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون قول الحق، ومعنى
يمترون يختلفون على أنه من المماراة، أو يشكو على أنه من المرية. وقد وقع الاختلاف في عيسى، فقالت
اليهود هو ساحر، وقالت النصارى هو ابن الله (ما كان لله أن يتخذ من ولد) أي ما صح ولا استقام ذلك، فأن
في محل رفع على أنها اسم كان. قال الزجاج: من في " من ولد " مؤكدة تدل على نفى الواحد والجماعة، ثم نزه
سبحانه نفسه فقال (سبحانه) أي تنزه وتقدس عن مقالتهم هذه، ثم صرح سبحانه بما هو شأنه - تعالى سلطانه -
فقال (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) أي إذا قضى أمرا من الأمور فيكون حينئذ بلا تأخير. وقد سبق
الكلام على هذا مستوفى في البقرة. وفى إيراده في هذا الموضع تبكيت عظيم للنصارى: أي من كان هذا شأنه
كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ (وأن الله ربى وربكم فاعبدوه) قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح أن.
وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بكسرها، وهو من تمام كلام عيسى، وقرأ أبى " إن الله " بغير واو، قال الخليل
333

وسيبويه: في توجيه قراءة النصب بأن المعنى: ولأن الله ربى وربكم، وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض
عطفا على الصلاة، وجوز أبو عمرو بن العلاء عطفه على أمرا (هذا صراط مستقيم) أي هذا الذي ذكرته لكم من
أنه ربى وربكم، هو الطريق القيم الذي لا اعوجاج فيه ولا يضل سالكه (فاختلف الأحزاب من بينهم) من زائدة
للتوكيد، والأحزاب اليهود والنصارى: أي فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى، فاليهود قالوا إنه
ساحر كما تقدم، وقالوا إنه ابن يوسف النجار، والنصارى اختلفت فرقهم فيه، فقالت النسطورية منهم: هو
ابن الله، وقالت الملكية: هو ثالث ثلاثة، وقالت اليعقوبية: هو الله تعال فأفرطت النصارى وغلت، وفرطت
اليهود وقصرت (فويل للذين كفروا) وهم المختلفون في أمره (من مشهد يوم عظيم) أي من شهود يوم القيامة وما
يجري فيه من الحساب والعقاب، أو من مكان الشهود فيه، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وقيل المعنى: فويل
لهم من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور (أسمع بهم وأبصر) قال أبو العباس: العرب تقول هذا
في موضع التعجب، فيقولون: أسمع تريد وأبصر به: أي ما أسمعه وأبصره، فعجب الله سبحانه نبيه صلى الله
عليه وآله وسلم منهم (يوم يأتوننا) أي للحساب والجزاء (لكن الظالمون اليوم) أي في الدنيا (في ضلال مبين)
أي واضح ظاهر ولكنهم أغفلوا التفكر والاعتبار والنظر في الآثار (وأنذرهم يوم الحسرة) أي يوم يتحسرون
جميعا، فالمسئ حتى يتحسر على إساءته، والمحسن على عدم استكثاره من الخير (إذ قضى الأمر) أي فرغ من الحساب
وطويت الصحف، وصار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وجملة (وهم في غفلة) أي محل نصب على
الحال: أي غافلين عما يعمل بهم، وكذلك جملة (وهم لا يؤمنون) في محل نصب على الحال (إنا نحن نرث الأرض
ومن عليها) أي نميت سكانها فلا يبقى بها أحد يرث الأموات، فكأنه سبحانه ورث الأرض ومن عليها حيث
أماتهم جميعا (وإلينا يرجعون) أي يردون إلينا يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدم مثل هذا في سورة الحجر.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (قول الحق) قال: الله الحق عز وجل. وأخرج
عبد الرزاق وابن أبي حاتم عنه في قوله (الذي فيه يمترون) قال: اجتمع بنو إسرائيل وأخرجوا منهم أربعة نفر من
كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا، وأمات
من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية، فقالت الثلاثة: كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه،
فقال: هو ابن الله، وهم النسطورية، فقال اثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، فقال: هو
ثالث ثلاثة، الله إله، وعيسى إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية، وهم ملوك النصارى، فقال الرابع: كذبت،
هو عبد الله ورسوله وروحه من كلمته، وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال فاقتتلوا،
فظهروا على المسلمين، فذلك قول الله سبحانه - ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس - قال قتادة: وهم
الذين قال الله - فاختلف الأحزاب من بينهم - قال: اختلفوا فيه فصاروا أحزابا، فاختصم القوم، فقال المرء المسلم:
أنشدكم بالله هل تعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام وأن الله لا يطعم؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فهل تعلمون أن
عيسى كان ينام وأن الله لا ينام؟ قالوا: اللهم نعم، فخصمهم المسلمون فاقتتل القوم، فذكر لنا أن اليعقوبية
ظهرت يومئذ وأصيب المسلمون، فأنزل الله (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم). وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أسمع بهم وأبصر) يقول الكفار يومئذ: أسمع شئ وأبصره، وهم اليوم لا يسمعون
ولا يبصرون. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (يوم يأتوننا) قال: ذلك يوم
القيامة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
334

" إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار فيقال:
يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي يا أهل
النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح ويقال:
يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وأنذرهم
يوم الحسرة) الآية، وأشار بيده قال: أهل الدنيا في غفلة ". وأخرج النسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن
أبي هريرة مرفوعا نحوه. وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: يوم الحسرة: هو
من أسماء يوم القيامة، وقرأ - أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله -، وعلى هذا ضعيف، والآية
التي استدل بها ابن عباس لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام
سورة مريم الآية (41 - 50)
قوله (واذكر) معطوف على وأنذر، والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله
- واتل عليهم نبأ إبراهيم - وجملة (إنه كان صديقا نبيئا) تعليل لما تقدم من الأمر لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم بأن يذكره، وهي معترضة ما بين البدل والمبدل منه، والصديق كثير الصدق، وانتصاب نبيئا على أنه خبر
آخر لكان: أي أذكر إبراهيم الجامع لهذين الوصفين، و (إذ قال لأبيه) بدل اشتمال من إبراهيم، وتعليق الذكر
بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة، وأبو إبراهيم هو آزر على ما تقدم تقريره،
والتاء في يا أبت عوض عن الياء، ولهذا لا يجتمعان، والاستفهام في (لم تعبد) للإنكار والتوبيخ (ما لا يسمع)
ما تقوله من الثناء عليه والدعاء له (ولا يبصر) ما تفعله من عبادته ومن الأفعال التي تفعلها مريدا بها الثواب،
ويجوز أن يحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعم من ذلك: أي لا يسمع شيئا من المسموعات، ولا يبصر شيئا
من المبصرات (ولا يغنى عنك شيئا) من الأشياء، فلا يجلب لك نفعا ولا يدفع عنك ضررا، وهى الأصنام التي
335

كان يعبدها آزر. أورد إبراهيم عليه السلام على أبيه الدلائل والنصائح، وصدر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق
واللين استمالة لقلبه، وامتثالا لأمر ربه، ثم كرر دعوته إلى الحق فقال (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك)
أخبر أنه قد وصل إليه من العلم نصيب لم يصل إلى أبيه. وأنه قد تجدد له حصول ما يتوصل به منه إلى الحق،
ويقتدر به على إرشاد الضال، ولهذا أمره باتباعه فقال (فاتبعني أهدك صراطا سويا) مستويا موصلا إلى المطلوب
منجيا من المكروه، ثم أكد ذلك بنصيحة أخرى زاجرة له عما هو فيه فقال (يا أبت لا تعبد الشيطان) أي لا تطعه،
فإن عبادة الأصنام هي من طاعة الشيطان، ثم علل ذلك بقوله (إن الشيطان كان للرحمن عصيا) حين ترك ما أمره
به من السجود لآدم، ومن أطاع من هو عاص لله سبحانه فهو عاص لله، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم
وتحل به النقم. قال الكسائي: العصي والعاصي بمعنى واحد، ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال (يا أبت
إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن (قال الفراء: معنى أخاف هنا أعلم. وقال الأكثرون: إن الخوف هنا
محمول على ظاهره، لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر، إذ لو كان جازما بذلك لم يشتغل بنصحه،
ومعنى الخوف على الغير: هو أن يظن وصول الضرر إلى ذلك الغير (فتكون للشيطان وليا) أي إنك إذا أطعت
الشيطان كنت معه في النار واللعنة، فتكون بهذا السبب مواليا، أو تكون بسبب موالاته في العذاب معه، وليس
هناك ولاية حقيقية لقوله سبحانه - الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو - وقيل الولي بمعنى التالي، وقيل الولي
بمعنى القريب: أي تكون للشيطان قريبا منه في النار، فلما مرت هذه النصائح النافعة والمواعظ المقبولة بسمع
آزر قابلها بالغلظة والفظاظة والقسوة، ف‍ (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) والاستفهام للتقريع والتوبيخ
والتعجيب، والمعنى: أمعرض أنت عن ذلك ومنصرف إلى غيره؟ ثم توعده فقال (لئن لم تنته لأرجمنك) أي
بالحجارة، وقيل باللسان، فيكون معناه لأشتمنك، وقيل معناه لأضربنك، وقيل لأظهرن أمرك (واهجرني
مليا) أي زمانا طويلا. قال الكسائي: يقال هجرته مليا وملوة وملاوة، بمعنى الملاوة من الزمان، وهو الطويل،
ومنه قول مهلهل:
فتصدعت صم الجبال لموته * وبكت عليه المرملات مليا
وقيل معناه: اعتزلني سالم العرض لا تصيبك مني معرة، واختار هذا ابن جرير، فمليا على هذا منتصب على
الحال من إبراهيم وعلى القول الأول منتصب على الظرفية، فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد (قال سلام
عليك) أي تحية توديع ومتاركة كقوله - وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقيل معناه: أمنة منى لك، قاله
ابن جرير، وإنما أمنه مع كفره لأنه لم يؤمر بقتاله، والأول أولى. وبه قال الجمهور، وقيل معناه: الدعاء له
بالسلامة، استمالة له ورفقا به ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه تألفا له وطمعا في لينه وذهاب قسوته:
والشيخ لا يترك أخلاقه * حتى يوارى في ثرى رمسه
وكان منه هذا الوعد قبل أن يعلم أنه يموت على الكفر، وتحق عليه الكلمة، ولهذا قال الله سبحانه في موضع آخر
- فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه - بعد قوله - وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه - وجملة
(إنه كان بي حفيا) تعليل لما قبلها، والمعنى سأطلب لك المغفرة من الله، فإنه كان بي كثير البر واللطف، يقال
حفي به وتحفى إذا بره. قال الكسائي: يقال حفى بي حفاوة وحفوة. وقال الفراء: إنه كان بي حفيا: أي عالما
لطيفا يجيبني إذا دعوته. ثم صرح الخليل بما تضمنه سلامه من التوديع والمتاركة فقال (وأعتزلكم وما تدعون من
دون الله) أي أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم حيث لم تقبلوا نصحي ولا نجعت فيكم دعوتي (وأدعوا ربى)
336

وحده (عسى أن لا أكون بدعاء ربى شقيا) أي خائبا، وقيل عاصيا. قيل أراد بهذا الدعاء: هو أن يهب الله له ولدا
وأهلا يستأنس بهم في اعتزاله ويطمأن عمر إليهم عند وحشته، وقيل أراد دعاءه لأبيه بالهداية، وعسى للشك لأنه
كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا، والأول أولى لقوله (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له
إسحاق ويعقوب) أي جعلنا هؤلاء الموهوبين النبي له أهلا وولدا بدل الأهل الذين فارقهم (وكلا جعلنا نبيئا) أي كل
واحد منهما، وانتصاب كلا على أنه المفعول الأول لجعلنا قدم عليه للتخصيص، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم
لا بالنسبة إلى من عداهم: أي كل واحد منهم جعلنا نبيا، لا بعضهم دون بعض (ووهبنا لهم من رحمتنا) بأن جعلناهم
أنبياء، وذكر هذا بعد التصريح بجعلهم أنبياء لبيان أن النبوة هي من باب (الرحمة. والمراد بالرحمة هنا المال،
وقيل الأولاد، وقيل الكتاب، ولا يبعد أن يندرج تحتها جميع هذه الأمور (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) لسان
الصدق الثناء الحسن، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به كما عبر باليد عن العطية، وإضافته إلى الصدق ووصفه
بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (لأرجمنك) قال: لأشتمنك (واهجرني مليا)
قال: حينا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (واهجرني مليا) قال: اجتنبني سويا. وأخرج
ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال: اجتنبني سالما قبل أن تصيبك مني عقوبة. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن
جبير وعكرمة (مليا) دهرا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: سالما. وأخرج عبد بن حميد عن
الحسن مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (إنه كان بي حفيا) قال: لطيفا.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) قال: يقول وهبنا له إسحاق ويعقوب ابن ابنه
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) قال: الثناء الحسن.
سورة مريم الآية (51 - 60)
337

سورة مريم الآية (61 - 63)
قفى سبحانه قصة إبراهيم بقصة موسى لأنه تلوه في الشرف، وقدمه على إسماعيل لئلا يفصل بينه وبين ذكر
يعقوب: أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى (إنه كان مخلصا) قرأ أهل الكوفة بفتح اللام: أي جعلناه مختارا
وأخلصناه، وإن وقرأ الباقون بكسرها: أي أخلص العبادة والتوحيد لله غير مراء للعباد (إنه كان رسولا نبيئا) أي
أرسله الله إلى عباده فأنبأهم عن الله بشرائعه التي شرعها لهم، فهذا وجه ذكر النبي بعد الرسول مع استلزام الرسالة
للنبوة، فكأنه أراد بالرسول معناه اللغوي لا الشرعي، والله أعلم. وقال النيسابوري: الرسول الذي معه كتاب من
الأنبياء، والنبي الذي ينبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص،
إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه - رب هارون وموسى - انتهى (وناديناه من جانب الطور
الأيمن) أي كلمناه من جانب الطور، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زبير، ومعنى الأيمن: أنه كان ذلك
الجانب عن يمين موسى، فإن الشجرة كانت في ذلك الجانب والنداء وقع منها، وليس المراد يمين الجبل نفسه.
فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال. وقيل معنى الأيمن الميمون، ومعنى النداء أنه تمثل له الكلام من ذلك الجانب
(وقربناه نجيا) أي أدنيناه بتقريب المنزلة حتى كلمناه، والنجي بمعنى المناجى كالجليس والنديم، فالتقريب هنا
هو تقريب التشريف والإكرام، مثلت حاله بحال من قربه الملك لمناجاته. قال الزجاج: قربه منه في المنزلة حتى
سمع مناجاته. وقيل إن الله سبحانه رفعه حتى سمع صريف القلم. روى هذا عن بعض السلف (ووهبنا له من
رحمتنا) أي من نعمتنا، وقيل من أجل رحمتنا، و (هارون) عطف بيان، و (نبيا) حال منه، وذلك حين سأل
ربه قال - واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي - ووصف الله سبحانه إسماعيل بصدق الوعد مع كونه جميع
الأنبياء كذلك، لأنه كان مشهورا بذلك مبالغا فيه، وناهيك بأنه وعد الصبر من نفسه على الذبح فوفى بذلك،
وكان ينتظر لمن وعده بوعد الأيام والليالي، حتى قيل إنه انتظر لبعض من وعده حولا. والمراد بإسماعيل هنا هو
إسماعيل بن إبراهيم، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به فقال: هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه
فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضى بثوابه، وقد استدل بقوله تعالى في
إسماعيل (وكان رسولا نبيا) على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته،
وقيل إنه وصفه بالرسالة لكون إبراهيم أرسله إلى جرهم (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) قيل المراد بأهله هنا
أمته، وقيل جرهم، وقيل عشيرته كما في قوله - وأنذر عشيرتك الأقربين - والمراد بالصلاة والزكاة هنا، هما
العبادتان الشرعيتان، ويجوز أن يراد معناهما اللغوي (وكان عند ربه مرضيا) أي رضيا زاكيا صالحا. قال الكسائي
والفراء: من قال مرضي بني على رضيت، قالا: وأهل الحجاز يقولون مرضو (واذكر في الكتاب إدريس)
اسم إدريس أخنوخ، قيل هو جد نوح، فإن نوحا هو ابن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، وعلى هذا فيكون جد
أبي نوح ذكره الثعلبي وغيره، وقد قيل إن هذا خطأ، وامتناع إدريس للعجمة والعلمية. وهو أول من خط بالقلم
ونظر في النجوم والحساب، وأول من خاط الثياب. قيل وهو أول من أعطى النبوة من بني آدم. وقد اختلف
في معنى قوله (ورفعناه مكانا عليا) فقيل إن الله رفعه إلى السماء الرابعة، وقيل إلى السادسة، وقيل إلى الثانية. وقد
روى البخاري في صحيحه من حديث الإسراء وفيه: ومنهم إدريس في الثانية، وهو غلط من رواية شريك
338

ابن عبد الله بن أبي نمر، والصحيح أنه في السماء الرابعة كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل إن المراد برفعه مكانا عليا: ما أعطيه من شرف النبوة، وقيل إنه رفع إلى الجنة
(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين) الإشارة إلى المذكورين من أول السورة إلى هنا، والموصول صفته،
ومن النبيين بيان للموصول، و (من ذرية آدم) بدل منه بإعادة الخافض، وقيل إن من في من ذرية آدم للتبعيض
(وممن حملنا مع نوح) أي من ذرية من حملنا معه وهم من عدا إدريس، فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح
(ومن ذرية إبراهيم) وهم الباقون (وإسرائيل) أي ومن ذرية إسرائيل، ومنهم موسى وهارون ويحيى وعيسى،
وقيل إنه أراد بقوله (من ذرية آدم) إدريس وحده، وأراد بقوله (وممن حملنا مع نوح) إبراهيم وحده، وأراد
بقوله (ومن ذرية إبراهيم) إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وأراد بقوله (ومن ذرية إسرائيل) موسى وهارون وزكريا
ويحيى وعيسى (وممن هدينا) أي من جملة من هدينا إلى الإسلام (واجتبينا) بالإيمان (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن
خروا سجدا وبكيا) وهذا خبر لأولئك، ويجوز أن يكون الخبر هو الذين أنعم الله عليهم. وهذا استئناف لبيان
خشوعهم لله وخشيتهم منه. وقد تقدم في سبحان بيان معنى خروا سجدا: يقال بكى يبكي بكاء وبكيا. قال
الخليل: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن: أي ليس معه صوت، ومنه قول الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها * وما يغني البكاء ولا العويل
وسجدا منصوب على الحال. قال الزجاج: قد بين الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله بكوا وسجدوا، وقد
استدل بهذه الآية على مشروعية سجود التلاوة، ولما مدح هؤلاء الأنبياء بهذه الأوصاف ترغيبا لغيرهم في الاقتداء
بهم وسلوك طريقتهم ذكر أضدادهم تنفيرا للناس عن طريقتهم فقال (فخلف من بعدهم خلف) أي عقب سوء.
قال أهل اللغة: يقال لعقب الخير خلف بفتح اللام، ولعقب الشر خلف بسكون اللام، وقد قدمنا الكلام على
هذا في آخر الأعراف (أضاعوا الصلاة) قال الأكثر: معنى ذلك أنهم أخروها عن وقتها، وقيل أضاعوا الوقت
وقيل كفروا بها وجحدوا وجوبها، وقيل لم يأتوا بها على الوجه المشروع. والظاهر أن من أخر الصلاة عن وقتها
أو ترك فرضا من فروضها أو شرطا من شروطها أو ركنا من أركانها فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من
تركها بالمرة أو جحدها دخولا أوليا.
واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؟ فقيل في اليهود، وقيل في النصارى، وقيل في قوم من أمة محمد صلى الله
عليه وآله وسلم يأتون في آخر الزمان، ومعنى (واتبعوا الشهوات) أي فعلوا ما تشتهيه أنفسهم وترغب إليه من
المحرمات كشرب الخمر والزنا (فسوف يلقون غيا) الغي هو الشر عند أهل اللغة كما أن الخير هو الرشاد. والمعنى:
أنهم سيلقون شرا لا خيرا، وقيل الغي الضلال، وقيل الخيبة، وقيل هو اسم واد في جهنم، وقيل في الكلام
حذف، والتقدير: سيلقون جزاء الغي كذا قال الزجاج، ومثله قوله سبحانه - يلق أثاما - أي جزاء أثام (إلا من
تاب وآمن وعمل صالحا) أي تاب مما فرط منه من تضييع الصلوات واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة الله وآمن به
وعمل عملا صالحا، وفى هذا الاستثناء دليل على أن الآية في الكفرة لا في المسلمين (فأولئك يدخلون الجنة) قرأ
أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر " يدخلون " بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ
الباقون بفتح الياء وضم الخاء (ولا يظلمون شيئا) أي لا ينقص من أجورهم شئ وإن كان قليلا، فإن الله سبحانه
يوفي إليهم أجورهم، وانتصاب (جنات عدن) على البدل من الجنة، بدل البعض لكون جنات عدن بعض من
الجنة: قال الزجاج: ويجوز جنات عدن بالرفع على الابتداء، وقرئ كذلك. قال أبو حاتم: ولولا الخط لكان
339

جنة عدن: يعني بالإفراد مكان الجمع وليس هذا بشئ، فإن الجنة اسم لمجموع الجنات التي هي بمنزلة الأنواع
للجنس. وقرئ بنصب الجنات على المدح، وقد قرئ جنة بالإفراد (التي وعد الرحمن عباده بالغيب) هذه الجملة
صفة لجنات عدن، وبالغيب في محل نصب على الحال من الجنات، أو من عباده: أي متلبسة، أو متلبسين
بالغيب، وقرئ بصرف عدن، ومنعها على أنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة، أو علم لأرض الجنة (إنه كان
وعده مأتيا) أي موعوده على العموم، فتدخل فيه الجنات دخولا أوليا. قال الفراء: لم يقل آتيا، لأن كل
ما أتاك فقد أتيته، وكذا قال الزجاج (لا يسمعون فيها لغوا) هو الهذر من الكلام الذي يلغى ولا طائل تحته، وهو
كناية عن عدم صدور اللغو منهم، وقيل اللغو كل ما لم يكن فيه ذكر الله (إلا سلاما) هو استثناء منقطع: أي
سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم. وقال الزجاج: السلام اسم جامع للخير، لأنه يتضمن السلامة،
والمعنى: أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم وإنما يسمعون ما يسلمهم (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) قال المفسرون
ليس في الجنة بكرة ولا عشية، ولكنهم يؤتون رزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء (تلك الجنة التي
نورث من عبادنا من كان تقيا) أي هذه الجنة التي وصفنا أحوالها نورثها من كان من أهل التقوى كما يبقى على
الوارث مال موروثه. قرأ يعقوب " نورث " بفتح الواو وتشديد الراء، وقرأ الباقون بالتخفيف، وقيل في الكلام
تقديم وتأخير، والتقدير: نورث من كان تقيا من عبادنا.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (وكان رسولا نبيا) قال: النبي
الذي يكلم وينزل عليه ولا يرسل، ولفظ ابن أبي حاتم " الأنبياء الذين ليسوا برسل يوحى إلى أحدهم ولا يرسل إلى
أحد. والرسل: الأنبياء الذين يوحى إليهم ويرسلون. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة
في قوله (جانب الطور الأيمن) قال: جانب الجبل الأيمن (وقربناه نجيا) قال: نجا بصدقه. وأخرج عبد بن
حميد عن أبي العالية قال: قربه حتى سمع صريف القلم، وروى نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج الفريابي
وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال:
حتى سمع صريف القلم يكتب في اللوح. وأخرجه الديلمي عنه مرفوعا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في قوله (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون) قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن إنما وهب له
نبوته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ورفعناه مكانا عليا) قال: كان إدريس خياطا، وكان
لا يغرز غرزة إلا قال سبحان الله، وكان يمسي حين يمسي وليس على الأرض أفضل عملا منه، فاستأذن ملك من
الملائكة ربه فقال: يا رب ائذن لي فأهبط إلى إدريس، فأذن له فأتى إدريس فقال: إني جئتك لأخدمك، قال:
كيف تخدمني وأنت ملك وأنا إنسان؟ ثم قال إدريس: هل بينك وبين ملك الموت شئ؟ قال الملك: ذاك أخي
من الملائكة، قال: هل تستطيع أن تنفعني؟ قال: أما يؤخر شيئا أو يقدمه فلا، ولكن سأكلمه لك فيرفق بك
عند الموت، فقال: اركب بين جناحي، فركب إدريس فصعد إلى السماء العليا فلقي ملك الموت وإدريس بين
جناحيه، فقال له الملك: إن لي إليك حاجة، قال: علمت حاجتك تكلمني في إدريس، وقد محى اسمه من
الصحيفة فلم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين، فمات إدريس بين جناحي الملك. وأخرج ابن أبي شيبة في المصاحف
وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سألت كعبا فذكر نحوه، فهذا هو من الإسرائيليات التي يرويها كعب.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال " رفع إدريس إلى السماء السادسة ". وأخرج الترمذي وصححه
وابن المنذر وابن مردويه قال: حدثنا أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " لما عرج بي رأيت
340

إدريس في السماء الرابعة ". وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد
ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: رفع إدريس كما رفع عيسى ولم يمت. وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إدريس هو إلياس. وحسنه السيوطي. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله
(أولئك الذين أنعم الله عليهم) إلى آخره، قال: هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم، أما من ذرية آدم: فإدريس
ونوح، وأما من حمل مع نوح فإبراهيم، وأما ذرية إبراهيم: فإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وأما ذرية إسرائيل:
فموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله (فخلف من بعدهم
خلف) قال: هم اليهود والنصارى. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في الآية قال: هم من هذه الأمة يتراكبون
في الطرق كما تراكب الأنعام لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله في السماء. وأخرج عبد بن حميد عن ابن
مسعود في قوله (أضاعوا الصلاة) قال: ليس إضاعتها تركها قد يضيع الإنسان الشئ ولا يتركه، ولكن
إضاعتها: إذا لم يصلها لوقتها. وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه
والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتلا هذه الآية (فخلف من
بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) الآية قال: يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا
(الشهوات (فسوف يلقون غيا) ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن،
ومنافق، وفاجر. وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول " سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللبن، قلت: يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال: قوم يتعلمون
الكتاب يجادلون به الذين آمنوا: قلت: ما أهل اللبن؟ قال: قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات ".
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة أنها كانت ترسل بالصدقة لأهل الصدقة وتقول:
لا تعطوا منها بربريا ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هم " الخلف الذين قال الله
(فخلف من بعدهم خلف) " وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فسوف يلقون غيا) قال:
خسرا. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني
والحاكم وصححه والبيهقي في البعث من طرق عن ابن مسعود في قوله (فسوف يلقون غيا) قال: الغي نهر، أو
واد في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم، يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات. وقد قال بأنه واد في جهنم البراء
ابن عازب. وروى ذلك عنه ابن المنذر والطبراني. وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لو أن صخرة زنة عشر عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت
قعرها سبعين خريفا، ثم تنتهي إلى غي وأثام، قلت وما غي وأثام؟ قال: نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد
أهل النار، وهما اللذان ذكر الله في كتابه (فسوف يلقون غيا) ومن يفعل ذلك يلق أثاما ". وأخرج ابن مردويه
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الغي واد في جهنم ". وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم عنه في قوله (لا يسمعون فيها لغوا) قال: باطلا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (بكرة وعشيا) قال: يؤتون به في الآخرة على مقدار ما كانوا يؤتون به في الدنيا.
وأخرج الحكيم والترمذي في نوادر الأصول من طريق أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا: قال رجل يا رسول الله هل
في الجنة من ليل؟ قال: وما هيجك على هذا؟ قال: سمعت الله يذكر في الكتاب (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا)
341

فقلت: الليل من البكرة والعشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس هناك دليل، وإنما هو ضوء
ونور، يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، تأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون
فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
" ما من غداة من غدوات الجنة، وكل الجنة غدوات، إلى أنه يزف إلى ولي الله فيها زوجة من الحور العين
وأدناهن التي خلقت من الزعفران " قال بعد إخراجه قال أبو محمد: هذا حديث منكر.
سورة مريم الآية (64 - 72)
قوله (وما نتنزل) أي قال الله سبحانه: قل يا جبريل وما نتنزل، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
استبطأ نزول جبريل عليه، فأمر جبريل أن يخبره بأن الملائكة ما تتنزل عليه إلا بأمر الله. قيل احتبس جبريل عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوما، وقيل خمسة عشر، وقيل اثنى عشر، وقيل ثلاثة أيام، وقيل
إن هذا حكاية عن أهل الجنة، وأنهم يقولون عند دخولها: وما نتنزل هذه الجنان (إلا بأمر ربك) والأول أولى
بدلالة ما قبله، ومعناه يحتمل وجهين: الأول ما نتنزل عليك إلا بأمر ربك لنا بالتنزيل. والثاني وما نتنزل عليك
إلا بأمر ربك الذي يأمرك به بما شرعه لك ولأمتك، والتنزل: النزول على مهل، وقد يطلق على مطلق النزول. ثم
أكد جبريل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال (له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) أي من
الجهات والأماكن، أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة، وما بينهما من الزمان أو المكان الذي نحن فيه، فلا نقدر
على أن ننتقل من جهة إلى جهة، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته، وقيل المعنى: له ما سلف من أمر
الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك، وهو ما بين النفختين، وقيل الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا،
والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض، وقيل ما مضى من أعمارنا وما غبر منها والحالة التي نحن فيها. وعلى
هذه الأقوال كلها يكون المعنى: أن الله سبحانه هو المحيط بكل شئ لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه
مثقال ذرة، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه، وقال: ما بين ذلك، ولم يقل وما بين ذينك لأن المراد: وما بين
ما ذكرنا كما في قوله سبحانه - عوان بين ذلك - (وما كان ربك نسيا) أي لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي، وقيل
المعنى: إنه عالم بجميع الأشياء لا ينسى منها شيئا: وقيل المعنى: وما كان ربك ينسى الإرسال إليك عند الوقت
342

الذي يرسل فيه رسله (رب السماوات والأرض وما بينهما) أي خالقهما وخالق ما بينهما، ومالكهما ومالك
ما بينهما، ومن كان هكذا فالنسيان محال عليه. ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعبادته والصبر عليها فقال
(فاعبده واصطبر لعبادته) والفاء للسببية لأن كونه رب العالمين سبب موجب لأن يعيد، وعدي فعل الصبر باللام
دون على التي يتعدى بها لتضمنه معنى الثبات (هل تعلم له سميا) الاستفهام للإنكار. والمعنى: أنه ليس له مثل
ولا نظير حتى يشاركه في العبادة، فيلزم من ذلك أن تكون غير خالصة له سبحانه، فلما انتفى المشارك استحق
الله سبحانه أن يفرد بالعبادة وتخلص له، هذا مبنى على أن المراد بالسمى هو الشريك في المسمى، وقيل المراد به:
الشريك في الاسم كما هو الظاهر من لغة العرب، فقيل المعنى: إنه لم يسم شئ من الأصنام ولا غيرها بالله قط،
يعنى بعد دخول الألف واللام التي عوضت عن الهمزة ولزمت، وقيل المراد هل تعلم أحدا اسمه الرحمن غيره. قال
الزجاج: تأويله والله أعلم: هل تعلم له سميا يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون، وعلى هذا
لا سمى لله في جميع أسمائه، لأن غيره وإن سمى بشئ من أسمائه، فلله سبحانه حقيقة ذلك الوصف، والمراد بنفي
العلم المستفاد من الإنكار هنا نفى المعلوم على أبلغ وجه وأكمله (ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا)
قرأ الجمهور على الاستفهام، وقرأ ابن ذكوان إذا ما مت على الخبر، والمراد بالإنسان ها هنا الكافر، لأن هذا
الاستفهام هنا للإنكار والاستهزاء والتكذيب بالبعث، وقيل اللام في الإنسان للجنس بأسره وإن لم يقل هذه المقالة
إلا البعض، وهم الكفرة فقد يسند إلى الجماعة ما قام بواحد منهم، والمراد بقوله أخرج: أي من القبر، والعامل
في الظرف فعل دل عليه أخرج، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك
شيئا) الهمزة للإنكار التوبيخي، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها، والمراد بالذكر هنا
إعمال الفكر: أي ألا يتفكر هذا الجاحد في أول خلقه فيستدل بالابتداء على الإعادة، والابتداء أعجب وأغرب
من الإعادة، لأن النشأة الأولى هي إخراج لهذه المخلوقات من العدم إلى الوجود ابتداعا واختراعا، لم يتقدم عليه
ما يكون كالمثال له، وأما النشأة الآخرة فقد تقدم عليها النشأة الأولى فكانت كالمثال لها، ومعنى " من قبل " قبل
الحالة التي هو عليها الآن، وجملة " ولم يك شيئا " في محل نصب على الحال: أي والحال أنه لم يكن حينئذ شيئا من
الأشياء أصلا، فإعادته بعد أن كان شيئا موجودا أسهل وأيسر. قرأ أهل مكة وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل الكوفة
إلا عاصما " أو لا يذكر " بالتشديد، وأصله يتذكر. وقرأ شيبة ونافع وعاصم وابن عامر " يذكر " بالتخفيف،
وفى قراءة أبى " أو لا يتذكر ". ثم لما جاء سبحانه وتعالى بهذه الحجة التي أجمع العقلاء على أنه لم يكن في
حجج البعث حجة أقوى منها، أكدها بالقسم باسمه سبحانه مضافا إلى رسوله تشريفا له وتعظيما، فقال (فوربك
لنحشرنهم) ومعنى لنحشرنهم: لنسوقنهم إلى المحشر بعد إخراجهم من قبورهم أحياء كما كانوا، والواو
في قوله (والشياطين) للعطف على المنصوب، أو بمعنى مع. والمعنى: أن هؤلاء الجاحدين يحشرهم الله مع
شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم، وهذا ظاهر على جعل اللام في الإنسان للعهد، وهو الإنسان الكافر، وأما
على جعلها للجنس فكونه قد وجد في الجنس من يحشر مع شيطانه (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) الجثى جمع
جاث، من قولهم جثا على ركبتيه يجثو جثوا، وهو منتصب على الحال: أي جاثين على ركبهم لما يصيبهم من
هول الموقف وروعة الحساب، أو لكون الجثى على الركب شأن أهل الموقف كما في قوله سبحانه - وترى كل
أمة جاثية -، وقيل المراد بقوله جثيا جماعات، وأصله جمع جثوة، والجثوة هي المجموع من التراب أو الحجارة.
343

أرى جثوتين من تراب عليهما * صفائح صم من صفيح منضد
(ثم لننزعن من كل شيعة) الشيعة الفرقة التي تبعت دينا من الأديان، وخصص ذلك الزمخشري فقال: هي
الطائفة التي شاعت: أي تبعت غاويا من الغواة قال الله تعالى - إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا -. ومعنى (أيهم
أشد على الرحمن عتيا) من كان أعصى لله وأعتى فإنه ينزع من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم
وأعتاهم، فإذا اجتمعوا طرحهم في جهنم. والعتي ها هنا مصدر كالعتو، وهو التمرد في العصيان. وقيل المعنى:
لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساهم في الشر. وقد اتفق القراء على قراءة أيهم بالضم إلا هارون الغازي فإنه
قرأها بالفتح. وقال الزجاج: في رفع أيهم ثلاثة أقوال: الأول قول الخليل بن أحمد إنه مرفوع على الحكاية.
والمعنى: ثم لننزعن من كل شيعة الذين يقال لهم أيهم أشد، وأنشد الخليل في ذلك قول الشاعر:
وقد أبيت من الفتاة بمنزل * فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له هو لا حرج ولا محروم. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يعنى الزجاج يختار
هذا القول ويستحسنه. القول الثاني قول يونس: وهو أن لننزعن بمنزلة الأفعال التي تلغى وتعلق، فهذا الفعل عنده
معلق عن العمل في أي، وخصص الخليل وسيبويه وغيرهما التعليق بأفعال الشك ونحوها مما لم يتحقق وقوعه.
القول الثالث قول سيبويه، إن أيهم ها هنا مبنى على الضم، لأنه خالف أخواته في الحذف، وقد غلط سيبويه في
قوله هذا جمهور النحويين حتى قال الزجاج: ما تبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما،
وللنحويين في إعراب أيهم هذه في هذا الموضع كلام طويل (ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) يقال صلى
يصلي صليا مثل مضى الشئ يمضي مضيا، قال الجوهري: يقال صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجعلته
يصلاها، فإن ألقيته إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصليته تصلية ومنه - ويصلى سعيرا - ومن
خفف فهو من قولهم: صلى فلان النار بالكسر يصلى صليا احترق، قال الله تعال (الذين هم أولى بها صليا) قال
العجاج: * والله لولا النار أن تصلاها * ومعنى الآية: أن هؤلاء الذين هم أشد على الرحمن عتيا هم أولى
بصليها أو صليهم أولى بالنار (وإن منكم إلا واردها) الخطاب للناس من غير التفات، أو للإنسان المذكور،
فيكون التفاتا: أي ما منكم من أحد إلا واردها: أي واصلها.
وقد اختلف الناس في هذا الورود، فقيل الورود الدخول ويكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على
إبراهيم. وقالت فرقة: الورود هو المرور على الصراط، وقيل ليس الورود الدخول إنما هو كما يقول وردت
البصرة ولم أدخلها، وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود، وحمله على ظاهره لقوله تعالى - إن الذين
سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون - قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها، ومما يدل على أن
الورود لا يستلزم الدخول قوله تعالى - ولما ورد ماء مدين - فإن المراد أشرف عليه لا أنه دخل فيه، ومنه قول زهير
فلما وردن الماء زرقا حمامة * وضعن عصى الحاضر المتخيم
ولا يخفى أن القول بأن الورود هو المرور على الصراط. أو الورود على جهنم وهى خامدة فيه جمع بين الأدلة
من الكتاب والسنة، فينبغي حمل هذه الآية على ذلك، لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار مع
كون الداخل من المؤمنين مبعدا من عذابهما، أو بحمله على المضي فوق الجسر المنصوب عليها، وهو الصراط
(كان على ربك حتما مقضيا) أي كان ورودهم المذكور أمرا محتوما قد قضى سبحانه أنه لا بد من وقوعه لا محالة،
344

قد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن العقاب واجب على الله، وعند الأشاعرة أن هذا مشبه بالواجب من جهة
استحالة تطرق الخلف إليه (ثم ننجي الذين اتقوا) أي اتقوا ما يوجب النار، وهو الكفر بالله ومعاصيه، وترك
ما شرعه، وأوجب العمل به. قرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة " ننجي " بالتخفيف من أنجى، وبها قرأ حميد
ويعقوب والكسائي، وقرأ الباقون بالتشديد، وقرأ ابن أبي ليلى (ثم نذر) بفتح الثاء من ثم، والمراد بالظالمين الذين
ظلموا أنفسهم بفعل ما يوجب النار، أو ظلموا غيرهم بمظلمة في النفس أو المال أو العرض، والجثى جمع جاث،
وقد تقدم قريبا تفسير الجثى وإعرابه.
وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل " ما يمنعك أن
تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت (وما نتنزل إلا بأمر ربك) إلى آخر الآية " وزاد ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم، وكان ذلك الجواب لمحمد. وأخرج ابن مردويه من حديث أنس قال " سئل رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أي البقاع أحب إلى الله، وأيها أبغض إلى الله؟ قال: ما أدري حتى أسأل، فنزل جبريل، وكان قد
أبطأ عليه، فقال: لقد أبطأت علي حتى ظننت أن بربي على موجدة، فقال: وما نتنزل إلا بأمر ربك ".
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: " أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوما
ثم نزل، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما نزلت حتى اشتقت إليك، فقال له جبريل: أنا كنت إليك
أشوق، ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبريل أن قل له (وما نتنزل إلا بأمر ربك) " وهو مرسل. وأخرج سعيد
ابن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: أبطأت الرسل على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، ثم أتاه جبريل فقال: " له ما حبسك عنى؟ قال: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تنقون
براجمكم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون؟ وقرأ (وما نتنزل إلا بأمر ربك) " وهو مرسل أيضا. وأخرج ابن
أبي حاتم عن سعيد بن جبير (له ما بين أيدينا) قال من أمر الآخرة (وما خلفنا) قال: من أمر الدنيا (وما بين ذلك)
قال: ما بين الدنيا والآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة (وما بين ذلك) قال: ما بين النفختين. وأخرج ابن المنذر
عن أبي العالية مثله. وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي
الدرداء رفع الحديث قال: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية،
فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا. ثم تلا (وما كان ربك نسيا) وأخرج ابن مردويه من حديث
جابر مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله
(هل تعلم له سميا) قال: هل تعرف للرب شبها أو مثلا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
و صححه والبيهقي في الشعب عنه (هل تعلم سميا)؟ قال: ليس أحد يسمى الرحمن غيره، وأخرج ابن مردويه عنه
أيضا في الآية قال: يا محمد هل تعلم لإلاهك من ولد؟ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله (ويقول الإنسان)
قال: العاص بن وائل، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (جثيا) قال: قعودا، وفى قوله (عتيا)
قال: معصية. وأخرج ابن جرير عنه في قوله (عتيا) قال: عصيا. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ثم
لننزعن) قال: لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤوسهم في الشر. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن
ابن مسعود قال: نحشر الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أثارهم جميعا، ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرما، ثم
قرأ (فوربك لنحشرنهم) إلى قوله (عتيا). وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله (ثم لنحن أعلم بالذين هم
أولى بها صليا) قال: يقول إنهم أولى بالخلود في جهنم. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم والترمذي وابن المنذر
345

وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا لا يدخلها
مؤمن، وقال بعضنا يدخلونها جميعا (ثم ننجي الذين اتقوا) فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له، فقال وأهوى
بأصبعه إلى أذنيه صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها
فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجا من بردها (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر
الظالمين فيها جثيا) ". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم والبيهقي عن مجاهد قال: خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس، فقال ابن عباس: الورود الدخول، وقال
نافع لا، فقرأ ابن عباس - إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون - وقال: وردوا أم لا؟
وقرأ - يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار - أوردوا أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل نخرج منها أم لا؟.
وأخرج الحاكم عن ابن مسعود في قوله (وإن منكم إلا واردها) قال: وإن منكم إلا داخلها. وأخرج هناد
والطبراني عنه في الآية قال: ورودها الصراط. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه والبيهقي وابن الأنباري وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله (وإن منكم إلا واردها) قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم " ليرد الناس كلهم النار، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم
كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشد الرحل، ثم كمشيه " وقد روى نحو هذا من
حديث ابن مسعود من طرق. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" وإن منكم إلا واردها " يقول مجتاز فيها. وأخرج مسلم وغيره عن أم مبشر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " لا يدخل النار أحدا شهد بدرا والحديبية، قالت حفصة: أليس الله يقول (وإن منكم إلا واردها)
قالت: ألم تسمعيه يقول (ثم ننجي الذين اتقوا) " وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فليج النار إلا تحله القسم " ثم قرأ سفيان (وإن منكم إلا واردها).
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " قال: من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم،
فإن الله يقول (وإن منكم إلا واردها) " والأحاديث في تفسير هذه الآية كثيرة جدا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد
ابن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (حتما مقضيا) قال: قضاء من الله. وأخرج الخطيب في تالي التلخيص
عن عكرمة حتما مقضيا قال: قسما واجبا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ونذر الظالمين فيها جثيا)
قال: باقين فيها.
سورة مريم الآية (73 - 75)
346

سورة مريم الآية (76 - 80)
الضمير في (عليهم) راجع إلى الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله: (أئذا ما مت لسوف أخرج حيا) أي هؤلاء
إذا قرئ عليهم القرآن تعذروا بالدنيا، وقالوا: لو كنتم على حق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من
حالنا، ولم يكن بالعكس، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعز أعداءه، ومعنى البينات الواضحات التي
لا تلتبس معانيها، وقيل ظاهرات الإعجاز، وقيل إنها حجج وبراهين، والأول أولى. وهى حال مؤكدة لأن
آيات الله لا تكون إلا واضحة، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله (قال الذين كفروا) للإشعار بأن كفرهم
هو السبب لصدور هذا القول عنهم، وقيل المراد بالذين كفروا هنا هم المتمردون المصرون منهم، ومعنى قالوا
(للذين آمنوا) قالوا لأجلهم، وقيل هذه اللام هي لام التبليغ كما في قوله - وقال لهم نبيهم - أي خاطبوهم بذلك
وبلغوا القول إليهم (أي الفريقين خير مقاما) المراد بالفريقين المؤمنون والكافرون، كأنهم قالوا أفريقنا خير أم
فريقكم، قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد مقاما بضم الميم وهو موضع الإقامة، ويجوز أن يكون
مصدرا بمعنى الإقامة، وقرأ الباقون بالفتح: أي منزلا ومسكنا وقيل المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة
والمعنى: أي الفريقين أكبر جاها وأكثر أنصارا وأعوانا، والندى والنادي: مجلس القوم ومجتمعهم، ومنه قوله
تعالى - تأتون في ناديكم المنكر - وناداه جالسه في النادي، ومنه دار الندوة، لأن المشركين كانوا يتشاورون
فيها في أمورهم، ومنه أيضا قول الشاعر: * أنادى به آل الوليد وجعفرا * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن)
القرن الأمة والجماعة (هم أحسن أثاثا ورئيا) الأثاث المال أجمع: الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع، وقيل هو
متاع البيت خاصة، وقيل هو الجديد من الفرش، وقيل اللباس خاصة. واختلفت القراءات في " ورئيا " فقرأ أهل
المدينة وابن ذكوان " وريا " بياء مشددة، وفى ذلك وجهان: أحدهما أن يكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل
منها ياء وأدغمت الياء في الياء، والمعنى على هذه القراءة: هم أحسن منظرا وبه قول جمهور المفسرين، وحسن المنظر
يكون من جهة حسن اللباس، أو حسن الأبدان وتنعمها، أو مجموع الأمرين. وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن
كثير " ورئيا " بالهمز، وحكاها ورش عن نافع وهشام عن ابن عامر، ومعناها معنى القراءة الأولى. قال
الجوهري: من همز جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنه وكسوة ظاهرة، وأنشد
أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا * بذى الرأي الجميل من الأثاث
ومن لم يهمز: إما أن يكون من تخفيف الهمزة، أو يكون من رويت ألوانهم أو جلودهم ريا: أي امتلأت
وحسنت. وقد ذكر الزجاج معنى هذا كما حكاه عنه الواحدي. وحكى يعقوب أن طلحة بن مصرف قرأ بياء
واحدة خفيفة، فقيل إن هذه القراءة غلط، ووجهها بعض النحويين أنه كان أصلها الهمزة فقلبت ياء ثم حذفت
إحدى اليائين، وروى عن ابن عباس أنه قرأ بالزاي مكان الراء وروى مثل ذلك عن أبي بن كعب وسعيد بن
جبير والأعصم المكي واليزيدي، والزي الهيئة والحسن. قيل ويجوز أن يكون من زويت: أي جمعت، فيكون
347

أصلها زويا فقلبت الواو ياء، والزي محاسن مجموعة (قل من كان في الضلالة) أمر الله سبحانه رسوله صلى الله
عليه وآله وسلم أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية: أي من كان مستقرا في الضلالة (فليمدد له
الرحمن مدا) هذا وإن كان على صيغة الأمر، فالمراد به الخبر، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان الإمهال منه سبحانه
للعصاة، وأن ذلك كائن لا محالة لتنقطع معاذير أهل الضلال، ويقال لهم يوم القيامة - أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من
تذكر - أو للاستدراج كقوله سبحانه - إنما نملي لهم ليزدادوا إثما - وقيل المراد بالآية الدعاء بالمد والتنفيس. قال
الزجاج: تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمده فيها، لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن المتكلم
يقول أفعل ذلك وآمر به نفسي (حتى إذا رأوا ما يوعدون) يعني الذين مد لهم في الضلالة، وجاء بضمير الجماعة
اعتبارا بمعنى من، كما أن قوله " كان في الضلالة فليمدد له " اعتبار بلفظها، وهذه غاية للمد، لا لقول المفتخرين
إذ ليس فيه امتداد (إما العذاب وإما الساعة) هذا تفصيل لقوله ما يوعدون: أي هذا الذي توعدون هو أحد أمرين
إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر، وإما يوم القيامة وما يحل بهم حينئذ من العذاب الأخروي (فسيعلمون من
هو شر مكانا وأضعف جندا) هذا جواب الشرط، وهو جواب على المفتخرين: أي هؤلاء القائلون: أي الفريقين
خير مقاما، إذا عاينوا ما يوعدون به من العذاب الدنيوي بأيدي المؤمنين، أو الأخروي، فسيعلمون عند ذلك
من هو شر مكانا من الفريقين، وأضعف جندا منهما: أي أنصارا وأعوانا. والمعنى: أنهم سيعلمون عند ذلك
أنهم شر مكانا لا خير مكانا، وأضعف جندا لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين، وليس المراد أن للمفتخرين
هنالك جندا ضعفاء، بل لا جند لهم أصلا كما في قوله سبحانه - ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان
منتصرا -. ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة، أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال (ويزيد الله الذين
اهتدوا هدى) وذلك أن بعض الهدى يجر إلى البعض الآخر، والخير يدعو إلى الخير، وقيل المراد بالزيادة العبادة
من المؤمنين، والواو في " ويزيد " للاستئناف، والجملة مستأنفة لبيان حال المهتدين، وقيل الواو للعطف على
فليمدد، وقيل للعطف على جملة من كان في الضلالة. قال الزجاج: المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم
يقينا كما جعل جزاء الكافرين أن يمدهم في ضلالتهم (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا) هي الطاعات
المؤدية إلى السعادة الأبدية، ومعنى كونها خيرا عند الله ثوابا، أنها أنفع عائدة مما يتمتع به الكفار من النعم الدنيوية
(وخير مردا) المرد هاهنا مصدر كالرد، والمعنى وخير مردا للثواب على فاعلها ليست كأعمال الكفار التي
خسروا فيها، والمرد المرجع والعاقبة والتفضل للتهكم بهم للقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلا. ثم أردف
سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) أي أخبرني
بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقب حديث أولئك، وإنما استعملوا أرأيت بمعنى أخبر، لأن رؤية الشئ من
أسباب صحة الخبر عنه، والآيات تعم كل آية ومن جملتها آية البعث، والفاء للعطف على مقدر يدل عليه المقام:
أي أنظرت فرأيت، واللام في (لأوتين مالا وولدا) هي الموطئة للقسم، كأنه قال: والله لأوتين في الآخرة مالا
وولدا: أي انظر إلى حال هذا الكافر وتعجب من كلامه وتأليه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته. ثم أجاب
سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله، فقال (أطلع) على (الغيب) أي أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في
الجنة (أم اتخذ عند الرحمن عهدا) بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين، وقيل المعنى: انظر
في اللوح المحفوظ؟ أم اتخذ عند الرحمن عهدا، وقيل معنى: أم اتخذ عند الرحمن عهدا؟ أم قال لا إله إلا الله فأرحمه
بها، وقيل المعنى أم قدم عملا صالحا فهو يرجوه، واطلع مأخوذ من قولهم: اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه.
348

وقرأ حمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش " وولدا " بضم الواو، والباقون بفتحها، فقيل هما لغتان معناهما
واحد، يقال ولد وولد كما يقال عدم وعدم، قال الحارث بن حلزة:
ولقد رأيت معاشرا * قد ثمروا مالا وولدا
وقال آخر: فليت فلانا كان في بطن أمه * وليت فلانا كان ولد حمار
وقيل الولد بالضم للجمع وبالفتح للواحد. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله: لأوتين مالا
وولدا أنه يؤتي ذلك في الدنيا. وقال: جماعة في الجنة، وقيل المعنى: إن أقمت على دين آبائي لأوتين، وقيل
المعنى: لو كنت على باطل لما أوتيت مالا وولدا (كلا سنكتب ما يقول) كلا حرف ردع وزجر: أي ليس
الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتي المال والولد سيكتب ما يقول: أي سنحفظ عليه ما يقوله فنجاز به
في الآخرة، أو سنظهر ما يقول، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته (ونمد له من العذاب مدا) أي نزيده عذابا
فوق عذابه مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أو نطول له من العذاب ما يستحقه وهو عذاب من جمع
بين الكفر والاستهزاء (ونرثه ما يقول) أي نميته فنرثه ثنا المال والولد الذي يقول إنه يؤتاه. والمعنى: مسمى ما يقول
ومصداقه، وقيل المعنى: نحرمه ما تمناه ونعطيه غيره (ويأتينا فردا) أي يوم القيامة لا مال له ولا ولد، بل نسلبه
ذلك، فكيف يطمع في أن نؤتيه، وقيل المراد بما يقول نفس القول لا مسماه، والمعنى: إنما يقول هذا القول
ما دام حيا، فإذا أمتناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضا له منفردا عنه، والأول أولى.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (أي الفريقين خير مقاما) قال:
قريش تقوله لها ولأصحاب محمد. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (خير مقاما) قال: المنازل (وأحسن نديا) قال: المجالس، وفى قوله (أحسن
أثاثا) قال: المتاع والمال (ورئيا) قال: المنظر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن مجاهد في قوله (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) فليدعه الله في طغيانه، وأخرج ابن أبي شيبة وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال في حرف أبي " قل من كان في الضلالة
فإنه يزيده الله ضلالة ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما في قوله (أفرأيت الذي كفر) من حديث خباب بن الأرت قال: كنت رجلا
قينا وكان لي على العاص بن وائل دين. فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت:
والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك، فأنزل
الله فيه هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أم اتخذ عند الرحمن عهدا) قال: لا إله إلا الله
يرجو بها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (ونرثه ما يقول) قال ماله وولده.
سورة مريم الآية (81 - 86)
349

سورة مريم الآية (87 - 95)
حكى سبحانه ما كان عليه هؤلاء الكفار الذين تمنوا ما لا يستحقونه، وتألوا على الله سبحانه من اتخاذهم الآلهة
من دون الله لأجل يتعززون بذلك. قال الهروي: معنى (ليكونوا لهم عزا) ليكونوا لهم أعوانا. قال الفراء: معناه
ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة، وقيل معناه ليتعززوا بهم من عذاب الله ويمتنعوا بها (كلا سيكفرون بعبادتهم)
أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا، والضمير في الفعل إما للآلهة: أي ستجحد هذه الأصنام عبادة الكفار لها يوم
ينطقها الله سبحانه، لأنها عند أن عبدوها جمادات لا تعقل ذلك، وإما للمشركين: أي سيجحد المشركون أنهم
عبدوا الأصنام، ويدل على الوجه الأول قوله تعالى - ما كانوا إيانا يعبدون - وقوله - فألقوا إليهم
القول إنكم لكاذبون - ويدل على الوجه الثاني قوله تعالى - والله ربنا ما كنا مشركين - وقرأ ابن أبي نهيك " كلا "
بالتنوين، وروى عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها فعلى الضم هي بمعنى جميعا وانتصابها بفعل مضمر كأنه قال: سيكفرون
كلا سيكفرون بعبادتهم، وعلى الفتح يكون مصدرا لفعل محذوف تقديره: كل هذا الرأي كلا، وقراءة الجمهور
هي الصواب، وهى حرف ردع وزجر (ويكونون عليهم ضدا) أي تكون هذه الآلهة التي ظنوها عزا لهم ضدا
عليهم: أي ضدا للعز وضد العز الذل هذا على الوجه الأول، وأما على الوجه الثاني فيكون المشركون للآلهة ضدا
وأعداء يكفرون بها بعد أن كانوا يحبونها ويؤمنون بها (ألم تر انا أرسلنا الشياطين على الكافرين). ذكر الزجاج
في معنى هذا وجهين: أحدهما أن معناه خلينا بين الكافرين وبين الشياطين فلم نعصمهم منهم ولم نعذهم. بخلاف
المؤمنين الذين قيل فيهم إن عبادي ليس لك عليه سلطان - الوجه الثاني أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم قال
- ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا - فمعنى الإرسال هاهنا التسليط ومن ذلك قوله سبحانه لإبليس
- واستفزز من استطعت منهم بصوتك - ويؤيد الوجه الثاني تمام الآية، وهو (تؤزهم أزا) فإن الأز والهز والاستفزاز
معناها التحريك والتهييج والإزعاج، فأخبر الله سبحانه أن الشياطين تحرك الكافرين وتهيجهم وتغويهم، وذلك
هو التسليط لها عليهم، وقيل معنى الأز الاستعجال، وهو مقارب لما ذكرنا لأن الاستعجال تحريك وتهييج
واستفزاز وإزعاج، وسياق هذه الآية لتعجيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حالهم وللتنبيه له على أن
جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم، وجملة: تؤزهم أزا في محل نصب على الحال، أو مستأنفة على تقدير سؤال
يدل عليه المقام، كأنه قيل ماذا تفعل الشياطين بهم؟ (فلا تعجل عليهم) بأن تطلب من الله إهلاكهم بسبب
تصميمهم على الكفر وعنادهم للحق وتمردهم عن داعي الله سبحانه، ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله (إنما نعد لهم
عدا) يعني نعد الأيام والليالي والشهور والسنين من أعمارهم إلى انتهاء آجالهم، وقيل نعد أنفاسهم، وقيل
خطواتهم، وقيل لحظاتهم، وقيل الساعات. وقال قطرب: نعد أعمالهم. وقيل المعنى: لا تعجل عليهم فإنما
نؤخرهم ليزدادوا إثما. ثم لما قرر سبحانه أمر الحشر وأجاب عن شبهة منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين حينئذ،
فقال (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) الظرف منصوب بفعل مقدر: أي أذكر يا محمد يوم الحشر، وقيل
350

منصوب بالفعل الذي بعده، ومعنى حشرهم إلى الرحمن: حشرهم إلى جنته ودار كرامته، كقوله - إني ذاهب إلى ربى -
والوفد جمع وافد كالركب جمع راكب وصحب جمع صاحب، يقال وفد يفد وفدا إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير
كذا قال الجوهري (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) السوق الحث على السير، والورد العطاش قاله الأخفش
وغيره. وقال الفراء وابن الأعرابي: هم المشاة، وقال الأزهري: هم المشاة العطاش كالإبل ترد الماء. وقيل وردا:
أي للورد، كقولك جئتك إكراما: أي للإكرام، وقيل أفرادا. قيل ولا تناقض بين هذه الأقوال فهم يساقون
مشاة عطاشا أفرادا، وأصل الورد الجماعة التي ترد الماء من طير أو إبل أو قوم أو غير ذلك. والورد الماء الذي
يورد، وجملة (لا يملكون الشفاعة) مستأنفة لبيان بعض ما يكون في ذلك اليوم من الأمور، والضمير في يملكون
راجع إلى الفريقين، وقيل للمتقين خاصة، وقيل للمجرمين خاصة، والأول أولى. ومعنى لا يملكون الشفاعة:
أنهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم. وقيل لا يملك غيرهم أن يشفع لهم، والأول أولى (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا)
هذا الاستثناء متصل على الوجه الأول: أي لا يملك الفريقان المذكوران الشفاعة إلا من استعد لذلك بما يصير به
من جملة الشافعين لغيرهم بأن يكون مؤمنا متقيا، فهذا معنى اتخاذ العهد عند الله. وقيل معنى اتخاذ العهد أن الله أمره
بذلك كقولهم: عهد الأمير إلى فلان إذا أمره به. وقيل معنى اتخاذ العهد شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل غير ذلك.
وعلى الاتصال في هذا الاستثناء يكون محل من في " من اتخذ " الرفع على البدل، أو النصب على أصل الاستثناء. وأما
على الوجه الثاني فالاستثناء منقطع لأن التقدير: لا يملك المجرمون الشفاعة (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) وهم
المسلمون. وقيل هو متصل على هذا الوجه أيضا، والتقدير: لا يملك المجرمون الشفاعة إلا من كان منهم مسلما
(وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي " ولدا " بضم الواو وإسكان اللام. وقرأ
الباقون في الأربعة المواضع المذكورة في هذه السورة بفتح الواو واللام، وقد قدمنا الفرق بين القراءتين، والجملة
مستأنفة لبيان قول اليهود والنصارى ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله، وفى قوله (لقد جئتم شيئا إدا)
التفات من الغيبة إلى الخطاب، وفيه رد لهذه المقالة الشنعاء، والإد كما قال الجوهري: الداهية والأمر الفظيع،
وكذلك الأدة، وجمع الأدة أدد، يقال أدت فلانا الداهية تؤده أداء بالفتح. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي
" أدا " بفتح الهمزة، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرأ ابن عباس وأبو العالية " آدا " مثل مادا، وهى مأخوذة من
الثقل، يقال أده الحمل يؤده: إذا أثقله. قال الواحدي (لقد جئتم شيئا إدا) أي عظيما في قول الجميع، ومعنى
الآية: قلتم قولا عظيما. وقيل الإد العجب، والإدة الشدة، والمعنى متقارب والتركيب يدور على الشدة والثقل
(يكاد السماوات يتفطرن منه) قرأ نافع والكسائي وحفص ويحيى بن وثاب " يكاد " بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية
وقرأ نافع وابن كثير وحفص " يتفطرن " بالتاء الفوقية، وقرأ حمزة وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر والمفضل
" يتفطرن " بالتحتية من الانفطار، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله - إذا السماء انفطرت - وقوله - السماء منفطر
به - وقرأ ابن مسعود " يتصدعن " والانفطار والتفطر التشقق (وتنشق الأرض) أي وتكاد أن تنشق الأرض،
وكرر الفعل للتأكيد لأن تتفطرن وتنشق معناهما واحد (وتخر الجبال) أي تسقط وتنهدم، وانتصاب (هدا) على
أنه مصدر مؤكد لأن الخرور في معناه، أو هو مصدر لفعل مقدر: أي وتنهد هدا، أو على الحال أي مهدودة،
أو على أنه مفعول له: أي لأنها تنهد. قال الهروي: يقال هدني الأمر وهد ركني: أي كسرني لم وبلغ منى.
قال الجوهري: هد البناء يهده هدا كسره وضعضعه، وهدته المصيبة أوهنت ركنه، وانهد الجبل: أي انكسر
والهدة صوت وقع الحائط، كما قال ابن الأعرابي، ومحل (أن دعوا للرحمن ولدا) الجر بدلا من الضمير في منه.
351

وقال الفراء: في محل نصب بمعنى لأن دعوا. وقال الكسائي: هو في محل خفض بتقدير الخافض، وقيل في محل
رفع على أنه فاعل هدا. والدعاء بمعنى التسمية: أي سموا للرحمن ولدا، أو بمعنى النسبة أي نسبوا له ولدا (وما
ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا) أي لا يصلح له ولا يليق به لاستحالة ذلك عليه لأن الولد يقتضى الجنسية والحدوث،
والجملة في محل نصب على الحال: أي قالوا اتخذ الرحمن ولدا. أو أن دعوا للرحمن ولدا، والحال أنه ما يليق به
سبحانه ذلك (إن كل من في السماوات والأرض) أي ما كل من السماوات والأرض (إلا) وهو (آتي) الله
يوم القيامة مقرا بالعبودية خاضعا ذليلا كما قال - وكل أتوه داخرين - أي صاغرين. والمعنى: أن الخلق كلهم
عبيده فكيف يكون واحد منهم ولدا له؟ وقرئ " آت " على الأصل (لقد أحصاهم) أي حصرهم وعلم عددهم
(وعدهم عدا) أي عد أشخاصهم بعد أن حصرهم فلا يخفى عليه أحد منهم (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) أي
كل واحد منهم يأتيه يوم القيامة فردا لا ناصر له ولا مال معه كما قال سبحانه - يوم لا ينفع مال ولا بنون -.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ويكونون عليهم ضدا) قال: أعوانا. وأخرج
عبد بن حميد عنه (ضدا) قال: حسرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال (تؤزهم أزا) تغويهم
إغواء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (تؤزهم أزا) قال: تحرض المشركين على محمد وأصحابه. وأخرج
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: تزعجهم إزعاجا إلى معاصي الله
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس (وفدا) قال: ركبانا. وأخرج
ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة (وفدا) قال: على الإبل. وفى الصحيحين وغيرهما من حديث
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راغبين
وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث
قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا " والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس (وردا) قال: عطاشا. وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (إلا من اتخذ عند الرحمن
عهدا) قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وتبرأ من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله. وأخرج ابن مردويه عنه في
الآية قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه
وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) قال: إن الله يقول يوم القيامة: من كان له
عندي عهد فليقم، فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا، قولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة
إني أعهد إليك في الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا
برحمتك، فاجعله لي عندك عهدا تؤديه إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرني، ومن سرني فقد اتخذ عند
الرحمن عهدا، ومن اتخذ عند الرحمن عهدا فلا تمسه النار، إن الله لا يخلف الميعاد ". وأخرج الطبراني في الأوسط
عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من جاءنا بالصلوات الخمس يوم القيامة قد
حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينقص منها شيئا جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء
قد انتقص منهم شيئا فليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (لقد جئتم شيئا إدا) قال: قولا عظيما. وفى قوله (يكاد السماوات) قال: إن
352

الشرك فرغت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت تزول منه لعظمة الله سبحانه،
وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك يرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين، وفى قوله (وتخر الجبال هدا)
قال: هدما. وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ
في العظمة والطبراني والبيهقي في الشعب من طريق عون عن ابن مسعود قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه، يا فلان
هل مر بك اليوم أحد ذكر الله؟ فإذا قال نعم استبشر. قال عون: أفيسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير؟ هن
للخير أسمع، وقرأ (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) الآيات.
سورة مريم الآية (96 - 98)
ذكر سبحانه من أحوال المؤمنين بعض ما خصهم به بعد ذكره لقبائح الكافرين قال (إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) أي حبا في قلوب عباده يجعله لهم من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك
كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب، والسين في سيجعل للدلالة على أن ذلك لم يكن من قبل وأنه مجعول من بعد
نزول الآية. وقرئ " ودا " بكسر الواو، والجمهور من السبعة وغيرهم على الضم. ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن
خصوصا هذه السورة لاشتمالها على التوحيد والنبوة، وبيان حال المعاندين فقال (فإنما يسرناه بلسانك) أي يسرنا
القرآن بإنزالنا له على لغتك، وفصلناه وسهلناه، والباء بمعنى على، والفاء لتعليل كلام ينساق إليه النظم كأنه قيل:
بلغ هذا المنزل أو بشر به أو أنذر (فإنما يسرناه) الآية. ثم علل ما ذكره من التيسير فقال (لتبشر به المتقين) أي
المتلبسين بالتقوى، المتصفين بها (وتنذر به قوما لدا) اللد جمع الألد، وهو الشديد الخصومة، ومنه قوله تعالى
- ألد الخصام - قال الشاعر:
أبيت نجيا للهموم كأنني * أخاصم أقواما ذوي جدل لدا
وقال أبو عبيدة: الألد الذي لا يقبل الحق ويدعى الباطل، وقيل اللد الصم، وقيل الظلمة (وكم أهلكنا
قبلهم من قرن) أي من أمة وجماعة من الناس، وفى هذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهلاك الكافرين
ووعيد لهم (هل تحس منهم من أحد) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها: أي هل تشعر بأحد منهم أو تراه (أو
تسمع لهم ركزا) الركز الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. قال طرفة:
وصادفتها سمع التوجس للسرى * لركز خفي أو لصوت مفند
وقال ذو الرمة:
إذا توجس ركزا مقفر ندس * بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي: في استماعه كذب بل هو صادق الاستماع، والندس الحاذق، والنبأة الصوت الخفي. وقال اليزيدي
وأبو عبيدة: الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد
353

في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، فأنزل الله - إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات - الآية، قال ابن كثير: وهو خطأ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل شئ منها بعد الهجرة ولم يصح
سند ذلك. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب (إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) قال: محبة في قلوب المؤمنين. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي " قل اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي
عندك ودا واجعل لي
في صدور المؤمنين مودة، فأنزل الله الآية في علي ". وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن
ابن عباس (ودا) قال: محبة في الناس في الدنيا. وأخرج الحكيم الترمذي وابن مردويه عن علي قال " سألت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله (سيجعل لهم الرحمن ودا) ما هو؟ قال: المحبة الصادقة في صدور
المؤمنين ". وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إذا
أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك
قوله (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إني قد أبغضت
فلانا، فينادي في أهل السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض " والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة. وأخرج
ابن جرير عن ابن عباس في قوله (وتنذر به قوما لدا) قال: فجارا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: صما. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله (هل تحس منهم
من أحد) قال: هل ترى منهم من أحد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ركزا)
قال: صوتا.
تفسير سورة طه
هي مكية وآياتها مائة وخمس وثلاثون آية
قال القرطبي: مكية في قول الجميع. وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة طه
بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الدارمي وابن خزيمة في التوحيد، والعقيلي في الضعفاء،
والطبراني في الأوسط، وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة
القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل عليها هذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسنة تكلمت بهذا ". قال ابن
خزيمة بعد إخراجه: حديث غريب، وفيه نكارة، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما، يعني إبراهيم بن مهاجر
ابن سمار وشيخه عمر بن حفص بن ذكوان وهما من رجال إسناده. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " أعطيت السورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأول، وأعطيت سورة طه
والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة ".
وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " كل قرآن يوضع عن أهل الجنة فلا
يقرءون منه شيئا إلا سورة طه ويس، فإنهم يقرءون بهما في الجنة ". وأخرج الدارقطني في سننه عن أنس بن
354

ابن مالك، فذكر قصة عمر بن الخطاب مع أخته وخباب وقراءتهما طه، وكان ذلك بسبب إسلام عمر،
والقصة مشهورة في كتب السير.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة طه الآية (1 - 16)
قوله (طه) قرأ بإمالة الهاء وفتح الطاء أبو عمرو وابن أبي إسحاق، وأمالهما جميعا أبو بكر وحمزة والكسائي
والأعمش. وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين، واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ الباقون بالتفخيم. قال
الثعلبي: وهى كلها لغات صحيحة فصيحة. وقال النحاس: لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين: الأولى
أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة حتى تكون الإمالة، والعلة الثانية أن الطاء من موانع الإمالة.
وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال الأول: أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به، والثاني
أنها بمعنى يا رجل في لغة عكل، وفى لغة عك. قال الكلبي: لو قلت لرجل من عك يا رجل لم يجب حتى تقول
طه، وأنشد ابن جرير في ذلك:
دعوت بطه في القتال فلم يجب * فخفت عليه أن يكون موائلا
ويروي مزايلا، وقيل إنها في لغة عك بمعنى يا حبيبي. وقال قطرب: هي كذلك في لغة طي: أي بمعنى يا رجل،
وكذلك قال الحسن وعكرمة. وقيل هي كذلك في اللغة السريانية، حكاه المهدوي. وحكى ابن جرير أنها كذلك
في اللغة النبطية، وبه قال السدي وسعيد بن حبين. وحكى الثعلبي عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة، ورواه
عن عكرمة، ولا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صح النقل. القول
الثالث: أنها اسم من أسماء الله سبحانه. والقول الرابع أنها اسم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. القول الخامس أنها
355

اسم للسورة. القول السادس أنها حروف مقطعة يدل كل واحد منها على معنى. ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدل
عليها هذه الحروف على أقوال كلها متكلفة متعسفة. القول السابع أن معناها طوبى لمن اهتدى. القول الثامن أن
معناها: طإ الأرض يا محمد. قال ابن الأنباري: وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحمل مشقة
الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى التروح، فقيل له طإ الأرض: أي لا تتعب حتى تحتاج إلى التروح.
وحكى القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى قام على رجل
ورفع الأخرى، فأنزل الله (طه) يعنى طإ الأرض يا محمد، وحكى عن الحسن البصري أنه قرأ طه على وزن دع
أمر بالوطء، والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء. وقد حكى الواحدي عن أكثر المفسرين أن هذه الكلمة معناها:
يا رجل، يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة
ومجاهد وابن عباس في رواية عطاء والكلبي غير أن بعضهم يقول: هي بلسان الحبشة والنبطية والسريانية، ويقول
الكلبي: هي بلغة عك. قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى، لأن الله سبحانه لم
يخاطب نبيه بلسان غير قريش انتهى. وإذا تقرر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى واضحة
الدلالة خارجة عن فواتح السور التي قدمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة، وهكذا إذا كانت لهذا
المعنى في لغة من لغات العجم واستعملتها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها
العرب الموجودة في الكتاب العزيز، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة العرب، وجملة (ما أنزلنا عليك القرآن
لتشقى) مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب،
والشقاء يجئ في معنى التعب. قال ابن كيسان: وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب، ومنه قول الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله * وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
والمعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، فهو
كقوله سبحانه - فلعلك باخع نفسك - قال النحاس: بعض النحويين يقول: هذه اللام في " لتشقى " لام النفي،
وبعضهم يقول لام الجحود. وقال ابن كيسان: هي لام الخفض، وهذا التفسير للآية هو على قول من قال إن
طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديدا لأسماء الحروف، وإن جعلت اسما للسورة كان قوله (ما أنزلنا عليك
القرآن لتشقى) خبرا عنها، وهى في موضع المبتدأ، وأما على قول من قال: إن معناها يا رجل، أو بمعنى الأمر
بوطء الأرض فتكون الجملة مستأنفة لصرفه صلى الله عليه وآله وسلم عما كان عليه من المبالغة في العبادة، وانتصاب
(إلا تذكرة) على أنه مفعول له لأنزلنا كقولك: ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا عليك. وقال الزجاج: هو بدل
من لتشقى: أي ما أنزلناه إلا تذكرة. وأنكره أبو علي الفارسي من جهة أن التذكرة ليست بشقاء، قال: وإنما
هو منصوب على المصدرية: أي أنزلناه لتذكر به تذكرة، أو على المفعول من أجله: أي ما أنزلنا عليك القرآن
لتشقى به، ما أنزلناه إلا للتذكرة، وانتصاب (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا) على المصدرية: أي أنزلناه
تنزيلا، وقيل بدل من قوله تذكرة، وقيل هو منصوب على المدح، وقيل منصوب بيخشى: أي يخشى تنزيلا
من الله على أنه مفعول به، وقيل منصوب على الحال بتأوله باسم الفاعل. وقرأ أبو حيوة الشامي " تنزيل " بالرفع
على معنى هذا تنزيل، وممن خلق متعلق بتنزيلا، أو بمحذوف هو صفة له، وتخصيص خلق الأرض والسماوات
356

لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عز وجل، والعلى: جمع العليا: أي المرتفعة كجمع كبرى وصغرى
على كبر وصغر. ومعنى الآية إخبار العباد عن كمال عظمته سبحانه وعظيم جلاله، وارتفاع (الرحمن) على أنه
خبر مبتدأ محذوف كما قال الأخفش، ويجوز أن يكون مرتفعا على المدح أو على الابتداء. وقرئ بالجر، قال
الزجاج على البدل ممن، وجوز النحاس أن يكون مرتفعا على البدل من المضمر في خلق، وجملة (على العرش
استوى) في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، أو على أنها خبر الرحمن عند من جعله مبتدأ. قال أحمد بن يحيى:
قال ثعلب: الاستواء الإقبال على الشئ، وكذا قال الزجاج والفراء. وقيل هو. كناية عن الملك والسلطان،
والبحث في تحقيق هذا يطول، وقد تقدم البحث عنه في الأعراف. والذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه
سبحانه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف، وإلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح الذي يمرون
الصفات كما وردت من دون تحريف ولا تأويل (له ما في السماوات وما في الأرض) أي أنه مالك كل شئ
ومدبره (وما بينهما) من الموجودات (وما تحت الثرى) الثرى في اللغة التراب الندي: أي ما تحت التراب من شئ.
قال الواحدي: والمفسرون يقولون إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض
ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله سبحانه (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) الجهر بالقول هو رفع الصوت به
والسر ما حدث به الإنسان غيره وأسره إليه، والأخفى من السر هو ما حدث به الإنسان نفسه وأخطره بباله.
والمعنى: إن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غنى عن ذلك، فإنه يعلم السر وما هو أخفى من السر، فلا حاجة لك إلى
الجهر بالقول، وفى هذا معنى النهي عن الجهر كقوله سبحانه - واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة - وقيل
السر ما أسر الإنسان في نفسه، والأخفى منه هو ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه وقيل السر
ما أضمره الإنسان في نفسه، والأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد، وقيل السر سر الخلائق، والأخفى منه سر
الله عز وجل، وأنكر ذلك ابن جرير وقال: إن الأخفى ما ليس في سر الإنسان وسيكون في نفسه. ثم ذكر أن
الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو الله سبحانه المنزه عن الشريك المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى فقال
(الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) فالله خبر مبتدأ محذوف: أي الموصوف بهذه الصفات الكمالية الله، وجملة
لا إله إلا هو مستأنفة لبيان اختصاص الإلهية به سبحانه: أي لا إله في الوجود إلا هو، وهكذا جملة له الأسماء
الحسنى مبينة لاستحقاقه تعالى للأسماء الحسنى، وهى التسعة والتسعون التي ورد بها الحديث الصحيح.
وقد تقدم بيانها في قوله سبحانه - ولله الأسماء الحسنى - من سورة الأعراف، والحسنى تأنيث الأحسن، والأسماء
مبتدأ وخبرها الحسنى، ويجوز أن يكون الله مبتدأ وخبره الجملة التي بعده، ويجوز أن يكون بدلا من الضمير في
يعلم. ثم قرر سبحانه أمر التوحيد بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة، والخبر الغريب، فقال (وهل
أتاك حديث موسى) الاستفهام للتقرير، ومعناه: أليس قد أتاك حديث موسى، وقيل معناه: قد أتاك حديث
موسى، وقال الكلبي: لم يكن قد أتاه حديث موسى إذ ذاك. وفى سياق هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه
وآله وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة، وتحمل أثقالها ومقاساة خطوبها، وأن ذلك شأن الأنبياء قبله. والمراد
بالحديث القصة الواقعة لموسى، و (إذ رأى نارا) ظرف للحديث، وقيل العامل فيه مقدر: أي أذكر، وقيل
يقدر مؤخرا: أي حين رأى نارا كان كيت وكيت، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافرا إلى أمه
بعد استئذانه لشعيب (ف‍) لما رآها (قال لأهله امكثوا) والمراد بالأهل هنا امرأته، والجمع لظاهر لفظ الأهل أو
للتفخيم، وقيل المراد بهم المرأة والولد والخادم، ومعنى امكثوا أقيموا مكانكم، وعبر بالمكث دون الإقامة، لأن
357

الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك. وقرأ حمزة " لأهله " بضم الها، وكذا في القصص. قال النحاس:
وهذا على لغة من قال: مررت بهو يا رجل فجاء به على الأصل وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذين
الموضعين خاصة (إني آنست نارا) أي أبصرت، يقال آنست الصوت سمعته، وآنست الرجل أبصرته. وقيل
الإيناس الإبصار البين، وقيل الإيناس مختص بإبصار ما يؤنس، والجملة تعليل للأمر بالمكث، ولما كان الإتيان
بالقبس، ووجود الهدى متوقعين بنى الأمر على الرجاء فقال (لعلى آتيكم منها بقبس) أي أجيئكم من النار بقبس،
والقبس شعلة من النار، وكذا المقباس، يقال قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني: أي أعطاني وكذا اقتبست.
قال اليزيدي: أقبست الرجل علما وقبسته نارا، فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته. وقال الكسائي: أقبسته نارا
وعلما سواء، قال: وقبسته أيضا فيهما (أو أجد على النار هدى) أي هاديا يهديني إلى الطريق ويدلني عليها. قال
الفراء: أراد هاديا، فذكره بلفظ المصدر، أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف: أي ذا هدى،
وكلمة: أو في الموضعين لمنع الخلو دون الجمع، وحرف الاستعلاء للدلالة على أن أهل النار مستعلون على أقرب
مكان إليها (فلما أتاها نودي) أي فلما أتى النار التي آنسها (نودي) من الشجرة، كما هو مصرح بذلك في سورة
القصص: أي من جهتها، ومن ناحيتها (يا موسى إني أنا ربك) أي نودي، فقيل يا موسى. وقرأ أبو عمرو وابن
كثير وأبو جعفر وابن محيصن وحميد واليزيدي " أنى " بفتح الهمزة. وقرأ الباقون بكسرها: أي بأني (فاخلع نعليك)
أمره الله سبحانه بخلع نعليه، لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب. وقيل
إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ، وقيل معنى الخلع للنعلين: تفريغ القلب من الأهل والمال، وهو من بدع
التفاسير. ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال (إنك بالواد المقدس طوى) المقدس المطهر، والقدس الطهارة،
والأرض المقدسة المطهرة، سميت بذلك لأن الله أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين، وطوى اسم للوادي. قال
الجوهري: وطوى اسم موضع بالشام يكسر طاؤه ويضم، يصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد
ومكان وجعله نكرة ومن لم يصرفه جعله بلدة، وبقعة وجعله معرفة، وقرأ عكرمة " طوى " بكسر الطاء، وقرأ
الباقون بضمها. وقيل إن طوى كثني من الطي مصدر لنودي، أو للمقدس: أي نودي نداءين، أو قدس مرة
بعد أخرى (وأنا اخترتك) قرأ أهل المدينة، وأهل مكة وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي " وأنا اخترتك "
بالإفراد. وقرأ حمزة " وإنا اخترناك " بالجمع. قال النحاس: والقراءة الأولى أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه
بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام لقوله (يا موسى إني انا ربك)، ومعنى اخترتك اصطفيتك للنبوة والرسالة.
والفاء في قوله (فاستمع لما يوحى) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وما موصولة أو مصدرية أي فاستمع للذي يوحى
إليك، أو للوحي، وجملة (إنني أنا الله) بدل من ما في لما يوحى. ثم أمره سبحانه بالعبادة فقال (فاعبدني) والفاء
هنا كالفاء التي قبلها لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة (وأقم الصلاة لذكرى) خص
الصلاة بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة، وعلل الأمر بإقامة
الصلاة بقوله لذكرى: أي لتذكرني فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو المعنى لتذكرني
فيهما لاشتمالهما على الأذكار، أو المعنى: أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة. وقيل المعنى: لأذكرك بالمدح
في عليين، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول، وجملة (إن الساعة آتية) تعليل لما قبلها
من الأمر: أي إن الساعة التي هي وقت الحساب والعقاب آتية، فاعمل الخير من عبادة الله والصلاة.
ومعنى (أكاد أخفيها) مختلف فيه. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: أخفيها من نفسي، وهو قول
سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. وقال المبرد وقطرب: هذا على عادة مخاطبة العرب يقولون إذا بالغوا في كتمان الشئ
358

كتمته حتى من نفسي: أي لم أطلع عليه أحدا، ومعنى الآية أن الله بالغ في إخفاء الساعة، فذكره بأبلغ ما تعرفه
العرب. وقد روى عن سعيد بن جبير أنه قرأ " أخفيها " بفتح الهمزة ومعناه أظهرها. وكذا روى أبو عبيد عن
الكسائي عن محمد بن سهل عن وفاء بن إياس عن سعيد بن جبير. قال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير
هذا. قال القرطبي: وكذا رواه ابن الأنباري في كتاب الرد قال: حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم، حدثنا
الفراء حدثنا الكسائي فذكره. قال النحاس: وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن
السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ " أخفيها " بضم الهمزة. قال ابن الأنباري: قال الفراء: ومعنى قراءة الفتح أكاد
أظهرها، من خفيت الشئ إذا أظهرته أخفيه. قال القرطبي: وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون أخفيها بضم
الألف معناه أظهرها، لأنه يقال خفيت الشئ وأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار. قال
أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد. قال النحاس: وهذا حسن، وقد أنشد الفراء وسيبويه ما يد على أن
معنى أخفاه أظهر، وذلك قول امرئ القيس:
فإن تكتموا الداء لا نخفه * وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أي: وإن تكتموا الداء لا نظهره. وقد حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنه بضم النون من نخفه، وقال:
امرؤ القيس:
خفاهن من أنفاقهن كأنما * خطاهن ودق من غشى مخلب
أي: أظهرهن. وقد زيف النحاس هذا القول وقال: ليس المعنى على أظهرها، ولا سيما وأخفيها قراءة شاذة،
فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة. وقال ابن الأنباري: في الآية تفسير آخر، وهو أن الكلام ينقطع على
أكاد، وبعده مضمر: أي أكاد آتي بها، ووقع الابتداء بأخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، ومثله قول عمير
ابن ضابئ البرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أفعل، واختار هذا النحاس. وقال أبو علي الفارسي: هو من باب السلب وليس من الأضداد،
ومعنى أخفيها: أزيل عنها خفاءها، وهو سترها، ومن هذا قولهم أشكيته: أي أزلت شكواه. وحكى أبو حاتم
عن الأخفش أن أكاد زائدة للتأكيد، قال: ومثله - إذا أخرج يده لم يكد يراها - ومثله قول الشاعر:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه * فما أن يكاد قرنه يتنفس
قال: والمعنى أكاد أخفيها: أي أقارب ذلك، لأنك إذا قلت: كاد زيد يقوم جاز أن يكون قام وأن
يكون لم يقم، ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه الآية على هذا، وقوله (لتجزى كل نفس بما تسعى)
متعلق بآتية، أو بأخفيها، وما مصدرية: أي لتجزى كل نفس بسعيها، والسعي وإن كان ظاهرا في الأفعال، فهو
هنا يعم الأفعال والتروك، للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به (فلا يصدنك عنها) أي لا يصرفنك
عن الإيمان بالساعة، والتصديق بها، أو عن ذكرها ومراقبتها (من لا يؤمن بها) من الكفرة، وهذا النهي وإن كان
للكافر بحسب الظاهر، فهو في الحقيقة نهي له صلى الله عليه وآله وسلم عن الانصداد، أو عن إظهار اللين للكافرين
فهو من باب: لا أرينك ها هنا، كما هو معروف. وقيل الضمير في عنها للصلاة وهو بعيد، وقوله (واتبع هواه)
359

معطوف على ما قبله: أي من لا يؤمن، ومن اتبع هواه: أي هوى نفسه بالإنهماك في اللذات الحسية الفانية
(فتردى) أي فتهلك لأن انصدادك عنها بصد الكفارين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له.
وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب وابن عساكر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم " أول ما نزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى، فأنزل الله (طه ما أنزلنا عليك القرآن
لتشقى) ". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال: قالوا لقد شقي هذا الرجل بربه، فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج ابن عساكر عنه أيضا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل
لئلا ينام، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج البزار عن علي قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يراوح بين
قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) وحسن السيوطي إسناده. وأخرج ابن
مردويه عنه أيضا بأطول منه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربما
قرأ القرآن إذا صلى، فقام على رجل واحدة، فأنزل الله (طه) برجليك فما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. وأخرج ابن
أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه في قوله (طه) قال: يا رجل. وأخرج الحارث بن أبي أسامة وابن أبي حاتم
عن ابن عباس قال (طه) بالنبطية. أي طأ يا رجل. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: هو
كقولك اقعد. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال: (طه) بالنبطية يا رجل. وأخرج ابن جرير عنه قال
(طه) يا رجل بالسريانية. وأخرج الحاكم عنه أيضا قال: (طه) هو كقولك يا محمد بلسان الحبش. وفى هذه
الروايات عن ابن عباس اختلاف وتدافع. وأخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " إن لي عند ربي عشرة أسماء، قال أبو الطفيل: حفظت منها ثمانية: محمد، وأحمد، وأبو القاسم،
والفاتح، والخاتم، والماحي، والعاقب، والحاشر " وزعم سيف أن أبا جعفر قال له الاسمان الباقيان طه ويس.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) قال: يا رجل ما أنزلنا عليك
القرآن لتشقى، وكان يقوم الليل على رجليه فهي لغة لعك إن قلت لعكي يا رجل لم يلتفت، وإذا قلت طه التفت
إليك. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال (طه) قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه. وأخرج
ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وما تحت الثرى) قال: الثرى كل شئ مبتل. وأخرج أبو يعلى عن جابر " أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل ما تحت هذه الأرض؟ قال الماء، قيل فما تحت الماء؟ قال ظلمة، قيل فما تحت
الظلمة؟ قال الهواء قيل فما تحت الهواء؟ قال الثرى قيل فما تحت الثرى؟ قال انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق ".
وأخرج ابن مردويه عنه نحوه بأطول منه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن
عباس في قوله و (يعلم السر وأخفى) قال: السر ما أسره ابن آدم في نفسه وأخفى ما خفى عن ابن آدم مما هو فاعله
قبل أن يعمله، فإنه يعلم ذلك كله فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة
وهو كقوله - ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة - وأخرج الحاكم وصححه عنه في الآية قال: السر ما علمته
أنت، وأخفى ما قذف الله في قلبك مما لم تعلمه. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وأبو الشيخ في العظمة
والبيهقي بلفظ يعلم ما تسر في نفسك ويعلم ما تعمل غدا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أو أجد على
النار هدى) يقول: من يدل على الطريق. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن علي
360

في قوله (فاخلع نعليك) قال: كانتا من جلد حمار ميت فقيل له اخلعهما. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن
ابن عباس (إنك بالواد المقدس طوى) قال المبارق: طوى قال اسم الوادي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (بالواد
المقدس طوى) يعني الأرض المقدسة، وذلك أنه مر بواديها ليلا فطوى: يقال طويت وادي كذا وكذا.
وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله (طوى) قال: طإ الوادي. وفى الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال
(أقم الصلاة لذكرى) ". وأخرج الترمذي وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه من
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال
(أقم الصلاة لذكرى) " وكان ابن شهاب يقرؤها " للذكرى ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(أكاد أخفيها) قال: لا أظهر عليها أحدا غيري. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن ابن عباس قال (أكاد أخفيها) من نفسي.
سورة طه الآية (17 - 35)
قوله (وما تلك بيمينك يا موسى) قال الزجاج والفراء: إن تلك اسم ناقص وصلت بيمينك: أي ما التي
بيمينك؟ وروى عن الفراء أنه قال: تلك بمعنى هذه، ولو قال ما ذلك لجاز: أي ما ذلك الشئ؟ وبالأول قال
الكوفيون. قال الزجاج: ومعنى سؤال موسى عما في يده من العصا التنبيه له عليها لتقع المعجزة بها بعد التثبيت فيها
والتأمل لها. قال الفراء: ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى هي عصاي لتثبيت الحجة عليه بعد
ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل، ومحل " ما " الرفع على الابتداء. وتلك خبره، وبيمينك في محل
نصب على الحال إن كانت تلك اسم إشارة على ما هو ظاهر اللفظ، وإن كانت اسما موصولا كان بيمينك صلة
للموصول (قال هي عصاي) قرأ ابن أبي إسحاق " عصى " على لغة هذيل. وقرأ الحسن (عصاي " بكسر الياء لالتقاء
الساكنين (أتوكأ عليها) أي أتحامل عليها في المشي وأعتمدها ما عند الإعياء والوقوف ومنه الاتكاء (وأهش بها
على غنمي) هش بالعصا يهش هشا: إذا خبط بها الشجر ليسقط منه الورق. قال الشاعر:
361

أهش بالعصا على أغنامي * من ناعم الأوراك والسنام
وقرأ النخعي أهس بالسين المهملة، وهو زجر الغنم، وكذا قرأ عكرمة، وقيل هما لغتان لمعنى واحد (ولى
فيها مآرب أخرى) أي حوائج وأحدها مأربة ومأربة ومأربة مثلث الراء كذا، قال ابن الأعرابي وقطرب،
ذكر تفصيل منافع العصا، ثم عقبه بالإجمال.
وقد تعرض قوم لتعداد منافع العصا فذكروا من ذلك أشياء: منها قول بعض العرب: عصاي أركزها
لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي، ليتسع خطوي،
وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وألقى عليها كسائي، فتقيني الحر، وتدفيني من القر، وتدني إلي ما بعد منى،
وهى تحمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، قال أعصى بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأقي بها عقور الكلاب،
وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بني انتهى.
وقد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين، وذكر فيه أخبارا وأشعارا وفوائد
لطيفة ونكتا رشيقة، وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به من كيد
السحرة ومعرة المعاندين، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وعنزته، وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده، وكان عادة العرب العرباء
أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفى المحافل والخطب (قال ألقها يا موسى) هذه جملة مستأنفة جواب سؤال
مقدر، أمره سبحانه بإلقائها ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة (فألقاها) موسى على الأرض (فإذا هي حية
تسعى) وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها حتى صارت حية تسعى: أي تمشي بسرعة وخفة، قيل كانت
عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان فما وباقيها جسم حية تنتقل من مكان إلى مكان وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها
وفظاعة منظرها، فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبرا ولم يعقب، فعند ذلك (قال) سبحانه (خذها ولا
تخف سنعيدها سيرتها الأولى) قال الأخفش والزجاج: التقدير إلى سيرتها، مثل - واختار موسى قومه - قال:
ويجوز أن يكون مصدرا، لأن معنى سنعيدها سنسيرها، ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل: أي سائرة،
أو بمعنى اسم المفعول: أي مسيرة. والمعنى: سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوية. قيل إنه لما
قيل له لا تخف بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحيها (واضمم يدك إلى جناحك) قال
الفراء والزجاج: جناح الإنسان عضده، وقال قطرب: جناح الإنسان جنبه، وعبر عن الجنب بالجناح لأنه في
محل الجناح، وقيل إلى بمعنى مع. أي مع جناحك، وجواب الأمر (تخرج بيضاء) أي تخرج يدك حال كونها
بيضاء، ومحل (من غير سوء) النصب على الحال: أي كائنة من غير سوء، والسوء العيب، كنى به عن البرص:
أي تخرج بيضاء ساطعا نورها تضئ بالليل والنهار كضوء الشمس من غير برص، وانتصاب (آية أخرى) على
الحال أيضا: أي معجزة أخرى غير العصا. وقال الأخفش: إن آية منتصبة على أنها بدل من بيضاء. قال النحاس
وهو قول حسن. وقال الزجاج: المعنى آتيناك أو نؤتيك آية أخرى لأنه لما قال " تخرج بيضاء " دل على أنه قد
آتاه آية أخرى، ثم علل سبحانه ذلك بقوله (لنريك من آياتنا الكبرى) قيل والتقدير: فعلنا ذلك لنريك، ومن
آياتنا متعلق بمحذوف وقع، حالا والكبرى معناها العظمى، وهو صفة لموصوف محذوف، والتقدير: لنريك من
آياتنا الآية الكبرى: أي لنريك بهاتين الآيتين يعني اليد والعصا بعض آياتنا الكبرى، فلا يلزم أن تكون اليد هي
الآية الكبرى وحدها حتى تكون أعظم من العصا، فيرد على ذلك أنه لم يكن في اليد إلا تغير اللون فقط بخلاف
362

العصا، فإن فيها مع تغير اللون الزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة. ثم صرح سبحانه
بالغرض المقصود من هذه المعجزات فقال (اذهب إلى فرعون) وخصه بالذكر لأن قومه تبع له، ثم علل ذلك بقوله
(إنه طغى) أي عصى وتكبر وكفر وتجبر وتجاوز الحد، وجملة (قال رب اشرح لي صدري) مستأنفة جواب
سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال؟ ومعنى شرح الصدر توسيعه، تضرع عليه السلام إلى ربه وأظهر عجزه بقوله
- ويضيق صدري ولا ينطلق لساني -، ومعنى تيسير الأمر تسهيله (واحلل عقدة من لساني) يعني العجمة التي
كانت فيه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل: أي أطلق عن لساني العقدة التي فيه، قيل أذهب الله سبحانه تلك
العقدة جميعها بدليل قوله (قد أوتيت سؤلك يا موسى) وقيل لم تذهب كلها لأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية،
بل سأل حل عقدة تمنع الإفهام بدليل قوله (من لساني) أي كائنة من عقد لساني، ويؤيد ذلك قوله - هو أفصح
منى لسانا -، وقوله حكاية عن فرعون - ولا يكاد يبين -، وجواب الأمر قوله (يفقهوا قولي) أي يفهموا
كلامي، والفقه في كلام العرب الفهم، ثم خص به علم الشريعة والعالم به فقيه، قاله الجوهري (واجعل لي
وزيرا من أهلي هارون أخي) الوزير الموازر كالأكيل المواكل لأنه يحمل عن السلطان وزره: أي ثقله: قال
الزجاج: واشتقاقه في اللغة من الوزر، وهو الجبل الذي يعتصم به لينجي من الهلكة، والوزير الذي يعتمد الملك
على رأيه في الأمور ويلتجئ إليه. وقال الأصمعي: هو مشتق من الموازرة، وهى المعاونة، وانتصاب وزيرا
وهارون على أنهما مفعولا اجعل، وقيل مفعولاه: لي وزيرا، ويكون هارون عطف بيان للوزير، والأول
أظهر، ويكون لي متعلقا بمحذوف: أي كائنا لي، ومن أهلي صفة لوزيرا، وأخي بدل من هارون. قرأ الجمهور
" اشدد " بهمزة وصل، " وأشركه " بهمزة قطع كلاهما على صيغة الدعاء: أي يا رب أحكم به قوتي واجعله شريكي
في أمر الرسالة، والأزر القوة، يقال آزره: أي قواه، وقيل الظهر: أي اشدد به ظهري. وقرأ ابن عامر ويحيى
ابن الحارث وأبو حياة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق " أشدد " بهمزة قطع (وأشركه) بضم الهمزة أي أشدد أنا به أزري
وأشركه أنا في أمري. قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله اجعل لي وزيرا، وقرأ بفتح الياء
من أخي ابن كثير وأبو عمرو (كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) هذا التسبيح والذكر هما الغاية من الدعاء المتقدم،
والمراد التسبيح هنا باللسان، وقيل المراد به الصلاة، وانتصاب كثيرا في الموضعين على أنه نعت مصدر محذوف،
أو لزمان محذوف (إنك كنت بنا بصيرا) البصير المبصر والبصير العالم بخفيات الأمور، وهو المراد هنا: أي إنك
كنت بنا عالما في صغرنا فأحسنت إلينا فأحسن إلينا أيضا كذلك الآن.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في عصا موسى قال: أعطاه ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين
فكانت تضئ له بالليل، ويضرب بها الأرض فتخرج له النبات، ويهش بها على غنمه ورق الشجر. وأخرج ابن
أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله (وأهش بها على غنمي) قال: أضرب بها الشجر فيتساقط
منه الورق على غنمي، وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله (ولى
فيها مآرب) قال: حوائج. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه، وأخرج أيضا عن قتادة قال: كانت تضئ له بالليل، وكانت عصا
آدم عليه السلام. وأخرج أيضا عن ابن عباس في قوله (فألقاها فإذا هي حية تسعى) قال: ولم تكن قبل ذلك حية
فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبرا فنودي
أن يا موسى خذها، فلم يأخذها، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف، فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين فأخذها
363

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (سنعيدها سيرتها الأولى) قال: حالتها الأولى. وأخرجا عنه أيضا (من
غير سوء) قال من غير برص. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي)
قال: كان أكبر من موسى. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله (وأشركه في أمري) قال نبئ هارون ساعتئذ
حين نبئ موسى.
سورة طه الآية (36 - 44)
لما سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح صدره وييسر له أمره ويحلل عقدة من لسانه ويجعل له وزيرا من أهله أخبره
الله سبحانه بأنه قد أجاب ذلك الدعاء، فقال (قد أوتيت سؤلك يا موسى) أي أعطيت ما سألته، والسؤال
المسؤول: أي المطلوب كقولك: خبر بمعنى مخبور، وزيادة قوله يا موسى لتشريفه بالخطاب مع رعاية الفواصل،
وجملة (ولقد مننا عليك مرة أخرى) كلام مستأنف لتقوية قلب موسى بتذكيره نعم الله عليه، والمن الإحسان
والإفضال. والمعنى: ولقد أحسنا إليك مرة أخرى قبل هذه المرة، وهى حفظ الله سبحانه له من شر الأعداء كما
بينه سبحانه هاهنا، وأخرى تأنيث آخر بمعنى غير (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) أي مننا ذلك الوقت وهو وقت
الإيحاء فإذ ظرف للإيحاء، والمراد بالإيحاء إليها إما مجرد الإلهام لها أو في النوم بأن أراها ذلك أو على لسان نبي
أو على لسان ملك، لا على طريق النبوة كالوحي إلى مريم أو بإخبار الأنبياء المتقدمين بذلك وانتهى الخبر إليها،
والمراد بما يوحى ما سيأتي من الأمر لها، أبهمه أولا وفسره ثانيا تفخيما لشأنه، وجملة (أن اقذفيه في التابوت) مفسرة
لأن الوحي فيه معنى القول، أو مصدرية على تقدير بأن اقذفيه، والقذف هاهنا الطرح: أي اطرحيه في التابوت
وقد مر تفسير التابوت في البقرة في قصة طالوت (فاقذفيه في اليم) أي اطرحيه في البحر، واليم: البحر أو النهر
الكبير. قال الفراء: هذا أمر وفيه المجازاة: أي اقذفيه يلقه اليم بالساحل والأمر للبحر مبني على تنزيله منزلة
من يفهم ويميز، لما كان إلقاؤه إياه بالساحل أمرا واجب الوقوع، والساحل هو شط البحر، سمى ساحلا لأن
الماء سحله قاله ابن دريد، والمراد هنا ما يلي الساحل من البحر لا نفس الساحل، والضمائر هذه كلها لموسى
لا للتابوت، وإن كان قد ألقى معه لكن المقصود هو موسى مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له. وجملة (يأخذه عدو
لي وعدو له) جواب الأمر بالالقاء، والمراد بالعدو فرعون، فإن أم موسى لما ألقته في البحر وهو النيل المعروف،
وكان يخرج منه نهر إلى دار فرعون فساقه الله في ذلك النهر إلى داره، فأخذ التابوت فوجد موسى فيه، وقيل إن
364

البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه، وقيل وجدته ابنة فرعون، والأول أولى (وألقيت عليك محبة
منى) أي ألقى الله على موسى محبة كائنة منه تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه، وقيل جعل عليه مسحة من
جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه. وقال ابن جرير: المعنى وألقيت عليك رحمتي: وقيل كلمة " من " متعلقة
بألقيت، فيكون المعنى: ألقيت مني عليك محبة: أي أحببتك، ومن أحبه الله أحبه الناس (ولتصنع على عيني)
أي ولتربى وتغذى بمرأى مني، يقال صنع الرجل جاريته: إذا رباها، وصنع فرسه: إذا داوم على علفه والقيام
عليه، وتفسير " على عيني " بمرأى مني صحيح. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة، ولكن لا يكون في هذا
تخصيص لموسى، فإن جميع الأشياء بمرآى من الله. وقال أبو عبيدة وابن الأنباري: إن المعنى لتغذى على محبتي
وإرادتي، تقول: أتخذ الأشياء على عيني: أي على محبتي. قال ابن الأنباري: العين في هذه الآية يقصد بها قصد
الإرادة والاختيار، من قول العرب: غدا فلان على عيني: أي على المحبة مني. قيل واللام متعلقة بمحذوف:
أي فعلت ذلك لتصنع، وقيل متعلقة بألقيت، وقيل متعلقة بما بعده: أي ولتصنع على عيني قدرنا مشي أختك.
وقرأ ابن القعقاع " ولتصنع " بإسكان اللام على الأمر، وقرأ أبو نهيك بفتح التاء. والمعنى: ولتكون حركتك
وتصرفك بمشيئتي، وعلى عين مني (إذ تمشى أختك) ظرف لألقيت، أو لتصنع، ويجوز أن يكون بدلا من
" إذ أوحينا " وأخته اسمها مريم (فتقول هل أدلكم على من يكفله) وذلك أنها خرجت متعرفة لخبره فوجدت فرعون
وامرأته آسية يطلبان له مرضعة، فقالت لهما هذا القول: أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه، فقالا لها
ومن هو؟ قالت أمي، فقالا هل لها لبن؟ قالت نعم لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل
بأكثر، فجاءت الأم فقبل ثديها، وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها، وهذا هو معنى (فرجعناك إلى أمك) وفى
مصحف أبي " فرددناك "، والفاء فصيحة (كي تقر عينها) قرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد عنه كي تقر بكسر
القاف، وقرأ الباقون بفتحها. قال الجوهري: قررت به عينا قرة وقرورا، ورجل قرير العين، وقد قرت عينه
تقر وتقر، نقيض سخنت، والمراد بقرة العين: السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم عليها
فراقه (ولا تحزن) أي لا يحصل له ما يكدر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب، ولو أراد الحزن بالسبب
الذي قرت عينها بزواله لقدم نفي الحزن على قرة العين، فيحمل هذا النفي للحزن على ما يحصل بسبب يطرأ بعد
ذلك، ويمكن أن يقال إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين، وقيل المعنى: ولا تحزن أنت
يا موسى بفقد إشفاقها، وهو تعسف (وقتلت نفسا) المراد بالنفس هنا: نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى
عليه، وكان قتله له خطأ (فنجيناك من الغم) أي الغم الحاصل معك من قتله خوفا من العقوبة الأخروية أو
الدنيوية أو منهما جميعا، وقيل الغم هو القتل بلغة قريش، وما أبعد هذا (وفتناك فتونا) الفتنة تكون بمعنى المحنة،
وبمعنى الأمر الشاق، وكل ما يبتلى به الإنسان، والفتون يجوز أن يكون مصدرا كالثبور والشكور والكفور:
أي ابتليناك ابتلاء، واختبرناك اختبارا، ويجوز أن يكون جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجور هذه في حجرة
وبدور في بدرة: أي خلصناك مرة بعد مرة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن يصطفيه الله لرسالته،
ولعل المقصود بذكر تنجيته من الغم الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو الامتنان عليه بصنع الله سبحانه له
وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل (فلبثت سنين في أهل مدين) قال الفراء:
تقدير الكلام وفتناك فتونا، فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل، وكذا
في كلام العرب فإنهم يحذفون كثيرا من الكلام إذا كان المعنى معروفا، ومدين هي بلد شعيب، وكانت على ثماني
365

مراحل من مصر، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين، وهى أتم الأجلين، وقيل أقام عند شعيب ثمان
وعشرين سنة منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب، ومنها ثماني عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له، والفاء في
" فلبثت " تدل على أن المراد بالمحن المذكورة هي ما كان قبل لبثه في أهل مدين (ثم جئت على قدر يا موسى) أي
في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبيا، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو
رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به. قال الشاعر:
نال الخلافة إذ كانت له قدرا * كما أتى ربه موسى على قدر
وكلمة ثم المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدة، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال
الطريق وتفرق غنمه ونحو ذلك (واصطنعتك لنفسي) الاصطناع: اتخاذ الصنعة، وهى الخير تسديه إلى إنسان،
والمعنى: اصطنعتك لوحيي ورسالتي لتتصرف قبل على إرادتي. قال الزجاج: تأويله اخترتك لإقامة حجتي،
وجعلتك بيني وبين خفي، وصرت بالتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم. قيل
وهو تمثيل لما خوله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصه (اذهب أنت وأخوك) أي
وليذهب أخوك، وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع ومعنى (بآياتي) بمعجزاتي التي
جعلتها لك آية، وهى التسع الآيات (ولا تنيا في ذكرى) أي لا تضعفا ولا تفترا، يقال ونى يني ونيا: إذا ضعف.
قال الشاعر:
فما ونى محمد مذ أن غفر * له الإله ما مضى وما غبر
وقال امرؤ القيس:
يسيح إذا ما السابحات على الونى * أثرن غبارا بالكديد الموكل
قال الفراء: في ذكري وعن ذكري سواء، والمعنى: لا تقصرا عن ذكري بالإحسان إليكما، والإنعام عليكما
وذكر النعمة شكرها. وقيل معنى " لا تنيا " لا تبطئا في تبليغ الرسالة، وفى قراءة ابن مسعود " لا تهنا في ذكرى "
(اذهبا إلى فرعون إنه طغى) هذا أمر لهما جميعا بالذهاب، وموسى حاضر وهارون غائب تغليبا لموسى، لأنه
الأصل في أداء الرسالة، وعلل الأمر بالذهاب بقوله (إنه طغى) أي جاوز الحد في الكفر والتمرد. وخص موسى وحده
بالأمر بالذهاب فيما تقدم، وجمعهما هنا تشريفا لموسى بإفراده، وتأكيدا للأمر بالذهاب بالتكرير. وقيل إن في
هذا دليلا على أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل الأول أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس، والثاني أمر لهما
بالذهاب إلى فرعون. ثم أمرهما سبحانه بإلانة القول له لما في ذلك من التأثير في الإجابة، فإن التخشين بادئ بدء
يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر، والقول اللين هو الذي لا خشونة فيه، يقال: لان الشئ
يلين لينا، والمراد تركهما للتعنيف كقولهما - هل لك إلى أن تزكى - وقيل القول اللين هو الكنية له، وقيل أن
يعداه بنعيم الدنيا إن أجاب، ثم علل الأمر بإلانة القول له بقوله (لعله يتذكر أو يخشى) أي باشرا ذلك مباشرة من
يرجو ويطمع، فالرجاء راجع إليهما كما قاله جماعة من النحويين: سيبويه وغيره. وقد تقدم تحقيقه في غير موضع
قال الزجاج: " لعل " لفظة طمع وترج، فخاطبهم بما يعقلون. وقيل لعل هاهنا بمعنى الاستفهام. والمعنى: فانظرا
هل يتذكر أو يخشى، وقيل بمعنى كي. والتذكر: النظر فيما بلغاه من الذكر وإمعان الفكر فيه حتى يكون ذلك
سببا في الإجابة، والخشية هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع.
366

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله (فاقذفيه في اليم) قال: هو النيل. وأخرج عبد بن حميد وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وألقيت عليك محبة منى) قال: كان كل من رآه ألقيت عليه منه محبته. وأخرج
ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل قال: حببتك إلى عبادي. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن
أبي عمران الجوني في قوله (ولتصنع على عيني) قال: تربى بعين الله. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: لتغذى على عيني. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: يقول أنت
بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت، ثم في البحر، وإذ تمشي أختك. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب
عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ
يقول الله سبحانه (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم) قال: من قتل النفس (وفتناك فتونا) قال: أخلصناك إخلاصا "
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وفتناك فتونا) قال:
ابتليناك ابتلاء. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: اختبرناك اختبارا. وقد أخرج عبد بن حميد والنسائي
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أثرا طويلا في تفسير الآية، فمن أحب استيفاء
ذلك فلينظره في كتاب التفسير من سنن النسائي. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (ثم جئت على قدر)
قال: لميقات. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد وقتادة (على قدر) قال: موعد.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (ولا تنيا) قال: لا تبطئا. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي في قوله
(قولا لينا) قال: كنه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: كنياه. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم عنه في قوله (لعله يتذكر أو يخشى) قال: هل يتذكر.
سورة طه الآية (45 - 57)
367

سورة طه الآية (58 - 59)
قرأ الجمهور أن يفرط بفتح الياء وضم الراء، ومعنى ذلك: أننا نخاف أن يعجل ويبادر بعقوبتنا، يقال فرط
منه أمر: أي بدر، ومنه الفارط، وهو الذي يتقدم القوم إلى الماء: أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب، وهو
المتقدم فيه، كذا قال المبرد. وقال أيضا: فرط منه أمر وأفرط: أسرف، وفرط: ترك. وقرأ ابن محيصن
" يفرط " بضم الياء وفتح الراء: أي يحمله حامل على التسرع إلينا، وقرأت طائفة بضم الياء وكسر الراء، ومنهم ابن
عباس ومجاهد وعكرمة من الإفراط: أي يشتط في أذيتنا. قال الراجز: قد أفرط العلج علينا وعجل
ومعنى (أو أن يطغى) قد تقدم قريبا، وجملة (قال لا تخافا) مستأنفة جواب سؤال مقدر، نهى لهما عن الخوف
الذي حصل معهما من فرعون، ثم علل ذلك بقوله (إنني معكما) أي بالنصر لهما، والمعونة على فرعون، ومعنى
(أسمع وأرى) إدراك ما يجري بينهما وبينه بحيث لا يخفى عليه سبحانه منه خافية، وليس بغافل عنهما، ثم أمرهما
بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار (فقولا إنا رسولا ربك) أرسلنا إليك
(فأرسل معنا بني إسرائيل) أي خل عنهم وأطلقهم من الأسر (ولا تعذبهم) بالبقاء على ما كانوا عليه، وقد كانوا
عند فرعون في عذاب شديد: يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويكلفهم من العمل ما لا يطيقونه، ثم أمرهما
سبحانه أن يقولا لفرعون (قد جئناك بآية من ربك) قيل هي العصا واليد، وقيل إن فرعون قال لهما: وما هي؟
فأدخل موسى يده في جيب قميصه، ثم أخرجها لها شعاع كشعاع الشمس، فعجب فرعون من ذلك، ولم يره
موسى العصا إلا يوم الزينة (والسلام على من اتبع الهدى) أي السلامة. قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من
سخط الله عز وجل ومن عذابه: وليس بتحية. قال: والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب. قال
الفراء: السلام على من اتبع الهدى، ولمن اتبع الهدى سواء (إنا قد أوحى إلينا) من جهة الله سبحانه (أن العذاب
على من كذب وتولى) المراد بالعذاب: الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في النار، والمراد بالتكذيب: التكذيب
بآيات الله وبرسله، والتولي: الإعراض عن قبولها والإيمان بها (قال فمن ربكما يا موسى) أي قال فرعون لهما: فمن
ربكما؟ فأضاف الرب إليهما ولم يضفه إلى نفسه لعدم تصديقه لهما ولجحده للربوبية، وخص موسى بالنداء لكونه
الأصل في الرسالة، وقيل لمطابقة رؤوس الآي (قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه) أي قال موسى مجيبا له،
وربنا مبتدأ، وخبره " الذي أعطى كل شئ خلقه " ويجوز أن يكون ربنا خبر مبتدأ محذوف، وما بعده صفته،
قرأ الجمهور " خلقه " بسكون اللام، وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ خلقه بفتح اللام على أنه فعل، وهى
قراءة ابن أبي إسحاق، ورواها نصير عن الكسائي. فعلى القراءة الأولى يكون خلقه ثاني مفعولي أعطى
والمعنى: أعطى كل شئ صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به المطابقة له كاليد للبطش، والرجل للمشي
واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، كذا قال الضحاك وغيره. وقال الحسن وقتادة: أعطى كل
شئ صلاحه وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد: المعنى لم يخلق خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق
الإنسان، ولكن خلق كل شئ فقدره تقديرا، ومنه قول الشاعر:
وله في كل شئ خلقه * وكذاك الله ما شاء فعل
368

وقال الفراء: المعنى خلق للرجل المرأة، ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث، ويجوز أن يكون خلقه على القراءة
الأولى هو المفعول الأول لأعطى: أي أعطى خلقه كل شئ يحتاجون إليه، ويرتفقون به، ومعنى (ثم هدى) أنه
سبحانه هداهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم فانتفعوا بكل شئ فيما خلق له، وأما على القراءة الآخرة، فيكون الفعل
صفة للمضاف أو للمضاف إليه: أي أعطى كل شئ خلقه الله سبحانه ولم يخله من عطائه، وعلى هذه القراءة يكون
المفعول الثاني محذوفا: أي أعطى كل شئ خلقه ما يحتاج إليه، فيوافق معناها معنى القراءة الأولى (قال فما بال القرون الأولى)
لما سمع فرعون ما احتج به موسى في ضمن هذا الكلام على إثبات الربوبية كما لا يخفي من أن الخلق والهداية ثابتان
بلا خلاف، ولا بد لهما من خالق وهاد، وذلك الخالق والهادي هو الله سبحانه لا رب غيره. قال فرعون: فما
بال القرون الأولى فإنها لم تقر بالرب الذي تدعو إليه يا موسى بل عبدت الأوثان ونحوها من المخلوقات. ومعنى البال
الحال والشأن: أي ما حالهم وما شأنهم؟ وقيل إن سؤال فرعون عن القرون الأولى مغالطة لموسى لما خاف أن يظهر
لقومه أنه قد قهره بالحجة: أي ما حال القرون الماضية، وماذا جرى عليهم من الحوادث؟ فأجابه موسى،
ف‍ (قال علمها عند ربى) أي إن هذا الذي سألت عنه ليس مما نحن بصدده، بل هو من علم الغيب الذي استأثر الله به
لا تعلمه أنت ولا أنا. وعلى التفسير الأول يكون معنى " علمها عند ربى " أن علم هؤلاء الذين عبدوا الأوثان
ونحوها محفوظ عند الله في كتابه سيجازيهم عليها، ومعنى كونها في كتاب أنها مثبتة في اللوح المحفوظ. قال
الزجاج: المعنى أن أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها، والتقدير: علم أعمالها عند ربي في كتاب.
وقد اختلف في معنى (لا يضل ربى ولا ينسى) على أقوال: الأول أنه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين
الصفتين. وقد تم الكلام عند قوله في كتاب كذا قال الزجاج. قال: ومعنى " لا يضل " لا يهلك من قوله - أئذا
ضللنا في الأرض - " ولا ينسى " شيئا من الأشياء، فقد نزهه عن الهلاك والنسيان، القول الثاني أن معنى " لا يضل "
لا يخطئ. القول الثالث أن معناه لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة. القول الرابع أن المعنى
لا يحتاج إلى كتاب، ولا يضل عنه علم شئ من الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، حكى هذا عن الزجاج أيضا.
قال النحاس: وهو أشبهها بالمعنى، ولا يخفى أنه كقول ابن الأعرابي. القول الخامس أن هاتين الجملتين صفة
لكتاب، والمعنى: أن الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له (الذي جعل لكم الأرض مهادا) الموصول
في محل رفع على أنه صفة لربي متضمنة لزيادة البيان، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أو في محل نصب على
المدح. قرأ الكوفيون (مهدا) على أنه مصدر لفعل مقدر: أي مهدها مهدا، أو على تقدير مضاف محذوف:
أي ذات مهد، وهو اسم لما يمهد كالفراش لما يفرش. وقرأ الباقون " مهادا " واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم
قالا لاتفاقهم على قراءة - ألم نجعل الأرض مهادا - قال النحاس: والجمع أولى من المصدر، لأن هذا الموضع ليس
موضع المصدر إلا على حذف المضاف. قيل يجوز أن يكون مهادا مفردا كالفراش، ويجوز أن يكون جمعا، ومعنى
المهاد: الفراش فالمهاد جمع المهد: أي جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم (وسلك لكم فيها سبلا) السلك:
إدخال الشئ في الشئ. والمعنى: أدخل في الأرض لأجلكم طرقا تسلكونها وسهلها لكم، وفى الآية الأخرى
- الذي جعل لكم الأرض مهادا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون - ثم قال سبحانه ممتنا على عباده (وأنزل من
السماء ماء) هو ماء المطر، قيل إلى هنا انتهى كلام موسى، وما بعده هو (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى)
من كلام الله سبحانه، وقيل هو من الكلام المحكى عن موسى معطوف على أنزل، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه
على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة. ونوقش بأن هذا الخلاف الظاهر مع استلزامه فوت الالتفات لعدم
369

اتحاد المتكلم، ويجاب عنه بأن الكلام كله محكي عن واحد هو موسى، والحاكي للجميع هو الله سبحانه.
والمعنى: فأخرجنا بذلك الماء بسبب الحرث والمعالجة أزواجا: أي ضروبا وأشباها من أصناف النبات المختلفة.
وقوله من نبات صفة لأزواجا، أو بيان له، وكذا شتى صفة أخرى له، أي متفرقة جمع شتيت. وقال الأخفش:
التقدير أزواجا شتى من نبات. قال: وقد يكون النبات شتى، فيجوز أن يكون شتى نعتا لأزواجا، ويجوز أن
يكون نعتا للنبات، يقال أمر شت: أي متفرق، وشت الأمر شتا وشتاتا تفرق واشتت مثله، والشتيت المتفرق.
قال رؤبة: جاءت معا وأطرقت شتيتا * وجملة (كلوا وارعوا) في محل نصب على الحال بتقدير القول:
أي قائلين لهم ذلك، والأمر للإباحة، يقال رعت الماشية الكلأ ورعاها صاحبها رعاية: أي أسامها وسرحها
يجئ لازما ومتعديا، والإشارة بقوله (إن في ذلك لآيات لأولي النهى) إلى ما تقدم ذكره في هذه الآيات،
والنهي العقول جمع نهية، وخص ذوي النهي لأنهم الذين ينتهي إلى رأيهم، وقيل لأنهم ينهون النفس عن القبائح،
وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله - فمن ربكما يا موسى - والضمير في (منها
خلقناكم) وما بعده راجع إلى الأرض المذكورة سابقا. قال الزجاج وغيره: يعني أن آدم خلق من الأرض
وأولاده منه. وقيل المعنى: أن كل نطفة مخلوقة من التراب في ضمن خلق آدم، لأن كل فرد من أفراد البشر له
حظ من خلقه (وفيها) أي في الأرض (نعيدكم) بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرق أجزاؤكم حتى تصير من جنس
الأرض، وجاء بفي دون إلى للدلالة على الاستقرار (ومنها) أي من الأرض (نخرجكم تارة أخرى) أي بالبعث
والنشور وتأليف الأجسام ورد الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت، والتارة كالمرة (ولقد أريناه آياتنا
كلها) أي أرينا فرعون وعرفناه آياتنا كلها، والمراد بالآيات هي الآيات التسع المذكورة في قوله - ولقد آتينا موسى
تسع آيات - على أن الإضافة للعهد. وقيل المراد جميع الآيات التي جاء بها موسى، والتي جاء بها غيره من الأنبياء،
وأن موسى قد كان عرفه جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء، والأول أولى. وقيل المراد بالآيات حجج الله
سبحانه الدالة على توحيده (فكذب وأبى) أي كذب فرعون موسى وأبى عليه أن يجيبه إلى الإيمان، وهذا يدل
على أن كفر فرعون كفر عناد لأنه رأى الآيات وكذب بها كما في قوله - وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما
وعلوا - وجملة (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا
قال فرعون بعد هذا؟ والهمزة للإنكار لما جاء به موسى من الآيات: أي جئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبي
يجب عليهم اتباعك، والإيمان بما جئت به، حتى تتوصل بذلك الإيهام الذي هو شعبة من السحر إلى أن تغلب على
أرضنا وتخرجنا منها. وإنما ذكر الملعون الإخراج من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى، فإنه إذا وقع في
أذهانهم وتقرر في أفهامهم أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم كانوا غير قابلين لكلامه ولا
ناظرين في معجزاته ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير (فلنأتينك بسحر مثله) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها
واللام هي الموطئة للقسم: أي والله لنغارضنك بمثل ما جئت به من السحر، حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر
يقدر على مثله الساحر (فاجعل بيننا وبينك موعدا) هو مصدر: أي وعدا، وقيل اسم مكان: أي اجعل لنا يوما
معلوما، أو مكانا معلوما لا نخلفه. قال القشيري: والأظهر أنه مصدر، ولهذا قال (لا نخلفه) أي لا نخلف ذلك
الوعد، والإخلاف أن تعد شيئا ولا تنجزه. قال الجوهري: الميعاد المواعدة والوقت والموضع، وكذلك الموعد.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج " لا نخلفه " بالجزم على أنه جواب لقوله اجعل. وقرأ الباقون بالرفع على
أنه صفة لموعدا: أي لا نخلف ذلك الوعد (نحن ولا أنت) وفوض تعيين الموعد إلى موسى إظهارا لكمال اقتداره
370

على الإتيان بمثل ما أتى به موسى، وانتصاب (مكانا سوى) بفعل مقدر يدل عليه المصدر، أو على أنه بدل من
موعد. قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة " سوى " بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها وهما لغتان. واختار أبو عبيد
وأبو حاتم كسر السين لأنها اللغة العالية الفصيحة، والمراد مكانا مستويا، وقيل مكانا منصفا عدلا بيننا وبينك.
قال سيبويه: يقال سوى وسوى: أي عدل، يعني عدلا بين المكانين. قال زهير:
أرونا خطة لا ضيم فيها * يسوى بيننا فيها السواء
قال أبو عبيدة والقتيبي: معناه مكانا وسطا بين الفريقين، وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي:
وإن أبانا كان حل ببلدة * سوى بين قيس قيس غيلان والفزر
والفزر سعد بن زيد مناة. ثم واعده موسى بوقت معلوم ف‍ (قال موعدكم يوم الزينة) قال مجاهد وقتادة ومقاتل
والسدي: كان ذلك يوم عيد يتزينون فيه، وقال سعيد بن جبير: كان ذلك يوم عاشوراء، وقال الضحاك:
يوم السبت، وقيل يوم النيروز، وقيل يوم كسر الخليج. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة
عن حفص " يوم الزينة " بالنصب، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو: أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا. وقرأ
الباقون بالرفع على أنه خبر موعدكم، وإنما جعل الميعاد زمانا بعد أن طلب منه فرعون أن يكون مكانا سوى، لأن
يوم الزينة يدل على مكان مشهور يجتمع فيه الناس ذلك اليوم، أو على تقدير مضاف محذوف: أي موعدكم
مكان يوم الزينة (وأن يحشر الناس ضحى) معطوف على يوم الزينة فيكون في محل رفع، أو على الزينة فيكون
في محل جر، يعنى ضحى ذلك اليوم، والمراد بالناس أهل مصر. والمعنى: يحشرون إلى العيد وقت الضحى،
وينظرون في أمر موسى وفرعون. قال الفراء: المعنى إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى فذلك الموعد.
قال: وجرت عادتهم بحشر الناس في ذلك اليوم. والضحى قال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم
بعده الضحى، وهو حين تشرق الشمس، وخص الضحى لأنه أول النهار، فإذا امتد الأمر بينهما كان في النهار
متسع. وقرأ ابن مسعود والجحدري " وأن يحشر " على البناء للفاعل: أي وأن يحشر الله الناس ضحى. وروى
عن الجحدري أنه قرأ " وأن نحشر " بالنون وقرأ بعض القراء بالتاء الفوقية: أي وأن تحشر أنت يا فرعون، وقرأ
الباقون بالتحتية على البناء للمفعول.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إنا نخاف أن يفرط علينا) قال: يعجل (أو أن يطغى)
قال: يعتدي. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله (أسمع وأرى) قال: أسمع ما يقول وأرى ما يجاوبكما
به، فأوحي إليكما فتجاوبانه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لما بعث الله موسى إلى
فرعون قال: رب أي شئ أقول؟ قال: قل أهيا شراهيا. قال الأعشى: تفسير ذلك الحي قبل كل شئ، والحي
بعد كل شئ. وجود السيوطي إسناده، وسبقه إلى تجويد إسناده ابن كثير في تفسيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن
قتادة في قوله (على من كذب وتولى) قال: كذب بكتاب الله وتولى عن طاعة الله. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (أعطى كل شئ خلقه) قال: خلق لكل شئ
زوجه (ثم هدى) قال: هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله (لا يضل ربى) قال: لا يخطئ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله (من نبات شتى) قال: مختلف. وفى قوله (لأولي النهى) قال: لأولى التقى. وأخرج ابن المنذر
371

عنه (لأولي النهى) قال: لأولى الحجا والعقل. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: إن الملك
ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة، فيخلق من التراب ومن النطفة، وذلك قوله (منها)
خلقناكم وفيها نعيدكم). وأخرج أحمد والحاكم عن أبي أمامة قال: لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة
أخرى، بسم الله وفى سبيل الله وعلى ملة رسول الله " وفى حديث في السنن " أنه أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر
وقال: منها خلقناكم، ثم أخرى وقال: وفيها نعيدكم، ثم أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى ". وأخرج
سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (موعدكم يوم الزينة) قال: يوم عاشوراء.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عمرو نحوه.
سورة طه الآية (60 - 70)
قوله (فتولى فرعون) أي انصرف من ذلك المقام ليهئ ما يحتاج إليه مما تواعدا عليه، وقيل معنى تولى اعرض
عن الحق، والأول أولى (فجمع كيده) أي جمع ما يكيد به من سحره وحيلته، والمراد أنه جمع السحرة، قيل كانوا
اثنين وسبعين، وقيل أربعمائة، وقيل اثنا عشر ألفا، وقيل أربعة عشر ألفا، وقال ابن المنذر: كانوا ثمانين ألفا
(ثم أتى) أي أتى الموعد الذي تواعدا إليه مع جمعه الذي جمعه، وجملة (قال لهم موسى) مستأنفة جواب سؤال
مقدر (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا) دعا عليهم بالويل، ونهاهم عن افتراء الكذب. قال الزجاج: هو منصوب
بمحذوف، والتقدير ألزمهم الله ويلا. قال: ويجوز أن يكون نداء كقوله - يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا - (فيسحتكم
بعذاب) السحت الاستئصال، يقال سحت وأسحت بمعنى، وأصله استقصاء الشعر. وقرأ الكوفيون إلا شعبة
" فيسحتكم " بضم حرف المضارعة من أسحت، وهى لغة بني تميم، وقرأ الباقون بفتحه من سحت، وهى لغة الحجاز
وانتصابه على أنه جواب للنهي (وقد خاب من افترى) أي خسر وهلك، والمعنى: قد خسر من افترى على الله
372

أي كذب كان (فتنازعوا أمرهم بينهم) أي السحرة لما سمعوا كلام موسى تناظروا وتشاوروا وتجاذبوا أطراف
الكلام في ذلك (وأسروا النجوى) أي من موسى، وكانت نجواهم هي قولهم (إن هذان لساحران) وقيل إنهم
تناجوا فيما بينهم فقالوا: إن كان ما جاء به موسى سحرا فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر، وقيل
الذي أسروه أنه إذا غلبهم اتبعوه قاله الفراء والزجاج، وقيل الذي أسروه أنهم لما سمعوا قول موسى ويلكم
لا تفتروا على الله، قالوا: ما هذا بقول ساحر. والنجوى المناجاة يكون اسما ومصدرا.
قرأ أبو عمرو (إن هذين لساحران) بتشديد الحرف الداخل على الجملة وبالياء في اسم الإشارة على إعمال إن
عملها المعروف، وهو نصب الاسم ورفع الخبر، ورويت هذه القراءة عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة،
وبها قرأ الحسن وسعيد بن جبير والنخعي وغيرهم من التابعين، وبها قرأ عاصم الجحدري وعيسى بن عمر كما
حكاه النحاس، وهذه القراءة موافقة للإعراب الظاهر مخالفة لرسم المصحف فإنه مكتوب بالألف. وقرأ الزهري
والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه " إن هذان " بتخفيف إن
على أنها نافية، وهذه القراءة موافقة لرسم المصحف وللإعراب، وقرأ ابن كثير مثل قراءتهم إلا أنه يشدد النون
من هذان. وقرأ المدنيون والكوفيون وابن عامر " إن هذان " بتشديد إن وبالألف، فوافقوا الرسم وخالفوا
الإعراب الظاهر. وقد تكلم جماعة من أهل العلم في توجيه قراءة المدنيين والكوفيين وابن عامر، وقد استوفى ذكر
ذلك ابن الأنباري والنحاس، فقيل إنها لغة بنى الحارث بن كعب، وخثعم وكنانة يجعلون رفع المثنى ونصبه
وجره بالألف، ومنه قول الشاعر:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى * مساغا لناباه الشجاع لصمما
وقول الآخر: تزود منا بين أذناه ضربة *
وقول الآخر: إن أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها
ومما يؤيد هذا تصريح سيبويه والأخفش وأبي زيد والكسائي والفراء إن هذه القراءة على لغة بني الحارث
ابن كعب، وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنها لغة بني كنانة، وحكى غيره أنها لغة خثعم، وقيل إن إن
بمعنى نعم ها هنا كما حكاه الكسائي عن عاصم، وكذا حكاه سيبويه. قال النحاس: رأيت الزجاج والأخفش
يذهبان إليه، فيكون التقدير: نعم هذان لساحران، ومنه قول الشاعر:
ليت شعري هل للمحب شفاء * من جوى حبهن إن اللقاء
أي نعم اللقاء. قال الزجاج: والمعنى في الآية: أن هذا لهما ساحران، ثم حذف المبتدأ وهو هما. وأنكره أبو علي
الفارسي وأبو الفتح بن جنى، وقيل إن الألف في هذا مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير، وقيل إن الهاء مقدرة:
أي إنه هذان لساحران حكاه الزجاج عن قدماء النحويين، وكذا حكاه ابن الأنباري. وقال ابن كيسان: إنه
لما كان يقال هذا بالألف في الرفع والنصب والجر على حال واحدة، وكانت التثنية لا تغير الواحد أجريت التثنية
مجرى الواحد فثبت الألف في الرفع والنصب والجر، فهذه أقوال تتضمن توجيه هذه القراءة توجه تصح به
وتخرج به عن الخطأ، وبذلك يندفع ما روى عن عثمان وعائشة أنه غلط من الكاتب للمصحف (يريدان أن
يخرجاكم من أرضكم) وهى أرض مصر (بسحرهما) الذي أظهراه (ويذهبا بطريقتكم المثلى) قال الكسائي:
بطريقتكم بسنتكم، والمثلي نعت كقولك: امرأة كبرى، تقول العرب فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى
373

المستقيم. قال الفراء: العرب تقول هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم لأشرافهم، والمثلي تأنيث الأمثل، وهو
الأفضل، يقال فلان أمثل قومه: أي أفضلهم، وهم الأماثل. والمعنى: أنهما إن يغلبا بسحرهما مال إليهما السادة
والأشراف منكم، أو يذهبا بمذهبكم الذي هو أمثل المذاهب (فأجمعوا كيدكم) الإجماع الإحكام، والعزم على
الشئ قاله الفراء. تقول أجمعت على الخروج مثل أزمعت. وقال الزجاج: معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد
مجمعا عليه، وقد اتفق القراء على قطع الهمزة في أجمعوا إلا أبا عمرو، فإنه قرأ بوصلها وفتح الميم من الجمع. قال
النحاس: وفيما حكى لي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: يجب على أبى عمرو أن يقرأ بخلاف هذه القراءة، وهى
القراءة التي عليها أكثر الناس (ثم ائتوا صفا) أي مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأمورهم وأشد لهيبتهم، وهذا
قول جمهور المفسرين. وقال أبو عبيدة: الصف موضع المجمع ويسمى المصلى الصف. قال الزجاج: وعلى
هذا معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم، يقال: أتيت الصف بمعنى أتيت المصلى، فعلى
التفسير الأول يكون انتصاب صفا على الحال، وعلى تفسير أبي عبيدة يكون انتصابه على المفعولية. قال الزجاج:
يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون، فيكون على هذا مصدرا في موضع الحال، ولذلك لم يجمع،
وقرئ بكسر الهمزة بعدها ياء، ومن ترك الهمزة أبدل منها ألفا (وقد أفلح اليوم من استعلى) أي من غلب، يقال
استعلى عليه إذا غلبه، وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، وقيل من قول فرعون لهم، وجملة (قالوا يا موسى
إما أن تلقى) مستأنفة جوابا لسؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا فعلوا بعدما قالوا فيما بينهم ما قالوا؟ فقيل: قالوا
يا موسى إما أن تلقي، وإن مع ما في حيزها في محل نصب بفعل مضمر: أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاءنا، ويجوز
أن تكون في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر إلقاؤك، أو إلقاؤنا، ومفعول تلقي
محذوف، والتقدير: إما أن تلقي ما تلقيه أولا (وإما أن نكون) نحن (أول من ألقى) ما يلقيه، أو أول من يفعل
الإلقاء، والمراد إلقاء العصى على الأرض، وكانت السحرة معهم عصى، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل
على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول، ف‍ (قال) لهم موسى (بل ألقوا) أمرهم بالإلقاء أولا
لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم ثم يلقي هو عصاه فتبتلع ذلك، وإظهارا لعدم المبالاة بسحرهم (فإذا
حبالهم وعصيهم) في الكلام حذف، والتقدير: فألقوا فإذا حبالهم، والفاء فصيحة، وإذا للمفاجأة أو ظرفية.
والمعنى: فألقوا ففاجأ موسى وقت أن (يخيل إليه) سعي حبالهم وعصيهم، وقرأ الحسن " عصيهم بضم العين "
وهى لغة بني تميم، وقرأ الباقون بكسرها اتباعا لكسرة الصاد، وقرأ ابن عباس وابن ذكوان وروح عن يعقوب
" تخيل " بالمثناة، لأن العصى والحبال مؤنثة، وذلك أنهم لطخوها بالزئبق، فلما أصابها حر الشمس ارتعشت
واهتزت، وقرئ " نخيل " بالنون على أن الله سبحانه هو المخيل لذلك، وقرئ " يخيل " بالياء التحتية مبنيا للفاعل
على أن المخيل هو الكيد، وقيل المخيل هو أنها تسعى، فأن في موضع رفع: أي يخيل إليه سعيها، ذكر معناه
الزجاج. وقال الفراء: إنها في موضع نصب: أي بأنها ثم حذف الباء. قال الزجاج: ومن قرأ بالتاء: يعني
الفوقية جعل أن في موضع نصب: أي تخيل إليه ذات سعي. قال: ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلا من
الضمير في تخيل، وهو عائد على الحبال والعصي، والبدل فيه بدل اشتمال، يقال خيل إليه إذا شبه له وأدخل عليه
البهمة والشبهة (فأوجس في نفسه خيفة موسى) أي أحس، وقيل وجد، وقيل أضمر، وقيل خاف، وذلك لما
يعرض من الطباع البشرية عند مشاهدة ما يخشى منه، وقيل خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه، وقيل إن
سبب خوفه هو أن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا، فخاف أن يلتبس أمره على الناس فلا يؤمنوا، فأذهب
374

الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشره به بقوله (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى) أي المستعلي عليهم بالظفر
والغلبة، والجملة تعليل للنهي عن الخوف (وألق ما في يمينك) يعني العصا، وإنما أبهمها تعظيما وتفخيما، وجزم
(تلقف ما صنعوا) على أنه جواب الأمر قرئ بتشديد القاف، والأصل تتلقف فحذف إحدى التاءين، وقرئ
تلقف بكسر اللام من لقفه إذا ابتلعه بسرعة، وقرئ " تلقف " بالرفع على تقدير فإنها تتلقف، ومعنى (ما صنعوا
الذي صنعوه من الحبال والعصي. قال الزجاج: القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال،
كأنه قال: ألقها متلقفة، وجملة (إنما صنعوا كيد ساحر) تعليل لقوله تلقف، وارتفاع كيد على أنه خبر لأن،
وهى قراءة الكوفيين إلا عاصما. وقرأ هؤلاء " سحر " بكسر السين وسكون الحاء، وإضافة الكيد إلى السحر على
الإتساع من غير تقدير، أو بتقدير ذي سحر. وقرأ الباقون " كيد ساحر " (ولا يفلح الساحر حيث أتى) أي
لا يفلح جنس الساحر حيث أتى وأين توجه، وهذا من تمام التعليل (فألقى السحرة سجدا) أي فألقى ذلك الأمر
الذي شاهدوه من موسى والعصا السحرة سجدا لله تعالى، وقد مر تحقيق هذا في سورة الأعراف (قالوا آمنا برب
هارون وموسى) إنما قدم هارون على موسى في حكاية كلامهم رعاية لفواصل الآي وعناية بتوافق رؤوسها.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فيسحتكم بعذاب) قال: يهلككم. وأخرج
عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة (فيسحتكم) قال: يستأصلكم. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن
أبي صالح قال: فيذبحكم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي (ويذهبا بطريقتكم المثلى)
قال: يصرفا وجوه الناس إليهما. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: يقول أمثلكم،
وهم بنو إسرائيل. وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق في قوله (تلقف ما صنعوا) ما يأفكون، عن قتادة قال:
ألقاها موسى فتحولت حية تأكل حبالهم وما صنعوا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة
أن سحرة فرعون كانوا تسعمائة، فقالوا لفرعون: إن يكن هذان ساحران فإنا نغلبهما يكون فإنه لا أسحر منا، وإن كانا
من رب العالمين فإنه لا طاقة لنا برب العالمين، فلما كان من أمرهم أن خروا سجدا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي
إليها يصيرون فعندها (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) إلى قوله (والله خير وأبقى).
سورة طه الآية (71 - 76)
375

قوله (قال آمنتم له) يقال آمن له وآمن به، فمن الأول قوله - فآمن له لوط -، ومن الثاني، قوله في الأعراف
- آمنتم به قبل أن آذن لكم - وقيل إن الفعل هنا متضمن معنى الاتباع. وقرئ على الاستفهام التوبيخي: أي
كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم بذلك (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) أي إن موسى لكبيركم: أي أسحركم
وأعلاكم درجة في صناعة السحر، أو معلمكم وأستاذكم كما يدل عليه قوله (الذي علمكم السحر) قال الكسائي:
الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري. وقال محمد بن إسحاق: إنه لعظيم السحر. قال
الواحدي: والكبير في اللغة الرئيس، ولهذا يقال للمعلم الكبير. أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس
حتى لا يؤمنوا، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيسا لهم، ولا بينه وبينهم مواصلة (فلأقطعن
أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي والله لأفعلن بكم ذلك، والتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف هو قطع اليد
اليمنى والرجل اليسرى، ومن للابتداء (ولأصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوعها كقوله - أم لهم سلم
يستمعون فيه - أي عليه، ومنه قول سويد بن أبي كاهل:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة * فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
وإنما آثر كلمة " في " للدلالة على استقرارهم عليها كاستقرار بكر المظروف في الظرف (ولتعلمن أينا أشد عذابا
وأبقى) أراد لتعلمن هل أنا أشد عذابا لكم أم موسى؟ ومعنى أبقى أدوم، وهو يريد بكلامه هذا الاستهزاء
بموسى، لأن موسى لم يكن من التعذيب في شئ، ويمكن أن يريد العذاب الذي توعدهم به موسى إن لم يؤمنوا،
وقيل أراد بموسى رب موسى على حذف المضاف (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) أي لن نختارك على
ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله سبحانه كاليد والعصا، وقيل إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه
في سجودهم من المنازل المعدة لهم في الجنة (والذي فطرنا) معطوف على ما جاءنا أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى
من البينات وعلى الذي فطرنا: أي خلقنا، وقيل هو قسم: أي والله الذي فطرنا لن نؤثرك، أو لا نؤثرك، وهذان
الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفراء والزجاج (فاقض ما أنت قاض) هذا جواب منهم لفرعون لما قال لهم
لأقطعن الخ، والمعنى: فاصنع ما أنت صانع، واحكم ما أنت حاكم، والتقدير: ما أنت صانعه (إنما تقضى
هذه الحياة الدنيا) أي إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الدنيا ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، فاسم الإشارة
في محل نصب على الظرفية أو على المفعولية وما كافة، وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل ما بمعنى الذي: أي أن الذي
تقضيه هذه الحياة الدنيا فقضاؤك قد وحكمك منحصر في ذلك (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) التي سلفت منا من
الكفر وغيره (وما أكرهتنا عليه من السحر) معطوف على خطايانا: أي ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من عمل السحر
في معارضة موسى فما في محل نصب على المفعولية وقيل هي نافية، قال النحاس: والأول أولى. قيل ويجوز أن
يكون في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر: أي وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا (والله خير وأبقى)
أي خير منك ثوابا وأبقى منك عقابا، وهذا جواب قوله: ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (إنه من يأت ربه
مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) المجرم هو المتلبس بالكفر والمعاصي، ومعنى لا يموت فيها ولا يحيى أنه
لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه. قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي
ويبلغ به حال الموت في المكروه إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حي ولا ميت إذا
كان غير منتفع بحياته، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا:
ألا من لنفس لا تموت فينقضي * شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
376

وهذه الآية من جملة ما حكاه الله سبحانه من قول السحرة، وقيل هو ابتداء كلام، والضمير في إنه على هذا الوجه
للشأن (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات) أي ومن يأت ربه مصدقا به قد عمل الصالحات: أي الطاعات،
والموصوف محذوف، والتقدير الأعمال الصالحات، وجملة قد عمل في محل نصب على الحال وهكذا مؤمنا منتصب
على الحال، والإشارة ب‍ (أولئك) إلى من باعتبار معناه (لهم الدرجات العلى) أي المنازل الرفيعة التي قصرت دونها
الصفات (جنات عدن) بيان للدرجات أو بدل منها، والعدن الإقامة وقد تقدم بيانه، وجملة (تجرى من تحتها
الأنهار) حال من الجنات، لأنها مضافة إلى عدن، وعدن علم للإقامة كما سبق، وانتصاب (خالدين فيها) على
الحال من ضمير الجماعة في لهم: أي ماكثين دائمين، (و) الإشارة (بذلك) إلى ما تقدم لهم من الأجر، وهو
مبتدأ، و (جزاء من تزكى) خبره: أي جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي الموجبة للنار.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وما أكرهتنا عليه من السحر) قال: أخذ فرعون أربعين
غلاما من بني إسرائيل، فأمر أن يعلموا السحر بالفرما، قال: علموهم تعليما لا يغلبهم أحد في الأرض. قال ابن
عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم الذين قالوا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في قوله (والله خير وأبقى) قال: خير منك إن أطيع
وأبقى منك عذابا إن عصى. وأخرج أحمد ومسلم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم خطب فأتى على هذه الآية (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا بأهلها
فإن النار تميتهم إماتة، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان، فينبتون كما
ينبت الغثاء في حميل السيل. وأخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم
وأنعما " وفى الصحيحين بلفظ " إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء ".
سورة طه الآية (77 - 85)
377

سورة طه الآية (86 - 91)
هذا شروع في إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوهم وقد تقدم في البقرة، وفى الأعراف. وفى يونس،
واللام في لقد هي الموطئة للقسم، وفى ذلك من التأكيد ما لا يخفى، و (أن) في أن أسر بعبادي، إما المفسرة لأن في
الوحي معنى القول، أو مصدرية: أي بأن أسر أي أسر بهم من مصر. وقد تقدم هذا مستوفى (فاضرب لهم
طريقا في البحر يبسا) أي اجعل لهم طريقا، ومعنى يبسا يابسا وصف به الفاعل مبالغة، وذلك أن الله تعالى أيبس
لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين. وقرئ " يبسا " بسكون الباء على أنه مخفف من يبسا المحرك، أو وجمع
يابس كصحب في صاحب، وجملة " لا تخاف دركا " في محل نصب على الحال: أي آمنا من أن يدرككم العدو،
أو صفة أخرى لطريق، والدرك اللحاق بهم من فرعون وجنوده. وقرأ حمزة " لا تخف " علي أنه جواب الأمر،
والتقدير: إن تضرب لا تخف، ولا تخشى على هذه القراءة مستأنف: أي ولا أنت تخشى من فرعون أو من البحر.
وقرأ الجمهور " لا تخاف " وهى أرجح لعدم الجزم في تخشى، ويجوز أن تكون هذه الجملة على قراءة الجمهور
صفة أخرى لطريق: أي لا تخاف منه ولا تخشى منه (فأتبعهم فرعون بجنوده) أتبع هنا مطاوع تبع، يقال أتبعتهم
إذا تبعتهم، وذلك إذا سبقوك فلحقتهم، فالمعنى: تبعهم فرعون ومعه جنوده. وقيل الباء زائدة والأصل اتبعهم
جنوده: أي أمرهم أن يتبعوا موسى وقومه، وقرئ " فأتبعهم " بالتشديد: أي لحقهم بجنوده وهو معهم كما
يقال: ركب الأمير بسيفه: أي معه سيفه، ومحل بجنوده النصب على الحال أي سابقا جنوده معه (فغشيهم من
اليم ما غشيهم) أي علاهم وأصابهم ما علاهم وأصابهم، والتكرير للتعظيم والتهويل كما في قوله - الحاقة ما الحاقة -
وقيل غشيهم ما سمعت قصته. وقال ابن الأنباري: غشيهم البعض الذي غشيهم، لأنه لم يغشهم كل ماء البحر، بل
الذي غشيهم بعضه. فهذه العبارة للدلالة على أن الذي غرقهم بعض الماء، والأول أولى لما يدل عليه من التهويل
والتعظيم. وقرئ فغشاهم من اليم ما غشاهم: أي غطاهم ما غطاهم (وأضل فرعون قومه وما هدى) أي أضلهم عن
الرشد، وما هداهم إلى طريق النجاة لأنه قدر أن موسى ومن معه لايفوتونه لكونهم بين يديه يمشون في طريق
يابسة، وبين أيديهم البحر، وفى قوله (وما هدى) تأكيد لإضلاله، لأن المضل قد يرشد من يضله في بعض
الأمور (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) ذكر سبحانه ما أنعم به على بني إسرائيل بعد إنجائهم، والتقدير
قلنا لهم بعد إنجائهم: يا بني إسرائيل، ويجوز أن يكون خطابا لليهود المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم لأن
النعمة على الآباء معدودة من النعم على الأبناء، والمراد بعدوهم هنا فرعون وجنوده، وذلك بإغراقه وإغراق قومه
378

في البحر بمرأى من بني إسرائيل (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) انتصاب جانب على أنه مفعول به، لا على
الظرفية لأنه مكان معين غير مبهم، وإنما تنتصب الأمكنة على الظرفية إذا كانت مبهمة. قال مكي: وهذا أصل
لا خلاف فيه. قال النحاس: والمعنى أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام،
وقيل وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور، فالوعد كان لموسى، وإنما خوطبوا به لأن الوعد كان
لأجلهم. وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب ووعدناكم بغير ألف، واختاره أبو عبيدة، لأن الوعد إنما هو من
الله لموسى خاصة والمواعدة لا تكون إلا من اثنين: وقد قدمنا في البقرة هذا المعنى، والأيمن منصوب على أنه
صفة للجانب، والمراد يمين الشخص، لأن الجبل ليس له يمين ولا شمال، فإذا قيل خذ عن يمين الجبل بمعناه عن
يمينك من الجبل. وقرئ بجر الأيمن على أنه صفة للمضاف إليه (ونزلنا عليكم المن والسلوى) قد تقدم تفسير
المن بالترنجبين والسلوى بالسماني وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه، وإنزال ذلك عليهم كان في التيه (كلوا من
طيبات ما رزقناكم) أي وقلنا لهم كلوا والمراد بالطيبات المستلذات، وقيل الحلال على الخلاف المشهور في ذلك.
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش: قد أنجيتكم من عدوكم ووعدتكم جانب الطور كلوا من طيبات ما رزقتكم بتاء
المتكلم في الثلاثة. وقرأ الباقون بنون العظمة فيها (ولا تطغوا فيه) الطغيان التجاوز: أي لا تتجاوزوا ما هو جائز
إلى ما لا يجوز، وقيل المعنى: لا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين، وقيل لا تكفروا النعمة ولا تنسوا شكرها،
وقيل لا تعصوا المنعم: أي لا تحملنكم السعة والعافية على المعصية، ولا مانع من حمل الطغيان على جميع هذه المعاني
فإن كل واحد منها يصدق عليه أنه طغيان (فيحل عليكم غضبى) هذا جواب النهي: أي يلزمكم غضبي وينزل
بكم، وهو مأخوذ من حلول الدين: أي حضور وقت أدائه (ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى) قرأ الأعمش
ويحيى بن وثاب والكسائي " فيحل " بضم الحاء وكذلك قرأوا يحلل بضم اللام الأولى، وقرأ الباقون بالكسر فيهما
وهما لغتان: قال الفراء: والكسر أحب إلي من الضم لأن الضم من الحلول بمعنى الوقوع، ويحل بالكسر يجب،
وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع، وذكر نحو هذا أبو عبيدة وغيره. ومعنى " فقد هوى " فقد هلك. قال
الزجاج (فقد هوى) أي صار إلى الهاوية، وهى قعر النار من هوى يهوي هويا: أي سقط من علو إلى سفل،
وهوى فلان: أي مات (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا) أي لمن تاب من الذنوب التي أعظمها الشرك
بالله، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وعمل عملا صالحا مما ندب إليه الشرع وحسنه (ثم اهتدى)
أي استقام على ذلك حتى يموت كذا قال الزجاج وغيره. وقيل لم يشك في إيمانه، وقيل أقام على السنة والجماعة،
وقيل تعلم العلم ليهتدي به، وقيل علم أن لذلك ثوابا وعلى تركه عقابا، والأول أرجح مما بعده (وما أعجلك عن
قومك يا موسى) هذا حكاية لما جرى بين الله سبحانه وبين موسى عند موافاته الميقات. قال المفسرون: وكانت
المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه، فسار موسى بهم، ثم عجل من بينهم شوقا إلى ربه، فقال الله
له: ما أعجلك؟ أي ما الذي حملك على العجلة، حتى تركت قومك وخرجت من بينهم، فأجاب موسى عن
ذلك (قال هم أولاء على أثرى) أي هم بالقرب مني، تابعون لأثري واصلون بعدي. وقيل لم يرد أنهم يسيرون
خلفه، بل أراد أنهم بالقرب منه ينتظرون عوده إليهم، ثم قال مصرحا بسبب ما سأله الله عنه فقال (وعجلت إليك
رب لترضى) أي لترضى عني بمسارعتي إلى امتثال أمرك أو لتزداد رضا عني بذلك. قال أبو حاتم: قال عيسى بن
عمر: بنو تميم يقولون " أولا " مقصورة، وأهل الحجاز. يقولون " أولاء " ممدودة. وقرأ ابن أبي إسحاق ونصر
ورويس عن يعقوب " على إثري " بكسر الهمزة وإسكان الثاء، وقرأ الباقون بفتحها وهما لغتان. ومعنى عجلت
379

إليك: عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني، يقال رجل عجل وعجول وعجلان: بين
العجلة، والعجلة خلاف البطء، وجملة (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك) مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه
قيل فماذا قال الله له؟ فقيل قال إنا قد فتنا قومك من بعدك: أي ابتليناهم واختبرناهم وألقيناهم فلا في فتنة ومحنة. قال
ابن الأنباري: صيرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل من بعد انطلاقك من بينهم، وهم الذين خلفهم مع هارون
(وأضلهم السامري) أي دعاهم إلى الضلالة، وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل في دين بني إسرائيل في الظاهر
وفى قلبه ما فيه من عبادة البقر، وكان من قبيلة تعرف بالسامرة، وقال لمن معه من بني إسرائيل: إنما تخلف
موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لما صار معكم من الحلي، وهى حرام عليكم وأمرهم بإلقائها في النار، فكان من
أمر العجل ما كان (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) قيل وكان الرجوع إلى قومه بعد ما استوفى أربعين يوما:
ذا القعدة، وعشر ذي الحجة، والأسف الشديد الغضب، وقيل الحزين، وقد مضى في الأعراف بيان هذا مستوفى
(قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) الاستفهام للإنكار التوبيخي، والوعد الحسن وعدهم بالجنة إذا أقاموا
على طاعته، ووعدهم أن يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى ليعملوا بما فيها، فيستحقوا ثواب عملهم،
وقيل وعدهم النصر والظفر، وقيل هو قوله " وإني لغفار لمن تاب " الآية (أفطال عليكم العهد) الفاء للعطف على
مقدر: أي أو عدكم ذلك، فطال عليكم الزمان فنسيتم (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) أي يلزمكم
وينزل بكم، والغضب: العقوبة والنقمة، والمعنى: أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سبب حلول غضب الله عليكم
(فأخلفتم موعدي) أي موعدكم إياي، فالمصدر مضاف إلى المفعول، لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز
وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور، وقيل وعدوه أن يأتوا على أثره إلى الميقات، فتوقفوا فأجابوه، و (قالوا
ما أخلفنا موعدك) الذي وعدناك (بملكنا) بفتح الميم، وهى قراءة نافع وأبي جعفر وعاصم وعيسى بن عمر، وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر الميم، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لأنها على اللغة العالية
الفصيحة، وهو مصدر ملكت الشئ أملكه ملكا، والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف: أي بملكنا
أمورنا، أو بملكنا الصواب، بل أخطأنا ولم نملك أنفسنا وكنا مضطرين إلى الخطأ، وقرأ حمزة والكسائي " بملكنا "
بضم الميم، والمعنى بسلطاننا: أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك، وقيل إن الفتح والكسر والضم في بملكنا كلها
لغات في مصدر ملكت الشئ (ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص
وأبو جعفر ورويس " حملنا " بضم الحاء وتشديد الميم، وقرأ الباقون بفتح الحاء والميم مخففة، واختار هذه القراءة
أبو عبيد وأبو حاتم لأنهم حملوا حلية القوم معهم باختيارهم، وما حملوها كرها، فإنهم كانوا استعاروها منهم حين
أرادوا الخروج مع موسى، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة، وقيل هو ما أخذوه من آل فرعون لما
قذفهم البحر إلى الساحل، وسميت أوزارا: أي آثاما، لأنه لا يحل لهم أخذها، ولا تحل لهم الغنائم في شريعتهم
والأوزار في الأصل الأثقال كما صرح به أهل اللغة، والمراد بالزينة هنا الحلي (فقذفناها) أي طرحناها في النار
طلبا للخلاص من إثمها، وقيل المعنى: طرحناها إلى السامري لتبقى لديه حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه
(فكذلك ألقى السامري) أي فمثل ذلك القذف ألقاها السامري، قيل إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم رجوع
موسى: إنما احتبس عنكم لأجل ما عندكم من الحلي، فجمعوه ودفعوه إليه، فرمى به في النار وصاغ لهم منه
عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول وهو جبريل، فصار (عجلا جسدا له خوار) أي يخور كما يخور
الحي من العجول، والخوار صوت البقر، وقيل خواره كان بالريح، لأنه كان عمل فيه خروقا، فإذا دخلت
380

الريح في جوفه خار ولم يكن فيه حياة، (فقالوا هذا إلهكم وإله موسى) أي قال السامري ومن وافقه هذه المقالة
(فنسى) أي فضل موسى ولم يعلم مكان إلهه هذا، وذهب يطلبه في الطور، وقيل المعنى: فنسي موسى أن
يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم، وقيل الناسي هو السامري: أي ترك السامري ما أمر به موسى من الإيمان وضل،
كذا قال ابن الأعرابي (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا) أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرجع
إليهم قولا: أي لا يرد عليهم جوابا، ولا يكلمهم إذا كلموه، فكيف يتوهمون أنه إله وهو عاجز عن المكالمة،
فأن في " ألا يرجع " هي المخففة من الثقيلة، وفيها ضمير مقدر يرجع إلى العجل، ولهذا ارتفع الفعل بعدها،
ومنه قول الشاعر:
في فتية من سيوف الهند قد علموا * أن هالك كل من يحفى وينتعل
أي أنه هالك. وقرئ بنصب الفعل على أنها الناصبة، وجملة (ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) معطوفة على جملة
لا يرجع: أي أفلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرا ولا يجلب إليهم نفعا (ولقد قال لهم هارون من قبل)
اللام هي الموطئة للقسم والجملة مؤكدة لما تضمنته الجملة التي قبلها من الإنكار عليهم والتوبيخ لهم: أي ولقد
قال لهم هارون من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم (يا قوم إنما فتنتم به) أي وقعتم في الفتنة بسبب العجل وابتليتم به
وضللتم عن طريق الحق لأجله، قيل ومعنى القصر المستفاد من إنما هو أن العجل صار سببا لفتنتهم لا لرشادهم
غير وليس معناه أنهم فتنوا بالعجل لا بغيره (وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري) أي ربكم الرحمن لا العجل،
فاتبعوني في أمري لكم بعبادة الله، رولا تتبعوا السامري في أمره لكم بعبادة العجل، وأطيعوا أمري لا أمره (قالوا
لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) أجابوا هارون عن قوله المتقدم بهذا الجواب المتضمن لعصيانه،
وعدم قبول ما دعاهم إليه من الخير وحذرهم عنه من الشر: أي لن نزال مقيمين على عبادة هذا العجل، حتى
يرجع إلينا موسى، فينظر هل يقررنا على عبادته أو ينهانا عنها، فعند ذلك اعتزلهم هارون في اثنى عشر ألفا من
المنكرين لما فعله السامري.
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله (يبسا) قال: يابسا ليس
فيه ماء ولا طين. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس (لا تخاف دركا) من آل فرعون (ولا تخشى) من البحر غرقا. وأخرجا عنه أيضا في قوله
(فقد هوى) شقى. وأخرجا عنه أيضا (وإني لغفار لمن تاب) قال من الشرك (وآمن) قال: وحد الله (وعمل
صالحا) قال: أدى الفرائض (ثم اهتدى) قال: لم يشكك. وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عنه أيضا (وإني لغفار لمن تاب) قال: من تاب من الذنب، وآمن من الشرك، وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه (ثم اهتدى) علم أن
لعمله ثوابا يجزى عليه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (ثم أهتدي) قال: ثم استقام لزم السنة والجماعة.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي في البعث من طريق عمرو بن ميمون عن رجل من أصحاب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: تعجل موسى إلى ربه، فقال الله (وما أعجلك عن قومك يا موسى) الآية، قال:
فرأى في ظل العرش رجلا فعجب له، فقال: من هذا يا رب؟ قال: لا أحدثك من هو: لكن سأخبرك بثلاث
فيه: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يعق والديه، ولا يمشي بالنميمة. وأخرج الفريابي
وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي قال: لما تعجل موسى إلى ربه عمد السامري
فجمع ما قدر عليه من حلي بني إسرائيل فضربه عجلا، ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار،
فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، فقال لهم هارون، يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا، فلما أن رجع
381

موسى أخذ برأس أخيه، فقال له هارون ما قال، فقال موسى للسامري: ما خطبك قال (قبضت قبضة من أثر
الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي) فعمد موسى إلى العجل، فوضع موسى عليه المبارد فبرده بها وهو على
شط نهر فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد ذلك العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب فقالوا لموسى:
ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضا، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه ولا يبالي بمن قتل
حتى قتل منهم سبعون ألفا، فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم، فقد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي.
والحكايات لهذه القصة كثيرة جدا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (بملكنا) قال: بأمرنا. وأخرج
عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة (بملكنا) قال: بطاقتنا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى مثله.
وأخرج أيضا عن الحسن قال: بسلطاننا. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله (هذا إلهكم وإله موسى فنسى) قال: فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه.
سورة طه الآية (92 - 101)
جملة (قال يا هارون) مستأنفة جواب سؤال مقدر، والمعنى: أن موسى لما وصل إليهم أخذ بشعور رأس
أخيه هارون وبلحيته وقال (ما منعك) من اتباعي واللحوق بي عند أن وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة،
وقيل معنى (ما منعك أن لا تتبعني) ما منعك من اتباعي في الإنكار عليهم، وقيل معناه: هلا قاتلتهم إذ قد علمت
أنى لو كنت بينهم لقاتلتهم، وقيل معناه: هلا فارقتهم، ولا في " أن لا تتبعني " زائدة، وهو في محل نصب على
أنه مفعول ثان لمنع: أي أي شئ منعك حين رؤيتك لضلالهم من اتباعي، والاستفهام في (أفعصيت أمري)
للإنكار والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، والمعنى: كيف خالفت أمري لك بالقيام لله ومنابذة من
خالف دينه وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها، وقيل المراد بقوله أمري هو قوله الذي حكى الله عنه
- وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين - فلما أقام معهم ولم يبالغ في الإنكار
382

عليهم نسبه إلى عصيانه (قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) قرئ بالفتح والكسر للميم، وقد تقدم الكلام
على هذا في سورة الأعراف، ونسبه إلى الأم مع كونه أخاه لأبيه وأمه عند الجمهور استعطافا له وترقيقا لقلبه،
ومعنى (ولا برأسي) ولا بشعر رأسي: أي لا تفعل هذا بي عقوبة منك لي، فإن لي عذرا هو (إني خشيت أن تقول
فرقت بين بني إسرائيل) أي خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يتفرقوا فتقول إني فرقت جماعتهم وذلك لأن هارون
لو خرج لتبعه جماعة منهم وتخلف مع السامري عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم، ومعنى
(ولم ترقب قولي) ولم تعمل بوصيتي لك فيهم، إني خشيت أن تقول فرقت بينهم وتقول لم تعمل بوصيتي لك فيهم
وتحفظها، ومراده بوصية موسى له هو قوله - أخلفني في قومي وأصلح - قال أبو عبيد: معنى (ولم ترقب قولي)
ولم تنتظر عهدي وقدومي لأنك أمرتني أن أكون معهم، فاعتذر هارون إلى موسى ها هنا بهذا، واعتذر إليه في
الأعراف بما حكاه الله عنه هنالك حيث قال - إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني - ثم ترك موسى الكلام مع
أخيه وخاطب السامري ف‍ (قال فما خطبك يا سامري) أي ما شأنك وما الذي حملك على ما صنعت (قال بصرت بما لم
يبصروا به) أي قال السامري مجيبا على موسى: رأيت ما لم يروا أو علمت بما لم يعلموا وفطنت لما لم يفطنوا له،
وأراد بذلك أنه رأى جبريل على فرس الحياة فألقى في ذهنه أن يقبض قبضة من أثر الرسول، وأن ذلك الأثر لا يقع
على جماد إلا صار حيا. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف " ما لم تبصروا به " بالمثناة من فوق على الخطاب.
وقرأ الباقون بالتحتية، وهى أولى، لأنه يبعد كل البعد أن يخاطب موسى بذلك ويدعى لنفسه أنه علم ما لم يعلم به
موسى، وقرئ بضم الصاد فيهما وبكسرها في الأول وفتحها في الثاني، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود والحسن
وقتادة " فقبصت قبصة " بالصاد المهملة فيهما، وقرأ الباقون بالضاد المعجمة فيهما، والفرق بينهما أن القبض
بالمعجمة هو الأخذ بجميع الكف، وبالمهملة بأطراف الأصابع، والقبضة بضم القاف: القدر المقبوض. قال
الجوهري: هي ما قبضت عليه من شئ، قال: وربما جاء بالفتح، وقد قرئ " قبضة " بضم القاف وفتحها،
ومعنى الفتح المرة من القبض، ثم أطلقت على المقبوض وهو معنى القبضة بضم القاف، ومعنى (من أثر الرسول)
من المحل الذي وقع عليه حافر فرس جبريل، ومعنى (فنبذتها) فطرحتها في الحلي المذابة المسبوكة على صورة العجل
(وكذلك سولت لي نفسي) قال الأخفش: أي زينت: أي ومثل ذلك التسويل سولت لي نفسي، وقيل معنى
سولت لي نفسي، حدثتني نفسي، فلما سمع موسى منه ذلك (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس)
أي فاذهب من بيننا واخرج عنا فإن لك في الحياة: أي ما دمت حيا، وأطول حياتك أن تقول لا مساس. المساس
مأخوذ من المماسة: أي لا يمسك أحد ولا تمس أحدا، لكن لا بحسب الاختيار منك، بل بموجب الاضطرار
المجئ يقول إلى ذلك، لأن الله سبحانه أمر موسى أن ينفي السامري عن قومه، وأمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا
يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قيل إنه لما قال له موسى ذلك هرب، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش
لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كمن يقول لا مساس لبعده عن الناس وبعد الناس عنه، كما قال الشاعر:
حمال رايات بها قناعسا * حتى تقول الأزد لا مسايسا
قال سيبويه: وهو مبني على الكسر. قال الزجاج: كسرت السين لأن الكسرة من علامة التأنيث. قال
الجوهري في الصحاح: وأما قول العرب لا مساس مثل قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر، وهو
المس. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد المبرد يقول: إذا اعتل الشئ من ثلاث
383

جهات وجب أن يبنى، وإذا اعتل من جهتين وجب أن لا ينصرف، لأنه ليس بعد الصرف إلا البناء، فمساس
دراك اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، ومنها أنه معرفة، فلما وجب البناء فيه وكانت
الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين. وقد رأيت أبا إسحاق يعني الزجاج ذهب إلى أن هذا
القول خطأ وألزم أبا العباس إذا سميت امرأة بفرعون أن يبنيه وهذا لا يقوله أحد. وقد قرأ بفتح الميم أبو حياة والباقون
بكسرها. وحاصل ما قيل في معنى لا مساس ثلاثة أوجه: الأول أنه حرم عليه مماسة الناس، وكان إذا ماسه أحد
حم الماس والممسوس، فلذلك كان يصيح إذا رأى أحدا لا مساس. والثاني أن المراد منع الناس من مخالطته،
واعترض بأن الرجل إذا صار مهجورا فلا يقول هو لا مساس، وإنما يقال له، وأجيب بأن المراد الحكاية: أي
أجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك قلت لا مساس. والقول الثالث أن المراد انقطاع نسله، وأن يخبر بأنه
لا يتمكن من مماسة المرأة قاله أبو مسلم وهو ضعيف جدا. ثم ذكر حاله في الآخرة فقال (وإن لك موعدا لن تخلفه)
أي لن يخلفك الله ذلك الموعد، وهو يوم القيامة، والموعد مصدر: أي إن لك وعدا لعذابك، وهو كائن لا محالة
قال الزجاج: أي يكافئك الله على ما فعلت في القيامة والله لا يخلف الميعاد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب
وابن محيصن واليزيدي والحسن لن تخلفه بكسر اللام، وله على هذه القراءة معنيان: أحدهما ستأتيه ولن تجده مخلفا
كما تقول أحمدته: أي وجدته محمودا. والثاني على التهديد: أي لا بد لك من أن تصير إليه. وقرأ ابن مسعود
" لن نخلفه " بالنون: أي لن يخلفه الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وبالفوقية مبنيا للمفعول، معناه ما قدمناه (وانظر
إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا) ظلت أصله ظللت فحذفت اللام الأولى تخفيفا، والعرب تفعل ذلك كثير. وقرأ
الأعمش بلامين على الأصل. وفى قراءة ابن مسعود " ظلت " بكسر الظاء. والمعنى: انظر إلى إلهك الذي دمت
وأقمت على عبادته، والعاكف الملازم (لنحرقنه) قرأ الجمهور بضم النون وتشديد الراء من حرقه يحرقه. وقرأ
الحسن بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ علي وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن
وأشهب والعقيلي " لنحرقنه " بفتح النون وضم الراء مخففة من حرقت الشئ أحرقه حرقا إذا بردته وحككت بعضه
ببعض: أي لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق. والقراءة الأولى أولى، ومعناها الإحراق بالنار، وكذا معنى
القراءة الثانية، وقد جمع بين هذه الثلاث القراءات بأنه أحرق، ثم برد بالمبرد، وفى قراءة ابن مسعود " لنذبحنه " ثم
لنحرقنه، واللام هي الموطئة للقسم (ثم لننسفنه في اليم نسفا) النسف نفض الشئ ليذهب به الريح. قرأ أبو رجاء
" لننسفنه " بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها، وهما لغتان. والمنسف ما ينسف به الطعام، وهو شئ منصوب
الصدر أعلاه مرتفع، والنسافة ما يسقط منه (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو) لا هذا العجل الذي فتنتم به
السامري (وسع كل شئ علما) قرأ الجمهور وسع بكسر السين مخففة. وهو معتد إلى مفعول واحد، وهو كل
شئ، وانتصاب علما على التمييز المحول عن الفاعل: أي وسع علمه كل شئ. وقرأ مجاهد وقتادة وسع بتشديد
السين وفتحها فيتعدى إلى مفعولين، ويكون انتصاب علما على أنه المفعول الأول وإن كان متأخرا، لأنه في الأصل
فاعل، والتقدير: وسع علمه كل شئ، وقد مر نحو هذا في الأعراف (كذلك نقص عليك) الكاف في محل
نصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي كما قصصنا عليك خبر موسى كذلك نقص عليك (من أنباء ما قد سبق)
أي من أخبار الحوادث الماضية في الأمم الخالية لتكون تسلية لك ودلالة على صدقك، ومن للتبعيض: أي بعض
أخبار ذلك (وقد آتيناك من لدنا ذكرا) المراد بالذكر القرآن، وسمى ذكرا لما فيه من الموجبات للتذكر والاعتبار،
وقيل المراد بالذكر الشرف كقوله - وإنه لذكر لك ولقومك - ثم توعد سبحانه المعرضين على هذا الذكر فقال
384

(من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) أي أعرض عنه فلم يؤمن به ولا عمل بما فيه، وقيل أعرض عن الله
سبحانه، فإن المعرض عنه يحمل يوم القيامة وزرا: أي إثما عظيما وعقوبة ثقيلة بسبب إعراضه (خالدين فيه) أي
في الوزر، والمعنى: أنهم يقيمون في جزائه، وانتصاب خالدين على الحال (وساء لهم يوم القيامة حملا) أي بئس
الحمل يوم القيامة، والمخصوص بالذم محذوف: أي ساء لهم حملا وزرهم، واللام للبيان كما في هيت لك.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله (يا هارون ما منعك) إلى قوله (أفعصيت أمري) قال: أمره موسى
أن يصلح ولا يتبع سبيل المفسدين. فكان من إصلاحه أن ينكر العجل. وأخرج عنه أيضا في قوله (ولم ترقب
قولي) قال: لم تنتظر قولي ما أنا صانع، وقال ابن عباس: لم ترقب لم تحفظ قولي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن
حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) قال: عقوبة له (وإن لك موعدا لن
تخلفه) قال: لن تغيب عنه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وانظر إلى إلهك الذي
ظلت عليه عاكفا) قال: أقمت (لنحرقنه) قال بالنار (ثم لننسفنه في اليم) قال: لنذرينه في البحر. وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يقرأ (لنحرقنه) خفيفة ويقول: إن الذهب والفضة لا تحرق بالنار، بل تسحل
بالمبرد ثم تلقى على النار فتصير رمادا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال (اليم) البحر. وأخرج أيضا عن علي قال
(اليم) النهر. وأخرج أيضا عن قتادة في قوله (وسع كل شئ علما) قال: ملأ. وأخرج أيضا عن ابن زيد في
قوله (من لدنا ذكرا) قال: القرآن. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (وزرا) قال:
إثما. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وساء لهم يوم القيامة حملا) يقول: بئس ما حملوا.
سورة طه الآية (102 - 112)
الظرف وهو (يوم ينفخ) متعلق بمقدر هو أذكر، وقيل هو بدل من يوم القيامة، والأول أولى. قرأ
الجمهور " ينفخ " بضم الياء التحتية مبنيا للمفعول، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق بالنون مبنيا للفاعل، واستدل
أبو عمرو على قراءته هذه بقوله " ونحشر " فإنه بالنون. وقرأ ابن هرمز " ينفخ " بالتحتية مبنيا للفاعل على أن الفاعل
385

هو الله سبحانه أو إسرافيل، وقرأ أبو عياض (في الصور) بفتح الواو جمع صورة، وقرأ الباقون بسكون الواو،
وقرأ طلحة بن مصرف والحسن (يحشر) بالياء التحتية مبنيا للمفعول ورفع (المجرمين) وهو خلاف رسم المصحف
وقرأ الباقون بالنون، وقد سبق تفسير هذا في الأنعام، والمراد بالمجرمين المشركون والعصاة المأخوذون بذنوبهم
التي لم يغفرها الله لهم، والمراد ب‍ (يومئذ) يوم النفخ في الصور، وانتصاب زرقا على الحال من المجرمين: أي زرق
العيون، والزرقة الخضرة في العين كعين السنور والعرب تتشاءم بزرقة العين، وقال الفراء زرقا: أي عمياء. وقال
الأزهري: عطاشا، وهو قول الزجاج لأن سواد العين يتغير بالعطش إلى الزرقة. وقيل إنه كنى بقوله زرقا
عن الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة، وقيل هو كناية عن شخوص البصر من شدة الحرص، ومنه قول الشاعر:
لقد زرقت عيناك يا بن معكبر * كما كل ضبي من اللؤم أزرق *
والقول الأول أولى، والجمع بين هذه الآية وبين قوله - ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما -
ما قيل من أن ليوم القيامة حالات ومواطن تختلف فيها صفاتهم ويتنوع عندها عذابهم، وجملة (يتخافتون بينهم)
في محل نصب على الحال، أو مستأنفة لبيان ما هم فيه في ذلك اليوم، والخفت في اللغة السكون، ثم قيل لمن خفض
صوته خفته. والمعنى يتساررون: أي يقول بعضهم لبعض سرا (إن لبثتم إلا عشرا) أي ما لبثتم في الدنيا إلا عشر
ليال، وقيل في القبور، وقيل بين النفختين. والمعنى: أنهم يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا، أو في القبور،
أو بين النفختين لشدة ما يرون من أهوال القيامة. وقيل المراد بالعشر عشر ساعات. ثم لما قالوا هذا القول قال
الله سبحانه (نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة) أي أعدلهم قولا وأكملهم رأيا وأعلمهم عند نفسه (إن
لبثتم إلا يوما) أي ما لبثتم إلا يوما واحدا، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، لكونه أدل على شدة الهول، لا لكونه
أقرب إلى الصدق (ويسألونك عن الجبال) أي عن حال الجبال يوم القيامة، وقد كانوا سألوا النبي صلى الله عليه
وآله وسلم عن ذلك، فأمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال (فقل ينسفها ربى نسفا) قال ابن الأعرابي وغيره:
يقلعها قلعا من أصولها، ثم يصيرها رملا يسيل سيلا، ثم يسيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا،
ثم كالهباء المنثور. والفاء في قوله " فقل " لجواب شرط مقدر، والتقدير: إن سألوك فقل، أو للمسارعة إلى إلزام
السائلين، والضمير في قوله (فيذرها) راجع إلى الجبال باعتبار مواضعها: أي فيذر مواضعها بعد نسف ما كان
عليها من الجبال (قاعا صفصفا) قال ابن الأعرابي القاع الصفصف الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء، وقال
الفراء: القاع مستنقع الماء، والصفصف القرعاء الملساء التي لا نبات فيها. وقال الجوهري: القاع المستوى من
الأرض، والجمع أقوع واقواع وقيعان. والظاهر من لغة العرب أن القاع الموضع المنكشف، والصفصف
المستوى الأملس، وأنشد سيبويه:
وكم دون بيتك من صفصف * ودكداك رمل وأعقادها
وانتصاب قاعا على أنه مفعول ثان ليذر على تضمينه معنى التصيير، أو على الحال، والصفصف صفة له،
ومحل (لا ترى فيها عوجا) النصب على أنه صفة ثانية لقاعا، والضمير راجع إلى الجبال بذلك الاعتبار، والعوج
بكسر العين التعوج، قاله ابن الأعرابي. والأمت التلال الصغار، والأمت في اللغة المكان المرتفع، وقيل العوج
الميل والأمت الأثر مثل الشراك، وقيل العوج الوادي، والأمت الرابية، وقيل هما الارتفاع، وقيل العوج
الصدوع، والأمت الأكمة، وقيل الأمت الشقوق في الأرض، وقيل الأمت أن يغلظ في مكان ويدق في مكان،
ووصف مواضع الجبال بالعوج بكسر العين ها هنا يدفع ما يقال: إن العوج بكسر العين في المعاني وبفتحها في
386

الأعيان، وقد تكلف لذلك صاحب الكشاف في هذا الموضع بما عنه غنى، وفى غيره سعة (يومئذ يتبعون الداعي
لا عوج له) أي يوم نسف الجبال يتبع الناس داعي الله إلى المحشر. وقال الفراء: يعني صوت الحشر، وقيل الداعي
هو إسرافيل إذا نفخ في الصور لا عوج له: أي لا معدل لهم عن دعائه فلا يقدرون على أن يزيغوا عنه، أو ينحرفوا
منه بل يسرعون إليه كذا قال أكثر المفسرين، وقيل لا عوج لدعائه (وخشعت الأصوات للرحمن) أي خضعت
لهيبته، وقيل ذلت، وقيل سكتت، ومنه قول الشاعر:
لما أتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع
(فلا تسمع إلا همسا) الهمس الصوت الخفي. قال أكثر المفسرين: هو صوت نقل الأقدام إلى المحشر،
ومنه قول الشاعر: * وهن يمشين بنا هميسا * يعني صوت أخفاف الإبل.
وقال رؤبة يصف نفسه: ليث يدق الأسد الهموسا * ولا يهاب الفيل والجاموسا
يقال للأسد الهموس، لأنه يهمس في الظلمة: أي يطأ وطئا خفيا. والظاهر أن المراد هنا كل صوت خفي
سواء كان بالقدم، أو من الفم، أو غير ذلك، ويؤيده قراءة أبي بن " كعب " فلا ينطقون إلا همسا " (يومئذ لا تنفع
الشفاعة) أي يوم يقع ما ذكر لا تنفع الشفاعة من شافع كائنا من كان (إلا من أذن له الرحمن) أي إلا شفاعة من
أذن له الرحمن أن يشفع له (ورضى له قولا) أي رضى قوله في الشفاعة أو رضى لأجله قول الشافع. والمعنى:
إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضى، ومثل هذه الآية قوله - لا يشفعون إلا لمن
ارتضى -، وقوله - لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا -، وقوله - فما تنفعهم شفاعة الشافعين -
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) أي ما بين أيديهم من أمر الساعة، وما خلفهم من أمر الدنيا، والمراد هنا جميع
الخلق، وقيل المراد بهم الذين يتبعون الداعي، وقال ابن جرير: الضمير يرجع إلى الملائكة، أعلم الله من يعبدها
أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها (ولا يحيطون به علما) أي بالله سبحانه، لا تحيط علومهم بذاته، ولا بصفاته،
ولا بمعلوماته، وقيل الضمير راجع إلى ما في الموضعين فإنهم لا يعلمون جميع ذلك (وعنت الوجوه للحي القيوم)
أي ذلت وخضعت، قاله ابن الأعرابي. قال الزجاج: معنى عنت في اللغة خضعت، يقال عنى يعنو عنوا إذا خضع
ومنه قيل للأسير: عان، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
مليك على عرش السماء مهيمن * لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وقيل هو من العناء، بمعنى التعب (وقد خاب من حمل ظلما) أي خسر من حمل شيئا من الظلم، وقيل هو
الشرك (ومن يعمل من الصالحات) أي الأعمال الصالحة (وهو مؤمن) بالله، لأن العمل لا يقبل من غير إيمان،
بل هو شرط في القبول (فلا يخاف ظلما) يصاب به من نقص ثواب في الآخرة (ولا هضما) الهضم النقص والكسر
يقال هضمت لك من حقي: أي حططته وتركته، وهذا يهضم الطعام: أي ينقص ثقله، وامرأة هضيم الكشح:
أي ضامرة البطن، وقرأ ابن كثير ومجاهد لا يخف بالجزم جوابا لقوله: " ومن يعمل من الصالحات " وقرأ
الباقون " يخاف " على الخبر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلا أتاه، فقال رأيت قوله (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا)
وأخرى عميا قال: إن يوم القيامة فيه حالات يكونون في حال زرقا، وفى حال عميا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم
عنه في قوله (يتخافتون بينهم) قال يتساررون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد
ابن جبير في قوله (أمثلهم طريقة) قال: أوفاهم عقلا، وفى لفظ قال: أعلمهم في نفسه. وأخرج ابن المنذر وابن
جريج قال: قالت قريش كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت (ويسألونك عن الجبال) الآية.
387

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فيذرها قاعا صفصفا) قال: لا نبات فيه (لا ترى
فيها عوجا) قال: واديا (ولا أمتا) قال رابية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة
أنه سئل عن قوله (قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) قال: كان ابن عباس يقول: هي الأرض
الملساء التي ليس فيها رابية مرتفعة ولا انخفاض. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (عوجا) قال ميلا (ولا
أمتا) قال: الأمت الأثر مثل الشراك. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: يحشر الناس يوم
القيامة في ظلمة تطوى السماء وتتناثر النجوم وتذهب الشمس والقمر وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه.
فذلك قول الله (يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له). وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح في الآية قال لا عوج
عنه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وخشعت الأصوات) قال: سكتت (فلا تسمع
إلا همسا) قال: الصوت الخفي. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (إلا همسا) قال: صوت وطء
الأقدام. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن
المنذر عن مجاهد قال: الصوت الخفي. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: سر الحديث وصوت
الأقدام. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وعنت الوجوه) قال: ذلت. وأخرج عبد الرزاق
وعبد بن حميد عن قتادة مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: خشعت. وأخرج
ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: خضعت. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: (وعنت
الوجوه) الركوع والسجود. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج (وقد خاب من حمل ظلما) قال: شركا.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة (وقد خاب من حمل ظلما) قال: شركا (فلا يخاف ظلما ولا هضما)
قال: ظلما أن يزاد في سيئاته (ولا هضما) قال: ينقص من حسناته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال:
لا يخاف أن يظلم في سيئاته، ولا يهضم في حسناته. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه (ولا هضما)
قال: غصبا.
سورة طه الآية (113 - 122)
388

قوله (وكذلك أنزلناه) معطوف على قوله " كذلك نقص عليك ": أي مثل ذلك الإنزال أنزلناه: أي القرآن
حال كونه (قرآنا عربيا) أي بلغة العرب ليفهموه (وصرفنا فيه من الوعيد) بينا فيه ضروبا من الوعيد تخويفا
وتهديدا أو كررنا فيه بعضا منه (لعلهم يتقون) أي كي يخافوا الله فيتجنبوا معاصيه ويحذروا عقابه (أو يحدث لهم
ذكرا) أي اعتبارا واتعاظا، وقيل ورعا، وقيل شرفا، وقيل طاعة وعبادة، لأن الذكر يطلق عليها. وقرأ الحسن
" أو نحدث " بالنون (فتعالى الله الملك الحق) لما بين للعباد عظيم نعمته عليهم بإنزال القرآن نزه نفسه عن مماثلة مخلوقاته
في شئ من الأشياء: أي جل الله عن إلحاد الملحدين وعما يقول المشركون في صفاته فإنه الملك الذي بيده الثواب
والعقاب وأنه الحق أي ذو الحق (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أي يتم إليك وحيه. قال
المفسرون: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصا منه على
ما كان ينزل عليه منه فنهاه الله عن ذلك، ومثله قوله - لا تحرك به لسانك لتعجل به - على ما يأتي إن شاء الله، وقيل
المعنى: ولا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله، وقرأ ابن مسعود ويعقوب والحسن والأعمش " من قبل أن
نقضي " بالنون ونصب وحيه (وقل رب زدني علما) أي سل ربك زيادة العلم بكتابه (ولقد عهدنا إلى آدم)
اللام هي الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تصريف الوعيد: أي لقد أمرناه ووصيناه، والمعهود
محذوف، وهو ما سيأتي من نهيه عن الأكل من الشجرة، ومعنى (من قبل) أي من قبل هذا الزمان (فنسى) قرأ
الأعمش بإسكان الياء، والمراد بالنسيان هنا ترك العمل بما وقع به العهد إليه فيه، وبه قال أكثر المفسرين، وقيل
النسيان على حقيقته، وإنه نسي ما عهد الله به إليه وينتهي عنه، وكان آدم مأخوذا بالنسيان في ذلك الوقت، وإن
كان النسيان مرفوعا عن هذه الأمة، والمراد من الآية تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القول الأول. أي
أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم، كذا قال
ابن جرير والقشيري، واعترضه ابن عطية قائلا بأن كون آدم مماثلا للكفار الجاحدين بالله ليس بشئ، وقرئ
" فنسى " بضم النون وتشديد السين مكسورة مبنيا للمفعول: أي فنساه إبليس (ولم نجد له عزما) العزم في اللغة
توطين النفس على الفعل والتصميم عليه، والمضي على المعتقد في أي شئ كان، وقد كان آدم عليه السلام قد
وطن نفسه على أن لا يأكل من الشجرة وصمم على ذلك، فلما وسوس إليه إبليس لانت عريكته وفتر عزمه وأدركه
ضعف البشر، وقيل العزم الصبر أي لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة. قال النحاس: وهو كذلك في اللغة،
يقال لفلان عزم: أي صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها، ومنه - كما صبر أولوا العزم من
الرسل -، وقيل المعنى: ولم نجد له عزما على الذنب، وبه قال ابن كيسان، وقيل ولم نجد له رأيا معزوما عليه،
وبه قال ابن قتيبة. ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، والعامل في إذ مقدر: أي (و) أذكر
(إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة، لأنه إذا
وقع الأمر بذكر الوقت كان ذكر ما فيه من الحوادث لازما بطريق الأولى وقد تقدم تفسير هذه القصة في البقرة
مستوفى، ومعنى (فتشقى) فتتعب في تحصيل ما لا بد منه في المعاش كالحرث والزرع، ولم يقل فتشقيا، لأن
الكلام من أول القصة مع آدم وحده، ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام فقال (إن
لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى) أي في الجنة. والمعنى: أن لك فيها تمتعا بأنواع المعايش وتنعما بأصناف النعم من
المآكل الشهية والملابس البهية، فإنه لما نفى عنه الجوع والعرى أفاد ثبوت الشبع والاكتساء له، وهكذا قوله
(وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فإن نفى الظمأ يستلزم حصول الري ووجود المسكن الذي يدفع عنه مشقة الضحو
389

يقال ضحى الرجل يضحى ضحوا: إذا برز للشمس فأصابه حرها، فذكر سبحانه هاهنا أنه قد كفاه الاشتغال
بأمر المعاش وتعب الكد في تحصيله، ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي تحصيل الشبع والري والكسوة
والكن، وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها، وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة
هذا كله، وإن ضيع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا فيحل به التعب والنصب بما يدفع الجوع
والعرى والظمأ والضحو، فالمراد بالشقاء شقاء الدنيا كما قاله كثير من المفسرين لا شقاء الأخرى. قال الفراء: هو
أن يأكل من كد يديه، وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصما " وأنك لتظمأ " بفتح أن، وقرأ الباقون بكسرها على
العطف على إن لك (فوسوس إليه الشيطان) قد تقدم تفسيره في الأعراف في قوله - فوسوس لهما الشيطان - أي
أنهى إليه وسوسته، وجملة (قال يا آدم) إلى آخره إما بدل من وسوس أو مستأنفة بتقدير سؤال كأنه قيل: فماذا
قال له في وسوسته؟ و (شجرة الخلد) هي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلا (وملك لا يبلى) أي لا يزول ولا
ينقضي (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما) قد تقدم تفسير هذا وما بعده في الأعراف. قال الفراء: ومعنى طفقا
في العربية: أقبلا، وقيل جعلا يلصقان عليهما من ورق التين (وعصى آدم ربه فغوى) أي عصاه بالأكل من
الشجرة فغوى فضل عن الصواب أو عن مطلوبه، وهو الخلود بأكل تلك الشجرة، وقيل فسد عليه عيشه بنزوله
إلى الدنيا، وقيل جهل موضع رشده، وقيل بشم من كثرة الأكل. قال ابن قتيبة: أكل آدم من الشجرة التي
نهى عنها باستزلال إبليس وخدائعه إياه، والقسم له بالله إنه له لمن الناصحين حتى دلاه بغرور ولم يكن ذنبه عن اعتقاد
متقدم ونية صحيحة، فنحن نقول: عصى آدم ربه فغوى انتهى. قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحد
أن يخبر اليوم بذلك عن آدم. قلت: لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله في كتابه بأنه عصاه، وكما يقال حسنات
الأبرار سيئات المقربين، ومما قلته في هذا المعنى:
عصى أبو العالم وهو الذي * من طينة صوره الله
وأسجد الأملاك من أجله * وصير الجنة مأواه
أغواه إبليس فمن ذا أنا المس * كين إن إبليس أغواه
(ثم اجتباه ربه) أي اصطفاه وقربه. قال ابن فورك: كانت المعصية من آدم قبل النبوة بدليل ما في هذه
الآية، فإنه ذكر الاجتباء والهداية بعد ذكر المعصية، وإذا كانت المعصية قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجها
واحدا (فتاب عليه وهدى) أي تاب عليه من معصيته، وهداه إلى الثبات على التوبة. قيل وكانت توبة الله عليه
قبل أن يتوب هو وحواء بقولهما - ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين - وقد مر وجه
تخصيص آدم بالذكر دون حواء.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (أو يحدث لهم) أي القرآن
(ذكرا) قال: جدا وورعا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (ولا تعجل بالقرآن) يقول: لا تعجل
حتى نبينه لك. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال: لطم رجل
امرأته، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطلب قصاصا، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما
القصاص، فأنزل الله (ولا تعجل بالقرآن) الآية، فوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلت - الرجال
قوامون على النساء - الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (ولا تعجل) الآية
قال: لا تتله على أحد حتى نتمه لك. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
390

وابن منده في التوحيد والطبراني في الصغير وصححه عن ابن عباس قال: إنما سمى الإنسان لأنه عهد إليه فنسى.
وأخرج عبد الغنى وابن سعد عن ابن عباس (ولقد عهدنا إلى آدم) أن لا تقرب الشجرة (فنسى) فترك عهدي
(ولم نجد له عزما) قال: حفظا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (فنسى) فترك (ولم نجد
له عزما) يقول: لم نجعل له عزما. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (إنك لا تظمأ فيها ولا
تضحى) قال: لا يصيبك فيها عطش ولا حر. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وهى شجرة الخلد "
وفى الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " حاج آدم موسى قال له: أنت
الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم بمعصيتك، قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته
وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني، أو قدره علي قبل أن يخلقني، قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: فحج آدم موسى ".
سورة طه الآية (123 - 127)
قوله (قال اهبطا) قد مر تفسيره في البقرة: أي انزلا من الجنة إلى الأرض. خصهما الله سبحانه بالهبوط
لأنهما أصل البشر، ثم عمم الخطاب لهما ولذريتهما فقال (بعضكم لبعض عدو) والجملة في محل نصب على الحال
ويجوز أن يقال خاطبهما في هذا وما بعده خطاب الجمع، لأنهما منشأ الأولاد. ومعنى (بعضكم لبعض عدو)
تعاديهم أنه في أمر المعاش ونحوه، فيحدث بسبب ذلك القتال والخصام (فإما يأتينكم منى هدى) بإرسال الرسل
وإنزال الكتب (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (ومن أعرض عن
ذكرى) أي عن ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه، ولم يتبع هداي (فإن له معيشة ضنكا) أي فإن له في
هذه الدنيا معيشة ضنكا: أي عيشا ضيقا. يقال منزل ضنك وعيش ضنك، مصدر يستوى فيه الواحد وما فوقه
والمذكر والمؤنث، قال عنترة:
إن المنية لو تمثل مثلت * مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
وقرئ (ضنكى) بضم الضاد على فعلي. ومعنى الآية: أن الله عز وجل جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن
يعيش في الدنيا عيشا هنيا غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه كما قال سبحانه - فلنحيينه حياة طيبة - وجعل لمن
لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشا ضيقا وفى تعب ونصب، ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب،
فهو في الأخرى أشد تعبا وأعظم ضيقا وأكثر نصبا، وذلك معنى (ونحشره يوم القيامة أعمى) أي مسلوب البصر:
391

وقيل المراد العمى عن الحجة، وقيل أعمى عن جهات الخير لا يهتدى إلى شئ منها، وقد قيل إن المراد بالمعيشة
الضنكى عذاب القبر، وسيأتي ما يرجح هذا ويقويه (قال ربى لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا) في الدنيا (قال
كذلك) أي مثل ذلك فعلت أنت، ثم فسره بقوله (أتتك آياتنا فنسيتها) أي أعرضت عنها، وتركتها، ولم تنظر
فيها (وكذلك اليوم تنسى) أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا تنسى، أي تترك في العمى والعذاب في
النار، قال الفراء: يقال إنه يخرج بصيرا من قبره فيعمى في حشره (وكذلك نجزى من أسرف) أي مثل ذلك الجزاء
نجزيه: والإسراف الانهماك في الشهوات، وقيل الشرك (ولم يؤمن بآيات ربه) بل كذب بها (ولعذاب الآخرة
أشد) أي أفظع من المعيشة الضنكى (وأبقى) أي أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع.
وقد أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه سوء الحساب يوم القيامة " وذلك
أن الله يقول (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن
حميد ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال:
أجار الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة، ثم قرأ (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) قال:
لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ومسدد في مسنده وعبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا في قوله
(معيشة ضنكا) قال: عذاب القبر. ولفظ عبد الرزاق قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه. ولفظ ابن
أبي حاتم قال: ضمة القبر. وفى إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف وقد روى موقوفا. قال ابن كثير:
الموقوف أصح. وأخرج البزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة " عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (فإن له
معيشة ضنكا) قال: المعيشة الضنكى أن يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة ". وأخرج
ابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي وأبو يعلي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي
عن أبي هريرة مرفوعا نحوه بأطول منه. قال ابن كثير: رفعه منكر جدا. وأخرج ابن أبي شيبة والبزار وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (فإن له
معيشة ضنكا) قال: عذاب القبر. قال ابن كثير بعد إخراجه: إسناد جيد. وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن
المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود في قوله (فإن له معيشة ضنكا) قال: عذاب القبر، ومجموع ما ذكرنا
هنا يرجح تفسير المعيشة الضنكى بعذاب القبر. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في كتاب عذاب القبر عن
ابن مسعود أنه فسر المعيشة الضنكى بالشقاء. وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في
قوله (ونحشره يوم القيامة أعمى) قال: عمى عليه كل شئ إلا جهنم، وفى لفظ: لا يبصر إلا النار. وأخرج ابن
أبي حاتم عن سفيان في قوله (وكذلك نجزى من أسرف) قال: من أشرك بالله.
سورة طه الآية (128 - 129)
392

سورة طه الآية (130 - 135)
قوله (أفلم يهد لهم) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر، كما مر غير مرة، والجملة
مستأنفة لتقرير ما قبلها وفاعل يهد هو الجملة المذكورة بعدها، والمفعول محذوف، وأنكر البصريون مثل هذا لأن
الجمل لا تقع فاعلا، وجوزه غيرهم. قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم. قال النحاس. وهذا
خطأ لأن كم استفهام، فلا يعمل فيها ما قبلها. وقال الزجاج: المعنى أو لم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكناه،
وحقيقته تدل على الهدى، فالفاعل هو الهدى، وقال (كم) في موضع نصب بأهلكنا وقيل إن فاعل يهد ضمير
لله أو للرسول، والجملة بعده تفسره، ومعنى الآية على ما هو الظاهر: أفلم يتبين لأهل مكة خبر من (أهلكنا
قبلهم من القرون) حال كون القرون (يمشون في مساكنهم) ويتقلبون في ديارهم، أو حال كون هؤلاء يمشون
في مساكن القرون الذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة وطلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون
الخالية خاوية خاربة من أصحاب الحجر وثمود وقرى قوم لوط فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم لئلا يحل بهم مثل
ما حل بأولئك. وقرأ ابن عباس والسلمي " نهد " بالنون، والمعنى على هذه القراءة واضح، وجملة (إن في ذلك
لآيات لأولي النهى) تعليل للإنكار وتقرير للهداية، والإشارة بقوله ذلك إلى مضمون كم أهلكنا إلى آخره.
والنهي: جمع نهية، وهى العقل: أي لذوي العقول التي تنهى أربابها عن القبيح (ولولا كلمة سبقت من ربك)
أي ولولا الكلمة السابقة، وهى وعد الله سبحانه بتأخير عذاب هذه الأمة إلى النار الآخرة (لكان) عقاب ذنوبهم
(لزاما) أي لازما لهم، لا ينفك عنهم بحال ولا يتأخر. وقوله (وأجل مسمى) معطوف على كلمة، قاله الزجاج
وغيره، والأجل المسمى هو يوم القيامة، أو يوم بدر، واللزام مصدر لازم، قيل ويجوز عطف وأجل مسمى على
الضمير المستتر في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد: أي لكان
الأخذ العاجل (وأجل مسمى) لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، وفيه تعسف ظاهر. ثم لما بين الله سبحانه
أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر فقال (فاصبر على ما يقولون) من أنك ساحر كذاب، ونحو ذلك
من مطاعنهم الباطلة، والمعنى: لا تحتفل بهم، فإن لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل هذا منسوخ
بآية القتال (وسبح بحمد ربك) أي متلبسا بحمده، قال أكثر المفسرين: والمراد الصلوات الخمس كما يفيد، قوله
(قبل طلوع الشمس) فإنه إشارة إلى صلاة الفجر (وقبل غروبها) فإنه إشارة إلى صلاة العصر (ومن آناء الليل)
العتمة، والمراد بالآناء الساعات، وهى جمع إني بالكسر والقصر، وهو الساعة، ومعنى (فسبح) أي فصل
393

(وأطراف النهار) أي المغرب والظهر لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر. وقيل
إن الإشارة إلى صلاة الظهر هي بقوله (وقبل غروبها) لأنها هي وصلاة العصر قبل غروب الشمس، وقيل المراد
بالآية صلاة التطوع، ولو قيل ليس في الآية إشارة إلى الصلاة بل المراد التسبيح في هذه الأوقات: أي قول القائل
سبحان الله، لم يكن ذلك بعيدا من الصواب، والتسبيح وإن كان يطلق على الصلاة ولكنه مجاز، والحقيقة أولى
إلا لقرينة تصرف ذلك إلى المعنى المجازي، وجملة (لعلك ترضى) متعلقة بقوله فسبح: أي سبح في هذه الأوقات
رجاء أن تنال عند الله سبحانه ما ترضى به نفسك، هذا على قراءة الجمهور، وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم
" ترضى " بضم التاء مبنيا للمفعول: أي يرتضيك ربك (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزوجا منهم) قد تقدم
تفسير هذه الآية في الحجر. والمعنى: لا تطل نظر عينيك، وأزواجا مفعول متعنا، وزهرة منصوبة على الحال،
أو بفعل محذوف: أي جعلنا أو أعطينا، ذكر معنى هذا الزجاج. وقيل هي بدل من الهاء في به باعتبار محله،
وهو النصب لا باعتبار لفظه، فإنه مجرور كما تقول مررت به أخاك. ورجح الفراء النصب على الحال، يجوز
أن تكون بدلا، ويجوز أن تكون منتصبة على المصدر مثل صبغة الله ووعد الله و (زهرة الحياة الدنيا) زينتها وبهجتها
بالنبات وغيره. وقرأ عيسى بن عمر " زهرة " بفتح الهاء، وهى نور النبات، واللام في (لنفتنهم) فيه متعلق بمتعنا:
أي لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالة، ابتلاء منا لهم كقوله - إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم - وقيل لنعذبنهم،
وقيل لنشدد عليهم في التكليف (ورزق ربك خير وأبقى) أي ثواب الله، وما ادخر لصالحي عباده في الآخرة
خير مما رزقهم في الدنيا على كل حال، وأيضا فإن ذلك لا ينقطع، وهذا ينقطع، وهو معنى وأبقى. وقيل المراد
بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من الغنائم ونحوها. والأول أولى لأن الخيرية المحققة والدوام الذي لا ينقطع إنما
يتحققان في الرزق الأخروي لا الدنيوي، وإن كان حلالا طيبا - ما عندكم ينفد وما عند الله باق - (وأمر أهلك
بالصلاة) أمره الله سبحانه بأن يأمر أهله بالصلاة، والمراد بهم أهل بيته، وقيل جميع أمته ولم يذكر ها هنا الأمر من
الله له بالصلاة، بل قصر الأمر على أهله، إما لكون إقامته لها أمرا معلوما، أو لكون أمره بها قد تقدم في قوله
(وسبح بحمد ربك) إلى آخر الآية، أو لكون أمره بالأمر لأهله أمرا له، ولهذا قال (واصطبر عليها) أي اصبر
على الصلاة، ولا تشتغل عنها بشئ من أمور الدنيا (لا نسألك رزقا) أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك،
وتشتغل بذلك عن الصلاة (نحن نرزقك) ونرزقهم ولا نكلفك ذلك (والعاقبة للتقوى) أي العاقبة المحمودة،
وهى الجنة لأهل التقوى على حذف المضاف كما قال الأخفش، وفيه دليل على أن التقوى هي ملاك الأمر وعليها
تدور دوائر الخير (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه) أي قال كفار مكة: هلا يأتينا محمد بآية من آيات ربه كما كان
يأتي بها من قبله من الأنبياء؟ وذلك كالناقة والعصا، أو هلا يأتينا بآية من الآيات التي قد اقترحناها عليه؟ فأجاب
الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله (أو لم يأتهم بينة ما في الصحف الأولى) يريد بالصحف الأولى التوراة والإنجيل
والزبور وسائر الكتب المنزلة، وفيها التصريح بنبوته والتبشير به، وذلك يكفي، فإن هذه الكتب المنزلة هم
معترفون بصدقها وصحتها، وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوته، ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم. وقيل المعنى: أو لم يأتهم
إهلاكنا للأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات التي اقترحوها أن يكون حالهم كحالهم.
وقيل المراد أو لم تأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن، فإنه برهان لما في سائر الكتب
المنزلة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص " أو لم تأتهم " بالتاء الفوقية
وقرأ الباقون بالتحتية لأن معنى البينة البيان والبرهان، فذكروا الفعل اعتبار بمعنى البينة، واختار هذه القراءة
394

أبو عبيد وأبو حاتم. قال الكسائي: ويجوز بينة بالتنوين. قال النحاس: إذا نونت بينة ورفعت جعلت ما بدلا
منها، وإذا نصبت فعلى الحال. والمعنى: أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبينا، وهذا على ما يقتضيه الجواز
النحوي وإن لم تقع القراءة به (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله) أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو
من قبل إتيان البينة لنزول القرآن (لقالوا) يوم القيامة (ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) أي هلا أرسلت إلينا رسولا
في الدنيا (فنتبع آياتك) التي يأتي بها الرسول (من قبل أن نذل) بالعذاب في الدنيا (ونخزى) بدخول النار،
وقرئ " نذل، ونخزى " على البناء للمفعول، وقد قطع الله معذرة هؤلاء الكفرة بإرسال الرسول إليهم قبل إهلاكهم
ولهذا حكى الله عنهم أنهم - قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ - (قل كل متربص فتربصوا)
أي قل لهم يا محمد كل واحد منا ومنكم متربص: أي منتظر لما يؤول إليه الأمر فتربصوا أنتم (فستعلمون)
عن قريب (من أصحاب الصراط السوي). أي فستعلمون بالنصر والعاقبة من هو من أصحاب الصراط المستقيم (ومن
اهتدى) من الضلالة ونزع عن الغواية، ومن في الموضعين في محل رفع بالابتداء. قال النحاس: والفراء يذهب
إلى أن معنى (من أصحاب الصراط السوي) من لم يضل، وإلى أن معنى (من اهتدى) من ضل ثم اهتدى، وقيل
من في الموضعين في محل نصب، وكذا قال الفراء. وحكى عن الزجاج أنه قال: هذا خطأ لأن الاستفهام لا يعمل
فيه ما قبله. وقرأ أبو رافع " فسوف تعلمون " وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري " السوي " على فعلى، وردت
هذه القراءة بأن تأنيث الصراط شاذ، وقيل هي بمعنى الوسط والعدل اه‍.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (أفلم يهد لهم) ألم نبين لهم (كم أهلكنا قبلهم من
القرون يمشون في مساكنهم) نحو عاد وثمود ومن أهلك من الأمم وفى قوله (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان
لزاما وأجل مسمى) يقول هذا من مقاديم الكلام، يقول لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما. وأخرج ابن
أبي حاتم عن السدى نحوه. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: الأجل المسمى الكلمة التي سبقت من ربك.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (لكان لزاما) قال موتا: وأخرج الفريابي وعبد الرزاق
وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (وسبح بحمد ربك) الآية قال: هي الصلاة المكتوبة.
وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وسبح بحمد
ربك قبل طلوع الشمس) قال: قبل طلوع الشمس صلاة غيره ويأتينا فردا أي يوم القيامة روبها صلاة العصر. وفى الصحيحين
وغيرهما من حديث جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر
لاتضامون فى رويته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، وقرأ (فسبح
بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) ". وفي صحيح مسلم وسنن أبى داود والنسائى عن عمارة بن روية ".
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ".
وأخرج ابن أبى شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطى
وأبو نعيم عن أبى رافع قال " أضاف النبى صلى الله عليه وآله وسلم ضيفا، ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ما يصلحه، فأرسلنى ألى رجل من اليهود أن بعنا أو سلفنا دقيقا إلى هلال رجب، فقال: لا إلا برهن،
فأتيت النبى صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته، فقال: أما والله أنى لامين فى السماء أمين فى الارض، ولئن أسلفنى أوباعتى لاديت إليه، اذهب بدرعى الجديد، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية (ولا تمدن عينيك) "
كأنه يعزيه عن الدنيا. وأخرج ابن أبى حاتم عن أبى سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن
395

أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال بركات
الأرض " وأخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبى سعيد الخدرى قال: لما نزلت (وأمر أهلك
بالصلاة) كان النبى صلى الله عليه وآله وسلم يجىء إلى باب على صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم
الله - إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا -. وأخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء نحوه.
وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ثابت، قال " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا
أصابت أهله خصاصة نادى أهله: يا أهلاه صلوا صلوا " قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى
الصلاة. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في
الشعب بإسناد قال السيوطي صحيح عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزلت بأهله
شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة، وقرأ - وأمر أهلك بالصلاة - الآية.
تفسير سورة الأنبياء
وهى مكية، قال القرطبي في قول الجميع: وهى مائة واثنتا عشرة آية
وأخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: بنو إسرائيل والكهف ومريم والأنبياء هن من العتاق الأول،
وهن من تلادي. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب، فأكرم
عامر مثواه، وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من
بعدك، فقال عامر: لا حاجة لي في قطعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا. (اقترب للناس حسابهم وهو
في غفلة معرضون).
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنبياء الآية (1 - 7)
396

سورة الأنبياء الآية (8 - 9)
يقال قرب الشئ واقترب وقد اقترب الحساب: أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه. قال الزجاج: المعنى
(اقترب للناس) وقت (حسابهم) أي القيامة كما في قوله - اقتربت الساعة - واللام في للناس متعلقة بالفعل،
وتقديمها هي ومجرورها على الفاعل لإدخال الروعة، ومعنى اقتراب وقت الحساب: دنوه منهم، لأنه في كل
ساعة أقرب إليهم من الساعة التي قبلها. وقيل لأن كل ما هو آت قريب، وموت كل إنسان قيام ساعته، والقيامة
أيضا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى، والمراد بالناس العموم. وقيل المشركون
مطلقا، وقيل كفار مكة، وعلى هذا الوجه قيل المراد بالحساب: عذابهم يوم بدر، وجملة (وهم في غفلة معرضون)
في محل نصب على الحال: أي هم في غفلة بالدنيا معرضون عن الآخرة، غير متأهبين بما يجب عليهم من الإيمان
بالله، والقيام بفرائضه، والانزجار عن مناهيه (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) من لابتداء الغاية، وقد
استدل بوصف الذكر لكونه محدثا على أن القرآن محدث، لأن الذكر هنا هو القرآن. وأجيب بأنه لا نزاع في
حدوث المركب من الأصوات والحروف، لأنه متجدد في النزول. فالمعنى محدث تنزيله، وإنما النزاع في
الكلام النفسي، وهذه المسئلة: أعني قدم القرآن وحدوثه قد ابتلى بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة
المأمونية والمعتصمية والواثقية، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل،
وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده، والقصة أشهر من أن
تذكر، ومن أحب الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي.
ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع،
ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث، بل
جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال لفظي بالقرآن مخلوق، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف، وليتهم لم يجاوزوا
حد الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى
وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسئلة شئ من الكلام، ولا نقل عنه كلمة في ذلك، فكان الامتناع من
الإجابة إلى ما دعوا إليه، والتمسك بأذيال الوقف، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى، وفيه السلامة
والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله، والأمر لله سبحانه. وقوله (إلا استمعوه) استثناء مفرغ في محل
نصب على الحال، وجملة (وهم يلعبون) في محل نصب على الحال أيضا من فاعل استمعوه، و (لاهية قلوبهم)
حال أيضا والمعنى: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في الاستماع مع اللعب والاستهزاء
ولهوة القلوب، وقرئ " لاهية " بالرفع كما قرئ محدث بالرفع (وأسر النجوى الذين ظلموا) النجوى اسم من
التناجي، والتناجي لا يكون إلا سرا، فمعنى إسرار النجوى: المبالغة في الإخفاء. وقد اختلف في محل الموصول
على أقوال: فقيل إنه في محل رفع بدل من الواو في أسروا، قاله المبرد وغيره، وقيل هو في محل رفع على الذم،
وقيل هو فاعل لفعل محذوف، والتقدير: يقول الذين ظلموا، واختار هذا النحاس، وقيل في محل نصب
بتقدير أعني: وقيل في محل خفض على أنه بدل من الناس ذكر ذلك المبرد، وقيل هو في محل رفع على أنه فاعل
397

أسروا على لغة من يجوز الجمع بين فاعلين: كقولهم أكلوني البراغيث، ذكر ذلك الأخفش، ومثله - ثم عموا
وصموا كثير منهم - ومنه قول الشاعر:
* فاهتدين البغال للأغراض *
وقول الآخر: ولكن دنا بي أبوه وأمه * بحوران يعصرن السليط أقاربه
وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير: أي والذين ظلموا أسروا النجوى. قال أبو عبيدة: أسروا هنا من
الأضداد: يحتمل أن يكون بمعنى أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكون بمعنى أظهروه وأعلنوه (هل هذا إلا بشر
مثلكم) هذه الجملة بتقدير القول قبلها: أي قالوا هل هذا الرسول إلا بشر مثلكم لا يتميز عنكم بشئ؟ ويجوز أن
تكون هذه الجملة بدلا من النجوى، وهل بمعنى النفي: أي وأسروا هذا الحديث، والهمزة في (أفتأتون السحر)
للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، وجملة (وأنتم تبصرون) في محل نصب على الحال. والمعنى: إذا
كان بشرا مثلكم، وكان الذي جاء به سحرا، فكيف تجيبونه إليه وتتبعونه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم
على ما تناجوا به، وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال (قل ربى يعلم القول في السماء والأرض) أي لا يخفى
عليه شئ مما يقال فيهما، وفى مصاحف أهل الكوفة " قال ربى " أي قال محمد: ربي يعلم القول، فهو عالم بما
تناجيتم به. قيل القراءة الأولى أولى، لأنهم أسروا هذا القول، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على
ذلك وأمره أن يقول لهم هذا. قال النحاس: والقراءتان صحيحتان، وهما بمنزلة آيتين (وهو السميع) لكل ما يسمع
(العليم) بكل معلوم، فيدخل في ذلك ما أسروا دخولا أوليا (بل قالوا أضغاث أحلام) قال الزجاج: أي قالوا
الذي تأتي به أضغاث أحلام. قال القتيبي: أضغاث الأحلام الرؤيا الكاذبة. وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن
له تأويل، وهذا إضراب من جهة الله سبحانه حكاية لما وقع منهم، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية هذا
القول. ثم حكى سبحانه إضرابهم عن قولهم: أضغاث أحلام، قال (بل افتراه) أي بل قالوا افتراه من تلقاء نفسه
من غير أن يكون له أصل. ثم حكى سبحانه عنهم أنهم أضربوا عن هذا وقالوا (بل هو شاعر) وما أتى به من
جنس الشعر، وفى هذا الاضطراب منهم، والتلون والتردد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به،
لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه، أو كانوا قد علموا أنه حق، وأنه من عند الله، ولكن أرادوا أن يدفعوه
بالصدر ويرموه بكل حجر ومدر، وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان. ثم بعد هذا كله، قالوا (فليأتنا
بآية) وهذا جواب شرط محذوف: أي إن لم يكن كما قلنا: فليأتنا بآية (كما أرسل الأولون) أي كما أرسل موسى
بالعصا وغيرها، وصالح بالناقة، ومحل الكاف الجر صفة لآية، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف، وكان
سؤالهم هذا سؤال تعنت، لأن الله سبحانه قد أعطاهم من الآيات ما يكفي، ولو علم الله سبحانه أنهم يؤمنون إذا
أعطاهم ما يقترحوه لأعطاهم ذلك، كما قال - ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون -
قال الزجاج: اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال، فقال الله مجيبا لهم (ما آمنت قبلهم من قرية) أي قبل مشركي
مكة: ومعنى من قرية من أهل قرية، ووصف القرية بقوله (أهلكناها) أي أهلكنا أهلها، أو أهلكناها بإهلاك
أهلها، وفيه بيان أن سنة الله في الأمم السالفة أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه، ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب
الاستئصال لا محالة، ومن في من قرية مزيدة للتأكيد. والمعنى: ما آمنت قربة من القرى التي أهلكناها بسبب
اقتراحهم قبل هؤلاء، فكيف نعطيهم ما يقترحون، وهم أسوة من قبلهم، والهمزة في (أفهم يؤمنون) للتقريع
398

والتوبيخ، والمعنى: إن لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوا، فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا
ما اقترحوا، ثم أجاب سبحانه عن قولهم: هل هذا إلا بشر مثلكم بقوله (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا يوحى إليهم)
أي لم نرسل قبلك إلى الأمم السابقة إلا رجالا من البشر، ولم نرسل إليهم ملائكة كما قال سبحانه - قل لو كان في
الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا - وجملة يوحى إليهم مستأنفة لبيان كيفية
الإرسال، ويجوز أن تكون صفة لرجالا: أي متصفين بصفة الإيحاء إليهم. قرأ حفص وحمزة والكسائي " نوحي "
بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية. ثم أمرهم الله بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا يجهلون هذا فقال (فاسألوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون) وأهل الذكر هم أهل الكتابين: اليهود والنصارى، ومعنى إن كنتم لا تعلمون: إن
كنتم لا تعلمون أن رسل الله من البشر، كذا قال أكثر المفسرين. وقد كان اليهود والنصارى لا يجهلون ذلك ولا
ينكرونه، وتقدير الكلام: إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر. وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز
وهو خطأ، ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنة، لا عن الرأي البحت، وليس التقليد إلا
قبول قول الغير دون حجته. وقد أوضحنا هذا في رسالة بسيطة: سميناها " القول المفيد في حكم التقليد " ثم لما
فرغ سبحانه من الجواب عن شبهتهم أكد كون الرسل من جنس البشر فقال (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام)
أي أن الرسل أسوة لسائر أفراد بني آدم في حكم الطبيعة يأكلون كما يأكلون ويشربون كما يشربون، والجسد جسم
الإنسان. قال الزجاج: هو واحد، يعني الجسد ينبئ عن جماعة: أي وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام
فجملة لا يأكلون الطعام صفة لجسدا: أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الأكل، بل هو محتاج إلى ذلك (وما
كانوا خالدين) بل يموتون كما يموت غيرهم من البشر، وقد كانوا يعتقدون أن الرسل لا يموتون، فأجاب الله
عليهم بهذا، وجملة (ثم صدقناهم الوعد) معطوفة على جملة يدل عليها السياق، والتقدير: أوحينا إليهم ما أوحينا،
ثم صدقناهم الوعد: أي أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم، ولهذا قال سبحانه (فأنجيناهم
ومن نشاء) من عبادنا المؤمنين، والمراد إنجاؤهم من العذاب وإهلاك من كفر بالعذاب الدنيوي، والمراد
ب (المسرفين) المجاوزون للحد في الكفر والمعاصي، وهم المشركون.
وقد أخرج النسائي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وهم في غفلة معرضون) قال:
في الدنيا. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال: من أمر الدنيا.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (بل قالوا أضغاث أحلام) أي فعل الأحلام إنما هي رؤيا رآها
(بل افتراه بل هو شاعر) كل هذا قد كان منه (فليأتينا بآية كما أرسل الأولون) كما جاء عيسى وموسى بالبينات
والرسل (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها) أي أن الرسل كانوا إذا جاءوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم ينظروا.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان ما تقوله حقا ويسرك
أن نؤمن فحول لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم
يؤمنوا لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال: بل أستأني بقومي، فأنزل الله (ما آمنت قبلهم) الآية.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) يقول: لم نجعلهم
جسدا ليس يأكلون الطعام، إنما جعلناهم جسدا يأكلون الطعام.
سورة الأنبياء الآية (10)
399

سورة الأنبياء الآية (11 - 25)
نبه عباده على عظيم نعمته عليهم بقوله (لقد أنزلنا إليكم كتابا) يعني القرآن (فيه ذكركم) صفة لكتابا،
والمراد بالذكر هنا الشرف: أي فيه شرفكم كقوله - وإنه لذكر لك ولقومك - وقيل: فيه ذكركم: أي ذكر
أمر دينكم، وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب، وقيل فيه حديثكم. قاله مجاهد. وقيل مكارم
أخلاقكم ومحاسن أعمالكم. وقيل فيه العمل بما فيه حياتكم. قاله سهل بن عبد الله. وقيل فيه موعظتكم، والاستفهام
في (أفلا تعقلون) للتوبيخ والتقريع. أي أفلا تعقلون أن الأمر كذلك، أو لا تعقلون شيئا من الأشياء التي من
جملتها ما ذكر، ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة، فقال (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) كم في
محل نصب على أنها مفعول قصمنا، وهى الخبرية المفيدة للتكثير، والقصم كسر الشئ ودقه، يقال: قصمت
ظهر فلان إذا كسرته، واقتصمت سنه إذا انكسرت. والمعنى هنا: الإهلاك والعذاب، وأما الفصم بالفاء فهو
الصدع في الشئ من غير بينونة، وجملة " كانت ظالمة " في محل جر صفة لقرية، وفى الكلام مضاف محذوف:
أي وكم قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين: أي كافرين بالله مكذبين بآياته، والظلم في الأصل وضع الشئ في
غير موضعه، وهم وضعوا الكفر في موضع الإيمان (وأنشأنا بعدها قوما آخرين) أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاك
أهلها قوما ليسوا منهم (فلما أحسوا بأسنا) أي أدركوا أو رأوا عذابنا، وقال الأخفش خافوا وتوقعوا، أو البأس
العذاب الشديد (إذا هم منها يركضون) الركض الفرار والهرب والانهزام، وأصله من ركض الرجل الدابة
برجليه، يقال ركض الفرس إذا كده بساقيه، ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا، ومنه - اركض برجلك -
400

والمعنى: أنهم يهربون منها راكضين دوابهم، فقيل لهم (لا تركضوا) أي لا تهربوا. قيل إن الملائكة نادتهم بذلك
عند فرارهم. وقيل إن القائل لهم ذلك هم من هنالك من المؤمنين استهزاء بهم وسخرية منهم (وارجعوا إلى ما أترفتم فيه)
أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم، والمترف المنعم، يقال أترف فلان: أي وسع عليه في معاشه
(ومساكنكم) أي وارجعوا إلى مساكنكم التي كنتم تسكنونها وتفتخرون بها (لعلكم تسألون) أي تقصدون
للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات، وهذا على طريقة التهكم بهم والتوبيخ لهم. وقيل المعنى: لعلكم تسألون
عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل لعلكم تسألون أن تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول العذاب بكم.
قال المفسرون وأهل الأخبار: إن المراد بهذه الآية أهل حضور من اليمن، وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبيا اسمه
شعيب بن مهدم، وقبره بجبل من جبال اليمن يقال له ضين وبينه وبين حضور نحو بريد، قالوا: وليس هو شعيبا
صاحب مدين. قلت: وآثار القبر بجبل ضين موجودة، والعامة من أهل تلك الناحية يزعمون أنه قبر قدم بن
قادم (قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين) أي قالوا لما قالت لهم الملائكة لا تركضوا يا ويلنا: أي بإهلاكنا إنا كنا ظالمين
لأنفسنا مستوجبين العذاب بما قدمنا، فاعترفوا على أنفسهم بالظلم الموجب للعذاب (فما زالت تلك دعواهم) أي
ما زالت هذه الكلمة دعواهم: أي دعوتهم، والكلمة هي قولهم يا ويلنا أي يدعون بها ويرددونها (حتى جعلناهم
حصيدا) أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، والحصيد هنا بمعنى المحصود، ومعنى (خامدين) أنهم ميتون،
من خمدت النار إذا طفئت، فشبه خمود الحياة بخمود النار، كما يقال لمن مات قد طفئ (وما خلقنا السماء والأرض
وما بينهما لاعبين) أي لم نخلقهما عبثا ولا باطلا، بل للتنبيه على أن لهما خالقا قادرا يجب امتثال أمره، وفيه
إشارة إجمالية إلى تكوين العالم، والمراد بما بينهما سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض على اختلاف أنواعها
وتباين أجناسها (لو أردنا أن نتخذ لهوا) اللهو ما يتلهى به، قيل اللهو الزوجة والولد، وقيل الزوجة فقط، وقيل
الولد فقط. قال الجوهري: قد يكفي باللهو عن الجماع، ويدل على ما قاله قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني * كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي
ومنه قول الآخر * وفيهن ملهى للصديق ومنظر، والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها،
وجواب لو قوله (لاتخذناه من لدنا) أي من عندنا ومن جهة قدرتنا لا من عندكم. قال المفسرون: أي من الحور
العين، وفى هذا رد على من قال بإضافة الصاحبة والولد إلى الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وقيل أراد الرد على
من قال: الأصنام أو الملائكة بنات الله. وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى (إن كنا فاعلين) قال الواحدي
قال المفسرون: ما كنا فاعلين. قال الفراء والمبرد والزجاج: يجوز أن تكون إن للنفي كما ذكره المفسرون: أي
ما فعلنا ذلك ولم نتخذ صاحبة ولا ولدا، ويجوز أن تكون للشرط: أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا.
قال الفراء: وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية (بل نقذف بالحق على الباطل) هذا إضراب عن اتخاذ اللهو: أي
دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل، بل شأننا أن نرمي بالحق على الباطل (فيدمغه) أي يقهره، وأصل الدمغ
شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. قال الزجاج: المعنى نذهبه ذهاب الصغار والإذلال، وذلك أن
أصله إصابة الدماغ بالضرب. قيل أراد بالحق الحجة اه وبالباطل شبههم. وقيل الحق المواعظ، والباطل المعاصي
وقيل الباطل الشيطان. وقيل كذبهم. ووصفهم الله سبحانه بغير صفاته (فإذا هو زاهق) أي زائل ذاهب، وقيل
هالك تالف، والمعنى متقارب، وإذا هي الفجائية (ولكم الويل مما تصفون) أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم
لله بما لا يجوز عليه. وقيل الويل واد في جهنم، وهو وعيد لقريش بأن لهم من العذاب مثل الذي لأولئك، ومن
401

هي التعليلية (وله من في السماوات والأرض) عبيدا وملكا، وهو خالقهم ورازقهم ومالكهم، فكيف يجوز أن
يكون له بعض مخلوقاته شريكا يعبد كما يعبد، وهذه الجملة مقررة لما قبلها (ومن عنده) يعني الملائكة، وفيه رد
على القائلين بأن الملائكة بنات الله، وفى التعبير عنهم بكونهم عنده إشارة إلى تشريفهم وكرامتهم، وأنهم بمنزلة
المقربين عند الملوك، ثم وصفهم بقوله (لا يستكبرون عن عبادته) أي لا يتعاظمون ولا يأنفون عن عبادة الله سبحانه
والتذلل له (ولا يستحسرون) أي لا يعيون، مأخوذ من الحسير، وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب، يقال:
حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله وحسرته أنا حسرا، يتعدى ولا يتعدى. قال
أبو زيد: لا يكلون، وقال ابن الأعرابي: لا يفشلون. قال الزجاج: معنى الآية أن هؤلاء الذين ذكرتم أنهم
أولاد الله عباد الله لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها كقوله - إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته -
وقيل المعنى: لا ينقطعون عن عبادته وهذه المعاني متقاربة (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) أي ينزهون الله سبحانه
دائما لا يضعفون عن ذلك ولا يسأمون، وقيل يصلون الليل والنهار. قال الزجاج: مجرى التسبيح منهم كمجرى
النفس منا لا يشغلنا عن النفس شئ، فكذلك تسبيحهم دائم، وهذه الجملة إما مستأنفة جواب سؤال مقدر، أو
في محل نصب على الحال (أم اتخذوا آلهة من الأرض) قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام الجحد: أي لم
يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء، وأم هي المنقطعة، والهمزة لإنكار الوقوع. قال المبرد: إن أم هنا بمعنى هل:
أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى، ولا تكون أم هنا بمعنى بل، لأن ذلك يوجب لهم
إنشاء الموتى إلا أن تقدر أم مع الاستفهام، فتكون أم المنقطعة، فيصح المعنى، ومن الأرض متعلق باتخذوا، أو
بمحذوف هو صفة لآلهة، ومعنى (هم ينشرون) هم يبعثون الموتى، والجملة صفة لآلهة، وهذه الجملة هي التي
يدور عليها الإنكار والتجهيل، لا نفس الاتخاذ، فإنه واقع منهم لا محالة. والمعنى: بل اتخذوا آلهة من الأرض
هم خاصة مع حقارتهم ينشرون الموتى، وليس الأمر كذلك، فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك. قرأ الجمهور
" ينشرون " بضم الياء وكسر الشين من أنشره: أي أحياه، وقرأ الحسن بفتح الياء: أي يحيون ولا يموتون، ثم إنه
سبحانه أقام البرهان على بطلان تعدد الآلهة، فقال (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) أي لو كان في السماوات
والأرض آلهة معبودون غير الله لفسدتا: أي لبطلتا، يعني السماوات والأرض بما فيهما من المخلوقات. قال
الكسائي وسيبويه والأخفش والزجاج وجمهور النحاة: إن إلا هنا ليست للاستثناء بل بمعنى غير صفة لآلهة،
ولذلك ارتفع الاسم الذي بعدها وظهر فيه إعراب غير التي جاءت إلا بمعناها، ومنه قول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان
وقال الفراء: إن إلا هنا بمعنى سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسدتا، ووجه الفساد أن كون
مع الله إلها آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادرا على الاستبداد بالتصرف، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف
ويحدث بسببه الفساد اه (فسبحان الله رب العرش عما يصفون) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت
الوحدانية بالبرهان: أي تنزه عز وجل عما لا يليق به من ثبوت الشريك له، وفيه إرشاد للعباد أن ينزهوا الرب
سبحانه عما لا يليق به (لا يسأل عما يفعل) هذه الجملة مستأنفة مبينة أنه سبحانه لقوة سلطانه وعظيم جلاله لا يسأله
أحد من خلقه عن شئ من قضائه وقدره (وهم) أي العباد (يسألون) عما يفعلون أي يسألهم الله عن ذلك لأنهم
عبيده. وقيل إن المعنى أنه سبحانه لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. قيل والمراد بذلك أنه سبحانه بين لعباده أن
من يسأل عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح لأن يكون إلها (أم اتخذوا من دونه آلهة) أي بل اتخذوا، وفيه
402

إضراب وانتقال من إظهار بطلان كونها آلهة بالبرهان السابق إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة مع توبيخهم بطلب البرهان
منهم، ولهذا قال (قل هاتوا برهانكم) على دعوى أنها آلهة، أو على جواز اتخاذ آلهة سوى الله، ولا سبيل لهم إلى
شئ من ذلك، لا من عقل ولا نقل، لأن دليل العقل قد مر بيانه، وأما دليل النقل فقد أشار إليه بقوله (هذا ذكر من
معي وذكر من قبلي) أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وذكر الأمم السالفة
وقد أقمته عليكم وأوضحته لكم، فأقيموا أنتم برهانكم. وقيل المعنى: هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي
فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إله سواه. قال الزجاج: قيل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل
أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله، فهل في ذكر من معي وذكر من قبلي إلا توحيد الله؟ وقيل معنى الكلام الوعيد
والتهديد: أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف
قرآ: هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذه القراءة. وقال الزجاج في
توجيه هذه القراءة إن المعنى هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي. وقيل ذكر كائن من قبلي: أي
جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. ثم لما توجهت الحجة عليهم ذمهم بالجهل بمواضع الحق فقال (بل أكثرهم
لا يعلمون الحق) وهذا إضراب من جهته سبحانه وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا يؤثر فيهم
إقامة البرهان لكونهم جاهلين للحق لا يميزون بينه وبين الباطل. وقرأ ابن محيصن والحسن " الحق " بالرفع على معنى
هذا الحق، أو هو الحق، وجملة (فهم معرضون) تعليل لما قبله من كون أكثرهم لا يعلمون: أي فهم لأجل هذا
الجهل المستولي على أكثرهم معرضون عن قبول الحق مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، فلا
يتأملون حجة، ولا يتدبرون في برهان، ولا يتفكرون في دليل (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه)
قرأ حفص وحمزة والكسائي " نوحي " بالنون، وقرأ الباقون بالياء: أي نوحي إليه (أنه لا إله إلا أنا) وفى هذا
تقرير لأمر التوحيد وتأكيد لما تقدم من قوله (هذا ذكر من معي) وختم الآية بالأمر لعباده بعبادته، فقال
(فاعبدون) فقد اتضح لكم دليل العقل، ودليل النقل وقامت عليكم حجة الله.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله
(لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم) قال: شرفكم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن الحسن في الآية قال: فيه حديثكم. وفى رواية عنه قال: فيه دينكم. وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن
أبي صالح عن ابن عباس قال: بعث الله نبيا من حمير يقال له شعيب، فوثب إليه عبد فضربه بعصا، فسار إليهم
بختنصر فقاتلهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شئ، وفيهم أنزل الله - وكم قصمنا - إلى قوله - خامدين - وأخرج
عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن الكلبي في قوله (وكم قصمنا من قرية) قال: هي حضور بني أزد،
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله (وارجعوا إلى ما أترفتم فيه) قال: ارجعوا إلى دوركم وأموالكم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (فما زالت تلك دعواهم) قال: هم أهل حضور كانوا قتلوا نبيهم،
فأرسل الله عليهم بختنصر فقتلهم، وفى قوله (فجعلناهم حصيدا خامدين) قال: بالسيف ضرب الملائكة وجوههم
حتى رجعوا إلى مساكنهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال حدثني رجل من الجزريين قال: كان اليمن
قريتان، يقال لإحداهما حضور وللأخرى قلابة، فبطروا وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم، فلما أترفوا
بعث الله إليهم نبيا فدعاهم فقتلوه، فألقى الله في قلب بختنصر أن يغزوهم، فجهز لهم جيشا، فقاتلوهم فهزموا
جيشه فرجعوا منهزمين إليه، فجهز إليهم جيشا آخر أكثف من الأول، فهزموهم أيضا، فلما رأى بختنصر ذلك
403

غزاهم هو بنفسه، فقاتلوهم فهزمهم حتى خرجوا منها يركضون، فسمعوا مناديا يقول (لا تركضوا وارجعوا إلى
ما أترفتم فيه ومساكنكم) فرجعوا، فسمعوا صوتا مناديا يقول: يا لثارات النبي فقتلوا بالسيف، فهي التي قال
الله - وكم قصمنا من قرية - إلى قوله - خامدين -. قلت: وقرى حضور معروفة الآن بينها وبين مدينة صنعاء نحو
بريد في جهة الغرب منها. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (حصيدا خامدين) قال: كخمود النار
إذا طفئت. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله (لو أردنا أن نتخذ لهوا) قال:
اللهو الولد. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في قوله (لو أردنا أن نتخذ لهوا) قال: النساء. وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ولا يستحسرون) يقول: لا يرجعون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن
قتادة في قوله (لا يسأل عما يفعل) قال: بعباده (وهم يسألون) قال عن أعمالهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك
نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما في الأرض قوم أبغض إلي من القدرية، وما
ذاك إلا أنهم لا يعلمون قدرة الله، قال الله (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون).
سورة الأنبياء الآية (26 - 35).
قوله (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) هؤلاء القائلون هم خزاعة، فإنهم قالوا الملائكة بنات الله، وقيل هم اليهود،
ويصح حمل الآية على كل من جعل لله ولدا. وقد قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله،
وقالت طائفة من العرب: الملائكة بنات الله. ثم نزه عز وجل نفسه. فقال (سبحانه) أي تنزيها له عن ذلك،
وهو مقول على ألسنة العباد. ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال (بل عباد مكرمون) أي ليسوا كما قالوا، بل هم
عباد لله سبحانه مكرمون بكرامته لهم، مقربون عنده. وقرئ " مكرمون " بالتشديد، وأجاز الزجاج والفراء نصب
عباد على معنى: بل اتخذ عبادا، ثم وصفهم بصفة أخرى فقال (لا يسبقونه بالقول) أي لا يقولون شيئا حتى يقوله
أو يأمرهم به. وكذا قال ابن قتيبة وغيره، وفى هذا دليل على كمال طاعتهم وانقيادهم. وقرئ " لا يسبقونه " بضم
404

الباء من سبقته أسبقه (وهم بأمره يعملون) أي هم العاملون بما يأمرهم الله به، التابعون له المطيعون لربهم (يعلم ما بين
أيديهم وما خلفهم) هذه الجملة تعليل لما قبلها: أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، أو يعلم ما بين أيديهم وهو
الآخرة، وما خلفهم وهو الدنيا، ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدموا وأخروا، لم يعملوا عملا ولم
يقولوا قولا إلا بأمره (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) أي يشفع الشافعون له، وهو من رضى عنه، وقيل هم أهل
لا إله إلا الله، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة (وهم من خشيته مشفقون) أي من
خشيتهم منه، فالمصدر مضاف إلى المفعول، والخشية الخوف مع التعظيم، والإشفاق الخوف مع التوقع والحذر:
أي لا يأمنون مكر الله (ومن يقل منهم إني إله من دونه) أي من يقل من الملائكة إني إله من دون الله. قال
المفسرون: عنى بهذا إبليس، لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني إله إلا إبليس، وقيل الإشارة إلى جميع الأنبياء
(فذلك نجزيه جهنم) أي فذلك القائل على سبيل الفرض والتقدير: نجزيه جهنم بسبب هذا القول الذي قاله، كما
نجزي غيره من المجرمين (كذلك نجزى الظالمين) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين، أو مثل ما جعلنا جزاء هذا
القائل جهنم، فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها، والمراد بالظالمين المشركون (أو لم
ير الذين كفروا) الهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدر، والرؤية هي القلبية: أي ألم يتفكروا أو لم يعلموا
(أن السماوات والأرض كانتا رتقا) قال الأخفش: إنما قال كانتا، لأنهما صنفان أي جماعتا السماوات والأرضين
كما قال سبحانه - الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا - وقال الزجاج: إنما قال كانتا لأنه يعبر عن
السماوات بلفظ الواحد، لأن السماوات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون، والرتق السد ضد الفتق،
يقال رتقت الفتق أرتقه فارتتق: أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج: يعنى أنهما كانتا شيئا واحدا ملتزقتين
ففصل الله بينهما، وقال رتقا ولم يقل رتقين لأنه مصدر، والتقدير: كانتا ذواتي رتق، ومعنى (ففتقناهما)
ففصلناهما: أي فصلنا بعضهما من بعض، فرفعنا السماء، وأبقينا الأرض مكانها (وجعلنا من الماء كل شئ حي)
أي أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شئ، فيشمل الحيوان والنبات، والمعنى أن الماء سبب حياة كل
شئ. وقيل المراد بالماء هنا النطفة، وبه قال أكثر المفسرين، وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله سبحانه
وبديع صنعه، وقد تقدم تفسير هذه الآية، والهمزة في (أفلا يؤمنون) للإنكار عليهم، حيث لم يؤمنوا مع وجود
ما يقتضيه من الآيات الربانية (وجعلنا في الأرض رواسي) أي جبالا ثوابت (أن تميد بهم) الميد التحرك والدوران
أي لئلا تتحرك وتدور بهم، أو كراهة ذلك، وقد تقدم تفسير ذلك في النحل مستوفى (وجعلنا فيها) أي
في الرواسي، أو في الأرض (فجاجا) قال أبو عبيدة: هي المسالك. وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين فهو
فج و (سبلا) تفسير للفجاج، لأن الفج قد لا يكون طريقا نافذا مسلوكا (لعلهم يهتدون) إلى مصالح معاشهم،
وما تدعو إليه حاجاتهم (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) عن أن يقع ويسقط على الأرض كقوله - ويمسك السماء أن
تقع على الأرض - وقال الفراء: محفوظا بالنجوم من الشيطان كقوله - وحفظناها من كل شيطان رجيم - وقيل
محفوظا لا يحتاج إلى عماد، وقيل المراد بالمحفوظ هنا المرفوع، وقيل محفوظا عن الشرك والمعاصي، وقيل محفوظا عن
الهدم والنقض (وهم عن آياتها معرضون) أضاف الآيات إلى السماء، لأنها مجعولة فيها، وذلك كالشمس والقمر
ونحوهما، ومعنى الإعراض أنهم لا يتدبرون فيها، ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان (وهو الذي خلق الليل
والنهار والشمس والقمر) هذا تذكير لهم بنعمة أخرى مما أنعم به عليهم، وذلك بأنه خلق لهم الليل ليسكنوا فيه،
405

والنهار ليتصرفوا فيه في معايشهم، وخلق الشمس والقمر أي جعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، ليعلموا
عدد الشهور والحساب كما تقدم بيانه في سبحان (كل في فلك يسبحون) أي كل واحد من الشمس والقمر
والنجوم في فلك يسبحون: أي يجرون في وسط الفلك، ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء، والجمع في الفعل
باعتبار المطالع، قال سيبويه: إنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل، وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، جعل
الضمير عنهن ضمير العقلاء، ولم يقل يسبحن أو تسبح، وكذا قال الفراء. وقال الكسائي: إنما قال يسبحون لأنه
رأس آية، والفلك واحد أفلاك النجوم، وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلك المغزل لاستدارتها (وما جعلنا
لبشر من قبلك الخلد) أي دوام البقاء في الدنيا (أفإن مت) بأجلك المحتوم (فهم الخالدون) أي أفهم الخالدون.
قال الفراء: جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت. قال: ويجوز حذف الفاء وإضمارها، والمعنى:
إن مت فهم يموتون أيضا، فلا شماتة في الموت. وقرئ " مت " بكسر الميم وضمها لغتان: وكان سبب نزول
هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم - أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون - (كل نفس ذائقة الموت)
أي زاهقة مفارقة جسدها، فلا يبقى أحد من ذوات الأنفس المخلوقة كائنا ما كان (ونبلوكم بالشر والخير فتنة)
أي نختبركم بالشدة والرخاء، لننظر كيف شكركم وصبركم. والمراد أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوهم،
وفتنة مصدر لنبلوكم من غير لفظه (وإلينا ترجعون) لا إلى غيرنا فنجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: قالت اليهود إن الله عز وجل صاهر الجن فكانت بنيهم
الملائكة، فقال الله تكذيبا لهم (بل عباد مكرمون) أي الملائكة ليس كما قالوا، بل عباد أكرمهم بعبادته (لا يسبقونه
بالقول) يثني عليهم (ولا يشفعون) قال: لا تشفع الملائكة يوم القيامة (إلا لمن ارتضى) قال: لأهل التوحيد.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (إلا لمن ارتضى) قال: لأهل التوحيد لمن
رضي عنه. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال: قول لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في الآية قال: الذين ارتضاهم لشهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج
الحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا قوله تعالى " ولا يشفعون إلا
لمن ارتضى " قال: إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي
في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (كانتا رتقا ففتقناهما) قال: فتقت السماء بالغيث، وفتقت الأرض
بالنبات. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (كانتا رتقا) قال: لا يخرج منهما شئ، وذكر مثل ما تقدم. وأخرجه ابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه أيضا من طريق أخرى. وأخرج ابن جرير عنه (كانتا رتقا) قال:
ملتصقتين. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي العالية في قوله
(وجعلنا من الماء كل شئ حي) قال: نطفة الرجل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس (وجعلنا
فيها فجاجا سبلا) قال: بين الجبال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (كل
في فلك) قال: دوران (يسبحون) قال يجرون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه
(كل في فلك) قال: فلك كفلكة المغزل (يسبحون) قال: يدورون في أبواب السماء. كما تدور الفلكة في المغزل.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: هو فلك السماء. وأخرج ابن أبي حاتم
وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قال: دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد مات فقبله وقال:
وانبياه واخليلاه واصفياه، ثم تلا (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) الآية، وقوله - إنك ميت وإنهم ميتون -.
406

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) قال: نبتليكم
بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية والهدى والضلالة.
سورة الأنبياء الآية (36 - 43)
قوله (وإذا رآك الذين كفروا) يعني المستهزئين من المشركين (إن يتخذونك إلا هزؤا) أي ما يتخذونك
إلا مهزوءا بك، والهزؤ السخرية، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم - إنا كفيناك المستهزئين - والمعنى: ما يفعلون
بك إلا اتخذوك هزؤا (أهذا الذي يذكر آلهتكم) هو على تقدير القول: أي يقولون أهذا الذي، فعلى هذا هو
جواب إذا، ويكون قوله (إن يتخذونك إلا هزؤا) اعتراضا بين الشرط وجوابه، ومعنى يذكرها يعيبها. قال
الزجاج: يقال فلان يذكر الناس: أي يغتابهم، ويذكرهم بالعيوب، وفلان يذكر الله: أي يصفه بالتعظيم
ويثني عليه، وإنما يحذف مع الذكر ما عقل معناه، وعلى ما قالوا لا يكون الذكر في كلام العرب العيب، وحيث
يراد به العيب يحذف منه السوء، قيل ومن هذا قول عنترة:
لا تذكري مهري وما أطعمته * فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
أي لا تعيبي مهري، وجملة (وهم بذكر الرحمن هم كافرون) في محل نصب على الحال: أي وهم بالقرآن
كافرون، أو هم بذكر الرحمن الذي خلقهم كافرون، والمعنى: أنهم يعيبون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أن يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء: والحال أنهم بذكر الله سبحانه بما يليق به من التوحيد، أو القرآن
كافرون، فهم أحق بالعيب لهم والإنكار عليهم، فالضمير الأول مبتدأ خبره كافرون، وبذكر متعلق بالخبر،
والضمير الثاني تأكيد (خلق الإنسان من عجل) أي جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق من العجل. قال الفراء:
كأنه يقول بنيته وخلقته من العجلة وعلى العجلة. وقال الزجاج: خوطبت العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي
يكثر منه الشئ خلقت منه كما تقول: أنت من لعب، وخلقت من لعب، تريد المبالغة في وصفه بذلك. ويدل
على هذا المعنى قوله - وكان الإنسان عجولا - والمراد بالإنسان الجنس. وقيل المراد بالإنسان آدم، فإنه لما خلقه
407

الله ونفخ فيه الروح صار الروح في رأسه فذهب لينهض قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه فوقع فقيل خلق الإنسان
من عجل كذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والسدي والكلبي ومجاهد وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني
العجل الطين بلغة حمير وأنشدوا * والنخل تنبت بين الماء والعجل
له وقيل إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل اللهم إن كان هذا هو الحق من
عندك وقيل نزلت في قريش لأنهم استعجلوا العذاب وقال الأخفش معنى خلق الإنسان من عجل
أنه قيل له كن فكان وقيل إن هذه الآية من المقلوب أي خلق العجل من الإنسان وقد حكى هذا عن أبي
عبيدة والنحاس والقول الأول أولى سأوريكم آياتي أي سأريكم نقماتي منكم بعذاب النار فلا
تستعجلون أي لا تستعجلوني بالإتيان به فإنه نازل بكم لا محالة وقيل المراد بالآيات ما دل على صدق محمد
صلى الله عليه وآله وسلم من المعجزات وما جعله الله له من العاقبة المحمودة والأول أولى ويدل عليه قولهم
متى هذا الوعد إن كنتم صادقين أي متى حصول هذا الوعد الذي تعدنا به من العذاب قالوا ذلك على جهة
الاستهزاء والسخرية وقيل المراد بالوعد هنا القيامة ومعنى إن كنتم صادقين إن كنتم يا معشر المسلمين صادقين
في وعدكم والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين الذين يتلون الآيات القرآنية المنذرة بمجئ الساعة
وقرب حضور العذاب وجملة لو يعلم الذين كفروا وما بعدها مقررة لما قبلها أي لو عرفوا ذلك الوقت
وجواب لو محذوف والتقدير لو علموا الوقت الذي لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم
ينصرون لما استعجلوا الوعيد وقال الزجاج في تقدير الجواب لعلموا صدق الوعد وقيل لو علموه ما أقاموا
على الكفر وقال الكسائي هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية
ويدل عليه قوله بل تأتيهم بغتة وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القدام والخلف لكونهما أشهر الجوانب
في استلزام الإحاطة بها للإحاطة بالكل بحيث لا يقدرون على دفعها من جانب من جوانبهم ومحل
حين لا يكفون النصب على أنه مفعول العلم وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه ومعنى
ولا هم ينصرون ولا ينصرهم أحد من العباد فيدفع ذلك عنهم وجملة بل تأتيهم بغتة معطوفة على يكفون أي
لا يكفونها بل تأتيهم العدة أو النار أو الساعة بغتة أي فجأة فتبهتهم قال الجوهري بهته بهتا أخذه بغتا وقال
الفراء فتبهتهم أي تحيرهم وقيل فتفجؤهم فلا يستطيعون ردها أي صرفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم
فالضمير راجع إلى النار وقيل راجع إلى الوعد بتأويله بالعدة وقيل راجع إلى الحين بتأويله بالساعة ولا هم
ينظرون أي يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار وجملة ولقد استهزئ برسل من قبلك مسوقة لتسلية رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وتعزيته كأنه قال إن استهزأ بك هؤلاء فقد فعل ذلك بمن قبلك من الرسل على كثرة
عددهم وخطر شأنهم فحاق بالذين سخروا منهم أي أحاط ودار بسبب ذلك بالذين سخروا من أولئك الرسل
وهزئوا بهم ما كانوا به يستهزئون ما موصولة أو مصدرية أي فأحاط بهم الأمر الذي كانوا يستهزئون به
أو فأحاط بهم استهزاؤهم أي جزاؤه على وضع السبب موضع المسبب أو نفس الاستهزاء إن أريد به العذاب
الأخروي قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن أي يحرسكم ويحفظكم والكلاءة الحراسة والحفظ يقال
كلأه الله كلأة بالكسر أي حفظه وحرسه قال ابن هرمة
إن سليمى والله يكلؤها * ضنت بشئ ما كان يرزؤها
أي قل يا محمد لأولئك المستهزئين بطريق التقريع والتوبيخ من يحرسكم ويحفظكم بالليل والنهار من بأس
الرحمن وعذابه الذي تستحقون حلوله بكم ونزوله عليكم وقال الزجاج معناه من يحفظكم من بأس الرحمن
408

وقال الفراء المعنى من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة وحكى الكسائي والفراء
من يكلوكم بفتح اللام وإسكان الواو بل هم عن ذكر ربهم معرضون أي عن ذكره سبحانه فلا يذكرونه ولا
يخطرونه ببالهم بل يعرضون عنه أو عن القرآن أو عن مواعظ الله أو عن معرفته أم لهم آلهة تمنعهم من
دوننا أم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة للإضراب والانتقال عن الكلام السابق المشتمل على بيان جهلهم
بحفظه سبحانه إياهم إلى توبيخهم وتقريعهم باعتمادهم على من هو عاجز عن نفع نفسه والدفع عنها والمعنى
بل لهم آلهة تمنعهم من عذابنا وقيل فيه تقديم وتأخير والتقدير أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم ثم وصف آلهتهم
هذه التي زعموا أنها تنصرهم بما يدل على الضعف والعجز فقال لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون
أي هم عاجزون عن نصر أنفسهم فكيف يستطيعون أن ينصروا غيرهم ولا هم منا يصحبون أي ولا هم يجارون
من عذابنا قال ابن قتيبة أي لا يجيرهم منا أحد لأن المجير صاحب الجار والعرب تقول صحبك الله أي
حفظك وأجارك ومنه قول الشاعر
ينادي بأعلى صوته متعوذا * ليصحب منا والرماح دواني
تقول العرب أنا لك جار وصاحب من فلان أي مجير منه قال المازني هو من أصحبت الرجل إذا منعته
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سفيان وأبى جهل وهما
يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان هذا نبي بنى عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال
ما تنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبي فسمعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إلى أبى جهل فوقع به
وخوفه وقال ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك وقال لأبى سفيان أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية
فنزلت هذه الآية وإذا رآك الذين كفروا قلت ينظر من الذي روى عنه السدى وأخرج سعيد بن
منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال لما نفخ في آدم الروح صار في رأسه فعطس فقال الحمد لله
فقالت الملائكة يرحمك الله فذهب لينهض قبل أن تمور في رجليه فوقع فقال الله خلق الإنسان من عجل
وقد أخرج نحو هذا ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وأخرج نحوه أيضا ابن أبي شيبة وعبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد وكذا أخرج ابن المنذر عن ابن جريج
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله قل من يكلؤكم قال يحرسكم وفى قوله ولا هم
منا يصحبون قال لا ينصرون وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ولا هم منا
يصحبون قال لا يجارون وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في الآية قال لا يمنعون
سورة الأنبياء الآية (44 46)
409

سورة الأنبياء الآية (47 56)
لما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلا إلى بيان أن ما هم فيه من الخير والتمتع بالحياة العاجلة
هو من الله لا من مانع يمنعهم من الهلاك ولا من ناصر ينصرهم على أسباب التمتع فقال بل متعنا هؤلاء وآباءهم
يعنى أهل مكة متعهم الله بما أنعم عليهم حتى طال عليهم العمر فاغتروا بذلك وظنوا أنهم لا يزالون كذلك فرد
سبحانه عليهم قائلا أفلا يرون أي أفلا ينظرون فيرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي أرض الكفر
ننقصها بالظهور عليها من أطرافها فنفتحها بلدا بعد بلد وأرضا بعد أرض وقيل ننقصها بالقتل والسبي وقد
مضى في الرعد الكلام على هذا مستوفى والاستفهام في قوله أفهم الغالبون للإنكار والفاء للعطف على
مقدر كنظائره أي كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافها وفى هذا إشارة إلى أن الغالبين هم
المسلمون قل إنما أنذركم بالوحي أي أخوفكم وأحذركم بالقرآن وذلك شأني وما أمرني الله به وقوله ولا
يسمع الصم الدعاء إما من تتمة الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله لهم أو من جهة الله تعالى
والمعنى أن من أصم الله سمعه وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة لا يسمع الدعاء قرأ أبو عبد الرحمن السلمي
ومحمد بن السميفع ولا يسمع بضم الياء وفتح الميم على ما لم يسم فاعله وقرأ ابن عامر وأبو حياة ويحيى بن
الحارث بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم أي إنك يا محمد لا تسمع هؤلاء قال أبو علي الفارسي ولو كان
كما قال ابن عامر لكان إذا ما تنذرهم فيحسن نظم الكلام فأما إذا ما ينذرون فحسن أن يتبع قراءة العامة وقرأ
الباقون بفتح الياء وفتح الميم ورفع الصم على أنه الفاعل ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك المراد بالنفحة
القليل مأخوذ من نفح المسك قاله ابن كيسان ومنه قول الشاعر
وعمرة من سروات النساء * تنفح بالمسك أردانها
وقال المبرد النفحة الدفعة من الشئ التي دون معظمه يقال نفحه نفحة بالسيف إذا ضربه ضربة خفيفة
وقيل هي النصيب وقيل هي الطرف والمعنى متقارب أي ولئن مسهم أقل شئ من العذاب ليقولن يا ويلنا
إنا كنا ظالمين أي ليدعون على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفون عليها بالظلم ونضع الموازين القسط ليوم القيامة
الموازين جمع ميزان وهو يدل على أن هناك موازين ويمكن أن يراد ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع وقد
410

ورد في السنة في صفة الميزان ما فيه كفاية وقد مضى في الأعراف وفى الكهف في هذا ما يغني عن الإعادة
والقسط صفة للموازين قال الزجاج قسط مصدر يوصف به تقول ميزان قسط وموازين قسط والمعنى
ذوات قسط والقسط العدل وقرئ القصط بالصاد والطاء ومعنى ليوم القيامة لأهل يوم القيامة
وقيل اللام بمعنى في أي في يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة
مسئ وإن كان مثقال حبة من خردل قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر برفع مثقال على أن كان تامة أي إن وقع
أو وجد مثقال حبة وقرأ الباقون بنصب المثقال على تقدير وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين مثقال
حبة كذا قال الزجاج وقال أبو علي الفارسي وإن كان الظلامة مثقال حبة قال الواحدي وهذا أحسن
لتقدم قوله فلا تظلم نفس شيئا ومثقال الشئ ميزانه أي وإن كان في غاية الخفة والحقارة فإن حبة الخردل
مثل في الصغر أتينا بها قرأ الجمهور بالقصر أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها وبها أي بحبة الخردل
وقرأ مجاهد وعكرمة آتينا بالمد على معنى جازينا بها يقال آتى يؤاتى مؤاتاة جازى وكفى بنا حاسبين أي
كفى بنا محصين والحسب في الأصل معناه العد وقيل كفى بنا عالمين لأن من حسب شيئا علمه وحفظه
وقيل كفى بنا مجازين على ما قدموه من خير وشر ثم شرع سبحانه في تفصيل ما أجمله سابقا بقوله وما أرسلنا
قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فقال ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين المراد بالفرقان هنا
التوراة لأن فيها الفرق بين الحلال والحرام وقيل الفرقان هنا هو النصر على الأعداء كما في قوله وما أنزلنا على
عبدنا يوم الفرقان قال الثعلبي وهذا القول أشبه بظاهر الآية ومعنى وضياء أنهم استضاءوا بها في ظلمات
الجهل والغواية ومعنى وذكرا الموعظة أي أنهم يتعظون بما فيها وخص المتقين لأنهم الذين ينتفعون بذلك
ووصفهم بقوله الذين يخشون ربهم بالغيب لأن هذه الخشية تلازم التقوى ويجوز أن يكون الموصول بدلا من
المتقين أو بيانا له ومحل بالغيب النصب على الحال أي يخشون عذابه وهو غائب عنهم أو هم غائبون عنه لأنهم
في الدنيا والعذاب في الآخرة وقرأ ابن عباس وعكرمة ضياء بغير واو قال الفراء حذف الواو والمجئ بها
واحد واعترضه الزجاج بأن الواو تجئ لمعنى فلا تزاد وهم من الساعة مشفقون أي وهم من القيامة خائفون
وجلون والإشارة بقوله وهذا ذكر مبارك إلى القرآن قال الزجاج المعنى وهذا القرآن ذكر لمن تذكر به
وموعظة لمن اتعظ به والمبارك كثير البركة والخير وقوله أنزلناه صفة ثانية للذكر أو خبر بعد خبر
والاستفهام في قوله أفأنتم له منكرون للإنكار لما وقع منهم من الإنكار أي كيف تنكرون كونه منزلا من
عند الله مع اعترافكم بأن التوراة منزلة من عنده ولقد آتينا إبراهيم رشده أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل
ومعنى من قبل أنه أعطى رشده قبل إيتاء موسى وهارون التوراة وقال الفراء المعنى أعطيناه هداه من قبل
النبوة أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جن عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم وعلى هذا أكثر المفسرين
وبالأول قال أقلهم وكنا به عالمين أنه موضع لإيتاء الرشد وأنه يصلح لذلك والظرف في قوله إذ قال
لأبيه متعلق بآتينا أو بمحذوف أي أذكر حين قال وأبوه هو آزر وقومه نمروذ ومن اتبعه والتماثيل
الأصنام وأصل التمثال الشئ المصنوع مشابها لشئ من مخلوقات الله سبحانه يقال مثلث الشئ بالشئ إذا
جعلته مشابها له واسم ذلك الممثل تمثال أنكر عليهم عبادتها بقوله ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون
والعكوف عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشئ واللام في لها للاختصاص ولو كانت للتعدية لجئ بكلمة
على أي ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها وقيل إن العكوف مضمن معنى العبادة قالوا وجدنا
411

آباءنا لها عابدين أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز والحبل الذي يتشبث به كل
غريق وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء أي وجدنا آباءنا يعبدونها فعبدناها اقتداء بهم ومشيا على طريقتهم
وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية وإن العالم بالكتاب والسنة إذا أنكر عليهم العمل بمحض
الرأي المدفوع بالدليل قالوا هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين وجوابهم هو ما أجاب
به الخليل ها هنا قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين أي في خسران واضح ظاهر لا يخفى على أحد ولا
يلتبس على ذي عقل فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر وليس بعد هذا
الضلال ضلال ولا يساوي هذا الخسران خسران وهؤلاء المقلدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله وبسنة
رسوله كتابا قد دونت فيه اجتهادات عالم من علماء الإسلام زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها إما لقصور منه
أو لتقصير في البحث فوجد ذلك الدليل من وجده وأبرزه واضح المنار * كأنه علم في رأسه نار *
وقال هذا كتاب الله أو هذه سنة رسوله وأنشدهم
دعوا كل قول عند قول محمد * فما آمن في دينه كمخاطر
فقالوا كما قال الأول
ما أنا إلا من غزية إن غوت * غويت وان ترشد غزية أرشد
وقد أحسن من قال يأبى الفتى إلا اتباع الهوى * ومنهج الحق له واضح
ثم لما سمع أولئك مقالة الخليل قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين أي أجاد أنت فيما تقول أم أنت لاعب
مازح قال مضربا عما بنوا عليه مقالتهم من التقليد بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن أي خلقهن
وأبدعهن وأنا على ذلكم الذي ذكرته لكم من كون ربكم هو رب السماوات والأرض دون ما عداه من
الشاهدين أي العالمين به المبرهنين عليه فإن الشاهد على الشئ هو من كان عالما به مبرهنا عليه مبينا له
وقد أخرج أحمد والترمذي وابن جرير في تهذيبه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب
عن عائشة أن رجلا قال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم
فكيف أنا منهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم
فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا عليك ولا
لك وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل فجعل الرجل يبكي ويهتف فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أما تقرأ كتاب الله ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان
مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين فقال له الرجل يا رسول الله ما أجد لي ولهم خيرا من مفارقتهم
أشهدك أنهم أحرار رواه أحمد هكذا حدثنا أبو نوح الأقراد أخبرنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري
عن عروة عن عائشة فذكره وفى معناه أحاديث وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان
يقرأ ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح ولقد آتينا موسى وهارون
الفرقان قال التوراة وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال الفرقان الحق
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة وهذا ذكر مبارك أي القرآن وأخرج ابن أبي شيبة
412

وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله ولقد آتينا إبراهيم رشده قال هديناه
صغيرا وفى قوله ما هذه التماثيل قال الأصنام
سورة الأنبياء الآية (57 70)
قوله وتالله لأكيدن أصنامكم أخبرهم أنه سينتقل من المحاجة باللسان إلى تغيير المنكر بالفعل ثقة بالله سبحانه
ومحاماة على دينه والكيد المكر يقال كاده يكيده كيدا ومكيدة والمراد هنا الاجتهاد في كسر الأصنام قيل
إنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك سرا وقيل سمعه رجل منهم بعد أن تولوا مدبرين أي بعد أن ترجعوا من
عبادتها ذاهبين منطلقين قال المفسرون كان لهم عيد في كل سنة يجتمعون فيه فقالوا لإبراهيم لو خرجت
معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فقال إبراهيم هذه المقالة والفاء في قوله فجعلهم جذاذا أبو فصيحة أي فولوا
فجعلهم جذاذا الجذ القطع والكسر يقال جذذت الشئ قطعته وكسرته الواحد جذاذة والجذاذ والجذاذ
ما كسر منه قال الجوهري قال الكسائي ويقال لحجارة الذهب الجذاذ لأنها تكسر قرأ الكسائي والأعمش
وابن محيصن أو بكسر الجيم أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم مثل خفيف وخفاف
وظريف وظراف قال الشاعر
جذذ الأصنام في محرابها * ذاك في الله العلي المقتدر
وقرأ الباقون بالضم واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم أي الحطام والرقاق فعال بمعنى مفعول وهذا هو
الكيد الذي وعدهم به وقرأ ابن عباس وأبو السماك جذاذا بفتح الجيم إلا كبيرا لهم أي للأصنام لعلهم إليه
أي إلى إبراهيم يرجعون فيحاجهم بما سيأتي فيحجهم وقيل لعلهم إلى الصنم الكبير يرجعون فيسألونه عن
الكاسر لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في المهمات فإذا رجعوا إليه لم يجدوا عنده خبرا فيعلمون حينئذ أنها
لا تجلب نفعا ولا تدفع ضررا ولا تعلم بخير ولا شر ولا تخبر عن الذي ينوبها من الأمر وقيل لعلهم إلى الله
413

يرجعون وهو بعيد جدا قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين في الكلام حذف والتقدير فلما رجعوا
من عيدهم ورأوا ما حدث بآلهتهم قالوا هذه المقالة والاستفهام للتوبيخ وقيل إن من ليست استفهامية بل هي
مبتدأ وخبرها إنه لمن الظالمين أي فاعل هذا ظالم والأول أولى لقولهم سمعنا فتى الخ فإنه قال بهذا بعضهم
مجيبا للمستفهمين لهم وهذا القائل هو الذي سمع إبراهيم يقول تالله لأكيدن أصنامكم ومعنى يذكرهم
يعيبهم وقد سبق تحقيق مثل هذه العبارة وجملة يقال له إبراهيم صفة ثانية لفتى قال الزجاج وارتفع
إبراهيم على معنى يقال له هو إبراهيم فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف وقيل ارتفاعه على أنه مفعول ما لم يسم
فاعله وقيل مرتفع على النداء
ومن غرائب التدقيقات النحوية وعجائب التوجيهات الإعرابية أن الأعلم الشنتمري الأشبيلي قال إنه
مرتفع على الإهمال قال ابن عطية ذهب إلى رفعه بغير شئ والفتى هو الشاب والفتاة الشابة قالوا فأتوا
به على أعين الناس القائلون هم السائلون أمروا بعضهم أن يأتي به ظاهرا بمرأى من الناس قيل إنه لما بلغ الخبر
نمروذ وأشراف قومه كرهوا أن يأخذوه بغير بينة فقالوا هذه المقالة ليكون ذلك حجة عليه يستحلون بها منه
ما قد عزموا على أن يفعلوه به ومعنى لعلهم يشهدون لعلهم يحضرون عقابه حتى ينزجر غيره عن الاقتداء به في
مثل هذا وقيل لعلهم يشهدون عليه بأنهم رأوه يكسر الأصنام أو لعلهم يشهدون طعنه على أصنامهم وجملة
قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم مستأنفة جواب سؤال مقدر وفى الكلام حذف تقديره فجاء إبراهيم
حين أتوا به فاستفهموه هل فعل ذلك لإقامة الحجة عليه في زعمهم قال بل فعله كبيرهم هذا أي قال إبراهيم مقيما
للحجة عليهم مبكتا لهم بل فعله كبيرهم هذا مشيرا إلى الصنم الذي تركه ولم يكسره فاسألوهم إن كانوا ينطقون
أي إن كانوا ممن يمكنه النطق ويقدر على الكلام ويفهم ما يقال له فيجيب عنه بما يطابقه أراد عليه الصلاة
والسلام أن يبين لهم أن من لا يتكلم ولا يعلم ليس بمستحق للعبادة ولا يصح في العقل أن يطلق عليه أنه إله
فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم بما يوقعهم في الاعتراف بأن الجمادات التي عبدوها ليست بآلهة لأنهم إذا
قالوا إنهم لا ينطقون قال لهم فكيف تعبدون من يعجز عن النطق ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان
الذي هو فيه فهذا الكلام من باب فرض الباطل مع الخصم حتى تلزمه الحجة ويعترف بالحق فإن ذلك أقطع
لشبهته وأدفع لمكابرته وقيل أراد إبراهيم عليه السلام بنسبة الفعل إلى ذلك الكبير من الأصنام أنه فعل ذلك لأنه غار
وغضب من أن يعبد وتعبد الصغار معه إرشادا لهم إلى أن عبادة هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع
ولا تدفع لا تستحسن في العقل مع وجود خالقها وخالقهم والأول أولى وقرأ ابن السميفع بل فعله بتشديد
اللام على معنى بل فلعل الفاعل كبيرهم فرجعوا إلى أنفسهم أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته
المتفطن لصحة حجة خصمه المراجع لعقله وذلك أنهم تنبهوا وفهموا عند هذه المقاولة بينهم وبين إبراهيم أن
من لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن فعل به ما فعله إبراهيم بتلك الأصنام يستحيل أن يكون
مستحقا للعبادة ولهذا قالوا إنكم أنتم الظالمون أي قال بعضهم لبعض أنتم الظالمون لأنفسكم بعبادة هذه
الجمادات وليس الظالم من نسبتم الظلم إليه بقولكم إنه لمن الظالمين ثم نكسوا على رؤوسهم أي رجعوا إلى
جهلهم وعنادهم شبه سبحانه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشئ أعلاه وقيل المعنى أنهم طأطئوا
رؤوسهم خجلة من إبراهيم وهو ضعيف لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم بفتح الكاف وإسناد الفعل إليهم حتى يصح
414

هذا التفسير بل قال نكسوا على رؤوسهم وقرئ نكسوا بالتشديد ثم قالوا بعد أن نكسوا مخاطبين
لإبراهيم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون أي قائلين لإبراهيم لقد علمت أن النطق ليس من شأن هذه الأصنام
ف قال إبراهيم مبكتا لهم ومزريا أبي عليهم أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا من النفع ولا يضركم بنوع
من أنواع الضرر ثم تضجر عليه السلام منهم فقال أف لكم ولما تعبدون من دون الله وفى هذا تحقير لهم
ولمعبوداتهم واللام في لكم لبيان المتأفف به أي لكم ولآلهتكم والتأفف صوت يدل على التضجر أفلا تعقلون
أي ليس لكم عقول تتفكرون بها فتعلمون هذا الصنع القبيح الذي صنعتموه قالوا حرقوه أي قال بعضهم
لبعض لما أعيتهم الحيلة في دفع إبراهيم وعجزوا عن مجادلته وضاقت عليهم مسالك المناظرة حرقوا إبراهيم
انصرافا منهم إلى طريق الظلم والغشم وميلا منهم إلى إظهار الغلبة بأي وجه كان وعلى أي أمر اتفق ولهذا
قالوا وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين أي انصروها بالانتقام من هذا الذي فعل بها ما فعل إن كنتم فاعلين للنصر
وقيل هذا القائل هو نمروذ وقيل رجل من الأكراد قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم في الكلام حذف
تقديره فأضرموا النار وذهبوا بإبراهيم إليها فعند ذلك قلنا يا نار كوني ذات برد وسلام وقيل إن انتصاب
سلاما على أنه مصدر لفعل محذوف أي وسلمنا سلاما عليه وأرادوا به كيدا أي مكرا فجعلناهم الأخسرين
أي أخسر من كل خاسر ورددنا مكرهم عليهم فجعلنا لهم عاقبة السوء كما جعلنا لإبراهيم عاقبة الخير
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه فقالوا يا إبراهيم
ألا تخرج معنا قال إني سقيم وقد كان بالأمس قال تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فسمعه
ناس منهم فلما خرجوا انطلق إلى أهله فأخذ طعاما ثم انطلق إلى آلهتهم فقربه إليهم فقال ألا تأكلون
فكسرها إلا كبيرهم ثم ربط في يده الذي كسر به آلهتهم فلما رجع القوم من عيدهم دخلوا فإذا هم بآلهتهم
قد كسرت وإذا كبيرهم في يده الذي كسر الأصنام قالوا من فعل هذا بآلهتنا فقال الذين سمعوا إبراهيم
يقول تالله لأكيدن أصنامكم سمعنا فتى يذكرهم فجادلهم عند ذلك إبراهيم وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله جذاذا قال حطاما وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال فتاتا وأخرج
ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا بل فعله كبيرهم هذا قال عظيم آلهتهم وأخرج أبو داود والترمذي وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكذب إبراهيم
في شئ قط إلا في ثلاث كلهن في الله قوله إني سقيم ولم يكن سقيما وقوله لسارة أختي وقوله بل فعله
كبيرهم هذا وهذا الحديث هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة بأطول من هذا وقد روى نحو هذا أبو يعلى
من حديث أبي سعيد وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال لما جمع لإبراهيم ما جمع وألقى في النار جعل
خازن المطر يقول متى أومر بالمطر فأرسله فكان أمر الله أسرع قال الله كوني بردا وسلاما فلم يبق في
الأرض نار إلا طفئت وأخرج أحمد وابن ماجة وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني عن عائشة أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن إبراهيم حين ألقى في النار لم تكن دابة إلا تطفئ عنه النار غير الوزغ فإنه
كان ينفخ على إبراهيم فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتله وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن
المنذر عن ابن عمر قال أول كلمة قالها إبراهيم حين ألقى في النار حسبنا الله ونعم الوكيل وأخرج ابن
أبي حاتم عن السدي في قوله يا نار كوني قال كان جبريل هو الذي ناداها وأخرج الفريابي وعبد بن حميد
وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها وأخرج الفريابي
وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي نحوه وأخرج ابن جرير عن معتمر
415

ابن سليمان التيمي عن بعض أصحابه قال جاء جبريل إلى إبراهيم وهو يوثق ليلقى في النار فقال يا إبراهيم ألك
حاجة قال أما إليك فلا وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن كعب قال ما أحرقت النار من
إبراهيم إلا وثاقه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن المنهال ابن عمرو قال أخبرت أن إبراهيم ألقى في النار
فكان فيها إما خمسين وإما أربعين قال ما كنت أياما وليالي قط أطيب عيشا إذ كنت فيها وددت أن عيشي
وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها
سورة الأنبياء الآية (71 77)
قد تقدم أن لوطا هو ابن أخي إبراهيم فحكى الله سبحانه هاهنا انه نجى إبراهيم ولوطا إلى الأرض التي
باركنا فيها للعالمين قال المفسرون وهى أرض الشام وكانا بالعراق وسماها سبحانه مباركة لكثرة خصبها
وثمارها وأنهارها ولأنها معادن الأنبياء وأصل البركة ثبوت الخير ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح
وقيل الأرض المباركة مكة وقيل بيت المقدس لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء وهى أيضا كثيرة الخصب
وقد تقدم تفسير العالمين ثم قال سبحانه ممتنا على إبراهيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة النافلة الزيادة وكان
إبراهيم قد سأل الله سبحانه أن يهب له ولدا فوهب له إسحاق ثم وهب لإسحاق يعقوب من غير دعاء فكان
ذلك نافلة أي زيادة وقيل المراد بالنافلة هنا العطية قاله الزجاج وقيل النافلة هنا ولد الولد لأنه زيادة
على الولد وانتصاب نافلة على الحال قال الفراء النافلة يعقوب خاصة لأنه ولد الولد وكلا جعلنا صالحين
أي وكل واحد من هؤلاء الأربعة إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب لا بعضهم دون بعض جعلناه صالحا عاملا
بطاعة الله تاركا لمعاصيه لا وقيل المراد بالصلاح هنا النبوة وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا أي رؤساء يقتدى بهم في
الخيرات وأعمال الطاعات ومعنى بأمرنا بأمرنا لهم بذلك أي بما أنزلنا عليهم من الوحي وأوحينا إليهم فعل الخيرات
أي أن يفعلوا الطاعات وقيل المراد بالخيرات شرائع النبوات وكانوا لنا عابدين أي كانوا لنا خاصة دون غيرنا
مطيعين فاعلين لما نأمرهم به تاركين ما ننهاهم عنه ولوطا آتيناه حكما وعلما انتصاب لوطا بفعل مضمر
دل عليه قوله آتيناه أي وآتينا لوطا آتيناه وقيل بنفس الفعل المذكور بعده وقيل بمحذوف هو أذكر
والحكم النبوة والعلم المعرفة بأمر الدين وقيل الحكم هو فصل الخصومات بالحق وقيل هو الفهم ونجيناه
416

من القرية التي كانت تعمل الخبائث القرية هي سدوم كما تقدم ومعنى تعمل الخبائث يعمل أهلها الخبائث
فوصفت القرية بوصف أهلها والخبائث التي كانوا يعملونها هي اللواطة والضراط وخذف الحصى كما سيأتي
ثم علل سبحانه ذلك بقوله إنهم كانوا قوما فاسقين أي خارجين عن طاعة الله والفسوق الخروج كما
تقدم وأدخلناه في رحمتنا بإنجائنا إياه من القوم المذكورين ومعنى في رحمتنا في أهل رحمتنا وقيل في النبوة
وقيل في الإسلام وقيل في الجنة إنه من الصالحين الذين سبقت لهم منا الحسنى ونوحا إذ نادى أي واذكر
نوحا إذ نادى ربه من قبل أي من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين فاستجبنا له دعاءه فنجيناه وأهله من
الكرب العظيم أي من الغرق بالطوفان والكرب الغم الشديد والمراد بأهله المؤمنون منهم ونصرناه من القوم
الذين كذبوا بآياتنا أي نصرناه مستتبعا للانتقام من القوم المذكورين وقيل المعنى منعناه من القوم وقال
أبو عبيدة من بمعنى على ثم علل سبحانه ذلك بقوله إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين أي لم نترك منهم
أحدا بل أغرقنا كبيرهم وصغيرهم بسبب إصرارهم على الذنب
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب في قوله إلى الأرض التي باركنا فيها قال الشام وأخرج ابن
أبي شيبة عن أبي مالك نحوه وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال لوط كان ابن أخي إبراهيم وأخرج
ابن جرير عنه ووهبنا له إسحاق قال ولدا ويعقوب نافلة قال ابن الابن وأخرج ابن جرير عن قتادة
نحوه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحكم نحوه أيضا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ووهبنا له إسحاق قال أعطيناه ويعقوب نافلة قال عطية
سورة الأنبياء الآية (78 88)
417

قوله (وداود) معطوف على نوحا ومعمول لعامله المذكور أو المقدر كما مر (وسليمان) معطوف على
داود والظرف في (إذ يحكمان) متعلق بما عمل في داود: اي واذكرهما وقت حكمهما. والمراد من ذكرهما ذكر
خبرهما ومعنى (في الحرث) في شان الحرث قيل كان زرعا وقيل: كرما واسم الحرث يطلق عليهما (إذ
نفشت فيه) اي تفرقت وانتشرت فيه (غنم القوم) قال ابن السكيت: النفش بالتحريك ان تنتشر الغنم بالليل من
غير راع (وكنا لحكمهم شاهدين) اي لحكم الحاكمين وفيه جوار اطلاق الجمع على الاثنين وهو مذهب طائفة
من أهل العربية كالزمخشري والرضي وتقدمهما إلى القول به الفراء وقيل المراد الحاكمان والمحكوم عليه
ومعنى شاهدين حاضرين والجملة اعتراضية وجملة (ففهمناها سليمان) معطوفة على إذ يحكمان لأنه في حكم
الماضي والضمير في ففهمناها يعود إلى القضية المفهومة من الكلام أو الحكومة المدلول عليها بذكر الحكم
قال المفسرون: دخل رجلا على داود وعنده ابنه سليمان: أحدهما صاحب حرث والاخر صاحب غنم
فقال سليمان أو غير ذلك ينطلق أصحاب الكرم بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها ويقوم أصحاب الغنم على الكره
حتى إذا كان كليلة نفشت فيه دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم فقال داود
القضاء ما قضيت وحكم بذلك قال النحاس انما قضى داود بالغنم لصاحب الحرث لان ثمنها كانا قريبا منه
واما في حكم سليمان فقد قيل: كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء قال جماعة من العلماء
ان داود حكم بوحي وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود. فيكون التفهيم على هذا بطريق الوحي
وقال الجمهور ان حكمهما كان باجتهاد وكلام أهل العلم في حكم اجتهاد الأنبياء معروف وهكذا ما ذكره
أهل العلم في اختلاف المجتهدين ولا شك انها تدل على رفع الاثم عن المخطئ واما كون كل واحد منهما مصيبا
فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما ان الحاكم إذا اجتهد
فأصاب فله اجران وان اجتهد فأخطأ فله اجر فسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخطئا فكيف يقال إنه
مصيب لحكم الله موافق له، فان حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين والا لزم توقف حكمه عز
وجل على اجتهادات المجتهدين واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضا يستلزم أن تكون العين التي اختلف اجتهاد
المجتهدين فيها بالحل والحرمة حلالا حراما في حكم الله سبحانه. وهذا اللازم باطل بالاجماع فالملزوم مثله وأيضا
يلزم ان حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد له اجتهاد في تلك الحادثة. ولا ينقطع ما يريده الله
سبحانه فيها إلا بانقطاع المجتهدين واللازم باطل فالملزوم مثله. وقد أوضحنا هذه المسألة بما لا مزيد عليه في
المؤلف الذي سميناه (القول المفيد في حكم التقليد) وفي (أدب المطلب ومنتهى الإرب) فمن أحب الوقوف على
تحقيق الحق فليرجع إليهما فان قلت فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة
المحمدية والملة الاسلامية؟ قلت: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث البراء انه شرع لامته ان
على أهل الماشية حفظها بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار وان ما أفسدت المواشي بالليل مضموم على
أهلها وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عينا أو قيمة وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث
وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ. وان البهائم إذا أفسدت زرعا في ليل أو
نهار انه لا يلزم صاحبها شئ وادخلوا فسادها في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم جرح العجماء
418

جبار قياسا لجميع أفعالها على جرحها ويجاب عنه بأن هذا القياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص ومن
أهل العلم من ذهب إلى أنه يضمن رب الماشية ما أفسدته من غير فرق بين الليل والنهار ويجاب عنه بحديث البراء
ومما يدل على أن هذين الحكمين من داود وسليمان كانا بوحي من الله سبحانه لا باجتهاد قوله وكلا آتينا حكما
وعلما فإن الله سبحانه أخبرنا بأنه أعطى كل واحد منهما هذين الأمرين وهما إن كانا خاصين فصدقهما على
هذه القضية التي حكاها الله سبحانه عنهما مقدم على صدقهما على غيرها وإن كانا عامين فهذا الفرد من الحكم
والعلم وهو ما وقع من كل واحد منهما في هذه القضية أحق أفراد ذلك العام بدخوله تحته ودلالته عليه ومما
يستفاد من ذلك دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان بالتفهيم من عدم كون حكم داود حكما شرعيا أي وكل
واحد منهما أعطيناه حكما وعلما كثيرا لا سليمان وحده ولما مدح داود وسليمان على سبيل الاشتراك ذكر
ما يختص بكل واحد منهما فبدأ بداود فقال وسخرنا مع داود الجبال يسبحن التسبيح إما حقيقة أو مجاز وقد قال
بالأول جماعة وهو الظاهر وذلك أن داود كان إذا سبح سبحت الجبال معه وقيل إنها كانت تصلي معه إذا
صلى وهو معنى التسبيح وقال بالمجاز جماعة آخرون وحملوا التسبيح على تسبيح من رآها تعجبا من عظيم خلقها
وقدرة خالقها وقيل كانت الجبال تسير مع داود فكان من رآها سائرة معه سبح والطير معطوف على
الجبال وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي والطير مسخرات ولا يصح العطف على الضمير في
يسبحن لعدم التأكيد والفصل وكنا فاعلين يعني ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير وعلمناه صنعة
لبوس لكم اللبوس عند العرب السلاح كله درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا قال الهذلي
وعندي لبوس في اللباس كأنه الخ والمراد في الآية الدروع خاصة وهو بمعنى اللبوس كالركوب
والحلوب من والجار والمجرور أعني لكم متعلق بعلمنا ليحصنكم من بأسكم قرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر
وحفص وروح لتحصنكم بالتاء الفوقية بإرجاع الضمير إلى الصنعة أو إلى اللبوس بتأويل الدرع وقرأ
شيبة وأبو بكر والمفضل وابن أبي إسحاق لنحصنكم بالنون بإرجاع الضمير إليه سبحانه وقرأ الباقون بالياء
بإرجاع الضمير إلى اللبوس في أو إلى داود أو إلى الله سبحانه ومعنى من بأسكم من حربكم أو من وقع
السلاح فيكم فهل أنتم شاكرون لهذه النعمة التي أنعمنا بها عليكم والاستفهام في معنى الأمر ثم ذكر سبحانه
ما خص به سليمان فقال ولسليمان الريح أي وسخرنا له الريح عاصفة أي شديدة الهبوب يقال عصفت الريح
أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف وانتصاب الريح على الحال وقرأ عبد الرحمن الأعرج والسلمي
وأبو بكر ولسليمان الريح برفع الريح على القطع مما قبله ويكون مبتدأ وخبره تجري وأما على قراءة النصب
فيكون محل تجرى بأمره النصب أيضا على الحالية أو على البدلية إلى الأرض التي باركنا فيها وهى أرض
الشام كما تقدم بكل شئ عالمين أي بتدبير كل شئ ومن الشياطين أي وسخرنا من الشياطين من
يغوصون له في البحار ويستخرجون منها ما يطلبه منهم وقيل إن من مبتدأ وخبره ما قبله والغوص النزول تحت
الماء يقال غاص في الماء والغواص الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ ويعملون عملا دون ذلك قال الفراء
أي سوى ذلك وقيل ايراد بذلك المحاريب والتماثيل وغير ذلك مما يسخرهم فيه وكنا لهم حافظين أي لأعمالهم
وقال الفراء حافظين لهم من أن يهربوا أو يتمنعوا أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره قال الزجاج كان
يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا وكان دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار وأيوب إذ نادى ربه معطوف
419

على ما قبله والعامل فيه إما المذكور أو المقدر كما مر والعامل في الظرف وهو إذ نادى ربه هو العامل
في أيوب أنى مسني الضر أي بأني مسني الضر وقرئ بكسر إني
واختلف في الضر الذي نزل به ماذا هو فقيل إنه قام ليصلي فلم يقدر على النهوض وقيل إنه أقر بالعجز
فلا يكون ذلك منافيا للصبر وقيل انقطع الوحي عنه أربعين يوما وقيل إن دودة سقطت من لحمه فأخذها
وردها في موضعها فأكلت منه فصاح مسني الضر وقيل كان الدود تناول بدنه فيصبر حتى تناولت دودة
قلبه وقيل إن ضره قول إبليس لزوجته اسجدي لي فخاف ذهاب إيمانها وقيل إنه تقذره قومه وقيل أراد
بالضر الشماتة وقيل غير ذلك ولما نادى ربه متضرعا إليه وصفه بغاية الرحمة فقال وأنت أرحم الراحمين فأخبر
الله سبحانه باستجابته بن لدعائه فقال فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر أي شفاه الله مما كان به وأعاضه هذه بما ذهب
عليه ولهذا قال سبحانه وآتيناه أهله ومثلهم معهم قيل تركهم الله عز وجل له وأعطاه مثلهم في الدنيا
قال النحاس والإسناد بذلك صحيح وقد كان مات أهله جميعا إلا امرأته فأحياهم الله في أقل من طرف البصر
وآتاه مثلهم معهم وقيل كان ذلك بأن ولد له ضعف الذين أماتهم الله فيكون معنى الآية على هذا آتيناه مثل
أهله ومثلهم معهم وانتصاب رحمة من عندنا على العلة أي آتيناه ذلك لرحمتنا له وذكرى للعابدين أي
وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر
واختلف في مدة إقامته على البلاء فقيل سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال وقيل ثلاثين سنة
وقيل ثماني عشرة سنة وإسماعيل وإدريس وذا الكفل أي واذكر هؤلاء وإدريس هو أخنوخ وذا الكفل
إلياس وقيل يوشع بن نون وقيل زكريا والصحيح أنه رجل من بني إسرائيل كان لا يتورع عن شئ من
المعاصي فتاب فغفر الله له وقيل إن اليسع لما كبر قال من يتكفل لي بكذا وكذا من خصال الخير حتى
أستخلفه فقال رجل أنا فاستخلفه وسمى ذا الكفل وقيل كان رجلا يتكفل بشأن كل إنسان إذا وقع في
شئ من المهمات وقيل غير ذلك وقد ذهب الجمهور إلى أنه ليس بنبي وقال جماعة هو نبي ثم وصف الله
سبحانه هؤلاء بالصبر فقال كل من الصابرين أي كل واحد من هؤلاء من الصابرين على القيام بما كلفهم الله
به وأدخلناهم في رحمتنا أي في الجنة أو في النبوة أو في الخير على عمومه ثم علل ذلك بقوله إنهم من
الصالحين أي الكاملين في الصلاح وذا النون أي واذكر ذا النون وهو يونس ابن متى ولقب ذا النون
لابتلاع الحوت له فإن النون من أسماء الحوت وقيل سمى ذا النون لأنه رأى صبيا مليحا فقال دسموا نونته
لئلا تصيبه العين وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي أن نونة الصبي هي الثقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير
ومعنى دسموا سودوا إذ ذهب مغاضبا أي أذكر ذا النون وقت ذهابه مغاضبا أي مراغما قال الحسن والشعبي
وسعيد بن جبير ذهب مغاضبا لربه واختاره ابن جرير والقتيبي والمهدوي وحكى عن ابن مسعود قال
النحاس وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح والمعنى مغاضبا من أجل ربه كما تقول
غضبت لك أي من أجلك وقال الضحاك ذهب مغاضبا لقومه وحكى عن ابن عباس وقالت فرقة منهم
الأخفش إنما خرج مغاضبا للملك الذي كان في وقته واسمه حزقيا وقل لم يغاضب ربه ولا قومه ولا الملك
ولكنه مأخوذ من غضب إذا أنف وذلك أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف الله عنهم العذاب
فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج عنهم ومن استعمال الغضب في هذا المعنى قول الشاعر
420

وأغضب أن تهجى تميم بعامر أي آنف فظن أن لن نقدر عليه قرأ الجمهور نقدر بفتح
النون وكسر الدال
واختلف في معنى الآية على هذه القراءة فقيل معناها أنه وقع في ظنه ان الله تعالى لا يقدر على معاقبته وقد
حكى هذا القول عن الحسن وسعيد بن جبير وهو قول مردود فإن هذا الظن بالله كفر ومثل ذلك لا يقع من
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذهب جمهور العلماء أن معناها فظن أن لن نضيق عليه كقوله يبسط
الرزق لمن يشاء ويقدر أي يضيق ومنه قوله ومن قدر عليه رزقه يقال قدر وقدر وقتر وقتر أي ضيق
وقيل هو من القدر الذي هو القضاء والحكم أي فظن أن لن نقضي عليه العقوبة قاله قتادة ومجاهد واختاره
الفراء والزجاج مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة قال أحمد بن يحيى ثعلب هو من التقدير
ليس من القدرة يقال منه قدر الله لك الخير يقدره قدرا وأنشد ثعلب
فليست عشيات اللوى برواجع * لنا أبدا ما أبرم السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى * تباركت ما تقدر مع ذلك الشكر
أي ما تقدره وتقضي به ومما يؤيد ما قاله هؤلاء قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري فظن أن نقدر بضم النون
وتشديد الدال من التقدير وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس ويؤيد ذلك أيضا قراءة عبيد بن عمير
وقتادة والأعرج أن لن يقدر بضم الياء والتشديد مبنيا للمفعول وقرأ يعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن
يقدر بضم الياء وفتح الدال مخففا مبنيا للمفعول
وقد اختلف العلماء في تأويل الحديث الصحيح في قول الرجل الذي لم يعلم خيرا قط لأهله أن يحرقوه
إذا مات ثم قال فوالله لئن قدر الله علي الحديث كما اختلفوا في تأويل هذه الآية والكلام في هذا يطول
وقد ذكرنا هاهنا ما لا يحتاج معه الناظر إلى غيره والفاء في قوله فنادى في الظلمات فصيحة أي
كان ما كان من التقام الحوت له فنادى في الظلمات والمراد بالظلمات ظلمة الليل وظلمة
البحر وظلمة بطن الحوت وكان انداؤه قبل هو قوله أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أي بأن لا إله الخ
ومعنى سبحانك تنزيها لك من أن يعجزك شئ إني كنت من الظالمين الذين يظلمون أنفسهم قال الحسن وقتادة
هذا القول من يونس اعتراف بذنبه وتوبة من خطيئته قال ذلك وهو في بطن الحوت ثم أخبر الله سبحانه بأنه
استجاب له فقال فاستجبنا له دعاءه الذي دعانا به في ضمن اعترافه بالذنب على ألطف وجه ونجيناه من الغم
بإخراجنا له من بطن الحوت حتى قذفه إلى الساحل وكذلك ننجي المؤمنين أي نخلصهم من همهم بما سبق من
عملهم وما أعددناه لهم من الرحمة وهذا هو معنى الآية الأخرى وهى قوله فلولا أنه كان من المسبحين للبث
في بطنه إلى يوم يبعثون قرأ الجمهور ننجي بنونين وقرأ ابن عامر نجى بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء
على الفعل الماضي وإضمار المصدر وكذلك نجى النجاة المؤمنين كما تقول ضرب زيدا أي ضرب الضرب زيدا ومنه
قول الشاعر
ولو ولدت فقيرة جرو كلب * لسب بذلك الجرو الكلابا
يحيى هكذا قال في توجيه هذه القراءة الفراء وأبو عبيد وثعلب وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالا هي لحن لأنه
نصب اسم ما لم يسم فاعله وإنما يقال نجى المؤمنون ولأبي عبيدة قول آخر وهو أنه أدغم النون في الجيم وبه
قال القتيبي واعترضه النحاس فقال هذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين لبعد مخرج النون من مخرج الجيم
421

فلا يدغم فيها ثم قال النحاس لم أسمع في هذا أحسن من شئ سمعته من علي بن سليمان الأخفش قال الأصل
ننجي فحذف إحدى النونين لاجتماعهما كما يحذف إحدى التاءين لاجتماعهما نحو قوله تعالى ولا تفرقوا
والأصل ولا تتفرقوا قلت وكذا الواحدي عن أبي علي الفارسي أنه قال إن النون الثانية تخفى مع الجيم
ولا يجوز تبيينها فالتبس على السامع الإخفاء بالإدغام فظن أنه إدغام ويدل على هذا إسكانه الياء من نجى
ونصب المؤمنين ولو كان على ما لم يسم فاعله ما سكن الياء ولوجب أن يرفع المؤمنين قلت ولا نسلم قوله
إنه لا يجوز تبيينها فقد بينت في قراءة الجمهور وقرأ محمد بن السميفع وأبو العالية وكذلك نجى المؤمنين
على البناء للفاعل أي نجى الله المؤمنين
وقد أخرج ابن جرير عن مرة في قوله إذ يحكمان في الحرث قال كان الحرث نبتا فنفشت فيه ليلا
فاختصموا فيه إلى داود فقضى بالغنم لأصحاب الحرث فمروا على سليمان فذكروا ذلك له فقال لا تدفع
لغنم فيصيبون منها ويقوم هؤلاء على حرثهم فإذا كان كما كان ردوا عليهم فنزلت ففهمناها سليمان
روى هذا عن مرة عن ابن مسعود وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن مسعود
في قوله وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث قال كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته الغنم فقضى داود بالغنم
لصاحب الكرم فقال سليمان غير هذا يا نبي الله قال وما ذاك قال يدفع الكرم إلى صاحب الغنم
فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان دفعت الكرم
إلى صاحبه والغنم إلى صاحبها فذلك قوله ففهمناها سليمان وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم
عن مسروق نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه ولكنه لم يذكر الكرم وأخرج ابن أبي شيبة في
المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا
نفشت قال رعت وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود
وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حرام بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا
فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت
المواشي بالليل ضامن على أهلها وقد علل هذا الحديث وقد بسطنا الكلام عليه في شرح المنتقى وأخرج ابن
مردويه من حديث عائشة نحوه وزاد في آخره ثم تلا هذه الآية وداود وسليمان الآية وفى الصحيحين
وغيرهما من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما امرأتان معهما ابنان جاء الذئب
فأخذ أحد الاثنين فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا فدعاهما سليمان فقال هاتوا السكين أشقه
بينهما فقالت الصغرى رحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى به للصغرى وهذا الحديث وإن لم يكن داخلا
فيما حكته الآية من حكمهما لكنه من جملة ما وقع لهما وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة في قوله وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير قال
يصلين مع داود إذا صلى وعلمناه صنعة لبوس لكم قال كانت صفائح فأول من سردها وحلقها داود
عليه السلام وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن ابن عباس قال كان سليمان يوضع له ستمائة ألف
كرسي ثم يجئ أشراف الإنس فيجلسون مما يليه ثم يجئ أشراف الجن فيجلسون مما يلي أشراف الإنس
ثم يدعو الطير فتظلهم ثم يدعو الريح فتحملهم تسير مسيرة شهر في الغداة الواحدة وأخرج ابن عساكر والديلمي
وابن النجار عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله لأيوب تدري ما جرمك
422

على حي ابتليتك؟ قال لا ريب قال لأنك دخلت على فرعون فداهنت عنده في كلمتين وأخرج ابن عساكر
عن ابن عباس قال انما كان ذنب أيوب انه استعان به مسكين على ظالم يدرؤه فلم يعنه ولم يأمر
بالمعروف ولم ينه الظالم عن ظلم المسكين فابتلاه الله وفي اسناده جويبر. واخرج ابن أبي شيبة واحد في الزهد
وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن نعيم في الحلية عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال كان
لأيوب اخوان جاء يوما فلم يستطيعا ان يدنوا منه من ريحه. فقاما من بعيد فقال أحدهما للاخر. لو كان علم
الله من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يخرج من شئ قط مثله فقال اللهم ان
كنت تعلم اني لم أبت ليلة قط شبعان وانا اعلم مكان عار فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان
ثم خز ساجدا وقال اللهم بعزتك لا ارفع رأسي حتى تكشف عني فما رفع رأسه حتى كشف الله عنه.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعا بنحو هذا. واخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله وآتيناه أهله ومثلهم قال لا بل اتركهم لي في الجنة قال
فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا. واخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن الضحاك
قال: بلغ ابن مسعود ان مروان قال في هذه الآية (وآتيناه أهله ومثلهم معهم) قال: أوتي أهلا غير أهله. فقال
ابن مسعود: بل أوتي أهله بأعيانهم ومثلهم معهم. واخرج ابن أبي الدنيا وأبو يعلي وابن جرير وابن أبي حاتم
والروياني وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن
أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من اخوانه كانا من أخص اخوانه كانا
يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد قال
وما ذاك؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف عنه ما به فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى
ذكر له ذلك فقال أيوب لا أدري ما يقول غير أن الله يعلم اني أمر بالرجلين يتنازعان يذكران الله فارجع إلى
بيتي فاكفر عنهما كراهة ان يذكر الله الا في حق وكان يخرج لحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى
يبلغ فلما كان ذات يوم ابطأ عليها فأوحى الله إلى أيوب في مكانه ان اركض برجلك هذا مغتسل بارد
وشراب فاستبطأته فتلقته واقبل عليها قد اذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان فلما رأته قالت اي
بارك الله فيك هل رأيت بني الله المبلتي والله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا؟ قال فاني
انا هو قال: وكان له أندران: أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر
القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرعت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض "، وأخرج ابن
أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (وذا الكفل) قال: رجل صالح
غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضى بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فسمى ذا الكفل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل قاض فحضره الموت، فقال: من يقوم
مقامي
على أن لا يغضب، فقال رجل: أنا، فسمى ذا الكفل، فكان ليله جميعا يصلى، ثم يصبح صائما فيقضى بين
الناس، وذكر قصة، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي موسى
الأشعري قال: ما كان ذو الكفل نبيا، ولكن كان في بني إسرائيل رجل صالح يصلى كل يوم مائة صلاة فتوفى،
423

فتكفل له ذو الكفل من بعده فكان يصلي كل يوم مائة صلاة فسمى ذا الكفل وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد
والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حبان والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سعد مولى
طلحة عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله
فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال
ما يبكيك أكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا
وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوب على بابه إن
الله قد غفر للكفل وأخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وابن مردويه من طريق سعد مولى طلحة وأخرجه ابن
مردويه من طريق نافع عن ابن عمرو قال فيه ذو الكفل وأخرج ابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن
ابن عباس في قوله وذا النون إذ ذهب مغاضبا يقول غضب على قومه فظن أن لن نقدر عليه يقول أن لن
نقضي عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه عليهم وفراره قال وعقوبته أخذ النون إياه وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله فظن أن لن نقدر عليه قال ظن أن لن
يأخذه العذاب الذي أصابه وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود
فنادى في الظلمات قال ظلمة الليل وظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وأخرج أحمد والترمذي والنسائي
والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في
الشعب عن سعد بن أبي وقاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال دعوة ذي النون إذ هو في بطن
الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم ربه في شئ قط إلا استجاب له
وأخرج ابن جرير عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول اسم الله الذي إذا دعى به أجاب
وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى قلت يا رسول الله هل ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين قال هي
ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا به ألم تسمع قول الله وكذلك ننجي المؤمنين فهو شرط من الله لمن
دعاه وأخرج الحاكم من حديثه أيضا نحوه وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى وروى أيضا في
الصحيح وغيره من حديث ابن مسعود وروى أيضا في الصحيحين من حديث أبي هريرة
سورة الأنبياء الآية (89 95)
424

سورة الأنبياء الآية (96 97)
قوله وزكريا أي واذكر خبر زكريا وقت ندائه لربه قال رب لا تذرني فردا أي منفردا وحيدا لا ولد
لي وقد تقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران وأنت خير الوارثين أي خير من يبقى بعد كل من يموت
فأنت حسبي إن لم ترزقني ولدا فإني أعلم أنك لا تضيع دينك وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره له وترتضيه
روى للتبليغ فاستجبنا له دعاءه ووهبنا له يحيى وقد تقدم مستوفى في سورة مريم وأصلحنا له زوجة قال
أكثر المفسرين إنها كانت عاقرا فجعلها الله ولودا فهذا هو المراد بإصلاح زوجه وقيل كانت سيئة الخلق
فجعلها الله سبحانه حسنة الخلق ولا مانع من إرادة الأمرين جميعا وذلك بأن يصلح الله سبحانه ذاتها فتكون
ولودا بعد أن كانت عاقرا ويصلح أخلاقها فتكون أخلاقها مرضية بعد أن كانت غير مرضية وجملة إنهم
كانوا يسارعون في الخيرات للتعليل لما قبلها من إحسانه سبحانه إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فالضمير
المذكور راجع إليهم وقيل هو راجع إلى زكريا وامرأته ويحيى ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم كانوا يدعونه
رغبا ورهبا أي يتضرعون إليه في حال الرخاء وحال الشدة وقيل الرغبة رفع بطون الأكف إلى السماء
والرهبة رفع ظهورها وانتصاب رغبا ورهبا على المصدرية أي يرغبون رغبا ويرهبون رهبا أو على العلة
أي للرغب والرهب أو على الحال أي راغبين وراهبين وقرأ طلحة بن مصرف ويدعونا بنون واحدة
وقرأ الأعمش بضم الراء فيهما وإسكان ما بعده وقرأ ابن وثاب بفتح الراء فيهما مع إسكان ما بعده ورويت
هذه القراءة عن أبي عمرو وقرأ الباقون بفتح الراء وفتح ما بعده فيهما وكانوا لنا خاشعين أي متواضعين
متضرعين والتي أحصنت فرجها أي واذكر خبرها وهى مريم فإنها أحصنت فرجها من الحلال والحرام
ولم يمسسها بشر وإنما ذكرها مع الأنبياء وإن لم تكن منهم لأجل ذكر عيسى وما في ذكر قصتها من الآية الباهرة
فنفخنا فيها من روحنا أضاف سبحانه الروح إليه وهو للملك تشريفا وتعظيما وهو يريد روح عيسى
وجعلناها وابنها آية للعالمين قال الزجاج الآية فيهم واحدة لأنها ولدته من غير فحل وقيل إن التقدير على
مذهب سيبويه وجعلناها آية وجعلنا ابنها آية كقوله سبحانه والله ورسوله أحق أن يرضوه والمعنى أن الله
سبحانه جعل قصتهما آية تامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما وقيل أراد بالآية الجنس الشامل لما لكل واحد
منهما من الآيات ومعنى أحصنت عفت فامتنعت بين من الفاحشة وغيرها وقيل المراد بالفرج جيب القميص أي
أنها طاهرة الأثواب وقد مضى بيان مثل هذا في سورة النساء ومريم ثم لما ذكر سبحانه الأنبياء بين أنهم كلهم
مجتمعون على التوحيد فقال إن هذه أمتكم أمة واحدة والأمة الدين كما قال ابن قتيبة ومنه إنا وجدنا آباءنا
على أمة أي على دين كأنه قال إن هذا دينكم دين واحد لا خلاف بين الأمم المختلفة في التوحيد ولا يخرج
عن ذلك إلا الكفرة المشركون بالله وقيل المعنى إن هذه الشريعة التي بينتها لكم في كتابكم شريعة واحدة
وقيل المعنى إن هذه ملتكم ملة واحدة وهى ملة الإسلام وانتصاب أمة واحدة على الحال أي متفقة غير
مختلفة وقرئ إن هذه أمتكم بنصب أمتكم على البدل من أمتكم والخبر أمة واحدة وقرئ برفع
أمتكم ورفع أمة على أنهما خبران وقيل على إضمار مبتدأ أي هي أمة واحدة وقرأ الجمهور برفع أمتكم
425

على أنه الخبر ونصب " أمة " على الحال كما قدمنا. وقال الفراء: والزجاج على القطع بسب مجىء النكرة بعد تمام
الكلام (وأنا ربكم فاعبدون) خاصة لا تعبدوا غيري كائنا ما كان (وتقطعوا أمرهم بينهم) أي تفرقوا فرقا في الدين
حتى صار كالقطع المتفرقة. وقال الأخفش: اختلفوا فيه، وهو كالقول الأول. قال الأزهري: أي تفرقوا في
أمرهم فنصب أمرهم بحذف في والمقصود بالآية المشركون، ذمهم الله بمخالفة الحق واتخاذهم آلهة من دون الله
وقيل المراد جميع الخلق وأنهم جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا وتقسموه بينهم، فهذا موحد، وهذا يهودي، وهذا
نصراني، وهذا مجوسي، وهذا عابد وثن. ثم أخبر سبحانه بأن مرجع الجميع إليه فقال (كل إلينا راجعون)
أي كل واحد من هذه الفرق راجع إلينا بالبعث، لا إلى غيرنا (فمن يعمل من الصالحات) أي من يعمل بعض
الأعمال الصالحة لاكلها إذ لا يطيق ذلك أحد (وهو مؤمن) بالله ورسله واليوم الآخر (فلا كفران لسعيه)
اي لا جحود لعمله ولا تضييع لجزائه والكفر ضد الايمان والكفر أيضا جحود النعمة وهو ضد الشكر
يقال كفر كفورا وكفرانا وفي قراءة ابن مسعود فلا كفر لسعيه (وانا له كاتبون) اي لسعيه حافظون
ومثله قوله سبحانه اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى وحرام على قرية أهلكناها قرأ زيد بن
ثابت وأهل المدينة وحرام وقرأ أهل الكوفة وحرم وقد اختاره القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم ورويت
القراءة الثانية عن علي وابن مسعود وابن عباس وهما لغتان مثل حل وحلال وقرأ سعيد بن جبير وحرم
بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم. وقرأ عكرمة وأبو العالية حرم بضم الراء وفتح الحاء والميم ومعنى (أهلكناها)
قدرنا إهلاكها وجملة (انهم لا يرجعون) في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره حرام أو على أنه فاعل له ساد
مسد خبره والمعنى وممتنع البتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء وقيل إن لا في لا يرجعون زائدة اي حرام على
قرية أهلكناها ان يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا واختار هذا أبو عبيدة وقيل إن لفظ حرام هنا بمعني الواجب.
اي واجب على قرية، ومنه قول الخنساء.
وان حراما لا أرى الدهر باكيا * على شجوه الا بكيت على صخر.
وقيل حرام: اي ممتنع رجوعهم إلى التوبة على أن لا زائدة قال النحاس والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل
فيها واجله ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضل وسليم بن حبان ومعلى عن داود بن
أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في معني الآية قال: واجب انهم لا يرجعون اي لا يتوبون قال: الزجاج
وأبو علي الفارسي: ان في الكلام اضمارا اي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها أو بالختم على قلوب أهلها
ان يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون اي لا يتوبون (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج حتى هذه هي التي يحكى
بعدها الكلام ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الانس والمراد بفتح يأجوج ومأجوج فتح السد الذي عليهم على
حذف المضاف وقيل إن حتى هذه هي التي للغاية والمعني ان هؤلاء المذكورين سابقا مستمرون على ما هم
عليه إلى يوم القيامة وهي يوم فتح سد يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون الضمير ليأجوج
ومأجوج والحدب كل اكمة من الأرض مرتفعة والجمع أحداب مأخوذ من حدبة الأرض ومعنى ينسلون
يسرعون وقيل يخرجون قال الزجاج والنسلان مشية الذئب ذا أسرع يقال نسل فلان في العدو ينسل
بالكسر والضم نسلا ونسولا ونسلانا اي ان يأجوج ومأجوج من كل مرتفع من الأرض يسرعون المشي
ويتفرقون في الأرض وقيل لا ضمير في قوله وهو لجميع الخلق والمعني انهم يحشرون إلى ارض الموقف
وهم يسرعون من كل مرتفع من الأرض وقرئ بضم السين حكى ذلك المهدوي عن ابن مسعود وحكى هذه
القراءة أيضا الثعلبي عن مجاهد وأبي الصهباء (واقترب الوعد) عطف على فتحت، والمراد ما بعد الفتح من الحساب.
426

وقال الفراء والكسائي وغيرهما المراد بالوعد الحق القيامة والواو زائدة والمعنى حتى إذا فتحت يأجوج
ومأجوج اقترب الوعد الحق وهو القيامة فاقترب جواب إذا وأنشد الفراء * فلما أجزنا ساحة الحي والتحى
لأنه أي انتحى ومنه قوله تعالى وتله للجبين وناديناه وأجاز الفراء أن يكون جواب إذا فإذا هي شاخصة أبصار
الذين كفروا وقال البصريون الجواب محذوف والتقدير قالوا يا ويلنا وبه قال الزجاج والضمير في
فإذا هي للقصة أو مبهم يفسره ما بعده وإذا للمفاجأة وقيل إن الكلام تم عند قوله هي والتقدير فإذا
هي يعنى القيامة بارزة واقع كأنها آتية حاضرة ثم ابتدأ فقال شاخصة أبصار الذين كفروا على تقديم الخبر
على المبتدأ أي أبصار الذين كفروا شاخصة ويا ويلنا على تقدير القول قد كنا في غفلة من هذا أي من
هذا الذي دهمنا من العبث والحساب بل كنا ظالمين أضربوا عن وصف أنفسهم بالغفلة أي لم نكن غافلين
بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الانقياد للرسل
وقد أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله وأصلحنا له زوجه قال كان في لسان امرأة زكريا
طول فأصلحه الله وروى نحو ذلك عن جماعة من التابعين وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال وهبنا
له ولدها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال كانت عاقرا فجعلها الله ولودا ووهب له
منها يحيى وفى قوله وكانوا لنا خاشعين قال أذلاء وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن
جريج في قوله يدعوننا رغبا ورهبا قال رغبا في رحمة الله ورهبا من عذاب الله وأخرج ابن مردويه عن جابر
ابن عبد الله قال سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله سبحانه ويدعوننا رغبا ورهبا قال
رغبا هكذا ورهبا هكذا وبسط كفيه يعنى جعل ظهرهما للأرض في الرغبة وعكسه في الرهبة وأخرج ابن أبي
شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عكيم
قال خطبنا أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه
بما هو له أهل وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال إنهم كانوا يسارعون في
الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
إن هذه أمتكم أمة واحدة قال إن هذا دينكم دينا واحدا وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله وأخرج عبد
ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله وتقطعوا أمرهم
بينهم قال تقطعوا اختلفوا في الدين وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن
عباس في قوله وحرام على قرية أهلكناها قال وجب إهلاكها أنهم لا يرجعون قال لا يتوبون وأخرج
سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ وحرم على
قرية قال وجب على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون كما قال ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم
إليهم لا يرجعون وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وسعيد بن جبير مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله من كل حدب قال شرف ينسلون قال يقبلون وقد ورد في قصة
يأجوج ومأجوج وفى وقت خروجهم أحاديث كثيرة لا يتعلق بذكرها ها هنا كثير فائدة
سورة الأنبياء الآية (98 101)
427

سورة الأنبياء الآية (102 112)
بين سبحانه حال معبودهم يوم القيامة فقال إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم وهذا خطاب منه
سبحانه لأهل مكة والمراد بقوله وما تعبدون الأصنام التي كانوا يعبدون قرأ الجمهور أخبرنا بالصاد المهملة
أي وقود جهنم وحطبها وكل ما أوقدت لو به النار أو هيجتها به فهو حصب كذا قال الجوهري قال أبو عبيدة
كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به ومثل ذلك قوله تعالى فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة وقرأ علي
ابن أبي طالب عليه السلام وعائشة حطب جهنم بالطاء وقرأ ابن عباس حضب بالضاد المعجمة قال الفراء ذكر لنا
أن الحضب في لغة أهل اليمن الحطب ووجه إلقاء الأصنام في النار مع كونها جمادات لا تعقل ذلك ولا تحس به
التبكيت لمن عبدها وزيادة التوبيخ لهم وتضاعف الحسرة عليهم وقيل إنها تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم
وجملة أنتم لها واردون إما مستأنفة أو بدل من حصب جهنم والخطاب لهم ولما يعبدون تغليبا واللام في لها
للتقوية لضعف عمل اسم الفاعل وقيل هي بمعنى على والمراد بالورود هنا الدخول قال كثير من أهل العلم
ولا يدخل في هذه الآية عيسى وعزير والملائكة لأن ما لمن لا يعقل ولو أراد العموم لقال ومن يعبدون قال
الزجاج ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركوا مكة دون غيرهم لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها أي لو كانت هذه
الأصنام آلهة كما تزعمون ما وردوها أي ما ورد العابدون والمعبودون النار وقيل ما ورد العابدون فقط
لكنهم وردوها فلم يكونوا ألهة وفى هذا تبكيت لعباد الأصنام وتوبيخ شديد وكل فيها خالدون أي كل
العابدين والمعبودين في النار خالدون ولا يخرجون منها لهم فيها زفير أي لهؤلاء الذين وردوا النار والزفير
صوت نفس المغموم والمراد هنا الأنين والتنفس الشديد وقد تقدم بيان هذا في هود وهم فيها لا يسمعون
أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول وقيل لا يسمعون شيئا لأنهم يحشرون صما كما قال سبحانه ونحشرهم
يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وإنما سلبوا السماع لأن فيه بعض تروح وتأنس وقيل لا يسمعون
ما يسرهم بل يسمعون ما يسوءهم ثم لما بين سبحانه حال هؤلاء الأشقياء شرع في بيان حال السعداء فقال إن
428

الذين سبقت لهم منا الحسنى أي الخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهى السعادة وقيل التوفيق أو التبشير
بالجنة أو نفس الجنة أولئك عنها مبعدون إشارة إلى الموصوفين بتلك الصفة عنها أي عن جهنم مبعدون
لأنهم قد صاروا في الجنة لا يسمعون حسيسها الحس والحسيس الصوت تسمعه من الشئ يمر قريبا منك
والمعنى لا يسمعون حركة النار وحركة أهلها وهذه الجملة بدل من مبعدون أو حال من ضميره وهم فيما
اشتهت أنفسهم خالدون أي دائمون وفى الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين كما قال سبحانه ولكم فيها
ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون لا يحزنهم الفزع الأكبر قرأ أبو جعفر وابن محيصن لا يحزنهم بضم
الياء وكسر الزاي وقرأ الباقون لا يحزنهم بفتح الياء وضم الزاي قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه
لغة تميم والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة من البعث والحساب والعقاب وتتلقاهم الملائكة أي تستقبلهم
على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم هذا يومكم الذي كنتم توعدون أي توعدون به في الدنيا وتبشرون
بما فيه هكذا قال جماعة من الفسرين يكون إن المراد بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى إلى هنا هم كافة الموصوفين
بالإيمان والعمل الصالح لا المسيح وعزير والملائكة وقال أكثر المفسرين إنه لما نزل إنكم وما تعبدون
الآية أتى ابن الزبعري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا محمد ألست تزعم أن عزيرا رجل صالح
وأن عيسى رجل صالح وأن مريم امرأة صالحة قال بلى فقال فإن الملائكة عيسى وعزيرا ومريم يعبدون
من دون الله فهؤلاء في النار فأنزل الله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى وسيأتي بيان من أخرج هذا قريبا إن
شاء الله يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج والزهري تطوى
بمثناة فوقية مضمومة ورفع السماء وقرأ مجاهد يطوى بالتحتية المفتوحة مبنيا للفاعل على معنى يطوى الله السماء
وقرأ الباقون نطوى بنون العظمة وانتصاب يوم بقوله نعيده أي نعيده يوم نطوي السماء وقيل هو بدل من
الضمير المحذوف في توعدون والتقدير الذي كنتم توعدونه يوم نطوي وقيل بقوله لا يحزنهم الفزع وقيل
بقوله تتلقاهم وقيل متعلق بمحذوف وهو أذكر وهذا أظهر وأوضح والطي ضد النشر وقيل المحو
والمراد بالسماء الجنس والسجل الصحيفة أي طيا كطي الطومار وقيل السجل الصك وهو مشتق من المساجلة
وهى المكاتبة وأصلها من السجل وهو الدلو يقال ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا ثم
استعيرت للمكاتبة والمراجعة في الكلام ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب
من يساجلني يساجل ماجدا * يملأ الدلو إلى عقد الكرب
وقرأ أبو زرعة بن عمرو ابن جرير السجل بضم السين والجيم وتشديد اللام وقرأ الأعمش وطلحة بفتح
السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام والطي في هذه الآية يحتمل معنيين أحدهما الطي الذي هو ضد النشر
ومنه قوله والسماوات مطويات بيمينه والثاني الإخفاء والتعمية والمحو لأن الله سبحانه يمحو ويطمس رسومها
ويكدر نجومها وقيل السجل اسم ملك وهو الذي يطوى كتب بني آدم وقيل هو اسم كاتب لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم والأول أولى قرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحيى وخلف للكتب جمعا وقرأ
الباقون للكتاب وهو متعلق بمحذوف حال من السجل أي كطي السجل كائنا للكتب أو صفة له أي الكائن
للكتب فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها فسجلها بعض أجزائها وبه يتعلق الطي حقيقة وأما
على القراءة الثانية فالكتاب مصدر واللام للتعليل أي كما يطوى الطومار للكتابة أي ليكتب فيه أو لما يكتب
فيه من المعاني الكثيرة وهذا على تقدير أن المراد بالطي المعنى الأول وهو ضد النشر كما بدأنا أول خلق نعيده
أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم وأخرجناهم إلى الأرض حفاة عراة غرلا كذلك نعيدهم يوم القيامة فأول خلق
429

مفعول نعيد مقدرا يفسره نعيده المذكور أو مفعول لبدأنا وما كافة أو موصولة والكاف متعلقة بمحذوف
أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده وعلى هذا الوجه يكون أول ظرف لبدأنا أو حال وإنما خص أول الخلق
بالذكر تصويرا للإيجاد عن العدم والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على المبدأ لشمول الإمكان الذاتي لهما
وقيل معنى الآية نهلك كل نفس كما كان أول مرة وعلى هذا فالكلام متصل بقوله يوم نطوى السماء وقيل
المعنى نغير السماء ثم نعيدها مع مرة أخرى بعد طيها وزوالها والأول أولى وهو مثل قوله ولقد جئناكم فرادى
كما خلقناكم أول مرة ثم قال سبحانه وعدا علينا إنا كنا فاعلين انتصاب وعدا على أنه مصدر أي وعلينا
وعدا علينا إنجازه والوفاء به وهو البعث والإعادة ثم أكد سبحانه ذلك بقوله إنا كنا فاعلين قال الزجاج
معنى إنا كنا فاعلين إنا كنا قادرين على ما نشاء وقيل إنا كنا فاعلين ما وعدناكم ومثله قوله وكان وعده
مفعولا ولقد كتبنا في الزبور الزبر في الأصل الكتب يقال زبرت أي كتبت وعلى هذا يصح إطلاق
الزبور على التوراة والإنجيل وعلى كتاب داود المسمى بالزبور وقيل المراد به هنا كتاب داود ومعنى من
بعد الذكر أي اللوح المحفوظ وقيل هو التوراة أي والله لقد كتبنا في كتاب داود من بعد ما كتبنا في التوراة
أو من بعد ما كتبنا في اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عبادي الصالحون قال الزجاج الزبور جميع الكتب
التوراة والإنجيل والقرآن لأن الزبور والكتاب في معنى واحد يقال زبرت وكتبت ويؤيد ما قاله قراءة حمزة
في الزبور بضم الزاي فإنه جمع زبر
وقد اختلف في معنى يرثها عبادي الصالحون فقيل المراد أرض الجنة واستدل القائلون بهذا بقوله سبحانه
وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض وقيل هي الأرض المقدسة وقيل هي أرض الأمم الكافرة
يرثها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وأمته بفتحها وقيل المراد بذلك بنو إسرائيل بدليل قوله سبحانه وأورثنا القوم
الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها والظاهر أن هذا تبشير لأمة محمد صلى الله عليه
وآله وسلم بوراثة أرض الكافرين وعليه أكثر المفسرين وقرأ حمزة عبادي بتسكين الياء وقرأ الباقون
بتحريكها إن في هذا لبلاغا أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه لبلاغا لكفاية يقال في هذا
الشئ بلاغ وبلغة وتبلغ أي كفاية وقيل الإشارة بقوله إن في هذا إلى القرآن لقوم عابدين أي مشغولين
بعبادة الله مهتمين بها والعبادة هي الخضوع والتذلل وهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورأس العبادة
الصلاة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أي وما أرسلناك يا محمد بالشرائع والأحكام إلا رحمة لجميع الناس
والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال والعلل أي ما أرسلناك لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعة فإن ما بعثت به
سبب لسعادة الدارين قيل ومعنى كونه رحمة للكفار أنهم آمنوا به من الخسف والمسخ والاستئصال وقيل المراد
بالعالمين المؤمنون خاصة والأول أولى بدليل قوله سبحانه وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ثم بين سبحانه أن
أصل تلك الرحمة هو التوحيد والبراءة من الشرك فقال قل إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد إن كانت ما موصولة
فالمعنى أن الذي يوحى إلي هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزها إلى ما يناقضها أو يضادها
وإن كانت ما كافة فالمعنى أن الوحي إلى مقصور على استئثار الله بالوحدة ووجه ذلك أن القصر أبدا يكون
لما يلي إنما فإنما الأولى لقصر الوصف على الشئ كقولك إنما يقوم زيد أي ما يقوم إلا زيد والثانية لقصر
الشئ على الحكم كقولك إنما زيد قائم أي ليس به إلا صفة القيام فهل أنتم مسلمون منقادون مخلصون للعبادة
ولتوحيد الله سبحانه فإن تولوا أي أعرضوا عن الإسلام فقل لهم آذنتكم على سواء أي أعلمتكم
430

أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا كائنين على سواء في الإعلام لم أخص به بعضكم دون بعض كقوله سبحانه - وإما تخافن
من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء - أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا سويت بينهم فيه. وقال الزجاج: المعنى
أعلمتكم ما يوحى إلى علي استواء في العلم به، ولا أظهر لأحد شيئا كتمته على غيره (وإن أدرى أقريب أم بعيد
ما توعدون) أي ما أدرى أما توعدون به قريب حصوله أم بعيد، وهو غلبة الإسلام وأهله على الكفر وأهله.
وقيل المراد بما توعدون القيامة، وقيل آذنتكم بالحرب ولكن لا أدرى ما يؤذن لي في محاربتكم (إنه يعلم الجهر من
القول ويعلم ما تكتمون) أي يعلم سبحانه ما تجاهرون به من الكفر والطعن على الإسلام وأهله وما تكتمونه من ذلك
وتخفونه (وإن أدرى لعله فتنة لكم) أي ما أدرى لعل الإمهال فتنة لكم واختبار ليرى كيف صنعكم (ومتاع إلى
حين) أي وتمتيع إلى وقت مقدر تقتضيه حكمته. ثم حكى سبحانه وتعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقول
(قال رب احكم بالحق) أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين بما هو الحق عندك ففوض الأمر إليه سبحانه. وقرأ
أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن " رب " بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين لا يجوز عندهم رجل
أقبل حتى يقول يا رجل. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب " أحكم " بقطع الهمزة وفتح الكاف وضم الميم: أي قال
محمد ربى أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري " أحكم " بصيغة الماضي: أي أحكم الأمور بالحق. وقرئ
قل بصيغة الأمر: أي قل يا محمد. قال أبو عبيدة: الصفة هنا أقيمت مقام الموصوف، والتقدير: رب الحكم
بحكمك الحق، ورب في موضع نصب، لأنه منادى مضاف إلى الضمير، وقد استجاب سبحانه دعاء نبيه صلى
الله عليه وآله وسلم فعذبهم ببدر، ثم جعل العاقبة والغلبة والنصر لعباده المؤمنين والحمد لله رب العالمين. ثم قال
سبحانه متمما لتلك الحكاية (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) من الكفر والتكذيب، فربنا مبتدأ وخبره
الرحمن: أي هو كثير الرحمة لعباده، والمستعان خبر آخر: أي المستعان به في الأمور التي من جملتها ما تصفونه من
أن الشوكة تكون لكم، ومن قولكم - هل هذا إلا بشر مثلكم - وقولكم - اتخذ الرحمن ولدا - وكثيرا ما يستعمل
الوصف في كتاب الله بمعنى الكذب كقوله - ولكم الويل مما تصفون -، وقوله - سنجزيهم وصفهم - وقرأ المفضل
والسلمي " على ما يصفون " بالياء التحتية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب.
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه، وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه
وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: لما نزلت (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون)
قال المشركون: فالملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون الله، فنزلت (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك
عنها مبعدون) عيسى وعزير والملائكة. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عنه قال: جاء عبد الله بن الزبعرى
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب
جهنم أنتم لها واردون) قال ابن الزبعرى: قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء
في النار مع آلهتنا، فنزلت - ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه
لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون - ثم نزلت (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون). وأخرج
أبو داود في ناسخه وابن المنذر والطبراني من وجه آخر عنه أيضا نحوه بأطول منه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) قال: عيسى وعزير والملائكة
و أخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله (حصب جهنم) قال: شجر جهنم، وفى إسناده العوفي. وأخرج ابن جرير
و ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر أن (حصب جهنم) وقودها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا
431

قال: هو حطب جهنم بالزنجية. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله
(لا يسمعون حسيسها) قال: حياة على الصراط تقول حس حس. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن أبي عثمان النهدي في قوله (لا يسمعون حسيسها) قال: حيات على الصراط تلسعهم، فإذا لسعتهم قالوا
حس حس. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن محمد بن حاطب قال: سئل علي عن هذه الآية
(إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) قال: هو عثمان وأصحابه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله (لا يسمعون حسيسها) يقول: لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزل منزلهم من الجنة. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (لا يحزنهم الفزع الأكبر) قال: النفخة الآخرة، وفى إسناده
العوفي. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ثلاثة على
كثبان المسك لا يهولهم الفزع الأكبر يوم القيامة: رجل أم قوما وهم له راضون، ورجل كان يؤذن في كل يوم
وليلة، وعبد أدى حق الله وحق مواليه ". وأخرج عبد بن حميد عن علي في قوله (كطي السجل) قال: ملك
وأخرج عبد بن حميد عن عطية مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: السجل ملك، فإذا
صعد بالاستغفار قال اكتبوها نورا. وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي جعفر الباقر قال: السجل ملك
وأخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده في المعرفة وابن مردويه
والبيهقي في سننه وصححه عن ابن عباس قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن المنذر
وابن عدي وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كاتب يسمى السجل،
وهو قوله (يوم نطوى السماء كطي السجل للكتاب) قال: كما يطوى السجل الكتاب كذلك نطوى السماء. وأخرج
ابن منده وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عمر قال: كان للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم كاتب يقال له السجل، فأنزل الله (يوم نطوى السماء كطي السجل للكتاب) قال ابن كثير في تفسيره بعد
إخراج هذا الحديث: وهذا منكر جدا من حديث نافع عن ابن عمر لا يصح أصلا. قال: وكذلك ما تقدم عن
ابن عباس من رواية أبى داود وغيره لا يصح أيضا. وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه، وإن كان في سنن أبي
داود منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزني، وقد أفردت بهذا الحديث جزءا له على حدة، ولله الحمد.
قال: وقد تصدى الإمام أبو جعفر ابن جرير للإنكار على هذا الحديث ورده أتم رد، وقال: ولا نعرف
في الصحابة أحدا اسمه سجل، وكتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا معروفين، وليس فيهم أحد اسمه السجل
وصدق رحمه الله في ذلك وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث. وأما من ذكر في أسماء الصحابة هذا
فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم. قال: والصحيح عن ابن عباس أن السجل هو الصحيفة، قاله
علي بن أبي طلحة والعوفي عنه. ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد. واختاره ابن جرير لأنه المعروف
في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام: يوم نطوى السماء كطي السجل للكتاب: أي على الكتاب، يعني المكتوب
كقوله - فلما أسلما وتله للجبين - أي على الجبين، وله نظائر في اللغة والله أعلم. قلت: أما كون هذا هو الصحيح
عن ابن عباس فلا، فإن علي بن أبي طلحة والعوفي ضعيفان، فالأولى التعويل على المعنى اللغوي والمصير إليه
وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال: (السجل) هو
الرجل، زاد ابن مردويه بلغة الحبشة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية قال:
كطي الصحيفة على الكتاب. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (كما بدأنا أول خلق نعيده) يقول: نهلك
432

كل شئ كما كان أول مرة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) قال:
القرآن (أن الأرض) قال: أرض الجنة وأخرج ابن جرير عنه أيضا (ولقد كتبنا في الزبور) قال: الكتب
(من بعد الذكر) قال: التوراة وفى إسناده العوفي. وأخرج سعيد بن منصور عنه أيضا، قال: الزبور والتوراة
والإنجيل والقرآن. والذكر: الأصل الذي نسخت منه هذه الكتب الذي في السماء. والأرض: أرض الجنة.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قال: أرض
الجنة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق
علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد الأرض، ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون، وفى
قوله (لبلاغا لقوم عابدين) قال: عالمين، وفى إسناده علي بن أبي طلحة. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر
عن أبي هريرة (إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) قال: الصلوات الخمس. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والديلمي
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " في قول الله (إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) قال: في
الصلوات الخمس شغلا للعبادة ". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه
الآية (لبلاغا لقوم عابدين) قال: هي الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة ". وأخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) قال: من
آمن تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب من الخسف
والمسخ والقذف. وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال " قيل يا رسول الله ادع الله على المشركين، قال، إني لم أبعث
لعانا، وإنما بعثت رحمة ". وأخرج الطيالسي وأحمد والطبراني وأبو نعيم في الدلائل عن أبي أمامة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين ". وأخرج أحمد والطبراني عن سلمان أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبي أو لعنته لعنة، فإنما أنا رجل من ولد
آدم أغضب كما يغضبون. وإنما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليه صلاة يوم القيامة ". وأخرج البيهقي في الدلائل
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إنما أنا رحمة مهداة " وقد روى معنى هذا من طرق.
وأخرج ابن أبي خيثمة وابن عساكر عن الربيع بن أنس قال: لما أسرى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى
فلانا، وهو بعض بنى أمية على المنبر يخطب الناس، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل
الله (وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) يقول: هذا الملك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن
عباس (وإن أدرى لعله فتنة لكم) يقول: ما أخبركم به من العذاب والساعة، لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله (قل رب احكم بالحق) قال: لا يحكم الله إلا بالحق، وإنما يستعجل
بذلك في الدنيا يسأل ربه.
433

تفسير سورة الحج
وهى ثمان وسبعون آية
اختلف أهل العلم، هل هي مكية أو مدنية؟ فأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحج
بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال: نزل بالمدينة من
القرآن الحج غير أربع آيات مكيات - وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي - إلى - عذاب يوم عقيم -. وحكى
القرطبي عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات، وقيل أربع آيات إلى قوله - عذاب الحريق -. وحكى عن
النقاش أنه نزل بالمدنية منها عشر آيات. قال القرطبي وقال الجمهور: إن السورة مختلطة، منها مكي، ومنها مدني.
قال: وهذا هو الصحيح. قال العزيزي: وهى من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا
ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها. وقد ورد في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي
والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر قال " قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر
القرآن بسجدتين؟ قال: نعم، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما ". قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بالقوى.
و أخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي عن خالد بن معدان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " فضلت
سورة الحج على القرآن بسجدتين ". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والإسماعيلي وابن مردويه والبيهقي عن
عمر أنه كان يسجد سجدتين في الحج وقال: إن هذه السورة فضلت على سائر القرآن بسجدتين. وقد روى عن
كثير من الصحابة أن فيها سجدتين، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال بعضهم: إن فيها سجدة
واحدة، وهو قول سفيان الثوري، وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس وإبراهيم النخعي.
سورة الحج (1 - 4)
434

سورة الحج الآية (5 - 7)
لما انجر الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها، بدأ سبحانه في هذه السورة
بذكر القيامة وأهوالها حثا على التقوى التي هي أنفع زاد فقال (يا أيها الناس اتقوا ربكم) أي احذروا عقابه بفعل
ما أمركم به من الواجبات وترك ما نهاكم عنه من المحرمات، ولفظ الناس يشمل جميع المكلفين من الموجودين ومن
سيوجد على ما تقرر في موضعه، وقد قدمنا طرفا من تحقيق ذلك في سورة البقرة، وجملة (إن زلزلة الساعة شئ
عظيم) تعليل لما قبلها من الأمر بالتقوى، والزلزلة شدة الحركة، وأصلها من زل عن الموضع: أي زال عنه
وتحرك، وزلزل الله قدمه: أي حركها، وتكرير الحرف يدل على تأكيد المعنى، وهو من إضافة المصدر إلى
فاعله، وهى على هذا الزلزلة التي هي أحد أشراط الساعة التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة، هذا قول الجمهور،
وقيل إنها تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها، وقيل إن المصدر هنا مضاف
إلى الظرف، وهو الساعة إجراء له مجرى المفعول، أو بتقدير في كما في قوله - بل مكر الليل والنهار - وهى المذكورة
في قوله - إذا زلزلت الأرض زلزالها - قيل وفى التعبير عنها بالشئ إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها
(يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) انتصاب الظرف بما بعده، والضمير يرجع إلى الزلزلة: أي وقت
رؤيتكم لها تذهل كل ذات رضاع عن رضيعها وتغفل عنه. قال قطرب: تذهل تشتغل، وأنشد قول الشاعر:
ضرب يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
وقيل تنسى، وقيل تلهو، وقيل تسلو، وهذه معانيها متقاربة. قال المبرد: إن " ما " فيما أرضعت بمعنى المصدر:
أي تذهل عن الإرضاع، قال: وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا، إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع،
إلا أن يقال: من ماتت حاملا فتضع حملها للهول، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ويقال هذا مثل كما يقال
- يوما يجعل الولدان شيبا - وقيل يكون مع النفخة الأولى، قال: ويحتمل أن تكون الساعة عبارة عن أهوال يوم
القيامة، كما في قوله - مستهم البأساء والضراء وزلزلوا - ومعنى (وتضع كل ذات حمل حملها) أنها تلقى جنينها لغير
تمام من شدة الهول، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك (وترى الناس سكارى) قرأ الجمهور بفتح
التاء والراء خطاب لكل واحد: أي يراهم الرائي كأنهم سكارى (وما هم بسكارى) حقيقة، قرأ حمزة والكسائي
" سكرى " بغير ألف، وقرأ الباقون بإثباتها وهما لغتان يجمع بهما سكران، مثل كسلى وكسالى، ولما نفى سبحانه
عنهم السكر أوضح السبب الذي لأجله شابهوا السكارى فقال (ولكن عذاب الله شديد) فبسبب هذه الشدة
والهول العظيم طاشت عقولهم، واضطربت أفهامهم فصاروا كالسكارى، بجامع سلب كمال التمييز وصحة الإدراك
وقرئ " وترى " بضم التاء وفتح الراء مسندا إلى المخاطب من أرأيتك: أي تظنهم سكارى. قال الفراء ولهذه القراءة
وجه جيد في العربية، ثم لما أراد سبحانه أن يحتج على منكري البعث قدم قبل ذلك مقدمة تشمل أهل الجدال
كلهم فقال (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) وقد تقدم إعراب مثل هذا التركيب في قوله - ومن الناس
من يقول - ومعنى " في الله " في شأن الله وقدرته، ومحل " بغير علم " النصب على الحال. والمعنى: أنه يخاصم في قدرة الله
435

فيزعم أنه غير قادر على البعث بغير علم يعلمه، ولا حجة يدلى بها (ويتبع) فيما يقوله ويتعاطاه ويحتج به ويجادل
عنه (كل شيطان مريد) أي متمرد على الله وهو العاتي، سمي بذلك لخلوه عن كل خير، والمراد إبليس وجنوده
أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. وقال الواحدي: قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث
وكان كثير الجدال، وكان ينكر أن الله يقدر على إحياء الأموات، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة
(كتب عليه أنه من تولاه) أي كتب على الشيطان، وفاعل كتب أنه من تولاه، والضمير للشأن: أي من اتخذ
وليا (فإنه يضله) أي فشأن الشيطان أن يضله عن طريق الحق، فقوله أنه يضله جواب الشرط إن جعلت من شرطية
أو خبر الموصول إن جعلت موصولة، فقد وصف الشيطان بوصفين: الأول أنه مريد، والثاني ما أفاده جملة
كتب عليه الخ، وجملة (ويهديه إلى عذاب السعير) معطوفة على جملة يضله: أي يحمله على مباشرة ما يصير به في
عذاب السعير. ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدمة، فقال
(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث) قرأ الحسن " البعث " بفتح العين وهى لغة، وقرأ الجمهور بالسكون،
وشكهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في إمكانه.. والمعنى: إن كنتم في شك من الإعادة فانظروا في مبدأ خلقكم
أي خلق أبيكم آدم ليزول عنكم الريب ويرتفع الشك وتدحض الشبهة الباطلة (فإنا خلقناكم من تراب)
في ضمن خلق أبيكم آدم (ثم) خلقناكم (من نطفة) أي من مني، سمى نطفة لقلته، والنطفة: القليل من
الماء. وقد يقع على الكثير منه، والنطفة: القطرة، يقال نطف ينطف: أي قطر. وليلة نطوف: أي دائمة
القطر (ثم من علقة) والعلقة: الدم الجامد، والعلق: الدم العبيط: أي الطري أو المتجمد، وقيل الشديد الحمرة
والمراد الدم الجامد المتكون من المني (ثم من مضغة) وهى القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ تتكون من العلقة
(مخلقة) بالجر صفة لمضغة: أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير (وغير مخلقة) أي لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها
قال ابن الأعرابي: مخلقة يريد قد بدا خلقه، وغير مخلقة لم تصور. قال الأكثر: ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه
فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام، وما سقط كان غير مخلقة أي غير حي بإكمال خلقته بالروح. قال الفراء: مخلقة
تام الخلق، وغير مخلقة: السقط، ومنه قول الشاعر:
أفي غير المخلقة البكاء * فأين الحزم ويحك والحياء
واللام في (لنبين لكم) متعلق بخلقنا: أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار
خلقكم (ونقر في الأرحام ما نشاء) روى أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم أنه قرأ بنصب نقر عطفا على
نبين، وقرأ الجمهور " تقر " بالرفع على الاستئناف: أي ونحن نقر، قال الزجاج: نقر بالرفع لا غير، لأنه ليس
المعنى فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، ومعنى الآية: ونثبت في الأرحام ما نشاء فلا يكون سقطا (إلى أجل
مسمى) وهو وقت الولادة، وقال ما نشاء ولم يقل من نشاء، لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه
الروح، وقرئ " ليبين - ويقر - و - يخرجكم " بالتحتية في الأفعال الثلاثة، وقرأ ابن أبي وثاب " ما نشاء " بكسر النون
(ثم نخرجكم طفلا) أي نخرجكم من بطون أمهاتكم طفلا: أي أطفالا، وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد
والمتعدد. قال الزجاج طفلا في معنى أطفالا، ودل عليه ذكر الجماعة: يعني في نخرجكم: والعرب كثيرا ما تطلق
اسم الواحد على الجماعة، ومنه قول الشاعر:
يليحنني بكر من حبها ويلمنني * إن العواذل لسن لي بأمير
436

وقال المبرد: هو اسم يستعمل مصدرا كالرضا، والعدل فيقع على الواحد والجمع، قال الله سبحانه
- أو الطفل الذين لم يظهروا -. قال ابن جرير: هو منصوب على التمييز كقوله - فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا -
وفيه بعد، والظاهر انتصابه على الحال بالتأويل المذكور، والطفل يطلق على الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ
(ثم لتبلغوا أشدكم) قيل هو علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة له، كأنه قيل: نخرجكم لتكبروا
شيئا فشيئا ثم لتبلغوا إلى الأشد، وقيل إن ثم زائدة، والتقدير لتبلغوا، وقيل إنه معطوف على نبين، والأشد هو
كمال العقل وكمال القوة والتمييز، قيل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين. وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في
الأنعام (ومنكم من يتوفى) يعني قبل بلوغ الأشد، وقرئ " يتوفى " مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور " يتوفى " مبنيا
للمفعول (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل، ولهذا قال سبحانه
(لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) أي شيئا من الأشياء، أو شيئا من العلم، والمعنى: أنه يصير من بعد أن كان ذا علم
بالأشياء وفهم لها، لا علم له ولا فهم، ومثله قوله - لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين -
وقوله - ومن نعمره ننكسه في الخلق - (وترى الأرض هامدة) هذه حجة أخرى على البعث، فإنه سبحانه احتج
بإحياء الأرض بإنزال الماء على إحياء الأموات، والهامدة اليابسة التي لا تنبت شيئا، قال ابن قتيبة: أي ميتة يابسة
كالنار إذا طفئت، وقيل دارسة، والهمود الدروس، ومنه قول الأعشى:
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا * وأرى ثيابك باليات همودا
وقيل هي التي ذهب عنها الندى، وقيل هالكة، ومعاني هذه الأقوال متقاربة (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت
وربت) المراد بالماء هنا المطر، ومعنى اهتزت تحركت، والاهتزاز شدة الحركة، يقال هززت الشئ فاهتز:
أي حركته فتحرك: والمعنى: تحركت بالنبات، لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقة،
فسماه اهتزازا مجازا. وقال المبرد: المعنى اهتز نباتها فحذف المضاف، واهتزازه شدة حركته، والاهتزاز في
النبات أظهر منه في الأرض، ومعنى ربت ارتفعت، وقيل انتفخت. والمعنى واحد، وأصله الزيادة، يقال ربا
الشئ يربو ربوا إذا زاد ومنه الربا والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس " وربأت " أي ارتفعت حتى
صارت بمنزلة الرابية، وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف يقال له رابئ ورابئة وربيئة (وأنبتت) أي
أخرجت (من كل زوج بهيج) أي من كل صنف حسن ولون مستحسن، والبهجة الحسن، وجملة (ذلك بأن الله
هو الحق) مستأنفة، لما ذكر افتقار الموجودات إليه سبحانه وتسخيرها على وفق إرادته واقتداره. قال بعد ذلك
هذه المقالات، وهى إثبات أنه سبحانه الحق، وأنه المتفرد بإحياء الموتى، وأنه قادر على كل شئ من الأشياء.
والمعنى: أنه المتفرد بهذه الأمور وأنها من شأنه لا يدعي غيره أنه يقدر على شئ منها، فدل سبحانه بهذا على أنه
الحق الحقيقي الغني المطلق، وأن وجود كل موجود مستفاد منه، والحق هو الموجود الذي لا يتغير ولا يزول،
وقيل ذو الحق على عباده، وقيل الحق في أفعاله. قال الزجاج: ذلك في موضع رفع: أي الأمر ما وصفه لكم
وبين بأن الله هو الحق. قال: ويجوز أن يكون ذلك نصبا، ثم أخبر سبحانه بأن (الساعة آتية) أي في مستقبل
الزمان، قيل لا بد من إضمار فعل: أي ولتعلموا أن الساعة آتية (لا ريب فيها) أي لا شك فيها ولا تردد، وجملة
(لا ريب فيها) خبر ثان للساعة، أو في محل نصب على الحال. ثم أخبر سبحانه عن البعث فقال (وأن الله يبعث من
في القبور) فيجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن ذلك كائن لا محالة.
وقد أخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر
437

وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن الحسن وغيره عن عمران بن حصين قال: " لما نزلت (يا أيها
الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم) إلى قوله (ولكن عذاب الله شديد) أنزلت عليه هذه وهو في سفر،
فقال: أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار، قال
يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحدا إلى الجنة، فأنشأ المسلمون
يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قاربوا وسددوا وأبشروا، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان
بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية، فإن تمت وإلا كملت من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة
في ذراع الدابة، أو كالشامة في جنب البعير، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا، ثم قال:
إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا، قال:
ولا أدري قال الثلثين أم لا ". وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر عن عمران بن حصين مرفوعا نحوه،
وقال في آخره " اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شئ إلا كثرتاه يأجوج
ومأجوج، ومن مات من بني آدم ومن بني إبليس، فسرى عن القوم بعض الذي يجدون قال: اعملوا وأبشروا،
فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة ". وأخرج
عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه، وابن مردويه عن
أنس مرفوعا نحوه. وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أنس مرفوعا
نحوه أيضا، وفى الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر
نحوه، وفى آخره فقال " من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد، وهل أنتم في الأمم إلا كالشعرة السوداء في الثور
الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن قتادة في قوله (كتب عليه) قال: كتب على الشيطان. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله (أنه من تولاه) قال: اتبعه. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن
وغيرهم عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق " إن أحدكم يجمع
خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك
فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم
ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها،
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة
فيدخلها " والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا. وأخرج ابن أبي حاتم وصححه عن ابن عباس في قوله (مخلقة
وغير مخلقة) قال: المخلقة ما كان حيا، وغير المخلقة ما كان سقطا. وروى نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (من كل زوج بهيج) قال: حسن. وأخرج عبد الله
ابن أحمد في زوائد الزهد عن معاذ بن جبل قال: من علم أن الله عز وجل حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها،
وأن الله يبعث من في القبور دخل الجنة.
سورة الحج الآية (8 - 7)
438

(10 - 16) (قوله ومن الناس من يجادل في الله) أي في شأن الله، كقول من قال: إن الملائكة بنات الله، والمسيح ابن
الله، وعزير ابن الله. قيل نزلت في النضر بن الحارث، وقيل في أبى جهل، وقيل هي عامة لكل من يتصدى
لإضلال الناس وإغوائهم، وعلى كل حال فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ وإن كان السبب خاصا. ومعنى اللفظ:
ومن الناس فريق يجادل في الله، فيدخل في ذلك كل مجادل في ذات الله، أو صفاته أو شرائعه الواضحة، و (بغير
علم) في محل نصب على الحال: أي كائنا بغير علم. قيل والمراد بالعلم هو العلم الضروري، وبالهدى هو العلم
النظري الاستدلالي. والأولى حمل العلم على العموم، وحمل الهدى على معناه اللغوي، وهو الإرشاد. والمراد
بالكتاب المنير هو القرآن، والمنير النير البين الحجة الواضح البرهان، وهو وإن دخل تحت قوله (بغير علم) فإفراده
بالذكر كإفراد جبريل بالذكر بعد ذكر الملائكة، وذلك لكونه لافرد الكامل الفائق على غيره من أفراد العلم. وأما
من حمل العلم على الضروري والهدى على الاستدلالي، فقد حمل الكتاب هنا على الدليل السمعي، فتكون الآية
متضمنة لنفى الدليل العقلي ضروريا كان أو استدلاليا، ومتضمنة لنفى الدليل النقلي بأقسامه، وما ذكرناه أولى.
قيل والمراد بهذا المجادل في هذه الآية هو المجادل في الآية الأولى، أعني قوله " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم
ويتبع كل شيطان مريد "، وبذلك قال كثير من المفسرين، والتكرير للمبالغة في الذم كما تقول للرجل تذمه
وتوبخه أنت فعلت هذا أنت فعلت هذا؟ ويجوز أن يكون التكرير لكونه وصفه في كل آية بزيادة على ما وصفه به
في الآية الأخرى، فكأنه قال: ومن الناس من يجادل في الله ويتبع كل شيطان مريد بغير علم (ولا هدى ولا
كتاب منير) ليضل عن سبيل الله اه، وقيل الآية الأولى في المقلدين اسم فاعل. والثانية في المقلدين اسم مفعول.
ولا وجه لهذا كما أنه لا وجه لقول من قال: إن الآية الأولى خاصة بإضلال المتبوعين لتابعيهم، والثانية عامة في
كل إضلال وجدال، وانتصاب (ثاني عطفه) على الحال من فاعل يجادل، والعطف الجانب، وعطفا الرجل
جانباه من يمين وشمال، وفى تفسيره وجهان: الأول أن المراد به من يلوى عنقه مرحا وتكبرا، ذكر معناه الزجاج،
قال وهذا يوصف به المتكبر. والمعنى: ومن الناس من يجادل في الله متكبرا. قال المبرد: العطف ما انثنى من العنق
والوجه الثاني أن المراد بقوله (ثاني عطفه) الإعراض: أي معرضا عن الذكر، كذا قال الفراء والمفضل وغيرهما
كقوله تعالى - ولى مستكبرا كأن لم يسمعها - وقوله - لووا رؤوسهم -، وقوله - أعرض ونأى بجانبه -، واللام
439

في (ليضل عن سبيل الله) متعلق بتجادل: أي إن غرضه هو الإضلال عن السبيل وإن لم يعترف بذلك. وقرئ
ليضل بفتح الياء على أن تكون اللام هي لام العاقبة كأنه جعل ضلاله غاية لجداله، وجملة (له في الدنيا خزي)
مستأنفة مبينة لما يحصل له بسبب جداله من العقوبة. والخزي الذل، وذلك بما يناله من العقوبة في الدنيا من العذاب
المعجل وسوء الذكر على ألسن الناس. وقيل الخزي الدنيوي هو القتل كما وقع في يوم بدر (ونذيقه يوم القيامة
عذاب الحريق) أي عذاب النار المحرقة، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم من العذاب الدنيوي والأخروي،
وهو مبتدأ خبره (بما قدمت يداك). والباء للسببية: أي ذلك العذاب النازل بك بسبب ما قدمته يداك من الكفر
والمعاصي، وعبر باليد عن جملة البدن لكون مباشرة المعاصي تكون بها في الغالب، ومحل أن وما بعدها في قوله (وأن
الله ليس بظلام للعبيد) الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي والأمر أنه سبحانه لا يعذب عباده بغير ذنب. وقد
مر الكلام على هذه الآية في آخر آل عمران فلا نعيده (ومن الناس من يعبد الله على حرف) هذا بيان لشقاق فلا أهل
الشقاق. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: الحرف الشك، وأصله من حرف الشئ وهو طرفه، مثل حرف
الجبل والحائط، فإن القائم عليه غير مستقر والذي يعبد الله على حرف قلق في دينه على غير ثبات وطمأنينة كالذي
هو على حرف الجبل ونحوه يضطرب اضطرابا ويضعف قيامه، فقيل للشاك في دينه إنه يعبد الله على حرف، لأنه
على غير يقين من وعده ووعيده، بخلاف المؤمن لأنه يعبده على يقين وبصيرة فلم يكن على حرف، وقيل الحرف
الشرط: أي ومن الناس من يعبد الله على شرط، والشرط هو قوله (فإن أصابه خير اطمأن به) أي خير دنيوي
من رخاء وعافية وخصب وكثرة مال، ومعنى اطمأن به ثبت على دينه واستمر على عبادته، أو اطمأن قلبه بذلك
الخير الذي أصابه (وإن أصابته فتنة) أي شئ يفتتن به من مكروه يصيبه في أهله أو ماله أو نفسه (انقلب على
وجهه) أي ارتد ورجع إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر، ثم بين حاله بعد انقلابه على وجهه فقال (خسر
الدنيا والآخرة) أي ذهبا منه وفقدهما، فلاحظ له في الدنيا من الغنيمة والثناء الحسن، ولا في الآخرة من الأجر
وما أعده الله للصالحين من عباده. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق " خاسرا الدنيا
والآخرة " على صيغة اسم الفاعل منصوبا على الحال. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف. والإشارة بقوله
" ذلك " إلى خسران الدنيا والآخرة وهو مبتدأ وخبره (وهو الخسران المبين) أي الواضح الظاهر الذي لا خسران
مثله (يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه) أي هذا الذي انقلب على وجهه ورجع إلى الكفر يدعو من دون
الله: أي يعبد متجاوزا عبادة الله إلى عبادة الأصنام ما لا يضره إن ترك عبادته، ولا ينفعه إن عبده لكون ذلك
المعبود جمادا لا يقدر على ضر ولا نفع، والإشارة بقوله (ذلك) إلى الدعاء المفهوم من الفعل وهو يدعو، واسم
الإشارة مبتدأ وخبره (هو الضلال البعيد) أي عن الحق والرشد مستعار من ضلال من سلك غير الطريق فصار
بضلاله بعيدا عنها. قال الفراء: البعيد الطويل (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) يدعو بمعنى يقول، والجملة
مقررة لما قبلها من كون ذلك الدعاء ضلالا بعيدا. والأصنام لا نفع فيها بحال من الأحوال بل هي ضرر بحت لمن
يعبدها، لأنه دخل النار بسبب عبادتها، وإيراد صيغة التفضيل مع عدم النفع بالمرة للمبالغة في تقبيح حال ذلك
الداعي - أو ذلك من باب " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " واللام هي الموطئة للقسم، ومن موصولة
أو موصوفة، وضره مبتدأ خبره أقرب، والجملة صلة الموصول. وجملة (لبئس المولى ولبئس العشير) جواب
القسم، والمعنى: أنه يقول ذلك الكافر يوم القيامة لمعبوده الذي ضره أقرب من نفعه: لبئس المولى أنت ولبئس
العشير. والمولى الناصر، والعشير الصاحب، ومثل ما في هذه الآية قول عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها * أشطان بئر في لبان الأدهم
وقال الزجاج: يجوز أن يكون يدعو في موضع الحال، وفيه هاء محذوفة: أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه
440

وعلى هذا يوقف على يدعو، ويكون قوله " لمن ضره أقرب من نفعه " كلاما مستأنفا مرفوعا بالابتداء، وخبره
لبئس المولى. قال: وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام. وقال الزجاج والفراء: يجوز أن يكون
يدعو مكررة على ما قبلها على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء: أي يدعو ما لا يضره ولا ينفعه يدعو مثل
ضربت زيدا ضربت. وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم، واللام مقدمة على موضعها،
والتقدير: يدعو من لضره أقرب من نفعه، فمن في موضع نصب بيدعو، واللام جواب القسم وضره مبتدأ،
وأقرب خبره، ومن التصرف في اللام بالتقديم والتأخير قول الشاعر:
خالي لأنت ومن جرير خاله * ينل العلاء ويكرم الأخوالا
أي لخالي أنت. قال النحاس: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: في الكلام حذف، والمعنى:
يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها. قال النحاس: وأحسب هذا القول غلطا عن محمد بن يزيد، ولعل وجهه أن
ما قبل اللام هذه لا يعمل فيما بعدها. وقال الفراء أيضا والقفال اللام صلة: أي زائدة، والمعنى: يدعو من ضره أقرب
من نفعه: أي يعبده، وهكذا في قراءة عبد الله بن مسعود بحذف اللام في " لبئس المولى " وفى " لبئس
العشير " على هذا موطئة للقسم (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار) لما فرغ
من ذكر حال المشركين، ومن يعبد الله على حرف ذكر حال المؤمنين في الآخرة، وأخبر أنه يدخلهم هذه الجنات
المتصفة بهذه الصفة، وقد تقدم الكلام في جرى الأنهار من تحت الجنات، وبينا أنه إن أريد بها الأشجار المتكاثفة
الساترة لما تحتها، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف: أي من تحت
أشجارها (إن الله يفعل ما يريد) هذه الجملة تعليل لما قبلها: أي يفعل ما يريده من الأفعال " لا يسأل عما يفعل "
فيثيب من يشاء ويعذب من يشاء (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة) قال النحاس: من أحسن
ما قيل في هذه الآية أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع
النصر الذي أوتيه (فليمدد بسبب إلى السماء) أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء (ثم ليقطع) أي ثم ليقطع النصر
إن تهيأ له (فلينظر هل يذهبن كيده) وحيلته (ما يغيظ) من نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المعنى:
من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظا، ثم فسره بقوله (فليمدد بسبب إلى
السماء) أي فليشدد حبلا في سقف بيته (ثم ليقطع) أي ثم ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا، والمعنى: فليختنق
غيظا حتى يموت، فإن الله ناصره ومظهره، ولا ينفعه غيظه، ومعنى فلينظر هل يذهبن كيده: أي صنيعه وحيلته
ما يغيظ: أي غيظه، وما مصدرية. وقيل إن الضمير في ينصره يعود إلى من، والمعنى: من كان يظن أن الله
لا يرزقه فليقتل نفسه، وبه قال أبو عبيدة. وقيل إن الضمير يعود إلى الدين: أي من كان يظن أن لن ينصر الله
دينه. وقرأ الكوفيون بإسكان اللام في - ثم ليقطع - قال النحاس: وهذه القراءة بعيدة من العربية (وكذلك أنزلناه
آيات بينات) أي مثل ذلك الإنزال البديع أنزلناه آيات واضحات ظاهرة الدلالة على مدلولاتها (وأن الله يهدى من
يريد) هدايته ابتداء أو زيادة فيها لمن كان مهديا من قبل.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ثاني عطفه) قال: لاوي
عنقه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس والسدي وابن يزيد وابن جريج أنه المعرض. وأخرج ابن أبي شيبة
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله (ثاني عطفه) قال: أنزلت في النضر بن الحارث. وأخرج
441

ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: هو رجل من بنى عبد الدار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عنه " ثاني عطفه " قال: مستكبرا في نفسه. وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (ومن
الناس من يعبد الله على حرف) قال كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما وأنتجت خيله قال: هذا
دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه بسند
صحيح قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم، فإن
وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به، وإن وجدوا عام
جدب وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير، فأنزل الله (ومن الناس من يعبد الله على حرف).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا نحوه، وفى إسناده العوفي. وأخرج ابن مردويه أيضا من
طريقه أيضا عن أبي سعيد قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فقال: أقلني أقلني، قال: إن الإسلام لا يقال، فقال: لم أصب من ديني هذا خيرا ذهب
بصرى ومالي ومات ولدى، فقال: يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب
والفضة، فنزلت (ومن الناس من يعبد الله على حرف). وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (من كان يظن أن لن ينصره الله) قال: من
كان يظن أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا والآخرة (فليمدد بسبب) قال: فليربط بحبل (إلى السماء) قال: إلى
سماء بيته السقف (ثم ليقطع) قال: ثم يختنق به حتى يموت. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه قال (من
كان يظن أن لن ينصره الله) يقول: أن لن يرزقه الله (فليمدد بسبب إلى السماء) فليأخذ حبلا فليربطه في سماء بيته
فليختنق به (فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) قال: فلينظر هل ينفعه ذلك أو يأتيه برزق.
سورة الحج الآية (17 - 24)
442

قوله (إن الذين آمنوا) أي بالله وبرسوله، أو بما ذكر من الآيات البينات (والذين هادوا) هم اليهود
المنتسبون إلى ملة موسى (والصابئين) قوم يعبدون النجوم، وقيل هم من جنس النصارى وليس ذلك بصحيح بل
هم فرقة معروفة لا ترجع إلى ملة من الملل المنتسبة إلى الأنبياء (والنصارى) هم المنتسبون إلى ملة عيسى (والمجوس)
هم الذين يعبدون النار، ويقولون إن للعالم أصلين: النور والظلمة. وقيل هم قوم يعبدون الشمس والقمر، وقيل
هم قوم يستعملون النجاسات، وقيل هم قوم من النصارى اعتزلوهم ولبسوا المسوح، وقيل إنهم أخذوا بعض دين
اليهود وبعض دين النصارى (والذين أشركوا) الذين يعبدون الأصنام، وقد مضى تحقيق هذا في البقرة، ولكنه
سبحانه قدم هنالك النصارى على الصابئين، وأخرهم عنهم هنا. فقيل وجه تقديم النصارى هنالك أنهم أهل كتاب
دون الصابئين، ووجه تقديم الصابئين هنا أن زمنهم متقدم على زمن النصارى، وجملة (إن الله يفصل بينهم يوم
القيامة) في محل رفع على أنها خبر لأن المتقدمة، ومعنى الفصل أنه سبحانه يقضى بينهم فيدخل المؤمنين منهم
الجنة والكافرين منهم النار. وقيل الفصل هو أن يميز المحق من المبطل بعلامة يعرف بها كل واحد منهما، وجملة
(إن الله على كل شئ شهيد) تعليل لما قبلها: أي أنه سبحانه على كل شئ من أفعال خلقه وأقوالهم شهيد لا يعزب
عنه شئ منها. وأنكر الفراء أن تكون جملة " إن الله يفصل بينهم " خبرا لأن المتقدمة. وقال لا يجوز في الكلام: إن
زيدا إن أخاه منطلق، ورد الزجاج ما قاله الفراء، وأنكره وأنكر ما جعله مماثلا للآية، ولا شك في جواز قولك:
إن زيدا إن الخير عنده، وإن زيدا إنه منطلق، ونحو ذلك (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض)
الرؤية هنا هي القلبية لا البصرية: أي ألم تعلم، والخطاب لكل من يصلح له، وهو من تتأتى منه الرؤية، والمراد
بالسجود هنا هو الانقياد الكامل، لا سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء، سواء جعلت كلمة من خاصة بالعقلاء، أو
عامة لهم ولغيرهم، ولهذا عطف (الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب) على من، فإن ذلك يفيد
أن السجود هو الانقياد لا الطاعة الخاصة بالعقلاء، وإنما أفرد هذه الأمور بالذكر مع كونها داخلة تحت من، على
تقدير جعلها عامة لكون قيام السجود بها مستبعدا في العادة، وارتفاع (كثير من الناس) بفعل مضمر يدل عليه
المذكور: أي ويسجد له كثير من الناس. وقيل مرتفع على الابتداء وخبره محذوف وتقديره: وكثير من الناس
يستحق الثواب، والأول أظهر. وإنما لم يرتفع بالعطف على من، لأن سجود هؤلاء الكثير من الناس هو سجود الطاعة
الخاصة بالعقلاء، والمراد بالسجود المتقدم هو الانقياد، فلو ارتفع بالعطف على من لكان في ذلك جمع بين معنيين
مختلفين في لفظ واحد. وأنت خبير بأنه لا ملجئ. إلى هذا بعد حمل السجود على الانقياد، ولا شك أنه يصح أن
يراد من سجود كثير من الناس هو انقيادهم لا نفس السجود الخاص، فارتفاعه على العطف لا بأس به، وإن أبى
ذلك صاحب الكشاف ومتابعوه، وأما قوله (وكثير حق عليه العذاب) فقال الكسائي والفراء: إنه مرتفع بالابتداء
وخبره ما بعده. وقيل هو معطوف على كثير الأول ويكون المعنى: وكثير من الناس يسجد وكثير منهم يأبى ذلك.
وقيل المعنى: وكثير من الناس في الجنة، وكثير حق عليه العذاب هكذا حكاه ابن الأنباري (ومن يهن الله فما له
من مكرم) أي من أهانه الله بأن جعله كافرا شقيا، فما له من مكرم يكرمه فيصير سعيدا عزيزا. وحكى الأخفش
والكسائي والفراء أن المعنى: ومن يهن الله فما له من مكرم: أي إكرام (إن الله يفعل ما يشاء) من الأشياء التي من
جملتها ما تقدم ذكره من الشقاوة والسعادة والإكرام والإهانة (هذان خصمان) الخصمان أحدهما أنجس الفرق اليهود
والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا، والخصم الآخر المسلمون، فهما فريقان مختصمان. قاله الفراء
وغيره. وقيل المراد بالخصمين الجنة والنار. قالت الجنة: خلقني لرحمته، وقالت النار: خلقني لعقوبته. وقيل
المراد بالخصمين هم الذين برزوا يوم بدر، فمن المؤمنين حمزة وعلي وعبيدة، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة
443

والوليد بن عتبة. وقد كان أبو ذر رضي الله عنه يقسم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه في
الصحيح، وقال بمثل هذا جماعة من الصحابة، وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول. وقد ثبت في الصحيح أيضا
عن علي أنه قال: فينا نزلت هذه الآية. وقرأ ابن كثير " هذان " بتشديد النون، وقال سبحانه (اختصموا) ولم
يقل اختصما. قال الفراء: لأنهم جمع، ولو قال اختصما لجاز، ومعنى (في ربهم) في شأن ربهم: أي في دينه،
أو في ذاته، أو في صفاته، أو في شريعته لعباده، أو في جميع ذلك، ثم فصل سبحانه ما أجمله في قوله - يفصل
بينهم - فقال (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار) قال الأزهري: أي سويت وجعلت لبوسا لهم، شبهت
النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب، وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيها على تحقق وقوعه. وقيل إن هذه
الثياب من نحاس قد أذيب فصار كالنار، وهى السرابيل المذكورة في آية أخرى. وقيل المعنى في الآية: أحاطت
النار بهم. وقرئ " قطعت " بالتخفيف ثم قال سبحانه (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) والحميم هو الماء
الحار المغلي بنار جهنم، والجملة مستأنفة أو هي خبر ثان للموصول (يصهر به ما في بطونهم) الصهر الإذابة،
والصهارة ما ذاب منه، يقال صهرت الشئ فانصهر: أي أذبته فذاب فهو صهير، والمعنى: أنه يذاب بذلك
الحميم ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء (والجلود) معطوفة على ما: أي ويصهر به الجلود، والجملة في محل
نصب على الحال، وقيل إن الجلود لا تذاب، بل تحرق، فيقدر فعل يناسب ذلك، ويقال وتحرق به الجلود كما
في قول الشاعر: * علفتها تبنا وماء باردا * أي وسقيتها ماء، ولا يخفى أنه لا ملجئ لهذا، فإن
الحميم إذا كان يذيب ما في البطون فإذا بته للجلد الظاهر بالأولى (ولهم مقامع من حديد) المقامع جمع مقمعة ومقمع
قمعته ضربته بالمقمعة، وهى قطعة من حديد. والمعنى: لهم مقامع من حديد يضربون بها: أي للكفرة، وسميت
المقامع مقامع لأنها تقمع المضروب: أي تذلله. قال ابن السكيت: أقمعت الرجل عنى إقماعا: إذا اطلع عليك
فرددته عنك (كلما أرادوا أن يخرجوا منها) أي من النار (أعيذوا فيها) أي في النار بالضرب بالمقامع، و (من
غم) بدل من الضمير في منها بإعادة الجار أو مفعول له: أي لأجل غم شديد من غموم النار (وذوقوا عذاب
الحريق) هو بتقدير القول: أي أعيدوا فيها، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق: أي العذاب المحرق، وأصل الحريق
الاسم من الاحتراق، تحرق الشئ بالنار واحترق حرقة واحتراقا، والذوق مماسة يحصل معها إدراك الطعم، وهو
هنا توسع، والمراد به إدراك الألم. قال الزجاج: وهذا لأحد الخصمين. وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون (إن
الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار) فبين سبحانه حال المؤمنين بعد بيانه لحال
الكافرين. ثم بين الله سبحانه بعض ما أعده لهم من النعيم بعد دخولهم الجنة فقال (يحلون فيها) قرأ الجمهور يحلون
بالتشديد والبناء للمفعول، وقرئ مخففا: أي يحليهم الله أو الملائكة بأمره. ومن في قوله (من أساور) للتبعيض:
أي يحلون بعض أساور، أو للبيان، أو زائدة، ومن في (من ذهب) للبيان، والأساور جمع أسورة والأسورة جمع
سوار، وفى السوار لغتان: كسر السين وضمها، وفيه لغة ثالثة، وهى أسوار. قرأ نافع وابن كثير وعاصم
وشيبة (ولؤلؤا) بالنصب عطف على محل أساور: أي ويحلون لؤلؤا، أو بفعل مقدر ينصبه، وهكذا قرأ
بالنصب يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر، وهذه القراءة هي الموافقة لرسم المصحف فإن هذا الحرف مكتوب
فيه بالألف، وقرأ الباقون بالجر عطفا على أساور: أي يحلون من أساور ومن لؤلؤ، واللؤلؤ ما يستخرج من البحر
من جوف الصدف. قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ
مصمت كما أن فيها أساور من ذهب (ولباسهم فيها حرير) أي جميع ما يلبسونه حرير كما تفيده هذه الإضافة،
444

ويجوز أن يراد أن هذا النوع من الملبوس الذي كان محرما عليهم في الدنيا حلال لهم في الآخرة، وأنه من جملة
ما يلبسونه فيها، ففيها ما تشتهيه الأنفس، وكل واحد منهم يعطى ما تشتهيه نفسه وينال ما يريده (وهدوا إلى الطيب
من القول) أي أرشدوا إليه، قيل هو لا إله إلا الله وقيل الحمد لله، وقيل القرآن، وقيل هو ما يأتيهم من الله
سبحانه من البشارات. وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله سبحانه - الحمد لله الذي
صدقنا وعده - الحمد لله الذي هدانا لهذا - الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن - ومعنى (وهدوا إلى صراط الحميد)
أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة، أو صراط الله الذي هو دينه القويم، وهو الإسلام.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (والصابئين) قال: هم
قوم يعبدون الملائكة، ويصلون القبلة، ويقرؤون الزبور (والمجوس) عبدة الشمس والقمر والنيران، (والذين
أشركوا) عبدة الأوثان (إن الله يفصل بينهم) قال: الأديان ستة، فخمسة للشيطان، ودين الله عز وجل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: فصل قضاءه بينهم فجعل الخمسة مشتركة وجعل هذه الأمة واحدة
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: الذين هادوا: اليهود، والصابئون: ليس لهم كتاب، والمجوس: أصحاب
الأصنام والمشركون: نصارى العرب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر أنه كان يقسم قسما أن هذه
الآية (هذان خصمان) الآية نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين بارزوا يوم بدر، وهم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن
الحارث، وعلي بن أبي طالب وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، قال علي: وأنا أول من يجثو في
الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة. وأخرجه البخاري وغيره من حديث علي. وأخرجه ابن مردويه عن
بن عباس بنحوه، وهكذا روى عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله (قطعت لهم ثياب من نار) قال: من نحاس، وليس من الآنية شئ إذا حمى
أشد حرا منه، وفى قوله (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) قال: النحاس يذاب على رؤوسهم، وقوله (يصهر
به ما في بطونهم) قال: تسيل أمعاؤهم (والجلود) قال: تتناثر جلودهم. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه
وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن
أبي هريرة أنه تلا هذه الآية (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول " إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من
قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (يصهر به ما في بطونهم)
قال: يمشون وأمعاءهم تتساقط وجلودهم. وفى قوله (ولهم مقامع من حديد) قال: يضربون بها، فيقع كل
عضو على حياله فيدعون بالويل والثبور. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: يسقون ماء إذا دخل في بطونهم
أذابها والجلود مع البطون. وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث
والنشور عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " لو أن مقمعا من حديد وضع في
الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض، ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان ".
وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه
عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضئ لهبها ولا جمرها، ثم قرأ (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا
فيها). وفى الصحيحين وغيرهما عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من لبس
الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " وفى الباب أحاديث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
445

ابن عباس في قوله (وهدوا إلى الطيب من القول) قال: ألهموا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال. هدوا إلى
الطيب من القول في الخصومة إذ قالوا: الله مولانا ولا مولى لكم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن إسماعيل
ابن أبي خالد في الآية قال: القرآن (وهدوا إلى صراط الحميد) قال: الإسلام. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: الإسلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لا إله إلا الله،
والله أكبر، والحمد لله الذي قال " إليه يصعد الكلم الطيب ".
سورة الحج الآية (25 - 29)
قوله (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) عطف المضارع على الماضي، لأن المراد بالمضارع ما مضى
من الصد، ومثل هذا قوله " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله "، أو المراد بالصد هاهنا الاستمرار لا مجرد
الاستقبال، فصح بذلك عطفه على الماضي، ويجوز أن تكون الواو في ويصدون واو الحال: أي كفروا
والحال أنهم يصدون. وقيل الواو زائدة والمضارع خبر إن والأولى أن يقدر خبر إن بعد قوله (والباد) وذلك
نحو خسروا أو هلكوا. وقال الزجاج: إن الخبر نذقه من عذاب أليم. ورد بأنه لو كان خبرا لأن لم يجزم
وأيضا لو كان خبرا لأن لبقي الشرط وهو " ومن يرد " بغير جواب فالأولى أنه محذوف كما ذكرنا والمراد بالصد المنع
وبسبيل الله دينه: أي يمنعون من أراد الدخول في دين الله والمسجد الحرام، معطوف على سبيل الله قيل المراد به
المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني وقيل الحرم كله، لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وأصحابه عنه يوم الحديبية، وقيل المراد به مكة بدليل قوله (الذي جعلناه للناس سواء العاكف
فيه والباد) أي جعلناه للناس على العموم يصلون فيه ويطوفون به مستويا فيه العاكف، وهو المقيم فيه الملازم له
والباد أي الواصل من البادية، والمراد به الطارئ عليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم
وانتصاب سواء على أنه المفعول الثاني لجعلناه، وهو بمعنى مستويا، والعاكف مرتفع به، وصف المسجد الحرام
بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادين عنه، ويحتمل أن يكون انتصاب " سواء " على الحال. وهذا على قراءة
النصب، وبها قرأ حفص عن عاصم، وهى قراءة الأعمش، وقرأ الجمهور برفع " سواء " على أنه مبتدأ وخبره
" العاكف " أو على أنه خبر مقدم، والمبتدأ " العاكف " أي العاكف فيه والبادي سواء، وقرئ بنصب " سواء "
وجر " العاكف " على أنه صفة للناس: أي جعلناه للناس العاكف والبادي سواء، وأثبت الياء في البادى ابن كثير
446

وصلا ووقفا، وحذفها أبو عمرو في الوقف، وحذفها نافع في الوصل والوقف. قال القرطبي: وأجمع الناس على
الاستواء في المسجد الحرام نفسه.
واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوى فيها المقيم والطارىء. وذهب عمر بن
الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أم أبى. وذهب
الجمهور إلى أن دور مكة ومنزلها ليست كالمسجد الحرام، ولأهلها مع الطارىء من النزول فيها. والحاصل أن
الكلام في هذا راجع إلى أصلين: الأصل الأول ما في هذه الآية هل المراد بالمسجد الحرام المسجد نفسه. أو جميع
الحرم، أو مكة على الخصوص. والثاني هل كان فتح مكة صلحا أو عنوة؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة هل
أقرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يد أهلها على الخصوص؟ أو جعلها لمن نزل بها على العموم؟ وقد أوضحنا
هذا في شرحنا على المنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة (ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) مفعول يرد
محذوف لقصد التعميم، والتقدير: ومن يرد فيه مرادا: أي مراد بإلحاد: أي بعدول عن القصد، والإلحاد في اللغة
الميل إلا أنه سبحانه بين هنا أنه الميل بظلم.
وقد اختلف في هذا الظلم ما ذا هو؟ فقيل هو الشرك، وقيل الشرك، وقيل الشرك والقتل، وقيد صيد حيواناته وقطع
أشجاره، وقيل هو الحلف فيه بالأيمان الفاجرة، وقيل المراد المعاصي فيه على العموم، وقيل المراد بهذه الآية أنه
يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان. وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد
وغيرهم حتى قالوا لو هم الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذبه الله. والحاصل أن هذه الآية دلت على أن من
كان في البيت الحرام مأخوذا بمجرد الإرادة للظلم، فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به
أنفسها إلا أن يقال إن الإرادة فيها زيادة على مجرد حديث النفس، وبالجملة فالبحث عن هذا وتقرير الحق فيه على
وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جدا، ومثل هذه الآية حديث " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل
والمقتول في النار، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتله صاحبه " فدخل
النار هنا بسبب مجرد حرصه على قتل صاحبه. وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة، والباء في قوله " بإلحاد " إن
كان مفعول يرد محذوفا كما ذكرنا فليست بزائدة، وقيل إنها زائدة هنا كقول الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج * نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي نرجو الفرج، ومثله:
ألم يأتيك والأنباء تنمى * بما لاقت لبون بنى زياد
أي ما لاقت، ومن القائلين بأنها زائدة الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحادا بظلم. وقال الكوفيون:
دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف، ويجوز أن يكون التقدير: ومن يرد الناس بإلحاد. وقيل
إن يرد مضمن معنى يهم، والمعنى: ومن يهم فيه بإلحاد. وأما الباء في قوله بظلم فهي للسببية، والمعنى: ومن
يرد فيه بإلحاد بسبب الظلم، ويجوز أن يكون بظلم بدلا من بإلحاد بإعادة الجار ويجوز أن يكونا حالين مترادفين
(وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي واذكر وقت ذلك، يقال بوأته منزلا وبوأت له كما يقال مكنتك ومكنت
لك. قال الزجاج: معناه جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم، ومعنى بوأنا: بينا له مكان البيت، ومثله قول الشاعر:
كم من أخ لي ماجد * بوأته بيدي لحدا
وقال الفراء: إن اللام زائدة ومكان ظرف: أي أنزلناه فيه (ألا تشرك بي شيئا) قيل إن هذه هي مفسرة لبوأنا
لتضمنه معنى تعبدنا، لأن التبوئة هي للعبادة. وقال أبو حاتم: هي مصدرية: أي لأن لا تشرك بي. وقيل هي
447

المخففة من الثقيلة، وقيل هي زائدة، وقيل معنى الآية: وأوحينا إليه أن لا تعبد غيري. قال المبرد: كأنه قيل له
وحدني في هذا البيت، لأن معنى لا تشرك بي وحدني (وطهر بيتي) من الشرك وعبادة الأوثان. وفى الآية طعن
على ما أشرك من قطان البيت: أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده وأنتم فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة:
الخطاب بقوله " ألا تشرك " لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ضعيف جدا. ومعنى (وطهر بيتي) تطهيره من الكفر
والأوثان والدماء وسائر النجاسات، وقيل عنى به التطهير عن الأوثان فقط، وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم
أصنام في محل البيت، وقد مر في سورة براءة ما فيه كفاية في هذا المعنى، والمراد بالقائمين هنا هم المصلون (و)
ذكر (الركع السجود) بعده لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة، وقرن الطواف بالصلاة لأنهما
لا يشرعان إلا في البيت، فالطواف عنده والصلاة إليه (وأذن في الناس بالحج) قرأ الحسن وابن محيصن " وآذن "
بتخفيف الذال والمد. وقرأ الباقون بتشديد الذال، والأذان الإعلام، وقد تقدم في براءة.
قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت جاءه جبريل فأمره أن يؤذن في الناس
بالحج، فقال: يا رب من يبلغ صوتي؟ فقال الله سبحانه: أذن وعلي البلاغ، فعلا المقام فأشرف به حتى صار
كأعلى الجبال، فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا وقال: يا أيها الناس كتب عليكم
الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك. وقيل إن
الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: أعلمهم يا محمد بوجوب الحج عليهم، وعلى هذا فالخطاب
لإبراهيم انتهى عند قوله (والركع السجود) وقيل إن خطابه انقضى عند قوله (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت)
وأن قوله (أن إلا تشرك بي) وما بعده خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقرأ الجمهور " بالحج " بفتح
الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها (يأتوك رجالا) هذا جواب الأمر، وعده الله إجابة الناس له إلى
حج البيت ما بين راجل وراكب، فمعنى رجالا مشاة جمع راجل، وقيل جمع رجل. وقرأ ابن أبي إسحاق " رجالا "
بضم الراء وتخفيف الجميم، وقرأ مجاهد " رجالي " على وزن فعالى مثل كسالى، وقدم الرجال على الركبان في الذكر
لزيادة تعبهم في المشي، وقال: يأتوك وإن كانوا يأتون البيت، لأن من أتى الكعبة حاجا فقد أتى إبراهيم، لأنه
أجاب نداءه (وعلى كل ضامر) عطف على رجالا: أي وركبانا على كل بعير، والضامر البعير المهزول الذي
أتعبه السفر، يقال ضمر يضمر ضمورا، ووصف الضامر بقوله " يأتين " باعتبار المعنى، لأن ضامر في معنى
ضوامر، وقرأ أصحاب ابن مسعود وابن أبي عبلة والضحاك " يأتون " على أنه صفة لرجالا. والفج الطريق الواسع
الجمع فجاج، والعميق البعيد، واللام في (ليشهدوا منافع لهم) متعلقة بقوله يأتوك، وقيل بقوله وأذن، والشهود
الحضور، والمنافع هي تعم منافع الدنيا والآخرة. وقيل المراد بها المناسك، وقيل المغفرة، وقيل التجارة كما في قوله
- ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم - (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) أي يذكروا عند ذبح الهدايا
والضحايا اسم الله، وقيل إن هذا الذكر كناية عن الذبح لأنه لا ينفك عنه. والأيام المعلومات هي أيام النحر كما
يفيد ذلك قوله (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) وقيل عشر ذي الحجة. وقد تقدم الكلام في الأيام المعلومات
والمعدودات في البقرة فلا نعيده، والكلام في وقت ذبح الأضحية معروف في كتب الفقه وشروح الحديث،
ومعنى: على ما رزقهم: على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وهى الإبل والبقر والغنم، وبهيمة الأنعام هي الأنعام
فالإضافة في هذا كالإضافة في قولهم: مسجد الجامع وصلاة الأولى (فكلوا منها) الأمر هنا للندب عند الجمهور،
وذهبت طائفة إلى أن الأمر للوجوب، وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب (وأطعموا البائس الفقير) البائس
448

ذو البؤس وهو شدة الفقر فذكر الفقير بعده لمزيد الإيضاح، والأمر هنا للوجوب، وقيل للندب (ثم ليقضوا
تفثهم) المراد بالقضاء هنا هو التأدية: أي ليؤدوا إزالة وسخهم، لأن التفث هو الوسخ والقذارة من طول الشعر
والأظفار، وقد أجمع المفسرون كما حكاه النيسابوري على هذا. قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث.
وقال أبو عبيدة: لم يأت في الشعر ما يحتج به في معنى التفث. وقال المبرد: أصل التفث في اللغة كل قاذورة تلحق
الإنسان. وقيل قضاؤه ادهانه لأن الحاج مغبر شعث لم يدهن ولم يستحد، فإذا قضى نسكه وخرج من إحرامه
حلق شعره ولبس ثيابه، فهذا هو قضاء التفث. قال الزجاج: كأنه خروج من الإحرام إلى الإحلال (وليوفوا
نذورهم) أي ما ينذرون به من البر في حجهم، والأمر للوجوب، وقيل المراد بالنذور هنا أعمال الحج (وليطوفوا
بالبيت العتيق) هذا الطواف هو طواف الإفاضة. قال ابن جرير: لا خلاف في ذلك بين المتأولين، والعتيق
القديم كما يفيده قوله سبحانه - إن أول بيت وضع للناس - الآية، وقد سمى العتيق لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه
جبار، وقيل لأن الله يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب، وقيل لأنه أعتق من غرق الطوفان وقيل العتيق الكريم.
وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله (والمسجد الحرام) قال: الحرم كله، وهو المسجد الحرام
(سواء العاكف فيه والباد) قال: خلق الله فيه سواء. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هم في منازل مكة سواء، فينبغي لأهل مكة أن يوسعوا لهم حتى يقضوا
مناسكهم، وقال البادى وأهل مكة سواء، يعنى في المنزل والحرم. وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال:
من أخذ من أجور بيوت مكة إنما يأكل في بطونه نارا. وأخرج ابن سعد عن عمر بن الخطاب أن رجلا قال له
عند المروة: يا أمير المؤمنين أقطعني مكانا لي ولعقبي، فأعرض عنه عمر وقال: هو حرم الله سواء العاكف فيه
والباد. وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: كان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبوابا حتى ينزل الحاج في
عرصات الدور. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قول الله " (سواء العاكف فيه والباد) قال: سواء المقيم والذي يدخل ".
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " مكة مباحة لا تؤجر بيوتها ولا تباع رباعها "
وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجة عن علقمة بن نضلة قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر
وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن
أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حفرة عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة فذكره، وأخرج
الدارقطني عن ابن عمر مرفوعا " من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا " وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن
راهويه وأحمد وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه،
وابن مردويه عن ابن مسعود رفعه في قوله (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) قال: لو أن رجلا هم فيه بإلحاد وهو بعدن
أبين لأذاقه الله عذابا أليما. قال ابن كثير: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه، ولهذا
صمم شعبة على وقفه، وأخرج سعيد بن منصور والطبراني عن ابن مسعود في الآية قال: من هم بخطيئة فلم يعملها
في سوى البيت لم تكتب عليه حتى يعملها، ومن هم بخطيئة في البيت لم يمته الله من الدنيا حتى يذيقه من عذاب أليم
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس: أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم بعثه مع رجلين، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن
أنيس، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة، فنزلت فيه (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) يعنى من لجأ
449

إلى الحرم بإلحاد، يعنى بميل عن الإسلام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قول
(ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) قال: بشرك. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن
مردويه عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ". وأخرج
سعيد بن منصور والبخاري في تاريخه وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال: احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: بيع الطعام بمكة إلحاد. وأخرج البيهقي في الشعب عنه قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " احتكار الطعام بمكة إلحاد ". وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه
عن علي قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر، فلما قدم مكة رأى على رابية في موضع
البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم ابن علي ظلي أو على قدري ولا تزد ولا تنقص، فلما بنى
خرج وخلف إسماعيل وهاجر، وذلك حين يقول الله (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) الآية. وأخرج ابن
أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء (والقائمين) قال: المصلين عنده. وأخرج عبد الرزاق
وابن جرير عن قتادة معناه. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: رب قد فرغت، فقال
(أذن في الناس بالحج) قال رب وما يبلغ صوتي؟ قال أذن وعلي البلاغ، قال: رب كيف أقول؟ قال:
قل: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه من في السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيئون من
أقصى الأرض يلبون. وفى الباب آثار عن جماعة من الصحابة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
ابن عباس (ليشهدوا منافع لهم) قال: أسواقا كانت لهم، ما ذكر الله منافع إلا الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم
عنه قال: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة، فأما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فمما يصيبون من
لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات. وأخرج أبو بكر المروزي في كتاب العيدين عنه أيضا قال:
الأيام المعلومات: أيام العشر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الأيام المعلومات:
يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال: أيام التشريق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر
عنه أيضا في الأيام المعلومات قال: قبل يوم التروية بيوم، ويوم التروية ويوم عرفة. وأخرج ابن جرير عنه
أيضا قال: البائس الزمن. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال: التفث
المناسك كلها. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: التفث حلق الرأس والأخذ من العارضين ونتف الإبط وحلق العانة
والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمى الجمار وقص الأظفار وقص الشارب والذبح. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر عنه (وليطوفوا بالبيت العتيق) هو طواف الزيارة يوم النحر، وورد في وجه تسمية
البيت بالعتيق آثار عن جماعة من الصحابة، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا، وورد في فضل الطواف أحاديث ليس هذا
موضع ذكرها.
سورة الحج الآية (30)
450

سورة الحج الآية (31 - 35).
محل (ذلك) الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر ذلك، أو مبتدأ خبره محذوف أو في محل نصب
بفعل محذوف: أي افعلوا ذلك، والمشار إليه هو ما سبق من أعمال الحج، وهذا وأمثاله يطلق للفصل بين الكلامين
أو بين طرفي كلام واحد، والحرمات جمع حرمة. قال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه،
وهى في هذه الآية ما نهى عنها ومنع من الوقوع فيها. والظاهر من الآية عموم كل حرمة في الحج وغيره كما يفيده
اللفظ وإن كان السبب خاصا، وتعظيمها ترك ملابستها (فهو خير له) أي فالتعظيم خير له (عند ربه) يعنى في
الآخرة من التهاون بشئ منها. وقيل إن صيغة التفضيل هنا لا يراد بها معناها الحقيقي، بل المراد أن ذلك التعظيم خير
ينتفع به، فهي عدة بخير (وأحلت لكم الأنعام) وهى الإبل والبقر والغنم (إلا ما يتلى عليكم) أي في الكتاب
العزيز من المحرمات، وهى الميتة وما ذكر معها في سورة المائدة. وقيل في قوله " إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد
وأنتم حرم " (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) الرجس: القذر، والوثن: التمثال، وأصله من وثن الشئ: أي
أقام في مقامه، وسمى الصليب وثنا لأنه ينصب ويركز في مقامه، فلا يبرح عنه والمراد اجتناب عبادة الأوثان،
وسماها رجسا لأنها سبب الرجس وهو العذاب. وقيل جعلها سبحانه رجسا حكما، والرجس النجس، وليست
النجاسة وصفا ذاتيا لها ولكنها وصف شرعي، فلا تزول إلا بالإيمان كما أنها لا تزول النجاسة الحسية إلا بالماء.
قال الزجاج: من هنا لتخليص جنس من أجناس: أي فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن (واجتنبوا قول الزور)
الذي هو الباطل، وسمى زورا لأنه مائل عن الحق، ومنه قوله تعالى " تزاور عن كهفهم " وقولهم مدينة زوراء:
أي مائلة، والمراد هنا قول الزور على العموم، وأعظمه الشرك بالله بأي لفظ كان. وقال الزجاج: المراد بقول
الزور ها هنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها، وقولهم " هذا حلال وهذا حرام "، وقيل المراد به شهادة
لزور، وانتصاب (حنفاء) على الحال: أي مستقيمين على الحق، أو مائلين إلى الحق. ولفظ حنفاء من الأضداد
يقع على الاستقامة، ويقع على الميل، وقيل معناه حجاجا، ولا وجه لهذا (غير مشركين به) هو حال كالأول:
أي غير مشركين به شيئا من الأشياء كما يفيده الحذف من العموم، وجملة (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء)
مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الأمر بالاجتناب، ومعنى خر من السماء: سقط إلى الأرض: أي انحط من رفيع
الإيمان إلى حضيض الكفر (فتخطفه الطير)، يقال خطفه يخطفه إذا سلبه، ومنه قوله - يخطف أبصارهم - أي
تخطف لحمه وتقطعه بمخالبها. قرأ أبو جعفر ونافع بتشديد الطاء وفتح الخاء، وقرئ بكسر الخاء والطاء وبكسر
451

التاء مع كسرهما (أو تهوى به الريح) أي تقذفه وترمى به (في مكان سحيق) أي بعيد، يقال سحق يسحق سحقا فهو
سحيق إذا بعد. قال الزجاج: أعلم الله أن بعد من أشرك به من الحق كبعد ما خر من السماء، فتذهب به الطير
أو هوت به الريح في مكان بعيد (ذلك ومن يعظم شعائر الله) الكلام في هذه الإشارة قد تقدم قريبا والشعائر جمع
الشعيرة، وهى كل شئ فيه لله تعالى شعار، ومنه شعار القوم في الحرب، وهو علامتهم التي يتعارفون بها، ومنه
إشعار البدن، وهو الطعن في جانبها الأيمن، فشعائر الله أعلام دينه، وتدخل الهدايا في الحج دخولا أوليا،
والضمير في قوله (فإنها من تقوى القلوب) راجع إلى الشعائر بتقدير مضاف محذوف: أي فإن تعظيمها من
تقوى القلوب: أي من أفعال القلوب التي هي من التقوى، فإن هذا التعظيم ناشئ من التقوى (لكم فيها منافع)
أي في الشعائر على العموم، أو على الخصوص، وهى البدن كما يدل عليه السياق. ومن منافعها الركوب والدر
والنسل والصوف وغير ذلك (إلى أجل مسمى) وهو وقت نحرها (ثم محلها إلى البيت العتيق) أي حيث يحل نحرها،
والمعنى: أنها تنتهي إلى البيت وما يليه من الحرم، فمنافعهم الدنيوية المستفادة منها مستمرة إلى وقت نحرها، ثم تكون
منافعها بعد ذلك دينية. وقيل إن محلها هاهنا مأخوذ من إحلال الحرام، والمعنى: أن شعائر الحج كلها من الوقوف
بعرفة ورمى الجمار والسعي تنتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت، فالبيت على هذا مراد بنفسه (ولكل أمة جعلنا
منسكا) المنسك هاهنا المصدر من نسك ينسك إذا ذبح القربان، والذبيحة نسيكة، وجمعها نسك. وقال الأزهري:
إن المراد بالمنسك في الآية موضع النحر، ويقال منسك بكسر السين وفتحها لغتان قرأ بالكسر الكوفيون إلا عاصما
وقرأ الباقون بالفتح. وقرأ الفراء: المنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد في خير أو شر، وقال ابن عرفة
(ولكل أمة جعلنا منسكا) أي مذهبا من طاعة الله. وروى عن الفراء أن المنسك العيد، وقيل الحج، والأول أولى
لقوله (ليذكروا اسم الله) إلى آخره، والأمة: الجماعة المجتمعة على مذهب واحد، والمعنى: وجعلنا لكل أهل
دين من الأديان ذبحا يذبحونه ودما يريقونه، أو متعبدا أو طاعة أو عيدا أو حجا يحجونه، ليذكروا اسم الله وحده
ويجعلوا نسكهم خاصا به (على ما رزقناهم من بهيمة الأنعام) أي على ذبح ما رزقهم منها، وفيه إشارة إلى أن القربان
لا يكون إلا من الأنعام دون غيرها، وفى الآية دليل على أن المقصود من الذبح المذكور هو ذكر اسم الله عليه. ثم
أخبرهم سبحانه بتفرده بالإلهية وأنه لا شريك له، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ثم أمرهم بالإسلام له،
والانقياد لطاعته وعبادته، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر، والفاء هنا كالفاء التي قبلها، ثم أمر رسوله
صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبشر (المخبتين) من عباده: أي المتواضعين الخاشعين المخلصين، وهو مأخوذ من
الخبيت، وهو المنخفض من الأرض، والمعنى: بشرهم يا محمد بما أعد الله لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه.
وقيل إن المخبتين هم الذين لا يظلمون غيرهم وإذا ظلمهم غيرهم لم ينتصروا، ثم وصف سبحانه هؤلاء المخبتين بقوله
(الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) أي خافت وحذرت مخالفته، وحصول الوجل منهم عند الذكر له سبحانه
دليل على كمال يقينهم وقوة إيمانهم، ووصفهم بالصبر (على ما أصابهم) من البلايا والمحن في طاعة الله ثم
وصفهم بإقامة (الصلاة) أي الإتيان بها في أوقاتها على وجه الكمال. قرأ الجمهور: والمقيمي الصلاة بالجر على
ما هو الظاهر، وقرأ أبو عمرو بالنصب على توهم بقاء النون، وأنشد سيبويه على ذلك قول الشاعر:
* الحافظ عورة العشيرة * البيت بنصب عورة. وقيل لم يقرأ بهذه القراءة أبو عمرو، وقرأ ابن محيصن
" والمقيمين " بإثبات النون على الأصل، ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود، ثم وصفهم سبحانه بقوله (ومما
452

رزقناهم ينفقون) أي يتصدقون به وينفقونه في وجوه البر: ويضعونه في مواضع الخير ومثل هذه الآية قوله
سبحانه - إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون -
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (حرمات الله)
قال: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان) يقول: اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان (واجتنبوا قول الزور) يعني
الافتراء على الله والتكذيب به. وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أيمن بن حريم قال:
قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا فقال " يا أيها الناس عدلت شهادة الزور شركا بالله ثلاثا، ثم قرأ
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) " قال أحمد: غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد
وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث، ولا نعرف لأيمن بن حريم سماعا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد
أخرجه أحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه
والبيهقي في الشعب من حديث حريم. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا، قلنا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق
الوالدين، وكان متكئا، فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته
سكت ". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (حنفاء لله غير مشركين به) قال: حجاجا لله
غير مشركين به، وذلك أن الجاهلية كانوا يحجون مشركين، فلما أظهر الله الإسلام، قال الله للمسلمين: حجوا
الآن غير مشركين بالله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله (ومن يعظم شعائر الله) قال: البدن. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن
عباس (ومن يعظم شعائر الله) قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام، وفى قوله (لكم فيها منافع إلى أجل
مسمى) قال: إلى أن تسمى بدنا. وأخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه، وفيه قال: ولكم فيها منافع إلى أجل مسمى،
في ظهورها وألبانها وأوبارها وأشعارها وأصوافها إلى أن تسمى هديا، فإذا سميت هديا ذهبت المنافع (ثم محلها)
يقول: حين تسمى (إلى البيت العتيق). وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: إذا دخلت الحرم فقد
بلغت محلها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ولكل أمة جعلنا منسكا) قال: عيدا. وأخرج ابن
أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: إهراق الدماء. وأخرج ابن
أبي حاتم عن عكرمة قال: ذبحا. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال: مكة لم يجعل الله لأمة قط
منسكا غيرها. وقد وردت أحاديث في الأضحية ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (وبشر المخبتين) قال: المطمئنين. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة
وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الغضب وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن
أوس قال: المخبتون في الآية الذين لا يظلمون الناس، وإذا ظلموا لم ينتصروا.
453

سورة الحج الآية (36 - 37)
قرأ ابن أبي إسحاق (والبدن) بضم الباء والدال، وقرأ الباقون بإسكان الدال وهما لغتان، وهذا الاسم خاص
بالإبل، وسميت بدنة لأنه تبدن، والبدانة: السمن. وقال أبو حنيفة ومالك: إنه يطلق على غير الإبل، والأول
أولى لما سيأتي من الأوصاف التي هي ظاهرة في الإبل، ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الاسم بالإبل.
وقال ابن كثير في تفسيره: واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين: أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا
كما صح في الحديث (جعلناها لكم) وهى ما تقدم بيانه قريبا (لكم فيها خير) أي منافع دينية ودنيوية كما تقدم
(فاذكروا اسم الله عليها) أي على نحرها ومعنى (صواف) أنها قائمة قد صفت قوائمها، لأنها تنحر قائمة معقولة،
وأصل هذا الوصف في الخيل يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة. وقرأ الحسن
والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري " صوافي " أي خوالص لله لا تشركون به في التسمية على
نحرها أحدا، وواحد صواف صافة، وهى قراءة الجمهور: وواحد صوافي صافية، وقرأ ابن مسعود وابن عمر
وابن عباس وأبو جعفر ومحمد بن علي " صوافن " بالنون جمع صافنة، والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها
بالعقل لئلا تضطرب، ومنه قوله تعالى " الصافنات الجياد "، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه * مقلدة أعنتها صفونا
وقال الآخر:
ألف الصفون فما يزال كأنه * مما يقوم على الثلاث كسير
(فإذا وجبت جنوبها) الوجوب السقوط: أي فإذا سقطت بعد نحرها، وذلك عند خروج روحها (فكلوا
منها) ذهب الجمهور أن هذا الأمر للندب (وأطعموا القانع والمعتر) هذا الأمر قيل هو للندب كالأول، وبه قال
مجاهد والنخعي وابن جرير وابن سريج. وقال الشافعي وجماعة: هو للوجوب.
واختلف في القانع من هو؟ فقيل هو السائل، يقال قنع الرجل بفتح النون يقنع بكسرها إذا سأل، ومنه
قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني * مفاقره أعف من القنوع
أي السؤال، وقيل هو المتعفف عن السؤال المستغنى ببلغة، ذكر معناه الخليل. قال ابن السكيت: من العرب من
ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهى الرضا والتعفف وترك المسألة. وبالأول قال زيد بن أسلم وابنه وسعيد بن جبير
والحسن، وروى عن ابن عباس. وبالثاني قال عكرمة وقتادة. وأما المعتر، فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد
وإبراهيم والكلبي والحسن أنه الذي يتعرض من غير سؤال. وقيل هو الذي يعتريك ويسألك. وقال مالك: أحسن
ما سمعت أن القانع: الفقير، والمعتر: الزائر. وروى عن ابن عباس: أن كلاهما الذي لا يسأل، ولكن القانع الذي
يرضى بما عنده ولا يسأل، والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك. وقرأ الحسن والمعترى ومعناه كمعنى المعتر، ومنه
قول زهير:
على مكثريهم رزق من يعتريهم * وعند المقلين السماحة والبذل
454

يقال اعتره واعتراه وعره وعراه: إذا تعرض لما عنده أو طلبه، ذكره النحاس (كذلك سخرناها لكم) أي مثل ذلك
التسخير البديع سخرناها لكم، فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها حتى وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة
للحمل عليها والركوب على ظهرها والحلب لها ونحو ذلك (لعلكم تشكرون) هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم (لن
ينال الله لحومها ولا دماؤها) أي لن يصعد إليه ولا يبلغ رضاه ولا يقع موقع القبول منه لحوم هذه الإبل التي
تتصدقون بها ولا دماؤها التي تنصب عند نحرها من حيث إنها لحوم ودماء (ولكن يناله) أي يبلغ إليه تقوى
قلوبكم، ويصل إليه إخلاصكم له وإرادتكم بذلك وجهه، فإن ذلك هو الذي يقبله الله ويجازي عليه. وقيل المراد
أصحاب اللحوم والدماء: أي لن يرضى المضحون والمتقربون إلى ربهم باللحوم والدماء ولكن بالتقوى. قال
الزجاج: أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به، وحقيقة معنى هذا الكلام تعود إلى القبول، وذلك
أن ما يقبله الإنسان يقال قد ناله ووصل إليه، فخاطب الله الخلق كعادتهم في مخاطبتهم (كذلك سخرها لكم) كرر
هذا للتذكير، ومعنى (لتكبروا الله على ما هداكم) هو قول الناحر: الله أكبر عند النحر، فذكر في الآية الأولى
الأمر بذكر اسم الله عليها، وذكر هنا التكبير للدلالة على مشروعية الجمع بين التسمية والتكبير. وقيل المراد
بالتكبير وصفه سبحانه بما يدل على الكبرياء، ومعنى (على ما هداكم) على ما أرشدكم إليه من علمكم بكيفية
التقرب بها، وما مصدرية، أو موصولة (وبشر المحسنين) قيل المراد بهم المخلصون، وقيل الموحدون. والظاهر
أن المراد بهم كل من يصدر منه من الخير ما يصح به إطلاق اسم المحسن عليه.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبد الله بن عمر قال: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه قال: البدن ذات الجوف. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: ليس
البدن إلا من الإبل، وأخرجوا عن الحكم نحوه، وأخرجوا عن عطاء نحو ما قال ابن عمر. وأخرج ابن أبي شيبة
عن سعيد بن المسيب نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه أيضا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن
يعقوب الرباحي عن أبيه قال: أوصى إلى رجل، وأوصى ببدنة، فأتيت ابن عباس فقلت له: إن رجلا
أوصى إلى وأوصى ببدنة، فهل تجزئ عنى بقرة؟ قال نعم، ثم قال: ممن صاحبكم؟ فقلت من بنى رباح،
فقال: ومتى اقتنى بنو رباح البقر إلا الإبل؟ وهم صاحبكم، إنما البقر للأسد وعبد القيس. وأخرج عبد بن حميد
وابن أبي الدنيا في الأضاحي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي ظبيان قال:
سألت ابن عباس عن قوله (فاذكروا اسم الله عليه صواف) قال: إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها على ثلاث
قوائم معقولة، ثم قل بسم الله والله أكبر. وأخرج الفريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن
حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله (صواف) قال: قياما معقولة، وفى الصحيحين
وغيرهما عنه أنه رأى رجلا قد أناخ بدنته وهو ينحرها، فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وآله
وسلم. وأخرج أبو عبيدة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ميمون بن مهران قال: في قراءة ابن مسعود " صوافن " يعنى
قياما. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (فإذا وجبت) قال: سقطت على جنبها. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه قال نحرت. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال (القانع) المتعفف (والمعتر) السائل. وأخرج ابن
أبي شيبة عن ابن عمر قال القانع الذي يقنع بما آتيته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: القانع الذي يقنع بما
أوتى، والمعتر الذي يعترض. وأخرج عنه أيضا قال: القانع الذي يجلس في بيته. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي
في سننه عنه أنه سئل عن هذه الآية، فقال: أما القانع فالقانع بما أرسلت إليه في بيته، والمعتر الذي يعتريك:
455

وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال: القانع الذي يسأل، والمعتر الذي يتعرض، ولا يسأل. وقد روى عن التابعين
في تفسير هذه الآية أقوال مختلفة، والمرجع المعنى اللغوي لا سيما مع الاختلاف بين الصحابة ومن بعدهم في تفسير
ذلك. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء
فينضحون بها نحو الكعبة، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها). وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن جريج نحوه.
سورة الحج الآية (38 - 41)
قرأ أبو عمرو وابن كثير " يدفع " وقرأ الباقون يدافع وصيغة المفاعلة هنا مجردة عن معناها الأصلي، وهو وقوع
الفعل من الجانبين كما تدل عليه القراءة الأخرى. وقد ترد هذه الصيغة ولا يراد بها معناها الأصلي كثيرا مثل عاقبت
اللص ونحو ذلك، وقد قدمنا تحقيقه. وقيل إن إيراد هذه الصيغة هنا للمبالغة وقيل للدلالة على تكرر الواقع.
والمعنى: يدافع عن المؤمنين غوائل المشركين وقيل يعلى حجتهم وقيل يوفقهم والجملة مستأنفة لبيان هذه المزية
الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين، وأنه المتولي للمدافعة عنهم، وجملة (إن الله لا يحب كل خوان كفور) مقررة
لمضمون الجملة الأولى، فإن المدافعة من الله لهم عن عباده المؤمنين مشعرة أتم إشعار بأنهم مبغضون إلى الله غير
محبوبين له. قال الزجاج: من ذكر غير اسم الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوان كفور، وإيراد صيغتي
المبالغة للدلالة على أنهم كذلك في الواقع لا لإخراج من خان دون خيانتهم، أو كفر دون كفرهم (أذن للذين
يقاتلون بأنهم ظلموا) قرئ " أذن " مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول وكذلك يقاتلون، قرئ مبنيا للفاعل ومبنيا
للمفعول، وعلى كلا القراءتين فالإذن من الله سبحانه لعباده المؤمنين بأنهم إذا صلحوا للقتال، أو قاتلهم المشركون
قاتلوهم. قال المفسرون: كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بألسنتهم وأيديهم،
فيشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول لهم: " اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر " فأنزل
الله سبحانه هذه الآية بالمدينة، وهى أول آية نزلت في القتال. وهذه الآية مقررة أيضا لمضمون قوله (إن الله
يدافع) فإن إباحة القتال لهم هي من جملة دفع الله عنهم، والباء في " بأنهم ظلموا " للسببية: أي بسبب أنهم ظلموا بما
كان يقع عليهم من المشركين من سب وضرب وطرد، ثم وعدهم سبحانه النصر على المشركين. فقال (وإن الله
على نصرهم لقدير) وفيه تأكيد لما مر من المدافعة أيضا. ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله (الذين أخرجوا من
ديارهم بغير حق) ويجوز أن يكون بدلا من الذين يقاتلون، أو في محل نصب على المدح، أو محل رفع بإضمار
456

مبتدأ، والمراد بالديار مكة (إلا أن يقولوا ربنا الله) قال سيبويه: هو استثناء منقطع: أي لكن لقولهم، ربنا الله:
أي أخرجوا بغير حق يوجب إخراجهم لكن لقولهم ربنا الله. وقال الفراء والزجاج: هو استثناء متصل، والتقدير
الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق إلا بأن يقولوا ربنا لله، فيكون مثل قوله سبحانه - وما تنقمون منا الا أن آمنا -
وقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
(ولولا دفاع الله الناس) قرأ نافع " ولولا دفاع " وقرأ الباقون " ولولا دفع " والمعنى: لولا ما شرعه الله للأنبياء
والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك، وذهبت مواضع العبادة من الأرض، ومعنى (لهدمت) لخربت
باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل، فالصوامع: هي صوامع الرهبان، وقيل صوامع الصابئين، والبيع: جمع
بيعة، وهى كنيسة النصارى، والصلوات هي كنائس اليهود، واسمها بالعبرانية صلوثا بالمثلثة فعربت، والمساجد
هي مساجد المسلمين. وقيل المعنى: لولا هذا الدفع لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفى زمن عيسى الصوامع
والبيع، وفى زمن محمد المساجد. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وقيل المعنى: ولولا دفع
الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقيل لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار، وقيل غير ذلك، والصوامع: جمع
صومعة، وهى بناء مرتفع، يقال صمع الثريدة: إذا رفع رأسها، ورجل أصمع القلب: أي حاد الفطنة،
والأصمع من الرجال: الحديد القول، وقيل الصغير الأذن. ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام.
وقد ذكر ابن عطية في صلوات تسع قراءات، ووجه تقديم مواضع عبادات أهل الملل على موضع عبادة المسلمين
كونها أقدم بناء وأسبق وجودا. والظاهر من الهدم المذكور معناه الحقيقي كما ذكره الزجاج وغيره، وقيل المراد به
المعنى المجازى، وهو تعطلها من العبادة، وقرئ " لهدمت " بالتشديد، وانتصاب كثيرا في قوله (يذكر فيها
اسم الله كثيرا) على أنه صفة لمصدر محذوف: أي ذكرا كثيرا، أو وقتا كثيرا، والجملة صفة للمساجد، وقيل
لجميع المذكورات (ولينصرن الله من ينصره) اللام هي جواب لقسم محذوف: أي والله لينصر الله من ينصره،
والمراد بمن ينصر الله من ينصر دينه وأولياءه، والقوي القادر على الشئ، والعزيز الجليل الشريف قاله الزجاج،
وقيل الممتنع الذي لا يرام ولا يدافع ولا يمانع، والموصول في قوله (الذين إن مكناهم في الأرض) في موضع
نصب صفة لمن في قوله من ينصره قاله الزجاج: وقال غيره هو في موضع جر صفة لقوله للذين يقاتلون. وقيل
المراد بهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان، وقيل أهل الصلوات الخمس، وقيل ولاة العدل، وقيل
غير ذلك، وفيه إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من مكنه الله في الأرض وأقدره على القيام بذلك.
وقد تقدم تفسير الآية، ومعنى (ولله عاقبة الأمور) أن مرجعها إلى حكمه وتدبيره دون غيره.
وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه النسائي وابن ماجة والبزار وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال:
لما أخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم - إنا لله وإنا إليه راجعون - ليهلكن
القوم، فنزلت (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) الآية. قال ابن عباس: وهى أول آية نزلت في القتال. قال
الترمذي: حسن، وقد رواه غير واحد عن الثوري، وليس فيه ابن عباس انتهى. وقد روى نحو هذا عن جماعة
من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال (الذين أخرجوا من ديارهم) أي من مكة إلى
المدينة بغير حق، يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه
457

عن عثمان بن عفان قال: فينا نزلت هذه الآية (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) والآية بعدها أخرجنا من
ديارنا بغير حق، ثم مكناهم في الأرض أقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر فهي لي
ولأصحابي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: إنما أنزلت
هذه الآية في أصحاب محمد (ولولا دفع الله الناس) الآية: قال لولا دفع الله بأصحاب محمد من التابعين لهدمت
صوامع. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (لهدمت صوامع) الآية قال: الصوامع التي
تكون فيها الرهبان، والبيع مساجد اليهود وصلوات كنائس النصارى، والمساجد مساجد المسلمين. وأخرجا عنه
قال: البيع بيع النصارى، وصلوات كنائس اليهود. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد
ابن أسلم في قوله (الذين إن مكناهم في الأرض) قال: أرض المدينة (أقاموا الصلاة) قال: المكتوبة (وآتوا
الزكاة) قال: المفروضة (وأمروا بالمعروف) قال بلا إله إلا الله (ونهوا عن المنكر) قال: عن الشرك بالله (ولله
عاقبة الأمور) قال: وعند الله ثواب ما صنعوا.
سورة الحج الآية (42 - 51)
قوله (وإن يكذبوك) الخ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعزية له متضمنة للوعد له بإهلاك
المكذبين له كما أهلك سبحانه المكذبين لمن كان قبله. وفيه إرشاد له صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصبر على قومه
والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك، وقد تقدم ذكر هذه الأمم وما كان منهم ومن أنبيائهم وكيف كانت عاقبتهم
وإنما غير النظم في قوله (وكذب موسى) فجاء بالفعل مبنيا للمفعول، لأن قوم موسى لم يكذبوه وإنما كذبه
غيرهم من القبط (فأمليت للكافرين) أي أخرت عنهم العقوبة وأمهلتهم والفاء لترتيب الإمهال على التكذيب (ثم
أخذتهم) أي أخذت كل فريق من المكذبين بالعذاب بعد انقضاء مدة الإمهال (فكيف كان نكير) هذا
الاستفهام للتقرير: أي فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتغيير ما كانوا فيه من النعم وإهلاكهم، والنكير اسم
458

من المنكر. قال الزجاج: أي ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار. قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر. ثم
ذكر سبحانه كيف عذب أهل القرى المكذبة فقال (وكأين من قرية أهلكناها) أي أهلكنا أهلها، وقد تقدم
الكلام على هذا التركيب في آل عمران، وقرئ أهلكتها، وجملة (وهى ظالمة) حالية، وجملة (فهي خاوية)
عطف على أهلكناها، لا على ظالمة لأنها حالية، والعذاب ليس في حال الظلم، والمراد بنسبة الظلم إليها نسبته إلى
أهلها: والخواء: بمعنى السقوط: أي فهي ساقطة (على عروشها) أي على سقوفها، وذلك بسبب تعطل سكانها
حتى تهدمت فسقطت حيطانها فوق سقوفها، وقد تقدم تفسير هذه الآية في البقرة (وبئر معطلة) معطوف على
قرية، والمعنى: وكم من أهل قرية، ومن أهل بئر معطلة هكذا قال الزجاج. وقال الفراء: إنه معطوف على
عروشها، والمراد بالمعطلة المتروكة. وقيل الخالية عن أهلها لهلاكهم، وقيل الغائرة، وقيل معطلة من الدلاء
والأرشية، والقصر المشيد هو المرفوع البنيان كذا قال قتادة والضحاك، ويدل عليه قول عدي بن زيد:
شاده مرمرا وجلله كلسا * فللطير في ذراه وكور
شاده: أي رفعه. وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: المراد بالمشيد المجصص، مأخوذ من الشيد،
وهو الجص، ومنه قول الراجز:
لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا * كحية الماء بين الطين والشيد
وقيل المشيد الحصين قاله الكلبي. قال الجوهري: المشيد المعمول بالشيد، والشيد بالكسر كل شئ
طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر، تقول شاده يشيده جصصه، والمشيد بالتشديد المطول
قال الكسائي: للواحد من قوله تعالى - في بروج مشيدة -. والمعنى المعني: وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر
المعطلة؟ ومعنى التعطيل في القصر هو أنه معطل من أهله، أو من آلاته، أو نحو ذلك. قال القرطبي في تفسيره:
ويقال إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه
لا تقر الريح شيئا سقط فيها إلا أخرجته، وأصحاب القصر ملوك الحضر، وأصحاب البئر ملوك البدو. حكى الثعلبي
وغيره: أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال لها حضوراء، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من
العذاب ومعهم صالح فمات صالح، فسمى المكان حضرموت، لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا
على هذه البئر وأمروا عليهم رجلا، ثم ذكر قصة طويلة، وقال بعد ذلك: وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن
عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا، وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد
الأنس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال، لما يسمع فيه من عزيف الجن
والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك، وانتظام الأهل كالسلك فبادوا وما عادوا، فذكرهم الله
سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة. قال: وقيل إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة الأنبياء في قوله
وكم قصمنا من قرية - فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم انتهى. ثم أنكر سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه
الآثار قائلا (أفلم يسيروا في الأرض) حثا لهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد
سافروا ولم يعتبروا، فلهذا أنكر عليهم، كما في قوله - وإنكم لتمرون عليهم مصبحين. وبالليل أفلا تعقلون،
ومعنى (فتكون لهم قلوب يعقلون بها) أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه
وسلم وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل، كما أن الآذان محل السمع، وقيل إن العقل محله الدماغ ولا مانع من
ذلك، فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجا عنه.
459

وقد اختلف علماء المعقول في محل العقل وماهيته اختلافا كثيرا لا حاجة إلى التطويل بذكره (أو آذان يسمعون
بها) أي ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله، وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة
(فإنها لا تعمى الأبصار) قال الفراء: الهاء عماد يجوز أن يقال: فإنه، وهى قراءة عبد الله بن مسعود، والمعنى
واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة: أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة لا تعمى
الأبصار: أي أبصار العيون (ولكن تعمى القلوب في الصدور) أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم
أي لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار. قال الفراء والزجاج: إن قوله التي في الصدور من التوكيد
الذي تزيده العرب في الكلام كقوله: عشرة كاملة، ويقولون بأفواههم، ويطير بجناحيه. ثم حكى سبحانه عن
هؤلاء ما كانوا عليه من التكذيب والاستهزاء فقال (ويستعجلونك بالعذاب) لأنهم كانوا منكرين لمجيئه أشد
إنكار، فاستعجالهم إن له هو على طريقة الاستهزاء والسخرية، وكأنهم كانوا يقولون ذلك عند سماعهم لما تقوله
الأنبياء عن الله سبحانه من الوعد منه عز وجل بوقوعه عليهم وحلوله بهم، ولهذا قال (ولن يخلف الله وعده)
قال الفراء: في هذه الآية وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة. وذكر الزجاج وجها آخر فقال: أعلم أن الله لا يفوته
شئ، وإن يوما عنده وألف سنة في قدرته واحد، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في
القدرة، إلا أن الله تفضل بالإمهال انتهى، ومحل جملة: ولن يخلف الله وعده النصب على الحال: أي والحال أنه
لا يخلف وعده أبدا، وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه حتما، أو هي اعتراضية مبينة لما قبلها، وعلى الأول تكون
جملة (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) مستأنفة، وعلى الثاني تكون معطوفة على الجملة التي قبلها
مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال، وخطابهم في ذلك ببيان كمال حلمه لكون المدة القصيرة عنده كالمدة الطويلة
عندهم كما في قوله - إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا - قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة: أي يوم
من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة. وقيل المعنى: وإن يوما من الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سنى
الدنيا فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياسا. قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " مما يعدون " بالتحتية، واختار هذه
القراءة أبو عبيد لقوله (ويستعجلونك) وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب، واختارها أبو حاتم (وكأين من قرية
أمليت لها وهى ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير) هذا إعلام منه سبحانه أنه أخذ قوما بعد الإملاء والتأخير. قيل
وتكرير هذا مع ذكره قبله للتأكيد، وليس بتكرار في الحقيقة، لأن الأول سيق لبيان الإهلاك مناسبا لقوله:
فكيف كان نكير، ولهذا عطف بالفاء بدلا عن ذلك، والثاني سيق لبيان الإملاء مناسبا لقوله (ولن يخلف الله
وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة) فكأنه قيل: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أمهلتهم حينا، ثم
أخذتهم بالعذاب ومرجع الكل إلى حكمي. فجملة: وإلي المصير تذييل لتقرير ما قبلها. ثم أمره الله سبحانه أن
يخبر الناس بأنه نذير لهم بين يدي الساعة مبين لهم ما نزل إليهم، فمن آمن وعمل صالحا فاز بالمغفرة والرزق الكريم وهو
الجنة، ومن كان على خلاف ذلك فهو في النار وهم الذين سعوا في آيات الله معاجزين، يقال عاجزه سابقه، لأن
كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه، قاله الأخفش. وقيل معنى معاجزين:
ظانين ومقدرين أن يعجزوا الله سبحانه ويفوتوه فلا يعذبهم، قاله الزجاج. وقيل معاندين، قاله الفراء.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله (فهي خاوية على عروشها) قال:
خربة ليس فيها أحد (وبئر معطلة) عطلها أهلها وتركوها (وقصر مشيد) قال: شيدوه وحصنوه فهلكوا وتركوه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس (وبئر معطلة) قال: التي تركت لا أهل لها. وأخرج عبد بن حميد
460

وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (وقصر مشيد) قال: هو المجصص. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء نحوه أيضا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) قال: من الأيام الستة التي خلق الله فيها
السماوات والأرض. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة، قال في الآية: هو يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه
قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، فقد مضى منها ستة آلاف. وأخرج ابن عدي والديلمي عن
أنس مرفوعا نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (معاجزين) قال: مراغمين. وأخرج ابن جرير عنه أنه
قال: مشاقين.
سورة الحج الآية (52 - 57).
قوله (من رسول ولا نبي) قيل الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومحاورته شفاها،
والنبي الذي يكون إلهاما أو مناما. وقيل الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أمر أن يدعو إلى شريعة
من قبله، ولم ينزل عليه كتاب، ولا بد لهما جميعا من المعجزة الظاهرة (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) معنى
تمنى: تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه. قال الواحدي: وقال المفسرون: معنى تمنى تلا. قال جماعة المفسرين في
سبب نزول هذه الآية: أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه
شئ ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم، فكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة " والنجم إذا
هوى " فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله " أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى " وكان ذلك التمني في
نفسه. فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه " تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجي " فلما سمعت قريش ذلك
فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قراءته حتى ختم السورة، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع
من في النادي من المسلمين والمشركين، فتفرقت قريش مسرورين بذلك وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن
الذكر، فأتاه جبريل فقال: ما صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وخاف خوفا شديدا، فأنزل الله هذه الآية، هكذا قالوا.
461

ولم يصح شئ من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب
الله سبحانه، قال الله - ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعن منه الوتين - وقوله - وما ينطق
عن الهوى - وقوله - ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم - فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون. قال البزار:
هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسناد متصل. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة
من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من
وضع الزنادقة. وقال القاضي عياض في الشفاء: إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن
شئ بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا. قال ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا
قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا،
ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وإذا تقرر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى (تمنى)
قرأ وتلا كما قدمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين. وكذا قال البغوي: إن أكثر المفسرين قالوا معنى
(تمنى) تلا وقرأ كتاب الله، ومعنى (ألقى الشيطان في أمنيته) أي في تلاوته وقراءته. قال ابن جرير: هذا القول
أشبه بتأويل الكلام، ويؤيد هذا ما تقدم في تفسير قوله - لا يعلمون الكتاب إلا أماني - وهو معنى (تمنى) حدث،
ومعنى (ألقى الشيطان في أمنيته) في حديثه، روى هذا عن ابن عباس، وقيل معنى (تمنى) قال. فحاصل معنى
الآية: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا
جرى على لسانه، فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي لا يهولنك ذلك ولا يحزنك،
فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء، وعلى تقدير أن معنى تمنى حدث نفسه كما حكاه الفراء
والكسائي فإنهما قالا: تمنى إذا حدث نفسه، فالمعنى: أنه إذا حدث نفسه بشئ تكلم به الشيطان وألقاه في
مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا جرى على لسانه. قال ابن عطية:
لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة. وقد قيل في تأويل الآية: إن المراد بالغرانيق
الملائكة، ويرد بقوله (فينسخ الله ما يلقى الشيطان) أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة. وقيل إن ذلك جرى
على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم سهوا ونسيانا وهما مجوزان على الأنبياء، ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه
البلاغ غير جائز كما هو مقرر في مواطنه، ثم لما سلاه الله سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لما قبله من الرسل
والأنبياء بين سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستمر تعرير الشيطان به فقال (فينسخ الله ما يلقى الشيطان) أي
يبطله ويجعله ذاهبا غير ثابت (ثم يحكم الله آياته) أي يثبتها (والله عليم حكيم) أي كثير العلم والحكمة في كل أقواله
وأفعاله، وجملة (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة) للتعليل: أي ذلك الإلقاء الذي يلقيه الشيطان فتنة: أي ضلالة
(للذين في قلوبهم مرض) أي شك ونفاق (والقاسية قلوبهم) هم المشركون، فإن قلوبهم لا تلين للحق أبدا ولا
ترجع إلى الصواب بحال، ثم سجل سبحانه على هاتين الطائفتين: وهما من في قلبه مرض، ومن في قلبه قسوة بأنهم
ظالمون فقال (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) أي عداوة شديدة، ووصف الشقاق بالبعد مبالغة، والموصوف
به في الحقيقة من قام به. ولما بين سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حق أهل النفاق والشك والشرك، بين أنه
في حق المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن القرآن حق وصدق فقال (وليعلم الذين أوتوا
العلم أنه الحق من ربك) أي الحق النازل من عنده، وقيل إن الضمير في أنه راجع إلى تمكين الشيطان من الإلقاء،
لأنه مما جرت به عادته مع أنبيائه، ولكنه يرد هذا قوله (فيؤمنوا به) فإن المراد الإيمان بالقرآن: أي يثبتوا على
462

لإيمان به (فتخبت له قلوبهم) أي تخشع وتسكن وتنقاد، فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا
تمكين من الشيطان بل للقرآن (وإن الله لهاد الذين آمنوا) في أمور دينهم (إلى صراط مستقيم) أي طريق صحيح
لا عوج به. وقرأ أبو حيوة " وإن الله لهاد الذين آمنوا " بالتنوين " ولا يزال الذين كفروا في مرية منه " أي في شك من
القرآن، وقيل في الدين الذي يدل عليه ذكر الصراط المستقيم، وقيل في إلقاء الشيطان، فيقولون: ما باله ذكر
الأصنام بخير ثم رجع عن ذلك؟ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي " في مرية " بضم الميم (حتى تأتيهم الساعة) أي القيامة
(بغتة) أي فجأة (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) وهو يوم القيامة لأنه لا يوم بعده، فكان بهذا الاعتبار عقيما،
والعقيم في اللغة من لا يكون له ولد، ولما كانت الأيام تتوالى جعل ذلك كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم
يوم وصف بالعقم، وقيل يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر، وقيل إن اليوم وصف بالعقم، لأنه لا رأفة فيه ولا
وحمة، فكأنه عقيم من الخير، ومنه قوله تعالى - فأرسلنا عليهم الريح العقيم - أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر (الملك
يومئذ لله) أي السلطان القاهر والاستيلاء التام: يوم القيامة لله سبحانه وحده لا منازع له فيه ولا مدافع له عنه،
وجملة (يحكم بينهم) مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر، ثم فسر هذا الحكم بقوله سبحانه (فالذين آمنوا وعملوا
الصالحات في جنات النعيم) أي كائنون فيها مستقرون في أرضها منغمسون في نعيمها (والذين كفروا وكذبوا
بآياتنا) أي جمعوا بين الكفر بالله والتكذيب بآياته (فأولئك لهم عذاب مهين) أي عذاب متصف بأنه مهين للمعذبين
بالغ منهم المبلغ العظيم.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس يقرا (وما
أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث) وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن
عوف مثله، وزاد فنسخت محدث، قال: والمحدثون: صاحب يس، ولقمان، ومؤمن آل فرعون، وصاحب
موسى. وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة. قال السيوطي بسند رجاله ثقات من طريق
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ " أفرأيتم اللات والعزى ومنات
الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجي. ففرح المشركون بذلك وقالوا: قد ذكر آلهتنا،
فجاءه جبريل فقال: اقرأ علي ما جئت به، فقرأ: أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق
العلى، وإن شفاعتهن لترتجي، فقال: ما أتيتك بهذا، هذا من الشيطان، فأنزل الله (وما أرسلنا من قبلك من
رسول ولا نبي إلا إذا تمنى) الآية ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، قال السيوطي بسند صحيح
عن سعيد بن جبير، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة النجم، فذكر نحوه، ولم يذكر ابن
عباس. وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والسدي عن سعيد مرسلا. ورواه عبد بن حميد عن السدى عن
أبي صالح مرسلا. ورواه ابن أبي حاتم عن ابن شهاب مرسلا. وأخرج ابن جرير عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام نحوه مرسلا أيضا. والحاصل أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة
بشئ منها. وقد أسلفنا عن الحفاظ في أول هذا البحث ما فيه كفاية، وفى الباب روايات من أحب الوقوف على
جميعها فلينظرها في الدر المنثور للسيوطي، ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة، فقد عرفناك أنها جميعها لا تقوم بها
الحجة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (حتى إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) يقول
إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك، قال: يعنى بالتمني التلاوة والقراءة،
ألقى الشيطان في أمنيته: في تلاوته (فينسخ الله) ينسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبي. وأخرج
463

عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد (إذا تمنى) قال: تكلم (في أمنيته) قال: كلامه. وأخرج ابن مردويه
والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله (عذاب يوم عقيم) قال يوم بدر. وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب
نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: عذاب يوم عقيم، قال يوم بدر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وعكرمة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: يوم القيامة
لا ليلة له. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن
أبي حاتم عن الضحاك مثله.
سورة الحج الآية (58 - 66).
أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر تخصيصا لهم بمزيد الشرف، فقال (والذين هاجروا في سبيل الله) قال بعض
المفسرين: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم: الذين هاجروا من الأوطان في سرية أو عسكر،
ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين، والكل من سبيل الله (ثم قتلوا أو ماتوا) أي في حال المهاجرة، واللام في
(ليرزقنهم الله رزقا حسنا) جواب قسم محذوف، والجملة خبر الموصول بتقدير القول، وانتصاب رزقا على أنه
مفعول ثان: أي مرزوقا حسنا، أو على أنه مصدر مؤكدة، والرزق الحسن هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع، وقيل
هو الغنيمة لأنه حلال، وقيل هو العلم والفهم كقول شعيب - ورزقني منه رزقا حسنا - قرأ ابن عامر وأهل الشام
" ثم قتلوا " بالتشديد على التكثير، وقرأ الباقون بالتخفيف (وإن الله لهو خير الرازقين) فإنه سبحانه يرزق بغير
حساب، وكل رزق يجري على يد العباد لبعضهم البعض، فهو منه سبحانه، لا رازق سواه ولا معطي غيره،
والجملة تذييل مقررة لما قبلها، وجملة (ليدخلنهم مدخلا يرضونه) مستأنفة، أو بدل من جملة ليرزقنهم الله. قرأ
أهل المدينة " مدخلا " بفتح الميم، وقرأ الباقون بضمها، وهو اسم مكان أريد به الجنة، وانتصابه على أنه مفعول
464

ثان أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان، وفى هذا من
الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره، فإن المدخل الذي يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم،
على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك هو الذي يرضونه وفوق
الرضا (وإن الله لعليم) بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم (حليم) عن تفريط المفرطين منهم لا يعاجلهم
بالعقوبة، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم. قال الزجاج: أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد
للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف، ومعنى (ومن عاقب بمثل ما عوقب به)
من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، وسمى الابتداء باسم الجزاء مشاكلة كقوله تعالى - وجزاء سيئة سيئة مثلها - وقوله
تعالى - فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء
عنه، والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه، ومعنى (ثم بغى عليه) أن الظالم له في الابتداء
عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى، قيل المراد بهذا البغي: هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين
من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به، واللام في (لينصرنه الله) جواب قسم محذوف: أي لينصرن
الله المبغى عليه على الباغي (إن الله لعفو غفور) أي كثير العفو والغفران للمؤمنين فيما وقع منهم من الذنوب. وقيل
العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو، وقيل إن معنى (ثم بغى عليه) أي ثم كان المجازى مبغيا
عليه: أي مظلوما، ومعنى ثم تفاوت الرتبة، لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم كما قيل في أمثال العرب: البادي
أظلم. وقيل إن هذه الآية مدنية، وهى في القصاص والجراحات، والإشارة بقوله (ذلك بأن الله يولج الليل في
النهار) إلى ما تقدم من نصر الله سبحانه للمبغي عليه، وهو مبتدأ وخبره جملة بأن الله يولج، والباء للسببية: أي
ذلك بسبب أنه سبحانه قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وعبر عن الزيادة بالإيلاج،
لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر، والمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر. وقد مضى في آل عمران
معنى هذا الإيلاج (وأن الله سميع) يسمع كل مسموع (بصير) يبصر كل مبصر، أو سميع للأقوال مبصر
للأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، والإشارة بقوله (ذلك بأن الله هو الحق) إلى ما تقدم من اتصافه سبحانه
بكمال القدرة الباهرة والعلم التام: أي هو سبحانه ذو الحق، فدينه حق، وعبادته حق ونصره لأوليائه على أعدائه
حق، ووعده حق، فهو عز وجل في نفسه وأفعاله وصفاته حق (وأن ما تدعون من دونه هو الباطل) قرأ نافع
وابن كثير وابن عامر وشعبة تدعون بالفوقية على الخطاب للمشركين، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرأ الباقون
بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيدة. والمعنى: إن الذين تدعونه إلها، وهى الأصنام هو الباطل
الذي لا ثبوت له ولا لكونه إلها (وأن الله هو العلى) أي العالي على كل شئ بقدرته المتقدس على الأشباه والأنداد
المتنزه عما يقول الظالمون من الصفات (الكبير) أي ذو الكبرياء، وهو عبارة عن كمال ذاته وتفرده بالإلهية، ثم
ذكر سبحانه دليلا بينا على كمال قدرته، فقال (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة) الاستفهام
للتقرير، والفاء للعطف على أنزل، وارتفع الفعل بعد الفاء لكون استفهام التقرير بمنزلة الخبر كما قاله الخليل
وسيبويه. قال الخليل: المعنى أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا، كما قال الشاعر:
ألم تسأل الربع القواء فينطق * وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق
معناه: قد سألته فنطق. قال الفراء: ألم تر خبر كما تقول في الكلام: إن الله ينزل من السماء ماء فتصبح
الأرض مخضرة: أي ذات خضرة كما تقول مبقلة ومسبعة: أي ذوات بقل وسباع، وهو عبارة عن استعجالها
465

أثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة، وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة الاخضرار مع الإشعار
بتجدد الإنزال واستمراره، وهذا المعنى لا يحصل إلا بالمستقبل، والرفع هنا متعين لأنه لو نصب لانعكس المعنى
المقصود من الآية فينقلب إلى نفى الاخضرار، والمقصود إثباته. قال ابن عطية: هذا لا يكون: يعنى الاخضرار
في صباح ليلة المطر إلا بمكة وتهامة. والظاهر أن المراد بالاخضرار اخضرار الأرض في نفسها لا باعتبار النبات فيها
كما في قوله " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت " والمراد بقوله (إن الله لطيف) أنه يصل علمه إلى كل دقيق
وجليل، وقيل لطيف بأرزاق عباده، وقيل لطيف باستخراج النبات، ومعنى (خبير) أنه ذو خبرة بتدبير عباده
وما يصلح لهم، وقيل خبير بما ينطوون عليه من القنوط عند تأخير المطر، وقيل خبير بحاجتهم وفاقتهم (له ما في
السماوات وما في الأرض) خلقا وملكا وتصرفا وكلهم محتاجون إلى رزقه (وإن الله لهو الغنى) فلا يحتاج إلى شئ
(الحميد) المستوجب للحمد في كل حال (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض) هذه نعمة أخرى ذكرها الله
سبحانه، فأخبر عباده بأنه سخر لهم ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار وجعله لمنافعهم (والفلك) عطف
على ما، أو على اسم أن: أي وسخر لكم الفلك في حال جريها في البحر، وقرأ عبد الرحمن الأعرج " والفلك " بالرفع
على الابتداء وما بعده خبره، وقرأ الباقون بالنصب. ومعنى (تجرى في البحر بأمره) أي بتقديره، والجملة في محل
نصب على الحال على قراءة الجمهور (ويمسك السماء أن تقع على الأرض) أي كراهة أن تقع، وذلك بأنه خلقها
على صفة مستلزمة للإمساك، والجملة معطوفة على تجرى (إلا بأذنه) أي بإرادته ومشيئته، وذلك يوم القيامة (إن
الله بالناس لرءوف رحيم) أي كثير الرأفة والرحمة حيث سخر هذه الأمور لعباده وهيأ لهم أسباب المعاش، وأمسك
السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم تفضلا منه على عباده وإنعاما عليهم. ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال (وهو
الذي أحياكم) بعد أن كنتم جمادا (ثم يميتكم) عند انقضاء أعماركم (ثم يحييكم) عند البعث للحساب والعقاب (وإن
الإنسان لكفور) أي كثير الجحود لنعم الله عليه مع كونها ظاهرة غير مستترة، ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد
عن هذا الجحد، لأن المراد وصف جميع الجنس بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول
" من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين، واقرأوا إن شئتم
- والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا -) إلى قوله (حليم) " وإسناد ابن أبي حاتم هكذا: حدثنا المسيب
ابن واضح، حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح عن عبد الكريم بن الحرث عن أبي عقبة، يعني أبا عبيدة
ابن عقبة قال: قال شرحبيل بن السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان: يعني
الفارسي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان برودس، فمروا بجنازتين أحدهما قتيل والآخر متوفى، فمال
الناس عن القتيل، فقال فضالة: مالي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله،
فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا)
الآية. وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: حدثنا أبو زرعة عن زيد بن بشر أخبرني ضمام أنه سمع أبا قبيل وربيعة
ابن سيف المغافري يقولان: كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فذكره. قلت: ويؤيد هذا قول الله سبحانه: " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت
فقد وقع أجره على الله ". وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله " ومن عاقب بمثل ما عوقب به " قال: إن النبي صلى
466

الله عليه وآله وسلم بعث سرية في ليلتين بقيتا من المحرم فلقوا المشركين، فقال المشركون بعضهم لبعض: قاتلوا
أصحاب محمد فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام، وإن أصحاب محمد ناشدوهم وذكروهم بالله أن يعرضوا لقتالهم
فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام إلا من بادأهم، وإن المشركين بدءوا فقاتلوهم، فاستحل الصحابة قتالهم
عند ذلك فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم. وهو مرسل. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله (ومن عاقب)
الآية قال: تعاون المشركون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فأخرجوه، فوعده الله أن ينصره، وهو
في القصاص أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد (وأن ما تدعون من دونه هو الباطل) قال: الشيطان.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله (إن الإنسان لكفور) قال: يعد. المصيبات وينسى النعم.
سورة الحج الآية (67 - 72).
عاد سبحانه إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الأديان
عن منازعته فقال (لكل أمة جعلنا منسكا) أي لكل قرن القرون الماضية وضعنا شريعة خاصة، بحيث
لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى، وجملة (هم ناسكوه) صفة لمنسكا، والضمير لكل أمة:
أي تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها، فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى،
والإنجيل منسك الأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والقرآن منسك المسلمين،
والمنسك مصدر لا اسم مكان كما يدل عليه هم ناسكوه، ولم يقل ناسكون فيه. وقيل المنسك موضع أداء الطاعة،
وقيل هو الذبائح، ولا وجه للتخصيص، ولا اعتبار بخصوص السبب، والفاء في قوله (فلا ينازعنك في الأمر)
لترتيب النهي على ما قبله، والضمير راجع إلى الأمم الباقية آثارهم: أي قد عينا لكل أمة شريعة، ومن جملة الأمم
هذه الأمة المحمدية، وذلك موجب لعدم منازعة من بقي منهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومستلزم
لطاعتهم إياه في أمر الدين، والنهي إما على حقيقته، أو كناية عن نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الالتفات إلى
نزاعهم له. قال الزجاج: إنه نهي له صلى الله عليه وآله وسلم عن منازعتهم: أي لا تنازعهم أنت كما تقول
لا يخاصمك فلان: أي لا تخاصمه، وكما تقول لا يضاربنك فلان: أي لا تضاربه، وذلك أن المفاعلة تقتضي
العكس ضمنا، ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه. وحكى عن الزجاج أنه قال في معنى الآية: فلا
ينازعنك: أي فلا يجادلنك. قال: ودل على هذا (وإن جادلوك) وقرأ أبو مجلز " فلا ينزعنك في الأمر " أي
467

لا يستخفنك ولا يغلبنك على دينك. وقرأ الباقون " ينازعنك " من المنازعة (وادع إلى ربك) أي وادع هؤلاء المنازعين أو ادع الناس على العموم إلى دين الله وتوحيده والإيمان به (إنك لعلى هدى مستقيم) أي طريق مستقيم لا اعوجاج
فيه (وإن جادلوك) أي وإن أبوا إلا الجدال بعد البيان لهم وظهور الحجة عليهم (فقل الله أعلم بما تعملون) أي فكل
أمرهم إلى الله وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد (الله يحكم بينكم) أي بين المسلمين والكافرين (يوم القيامة فيما
كنتم فيه تختلفون) من أمر الدين فيتبين حينئذ الحق من الباطل، وفى هذه الآية تعليم لهذه الأمة بما ينبغي لهم أن
يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل، وقيل إنها منسوخة بآية السيف، وجملة (ألم تعلم) مستأنفة مقررة لمضمون
ما قبلها، والاستفهام للتقرير: أي قد علمت يا محمد وتيقنت (أن الله يعلم ما في السماوات والأرض) ومن جملة
ذلك ما أنتم فيه مختلفون (إن ذلك) الذي في السماء والأرض من معلوماته (في كتاب) أي مكتوب عنده في أم
الكتاب (إن ذلك على الله يسير) أي إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه يسير عليه غير عسير، أو إن
إحاطة علمه بما في السماء والأرض يسير عليه (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا) هذا حكاية لبعض
فضائحهم: أي إنهم يعبدون أصناما لم يتمسكوا في عبادتها بحجة نيرة من الله سبحانه (وما ليس لهم به علم) من
دليل عقل يدل على جواز ذلك بوجه من الوجوه (وما للظالمين من نصير) ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله، وقد
تقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران، وجملة (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) معطوفة على يعبدون، وانتصاب
بينات على الحال: أي حال كونها واضحات ظاهرات الدلالة (تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) أي الأمر
الذي ينكر، وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعها، أو المراد بالمنكر الإنكار: أي تعرف في وجوههم إنكارها:
وقيل هو التجبر والترفع، وجملة (يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه
قيل ما ذلك المنكر الذي يعرف في وجوههم؟ فقيل يكادون يسطون: أي يبطشون، والسطوة شدة البطش،
يقال سطا به يسطو إذا بطش به بضرب، أو شتم، أو أخذ باليد، وأصل السطو القهر.
وهكذا ترى أهل البدع المضلة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز، أو من السنة
الصحيحة مخالفا لما اعتقده من الباطل والضلالة رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطو بذلك العالم
لفعل به ما لا يفعله بالمشركين، وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف، والله ناصر الحق ومظهر
الدين وداحض الباطل ودامغ البدع وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم المبينين للناس ما نزل إليهم، وهو حسبنا ونعم
الوكيل، ثم أمر رسوله أن يرد عليهم، فقال (قل أفأنبئكم) أي أخبركم (بشر من ذلكم) الذي فيكم من الغيظ
على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب عليهم، وهو النار التي أعدها الله لكم، فالنار مرتفعة على أنها خبر
لمبتدأ محذوف، والجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما هذا الأمر الذي هو شر مما نكابده ونناهده عند سماعنا
ما تتلوه علينا، فقال هو (النار وعدها الله الذين كفروا) وقيل إن النار مبتدأ وخبره جملة وعدها الله الذين كفروا،
وقيل المعنى: أفأخبركم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم من الأذى والتوعد لهم والتوثب عليهم، وقرئ النار بالنصب
على تقدير أعني، وقرئ بالجر بدلا من شر (وبئس المصير) أي الموضع الذي تصيرون إليه، وهو النار.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (هم ناسكوه) قال: يعني هم ذابحوه (فلا ينازعنك في الأمر)
يعني في أمر الذبح. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن مجاهد نحوه أيضا. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال (فلا ينازعنك في الأمر) قول أهل الشرك: أما
ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس
468

قال: خلق الله اللوح المحفوظ لمسيرة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش: اكتب، قال:
ما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة،
فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض) يعني ما في السماوات السبع
والأرضين السبع (إن ذلك) العلم (في كتاب) يعني في اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلق السماوات والأرضين
(إن ذلك على الله يسير) يعني هين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (يكادون
يسطون) يبطشون.
سورة الحج الآية (73 - 78).
قوله (يا أيها الناس ضرب مثل) هذا متصل بقوله: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا، قال
الأخفش: ليس ثم مثل، وإنما المعنى ضربوا لي مثلا (فاستمعوا) قولهم، يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم
غيره، فكأنه قال: جعلوا لي شبها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه. وقال القتيبي: إن المعنى يا أيها الناس مثل من
عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا. وإن سلبها شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه. قال النحاس: المعنى ضرب الله عز
وجل لما يعبدونه من دونه مثلا. قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه: أي بين الله لكم شبها ولمعبودكم. وأصل المثل
جملة من الكلام متلقاة بالرضا والقبول مسيرة في الناس مستغربة عندهم، وجعلوا مضربها مثلا لموردها، ثم قد
يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة، في هذه الآية.
والمراد بما يدعونه من دون الله: الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها. وقيل المراد بهم السادة الذين صرفوهم
عن طاعة الله لكونهم أهل الحل والعقد فيهم. وقيل الشياطين الذين حملوهم على معصية الله، والأول أوفق بالمقام
وأظهر في التمثيل، والذباب اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى، وجمع القلة أذبة، والكثرة ذبان مثل غراب
وأغربة وغربان. وقال الجوهري: الذباب معروف الواحد ذبابة. والمعنى: لن يقدروا على خلقه مع كونه
صغير الجسم حقير الذات. وجملة (ولو اجتمعوا له) معطوفة على جملة أخرى شرطية محذوفة: أي لو لم يجتمعوا
469

له لن يخلقوه ولو اجتمعوا له، والجواب محذوف والتقدير لن يخلقوه وهما في محل نصب على الحال: أي لن يخلقوه
على كل حال. ثم بين سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم فقال (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه)
أي إذا أخذ منهم الذباب شيئا من الأشياء لا يقدرون على تخليصه منه لكمال عجزهم وفرط ضعفهم، والاستنقاذ
والإنقاذ التخلص، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف، وعن استنقاذ ما أخذه عليهم فهم عن غيره مما
هو أكبر منه جرما وأشد منه قوة أعجز وأضعف، ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب، فقال (ضعف
الطالب والمطلوب) فالصنم كطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه، والمطلوب
الذباب. وقيل الطالب عابد الصنم، والمطلوب الصنم. وقيل الطالب الذباب والمطلوب الآلهة. ثم بين سبحانه أن
المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ما عرفوا الله حق معرفته فقال (ما قدروا الله
حق قدره) أي ما عظموه حق تعظيمه ولا عرفوه حق معرفته، حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها
هذا الحال، وقد تقدم في الأنعام (إن الله لقوى) على خلق كل شئ (عزيز) غالب لا يغالبه أحد، بخلاف آلهة
المشركين، فإنها جماد لا تعقل ولا تنفع ولا تضر ولا تقدر على شئ. ثم أراد سبحانه أن يرد عليهم ما يعتقدونه في
النبوات والإلهيات فقال: (الله يصطفى من الملائكة رسلا) كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل (و)
يصطفى أيضا رسلا (من الناس) وهم الأنبياء، فيرسل الملك إلى النبي، والنبي إلى الناس، أو يرسل الملك لقبض
أرواح مخلوقاته، أو لتحصيل ما ينفعكم، أو لإنزال العذاب عليهم (إن الله سميع) لأقوال عباده (بصير) بمن
يختاره من خلقه (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) أي ما قدموا من الأعمال وما يتركونه من الخير والشر كقوله
تعالى - ونكتب ما قدموا وآثارهم - (وإلى الله ترجع الأمور) لا إلى غيره، ولما تضمن ما ذكره من أن الأمور
ترجع إليه الزجر لعباده عن معاصيه، والحض لهم على طاعاته صرح بالمقصود فقال (يا أيها الذين آمنوا اركعوا
واسجدوا) أي صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم، وخص الصلاة لكونها أشرف العبادات. ثم عمم فقال (واعبدوا
ربكم) أي افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها (وافعلوا الخير) أي ما هو خير، وهو أعم من الطاعة
الواجبة والمندوبة، وقيل المراد بالخير هنا المندوبات. ثم علل ذلك بقوله (لعلكم تفلحون) أي إذا فعلتم هذه كلها
رجوتم الفلاح. وهذه الآية من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه، لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله،
وقد تقدم أن هذه السورة فضلت بسجدتين، وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية. ثم أمرهم بما
هو سنام الدين وأعظم أعماله، فقال (وجاهدوا في الله) أي في ذاته ومن أجله، والمراد به الجهاد الأكبر، وهو
الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين. وقيل المراد بالجهاد هنا امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدمة،
أو امتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم، ومعنى (حق جهاده) المبالغة في الأمر بهذا الجهاد، لأنه أضاف
الحق إلى الجهاد، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق: أي جهادا خالصا لله، فعكس ذلك لقصد المبالغة، وأضاف
الجهاد إلى الضمير اتساعا، أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولا له ومن أجله. وقيل المراد بحق جهاده
هو أن لا تخافوا في الله لومة لائم، وقيل المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله. وقال مقاتل والكلبي:
إن الآية منسوخة بقوله تعالى - فاتقوا الله ما استطعتم - كما أن قوله - اتقوا الله حق تقاته - منسوخ بذلك، ورد
ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة، فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ. ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله (هو
اجتباكم) أي اختاركم لدينه، وفيه تشريف لهم عظيم. ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات
قال (وما جعل عليكم في الدين من حرج) أي من ضيق وشدة.
470

وقد اختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله فقيل: هو ما أحله الله من النساء مثنى وثلاث ورباع وملك
اليمين. وقيل المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، والصلاة بالإيماء على من لا يقدر على غيره، وإسقاط الجهاد
عن الأعرج والأعمى والمريض، واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلة، وكذا في الفطر
والأضحى. وقيل المعنى: أنه سبحانه ما جعل عليهم حرجا بتكليف ما يشق عليهم، ولكن كلفهم بما يقدرون
عليه، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج، فلم يتعبدهم بها كما تعبد بها بني إسرائيل. وقيل المراد بذلك أنه جعل
لهم من الذنب مخرجا بفتح باب التوبة وقبول الاستغفار والتكفير فيما شرع فيه الكفارة والأرش، أو القصاص في
الجنايات، ورد المال أو مثله أو قيمته في الغصب ونحوه. والظاهر أن الآية أعم من هذا كله، فقد حط سبحانه
ما فيه مشقة من التكاليف على عباده: إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلف بها غيرهم، أو
بالتخفيف وتجويز العدول إلى بدل لا مشقة فيه، أو بمشروعية التخلص عن الذنب بالوجه الذي شرعه الله، وما
أنفع هذه الآية وأجل موقعها وأعظم فائدتها، ومثلها قوله سبحانه " فاتقوا الله ما استطعتم " وقوله " يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر " وقوله " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة
لنا به " وفى الحديث الصحيح أنه سبحانه قال: قد فعلت كما سبق بيانه في تفسير هذه الآية، والأحاديث في هذا
كثيرة، وانتصاب ملة في (ملة أبيكم إبراهيم) على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله: أي وسع عليكم دينكم توسعة
ملة أبيكم إبراهيم. وقال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم. وقال الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف:
أي كملة. وقيل التقدير: وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم، فأقام الملة مقام الفعل، وقيل على الإغراء، وقيل
على الاختصاص، وإنما جعله سبحانه أباهم لأنه أبو العرب قاطبة، ولأن له عند غير العرب الذين لم يكونوا من
ذريته حرمة عظيمة كحرمة الأب على الابن لكونه أبا لنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم (هو سماكم المسلمين من قبل)
أي في الكتب المتقدمة (وفى هذا) أي القرآن، والضمير لله سبحانه، وقيل راجع إلى إبراهيم. والمعنى هو: أي
إبراهيم سماكم المسلمين من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفى هذا: أي في حكمه أن من اتبع محمدا فهو
مسلم. قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول علماء الأمة. ثم علل سبحانه ذلك بقوله (ليكون الرسول شهيدا
عليكم) أي بتبليغه إليكم (وتكونوا شهداء على الناس) أن رسلهم قد بلغتهم، وقد تقدم ببيان معنى هذه الآية
في البقرة. ثم أمرهم بما هو أعظم الأركان الإسلامية فقال (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وتخصيص الخصلتين
بالذكر لمزيد شرفهما (واعتصموا بالله) أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون، والتجئوا إليه في جميع أموركم، ولا
تطلبوا ذلك لا منه (هو مولاكم) أي ناصركم ومتولي أموركم دقيقها وجليلها (فنعم المولى ونعم النصير) أي
لا مماثل له في الولاية لأموركم والنصرة على أعدائكم، وقيل المراد بقوله اعتصموا بالله: تمسكوا بدين الله، وقيل
ثقوا به تعالى.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (يا أيها الناس ضرب مثل) قال: نزلت في صنم. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر عنه (ضعف الطالب والمطلوب) قال: الطالب آلهتهم، والمطلوب الذباب. وأخرج عبد
ابن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله (لا يستنقذوه منه) قال: لا تستنقذ الأصنام ذلك الشئ من الذباب.
وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله اصطفى موسى بالكلام،
وإبراهيم بالخلة " وأخرج أيضا عن أنس وصححه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " موسى بن عمران صفي
الله ". وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي عمر: ألسنا كنا نقرأ فيما نقرأ: وجاهدوا في الله
471

جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله؟ قلت بلى: فمتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء،
وبنو المغيرة الوزراء. وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره.
وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان وابن مردويه والعسكري في الأمثال عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ". وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه
عن عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية (وما جعل عليكم في الدين من حرج) قال:
الضيق. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد قال: قال أبو هريرة لابن عباس: أما علينا في الدين من حرج في أن
نسرق أو نزني؟ قال بلى، قال: فما جعل عليكم في الدين من حرج، قال: الإصر الذي كان على بني إسرائيل
وضع عنكم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن شهاب أن ابن عباس كان يقول: وما جعل عليكم في الدين من
حرج توسعة الإسلام. وما جعل الله من التوبة والكافرات. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم من طريق عثمان بن يسار عن ابن عباس (ما جعل عليكم في الدين من حرج) قال: هذا في هلال رمضان
إذا شك فيه الناس، وفى الحج إذا شكوا في الأضحى، وفى الفطر وأشباهه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن
حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال: ادع لي رجلا من هذيل، فجاءه
فقال: ما الحرج فيكم؟ قال: الحرجة من الشجر التي ليس فيها مخرج، فقال ابن عباس: الذي ليس له مخرج.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق عبيد الله بن أبي يزيد أن ابن عباس سئل عن
الحرج فقال: هاهنا أحد من هذيل، قال رجل أنا، فقال: ما تعدون الحرجة فيكم؟ قال: الشئ الضيق، قال:
هو ذاك. وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية (وما
جعل عليكم في الدين من حرج) ثم قال لي: ادع لي رجلا من بني مدلج، قال عمر: ما الحرج فيكم؟ قال:
الضيق. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى في قوله (ملة أبيكم). وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله (سماكم المسلمين من قبل) قال الله عز وجل: سماكم. وروى
نحوه عن جماعة من التابعين. وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والترمذي وصححه، والنسائي وأبو يعلي
وابن خزيمة وابن حبان والبغوي والبارودي وابن قانع والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان
عن الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " من دعا بدعوة الجاهلية فإنه من جثى جهنم،
قال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: نعم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين
عباد الله ".
472

تفسير سورة المؤمنون
هي مكية بلا خلاف. قال القرطبي كلها مكية في قول الجميع،
وآياتها مائة وتسع عشرة آية
وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن عبد الله بن السائب قال: صلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بمكة الصبح فاستفتح سورة المؤمنين، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى
أخذته سعلة فركع. وأخرج البيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " لما خلق الله الجنة
قال لها تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون ". وأخرجه أيضا ابن عدي والحاكم. وأخرج الطبراني في السنة وابن
مردويه من حديث ابن عباس مثله. وقد ورد في فضائل العشر الآيات من أول هذه السورة ما سيأتي قريبا.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المؤمنون الآية (1 - 11)
قوله (قد أفلح المؤمنون) قال الفراء: قد هاهنا يجوز أن تكون تأكيدا لفلاح المؤمنين، ويجوز أن تكون تقريبا
للماضي من الحال. لأن قد تقرب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة قبل
حال قيامها، ويكون المعنى في الآية أن الفلاح قد حصل لهم، وأنهم عليه في الحال، والفلاح الظفر بالمراد والنجاة
من المكروه، وقيل البقاء في الخير، وأفلح إذا دخل في الفلاح، ويقال أفلحه: رسول إذا أصاره إلى الفلاح، وقد
تقدم بيان معنى الفلاح في أول البقرة. وقرأ طلحة بن مصرف " قد أفلح " بضم الهمزة وبناء الفعل للمفعول. وروى
عنه أنه قرأ " أفلحوا المؤمنون " على الإبهام والتفسير، أو على لغة أكلوني البراغيث. ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله
(الذين هم في صلاتهم خاشعون) وما عطف عليه، والخشوع منهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة،
ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات والعبث، وهو في اللغة السكون والتواضع والخوف
والتذلل.
وقد اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها؟ على قولين: قيل الصحيح الأول،
وقيل الثاني. وادعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته، حكاه النيسابوري
473

في تفسيره. قال: ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى - أفلا يتدبرون القرآن - والتدبر لا يتصور بدون الوقوف
على المعنى، وكذا قوله - أقم الصلاة لذكرى - والغفلة تضاد الذكر، ولهذا قال - ولا تكن من الغافلين - وقوله
- حتى تعلموا ما تقولون - نهى للسكران والمستغرق في هموم الدنيا بمنزلته. واللغو، قال الزجاج: هو كل باطل
ولهو وهزل ومعصية وما لا يجمل من القول والفعل، وقد تقدم تفسيره في البقرة. وقال الضحاك: إن اللغو هنا
الشرك. وقال الحسن: إنه المعاصي كلها. ومعنى إعراضهم عنه: تجنبهم له وعدم التفاتهم إليه، وظاهره اتصافهم
بصفة الإعراض عن اللغو في كل الأوقات، فيدخل وقت الصلاة في ذلك دخولا أوليا كما تفيده الجملة الاسمية،
وبناء الحكم على الضمير، ومعنى فعلهم للزكاة تأديتهم لها، فعبر عن التأدية بالفعل لأنها مما يصدق عليه الفعل، والمراد
بالزكاة هنا المصدر لأنه الصادر عن الفاعل. وقيل يجوز أن يراد بها العين على تقدير مضاف: أي (والذين هم)
لتأدية (الزكاة فاعلون. والذين هم لفروجهم حافظون) الفرج يطلق على فرج الرجل والمرأة، ومعنى حفظهم لها
أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يحل لهم. قيل والمواد هنا الرجال خاصة دون النساء بدليل قوله (إلا على أزواجهم
أو ما ملكت أيمانهم) للإجماع على أنه لا يحل للمرأة أن يطأها من تملكه. قال الفراء: إن على في قوله (إلا على
أزواجهم) بمعنى من. وقال الزجاج: المعنى أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم فأمروا بحفظه إلا على أزواجهم
ودل على المحذوف ذكر اللوم في آخر الآية، والجملة في محل نصب على الحال، وقيل إن الاستثناء من نفي الإرسال
المفهوم من الحفظ: أي لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم. وقيل المعنى: إلا والين على أزواجهم وقوامين
عليهم، من قولهم كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان. والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في جميع
الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم، وجملة (أو ما ملكت أيمانهم) في محل جر عطفا على أزواجهم، وما
مصدرية، والمراد بذلك الإماء، وعبر عنهن بما التي لغير العقلاء، لأنه اجتمع فيهن الأنوثة المنبئة عن قصور
العقل وجواز البيع والشراء فيهن كسائر السلع، فأجراهن بهذين الأمرين مجرى غير العقلاء، وجملة (فإنهم غير ملومين)
تعليل لما تقدم مما لا يجب عليهم حفظ فروجهم منه (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) الإشارة إلى
الزوجات وملك اليمين، ومعنى العادون: المجاوزون إلى ما لا يحل لهم، فسمى سبحانه من نكح ما لا يحل عاديا،
ووراء هنا بمعنى سوى وهو مفعول ابتغى. قال الزجاج: أي فمن ابتغى ما بعد ذلك فمفعول الابتغاء محذوف،
ووراء ظرف.
وقد دلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة، واستدل بها بعض أهل العلم على تحريم الاستمناء لأنه من الوراء
لما ذكر، وقد جمعنا في ذلك رسالة سميناها (بلوغ المنى في حكم الاستمنا)، وذكرنا فيها أدلة المنع والجواز
وترجيح الراجح منهما (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) قرأ الجمهور " لأماناتهم " بالجمع. وقرأ ابن كثير
بالإفراد. والأمانة ما يؤتمنون عليه، والعهد ما يعاهدون عليه من جهة الله سبحانه أو جهة عباده، وقد جمع العهد
والأمانة كل ما يتحمله الإنسان من أمر الدين والدنيا، والأمانة أعم من العهد، فكل عهد أمانة، ومعنى راعون:
حافظون (والذين هم على صلواتهم يحافظون) قرأ الجمهور " صلواتهم " بالجمع. وقرأ حمزة والكسائي " صلاتهم "
بالإفراد، ومن قرأ بالإفراد فقد أراد اسم الجنس وهو في معنى الجمع والمحافظة على الصلاة إقامتها والمحافظة عليها
في أوقاتها وإتمام ركوعها وسجودها وقراءتها والمشروع من أذكارها. ثم مدح سبحانه هؤلاء فقال (أولئك هم
الوارثون) أي الأحقاء بأن يسموا بهذا الاسم دون غيرهم. ثم بين الموروث بقوله (الذين يرثون الفردوس) وهو
أوسط الجنة، كما صح تفسيره بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى: أن من عمل بما ذكر في هذه
474

الآيات فهو الوارث الذي يرث من الجنة ذلك المكان، وفيه استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم. وقيل المعنى:
أنهم يرثون من الكفار منازلهم حيث فرقوها على أنفسهم، لأنه سبحانه خلق لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا
في النار. ولفظ الفردوس لغة رومية معربة، وقيل فارسية، وقيل حبشية، وقيل هي عربية، وجملة (هم فيها
خالدون) في محل نصب على الحال المقدرة، أو مستأنفة لا محل لها، ومعنى الخلود أنهم يدومون فيها لا يخرجون
منها ولا يموتون فيها، وتأنيث الضمير مع أنه راجع إلى الفردوس لأنه بمعنى الجنة.
وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن المنذر، والعقيلي والحاكم وصححه، والبيهقي
في الدلائل والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب قال: " كان إذا أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فأنزل الله عليه يوما فمكثنا ساعة، فسرى عنه فاستقبل القبلة فقال: اللهم
زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، ثم قال:
لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ (قد أفلح المؤمنون) حتى ختم العشر " وفى إسناده يونس
ابن سليم الإيلي. قال النسائي: لا نعرف أحدا رواه عن ابن شهاب إلا يونس بن سليم ويونس لا نعرفه. وأخرج
البخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن يزيد بن
بابنوس قال: قلنا لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: كان خلقه القرآن، ثم
قالت: تقرأ سورة المؤمنين؟ اقرأ قد أفلح المؤمنون حتى بلغ العشر، فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله
الله عليه وآله وسلم. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن البيهقي في سننه عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت (الذين هم في صلاتهم خاشعون).
وأخرجه عبد الرزاق عنه، وزاد: فأمره بالخشوع فرمى ببصره نحو مسجده. وأخرجه عنه أيضا عبد بن حميد
وأبو داود في المراسيل وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن بلفظ: كان إذا قام في الصلاة نظر هكذا.
وهكذا، يمينا وشمالا، فنزلت (الذين هم في صلاتهم خاشعون) فحنى رأسه. وروى عنه من طرق مرسلا هكذا
وأخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان
إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت (الذين هم في صلاتهم خاشعون) فطأطأ رأسه. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن سيرين بلفظ: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفعون
رؤوسهم وأبصارهم إلى السماء في الصلاة يلتفتون يمينا وشمالا، فأنزل الله (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم
خاشعون) فمالوا برءوسهم فلم يرفعوا أبصارهم بعد ذلك في الصلاة، ولم يلتفتوا يمينا وشمالا. وأخرج ابن المبارك
في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في
سننه عن علي أنه سئل عن قوله (الذين هم في صلاتهم خاشعون) قال: الخشوع في القلب وأن تلين كتفك للمرء
المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (الذين
هم في صلاتهم خاشعون) قال: خائفون ساكنون. وقد ورد في مشروعية الخشوع في الصلاة والنهي عن الالتفات
وعن رفع البصر إلى السماء أحاديث معروفة في كتب الحديث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في قوله (والذين هم عن اللغو معرضون) قال: الباطل. وأخرج عبد الرزاق وأبو داود في ناسخه عن
القاسم بن محمد: أنه سئل عن المتعة فقال: إني لأرى تحريمها في القرآن، ثم تلا (والذين هم لفروجهم حافظون
إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم). وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني عن
475

ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن " الذين هم على صلاتهم دائمون. والذين هم على
صلواتهم يحافظون " قال: ذلك على مواقيتها، قالوا ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، قال: تركها كفر.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه عن أبي هريرة في قوله (أولئك هم الوارثون)
قال: يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله. وأخرج سعيد بن منصور وابن ماجة وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل
الجنة منزله، فذلك قوله (أولئك هم الوارثون) ". وأخرج عبد بن حميد والترمذي وقال حسن صحيح غريب
عن أنس، فذكر قصة، وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها،
ويدل على هذه الوراثة المذكورة هنا قوله تعالى - تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا -، وقوله - تلكم
الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون - ويشهد لحديث أبي هريرة هذا ما في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال " يجئ يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم ويضعها على
اليهود والنصارى " وفى لفظ له قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل
مسلم يهوديا أو نصرانيا، فيقول هذا فكاكك من النار ".
سورة المؤمنون الآية (12 - 22)
لما حث سبحانه عباده على العبادة ووعدهم الفردوس على فعلها، عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في
نفوس المكلفين فقال (ولقد خلقنا الإنسان) إلى آخره، واللام جواب قسم محذوف، والجملة مبتدأة، وقيل
معطوفة على ما قبلها، والمراد بالإنسان الجنس لأنهم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم، وقيل المراد به آدم. والسلالة
فعالة من السل، وهو استخراج الشئ من الشئ، يقال سللت الشعرة من العجين، والسيف من الغمد فانسل،
فالنطفة سلالة، والولد سليل، وسلالة أيضا، ومنه قول الشاعر:
476

فجاءت به عضب الأديم غضنفرا * سلالة فرج كان غير حصين
وقول الآخر: وهل هند إلا مهرة عربية * سلالة أفراس تحللها بغل
و " من " في (من سلالة) ابتدائية متعلقة بخلقنا، وفى (من طين) بيانية متعلقة بمحذوف، وقع صفة لسلالة: أي
كائنة من طين، والمعنى: أنه سبحانه خلق جوهر الإنسان أولا من طين، لأن الأصل آدم، وهو من طين خالص
وأولاده من طين ومني. وقيل السلالة: الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك، فالذي يخرج هو السلالة،
قاله الكلبي (ثم جعلناه) أي الجنس باعتبار أفراده الذين هم بنو آدم، أو جعلنا نسله على حذف مضاف إن أريد
بالإنسان آدم (نطفة) وقد تقدم تفسير النطفة في سورة الحج، وكذلك تفسير العلقة والمضغة. والمراد بالقرآن
المكين: الرحم، وعبر عنها بالقرار الذي هو مصدر مبالغة، ومعنى (ثم خلقنا النطفة علقة) أي أنه سبحانه أحال
النطفة البيضاء علقة حمراء (فخلقنا العلقة مضغة) أي قطعة لحم غير مخلقة (فخلقنا المضغة عظاما) أي جعلها الله
سبحانه متصلبة لتكون عمودا للبدن على أشكال مخصوصة (فكسونا العظام لحما) أي أنيت الله سبحانه على كل
عظم لحما على المقدار الذي يليق به ويناسبه (ثم أنشأناه خلقا آخر) أي نفخنا فيه الروح بعد أن كان جمادا، وقيل
أخرجناه إلى الدنيا، وقيل هو نبات الشعر، وقيل خروج الأسنان، وقيل تكميل القوى المخلوقة فيه، ولا مانع من
إرادة الجميع، والمجئ بثم لكمال التفاوت بين الخلقين (فتبارك الله أحسن الخالقين) أي استحق التعظيم والثناء.
وقيل مأخوذ من البركة: أي كثر خيره وبركته: والخلق في اللغة التقدير، يقال خلقت الأديم: إذا قسته لتقطع
منه شيئا، فمعنى أحسن الخالقين: أتقن الصانعين المقدرين، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفرى ما خلقت وبعض * القوم يخلق ثم لا يفرى
(ثم إنكم بعد ذلك لميتون) الإشارة بقوله " ذلك " إلى الأمور المتقدمة: أي ثم إنكم بعد تلك الأمور لميتون
صائرون إلى الموت لا محالة (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) من قبوركم إلى المحشر للحساب والعقاب. واللام في
(ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) جواب لقسم محذوف، والجملة مبتدأة مشتملة على بيان خلق ما يحتاجون إليه بعد
بيان خلقهم، والطرائق هي السماوات. قال الخليلي والفراء والزجاج، سميت طرائق لأنه طورق بعضها فوق بعض
كمطارقة النعل. قال أبو عبيدة: طارقت الشئ جعلت بعضه فوق بعض، والعرب تسمي كل شئ فوق شئ
طريقة. وقيل لأنها طرائق الملائكة، وقيل لأنها طرائق الكواكب (وما كنا عن الخلق غافلين) المراد بالخلق هنا
المخلوق: أي وما كنا عن هذه السبع الطرائق وحفظها عن أن تقع على الأرض بغافلين. وقال أكثر المفسرين:
المراد الخلق كلهم بغافلين بل حفظنا السماوات عن أن تسقط، وحفظنا من في الأرض أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم
أو تميد بهم الأرض، أو يهلكون بسبب من الأسباب المستأصلة لهم، ويجوز أن يراد نفي الغفلة عن القيام بمصالحهم
وما يعيشون به، ونفى الغفلة عن حفظهم (وأنزلنا من السماء ماء) هذا من جملة ما أمتن الله سبحانه به على خلقه،
والمراد بالماء ماء المطر، فإن به حياة الأرض وما فيها من الحيوان، ومن جملة ذلك ماء الأنهار النازلة من السماء
والعيون. والآبار المستخرجة من الأرض، فإن أصلها من ماء السماء. وقيل أراد سبحانه في هذه الآية الأنهار
الأربعة: سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، ولا وجه لهذا التخصيص. وقيل المراد به الماء العذب، ولا
وجه لذلك أيضا فليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء، ومعنى (بقدر) بتقدير منا أو بمقدار يكون به صلاح
الزرائع والثمار. فإنه لو كثر لكان به هلاك ذلك، ومثله قوله سبحانه " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله
477

إلا بقدر معلوم " ومعنى (فأسكناه في الأرض) جعلناه مستقرا فيها ينتفعون به وقت حاجتهم إليه كالماء الذي
يبقى في المستنقعات والغدران ونحوها (وإنا على ذهاب به لقادرون) أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن
نذهب به بوجه من الوجوه، ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى، وفى هذا تهديد شديد لما يدل عليه من قدرته
سبحانه على إذهابه وتغويره حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم، ومثله قوله - قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم
غورا فمن يأتيكم بماء معين - ثم بين سبحانه ما يتسبب عن إنزال الماء فقال (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب)
أي أوجدنا بذلك الماء جنات من النوعين المذكورين (لكم فيها) أي في هذه الجنات (فواكه كثيرة) تتفكهون بها
وتطعمون منها. وقيل المعنى: ومن هذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعاشكم كقوله: فلان يأكل من حرفة كذا،
وهو بعيد، واقتصر سبحانه على النخيل والأعناب، لأنها الموجودة بالطائف والمدينة وما يتصل بذلك. كذا قال
ابن جرير. وقيل لأنها أشرف الأشجار ثمرة وأطيبها منفعة وطعما ولذة. قيل المعنى بقوله (لكم فيها فواكه) أن
لكم في هذه الجنات فواكه من غير العنب والنخيل. وقيل المعنى: لكم في هذين النوعين خاصة فواكه، لأن
فيهما أنواعا مختلفة متفاوتة في الطعم واللون.
وقد اختلف أهل الفقه في لفظ الفاكهة على ماذا يطلق؟ اختلافا كثير، وأحسن ما قيل إنها تطلق على الثمرات
التي يأكلها الناس، وليست بقوت لهم ولا طعام ولا إدام. واختلف في البقول هل تدخل في الفاكهة أم لا؟
وانتصاب شجرة على العطف على جنات، وأجاز الفراء الرفع على تقدير: وثم شجرة فتكون مرتفعة على الابتداء
وخبرها محذوف مقدر قبلها، وهو الظرف المذكور. قال الواحدي: والمفسرون كلهم يقولون: إن المراد بهذه
الشجرة شجرة الزيتون، وخصت بالذكر لأنه لا يتعاهدها أحد بالسقي، وهى التي يخرج الدهن منها، فذكرها الله
سبحانه امتنانا منه على عباده بها، ولأنها أكرم الشجر وأعمها نفعا وأكثرها بركة، ثم وصف سبحانه هذه
الشجرة بأنها (تخرج من طور سيناء) وهو جبل ببيت المقدس، والطور الجبل في كلام العرب، وقيل هو مما
عرب به كلام العجم. واختلف في معنى سيناء، فقيل هو الحسن، وقيل هو المبارك، وذهب الجمهور إلى أنه اسم
للجبل كما تقول جبل أحد. وقيل سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده، وقيل هو كل جبل يحمل
الثمار. وقرأ الكوفيون " سيناء " بفتح السين، وقرأ الباقون بكسر السين، ولم يصرف لأنه جعل اسما للبقعة، وزعم
الأخفش أنه أعجمي. وقرأ الجمهور (تنبت بالدهن) بفتح المثناة وضم الباء الموحدة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو
بضم المثناة وكسر الباء الموحدة. والمعنى على القراءة الأولى: أنها تنبت في نفسها متلبسة بالدهن، وعلى القراءة
الثانية: الباء بمعنى مع، فهي للمصاحبة. قال أبو علي الفارسي: التقدير: تنبت جناحها ومعه الدهن. وقيل الباء
زائدة. قاله أبو عبيدة، ومثله قول الشاعر:
هن الحرائر لا ربات أحمرة * سود المحاجر لا يقرأن بالسور
وقال آخر: * نضرب بالسيف ونرجو بالفرج * وقال الفراء والزجاج: إن نبت وأنبت بمعنى،
والأصمعي ينكر أنبت، ويرد عليه قول زهير:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم * قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
أي نبت. وقرأ الزهري والحسن والأعرج " تنبت " بضم المثناة وفتح الموحدة. قال الزجاج وابن جنى: أي
تنبت ومعها الدهن، وقرأ ابن مسعود " تخرج " بالدهن، وقرأ زر بن حبيش " تنبت الدهن " بحذف حرف الجر.
وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان (وصبغ للآكلين) معطوف على الدهن: أي تنبت بالشئ الجامع بين
478

كونه دهنا يدهن به. وكونه صبغا يؤتدم به. قرأ الجمهور " صبغ " وقرأ قوم " صباغ " مثل لبس ولباس، وكل
إدام يؤتدم به فهو صبغ وصباغ، وأصل الصبغ ما يلون به الثوب، وشبه الإدام به لأن الخبز يكون بالإدام
كالمصبوغ به (وإن لكم في الأنعام لعبرة) هذه من جملة النعم التي أمتن الله بها عليهم، وقد تقدم تفسير الأنعام في
سورة النحل. قال النيسابوري في تفسيره: ولعل القصد بالأنعام هنا إلى الإبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في
العادة، ولأنه قرنها بالفلك وهى سفائن البر، كما أن الفلك سفائن البحر. وبين سبحانه أنها عبرة، لأنها مما يستدل
بخلقها وأفعالها على عظيم القدرة الإلهية، ثم فصل سبحانه ما في هذه الأنعام من النعم بعد ما ذكره من العبرة فيها للعباد
فقال (نسقيكم مما في بطونها) يعنى سبحانه: اللبن المتكون في بطونها المنصب إلى ضروعها، فإن في انعقاد ما تأكله
من العلف واستحالته إلى هذا الغذاء اللذيذ، والمشروب النفيس أعظم عبرة للمعتبرين، وأكبر موعظة للمتعظين.
قرئ " نسقيكم " بالنون على أن الفاعل هو الله سبحانه، وقرئ بالتاء الفوقية على أن الفاعل هو الأنعام، ثم ذكر
ما فيها من المنافع إجمالا فقال (ولكم فيها منافع كثيرة) يعنى في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها،
ثم ذكر منفعة خاصة فقال (ومنها تأكلون) لما في الأكل من عظيم الانتفاع لهم، وكذلك ذكر الركوب عليها لما
فيه من المنفعة العظيمة فقال (وعليها وعلى الفلك تحملون) أي وعلى الأنعام، فإن أريد بالأنعام الإبل والبقر والغنم،
فالمراد وعلى بعض الأنعام، وهى الإبل خاصة، وإن أريد بالأنعام الإبل خاصة، فالمعنى واضح. ثم لما كانت
الأنعام هي غالب ما يكون الركوب عليه في البر ضم إليها ما يكون الركوب عليه في البحر، فقال (وعلى الفلك
تحملون) تميما للنعمة وتكميلا للمنة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السلالة صفو الماء الرقيق الذي يكون
منه الولد. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في شعر وظفر فتمكث
أربعين يوما، ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة. وللتابعين في تفسير السلالة أقوال قد قدمنا الإشارة إليها. وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن عباس (ثم أنشأناه خلقا آخر) قال: الشعر والأسنان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر عنه (ثم أنشأناه خلقا آخر) قال: نفخ فيه الروح، وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية
والربيع بن أنس والسدي والضحاك وابن زيد، واختاره ابن جرير. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن مجاهد (ثم أنشأناه خلقا آخر) قال: حين استوى به الشباب. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن
حميد وابن المنذر عن صالح أبى الخليل قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قوله (ثم
أنشأناه خلقا آخر) قال عمر (فتبارك الله أحسن الخالقين) قال: والذي نفسي بيده إنها ختمت بالذي تكلمت به
يا عمر. وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في
أربع، قلت: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام؟ فأنزل الله " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقلت: يا رسول
الله لو اتخذت على نسائك حجابا فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فأنزل الله " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من
وراء حجاب " وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن، فنزلت
- عسى ربه إن طلقكن - الآية، ونزلت (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة) إلى قوله (ثم أنشأناه خلقا آخر) فقلت
أنا (فتبارك الله أحسن الخالقين) ". وأخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن
مردويه عن زيد بن ثابت قال: أملى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية (ولقد خلقنا الإنسان) إلى قوله
(خلقا آخر) فقال معاذ بن جبل (فتبارك الله أحسن الخالقين) فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
479

فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: بها ختمت (فتبارك الله أحسن الخالقين) وفى إسناده جابر الجعفي
وهو ضعيف جدا. قال ابن كثير: وفى خبره هذا نكارة شديدة، وذلك أن هذه السورة مكية، وزيد بن ثابت
إنما كتب الوحي بالمدينة، وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة والله أعلم. وأخرج ابن مردويه والخطيب
قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال - أنزل الله من الجنة إلى الأرض
خمسة أنهار: سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر
مصر، أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل، فاستودعها الجبال
وأجراها في الأرض، وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم، فذلك قوله (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه
في الأرض) فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل، فرفع من الأرض القرآن والعلم، والحجر
من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كل ذلك إلى السماء،
فذلك قوله (وإنا على ذهاب به لقادرون) فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، قال: طور سيناء هو الجبل الذي نودي منه موسى. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (تنبت بالدهن) قال: هو الزيت يؤكل ويدهن به.
سورة المؤمنون الآية (22 - 35)
480

سورة المؤمنون الآية (36 - 41)
لما ذكر سبحانه الفلك أتبعه بذكر نوح، لأنه أول من صنعه، وذكر ما صنعه قوم نوح معه بسبب إهمالهم
للتفكر في مخلوقات الله سبحانه والتذكر لنعمه عليهم فقال (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) وفى ذلك تعزية (لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتسلية له ببيان أن قوم غيره من الأنبياء كانوا يصنعون مع أنبيائهم ما يصنعه قومه
معه، واللام جواب قسم محذوف (فقال يا قوم اعبدوا الله) أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا كما يستفاد من
الآيات الآخرة، وجملة (ما لكم من إله غيره) واقعة موقع التعليل لما قبلها، وارتفاع غيره لكونه وصفا لإله على
المحل، لأنه مبتدأ خبره لكم: أي ما لكم في الوجود إله غيره سبحانه، وقرئ بالجر اعتبارا بلفظ إله (أفلا تتقون)
أي أفلا تخافون أن تتركوا عبادة ربكم الذي لا يستحق العبادة غيره، وليس لكم إله سواه. وقيل المعنى: أفلا
تخافون أن يرفع عنكم ما خولكم من النعم ويسلبها عنكم. وقيل المعنى: أفلا تقون أنفسكم عذابه الذي تقتضيه ذنوبكم
(فقال الملأ الذين كفروا من قومه) أي قال أشراف قومه الذين كفروا به (ما هذا إلا بشر مثلكم) أي من جنسكم
في البشرية، لا فرق بينكم وبينه (يريد أن يتفضل عليكم) أي يطلب الفضل عليكم بأن يسودكم حتى تكونوا
تابعين له منقادين لأمره، ثم صرحوا بأن البشر لا يكون رسولا فقالوا (ولو شاء الله لأنزل ملائكة) أي لو شاء الله
إرسال رسول لأرسل ملائكة، وإنما عبر بالإنزال عن الإرسال لأن إرسالهم إلى العباد يستلزم نزولهم إليهم (ما سمعنا
بهذا في آبائنا الأولين) أي بمثل دعوى هذا المدعي للنبوة من البشر، أو بمثل كلامه، وهو الأمر بعبادة الله وحده
أو ما سمعنا ببشر يدعي هذه الدعوى في آبائنا الأولين: أي في الأمم الماضية قبل هذا. وقيل الباء في بهذا زائدة:
أي ما سمعنا هذا كائنا في الماضين، قالوا هذا اعتمادا منهم على التقليد واعتصاما بحبله، ولم يقنعوا بذلك حتى
ضموا إليه الكذب البحت، والبهت الصراح فقالوا (إن هو إلا رجل به جنة) أي جنون لا يدري ما يقول (فتربصوا
به حتى حين) أي انتظروا به حتى يستبين أمره، بأن يفيق من جنونه فيترك هذه الدعوى، أو حتى يموت
فتستريحوا منه. قال الفراء: ليس يريد بالحين هنا وقتا بعينه إنما هو كقولهم: دعه إلى يوم ما، فلما سمع عليه
الصلاة والسلام كلامهم وعرف تماديهم على الكفر وإصرارهم عليه (قال رب انصرني) عليهم فانتقم منهم بما تشاء
وكيف تريد، والباء في (بما كذبون) للسببية: أي بسبب تكذيبهم إياي (فأوحينا إليه) عند ذلك أي أرسلنا إليه
رسولا من السماء (أن اصنع الفلك) وأن هي مفسرة لما في الوحي من معنى القول (بأعيننا) أي متلبسا بحفظنا
وكلاءتنا، وقد تقدم بيان هذا في هود. ومعنى (ووحينا) أمرنا لك وتعليمنا إياك لكيفية صنعها، والفاء في قوله
(فإذا جاء أمرنا) لترتيب ما بعدها على ما قبلها من صنع الفلك، والمراد بالأمر العذاب (وفار التنور) معطوف على
الجملة التي قبله عطف النسق، وقيل عطف البيان: أي إن مجئ الأمر هو فور التنور: أي تنور آدم الصائر إلى
نوح: أي إذا وقع ذلك (فاسلك فيها من كل زوجين اثنين) أي دخل فيها، يقال سلكه في كذا أدخله،
وأسلكته أدخلته. قرأ حفص " من كل " بالتنوين، وقرأ الباقون بالإضافة، ومعنى القراءة الأولى من كل أمة
481

زوجين، ومعنى الثانية من كل زوجين، وهما أمة الذكر والأنثى اثنين، وانتصاب (أهلك) بفعل معطوف على
فاسلك، لا بالعطف على زوجين، أو على اثنين على القراءتين لأدائه إلى اختلاف المعنى: أي واسلك أهلك (إلا من
سبق عليه القول منهم) أي القول بإهلاكهم منهم (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) بالدعاء لهم بإنجائهم، وجملة
(إنهم مغرقون) تعليل للنهي عن المخاطبة: أي إنهم مقضى عليهم بالإغراق لظلمهم، ومن كان هكذا فهو لا يستحق
الدعاء له (فإذا استويت) أي علوت (أنت ومن معك) من أهلك وأتباعك (على الفلك) راكبين عليه (فقل
الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين) أي حال بيننا وبينهم، وخلصنا منهم، كقوله " فقطع دابر القوم الذين
ظلموا والحمد لله رب العالمين ". وقد تقدم تفسير هذه القصة في سورة هود على التمام والمال، وإنما جعل سبحانه
استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزما، لأنه قد سبق في علمه أن ذلك سبب نجاتهم من الظلمة، وسلامتهم من
أن يصابوا بما أصيبوا به من العذاب. ثم أمره أن يسأل ربه ما هو أنفع له وأتم فائدة فقال (وقل رب أنزلني منزلا
مباركا) أي أنزلني في السفينة. قرأ الجمهور منزلا بضم الميم وفتح الزاي على أنه مصدر. وقرا زر بن حبيش وأبو بكر
عن عاصم والمفضل بفتح الميم وكسر الزاي على أنه اسم مكان. فعلى القراءة الأولى: أنزلني إنزالا مباركا، وعلى
القراءة الثانية: أنزلني مكانا مباركا. قال الجوهري: والمنزل بفتح الميم والزاي النزول، وهو الحلول، تقول
نزلت نزولا ومنزلا. قال الشاعر:
أإن ذكرتك الدار منزلها جمل * بكيت فدمع العين منحدر سجل
بنصب منزلها، لأنه مصدر، قيل أمره الله سبحانه بأن يقول هذا القول عند دخوله السفينة، وقيل عند
خروجه منها، والآية تعليم من الله لعباده إذا ركبوا ثم نزلوا أن يقولوا هذا القول (وأنت خير المنزلين) هذا ثناء
منه على الله عز وجل إثر دعائه له. قال الواحدي: قال المفسرون: إنه أمر أن يقول عند استوائه على الفلك:
الحمد لله، وعند نزوله منها: رب أنزلني منزلا مباركا، والإشارة بقوله (إن في ذلك) إلى ما تقدم مما قصه الله
علينا من أمر نوح عليه السلام: والآيات الدلالات على كمال قدرته سبحانه، والعلامات التي يستدل بها على
عظيم شأنه (وإن كنا لمبتلين) أي لمختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم، ليظهر المطيع والعاصي للناس أو للملائكة.
وقيل المعنى: إنه يعاملهم سبحانه معاملة المختبر لأحوالهم، تارة بالإرسال، وتارة بالعذاب (ثم أنشأنا من بعدهم
قرنا آخرين) أي من بعد إهلاكهم. قال أكثر المفسرين: إن هؤلاء الذين أنشأهم الله بعدهم هم عاد قوم هود،
لمجئ قصتهم على إثر قصة نوح في غير هذا الموضع، ولقوله في الأعراف " واذكروا إذا جعلكم خلفاء من بعد
قوم نوح " وقيل هم ثمود لأنهم الذين أهلكوا بالصيحة. وقد قال سبحانه في هذه القصة " فأخذتهم الصيحة " وقيل
هم أصحاب مدين قوم شعيب لأنهم ممن أهلك بالصيحة (فأرسلنا فيهم رسولا) عدى فعل الإرسال بفي مع أنه
يتعدى بإلى، للدلالة على أن هذا الرسول المرسل إليهم نشأ فيهم بين أظهرهم، يعرفون مكانه ومولده، ليكون
سكونهم إلى قوله أكثر من سكونهم إلى من يأتيهم من غير مكانهم. وقيل وجه التعدية للفعل المذكور بفي أنه
ضمن معنى القول: أي قلنا لهم على لسان الرسول (اعبدوا الله) ولهذا جئ بأن المفسرة. والأول أولى لأن تضمين
أرسلنا معنى قلنا لا يستلزم تعديته بفي، وجملة (ما لكم من إله غيره) تعليل للأمر بالعبادة (أفلا تتقون) عذابه
الذي يقتضيه شرككم (وقال الملأ من قومه) أي أشرافهم وقادتهم. ثم وصف الملأ بالكفر والتكذيب فقال (الذين
كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة) أي كذبوا بما في الآخرة من الحساب والعقاب، أو كذبوا بالبعث (وأترفناهم) أي
وسعنا لهم نعم الدنيا فبطروا بسبب ما صاروا فيه (في الحياة الدنيا) من كثرة الأموال ورفاهة العيش (ما هذا إلا
482

بشر مثلكم) أي قال الملأ لقومهم هذا القول، وصفوه بمساواتهم في البشرية، وفى الأكل (مما تأكلون منه)
والشرب مما تشربون منه، وذلك يستلزم عندهم أنه لا فضل له عليهم. قال الفراء: إن معنى (ويشرب مما
تشربون) على حذف منه: أي مما تشربون منه وقيل إن ما مصدرية، فلا تحتاج إلى عائد (ولئن أطعتم بشرا مثلكم)
فيما ذكر من الأوصاف (إنكم إذا لخاسرون) أي مغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم،
والاستفهام في قوله (أيعدكم أنكم إذا متم) للإنكار، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تقبيح اتباعهم له.
قرئ بكسر الميم من متم، من مات يمات كخاف يخاف. وقرئ بضمها من مات يموت: كقال يقول (وكنتم
ترابا وعظاما) أي كان بعض أجزائكم ترابا، وبعضها عظاما نخرة لا لحم فيها ولا أعصاب عليها، قيل وتقديم التراب
لكونه أبعد في عقولهم. وقيل المعنى: كان متقدموكم ترابا، ومتأخروكم عظاما (أنكم مخرجون) أي من قبوركم
أحياء كما كنتم، قال سيبويه: أن الأولى في موضع نصب بوقوع أيعدكم عليها، وأن الثانية بدل منها. وقال
الفراء والجرمي والمبرد: إن أن الثانية مكررة للتوكيد، وحسن تكريرها لطول الكلام، وبمثله قال الزجاج وقال
الأخفش: أن الثانية في محل رفع بفعل مضمر: أي يحدث إخراجكم كما تقول: اليوم القتال، فالمعنى: اليوم
يحدث القتال (هيهات هيهات لما توعدون) أي بعد ما توعدون، أو بعيد ما توعدون، والتكرير للتأكيد. قال
ابن الأنباري: وفى هيهات عشر لغات ثم سردها، وهى مبينة في علم النحو. وقد قرئ ببعضها، واللام في لما
توعدون لبيان المستبعد كما في قولهم: هيت لك، كأنه قيل لماذا هذا الاستبعاد؟ فقيل لما توعدون. والمعنى:
بعد إخراجكم للوعد الذي توعدون، هذا على أن هيهات اسم فعل. وقال الزجاج: هو في تقدير المصدر: أي
البعد لما توعدون، أو بعد لما توعدون على قراءة من نون فتكون على هذا مبتدأ خبره لما توعدون. ثم بين سبحانه
إترافهم بأنهم قالوا (إن هي إلا حياتنا الدنيا) أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، لا الحياة الآخرة التي تعدنا بها، وجملة
(نموت ونحيا) مفسرة لما ادعوه من قصرهم حياتهم على حياة الدنيا. ثم صرحوا بنفي البعث، وأن الوعد به منه
افتراء على الله فقالوا (وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا) أي ما هو فيما يدعيه إلا مفتر للكذب
على الله (وما نحن له بمؤمنين) أي بمصدقين له فيما يقوله (قال رب انصرني) أي قال نبيهم لما علم بأنهم لا يصدقونه
البتة: رب انصرني عليهم وانتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إياي (قال عما قليل ليصبحن نادمين) أي قال الله سبحانه
مجيبا لدعائه واعدا له بالقبول لما دعا به: عما قليل من الزمان ليصبحن نادمين على ما وقع منهم من التكذيب والعناد
والإصرار على الكفر، و " ما " في عما قليل مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد لقلة الزمان كما في قوله " فبما رحمة من
الله ". ثم أخبر سبحانه بأنها (أخذتهم الصيحة) وحاق بهم عذابه ونزل عليهم سخطه. قال المفسرون: صاح بهم
جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله بها فماتوا جميعا. وقيل الصيحة: هي نفس العذاب الذي نزل بهم،
ومنه قول الشاعر:
صاح الزمان بآل برمك صيحة * خروا لشدتها على الأذقان
والباء في بالحق متعلق بالأخذ، ثم أخبر سبحانه عما صاروا إليه بعد العذاب النازل بهم: فقال (فجعلناهم
غثاء) أي كغثاء السيل الذي يحمله: والغثاء ما يحمل السيل من بالي الشجر والحشيش والقصب ونحو ذلك مما يحمله
على ظاهر الماء. والمعنى: صيرهم هلكى فيبسوا كما يبس الغثاء (فبعدا للقوم الظالمين) انتصاب بعدا على المصدرية
وهو من المصادر التي لا يذكر فعلها معها: أي بعدوا بعدا، واللام لبيان من قيل له ذلك.
483

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فاسلك فيها) يقول: اجعل معك في السفينة
(من كل زوجين اثنين). وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد
(وقل رب أنزلني منزلا مباركا) قال لنوح حين أنزل من السفينة. وأخرج هؤلاء عن قتادة في الآية قال: يعلمكم
سبحانه كيف تقولون إذا ركبتم، وكيف تقولون إذا نزلتم. أما عند الركوب " فسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا
له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون - و - بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم " وعند النزول (رب أنزلني
منزلا مباركا وأنت خير المنزلين). وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله (قرنا) قال: أمة. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (هيهات هيهات) قال: بعيد بعيد. وأخرج ابن جرير
عنه في قوله (فجعلناهم غثاء) قال: جعلوا كالشئ الميت البالي من الشجر.
سورة المؤمنون الآية (42 - 56).
قوله (ثم أنشأنا من بعدهم) أي من بعد إهلاكهم (قرونا آخرين) قيل هم قوم صالح ولوط وشعيب كما
وردت قصتهم على هذا الترتيب في الأعراف وهود، وقيل هم بنو إسرائيل. والقرون الأمم، ولعل وجه الجمع هنا
للقرون والإفراد فيما سبق قريبا أنه أراد هاهنا أمما متعددة وهناك أمة واحدة. ثم بين سبحانه كمال علمه وقدرته
في شأن عباده فقال (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) أي ما تتقدم كل طائفة مجتمعة في قرن آجالها المكتوبة
لها في الهلاك ولا تتأخر عنها، وقيل ذلك قوله تعالى " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " ثم بين
سبحانه أن رسله كانوا بعد هذه القرون متواترين، وأن شأن أممهم كان واحدا في التكذيب لهم فقال (ثم أرسلنا
رسلنا تترا) والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها بمعنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء القرن الذي أرسل
إليه، لا على معنى أن إرسال الرسل جميعا متأخر عن إنشاء تلك القرون جميعا، ومعنى " تترا " تتواتر واحدا بعد
484

واحد ويتبع بعضهم بعضا، من الوتر وهو الفرد. قال الأصمعي: واترت كتبي عليه: أتبعت بعضها بعضا إلا أن
بين كل واحد منها وبين الآخر مهلة. وقال غيره: المتواترة المتتابعة بغير مهلة. قرأ ابن كثير وابن عمرو " تترى "
بالتنوين على أنه مصدر. قال النحاس: وعلى هذا يجوز تترى بكسر التاء الأولى. لأن معنى ثم أرسلنا: واترنا،
ويجوز أن يكون في موضع الحال: أي متواترين (كلما جاء أمة رسولها كذبوه) هذه الجملة مستأنفة مبينة لمجئ
كل رسول لأمته على أن المراد بالمجئ التبليغ (فأتبعنا بعضهم بعضا) أي في الهلاك بما نزل بهم من العذاب (وجعلناهم
أحاديث) الأحاديث جمع أحدوثة، وهى ما يتحدث به الناس كالأعاجيب أو جمع أعجوبة، وهى ما يتعجب الناس
منه. قال الأخفش: إنما يقال جعلناهم أحاديث في الشر ولا يقال في الخير، كما يقال صار فلان حديثا: أي
عبرة، وكما قال سبحانه في آية أخرى " فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ". قلت: وهذه الكلية غير مسلمة
فقد يقال صار فلان حديثا حسنا، ومنه قول ابن دريد في مقصورته:
وإنما المرء حديث بعده * فكن حديثا حسنا لما روى
(فبعدا لقوم لا يؤمنون)، وصفهم هنا بعدم الإيمان، وفيما سبق قريبا بالظلم لكون كل من الوصفين صادرا
عن كل طائفة من الطائفتين، أو لكون هؤلاء لم يقع منهم إلا مجرد عدم التصديق، وأولئك ضموا إليه تلك
الأقوال الشنيعة التي هي من أشد الظلم وأفظعه. ثم حكى سبحانه ما وقع من فرعون وقومه عند إرسال موسى
وهارون إليهم فقال (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا) هي التسع المتقدم ذكرها غير مرة، ولا يصح عد
فلق البحر منها هنا. لأن المراد بالآيات التي كذبوا بها واستكبروا عنها. والمراد بالسلطان المبين: الحجة الواضحة
البينة. قيل هي الآيات التسع نفسها، والعطف من باب * إلى الملك القرم وابن الهمام * وقيل أراد العصى
لأنها أم الآيات، فيكون من باب عطف جبريل على الملائكة. وقيل المراد بالآيات: التي كانت لهما، وبالسلطان الدلائل
المبين: التسع الآيات، والمراد بالملأ في قوله (إلى فرعون وملائه) هم الأشراف منهم كما سبق بيانه غير مرة
(فاستكبروا) أي طلبوا الكبر وتكلفوه فلم ينقادوا للحق (وكانوا قوما عالين) قاهرين للناس بالبغي والظلم،
مستعلين عليهم، متطاولين كبرا وعنادا وتمردا، وجملة (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا) معطوفة على جملة " استكبروا "
وما بينهما اعتراض، والاستفهام للإنكار: أي كيف نصدق من كان مثلنا في البشرية، والبشر يطلق على الواحد
كقوله " بشرا سويا " كما يطلق على الجمع كما في قوله " فاما ترين من البشر أحدا " فتثنيته هنا هي باعتبار المعنى
الأول، وأفرد المثل لأنه في حكم المصدر، ومعنى (وقومهما لنا عابدون) أنهم مطيعون لهم منقادون لما يأمرونهم
به كانقياد العبيد. قال المبرد: العابد المطيع الخاضع. قال أبو عبيدة: العرب تسمى كل من دان لملك عابدا له،
وقيل يحتمل أنه كان يدعي الإلهية فدعى الناس إلى عبادته فأطاعوه، واللام في " لنا " متعلقة بعابدون، قدمت
عليه لرعاية الفواصل، والجملة حالية (فكذبوهما) أي فأصروا على تكذيبهما (فكانوا من المهلكين) بالغرق في
البحر. ثم حكى سبحانه ما جرى على قوم موسى بعد إهلاك عدوهم فقال (ولقد آتينا موسى الكتاب) يعني
التوراة، وخص موسى بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور، وكان هارون خليفته في قومه (لعلهم
يهتدون) أي لعل قوم موسى يهتدون بها إلى الحق، ويعملون بما فيها من الشرائع، فجعل سبحانه إيتاء موسى إياها
إيتاء لقومه، لأنها وإن كانت منزلة على موسى فهي لإرشاد قومه. وقيل إن ثم مضافا محذوفا أقيم المضاف إليه
مقامه: أي آتينا قوم موسى الكتاب. وقيل إن الضمير في " لعلهم " يرجع إلى فرعون وملائه، وهو وهم لأن موسى
لم يؤت التوراة إلا بعد إهلاك فرعون وقومه كما قال سبحانه " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون
485

الأولى " ثم أشار سبحانه إلى قصة عيسى إجمالا فقال (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) أي علامة تدل على عظيم قدرتنا،
وبديع صنعنا، وقد تقدم الكلام على هذا في آخر سورة الأنبياء في تفسير قوله سبحانه " وجعلناها وابنها آية
للعالمين " ومعنى قوله (وآويناهما إلى ربوة) إلى مكان مرتفع: أي جعلناهما يأويان إليها. قيل هي أرض دمشق،
وبه قال عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب ومقاتل، وقيل بيت المقدس، قاله قتادة وكعب، وقيل أرض
فلسطين، قال السدى (ذات قرار) أي ذات مستقر يستقر عليه ساكنوه (ومعين) أي وماء معين. قال الزجاج:
هو الماء الجاري في العيون، فالميم على هذا زائدة كزيادتها في منبع، وقيل هو فعيل بمعنى مفعول. قال علي بن
سليمان الأخفش معن الماء: إذا جرى فهو معين وممعون: وكذا قال ابن الأعرابي. وقيل هو مأخوذ من الماعون،
وهو النفع، وبمثل ما قال الزجاج قال الفراء (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) قال الزجاج: هذه مخاطبة لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ودل الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا. وقيل إن هذه المقالة خوطب بها كل نبي،
لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها، فيكون المعنى: وقلنا يا أيها الرسل خطابا لكل واحد على انفراده
لاختلاف أزمنتهم. وقال ابن جرير: إن الخطاب لعيسى. وقال الفراء: هو كما تقول للرجل الواحد كفوا عنا،
والطيبات: ما يستطاب ويستلذ، وقيل هي الحلال، وقيل هي ما جمع الوصفين المذكورين. ثم بعد أن أمرهم
بالأكل من الطيبات أمرهم بالعمل الصالح فقال (واعملوا صالحا) أي عملا صالحا وهو ما كان موافقا للشرع،
ثم علل هذا الأمر بقوله (إني بما تعملون عليم) لا يخفى علي شئ منه، وإني مجازيكم على حسب أعمالكم إن خيرا
فخير، وان شرا فشر (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) هذا من جملة ما خوطب به الأنبياء، والمعنى: أن هذه ملتكم
وشريعتكم أيها الرسل ملة واحدة، وشريعة متحدة يجمعها أصل هو أعظم ما بعث الله به أنبياءه وأنزل فيه كتبه،
وهو دعاء جميع الأنبياء إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقيل المعنى: إن هذا الذي تقدم ذكره هو دينكم وملتكم
فالزموه على أن المراد بالأمة هنا الدين كما في قوله " إنا وجدنا آباءنا على أمة "، ومنه قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
قرئ بكسر " إن " على الاستئناف المقرر لما تقدمه، وقرئ بفتحها وتشديدها. قال الخليل: هي في موضع
نصب لما زال الخافض: أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به. وقال الفراء: إن متعلقة بفعل
مضمر، وتقديره: واعلموا أن هذه أمتكم. وقال سيبويه: هي متعلقة باتقون، والتقدير: فاتقون لأن أمتكم
أمة واحدة، والفاء في (فاتقون) لترتيب الأمر بالتقوى على ما قبله من كونه ربكم المختص بالربوبية: أي لا تفعلوا
ما يوجب العقوبة عليكم مني بأن تشركوا بي غيري، أو تخالفوا ما أمرتكم به أو نهيتكم عنه. ثم ذكر سبحانه ما وقع
من الأمم من مخالفتهم لما أمرهم به الرسل فقال (فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا) والفاء لترتيب عصيانهم على ما سبق من
الأمر بالتقوى، والضمير يرجع إلى ما يدل عليه لفظ الأمة، والمعنى: أنهم جعلوا دينهم مع اتحاده قطعا متفرقة
مختلفة. قال المبرد: زبرا فرقا وقطعا مختلفة، واحدها زبور، وهى الفرقة والطائفة، ومثله الزبرة وجمعها زبر،
فوصف سبحانه الأمم بأنهم اختلفوا، فاتبعت فرقة التوراة، وفرقة الزبور، وفرقة الإنجيل ثم حرفوا وبدلوا،
وفرقة مشركة تبعوا ما رسمه لهم آباؤهم من الضلال: قرئ " زبرا " بضم الباء جمع زبور، وقرئ بفتحها: أي
قطعا كقطع الحديد (كل حزب بما لديهم فرحون) أي كل فريق من هؤلاء المختلفين بما لديهم: أي بما عندهم من
الدين فرحون: أي معجبون به (فذرهم في غمرتهم حتى حين) أي اتركهم في جهلهم، فليسوا بأهل للهداية، ولا
يضق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شئ وقت، شبه سبحانه ما هم فيه من الجهل بالماء الذي يغمر من
486

دخل فيه، والغمرة في الأصل ما يغمرك ويعلوك، وأصله الستر، والغمر: الماء الكثير لأنه يغطي الأرض، وغمر
الرداء هو الذي يشمل الناس بالعطاء، ويقال للحقد الغمر، والمراد هنا: الحيرة والغفلة والضلالة، والآية خارجة
مخرج التهديد لهم، لا مخرج الأمر له صلى الله عليه وآله وسلم بالكف عنهم، ومعنى (حتى حين) حتى يحضر
وقت عذابهم بالقتل، أو حتى يموتوا على الكفر فيعذبون في النار (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين) أي
أيحسبون أنما نعطيهم في هذه الدنيا من الأموال والبنين (نسارع) به (لهم) فيما فيه خيرهم وإكرامهم، والهمزة
للإنكار، والجواب عن هذا مقدر يدل عليه قوله (بل لا يشعرون) لأنه عطف على مقدر ينسحب إليه الكلام:
أي كلا لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشئ أصلا كالبهائم التي لا تفهم ولا تعقل، فإن ما خولناهم أبي من النعم
وأمددناهم به من الخيرات إنما هو استدراج لهم ليزدادوا إثما كما قال سبحانه " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ". قال
الزجاج: المعنى نسارع لهم به في الخيرات، فحذفت به، و " ما " في إنما موصولة، والرابط هو هذا المحذوف.
وقال الكسائي: إن أنما هنا حرف واحد فلا يحتاج إلى تقدير رابط. قيل يجوز الوقف على بنين، وقيل لا يحسن لأن
يحسبون يحتاج إلى مفعولين، فتمام المفعولين في الخيرات. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ لأن ما كافة. وقرأ
أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة " يسارع " بالياء التحتية على أن فاعله ما يدل عليه أمددنا، وهو
الإمداد، ويجوز أن يكون المعنى: يسارع الله لهم. وقرأ الباقون " نسارع " بالنون. قال الثعلبي: وهذه القراءة هي
الصواب لقوله نمدهم.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ثم أرسلنا رسلنا تترا) قال: يتبع
بعضهم بعضا. وفى لفظ قال: بعضهم على إثر بعض. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن قتادة (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) قال: ولدته من غير أب. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع
ابن أنس آية قال: عبرة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وآويناهما إلى ربوة) قال: الربوة
المستوية، والمعين: الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله " قد جعل ربك تحتك سريا ". وأخرج ابن أبي شيبة
وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (وآويناهما إلى ربوة) قال: هي المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون
فيه النبات (ذات قرار) ذات خصب، والمعين: الماء الظاهر. وأخرج وكيع والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن
حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وتمام الرازي وابن عساكر. قال السيوطي بسند صحيح عن ابن عباس في قوله (إلى
ربوة) قال: أنبئنا أنها دمشق. وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام مثله. وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عنه.
وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة مرفوعا نحوه، وإسناده ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني
في الأوسط وابن مردويه وابن عساكر عن مرة النهزي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " الربوة
الرملة ". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى، وابن عساكر عن
أبي هريرة قال: هي الرملة من فلسطين. وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعا. وأخرج الطبراني وابن السكن
وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر عن الأقرع بن شفى العكي مرفوعا نحوه. وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر
المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال - يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم - وقال - يا أيها
الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم - ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه
حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، فأنى يستجاب لذلك ". وأخرج سعيد
487

ابن منصور عن حفص الفزاري في قوله (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) قال ذلك عيسى بن مريم يأكل من غزل
أمه. وأخرجه عبدا في الصحابة عن حفص مرفوعا، وهو مرسل لأن حفصا تابعي.
سورة المؤمنين الآية (57 - 67) لما نفى سبحانه الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبع ذلك بذكر من هو أهل للخيرات عاجلا وآجلا
فوصفهم بصفات أربع: الأولى قوله (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) الإشفاق: الخوف، تقول أنا
مشفق من هذا الأمر: أي خائف. قيل الإشفاق هو الخشية، فظاهر ما في الآية التكرار. وأجيب بحمل الخشية
على العذاب: أي من عذاب ربهم خائفون، وبه قال الكلبي ومقاتل. وأجيب أيضا بحمل الإشفاق على ما هو أثر
له: وهو الدوام على الطاعة: أي الذين هم من خشية ربهم دائمون على طاعته. وأجيب أيضا بأن الإشفاق أن كمال
الخوف فلا تكرار، وقيل هو تكرار للتأكيد. والصفة الثانية قوله (والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) قيل المراد
بالآيات هي التنزيلية، وقيل هي التكوينية، وقيل مجموعهما، قيل وليس المراد بالإيمان بها هو التصديق بوجودها
فقط، فإن ذلك معلوم بالضرورة ولا يوجب المدح، بل المراد التصديق بكونها دلائل وأن مدلولها حق، والصفة،
الثالثة قوله (والذين هم بربهم لا يشركون) أي يتركون الشرك تركا كليا ظاهرا وباطنا. والصفة الرابعة قوله (والذين
يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) أي يعطون ما أعطوا وقلوبهم خائفة من أجل ذلك الإعطاء
يظنون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله، وجملة (وقلوبهم وجلة) في محل نصب على الحال: أي والحال أن
قلوبهم خائفة أشد الخوف. قال الزجاج: قلوبهم خائفة لأنهم إلى ربهم راجعون، وسبب الوجل هو أن يخافوا
أن لا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب، لا مجرد رجوعهم إليه سبحانه. وقيل المعنى: أن من اعتقد الرجوع إلى
الجزاء والحساب وعلم أن المجازي والمحاسب هو الرب الذي لا تخفى عليه خافية لم يخل من وجل. قرأت عائشة وابن
عباس والنخعي (يأتون ما أتوا " مقصورا على الإتيان. قال الفراء: ولو صحت هذه القراءة لم تخالف قراءة
الجماعة لأن من العرب من يلزم في الهمز الألف في كل الحالات. قال النحاس: ومعنى هذه القراءة يعملون ما عملوا
والإشارة بقوله (أولئك) إلى المتصفين بهذه الصفات، ومعنى (يسارعون في الخيرات) يبادرون بها. قال الفراء
والزجاج: ينافسون فيها، وقيل يسابقون، وقرئ " يسرعون " (وهم لها سابقون) اللام للتقوية، والمعنى: هم
488

سابقون إياها، وقيل اللام بمعنى إلى كما في قوله - بأن ربك أوحى لها - أي أوحى إليها، وأنشد سيبويه
قول الشاعر:
تجانف عن أهل اليمامة يا فتى * وما قصدت من أهلها لسوائكا
أي إلى سوائكا، وقيل المفعول محذوف، والتقدير: وهو سابقون الناس لأجلها. ثم لما انجر الكلام إلى ذكر
أعمال المكلفين ذكر لهما حكمين: الأول قوله " ولا نكلف نفسا إلا وسعها " الوسع هو الطاقة،، وقد تقدم بيان
هذا في آخر سورة البقرة. وفى تفسير الوسع قولان: الأول أنه الطاقة كما فسره بذلك أهل اللغة. الثاني أنه دون
الطاقة، وبه قال مقاتل والضحاك والكلبي. والمعتزلة قالوا: لأن الوسع إنما سمى وسعا لأنه يتسع على فاعله فعله ولا
يضيق عليه، فمن لم يستطع الجلوس فليوم إيماء، ومن لم يستطع الصوم فليفطر. وهذه الجملة مستأنفة للتحريض
على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الكرامات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد
الوسع والطاقة، وأن ذلك عادة الله سبحانه في تكليف عباده، وجملة (ولدينا كتاب ينطق بالحق) من تمام ما قبلها
من نفي التكليف بما فوق الوسع والمراد بالكتاب صحائف الأعمال: أي عندنا كتاب قد أثبت فيه أعمال كل واحد
من المكلفين على ما هي عليه، ومعنى " ينطق بالحق " يظهر به الحق المطابق للواقع من دون زيادة ولا نقص، ومثله
قوله سبحانه " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق أنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون "، وفى هذا تهديد للعصاة وتأنيس
للمطيعين من الحيف والظلم. وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، فإنه قد كتب فيه كل شئ. وقيل المراد
بالكتاب: القرآن، والأول أولى. وفى هذه الآية تشبيه للكتاب بمن يصدر عنه البيان بالنطق بلسانه، فإن الكتاب
يعرب عما فيه كما يعرب الناطق المحق، وقوله (بالحق). يتعلق بينطق، أو بمحذوف هو حال من فاعله: أي
ينطق ملتبسا بالحق، وجملة (وهم لا يظلمون) مبينة لما قبلها من تفضله وعدله في جزاء عباده: أي لا يظلمون
بنقص ثواب أو بزيادة عقاب، ومثله قوله سبحانه " ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا "، ثم أضرب
سبحانه عن هذا فقال (بل قلوبهم في غمرة من هذا) والضمير للكفار: أي بل قلوب الكفار في غمرة غامرة لها عن
هذا الكتاب الذي ينطق بالحق، أو عن الأمر الذي عليه المؤمنون، يقال غمره الماء: إذا غطاه، ونهر غمر:
يغطي من دخله، والمراد بها هنا الغطاء والغفلة أو الحيرة والعمى، وقد تقدم الكلام على الغمرة قريبا (ولهم أعمال
من دون ذلك) قال قتادة ومجاهد: أي لهم خطايا لا بد أن يعملوها من دون الحق. وقال الحسن وابن زيد:
المعنى ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من دون ما هم عليه لا بد أن يعملوها فيدخلون بها النار، فالإشارة بقوله (ذلك)
إما إلى أعمال المؤمنين، أو إلى أعمال الكفار: أي لهم أعمال من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله، أو من دون
أعمال الكفار التي تقدم ذكرها من كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر، وهى فنون كفرهم ومعاصيهم التي من
جملتها ما سيأتي من طعنهم في القرآن. قال الواحدي: إجماع المفسرين وأصحاب المعاني على أن هذا إخبار عما سيعملونها
من أعمالهم الخبيثة التي كتبت عليهم لا بد لهم أن يعملوها، وجملة (هم لها عاملون) مقررة لما قبلها: أي واجب
عليهم أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة لا محيص لهم عن ذلك. ثم رجع سبحانه إلى وصف الكفار
فقال (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب) حتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام هو الجملة الشرطية
المذكورة، وهذه الجملة مبينة لما قبلها، والضمير في مترفيهم راجع إلى من تقدم ذكره من الكفار، والمراد
بالمترفين المتنعمين منهم، وهم الذين أمدهم الله بما تقدم ذكره من المال والبنين، أو المراد بهم الرؤساء منهم. والمراد
بالعذاب هو عذابهم بالسيف يوم بدر، أو بالجوع بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: اللهم
489

اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف. وقيل المراد بالعذاب عذاب الآخرة، ورجح هذا
بأن ما يقع منهم من الجؤار إنما يكون عند عذاب الآخرة، لأنه الاستغاثة بالله ولم يقع منهم ذلك يوم بدر ولا في
سنى الجوع. ويجاب عنه بأن الجؤار في اللغة الصراخ والصياح. قال الجوهري: الجؤار مثل الخوار، يقال جأر
الثور يجأر: أي صاح، وقد وقع منهم ومن أهلهم وأولادهم عند أن عذبوا بالسيف يوم بدر، وبالجوع في سنى
الجوع، وليس الجؤار هاهنا مقيد بالجؤار الذي هو التضرع بالدعاء حتى يتم ما ذكره ذلك القائل، وجملة (إذا هم
يجأرون) جواب الشرط، وإذا هي الفجائية، والمعنى: حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فاجئوا بالصراخ، ثم
أخبر سبحانه أنه يقال لهم حينئذ على جهة التبكيت (لا تجأروا اليوم) فالقول مضمر، والجملة مسوقة لتبكيتهم
وإقناطهم وقطع أطماعهم، وخصص سبحانه المترفين مع أن العذاب لاحق بهم جميعا واقع على مترفيهم وغير
مترفيهم لبيان أنهم بعد النعمة التي كانوا فيها صاروا على حالة تخالفها وتباينها، فانتقلوا من النعيم التام إلى الشقاء
الخالص، وخص اليوم بالذكر للتهويل، وجملة (إنكم منا لا تنصرون) تعليل للنهي عن الجؤار، والمعنى: إنكم
من عذابنا لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم. وقيل المعنى: إنكم لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم من العذاب.
ثم عدد سبحانه عليهم قبائحهم توبيخا لهم فقال (قد كانت آياتي تتلى عليكم) أي في الدنيا، وهى آيات القرآن
(فكنتم على أعقابكم تنكصون) أي ترجعون وراءكم، وأصل النكوص أن يرجع القهقري، ومنه قول الشاعر:
زعموا أنهم على سبل الحق * وأنا نكص على الأعقاب
وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق، وقرأ علي بن أبي طالب " على أدباركم " بدل (على أعقابكم تنكصون)
بضم الكاف، وعلى أعقابكم متعلق بتنكصون، عن أو متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل تنكصون (مستكبرين به)
الضمير في به راجع إلى البيت العتيق، وقيل للحرم، والذي سوغ الإضمار قبل الذكر اشتهارهم بالاستكبار به
وافتخارهم بولايته والقيام به، وكانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم وخدامه. وإلى هذا ذهب
جمهور المفسرين. وقيل الضمير عائد إلى القرآن. والمعنى: أن سماعه يحدث لهم كبرا وطغيانا فلا يؤمنون به. قال
ابن عطية: وهذا قول جيد. وقال النحاس: القول الأول أولى وبينه بما ذكرنا. فعلى القول الأول يكون به متعلقا
بمستكبرين، وعلى الثاني يكون متعلقا ب‍ (سامرا) لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكان عامة
سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه، والسامر كالحاضر في الاطلاق على الجمع. قال الواحدي: السامر الجماعة
يسمرون بالليل.: أي يتحدثون، ويجوز أن يتعلق " به " بقوله (تهجرون) والهجر بالفتح الهذيان: أي تهذون
في شأن القرآن، ويجوز أن يكون من الهجر بالضم، وهو الفحش. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن عمر
وأبو حياة " سمرا " بضم السين وفتح الميم مشددة، وقرأ زيد بن علي وأبو رجاء " سمارا " ورويت هذه القراءة عن
ابن عباس، وانتصاب سامرا على الحال إما من فاعل تنكصون، أو من الضمير في مستكبرين، وقيل هو مصدر
جاء على لفظ الفاعل، يقال قوم سامر، ومنه قول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر
قال الراغب: ويقال سامر وسمار، وسمر وسامرون. قرأ الجمهور " تهجرون " بفتح التاء المثناة من فوق
وضم الجيم. وقرأ نافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم من أهجر: أي أفحش في منطقه. وقرأ زيد بن علي وابن
محيصن وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشددة مضارع هجر بالتشديد. وقرأ ابن أبي عاصم كالجمهور
إلا أنه بالياء التحتية، وفيه التفات.
490

وقد أخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين، وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة قالت: قلت
يا رسول الله، قول الله (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع
ذلك يخاف الله؟ قال لا، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي، وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه. وأخرج
ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن الأنباري في المصاحف وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قالت عائشة:
يا رسول الله، فذكر نحوه. وأخرج عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله (والذين يؤتون ما آتوا) قال: يعطون
ما أعطوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (وقلوبهم وجلة) قال: يعملون خائفين.
وأخرج الفريابي وابن جرير عن ابن عمر (والذين يؤتون ما آتوا) قال: الزكاة. وأخرج سعيد بن منصور وعبد
ابن حميد وابن المنذر عن عائشة (والذين يأتون ما أتوا) قالت: هم الذين يخشون الله ويطيعونه. وأخرج عبد بن
حميد عن ابن أبي ملكية قال: قالت عائشة: لأن تكون هذه الآية كما أقرأ أحب إلي من حمر النعم، فقال لها ابن
عباس: ما هي؟ قالت (الذين يؤتون ما آتوا) وقد قدمنا ذكر قراءتها ومعناها. وأخرج سعيد بن منصور وابن
مردويه عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرأ (والذين يؤتون ما أتوا) مقصورا من المجئ.
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن الأنباري
في المصاحف والدارقطني في الأفراد، والحاكم صححه وابن مردويه عن عبيد بن عمير أنه سأل عائشة كيف
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ هذه الآية (والذين يأتون ما آتوا)؟ قالت: أيتهما أحب إليك.
قلت: والذي نفسي بيده لأحدهما أحب إلي من الدنيا وما فيها جميعا، قالت: أيهما؟ قلت (الذين يأتون
ما أتوا) فقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرؤها كذلك، وكذلك أنزلت، ولكن
الهجاء حرف. وفى إسناده إسماعيل بن علي وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) قال: سبقت لهم السعادة من الله. وأخرج عبد بن
حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (بل قلوبهم في غمرة من هذا) يعني بالغمرة الكفر والشك
(ولهم أعمال من دون ذلك) يقول: أعمال سيئة دون الشرك (هم لها عاملون) قال: لا بد لهم أن يعملوها.
وأخرج النسائي عنه (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب) قال: هم أهل بدر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عنه أيضا في قوله (إذا هم يجأرون) قال: يستغيثون، وفى قوله (فكنتم على أعقابكم تنكصون) قال:
تدبرون، وفى قوله (سامرا تهجرون) قال: تسمرون حول البيت وتقولون هجرا. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عنه (مستكبرين به) قال: بحرم الله أنه لا يظهر عليهم فيه أحد. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم
عنه أيضا (سامرا تهجرون) قال: كانت قريش يتحلقون حلقا يتحدثون حول البيت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن
المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ
(مستكبرين به سامرا تهجرون) قال: كان المشركون يهجرون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القول
في سمرهم. وأخرج النسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما كره السمر حين
نزلت هذه الآية (مستكبرين به سامر تهجرون).
سورة المؤمنون الآية (68)
491

سورة المؤمنون الآية (69 - 83)
قوله (أفلم يدبروا القول) بين سبحانه أن سبب إقدامهم على الكفر هو أحد هذه الأمور الأربعة: الأول
عدم التدبر في القرآن، فإنهم لو تدبروا معانيه لظهر لهم صدقه وآمنوا به وبما فيه، والهمزة للإنكار والفاء للعطف
على مقدر: أي فعلوا ما فعلوا فلم يتدبروا، والمراد بالقول القرآن، ومثله " أفلا يتدبرون القرآن ". والثاني قوله
(أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين) أم هي المنقطعة: أي بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين، فكان
ذلك سببا لاستنكارهم للقرآن، والمقصود تقرير أنه لم يأت آباءهم الأولين رسول، فلذلك أنكروه، ومثله قوله
" لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم " وقيل إنه أتى آباءهم الأقدمين رسل أرسلهم الله إليهم. كما هي سنة الله سبحانه في
إرسال الرسل إلى عباده، فقد عرف هؤلاء ذلك، فكيف كذبوا هذا القرآن. وقيل المعنى: أم جاءهم من الأمن
من عذاب الله ما لم يأت آباءهم الأولين كإسماعيل ومن بعده. والثالث قوله (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون)
وفى هذا إضراب وانتقال من التوبيخ بما تقدم إلى التوبيخ بوجه آخر: أي بل ألم يعرفوه بالأمانة والصدق فأنكروه،
ومعلوم أنهم قد عرفوه بذلك. والرابع قوله (أم يقولون به جنة) وهذا أيضا انتقال من توبيخ إلى توبيخ: أي بل
أتقولون به جنة: أي جنون، مع أنهم قد عملوا أنه أرجح الناس عقلا، ولكنه جاء بما يخالف هواهم فدفعوه
وجحدوه تعصبا وحمية. ثم أضرب سبحانه عن ذلك كله فقال (بل جاءهم بالحق) أي ليس الأمر كما زعموا في
حق القرآن والرسول، بل جاءهم ملتبسا بالحق، والحق هو الدين القويم، (وأكثرهم للحق كارهون) لما جبلوا
عليه من التعصب، والانحراف عن الصواب، والبعد عن الحق، فلذلك كرهوا هذا الحق الواضح الظاهر، وظاهر
النظم أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق، ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفا من الكارهين له، وجملة (ولو اتبع الحق
492

أهواءهم) مستأنفة مسوقة لبيان أنه لو جاء الحق عل ما يهوونه ويريدونه لكان ذلك مستلزما للفساد العظيم، وخروج
نظام العالم عن الصلاح بالكلية، وهو معنى قوله (لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن) قال أبو صالح وابن
جريج ومقاتل والسدي: الحق هو الله، والمعنى: لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكا لفسدت السماوات والأرض.
وقال الفراء والزجاج: يجوز أن يكون المراد بالحق القرآن: أي لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم.
وقيل المعنى: ولو كان الحق ما يقولون من اتحاد الآلهة مع الله لاختلف الآلهة، ومثل ذلك قوله " لو كان فيهما
آلهة إلا الله لفسدتا " وقد ذهب إلى القول الأول الأكثرون، ولكنه يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو الحق المذكور
قبله في قوله (بل جاءهم بالحق) ولا يصح أن يكون المراد به هنالك الله سبحانه، فالأولى تفسير الحق هنا وهناك
بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله، والمعنى: ولو ورد الحق متابعا لأهوائهم موافقا لفاسد
مقاصدهم لحصل الفساد، والمراد بقوله (ومن فيهن) من في السماوات والأرض من المخلوقات. وقرأ ابن مسعود
" وما بينهما " وسبب فساد المكلفين من بني آدم ظاهر، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق، وأما
فساد ما عداهم فعلى وجه التبع لأنهم مدبرون في الغالب بذوي العقول فلما فسدو فسدوا. ثم ذكر سبحانه أن نزول
القرآن عليهم من جملة الحق فقال (بل أتيناهم بذكرهم) والمراد بالذكر هنا القرآن: أي بالكتاب الذي هو فخرهم
وشرفهم، ومثله قوله " وإنه لذكر لك ولقومك " والمعنى: بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن
يقبلوه، ويقبلوا عليه. وقال قتادة: المعنى بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم. وقيل المعنى: بذكر ما لهم به
حاجة من أمر الدين. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر " أتيتهم " بتاء التكلم. وقرأ أبو حياة والجحدري " أتيتهم "
بتاء الخطاب: أي أتيتهم يا محمد. وقرأ عيسى بن عمر " بذكراهم " وقرأ قتادة - نذكرهم " بالنون والتشديد من
التذكير، وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال، وقيل الذكر هو الوعظ والتحذير (فهم عن
ذكرهم معرضون) أي هم بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم معرضون لا يلتفون إليه
بحال من الأحوال، وفى هذا التركيب ما يدل على أن إعراضهم مختص بذلك لا يتجاوزه إلى غيره. ثم بين سبحانه
أن دعوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ليست مشوبة بأطماع الدنيا فقال (أم تسألهم خرجا) وأم هي المنقطعة،
والمعنى: أم يزعمون أنك تسألهم خرجا تأخذه على الرسالة. والخرج الأجر والجعل، فتركوا الإيمان بك وبما جئت
به لأجل ذلك، مع أنهم يعلمون أنك لم تسألهم ذلك ولا طلبته منهم (فخراج ربك خير) أي فرزق ربك الذي
يرزقك في الدنيا، وأجره الذي يعطيكه في الآخرة خير لك مما ذكر. قرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب
" أم تسألهم خراجا " وقرأ الباقون " خرجا " وكلهم قرأوا (فخراج) إلا ابن عامر وأبا حياة فإنهما قرآ " فخرج "
بغير ألف، والخرج هو الذي يكون مقابلا للدخل، يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك خرجا، والخراج غالب في
الضريبة على الأرض. قال المبرد: الخرج المصدر، والخراج الاسم. قال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن
العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك، والخرج ما تبرعت به. وروى عنه أنه قال: الخرج
من الرقاب.. والخراج من الأرض (وهو خير الرازقين) هذه الجملة مقررة لما قبلها من كون خراجه سبحانه خير.
ثم لما أثبت سبحانه لرسوله من الأدلة الواضحة المقتضية لقبول ما جاء به ونفى عنه أضداد ذلك قال (وإنك
لتدعوهم إلى صراط مستقيم) أي إلى طريق واضحة تشهد العقول بأنها مستقيمة غير معوجة، والصراط في اللغة
الطريق، فسمى الدين طريقا لأنها تؤدي إليه. ثم وصفهم سبحانه بأنهم على خلاف ذلك فقال (وإن الذين
لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) يقال: نكب عن الطريق ينكب نكوبا: إذا عدل عنه ومال إلى غيره،
والنكوب والنكب العدول والميل، ومنه النكباء للريح بين ريحين، سميت بذلك لعدولها عن المهاب، وعن الصراط
493

متعلق يناكبون، والمعنى: أن هؤلاء الموصوفين بعدم الإيمان بالآخرة عن ذلك الصراط أو جنس الصراط لعادلون
عنه. ثم بين سبحانه أنهم مصرون على الكفر لا يرجعون عنه بحال فقال (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر) أي
من قحط وجدب (للجوا في طغيانهم): أي لتمادوا في طغيانهم وضلالهم (يعمهون) يترددون ويتذبذبون
ويخبطون، وأصل اللجاج التمادي في العناد، ومنه اللجة بالفتح لتردد الصوت، ولجة البحر تردد أمواجه، ولجة
الليل ترد ظلامه. وقيل المعنى لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجوا في طغيانهم (ولقد أخذناهم
بالعذاب) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها. والعذاب قيل هو الجوع الذي أصابهم في سنى القحط، وقيل
المرض، وقيل القتل يوم بدر، واختاره الزجاج، وقيل الموت، وقيل المراد من أصابه العذاب من الأمم الخالية
(فما استكانوا لربهم) أي ما خضعوا ولا تذللوا، بل أقاموا على ما كانوا فيه من التمرد على الله والانهماك في معاصيه
(وما يتضرعون) أي وما يخشعون لله في الشدائد عند إصابتها لهم، ولا يدعونه لرفع ذلك (حتى إذا فتحنا عليهم
بابا ذا عذاب شديد) قيل هو عذاب الآخرة، وقيل قتلهم يوم بدر بالسيف، وقيل القحط الذي أصابهم، وقيل
فتح مكة (إذا هم فيه مبلسون) أي متحيرون، لا يدرون ما يصنعون، والإبلاس التحير والإياس من كل خير.
وقرأ السلمي " مبلسون " بفتح اللام من أبلسه: أي أدخله في الإبلاس. وقد تقدم في الأنعام (وهو الذي أنشأ لكم
السمع والأبصار) أمتن عليهم ببعض النعم التي أعطاهم، وهى نعمة السمع والبصر (والأفئدة) فصارت هذه
الأمور معهم ليسمعوا المواعظ وينظروا العبر ويتفكروا بالأفئدة فلم ينتفعوا بشئ من ذلك لإصرارهم على الكفر
وبعدهم عن الحق، ولم يشكروه على ذلك ولهذا قال (قليلا ما تشكرون) أي شكرا قليلا حقيرا غير معتد به باعتبار
تلك النعم الجليلة. وقيل المعنى: أنهم لا يشكرونه البتة، لا أن لهم شكرا قليلا. كما يقال لجاحد النعمة: ما أقل
شكره: أي لا يشكر، ومثل هذه الآية قوله - فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم - (وهو الذي ذرأكم
في الأرض) أي بثكم فيها كما تبث الحبوب لتنبت وقد تقدم تحقيقه (وإليه تحشرون) أي تجمعون يوم القيامة بعد
تفرقكم (وهو الذي يحيى ويميت على جهة الانفراد والاستقلال، وفى هذا تذكير لنعمة الحياة، وبيان الانتقال
منها إلى الدار الآخرة (وله اختلاف الليل والنهار) قال الفراء: هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد
والبياض، وقيل اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر، وقيل تكررهما يوما بعد يوم وليلة بعد ليلة (أفلا
تعقلون) كنه قدرته وتتفكرون في ذلك. ثم بين سبحانه أن لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد
المبني على مجرد الاستبعاد فقال (بل قالوا مثل ما قال الأولون) أي آباؤهم والموافقون لهم في دينهم. ثم بين ما قاله
الأولون فقال (قالوا أئذا كنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) فهذا مجرد استبعاد لم يتعلقوا فيه بشئ من الشبه، ثم
كملوا ذلك القول بقولهم (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل) أي وعدنا هذا البعث ووعده آباؤنا الكائنون من
قبلنا فلم نصدقه كما لم يصدقه (من قبلنا، ثم صرحوا بالتكذيب وفروا إلى مجرد الزعم الباطل فقالوا (إن هذا إلا
أساطير الأولين) أي ما هذا إلا أكاذيب الأولين التي سطروها في الكتب جمع أسطورة كأحدوثة، والأساطير
الأباطيل والترهات والكذب.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح في قوله (أم لم
يعرفوا رسولهم) قال: عرفوه ولكنهم حسدوه. وفى قوله (ولو اتبع الحق أهواءهم) قال: الحق الله عز وجل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (بل أتيناهم بذكرهم) قال: بينا لهم. وأخرجوا
عنه في قوله (عن الصراط لناكبون) قال: عن الحق لحائدون. وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم
494

والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز: يعني الوبر بالدم، فأنزل الله (ولقد أخذناهم
بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) وأصل الحديث في الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " الحديث. وأخرج ابن جرير
وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن ابن أثال الحنفي لما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فأسلم وهو أسير فخلى سبيله لحق باليمامة، فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز
فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أليس تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال بلى. قال:
فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع. فأنزل الله (ولقد أخذناهم بالعذاب) الآية. وأخرج العسكري في
المواعظ عن علي بن أبي طالب في قوله (فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) قال: أي لم يتواضعوا في الدعاء ولم
يخضعوا، ولو خضعوا لله لاستجاب لهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله
(حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد) قال: قد مضى، كان يوم بدر.
سورة المؤمنون الآية (84 - 98).
أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل الكفار عن أمور لا عذر لهم من الاعتراف فيها، ثم أمره
أن ينكر عليهم بعد الاعتراف منهم ويوبخهم فقال (قل لمن الأرض ومن فيها) أي قل يا محمد لأهل مكة هذه المقالة،
والمراد بمن في الأرض الخلق جميعا، وعبر عنهم بمن تغليبا للعقلاء (إن كنتم تعلمون) شيئا من العلم، وجواب
الشرط محذوف: أي إن كنتم تعلمون فأخبروني. وفى هذا تلويح بجهلهم وفرط غباوتهم (سيقولون لله) أي لا بد
لهم أن يقولوا ذلك، لأنه معلوم ببديهة العقل، ثم أمره سبحانه أن يقول لهم بعد اعترافهم (أفلا تذكرون) ترغيبا
لهم في التدبر وإمعان النظر والفكر، فإن ذلك مما يقودهم إلى اتباع الحق وترك الباطل، لأن من قدر على ذلك ابتداء
495

قدر على إحياء الموتى (قل من رب السماوات ورب العرش العظيم. سيقولون لله) جاء سبحانه باللام نظرا إلى معنى
السؤال، فإن قولك: من ربه، ولمن هو في معنى واحد، كقولك: من رب هذه الدار؟ فيقال زيد، ويقال
لزيد. وقرأ أبو عمرو وأهل العراق - سيقولون الله " بغير لام نظرا إلى لفظ السؤال، وهذه القراءة أوضح من قراءة
الباقين باللام، ولكنه يؤيد قراءة الجمهور أنها مكتوبة في جميع المصاحف باللام بدون ألف، وهكذا قرأ الجمهور
في قوله (قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله) باللام نظرا إلى
معنى السؤال كما سلف. وقرأ أبو عمرو وأهل العراق بغير لام نظرا إلى لفظ السؤال، ومثل هذا قول الشاعر:
إذا قيل من رب المزالف والقرى * ورب الجياد الجرد قيل لخالد
أي لمن المزالف، والملكوت الملك، وزيادة التاء للمبالغة، نحو جبروت ورهبوت، ومعنى (وهو يجير) أنه
يغيث غيره إذا شاء ويمنعه (ولا يجار عليه) أي لا يمنع أحد أحدا من عذاب الله ولا يقدر على نصره وإغاثته، يقال
أجرت فلانا: إذا استغاث بك فحميته، وأجرت عليه: إذا حميت عنه (قل فأنى تسحرون) قال الفراء والزجاج:
أي تصرفون عن الحق وتخدعون، والمعنى: كيف يخيل لكم الحق باطلا والصحيح فاسدا، والخادع لهم هو
الشيطان أو الهوى أو كلاهما. ثم بين سبحانه أنه قد بالغ في الاحتجاج عليهم فقال (بل أتيناهم بالحق) أي الأمر
الواضح الذي يحق اتباعه (وإنهم لكاذبون) فيما ينسبونه إلى الله سبحانه من الولد والشريك، ثم نفاهما عن نفسه
فقال (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) من في الموضعين زائدة لتأكيد النفي. ثم بين سبحانه ما يستلزمه
ما يدعيه الكفار من إثبات الشريك، فقال (إذا لذهب كل إله بما خلق) وفى الكلام حذف تقديره لو كان مع
الله آلهة لا نفرد كل إله بخلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الأخر، ووقع بينهم التطالب والتحارب والتغالب
(ولعلا بعضهم على بعض) أي غلب القوي على الضعيف وقهره وأخذ ملكه كعادة الملوك من بني آدم، وحينئذ
فذلك الضعيف المغلوب لا يستحق أن يكون إلها، وإذا تقرر عدم إمكان المشاركة في ذلك، وأنه لا يقوم به إلا
واحد تعين أن يكون هذا الواحد هو الله سبحانه، وهذا الدليل كما دل على نفي الشريك فإنه يدل على نفي الولد، لأن
الولد ينازع أباه في ملكه. ثم نزه سبحانه نفسه فقال (سبحان الله عما يصفون) أي من الشريك والولد وإثبات ذلك
لله عز وجل (عالم الغيب والشهادة) أي هو مختص بعلم الغيب والشهادة، وأما غيره فهو وإن علم الشهادة لا يعلم
الغيب. قرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي " عالم " بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو عالم. وقرأ الباقون
بالجر على أنه صفة لله أو بدل منه. وروى عن يعقوب أنه كان يخفض إذا وصل ويرفع إذا ابتدأ (فتعالى) الله
(عما يشركون) معطوف على معنى ما تقدم كأنه قال: علم الغيب فتعالى، كقولك: زيد شجاع فعظمت منزلته:
أي شجع فعظمت، أو يكون على إضمار القول: أي أقول فتعالى الله، والمعنى: أنه سبحانه متعال عن أن يكون
له شريك في الملك (قل رب إما تريني ما يوعدون) أي إن كان ولا بد أن تريني ما يوعدون من العذاب المستأصل
لهم (رب فلا تجعلني في القوم الظالمين) أي قل يا رب فلا تجعلني. قال الزجاج: أي إن أنزلت بهم النقمة يا رب
فاجعلني خارجا عنهم، ومعنى كلامه هذا أن النداء معترض، و " ما " في إما زائدة: أي قل رب إن تريني،
والجواب فلا تجعلني، وذكر الرب مرتين مرة قبل الشرط: ومرة بعده مبالغة في التضرع. وأمره الله أن يسأله أن
لا يجعله في القوم الظالمين مع أن الأنبياء لا يكونون مع القوم الظالمين أبدا، تعليما له صلى الله عليه وآله وسلم من ربه
كيف يتواضع؟ وقيل يهضم نفسه، أو لكون شؤم الكفر قد يلحق من لم يكن من أهله كقوله " واتقوا فتنة
لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " ثم لما كان المشركون ينكرون العذاب ويسخرون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
496

إذا ذكر لهم ذلك أكد سبحانه وقوعه بقوله (وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون) أي أن الله سبحانه قادر
على أن يرى رسوله عذابهم، ولكنه يؤخره لعلمه بأن بعضهم سيؤمن، أو لكون الله سبحانه لا يعذبهم والرسول
فيهم، وقيل قد أراه الله سبحانه ذلك يوم بدر ويوم فتح مكة، ثم أمره سبحانه بالصبر إلى أن ينقضي الأجل
المضروب للعذاب فقال (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) أي ادفع بالخصلة التي هي أحسن من غيرها، وهى الصفح
والإعراض عما يفعله الكفار من الخصلة السيئة وهى الشرك. قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل هي محكمة
في حق هذه الأمة فيما بينهم، منسوخة في حق الكفار (نحن أعلم بما يصفون) أي ما يصفونك به مما أنت على خلافه،
أو بما يصفون من الشرك والتكذيب، وفى هذا وعيد لهم بالعقوبة. ثم علمه سبحانه ما يقويه على ما أرشده إليه من
العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة فقال (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) الهمزات جمع همزة، وهى
في اللغة الدفعة باليد أو بغيرها، وهمزات الشياطين نزغاتهم ووساوسهم كما قاله المفسرون، يقول همزه ولمزه ونخسه:
أي دفعه، وقيل الهمز كلام من وراء القفا، واللمز المواجهة، وفيه إرشاد لهذه الأمة إلى التعود من الشيطان،
ومن همزات الشياطين سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه (وأعوذ بك رب أن يحضرون) أمره سبحانه
أن يتعوذ بالله من حضور الشياطين بعد ما أمره أن يتعوذ من همزاتهم، والمعنى: وأعوذ بك أن يكونوا معي في حال
من الأحوال، فإنهم إذا حضروا الإنسان لم يكن لهم عمل إلا الوسوسة والإغراء على الشر والصرف عن الخير. وفى
قراءة أبي " وقل رب عائذا بك من همزات الشياطين. وعائذا بك رب أن يحضرون ".
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (قل من
بيده ملكوت كل شئ) قال: خزائن كل شئ. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه (ادفع بالتي
هي أحسن السيئة) يقول: أعرض عن أذاهم إياك: وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء
(ادفع بالتي هي أحسن) قال: بالسلام. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أنس في قوله (ادفع بالتي
هي أحسن السيئة) قال: قول الرجل لأخيه ما ليس فيه، فيقول إن كنت كاذبا فأنا أسأل الله أن يغفر لك، وإن
كنت صادقا فأنا أسأل الله أن يغفر لي. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي
في الأسماء والصفات عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع: بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن
همزات الشياطين وأن يحضرون " قال: فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن
كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه. وفى إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف
وأخرج أحمد عن الوليد بن الوليد أنه قال " يا رسول الله إني لأجد وحشة، قال: إذا أخذت مضجعك فقل: أعوذ
بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنه لا يحضرك " وبالحري
لا يضرك.
سورة المؤمنون الآية (99 - 101)
497

سورة المؤمنون الآية (102 - 118)
(حتى) هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية، وهى مع ذلك غاية لما قبلها متعلقة بقوله لكاذبون وقيل
بيصفون، والمراد بمجئ الموت مجئ علاماته (قال رب ارجعون) أي قال ذلك الأحد الذي حضره الموت
تحسرا وتحزنا على ما فرط منه رب ارجعون: أي ردوني إلى الدنيا، وإنما قال ارجعون بضمير الجماعة لتعظيم
المخاطب. وقيل هو على معنى تكرير الفعل: أي ارجعني ارجعني ارجعني، ومثله قوله " ألقيا في جهنم " قال
المازني: معناه ألق ألق، وهكذا قيل في قول امرئ القيس: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * ومنه
قول الحجاج * يا حرسي اضربا عنقه * ومنه قول الشاعر: * ولو شئت حرمت النساء سواكم * وقول
الآخر: * ألا فارحموني يا إله محمد *.
وقيل إنهم لما استغاثوا بالله قال قائلهم رب، ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال: (ارجعون لعلى أعمل صالحا)
أي أعمل عملا صالحا في الدنيا إذا رجعت إليها من الإيمان وما يتبعه من أعمال الخير، ولما تمنى أن يرجع ليعمل رد
الله عليه ذلك بقوله (كلا إنها كلمة هو قائلها) فجاء بكلمة الردع والزجر، والضمير في إنها يرجع إلى قوله (رب
ارجعون) أي إن هذه الكلمة هو قائلها لا محالة، وليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا،
أو المعنى: أنه لو أجيب إلى ذلك لما حصل منه الوفاء كما في قوله " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " وقيل إن
498

الضمير في قائلها يرجع إلى الله: أي لا خلف في خبره، وقد أخبرنا بأنه لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها (ومن ورائهم
برزخ) أي من أمامهم وبين أيديهم: والبرزخ هو الحاجز بين الشيئين. قاله الجوهري.
واختلف في معنى الآية، فقال الضحاك ومجاهد وابن زيد: حاجز بين الموت والبعث. وقال الكلبي: هو
الأجل ما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة. وقال السدى: هو الأجل، و (إلى يوم يبعثون) هو يوم القيامة
(فإذا نفخ في الصور) قيل هذه هي النفخة الأولى، وقيل الثانية، وهذا أولى، وهي النفخة التي تقع بين البعث
والنشور، وقيل المعنى، فإذا نفخ في الأجساد أرواحها، على أن الصور جمع صورة، لا القرن ويدل على هذا
قراءة ابن عباس والحسن " الصور " بفتح الواو مع ضم الصاد جمع صورة. وقرأ أبو رزين بفتح الصاد والواو. وقرأ
الباقون بضم الصاد وسكون الواو، وهو القرن الذي ينفخ فيه (فلا أنساب بينهم يومئذ) أي لا يتفاخرون بالأنساب
ويذكرونها لما هم فيه من الحيرة والدهشة (ولا يتساءلون) أي لا يسأل بعضهم بعضا، فإن لهم إذ ذاك شغلا شاغلا،
ومنه قوله تعالى " يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه "، وقوله " ولا يسأل حميم حميما "، ولا ينافي
هذا ما في الآية الأخرى من قوله " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " فإن ذلك محمول على اختلاف المواقف يوم
القيامة، فالإثبات باعتبار بعضها، والنفي باعتبار بعض آخر كما قررناه في نظائر هذا، مما أثبت تارة ونفي أخرى
(فمن ثقلت موازينه) أي موزوناته من أعماله الصالحة (فأولئك هم المفلحون) أي الفائزون بمطالبهم المحبوبة،
الناجون من الأمور التي يخافونها (ومن خفت موازينه) وهى أعماله الصالحة (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) أي
ضيعوها وتركوا ما ينفعها (في جهنم خالدون) هذا بدل من صلة الموصول، أو خبر ثان لاسم الإشارة، وقد
تقدم الكلام على هذه الآية مستوفى فلا نعيده، وجملة (تلفح وجوههم النار) مستأنفة، ويجوز أن تكون في محل
نصب على الحال، أو تكون خبرا آخر لأولئك، واللفح الإحراق، يقال لفحته النار، إذا أحرقته، ولفحته بالسيف:
إذا ضربته، وخص الوجوه لأنها أشرف الأعضاء (وهم فيها كالحون) هذه الجملة في محل نصب على الحال،
والكالح الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه، قاله الزجاج. ودهر كالح: أي شديد. قال أهل اللغة: الكلوح
تكنيز في عبوس، وجملة (ألم تكن آياتي تتلى عليكم) هي على إضمار القول: أي يقال لهم ذلك توبيخا وتقريعا:
أي ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا (فكنتم بها تكذبون) وجملة (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا) مستأنفة جواب
سؤال مقدر: أي غلبت علينا لذاتنا وشهواتنا، فسمى ذلك شقوة، لأنه يؤول إلى الشقاء. قرأ أهل المدينة
وأبو عمرو وعاصم " شقوتنا " وقرأ الباقون " شقاوتنا " وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن (وكنا قوما
ضالين) أي بسبب ذلك فإنهم ضلوا عن الحق بتلك الشقوة. ثم طلبوا ما لا يجابون إليه فقالوا (ربنا أخرجنا منها
فإن عدنا فإنا ظالمون) أي فإن عدنا إلى ما كنا عليه من الكفر وعدم الإيمان فإنا ظالمون لأنفسنا بالعود إلى ذلك،
فأجاب الله عليهم بقوله (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) أي اسكنوا في جهنم. قال المبرد: الخسء إبعاد بمكروه
وقال الزجاج: تباعدوا تباعد سخط وأبعدوا بعد الكلب. فالمعنى على هذا: أبعدوا في جهنم، كما يقال للكلب
اخسأ: أي أبعد، خسأت الكلب خسأ طردته، ولا تكلمون في إخراجكم من النار ورجوعكم إلى الدنيا، أو في
رفع العذاب عنكم، وقيل المعنى: لا تكلمون رأسا. ثم علل ذلك بقوله (إنه كان فريق من عبادي يقولون) وهم
المؤمنون، وقيل الصحابة، يقولون (ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين) قرأ الجمهور " إنه كان
فريق " بكسر إن استئنافا تعليليا " وقرأ أبي بفتحها (فاتخذتموهم سخريا) قرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين. وقرأ
499

الباقون بكسرها. وفرق بينهما أبو عمرو فجعل الكسر من جهة الهزو، والضم من جهة السخرية. قال النحاس:
ولا يعرف هذا الفرق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء، وحكى الثعلبي عن الكسائي: أن الكسر بمعنى
الاستهزاء والسخرية بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل (حتى أنسوكم ذكرى) أي اتخذتموهم سخريا
إلى هذه الغاية فإنهم نسوا ذكر الله لشدة اشتغالهم بالاستهزاء (وكنتم منهم تضحكون) في الدنيا، والمعنى: حتى
نسيتم ذكري باشتغالكم بالسخرية والضحك، فنسب ذلك إلى عباده المؤمنين لكونهم السبب، وجملة (إني جزيتهم
اليوم بما صبروا) مستأنفة لتقرير ما سبق، والباء في بما صبروا للسببية (أنهم هم الفائزون) قرأ حمزة والكسائي بكسر
الهمزة على الاستئناف، وقرأ الباقون بالفتح: أي لأنهم الفائزون، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه المفعول الثاني
للفعل (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين القائل هو الله عز وجل وتذكيرا لهم كم لبثوا؟ لما سألوا الرجوع إلى
الدنيا بعد أن أخبرهم بأن ذلك غير كائن كما في قوله: اخسئوا فيها، والمراد بالأرض هي الأرض التي طلبوا
الرجوع إليها، ويحتمل أن يكون السؤال عن جميع ما لبثوه في الحياة وفى القبور، وقيل هو سؤال عن مدة لبثهم
في القبور لقوله: في الأرض، ولم يقل على الأرض، ورد بمثل قوله تعالى " ولا تفسدوا في الأرض " وانتصاب
عدد سنين على التمييز، لما في كم من الإبهام، وسنين بفتح النون على أنها نون الجمع، ومن العرب من يخفضها
وينونها (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) استقصروا مدة لبثهم لما هم فيه من العذاب الشديد. وقيل إن العذاب رفع
عنهم بين النفختين، فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم، وقيل أنساهم الله ما كانوا فيه من العذاب من
النفخة الأولى إلى النفخة. الثانية ثم لما عرفوا ما أصابهم من النسيان لشدة ما هم فيه من الهول العظيم أحالوا على
غيرهم فقالوا (فاسأل العادين) أي المتمكنين من معرفة العدد، وهم الملائكة، لأنهم الحفظة العارفون بأعمال العباد
وأعمارهم، وقيل المعنى: فاسأل الحاسبين العارفين بالحساب من الناس. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " قل كم
لبثتم في الأرض " على الأمر، والمعنى: قل يا محمد للكفار، أو يكون أمرا للملك بسؤالهم، أو التقدير: قولوا كم
لبثتم، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد، والمراد الجماعة، وقرأ الباقون " قال كم لبثتم " على أن القائل هو الله
عز وجل أو الملك (قال إن لبثتم إلا قليلا) قرأ حمزة والكسائي " قل إن لبثتم " كما في الآية الأولى، وقرأ الباقون قال
على الخبر، وقد تقدم توجيه القراءتين: أي مالبثتم في الأرض إلا لبثا قليلا (لو أنكم كنتم تعلمون) شيئا من العلم،
والجواب محذوف: أي لو كنتم تعلمون لعلمتم اليوم قلة لبثكم في الأرض أو في القبور أو فيهما، فكل ذلك قليل
بالنسبة إلى لبثهم. ثم زاد سبحانه في توبيخهم فقال (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) الهمزة للتوبيخ والتقرير، والفاء
للعطف على مقدر كما تقدم بيانه في مواضع: أي ألم تعلموا شيئا فحسبتم، وانتصاب عبثا على الحال: أي
عابثين أو على العلة: أي للعبث. قال بالأول سيبويه وقطرب، وبالثاني أبو عبيدة. وقال أيضا: يجوز أن
يكون منتصبا على المصدرية، وجملة (وأنكم إلينا لا ترجعون) معطوفة على أنما خلقناكم عبثا، والعبث في اللغة:
اللعب، يقال عبث يعبث عبثا فهو عابث: أي لاعب، وأصله من قولهم عبثت الأقط: أي خلطته، والمعنى:
أفحسبتم أن خلقنا لكم للإهمال كما خلقت البهائم ولا ثواب ولا عقاب، وأنكم إلينا لا ترجعون بالبعث والنشور
فنجازيكم بأعمالكم. قرأ حمزة والكسائي " ترجعون " بفتح الفوقية وكسر الجيم مبنيا للفاعل، وقرأ الباقون على البناء
للمفعول. وقيل إنه يجوز عطف وأنكم إلينا لا ترجعون على عبثا على معنى: أنما خلقناكم للعبث ولعدم الرجوع.
ثم نزه سبحانه نفسه فقال (فتعالى الله) أي تنزه عن الأولاد والشركاء أو عن أن يخلق شيئا عبثا، أو عن جميع
ذلك، وهو (الملك) الذي يحق له الملك على الإطلاق (الحق) في جميع أفعاله وأقواله (لا إله إلا هو رب العرش
500

الكريم) فكيف لا يكون إلها وربا، لما هو دون العرش الكريم من المخلوقات، ووصف العرش بالكريم لنزول
الرحمة والخير منه، أو باعتبار من استوى عليه، كما يقال بيت كريم: إذا كان ساكنوه كراما. قرأ أبو جعفر وابن
محيصن وإسماعيل وأبان بن ثعلب " الكريم " بالرفع على أنه نعت لرب، وقرأ الباقون بالجر على أنه نعت للعرش.
ثم زيف ما عليه أهل الشرك توبيخا لهم وتقريعا فقال (ومن يدع مع الله إلها آخر) يعبده مع الله أو يعبده وحده،
وجملة (لا برهان له به) في محل نصب صفة لقوله إلها، وهى صفة لازمة جئ بها للتأكيد، كقوله " يطير
بجناحيه " والبرهان: الحجة الواضحة والدليل الواضح، وجواب الشرط قوله (فإنما حسابه عند ربه) وجملة لا برهان
له به معترضة بين الشرط والجزاء، كقولك: من أحسن إلى زيد لا أحق منه بالإحسان، فالله مثيبه، وقيل إن
جواب الشرط قوله: لا برهان له به على حذف فاء الجزاء كقول الشاعر: * من يفعل الحسنات الله يشكرها *
(إنه لا يفلح الكافرون) قرأ الحسن وقتادة بفتح " أن " على التعليل، وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف، وقرأ
الحسن " لا يفلح " بفتح الياء واللام مضارع فلح بمعنى أفلح. ثم ختم هذه السورة بتعليم رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم أن يدعوه بالمغفرة والرحمة فقال (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) أمره سبحانه بالاستغفار لتقتدي
به أمته، وقيل أمره بالاستغفار لأمته. وقد تقدم بيان كونه أرحم الراحمين، ووجه اتصال هذا بما قبله أنه سبحانه
لما شرح أحوال الكفار أمر بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: إذا أدخل الكافر في قبره فيرى
مقعده من النار (قال رب ارجعون) أتوب أعمل صالحا، فيقال له قد عمرت ما كنت معمرا، فيضيق عليه قبره،
فهو كالمنهوش ينازع ويفزع تهوى إليه حياة الأرض وعقاربها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج
قال: زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة: إن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا،
فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، بل قدما إلى الله، وأما الكافر فيقولون له: نرجعك، فيقول: رب ارجعون
(لعلى أعمل صالحا فيما تركت) وهو مرسل. وأخرج الديلمي عن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شئ يمنعه عن الحق فيجعل بين عينيه، فعند ذلك يقول:
رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ". وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس
في قوله (أعمل صالحا) قال: أقول لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: ويل لأهل المعاصي
من أهل القبور، يدخل عليهم في قبورهم حياة سود، حية عند رأسه وحية عند رجليه، يقرصانه حتى تلتقيا في
وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله (ومن وراءهم برزخ إلى يوم يبعثون). وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) قال: حين نفخ
في الصور، فلا يبقى حي إلا الله. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه سئل عن
قوله (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) وقوله " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " فقال: إنها مواقف،
فأما الموقف الذي لا أنساب بينهم ولا يتساءلون عند الصعقة الأولى ولا أنساب بينهم فيها إذا صعقوا، فإذا كانت
النفخة الآخرة فإذا هم قيام يتساءلون. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عنه أيضا أنه سئل عن الآيتين فقال: أما
قوله (ولا يتساءلون) فهذا في النفخة الأولى حين لا يبقى على الأرض شئ، وأما قوله (فأقبل بعضهم على بعض
يتساءلون) فإنهم لما دخلوا الجنة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين
501

والآخرين. وفى لفظ: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد: ألا
إن هذا فلان بن فلان، فمن كان له حق قبله فليأت إلى حقه. وفى لفظ: من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه،
فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا، ومصداق ذلك في كتاب الله
(فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون). وأخرج أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي في سننه عن
المسور بن مخرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي
وصهري ". وأخرج البزار والطبراني وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب، سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول " كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ". وأخرج ابن عساكر عن
ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري ".
وأخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر " ما بال رجال
يقولون: إن رحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينفع قومه، بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة،
وإني أيها الناس فرط لكم ". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (تلفح وجوههم النار) قال: تنفخ. وأخرج ابن
مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله " (تلفح
وجوههم النار) قال: تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم ". وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود في
الآية قال: لفحتهم لفحة فما أبقت لحما على عظم إلا ألقته على أعقابهم. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه
وابن أبي الدنيا في صفة النار وأبو يعلي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه
في قوله (وهم فيها كالحون) قال: تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى
حتى تضرب سرته. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم، وصححه عن ابن مسعود في الآية قال: كلوح الرأس النضيج بدت
أسنانهم وتقلصت شفاههم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (كالحون) قال:
عابسون. وقد ورد في صفة أهل النار وما يقولونه وما يقال لهم أحاديث كثيرة معروفة. وأخرج الحكيم الترمذي
وأبو يعلي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل اليوم والليلة، وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن
مسعود " أنه قرأ في أذن مصاب (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) حتى ختم السورة فبرئ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: " بماذا قرأت في أذنه؟ فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده
لو أن رجلا موقنا قرأ بها على جبل لزال ". وأخرج ابن السني وابن مندة وأبو نعيم في المعرفة، قال السيوطي بسند
حسن من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية وأمرنا أن
نقول إذا أمسينا وأصبحنا (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) فقرأناها فغنمنا وسلمنا ا ه‍
بحمد الله تعالى تم طبع الجزء الثالث، ويليه: الجزء الرابع
وأوله: تفسير سورة النور
502