الكتاب: تفسير أبي السعود
المؤلف: أبي السعود
الجزء: ٧
الوفاة: ٩٥١
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

تفسير أبي السعود
المسمى إرشاد العقل السليم إلي مزايا القرآن الكريم
لقاضي القضاة الإمام
أبي السعود محمد بن محمد العمادي
المتوفى سنة 951 هجرية
الجزء السابع
الناشر
دار إحياء التراث العربي
بيروت - لبنان
1

مكية وقيل إلا قوله الذين آتيناهم الكتاب إلى قوله الجاهلين وهي ثمان وثمانون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «طسم تلك آيات الكتاب المبين» قد مر ما يتعلق به من الكلام بالإجمال والتفصيل في أشباهه «نتلوا عليك» أي نقرأ بواسطة جبريل عليه السلام ويجوز أن تكون التلاوة مجازا من التنزيل «من نبإ موسى وفرعون» مفعول نتلو أي نتلوا عليه بعض نبئهما «بالحق» متعلق بمحذوف هو حال من فاعل نتلو أو من مفعولة أو صفة لمصدره أي بعض نبئهما ملتبسين أو متلبسا بالحق أو تلاوة ملتبسة بالحق «لقوم يؤمنون» متعلق بنتلو وتخصيصهم بذلك مع عموم الدعوة والبيان للكل لأنهم المنتفعون به «إن فرعون علا في الأرض» استئناف جار مجرى التفسير للمجمل الموعود وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده أي إنه تجبر وطغا في ارض مصر وجاوز الحدود المعهودة في الظلم والعدوان «وجعل أهلها شيعا» أي فرقا يشيعونه في كل ما يريده من الشر والفساد أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه يستعمل كل صنف في عمل ويسخره فيه من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء لئلا تتفق كلمتهم «يستضعف طائفة منهم» وهم بنو إسرائيل والجملة إما حال من فاعل جعل أو صفة لشيعا أو استئناف وقوله تعالى «يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم» بدل منها وكان ذلك لما أن كاهنا قال له يولد في بني إسرائيل مولود يذهب ملكك على يده وما ذاك إلا لغاية حمقة إذ لو صدق فما فائدة القتل وإن كذب فما وجهه «إنه كان من المفسدين» أي الراسخين في الإفساد ولذلك اجترأ على مثل تلك العظيمة
2

من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام «ونريد أن نمن» أي نتفضل «على الذين استضعفوا في الأرض» على الوجه المذكور بإنجائهم من بأسه وصيغة المضارع في نريد حكاية حال ماضية وهو معطوف على إن فرعون علا الخ لتناسبهما في الوقوع في في حيز التفسير للنبأ أو حال من يستضعف بتقدير المبتدأ أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم وليس من ضرورة مقارنة الإرادة للاستضعاف مقارنة المراد له لما أن تعلق الإرادة للمن تعلق استقبال على ان منة الله تعالى عليهم بالخلاص لما كانت في شرف الوقوع جاز إجراؤها مجرى الواقع المقارن له ووضع الموصول موضع الضمير لإبانة قدر النعمة في المنة بذكر حالتهم السابقة المباينة لها «ونجعلهم أئمة» يقتدى بهم في أمور الدين بعد أن كانوا أتباعا مسخرين لآخرين «ونجعلهم الوارثين» لجميع ما كان منتظما في سلك ملك فرعون وقومه وراثة معهودة فيما بينهم كما ينبئ عنه تعريف الوارثين وتأخير ذكر وراثتهم له عن ذكر جعلهم أئمة مع تقدمها عليه زمانا لانحطاط رتبتها عن الإمامة ولئلا ينفصل عنه ما بعده مع كونه من روادفه أعنى قوله تعالى «ونمكن لهم في الأرض» الخ أي نسلطهم على مصر والشام يتصرفون فيهما كيفما يشاءون واصل التمكين أن تجعل للشيء مكانا يتمكن فيه «ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم» أي من أولئك المستضعفين «ما كانوا يحذرون» ويجتهدون في دفعة من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود منه وقرئ يرى بالياء ورفع ما بعده على الفاعلية «وأوحينا إلى أم موسى» بإلهام أو رؤيا «أن أرضعيه» ما أمكنك إخفاؤه «فإذا خفت عليه» بأن يحس به الجيران عند بكائه وينموا عليه «فألقيه في اليم» في البحر وهو النيل «ولا تخافي» عليه ضيعة بالغرق ولا شدة «ولا تحزني إنا رادوه إليك» عن قريب بحيث تأمنين عليه «وجاعلوه من المرسلين» والجملة تعليل للنهي عن الخوف والحزن وإيثار الجملة الاسمية وتصديرها بحرف التحقيق للاعتناء بتحقيق مضمونها أي إنا فاعلون لرده وجعله من المرسلين لا محالة روى أن بعض القوابل الموكلات من قبل فرعون بحبالى بني إسرائيل كانت مصافية لأم موسى عليه السلام فقالت لها لينفعني حبك اليوم فعالجتها فلما وقع على الأرض هالها نور بين عينية وارتعش كل مفصل منها ودخل حبة في قلبها ثم قالت ما جئتك إلا لأقبل مولودك وأخبر فرعون ولكني وجدت لابنك في قلبي محبة ما وجدت مثلها لأحد فأحفظيه فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة فألقته في تنور مسجور لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها فطلبوا فلم يلقوا شيئا فخرجوا وهي لا تدري مكانه فسمعت بكاءه من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله تعالى النار عليه بردا وسلاما فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى الله تعالى إليها ما أوحى وقد روي أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من بردى مطلي بالقار من داخله والفاء في قوله تعالى
3

«فالتقطه آل فرعون» فصيحة مفصحة عن عطفه على جملة مترتبة على ما قبلها من الأمر بالإلقاء قد حذفت تعويلا على دلالة الحال وإيذانا بكمال سرعة الامتثال أي فألقته في اليم بعد ما جعلته في التابوت حسبما أمرت فالتقطه آل فرعون أي أخذوه اعتناء به وصيانة له عن الضياع قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره كان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس إليه وكان بها برص شديد عجزت الأطباء عن علاجه فقالوا لا تبرا إلا من قبل البحر يؤخذ منه شبه الأنس يوم كذا وساعة كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت
مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام وقيل كانت من بني إسرائيل من سبط موسى عليه الصلاة والسلام وقيل كانت عمته حكاه السهيلي وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل فإذا بتابوت في النيل تضربه الأمواج فتعلق بشجرة فقال فرعون ائتوني به فابتدروا بالسفن فأحضروه بين يديه فعالجوا فتحه فلم يقدروا عليه وقصدوا كسره فأعياهم فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا هي بصبي صغير في مهده وإذا نور بين عينيه وهو يمص إبهامه لبنا فألقى الله تعالى محبته في قلوب القوم وعمدت ابنة فرعون إلى ريقة فلطخت به برصها فبرأت من ساعتها وقيل لما نظرت إلى وجهه برأت فقالت الغواة من قوم فرعون إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمى في البحر فرقا منك فاقتله فهم فرعون بقتله فاستوهبته آسية فتركه كما سيأتي واللام في قوله تعالى «ليكون لهم عدوا وحزنا» لام العاقبة أبرز مدخولها في معرض العلة لالتقاطهم تشبيها له في الترتب عليه بالغرض الحامل عليه وقرئ حزنا وهما لغتان كالسقم والسقم جعل عليه الصلاة والسلام نفس الحزن إيذانا بقوة سببيته لحزنهم «إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين» أي في كل ما يأتون وما يذرون فلا غرو في أن قتلوا لأجله ألوفا ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون روى أنه ذبح في طلبه عليه الصلاة والسلام تسعون ألف وليد أو كانوا مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم على أيديهم فالجملة اعتراضية لتأكيد خطئهم أو لبيان الموجب لما ابتلوا به وقرئ خاطين على انه تخفيف خاطئين أو على انه بمعنى متعدين الصواب إلى الخطأ «وقالت امرأة فرعون» أي لفرعون حين أخرجته من التابوت «قرة عين لي ولك» أي هو قرة عين لنا لما أنهما لما رأياه أحباه أو لما ذكر من برء ابنته من البرص بريقه وفي الحديث أنه قال لك لا لي ولو قال كما هو لك لهداه الله تعالى كما هداها «لا تقتلوه» خاطبته بلفظ الجمع تعظيما ليساعدها فيما تريده «عسى
4

أن ينفعنا» فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النجابة وذلك لما رأت فيه من العلامات المذكورة «أو نتخذه ولدا» أي نتبناه فإنه خليق بذلك «وهم لا يشعرون» حال من آل فرعون والتقدير فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وقالت امرأته كيت وكيت وهم لا يشعرون بأنهم على خطأ عظيم فيما صنعوا من الالتقاط ورجاء النفع منه والتبني له وقوله تعالى إن فرعون الآية اعتراض وقع بين المعطوفين لتأكيد خطئهم وقيل حال من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس أي وهم لا يعلمون انه لغيرنا وقد تبنيناه «وأصبح فؤاد أم موسى فارغا» صفرا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون لقوله تعالى وأفئدتهم هواء أي خلاء لا عقول فيها ويعضده أنه قرئ فرغا من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر وقيل فارغا من الهم والحزن لغاية وثوقها بوعد الله تعالى أو لسماعها أن فرعون عطف عليه وتبناه وقرئ مؤسى بالهمز إجراء للضمة في جارة الواو مجرى ضمتها فهمزت كما في وجوه «إن كادت لتبدي به» أي إنها كادت لتظهر بموسى أي بأمره وقصته من فرط الحيرة والدهشة أو الفرح بتبنيه «لولا أن ربطنا على قلبها» بالصبر والثبات «لتكون من المؤمنين» أي المصدقين بوعد الله تعالى أو من الواثقين بحفظه لا بتبني فرعون وتعطفه وهو علة الربط وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه «وقالت لأخته» مريم والتعبير عنها بأخوته عليه الصلاة والسلام دون أن يقال لبنتها للتصريح بمدار المحبة الموجبة للامتثال بالامر «قصيه» أي اتبعي أثره وتتبعي خبره «فبصرت به» أي أبصرته «عن جنب» عن بعد وقرئ بسكون النون وعن جانب والكل بمعنى «وهم لا يشعرون» انها تقصه وتتعرف حاله أو انها أخته «وحرمنا عليه المراضع» أي منعناه ان يرتضع من المرضعات والمراضع جمع مرضع وهي المرأة التي ترضع أو مرضع وهو الرضاع أو موضعه اعني الثدي «من قبل» أي من قبل قصها أثره «فقالت» عند رؤيتها لعدم قبوله الثدي واعتناء فرعون بأمره وطلبهم من يقبل ثديها «هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم» أي لأجلكم «وهم له ناصحون» لا يقصرون في إرضاعه وتربيته روى أن هامان لما سمعه منها قال إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله فقالت إنما أردت وهم للملك ناصحون فأمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله فأتت بأمه وموسى على يد فرعون يبكي وهو يعلله فدفعه إليها فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال من أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك فقالت إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتي بصبي إلا قبلني
5

فقرر في يدها وأجرى عليها فرجعت به إلى بيتها من يومها وذلك قوله تعالى «فرددناه إلى أمه كي تقر عينها» بوصول ولدها إليها «ولا تحزن» بفراقه «ولتعلم أن وعد الله» أي جميع ما وعده من رده وجعله من المرسلين «حق» لا خلف فيه بمشاهدة بعضه وقياس بعضه عليه «ولكن أكثرهم لا يعلمون» أن الامر كذلك فيرتابون فيه أو أن الغرض الأصلي من الرد علمها بذلك وما سواه تبع وفيه تعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون «ولما بلغ أشده» أي المبلغ الذي لا يزيد عليه نشؤه وذلك من ثلاثين إلى أربعين فإن العقل يكمل حينئذ وروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس الأربعين «واستوى» أي اعتدل قده أو عقله «آتيناه حكما» أي نبوة «وعلما» بالدين أو علم الحكماء والعلماء وسمتهم قبل استنبائه فلا يقول ولا يفعل ما يستجهل فيه وهو أوفق لنظم القصة لأنه تعالى استنبأه بعد الهجرة في المراجعة «وكذلك» ومثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه «نجزي المحسنين» على إحسانهم «ودخل المدينة» أي مصر من قصر فرعون وقيل منف أو حابين أو عين شمس من نواحيها «على حين غفلة من أهلها» في وقت لا يعتاد دخولها أو لا يتوقعونه فيه قيل كان وقت القيلولة وقيل بين العشاءين «فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته» أي ممن شايعه على دينه وهم بنو إسرائيل «وهذا من عدوه» أي من مخالفيه دينا وهم القبط والإشارة على الحكاية «فاستغاثه الذي من شيعته» أي سأله أن يغيثه بالإعانة كما ينبيء عنه تعديته بعلى وقرئ استعانه «على الذي من عدوه فوكزه موسى» أي ضرب القبطي بجمع كفه وقرى فلكزه أي فضرب به صدره «فقضى عليه» فقتله واصله أنهى حياته من قوله تعالى وقضينا اليه ذلك الامر «قال هذا من عمل الشيطان» لأنه لم يكن مأمورا بقتل الكفار أو لأنه كان مأمونا فيما بينهم فلم يكن له اغتيالهم ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ وإنما عدة من عمل الشيطان وسماه ظلما واستغفر منه جريا على سنن المقربين في استعظام ما فرط منهم ولو كان من محقرات الصغائر «إنه عدو مضل مبين» ظاهر العداوة والاضلال «قال» توسيطه بين كلاميه صلى الله عليه وسلم لإبانة ما بينهما من المخالفة من حيث إنه مناجاة
6

ودعاء بخلاف الأول «رب إني ظلمت نفسي» أي بقتله «فاغفر لي» ذنبي «فغفر له» ذلك «إنه هو الغفور الرحيم» أي المبالغ في مغفرة ذنوب عباده ورحمتهم «
قال رب بما أنعمت علي» إما قسم محذوف الجواب أي أقسم بإنعامك على بالمغفرة لأتوبن «فلن أكون» بعد هذا أبدا «ظهيرا للمجرمين» وما استعطاف أي بحق إنعامك على اعصمني فلن أكون معينا لمن تؤدي معاونته إلى الحرم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام لم يستثن فابتلى به مرة أخرى وهذا يؤيد الأول وقيل معناه بما أنعمت علي من القوة أعين أولياءك فلن استعملها في مظاهرة أعدائك «فأصبح في المدينة خائفا يترقب» يترصد الاستقادة أو الأجناد «فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه» أي يستغيثه برفع الصوت من الصراخ «قال له موسى إنك لغوي مبين» أي بين الغواية تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر «فلما أن أراد» موسى «أن يبطش بالذي هو عدو لهما» أي لموسى وللإسرائيلي إذ لم يكن على دينهما ولأن القبط كانوا أعداء لبني إسرائيل على الإطلاق وقرئ يبطش بضم الطاء «قال» أي الإسرائيلي ظانا أنه صلى الله عليه وسلم يبطش به حسبما يوهمه تسميته إياه غوبا «يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس» قالوا لما سمع القبطي قول الإسرائيلي علم أن موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني فانطلق إلى فرعون فأخبره بذلك وأمر فرعون بقتل موسى عليه السلام وقيل قاله القبطي «إن تريد» أي ما تريد «إلا أن تكون جبارا في الأرض» وهو الذي يفعل كل ما يريده من الضرب والقتل ولا ينظر في العواقب وقيل المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله تعالى «وما تريد أن تكون من المصلحين» بين الناس بالقول والفعل «وجاء رجل من أقصى المدينة» أي كائن من آخراها أو جاء من آخرها «يسعى» أي يسرع صفة لرجل أو حال منه على أن الجار والمجرور صفة له لا متعلق بجاء فإن تخصصه يلحقه بالمعارف قيل هو مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وقيل شمعون وقيل شمعان «قال يا موسى» «إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك» أي يتشاورون بسببك فإن كلا من المتشاورين بأمر الآخرين ويأتمر «فأخرج» أي من المدينة «إني لك من الناصحين» اللام للبيان
7

لما أن معمول الصلة لا يتقدمها «فخرج منها» أي من المدينة «خائفا يترقب» لحوق الطالبين «قال رب نجني من القوم الظالمين» خلصني منهم واحفظني من لحوقهم «ولما توجه تلقاء مدين» أي نحو مدين وهي قرية شعيب عليه السلام سميت باسم مدين بن إبراهيم ولم تكن تحت سلطان فرعون وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام «قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل» توكلا على الله تعالى وثقة بحسن توفيقه وكان لا يعرف الطرق فعن له ثلاث طرائق فأخذ في الوسطى وجاء الطلاب فشرعوا في الأخريين وقيل خرج حافيا لا يعيش إلا بورق الشجر فما وصل حتى سقط خف قدميه وقيل جاء ملك على فرس وبيده عنزة فانطلق به إلى مدين «ولما ورد ماء مدين» أي وصل اليه وهو بئر كانوا يسقون منه «وجد عليه» أي فوق شفيرها «أمة» جماعة كثيفة «من الناس يسقون» أي مواشيهم «ووجد من دونهم» أي في موضع أسفل منهم «امرأتين تذودان» أي تمنعان ما معهما من الأغنام عن التقدم إلى البئر كيلا تختلط بأغنامهم مع عدم الفائدة في التقدم «قال» عليه السلام لهما حين رآهما على ماهما عليه من التأخر والذود «ما خطبكما» ما شأنكما فيما أنتما عليه من التأخر والذود ولم لا تباشران السقي كدأب هؤلاء «قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء» أي عادتنا ان لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم بعد ريها عن الماء عجزا عن مساجلتهم وحذرا عن مخالطة الرجال لا أنا لا نسقي اليوم إلى تلك الغاية وحذف مفعول السقي والذود والاصدار لما أن الغرض هو بيان تلك الافعال أنفسها إذ هي التي دعت موسى عليه السلام إلى ما صنع في حقهما من المعروف فإنه عليه الصلاة والسلام إنما رحمهما لكونهما على الذياد للعجز والعفة وكونهم على السقي غير مبالين بهما وما رحمهما لكن مذودهما غنما ومسقيهم إبلا مثلا وقرئ لا نسقى من الإسقاء ويصدر من الصدور والرعاء بضم الراء وهو اسم جمع كالرخاء وأما الرعاء فجمع قياسي كصيام وقيام وقوله تعالى «وأبونا شيخ كبير» إبراء منهم للعذر إليه عليه السلام في توليهما للسقي بأنفسهما كأنهما قالتا إنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم وما لنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ كبير السن قد اضعفه الكبر فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء «فسقى لهما» رحمة عليهما والكلام في حذف مفعوله كما مر آنفا روى أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال وقيل عشرة وقيل أربعون وقيل مائة فأفله وحده مع ما كان به من الوصب والجراحة والجوع ولعله
8

عليه الصلاة والسلام زاحمهم في السقي لهما فوضعوا الحجر على البئر لتعجيزه عليه الصلاة والسلام عن ذلك فإن الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام غب ما شاهد حالهما شارع إلى السقي لهما وقد روى أنه دفعهم عن الماء إلى أن سقى لهما وقيل كانت هناك بئر أخرى عليها الصخرة المذكورة وروى أنه عليه الصلاة والسلام سألهم دلوا من ماء فاعطوه دلوهم وقالوا استق بها وكان لا ينزعها إلا أربعون فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة وروى غنمهما وأصدرهما «ثم تولى إلى الظل» الذي كان هناك «فقال رب إني لما أنزلت إلي» أي أي شيء أنزلته إلي «من خير» جل أو قل وحمله الأكثرون على الطعام بمعونة المقام «فقير» أي محتاج ولنضمنه معنى السؤال والطلب جئ بلام الدعامة لتقوية العمل وقيل المعنى لما أنزلت إلى من خير عظيم هو خير الدارين صرت فقيرا في الدنيا لأنه كان في سعة من العيش عند فرعون قاله عليه الصلاة والسلام إظهارا للبجح والشكر على ذلك «فجاءته إحداهما» قيل هي كبراهما واسمها صفوراء أو صفراء وقيل صغراهما واسمها صفيراء أي جاءته عقيب ما رجعتا إلى أبيها روى انهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا فقال لإحداهما إذهبي فادعيه لي وقوله تعالى «تمشي» حال من فاعل جاءت وقوله تعالى «على استحياء» متعلق بمحذوف هو حال من ضمير تمشى أي جاءته تمشي كائنة على استحياء فمعناه انها كانت على استحياء حالتي المثى والمجيء معا لا عند المجيء فقط وتنكير استحياء للتفخيم قيل جاءته متخفرة أي شديدة الحياء وقيل قد استترت بكم درعها «قالت» استئاف مبنى على سؤال نشأ من حكاية مجيئها إياه عليه الصلاة والسلام كأنه قيل فماذا قالت له عليه الصلاة والسلام فقيل قالت «إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا» أي جزاء سقيك لنا أسندت الدعوة إلى أبيها وعللتها بالجزاء لئلا يوهم كلامها ريبة وفيه من الدلالة على كمال العقل والحياء والعفة ما لا يخفى روى أنه عليه الصلاة والسلام أجابها فانطلقا وهي أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها امشي خلفي وانعتى لي الطريق ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليهما السلام «فلما جاءه وقص عليه القصص» أي ما جرى عليه من الخبر المقصوص فإنه مصدر سمى به المفعول كالعلل «قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين» الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أن موسى عليه السلام إنما أجاب المستدعية من غير تلعثم ليتبرك برؤية شعيب عليه السلام ويستظهر برأيه لا ليأخذ بمعروفه أجرا حسبما صرحت به
ألا يرى إلى ما روى أن شعيبا لما قدم إليه طعاما قال إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهبا ولا نأخذ على المعروف ثمنا ولم يتناول حتى قال شعيب عليه السلام هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا فتناول بعد ذلك على سبيل التقبل لمعروف مبتدأ كيف لا وقد قص عليه قصصه وعرفه أنه من بيت النبوة
9

من أولاد يعقوب عليه السلام ومثله حقيق بأن يضيف ويكرم لا سيما في دار نبي من أنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام وقيل ليس بمستنكر منه عليه الصلاة والسلام أن يقبل الاجر لاضطرار الفقر والفاقة وقد روى عن عطاء بن السائب انه عليه السلام رفع صوته بدعائه ليسمعها ولذلك قيل له ليجزيك الخ ولعله عليه السلام إنما فعله ليكون ذريعة إلى استدعائه لا إلى استيفاء الاجر «قالت إحداهما» وهي التي استدعته إلى أبيها وهي التي زوجها من موسى عليهما السلام «يا أبت استأجره» أي لرعى الغنم والقيام بأمرها «إن خير من استأجرت القوي الأمين» تعليل جار مجرى الدليل على انه حقيق بالاستئجار وللمبالغة في ذلك جعل خير اسما لان وذكر الفعل على صيغة الماضي للدلالة على انه أمين مجرب روى أن شعيبا عليه السلام قال لها وما أعلمك بقوته وأمانته فذكرت ما شاهدت منه عليه السلام من إقلال الحجر ونزع الدلو وأنه صوب رأسه حتى بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه «قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني» أي تكون أجير إلى أو تثيبني من أجرت كذا إذا أثبته إياه فقوله تعالى «ثماني حجج» على الأول ظرف وعلى الثاني مفعول به على تقدير مضاف أي رعية ثماني حجج ونقل عن المبرد أنه يقال أجرت داري ومملوكي غير ممدود وآجرت ممدودا والأول أكثر فعلى هذا يكون المفعول الثاني محذوفا والمعنى على أن تأجرني نفسك وقوله تعالى ثماني حجج ظرف كالوجه الأول «فإن أتممت عشرا» في الخدمة والعمل «فمن عندك» أي فهو من عندك بطريق التفضل لا من عندي بطريق الإلزام عليك وهذا من شعيب عرض لرأيه على موسى عليهما السلام واستدعاء منه للعقد لا إنشاء وتحقيق له بالفعل «وما أريد أن أشق عليك» بإلزام إتمام العشر أو المناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الاعمال واشتقاق المشقة من الشق فإن ما يصعب عليك يشق عليك اعتقادك في إطاقته ويوزع رأيك في مزاولته «ستجدني إن شاء الله من الصالحين» في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد ومراده عليه الصلاة والسلام بالاستثناء التبرك به وتفويض امره إلى توفيقه تعالى لا تعليق صلاحه بمشيئته تعالى «قال ذلك بيني وبينك» مبتدأ وخبر أي ذلك الذي قلته وعاهدتنى فيه وشارطتنى عليه قائم وثابت بيننا جميعا لا يخرج عنه واحد منا لا أنا عما شرطت على ولا أنت عما شرطت على نفسك وقوله تعالى «أيما الأجلين» أي أكثرهما أو أقصرهما «قضيت» أي وفتيكه بأداء الخدمة فيه «فلا عدوان علي» تصريح بالمراد وتقرير لأمر الخيرة أي لا عدوان على بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين وتعميم انتفاء العدوان لكلا الأجلين بصدد المشارطة مع عدم تحقق العدوان في أكثرهما رأسا للقصد إلى التسوية بينهما في الانتفاء
10

أي كما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان أو أيما الأجلين قضيت فلا اثم علي يعني كما لا اثم علي في قضاء الأكثر لا اثم علي في قضاء الأقصر فقط وقرئ أي الأجلين ما قضيت فما مزيدة لتأكيد القضاء كما انها في القراءة الأولى مزيدة لتأكيد ابهام أي وشياعها وقرئ أيما بسكون الياء كقول من قال تنظرت نصرا والسماكين أيهما على من الغيث استهلت مواطره والله على ما نقول من الشروط الجارية بيننا «وكيل» شاهد وحفظ فلا سبيل لاحد منا إلى الخروج عنه أصلا وليس ما حكى عنهما عليهما الصلاة والسلام تمام ما جرى بينهما من الكلام في انشاء عقد النكاح وعقد الإجارة وايقاعهما بل هو بيان لما عز ما عليه واتفقا على إيفاعه حسبما يتوقف عليه مساق القصة اجمالا من غير تعرض لبيان مواجب العقدين في تلك الشريعة تفصيلا روى انهما لما أتما العقد قال شعيب لموسى عليهما السلام ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصى وكانت عنده عصى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فأخذ عصا هبط بها آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب عليه السلام فمسها وكان مكفوفا فضن بها فقال خذ غيرها فما وقع في يده الا هي سبع مرات فعلم ان له شأنا وقيل اخذها جبريل عليه السلام بعد موت آدم عليه السلام فكانت معه حتى لقى بها موسى عليه السلام ليلا وقيل أودعها شعيبا ملك في صورة رجل فأمر بنته ان تأتيه بعصا فأتته بها فردها سبع مرات فلم يقع في يدها غيرها فدفعها اليه ثم ندم لأنها وديعة فتبعه فاختصما فيها ورضيا ان يحكم بينها أول طالع فأتاهما الملك فقال القياها فمن رفعها فهي له فعالجها الشيخ فلم يطقها ورفعها موسى عليه السلام وعن الحسن رضي الله تعالى عنه ما كانت الا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا وعن الكلبي رحمة الله الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه ولما أصبح قال له شعيب صلوات الله وسلامه عليهما إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وان كان بها أكثر الا ان فيها تنينا أخشاه عليك وعلى الغنم فأخذت الغنم ذات اليمين فلم يقدر على كفها ومشى على اثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد اقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى عليه السلام دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولا ارتاح لذلك ولما رجع إلى شعيب عليهما السلام مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى عليه السلام بالشأن ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأنا وقال له إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودعاء فأوحى إليه في المنام أن اضرب بعصاك مستقى الغنم ففعل ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء فوفى له بشرطه والفاء في قوله تعالى «فلما قضى موسى الأجل» فصيحة أي فعقدا العقدين وباشر موسى ما التزمه فلما أتم الأجل «وسار بأهله» نحو مصر بإذن من شعيب عليهما السلام روى انه عليه الصلاة والسلام قضى أبعد الأجلين ومكث عنده بعد ذلك عشر سنين ثم عزم على العود إلى مصر فاستأذنه في
11

ذلك فأذن له فخرج بأهله «آنس من جانب الطور» أي أبصر من الجهة التي تلي الطور «نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر» أي بخبر الطريق وقد كانوا ضلوه «أو جذوة» أي عود غليظ سواء كانت في رأسه نارا ولا قال قائلهم
[باتت حواطب ليلى يلتمسن لها * جزل الجذى غير حوار ولا دعر]
وقال
[وألقى على قبس من النار جذوة * شديدا عليها حرها وإلتهابها]
ولذلك بين بقوله تعالى «من النار» وقرئ بكسر الجيم وبضمها وكلها لغات «لعلكم تصطلون» أي تستدفئون «فلما أتاها» أي النار التي آنسها «نودي من شاطئ الوادي الأيمن» أي أتاه النداء من الشاطئ الأيمن بالنسبة إلى موسى عليه السلام «في البقعة المباركة» متصل بالشاطئ أو صلة لنودى «من الشجرة» بدل اشتمال من شاطئ لأنها كانت نابتة على الشاطئ «أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين» وهذا وإن خالف لفظا لما في طه والنمل لكنه موافق له في المعنى المراد «وأن ألق عصاك» عطف على أن يا موسى وكلاهما مفسر لنودي والفاء في قوله تعالى «فلما رآها تهتز» فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها وإشعارا بغاية سرعة تحقق مدلولاتها أي فألقاها فصارت ثعبانا فاهتزت فلما رآها تهتز «كأنها جان» أي في سرعة الحركة مع غاية عظم جئتها «ولى مدبرا» أي منهزما من الخوف «ولم يعقب» أي لم يرجع «يا موسى» أي قيل يا موسى «أقبل ولا تخف إنك من الآمنين» من المخاوف فإنه لا يخاف لدي المرسلون «اسلك يدك في جيبك» أي أدخلها فيه «تخرج بيضاء من غير سوء» أي عيب «واضمم إليك جناحك» أي يديك المبسوطتين لتتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت العضد الأيسر واليسرى تحت الأيمن أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريرا لغرض آخر هو أن يكون ذلك في وجه العدو إظهار جراءة ومبدأ لظهور معجزة ويجوز ان يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا ثعبانا استعارة من حال الطائر فإنه إذا خاف نشر جناحيه وإذا أمن واطمأن ضمهما اليه «من الرهب» أي من أجل الرهب أي إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلدا وضبطا لنفسك وقريء بضم الراء وسكون الهاء وبضمهما والكل لغات «فذانك» إشارة إلى العصا واليد وقريء بتشديد النون فالمخفف مثنى ذاك والمشد مثنى ذلك «برهانان» حجتان نيرتان وبرهان فعلان لقولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من قولهم بره الرجل إذا ابيض ويقال
12

للمرأة البيضاء برهاء وبرهرهة ونظيره تسمية الحجة سلطانا من السليط وهو الزيت لإنارتها وقيل هو فعلال لقولهم برهن ومن في قوله تعالى «من ربك» متعلقة بمحذوف هو صفة لبرهانان أي كائنان منه تعالى «إلى فرعون وملئه» واصلان ومنتهيان إليهم «إنهم كانوا قوما فاسقين» خارجين عن حدود الظلم والعدوان فكانوا أحقاء بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين «قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون» بمقابلتها «وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا» أي معينا وهو في الأصل اسم ما يعان به كالدفء وقرئ ردأ بالتخفيف «يصدقني» بتخليص الحق وتقرير الحجة بتوضيحها وتزييف الشبهة «إني أخاف أن يكذبون» ولساني لا يطاوعني عند المحاجة وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب وقرئ يصدقني بالجزم على انه جواب الأمر «قال سنشد عضدك بأخيك» أي سنقويك به فإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد «ونجعل لكما سلطانا» أي تسلطا وغلبة وقيل حجة وليس بذاك «فلا يصلون إليكما» باستيلاء أو محاجة «بآياتنا» متعلق بمحذوف قد صرح به في مواضع أخر أي اذهبا بآياتنا أو بنجعل أي نسلطكما بآياتنا أو بمعنى لا يصلون أي تمتنعون منهم بها وقيل هو قسم وجوابه لا يصلون وقيل هو بيان للغالبون في قوله تعالى «أنتما ومن اتبعكما الغالبون» بمعنى انه صلة لما يبينه أو صلة له على ان اللام للتعريف لا بمعنى الذي «فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات» أي واضحات الدلالة على صحة رسالة موسى عليه السلام منه تعالى والمراد بها العصا واليد إذ هما اللتان أظهرهما موسى عليه السلام إذ ذاك والتعبير عنهما بصيغة الجمع قد مر سره في سورة طه «قالوا ما هذا إلا سحر مفترى» أي سحر مختلق لم يفعل قبل هذا مثله أو سحر تعمله ثم تفتريه على الله تعالى أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أصناف السحر «وما سمعنا بهذا» أي السحر أو ادعاء النبوة «في آبائنا الأولين» أي واقعا في أيامهم «وقال
13

موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده» يريد به نفسه وقرئ قال بغير واو لأنه جواب عن مقألهم ووجه العطف ان المراد حكاية القولين ليوازن السامع بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد «ومن تكون له عاقبة الدار» أي العاقبة المحمودة في الدار وهي الدنيا وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأنها خلقت مجازا إلى الآخرة ومزرعة لها والمقصود بالذات منها الثواب وأما العقاب فمن نتائج اعمال العصاة وسيئات الغواة وقرئ يكون بالياء التحتانية «إنه لا يفلح الظالمون» أي لا يفوزون بمطلوب ولا ينجون عن محذور «وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري» قاله اللعين بعد ما جمع السحرة وتصدى للمعارضة فكان من أمرهم ما كان «فأوقد لي يا هامان على الطين» أي اصنع آجرا «فاجعل لي» منه «صرحا» أي قصرا رفيعا «لعلي أطلع إلى إله موسى» كأنه توهم أنه لو كان لكان جسما في السماء يمكن الرقي اليه ثم قال «وإني لأظنه من الكاذبين» أو أراد ان يبنى له رصدا يترصد منه أوضاع الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثه رسول وتبدل دولته وقيل المراد بنفي العلم نفى المعلوم كما في قوله تعالى «قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض» فإن معناه بما ليس فيهن وهذا من خواص العلوم الفعلية فإنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها انتفاء معلوماتها ولا كذلك العلوم الانفعالية قيل أول من اتخذ الاجر فرعون ولذلك امر باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة مع ما فيه من تعظيم ولذلك نادى هامان باسمه بيافي وسط الكلام «واستكبر هو وجنوده في الأرض» ارض مصر «بغير الحق» بغير استحقاق «وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون» بالبعث للجزاء وقرئ بفتح الياء وكسر الجيم من رجع رجوعا والأول من رجع رجعا وهو الأنسب بالمقام «فأخذناه وجنوده» عقيب ما بلغوا من الكفر والعتو أقصى الغايات «فنبذناهم في اليم» قد مر تفصيله وفيه من تفخيم شأن الأخذ وتهويله واستحقار المأخوذين المنبوذين ما لا يخفى كأنه تعالى أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في البحر ونظيره قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه «فانظر كيف كان عاقبة الظالمين» وبينها للناس ليعتبروا بها «وجعلناهم» أي صيرناهم في عهدهم «أئمة يدعون» الناس «إلى النار» إلى ما يؤدي إليها من الكفر والمعاصي أي قدوة يقتدى بهم أهل الضلال لما صرفوا اختيارهم إلى تحصيل تلك الحالة وقيل
14

سميناهم أئمة دعاة إلى النار كما في قوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا فالأنسب حينئذ أن يكون الجعل بعدهم فيما بين الأمم وتكون الدعوة إلى نفس البار وقيل معنى الجعل منع الالطاف الصارفة عن ذلك «ويوم القيامة لا ينصرون» بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه «وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة» طردا وإبعادا من
الرحمة ولعنا من اللاعنين حيث لا يزال يلعنهم الملائكة عليهم الصلاة والسلام والمؤمنون خلفا عن سلف «ويوم القيامة هم من المقبوحين» من المطرودين المبعدين وقيل من الموسومين بعلامة منكرة كزرقة العيون وسواد الوجه قاله ابن عباس رضى الله عنهما يقال قبحه الله وقبحه إذا جعله قبيحا وقال أبو عبيدة من المقبوحين من المهلكين ويوم القيامة إما متعلق بالمقبوحين على أن اللام للتعريف لا بمعنى الذي أو بمحذوف يفسره ذلك كأنه قيل وقبحوا يوم القيامة نجو لعملكم من القالين «ولقد آتينا موسى الكتاب» أي التوراة «من بعد ما أهلكنا القرون الأولى» هم أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام والتعرض لبيان كون إيتائها بعد إهلاكهم للإشعار بمساس الحاجة الداعية إليه تمهيدا لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن إهلاك القرون الأولى من مواجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها وأحكامها المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعيين للتشريع الجديد بتقرير الأصول الباقية على مر الدهور وترتيب الفروع المتبدلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الخالية الموجبة للاعتبار كأنه قيل ولقد آتينا موسى التوراة على حين حاجة إلى إيتائها «بصائر للناس» أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل حيث كانت عميا عن الفهم والادراك بالكلية فإن البصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر «وهدى» أي هداية إلى الشرائع والاحكام التي هي سبل الله تعالى «ورحمة» حيث ينال من عمل به رحمة الله تعالى وانتصاب الكل على الحالية من الكتاب على انه نفس البصائر والهدى والرحمة أو على حذف المضاف أي ذا بصائر الخ وقيل على العلة أي آتيناه الكتاب للبصائر والهدى والرحمة «لعلهم يتذكرون» ليكونوا على حال يرجى منه التذكر وقد مر تحقيق القول في ذلك عند قوله تعالى «لعلكم تتقون» من سورة البقرة وقوله تعالى «وما كنت بجانب الغربي» شروع في بيان أن إنزال القرآن الكريم أيضا واقع في زمان شدة مساس الحاجة اليه واقتضاء الحكمة له البتة وقد صدر بتحقيق كونه وحيا صادقا من عند الله عز وجل ببيان ان الوقوف على ما فصل من الأحوال لا يتسنى
15

إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها وحيث انتفى كلاهما تبين انه بوحي من علام الغيوب لا محالة على طريقة قوله تعالى «وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم» الآية أي وما كنت بجانب الجبل الغربي أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أو الجانب الغربي على إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع «إذ قضينا إلى موسى الأمر» أي عهدنا إليه وأحكمنا امر نبوته بالوحي وإيتاء التوراة «وما كنت من الشاهدين» أي من جملة الشاهدين للوحي وهم السبعون المختارون للميقات حتى تشاهد ما جرى من امر موسى في ميقانه وكتبة التوراة له في الألواح فتخبره للناس «ولكنا أنشأنا قرونا» أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونا كثيرة «فتطاول عليهم العمر» وتمادى الأمد فتغيرت الشرائع والاحكام وعميت عليهم الأنباء لا سيما على آخرهم فافتضى الحال التشريع الجديد فأوحينا إليك فحذف المستدرك اكتفاء بذكر ما يوجبه ويدل عليه وقوله تعالى «وما كنت ثاويا في أهل مدين» نفى لاحتمال كون معرفته عليه الصلاة والسلام للقصة بالسماع ممن شاهدها أي وما كنت مقيما في أهل مدين من شعيب والمؤمنين به وقوله تعالى «تتلو عليهم» أي تقرأ على أهل مدين بطريق التعلم منهم «آياتنا» الناطقة بالقصة إما حال من المستكن في ثاويا أو خبر ثان لكنت «ولكنا كنا مرسلين» إياك وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها «وما كنت بجانب الطور إذ نادينا» أي وقت ندائنا موسى إني انا الله رب العالمين واستنبائنا إياه وإرسالنا له إلى فرعون «ولكن رحمة من ربك» أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وبغيره لرحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس وقيل علمناك وقيل عرفناك ذلك وليس بذاك كما ستعرفه والالتفات إلى اسم الرب للإشعار بعلة الرحمة وتشريفه صلى الله عليه وسلم بالإضافة وقد اكتفى عن ذكر المستدرك ههنا بذكر ما يوجبه من جهته تعالى كما اكتفى عنه في الأول بذكر ما يوجبه من جهة الناس وصرح به فيما بينهما تنصيصا على ما هو المقصود وإشعارا بأنه المراد فيهما أيضا ولله در شأن التنزيل وقوله تعالى «لتنذر قوما» متعلق بالفعل المعلل بالرحمة فهو ما ذكرنا من إرساله صلى الله عليه وسلم بالقرآن حتما لما أنه المعلل بالإنذار لا تعليم ما ذكر وقرئ رحمة بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى «ما أتاهم من نذير من قبلك» صفة لقوما أي لم يأتهم نذير لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة أو بينك وبين إسماعيل بناء على أن دعوة موسى عيسى عليهما السلام كانت مختصة ببني إسرائيل «لعلهم يتذكرون» أي يتعظون بإنذارك وتغيير الترتيب الوقوعي بين
16

قضاء الأمر والنواء في أهل مدين والنداء للتنبيه على أن كلا من ذلك برهان مستقل على أن حكايته صلى الله عليه وسلم للقصة بطريق الوحي الإلهي ولو ذكر أولا نفى ثوائه صلى الله عليه وسلم من أهل مدين ثم نفى حضوره صلى الله عليه وسلم عند النداء ثم نفى حضوره عند قضاء الامر كما هو الموافق للترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل دليل واحد على ما ذكر كما مر في سورة البقرة «ولولا أن تصيبهم مصيبة» أي عقوبة «بما قدمت أيديهم» أي ما اقترفوا من الكفر والمعاصي «فيقولوا» عطف على تصيبهم داخل في حيز لولا الامتناعية على ان مدار انتفاء ما يجاب به هو امتناعه لا امتناع المعطوف عليه وإنما ذكره في حيزها للإبذان بأنه السبب الملجئ لهم إلى قولهم «ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا» أي هلا أرسلت إلينا رسولا مؤيدا من عندك بالآيات «فنتبع آياتك» الظاهرة على يده وهو جواب لولا الثانية «ونكون من المؤمنين» بها وجواب لولا الأولى محذوف ثقة بدلالة الحال عليه والمعنى لولا قولهم هذا عند إصابة عقوبة جناياتهم التي قدموها ما أرسلناك لكن لما كان قولهم ذلك محققا لا محيد عنه أرسلناك قطعا لماذيرهم بالكلية «فلما جاءهم» أي أهل مكة «الحق من عندنا» وهو القرآن المنزل عليه صلى الله عليه وسلم «قالوا» تعنتا واقتراحا «لولا أوتي» يعنونه صلى الله عليه وسلم «مثل ما أوتي موسى» من الكتاب المنزل جملة وأما اليد والعصا فلا تعلق لهما بالمقام كسائر معجزاته عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى «أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل» رد عليهم وإظهار لكون ما قالوه تعنتا محضا لا طلبا لما يرشدهم إلى الحق أي ألم يكفروا من قبل هذا القول بما أوتى موسى من الكتاب كما كفروا بهذا الحق وقوله تعالى «قالوا» استئناف مسوق لتقرير كفرهم المستفاد من الإنكار السابق وبيان كيفيته وقوله تعالى «سحران» خبر لمبتدأ محذوف أي هما يعنون ما اوتى محمد وما أوتى موسى عليهما السلام سحران «تظاهرا» أي تعاونا بتصديق كل واحد منهما الاخر وذلك أنهم بعثوا رهطا منهم إلى
رؤساء اليهود في عيد لهم فسألوهم عن شأنه صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا ذلك وقوله تعالى «وقالوا إنا بكل» أي بكل واحد من الكتابين «كافرون» تصريح بكفرهم بهما وتأكيد لكفرهم المفهوم من تسميتهما سحرا وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والطغيان وقرئ ساحران تظاهران يعنون موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الجليل فتأمل ودع عنك ما قيل وقيل ألا ترى إلى قوله تعالى «قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما» مما أوتياه
17

من التوراة والقرآن وسميتموهما سحرين فإنه نص فيما ذكر وقوله تعالى «أتبعه» جواب للأمر أي إن تأتوا به أتبعه ومثل هذا الشرط مما يأتي به من يدل بوضوح حجته وسنوح محجته لأن الإتيان بما هو اهدى من الكتابين امر بين الاستحالة فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والافحام «إن كنتم صادقين» أي في أنهما سحران مختلقان وفي إيراد كلمة إن مع امتناع صدقهم نوع تهكم بهم «فإن لم يستجيبوا لك» أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم من الاتيان بكتاب أهدي منهما كقوله تعالى فإن لم تفعلوا وإنما عبر عنه بالاستجابة إيذانا بأنه صلى الله عليه وسلم على كمال أمن من أمره كأن أمره صلى الله عليه وسلم لهم بالإتيان بما ذكر دعاء لهم إلى امر يريد وقوعه والاستجابة تتعدى إلى الدعاء بنفسه والى الداعي باللام فيحذف الدعاء عند ذلك غالبا ولا يكاد يقال استجاب الله له دعاءه «فاعلم أنما يتبعون أهواءهم» الزائفة من غير أن يكون لهم متمسك ما أصلا إذ لو كان لهم ذلك لأتوا به «ومن أضل ممن اتبع هواه» استفهام إنكاري للنفي أي لا أضل ممن اتبع هواه «بغير هدى من الله» أي هو أضل من كل ضال وإن كان ظاهر السبك لنفى الأصل لا لنفى المساوي كما مر في نظائره مرارا وتقييد اتباع الهوى بعدم الهدى من الله تعالى لزيادة التقريع والاشباع في التشنيع والتضليل وإلا فمقارنته لهدايته تعالى بينة الاستحالة «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى والاعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين «ولقد وصلنا لهم القول» وقرئ بالتخفيف أي أنزلنا القرآن عليهم متواصلا بعضه إثر بعض حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة أو متتابعا وعدا ووعيدا قصصا وعبرا ومواعظ ونصائح «لعلهم يتذكرون» فيؤمنون بما فيه «الذين آتيناهم الكتاب من قبله» أي من قبل إيتاء القرآن «هم به يؤمنون» وهم مؤمنو أهل الكتاب وقيل أربعون من أهل الإنجيل اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة وثمانية ي من الشام «وإذا يتلى» أي القرآن عليهم «قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا» أي الحق الذي كما نعرف حقيته وهو استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم وقوله تعالى «إنا كنا من قبله» أي من قبل نزوله «مسلمين» بيان لكون إيمانهم به أمرا متقادم العهد لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة وأنهم على دين الاسلام قبل نزول القرآن «أولئك» الموصوفون بما ذكر من النعوت
18

«يؤتون أجرهم مرتين» مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن «بما صبروا» بصبرهم وثباتهم على الإيمانين أو على الايمان بالقرآن قبل النزول وبعده أو على اذى من هاجرهم أهل دينهم ومن المشركين «ويدرؤون بالحسنة السيئة» أي يدفعون بالطاعة المعصية لقوله صلى الله عليه وسلم وأتبع السيئة الحسنة تمحها «ومما رزقناهم ينفقون» في سبيل الخير «وإذا سمعوا اللغو» من اللاغين «أعرضوا عنه» عن اللغو تكرما كقوله تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما «وقالوا» لهم «لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم» بطريق المتاركة والتوديع «لا نبتغي الجاهلين» لا نطلب صحبتهم ولا نريد مخالطتهم «إنك لا تهدي» هداية موصلة إلى البغية لا محالة «من أحببت» من الناس ولا تقدر على أن تدخله في الاسلام وإن بذلت فيه غاية المجهود وجاوزت في السعي كل حد معهود «ولكن الله يهدي من يشاء» أن يهديه فيدخله في الاسلام «وهو أعلم بالمهتدين» بالمستعدين لذلك والجمهور على أنها نزلت في أبي طالب فإنه لما احتضر جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج بها لك عند الله قال له يا ابن أخي قد علمت أنك لصادق ولكني أكره ان يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بنى أبيك غضاضة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف «وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا» نزلت في الحرث بن عثمان ابن نوفل بن عبد مناف حيث أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد عليهم بقوله تعالى «أو لم نمكن لهم حرما آمنا» أي ألم نعصمهم ولم نجعل مكانهم حرما ذا أمن لحرمة البيت الحرام الذي تتناحر العرب حوله وهو آمنون «يجبى إليه» وقرئ تجبى أي تجمع وتحمل إليه «ثمرات كل شيء» من كل أوب والجملة صفة أخرى لحرما دافعة لما عسى يتوهم من تضررهم بانقطاع الميرة «رزقا من لدنا» فإذا كان حالهم ما ذكروهم عبدة أصنام فكيف يخافون التخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد «ولكن أكثرهم لا يعلمون» أي جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا ذلك وقيل هو متعلق بقوله تعالى من لدنا أي قليل منهم بتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله تعالى إذ لو علموا لما خافوا غيره وانتصاب رزقا على انه مصدر مؤكد لمعنى يجبى أو حال من ثمرات على أنه بمعنى مرزوق لتخصصها بالإضافة ثم بين ان الامر بالعكس
19

وأنهم أحقاء بأن يخافوا بأس الله تعالى بقوله «وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها» أي وكثير من أهل قرية كانت حالهم كحال هؤلاء في الأمن وخفض العيش والدعة حتى أشروا فدمرنا عليهم وخربنا ديارهم «فتلك مساكنهم» خاوية بما ظلموا «لم تسكن من بعدهم» من بعد تدميرهم «إلا قليلا» أي إلا زمانا قليلا إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم أولم يبق من يسكنها إلا قليلا من شؤم معاصيهم «وكنا نحن الوارثين» منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر ذات أيديهم وانتصاب معيشتها بنزع الخافض أو يجعلها ظرفا بنفسها كقولك زيد ظني مقيم أو بإضمار زمان مضاف اليه أو يجعله مفعولا لبطرت بتضمين معنى كفرت «وما كان ربك مهلك القرى» بيان للعناية الربانية إثر بيان إهلاك القرى المذكورة أي وما صح وما استقام بل استحال في سنته المبنية على الحكم البالغة أو ما كان في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى قبل الانذار بل كانت عادته ان لا يهلكها «حتى يبعث في أمها» أي في أصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها لكون أهلها أفطن وأنبل «رسولا يتلو عليهم آياتنا» الناطقة بالحق ويدعوهم اليه بالترغيب والترهيب وذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة بأن يقولوا لولا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك والالتفات
إلى نون العظمة لتربية المهابة وإدخال الروعة وقوله تعالى «وما كنا مهلكي القرى» عطف على ما كان ربك وقوله تعالى «إلا وأهلها ظالمون» استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أمها رسولا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم اليه في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا والكفر بآياتنا فالبعث غاية لعدم صحة الاهلاك بموجب السنة الإلهية لا لعدم وقوعه حتى يلزم تحقق الإهلاك عقيب البعث وقد مر تحقيقه في سورة بني إسرائيل «وما أوتيتم من شيء» من أمور الدنيا «فمتاع الحياة الدنيا وزينتها» أي فهو شئ شانه ان يتمتع ويتزين به أياما قلائل «وما عند الله» وهو الثواب «خير» في نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة عن شوائب الألم وبهجة كاملة عارية عن سمة الهم «وأبقى» لأنه أبدى «أفلا تعقلون» ألا تتفكرون فلا تعقلون هذا الامر الواضح فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وقرئ بالياء على الالتفات المبنى على اقتضاء سوء صنيعهم الاعراض عن مخاطبتهم
20

«أفمن وعدناه وعدا حسنا» أي وعدا بالجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود «فهو لاقيه» أي مدركة لا محالة لاستحالة الخلف في وعده تعالى ولذلك جئ بالجملة الاسمية المفيدة لتحققه البتة وعطفت بالفاء المنبئة عن معنى السببية «كمن متعناه متاع الحياة الدنيا» الذي هو مشوب بالآلام منغص بالأكدار مستتبع للتحسر على الانقطاع ومعنى الغاء الأولى ترتيب إنكار التشابه بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وبين ما عند الله تعالى أي أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين الفريقين وقوله تعالى «ثم هو يوم القيامة من المحضرين» عطف على متعناه داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه ومقرر له كأنه قيل كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم نحضره أو أحضرناه يوم القيامة النار أو العذاب وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على التحقق حتما وفي جعله من جلمة المحضرين من التهويل ما لا يخفى وثم للتراخى في الزمان أو في الرتبة وقرئ ثم هو بسكون الهاء تشبيها للمنفصل بالمتصل «ويوم يناديهم» منصوب بالعطف على يوم القيامة لاختلافهما عنوانا وإن اتحدا ذاتا أو بإضمار اذكر «فيقول» تفسير للنداء «أين شركائي الذين كنتم تزعمون» أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي فحذف المفعولان معا ثقة بدلالة الكلام عليهما «قال» استئناف مبنى على حكاية السؤال كأنه قيل فماذا صدر عنهم حينئذ فقيل قال «الذين حق عليهم القول» وهم شركاؤهم من الشياطين أو رؤساؤهم الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى بأن أطاعوهم في كل ما أمروهم به ونهوا عنه ومعنى حق عليهم القول أنه ثبت مقتضاه وتحقق مؤداه وهو قوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وغيره من آيات الوعيد وتخصيصهم بهذا الحكم مع شموله للأتباع أيضا لأصالتهم في الكفر واستحقاق العذاب حسبما يشعر به قوله تعالى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم ومسارعتهم إلى الجواب مع كون السؤال للعبدة إما لتفطنهم أن السؤال عنهم لاستحضارهم وتوبيخهم بالاضلال وجزمهم بأن العبدة سيقولون هؤلاء أضلونا وإما لأن العبدة قد قالوه اعتذار أو هؤلاء إنما قالوا ما قالوا ردا لقولهم إلا أنه لم يحك قول العبدة إيجازا لظهوره «ربنا هؤلاء الذين أغوينا» أي هم الذين أغويناهم فحذف الراجع إلى الموصول ومرادهم بالإشارة بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم وانهم غير قادرين على إنكاره ورده وقوله تعالى «أغويناهم كما غوينا» هو الجواب حقيقة وما قبله تمهيد له أي
21

ما أكرهناهم على الغى وإنما أغويناهم بطريق الوسوسة والتسويل لا بالقسر والالجاء فغووا باختيارهم غيا مثل غينا باختيارنا ويجوز أن يكون الذين صفة لاسم الإشارة وأغويناهم الخبر «تبرأنا إليك» منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي هوى منهم وهو تقرير لما قبله ولذلك لم يعطف عليه وكذا قوله تعالى «ما كانوا إيانا يعبدون» أي ما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون أهواءهم وقيل ما مصدرية متصلة بقوله تعالى تبرأنا أي تبرأنا من عبادتهم إيانا «وقيل ادعوا شركاءكم» إما تهكما بهم أو تبكيتا لهم «فدعوهم» لفرط الحيرة «فلم يستجيبوا لهم» ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة «ورأوا العذاب» قد غشيهم «لو أنهم كانوا يهتدون» لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب أو إلى الحق لما لقوا ما لقوا وقيل لو للتمني أي تمنوا لو أنهم كانوا مهتدين «ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين» عطف على ما قبله سئلوا أولا عن إشراكهم وثانيا عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك «فعميت عليهم الأنباء يومئذ» أي صارت كالعمي عنهم لا تهتدي إليهم وأصله فعموا عن الأنباء وقد عكس للمبالغة والتنبيه على أن ما يحضر الذهن يفيض عليه ويصل إليه من خارج فإذا أخطأ لم يكن له حيلة إلى استحضاره وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء والاشتباه والمراد بالأنباء إما ما طلب منهم مما أجابوا به الرسل أو جميع الأنباء وهي داخله فيه دخولا أوليا وإذا كانت الرسل عليهم الصلاة والسلام يفوضون العلم في ذلك المقام الهائل إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غاية المسؤول فما ظنك بأولئك الضلال من الأمم «فهم لا يتساءلون» لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب الفرط الدهشة أو العلم بأن الكل سواء في الجهل «فأما من تاب» من الشرك «وآمن وعمل صالحا» أي جمع بين الايمان والعمل الصالح «فعسى أن يكون من المفلحين» أي الفائزين بالمطلوب عنده تعالى الناجين عن المهروب وعسى للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب بمعنى فليتوقع الإفلاح «وربك يخلق ما يشاء» ان يخلقه «ويختار» ما يشاء اختياره من غير ايجاب عليه ولا منع له أصلا «ما كان لهم الخيرة» أي التخير كالطيرة بمعنى التطير والمراد نفي الاختيار المؤثر عنهم وذلك مما لا ريب فيه وقيل المراد انه ليس لاحد من خلقه ان يختار عليه ولذلك خلا عن العاطف ويؤيده ما روى انه نزل في قول الوليد بن المغيرة لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم والمعنى
22

لا يبعث الله تعالى الرسل باختيار المرسل إليهم وقيل معناه ويختار الذي كان لهم فيه الخير والصلاح «سبحان الله» أي تنزه بذاته تنزها خاصا به من ان ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار «وتعالى عما يشركون» عن اشراكهم أو عن مشاركة ما يشركونه به «وربك يعلم ما تكن صدورهم» كعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقدهم عليه «وما يعلنون» كالطعن فيه «وهو الله» أي المستحق للعبادة «لا إله إلا هو» لا أحد يستحقها الا هو «له الحمد في الأولى والآخرة» لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها على الخلق كافة يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا بقولهم الحمد الله الذي اذهب عنا الحزن الحمد لله الذي صدقنا وعده ابتهاجا بفضله والتذاذا بحمده «وله الحكم» أي القضاء النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغيره «وإليه ترجعون» بالبعث لا إلى غيره «قل» تقريرا لما ذكر «أرأيتم» أي
أخبروني «إن جعل الله عليكم الليل سرمدا» دائما من السرد وهو المتابعة والاطراد والميم مزيدة كما في دلاء مص من الدلاص يقال درع دلاص أي ملساء لينة «إلى يوم القيامة» بإسكان الشمس تحت الأرض أو تحريكها حول الأفق الغائر «من إله غير الله» صفة لإله «يأتيكم بضياء» صفة أخرى له عليها يدور امر التبكيت والالزام كما في قوله تعالى قل من يرزقكم من السماء والأرض وقوله تعالى فمن يأتيكم بماء معين ونظائرهما خلا أنه قصد بيان انتفاء الموصوف انتفاء الصفة ولم يقل هل إله الخ لإيراد التبكيت والالزام على زعمهم وقرئ بضئاء بهمزتين «أفلا تسمعون» هذا الكلام الحق سماع تدبر واستبصار حتى تذعنوا له وتعملوا بموجبه «قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة» بإسكانها في وسط السماء أو بتحريكها على مدار فوق الأفق «من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه» استراحة من متاعب الاشغال ولعل تجريد الضياء عن ذكر منافعه لكونه مقصودا بذاته ظاهر الاستتباع لما نيط به من المنافع «أفلا تبصرون» هذه المنفعة الظاهرة التي لا تخفى على من له بصر «ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه» أي في الليل «ولتبتغوا من
23

فضله» في النهار بأنواع المكاسب «ولعلكم تشكرون» ولكي تشكروا نعمته تعالى فعل ما فعل أو لكي تعرفوا نعمته تعالى وتشكروه عليها «ويوم يناديهم» منصوب باذكر «فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون» تقريع إثر تقريع للاشعار بأنه لا شئ اجلب لغضب الله عز وجل من الاشراك كما لا شئ أدخل في مرضاته من توحيده سبحانه وقوله تعالى «ونزعنا» عطف على يناديهم وصيغة الماضي للدلالة على التحقق أو حال من فاعله بإضمار قد والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال الاعتناء بشأن النزع وتهويله أي أخرجنا «من كل أمة» من الأمم «شهيدا» نبيا يشهد عليهم بما كانوا عليه كقوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد «فقلنا» لكل أمة من تلك الأمم «هاتوا برهانكم» على صحة ما كنتم تدينون به «فعلموا» يومئذ «أن الحق لله» في الإلهية لا يشاركه فيها أحد «وضل عنهم» أي غاب عنهم غيبة الضائع «ما كانوا يفترون» في الدنيا من الباطل «إن قارون كان من قوم موسى» كان ابن عمه يصهر بن قاهث ابن لاوي بن يعقوب عليه السلام وموسى عليه السلام ابن عمران بن قاهث وقيل كان موسى عليه السلام ابن أخيه وكان يسمى المنور لحسن صورته وقيل كان أقرأ بني إسرائيل للتوارة ولكنه نافق كما نافق السامري وقال إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان لهارون فما لي وروى انه لما جاوز بهم موسى عليه السلام البحر وصارت الرسالة والحبورة والقربان لهارون وجد قارون في نفسه وحسدهما فقال لموسى الامر لكما ولست على شئ إلى متى اصبر قال موسى عليه السلام هذا صنع الله تعالى قال لا أصدقك حتى تأتي بآية فامر رؤساء بني إسرائيل أن يجئ كل واحد بعصاه فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل إليه فيها فكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا فإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر فقال قارون ما هو بأعجب مما تصنع من السحر وذلك قوله تعالى «فبغى عليهم» فطلب الفضل عليهم وان يكونوا تحت أمره أو ظلمهم قيل وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل وقيل حسدهم وذلك ما ذكر منه في حق موسى وهارون عليهما السلام «وآتيناه من الكنوز» أي الأموال المدخرة «ما إن مفاتحه» أي مفاتح صناديقه وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به وقيل خزائنه وقياس واحدها المفتح بالفتح «لتنوء بالعصبة أولي القوة» خبر ان والجملة صلة ما وهو ثاني مفعولى آتى وناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله والعصبة والعصابة الجماعة الكثيرة وقرئ لينوء بالياء على اعطاء المضاف حكم المضاف اليه كما مر في قوله تعالى ان رحمة الله
24

قريب من المحسنين «إذ قال له قومه» منصوب بتنوء وقيل ببغي ورد بأن البغي ليس مقيدا بذلك الوقت وقيل بآتيناه ورد بأن الايتاء أيضا غير مقيد به وقيل بمضمر فقيل هو اذكر وقيل هو اظهر الفرح ويجوز ان يكون منصوبا بما بعده من قوله تعالى قال انما أوتيته وتكون الجملة مقررة لبغيه «لا تفرح» أي لا تبطر والفرح في الدنيا مذموم مطلقا لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح حتما ولذلك قال تعالى ولا تفرحوا بما آتاكم وعلل النهي ههنا بكونه مانعا من محبته عز وعلا فقيل «إن الله لا يحب الفرحين» أي بزخارف الدنيا «وابتغ» وقرئ واتبع «فيما آتاك الله» من الغنى «الدار الآخرة» أي ثواب الله تعالى فيها يصرفه إلى ما يكون وسيلة اليه «ولا تنس» أي لا تترك ترك المنسي «نصيبك من الدنيا» وهو ان تحصل بها آخرتك وتأخذ منها ما يكفيك «وأحسن» أي إلى عباد الله تعالى «كما أحسن الله إليك» فيما أنعم به عليك وقيل أحسن بالشكر والطاعة كما أحسن الله إليك بالانعام «ولا تبغ الفساد في الأرض» نهى عما كان عليه من الظلم والبغي «إن الله لا يحب المفسدين» لسوء افعالهم «قال» مجيبا لناصحيه «إنما أوتيته على علم عندي» كأنه يريد به الرد على قولهم كما أحسن الله إليك لانبائه عن انه تعالى أنعم عليه بتلك الأموال والذخائر من غير سبب واستحقاق من قبله أي فضلت به على الناس واستوجبت به التفوق عليهم بالمال والجاه وعلى علم في موقع الحال وهو علم التوراة وكان اعلمهم بها وقيل علم الكيمياء وقيل علم النجارة والدهقنة وسائر المكاسب وقيل علم فتح الكنوز والدفائن وعندي صفة له أو متعلق بأوتيته كقولك جاز هذا عندي أو في ظني ورأيي «أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا» توبيخ له من جهة الله تعالى على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك قراءة في التوراة وتلقيا من موسى عليه السلام وسماعا من حفاظ التواريخ وتعجب منه فالمعنى ألم يقرأ التوراة ولم يعلم ما فعل الله تعالى بأضرابه من أهل القرون السابقة حتى لا يغتر بما اغتروا به أورد لا دعائه العلم وتعظمه به بنفي هذا العلم منه فالمعنى اعلم ما ادعاه ولم يعلم هذا حتى بقي به نفسه مصارع الهالكين «ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون» سؤال استعلام بل يعذبون بها بغتة كأن قارون لما هدد بذكر اهلاك من قبله ممن كان أقوى منه واغنى اكد ذلك بأن بين ان ذلك لم يكن مما يخص أولئك المهلكين بل الله تعالى مطلع على ذنوب كافة المجرمين يعاقبهم عليها لا محالة
25

«فخرج على قومه» عطف على قال وما بينهما اعتراض وقوله تعالى «في زينته» اما متعلق بخرج أو بمحذوف هو حال من فاعله أي فخرج عليهم كائنا في زينته قيل خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه وقيل عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعن يمينه ثلاثمائة غلام وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلى والديباج وقيل في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وهو أول يوم رئى فيه المعصفر «قال الذين يريدون الحياة الدنيا» من المؤمنين جريا على سنن الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار «يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون» وعن قتادة أنهم تمنوه ليتقربوا به إلى الله تعالى وينفقوه في سبل الخير وقيل كان
المتمنون قوما كفارا «إنه لذو حظ عظيم» تعليل لتمنيهم وتأكيد له «وقال الذين أوتوا العلم» أي بأحوال الدنيا والآخرة كما ينبغي وإنما لم يوصفوا بإرادة ثواب الآخرة تنبيها على أن العلم بأحوال النشأتين يقتضي الاعراض عن الأولى والاقبال على الثانية حتما وأن تمنى المتمنين ليس إلا لعدم علمهم بهما كما ينبغي «ويلكم» دعاء بالهلاك شاع استعماله في الزجر عمالا لا يرتضى «ثواب الله» في الآخرة «خير» مما تتمنونه «لمن آمن وعمل صالحا» فلا يليق بكم أن تتمنوه غير مكتفين بثوابه تعالى «ولا يلقاها» أي هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء أو الثواب فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو الايمان والعمل الصالح فإنهما في معنى السيرة والطريقة «إلا الصابرون» أي على الطاعات وعن الشهوات «فخسفنا به وبداره الأرض» روى أنه كان يؤذى موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل الف على واحد فحسبه فاستكثره فعمد إلى ان يفضح موسى عليه السلام بين بني إسرائيل فجعل لبغى من بغايا بني إسرائيل ألف دينار وقيل طشتا من ذهب مملوءة ذهبا فلما كان يوم عيد قام موسى عليه السلام خطيبا فقال من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصنا رجمناه فقال قارون ولو كنت قال ولو كنت قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت فناشدها عليه السلام أن تصدق فقالت جعل لي قارون جعلا على أن أرميك بنفسي فخر موسى ساجدا لربه يبكى ويقول يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك فقال يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل
26

عنه فاعتزلوا جميعا غير رجلين ثم قال يا ارض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وهم يناشدونه عليه الصلاة والسلام بالله تعالى وبالرحم وهو لا يلتفت إليهم لشدة غيظه ثم قال خذيهم فانطبقت عليهم فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم انما دعا عليه موسى عليه الصلاة والسلام ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله «فما كان له من فئة» جماعة مشفقة «ينصرونه من دون الله» بدفع العذاب عنه «وما كان من المنتصرين» أي الممتنعين منه بوجه من الوجوه يقال نصره من عدوه فانتصر أي منعه فامتنع «وأصبح الذين تمنوا مكانه» منزلته «بالأمس» منذ زمان قريب «يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر» أي يفعل كل واحد من البسط والقدر بمحض مشيئته لا لكرامة توجب البسط ولا لهوان يقتضى القبض وويكأن عند البصريين مركب من وى للتعجيب وكان للتشبيه والمعنى ما أشبه الامر ان الله يبسط الخ وعند الكوفيين من ويك بمعنى ويلك وان وتقديره ويك اعلم ان الله وانما يستعمل عند التنبه على الخطأ والتندم والمعنى انهم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وتندموا على ذلك «لولا أن من الله علينا» بعدم اعطائه إيانا ما تمنيناه وإعطائنا مثل ما أعطاه إياه وقرئ لولا من الله علينا «لخسف بنا» كما خسف به وقرئ لخسف بنا على البناء للمفعول وبنا هو القائم مقام الفاعل وقرئ لا تخسف بنا كقولك انقطع به وقرئ لتخسف بنا «ويكأنه لا يفلح الكافرون» لنعمة الله تعالى أو المكذبون برسله وبما وعدوا من ثواب الآخرة «تلك الدار الآخرة» إشارة تعظيم وتفخيم كأنه قيل تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها «نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض» أي غلبة وتسلطا «ولا فسادا» أي ظلما وعدوانا على العباد كدأب فرعون وقارون وفي تعليق الموعد بترك ارادتهما لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما وعن على رضى الله عنه ان الرجل ليعجبه ان يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها «والعاقبة» الحميدة «للمتقين» أي الذين يتقون مالا يرضاه الله تعالى من الافعال والأقوال «من جاء بالحسنة فله» بمقابلتها «خير منها» ذاتا ووصفا وقدرا «ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات» وضع فيه الموصول والظاهر موضع الضمير لتهجين حالهم بتكرير اسناد السيئة إليهم «إلا ما كانوا يعملون» أي الا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم مقامه ما كانوا يعملون مبالغة في المماثلة
27

«إن الذي فرض عليك القرآن» أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل به «لرادك إلى معاد» أي معاد معاد تمتد اليه أعناق الهمم وترنو إليه أحداق الأمم وهو المقام المحمود الذي وعدك ان يبعثك فيه وقيل هو مكة المعظمة على انه تعالى قد وعده وهو بمكة في أذية وشدة من أهلها انه يهاجر به منها ثم يعيده إليها بعز ظاهر وسلطان قاهر وقيل نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتقاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم عليه السلام فنزل جبريل عليه السلام فقال له أتشتاق إلى مكة قال نعم فأوحاها اليه «قل ربي أعلم من جاء بالهدى» وما يستحقه من الثواب والنصر ومن منتصب بفعل يدل عليه اعلم أي يعلم وقيل بأعلم على انه بمعنى عالم «ومن هو في ضلال مبين» وما استحقه من العذاب والاذلال يعنى بذلك نفسه والمشركين وهو تقرير للوعيد السابق وكذا قوله تعالى «وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب» أي سيردك إلى معادك كما القي إليك الكتاب وما كنت ترجوه «إلا رحمة من ربك» ولكن الفاه إليك رحمة منه ويجوز ان يكون استثناء محمولا على المعنى كأنه قيل وما القي إليك الكتاب الا رحمة أي لأجل الترحم «فلا تكونن ظهيرا للكافرين» بمداراتهم والتحمل عنهم والإجابة إلى طلبتهم «ولا يصدنك» أي الكافرون «عن آيات الله» أي عن قراءتها والعمل بها «بعد إذ أنزلت إليك» وفرضت عليك وقرئ يصدنك من أصد المنقول من صد اللازم «وادع» الناس «إلى ربك» إلى عبادته وتوحيده «ولا تكونن من المشركين» بمساعدتهم في الأمور «ولا تدع مع الله إلها آخر» هذا وما قبله للتهييج والإلهاب وقطع أطماع المشركين عن مساعدته عليه الصلاة والسلام لهم واظهار ان المنهى عنه في القبح والشرية بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره عنه أصلا «لا إله إلا هو» وحده «كل شيء هالك إلا وجهه» الا ذاته فإن ما عداه كائنا ما كان ممكن في حد ذاته عرضة للهلاك والعدم «له الحكم» أي القضاء النافذ في الخلق «وإليه ترجعون» عند البعث للجزاء بالحق والعدل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرا طسم القصص كان له من الاجر بعدد من صدق موسى وكذب ولم يبق ملك في السماوات والأرض الا شهد له يوم القيامة انه كان صادقا
28

مكية وهي تسع وستون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «ألم» الكلام فيه كالذي مر مرارا في نظائره من الفواتح الكريمة خلا ان ما بعده لا يحتمل أن يتعلق به تعلقا اعرابيا «أحسب الناس» الحسبان ونظائره لا يتعلق بمعاني المفردات بل بمضامين الجمل المفيدة لثبوت شيء لشيء أو انتفاء شيء بحيث يتحصل منها مفعولاه اما بالفعل كما في عامة المواقع واما
بنوع تصرف فيها كما في الجمل المصدرة بأن والواقعة صلة للموصول الأسمى أو الحرفي فإن كلا منها صالحة لان يسبك منها مفعولاه لان قوله تعالى «أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون» في قوة ان يقال احسبوا أنفسهم متروكين بلا فتنة بمجرد ان يقولوا آمنا أوان يقال احسبوا تركهم غير مفتونين بقولهم آمنا حاصلا متحققا والمعنى انكار الحسبان المذكور واستبعاده وتحقيق انه تعالى يمتحنهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض ما تشتهيه النفس ووظائف الطاعات وفنون المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والراسخ في الدين من المتزلزل فيه ويجازيهم بحسب مراتب اعمالهم فإن مجرد الايمان وان كان عن خلوص لا يقتضى غير الخلاص من الخلود في النار روى انها نزلت في ناس من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين جزعوا من أذية المشركين وقيل في عمار قد عذب في الله وقيل في مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما رماه عامر بن الحضرمي بسهم يوم بدر فقتله فجزع عليه أبواه وامرأته وهو أول من استشهد يومئذ من المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعي إلى باب الجنة من هذه الأمة «ولقد فتنا الذين من قبلهم» متصل بقوله تعالى أحسب أو بقوله تعالى لا يفتنون والمعنى ان ذلك سنة قديمة مبنية على الحكم البالغة جارية فيما بين الأمم كلها فلا ينبغي ان يتوقع خلافها والمعنى ان الأمم الماضية قد أصابهم من ضروب الفتن والمحن ما هو أشد مما أصاب هؤلاء فصبروا كما يعرب عنه قوله تعالى وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا الآيات وعن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار
29

على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه «فليعلمن الله الذين صدقوا» أي في قولهم آمنا «وليعلمن الكاذبين» في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفصح عنه ما قبلها من وقوع الامتحان واللام جواب القسم والالتفات إلى الاسم الجليل لإدخال الروعة وتربية المهابة وتكرير الجواب لزيادة التأكيد والتقرير أي فو الله ليتعلقن علمه بالامتحان تعلقا حاليا يتميز به الذين صدقوا في الإيمان الذي أظهروه والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب ويترتب عليه أجزيتهم من الثواب والعقاب ولذلك قيل المعنى ليميزن أو ليجازين وقرئ وليعلمن من الأعلام أي وليعرفنهم الناس أو ليسمنهم بسمة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها «أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا» أي يفوتونا فلا نقدر على مجازاتهم بمساوى أعمالهم وهو ساد مفعولى حسب لاشتماله على مسند ومسند اليه وأم منقطعة وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقال عن التوبيخ بإنكار حسبانهم متروكين غير مفتونين إلى التوبيخ بإنكار ما هو أبطل من الحسبان الأول وهو حسبانهم أن لا يجازوا بسيئاتهم وهم وإن لم يحسبوا أنهم يفوتونه تعالى ولم يحدثوا نفوسهم بذلك لكنهم حيث أصروا على المعاصي ولم يتفكروا في العاقبة نزلوا منزلة من يطمع في ذلك كما في قوله تعالى يحسب أن ماله أخلده «ساء ما يحكمون» أي بئس الذي يحكمونه حكمهم ذلك أو بئس حكما يحكمونه حكمهم ذلك «من كان يرجو لقاء الله» أي يتوقع ملاقاة جزائه ثوابا أو عقابا أو ملاقاة حكمه يوم القيامة وقيل يرجو لقاء الله عز وجل في الجنة وقيل يرجو ثوابه وقيل يخاف عقابه وقيل لقاؤه تعالى عبارة عن الوصول إلى العاقبة من تلقى ملك الموت والبعث والحساب والجزاء على تمثيل تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد علم مولاه بجميع ما كان يأتي ويذر فإما أن يلقاه ببشر وكرامة لما رضى من أفعاله أو بضده لما سخطه «فإن أجل الله» الاجل عبارة عن غاية زمان ممتد عينت لأمر من الأمور وقد يطلق على كل ذلك الزمان والأول هو الأشهر في الاستعمال أي فإن الوقت الذي عينه تعالى لذلك «لآت» لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لأن أجزاء الزمان على التقضى والتصرم دائما فلا بد من إتيان ذلك الجزاء أيضا البتة وإتيان وقته موجب لإتيان اللقاء حتما والجواب محذوف أي فليختر من الأعمال ما يؤدي إلى حسن الثواب وليحذر ما يسوقه إلى سوء العذاب كما في قوله تعالى «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا» وفيه من الوعد والوعيد ما لا يخفى وقيل فليبادر إلى ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو ما يوجب القربة والزلفى «وهو السميع» لأقوال العباد «العليم» بأحوالهم من الاعمال الظاهرة والعقائد «ومن جاهد» في طاعة الله عز وجل «فإنما يجاهد لنفسه» لعود منفعتها
30

إليها «إن الله لغني عن العالمين» فلا حاجة له إلى طاعتهم وإنما أمرهم بها تعريضا لهم للثواب بموجب رحمته «والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم» الكفر بالايمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات «ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون» أي أحسن جزاء أعمالهم لا جزاء أحسر أعمالهم فقط «ووصينا الإنسان بوالديه حسنا» أي بإيتاء والديه وإيلائهما فعلا ذا حسن أو ما هو في حد ذاته حسن لفرط حسنة كقوله تعالى وقولوا للناس حسنا ووصى يجرى مجرى أمر معنى وتصرفا غير انه يستعمل فيما كان في المأمور به نفع عائد إلى المأمور أو غيره وقيل هو بمعنى قال فالمعنى وقلنا أحسن بوالديك حسنا وقيل انتصاب حسنا بمضمر على تقدير قول مفسر للتوصية أي وقلنا أولهما أو أفعل بهما حسنا وهو أوفق لما بعده وعليه يحسن الوقف على بوالديه وقرئ حسنا وإحسانا «وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم» أي بالهيته عبر عن نفيها بنفي العلم بها للإيذان بان ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم بطلانه «فلا تطعهما» في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر فيما قبل وفي تعليق النهى عن طاعتهما بمجاهدتهما في التكاليف إشعار بأن موجب النهى فيما دونها من التكليف ثابت بطريق الأولوية «إلي مرجعكم» أي مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر بوالديه ومن عق «فأنبئكم بما كنتم تعملون» بأن أجازى كلا منكم بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص رضى الله تعالى عنه عند إسلامه حيث حلفت أمه حمنة بنت أبي سفيان ابن أمية ان لا تنتقل من الضح إلى الظل ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد فلبثت ثلاثة أيام كذلك وكذا التي في سورة لقمان وسورة الأحقاف وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك انه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل والحرث أخواه لأمه أسماء فنزلا بعياش وقالا له إن من دين محمد صلى الله عليه وسلم صلة الأرحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوى بيتا حتى تراك فأخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب واستشار عمر رضي الله عنه فقال هما يخدعانك ولك على أن أقسم مالي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه أما إذا عصيتني فخذنا فتى فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن
رابك منهما ريب فارجع فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل إن ناقتي قد كلت فاحملني معك فنزل ليوطئ لنفسه وله فأخذاه فشداه وثاقا وجلده كل واحد مائه جلده وذهبا به إلى أمه فقالت لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد «والذين آمنوا وعملوا
31

الصالحات لندخلنهم في الصالحين»
أي في زمرة الراسخين في الصلاح والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين وغاية مأمول أنبياء الله المرسلين قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وقال في حق إبراهيم عليه السلام وإنه في الآخرة لمن الصالحين أو في مدخل الصالحين وهو الجنة «ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله» أي في شانه تعالى بأن عذبهم الكفرة على الايمان «جعل فتنة الناس» أي ما يصيبه من أذيتهم «كعذاب الله» في الشدة والهول فيرتد عن الدين مع انه لا قدر لها عند نفحة من عذابه تعالى أصلا «ولئن جاء نصر من ربك» أي فتح وغنيمة «ليقولن» بضم اللام نظرا إلى معنى من كما أن الإفراد فيما سبق بالنظر إلى لفظها وقرئ بالفتح «إنا كنا معكم» أي مشايعين لكم في الدين فأشر كونا في المغنم وهم ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم وكانوا يكتمونه من المسلمين فرد عليهم ذلك بقوله تعالى «أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين» أي بأعلم منهم بما في صدورهم من الاخلاص والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلون من الارتداد والاخفاء عن المسلمين وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة وهذا هو الأوفق لما سبق ولما لحق من قوله تعالى «وليعلمن الله الذين آمنوا» أي بالاخلاص «وليعلمن المنافقين» سواء كان كفرهم بأذية الكفرة أولا أي ليجزينهم بما لهم من الايمان والنفاق «وقال الذين كفروا للذين آمنوا» بيان لحملهم للمؤمنين على الكفر بالاستمالة بعد بيان حملهم لهم عليه بالأذية والوعيد وصفهم بالكفر ههنا دون ما سبق لما ان مساق الكلام لبيان جناياتهم وفيما سبق لبيان جناية من أضلوه واللام للتبليغ أي قالوا مخاطبين لهم «اتبعوا سبيلنا» أي اسلكوا طريقتنا التي نسلكها في الدين عبر عن ذلك بالاتباع الذي هو المشي خلف ماش آخر تنزيلا للمسلك منزلة السالك فيه أو اتبعونا في طريقتنا «ولنحمل خطاياكم» أي ان كان ذلك خطيئة يؤاخذ عليها بالبعث كما تقولون وانما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين له على امرهم بالاتباع للمبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم ان كان ثمة وزر فرد عليهم بقوله تعالى «وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء» وقرئ من خطيآتهم أي وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم التي التزموا ان يحملوا كلها على ان من الأولى للتبيين والثانية مزيدة للاستغراق والجملة اعتراض أو حال «إنهم لكاذبون» حيث أخبروا في ضمن وعدهم بالحمل بأنهم قادرون على انجاز ما وعدوا فإن الكذب كما يتطرق إلى الكلام باعتبار
32

منطوقه يتطرق اليه باعتبار ما يلزم مدلوله كما مر في قوله تعالى أنبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين «وليحملن أثقالهم» بيان لما يستتبعه قولهم ذلك في الآخرة من المضرة لأنفسهم بعد بيان عدم منفعته لمخاطبيهم أصلا والتعبير عن الخطايا بالأثقال للإيذان بغاية ثقلها وكونها فادحة واللام جواب قسم مضمر أي وبالله ليحملن أثقال أنفسهم كاملة «وأثقالا» اخر «مع أثقالهم» لما تسببوا بالاضلال والحمل على الكفر والمعاصي من غير ان ينتقص من أثقال من أضلوه شيء ما أصلا «وليسألن يوم القيامة» سؤال تقريع وتبكيت «عما كانوا يفترون» أي يختلقونه في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل التي من جملتها كذبهم هذا «ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما» شروع في بيان افتتان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأذية أممهم اثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدا للانكار على الذين يحسبون ان يتركوا بمجرد الايمان بلا ابتلاء وحثا لهم على الصبر فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها فلان يصبر هؤلاء أولى وأحرى قالوا كان عمر نوح عليه السلام ألفا وخمسين عاما بعث على راس أربعين سنة ودعا قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة وعن وهب انه عاش ألفا وأربعمائة سنة ولعل ما عليه النظم الكريم للدلالة على كمال العدد فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مكابدة ما يناله من الكفرة واظهار ركاكة رأى الذين يحسبون انهم يتركون بلا ابتلاء واختلاف المميز لما في التكرير من نوع بشاعة «فأخذهم الطوفان» أي عقب تمام المدة المذكورة والطوفان يطلق على كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام وقد غلب على طوفان الماء «وهم ظالمون» أي والحال انهم مستمرون على الظلم لم يتأثروا بما سمعوا من نوح عليه السلام من الآيات ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة المتمادية «فأنجيناه» أي نوحا عليه السلام «وأصحاب السفينة» أي ومن ركب فيها معه من أولاده واتباعه وكانوا ثمانين وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة وقيل ثمانية نصفهم ذكور ونصفهم إناث «وجعلناها» أي السفينة أو الحادثة والقصة «آية للعالمين» يتعظون بها «وإبراهيم» نصب بالعطف على نوحا وقيل
33

بإضمار اذكر وقرئ بالرفع على تقدير ومن المرسلين إبراهيم «إذ قال لقومه» على الأول ظرف للارسال أي أرسلناه حين تكامل عقله وقدر على النظر والاستدلال وترقى من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لارشاد الخلق إلى طريق الحق وعلى الثاني بدل اشتمال من إبراهيم «اعبدوا الله» أي وحده «واتقوه» ان تشركوا به شيئا «ذلكم» أي ما ذكر من العبادة والتقوى «خير لكم» أي مما أنتم عليه ومعنى التفضيل مع انه لا خيرية فيه قطعا باعتبار زعمهم الباطل «إن كنتم تعلمون» أي الخير والشر وتميزون أحدهما من الآخر أو ان كنتم تعلمون شيئا من الأشياء بوجه من الوجوه فإن ذلك كاف في الحكم بخيرية ما ذكره من العبادة والتقوى «إنما تعبدون من دون الله أوثانا» بيان لبطلان دينهم وشريته في نفسه بعد بيان شريته بالنسبة إلى الدين الحق أي انما تعبدون من دونه تعالى أوثانا هي في نفسها تماثيل مصنوعة لكم ليس فيها وصف غير ذلك «وتخلقون إفكا» أي وتكذبون كذبا حيث تسمونها آلهة وتدعون انها شفعاؤكم عند الله تعالى أو تعملونها وتنحتونها للإفك وقرئ تخلقون بالتشديد للتكثير في الخلق بمعنى الكذب والافتراء وتخلقون بحذف احدى التاءين من تخلق بمعنى تكذب وتخرص وقرئ افكا على انه مصدر كالكذب واللعب أو نعت بمعنى خلقا ذا افك «إن الذين تعبدون من دون الله» بيان لشرية ما يعبدونه من حيث انه لا يكاد يجديهم نفعا «لا يملكون لكم رزقا» أي لا يقدرون على ان يرزقوكم شيئا من
الرزق «فابتغوا عند الله الرزق» كله فإنه هو الرزاق ذو القوة المتين «واعبدوه» وحده «واشكروا له» على نعمائه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين بالشكر للعتيد ومستجلبين للمزيد «وإليه ترجعون» أي بالموت ثم بالبعث لا إلى غيره فافعلوا ما أمرتكم به وقرئ ترجعون من رجع رجوعا «وإن تكذبوا» أي تكذبوني فيما أخبرتكم به من انكم اليه ترجعون بالبعث «فقد كذب أمم من قبلكم» تعليل للجواب أي فلا تضرونني بتكذيبكم فإن من قبلكم من الأمم قد كذبوا من قبلي من الرسل وهم شيث وإدريس ونوح عليهم السلام فلم يضرهم تكذيبهم شيئا وانما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم «وما على الرسول إلا البلاغ المبين» أي التبليغ الذي لا يبقى معه شك وما عليه ان يصدقه قومه البتة وقد خرجت عن عهدة التبليغ بما لا مزيد عليه فلا يضرني تكذيبكم بعد ذلك أصلا «أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق» كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى للانكار على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دليله وسنوح سبيله والهمزة لانكار عدم رؤيتهم الموجب لتقريرها والواو للعطف على مقدر أي ألم ينظروا
34

ولم يعلموا علما جاريا مجرى الرؤية في الجلاء والظهور كيفية خلق الله تعالى الخلق ابتداء من مادة ومن غير مادة أي قد علموا ذلك وقرئ بصيغة الخطاب لتشديد الانكار وتأكيده وقرئ يبدأ وقوله تعالى «ثم يعيده» عطف على أو لم يرو الا على يبدىء لعدم وقوع الرؤية عليه فهو اخبار بأنه تعالى يعيد الخلق قياسا على الابداء وقد جوز العطف على يبدىء بتأويل الإعادة بإنشائه تعالى كل سنة مثل ما أنشاه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه من غير ريب «إن ذلك» أي ما ذكر من الإعادة «على الله يسير» إذ لا يفتقر إلى شئ أصلا «قل سيروا في الأرض» أمر لإبراهيم عليه السلام أن يقول لهم ذلك أي سيروا فيها «فانظروا كيف بدأ الخلق» أي كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتى فإن ترتيب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها «ثم الله ينشئ النشأة الآخرة» بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها والتعبير عن الإعادة التي هي محل النزاع بالنشأة الآخرة المشعرة بكون البدء نشأة أولى للتنبيه على أنهما شأن واحد من شؤون الله تعالى حقيقة واسما من حيث إن كلا منهما اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود ولا فرق بينهما إلا بالأولية والآخرية وقرئ النشأءة بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة ومحلها النصب على انها مصدر مؤكد لينشئ بحذف الزوائد والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل أي ينشئ فينشأون النشأة الآخرة كما في قوله تعالى «وأنبتها نباتا حسنا» والجملة معطوفة على جملة سيروا في الأرض داخلة معها في حيز القول وإظهار الاسم الجليل وإيقاعه مبتدأ مع إضماره في بدأ لإبراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الإعادة بالإشارة إلى علة الحكم وتكرير الاسناد وقوله تعالى «إن الله على كل شيء قدير» تعطيل لما قبله بطريق التحقيق فإن من علم قدرته تعالى على جميع الأشياء التي من جملتها الإعادة لا يتصور أن يتردد في قدرته عليها ولا في وقوعها بعد ما أخبر به «يعذب» أي بعد النشأة الآخرة «من يشاء» أن يعذبه وهم المنكرون لها حتما «ويرحم من يشاء» أن يرحمه وهم المصدقون بها والجملة تكملة لما قبلها وتقديم التعذيب لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب «وإليه تقلبون» عند ذلك لا إلى غيره فيفعل بكم ما يشاء من التعذيب والرحمة «وما أنتم بمعجزين» له تعالى عن إجراء حكمه وقضائه عليكم «في الأرض ولا في السماء» أي بالتوارى في الأرض أو الهبوط في مهاويها ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها لو استطعتم الرقي فيها كما في قوله تعالى «إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا» أو
35

القلاع الذاهبة فيها وقيل في السماء صفة لمحذوف معطوف على أنتم أي ولا من في السماء «وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير» يحرسكم مما يصيبكم من بلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء ويدفعه عنكم «والذين كفروا بآيات الله» أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته وصفاته وافعاله فيدخل فيها النشأة الأولى الدالة على تحقق البعث والآيات الناطقة به دخولا أوليا وتخصيصها بدلائل وحدانيته تعالى لا يناسب المقام «ولقائه» الذي تنطق به تلك الآيات «أولئك» الموصوفون بما ذكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه «يئسوا من رحمتي» أي ييأسون منها يوم القيامة وصيغة الماضي للدلالة على تحققه أو يئسوا منها في الدنيا لإنكارهم البعث والجزاء «وأولئك لهم عذاب أليم» وفي تكرير اسم الإشارة وتكرير الاسناد وتنكير العذاب ووصفه بالأليم من الدلالة على كمال فظاعة حالهم ما لا يخفى أي أولئك الموصوفون بالكفر بآيات الله تعالى ولقائه وباليأس من رحمته الممتازون بذلك عن سائر الكفرة لهم بسبب تلك الأوصاف القبيحة عذاب لا يقادر قدره في الشدة والايلام «فما كان جواب قومه» بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى «إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه» وقرئ بالرفع على العكس وقد مر ما فيه في نظائره وليس المراد انه لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن حجج إبراهيم عليه السلام إلا هذه المقالة الشنيعة كما هو المتبادر من ظاهر النظم الكريم بل إن ذلك هو الذي استقر عليه جوابهم بعد اللتيا والتي في المرة الأخيرة وإلا فقد صدر عنهم من الخرافات والأباطيل ما لا يحصى «فأنجاه الله من النار» الفاء فصيحة أي فألقوه في النار فأنجاه الله تعالى منها بأن جعلها عليه الصلاة والسلام بردا وسلاما حسبما بين في مواضع أخر وقد مر في سورة الأنبياء بيان كيفية إلقائه عليه الصلاة والسلام فيها وإنجائه تعالى إياه تفصيلا قيل لم ينتفع يومئذ بالنار في موضع أصلا «إن في ذلك» أي في إنجائه منها «لآيات» بينة عجيبة هي حفظه تعالى إياه من حرها وإخمادها في زمان يسير وإنشاء روض في مكانها «لقوم يؤمنون» وأما من عداهم فهم عن اجتلائها غافلون ومن الفوز بمغانم آثارها محرومون «وقال» أي إبراهيم عليه السلام مخاطبا لهم «إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا» أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها وائتلافكم وثاني مفعولى اتخذتم محذوف أي أوثانا آلهة ويجوز أن يكون مودة هو المفعول بتقدير المضاف أو بتأويلها بالمودودة أو يجعلها نفس المودة مبالغة أي اتخذتم أو ثانا سبب المودة
36

بينكم أو مودودة أو نفس المودة وقرئ مودة منونة منصوبة ناصبة الظرف وقرئت بالرفع والإضافة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو نفس المودة أو سبب مودة بينكم والجملة صفة أو ثانا أو خبر إن على أن ما مصدرية أو موصولة قد حذف عائدها وهو المفعول الأول وقرئت مرفوعة منونة ومضافة بفتح بينكم كما قرئ لقد تقطع بينكم على أحد الوجهين وقرئ إنما مودة بينكم والمعنى ان اتخاذكم إياها مودة بينكم ليس إلا في الحياة وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتم بي ما فعلتم لأجل مودتكم لها
انتصارا منى كما ينبئ عنه قوله تعالى وانصروا آلهتكم «ثم يوم القيامة» تنقلب الأمور ويتبدل التواد تباغضا والتلاطف تلاعنا حيث «يكفر بعضكم» وهم العبدة «ببعض» وهم الأوثان «ويلعن بعضكم بعضا» أي يلعن كل فريق منكم ومن الأوثان حيث ينطقها الله تعالى الفريق الآخر «ومأواكم النار» أي هي منزلكم الذي تأوون اليه ولا ترجعون منه ابدا «وما لكم من ناصرين» يخلصونكم منها كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها وجمع الناصر لوقوعه في مقابلة الجمع أي ما لاحد منكم من ناصر أصلا «فآمن له لوط» أي صدقه في جميع مقالاته لا في نبوته وما دعا اليه من التوحيد فقط فإنه كان منزها عن الكفر وما قيل انه آمن له حين رأى النار لم تحرقه ينبغي ان يحمل على ما ذكرنا أو على ان يراد بالايمان الرتبة العالية منها وهي التي لا يرتقي إليها الا هم الافراد الكمل ولوط هو ابن أخيه عليهما السلام «وقال إني مهاجر» أي من قومي «إلى ربي» إلى حيث امرني ربي «إنه هو العزيز» الغالب على امره فيمنعني من أعدائي «الحكيم» الذي لا يفعل فعلا الا وفيه حكمة ومصلحة فلا يأمرني الا بما فيه صلاحي روى انه هاجر من كوثى سواد الكوفة مع لوط وسارة ابنة عمه إلى حران ثم منها إلى الشام فنزل فلسطين ونزل لوط سدوم «ووهبنا له إسحاق ويعقوب» ولدا ونافلة حين ايس من عجوز عافر «وجعلنا في ذريته النبوة» فكثر منهم الأنبياء «والكتاب» أي جنس الكتاب المتناول للكتب الأربعة «وآتيناه أجره» بمقابلة هجرته الينا «في الدنيا» بإعطاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملل اليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر «وإنه في الآخرة لمن الصالحين» أي الكاملين في الصلاح «ولوطا» منصوب اما بالعطف على نوحا أو على إبراهيم والكلام في قوله تعالى «إذ قال لقومه» كالذي مر في قصة إبراهيم عليه السلام «إنكم لتأتون الفاحشة» أي الفعلة المتناهية في القبح وقرئ أئنكم «ما سبقكم بها من أحد من العالمين» استئناف مقرر لكمال قبحها فإن اجماع جميع افراد العالمين على التحاشي عنها ليس الا لكونها مما تشمئز منه الطباع وتنفر منه النفوس
37

«أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل» وتتعرضون للسابلة أي الفاحشة حيث روى انهم كانوا كثيرا ما يفعلونها بالغرباء وقيل تقطعون سبيل النساء بالاعراض عن الحرث واتيان ما ليس بحرث وقيل تقطعون السبيل بالقتل واخذ المال «وتأتون في ناديكم» أي تفعلون في مجلسكم الجامع لأصحابكم «المنكر» كالجماع والضراط وحل الإزار وغيرها مما لا خير فيه من الأفاعيل المنكرة وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو الحذف بالحصى والرمي بالبنادق والفرقعة ومضغ العلك والسواك بين الناس وحل الإزار والسباب والفحش في المزاح وقيل السخرية بمن مر بهم وقيل المجاهرة في ناديهم بذلك العمل «فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين» أي فما كان جوابا من جهتهم شيء من الأشياء الا هذه الكلمة الشنيعة أي لم يصدر عنهم في هذه المرة من مرات مواعظ لوط عليه السلام وقد كان أوعدهم فيها بالعذاب واما ما في سورة الأعراف من قوله تعالى «وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم» الآية وما في سورة النمل من قوله تعالى فما كان جواب قومه الا ان قالوا اخرجوا آل لوط من قريتكم الآية فهو الذي صدر عنهم بعده هذه المرة وهي المرة الأخيرة من مرات المقاولات الجارية بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام وقد مر تحقيقه في سورة الأعراف «قال رب انصرني» أي بإنزال العذاب الموعود «على القوم المفسدين» بابتداع الفاحشة وسنها فيمن بعدهم والاصرار عليها واستعجال العذاب بطريق الاستهزاء وانما وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب عليهم «ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى» أي بالبشارة بالولد والنافلة «قالوا» أي لإبراهيم عليه السلام في تضاعيف الكلام حسبما فصل في سورة هود وسورة الحجر «إنا مهلكو أهل هذه القرية» أي قرية سدوم والإضافة لفظية لان المعنى على الاستقبال «إن أهلها كانوا ظالمين» تعليل للاهلاك بإصرارهم على الظلم وتماديهم في فنون الفساد وأنواع المعاصي «قال إن فيها لوطا» فكيف تهلكونها «قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله» أرادوا انهم غير غافلين عن مكان لوط عليه السلام فيها بل عمن لم يتعرض له إبراهيم عليه السلام من اتباعه المؤمنين وانهم معتنون بشأنهم أتم اعتناء حسبما ينبئ عنه تصدير الوعد بالتنجية بالقسم أي والله لننجينه وأهله «إلا امرأته كانت من الغابرين» أي الباقين في العذاب أو القرية
38

«ولما أن جاءت رسلنا» المذكورون بعد مفارقتهم لإبراهيم عليه السلام «لوطا سئ بهم» اعتراه المساءة بسبهم مخافة ان يتعرض لهم قومه بسوء وكلمة ان صلة لتأكيد ما بين الفعلين من الاتصال «وضاق بهم ذرعا» أي ضاق بشأنهم وتدبير امرهم ذرعه أي طاقته كقولهم ضاقت يده وبإزائه رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا به قادرا عليه وذلك أن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع «وقالوا» ريثما شاهدوا فيه مخايل التضجر من جهتهم وعاينوا أنه عجز عن مدافعة قومه بعد اللتيا والتي حتى آلت به الحال إلى أن قال لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد «لا تخف» أي من قومك علينا «ولا تحزن» أي على شئ وقيل بإهلاكنا إياهم «إنا منجوك وأهلك» مما يصيبهم من العذاب «إلا امرأتك كانت من الغابرين» وقرئ لننجينك ومنجوك من الإنجاء وأيا ما كان فمحل الكاف الجر على المختار ونصب أهلك بإضمار فعل أو بالعطف على محلها باعتبار الأصل «إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء» استئناف مسوق لبيان ما أشير اليه بوعد التنجية من نزول العذاب عليهم والرجز العذاب الذي يقلق المعذب أي يزعجه من قولهم ارتجز إذا ارتجس واضطرب وقرئ منزلون بالتشديد «بما كانوا يفسقون» بسبب فسقهم المستمر «ولقد تركنا منها» أي من القرية «آية بينة» هي قصتها العجيبة وآثار ديارها الخربة وقيل الحجارة الممطورة فإنها كانت باقية بعدها وقيل الماء الأسود على وجه الأرض «لقوم يعقلون» يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار وهو متعلق إما بتركنا أو بينة «وإلى مدين أخاهم شعيبا» متعلق بمضمر معطوف على أرسلنا قي قصة نوح عليه السلام أي وأرسلنا إلى مدين شعيبا «فقال يا قوم اعبدوا الله» وحده «وارجوا اليوم الآخر» أي توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال وافعلوا اليوم من الاعمال ما تأمنون غائلته وقيل وارجوا ثوابه بطريق إقامة المسبب مقام السبب وقيل الرجاء بمعنى الخوف «ولا تعثوا في الأرض مفسدين» «فكذبوه فأخذتهم الرجفة» أي الزلزلة الشديدة وفي سورة هود وأخذت الذين ظلموا الصيحة أي صيحة جبريل عليه السلام فإنها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاورها من
39

الأرض «فأصبحوا في دارهم» أي بلدهم أو منازلهم والافراد لأمن اللبس «جاثمين» باركين على الركب ميتين «وعادا وثمود» منصوبان بإضمار فعل ينبئ عنه ما قبله أي أهلكنا وقرئ ثمودا بتأويل الحي «وقد تبين لكم من مساكنهم» أي وقد ظهر لكم إهلاكنا إياهم من جهة مساكنهم بالنظر إليها عند اجتيازكم بها ذهابا إلى الشام وإيابا
منه «وزين لهم الشيطان أعمالهم» من فنون الكفر والمعاصي «فصدهم عن السبيل» السوى الموصل إلى الحق «وكانوا مستبصرين» متمكنين من النظر والاستدلال ولكنهم لم يفعلوا ذلك أو متبينين أن العذاب لا حق بهم بإخبار الرسل عليهم الصلاة والسلام لهم ولكنهم لجوا حتى لقوا ما لقوا «وقارون وفرعون وهامان» معطوف على عادا قيل تقديم قارون لشرف نسبه «ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين» مفلتين فائتين من قولهم سبق طالبه إذا فإنه ولم يدركه ولقد أدركهم أمر الله عز وجل أي إدراك فتداركوا نحو الدمار والهلاك «فكلا» تفسير لما ينبئ عنه عدم سبقهم بطريق الابهام أي فكل واحد من المذكورين «أخذنا بذنبه» أي عاقبناه بجنايته لا بعضه دون بعض كما يشعر به تقديم المفعول «فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا» تفصيل للاخذ أي ريحا عاصفا فيها حصباء وقيل ملكا رماهم بهاؤهم قوم لوط «ومنهم من أخذته الصيحة» كمدين وثمود «ومنهم من خسفنا به الأرض» كقارون «ومنهم من أغرقنا» كقوم نوح وفرعون وقومه «وما كان الله ليظلمهم» بما فعل بهم فإن ذلك محال من جهته تعالى «ولكن كانوا أنفسهم يظلمون» بالاستمرار على مباشرة ما يوجب ذلك من أنواع الكفر والمعاصي «مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء» أي فيما اتخذوه متعمدا ومتكلا «كمثل العنكبوت اتخذت بيتا» فيما نسجته في الوهن والخور بل ذلك أوهن من هذا لأن له حقيقة وانتفاعا في الجملة أو مثلهم بالإضافة إلى الموحد كمثله بالإضافة إلى رجل بني بيتا من حجر وجص والعنكبوت يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والغالب في الاستعمال التأنيث وتاؤه
40

كتاء طاغوت ويجمع على عناكب وعنكبوتات وأما العكاب والعكب والإعكب فأسماء الجموع «وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت» حيث لا يرى شئ يدانيه في الوهن والوهى «لو كانوا يعلمون» أي شيئا من الأشياء لجزموا ان هذا مثلهم أو ان دينهم أو هي من ذلك ويجوز ان يجعل بيت العنكبوت عبارة عن دينهم تحقيقا للتمثيل فالمعنى وإن أوهن ما يعتمد به في الدين دينهم «إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء» على إضمار الفول أي قل للكفرة إن الله الخ وما استفهامية منصوبة بيدعون معلقة ليعلم ومن للتبيين أو نافية ومن مزيدة وشئ مفعول يدعون أو مصدرية وشئ عبارة عن المصدر أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول يدعون عائده المحذوف وقرئ تدعون بالتاء والكلام على الأولين تجهيل لهم وتأكيد للمثل وعلى الأخيرين وعيد لهم «وهو العزيز الحكيم» تعليل على المعنيين فإن إشراك ما لا يعد شيئا بمن هذا شأنه من فرط الغباوة وان الجماد بالنسبة إلى القادر القاهر على كل شئ البالغ في العلم وإتقان الفعل الغاية القاصية كالمعدوم البحت وأن من هذه صفاته قادر على مجازاتهم «وتلك الأمثال» أي هذا المثل وأمثاله «نضربها للناس» تقريبا لما بعد من أفهامهم «وما يعقلها» على ما هي عليه من الحسن واستتباع الفوائد «إلا العالمون» الراسخون في العلم المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي وعنه صلى الله عليه وسلم انه تلا هذه فقال العالم من عقل عن الله تعالى وعمل بطاعته واجتنب سخطه «خلق الله السماوات والأرض بالحق» أي محقا مراعيا للحكم والمصالح على أنه حال من فاعل خلق أو ملتبسة بالحق الذي لا محيد عنه مستتبعة للمنافع الدينية والدنيوية على انه حال من مفعوله فإنها مع اشتمالها على جميع ما يتعلق به معايشهم شواهد دالة على شؤونه تعالى المتعلقة بذاته وصفاته كما يفصح عنه قوله تعالى «إن في ذلك لآية للمؤمنين» دالة لهم على ما ذكر من شؤونه سبحانه وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الهداية والارشاد في خلقهما للكل لأنهم المنتفعون بذلك «أتل ما أوحي إليك من الكتاب» تقربا إلى الله تعالى بقراءته وتذكرا لما في تضاعيفه من المعاني وتذكيرا للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الاحكام ومحاسن الآداب ومكارم الاخلاق «وأقم الصلاة» أي داوم على إقامتها وحيث كانت الصلاة منتظمة للصلوات المكتوبة المؤداة بالجماعة وكان امره عليه الصلاة والسلام بإقامتها متضمنا لامر الأمة بها علل بقوله تعالى «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
41

والمنكر» كأنه قيل وصل بهم إن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ومعنى نهيها عنهما أنها سبب للانتهاء عنهما لأنها مناجاة لله تعالى فلا بد أن تكون مع إقبال تام على طاعته وإعراض كلى عن معاصيه قال ابن مسعود وابن عباس رضى الله تعالى عنهما في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله تعالى فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله تعالى إلا بعدا وقال الحسن وقتادة من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه وروى أنس رضى الله عنه أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه فوصف له صلى الله عليه وسلم حاله فقال إن صلاته ستنهاه فلم يلبث ان تاب وحسن حاله «ولذكر الله أكبر» أي للصلاة أكبر من سائر الطاعات وإنما عبر عنها به كما في قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله للإيذان بأن ما فيها من ذكر الله تعالى هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات وقيل ولذكر الله تعالى عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر في الزجر عنهما وقيل ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته «والله يعلم ما تصنعون» منه ومن سائر الطاعات فيجازيكم بها أحسن المجازاة «ولا تجادلوا أهل الكتاب» من اليهود والنصارى «إلا بالتي هي أحسن» أي بالخصلة التي هي أحسن كمقابلة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح والسورة بالأناة على وجه لا يدل على الضعف ولا يؤدي إلى إعطاء الدنية وقيل منسوخ بآية السيف «إلا الذين ظلموا منهم» بالافراط في الاعتداء والعناد أو بإثبات الولد وقولهم يد الله مغلولة ونحو ذلك فإنه يجب حينئذ المدافعة بما يليق بحالهم «وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا» من القرآن «وأنزل إليكم» أي وبالذي انزل إليكم من التوراة والإنجيل وقد مر تحقيق كيفية الايمان بهما في خاتمة سورة البقرة وعن النبي صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وبكتبه وبرسله فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم وإن قالوا حقا لم تكذبوهم «وإلهنا وإلهكم واحد» لا شريك له في الألوهية «ونحن له مسلمون» مطيعون خاصة وفيه تعريض بحال الفريقين حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله «وكذلك» تجريد للخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار اليه في الفضل أي مثل ذلك الانزال البديع الموافق لانزال سائر الكتب «أنزلنا إليك الكتاب» أي القرآن الذي من جملته هذه الآية الناطقة بما ذكر من المجادلة بالحسنى «فالذين آتيناهم الكتاب» من الطائفتين «يؤمنون به» أريد بهم عبد الله بن سلام وأضرابه من أهل الكتابين خاصة كأن من عداهم لم يؤتوا الكتاب حيث لم يعملوا بما فيه أو من تقدم عهد رسول الله
42

صلى الله عليه وسلم منهم حيث كانوا مصدقين بنزوله حسبما شاهدوا في كتابيهما وتخصيصهم بإيتاء الكتاب للإيذان بأن من بعدهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزع عنهم الكتاب بالنسخ فلم يؤتوه والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إيمانهم به مترتب على إنزاله على الوجه المذكور «ومن هؤلاء» أي ومن العرب أو أهل مكة على الأول أو ممن في عصره صلى الله عليه وسلم على الثاني «من يؤمن به» أي بالقرآن «وما يجحد بآياتنا» عبر عن الكتاب بالآيات للتنبيه على ظهور دلالتها على معانيها وعلى كونها من عند الله تعالى وأضيفت إلى نون العظمة لمزيد تفخيمها وغاية تشنيع من يجحد بها «إلا الكافرون» المتوغلون في الكفر المصممون عليه فإن ذلك يصدهم عن التأمل فيما يؤديهم إلى معرفة حقيتها وقيل هم كعب بن الأشرف وأصحابه «وما كنت تتلو من قبله» أي ما كنت قبل إنزالنا إليك الكتاب تقدر على ان تتلو شيئا من كتاب «ولا تخطه» أي ولا تقدر على ان تخطه «بيمينك» حسبما هو المعتاد أو ما كانت عادتك أن تتلوه ولا أن تخطه «إذا لارتاب المبطلون» أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادهما لارتابوا وقالوا لعله التقطه من كتب الأوائل وحيث لم تكن كذلك لم يبق في شأنك منشأ ريب أصلا وتسميتهم مبطلين في ارتيابهم على التقدير المفروض لكونهم مبطلين في اتباعهم للاحتمال المذكور مع ظهور نزاهته صلى الله عليه وسلم عن ذلك «بل هو» أي القرآن «آيات بينات» واضحات ثابته راسخة «في صدور الذين أوتوا العلم» من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه بحيث لا يقدر أحد على تحريفه «وما يجحد بآياتنا» مع كونها كما ذكر «إلا الظالمون» المتجاوزون للحدود في الشر والمكابرة والفساد «وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه» مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى عليهم السلام وقرئ آية «قل إنما الآيات عند الله» ينزلها حسبما يشاء من غير دخل لأحد في ذلك قطعا «وإنما أنا نذير مبين» ليس من شأني إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات «أو لم يكفهم» كلام مستأنف وارد من جهته تعالى ردا على اقتراحهم وبيانا لبطلانه والهمزة للانكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي اقصر ولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات «أنا أنزلنا عليك الكتاب» الناطق بالحق المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية وأنت بمعزل عن مدارستها وممارستها «يتلى عليهم» في كل زمان ومكان فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها وتكون في مكان دون مكان أو يتلى على اليهود بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك «إن في ذلك» الكتاب العظيم
43

الشأن الباقي على مر الدهور «لرحمة» أي نعمة عظيمة «وذكرى» أي تذكرة «لقوم يؤمنون» أي لقوم همهم الايمان لا التعنت كأولئك المقترحين وقيل إن ناسا من المؤمنين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف فيها بعض ما يقوله اليهود فقال كفى بها ضلالة قوم ان يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم فنزلت «قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا» بما صدر عني وعنكم «يعلم ما في السماوات والأرض» أي من الأمور التي من جملتها شأني وشأنكم فهو تقرير لما قبله من كفايته تعالى شهيدا «والذين آمنوا بالباطل» وهو ما يعبد من دون الله تعالى «وكفروا بالله» مع تعاضد موجبات الايمان به «أولئك هم الخاسرون» المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالايمان بأن ضيعوا الفطرة الأصلية والأدلة السمعية الموجبة للايمان والآية من قبيل المجادلة بالتي هي أحسن حيث لم يصرح بنسبة الايمان بالباطل والكفر بالله والخسران إليهم بل ذكر على منهاج الابهام كما في قوله تعالى وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين «ويستعجلونك بالعذاب» على طريقة الاستهزاء بقولهم متى هذا الوعد وقولهم أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب ونحو ذلك «ولولا أجل مسمى» قد ضربه الله تعالى لعذابهم وبينه في اللوح «لجاءهم العذاب» المعين لهم حسبما استعجلوا به قيل المراد بالأجل يوم القيامة لما روى انه تعالى وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعذب قومه بعذاب الاستئصال وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة وقيل يوم بدر وقيل وقت فنائهم بآجالهم وفيه بعد ظاهر لما أنهم ما كانوا يوعدون بفنائهم الطبيعي ولا كانوا يستعجلون به «وليأتينهم» جملة مستأنفة مبينة لما أشير اليه في الجملة السابقة من مجئ العذاب عند محل الاجل أي وبالله ليأتينهم العذاب الذي عين لهم عند حلول الاجل «بغتة» أي فجأة «وهم لا يشعرون» أي بإتيانه ولعل المراد بإتيانه كذلك انه لا يأتيهم بطريق التعجيل عند استعجالهم والإجابة إلى مسئولهم فإن ذلك إتيان برأيهم وشعورهم لا أنه يأتيهم وهم غارون آمنون لا يخطرونه بالبال كدأب بعض العقوبات النازلة على بعض الأمم بياتا وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون لما ان إتيان عذاب الآخرة وعذاب يوم بدر ليس من هذا القبيل «يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين» استئناف مسوق لغاية تجهيلهم وركاكة رأيهم وفيه دلالة على أن ما استعجلوه عذاب الآخرة أي يستعجلونك بالعذاب والحال أن محل العذاب الذي لا عذاب فوقه محيط بهم كأنه قيل يستعجلونك بالعذاب وإن العذاب لمحيط بهم أي سيحيط بهم وإنما
44

جئ بالجملة الاسمية دلالة على تحقق الإحاطة واستمرارها أو تنزيلا لحال السبب منزلة حال المسبب فإن الكفر والمعاصي الموجبة لدخول جهنم محيطة بهم وقيل إن الكفر والمعاصي هي النار في الحقيقة لكنها ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة وقد مر تفصيله في سورة الأعراف عند قوله تعالى «والوزن يومئذ الحق» ولام الكافرين إما للعهد ووضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بعلة الحكم أو للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا «يوم يغشاهم العذاب» ظرف لمضمر قد طوى ذكره إيذانا بغاية كثرته وفظاعته كأنه قيل يوم يغشاهم العذاب الذي أشير اليه بإحاطة جهنم بهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال وقيل ظرف للإحاطة «من فوقهم ومن تحت أرجلهم» أي من جميع جهاتهم «ويقول» أي الله عز وجل ويعضده القراءة بنون العظمة أو بعض ملائكته بأمره «ذوقوا ما كنتم تعملون» أي جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من السيئات التي من جملتها الاستعجال بالعذاب «يا عبادي الذين آمنوا» خطاب تشريف لبعض المؤمنين الذين لا يتمكنون من إقامة أمور الدين كما ينبغي لممانعة من جهة الكفرة وإرشاد لهم إلى الطريق الأسلم «إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون» أي إذا لم يتسهل لكم العبادة في بلد ولم يتيسر لكم إظهار دينكم فهاجروا إلى حيث يتسنى لكم ذلك وعنه صلى الله عليه وسلم من فر بدينه من ارض إلى ارض ولو كان شبرا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام والفاء جواب شرط محذوف إذ المعنى إن ارضى واسعة إن لم تخلصوا العبادة لي في ارض فأخلصوها في غيرها ثم حذف الشرط وعوض عنه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والاخلاص «كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون» جملة مستأنفة جئ بها حثا على المسارعة في الامتثال بالامر أي كل نفس من النفوس
واجدة مرارة الموت وكربه فراجعة إلى حكمنا وجزائنا بحسب أعمالها فمن كانت عاقبته هذه فليس له بد من التزود والاستعداد لها وقرئ يرجعون «والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم» لننزلنهم «من الجنة غرفا» أي علالى وهو مفعول ثان للتبوئة وقرئ لنثوينهم من الثواء بمعنى الإقامة فانتصاب غرفا حينئذ إما بإجرائه مجرى لننزلنهم أو بنزع الخافض أو بتشببه الظرف الموقت بالمبهم كما في قوله تعالى لأقعدن لهم صراطك المستقيم «تجري من تحتها الأنهار» صفة لغرفا «خالدين فيها» أي في الغرف أو في الجنة «نعم أجر العاملين» أي الاعمال الصالحة والمخصوص بالمدح محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه وقرئ فمنعم
45

«الذين صبروا» إما صفة للعاملين أو نصب على المدح أي صبروا على أذية المشركين وشدائد المهاجرة وغير ذلك من المحن والمشاق «وعلى ربهم يتوكلون» أي ولم يتوكلوا فيما يأتون ويذرون إلا على الله تعالى «وكأين من دابة لا تحمل رزقها» روى ان النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة قالوا كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة فنزلت أي وكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها أولا تدخره وإنما تصبح ولا معيشة عندها «الله يرزقها وإياكم» ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله تعالى لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده فلا تخافوا الفقر بالمهاجرة «وهو السميع» المبالغ في السمع فيسمع قولكم هذا «العليم» المبالغ في العلم فيعلم ضمائركم «ولئن سألتهم» أي أهل مكة «من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله» إذ لا سبيل لهم إلى إنكاره ولا إلى التردد فيه «فأنى يؤفكون» إنكار واستبعاد من جهته تعالى لتركهم العمل بموجبه أي فكيف يصرفون عن الاقرار بتفرده تعالى في الإلهية مع إقرارهم بتفرده تعالى فيما ذكر من الخلق والتسخير «الله يبسط الرزق لمن يشاء» أن يبسطه له «من عباده ويقدر له» أي يقدر لمن يشاء أن يقدر له منهم كائنا من كان على ان الضمير مبهم حسب إبهام مرجعة أو يقدر لمن ببسطه له على التعاقب «أن الله بكل شيء عليم» فيعلم من يليق ببسط الرزق فيبسطه له ومن يليق بقدره فيقدره له أو فيعلم ان كلا من البسط والقدر في أي وقت يوافق الحكمة والمصلحة فيفعل كلا منها في وقته «ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله» معترفين بأنه الموجد للمكنات بأسرها أصولها وفروعها ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يكاد يتوهم منه القدرة على شئ ما أصلا «قل الحمد لله» على أن جعل الحق بحيث لا يجترئ المبطلون على جحوده وأنه اظهر حجتك عليهم وقيل على ان عصمك من أمثال هذه الضلالات ولا يخفى بعده «بل أكثرهم لا يعلمون» أي شيئا من الأشياء فلذلك لا يعلمون بمقتضى قولهم هذا فيشركون به سبحانه اخس مخلوقاته وقيل لا يعقلون ما تريد بتحميدك عند مقالهم ذلك
46

«وما هذه الحياة الدنيا» إشارة تحقير وازدراء الدنيا وكيف لا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء «إلا لهو ولعب» أي إلا كما يلهى ويلعب به الصبيان يجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون عنه «وإن الدار الآخرة لهي الحيوان» أي لهي دار الحياة الحقيقية لا متناع طريان الموت والفناء عليها أو هي في ذاتها حياة للمبالغة والحيوان مصدر حي سمى به ذو الحياة واصله حييان فقلبت الياء الثانية واوا لما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب اللازم للحيوان ولذلك اختير على الحياة في هذا المقام المقتضى للمبالغة «لو كانوا يعلمون» أي لما آثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة ثم ما يحدث فيها من الحياة عارضة سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال «فإذا ركبوا في الفلك» متصل بما دل عليه شرح حالهم والركوب هو الاستعلاء على الشئ المتحرك وهو متعد بنفسه كما في قوله تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها واستماله ههنا وفي أمثاله بكلمة في للإيذان بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة وحركته قسرية غير إرادية كما مر في سورة هود والمعنى انهم على ما وصفوا من الاشراك فإذا ركبوا في البحر ولقوا شدة «دعوا الله مخلصين له الدين» أي كائنين على صورة المخلصين لدينهم من المؤمنين حيث لا يدعون غير الله تعالى لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد عنهم إلا هو «فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون» أي فاجئوا المعاودة إلى الشرك «ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا» أي يفاجئون الاشراك ليكونوا كافرين بما آتيناهم من نعمة الانجاء التي حقها ان يشكروها «فسوف يعلمون» أي عاقبة ذلك وغائلته حين يرون العذاب «أولم يروا» أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا «إنا جعلنا» أي بلدهم «حرما آمنا» مصونا من النهب والتعدي سالما أهله من كل سوء «ويتخطف الناس من حولهم» أي والحال أنهم يختلسون من حولهم قتلا وسبيا إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب «أفبالباطل يؤمنون» أي ابعد ظهور الحق الذي لا ريب فيه بالباطل خاصة يؤمنون دون الحق «وبنعمة الله يكفرون» وهي المستوجبة للشكر حيث يشركون به غيره وتقديم الصلة في الموضعين لاظهار كمال شناعة ما فعلوا «ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا» بأن
47

زعم ان له شريكا أي هو أظلم من كل ظالم وإن كان سبك النظم دالا على نفى الأظلم من غير تعرض لنفى المساوى وقد مر مرارا 2 «أو كذب بالحق لما جاءه» أي بالرسول أو بالقرآن وفي لما تسفيه لهم بأن لم يتوقفوا ولم يتأملوا حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب آثر ذي أثير «أليس في جهنم مثوى للكافرين» تقرير لثوائهم فيها كقول من قال ألستم خير من ركب المطايا أي ألا يستوجبون الثواء فيها وقد فعلوا ما فعلوا من الافتراء على الله تعالى والتكذيب بالحق الصريح أو إنكار واستبعاد لاجترائهم على ما ذكر من الافتراء والتكذيب مع علمهم بحال الكفرة أي ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا هذه الجراءة «والذين جاهدوا فينا» أي في شاننا ولوجهنا خالصا اطلق المجاهدة ليعم جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة «لنهدينهم سبلنا» سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا أو لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقها لسلوكها كقوله تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وفي الحديث من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم «وإن الله لمع المحسنين» معية النصر والمعونة عنه صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة العنكبوت كان له من الاجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين
48

سورة الروم
مكية إلا قوله فسبحان الله الآية وهي ستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم «ألم» الكلام فيه كالذي مر في أمثاله من الفواتح الكريمة «غلبت الروم» «في أدنى الأرض» أي أدنى ارض العرب منهم إذ هي الأرض المعهودة عندهم وهي أطراف الشام أو في أدنى ارضهم من العرب على ان اللام عوض عن المضاف اليه قال مجاهد هي ارض الجزيرة وهي أدنى ارض الروم إلى فارس وعن ابن عباس رضي الله عنهما الأردن وفلسطين وقرئ أدانى الأرض «وهم» أي الروم «من بعد غلبهم» أي من بعد مغلوبيتهم وقرئ بسكون اللام وهي لغة كالجلب والجلب «سيغلبون» أي سيغلبون فارس «في بضع سنين» روى ان فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى وقيل بالجزيرة كما مر فغلبوا عليهم وبلغ الخبر مكة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا أنتم والنصارى وأهل كتاب ونحن وفارس أميون وقد ظهر اخواننا على اخوانكم فلنظهرن عليكم فقال أبو بكر رضي الله عنه لا يقرر الله أعينكم فو الله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له أبي بن خلف اللعين كذبت اجعل بيننا اجلا انا حبك عليه فناحبه على عشر قلائص من كل منهما وجعلا الاجل ثلاث سنين فأخبر به أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزيدوه في الخطر ومادة في الاجل فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ومات أبي من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهرت الروم على فارس عند راس سبع سنين وذلك يوم الحديبية وقيل كان النصر للفريقين يوم بدر فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تصدق به وكان ذلك قبل تحريم القمار وهذه الآيات من البينات الباهرة الشاهدة بصحة النبوة وكون القرآن من عند الله عز وجل حيث أخبرت عن الغيب الذي لا يعلمه الا العليم الخبير وقرئ غلبت على البناء للفاعل وسيغلبون على البناء للمفعول والمعنى ان الروم
49

غلبت على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها ففتحوا بعض بلادهم فإضافة الغلب حينئذ إلى الفاعل «لله الأمر من قبل ومن بعد» أي في أول الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا وحين يغلبون كأنه قيل من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين والمعنى ان كلا من كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ليس الا بأمر الله تعالى وقضائه وتلك الأيام نداولها بين الناس وقرئ من قبل ومن بعد بالجر من غير تقدير مضاف اليه واقتطاعه كأنه قيل قبلا وبعدا بمعنى أولا وآخرا «ويومئذ» أي يوم إذ يغلب الروم على فارس ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم «يفرح المؤمنون» «بنصر الله» وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له وغيظ من شمت بهم من كفار مكة وكون ذلك من دلائل غلبة المؤمنين على الكفار وقيل نصر الله اظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس وقيل نصره تعالى انه ولى بعض الظالمين بعضا وفرق بين كلمتهم حتى تناقصوا وتفانوا وفل كل منهم شوكة الآخر وفي ذلك قوة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه انه وافق ذلك يوم بدر وفيه من نصر الله العزيز للمؤمنين وفرحهم بذلك مالا يخفي والأول هو الأنسب لقوله تعالى «ينصر من يشاء» أي من يشاء ان ينصره من عباده على عدوه ويغلبه عليه فإنه استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى الله الامر من قبل ومن بعد «وهو العزيز» المبالغ في العزة والغلبة فلا يعجزه من يشاء ان ينصر عليه كائنا من كان «الرحيم» المبالغ في الرحمة فينصر من يشاء ان ينصره أي فريق كان والمراد بالرحمة هي الدنيوية اما على القراءة المشهورة فظاهر لما ان كلا الفريقين لا يستحق الرحمة الأخروية واما على القراءة الأخيرة فلان المسلمين وان كانوا مستحقين لها لكن المراد ههنا نصرهم الذي هو من آثار الرحمة الدنيوية وتقديم وصف العزة لتقدمه في الاعتبار «وعد الله» مصدر مؤكد لنفسه لان ما قبله في معنى الوعد كأنه قيل وعد الله وعدا «لا يخلف الله وعده» أي وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لاستحالة الكذب عليه سبحانه واظهار الاسم الجليل في موقع الاضمار لتعليل الحكم وتفخيمه والجملة استئناف مقرر لمعنى المصدر وقد جوز ان تكون حالا منه فيكون كالمصدر الموصوف كأنه قيل وعدا الله غير مخلف «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» أي ما سبق من شؤونه تعالى «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا» وهو ما يشاهدونه من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم الملائمة لأهوائهم المستدعية لأنهما كهم فيها وعكوفهم عليها لا تمتعهم بزخارفها وتنعمهم بملاذها كما قيل فإنهما ليسا مما علموه منها بل من افعالهم المترتبة على علومهم وتنكير ظاهرا للتحقير والتخسيس
50

دون الواحدة كما توهم أي يعلمون ظاهرا حقيرا خسيسا من الدنيا «وهم عن الآخرة» التي هي الغاية القصوى والمطلب الأسنى «هم غافلون» لا يخطرونها بالبال ولا يدركون من الدنيا ما يؤدي إلى معرفتها من أحوالها ولا يتفكرون فيها كما سيأتي والجملة معطوفة على يعلمون وايرادها اسمية للدلالة على استمرار غفلتهم ودوامها وهم الثانية تكرير للأولى أو مبتدأ وغافلون خبره والجملة خبر للأولى وهو على الوجهين مناد على تمكن غفلتهم عن الآخرة المحققة لمقتضى الجملة المتقدمة تقريرا لجهالتهم وتشبيها لهم بالبهائم المقصور ادراكاتها من الدنيا على ظواهرها الخسيسة دون أحوالها التي هي مبادى العلم بأمور الآخرة واشعارا بأن العلم المذكور وعدم العلم رأسا سيان «أو لم يتفكروا» انكار واستقباح لقصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا مع الغفلة عن الآخرة والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى «في أنفسهم» ظرف للتفكر وذكره مع ظهور استحالة كونه في غيرها لتحقيق امره وتصوير حال المتفكرين وقوله تعالى «ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما» الخ متعلق اما بالعلم الذي يؤدي اليه التفكر ويدل عليه أو بالقول الذي يترتب عليه كما في قوله تعالى «ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا» أي اعلموا ظاهر الحياة الدنيا فقط أو اقصروا النظر عليه ولم يحدثوا التفكر في قلوبهم فيعلموا انه تعالى ما خلقهما وما بينهما من المخلوقات التي هم من جملتها ملتبسة بشيء من الأشياء «إلا» ملتبسة «بالحق» أو يقولوا هذا القول معترفين بمضمونه اثر ما علموه والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق ان يثبت لا محالة لابتنائه على الحكمة البالغة والغرض الصحيح الذي هو استشهاد المكلفين بذواتها وصفاتها وأحوالها المتغيرة على وجود صانعها عز وجل ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته واختصاصه بالمعبودية وصحة اخباره التي من جملتها إحياؤهم بعد الفناء بالحياة الأبدية ومجازاتهم بحسب اعمالهم غب ما تبين المحسن من المسئ وامتازت درجات افراد كل من الفريقين حسب امتياز طبقات علومهم واعتقاداتهم المترتبة على انظارهم فيما نصب في المصنوعات من الآيات والدلائل والامارات والمخايل كما نطق به قوله تعالى وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح ولذلك فسره صلى الله عليه وسلم بقوله
أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله واسرع في طاعة الله وقد مر تحقيقه في أوائل سورة هود عليه السلام وقوله تعالى «وأجل مسمى» عطف على الحق أي وبأجل معين قدرة الله تعالى لبقائها لا بد لها من ان تنتهي اليه لا محالة وهو وقت قيام الساعة هذا وقد جوز ان يكون قوله تعالى في أنفسهم صلة للتفكر على معنى أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب المخلوقات إليهم وهم اعلم بشئونها واخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها الله تعالى ظاهرا وباطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الاهمال
51

وانه لابد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكيم الذي دبر امرها على الاحسان احسانا وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك ان سائر الخلائق كذلك امرها جار على الحكمة والتدبير وانه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت وأنت خبير بأن امر معاد الانسان ومجازاته بما عمل من الإساءة والاحسان هو المقصود بالذات والمحتاج إلى الاثبات فجعله ذريعة إلى اثبات معاد ما عداه مع كونه بمعزل من الجزاء تعكيس للامر فتدبر قوله تعالى «وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون» تذييل مقرر لما قبله ببيان ان أكثرهم غير مقتصرين على ما ذكر من الغفلة عن أحوال الآخرة والاعراض عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها من خلق السماوات والأرض وما بينهما من المصنوعات بل هم منكرون جاحدون بلقاء حسابه تعالى وجزائه بالبعث «أو لم يسيروا» توبيخ لهم بعدم اتعاظهم بمشاهدة أحوال أمثالهم الدالة على عاقبتهم ومآلهم والهمزة لتقرير المنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي اقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا «في الأرض» وقوله تعالى «فينظروا» عطف على يسيروا داخل في حكم التقرير والتوبيخ والمعنى انهم قد ساروا في أقطار الأرض وشاهدوا «كيف كان عاقبة الذين من قبلهم» من الأمم المهلكة كعاد وثمود وقوله تعالى «كانوا أشد منهم قوة» الخ بيان لمبدأ أحوالهم ومآلها يعني انهم كانوا أقدر منهم على التمتع بالحياة الدنيا حيث كانوا أشد منهم قوة «وأثاروا الأرض» أي قلبوها للزراعة والحرث وقيل لاستنباط المياه واستخراج المعادن وغير ذلك «وعمروها» أي عمرها أولئك بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها مما يعد عمارة لها «أكثر مما عمروها» أي عمارة أكثر كما وكيفا وزمانا من عمارة هؤلاء إياها كيف لا وهم أهل واد غير ذي زرع لا تبسط لهم في غيره وفيه تهكم بهم حيث كانوا مغترين بالدنيا مفتخرين بمتاعها مع ضعف حالهم وضيق عطنهم إذ مدار امرها على التبسط في البلاد والتسلط على العباد والتقلب في أكناف الأرض بأصناف التصرفات وهم ضعفة ملجئون إلى واد لا نفع فيه يخافون ان يتخطفهم الناس «وجاءتهم رسلهم بالبينات» بالمعجزات أو الآيات الواضحات «فما كان الله ليظلمهم» أي فكذبوهم فأهلكهم فما كان الله ليهلكهم من غير جرم يستدعيه من قبلهم والتعبير عن ذلك بالظلم مع ان اهلاكه تعالى إياهم بلا جرم ليس من الظالم في شيء على ما تقرر من قاعدة أهل السنة لاظهار كمال نزاهته تعالى عن ذلك بإبرازه في معرض ما يستحيل صدوره عنه تعالى وقد مر في سورة الأنفال وسورة آل عمران «ولكن كانوا أنفسهم يظلمون» بأن اجترءوا على اقتراف ما يوجبه من المعاصي العظيمة «ثم كان عاقبة الذين أساؤوا» أي عملوا السيئات
52

وضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالإساءة والاشعار بعلة الحكم «السوأى» أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات وأفظعها التي هي العقوبة بالنار فإنها تأنيث الأسوأ كالحسنى تأنيث الأحسن أو مصدر كالبشري وصف به العقوبة مبالغة كأنها نفس السوأى وهي مرفوعة على انها اسم كان وخبرها عاقبة وقرئ على العكس وهو ادخل في الجزالة وقوله تعالى «أن كذبوا بآيات الله» علة لماء أشير اليه من تعذيبهم الدنيوي والأخروي أي لان كذبوا أو بأن كذبوا بآيات الله المنزلة على رسله عليهم الصلاة والسلام ومعجزاته الظاهرة على أيديهم وقوله تعالى «وكانوا بها يستهزؤون» عطف على كذبوا داخل معه في حكم العلية وايراد الاستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على استمراره وتجدده هذا هو اللائق بجزالة النظم الجليل وقد قيل وقيل «الله يبدأ الخلق» أي ينشئهم «ثم يعيده» بعد الموت بالبعث «ثم إليه ترجعون» إلى موقف الحساب والجزاء والالتفات للمبالغة في الترهيب وقرئ بالياء «ويوم تقوم الساعة» التي هي وقت إعادة الخلق ورجعهم اليه «يبلس المجرمون» أي يسكتون متحيرين لا ينبسون يقال ناظرته فأبلس إذا سكت وأيس من ان يحتج وقرئ بفتح اللام من أبلسه إذا أفحمه وأسكته «ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء» يجيرونهم من عذاب الله تعالى كما كانوا يزعمونه وصيغة الجمع لوقوعها في مقابلة الجمع أي لم يكن لواحد منهم شفيع أصلا «وكانوا بشركائهم كافرين» أي بإلهيتهم وشركتهم لله سبحانه حيث وقفوا على كنه امرهم وصيغة الماضي للدلالة على تحققه وقيل كانوا في الدنيا كافرين بسببهم وليس بذاك إذ ليس في الاخبار به فائدة يعتد بها «ويوم تقوم الساعة» أعيد لتهويله وتفظيع ما يقع فيه وقوله تعالى «يومئذ يتفرقون» تهويل له اثر تهويل وفيه رمز إلى ان التفرق يقع في بعض منه وضمير يتفرقون لجميع الخلق المدلول عليهم بما تقدم من بدئهم وإعادتهم ورجعهم لا المجرمون خاصة وليس المراد بتفرقهم افتراق كل فرد منهم عن الآخر بل تفرقهم إلى فريقي المؤمنين والكافرين كما في قوله تعالى فريق في الجنة وفريق في السعير وذلك بعد تمام الحساب وقوله تعالى «فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون» تفصيل وبيان لأحوال ذينك الفريقين والروضة كل ارض ذات نبات وماء ورونق ونضارة وتنكيرها للتفخيم والمراد بها الجنة والحبور السرور يقال حبره إذا سره سرورا تهلل له وجهه وقيل الحبرة كل نعمة حسنة والتحبير التحسين واختفلت فيه الأقاويل لاحتماله وجوه جميع المسار فعن ابن عباس ومجاهد يكرمون وعن قتادة
53

ينعمون وعن ابن كيسان يحلون وعن بكر بن عياش التيجان على رؤوسهم وعن وكيع السماع في الجنة وعن النبي صلى الله عليه وسلم انه ذكر الجنة وما فيها من النعيم وفي آخر القوم اعرابي فقال يا رسول الله هل في الجنة من سماع قال صلى الله عليه وسلم يا اعرابي ان في الجنة لنهرا حافتاه لابكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة قال الراوي فسألت ابا الدرداء رضي الله عنه بم يتغنين قال بالتسبيح وروى ان في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله تعالى ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا «وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا» التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بما فصل «ولقاء الآخرة» صرح بذلك مع اندراجه في تكذيب الآيات للاعتناء بأمره وقوله تعالى «فأولئك» إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب بآياته تعالى وبلقاء الآخرة للايذان بكمال تميزهم بذلك عن غيرهم وانتظامهم في سلك
المشاهدات وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار اليه للاشعار ببعد منزلتهم في الشر أي أولئك الموصوفون بما فصل من القبائح «في العذاب محضرون» على الدوام لا يغيبون عنه ابدا «فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون» «وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون» اثر ما بين حال فربقي المؤمنين العاملين للصالحات والكافرين المكذبين بالآيات وما لهما من الثواب والعذاب أمروا بما ينجي من الثاني ويفضي إلى الأول من تنزيه الله عز وجل عن كل مالا يليق بشأنه سبحانه ومن حمده تعالى على نعمة العظام وتقديم الأول على الثاني لما ان التخلية متقدمة على التحلية والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا علمتم ذلك فسبحوا الله تعالى أي نزهوه عما ذكر سبحانه أي تسبيحه اللائق في هذه الأوقات واحمدوه فإن الاخبار بثبوت الحمد له تعالى ووجوبه على المميزين من أهل السماوات والأرض في معنى الامر به على أبلغ وجه وآكده وتوسيطه بين أوقات التسبيح للاعتناء بشأنه والاشعار بأن حقهما ان يجمع بينهما كما ينبئ عنه قوله تعالى ونحن نسبح بحمدك وقوله تعالى فسبح بحمد ربك وقوله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وان كانت مثل زبد البحر وقوله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به الا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه وقوله صلى الله عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وغير ذلك مما لا يحصى من الآيات والأحاديث وتخصيصهما بتلك الأوقات للدلالة على ان ما يحدث فيها من آيات قدرته واحكام
54

رحمته ونعمته شواهد ناطقة بتنزهه تعالى واستحقاقه الحمد وموجبة لتسبيحه وتحميده حتما وقوله تعالى وعشيا عطف على حين تمسون وتقديمه على حين تظهرون لمراعاة الفواصل وتغيير الأسلوب لما انه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشى كالمساء والصباح والظهيرة ولعل السر في ذلك انه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس وتتغير تغيرا ظاهرا مصححا لوصفهم بالخروج عما قبلها والدخول فيها كالأوقات المذكورة فإن كلا منها وقت تتغير فيه الأحوال تغيرا ظاهرا اما في المساء والصباح فظاهر واما في الظهيرة فلأنها وقت يعتاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة كما مر في سورة النور وقيل المراد بالتسبيح والحمد الصلاة لاشتمالها عليهما وقد روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ان الآية جامعة للصلوات الخمس تمسون صلاتا المغرب والعشاء وتصبحون صلاة الفجر وعشيا صلاة العصر وتظهرون صلاة الظهر ولذلك ذهب الحسن إلى انها مدنية إذ كان يقول ان الواجب بمكة ركعتان في أي وقت اتفقتا وانما فرضت الخمس بالمدينة والجمهور على انها فرضت بمكة وهو الحق لحديث المعراج وفي آخره هن خمس صلوات كل يوم وليلة عن النبي صلى الله عليه وسلم من سره ان يكال له بالقفيز الأوفي فليقل فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الآية وعنه صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى قوله تعالى وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في يومه ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته وقرئ حينا تمسون وحينا تصبحون أي تمسون فيه وتصبحون فيه «يخرج الحي من الميت» كالانسان من النطفة والطير من البيضة «ويخرج الميت من الحي» النطفة والبيضة من الحيوان ويحيي الأرض بالنبات بعد موتها يبسها وكذلك ومثل ذلك الاخراج تخرجون من قبوركم وقرئ تخرجون بفتح التاء وضم الراء وهذا نوع تفصيل لقوله تعالى الله يبدأ الخلق ثم يعيده «ومن آياته» الباهرة الدالة على انكم تبعثون دلاله أوضح مما سبق فإن دلاله بدء خلقهم على إعادتهم اظهر من دلالة اخراج الحي من الميت واخراج الميت من الحي ومن دلالة احياء الأرض بعد موتها عليها «أن خلقكم» أي في ضمن خلق آدم عليه السلام لما مر مرارا من أن خلقه صلى الله عليه وسلم منطو على خلق ذرياته انطواء اجماليا «من تراب» لم يشم رائحة الحياة قط ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم «ثم إذا أنتم بشر تنتشرون» أي فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشرا تنتشرون في الأرض وهذا مجمل ما فصل في قوله تعالى يا أيها الناس ان كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية «ومن آياته» الدالة على ما ذكر من البعث وما بعده من الجزاء «أن خلق لكم» أي
55

«من أنفسكم أزواجا» فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم عليه السلام متضمن لخلقهن من أنفسكم على ما عرفته من التحقيق أو من جنسكم لا من جنس آخر وهو الأوفق لقوله تعالى «لتسكنوا إليها» أي لتألفوها وتميلوا إليها وتطمئنوا بها فإن المجانسة من دواعي التضام والتعارف كما ان المخالفة من أسباب التفرق والتنافر «وجعل بينكم» أي بين الأزواج اما على تغليب الرجال على النساء في الخطاب أو على حذف ظرف معطوف على الظرف المذكور أي جعل بينكم وبينهن كما مر في قوله تعالى لا نفرق بين أحد من رسله وقيل أو بين افراد الجنس أي بين الرجال والنساء ويأباه قوله تعالى «مودة ورحمة» فإن المراد بهما ما كان منهما بعصمة الزواج قطعا أي جعل بينكم بالزواج الذي شرعه لكم توادا وتراحما من غير ان يكون بينكم سابقة معرفة ولا رابطة مصححة للتعاطف من قرابة أو رحم قيل المودة والرحمة من قبل الله تعالى والفرك من الشيطان وعن الحسن رحمه الله المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد كما قال تعالى ورحمة منا «إن في ذلك» أي فيما ذكر من خلقهم من تراب وخلق أزواجهم من أنفسهم والقاء المودة والرحمة بينهم وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار اليه للاشعار ببعد منزلته «لآيات» عظيمة لا يكتنه كنهها كثيرة لا يقادر قدرها «لقوم يتفكرون» في تضاعيف تلك الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله مع التنبيه على ان ما ذكر ليس بآية فذة كما ينبئ عنه قوله تعالى ومن آياته بل هي مشتملة على آيات شتى ومن آياته الدالة على ما ذكر من امر البعث وما يتلوه من الجزاء «خلق السماوات والأرض» اما من حيث ان القادر على خلقهما بما فيهما من المخلوقات بلا مادة مستعدة لها اظهر قدرة على إعادة ما كان حيا قبل ذلك واما من حيث ان خلقهما وما فيهما ليس الا لمعاش البشر ومعادة كما يفصح عنه قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا وقوله تعالى وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا «واختلاف ألسنتكم» أي لغاتكم بأن علم كل صنف لغته وألهمه وضعها وأقدره عليها أو أجناس نطقكم وإشكاله فإنك لا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية من كل وجه «وألوانكم» ببياض الجلد وسواده وتوسطه فيما بينهما أو تخطيطات الأعضاء وهيآتها وألوانها وحلاها بحيث وقع بها التمايز بين الاشخاص حتى ان التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور المتلاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة وان كانا في غاية التشابه وانما نظم هذا في
سلك الآيات الآفافية من خلق السماوات والأرض مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالانتظام في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم للايذان باستقلاله والاحتراز عن توهم كونه من تتمات خلقهم «إن في ذلك» أي فيما ذكر من خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان «لآيات» عظيمة في أنفسها كثيرة في عددها «للعالمين» أي المتصفين بالعلم كما في قوله تعالى وما يعقلها
56

الا العالمون وقرئ بفتح اللام وفيه دلالة على كمال وضوح الآيات وعدم خفائها على أحد من الخلق كافة «ومن آياته منامكم بالليل والنهار» لاستراحة القوى النفسانية وتقوى القوى الطبيعية «وابتغاؤكم من فضله» فيهما فإن كلا من المنام وابتغاء الفضل يقع في الملوين وان كان الأغلب وقوع الأول في الأول والثاني في الثاني أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار كما هو المعتاد والموافق لسائر الآيات الواردة في ذلك خلا انه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين الأخيرين لأنهما زمان والزمان مع ما وقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد «إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون» أي شأنهم ان يسمعوا الكلام سماع تفهم واستبصار حيث يتأملون في تضاعيف هذا البيان ويستدلون بذلك على شؤونه تعالى «ومن آياته يريكم البرق» الفعل اما مقدر بأن كما في قول من قال
[ألا أيهذا الزاجري احضر الوغي]
أي ان احضر أو منزل منزلة المصدر وبه فسر المثل المشهور تسمع بالمعيدي خير من ان تراه أو هو على حاله صفة لمحذوف أي آية يريكم بها البرق كقول من قال
[وما الدهر الا نارتان فمنها * أموت وأخرى ابتغي العيش أكدح]
* أي فمنهما تارة أموت فيها وأخرى ابتغي فيها أو ومن آياته شيء أو سحاب يريكم البرق خوفا من الصاعقة أو للمسافر «وطمعا» في الغيث أو للمقيم ونصبهما على العلة لفعل يستلزمه المذكور فإن إراءتهم البرق مستلزمة لرؤيتهم إياه أو للمذكور نفسه على تقدير مضاف نحو إراءة خوف وطمع أو على تأويل الخوف والطمع بالإخافة والأطماع كقولك فعلنه رغما للشيطان أو على الحال نحو كلمته شفاها «وينزل من السماء ماء» وقرئ بالتخفيف «فيحيي به الأرض» بالنبات «بعد موتها» يبسها «إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون» فإنها من الظهور بحيث يكفي في ادراكها مجرد العقل عند استعماله في استنباط أسبابها وكيفية تكونها «ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره» أي بإرادته تعالى لقيامهما والتعبير عنها بالامر للدلالة على كمال القدرة والغني عن المبادى والأسباب وليس المراد بإقامتهما إنشاءهما لأنه قد بين حاله بقوله تعالى ومن آياته خلق السماوات والأرض ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس كما قيل فإن ذلك من تتمات انشائهما وان لم يصرح به تعويلا على ما ذكر في غير موضع من قوله تعالى خلق السماوات بغير عمد ترونها الآية
57

بل قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه إلى أجلهما الذي نطق به قوله تعالى فيما قبل ما خلق السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق واجل مسمى وحيث كانت هذه الآية متأخرة عن سائر الآيات المعدودة متصلة بالبعث في الوجود أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضا فقيل «ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون» فإنه كلام مسوق للاخبار بوقوع البعث ووجوده بعد انقضاء اجل قيامهما مترتب على تعداد آياته الدالة عليه غير منتظم في سلكها كما قيا كأنه قيل ومن آياته قيام السماوات والأرض على هيآتهما بأمره تعالى إلى اجل مسمى قدرة الله تعالى لقيامهما ثم إذا دعاكم أي بعد انقضاء الاجل من الأرض وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال أيها الموتى اخرجوا فاجأتم الخروج منها وذلك قوله تعالى يومئذ يتبعون الداعي ومن الأرض متعلق بدعاكم إذ يكفي في ذلك كون المدعو فيها يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إلى لا بتخرجون لان ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها «وله» خاصة «من في السماوات والأرض» من الملائكة والثقلين خلقا وملكا وتصرفا ليس لغيره شركة في ذلك بوجه من الوجوه «كل له قانتون» أي منقادون لفعله لا يمتنعون عليه في شأن من شؤونه تعالى «وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده» بعد موتهم وتكريره لزيادة التقرير والتمهيد لما بعده من قوله تعالى «وهو أهون عليه» أي بإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم والا فهما عليه سواء وقيل أهون بمعنى هين وتذكير الضمير مع رجوعه إلى الإعادة لما انها مؤولة بأن يعيد وقيل هو راجع إلى الخلق وليس بذاك واما ما قيل من ان الانشاء بطريق التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين الفعل والترك والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد من فعله حتما فكان أقرب إلى الحصول من الانشاء المتردد بين الحصول وعدمه فبمعزل من التحصيل إذ ليس المراد بأهونية الفعل أقربيته إلى الوجود باعتبار كثرة الأمور الداعية للفاعل إلى ايجاده وقوة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتيه وصدوره عنه بعد تعلق قدرته بوجوده وكونه واجبا بالغير ولا تفاوت في ذلك بين ان يكون ذلك التعليق بطريق الايجاب أو بطريق الاختيار «وله المثل الأعلى» أي الوصف الاعلى العجيب الشأن من القدرة العامة والحكمة التامة وسائر صفات الكمال التي ليس لغيره ما يدانيها فضلا عما يساويها ومن فسره بقول لا اله الا الله أراد به الوصف بالوحدانية «في السماوات والأرض» متعلق بمضمون الجملة المتقدمة على معنى انه تعالى قد وصف به وعرف فيهما على السنة الخلائق والسنة الدلائل وقيل متعلق بالا على وقيل بمحذوف هو حال منه أو من المثل أو من ضميره في الأعلى «وهو العزيز» القادر الذي لا يعجز عن بدء ممكن واعادته
58

«الحكيم» الذي يجري الافعال على سنن الحكمة والمصلحة «ضرب لكم مثلا» يتبين به بطلان الشرك «من أنفسكم» أي منتزعا من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم واعرفها عندكم وأظهرها دلالة على ما ذكر من بطلان الشرك لكونها بطريق الأولوية وقوله تعالى «هل لكم» الخ تصوير للمثل أي هل لكم «مما ملكت أيمانكم» من العبيد والإماء «من شركاء في ما رزقناكم» من الأموال وما يجري مجراها مما تتصرفون فيها فمن الأولى ابتدائية والثانية تبعيضية والثالثة مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من الاستفهام فقوله تعالى «فأنتم فيه سواء» تحقيق لمعنى الشركة وبيان لكونهم وشركائهم متساوين في التصرف فيما ذكر من غير مزية لهم عليها على ان هناك محذوفا معطوفا على أنتم لا انه عام للفريقين بطريق التغليب أي هل ترضون لأنفسكم والحال ان عبيدكم أمثالكم في البشرية واحكامها ان يشاركوكم فيما رزقناكم وهو معار لكم فأنتم وهم فيه سواء يتصرفون فيه كتصرفكم من غير فرق بينكم وبينهم «تخافونهم» خبر آخر لأنتم أو حال من ضمير الفاعل في سواء أي تهابون ان تستبدوا بالتصرف
فيه بدون رأيهم «كخيفتكم أنفسكم» أي خيفة كائنة مثل خيفتكم من الأحرار المساهمين لكم فيما ذكر والمعنى نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية أي لا ترضون بأن يشارككم فيما هو معار لكم مماليككم وهم أمثالكم في البشرية غير مخلوقين لكم بل لله تعالى فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية التي هي من خصائصه الذاتية مخلوقه بل مصنوع مخلوقه حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه «كذلك» أي مثل ذلك التفصيل الواضح «نفصل الآيات» أي نبينها ونوضحها لا تفصيلا أدنى منه فإن التمثيل تصوير للمعاني المعقولة بصورة المحسوس وابراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس فيكون في غاية الايضاح والبيان «لقوم يعقلون» أي يستعملون عقولهم في تدبر الأمور وتخصيصهم بالذكر مع عموم تفصيل الآيات للكل لأنهم المنتفعون بها «بل اتبع الذين ظلموا» اعراض عن مخاطبتهم ومحاولة ارشادهم إلى الحق بضرب المثل وتفصيل الآيات واستعمال المقدمات الحقة المعقولة وبيان لاستحالة تبعيتهم للحق كأنه قيل لم يعقلوا شيئا من الآيات المفصلة بل اتبعوا «أهواءهم» الزائغة ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم في ذلك الاتباع ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه أو ظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد «بغير علم» أي جاهلين ببطلان ما اتوا مكبين عليه لا يلويهم عنه صارف حسبما يصرف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه «فمن يهدي من أضل الله» أي خلق فيه الضلال بصرف اختياره إلى كسبه أي لا يقدر على هدايته أحد «وما لهم» أي لمن أضله الله تعالى والجمع باعتبار المعنى «من ناصرين» يخلصونهم من الضلال ويحفظونهم من تبعانه وآفاته على معنى ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو قاعدة مقابلة الجمع بالجمع
59

«فأقم وجهك للدين» تمثيل لاقباله على الدين واستقامته وثباته عليه واهتمامه بترتيب أسبابه فإن من اهتم بشيء محسوس بالبصر عقد عليه طرفه وسدد اليه نظره وقوم له وجهة مقبلا به عليه أي فقوم وجهك له وعدله غير ملتفت يمينا وشمالا وقوله تعالى «حنيفا» حال من المأمور أو من الدين «فطرة الله» الفطرة الخلقة وانتصابها على الاغراء أي الزموا أو عليكم فطرة الله فإن الخطاب للكل كما يفصح عنه قوله تعالى منيبين والافراد في أقم لما ان الرسول صلى الله عليه وسلم امام الأمة فأمره صلى الله عليه وسلم مستتبع لامرهم والمراد بلزومها الجريان على موجبها وعدم الاخلال به باتباع الهوى وتسويل الشياطين وقيل على المصدر أي فطر الله فطرة وقوله تعالى «التي فطر الناس عليها» صفة لفطرة الله مؤكدة لوجوب الامتثال بالامر فإن خلق الله الناس على فطرته التي هي عبارة عن قبولهم للحق وتمكنهم من ادراكه أو عن ملة الاسلام من موجبات لزومها والتمسك بها قطعا فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها وما اختاروا عليها دينا آخر ومن غوي منهم فبإغواء شياطين الانس والجن ومنه قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن رب العزة كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم ان يشركوا بي غيري وقوله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه وقوله تعالى «لا تبديل لخلق الله» تعليل للامر بلزوم فطرته تعالى أو لوجوب الامتثال به أي لا صحة ولا استقامة لتبديله بالاخلال بموجبه وعدم ترتيب مقتضاه عليه باتباع الهوى وقبول وسوسة الشيطان وقيل لا يقدر أحد على ان يغير فلا بد حينئذ من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأسا ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق والتمكن من ادراكه ضرورة ان التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعا فالتعليل حينئذ من جهة ان سلامة الفطرة متحققة في كل أحد فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الاخلال به بما ذكر من اتباع الهوى وخطوات الشيطان ذلك إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو إلى لزوم فطرة الله المستفاد من الاغراء أو إلى الفطرة ان فسرت بالملة والتذكير بتأويل المذكور أو باعتبار الخبر «الدين القيم» المستوى الذي لا عوج فيه «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» ذلك فيصدون عنه صدودا «منيبين إليه» حال من الضمير في الناصب المقدر لفطرة الله أو في أقم لعمومه للأمة حسبما أشير اليه وما بينهما اعتراض أي راجعين اليه من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى وقوله تعالى «واتقوه» أي من مخالفة امره عطف على المقدر المذكور وكذا قوله تعالى «وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين» المبدلين لفطرة الله تعالى تبديلا «من الذين فرقوا دينهم» بدل من المشركين بإعادة الجار وتفريقهم لدينهم اختلافهم فيما يعبدونه على
60

اختلاف أهوائهم وفائدة الابدال التحذير عن الانتماء إلى حزب من أحزاب المشركين ببيان ان الكل على الضلال المبين وقرئ فارقوا اى تركوا دينهم الذي أمروا به «وكانوا شيعا» اى فرقا تشايع كل منها امامها الذي أضلها «كل حزب بما لديهم» من الدين المعوج المؤسس على الرأي الزائغ والزعم الباطل «فرحون» مسرورون ظنا منهم انه حق وانى له ذلك فالجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من تفريق دينهم وكونهم شيعا وقد جوز ان يكون فرحون صفة لكل على ان الخبر هو الظرف المقدم اعني من الذين فرقوا ولا يخفي بعده «وإذا مس الناس ضر» أي شدة «دعوا ربهم منيبين إليه» راجعين اليه من دعاء غيره «ثم إذا أذاقهم منه رحمة» خلاصا من تلك الشدة «إذا فريق منهم بربهم» الذي كانوا دعوه منيبين اليه «يشركون» أي فاجأ فريق منهم الإشراك وتخصيص هذا الفعل ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا كذلك كما في قوله تعالى فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد أي مقيم على الطريق القصد أو متوسط في الكفر لانزجاره في الجملة «ليكفروا بما آتيناهم» اللام فيه للعاقبة وقيل للأمر التهديدي كقوله تعالى «فتمتعوا» غير أنه التفت فيه للمبالغة وقرئ وليتمتعوا «فسوف تعلمون» عاقبة تمتعكم وقرئ بالياء على أن تمتعوا ماض والالتفات إلى الغيبة في قوله تعالى «أم أنزلنا عليهم» للإبذان بالإعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم بطريق المباثة «سلطانا» أي حجة واضحة وقيل ذا سلطان أي ملكا معه برهان «فهو يتكلم» تكلم دلالة كما في قوله تعالى هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق أو تكلم نطق «بما كانوا به يشركون» باشراكهم به تعالى أو بالأمر الذي بسببه يشركون «وإذا أذقنا الناس رحمة» أي نعمة من صحة وسعة «فرحوا بها» بطرا وأشرا لا حمدا وشكرا «وإن تصبهم سيئة» شدة «بما قدمت أيديهم» بشؤم معاصيهم «إذا هم يقنطون» فاجئوا القنوط من رحمته تعالى وقرئ بكسر النون «أو لم يروا» أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا «أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر» فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين «إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون» فيستدلون
61

بها على كمال القدرة والحكمة «فآت ذا القربى حقه» من الصلة والصدقة وسائر المبرات «والمسكين وابن السبيل» ما يستحقانه والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو
لمن بسط له كما تؤذن به الفاء «ذلك خير للذين يريدون وجه الله» ذاته أو جهته ويقصدون بمعروفهم إياه تعالى خالصا أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى «وأولئك هم المفلحون» حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم «وما آتيتم من ربا» زيادة خالية عن العوض عند المعاملة وقرئ أتيتم بالقصر أي غشيتموه أو رهقتموه من إعطاء ربا «ليربو في أموال الناس» ليزيد ويزكو في أموالهم «فلا يربو عند الله» أي لا يبارك فيه وقرئ لتربوا أي لتزيدوا أو لتصيروا ذوي ربا «وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله» أي تبتغون به وجهه تعالى خالصا «فأولئك هم المضعفون» أي ذووا الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوى والموسر لذي القوة واليسار أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم بالبركة وقرئ بفتح العين وفي تغيير النظم الكريم والالتفات من الجزالة ما لا يخفي «الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء» أثبت له تعالى لوازم الألوهية وخواصها ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له تعالى من الأصنام وغيرها مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق ثم استنتج منه تنزهه عن الشركاء بقوله تعالى «سبحانه وتعالى عما يشركون» وقد جوز أن يكون الموصول صفة والخبر هل من شركائكم والرابط قوله تعالى من ذلكم لأنه بمعنى من أفعاله ومن الأولى والثانية تفيدان شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال والثالثة مزيده لتعميم المنفى وكل منها مستقلة بالتأكيد وقرئ تشركون بصيغة الخطاب «ظهر الفساد في البر والبحر» كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار أو الضلالة والظلم وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرى البحور «بما كسبت أيدي الناس» بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياها وقيل ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه هابيل وفي البحر بأن جلندي
62

كان يأخذ كل سفينة غصبا «ليذيقهم بعض الذي عملوا» أي بعض جزائه فإن اتمامه في الآخرة واللام للعلة أو للعاقبة وقرئ لنذيقهم بالنون «لعلهم يرجعون» عما كانوا عليه «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل» ليشاهدوا آثارهم «كان أكثرهم مشركين» استئناف للدلالة على ان ما أصابهم لفشو الشرك فيما بينهم أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم «فأقم وجهك للدين القيم» أي البليغ الاستقامة «من قبل أن يأتي يوم لا مرد له» لا يقدر أحد على أرده «من الله» متعلق بيأتي أو بمرد لأنه مصدر والمعنى لا يرده الله تعالى لتعلق ارادته القديمة بمجيئه «يومئذ يصدعون» أصله يتصدعون أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير «من كفر فعليه كفره» أي وبال كفر وهو النار المؤبدة «ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون» أي يسوون منزلا في الجنة وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص «ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله» متعلق بيصدعون وقيل بيمهدون أي يتفرقون بتفريق الله تعالى فريقين ليجزي كلا منهما بحسب اعمالهم وحيث كان جزاء المؤمنين هو المقصود بالذات ابرز ذلك في معرض الغاية وعبر عنه بالفضل لما ان الإثابة بطريق التفضل لا الوجوب وأشير إلى جزاء الفريق الآخر بقوله تعالى «إنه لا يحب الكافرين» فإن عدم محبته تعالى كناية عن بغضه الموجب لغضبه المستتبع للعقوبة لا محالة «ومن آياته أن يرسل الرياح» أي الشمال والصبا والجنوب فإنها رياح الرحمة وأما الدبور فريح العذاب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا وقرئ الريح على إرادة الجنس «مبشرات» بالمطر «وليذيقكم من رحمته» وهي المنافع التابعة لها وقيل الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها واللام متعلقة بيرسل والجملة معطوفة على مبشرات على المعنى كأنه قيل ليبشركم بها وليذيقكم أو بمحذوف يفهم من ذكر الإرسال تقديره وليذيقكم وليكون كذا وكذا يرسلها لا لأمر آخر لا تعلق له بمنافعكم «ولتجري الفلك» بسوقها «بأمره ولتبتغوا من فضله» بتجارة البحر «ولعلكم تشكرون» ولتشكروا نعمة الله فيما ذكر من
63

الغايات الجليلة «ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم» كما أرسلناك إلى قومك «فجاؤوهم بالبينات» أي جاء كل رسول قومه بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك والفاء في قوله تعالى «فانتقمنا من الذين أجرموا» فصيحة أي فكذبوهم فانتقمنا منهم وإنما وضع ضميرهم الموصول للتنبيه على مكان المحذوف والإشعار بكونه علة للانتقام وفي قوله تعالى «وكان حقا علينا نصر المؤمنين» مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم وإشعار بأن الانتقام من الكفرة لأجله وقد يوقف على حقا على أنه متعلق بالانتقام ولعل توسيط الآية الكريمة بطريق الاعتراض بين ما سبق وما لحق من أحوال الرياح وأحكامها لإنذار الكفرة وتحذيرهم عن الإخلال بمواجب الشكر المطلوب بقوله تعالى لعلكم تشكرون بمقابلة النعم المعدودة المنوطة بإرسالها كيلا يحل بهم مثل ماحل بأولئك الأمم من الانتقام «الله الذي يرسل الرياح» استئناف مسوق لبيان ما أجمل فيما سبق من أحوال الرياح «فتثير سحابا فيبسطه» متصلا تارة «في السماء» في جوها «كيف يشاء» سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك «ويجعله كسفا» تارة أخرى أي قطعا وقرئ بسكون السين على أنه مخفف جمع كسفة أو مصدر وصف به «فترى الودق» المطر «يخرج من خلاله» في التارتين «فإذا أصاب به من يشاء من عباده» أي بلادهم وأراضيهم «إذا هم يستبشرون» فاجئوا الاستبشار بمجيء الخصب «وإن كانوا» إن مخففة من إن وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف أي وإن الشأن كانوا «من قبل أن ينزل عليهم» أي المطر «من قبله» تكرير للتأكد والايذان بطول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم منه وقيل الضمير للمطر أو السحاب أو الارسال وقيل للكسف على القراءة بالسكون وليس بواضح وأقرب من ذلك ان يكون الضمير للاستبشار ومن متعلقة بينزل لتفيد سرعة تقلب قلوبهم من اليأس إلى الاستبشار بالإشارة إلى غاية تقارب زمانيهما ببيان اتصال اليأس بالتنزيل المتصل بالاستبشار بشهادة إذا الفجائية «لمبلسين» خبر كانوا واللام فارقة أي آيسين «فانظر إلى آثار رحمة الله» المترتبة على تنزيل المطر من النبات والأشجار وأنواع الثمار والفاء للدلالة على سرعة ترتبها عليه وقرئ أثر
64

بالتوحيد وقوله تعالى «كيف يحيي» أي الله تعالى «الأرض بعد موتها» في حيز النصب بنزع الخافض وكيف معلق لأنظر أي فانظر إلى احيائه البديع للأرض بعد موتها وقيل على الحالية بالتأويل وأيا ما كان فالمراد بالامر بالنظر التنبيه على عظم قدرته تعالى وسعة رحمته ما فيه من التمهيد لما يعقبه من امر البعث وقرئ تحي بالتأنيث على الاسناد إلى ضمير الرحمة «إن ذلك» العظيم الشأن الذي ذكر بعض شؤونه «لمحيي الموتى» لقادر على احيائهم فإنه احداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم
من القوى الحيوانية كما ان احياء الأرض احداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية أو لمحييهم البتة وقوله تعالى «وهو على كل شيء قدير» تذييل مقرر لمضمون ما قبله أي مبالغ في القدرة على جميع الأشياء التي من جملتها إحياؤهم لما ان نسبة قدرته إلى الكل سواء «ولئن أرسلنا ريحا فرأوه» أي الأثر المدلول عليه بالآثار أو النبات المعبر عنه بالآثار فإنه اسم جنس يعم القليل والكثير «مصفرا» بعد خضرته وقد جوز ان يكون الضمير للسحاب لأنه إذا كان مصفرا لم يمطر ولا يخفي بعده واللام في لئن موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط والفاء في فرأوه فصيحة واللام في قوله تعالى «لظلوا» لام جواب القسم ساد مسد الجوابين أي وبالله لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفار فرأوه مصفرا ليظلن «من بعده يكفرون» من غير تلعثم وفيه من ذمهم بعد تثبيتهم وسرعة تزلزلهم بين طرفي الافراط والتفريط مالا يخفي حيث كان الواجب عليهم ان يتوكلوا على الله تعالى في كل حال ويلجئوا اليه بالاستغفار إذا احتبس عنهم القطر ولا ييأسوا من روح الله تعالى ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم برحمته ولا يفرطوا في الاستبشار وان يصبروا على بلائه إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه فعكسوا الامر وأبوا ما يجديهم واتوا بما يرديهم «فإنك لا تسمع الموتى» لما انهم مثلهم لانسداد مشاعرهم عن الحق «ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين» تقييد الحكم بما ذكر لبيان كمال سوء حال الكفرة والتنبيه على انهم جامعون لخصلتي السوء نبو اسماعهم عن الحق واعراضهم عن الاصغاء اليه ولو كان فيهم إحداهما لكفاهم ذلك فكيف وقد جمعوهما فإن الأصم المقبل إلى المتكلم ربما يفطن من أوضاعه وحركاته لشيء من كلامه وان لم يسمعه أصلا واما إذا كان معرضا عنه فلا يكاد يفهم منه شيئا وقرئ بالياء المفتوحة ورفع الصم «وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم» سموا عميا اما لفقدهم المقصود الحقيقي من الابصار أو لعمى قلوبهم وقرئ تهدي العمى «إن تسمع» أي ما تسمع «إلا من يؤمن بآياتنا» فإن ايمانهم يدعوهم إلى التدبر فيها وتلقيها بالقبول أو الا من يشارف الايمان بها ويقبل عليها اقبالا لائقا «فهم مسلمون» منقادون لما تأمرهم به من الحق
65

«الله الذي خلقكم من ضعف» مبتدأ وخبر أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس امركم كقوله تعالى وخلق الانسان ضعيفا أي خلقكم من أصل ضعيف هو النطفة «ثم جعل من بعد ضعف قوة» وذلك عند بلوغكم الحلم أو تعلق الروح بأبدانكم «ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة» إذا اخذ منكم السن وقرئ بضم الضاد في الكل وهو أقوى لقول ابن عمر رضي الله عنهما قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرأني من ضعف وهما لغتان كالفقر والفقر والتنكير مع التكرير لان المتقدم غير المتأخر «يخلق ما يشاء» من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الضعف والقوة والشيبة «وهو العليم القدير» المبالغ في العلم والقدرة فإن الترديد فيما ذكر من الأطوار المختلفة من أوضح دلائل العلم والقدرة «ويوم تقوم الساعة» أي القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وصارت علما لها كالنجم للثريا والكوكب للزهرة «يقسم المجرمون ما لبثوا» أي في القبور أو في الدنيا والأول هو الأظهر لان لبثهم مغيا بيوم البعث كما سيأتي وليس لبثهم في الدنيا كذلك وقيل فيما بين فناء الدنيا والبعث وانقطاع عذابهم وفي الحديث ما بين فناء الدنيا والبعث أربعون وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام وقيل لا يعلم أهي أربعون سنة أو أربعون الف سنة «غير ساعة» استقلوا مدة لبثهم نسيانا أو كذبا أو تخمينا «كذلك كانوا يؤفكون» مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق والصدق «وقال الذين أوتوا العلم والإيمان» في الدنيا من الملائكة والانس «لقد لبثتم في كتاب الله» في علمه أو قضائه أو ما كتبه وعينه أو في اللوح أو القرآن وهو قوله تعالى ومن ورائهم برزخ «إلى يوم البعث» ردوا بذلك ما قالوه وأيدوه باليمين كأنهم من فرط حيرتهم لم يدروا ان ذلك هو البعث الموعود الذي كانوا ينكرونه وكانوا يسمعون انه يكون بعد فناء الخلق كافة ويقدرون لذلك زمانا مديدا وان لم يعتقدوا تحققه فرد العالمون مقالتهم ونبهوهم على أنهم لبثوا إلى غاية بعيدة كانوا يسمعونها وينكرونها وبكتوهم بالاخبار بوقوعها حيث قالوا «فهذا يوم البعث» الذي كنتم توعدون في الدنيا «ولكنكم كنتم لا تعلمون» انه حق فتستعجلون به استهزاء والفاء جواب شرط محذوف كما في قول من قال
* قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
* ثم القفول فقد جئنا خراسانا
* «فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم» أي عذرهم وقرئ تنفع بالتاء محافظة على ظاهر اللفظ وان توسط
66

بينهما فاصل «ولا هم يستعتبون» لا يدعون إلى ما يقتضى إعتابهم أي إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا اليه في الدنيا من قولهم استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته «ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل» أي وبالله لقد بينا لهم كل حال ووصفنا لهم كل صفة كأنها في غرابتها مثل وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وقصتهم وما يقولون وما يقال لهم ويفعل بهم من رد اعتذارهم «ولئن جئتهم بآية» من آيات القرآن الناطقة بأمثال ذلك «ليقولن الذين كفروا» لفرط عتوهم وعنادهم وقساوة قلوبهم مخاطبين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين «إن أنتم إلا مبطلون» أي مزورون «كذلك» مثل ذلك الطبع الفظيع «يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون» لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها فإن الجهل المركب يمنع ادراك الحق ويوجب تكذيب المحق «فاصبر» على ما نشاهد منهم من الأقوال الباطلة والافعال السيئة «إن وعد الله حق» وقد وعدك بالنصرة واظهار الدين واعلاء كلمة الحق ولا بد من انجازه والوفاء به لا محالة «ولا يستخفنك» لا يحملنك على الخفة والقلق «الذين لا يوقنون» بما تتلو عليهم من الآيات البينة بتكذيبهم إياها وايذائهم لك بأباطيلهم التي من جملتها قولهم ان أنتم الا مبطلون فإنهم شاكون ضالون ولا يستبعد منهم أمثال ذلك وقرئ بالنون المخففة وقرئ ولا يستحقنك من الاستحقاق أي لا يفتننك فيملكوك ويكونوا أحق بك من المؤمنين وأيا ما كان فظاهر النظم الكريم وان كان نهيا للكفرة عن استخفافه صلى الله عليه وسلم واستحقاقه لكنه في الحقيقة نهى له صلى الله عليه وسلم عن التأثر من استخفافهم والافتتان بفتنتهم على طريق الكناية كما في قوله تعالى ولا يجر منكم شنآن قوم على ان لا تعدلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرا سورة الروم كان له من الاجر عشر حسنات بعدد كل ملك يسبح الله تعالى بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع في يومه وليلته
67

مكية وقيل الا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة فإن وجوبهما بالمدينة وهو ضعيف لأنه ينافي شرعيتهما بمكة وقيل الا ثلاثا من قوله ولو ان ما في الأرض من شجرة أقلام وهي اربع وثلاثون آية «بسم الله الرحمن الرحيم» «ألم تلك آيات الكتاب» سلف بيانه في نظائره «الحكيم» أي ذي الحكمة لاشتماله عليها أو هو وصف له بنعته تعالى أو أصله الحكيم منزله أو قائله فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه فانقلب مرفوعا فاستكن في الصفة المشبهة وقيل الحكيم فعيل بمعنى مفعل كما قالوا أعقدت اللبن فهو عقيد أي معقد وهو قليل وقيل بمعنى فاعل «هدى ورحمة» بالنصب على الحالية من الآيات والعامل فيهما معنى الإشارة وقرئا بالرفع على انهما خبران آخران لاسم الإشارة أو لمبتدأ محذوف «للمحسنين» أي العاملين للحسنات فإن أريد بها مشاهيرها المعهودة في الدين فقوله تعالى «الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون» بيان لما عملوها من الحسنات على طريقة قوله
[الألمعى الذي يظن بك الظن كأن قدر رأى وقد سمعا]
وان أريد بها جميع الحسنات فهو تخصيص لهذه الثلاث بالذكر من بين سائر شعبها لاظهار فضلها وانافتها على غيرها وتخصيص الوجه الأول بصورة كون الموصول صفة للمحسنين والوجه الأخير بصورة كونه مبتدأ مما لا وجه له «أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون» الفائزون بكل مطلوب والناجون من كل مهروب لحيازتهم قطري العلم والعمل وقد مر ما فيه من المقال في مطلع سورة البقرة بما لا مزيدة عليه «ومن الناس» محله الرفع على الابتداء باعتبار مضمونه
68

أو بتقدير الموصوف ومن في قوله تعالى «من يشتري لهو الحديث» موصولة أو موصوفة محلها الرفع على الخبرية والمعنى وبعض الناس أو وبعض من الناس الذي يشتري أو فريق يشتري على ان مناط الإفادة والمقصود بالأصالة هو اتصافهم بما في حيز الصلة أو الصفة لا كونهم ذوات أولئك المذكورين كما مر في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر الآيات ولهو الحديث ما يلهي عما يعني من المهمات كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتداد بها والمضاحك وسائر مالا خير فيه من فضول الكلام والإضافة بمعنى من التبيينة ان أريد بالحديث المنكر وبمعنى التبعيضية ان أريد به الأعم من ذلك وقيل نزلت الآية في النضر بن الحرث اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشا ويقول ان كان محمد صلى الله عليه وسلم يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار والأكاسرة وقيل كان يشتري القيان ويحملهن على معاشرة من أراد الاسلام ومنعه عنه «ليضل عن سبيل الله» أي دينه الحق الموصل اليه تعالى أو عن قراءة كتابه الهادي اليه تعالى وقرئ ليضل بفتح الياء أي ليثبت ويستمر على ضلاله أو ليزداد فيه «بغير علم» أي بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل الشر البحت بالخير المحض «ويتخذها» بالنصب عطفا على يضل والضمير للسبيل فإنه مما يذكر ويؤنث وهو دين الاسلام أو القرآن أي ويتخذها «هزوا» مهزوا به وقرئ ويتخذها بالرفع عطفا على يشتري وقوله تعالى «أولئك» إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما ان الافراد في الفعلين باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بذكر المشار اليه للايذان ببعد منزلتهم في الشرارة أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الاشتراء للإضلال «لهم عذاب مهين» لما اتصفوا به من اهانتهم الحق بإيثار الباطل عليه وترغيب الناس فيه «وإذا تتلى عليه» أي على المشتري افراد الضمير فيه وفيما بعده كالضمائر الثلاثة الأول باعتبار لفظة من بعد ما جمع فيما بينهما باعتبار معناها «آياتنا» التي هي آيات الكتاب الحكيم وهدى ورحمة للمحسنين «ولي» اعرض عنها غير معتد بها «مستكبرا» مبالغا في التكبر «كأن لم يسمعها» حال من ضمير ولى أو من ضمير مستكبرا والأصل كأنه فحذف ضمير الشأن وخففت المثقلة أي مشبها حاله حال من لم يسمعها وهو سامع وفيه رمز إلى ان من سمعها لا يتصور منه التولية والاستكبار لما فيها من الأمور الموجبة للاقبال عليها والخضوع لها على طريقة قول من قال كأنك لم تجزع على ابن طريف «كأن في أذنيه وقرا» حال من ضمير لم يسمعها أي مشبها حاله حال من في اذنيه ثقل مانع من السماع ويجوز ان يكونا استئنافين وقرئ في اذنيه بسكون الذال «فبشره بعذاب أليم» أي فأعلمه بأن العذاب المفرط في الايلام لاحق به لا محالة وذكر البشارة للتهكم «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات» بيان لحال المؤمنين بآياته تعالى اثر بيان حال الكافرين بها أي الذين آمنوا بآياته تعالى وعملوا بموجبها «لهم» بمقابلة ما ذكر من ايمانهم واعمالهم «جنات النعيم» أي
69

نعيم جنات فعكس للمبالغة والجملة خبر ان والأحسن ان يجعل لهم هو الخبر لان وجنات النعيم مرتفعا به على الفاعلية وقوله تعالى «خالدين فيها» حال من الضمير في لهم أو من جنات النعيم لاشتماله على ضميريهما والعامل ما تعلق به اللام «وعد الله حقا» مصدران مؤكدان الأول لنفسه والثاني لغيره لان قوله تعالى لهم جنات النعيم في معنى وعدهم الله جنات النعيم فأكد معنى الوعد بالوعد واما حقا فدال على معنى الثبات اكد به معنى الوعد ومؤكدهما جميعا لهم جنات النعيم «وهو العزيز» الذي لا يغلبه شيء ليمنعه من انجاز وعده أو تحقيق وعيده «الحكيم» الذي لا يفعل الا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة «خلق السماوات بغير عمد» الخ استئناف مسوق للاستشهاد بما فصل فيه على عزته تعالى التي هي كمال القدرة وحكمته التي هي كمال العلم وتمهيد قاعدة التوحيد وتقريره وابطال امر الاشراك وتبكيت أهله والعمد جمع عماد كأهب جمع اهاب وهو ما يعمد به أي يسند يقال عمدت الحائط إذا دعمته أي بغير دعائم على ان الجمع لتعدد السماوات وقوله تعالى «ترونها» استئناف جيء به للاستشهاد على ما ذكر من خلقه تعالى لها غير معهودة بمشاهدتهم لها كذلك أو صفة لعمد أي خلقها بغير عمد مرئية على ان التقييد للرمز إلى انه تعالى عمدها بعمد لا ترونها هي عمد القدرة «وألقى في الأرض رواسي» بيان لصنعه البديع في قرار الأرض اثر بيان صنعه الحكيم في قرار السماوات أي القى فيها جبالا ثوابت وقد مر ما فيه من الكلام في سورة الرعد «أن تميد بكم» كراهة ان تميل بكم فإن بساطة اجزائها تقتضي تبدل أحيازها وأوضاعها لامتناع اختصاص كل منها لذاته أو لشيء من لوازمه بحيز معين ووضع مخصوص «وبث فيها من كل دابة» من كل نوع من أنواعها «وأنزلنا من السماء ماء» هو المطر «فأنبتنا فيها» بسبب ذلك الماء «من كل زوج كريم» من كل صنف كثير المنافع والالتفات إلى نون العظمة في الفعلين لابراز مزيد الاعتناء بأمرها «هذا» أي ما ذكر من السماوات والأرض وما تعلق بهما من الأمور المعدودة «خلق الله» أي مخلوقه «فأروني ماذا خلق الذين من دونه» مما اتخذ تموهم شركاء له سبحانه في العبادة حتى استحقوا به المعبودية وماذا نصب بخلق
أو ما مرتفع بالابتداء وخبره ذا بصلته وأروني متعلق به وقوله تعالى «بل الظالمون في ضلال مبين» اضراب عن تبكيتهم بما ذكر إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للاعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة لاستحالة ان يفهموا منها شيئا فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه أو يتأثروا من الالزام والتبكيت فينزجروا عنه ووضع الظاهر موضع ضميرهم للدلالة على انهم بإشراكهم
70

واضعون للشيء في غير موضعه ومتعدون عن الحدود وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد «ولقد آتينا لقمان الحكمة» كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك وهو لقمان بن باعوارء من أولاد آزر ابن أخت أيوب عليه السلام أو خالته وعاش حتى أدرك داود عليه السلام واخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعثه وقيل كان قاضيا في بني إسرائيل والجمهور على انه كان حكيما ولم يكن نبيا والحكمة في عرف العلماء استكمال النفس الانسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الافعال الفاضلة على قدر طاقتها ومن حكمته انه صحب داود عليه السلام شهورا وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها فلما أتمها لبسها وقال نعم لبوس الحرب أنت فقال الصمت حكمة وقليل فاعله فقال له داود عليه السلام بحق ما سميت حكيما وان داود عليه السلام قال له يوما كيف أصبحت فقال أصبحت في يدي غيري فتفكر داود فيه فصعق صعقة وأنه أمره مولاه بأن يذبح شاة ويأتي بأطيب مضغتين منها فأتى باللسان والقلب ثم بعد أيام أمره بأن يأتي بأخبث مضغتين منها فأتى بهما أيضا فسأله عن ذلك فقال هما أطيب شئ إذا طابا وأخبث شيء إذا خبثا ومعنى «أن اشكر لله» أي اشكر له تعالى على أن أن مفسره فإن إيتاء الحكمة في معنى القول وقوله تعالى «ومن يشكر» الخ استئناف مقرر لمضمون ما قبله موجب للامتثال بالامر أي ومن يشكر له تعالى «فإنما يشكر لنفسه» لان منفعته التي هي ارتباط العتيد واستجلاب المزيد مقصورة عليها «ومن كفر فإن الله غني» عن كل شيء فلا يحتاج إلى الشكر ليتضرر بكفر من كفر «حميد» حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد أو محمود بالفعل ينطق بحمده جميع المخلوقات بلسان الحال وعدم التعرض لكونه تعالى مشكورا لما أن الحمد متضمن للشكر بل هو رأسه كما قال صلى الله عليه وسلم الحمد رأس الشكر لم يشكر الله عبد لم يحمده فإثباته له تعالى إثبات للشكر له قطعا «وإذ قال لقمان لابنه» أنعم وقيل أشكم وقيل ماثان «وهو يعظه يا بني» تصغير إشفاق وقرئ يا بنى بإسكان الياء وبكسرها «لا تشرك بالله» قيل كان ابنه كافرا فلم يزل به حتى اسلم ومن وقف على لا تشرك جعل بالله قسما «إن الشرك لظلم عظيم» تعليل للنهي أو للانتهاء عن الشرك «ووصينا الإنسان بوالديه» الخ كلام مستأنف اعترض به على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدا لما فيها من النهى عن الشرك وقوله تعالى «حملته أمه» إلى قوله في عامين اعتراض بين المفسر والمفسر وقوله تعالى «وهنا» حال من أمه أي ذات وهن أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال أي تهن وهنا
71

وقوله تعالى «على وهن» صفة للمصدر أي كائنا على وهن أي تضعف ضعفا فوق ضعف فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها وقرئ وهنا على وهن بالتحريك يقال وهن يهن وهنا ووهن يوهن وهنا «وفصاله في عامين» أي فطامة في تمام عامين وهي مدة الرضاع عند الشافعي وعند أبي حنيفة رحمهما الله تعالى هي ثلاثون شهرا وقد بين وجهه في موضعه وقرئ وفصله «أن اشكر لي ولوالديك» تفسير لوصينا وما بينهما اعتراض مؤكد للوصية في حقها خاصة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لمن قال له من أبر أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك ثم أباك «إلي المصير» تعليل لوجوب الامتثال أي إلى الرجوع لا إلى غيري فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر «وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به» أي بشركته له تعالى في استحقاق العبادة «علم فلا تطعهما» في ذلك «وصاحبهما في الدنيا معروفا» أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع وتقتضيه المروءة «واتبع سبيل من أناب إلي» بالتوحيد والاخلاص في الطاعة «ثم إلي مرجعكم» أي مرجعك ومرجعهما ومرجع من أناب إلى «فأنبئكم» عند رجوعكم «بما كنتم تعملون» بأن أجازى كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر وقوله تعالى «يا بني» الخ شروع في حكاية بقية وصايا لقمان إثر تقرير ما في مطلعها من النهي عن الشرك وتأكيده بالاعتراض «إنها إن تك مثقال حبة من خردل» أي إن الخصلة من الإساءة أو الاحسان إن تك مثلا في الصغر كحبة الخردل وقرئ برفع مثقال على أن الضمير للقصة وكان تامة والتأنيث لإضافة المثقال إلى الحبة كما في قول من قال كما شرقت صدر القناة من الدم أو لان المراد به الحسنة أو السيئة «فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض» أي فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر والقماءة في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي «يأت بها الله» أي يحضرها ويحاسب عليها «إن الله لطيف» يصل علمه إلى كل خفى «خبير» بكنهه وبعد ما أمره بالتوحيد الذي هو أول ما يجب على الانسان في ضمن النهي عن الشرك ونبهه على كمال علم الله تعالى وقدرته أمره بالصلاة التي هي أكمل العبادات تكميلا له من حيث العمل بعد تكميله من حيث الاعتقاد فقال مستميلا له «يا بني أقم الصلاة» تكميلا لنفسك «وأمر بالمعروف وانه عن المنكر» تكميلا لغيرك «واصبر على ما أصابك» من الشدائد والمحن لا سيما فيما أمرت به «إن ذلك» إشارة إلى
72

كل ما ذكر وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار اليه لما مر مرارا من الاشعار ببعد منزلته في الفضل «من عزم الأمور» أي مما عزمه الله تعالى وقطعه على عباده من الأمور لمزيد مزيتها مصدر اطلق على المفعول وقد جوز ان يكون بمعنى الفاعل من قوله تعالى فإذا عزم الامر أي جد والجملة تعليل لوجوب الامتثال بما سبق من الامر والنهي وايذان بأن ما بعدها ليس بمثابته «ولا تصعر خدك للناس» أي لا تمله ولا تولهم صفحة وجهك كما هو ديدن المتكبرين من الصعر وهو الصيد وهو داء يصيب البعير فيلوي منه عنقه وقرئ ولا تصاعر وقرئ ولا تصعر من الإفعال والكل بمعنى مثل وعلاه وعالاه «ولا تمش في الأرض مرحا» أي فرحا مصدر وقع موقع الحال أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال أي تمرح مرحا أو لأجل المرح والبطر «إن الله لا يحب كل مختال فخور» تعليل للنهي أو موجبة وتأخير الفخور مع كونه بمقابلة المصعر خده عن المختال وهو بمقابلة الماشي مرحا لرعاية الفواصل «واقصد في مشيك» بعد الاجتناب عن المرح فيه أي توسط بين الدبيب والاسراع وعنه صلى الله عليه وسلم سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما كان إذا مشي اسرع فالمراد به ما فوق دبيب المتماوت وقرئ بقطع الهمزة من اقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية «واغضض من صوتك» وانقص منه واقصر «إن أنكر الأصوات» أي اوحشها «لصوت الحمير» تعليل للامر على أبلغ
وجه وآكده مبني على تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالهاق وافراط في التحذير عن رفع الصوت والتنفير عنه وافراد الصوت مع اضافته إلى الجمع لما ان المراد ليس بيان حال صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع بل بيان حال صوت هذا الجنس من بين أصوات سائر الأجناس وقوله تعالى «ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض» رجوع إلى سنن ما سلف قبل قصة لقمان من خطاب المشركين وتوبيخ لهم على اصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد والمراد بالتسخير اما جعل المسخر بحيث ينفع المسخر له أعم من ان يكون منقادا له يتصرف فيه كيف يشاء ويستعمله حسبما يريد كعامة ما في الأرض من الأشياء المسخرة للانسان المستعملة له من الجماد والحيوان أو لا يكون كذلك بل يكون سببا لحصول مراده من غير ان يكون له دخل في استعماله كجميع ما في السماوات من الأشياء التي نيطت بها مصالح العباد معاشا ومعادا وما جعله منقادا للامر مذللا على ان معنى لكم
73

لأجلكم فإن جميع ما في السماوات والأرض من الكائنات مسخر لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق وما يستعمله الانسان حسبما يشاء وان كان مسخرا له بحسب الظاهر فهو في الحقيقة مسخر لله تعالى «وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة» محسوسة ومعقولة معروفة لكم وغير معروفة وقد مر شرح النعمة وتفصيلها في الفاتحة وقرئ أصيغ بالصاد وهو جار في كل سين قارنت الغين أو الخاء أو القاف كما تقول في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سالغ صالغ وقرئ نعمة «ومن الناس من يجادل في الله» في توحيده وصفاته «بغير علم» مستفادة من دليل «ولا هدى» من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم «ولا كتاب منير» أنزله الله سبحانه بل بمجرد التقليد «وإذا قيل لهم» أي لمن يجادل والجمع باعتبار المعنى «اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا» يريدون به عبادة الأصنام «أولو كان الشيطان يدعوهم» أي آباءهم لا أنفسهم كما قيل فإن مدار انكار الاتباع واستبعاده كون المتبوعين تابعين للشيطان لا كون أنفسهم كذلك أي أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم فيما هم عليه من الشرك «إلى عذاب السعير» فهم متوجهون اليه حسب دعوته والجملة في حيز النصب على الحالية وقد مر تحقيقه في قوله تعالى أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون من سورة البقرة بما لا مزيد عليه «ومن يسلم وجهه إلى الله» بأن فوض اليه مجامع أموره واقبل عليه بكليته وحيث عدى باللام قصد معنى الاختصاص وقرئ بالتشديد «وهو محسن» أي في اعماله آت بها جامعة بين الحسن الذاتي والوصفي وقد مر في آخر سورة النحل «فقد استمسك بالعروة الوثقى» أي تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وهو تمثيل لحال المتوكل المشتغل بالطاعة بحال من أراد ان يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه «وإلى الله» لا إلى أحد غيره «عاقبة الأمور» فيجازيه أحسن الجزاء «ومن كفر فلا يحزنك كفره» فإنه لا يضرك في الدنيا ولا في الآخرة وقرئ فلا يحزنك من أحزن المنقول من حزن بكسر الزاي وليس بمستفيض «إلينا مرجعهم» لا إلى غيرنا «فننبئهم بما عملوا» في الدنيا من الكفر والمعاصي بالعذاب والعقاب والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما ان الافراد في الأول باعتبار لفظها «إن الله عليم بذات الصدور» تعليل للتنبئة المعبر بها عن التعذيب «نمتعهم قليلا» تمتيعا أو زمانا قليلا فإن ما يزول وان كان بعد أمد
74

طويل بالنسبة إلى ما يدوم قليل «ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ» يثقل عليهم ثقل الاجرام الغلاظ أو يضم إلى الاحراق الضغط والتضييق «ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله» لغاية وضوح الامر بحيث اضطروا إلى الاعتراف به «قل الحمد لله» على ان جعل دلائل التوحيد بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون أيضا «بل أكثرهم لا يعلمون» شيئا من الأشياء فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافهم وقيل لا يعلمون ان ذلك يلزمهم «لله ما في السماوات والأرض» فلا يستحق العبادة فيهما غيره «إن الله هو الغني» عن العالمين «الحميد» المستحق للحمد وان لم يحمده أحد أو المحمود بالفعل يحمده كل مخلوق بلسان الحال «ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام» أي لوان الأشجار أقلام وتوحيد الشجرة لما ان المراد تفصيل الآحاد «والبحر يمده من بعده» أي من بعد نفاده «سبعة أبحر» أي والحال ان البحر المحيط بسعته يمده الا بحر السبعة مدا لا ينقطع ابدا وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله «ما نفدت كلمات الله» ونفدت تلك الأقلام والمداد كما في قوله تعالى لنفد البحر قبل ان تنفذ كلمات ربي وقرئ يمده من الامداد بالياء والتاء واسناد المد إلى الأبحر السبعة دون البحر المحيط مع كونه أعظم منها وأطم لأنها هي المجاورة للجبال ومنابع المياه الجارية واليها تنصب الأنهار العظام أولا ومنها ينصب إلى البحر المحيط ثانيا وايثار جمع القلة في الكلمات للايذان بأن ما ذكر لا يفي بالقليل منها فكيف بالكثير «أن الله عزيز» لا يعجزه شيء «حكيم» لا يخرج عن علمه وحكمته امر فلا تنفد كلماته المؤسسة عليهما «ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة» أي الا كخلقها وبعثها في سهولة التأتي إذ لا يشغله شأن عن شأن لان مناط وجود الكل تعلق ارادته الواجبة مع قدرته الذاتية حسبما يفصح عنه قوله تعالى انما أمرنا لشيء إذا أردناه ان نقول له كن فيكون «إن الله سميع» يسمع كل مسموع «بصير» يبصر كل مبصر لا يشغله علم بعضها عن علم بعض فكذلك الخلق والبعث «ألم تر» قيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل عام لكل أحد ممن يصلح للخطاب وهو الا وفق لما سبق وما لحق أي ألم تعلم علما
75

قويا جاريا مجري الرؤية «أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل» أي يدخل كل واحد منهما في الآخر ويضيفه اليه فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا «وسخر الشمس والقمر» عطف على يولج والاختلاف بينهما صيغة لما ان ايلاج أحد الملوين في الآخر متجدد في كل حين واما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد وانما التعدد والتجدد في آثاره وقد أشير إلى ذلك حيث قيل «كل يجري» أي بحسب حركته الخاصة وحركته القسرية على المدارات اليومية المتخالفة المتعددة حسب تعدد الأيام جريا مستمرا «إلى أجل مسمى» قدره الله تعالى لجريهما وهو يوم القيامة كما روي عن الحسن رحمة الله فإنه لا ينقطع جريهما الا حينئذ والجملة على تقدير عموم الخطاب اعتراض بين المعطوفين لبيان الواقع بطريق الاستطراد وعلى تقدير اختصاصه به صلى الله عليه وسلم يجوز ان يكون حالا من الشمس والقمر فإن جريانهما إلى يوم القيامة من جملة ما في حيز رؤيته صلى الله عليه وسلم هذا وقد جعل جريانهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما في فلكهما والأجل المسمى عن منتهى دورتهما وجعل مدة الجريان للشمس سنة وللقمر شهرا فالجملة حينئذ بيان لحكم تسخيرهما وتنبيه على كيفية ايلاج أحد الملوين في الآخر وكون ذلك بحسب اختلاف جريان الشمس على مداراتها اليومية فكلما كان جريانها متوجها إلى سمت الرأس تزداد القوس التي هي فوق الأرض كبرا فيزداد النهار طولا بانضمام بعض اجزاء الليل اليه
إلى ان يبلغ المدار الذي هو أقرب المدارات إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها إلى راس السرطان ثم ترجع متوجهة إلى التباعد عن سمت الرأس فلا تزال القسي التي هي فوق الأرض تزداد صغرا فيزداد النهار قصرا بانضمام بعض اجزائه إلى الليل إلى ان يبلغ المدار الذي هو ابعد المدارات اليومية عن سمت الرأس وذلك عند بلوغها برج الجدي وقوله تعالى «وأن الله بما تعملون خبير» عطف على ان الله يولج الخ داخل معه في حيز الرؤية على تقديري خصوص الخطاب وعمومه فإن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق والتدبير الفائق لا يكاد يغفل عن كون صانعه عز وجل محيطا بجلائل اعماله ودقائقها «ذلك» إشارة إلى ما تلى من الآيات الكريمة وما فيه من معنى البعد للايذان ببعد منزلتها في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «بأن الله هو الحق» أي بسبب بيان انه تعالى هو الحق إلهيته فقط ولاجله لكونها ناطقة بحقية التوحيد «وأن ما يدعون من دونه الباطل» أي ولا جل بيان بطلان الهية ما يدعونه من دونه تعالى لكونها شاهدة بذلك شهادة بينة لا ريب فيها وقرئ بالتاء والتصريح بذلك مع ان الدلالة على اختصاص حقية الإلهية به تعالى مستتبعة للدلالة على بطلان الهية ما عداه لابراز كمال الاعتناء بأمر التوحيد وللإيذان بأن الدلالة على بطلان ما ذكر ليست بطريق الاستتباع فقط بل بطريق الاستقلال أيضا «وأن الله هو العلي الكبير» أي وبيان انه تعالى هو المترفع عن كل شيء المتسلط عليه فإن ما في تضاعيف الآيات الكريمة مبين لاختصاص العلو والكبرياء به تعالى أي بيان هذا وقيل ذلك أي ما ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص الباري تعالى به بسبب انه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته أو الثابت إلهيته وأنت
76

خبير بأن حقيته تعالى وعلوه وكبرياءه وان كانت صالحة لمناطية ما ذكر من الاحكام المعدودة لكن بطلان الهية الأصنام لا دخل له في المناطية قطعا فلا مساغ لنظمه في سلك الأسباب بل هو تعكيس للامر ضرورة ان الاحكام المذكورة هي المقتضية لبطلانها لا ان بطلانها يقتضيها
«ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله» بإحسانه في تهيئة أسبابه وهو استشهاد آخر على باهر قدرته وغاية حكمته وشمول انعامه والباء اما متعلقة بتجري أو بمقدر هو حال من فاعله أي ملتبسة بنعمته تعالى وقرئ الفلك بضم اللام وبنعمات الله وعين فعلات يجوز فيه الكسر والفتح والسكون «ليريكم من آياته» أي بعض دلائل وحدته وعلمه وقدرته وقوله تعالى «إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور» تعليل لما قبله أي ان فيما ذكر لآيات عظيمة في ذاتها كثيرة في عددها لكل من يبالغ في الصبر على المشاق فيتعب نفسه في التفكر في الأنفس والآفاق ويبالغ في الشكر على نعمائه وهما صفتا المؤمن فكأنه قيل لكل مؤمن «وإذا غشيهم» أي علاهم وأحاط بهم «موج كالظلل» كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما وقرئ كالظلال جمع ظلة كقلة وقلال «دعوا الله مخلصين له الدين» لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الدواهي والشدائد «فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد» أي مقيم على القصد السوى الذي هو التوحيد أو متوسط في الكفر لانزجاره في الجملة «وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار» غدار فإنه نقض للعهد الفطري أو رفض لما كان في البحر والختر أشد الغدر وأقبحه «كفور» مبالغ في كفران نعم الله تعالى «يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده» أي لا يقضى عنه وقرئ لا يجزي من أجزأ إذا اغنى والعائد إلى الموصوف محذوف أي لا يجزي فيه «ولا مولود» عطف على والد أو هو مبتدأ خبره «هو جاز عن والده شيئا» وتغيير النظم للدلالة على ان المولود أولى بأن لا يجزي وقطع من توقع من المؤمنين ان ينفع أباه الكافر في الآخرة «إن وعد الله» بالثواب والعقاب «حق» لا يمكن إخلافه أصلا «فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور» أي الشيطان المبالغ في الغرور بأن يحملكم على المعاصي
77

بتزيينها لكم ويرجيكم التوبة والمغفرة «إن الله عنده علم الساعة» علم وقت قيامها لما روى ان الحرث بن عمرو اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال متى الساعة واني قد ألقيت حباتي في الأرض فمتى السماء تمطر وحمل امرأتي ذكر أم أنثى وما اعمل غدا وأين أموت فنزلت وعنه صلى الله عليه وسلم مفاتح الغيب خمس وتلا هذه الآية «وينزل الغيث» في ابانه الذي قدره والى محله الذي عينه في علمه وقرئ ينزل من الانزال «ويعلم ما في الأرحام» من ذكر أو أنثى تام أو ناقص «وما تدري نفس» من النفوس «ماذا تكسب غدا» من خير أو شر وربما تعزم على شيء منهما فتفعل خلافه «وما تدري نفس بأي أرض تموت» كما لا تدري في أي وقت تموت روى ان ملك الموت مر على سليمان عليهما السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر اليه فقال الرجل من هذا قال ملك الموت فقال كأنه يريدني فمر الريح ان تحملني وتلقيني ببلاد الهند ففعل ثم قال الملك لسليمان عليهما السلام كان دوام نظري اليه تعجبا منه حيث كنت أمرت بأن أقبض روحه بالهند وهو عندك ونسبة العلم إلى الله تعالى والدراية إلى العبد للايذان بأنه ان اعمل حيله وبذل في التعرف وسعه لم يعرف ما هو لاحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه وقرئ بأية ارض وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل في كلتهن «إن الله عليم» مبالغ في العلم فلا يعزب عن علمه شيء من الأشياء التي من جملتها ما ذكر «خبير» يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرا سورة لقمان كان له لقمان رفيقا يوم القيامة وأعطى من الحسنات عشرا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر
78

مكية وهي ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون
«بسم الله الرحمن الرحيم» «ألم» اما اسم للسورة فمحله الرفع على انه خبر لمبتدأ محذوف أي هذا مسمى ب ألم والإشارة إليها قبل جريان ذكرها قد عرفت سرها واما مسرود على نمط التعديد فلا محل له من الاعراب وقوله تعالى «تنزيل الكتاب» على الأول خبر بعد خبر على انه مصدر اطلق على المفعول مبالغة وعلى الثاني خبر لمبتدأ محذوف أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب وقيل خبرا ألم أي المسمى به تنزيل الكتاب وقد مر مرارا ان ما يجعل عنوانا للموضوع حقه ان يكون قبل ذلك معلوم الانتساب اليه وإذ لا عهد بالتسمية قبل فحقها الاخبار بها وقوله تعالى «لا ريب فيه» خبر ثالث على الوجه الأول وثان على الأخيرين وقيل خبر لتنزيل الكتاب فقوله تعالى «من رب العالمين» متعلق بمضمر هو حال من الضمير المجرور أي كائنا منه تعالى لا بتنزيل لان المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر والأوجه حينئذ
انه الخبر ولا ريب فيه حال من الكتاب أو اعتراض والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة كأنه قيل لا ريب في ذلك أي في كونه منزلا من رب العالمين ويؤيده قوله تعالى «أم يقولون افتراه» فإن قولهم هذا انكار منهم لكونه من رب العالمين فلا بد ان يكون مورده حكما مقصود الإفادة لا قيدا للحكم بنفي الريب عنه وقد رد عليهم ذلك وأبطل حيث جئ بأم المنقطعة انكارا له وتعجيبا منه لغاية ظهور بطلانه واستحالة كونه مفترى ثم اضرب عنه إلى بيان حقية ما أنكروه حيث قيل «بل هو الحق من ربك» بإضافة اسم الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم بعد اضافته فيما سبق إلى العالمين تشريفا له صلى الله عليه وسلم ثم أيد ذلك ببيان غايته حيث قيل «لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون» فإن بيان غاية الشيء وحكمته لا سيما عند كونها غاية حميدة مستتبعة لمنافع جليلة في وقت شدة الحاجة إليها مما يقرر وجود الشيء ويؤكده لا محالة ولقد كانت قريش أضل الناس وأحوجهم إلى الهداية بإرسال الرسول وتنزيل الكتاب حيث لم يبعث إليهم
79

من رسول قبله صلى الله عليه وسلم أي ما اتاهم من نذير من قبل انذارك أو من قبل زمانك والترجي معتبر من جهته صلى الله عليه وسلم أي لتنذرهم راجيا لاهتدائهم أو لرجاء اهتدائهم واعلم ان ما ذكر من التأييد انما يتسنى على ما ذكر من كون تنزيل الكتاب مبتدأ واما على سائر الوجوه فلا تأييد أصلا لان قوله تعالى من رب العالمين خبر رابع على الوجه الأول وخبر ثالث على الوجهين الأخيرين وأيا ما كان فكونه من رب العالمين حكم مقصود الإفادة لا قيد لحكم آخر فتدبر «الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش» مر بيانه فيما سلف «ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع» أي ما لكم إذا جاوزتم رضاه تعالى أحد ينصركم ويشفع لكم ويجيركم من بأسه أي ما لكم سواه ولي ولا شفيع بل هو الذي يتولى مصالحكم وينصركم في مواطن النصر على ان الشفيع عبارة عن الناصر مجازا فإذا خذلكم لم يبق لكم ولي ولا نصير «أفلا تتذكرون» أي الا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها فالانكار على الأول متوجه إلى عدم السماع وعدم التذكر معا وعلى الثاني على عدم التذكر مع تحقق ما يوجبه من السماع «يدبر الأمر من السماء إلى الأرض» قيل يدبر امر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة وغيرها نازلة آثارها واحكامها إلى الأرض «ثم يعرج إليه» أي يثبت في علمه موجودا بالفعل «في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون» أي في برهة من الزمان متطاولة والمراد بيان طول امتداد ما بين تدبير الحوادث وحدوثها من الزمان وقيل يدبر امر الحوادث اليومية بإثباتها في اللوح المحفوظ فينزل بها الملائكة ثم تعرج اليه في زمان هو كألف سنة مما تعدون فإن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وقيل يقضى قضاء الف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الألف لألف آخر وقيل يدبر امر الدنيا جميعا إلى قيام الساعة ثم يعرج اليه الامر كله عند قيامها وقيل يدبر المأمور به من الطاعات منزلا من السماء إلى الأرض بالوحي ثم لا يعرج اليه خالصا الا في مدة متطاولة المخلصين والاعمال الخلص وأنت خبير بأن قلة الاعمال الخالصة لا تقتضي بطء عروجها إلى السماء بل قلته وقرئ يعدون بالياء «ذلك» إشارة إلى الله عز وجل باعتبار اتصافه بما ذكر من خلق السماوات والأرض والاستواء على العرش وانحصار الولاية والنصرة فيه وتدبير امر الكائنات على ما ذكر من الوجه البديع وهو مبتدأ خبره ما بعده أي ذلك العظيم الشأن «عالم الغيب والشهادة» فيدبر أمرهما حسبما تقتضيه الحكمة «العزيز» الغالب على امره
80

«الرحيم» على عباده وهما خبران آخران وفيه ايماء إلى انه تعالى متفضل في جميع ما ذكر فاعل بالاحسان «الذي أحسن كل شيء خلقه» خبر آخر أو نصب على المدح أي حسن كل مخلوق خلقه إذ ما من مخلوق خلقه الا وهو مرتب على ما تقتضيه الحكمة وأوجبته المصلحة فجميع المخلوقات حسنة وان تفاوتت إلى حسن وأحسن كما قال تعالى لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم وقيل علم كيف يخلقه من قوله قيمة المرء ما يحسن أي يحسن معرفته أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وايقان وقرئ خلقه على انه بدل اشتمال من كل شيء والضمير للمبدل منه أي حسن خلق كل شيء وقيل بدل الكل على ان الضمير لله تعالى والخلق بمعنى المخلوق أي حسن كل مخلوقاته وقيل هو مفعول ثان لأحسن على تضمينه معنى اعطى أي اعطى كل شيء خلقه اللائق به بطريق الاحسان والتفضل وقيل هو مفعوله الأول وكل شيء مفعوله الثاني والخلق بمعنى المخلوق وضميره لله سبحانه على تضمين الاحسان معنى الالهام والتعريف والمعنى الهم خلقه كل شيء مما يحتاجون اليه وقال أبو البقاء عرف مخلوقاته كل شيء يحتاجون اليه فيؤول إلى معنى قوله تعالى «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى» وبدا خلق الانسان من بين جميع المخلوقات «من طين» على وجه بديع تحار العقول في فهمه حيث برا آدم عليه السلام على فطرة عجيبة منطوية على فطرة سائر افراد الجنس انطواء اجماليا مستتبعا لخروج كل فرد منها من القوة إلى الفعل بحسب استعداداتها المتفاوتة قربا وبعدا كما ينبئ عنه قوله تعالى «ثم جعل نسله» الخ أي ذريته سميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه «من سلالة من ماء مهين» هو المني الممتهن «ثم سواه» أي عدله بتكميل أعضائه في الرحم وتصويرها على ما ينبغي «ونفخ فيه من روحه» اضافه اليه تعالى تشريفا له وايذانا بأنه خلق عجيب وصنع بديع وان له شأنا له مناسبة إلى حضرة الربوبية وان أقصى ما تنتهي اليه العقول البشرية من معرفته هذا القدر الذي يعبر عنه تارة بالإضافة اليه تعالى وأخرى بالنسبة إلى امره تعالى كما في قوله تعالى قل الروح من امر ربي «وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة» الجعل ابداعي واللام متعلقة به والتقديم على المفعول الصريح لما مر مرات من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم أي خلق لمنفعتكم تلك المشاعر لتعرفوا انها مع كونها في أنفسها نعما جليلة لا يقادر قدرها وسائل إلى التمتع بسائر النعم الدينية والدنيوية الفائضة عليكم وتشكروها بأن تصرفوا كلا منها إلى ما خلق هو له فتدركوا بسمعكم الآيات التنزيلية الناطقة بالتوحيد والبعث وبأبصاركم الآيات التكوينية الشاهدة بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيقتهما وقوله تعالى «قليلا ما تشكرون» بيان لكفرهم بتلك النعم بطريق الاعتراض التذييلي على ان القلة بمعنى
81

النفي كما ينبئ عنه ما بعده أي شكرا قليلا أو زمانا قليلا تشكرون وفي حكاية أحوال الانسان من مبدأ فطرته إلى نفخ الروح فيه بطريق الغيبة وحكاية أحواله بعد ذلك بطريق الخطاب المنبىء عن استعداده للفهم وصلاحيته له من الجزالة مالا غاية وراءه «وقالوا» كلام مستأنف مسوق لبيان أباطيلهم بطريق الالتفات ايذانا بأن ما ذكر من عدم شكرهم بتلك النعم موجب للاعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم بطريق المباثة «أئذا ضللنا في الأرض» أي صرنا ترابا مخلوطا بترابها بحيث لا نتميز منه أو غبنا
فيها بالدفن وقرئ ضللنا بكسر اللام من باب علم وصللنا بالصاد المهملة من صل اللحم إذا أنتن وقيل من الصلة وهي الأرض أي صرنا من جنس الصلة قيل القائل أبي بن خلف ولرضاهم بقوله اسند القول إلى الكل والعامل في إذا ما يدل عليه قوله تعالى «أئنا لفي خلق جديد» وهو نبعث أو يجدد خلقنا والهمزة لتذكير الانكار السابق وتأكيده وقرئ انا على الخبر وأيا ما كان فالمعنى على تأكيد الانكار لا انكار التأكيد كما هو المتبادر من تقدم الهمزة على ان فإنها مؤخرة عنها في الاعتبار وانما تقديمها عليها لاقتضائها الصدارة «بل هم بلقاء ربهم كافرون» اضراب وانتقال من بيان كفرهم بالبعث إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة وما يلقونه فيها من الأحوال والأهوال جميعا «قل» بيانا للحق وردا على زعمهم الباطل «يتوفاكم ملك الموت» لا كما تزعمون أن الموت من الأحوال الطبيعية العارضة للحيوان بموجب الجبلة أي يقبض أرواحكم بحيث لا يدع فيكم شيئا أو لا يترك منكم أحدا على أشد ما يكون من الوجوه وأفظعها من ضرب وجوهكم وأدباركم «الذي وكل بكم» أي بقبض أرواحكم واحصاء آجالكم «ثم إلى ربكم ترجعون» بالبعث للحساب والجزاء «ولو ترى إذ المجرمون» وهم القائلون ائذا ضللنا في الأرض الآية أو جنس المجرمين وهم من جملتهم «ناكسو رؤوسهم عند ربهم» من الحياء والخزي عند ظهور قبائحهم التي اقترفوها في الدنيا «ربنا» أي يقولون ربنا «أبصرنا وسمعنا» أي صرنا ممن يبصر ويسمع وحصل لنا الاستعداد لادراك الآيات المبصرة والآيات المسموعة وكنا من قبل عميا وصما لا ندرك شيئا «فارجعنا» إلى الدنيا «نعمل» عملا «صالحا» حسبما تقتضيه تلك الآيات وقوله تعالى «إنا موقنون» ادعاء منهم لصحة الأفئدة والاقتدار على فهم معاني الآيات والعمل بموجبها كما ان ما قبله ادعاء لصحة مشعري البصر والسمع كأنهم قالوا وأيقنا وكنا من قبل لا نعقل شيئا أصلا وانما عدلوا إلى الجملة الاسمية المؤكدة اظهارا لثباتهم على الايقان وكمال رغبتهم فيه وكل ذلك للجد في الاستدعاء طمعا في الإجابة إلى ما سألوه
82

من الرجعة وانى لهم ذلك ويجوز ان يقدر لكل من الفعلين مفعول مناسب له مما يبصرونه ويسمعونه فإنهم حينئذ يشاهدون الكفر والمعاصي على صور منكرة هائلة ويخبرهم الملائكة بأن مصيرهم إلى النار لا محالة فالمعنى أبصرنا قبح اعمالنا وكنا نراها في الدنيا حسنة وسمعنا ان مردنا إلى النار وهو الأنسب لما بعده من الوعد بالعمل الصالح هذا وقد قيل المعنى وسمعنا منك تصديق رسلك وأنت خبير بأن تصديقه تعالى لهم حينئذ يكون بإظهار مدلول ما أخبروا به من الوعد والوعيد لا بالاخبار بأنهم صادقون حتى يسمعوه وقيل وسمعنا قول الرسل أي سمعناه سمع طاعة واذعان ولا يقدر لترى مفعول إذ المعنى لو تكون منك رؤية في ذلك الوقت أو يقدر ما ينبئ عنه صلة إذ والمضي فيها وفي لو باعتبار ان الثابت في علم الله تعالى بمنزلة الواقع وجواب لو محذوف أي لرأيت امرا فظيعا لا يقادر قدره والخطاب لكل أحد ممن يصلح له كائنا من كان إذ المراد بيان كمال سوء حالهم وبلوغها من الفظاعة إلى حيث لا يختص استغرابها واستفظاعها براء دون راء ممن اعتاد مشاهدة الأمور البديعة والدواهي الفظيعة بل كل من يتأتى منه الرؤية يتعجب من هولها وفظاعتها هذا ومن علل عموم الخطاب بالقصد إلى بيان ان حالهم قد بلغت من الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها البتة فلا تختص رؤية راء دون راء بل كل من يتأتي منه الرؤية فله مدخل في هذا الخطاب فقد نأى عن تحقيق الحق لان المقصود بيان كمال فظاعة حالهم كما يفصح عنه الجواب المحذوف لا بيان كمال ظهورها فإنه مسوق مساق المسلمات فتدبر «ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها» مقدر بقول معطوف على ما قدر قبل قوله تعالى ربنا أبصرنا الخ أي ونقول لو شئنا أي لو تعلقت مشيئتنا تعلقا فعليا بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة ما تهتدي به إلى الايمان والعمل الصالح لأعطيناها إياه في الدنيا التي هي دار الكسب وما أخرناه إلى دار الجزاء «ولكن حق القول مني» أي سبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن اتبعك منهم أجمعين وهو المعنى بقوله تعالى «لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين» كما يلوح به تقديم الجنة على الناس فبموجب ذلك القول لم نشأ اعطاء الهدى على العموم بل منعناه من اتباع إبليس الذين أنتم من جملتهم حيث صرفتم اختياركم إلى الغي بإغوائه ومشيئتنا لافعال العباد منوطة باختيارهم إياها فلما لم تختاروا الهدى واخترتم الضلالة لم نشأ اعطاءه لكم وانما أعطيناه الذين اختاروه من النفوس البرة وهم المعنيون بما سيأتي من قوله تعالى انما يؤمن بآياتنا الآية فيكون مناط عدم مشيئة اعطاء الهدى في الحقيقة سوء اختيارهم لا تحقق القول وانما قيدنا المشيئة بما مر من التعليق الفعلي بأفعال العباد عند حدوثها لان المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من افعالهم اجمالا متقدمة على تحقق كلمة العذاب فلا يكون عدمها منوطا بتحققها وانما مناطه علمه تعالى أزلا بصرف
83

اختيارهم فيما سيأتي إلى الغى وإيثارهم له على الهدى فلو أريدت هي من تلك الحيثية لاستدرك بعدمها ونيط ذلك بما ذكر من المناط على منهاج قوله تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم فمن توهم أن المعنى ولو شئنا لأعطينا كل نفس ما عندنا من اللطف الذي لو كان منهم اختياره لاهتدوا ولكن لم نعطهم لما علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره فقد اشتبه عليه الشؤون والفاء في قوله تعالى «فذوقوا» لترتيب الامر بالذوق على ما يعرب عنه ما قبله من نفي الرجع إلى الدنيا أو على الوعيد المحكى والباء في قوله تعالى «بما نسيتم لقاء يومكم هذا» للإيذان بأن تعذيبهم ليس لمجرد سبق الوعيد به فقط بل هو وسبق الوعيد أيضا بسبب موجب له من قبلهم كأنه قيل لا رجع لكم إلى الدنيا أو حتى وعيدي فذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم الهائل وترككم التفكر فيه والاستعداد له بالكلية «إنا نسيناكم» أي تركناكم في العذاب ترك المنسى بالمرة وقوله تعالى «وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون» تكرير للتأكيد والتشديد وتعيين المفعول المطوى للذوق والاشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان بل له أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا وعدم نظم الكل في سلك واحد للتنبيه على استقلال كل منها في استيجاب العذاب وفي إبهام المذوق أولا وبيانه ثانيا بتكرير الامر وتوسيط الاستئناف المنبئ عن كمال السخط بينهما من الدلالة على غاية التشديد في الانتقام منهم ما لا يخفى وقوله تعالى «إنما يؤمن بآياتنا» استئناف مسوق لتقرير عدم استحقاقهم لإيتاء الهدى والاشعار بعدم إيمانهم لو أوتوه بتعيين من يستحقه بطريق القصر كأنه قيل إنكم لا تؤمنون بآياتنا ولا تعملون بموجبها عملا صالحا ولو رجعناكم إلى الدنيا كما تدعون حسبما ينطق به قوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنما يؤمن بها «الذين إذا ذكروا بها» أي وعظوا «خروا سجدا» آثر ذي أثير من غير تردد ولا تلعثم فضلا عن التسويف إلى معاينة ما نطقت به من الوعد والوعيد أي سقطوا على وجوههم «وسبحوا بحمد ربهم» أي
ونزهوه عند ذلك عن كل ما لا يليق به من الأمور التي من جملتها العجز عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه التي اجلها الهداية بإيتاء الآيات والتوفيق للاهتداء بها والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الالتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة التسبيح والتحميد وبأنهم يفعلونهما بملاحظة ربوبيته تعالى لهم «وهم لا يستكبرون» أي والحال انهم خاضعون له تعالى لا يستكبرون عما فعلوا من الخرور والتسبيح والتحميد «تتجافى جنوبهم» أي تنبو وتتنحى «عن المضاجع» أي الفرش ومواضع المنام والجملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم وهم المتهجدون بالليل قال أنس رضي الله عنه نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي
84

العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم وعن انس أيضا رضي الله عنه انه قال نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهي صلاة الأوابين وهو قول أبي حازم ومحمد بن المنكدر وهو مروى عن ابن عباس رضى الله عنهما وقال عطاءهم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة والفجر في جماعة والمشهور ان المراد منه صلاة الليل وهو قول الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي وجماعة لقوله صلى الله عليه وسلم أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها قيام العبد من الليل وعنه صلى الله عليه وسلم إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعا إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس وقوله تعالى «يدعون ربهم» حال من ضمير جنوبهم أي داعين له تعالى على الاستمرار «خوفا» من سخطه وعذابه وعدم قبول عبادته «وطمعا» في رحمته «ومما رزقناهم» من المال «ينفقون» في وجوه البر والحسنات «فلا تعلم نفس» من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عمن عداهم «ما أخفي لهم» أي لأولئك الذين عددت نعوتهم الجليلة «من قرة أعين» مما تقر به أعينهم وعنه صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتم عليه اقرءوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين وقرئ ما أخفى لهم وما نخفى لهم وما أخفيت لهم على صيغة المتكلم وما أخفى لهم على البناء للفاعل وهو الله سبحانه وقرئ قرأت أعين لاختلاف أنواعها والعلم بمعنى المعرفة وما موصولة أو استفهامية علق عنها الفعل «جزاء بما كانوا يعملون» أي جزوا جزاء أو أخفى لهم للجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا من الاعمال الصالحة قيل هؤلاء القوم أخفوا أعمالهم فأخفى الله تعالى ثوابهم «أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا» أي أبعد ظهور ما بينهما من التباين البين يتوهم كون المؤمن الذي حكيت أوصافه الفاضلة كالفاسق الذي ذكرت أحواله «لا يستوون» التصريح به مع إفادة الانكار لنفى المشابهة بالمرة على أبلغ وجه وآكده لبناء التفصيل الآتي عليه والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها وقوله تعالى «أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى» تفصيل لمراتب الفريقين في الآخرة بعد ذكر أحوالهما في الدنيا وأضيفت الجنة إلى المأوى لأنها المأوى الحقيقي وإنما الدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة وقيل المأوى جنة من الجنات وأيا ما كان فلا يبعد أن يكون فيه رمز إلى ما ذكر من تجافيهم عن مضاجعهم
85

التي هي مأواهم في الدنيا «نزلا» أي ثوابا وهو في الأصل ما يعد النازل من الطعام والشراب وانتصابه على الحالية «بما كانوا يعملون» في الدنيا من الاعمال الصالحة أو بأعمالهم «وأما الذين فسقوا» أي خرجوا عن الطاعة «فمأواهم» أي ملجؤهم ومنزلهم «النار» مكان جنات المأوى للمؤمنين «كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها» استئناف لبيان كيفية كون النار مأواهم يروى انه يضربهم لهب النار فيرتفعون إلى طبقاتها حتى إذا قربوا من بابها وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها وهكذا يفعل بهم ابدا وكلمة في للدلالة على أنهم مستقرون فيها وإنما الإعادة من بعض طبقاتها إلى بعض «وقيل لهم» تشديدا عليهم وزيادة في غيظهم «ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به» أي بعذاب النار «تكذبون» على الاستمرار في الدنيا «ولنذيقنهم من العذاب الأدنى» أي عذاب الدنيا وهو ما محنوا به من السنة سبع سنين والقتل والأسر «دون العذاب الأكبر» الذي هو عذاب الآخرة «لعلهم» لعل الذين يشاهدونه وهم في الحياة «يرجعون» يتوبون عن الكفر روى أن الوليد بن عقبة فاخر عليا رضى الله عنه يوم بدر فنزلت هذه الآيات «ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها» بيان إجمالى لحال من قابل آيات الله تعالى بالإعراض بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد وكلمة ثم لاستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادة الدارين كما في بيت الحماسة ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها أي هو اظلم من كل ظالم وإن كان سبك التركيب على نفى الأظلم من غير تعرض لنفى المساوى وقد مر مرارا «إنا من المجرمين» أي من كل من اتصف بالإجرام وإن هانت جريمته «منتقمون» فكيف ممن هو أظلم من كل ظالم وأشر جرما من كل مجرم «ولقد آتينا موسى الكتاب» أي التوراة عبر عنها باسم الجنس لتحقيق المجانسة بينها وبين الفرقان والتنبيه أن إيتاءه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كإيتائها لموسى عليه السلام «فلا تكن في مرية من لقائه» من لقاء الكتاب الذي هو الفرقان كقوله وإنك لتلقى القرآن والمعنى إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ولقيناه من الوحي مثل ما لقيناك من الوحي فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ونظيره وقيل من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى وعنه صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة اسرى بي موسى رجلا آدم طوالا وجعدا كأنه من رجال شنوأة «وجعلناه» أي
86

الكتاب الذي آتيناه موسى «هدى لبني إسرائيل» قيل لم يتعبد بما في التوراة ولد إسماعيل «وجعلنا منهم أئمة يهدون» بقيتهم بما في تضاعيف الكتاب من الحكم والاحكام إلى طريق الحق أو يهدونهم إلى ما فيه من دين الله وشرائعه «بأمرنا» إياهم بذلك أو بتوفيقنا له «لما صبروا» هي لما التي فيها معنى الجزاء نحو أحسنت إليك لما جئتني والضمير للأئمة تقديره لما صبروا جعلناهم أئمة أو هي ظرف بمعنى الحين أي جعلناهم أئمة حين صبروا والمراد صبرهم على مشاق الطاعات ومقاسات الشدائد في نصرة الدين أو صبرهم عن الدنيا وقرئ لما صبروا أي لصبرهم «وكانوا بآياتنا» التي في تضاعيف الكتاب «يوقنون» لإمعانهم فيها النظر والمعنى كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه هدى لأمتك ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية «إن ربك هو يفصل» أي يقضى «بينهم» قيل بين الأنبياء وأممهم وقيل بين المؤمنين والمشركين «
يوم القيامة» فيميز بين المحق والمباطل «فيما كانوا فيه يختلفون» من أمور الدين «أولم يهد لهم» الهمزة للإنكار والواو للعطف على منوى يقتضيه المقام وفعل الهداية إما من قبيل فلان يعطى في أن المراد إيقاع نفس الفعل بلا ملاحظة المفعول وإما بمعنى التبيين والمفعول محذوف والفاعل ما دل عليه قوله تعالى «كم أهلكنا» أي أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم أو ولم يبين لهم مآل أمرهم كثرة إهلاكنا «من قبلهم من القرون» مثل عاد وثمود وقوم لوط وقرئ نهد لهم بنون العظمة وقد جوز أن يكون الفاعل على القراءة الأولى أيضا ضميره تعالى فيكون قوله تعالى كم أهلكنا الخ استئنافا مبينا لكيفية هدايته تعالى «يمشون في مساكنهم» أي يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم ويشاهدون آثار هلاكهم والجملة حال من ضمير لهم وقرئ يمشون للتكثير «إن في ذلك» أي فيما ذكر من كثرة إهلاكنا للأمم الخالية العاتية أو في مساكنهم «لآيات» عظيمة في أنفسها كثيرة في عددها «أفلا يسمعون» هذه الآيات سماع تدبر واتعاظ «أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز» أي التي جرز نباتها أي قطع وأزيل بالمرة وقيل هو اسم موضع باليمن «فنخرج به» من تلك الأرض «زرعا تأكل» أي من ذلك الزرع «أنعامهم» كالتبن والقصيل والورق وبعض الحبوب المخصوصة بها وقرئ يأكل بالياء «وأنفسهم» كالحبوب التي يقتاتها الإنسان والثمار «أفلا يبصرون»
87

أي الا ينظرون فلا يبصرون ذلك ليستدلوا به على كمال قدرته تعالى وفضله «ويقولون» كان المسلمون يقولون الله سيفتح لنا على المشركين أو يفصل بيننا وبينهم وكان أهل مكة إذا سمعوه يقولون بطريق الاستعجال تكذيبا واستهزاء «متى هذا الفتح» أي النصر أو الفصل بالحكومة «إن كنتم صادقين» في أن الله تعالى ينصركم أو يفصل بيننا وبينكم «قل» تبكيتا لهم وتحقيقا للحق «يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون» يوم الفتح يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ويوم نصرهم عليهم وقيل هو يوم بدر وعن مجاهد والحسن يوم فتح مكة والعدول عن تطبيق الجواب على ظاهر سؤالهم للتنبيه على أنه ليس مما ينبغي ان يسأل عنه لكونه امرا بينا غنيا عن الاخبار به وكذا إيمانهم واستنظارهم يومئذ وإنما المحتاج إلى البيان عدم نفع ذلك الايمان وعدم الانظار كأنه قيل لا تستعجلوا فكأني بكم قد آمنتم فلم ينفعكم واستنظرتم فلم تنظروا وهذا على الوجه الأول ظاهر وأما على الأخيرين فالموصول عبارة عن المقتولين يؤمئذ لا عن كافة الكفرة كما في الوجه الأول كيف لا وقد نفع الايمان الطلقاء يوم الفتح وناسا آمنوا يوم بدر «فأعرض عنهم» ولا تبال بتكذيبهم «وانتظر» النصرة عليهم وهلاكهم «إنهم منتظرون» قيل أي الغلبة عليكم كقوله تعالى فتربصوا إنا معكم متربصون والأظهر أن يقال إنهم منتظرون هلاكهم كما في قوله تعالى «هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام» الآية ويقرب منه ما قيل «وانتظر» عذابنا «إنهم منتظرون» فإن استعجالهم المذكور وعكوفهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي في حكم انتظارهم العذاب المترتب عليه لا محالة وقرئ على صيغة المفعول على معنى أنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم أو فإن الملائكة ينتظرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ ألم تنزيل وتبارك الذي بيده الملك أعطى من الاجر كأنما أحيا ليلة القدر وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ ألم تنزيل في بيته لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام
88

«بسم الله الرحمن الرحيم» «يا أيها النبي اتق الله» في ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوان النبوة تنويه بشأنه وتنبيه على سمو مكانه والمراد بالتقوى المأمور به الثبات عليه والازدياد منه فإن له بابا واسعا وعرضا عريضا لا ينال مداه «ولا تطع الكافرين» أي المجاهرين بالكفر «والمنافقين» المضمرين له أي فيما يعود بوهن في الدين وإعطاء دنية فيما بين المسلمين روى أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمى قدموا عليه صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم وقام معهم عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تشفع وتنفع وندعك وربك فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهموا بقلتهم فنزلت أي اتق الله في نقض العهد ونبذ الموادعة ولا تساعد الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك «إن الله كان عليما» حكيما مبالغا في العلم والحكمة فيعلم جميع الأشياء من المصالح والمفاسد فلا يأمرك الا بما فيه مصلحة ولا ينهاك الا عما فيه مفسدة ولا يحكم الا بما تقتضيه الحكمة البالغة فالجملة تعليل للامر والنهي مؤكد لوجوب الامتثال بهما «واتبع» أي في كل ما تأتي وتذر من أمور الدين «ما يوحى إليك من ربك» من الآيات التي من جملتها هذه الآية الآمرة بتقوى الله الناهية عن مساعدة الكفرة والمنافقين والتعرض لعنوان الربوبية لتأكيد وجوب الامتثال بالامر «إن الله كان بما تعملون خبيرا» قيل الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والجمع للتعظيم وقيل له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين وقيل للغائبين بطريق الالتفات ولا يخفى بعده نعم يجوز ان يكون للكل على ضرب من التغليب وأيا ما كان فالجملة تعليل للامر وتأكيد لموجبه اما على الوجهين الأولين فبطريق الترغيب والترهيب كأنه قبل ان الله خبير بما تعملونه من الامتثال وتركه فيرتب على كل منهما جزاءه ثوابا وعقابا واما على الوجه الأخير فبطريق الترغيب فقط كأنه قيل ان الله خبير بما يعمله كلا الفريقين فيرشدك إلى ما فيه صلاح حالك وانتظام امرك ويطلعك على ما يعملونه من المكايد والمفاسد ويأمرك بما ينبغي لك ان تعمله في دفعها وردها فلا بد من اتباع الوحي والعمل بمقتضاه حتما
89

«وتوكل على الله» أي فوض جميع أمورك إليه «وكفى بالله وكيلا» حافظا موكولا إليه كل الأمور «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» شروع في إلقاء الوحي الذي أمر صلى الله عليه وسلم باتباعه وهذا مثل ضربه الله تعالى تمهيدا لما يعقبه من قوله تعالى «وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم» وتنبيها على أن كون المظاهر منها اما وكون الدعي ابنا أي بمنزلة الام والابن في الآثار والاحكام المعهودة فيما بينهم في الاستحالة بمنزلة اجتماع قلبين في جوف واحد وقيل هو رد لما كانت العرب تزعم من أن اللبيب الأريب له قلبان ولذلك لأبي معمر أو لجميل بن سيد الفهري ذو القلبين أي ما جمع الله تعالى قلبين في رجل وذكر الجوف لزيادة التقرير كما في قوله تعالى ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ولا زوجية ولا أمومة في امرأة ولا دعوة وبنوة في شخص لكن لا بمعنى نفى الجمع بين حقيقة الزوجية والأمومة ونفى بين حقيقة الدعوة والنبوة كما في القلب ولا بمعنى نفى الجمع بين أحكام الزوجية وأحكام الأمومة ونفى الجمع بين أحكام الدعوة وأحكام النبوة على الاطلاق بل بمعنى نفى الجمع بين حقيقة الزوجية واحكام الأمومة ونفى الجمع بين حقيقة الدعوة واحكام النبوة لإبطال ما كانوا عليه من إجراء أحكام
الأمومة على المظاهر منها وإجراء احكام النبوة على الدعي ومعنى الظهار ان يقول لزوجته أنت على كظهر أمي مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ كالتلبية من لبيك وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقا في الجاهلية وهو في الاسلام يقتضى الطلاق أو الحرمة إلى أداء الكفارة كما عدى آلى بها وهو بمعنى حلف وذكر الظهار للكناية عن البطن الذي هو عموده فإن ذكره قريب من ذكر الفرج أو التغليظ في التحريم فإنهم كانوا يحرمون إتيان الزوجة وظهرها إلى السماء وقرئ اللاء وقرئ تظاهرون بحذف إحدى التاءين من تتظاهرون وتظاهرون بإدغام التاء الثانية في الظاء وتظهرون من اظهر بمعنى تظهر وتظهرون من ظهر بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد وتظهرون من ظهر ظهورا وأدعياء جمع دعى وهو الذي يدعى ولدا على الشذوذ لاختصاص أفعلاء بفعيل بمعنى فاعل كتقى وأتقياء كأنه شبه به في اللفظ فجمع جمعه كقتلاء وأسراء «ذلكم» إشارة إلى ما يفهم مما ذكر من الظهار والدعاء أو إلى الأخير الذي هو المقصود من مساق الكلام أي دعاءكم بقولكم هذا ابني «قولكم بأفواهكم» فقط من غير أن يكون له مصداق وحقيقة في الأعيان فإذن هو بمعزل من استتباع أحكام البنوة كما زعمتم «والله يقول الحق» المطابق للواقع «وهو يهدي السبيل» أي سبيل الحق لا غير فدعوا أقوالكم وخذوا بقوله عز وجل «ادعوهم لآبائهم» أي انسبوهم
90

إليهم وخصوهم بهم وقوله تعالى «هو أقسط عند الله» تعليل له والضمير لمصدر ادعوا كما في قوله تعالى أعدلوا هو أقرب للتقوى وأقسط أفعل قصد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل أي الدعاء لآبائهم بالغ في العدل والصدق في حكم الله تعالى وقضائه «فإن لم تعلموا آباءهم» فتنسبوهم إليهم «فإخوانكم» فهم إخوانكم «في الدين ومواليكم» وأولياؤكم فيه أي فادعوهم بالاخوة الدينية والمولوية «وليس عليكم جناح» أي إثم «فيما أخطأتم به» أي فيما فعلتموه من ذلك مخطئين بالسهو أو النسيان أو سبق اللسان «ولكن ما تعمدت قلوبكم» أي ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم بعد النهى أو ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح «وكان الله غفورا رحيما» لعفوه عن المخطئ وحكم التبني بقوله هو ابني إذا كان عبدا للقائل العتق على كل حال ولا يثبت نسبه منه إلا إذا كان مجهول النسب وكان بحيث يولد مثله لمثل المتبنى ولم يقر قبله بنسبه من غيره «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» أي في كل امر من أمور الدين والدنيا كما يشهد به الإطلاق فيجب عليه ان يكون صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من أنفسهم وحكمه انفذ عليهم من حكمها وحقة اثر لديهم من حقوقها وشفقتهم عليه اقدم من شفقتهم عليها روى انه صلى الله عليه وسلم أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال ناس نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت وقرئ وهو أب لهم أي في الدين فإن كل نبي أب لامته من حيث إنه أصل فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون أخوة «وأزواجه أمهاتهم» أي منزلات منزلة الأمهات في التحريم واستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك فهن كالأجنبيات ولذلك قالت عائشة رضى الله عنها لسنا أمهات النساء «وأولو الأرحام» أي ذو القرابات «بعضهم أولى ببعض» في التوارث وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين «في كتاب الله» في اللوح أو فيما أنزله وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيما فرض الله تعالى «من المؤمنين والمهاجرين» بيان لأولى الأرحام أو صلة لأولى أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة «إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا» استثناء من أعم ما تقدر الأولوية فيه من النفع والمراد بفعل المعروف التوصية أو منقطع «كان ذلك في الكتاب مسطورا» أي كان ما ذكر من الآيتين ثابتا في اللوح أو القرآن وقيل في التوراة «وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم» أي اذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين الحق «ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم» وتخصيصهم بالذكر مع
91

اندارجهم في النبيين اندارجا بينا للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع وأساطين أولى العزم من الرسال وتقديم نبينا عليهم عليهم الصلاة والسلام لإبانة خطره الجليل «وأخذنا منهم ميثاقا غليظا» أي عهدا عظيم الشأن أو مؤكدا باليمين وهذا هو الميثاق الأول بعينه واخذه هو اخذه والعطف مبني على تنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي تفخيما لشأنه كما في قوله تعالى ونجيناهم من عذاب غليظ اثر قوله تعالى فلما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا وقوله تعالى «ليسأل الصادقين عن صدقهم» متعلق بمضمر مستأنف مسوق لبيان ما هو داع إلى ما ذكر من اخذ الميثاق وغاية له لا بأخذنا فإن المقصود تذكير نفس الميثاق ثم بيان الغرض منه بيانا قصديا كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى الغيبة أي فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء ووضع الصادقين موضع ضميرهم للايذان من أول الامر بأنهم صادقون فيما سئلوا عنه وانما السؤال لحكمة تقتضيه أي ليسأل الأنبياء الذين صدقوا عهدهم عما قالوه لقومهم أو عن تصديقهم إياهم تبكيتا لهم كما في قوله تعالى يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم أو المصدقين لهم عن تصديقهم فإن مصدق الصادق صادق وتصديقه صدق واما ما قيل من ان المعنى ليسأل المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم فيأباه مقام تذكير ميثاق النبيين وقوله تعالى «وأعد للكافرين عذابا أليما» عطف ما ذكر من المضمر لا على أخذنا كما قيل والتوجيه بأن بعثة الرسل واخذ الميثاق منهم لإثابة المؤمنين أو بأن المعنى ان الله تعالى اكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين تعسف ظاهر انه مفض إلى كون بيان اعداد العذاب الأليم للكافرين غير مقصود بالذات نعم يجوز عطفه على ما دل عليه قوله تعالى ليسأل الصادقين كأنه قيل فأثاب المؤمنين واعد للكافرين الآية «يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم» ان جعل النعمة مصدرا فالجار متعلق بها والا فهو متعلق بمحذوف هو حال منها أي كائنة عليكم «إذ جاءتكم جنود» ظرف لنفس النعمة أو لثبوتها لهم وقيل منصوب باذكروا على انه بدل اشتمال من نعمة الله والمراد بالجنود الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير وكانوا زهاء اثنى عشر ألفا فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة بإشارة سلمان الفارسي ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم وامر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام واشتد الخوف وظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق في المنافقين حتى قال معتب بن قشير كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر ان نذهب إلى الغائط ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم الا ان فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب قد ركبوا
92

خيولهم وتيمموا من الخندق مكانا مضيقا فضربوا خيولهم فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع فخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين
حتى اخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها فأقبلت الفرسان نحوهم وكان عمرو معلما ليرى مكانه فقال له علي رضي الله عنه يا عمر واني أدعوك إلى الله ورسوله والاسلام قال لا حاجة لي اليه فإني أدعوك إلى النزال قال يا ابن أخي والله لا أحب ان أقتلك قال على لكني والله أحب ان أقتلك فحمى عمرو عند ذلك وكان غيورا مشهورا بالشجاعة واقتحم عن فرسه فعقره أو ضرب وجهه ثم اقبل على علي فتناولا وتجاولا فضربه علي رضي الله عنه ضربة ذهبت فيها نفسه فلما قتله انهزمت خيله حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو رجلين منبه بن عثمان ابن عبد الدار ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي قتله أيضا علي رضي الله عنه وقيل لم يكن بينهم الا الترامي بالنبل والحجارة حتى انزل الله تعالى النصر وذلك قوله تعالى «فأرسلنا عليهم ريحا» عطف على جاءتكم مسوق لبيان النعمة اجمالا وسيأتي بقيتها في آخر القصة «وجنودا لم تروها» وهم الملائكة عليهم السلام وكانوا ألفا بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وامر الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت الاطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم فقال طليحة بن خويلد الأسدي اما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا من غير قتال «وكان الله بما تعملون» من حفر الخندق وترتيب مبادي الحرب وقيل من التجائكم اليه ورجائكم من فضله وقرئ بالياء أي بما يعمله الكفار أي من التحرز والمحاربة أو من الكفر والمعاصي «بصيرا» ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم والجملة اعتراض مقرر لما قبله «إذ جاؤوكم» بدل من إذ جاءتكم «من فوقكم» من أعلى الوادي من جهة المشرق وهم بنو غطفان ومن تابعهم من أهل نجد قائدهم عيينة بن حصن وعامر بن الطفيل في هوازن وضامتهم اليهود من قريظة والنضير «ومن أسفل منكم» أي من أسفل الوادي من قبل المغرب وهم قريش ومن شايعهم من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان وكانوا عشرة آلاف «وإذ زاغت الأبصار» عطف على ما قبله داخل معه في حكم التذكير أي حين مالت عن سننها وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصا وقيل عدلت عن كل شيء فلم تلتفت الا إلى عدوها لشدة الروع «وبلغت القلوب الحناجر» لان الرئة تنتفخ من شدة الفزع فيرتفع القلب بارتفاعها إلى راس الحنجرة وهي منتهى الحلقوم وقيل هو مثل في اضطراب القلوب ووجيبها وان لم تبلغ الحناجر حقيقة والخطاب في قوله تعالى «وتظنون بالله الظنونا» لمن يظهر الايمان على الاطلاق أي تظنون بالله تعالى أنواع الظنون المختلفة حيث ظن المخلصون الثبت القلوب ان الله تعالى ينجز وعده في اعلاء دينه كما يعرب عنه ما سيحكي عنهم من قولهم هذا ما وعدنا
93

الله ورسوله وصدق الله ورسوله الآية أو يمتحنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال والضعاف القلوب والمنافقون ما حكى عنهم مما لا خير فيه والجملة معطوفة على زاغت وصيغة المضارع لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار وقرئ الظنون بغير الف وهو القياس وزيادتها لمراعاة الفواصل كما تزاد في القوافي «هنالك» ظرف زمان أو ظرف مكان لما بعده أي في ذلك الزمان الهائل أو المكان الدحض «ابتلي المؤمنون» أي عوملوا معاملة من يختبر فظهر المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزل «وزلزلوا زلزالا شديدا» من الهول والفزع وقرئ بفتح الزاي «وإذ يقول المنافقون» عطف على إذ زاغت وصيغة المضارع لما مر من الدلالة على استمرار القول واستحضار صورته «والذين في قلوبهم مرض» أي ضعف اعتقاد «ما وعدنا الله ورسوله» من إعلاء الدين والظفر «إلا غرورا» أي وعد غرور وقيل قولا باطلا والقائل معتب بن قشير واضرابه راضون به قال يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر واحدنا لا يقدر ان يتبرز فرقا ما هذا الا وعد غرور «وإذ قالت طائفة منهم» هم أوس بن قيظي واتباعه وقيل عبد الله بن أبي وأشياعه «يا أهل يثرب» هو اسم المدينة المطهرة وقيل اسم بقعة وقعت المدينة في ناحية منها وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم ان تسمى بها كراهة لها وقال هي طيبة أو طابة كأنهم ذكروها بذلك الاسم مخالفة له صلى الله عليه وسلم ونداؤهم إياهم بعنوان أهليتهم لها ترشيح لما بعده من الامر بالرجوع إليها «لا مقام لكم» لا موضع إقامة لكم أو لا إقامة لكم ههنا يريدون المعسكر وقرئ بفتح الميم أي لا قيام أولا موضع قيام لكم «فارجعوا» أي إلى منازلكم بالمدينة مرادهم الامر بالفرار لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجا لمقالهم وايذانا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم وقيل المعنى لا قيام لكم في دين محمد صلى الله عليه وسلم فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك أو فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه إلى أعدائه أولا مقام لكم في يثرب فارجعوا كفارا ليتسنى لكم المقام بها والأول هو الأنسب لما بعده فإن قوله تعالى «ويستأذن فريق منهم النبي» معطوف على قالت وصيغة المضارع لما مر من استحضار الصورة وهم بنو حارثة وبنو سلمة استأذنوه صلى الله عليه وسلم في الرجوع ممتثلين بأمرهم وقوله تعالى «يقولون» بدل من يستأذن أو حال من فاعله أو استئناف مبنى على السؤال عن كيفية الاستئذان «إن بيوتنا عورة» أي غير حصينة معرضة للعدو والسراق فأذن لنا حتى نحصنها ثم نرجع إلى العسكر والعورة في الأصل الخلل أطلقت على المختل مبالغة وقد جوز أن تكون تخفيف عورة من عورة الدار إذا اختلت وقد قرئ بها والأول هو الأنسب بمقام الاعتذار كما يفصح عنه تصدير مقالهم بحرف التحقيق «وما هي بعورة» والحال أنها ليست كذلك
94

«إن يريدون» ما يريدون بالاستئذان «إلا فرارا» من القتال «ولو دخلت عليهم» أسند لدخول إلى بيوتهم وأوقع عليهم لما ان المراد فرض وهم فيها الا فرض دخولها مطلقا كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور ولا فرض الدخول عليهم مطلقا كما هو المفهوم لو أسند إلى الجار والمجرور «من أقطارها» أي من جميع جوانبها لا من بعضها دون بعض فالمعنى لو كانت بيوتهم مختلة بالكلية ودخلها كل من أراد من أهل الدعارة والفساد «ثم سئلوا» من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة والرجفة الهائلة «الفتنة» أي الردة والرجعة إلى الكفر مكان ما سئلوا الان من الايمان والطاعة «لآتوها» لأعطوها غير مبالين بما دهاهم من الداهية الدهياء والغارة الشعواء وقرئ لاتوها بالقصر أي لفعلوها وجاءوها «وما تلبثوا بها» بالفتنة أي ما ألبثوها وما أخروها «إلا يسيرا» ريثما يسع السؤال والجواب من الزمان فضلا عن التعلل باختلال البيوت مع سلامتها كما فعلوا الان وقيل ما لبثوا بالمدينة بعد الارتداد الا يسيرا والأول هو اللائق بالمقام هذا واما تخصيص فرض الدخول بتلك العساكر المتحزبة فمع منافاته للعموم المستفاد من تجريد الدخول عن الفاعل ففيه ضرب من فساد الوضع لما عرفت من ان مساق النظم الكريم لبيان انهم إذا دعوا إلى الحق تعللوا بشيء
يسير وان دعوا إلى الباطل سارعوا اليه اثر ذي أثير من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم ففرض الدخول عليهم من جهة العساكر المذكورة واسناد سؤال الفتنة والدعوة إلى الكفر إلى طائفة أخرى مع ان العساكر هم المعروفون بعداوة الدين المباشرون لقتال المؤمنين المصرون على الاعراض عن الحق المجدون في الدعاء إلى الكفر والضلال بمعزل من التقريب «ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار» فإن بني حارثة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين فشلوا ان لا يعودوا لمثله وقيل هم قوم غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما اعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة فقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن «وكان عهد الله مسؤولا» مطلوبا مقتضى حتى يوفي به وقيل مسؤولا عن الوفاء به ومجازي عليه «قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل» فإنه لا بد لكل شخص من حتف انف أو قتل سيف في وقت معين سبق به القضاء وجرى عليه القلم «وإذا لا تمتعون إلا قليلا» أي وان نفعكم الفرار مثلا فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع الا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا «قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة»
95

أي أو يصيبكم بسوء ان أراد بكم رحمة فاختصر الكلام أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع «ولا يجدون لهم من دون الله وليا» ينفعهم «ولا نصيرا» يدفع عنهم الضرر «قد يعلم الله المعوقين منكم» أي المثبطين للناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون «والقائلين لإخوانهم» من منافقي المدينة «هلم إلينا» وهو صوت سمي به فعل متعد نحوا أحضر أو قرب ويستوي فيه الواحد والجماعة على لغة أهل الحجاز واما بنو تميم فيقولون هلم يا رجل وهلموا يا رجال أي قربوا أنفسكم الينا وهذا يدل على انهم عند هذا القول خارجون من المعسكر متوجهون نحو المدينة «ولا يأتون البأس» أي الحراب والقتال «إلا قليلا» أي اتيانا أو زمانا أو بأسا قليلا فإنهم يعتذرون ويثبطون ما أمكن لهم ويخرجون مع المؤمنين يوهمونهم انهم معهم ولا تراهم يبارزون ويقاتلون الا شيئا قليلا إذا اضطروا اليه كقوله تعالى ما قاتلوا الا قليلا وقيل انه من تتمة كلامهم معناه ولا يأتي أصحاب محمد حرب الأحزاب ولا يقاومونهم الا قليلا «أشحة عليكم» أي بخلاء عليكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله أو الظفر والغنيمة جمع شحيح ونصبه على الحالية من فاعل يأنون أو من المعوقين أو على الذم «فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم» في أحداقهم «كالذي يغشى عليه من الموت» صفة لمصدر ينظرون أو حال من فاعله أو لمصدر تدور أو حال من أعينهم أي ينظرون نظرا كائنا كنظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخورا ولو إذا بك أو ينظرون كائنين كالذي الخ أو تدور أعينهم دورانا كائنا كدوران عينه أو تدور أعينهم كائنة كعينه «فإذا ذهب الخوف» وحيزت الغنائم «سلقوكم» ضربوكم «بألسنة حداد» وقالوا وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبمكاننا غلبتم عدوكم وبنا نصرتم عليه والسلق البسط بقهر باليد أو باللسان وقرئ صلقوكم «أشحة على الخير» نصب على الحالية أو الذم ويؤيده القراءة بالرفع «أولئك» الموصوفون بما ذكر من صفات السوء «لم يؤمنوا» بالاخلاص «فأحبط الله أعمالهم» أي اظهر بطلانها إذ لم يثبت لهم اعمال فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعا لمنفعة دنيوية أصلا «وكان ذلك» الاحباط «على الله يسيرا» هينا وتخصيص يسره بالذكر مع ان كل شيء عليه تعالى يسير لبيان ان اعمالهم حقيقة بأن يظهر حبوطها لكمال تعاضد الدواعي وعدم الصوارف بالكلية «يحسبون الأحزاب لم يذهبوا» أي هؤلاء
96

لجبنهم يظنون ان الأحزاب لم ينهزموا ففروا إلى داخل المدينة «وإن يأت الأحزاب» كرة ثانية «يودوا لو أنهم بأدون في الأعراب» تمنوا أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الاعراب وقرئ بدي جمع باد كغاز وغزى «يسألون» كل قادم من جانب المدينة وقرئ يساءلون أي يتساءلون ومعناه يقول بعضهم لبعض ماذا سمعت ماذا بلغك أو يتساءلون الأعراب كما يقال رأيت الهلال وتراءيناه فإن صيغة التفاعل قد تجرد عن معنى كون ما أسندت إليه فاعلا من وجه ومفعولا من وجه ويكتفى بتعدد الفاعل كما في المثال المذكورة ونظائره «عن أنبائكم» عما جرى عليكم «ولو كانوا فيكم» هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال «ما قاتلوا إلا قليلا» رياء وخوفا من التعيير «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» خصلة حسنة حقها أن يؤتسى بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد أو هو في نفسه قدوة يحق التأسي به كقولك في البيضة عشرون منا حديدا أي هي في نفسها هذا القدر من الحديد وقرئ بكسر الهمزة وهي لغة فيها «لمن كان يرجو الله واليوم الآخر» أي ثواب الله أو لقاءه أو أيام الله واليوم الاخر خصوصا وقيل هو مثل قولك أرجو زيدا وفضله فإن اليوم الاخر من أيام الله تعالى ولمن كان صلة لحسنة أو صفة لها وقيل بدل من لكم والأكثرون على أن ضمير المخاطب لا يبدل منه «وذكر الله» أي وقرن بالرجاء ذكر الله «كثيرا» أي ذكرا كثيرا أو زمانا كثيرا فإن المثابرة على ذكره تعالى تؤدي إلى ملازمة الطاعة وبها يتحقق الائتساء برسول الله صلى الله عليه وسلم «ولما رأى المؤمنون الأحزاب» بيان لما صدر عن خلص المؤمنين عند اشتباه الشؤون واختلاف الظنون بعد حكاية ما صدر عن غيرهم أي لما شاهدوهم حسبما وصفوا لهم «قالوا هذا» مشيرين إلى ما شاهدوه من حيث هو من غير أن يخطر ببالهم لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ كما مر في قوله تعالى فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى وجعله إشارة إلى الخطب أو البلاء من نتائج النظر الجليل فتدبر نعم يجوز التذكير باعتبار الخبر بالذي هو «ما وعدنا الله ورسوله» فإن ذلك العنوان أول ما يخطر ببالهم عند المشاهدة ومرادهم بذلك ما وعدوه بقوله تعالى أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء إلى قوله تعالى ألا إن نصر الله قريب وقوله وقوله صلى الله عليه وسلم سيشتد الامر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم وقوله صلى الله عليه وسلم إن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع ليال أو عشر وقرئ بكسر الراء وفتح الهمزة «وصدق الله ورسوله» أي ظهر صدق خبر الله تعالى ورسوله أو صدقا في النصرة والثواب كما صدقا في البلاء وإظهار الاسم للتعظيم «وما زادهم» أي ما رأوه «إلا إيمانا» بالله تعالى وبمواعيده
97

«وتسليما» لأوامره ومقاديره «من المؤمنين» أي المؤمنين بالإخلاص مطلقا لا الذين حكيت محاسنهم خاصة «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» من الثبات مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمقاتلة لأعداء الدين وهم رجال من الصحابة رضى الله عنهم نذروا انهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى
يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وحمزة ومصعب ابن عمير وانس بن النضر وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومعنى صدقوا أتوا بالصدق من صدقني إذا قال لك الصدق ومحل ما عاهدوا النصب إما بطرح الخافض عنه وإيصال الفعل إليه كما في قولهم صدقني سن بكره أي في سنة وإما يجعل المعاهد عليه مصدوقا على المجاز كأنهم خاطبوه خطاب من قال لكرمائه
[نحرتنى الأعداء إن لم تنحرى] وقالوا له سنفى بك وحيث وفوا به فقد صدقوه ولو كانوا نكثوه لكذبوه ولكان مكذوبا «فمنهم من قضى نحبه» تفصيل لحال الصادقين وتقسيم إلى قسمين والحب النذر وهو أن يلتزم الانسان شيئا من أعماله ويوجبه على نفسه وقضاؤه الفراغ منه والوفاء به ومحل الجار والمجرور الرفع على الابتداء على أحد الوجهين المذكورين في قوله تعالى «ومن الناس من يقول آمنا بالله» الآية أي فبعضهم أو فبعض منهم من خرج عن العهدة كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر عم أنس ابن مالك وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فإنهم قد قضوا نذورهم سواء كان النذر على حقيقته بأن يكون ما نذروه افعالهم الاختيارية التي هي المقاتلة المغياة بما ليس منها ولا يدخل تحت النذر وهو الموت شهيدا أو كان مستعارا لالتزامه على ما سيأتي «ومنهم» أي وبعضهم أو وبعض منهم «من ينتظر» أي قضاء نحبه لكونه موقتا كعثمان وطلحة وغيرهما ممن استشهد بعد ذلك رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فإنهم مستمرون على نذورهم قد قضوا بعضها وهو الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقتال إلى حين نزول الآية الكريمة ومنتظرون لقضاء بعضها الباقي وهو القتال إلى الموت شهيدا هذا ويجوز ان يكون النحب مستعارا لالتزام الموت شهيدا إما بتنزيل أسبابه التي هي أفعال اختيارية للناذر منزلة الالتزام نفسه وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه وإيراد الالتزام عليه وهو الأنسب بمقام المدح وأياما كان في وصفهم بالانتظار المنبئ عن الرغبة في المنتظر شهادة حقة بكمال اشتياقهم إلى الشهادة وأما ما قيل من أن النحب استعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان فمسخ للاستعارة وذهاب برونقها وإخراج للنظم الكريم عن مقتضى المقام بالكلية «وما بدلوا» عطف على صدقوا وفاعله فاعله أي وما بدلوا عهدهم وما غيروه «تبديلا» أي تبديلا ما لا أصلا ولا وصفا بل ثبتوا عليه راغبين فيه مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون أما الذين قضوا فظاهر وأما الباقون فيشهد به انتظارهم أصدق شهادة وتعميم عدم التبديل للفريق الأول مع ظهور حالهم للإيذان بمساواة الفريق الثاني لهم في الحكم
98

ويجوز أن يكون ضمير بدلوا للمنتظرين خاصة بناء على ان المحتاج إلى البيان حالهم وقد روى أن طلحة رضى الله عنه ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى أصيبت يده فقال صلى الله عليه وسلم أوجب طلحة الجنة وفي رواية أوجب طلحة وعنه صلى الله عليه وسلم في رواية جابر رضى الله عنه من سره ان ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله وفي رواية عائشة رضى الله عنها من سره أن ينظر إلى شهيد يمشى على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة وهذا يشير إلى انه من الأولين حكما «ليجزي الله الصادقين بصدقهم» متعلق بمضمر مستأنف مسوق بطريق الفذلكة لبيان ما هو داع إلى وقوع ما حكى من الأحوال والأقوال على التفصيل وغاية له كما مر في قوله تعالى ليسأل الصادقين عن صدقهم كأنه قيل وقع جميع ما وقع ليجزى الله الصادقين بما صدر عنهم من الصدق والوفاء قولا وفعلا «ويعذب المنافقين» بما صدر عنهم من الاعمال والأقوال المحكية «إن شاء» تعذيبهم «أو يتوب عليهم» إن تابوا وقيل متعلق بما قبله من نفي التبديل المنطوق وإثباته المعرض به كأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء كما قصد المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى وقيل تعليل لصدقوا وقيل لما يفهم من قوله تعالى وما زادهم إلا إيمانا وتسليما وقيل لما يستفاد من قوله تعالى ولما رأى المؤمنون الأحزاب كأنه قيل ابتلاهم الله تعالى برؤية ذلك الخطيب ليجزي الآية فتأمل وبالله التوفيق «إن الله كان غفورا رحيما» أي لمن تاب وهو اعتراض فيه بعث إلى التوبة وقوله تعالى «ورد الله الذين كفروا» رجوع إلى حكاية بقية القصة وتفصيل تتمة النعمة المشار إليها اجمالا بقوله تعالى فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها معطوف إما على المضمر المقدر قبل قوله تعالى ليجزى الله كأنه قيل إثر حكاية الأمور المذكورة وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الخ وإما على أرسلنا وقد وسط بينهما بيان كون ما نزل بهم واقعة طامة تحيرت بها العقول والافهام وداهية تامة تحاكت منها الركب وزلت الاقدام وتفصيل ما صدر عن فريقي أهل الايمان وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال لإظهار عظم النعمة إبانه خطرها الجليل ببيان وصولها إليهم عند غاية احتياجهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك الذين كفروا والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة وقوله تعالى «بغيظهم» حال من الموصول أي ملتبسين به وكذا قوله تعالى «لم ينالوا خيرا» بتداخل أو تعاقب أي غير ظافرين بخير أو الثانية بيان للأولى أو استئناف «وكفى الله المؤمنين القتال» بما ذكر من إرسال الريح والجنود «وكان الله قويا» على إحداث كل ما يريد «عزيزا»
99

غالبا على كل شئ «وأنزل الذين ظاهروهم» أي عاونوا الأحزاب المردودة «من أهل الكتاب» وهم بنو قريظة «من صياصيهم» من حصونهم جميع صيصية وهي ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبى وشوكة الديك «وقذف في قلوبهم الرعب» الخوف الشديد بحيث اسلموا أنفسهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى «فريقا تقتلون وتأسرون فريقا» من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلا عن المخالفة والاستعصاء روى أن جبريل عليه السلام أتى رسول صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا السلاح فقال أتنزع لامتك والملائكة ما وضعوا السلاح ان الله يأمرك ان تسير إلى بني قريظة وانا عامد إليهم فأذن في الناس ان لا يصلوا العصر الا ببني قريظة فحاصروهم احدى وعشرين أو خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم تنزلون على حكمي فأبوا فقال على حكم سعد بن معاذ فرضوا به فحكم سعد بقتل وسبي ذراريهم ونسائهم فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فقتل منهم ستمائة مقاتل وقيل من ثمانمائة إلى تسعمائة واسر سبعمائة وقرئ تأسرون بضم السين كما قرىء الرعب بضم العين ولعل تأخير المفعول في الجملة الثانية مع ان مساق الكلام لتفصيله وتقسيمه كما في قوله تعالى ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وقوله تعالى فريقا كذبوا وفريقا يقتلون لمراعاة الفواصل «وأورثكم أرضهم وديارهم» أي حصونهم «وأموالهم» ونقودهم وأثاثهم ومواشيهم روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار في ذلك فقال صلى
الله عليه وسلم إنكم في منازلكم فقال عمر رضى الله عنه أما تخمس كما خمست يوم بدر فقال صلى الله عليه وسلم لا إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس قالوا رضينا بما صنع الله ورسوله «وأرضا لم تطؤوها» أي أورثكم في علمه وتقديره أرضا لم تقبضوها بعد كفارس والروم وقيل كل أرض تفتح إلى يوم القيامة وقيل خيبر «وكان الله على كل شيء قديرا» فقد شاهدتم بعض مقدوراته من إيراث الأراضي التي تسلمتموها فقيسوا عليها ما عداها «يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا» أي السعة والتنعم فيها «وزينتها» وزخافها «فتعالين» أي أقبلن بارادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين كما يقال أقبل يخاصمني وذهب يكلمني وقام يهددني «أمتعكن» بالجزم جوابا للأمر وكذا «وأسرحكن» أي أعطكن المتعة وأطلقكن «سراحا جميلا» طلاقا من غير ضرار وقرئ بالرفع على الاستئناف روى أنهن سألنه صلى الله عليه وسلم ثياب الزينة وزيادة النفقة فنزلت فبدأ بعائشة
100

فخيرها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر لهن الله ذلك فنزل لا يحل لك النساء من بعد واختلف في أن هذا التخيير هل كان تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الطلاق بنفس الاختيار أولا فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم إلى انه لم يكن تفويض الطلاق وإنما كان تخييرا لهن بين الإرادتين على أنهن إن أردن الدنيا فارقهن صلى الله عليه وسلم كما ينبئ عنه قوله تعالى فتعالين أمتعكن وأسرحكن وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضا للطلاق إليهن حتى لو أنهن اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقا وكذا اختلف في حكم التخيير فقال ابن عمر وابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهم إذا خير رجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شئ أصلا ولو اختارت نفسها وقعت طلقة بائنة عندنا ورجعية عند الشافعي وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان وروى عن زيد بن ثابت انها إن اختارت زوجها يقع طلقة واحدة وإن اختارت نفسها يقع ثلاث طلقات وهو قول الحسن ورواية عن مالك وروى عن علي رضى الله عنه أنها إن اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وروى عنه أيضا انها إن اختارت زوجها لا يقع شئ أصلا وعليه إجماع فقهاء الأمصار وقد روى عن عائشة رضي الله عنها خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعده طلاقا وتقديم التمتيع على التسريح من باب الكرم وفيه قطع لمعاذيرهن من أول الامر والمتعة في المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها صداق عند العقد واجبة عندنا وفيما عداهن مستحبة وهي درع وخمار وملحفة بحسب السعة والاقتار إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك فحينئذ يجب لها الأقل منهما ولا ينقص عن خمسة دراهم «وإن كنتن تردن الله ورسوله» أي تردن رسوله وذكر الله عز وجل للإيذان بجلالة محله صلى الله عليه وسلم عنده تعالى «والدار الآخرة» أي نعيمها الذي لا قدر عنده للدنيا وما فيها جميعا «فإن الله أعد للمحسنات منكن» بمقابلة إحسانهن «أجرا عظيما» لا يقادر قدره ولا يبلغ غايته ومن للتبيين لأن كلهن محسنات وتجريد الشرطية الأولى عن الوعيد للمبالغة في تحقيق معنى التخيير والاحتراز عن شائبة الإكراه وهو السر فيما ذكر من تقديم التمتيع على التسريح وفي وصف السراح بالجميل «يا نساء النبي» تلوين للخطاب وتوجيه له إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن ونداؤهن ههنا وفيما بعده بالإضافة اليه صلى الله عليه وسلم لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الاحكام «من يأت منكن بفاحشة» بكبيرة «مبينة» ظاهرة القبح من بين بمعنى تبين وقرئ بفتح الياء والمراد بها كل ما اقترفن من الكبائر وقيل هي عصيانهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن وطلبهن منه ما يشق عليه أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله وقرئ تأت بالفوقانية «يضاعف لها العذاب ضعفين» أي يعذبن ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه لأن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تابعة لزيادة فضل المذنب والنعمة عليه
101

ولذلك جعل حد الحر ضعف حد الرقيق وعوتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لا يعاتب به الأمم وقرئ يضعف على البناء للمفعول ويضاعف ونضعف بنون العظمة على البناء للفاعل ونصب العذاب «وكان ذلك على الله يسيرا» لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبي صلى الله عليه وسلم بل يدعوه اليه لمراعاة حقه «ومن يقنت منكن» وقرئ بالتاء أي ومن يدم على الطاعة «لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين» مرة على الطاعة والتقوى وأخرى على طلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة وقرئ يعمل بالياء حملا على لفظ من ويؤتها على أن فيه ضمير اسم الله تعالى «وأعتدنا لها» في الجنة زيادة على اجرها المضاعف «رزقا كريما» مرضيا «يا نساء النبي لستن كأحد من النساء» أصل أحد وحد بمعنى الواحد ثم وضع في النفي مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والشرف «إن اتقيتن» مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله أو إن اتصفتن بالتقوى كما هو اللائق بحالكن «فلا تخضعن بالقول» عند مخاطبة الناس أي لا تجبن بقولكن خاضعا لينا على سنن قول المريبات والمومسات «فيطمع الذي في قلبه مرض» أي فجور وريبة وقرئ بالجزم عطفا على محل فعل النهى على انه نهى لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الأطماع بالقول الخاضع كأنه قيل فلا تخضعن بالقول فلا يطمع مريض القلب «وقلن قولا معروفا» بعيدا عن الريبة والأطماع بحد وخشونة من غير تخنيث أو قولا حسنا مع كونه خشنا «وقرن في بيوتكن» أمر من قريقر من باب علم وأصله اقررن فحذفت الراء الأولى وألقيت فتحتها على ما قبلها كما في قولك ظلن أو من قار يقار إذا اجتمع وقرئ بكسر القاف من وقر يقر وقارا إذا ثبت واستقر وأصله أوقرن ففعل به ما فعل بعدن من وعد أو من قريقر حذفت إحدى راءى اقررن ونقلت كسرتها إلى القاف كما تقول ظلن «ولا تبرجن» أي لا تتبخترن في مشيكن «تبرج الجاهلية الأولى» أي تبرجا مثل تبرج النساء في الجاهلية القديمة وهي ما بين آدم ونوح وقيل ما بين إدريس ونوح عليهما السلام وقيل الزمان الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام كانت المرأة تلبس درعها من اللؤلؤ فتمشى وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال وقيل زمن داود وسليمان عليهما السلام والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وقيل الجاهلية الأولى جاهلية
102

الكفر والجاهلية الأخرى الفسوق في الاسلام ويؤيد قوله صلى الله عليه وسلم لأبى الدرداء إن فيك جاهلية قال جاهلية كفر أو جاهلية إسلام قال بل جاهلية كفر «وأقمن الصلاة وآتين الزكاة» أمرن بهما لإنافتهما على غيرهما وكونهما اصلى الطاعات البدنية والمالية «وأطعن الله ورسوله» أي في كل ما تأتن وما تذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس» أي الذنب المدنس لعرضكم وهو تعليل لأمرهن ونهيهن على الاستئناف ولذلك عمم الحكم بتعميم الخطاب لغيرهن
وصرح بالمقصود حيث قيل بطريق النداء أو المدح «أهل البيت» مرادا بهم من حواهم بيت النبوة «ويطهركم» من أوضار الأوزار والمعاصي «تطهيرا» بليغا واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير لمزيد التنفير عنها وهذه كما ترى آية بينة وحجة نيرة على كون نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته قاضية ببطلان رأى الشيعة في تخصيصهم أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضوان الله عليهم وأما ما تمسكوا به من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر اسود وجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء على فأدخله فيه ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه ثم قال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت فإنما يدل على كونهم من أهل البيت لاعلى ان من عداهم ليسوا كذلك ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتد بها لكونها في مقابلة النص «واذكرن ما يتلى في بيوتكن» أي اذكرن للناس بطريق العظة والتذكير ما يتلى في بيوتكن «من آيات الله والحكمة» من الكتاب الجامع بين كونه آيات الله البينة الدالة على صدق النبوة بنظمه المعجز وكونه حكمة منطوية على فنون العلوم والشرائع وهو تذكير بما أنعم عليهن حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الايمان والحرص على الطاعة حثا على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها مع أنه الأنسب لكونها مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات ووقوعها في كل البيوت وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير بخلاف النزول وعدم تعيين التالي لتعم تلاوة جبريل وتلاوة النبي عليهما الصلاة والسلام وتلاوتهن وتلاوة غيرهن تعليما وتعلما «إن الله كان لطيفا خبيرا» يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك فعل ما فعل من الامر والنهي أو يعلم من يصلح للنبوة ومن يستأهل ان يكون من أهل بيته «إن المسلمين والمسلمات» أي الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله تعالى من الذكور والإناث «والمؤمنين والمؤمنات» المصدقين بما يجب أن يصدق
103

به من الفريقين «والقانتين والقانتات» المداومين على الطاعة القائمين بها «والصادقين والصادقات» في القول والعمل «والصابرين والصابرات» على الطاعات وعن المعاصي «والخاشعين والخاشعات» المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم «والمتصدقين والمتصدقات» بما وجب في مالهم «والصائمين والصائمات» الصوم المفروض «والحافظين فروجهم والحافظات» عن الحرام «والذاكرين الله كثيرا والذاكرات» بقلوبهم وألسنتهم «أعد الله لهم» بسبب ما عملوا من الحسنات المذكورة «مغفرة» اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفرات بما عملوا من الاعمال الصالحة «وأجرا عظيما» على ما صدر عنهم من الطاعات والآيات وعدلهن ولأمثالهن على الطاعة والتدرع بهذه الخصال الحميدة روى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضى عنهن قلن يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن بخير فما فينا خير نذكر به إنا نخاف ان لا تقبل منا طاعة فنزلت وقيل السائلة أم سلمة وروى انه لما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل قال نساء المؤمنين فما نزل فينا شئ فنزلت وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين وهو ضروري وأما عطف الزوجين على الزوجين فلتغاير الوصفين فلا يكون ضروريا ولذلك ترك في قوله تعالى مسلمات مؤمنات وفائدته الدلالة على ان مدار إعداد ما أعد لهم جمعهم بين هذه النعوت الجميلة «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة» أي ما صح وما استقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين والمؤمنات «إذا قضى الله ورسوله أمرا» أي إذا قضى رسول الله وذكر الله تعالى لتعظيم امره صلى الله عليه وسلم أو للإشعار بأن قضاءه صلى الله عليه وسلم قضاء الله عز وجل لأنه نزل في زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله وقيل في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد فسخطت هي واخوها وقالا إنما أردنا الله ورسول الله فزوجنا عبده «أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» أن يختاروا من امرهم ما شاءوا بل يجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه صلى الله عليه وسلم واختيارهم تلو الاختيار وجمع الضميرين لعموم مؤمن ومؤمنة لوقوعهما في سياق النفي وقيل الضمير الثاني الرسول صلى الله عليه وسلم والجمع للتعظيم وقرئ تكون بالتاء «ومن يعص الله ورسوله» في أمر من الأمور ويعمل فيه برأيه «فقد ضل» طريق الحق «ضلال مبين» أي بين الانحراف عن سنن الصواب «وإذ تقول» أي واذكر وقت قولك «للذي أنعم الله عليه» بتوفيقه
104

للإسلام وتوفيقك لحسن تربيته ومراعاته «وأنعمت عليه» بالعمل بما وفقك الله له من فنون الاحسان التي من جملتها تحريره وهو زيد بن حارثة وإيراده بالعنوان المذكور لبيان منافاة حالة لما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من إظهار خلاف ما في ضميره إذ هو إنما يقع عند الاستحياء أو الاحتشام وكلاهما مما لا يتصور في حق زيد «أمسك عليك زوجك» أي زينب وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أبصرها بعد ما أنكحها إياه فوقعت في نفسه حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر فقال سبحان الله مقلب القلوب وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها فاتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أريد ان أفارق صاحبتي فقال مالك أرابك منها شئ قال لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها لشرفها تتعظم على فقال له امسك عليك زوجك «واتق الله» في امرها فلا تطلقها إضرارا وتعللا بتكبرها «وتخفي في نفسك ما الله مبديه» وهو نكاحها إن طلقها أو إرادة طلاقها «وتخشى الناس» تعييرهم إياك به «والله أحق أن تخشاه» إن كان فيه ما يخشى والواو للحال وليست المعاتبة على الاخفاء وحده بل على الاخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافي إضمار فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الامر إلى ربه «فلما قضى زيد منها وطرا» بحيث لم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها وقيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق مثل لا حاجة لي فيك «زوجناكها» وقرئ زوجتكها والمراد الأمر بتزويجها منه صلى الله عليه وسلم وقيل جعلها زوجته بلا واسطة عقد ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى تولى نكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن وقيل كان زيد السفير في خطبتها وذلك ابتلاء عظيم وشاهد عدل بقوة إيمانه «لكي لا يكون على المؤمنين حرج» ضيق ومشقة «في أزواج أدعيائهم» أي في حق تزوجهن «إذا قضوا منهن وطرا» فإن لهم في رسول الله أسوة حسنة وفيه دلالة على ان حكمه صلى الله عليه وسلم وحكم الأمة سواء إلا ما خصه الدليل «وكان أمر الله» أي ما يرتد تكوينه من الأمور أو مأموره الخاص بكن «مفعولا» مكونا لا محالة اعتراض تذييلى مقرر لما قبله «ما كان على النبي من حرج» أي ما صح وما استقام في الحكمة ان يكون له ضيق «فيما فرض الله له» أي قسم له وقدر من قولهم فرض له في الديوان كذا ومنه فروض العساكر لأعطياتهم «سنة الله» اسم موضوع موضع المصدر كقولهم ترابا وجندلا مؤكد لما قبله من نفى الحرج أي سن الله ذلك سنة «في الذين خلوا» مضوا «من قبل» من الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام حيث وسع عليهم في باب النكاح وغيره ولقد كانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية ولسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة وقوله تعالى «وكان أمر الله قدرا مقدورا» أي قضاء مقضيا وحكما مبتوتا اعتراض وسط بين الموصولين الجاريين مجرى الواحد للمسارعة إلى تقرير نفى الحرج وتحقيقه
105

«الذين يبلغون رسالات الله» صفة للذين خلوا أو مدح لهم بالنصب أو بالرفع وقرئ رسالة الله «ويخشونه» في كل ما يأتون ويذرون لا سيما في امر تبليغ الرسالة حيث لا يخرمون منها حرفا ولا تأخذهم في ذلك لومة لائم «ولا يخشون أحدا إلا الله» في وصفهم بقصرهم الخشية على الله تعالى تعريض بما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من الاحتراز عن لائمة الخلق بعد التصريح في قوله تعالى وتخشى الناس والله أحق ان تخشاه «وكفى بالله حسيبا» كافيا للمخاوف فينبغي ان لا يخشى غيره أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة فيجب ان يكون حق الخشية منه تعالى «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم» أي على الحقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الولد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها ولا ينتقض عمومه بكونه صلى الله عليه وسلم ابا الطاهر والقاسم وإبراهيم لأنهم لم يبلغوا الحلم ولو بلغوا لكانوا رجالا له صلى الله عليه وسلم لا لهم «ولكن رسول الله» أي كان رسولا لله وكل رسول أبو أمته لكن لا حقيقة بل بمعنى انه شفيق ناصح لهم وسبب لحياتهم الأبدية وما زيد الا واحد من رجالكم الذين لا ولادة بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم فحكمه حكمهم وليس للتبني والادعاء حكم سوى التقريب والاختصاص «وخاتم النبيين» أي كان آخرهم الذي ختموا به وقرئ بكسر التاء أي كان خاتمهم ويؤيده قراءة ابن مسعود ولكن نبيا ختم النبيين وأيا ما كان فلو كان له ابن بالغ لكان نبيا ولم يكن هو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين كما يروي انه قال في إبراهيم حين توفي لو عاش لكان نبيا ولا يقدح فيه نزول عيسى بعده عليهما السلام لان معنى كونه خاتم النبيين انه لا ينبأ أحد بعده وعيسى ممن نبيء قبله وحين ينزل انما ينزل عملا على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم مصليا إلى قبلته كأنه بعض أمته «وكان الله بكل شيء عليما» ومن جملته هذه الاحكام والحكم التي بينها لكم وكنتم منها في شك مريب «يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله» بما هو أهله من التهليل والتحميد والتمجيد والتقديس «ذكرا كثيرا» يعم الأوقات والأحوال «وسبحوه» ونزهوه عما لا يليق به «بكرة وأصيلا» أي أول النهار واخره على ان تخصيصهما بالذكر ليس لقصر التسبيح عليهما دون سائر الأوقات بل لإبانة فضلهما على سائر الأوقات لكونهما مشهودين كأفراد التسبيح من بين الأذكار مع اندراجه فيها لكونه العمدة فيها وقيل كلا الفعلين متوجه اليهما كقولك صم وصل يوم الجمعة وقيل المراد بالتسبيح الصلاة
106

«هو الذي يصلي عليكم» الخ استئناف جار مجري التعليل لما قبله من الامرين فإن صلاته تعالى عليهم مع عدم استحقاقهم لها وغناه عن العالمين مما يوجب عليهم المداومة على ما يستوجبه تعالى عليهم من ذكره تعالى وتسبيحه وقوله تعالى «وملائكته» عطف على المستكن في يصلي لمكان الفصل المغني عن التأكيد بالمنفصل لكن لا على ان يراد بالصلاة الرحمة أولا والاستغفار ثانيا فإن استعمال اللفظ الواحد في معنيين متغايرين مما لا مساغ له بل على ان يراد بهما معنى مجازي عام يكون كلا المعنيين فردا حقيقيا له وهو الاعتناء بما فيه خيرهم وصلاح امرهم فإن كلا من الرحمة والاستغفار فرد حقيقي له أو الترحم والانعطاف المعنوي المأخوذ من الصلاة المشتملة على الانعطاف الصوري الذي هو الركوع والسجود ولا ريب في ان استغفار الملائكة ودعاءهم للمؤمنين ترحم عليهم واما ان ذلك سبب للرحمة لكونهم مجابي الدعوة كما قيل فاعتباره ينزع إلى الجمع بين المعنيين المتغايرين فتدبر «ليخرجكم من الظلمات إلى النور» متعلق بيصلي أي يعتني بأموركم هو وملائكته ليخرجكم بذلك من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة وقوله تعالى «وكان بالمؤمنين رحيما» اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أي كان بكافة المؤمنين الذين أنتم من زمرتم رحيما ولذلك يفعل بكم ما يفعل من الاعتناء بإصلاحكم بالذات وبالواسطة ويهديكم إلى الايمان والطاعة أو كان بكم رحيما على ان المؤمنين مظهر وضع موضع المضمر مدحا لهم واشعارا بعلة الرحمة وقوله تعالى «تحيتهم يوم يلقونه سلام» بيان للاحكام الآجلة لرحمة الله تعالى بهم بعد بيان آثارها العاجلة التي هي الاعتناء بأمرهم وهدايتهم إلى الطاعة أي ما يحيون به على انه مصدر أضيف إلى مفعوله يوم لقائه عند الموت أو عند البعث من القبور أو عند دخول الجنة تسليم عليهم من الله عز وجل تعظيما لهم أو من الملائكة بشارة لهم بالجنة أو تكرمة لهم كما في قوله تعالى والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم أو اخبار بالسلامة عن كل مكروه وآفة وقوله تعالى «وأعد لهم أجرا كريما» بيان لآثار رحمته الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك ولعل ايثار الجملة الفعلية على الاسمية المناسبة لما قبلها بأن يقال مثلا وأجرهم اجر كريم أو ولهم اجر كريم للمبالغة في الترغيب والتشويق إلى الموعود ببيان ان الاجر الذي هو المقصد الأقصى من بين سائر آثار الرحمة موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا» على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم وتشاهد اعمالهم وتتحمل منهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال وتؤديها يوم القيامة أداء مقبولا
107

فيما لهم وما عليهم وهو حال مقدرة «ومبشرا ونذيرا» تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكافرين بالنار «وداعيا إلى الله» أي إلى الاقرار به وبوحدانيته وبسائر ما يجب الايمان به من صفاته وافعاله «بإذنه» أي بتيسيره اطلق عليه مجازا لما انه من أسبابه وقيد به الدعوة ايذانا بأنها امر صعب المنال وخطب في غاية الاعضال لا يتأتي الا بإمداد من جناب قدسه كيف لا وهو صرف للوجوه عن القبل المعبودة وادخال الأعناق في قلادة غير معهودة «وسراجا منيرا» يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية ويهتدي بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية «وبشر المؤمنين» عطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل فراقب أحوال الناس وبشر المؤمنين منهم «بأن لهم من الله فضلا كبيرا» أي على مؤمني سائر الأمم في الرتبة والشرف أو زيادة على أجور اعمالهم بطريق التفضل والاحسان «ولا تطع الكافرين والمنافقين» نهى عن مداراتهم في امر الدعوة واستعمال لين الجانب في التبليغ والمسامحة في الانذار كنى عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في الزجر والتنفير عن المنهي عنه بنظمه في سلكها وتصويره بصورتها ومن حمل النهي على التهييج والإلهاب فقد ابعد عن التحقيق بمراحل «ودع أذاهم» أي لا تبال بأذيتهم لك بسبب تصلبك في الدعوة والانذار «وتوكل على الله» في كل ما تأتي وما تذر من الشؤون التي من جملتها هذا الشأن فإنه تعالى يكفيكهم «وكفى بالله وكيلا» موكولا اليه الأمور في كل الأحوال واظهار
الاسم الجليل في موضع الاضمار لتعليل الحكم وتأكيد استقلال الاعتراض التذييل ولما وصف صلى الله عليه وسلم بنعوت خمسة قوبل كل منها بخطاب يناسبه خلا انه لم يذكر مقابل الشاهد صريحا وهو الامر بالمراقبة ثقة بظهور دلالة مقابل المبشر عليه وهو الامر بالتبشير حسبما ذكر آنفا وقوبل النذير بالنهي عن مداراة الكفار والمنافقين والمسامحة في إنذارهم كما تحققته وقوبل الداعي إلى الله بإذنه بالامر بالتوكل عليه من حيث انه عبارة عن الاستمداد منه تعالى والاستعانة به وقوبل السراج المنير بالاكتفاء به تعالى فإن من أيده الله تعالى بالقوة القدسية ورشحه للنبوة وجعله برهانا نيرا يهدي الخلق من ظلمات الغي إلى نور الرشاد حقيق بأن يكتفي به عن كل ما سواه «يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن» أي تجامعوهن وقرئ تماسوهن بضم التاء «فما لكم عليهن من عدة» بأيام يتربصن فيها بأنفسهن «تعتدونها» تستوفون عددها من عددت الدراهم فاعتدها وحقيقته عدها لنفسه وكذلك كلته فاكتاله والاسناد إلى الرجال للدلالة على ان العدة حق
108

الأزواج كما اشعر به قوله تعالى فما لكم وقرئ تعتدونها على ابدال احدى الدالين بالتاء أو على انه من الاعتداء بمعنى تعتدون فيها والخلوة الصحيحة في حكم المس وتخصيص المؤمنات مع عموم الحكم للكتابيات للتنبيه على ان المؤمن من شأنه ان يتخير لنطفته ولا ينكح الا مؤمنة وفائدة ثم إزاحة ما عسى يتوهم ان تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابة يؤثر في العدة كما يؤثر في النسب «فمتعوهن» أي ان لم يكن مفروضا لها في العقد فإن الواجب للمفروض لها نصف المفروض دون المتعة فإنها مستحبة عندنا في رواية وفي أخرى غير مستحبة «وسرحوهن» أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة «سراحا جميلا» من غير ضرار ولا منع حق ولا مساغ لتفسيره بالطلاق السنى لأنه انما يتسنى في المدخول بهن «يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن» أي مهورهن فإنها أجور الابضاع وايتاؤها اما اعطاؤها معجلة أو تسميتها في العقد وأيا ما كان فتقييد الاحلال له صلى الله عليه وسلم به ليس لتوقف الحل عليه ضرورة انه يصح العقد بلا تسمية ويجب مهر المثل أو المتعة على تقديري الدخول وعدمه بل لايثار الأفضل والأولى له صلى الله عليه وسلم كتقييد احلال المملوكة بكونها مسبية في قوله تعالى «وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك» فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها وكتقييد القرائب بكونهن مهاجرات معه في قوله تعالى «وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك» ويحتمل تقييد الحل بذلك في حقه صلى الله عليه وسلم خاصة ويعضده قول أم هانئ بنت أبى طالب خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم انزل الله هذه الآية فلم أحل له لأنى لم أهاجر معه كنت من الطلقاء «وامرأة مؤمنة» بالنصب عطفا على مفعول أحللنا إذ ليس معناه إنشاء الإحلال الناجز بل إعلام مطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق وقرئ بالرفع على انه مبتدأ خبره محذوف أي أحللناها لك أيضا «إن وهبت نفسها للنبي» أي ملكته بضعها باي عبارة كانت بلا مهر إن اتفق ذلك كما ينبئ عنه تنكيرها لكن لا مطلقا بل عند إرادته صلى الله عليه وسلم استنكاحها كما نطق به قوله عز وجل «إن أراد النبي أن يستنكحها» أي أن يتملك بضعها كذلك أي بلا مهر فإن ذلك جار منه صلى الله عليه وسلم مجرى القبول وحيث لم يكن هذا نصا في كون تمليكها بلفظ الهبة لم يصلح أن يكون مناطا للخلاف في انعقاد النكاح بلفظ الهبة إيجابا أو سلبا واختلف في اتفاق هذا العقد فعن ابن عباس رضى الله عنهما لم يكن عنده صلى الله عليه وسلم أحد منهن بالهبة وقيل الموهوبات اربع ميمونة بنت الحرث وزينب بنت خزيمة الأنصارية وأم شريك بنت جابر وخولة بنت حكيم وإيراده صلى الله عليه وسلم في الموضعين
109

بعنوان النبوة بطريق الالتفات للتكرمة والايذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به صلى الله عليه وسلم حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى «خالصة لك» أي خلص لك إحلالها خالصة أي خلوصا فإن الفاعلة في المصادر غير عزيز كالعافية والكاذبة أو خلص لك إحلال ما أحللنا لك من المذكورات على القيود المذكورة خالصة ومعنى قوله تعالى «من دون المؤمنين» على الأول ان الاحلال المذكور في المادة المعهودة غير متحقق في حقهم وإنما المتحقق هناك الاحلال بمهر المثل وعلى الثاني ان إحلال الجميع على القيود المذكورة غير متحقق في حقهم بل المتحقق فيه إحلال البعض المعدود على الوجه المعهود وقرئ خالصة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذلك خلوص لك وخصوص أو هي أي تلك المرأة أو الهبة خالصة لك لا تتجاوز المؤمنين حيث لا تحل لهم بغير مهر ولا تصح الهبة بل يجب مهر المثل وقوله تعالى «قد علمنا ما فرضنا عليهم» أي على المؤمنين «في أزواجهم» أي في حقهن اعتراض مقرر لما قبله من خلوص الاحلال المذكور لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم تجاوزة للمؤمنين ببيان انه قد فرض عليهم من شرائط العقد وحقوقه ما لم يفرض عليه صلى الله عليه وسلم تكرمة له وتوسعة عليه أي قد علمنا ما ينبغي أن يفرض عليهم في حق أزواجهم «وما ملكت أيمانهم» وعلى أي حد واي صفة يحق ان يفرض عليهم ففرضنا ما فرضنا على ذلك الوجه وخصصناك ببعض الخصائص «لكيلا يكون عليك حرج» أي ضيق واللام متعلقة بخالصة باعتبار ما فيها من معنى ثبوت الاحلال وحصوله له صلى الله عليه وسلم لا باعتبار اختصاصه به صلى الله عليه وسلم لان مدار انتفاء الحرج هو الأول لا الثاني الذي هو عبارة عن عدم ثبوته لغيره «وكان الله غفورا» لما يعسر التحرز عنه «رحيما» ولذلك وسع الأمر في مواقع الحرج «ترجي من تشاء منهن» أي تؤخرها وتترك مضاجعتها «وتؤوي إليك من تشاء» وتضم إليك من تشاء منهن وتضاجعها أو تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء وقرئ ترجئ بالهمزة والمعنى واحد «ومن ابتغيت» أي طلبت «ممن عزلت» طلقت بالرجعية «فلا جناح عليك» في شئ مما ذكر وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض لأنه إما أن يطلق أو يمسك فإذا امسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم وإذا طلق فإما أن يخلى المعزولة أو يبتغيها وروى أنه أرجى منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة فكان يقسم لهن ما شاء كما شاء وكانت مما آوى اليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب وارجى خمسا وآوى أربعا وروى أنه كان يسوى بينهن مع ما أطلق له وخير إلا سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة رضى الله عنهن وقالت لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك «ذلك» أي ما ذكر من تفويض الامر إلى مشيئتك «أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن» أي أقرب إلى قرة عيونهن ورضاهن جميعا لأنه حكم كلهن فيه سواء ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن
110

أنه بحكم الله فتطمئن به نفوسهن وقرئ تقر بضم التاء ونصب أعينهن وتقر على البناء للمفعول وكلهن تأكيد لنون يرضين وقرى بالنصب على انه تأكيد لهن «والله يعلم ما
في قلوبكم» من الضمائر والخواطر فاجتهدوا في أحسانها «وكان الله عليما» مبالغا في العلم فيعلم كل ما تبدونه وتخفونه «حليما» لا يعاجل بالعقوبة فلا تغتروا بتأخيرها فإنه إمهال لا إهمال «لا يحل لك النساء» بالياء لان تأنيث الجمع غير حقيقي ولوجود الفصل وقرئ بالتاء «من بعد» أي من بعد التسع وهو في حقه كالأربع في حقنا وقال ابن عباس وقتادة من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن فاخترنك وقيل من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما تؤتيهن من الوصل والهجران «ولا أن تبدل» أي تتبدل بحذف إحدى التاءين «بهن» أي بهؤلاء التسع «من أزواج» بأن تطلق واحدة منهن وتنكح مكانها أخرى ومن مزيدة لتأكيد الاستغراق أراد الله تعالى لهن كرامة وجزاء على ما أخترن ورضين فقصر رسوله عليهن وهن التسع اللاتي توفى صلى الله عليه وسلم عنهن وهن عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وصفية بنت حيي الخيبرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحرث المصطلقية وقال عكرمة المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللاتي أحللناهن لك بالصفة التي تقدم ذكرها من الأعرابيات والغرائب أو من الكتابيات أو من الإماء بالنكاح ويأباه قوله تعالى ولا أن تبدل بهن فإن معنى إحلال الأجناس المذكورة إحلال نكاحهن فلا بد أن يكون معنى التبدل بهن إحلال نكاح غيرهن بدل إحلال نكاحهن وذلك إنما يتصور بالنسخ الذي ليس من الوظائف البشرية «ولو أعجبك حسنهن» أي حسن الأزواج المستبدلة وهو حال من فاعل تبدل لا من مفعوله وهو من أزواج لنوغله في التنكير قيل تقديره مفروضا أعجابك بهن وقد مر تحقيقه في قوله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم وقيل هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب أي هي ممن أعجبه صلى الله عليه وسلم حسنهن واختلف في ان الآية محكمة أو منسوخة قيل بقوله تعالى ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء وقيل بقوله تعالى إنا أحللنا لك وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف وقيل بالسنة وعن عائشة رضى الله عنها ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء وقال انس رضى الله عنه مات صلى الله عليه وسلم على التحريم «إلا ما ملكت يمينك» استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإماء وقيل منقطع «وكان الله على كل شيء رقيبا» حافظا مهيمنا فاحذروا مجاوزة حدوده وتخطى حلاله إلى حرامه
111

«يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي» شروع في بيان ما يجب مراعاته على الناس من حقوق نساء النبي صلى الله عليه وسلم إثر بيان ما يجب مراعاته عليه صلى الله عليه وسلم من الحقوق المتعلقة بهن وقوله إلى «إلا أن يؤذن لكم» استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مأوذنا لكم وقيل من أعم الأوقات أي لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت ان يؤذن لكم ورد عليه بان النحاة نصوا على أن الوقوع موقع الظرف مختص بالمصدر الصريح دون المؤول لا يقال آتيك أن يصيح الديك وإنما يقال آتيك صياح الديك وقوله تعالى «إلى طعام» متعلق بيؤذن بتضمين معنى الدعاء للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة وإن تحقق الاذن كما يشعر به قوله تعالى «غير ناظرين إناه» أي غير منتظرين وقته أو إدراكه وهو حال من فاعل لا تدخلوا على ان الاستثناء واقع على الوقت والحال معا عند من يجوزه أو من المجرور في لكم وقرئ بالجر صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له بلا إبراز الضمير ولا مساغ له عند البصريين وقرئ بالإمالة لأنه مصدر انى الطعام أي أدرك «ولكن إذا دعيتم فأدخلوا» استداراك من النهى عن الدخول بغير إذن وفيه دلالة بينة على ان المراد بالاذن إلى الطعام هو الدعوة إليه «فإذا طعمتم فانتشروا» فتفرقوا ولا تلبثوا لأنه خطاب لقوم كان يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز لأحد ان يدخل بيوته صلى الله عليه وسلم باذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لأمر مهم «ولا مستأنسين لحديث» أي لحديث بعضكم بعضا أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على ناظرين أو مقدر بفعل أي ولا تدخلوا أو لا تمكثوا مستأنسين الخ «إن ذلكم» أي الاستئناس الذي كنتم تفعلونه من قبل «كان يؤذي النبي» لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإيجابه للاشتغال بما لا يعينه وصده عن الاشتغال بما يعنيه «فيستحيي منكم» أي من إخراجكم لقوله تعالى «والله لا يستحيي من الحق» فإنه يستدعي ان يكون المستحي منه أمرا حقا متعلقا بهم لا أنفسهم وما ذاك إلا إخراجهم فينبغي ان لا يترك حياء ولذلك لم يتركه تعالى وأمركم بالخروج والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة كله وقرئ لا يستحى بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها إلى ما قبلها «وإذا سألتموهن» الضمير لنساء النبي المدلول عليهن بذكر بيوته صلى الله عليه وسلم «متاعا» أي شيئا يتمتع به من الماعون وغيره «فاسألوهن» أي المتاع «من وراء حجاب» أي ستر وروى أن عمر رضي اله عنه قال يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت وقيل إنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد
112

عائشة رضى الله عنها فكره النبي ذلك فنزلت «ذلكم» أي ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع من وراء حجاب «أطهر لقلوبكم وقلوبهن» أي أكثر تطهيرا من الخواطر الشيطانية «وما كان لكم» أي وما صح وما استقام لكم «أن تؤذوا رسول الله» أي ان تفعلوا في حياته فعلا يكرهه ويتأذى به «ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا» أي من بعد وفاته أو فراقه «إن ذلكم» إشارة إلى ما ذكر من ايذائه صلى الله عليه وسلم ونكاح أزواجه من بعده وما فيه من معنى البعد للايذان ببعد منزلته في الشر والفساد «كان عند الله عظيما» أي امرا عظيما وخطبا هائلا لا يقادر قدره وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلى الله عليه وسلم وايجاب حرمته حيا وميتا مالا يخفي ولذلك بالغ تعالى في الوعيد حيث قال «إن تبدوا شيئا» مما لا خير فيه كنكاحهن على ألسنتكم «أو تخفوه» في صدوركم «فإن الله كان بكل شيء عليما» فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل وتشديد ومبالغة في الوعيد «لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن» استئناف لبيان من لا يجب الاحتجاب عنهم روى أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب يا رسول الله أو نكلمهن أيضا من وراء الحجاب فنزلت وانما لم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين ولذلك سمي العم ابا في قوله تعالى واله آبائك إبراهيم وإسماعيل واسحق أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الاخوة وأبناء الأخوات فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين عين ما بينهن
وبين العم والخال من العمومة والخؤولة لما انهن عمات لأبناء الاخوة وخالات لأبناء الأخوات وقيل لأنه كره ترك الاحتجاب منهما مخافة ان يصفاهن لا بنائهما «ولا نسائهن» أي نساء المؤمنات «ولا ما ملكت أيمانهن» من العبيد والإماء وقيل من الإماء خاصة وقد مر في سورة النور «واتقين الله» في كل ما تأتن وما تذرن لا سيما فيما امرتن به ونهيتن عنه «إن الله كان على كل شيء شهيدا» لا تخفي عليه خافية ولا تتفاوت في علمه الأحوال «إن الله وملائكته» وقرئ وملائكته بالرفع عطفا على محل ان اسمها عند الكوفيين وحملا على حذف الخبر ثقة بدلالة ما بعده عليه على رأى البصريين «يصلون على النبي» قيل الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار وقال ابن عباس رضي الله عنهما أراد ان الله يرحمه والملائكة يدعون له وعنه أيضا يصلون يبركون وقال أبو العالية صلاة الله
113

تعالى عليه ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاتهم دعاؤهم له فينبغي ان يراد بها في يصلون معنى يجازي عام يكون كل واحد من المعاني المذكورة فردا حقيقا له أي يعتنون بما فيه خيره وصلاح امره ويهتمون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه وذلك من الله سبحانه بالرحمة ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار «يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه» اعتنوا أنتم أيضا بذلك فإنكم أولى به «وسلموا تسليما» قائلين اللهم صل على محمد وسلم أو نحو ذلك وقيل المراد بالتسليم انقياد امره والآية دليل على وجوب الصلاة والسلام عليه مطلقا من غير تعرض لوجوب التكرار وعدمه وقيل يجب ذلك كلما جرى ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم رغم انف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي وقوله صلى الله عليه وسلم من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله ويروى انه صلى الله عليه وسلم قال وكل الله تعالى بي ملكين فلا اذكر عند مسلم فيصلي على الا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين آمين ولا اذكر عند مسلم فلا يصلى على الا قال دانك ملكان لا غفر الله لك وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين آمين ومنهم من قال بجب في كل مجلس مرة وان تكرر ذكره صلى الله عليه وسلم كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس وكذلك في كل دعاء في أوله واخره ومنهم من قال بالوجوب في العمر مرة وكذا قال في اظهار الشهادتين والذي يقتضيه الاحتياط ويستدعيه معرفة علو شأنه صلى الله عليه وسلم ان يصلي عليه كلما جرى ذكره الرفيع واما الصلاة عليه في الصلاة بأن يقال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد فليست بشرط في جواز الصلاة عندنا وعن إبراهيم النخعي رحمه الله ان الصحابة كانوا يكتفون عن ذلك بما في التشهد وهو السلام عليك أيها النبي واما الشافعي رحمه الله فقد جعلها شرطا واما الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فتجوز تبعا وتكره استقلالا لأنه في العرف شعار ذكر الرسل ولذلك كره ان يقال محمد عز وجل مع كونه عزيزا جليلا «إن الذين يؤذون الله ورسوله» أريد بالايذاء اما فعل ما يكرهانه من الكفر والمعاصي مجازا لاستحالة حقيقة التأذي في حقه تعالى وقيل في ايذائه تعالى هو قول اليهود والنصارى والمشركين يد الله مغلولة وثالث ثلاثة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقيل قول الذين يلحدون في آياته وفي ايذاء الرسول صلى الله عليه وسلم هو قولهم شاعر ساحر كاهن مجنون وقيل هو كسر رباعيته وشج وجهه الكريم يوم أحد وقيل طعنهم في نكاح صفية والحق هو العموم فيهما واما ايذاؤه صلى الله عليه وسلم خاصة بطريق الحقيقة وذكر الله عز وجل لتعظيمه والايذان بجلاله مقداره عنده تعالى وايذاؤه صلى الله عليه وسلم ايذاء له سبحانه «لعنهم الله» طردهم وابعدهم من رحمته «في الدنيا والآخرة» بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها «وأعد لهم» مع ذلك «عذابا مهينا» يصيبهم في الآخرة خاصة «والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات» يفعلون بهم ما يتأذون به من قول أو فعل وتقييده
114

بقول تعالى «بغير ما اكتسبوا» أي بغير جناية يستحقون بها الأذية بعد اطلاقه فيما قبله للايذان بأن اذى الله ورسوله لا يكون الا غير حق واما اذى هؤلاء فمنه ومنه «فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا» أي ظاهرا بينا قيل انها نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا رضي الله عنه ويسمعونه مالا خير فيه وقيل في أهل الافك وقال الضحاك والكلبي في زناة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن كانوا لا يتعرضون الا للاماء ولكن ربما كان يقع منهما التعرض للحرائر أيضا جهلا أو تجاهلا لاتحاد الكل في الزي واللباس والظاهر عمومه لكل ما ذكر ولما سيأتي من أراجيف المرجفين «يا أيها النبي» بعدما بين سوء حال المؤذين زجرا لهم عن الايذاء امر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأمر بعض المتأذنين منهم بما يدفع ايذاءهم في الجملة من الستر والتميز عن مواقع الايذاء فقيل «قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن» الجلباب ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتقي منه ما لرسله على صدرها وقيل هي الملحفة وكل ما يتستر به أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي ومن للتبعيض لما مر من ان المعهود التلفع ببعضها وارخاء بعضها وعن السدي تغطي احدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين «ذلك» أي ما ذكر من التغطي «أدنى» أقرب «أن يعرفن» ويميزن عن الإماء والقينات اللاتي هن مواقع تعرضهم وايذائهم «فلا يؤذين» من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن «وكان الله غفورا» لما سلف منهن من التفريط «رحيما» بعباده حيث يراعى من مصالحهم أمثال هاتيك الجزئيات «لئن لم ينته المنافقون» عما هم عليه من النفاق واحكامه الموجبة للايذاء «والذين في قلوبهم مرض» عما هم عليه من التزلزل وما يستتبعه مما لا خير فيه «والمرجفون في المدينة» من الفريقين عما هم عليه من نشر اخبار السوء عن سرايا المسلمين وغير ذلك من الأراجيف الملفقة المستتبعة للأذية واصل الارجاف التحريك من الرجفة التي هي الزلزلة وصفت به الاخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة «لنغرينك بهم» لنأمرنك بقتالهم واجلائهم أو بما يضطرهم إلى الجلاء ولنحرضنك على ذلك «ثم لا يجاورونك» عطف على جواب القسم وثم الدلالة على ان الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم ما يصيبهم «فيها» أي في المدينة «إلا قليلا» زمانا أو جوارا قليلا ريثما يتبين حالهم من الانتهاء وعدمه «ملعونين» نصب على الشتم أو الحال على ان الاستثناء وارد عليه أيضا على رأى من يجوزه كما مر في قوله تعالى غير ناظرين إناه ولا سبيل إلى انتصابه عن قوله تعالى «أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا»
115

لان ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيها قبلها «سنة الله في الذين خلوا من قبل» أي سن الله ذلك في الأمم الماضية سنة وهي ان يقتل الذين نافقوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وسعوا في توهين امرهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا «ولن تجد لسنة الله تبديلا» أصلا لابتنائها على أساس الحكمة التي عليها يدور فلك التشريع «يسألك الناس
عن الساعة» أي عن وقت قيامها كان المشركون يسألونه صلى الله عليه وسلم عن ذلك استعجالا بطريق الاستهزاء واليهود امتحانا لما ان الله تعالى عمى وقتها في التوراة وسائر الكتب «قل إنما علمها عند الله» لا يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وقوله تعالى «وما يدريك» خطاب مستقل له صلى الله عليه وسلم غير داخل تحت الامر مسوق لبيان انها مع كونها غير معلومة للخلق مرجوة المجيء عن قريب أي أي شيء يعلمك بوقت قيامها أي لا يعلمك به شيء أصلا «لعل الساعة تكون قريبا» أي شيئا قريبا أو تكون الساعة في وقت قريب وانتصابه على الظرفية ويجوز ان يكون التذكير باعتبار أن الساعة في معنى اليوم أو الوقت وفيه تهديد للمستعجلين وتبكيت للمتعنتين والاظهار في حيز الاضمار للتهويل وزيادة التقرير وتأكيد استقلال الجملة كما أشير اليه «إن الله لعن الكافرين» على الاطلاق أي طردهم وابعدهم من رحمته العاجلة والآجلة «وأعد لهم» مع ذلك «سعيرا» نارا شديدة الاتقاد يقاسونها في الآخرة «خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا» يحفظهم «ولا نصيرا» بخلصهم منها «يوم تقلب وجوههم في النار» ظرف لعدم الوجدان وقيل لخالدين وقيل لنصيرا وقيل مفعول لا ذكر أي يوم تصرف وجوههم فيها من جهة إلى جهة كلحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر فيدور به الغليان من جهة إلى جهة أو من حال إلى حال أو يطرحون فيها مقلوبين منكوسين وقرئ تقلب بحذف احدى التاءين من تنقلب ونقلب بإسناد الفعل إلى نون العظمة ونصب وجوههم وتقلب بإساده إلى السعير وتخصيص الوجوه بالذكر لما انها أكرم الأعضاء ففيه مزيد تفظيع للامر وتهويل للخطب ويجوز ان تكون عبارة عن كل الجسد فقوله تعالى «يقولون» استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية حالهم الفظيعة كأنه قيل فماذا يصنعون عند ذلك فقيل يقولون متحسرين على ما فاتهم «يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا» فلا نبتلى بهذا العذاب أو حال من ضمير وجوههم أو من نفسها أو هو العامل في يوم «وقالوا»
116

عطف على يقولون والعدول إلى صيغة الماضي للاشعار بأن قولهم هذا ليس مستمرا كقولهم السابق بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربا من التشفي بمضاعفة عذاب الذين القوهم في تلك الورطة وان علموا عدم قبوله في حق خلاصهم منها «ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا» يعنون قادتهم الذين لقنوهم الكفر وقرئ ساداتنا للدلالة على الكثرة والتعبير عنهم بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار والا فهم في مقام التحقير والإهانة «فأضلونا السبيلا» بما زينوا لنا من الأباطيل والألف للاطلاق كما في وأطعنا الرسولا «ربنا آتهم ضعفين من العذاب» أي مثلي العذاب الذي آتيتناه لأنهم ضلوا وأضلوا «والعنهم لعنا كبيرا» أي شديدا عظيما وقرئ كثيرا وتصدير الدعاء بالنداء مكررا للمبالغة في الجؤار واستدعاء الإجابة «يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى» قيل نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قالة الناس «فبرأه الله مما قالوا» أي فأظهر براته صلى الله عليه وسلم مما قالوا في حقه أي من مضمونه ومؤداه الذي هو الامر المعيب وذلك أن قارون أغرى مومسة على قذفه عليه الصلاة والسلام بنفسها بأن دفع إليها مالا عظيما فأظهر الله تعالى نزاهته عليه الصلاة والسلام عن ذلك بأن أقرت المومسة بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل بقارون ما فعل كما فصل في سورة القصص وقيل اتهمه ناس بقتل هارون عند خروجه معه إلى الطور فمات هناك فحملته الملائكة ومروا به حتى رأوه غير مقتول وقيل أحياه الله تعالى فأخبرهم ببراءته وقيل قذفوه بعيب في بدنه من برص أو أدرة لفرط تستره حياء فأطلعهم الله تعالى على براءته بأن فر الحجر بثوبه حين وضعه عليه عند اغتساله والقصة مشهورة «وكان عند الله وجيها» ذا قربة ووجاهة وقرئ وكان عبد الله وجيها «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله» أي في كل ما تأتون وما تذرون لا سيما في ارتكاب ما يكرهه فضلا عما يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم «وقولوا» في كل شأن من الشؤون «قولا سديدا» قاصدا إلى الحق من سد يسد سدادا يقال سدد السهم نحو الرمية إذا لم يعدل به عن سمتها والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب الجائر عن العدل والقصد «يصلح لكم أعمالكم» يوفقكم للأعمال الصالحة أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها «ويغفر لكم ذنوبكم» ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل «ومن يطع الله ورسوله» في الأوامر والنهي التي من جملتها هذه التكليفات «فقد فاز» في الدارين «فوزا عظيما» لا يقادر قدره ولا يبلغ غايته
117

«إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها» لما بين عظم شأن طاعة الله ورسوله ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ومنال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك ببيان عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة امرها بطريق التمثيل مع الايذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها صدر عنهم بعد القبول والالتزام وعبر عنها بالأمانة تنبيها على انها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير اخلال بشيء من حقوقها وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السماوات وغيرها بالعرض عليها لاظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها وعن عدم استعدادهن لقبولها بالاباء والاشفاق منها لتهويل امرها وتربية فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة التي يستعمل فيها القوى الجسمانية التي أشدها وأعظمها ما فيهن من القوة والشدة والمعنى ان تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الاجرام العظام التي هي مثل في القوة والشدة مراعاتها وكانت ذات شعور وادراك لا بين قبولها وأشفقن منها ولكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق روما لزيادة تحقيق المعنى المقصود بالتمثيل وتوضيحه «وحملها الإنسان» أي عند عرضها عليه اما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده أو بتكليفه إياها يوم الميثاق أي تكلفها والتزمها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة وهو اما عبارة عن قبوله لها بموجب استعداده الفطري أو عن اعترافه بقوله بلى وقوله تعالى «إنه كان ظلوما جهولا» اعتراض وسط بين الحمل وغايته للايذان من أول الامر بعدم وفائه بما عهده وتحمله أي انه كان مفرطا في الظلم مبالغا في الجهل أي بحسب غالب افراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو اعترافهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تبديلا والى الفريق الأول أشير بقوله تعالى «ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات» أي حملها الانسان ليعذب الله بعض افراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على ان اللام للعاقبة فإن التعذيب وان لم يكن غرضا له من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض افراده ترتب الاغراض على الافعال المعللة بها ابرز في معرض الغرض أي كان عاقبة حمل الانسان لها ان يعذب الله تعالى هؤلاء من افراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية والى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى «ويتوب الله على المؤمنين
والمؤمنات» أي كان عاقبة حمله ان يتوب الله تعالى على هؤلاء من افراده أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة وتلافيهم لما
118

فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الانسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطب وتربية المهابة والاظهار في موقع الاضمار ثانيا لابراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه والله تعالى اعلم وجعل الأمانة التي شأنها ان تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة التي هي من افعال المكلفين التابعة للتكليف بمعزل من التقريب وحمل الكلام على تقرير الوعد الكريم الذي ينبئ عنه قوله تعالى ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما يجعل تعظيم شأن الطاعة ذريعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الامر العظيم الشأن وراعاها فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين يأباه وصفه بالظلم والجهل أولا وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق ثانيا وقيل المراد بالأمانة مطلق الانقياد الشامل للطبيعي والاختياري وبعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها فيكون الاباء امتناعا عن الخيانة وإتيانا بالمراد فالمعنى ان هذه الاجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتها وأتين بما أمرهن به كقوله تعالى اتينا طائعين وخانها الانسان حيث لم يأت بما امرناه به انه كان ظلوما جهولا وقيل انه تعالى لما خلق هذه الاجرام خلق فيها فهما وقال لها اني فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني فيها ونارا لمن عصاني فقلن نحن مسخرات لما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبغي ثوابا ولا عقابا ولما خلق آدم عليه السلام عرض عليه مثل ذلك فحمله وكان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليها جهولا بوخامة عافيته وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الاباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد لها وبحمل الانسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية هذا قريب من التحقيق فتأمل والله الموفق وقرئ ويتوب الله على الاستئناف «وكان الله غفورا رحيما» مبالغا في المغفرة والرحمة حيث تاب عليهم وغفر لهم فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم قال صلى الله عليه وسلم من قرا سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه اعطى الأمان من عذاب القبر والله اعلم
119

سورة سبأ مكية وقيل الا ويرى الذين أوتوا العلم الآية وهي اربع وخمسون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض» أي له تعالى خلقا وملكا وتصرفا بالايجاد والاعدام والاحياء والأمانة جميع ما وجد فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فكأنه قيل له جميع المخلوقات كما مر في آية الكرسي ووصفه تعالى بذلك لتقرير ما افاده تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة بالاسم الجليل من اختصاص جميع افراده به تعالى على ما بين في فاتحة الكتاب ببيان تفرده تعالى واستقلاله بما يوجب ذلك وكون كل ما سواه من الموجودات التي من جملتها الانسان تحت ملكوته تعالى ليس لها في حد ذاتها استحقاق الوجود فضلا عما عداه من صفاتها بل كل ذلك نعم فائضة عليها من جهته عز وجل فما هذا شانه فهو بمعزل من استحقاق الحمد الذي مداره الجميل الصادر عن القادر بالاختيار فظهر اختصاص جميع افراده به تعالى وقوله تعالى «وله الحمد في الآخرة» بيان لاختصاص الحمد الأخروي به تعالى إثر بيان اختصاص الدنيوي به على أن الجار متعلق إما بنفس الحمد أو بما تعلق به الخبر من الاستقرار وإطلاقه عن ذكر ما يشعر بالمحمود عليه ليس للاكتفاء بذكر كونه في الآخرة عن التعيين كما اكتفى فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد أيضا فيها بل ليعم النعم الأخروية كما في قوله تعالى الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة وقوله تعالى الذي أحلنا دار المقامة من فضله الآية وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية كما في قوله تعالى الحمد لله الذي هدانا لهذا أي لما جزاؤه هذا من الايمان والعمل الصالح والفرق بين الحمدين مع كون نعمتي الدنيا والآخرة بطريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثاني على وجه التلذذ والاغتباط وقد ورد في الخبر أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس «وهو الحكيم» الذي أحكم أمور الدين والدنيا ودبرها حسبما تقتضيه الحكمة «الخبير» ببواطن الأشياء ومكنوناتها وقوله تعالى «يعلم ما يلج
120

في الأرض» الخ تفصيل لبعض ما يحيط به علمه من الأمور التي نيطت بها مصالحهم الدنيوية والدينية أي يعلم ما يدخل فيها من الغيث والكنوز والدفائن والأموات ونحوها «وما يخرج منها» كالحيوان والنبات وما العيون ونحوها «وما ينزل من السماء» كالملائكة والكتب والمقادير ونحوها وقرئ وما نزل بالتشديد ونون العظمة «وما يعرج فيها» كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والأدخنة «وهو الرحيم» للحامدين على ما ذكر من نعمة «الغفور» للمفرطين في ذلك وكرمه «وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة» أرادوا بضمير المتكلم جنس البشر قاطبة لا أنفسهم أو معاصريهم فقط كما أرادوا بنفي إتيانها نفى وجودها بالكلية لا عدم حضورها مع تحققها في نفس الامر وإنما عبروا عنه بذلك لأنهم كانوا يوعدون بإتيانها ولأن وجود الأمور الزمانية المستقبلة لا سيما اجزاء الزمان لا يكون إلا بالاتيان والحضور وقيل هو استبطاء لإتيانها الموعود بطريق الهزء والسخرية كقولهم متى هذا الوعد «قل بلى» رد لكلامهم وإثبات لما نفوه على معنى ليس الامر إلا إتيانها وقوله تعالى «وربي لتأتينكم» تأكيد له على أتم الوجوه وأكملها وقرئ ليأتينكم على تأويل الساعة باليوم أو الوقت وقوله تعالى «عالم الغيب» الخ إمداد للتأكيد وتسديد له إثر تسديد وكسر لسورة نكيرهم واستبعادهم فإن تعقيب القسم بحلائل نعوت المقسم به على الاطلاق يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة ثباته وصحته لما أن لك في حكم الاستشهاد على الامر ولا ريب في أن المستشهد به كلما كان أجل وأعلا كانت الشهادة آكد وأقوى والمستشهد عليه أحق بالثبوت وأولى لا سيما إذا خص بالذكر من البعوت ماله تعلق خاص بالمقسم عليه كما نحن فيه فإن وصفه بعلم الغيب الذي اشهر افراده وأدخلها في الخفاء هو المقسم عليه تنبيه لهم على علة الحكم وكونه مما لا يحوم حوله شائبة ريب ما وفائدة الامر بهذه المرتبة من اليمين أن لا يقى المعاندين عذر ما أصلا فإنهم كانوا يعرفون أمانته ونزاهته عن وصمة الكذب فضلا عن اليمين الفاجرة وإنما لم يصدقوه مكابرة وقرئ علام الغيب وعالم الغيب وعالم الغيوب بالرفع على المدح «لا يعزب عنه» أي لا يعد وقرئ بكسر الزاي «مثقال ذرة» مقدار أصغر نملة «في السماوات ولا في الأرض» أي كائنة فيهما «ولا أصغر من ذلك» أي من مثقال ذرة «ولا أكبر» أي منه ورفعهما على الابتداء والخبر قوله تعالى «إلا في كتاب مبين» هو اللوح المحفوظ والجملة مؤكدة لنفى العزوب وقرئ ولا أصغر ولا أكبر بفتح الراء على نفى الجنس ولا يجوز ان يعطف المرفوع على مثقال ولا المفتوح على ذرة بأنه فتح في
حيز الجر لا متاع الصرف لما أن الاستثناء يمنعه إلا أن يجعل الضمير في عنه للغيب ويجعل المثبت في اللوح خارجا عنه لبروزه للمطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شئ إلا مسطورا في اللوح «ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات» علة لقوله تعالى لتأنينكم وبيان لما
121

يقتضى إتيانها «أولئك» إشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف أي أولئك الموصوفون بالصفات الجليلة «لهم» بسبب ذلك «مغفرة» لما فرط منهم من بعض فرطات قلما يخلو عنها البشر «ورزق كريم» لا تعب فيه ولا من عليه «والذين سعوا في آياتنا» بالقدح فيها وصد الناس عن التصديق بها «معاجزين» أي مسابقين كي يفوتونا وقرئ معجزين أي مثبطين عن الايمان من إرادة «أولئك لهم عذاب» الكلام فيه كالذي مر آنفا ومن في قوله تعالى «من رجز» للبيان قال قتادة رضى الله عنه الرجز سوء العذاب وقوله تعالى «أليم» بالرفع صفة عذاب أي أولئك الساعون لهم عذاب من جنس سوء العذاب شديد الإيلام وقرئ اليم بالجر صفة لرجز «ويرى الذين أوتوا العلم» أي يعلم أولو العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يشايعهم من علماء الأمة أو من آمن من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب واضرابهما رضى الله عنهم «الذي أنزل إليك من ربك» أي القرآن «هو الحق» بالنصب على أنه مفعول ثان ليرى والمفعول الأول هو الموصول الثاني وهو ضمير الفصل وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر والجملة هو المفعول الثاني ليرى وقوله تعالى ويرى الخ مستأنف مسوق للاستشهاد بأولى العلم على الجهلة الساعين في الآيات وقيل منصوب عطفا على يجزى أي وليعلم أولو العلم عند مجئ الساعة معاينة انه الحق حسبما علموه الآن برهانا ويحتجوا به على المكذبين وقد جوز أن يراد بأولى العلم من لم يؤمن من الأحبار أي ليعلموا يومئذ انه هو الحق فيزدادوا حسرة وغما «ويهدي» عطف على الحق عطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله كما في قوله تعالى صافات ويقبض أي وقابضات كأنه قيل ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك الحق وهاديا «إلى صراط العزيز الحميد» الذي هو التوحيد والتدرع بلباس التقوى وقيل مستأنف وقيل حال من الذي انزل على إضمار مبتدأ أي وهو يهدى كما في قوله من قال [نجوت وأرهنهم مالكا] «وقال الذين كفروا» هم كفار قريش قالوا مخاطبا بعضهم «هل ندلكم على رجل» يعنون به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما قصدوا بالتنكير الطنز والسخرية قاتلهم الله تعالى «ينبئكم» أي يحدثكم بعجب عجاب وقرئ ينبئكم من الإنباء «إذا مزقتم كل ممزق» أي إذا متم ومزقت أجسادكم كل تمزيق وفرقت كل تفريق بحيث صرتم ترابا ورفاتا «إنكم لفي خلق جديد» أي مستقرون فيه عدل إليه عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث مثل تبعثون أو
122

تخلقون خلقا جديدا للإشباع في الاستبعاد والتعجب وكذلك تقديم الظرف والعامل فيه ما دل عليه المذكور لا نفسه لما ان ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها ويد فعيل بمعنى فاعل من جد فهو جديد وقل فهو قليل وقيل بمعنى مفعول من جد النساج الثوب إذا قطعه ثم شاع «افترى على الله كذبا» فيما قاله «أم به جنة» أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه والاستدلال بهذا الترديد على أن بين الصدق والكذب واسطة هو ما لا يكون من الاخبار عن بصيرة بين الفساد لظهور كون الافتراء أخص من الكذب «بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد» جواب من جهة الله تعالى عن ترديدهم الوارد على طريقة الاستفهام بالاضراب عن شقيه وإبطالها وإثبات قسم ثالث كاشف عن حقيقة الحال ناع عليهم سوء حالهم وابتلاءهم بما قالوا في حقه صلى الله عليه وسلم كأنه قيل ليس الامر كما زعموا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضلال عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقة وفيما يؤدي إليه ذلك من العذاب ولذلك يقولون ما يقولون وتقديم العذاب على ما يوجبه ويستتبعه للمسارعة إلى بيان ما يسوؤهم ويفت في أعضادهم والاشعار بغاية سرعة ترتبه عليه كأنه يسابقه فيسبقه ووصف الضلال بالبعد الذي هو وصف الضال للمبالغة ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنبيه بما في حيز الصلة على أن علة ما ارتكبوه واجترءوا عليه من الشناعة الفظيعة كفرهم بالآخرة وما فيها من فنون العقاب ولولاه لما فعلوا ذلك خوفا من غائلته وقوله تعالى «أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض» استئناف مسوق لتهويل ما اجترءوا عليه من تكذيب آيات الله تعالى واستعظام ما قالوا في حقه صلى الله عليه وسلم وانه من العظائم الموجبة لنزول أشد العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريث وتأخير والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى «إن نشأ» الخ بيان لما ينبئ عنه ذكر إحاطتهما بهم من المحذور المتوقع من جهتهما وفيه تنبيه على انه لم يبق من أسباب وقوعه إلا تعلق المشيئة به أي افعلوا ما فعلوا من المنكر الهائل المستتبع للعقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم بحيث لا مفر لهم عنه ولا محيص إن نشا جريا على موجب جناياتهم «نخسف بهم الأرض» كما خسفناها بقارون «أو نسقط عليهم كسفا» أي قطعا «من السماء» كما أسقطناها على أصحاب الأيكة لاستيجابهم ذلك بما ارتكبوه من الجرائم وقيل هو تذكير بما يعاينونه مما يدل على كمال قدرته وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتهم البعث حتى جعلوه افتراء وهزءا وتهديد عليها والمعنى أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أهم أشد خلقا أم هي وإن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات فتأمل وكن الحق المبين وقرئ يخسف
123

ويسقط بالياء لقوله تعالى افترى على الله وكسفا بسكون السين «إن في ذلك» أي فيما ذكر من السماء والأرض من حيث إحاطتهما بالناظر من جميع الجوانب أو فيما تلى من الوحي الناطق بما ذكر «لآية» واضحة «لكل عبد منيب» شأنه الإنابة إلى ربه فإنه إذا تأمل فيهما أو في الوحي المذكور ينزجر عن تعاطى القبائح وبنيب إليه تعالى وفيه حث بليغ على التوبة والإنابة وقد أكد ذلك بقوله تعالى «ولقد آتينا داود منا فضلا» أي آتيناه لحسن إنابته وصحة توبته فضلا على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي نوعا من الفضل وهو ما ذكر بعد فإنه معجزة خاصة به صلى الله عليه وسلم أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن فتنكيره للتفخيم ومنا لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية كما في قوله تعالى وآتيناه من لدنا علما وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا اخر تقى النفس مترقبة له فإذا وردها يتمكن عندها فضل تمكن «يا جبال أوبي معه» من التأويب أي رجعي معه التسبيح أو النوحة على الذنب وذلك اما بأن يخلق الله تعالى فيها صوتا مثل صوته كما خلق الكلام في الشجرة أو بأن يتمثل له ذلك وقرئ أوبي من الأوب أي ارجعي معه في التسبيح كلما رجع فيه وكان كلما سبح
عليه الصلاة والسلام يسمع من الجبال ما يسمع من المسبح معجزة له عليه الصلاة والسلام وقيل كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها وهو بدل من آتينا بإضمار قلنا أو من فضلا بإضمار قولنا والطير بالنصب عطفا على فضلا بمعنى وسخرنا له الطير لان إيتاءها إياه عليه الصلاة والسلام تسخيرها له فلا حاجة إلى اضماره كما نقل عن الكسائي ولا إلى تقدير مضاف أي تسبيح الطير كما نقل عنه في رواية وقيل عطفا على محل الجبال وفيه من التكلف لفظا ومعنى مالا يخفي وقرئ بالرفع عطفا على لفظها تشبيها للحركة البنائية العارضة بالحركة الاعرابية وقد جوز انتصابه على انه مفعول معه والأول هو الوجه وفي تنزيل الجبال والطير منزلة العقلاء المطيعين لامره تعالى المذعنين لحكمه المشعر بأنه ما من حيوان وجماد وصامت وناطق الا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على ارادته من الفخامة المعربة عن غاية عظمه شأنه تعالى وكمال كبرياء سلطانه مالا يخفي على أولى الألباب «وألنا له الحديد» أي جعلناه لينا في نفسه كالشمع يصرفه في يده كيف يشاء من غير إحماء بنار ولا ضرب بمطرقة أو جعلناه بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه لينا كالشمع بالنسبة إلى سائر القوى البشرية ان اعمل امرناه ان اعمل على ان ان مصدرية حذف عنها الباء وفي حملها على المفسرة تكلف لا يخفي سابغات واسعات وقرئ صابغات وهي الدروع الواسعة الضافية وهو عليه الصلاة والسلام أول من اتخذها وكانت قبل صفائح قالوا كان عليه الصلاة والسلام حين ملك على بني إسرائيل يخرج متنكر فيسأل الناس ما تقولون في داود فيثنون عليه فقيض الله تعالى له ملكا في
124

صورة آدمي فسأله على عادته فقال نعم الرجل لولا خصلة فيه فريع داود فسأله عنها فقال لولا انه يطعم عياله من بيت المال فعند ذلك سأل ربه ان يسبب له ما يستغنى به عن بيت المال فعلمه تعالى صنعة الدروع وقيل كان يبيع الدروع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ويتصدق على الفقراء «وقدر في السرد» السرد نسج الدروع أي اقتصد في نسجها بحيث تتناسب حلقها وقيل قدر في مساميرها فلا تعملها رقاقا ولا غلاظا ورد بان دروعه عليه الصلاة والسلام لم تكن مسمرة كما ينبئ عنه إلانة الحديد وقيل معنى قدر في السرد لا تصرف جميع أوقاتك إليه بل مقدار ما يحصل به القوت وأما الباقي فاصرفه إلى العبادة وهو الأنسب بقوله تعالى «واعملوا صالحا» عمم الخطاب حسب عموم التكليف له عليه الصلاة والسلام ولأهله «إني بما تعملون بصير» تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به «ولسليمان الريح» أي وسخرنا له الريح وقرئ برفع الريح أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ الرياح «غدوها شهر ورواحها شهر» أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشى كذلك والجملة إما مستأنفة أو حال من الريح وقرئ غدوتها وروحتها وعن الحسن رحمه الله كان يغدو أي من دمشق فيقيل بإصطخر ثم بروح فيكون رواحه بكابل وقيل كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند ويحكى أن بعضهم رآى مكتوبا في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان عليه السلام نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه فبايتون بالشام إن شاء الله تعالى «وأسلنا له عين القطر» أي النحاس المذاب أساله من معدنه كما ألان الحديد لداود عليهما السلام فنبع منه نبوع الماء من الينبوع ولذلك سمى عينا وكان ذلك باليمن وقيل كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام وقوله تعالى «ومن الجن من يعمل بين يديه» إما جملة من مبتدأ وخبر أو من يعمل عطف على الريح ومن الجن حال متقدمة «بإذن ربه» بأمره تعالى كما ينبئ عنه قوله تعالى «ومن يزغ منهم عن أمرنا» أي ومن يعدل منهم عما امرناه به من طاعة سليمان وقرئ يزغ على البناء المفعول من أزاغه «نذقه من عذاب السعير» أي عذاب النار في الآخرة روى عن السدى رحمه الله كان معه ملك بيده سوط من نار كل من استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجنى «يعملون له ما يشاء» تفصيل لما ذكر من عملهم وقوله تعالى «من محاريب» الخ بيان لما يشاء أي من قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بذلك لأنها يذب عنها ويحارب عليها وقيل هي المساجد «وتماثيل» وصور الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام على ما اعتادوه فإنها كانت تعمل حينئذ في المساجد ليراها الناس ويعبدوا مثل عباداتهم وحرمة التصاوير شرع جديد وروى أنهم عملوا أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد ان يصعد بسط الأسدان ذراعيهما
125

وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما «وجفان» جمع جفنة وهي الصفحة «كالجواب» كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية لاجتماع الماء فيها وهي من الصفات الغالبة كالدابة وقرئ بإثبات الياء قيل كان يقعد على الجفنة الف رجل «وقدور راسيات» ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها «اعملوا آل داود شكرا» حكاية لما قيل لهم وشكرا نصب على انه مفعول له أو مصدر لإعملوا لان العمل للمنعم شكر له أو لفعله المحذوف أي أشكروا شكرا أو حال أي شاكرين أو مفعول به أي اعملوا شكرا «وقليل من عبادي الشكور» أي المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفى حقه لان التوفيق للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهاية ولذلك قيل الشكور من يرى عجزه عن الشكر وروى أنه عليه الصلاة والسلام جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتى ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلى «فلما قضينا عليه الموت» أي على سليمان عليه السلام «ما دلهم» أي الجن أو آله «على موته إلا دابة الأرض» أي الأرضة أضيفت إلى فعلها وقرئ بفتح الراء وهو تأثر الخشبة من فعلها يقال أرضت الأرضة الخشبة أرضا فأرضت أرضا مثل أكلت القوارح أسنانه أكلا فأكلت أكلا «تأكل منسأته» أي عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها ما يطرد وقرئ منسأته بألف ساكنة بدلا من الهمزة وبهمزة ساكنة وبإخراجها بين بين عند الوقف ومنساءته عل مفعالة كميضاءة في ميضأة ومن ساته أي من طرف عصاه من سأة القوس وفيه لغتان كما في قحة بالكسر والفتح وقرئ اكلت منساته «فلما خر تبينت الجن» من تبينت الشيء إذا علمته بعد التباسه عليك أي علمت الجن علما بينا بعد التباس الامر عليهم «أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين» أي انهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته عليه الصلاة والسلام حينما وقع فلم يلبثوا بعده حولا في تسخيره إلى ان خر أو من تبين الشيء إذا ظهر وتجلى أي ظهرت الجن وان مع ما في حيزها بدل اشتمال من الجن أي ظهر ان الجن لو كانوا يعلمون الغيب الخ وقرئ تبينت الجن على البناء للمفعول على ان المتبين في الحقيقة هو ان مع ما في حيزها لأنه بدل وقرئ تبينت الانس والضمير في كانوا للجن في قوله تعالى ومن الجن من يعمل وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه تبينت الانس ان الجن لو كانوا يعلمون الغيب روى ان داود
عليه السلام أسس بنيان بيت المقدس في موضع فسطاط موسى فتوفي قبل تمامه فوصى به إلى سليمان عليهما السلام فاستعمل فيه الجن والشياطين فباشروه حتى إذا حان اجله وعلم به سأل ربه ان يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب فدعاهم فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلى متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها فبقي كذلك وهم فيما أمروا به من الاعمال حتى اكلت الأرضة عصاه فخر ميتا وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه
126

أينما صلى صلى الله عليه وسلم فلم يكن ينظر اليه الشيطان في صلاته الا احترق فمر به يوما شيطان فنظر فإذا سليمان عليه السلام قد خر ميتا ففتحوا عنه فإذا عصاه قد اكلها الأرضة فأرادوا ان يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وبقي في ملكه أربعين سنة وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه «لقد كان لسبأ» بيان لاخبار بعض الكافرين بنعم الله تعالى اثر بيان أحوال الشاكرين لها أي لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وقرئ بمنع الصرف على انه اسم القبيلة وقرئ بقلب الهمزة ألفا ولعله اخراج لها بين بين «في مسكنهم» وقرئ بكسر الكاف كالمسجد وقرئ بلفظ الجمع أي مواضع سكناهم وهي باليمن يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال آية دالة بملاحظة أحوالها السابقة واللاحقة على وجود الصانع المختار القادر على كل ما يشاء من الأمور البديعة المجازي للمحسن والمسيء معاضدة للبرهان السابق كما في قصتي داود وسليمان عليهما السلام «جنتان» بدل من آية أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي جنتان وفيه معنى المدح ويؤيده قراءة النصب على المدح والمراد بهما جماعتان من البساتين «عن يمين وشمال» جماعة يمين بلدهم وجماعة عن شماله كل واحدة من تينك الجماعتين في تقاربهما وتضامهما كأنهما جنة واحدة أو بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله «كلوا من رزق ربكم واشكروا له» حكاية لما قيل لهم على لسان نبيهم تكميلا للنعمة وتذكيرا لحقوقها أو لما نطق به لسان الحال أو بيان لكونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك «بلدة طيبة ورب غفور» استئناف مبين لما يوجب الشكر المأمور به أي بلدتكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم ما فيها من الطيبات وطلب منكم الشكر رب غفور لفرطات من يشكره وقرئ الكل بالنصب على المدح قيل كان أطيب البلاد هواء وأحصبها وكانت المرأة تخرج وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها وتسير فيما بين الأشجار فيمتلىء المكتل مما يتساقط فيه من الثمار ولم يكن فيه من مؤذيات الهوام شئ «فأعرضوا» عن الشكر بعد إبانة الآيات الداعية لهم إليه قيل أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله تعالى وذكروهم بنعمة وأنذروهم عقابه فكذبوهم «فأرسلنا عليهم سيل العرم» أي سيل الأمر العرم أي الصعب من عرم الرجل فهو عارم وعرم إذا شرس خلقه وصعب أو المطر الشديد وقيل العرم جمع عرمة وهي الحجارة المركومة وقيل هو السكر الذي يحبس الماء وقيل هو اسم للبناء الذي يجعل سدا وقيل هو البناء الرصين الذي بنته الملكة بلقيس بين الجبلين بالصخر والقار وحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خروقا على ما يحتاجون إليه في
127

سقيهم وقيل العرم الجرذ الذي نقب عليهم ذلك السد وهو الفأر الأعمى الذي يقال له الخلد سلطه الله تعالى على سدهم فنقبه فغرق بلادهم وقيل العرم اسم الوادي وقرئ العرم بسكون الراء قالوا كان ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى والنبي عليهما الصلاة والسلام «وبدلناهم بجنتيهم» أي أذهبنا جنتيهم وآتيناهم بدلهما «جنتين ذواتي أكل خمط» أي ثمر بشع فإن الخمط كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله وقيل هو الحامض والمر من كل شئ وقيل هو ثمرة شجرة يقال لها فسوة الضبع على صورة الخشخاش لا ينتفع بها وقيل هو الأراك وكل شجر ذي شوك والتقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقرئ أكل خمط بالإضافة وبتخفيف أكل «وأثل وشئ من سدر قليل» معطوفان على أكل لا على خمط فإن الأثل هو الطرفاء وقيل شجر يشبهه أعظم منه ولا ثمر له وقرئ وأثلا وشيئا عطفا على جنتين قيل وصف السدر بالقلة لما ان جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين والصحيح أن السدر صنفان صنف يؤكل من ثمره وينتفع بورقه لغسل اليد وصنف له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلا ولا ينتفع بورقه وهو الضال والمراد ههنا هو الثاني حتما وقال قتادة كان شجرهم خير الشجر فصيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم وتسمية البدل جنتين للمشاكلة والتهكم «ذلك» إشارة إلى مصدر قوله تعالى «جزيناهم» أو إلى ما ذكر من التبديل وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد رتبته في الفظاعة ومحله على الأول النصب على انه مصدر مؤكد للفعل المذكور وعلى الثاني النصب على أنه مفعول ثان له أي ذلك الجزاء الفظيع جزيناهم لاجزاء آخر أو ذلك التبديل جزيناهم لا غيره «بما كفروا» بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها أو بسبب كفرهم بالرسل «وهل نجازي إلا الكفور» أي وما نجزى هذا الجزاء إلا المبالغ في الكفران أو الكفر وقرئ يجازي على البناء للفاعل وهو الله عز وجل وهل يجازي على البناء للمفعول ورفع الكفور وهل يجزي على البناء للمفعول أيضا وهذا بيان ما أوتوا من النعم الحاضرة في مساكنهم وما فعلوا بها من الكفران وما فعل بهم من الجزاء وقوله تعالى «وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها» حكاية لما أوتوا من النعم البادية في مسايرهم ومتاجرهم وما فعلوا بها من الكفران وما حاق بهم بسبب ذلك تكملة لقصتهم وبيانا لعاقبتهم وإنما لم يذكر الكل معا لما في التثنية والتكرير من زيادة تنبيه وتذكير وهو عطف على كل لسبأ لا على ما بعده من الجمل الناطقة بأفعالهم أو بأجزيتها أي وجعلنا مع ما آتيناهم في مساكنهم من فنون النعم بينهم أي بين بلادهم وبين القرى الشامية التي باركنا فيها للعالمين «قرى ظاهرة» متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها فهي ظاهرة لأعين أهلها أو راكبة متن الطريق ظاهرة للسابلة غير بعيدة عن مسالكهم حتى تخفى عليهم «وقدرنا فيها السير» أي جعلناها في نسبة بعضها
128

إلى بعض على مقدار معين يليق بحال أبناء السبيل قيل كان الغادي من قرية يقيل في أخرى والرائح منها يبيت في أخرى إلى ان يبلغ الشام كل ذلك كان تكميلا لما أوتوا من أنواع النعماء وتوفيرا لها في الحضر والسفر «سيروا فيها» على إرادة القول أي وقلنا لهم سيروا في تلك القرى «ليالي وأياما» أي متى شئتم من الليالي والأيام «آمنين» من كل ما تكرهونه لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات أو سيروا فيها آمنين وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت ليالي وأياما كثيرة أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن لكن لا على الحقيقة بل على تنزيل تمكينهم من السير المذكور وتسوية مباديه وأسبابه على الوجه المذكور منزلة أمرهم بذلك «فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا» وقرئ يا ربنا بطروا النعمة وسئموا أطيب العيش وملوا العافية فطلبوا الكد والتعب كما طلب بنو إسرائيل الثوم والبصل مكان المن والسلوى وقالوا لو
كان جنى جناننا أبعد لكان أجدر أن نشتهيه وسألوا ان يجعل الله تعالى بينهم وبين الشام مفاوز وقفارا ليركبوا فيها الرواحل ويتزودوا الأزواد ويتطاولوا فيها على الفقراء فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب وقرئ بعد وربنا بعد بين أسفارنا وبعد بين أسفارنا على النداء وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به كما يقال سير فرسخان وبوعد بين أسفارنا وقرئ ربنا باعد بين أسفارنا وبين سفرنا وبعد برفع ربنا على الابتداء والمعنى على خلاف الأول وهو استبعاد مسايرهم مع قصرها أو دنوها وسهولة سلوكها لفرط تنعمهم وغاية ترفههم وعدم اعتدادهم بنعم الله تعالى كأنهم يتشاجون على الله تعالى ويتحازنون عليه «وظلموا أنفسهم» حيث عرضوها للسخط والعذاب حين بطروا النعمة أو غمطوها «فجعلناهم أحاديث» أي جعلناهم بحيث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم «ومزقناهم كل ممزق» أي فرقناهم كل تفريق على أن الممزق مصدر أو كل مطرح ومكان تفريق على أنه اسم مكان وفي عبارة التمزيق الخاص بتفريق المتصل وخرفه من تهويل الأمر والدلالة على شدة التأثير والإيلام ما لا يخفى أي مزقناهم تمزيقا لا غاية وراءه بحيث يضرب به الأمثال في كل فرقة ليس بعدها وصال حتى لحق غسان بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان وأصل قصتهم على ما رواه الكلبي عن أبي صالح ان عمرو بن عامر من أولاد سبأ وبينهما اثنى عشر أبا وهو الذي يقال له مزيقيا بن ماء السماء أخبرته طريفة الكاهنة بخراب سد مأرب وتفريق سيل العرم الجنتين وعن أبي زيد الأنصاري أن عمرا رأى جرزا يفر السد فعلم أنه لا بقاء له بعد وقيل إنه كان كاهنا وقد علمه بكهانته فباع املاكه وسار بقومه وهم ألوف من بلد إلى بلد حتى انتهى إلى مكة المعظمة وأهلها جرهم وكانوا قهروا الناس وحازوا ولاية البيت على بني إسماعيل عليه السلام وغيرهم فأرسل إليهم ثعلبة بن عمرو ابن عامر يسألهم المقام معهم إلى ان يرجع إليه رواده الذين أرسلهم إلى أصقاع البلاد يطلبون له موضعا
129

يسعه ومن معه من قومه فأبوا فاقتتلوا ثلاثة أيام فانهزمت جرهم ولم يفلت منهم إلا الشريد وأقام ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا فأصابتهم الحمى فاضطروا إلى الخروج وقد رجع إليه رواده فافترقوا فرقتين فرقة توجهت نحو عمان وهم الأزد وكندة وحمير ومن يتلوهم وسار ثعلبة نحو الشام فنزل الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بالمدينة وهم الأنصار ومضت غسان فنزلوا بالشام وانخزعت خزاعة بمكة فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحى فولى امر مكة وحجابة البيت ثم جاءهم أولاد إسماعيل عليه السلام فسألوهم السكنى معهم وحولهم فأذنوا لهم في ذلك وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما ان فروة بن مسيك الغطيفى سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ فقال صلى الله عليه وسلم هو رجل كان له عشرة أولاد ستة منهم سكنوا اليمن وهم مذحج وكندة والأزد والأشعريون وحمير وأنمار منهم بجيلة وخثعم وأربعة منهم سكنوا الشام وهم لخم وجذام وعاملة وغسان لما هلكت أموالهم وخربت بلادهم تفرقوا أيدي سبأ شذر مذر فنزلت طوائف منهم بالحجاز فمنهم خزاعة نزلوا بظاهر مكة ونزلت الأوس والخزرج بيثرب فكانوا أول من سكنها ثم نزل عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع وبنو قريظة والنضير فحالفوا الأوس والخزرج وأقاموا عندهم ونزلت طوائف اخر منهم بالشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غسان وعاملة ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم وسبأ تجمع هذه القبائل كلها والجمهور على أن جميع العرب قسمان قحطانية وعدنانية والقحطانية شعبان سبأ وحضرموت والعدنانية شعبان ربيعة ومضر وأما قضاعة فمختلف فيها بعضهم ينسبونها إلى قحطان وبعضهم إلى عدنان والله تعالى أعلم «إن في ذلك» أي فيما ذكر من قصتهم «لآيات» عظيمة «لكل صبار شكور» أي شأنه الصبر عن الشهوات ودواعي الهوى وعلى مشاق الطاعات والشكر على النعم وتخصيص هؤلاء بذلك لأنهم المنتفعون بها «ولقد صدق عليهم إبليس ظنه» أي حقق عليهم ظنه أو وجده صادقا وقرئ بالتخفيف أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه ويجوز تعدية الفعل إليه بنفسه لأنه نوع من القول وقرئ بنصب إبليس ورفع الظن مع التشديد بمعنى وجده ظنه صادقا ومع التخفيف بمعنى قال له الصدق حين خيل له إغواءهم وبرفعهما والتخفيف على الإبدال وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات أو ببنى آدم حين شاهد آدم عليه السلام قد أصغى إلى وسوسته قال إن ذريته أضعف منه عزما وقيل ظن ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكة أنه يجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وقال لأضلنهم ولأغوينهم «فاتبعوه» أي أهل سبأ أو الناس «إلا فريقا من المؤمنين» إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه على أن من بيانية وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه وهم المخلصون «وما كان له عليهم من سلطان» أي تسلط
130

واستيلاء بالوسوسة والاستواء وقوله تعالى «إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك» استثناء مفرغ من أعلم العلل ومن موصولة أي وما كان تسلطه عليهم إلا ليتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزا ممن هو في شك منها تعلقا حاليا يترتب عليه الجزاء أو إلا ليتميز المؤمن من الشاك أو إلا ليؤمن قدر إيمانه ويشك من قدر ضلاله والمراد من حصول العلم حصول متعلقه مبالغة «وربك على كل شيء حفيظ» أي محافظ عليه فإن فعيلا ومفاعلا صيغتان متآخيتان «قل» أي للمشركين إظهارا لبطلان ما هم عليه وتبكيتا لهم «ادعوا الذين زعمتم» أي زعمتموهم آلهة وهما مفعولا زعم ثم حذف الأول تخفيفا لطول الموصول بصلته والثاني لقيام صفته أعنى قوله تعالى «من دون الله» مقامه ولا سبيل إلى جعله مفعولا ثانيا لأنه لا يلتئم مع الضمير كلاما وكذا لا يملكون لأنهم لا يزعمونه والمعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم ثم أجاب عنهم إشعارا بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال «لا يملكون مثقال ذرة» من خير وشر ونفع وضر «في السماوات ولا في الأرض» أي في أمر ما من الأمور وذكرهما للتعميم عرفا أو لان آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام أو لان الأسباب القريبة للخير سماوية وأرضية والجملة استئناف لبيان حالهم «وما لهم» أي لآلهتهم «فيهما من شرك» أي شركة لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا «وما له» أي لله تعالى «منهم» من آلهتهم «من ظهير» يعينه في تدبير أمرهما «ولا تنفع الشفاعة عنده» أي لا توجد رأسا كما في قوله ولا ترى الضب بها ينجحر لقوله تعالى «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه» وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحا بنفي ما هو غرضهم من وقوعها وقوله تعالى «إلا لمن أذن له» استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقع الشفاعة في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له في الشفاعة من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة فتبين حرمان الكفرة منها بالكلية أما من جهة
أصنامهم فلظهور انتفاء الإذن لها ضرورة استحالة الإذن في الشفاعة لجماد لا يعقل ولا ينطق وأما من جهة من يعبدونه من الملائكة فلأن إذنهم مقصور على الشفاعة للمستحقين لها لقوله تعالى «لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا» ومن البين أن الشفاعة للكفرة بمعزل من الصواب أولا تنفع الشفاعة من الشفعاء المستأهلين لها في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أي لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة وأما من عداهم من غير المستحقين لها فلا تنفعهم أصلا وإن فرض وقوعها وصدورها عن الشفعاء إذ لم يؤذن لهم في شفاعتهم بل في شفاعة غيرهم فعلى هذا يثبت حرمانهم من شفاعة هؤلاء بعبارة النص ومن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حيث
131

حرموها من جهة القادرين على شفاعة بعض المحتاجين إليها فلأن حرموها من جهة العجزة عنها أولى وقرئ أذن له مبنيا للمفعول «حتى إذا فزع عن قلوبهم» أي قلوب الشفعاء والمشفوع لهم من المؤمنين وأما الكفرة فهم من موقف الاستشفاع بمعزل وعن التفزيع عن قلوبهم بألف منزل والتفزيع إزالة الفزع ثم ترك ذكر الفزع وأسند الفعل إلى الجار والمجرور وحتى غاية لما ينبئ عنه ما قبلها من الإشعار بوقوع الإذن لمن أذن له فإنه مسبوق بالاستئذان المستدعى للترقب والانتظار للجواب كأنه سئل كيف يؤذن لهم فقيل يتربصون في موقف الاستئذان والاستدعاء ويتوقفون على وجل وفزع مليا حتى إذا أزيل الفزع عن قلوبهم بعد اللتيا والتي وظهرت لهم تباشيرا الإجابة قالوا أي المشفوع لهم إذ هم المحتاجون إلى الاذن والمهتمون بأمره ماذا قال ربكم أي في شأن الاذن قالوا أي الشفعاء لأنهم المباشرون للاستئذان بالذات المتوسطون بينهم وبينه عز وجل بالشفاعة الحق أي قال ربنا القول الحق وهو الاذن في الشفاعة للمستحقين لها وقرئ الحق مرفوعا أي ما قاله الحق «وهو العلي الكبير» من تمام كلام الشفعاء قالوه اعترافا بغاية عظمة جناب العزة عز وجل وقصور شأن كل من سواه أي هو المنفرد بالعلو والكبرياء ليس لاحد من اشراف الخلائق ان يتكلم الا بإذنه وقرئ فزع مخففا بمعنى فزع وقرئ فزع على البناء للفاعل وهو الله وحده وقرئ فزع بالراء المهملة والغين المعجمة أي نفي الوجل عنها وافنى من فرغ الزاد إذا لم يبق منه شيء وهو من الاسناد المجازي لان الفراغ وهو الخلو حال ظرفه عند نفاده فأسند اليه على عكس قولهم جرى النهر وعن الحسن تخفيف الراء واصله فرغ الرجل عنها أي انتفى عنها وفنى ثم حذف الفاعل واسند إلى الجار والمجرور وبه يعرف حال التفريغ وقرئ ارتفع عن قلوبهم بمعنى انكشف عنها «قل من يرزقكم من السماوات والأرض» امر صلى الله عليه وسلم بتبكيت المشركين بحملهم على الاقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة فيهما وان الرازق هو الله تعالى فإنهم لا ينكرونه كما ينطق به قوله تعالى «قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر» فسيقولون الله وحيث كانوا يتلعثمون أحيانا في الجواب مخافة الالزام قيل له صلى الله عليه وسلم قل الله إذ لا جواب سواء عندهم أيضا وانا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين أي وان أحد الفريقين من الذين يوحدون المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية ويخصونه بالعبادة والذين يشركون به في العبادة الجماد النازل في أدنى المراتب الامكانية لعلى أحد الامرين من الهدى والضلال المبين وهذا بعد ما سبق من التقرير البليغ الناطق بتعيين من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح بذلك لجريانه على سنن الانصاف المسكت للخصم الألد وقرئ وانا أو إياكم اما على هدى أو في ضلال مبين واختلاف الجارين للايذان بأن الهادي كمن استعلى منارا ينظر الأشياء ويتطلع
132

عليها والضال كأنه منغمس في ظلام لا يرى شيئا أو محبوس في مطمورة لا يستطيع الخروج منها «قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون» وهذا أبلغ في الانصاف وابعد من الجدل والاعتساف حيث اسند فيه الاجرام وان أريد به الزلة وترك الأولى إلى أنفسهم ومطلق العمل إلى المخاطبين مع ان اعمالهم أكبر الكبائر قل يجمع بيننا ربنا يوم القيامة عند الحشر والحساب ثم يفتح بيننا بالحق أي يحكم بيننا ويفصل بعد ظهور حال كل منا ومنكم بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار وهو الفتاح الحاكم الفيصل في القضايا المنغلقة العليم بما ينبغي ان يقضى به «قل أروني الذين ألحقتم» أي ألحقتموهم «به شركاء» أريد بأمرهم بإراءة الأصنام مع كونها بمرأى منه صلى الله عليه وسلم اظهار خطئهم العظيم واطلاعهم على بطلان رأيهم أي أروينها لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله الذي ليس كمثله شيء في استحقاق العبادة وفيه مزيد تبكيت لهم بعد الزام الحجة عليهم كلا ردع لهم عن المشاركة بعد ابطال المقايسة «بل هو الله العزيز الحكيم» أي الموصوف بالغلبة القاهرة والحكمة الباهرة فأين شركاؤكم التي هي اخس الأشياء إذ لها من هذه الرتبة العالية والضمير اما الله عز وعلا أو للشأن كما في قل هو الله أحد «وما أرسلناك إلا كافة للناس» أي الا إرسالة عامة لهم فإنهم إذا عمتهم فقد كفتهم ان يخرج منها أحد منهم أو الا جامعا لهم في الابلاغ فهي حال من الكاف والتاء للمبالغة ولا سبيل إلى جعلها حالا من الناس لاستحالة تقدم الحال على صاحبها المجرور «بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون» ذلك فيحملهم جهلهم على ما هم عليه من الغى والضلال «ويقولون» من فرط جهلهم وغاية غيهم متى هذا الوعد بطريق الاستهزاء يعنون به المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله تعالى بجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا «إن كنتم صادقين» مخاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به «قل لكم ميعاد يوم» أي وعد يوم أو زمان وعدو الإضافة للتبيين وقرئ ميعاد يوم منونين على البدل ويوما بإضمار اعني للتعظيم «لا تستأخرون عنه» عند مفاجأته «ساعة ولا تستقدمون» صفة لميعاد وفي هذا الجواب من المبالغة في التهديد مالا يخفي حيث جعل الاستئخار في الاستحالة كالاستقدام الممتنع عقلا وقد مر بيانه مرارا ويجوز ان يكون نفي الاستئجار والاستقدام غير مقيد بالمفاجأة فيكون وصف الميعاد بذلك لتحقيقه
133

وتقريره «وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه» أي من الكتب القديمة الدالة على البعث وقيل ان كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروهم انهم يجدون نعته في كتبهم فغضبوا فقالوا ذلك وقيل الذي بين يديه القيامة «ولو ترى إذ الظالمون» المنكرون للبعث «موقوفون عند ربهم» أي في موقف المحاسبة «يرجع بعضهم إلى بعض القول» أي يتحاورون ويتراجعون القول يقول الذين استضعفوا بدل من يرجع الخ أي يقول الاتباع «للذين استكبروا» في الدنيا واستتبعوهم في الغي والضلال «لولا أنتم» أي لولا إضلالكم وصدكم لنا عن الايمان «لكنا مؤمنين» باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم «قال الذين استكبروا للذين استضعفوا» استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال الذين استكبروا في الجواب فقيل قالوا «أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين» منكرين لكونهم هم الصادين لهم عن الايمان مثبتين انهم هم الصادون بأنفسهم بسبب كونهم راسخين في الاجرام «وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا» إضرابا عن
أضرابهم وابطالا له «بل مكر الليل والنهار» أي بل صدنا مكركم بنا بالليل والنهار فحذف المضاف اليه وأقيم مقامه الظرف اتساعا أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الاسناد المجازي وقرئ بل مكر الليل والنهار بالتنوين ونصب الظرفين أي بل صدنا مكركم في الليل والنهار على ان التنوين عوض عن المضاف اليه أو مكر عظيم على انه للتفخيم وقرئ بل مكر الليل والنهار بالرفع والنصب أي بل تكرون الاغواء مكرا دائبا لا تفترون عنه فالرفع على الفاعلية أي بل صدنا مكركم الاغواء في الليل والنهار على ما سبق من الاتساع في الظرف بإقامته مقام المضاف اليه والنصب على المصدرية أي بل تكرون الاغواء مكر الليل والنهار أي مكرا دائما وقوله تعالى «إذ تأمروننا» ظرف للمكر أي بل مكركم الدائم وقت امركم لنا «أن نكفر بالله ونجعل له أندادا» على ان المراد بمكرهم اما نفس امرهم بما ذكر كما في قوله تعالى يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء
134

وجعلكم ملوكا فإن الجعلين المذكورين نعمة من الله تعالى واي نعمة واما أمور اخر مقارنة لامرهم داعية إلى الامتثال به من الترغيب والترهيب وغير ذلك وأسروا الندامة لما رأوا العذاب أي اضمر الفريقان الندامة على ما فعلا من الضلال والاضلال وأخفاها كل منهما عن الآخر مخافة التعيير أو أظهروها فإنه من الأضداد وهو المناسب لحالهم «وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا» أي في أعناقهم والاظهار في موضع الاضمار للتنويه بذمهم والتنبيه على موجب أغلالهم «هل يجزون إلا ما كانوا يعملون» أي لا يجزون الا جزاء ما كانوا يعملون أو الا بما كانوا يعملونه على نزع الجار «وما أرسلنا في قرية» من القرى «من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون» تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما منى به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد والمفاخرة بحظوظ الدنيا وزخارفها والتكبر بذلك على المؤمنين والاستهانة بهم من اجله وقولهم أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا بأنه لم يرسل قط أهل قرية من نذير الا قال مترفوهم مثل ما قال مترفو أهل مكة في حقه صلى الله عليه وسلم وكادوا به نحو ما كادوا به صلى الله عليه وسلم وقاسوا أمور الآخرة الموهومة والمفروضة عندهم على أمور الدنيا وزعموا انهم لو لم يكرموا على الله تعالى لما رزقهم طيبات الدنيا ولولا ان المؤمنين هانوا عليه تعالى لما حرمهموها وعلى ذلك الرأي الركيك بنوا احكامهم «وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين» اما بناء على انتفاء العذاب الأخروي رأسا أو على اعتقاد انه تعالى أكرمهم في الدنيا فلا يهينهم في الآخرة على تقدير وقوعها قل ردا عليهم وحسما لمادة طمعهم الفارغ وتحقيقا للحق الذي عليه يدور امر التكوين «إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء» ان يبسط له «ويقدر» على من يشاء ان يقدره عليه من غير ان يكون لاحد من الفريقين داع إلى ما فعل به من البسط والقدر فربما يوسع على العاصي ويضيق على المطيع وربما يعكس الامر وربما يوسع عليهما معا وقد يضيق عليهما وقد يوسع على شخص تارة ويضيق عليه أخرى يفعل كلا من ذلك حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة فلا يقاس على ذلك امر الثواب والعذاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها وقرئ ويقدر بالتشديد «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» ذلك فيزعمون ان مدار البسط هو الشرف والكرامة ومدار القدر هو الهوان ولا يدرون ان الأول كثيرا ما يكون بطريق الاستدراج والثاني بطريق الابتلاء ورفع الدرجات «وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم
135

عندنا زلفى» كلام مستأنف من جهته عز وعلا خوطب به الناس بطريق التلوين والالتفات مبالغة في تحقيق الحق وتقرير ما سبق أي وما جماعة أموالكم وأولادكم بالجماعة التي تقربكم عندنا قربة فإن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث أو بالخصلة التي تقربكم وقرئ بالذي أي بالشيء الذي «إلا من آمن وعمل صالحا» استثناء من مفعول تقربكم أي وما الأموال والأولاد تقرب أحدا الا المؤمن الصالح الذي انفق أمواله في سبيل الله تعالى وعلم أولاده الخير ورباهم على الصلاح ورشحهم للطاعة وقيل من أموالكم وأولادكم على حذف المضاف أي الا أموال من الخ «فأولئك» إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما ان الافراد في الفعلين باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار اليه للايذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي فأولئك المنعوتون بالايمان والعمل الصالح «لهم جزاء الضعف» أي ثابت لهم ذلك على ان الجار والمجرور خبر لما بعده والجملة خبر لأولئك وفيه تأكيد لتكرر الاسناد أو يثبت لهم ذلك على ان الجار والمجرور خبر لأولئك وما بعده مرتفع على الفاعلية وإضافة الجزاء إلى الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول أصله فأولئك لهم ان يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثم جزاء الضعف ومعناه ان تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشرا فما فوقها وقرئ جزاء الضعف على فأولئك لهم الضعف جزاء وجزاء الضعف على ان يجازوا الضعف وجزاء الضعف بالرفع على ان الضعف بدل من جزاء «بما عملوا» من الصالحات «وهم في الغرفات» أي غرفات الجنة «آمنون» من جميع المكاره وقرئ بفتح الراء وسكونها وقرئ في الغرفة على إرادة الجنس «والذين يسعون في آياتنا» بالرد والطعن فيها «معاجزين» سابقين لأنبيائنا أو زاعمين انهم يفوتوننا «أولئك في العذاب محضرون» لا يجديهم ما عولوا عليه نفعا «قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده» أي يوسعه عليه تارة «ويقدر له» أي يضيقه عليه تارة أخرى فلا تخشوا الفقر وانفقوا في سبيل الله وتعرضوا لنفحاته تعالى «وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه» عوضا اما عاجلا واما آجلا «وهو خير الرازقين» فإن غيره واسطة في ايصال رزقه لا حقيقة لرازقيته «ويوم يحشرهم جميعا» أي المستكبرين والمستضعفين وما كانوا يعبدون من دون الله ويوم ظرف لمضمر متأخر سيأتي تقديره أو مفعول لمضمر مقدم نحو اذكر «ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون» تقريعا للمشركين وتبكيتا لهم على نهج قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الخ وإفناطا لهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة من شفاعتهم وتخصيص الملائكة
136

لأنهم اشرف شركائهم والصالحون للخطاب منهم ولان عبادتهم مبدأ الشرك فبظهور قصورهم عن رتبة المعبودية وتنزههم عن عبادتهم يظهر حال سائر شركائهم بطريق الأولوية وقرئ الفعلان بالنون «قالوا» استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل فماذا يقول الملائكة حينئذ فقيل يقولون متنزهين عن ذلك «سبحانك أنت ولينا من دونهم» والعدول إلى صيغة الماضي الدلالة على التحقق أي أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم اضربوا عن ذلك ونفوا انهم عبدوهم حقيقة بقولهم «بل كانوا يعبدون الجن» أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله سبحانه وتعالى وقيل كانوا يتمثلون
لهم ويخيلون لهم انهم الملائكة فيعبدونهم وقيل يدخلون أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها «أكثرهم بهم مؤمنون» الضمير الأول للانس أو للمشركين والأكثر بمعنى الكل والثاني للجن «فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا» من جملة ما يقال للملائكة عند جوابهم بالتنزه والتبرؤ عما نسب إليهم الكفرة يخاطبون بذلك على رؤوس الاشهاد اظهارا لعجزهم وقصورهم عند عبدتهم وتنصيصا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية والفاء ليست لترتيب ما بعدها من الحكم على جواب الملائكة فإنه محقق أجابوا بذلك أم لا بل لترتيب الاخبار به عليه ونسبة عدم النفع والضر إلى البعض المبهم للمبالغة فيما هو المقصود الذي هو بيان عدم نفع الملائكة للعبدة بنظمه في سلك عدم نفع العبدة لهم كأن نفع الملائكة لعبدتهم في الاستحالة والانتفاء كنفع العبدة لهم والتعرض لعدم الضر مع انه لا بحث عنه أصلا اما لتعميم العجز أو لحمل عدم النفع على تقدير العبادة وعدم الضر على تقدير تركها أو لان المراد دفع الضر على حذف المضاف وتقييد هذا الحكم بذلك اليوم مع ثبوته على الاطلاق لانعقاد رجائهم على تحقق النفع يومئذ وقوله عز وجل «ونقول للذين ظلموا» عطف على نقول للملائكة لا على لا يملك كما قيل فإنه مما يقال يوم القيامة خطابا للملائكة مترتبا على جوابهم المحكى وهذا حكاية لرسول صلى الله عليه وسلم لما سيقال للعبدة يومئذ اثر حكاية ما سيقال للملائكة أي يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة كذا وكذا ويقولون كذا وكذا ونقول للمشركين «ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون» يكون من الأهوال والأحوال مالا يحيط به نطاق المقال وقوله تعالى «وإذا تتلى عليهم آياتنا
137

بينات» بيان لبعض آخر من كفرانهم أي إذا تتلى عليهم بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم آياتنا الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك «قالوا ما هذا» يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم «إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم» فيستتبعكم بما يستدعيه من غير ان يكون هناك دين الهي وإضافة الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم لتحريك عرق العصبية منهم مبالغة في تقريرهم على الشرك وتنفيرهم عن التوحيد «وقالوا ما هذا» يعنون القرآن الكريم «إلا إفك» أي كلام مصروف عن وجهه لا مصداق له في الواقع «مفترى» بإسناده إلى الله تعالى «وقال الذين كفروا للحق» أي لامر النبوة أو الاسلام أو القرآن على ان العطف لاختلاف العنوان بأن يراد بالأول معناه والثاني نظمه المعجز «لما جاءهم» من غير تدبر ولا تأمل فيه «إن هذا إلا سحر مبين» ظاهر سحريته وفي تكرير الفعل والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه وما في لما من المسارعة إلى البيت بهذا القول الباطل انكار عظيم له وتعجيب بليغ منه «وما آتيناهم من كتب يدرسونها» فيها دليل على صحة الاشراك كما في قوله تعالى أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وقوله تعالى «أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون» وقرئ يدرسونها ويدرسونها بتشديد الدال يفتعلون من الدرس «وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير» يدعوهم إليه وينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا وقد بان من قبل ان لا وجه له بوجه من الوجوه فمن اين ذهبوا هذا المذهب الزائغ وهذا غاية تجهيل لهم وتسفيه لرأيهم ثم هددهم بقوله تعالى «وكذب الذين من قبلهم» من الأمم التقدمة والقرون الخالية كما كذبوا «وما بلغوا معشار ما آتيناهم» أي ما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى «فكذبوا رسلي» عطف على كذب الذين الخ بطريق التفصيل والتفسير كقوله تعالى «كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا» الخ «فكيف كان نكير» أي إنكاري لهم بالتدمير فليحذر هؤلاء من مثل ذلك «قل إنما أعظكم بواحدة» أي ما أرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة هي ما دل عليه قوله تعالى «أن تقوموا لله» على أنه بدل منها أو بيان لها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أن تقوموا من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تنتصبوا للأمر خالصا لوجه الله تعالى معرضا عن المماراة والتقليد «مثنى وفرادى» أي متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا فإن الازدحام يشوش الافهام ويخلط الأفكار بالأوهام وفي تقديم مثنى إيذان بأنه أوثق وأقرب إلى الاطمئنان «ثم
138

تتفكروا» في أمره صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيقته وحقيته وقوله تعالى «ما بصاحبكم من جنة» استئناف مسوق من جهته تعالى للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن مثل هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة لا يتصدى لا دعائه إلا مجنون لا يبالي بافتضاحه عند مطالبته بالبرهان وظهور عجزه أو مؤيد من عند الله مرشح للنبوة واثق بحجته وبرهانه وإذ قد علمتم أنه صلى الله عليه وسلم أرجح العالمين عقلا وأصدقهم قولا وأنزههم نفسا وأفضلهم علما وأحسنهم عملا وأجمعهم للكمالات البشرية وجب أن تصدقوه في دعواه فكيف وقد انضم إلى ذلك معجزات تخر لها صم الجبال ويجوز ان يتعلق بما قبله على معنى ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة وقد جوز ان تكون ما استفهامية على معنى ثم تتفكروا أي شئ به من آثار الجنون «إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد» هو عذاب الآخرة فإنه صلى الله عليه وسلم مبعوث في نسم الساعة «قل ما سألتكم من أجر» أي أي شئ سألتكم من أجر على الرسالة «فهو لكم» والمراد نفى السؤال رأسا كقول من قال لمن لم يعطه شيئا إن أعطيتني شيئا فخذه وقيل ما موصوله أريد بها ما سألهم بقوله تعالى ما أسألكم عليه من اجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا وقوله تعالى لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى واتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى وقرباه صلى الله عليه وسلم قرباهم «إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد» مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي وقرئ إن أجرى بسكون الياء «قل إن ربي يقذف بالحق» أي يلقيه وينزله على من يجتبيه من عباده أو يرمي به الباطل فيدمغه أو يرمى به في أقطار الآفاق فيكون وعدا بإظهار الإسلام وإعلاء كلمة الحق «علام الغيوب» صفة محمولة على محل إن واسمها أو بدل من المستكن في يقذف أو خبر ثان لأن أو خبر مبتدأ محذوف وقرئ بالنصب صفة لربى أو مقدرا بأعنى وقرئ بكسر الغين وبالفتح كصبور مبالغة غائب «قل جاء الحق» أي الإسلام والتوحيد «وما يبدئ الباطل وما يعيد» أي زهق الشرك بحيث لم يبق أثره أصلا مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة فجعل مثلا في الهلاك بالمرة ومنه قول عبيد أقفر من أهله عبيد فليس يبدي ولا يعيد وقيل الباطل إبليس أو الصنم والمعنى لا ينشئ خلقا ولا يعيد أو لا يبدئ خيرا لأهله ولا يعيد وقيل ما استفهامية منصوبة بما بعدها «قل إن ضللت» عن الطريق الحق «فإنما أضل على نفسي» فإن وبال ضلالى عليها لأنه بسببها إذ هي الجاهلة بالذات والأمارة بالسوء وبهذا الاعتبار قوبل الشرطية بقوله تعالى «وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي» لأن الاهتداء بهدايته وتوفيقه وقرئ ربى بفتح الياء «إنه سميع
139

قريب» يعلم قول كل من المهتدى والضال وفعله وإن بالغ في إخفائهما «ولو ترى إذ فزعوا» عند الموت أو البعث أو يوم بدر وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن
ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها فإذا دخلوا البيداء خسف بهم وجواب لو محذوف أي لرأيت أمرا هائلا «فلا فوت» فلا يفوتون الله عز وجل يهرب أو تحصن «وأخذوا من مكان قريب» من ظهر الأرض أو من الموقف إلى النار أو من صحراء بدر إلى قليبها أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم والجملة معطوفة على فزعوا وقيل على لا فوت على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا ويؤيده أنه قرئ واخذ بالعطف على محله أي فلا فوت هنا وهناك أخذ «وقالوا آمنا به» أي بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد مر ذكره في قوله تعالى ما بصاحبكم «وأنى لهم التناوش» التناوش التناول السهل أي ومن اين لهم أن يتناولوا الايمان تناولا سهلا «من مكان بعيد» فإنه في حيز التكليف وهم منه بمعزل بعيد وهو تمثيل حالهم في الاستخلاص بالايمان بعد ما فات عنهم وبعد بحال من يريد أن يتناول الشئ من غلوة تناوله من ذراع في الاستحالة وقرئ بالهمزة على قلب الواو لضمها وهو من نأشت الشئ إذا طلبته وعن أبي عمرو التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم نأشت إذا أبطأت وتأخرت ومنه قول من قال تمنى نئيشا ان يكون أطاعني وقد حدثت بعد الأمور أمور «وقد كفروا به» أي بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بالعذاب الشديد الذي أنذرهم إياه «من قبل» أي من قبل ذلك في أوان التكليف «ويقذفون بالغيب» ويرجمون بالظن ويتكلمون بما لم يظهر لهم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم من المطاعن أو في العذاب المذكور من بت القول بنفيه «من مكان بعيد» من جهة بعيدة من حاله صلى الله عليه وسلم حيث ينسبونه صلى الله عليه وسلم إلى الشعر والسحر والكذب وإن ابعد شئ مما جاء به الشعر والسحر وأبعد شئ من عادته المعروفة فيما بين الداني والقاصي الكذب ولعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمى شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم في لحوقه وقرئ ويقذفون على أن الشيطان يلقى إليهم ويلقنهم ذلك وهو معطوف على قد كفروا به على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلا لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيعوه من الايمان في الدنيا «وحيل بينهم وبين ما يشتهون» من نفع الايمان والنجاة من النار وقرئ بإشمام الضم للحاء «كما فعل بأشياعهم من قبل» أي بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة «إنهم كانوا في شك مريب» أي موقع في الريبة أو ذي ريبة والأول منقول ممن يصح أن يكون مريبا من الأعيان إلى المعنى والثاني من صاحب الشك إلى الشك كما يقال شعر شاعر والله أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبي إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا
140

سورة فاطر مكية وهي خمس وأربعون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «الحمد لله فاطر السماوات والأرض» مبدعهما من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه من الفطر وهو الشق وقيل الشق طولا كأنه شق العدم بإخراجهما منه وإضافته محضة لأنه بمعنى الماضي فهو نعت للاسم الجليل ومن جعلها غير محضة جعلة بدلا منه وهو قليل في المشتق «جاعل الملائكة» الكلام في إضافته وكونه نعتا أو بدلا كما قبله وقوله تعالى «رسلا» منصوب به على الوجه الثاني من الإضافة الاتفاق وأما على الوجه الأول فكذلك عند الكسائي واما عند البصريين فبمضمر يدل هو عليه لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عندهم إلا معرفا باللام وقال أبو سعيد السيرافي اسم الفاعل المتعدى إلى اثنين يعمل في الثاني لأن بإضافته إلى الأول تعذرت إضافته إلى الثاني فتعين نصبه له وعلل بعضهم ذلك بأنه بالإضافة أشبه المعرف باللام فعمل عمله وقرئ جاعل بالرفع على المدح وقرئ الذي فطر السماوات والأرض وجعل الملائكة أي جاعلهم وسائط بينه تعالى وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة أو بينه تعالى وبين خلقه أيضا حيث يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه هذا على تقدير كون الجعل تصييريا أما على تقدير كونه إبداعيا فرسلا نصب على الحالية وقرئ رسلا بسكون السين «أولي أجنحة» صفة لرسلا وأولو اسم جمع لذو كما أن أولاء اسم لذا ونظيرهما في الأسماء المتمكنة المخاض والخلفة وقوله تعالى «مثنى وثلاث ورباع» صفات لأجنحة أي ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد حسب تفاوت ما لهم من المتراتب ينزلون بها ويعرجون أو يسرعون بها والمعنى ان من الملائكة خلقا لكل واحد منهم جناحان وخلقا أجنحة كل منهم ثلاثة وخلقا آخر لكل منهم أربعة أجنحة ويروى أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة بجناحين منها يلقون أجسادهم وبآخرين منها يطيرون فيما أمروا به من جهته تعالى وجناحان منها مرخيان على وجوههم حياء من الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح وروى أنه سأله عليهما السلام أن يتراءى له في صورته فقال إنك لن تطيق ذلك قال إني أحب أن تفعل فخرج صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة فأتاه جبريل عليهما السلام في صورته فغشى عليه صلى الله عليه وسلم ثم أفاق وجبريل مسنده وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه فقال سبحان الله ما كنت أرى أن شيئا من الخلق هكذا فقال جبريل عليه السلام فكيف لو رأيت
141

إسرافيل له اثنا عشر جناحا جناح منها بالمشرق وجناح منها بالمغرب وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله عز وجل حتى يعود مثل الوصع وهو العصفور الصغير «يزيد في الخلق ما يشاء» استئناف مقرر لما قبله من تفاوت أحوال الملائكة في عدد الأجنحة ومؤذن بأن ذلك من أحكام مشيئته تعالى لا لأمر راجع إلى ذواتهم ببيان حكم كلى ناطق بأنه تعالى يزيد في أي خلق كان كل ما يشاء ان يزيده بموجب مشيئته ومقتضى حكمته من الأمور التي لا يحيط بها الوصف وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيص بعض المعاني بالذكر من الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن فبيان لبعض المواد المعهودة بطريق التمثيل لا بطريق الحصر فيها وقوله تعالى «إن الله على كل شيء قدير» تعليل بطريق التحقيق للحكم المذكور فإن شمول قدرته تعالى لجميع الأشياء مما يوجب قدرته تعالى على أن يزيد كل ما يشاؤه إيجابا بينا «ما يفتح الله للناس من رحمة» عبر عن إرسالها بالفتح إيذانا بأنها أنفس الخزائن التي يتنافس فيها المتنافسون وأعزها منالا وتنكيرها للإشاعة والابهام أي أي شئ يفتح الله من خزائن رحمته أية رحمة كانت من نعمة وصحة وأمن وعلم وحكمة إلى غير ذلك مما لا يحاط به «فلا ممسك لها» أي لا أحد يقدر على إمساكها «وما يمسك» أي أي شئ يمسك «فلا مرسل له» أي لا أحد يقدر على إرساله واختلاف الضميرين لما أن مرجع الأول مفسر بالرحمة ومرجع الثاني مطلق يتناولها وغيرها كائنا ما كان وفيه إشعار بأن رحمته سبقت غضبه «من بعده» أي من بعد إمساكه «وهو العزيز» الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي من جملتها
الفتح والإمساك «الحكيم» الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة والجملة تذييل مقرر لما قبلها ومعرب عن كون كل من الفتح والامساك بموجب الحكمة التي عليها يدور امر التكوين وبعد ما بين سبحانه انه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما بالقبض والبسط من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل ما بوجه من الوجوه أمر الناس قاطبة أو أهل مكة خاصة بشكر نعمه فقال «يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم» أي إنعامه عليكم إن جعلت النعمة مصدرا أو كائنة عليكم إن جعلت اسما أي راعوها واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها وتخصيص العبادة والطاعة بموليها ولما كانت نعم الله تعالى مع تشعب فنونها منحصرة في نعمة الايجاد ونعمة الابقاء نفى ان يكون في الوجود شئ غيره تعالى يصدر عنه إحدى النعمتين بطريق الاستفهام الإنكارى المنادى باستحالة أن يجاب عنه بنعم فقال «هل من خالق غير الله» أي هل خالق مغاير له تعالى موجود على أن خالق مبتدأ محذوف الخبر زيدت عليه كلمة من لتأكيد العموم وغير الله نعت له باعتبار محله كما أنه نعت له في قراءة الجر باعتبار لفظه وقرئ
142

بالنصب على الاستثناء وقوله تعالى «يرزقكم من السماء والأرض» أي بالمطر والنبات كلام مبتدأ على التقادير لا محل له من الإعراب داخل من حيز النفي والانكار ولا مساغ لما قيل من أنه صفة أخرى لخالق مرفوعة المحل أو مجرورته لأن معناه نفى وجود خالق موصوف بوصفى المغايرة والرازقية معا من غير تعرض لنفى وجود ما اتصف بالمغايرة فقط ولا لما قيل من أنه الخبر للمبتدأ ولا لما قيل من انه مفسر لمضمر ارتفع به قوله تعالى من خالق على الفاعلية أي هل يرزقكم من خالق الخ لما أن معناهما نفى رازقية خالق مغاير له تعالى من غير تعرض لنفى وجوده رأسا مع أنه المراد حتما ألا يرى إلى قوله تعالى «لا إله إلا هو» فإنه استئناف مسوق لتقرير النفي المستفاد منه قصدا وجار مجرى الجواب عما يوهمه الاستفهام صورة فحيث كان هذا ناطقا بنفي الوجود تعين ان يكون ذلك أيضا كذلك قطعا والفاء في قوله تعالى «فأنى تؤفكون» لترتيب إنكار عدولهم عن التوحيد إلى الاشراك على ما قبلها كأنه قيل وإذا تبين تفرده تعالى بالألوهية والخالقية والرازقية فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك وقوله تعالى «وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خطابي الناس مسارعة إلى تسليته صلى الله عليه وسلم بعموم البلية أولا والإشارة إلى الوعد والوعيد ثانيا أي وان استمروا على ان يكذبوك فيما بلغت إليهم من الحق المبين بعد ما أقمت عليهم الحجة وألقمتهم الحجر فتأس بأولئك الرسل في المصابرة على ما أصابهم من قبل قومهم فوضع موضعه ما ذكر اكتفاء بذكر السبب عن ذكر المسبب وتنكير الرسل للتفخيم الموجب لمزيد التسلية والتوجه إلى المصابرة أي رسل أولو شأن خطير وذوو عدد كثير «وإلى الله ترجع الأمور» لا إلى غيره فيجازى كلا منك ومنهم بما أنتم عليه من الأحوال التي من جملتها صبرك وتكذيبهم وفي الاقتصار على ذكر اختصاص المرجع بالله تعالى مع إبهام الجزاء ثوابا وعقابا من المبالغة في الوعد والوعيد ما لا يخفى وقرئ ترجع بفتح التاء من الرجوع والأول ادخل في التهويل «يا أيها الناس» رجوع إلى خطابهم وتكرير النداء لتأكيد العظة والتذكير «إن وعد الله» المشار اليه برجع الأمور إليه تعالى من البعث والجزاء «حق» ثابت لا محالة من غير خلف «فلا تغرنكم الحياة الدنيا» بأن يذهلكم التمتع بمتاعها ويلهيكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما يهمكم يوم حلول الميعاد والمراد نهيهم عن الاغترار بها وإن توجه النهى صورة إليها كما في قوله تعالى لا يجر منكم شقاقى «ولا يغرنكم بالله» وعفوة وكرمه تعالى «الغرور» أي المبالغ في الغرور وهو الشيطان بان يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعاصي قائلا اعملوا ما شئتم إن الله غفور يغفر الذنوب جميعا فإن ذلك وإن أمكن لكن تعاطى الذنوب بهذا التوقع من قبيل تناول السم تعويلا على دفع الطبيعة وتكرير فعل النهى للمبالغة فيه ولاختلاف الغرورين في الكيفية وقرئ الغرور بالضم على أنه مصدر أو جمع غار كقعود جمع قاعد
143

«إن الشيطان لكم عدو» عداوة قديمة لا تكاد تزول وتقديم لكم للاهتمام به «فاتخذوه عدوا» بمخالفتكم له في عقائدكم وأفعالكم وكونكم على حذر منه في مجامع أحوالكم وقوله تعالى «إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير» تقرير لعداوته وتحذير من طاعته بالتنبيه على أن غرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى ملاذ الدنيا ليس تحصيل مطالبهم ومنافعهم الدنيوية كما هو مقصد المتحابين في الدنيا عند سعى بعضهم في حاجة بعض بل هو توريطهم وإلقاؤهم في العذاب المخلد من حيث لا يحتسبون «الذين كفروا لهم» بسبب كفرهم وإجابتهم لدعوة الشيطان واتباعهم لخطواته «عذاب شديد» لا يقادر قدره مديد لا يبلغ مداه «والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم» بسبب ما ذكر من الايمان والعمل الصالح الذي من جملته عداوة الشيطان «مغفرة» عظيمة «وأجر كبير» لا غاية لهما «أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا» إما تقرير لما سبق من التباين البين بين عاقبتى الفريقين ببيان تباين حاليهما المؤديين إلى تينك العاقبتين والفاء لإنكار ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي ابعد كون حاليهما كما ذكر يكون من زين له الكفر من جهة الشيطان فانهمك فيه كمن استقبحه واجتنبه واختار الايمان والعمل الصالح حتى لا تكون عاقبتاهما كما ذكر فحذف ما حذف لدلالة ما سبق عليه وقوله تعالى «فإن الله يضل» الخ تقرير له وتحقيق للحق ببيان ان الكل بمشيئته تعالى أي فإنه تعالى يضل «من يشاء» ان يضله لاستحسانه واستحبابه الضلال وصرف اختياره إليه فيرده أسفل سافلين «ويهدي من يشاء» أن يهديه بصرف اختياره إلى الهدى فيرفعه إلى أعلى عليين وإما تمهيد لما يعقبه من نهيه صلى الله عليه وسلم عن التحسر والتحزن عليهم لعدم إسلامهم ببيان أنهم ليسوا بأهل لذلك بل لأن يضرب عنهم صفحا ولا يبالي بهم قطعا أي أبعد كون حالهم كما ذكر تتحسر عليهم فحذف لما دل عليه قوله تعالى «فلا تذهب نفسك عليهم حسرات» دلالة بينة وإما تمهيد لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من الحرص الشديد على إسلامهم والمبالغة في دعوتهم إليه ببيان استحالة تحولهم عن الكفر لكونه في غاية الحسن عندهم أي أبعد ما ذكر من زين له الكفر من قبل الشيطان فرآه فانهمك فيه يقبل الهداية حتى تطمع في إسلامه وتتعب نفسك في دعوته فحذف ما حذف لدلالة ما مر من قوله تعالى فإن الله يضل من يشاء الخ على انه ممن شاء الله تعالى ان يضله فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين وقرئ فلا تذهب نفسك وقوله تعالى حسرات إما مفعول له أي فلا
144

تهلك نفسك للحسرات والجمع للدلالة على تضاعف اغتمامه صلى الله عليه وسلم على أحوالهم أو على كثرة قبائح أعمالهم الموجبة للتأسف والتحسر وعليهم صلة تذهب
كما يقال هلك عليه حبا ومات عليه حزنا أو هو بيان للمتحسر عليه ولا يجوز أن يتعلق بحسرات لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته وإما حال كان كلها صارت حسرات وقوله تعالى «إن الله عليم بما يصنعون» أي من القبائح تعليل لما قبله على الوجوه الثلاثة مع ما فيه فيه من الوعيد عن ابن عباس رضى الله عنهما انها نزلت في أبي جهل ومشركي مكة «والله الذي أرسل الرياح» مبتدأ وخبر وقرئ الريح وصيغة المضارع في قوله تعالى «فتثير سحابا» لحكاية الحال الماضية استحضارا لعلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة ولأن المراد بيان إحداثها لتلك الخاصية ولذلك اسند إليها أو للدلالة على استمرار الإثارة «فسقناه إلى بلد ميت» وقرئ بالتخفيف «فأحيينا به الأرض» أي بالمطر النازل منه المدلول عليه بالسحاب فإن بينهما تلازما في الذهن كما في الخارج أو بالسحاب فإنه سبب السبب «بعد موتها» أي يبسها وإيراد الفعلين على صيغة الماضي للدلالة على التحقق وإسنادهما إلى نون العظمة المنبئ عن اختصاصهما به تعالى لما فيهما من مزيد الصنع ولتكميل المماثلة بين إحياء الأرض وبين البعث الذي شبه به بقوله تعالى «كذلك النشور» في كمال الاختصاص بالقدرة الربانية والكاف في حيز الرفع على الخبرية أي مثل ذلك الإحياء الذي تشاهدونه إحياء الأموات في صحة المقدورية وسهولة التأتى من غير تفاوت بينهما أصلا سوى الألف في الأول دون الثاني وقيل في كيفية الإحياء يرسل الله تعالى من تحت العرش ماء فينبت منه أجساد الخلق «من كان يريد العزة» هم المشركون الذين كانوا يتعززون بعبادة الأصنام كقوله تعالى «واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا» والذين كانوا يتعززون بهم من الذين آمنوا بألسنتهم كما في قوله تعالى «الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة» والجمع بين كان ويريد الدلالة على دوام الإرادة واستمرارها «فلله العزة جميعا» أي له تعالى وحده لا لغيره عزة الدنيا وعزة الآخرة أي فليطلبها منه لا من غيره فاستغنى عن ذكره بذكر دليله إيذانا بأن اختصاص العزة به تعالى موجب لتخصيص طلبها به تعالى وقوله تعالى «إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه» بيان لما يطلب به العزة وهو التوحيد والعمل الصالح وصعودهما إليه مجاز عن قبوله تعالى إياهما أو صعود الكتبة بصحيفتهما وتقديم الجار والمجرور عبارة عن كمال الاعتداد به كقوله تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات أي إليه يصل الكلم الطيب الذي به يطلب العزة لا إلى الملائكة الموكلين بأعمال العباد فقط وهو يعز صاحبه ويعطى طلبته بالذات
145

والمستكن في يرفعه للكلم فإن مدار قبول العمل هو التوحيد ويؤيده القراءة بنصب العمل أو العمل فإنه يحقق الإيمان ويقويه ولا ينال الدرجات العالية إلا به وقرئ يصعد من الإصعاد على البناءين والمصعد هو الله سبحانه أو المتكلم به أو الملك وقيل الكلم الطيب يتناول الذكر والدعاء والاستغفار وقراءة القرآن وعنه صلى الله عليه وسلم انه سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالحا لم تقبل وعن ابن مسعود رضى الله عنه ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات سبحان والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن فما يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يحيى بهن وجه رب العالمين ومصداقه قوله عز وجل إليه يصعد الكلم الطيب الخ «والذين يمكرون السيئات» بيان لحال الكلم الخبيث والعمل السيء وأهلهما بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح وانتصاب السيئات على أنها صفة للمصدر المحذوف أي يمكرون المكرات السيئات وهي مكرات قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى الثلاث التي هي الإثبات والقتل والإخراج «لهم» بسبب مكراتهم «عذاب شديد» لا يقادر قدره ولا يؤبه عنده لما يمكرون «ومكر أولئك» وضع اسم الإشارة موضع ضميرهم للإيذان بكمال تميزهم بما هم فيه من الشر والفساد عن سائر المفسدين واشتهارهم بذلك وما فيه من معنى البعد للتنبيه على ترامي امرهم في الطغيان وبعد منزلتهم في العدوان أي ومكر أولئك المفسدين الذين أرادوا ان يمكروا به صلى الله عليه وسلم «هو يبور» أي هو يهلك ويفسد خاصة لا من مكروا به ولقد أبارهم الله تعالى بعد إبارة مكراتهم حيث أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي اكتفوا في حقه صلى الله عليه وسلم بواحدة منهن «والله خلقكم من تراب» دليل آخر على صحة البعث والنشور أي خلقكم ابتداء منه في ضمن خلق آدم عليه السلام خلقا إجماليا كما مر في تحقيقه مرارا «ثم من نطفة» أي ثم خلقكم منها خلقا تفصيليا «ثم جعلكم أزواجا» أي أصنافا أو ذكرانا وإناثا وعن قتادة جعل بعضكم زوجا لبعض «وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه» إلا ملتبسة بعلمه تابعة لمشيئته «وما يعمر من معمر» أي من أحد وإنما سمى معمرا باعتبار مصيره أي وما يمد في عمر أحد «ولا ينقص من عمره» أي من عمر أحد على طريقة قولهم لا يثيب الله عبدا ولا يعاقبه إلا بحق لكن لاعلى معنى لا ينقص عمره بعد كونه زائدا بل على معنى لا يجعل من الابتداء ناقصا وقيل الزيادة والنقص في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح مثل أن يكتب فيه إن حج فلان فعمره ستون وإلا فأربعون وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الاعمار وقيل المراد بالنقص ما يمر من عمره وينقص فإنه يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة ثم يكتب تحت ذلك ذهب يوم ذهب يومان وهكذا حتى يأتي على آخره وقرئ ولا ينقص عل البناء للفاعل ومن عمره
146

بسكون الميم «إلا في كتاب» عن ابن عباس رضى الله عنهما انه اللوح وقيل علم الله عز وجل وقيل صحيفة كل إنسان «إن ذلك» أي ما ذكر من الخلق وما بعده مع كونه محارا للعقول والافهام «على الله يسير» لاستغنائه عن الأسباب فكذلك البعث «وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج» مثل ضرب للمؤمن والكافر والفرات الذي يكسر العطش والسائغ الذي يسهل انحداره لعذوبته والأجاج الذي يحرق بملوحته وقرئ سيغ كسيد وسيغ بالتخفيف وملح ككتف وقوله تعالى «ومن كل» أي من كل واحد منهما «تأكلون لحما طريا وتستخرجون» أي من المالح خاصة «حلية تلبسونها» إما استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم والمنافع وإما تكملة للتمثيل والمعنى كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث أنهما متفاوتان فيما هو المقصود بالذات من الماء لما خالط أحدهما ما أفسده وغيره عن كمال فطرته لا يساوي الكافر المؤمن وإن شاركه في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة ونحوهما لتباينهما فيما هو الخاصية العظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصلية وحيازته لكماله اللائق دون الآخر أو تفضيل للأجاج على الكافر من حيث انه يشارك العذب في منافع كثيرة والكافر خلو من المنافع بالكلية على طريقة
قوله تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله والمراد بالحلية اللؤلؤ والمرجان «وترى الفلك فيه» أي في كل منهما وإفراد ضمير الخطاب مع جمعه فيما سبق وما لحق لان الخطاب الكل حد تتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط «مواخر» شواق للماء بجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة «لتبتغوا من فضله» من فضل الله تعالى بالنقلة فيها واللام متعلقة بمواخر وقد جوز تعلقها بما يدل عليه الافعال المذكورة أي فعل ذلك لتبتغوا من فضله «ولعلكم تشكرون» أي ولتشكروا على ذلك وحرف الترجى للإيذان بكونه مرضيا عند الله تعالى «يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل» بزيادة أحدهما ونقص الآخر بإضافة بعض أجزاء كل منهما إلى الآخر «وسخر الشمس والقمر» عطف على يولج واختلافهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد حينا فحينا وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه وإنما المتعدد والمتجدد آثاره وقد أشير إليه بقوله تعالى «كل يجري» أي بحسب حركته الخاصة وحركته القسرية على المدارات اليومية المتعددة حسب تعدد أيام السنة جريانا مستمرا «لأجل مسمى»
147

قدره الله تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة كما روى عن الحسن رحمه الله وقيل جريانهما عبارة عن حركتيهما الخاصتين بهما في فلكيهما والأجل المسمى هو منتهى دورتيهما ومدة الجريان للشمس سنة والقمر شهر وقد مر تفصيله في سورة لقمان «ذلكم» إشارة إلى فاعل الأفاعيل المذكورة وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمة وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم العظيم الشأن الذي أبدع هذه الصنائع البديعة «الله ربكم له الملك» وفيه من الدلالة على ان ابداعه تعالى لتلك البدائع مما يوجب ثبوت تلك الاخبار له مالا يخفي ويجوز ان يكون الأخير كلاما مبتدأ في مقابلة قوله تعالى «والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير» الدلالة على تفرده تعالى بالألوهية والربوبية وقرئ يدعون بالياء التحتانية والقطمير لفافة النواة وهو مثل في القلة والحقارة «إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم» استئناف مقرر لمضمون ما قبله كاشف عن جلية حال ما يدعونه بأنه جماد ليس من شأنه السماع «ولو سمعوا» على الفرض والتقدير «ما استجابوا لكم» لعجزهم عن الافعال بالمرة لا لما قيل من انهم متبرئون منكم ومما تدعون لهم فإن ذلك مما لا يتصور منهم في الدنيا «ويوم القيامة يكفرون بشرككم» أي يجحدون بإشراككم لهم وعبادتكم إياهم بقولهم ما كنتم إيانا تعبدون «ولا ينبئك مثل خبير» أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير أخبرك به وهو الحق سبحانه فإنه الخبير بكنه الأمور دون سائر المخبرين والمراد تحقيق ما اخبر به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم من الإلهية «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله» في أنفسكم وفيما يعن لكم من أمر مهم أو خطب علم وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وان افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم ولذلك قال تعالى وخلق الانسان ضعيفا «والله هو الغني الحميد» أي المستغنى على الاطلاق المنعم على سائر الموجودات المستوجب للحمد «إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد» ليسوا على صفتكم بل مستمرون على الطاعة أو بعالم آخر غير ما تعرفونه «وما ذلك» أي ما ذكر من الاذهاب بهم والاتيان بآخرين «على الله بعزيز» بمتعذر ولا متعسر
148

«ولا تزر وازرة» أي لا تحمل نفس آثمة «وزر أخرى» إثم نفس أخرى بل إنما تحمل كل منهما وزرها وأماما في قوله تعالى وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم من حمل المضلين أثقالا غير أثقالهم فهو حمل أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم وكلاهما أوزارهم ليس فيها من أوزار غيرهم شئ «وإن تدع مثقلة» أي نفس أثقلها الأوزار «إلى حملها» لحمل بعض أوزارها «لا يحمل منه شيء» لم تجب بحمل شئ منه «ولو كان» أي المدعو المفهوم من الدعوة «ذا قربى» ذا قرابة من الداعي وقرئ ذو قربى وهذا نفى للحمل اختيارا والأول نفى له جبارا «إنما تنذر» استئناف مسوق لبيان من يتعظ بما ذكر أي إنما تنذر بهذه الإنذارات «الذين يخشون ربهم بالغيب» أي يخشونه تعالى غائبين عن عذابه أو عن الناس في خلواتهم أو يخشون عذابه وهو غائب عنهم «وأقاموا الصلاة» أي راعوها كما ينبغي وجعلوها منارا منصوبا وعلما مرفوعا أي إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والعناد «ومن تزكى» أن تطهر من أوضار الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذه الإنذارات «فإنما يتزكى لنفسه» لاقتصار نفعه عليها كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها وقرئ من أزكى فإنما يزكى وهو اعتراض مقرر لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنها من معظم مبادى التزكى «وإلى الله المصير» لا إلى أحد غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازيهم على تزكيهم أحسن الجزاء «وما يستوي الأعمى والبصير» أي الكافر والمؤمن «ولا الظلمات ولا النور» أي ولا الباطل ولا الحق وجمع الظلمات مع إفراد النور لتعدد فنون الباطل واتحاد الحق «ولا الظل ولا الحرور» أي ولا الثواب ولا العقاب وإدخال لاعلى المتقابلين لتذكير نفى الاستواء وتوسيطها بينهما للتأكيد والحرور فعول من الحر غلب على السموم وقيل السموم ما يهب نهارا والحرور ما يهب ليلا «وما يستوي الأحياء ولا الأموات» تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين
149

أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل وأوثر صيغة الجمع في الطرفين تحقيقا للتباين بين افراد الفريقين وقيل تمثيل للعلماء والجهلة «إن الله يسمع من يشاء» أن يسمعه ويوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته «وما أنت بمسمع من في القبور» ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات وإشباع في إقناطه صلى الله عليه وسلم من إيمانهم «إن أنت إلا نذير» ما عليك إلا الإنذار وأما الإسماع البتة فليس من وظائفك ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم «إنا أرسلناك بالحق» أي محقين أو محقا أنت أو إرسالا مصحوبا بالحق ويجوز أن يتعلق بقوله «بشيرا ونذيرا» أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق «وإن من أمة» أي ما من أمة من الأمم الدارجة في الأزمنة الماضية «إلا خلا» أي مضى «فيها نذير» من نبي أو عالم ينذرهم والاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قرينة البشارة لا سيما وقد اقترنا آنفا ولأن الإنذار هو الأنسب بالمقام «وإن يكذبوك» أي تموا على تكذيبك فلا تبال بهم وبتكذيبهم «فقد كذب الذين من قبلهم» من الأمم العاتية «جاءتهم رسلهم بالبينات» أي المعجزات الظاهرة الدالة على نبوتهم «وبالزبر» كصحف إبراهيم «وبالكتاب المنير» كالتوراة والإنجيل والزبور على إرادة التفصيل دون الجمع ويجوز أن يراد بهما واحد والعطف لتغاير العنوانين «ثم أخذت الذين كفروا» وضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعلة الأخذ «فكيف كان نكير» أي إنكاري بالعقوبة وفيه مزيد تشديد وتهويل لها «ألم تر» استئناف مسوق لتقرير ما قبله من اختلاف أحوال الناس ببيان أن الاختلاف والتفاوت امر مطرد في جميع المخلوقات من النبات والجماد
والحيوان والرؤية قلبية أي ألم تعلم «أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به» بذلك الماء والالتفات لإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة والحكمة «ثمرات مختلفا ألوانها» أي أجناسها أو أصنافها على ان كلا منها ذو أصناف مختلفة أو هيآتها وأشكالها أو ألوانها من الصفرة والخضرة والحمرة وغيرها وهو الأوفق لما في قوله تعالى «ومن الجبال جدد» أي ذو جدد أي خطط وطرائق ويقال جدة الحمار للخطة السوداء
150

على ظهره وقرئ جدد بالضم جمع جديدة بمعنى الجدة وجدد بفتحتين وهو الطريق الواضح «بيض وحمر مختلف ألوانها» بالشدة والضعف «وغرابيب سود» عطف على بيض أو على جدد كأنه قيل ومن الجبال مخطط ذو جدد ومنها ما هو على لون واحد غرابيب وهو تأكيد لمضمر يفسره ما بعده فإن الغربيب تأكيد للأسود كالفاقع للأصفر والقانى للأحمر ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد ونظيره في الصفة قول النابغة والمؤمن العائذات الطير يمسحها وفي مثله مزيد تأكيد لما فيه من التكرار باعتبار الإضمار والإظهار «ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه» أي ومنهم بعض مختلف ألوانه أو وبعضهم مختلف ألوانه على ما مر في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وإيراد الجملتين اسميتين مع مشاركتهما لما قبلهما من الجملة الفعلية في الاستشهاد بمضمونهما على تباين الناس في الأحوال الباطنة لما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والانعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الاستمرار وأما إخراج الثمرات المختلفة فحيث كان امرا حادثا عبر عنه بما يدل على الحدوث ثم لما كان فيه نوع خفاء علق به الرؤية بطريق الاستفهام التقريري المنبئ عن الحمل عليها والترغيب فيها بخلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما فإنها مشاهدة غنية عن التأمل فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية فتدبر وقوله تعالى «كذلك» مصدر تشبيهى لقوله تعالى مختلف أي صفة لمصدره المؤكد تقديره مختلف اختلافا كائنا كذلك أي كاختلاف الثمار والجبال وقرئ ألوانا وقرئ والدواب بالتخفيف مبالغة في الهرب من التقاء الساكنين وقوله تعالى «إنما يخشى الله من عباده العلماء» تكملة لقوله تعالى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب بتعيين من يخشاه عز وجل من الناس بعد بيان اختلاف طبقاتهم وتباين مراتبهم اما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل واما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح توفيه لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان أي إنما يخشاه تعالى بالغيب العالمون به عز وجل وبما يليق به من صفاته الجليلة وافعاله الجميلة لما أن مدار الخشية معرفة المخشى والعلم بشئونه فمن كان أعلم به تعالى كان أخشى منه عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم أنا أخشاكم لله وأتقاكم له ولذلك عقب بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته وحيث كان الكفرة بمعزل من هذه المعرفة امتنع إنذارهم بالكلية وتقديم المفعول لأن المقصود حصر الفاعلية ولو أخر انعكس الأمر وقرئ برفع الاسم الجليلة ونصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيبا «إن الله عزيز غفور» تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه «إن الذين يتلون كتاب الله» أي يداومون على قراءته أو متابعة ما فيه حتى
151

صارت سمة لهم وعنوانا والمراد بكتاب الله تعالى القرآن وقيل جنس كتب الله فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين منهم وليس بذاك فإن صيغة المضارع منادية باستمرار مشروعية تلاوته والعمل بما فيه واستتباعهما لما سيأتي من توفية الآجور وزيادة الفضل وحملها على حكاية الحال الماضية مع كونه تعسفا ظاهرا مما لا سبيل اليه كيف لا والمقصود الترغيب في دين الاسلام والعمل بالقرآن الناسخ لما بين يديه من الكتب فالتعرض لبيان حقيقتها قبل انتساخها والاشباع في ذكر استتباعها لما ذكر من الفوائد العظيمة مما يورث الرغبة في تلاوتها والاقبال على العمل بها وتخصيص التلاوة بما لم ينسخ منها باطل قطعا لما ان الباقي مشروعا ليس الا حكمها لكن لا من حيث انه حكمها بل من حيث انه حكم القرآن واما تلاوتها فبمعزل من المشروعية واستتباع الاجر بالمرة فتدبر «وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية» كيفما اتفق من غير قصد اليهما وقيل السر في المسنونة والعلانية في المفروضة «يرجون تجارة» تحصيل ثواب الطاعة وهو خبر ان وقوله تعالى «لن تبور» أي لن تكسد ولن تهك بالخسران أصلا صفة لتجارة جئ بها للدلالة على انها ليست كسائر التجارات الدائرة بين الربح والخسران لأنه اشتراء باق بفان والاخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة قطعية بحصول مرجوهم وقوله تعالى «ليوفيهم أجورهم» متعلق بلن تبور على معنى انه ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله تعالى ليوفيهم أجور اعمالهم «ويزيدهم من فضله» على ذلك من خزائن رحمته ما يشاء وقيل بمضمر دل عليه ما عد من افعالهم المرضية أي فعلوا ذلك ليوفيهم الخ وقيل بيرجون على ان اللام للعاقبة «إنه غفور شكور» تعليل لما قبله من التوفية والزيادة أي غفور لفرطاتهم شكور لطاعاتهم أي مجازيهم عليها وقيل هو خبر ان الذين ويرجون حال من واو انفقوا «والذي أوحينا إليك من الكتاب» وهو القرآن ومن للتبيين أو الجنس ومن للتبعيض وقيل اللوح ومن للابتداء «هو الحق مصدقا لما بين يديه» أي أحقه مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية حال مؤكدة لان حقيته تستلزم موافقته إياه في العقائد وأصول الاحكام «إن الله بعباده لخبير بصير» محيط ببواطن أمورهم وظواهرها فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الحق المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب وتقديم الخبير للتنبيه على ان العمدة هي الأمور الروحانية «ثم أورثنا الكتاب» أي قضينا بتوريثه منك أو نورثه والتعبير عنه بالماضي لتقرره
152

وتحققه وقيل أورثناه من الأمم السالفة أي أخرناه عنهم وأعطيناه «الذين اصطفينا من عبادنا» وهم علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ممن يسير سيرتهم أو الأمة بأسرهم فإن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسله عليهم الصلاة والسلام وليس من ضرورة وراثة الكتاب مراعاته حق رعايته لقوله تعالى فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب الآية «فمنهم ظالم لنفسه» بالتقصير في العمل به وهو المرجأ لامر الله «ومنهم مقتصد» يعمل به في أغلب الأوقات ولا يخلو من خلط السيء «ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله» قيل هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وقيل هم المداومون على إقامة مواجبه علما وعملا وتعليما وفي قوله بإذن الله أي بتيسيره وتوفيقه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها وقيل الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم وقيل الظالم المجرم والمقتصد الذي خلط الصالح بالسيء والسابق الذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيئاته مكفرة وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم واما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب واما المقتصد فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا واما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول
المحشر ثم يتلقاهم الله تعالى برحمته وقد روى ان عمر رضي الله عنه قال وهو على المنبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له «ذلك» إشارة إلى السبق بالخيرات وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار اليه للاشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الشرف «هو الفضل الكبير» من الله عز وجل لا ينال الا بتوفيقه تعالى «جنات عدن» اما بدل من الفضل الكبير بتنزيل السبب منزلة المسبب أو مبتدأ خبره «يدخلونها» وعلى الأول هو مستأنف وجمع الضمير لان المراد بالسابق الجنس وتخصيص حال السابقين ومآلهم بالذكر والسكوت عن الفريقين الآخرين وان لم يدل على حرمانهما من دخول الجنة مطلقا لكن فيه تحذيرا لهما من التقصير وتحريضا على السعي في ادراك شأو السابقين وقرئ جنات عدن وجنة عدن على النصب بفعل يفسره الظاهر وقرئ يدخلونها على البناء للمفعول «يحلون فيها» خبر ثان أو حال مقدرة وقرئ يحلون من حليت المرأة فهي حالية «من أساور» هي جمع أسورة جمع سوار «من ذهب» من الأولى تبعيضية والثانية بيانية أي يحلون بعض أساور من ذهب كأنه أفضل من سائر افرادها «ولؤلؤا» بالنصب عطفا على محل من أساور وقرئ بالجر عطفا على ذهب أي من ذهب مرصع باللؤلؤ أو من ذهب في صفاء اللؤلؤ «ولباسهم فيها حرير» وتغيير الأسلوب قد مر في سورة الحج «وقالوا» أي يقولون وصيغة الماضي للدلالة على التحقق «الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» وهو ما أهمهم من خوف سوء العاقبة وعن ابن عباس رضي الله عنهما حزن الاعراض والآفات وعنه حزن الموت وعن الضحاك لحزن وسوسة إبليس وقيل هم المعاش وقيل حزن
153

زوال النعم والظاهر انه الجنس المنتظم لجميع أحزان الدين والدنيا وقرئ الحزن وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على أهل لا اله الا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في مسيرهم وكأني بأهل لا اله الا الله يخرجون من قبورهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن «إن ربنا لغفور» أي للمذنبين «شكور» للمطيعين «الذي أحلنا دار المقامة» أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها ابدا «من فضله» من انعامه وتفضله من غير ان يوجبه شيء من قبلنا «لا يمسنا فيها نصب» تعب «ولا يمسنا فيها لغوب» كلال والفرق بينهما ان النصب نفس المشقة والكلفة واللغوب ما يحدث منه من الفتور والتصريح بنفي الثاني مع استلزام نفي الأول له وتكرير الفعل المنفي للمبالغة في بيان انتفاء كل منهما «والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم» لا يحكم عليهم بموت ثان «فيموتوا» ويستريحوا ونصبه بإضمار ان وقرئ فيموتون عطفا على يقضى كقوله تعالى ولا يؤذن لهم فيعتذرون «ولا يخفف عنهم من عذابها» بل كلما خبت زيد اسعارها «كذلك» أي مثل ذلك الجزاء الفظيع «نجزي كل كفور» مبالغ في الكفر أو الكفران لا جزاء أخف وأدنى منه وقرئ يجزي على البناء للمفعول واسناده إلى الكل وقرئ يجازي «وهم يصطرخون فيها» يستغيثون والاصطراخ افتعال من الصراخ استعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته «ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل» بإضمار القول وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح والاعتراف به والاشعار بأن استخراجهم لتلافيه وانهم كانوا يحسبونه صالحا والآن تبين خلافه وقوله تعالى «أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر» جواب من جهته تعالى وتوبيخ لهم والهمزة للانكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام وما نكرة موصوفة أي ألم نمهلكم أو ألم نؤخركم ولم نعمركم عمرا يتذكر فيه من تذكر أي يتمكن فيه المتذكر من التذكر والتفكر قيل هو أربعون سنة وعن ابن عباس رضي الله عنهما ستون سنة وروى ذلك عن علي رضي الله عنه وهو العمر الذي اعذر الله فيه إلى ابن آدم قال صلى الله عليه وسلم اعذر الله إلى امرئ اخر اجله حتى بلغ ستين سنة وقوله تعالى «وجاءكم النذير» عطف على الجملة الاستفهامية لأنها في معنى قد عمرناكم كما في قوله تعالى ألم نشرح لك صدرك ووضعنا الخ لأنه في معنى قد شرحنا الخ والمراد بالنذير رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما معه من القرآن وقيل العقل وقيل الشيب وقيل موت الأقارب والاقتصار على ذكر النذير لأنه الذي
154

يقتضيه المقام والفاء في قوله تعالى «فذوقوا» لترتيب الامر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجئ النذير وفي قوله تعالى «فما للظالمين من نصير» للتعليل «إن الله عالم غيب السماوات والأرض» بالإضافة وقرئ بالتنوين ونصب غيب على المفعولية أي لا يخفي عليه خافية فيهما فلا تخفي عليه أحوالهم «إنه عليم بذات الصدور» قيل انه تعليل لما قبله لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي اخفى ما يكون كان اعلم بغيرها «هو الذي جعلكم خلائف في الأرض» يقال للمستخلف خليفة والأول يجمع خلائف والثاني خلفاء والمعنى انه تعالى جعلكم خلفاءه في ارضه والقي إليكم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها وأباح لكم منافعها أو جعلكم خلفاء ممن قبلكم من الأمم وأورثكم ما بأيديهم من متاع الدنيا لتشكروه بالتوحيد والطاعة «فمن كفر» منكم مثل هذه النعمة السنية وغمطها «فعليه كفره» أي وبال كفره لا يتعداه إلى غيره وقوله تعالى «ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا» بيان لوبال الكفر وغائلته وهو مقت الله تعالى إياهم أي بغضه الشديد الذي ليس وراءه خزي وصغار وخسار الآخرة الذي ما بعده شر وخسار والتكرير لزيادة التقرير والتنبيه على ان اقتضاء الكفر لكل واحد من الامرين الهائلين القبيحين بطريق الاستقلال والأصالة «قل» تبكيتا لهم «أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله» أي آلهتكم والإضافة إليهم لأنهم جعلوهم شركاء لله تعالى من غير ان يكون له أصل ما أصلا وقيل جعلوهم شركاء لأنفسهم فيما يملكونه ويأباه سباق النظم الكريم وسياقه «أروني ماذا خلقوا من الأرض» بدل اشتمال من أرأيتم كأنه قيل أخبروني عن شركائكم أروني أي جزء خلقوا من الأرض «أم لهم شرك في السماوات» أي أم لهم شركة مع الله سبحانه في خلق السماوات ليستحقوا بذلك شركة في الألوهية ذاتية «أم آتيناهم كتابا» ينطق بأنا اتخذناهم شركاء «فهم على بينة منه» أي حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية ويجوز ان يكون ضمير آتيناهم للمشركين كما في قوله تعالى أم أنزلنا عليهم سلطانا الخ وقرئ على بينات وفيه ايماء إلى ان الشرك امر خطير لا بد في اثباته من تعاضد الدلائل «بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا» لما نفي أنواع الحجج في ذلك اضرب عنه بذكر ما حملهم عليه وهو تغرير الاسلاف للأخلاف واضلال الرؤساء للاتباع بأنهم شفعاء عند الله يشفعون لهم بالتقريب اليه
155

«إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا» استئناف مسوق لبيان غاية قبح الشرك وهو له أي يمسكها كراهة زوالهما أو يمنعهما ان تزولا لان الامساك منع «ولئن
زالتا إن أمسكهما» أي ما أمسكهما «من أحد من بعده» من بعد امساكه تعالى أو من بعد الزوال والجملة سادة مسد الجوابين ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثانية للابتداء «إنه كان حليما غفورا» غير معاجل بالعقوبة التي تستوجبها جناياتهم حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدا هدا حسبما قال تعالى تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وقرئ ولو زالتا «وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم» بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا لعن الله اليهود والنصارى اتتهم الرسل فكذبوهم فو الله لئن اتانا رسول لنكونن اهدى من احدى الأمم اليهود والنصارى وغيرهم أو من الأمة التي يقال لها احدى الأمم تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة «فلما جاءهم نذير» واي نذير اشرف الرسل عليهم الصلاة والسلام «ما زادهم» أي النذير أو مجيئه «إلا نفورا» تباعدا عن الحق «استكبارا في الأرض» بدل من نفورا أو مفعول له «ومكر السيء» أصله وان مكروا السيء أي المكر السيء ثم ومكرا السيء ثم ومكر السيء وقرئ بسكون الهمزة في الوصل ولعله اختلاس ظن سكوتا وقفة خفيفة وقرئ مكرا سيئا «ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون» أي ما ينتظرون «إلا سنة الأولين» أي سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم «فلن تجد لسنة الله تبديلا» بأن يضع موضع العذاب غير العذاب «ولن تجد لسنة الله تحويلا» بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم والفاء لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب من مجيئه ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما «أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم» استشهاد على ما قبله من جريان سنته تعالى على تعذيب المكذبين بما يشاهدونه
156

في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار دمار الأمم الماضية العاتية والهمزة للانكار والنفي الواو للعطف على مقدر يليق بالمقام أي اقعدوا في مساكنهم ولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم «وكانوا أشد منهم قوة» وأطول أعمارا فما نفعهم طول المدى وما اغنى عنهم شدة القوى ومحل الجملة النصب على الحالية وقوله تعالى «وما كان الله ليعجزه من شيء» أي ليسبقه ويفوته «في السماوات ولا في الأرض» اعتراض مقرر لما يفهم مما قبله من استئصال الأمم السالفة وقوله تعالى «إنه كان عليما قديرا» أي مبالغا في العلم والقدرة ولذلك علم بجميع اعمالهم السيئة فعاقبهم بموجبها تعليل لذلك «ولو يؤاخذ الله الناس» جميعا «بما كسبوا» من السيئات كما فعل بأولئك «ما ترك على ظهرها» أي على ظهر الأرض «من دابة» من نسمة تدب عليها من بني آدم وقيل ومن غيرهم أيضا من شؤم معاصيهم وهو المروى عن ابن مسعود وانس رضي الله عنهما ويعضد الأول قوله تعالى «ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى» وهو يوم القيامة «فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا» فيجازيهم عند ذلك بأعمالهم ان خيرا فخير وان شرا فشر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرا سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة ان ادخل من أي باب شئت والله تعالى اعلم
157

سورة يس مكية وعنه صلى الله عليه وسلم تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضى له كل حاجة وآياتها ثلاث وثمانون
«بسم الله الرحمن الرحيم» «يس» اما مسرود على نمط التعديد فلا حظ له من الاعراب أو اسم السورة كما نص عليه الخليل وسيبويه وعليه الأكثر فمحله الرفع على انه خبر مبتدأ محذوف أو النصب على انه مفعول لفعل مضمر وعليهما مدار قراءة يس بالرفع والنصب أي هذه يس أو اقرا يس ولا مساغ للنصب بإضمار فعل القسم لان ما بعده مقسم به وقد أبو الجمع بين قسمين على شيء واحد قبل انقضاء الأول ولا مجال للعطف لاختلافهما اعرابا وقيل هو مجرور بإضمار باء القسم مفتوح لكونه غير منصرف كما سلف في فاتحة سورة البقرة من ان ما كانت من هذه الفواتح مفردة مثل صاد وقاف ونون أو كانت موازنة لمفرد نحو طس ويس وحم الموازنة لقابيل وهابيل يتأتى فيها الاعراب اللفظي ذكره سيبويه في باب أسماء السور من كتابه وقيل هما حركتا بناء كما في حيث وأين حسبما يشهد بذلك قراءة يس بالكسر كجير وقيل الفتح والكسر تحريك للجد في الهرب من التقاء الساكنين وعن ابن عباس رضي الله عنهما ان معناه يا انسان في لغة طيء قالوا المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعل أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره كما قيل من الله في أيمن الله «والقرآن» بالجر على انه مقسم به ابتداء وقد جوز ان يكون عطفا على يس على تقدير كونه مجرورا بإضمار باء القسم «الحكيم» أي المتضمن للحكمة أو الناطق بها بطريق الاستعارة أو المتصف بها على الاسناد المجازي وقد جوز ان يكون الأصل الحكيم قائله فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه فبإنقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة كما مر في صدر سورة لقمان «إنك لمن المرسلين» جواب للقسم والجملة لرد انكار الكفرة بقولهم في حقه صلى الله عليه وسلم لست مرسلا وهذه الشهادة منه عز وجل من جملة ما أشير اليه بقوله تعالى في جوابهم قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم وفي تخصيص القرآن بالإقسام به أولا وبوصفه بالحكيم ثانيا تنويه بشأنه وتنبيه على انه كما يشهد برسالته صلى الله عليه وسلم من حيث نظمه المعجز المنطوي على بدائع الحكم يشهد بها من هذه الحيثية أيضا لما ان الاقسام بالشيء
158

استشهاد به على تحقق مضمون الجملة القسمية وتقوية لثبوته فيكون شاهدا به ودليلا عليه قطعا وقوله تعالى «على صراط مستقيم» خبر آخر لان أو حال من المستكن في الجار والمجرور على انه عبارة عن الشريعة الشريفة بكمالها لا عن التوحيد فقط وفائدته بيان ان شريعته صلى الله عليه وسلم أقوم الشرائع وأعدلها كما يعرب عنه التنكير التفخيمي والوصف اثر بيان انه صلى الله عليه وسلم من جملة المرسلين بالشرائع «تنزيل العزيز الرحيم» نصب على المدح وقرئ بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف وبالجر على انه بدل من القرآن وأيا ما كان فهو مصدر بمعنى المفعول عبر به عن القرآن بيانا لكمال عراقته في كونه منزلا من عند الله عز وجل كأنه نفس التنزيل واظهارا لفخامته الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية بوصفه بالحكمة وفي تخصيص الاسمين الكريمين المعربين عن الغلبة التامة والرأفة العامة حيث على الايمان ترهيبا وترغيبا واشعار بأن تنزيله ناشيء عن غاية الرحمة حسبما نطق به قوله تعالى وما أرسلناك الا رحمة للعالمين وقيل النصب على انه مصدر مؤكد لفعله المضمر أي نزل تنزيل العزيز الرحيم على انه استئناف مسوق لبيان ما ذكر من فخامة شأن القرآن وعلى كل تقدير ففيه فضل تأكيد لمضمون الجملة القسمية «لتنذر» متعلق
بتنزيل على الوجوه الأول وبعامله المضمر على الوجه الأخير أي لتنذر به كما في صدر الأعراف وقيل هو متعلق بما يدل عليه لمن المرسلين أي انك مرسل لتنذر «قوما ما أنذر آباؤهم» أي لم ينذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة على ان ما نافية فتكون صفة مبينة لغاية احتياجهم إلى الانذار أو الذي أنذره أو شيئا أنذره آباؤهم الأبعدون على انها موصوله أو موصوفة فيكون مفعولا ثانيا لتنذر أو انذار آبائهم الأقدمين على انها مصدرية فيكون نعتا لمصدر مؤكد أي لتنذر انذار كائنا مثل إنذارهم «فهم غافلون» على الوجه الأول متعلق بنفي الانذار مترتب عليه والضمير للفريقين أي لم تنذر آباؤهم فهم جميعا لأجله غافلون وعلى الوجوه الباقية متعلق بقوله تعالى لتنذر أو بما يفيده إنك لمن المرسلين وارد لتعليل إنذاره صلى الله عليه وسلم أو ارساله بغفلتهم المحوجة اليهما على ان الضمير للقوم خاصة فالمعنى فهم غافلون عنه أي عما انذر آباؤهم الأقدمون لامتداد المدة واللام في قوله تعالى «لقد حق القول على أكثرهم» جواب القسم أي والله لقد ثبت وتحقق عليهم البتة لكن لا بطريق الجبر من غير ان يكون من قبلهم ما يقتضيه بل بسبب اصرارهم الاختياري على الكفر والانكار وعدم تأثرهم من التذكير والانذار وغلوهم في العتو والطغيان وتماديهم في اتباع خطوات الشيطان بحيث لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف كيف لا والمراد بما حق من القول قوله
159

تعالى لإبليس عند قوله لأغوينهم أجمعين لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وهو المعنى بقوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والنار والناس أجمعين كما يلوح به تقديم الجنة على الناس فإنه كما ترى قد أوقع فيه الحكم بإدخال جهنم على من تبع إبليس وذلك تعليل له بتبعيته قطعا وثبوت القول على هؤلاء الذين عبر عنهم بأكثرهم انما هو لكونهم من جملة أولئك المصرين على تبعية إبليس ابدا وإذ قد تبين ان مناط ثبوت القول وتحققه عليهم اصرارهم على الكفر إلى الموت ظهر ان قوله تعالى «فهم لا يؤمنون» متفرع في الحقيقة على ذلك لا على ثبوت القول وقوله تعالى «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا» تقرير لتصميمهم على الكفر وعدم ارعوائهم عنه بتمثيل حالهم بحال الذين غلت أعناقهم «فهي إلى الأذقان» أي فالأغلال منتهية إلى أذقانهم فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له «فهم مقمحون» رافعون رؤوسهم غاضون ابصارهم بحيث لا يكادون يرون الحق أو ينظرون إلى جهته «وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون» اما تتمة للتمثيل وتكميل له أي تكميل أي وجعلنا مع ما ذكر من امامهم سدا عظيما ومن ورائهم سدا كذلك فغطينا بها ابصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرون على ابصار شيء ما أصلا واما تمثيل مستقل فإن ما ذكر من جعلهم محصورين بين سدين هائلين قد غطيا ابصارهم بحيث لا يبصرون شيئا قطعا كاف في الكشف عن كمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغي والجهالات محرومين عن النظر في الأدلة والآيات وقرئ سدا بالضم وهي لغة فيه وقيل ما كان من عمل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق الله فبالضم وقرئ فأعشيناهم من العشا وقيل الآيتان في بني مخزوم وذلك ان ابا جهل حلف لئن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ليرضخن رأسه فأتاه وهو يصلي صلى الله عليه وسلم ومعه حجر ليدمغه فلما رفع يده انثنت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم بذلك فقال مخزومي آخر انا اقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله تعالى بصره «وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم» بيان لشأنهم بطريق التصريح اثر بيانه بطريق التمثيل أي مستو عندهم انذارك إياهم وعدمه حسبما مر تحقيقه في سورة البقرة وقوله تعالى «لا يؤمنون» استئناف مؤكد لما قبله مبين لما فيه من اجمال ما فيه الاستواء أو حال مؤكدة له أو بدل منه ولما بين كون الانذار عندهم كعدمه عقب ببيان من يتأثر منه فقيل «إنما تنذر» أي انذارا مستتبعا للأثر «من اتبع الذكر» أي القرآن بالتأمل فيه أو الوعظ ولم يصر على اتباع خطوات الشيطان «وخشي الرحمن بالغيب» أي
160

خاف عقابه وهو غائب عنه على انه حال من الفاعل أو المفعول أو خافه في سريرته ولم يغتر برحمته فإنه منتقم قهار كما انه رحيم غفار كما نطق به قوله تعالى نبىء عبادي اني انا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الأليم «فبشره بمغفرة» عظيمة «وأجر كريم» لا يقادر قدره والفاء لترتيب البشارة أو الامر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية «إنا نحن نحيي الموتى» بيان لشأن عظيم ينطوي على الانذار والتبشير انطواء اجماليا أي نبعثهم بعد مماتهم وعن الحسن إحياؤهم اخراجهم من الشرك إلى الايمان فهو حينئذ عدة كريمة بتحقيق المبشر به «ونكتب ما قدموا» أي ما أسلفوا من الاعمال الصالحة وغيرها «وآثارهم» التي أبقوها من الحسنات كعلم علموه أو كتاب ألفوه أو حبيس وقفوه أو بناء بنوه من المساجد والرباطات والقناطر وغير ذلك من وجوه البر ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان وترتيب مبادي الشر والفساد فيما بين العباد وغير ذلك من فنون الشرور التي أحدثوها وسنوها لمن بعدهم من المفسدين وقيل هي آثار المشائين إلى المساجد ولعل المراد انها من جملة الآثار وقرئ ويكتب على البناء للمفعول ورفع آثارهم «وكل شيء» من الأشياء كائنا ما كان «أحصيناه في إمام مبين» أصل عظيم الشأن مظهر لجميع الأشياء مما كان وما سيكون وهو اللوح المحفوظ وقرئ كل شيء بالرفع «واضرب لهم مثلا أصحاب القرية» ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط وأخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله تعالى وضربنا لكم الأمثال على أحد الوجهين أي بينا لكم أحوالا بديعة هي في الغرابة كالأمثال فالمعنى على الأول اجعل أصحاب القرية مثلا لهؤلاء في الغلو في الكفر والاصرار على تكذيب الرسل أي طبق حالهم بحالهم على ان مثلا مفعول ثان لا ضرب وأصحاب القرية مفعوله الأول اخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه وعلى الثاني اذكر وبين لهم قصة هي في الغرابة كالمثل وقوله تعالى أصحاب القرية بدل منه بتقدير المضاف أو بيان له والقرية أنطاكية «إذ جاءها المرسلون» بدل اشتمال من أصحاب القرية وهم رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها ونسبة ارسالهم اليه تعالى في قوله «إذ أرسلنا إليهم اثنين» بناء على انه كان بأمره تعالى لتكميل التمثيل وتتميم التسلية وهما يحيى وبولس وقيل غيرهما «فكذبوهما» أي فأتياهم فدعواهم إلى الحق فكذبوهما في الرسالة «فعززنا» أي قوينا يقال عزز المطر الأرض إذ لبدها وقرئ بالتخفيف من عزه إذا غلبه وقهره وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولان المقصد ذكر المعزز به «بثالث» هو شمعون «فقالوا» أي جميعا «إنا إليكم مرسلون» مؤكدين كلامهم لسبق الانكار لما ان تكذيبهما تكذيب للثالث لاتحاد كلمتهم وذلك انهم كانوا عبدة أصنام فأرسل إليهم
161

عيسى عليه السلام اثنين فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب يس فسألهما فأخبراه قال أمعكما آية فقالا نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض منذ سنتين فمسحاه فقام فآمن حبيب وفشا الخبر وشفى على أيديهما خلق وبلغ حديثهما إلى الملك وقال لهما النا اله سوى آلهتنا قالا نعم من أوجدك وآلهتك فقال حتى انظر في أمركما فتبعهما الناس وقيل ضربوهما وقيل حبسا ثم بعث عيسى عليه السلام شمعون فدخل متنكرا وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له يوما بلغني انك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولونه قال لا حال الغضب بيني وبين ذلك فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما قالا الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك فقال صفاه وأوجزا قالا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال وما آيتكما قالا ما يتمنى الملك فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله تعالى حتى انشق له بصر فأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما فقال له شمعون أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف قال ليس لي عنك سر ان الهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع وهم يحسبون انه منهم ثم قال ان قدر إلهكما على احياء ميت آمنا به فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال اني أدخلت في سبعة أودية من النار واني أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا وقال فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة قال الملك من هم قال شمعون وهذان فتعجب الملك فلما رأى شمعون ان قوله قد اثر فيه نصحه فآمن وآمن قوم ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل عليه السلام فهلكوا هكذا قالوا ولكن لا يساعده سياق النظم الكريم حيث اقتصر فيه على حكاية تماديهم في العناد واللجاج وركوبهم متن المكابرة في الحجاج ولم يذكر فيه ممن يؤمن أحد سوى حبيب ولو ان الملك وقوما من حواشيه آمنوا لكان الظاهر ان يظاهروا الرسل ويساعدوهم قبلوا في ذلك أو قتلوا كدأب النجار الشهيد ولكان لهم فيه ذكر ما بوجه من الوجوه اللهم الا ان يكون ايمان الملك بطريق الخفية على خوف من عناة ملئه فيعتزل عنهم معتذرا بعذر من الاعذار «قالوا» أي أهل أنطاكية الذين لم يؤمنوا مخاطبين للثلاثة «ما أنتم إلا بشر مثلنا» من غير مزية لكم علينا موجبة لاختصاصكم بما تدعونه ورفع بشر لانتقاض النفي المقتضى لاعمال ما بإلا «وما أنزل الرحمن من شيء» مما تدعونه من الوحي والرسالة «إن أنتم إلا تكذبون» في دعوى رسالته «قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون» استشهدوا بعلم الله تعالى وهو يجري مجرى القسم مع ما فيه من تحذيرهم معارضة علم الله تعالى وزادوا اللام المؤكدة لما شاهدوا منهم من شدة الانكار «وما علينا» أي من جهة ربنا «إلا البلاغ المبين» أي الا تبليغ رسالته تبليغا ظاهرا بينا
162

بالآيات الشاهدة بالصحة وقد خرجنا عن عهدته فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا أو ما علينا شيء نطالب به من جهتكم الا تبليغ الرسالة على الوجه المذكور وقد فعلناه فأي شيء تطلبون منا حتى تصدقونا بذلك «قالوا» لما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل «إنا تطيرنا بكم» تشاءمنا بكم جريا على ديدن الجهلة حيث كانوا يتيمنون بكل ما يوافق شهواتهم وان كان مستجلبا لكل شر ووبال ويتشاءمون بمالا يوافقها وان كان مستتبعا لسعادة الدارين أو بناء على الدعوة لا تخلو عن الوعيد بما يكرهونه من إصابة ضر متعلق بأنفسهم وأهليهم وأموالهم ان لم يؤمنوا فكانوا ينفرون عنه وقد روى انه حبس عنهم القطر فقالوه «لئن لم تنتهوا» أي عن مقالتكم هذه «لنرجمنكم» بالحجارة «وليمسنكم منا عذاب أليم» لا يقادر قدره «قالوا طائركم» أي سبب شؤمكم «معكم» لا من قبلنا وهو سوء عقيدتكم وقبح اعمالكم وقرئ طيركم «أئن ذكرتم» أي وعظتم بما فيه سعادتكم وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه أي تطيرتم وتوعدتم بالرجم والتعذيب وقرئ بألف بين الهمزتين وبفتح ان بمعنى أتطيرتم لان ذكرتم وان ذكرتم وان ذكرتم بغير استفهام وأين ذكرتم بمعنى طائركم معكم حيث جرى ذكركم وهو أبلغ «بل أنتم قوم مسرفون» اضراب عما تقتضيه الشرطية من كون التذكير سببا للشؤم أو مصححا للتوعد أي ليس الامر كذلك بل أنتم قوم عادتكم الاسراف في العصيان فلذلك اتاكم الشؤم أو في الظلم والعدوان ولذلك توعدتم وتشاءمتم بمن يجب اكرامه والتبرك به «وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى» هو حبيب النجار وكان ينحت أصنامهم وهو ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما ولم يؤمن من بنبي غيره صلى الله عليه وسلم أحد قبل مبعثه وقيل كان في غار يعبد الله تعالى فلما بلغه خبر الرسل عليهم الصلاة والسلام اظهر دينه «قال» استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية مجيئه ساعيا كأنه قيل فماذا قال عند مجيئه فقيل قال «يا قوم اتبعوا المرسلين» تعرض لعنوان رسالتهم حثا لهم على اتباعهم كما ان خطابهم بيا قوم لتأليف قلوبهم واستمالتها نحو قبول نصيحته وقوله تعالى «اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون» تكرير للتأكيد والتوسل به إلى وصفهم بما يرغبهم في اتباعهم من التنزه عن الغرض الدنيوي والاهتداء إلى خير الدنيا والدين «وما لي لا أعبد الذي فطرني» تلطف في الارشاد
163

بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراهم انه اختار لهم ما يختار لنفسه والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كما ينبئ عنه قوله «وإليه ترجعون» مبالغة في التهديد ثم عاد إلى المساق الأول فقال «أأتخذ من دونه آلهة» انكار ونفي لاتخاذ الآلهة على الاطلاق وقوله تعالى «إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا» أي لا تنفعني شيئا من النفع «ولا ينقذون» من ذلك الضر بالنصرة والمظاهرة استئناف سيق لتعليل النفي المذكور وجعله صفة لآلهة كما ذهب اليه بعضهم ربما يوهم ان هناك آلهة ليست كذلك وقرئ ان يردن بفتح الياء على معنى ان يوردني ضرا أي يجعلني موردا للضر «إني إذا» أي إذا اتخذت من دونه آلهة «لفي ضلال مبين» فإن اشراك ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر بالخالق المقتدر الذي لا قادر غيره ولا خير الا خيره ضلال بين لا يخفي على أحد ممن له تمييز في الجملة «إني آمنت بربكم» خطاب منه للرسل بطريق التلوين قيل لما نصح قومه بما ذكر هموا برجمه فأسرع نحو الرسل قبل ان يقتلوه فقال ذلك وانما أكده لاظهار صدوره عنه بكمال الرغبة والنشاط وأضاف الرب إلى ضميرهم روما لزيادة التقرير واظهارا للاختصاص والاقتداء بهم كأنه قال بربكم الذي أرسلكم أو الذي تدعوننا إلى الايمان به «فاسمعون» أي اسمعوا ايماني واشهدوا لي به عند الله تعالى وقيل الخطاب للكفرة شافههم بذلك اظهارا للتصلب في الدين وعدم المبالاة بالقتل وإضافة الرب إلى ضميرهم لتحقيق الحق والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أربابا وقيل للناس جميعا «قيل ادخل الجنة» قيل له ذلك لما قتلوه اكراما له
بدخولها حينئذ كسائر الشهداء وقيل لما هموا بقتله رفعه الله تعالى إلى الجنة قاله الحسن وعن قتادة ادخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق وقيل معناه البشرى بدخول الجنة وانه من أهلها وانما لم يقل له لان الغرض بيان المقول لا المقول له لظهوره وللمبالغة في المسارعة إلى بيانه والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية حاله ومقاله كأنه قيل كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه والتسخي بروحه لوجهه تعالى فقيل قيل ادخل الجنة وكذلك قوله تعالى «قال يا ليت قومي يعلمون» «بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين» فإنه جواب عن سؤال نشأ من حكاية حاله كأنه قيل فماذا قال عند نيله تلك الكرامة السنية فقيل قال الخ وانما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك عن اكتساب مثله
164

بالتوبة عن الكفر والدخول في الايمان والطاعة جريا على سنن الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء أو ليعلموا انهم كانوا على خطأ عظيم في امره وانه كان على الحق وان عداوتهم لم تكسبه الا سعادة وقرئ من المكرمين وما موصولة أو مصدرية والباء صلة يعلمون أو استفهامية وردت على الأصل والباء متعلقة بغفر أي بأي شيء غفر لي ربي يريد به تفخيم شأن المهاجرة عن ملتهم والمصابرة على أذيتهم «وما أنزلنا على قومه من بعده» من بعد قتله أو رفعه «من جند من السماء» لاهلاكهم والانتقام منهم كما فعلناه يوم بدر والخندق بل كفينا امرهم بصيحة ملك وفيه استحقار لهم لاهلاكهم وايماء إلى تفخيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم «وما كنا منزلين» وما صح في حكمتنا ان ننزل لاهلاك قومه جندا من السماء لما انا قدرنا لكل شيء سببا حيث أهلكنا بعض من أهلكنا من الأمم بالحاصب وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالاغراق وجعلنا انزال الجند من خصائصك في الانتصار من قومك وقيل ما موصولة معطوفة على جند أي وما كنا منزلين على من قبلهم من حجارة وريح وأمطار شديدة وغيرها «إن كانت» أي ما كانت الأخذة أو العقوبة «إلا صيحة واحدة» صاح بها جبريل عليه السلام وقرئ الا صيحة بالرفع على ان كان تامة وقرئ الا زقية واحدة من زقا الطائر إذا صاح «فإذا هم خامدون» ميتون شبهوا بالنار الخامدة رمزا إلى ان الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب والميت كالرماد كما قال لبيد
* وما المرء الا كالشهاب وضوئه
* يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
* يا حسرة على العباد تعالى فهذه من الأحوال التي حقها ان تحضري فيها وهي ما دل عليه قوله تعالى «وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون» فإن المستهزئين بالناصحين الذين نيطت بنصائحهم سعادة الدارين أحقاء بأن يتحسروا ويتحسر عليهم المتحسرون أو قد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين وقد جوز ان يكون تحسرا عليهم من جهة الله تعالى بطريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه على أنفسهم ويؤيده قراءة يا حسرتا لان المعنى يا حسرتي ونصبها لطولها بما تعلق بها من الجار وقيل بإضمار فعلها والمنادى محذوف وقرئ يا حسرة العباد بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول ويا حسرة على العباد بإجراء الوصل مجرى الوقف «ألم يروا» أي ألم يعلموا وهو معلق عن العمل في قوله تعالى «كم أهلكنا قبلهم من القرون» لان كم لا يعمل فيها ما قبلها وان كانت خبرية لان أصلها الاستفهام خلا ان معناه نافذ في الجملة كما نفذ في قولك ألم تر ان زيدا لمنطلق وان لم يعمل في لفظه «أنهم
165

إليهم لا يرجعون» بدل من كم أهلكنا على المعنى أي ألم يروا كثرة اهلاكنا من قبلهم من المذكورين آنفا ومن غيرهم كونهم غير راجعين إليهم وقرئ بالكسر على الاستئناف وقرئ ألم يروا من أهلكنا والبدل حينئذ بدل اشتمال «وإن كل لما جميع لدينا محضرون» بيان لرجوع الكل إلى المحشر بعد بيان عدم الرجوع إلى الدنيا وان نافية وتنوين كل عوض عن المضاف اليه ولما بمعنى الا وجميع فعيل بمعنى مفعول ولدينا ظرف له أو لما بعده والمعنى ما كلهم الا مجموعون لدينا محضرون للحساب والجزاء وقيل محضرون معذبون فكل عبارة عن الكفرة وقرئ لما بالتخفيف على ان مخففة من الثقيلة واللام فارقة وما مزيدة للتأكيد والمعنى ان كلهم مجموعون الخ «وآية لهم الأرض الميتة» بالتخفيف وقرئ بالتشديد وقوله تعالى آية خبر مقدم للاهتمام به وتنكيرها للتفخيم ولهم اما متعلقة بها لأنها بمعنى العلامة أو بمضمر هو صفة لها والأرض مبتدأ والميتة صفتها وقوله تعالى «أحييناها» استئناف مبين لكفية كونها آية وقيل آية مبتدأ ولهم خبر والأرض الميتة مبتدأ موصوف وأحييناها خبره والجملة مفسرة لآية وقيل الأرض مبتدأ وأحييناها خبره والجملة خبر لآية وقيل الخبر لها هو الأرض وأحييناها صفتها لان المراد بها الجنس لا المعينة والأول هو الأولى لان مصب الفائدة هو كون الأرض آية لهم لا كون الآية هي الأرض «وأخرجنا منها حبا» جنس الحب «فمنه يأكلون» تقديم الصلة للدلالة على ان الحب معظم ما يؤكل ويعاش به «وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب» أي من أنواع النخل والعنب ولذلك جمعا دون الحب فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك الدال على الأنواع وذكر النخيل دون التمور ليطابق الحب والأعناب لاختصاص شجرها بمزيد النفع وآثار الصنع «وفجرنا فيها» وقرئ بالتخفيف والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظا ومعنى «من العيون» أي بعضا من العيون فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أو العيون ومن مزيدة على رأى الأخفش «ليأكلوا من ثمره» متعلق بجعلنا وتأخيره عن تفجير العيون لأنه من مبادى الأثمار أي وجعلنا فيها جنات من نخيل ورتبنا مبادى أثمارها ليأكلوا من ثمر ما ذكر من الجنات والنخيل بإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة وقيل الضمير لله تعالى بطريق الالتفات إلى الغيبة والإضافة لان الثمر يخلقه تعالى وقرئ بضمتين وهي لغة فيه أو جمع ثمار وبضمة وسكون «وما عملته أيديهم» عطف على ثمره وهو ما يتخذ منه من العصير والدبس ونحوهما وقيل ما نافية والمعنى ان الثمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم ومحل الجملة النصب على الحالية ويؤكد الأول قراءة
166

عملت بلا هاء فإن حذف العائد من الصلة أحسن من الحذف من غيرها «أفلا يشكرون» انكار واستقباح لعدم شكرهم للنعم المعدودة والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيرون هذه النعم أو أيتنعمون بها فلا يشكرونها «سبحان الذي خلق الأزواج كلها» استئناف مسوق لتنزيهه تعالى عما فعلوه من ترك شكره على آلائه المذكورة
واستعظام ما ذكر في حيز صلة من بدائع آثار قدرته واسرار حكمته وروائع نعمائه الموجبة للشكر وتخصيص العبادة به والتعجيب من إخلالهم بذلك والحالة هذه وسبحان علم للتسبيح الذي هو التبعيد عن السوء اعتقادا وقولا أي اعتقاد البعد عنه والحكم به من سبح في الأرض والماء إذا ابعد فيهما وأمعن ومنه فرس سبوح أي واسع الجرى وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه أي أسبح سبحانه أي أنزهه عما لا يليق به عقدا وعملا تنزيها خاصا به حقيقا بشأنه وفيه مبالغة من جهة الاشتفاق من السبح ومن جهة النقل إلى التفعيل ومن جهة العدول عن المصدر الدال على الجنس إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما العلم المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن ومن جهة اقامته مقام المصدر مع الفعل وقيل هو مصدر كغفران أريد به التنزه التام والتباعد الكلي عن السوء ففيه مبالغة من جهة اسناد التنزه إلى الذات المقدسة فالمعنى تنزه بذاته عن كل ما لا يليق به تنزها خاصا به فالجملة على هذا اخبار من الله تعالى بتنزهه وبراءته عن كل مالا يليق به مما فعلوه وما تركوه وعلى الأول حكم منه عز وجل بذلك وتلقين للمؤمنين ان يقولوه ويعتقدوا مضمونه ولا يخلوا به ولا يغفلوا عنه المراد بالأزواج الأصناف والأنواع «مما تنبت الأرض» بيان لها والمراد به كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها «ومن أنفسهم» أي خلق الأزواج من أنفسهم أي الذكر والأنثى «ومما لا يعلمون» أي والأزواج مما لم يطلعهم الله تعالى على خصوصياته لعدم قدرتهم على الإحاطة بها ولما لم يتعلق بذلك شيء من مصالحهم الدينية والدنيوية وانما أطلعهم على ذلك بطريق الاجمال على منهاج قوله تعالى ويخلق ما لا تعلمون لما نبط به وقوفهم على عظم قدرته وسعة ملكه وسلطانه «وآية لهم الليل» جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر كما مر وقوله تعالى «نسلخ منه النهار» جملة مبينة لكيفية كونه آية أي نزيله ونكشفه عن مكانه مستعار من السلخ وهو إزالة ما بين الحيوان وجلده من الاتصال والأغلب في الاستعمال تعليقه بالجلد يقال سلخت الإهاب من الشاة وقد يعكس ومنه الشاة المسلوخة «فإذا هم مظلمون» أي داخلون في الظلام مفاجأة وفيه رمز إلى ان الأصل هو الظلام والنور عارض «والشمس تجري لمستقر لها» لحد معين ينتهى اليه دورها فشبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره أو لكبد السماء فإن حركتها فيه توجد أبطأ
167

بحيث يظن ان لها هناك وقفة قال والشمس حيرى لها بالجو تدويم أو لا استقرار لها على نهج مخصوص أو لمنتهى مقدر لكل يوم لكل يوم من المشارق والمغارب فإن لها في دورها ثلاثمائة وستين مشرقا ومغربا تطلع كل يوم من مطلع وتغرب من مغرب ثم لا يعود اليهما إلى العام القابل أو المنقطع جريها عند خراب العالم وقرئ إلى مستقر لها وقرئ لا مستقر لها أي لا سكون لها فإنها متحركة دائما وقرئ لا مستقر لها على ان لا بمعنى ليس «ذلك» إشارة إلى جريها وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار اليه للايذان بعلو رتبته وبعد منزلته أي ذلك الجرى البديع المنطوي على الحكم الرائعة التي تحار في فهمها العقول والافهام «تقدير العزيز» الغالب بقدرته على كل مقدور «العليم» المحيط علمه بكل معلوم «والقمر قدرناه» بالنصب بإضمار فعل يفسره الظاهر وقرئ بالرفع على الابتداء أي قدرنا له «منازل» وقيل قدرنا مسيره منازل وقيل قدرناه ذا منازل وهي ثمانية وعشرون الشرطين البطان الثريا الدبران الهقعة الهنعة الذراع النثرة الطرف الجبهة الزبرة الصرفة العوا السماك الغفر الزباني الا كليل القلب الشولة النعائم البلدة سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية فرغ الدلو المقدم فرغ الدلو المؤخر الرشا وهو بطن الحوت ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاها ولا يتقاصر عنها فإذا كان في آخر منازله وهو الذي يكون قبيل الاجتماع دق واستقوس «حتى عاد كالعرجون» كالشمراخ المعوج فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج وقرئ كالعرجون وهما لغتان كالبزيون والبزيون «القديم» العتيق وقيل هو ما مر عليه حول فصاعدا «لا الشمس ينبغي لها» أي يصح ويتسهل «أن تدرك القمر» في سرعة السير فإن ذلك يخل بتكون النبات وتعيش الحيوان أو في الآثار والمنافع أو في المكان بأن تنزل في منزله أو في سلطانه فتطمس نوره وايلاء حرف النفي الشمس للدلالة على انها مسخرات لا يتيسر لها الا ما قدر لها «ولا الليل سابق النهار» أي يسبقه فيفوته ولكن يعاقبه وقيل المراد بهما آيتاهما وهما النيران وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس فيكون عكسا للأول وايراد السبق مكان الادراك لأنه الملائم لسرعة سيره «وكل» أي وكلهم على ان التنوين عوض عن المضاف اليه الذي هو الضمير العائد إلى الشمس والقمر والجمع باعتبار التكاثر العارض لهما بتكاثر مطالعهما فإن اختلاف الأحوال يوجب تعددا ما في الذات أو إلى الكواكب فإن ذكرهما مشعر بها «في فلك يسبحون» يسيرون بانبساط وسهولة «وآية لهم أنا حملنا ذريتهم» أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم أو صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم فإن الذرية تطلق عليهن لا سيما مع الاختلاط وتخصيصهم بالذكر لما أن استقرارهم في السفن أشق واستمساكهم فيها أبدع «في الفلك المشحون» أي المملوء وقيل هو فلك نوح
168

عليه السلام وحمل ذرياتهم فيها حمل آبائهم الأقدمين وفي أصلابهم هؤلاء وذرياتهم وتخصيص أعقابهم بالذكر دونهم لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجيب الذي عليه يدور كونه آية «وخلقنا لهم من مثله» مما يماثل الفلك «ما يركبون» من الإبل فإنها سفائن البر أو مما يماثل ذلك الفلك من السفن والزوارق وجعلها مخلوقة لله تعالى مع كونها من مصنوعات العباد ليس لمجرد كون صنعهم بإقدار الله تعالى وإلهامه بل لمزيد اختصاص أصلها بقدرته تعالى وحكمته حسبما يعرب عنه قوله عز وجل واصنع الفلك بأعيننا ووحينا والتعبير عن ملابستهم بهذه السفن بالركوب لأنها باختيارهم كما أن التعبير عن ملابسة ذريتهم بفلك نوح عليه السلام بالحمل لكونها بغير شعور منهم واختيار «وإن نشأ نغرقهم» الخ من تمام الآية فإنهم معترفون بمضمونه كما ينطق به قوله تعالى وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين وقرئ نغرقهم بالتشديد وفي تعليق الإغراق بمحض المشيئة إشعار بأنه قد تكامل ما يوجب إهلاكهم من معاصيهم ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به أي إن نشأ نغرقهم في اليم مع ما حملناهم فيه من الفلك فحديث خلق الإبل حينئذ كلام جئ به في خلال الآية بطريق الاستطراد لكمال التماثل بين الإبل والفلك فكأنها نوع منه أو مع ما يركبون من السفن والزوارق «فلا صريخ لهم» أي فلا مغيث لهم يحرسهم من الغرق ويدفعه عنهم قبل وقوعه وقيل فلا استغاثة لهم من قولهم أتاهم الصريخ «ولا هم ينقذون» أي ينجون منه بعد وقوعه وقوله تعالى «إلا رحمة منا ومتاعا» استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم والغاية المتأخرة أي لا يغاثون ولا ينقذون لشئ من الأشياء إلا لرحمة عظيمة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والانقاذ وتمتيع بالحياة مترتب عليهما ويجوز أن يراد بالرحمة ما يقارن التمتيع من الرحمة الدنيوية فيكون كلاهما غاية للإغاثة
والإنقاذ أي لنوع من الرحمة وتمتيع «إلى حين» أي إلى زمان قدر فيه آجالهم كما قيل
* ولم اسلم لكي أبقى ولكن
* سلمت من الحمام إلى الحمام
* «وإذا قيل لهم اتقوا» بيان لإعراضهم عن الآيات التنزيلية بعد بيان إعراضهم عن الآيات الآفافية التي كانوا يشاهدونها وعدم تأملهم فيها أي إذا قيل لهم بطريق الإنذار بما نزل من الآيات أو بغيره اتقوا «ما بين أيديكم وما خلفكم» من الآفات والنوازل فإنها محيطة بكم أو ما يصيبكم من المكاره من حيث تحتسبون ومن حيث لا تحتسبون أو من الوقائع النازلة على الأمم الخالية قبلكم والعذاب المعد لكم في الآخرة أو من نوازل السماء ونوائب
169

الأرض أو من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة أو ما تقدم من الذنوب وما تأخر «لعلكم ترحمون» اما حال من واو اتقوا أو غاية له أي راجين ان ترحموا أو كي ترحموا فتنجوا من ذلك لما عرفتم ان مناط النجاة ليس الا رحمة الله تعالى وجواب إذا محذوف ثقة بانفهامه من قوله تعالى «وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين» انفهاما بينا اما إذا كان الانذار بالآية الكريمة فبعبارة النص واما إذا كان بغيرها فبدلالته لأنهم حين اعرضوا عن آيات ربهم فلأن يعرضوا عن غيرها بطريق الأولوية كأنه قيل وإذا قيل لهم اتقوا العذاب اعرضوا حسبما اعتادوه وما نافية وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثاني تبعيضية واقعة مع مجرورها صفة لآية وإضافة الآيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها والمراد بها اما الآيات التنزيلية فإتيانها نزولها والمعنى ما ينزل إليهم آية من الآيات القرآنية التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى وسوابغ آلائه الموجبة للاقبال عليها والايمان بها الا كانوا عنها معرضين على وجه التكذيب والاستهزاء واما ما يعمها وغيرها من الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات التي من جملتها الآيات الثلاث المعدودة آنفا فالمراد بإتيانها ما يعم نزول الوحي وظهور تلك الأمور لهم والمعنى ما يظهر لهم آية من الآيات التي من جملتها ما ذكر من شؤونه الشاهدة بوحدانيته تعالى وتفرده بالألوهية إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إلى الايمان به تعالى وإيثاره على ان يقال إلا اعرضوا عنها كما وقع مثله في قوله تعالى وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر الدلالة على استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات وعن متعلقة بمعرضين قدمت عليه مراعاة للفواصل والجملة في حيز النصب على أنها حال من مفعول تأتى أو من فاعله المتخصص بالوصف لاشتمالها على ضمير كل منهما والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما تأتيهم من آية من آيات ربهم في حال من أحوالهم إلا حال إعراضهم عنها أو ما تأتيهم آية منها في حال من أحوالها إلا حال إعراضهم عنها «وإذا قيل لهم أنفقوا من ما رزقكم الله» أي أعطاكم بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال عبر عنها بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق على منهاج قوله تعالى وأحسن كما أحسن الله إليك وتنبيها على عظم جنايتهم في ترك الامتثال بالامر وكذلك من التبعيضية أي إذا قيل لهم بطريق النصيحة انفقوا بعض ما أعطاكم الله تعالى من فضله على المحتاجين فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره «قال الذين كفروا» بالصانع عز وجل وهم زنادقة كانوا بمكة «للذين آمنوا» تهكما بهم وبما كانوا عليه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى «أنطعم» حسبما تعظوننا به «من لو يشاء الله
170

أطعمه» أي على زعمكم وعن ابن عباس رضى الله عنهما كان بمكة زنادقة إذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن وقيل قاله مشركو قريش حين استطعمهم فقراء المؤمنين من أموالهم التي زعموا انهم جعلوها لله تعالى من الحرث والانعام يوهمون أنه تعالى لما لم يشأ إطعامهم وهو قادر عليه فنحن أحق بذلك وما هو إلا لفرط جهالتهم فإن الله تعالى يطعم عباده بأسباب من جملتها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم لذلك «إن أنتم إلا في ضلال مبين» حيث تأمروننا بما يخالف مشيئة الله تعالى وقد جوز أن يكون جوابا لهم من جهته تعالى أو حكاية لجواب المؤمنين لهم «ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين» أي فيما تعدوننا به من قيام الساعة مخاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لما أنهم أيضا كانوا يتلون عليهم آيات الوعيد بقيامها ومعنى القرب في هذا إما بطريق الاستهزاء وإما باعتبار قرب العهد بالوعد «ما ينظرون» جواب من جهته تعالى أي ما ينتظرون «إلا صيحة واحدة» هي النفخة الأولى «تأخذهم» مفاجأة «وهم يخصمون» أي يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم لا يخطر ببالهم شئ من مخايلها كقوله تعالى فاخذتهم الصاعقة بغتة وهم لا يشعرون فلا يغتروا بعدم ظهور علائمها ولا يزعموا أنها لا تأتيهم وأصل يخصمون يختصمون فسكنت التاء وأدغمت في الصاد ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين وقرئ بكسر الياء للاتباع وبفتح الخاء على إلقاء حركة التاء عليه وقرئ على الاختلاس وبالاسكان على تجويز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغما وإن لم يكن الأول حرف مد وقرئ يخصمون من خصمه إذا جادله «فلا يستطيعون توصية» في شئ من أمورهم إن كانوا فيما بين أهليهم «ولا إلى أهلهم يرجعون» إن كانوا في خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا «ونفخ في الصور» هي النفخة الثانية بينها وبين الأولى أربعون سنة أي ينفخ فيه وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع «فإذا هم من الأجداث» أي القبور جمع جدث وقرئ بالفاء «إلى ربهم» مالك أمرهم على الإطلاق «ينسلون» يسرعون بطريق الإجبار دون الاختيار لقوله تعالى لدينا محضرون وقرئ بضم السين «قالوا» أي في ابتداء بعثهم من القبور «يا ويلنا» احضر فهذا أوانك وقرئ يا ويلتنا «من بعثنا من مرقدنا» وقرئ من أهبنا من هب من نومه إذا انتبه وقرئ من هبنا بمعنى أهبنا وقيل أصله
171

هب بنا فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير قيل فيه ترشيح ورمز وإشعار بأنهم لاختلاط عقولهم يظنون انهم كانوا نياما وعن مجاهد أن للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور يقولون ذلك وعن ابن عباس وأبي بن كعب وقتادة رحمهم الله تعالى ان الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بالنفخة الثانية وشاهدوا من أهوال يوم القيامة ما شاهدوا دعوا بالويل وقالوا ذلك وقيل إذا عاينوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب يصير عذاب القبر في جنبها مثل النوم فيقولون ذلك وقرئ من بعثنا ومن هبنا بمن الجارة والمصدر والمرقد اما مصدر أي من رقادنا أو اسم مكان أريد به الجنس فينتظم مراقد الكل «هذا ما وعد الرحمن وصدق
المرسلون» جملة من مبتدأ وخبر وما موصولة محذوفة العائد أو مصدرية وهو جواب من قبل الملائكة أو المؤمنين عدل به عن سنن سؤالهم تذكيرا لكفرهم وتقريعا لهم عليه وتنبيها على ان الذي يهمهم هو السؤال عن نفس البعث ماذا هو دون الباعث كأنهم قالوا بعثكم الرحمن الذي وعدكم ذلك في كتبه وأرسل إليكم الرسل فصدقوكم فيه وليس الامر كما تتوهمونه حتى تسألوا عن الباعث وقيل هو من كلام الكافرين حيث يتذكرون ما سمعوه من الرسل عليهم الصلاة والسلام فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضا وقيل هذا صفة لمرقدنا وما وعد الخ خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف أي ما وعد الرحمن وصدق المرسلون حق «إن كانت» أي ما كانت النفخة التي حكيت آنفا «إلا صيحة واحدة» حصلت من نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور «فإذا هم جميع» أي مجموع «لدينا محضرون» من غير لبث ما طرفة عين وفيه من تهوين امر البعث والحشر والايذان باستغائهما عن الأسباب ما لا يخفي «فاليوم لا تظلم نفس» من النفوس برة كانت أو فاجرة «شيئا» من الظلم «ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون» أي الا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الكفر والمعاصي على حذف المضاف وإقامة المضاف اليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد أو الا بما كنتم تعملونه أي بمقابلته أو بسببه وتعميم الخطاب للمؤمنين يرده انه تعالى يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله اضعافا مضاعفة وهذه حكاية لما سيقال لهم حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقا للحق وتقريعا لهم وقوله تعالى «إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون» من جملة ما سيقال لهم يومئذ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الاخبار بحسن حال أعدائهم اثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة وفي هذه الحكاية مزجرة لهؤلاء الكفرة عما هم عليه ومدعاة إلى الاقتداء بسيرة المؤمنين والشغل هو الشأن الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شؤونه لكونه أهم عنده من الكل اما لإيجابه كمال المسرة
172

والبهجة أو كمال المساءة والغم والمراد ههنا هو الأول وما فيه من التنكير والابهام للايذان بارتفاعه عن رتبة البيان والمراد به ما هم فيه من فنون الملاذ التي تلهيهم عما عداها بالكلية واما ان المراد به افتضاض الابكار أو السماع وضرب الأوتار أو النزاور أو ضيافة الله تعالى أو شغلهم عما فيه أهل النار على الاطلاق أو شغلهم عن أهاليهم في النار لا يهمهم امرهم ولا يبالون بهم كيلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم كما روى كل واحد منها عن واحد من أكابر السلف فليس مرادهم بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط بل بيان انه من جملة أشغالهم وتخصيص كل منهم كلا من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه وهو مع جاره خبر لان وفاكهون خبر آخر لها أي انهم مستقرون في شغل واي شغل في شغل عظيم الشأن متنعمون بنعيم مقيم فائزون بملك كبير والتعبير عن حالهم هذه بالجملة الاسمية قبل تحققها بتنزيل المترقب المتوقع منزلة الواقع للايذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها ولزيادة مساءة المخاطبين بذلك وقرئ في شغل بسكون الغين وفي شغل بفتحتين وبفتحة وسكون والكل لغات وقرئ فكهون للمبالغة وفكهون بضم الكاف وهي لغة كنطس وفاكهين وفكهين على الحال من المستكن في الظرف وقوله تعالى «هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون» استئناف مسوق لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلهما بما يزيدهم بهجة وسرورا من شركة أزواجهم لهم فيما هم فيه من الشغل والفكاهة على أن هم مبتدأ وأزواجهم عطف عليه ومتكئون خبر والجاران صلتان له قدمتا عليه لمراعاة الفواصل أو هو والجاران بما تعلقا به من الاستقرار أخبار مترتبة وقيل الخبر هو الظرف الأول والثاني مستأنف على أنه متعلق بمتكئون وهو خبر لمبتدأ محذوف وقيل على أنه خبر مقدم ومتكئون مبتدأ مؤخر وقرئ متكين بلا همز نصبا على الحال من المستكن في الظرفين أو أحدهما وقيل هم تأكيد للمستكن في خبر إن ومتكئون خبر آخر لها وعلى الأرائك متعلق به وكذا في ظلال أو هذا بمضمر هو حال من المعطوفين والظلال جمع ظل كشعاب جمع شعب أو جمع ظلة كقباب جمع قبة ويؤيده قراءة في ظلل والأرائك جمع أريكة وهي السرير المزين بالثياب والستور قال ثعلب لا تكون أريكة حتى تكون عليها حجلة وقوله تعالى «لهم فيها فاكهة» الخ بيان لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب ويتلذذون به من الملاذ الجسمانية والروحانية بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الإنس ومحافل القدس تكميلا لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة أي لهم فيها فاكهة كثيرة من كل نوع من الفواكه وما في قوله تعالى «ولهم ما يدعون» موصولة أو موصوفة عبر بها عن مدعو عظيم الشأن معين أو مبهم إيذانا بأنه الحقيق بالدعاء دون ما عداه ثم صرح به روما لزيادة التقرير بالتحقيق بعد التشويق كما ستعرفه أو هي باقية على عمومها قصد بها التعميم بعد تخصيص بعض المواد المعتادة بالذكر وأيا ما كان فهو مبتدأ ولهم خبره والجملة معطوفة على الجملة السابقة وعدم الاكتفاء بعطف ما يدعون على فاكهة لئلا
173

يتوهم كون ما عبارة عن توابع الفاكهة وتتماتها والمعنى ولهم ما يدعون به لأنفسهم من مدعو عظيم الشأن أو كل ما يدعون به كائنا ما كان من أسباب البهجة وموجبات السرور وأيا ما كان ففيه دلالة على أنهم في أقصى غاية البهجة والغبطة ويدعون يفتعلون من الدعاء كما أشير إليه مثل اشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه وقيل بمعنى يتداعون كالارتماء بمعنى الترامي وقيل بمعنى يتمنون من قولهم ادع على ما شئت بمعنى تمنه على وقال الزجاج هو من الدعاء أي ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم فيكون الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحلة ويعضده القراءة بالتخفيف كما ذكره الكواشى وقوله تعالى «سلام» على التقدير الأول بدل من ما يدعون أو خبر لمبتدأ محذوف وقوله تعالى «قولا» مصدر مؤكد لفعل هو صفة لسلام وما بعده من الجار متعلق بمضمر هو صفة له كأنه قيل ولهم سلام أو ما يدعون سلام يقال لهم قولا كائنا «من» جهة «رب رحيم» أي يسلم عليهم من جهته تعالى بواسطة الملك أو بدونها مبالغة في تعظيمهم قال ابن عباس رضى الله عنهما والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين وأما على التقدير الثاني فقد قيل إنه خبر لما يدعون ولهم لبيان الجهة كما يقال لزيد الشرف متوفر على أن الشرف مبتدأ ومتوفر خبره والجار والمجرور لبيان من له ذلك أي ما يدعون سالم لهم خالص لا شوب فيه وقولا حينئذ مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي عدة من رب رحيم والأوجه ان ينتصب على الاختصاص وقيل هو مبتدأ محذوف الخبر أي لهم سلام أي تسليم قولا من رب رحيم أو سلامة من الآفات فيكون قولا مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة كما سبق وقيل تقديره سلام عليهم فيكون حكاية لما سيقال لهم من جهته تعالى يومئذ وقيل خبره الفعل المقدر ناصبا لقولا وقيل خبره من رب رحيم وقرئ سلاما بالنصب على الحالية أي لهم مرادهم سالما خالصا وقرئ سلم وهو بمعنى السلام في المعنيين «وامتازوا اليوم» عطف إما على الجملة السابقة المسوقة لبيان أحوال أهل الجنة لاعلى أن المقصود
عطف فعل الأمر بخصوصه حتى يتمحل له مشاكل يصح عطفه عليه بل على أنه عطف قصة سوء حال هؤلاء وكيفية عقابهم على قصة حسن حال أولئك ووصف ثوابهم كما مر في قوله تعالى «وبشر الذين آمنوا» الآية وكأن تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين الفريقين وحاليهما وإما على مضمر ينساق إليه حكاية حال أهل الجنة كأنه قيل إثر بيان كونهم في شغل عظيم الشأن وفوزهم بنعيم مقيم يقصر عنه البيان فليقروا بذلك عينا وامتازوا عنهم «أيها المجرمون» إلى مصيركم وعن قتادة اعتزلوا عن كل خير وعن الضحاك لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى وأما ما قيل من ان المضمر فليمتازوا فبمعزل من السداد لما ان المحكى عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضية حتى يتسنى ترتيب الامر المذكور عليه بل إنما هو استقرارهم عليها بالفعل وكون ذلك بطريق تنزيل المترقب منزلة الواقع لا يجدى نفعا لان مناط الإضمار انسياق الافهام إليه وانصباب
174

نظم الكلام عليه فبعد ما نزلت تلك الحالة منزلة الواقع بالفعل لما اقتضاه المقام من النكتة البارعة والحكمة الرائعة حسبما مر بيانه واسقط كونها مترقبة عن درجة الاعتبار بالكلية يكون التصدي لإضمار شئ يتعلق به إخراجا للنظم الكريم عن الجزالة بالمرة «ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان» من جملة ما يقال لهم بطريق التقريع والالزام والتبكيت بين الامر بالامتياز وبين الامر بدخول جهنم بقوله تعالى اصلوها اليوم الخ والعهد الوصية والتقدم بأمر فيه خير ومنفعة والمراد ههنا ما كلفهم الله تعالى على السنة الرسل عليهم الصلاة والسلام من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله تعالى يا بني آدم لا يفتتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة الآية وقوله تعالى ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين وغيرهما من الآيات الكريمة الواردة في هذا المعنى وقيل هو الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهور بنى آدم واشهدوا على أنفسهم وقيل هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادته تعالى الزاجرة عن عبادة غيره والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها في مقابلة عبادته عز وجل وقرئ اعهد بكسر الهمزة وأعهد بكسر الهاء وأحهد الحاء مكان العين وأحد بالإدغام وهي لغة بني تميم «إنه لكم عدو مبين» أي ظاهر العداوة وهو تعليل لوجوب الانتهاء عن المنهى عنه وقيل تعليل للنهي «وأن اعبدوني» عطف على أن لا تعبدوا على ان أن فيهما مفسرة للعهد الذي فيه معنى القول بالنهى والامر أو مصدرية حذف عنها الجار أي ألم اعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي عبادتي وتقديم النهى على الامر لما أن حق التخلية التقدم على التحلية كما في كلمة التوحيد وليتصل به قوله تعالى «هذا صراط مستقيم» فإنه إشارة إلى عبادته تعالى التي هي عبارة عن التوحيد والإسلام وهو المشار إليه بقوله تعالى هذا صراط على مستقيم والمقصود بقوله تعالى لأقعدن لهم صراطك المستقيم والتنكير للتفخيم واللام في قوله تعالى «ولقد أضل منكم جبلا كثيرا» جواب قسم محذوف والجملة استئناف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع ببيان ان جناياتهم ليست بنقض العهد فقط بل به وبعدم الاتعاظ بما شاهدوا من العقوبات النازلة على الأمم الخالية بسبب طاعتهم للشيطان فالخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار مكة خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم والجبل بكسر الجيم والباء وتشديد اللام الخلق وقرئ بضمتين وتشديد وبضمتين وتخفيف وبضمة وسكون وبكسرتين وتخفيف وبكسرة وسكون والكل لغات وقرئ جبلا جمع جبلة كفطر وخلق في فطرة وخلقة وقرئ جيلا بالياء وهو الصنف من الناس أي وبالله لقد أضل منكم خلقا كثيرا أو صنفا
175

كثيرا عن ذلك الصراط المستقيم الذي أمرتكم بالثبات عليه فأصابهم لأجل ذلك ما أصابهم من العقوبات الهائلة التي ملأ الآفاق أخبارها وبقى مدى الدهر آثارها والفاء في قوله تعالى «أفلم تكونوا تعقلون» للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم أو فلم تكونوا تعقلون شيئا أصلا حتى ترتدعوا عما كانوا عليه كيلا يحيق بكم العقاب وقوله تعالى «هذه جهنم التي كنتم توعدون» استئناف يخاطبون به بعد تمام التوبيخ والتقريع والإلزام والتبكيت عن إشرافهم على شفير جهنم أي كنتم توعدونها على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام بمقابلة عبادة الشيطان مثل قوله تعالى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقوله تعالى «قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا» وقوله تعالى «قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين» وغير ذلك مما لا يحصى وقوله تعالى «اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون» امر تنكيل وإهانة كقوله تعالى «ذق إنك أنت العزيز» الخ أي ادخلوها من فوق وقاسوا فنون عذابها اليوم بكفركم المستمر في الدنيا وقوله تعالى «اليوم نختم على أفواههم» أي ختما يمنعها عن الكلام التفات إلى الغيبة للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعى ان يعرض عنهم ويحكى أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الايماء إلى أن ذلك من مقتضيات الختم لان الخطاب لتلقى الجواب وقد انقطع بالكلية وقرئ تختم «وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون» يروى أنهم يجحدون ويخاصمون فيشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم فيحلفون ما كانوا مشركين فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم وفي الحديث يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز على شاهدا إلا من نفسي فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقى فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل وقيل تكليم الأركان وشهادتها دلالتها على أفعالها وظهور آثار المعاصي عليها وقرئ وتتكلم أيديهم وقرئ ولتكلمنا أيديهم وتشهد بلام كي والنصب على معنى ولذلك نختم على أفواههم وقرئ ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الامر والجزم «ولو نشاء لطمسنا على أعينهم» الطمس تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة ومفعول المشيئة محذوف على القاعدة المستمرة التي هي وقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء أي لو نشاء أن نطمس على أعينهم لفعلناه وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم الطمس على أعينهم لاستمرار عدم المشيئة فإن المضارع المنفى الواقع موقع الماضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار
176

الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه بحسب المقام كما مر في قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير «فاستبقوا الصراط» أي فأرادوا أن يستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه على أن انتصابه بنزع الجار أو هو بتضمين الاستباق معنى الابتدار أو بالظرفية «فأنى يبصرون» الطريق وجهة السلوك «ولو نشاء لمسخناهم» بتغيير صورهم وإبطال قواهم «على مكانتهم» أي مكانهم إلا أن المكانة أخص كالمقامة والمقام وقرئ على مكاناتهم أي لمسخناهم مسخا يجمدهم مكانهم لا يقدرون ان
يبرحوه بإقبال ولا ادبار ولا رجوع وذلك قوله تعالى «فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون» أي ولا رجوعا فوضع موضعه الفعل لمراعاة الفاصلة عن ابن عباس رضي الله عنهما قردة وخنازير وقيل حجارة وعن قتادة لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم وقرئ مضيا بكسر الميم وفتحها وليس مساق الشرطيتين لمجرد بيان قدرته تعالى على ما ذكر من عقوبة الطمس والمسخ بل لبيان انهم بما هم عليه من الكفر ونقض العهد وعدم الاتعاظ بما شاهدوا من آثار دمار أمثالهم احفاء بأن يفعل بهم في الدنيا تلك العقوبة كما فعل بهم في الآخرة عقوبة الختم وان المانع من ذلك ليس الا عدم تعلق المشيئة الإلهية به كأنه قيل لو نشاء عقوبتهم بما ذكر من الطمس والمسخ جريا على موجب جناياتهم المستدعية لها لفعلناها ولكنا لم نشاها جريا على سنن الرحمة والحكمة الداعيتين إلى امهالهم «ومن نعمره» أي نطل عمره «ننكسه في الخلق» أي نقلبه فيه ونخلقه على عكس ما خلقناه أولا فلا يزال يتزايد ضعفه وتتناقص قوته وتنتقص بنيته ويتغير شكله وصورته حتى يعود إلى حالة شبيهة بحال الصبي في ضعف الجسد وقلة العقل والخلو عن الفهم والادراك وقرئ ننكسه من الثلاثي المجرد وننكسه من الإنكاس «أفلا يعقلون» أي أيرون ذلك فلا يعقلون اما من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ وان عدم ايقاعهما لعدم تعلق مستئنه تعالى بهما تعقلون بالتاء لجري الخطاب قبله «وما علمناه الشعر» رد وابطال لما كانوا يقولونه في حقه صلى الله عليه وسلم من انه شاعر وما يقوله شعر أي ما علمناه الشعر بتعليم القرآن على معنى ان القرآن ليس بشعر فإن الشعر كلام متكلف موضوع ومقال مزخرف مصنوع منسوج على منوال الوزن والقافية مبنى على خيالات وأوهام واهية فأين ذلك من التنزيل الجليل الخطر المنزه عن مماثلة كلام البشر المشحون بفنون الحكم والاحكام الباهرة الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة ومن اين اشتبه عليهم الشؤون واختلط بهم الظنون قاتلهم الله أنى يؤفكون «وما ينبغي له» وما يصح له الشعر ولا يتأتى له لو طلبه أي جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له كما جعلناه أميا لا يهتدي للخط لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض واما قوله صلى الله عليه وسلم انا النبي لا كذب أنا ابن عبد
177

المطلب وقوله صلى الله عليه وسلم هل أنت الا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت فمن قبيل الاتفاقات الواردة من غير قصد إليها وعزم على ترتيبها وقيل الضمير في له للقرآن أي وما ينبغي للقرآن أن يكون شعرا «إن هو» أي ما القرآن «إلا ذكر» أي عظة من الله عز وجل وإرشاد للثقلين كما قال تعالى إن هو إلا ذكر للعالمين «وقرآن مبين» أي كتاب سماوي بين كونه كذلك أو فارق بين الحق والباطل يقرأ في المحاريب ويتلى في المعابد وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين فكم بينه وبين ما قالوا «لينذر» أي القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤبده القراءة بالتاء وقرئ لينذر من نذر به أي علمه ولينذر مبنيا للمفعول من الإنذار «من كان حيا» أي عاقلا متأملا فإن الغافل بمنزلة الميت أو مؤمنا في علم الله تعالى فإن الحياة الأبدية بالايمان وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به «ويحق القول» أي تجب كلمة العذاب «على الكافرين» المصرين على الكفر وفي إيرادهم بمقابلة من كان حيا إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة وأحكامها التي هي المعرفة أموات في الحقيقة «أولم يروا» الهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف أي ألم يتفكروا أو ألم يلاحظوا ولم يعلموا علما يقينيا متاخما للمعاينة «أنا خلقنا لهم» أي لأجلهم وانتفاعهم «مما عملت أيدينا» أي مما تولينا إحداثه بالذات وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص والتفرد بالإحداث والاعتناء به «أنعاما» مفعول خلقنا وتأخيره عن الجارين المتعلقين به مع أن حقه التقدم عليهما لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة له فيتمكن عند وروده عليها فضل تمكن لا سيما عند كون المقدم منبئا عن كون المؤخر أمرا نافعا خطيرا كما في النظم الكريم فإن الجار الأول المعرب عن كون المؤخر من منافعهم والثاني المفصح عن كونه من الأمور الخطيرة يزيدان النفس شوقا إليه ورغبة فيه ولأن في تأخيره جمعا بينه وبين أحكامه المتفرعة عليه بقوله تعالى «فهم لها مالكون» الآيات الثلاث أي فملكناها إياهم وإيثار الجملة الاسمية على ذلك للدلالة على استقرار مالكيتهم لها واستمرارها واللام متعلقة بمالكون مقوية لعمله أي فهم مالكون لها بتمليكنا إياها لهم متصرفون فيها بالاستقلال مختصون بالانتفاع بها لا يزاحمهم في ذلك غيرهم أو قادرون على ضبطها متمكنون من الصرف فيها بأقدارنا وتمكيننا وتسخيرنا إياها لهم كما في قول من قال
* أصبحت لا أحمل السلاح ولا
* أملك راس البعير إن نفرا
* والأول هو الأظهر ليكون قوله تعالى «وذللناها لهم» تأسيسا لنعمة على حيالها لا تتمة لما قبلها أي صيرناها منقادة لهم بحيث لا تستعصى عليهم في شئ مما يريدون بها حتى الذبح
178

حسبما ينطق به قوله تعالى «فمنها ركوبهم» الخ فإن الفاء فيه لتفريع احكام التذليل عليه وتفصيلها أي فبعض منها ركوبهم أي مركوبهم أي معظم منافعها الركوب وعدم التعرض للحمل لكونه من تتمات الركوب وقرئ ركوبتهم وهي بمعناه كالحلوب والحلوبة وقيل الركوبة اسم جمع وقرئ ركوبهم أي ذو ركوبهم «ومنها يأكلون» أي وبعض منها يأكلون لحمه «ولهم فيها» أي في الانعام بكلا قسميها «منافع» أخر غير الركوب والأكل كالجلود والأصواف والأوبار وغيرها وكالحراثة بالثيران «ومشارب» من اللبن جمع مشرب وهذا مجمل ما فصل في سورة النحل «أفلا يشكرون» أي أيشاهدون هذه النعم أو أيتنعمون بها فلا يشكرون المنعم بها «واتخذوا من دون الله» أي متجاوزين الله تعالى الذي شاهدوا تفرده بتلك القدرة الباهرة وتفضله عليهم بهاتيك النعم المتظاهرة «آلهة» من الأصنام وأشركوها به تعالى في العبادة «لعلهم ينصرون» رجاء أن ينصروا من جهتهم فيما حزبهم من الأمور أو يشفعوا لهم في الآخرة وقوله تعالى «لا يستطيعون نصرهم» الخ استئناف سيق لبيان بطلان رأيهم وخيبة رجائهم وانعكاس تدبيرهم أي لا تقدر آلهتهم على نصرهم «وهم» أي المشركون «لهم» أي لآلهتهم «جند محضرون» يشيعونهم عند مساقهم إلى النار وقيل معدون في الدنيا لحفظهم وخدمتهم والذب عنهم ولا يساعده مساق النظم الكريم فإن الفاء في قوله تعالى «فلا يحزنك قولهم» لترتيب النهى على ما قبله فلابد أن
يكون عبارة عن خسرانهم وحرمانهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة وانعكاس الأمر عليهم بترتيب الشر على ما رتبوه لرجاء الخير فإن ذلك مما يهون الخطب ويورث السلوة وأما كونهم معدين لخدمتهم وحفظهم فبمعزل من ذلك والنهى وإن كان بحسب الظاهر متوجها إلى قولهم لكنه في الحقيقة متوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى له عليه السلام عن التأثر منه بطريق الكناية على أبلغ وجه وآكده فإن النهى عن أسباب الشئ ومباديه المؤدية إليه نهى عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية وقد يوجه النهى إلى المسبب ويراد النهى عن السبب كما في قوله لا أرينك ههنا يريد به نهى مخاطبة عن الحضور لديه والمراد بقولهم ما ينبئ عنه ما ذكر من اتخاذهم الأصنام آلهة فإن ذلك مما لا يخلو عن التفوه بقولهم هؤلاء آلهتنا وأنهم شركاء لله سبحانه في المعبودية وغير ذلك مما يورث الحزن وقرئ يحزنك بضم الياء وكسر الزاي من أحزن المنقول من حزن اللازم وقوله تعالى «إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون» تعليل صريح للنهي بطريق الاستئناف بعد تعليله بطريق الإشعار فإن العلم بما ذكر مستلزم للمجازاة قطعا أي إنا نجازيهم بجميع جناياتهم الخافية
179

والبادية التي لا يعزب عن علمنا شئ منها وفيه فضل تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم السر على العلن إما للمبالغة في بيان شمول علمه تعالى لجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه مع استوائهما في الحقيقة فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شئ في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة وإما لان مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شئ يعلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة «أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة» كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعد ما شاهدوا في أنفسهم أوضح دلائلة وأعدل شواهده كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلان إشراكهم بالله تعالى بعد ما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام واما ما قيل من أنه تسلية ثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر فكلا والهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على جملة مقدرة هي مستتبعة للمعطوف كما مر في الجملة الإنكارية السابقة أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم علما يقينيا انا خلقناه من نطفة الخ أو هي عين الجملة السابقة أعيدت تأكيدا للنكير السابق وتمهيدا لإنكار ما هو أحق منه بالانكار والتعجيب لما ان المنكر هناك عدم علمهم بما يتعلق بخلق أسباب معايشهم وههنا عدم علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم ولا ريب في أن علم الانسان بأحوال نفسه أهم وإحاطته بها أسهل وأكمل فالإنكار والتعجيب من الإخلال بذلك أدخل كأنه قيل ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم أيضا مع كون العلم بذلك في غاية الظهور ونهاية الأهمية على معنى ان المنكر الأول بعيد قبيح والثاني ابعد وأقبح ويجوز أن تكون الواو لعطف الجملة الإنكارية الثانية على الأولى على أنها متقدمة في الاعتبار وأن تقدم الهمزة عليها لاقتضائها الصدارة في الكلام كما هو رأي الجمهور وإيراد الانسان مورد الضمير لأن مدار الانكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان كما في قوله تعالى أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا وقوله تعالى «فإذا هو خصيم مبين» أي شديد الخصومة والجدال بالباطل عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الانكار والتعجيب كأنه قيل أولم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته وتحققه مبدأ فطرته شهادة بينة وإيراد الجملة الاسمية للدلالة على استقراره في الخصومة واستمراره عليها روى ان جماعة من كفار قريش منهم أبي بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة تكلموا في ذلك فقال لهم أبي بن خلف ألا ترون إلى ما يقول محمد أن الله يبعث الأموات ثم قال واللات والعزى لأصيرن إليه ولأخصمنه وأخذ عظما باليا فجعل يفته بيده ويقول يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم قال صلى الله عليه وسلم نعم ويبعثك ويدخلك جهنم فنزلت وقيل معنى قوله تعالى فإذا هو خصيم مبين فإذا هو بعدما كان ماء مهينا رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في نفسه فصيح فهو حينئذ معطوف على خلقناه غير داخل تحت الإنكار والتعجيب بل هو من متممات شواهد صحة البعث فقوله تعالى
180

«وضرب لنا مثلا» معطوف حينئذ على الجملة المنفية داخل في حيز الانكار والتقبيح وأما على التقدير الأول فهو عطف على الجملة الفجائية والمعنى ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلا أي أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الامر هي في الغرابة والبعد عن العقول كالمثل وهي إنكار إحيائنا العظام أو قصة عجيبة في زعمه واستبعدها وعدها من قبيل المثل وأنكرها أشد الإنكار وهي إحياؤنا إياها وجعل لنا مثلا ونظيرا من الخلق وقاس قدرتنا على قدرتهم ونفى الكل على العموم وقوله تعالى «ونسي خلقه» أي خلقنا إياه على الوجه المذكور الدال على بطلان ما ضربه إما عطف على ضرب داخل في حيز الانكار والتعجيب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه وقوله تعالى «قال» استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية ضربه المثل كأنه قيل أي مثل ضرب أو ماذا قال فقيل قال «من يحيي العظام» منكرا له أشد النكير مؤكدا له بقوله تعالى «وهي رميم» أي بالية أشد البلى بعيدة من الحياة غاية البعد فالمثل على الأول هو إنكار إحيائه تعالى للعظام فإنه امر عجيب في نفس الامر حقيق لغرابته وبعده من العقول بأن يعد مثلا ضرورة جزم العقول ببطلان الإنكار ووقوع المنكر لكونه كالإنشاء بل أهون منه في قياس العقل وعلى الثاني هو إحياؤه تعالى لها فإنه أمر عجيب في زعمه قد استبعده وعده من قبيل المثل وأنكره أشد الإنكار مع أنه في نفس الأمر أقرب شئ من الوقوع لما سبق من كونه مثل الإنشاء أو أهون منه وأما على الثالث فلا فرق بين أن يكون المثل هو الانكار أو المنكر وعدم تأنيث الرميم مع وقوعه خبرا للمؤنث لأنه اسم لما بلى من العظام غير صفة كالرفات وقد تمسك بظاهر الآية الكريمة من أثبت للعظم حياة وبنى عليه الحكم بنجاسة عظم الميتة وأما أصحابنا فلا يقولون بحياته كالشعر ويقولون المراد بإحياء العظام ردها إلى ما كانت عليه من الغضاضة والرطوبة في بدن حي حساس «قل» تبكيتا له بتذكير ما نسبه من فطرته الدالة على حقيقة الحال وإرشاده إلى طريقة الاستشهاد بها «يحييها الذي أنشأها أول مرة» فإن قدرته كما هي لاستحالة التغير فيها والمادة على حالها «وهو بكل خلق عليم» مبالغ في العلم بتفاصيل كيفيات الخلق والايجاد إنشاء وإعادة محيط بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الاشخاص أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق فيعيد كلا من ذلك على النمط السابق مع القوى التي كانت قبل والجملة إما اعتراض تذييلى مقرر لمضمون الجواب أو معطوفة على الصلة والعدول إلى الجملة الاسمية للتنبيه على أن علمه
تعالى بما ذكر أمر مستمر ليس كإنشائه للمنشآت وقوله تعالى «الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا» بدل من الموصول الأول وعدم الاكتفاء بعطف صلته على صلته
181

للتأكيد ولتفاوتهما في كيفية الدلالة أي خلق لأجلكم ومنفعتكم منه نارا على ان الجعل إبداعي والجاران متعلقان به قدما على مفعوله الصريح مع تأخيرهما عنه رتبة لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ووصف الشجر بالأخضر نظرا إلى اللفظ وقد قرىء الخضراء نظرا إلى المعنى وهو المرخ والعفار يقطع الرجل منهما عصيتين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فتنقدح النار بإذن الله تعالى وذلك قوله تعالى «فإذا أنتم منه توقدون» فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيته كان أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا فطرا عليه اليبوسة والبلى وقوله تعالى «أو ليس الذي خلق السماوات والأرض» الخ استئناف مسوق من جهته عز وجل لتحقيق مضمون الجواب الذي امر صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بذلك ويلزمهم الحجة والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أليس الذي أنشأها أول مرة وليس الذي جعل لهم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السماوات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما «بقادر على أن يخلق مثلهم» في الصغر والقماءة بالنسبة إليهما فإن بديهة العقل قاضية بأن من قدر على خلقهما فهو على خلق الأناسي أقدر كما قال تعالى «لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس» وقرئ يقدر وقوله تعالى «بلى» جواب من جهته تعالى وتصريح بما افاده الاستفهام الإنكاري من تقرير ما بعد النفي وإيذان بتعين الجواب نطقوا به أو تلعثموا فيه مخافة الإلزام وقوله تعالى «وهو الخلاق العليم» عطف على ما يفيده الإيجاب أي بلى هو قادر على ذلك وهو المبالغ في الخلق والعلم كيفا وكما «إنما أمره» أي شأنه «إذا أراد شيئا» من الأشياء «أن يقول له كن» أي ان يعلق به قدرته «فيكون» فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلا وهذا تمثيل لقدرته تعالى فيما اراده بأمر الآمر المطاع المأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير توقف على شيء ما وقرئ فيكون بالنصب عطفا على يقول «فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء» تنزيه له عز وعلا عما وصفوه تعالى به وتعجيب مما قالوا في شأنه تعالى وقد مر تحقيق معنى سبحان والفاء للإشارة إلى ان ما فصل من شؤونه تعال موجبة لتنزهه وتنزيهه أكمل إيجاب كما ان وصفه تعالى بالمالكية الكلية المطلقة للإشعار بأنها مقتضية لذلك أتم اقتضاء والملكوت مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت وقرئ ملكه كل شيء ومملكة كل شيء وملك كل شيء «وإليه ترجعون» لا إلى غيره وقريء ترجعون بفتح التاء من الرجوع وفيه من الوعد والوعيد مالا يخفى عن ابن عباس رضي الله عنهما كنت لا اعلم ما روي في فصائل يس
182

وقراءتها كيف خصت بذلك فإذا انه لهذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء قلبا وإن قلب القرآن يس من قرآها يريد بها وجه الله تعالى غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنين وعشرين مرة وأيما مسلم قرىء عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة املاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون غسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه وأيما مسلم قرأ يس في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان ويمكث في قبره وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان وقال صلى الله عليه وسلم إن في القرآن سورة تشفع لقارئها وتستغفر لمستمعها ألا وهي سورة يس
سورة الصافات مكية وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «والصافات صفا» إقسام من الله عز وجل بطوائف الملائكة الفاعلات للصفوف على ان المراد إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول أو الصافات أنفسها أي الناظمات لها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة حسبما ينطق به قوله تعالى وما منا إلا له مقام معلوم وعلى هذين المعنيين مدار قوله تعالى وإنا لنحن الصافون وقيل الصافات أقدامها في الصلاة وقيل أجنحتها في الهواء «فالزاجرات زجرا» أي الفاعلات للزجر أو الزاجرت لما نيط بها زجره من الأجرام العلوية والسفلية وغيرها على وجه يليق بالمزجور ومن جملة ذلك زجر العباد بالمعاصي وزجر الشياطين عن الوسوسة والإغواء وعن استراق السمع كما سيأتي وصفا وزجرا مصدران مؤكدان لما قبلهما أي صفا بديعا وزجرا بليغا واما ذكرا في قوله تعالى «فالتاليات ذكرا» فمفعول التاليات أي التاليات ذكرا عظيم الشأن من آيات الله تعالى وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرها من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد وقيل هو أيضا مصدر مؤكد لما قبله فإن التلاوة من باب الذكر ثم إن هذه الصفات إن أجريت على الكل فعطفها بالفاء للدلالة على ترتبها في الفضل إما بكون الفضل للصف ثم للزجر ثم
183

للتلاوة أو على العكس وإن أجريت كل واحدة منهن على طوائف معينة فهو الدلالة على ترتب الموصوفات في مراتب الفضل بمعنى أن طوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل والتاليات أبهر فضلا أو على العكس وقيل المراد بالمذكورات نفوس العلماء العمال الصافات أنفسها في صفوف الجماعات وأقدامها في الصلوات الزاجرات بالمواعظ والنصائح التاليات آيات الله تعالى الدارسات شرائعه واحكامه وقيل طوائف الغزاة الصافات أنفسهم في مواطن الحروب كأنهم بنيان مرصوص أو طوائف قوادهم الصافات لهم فيها الزاجرات الخيل للجهاد سوقا والعدو في المعارك طردا التاليات آيات الله تعالى وذكره وتسبيحه في تضاعيف ذلك والكلام في العطف ودلالته على ترتب الصفات في الفضل أو ترتب موصوفاتها فيه كالذي سلف وأما الدلالة على الترتب في الوجود كما في قوله يالهف زبانة للحرث الصابح فالغانم فالآيب فغير ظاهرة في شئ من الطوائف المذكورة فإنه لو سلم تقدم الصف على الزجر في الملائكة والغزاة فتأخر التلاوة عن الزجر غير ظاهر وقيل الصافات الطير من قوله تعالى والطير صافات والزاجرات كل ما يزجر عن المعاصي والتاليات كل من يتلو كتاب الله تعالى وقيل الزاجرات القوارع القرآنية وقرئ بإدغام التاء في الصاد والزاي والذال «إن إلهكم لواحد» جواب القسم والجملة تحقيق للحق الذي هو التوحيد بما هو المألوف في كلامهم من التأكيد القسمي وتمهيد لما يعقبه من البرهان الناطق به أعنى قوله تعالى «رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق» فإن وجودها وانتظامها على هذا النمط البديع من أوضح دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وأعدل شواهد وحدته كما مر في قوله تعالى «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا» ورب خبر ثان لأن أو خبر مبتدأ محذوف أي مالك السماوات والأرض وما بينهما من
الموجودات ومربيها ومبلغها إلى كمالاتها والمراد بالمشارق مشارق الشمس وإعادة الرب فيها لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم فإنها ثلاثمائة وستون مشرقا تشرق كل يوم من مشرق منها وبحسبها تختلف المغارب وتغرب كل يوم في مغرب منها واما قوله تعالى «رب المشرقين ورب المغربين» فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما «إنا زينا السماء الدنيا» أي القربى منكم «بزينة» عجيبة بديعة «الكواكب» بالجر بدل من زينة على أن المراد بها الاسم أي ما يزن به لا المصدر فإن الكواكب بأنفسها وأوضاع بعضها من بعض زينة وأي زينة وقرئ بالإضافة على انها بيانية لما أن الزينة مبهمة صادقة على كل ما يزان به فتقع الكواكب بيانا لها ويجوز أن يراد بزينة الكواكب ما زينت هي به وهو ضوؤها وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما بزينة الكواكب بضوء الكواكب هذا وأما على تقدير كون الزينة مصدرا فالمعنى على
184

تقدير إضافتها إلى الفاعل بان زانت الكواكب إياها واصلة بزينة الكواكب وعلى تقدير إضافتها إلى المفعول بأن زان الله الكواكب وحسنها وأصله بزينة الكواكب والمراد هو التزيين في رأى العين فإن جميع الكواكب من الثوابت والسيارات تبدو للناظرين كأنها جواهر متلألئة في سطح سماء الدنيا بصور بديعة وأشكال رائعة ولا يقدح في ذلك ارتكاز الثوابت في الفلك الثامن وما عدا القمر في الستة المتوسطة إن ثبت ذلك «وحفظا» منصوب إما بعطفه على زينه باعتبار المعنى كأنه قيل إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا «من كل شيطان مارد» أي خارج عن الطاعة برمى الشهب وإما بإضمار فعله وإما بتقدير فعل مؤخر معلل به كأنه قيل وحفظا من كل شيطان مارد زيناها بالكواكب كقوله تعالى «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين» وقوله تعالى «لا يسمعون إلى الملإ الأعلى» كلام مبتدأ مسوق لبيان حالهم بعد بيان حفظ السماء عنهم مع التنبيه على كيفية الحفظ وما يعتريهم في أثناء ذلك من العذاب ولا سبيل إلى جعله صفة لكل شيطان ولا جوابا عن سؤال مقدر لعدم استقامة المعنى ولا علة للحفظ على أن يكون الأصل لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت من قولك جئتك ان تكرمني فبقى أن لا يسمعوا ثم بحذف أن ويهدر عملها كما في قول من قال
[ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى] لما أن كل واحد من ذينك الحذفين غير منكر بانفراده فأما اجتماعهما فمن أنكر المنكرات التي يجب تنزيه ساحة التنزيل الجليل عن أمثالها وأصل يسمعون يتسمعون والملأ الأعلى الملائكة وعن ابن عباس رضى الله عنهما هم الكتبة وعنه اشراف الملائكة عليهم الصلاة والسلام أي لا يتطلبون السماع والإصغاء إليهم وقرئ يسمعون بالتخفيف «ويقذفون» يرمون «من كل جانب» من جميع جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها «دحورا» علة للقذف أي للدحور أو حال بمعنى مدحورين أو مصدر مؤكد له لأنهما من واد واحد وقرئ دحورا بفتح الدال أي قذفا دحورا مبالغا في الطرد وقد جوز ان يكون مصدرا كالقبول والولوع «ولهم عذاب واصب» أي ولهم في الآخرة غير ما في الدنيا من عذاب الرجم بالشهب عذاب شديد دائم غير منقطع كقوله تعالى «وأعتدنا لهم عذاب السعير» «إلا من خطف الخطفة» استثناء من واو يسمعون ومن بدل منه والخطف الاختلاس والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرب عنه تعريف الخطفة وقرئ بكسر الخاء والطاء المشددة وبفتح الخاء وكسر الطاء
185

وتشديدها واصلهما اختطف «فأتبعه شهاب» أي تبعه ولحقه وقرئ فاتبعه والشهاب ما يرى منقضا من السماء «ثاقب» مضىء في الغاية كأنه يثقب الجو بضوئه يرجم به الشياطين إذا صعدوا لاستراق السمع فيقتلهم أو يحرقهم أو يخبلهم قالوا وإنما يعود من يسلم منهم حيا طمعا في السلامة ونيل المراد كراكب السفينة «فاستفتهم» فاستخبر مشركي مكة «أهم أشد خلقا» أي أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب خلقا وأشق إيجاد «أم من خلقنا» من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب ومن لتغليب العقلاء على غيرهم ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك لا سيما قراءة من قرأ أم من عددنا وقوله تعالى «إنا خلقناهم من طين لازب» فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم من الأمم كعاد وثمود ولأن المراد إثبات المعاد ورد استحالتهم والامر فيه بالإضافة إليهم والى من قبلهم سواء وقرئ لازم ولا تب «بل عجبت» أي من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإنكارهم للبعث «ويسخرون» من تعجيبك وتقريرك للبعث وقرئ بضم التاء على معنى انه بلغ كمال قدرتى وكثرة مخلوقاتى إلى حيث عجبت منها وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفاعيله ويسخروا ممن يجوزه والعجب من الله تعالى إما على الفرض والتخييل أو على معنى الاستعظام اللازم له فإنه روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشئ وقيل إنه مقدر بالقول أي قل يا محمد بل عجبت «وإذا ذكروا» أي ودأبهم المستمر انهم إذا وعظوا بشئ من المواعظ «لا يذكرون» لا يتعظون وإذا ذكر لهم ما يدل على صحة البعث لا ينتفعون به لغاية بلادتهم وقصور فكرهم «وإذا رأوا آية» أي معجزة تدل على صدق القائل به «يستسخرون» يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر أو يستدعى بعضهم من بعض أن يسخر منها «وقالوا إن هذا» أي ما يرونه من الآيات الباهرة «إلا سحر مبين» ظاهر سحريته «أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما» أي كان بعض أجزائنا ترابا وبعضها عظاما وتقديم التراب لأنه منقلب من الاجزاء البادية والعامل في إذا ما دل عليه مبعوثون في قوله تعالى «أئنا لمبعوثون» أي نبعث لانفسه لأن دونه خطوبا
186

لو تفرد واحد منها لكفى في المنع وتقديم الظرف لتقوية الانكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية له غاية المنافاة وكذا تكرير الهمزة في اثنا للمبالغة والتشديد في ذلك وكذا تحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الانكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة كما في مثل قوله تعالى «أفلا تعقلون» على رأي الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيب الانكار لا إنكار التعقيب كما هو المشهور وقرئ بطرح الهمزة الأولى وبطرح الثانية فقط «أو آباؤنا الأولون» رفع على الابتداء وخبره محذوف عند سيبويه أي وآباؤنا الأولون أيضا مبعثون وقبل عطف على محل ان واسمها وقيل على الضمير في مبعوثون للفصل بهمزة الانكار الجارية مجرى حرف النفي في قوله تعالى ما أشركنا ولا آباؤنا وأيا ما كان فمرادهم زيادة الاستبعاد بناء على انهم اقدم فبعثهم ابعد على زعمهم وقرئ أو آباؤنا «قل» تبكيتا لهم «نعم» والخطاب في قوله تعالى «وأنتم داخرون» لهم ولآبائهم بطريق التغليب والجملة حال من فاعل ما دل عليه نعم أي كلكم مبعوثون والحال أنكم صاغرون أذلاء وقرئ نعم
بكسر العين وهي لغة فيه «فإنما هي زجرة واحدة» هي إما ضمير مبهم يفسره خبره أو ضمير البعثة والجملة جواب شرط مضمر أو تعليل لنهى مقدر أي إذا كان كذلك فإنما هي الخ أو لا تستصعبوه فإنما هي الخ والزجرة الصيحة من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها وهي النفخة الثانية «فإذا هم» قائمون من مراقدهم احياء «ينظرون» يبصرون كما كانوا أو ينتظرون ما يفعل بهم «وقالوا» أي المبعوثون وصيغة الماضي الدلالة على التحقق والتقرر «يا ويلنا» أي هلا كنا احضر فهذا أو ان حضورك وقوله تعالى «هذا يوم الدين» تعليل لدعائهم الويل بطريق الاستئناف أي اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا وإنما علموا ذلك لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا انهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضا وقوله تعالى «هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون» كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ والتقريع وقيل هو أيضا من كلام بعضهم لبعض والفصل القضاء أو الفرق بين فرق الهدى والضلال وقوله تعالى «احشروا الذين ظلموا» خطاب من الله عز وجل للملائكة
187

أو من بعضهم لبعض بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف وقيل من الموقف إلى الجحيم «وأزواجهم» أي أشباههم ونظراءهم من العصاة عابد الصم مع عبدته وعابد الكواكب مع عبدته كقوله تعالى وكنتم أزواجا ثلاثة وقيل قرناءهم من الشياطين وقيل نساءهم اللاتي عل دينهم «وما كانوا يعبدون» «من دون الله» من الأصنام ونحوها زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم قيل هو عام مخصوص بقوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية الكريمة وأنت خبير بأن الموصول عبارة عن المشركين خاصة جئ به لتعليل الحكم بما في حيز صلته فلا عموم ولا تخصيص «فاهدوهم إلى صراط الجحيم» أي عرفوهم طريقها ووجهوهم إليها وفيه تهكم بهم «وقفوهم» احبسوهم في الموقف كأن الملائكة سارعوا إلى ما أمروا به من حشرهم إلى الجحيم فأمروا بذلك وعلل بقوله تعالى «إنهم مسؤولون» إيذانا من أول الأمر بأن ذلك ليس للعفو عنهم ولا ليستريحوا بتأخير العذاب في الجملة بل ليسألوا لكن لا عن عقائدهم وأعمالهم كما قيل فإن ذلك قد وقع قبل الامر بهم إلى الجحيم بل عما ينطق به قوله تعالى «ما لكم لا تناصرون» بطريق التوبيخ والتقريع والتهكم أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تزعمون في الدنيا وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة وحالة انقطاع الرجاء عنها بالكلية فالتوبيخ والتقريع حينئذ أشد وقعا وتأثيرا وقرئ لا تتناصرون ولا تناصرون بالإدغام «بل هم اليوم مستسلمون» منقادون خاضعون لظهور عجزهم وانسداد باب الحيل عليهم أو أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز فكلهم مستسلم غير منتصر «وأقبل» حينئذ «بعضهم على بعض» هم الأتباع والرؤساء أو الكفرة والقرناء «يتساءلون» يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال «قالوا» استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية تساؤلهم كأنه قيل كيف تساءلوا فقيل قالوا أي الاتباع للرؤساء أو الكل للقرناء «إنكم كنتم تأتوننا» في الدنيا «عن اليمين» عن أقوى الوجوه وأمتنها أو عن الدين أو عن الخير كأنكم تنفعوننا نفع السائح فتبعناكم فهلكنا مستعار من يمين الانسان الذي هو اشرف الجانبين وأقواهما وأنفعهما ولذلك سمى يمينا ويتيمن بالسائح أو عن القوة والقسر فتقسروننا على الغى وهو الأوفق للجواب أو عن الحلف حيث كانوا يحلفون انهم على الحق
188

«قالوا» استئناف كما سبق أي قال الرؤساء أو القرناء «بل لم تكونوا مؤمنين» أي لم نمنعكم من الايمان بل لم تؤمنوا باختياركم وأعرضتم عنه مع تمكنكم منه وآثرتم الكفر عليه «وما كان لنا عليكم من سلطان» من قهر وتسلط نسلبكم به اختياركم «بل كنتم قوما طاغين» مختارين للطغيان مصرين عليه «فحق علينا» أي لزمنا وثبت علينا «قول ربنا» وهو قوله تعالى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين «إنا لذائقون» أي العذاب الذي ورد به الوعيد «فأغويناكم» فدعوناكم إلى الغي دعوة غير ملجئة فاستجبتم لنا باختياركم واستحبابكم الغي على الرشد «إنا كنا غاوين» فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم بتلك المرتبة من الدعوة لتكونوا أمثالنا في الغواية «فإنهم» أي الاتباع والمتبوعين «يومئذ في العذاب مشتركون» حسبما كانوا مشتركين في الغواية «إنا كذلك» أي مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية «نفعل بالمجرمين» المتناهين في الاجرام وهم المشركون كما يعرب عنه التعليل بقوله تعالى «إنهم كانوا إذا قيل لهم» بطريق الدعوة والتلقين «لا إله إلا الله يستكبرون» عن القبول «ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون» «بل جاء بالحق وصدق المرسلين» رد عليهم وتكذيب لهم ببيان ان ما جاء به من التوحيد هو الحق الذي قام به البرهان واجمع عليه كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام فأين الشعر والجنون من ساحته الرفيعة «إنكم» بما فعلتم من الاشراك وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والاستكبار «لذائقوا العذاب الأليم»
189

والالتفات لاظهار كمال الغضب عليهم وقرئ بنصب العذاب على تقدير النون كقوله ولا ذاكر الله الا قليلا وقرئ لذائقون العذاب على الأصل «وما تجزون إلا ما كنتم تعملون» أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه من السيئات أو إلا بما كنتم تعملونه منها «إلا عباد الله المخلصين» استثناء منقطع من ضمير ذائقو وما بينهما اعتراض جئ به مسارعة إلى تحقيق الحق ببيان ان ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلا وجعله استثناء من ضمير تجزون على معنى أن الكفرة لا يجزون إلا بقدر أعمالهم دون عباد الله المخلصين فإنهم يجزون اضعافا مضاعفة مما لا وجه له أصلا لا سيما جعله استثناء متصلا بتعميم الخطاب في تجزون لجميع المكلفين فإنه ليس في حيز الاحتمال فالمعنى إنكم لذائقون العذاب الأليم لكن عباد الله المخلصين الموحدين ليسوا كذلك وقوله تعالى «أولئك» إشارة إليهم للإيذان بأنهم ممتازون بما اتصفوا به من الإخلاص في عبادة الله تعالى عمن عداهم امتيازا بالغا منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى «لهم» إما خبر له وقوله تعالى «رزق» مرتفع عل الفاعلية بما فيه من الاستقرار أو مبتدأ ولهم خبر مقدم والجملة خبر لأولئك والجملة الكبرى استئناف مبين لما أفاده الاستثناء إجمالا بيانا تفصيليا وقيل هي خبر للاستثناء المنقطع على انه متأول بالمبتدأ وقوله تعالى «معلوم» أي معلوم الخصائص من حسن المنظر ولذة الطعم وطيب الرائحة ونحوها من نعوت الكمال وقيل معلوم الوقت كقوله تعالى ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا وقوله تعالى «فواكه» إما بدل من رزق أو خبر مبتدأ مضمر أي ذلك الرزق فواكه وتخصيصها بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه أي ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات لأنهم مستغنون عن القوت لكون خلقتهم محكمة محفوظة من التحلل المحوج إلى البدل وقيل لان الفواكه من اتباع سائر الأطعمة فذكرها مغن عن ذكرها «وهم مكرمون» عند
الله عز وجل لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولى الهمم وقيل مكرمون في نيله حيث يصل إليهم بغير تعب وسؤال كما هو شان أرزاق الدنيا وقرئ مكرمون بالتشديد «في جنات النعيم» أي في جنات ليس فيها إلا النعيم وهو ظرف أو حال من المستكن في مكرمون أو خبر ثان لأولئك
190

وقوله تعالى «على سرر» محتمل للحالية والخبرية فقوله تعالى «متقابلين» حال من المستكن فيه أو في مكرمون وقوله تعالى «يطاف عليهم» إما استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية تكامن مجالس أنسهم أو حال من الضمير في متقابلين أو في أحد الجارين وقد جوز كونه صفة لمكرمون «بكأس» بإناء فيه خمر أو بخمر فإن الكأس تطلق على نفس الخمر كما في قول من قال وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها «من معين» متعلق بمضمر هو صفة لكأس أي كائنة من شراب معين أو من نهر معين وهو الجاري على وجه الأرض الظاهر للعيون أو الخارج من العيون من عان الماء إذا نبع وصف به الخمر وهو للماء لأنها تجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء قال تعالى وأنهار من خمر «بيضاء لذة للشاربين» صفتان أيضا لكأس ووصفها بلذة إما للمبالغة كأنها نفس اللذة أو لأنها تأنيث اللذ بمعنى اللذيذ ووزنه فعل قال
* ولذ كطعم الصر خدى تركته
* بأرض العدا من خيفة الحدثان
* يريد به النوم «لا فيها غول» أي غائلة كما في خمور الدنيا من غالة إذا أفسده وأهلكه ومنه الغول «ولا هم عنها ينزفون» يسكرون من نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله ويقال للمطعون نزف فمات إذا خرج دمه كله أفرد هذا بالنفي مع اندراجه فيما قبله من نفى الغول عنها لما أنه من معظم مفاسد الخمر كأنه جنس برأسه والمعنى لا فيها نوع من أنواع الفساد من مغص أو صداع أو خمار أو عربدة أو لغو أو تأثيم ولا هم يسكرون وقرئ ينزفون بكسر الزاي من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه وقرئ ينزفون بضم الزاي من نزف ينزف بضم الزاي فيهما «وعندهم قاصرات الطرف» قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم «عين» نجل العيون جمع عيناء والنجل سعة العين «كأنهن بيض مكنون» شبهن ببيض النعام المصون من الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة فإن ذلك أحسن ألوان الأبدان «فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» معطوف على يطاف أي يشربون فيتحادثون على الشراب كما هو عادة الشرب قال
* وما
191

بقيت من اللذات إلا
* أحاديث الكرام على المدام
* فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن الفضائل والمعارف وعما جرى لهم وعليهم في الدنيا فالتعبير عنه بصيغة الماضي للتأكيد والدلالة على تحقق الوقوع حتما «قال قائل منهم» في تضاعيف محاوراتهم «إني كان لي» في الدنيا «قرين» مصاحب «يقول» لي على طريقة التوبيخ بما كنت عليه من الايمان والتصديق بالبعث «أئنك لمن المصدقين» أي بالبعث وقرئ بتشديد الصاد من التصدق والأول هو الأوفق لقوله تعالى «أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون» أي لمبعوثون ومجزيون من الدين بمعنى الجزاء أو لمسوسون يقال دانه أي ساسه ومنه الحديث العاقل من دان نفسه وقيل كان رجل تصدق بماله لوجه الله تعالى فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه فقال اين مالك قال تصدقت به ليعوضنى الله تعالى في الآخرة خيرا منة فقال أئنك لمن المصدقين بيوم الدين أو من المتصدقين لطلب الثواب والله لا أعطيك شيئا فيكون التعرض لذكر موتهم وكونهم ترابا وعظاما حينئذ لتأكيد إنكار الجزاء المبنى على إنكار البعث «قال» أي ذلك القائل بعد ما حكى لجلسائه مقالة قرينه في الدنيا «هل أنتم مطلعون» أي إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين يريد بذلك بيان صدقه فيما حكاه وقيل القائل هو الله تعالى أو بعض الملائكة يقول لهم هل تحبون ان تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم قيل إن في الجنة كوى ينظر منها أهلها إلى أهل النار «فاطلع» أي عليهم «فرآه» أي قرينه «في سواء الجحيم» أي في وسطها وقرئ فأطلع على لفظ المضارع المنصوب وقرئ مطلعون فأطلع وفأطلع بالتخفيف على لفظ الماضي والمضارع المنصوب يقال طلع علينا فلان واطلع واطلع بمعنى واحد والمعنى هل أنتم مطلعون إلى القرن فأطلع انا أيضا أو عرض عليهم الاطلاع فقبلوا ما عرضه فاطلع هو بعد ذلك وان جعل الاطلاع متعديا فالمعنى انه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم كما هو ديدن الجلساء فكأنهم مطلعوه وقيل الخطاب على هذا للملائكة وقرئ مطلعون بكسر النون أراد مطلعون إياي فوضع المتصل موضع المنفصل كقولهم [هم الفاعلون الخير والآمرونه] أو شبه اسم الفاعل بالمضارع لما بينهما من التآخي «قال» أي القائل مخاطبا لقرينه «تالله إن كدت لتردين» أي لتهلكني بالاغواء وقرئ
192

لتغوين والتاء فيه معنى التعجب وان هي المخففة من ان وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف واللام فارقة أي تالله ان الشأن كدت لنردين «ولولا نعمة ربي» بالهداية والعصمة «لكنت من المحضرين» أي من الذين احضروا العذاب كما احضرته أنت وأضرابك وقوله تعالى «أفما نحن بميتين» رجوع إلى محاورة جلسائه بعد اتمام الكلام مع قرينه تبجحا وابتهاجا بما أتاح الله عز وجل لهم من الفضل العظيم والنعيم المقيم والهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه نظم الكلام أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين أي بمن شأنه الموت وقرئ بمائتين «إلا موتتنا الأولى» التي كانت في الدنيا وهي متناولة لما في القبر بعد الاحياء للسؤال قاله تصديقا لقوله تعالى لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الأولى وقيل ان أهل الجنة أول ما دخلوا الجنة لا يعلمون انهم لا يموتون فإذا جئ بالموت على صورة كبش أملح فذبح ونودي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت يعلمونه فيقولون ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى واغتباطا بها «وما نحن بمعذبين» كالكفار فإن النجاة من العذاب أيضا نعمة جليلة مستوجبة للتحدث بها «إن هذا» أي الامر العظيم الذي نحن فيه «لهو الفوز العظيم» وقيل هو من قول الله عز وجل تقريرا لقولهم وتصديقا
له وقرئ لهو الرزق العظيم وهو ما رزقوه من السعادة العظمى «لمثل هذا فليعمل العاملون» أي لنيل هذا المرام الجليل يجب ان يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام المشوبة بفنون الآلام وهذا أيضا يحتمل ان يكون من كلام رب العزة «أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم» أصل النزل الفضل والريع فاستعير للحاصل من الشيء فانتصابه على التمييز أي أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير نزلا أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم ويقال النزل لما يقام ويهيأ من الطعام الحاضر للنازل فانتصابه على الحالية والمعنى ان الرزق المعلوم نزل أهل الجنة وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم فأيهما خير في كونه نزلا والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق دفرة مرة كريهة الرائحة تكون في تهامة سميت به الشجرة الموصوفة
193

«إنا جعلناها فتنة للظالمين» محنة وعذابا لهم في الآخرة وابتلاء في الدنيا فإنهم لما سمعوا انها في النار قالوا كيف يمكن ذلك والنار تحرق الشجر ولم يعلموا ان من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذذ بها أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الاحراق «إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم» منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها وقرئ نابتة في أصل الجحيم «طلعها» أي حملها الذي يخرج منها مستعار من طلع النخلة لمشاركته له في الشكل والطلوع من الشجر قالوا أول التمر طلع ثم خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر «كأنه رؤوس الشياطين» في تناهى القبح والهول وهو تشبيه بالمخيل كتشبيه الفائق في الحسن بالملك وقيل الشياطين الحيات الهائلة القبيحة المنظر لها أعراف وقيل ان شجرا يقال له الأستن خشنا منتنا مرا منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين «فإنهم لآكلون منها» أي من الشجرة أو من طلعها فالتأنيث مكتسب من المضاف اليه «فمالئون منها البطون» لغلبة الجوع أو للقسر على اكلها وان كرهوها ليكون ذلك بابا من العذاب «ثم إن لهم عليها» على الشجرة التي ملأوا منها بطونهم بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم كما ينبئ عنه كلمة ثم ويجوز ان تكون لما في شرابهم من مزيد الكراهة والبشاعة «لشوبا من حميم» لشرابا من غساق أو صديد مشوبا بماء حميم يقطع أمعاءهم وقرئ بالضم وهو اسم لما يشاب به والأول مصدر سمي به «ثم إن مرجعهم» أي مصيرهم وقد قرىء كذلك «لإلى الجحيم» لإلى دركاتها أو إلى نفسها فإن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولها وقيل الحميم خارج عنها لقوله تعالى هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم في الجحيم إلى شجرة الزقوم فيأكلون منها إلى ان يمتثلوا ثم يسقون من الحميم ثم يردون إلى الجحيم ويؤيده انه قرىء ثم ان منقلبهم «إنهم ألفوا آباءهم ضالين» تعليل لاستحقاقهم ما ذكر من فنون العذاب بتقليد الآباء في الدين من غير ان يكون لهم ولا لآبائهم شيء يتمسك به أصلا أي وجدوهم ضالين في نفس
194

الامر ليس لهم ما يصلح شبهة فضلا عن صلاحية الدليل «فهم على آثارهم يهرعون» من غير ان يتدبروا انهم على الحق أولا مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل والإهراع الاسراع الشديد كأنهم يزعجون ويحثون حثا على الاسراع على آثارهم وقيل هو اسراع فيه شبه رعدة «ولقد ضل قبلهم» أي قبل قومك قريش «أكثر الأولين» من الأمم السالفة وهو جواب قسم محذوف وكذا قوله تعالى «ولقد أرسلنا فيهم منذرين» أي أنبياء أولى عدد كثير وذوي شأن خطير بينوا لهم بطلان ما هم عليه وأنذروهم عاقبته الوخيمة وتكرير القسم لابراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمون كل من الجملتين «فانظر كيف كان عاقبة المنذرين» من الهول والفظاعة لما لم يلتفتوا إلى الانذار ولم يرفعوا له رأسا والخطاب اما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يتمكن من مشاهدة آثارهم وحيث كان المعنى انهم أهلكوا هلاكا فظيعا استثنى منهم المخلصون بقوله تعالى «إلا عباد الله المخلصين» أي الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للايمان والعمل بموجب الانذار وقرئ المخلصين بكسر اللام أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى «ولقد نادانا نوح» نوع تفصيل لما أجمل فيما قبل ببيان أحوال بعض المرسلين وحسن عاقبتهم متضمن لبيان سوء عاقبة بعض المنذرين حسبما أشير اليه بقوله تعالى فانظر كيف كان عاقبة المنذرين كقوم نوح آل فرعون وقوم لوط وقوم الياس ولبيان حسن عاقبة بعضهم الذين أخلصهم الله تعالى ووفقهم للايمان كما أشار اليه الاستثناء كقوم يونس عليه السلام ووجه تقديم قصة نوح على سائر القصص غنى عن البيان واللام جواب قسم محذوف وكذا ما في قوله تعالى «فلنعم المجيبون» أي وبالله لقد دعانا نوح حين يئس من ايمان قومه بعد ما دعاهم اليه أحقابا ودهورا فلم يزدهم دعاؤه الا فرارا ونفورا فأجبناه أحسن الإجابة فو الله لنعم المجيبون نحن فحذف ما حذف ثقة بدلالة ما ذكر عليه والجمع دليل العظمة والكبرياء «ونجيناه وأهله من الكرب العظيم» أي من الغرق وقيل من أذية قومه
195

«وجعلنا ذريته هم الباقين» فحسب حيث أهلكنا الكفرة بموجب دعائه رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا وقد روى انه مات كل من كان معه في السفينة غير أبنائه وأزواجهم أو هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة قال قتادة الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام وكان له ثلاثة أولاد سام وحام ويافث فسام أبو العرب وفارس والروم وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج «وتركنا عليه في الآخرين» من الأمم «سلام على نوح» أي هذا الكلام بعينه وهو وارد على الحكاية كقولك قرأت سورة أنزلناها والمعنى يسلمون عليه تسليما ويدعون له على الدوام أمة بعد أمة وقيل ثمة قول مقدر أي فقلنا وقيل ضمن تركنا معنى قلنا وقوله تعالى «في العالمين» متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبات هذه التحية واستمرارها ابدا في العالمين من الملائكة والثقلين جميعا وقوله تعالى «إنا كذلك نجزي المحسنين» تعليل لما فعل به عليه الصلاة والسلام من التكرمة السنية من إجابة دعائه أحسن إجابة وابقاء ذريته وتبقية ذكره الجميل وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر بكونه من زمرة المعروفين بالاحسان الراسخين فيه وان ذلك من قبيل مجازاة الاحسان بالاحسان وذلك إشارة إلى ما ذكر من الكرامات السنية التي وقعت جزاء له عليه الصلاة والسلام وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار اليه للايذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الفضل والشرف والكاف متعلقة بما بعدها أي مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الكاملين في الاحسان لاجزاء أدنى منه وقوله تعالى «إنه من عبادنا المؤمنين» تعليل لكونه من المحسنين بخلوص عبوديته وكمال ايمانه وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما مالا يخفي «ثم أغرقنا الآخرين» أي المغايرين لنوح وأهله وهم كفار وقومه أجمعين «وإن من شيعته» أي ممن شايعه في أصول الدين «لإبراهيم» وان اختلفت فروع شرائعهما ويجوز ان يكون بين شريعتيهما اتفاق كلي أو أكثرى وعن ابن عباس رضي الله عنهما من أهل دينه وعلى سنته أو ممن شايعه على التصلب
في دين الله ومصابرة المكذبين وما
196

كان بينهما الا نبيان هود وصالح عليهم السلام وكان بين نوح وإبراهيم الفان وستمائة وأربعون سنة «إذ جاء ربه» منصوب باذكر أو متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة «بقلب سليم» أي من آفات القلوب أو من العلائق الشاغلة عن التبتل إلى الله عز وجل ومعنى المجيء به ربه اخلاصه له كأنه جاء به متحفا إياه بطريق التمثيل «إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون» بدل من الأولى أو ظرف لجاء أو لسليم أي أي شيء تعبدونه «أئفكا آلهة دون الله تريدون» أي أتريدون آلهة من دون الله افكا أي للإفك فقدم المفعول على الفعل للعناية ثم المفعول له على المفعول به لان الأهم مكافحتهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم ويجوز ان يكون افكا مفعولا به بمعنى أتريدون افكا ثم يفسر الافك بقوله آلهة من دون الله دلالة على انها افك في نفسها للمبالغة أو يراد بها عبادتها بحذف المضاف ويجوز ان يكون حالا بمعنى آفكين «فما ظنكم برب العالمين» أي بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين حتى تركتم عبادته خاصة وأشركتم به اخس مخلوقاته أو فما ظنكم به أي شيء هو من الأشياء حتى جعلتم الأصنام له أندادا أو فماظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم بعد ما فعلتم ما فعلتم من الاشراك به «فنظر نظرة في النجوم» قيل كانت له عليه الصلاة والسلام حمى لها نوبة معينة في بعض ساعات الليل فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فإذا هي قد حضرت «فقال إني سقيم» وكان صادقا في ذلك فجعله عذرا في تخلفه عن عيدهم وقيل أراد اني سقيم القلب لكفركم وقيل نظر في علمها أو في كتبها أو في احكامها ولا منع من ذلك حيث كان قصده عليه الصلاة والسلام ايهامهم حين أرادوا ان يخرجوا به عليه الصلاة والسلام إلى معيدهم ليتركوه فإن القوم كانوا نجامين فأوهمهم انه قد استدل بأمارة في النجوم على انه سقيم أي مشارف للسقم وهو الطاعون وكان أغلب الأسقام عليهم وكانوا يخافون العدوي ليتفرقوا عنه فهربوا منه إلى معبدهم وتركوه في بيت الأصنام وذلك قوله تعالى «فتولوا عنه مدبرين» أي هاربين مخافة العدوي
197

«فراغ إلى آلهتهم» أي ذهب إليها في خيفة واصله الميل بحيلة «فقال» للأصنام استهزاء «ألا تأكلون» أي من الطعام الذي كانوا يصنعونه عندها لتبرك عليه «ما لكم لا تنطقون» أي بجوابي «فراغ عليهم» فمال مستعليا عليهم وقوله تعالى «ضربا باليمين» مصدر مؤكد لراغ عليهم فإنه بمعنى ضربهم أو لفعل مضمر هو حال من فاعله أي فراغ عليهم يضربهم ضربا أو هو الحال منه على انه مصدر بمعنى الفاعل أي فراغ عليهم ضاربا باليمين أي ضربا شديدا قويا وذلك لان اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما وقوة الاله تقتضي قوة الفعل وشدته وقيل بالقوة والمتانة كما في قوله
* إذا ما راية رفعت لمجده
* تلقاها عرابة باليمين
* أي بالقوة وعلى ذلك مدار تسمية الحلف باليمين لأنه يقوى الكلام ويؤكده وقيل بسبب الحلف وهو قوله تعالى وتالله لأكيدن أصنامكم «فأقبلوا إليه» أي المأمورون بإحضاره عليه الصلاة والسلام بعد ما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام فوجدوها مكسورة فسألوا عن الفاعل فظنوا انه عليه الصلاة والسلام فعله فقيل فأتوا به «يزفون» حال من واو اقبلوا أي يسرعون من زفيف النعام وقرئ يزفون من أزف إذا دخل في الزفيف أو من أزفه أي حمله على الزفيف أي يزف بعضهم بعضا ويزفون على البناء للمفعول أي يحملون على الزفيف ويزفون من وزف يزف إذا اسرع ويزفون من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم اليه عليه الصلاة والسلام «قال» أي بعدما اتوا به عليه الصلاة والسلام وجرى بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم من المحاورات ما نطق به قوله تعالى قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم إلى قوله تعالى لقد علمت ما هؤلاء ينطقون «أتعبدون ما تنحتون» ما تنحتونه من الأصنام وقوله تعالى «والله خلقكم وما تعملون» حال من فاعل تعبدون مؤكدة للانكار والتوبيخ أي والحال انه تعالى خلقكم وخلق ما تعملونه فإن جواهر أصنامهم ومادتها بخلقه تعالى وشكلها وان كان بفعلهم لكنه بإقداره تعالى إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد والأسباب وما تعملون اما عبارة عن الأصنام فوضعه موضع ضمير ما تنحتون للايذان بأن مخلوقيتها لله عز وجل ليس من حيث نحتهم لها فقط بل من حيث سائر اعمالهم أيضا من التصوير والتحلية والتزيين ونحوها واما على عمومه فينتظم الأصنام انتظاما
198

أوليا مع ما فيه من تحقيق الحق ببيان ان جميع ما يعملونه كائنا ما كان مخلوق له سبحانه وقيل ما مصدرية أي عملكم على انه بمعنى المفعول وقيل بمعناه فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك «قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم» أي في النار الشديدة الاتقاد من الجحمة وهي شدة التأجج واللام عوض من المضاف اليه أي جحيم ذلك البنيان وقد ذكر كيفية بنائهم له في سورة الأنبياء «فأرادوا به كيدا» فإنه عليه الصلاة والسلام لما قهرهم بالحجة وألقمهم الحجر قصدوا ما قصدوا لئلا يظهر للعامة عجزهم «فجعلناهم الأسفلين» الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهانا نيرا على علو شأنه عليه الصلاة والسلام بجعل النار عليه بردا وسلاما «وقال إني ذاهب إلى ربي» أي مهاجر إلى حيث امرني ربي كما قال إني مهاجر إلى ربى وهو الشام أو إلى حيث أتجرد فيه لعبادته تعالى «سيهدين» أي إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي وبت القول بذلك لسبق الوعد أو لفرط توكله وللبناء على عادته تعالى معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث قال عسى ربى ان يهديني سواء السبيل ولذلك اتى بصيغة التوقع «رب هب لي من الصالحين» أي بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسنى في الغربة يعنى الولد لأن لفظ الهبة على الاطلاق خاص به وإن كان قد ورد مقيدا بالاخوة في قوله تعالى ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ولقوله تعالى «فبشرناه بغلام حليم» فإنه صريح في أن المبشر به عين ما استوهبه عليه الصلاة والسلام ولقد جمع فيه بشارات ثلاث بشارة انه غلام وأنه يبلع أو ان الحلم وانه يكون حليما وأي حلم يعادل حلمه عليه الصلاة والسلام حين عرض عليه يا أبت أبوه الذبح فقال يأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين وقيل ما نعت الله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأقل مما نعتهم بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وأبنه فإنه تعالى نعتهما به وحالهما المحكية بعد أعدل بينة بذلك والفاء في قوله تعالى «فلما بلغ معه السعي» فصيحة معربة عن مقدر قد حذف تعويلا على شهادة الحال وإيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح
199

به لاستحالة التخلف والتأخر بعد البشارة كما مر في قوله تعالى فلما رأينه أكبرنه وفي قوله تعالى فلما رآه مستقرا عنده أي فوهبناه له فنشأ فلما بلغ رتبة ان يسعى معي في اشغاله وحوائجه ومعه متعلق بمحذوف ينبئ عنه السعي لا بنفسه لأن صلة المصدر لا تتقدمه ولا يبلغ لأن بلوغهما لم يكن معا كأنه لما ذكر السعي قيل مع من فقيل معه وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح فلا يستسعيه قبل أوانه أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة «قال» أي إبراهيم عليه السلام «يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك» أي أرى هذه الصورة بعينها أو ما هذه عبارته وتأويله وقيل إنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلما أصبح روى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثمة سمى يوم التروية فلما امسى رأى مثل ذلك فعرف انه من الله تعالى فمن ثمة سمى يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمى اليوم يوم النحر وقيل إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال إذن هو ذبيح الله فلما ولد وبلغ حد السعي معه قيل له أوف بنذرك والأظهر الأشهر ان المخاطب إسماعيل عليه السلام إذ هو الذي وهب إثر المهاجرة ولأن البشارة بإسحق بعده معطوف على البشارة بهذا الغلام ولقوله صلى الله عليه وسلم أنا ابن الذبيحين فأحدهما جده إسماعيل عليه السلام والآخر أبوه عبد الله فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله تعالى له حفر بئر زمزم أو بلغ بنوه عشرة فلما حصل ذلك وخرج السهم على عبد الله فداه بمائة من الإبل ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا في أيام ابن الزبير ولم يكن إسحق ثمة ولان بشارة إسحق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبه الامر بذبحه مراهقا وما روى أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن النسب اشرف فقال يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن اسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله فالصحيح انه عليه الصلاة والسلام قال يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم الزوائد من الراوي وما روى من أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت وقرئ إني بفتح الياء فيهما «فانظر ماذا ترى» من الرأي وإنما شاوره فيه وهو أمر محتوم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله تعالى فيثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة عليه بالانقياد له قبل نزول وقرى ماذا ترى بضم التاء وكسر الراء وبفتحها مبنيا للمفعول «قال يا أبت افعل ما تؤمر» أي تؤمر به فحذف الجار أولا على القاعدة المطردة ثم حذف العائد إلى الموصول بعد انقلابه منصوبا بإيصاله إلى الفعل أو حذفا دفعة أو افعل امرك على إضافة المصدر إلى المفعول وتسمية المأمور به امرا وقرئ ما تؤمر به وصيغة المضارع للدلالة على ان الامر متعلق به متوجه اليه مستمر إلى حين الامتثال به «ستجدني إن شاء الله من الصابرين» على الذبح أو على قضاء الله تعالى «فلما أسلما» أي استسلما لامر الله تعالى وانقادا وخضعا له يقال سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد وقد قرئ بهن جميعا وأصلها من قولك سلم هذا الفلان إذا خلص له ومعناه سلم من أن ينازع فيه وقولهم سلم لأمر الله وأسلم له منقولان منه ومعناهما أخلص نفسه الله
200

وجعلها سالمة له وكذلك معنى استسلم استخلص نفسه له تعالى وعن قتادة رضى الله عنه في أسلما أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه «وتله للجبين» صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة وقيل كبه على وجهه بإشارته كيلا يرى منه ما يورث رقة تحول بينه وبين أمر الله تعالى وكان ذلك عند الصخرة من منى وقيل في الموضع المشرف على مسجد منى وقيل في المنحر الذي ينحر اليوم فيه «وناديناه أن يا إبراهيم» «قد صدقت الرؤيا» بالعزم على الإتيان بالمأمور به ترتيب مقدماته وقد روى انه امر السكين بقوته على حلقه مرارا فلم يقطع ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين فعند ذلك وقع النداء جواب لما محذوف إيذانا بعدم وفاء التعبير بتفاصيله كأنه قيل كان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان من استبشارهما وشكرهما لله تعالى على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق لما لم يوفق أحد لمثله وإظهار فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك «إنا كذلك نجزي المحسنين» تعليل لتفريج تلك الكربة عنهما بإحسانهما واحتج به من جوز النسخ قبل وقوع المأمور به فإنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بالذبح لقوله تعالى افعل ما تؤمر ولم يحصل «إن هذا لهو البلاء المبين» الابتلاء البين الذي يتميز فيه المخلص عن غيره أو المحنة البينة الصعوبة إذ لا شئ أصعب منها «وفديناه بذبح» بما يذبح بدله فيتم به الفعل «عظيم» أي عظيم الجثة سمين أو عظيم القدر لأنه يفدى به الله نبيا ابن نبي من نسله سيد المرسلين قيل كان ذلك كبشا من الجنة عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل عليه السلام وقيل فدى بوعل اهبط عليه من ثبير وروى انه هرب من إبراهيم عليه السلام عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقى سنة في الرمي وروى انه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده وروى انه لما ذبحه قال جبريل عليه السلام الله أكبر الله أكبر فقال الذبيح لا إله إلا الله والله أكبر فقال إبراهيم الله أكبر ولله الحمد فبقى سنة والفادى في الحقيقة هو إبراهيم وإنما قيل وفديناه لأنه تعالى هو المعطي له والآمر به على التجوز في الفداء أو الإسناد «وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم» قد سلف بيانه في خاتمة قصة نوح عليه السلام
201

«كذلك نجزي المحسنين» ذلك إشارة إلى إبقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم لا إلى ما أشير إليه فيما سبق فلا تكرار وعدم تصدير الجملة بأنا للاكتفاء بما مر آنفا «إنه من عبادنا المؤمنين» الراسخين في الايمان على وجهه الايقان والاطمئنان «وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين» أي مقضيا بنبوته مقدرا كونه من الصالحين وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة فإن وجود ذي الحال ليس بشرط وإنما الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار معنى الحال فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملا فيهما مثل وبشرناه بوجود إسحاق نبيا من الصالحين ومع ذلك لا يصير نظير قوله تعالى فادخلوها خالدين فإن الداخلين كانوا مقدرين خلودهم وقت الدخول وإسحاق عليه السلام لم يكن مقدرا نبوة نفسه وصلاحها حين ما يوجد ومن فسر الغلام بإسحاق جعل المقصود من البشارة نبوته عليه الصلاة والسلام وفي ذكر الصلاح بعد تعظيم لشأنه وإيماء إلى انه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الاطلاق «وباركنا عليه» على إبراهيم في أولاده «وعلى إسحاق» بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بنى إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب عليهم السلام أو أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا وقرئ وبركنا «ومن ذريتهما محسن» في عمله أو لنفسه بالايمان والطاعة «وظالم لنفسه» بالكفر والمعاصي «مبين» ظاهر ظلمه وفيه تنبيه على أن النسب لا تأثير له في الهداية والضلال وأن الظلم في أعقابهما لا يعود
عليهما بتقيصه ولا عيب «ولقد مننا على موسى وهارون» أي أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من النعم الدينية والدنيوية «ونجيناهما وقومهما» وهم بنو إسرائيل «من الكرب العظيم» هو ملكة آل فرعون وتسلطهم عليهم بألوان الغشم والعذاب كما في قوله تعالى وإذ أنجيناكم من آل فرعون وقيل هو الغرق وهو بعيد لأنه لم يكن عليهم كربا ومشقة «ونصرناهم» أي إياهما وقومهما على عدوهم «فكانوا» بسبب ذلك «هم الغالبين» عليهم غلبة لا غاية وراءها بعد أن كان قومهما في أسرهم وقسرهم مقهورين تحت أيديهم العادية يسومونهم
202

سوء العذاب وهذه التنجية وإن كانت بحسب الوجود مقارنة لما ذكر من النصر والغلبة لكنها لما كانت بحسب المفهوم عبارة عن التخليص من المكروه بدئ بها ثم بالنصر الذي يتحقق مدلوله بمحض تنجية المنصور من عدوه من غير تغليبه عليه ثم بالغلبة لتوفية مقام الامتنان حقه بإظهار أن كل مرتبة من هذه المراتب الثلاث نعمة جليلة على حيالها «وآتيناهما» بعد ذلك «الكتاب المستبين» أي البليغ في البيان والتفصيل وهو التوراة «وهديناهما» بذلك «الصراط المستقيم» الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الاحكام «وتركنا عليهما في الآخرين» «سلام على موسى وهارون» أي أبقينا فيما بين الأمم الآخرين هذا الذكر الجميل والثناء الجزيل «إنا كذلك» الجزاء الكامل «نجزي المحسنين» الذين هما من جملتهم لاجزاء قاصرا عنه «إنهما من عبادنا المؤمنين» سبق بيانه «وإن إلياس لمن المرسلين» هو إلياس بن ياسين من سبط هارون أخي موسى عليهم السلام بعث بعده وقيل إدريس لأنه قرئ مكانه إدريس وإدراس وقرئ إيليس وقرئ إلياس بحذف الهمزة «إذ قال لقومه ألا تتقون» أي عذاب الله تعالى «أتدعون بعلا» أتعبدونه وتطلبون الخير منه وهو اسم صنم كان لأهل بك من الشام وهو البلد المعروف اليوم ببعلبك قيل كان من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء فكان الشيطان يدخل جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وقيل البعل الرب بلغة اليمن أي أتعبدون بعض البعول «وتذرون
203

أحسن الخالقين» أي وتتركون عبادته وقد أشير إلى المقتضى للإنكار المعنى بالهمزة ثم صرح به بقوله تعالى «الله ربكم ورب آبائكم الأولين» بالنصب على البدلية من أحسن الخالقين وقرئ بالرفع على الابتداء والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم لتأكيد إنكار تركهم عبادته تعالى والاشعار ببطلان آراء آبائهم أيضا «فكذبوه فإنهم» بسبب تكذيبهم ذلك «لمحضرون» أي العذاب والإطلاق للاكتفاء بالقرائن على أن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفا «إلا عباد الله المخلصين» استثناء من ضمير محضرون «وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين» هو لغة في إلياس كسيناء في سينين وقيل هو جمع له أريد به هو وأتباعه كالمهلبين والخبيبين وفيه أن العلم إذا جمع يجب تعريفه كالمثالين وقرئ بإضافة آل إلى ياسين لأنهما في المصحف مفصولان فيكون ياسين أبا الياس «إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين» مر تفسيره «وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه» أي اذكر وقت تنجيتنا إياه «وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين» أي الباقين في العذاب أو الماضين الهالكين «ثم دمرنا الآخرين» فإن في ذلك شواهد على جلية امره وكونه من جملة المرسلين
204

«وإنكم» يا أهل مكة «لتمرون عليهم» على منازلهم في متاجركم إلى الشأم وتشاهدون آثار هلاكهم فإن سدوم في طريق الشأم «مصبحين» داخلين في الصباح و «بالليل» أي ومساء أو نهارا أو ليلا ولعلها وقعت بقرب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد له مساء «أفلا تعقلون» أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به وتخافوا ان يصيبكم مثل ما أصابهم «وإن يونس لمن المرسلين» وقرئ بكسر النون «إذ أبق» أي هرب وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه «إلى الفلك المشحون» أي المملوء «فساهم» فقارع أهله «فكان من المدحضين» فصار من المغلوبين بالقرعة وأصله المزلق عن مقام الظفر روى أنه عليه الصلاة والسلام لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله تعالى به فركب السفينة فوقفت فقالوا فيها عبد ابق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه فقال أنا الآبق ورمى بنفسه في الماء «فالتقمه الحوت» فابتلعه من اللقمة «وهو مليم» داخل في الملامة أو آت بما يلام عليه أو مليم نفسه وقرئ مليم بالفتح مبنيا من ليم كمشيب في مشوب «فلولا أنه كان من المسبحين» الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح مدة عمره أو في بطن الحوت وهو قوله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وقيل من المصلين فإنه عليه الصلاة والسلام كان كثير الصلاة في الرخاء «للبث في بطنه إلى يوم يبعثون» حيا وقيل ميتا وفيه حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده عند الضراء «فنبذناه بالعراء» بأن حملنا الحوت على لفظه بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت روى
205

أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسا يتنفس فيه يونس عليه السلام ويسبح ولم يفارقهم حتى انتهو إلى البر فلفظه سالما لم يتغير منه شئ فأسلموا وروى ان الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل واختلف في مقدار لبثه فقيل أربعون يوما وقيل عشرون وقيل سبعة وقيل ثلاثة وقيل لم يلبث إلا قليلا ثم أخرج من بطنه بعيد الوقت الذي التقم فيه روى عطاء انه حين ابتلعه أوحى الله تعالى إلى الحوت إني جعلت بطنك له سجنا ولم أجعله لك طعاما «وهو سقيم» مما ناله قيل صار بدنه كبدن الطفل حين يولد «وأنبتنا عليه» أي فوقه مظلة عليه «شجرة من يقطين» وهو كل ما ينبسط على الأرض ولا يقوم على ساق كشجر البطيخ والقثاء والحنظل وهو يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به والأكثرون على أنه الدباء غطته بأوراقها عن الذباب فإنه لا يقع عليه ويدل عليه انه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تحب القرع قال أجل هي شجرة أخي يونس وقيل هي التين وقيل الموز تغطي بورقه واستظل بأغصانه وأفطر على ثماره وقيل كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها «وأرسلناه إلى مائة ألف» هم قومه الذين هرب منهم وهم أهل نينوى والمراد به إرساله السابق أخبر أولا بأنه من المرسلين على الإطلاق ثم اخبر بأنه قد أرسل إلى أمة جمة وكأن توسيط تذكير وقت هربه إلى الفلك وما بعده بينهما لتذكير سببه وهو ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه من إنذاره إياهم عذاب الله تعالى وتعيينه لوقت حلوله وتعللهم وتعليقهم لإيمانهم بظهور أماراته كما مر تفصيله في سورة يونس ليعلم أن إيمانهم الذي سيحكى بعد لم يكن عقيب الإرسال كما هو المتبادر من ترتيب الايمان عليه بالفاء بل بعد اللتيا والتي وقيل هو إرسال آخر إليهم وقيل إلى غيرهم وليس بظاهر «أو يزيدون» أي في مرأى الناظر فإنه إذا نظر إليهم قال إنهم مائة الف أو يزيدون
والمراد هو الوصف بالكثرة وقرئ بالواو «فآمنوا» أي بعد ما شاهدوا علائم حلول العذاب إيمانا خالصا «فمتعناهم» أي بالحياة الدنيا «إلى حين» قدره الله سبحانه لهم قيل ولعل عدم ختم هذه القصة وقصة لوط بما ختم به سائر القصص للتفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع وأولى العزم من الرسل أو اكتفاء بالتسليم بالشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة «فاستفتهم» امر الله عز وجل في صدر السورة الكريمة رسوله صلى الله عليه وسلم بتبكيت قريش وإبطال مذهبهم في إنكار البعث بطريق الاستفتاء وساق البراهين القاطعة الناطقة بتحققه لا محالة وبين وقوعه وما سيلقونه عند ذلك من فنون العذاب واستثنى منهم عباده المخلصين وفصل ما لهم من النعيم المقيم ثم ذكر انه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين
206

وأنه تعالى ارسل إليهم منذرين عل وجه الاجمال ثم أورد قصص كل واحد منهم على وجه التفصيل مبينا في كل قصة منها أنهم من عباده تعالى واصفا لهم تارة بالإخلاص وأخرى بالايمان ثم امره صلى الله عليه وسلم ههنا بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن وجه أمر منكر خارج عن العقول بالكلية وهي القسمة الباطلة اللازمة لما كانوا عليه من الاعتقاد الزائغ حيث كانوا يقولون كبعض أجناس العرب جهينة وبنى سلمة وخزاعة وبنى مليح الملائكة بنات الله والفاء لترتيب الامر على ما سبق من كون أولئك الرسل الذين هم أعلام الخلق عليهم الصلاة والسلام عباده تعالى فإن ذلك مما يؤكد التبكيت ويظهر بطلان مذهبهم الفاسد ثم تبكيتهم بما يتضمنه كفرهم المذكور من الاستهانة بالملائكة بجعلهم إناثا ثم أبطل أصل كفرهم المنطوى على هذين الكافرين وهو نسبة الولد إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ولم ينظمه في سلك التبكيت لمشاركتهم النصارى في ذلك أي فاستخبرهم «ألربك البنات» اللاتي هن أوضع الجنسين «ولهم البنون» الذين هم أرفعهما فإن ذلك مما لا يقول به من له أدنى شئ من العقل وقوله تعالى «أم خلقنا الملائكة إناثا» إضراب وانتقال من التبكيت بالاستفتاء السابق إلى التبكيت بهذا كما أشير إليه أي بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق وأبعدهم من صفات الأجسام ورذائل الطبائع إناثا والأنوثة من أخس صفات الحيوان وقوله تعالى «وهم شاهدون» استهزاء بهم وتجهيل لهم كقوله تعالى اشهدوا خلقهم وقوله تعالى ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض والا خلق أنفسهم فإن أمثال هذه الأمور لا تعلم بالمشاهدة إذ لا سبيل إلى معرفتها بطريق العقل وانتفاء النقل مما لا ريب فيه فلا بد ان يكون القائل بأنوثتهم شاهدا عند خلقهم والجملة إما حال من فاعل خلقنا أي بل أخلقناهم إناثا والحال انهم حاضرون حينئذ أو عطف على خلقنا أي بل أهم شاهدون وقوله تعالى «ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله» استئناف من جهته غير داخل تحت الامر بالاستفتاء مسبوق لإبطال أصل مذهبهم الفاسد ببيان ان مبناه ليس إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير ان يكون لهم دليل أو شبهة قطعا «وإنهم لكاذبون» في قولهم ذلك كذبا بينا لا ريب فيه وقرئ ولد الله على انه خبر مبتدأ محذوف أي الملائكة ولده تعالى عن ذلك علوا كبيرا فإن الولد فعل بمعنى مفعول يستوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث «أصطفى البنات على البنين» إثبات لإفكهم وتقرير لكذبهم فيما قالوا ببيان استلزامه لأمر بين الاستحالة هو اصطفاؤه تعالى البنات على البنين والاصطفاء أخذ صفوة الشئ لنفسه وقرئ بكسر الهمزة على حذف حرف الاستفهام
207

ثقة بدلالة القرائن عليه وجعله بدلا من ولد الله ضعيف وتقدير القول أي لكاذبون في قولهم اصطفى الخ تعسف بعيد «ما لكم كيف تحكمون» بهذا الحكم الذي يقضى ببطلانه بديهة العقل «أفلا تذكرون» بحذف إحدى التاءين من تتذكرون وقرئ تذكرون من ذكر والفاء للعطف على مقدر أي ألا تلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز في عقل كل ذكى وغبى «أم لكم سلطان مبين» إضراب وانتقال من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر إلى تبكيتهم بتكليفهم ما لا يدخل تحت الوجود أصلا أي بل الكم حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بناته تعالى ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسى أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي «فأتوا بكتابكم» الناطق بصحة دعواكم «إن كنتم صادقين» فيها وفي هذه الآيات من الانباء عن السخط العظيم والإنكار الفظيع لأقاويلهم والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وأفهامهم مع استهزاء بهم وتعجيب من جهلهم ما لا يخفى على من تأمل فيها وقوله تعالى «وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا» التفات إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم ان يعرض عنهم وتحكى جناياتهم لآخرين والمراد بالجنة الملائكة قالوا الجنس واحد ولكن من خبث من الجن ومردوكان شرا كله فهو شيطان ومن طهر منهم ونسك وكان خيرا كله فهو ملك وإنما عبر عنهم بذلك الاسم وضعا منهم وتقصيرا بهم مع عظم شأنهم فيما بين الخلق أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم فجعلهم هذا عبارة عن قولهم الملائكة بنات الله وإنما أعيد ذكره تمهيدا لما يعقبه من قوله تعالى «ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون» أي وبالله لقد علمت الجنة التي عظموها بأن جعلوا بينها وبينه تعالى نسبا وهم الملائكة أن الكفرة لمحضرون النار معذبون بها لكذبهم وافترائهم في قولهم ذلك والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان ان الذين يدعى هؤلاء لهم تلك النسبة ويعلمون انهم أعلم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكما مؤكدا وقيل إن قوما من الزنادقة يقولون الله تعالى وإبليس إخوان فالله هو الخير الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم وهو المراد بقوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا قال الامام الرازي وهذا القول عندي أقرب الأقاويل وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان واهرمن ويعبرون عنهما بالنور والظلمة وقال مجاهد قالت قريش
208

الملائكة بنات الله فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه فمن أمهاتهم تبكيتا لهم فقالوا سروات الجن وقيل معنى جعلوا بينه وبين الجنة نسبا جعلوا بينهما مناسبة حيث أشركوا به تعالى الجن في استحقاق العبادة فعلى هذه الأقاويل يجوز ان يكون الضمير في إنهم لمحضرون للجنة فالمعنى لقد علمت الشياطين أن الله تعالى يحضرهم النار ويعذبهم بها ولو كانوا مناسبين له تعالى أو شركاء في استحقاق العبادة لما عذبهم والوجه هو الأول فإن قوله «سبحان الله عما يصفون» حكاية لتنزيه الملائكة إياه تعالى عما وصفه المشركون به بعد تكذيبهم لهم في ذلك بتقدير قول معطوف على علمت وقوله تعالى «إلا عباد الله المخلصين» شهادة منهم ببراءة المخلصين من أن يصفوه تعالى بذلك متضمنة لتبرئهم منه بحكم اندراجهم في زمرة المخلصين على أبلغ وجه وآكده على انه استثناء منقطع من واو يصفون كأنه قيل ولقد علمت الملائكة ان المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفونه به لكن عباد الله الذين من جملتهم برءاء من ذلك الوصف وقوله تعالى «فإنكم وما تعبدون» «ما أنتم عليه بفاتنين» تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين مما ذكر ببيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام وما تعبدون عبارة عن
الشياطين الذين أغووهم وفي إيذان بتبرئهم عنهم وعن عبادتهم كقولهم بل كانوا يعبدون الجن وما نافيه وأنتم خطاب لهم ولمعبوديهم تغليبا وعلى متعلقة بفاتنين يقال فتن فلان على فلان امرأته أي أفسدها عليه والمعنى فإنكم ومعبوديكم أيها المشركون لستم بفاتنين عليه تعالى بإفساد عباده وإضلالهم «إلا من هو صال الجحيم» منهم أي داخلها لعلمه تعالى بأنه يصير على الكفر بسوء اختياره ويصير من أهل النار لا محاله وأما المخلصون منهم فأنتم بمعزل من إفسادهم وإضلالهم فهم لا جرم برءاء من ان يفتتنوا بكم ويسلكوا مسلككم في وصفه تعالى بما وصفتموه به وقرئ صال بضم اللام على انه جمع محمول على معنى من قد سقط واوه لالتقاء الساكنين وقوله تعالى «وما منا إلا له مقام معلوم» تبيين لجلية امرهم وتعيين لحيزهم في موقف العبودية بعد ما ذكر من تكذيب الكفرة فيما قالوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك
209

وتبرئة المخلصين عنه وإظهار لقصور شأنهم وقمائتهم أي وما منا إلا له مقام معلوم في العبادة والانتهاء إلى امر الله تعالى مقصور عليه لا يتجاوزه ولا يستطيع ان يزيل عنه خضوعا لعظمته وخشوعا لهيبته وتواضعا لجلاله كما روى فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه قال ابن عباس رضى الله عنهما ما في السماوات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلى أو يسبح وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال أطت السماء وحق لها ان تئط والذي نفسي بيده ما فيها موضع اربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته ساجد لله تعالى وقال السدي إلا له مقام معلوم في القربة والمشاهدة «وإنا لنحن الصافون» في مواقف الطاعة ومواطن الخدمة «وإنا لنحن المسبحون» المقدسون لله سبحانه عن كل ما لا يليق بجناب كبريائه وتحلية كلامهم بفنون التأكيد لإبراز ان صدوره عنهم بكمال الرغبة والنشاط هذا هو الذي تقتضيه جزالة التنزيل وقد ذكر في تفسير الآيات الكريمة وإعرابها وجوه أخر فتأمل والله الموفق «وإن كانوا ليقولون» إن هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف واللام هي الفارقة أي إن الشأن كانت قريش تقول «لو أن عندنا ذكرا من الأولين» أي كتابا من كتب الأولين من التوراة والإنجيل «لكنا عباد الله المخلصين» أي لأخلصنا العبادة لله تعالى ولما خالفنا كما خالفوا وهذا كقولهم لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم والفاء في قوله تعالى «فكفروا به» فصيحة كما في قوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق أي فجاءهم ذكر واي ذكر سيد الأذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والاسفار فكفروا به «فسوف يعلمون» أي عاقبه كفرهم وغائلته «ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين» استئناف مقرر للوعيد وتصديره بالقسم لغاية الاعتناء بتحقيق مضمونه أي وبالله لقد سبق وعدنا لهم بالنصرة والغلبا هو قوله تعالى «إنهم
210

لهم المنصورون وإن جندنا» وهم اتباع المرسلين «لهم الغالبون» على أعدائهم في الدنيا والآخرة ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المشاهد فإن قاعدة امرهم وأساسه الظفر والنصرة وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة والحكم للغالب وعن ابن عباس رضى الله عنهما إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة وقرئ على عبدنا بتضمين سبقت معنى حقت وتسميتها كلمة مع أنها كلمات لانتظامها في معنى واحد وقرئ كلماتنا «فتول عنهم» فأعرض عنهم واصبر «حتى حين» إلى مدة يسيرة وهي مدة الكف عن القتال وقيل يوم بدر وقيل يوم الفتح «وأبصرهم» عل أسوأ حال وأفظع نكال حل بهم من القتل والأسر والمراد بالامر بابصارهم الإيذان بغاية قربه كأنه بين يديه «فسوف يبصرون» ما يقع حينئذ من الأمور وسوف للوعيد دون التبعيد «أفبعذابنا يستعجلون» روى أنه لما نزل فسوف يبصرون قالوا متى هذا فنزل «فإذا نزل بساحتهم» أي فإذا نزل العذاب الموعود بفنائهم كأنه جيش قد هجمهم فأناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة وقطع دابرهم بالمرة وقيل المراد نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وقرئ نزل بساحتهم على إسناده إلى الجار والمجرور وقرئ نزل مبنيا للمفعول من التنزيل أي نزل العذاب «فساء صباح المنذرين» فبئس صباح المنذرين صباحهم واللام للجنس والصباح مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب ولما كثرت منهم الغارة في الصباح سموها صباحا وإن وقعت ليلا روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحى قالوا محمد والخميس ورجعهم إلى حصنهم فقال صلى الله عليه وسلم الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين «فتول عنهم حتى حين» «وأبصر فسوف يبصرون» تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثر تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في إطلاق الفعلين عن المفعول من الإيذان بأن ما يبصره صلى الله عليه وسلم حينئذ من فنون المسار وما يبصرونه من أنواع المضار لا يحيط به الوصف والبيان وقيل أريد بالأول عذاب الدنيا وبالثاني عذاب الآخرة
211

«سبحان ربك رب العزة عما يصفون» تنزيه لله سبحانه عن كل ما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه وجبروته مما ذكر في السورة الكريمة وما لم يذكر من الأمور التي من جملتها ترك انجاز الموعود على موجب كلمته السابقة لا سيما في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية المعربة عن التربية والتكميل والمالكية الكلية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم أولا والى العزة ثانيا كأنه قيل سبحان من هو مر بيك ومكملك ومالك العزة والغلبة على الاطلاق عما يصفه المشركون به من الأشياء التي منها ترك نصرتك عليهم كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب وقوله تعالى «وسلام على المرسلين» تشريف لهم عليهم السلام بعد تنزيهه تعالى عما ذكر وتنويه بشأنهم وايذان بأنهم سالمون عن كل المكاره فائزون بجميع المآرب وقوله تعالى «والحمد لله رب العالمين» إشارة إلى وصفه عز وجل بصفاته الكريمة الثبوتية بعد التنبيه على اتصافه تعالى بجميع صفاته السلبية وايذان باستتباعها للأفعال الجميلة التي من جملتها افاضته عليهم من فنون الكرامات السنية والكمالات الدينية والدنيوية وإسباغه عليهم وعلى من تبعهم صنوف النعماء الظاهرة والباطنة الموجبة لحمده تعالى واشعار بأن ما وعده صلى الله عليه وسلم من النصرة والغلبة قد تحققت والمراد تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه تعالى وتحميده والتسليم على رسله الذين هم وسايط بينهم وبينه عز وعلا في فيضان الكمالات الدينية والدنيوية عليهم ولعل توسيط التسليم على المرسلين بين تسبيحه تعالى وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده تعالى مع ما فيه من الاشعار بأن توفيقه تعالى للتسليم عليهم من جملة الموجبة للحمد عن علي رضي الله عنه من أحب ان يكتال بالمكيال الأوفى من الاجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ والصآفات اعطى من الاجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان وتباعدت منه مردة الشياطين وبرىء من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة انه كان مؤمنا بالمرسلين
212

مكية وآياتها ثمان وثمانون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «ص» بالسكون على الوقف وقرئ بالكسر والفتح لالتقاء الساكنين ويجوز ان يكون الفتح بإضمار حرف القسم في موضع الجر كقولهم الله لأفعلين بالجر وان يكون ذلك نصبا بإضمار اذكر أو أقر الا فتحا كما مر في فاتحة سورة البقرة وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث لأنها علم للسورة وقد صرفها من قرا صاد بالتنوين على انه اسم الكتاب أو التنزيل وقيل هو في قراءة الكسر امر من المصاداة وهي المعارضة والمقابلة ومنها الصدى الذي ينعكس من الأجسام الصلبة بمقابلة الصوت ومعناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه وتخلق بأخلاقه ثم ان جعل اسما للحرف مسرودا على منهاج التحدي أو الرمز إلى كلام مثل صدق الله أو صدق محمد كما نقل عن أكابر السلف أو اسما للسورة خبرا لمبتدأ محذوف أو نصبا على اضمار اذكر أو اقرا أو امرا من المصاداة قالوا وفي قوله تعالى «والقرآن ذي الذكر» للقسم وان جعل مقسما به فهي للعطف عليه فإن أريد بالقرآن كله فالمغايرة بينهما حقيقة وان أريد عين السورة فهي اعتبارية كما في قولك مررت بالرجل الكريم وبالنسبة المباركة وأيا ما كان ففي التكرير مزيد تأكيد لمضمون الجملة المقسم عليها والذكر الشرف والنباهة كما في قوله تعالى وانه لذكر لك ولقومك أو الذكرى والموعظة أو ذكر ما يحتاج اليه في امر الدين من الشرائع والاحكام وغيرها من أقاصيص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واخبار الأمم الدارجة والوعد والوعيد وجواب القسم على الوجه الأول والرابع والخامس محذوف هو ما ينبئ عنه التحدي والامر والاقسام به من كون المتحدي به معجزا وكون المأمور به واجبا وكون المقسم به حقيقا بالإعظام أي اقسم بالقرآن أو بصاد وبه إنه لمعجز أو لواجب العمل به أو لحقيق بالإعظام واما على الوجهين الباقيين فهو الكلام المرموز اليه ونفس الجملة المذكورة قبل القسم فإن التسمية تنويه بشأن المسمى وتنبيه على عظم خطره أي انه لصادق والقرآن ذي الذكر أو هذه السورة عظيمة الشأن والقرآن الخ على طريقة قولهم هذا حاتم والله ولما كان كل واحد من هذه الأجوبة منبئا عن انتفاء الريب عن مضمونه بالكلية انباء بينا كان قوله تعالى «بل الذين كفروا في عزة وشقاق» إضرابا عن ذلك كأنه قيل لا ريب فيه قطعا وليس عدم اذعان الكفرة له لشائبة ريب ما فيه بل هم في استكبار وحمية شديدة وشقاق بعيد لله تعالى ولرسوله ولذلك لا يذعنون له
213

وقيل الجواب ما دل عليه الجملة الإضرابية أي ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه بل الذين كفروا الخ وقرئ في غرة أي في غفلة عما يجب عليهم التنبه له من مبادى الايمان ودواعيه «كم أهلكنا من قبلهم من قرن» وعيد لهم على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب من قبلهم من المستكبرين وكم مفعول أهلكنا ومن قرن تمييز والمعنى وقرنا كثيرا أهلكنا من القرون الخالية «فنادوا» عند نزول بأسنا وحلول نقمتنا استغاثة وتوبة لينجوا من ذلك وقوله تعالى «ولات حين مناص» حال من ضمير نادوا اي نادوا واستغاثوا طلبا للنجاة والحال ان ليس الحين حين مناص أي فوت ونجاة من ناصه أي فاته لا من ناص بمعنى تأخر ولا هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب وثم وخصت بنفي الأحيان ولم يبرز الا أحد معموليها والأكثر حذف اسمها وقيل هي النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصت بنفي الأحيان وحين مناص منصوب على انه اسمها أي ولا حين مناص لهم أو بفعل مضمر أي ولا أرى حين مناص وقرئ بالرفع فهو على الأول اسمها والخبر محذف واي وليس حين مناص حاصلا لهم وعلى الثاني مبتدأ محذوف الخبر أي ولا حين مناص كائن لهم وقرئ بالكسر كما في قوله طلبوا صلحنا ولات أو ان فأجبنا ان لات حين بقاء إما لأن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر في نحو قوله لولاك هذا العام لم أحج أو لأن أوان شبه بإذ في قوله
* نهيتك عن طلابك أم عمرو
* بعافية وأنت إذ صحيح
* في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض التنوين لأن أصله أو أن صلح ثم حمل عليه حين مناص تنزيلا لقطع المضاف إليه من مناص إذ أصله حين مناصهم منزلة قطعة من حين لما بين المضافين من الاتحاد ثم بنى الحين لإضافته إلى غير متمكن وقرئ لات بالكسر كجير ويقف الكوفيون عليها بالهاء كالأسماء والبصريون بالتاء كالأفعال وما قيل من أن التاء مزيدة على حين لاتصالها به في الامام مما لا وجه له فإن خط المصحف خارج عن القياس «وعجبوا أن جاءهم منذر منهم» حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما حكى من استكبارهم وشقاقهم أي عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم بل أدون منهم في الرياسة الدنيوية والمال على معنى انهم عدوا ذلك امرا عجيبا خارجا عن احتمال الوقوع وأنكروه أشد الانكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه وتعجبوا منه «وقال الكافرون» وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وإيذانا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولونه إلا المتوغلون في الكفر والفسوق «هذا ساحر» فيما يظهره من الخوارق «كذاب» فيما يسنده إلى الله تعالى من الإرسال والإنزال «أجعل الآلهة إلها واحدا» بأن نفى الألوهية عنهم وقصرها على واحد «إن هذا لشيء عجاب» بليغ في العجب وذلك لأنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم الذين أجمعوا على ألوهيتهم
214

وواظبوا على عبادتهم كابرا عن كابر فإن هذا مدار كل ما يأتون وما يذرون من أمور دينهم هو التقليد والاعتياد فيعدون ما يخالف ما اعتادوه عجيبا بل محالا وأما جعل مدار تعجبهم عدم وفاء علم الواحد وقدرته بالأشياء الكثيرة فلا وجه له لما أنهم لا يدعون أن لآلهتهم علما وقدرة ومدخلا في حدوث شئ من الأشياء حتى يلزم من نفى ألوهيتهم بقاء الآثار بلا مؤثر وقرئ عجاب بالتشديد وهو أبلغ ككرام وكرام روى انه لما أسلم عمر رضى الله عنه شق ذلك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون من صناديدهم فأتوا ابا طالب فقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وقد جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا أبن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كل الميل على قومك فقال صلى الله عليه وسلم ماذا تسألونني قالوا رفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك فقال صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطى أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم قالوا نعم وعشرا فقال قولوا لا إله إلا الله فقاموا وقالوا ذلك «وانطلق الملأ منهم» أي وانطلق الاشراف من قريش عن مجلس أبي طالب بعد ما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجواب العتيد وشاهدوا تصلبه صلى الله عليه
وسلم في الدين وعزيمته على أن يظهره على الدين كله ويئسوا مما كانوا يرجونه بتوسط أبى طالب من المصالحة على الوجه المذكور «أن امشوا» أي قائلين بعضهم لبعض على وجه النصيحة امشوا «واصبروا على آلهتكم» أي واثبتوا على عبادتها متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح وأن هي المفسرة لأن الانطلاق عن مجلس التقاول لا يخلو عن القول وقيل المراد بالانطلاق الاندفاع في القول وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية للتفاؤل أي اجتمعوا وكثروا وقرئ امشوا بغير أن على إضمار القول وقرئ يمشون ان اصبروا «إن هذا لشيء يراد» تعليل للأمر بالصبر أو لوجوب الامتثال به أي هذا الذي شاهدناه من محمد صلى الله عليه وسلم من أمر التوحيد ونفى آلهتنا وإبطال امرها لشئ يراد أي من جهته صلى الله عليه وسلم إمضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لا قول يقال من طرف اللسان أو أمر يرجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتنان فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله من رأيه بوساطة أبي طالب وشفاعته وحسبكم أن لا تمنعوا من عبادة آلهتكم بالكلية فاصبروا عليها وتحملوا ما تسمعونه في حقها من القدح وسوء القالة وقيل إن هذا الأمر لشئ يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه وما أراد الله كونه فلا مرد له ولا ينفع فيه إلا الصبر وقيل إن هذا الأمر لشئ من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه وقيل إن دينكم لشئ يراد أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه وقيل إن هذا الذي يدعيه من التوحيد أو يقصده من الرياسة والترفع على العرب والعجم لشئ يتمنى ويريده كل أحد فتأمل في هذه الأقاويل واختر منها ما يساعده النظم الجليل «ما سمعنا بهذا» الذي يقوله «في الملة الآخرة» أي الملة النصرانية التي هي آخر الملل فإنهم مثلثة أو في الملة التي
215

أدركنا عليها آباءنا ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالا من هذا أي ما سمعنا بهذا من أهل الكتاب ولا الكهان كائنا في الملة المترقبة ولقد كذبوا في ذلك أقبح كذب فإن حديث البعثة والتوحيد كان أشهر الأمور قبل الظهور «إن هذا» أي ما هذا «إلا اختلاق» أي كذب اختلقه «أأنزل عليه الذكر» أي القران «من بيننا» ونحن رؤسا الناس وأشرافهم كقولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ومرداهم إنكار كونه ذكرا منزلا من عند الله عز وجل كقولهم لو كان خيرا ما سبقونا إليه وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على ان مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد وقصر النظر على الحطام الدنيوي «بل هم في شك من ذكري» أي من القرآن أو الوحي لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن النظر في الأدلة المؤدية إلى العلم بحقيته وليس في عقيدتهم ما يبتون به فهم مذبذبون بين الأوهام ينسبونه تارة إلى السحر وأخرى إلى الاختلاق «بل لما يذوقوا عذاب» أي بل لم يذوقوا بعد عذابي فإذا ذاقوه تبين لهم حقيقة الحال وفي لما دلالة على أن ذوقهم على شرف الوقوع والمعنى انهم لا يصدقون به حتى يمسهم العذاب وقيل لم يذوقوا عذابي الموعود في القرآن ولذلك شكوا فيه «أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب» بل أعندهم خزائن رحمته تعالى يتصرفون فيها حسبما يشاءون حتى يصيبوا بها من شاءوا ويصرفوها عمن شاءوا ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم والمعنى ان النبوة عطية من الله عز وجل يتفضل بها على من يشاء من عباده المصطفين لا مانع له فإنه العزيز أي الغالب الذي لا يغالب الوهاب الذي له ان يهب كل ما يشاء لكل من يشاء وفي إضافة اسم الرب المنبئ عن التربية والتبليغ إلى الكمال إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه واللطف به ما لا يخفى وقوله تعالى «أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما» ترشيح لما سبق أي بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية ويتحكموا في التدابير الإلهية التي يستأثر بها رب العزة والكبرياء وقوله تعالى «فليرتقوا في الأسباب» جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ما ذكر من الملك فليصعدوا في المعارج والمناهج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون وفيه من التهكم بهم ما لا غاية وراءه والسبب في الأصل هو الوصلة وقيل المراد بالأسباب السماوات لأنها أسباب الحوادث السفلية وقيل أبوابها «جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب» أي هم جند ما من الكفار المتحزبين عل الرسل مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بما يقولون ولا تكترث بما يهذون وما مزيده للتقليل والتحقير
216

نحو قولك أكلت شيئا ما وقيل للتعظيم على الهزء وهنالك إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم وقوله تعالى «كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد» الخ استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال العتاة الطغاة الذين هؤلاء جند ما من جنودهم مما فعلوا من التكذيب وفعل بهم من العقاب وذو الأوتاد معناه ذو الملك الثابت أصله من ثبات البيت المطنب بأوتاد فاستعير لثبات الملك ورسوخ السلطنة واستقامة الأمر قال الأسود بن يعفر
* ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
* في ظل ملك ثابت الأوتاد
* أو ذو الجموع الكثيرة سموا بذلك لأن بعضهم يشد بعضا كالوتد يشد البناء وقيل نصب اربع سوار وكان يمد يدي المعذب ورجليه إليهما ويضرب عليها أوتادا ويتركه حتى يموت وقيل كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقاب والحيات وقيل كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه «وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة» أصحاب الغيضة من قوم شعيب عليه السلام وقوله تعالى «أولئك الأحزاب» إما بدل من الطوائف المذكورة كما ان ذلك الكتاب بدل من ألم على أحد الوجوه وفيه فضل تأكيد وتنبيه على انهم الذين جعل الجند المهزوم منهم وقوله تعالى «إن كل إلا كذب الرسل» استئناف جيء به تقريرا لتكذيبهم وبيانا لكيفيته وتمهيدا لما يعقبه أي ما كل أحد من آحاد أولئك الأحزاب أو الأحزاب أو ما كل حزب منهم كذب الرسل لأن تكذيب واحد منهم تكذيب لهم جميعا لاتفاق الكل على الحق وقيل ما كل حزب إلا كذب رسوله على نهج مقابلة الجمع بالجمع وأيا ما كان فالاستثناء مفرغ من أعم العلل في خبر المبتدأ أي ما كل أحد منهم محكوما عليه بحكم الا محكوم عليه بأنه كذب الرسل وقيل ما كل واحد منهم مخبرا عنه بخبر الا مخبر عنه بأنه كذب الرسل وفي اسناد التكذيب إلى الطوائف المذكورة على وجه الابهام أولا والايذان بأن كلا منهم حزب على حياله تحزب على رسوله ثانيا وتبيين كيفية تكذيبهم بالجملة الاستثنائية ثالثا فنون من المبالغة مسجلة عليهم باستحقاق أشد العذاب وأفظعه ولذلك رتب عليه قوله تعالى «فحق عقاب» أي ثبت ووقع على كل منهم عقابي الذي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات المفصلة في مواقعها وإما بالمبتدأ وقوله تعالى ان كل الا كذب الرسل
خبره بحذف العائد أي ان كل منهم الخ والجملة استئناف مقرر لما قبله مؤكد لمضمونه مع ما فيه من بيان كيفية تكذيبهم والتنبيه على انهم الذين جعل الجند المهزوم منهم كما ذكر وقيل هو مبتدأ وخبر والمعنى ان الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم وانهم الذين وجد منهم التكذيب فتدبر وأما ما قيل من انه خبر والمبتدأ قوله تعالى وعاد الخ أو قوله وقوم لوط الخ فما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله
217

«وما ينظر هؤلاء» شروع في بيان عقاب كفار مكة إثر بيان عقاب أضرابهم من الأحزاب الذين أخبر فيما سبق بأنهم جند حقير منهم مهزوم عن قريب فإن ذلك مما يوجب انتظار السامع وترقبه إلى بيانه قطعا وفي الإشارة إليهم بهؤلاء تحقير لشأنهم وتهوين لامرهم وأما جعله إشارة إلى الأحزاب باعتبار حضورهم بحسب الذكر أو حضورهم في علم الله عز وجل فليس في حيز الاحتمال أصلا كيف لا والانتظار سواء كان حقيقة أو استهزاء إنما يتصور في حق من لم يترتب على أعماله نتائجها بعد وبعد ما بين عقاب الأحزاب واستئصالهم بالمرة لم يبق مما أريد بيانه من عقوباتهم أمر منتظر وإنما الذين في مرصد الانتظار كفار مكة حيث ارتكبوا من عظائم الجرائم وكبائر الجرائر الموجبة لأشد العقوبات مثل ما ارتكب الأحزاب أو أشد منه ولما يلاقوا بعد شيئا من غوائلها أي وما ينتظر هؤلاء الكفرة الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة في الكفر والتكذيب «إلا صيحة واحدة» هي النفخة الثانية لا بمعنى أن عقابهم نفسها بما فيها من الشدة والهول فإنها داهية يعم هولها جميع الأمم برها وفاجرها بل بمعنى أنه ليس بينهم وبين حلول ما أعدلهم من العقاب الفظيع إلا هي حيث أخرت عقوبتهم إلى الآخرة لما أن تعذبهم بالاستئصال حسبما يستحقونه والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم خارج عن السنة الإلهية المبنية على الحكم الباهرة كما نطق به قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وأما ما قيل من انها النفخة الأولى فمما لا وجه له أصلا لما أنه لا يشاهد هو لها ولا يصعق بها إلا من كان حيا عند وقوعها وليس عقابهم الموعود واقعا عقيبها ولا العذاب المطلق مؤخر إليها بل يحل بهم من حين موتهم «ما لها من فواق» أي من توقف مقدار فواق وهو ما بين الحلبتين وقرئ بضم الفاء وهما لغتان وقوله تعالى «وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب» حكاية لما قالوه عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة أي قالوا بطريق الاستهزاء والسخرية عجل لنا قطنا من العذاب الذي توعدنا به ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة المذكورة والقط القطة من الشيء من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس وقد فسر بها أي عجل لنا صحيفة اعمالنا لننظر فيها وقيل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد الله تعالى المؤمنين الجنة فقالوا على سبيل الهزء به عجل لنا نصيبنا منها وتصدير دعائهم بالنداء المذكور للإمعان في الاستهزاء كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والابتهال «اصبر على ما يقولون» من أمثال هذه المقالات الباطلة «واذكر» لهم «عبدنا داود» أي قصته تهويلا لأمر المعصية في أعينهم وتنبيها لهم على كمال قبح ما اجترءوا عليه من المعاصي فإنه صلى الله عليه وسلم مع علو شأنه واختصاصه بعظائم النعم والكرامات لما ألم بصغيرة نزل عن منزلته ووبخته الملائكة بالتمثيل والتعريض حتى تفطن فاستغفر ربه وأناب ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائب وغمه الواصب وندمه الدائم فما الظن بهؤلاء الكفرة الأذلين
218

من كل ذليل المرتكبين لأكبر الكبائر المصرين على أعظم المعاصي أو تذكر قصته عليه الصلاة والسلام وصن نفسك ان تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذيتهم كيلا يلقاك ما لقيه من المعاتبة «ذا الأيد» أي ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وآد بمعنى وأياد كل شئ ما يتقوى به «إنه أواب» رجاع إلى مرضاة الله تعالى وهو تعليل لكونه ذا الأيد ودليل على ان المراد به القوة في الدين فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ويقوم نصف الليل «إنا سخرنا الجبال معه» استئناف مسوق لتعليل قوته في الدين وأو أبيته إلى مرضاته تعالى ومع متعلقة بالتسخير وإيثارها على اللام لما أشير إليه في سورة الأنبياء من أن تسخير الجبال له عليه الصلاة والسلام لم يكن بطريق تفويض التصرف الكلى فيها إليه عليه الصلاة والسلام كتسخير الريح وغيرها لسليمان عليه السلام بل بطريق التبعية له عليه الصلاة والسلام والاقتداء به في عبادة الله تعالى وقيل متعلقة بما بعدها وهو أقرب بالنسبة إلى ما في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام «يسبحن» أي يقدسن الله عز وجل بصوت يتمثل له أو بخلق الله تعالى فيها الكلام أو بلسان الحال وقيل يسرن معه من السباحة وهو حال من الجبال وضع موضع مسبحات للدلالة على تجدد التسبيح حالا بعد حال واستئناف مبين لكيفية التسخير «بالعشي والإشراق» أي ووقت الاشراق وهو حين تشرق أي تضئ ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى وأما شروقها فطلوعها يقال شرقت الشمس ولما تشرق وعن أم هانئ رضى الله عنها انه عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الضحى وقال هذه صلاة الاشراق وعن ابن عباس رضى الله عنهما ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية «والطير» عطف على الجبال «محشورة» حال من الطير والعامل سخرنا أي وسخرنا الطير حال كونها محشورة عن ابن عباس رضى الله عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت اليه الطير فسبحت وذلك حشرها وقرئ والطير محشورة بالرفع على الابتداء والخبرية «كل له أواب» استئناف مقرر لمضمون ما قبله مصرح بما فهم منه إجمالا من تسبيح الطير أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح ووضع الأواب موضع المسبح إما لأنها كانت ترجع التسبيح والمرجع رجاع لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإما لأن الأواب هو التواب الكثير الرجوع إلى الله تعالى ومن دأبه إكثار الذكر وإدامة التسبيح والتقديس وقيل الضمير لله عز وجل أي كل من داود والجبال والطير لله أواب أي مسبح مرجع للتسبيح «وشددنا ملكه» قويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود وقرئ بالتشديد للمبالغة قيل كان يبيت حول محرابه أربعون الف مستلئم وقيل ادعى رجل على آخر بقرة وعجز عن إقامة البينة فأوحى الله تعالى إليه في المنام ان اقتل المدعى عليه فتأخر فأعيد الوحي في اليقظة فأعلمه الرجل فقال إن الله تعالى لم يأخذني
219

بهذا الذنب ولكن بأنى قتلت أبا هذا غيلة فقال الناس إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله تعالى عليه فقتله فهابوه وعظمت هيبته في القلوب «وآتيناه الحكمة» النبوة وكمال العلم وإتقان العمل وقيل الزبور وعلم الشرائع وقيل كل كلام وافق الحق فهو حكمة «وفصل الخطاب» أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل أو الكلام الملخص الذي ينبه المخاطب على المرام من غير التباس لما قد روعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف والإظهار والإضمار والحذف والتكرار وإنما سمى به أما بعد لأنه يفصل المقصود عما سبق تمهيدا له كالحمد والصلاة وقيل هو الخطاب الفصل الذي ليس فيه إيجاز مخل ولا أطناب ممل كما جاء في نعت كلام النبوة فصل لا نزر ولا
هذر «وهل أتاك نبأ الخصم» استفهام معناه التعجيب والتشويق إلى استماع ما في حيزه لإيذانه بأنه من الانباء البديعة التي حقها ان تشيع فيما بين كل حاضر وباد والخصم في الأصل مصدر ولذلك يطلق على الواحد وما فوقه كالضيف ومعنى خصمان فريقان «إذ تسوروا المحراب» إذ تصعدوا سوره ونزلوا إليه والسور الحائط المرتفع ونظيره تسنمه إذا علا سنامه وتذراه إذا علا ذروته وإذ متعلقة بمحذوف أي نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا أو بالنبأ على ان المراد به الواقع في عهد داود عليه السلام وان اسناده الاتيان اليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم أو بالخصم لما فيه من معنى الخصومة لا بأتى لان اتيانه الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن حينئذ وقوله تعالى «إذ دخلوا على داود» بدل مما قبله أو ظرف لتسوروا «ففزع منهم» روى انه تعالى بعث اليه ملكين في صورة انسانين قيل هما جبريل وميكائيل عليهما السلام فطلبا ان يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس فتسوروا عليه المحراب بمن معهما من الملائكة فلم يشعر الا وهما بين يديه جالسان ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق على خلاف العادة والحرس حوله في غير يوم الحكومة والقضاء قال ابن عباس رضي الله عنهما ان داود عليه السلام جزا زمانه أربعة اجزاء يوما للعبادة ويوما للقضاء ويوما للاشتغال بخاصة نفسه ويوما للوعظ والتذكير «قالوا» استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية فزعه عليه الصلاة والسلام كأنه قيل فماذا قالت الملائكة عند مشاهدتهم لفزعه فقيل قالوا إزالة لفزعه «لا تخف خصمان» أي نحن فوجان متخاصمان على تسمية مصاحب الخصم خصما «بغى بعضنا على بعض» هو على الفرض وقصد التعرض فلا كذب فيه «فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط» أي لا تجر في الحكومة وقرئ ولا تشطط أي لا تبعد عن الحق وقرئ ولا تشاطط وكلها من معنى الشطط وهو مجاوزة الحد وتخطى الحق «واهدنا إلى سواء الصراط» إلى وسط طريق الحق بزجر الباغي عما سلكه من طريق الجور وارشاده إلى منهاج العدل
220

«إن هذا أخي» استئناف لبيان ما فيه الخصومة أي أخي في الدين أو في الصحبة والتعرض لذلك تمهيد لبيان كمال قبح ما فعل به صاحبه «له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة» هي الأنثى من الضأن وقد يكنى بها عن المرأة والكناية والتعريض أبلغ في المقصود وقرئ تسع وتسعون بفتح التاء ونعجة بكسر النون وقرئ ولي نعجة بسكون الياء «فقال أكفلنيها» أي ملكنيها وحقيقته اجعلني أكفلها كما اكفل ما تحت يدي وقيل اجعلها كفلى أي نصيبي «وعزني في الخطاب» أي غلبني في مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده أو في مغالبته إياي في الخطبة يقال خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا أي غالبني في الخطبة فغلبني حيث زوجها دوني وقرئ وعازني أي غالبني وعزني بتخفيف الزاي طالبا للخفة وهو تخفيف غريب كأنه قيس على ظلت ومست «قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه» جواب قسم محذوف قصد به عليه الصلاة والسلام المبالغة في انكار فعل صاحبه وتهجين طمعه في نعجة من ليس له غيرها مع ان له قطيعا منها ولعله عليه الصلاة والسلام قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما ادعاه عليه أو بناه على تقدير صدق المدعى والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة والضم «وإن كثيرا من الخلطاء» أي الشركاء الذين خلطوا أموالهم «ليبغي» ليتعدى وقرئ بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة وحذفها وبحذف الياء اكتفاء بالكسرة «بعضهم على بعض» غير مراع لحق الصحبة والشركة «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات» منهم فإنهم يتحامون عن البغي والعدوان «وقليل ما هم» أي وهم قليل وما مزيدة للابهام والتعجب من قلتهم والجملة اعتراض «وظن داود أنما فتناه» الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة الظاهرة أي علم بما جرى في مجلس الحكومة وقيل لما قضى بينهما ما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم عليه الصلاة والسلام انه تعالى ابتلاه وليس المعنى على تخصيص الفتنة به عليه الصلاة والسلام دون غيره بتوجيه القصر المستفاد من كلمة انما إلى المفعول بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الاستعمال الشائع الوارد على توجيه القصر إلى متعلقات الفعل وقيوده باعتبار النفي فيه والاثبات فيها كما في مثل قولك انما ضربت زيدا وانما ضربته تأديبا بل على تخصيص حاله عليه الصلاة والسلام بالفتنة بتوجيه القصر إلى نفس الفعل بالقياس إلى ما يغايره من الافعال لكن لا باعتبار النفي والاثبات معا في خصوصية الفعل فإنه غير ممكن قطعا بل باعتبار النفي فيما فيه من معنى مطلق الفعل واعتبار الاثبات فيما يقارنه من المعنى المخصوص فإن كل فعل من الافعال المخصوصة ينحل
221

عند التحقيق إلى معنى مطلق هو مدلول لفظ الفعل والى معنى مخصوص يقارنه ويقيده وهو اثره في الحقيقة فإن معنى نصر مثلا فعل النصر يرشدك إلى ذلك قولهم معنى فلان يعطى ويمنع يفعل الاعطاء والمنع فمورد القصر في الحقيقة ما يتعلق بالفعل باعتبار النفي فيه والاثبات فيما يتعلق به فالمعنى وعلم داود عليه السلام انما فعلنا به الفتنة لاغير قيل ابتليناه بامرأة أو ريا وقيل امتحناه بتلك الحكومة هل يتنبه بها لما قصد منها وايثار طريق التمثيل لأنه أبلغ في التوبيخ فإن التأمل فيه إذا أداه إلى الشعور بما هو الغرض كان أوقع في نفسه وأعظم تأثيرا في قلبه وادعى إلى التنبه للخطأ مع ما فيه من مراعاة حرمته عليه الصلاة والسلام بترك المجاهرة والاشعار بأنه امر يستحي من التصريح به وتصويره التحاكم لالجائه عليه الصلاة والسلام إلى التصريح بنسبة نفسه إلى الظلم وتنبيهه
عليه الصلاة والسلام على ان أوروبا بصدد الخصام «فاستغفر ربه» اثر ما علم ان ما صدر عنه ذنب «وخر راكعا» أي ساجدا على تسمية السجود ركوعا لأنه مبدؤه أو خر للسجود راكعا أي مصليا كأنه احرم بركعتي الاستغفار «وأناب» أي رجع إلى الله تعالى بالتوبة واصل القصة ان داود عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له أوريا فمال قلبه إليها فسأله ان يطلقها فاستحي ان يرده ففعل فتزوجها وهي أم سليمان عليه السلام وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين أمته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضا ان ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وقد كان الأنصار في صدر الاسلام يواسون المهاجرين بمثل ذلك من غير نكير خلا انه عليه الصلاة والسلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته وعلو شأنه نبه بالتمثيل على انه لم يكن ينبغي له ان يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ويسأل رجلا ليس له الا امرأة واحدة ان ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه بل كان يجب عليه ان يغالب هواه ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به وقيل لم يكن أوريا تزوجها بل كان خطبها ثم خطبها داود عليه السلام فآثره عليه السلام أهلها فكان ذنبه عليه الصلاة والسلام ان خطب على حطبة أخيه المسلم هذا واما ما يذكر من انه عليه الصلاة والسلام دخل ذات يوم محرابه وأغلق بابه وجعل يصلى ويقرأ الزبور فبينما هو كذلك إذ جاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب فمد يده ليأخذها لابن صغير له فطارت فامتد إليها فطارت فوقعت في كوة فتبعها
فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطى بدنها وهي امرأة أوريا وهو من غزاة البلقاء فكتب إلى أيوب بن صوريا وهو صاحب بعث البلقاء ان ابعث أوريا وقدمه على التابوت وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له ان يرجع حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد ففتح الله تعالى على يده وسلم فأمر برده مرة أخرى وثالثة حتى قتل واتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء وتزوج امرأته فإفك مبتدع مكروه ومكر مخترع بئسما مكروه تمجه الاسماع وتنفر عنه الطباع ويل لمن ابتدعه واشاعه وتبا لمن اخترعه وأذاعه ولذلك قال علي رضي الله عنه من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم هذا وقد قيل ان قوما قصدوا ان يقتلوه عليه الصلاة والسلام فتسوروا المحراب ودخلوا عليه فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بهذا التحاكم فعلم عليه الصلاة والسلام غرضهم فهم بأن ينتقم منهم فظن ان ذلك ابتلاء له من الله عز وجل فاستغفر ربه مما هم به وأناب
222

«فغفرنا له ذلك» أي ما استغفر منه وروى انه عليه الصلاة والسلام بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه الا الصلاة مكتوبة أو لما لا بد منه ولا يرقأ دمعه حتى نبت منه العشب إلى رأسه ولم يشرب ماء الا ثلثاه دمع وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له أيشا على ملكه ودعا إلى نفسه فاجتمع اليه أهل الزيغ من بني إسرائيل فلما غفر له حاربه فهزمه «وإن له عندنا لزلفى» لقرابة وكرامة بعد المغفرة «وحسن مآب» حسن مرجع في الجنة «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض» اما حكاية لما خوطب به عليه الصلاة والسلام مبينة لزلفاه عنده عز وجل واما مقول قول مقدر هو معطوف على غفرنا أو حال من فاعله أي وقلنا له أو قائلين له يا داود الخ أي استخلفناك على الملك فيها والحكم فيما بين أهلها أو جعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق وفيه دليل بين على ان حاله عليه الصلاة والسلام بعد التوبة كما كانت قبلها لم تتغير قط «فاحكم بين الناس بالحق» بحكم الله تعالى فإن الخلافة بكلا معنييه مقتضية له حتما «ولا تتبع الهوى» أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا «فيضلك عن سبيل الله» بالنصب على انه جواب النهي وقيل هو مجزوم بالعطف على النهي مفتوح لالتقاء الساكنين أي فيكون الهوى أو اتباعه سببا لضلالك عن دلائله التي نصها على الحق تكوينا وتشريعا وقوله تعالى «إن الذين يضلون عن سبيل الله» تعليل لما قبله ببيان غائلته واظهار سبيل الله في موقع الاضمار لزيادة التقرير والايذان بكمال شناعة الضلال عنه «لهم عذاب شديد» جملة من خبر ومبتدأ وقعت خبرا لان أو الظرف خبر لان وعذاب مرتفع على الفاعلية بما فيه من معنى الاستقرار «بما نسوا» بسبب نسيانهم وقوله تعالى «يوم الحساب» اما مفعول لنسوا فيكون تعليلا صريحا لثبوت العذاب الشديد لهم بنسيان يوم الحساب بعد الاشعار بعلية ما يستتبعه ويستلزمه اعني الضلال عن سبيل الله تعالى فإنه مستلزم لنسيان يوم الحساب بالمرة بل هذا فرد من افراده أو ظرف لقوله تعالى لهم أي لهم عذاب شديد يوم القيامة بسبب نسيانهم الذي هو عبارة عن ضلالهم ومن ضرورته ان يكون مفعوله سبيل الله فيكون التعليل المصرح به حينئذ عين التعليل المشعر به بالذات غيره بالعنوان ومن لم يتنبيه لهذا السر السرى قال بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن السبيل فإن تذكره يقتضى ملازمة الحق ومخالفة الهوى فتدبر «وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا» كلام مستأنف مقرر لما قبله
223

من امر البعث والحساب والجزاء أي وما خلقناهما وما بينهما من المخلوقات على هذا النظام البديع الذي تحار في فهمه العقول خلقا باطلا أي خاليا عن الغاية الجليلة والحكمة الباهرة بل منطويا على الحق المبين والحكم البالغة حيث خلقنا من بين ما خلقنا نفوسا أودعناها العقل والتمييز بين الحق والباطل والنافع والضار ومكناها من التصرفات العلمية والعملية في استجلاب منافعها واستدفاع مضارها ونصبنا للحق دلائل آفاقية وأنفسية ومنحناها القدرة على الاستشهاد بها ثم لم نقتصر على ذلك المقدار من الالطاف بل أرسلنا إليها رسلا وأنزلنا عليها كتابا بينا فيها كل دقيق وجليل وأزحنا عللها بالكلية وعرضناها بالتكليف للمنافع العظيمة وأعددنا لها عاقبة وجزاء على حسب اعمالها «ذلك» إشارة إلى ما نفي من خلق ما ذكر باطلا «ظن الذين كفروا» أي مظنونهم فإن جحودهم بأمر البعث والجزاء الذي عليه يدور فلك تكوين العالم قول منهم ببطلان خلق ما ذكر وخلوه عن الحكمة سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا «فويل للذين كفروا» مبتدأ وخبر والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل كما ان وضع الموصول موضع ضميرهم للاشعار بما في حيز الصلة بعلية كفرهم له ولا تنافي بينهما لان ظنهم من باب كفرهم ومن في قوله تعالى «من النار» تعليلية كما في قوله تعالى فويل لهم مما كتبت أيديهم ونظائره مفيدة لعلية النار لثبوت الويل لهم صريحا بعد الاشعار بعلية ما يؤدي إليها من ظنهم وكفرهم أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم «أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض» أم منقطعة وما فيها من بل للاضراب الانتقالي عن تقرير امر البعث والحساب والجزاء بما مر من نفي خلق العالم خاليا عن الحكم والمصالح إلى تقريره وتحقيقه بما في الهمزة من انكار التسوية بين الفريقين ونفيها على أبلغ وجه وآكده أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين في التمتع بالحياة الدنيا بل الكفرة أوفر حظا منها من المؤمنين لكن ذلك الجعل محال فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين ورد الآخرين إلى أسفل سافلين وقوله تعالى «أم نجعل المتقين كالفجار» اضراب وانتقال عن اثبات ما ذكر بلزوم المحال الذي هو التسوية بين الفريقين المذكورين على الاطلاق إلى اثباته بلزوم ما هو اظهر منه استحالة وهو التسوية بين أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يساعده المقام ويجوز ان يراد بهذين الفريقين عين الأولين ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين هما ادخل في انكار التسوية من الوصفين الأولين وقيل قال كفار قريش للمؤمنين انا نعطي في الآخرة من الخير ما تعطون فنزلت «كتاب» خبر مبتدأ محذوف هو عبارة عن القرآن أو السورة وقوله تعالى «أنزلناه إليك» صفته
224

وقوله تعالى «مبارك» خبر ثان للمبتدأ أو صفة لكتاب عند من يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح وقرئ مباركا على انه حال من مفعول أنزلنا ومعنى المبارك الكثير المنافع الدينية والدنيوية وقوله تعالى «ليدبروا آياته» متعلق بأنزلناه أي أنزلناه ليتفكروا في آياته التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن اسرار التكوين والتشريع فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من المعاني الفائقة والتأويلات اللائقة وقرئ ليتدبروا على الأصلي ولتدبروا على الخطاب أي أنت وعلماء أمتك بحذف احدى التاءين «
وليتذكر أولوا الألباب» أي وليتعظ به ذوو العقول السليمة أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته لما نصب عليه من الدلائل فإن الكتب الإلهية مبينة لما لا يعرف الا بالشرع ومرشدة إلى مالا سبيل للعقل اليه «ووهبنا لداود سليمان نعم العبد» وقرئ نعم العبد أي سليمان كما ينبئ عنه تأخيره عن داود مع كونه مفعولا صريحا لوهبنا ولان قوله تعالى «إنه أواب» أي رجاع إلى الله تعالى بالتوبة أو إلى التسبيح مرجع له تعليل للمدح وهو من حاله لما ان الضمير المجرور في قوله تعالى «إذ عرض عليه» راجع اليه عليه الصلاة والسلام قطعا وإذ منصوب باذكر أي اذكر ما صدر عنه إذ عرض عليه «بالعشي» هو من الظهر إلى آخر النهار «الصافنات» فإنه يشهد بأنه أواب وقيل ظرف لأواب وقيل لنعم وتأخير الصافنات عن الظرفين لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر والصافن من الخيل الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل وهو من الصفات المحمودة في الخيل لا يكاد ينفق الا في العراب الخلص وقيل هو الذي يجمع يديه ويسويهما واما الذي يقف على سنبكه فهو المنخيم «الجياد» جمع جواد وجود وهو الذي يسرع في جريه وقيل الذي يجود عند الركض وقيل وصفت بالصفون والجودة لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية أي إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها وقيل هو جمع جيد روى انه عليه الصلاة والسلام غزا أهل دمشق ونصيبين وأصاب الف فرس وقيل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه وقيل خرجت من البحر لها أجنحة فقعد يوما بعدما صلى الظهر على كرسيه فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن ورد كان له من الذكر وقتئذ وتهيبوه فلم يعلموه فاغتم لما فاته فاستردها فعقرها تقربا لله تعالى وبقى مائة فما في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها وقيل لما عقرها أبدله الله خيرا منها وهي الريح تجري بأمره «فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي» قاله عليه الصلاة والسلام عند غروب الشمس اعترافا بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة وندما عليه وتمهيدا لما يعقبه من الامر بردها وعقرها والتعقيب باعتبار أواخر العرض المستمر دون ابتدائه
225

والتأكيد للدلالة على ان اعترافه وندمه عن صميم القلب لا لتحقيق مضمون الخبر واصل أحببت ان يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت لكن لما أنيب مناب انبت عدى تعديته وحب الخير مفعوله كأنه قبل انبت حب الخير عن ذكر ربي ووضعته موضعه وخير المال الكثير والمراد به الخيل التي شغلته عليه الصلاة والسلام ويحتمل انه سماها خيرا لتعلق الخير بها قال صلى الله عليه وسلم الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة وقرئ اني «حتى توارت بالحجاب» متعلق بقوله أحببت باعتبار استمرار المحبة ودوامها حسب استمرار العرض أي انبت حب الخير عن ذكر ربي واستمر ذلك حتى توارت أي غربت الشمس تشبيها لغروبها في مغربها بتواري المخباة بحجابها واضمارها من غير ذكر لدلالة العشى عليها وقيل الضمير للصافنات أي حتى توارت بحجاب الليل أي بظلامه «ردوها علي» من تمام مقالة سليمان عليه السلام ومرمى غرضه من تقديم ما قدمه ومن لم يتنبه له مع ظهوره توهم انه متصل بمضمر هو جواب لمضمر آخر كأن سائلا قال فماذا قال سليمان عليه السلام فقيل قال ردها فتأمل والفاء في قوله تعالى «فطفق مسحا» فصيحة مفصحة عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وايذانا بغاية سرعة الامتثال بالامر أي فردوها عليه فأخذ يمسح السيف مسحا «بالسوق والأعناق» أي بسوقها وأعناقها يقطعها من قولهم مسح علاوته أي ضرب عنفه وقيل جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها حبا لها وإعجابا بها وليس بذاك وقرئ بالسؤق على همز الواو لضمتها كما في ادؤر وقرئ بالسؤوق تنزيلا لضمة السين منزلة ضمة الواو وقرئ بالساق اكتفاء بالواحد عن الجمع لأمن الالباس «ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب» اظهر ما قيل في فتنته عليه الصلاة والسلام ما روى مرفوعا انه قال لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس بجاهد في سبيل الله تعالى ولم يقل ان شاء الله تعالى فطاف عليهن فلم تحمل الا امرأة واحدة جاءت بشق رجل والذي نفسي بيده لو قال ان شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون وقيل ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله فعلم ذلك فكان يغذوه في السحاب فما شعر به إلى ان القي على كرسيه ميتا فتنبه لخطئه حيث لم يتوكل على الله عز وعلا وقيل انه غزا صيدون من الجزائر فقتل ملكها وأصاب بنتا له تسمى جرادة من أحسن الناس فاصطفاها لنفسه وأسلمت حبها وكان لا يرقا دمعها جزعا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدون لها كعادتهن في ملكه فأخبره آصف بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش له الرماد فجلس عليه تائبا إلى الله تعالى باكيا متضرعا وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة يعطيها خاتمة وكان ملكه فيه فأعطاها يوما فتمثل لها بصورته شيطان اسمه صخر واخذ الخاتم فتختم به وجلس على كرسيه فاجتمع عليه الخلق ونفذ حكمه في كل شيء الا في نسائه وغير سليمان
226

عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعرف ان الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال انا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ثم عمد إلى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على ذلك أربعين صباحا عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان ثم طار اللعين وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فوقعت في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به وخر ساجدا وعاد اليه ملكه وجاب صخرة لصخر فجعله فيها وسد عليه بأخرى ثم أوثقهما بالحديد والرصاص وقذفه في البحر وعلى هذا فالجسد عبارة عن صخر سمي به وهو جسم لا روح فيه لأنه تمثل بما لم يكن كذلك والخطيئة تغافله عليه الصلاة والسلام عن حال أهله لان اتخاذ التماثيل لم يكن محظورا حينئذ وسجود الصورة بغير علم منه لا يضره «قال» بدل من أناب وتفسير له «رب اغفر لي» أي ما صدر عني من الزلة «وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي» لا يتسهل له ولا يكون ليكون معجزة لي مناسبة لحالي فإنه عليه الصلاة والسلام لما نشأ في بيت الملك والنبوة وورثهما معا استدعى من ربه معجزة جامعة لحكمهما أولا ينبغي لاحد ان يسلبه مني بعد هذه السلبة أولا يصح لاحد من بعدي لعظمته كقولك لفلان ما ليس لاحد من الفضل والمال على إرادة وصف الملك بالعظمة لا ان لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة وقيل كان ملكا عظيما فخاف ان يعطى مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله تعالى وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين جريا على سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصالحين وكون ذلك ادخل في الإجابة وقرئ لي بفتح الياء «
إنك أنت الوهاب» تعليل للدعاء بالمغفرة والهبة معا لا بالأخيرة فقط فإن المغفرة أيضا من احكام وصف الوهابية قطعا «فسخرنا له الريح» أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته فعاد امره عليه الصلاة والسلام إلى ما كان عليه قبل الفتنة وقرئ الرياح «تجري بأمره» بيان لتسخيرها له «رخاء» أي لينة من الرخاوة طيبة لا تزعزع وقيل طيعة لا تمتنع عليه كالمأمور المنقاد «حيث أصاب» أي حيث قصد وأراد حكى الأصمعي عن العرب أصاب الصواب فأخطأ الجواب «والشياطين» عطف على الريح «كل بناء وغواص» بدل من الشياطين «وآخرين مقرنين في الأصفاد» عطف على كل بناء داخل في حكم البدل كأنه عليه الصلاة والسلام فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الاعمال الشاقة من البناء والغوص ونحو ذلك والى مردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل لكفهم عن الشر والفساد ولعل أجسامهم شفافة فلا ترى صلبة فيمكن تقييدها ويقدرون على
227

الاعمال الصعبة وقد جوز ان يكون الاقران في الأصفاد عبارة عن كفهم عن الشرور بطريق التمثيل والصفد القيد وسمي به العطاء لأنه يرتبط بالمنعم عليه وفرقوا بين فعليهما فقالوا صفده قيده وأصفده أعطاه على عكس وعد وأوعده وقوله تعالى «هذا» الخ اما حكاية لما خوطب به سليمان عليه السلام مبينة لعظم شأن ما أوتى من الملك وأنه مفوض إليه تفويضا كليا وإما مقول مقدر هو معطوف على سخرنا أو حال من فاعله كما مر في خاتمه قصة داود عليه السلام أي وقلنا له أو قائلين له هذا الامر الذي أعطيناكه من الملك العظيم والبسطة والتسلط على ما لم يسلط عليه غيرك «عطاؤنا» الخاص بك «فامنن أو أمسك» فاعط من شئت وامنع من شئت «بغير حساب» حال من المستكن في الامر أي غير محاسب على شئ منه وإمساكه لتفويض التصرف فيه إليك على الإطلاق أو من العطاء أي هذا عطاؤنا ملتبسا بغير حساب لغاية كثرته أو صلة له وما بينهما اعتراض على التقديرين وقيل الإشارة إلى تسخير الشياطين والمراد بالمن والامساك الاطلاق والتقييد «وإن له عندنا لزلفى» في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا «وحسن مآب» هو الجنة قيل فتن سليمان عليه السلام بعد ما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة وذكر الفقيه أبو حنيفة احمد بن داود الدينوري في تاريخه ان سليمان عليه السلام ورث ملك أبيه في عصر كيخسرو بن سياوش وسار من الشام إلى العراق فبلغ خبره كيخسرو فهرب إلى خراسان فلم يلبث حتى هلك ثم سار سليمان عليه السلام إلى مرو ثم إلى بلاد الترك فوغل فيها ثم جاز بلاد الصين ثم عطف إلى أن وافي بلاد فارس فنزلها أياما ثم عاد إلى الشام ثم أمر ببناء بيت المقدس فلما فرغ منه سار إلى تهامة ثم إلى صنعاء وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكر الله تعالى وغزا بلاد المغرب الأندلس وطنجة وغيرهما والله تعالى أعلم «واذكر عبدنا أيوب» عطف على اذكر عبدنا داود وعدم تصدير قصة سليمان بهذا العنوان لكمال الاتصال بينه وبين داود عليهما السلام وأيوب هو ابن عيص بن إسحاق عليه السلام «إذ نادى ربه» بدل اشتمال من عبدنا وأيوب عطف بيان له «إني» بأنى «مسني الشيطان» بفتح ياء مسني وقرئ بإسكانها وإسقاطها «بنصب» أي تعب وقرئ بفتح النون وبفتحتين وبضمتين للتثقيل «وعذاب» أي ألم ووصب يريد مرضه وما كان يقاسيه من فنون الشدائد وهو المراد بالضر في قوله أنى مسني الضر وهو حكاية لكلامه الذي ناداه به بعبارته وإلا لقيل إنه مسه الخ والاسناد إلى الشيطان إما لأنه تعالى مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثة مظلوم فلم يغثه أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه أو لامتحان صبره فيكون اعترافا بالذنب أو
228

مراعاة للأدب أو لأنه وسوس إلى اتباعه حتى رفضوه وأخرجوه من ديارهم أو لان المراد بالنصب ما كان يوسوس به اليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الكراهة والجزع فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق لدفعه ورده بالصبر الجميل وليس هذا تمام دعائه عليه الصلاة والسلام بل من جملته قوله وأنت ارحم الراحمين فاكتفى ههنا عن ذكره بما في سورة الأنبياء كما ترك هناك ذكر الشيطان ثقة بما ذكر ههنا وقوله تعالى «اركض برجلك» الخ إما حكاية لما قيل له أو مقول لقول مقدر معطوف على نادى أي فقلنا له اركض برجلك أي اضرب بها الأرض وكذا قوله تعالى «هذا مغتسل بارد وشراب» فإنه أيضا إما حكاية لما قيل له بعد امتثاله بالامر ونبوع الماء أو مقول لقول مقدر معطوف على مقدر ينساق اليه الكلام كأنه قيل فضربها فنبعت عين فقلنا له هذا مغتسل تغتسل به وتشرب منه فيبرأ ظاهرك وباطنك وقيل نبعت عينان حارة للاغتسال وباردة للشرب ويأباه ظاهر النظم الكريم وقوله تعالى «ووهبنا له أهله» معطوف على مقدر مترتب على مقدر آخر يقتضيه القول المقدر آنفا كأنه قيل فاغتسل وشرب فكشفنا بذلك ما به من ضر كما في سورة الأنبياء ووهبنا له أهله إما بإحيائهم بعد هلاكهم وهو المروى عن الحسن أو بجمعهم بعد تفرقهم كما قيل «ومثلهم معهم» عطف على أهله فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل «رحمة منا» أي لرحمة عظيمة عليه من قبلنا «وذكرى لأولي الألباب» ولتذكيرهم بذلك ليصبروا عل الشدائد كما صبر ويلجأوا إلى الله عز وجل فيما يحيق بهم كما لجأ ليفعل بهم ما فعل به من حسن العاقبة «وخذ بيدك ضغثا» معطوف على اركض أو على وهبنا بتقدير قلنا أي وقلنا خذ بيدك الخ والأول أقرب لفظا وهذا انسب معنى فإن الحاجة إلى هذا الامر لا تمس إلا بعد الصحة فإن امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف وقيل ليا بنت يعقوب وقيل ماصر بنت ميشا بن يوسف عليه السلام ذهبت لحاجة فأبطأت فحلف إن برئ ليضربنها مائة ضربة فأمره الله تعالى بأخذ الضغث والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش ونحوه وعن ابن عباس رضى الله عنهما قبضة من الشجر وقال «فاضرب به» أي بذلك الضغث «ولا تحنث» في يمينك فإن البر يتحقق به ولقد شرع الله سبحانه هذه الرخصة رحمة عليه وعليها الحسن خدمتها إياه ورضاه عنها وهي باقية ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة إما بأطرافها قائمة أو بأعراضها مبسوطة على هيئة الضرب «إنا وجدناه صابرا» فيما أصابه في النفس والأهل والمال وليس في شكواه إلى الله تعالى إخلال بذلك فإنه لا يسمى جزعا كتمنى العافية وطلب الشفاء على أنه قال ذلك خيفة الفتنة في الدين حيث كان الشيطان يوسوس إلى قومه
229

بأنه لو كان نبيا لما ابتلى بمثل ما ابتلى به وإرادة القوة على الطاعة فقد بلغ امره إلى ان لم يبق منه إلا القلب واللسان ويروى انه عليه السلام قال في مناجاته إلهي قد علمت انه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصرى ولم يهبنى ما ملكت يميني ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه «نعم العبد» أي أيوب «إنه أواب» تعليل لمدحه أي رجاع إلى الله تعالى «واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب» عطف بيان لعبادنا وقرئ عبدنا إما على ان
إبراهيم وحده لمزيد شرفه عطف بيان وقيل بدل وقيل نصب بإضمار أعنى والباقيان عطف على عبدنا وإما على أن عبدنا اسم جنس وضع موضع الجمع «أولي الأيدي والأبصار» أولى القوة في الطاعة والبصيرة في الدين أو أولى الاعمال الجليلة والعلوم الشريفة فعبر بالأيدي عن الاعمال لأن أكثرها تباشر بها وبالأبصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها وفيه تعريض بالجهلة البطالين انهم كالزمنى والعماة وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع تمكنهم منهما وقرئ أولى الأيد بطرح الياء والاكتفاء بالكسر وقرئ أولى الأيادى على جمع الجمع «إنا أخلصناهم بخالصة» تعليل لما وصفوا به من شرف العبودية وعلو الرتبة في العلم والعمل أي جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة عظيمة الشأن كما ينبئ عنه التنكير التفخيمى وقوله تعالى «ذكرى الدار» بيان للخالصة بعد إبهامها للتفخيم أي تذكر للدار الآخرة دائما فإن خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم لها وذلك لأن مطمح انظارهم ومطرح أفكارهم في كل ما يأتون وما يذرون جوار الله عز وجل والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا في الآخرة وقيل أخلصناهم بتوفيقهم لها واللطف بهم في اختيارها ويعضد الأول قراءة من قرأ بخالصتهم وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار في الحقيقة وإنما الدنيا معبر وقرئ بإضافة خالصة إلى ذكرى أي بما خلص من ذكرى الدار على معنى انهم لا يشوبون ذكراها بهم آخر أصلا أو تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها وتزهيدهم في الدنيا كما هو شان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل ذكرى الدار الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم «وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار» لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم في الخير والأخيار جمع خير كشر وأشرار وقيل جمع خير أو خير مخفف منه كأموات في جمع ميت وميت «واذكر إسماعيل» فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه للإشعار بعراقته في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير «واليسع» هو ابن خطوب بن العجوز استخلفه إلياس على بنى إسرائيل ثم استنبئ واللام فيه حرف تعريف دخل على يسع كما في قول من
230

قال رأيت الوليد بن اليزيد مباركا وقرئ واليسع كأنه أصله ليسع فيعل من اللسع دخل عليه حرف التعريف وقيل هو على القراءتين علم أعجمي دخل عليه اللام وقيل هو يوشع «وذا الكفل» هو ابن عم يسع أو بشر بن أيوب واختلف في نبوته ولقبه فقيل فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم وقيل كفل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة «وكل» أي وكلهم «من الأخيار» المشهور بن بالخبرية «هذا» إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسنهم «ذكر» أي شرف لهم وذكر جميل يذكرون به أبدا أو نوع من الذكر الذي هو القرآن وباب منه مشتمل على أنباء الأنبياء عليهم السلام وعن ابن عباس رضى الله عنهما هذا ذكر من مضى من الأنبياء وقوله تعالى «وإن للمتقين لحسن مآب» شروع في بيان أجرهم الجزيل في الآجل بعد بيان ذكرهم الجميل في العاجل وهو باب آخر من أبواب التنزيل والمراد بالمتقين إما الجنس وهم داخلون في الحكم دخولا أوليا وإما نفس المذكورين عبر عنهم بذلك مدحا لهم بالتقوى التي هي الغاية القاصية من الكمال «جنات عدن» عطف بيان لحسن مآب عند من يجوز تخالفهما تعريفها وتنكيرا فإن عدنا معرفة لقوله تعالى جنات عدن التي وعد الرحمن عباده أو بدل منه أو نصب على المدح وقوله تعالى «مفتحة لهم الأبواب» حال من جنات عدن والعامل فيها ما في للمتقين من معنى الفعل والأبواب مرتفعة باسم المفعول والرابط بين الحال وصاحبها إما ضمير مقدر كما هو رأى البصريين أي الأبواب منها أو الألف واللام القائمة مقامه كما هو رأى الكوفيين إذ الأصل أبوابها وقرئتا مرفوعتين على الابتداء والخبر أو على أنهما خبران لمحذوف أي هي جنات عدن هي مفتحة «متكئين فيها» حال من ضمير لهم والعامل فيها مفتحة وقوله تعالى «يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب» استئناف لبيان حالهم فيها وقيل هو أيضا حال مما ذكر أو من ضمير متكئين والاقتصار على دعاء الفاكهة للإيذان بان مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذى فإنه لتحصيل بدل المتحلل ولا تحلل ثمة «وعندهم قاصرات الطرف» أي على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم «أتراب» لدات لهم فإن التحاب بين الاقران أرسخ أو بعضهن لبعض لا عجوز فيهن ولا صبية واشتقاقه من التراب فإنه يمسهم في وقت واحد «هذا ما توعدون ليوم الحساب» أي لأجله فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء وقرئ بالياء ليوافق ما قبله
231

والالتفات أليق بمقام الامتنان والتكريم «إن هذا» أي ما ذكر من ألوان النعم والكرامات «لرزقنا» أعطيناكموه «ما له من نفاد» انقطاع ابدا «هذا» أي الامر هذا أو هذا كما ذكر أو هذا ذكر وقوله تعالى «وإن للطاغين لشر مآب» شروع في بيان اضداد الفريق السابق «جهنم» اعرابه كما سلف «يصلونها» أي يدخلونها حال من جهنم «فبئس المهاد» وهو المهد والمفرش مستعار من فراش النائم والمخصوص بالذم محذوف وهو جهنم لقوله تعالى لهم من جهنم مهاد «هذا فليذوقوه» أي ليذوقوا هذا فليذوقوه كقوله تعالى وإياي فارهبون أو العذاب هذا فليذوقوه أو هذا مبتدأ خبره «حميم وغساق» وما بينهما اعتراض وهو على الأولين خبر مبتدأ محذوف أي هو حميم والغساق ما يغسق من صديد أهل النار من غسقت العين إذا سال دمعها وقيل الحميم يحرق بحره والغساق يحرق ببرده وقيل لو قطرت منه قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب ولو قطرت قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق وقيل الغساق عذاب لا يعلمه الا الله تعالى وقرئ بتخفيف السين «وآخر من شكله» أي ومذوق آخر أو عذاب آخر من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة والفظاعة وقرئ واخر أي ومذوقات اخر أو أنواع عذاب اخر وتوحيد ضمير شكله بتأويل ما ذكر أو الشراب الشامل للحميم والغساق أو هو راجع إلى الغساق «أزواج» أي أجناس وهو خبر لاخر لأنه يجوز ان يكون ضروبا أو صفة له أو للثلاثة أو مرتفع بالجار والخبر محذوف مثل لهم «هذا فوج مقتحم معكم» حكاية ما يقال من جهة الخزنة لرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار واقتحمها معهم فوج كانوا يتبعونهم في الكفر والضلالة والاقتحام الدخول في الشيء بشدة قال الراغب الاقتحام توسط شدة مخيفة وقوله تعالى «لا مرحبا بهم» من اتمام كلام الخزنة بطريق الدعاء على الفوج أو صفة للفوج أو حال منه أي مقول أو مقولا في حقهم لا مرحبا بهم أي لا اتوا مرحبا أولا رحبت بهم الدار مرحبا «إنهم صالوا النار» تعليل من جهة الخزنة لاستحقاقهم الدعاء عليهم أو وصفهم بما ذكر وقيل لا مرحبا بهم إلى هنا كلام الرؤساء في حق اتباعهم عند خطاب الخزنة لهم باقتحام الفوج معهم تضجرا من مقارنتهم
232

وتنفرا من مصاحبتهم وقيل كل ذلك كلام الرؤساء بعضهم مع بعض في حق الأتباع «قالوا» أي الأتباع عند سماعهم ما قيل في حقهم ووجه خطابهم للرؤساء في قولهم «بل أنتم لا مرحبا بكم» الخ على الوجهين الأخيرين ظاهر واما على الوجه الأول فلعلهم انما خاطبوهم مع ان الظاهر ان يقولوا بطريق الاعتذار إلى الخزنة بل هم لا
مرحبا بهم الخ قصدا منهم إلى اظهار صدقهم بالمخاطبة مع الرؤساء والتحاكم إلى الخزنة طمعا في قضائهم بتخفيف عذابهم أو تضعيف عذاب خصمائهم أي بل أنتم أحق بما قيل لنا أو قلتم وقوله تعالى «أنتم قدمتموه لنا» تعليل لاحقيتهم بذلك أي أنتم قدمتم العذاب أو الصلى لنا وأوقعتمونا فيه بتقديم ما يؤدي اليه من العقائد الزائفة والاعمال السيئة وتزيينها في أعيننا وإغرائنا عليها لا أنا باشرناها من تلقاء أنفسنا «فبئس القرار» أي فبئس المقر جهنم قصدوا بذمها تغليظ جناية الرؤساء عليهم «وقالوا» أي الاتباع أيضا وتوسيطه بين كلاميهم لما بينهما من التباين البين ذاتا وخطابا أي قالوا معرضين عن خصومتهم متضرعين إلى الله تعالى «ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار» كقولهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار أي عذابا مضاعفا أي ذا ضعف وذلك بأن يزيد عليه مثله ويكون ضعفين كقوله ربنا آتهم ضعفين من العذاب أو قيل المراد بالضعف الحيات والأفاعي «وقالوا» أي الطاغون «ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار» يعنون فقراء المسلمين الذين كانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم «اتخذناهم سخريا» بهمزة استفهام سقطت لأجعلها همزة الوصل والجملة استئناف لا محل لها من الاعراب قالوه انكارا على أنفسهم وتأنيبا لها في الاستسخار منهم «أم زاغت عنهم الأبصار» متصل باتخذناهم على ان أم متصلة والمعنى أي الامرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم الازدراء بهم وتحقيرهم وان ابصارنا كانت تزيغ عنهم وتقتحمهم على معنى انكار كل واحد من الفعلين على أنفسهم توبيخا لها أو على انها منقطعة والمعنى اتخذناهم سخريا بل أزاغت عنهم ابصارنا كقولك أزيد عندك أم عندك عمرو على معنى توبيخ أنفسهم على الاستسخار ثم الاضراب والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء والتحقير وقرئ اتخذناهم بغير همزة على انه صفة أخرى لرجالا فقوله تعالى أم زاغت متصل بقوله مالنا لا نرى والمعنى مالنا لا نراهم في النار أليسوا فيها فلذلك لا نراهم أم زاغت عنهم ابصارنا وهم فيها وقد جوز ان تكون الهمزة مقدرة على هذه القراءة وقرئ سخريا بضم السين
233

«إن ذلك» أي الذي حكى من أحوالهم «الحق» لا بد من وقوعه البتة وقوله تعالى «تخاصم أهل النار» خبر مبتدأ محذوف والجملة بيان لذلك وفي الابهام أولا والتبيين ثانيا مزيد تقرير له وقيل بدل من محل ذلك وقيل بدل من حق أو عطف بيان له وقرئ بالنصب على انه بدل من ذلك وما قيل من انه صفة له فقد قيل عليه ان اسم الإشارة لا يوصف الا بالمعرف باللام يقال بهذا الرجل ولا يقال بهذا غلام الرجل «قل» امر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان يقول للمشركين «إنما أنا منذر» من جهته تعالى أنذركم عذابه «وما من إله» في الوجود «إلا الله الواحد» الذي لا يقبل الشركة والكثرة أصلا «القهار» لكل شيء سواه «رب السماوات والأرض وما بينهما» من المخلوقات فكيف يتوهم ان يكون له شريك منها «العزيز» الذي لا يغلب في امر من أموره «الغفار» المبالغ في المغفرة يغفر ما يشاء لمن يشاء وفي هذه النعوت من تقرير التوحيد والوعد للموحدين والوعيد للمشركين مالا يخفي وتثنية ما يشعر بالوعيد من وصفى القهر والعزة وتقديمهما على وصف المغفرة لتوفية مقام الانذار حقه «قل» تكرير الامر للايذان بأن المقول امر جليل له شأن خطير لابد من الاعتناء به امرا وائتمارا «هو» أي ما أنبأتكم به من اني منذر من جهته تعالى وانه تعالى واحد لا شريك له وانه متصف بما ذكر من الصفات الجليلة والأظهر انه القرآن وما ذكر داخل فيه دخولا أوليا كما يشهد به آخر السورة الكريمة وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة «نبأ عظيم» وارد من جهته تعالى وقوله تعالى «أنتم عنه معرضون» استئناف ناع عليهم سوء صنيعهم به ببيان انهم لا يقدرون قدره الجليل حيث يعرضون عنه مع عظمته وكونه موجبا للإقبال الكلي عليه وتلقيه بحسن القبول وقيل صفة أخرى لنبأ وقوله تعالى «ما كان لي من علم بالملإ الأعلى» الخ استئناف مسوق لتحقيق انه نبأ عظيم وارد من جهته تعالى بذكر نبأ من أنبائه على التفصيل من غير سابقة معرفة به ولا مباشرة سبب من أسبابها المعتادة فإن ذلك حجة بينة دالة على ان ذلك بطريق الوحي من عند الله تعالى وان سائر أنبائه أيضا كذلك والملا الأعلى هم الملائكة وآدم عليهم السلام وإبليس عليه اللعنة وقوله تعالى «إذ يختصمون» متعلق بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم
234

لا بذواتهم والتقدير ما كان لي فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحال الملأ الأعلى وقت اختصامهم وتقدير الكلام كما أختاره الجمهور تحجير للواسع فإن علمه عليه الصلاة والسلام غير مقصور على ما جرى بينهم من الأقوال فقط بل عام لها وللأفعال أيضا من سجود الملائكة واستكبار إبليس وكفره حسبما ينطلق به الوحي فلا بد من اعتبار العموم في نفيه أيضا لا محالة وقوله تعالى «إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين» اعتراض وسط بين إجمال اختصامهم وتفصيله تقريرا لثبوت علمه عليه الصلاة والسلام وتعيينا لسببه إلا أن بيان انتفائه فيما سبق لما كان منبئا عن ثبوته الآن ومن البين عدم ملابسته عليه الصلاة والسلام بشئ من مباديه المعهودة تعين انه ليس إلا بطريق الوحي حتما فجعل ذلك أمرا مسلم الثبوت غنيا عن الاخبار به قصدا وجعل مصب الفائدة والمقصود إخبار ما هو داع إلى الوحي ومصحح له تحقيقا لقوله تعالى إنما أنا منذر في ضمن تحقيق علمه عليه الصلاة والسلام بقصة الملأ الأعلى فالقائم مقام الفاعل ليوحي إما ضمير عائد إلى الحال المقدر أو ما يعمه وغيره فالمعنى ما يوحى إلى حال الملأ الأعلى أو ما يوحى إلى ما يوحى من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم إلا لأنما انا نذير مبين من جهته تعالى فإن كونه عليه الصلاة والسلام كذلك من دواعي الوحي إليه ومن موجباته حتما وأما ان القائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور أو هو إنما أنا نذير مبين بلا تقدير الجار وأن المعنى ما يوحى إلى إلا للإنذار أو ما يوحى إلى إلا ان انذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك كما قيل فمع ما فيه من الاضطرار إلى التكلف في توجيه قصر الوحي على كونه للإنذار في الأول وقصره على الانذار في الثاني فلا يساعده سباق النظم الكريم وسياقه كيف لا والاعتراض حينئذ يكون أجنبيا مما توسط بينهما من إجمال الاختصام وتفصيله فتأمل والله المرشد وقرئ إنما بالكسر على الحكاية وقوله تعالى «إذ قال ربك للملائكة» شروع في تفصيل ما أجمل من الاختصام الذي هو ما جرى بينهم من التقاول وحيث كان تكليمه تعالى إياهم بواسطة الملك صح إسناد الاختصام إلى الملائكة وإذ بدل من إذ الأولى وليس من ضرورة البدلية دخولها على نفس الاختصام بل يكفى اشتمال ما في حيزها عليه فإن القصة ناطقة بذلك تفصيلا والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه والإيذان بان وحى هذا النبأ إليه تربية وتأييد له عليه الصلاة والسلام والكاف وارد باعتبار حال الامر لكونه أدل على كونه وحيا منزلا من عنده تعالى كما في قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الخ دون حال
المأمور وإلا لقيل ربى لأنه داخل في حيز الامر «إني خالق» أي فيما سيأتي وفيه ما ليس في صيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل له البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه «بشرا» قيل أي جسما كثيفا يلاقى ويباشر وقيل خلقا بادي البشرة بلا صوف ولا شعر ولعل ما جرى عند وقوع المحكى ليس هذا الاسم الذي لم يخلق مسماه حينئذ فضلا عن تسميته به بل عبارة كاشفة عن حاله وإنما عبر عنه بهذا الاسم عند الحكاية «من طين» لم يتعرض
235

لأوصافه من التغير والاسوداد والمسنونية اكتفاء بما ذكر في مواقع أخر «فإذا سويته» أي صورته بالصورة الانسانية والخلقة البشرية أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طائعه «ونفخت فيه من روحي» النفخ إجراء الريح إلى تجويف جسم صالح لامساكها والامتلاء بها وليس ثمة نفخ ولا منفوخ وانما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها أي فإذا كملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح التي هي من أمري «فقعوا له» امر من وقع وفيه دليل على ان المأمور به ليس مجرد الانحناء كما قيل أي أسقطوا له «ساجدين» تحية له وتكريما «فسجد الملائكة» أي فخلفه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد له الملائكة «كلهم» بحيث لم يبق منهم أحد الا سجد «أجمعون» أي بطريق المعية بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيد التأكيد أيضا وقيل اكد بتأكيدين مبالغة في التعمم هذا واما ان سجودهم هذا هل ترتب على ما حكى من الامر التعليقي كما تقتضيه هذه الآية الكريمة والتي في سورة الحجر فإن ظاهرهما يستدعي ترتبه عليه من غير ان يتوسط بينهما شيء غير ما يفصح عنه الفاء الفصيحة من الخلق والتسوية ونفخ الروح أو على الامر التنجيزي كما يقتضيه ما في سورة البقرة وما في سورة الأعراف وما في سورة بني إسرائيل وما في سورة الكهف وما في سورة طه من الآيات الكريمة فقد مر تحقيقه بتوفيق الله عز وجل في سورة البقرة وسورة الأعراف «إلا إبليس» استثناء متصل لما انه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة موصوفا بصفاتهم فغلبوا عليه ثم استثنى استثناء واحد منهم أو لان الملائكة جنسا يتوالدون وهو منهم أو منقطع وقوله تعالى «استكبر» على الأول استئناف مبين لكيفية ترك السجود المفهوم من الاستثناء فإن تركه يحتمل ان يكون للتأمل والتروي وبه يتحقق انه للآباء والاستكبار وعلى الثاني يجوز اتصاله بما قبله أي لكن إبليس استكبر «وكان من الكافرين» أي وصار منهم بمخالفته للامر واستكباره عن الطاعة أو كان منهم في علم الله تعالى عز وجل «قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي» أي خلقته بالذات من غير توسط أب وأم والتثنية لابراز كمال الاعتناء بخلقه عليه الصلاة والسلام المستدعي لإجلاله واعظامه قصدا إلى تأكيد الانكار وتشديد التوبيخ «أستكبرت» بهمزة الانكار وطرح همزة الوصل أي أتكبرت من غير استحقاق «أم كنت من العالين» المستحقين للتفوق وقيل استكبرت الآن أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين وقرئ بحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة أم عليها
236

وقوله تعالى «قال أنا خير منه» ادعاء منه لشيء مستلزم لمنعه من السجود على زعمه واشعار بأنه لا يليق ان يسجد الفاضل للمفضول كما يعرب عنه قوله لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون وقوله تعالى «خلقتني من نار وخلقته من طين» تعليل لما ادعاه من فضله عليه الصلاة والسلام ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر وزل عنه ما من جهة الفاعل كما أنبأ عنه قوله تعالى لما خلقت بيدي وما من جهة الصورة كما نبه عليه قوله تعالى ونفخت فيه من روحي وما من جهة الغاية وهو ملاك الامر ولذلك امر الملائكة بسجوده عليهم السلام حين ظهر لهم انه اعلم منهم بما يدور عليه امر الخلافة في الأرض وان له خواص ليست لغيره «قال فأخرج منها» الفاء لترتيب الامر على ما ظهر من اللعين من المخالفة للامر الجليل وتعليلها بالأباطيل أي فأخرج من الجنة أو من زمرة الملائكة وهو المراد بالامر بالهبوط لا الهبوط من السماء كما قيل فإن وسوسته لآدم عليه السلام بعد هذا الطرد وقد بين كيفية وسوسته في سورة البقرة وقيل اخرج من الخلقة التي كنت فيها وانسلخ منها فإنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته فاسود بعد ما كان ابيض وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد ما كان نورانيا وقوله تعالى «فإنك رجيم» تعليل للامر بالخروج أي مطرود من كل خير وكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب «وإن عليك لعنتي» أي إبعادي عن الرحمة وتقييدها بالإضافة مع اطلاقها في قوله تعالى وان عليك اللعنة لما ان لعنة اللاعنين من الملائكة والثقلين أيضا من جهته تعالى وانهم يدعون عليه بلعنة الله تعالى وابعاده من الرحمة «إلى يوم الدين» أي يوم الجزاء والعقوبة وفيه ايذان بأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لجنايته بل هي أنموذج لما سيلقاه مستمرا إلى ذلك اليوم لكن لا على انها تنقطع يومئذ كما يوهمه ظاهر التوقيت بل على انه سيلقى يومئذ من ألوان العذاب وأفانين العقاب ما ينسى عنده اللعنة وتصير كالزائل الا يرى إلى قوله تعالى فأذن مؤذن بينهم ان لعنة الله على الظالمين وقوله تعالى ويلعن بعضهم بعضا «قال رب فأنظرني» أي أمهلني وأخرني والفاء متعلقة بمحذوف ينسحب عليه الكلام أي إذا جعلتني رجيما فأمهلني ولا تمتني «إلى يوم يبعثون» أي آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وأراد بذلك ان يجد فسحة لاغوائهم ويأخذ منهم ثأره وينجو من الموت بالكلية إذ لا موت بعد يوم البعث «قال فإنك من المنظرين» ورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله لآخرين على وجه يشعر
237

بكون السائل تبعا لهم في ذلك دليل واضح على انه اخبار بالانظار المقدر لهم أزلا لا انشاء لانظار خاص به قد وقع إجابة لدعائه وان استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه منهم لا لتأخير العقوبة كما قيل فإن ذلك معلوم من إضافة اليوم إلى الدين أي انك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين «إلى يوم الوقت المعلوم» الذي قدره الله وعينه لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول فالفاء ليست لربط نفس الانظار بالاستنظار بل لربط الاخبار المذكور به كما في قول من قال فإن ترحم فأنت لذاك أهل فإنه لا إمكان لجعل الفاء فيه لربط ماله تعالى من الأهلية القديمة للرحمة بوقوع الرحمة الحادثة بل هي لربط الاخبار بتلك الأهلية للرحمة بوقوعها هذا وقد ترك التوقيت في سورة الأعراف كما ترك النداء والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلا على ما ذكر ههنا وفي سورة الحجر وإن خطر ببالك أن كل وجه من وجوه النظم الكريم لا بد أن يكون له مقام يقتضيه مغاير لمقام غيره وان ما حكى من اللعين إنما صدر عنه مرة وكذا جوابه لم يقع إلا دفعه فمقام الاستنظار والإنظار إن اقتضى أحد الوجوه المحكية فذلك الوجه هو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى رتبة البلاغة ودرجة الاعجاز وأما ما عداه من الوجوه فهو بمعزل من بلوغ طبقة البلاغة فضلا عن العروج إلى معارج الاعجاز فقد سلف تحقيقه في سورة الأعراف بفضل الله تعالى وتوفيقه «قال فبعزتك» الباء
للقسم والفاء لترتيب مضمون الجملة على الإنظار ولا ينافيه قوله تعالى فبما أغويتني وقوله رب بما أغويتني فإن إغواءه تعالى إياه أثر من آثار قدرته تعالى وعزته وحكم من أحكام قهره وسلطنته فمآل الإقسام بهما واحد ولعل اللعين اقسم بهما جميعا فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر أي فأقسم بعزتك «لأغوينهم أجمعين» أي ذرية آدم بتزيين المعاصي لهم «إلا عبادك منهم المخلصين» وهم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم من الغواية وقرئ المخلصين على صيغة الفاعل أي الذين أخلصوا قلوبهم واعمالهم لله تعالى «قال» أي الله عز وجل «فالحق والحق أقول» برفع الأول على أنه مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدأ ونصب الثاني على أنه مفعول لما بعده قدم عليه للقصر أي لا أقول إلا الحق والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فالحق قسمي «لأملأن جهنم» على أن الحق إما اسمه تعالى
238

أو نقيض الباطل عظمه الله تعالى بإقسامه به أو فأنا الحق أو فقولي الحق وقوله تعالى لأملأن جهنم الخ حينئذ جواب لقسم محذوف أي والله لأملأن الخ وقوله تعالى والحق أقول على كل تقدير اعتراض مقرر على الوجهين الأولين لمضمون الجملة القسمية وعلى الوجه الثالث لمضمون الجملة المتقدمة أعنى فقولي الحق وقرئا منصوبين على أن الأول مقسم به كقولك الله لأفعلن وجوابه لأملأن وما بينهما اعتراض وقرئا مجرورين على ان الأول مقسم به قد اضمر حرف قسمه كقولك الله لأفعلن والحق أقول على حكاية لفظ المقسم به على تقدير كونه نقيض الباطل ومعناه التأكيد والتشديد وقرئ بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثاني عل المفعولية «منك» أي من جنسك من الشياطين «وممن تبعك» في الغواية والإضلال «منهم» ومن ذرية آدم «أجمعين» تأكيد للكاف وما عطف عليه أي لأملأنها من المتبوعين والاتباع أجمعين كقوله تعالى لمن اتبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين وهذا القول هو المراد بقوله تعالى ولكن حق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وحيث كان مناط الحكم ههنا اتباع الشيطان اتضح ان مدار عدم المشيئة في قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها اتباع الكفرة للشيطان بسوء اختيارهم لا تحقق القول فليس في ذلك شائبة الجبر فتدبر «قل ما أسألكم عليه» على القرآن أو على تبليغ ما يوحى إلى «من أجر» دنيوي «وما أنا من المتكلفين» أي المتصنعين مما ليسوا من أهله حتى أنتحل النبوة وأتقول القرآن «إن هو» أي ما هو «إلا ذكر» من الله عز وجل «للعالمين» أي للثقلين كافة «ولتعلمن نبأه» أي ما أنبأ به من الوعد والوعيد وغيرهما أو صحة خبره وأنه الحق والصدق «بعد حين» بعد الموت أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وفشوه وقيل من بقي علم ذلك إذا ظهر امره وعلا ومن مات علمه بعد الموت وفيه من التهديد ما لا يخفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات وعصم ان يصر على ذنب صغير أو كبير وقال أبو أمامة عصمه الله تعالى من كل ذنب صغير أو كبير والله أعلم
239

سورة الزمر مكية إلا قوله قل يا عبادي الآية وآياتها خمس وسبعون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «تنزيل الكتاب» خبر لمبتدأ محذوف هو اسم إشارة أشير به إلى السورة تنزيلا لها منزلة الحاضر المشار إليه لكونها على شرف الذكر والحضور كما مر مرارا وقد قيل هو ضمير عائد إلى الذكر في قوله تعالى إن هو إلا ذكر للعالمين وقوله تعالى «من الله العزيز الحكيم» صلة للتنزيل أو خبر ثان أو حال من التنزيل عاملها معنى الإشارة أو من الكتاب الذي هو مفعول معنى عاملها المضاف وقيل هو خبر لتنزيل الكتاب والوجه الأول أو في بمقتضى المقام الذي هو بيان ان السورة أو القرآن تنزيل الكتاب من الله تعالى لا بيان أن تنزيل الكتاب منه تعالى لا من غيره كما يفيده الوجه الأخير وقرئ تنزيل الكتاب بالنصب على إضمار فعل نحو أقرأ أو الزم والتعرض لو صفى العزة والحكمة للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب بحريان أحكامه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مدافع ولا ممانع وبابتناء جميع ما فيه على أساس الحكم الباهرة وقوله تعالى «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق» شروع في بيان شأن المنزل إليه وما يجب عليه أثر بيان شأن المنزل وكونه من عند الله تعالى والمراد بالكتاب هو القرآن وإظهاره على تقدير كونه هو المراد بالأول أيضا لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه والباء إما متعلقة بالإنزال أي بسبب الحق وإثباته وإظهاره أو بداعية الحق واقتضائه للإنزال وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة أو من الكتاب أي أنزلناه إليك محقين في ذلك أو أنزلناه ملتبسا بالحق والصواب أي كل ما فيه حق لا ريب فيه موجب للعمل به حتما والفاء في قوله تعالى «فاعبد الله مخلصا له الدين» لترتيب الأمر بالعبادة على إنزال الكتاب إليه عليه الصلاة والسلام بالحق أي فاعبده تعالى ممحضا له الدين من شوائب الشرك والرياء حسبما بين في تضاعيف ما أنزل إليك وقرئ برفع الدين على أنه مبتدأ خبره الظرف المقدم عليه لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام والجملة استئناف وقع تعليلا للأمر بإخلاص العبادة وقوله تعالى «ألا لله الدين الخالص»
240

استئناف مقرر لما قبله من الامر بإخلاص الدين له تعالى ووجوب الامتثال به وعلى القراءة الأخيرة مؤكد لاختصاص الدين به تعالى أي ألا هو الذي يجب ان يخص بإخلاص الطاعة له لأنه المتفرد بصفات الألوهية التي من جملها الاطلاع على السرائر والضمائر وقوله تعالى «والذين اتخذوا من دونه أولياء» تحقيق لحقية ما ذكر من إخلاص الدين الذي هو عبارة عن التوحيد ببيان بطلان الشرك الذي هو عبارة عن ترك إخلاصه والموصول عبارة عن المشركين ومحله الرفع على الابتداء خبره مما سيأتي من الجملة المصدرة بأن والأولياء عن الملائكة وعيسى عليهم السلام والأصنام وقوله تعالى «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» حال بتقدير القول من واو اتخذوا مبينة لكيفية إشراكهم وعدم خلوص دينهم والاستثناء مفرغ من أعم العلل وزلفى مصدر مؤكد على غير لفظ المصدر ملاق له في المعنى أي والذين لم يخلصوا العبادة لله تعالى بل شابوها بعبادة غيره قائلين ما نعبدهم لشئ من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريبا «إن الله يحكم بينهم» أي وبين خصمائهم الذين هم المخلصون للدين وقد حذف لدلالة الحال عليه كما في قوله تعالى لا نفرق بين أحد من رسله على أحد الوجهين أي بين أحد منهم وبين غيره وعليه قول النابغة
[فما كان بين لخير لو جاء سالما * أبو حجر إلا ليال قلائل]
أي بين الخير وبينى وقيل ضمير بينهم للفريقين جميعا «فيما هم فيه يختلفون» من الدين الذي اختلفوا فيه بالتوحيد والإشراك وادعى كل فريق منهم صحة ما انتحله وحكمه تعالى في ذلك إدخال الموحدين الجنة والمشركين النار فالضمير للفريقين هذا هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم وأما تجويز أن يكون الموصول عبارة عن
المعبودين على حذف العائد إليه وإضمار المشركين من غير ذكر تعويلا على دلالة المساق عليهم ويكون التقدير والذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله إن الله يحكم بينهم أي بين العبدة والمعبودين فيما هم فيه يختلفون حيث يرجو العبدة شفاعتهم وهم يلعنونهم فبعد الإغضاء عما فيه من التعسفات بمعزل من السداد كيف لا وليس فيما ذكر من طلب الشفاعة واللعن مادة يختلف فيها الفريقان اختلافا محوجا إلى الحكم والفصل وإنما ذاك ما بين فريقى الموحدين والمشركين في الدنيا من الاختلاف في الدين الباقي إلى يوم القيامة وقرئ قالوا ما نعبدهم فهو بدل من الصلة لا خبر للموصول كما قيل إذ ليس في الإخبار بذلك مزيد مزية وقرئ ما نعبدكم إلا لتقربونا حكاية لما خاطبوا به آلهتهم وقرئ نعبدهم اتباعا للباء «إن الله لا يهدي» أي لا يوفق للاهتداء إلى الحق الذي هو طريق النجاة عن المكروه والفوز بالمطلوب «من هو كاذب كفار» أي راسخ في الكذب مبالغ في الكفر كما يعرب عنه قراءة كذاب وكذوب فإنهما فاقدان للبصيرة غير قابلين للاهتداء لتغييرهما الفطرة الأصلية بالتمرن في الضلالة والتمادي في الغى والجملة تعليل لما ذكر من حكمه تعالى «لو أراد الله أن يتخذ ولدا» الخ استئناف مسوق لتحقيق الحق وإبطال القول بأن الملائكة بنات الله عيسى ابنه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه تعالى على الإطلاق ليندرج فيه استحالة
241

ما قبل اندراجا أوليا أي لو أراد الله أن يتخذ ولدا «لاصطفى» أي لاتخذ «مما يخلق» أي من جملة ما يخلقه أو من جنس ما يخلقه «ما يشاء» أن يتخذه إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له تعالى لامتناع تعدد الواجب ووجوب استناد جميع ما عداه إليه ومن البين أن اتخاذ الولد منوط بالمماثلة بين المتخذ والمتخذ وأن المخلوق لا يماثل خالقه حتى يمكن اتخاذه ولدا فما فرضناه اتخاذ ولد لم يكن اتخاذ ولد بل اصطفاء عبد وإليه أشير حيث وضع الاصطفاء موضع الاتخاذ الذي تقتضيه الشرطية تنبيها على استحالة مقدمها لاستلزم فرض وقوعه بل فرض أراد وقوعه انتفاءه أي لو أراد الله تعالى أن يتخذ ولدا لفعل شيئا ليس هو من اتخاذ الولد في شئ أصلا بل إنما هو اصطفاء عبد ولا ريب في أن ما يستلزم فرض وقوعه انتفاءه فهو ممتنع قطعا فكأنه قيل لو أراد الله أن يتخذ ولدا لامتنع ولم يصح لكن لاعلى أن الامتناع منوط بتحقق الإرادة بل على أنه متحقق عند عدمها بطريق الأولوية على منوال لو لم يخف الله لم يعصه وقوله تعالى «سبحانه» تقرير لما ذكر من استحالة اتخاذ الولد في حقه تعالى وتأكيد له ببيان تنزهه تعالى عنه أي تنزه بالذات عن ذلك تنزهه الخاص به على أن السبحان مصدر من سبح إذا بعد أو أسبحه تسبيحا لائقا به على أنه علم للتسبيح مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحا حقيقا بشأنه وقوله تعالى «هو الله الواحد القهار» استئناف مبين لتنزهه تعالى بحسب الصفات إثر بيان تنزهه تعالى عنه بحسب الذات فإن صفة الألوهية المستتبعة لسائر صفات الكمال النافية لسمات النقصان والوحدة الذاتية الموجبة لامتناع المماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيره على الإطلاق مما يقضى بتنزهه تعالى عما قالوا قضاء متقنا وكذا وصف القهارية لما أن اتخاذ الولد شأن من يكون تحت ملكوت الغير عرضة للفناء ليقوم ولده مقامه عند فنائه ومن هو مستحيل الفناء قهار لكل الكائنات كيف يتصور أن يتخذ من الأشياء الفانية ما يقوم مقامه وقوله تعالى «خلق السماوات والأرض بالحق» تفصيل لبعض أفعاله تعالى الدالة على تفرده بما ذكر من الصفات الجليلة أي خلقهما وما بينهما من الموجودات ملتبسة بالحق والصواب مشتملة عل الحكم والمصالح وقوله تعالى «يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل» بيان لكيفية تصرفه تعالى فيهما بعد بيان خلقهما فإن حدوث الليل والنهار في الأرض منوط بتحريك السماوات أي يغشى كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه لف اللباس على اللابس أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفافة أو يجعله كارا عليه كرورا متتابعا تتابع أكوار العمامة وصيغة المضارع للدلالة على التجدد «وسخر الشمس والقمر» جعلهما منقادين لأمره تعالى وقوله تعالى «كل يجري لأجل مسمى» بيان لكيفية تسخيرهما أي كل منهما يجرى لمنتهى دورته أو منقطع حركته وقد مر تفصيله غير مرة «إلا هو العزيز» الغالب القادر على كل شئ من الأشياء التي من جملتها عقاب العصاة «الغفار» المبالغ في المغفرة ولذلك لا يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع البديعة من آثار الرحمة وتصدير
242

الجملة بحرف التنبيه لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها «خلقكم من نفس واحدة» بيان لبعض آخر من أفعاله الدالة على ما ذكر وترك عطفه على خلق السماوات للإيذان باستقلاله في الدلالة ولتعلقه بالعالم السفلى والبداءة بخلق الإنسان لعراقته في الدلالة لما فيه من تعاجيب آثار القدرة وأسرار الحكمة وأصالته في المعرفة فإن الانسان بحال نفسه أعرف والمراد بالنفس نفس آدم عليه السلام وقوله «ثم جعل منها زوجها» عطف على محذوف هو صفة لنفس أي من نفس خلقها ثم جعل منها زوجها أو على معنى واحدة أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها أو على خلقكم لتفاوت ما بينهما في الدلالة فإنهما وإن كانتا آيتين دالتين على ما ذكر لكن الأولى لاستمرارها صارت معتادة وأما الثانية فحيث لم تكن معتادة خارجة عن قياس الأولى كما يشعر به التعبير عنها بالجعل دون الخلق كانت أدخل في كونها آية وأجلب للتعجب من السامع فعطفت على الأولى بثم دلالة على مباينتها لها فضلا ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهو من التراخي في الحال والمنزلة وقيل أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق منه حواء ففيه ثلاث آيات مترتبة خلق آدم عليه السلام بلا أب وأم وخلق حواء من قصيراه ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما وقوله تعالى «وأنزل لكم» بيان لبعض آخر من أفعاله الدالة على ما ذكر أي قضى أو قسم لكم فإن قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث تكتب في اللوح المحفوظ أو أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء كالأمطار وأشعة الكواكب «من الأنعام ثمانية أزواج» ذكرا وأنثى هي الإبل والبقر والضأن والمعز وقيل خلقها في الجنة ثم أنزلها وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر فإن كون الانزال لمنافعهم وكونه من الجهة العالية من الأمور المهمة المشوفة إلى ما أنزل لا محالة وقوله تعالى «يخلقكم في بطون أمهاتكم» استئناف مسوق لبيان كيفية خلقهم وأطواره المختلفة الدالة على القدرة الباهرة وصيغة المضارع الدلالة على التدرج والتجدد وقوله تعالى «خلقا من بعد خلق» مصدر مؤكد أي يخلقكم فيها خلقا كائنا من بعد خلق أي خلقا مدرجا حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضع مخلقة من بعد مضغ غير مخلقة من بعد علقه من بعد نطفة «في ظلمات ثلاث» متعلق بيخلقكم وهي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة أو ظلمة الصلب والبطن والرحم «ذلكم» إشارة إليه تعالى باعتبار أفعاله المذكورة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته تعالى في العظمة والكبرياء ومحله الرفع
على الابتداء أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله «الله» وقوله تعالى «ربكم» خبرا آخر أي مرببكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها ومالككم المستحق لتخصيص العبادة به «له الملك» على الاطلاق في الدنيا والآخرة ليس لغيره شركة في ذلك بوجه
243

من الوجوه والجملة خبر آخر وكذا قوله تعالى «لا إله إلا هو» والفاء في قوله تعالى «فأنى تصرفون» لترتيب ما بعدها على ما ذكر من شؤونه تعالى أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره من غير داع إليها مع كثرة الصوارف عنها «إن تكفروا» به تعالى بعد مشاهدة ما ذكر من فنون نعمائه ومعرفة شؤونه العظيمة الموجبة للايمان والشكر «فإن الله غني عنكم» أي فاعلموا أنه تعالى غنى عن إيمانكم وشكركم غير متأثر من انتفائهما «ولا يرضى لعباده الكفر» أي عدم رضاه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرتهم رحمة عليهم لا لتضرره تعالى به «وإن تشكروا يرضه لكم» أي يرض الشكر لأجلكم ومنفعتكم لأنه سبب لفوزكم بسعادة الدارين لا لانتفاعه تعالى به وإنما قيل لعباده لا لكم لتعميم الحكم وتعليله بكونهم عباده تعالى وقرئ بإسكان الهاء «ولا تزر وازرة وزر أخرى» بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره أصلا أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى «ثم إلى ربكم مرجعكم» بالبعث بعد الموت «فينبئكم» عند ذلك «بما كنتم تعملون» أي كنتم تعملونه في الدنيا من اعمال الكفر والايمان أي يجازيكم بذلك ثوابا وعقابا «إنه عليم بذات الصدور» أي بمضمرات القلوب فكيف بالاعمال الظاهرة وهو تعليل للتنبئة «وإذا مس الإنسان ضر» من مرض وغيره «دعا ربه منيبا إليه» راجعا إليه مما كان يدعوه في حالة الرخاء لعلمه بأنه بمعزل من القدرة على كشف ضره وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده كقوله تعالى إن الانسان لظلوم كفار «ثم إذا خوله نعمة منه» أي أعطاه نعمة عظيمة من جنابه تعالى من التخول وهو التعهد أي جعله خائل مال من قولهم فلان خائل مال إذا كان متعهدا له حسن القيام به أو من الخول وهو الافتخار أي جعله يخول أي يختال ويفتخر «نسي ما كان يدعو إليه» أي نسي الضر الذي كان يدعو الله تعالى فيما سبق إلى كشفه «من قبل» أي من قبل التخويل أو نسي ربه الذي كان يدعوه ويتضرع إليه إما بناء على أن ما بمعنى من كما في قوله تعالى وما خلق الذكر والأنثى وقوله تعالى ولا أنتم عابدون ما أعبد وإما إيذانا بأن نسيانه بلغ إلى حيث لا يعرف مدعوه ما هو فضلا عن أن يعرفه من هو كما مر في قوله تعالى عما أرضعت «وجعل لله أندادا» شركاء في العبادة «ليضل» الناس بذلك «عن سبيله» الذي هو التوحيد وقرئ ليضل بفتح الياء أي يزداد ضلالا أو يثبت عليه وإلا فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور واللام لام العاقبة كما في قوله تعالى
244

فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا خلا أن هذا أقرب إلى الحقيقة لأن الجاعل ههنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال وإن لم يعرف لجهله انهما إضلال وضلال وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلا «قل» تهديدا لذلك الضال المضل وبيانا لحاله ومآله «تمتع بكفرك قليلا» أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا «إنك من أصحاب النار» أي من ملازميها والمعذبين فيها على الدوام وهو تعليل لقلة التمتع وفيه من الإقناط من النجاة ما لا يخفى كأنه قيل إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الايمان والطاعة فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته «أم من هو قانت آناء الليل» الخ من تمام الكلام المأمور به وأم إما متصلة قد حذف معاد لها ثقة بدلالة مساق الكلام عليه كأنه قيل له تأكيدا للتهديد وتهكما به أأنت أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بمواجب الطاعات ودائم على أداء وظائف العبادات في ساعات الليل حالتي السراء والضراء لا عند مساس الضر فقط كدأبك حال كونه «ساجدا وقائما» أي جامعا بين الوصفين المحمودين وتقديم السجود على القيام لكونه ادخل في معنى العبادة وقرئ كلاهما بالرفع على انه خبر بعد خبر «يحذر الآخرة» حال أخرى على الترادف أو التداخل أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية حاله من القنوت والسجود والقيام كأنه قيل ما باله يفعل ذلك فقيل يحذر عذاب الآخرة «ويرجو رحمة ربه» فينجو بذلك مما يحذره ويفوز بما يرجوه كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضمير الراجي لا أنه يحذر ضر الدنيا ويرجو خيرها فقط وإما منقطعة وما فيها من الإضراب للانتقال من التهديد إلى التبكيت بتكليف الجواب الملجئ إلى الاعتراف بما بينهما من التباين البين كأنه قيل بل أم من هو قانت الخ أفضل أم من هو كافر مثلك كما هو المعنى على قراءة التخفيف «قل» بيانا للحق وتنبيها على شرف العلم والعمل «هل يستوي الذين يعلمون» حقائق الأحوال فيعملون بموجب علمهم كالقانت المذكور «والذين لا يعلمون» أي ما ذكر أو شيئا فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم كدأبك والاستفهام للتنبيه على أن كون الأولين في أعلى معارج الخير وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد من منصف ومكابر وقيل هو وارد على سبيل التشبيه أي كما لا يستوى العالمون والجاهلون لا يستوى القانتون والعاصون وقوله تعالى «إنما يتذكر أولوا الألباب» كلام مستقل غير داخل في الكلام المأمور به وارد من جهته تعالى بعد الامر بما ذكر من القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم كما في قول من قال
[عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار * ماذا تحيون من نوى وأحجار]
أي إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وهؤلاء بمعزل من ذلك وقرئ إنما يذكر بالإدغام
245

«قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم» امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتذكير المؤمنين وحملهم على التقوى والطاعة إثر تخصيص التذكر بأولى الألباب إيذانا بأنهم هم كما سيصرح به أي قل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به فإن نقل عين امر الله ادخل في إيجاب الامتثال به وقوله تعالى «للذين أحسنوا» تعليل للامر أو لوجوب الامتثال به وإيراد الإحسان في حيز الصلة دون التقوى للإيذان بأنه من باب الإحسان وأنهما متلازمان وكذا الصبر كما مر في قوله تعالى إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وفي قوله تعالى إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقوله تعالى «في هذه الدنيا» متعلق بأحسنوا أي عملوا الاعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الاخلاص وهو الذي عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الاحسان بقوله صلى الله عليه وسلم أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك «حسنة» أي حسنة عظيمة لا يكتنه كنهها وهي الجنة وقيل هو متعلق بحسنة على انه بيان لمكانها أو حال من
ضميرها في الظرف فالمراد بها حينئذ الصحة والعافية «وأرض الله واسعة» فمن تعسر عليه التوفر على التقوى والاحسان في وطنه فليهاجر إلى حيث يتمكن فيه من ذلك كما هو سنة الأنبياء والصالحين فإنه لا عذر له في التفريط أصلا وقوله تعالى «إنما يوفى الصابرون» الخ ترغيب في التقوى المأمور بها وإيثار الصابرين على المتقين للإيذان بأنهم حائزون لفضيلة الصبر كحيازتهم لفضيلة الإحسان لما أشير إليه من استلزام التقوى لهما مع ما فيه من زيادة حث على المصابرة والمجاهدة في تحمل مشاق المهاجرة ومتاعبها أي إنما يوفى الذين صبروا على دينهم وحافظوا على حدوده ولم يفرطوا في مراعاة حقوقه لما اعتراهم في ذلك من فنون الآلام والبلايا التي من جملتها مهاجرة الأهل ومفارقة الأوطان «أجرهم» بمقابلة ما كابدوا من الصبر «بغير حساب» أي بحيث لا يحصى ولا يحصر عن ابن عباس رضى الله عنهما لا يهتدى إليه حساب الحساب ولا يعرف وفي الحديث انه تنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيؤتون بها أجورهم ولا تنصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صبا حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل «قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين» أي من كل ما ينافيه من الشرك والرياء وغير ذلك امر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان ما أمر به نفسه من الإخلاص في عبادة الله الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى مبالغة في حثهم على الإتيان بما كلفوه وتمهيدا لما يعقبه مما خوطب به المشركون «وأمرت لأن أكون أول المسلمين» أي وأمرت بذلك لأجل ان أكون مقدمهم
246

في الدنيا والآخرة لان إحراز قصب السبق في الدين بالإخلاص فيه والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقيده بالعلة والاشعار بأن العبادة المذكورة كما تقتضي الامر بها لذاتها تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين ويجوز ان تجعل اللام مزيدة كما في أردت لان أقوم بدليل قوله تعالى أمرت ان أكون أول من اسلم فالمعنى وأمرت ان أكون أول من اسلم من أهل زماني أو من قومي أو أكون أول من دعا غيره إلى ما دعا اليه نفسه «قل إني أخاف إن عصيت ربي» يترك الاخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك «عذاب يوم عظيم» هو يوم القيامة وصف بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال «قل الله أعبد» لا غيره لا استقلالا ولا اشتراكا «مخلصا له ديني» من كل شوب امر صلى الله عليه وسلم أولا ببيان كونه مأمورا بعبادة الله تعالى واخلاص الدين له ثم بالاخبار بخوفه من العذاب على تقدير العصيان ثم بالاخبار بامتثاله بالامر على أبلغ وجه وآكده اظهارا لتصلبه في الدين وحسما لأطماعهم الفارغة وتمهيدا لتهديدهم بقوله تعالى «فاعبدوا ما شئتم» ان تعبدوه «من دونه» تعالى وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم مالا يخفي كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كي يحل بهم العقاب «قل إن الخاسرين» أي الكاملين في الخسران الذي هو عبارة عن إضاعة ما يهمه واتلاف مالا بد منه «الذين خسروا أنفسهم وأهليهم» باختيارهم الكفر لهما أي أضاعوهما وأتلفوهما «يوم القيامة» حين يدخلون النار حيث عرضوهما للعذاب السرمدي وأوقعوهما في هلكة لا هلكة وراءها وقيل خسروا أهليهم لأنهم ان كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وان كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا إياب بعده وفيه ان المحذور ذهاب ما لو آب لانتفع به الخاسر وذلك غير متصور في الشق الأخير وقيل خسروهم لأنهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم في أهل الجنة وخسروا أهليهم الذين كانوا يتمتعون بهم لو آمنوا وأيا ما كان فليس المراد مجرد تعريف الكاملين في الخسران بما نذكر بل بيان انهم هم إما نجعل الموصول عبارة عنهم أو عما هم مندرجون فيه اندراجا أوليا وما في قوله تعالى «ألا ذلك هو الخسران المبين» من استئناف الجملة وتصديرها بحرف التنبيه والإشارة بذلك إلى بعد منزلة المشار اليه في الشر وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هو له وفظاعته وانه لا خسران وراءه مالا يخفي وقوله تعالى «لهم من فوقهم
247

ظلل من النار» الخ نوع بيان لخسرانهم بعد تهويله بطريق الابهام على ان لهم خبر لظلل ومن فوقهم متعلق بمحذوف قيل هو حال من ظلل والأظهر انه حال من الضمير في الظرف المقدم ومن النار صفة لظلل أي لهم كائنة من فوقهم ظلل كثيرة متراكبة بعضها فوق بعض كائنة من النار «ومن تحتهم» أيضا «ظلل» أي اطباق كثيرة بعضها تحت بعض ظلل لآخرين بل لهم أيضا عند ترديهم في دركاتها «ذلك» العذاب الفظيع هو الذي «يخوف الله به عباده» ويحذرهم إياه بآيات الوعيد ليجتنبوا ما يوقعهم فيه «يا عباد فاتقون» ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي وهذه عظة من الله تعالى بالغة منطوية على غاية اللطف والمرحمة وقرئ يا عبادي «والذين اجتنبوا الطاغوت» أي البالغ أقصى غاية الطغيان فعلوت منه بتقديم اللام على العين بني للمبالغة في المصدر كالرحموت والعظموت ثم وصف به للمبالغة في النعت والمراد به هو الشيطان «أن يعبدوها» بدل اشتمال منه فأن عبادة غير الله تعالى عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها والمزين لها «وأنابوا إلى الله» واقبلوا اليه معرضين عما سواه اقبالا كليا «لهم البشرى» بالثواب على السنة الرسل أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون وبعد ذلك «فبشر عباد» «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه» هم الموصوفون بالاجتناب والإنابة بأعيانهم لكن وضع موضع ضميرهم الظاهر تشريفا لهم بالإضافة ودلالة على ان مدار اتصافهم بالوصفين الجليلين كونهم نقادا في الدين يميزون الحق من الباطل ويؤثرون الأفضل فالأفضل «أولئك» إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجليلة وما فيه من معنى البعد للايذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل ومحله الرفع على الابتداء خبره ما بعده من الموصول أي أولئك المنعوتون بالمحاسن الجميلة «الذين هداهم الله» للذين الحق «وأولئك هم أولوا الألباب» أي هم أصحاب العقول السليمة عن معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم وفيه دلالة على ان الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها «أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار» بيان الأحوال أضداد المذكورين على طريقة الاجمال وتسجيل عليهم بحرمان الهداية وهم عبدة الطاغوت ومتبعو خطواتها كما يلوح به التعبير عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإن المراد بها قوله تعالى لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقوله تعالى لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين واصل الكلام امن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه على انها شرطية دخل عليها الهمزة لانكار مضمونها ثم الفاء لعطفها على جملة مستتبعة لها مقدرة بعد الهمزة ليتعلق الانكار والنفي بمضمونيهما
248

معا أي أأنت مالك امر الناس فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه ثم كررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الانكار وتذكيره لما طال الكلام ثم وضع موضع الضمير من في
النار لمزيد تشديد الانكار والاستبعاد والتنبيه على ان المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار وان اجتهاده صلى الله عليه وسلم في دعائهم إلى الايمان سعى في إنقاذهم من النار ويجوز ان يكون الجزاء محذوفا وقوله تعالى أفأنت الخ جملة مستقلة مسوقة لتقرير مضمون الجملة السابقة وتعيين ما حذف منها وتشديد الانكار بتنزيل من استحق العذاب منزلة من دخل النار وتصوير الاجتهاد في دعائه إلى الايمان بصورة الانقاذ من النار كأنه قيل أولا أفمن حق عليه العذاب فأنت تخلصه منه ثم شدد النكير فقيل أفأنت تنقذ من في النار وفيه تلويح بأنه تعالى هو الذي يقدر على الانقاذ لا غيره وحيث كان المراد بمن في النار الذين قيل في حقهم لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل استدرك منهم بقوله تعالى «لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف» وهم الذين خوطبوا بقوله تعالى يا عباد فاتقون ووصفوا بما عدد من الصفات الفاضلة وهم المخاطبون أيضا فيما سبق بقوله تعالى يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم الآية وبين ان لهم درجات عالية في جنات النعيم بمقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم أي لهم علالي بعضها فوق بعض «مبنية» بناء المنازل المبنية المؤسسة على الأرض في الرصانة والاحكام «تجري من تحتها» من تحت تلك الغرف «الأنهار» من غير تفاوت بين العلو والسفل «وعد الله» مصدر مؤكد لقوله تعالى لهم غرف الخ فإنه وعد واي وعد «لا يخلف الله الميعاد» لاستحالته عليه سبحانه «ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء» استئناف وارد اما لتمثيل الحياة الدنيا في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال بما ذكر من أحوال الزرع ترغيبا عن زخارفها وزينتها وتحذيرا من الاغترار بزهرتها كما في نظائر قوله تعالى انما مثل الحياة الدنيا الآية أو للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغرف بما يشاهد من انزال الماء من السماء وما يترتب عليه من آثار قدرته تعالى واحكام حكمته ورحمته والمراد بالماء المطر وقيل كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله تعالى بين البقاع «فسلكه» فأدخله ونظمه «ينابيع في الأرض» أي عيونا ومجاري كالعروق في الأجساد وقيل مياها نابعة فيها فإن الينبوع يطلق على المنبع والنابع فنصبها على الحال وعلى الأول بنزع الجار أي في ينابيع «ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه» أصنافه من بر وشعير وغيرهما أو كيفاته من الألوان والطعوم وغيرهما وكلمة ثم للتراخي في الرتبة أو الزمان وصيغة المضارع لاستحضار
249

الصورة «ثم يهيج» أي يتم جفافه ويشرف على ان يثور من منابته «فتراه مصفرا» من بعد خضرته ونضرته وقرئ مصفارا «ثم يجعله حطاما» فتاتا متكسرة كأن لم يغن بالأمس ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج «إن في ذلك» إشارة إلى ما ذكر تفصيلا وما فيه من معنى البعد للايذان ببعد منزلته في الغرابة والدلالة على ما قصد بيانه «لذكري» لتذكيرا عظيما «لأولي الألباب» لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وتنبيها لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك أن حال الحياة الدنيا في سرعة التقضى والانصرام كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام فلا يغترون ببهجتها ولا يفتتنون بفتنتها أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء وإجرائه في ينابيع الأرض قادر على إجراء الأنهار من تحت الغرف هذا وأما ما قيل إن في ذلك لتذكيرا وتنبيها على أنه لا بد من صانع حكيم وأنه كائن عن تقدير وتدبير لا عن تعطيل وإهمال فبمعزل من تفسير الآية الكريمة وإنما يليق ذلك بما لو ذكر ما ذكر من الآثار الجليلة والافعال الجميلة من غير إسناد لها إلى مؤثر ما فحيث ذكرت مسندة إلى الله عز وجل تعين أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شؤونه تعالى أو شؤون آثاره حسبما بين لا وجوده تعالى وقوله تعالى «أفمن شرح الله صدره للإسلام» الخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولي الألباب وشرح الصدر للاسلام عبارة عن تكميل الاستعداد له فإنه محل للقلب الذي هو منبع للروح التي تتعلق بها النفس القابلة للاسلام فانشراحه مستدع لاتساع القلب واستضاءته بنوره فإنه روي انه صلى الله عليه وسلم قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح فقيل فما علامة ذلك قال صلى الله عليه وسلم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله والكلام في الهمزة والفاء كالذي مر في قوله تعالى أفمن حق عليه كلمة العذاب وخبر من محذوف لدلالة ما بعده عليه والتقدير اكل الناس سواء فمن شرح الله صدره أي خلقه متسع الصدر مستعدا للاسلام فبقي على الفطرة الأصلية ولم يتغير بالعوارض المكتسبة الفادحة فيها «فهو» بموجب ذلك مستقر «على نور» عظيم «من ربه» وهو اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية والتوفيق للاهتداء بها إلى الحق كمن قسا قلبه وحرج صدره بسبب تبديل فطرة الله بسوء اختباره واستولى عليه ظلمات الغي والضلالة فأعرض عن تلك الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها «فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله» أي من اجل ذكره الذي حقه ان تنشرح له الصدور وتطمئن به القلوب أي إذا ذكر الله تعالى عندهم أو آياته اشمأزوا من اجله وازدادت قلوبهم قساوة كقوله تعالى فزادتهم رجسا وقرئ عن ذكر الله أي عن قبوله «أولئك» البعداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلوب «في ضلال» بعد عن الحق «مبين» ظاهر كونه ضلالا لكل أحد قيل نزلت الآية في حمزة وعلي رضي الله عنهما وأبي لهب وولده وقيل في عمار بن
250

ياسر رضي الله عنه وأبي جهل وذويه «الله نزل أحسن الحديث» هو القرآن الكريم روى ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له صلى الله عليه وسلم حدثا حديثا وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم قالوا لو حدثتنا فنزلت والمعنى ان فيه مندوحة عن سائر الأحاديث وفي ايقاع الاسم الجليل مبتدأ وبناء نزل عليه من تفخيم أحسن الحديث ورفع محله والاستشهاد على حسنه وتأكيد استناده اليه تعالى وانه من عنده لا يمكن صدوره عن غيره والتنبيه على أنه وحي معجز مالا يخفي «كتابا» بدل من أحسن الحديث أو حال منه سواء اكتسب من المضاف اليه تعريفا أولا فإن مساغ مجيء الحال من النكرة المضافة اتفاقي ووقوعه حالا مع كونه اسما لا صفة اما لاتصافه بقوله تعالى «متشابها» أو لكونه في قوة مكتوبا ومعنى كونه متشابها تشابه معانيه في الصحة والاحكام والابتناء على الحق والصدق واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش وتناسب ألفاظه في الفصاحة وتجاوب نظمه في الاعجاز «مثاني» صفة أخرى لكتابا أو حال أخرى منه وهو جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه واحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه وقيل لأنه يثنى في التلاوة وقيل هو جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في قوله تعالى فارجع البصر كرتين أي كرة بعد كرة ووقوعه صفة لكتابا باعتبار تفاصيله كما يقال القرآن سور وآيات ويجوز ان ينتصب على التمييز من
متشابها كما يقال رأيت رجلا حسنا شمائل أي شمائله والمعنى متشابهة مثانيه «تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم» قيل صفة لكتابا أو حال منه لتخصصه بالصفة والأظهر انه استئناف مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه ولتقرير كونه أحسن الحديث والاقشعرار التقبض يقال اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضا شديدا وتركيبه من القشع وهو الأديم اليابس قد ضم اليه الراء ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد يقال اقشعر جلده وقف شعره إذا عرض له خوف شديد من منكر هائل دهمه بغتة والمراد اما بيان افراط خشيتهم بطريق التمثيل والتصوير أو بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق والمعنى انهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعيده اصابتهم هيبة وخشية تقشعر منها جلودهم وإذا ذكروا رحمة الله تعالى تبدلت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة وذلك قوله تعالى «ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله» أي ساكنة مطمئنة إلى ذكر رحمته تعالى وانما لم يصرح بها ايذانا بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى «ذلك» أي الكتاب الذي شرح أحواله «هدى الله يهدي به من يشاء» ان يهديه بصرف مقدوره إلى الاهتداء بتأمله فيما في تضاعيفه من شواهد الحقية ودلائل كونه من عند الله تعالى «ومن يضلل الله» أي يخلق فيه الضلالة بصرف قدرته إلى مباديها واعراضه عما يرشده إلى الحق بالكلية وعدم تأثره بوعيده ووعده أصلا أو
251

ومن يخذل «فما له من هاد» يخلصه من ورطة الضلال وقيل ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء اثر هداه تعالى يهدي بذلك الأثر من يشاء من عباده ومن يضلل أي من لم يؤثر فيه لطفه لقسوة قلبه واصراره على فجوره فماله من هاد من مؤثر فيه بشيء قط «أفمن يتقي بوجهه» الخ استئناف جار مجري التعليل لما قبله من تباين حالي المهتدي والضال والكلام في الهمزة والفاء وحذف الخبر كالذي مر في نظيريه والتقدير اكل الناس سواء فمن شأنه انه بقي نفسه بوجهه الذي هو اشرف أعضائه «سوء العذاب» أي العذاب السيء الشديد «يوم القيامة» لكون يده التي بها كان يتقي المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه وقيل نزلت في أبي جهل «وقيل للظالمين» عطف على يتقي ويقال لهم من جهة خزنة النار وصيغة الماضي الدلالة على التحقق والتقرر وقيل هو حال من ضمير يتقي بإضمار قد ووضع المظهر في مقام المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والاشعار بعلة الامر في قوله تعالى «ذوقوا ما كنتم تكسبون» أي وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا على الدوام من الكفر والمعاصي «كذب الذين من قبلهم» استئناف مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي اثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي أي كذب الذين من قبلهم من الأمم السالفة «فأتاهم العذاب» المقدر لكل أمة منهم «من حيث لا يشعرون» من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم اتيان الشر منها «فأذاقهم الله الخزي» أي الذل والصغار «في الحياة الدنيا» كالمسخ والخسف والقتل والسبي والاجلاء ونحو ذلك من فنون النكال «ولعذاب الآخرة» المعد لهم «أكبر» لشدته وسرمديته «لو كانوا يعلمون» أي لو كان من شأنهم ان يعلموا شيئا لعلموا ذلك واعتبروا به «ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل» يحتاج اليه الناظر في أمور دينه «لعلهم يتذكرون» كي يتذكروا به ويتعظوا «قرآنا عربيا» حال مؤكدة من هذا على ان مدار التأكيد هو الوصف كقولك جاءني زيد رجلا صالحا أو مدح له «غير ذي عوج» لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه فهو أبلغ من المستقيم وأخص بالمعاني وقيل المراد بالعوج الشك «لعلهم يتقون» علة أخرى مترتبة على الأولى «ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون»
252

لمثل من الأمثال القرآنية بعد بيان ان الحكمة في ضربها هو التذكر والاتعاظ بها وتحصيل التقوى والمراد بضرب المثل ههنا تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها وجعلها مثلها كما مر في سورة يس ومثلا مفعول ثان لضرب ورجلا مفعوله الأول اخر عن الثاني للتشويق اليه وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل وفيه ليس بصلة لشركاء كما قيل بل هو خبر له وبيان انه في الأصل كذلك مما لا حاجة اليه والجملة في حيز النصب على انه وصف لرجلا أو الوصف هو الجار والمجرور وشركاء مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على الموصوف فالمعنى جعل الله تعالى مثلا للمشرك حسبما يقود اليه مذهبه من ادعاء كل معبوديه عبوديته عبدا يتشارك فيه جماعة يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحيره وتوزع قلبه «ورجلا» أي وجعل للموحد مثلا رجلا «سلما» أي خالصا «لرجل» فرد ليس لغيره عليه سبيل أصلا وقرئ سلما بفتح السين وكسرها مع سكون اللام والكل مصادر من سلم له كذا أي خلص نعت بها مبالغة أو حذف منها ذو وقرئ سالما وسالم أي وهناك رجل سالم وتخصيص الرجل لأنه أفطن لما يجري عليه من الضر والنفع «هل يستويان مثلا» انكار واستبعاد لاستوائهما ونفي له على أبلغ وجه وآكده وايذان بأن ذلك من الجلاء والظهور بحيث لا يقدر أحد ان يتفوه باستوائهما أو يتلعثم في الحكم بتباينهما ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين والاخر في أسفل سافلين وهو السر في ابهام الفاضل والمفضول وانتصاب مثلا على التمييز أي هل يستوي حالاهما وصفتاهما والاقتصار في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقرئ مثلين كقوله تعالى أكثر أموالا وأولادا باختلاف النوع أو لان المراد هل يستويان في الوصفين على ان الضمير للمثلين لان التقدير مثل رجل فيه الخ ومثل رجل الخ وقوله تعالى «الحمد لله» تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض وتنبيه للموحدين على ان مالهم من المزية بتوفيق الله تعالى وانها نعمة جليلة موجبة عليهم ان يداموا على حمده وعبادته أو على ان بيانه تعالى بضرب المثل ان لهم المثل الاعلى وللمشركين مثل السوء صنع جميل ولطف تام منه عز وجل مستوجب لحمده وعبادته وقوله تعالى «بل أكثرهم لا يعلمون» اضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان ان أكثر الناس هم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره فيبقون في ورطة الشرك والضلال وقوله تعالى «إنك ميت وإنهم ميتون» تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة وقرئ مائت ومائتون وقيل كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته أي انكم جميعا بصدد الموت «ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم» أي مالك أموركم «تختصمون» فتحتج أنت عليهم بأنك بلغتهم ما أرسلت به من الاحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات واجتهدت في الدعوة إلى الحق حق الاجتهاد وهم قد لجوا في المكابرة والعناد وقيل المراد به الاختصام العام الجاري في الدنيا بين الأنام والأول هو الأظهر الأنسب بقوله
253

تعالى «فمن أظلم ممن كذب على الله» فإنه إلى آخره مسوق لبيان حال كل من طرفي الاختصام الجاري في شأن الكفر والايمان لا غير أي اظلم من كل ظالم من افترى
على الله سبحانه وتعالى بأن أضاف اليه الشريك والولد «وكذب بالصدق» أي بالامر الذي هو عين الحق ونفس الصدق وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم «إذ جاءه» أي في أول مجيئه من غير تدبر فيه ولا تأمل «أليس في جهنم مثوى للكافرين» أي لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه وسارعوا إلى التكذيب بالصدق من أول الامر والجمع باعتبار معنى من كما ان الافراد في الضمائر السابقة باعتبار لفظها أو لجنس الكفرة وهم داخلون في الحكم دخولا أوليا «والذي جاء بالصدق وصدق به» الموصول عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه كما ان المراد في قوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون هو عليه الصلاة والسلام وقومه وقيل عن الجنس المتناول المرسل والمؤمنين بهم ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به وقيل هو صفة لموصوف محذوف هو الفوج أو الفريق «أولئك» الموصوفون بما ذكر من المجيء بالصدق والتصديق به «هم المتقون» المنعوتون بالتقوى التي هي اجل الرغائب وقرئ وصدق به بالتخفيف أي صدق به الناس فأداه إليهم كما نزل عليه من غير تغيير وقيل وصار صادقا به أي بسببه لان ما جاء به من القرآن معجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وقرئ صدق به على البناء للمفعول «لهم ما يشاؤون عند ربهم» بيان لما لهم في الآخرة من حسن المآب بعد بيان مالهم في الدنيا من محاسن الاعمال أي لهم كل ما يشاءون من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما ان بعض ما يشاءونه من تكفير السيئات والامن من الفزع الأكبر وسائر أهوال القيامة انما يقع قبل دخول الجنة «ذلك» الذي ذكر من حصول كل ما يشاءونه «جزاء المحسنين» أي الذين أحسنوا اعمالهم وقد مر تفسير الاحسان غير مرة وقوله تعالى «ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا» الخ متعلق بقوله تعالى لهم ما يشاءون لكن لا باعتبار منطوقه ضرورة ان التفكير المذكور لا يتصور كونه غاية لثبوت ما يشاءون لهم في الآخرة كيف لا وهو بعض ما سيثبت لهم فيها بل باعتبار فحواه فإنه حيث لم يكن اخبارا بما ثبت لهم فيما مضى بل بما سيثبت لهم فيما سيأتي كان في معنى الوعد به كما مر في قوله تعالى وعد الله فإنه مصدر مؤكد لما قبله من قوله تعالى لهم غرف من فوقها غرف فإنه في معنى وعدهم الله غرفا فانتصب به وعد الله كأنه قيل
254

وعدهم الله جميع ما يشاءونه من زوال المضار وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا دفعا لمضارهم «ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون» اعطاء لمنافعهم واظهار الاسم الجليل في موقع الاضمار لابراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام وإضافة الا الأسوأ والأحسن إلى ما بعدهما ليست من قبيل إضافة المفضل إلى المفضل عليه بل من إضافة الشيء إلى بعضه للقصد إلى التحقيق والتوضيح من غير اعتبار تفضيله عليه وانما المعتبر فيهما مطلق الفضل والزيادة لا على المضاف اليه المعين بخصوصه كما في قولهم الناقص والأشج أعد لأنني مروان خلا ان الزيادة المعتبرة فيهما ليست بطريق الحقيقة بل هي في الأول بالنظر إلى ما يليق بحالهم من استعظام سيئاتهم وان قلت واستصغار حسناتهم وان جلت والثاني بالنظر إلى لطف أكرم الأكرمين من استكثار الحسنة اليسيرة ومقابلتها بالمثوبات الكثيرة وحمل الزيادة على الحقيقة وان أمكن في الأول بناء على أن تخصيص الأسوأ بالذكر لبيان تكفير ما دونه بطريق الأولوية ضرورة استلزام تكفير الأسوأ لتكفير السيء لكن لما لم يكن ذلك في الأحسن كان الأحسن نظمهما في سلك واحد من الاعتبار والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني دون الأول للايذان باستمرارهم على الاعمال الصالحة بخلاف السيئة «أليس الله بكاف عبده» انكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه وآكده كأن الكفاية من التحقق والظهور بحيث لا يقدر أحد على ان يتفوه بعدمها أو يتلعثم في الجواب بوجودها والمراد بالعبد اما رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الجنس المنتظم له عليه السلام انتظاما أوليا ويؤيده قراءة من قرا عباده وفسر بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكذا قراءة من قرا بكافي عباده على الإضافة ويكافىء عباده صيغة المغالبة اما من الكفاية لإفادة المبالغة فيها واما من المكافأة بمعنى المجازاة وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما قالت له قريش انا نخاف ان تخبلك آلهتنا ويصيبك مضرتها لعيبك إياها وفي رواية قالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون كما قال قوم هود ان نقول الا اعتراك بعض آلهتنا بسوء وذلك قوله تعالى «ويخوفونك بالذين من دونه» أي الأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه تعالى والجملة استئناف وقيل حال «ومن يضلل الله» حتى غفل عن كفايته تعالى وعصمته له صلى الله عليه وسلم وخوفه بما لا ينفع ولا يضر أصلا «فما له من هاد» يهديه إلى خير ما «ومن يهد الله فما له من مضل» يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله ولا معارض لإرادته كما ينطق به قوله تعالى «أليس الله بعزيز» غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع «ذي انتقام» ينتقم من أعدائه لأوليائه واظهار الاسم الجليل في موقع الاضمار لتحقيق مضمون الكلام وتربية المهابة
255

«ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله» لوضوح الدليل وسنوح السبيل «قل» تبكيتا لهم «أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره» أي بعد ما تحققتم ان خالق العالم العلوي والسفلي هو الله عز وجل فأخبروني ان آلهتكم إن أرادني الله بضر هل يكشفن عنى ذلك الضر «أو أرادني برحمة» أي أو أرادني بنفع «هل هن ممسكات رحمته» فيمنعنها عنى وقرئ كاشفات ضره وممسكات رحمته بالتنوين فيهما ونصب ضره ورحمته وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه عليه الصلاة والسلام للرد في نحورهم حيث كانوا خوفوه معرة الأوثان ولما فيه من الايذان بإمحاض النصيحة «قل حسبي الله» أي في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر روى انه صلى الله عليه وسلم لما سألهم سكتوا فنزل ذلك «عليه يتوكل المتوكلون» لا على غير أصلا لعلمهم بأن كل ما سواه تحت ملكوته تعالى «قل يا قوم اعملوا على مكانتكم» على حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتم فيها فإن المكانة تستعار من العين للمعنى كما تستعار هنا وحيث للزمان مع كونهما للمكان وقرئ على مكاناتكم «إني عامل» أي على مكانتي فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد والاشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة بنصر الله عز وجل وتأييده ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين بقوله تعالى «فسوف تعلمون» «من يأتيه عذاب يخزيه» فإن خزى أعدائه دليل غلبته عليه الصلاة والسلام وقد عذبهم الله تعالى وأخزاهم يوم بدر «ويحل عليه عذاب مقيم» أي دائم هو عذاب النار «إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس» لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في المعاش والمعاد «بالحق» حال من فاعل أنزلنا أو من مفعوله «فمن اهتدى» بأن عمل بما فيه «فلنفسه» أي إنما نفع به نفسه «ومن ضل» بأن لم يعمل بموجبه «فإنما يضل عليها» لما أن
وبال ضلاله مقصور عليها «وما أنت عليهم بوكيل» لتجبرهم على الهدى وما وظيفتك إلا البلاغ وقد بلغت أي بلاغ «الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها» أي يقبضها من الأبدان
256

بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها إما ظاهرا وباطنا كما عند الموت أو ظاهرا فقط كما عند النوم «فيمسك التي قضى عليها الموت» ولا يردها إلى البدن وقرئ قضى على البناء للمفعول ورفع الموت «ويرسل الأخرى» أي النائمة إلى بدنها عند التيقظ «إلى أجل مسمى» هو الوقت المضروب لموته وهو غاية لجنس الإرسال الواقع بعد الإمساك لا لفرد منه فإن ذلك مما لا امتداد فيه ولا كمية وما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما إن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي بها العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحرك فتتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم قريب مما ذكر «إن في ذلك» أي فيما ذكر من التوفى على الوجهين والامساك في أحدهما والارسال في الاخر «لآيات» عجيبة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته «لقوم يتفكرون» في كيفية تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية كما عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها وما يعتريها من السعادة والشقاوة وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها «أم اتخذوا» أي بل اتخذ قريش «من دون الله» من دون إذنه تعالى «شفعاء» تشفع لهم عنده تعالى «قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون» الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه أي قل أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء ولا يعقلونه فضلا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى أو هي لإنكار الوقوع ونفيه على ان المراد بيان أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الشفعاء في شئ لأنه فرع كون الأوثان شفعاء وذلك أظهر المحالات فالمقدر حينئذ غير ما قدر أولا وعلى أي تقدير كان فالواو للعطف على شرطية قد حذفت لدلالة المذكورة عليها أي أيشفعون لو كانوا يملكون شيئا ولو كانوا لا يملكون الخ وجواب لو محذوف لدلالة المذكور عليه وقد مر تحقيقه مرارا «قل» بعد تبكيتهم وتجهيلهم بما ذكر تحقيقا للحق «لله الشفاعة جميعا» أي هو مالكها لا يستطيع أحد شفاعة ما إلا ان يكون المشفوع له مرتضى والشفيع مأذونا له وكلاهما مفقود ههنا وقوله تعالى «له ملك السماوات والأرض» تقرير له وتأكيد أي له ملكهما وما فيهما من المخلوقات لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه ورضاه «ثم إليه ترجعون» يوم القيامة لا إلى أحد سواه لا استقلالا ولا اشتراكا فيفعل يومئذ ما يريد «وإذا ذكر الله وحده» دون آلهتهم «اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة» أي انقبضت ونفرت كما في قوله تعالى وإذا ذكر ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا «وإذا ذكر الذين من دونه» فرادى أو مع ذكر الله تعالى «إذا هم يستبشرون» لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله تعالى ولقد بولغ في بيان حاليهم القبيحتين حيث
257

بين الغاية فيهما فإن الاستبشار هو أن يمتلئ القلب سرورا حتى ينبسط له بشرة الوجه والاشمئزاز أن يمتلئ غيظا وغما ينقبض منه أديم الوجه والعامل في إذا الأولى اشمأزت وفي الثانية ما هو العامل في إذا المفاجأة تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا وقت الاستبشار «قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة» أي التجئ إليه تعالى بالدعاء لما تحيرت في أمر الدعوة وضجرت من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد فإنه القادر على الأشياء بجملتها والعالم بالأحوال برمتها «أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون» أي حكما يسلمه كل مكابر معاند ويخضع له كل عات مارد وهو العذاب الدنيوي أو الأخروي وقوله تعالى «ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا» الخ كلام مستأنف مسوق لبيان آثار الحكم الذي استدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وغاية شدته وفظاعته أي لو ان لهم جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر «ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة» أي لجعلوا كل ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشديد وهيهات ولات حين مناص وهذا كما ترى وعيد شديد وإقناط لهم من الخلاص «وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون» أي ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في حسابهم وهذه غاية من الوعيد لا غاية وراءها ونظيره في الوعد قوله تعالى فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة أعين «وبدا لهم سيئات ما كسبوا» سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض عليهم صحائفهم «وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون» أي أحاط بهم جزاؤه «فإذا مس الإنسان ضر دعانا» إخبار عن الجنس بما يفعله غالب أفراده والفاء لترتيب ما بعدها من المناقضة والتعكيس على ما مر من حالتيهم القبيحتين وما بينهما اعتراض مؤكد للإنكار عليهم أي إنهم يشمئزون عن ذكر الله تعالى وحده ويستبشرون بذكر الالهة فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا عن ذكره دون من استبشروا بذكره «ثم إذا خولناه نعمة منا» أعطيناه إياها تفصلا فإن التخويل مختص به لا يطلق على ما أعطى جزاء «قال إنما أوتيته على علم» أي على علم منى بوجوه كسبه أو أبى فأعطاه لما لي من الاستحقاق أو على علم من الله تعالى بي وباستحقاقى والهاء لما إن جعلت موصولة وإلا فلنعمة والتذكير لما أن المراد شئ نعمة «بل هي فتنة» أي محنة وابتلاء له أيشكر
258

أم يكفر وهو رد لما قاله وتغيير السبك للمبالغة فيه والإيذان بأن ذلك ليس من باب الإيتاء المنبئ عن الكرامة وإنما هو أمر مباين له بالكلية وتأنيث الضمير باعتبار لفظ النعمة أو باعتبار الخبر وقرئ بالتذكير «ولكن أكثرهم لا يعلمون» ان الامر كذلك وفيه دلالة على ان المراد بالانسان هو الجنس «قد قالها الذين من قبلهم» الهاء لقوله إنما أوتيته على علم لأنها كلمة أو جملة وقرئ بالتذكير والموصول عبارة عن قارون وقومه حيث قال إنما أوتيته على علم عندي وهم راضون به «فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون» من متاع الدنيا ويجمعون منه «فأصابهم سيئات ما كسبوا» جزاء سيئات أعمالهم أو أجزية ما كسبوا وتسميتها سيئات لأنها في مقابلة سيئاتهم وجزاء سيئة سيئة مثلها «والذين ظلموا من هؤلاء» المشركين ومن للبيان أو للتبعيض أي أفرطوا في الظلم والعتو «سيصيبهم سيئات ما كسبوا» من الكفر والمعاصي كما أصاب أولئك والسين للتأكيد وقد أصابهم أي إصابة حيث قحطوا سبع سنين وقتل صناديدهم يوم بدر «وما هم بمعجزين» أي فائتين «أولم يعلموا» أي أقالوا ذلك ولم يعلموا أو أغفلوا ولم يعلموا «أن الله يبسط الرزق لمن يشاء» ان يبسطه له «ويقدر» لمن يشاء ان يقدره له من غير أن يكون لاحد مدخل ما في ذلك حيث حبس عنهم الرزق سبعا ثم بسطه لهم سبعا «إن في ذلك» الذي ذكر «لآيات» دالة على أن الحوادث كافة من الله عز وجل «لقوم يؤمنون» إذ هم المستدلون بها على مدلولاتها «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم» أي أفرطوا في الجناية عليها بالاسراف في المعاصي وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن الكريم «لا تقنطوا من
رحمة الله» أي لا تيأسوا من مغفرته أولا ولا تفضله ثانيا «إن الله يغفر الذنوب جميعا» عفوا لمن يشاء ولو بعد حين بتعذيب في الجملة وبغيره حسبما يشاء وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر كيف لا وقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ظاهر في الاطلاق فيما عدا الشرك ومما يدل عليه التعليل بقوله تعالى «إنه هو الغفور الرحيم» على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة وتقديم ما يستدعى عموم المغفرة في عبادي من الدلالة على الذلة والاختصاص المقتضيين للترحم وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم والنهى عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب ووضع الاسم الجليل موضع
259

الضمير لدلالته على أنه المستغنى والمنعم على الإطلاق والتأكيد بالجميع وما روى من أسباب النزول الدالة على ورود الآية فيمن تاب لا يقتضى اختصاص الحكم بهم ووجوب حمل المطلق على المقيد في كلام واحد مثل أكرم الفضلاء أكرم الكاملين غير مسلم فكيف فيما هو بمنزلة كلام واحد ولا يخل بذلك الامر بالتوبة والاخلاص في قوله تعالى «وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون» إذ ليس المدعي ان الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغنى عن الامر بهما وتنافي الوعيد بالعذاب «واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم» أي القرآن أو المأمور به دون المنهي عنه أو العزائم دون الرخص أو الناسخ دون المنسوخ ولعله ما هو أنجى واسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة «من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون» بمجيئه لتتداركوا وتتأهبوا له «أن تقول نفس» أي كراهة ان تقول والتنكير للتكثير كما في قوله تعالى عملت نفس ما أحضرت فإنه مسلك ربما يسلك عند إرادة التكثير والتعميم وقد مر تحقيقه في مطلع سورة الحجر «يا حسرتي» بالألف بدلا من ياء الإضافة وقرئ يا حسرتاه بهاء السكت وقفا وقرئ يا حسرتاي بالجمع بين العوضين وقرئ يا حسرتي على الأصل أي احضري فهذا أو ان حضورك «على ما فرطت» أي على تفريطي وتقصيري «في جنب الله» أي جانبه وفي حقه وطاعته وعليه قول من قال
* اما تتقين الله في جنب وامق
* له كبد حرى وعين ترقرق
* وهو كناية فيها مبالغة وقيل في ذات الله على تقدير مضاف كالطاعة وقيل في قربه من قوله تعالى والصاحب بالجنب وقرئ في ذكر الله «وإن كنت لمن الساخرين» أي المستهزئين بدين الله تعالى وأهله ومحل الجملة النصب على الحال أي فرطت وانا ساخر «أو تقول لو أن الله هداني» بالارشاد إلى الحق «لكنت من المتقين» الشرك والمعاصي «أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة» رجعة إلى الدنيا «فأكون من المحسنين» في العقيدة والعمل واو للدلالة على انها لا تخلو عن هذه الأقوال تحسرا وتحيرا وتعللا بما لا طائل تحته وقوله تعالى «بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين» رد من الله تعالى عليه لما تضمنه قوله لو ان الله هداني من معنى النفي
260

وفضله عنه لما ان تقديمه يفرق القرائن وتأخير المردود يخل بالترتيب الوجودي لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل بفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة وهو لا يمنع تأثير قدرة الله تعالى في فعل العبد ولا ما فيه من اسناد الفعل اليه كما عرفت وتذكير الخطاب باعتبار المعنى وقرئ بالتأنيث «ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله» بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه كاتخاذ الولد «وجوههم مسودة» بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل والجملة حال قد اكتفى فيها بالضمير عن الواو على ان الرؤية بصرية أو مفعول ثان لها على انها عرفانية «أليس في جهنم مثوى» أي مقام «للمتكبرين» عن الايمان والطاعة وهو تقرير لما قبله من رؤيتهم كذلك «وينجي الله الذين اتقوا» الشرك والمعاصي أي من جهنم وقرئ ينجي من الانجاء «بمفازتهم» مصدر ميمي اما من فاز بالمطلوب أي ظفر به والباء متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول مفيدة لمقارنة تنجيتهم من العذاب لنيل الثواب أي ينجيهم الله تعالى من مثوى المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم الذي هو الجنة وقوله تعالى «لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون» اما حال أخرى من الموصول أو من ضمير مفازتهم مفيدة لكون نجاتهم أو فوزهم بالجنة غير مسبوقة بمساس العذاب والحزن واما من فاز منه أي نجا منه والباء للملابسة وقوله تعالى لا يمسهم إلى آخره تفسير وبيان لمفازتهم أي ينجيهم الله تعالى ملتبسين بنجاتهم الخاصة بهم أي بنفي السوء والحزن عنهم أو للسببية اما على حذف المضاف أي ينجيهم بسبب مفازتهم التي هي تقواهم كما يشعر به ايراده في حيز الصلة واما على اطلاق المفازة على سببها الذي هو التقوى وليس المراد نفي دوام المساس والحزن بل دوام نفيهما كما مر مرارا «الله خالق كل شيء» من خير وشر وايمان وكفر لكن لا بالجبر بل بمباشرة الكاسب لأسبابها «وهو على كل شيء وكيل» يتولى التصرف فيه كيفما يشاء «له مقاليد السماوات والأرض» لا يملك امرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره وهو عبارة عن قدرته تعالى وحفظه لها وفيها مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد لان الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها الا من بيده مفاتيحها وهو جمع مقليد أو مقلاد من قلدته إذا ألزمته وقبل جمع أقليد معرب كليد على الشذوذ كالمذاكير وعن عثمان رضي الله عنه انه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاليد فقال صلى الله عليه وسلم تفسيرها لا اله الا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده واستغفر الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحي ويميت وهو على كل شيء قدير والمعنى على هذا ان لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها اصابه «والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون» متصل بما قبله والمعنى ان الله تعالى خالق لجميع الأشياء
261

ومتصرف فيها كيفما يشاء بالاحياء والأمانة بيده مقاليد العالم العلوي والسفلي والذين كفروا بآياته التكوينية المنصوبة في الآفاق والأنفس والتنزيلية التي من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بذلك هم الخاسرون خسرانا لأخسار وراءه هذا وقيل هو متصل بقوله تعالى وينجي الله وما بينهما اعتراض فتدبر «قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون» أي ابعد مشاهدة هذه الآيات غير الله اعبد وتأمروني اعتراض للدلالة على انهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا استلم بعض آلهتنا نؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ويجوز
ان ينتصب غير بما يدل عليه تأمروني اعبد لأنه بمعنى تعبدونني وتقولون اعبد على ان أصله تأمرونني ان اعبد فحذف ان ورفع ما بعدها كما في قوله
[الا أيهذا الزاجري احضر الوغي * وان اشهد اللذات هل أنت مخلدي]
ويؤيده قراءة اعبد بالنصب وقرئ تأمرونني بإظهار النونين على الأصل وبحذف الثانية «ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك» أي من الرسل عليهم السلام «لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين» كلام وارد على طريقة الفرض لتهييج الرسل وإقناط الكفرة والايذان بغاية شناعة الاشراك وقبحه وكونه بحيث ينهي عنه من لا يكاد يمكن ان يباشره فكيف بمن عداه وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد واللام الأولى موطئة للقسم والاخريان للجواب واطلاق الاحباط يحتمل ان يكون من خصائصهم عند الاشراك لان الاشراك منهم أشد وأقبح وان يكون مقيدا بالموت كما صرح به في قوله تعالى من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت اعمالهم وعطف الخسران عليه من عطف المسبب على السبب «بل الله فاعبد» رد لما أمروه به ولولا دلالة التقديم على القصر لم يكن كذلك «وكن من الشاكرين» انعامه عليك وفيه إشارة إلى ما يوجب الاختصاص ويقتضيه «وما قدروا الله حق قدره» ما قدروا عظمته تعالى في أنفسهم حق عظمته حيث جعلوا له شريكا ووصفوه بما لا يليق بشئونه الجليلة وقرئ بالتشديد «والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه» تنبيه على غاية عظمته وكمال قدرته وحقارة الافعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالنسبة إلى قدرته تعالى ودلالة على ان تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازا كقولهم شابت لمة الليل والقبضة المرة من القبض أطلقت بمعنى القبضة وهي المقدار
262

المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضة وقرئ بالنصب على الظرف تشبيها للموقت بالمبهم وتأكيد الأرض بالجميع لان المراد بها الأرضون السبع أو جميع ابعاضها البادية والغائرة وقرئ مطويات على انها حال والسماوات معطوفة على الأرض منظومة في حكمها «سبحانه وتعالى عما يشركون» ما ابعد وما أعلى من هذه قدرته وعظمته عن اشراكهم أو عما يشركونه من الشركاء «ونفخ في الصور» هي النفخة الأولى «فصعق من في السماوات ومن في الأرض» أي خروا أمواتا ومغشيا عليهم «إلا من شاء الله» قيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل فإنهم لا يموتون بعد وقيل حملة العرش «ثم نفخ فيه أخرى» نفخة أخرى هي النفخة الثانية وأخرى يحتمل النصب والرفع «فإذا هم قيام» قائمون من قبورهم أو متوقفون وقرئ بالنصب على ان الخبر «ينظرون» وهو حال من ضميره والمعنى يقلبون ابصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ما يفعل بهم «وأشرقت الأرض بنور ربها» بما أقام فيها من العدل استعير له النور لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما يسمى الظلم ظلمة وفي الحديث الظلم ظلمات يوم القيامة ولذلك أضيف الاسم الجليل إلى ضمير الأرض أو بنور خلقه فيها بلا توسط أجسام مضيئة ولذلك أضيف إلى الاسم الجليل «ووضع الكتاب» الحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه أو صحائف الاعمال في أيدي العمال واكتفى باسم الجنس عن الجمع وقيل اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف «وجئ بالنبيين والشهداء» للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين وقيل المستشهدون «وقضي بينهم» بين العباد «بالحق وهم لا يظلمون» بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد «ووفيت كل نفس ما عملت» أي جزاءه «وهو أعلم بما يفعلون» فلا يفوته شيء من افعالهم وقوله تعالى «وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا» الخ تفصيل للتوفية وبيان لكيفيتها أي سيقوا إليها بالعنف والإهانة أفواجا متفرقة بعضها في اثر بعض مترتبة حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة والزمر جمع زمرة واشتقاقها من الزمر وهو
263

الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه «حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها» ليدخلوها وحتى هي التي تحكي بعدها الجملة وقرئ بالتشديد «وقال لهم خزنتها» تقريعا وتوبيخا «ألم يأتكم رسل منكم» من جنسكم وقرئ نذر منكم «يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا» أي وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار وفيه دليل على انه لا تكليف قبل الشرع من حيث انهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب «قالوا بلى» قد أتونا وأندرونا «ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين» حيث قال الله تعالى لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقد كنا ممن اتبعه وكذبنا الرسل وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم إلا تكذبون «قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها» أي مقدرا خلودكم فيها وإبهام القائل لتهويل المقول «فبئس مثوى المتكبرين» اللام للجنس والمخصوص بالذم محذوف ثقة بذكره آنفا أي فبئس مثواهم جهنم ولا يقدح ما فيه من الإشعار بأن كون مثواهم جهنم لتكبرهم عن الحق في أن دخولهم النار لسبق كلمة العذاب عليهم فإنها إنما حقت عليهم بناء على تكبرهم وكفرهم وقد مر تحقيقه في سورة ألم السجدة «وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة» مساق إعزاز وتشريف للإسراع بهم إلى دار الكرامة وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين «زمرا» متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل وعلو الطبقة «حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها» وقرئ بالتشديد وجواب إذا محذوف للإيذان بأن لهم حينئذ من فنون الكرامات ما لا يحدق به نطاق العبارات كأنه قيل حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها «وقال لهم خزنتها سلام عليكم» من جميع المكاره والآلام «طبتم» طهرتم من دنس المعاصي أو طبتم نفسا بما أتيح لكم من النعيم «فادخلوها خالدين» كان ما كان مما يقصر عنه البيان «وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده» بالبعث والثواب «وأورثنا الأرض» يريدون المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه «نتبوأ من الجنة حيث نشاء» أي نتبوأ كل واحد منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة على أن فيها مقامات معنوية لا يتمانع واردوها «فنعم أجر العاملين» الجنة «وترى الملائكة حافين» محدقين «من حول العرش» أي حوله
264

ومن مزيدة أو لابتداء الحفوف «يسبحون بحمد ربهم» أي ينزهونه تعالى عما لا يليق به متلبسين بحمده والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى والمعنى ذاكرين له تعالى بوصفى جلاله وإكرامه تلذذا به وفيه إشعار بأن أقصى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في شؤونه عز وجل «وقضي بينهم بالحق» أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم «وقيل الحمد لله رب العالمين» أي على ما قضى بيننا بالحق وأنزل كلامنا منزلته
التي هي حقه والقائلون هم المؤمنون ممن قضى بينهم أو الملائكة وطى ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله تعالى رجاءه يوم القيامة وأعطاه ثواب الخائفين وعن عائشة رضى الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزمر
سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «حم» بتفخيم الألف وتسكين الميم وقرئ بإمالة الألف وبإخراجها بين بين وبفتح الميم لالتقاء الساكنين أو نصبها بإضمار اقرأ ونحوه ومنع الصرف للتعريف وكونها على زنة قابيل وهابيل وبقية الكلام فيه وفي قوله تعالى «تنزيل الكتاب» كالذي سلف في ألم السجدة وقوله تعالى «من الله العزيز العليم» كما في مطلع سورة الزمر في الوجوه كلها ووجه التعرض لنعتى العزة والعلم ما ذكر هناك «غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول» إما صفات أخر لتحقيق ما فيها من الترغيب والترهيب والحث على ما هو المقصود والإضافة فيها حقيقية على أنه لم يرد بها زمان مخصوص وأريد بشديد العقاب مشدده أو الشديد عقابه بحذف اللام للازدواج وأمن الالتباس أو إبدال وجعله وحده بدلا كما فعله الزجاج مشوش للنظم وتوسيط الواو بين الأولين لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة أو تغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد أو تغاير موقع الفعلين لأن الغفر هو الستر مع بقاء الذنب وذلك لمن لم يتب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والتوب مصدر كالتوبة وقيل هو جمعها والطول الفضل بترك العقاب المستحق وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل سبقها
265

ورجحا بها «لا إله إلا هو» فيجب الاقبال الكلى على طاعته في أوامره ونواهيه «إليه المصير» فحسب لا إلى غيره لا استقلالا ولا اشتراكا فيجزى كلا من المطيع والعاصي «ما يجادل في آيات الله» أي بالطعن فيها واستعمال المقدمات الباطلة لإدحاض الحق كقوله تعالى وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق «إلا الذين كفروا» بها وأما الذين آمنوا فلا يخطر ببالهم شائبة شبهة منها فضلا عن الطعن فيها وأما الجدال فيها لحل مشكلاتها وكشف معضلاتها واستنباط حقائقها الكلية وتوضيح مناهج الحق في مضايق الأفهام ومزالق الاقدام وإبطال شبه أهل الزيغ والضلال فمن أعظم الطاعات ولذلك قال صلى الله عليه وسلم إن جدالا في القرآن كفر بالتنكير للفرق بين جدال وجدال والفاء في قوله تعالى «فلا يغررك تقلبهم في البلاد» لترتيب النهى أو وجوب الانتهاء على ما قبلها من التسجيل عليهم بالكفر الذي لا شئ أمقت منه عند الله تعالى ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة فإن من تحقق ذلك لا يكاد يغتر بما لهم من حظوظ الدنيا وزخارفها فإنهم مأخوذون عما قليل أخذ من قبلهم من الأمم حسبما ينطق به قوله تعالى «كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم» أي الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم بعد قوم نوح مثل عاد وثمود وأضرابهم «وهمت كل أمة» من تلك الأمم العاتية «برسولهم» وقرئ برسولها «ليأخذوه» ليتمكنوا منه فيصيبوا به ما أرادوا من تعذيب أو قتل من الاخذ بمعنى الأسر «وجادلوا بالباطل» الذي لا أصل ولا حقيقة له أصلا «ليدحضوا به الحق» الذي لا محيد عنه كما فعل هؤلاء «فأخذتهم» بسبب ذلك اخذ عزيز مقتدر «فكيف كان عقاب» الذي عاقبتهم به فإن آثار دمارهم عبرة للناظرين ولآخذن هؤلاء أيضا لاتحادهم في الطريقة واشتراكهم في الجريرة كما ينبئ عنه قوله تعالى «وكذلك حقت كلمة ربك» أي كما وجب وثبت حكمه تعالى وقضاؤه بالتعذيب على أولئك الأمم المكذبة المتحزبة على رسلهم المجادلة بالباطل لإدحاض الحق به وجب أيضا «على الذين كفروا» أي كفروا بك وتحزبوا عليك وهموا بما لم ينالوا كما ينبئ عنه إضافة اسم الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم فإن ذلك للاشعار بان وجوب كلمة العذاب عليهم من احكام تربيته التي من جملتها نصرته صلى الله عليه وسلم وتعذيب أعدائه وذلك إنما يتحقق بكون الموصول عبارة عن كفار قومه لا عن الأمم المهلكة وقوله تعالى «أنهم أصحاب النار» في حيز النصب بحذف لام التعليل أي لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها التي هي عذاب النار وملازموها ابدا لكونهم كفارا معاندين متحزبين على الرسول صلى الله عليه وسلم كدأب من قبلهم من الأمم المهلكة فهم لسائر فنون العقوبات أشد استحقاقا وأحق استيجابا وقيل هو في محل الرفع على انه بدل من كلمة ربك والمعنى مثل ذلك
266

الوجوب وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النار أي كما وجب إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال كذلك وجب تعذيبهم بعذاب النار في الآخرة ومحل الكاف على التقديرين النصب على انه نعت لمصدر محذوف «الذين يحملون العرش ومن حوله» وهم أعلى طبقات الملائكة عليهم السلام وأولهم وجودا وحملهم إياه وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له وكناية عن زلفاهم من ذي العرش جل جلاله ومكانتهم عنده ومحل الموصول الرفع عل الابتداء خبره «يسبحون بحمد ربهم» والجملة استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أن أشراف الملائكة عليهم السلام مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ونصرتهم واستدعاء ما يسعدهم في الدارين أي ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل ملتبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى «ويؤمنون به» إيمانا حقيقا بحالهم والتصريح به مع الغنى عن ذكره رأسا لإظهار فضيلة الايمان وإبراز شرف أهله والاشعار بعلة دعائهم للمؤمنين حسبما ينطق به قوله تعالى «ويستغفرون للذين آمنوا» فإن المشاركة في الايمان أقوى المناسبات وأتمها وأدعى الدواعي إلى النصح والشفقة وفي نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم من تسبيحهم وتحميدهم وإيمانهم إيذان بكمال اعتنائهم به وإشعار بوقوعه عند الله تعالى في موقع القبول روى أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورءوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وعن النبي صلى الله عليه وسلم لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سماوات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع وفي الحديث أن الله أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائرهم وقيل خلق الله تعالى العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام وقيل حول العرش سبعون الف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون الف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة الف صف قد وضعوا أيمانهم على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر «ربنا» على إرادة القول أي يقولون ربنا على أنه إما بيان لاستغفارهم أو حال «وسعت كل شيء رحمة وعلما» أي وسعت رحمتك وعلمك فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه تعالى بالرحمة والعلم والمبالغة في عمومهما وتقديم
الرحمة لأنها المقصودة بالذات ههنا والفاء في قوله تعالى «فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك» أي للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيل الحق لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم «وقهم عذاب الجحيم» واحفظهم عنه وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد
267

«ربنا وأدخلهم» عطف على قهم وتوسيط النداء بينهما للمبالغة في الجؤار «جنات عدن التي وعدتهم» أي وعدتهم إياها وقرئ جنة عدن «ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم» أي صلاحا مصححا لدخول الجنة في الجملة وإن كان دون صلاح أصولهم وهو عطف على الضمير الأول أي وأدخلها معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتضاعف ابتهاجهم أو على الثاني لكن لا بناء على الوعد العام للكل كما قيل إذ لا يقي حينئذ للعطف وجه بل بناء على الوعد الخاص بهم بقوله تعالى ألحقنا بهم ذريتهم بأن يكونوا أعلى درجة من ذريتهم قال سعيد بن جبير يدخل المؤمن الجنة فيقول أين أبي أين ولدي أين زوجي فيقال إنهم لم يعملوا مثل عملك فيقول إني كنت أعمل لي ولهم فيقال أدخلوهم الجنة وسبق الوعد بالإدخال والإلحاق لا يستدعى حصول الموعود بلا توسط شفاعة واستغفار وعليه مبنى قول من قال فائدة الاستغفار زيادة الكرامة والثواب والأول هو الأولى لأن الدعاء بالإدخال فيه صريح وفي الثاني ضمني وقرئ صلح بالضم وذريتهم بالإفراد «إنك أنت العزيز» أي الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور «الحكيم» أي الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة من الأمور التي من جملتها إنجاز الوعد فالجملة تعليل لما قبلها «وقهم السيئات» أي العقوبات لأن جزاء السيئة سيئة مثلها أو جزاء السيئات على حذف المضاف وهو تعميم بعد تخصيص أو مخصوص بالاتباع أو المعاصي في الدنيا فمعنى قوله تعالى «ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته» ومن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة كأنهم طلبوا لهم السبب بعد ما سألوا المسبب «وذلك» إشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته أو إليها وإلى الوقاية وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من الإشعار ببعد درجة المشار إليه «هو الفوز العظيم» الذي لا مطمع وراءه لطامع «إن الذين كفروا» شروع في بيان أحوال الكفرة بعد دخول النار بعد ما بين فيما سبق أنهم أصحاب النار «ينادون» أي من مكان بعيد وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي وقعوا فيما وقعوا باتباع هواها أو مقت بعضهم بعضا من الأحباب كقوله تعالى يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا أي أبغضوها أشد البغض وأنكروها أبلغ الانكار وأظهروا ذلك على رؤوس الاشهاد فيقال لهم عند ذلك «لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم» أي لمقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء أو مقته إياكم في الدنيا «إذ تدعون» من جهة الأنبياء «إلى الإيمان» فتأبون قبوله «فتكفرون» اتباعا لأنفسكم الأمارة ومسارعة إلى هواها أو اقتداء بأخلائكم المضلين واستحبابا لآرائهم أكبر من مقتكم أنفسكم الأمارة أو من مقت بعضكم بعضا
268

اليوم فإذا ظرف للمقت الأول وإن توسط بينهما الخبر لما في الظروف من الاتساع وقيل لمصدر آخر مقدر أي مقته إياكم إذ تدعون وقيل مفعول لأذكروا والأول هو الوجه وقيل كلا المقتين في الآخرة وإذ تدعون تعليل لما بين الظرف والسبب من علاقة اللزوم والمعنى لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقتكم أنفسكم لما كنتم تدعون إلى الايمان فتكفرون وتخصيص هذا الوجه بصورة كون المراد بأنفسهم أضرابهم مما لا داعي إليه «قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين» صفتان لمصدري الفعلين المذكورين أي إماتتين وإحياءتين أو موتتين وحياتين على أنهما مصدران لهما أيضا بحذف الزوائد ولفعلين يدل عليهما المذكوران فإن الإماتة والإحياء ينبئان عن الموت والحياة حتما كأنه قيل أمتنا فمتنا موتتين اثنتين وأحييتنا فحيينا حياتين اثنتين على طريقة قول من قال
[وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع * من المال إلا مسحت أو مجلف]
أي لم تدع فلم يبق إلا مسحت الخ قيل أرادوا بالأمانة الأولى خلقهم أمواتا وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم على أن الإماتة جعل الشئ عادم الحياة أعم من أن يكون بإنشائه كذلك كما في قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل أو بجعله كذلك بعد الحياة وبالإحياءين الإحياء الأول وإحياء البعث وقيل أرادوا بالإماتة الأولى ما بعد حياة الدنيا وبالثانية ما بعد حياة القبر وبالإحياءين ما في القبر وما عند البعث وهو الأنسب بحالهم وأما حديث لزوم الزيادة على النص ضرورة تحقق حياة الدنيا فمدفوع لكن لا بما قيل من عدم اعتدادهم بها لزوالها وانقضائها وانقطاع آثارها وأحكامها بل بأن مقصودهم إحداث الاعتراف بما كانوا ينكرونه في الدنيا كما ينطق به قولهم «فاعترفنا بذنوبنا» والتزام العمل بموجب ذلك الاعتراف ليتوسلوا بذلك إلى ما علقوا به أطماعهم الفارغة من الرجع إلى الدنيا كما قد صرحوا به حيث قالوا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون وهو الذي أرادوه بقولهم «فهل إلى خروج من سبيل» مع نوع استبعاد له واستشعار يأس منه لا أنهم قالوه بطريق القنوط البحت كما قيل ولا ريب في ان الذي كان ينكرونه ويفرعون عليه فنون الكفر والمعاصي ليس إلا الإحياء بعد الموت وأما الاحياء الأول فلم يكونوا ينكرونه لينظموه في سلك ما اعترفوا به وزعموا أن الاعتراف يجديهم نفعا وإنما ذكروا الموتة الأولى مع كونهم معترفين بها في الدنيا لتوقف حياة القبر عليها وكذا حال الموتة في القبر فإن مقصدهم الأصلي هو الاعتراف بالإحياءين وإنما ذكروا الإماتتين لترتيبهما عليهما ذكرا حسب ترتيبهما عليهما وجودا وتنكير سبيل للإبهام أي من سبيل ما كيفما كان وقوله تعالى «ذلكم» الخ جواب لهم باستحالة حصول ما يرجونه ببيان ما يوجبها من أعمالهم السيئة أي ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب مطلقا لا مقيدا بالخلود كما قيل «بأنه» أي بسبب أن الشأن «إذا دعي الله» في الدنيا أي عبد «وحده» أي منفردا «كفرتم» أي بتوحيده «وإن
269

يشرك به تؤمنوا» أي بالإشراك به وتسارعوا فيه وفي إيراد إذا وصيغة الماضي في الشرطية الأولى وإن وصيغة المضارع في الثانية مالا يخفى من الدلالة على كمال سوء حالهم وحيث كان حالكم كذلك «فالحكم لله» الذي لا يحكم الا بالحق ولا يقضي الا بما تقتضيه الحكمة «العلي الكبير» الذي ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في افعاله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه وقد حكم بأنه لا مغفرة للمشرك ولا نهاية لعقوبته كما لا نهاية لشناعته فلا سبيل لكم إلى الخروج ابدا «هو الذي يريكم آياته» الدالة على شؤونه العظيمة الموجبة لتفرده بالألوهية لتستدلوا بها على ذلك وتعملوا بموجبها فتوحدوه تعالى وتخصوه بالعبادة «وينزل» بالتشديد وقرئ بالتخفيف من الانزال «لكم من السماء رزقا» أي سبب رزق وهو المطر وافراده بالذكر مع كونه من جملة الآيات الدالة على كمال قدرته تعالى لنفرده بعنوان كونه
من آثار رحمته وجلائل نعمته الموجبة للشكر وصيغة المضارع في الفعلين الدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل واستمرارهما وتقديم الجار والمجرور على المفعول لما مر غير مرة «وما يتذكر» بتلك الآيات الباهرة ولا يعمل بمقتضاها «إلا من ينيب» إلى الله تعالى ويتفكر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة ونعمته الشاملة الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى ومن ليس كذلك فهو بمعزل من التذكر والاتعاظ «فادعوا الله مخلصين له الدين» أي إذا كان الامر كما ذكر من اختصاص التذكر بمن ينيب فاعبدوه أيها المؤمنون مخلصين له دينكم بموجب إنابتكم اليه تعالى وايمانكم به «ولو كره الكافرون» ذلك وغاظهم إخلاصكم «رفيع الدرجات» نحو بديع السماوات على انه صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها بعد النقل إلى فعل بالضم كما هو المشهور وتفسيره بالرافع ليكون من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول بعيد في الاستعمال أي رفيع درجات ملائكته أي معارجهم ومصاعدهم إلى العرش «ذو العرش» أي مالكه وهما خبران آخران لقوله تعالى هو اخبر عنه بهما ايذانا بعلو شأنه تعالى وعظم سلطانه الموجبين لتخصيص العبادة به واخلاص الدين له اما بطريق الاستشهاد بهما عليهما فإن ارتفاع معارج ملائكته إلى العرش وكون العرش العظيم المحيط بأكناف العالم العلوي والسفلي تحت ملكوته وقبضة قدرته مما يقضي بكون علو شأنه وعظم سلطانه في لا غاية وراءها واما بجعلهما عبارة عنهما بطريق المجاز المتفرع على الكناية كالاستواء على العرش وتمهيدا لما يعقبهما من قوله تعالى «يلقي الروح من أمره» فإنه خبر آخر لما ذكر منبىء عن انزال الرزق الروحاني الذي هو الوحي بعد بيان انزال الرزق الجسماني الذي هو المطر أي ينزل الوحي الجاري من القلوب منزلة الروح من الأجساد وقوله
270

تعالى من امره بيان للروح الذي أريد به الوحي فإنه امر بالخير أو حال منه أي حال كونه ناشئا ومبتدأ من امره أو صفة له على رأي من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي الروح الكائن من امره أو متعلق بباقي ومن للسببية كالباء مثل ما في قوله تعالى مما خطيئاتهم أي يلقي الوحي بسبب امره «على من يشاء من عباده» وهو الذي اصطفاه لرسالته وتبليغ احكامه إليهم «لينذر» أي الله تعالى أو الملقي عليه أو الروح وقرئ لتنذر على ان الفاعل هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو الروح لأنها قد تؤنث «يوم التلاق» اما ظرف للمفعول الثاني أي لينذر الناس العذاب يوم التلاق وهو يوم القيامة لأنه يتلاقى فيه الأرواح والأجسام وأهل السماوات والأرض أو هو المفعول الثاني اتساعا أو اصالة فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالانذار اصالة وقرئ لينذر على البناء للمفعول ورفع اليوم «يوم هم بارزون» بدل من يوم التلاق أي خارجون من قبورهم أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو اكمة أو بناء لكون الأرض يومئذ قاعا صفصفا ولا عليهم ثياب انما هم عراة مكشوفون كما جاء في الحديث يحشرون عراة حفاة غرلا وقيل ظاهرة نفوسهم لا تحجبهم غواشي الأبدان أو اعمالهم وسرائرهم «لا يخفى على الله منهم شيء» استئناف لبيان بروزهم وتقرير له وإزاحة لما كان يتوهمه المتوهمون في الدنيا من الاستتار توهما باطلا أو خبر ثان وقيل حال من ضمير بارزون أي لا يخفى عليه شيء ما من أعيانهم واعمالهم وأحوالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار» حكاية لما يقع حينئذ من السؤال والجواب بتقدير قول معطوف على ما قبله من الجملة المنفية المستأنفة أو مستأنف يقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية بروزهم وظهور أحوالهم كأنه قيل فماذا يكون حينئذ فقيل يقال الخ أي ينادي مناد لمن الملك اليوم فيجيبه أهل المحشر لله الواحد القهار وقيل المجيب هو السائل بعينه لما روى انه يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد في ارض بيضاء كأنها سبيكه فضة لم يعص الله فيها قط فأول ما يتكلم به ان ينادي مناد لمن الملك اليوم لله الواحد القهار وقيل حكاية لما ينطق به لسان الحال من تقطع أسباب للتصرفات المجازية واختصاص جميع الأفاعيل بقبضة القدرة الإلهية «اليوم تجزى كل نفس بما كسبت» الخ اما من تتمة الجواب لبيان حكم اختصاص الملك به تعالى ونتيجته التي هي الحكم السوي والقضاء الحق أو حكاية لما سيقوله تعالى يومئذ عقيب السؤال والجواب أي تجزى كل نفس من النفوس البرة الفاجرة بما كسبت من خير أو شر «لا ظلم اليوم» بنقص ثواب أو زيادة عذاب «إن الله سريع الحساب» أي سريع حسابه تماما إذ لا يشغله تعالى شأن عن شأن فيحاسب الخلائق قاطبة في أقرب زمان كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما انه تعالى إذا اخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة الا فيها ولا أهل النار الا فيها فيكون تعليلا لقوله تعالى اليوم تجزى الخ فإن كون ذلك اليوم بعينه يوم التلاقي ويوم البروز ربما يوهم استبعاد وقوع الكل
271

فيه أو سريع مجيئا فيكون تعليلا للانذار «وأنذرهم يوم الآزفة» أي القيامة سميت بها لأزوفها وهو القرب غير ان فيه اشعارا بضيق الوقت وقيل الخطة الآزفة وهي مشارفة أهل النار دخولها وقيل وقت حضور الموت كما في قوله تعالى فلولا إذا بلغت الحلقوم وقوله كلا إذا بلغت التراقي وقوله تعالى «إذ القلوب لدى الحناجر» بدل من يوم الآزفة فإنها ترتفع من أماكنها فتلتصق بحلوقهم فلا تعود فيتروحوا ولا تخرج فيستريحوا بالموت «كاظمين» على الغم حال من أصحاب القلوب على المعنى إذ الأصل قلوبهم أو من ضميرها في الظرف وجمع السلامة باعتبار ان الكظم من أحوال العقلاء كقوله تعالى فظلت أعناقهم لها خاضعين أو من مفعول أنذرهم على انها حال مقدرة أي أنذرهم مقدرا كظمهم أو مشارفين الكظم «ما للظالمين من حميم» أي قريب مشفق «ولا شفيع يطاع» أي لا شفيع مشفع على معنى نفي الشفاعة والطاعة معا على طريقة قوله على لا حب لا يهتدى بمناره والضمائر ان عادت إلى الكفار وهو الظاهر فوضع الظالمين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم به «يعلم خائنة الأعين» النظرة الخائنة كالنظرة الثانية إلى غير المحرم واستراق النظر اليه أو خيانة الأعين على انها مصدر كالعافية «وما تخفي الصدور» من الضمائر والاسرار والجملة خبر آخر مثل يلقى الروح للدلالة على انه ما من خفي الا وهو متعلق العلم والجزاء «والله يقضي بالحق» لأنه المالك الحاكم على الاطلاق فلا يقضي بشيء الا وهو حق وعدل «والذين يدعون» يعبدونهم «من دونه» تعالى «لا يقضون بشيء» تهكم بهم لان الجماد لا يقال في حقه يقضي أولا يقضي وقرئ تدعون على الخطاب التفاتا أو على اضمار قل «إن الله هو السميع البصير» تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وقضائه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون وتعريض بحال ما يدعون من دونه «أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم» أي مآل حال من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم كعاد وثمود واضرابهم «كانوا هم أشد منهم قوة» قدرة وتمكنا من التصرفات وانما جيء بضمير الفصل مع ان حقه التوسط بين معرفتين لمضاهاة افعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه وقرئ أشد
منكم بالكاف «وآثارا في الأرض» مثل القلاع الحصينة والمدائن المنينة وقيل المعنى وأكثر آثارا كقوله متقلدا سيفا ورمحا «فأخذهم الله بذنوبهم» اخذا وبيلا «وما كان لهم من الله
272

من واق» أي من واق يقيهم عذاب الله «ذلك» أي ما ذكر من الاخذ «بأنهم» بسبب انهم «كانت تأتيهم رسلهم بالبينات» أي بالمعجزات أو بالاحكام الظاهرة «فكفروا فأخذهم الله إنه قوي» متمكن مما يريد غابة التمكن «شديد العقاب» لا يؤبه عند عقابه بعقاب «ولقد أرسلنا موسى بآياتنا» وهي معجزاته «وسلطان مبين» أي وحجة قاهرة وهي اما عين الآيات والعطف لتغاير العنوانين واما بعض مشاهيرها كالعصا أفردت بالذكر مع اندراجها تحت الآيات لأن فيها افراد جبريل وميكال به مع دخولهما في الملائكة عليهم السلام «إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب» أي فيما أظهره من المعجزات وفيما ادعاه من رسالة رب العالمين «فلما جاءهم بالحق من عندنا» وهو ما ظهر على يده من المعجزات القاهرة «قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم» كما قال فرعون سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلونه أولا وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان فلما بعث صلى الله عليه وسلم وأحس بأنه قد وقع ما وقع اعاده عليهم غيظا وحنقا وزعما منه انه يصدهم بذلك عن مظاهرته ظنا منهم انه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكهم على يده «وما كيد الكافرين إلا في ضلال» أي في ضياع وبطلان لا يغني عنهم شيئا وينفذ عليهم لا محالة القدر المقدور والقضاء المحتوم واللام اما للعهد والاظهار في موقع الاضمار لذمهم بالكفر والاشعار بعلة الحكم أو للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا والجملة اعتراض جيء به في تضاعيف ما حكى عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الأبراق والارعاد واضمحلاله بالمرة «وقال فرعون ذروني أقتل موسى» كان ملؤه إذا هم بقتله عليه الصلاة والسلام وكفوه بقولهم ليس هذا بالذي تخافه فإنه أقل من ذلك واضعف وما هو الا بعض السحرة وبقولهم إذا قتلته أدخلت على الناس شبهة واعتقدوا انك عجزت عن معارضته بالحجة وعدلت إلى المقارعة بالسيف والظاهر من دهاء اللعين ونكارته انه كان قد استيقن انه نبي وان ما جاء به آيات باهرة وما هو بسحر ولكن كان يخاف ان هم بقتله ان يعاجل بالهلاك وكان قوله هذا تمويها على قومه وإيهاما انهم هم الكافون له عن قتله
273

ولولاهم لقتله وما كان الذي يكفه الا ما في نفسه من الفزع الهائل وقوله «وليدع ربه» تجلد منه واظهار لعدم المبالاة بدعائه ولكنه أخوف ما يخافه «إني أخاف» ان لم اقتله «أن يبدل دينكم» ان يغير ما أنتم عليه من الدين الذي هو عبارة عن عبادته وعبادة الأصنام لتقربهم اليه «أو أن يظهر في الأرض الفساد» ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج ان لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية وقرئ بالواو الجامعة وقرئ بفتح الياء والهاء ورفع الفساد وقرئ بظهر بتشديد الظاء والهاء من تظاهر أي تتابع وتعاون «وقال موسى» أي لقومه حين سمع بما تقوله اللعين من حديث قتله عليه الصلاة والسلام «إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب» صدر عليه الصلاة والسلام كلامه بأن تأكيدا له واظهارا لمزيد الاعتناء بمضمونه وفرط الرغبة فيه وخص اسم الرب المنبىء عن الحفظ والتربية لأنهما الذي يستدعيه وأضافه اليه واليهم حثا لهم على موافقته في العياذ به تعالى والتوكل عليه فإن في تظاهر النفوس تأثيرا قويا في استجلاب الإجابة ولم يسم فرعون بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة لتعميم الاستعاذة والاشعار بعلة القساوة والجرأة على الله تعالى وقرئ عدت بالادغام «وقال رجل مؤمن من آل فرعون» قيل كان قبطيا ابن عم لفرعون آمن بموسى سرا وقيل كان إسرائيليا أو غريبا موحدا «يكتم إيمانه» أي من فرعون وملئه «أتقتلون رجلا» أتقصدون قتله «أن يقول» لان يقول أو كراهة ان يقول «ربي الله» أي وحده من غير روية وتأمل في امره «وقد جاءكم بالبينات» والحال انه قد جاءكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها وعهدتموها «من ربكم» إضافة إليهم بعد ذكر البينات احتجاجا عليهم واستنزالا لهم عن رتبة المكابرة ثم اخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط فقال «وإن يك كاذبا فعليه كذبه» لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله «وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم» أي ان لم يصبكم كله فلا أقل من إصابة بعضه لا سيما ان تعرضتم له بسوء وهذا كلام صادر عن غاية الانصاف وعدم التعصب ولذلك قدم من شقي الترديد كونه كاذبا أو يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض ما يعدهم كأنه خوفهم بما اظهر احتمالا عندهم وتفسير البعض بالكل مستدلا بقول لبيد
* تراك أمكنة إذا لم ارضها
* أو يرتبط بعض النفوس حمامها
* مردود لما ان مراده بالبعض نفسه «إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب» احتجاج آخر ذو وجهين أحدهما انه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله تعالى إلى البينات ولما أيده بتلك المعجزات وثانيهما ان كان كذلك خذله الله وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله ولعله أراهم المعنى الثاني وهو عاكف على المعنى الأول لتلين شكيمتهم وقد عرض به لفرعون بأنه
274

مسرف كذاب لا يهديه الله سبيل الصواب ومنهاج النجاة «يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين» غالبين عالين على بني إسرائيل «في الأرض» أي ارض مصر لا يقاومكم أحد في هذا الوقت «فمن ينصرنا من بأس الله» من اخذه وعذابه «إن جاءنا» أي فلا تفسدوا امركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله فإن جاءنا لم يمنعنا منه أحد وانما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه في سلكهم فيما يسوؤهم من مجيء بأس الله تعالى تطييبا لقلوبهم وايذانا بأنه مناصح لهم ساع في تحصيل ما يجديهم ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه «قال فرعون» بعد ما سمع نصحه «ما أريكم» أي ما أشير عليكم «إلا ما أرى» واستصوبه من قتله «وما أهديكم» بهذا الرأي «إلا سبيل الرشاد» أي الصواب أولا أعلمكم الا ما اعلم ولا أسر عنكم خلاف ما أظهره ولقد كذب حيث كان مستشعرا للخوف الشديد ولكنه كان يتجلد ولولاه لما استشار أحدا ابدا وقرئ بتشديد الشين للمبالغة من رشد كعلام أو من رشد كعباد لامن أرشد كجبار من أجبر لأنه مقصور على السماع أو للنسبة إلى الرشد كعواج وبتات غير منظور فيه إلى فعل «وقال الذي آمن» مخاطبا لقومه «يا قوم إني أخاف عليكم» في تكذيبه والتعرض له بالسوء «مثل يوم الأحزاب» مثل
أيام الأمم الماضية يعني وقائعهم وجمع الأحزاب مع التفسير اغنى عن جمع اليوم «مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود» أي مثل جزاء ما كانوا عليه من الكفر وايذاء الرسل «والذين من بعدهم» كقوم لوط «وما الله يريد ظلما للعباد» فلا يعاقبهم بغير ذنب ولا يخلى الظالم منهم بغير انتقام وهو أبلغ من قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد لما ان المنفي فيه إرادة ظلم ما ينتفي الظلم بطريق الأولوية «ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد» خوفهم بالعذاب الأخروي بعد تخويفهم بالعذاب الدنيوي ويوم التناد يوم القيامة لأنه ينادي فيه بعضهم للاستغاثة أو يتصايحون بالويل والثبور أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار حسبما حكى في سورة الأعراف وقرئ بتشديد الدال وهو ان يند بعضهم من بعض كقوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وعن الضحاك إذا سمعوا زفير النار هربا فلا يأتون قطرا من الأقطار الا وجدوا ملائكة صفوفا فبينا هم بموج بعضهم في بعض إذ سمعوا مناديا اقبلوا إلى الحساب «يوم تولون مدبرين» بدل من يوم التناد أي منصرفين عن الموقف إلى النار أو فارين منها حسبما نقل آنفا
275

«ما لكم من الله من عاصم» يعصمكم من عذابه والجملة حال أخرى من ضمير تولون «ومن يضلل الله فما له من هاد» يهديه إلى طريق النجاة «ولقد جاءكم يوسف» هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام على ان فرعونه فرعون موسى أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد وقيل سبطه يوسف بن إبراهيم بن يوسف الصديق «من قبل» من قبل موسى «بالبينات» بالمعجزات الواضحة «فما زلتم في شك مما جاءكم به» من الدين «حتى إذا هلك» بالموت «قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا» ضما إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده أو جزما بأن لا يبعث بعده رسول مع الشك في رسالته وقرئ ألن يبعث الله على ان بعضهم يقرر بعضا بنفي البعث «كذلك» مثل ذلك الاضلال الفظيع «يضل الله من هو مسرف» في عصيانه «مرتاب» في دينه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك في التقليد «الذين يجادلون في آيات الله» بدل من الموصول الأول أو بيان له أو صفة باعتبار معناه كأنه قيل كل مسرف مرتاب أو المسرفين المرتابين «بغير سلطان» متعلق يجادلون أي بغير حجة صالحة للتمسك بها في الجملة «آتاهم» صفة سلطان «كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا» فيه ضرب من التعجب والاستعظام وفي كبر ضمير يعود إلى من وتذكيره باعتبار اللفظ وقيل إلى الجدال المستفاد من يجادلون «كذلك» أي مثل ذلك الطبع الفظيع «يطبع الله على كل قلب متكبر جبار» فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الاسراف والارتياب والمجادلة بالباطل وقرئ بتنوين قلب ووصفه بالتكبر والتجبر لأنه منعهما «وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا» أي بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذ ظهر «لعلي أبلغ الأسباب» أي الطرق «أسباب السماوات» بيان لها وفي ابهامها ثم ايضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها «فأطلع إلى إله موسى» بالنصب على جواب الترجي وقرئ بالرفع عطفا على أبلغ ولعله أراد ان يبني له رصدا في موضع عال ليرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على ارسال الله تعالى إياه أو ان يرى فساد قوله عليه الصلاة والسلام بأن اخباره من اله السماء يتوقف على اطلاعه عليه ووصوله اليه وذلك لا يتأتي الا بالصعود إلى السماء وهو مما
276

لا يقوى عليه الانسان وما ذاك الا لجهله بالله سبحانه وكيفية استنبائه «وإني لأظنه كاذبا» فيما يدعيه من الرسالة أي ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط «زين لفرعون سوء عمله» فانهمك فيه انهماكا لا يرعوي عنه بحال «وصد عن السبيل» أي سبيل الرشاد والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى ويؤيده قراءة زبن بالفتح وبالتوسط لشيطان وقرئ وصد على ان فرعون صد الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات والشبهات ويؤيده قوله تعالى «وما كيد فرعون إلا في تباب» أي خسار وهلاك أو على انه من صد صدودا أي اعرض وقرئ بكسر الصاد على نقل حركة الدال اليه وقرئ وصد على انه عطف على سوء عمله وقرئ وصدوا أي هو وقومه «وقال الذي آمن» أي مؤمن آل فرعون وقيل موسى عليه السلام «يا قوم اتبعون» فيما دللتكم عليه «أهدكم سبيل الرشاد» أي سبيلا يصل سالكه إلى المقصود وفيه تعريض بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغي والضلال «يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع» أي تمتع يسير لسرعة زوالها أجمل لهم أولا ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها لان الاخلاد إليها راس كل شر ومنه تتشعب فنون ما يؤدي إلى سخط الله تعالى ثم ثنى بتعظيم الآخرة فقال «وإن الآخرة هي دار القرار» لخلودها ودوام ما فيها «من عمل» في الدنيا «سيئة فلا يجزى» في الآخرة «إلا مثلها» عدلا من الله سبحانه وفيه دليل على ان الجنايات تغرم بأمثالها «ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك» الذين عملوا ذلك «يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب» أي بغير تقدير وموازنة بالعمل بل اضعافا مضاعفة فضلا من الله عز وجل ورحمة وجعل العمل عمدة والايمان حالا للايذان بأنه لا عبرة بالعمل بدونه وان ثوابه أعلى من ذلك «ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار» كرر نداءهم إيقاظا لهم عن سنة الغفلة واعتناء بالمنادي له ومبالغة في توبيخهم على ما يقالون به نصحه ومدار التعجب الذي يلوح الاستفهام دعوتهم إياه إلى النار ودعوته إياهم إلى النجاة كأنه قيل أخبروني كيف هذه الحال أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر وقد جعله بعضهم من قبيل مالي أراك حزينا وقوله تعالى «تدعونني لأكفر بالله» بدل أو بيان فيه تعليل والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام «وأشرك به ما ليس لي به علم» بشركته له تعالى في المعبودية وقيل بربوبيته «علم» والمراد نفي المعلوم والاشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان موجب
277

العلم بها «وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار» الجامع لجميع صفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران «لا جرم» لا رد لما دعوه اليه وجرم فعل ماض بمعنى حق وفاعله قوله تعالى «أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة» أي حق ووجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلا أو عدم دعوة مستجابة دعوة لها وقيل جرم بمعنى كسب وفاعله مستكن فيه أي كسب ذلك الدعاء اليه بطلان دعوته بمعنى ما حصل من ذلك الا ظهور بطلان دعوته وقيل جرم فعل من الجرم وهو القطع كما ان بدا من لا بد فعل من التبديد أي التفريق والمعنى لا قطع لبطلان ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فينقلب حقا ويؤيده قولهم لاجرم انه يفعل بضم الجيم وسكون الراء وفعل وفعل اخوان كرشد ورشد «وأن مردنا إلى الله» أي بالموت عطف على ان ما تدعونني داخل في حكمه وكذا قوله تعالى «وأن المسرفين» أي في الضلال والطغيان كالاشراك وسفك الدماء «هم أصحاب النار» أي ملازموها «فستذكرون»
وقرئ فستذكرون أي فسيذكر بعضكم بعضا عند معاينة العذاب «ما أقول لكم» من النصائح «وأفوض أمري إلى الله» قاله لما انهم كانوا توعدوه «إن الله بصير بالعباد» فيحرس من يلوذ به من المكاره «فوقاه الله سيئات ما مكروا» شدائد مكرهم وما هموا به من الحاق أنواع العذاب بمن خالفهم قيل نجامع موسى عليه السلام «وحاق بآل فرعون» أي بفرعون وقومه وعدم التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره ضرورة انه أولى منهم بذلك وقيل بطلبة المؤمن من قومه لما انه فر إلى جبل فاتبعه طائفة ليأخذوه فوجدوه يصلي والوحوش صفوف حوله فرجعوا رعبا فقتلهم «سوء العذاب» الغرق والقتل والنار «النار يعرضون عليها غدوا وعشيا» جملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية سوء العذاب أو النار خبر مبتدأ محذوف كأن قائلا قال ما سوء العذاب فقيل هو النار ويعرضون استئناف للبيان أو بدل من سوء العذاب ويعرضون حال منها أو من الآل ولا يشترط في الحيق ان يكون الحائق ذلك السوء بعينه حتى يرد ان آل فرعون لم يهموا بتعذيبه بالنار ليكون ابتلاؤهم بها من قبيل رجوع ما هموا به عليهم بل يكفي في ذلك ان يكون مما يطلق عليه اسم السوء وقرئت منصوبة على الاختصاص أو بإضمار فعل يفسره يعرضون مثل يصلون فإن عرضهم على النار بإحراقهم بها من قولهم عرض الأساري على السيف إذا قتلوا به وذلك لأرواحهم
278

كما روى ابن مسعود رضي الله عنه ان أرواحهم في أجواف طير سود تعرض على النار بكرة وعشيا إلى يوم القيامة وذكر الوقتين اما للتخصيص واما فيما بينهما فالله تعالى اعلم بحالهم واما للتأييد هذا ما دامت الدنيا «ويوم تقوم الساعة» يقال للملائكة «أدخلوا آل فرعون أشد العذاب» أي عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم فإن عذابها ألوان بعضها أشد من بعض وقرئ ادخلوا من الدخول أي يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب «وإذ يتحاجون في النار» أي واذكر لقومك وقت تخاصمهم فيها «فيقول الضعفاء» منهم «للذين استكبروا» وهم رؤساؤهم «إنا كنا لكم تبعا» أتباعا كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع أي اتباع على اضمار المضاف أو تبعا على الوصف بالمصدر مبالغة «فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار» بالدفع أو بالحمل ونصيبا منصوب بمضمر يدل عليه مغنون أي دافعون عنا نصيبا الخ أو بمغنون على تضمينه معنى الحمل أي مغنون عنا حاملين نصيبا الخ أو نصب على المصدرية كشيئا في قوله تعالى لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا فإنه في موقع غناء فكذلك نصيبا «قال الذين استكبروا إنا كل فيها» أي نحن وأنتم فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا وقرئ كلا على التأكيد لاسم ان بمعنى كلنا وتنويه عوض عن المضاف اليه ولا مساغ لجعله حالا من المستكن في الظرف فإنه لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم فإنك تقول كل يوم لك ثوب ولا تقول جديدا لك ثوب «إن الله قد حكم بين العباد» وقضى قضاء متقنا لا مرد له ولا معقب لحكمه «وقال الذين في النار» من الضعفاء والمستكبرين جميعا لما ضاقت حيلهم وعيت بهم عللهم «لخزنة جهنم» أي للقوام بتعذيب أهل النار ووضع جهنم موضع الضمير للتهويل والتفظيع أو لبيان محلهم فيها بأن تكون جهنم ابعد دركات النار وفيها اعني الكفرة وأطغاهم أو لكون الملائكة الموكلين بعذاب أهلها أقدر على الشفاعة لمزيد قربهم من الله تعالى «ادعوا ربكم يخفف عنا يوما» أي مقدار يوم أو في يوم ما من الأيام على انه ظرف لا معيار شيئا «من العذاب» واقتصارهم في الاستدعاء على ما ذكر من تخفيف قدر يسير من العذاب في مقدار قصير من الزمان دون رفعه رأسا أو تخفيف قدر كثير منه في زمان مديد لان ذلك عندهم مما ليس في حيز الامكان ولا يكاد يدخل تحت أمانيهم «قالوا» أي الخزنة «أولم تك تأتيكم رسلكم
279

بالبينات» أي ألم تنبهوا على هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا على الاستمرار بالحجج الواضحة الدالة على سوء مغبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي كما في قوله تعالى ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا أرادوا بذلك الزامهم وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء وتعطيل أسباب الإجابة «قالوا بلى» أي اتونا بها فكذبناهم كما نطق به قوله تعالى بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ان أنتم الا في ضلال كبير والفاء في قوله تعالى «قالوا فادعوا» فصحية كما في قول من قال فقد جئنا خراسانا أي إذا كان الامر كذلك فادعوا أنتم فإن الدعاء لمن يفعل ذلك مما يستحيل صدوره عنا وتعليل امتناعهم عن الدعاء بعدم الاذن فيه مع عرائه عن بيان ان سببه من قبلهم كما تفصح عنه الفاء ربما يوهم ان الاذن في حيز الامكان وانهم لو اذن لهم فيه لفعلوا ولم يريدوا بأمرهم بالدعاء أطماعهم في الإجابة بل إقناطهم منها واظهار خيبتهم حسبما صرحوا في قولهم «وما دعاء الكافرين إلا في ضلال» أي ضياع وبطلان وقوله تعالى «إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا» الخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى لبيان ان ما صاب الكفرة من العذاب المحكي من فروع حكم كلي تقتضيه الحكمة وهو ان شأننا المستمر انا ننصر رسلنا واتباعهم «في الحياة الدنيا» بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي وغير ذلك من العقوبات ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق لهم من صورة الغلبة امتحانا إذ العبرة انما هي بالعواقب وغالب الامر «ويوم يقوم الأشهاد» أي يوم القيامة عبر عنه بذلك للاشعار بكيفية النصرة وانها تكون عند جميع الأولين والآخرين بشهادة الاشهاد للرسل بالتبليغ وعلى الكفرة بالتكذيب «يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم» بدل من الأول وعدم نفع المعذرة لأنها باطلة وقرئ لا تنفع بالتاء «ولهم اللعنة» أي البعد عن الرحمة «ولهم سوء الدار» أي جهنم «ولقد آتينا موسى الهدى» ما يهتدي به من المعجزات والصحف والشرائع «وأورثنا بني إسرائيل الكتاب» وتركنا عليهم من بعده التوراة «هدى وذكرى» هداية وتذكرة أو هاديا ومذكرا «لأولي الألباب» لذوي العقول السليمة العاملين بما في تضاعيفه «فاصبر» على ما نالك من أذية المشركين «إن وعد الله» أي وعده الذي ينطق به قوله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون أو وعده الخاص بك أو جميع مواعيده التي من جملتها ذلك «حق» لا يحتمل الاخلاف أصلا واستشهد بحال موسى وفرعون
280

«واستغفر لذنبك» تداركا لما فرط منك من ترك الأولى في بعض الأحايين فإنه تعالى كافيك في نصرة دينك واظهاره على الدين كله «وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار» أي ودم على التسبيح ملتبسا بحمده تعالى وقيل صل لهذين الوقتين إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وركعتين عشيا وقيل صل شكرا لربك بالعشي والابكار وقيل هما صلاة العصر وصلاة الفجر «إن الذين يجادلون في آيات الله» ويجحدون بها «بغير سلطان أتاهم» في ذلك من جهته تعالى وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة اتيانه للايذان بأن التكلم في امر الدين لا بد من استناده إلى سلطان مبين البتة وهذا عام لكل مجادل مبطل وان نزل في مشركي مكة وقوله تعالى «إن في صدورهم إلا كبر»
خبر لان أي ما في قلوبهم الا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر والتعلم أو الا إرادة الرياسة والتقدم على الاطلاق أو الا إرادة ان تكون النبوة لهم دونك حسدا وبغيا حسبما قالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وقالوا لو كان خيرا ما سبقونا اليه ولذلك يجادلون فيها لا ان فيها موقع جدال ما وان لهم شيئا يتوهم ان يصلح مدارا لمجادلتهم في الجملة وقوله تعالى «ما هم ببالغيه» صفة لكبر قال مجاهد ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر وهو ما أرادوه من الرياسة أو النبوة وقيل المجادلون هم اليهود وكانوا يقولون لست صاحبنا المذكور في التوراة بل هو المسيح بن داود يريدون الدجال يخرج في آخر الزمان ويبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار وهو آية من آيات الله تعالى فيرجع الينا الملك فسمى الله تعالى تمنيهم ذلك كبرا ونفى ان يبلغوا متمناهم «فاستعذ بالله» أي فالتجيء اليه من كيد من يحسدك ويبغي عليك وفيه رمز إلى انه من همزات الشياطين «إنه هو السميع البصير» لأقوالكم وأفعالكم وقوله تعالى «لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس» تحقيق للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه من امر البعث على منهاج قوله تعالى أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على ان يخلق مثلهم «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» لقصورهم في النظر والتأمل لفرط غفلتهم واتباعهم لأهوائهم «وما يستوي الأعمى والبصير» أي الغافل والمستبصر «والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ» أي والمحسن والمسيء فلا بد ان تكون لهم حال أخرى يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت وهي فيما بعد البعث وزيادة لا في المسئ لتأكيد النفي لطول الكلام بالصلة ولان المقصود نفي مساواته للمحسن فيما له من الفضل والكرامة والعاطف الثاني عطف الموصول بما عطف عليه على الأعمى والبصير لتغاير الوصفين في المقصود أو الدلالة بالصراحة والتمثيل «قليلا ما تتذكرون» على الخطاب بطريق الالتفات
281

أي تذكرا قليلا تتذكرون وقرئ على الغيبة والضمير للناس أو الكفار «إن الساعة لآتية لا ريب فيها» أي في مجيئها لوضوح شواهدها واجماع الرسل على الوعد بوقوعها «ولكن أكثر الناس لا يؤمنون» لا يصدقون بها لقصور انظارهم على ظواهر ما يحسون به «وقال ربكم ادعوني» أي اعبدوني «أستجب لكم» أي أنبكم لقوله تعالى «إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين» أي صاغرين أذلاء وان فسر الدعاء بالسؤال كان الامر الصارف عنه منزلا منزلة الاستكبار عن العبادة للمبالغة أو المراد بالعبادة الدعاء فإنه من أفضل أبوابها وقرئ سيدخلون على صيغة المبني للمفعول من الادخال «الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه» بأن خلقه باردا مظلما ليؤدي إلى ضعف الحركات وهدء الحواس لتستريحوا فيه وتقدم الجار والمجرور على المفعول قد مر سره مرارا «والنهار مبصرا» أي مبصرا فيه أو به «إن الله لذو فضل» عظيم لا يوازيه ولا يدانيه فضل «على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون» لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواضع النعم وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم «ذلكم» المتفرد بالافعال المقتضية للألوهية والربوبية «الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو» اخبار مترادفة تخصص اللاحقة منها السابقة وتقررها وقرئ خالق بالنصب على الاختصاص فيكون لا اله الا هو استئناف بما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة «فأنى تؤفكون» فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته خاصة إلى عبادة غيره «كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون» أي مثل ذلك الافك العجيب الذي لا وجه له ولا مصحح أصلا يؤفك كل من جحد بآياته تعالى أي آية كانت لا افكا اخر له وجه ومصحح في الجملة «الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء» بيان لفضله تعالى المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان وقوله تعالى «وصوركم فأحسن صوركم» بيان لفضله المتعلق بأنفسهم والفاء في فأحسن تفسيرية
282

فإن الاحسان عين التصوير أي صوركم أحسن تصوير حيث خلقكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء والتخطيطات متهيئا لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات «ورزقكم من الطيبات» أي اللذائذ «ذلكم» الذي بغت بما ذكر من النعوت الجليلة «الله ربكم» خبران لذلكم «فتبارك الله» أي تعالى بذاته «رب العالمين» أي مالكهم ومربيهم والكل تحت ملكوته مفتقر اليه في ذاته ووجوده وسائر أحواله جميعا بحيث لو انقطع فيضه عنه آنا لانعدم بالكلية «هو الحي» المتفرد بالحياة الذاتية الحقيقية «لا إله إلا هو» إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وافعاله «فادعوه» فاعبدوه خاصة لاختصاص ما يوجبه به تعالى «مخلصين له الدين» أي الطاعة من الشرك الجلي والخفي «الحمد لله رب العالمين» أي قائلين ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما من قال لا اله الا الله فليقل على اثرها الحمد لله رب العالمين «قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي» من الحجج والآيات أو من الآيات لكونها مؤيدة لأدلة العقل منبهة عليها فإن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التكوينية الآفاقية والأنفسية «وأمرت أن أسلم لرب العالمين» أي بأن انقاد له واخلص له ديني «هو الذي خلقكم من تراب» أي في ضمن خلق آدم عليه الصلاة والسلام منه حسبما مر تحقيقه مرارا «ثم من نطفة» أي ثم خلقكم خلقا تفصيليا من نطفة أي مني «ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا» أي أطفالا والافراد لإرادة الجنس أو لإرادة كل واحد من افراده «ثم لتبلغوا أشدكم» علة ليخرجكم معطوفه على علة أخرى له مناسبة لها كأنه قيل ثم يخرجكم طفلا لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل وكذا الكلام في قوله تعالى «ثم لتكونوا شيوخا» ويجوز عطفه على لتبلغوا وقرئ شيخا كقوله تعالى طفلا «ومنكم من يتوفى من قبل» أي من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد أو قبله أيضا «ولتبلغوا» متعلق بفعل مقدر بعده أي ولتبلغوا «أجلا مسمى» هو وقت الموت أو يوم القيامة بفعل ذلك «ولعلكم تعقلون» ولكي تعقلوا ما في ذلك من فنون الحكم والعبر «هو الذي يحيي» الأموات «ويميت» الاحياء أو الذي يفعل الاحياء والأمانة «فإذا قضى أمرا» أي أراد امرا من الأمور «فإنما يقول له كن فيكون» من غير توقف على شيء من الأشياء أصلا وهذا تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق ارادته بها وتصوير لسرعة
283

ترتب المكونات على تكوينه من غير ان يكون هناك امر ومأمور والفاء الأولى للدلالة على ان ما بعدها من نتائج ما قبلها من اختصاص الاحياء والأمانة به سبحانه «ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون» تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن وبسائر الكتب والشرائع وترتيب الوعيد على ذلك كما ان ما سبق من قوله تعالى ان الذين يجادلون في آيات الله الخ بيان لابتناء جدالهم على مبني فاسد لا يكاد يدخل تحت الوجود هو الأمنية الفارغة فلا تكرير فيه أي انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة الموجبة للايمان بها الزاجرة عن الجدال فيها كيف يصرفون عنها مع تعاضد
الدواعي إلى الاقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها بالكلية وقوله تعالى «الذين كذبوا بالكتاب» أي بكل القرآن أو بجنس الكتب السماوية فإن تكذيبه تكذيب لها في محل الجر على انه بدل من الموصول الأول أو في حيز النصب أو الرفع على الذم وانما وصل الموصول الثاني بالتكذيب دون المجادلة لان المعتاد وقوع المجادلة في بعض المواد لا في الكل وصيغة الماضي الدلالة على التحقق كما ان صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها «وبما أرسلنا به رسلنا» من سائر الكتب أو مطلق الوحي والشرائع «فسوف يعلمون» كنه ما فعلوا من الجدال والتكذيب عند مشاهدتهم لعقوباته «إذ الأغلال في أعناقهم» ظرف ليعلمون إذ المعني على الاستقبال ولفظ الماضي لتيقنه «والسلاسل» عطف على الاغلال والجار في نية التأخير وقيل مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر الأول عليه وقيل قوله تعالى «يسحبون» بحذف العائد أي يسحبون بها وهو على الأولين حال من المستكن في الظرف وقيل استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية حالهم كأنه قيل فماذا يكون حالهم بعد ذلك فقيل يسحبون «في الحميم» وقرئ والسلاسل يسحبون بالنصب وفتح الياء على تقديم المفعول وعطف الفعلية على الاسمية والسلاسل بالجر حملا على المعنى لان قوله تعالى الاغلال في أعناقهم في معنى أعناقهم في الاغلال أو اضمارا للباء ويدل عليه القراءة به «ثم في النار يسجرون» أي يحرقون من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ومنه السجير للصديق كأنه سجر بالحب أي ملىء والمراد بيان انهم يعذبون بأنواع العذاب وينقلون من باب إلى باب «ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون»
284

«من دون الله قالوا ضلوا عنا» أي يقال لهم ويقولون وصيغة الماضي للدلالة على التحقق ومعنى ضلوا عنا غابوا عنا وذلك قبل ان يقرن بهم آلهتهم أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم «بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا» أي بل تبين لنا انا لم نكن نعبد شيئا بعبادتهم لما ظهر لنا اليوم انهم لم يكونوا شيئا يعتد به كقولك حسبته شيئا فلم يكن «كذلك» أي مثل ذلك الضلال الفظيع «يضل الله الكافرين» حيت لا يهتدون إلى شيء ينفعهم في الآخرة أو كما ضل عنهم آلهتهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو تطالبوا لم يتصادفوا «ذلكم» الاضلال «بما كنتم تفرحون في الأرض» أي تبطرون وتتكبرون «بغير الحق» وهو الشرك والطغيان «وبما كنتم تمرحون» تتوسعون في البطر والأشر والالتفات للمبالغة في التوبيخ «ادخلوا أبواب جهنم» أي أبوابها السبعة المقسومة لكم «خالدين فيها» مقدرا خلودكم فيها «فبئس مثوى المتكبرين» أي عن الحق جهنم والتعبير عن مدخلهم بالمثوى لكون دخولهم بطريق الخلود «فاصبر» إلى ان يلاقوا ما أعد لهم من العذاب «إن وعد الله» بتعذيبهم «حق» كائن لا محالة «فإما نرينك» أي فإن نرك وما مزيدة لتأكيد الشرطية ولذلك لحقت النون الفعل ولا تلحقه مع ان وحدها «بعض الذي نعدهم» وهو القتل والأسر «أو نتوفينك» قبل ذلك «فإلينا يرجعون» يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم وهو جواب نتوفينك وجواب نرينك محذوف مثل فذاك ويجوز ان يكون جوابا لها بمعنى ان نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب وأفظعه كما ينبئ عنه الاقتصار على ذكر الرجوع في هذا المعرض «ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك» إذ قيل عدد الأنبياء عليهم السلام مائة وأربعة وعشرون ألفا والمذكور قصصهم افراد معدودة وقيل أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلالف من سائر الناس «وما كان لرسول» أي وما صح وما استقام لرسول منهم «أن يأتي بآية إلا بإذن الله» فإن المعجزات على تشعب فنونها عطايا من الله تعالى قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم ليس لهم اختار في ايثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح منها
285

«فإذا جاء أمر الله» بالعذاب في الدنيا والآخرة «قضي بالحق» بإنجاء المحق وإثابته واهلاك المبطل وتعذيبه «وخسر هنالك» أي وقت مجيء امر الله اسم مكان استعير للزمان «المبطلون» أي المتمسكون بالباطل على الاطلاق فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولا أوليا «الله الذي جعل لكم الأنعام» قيل هي الإبل خاصة أي خلقها لأجلكم ومصلحتكم وقوله تعالى «لتركبوا منها ومنها تأكلون» تفصيل لما دل عليه اللام اجمالا ومن لابتداء الغاية ومعناها ابتداء الركوب والاكل منها أي تعلقهما بها وقيل للتبعيض أي لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها لا على ان كلا من الركوب والاكل مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الاخر بل على ان كل بعض منها صالح لكل منهما وتغيير النظم الكريم في الجملة الثانية لمراعاة الفواصل مع الاشعار بأصالة الركوب «ولكم فيها منافع» اخر غير الركوب والاكل كألبانها وأوبارها وجلودها «ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم» بحمل أثقالكم من بلد إلى بلد «وعليها وعلى الفلك تحملون» لعل المراد به حمل النساء والولدان عليها بالهودج وهو السر في فصله عن الركوب والجمع بينها وبين الفلك في الحمل لما بينهما من المناسبة التامة حتى سميت سفائن البر وقيل هي الأزواج الثمانية فمعنى الركوب والاكل منها تعلقهما بالكل لكن لا على أن كلا منهما يجوز تعلقه بكل منها ولا على ان كلا منهما مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على ان بعضها يتعلق به الاكل فقط كالغنم وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل والبقر والمنافع تعم الكل وبلوغ الحاجة عليها يعم البقر «ويريكم آياته» دلائله الدالة على كمال قدرته ووفور رحمته «فأي آيات الله» أي فأي آية من تلك الآيات الباهرة «تنكرون» فإن كلا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على انكارها من له عقل في الجملة وهو ناصب لأي وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل انكارها وتذكير أي هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل لان التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي اغرب لابهامه «أفلم يسيروا» أي اقعدوا فلم يسيروا «في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم» من الأمم المهلكة وقوله تعالى «كانوا أكثر منهم وأشد قوة» الخ استئناف مسوق لبيان مبادى أحوالهم وعواقبها «وآثارا في الأرض» باقية بعدهم من الابنية والقصور والمصانع وقيل هي آثار اقدامهم في الأرض لعظم اجرامهم «فما أغنى عنهم ما كانوا
286

يكسبون» ما الأولى نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة أي لم يغن عنهم أو أي شيء اغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم «فلما جاءتهم رسلهم بالبينات» بالمعجزات أو بالآيات الواضحة «فرحوا بما عندهم من العلم» أي اظهروا الفرح بذلك وهو مالهم من العقائد الزائغة والشبه الداحضة وتسميتها علما للتهكم بهم أو علم الطبائع والتنجيم والصنائع ونحو ذلك أو هو علم الأنبياء الذي أظهره رسلهم على ان معنى فرحهم به ضحكهم منه واستهزاؤهم به ويؤيده قوله تعالى «وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون» وقيل الفرح أيضا للرسل فإنهم لما شاهدوا تمادي جهلهم وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم المؤدي إلى حسن العاقبة وشكروا الله
عليه وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم «فلما رأوا بأسنا» شدة عذابنا ومنه قوله تعالى بعذاب بئيس «قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين» يعنون الأصنام «فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا» أي عند رؤية عذابنا لامتناع قبوله حينئذ ولذلك قيل فلم يك بمعنى لم يصح ولم يستقم والفاء الأولى بيان عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم وما كانوا يكسبون بذلك زعما منهم ان يغنى عنهم فلم يترتب عليه الا عدم الاغناء فبهذا الاعتبار جرى مجرى النتيجة وان كان عكس الغرض ونقيض المطلوب كما في قولك وعظته فلم يتعظ والثانية تفسير وتفصيل لما أبهم وأجمل من عدم الاغناء وقد كثر في الكلام مثل هذه الفاء ومبناها على التفسير بعد الابهام والتفصيل بعد الاجمال والثالثة لمجرد التعقيب وجعل ما بعدها تابعا لما قبلها واقعا عقيبه لان مضمون قوله تعالى فلما جاءتهم الخ هو انهم كفروا فصار مجموع الكلام بمنزلة ان يقال فكفروا ثم لما رأوا بأسنا آمنوا والرابعة للعطف على آمنوا كأنه قيل فآمنوا فلم ينفعهم لان النافع هو الايمان الاختياري «سنة الله التي قد خلت في عباده» أي سن الله تعالى ذلك سنة ماضية في العباد وهو من المصادر المؤكدة «وخسر هنالك الكافرون» أي وقت رؤيتهم البأس على انه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرا سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن الا صلى عليه واستغفر له
(تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله سورة فصلت)
287