الكتاب: البرهان
المؤلف: الزركشي
الجزء: ٤
الوفاة: ٧٩٤
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٧٦ - ١٩٥٧ م
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي وشركاءه
ردمك:
ملاحظات:

البرهان
في علوم القرآن
للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي
تحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الرابع
الطبعة الأولى
1377 ه‍ - 1958 م
دار احياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

جميع الحقوق محفوظة
" 1378 ه‍ - 1958 م "
2

بسم الله الرحمن الرحيم
مقابلة الجمع بالجمع *
تارة يقتضى مقابلة كل فرد من هذا بكل فرد من هذا، كقوله تعالى: * (فاستبقوا
الخيرات) *، * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) *، * (حافظوا على الصلوات) *;
فإن الصلاة والزكاة في معنى الجمع، فيقتضى اللفظ ضرورة أن كل واحد مأمور بجميع الصلوات
وبالاستباق إلى كل خير، كما يقال: لبس القوم ثيابهم، وركبوا دوابهم.
وقوله تعالى: * (وأعتدت لهن متكأ) * أي لكل واحدة منهن.
وقوله: * (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) *، لأنه لا يجوز أن يتذكر
جميع المخاطبين بهذا القول في مدة وعمر واحد.
وقوله: * (إنها ترمى بشرر كالقصر) *،، أي كل واحدة من هذا الشرر كالقصر،
والقصر: البيت من أدم، كان يضرب على الماء إذا نزلوا به، ولا يجوز أن يكون الشرر كله
كقصر واحد; لأنه مناف للوعيد، فإن المعنى تعظيم الشرر; أي كل واحد من هذا الشرر
كالقصر. ويؤكده قوله بعده: * (كأنه جمالات صفر) *، هذه فشبه بالجماعة، أي فكل
واحدة من هذا الشرر كالجمل فجماعته، إذ الجمالات الصفر كذلك الأول; كل شررة
منه كالقصر. قاله ابن جنى.
وقوله: * (واستغيثوا ثيابهم) *.
3

وقوله: * (وآمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله) *; فإن كل واحد من المؤمنين آمن بكل واحد من الملائكة
والكتب والرسل.
وقوله * (حرمت عليكم أمهاتكم...) * الآية; فإنه لم يحرم على كل واحد
من المخاطبين جميع أمهات المخاطبين، وإنما حرم على كل واحد أمه وبنته.
وكذا قوله: * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) *; فإنه ليس لجميع الأزواج
نصف ما ترك جميع النساء; وإنما لكل واحد نصف ما تركت زوجه فقط.
وكذا قوله: * (يوصيكم الله في أولادكم) *.
وقوله: * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) *;
إنما معناه اتبع كل واحد ذريته، وليس معناه أن كل واحد من الذرية اتبع كل واحد من
الآباء.
وقوله: * (والوالدات يرضعن أولادهن) *، أي كل واحدة ترضع ولدها.
وكقوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين) * فإن مقابلة الجمع أفادت المكنة لكل
واحد من المسلمين قتل من وجد من المشركين.
وقوله: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم) *.
وأما قوله تعالى: * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم
وأرجلكم إلى الكعبين) *، فذكر " المرافق " بلفظ الجمع، والكعبين بلفظ التثنية;
4

لأن مقابلة الجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد; ولكل يد مرفق، فصحت المقابلة.
ولو قيل " إلى الكعاب " فهم منه أن الواجب....; فإن لكل رجل كعبا واحدا،
فذكر الكعبين بلفظ التثنية، ليتناول الكعبين من كل رجل.
فإن قيل: فعلى هذا يلزم ألا يجب إلا غسل يد واحدة ورجل واحدة؟
قلنا: صدنا عنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع.
* * *
وتارة يقتضى مقابلة ثبوت الجمع لكل واحد من آحاد المحكوم عليه، كقوله تعالى:
* (فاجلدوا ثمانين جلدة) *.
وجعل منه الشيخ عز الدين: * (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم
جنات تجرى من تحتها الأنهار) *.
* * *
وتارة يحتمل الأمرين فيفتقر ذلك إلى دليل يعين أحدهما.
* * *
أما مقابلة الجمع بالمفرد، فالغالب أنه لا يقتضى تعميم المفرد، وقد يقتضيه بحسب عموم
الجمع المقابل له، كما في قوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) *،
المعنى كل واحد لكل يوم طعام مسكين.
وقوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم
ثمانين جلدة) * إنما هو على كل واحد منهم ذلك.
5

قاعدة
فيما ورد في القرآن مجموعا ومفردا، والحكم في ذلك
فمنه أنه حيث ورد ذكر " الأرض " في القرآن فإنها مفردة، كقوله تعالى: * (خلق
سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) *، وحكمته أنها بمنزلة السفل والتحت، ولكن
وصف بها هذا المكان المحسوس، فجرت مجرى امرأة زور، وضيف; فلا معنى لجمعهما
كما لا يجمع الفوق والتحت، والعلو والسفل; فإن قصد المخبر إلى جزء من هذه الأرض
الموطوءة وعين قطعة محدودة منها خرجت عن معنى السفل الذي هو في مقابلة العلو، فجاز أن
تثنى إذا ضممت إليها جزءا آخر. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " طوقه من سبع أرضين "
فجمعها لما اعتمد الكلام على ذات الأرض، وأثبتها على التفصيل والتعيين لآحادها،
دون الوصف بكونها تحت أو سفل في مقابلة علو، وأما جمع السماوات، فإن المقصود بها ذاتها
دون معنى الوصف، فلهذا جمعت جمع سلامة; لأن العدد قليل، وجمع القليل أولى به،
بخلاف الأرض; فإن المقصود بها معنى التحت والسفل، دون الذات والعدد.
وحيث أريد بها الذات والعدد أتى بلفظ يدل على التعدد، كقوله تعالى: * (ومن الأرض
مثلهن) *.
وأيضا فإن الأرض لا نسبة إليها إلى السماوات وسعتها، بل هي بالنسبة إليها كحصاة
في صحراء، فهي وإن تعددت، كالواحد القليل; فاختير لها اسم الجنس.
وأيضا فالأرض هي دار الدنيا التي يحيى بالنسبة إلى الآخرة، كما يدخل الإنسان إصبعه في اليم،
فما يلعق بها هو مثال الدنيا; والله تعالى لم يذكر الدنيا إلا مقللا لها.
6

وأما السماوات فليست من الدنيا على أحد القولين، فإذا أريد الوصف الشامل للسموات;
وهو معنى العلو والفوق أفردته كالأرض; بدليل قوله تعالى: * (أأمنتم من في السماء
أن يخسف بكم الأرض) *. * (أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) *
فأفرد هنا لما كان المراد الوصف الشامل وليس المراد سماء معينة.
وكذا قوله: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) *،
بخلاف قوله في سبأ: * (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في
الأرض) *، فإن قبلها ذكر الله سبحانه سعة علمه، وأن له ما في السماوات وما في
الأرض، فاقتضى السياق أن يذكر سعة علمه، وتعلقه بمعلومات ملكه; وهو السماوات
كلها والأرض.
ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضى ذلك أفردها إرادة للجنس.
وقال السهيلي: لأن المخاطبين بالإفراد مقرون بأن الرزق ينزل من السحاب وهو سماء،
ولهذا قال في آخر الآية: * (فسيقولون الله) *، وهم لا يقرون بما نزل من فوق ذلك
من الرحمة والرحمن وغيرها، ولهذا قال في آية سبأ: * (قل الله) *، أو أمر نبيه صلى الله
عليه وسلم بهذا القول ليعلم بحقيقته.
وكذا قوله: * (وهو الله في السماوات وفى الأرض يعلم سركم وجهركم) *
7

فإنها جاءت مجموعة لتعلق الظرف بما في اسم الله تبارك وتعالى من معنى الإلهية; فالمعنى:
هو الإله المعبود في كل واحدة من السماوات، فذكر الجمع هنا أحسن. ولما خفى هذا
المعنى على بعض المجسمة قال بالوقف على قوله: * (في السماوات) *، ثم يبتدئ بقوله:
* (وفى الأرض) *.
وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: * (فو رب السماء والأرض إنه لحق) *، أراد
لهذين الجنسين، أي رب كل ما علا وسفل.
وجاءت مجموعة في قوله: * (سبح لله ما في السماوات والأرض) * في جميع
السور; لما كان المراد الإخبار عن تسبيح سكانها على كثرتهم، وتباين مراتبهم; لم يكن بد
من جمع محلهم.
ونظير هذا جمعها في قوله: * (وله من في السماوات والأرض ومن عنده
لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) *.
وقوله: * (تسبح له السماوات السبع) *، أي تسبح بذواتها وأنفسها على اختلاف
عددها، ولهذا صرح بالعدد بقوله: * (السبع) *.
وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: * (وفى السماء رزقكم وما توعدون) *،
ف‍ " الرزق " المطر، وما " توعدون " الجنة، وكلاهما في هذه الجهة; لأنها في كل واحدة
واحدة من السماوات، فكان لفظ الإفراد أليق.
وجاءت مجموعة في قوله: * (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) *
لما كان المراد نفى علم الغيب عن كل من هو في واحدة واحدة من السماوات أتى بها مجموعة،
8

ولم يجئ في سياق الإخبار بنزول الماء منها إلا مفردة حيث وقعت، لما لم يكن المراد نزوله
من ذاتها; بل المراد الوصف.
فإن قيل: فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس: * (قل من يرزقكم من
السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار) *، وبين قوله في سورة سبأ: * (قل من
يرزقكم من السماوات والأرض قل الله) *؟
قيل: السياق في كل منهما مرشد إلى الفرق; فإن الآيات التي في يونس سيقت
للاحتجاج عليهم بما أقروا به من كونه تعالى هو رازقهم، ومالك أسماعهم وأبصارهم، ومدبر
أمورهم; بأن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي; فلما كانوا مقرين بهذا كله،
حسن الاحتجاج به عليهم; إذ فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره، فكيف تعبدون معه
غيره! ولهذا قال بعده: * (فسيقولون الله) *، أي هم يقرون به ولا يجحدونه، والمخاطبون
المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق مقبل هذه السماء التي يشاهدونها،
ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى ينتهى إليهم، فأفردت
لفظة " السماء " هنا لذلك.
وأما الآية التي في سبأ; فإنه لم ينتظم لها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماء، ولهذا أمر
رسوله بأن يجيب، وأن يذكر عنهم أنهم هم المجيبون، فقال: * (قل من يرزقكم من
السماوات والأرض قل الله) *، ولم يقل: * (فسيقولون الله) *، أي الله وحده الذي
ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السماوات
* * *
ومنها ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة، فحيث ذكرت في سياق الرحمة جاءت
9

مجموعة، كقوله تعالى: * (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا) *.
* (وأرسلنا الرياح لواقع) *.
* (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) *.
وحيث ذكرت في سياق العذاب أتت مفردة، كقوله تعالى: * (فأرسلنا عليهم ريحا
صرصرا في أيام نحسات) *.
* (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) *.
* (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية) *.
* (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح) *.
* (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) *.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا " والمعنى فيه
أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والماهيات والمنافع، وإذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها
ما يكسر سورتها، فينشأ من بينهما ريح لطيفة، تنفع الحيوان والنبات. وكانت
في الرحمة رياحا، وأما في العذاب فإنها تأتى من وجه واحد، ولا معارض ولا دافع; ولهذا
وصفها الله بالعقيم فقال: * (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) *، أي تعقم
ما مرت به.
وقد اطردت هذه القاعدة إلا في مواضع يسيرة لحكمة.
فمنها قوله سبحانه في سورة يونس: * (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا
10

كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف) *،
فذكر ريح الرحمة بلفظ الإفراد لوجهين:
أحدهما: لفظي، وهو المقابلة، فإنه ذكر ما يقابلها ريح العذاب، وهي لا تكون إلا مفردة،
ورب شئ يجوز في المقابلة ولا يجوز استقلالا; نحو: * (ومكروا ومكر الله) *.
الثاني: معنوي، وهو أن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها;
فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد; فإن اختلفت عليها الرياح وتصادمت
كان سبب الهلاك والغرق. فالمطلوب هناك ريح واحدة، ولهذا أكد هذا المعنى، فوصفها
بالطيب دفعا لتوهم أن تكون عاصفة، بل هي ريح يفرح بطيبها.
ومنها قوله تعالى: * (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) *،
وهذا أورده ابن المنير في كتابه على الزمخشري قال: الريح رحمة ونعمة، وسكونها شدة على
أصحاب السفن.
قال الشيخ علم الدين العراقي: وكذا جاء في القراءات السبع: * (والله الذي أرسل
الريح) *، * (وهو الذي يرسل الريح) *، والمراد به الذي ينشر السحاب.
11

ومن ذلك جمع الظلمات والنور: * (الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات
إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) *،
ولذلك جمع سبيل الباطل، وأفرد سبيل الحق، كقوله: * (وأن هذا صراطي مستقيما
فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) *.
والجواب في ذلك كله، أن طريق الحق واحد، وأما الباطل فطرقه متشعبة متعددة،
ولما كانت الظلم بمنزلة طريق الباطل، والنور بمنزلة طريق الجنة، بل هما هما، أفرد النور
وجمع الظلمات; ولهذا وحد الولي، فقال: * (الله ولى الذين آمنوا) * لأنه الواحد
الأحد، وجمع أولياء الكفار لتعددهم، وجمع الظلمات وهي طرق الضلال والغي لكثرتها
واختلافها، ووحد النور وهو دين الحق.
* * *
ومن ذلك أفرد اليمين والشمال في قوله: * (عن اليمين وعن الشمال عزين) *،
وجمعها في قوله: * (وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * ولا سؤال فيه، إنما السؤال في
جمع أحدهما وإفراد الآخر، كقوله تعالى: * (يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا
لله) *، قال الفراء: كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلمة، وإذا جمع
ذهب إلى كلها، والحكمة في تخصيص اليمين بالإفراد ما سبق; فإنه لما كانت اليمين جهة
الخير والصلاح، وأهلها هم الناجون أفردت، ولما كانت الشمال جهة أهل الباطل وهم أصحاب
الشمال جمعت في قوله: * (عن اليمين والشمائل) *.
12

وفيه وجوه أخر:
أحدها: أن اليمين مقصود به الجمع أيضا، فإن الألف واللام لو فيه للجنس، فقام العموم
مقام الجمع. قاله ابن عطية.
الثاني: أن اليمين فعيل، وهو مخصوص بالمبالغة، فسدت مبالغته جمعه، كما سد مسد
الشبه قوله: * (عن اليمين وعن الشمال قعيد) *، قاله ابن بابشاذ.
الثالث: أن الظل حين ينشأ أول النهار يكون في غاية الطول، ثم يبدو كذلك
ظلا واحدا من جهة اليمين; ثم يأخذ في النقصان، وإذا أخذ في جهة الشمال فإنه يتزايد شيئا
فشيئا، والثاني فيه غير الأول، فكلما زاد فيه شيئا فهو غير ما كان قبله، فصار كل جزء
منه ظل، فحسن جمع الشمائل في مقابلة تعدد الظلال. قاله الرماني وغيره.
قال ابن بابشاذ: وإنما يصح هذا; إذا كانا متوجهين نحو القبلة.
الرابع: أن اليمين يجمع على أيمن وأيمان; فهو من أبنية جمع القلة غالبا، والشمال يجمع
على شمائل وهو جمع كثرة، والموطن موطن تكثير ومبالغة، فعدل عن جمع اليمين إلى
الألف واللام الدالة على قصد التكثير. قاله السهيلي.
وأما إفرادها في قوله: * (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال) * فلأن المراد أهل
هذه الجهة ومصيرهم إلى جهة واحدة، هي جهة أهل الشمال مستقر أهل النار، فإنها من
جهة أهل الشمال فلا يحسن مجيئها مجموعة.
وإما إفرادهما في قوله: * (عن اليمين وعن الشمال قعيد) * فإن لكل عبد قعيدا،
واحدا عن يمينه وآخر شماله، يحصيان عليه الخير والشر، فلا معنى للجمع بينهما، وهذا
بخلاف قوله تعالى ذاكرا عن إبليس: * (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم
13

وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * فإن الجمع هناك يقابله كثير مما يريد إغوائهم، فجمع
لمقابلة الجملة بالجملة المقتضى لتوزيع الأفراد على الأفراد.
* * *
ومنها، حيث وقع في القرآن ذكر الجنة فإنها تجئ تارة مجموعة، وتارة غير مجموعة، والنار
لم تقع إلا مفردة، وفى ذلك وجهان:
أحدهما: لما كانت الجنات مختلفة الأنواع، حسن جمعها وإفرادها، ولما كانت النار
واحدة أفردت باعتبار الجنس، ونظيره قوله تعالى: * (بأكواب وأباريق وكأس من
معين) *، لم يقل " وكؤوس " لما سنذكره.
الثاني: أنه لما كانت النار تعذيبا، والجنة رحمة ناسب جمع الرحمة وإفراد العذاب،
نظير جمع الريح في الرحمة، وإفرادها في العذاب.
وأيضا فالنار دار حبس والغاضب يجمع جماعة من المحبوسين في موضع واحد;
أنكد لعيشهم، والكريم لا يترك ضيفه; ولا سيما إذا كان للدوام; إلا في دار مفردة
مهيأة له وحده، فالنار لكل مذنب، ولكل مطيع جنة، فجمع الجنان ولم يجمع النار.
* * *
ومنها: جمع " الآيات " في موضع وإفرادها في آخر، فحيث جمعت فلجمع الدلائل،
وحيث وحدت فلوحدانية المدلول عليه; لما يخرج عن ذلك، ولهذا قال في الحجر: * (إن في
ذلك لآيات للمتوسمين) * ثم قال: * (إن في ذلك لآية للمؤمنين) *، فلما
ذكر صفة المؤمنين بالوحدانية، وحد الآية; وليس لها نظير إلا في العنكبوت وهو قوله:
* (خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية) *.
14

ومنها مجئ المشرق والمغرب في القرآن تارة بالجمع، وأخرى بالتثنية، وأخرى بالإفراد،
لاختصاص كل مقام بما يقتضيه.
فالأول كقوله: * (فلا أقسم برب المشارق والمغارب) *.
والثاني كقوله: * (رب المشرقين ورب المغربين) *.
والثالث قوله: * (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو) * فحيث جمع كان
المراد نفى المشرق والمغرب، وحيث ثنيا كان المراد مشرقي صعودها وارتفاعها; فإنها تبتدئ
صاعدة، حتى تنتهي إلى غاية أوجها وارتفاعها; فهذا مشرق صعودها وارتفاعها; وينشأ
منه فصلا الخريف والشتاء، فجعل مشرق صعودها بجملته مشرقا واحدا، ومشرق هبوطها
بجملته مشرقا واحدا، ومقابلهما مغربا.
وقيل: هو إخبار عن الحركات الفلكية، متحركة بحركات متداركة، لا تنضبط
لخطة ولا تدخل تحت قياس; لأن معنى الحركة انتقال الشئ من مكان إلى آخر، وهذه
صفة الأفلاك، قال تعالى: * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر...) *، الآية،
فهذا وجه اختلاف هذه الألفاظ بالإفراد والتثنية والجمع، وقد أجرى الله العادة
إن القمر يطلع في كل ليلة من مطلع غير الذي طلع فيه بالأمس، وكذلك الغروب، فهي
من أول فصل الصيف في تلك المطالع والمغارب; إلى إن تنتهي إلى مطلع الاعتدال،
ومغربه عند أول فصل الخريف، ثم تأخذ جنوبا في كل يوم في مطلع ومغرب، إلى أن
تنتهي إلى آخر مثلها الذي يقدر الله لها عند أول فصل الشتاء، ثم ترجع كذلك
إلى أن تنتهي إلى مطلع الاعتدال الربيعي ومغربه، وهكذا أبدا. فحيث أفرد الله له لفظ
المشرق والمغرب، أراد به الجهة نفسها التي تشتمل الواحدة على تلك المطالع جميعها،
والأخرى على تلك المغارب من غير نظر إلى تعددها; وحيث جئ بلفظ الجمع المراد به
15

كل فرد منها بالنسبة إلى تعدد تلك المطالع والمغارب، وهي في كل جهة مائة وثمانون يوما،
وحيث كان بلفظ التثنية، فالمراد بأحدهما الجهة التي تأخذ منها الشمس من مطلع الاعتدال
إلى آخر المطالع والمغارب الجنوبية، وبهذا الاعتبار مشرقان ومغربان.
وأما وجه اختصاص كل موضع بما وقع منه، فأبدى فيه بعض المتأخرين معاني
لطيفة، فقال:
أما ما ورد مثنى في سورة الرحمن، فلأن سياق السورة سياق المزدوجين.
الثاني: فإنه سبحانه أولا ذكر نوعي الإيجاد; وهما الخلق والتعليم، ثم ذكر سراجي
العالم ومظهر نوره، وهما الشمس والقمر، ثم ذكر نوعي النبات; فإن منه ما هو على ساق،
ومنه ما انبسط على وجه الأرض، وهما النجم والشجر. ثم ذكر نوعي السماء المرفوعة
والأرض، ثم أخبر أنه رفع هذه ووضع هذه، ووسط بينهما ذكر الميزان، ثم ذكر العدل
والظلم في الميزان، فأمر بالعدل، ونهى عن الظلم، ثم ذكر نوعي الخارج من الأرض،
وهما الجنوب، ثم ذكر نوعي المكلفين، وهما نوع الإنسان والجان، ثم ذكر نوعي
المشرق والمغرب، ثم ذكر بعد ذلك البحر من الملح والعذب، فلهذا حسن تثنية المشرق
والمغرب في هذه السورة.
وإنما أفردا في سورة المزمل لما تقدم من ذكر الليل والنهار، فإنه سبحانه
أمر نبيه بقيام الليل، ثم أخبر أنه له في النهار سبحا طويلا; فلما تقدم ذكر الليل
والنهار، تممه بذكر المشرق والمغرب، اللذين هما مظهر الليل والنهار، فكان ورود هما
منفردين في هذا السياق، أحسن من التثنية والجمع; لأن ظهور الليل والنهار فيهما واحد.
وإنما جمعا في سورة المعارج في قوله: * (فلا أقسم برب المشارق والمغارب
16

إنا لقادرون. على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين) *، لأنه لما كان هذا القسم
في سعة مشارق ربوبيته، وإحاطة قدرته، والمقسم عليه إذهاب هؤلاء، والإتيان بخير منهم
ذكر المشارق والمغارب; لتضمنها انتقال الشمس التي في أحد آياته العظيمة، ونقله سبحانه لها،
وتصريفها كل يوم في مشرق ومغرب، فمن فعل هذا كيف يعجزه أن يبدل هؤلاء،
وينقل إلى أمكنتهم خيرا منهم!
وأيضا فإن تأثير مشارق الشمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر
مشهود، وقد جعله الله بحكمته سببا لتبدل أجسام النبات وأحوال الحيوانات وانتقالها،
من حال إلى حال، ومن برد إلى حر، وصيف وشتاء، وغير ذلك بسبب اختلاف مشارق
الأرض ومغاربها، فكيف لا يقدر مع ما يشهدون من ذلك على تبديل من هو خير!
وأكد هذا المعنى بقوله: * (وما نحن بمسبوقين) *، فلا يليق بهذا الموضع سوى لفظ الجمع
وأما جمعهما في سورة الصافات في قوله: * (ورب المشارق) *، لما جاءت مع جملة
المربوبات المتعددة، وهي السماوات والأرض وما بينهما، وكان الأحسن مجيئها مجموعة،
لتنتظم مع ما تقدم من الجمع والتعدد.
ثم تأمل كيف اقتصر على المشارق دون المغارب، لاقتضاء الحال ذلك، فإن المشارق
مظهر الأنوار، وأسباب لانتشار الحيوان وحياته، وتصرفه في معاشه وانبساطه، فهو
إنشاء شهود، فقدمه بين يدي... على مبدأ البعث، فكان الاقتصار على ذكر المشارق
17

ها هنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب; فتأمل هذه المعاني الكاملة، والآيات الفاضلة،
التي ترقص القلوب لها طربا، وتسيل الأفهام منها رهبا!
* * *
وحيث ورد البار مجموعا في صفة الآدميين قيل " أبرار "، كقوله: * (إن الأبرار
لفي نعيم) *، وقال في صفة الملائكة: * (بررة) *، قال الراغب: فخص
الملائكة بها، من حيث أنه أبلغ من " أبرار " جمع " بر " وأبرار جمع " بار "، [وبر
أبلغ من بار]، كما أن عدلا أبلغ من عادل.
وهذا بناء على رواية في تفضيل الملائكة على البشر.
* * *
ومنها أن الأخ يطلق على أخي النسب، وأخي الصداقة والدين، ويفترقان في الجمع،
فيقال في النسب إخوة وفى الصداقة إخوان، كما قيل: * (إخوانا على سرر متقابلين) *.
وقال: * (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) *، قال جماعة من أهل اللغة،
منهم ابن فارس، وحكاه أبو حاتم عن أهل البصرة، ثم رده بأنه يقال للأصدقاء
والنسب: إخوة وإخوان، قال تعالى: * (إنما المؤمنون إخوة) *، لم يعن النسب.
وقال: * (أو بيوت إخوانكم) *.
وهذا في النسب، ونظيره قوله: * (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) *،
إلى قوله: * (أو بنى أخواتهن) *، وهذا هو الصواب. واشتقاق اللفظين من تأخيت
18

الشئ، فسمى الأخوان أخوين; لأن كل واحد منهما يتأخى ما تأخاه الآخر،
أي يقصده.
قال ابن السكيت: ويقال أخوة، بضم الهمزة.
ومنها إفراد العم والخال.
* * *
ومنها إفراد السمع وجمع البصر، كقوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم وعلى
سمعهم وعلى أبصارهم) *، لأن السمع غلب عليه المصدرية; فأفرد، بخلاف البصر،
فإنه اشتهر في الجارحة، وإذا أردت المصدر قلت: أبصر إبصارا، ولهذا لما استعمل الحاسة
جمعه بقوله: * (يجعلون أصابعهم في آذانهم) *، وقال: * (وفى آذاننا وقر) *.
وقيل: في الكلام حذف مضاف، أي على حواس سمعهم.
وقيل: لأن متعلق السمع الأصوات، وهي حقيقة واحدة، ومتعلق البصر الألوان
والأكوان، وهي حقائق مختلفة، فأشار في كل منهما إلى متعلقه.
ويحتمل أن يكون البصر الذي هو نور العين معنى يتعدد بتعدد المقلتين، ولا كذلك
السمع، فإنه معنى واحد، ولهذا إذا غطيت إحدى العينين ينتقل نورها إلى الأخرى،
بخلاف السمع، فإنه ينقص بنقصان أحدهما.
* * *
وقال الزمخشري في قوله تعالى: * (فيه ظلمات ورعد وبرق) *: أجرى
الرعد والبرق على أصلهما مصدرين، فأفردهما دون الظلمات، يقال: رعدت السماء رعدا،
19

وبرقت برقا، والحق أن الرعد والبرق مصدران، فأفردهما. أو هما مسببان عن سبب
لا يختلف، بخلاف الظلمة، فإن أسبابها متعددة.
* * *
ومنها، حيث ذكر الكأس في القرآن كان مفردا، ولم يجمع في قوله تعالى:
* (بأكواب وأباريق وكأس) *، ولم يقل: " وكؤوس "، لأن الكأس إناء
فيه شراب، فإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس، بل قدح، والقدح إذا جعل فيه
الشراب فالاعتبار للشراب، لا لإنائه، لأن المقصود هو المشروب، والظرف اتخذ للآلة،
ولولا الشراب والحاجة إلى شربه لما اتخذا، والقدح مصنوع والشراب جنس، فلو قال:
" كؤوس " لكان اعتبر حال القدح والقدح تبع، ولما لم يجمع اعتبر حال الشراب،
وهو أصل، واعتبار الأصل أولى. فانظر كيف اختار الأحسن من الألفاظ!
وكثير من الفصحاء قالوا: دارت الكؤوس، ومال الرؤوس; فدعاهم السجع
إلى اختيار غير الأحسن، فلم يدخل كلامهم في حد الفصاحة، والذي يدل على ما ذكرنا
أن الله تعالى لما ذكر الكأس واعتبر الأصل، قال: * (كأس من معين) *،
فذكر الشراب.
وحيث ذكر المصنوع، ولم يكن في اللفظ دلالة على الشراب جمع فقال: * (وأكواب
وأباريق) *، ثم ذكر ما يتخذ منه فقال: * (من فضة) *.
* * *
ومنها إفراد " الصديق "، وجمع " الشافعين "، في قوله تعالى: * (فما لنا من شافعين.
ولا صديق حميم) *، وحكمته كثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، قال الزمخشري:
20

ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم، نهضت جماعة وافرة من أهل بلده بشفاعته
رحمة له، وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة! وأما الصديق فأعز من بيض الأنوق. وعن
بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق، فقال: اسم لا معنى له.
ويجوز أن يريد بالصديق الجمع.
* * *
وقال السهيلي في،، الروض الأنف،،: إذا قلت: عبيد ونخيل، فهو اسم يتناول الصغير
والكبير من ذلك الجنس; قال الله تعالى: * (وزرع ونخيل) *، وقال: * (وما ربك بظلام
للعبيد) *; وحين ذكر المخاطبين منهم قال: " العباد "، ولذلك قال حين ذكر
التمر من النخيل: * (والنخل باسقات) *، و * (أعجاز نخل منقعر) *، فتأمل الفرق
بين الجمعين في حكم البلاغة، واختيار الكلام!
وأما في مذهب اللغة، فلم يفرقوا هذا التفريق، ولا نبهوا على هذا المعنى الدقيق.
* * *
ومنها اختلاف الجمعين في قوله تعالى: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة) *
إلى قوله: * (وله ذرية ضعفاء) *.
وقال: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) *.
فأما وجه التفرقة بين الجمع في الموضعين، وكذلك قوله: * (ولا يبدين زينتهن
إلا لبعولتهن) * إلى قوله: * (أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن) *
21

فخالف بين الجمعين في الأبناء. وفى سورة الأحزاب: * (ولا أبناء إخوانهن) *.
ومنه قوله تعالى: * (أنبتت سبع سنابل) *، وفى موضع آخر: * (وسبع
سنبلات) *، فالمعدود واحد.
وقد اختلف تفسيره، فالأول جاء بصيغة جمع الكثرة، والثاني بجمع القلة.
وقد قيل في توجيهه: إن آية البقرة سيقت في بيان المضاعفة والزيادة، فناسب صيغة
جمع الكثرة، وآية يوسف لحظ فيها. وهو قليل، فأتى بجمع القلة; ليصدق
اللفظ المعنى.
تنبيه
جمع التكسير يشمل أولى العلم وغيرهم، وجمع السلامة يختص في أصل الوضع بأولى
العلم، وإن وجد في غيرهم فبحكم الإلحاق والتشبيه، كقوله: * (إني رأيت أحد عشر
كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) *، وعلى هذا فأشرف الجمعين جمع
السلامة، وما يجمع جمع التكسير من مذكر غير العاقل قد يتبع بالصفة المفردة مؤنثة بالتاء،
كما يفعل بالخبر، تقول: حقوق معقودة، وأعمال محسوبة، قال تعالى: * (فيها سرر
مرفوعة. وأكواب موضوعة. ونمارق مصفوفة. وزرابي مبثوثة) *.
وقال تعالى: * (أياما معدودة) *.
وقد يجمع بالألف والتاء في غير المفرد وإن لم يكثر، إلا أنه فصيح، ومنه: * (واذكروا
الله في أيام معدودات) *.
22

قاعدة نحوية
نون ضمير الجمع في جمع العاقلات، سواء القلة كالهندات، أو الكثرة كالهنود،
فتقول: الهندات يقمن، والهنود يقمن، قال تعالى: * (والوالدات يرضعن) *، * (والمطلقات يتربصن) *; هذا هو الأكثر.
وقد جاء في القرآن بالإفراد، قال تعالى: * (وأزواج مطهرة) *، ولم يقل:
" مطهرات ".
وأما جمع غير العاقل ففيه تفصيل:
إن كان للكثرة أتيت بضميره مفردا، فقلت: الجذوع انكسرت، وإن كان للقلة،
أتيت جمعا.
وقد اجتمعا في قوله: * (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله) *،
إلى أن قال: * (. منها أربعة حرم) *، فالضمير في " منها " يعود إلى " الاثني عشر "،
وهو جمع كثرة، ولم يقل " منهن "، ثم قال سبحانه: * (فلا تظلموا فيهن أنفكسم) *،
فهذا عائد إلى الأربعة، وهو جمع قلة.
فإن قيل: فما السر في هذا حيث كان يؤتى مع الكثرة بضمير المفرد، ومع القلة
بضمير الجمع؟ وهي عكس؟
قلنا: ذكر الفراء له سرا لطيفا، فقال: لما كان المميز مع جمع الكثرة واحدا، وحد
الضمير لأنه من أحد عشر يصير مميزه واحد، وهو أندرهم، وأما جمع القلة فمميزه جمع، لأنك
تقول: ثلاثة دراهم، أربعة دراهم، وهكذا إلى العشر تمييزه جمع، فلهذا أعاد الضمير
باعتبار المميز جمعا وإفرادا، ومن هذا قوله سبحانه: * (سبعة أبحر) *، فأتى بجمع القلة ولم يقل:
" بحور " لتناسب نظم الكلام; وهذا هو الاختيار في إضافة العدد إلى جمع القلة،
23

قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *، فأضاف الثلاثة
إلى القروء، وهو جمع كثرة، ولم يضفها إلى الأقراء التي هي جمع قلة. قال الحريري:
المعنى: لتتربص كل واحدة منهن ثلاثة أقراء، فلما أسند إلى جماعتهن ثلاثة - والواجب
على كل فرد منهن ثلاثة - أتى بلفظ " قروء " لتدل على الكثرة المرادة، والمعنى الملموح.
قاعدة في الضمائر
وقد صنف ابن الأنباري في بيان الضمائر الواقعة في القرآن مجلدين - وفيه مباحث:
* * *
الأول: للعدول إلى الضمائر أسباب:
منها - وهو أصل وصفها - للاختصار، ولهذا قام قوله تعالى: * (وأعد الله لهم مغفرة
وأجرا عظيما) *، مقام خمسة وعشرين لو أتى بها مظهرة.
وكذا قوله تعالى: * (قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) *، نقل ابن عطية عن
مكي، أنه ليس في كتاب الله آية اشتملت على ضمائر أكثر منها، وهي مشتملة على خمسة
وعشرين ضميرا. وقد قيل: في آية الكرسي أحد وعشرون اسما; ما بين ضمير وظاهر.
ومنها، الفخامة بشأن صاحبه; حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه، ويكتفى
عن اسمه الصريح بذكر شئ من صفاته، كقوله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) *،
يعنى القرآن، وقوله: * (فإنه نزله على قلبك) *. ومنه ضمير الشأن
24

ومنها التحقير، كقوله تعالى: * (إنه لكم عدو مبين) *، يعنى الشيطان.
وقوله: * (إنه يراكم وهو وقبيله من حيث لا ترونهم) *.
* (إنه ظن أن لن يحور) *.
* * *
الثاني: الأصل أن يقدم ما يدل عليه الضمير، بدليل الأكثرية وعدم التكليف،
ومن ثم ورد قوله تعالى: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) *،
وتقدم المفعول الثاني في قوله: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن
يوحي بعضهم) *، فأخر المفعول الأول ليعود الضمير الأول عليه لقربه.
وقد قسم النحويون ضمير الغيبة إلى أقسام:
أحدها - وهو الأصل، أن يعود إلى شئ سبق ذكره في اللفظ بالمطابقة، نحو * (وعصى
آدم ربه فغوى) *.
* (ونادى نوح ابنه) *.
* (إذا أخرج يده لم يكد يراها) *.
وقوله: * (يستمعون القران فلما حضروه) *.
الثاني: أن يعود على مذكور في سياق الكلام، مؤخر في اللفظ مقدم في النية،
كقوله تعالى: * (فأوجس في نفسه خيفة) *.
25

قوله: * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) *.
وقوله: * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) *.
الثالث: أن يدل اللفظ على صاحب الضمير بالتضمن، كقوله تعالى: * (اعدلوا هو
أقرب للتقوى) *، فإنه عائد على " العدل " المفهوم من " اعدلوا ".
وقوله: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) *، فالضمير
يرجع للأكل لدلالة " تأكلوا ".
وقوله: * (وإذا حضر القسمة) * إلى قوله: * (فارزقوهم منه) * أي المقسوم،
لدلالة القسمة عليه. ويحتمل أن يعود على ما تركه الوالدان والأقربون; لأنه مذكور،
وإن كان بعيدا.
الرابع: أن يدل عليه بالالتزام، كإضمار النفس في قوله تعالى: * (فلولا إذا بلغت
الحلقوم) *، * (كلا إذا بلغت التراقي) *، أضمر النفس لدلالة ذكر الحلقوم
والتراقي عليها.
وقوله: * (حتى توارت بالحجاب) *، يعنى الشمس.
وقيل: بل سبق ما يدل عليها، وهو العشى; لأن العشى ما بين زوال الشمس
وغروبها، والمعنى إذ عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب.
وقيل: فاعل " توارت " ضمير " الصافنات " ذكره ابن مالك، وابن العربي في
،، المفتوحات،،. ويرجحه أن اتفاق الضمائر أولى من تخالفها، وسنذكره في الثامن.
26

وكذا قوله: * (فأثرن به نقعا. فوسطن به جمعا) *، قيل: الضمير لمكان
" الإغارة " بدلالة " والعاديات " عليه، فهذه الأفعال إنما تكون لمكان.
وقوله: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) *، أضمر القرآن; لأن الإنزال يدل عليه.
وقوله: * (فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) *،
ف‍ " عفى " يستلزم " عافيا " إذ أغنى ذلك عن ذكره، وأعيد الهاء من * (إليه) * عليه.
الخامس: أن يدل عليه السياق فيضمر، ثقة بفهم السامع، كإضمار " الأرض " في قوله:
* (ما ترك على ظهرها من دابة) *، وقوله: * (كل من عليها فان) *.
وجعل ابن مالك الضمير للدنيا، وقال: وإن لم يقدم لها ذكر، لكن تقدم ذكر
بعضها، والبعض يدل على الكل.
وقوله تعالى: * (مستكبرين به سامرا تهجرون) *، يعنى القرآن
أو المسجد الحرام.
وقوله: * (قال هي راودتني عن نفسي) *.
* (يا أبت استأجره) *.
* (ولأبويه لكل واحد منهما السدس) *، الضمير يعود على الميت، وإن لم
يتقدم له ذكر، إلا أنه لما قال: * (يوصيكم الله في أولادكم) * علم أن ثم ميتا يعود
الضمير عليه.
وقوله: * (وإذا حضر القسمة) * ثم قال: * (فارزقوهم منه) *; أي
من الموروث، وهذا وجه آخر غير ما سبق.
27

وقوله: * (وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها) * ولم يقل " اتخذه " ردا للضمير إلى
" شيئا "، لأنه لم يقتصر على الاستهزاء بما يسمع من آيات الله; بل كان إذا سمع بعض
آيات الله استهزأ بجميعها.
وقيل: " شيئا " بمعنى الآية; لأن بعض الآيات آية.
وقد يعود الضمير على الصاحب المسكوت عنه لاستحضاره بالمذكور وعدم صلاحيته له،
كقوله: * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان) *، فأعاد الضمير للأيدي
لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال، وأغنى ذكر الأغلال عن ذكرها.
ومثله قوله تعالى: * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) *، أي من عمر
غير المعمر، فأعيد الضمير على غير المعمر; لان ذكر المعمر يدل عليه لتقابلهما، فكان
يصاحبه الاستحضار الذهني.
وقد يعود الضمير على بعض ما تقدم، كقوله تعالى: * (فإن كن نساء) *، بعد قوله:
* (يوصيكم الله في أولادكم) *.
وقوله: * (وبعولتهن أحق بردهن) *; فإنه عائد على المطلقات; مع أن هذا
خاص بالرجعي، وهل يقتضى ذلك تخصيص الأول؟ فيه خلاف أصولي. وقوله:
* (ولا ينفقونها في سبيل الله) *; فإن الفضة بعض المذكور، فأغنى ذكرها عن ذكر
الجميع; حتى كأنه قال: * (والذين يكنزون) *، أصناف ما يكنز.
وقد يعود على اللفظ الأول دون معناه، كقوله تعالى: * (وما يعمر من معمر
ولا ينقص من عمره) *، وقد سبق فيه وجه آخر.
28

* (ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه) *، على
أحد الأقوال.
ومما يتخرج عليه: * (وبعولتهن أحق بردهن) *، ويستراح من إلزام
تخصيص الأول.
وقد يعود على المعنى، كقوله في آية الكلالة: * (فإن كانتا اثنتين) *، ولم يتقدم
لفظ مثنى يعود عليه الضمير من " كانتا "، قال الأخفش: إنما يثنى، لأن الكلام لم يقع
على الواحد والاثنين والجمع، فثنى الضمير الراجع إليها، حملا على المعنى، كما يعود الضمير
معا في " من " حملا على معناها.
وقال الفارسي: إنما جازت من حيث كان يفيد العدد، مجردا من الصغير والكبير.
السادس: ألا يعود على مذكور، ولا معلوم بالسياق أو غيره وهو الضمير المجهول الذي يلزمه
التفسير بجملة أو مفرد، فالمفرد في نعم وبئس، والجملة ضمير الشأن والقصة، نحو، هو زيد
منطلق، وكقوله تعالى: * (قل هو الله أحد) *، أي الشأن الله أحد.
وقوله: * (لكنا هو الله ربى) *.
وقوله: * (أنا الله) *.
وقوله: * (فإنها لا تعمى الأبصار) *.
وقد يكون مؤنثا إذا كان عائده مؤنثا، كقوله تعالى: * (إن هي إلا حياتنا
الدنيا) *، وأما قوله تعالى: * (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم) * فذكر
29

الضمير مع اشتمال الجملة على جهنم وهي مؤنثة، لأنها في حكم الفضلة، إذا المعنى: من يأت ربه
مجرما يجز جهنم.
(تنبيه): والفرق بينه وبين ضمير الفصل أن الفصل يكون على لفظ الغائب والمتكلم والمخاطب،
قال تعالى: * (هذا هو الحق) *. * (كنت أنت الرقيب) *. * (إن ترن أنا
أقل منك مالا) *، ويكون له محل من الإعراب، وضمير الشأن يكون إلا غائبا ويكون
مرفوع المحل ومنصوبه، قال تعالى: * (قل هو الله أحد) *. * (وأنه لما قام
عبد الله) *.
* * *
البحث الثالث: قد يعود على لفظ شئ، والمراد به الجنس من ذلك الشئ، كقوله
تعالى: * (وأتوا به متشابها) *; فان الضمير في " به " يرجع إلى المرزوق في الدارين
جميعا; لأن قوله: * (هذا الذي رزقنا من قبل) * مشتمل على ذكر ما رزقوه في الدارين.
قال الزمخشري: ونظيره: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) * أي بجنس
الفقير والغنى، لدلالة قوله: * (غنيا أو فقيرا) * على الجنسين، ولو رجع إلى المتكلم
به لوحده.
* * *
البحث الرابع: قد يذكر شيئان ويعا الضمير على أحدهما، ثم الغالب كونه للثاني،
كقوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة) *، فأعاد الضمير للصلاة
لأنها أقرب.
30

وقوله: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل) * والأصل:
" قدرهما " لكن اكتفى برجوع الضمير للقمر لوجهين: قربه من الضمير، وكونه هو الذي
يعلم به الشهور، ويكون به حسابها.
وقوله: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) *،
أعاد الضمير على الفضة لقربها.
ويجوز أن يكون إلى المكنوز، وهو يشملها.
قوله: * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) *، أراد يرضوهما، فخص الرسول بالعائد،
لأنه هو داعي العباد إلى الله، وحجته عليهم، والمخاطب لهم شفاها بأمره ونهيه، وذكر الله
تعالى في الآية تعظيما، والمعنى تام بذكر الرسول وحده، كما قال تعالى: * (وإذا دعوا إلى الله
ورسوله ليحكم بينهم) *، فذكر الله تعظيما، والمعنى تام بذكر رسوله.
ومثله قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه) *.
وجعل منه ابن الأنباري: * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) *
أعاد الضمير للإثم، لقربه، ويجوز رجوعه إلى الخطيئة والإثم على لفظها، بتأويل: ومن
يكسب إثما ثم يرم به.
وقال ابن الأنباري: ولم يؤثر الأول بالعائد في القرآن كله إلا في موضع واحد، وهو
قوله تعالى: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) *، أو معناه " إليهما "، فخص
التجارة بالعائد، لأنها كانت سبب الانفضاض عنه، وهو يخطب.
قال: فأما كلام العرب فإنها تارة تؤثر الثاني بالعائد وتارة الأول، فتقول: إن عبدك
وجاريتك عاقلة، وإن عبدك وجاريتك عاقل.
31

قلت: ليس من هذا قوله تعالى: * (وإذا رأو تجارة أو لهوا انفضوا إليها) *.
وقوله: * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) *، لأن الإخبار عن أحدهما
لوجود لفظه، أو هي لإثبات أحد المذكورين، فمن جعله نظير هذا فلم يصب، إلا أن
يدعى أن " أو " بمعنى الواو.
وفى هاتين الآيتين لطيفة، وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما،
أعاده في الآية الأولى على التجارة، وإن كانت أبعد، ومؤنثة، لأنها أجذب لقلوب العباد
عن طاعة الله من اللهو، بدليل أن المشتغلين بها أكثر من اللهو، ولأنها أكثر نفعا
من اللهو. أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا، لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما عرف
من تفسير الآية وأعاده في الآية الثانية على الإثم، رعاية لمرتبة القرب والتذكر.
* * *
الخامس: قد يذكر شيئان، ويعود الضمير جمعا; لأن الاثنين جمع في المعنى،
كقوله تعالى: * (وكنا لحكمهم شاهدين) *، يعنى حكم سليمان وداود.
وقوله: * (أولئك مبرؤون مما يقولون) *، فأوقع " أولئك " وهو جمع، على عائشة
وصفوان بن المعطل.
* * *
البحث السادس: قد يثنى الضمير ويعود على أحد المذكورين، كقوله تعالى: * (يخرج
منهما اللؤلؤ والمرجان) *، قالوا: وإنما يخرج من أحدهما.
وقوله: * (ونسيا حوتهما) * وإنما نسيه الفتى.
32

السابع: قد يجئ الضمير متصلا بشئ وهو لغيره، كقوله تعالى: * (ولقد خلقنا
الإنسان من سلالة من طين) *، يعنى آدم، ثم قال: * (ثم جعلناه نطفة) *;
فهذا لولده، لأن آدم لم يخلق من نطفة.
ومنه قوله تعالى: * (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) *، قيل:
نزلت في ابن حذافة حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: من أبى؟ قال: حذافة، فكان
نسبه، فساءه ذلك، فنزلت: * (لا تسألوا عن أشياء) *. وقيل: نزلت في الحج،
حين قالوا: أفي كل عام مرة؟ ثم قال: * (وإن تسألوا عنها) *. يريد: إن تسألوا عن أشياء أخر
من أمر دينكم، بكم إلى علمها حاجة تبد لكم، ثم قال: * (قد سألها قوم من قبلكم) *،
أي طلبها، والسؤال عنها طلب، فليست الهاء راجعة لأشياء متقدمة، بل لأشياء أخر
مفهومة من قوله: * (تسألوا عن أشياء) * ويدل على ما ذكرنا أنه لو كان الضمير
عائدا على أشياء مذكورة لتعدى إليها ب‍ " عن " لا بنفسه، ولكنه مفعول مطلق لا مفعول به.
وقوله تعالى: * (هو سماكم المسلمين من قبل) *، يتبادر إلى الذهن إن الضمير في
قوله: * (* (هو) *) * عائد لإبراهيم، لأنه أقرب المذكورين، وهو مشكل لا يستقيم، لأن
الضمير في قوله: * (وفى هذا) * راجع للقرآن، وهو لم يكن في زمن إبراهيم، ولا هو قاله.
والصواب أن الضمير راجع إلى الله سبحانه، يعنى * (سماكم المسلمين من قبل) * يعنى في
الكتب المنزلة على الأنبياء قبلكم، وفى هذا الكتاب الذي أنزل عليكم، وهو القرآن.
والمعنى: جاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم، وهو سماكم المسلمين من قبل،
وفى هذا الكتاب لتكونوا. أي سماكم وجعلكم مسلمين لتشهدوا على الناس يوم القيامة.
وقوله: * (ملة أبيكم إبراهيم) *، منصوب بتقدير " اتبعوا " لأن هذا
33

الناصب نصبه قوله: * (جاهدوا في الله حق جهاده) *، لأن الجهاد من ملة إبراهيم.
وفى سورة يس موضعان، توهم فيهما كثير من الناس:
أحدهما قوله: * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) *،
فقد يتوهم أن الضمير في " هم " راجع إلى الليل والنهار، بناء على أن أقل الجمع اثنان، وهو
فاسد لوجهين: أحدهما أن النهار ليس مظلما، والثاني أن كون أقل الجمع اثنان مذهب
مرجوح، إنما الضمير راجع إلى الكفار الذين يحتج عليهم بالآيات، * (ومظلمون) *: داخلو
الظلام، كقولك: " مصبحون " و " ممسون " إذا دخلوا في هذه الأشياء.
والثاني قوله تعالى: * (أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق
مثلهم) *، يظن بعضهم أن معناه مثل السماوات والأرض، وهو فاسد لوجهين:
أحدهما أنهم أنكروا إعادة السماوات والأرض حتى يدل على إنكارهم إعادتهما
بابتدائهما; وإنما أنكروا إعادة أنفسهم، فكان الضمير راجعا إليهم، ليتحقق حصول
الجواب لهم والرد عليهم.
الثاني لتبين المراد في قوله: * (ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى) *.
فإن قيل: إنما أثبت قدرته على إعادة مثلهم لا على إعادتهم أنفسهم، فلا دلالة
فيه عليهم!
قلنا: المراد بمثلهم " هم " كما في قوله: * (ليس كمثله شئ) *، وقولهم: مثلي
لا يفعل كذا، أي أنا. وبدليل الآية الأخرى.
وقوله: * (والعمل الصالح يرفعه) *، قد يتوهم عوده على الله، وليس كذلك،
34

وإلا لنصب " العمل "، كما تقول: قام زيد وعمرا يضربه; وإنما الفاعل في " يرفعه "
عائد إلى العمل، والهاء للكلم.
قال الفارسي في،، التذكرة،،: المنصوب في * (يرفعه) * عائد للكلم; لأن
الكلم جمع كلمة، قال: كلم كالشجر، في أنه قد وصف بالمفرد في قوله: * (من الشجر
الأخضر) *، وكذلك وصف الكلم بالطيب، ولو كان الضمير المنصوب في * (يرفعه) *
عائدا إلى " العمل " لكان منصوبا في هذا الوجه. وما جاء التنزيل عليه، من نحو:
* (والظالمين أعد لهم عذابا أليما) *. والضمير المرفوع في * (يرفعه) * عائد إلى العمل،
فلذلك ارتفع العمل، ولم يحمل على قوله: * (يصعد) *، ويضمر له فعل ناصب، كما أضمرت لقوله:
* (والظالمين) *، والمعنى: يرفع العمل الصالح الكلم الطيب، ومعنى " يرفع العمل "
أنه لا يحبط ثوابه فيرفع لصاحبه، ويثاب عليه، وليس كالعمل السئ الذي يقع معه الإحباط،
فلا يرفع إلى الله سبحانه.
* * *
الثامن: إذا اجتمع ضمائر، فحيث أمكن عودها لواحد فهو أولى من عودها لمختلف;
ولهذا لما جور بعضهم في قوله تعالى: * (أن اقذفيه في التابوت...) * الخ أن الضمير
في * (فاقذفيه في اليم) * للتابوت وما بعده، وما قبله لموسى عابه الزمخشري، وجعله
تنافرا ومخرجا للقرآن عن إعجازه، فقال: والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع
بعضها إليه وبعضها إلى التابوت، فيه هجنة لما يؤدى إليه من تنافر النظر.
فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل!
35

قلت: ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت
حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر قال عليك النظم الذي هو قوام إعجاز القرآن، [والقانون الذي
وقع عليه التحدي] وعن مراعاته أهم ما يجب على المفسر. انتهى ولا مزيد على حسنه.
وقال في قوله: * (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه) *:
الضمائر لله عز وجل، والمراد بتعزيز الله تعزيز دينه ورسوله ومن فرق الضمائر فقد أبعد.
أي فقد قيل إنها للرسول إلا الأخير; لكن قد يقتضى المعنى التخالف، كما في قوله تعالى:
* (ولا تستفت فيهم منهم أحدا) *، الهاء والميم في " فيهم " لأصحاب الكهف، والهاء
والميم في " منهم " لليهود. قاله ثعلب والمبرد.
وقوله تعالى: * (والذين هم بربهم لا يشركون) * بعد قوله: * (إنما
سلطانه) *.
وقوله: * (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) *.
وقوله: * (وعمروها أكثر مما عمروها) *، أي عمروا الأرض الذين كانوا قبل
قريش، أكثر مما عمرتها قريش.
وقوله تعالى: * (إلا تنصروه فقد نصره الله...) * الآية فيها اثنا عشر ضميرا، خمسة
للنبي صلى الله عليه وسلم وله.... والثالث ضمير * (في الغار) *، لأنه يتعلق باستقرار محذوف،
36

فيحتمل ضميرا، والرابع * (صاحبه) *، والخامس * (لا تحزن) *، والسادس * (معنا) *، والسابع
في * (عليه) * على قول الأكثر فيما نقله السهيلي; لأن السكينة على النبي صلى الله عليه وسلم
دائما لأنه كان قد علم أنه لا يضره شئ، إذا كان خروجه بأمر الله
وأما قوله: * (ثم أنزل الله سكينته على رسوله) *، فالسكينة نزلت على
النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، لأنه خاف على المسلمين ولم يخف على نفسه، فنزلت
عليه السكينة من أجلهم لا من أجله.
وأما قوله تعالى: * (فأنساه الشيطان ذكر ربه) *، قيل: الضميران عائدان على
يوسف، قال للناجي: ذكر الملك بأمري.
ورجح ابن السيد هذا لقوله تعالى: * (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة) *
أي بعد حين.
وفى قراءة ابن عامر بعد " أمة " بالتخفيف، أي نسيان; وإلا لم يكن ليذكر تذكر
الفتى بعد النسيان. والذكر على هذا يحتمل وجهين: أن يكون بمعنى التذكير، ويكون
مصدر ذكرته ذكرا، فالتقدير: فأنساه الشيطان ذكره عند ربه، فأضاف الذكر إلى الرب، وهو
في الحقيقة مضاف إلى ضمير يوسف، وجاز ذلك لملاءمته بينهما.
وقد يخالف بين الضمائر حذرا من التنافر، كقوله تعالى: * (منها أربعة حرم) *،
كما عاد الضمير على " الاثني عشر "، ثم قال: * (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) *، لما أعاد
على " أربعة " وهو جمع قلة.
وجوز بعضهم عوده على " الاثني عشر " أيضا، بل هو الصواب، لأنه لا يجوز أن
ينهى عن الظلم في الأربعة ويبيح الظلم في الثمانية; بل ترك الظلم في الكل واجب.
37

قلت: لكن يجوز التنصيص على أفضلية الحرم، فإن الظلم قبيح مطلقا، وفيهن أقبح،
فالظاهر الأول.
* * *
التاسع: قد يسد مسد الضمير أمور:
منها الإشارة، كما في قوله تعالى: * (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه
مسؤولا) *.
ومنها الألف واللام، كقوله تعالى: * (فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا. فإن الجحيم
هي المأوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي
المأوى) *.
وقوله: * (نجب دعوتك ونتبع الرسل) *، أي رسلك.
وقوله: * (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) *، أصل
الكلام " أجره وصبره " ولما كان " المحسنون " جنسا، و " من يتق ويصبر " واحد تحته،
أغنى عمومه من عود الضمير إليه.
وقول الكوفيين: الألف واللام عوض من الضمير.
قال ابن مالك: وعليه يحمل قوله * (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) * وزعم
الزمخشري أن الأبواب بدل من المستكن في " مفتحة ".
وهذا تكلف، وجب أن تكون " الأبواب " مرتفعة بمفتحة المذكور، أو بمثله مقدرا.
وقد صح أن مفتحة صالح للعمل في الأبواب، فلا حاجة إلى إبدال أيضا.
38

ومنها الاسم الظاهر، بأن يكون المقام يقتضى الإضمار فيعدل عنه إلى الظاهر، وقد سبق
الكلام عليه في أبواب التأكيد.
* * *
العاشر: الأصل في الضمير عوده إلى أقرب مذكور، ولنا أصل آخر، وهو أنه إذا جاء
مضاف ومضاف إليه، وذكر بعدهما ضمير عاد إلى المضاف; لأنه المحدث عنه دون المضاف
إليه، نحو لقيت غلام زيد فأكرمته; فالضمير للغلام. ومنه قوله تعالى: * (وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها) *.
وعند التعارض راعى ابن حزم والماوردي الأصل الأول، فقالا: إن الضمير في قوله:
* (أو لحم خنزير فإنه رجس) *، يعود على الخنزير دون لحمه، لقربه. وقواه بعض
المتأخرين، لأن الضمير للمضاف دون المضاف إليه بأصل مطرد، فقد يعود إلى المضاف
إليه، كقوله تعالى: * (واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون) *.
وكذا الصفة، فإنها كما في قوله تعالى: * (إني أرى سبع بقرات سمان) *.
وللجمهور أن يقولوا: وكذا عوده للأقرب ليس بمطرد، فقد يخرج عن الأصل لدليل،
وإذا تعارض الأصلان تساقطا، ونظر في الترجيح من خارج. بل قد يقال: عوده إلى
ما فيه العمل بهما أولى كما يقوله الماوردي: إن الضمير يعود إلى الخنزير، لأن اللحم
موجود فيه.
وأما قوله تعالى: * (فظلت أعناقهم لها خاضعين) *، فأخبر ف‍ " خاضعين " عن المضاف
إليه، ولو أخبر عن المضاف لقال: " خاضعة ".
وأما قوله تعالى: * (فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا) *، فقد عاد
39

الضمير في قول المحققين للمضاف إليه وهو موسى، والظن بفرعون، وكأنه لما رأى نفسه
قد غلط في الإقرار بالإلهية من قوله * (إله موسى) * استدرك ذلك بقوله هذا.
* * *
الحادي عشر: إذا عطف ب‍ " أو " وجب إفراد الضمير، نحو إن جاء زيد أو عمرو
فأكرمه; لأن " أو " لأحد الشيئين، فأما قوله تعالى: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله
أولى بهما) * فقيل. إن " أو " بمعنى الواو. وقيل: بل المعنى إن " يكن الخصمان "،
فعاد الضمير على المعنى.
وقيل: للتنويع لا للعطف، وعكس هذا إذ عطف بالواو وجب تثنية الضمير.
فأما قوله تعالى: * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) *، فقد سبق الكلام عليه.
فائدة
قوله: * (إلا عشية أو ضحاها) *، أي " ضحى يومها " فدل بالجزء
على الكل.
قال الشيخ عز الدين: وإنما أضاف الضحى إلى نهار العشية; لأنه لو أطلقها من غير
إضافة لم يحسن الترديد ب‍ " أو "، لأن عشية كل نهار من الظهر إلى الغروب، وهو نصف
النهار، وضحاها مقدار ربعه مثلا، وهو مقدار نصف العشية; فلما أضافه إلى نهارها، علم
تقاربهما، فحسن الترديد. لإفادته الترديد بين اللبث الطويل والقصير، ولو أطلقه لجاز أن
يتوهم عشية نهار قصير، وضحى يوم طويل، فتساوى ذلك الضحى بالعشية فلا يحسن
الترديد بينهما.
40

فإن قيل: كيف يجمع بين قوله: * (لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) *، وهو الجزء
اليسير من الزمان، وبين الضحى والعشية؟ وكيف حسن الترديد؟
فالجواب، أن هذا الحساب يختلف باختلاف الناس، فمنهم من يعتقده طويلا، ومنهم
من يحسبه قصيرا، قال تعالى: * (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا) *، ثم قال:
* (إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) *.
وقد يكون بحسب شدة الأمر وخفته، و " لبثتم " يحتمل أن يكون في الدنيا، ويحتمل أن
يكون في البرزخ; والأول أظهر.
فائدة
وقد يتجوز بحذف الضمير للعلم به، كقوله: * (أهذا الذي بعث الله رسولا) *،
أي بعثه، وهو كثير.
ومنه قوله: * (والذين يتوفون منكم) * إلى قوله: * (يتربصن) * إذا جعلناه
الخبر، فالأصل " يتربصن أزواجهن " فوضع الضمير موضع الأزواج لتقدم ذكرهن،
فأغنى عن الضمير.
فائدة
المضمر لا يكون إلا بعد الظاهر لفظا أو مرتبة أو لفظا ومرتبة، ولا يكون قبل الظاهر
لفظا ومرتبة، إلا في أبواب ضمير الشأن والقصة، كما سبق، وباب نعم وبئس، كقوله تعالى:
* (فنعما هي) * و * (ساء مثلا) *، والضمير في " ربه رجلا " وباب الإعمال، إذا أعملت
41

الثاني والأول يطلب عمدة، فمذهب سيبويه أنك تضمر في الأول، فتقول: ضربوني
وضربت الزيدين.
فائدة
الضمير لا يعود إلا على مشاهد محسوس، فأما قوله تعالى: * (إذا قضى أمرا فإنما
يقول له كن فيكون) *، فضمير " له " عائد على الأمر، وهو إذ ذاك غير موجود،
فتأويله أنه لما كان سابقا في علم الله كونه، كان بمنزلة المشاهد الموجود، فصح عود
الضمير إليه.
وقيل: بل يرجع للقضاء; لدلالة " قضى " عليه، واللام للتعليل بمعنى " من أجل "،
كقوله تعالى: * (وإنه لحب الخير لشديد) * أي من أجل حبه.
قاعدة
فيما يتعلق بالسؤال والجواب
الأصل في الجواب أن يكون مطابقا للسؤال، إذا كان السؤال متوجها، وقد يعدل
في الجواب عما يقتضيه السؤال، تنبيها على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك،
ويسميه السكاكي الأسلوب الحكيم.
وقد يجئ الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه في السؤال وأغفله المتكلم.
وقد يجئ أنقص لضرورة الحال.
42

مثال ما عدل عنه قوله تعالى: * (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس
والحج) * فعدل عن الجواب لما قالوا: ما بال الهلال يبدو رقيقا مثل الخيط، ثم
يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ ويستوى، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ؟ فأجيبوا بما
أجيبوا، به لينتهوا على أن الأهم ما تركوا السؤال عنه.
وكقوله تعالى: * (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين
والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل) * سألوا عما ينفقون، فأجيبوا ببيان
المصرف; تنزيلا لسؤالهم منزلة سؤال غيره، لينبه على ما ذكرنا، ولأنه قد تضمن قوله:
* (قل ما أنفقتم من خير) * بيان ما ينفقونه وهو خير، ثم زيدوا على الجواب
بيان المصرف.
ونظيره: * (وما تلك بيمينك يا موسى) *، فيكون طابق وزاد. نعم روى عن
ابن عباس أنه قال: جاء عمرو بن الجموح، وهو شيخ كبير له مال عظيم، فقال: ماذا
أنفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت، فعلى هذا ليست الآية مما نحن فيه، لأن السائل
لم يتعلق بغير ما يطلب، بل أجيب ببعض ما سأل عنه.
وقال ابن القشيري: السؤال الأول كان سؤالا عن النفقة إلى من تصرف، ودل عليه
الجواب، والجواب يخرج على وفق السؤال; وأما هذا السؤال الثاني فعن قدر الإنفاق، ودل
عليه الجواب أيضا.
ومن ذلك أجوبة موسى عليه السلام لفرعون حيث قال فرعون: * (وما رب العالمين.
قال رب السماوات والأرض وما بينهما) *، لأن " ما " سؤال عن الماهية أو عن
الجنس، ولما كان هذا السؤال خطأ; لأن المسؤول عنه ليس ترى ماهيته فتبين، ولا جنس له
43

فيذكر، عدل الكليم عن مقصود السائل إلى الجواب بما يعرف الصواب عند كيفية الخطاب;
ولا يستحق الجريان معه، فأجابه بالوصف المنبه، عن الظن المؤدى لمعرفته، لكنه لما لم يطابق
السؤال عنه فرعون لجهله، واعتقد الجواب خطأ * (قال لمن حوله ألا تستمعون) *،
فأجابه الكليم بجواب يعم الجميع، ويتضمن الإبطال لعين ما يعتقدونه من ربوبية
فرعون لهم بقوله: * (وربكم ورب آبائكم الأولين) *، فأجاب بالأغلظ،
وهو ذكر الربوبية لكل ما هو من عالمهم نصا. ولما لم يرهم موسى عليه السلام
تفطنوا غلظ عليهم في الثالثة، بقوله: * (إن كنتم تعقلون) * فكأنه شك في
حصول عقلهم.
فإن قيل: قوله تعالى: * (يسألونك عن الشهر الحرام) * ولم يقل: " عن قتال
في الشهر الحرام "، لأنهم لم يسألوا إلا من أجل القتال فيه، فكان ذكره أولى!
وقيل: لم يقع السؤال إلا بعد القتال; فكان الاهتمام بالسؤال عن هذا الشهر: هل أبيح
فيه القتال؟ وأعاده بلفظ الظاهر، ولم يقل: " هو كبير " ليعلم حكم قتال وقع في
الشهر الحرام.
وقد يعدل عن الجواب إذا كان السائل قصده التعنت، كقوله تعالى: * (ويسألونك
عن الروح قل الروح من أمر ربى) * فذكر صاحب الإيضاح في خلق الإنسان: إن
اليهود إنما سألوا تعجيزا وتغليظا، إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان وجبريل
وملك آخر، يقال له الروح، وصنف من الملائكة والقرآن وعيسى، فقصد اليهود
أن يسألوه، فبأي يسمى أجابهم قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجملا، فكان هذا
الإجمال كيدا يرسل به كيدهم.
44

وقيل: إنما سألوا عن الروح: هل هي محدثة مخلوقة أم ليست كذلك؟ فأجابهم،
بأنها من أمر الله; وهو جواب صحيح، لأنه لا فرق بين أن يقول في الجواب ذلك،
أو يقول: " من أمر ربى "، لأنه إنما أراد أنها من فعله وخلقه.
وقيل: أنهم سألوه عن الروح الذي هو في القرآن، فقد سمى الله القرآن روحا في
مواضع من الكتاب، وحينئذ فوقع الجواب موقعه; لأنه قال: لهم الروح الذي هو القرآن
من أمر ربى، ومما أنزله الله على نبيه، يجعله دلالة وعلما على صدقه وليس [من]
فعل المخلوقين ولا مما يدخل في إمكانهم.
وحكاه الشريف المرتضى في،، الغرر،، عن الحسن البصري، قال: ويقويه قوله بعد هذه
الآية: * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا) *،
فكأنه قال تعالى: إن القرآن من أمر ربى ولو شاء لرفعه.
ومثال الزيادة في الجواب، قوله تعالى: * (وما تلك بيمينك يا موسى. قال هي عصاي
أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولى فيها مآرب أخرى) * فإنه عليه السلام،
فهم أن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله في العصا، فينبغي أن ينبه لصفاتها، حتى يظهر
له التفاوت بين الحالين.
وكذا قوله: * (ما تعبدون. قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين) *
وحسنه إظهار الابتهاج بعبادتها والاستمرار على مواظبتها، ليزداد غيظ السائل.
وقوله تعالى: * (الله ينجيكم منها ومن كل كرب) * بعد قوله: * (قل من
ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا...) * الآية، ولولا قصد بسط
الكلام ليشاكل ما تقدم، لقال " ينجيكم الله ".
45

ومثال النقصان منه قوله تعالى ذاكرا عن مشركي مكة: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا
بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا أئت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي
إن أبدله من تلقاء نفسي) *، أي ائت بقرآن ليس فيه سب آلهتنا، أو بدله بأن
تجعل مكان آية العذاب آية الرحمة، وليس فيه ذكر آلهتنا، فأمره الله أن يجيبهم
على التبديل، وطوى الجواب عن الاختراع، قال الزمخشري: لأن التبديل في إمكان
البشر، بخلاف الاختراع، فإنه ليس في المقدور، فطوى ذكره، للتنبيه على أنه سؤال محال.
وذكر غيره أن التبديل قريب من الاختراع، فلهذا اقتصر على جواب واحد لهما.
وخطر لي أنه لما كان التبديل أسهل من الاختراع، وقد نفى إمكان التبديل، كان
الاختراع غير مقدور عليه من طريق أولى.
فائدة
قيل: أصل الجواب أن يعاد فيه نفس سؤال السائل، ليكون وفق السائل، قال
الله تعالى: * (أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف) *، و " أنا " في جوابه عليه السلام
هو " أنت " في سؤالهم.
قال: * (أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا) *، فهذا أصله،
ثم إنهم أتوا عوض ذلك محذوف الجوب اختصارا; وتركا للتكرار.
وقد يحذف السؤال ثقة بفهم السامع بتقديره، كقوله تعالى: * (قل هل من
46

شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده) *، فإنه
لا يستقيم أن يكون السؤال والجواب من واحد، فتعين أن يكون * (قل الله) * جواب
سؤال، كأنهم سألوا لما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو * (من يبدأ الخلق
ثم يعيده) *، فأجابهم الله عز وجل: * (قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده) *، فترك
ذكر السؤال.
ونظيره قوله تعالى: * (هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله
يهدى للحق) *.
قاعدة
الأصل: في الجواب أن يكون مشاكلا للسؤال، فإن كان جملة اسمية فينبغي أن يكون
الجواب كذلك، ويجئ ذلك في الجواب المقدر أيضا; إلا أن ابن مالك قال في قولك
" من قرأ " فتقول: زيد، فإنه من باب حذف الفعل، على جعل الجواب جملة فعلية.
قال: وإنما قدرته كذلك، لا مبتدأ، مع احتماله، جريا على عادتهم في الأجوبة إذا قصدوا
تمامها، قال تعالى: * (من يحيى العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها) *.
ومثله: * (ليقولن خلقهن العزيز العليم) *، * (قل أحل لكم الطيبات) *،
فلما أتى بالجملة الفعلية، مع فوات مشاكلة السؤال، علم أن تقدير الفعل أولا
أولى. انتهى.
ومما رجح به أيضا تقدير الفعل أنه حيث صرح بالجزء الأخير، صرح بالفعل،
47

والتشاكل ليس واجبا; بل اللائق كون زيد فاعلا، أي قرأ زيد أو خبرا، أي القارئ زيد،
لا مبتدأ، لأنه مجهول.
بقى أن يقال في الأولى: التصريح بالفعل أو حذفه؟ وهل يختلف المعنى في ذلك؟
والجواب: قال ابن يعيش التصريح بالفعل أجود.
وليس كما زعم بل الأكثر الحذف، وأما قوله تعالى: * (أحل لكم الطيبات) *
* (ليقولن خلقهن العزيز العليم) *، * (قل يحييها الذي أنشأها) *، فكان الشيخ
شهاب الدين بن المرحل رحمه الله يجعله من باب * (يسألونك عن الأهلة قل هي
مواقيت للناس والحج) *، من أنهم أجيبوا بغير ما سألوا لنكتة.
وفيه نظر. وأما المعنى فلا شك أنه يختلف، فإنه إذا قيل: من جاء؟ فقلت: جاء
زيد، احتمل أن يكون جوابا وأن يكون كلاما مبتدأ. ولو قلت: " زيد "، كان نصا
في أنه جواب، وفى العموم الذي دلت عليه " من "، وكأنك قلت: الذي جاء زيد،
فيفيد الحصر. وهاتان الفائدتان، إنما حصلتا من الحذف.
ومنه قوله تعالى: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) *; إذ التقدير: الملك
لله الواحد، فحذف المبتدأ من الجواب، إذ المعنى: لا ملك إلا لله.
ومن الحذف قوله تعالى: * (لمن الأرض ومن فيها) *، * (لمن ما في السماوات
والأرض) *، * (قل من يرزقكم من السماوات والأرض) *.
ومن الإثبات قوله تعالى: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) *.
48

ولعله للتنصيص على الإحياء الذي أنكروه: * (قل من رب السماوات السبع) *،
وقوله: * (خلقهن العزيز العليم) *، لأن ظاهر أمرهم أنهم كانوا معطلة ودهرية، فأريد
التنصيص على اعترافهم بأنها مخلوقة.
وقوله: * (نبأني العليم الخبير) *، لأنها استغربت حصول النبأ الذي أسرته.
* * *
وقال ابن الزملكاني في،، البرهان،،: أطلق النحويون القول بأن " زيدا " فاعل،
إذا قلت: " زيد " في جواب " من قام؟ " على تقدير: قام زيد، والذي يوجبه جماعة علم
البيان، أنه مبتدأ لوجهين:
أولهما: أنه مطابق للجملة التي هي جواب الجملة المسؤول بها في الاسمية، كما وقع التطابق،
في قوله تعالى: * (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) * في الجملة
الفعلية، وإنما لم يقطع التطابق في قوله تعالى: * (ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير
الأولين) *، لأنهم لو طبقوا لكانوا مقرين بالإنزال، وهم من الإذعان به
على تفاوت.
الثاني: أن اللبس لم يقع عند السائل إلا فيمن فعل الفعل، فوجب أن يقدم الفاعل
في المعنى، لأنه متعلق بغرض السائل، وأما الفعل فمعلوم عنده، ولا حاجة إلى السؤال عنه،
فحري أن يقع في الأخرى التي هي محل التكملات والفضلات.
وكذلك: أزيد قام أم عمرو؟ فالوجه في جوابه أن تقول: زيد، قام أو عمرو قام.
وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام في جواب:
49

* (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا) *; فإن السؤال
وقع عن الفاعل; لا عن الفعل، ومع ذلك صدر الجواب بالفعل، مع أنهم لم يستفهموه
عن كسر الأصنام، بل كان عن الشخص الكاسر لها!
والجواب أن ما بعد " بل " ليس بجواب للهمزة، فإن " بل " لا يصلح أن يصدر بها
الكلام، ولأن جواب الهمزة بنعم أو بلى. فالوجه أن يجعل إخبارا مستأنفا، والجواب
المحقق مقدر، دل عليه سياق الكلام، ولو صرح به لقال: " ما فعلته بل فعله كبيرهم "، وإنما
اخترنا تقدير الجملة الفعلية على الجملة المعطوفة عليها في ذلك.
فإن قلت: يلزم على ما ذكرت أن يكون الخلف واقعا في الجملتين: المعطوف عليها.
المقدرة، والمعطوفة الملفوظ بها بعد " بل "!
قلت: وإنه لازم، على أن يكون التقدير: ما أنا فعلته بل فعله كبيرهم هذا، مع زيادته
بالخلف عما أفادته الجملة الأولى لو من التعريض، إذ منطوقها نفى الفعل عن إبراهيم عليه
السلام، ومفهومها إثبات حصول التكسير من غيره.
فإن قلت: ولابد من ذكر ما يكون مخلصا عن الخلف على كل حال.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن في التعريض مخلصا عن الكذب، ولم يكن قصده عليه السلام أن ينسب
الفعل الصادر منه إلى الصنم حقيقة، بل قصده إثبات الفعل لنفسه على طريق التعريض،
ليحصل غرضه من التبكيت، وهو في ذلك مثبت معترف لنفسه بالفعل; وليس هذا من
الكذب في شئ.
والثاني: إنه غضب من تلك الأصنام، غيرة لله تعالى; ولما كانوا لأكبرها أشد
تعظيما، كان منه أشد غضبا، فحمله ذلك على تكسيرها، وذلك كله حامل للقوم على الأنفة
50

أن يعبدوه، فضلا عن أن يخصوه بزيادة التعظيم، ومنبه لهم على أن المتكسرة متمكن فيها
الضعف والعجز، منادى عليها بالفناء، منسلخة عن ربقة الدفع، فضلا عن إيصال الضرر
والنفع. وما هذا سبيله حقيق أن ينظر إليه بعين التحقير لا التوقير، والفعل ينسب إلى
الحامل عليه، كما ينسب إلى الفاعل والمفعول والمصدر والزمان والمكان والسبب، إذ للفعل
بهذه الأمور تعلقات وملابسات، يصح الإسناد إليها على وجه الاستعارة.
الثالث: أنه لما رأى عليه السلام منهم بادرة تعظيم الأكبر، لكونه أكمل من باقي
الأصنام، وعلم أن ما هذا شأنه، يصان أن يشترك معه من دونه في التبجيل والتكبير،
حمله ذلك على تكسيرها، منبها لهم على أن الله أغير، وعلى تمحيق سعيد الأكبر أقدر.
وحري أن يخص بالعبادة; فلما كان الكبير هو الحامل على تكسير الصغير، صحت
النسبة إليه، على ما سلف. ولما تبين لهم الحق رجعوا إلى أنفسهم، فقالوا: إنكم أنتم الظالمون،
إذ وضعتم العبادة بغير موضعها.
وذكر الشيخ عبد القاهر أن السؤال إذا كان ملفوظا به، فالأكثر قد ترك الفعل
في الجواب والاقتصار على الاسم وحده. وإن كان مضمرا، فوجب التصريح بالفعل
لضعف الدلالة عليه، فتعين أن يلفظ به.
مشكل بقوله تعالى: * (يسبح له فيها بالغدو والآصال. رجال) *.
فيمن قرأها بفتح الباء، كأن قيل: من يسبحه؟ فقيل: يسبحه رجال ونظيره
ضرب زيد وعمرو، على بناء " ضرب " للمفعول، نعم الأولى ذكر الفعل لما ذكر،
وعليه يخرج كل ما ورد في القرآن من لفظ " قال " مفصولا، غير منطوق به، نحو:
* (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين. إذا دخلوا عليه فقالوا سلاما. قال
51

سلام...) *، كأنه قيل: فما قال لهم؟ * (قال ألا تأكلون) * ولذلك
قالوا: " لا تخف ".
هذه السياقة تخرج قصة موسى عليه السلام في قوله: * (قال فرعون وما رب
العالمين. قال رب السماوات والأرض) * إلى قوله: * (إن كنت من
الصادقين) *.
وعلى هذا كل كلام جاء فيه لفظة " قال " هذا المجئ، غير أنه يكون في بعض
المواضع أوضح، كقوله تعالى: * (إنا أرسلنا إلى قوم) *، فإنه لا يخفى أنه جواب لقوله:
* (فما خطبكم أيها المرسلون) *.
ومثله: * (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون) * إلى قوله:
* (اتبعوا من لا يسألكم أجرا) *.
فائدة
[في أن أقل الأمم سؤالا أمة محمد عليه السلام]
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كان قوم أقل سؤالا من أمة محمد
صلى الله عليه وسلم، سألوه عن أربعة عشر حرفا، فأجيبوا.
قال الإمام: ثمانية منها في البقرة: * (وإذا سألك عبادي عنى) *، * (يسألونك عن
52

الأهلة) *، والباقي ستة فيها، والتاسعة: * (يسألونك ماذا أحل لهم) * في المائدة.
والعاشرة: * (يسألونك عن الأنفال) *.
الحادي عشر في بني إسرائيل: * (ويسألونك عن الروح) *.
الثاني عشر في الكهف: * (ويسألونك عن ذي القرنين) *.
الثالث عشر في طه: * (ويسألونك عن الجبال) *.
الرابع عشر في النازعات: * (يسألونك عن الساعة) *.
ولهذه المسألة ترتيب: اثنان منها في شرح المبدأ، كقوله تعالى: * (وإذا سألك عبادي
عنى) * فإنه سؤال عن الذات، وقوله: * (عن الأهلة) *، سؤال عن الصفة.
واثنان في الآخر في شرح المعاد، وقوله: * (ويسألونك عن الجبال) * وقوله:
* (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) *.
ونظير هذا أنه ورد في القرآن سورتان، أولهما: * (يا أيها الناس) * في النصف
53

الأول، وهو السورة الرابعة، وهي سورة النساء. والثانية في النصف الثاني، وهي سورة
الحج، ثم * (يا أيها الناس) * الذي في الأول، يشتمل على شرح المبدأ، والذي في الثاني
يشتمل على شرح حال.
فإن قيل: كيف جاء * (يسألونك) * ثلاث مرات بغير واو: * (يسألونك عن الأهلة) *
* (يسألونك عن الشهر الحرام) *، * (يسألونك عن الخمر والميسر) * ثم جاء ثلاث
مرات بالواو: * (ويسألونك ماذا ينفقون) *، * (ويسألونك عن اليتامى) *، * (ويسألونك
عن المحيض) *؟
قلنا: لأن سؤالهم عن الحوادث; الأول وقع متفرقا عن الحوادث، والآخر وقع
في وقت واحد، فجئ بحرف الجمع دلالة على ذلك.
فإن قيل: كيف جاء: * (وإذ سألك عبادي عنى فإني قريب) *، وعادة السؤال
يجئ جوابه في القرآن ب‍ " قل " نحو: * (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس
والحج) * ونظائره؟
قيل: حذفت للإشارة إلى أن العبد في حالة الدعاء، مستغن عن الواسطة، وهو دليل
على أنه أشرف المقامات، فإن الله سبحانه لم يجعل بينه وبين الداعي واسطة، وفى غير حالة
الدعاء تجئ الواسطة.
54

الخطاب بالشئ عن اعتقاد المخاطب دون ما في نفس الأمر
كقوله سبحانه وتعالى: * (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) *، وقعت
إضافة الشريك إلى الله سبحانه على ما كانوا يقولون; لأن القديم سبحانه أثبته.
وقوله: * (من الناس من يتخذ من دون الله أندادا) *.
وقوله: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) *.
وقوله: * (لأنت الحليم الرشيد) *، أي بزعمك واعتقادك.
وقوله: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) *.
وقوله: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) *.
وقوله: * (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) *.
وقوله: * (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) *، أي أنكم
لو علمتم قساوة قلوبكم، لقلتم إنها كالحجارة، أو أنها فوقها في القسوة، ولو علمتم سرعة الساعة
لعلمتم أنه في سرعة الوقوع، كلمح البصر أو هو أقرب عندكم.
وأرسلنا إلى قوم هم من الكثرة بحيث لو رأيتموهم لشككتم، وقلتم: مائة ألف
أو يزيدون عليها.
55

جعل منه بعضهم قوله تعالى: * (قال رب إن قومي كذبون) *، ونحوه مما كان
عند المتكلم، لأنه لا يكون خلافه، فإنه كان على طمع ألا يكون منهم تكذيب.
وقوله تعالى: * (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) *، أي
بالنسبة إلى ما يعتاده المخلوقون في أن الإعادة عندهم أهون من البداءة، لأنه أهون بالنسبة إليه
سبحانه، فيكون البعث أهون عليه عندكم من الإنشاء.
وحكى الإمام الرازي في مناقب الشافعي قال: معنى الآية " في العبرة عندكم "; لأنه
لما قال للعدم: " كن " فخرج تاما كاملا بعينيه وأذنيه وسمعه وبصره ومفاصله، فهذا
في العبرة أشد من أن يقول لشئ قد كان: " عد إلى ما كنت عليه "، فالمراد من الآية:
وهو أهون عليه بحسب عبرتكم; لا أن شيئا يكون على الله أهون من شئ آخر.
وقيل: الضمير في * (عليه) * يعود للخلق، لأنه يصاح بهم صيحة فيقومون، وهو
أهون من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا، إلى أن يصيروا رجالا ونساء.
وقوله: * (يا أيها الساحر) *، أي يا أيها العالم الكامل; وإنما قالوا هذه تعظيما
وتوقيرا منهم له; لأن السحر عندهم كان عظيما وصنعة ممدوحة.
وقيل: معناه يا أيها الذي غلبنا بسحره، كقول العرب; خاصمته فخصمته، أي غلبته
بالخصومة، ويحتمل أنهم أرادوا تعييب موسى عليه السلام بالسحر، ولم ينافسهم
في مخاطبتهم به، رجاء أن يؤمنوا.
وقوله تعالى: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) *، جئ ب‍ " إن " التي للشك
وهو واجب، دون " إذ " التي للوجوب، سوقا للكلام على حسب حسبانهم أن
56

معارضته فيها للتهكم، كما يقوله الواثق بغلبته على من يعاديه: " إن غلبتك "، وهو
يعلم أنه غالبه تهكما به.
وقوله تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *، والمراد ب‍ " من لا يخلق "
الأصنام، وكان أصله كما لا يخلق، لأن " ما " لمن لا يعقل بخلاف " من "، لكن
خاطبهم على معتقدهم; لأنهم سموها آلهة، وعبدوها فأجروها مجرى أولى العلم، كقوله
للأصنام: * (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد...) * الآية، أجرى عليهم ضمير
أولى العقل. كذا قيل.
ويرد عليه أنه إذا كان معتقدهم خطأ وضلالة، فالحكم يقتضى ألا ينزعوا عنه
ويقلعوا، لا أن يبقوا عليه; إلا أن يقال: الغرض من الخطاب الإيهام، ولو خاطبهم
على خلاف معتقدهم فقال: " كما لا يخلق "، لاعتقدوا تعالى أن المراد به غير الأصنام
من الجماد.
وكذا ما ورد من الخطاب بعسى ولعل; فإنها على بابها في الترجي والتوقع، ولكنه
راجع إلى المخاطبين، قال الخليل وسيبويه في قوله تعالى: * (فقولا له قولا لينا لعله
يتذكر أو يخشى) *: اذهبا إلى رجائكما وطمعكما، لعله يتذكر عندكما، فأما الله
تعالى فهو عالم بعاقبة أمره، وما يؤول إليه; لأنه يعلم الشئ قبل أن يكون. وهذا أحسن
من قول الفراء: إنها تعليلة، أي كي يتذكر، لما فيه من إخراج اللفظ عن موضعه.
ومنه التعجب الواقع في كلام الله، نحو: * (فما أصبرهم على النار) *، أي هم أهل
أن يتعجب منهم، ومن طول تمكنهم في النار.
57

ونحوه: * (قتل الإنسان ما أكفره) * و * (أبصر به وأسمع) *.
ومنه قوله تعالى في نعيم أهل الجنة وشقاء أهل النار: * (خالدين فيها ما دامت
السماوات والأرض) *، مع أنهما لا يزولان، لكن التقييد بالسماء والأرض، جرت
عادة العرب إذا قصدوا الدوام أن يعلقوا بهما فجاء الخطاب على ذلك.
تنبيه
[في التهكم]
يقرب من هذا التهكم، وهو إخراج الكلام على ضد مقتضى الحال، كقوله تعالى:
* (ذق إنك أنت العزيز الكريم) *.
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه
من أمر الله) *، مع العلم بأنه لا يحفظ من أمره الله شئ.
58

التأدب في الخطاب بإضافة الخير إلى الله
وأن الكل بيده، كقوله تعالى: * (أنعمت عليهم) *، ثم قال: * (غير المغضوب
عليهم) *، ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم.
وقوله: * (بيدك الخير) *، ولم يقل: " والشر "، وأن كانا جميعا بيده; لكن الخير
يضاف إلى الله تعالى إرادة محبة ورضا، والشر يضاف إليه إلا إلى مفعولاته; لأنه لا يضاف
إلى صفاته ولا أفعاله، بل كلها كما لا نقص فيه. وهذا معنى قوله: " والشر ليس إليك ";
وهو أولى من تفسير من فسره: لا يتقرب به إليك.
وتأمل قوله: * (فصرف عنه كيدهن) * فأضافه إلى نفسه، حيث صرفه، ولما
ذكر السجن أضافه إليهم فقال: * (ليسجننه حتى حين) * وإن كان سبحانه هو الذي
سبب السجن له، وأضاف ما منه الرحمة إليه، وما منه الشدة إليهم.
ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: * (وإذا مرضت فهو يشفين) *
ولم يقل: " أمرضني ".
وتأمل جواب الخضر عليه السلام عما فعله، حيث قال في إعابة كما السفينة: * (فأردت) *
وقال في الغلام: * (فأردنا) * وفى إقامة الجدار: * (فأراد ربك) *.
59

قال الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور في كتاب،، فك الأزرار عن عنق
الأسرار،،: لما أراد ذكر العيب للسفينة نسبه لنفسه أدبا مع الربوبية، فقال:
" فأردت " ولما كان قتل الغلام مشترك الحكم بين المحمود والمذموم، استتبع نفسه مع
الحق، فقال في الإخبار بنون الاستتباع، ليكون المحمود من الفعل - وهو راحة أبويه
المؤمنين من كفره - عائدا على الحق سبحانه، والمذموم ظاهرا - وهو قتل الغلام بغير حق -
عائدا عليه. وفى إقامة الجدار كان خيرا محضا، فنسبه للحق فقال: * (فأراد ربك) *،
ثم بين أن الجميع من حيث العلم التوحيدي من الحق، بقوله: * (وما فعلته عن أمري) *.
وقال ابن عطية: إنما أفرد أولا في الإرادة لأنها لفظ غيب، وتأدب بأن لم يسند
الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله: * (وإذا مرضت فهو
يشفين) *، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله، وأسند المرض إلى نفسه، إذ هو معنى
نقص ومعابة، وليس من جنس النعم المتقدمة.
وهذا النوع مطرد في فصاحة القرآن كثيرا، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى:
* (فلما زاغوا عنه أزاغ الله قلوبهم) *! وتقديم فعل الله في قوله تعالى: * (ثم تاب
عليهم ليتوبوا) *; وإنما قال الخضر في الثانية: * (فأردنا) *، لأنه قد رواه الله وأصحابه
الصالحون، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين، وتمنى التبديل لهما; وإنما أسند
الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى لأنها أمر مستأنف في الزمن الطويل، غيب من الغيوب،
فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى:
ومثله قول مؤمني الجن: * (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض
60

أم أراد بهم ربهم رشدا) *، فحذف الفاعل في إرادة الشر تأدبا مع الله، وأضافوا إرادة
الرشد إليه.
وقريب من هذا قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام، في خطابه لما اجتمع أبوه
وإخوته: * (إذ أخرجني من السجن) *، ولم يقل: " من الجب " مع أن الخروج منه
أعظم من الخروج من السجن.
وإنما آثر ذكر السجن لوجهين ذكرهما ابن عطية:
أحدهما: أن في ذكر الجب تجديد فعل إخوته، وتقريعهم بذلك، وتجديد تلك الغوائل.
والثاني: أنه خرج من الجب إلى الرق، ومن السجن إلى الملك، والنعمة هنا أوضح. انتهى
وأيضا ولأن بين الحالين بونا من ثلاثة أوجه: قصر المدة في الجب وطولها في السجن،
وأن الجب كان في حال صغره، ولا يعقل فيها المصيبة، ولا تؤثر في النفس كتأثيرها
في حال الكبر. والثالث أن أمر الجب كان بغيا وظلما لأجل الحسد، وأمر السجن كان
لعقوبة أمر ديني هو منزه عنه، وكان أمكن في نفسه. والله أعلم بمراده.
ومثله قوله تعالى: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) *، وقال:
* (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم) *، فحذف الفاعل عند ذكر
الرفث وهو الجماع، وصرح به عند إحلال العقد.
وقال تعالى: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) *،
فحذف الفاعل عند ذكر هذه الأمور.
61

وقال: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين
إحسانا) *.
وقال: * (وأحل الله البيع وحرم الربا) * ونظائر ذلك كثيرة في القرآن.
وقال السهيلي في كتاب الأعلام في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: * (وناديناه
من جانب الطور الأيمن) * وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: * (وما كنت بجانب الغربي إذ
قضينا إلى موسى الأمر) *، والمكان المشار إليه واحد، قال: ووجه الفرق بين الخطابين
أن الأيمن إما مشتق من اليمن، وهو البركة، أو مشارك له في المادة، فلما حكاه عن موسى
في سياق الإثبات أتى بلفظه، ولما خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم في سياق النفي عدل إلى
لفظ " الغربي "، لئلا يخاطبه، فيسلب عنه فيه لفظا مشتقا من اليمن أو مشاركا في المادة،
رفقا بهم في الخطاب، وإكراما لهما. هذا حاصل ما ذكره بمعناه موضح.
وهو أصل عظيم في الأدب في الخطاب.
وقال أيضا في الكتاب المذكور في قوله تعالى: * (وذا النون إذ ذهب مغاضبا...) *
الآية أضافه هنا إلى " النون " وهو الحوت، وقال في سورة القلم: * (ولا تكن كصاحب
الحوت) *، وسماه هنا " ذا النون " والمعنى واحد، ولكن بين اللفظين تفاوت كبير في
حسن الإشارة إلى الحالين، وتنزيل الكلام في الموضوعين، فإنه حين ذكره في موضع الثناء
عليه، قال * (ذا النون) *، ولم يقل " صاحب الحوت " ولفظ النون أشرف لوجود هذا
الاسم في حروف الهجاء، في أوائل السور، نحو * (ن والقلم) * [وقد قيل: إن هذا
قسم بالنون والقلم، وإن لم يكن قسما، فقد عظمه بعطف المقسم به عليه، وهو القلم، وهذا
62

الاشتراك يشرف هذا الاسم وليس في الاسم] وليس في اللفظ الآخر [وهوه الحوت]
ما يشرفه.
فالتفت إلى تنزيل الكلام في الآيتين يلح لك ما أشرت إليه في هذا، فإن التدبر
لإعجاز القرآن واجب مفترض.
الشيخ أبو محمد المرجاني في قوله تعالى: * (سننظر أصدقت أم كنت من
الكاذبين) *، خاطبه بمقدمة الصدق مواجهة، ولم يقدم الكذب، لأنه متى أمكن
حمل الخبر على الصدق لا يعدل عنه، ومتى كان يحتمل ويحتمل، قدم الصدق; ثم لم يواجهه
بالكذب، بل أدمجه في جملة الكذابين، أدبا في الخطاب.
ومثله: * (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان
قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) *.
وكذا قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون: * (وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك
صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) *.
هذان المثالان من باب إرخاء العنان للخصم، ليدخل في المقصود بالطف موعود.
قاعدة
[في ذكر الرحمة والعذاب في القرآن]
من أساليب القرآن: حيث ذكر الرحمة والعذاب، أن يبدأ بذكر الرحمة، كقوله
63

تعالى: * (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) *، * (إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب
أليم) * وعلى هذا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: * (إن رحمتي
سبقت غضبي) *.
وقد خرج عن هذه القاعدة مواضع اقتضت الحكمة فيها تقديم ذكر العذاب
ترهيبا وزجرا:
منها: قوله في سورة المائدة: * (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب
من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ قدير) *، لأنها وردت في ذكر قطاع
الطريق والمحاربين والسراق، فكان المناسب تقديم ذكر العذاب; لهذا ختم آية السرقة
ب‍ " عزيز حكيم "، وفيه الحكاية المشهورة، وختمها بالقدرة مبالغة في الترهيب، لأن
من توعده قادر على إنفاذ الوعيد، كما قاله الفقهاء في الإكراه على الكلام ونحوه.
. منها: قوله في سورة العنكبوت: * (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه
تقلبون) *، لأنها في سياق حكاية إنذار إبراهيم لقومه.
. مثلها: * (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير.
64

قل سيروا) * إلى قوله: * (إن الله على كل شئ قدير) *، وبعدها: * (بمعجزين
في الأرض ولا في السماء ومالكم من دون الله من ولى ولا نصير) *.
ومنها في آخر الأنعام، قوله: * (إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم) *،
لأن سورة الأنعام كلها مناظرة للكفار ووعيد لهم، خصوصا وفى آخرها قبل هذه الآيات
بيسير: * (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ...) * الآية،
وهو تهديد ووعيد إلى قوله: * (قل أغير الله أبغي ربا...) * الآية، وهو تقريع للكفار
وإفساد لدينهم إلى قوله: * (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) *، فكان المناسب
تقديم ذكر العقاب ترهيبا للكفار، وزجرا لهم عن الكفر والتفرق، وزجرا للخلائق عن
الجور في الأحكام.
ونحو ذلك في أواخر الأعراف: * (إن ربك لسريع العقاب وأنه لغفور رحيم) *;
لأنها في سياق ذكر معصية أصحاب السبت وتعذيبه إياهم، فتقديم العذاب مناسب.
والفرق بين هذه الآية وآية الأنعام، حيث أتى هنا باللام، فقال: * (لسريع
العقاب) * دون هناك، إن اللام تفيد التوكيد، فأفادت هنا تأكيد سرعة العقاب; لأن
العقاب المذكور هنا عقاب عاجل، وهو عقاب بني إسرائيل بالذل والنقمة وأداء الجزية
بعد المسخ، لأنه في سيقا قوله: * (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من
يسومهم سوء العذاب) *، فتأكيد السرعة أفاد بيان التعجيل وهو مناسب، بخلاف
العقاب المذكور في سورة الأنعام، فإنه آجل، بدليل قوله: * (ثم إلى ربكم مرجعكم
65

فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) *، فاكتفى فيه بتأكيد " إن ". ولما اختصت
آية الأعراف بزيادة العذاب عاجلا اختصت بزيادة التأكيد لفظا ب‍ " إن " وجميع ما في
القرآن على هذا اللفظ يناسبه التقديم والتأخير، وعليه دليلان: أحدهما: تفصيلي، وهو
الاستقراء، فانظر أي آية شئت تجد فيها مناسبا لذلك، والثاني: إجمالي وهو أن القرآن
كلام أحكم الحكماء، فيجب أن يكون على مقتضى الحكمة; فوجب اعتباره كذلك. وهذان
دليلان عامان في مضمون هذه الفائدة وغيرها.
وأما قوله تعالى: * (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) *، ولم يقل:
" ذو عقوبة شديدة "، لأنه إنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمة الله في الاجتراء
على معصيته; وذلك أبلغ في التهديد، معناه: لا تغتروا بسعة رحمة الله، فإنه مع ذلك
لا يرد عذابه.
ومثله قوله تعالى: * (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) *،
وقد سبقت.
فائدة
في الفرق بين الخطاب بالاسم والفعل
وأن الفعل يدل على التجدد والحدوث، والاسم على الاستقرار والثبوت، ولا يحسن وضع
أحدهما موضع الآخر.
فمنه قوله تعالى: * (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) *، لو قيل " يبسط " لم يؤد
66

الغرض; لأنه لم يؤذن بمزاولة الكلب البسط، وأنه يتجدد له شئ بعد شئ ف‍ " باسط "
أشعر بثبوت الصفة.
وقوله: * (هل من خالق غير الله يرزقكم) *، لو قيل " رازقكم " لفات
ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئا بعد شئ; ولهذا جاءت الحال في صورة المضارع، مع
أن العامل الذي يفيده ماض، كقولك: جاء زيد يضرب، وفى التنزيل: * (وجاءوا أباهم
عشاء يبكون) *، إذ المراد أن يريد صورة ما هم عليه وقت المجئ وأنهم آخذون
في البكاء يجددونه شيئا بعد شئ، وهذا هو سر الإعراض عن اسم الفاعل والمفعول، إلى
صريح الفعل والمصدر.
ومن هذا يعرف لم قيل: * (الذين ينفقون) *، ولم يقل " المنفقين " في غير موضع؟
وقيل كثيرا: " المؤمنون " و " المتقون "; لأن حقيقة النفقة أمر فعلى شأنه الانقطاع
والتجدد، بخلاف الإيمان فإن له حقيقة تقوم بالقلب يدوم مقتضاها، وإن غفل عنها،
وكذلك التقوى والإسلام، والصبر والشكر، والهدى والضلال، والعمى والبصر، فمعناها،
أو معنى وصف الجارحة; كل هذه لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمر، وآثار تتجدد
وتنقطع، فجاءت بالاستعمالين; إلا أن لكل محل ما يليق به، فحيث يراد تجدد حقائقها
أو آثارها فالأفعال، وحيث يراد ثبوت الاتصاف بها فالأسماء. وربما بولغ في الفعل
فجاء تارة بالصيغة الاسمية، كالمجاهدين والمهاجرين والمؤمنين; لأنه للشأن والصفة، هذا
مع أن لها في القلوب أصولا، وله ببعض معانيها التصاق قوى هذا التركيب، إذ القلب
فيه جهاد الخواطر الرديئة، والأخلاق الدنيئة، وعقد على فعل المهاجرة، كما فيه عقد
على الوفاء بالعهد. وحيث يستمر المعاهد عليه إلى غير ذلك.
67

وانظر هنا إلى لطيفة; وهو أن ما كان من شأنه ألا يفعل إلا مجازاة، وليس من شأنه
أن يذكر الاتصاف به، لم يأت إلا في تراكيب الأفعال، كقوله تعالى: * (ويضل الله
الظالمين) *، وقال: * (وإن الله لهاد الذين آمنوا) *: * (لكل قوم
هاد) *.
وأما قوله تعالى: * (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) *، فإن
الإهلاك نوع اقتدار بين، مع أن جنسه مقضى به على الكل; عالين وسافلين;
لا كالضلال الذي جرى مجرى العصيان.
ومنه قوله تعالى: * (تذكروا فإذا هم مبصرون) *، لأن البصر صفة لازمة
للمتقى، وعين الشيطان ربما حجبت، فإذا تذكر رأى المذكور، ولو قيل: " يبصرون "،
لأنبأ عن تجدد واكتساب فعل لا عود صفة.
وقوله: * (الذي خلقني فهو يهدين) *، أتى بالماضي في " خلق " لأن خلقه
مفروغ منه، وأتى بالفاء دون الواو، لأنه كالجواب; إذ من صور المنى، قادر على أن يصيره
ذا هدى; وهو للحصر، لأنهم كانوا يزعمون أن آلهتهم تهديهم، ثم قال: * (والذي هو
يطعمني ويسقين) *، فأتى بالمضارع لبيان تجدد الإطعام والسقيا، وجاءت الواو
دون الفاء، لأنهم كانوا لا يفرقون بين المطعم والساقي، ويعلمون أنهما من مكان واحد، وإن
كانوا يعلمون أنه من إله، وأتى ب‍ " هو " لرفع ذلك، ودخلت الفاء في * (يشفين) *،
لأنه جواب، ولم يقل: " إذا مرضت فهو يشفين " إذ يفوت ما هو موضوع لإفادة
68

التعقيب، ويذهب الضمير المعطى معنى الحصر، ولم يكونوا منكرين الموت من الله،
وإنما أنكروا البعث، فدخلت " ثم " لتراخى ما بين الإماتة والإحياء.
وقوله تعالى: * (أدعوتموهم أم أنتم صامتون) * لأن الفعل الماضي يحتمل هذا
الحكم دائما ووقتا دون وقت، فلما قال: * (أم أنتم صامتون) *، أي سكوتكم عنهم أبدا
ودعاؤكم إياهم واحد، لأن " صامتون " فيه مراعاة للفواصل، فهو أفصح، وللتمكين
من تطريفه ذلك بحرف المد واللين، وهو للطبع أنسب من صمتهم، وصلا ووقفا.
وفيه وجه آخر، وهو أن أحد القسمين موازن للآخر، فيدل على أن المعنى: " أنتم
داعون لهم دائما أم أنتم صامتون ".
فإن قيل: لم لا يعكس؟
قلنا: لأن الموصوف الحاضر والمستقبل، لا الماضي; لأن قبله: * (وأن تدعوهم إلى الهدى
لا يتبعوكم) *، والكلام بآخره، فالحكم به قد يرجح.
وقوله تعالى: * (أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) *، ولم يقل:
" أم لعبت "; لأن العاقل لا يمكن أن يلعب بمثل ما جاء به ظاهرا، وإنما يكون ذلك
أحد رجلين; إما محق وإما مستمر على لهو الصبا وغى الشباب، فيكون اللعب من شأنه
حتى يصدر عنه مثل ذلك، ولو قال: " أم لعبت " لم يعط هذا.
وقوله تعالى حاكيا عن المنافقين: * (آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم
بمؤمنين) *، يريدون أحدثنا الإيمان، وأعرضنا كان عن الكفر، ليروح ذلك خلافا
منهم، كما أخبر تعالى عنهم في قوله: * (يخادعون الله والذين آمنوا) *.
69

وجاءت الاسمية في الرد عليهم بقوله: * (وما هم بمؤمنين) * لأنه أبلغ من نفى
الفعل، إذ يقتضى إخراج أنفسهم وذواتهم عن أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين،
وينطوي تحته على سبيل القطع نفى بما أثبتوا لأنفسهم من الدعوى الكاذبة، على طريقة:
* (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها) *، مبالغة في تكذيبهم،
ولذلك أجيبوا بالباء، وكلامهم في هذا - كما قيل: * خلى من المعنى ولكن مفرقع *.
وإذا قيل: " أنا مؤمن " أبلغ من " آمن " ونفى الأبلغ لا يستلزم نفى ما دونه:
وما حقيقة إخراج ذواتهم من جنس المؤمنين لم يرجع في البيان إلا على عى أترويج،
ولكن ذم الله تعالى طائفة تقول " آمنا "، وهي حالة القول ليست بمؤمنة، بيانا لأن
هذا القول إنما صدر عنها ادعاء، بحضور الإيمان حالة القول والانتظام بذلك في سلك
المتصفين بهذه الصفة، وهم ليسوا كذلك; فإذا ذمهم الله شمل الذم أن يكونوا آمنوا يوما ثم
تخلوا، وأن يكونوا ما أمنوا قط من طريق الأولى والتعميم فقط، وأعلم به أن ذلك حكم
من ادعى هذا الدعوى على هذه الحال، وبين أن هذا القول إنما قصدوا به التمويه، بقوله:
* (يخادعون الله والذين آمنوا) * ولو قال: وما آمنوا، لم يفد إلا نفيه عنهم في الماضي،
ولم يفد ذمهم إن كانوا آمنوا ثم ارتدوا; وهذا أفاد نفيه في الحال وذمهم بكل حال،
ولأن ما فيه " مؤمنين " أحسن من " آمنوا " لوجود التمكين بالمد; والوقف عقبه على
حرف له موقف.
وأما قوله تعالى: * (وما هم منها بمخرجين) *، دون " يخرجون " فقيل
ما سبق. وقيل استوى هنا " يخرجون " و " خارجين " في إفادة المعنى، واختير الاسم
لخفته وأصالته.
70

وكذلك قوله تعالى: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى
شياطينهم) * يخبرون عن أنفسهم بالثبات على الإيمان بهم.
ومنه قوله تعالى: * (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) *،
قال الإمام فخر الدين الرازي: لأن الاعتناء بشأن إخراج الحي من الميت لما كان أشد أتى
بالمضارع، ليدل على التجدد، كما في قوله تعالى: * (الله يستهزئ بهم) *.
تنبيه
مضمر الفعل كمظهره في إفادة الحدوث، ومن هذه القاعدة قالوا: إن سلام الخليل عليه
السلام أبلغ من سلام الملائكة، حيث قال: * (قالوا سلاما قال سلام) *: فإن
نصب * (سلاما) * إنما يكون على إرادة الفعل، أي سلمنا سلاما، وهذه العبارة مؤذنة بحدوث
التسليم منهم، إذ الفعل تأخر عن وجود الفاعل، بخلاف سلام إبراهيم، فإنه مرتفع بالابتداء،
فاقتضى الثبوت على الإطلاق، وهو أولى بما يعرض له الثبوت، فكأنه قصد أن يحييهم
بأحسن مما حيوه به، اقتداء بقوله تعالى: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها
أو ردوها) *.
وذكروا فيه أوجها أخرى تليق بقاعدة الفلاسفة في تفضيل الملائكة على البشر،
وهو أن السلام دعاء بالسلامة من كل نقص، وكمال البشر تدريجي، فناسب الفعل، وكمال
الملائكة مقارن لوجودها على الدوام، فكان أحق بالاسم الدال على الثبوت.
قيل: وهو غلط، لأن الفعل المنشأ هو تسليمهم، أما السلام المدعو به فليس في موضوعه
تعرض لتدرج، وسلامة أيضا منشأ فعل، ولا يتعرض للتدريج، غير أن سلامة لم يدل بوضعه
71

اللغوي وقوع إنشائه، ثم لو كان هذا المعنى معتبرا لشرع السلام بيننا بالنصب
دون الرفع.
تنبيه
هذا الذي ذكرناه من دلالة الاسم على الثبوت، والفعل على التجدد والحدوث;
هو المشهور عند البيانيين; وأنكر أبو المطرف بن عميرة في كتاب،، التمويهات على كتاب
التبيان،، لابن الزملكاني، قال: هذا الرأي غريب، ولا مستند له نعلمه، إلا أن يكون
قد سمع أن في مقوله: أن يفعل وأن ينفعل هذا المعنى من التجدد، فظن أنه الفعل القسيم
للأسماء، فغلط. ثم قوله: الاسم يثبت المعنى للشئ عجيب، وأكثر الأسماء دلالتها على
معانيها فقط، وإنما ذاك في الأسماء المشتقة; عليه ثم كيف يفعل بقوله تعالى: * (ثم إنكم بعد
ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) *، وقوله في هذه السورة بعينها: * (إن
الذين هم من خشية ربهم مشفقون. والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) *؟
وقال ابن المنير: طريقة العرب تدبيج الكلام وتلوينه ومجئ الفعلية تارة، والاسمية
أخرى، من غير تكلف لما ذكروه، وقد رأينا الجملة الفعلية تصدر من الأقوياء الخلص،
اعتمادا على أن المقصود الحاصل بدون التأكيد، كقوله تعالى: * (ربنا آمنا) *، ولا شئ
بعد * (آمن الرسول) *، وقد جاء التأكيد في كلام المنافقين فقال: نحن * (إنما نحن
مصلحون) *.
72

قاعدة
[في قوله تعالى: من في السماوات والأرض ونحوها]
جاء في التنزيل في موضع: * (من في السماوات والأرض) *، وفى موضع * (من
في السماوات ومن في الأرض) *.
والأول: جاء في تسعة مواضع. أحدها في الرحمن: * (من في السماوات
والأرض) *.
والثاني: في أربع مواضع. أولها في يونس: * (ألا إن لله من في السماوات ومن
في الأرض) *.
وجاء قوله تعالى: * (ما في السماوات والأرض) * في أحد عشر موضعا، أولها في البقرة:
* (سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون) *.
وجاء قوله: * (ما في السماوات وما في الأرض) * في ثمانية وعشرين موضعا، أولها في آية
الكرسي.
قال بعضهم: وتأملت هذه المواضع، فوجدت أنه حيث قصد التنصيص على الإفراد
ذكر الموصول والظرف، ألا ترى إلى المقصود في سورة يونس، من نفى الشركاء الذين
اتخذوهم في الأرض، وإلى المقصود في آية الكرسي في إحاطة الملك.
73

وحيث قصد أمر آخر لم يذكر الموصول، إلا مرة واحدة إشارة إلى قصد الجنس
واللاهتمام بما هو المقصود في تلك الآية، ألا ترى إلى سورة الرحمن المقصود
منها علو قدرة الله وعلمه، وشأنه وكونه سئولا، ولم يقصد إفراد السائلين.
فتأمل هذا الموضع!
قاعدة
[في قوله تعالى: " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " ونحوها]
قد يكون نحو هذا اللفظ في القرآن، كقوله تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى على الله
كذبا) * * (فمن أظلم ممن كذب على الله) * * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه
ثم أعرض عنها) * * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله...) * إلى غير ذلك.
والمفسرون على أن هذا الاستفهام معناه النفي فحينئذ، فهو خبر، وإذا كان خبرا فتوهم
بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها أدى إلى التناقض، لأنه يقال:
لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، ولا أحد أظلم
ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها.
واختلف المفسرون في الجواب عن هذا السؤال على طرق:
* * *
أحدها: تخصيص كل واحد في هذه المواضع بمعنى صلته، فكأنه قال: لا أحد
من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله
74

كذبا، وكذلك باقيها، وإذا تخصص بالصلات زال عنه التناقض.
* * *
الثاني: أن التخصيص بالنسبة إلى السبق لما لم يسبق أحد إلى مثله، حكم عليهم
بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقتهم، وهذا يئول معناه إلى السبق في المانعية،
والافترائية.
* * *
الثالث: - وادعى الشيخ أبو حيان الصواب - ونفى الأظلمية لا يستدعى نفى
الظالمية، لأن نفى المقيد لا يدل على نفى المطلق، فلو قلت: ما في الدار رجل ظريف، لم يدل
ذلك على نفى مطلق رجل، وإذا لم يدل على نفى الظالمية لم يلزم التناقض لأن فيها إثبات
التسوية في الأظلمية، وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد
على الآخر، لأنهم يتساوون في الأظلمية، وصار المعنى: لا أحد أظلم ممن افترى وممن كذب
ونحوها، ولا إشكال في تساوى هؤلاء في الأظلمية ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من
الآخر، كما أنك إذا قلت: لا أحد أفقه [من زيد وعمر وخالد، لا يدل على أن أحدهم
أفقه من الآخر، بل نفى أن يكون أحدهم أفقه] منهم.
لا يقال: إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ولم يفتر على
الله كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما، فلا يكون مساويا في الأظلمية! لأنا نقول: هذه
الآيات كلها إنما هي في الكفار، فهم متساوون في الأظلمية وإن اختلفت طرق الأظلمية،
فهي كلها صائرة إلى الكفر، وهو شئ واحد، لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لإفراد من
75

اتصف به، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة، لهم وللعصاة المؤمنين، بجامع ما اشتركوا
فيه من المخالفة، فتقول: الكافر أظلم من المؤمن، وتقول: لا أحد أظلم من الكافر;
ومعناه أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره. انتهى.
وقال بعض مشايخنا: لم يدع القائل نفى الظالمية، فيقيم الشيخ الدليل على ثبوتها،
وإنما دعواه أن " ومن أظلم ممن منع مثلا " والغرض أن الأظلمية ثابتة لغير ما اتصف بهذا
الوصف، وإذا كان كذلك حصل التعارض، ولابد من الجمع بينهما. وطريقه التخصيص
فيتعين القول به.
وقول الشيخ: إن المعنى " لا أحد أظلم ممن منع وممن ذكر " صحيح، ولكن
لم يستفد ذلك إلا من جهة التخصيص، لأن الأفراد المنفى عنها الأظلمية في آية، وأثبتت
لبعضها الأظلمية أيضا في آية أخرى، وهكذا بالنسبة إلى بقية الآيات الوارد فيها ذلك.
وكلام الشيخ يقتضى أن ذلك استفيد لا بطريق التخصيص، بل بطريق أن الآيات المتضمنة
لهذا الحكم في آية واحدة. وإذا تقرر ذلك، علمت أن كل آية خصت بأخرى، ولا
حاجة إلى القول بالتخصيص بالصلات، ولا بالسبق.
* * *
الرابع: طريقة بعض المتأخرين، فقال متى قدرنا: " لا أحد أظلم "، لزم أحد
الأمرين: إما استواء الكل في الظلم، وأن المقصود نفى الأظلمية من غير المذكور،
لا إثبات الأظلمية له، وهو خلاف المتبادر إلى الذهن، أما أن كل واحد أظلم في ذلك
النوع. وكلا الأمرين إنما لزم من جعل مدلولها إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة، أو نفيها
من غيره.
وهنا معنى ثالث، وهو أمكن في المعنى وسالم عن الاعتراض، وهو الوقوف مع مدلول
76

اللفظ من الاستفهام، والمقصود به أن هذا الأمر عظيم فظيع، قصدنا بالاستفهام عنه تخييل
أنه لا شئ فوقه، لامتلاء قلب المستفهم عنه بعظمته امتلاء يمنعه من ترجيح غيره،
فكأنه مضطر إلى أن يقول: لا أحد أظلم; وتكون دلالته على ذلك استعارة لا حقيقة،
فلا يرد كون غيره أظلم منه إن فرض. وكثيرا ما يستعمل هذا في الكلام إذا قصد به
التهويل، فيقال أي شئ أعظم من هذا إذا قصد إفراط عظمته؟ ولو قيل للمتكلم
بذلك: أنت قلت إنه أعظم الأشياء، لأبى ذلك. فليفهم هذا المعنى، فإن الكلام ينتظم
معه والمعنى عليه.
قاعدة
[في الجحد بين الكلامين]
قوله تعالى: * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) *، قال صاحب
،، الياقوتة،،: قال ثعلب والمبرد جميعا: العر ب إذا جاءت بين الكلامين بجحدين،
كان الكلام إخبارا، فمعناه إنما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام. ومثله: ما سمعت
منك ولا أقبل منك مالا. وإذا كان في أول الكلام جحد كان الكلام مجحودا جحدا
حقيقيا، نحو " ما زيد بخارج "، فإذا جمعت بين جحدين في أول الكلام كان أحدهما زائدا،
كقوله: ما ما قمت يريد: " ما قمت "، ومثله ما إن قمت، وعليه قوله تعالى: * (فيما إن
مكنا كم فيه) *، في أحد الأقوال.
77

قاعدة
في ألفاظ يظن بها الترادف وليست منه
ولهذا وزعت بحسب المقامات فلا يقوم مرادفها فيما استعمل فيه مقام الآخر،
فعلى المفسر مراعاة الاستعمالات والقطع بعدم الترادف ما أمكن; فإن للتركيب معنى
غير معنى الإفراد، ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر
في التركيب; وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد.
فمن ذلك " الخوف " و " الخشية "، لا يكاد اللغوي يفرق بينهما، ولا شك
أن الخشية أعلى من الخوف، وهي أشد الخوف، فإنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية
إذا كانت يابسة وذلك فوات بالكلية; والخوف من قولهم: ناقة خوفاء; إذا كان بها داء،
وذلك نقص وليس بفوات; ومن ثمة خصت الخشية بالله تعالى في قوله سبحانه: * (ويخشون
ربهم ويخافون سوء الحساب) *.
وفرق بينهما أيضا، بأن الخشية تكون من عظم المخشى، وإن كان الخاشي قويا،
والخوف يكون من ضعف الخائف، وإن كان المخوف أمرا يسيرا، ويدل على ذلك أن الخاء
والشين والياء في تقاليبها تدل على العظمة; قالوا: شيخ للسيد الكبير، والخيش لما عظم
من الكتان، والخاء والواو والفاء الله في تقاليبها تدل على الضعف، وانظر إلى الخوف لما فيه
من ضعف القوة، وقال تعالى: * (ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) *، فإن الخوف
من الله لعظمته، يخشاه كل أحد كيف كانت حاله، وسوء الحساب ربما لا يخافه من كان عالما
بالحساب، وحاسب نفسه قبل أن يحاسب.
78

وقال تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) *، وقال لموسى:
* (لا تخف) *، أي لا يكون عندك من ضعف نفسك ما تخاف منه من فرعون.
فإن قيل: ورد: * (يخافون ربهم) *؟
قيل: الخاشي من الله بالنسبة إلى عظمة الله ضعيف، فيصح أن يقول " يخشى ربه "
لعظمته، ويخاف ربه، أي لضعفه بالنسبة إلى الله تعالى.
وفيه لطيفة، وهي أن الله تعالى لما ذكر الملائكة وهم أقوياء ذكر صفتهم بين يديه،
فقال: * (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) *، فبين أنهم عند الله
ضعفاء، ولما ذكر المؤمنين من الناس وهم ضعفاء لا حاجة إلى بيان ضعفهم، ذكر ما يدل
على عظمة الله تعالى، فقال: * (يخشون ربهم) *، ولما ذكر ضعف الملائكة بالنسبة
إلى قوة الله تعالى قال: * (ربهم من فوقهم) *، والمراد فوقية بالعظمة.
* * *
ومن ذلك الشح والبخل، والشح هو البخل الشديد; وفرق العسكري بين
البخل والضن، بأن الضن أصله أن يكون بالعواري والبخل بالهيئات، ولهذا يقال: هو
ضنين بعلمه، ولا يقال: هو بخيل، لأن العلم أشبه بالعارية منه بالهيئة; لأن الواهب إذا
وهب شيئا خرج عن ملكه بخلاف العارية، ولهذا قال تعالى: * (وما هو على الغيب
بضنين) *، ولم يقل ب‍ * (بخيل) *.
* * *
79

ومن ذلك الغبطة والمنافسة، كلاهما محمود، قال تعالى: * (وفى ذلك فليتنافس
المتنافسون) *، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا حسد إلا في اثنتين "، وأراد الغبطة،
وهي تمنى مثل ماله من غير أن يغتم لنيل غيره; فإن انضم إلى ذلك الجد والتشمير إلى مثله
أو خير منه، فهو منافسة.
وقريب منها الحسد والحقد، فالحسد تمنى زوال النعمة من مستحقها، وربما كان
مع سعى في إزالتها، كذا ذكر الغزالي هذا القيد أعني الاستحقاق، وهو يقتضى أن تمنى
زوالها عمن لا يستحقها لا يكون حسدا.
* * *
ومن ذلك " السبيل " و " الطريق "، وقد كثر استعمال السبيل في القرآن; حتى أنه
وقع في الربع الأول منه في بضع وخمسين موضعا، أولها قوله تعالى: * (للفقراء الذين أحصروا
في سبيل الله) *، ولم يقع ذكر الطريق مرادا به الخير إلا مقترنا بوصف أو بإضافة،
مما يخلصه لذلك، كقوله تعالى: * (إلى الحق والى طريق مستقيم) *.
* * *
ومن ذلك " جاء " و " أتى " يستويان في الماضي، " ويأتي " أخف من " يجئ "
وكذا في الأمر و " جيئوا بمثله " أثقل من " فأتوا بمثله " ولم يذكر الله إلا " يأتي "
و " يأتون " وفى الأمر " فأت " " فأتنا " " فأتوا " لأن إسكان الهمزة ثقيل لتحريك
حروف المد واللين، تقول " جئ " أثقل من " ائت ".
وأما في الماضي ففيه لطيفة، وهي أن " جاء " يقال في الجواهر والأعيان، " وأتى " في المعاني
والأزمان، وفى مقابلتها: ذهب ومضى، يقال ذهب في الأعيان، ومضى في الأزمان،
ولهذا يقال: حكم فلان ماض، ولا يقال: ذاهب; لأن الحكم ليس من الأعيان.
80

وقال: * (ذهب الله بنورهم) *، ولم يقل " مضى " لأنه يضرب له المثل بالمعاني
المفتقرة إلى الحال، ويضرب له المثل بالأعيان القائمة بأنفسها; فذكر الله " جاء " في موضع
الأعيان في الماضي، " وأتى " في موضع المعاني والأزمان.
وانظر قوله تعالى: * (ولمن جاء به حمل بعير) *; لأن الصواع عين. * (ولما جاءهم
كتاب) * لأنه عين، وقال: * (وجئ يومئذ بجهنم) * لأنها عين.
وأما قوله تعالى: * (فإذا جاء أجلهم) *، فلأن الأجل كالمشاهد، ولهذا يقال:
حضرته الوفا وحضره الموت. وقال تعالى: * (بل جئناك بما كانوا فيه يمترون) *،
أي العذاب لأنه مرئي يشاهدونه، وقال: * (وأتيناك بالحق وأنا لصادقون) *، حيث
لم يكن الحق مرئيا.
فإن قيل: فقد قال تعالى: * (أتاها أمرنا ليلا أو نهارا) *، وقال: * (ولما جاء
أمرنا) *، فجعل الأمر آتيا وجائيا.
قلنا: هذا يؤيد ما ذكرناه; فإنه لما قال: * (جاء) * وهم ممن يرى الأشياء، قال: * (جاء) *
أي عيانا، ولما كان الزرع لا يبصر ولا يرى، قال: * (أتاها) *،. ويؤيد: هذا أن " جاء "
يعدى بالهمزة، ويقال: أجاءه، قال تعالى: * (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) *،
ولم يرد " أتاه " بمعنى " ائت " من الإتيان، لأن المعنى لا استقلال له، حتى يأتي بنفسه.
* * *
ومن ذلك " الخطف " و " التخطف " لا يفرق الأديب بينهما، والله تعالى فرق
81

بينهما، فتقول: * (خطف) * بالكسر لما تكرر، ويكون من شأن الخاطف الخطف، و " خطف "
بالفتح حيث يقع الخطف من غير من يكون من شأنه الخطف بكلفة، وهو أبعد من
" خطف " بالفتح، فإنه يكون لمن اتفق له على تكلف، ولم يكن متوقعا منه. ويدل
عليه أن " فعل " بالكسر لا يتكرر، كعلم وسمع و " فعل " لا يشترط فيه ذلك، كقتل
وضرب، قال تعالى: * (إلا من خطف الخطفة) * فإن شغل الشيطان ذلك، وقال:
* (فتخطفه الطير) * لأن من شأنه ذلك.
وقال: * (تخافون أن يتخطفكم الناس) * فإن الناس لا تخطف الناس
إلا على تكلف.
وقال: * (ويتخطف الناس من حولهم) *.
وقال: * (يكاد البرق يخطف أبصارهم) *، لأن البرق يخاف منه خطف
البصر إذا قوى.
* * *
ومن ذلك " مد " و " أمد " قال: الراغب أكثر جاء الإمداد في المحبوب:
* (وأمددناهم بفاكهة) * * (ظل ممدود) *، والمد في المكروه: * (ونمد له من
العذاب مدا) *.
* * *
ومن ذلك " سقى " و " أسقى " وقد سبق. ومن ذلك " عمل " و " فعل " والفرق بينهما أن
82

العمل أخص من الفعل، كل عمل فعل ولا ينعكس; ولهذا جعل النجاة الفعل في
مقابلة الاسم; لأنه أعم، والعمل من الفعل ما كان مع امتداد; لأنه " فعل " وباب " فعل "
لما تكرر.
وقد اعتبره الله تعالى، فقال: * (يعملون له ما يشاء) *، حيث كان فعلهم بزمان.
وقال: * (ويفعلون ما يؤمرون) *، حيث يأتون بما يؤمرون في طرفة عين، فينقلون
المدن بأسرع من أن يقوم القائم من مكانه.
وقال تعالى: * (مما عملت أيدينا) *، * (وما عملته أيديهم) * فإن خلق
الأنعام والثمار والزروع بامتداد، وقال: * (كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) *،
* (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) *، * (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) *، فإنها
إهلاكات أهل وقعت من غير بطء.
وقال: * (وعملوا الصالحات) *، حيث كان المقصود المثابرة عليها،
لا الإتيان بها مرة.
وقال: * (وافعلوا الخير) *، بمعنى سارعوا. كما قال: * (فاستبقوا الخيرات) *.
وقال: * (والذين هم للزكاة فاعلون) *; أي يأتون بها على سرعة من
غير توان في دفع حاجة الفقير، فهذا هو الفصاحة في اختيار الأحسن في كل موضع.
* * *
ومن ذلك " القعود " و " الجلوس ". إن القعود لا يكون معه لبثة، حديث والجلوس
83

لا يعتبر فيه ذلك; ولهذا تقول: " قواعد البيت "، ولا تقول: " جوالسه "; لأن
مقصودك ما فيه ثبات; والقاف والعين والدال كيف تقلبت دلت على اللبث; والقعدة بقاء
على حالة، والدقعاء للتراب الكثير الذي يبقى في مسيل الماء وله لبث طويل; وأما الجيم
واللام والسين فهي للحركة، منه السجل للكتاب يطوى له ولا يثبت عنده، ولهذا
قالوا في قعد: يقعد بضم الوسط، وقالوا: جلس يجلس بكسره; فاختاروا الثقيل
لما هو أثبت.
إذا ثبت هذا فنقول: قال الله تعالى: * (مقاعد للقتال) * فإن الثبات هو المقصود.
وقال: * (اقعدوا مع القاعدين) *، أي لا زوال لكم، ولا حركة عليكم بعد هذا. وقال:
* (في مقعد صدق) * ولم يقل " مجلس " إذ لا زوال عنه.
وقال: * (إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس) *، إشارة إلى أنه يجلس فيه
زمانا يسيرا ليس بمقعد; فإذا طلب منكم التفسح فافسحوا، لأنه لا كلفة فيه لقصره، ولهذا
لا يقال: قعيد الملوك، وإنما يقال: جليسهم، لأن مجالسه الملوك يستحب فيها التخفيف;
والقعيدة للمرأة; لأنها تلبث في مكانها.
* * *
ومن ذلك " التمام " و " الكمال "، وقد اجتمعا في قوله تعالى: * (اليوم أكملت
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) *، والعطف يقتضى المغايرة. فقيل: الإتمام
لإزالة نقصان الأصل، والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل; ولهذا كان قوله
تعالى: * (تلك عشرة كاملة) *; أحسن من " تامة " فإن التمام من العدد قد علم;
وإنما بقى احتمال نقص في صفاتها.
84

وقيل " تم " يشعر بحصول نقص قبله، و " كمل " لا يشعر بذلك; ومن هذا قولهم:
رجل كامل، إذا جمع خصال الخير، ورجل تام إذا كان غير ناقص الطول.
وقال العسكري: الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به، والتمام اسم للجزء
الذي يتم به الموصوف; ولهذا يقولون: القافية تمام البيت، ولا يقولون كماله، ويقولون:
البيت بكماله.
* * *
ذلك الضياء والنور.
فائدة
[عن الجويني في الفرق بين الإتيان والإعطاء]
قال الجويني: لا يكاد اللغويون يفرقون بين الإعطاء والإتيان، وظهر لي بينهما
فرق انبنى عليه بلاغة في كتاب الله، وهو أن الإتيان أقوى من الإعطاء في إثبات مفعوله،
لأن الإعطاء له مطاوع، يقال: أعطاني فعطوت، ولا يقال في الإتيان أتاني فأتيت، وإنما
يقال: أتاني فأخذت، [و] الفعل الذي له مطاوع أضعف في إثبات مفعوله من الذي لا مطاوع له;
لأنك تقول: قطعته فانقطع، فيدل على أن فعل الفاعل كان موقوفا على قبول المحل، لولاه
لما ثبت المفعول; ولهذا يصح: قطعته فما انقطع، ولا يصح فيما لا مطاوع له ذلك،
فلا يجوز أن يقال: ضربته فانضرب أو ما انضرب، ولا قتلته فانقتل أو ما انقتل; لأن هذه
الأفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعول في المحل، والفاعل مستقل بالأفعال التي لا مطاوع
لها; فالإيتاء إذن أقوى من الإعطاء.
85

قال: وقد تفكرت في مواضع من القرآن، فوجدت ذلك مراعى، قال الله تعالى في
الملك: * (تؤتى الملك من تشاء) * لأن الملك شئ عظيم لا يعطيه إلا من له قوة; ولأن
الملك في الملك أثبت من الملك في المالك; فإن الملك لا يخرج الملك من يده، وأما المالك فيخرجه
بالبيع والهبة.
وقال تعالى: * (يؤتى الحكمة) * لأن الحكمة إذا ثبتت في المحل دامت.
وقال: * (آتيناك سبعا من المثاني) *، لعظم القرآن وشأنه.
وقال: * (إنا أعطيناك الكوثر) * لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته يردون
على الحوض ورود النازل على الماء، ويرتحلون إلى منازل العز والأنهار الجارية في الجنان،
والحوض للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته عند عطش الأكباد قبل الوصول إلى المقام
الكريم، فقال فيه: * (إنا أعطيناك) *، لأنه يترك ذلك عن قرب، وينتقل إلى ما هو
أعظم منه.
وقال: * (أعطى كل شئ خلقه) *، لأن من الأشياء ماله وجود في زمان
واحد بلفظ الإعطاء، وقال: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) *، لأنه تعالى
بعد ما يرضى النبي صلى الله عليه وسلم يزيده وينتقل به من كل الرضا إلى أعظم
ما كان يرجو منه، لا بل حال أمته كذلك، فقوله: * (يعطيك ربك) *
فيه بشارة.
وقال: * (حتى يعطوا الجزية عن يد) * لأنها موقوفة على قبول منا، وهم
86

لا يؤتون إيتاء عن طيب قلب، وإنما هو عن كره، إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون
إعطاؤه للزكاة بقوة، لا يكون كإعطاء الجزية.
فانظر إلى هذه اللطيفة الموقفة على سر من أسرار الكتاب!.
قاعدة
في التعريف والتنكير
اعلم أن لكل واحد منهما مقاما لا يليق بالآخر.
* * *
فأما التعريف فله أسباب:
الأول: الإشارة إلى معهود خارجي، كقوله تعالى: * (بكل ساحر عليم.
فجمع السحرة) *، على قراءة الأعمش فإنه أشير بالسحرة إلى " ساحر " مذكور.
وقوله: * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا. فعصى فرعون الرسول) *.
وأغرب ابن الخشاب فجعلها للجنس، فقال: لأن من عصى رسولا فقد عصى
سائر الرسل.
ومنهم من لا يشترط تقدم ذكره، وجعل منه قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم آمنوا
كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) *، لأنهم كانوا يعتقدون أن الناس
الذين آمنوا سفهاء.
87

وقوله: * (وليس الذكر كالأنثى) * أي الذكر الذي طلبته كالأنثى التي
وهبت لها، وإنما جعل هذا للخارجي لمعنى الذكر في قولها: * (نذرت لك ما في
بطني محررا) *، ومعنى الأنثى في قولها: * (إني وضعتها أنثى) *.
الثاني: لمعهود ذهني، أي في ذهن مخاطبك، كقوله تعالى: * (إذ هما في الغار) *،
* (إذ يبايعونك تحت الشجرة) *، وإما حضوري; نحو: * (اليوم أكملت لكم
دينكم) *، فإنها نزلت يوم عرفة.
الثالث: الجنس، وهي فيه على أقسام: أحدها أن يقصد المبالغة في الخبر، فيقصر
جنس المعنى على المخبر عنه; نحو زيد الرجل، أي الكامل في الرجولية. وجعل سيبويه
صفات الله تعالى كلها من ذلك.
وثانيها: أن يقصره على وجه الحقيقة لا المبالغة، ويسمى تعريف الماهية، نحو:
* (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) *. وقوله: * (وجعلنا
من الماء كل شئ حي) *، أي جعلنا مبتدأ كل حي هذا الجنس، الذي هو الماء.
وقال بعضهم: المراد بالحقيقة ثبوت الحقيقة الكلية الموجودة في الخارج، لا الشاملة
لأفراد الجنس، نحو: الرجل خير من المرأة، لا يريدون امرأة بعينها، وإنما المراد: هذا
الجنس خير من ذلك الجنس; من حيث هو، وإن كان يتفق في بعض أفراد النساء من هو
خير من بعض أفراد الرجال، بسبب عوارض.
وهذا معنى قول ابن بابشاذ: إن تعريف العهد لما ثبت في الأعيان، وتعريف الجنس
لما ثبت في الأذهان; لان التفضيل في الجنس راجع إلى الصورتين الكليتين في الذهن;
88

إذ لا معنى للتفضيل في الصورة الذهنية، وإنما أضاف إلى الذهن لأن تلك الحقيقة التي
ذكرناها; وإن كانت موجودة في الخارج; لاشتمال الأفراد الخارجية عليها، ولكنها
كلها مطابقة للصورة الذهنية التي لتلك الحقيقة، ولهذا تسمى الكلية الطبيعية.
الرابع: أن يقصد بها الحقيقة، باعتبار كلية ذلك المعنى، وتعرف بأنها التي إذا نزعت
حسن أن يخلفها " كل " وتفيد معناها الذي وضعت له حقيقة; ويلزم من ذلك الدلالة
على شمول الأفراد، وهي الاستغراقية، ويظهر أثره في صحة الاستثناء منه، مع كونه بلفظ الفرد،
نحو: * (إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا) *، وفى صحة وصفه بالجمع نحو:
* (أو الطفل الذين لم يظهروا) *.
قال صاحب،، ضوء المصباح،،: سواء أكان الشمول باعتبار الجنس، كالرجل
والمرأة، أو باعتبار النوع كالسارق والسارقة، ويفرق بينهما، بأن ما دخلت عليه من أجل
فعله فيزول عنه الاسم بزوال الفعل، فهي للنوع. وما دخلت عليه من أجل وصفه فلا يزول
عنه الاسم أبدا. هذا كله إذا دخلت على مفرد، نحو: * (إلى عالم الغيب والشهادة) *
* (وخلق الإنسان ضعيفا) * * (إن الإنسان لفي خسر) * خلافا للإمام فخر الدين
ومن تبعه في قولهم: إن المفرد المحلى بالألف واللام لا يعم، ولنا الاستثناء في قوله تعالى:
* (أو الطفل الذين لم يظهروا) *، وليس في قوله: * (والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما) * دلالة على العموم، كما زعم صاحب الكشاف.
فإن قلت: فإذا لم يكن السارق عاما، فبماذا تقطع يد كل سارق من لدن سرق
رداء صفوان إلى انقضاء العالم.
89

قيل: لأن المراد منه الجنس; أي نفس الحقيقة; والمعنى أن المتصف بصفة السرقة
تقطع يده، وهو صادق على كل سارق; لأن الحقيقة كما توجد مع الواحد توجد مع المتعدد
أيضا; فإن دخلت على جمع; فاختلف العلماء: هل سلبته معنى الجمع، ويصير
للجنس ويحمل على أقله، وهو الواجد لئلا يجتمع على الكلمة عمومان؟ أو معنى الجمع
باق معها؟
مذهب الحنفية الأول، وقضية مذهبنا الثاني، ولهذا اشترطوا ثلاثة من كل صنف
في الزكاة إلا العاملين. ويلزم الحنفية ألا يصح منه الاستثناء ولا يخصصه، وقد قال تعالى:
* (فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس) *، وقال: * (فاقتلوا
المشركين) *، إلى قوله: * (حتى يعطوا الجزية) * وقد حققته في باب العموم من
،، بحر الأصول،،.
ثم الأكثر في نعتها وغيرها موافقة اللفظ، كقوله تعالى: * (والجار ذي القربى والجار
الجنب) *، وقوله: * (لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى. وسيجنبها الأتقى.
الذي يؤتى ماله يتزكى) *.
وتجئ موافقة معنى لا لفظا على قلة، كقوله: * (أو الطفل الذين لم يظهروا على
عورات النساء) *.
* * *
وأما التنكير، فله أسباب:
90

الأول: إرادة الوحدة، نحو: * (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) *.
الثاني: إرادة النوع، كقوله: * (هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب) * أي نوع
من الذكر.
* (وعلى أبصارهم غشاوة) *; وهي التعامي عن آيات الله الظاهرة لكل مبصر;
ويجوز أن يكون للتعظيم وجريا في قوله تعالى: * (والله خلق كل دابة من ماء) *،
* (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) *; لأنهم لم يحرصوا على أصل الحياة حتى
تعرف، بل على الازدياد من نوع; وإن كان الزائد أقل شئ ينطلق عليه اسم الحياة.
الثالث: التعظيم كقوله تعالى: * (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) *; أي بحرب
وأي حرب.
وكقوله: * (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) *، أي لا يوقف
على حقيقته.
وجعل منه السكاكي قوله تعالى: * (إني أخاف أن يمسك عذاب من
الرحمن) *، والظاهر من قول الزمخشري خلافه; وهذا لم يصرح بأن العذاب لاحق به،
بل قال: * (يمسك) *، وذكر الخوف وذكر اسم الرحمن; ولم يقل: " المنتقم "، وذلك يدل
على أنه لم يرد التعظيم.
وقوله: * (أن لهم جنات) *.
فإن قلت: لم لم ينكر " الأنهار " في قوله: * (من تحتها الأنهار) *؟
91

قلت: لا غرض في عظم الأنهار وسعتها، بخلاف الجنات.
ومنه: * (سلام على إبراهيم) *; * (وسلام على يوم ولد) *.
. إنما لم ينكر " سلام عيسى " في قوله: * (والسلام على يوم ولدت) *; فإنه
في قصة دعائه، الرمز إلى ما اشتق منه اسم الله تعالى، والسلام: اسم من أسمائه، مشتق من
السلامة، وكل اسم ناديته به متعرض لما يشتق منه ذلك الاسم; نحو: يا غفور يا رحيم.
الرابع: التكثير; نحو " إن له لإبلا "، وجعل منه الزمخشري قوله تعالى: * (إن لنا
لأجرا) * أي أجرا وافرا جزيلا، ليقابل المأجور عنه من الغلبة على مثل موسى عليه
السلام; فإنه لا يقابل بعد الغلبة عليه بأجر; إلا وهو عديم النظير في الكثرة.
وقد أفاد التكثير والتعظيم معا قوله تعالى: * (وإن يكذبوك فقد كذبت
رسل) *; أي رسل عظام ذوو عدد كثير، وذلك لأنه وقع عوضا عن قوله: " فلا تحزن
وتصبر " وهو يدل على عظم الأمر وتكاثر العدد.
الخامس: التحقير، كقوله تعالى: * (من أي شئ خلقه) *; قال الزمخشري:
أي من شئ حقير مهين، ثم بينه بقوله * (من نطفة خلقه) *.
وكقوله تعالى: * (إن نظن إلا ظنا) * أي لا يعبأ به، وإلا لاتبعوه، لأن ذلك
ديدنهم * (إن يتبعون إلا الظن) *.
السادس: التقليل، كقوله تعالى: * (ورضوان من الله أكبر) *; أي رضوان
92

قليل من بحار رضوان الله الذي لا يتناهى، أكبر من الجنات; لأن رضا المولى رأس
كل سعادة.
وقوله تعالى: * (فيه شفاء للناس) *; إذا المعنى أنه يحصل فيه أصل الشفاء في جملة
صور، ويجوز أن يكون للتعظيم.
وعد صاحب الكشاف منه: * (أسرى بعبده ليلا) *، أي بعض الليل.
وفيه نظر; لأن التقليل عبارة عن تقليل الجنس إلى فرد من أفراده لا ببعض فرد
إلى جزء من أجزائه.
تنبيه
هذه الأمور إنما تعلم من القرائن والسياق، كما فهم التعظيم في قوله تعالى: * (لأي يوم
أجلت) *; من قوله بعده: * (ليوم الفصل. وما أدراك ما يوم الفصل) *.
وكما فهم التحقير من قوله: * (من أي شئ خلقه) *; من قوله من بعده: * (من
نطفة خلقه) *.
قاعدة
[فيما إذا ذكر الاسم مرتين]
إذا ذكر الاسم مرتين فله أربعة أحوال; لأنه إما أن يكونا معرفتين، أو نكرتين;
أو الثاني معرفة والأول نكرة، أو عكسه.
* * *
93

فالأول: أن يكونا معرفتين، والثاني فيه هو الأول غالبا، حملا له على المعهود الذي هو الأصل
في اللام أو الإضافة، ك‍ " العسر " في قوله: * (فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر
يسرا) *; ولذلك ورد: " لن يغلب عسر يسرين "، قال التنوخي: إنما كان
مع العسر واحدا; لأن اللام طبيعة لا ثاني لها، بمعنى أن الجنس هي والكلي لا يوصف
بوحدة ولا تعدد.
وقوله: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون) *.
وقوله: * (فاعبد الله مخلصا له الدين. ألا لله الدين الخالص) *.
وقوله: * (وقهم السيئات ومن تق السيئات) *.
وقوله: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس ما كسبت
لا ظلم اليوم) *.
وقوله: * (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر
الناس لا يعلمون) *.
وقوله: * (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس
ولا للقمر) *.
وقوله: * (اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين) *.
وهذه القاعدة ليست مطردة، وهي منقوضة بآيات كثيرة، كقوله تعالى: * (هل جزاء
الإحسان إلا الإحسان) *، فإنهما معرفتان وهما غيران; فإن الأول هو العمل،
والثاني الثواب.
94

وقوله تعالى: * (أن النفس بالنفس) * أي القاتلة والمقتولة.
وقوله: * (الحر بالحر) *.
وقوله: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) *.
وقوله: * (إنا خلقنا الإنسان) *.
وقوله: * (أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه) *.
وقوله: * (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب
يؤمنون به) *.
وقوله: * (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء) *.
فالملك الذي يؤتيه الله للعبد لا يمكن أن يكون نفس ملكه، فقد اختلفا وهما
معرفتان، لكن يصدق أنه إياه باعتبار الاشتراك في الاسم، كما صرح بنحوه في قوله تعالى:
* (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) *، فقد أعاد الضمير في المنفصل المستغرق
باعتبار أصل الفضل.
ونظيرها قوله تعالى: * (أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) *.
وقوله: * (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ
نخسف بهم الأرض) *.
فالأول عام والثاني خاص.
وقوله: * (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر
الناس لا يعلمون) *.
95

* (إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) *.
وقوله: * (قال فالحق والحق أقول) *.
فالأول نصب على القسم والثاني نصب ب‍ " أقول ".
وهذا بخلاف قوله: * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) *.
وأما قوله: * (أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) *; فالأولى معرفة
بالضمير والثانية عامة، والأولى خاصة، فالأول داخل في الثاني.
وكذا قوله: * (عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله) *.
وقوله: * (برب العالمين. رب موسى وهارون) *.
وقوله: * (أبلغ الأسباب. أسباب السماوات) *.
وقوله: * (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله
تبديلا) *.
وقوله: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) *، ثم قال: * (فمن شهد
منكم الشهر فليصمه) *، فهما وإن اختلفا يكون الأول خاصا والثاني عاما متفقان
بالجنس.
وكذلك: * (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا) *.
ولذلك استبدل بها على أن الأصل إلغاء الظن مطلقا.
96

وأما قوله تعالى: * (فجاءته إحداهما تمشى على استحياء) * بعد قوله: * (قالت
إحداهما) * يحتمل أن تكون الأولى هي الثانية وألا تكون.
ونظيرها قوله تعالى: * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) *.
فإن كانت " إحداهما " الثانية مفعولا، فالاسم الأول هو الثاني على قاعدة المعرفتين،
وإن كانت فاعلا فهما واحد باعتبار الجنس. وأكثر النحاة على أن الإعراب إذا لم يظهر
في واحد من الاسمين تعين كون الأول فاعلا، خلافا لما قاله الزجاج في قوله تعالى:
* (فما زالت تلك دعواهم) *.
وقوله: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب
وما هو من الكتاب) *، فالكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم، ثم كرره بقوله: * (فويل
للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) *. والكتاب الثاني التوراة، والثالث جنس
كتب الله تعالى، أي ما هو من شئ في كتب الله تعالى وكلامه قاله الراغب.
* * *
الثاني: أن يكونا نكرتين، فالثاني غير الأول، وإلا لكان المناسب هو التعريف;
بناء على كونه معهودا سابقا. قالوا: والمعنى في هذا والذي قبله أن النكرة تستغرق الجنس،
والمعرفة تتناول البعض; فيكون داخلا في الكل، سواء قدم أو أخر.
والمشهور في تمثيل هذا القسم " اليسر ": في قوله تعالى: * (فإن مع العسر يسرا.
إن مع العسر يسرا) *.
97

وقد قيل إن تنكير " يسرا " للتعميم، وتعريف " اليسر " للعهد الذي كانوا عليه
يؤكده سبب النزول، أو الجنس الذي يعرفه كل أحد، ليكون " اليسر " الثاني مغايرا
للأول، بخلاف العسر. والتحقيق أن الجملة الثانية هنا تأكيد للأولى لتقديرها في النفس،
وتمكينها من القلب، ولأنها تكرير صريح لها، ولا تدل على تعدد اليسر، كما لا يدل قولنا:
وإن مع زيد كتابا، إن مع زيد كتابا، على أن معه كتابين، فالأصح كما إن هذا تأكيد.
وقوله تعالى: * (الذي خلقكم من ضعف...) * الآية، فإن كلا من المذكور غير
الآخر، فالضعف الأول النطفة أو التراب، والثاني الضعف الموجود في الطفل والجنين،
والثالث في الشيخوخة. والقوة الأولى التي تجعل للطفل حركة وهداية لاستدعاء اللبن، والدفع
عن نفسه بالبكاء، والثانية بعد البلوغ
قال ابن الحاجب في قوله تعالى: * (غدوها شهر ورواحها شهر) *: الفائدة
في إعادة لفظ " شهر " الإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح، والألفاظ التي تأتى مبينة
للمقادير لا يحسن فيها الإضمار.
واعلم أنه ينبغي أن يأتي في هذا القسم الخلاف الأصولي، في نحو: " صل ركعتين،
صل ركعتين " هل يكون أمرين بمأمورين والثاني تأسيس، أولا؟ وفيه قولان.
وقد نقضوا هذا القسم بقوله تعالى: * (وهو الذي في السماء إله وفى الأرض إله) *
فإن فيه نكرتين; والثاني هو الأول. وأجاب الطيبي، بأنه من باب التكرير وإناطة
أمر زائد.
98

وهذه القاعدة فيما إذا لم يقصد التكرير، وهذه الآية من قصد التكرير. ويدل عليه
تكرير ذكر الرب فيما قبله من قوله: * (سبحان رب السماوات والأرض رب
العرش) *.
وأجاب غيره بأن " إله " بمعنى معبود، والاسم المشتق إنما يقصد به ما تضمنه من الصفة،
فأنت إذا قلت: زيد ضارب عمرو، ضارب بكر، لا يتخيل أن الثاني هو الأول، وإن
أخبر بهما عن ذات واحدة; فإن المذكور حقيقة إنما هو المضروبان لا الضاربان، ولا شك
أن الضميرين مختلفان.
ومنها قوله تعالى: * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه
كبير) * الثاني هو الأول.
وأجيب بأن أحدهما محكى من كلام السائل، والثاني من كلام النبي صلى الله عليه
وسلم; وإنما الكلام في وقوعهما من متكلم واحد.
ومنها قوله تعالى: * (فباءوا بغضب على غضب) *.
ومنها: * (ألم يأتكم نذير. قالوا بلى قد جاءنا نذير) *.
ومنها: وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل
آية...) *.
الثالث: أن يكون الأول نكرة والثاني معرفة، فهو كالقسم الأول، يكون الثاني فيه
هو الأول، كقوله تعالى: * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا. فعصى فرعون
الرسول) *.
99

وقوله: * (فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى) *.
وقوله: * (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما
السبيل) *.
وقوله: * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله) *. وهذا منتقض
بقوله: * (لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق) *.
وقوله: * (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما والصلح خير) *، فإنهم
استدلوا بها على استحباب كل صلح، فالأول داخل في الثاني وليس بجنسه.
وكذلك: * (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق
شيئا) *.
وقوله: * (ويؤت كل ذي فضل فضله) * الفضل الأول العمل، والثاني الثواب.
وكذلك: * (ويزدكم قوة إلى قوتكم) *.
وكذلك: * (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) *.
وكذلك: * (زدناهم عذابا فوق العذاب) * تعريفه إن المزيد غير المزيد عليه.
وكذلك: * (كتاب أنزلناه إليك) * وقوله: * (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا
الكتاب) *.
* * *
الرابع: عكسه فلا يطلق القول به، بل يتوقف على القرائن، فتارة تقوم قرينة على التغاير،
100

كقوله تعالى: * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) *.
وكذلك قوله: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا) *.
وقوله: * (ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى) *،
قال الزمخشري: المراد بالهدى جميع ما آتاه من الدين والمعجزات والشرائع، والهدى
والإرشاد.
وتارة تقوم قرينة على الاتحاد; كقوله تعالى: * (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن
من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا. عربيا) *.
وقوله: * (وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن) * إلى قوله:
* (إنا سمعنا كتابا) *.
وأما قوله تعالى في سورة البقرة: * (بالمعروف) *.
وقوله أيضا: * (من معروف) * فهو من إعادة النكرة معرفة، لأن * (من معروف) *
وإن كان في التلاوة متأخرا عن * (بالمعروف) *، فهو في الإنزال متقدم عليه.
* * *
قواعد تتعلق بالعطف
القاعدة الأولى
ينقسم باعتبار إلى عطف المفرد على مثله، وعطف الجمل.
101

فأما عطف المفرد ففائدته تحصيل مشاركة الثاني للأول في الإعراب، ليعلم أنه مثل
الأول في فاعليته أو مفعوليته; ليتصل الكلام بعضه ببعض، أو حكم خاص دون غيره،
كما في قوله تعالى: * (فامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) *، فمن قرأ بالنصب
عطفا على " الوجوه " كانت " الأرجل " مغسولة، ومن قرأ بالجر عطفا على " الرؤوس " كانت
ممسوحة، لكن خولف ذلك لعارض يرجح. ولا بد في هذا من ملاحظة المشاكلة بين
المتعاطفين، فتقول: جاءني زيد وعمرو، لأنهما معرفتان، ولو قلت: جاء زيد ورجل،
لم يستقم لكون المعطوف نكرة، نعم إن تخصص فقلت: ورجل آخر، جاز.
ولذا قال صاحب،، المستوفى،، من النحويين: وأما عطف الجملة، فإن كانت الأولى
لا محل لها من الإعراب فكما سبق، لأنها تحل محل المفرد; نحو مررت برجل خلقه حسن،
وخلقه قبيح. وإن كان لا محل لها، نحو زيد أخوك وعمرو صاحبك، ففائدة العطف
الاشتراك في مقتضى الحرف العاطف، فإن كان العطف بغير الواو ظهر له فائدة من التعقيب كالفاء،
أو الترتيب ك‍ " ثم "، أو نفى الحكم عن الباقي ك‍ " لا ".
وأما الواو فلا تفيد شيئا هنا غير المشاركة في الإعراب.
وقيل: بل تفيد أنهما كالنظيرين والشريكين; بحيث إذا علم السامع حال الأول عساه
أن يعرف حال الثاني. ومن ثمة صار بعض الأصوليين إلى أن القران في اللفظ يوجب
القران في الحكم، ومن ها هنا شرط البيانيون التناسب بين الجمل لتظهر الفائدة، حتى إنهم
منعوا عطف الإنشاء على الخبر وعكسه.
ونقله الصفار في شرح سيبويه عن سيبويه; ألا ترى إلى قوله: يقبح عندهم أن يدخلوا
الكلام الواجب في موضع المنفى، فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس بمعناه. انتهى.
ولهذا منع الناس من " الواو "; في " بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد " لأن الأولى
102

خبرية والثانية طلبية، وجوزه ابن الطراوة; لأنهما يجتمعان في التبرك.
وخالفهم كثير من النحويين، كابن خروف والصفار وابن عمرو، وقالوا: يعطف الأمر
على الخبر، والنهى على الأمر والخبر، قال تعالى: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك
من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) *، فعطف خبرا
على جملة شرط، وقال وجملة الشرط على الأمر.
وقال تعالى: * (وأمرت أن أكون من المسلمين) *.
* (وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين) *، فعطف نهيا
على خبر.
ومثله: * (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) *.
قالوا: * (وتعطف الجملة على الجملة، ولا اشتراك بينهما، كما قال تعالى: * (وما يعلم تأويله
إلا الله والراسخون في العلم) *، على قولنا بالوقف على " الله " وأنه سبحانه
اختص به.
وقال: * (وأولئك هم الفاسقون) * فإنه علة تامة بخبرها، فلا يوجب العطف
المشاركة فيما تتم به الجملتان الأوليان، وهو الشرط الذي تضمنه قوله تعالى: * (والذين
يرمون المحصنات ثم لم يأتوا) *، كقولك إن دخلت الدار فأنت طالق، وفلانة
طالق، لا يتعلق طلاق الثانية بالشرط، وعلى هذا يختص الاستثناء به ولا يرجع لما تقدمه،
ويبقى المحدود في القذف غير مقبول الشهادة بعد التوبة كما كان قبلها.
ومنه قوله تعالى: * (فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل) *; فإنه
103

علة تامة معطوفة على ما قبلها، غير داخل تحت الشرط. ولو دخلت كان ختم القلب ومحو
الباطل متعلقين بالشرط، والمتعلق بالشرط معدوم قبل وجوده، وقد عدم ختم القلب ووجد
محو الباطل، فعلمنا أنه خارج عن الشرط، وإنما سقطت الواو في الخط، واللفظ ليس للجزم،
بل سقوطه من اللفظ لالتقاء الساكنين، وفى الخط اتباعا للفظ، كسقوطه في قوله تعالى:
* (ويدع الإنسان) *، وقوله: * (سندع الزبانية) *، ولهذا وقف عليه يعقوب بالواو
نظرا للأصل; وإن وقف عليه غيره بغير واو اتباعا للخط.
والدليل على أنها ابتداء إعادة الاسم في قوله: * (ويمح الله) * ولو كانت معطوفة
على ما قبلها لقيل " ويمح الباطل "، ومثله: * (لكم ونقر في الأرحام
ما نشاء) *.
وقوله: * (ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء) *.
وقوله: * (قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم وريشا ولباس التقوى) *،
وغير ذلك.
قلت: وكثير من هذا لا يرد عليهم; فإن كلامهم في الواو العاطفة، وأما * (ونقر
في الأرحام) * وما بعده فهي للاستئناف; إذ لو كانت للعطف لانتصب " نقر "، وجزم
و " يتوب " وكذلك في * (والراسخون) * للاستئناف، * (ويمح الله) *.
وقال البيانيون: للجملة ثلاثة أحوال:
فالأول: أن يكون ما قبلها بمنزلة الصفة من الموصوف، والتأكيد من المؤكد،
فلا يدخلها عطف لشد الامتزاج; كقوله تعالى: * (ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه) *.
104

وقوله: * (ختم الله على قلوبهم) * مع قوله: * (لا يؤمنون) *.
وكذلك: * (يخادعون الله) * مع قوله: * (وما هم بمؤمنين) *; فإن المخادعة
ليست شيئا غير قولهم: * (آمنا) * من غير اتصافهم.
وقوله: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم
إنما نحن مستهزئون) *; وذلك لأن معنى قولهم * (إنا معكم) * أنا لم نؤمن، وقوله:
* (إنما نحن مستهزئون) * خبر لهذا المعنى بعينه.
وقوله: * (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في
أذنيه وقرا) *.
وقوله: * (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) *; فإن كونه " ملكا " ينفى
كونه " بشرا "; فهي مؤكدة للأولى.
وقوله: * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) *.
وقوله: * (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى) *.
وقوله: * (إن زلزلة الساعة شئ عظيم) *; فإنها مؤكدة لقوله: * (يا أيها
الناس اتقوا ربكم) *.
وقوله: * (إن صلاتك سكن لهم) *; فإنها بيان للأمر بالصلاة.
105

وقوله: * (إن المتقين في مقام أمين) *; بعد قوله: * (إن هذا ما كنتم به
تمترون) *.
وقوله: * (إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن
عملا) *; إذا جعلت * (إنا لا نضيع) * خبرا; إذ الخبر لا يعطف على المبتدأ.
وقوله: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) *; بعد قوله:
* (لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون) *.
والثانية: أن يغاير ما قبلها، وليس بينهما نوع ارتباط بوجه، فلا عطف أيضا;
إذ شرط العطف المشاكلة; وهو مفقود، وذلك قوله تعالى: * (إن الذين كفروا سواء
عليهم) * بعد قوله: * (وأولئك هم المفلحون) *.
فإن قيل: إذا كان حكم هذه الحالة والتي قبلها واحدا أدى إلى الإلباس; فإنه إذا
لم يعطف التبس حالة المطابقة بحالة المغايرة; وهلا عطفت الحالة الأولى بالحالة الثانية؟ فإن ترك
العطف يوهم المطابقة، والعطف يوهم عدمها، فلما اختير الأول دون الثاني; مع أنه لم يخل
عن إلباس؟
قيل: العاطف يوهم الملابسة بوجه قريب أو بعيد، بخلاف سقوط العاطف; فإنه
وإن أوهم المطابقة; إلا أن أمره واضح; فبأدنى نظر يعلم، فزال الإلباس.
الحال الثالثة: أن يغاير ما قبلها; لكن بينهما نوع ارتباط، وهذه التي يتوسطها
العاطف; كقوله: * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) *.
وقوله: * (أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون) *.
106

فإن قلت: لم سقط العطف من * (أولئك كالأنعام بل هم أضل) *، ولم يسقط
من * (هم المفلحون) *؟
قلت: لأن الغفلة شأن الأنعام; فالجملة الثانية كأنها هي الجملة الأولى.
فإن قلت: لم سقط في قوله: * (الله يستهزئ بهم) *؟
قلت: لأن الثانية كالمسؤول عنها، فنزل تقدير السؤال منزلة صريحه.
الحال الرابعة: أن يكون بتقدير الاستئناف، كأن قائلا قال: لم كان كذا؟ فقيل:
كذا; فهاهنا لا عطف أيضا، كقوله تعالى: * (وجاءوا أباهم عشاء يبكون. قالوا:
يا أبانا) *.
وقوله: * (فلما جاء السحرة لفرعون قالوا أئن لنا لأجرا) *، التقدير: فما قالوا
أو فعلوا؟ فأجيب هذا التقدير بقوله: " قالوا ".
* * *
القاعدة الثانية
ينقسم باعتبار عطف الاسم على مثله، والفعل على الفعل إلى أقسام:
الأول عطف الاسم على الاسم، وشرط ابن عمرون صاحبه ابن مالك فيه أن يصح
أن يسند أحدهما إلى ما أسند إلى الآخر; ولهذا منع أن يكون * (وزوجك) * في * (أسكن
أنت وزوجك) *، معطوفا على الضمير المستكن في " أنت "، وجعله من عطف الجمل;
بمعنى أنه مرفوع بفعل محذوف، أي ولتسكن زوجك.
ونظيره قوله تعالى: * (لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى) *; لأن من حق
المعطوف حلوله محل المعطوف عليه، ولا يصح حلول " زوجك " محل الضمير، لأن فاعل
107

الأمر الواحد المذكر، نحو " قم "، لا يكون إلا ضميرا مستترا، فكيف يصح وقوع
الظاهر موقع المضمر الذي قبله!
ورد عليه الشيخ أثير الدين أبو حيان، بأنه لا خلاف في صحة " تقوم هند وزيد "،
ولا يصح مباشرة " زيد " ل‍ " تقوم " لتأنيثه.
الثاني: عطف الفعل على الفعل; قال ابن عمرون وغيره: يشترط فيه اتفاق زمانهما;
فإن خالف رد إلى الاتفاق بالتأويل، لا سيما إذا كان لا يلبس، وكانت مغايرة الصيغ
اتساعا; قال الله تعالى: * (والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة) *، فعطف
الماضي على المضارع; لأنها من صلة " الذين " وهو يضارع الشرط لإيهامه، والماضي في
الشرط في حكم المستقبل، فقد تغايرت الصيغ في هذا كما ترى، واللبس مأمون; ولا نظر
في الجمل إلى اتفاق المعاني; لأن كل جملة مستقلة بنفسها. انتهى.
ومثله قوله تعالى: * (إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) *، ثم قال: * (ويجعل
لك قصورا) *.
وقوله: * (ويوم نسير الجبال) *، ثم قال: * (وحشرناهم) *.
وقال صاحب،، المستوفى،،: لا يتمشى عطف الفعل على الفعل إلا في المضارع;
منصوبا كان، كقوله تعالى: * (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين
آمنوا إيمانا) *، أو مجزوما كقوله: * (يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى
أجل مسمى) *.
فإن قيل: كيف حكمتم بأن العاطف مختص بالمضارع، وهم يقولون: قام زيد وقعد
108

بكر; وعلى هذا قوله تعالى: * (إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك
رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا) * فيه عطف الماضي على الماضي، وعطف الدعاء
على الدعاء!
فالجواب، أن المراد بالعطف هنا أن تكون لفظتان، تتبع الثانية منهما الأولى في
إعرابها، وإذا كانت اللفظة غير معربة، فكيف يصح فيها التبعية؟ فصح أن هذه الألفاظ
لا يصح أن يقال: إنها معطوفة على ما قبلها العطف الذي نقصده الآن. وإن صح أن
يقال معطوفة العطف الذي ليس للاتباع، بل يكون عطف الجملة على الجملة من حيث هما
جملتان; والجملة من حيث هي لا مدخل لها في الإعراب; إلا أن تحل محل الفرد; وظهر
أنه يصح وقوع العطف عليه وعدمه باعتبارين.
* * *
الثالث: عطف الفعل على الاسم، والاسم على الفعل، وقد اختلف فيه; فمنهم من منعه;
والصحيح الجواز إذا كان مقدرا بالفعل، كقوله تعالى: * (صافات ويقبضن) *،
وقوله: * (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله) *.
واحتج الزمخشري بهذا على أن اسم الفاعل حمله، على معنى المصدقين
الذين تصدقوا.
قال ابن عمرون: ويدل لعطف الاسمية على الفعلية قوله تعالى: * (فاختلف الأحزاب
109

من بينهم فويل للذين كفروا) * فعطف * (فويل للذين كفروا) * وهي جملة
اسمية على * (فاختلف) *، وهي فعلية، بالفاء.
وقال تعالى: * (وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) *.
وقال تعالى: * (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية. فأما من أوتى كتابه
بيمينه) *.
قال: وإذن جاز عطف الاسمية على الفعلية ب‍ " أم " في قوله تعالى: * (سواء عليكم
أدعوتموهم أم أنتم صامتون) * إذا لوضع للمعادلة.
وقيل: إنه أوقع الاسمية موقع الفعلية، نظرا إلى المعنى: " أصمتم " فما المانع هنا؟
وجعل ابن مالك قوله تعالى: * (ومخرج الميت من الحي) * عطفا على * (يخرج) *
لأن الاسم في تأويل الفعل.
والتحقيق ما قاله الزمخشري أنه عطف على: * (فالق الحب والنوى) *،
ولا يصح أن يكون عطفا على * (يخرج) *، لأنه ليس تفسيرا لقوله: * (فالق الحب) *،
فيعطف على تفسيره، بل هو قسيم له.
القاعدة الثالثة
ينقسم باعتبار المعطوف إلى أقسام: عطف على اللفظ، وعطف على الموضع، وعطف
على التوهم.
فالأول أن يكون باعتبار عمل موجود في المعطوف عليه; فهو العطف على اللفظ،
نحو: ليس زيد بقائم ولا ذاهب، وهو الأصل.
110

والثاني: أن يكون باعتبار عمل لم يوجد في المعطوف; إلا أنه مقدر الوجود لوجود
طالبه; فهو العطف على الموضع، نحو، ليس زيد بقائم ولا ذاهبا; بنصب " ذاهبا " عطفا
على موضع " قائم " لأنه خبر ليس.
ومن أمثلته قوله تعالى: * (واتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة) *; بأن يكون
" يوم القيامة " معطوفا على محل " هذه ". ذكره الفارسي.
وقوله: * (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون) *; في
قراءة الجزم أنه بالعطف على محل * (فلا هادي له) *.
وجعل الزمخشري وأبو البقاء منه قوله تعالى: * (لينذر الذين ظلموا وبشرى) *،
إن " بشرى " في محل نصب بالعطف على محل " لينذر " لأنه مفعول له.
قوله في ذلك; لأن شرطة في ذلك أن يكون الموضع بحق الأصالة والمحل ليس هنا
كذلك; لأن الأصل هو الجر في المفعول له; وإنما النصب ناشئ عن إسقاط الخافض.
وجوز الزمخشري أيضا في قوله تعالى: * (وجعل الليل سكنا والشمس) *، كون الشمس
معطوفا على محل " الليل ".
والثالث: أن يكون باعتبار عمل لم يوجد هو ولا طالبه، هو العطف على التوهم، نحو
ليس زيد قائما ولا ذاهب، بجر " ذاهب "، وهو معطوف على خبر " ليس " المنصوب
باعتبار جره بالباء، ولو دخلت عليه فالجر على مفقود، وعامله وهو الباء مفقود أيضا; إلا أنه
متوهم الوجود لكثرة دخوله في خبر ليس; فلما توهم وجوده صح اعتبار مثله; وهذا قليل
من كلامهم.
وقيل: إنه لم يجئ إلا في الشعر; لكن جوزه الخليل وسيبويه في القرآن، وعليه
111

خرجا قوله تعالى: * (فأصدق وأكن من الصالحين) *; كأنه قيل: " أصدق
وأكن ".
وقيل: هو من العطف على الموضع; أي محل " أصدق ".
والتحقيق قول سيبويه: هو على توهم أن الفاء لم ينطق بها.
واعلم أن بعضهم قد شنع القول بهذا في القرآن على النحويين، وقال: كيف يجوز
التوهم في القرآن!
وهذا جهل منه بمرادهم; فإنه ليس المراد بالتوهم الغلط; بل تنزيل الموجود منه منزلة
المعدوم; كالفاء في قوله تعالى: * (فأصدق) * ليبنى على ذلك ما يقصد من الإعراب.
وجعل منه الزمخشري قوله تعالى: * (ومن وراء إسحاق يعقوب) *، فيمن
فتح الباء، كأنه قيل: " ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " على طريقة:
... ليسوا مصلحين عشيرة * ولا ناعب...
وقد يجئ اسم آخر، وهو العطف على المعنى; كقوله تعالى: * (ألم تر إلى الذي
حاج إبراهيم في ربه) *; ثم قال: * (أو كالذي) *، عطف المجرور بالكاف
على المجرور ب‍ " إلى " حملا على المعنى; لأن قوله: " إلى الذي " في معنى: " أرأيت
كالذي ".
وقال بعضهم في قوله تعالى: * (وحفظا من كل شيطان) *; إنه عطف على معنى
112

* (إنا زينا السماء الدنيا) *; وهو أنا خلقنا الكواكب في السماء الدنيا زينة
للسماء الدنيا.
وفى قوله تعالى: * (لعلى أبلغ الأسباب. أسباب السماوات فاطلع) *، على قراءة
النصب: إنه عطف معنى * (لعلى أبلغ) *، وهو " لعلى أن أبلغ "; فإن خبر " لعل "
يقترن ب‍ " أن " كثيرا.
* * *
القاعدة الرابعة
الأصل في العطف التغاير; وقد يعطف الشئ على نفسه في مقام التأكيد، وقد سبق
إفراده بنوع في فصول التأكيد.
* * *
القاعدة الخامسة
يجوز في الحكاية عن المخاطبين إذا طالت: قال زيد، قال عمرو، من غير أن تأتى
بالواو وبالفاء; وعلى هذا قوله تعالى: * (إذ قال إبراهيم ربى الذي يحيي ويميت قال أنا
أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من
المغرب....) * الآية.
وقوله تعالى: * (قال فرعون وما رب العالمين. قال رب السماوات والأرض) *،
ونظائرها.
وإنما حسن ذلك للاستغناء عن حرف العطف; من حيث أن المتقدم من القولين
113

يستدعى التأخر منهما; فلهذا كان الكلام مبنيا على الانفصال، وكان كل واحد من هذه
الأقوال مستأنفا ظاهرا; وإن كان الذهن يلائم بينهما.
* * *
القاعدة السادسة
كان على المضمر; إن كان منفصلا مرفوعا; فلا يجوز من غير فاصل تأكيد أو غيره;
كقوله تعالى: * (إنه يراكم هو وقبيله) *.
* (فاذهب أنت وربك فقاتلا) *.
* (أسكن أنت وزوجك الجنة) * عند الجمهور; خلافا لابن مالك في جعله
من عطف الجمل، بتقدير: " ولتسكن زوجك ".
وقوله: * (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) *.
* (يدخلونها ومن صلح) *.
* (فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن) *.
وجعل الزمخشري منه: * (أئنا لمبعوثون. أو آباؤنا) * فيمن قرأ بفتح الواو;
وجعل الفصل بالهمزة.
ورد بأن الاستفهام لا يدخل على المفردات.
وجعل الفارسي منه * (ما أشركنا ولا آباؤنا) *، وأعرب ابن الدهان * (ولا آباؤنا) *
مبتدأ خبره * (أشركوا) * مقدرا.
114

وأجاز الكوفيون العطف من غير فاصل، كقوله تعالى: * (والذين هادوا
والصابئون) *.
فأما قوله تعالى: * (فاستوى. وهو بالأفق الأعلى) *، فقال الفارسي: * (وهو) *
مبتدأ، وليس معطوفا على ضمير * (فاستوى) *، وإن كان مجرورا فلا يجوز من غير تكرار
الجار فيه; نحو مررت به وبزيد; كقوله تعالى: * (عليه وعلى الفلك تحملون) *،
* (فقال لها وللأرض) *، * (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون) *.
وأما قوله: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) *، فإن جعلنا
* (ومن نوح) * معطوفا على * (منك) * فالإعادة لازمة، وإن جعل معطوفا على * (النبيين) *
فجائزة.
وقال الكوفيون: لا تلزم الإعادة، محتجين بآيات:
الأولى: قراءة حمزة: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) *، بالجر عطفا
على الضمير في * (به) *.
فإن قيل: ليس الخفض على العطف; وإنما هو على القسم، وجوابه: * (إن الله كان
عليكم رقيبا) *.
قلنا: رده الزجاج بالنهي عن الحلف بغير الله، وهو عجيب; فإن ذلك على المخلوقين.
الثانية: قوله تعالى: * (لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين) *، * (ومن لستم) *
أو لها المانعون كابن الدهان بتقدير: " ويرزق من لستم "، والزجاج بتقدير: " أغنى
من لستم ". قال أبو البقاء: لأن المعنى: " أغناكم لا وأغنى من لستم "، وقدم أنها نصب
115

ب‍ * (جعلنا) *، قال: والمراد ب‍ " من " العبيد والإماء والبهائم فإنها مخلوقة لمنافعها.
الثالثة: قوله تعالى: * (وكفر به والمسجد الحرام) * وليس من هذا الباب،
لأن * (المسجد) * معطوف على * (سبيل الله) * في قوله: * (وصدوا عن سبيل الله) *. ويدل
لذلك أنه صرح بنسبة الصد إلى المسجد في قوله: * (أن صدوكم عن المسجد
الحرام) *.
وهذا الوجه حسن، لولا ما يلزم منه الفصل بين * (صد) * و * (المسجد) * بقوله:
* (وكفر) *، وهو أجنبي.
ولا يحسن أن يقال: إنه معطوف على * (الشهر) *، لأنهم لم يسألوا عنه، ولا على
* (سبيل) *; لأنه إذ ذاك من تتمة المصدر، ولا يعطف على المصدر قبل تمامه.
الرابعة: قوله تعالى: * (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك) * قالوا: الواو
عاطفة ل‍ " من " على الكاف المجرورة، والتقدير: حسبك من اتبعك.
ورد بأن الواو للمصاحبة، و " من " في محل نصب عطف على الموضع; كقوله:
* فحسبك والضحاك سيف مهند *
الخامسة: قوله تعالى: * (كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) *; كما تقول: كذكر
قريش آباءهم، أو قوم أشد منهم ذكرا.
لكن هذا عطف على الضمير المخفوض; وذلك لا يجوز على قراءة حمزة.
116

وقد خالفه الجمهور وجعلوه مجرورا عطفا على * (ذكركم) * المجرور بكاف التشبيه،
تقديره: " أو كذكركم أشد " فجعل للذكر ذكرا مجازا; وهو قول الزجاج; وتابعه ابن عطية
وأبو البقاء وغيرهما.
ومما اختلف فيه العطف على عاملين، نحو ليس زيد بقائم ولا قاعد عمرو; على أن يكون
" ولا قاعد " معطوفا على " قائم "، و " عمرو " على " زيد ". منعه الجمهور وأجازه الأخفش،
محتجا بقوله تعالى: * (واختلاف الليل والنهار) *، ثم قال: * (آيات) * بالنصب
عطفا على قوله: * (لآيات) * المنصوب ب‍ " أن " في أول الكلام، و * (اختلاف الليل والنهار) *
مجرور بالعطف على * (السماوات) *، المجرور بحرف الجر الذي هو " في " فقد وجد
العطف على عاملين. وأجيب بجعل * (آيات) * تأكيد ل‍ " آيات " الأولى.
* * *
القواعد في العدد
القاعدة الأولى
في اسم الفاعل المشتق من العدد، له استعمالان:
أحدهما: أن يراد به واحد من ذلك العدد; فهذا يضاف للعدد الموافق له، نحو رابع
أربعة; وخامس خمسة، وليس فيه إلا الإضافة خلافا لثعلب; فإنه أجاز. ثالث ثلاثة
بالتنوين، قال تعالى. * (ثاني اثنين) * وهذا لا يجوز إطلاقه في حق الله تعالى،
117

ولهذا قال تعالى: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) *.
الثاني: أن يكون بمعنى التصيير، وهذا يضاف إلى العدد المخالف له في اللفظ; بشرط
أن يكون أنقص منه بواحد; كقولك: ثالث اثنين، ورابع ثلاثة، وخامس أربعة، كقوله
تعالى: * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) *،
أي يصيرهم بعلمه وإحاطته أربعة وخمسة.
فإن قيل: كيف بدأ بالثلاث، وهلا جاء: " ما يكون من نجوى واحد إلا هو ثانية،
ولا اثنين إلا هو ثالثهم "؟ قيل: لأنه سبحانه لما علم أن بعض عباده كفر بهذا اللفظ،
وادعى أنه ثالث ثلاثة، فلو قال: ما يكون من نجوى واحد إلا هو ثانيه، لثارت ضلالة
من كفر بالله وجعله ثانيا، وقال: وهذا قول الله هكذا. ولو قال: ولا اثنين إلا هو ثالثهم،
لتمسك به الكفار، فعدل سبحانه عن هذا لأجل ذلك، ثم قال: * (ولا أدنى من ذلك
ولا أكثر) *، فذكر هذين المعنيين بالتلويح لا بالتصريح، فدخل تحته مالا يتناهى،
وهذا من بعض إعجاز القرآن.
القاعدة الثانية
حق ما يضاف إليه العدد من الثلاثة إلى العشرة أن يكون اسم جنس أو اسم جمع،
وحينئذ فيجر ب‍ " من " نحو * (فخذ أربعة من الطير) *.
ويجوز إضافته، نحو: * (تسعة رهط) *.
وإن كان غيرهما من الجموع، أضيف إليه الجمع على مثال جمع القلة من التكسير،
وعلته أن المضاف موضوع للقلة، فتلزم إضافته إلى جمع قلة، طلبا لمناسبة المضاف إليه
118

المضاف في القلة; لأن المفسر على حسب المفسر، فتقول: ثلاثة أفلس وأربعة أعبد، قال
تعالى: * (من بعده سبعة أبحر) *.
وقد استشكل على هذه القاعدة قوله تعالى: * (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *،
فإن، " قروء " جمع كثرة، وقد أضيف إلى الثلاثة، ولو جاء على هذه القاعدة
لقال " أقراء ".
والجواب من أوجه:
أحدها: أنه أوثر جمع الكثرة هنا; لأن بناء القلة شاذ، فإنه جمع " قرء " بفتح
القاف، وجمع " فعل " على " أفعال " شاذ، فجمعوه على " فعول " إيثارا للفصيح،
فأشبه ما ليس له إلا جمع كثرة; فإنه يضاف إليه، كثلاثة دراهم. ذكره ابن مالك.
والثاني: أن القلة بالنسبة إلى كل واجد من المطلقات; وإنما أضاف جمع الكثرة
نظرا إلى كثرة المتربصات; لأن كل واحدة تتربص ثلاثة. حكاه في،، البسيط،،
عن أهل المعاني.
الثالث: أنه على حذف مضاف، أي ثلاثة أقراء قروء.
الرابع: أن الإضافة نعت في تقدير الانفصال; لأنه بمعنى " من " التي للتبعيض، أي
ثلاثة أقراء من قروء.
كما أجاز المبرد " ثلاثة حمير " و " ثلاثة كلاب "; على إرادة " من " أي من حمير
ومن كلاب.
القاعدة الثالثة
ألفاظ العدد نصوص، ولهذا لا يدخلها تأكيد; لأنه لدفع المجاز، في اطلاق الكل
119

وإرادة البعض; وهو منتف في العدد. وقد أورد على ذلك آيات شريفة.
الأولى: قوله تعالى: * (تلك عشرة كاملة) *، والجواب أن التأكيد هنا ليس لدفع
نقصان أصل العدد، بل لدفع نقصان الصفة، لأن الغالب في البدل أن يكون دون المبدل
منه; معناه أن الفاقد للهدى لا ينقص من أجره شئ.
الثانية: قوله تعالى: * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) * ولو كانت
ألفاظ العدد نصوصا لما دخلها الاستثناء; إنما يكون عاما. والجواب أن التجوز قد يدخل
في الألف، فإنها تذكر في سياق المبالغة، للتكثير، والاستثناء رفع ذلك.
الثالثة: قوله تعالى: * (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين) *، وقد سبق في باب
التأكيد الجواب عنه.
الرابعة: قوله تعالى * (إن تستغفر لهم سبعين مرة) *. وقوله * (سبعون
ذراعا) *، قالوا: المراد بها الكثرة، وخصوص السبعين ليس مرادا; وهذا مجاز.
وكذا قوله تعالى: * (ثم ارجع البصر كرتين) *، قيل المراد: المراجعة من غير
حصر، وجئ بلفظ التثنية، تنبيها على أصل الكثرة، وهو مجاز.
120

[أحكام الألفاظ يكثر دورانها في القرآن]
[لفظ " فعل "]
من ذلك لفظ " فعل " كثيرا ما يجئ كناية عن أفعال متعدده; وفائدته الاختصار;
كقوله تعالى: * (لبئس ما كانوا يفعلون) *.
* (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) *.
وقوله: * (فإن لم تفعلوا) *، أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة
من مثله.
وحيث أطلقت في كلام الله، فهي محمولة على الوعيد الشديد، كقوله تعالى: * (ألم تر
كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) *.
* (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) *.
* * *
[لفظ " كان "]
من ذلك الإخبار عن ذات الله أو صفاته ب‍ " كان ".
وقد اختلف النحاة وغيرهم في أنها تدل على الانقطاع، على مذاهب:
أحدها: أنها تفيد الانقطاع; لأنها فعل يشعر بالتجدد.
121

والثاني: لا تفيده; بل تقتضي الدوام والاستمرار، وبه جزم ابن معط في ألفيته;
حيث قال:
* وكان للماضي الذي ما انعطفا *
وقال الراغب في قوله تعالى: * (وكان الشيطان لربه كفورا) *: نبه بقوله:
" كان " على أنه لم يزل منذ أوجد منطويا على الكفر.
الثالث: أنه عبارة عن وجود الشئ في زمان ماض على سبيل الإبهام; وليس فيه
دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: * (وكان الله غفورا
رحيما) *، قاله الزمخشري في قوله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت
للناس) *.
وذكر ابن عطية في سورة الفتح أنها حيث وقعت في صفات الله فهي مسلوبة الدلالة
على الزمان.
والصواب من هذه المقالات مقالة الزمخشري، وأنها تفيد اقتران معنى الجملة التي تليها
بالزمن الماضي لا غير، ولا دلالة لها نفسها على انقطاع ذلك المعنى ولا بقائه; بل إن أفاد
الكلام شيئا من ذلك كان لدليل آخر.
إذا علمت هذا فقد وقع في القرآن إخبار الله تعالى عن صفاته الذاتية وغيرها بلفظ
" كان " كثيرا، نحو: * (وكان الله سميعا عليما) *. * (واسعا حكيما) *.
122

* (غفورا رحيما) *. * (توابا رحيما) *. * (وكنا بكل شئ عالمين) *.
* (وكنا لحكمهم شاهدين) *.
فحيث وقع الإخبار " بكان " عن صفة ذاتية; فالمراد الإخبار عن وجودها،
وأنها لم تفارق ذاته; ولهذا يقررها بعضهم بما زال; فرارا مما يسبق إلى الوهم، إن كان يفيد
انقطاع المخبرية بين عن الوجود لقولهم: دخل في خبر كان. قالوا: فكان وما زال مجازان،
يستعمل أحدهما في معنى الآخر مجازا بالقرينة. وهو تكلف لا حاجة إليه، وإنما
معناها ما ذكرناه من أزلية الصفة، ثم تستفيد بقاءها في الحال وفيما لا يزال بالأدلة العقلية،
وباستصحاب الحال.
وعلى هذا التقدير سؤالان:
أحدهما: إن البارئ سبحانه وصفاته موجودة قبل الزمان والمكان، فكيف تدل
" كان " الزمانية على أزلية صفاته; وهي موجودة قبل الزمان؟
وثانيهما: مدلول " كان " اقتران مضمون الجملة بالزمان اقترانا مطلقا، فما الدليل على
استغراقه الزمان؟
والجواب عن الأول أن الزمان نوعان:
حقيقي وهو مرور الليل والنهار، أو مقدار حركة الفلك على ما قيل فيه.
وتقديري وهو ما قبل ذلك وما بعده، كما في قوله تعالى: * (ولهم رزقهم فيها بكرة
وعشيا) *، ولا بكرة هنا ولا عشيا; وإنما هو زمان تقديري فرضي.
وكذلك قوله: * (خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) *،
123

من أن الأيام الحقيقية لا توجد إلا بوجود السماوات والأرض والشمس والقمر; وإنما الإشارة
إلى أيام تقديرية.
وعن الثاني أن " كان " لما دلت على اقتران مضمون الجملة بالزمان، لم يكن بعض
أفراد الأزمنة بأولى بذلك من بعض، فإما ألا يتعلق مضمونها بزمان فيعطل، أو يعلق
بعضها ببعض، وهو ترجيح بلا مرجح; أو يتعلق بكل زمان، وهو المطلوب.
وحيث وقع الإخبار بها عن صفة فعلية، فالمراد تارة الإخبار عن قدرته عليها
في الأزل، نحو كان الله خالقا ورازقا ومحييا ومميتا، وتارة تحقيق نسبته إليه، نحو: * (وكنا
فاعلين) *. وتارة ابتداء الفعل وإنشاؤه; نحو: * (وكنا نحن الوارثين) *;
فإن الإرث إنما يكون بعد موت المورث، والله سبحانه مالك كل شئ على الحقيقة،
من قبل ومن بعد.
وحيث أخبر بها عن صفات الآدميين فالمراد التنبيه على أنها فيهم غريزة وطبيعة مركوزة
في نفسه، نحو: * (وكان الإنسان عجولا) *. * (إنه كان ظلوما جهولا) *.
ويدل عليه قوله: * (إن الإنسان خلق هلوعا. إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه
الخير منوعا) *، أي خلق على هذه الصفة، وهي مقدرة أو بالقوة، ثم تخرج
إلى الفعل.
وحيث أخبر بها عن أفعالهم دلت على اقتران مضمون الجملة بالزمان، نحو: * (إنهم
كانوا يسارعون في الخيرات) *.
124

ومن هذا الباب الحكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ " كان يصوم " و " كنا
نفعل ". وهو عند أكثر الفقهاء والأصوليين يفيد الدوام; فإن عارضه ما يقتضى عدم الدوام
مثل أن يروى: " كان يمسح مرة " ثم نقل " أنه يمسح ثلاثا " فهذا من باب تخصيص
العموم، وإن روى النفي والإثبات تعارضا.
وقال الصفار في شرح سيبويه: إذا استعملت للدلالة على الماضي فهل تقتضي الدوام
والاتصال أولا؟ مسالة خلاف; وذلك أنك إذا قلت: كان زيد قائما فهل هو الآن قائم؟
الصحيح أنه ليس كذلك، هذا هو المفهوم ضرورة; وإنما حملهم على جعلها للدوام ما ورد
من مثل قوله تعالى: * (وكان الله غفورا رحيما) *، وقوله: * (ولا تقربوا الزنى إنه كان
فاحشة) * وهذا عندنا يتخرج على أنه جواب لمن سأل: هل كان الله غفورا رحيما؟
وأما الآية الثانية، فالمعنى أي قد كان عندكم فاحشة وكنتم تعتقدون فيه ذلك، فتركه
يسهل عليكم.
قال ابن الشجري،، في أماليه،،: اختلف في " كان " في نحو قوله: * (وكان الله
عزيزا حكيما) *، على قولين:
أحدهما: أنها بمعنى " لم يزل " كأن القوم شاهدوا عزا وحكمه ومغفرة ورحمة، فقيل
لهم: لم يزل الله كذلك، قال: وهذا قول سيبويه.
والثاني: أنها تدل على وقوع الفعل فيما مضى من الزمان; فإذا كان
فعلا متطاولا لم يدل دلالة قاطعة على أنه زال وانقطع، كقولك: كان فلان صديقي، لا يدل
هذا على أن صداقته قد زالت; بل يجوز بقاؤها، ويجوز زوالها.
125

فمن الأول: قوله تعالى: * (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) *، لأن
عداوتهم باقية.
ومن الثاني: قوله تعالى: * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) *.
وقال بعضهم: يدل على أن خبرها كان موجودا في الزمن الماضي، وأما في الزمن الحاضر
فقد يكون باقيا مستمرا، وقد يكون منقطعا، فالأول كقوله تعالى: * (وكان الله غفورا
رحيما) * وكذا سائر صفاته; لأنها باقية مستمرة.
قال السيرافي: قد يرجع الانقطاع بالنسبة للمغفور لهم والمرحومين; يكون بمعنى أنهم انقرضوا
فلم يبق من يغفر له، ولا من يرحم فتنقطع المغفرة والرحمة.
وكذا: * (وكان الله عليما حكيما) *، ومعناه الانقطاع فيما وقع عليه العلم والحكمة،
لا نفس العلم والحكمة.
وفيه نظر.
قال ابن بري ما معناه: إن " كان " تدل على تقديم الوصف وقدمه، وما ثبت قدمه
استحال عدمه; وهو كلام حسن.
منصور بن فلاح اليمنى في كتاب،، الكافي،،: قد تدل على الدوام بحسب
القرائن، كقوله: * (وكان الله غفورا رحيما) *. * (وكان الله سميعا بصيرا) *.
* (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) *، دلت على الدوام المتصف بتلك
الصفات ودوام التعبد بالصفات. وقد تدل على الانقطاع، نحو: كان هذا الفقير غنيا،
وكان لي مال.
126

وقال أبو بكر الرازي: كان في القرآن على خمسة أوجه:
بمعنى الأزل والأبد، كقوله تعالى: * (وكان الله عليما حكيما) *.
وبمعنى المضي المنقطع، كقوله: * (وكان في المدينة تسعة رهط) *; وهو الأصل في
معاني " كان "، كما تقول: كان زيد صالحا أو فقيرا أو مريضا أو نحوه.
وبمعنى الحال، كقوله تعالى: * (كنتم خير أمة) *، وقوله: * (إن الصلاة
كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) *.
وبمعنى الاستقبال، كقوله تعالى: * (ويخافون يوما كان شره مستطيرا) *.
وبمعنى " صار "، كقوله: * (وكان من الكافرين) *.
مسألة
[في حكم كان إذا وقعت بعد " إن "]
كان فعل ماض، وإذا وقعت بعد " إن " كانت في المعنى للاستقبال.
وقال المبرد: تبقى على المضي لتجردها، للدلالة على الزمان فلا يغيرها أداة الشرط،
قال تعالى: * (إن كنت قلته) * * (إن كان قميصه) *.
وهذا ضعيف لبنائه على أنها للزمان وحده، والحق خلافه; بل تدل على الحدث
والزمان كغيرها من الأفعال.
وقد استعملت مع " إن " للاستقبال، قال تعالى: * (إن كنتم صادقين) *.
وأما: * (إن كنت قلته) *، فتأوله ابن السراج على تقدير " إن أكن قلته "،
وكذا * (إن كان قميصه) * " إن يكن قميصه ".
127

مسألة
[في نفى " كان " وأخواتها]
إذا نفيت " كان " وأخواتها، فهي كغيرها من الأفعال. وزعم ابن الطراوة أنها
إذا نفيت كان اسمها مثبتا والخبر منفيا، قال: لأن النفي إنما يتسلط على الخبر، كقوله تعالى:
* (ما كان حجتهم إلا أن قالوا) *، فالقول مثبت والحجة هي المنفية; وما ذهب إليه
غير لازم، إذ قد قرئ * (ما كان حجتهم) * بالرفع على أنه اسم كان، ولكن تأوله على أن
" كان " ملغاة، أي زائدة، تقديره: " ما حجتهم إلا ".
وهذا إن ساغ له هاهنا فلا يسوغ له تأويل قوله تعالى: * (ثم لم تكن فتنتهم
إلا أن قالوا) * فإنه قرئ بالرفع ولا يمكن أن تكون هنا ملغاة.
* * *
[لفظ " جعل "]
ومن ذلك " جعل " وهي أحد الأفعال المشتركة; التي هي أمهات أحداث; وهي:
فعل، وعمل، وجعل، وطفق، وأنشأ، وأقبل. وأعمها " فعل " يقع على القول والهم
وغيرهما: * (ويفعلون ما يؤمرون) *.
ودونه " عمل " لأنه يعم النية والهم والعزم والقول: * (وقدمنا إلى ما عملوا من
عمل) *، أي من صلاة وصدقة وجهاد.
ولجعل أحوال:
128

أحدها: بمعنى " سمى " كقوله تعالى: * (الذين جعلوا القرآن عضين) *، أي سموه
كذبا، وقوله: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * على قول ويشهد له
قوله تعالى: * (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى) *
الثاني: بمعنى المقاربة، مثل كاد وطفق، لكنها تفيد ملابسة الفعل والشروع فيه، تقول:
جعل يقول، وجعل يفعل كذا; إذا شرع فيه.
الثالث: بمعنى الخلق والاختراع، فتعدى لواحد، كقوله تعالى: * (وجعل الظلمات
والنور) *، أي خلقهما.
فإن قيل: ما الفرق بين الجعل والخلق؟
قيل: إن الخلق فيه معنى التقدير، وفى الجعل معنى التصيير، كإنشاء شئ من شئ،
أو تصيير شئ شيئا. أو نقله من مكان، ويتعدى لمفعول واحد; لأنه لا يتعلق إلا من
واحد، وهو المخلوق.
وأيضا، فالخلق يكون عن عدم سابق; حيث لا يتقدم مادة لا سبب محسوس، والجعل
يتوقف على موجود مغاير للمجعول، يكون منه المجعول أو عنه، كالمادة والسبب. ولا يرد
في القرآن العظيم لفظ " جعل " في الأكثر مرادا به الخلق; إلا حيث يكون قبله ما يكون
عنه أو منه، أو شيئا فيه محسوسا عنه، يكون ذلك المخلوق الثاني، بخلاف " خلق " فإن
العبارة تقع كثيرا به عما لم يتقدم وجوده وجود مغاير، يكون عنه هذا الثاني، قال الله تعالى:
* (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور *) وإنما الظلمات
والنور عن أجرام توجد بوجودها، وتعدم بعدمها.
وقال تعالى: * (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي) *.
129

وقال: * (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) *.
وقال سبحانه في سورة الأعراف: * (وجعل منها زوجها) *.
وفى سورة النساء: * (وخلق منها زوجها) *; فهو يدل على أنهما قد يستعملان
استعمال المترادفين.
الرابع: بمعنى النقل من حال إلى حال والتصيير، فيتعدى إلى مفعولين; إما حسا كقوله
تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا) * * (والله جعل لكم الأرض بساطا) *
* (فجعلهم جذاذا) * * (وجعلنا أئمة) * * (وجعلناكم أكثر نفيرا) *
* (أجعل الآلهة إلها واحدا) * * (وجاعل الملائكة رسلا) *.
ونحو قوله: * (اجعل هذا البلد آمنا) *، وقوله: * (وجعلنا الليل لباسا) *، لأنه
يتعلق بشيئين: المنقول وهو الليل; والمنقول إليه وهو اللباس.
وأبين منه قوله تعالى: * (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) *، * (جعلنا عاليها
سافلها) *، * (وجعلنا نومكم سباتا) *.
والمعاش في قوله: * (وجعلنا النهار معاشا) * اسم زمان، لكون الثاني هو الأول.
ويجوز أن يكون مصدر لمعنى المعيش.
* (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) *، ومعناه صيرناه، لأن مريم إنما صارت مع ولدها
عليه السلام لما خلق من جسدها لا من أب، فصار عند ذلك آية للعالمين. ومحال أنه
130

يريد: " خلقناهما " لأن مريم لم تخلق في حين خلق ولدها; بل كانت موجودة قبله، ومحال
تعلق القدرة بجعل الموجود موجودا في حال بقائه.
فأما قوله تعالى: * (إنا جعلناه قرآنا عربيا) *; فهو من هذا الباب على جهة
الاتساع، أي صيرناه يقرأ بلسان عربي، لأن غير القرآن ما هو عبري وسرياني; ولأن معاني
القرآن في الكتب السالفة، بدليل قوله تعالى: * (وإنه لفي زبر الأولين) *، * (إن هذا
لفي الصحف الأولى) *.
وبهذا احتج من أجاز القراءة بالفارسية، قال: لأنه ليس في زبر الأولين من القرآن
إلا المعنى، والفارسية تؤدى المعنى. وإذا عرف هذا، فكأنه نقل المعنى من لفظ القرآن
فصيره عربيا.
وأخطأ الزمخشري حيث جعله بالخلق; وهو مردود صناعة ومعنى. أما الصناعة،
فلأنه يتعدى لمفعولين، ولو كان بمعنى الخلق لم يتعد إلا إلى واحد، وتعديته لمفعولين -
وإن احتمل هذا المعنى - لكن بجواز إرادة التسمية أو التصيير على ما سبق. وأما المعنى
فلو كان بمعنى " خلقنا التلاوة العربية " فباطل; لأنه ليس الخلاف في حدوث ما يقوم
بألسنتنا; وإنما الخلاف في أن كلام الله الذي هو أمره ونهيه وخبره; فعندنا أنه صفة
من صفات ذاته، وهو قديم.
وقالت القدرية: إنه صفة فعل أوجده بعد عدمه، وأحدثه لنفسه، فصار عند حدوثه
متكلما بعد أن لم يكن، فظهر أن الآية على تأويله ليس فيها تضمن لعقيدته الباطلة.
وقال الآمدي في،، أبكار الأفكار،،: الجعل فيه بمعنى التسوية، كقوله تعالى:
* (الذين جعلوا القرآن عضين) *، أي يسمونه كذبا.
131

قال: ويحتمل أن الجعل على بابه، والمراد القرآن بمعنى القراءة دون مدلولها، فإن القرآن
قد يطلق بمعنى القراءة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " ما أذن الله لشئ أذنه لنبي
يتغنى في " القرآن " أي بالقراءة.
قال بعضهم: قاعدة العرب في الجعل أن يتعدى لواحد، وتارة يتعدى لاثنين;
فإن تعدى لواحد لم يكن إلا بمعنى الخلق، وأما إذا تعدى لاثنين فيجئ بمعنى الخلق، كقوله
تعالى: * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) *، وبمعنى التسمية: * (وجعلوا الملائكة
الذين هم عباد الرحمن إناثا) *، * (الذين جعلوا القرآن عضين) *.
ويجئ بمعنى التصيير، كقوله تعالى: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) *،
أي صيرنا هما.
* * *
إذا علمت هذا فإذن ثبت أن الجعل المتعدى لاثنين ليس نصا في الخلق، بل يحتمل
الخلق وغيره ولم يكن في الآية تعلق للقدرية على خلق القرآن، لأن الدليل لابد أن يكون
قطعيا لا احتمال فيه. ويجوز أن يكون بمعنى الخلق على معنى: جعلنا التلاوة عربية.
قلت: وهذا يمنع إطلاقه; وإن جوزنا حدوث الألفاظ، لأنها لم تأت عن السلف،
بل نقول: القرآن غير مخلوق على الإطلاق.
الخامس: بمعنى الاعتقاد، كقوله تعالى: * (وجعلوا لله شركاء الجن) *، * (ويجعلون
لله ما يكرهون) *.
132

وكذلك قوله تعالى: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) *،
أي اعتقدوهم إناثا.
ويجوز أن يكون كما قبله; ووجه النقل فيه هو أن الملائكة في نفس الأمر ليسوا إناثا،
فهؤلاء الكفار نقلوهم باعتقادهم; فصيروهم في الوجود الذهني إناثا.
ومنهم من جعلها بمعنى التسمية، كقوله تعالى: * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم
تعلمون) *، أي لا تسموها أندادا وأنتم تعلمون; أي لا تسموها أندادا ولا تعتقدوها;
لأنهم ما سموها حتى اعتقدوها.
وكذلك: * (الذين جعلوا القرآن عضين) *، أي سموه وجزءوه أجزاء، فجعلوا
بعضه شعرا، وبعضه سحرا، وبعضه أساطير الأولين.
وقال الزجاج في: * (وجعلوا الملائكة) *، إنها بمعنى...
وقوله: * (أجعلتم سقاية الحاج) *، أي اعتقدتم هذا مثل هذا.
فأما قوله: * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض) *،
فالنقل والتصيير راجعان إلى الحال، أي لا تجعل حال هؤلاء مثل حال هؤلاء،
ولا تنقلها إليها.
وكذلك قوله: * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه) *، أي اعتقدوا له شركاء.
السادس: بمعنى الحكم بالشئ على الشئ، يكون في الحق والباطل.
فالحق، كقوله: * (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) *.
133

والباطل، كقوله: * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث...) * الآية.
وبمعنى أوجب، كقوله تعالى: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) * أي
أوجبنا الاستقبال إليها.
وكقوله: * (ما جعل الله من بحيرة) *، * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) *
ومعنى " كنت عليها " أي أنت عليها، كقوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * أي أنتم.
السابع: ذكره الفارسي، بمعنى " ألقى " فيتعدى لمفعولين: أحدهما بنفسه والآخر بحرف
الجر، كما في قولك: جعلت متاعك بعضه فوق بعض.
ومثله قوله: * (وجعل فيها رواسي) *.
ومنه قوله تعالى: * (ويجعل الخبيث ببعضه على بعض) *، و " بعضه " بدل
من الخبيث.
وقوله: " على بعض " أي فوق بعض.
ومثله قوله: * (وجعل فيها رواسي) *، أي ألقى، بدليل قوله في الآية الأخرى
التي علل فيها المراد بخلق الجبال، وأبان إنعامه، فقال: * (وألقى في الأرض رواسي
أن تميد بكم) *.
فائدة
قوله تعالى: * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) *، قيل: كيف يستعمل لفظ " الجعل "
134

هنا مع أن المجعول عنه ينبغي أن يتحقق قبل الجعل، مع صفة المجعول، كقولك: " جعلت
زيدا قائما " فهو قبل ذلك كان متصفا بضد القيام، وهنا لم يوجد " الجعل " إلا على هذه الصفة،
فكيف يصح استعمال الجعل فيه؟
والجواب أن الليل جوهر قام به السواد، والنهار جوهر قام به النور، وكذلك
الشمس جسم قام به ضوء، والأجسام والجواهر متقدمة على الأعراض بالذات، والعرب
تراعى مثل هذا، نقل الفراء أنهم قالوا: أحسنت إليك فكسوتك; فجعلوا الإحسان
متقدما على الكسوة; بدليل العطف بالفاء، وليس ذلك إلا تقدم ذاتي، لأن الإحسان
في الخارج هو نفس الكسوة.
ولك أن تقول: لا نسلم أن الإحسان نفس الكسوة; بل معنى يقوم بالنفس
ينشأ عنه الكسوة.
حسب
يتعدى لمفعولين. وحيث جاء بعدها أن والفعل، كقوله تعالى: * (أم حسبتم
أن تدخلوا الجنة) *، * (أم حسبتم أن تتركوا) * ونظائره، فمذهب سيبويه
أنها سادة مسد المفعولين، ومذهب المبرد أنها سادة مسد المفعول الواحد،
والثاني عنده مقدر.
ويشهد لسيبويه أن العرب لم يسمع من كلامهم نطق بما ادعاه من التصريح بهما،
ولو كان كما ذكره لنطقوا حتى به ولو مرة.
135

كاد
وللنحويين فيها أربعة مذاهب:
أحدها: أن إثباتها إثبات ونفيها نفى، كغيرها من الأفعال.
والثاني: أنها تفيد الدلالة على وقوع الفعل بعسر، وهو مذهب ابن جنى.
والثالث: أن إثباتها نفى ونفيها إثبات، فإذا قيل: " كاد يفعل " فمعناه أنه لم يفعله،
بدليل قوله: * (وإن كادوا ليفتنوك) *، وإذا قيل " لم يكد يفعل " فمعناه أنه فعله،
بدليل قوله: * (وما كادوا يفعلون) *.
والرابع: التفصيل في النفي بين المضارع والماضي، فنفى المضارع نفى، ونفى الماضي إثبات،
بدليل: * (فذبحوها وما كادوا يفعلون) *، وقوله: * (لم يكد يراها) *، مع أنه
لم ير شيئا، وهذا حكاه ابن أبي الربيع في،، شرح الجمل،، وقال: إنه الصحيح.
والمختار هو الأول; وذلك، لأن معناها المقاربة، فمعنى " كاد يفعل " قارب الفعل،
ومعنى " ما كاد يفعل " لم يقاربه، فخبرها منفى دائما.
أما إذا كانت منفية فواضح، لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل اقتضى عقلا عدم
حصوله، ويدل له قوله تعالى: * (إذا أخرج يده لم يكد يراها) *، ولهذا كان
أبلغ من قوله: " لم يرها " لأن من لم ير قد يقارب الرؤية.
وأما إذا كانت المقاربة منفية، فلأن الأخبار بقرب الشئ يقتضى عرفا عدم حصوله،
وإلا لم يتجه الإخبار بقربه; فأما قوله تعالى: * (فذبحوها وما كادوا يفعلون) *;
136

فإنها منفية مع إثبات الفعل لهم في قوله: * (فذبحوها) *.
ووجهه أيضا إخبار عن حالهم في أول الأمر، فإنهم كانوا أولا بعداء من ذبحها،
بدليل ما ذكر الله عنهم من تعنتهم. وحصول الفعل إنما فهمناه من دليل آخر، وهو قوله:
* (فذبحوها) *.
والأقرب أن يقال: إن النفي وارد على الإثبات، والمعنى هنا: " وما كادوا
يفعلون الذبح قبل ذلك " لأنهم قالوا: * (أتتخذنا هزوا) * وغير ذلك من التشديد.
وأما قوله تعالى: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) *
فالمعنى على النفي، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يركن إليهم لا قليلا ولا كثيرا، من جهة
أن " لولا " الامتناعية تقتضي ذلك، وأنه امتنع مقاربة الركون القليل لأجل وجود
التثبيت، لينتفي الكثير من طريق الأولى.
وتأمل كيف جاء " كاد " المقتضية المقاربة للفعل، بقدر الظاهرة للتقليل، كل
ذلك تعظيما لشأن النبي صلى الله عليه وسلم، وما جبلت عليه نفسه الزكية من كونه لا يكاد
يركن إليهم شيئا قليلا، للتثبيت مع ما جبلت عليه.
هكذا ينبغي أن يفهم معنى هذه الآية، خلافا لما وقع في كتب التفسير من ابن عطية
وغيره، فهم عن هذا لمعنى اللطيف بمعزل.
وحكى الشريف الرضى في كتاب،، الغرر،، ثلاثة أقوال في قوله تعالى:
* (لم يكد يراها) *.
الأول: أنها دالة على الرؤية بعسر، أي رآها بعد عسر وبطء لتكاثف الظلم.
137

والثاني: أنها زائدة، والكلام على النفي المحض، ونقله عن أكثر المفسرين، أي لم
يرها أصلا، لأن الله تعالى قال: * (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج
من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض) *، كان مقتضى هذه الظلمات تحول بين
العين وبين النظر إلى البدن وسائر المناظر.
والثالث: أنها بمعنى " أراد " من قوله: * (كدنا ليوسف) *، أي لم يرد
أن يراها.
* * *
وذكر غيره أن التقدير: إذا أخرج يده ممتحنا لبصره لم يكد يخرجها، و " يراها "
صفة للظلمات، تقديره، ظلمات بعضها فوق بعض يراها.
وأما قوله تعالى: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى) *، فيحتمل أن
المعنى: أريد أخفيها، لكي تجزى كل نفس بسعيها.
ويجوز أن تكون زائدة، أي أخفيها لتجزى.
وقيل: تم الكلام عند قوله: * (آتية أكاد) *، والمعنى: أكاد آتي بها، ثم ابتدأ
بقوله: * (أخفيها لتجزى) *.
وقرأ سعيد بن جبير: * (أكاد أخفيها) * بفتح الألف، أي أظهرها، يقال: أخفيت
الشئ إذا سترته وإذا أظهرته.
وقراءة الضم تحتمل الأمرين، وقراءة الفتح لا تحتمل غير الإظهار;
ومعنى سترتها لأجل الجزاء، لأنه إذا أخفى وقته قويت الدواعي على التأهب لها
خوف المجئ بغتة.
138

وأما قوله تعالى: * (يكاد زيتها يضئ) *، فلم يثبت للزيت الضوء، وإنما
أثبت له المقاربة من الضوء قبل أن تمسه النار، ثم أثبت النور بقوله: * (نور على نور) *،
فيؤخذ منه أن النور دون الضوء لا نفسه.
فإن قلت: ظاهره أن المراد: يكاد يضئ; مسته النار أولم تمسه، فيعطى ذلك أنه مع أن
مساس النار لا يضئ، هو ولكن يقارب الإضاءة، لكن الواقع أنه عند المساس يضئ قطعا!
أجيب: بأن الواو ليست عاطفة، وإنما هي للحال، أي يكاد يضئ والحال أنه لم تمسه
نار، فيفهم منه أنها لو مسته لأضاء قطعا.
قاعدة
[في مجئ كاد بمعنى أراد]
تجئ كاد بمعنى أراد، ومنه: * (كذلك كدنا ليوسف) * * (أكاد أخفيها) *.
وعكسه، كقوله تعالى: * (جدارا يريد أن ينقض) * أي يكاد.
قاعدة
[فعل المطاوعة]
فعل المطاوعة هو الواقع مسببا عن سبب اقتضاه، نحو كسرته فانكسر. قال
ابن مالك في شرح،، الخلاصة،،: هو الدال على قبول مفعول لأثر الفاعل; ومعنى
ذلك أن الفعل المطاوع، بكسر الواو، يدل على أن المفعول لقولك: كسرت الشئ
يدل على مفعول معالجتك في إيصال الفعل إلى المفعول، فإذا قلت: فانكسر، علم أنه قبل
139

الفعل، وإذا قلت: لم ينكسر على أنه لم يقبله. وأما المطاوع، بفتح الواو، فيدل على معالجة
الفاعل في إيصال فعله إلى المفعول، ولا يدل على أن المفعول قبل الفعل أو لم يقبله.
وذكر الزمخشري وغيره أن المطاوع والمطاوع، لابد وأن يشتركا في أصل المعنى،
والفرق بينهما إنما هو من جهة التأثر والتأثير، كالكسر والانكسار، إذ لا معنى للمطاوعة
إلا حصول فعل عن فعل، فالثاني مطاوع; لأنه طاوع الأول، والأول مطاوع، لأنه طاوعه
الثاني، فيكون المطاوع لازما للمطاوع ومرتبا عليه.
وقد استشكل هذا بقوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) *،
فأثبت " الهدى " بدون " الاهتداء ".
وقوله: " أمرته فلم يأتمر " فأثبت الأمر بدون الائتمار. وأيضا فاشتراط الموافقة في أصل
المعنى منقوض بقوله: " أمرته فأتمر "، أي امتثل، فإن الامتثال خلاف الطلب.
وأجيب بأنه ليس المراد: ب‍ * (هديناهم فاستحبوا العمى) * العمى الحقيقي، بل أوصلنا
إليهم أسباب الهداية، من بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يلزم وجود الاهتداء.
وأما الأمر فيقتضيه لغة ألا يثبت إلا بالامتثال والائتمار.
وقال المطرزي في،، المغرب،،: الائتمار من الأضداد، وعليه قول شيخنا
في،، الأساس،،: يقال: أمرته فائتمر، وأبى أن يأتمر، أي أمرته فاستبد برأيه ولم يمتثل،
والمراد بالمؤتمر الممتثل. ويقال: علمته فلم يتعلم; لأن التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه
حصول العلم لإيجاده.
140

كذا قاله الإمام فخر الدين، ومنعه بعضهم.
وقال الشيخ علاء الدين الباجي لو لم يصح: علمته فما تعلم، لما صح علمته فعلم; لأنه
إذا كان التعليم يقتضى إيجاد العلم وهو علة فيه، فمعلوله - وهو التعلم - يوجد معه; بناء على أن
العلة مع المعلول، والفاء في قولنا: " فتعلم " تقتضي تعقب العلم. وإن قلنا: المعلول يتأخر،
فلا فائدة في " فتعلم " لأن التعلم قد فهم من " علمته " فوضح أنه لو صح " علمته فما تعلم "
لكان إما ألا يصح علمته فتعلم، بناء على أن العلة مع المعلول، أو لا تكون في قولنا: " فتعلم "
فائدة بتأخر المعلول.
فإن قيل: قد منعوا " كسرته فما انكسر " فما وجه صحة قولهم: " علمته
فما تعلم "؟
قيل: فرق بعضهم بينهما; بأن العلم في القلب من الله يتوقف على أمر من المعلم
ومن المتعلم، وكان علمه موضوعا للجزاء الذي من المعلم فقط، لعدم إمكان فعل من المخلوق
يحصل به العلم، ولا بد بخلاف الكسر، فإن أثره لا واسطة بينه وبين الانكسار.
واعلم أن الأصل في الفعل المطاوعة أن يعطف عليه بالفاء، تقول: دعوته فأجاب،
وأعطيته فأخذ، ولا تقولها بالواو; لأن المراد إفادة السببية، وهو لا يكون في الغالب
إلا بالفاء، كقوله: * (من يهد الله فهو المهتدى) *.
ويجوز عطفه بالواو، كقوله: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا
واتبع هواه) *.
وكقوله: * (فاستجبنا له ونجيناه) *.
وفى موضع آخر: * (فاستجبنا له فنجيناه) *.
141

وزعم ابن جنى في كتاب،، الخصائص،، أنه لا يجوز فعل المطاوعة إلا بالفاء.
وأجاب عن قوله تعالى: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) * بأن " أغفل "
في الآية بمعنى وجدناه غافلا، لا جعلناه يغفل، وإلا لقيل: " فاتبع هواه " بالفاء; لأنه
يكون مطاوعا.
وفى كلامه نظر; لأنا نقول: ليس اتباع الهوى مطاوعا ل‍ " أغفلنا " بل المطاوع
ل‍ " أغفلنا "، غفل.
فإن قيل: إنه من لازم الغفلة اتباع الهوى، والمسبب عن السبب سبب
قيل: لا نسلم أن اتباع الهوى مسبب عن الغفلة، بل قد يغفل عن الذكر ولا يتبع
الهوى، ويكون المانع له منه غفلة أخرى عنه.
واعلم أن الحامل لأبي الفتح على هذا الكلام اعتقاده الاعتزالي إذا أن معصية العبد
لا تنسب إلى الله تعالى; وأنها مسببة له، فلهذا جعل " أفعل " هنا بمعنى " وجد "
لا بمعنى التعدية خاصة. وقد بينا ضعف كلامه، وأن المطاوع لا يجب عطفه بالفاء.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: * (ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله) *:
هذا موضع الفاء، كما يقال: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر; وإنما عطف بالواو للإشعار
بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما [إيتاء] العلم، [فأضمر ذلك ثم عطف عليه بالتحميد]
كأنه قال: فعملا به وعلماه، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، وقالا الحمد لله.
وقال السكاكي: يحتمل عندي أنه تعالى أخبر عما صنع بهما، وعما قالا; كأنه قال:
نحن فعلنا إيتاء العلم، وهما فعلا الحمد، من غير بيان ترتبه عليه اعتمادا على فهم السامع،
كقولك: " قم يدعوك " بدل " قم فإنه يدعوك ".
142

وأما قوله تعالى: * (واتقوا الله ويعلمكم الله) *; فظن بعض الناس أن التقوى
سبب التعليم، والمحققون على منع ذلك; لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء
بالشرط، فلم يقل: " واتقوا الله يعلمكم " ولا قال: " فيعلمكم الله "، وإنما أتى
بواو العطف، وليس فيه ما يقتضى أن الأول سبب للثاني، وإنما غايته الاقتران والتلازم،
كما يقال: زرني وأزورك، فقال وسلم علينا ونسلم عليك، ونحوه مما يقتضى اقتران الفعلين
والتعارض من الطرفين، كما لو قال [عبد] لسيده: أعتقني ولك على ألف، أو قالت:
المرأة لزوجها: طلقني ولك ألف; فإن ذلك بمنزلة قولها: بألف أو على ألف. وحينئذ فيكون
متى علم الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك.
نظير الآية قوله تعالى: * (فاعبده وتوكل عليه) *.
وقوله عقيب ذكر الغيبة: * (واتقوا الله إن الله تواب رحيم) *، ووجه هذا الختام
التنبيه على التوبة من الاغتياب، وهو من الظلم.
هاهنا بحث، وهو أن الأئمة اختلفوا في أن العلم هل يستدعى مطاوعة أم لا؟
على قولين:
أحدهما: نعم، بدليل قوله تعالى: * (من يهد الله فهو المهتدى) * فأخبر عن كل
من هداه الله بأنه يهتدى. وأما قوله: * (وأما ثمود فهديناهم) *، فليس منه لأن
المراد بالهداية فيه الدعوة، بدليل: * (فاستحبوا العمى على الهدى) *.
والثاني: لا يدل على المطاوعة، بدليل قوله: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) *.
وقوله: * (ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا) *، لأن التخويف حصل، ولم يحصل
143

للكفار خوف نافع يصرفهم إلى الإيمان; فإنه المطاوع للتخويف المراد بالآية الكريمة،
وعلى الأول تكون الفاء للتعقيب في الزمان، ويكون: " أخرجته فما خرج " حقيقة.
فائدة
[في قوله تعالى: " إنما أنت منذر من يخشاها "]
قالوا في قوله: * (إنما أنت منذر من يخشاها) *: إن التقدير " منذر إنذارا نافعا
من يخشاها ".
قال الشيخ عز الدين: ولا حاجة إلى هذا، لأن فعل وأفعل، إذا لم يترتب عليه
مطاوعة، كخوف وعلم وشبهه لا يكون حقيقة; لأن " خوف " إذا لم يحصل الخوف، و " علم "
إذا ليحصل العلم كان مجازا، و " منذر من يخشاها " يترتب عليه أثره، وهو الخشية،
فيكون حقيقة لمن يخشاها، فإذا ليس منذرا من لم يخش، لأنه لم يترتب عليه أثر. فعلى
هذا: * (إنما أنت منذر) * فيه جمع بين الحقيقة والمجاز لترتب أثره عليه، بالنسبة إلى
" من يخشى " دون " من لم يخش ".
احتمال الفعل للجزم والنصب
فمنه قوله تعالى: * (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) *، يحتمل أن
يكون ما بعد الفاء مجزوما، ويحتمل أن يكون منصوبا، وإذا كان مجزوما كان داخلا في
النهى، فيكون قد نهى عن الظلم، كما نهى عن قربان الشجرة، فكأنه قال: " لا تقربا
هذه الشجرة فلا تكونا من الظالمين ".
144

ومنه قوله تعالى: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق) *، فإنه يحتمل
أن يكون " تكتموا " مجزوما; فهو مشترك مع الأول في حرف النهى; والتقدير:
لا تلبسوا ولا تكتموا، أي لا تفعلوا هذا، كما في قولك: لا تأكل السمك وتشرب
اللبن، بالجزم. أي لا تفعل واحدا من هذين. ويحتمل أن يكون منصوبا، والتقدير:
لا تجمعوا بين هذين، ويكون مثل لا تأكل السمك وتشرب اللبن، والمعنى: لا تجمعوا
بين هذين الفعلين القبيحين، كما تقول لمن لقيته: أما كفاك أحدهما حتى جمعت بينهما!
وليس في هذا إباحة أحدهما. والأول أظهر.
وقوله: * (ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) *، أي ما لم يكن أحد
الأمرين: المس أو الفرض المستلزم; لعدم كل منهما، أي لا هذا ولا هذا; فإن وجد
أحدهما فعليكم الجناح، وهو المهر أو نصف المفروض، و " تفرضوا " مجزوم عطفا
على " تمسوهن ".
وقيل: نصب، و " أو " بمعنى " إلا أن ".
والصحيح الأول; ولا يجوز تقدير " لم " بعد " أو " لفساد المعنى، إذ يؤول إلى رفع
الجناح عند عدم المس مع الفرض وعدمه. وعند عدم الفرض مع المس وعدمه. وليس
كذلك; ولا يقدر فيما انتفى أحدهما، للزوم نفى الجناح عند نفى أحدهما ووجود الآخر،
فلا بد من المحافظة على أحدهما على الإبهام وانسحاب حكم " لم " عليه.
نظيره: * (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) *.
وقوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام) *:
145

وقوله تعالى: * (إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا
خاسرين) *، والوجه الجزم، ويجوز النصب.
وقوله تعالى: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله...) * الآية.
وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها
ولا تعضلوهن) *.
وقوله: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) *.
وقوله: * (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) *.
وقوله في آل عمران: * (يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) *.
وقوله في الأعراف: * (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) *.
وقوله في الأنفال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم
وأنتم تعلمون) *.
وقوله في سورة التوبة: * (وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل
ويتولوا) *.
وقوله: * (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن
رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) *.
وقوله في سورة يونس: * (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) *; يجوز أن يكون
معطوفا على: * (ليضلوا عن سبيلك) * فيكون منصوبا، ويجوز أن يكون منصوبا بالفاء
146

على جواب الدعاء، وأن يكون مجزوما، لأنه دعاء.
قوله في سورة يوسف: * (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم
وتكونوا من بعده) *.
وقوله: * (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من
قبلهم) *.
قوله في سورة هود: * (ثم فصلت من لدن حكيم خبير. ألا تعبدوا) * أي " بأن
لا تعبدوا " فيكون منصوبا; ويجوز جزمه لأنه نهى.
قوله في سورة النحل: * (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد
ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم) * يجوز عطف، " وتذوقوا " على " تتخذوا "
أو " فتزل " قبل دخول الفاء، فيكون مجزوما.
وقوله في سورة الإسراء: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) *، أي بألا تعبدوا،
أو على نهى.
وفيها: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) *.
قوله في سورة الكهف: * (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو
يعيدوكم) *.
وقوله في الحج: * (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله) *، يجوز أن يكون
لام كي أو لام الأمر، وفائدة هذا تظهر في جواز الوقف.
وقوله: * (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا) *، فيمن كسر
اللامات.
147

وقوله في النمل: * (ألا تعلوا على وائتوني مسلمين) *، أي بإن، أو نهى.
وقوله في العنكبوت: * (ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا) *.
وفى فاطر: * (أولم يسيروا في الأرض فينظروا) *.
وفى يس: * (ليأكلوا من ثمره) *، هل هي لام كي، أو لام الأمر؟
وفى المؤمن: * (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا) *.
وفى فصلت: * (تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا) *.
وفى الأحقاف: * (ألا تعبدوا إلا الله) *.
وفى القتال: * (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا) *.
ويدل على جواز النصب ظهوره في مثله، * (فتكون لهم قلوب) *.
وقوله: * (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم) *.
وقوله: * (ألا تطغوا في الميزان) * أي لئلا. أو مجزوم.
وقوله: * (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء) *.
وقوله: * (هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون) *، فإن * (يعتذرون) *
داخل مع الأول في النفي عند سيبويه، بدليل قوله: * (هذا يوم لا ينطقون) *، فإن كان
النطق قد نفى عنهم في ذلك اليوم فالاعتذار نطق، فينبغي أن يكون منفيا معطوفا على قوله:
148

* (ولا يؤذن لهم) *، ولو حمل على إضمار المبتدأ، - أي فهم يعتذرون - لجاز على أن
يكون المعنى في * (لا ينطقون) * أنهم وإن نطقوا فمنطقهم كلا نطق; لأنه لم يقع الموقع الذي
أرادوه، كقولهم: تكلمت ولم تتكلم.
وقوله: * (فلو أن لنا كرة) *، وعلى الأول يكون هذا قولا في أنفسهم من
غير نطق.
وقوله تعالى: * (ولكن ليطمئن قلبي) *، يجوز أن يكون لام كي، والفعل منصوب،
أو لام الأمر، والفعل مجزوم.
وقوله: * (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) *، فالظاهر أنه منصوب،
ويجوز أن يكون مجزوما، واللام زائدة، ومن نصب * (ويذرك) * عطفه على * (ليفسدوا) *.
رأى
إن كانت بصرية تعدت لواحد، أو علمية تعدت لاثنين; وحيث وقع بعد البصرية
منصوبا كان الأول مفعولها، والثاني حالا.
ومما يحتمل الأمرين قوله تعالى: * (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) *،
فإن كانت بصرية كان " الناس " مفعولا و " سكارى " حالا، وإن كانت علمية فهما
مفعولا ها.
وكذلك قوله تعالى: * (وترى كل أمة جاثية) *.
وقوله: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) *،
149

فهذه الجملة - أعني قوله: * (وجوههم مسودة) * - في موضع نصب، إما على الحال إن
كانت بصرية، أو مفعول ثان إن كانت قلبية.
واعلم أنه قد وقع في القرآن: * (ألم يروا كم أهلكنا) *، في بعض المواضع بغير
واو كما في الأنعام، وفى بعضها بالواو، وفى بعضها بالفاء * (أفلم يروا
وهذه الكلمة تأتى على وجهين:
أحدهما: أن تتصل بما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة، فيذكر بالألف والواو، ولتدل
الألف على الاستفهام، والواو، على عطف جملة على جملة قبلها. وكذلك الفاء; لكنها
أشد اتصالا مما قبلها.
والثاني: أن يتصل بما الاعتبار فيه بالاستدلال، فاقتصر على الألف دون الواو والفاء،
ليجري مجرى الاستئناف.
ولا ينتقض هذا الأصل بقوله في النحل: * (ألم يروا إلى الطير) *، لاتصالها
بقوله: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم) * وسبيلها الاعتبار بالاستدلال،
فبنى عليه * (ألم يروا إلى الطير) *.
وأما " أرأيت " فبمعنى " أخبرني " ولا يذكر بعدها إلا الشرط; وبعده الاستفهام،
على التقديم والتأخير; كقوله تعالى: * (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم...) *
الآية، قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا) *.
150

وقوله تعالى: * (أرأيت الذي يكذب بالدين) *.
وأما " رأيت " الواقعة في كلام الفقهاء، فهي كذلك، قال ابن خروف: إلا
أنهم يلجئون فيها، وجوابها: أرأيت إن كان كذا وكذا؟ كيف يكون كذا؟
بمعنى عدم الشرط. ثم الاستفهام بعده على نمط الآيات الشريفة، وهي معلقة عن
العمل بما بعدها من الآيات الكريمة، وكذلك الرؤية كيف تصرفت.
وأما قوله تعالى: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) *، فدخلها معنى
التعجب، كأنه قيل: ألم تعجب إلى كذا! فتعدت ب‍ " إلى " كأنه: ألم تنظر، ودخلت
" إلى " بمعنى التعجب، وعلق الفعل على جملة الاستفهام; وليست ببدل من " الرب "
تعالى; لأن الحرف لا يعلق.
وأما " أرأيتك " فقد وقعت هذه اللفظة في سورة الأنعام في موضعين وغيرها،
وليس لها في العربية نظير; لأنه جمع فيها بين علامتي خطاب، وهما التاء والكاف، والتاء
اسم بخلاف الكاف; فإنها عند البصريين حرف يفيد الخطاب، والجمع بينهما يدل
على أن ذلك تنبيها على مبناها عليه من مرتبة، وهو ذكر الاستبعاد بالهلاك، وليس فيما
سواها ما يدل على ذلك، فاكتفى بخطاب واحد.
قال أبو جعفر بن الزبير: الإتيان بأداة الخطاب بعد الضمير المفيد لذلك تأكيد
151

باستحكام غفلته; كما تحرك النائم باليد، والمفرط الغفلة باليد واللسان; ولهذا حذفت
الكاف في آية يونس; لأنه لم يتقدم قبلها ذكر صمم ولا بكم يوجب تأكيد
الخطاب، وقد تقدم قبلها قوله: * (قل من يرزقكم من السماء والأرض. أم من
يملك السمع والأبصار) * إلى ما بعدهن، فحصل تحريكهم وتنبيههم بما لم يبق بعده
إلا التذكير بعذابهم. انتهى.
وقال ابن فارس في قوله تعالى: * (أرأيتك هذا الذي كرمت على) * قال:
البصريون: هذه الكاف [زائدة، زيدت لمعنى المخاطبة، قال محمد بن يزيد: وكذلك
رويدك زيدا، قال: والدليل على ذلك أنك إذا قلت: أرأيتك زيدا، فإنما هي أرأيت
زيدا؟ لأن الكاف] لو كانت اسما استحال أن تعدى " أرأيت " إلى مفعولين،
والثاني هو الأول. يريد قولهم. " أرأيت زيدا قائما " لا يعدى إلى " رأيت " إلا إلى مفعول
هو " زيد " ومفعول آخر هو " قائم "; فالأول هو الثاني.
وقال غيره: من جعل الأداة المؤكد بها الخطاب في " أرأيتكم " ضمير لم يلزمه
اعتراض بتعدي فعل الضمير المتصل إلى مضمره المتصل; لأن ذلك جائز في باب الظن،
وفى فعلين من غير باب ظننت; وهما " فقدت " و " عدمت "، وكذلك تعدى فعل الظاهر
إلى مضمره المتصل جائز في الأفعال المذكورة; والآيات المذكورة من باب الظن، لأن
المراد ب‍ " رأيت " رؤية القلب، فهي من المستثنى; وإنما الممتنع مطلقا تعدى
152

فعل المضمر المتصل إلى ظاهره، فلا اختلاف في منع هذا من كل الأفعال.
وأما من جرد أداة الخطاب المؤكد بها للحرفية - وهو قول الجمهور - فلا كلام في ذلك.
وقد اختلف في موضع الكاف من هذا اللفظ على أقوال:
قال سيبويه: لا موضع لها.
وقال السكاكي: موضعها نصب.
وقال الفراء: رفع.
* * *
إذا علمت هذا، فلها موضعان: أحدهما أن تكون بمعنى " أخبرني " فلا تقع إلا على
اسم مفرد أو جملة شرط، كقوله: * (أرأيت إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم...) * الآية،
ولا يقع الشرط; إلا ماضيا، لأن ما بعده ليس بجواب له، وإنما هو معلق ب‍ " أرأيتك "، وجواب
الشرط; إما محذوف للعلم به، وإما للاستفهام مع عامله. وإذا ثنى هذا أو جمع لحقت بالتثنية
والجمع الكاف، وكانت التاء مفردة بكل حال.
قال السيرافي: يجوز أن يكون إفرادهم للتاء، استغناء بتثنية الكاف وجمعها، لأنها
للخطاب، وإنما فعلوا ذلك للفرق بين " أرأيت " بمعنى " أخبرني " وغيرها إذا كانت
بمعنى " علمت ".
والثاني: تكون فيه بمعنى " انتبه " كقولك: أرأيت زيدا فإني أحبه، أي انتبه له;
فإني أحبه; ولا يلزمه الاستفهام.
* * *
153

وقد يحذف الكلام الذي هو جواب للعلم به فلا يذكر، كقوله تعالى: * (يا قوم أرأيتم
إن كنت على بينة من ربى ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى
ما أنها كم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله) *، فلم
يأت بجواب.
وأتى في موضع آخر بالجواب ولم يأت بالشرط، قال تعالى: * (أفرأيت من اتخذ إلهه
هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه) *
ف‍ " من " الأول بمنزلة " الذي ".
تنبيه
قال سيبويه: لا يجوز إلغاء " أرأيت " كما يلغى: علمت أزيد عندك أم عمرو؟
ولا يجوز هذا في " أرأيت " ولا بد من النصب إذا قلت: " أرأيت زيد أبو من هو "؟ قال:
لأن دخول معنى " أخبرني " فيها لا يجعلها بمنزلة أخبرني في جميع أحوالها.
قال السهيلي: وظاهر القرآن يقتضى خلاف قوله، وذلك أنها في القرآن ملغاة، لأن
الاستفهام مطلوبها، وعليه وقع قوله: * (أرأيت إن كذب وتولى. ألم يعلم) *، وقوله
* (ألم يعلم) *، استفهام، وعليه وقعت " أرأيت " وكذلك " أرأيتم " و " أرأيتكم "
في الأنعام، والاستفهام واقع بعدها.
ونحو: * (هل يهلك إلا القوم الظالمون) * و * (الفاسقون) *.
154

وهذا هو الذي منع سيبويه في " أرأيت " و " أرأيتك " ولا يقال: " أرأيتك
أبو من أنت "؟ قال: لكن الذي قال سيبويه صحيح، لكن إذا ولى الاستفهام
" أرأيت " ولم يكن لها مفعول سوى الجملة.
وأما في هذه المواضع التي في التنزيل فليست الجملة المستفهم عنها هي مفعول " أرأيت "،
ولم يكن لها مفعول محذوف يدل عليه الشرط، ولا بد من الشرط بعدها في هذه الصورة،
لأن المعنى " أرأيتم صنيعكم إن كان كذا وكذا "؟ كما تقول: " أرأيت إن لقيت العدو
أتقاتل أم لا؟ "; تقديره: أرأيت رأيك وصنعك إن لقيت العدو؟ فحذف الشرط وهو " إن "
دال على ذلك المحذوف، ومرتبط به، والجملة المستفهم عنها كلام مستأنف منقطع; إلا أن
فيها زيادة بيان لما يستفهم عنه، ولو زال الشرط ووليها الاستفهام لقبح، كما قال سيبويه
وغيره في " علمت "، وهل " علمت "، وهل " رأيت " وإنما يتجه مع " أرأيت " خاصة،
وهي التي دخلها معنى " أخبرني ".
علم العرفانية
لا تتعلق إلا بالمعاني; نحو: * (لا تعلمون شيئا) *.
فأما نحو قوله تعالى: * (لا تعلمهم نحن نعلمهم) *، وقوله: * (فليعلمن الله الذين
صدقوا وليعلمن الكاذبين) * فالتقدير " لا تعلم خبرهم نحن نعلم خبرهم "، فليعلمن الله
صدق الذين صدقوا وليعلمن الله نفاق المنافقين "، فحذف المضاف.
وذكر ابن مالك أنها تختص باليقين، وذكر غيره أنها تستعمل في الظن أيضا، بدليل
قوله: * (فإن علمتموهن مؤمنات) *.
وله أن يقول: العلم على حقيقيته. والمراد بالإيمان التصديق اللساني.
155

ظن
أصلها للاعتقاد الراجح، كقوله تعالى: * (إن ظنا أن يقيما) *.
وقد تستعمل بمعنى اليقين; لأن الظن فيه طرف من اليقين، لولاه كان جهلا، كقوله
تعالى: * (يظنون أنهم ملاقو ربهم) *، * (إني ظننت أنى ملاق) *، * (وظن أنه
الفراق) *، * (ألا يظن أولئك) *، وللفرق بينهما في القرآن ضابطان:
أحدهما: أنه حيث وجد الظن محمودا مثابا عليه، فهو اليقين، وحيث وجد مذموما
متوعدا بالعقاب عليه، فهو الشك.
الثاني: أن كل ظن يتصل بعده " إن " الخفيفة فهو شك، كقوله: * (إن ظنا أن
يقيما حدود الله) *. وقوله: * (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول) *.
وكل ظن يتصل به " إن " المشددة، فالمراد به اليقين، كقوله: * (إني ظننت أنى
ملاق حسابيه) *، * (وظن أنه الفراق) *.
والمعنى فيه أن المشددة للتأكيد، فدخلت على اليقين، وأن الخفيفة بخلافها،
فدخلت في الشك.
مثال الأول، قوله سبحانه: * (وعلم أن فيكم ضعفا) * ذكر ب‍ " أن " وقوله:
* (فاعلم أنه لا اله إلا الله) *.
ومثال الثاني: * (وحسبوا ألا تكون فتنة) *، والحسبان الشك.
فإن قيل: يرد على هذا الضابط قوله تعالى: * (وظنوا أن لا ملجأ من الله
إلا إليه) *.
156

قيل: لأنها اتصلت بالفعل.
فتمسك بهذا الضابط، فإنه من أسرار القرآن!
ثم رأيت الراغب قال في تفسير سورة البقرة:
الظن أعم ألفاظ الشك واليقين، وهو اسم لما حصل عن أمارة، فمتى قويت أدت إلى
العلم، ومتى ضعفت جدا لم تتجاوز حد الوهم، وأنه متى قوى استعمل فيه " أن " المشددة
و " أن " المخففة منها، ومتى ضعف استعمل معه " إن " المختصة بالمعدومين من الفعل،
نحو ظننت أن أخرج وأن يخرج، فالظن إذا كان بالمعنى الأول محمود، وإذا كان بالمعنى
الثاني فمذموم.
فمن الأول: * (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) *.
ومن الثاني: * (إن هم إلا يظنون) *، وقوله: * (وإن الظن لا يغنى من الحق
شيئا) *.
فائدة
لا يجوز الاقتصار في باب " ظن " على أحد المفعولين; إلا أن يكون بمنزلة أنهم قالوا:
قوله تعالى: * (وما هو على الغيب بضنين) *، قرأ الحرميان وابن كثير بالظاء، وهو
" فعيل " بمعنى " مفعول " والضمير هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وقرأه الباقون بالضاد، وهو
بمعنى فاعل، وفيه ضمير هو فاعله، والمعنى: " بخيل على الغيب " فلا يمنعه كما تفعله الكهان،
والمعنى على القراءة: الأولى ليس بمتهم على الغيب; لأنه الصادق.
وأما قوله: * (وتظنون بالله الظنونا) * فإنها بمنزلتها في قولك: " نزلت بزيد " فالمعنى ظني به.
157

شعر
ومنه شعر، بمعنى " علم " ومصدره " شعرة " بكسر الشين، كالفطنة، وقالوا: ليت
شعري، فحذفوا التاء مع الإضافة للكثرة. قال الفارسي: وكأنه مأخوذ من الشعار، وهو
ما يلي الجسد، فكأن شعرت به، علمته علم حسن، فهو نوع من العلم، ولهذا
لم يوصف به الله.
وقوله تعالى في صفة الكفار: * (وهم لا يشعرون) *، أبلغ في الذم للبعد عن الفهم من
وصفهم بأنهم لا يعلمون، فإن البهيمة قد تشعر بحيث كانت تحس، فكأنهم وصفوا بنهاية
الذهاب عن الفهم.
وعلى هذا قال تعالى: * (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء) *،
إلى قوله: * (ولكن لا تشعرون) * ولم يقل " لا تعلمون " لأن المؤمنين إذا أخبرهم الله
تعالى بأنهم أحياء، علموا أنهم أحياء، فلا يجوز أن ينفى عنهم العلم ولكن يجوز أن يقال:
* (لا تشعرون) *، لأنه ليس كل ما علموه يشعرون به، كما أنه ليس كل ما علموه يحسونه بحواسهم،
فلما كانوا لا يعلمون بحواسهم حياتهم، وأنهم علموها بإخبار الله، وجب أن يقال: * (لا يشعرون) *،
دون " لا يعلمون ".
عسى ولعل
من الله تعالى واجبتان، وإن كانتا رجاء وطمعا في كلام المخلوقين، لأن الخلق هم الذين
يعرض لهم الشكوك والظنون، والبارئ منزه عن ذلك.
والوجه في استعمال هذه الألفاظ أن الأمور الممكنة لما كان الخلق يشكون فيها
158

ولا يقطعون على الكائن منها، وكان الله يعلم الكائن منها على الصحة صارت لها نسبتان:
نسبة إلى الله تعالى، تسمى نسبة قطع ويقين، ونسبة إلى المخلوق، وتسمى نسبة شك
وظن، فصارت هذه الألفاظ لذلك ترد تارة بلفظ القطع بحسب ما هي عليه عند الله،
كقوله: * (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) *.
وتارة بلفظ الشك بحسب ما هي عليه عند المخلوقين، كقوله: * (فعسى الله أن يأتي
بالفتح أو أمر من عنده) *، * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *.
وقوله: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) *، وقد علم الله
حين أرسلهما ما يفضى إليه حال فرعون، لكن ورد اللفظ بصورة ما يختلج في نفس
موسى وهارون من الرجاء والطمع; فكأنه قال: انهضا لا إليه وقولا في نفوسكما، لعله
يتذكر أو يخشى.
ولما كان القرآن قد نزل بلغة العرب جاء على مذاهبهم في ذلك، والعرب قد تخرج
الكلام المتيقن في صورة المشكوك; لأغراض، فتقول: لا تتعرض لما يسخطني، فلعلك
إن تفعل ذلك ستندم; وإنما مراده أنه يندم لا محالة، ولكنه أخرجه مخرج الشك تحريرا
للمعنى، ومبالغة فيه; أي أن هذا الأمر لو كان مشكوكا فيه لم يجب أن تتعرض له; فكيف
وهو كائن لا شك فيه!
وبنحو من هذا فسر الزجاج قوله تعالى: * (ربما يود الذين كفروا لو كانوا
مسلمين) *.
وأما قوله: * (لعلى أبلغ الأسباب) *، فاطلاعه إلى الإله مستحيل، فبجهله
اعتقد في المستحيل الإمكان; لأنه يعتقد في الإله الجسمية والمكان.
159

ونص ابن الدهان في لعل جواز استعماله في المستحيل، محتجا بقوله: " لعل زمانا
تولى يعود ".
وقال أيضا: كل ما وقع في القرآن من " عسى " فاعلها الله تعالى، فهي واجبة.
وقال قوم: إلا في موضعين، قال تعالى: * (عسى ربه إن طلقكن) *، ولم يطلقهن
ولم يبدل بهن.
وقوله: * (عسى ربكم أن يرحمكم) *، وهذه في بنى النضير، وقد سباهم النبي
صلى الله عليه وسلم وقتلهم وأبادهم.
وقال أيضا: وهذا عندي متأول، لأن الأول تقديره: " إن طلقكن يبدله "
وما فعل، فهذا شرط يقع فيه الجزاء ولم يفعله، والثاني تقديره: " إن عدتم رحمكم "،
وهم أصروا، وعسى على بابها.
قال: وعسى ماضي اللفظ والمعنى: لأنه طمع، وذلك حصل في شئ مستقبل.
وقال قوم: ماضي اللفظ مستقبل في المعنى، لأنه أخبر عن طمع، يريد أن يقع.
* * *
واعلم أن عسى تستعمل في القرآن على وجهين:
أحدهما: ترفع اسما صريحا ويؤتى بعده بخبر، ويلزم كونه فعلا مضارعا، نحو عسى
زيد أن يقوم، فلا يجوز " قائما " لأن اسم الفاعل لا يدل على الزمان الماضي، قال الله
تعالى: * (فعسى الله أن يأتي بالفتح) * فيكون " أن والفعل " في موضع نصب،
ب‍ " عسى ".
160

وقال الكوفيون: في موضع رفع بدل.
ورد بأنه لا يجوز تركه، ويجوز تقديمه عليه.
الثاني: أن يكون المرفوع بها " أن والفعل "، وهو عسى أن يقوم زيد، فلا يفتقر هنا
إلى منصوب.
ونظيره: * (وحسبوا ألا تكون فتنة) *.
ومنه قوله تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * لا يجوز رفع " ربك "
ب‍ " عسى " لئلا يلزم الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي، وهو " ربك "، لأن " مقاما
محمودا " منصوب ب‍ " يبعثك ".
وكذلك كقوله: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) *، لأن الضميرين
متصلان ب‍ " تكرهوا " و " تحبوا "، فلا يكون في " عسى " ضمير.
اتخذ
قال تعالى: * (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) *. قال الفارسي: ولا أعلم " تخذت "
يتعدى إلا إلى واحد.
وقيل: أصل " اتخذت " " تخذت "، فأما " اتخذت " فعلى ثلاثة أضرب:
أحدها: ما يتعدى به إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: * (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) *.
* (أم اتخذ مما يخلق بنات) *.
* (واتخذ من دونه آلهة) *.
161

* (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا) *.
* (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) *.
والثاني: ما يتعدى لمفعولين، والثاني منهما الأول في المعنى.
وهما إما مذكوران، كقوله تعالى: * (اتخذوا أيمانهم جنة) *.
وقال: * (لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء) *.
* (فاتخذتموهم سخريا) *.
وأما مع حذف الأول، كقوله: * (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله
قربانا آلهة) *، فمفعول " اتخذوا " الأول الضمير المحذوف الراجع إلى الذين، والثاني
" آلهة " و " قربانا " على الحال.
قال الكواشي: ولو نصب " قربانا " مفعولا ثانيا و " آلهته " بدلا منه
فسد المعنى.
وإما مع حذف الثاني كقوله: * (اتخذتم العجل) *.
* (باتخاذكم العجل) *.
* (اتخذوا وكانوا ظالمين) *.
* (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا) * تقديره في الجميع:
اتخذوه آلهة; لأن نفس اقتناء العجل لا يلحقه الوعيد الشديد، فيتعين تقدير آلهة.
الثالث: ما يجوز فيه الأمران، كقوله تعالى: * (واتخذوا من مقام إبراهيم
مصلى) *.
162

فإن جوزنا زيادة " من " في الإيجاب كان من المتعدى لاثنين، وإن منعنا
كان لواحد.
ونظيره " جعلت "، قال: * (وجعل الظلمات والنور) *، أي خلقهما.
فإذا تعدى لمفعولين كان الثاني الأول في المعنى، كقوله: * (واجعلوا بيوتكم قبلة) *،
* (وجعلنا أئمة يدعون إلى النار) *، * (وجعلنا منهم أئمة يهدون
بأمرنا) *.
أخذ
تجئ بمعنى " غصب "، ومنه: " من أخذ قيد شبر من أرض طوق من سبع
أرضين ".
وبمعنى " عاقب "، كقوله تعالى: * (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة
إن أخذه أليم شديد) *.
* (أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) *.
* (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) *.
* (وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس) *.
* (فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر) *.
* (ولو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب) *.
* (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا) *.
163

و * (لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) *.
* (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) *.
وتجئ للمقاربة، قالوا: أخذ يفعل كذا، كما قالوا: جعل يقول، وكرب يقول.
وتجئ قبل القسم، كقوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب
لتبيننه للناس ولا تكتمونه) *.
* (وإذ أخذنا ميثاقكم) *.
وبمعنى " اعمل "، كقوله تعالى: * (خذوا ما آتيناكم بقوة) *، أي اعملوا بما
أمرتم به، وانتهوا عما نهيتهم عنه بجد واجتهاد.
سأل
عمرو تتعدى لمفعولين، كأعطى، ويجوز الاقتصار على أحدهما.
ثم قد تتعدى بغير حرف، كقوله تعالى: * (واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا) *.
* (فاسألوا أهل) *.
وقد تتعدى بالحرف; إما بالباء كقوله: * (سأل سائل بعذاب واقع) *.
وإما ب‍ " من "، كقولك: سل عن زيد. وكذا: * (واسألهم عن القرية) *.
والمتعدية لمفعولين ثلاثة أضرب.
أحدها: أن تكون بمنزلة " أعطيت " كقولك: سألت زيدا بعد عمرو حقا، أي
استعطيته، أو سألته أن يفعل ذلك.
164

والثاني: بمنزلة: اخترت الرجال زيدا، كقوله تعالى: * (ولا يسأل حميم
حميما) *، أي عن حميم لذهوله عنه.
والثالث: أن يقع موقع الثاني منهما استفهام، كقوله تعالى: * (سل بني إسرائيل
كم آتيناهم) *.
* (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة
يعبدون) *.
وأما قوله تعالى: * (سأل سائل بعذاب واقع) *، فالمعنى: سأل سائل النبي
صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب واقع، فذكر المفعول الأول، وسؤالهم عن العذاب
إنما هو استعجالهم له كاستبعادهم لوقوعه، ولردهم ما يوعدون به منه.
وعلى هذا: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم
المثلات) *.
وأما قوله تعالى: * (واسألوا الله من فضله) *، فيجوز أن تكون " من " فيه موضوع
المفعول الثاني، وأن يكون المفعول الثاني محذوفا، والصفة قائمة مقامه.
وأما قوله تعالى: * (يسألونك كأنك حفى عنها) * فيحتمل أن " عنها " متعلقة
بالسؤال، كأنه: يسألونك عنها كأنك حفى عنها، فحذف الجار والمجرور، فحسن ذلك لطول
الكلام. ويجوز أن يكون * (عنها) * بمنزلة " بها "، وتتصل بالحفاوة.
وعد
ولم يتعدى لمفعولين، يجوز الاقتصار على أحدهما كأعطيته، وليس كظننت، قال
165

تعالى: * (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) *، ف‍ " جانب " مفعول ثان، ولا يكون
ظرفا لاختصاصه، أي وعدناكم إتيانه، أو مكثا فيه.
وقوله تعالى: * (وعد الله مغانم كثيرة تأخذونها) *، فالغنيمة تكون الغنم.
فإن قلت: الغنم حدث لا يؤخذ; إنما يقع الأخذ على الأعيان دون المعاني!
قلت: يجوز أن يكون سمى باسم المصدر، كالخلق والمخلوق، أو يقدر محذوف، أي
تمليك مغانم.
فأما قوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة) *،
وقوله: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم) * فإن الفعل
لم يتعد فيه إلى مفعول ثان; ولكن قوله: * (ليستخلفنهم) * ولهم * (مغفرة) * تفسير للوعد،
كما أن قوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * تبيين للوصية في قوله: * (يوصيكم الله
في أولادكم) *.
وأما قوله تعالى: * (ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) * * (إن الله وعدكم
وعد الحق) *، فيحتمل انتصاب الواحد بالمصدر، أو بأنه المفعول الثاني، وسمى الموعود به
الوعد، كالمخلوق الخلق.
وأما قوله تعالى: * (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) *،
و * (إحدى) * في موضع نصب مفعول ثان، و * (أنها لكم) * بدل منه، أي إتيان إحدى
الطائفتين أو تمليكه، والطائفتان العير والنصر.
وأما قوله: * (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم) * فمن قدر في أن الثانية البدل،
166

فينبغي أن يقدر محذوفا، ليتم الكلام، فيصح البدل، والتقدير: أيعدكم إرادة أنكم
إذا متم، ليكون اسم الزمان خبرا عن الحدث، ومن قدر في الثانية البدل لم يحتج إلى ذلك.
وأما قوله: * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) *،
فالجملة في موضع جر صفة للنكرة، وقد عاد الضمير فيها إلى الموصوف، والفعل متعد
إلى واحد.
وأما قوله تعالى: * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) *، فلا يجوز أن يكون " ثلاثين "
ظرفا، لأن الوعد ليس في كلها بل في بعضها، فيكون مفعولا ثانيا.
ود
قال أبو مسلم الأصبهاني بمعنى " تمنى " يستعمل معها " لو " و " أن "، وربما
جمع بينهما نحو: ودوا لو أن فعل، ومصدره الودادة، والاسم منه ود. وقد يتداخلان
في الاسم والمصدر.
وقال الراغب: إذا كان " ود " بمعنى أحب لا يجوز إدخال " لو " فيه أبدا.
وقال على بن عيسى: إذا كان بمعنى " تمنى " صلح للمضي والحال والاستقبال، وإذا
كان بمعنى المحبة لم يصلح للماضي; لأن الإرادة هي استدعاء الفعل، وإذا كان للماضي لم يجز
" أن "، وإذا كان للحال أو للاستقبال جاز " أن " و " لو ".
وفيما قاله نظر، لأن " أن " توصل بالماضي; نحو سرني أن قمت.
167

قلت: فكان الأحسن الرد عليه بكلامه، وهو أنه جوز إذا كان بمعنى الحال دخول
" أن " وهي للمستقبل، فقد خرجت عن موضعها.
أفعل التفضيل
فيه قواعد:
* * *
الأولى: إذا أضيف إلى جنسه لم يكن بعضه، كقولك زيد أشجع الأسود وأجود
السحب، فيصير المعنى زيد أشجع من الأسود، وأجود من السحب; وعليه قوله تعالى:
* (خير الرازقين) *، و * (أحكم الحاكمين) *، و * (أحسن الخالقين) *.
أي خير من كل من تسمى برازق، وأحكم من كل من تسمى بحاكم. كذا قاله
أبو القاسم السعدي.
قال الشيخ أثير الدين: الذي تقرر عن الشيوخ أن " أفعل " هذه لا تضاف
إلا ويكون المضاف بعض المضاف إليه، فلا يقال هذا الفرس أسبق الحمير; لأنه ليس
بعض الحمير; وعلى هذا بنى البصريون منع " زيد أفضل إخوته "، وأجازوا " أفضل
الإخوة "، إلا إذا أخرجت عن معناها; فإنه قد يجوز ذلك عن بعضهم.
* * *
الثانية: إذا ذكر بعد " أفعل " جنسه، وواحد من آحاد جنسه، وجب إضافته إليه،
كقولك: زيد أحسن الرجال، وأحسن رجل قال تعالى....
وإذا ذكر بعد ما هو من متعلقاته، وجب نصبه على التمييز، نحو زيد أحسن وجها،
وأغزر علما.
168

وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى: * (أو أشد خشية) *، وقوله: * (أزكى
طعاما) *، فقد أضيف إلى غير جنسه، وانتصب.
وقد تأول العلماء هذا حتى رجعوا به إلى جعل " أشد " لغير الخشية، فقال الزمخشري
معنى: * (يخشون الناس كخشية الله) *، أي مثل أهل خشية الله، أو مثل قوم أشد
خشية من أهل خشية الله.
قال ابن الحاجب: وعلى مثل هذا يحمل ما خالف هذه القاعدة.
* * *
الثالثة: الأصل فيه الأفضلية على ما أضيف إليه; وأشكل على ذلك قوله تعالى: * (وما نريهم
من آية إلا هي أكبر من أختها) *، لأن معناه: ما من آية من التسع إلا وهي
أكبر من كل واحدة منها، فاضلة ومفضولة، في حالة واحدة.
وأجاب الزمخشري بأن الغرض وصفهن بالكبر من غير تفاوت فيه، وكذلك
العادة في الأشياء التي تتفاوت في الفضل التفاوت اليسير، أن تختلف [آراء] الناس في
تفضيلها، وربما اختلف آراء الواحد، فيها كقول الحماسي:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم * مثل النجوم التي يهدى بها الساري
وأجاب ابن الحاجب، بأن المراد الأعلى أكبر من أختها عندهم، وقت حصولها،
لأن لمشاهدة الآية في النفس أثر عظيما ليس للغائب عنها.
* * *
الرابعة: قالوا: لا ينبنى من العاهات، فلا يقال: ما أعور هذه الفرس! وأما قوله تعالى:
169

* (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) *، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه من عمى القلب الذي يتولد من الضلالة، وهو ما يقبل الزيادة والنقص،
لا من عمى البصر الذي يحجب المرئيات عنه.
وقد صرح ببيان هذا المعنى قوله تعالى: * (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى
القلوب التي في الصدور) * وعلى هذا فالأول اسم فاعل.
والثاني: أفعل تفضيل، من فقد البصيرة.
والثاني أنه من عمى العين، والمعنى: من كان في هذه أعمى من الكفار; فإنه يحشر
أعمى. فلا يكون " أفعل تفضيل ".
ومنهم من حمل الأول على عمى القلب، والثاني على فقد البصيرة، وإليه ذهب
أبو عمرو، فأمال الأول وترك الإمالة في الثاني; لما كان اسما، والاسم أبعد من الإمالة.
* * *
الخامسة: يكثر حذف المفضول إذا دل عليه دليل، وكان " أفعل " خبرا، كقوله
تعالى: * (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) *.
* (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا) *.
* (والله أعلم بما وضعت) *.
* (وما تخفى صدورهم أكبر) *.
* (إنما عند الله هو خير لكم) *.
* (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) *.
* (أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) *.
170

* (فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) *.
وقد يحذف المفضول و " أفعل " ليس بخبر، كقوله تعالى: * (فإنه يعلم السر وأخفى) *.
* * *
السادسة: قد يجئ مجردا من معنى التفضيل، فيكون للتفضيل لا للأفضلية.
ثم هو تارة يجئ مؤولا باسم الفاعل، كقوله تعالى: * (هو أعلم بكم إذا أنشأكم
من الأرض) *.
ومؤولا بصفة مشبهة، كقوله تعالى: * (وهو أهون عليه) *.
ف‍ " أعلم " هاهنا بمعنى " عالم بكم "، إذ لا مشارك لله تعالى في علمه بذلك، " وأهون
عليه " بمعنى هين، إذ لا تفاوت في نسبة المقدورات إلى قدرته تعالى.
وقوله تعالى: * (أفمن يلقى في النار خير) *.
وقوله: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) *.
أو لفظا لا معنى، كقوله تعالى: * (نحن أعلم بما يستمعون به) *.
و * (نحن أعلم بما يقولون) *.
وأما قوله تعالى: * (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) * فمعناه: الضرر بعبادته;
أقرب من النفع بها.
فإن قيل: كيف قال: * (أقرب من نفعه) *، ولا نفع من قبله البتة؟.
قيل: لما كان في قوله: * (لمن ضره أقرب من نفعه) * تبعيد لنفعه، والعرب تقول
171

لما لم يصح في اعتقادهم: هذا بعيد - جاز الإخبار ب‍ " بعد " نفع الوثن، والشاهد له قوله
تعالى: حكاية عنهم: * (أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) *.
* * *
السابعة: " أفعل " في الكلام على ثلاثة أضرب:
مضاف، كقوله تعالى: * (أليس الله بأحكم الحاكمين) *.
ومعرف بالام، نحو: * (سبح اسم ربك الأعلى) * و * (ليخرجن الأعز
منها الأذل) *.
وخال منهما. ويلزم اتصاله ب‍ " من " التي لابتداء الغاية جارة للمفضل عليه،
كقوله تعالى: * (أنا أكثر منك مالا) *.
وقد يستغنى بتقديرها عن ذكرها، كقوله تعالى: * (وأعز نفرا) *.
ويكثر ذلك إذا كان أفعل التفضيل خبرا، كقوله: * (والآخرة خير وأبقى) *.
وحيث أضيف إنما يضاف إلى جمع معرف، نحو " أحكم الحاكمين "، ولا يجوز " زيد
أفضل رجل " ولا " أفضل رجال "، لأنه لا فائدة فيه، لأن كل شخص لا بد أن يكون
جماعة يفضلها، وإنما الفائدة في أن تقول: " أفضل الرجال ".
فأما قوله تعالى: * (ثم رددناه أسفل سافلين) * فجوابه أنه غير مضاف إليه تقديرا،
بل المضاف إليه محذوف، وقامت صفته مقامه، وكأنه قال: " أسفل قوم سافلين ".
ولا خلاف أنه يضاف إلى اسم الجمع معرفا ومنكرا، نحو أفضل الناس والقوم،
وأفضل ناس أفضل قوم.
فإن قيل: لم أجازوا تنكير هذا ولم يجيزوا ذلك في الجمع؟
172

قلت: لأن " أفضل القوم " ليس من ألفاظ الجموع، بل من الألفاظ المفردة فخففوه
بترك الألف واللام الثانية، إذا كان " أفعل " بالألف واللام أو مضافا جاز تثنيته وجمعه،
قال تعالى: * (وأتبعك الأرذلون) * و * (بالأخسرين أعمالا) *.
وقال في المفرد: * (إذ انبعث أشقاها) *.
وقال في الجمع: * (أكابر مجرميها) *، و * (إلا الذين هم أراذلنا) *.
وتقول في المؤنث " هذه الفضلى "، قال تعالى: * (إنها لإحدى الكبر) *.
* (فأولئك لهم الدرجات العلى) *.
وحكم " فعلى " حكم " أفعل " لا يستعمل بغير " من " إلا مضافا أو معرفا بأل.
وأما قوله: * (وأخر متشابهات) *، فقالوا: إنه على تقدير " من " أي وأخر
منها متشابهات.
تنبيه
لفظ " سواء "
سواء أصله بمعنى الاستواء، وليس له اسم يجرى عليه، يقال: استوى استواء،
وساواه مساواة لا غير; فإذا وقع صفة كان بمعنى مستو، ولهذا تقول: هما سواء، هم سواء،
كما تقول: هما عدل، وهم عدل; والسواء التام، ومنه درهم سواء، أي تام.
ومنه قوله تعالى: * (في أربعة أيام سواء) *، أي مستويات. ومن نصب فعلى
173

المصدر، أي استوت استواء، كذا قال سيبويه. وجوز غيره أن يكون حالا من النكرة.
ويجئ السواء بمعنى الوسط، كقوله تعالى: * (إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) *
أي عدل، وهو الحق.
قال ابن أبي الربيع: وسواء لا يرفع الظاهر إلا إذا كان معطوفا على المضمر في سواء
وهو مرفوع بسواء، وهو مما جاز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه.
* * *
174

النوع السابع والأربعون
في الكلام على المفردات من الأدوات
والبحث عن معاني الحروف; مما يحتاج إليه المفسر لاختلاف مدلولها
ولهذا توزع الكلام على حسب مواقعها، وترجح استعمالها في بعض المحال على بعض،
بحسب مقتضى الحال.
كما في قوله تعالى: * (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) *، فاستعملت
" على " في جانب الحق، و " في " في جانب الباطل; لأن صاحب الحق كأنه مستعل
يرقب نظره كيف شاء، ظاهرة له الأشياء، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام،
ولا يدرى أين توجه!
وكما في قوله تعالى: * (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر
أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه) *، فعطف هذه الجمل الثلاث بالفاء،
ثم لما انقطع نظام الترتيب عطف بالواو، فقال تعالى: * (وليتلطف) *، إذ لم يكن
التلطف مترتبا على الإتيان بالطعام، كما كان الإتيان منه مرتبا على التوجه في طلبه.
والتوجه في طلبه مترتبا على قطع الجدال في المسألة عن مدة اللبث، بتسليم العلم له سبحانه.
وكما في قوله تعالى: * (إنما الصدقات للفقراء...) * الآية; فعدل عن اللام
175

إلى " في " في الأربعة الأخيرة، إيذانا بأنهم أكثر استحقاقا للتصدق عليهم ممن سبق ذكره
باللام; لأن " في " للوعاء، فنبه باستعمالها على أنهم أحقاء بأن يجعلوا مظنة لوضع الصدقات
فيهم: كما يوضع الشئ في وعائه مستقرا فيه. وفى تكرير حرف الظرف داخلا على
" سبيل الله " دليل على ترجيحه على الرقاب والغارمين.
قال الفارسي: وإنما قال: * (وفى الرقاب) *، ولم يقل " والرقاب " ليدل على أن
العبد لا يملك.
وفيه نظر; بل ما ذكرناه من الحكمة فيه أقرب
وكما في قوله تعالى: * (وقد أحسن بي) *، فإنه يقال: أحسن بي وإلى; وهي
مختلفة المعاني وأليقها منه بيوسف عليه السلام " بي "، لأنه إحسان درج فيه دون أن يقصد
الغاية التي صار إليها.
وكما في قوله تعالى: * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) *، ولم يقل " على "
كما ظن بعضهم; لأن " على " للاستعلاء، والمصلوب لا يجعل على رؤوس النخل; وإنما
يصلب في وسطها، فكانت " في " أحسن من " على ".
وقال: * (كل من عليها فان) *، ولم يقل " في الأرض "; لأن عند الفناء ليس
هناك حال القرار والتمكين.
وقال: * (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) * وقال: * (لا تمش
في الأرض مرحا) *، وما قال " على الأرض "; وذلك لما وصف العباد بين أنهم
لم يوطنوا أنفسهم في الدنيا; وإنما هم عليها مستوقرون. ولما أرشده ونهاه عن فعل التبختر،
قال: لا تمش فيها مرحا، بل أمش عليها هونا.
176

وقال تعالى: * (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) *.
وقال ابن عباس: الحمد الله الذي قال: * (عن صلاتهم ساهون) *، ولم يقل " في صلاتهم ".
وقال صاحب الكشاف في قوله تعالى: * (ومن بيننا وبينكم حجاب) *:
فلو سقطت " من " جاز كون الحجاب في الوسط، وإن تباعدت. وإذا أتيت ب‍ " من "
أفادت أن الحجاب ابتداء من أول ما ينطلق عليه " من "، وانتهى إلى غايته، فكأن الحجاب
قد ملأ ما بينك وبينه.
وقال: كرر الجار في قوله: * (وعلى سمعهم) * ليكون أدل على شدة الختم في
الموضعين، حين استجد له تعدية أخرى.
وهذا كثير لا يمكن إحصاؤه; والمعين عليه معاني المفردات، فلنذكر مهمات
مطالبها على وجه الاختصار.
177

الهمزة
أصلها الاستفهام، وهو طلب الإفهام. وتأتي لطلب التصور والتصديق، بخلاف " هل "
فإنها للتصور خاصة. والهمزة أغلب دورانا، ولذلك كانت أم الباب.
واختصت بدخولها على الواو، نحو: * (أو كلما عاهدوا) *.
وعلى الفاء، نحو: * (أفأمن أهل القرى) *.
وعلى ثم، نحو: * (أثم إذا ما وقع) *.
و " هل " أظهر في الاختصاص بالفعل من الهمزة، وأما قوله تعالى: * (فهل أنتم شاكرون) *،
* (فهل أنتم منتهون) *، و * (فهل أنتم مسلمون) *; فذلك لتأكيد الطلب
للأوصاف الثلاثة; حيث أن الجملة الإسمية أدل على حصول المطلوب وثبوته; وهو أدل على
طلبه من " فهل تشكرون " " وهل تسلمون " لإفادة التجدد.
واعلم أنه يعدل بالهمزة عن أصلها، فيتجوز بها عن النفي والإيجاب والتقدير، وغير
ذلك المعاني السالفة في بحث الاستفهام مشروحة، فانظره فيه.
مسالة
[في دخول الهمزة على " رأيت "]
وإذا دخلت على " رأيت " امتنع أن تكون من رؤية البصر أو القلب، وصارت بمعنى
" أخبرني "، كقولك: " أرأيتك غير زيدا ما صنع "؟ في المعنى تعدى بحرف، وفى اللفظ
تعدى بنفسه.
178

ومنه قوله تعالى: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) *
* (أرأيت الذي ينهى. عبدا إذا صلى) *
* (أرأيت الذي يكذب بالدين) *.
مسألة
[في دخول الهمزة على " لم "]
وإذا دخلت على " لم " أفادت معنيين:
أحدهما: التنبيه والتذكير، نحو: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) *.
والثاني: التعجب من الأمر العظيم، كقولك: ألم تر إلى فلان يقول كذا، ويعمل كذا!
على طريق التعجب منه. وكيف كان فهي تحذير.
179

أم
حرف عطف نائب عن تكرير الاسم والفعل، نحو، أزيد عندك أم عمرو؟
وقيل: إنما تشرك بين المتعاطفين كما تشرك بينهما " أو ".
وقيل: فيها معنى العطف. وهي استفهام كالألف; إلا أنها لا تكون في أول
الكلام لأجل معنى العطف.
وقيل: هي " أو " أبدلت [الميم] من الواو، ليحول إلى معنى، يريد إلى معنى " أو ".
وهي قسمان: متصلة ومنفصلة:
فالمتصلة هي الواقعة في العطف والوارد بعدها وقبلها كلام واحد، والمراد بها الاستفهام
عن التعيين; فلهذا يقدر بأي. وشرطها أن تتقدمها همزة الاستفهام، ويكون ما بعدها
مفردا، أو في تقديره.
والمنفصلة ما فقد فيها الشرطان أو أحدهما، وتقدر ب‍ " بل " والهمزة.
ثم اختلف النحاة في كيفية تقدير المنفصلة على ثلاث مذاهب، حكاها الصفار:
أحدها: أنها تقدر بهما وهي بمعناهما، فتفيد الإضراب عما قبلها على سبيل التحول
والانتقال ك‍ " بل "، والاستفهام عما بعدها. ومن ثم لا يجوز أن تستفهم مبتدئا كلامك ب‍ " أم ".
ولا تكون إلا بعد كلام، لإفادتها الإضراب، كما تقدم.
قال أبو الفتح: والفارق بينها وبين " بل " أن ما بعد " بل " منفى، وما بعد " أم "
مشكوك فيه.
والثاني: أنها بمنزلة " بل " خاصة، والاستفهام محذوف بعدها، وليست مفيدة
الاستفهام، وهو قول الفراء في،، معاني القرآن،،.
180

والثالث: أنها بمعنى الهمزة، والإضراب مفهوم من أخذك في كلام آخر
وترك الأول.
قال الصفار: فأما الأول فباطل; لأن الحرف لا يعطى في حيز واحد أكثر من معنى
واحد، فيبقى الترجيح بين المذهبين. وينبغي أن يرجح الأخير; لأنه ثبت من كلامهم:
إنها لإبل أم شاء.
ويلزم على القول الثاني حذف همزة الاستفهام في الكلام; وهو من مواضع
الضرورة. قال: والصحيح أنها لا تخلو عن الاستفهام; وكذلك قال سيبويه. انتهى.
* * *
واعلم أن المتصلة يصير معها الاسمان بمنزلة " أي "، ويكون ما ذكر خبرا عن " أي "،
فإذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فالمعنى: أيهما عندك؟ والظرف خبر لهما.
ثم المتصلة تكون في عطف المفرد على مثله، نحو أزيد عندك أم عمرو؟ كقوله تعالى: * (أأرباب
متفرقون خير أم الله الواحد القهار) *، أي أي المعبودين خير؟ وفى عطف الجملة على
الجملة المتأولتين بالمفرد، نحو: * (أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) * أي الحال
هذه أم هذه؟
والمنقطعة إنما تكون على عطف الجمل، وهي في الخبر والاستفهام بمثابة " بل "
والهمزة، ومعناها في القرآن التوبيخ، كما كان في الهمزة، كقوله تعالى: * (أم اتخذ مما يخلق
بنات) *، أي بل أتخذ؟ لأن الذي قبلها خبر، والمراد بها التوبيخ لمن قال ذلك،
وجرى على كلام العباد.
وقوله: * (ألم. تنزيل الكتاب لا ريب فيه) * ثم قال: * (أم يقولون
181

افتراه) *، تقديره: بل أيقولون؟ كذا جعلها سيبويه منقطعة، لأنها بعد الخبر.
ثم وجه اعتراضا: كيف يستفهم الله عن قولهم هذا وأجيب بأنه جاء في كلام العرب;
يريد أن في كلامهم يكون المستفهم محققا للشئ لكن يورده بالنظر إلى المخاطب، كقوله:
* (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * وقد علم الله أنه لا يتذكر ولا يخشى;
لكنه أراد: " لعله يفعل ذلك في رجائكما ".
وقوله: * (أم اتخذ مما يخلق بنات) *، تقديره: بل أتخذ؟ بهمزة منقطعة
للإنكار.
وقد تكون بمعنى " بل " من غير استفهام، كقوله تعالى: * (خلق السماوات
والأرض) * وما بعدها في سورة النمل.
قال ابن طاهر: ولا يمتنع عندي إذا كانت بمعنى " بل " أن تكون عاطفة،
كقوله تعالى: * (أم يقولون شاعر) *، وقوله: * (أم كان من الغائبين) *.
وقال البغوي في قوله: * (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين) * بمعنى " بل "
وليس بحرف عطف، على قول أكثر المفسرين.
وقال الفراء وقوم من أهل المعاني: الوقف على قوله " أم "، وحينئذ تم الكلام،
وفى الآية إضمار، والأصل * (أفلا تبصرون) * أم تبصرون؟ ثم ابتدأ فقال:
* (أنا خير) *.
قلت: فعلى الأول تكون منقطعة، وعلى الثاني متصلة
وفيها قول ثالث، قال أبو زيد: أنها زائدة، وإن التقدير: أفلا تبصرون أنا خير منه.
والمشهور أنها منقطعة، لأنه لا يسألهم عن استواء علمه في الأول والثاني; لأنه إنما أدركه
182

الشك في تبصرهم بعد ما مضى كلامه على التقرير، وهو مثبت وجواب السؤال " بلى "،
فلما أدركه الشك في تبصرهم، قال: * (أنا خير) *.
وسأل ابن طاهر شيخه أبا القاسم بن الرماك: لم لم يجعل سيبويه أم متصله؟ أي " أفلا "
تبصرون أم تبصرون " أي أي هذين كان منكم؟ فلم يحر جوابا، وغضب وبقى جمعة
لا يقرر حتى استعطفه.
والجواب من وجهين: أحدهما أنه ظن أنهم لا يبصرون، فاستفهم عن ذلك، ثم
ظن أنهم يبصرون، لأنه معنى قوله: * (أم أنا خير من) *، فأضرب عن الأول واستفهم،
وكذلك: أزيد عندك أم لا؟.
والثاني: أنه لو كان الإبصار وعدمه متعادلين لم يكن للبدء بالنفي معنى،
فلا يصح إلا أن تكون منقطعة.
وقد تحتمل المتصلة والمنقطعة، كما قال في قوله تعالى: * (أم تريدون كيدا) *.
قال الواحدي: إن شئت جعلت قبله استفهاما رد عليه، وهو قوله: * (ألم تعلم) *
وإن شئت منقطعة عما قبلها مستأنفا بها الاستفهام، فيكون استفهاما متوسطا
في اللفظ، مبتدأ في المعنى، كقوله تعالى: * (أليس لي ملك مصر...) * الآية،
ثم قال: * (أم أنا خير) *. انتهى.
والتحقيق ما قاله أبو البقاء: إنها هاهنا منقطعة; إذ ليس في الكلام همزة تقع موقعها،
وموقع " أم " " أيهما " والهمزة في قوله: * (ألم تعلم) *، ليست من " أم " في شئ، والتقدير:
بل أتريدون أن تسألوا؟ فخرج ب‍ " أم " من كلام إلى آخر.
183

وقد تكون بمعنى " أو " كما في قوله تعالى: * (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم
الأرض فإذا هي تمور. أم أمنتم) *.
وقوله: * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم
لا تجدوا لكم وكيلا. أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى) *.
ومعنى ألف الاستفهام عند أبي عبيد، كقوله تعالى: * (أم تريدون أن تسألوا
رسولكم) * أي تريدون؟
وقوله: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) *.
وقوله: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) *، أي
أيحسدون؟
وقوله: * (مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار. اتخذناهم سخريا
أم زاغت عنهم الأبصار) *، أي أزاغت عنهم الأبصار؟
وقوله: * (أم له البنات ولكم البنون) *، أي أله!
* (أم تسألهم أجرا) * أي أتسألهم أجرا؟
وقوله: * (أم حسبت أن أصحاب الكهف) *، قيل: أي أظننت هذا؟ ومن
عجائب ربك ما هو أعجب من قصة أصحاب الكهف!
وقيل: بمعنى ألف الاستفهام، كأنه قال: أحسبت؟ وحسبت بمعنى الأمر، كما تقول
لمن تخاطبه: أعلمت أن زيدا خرج بمعنى الأمر، أي اعلم أن زيد خرج، فعلى هذا التدريج
يكون معنى الآية: اعلم يا محمد، أن أصحاب الكهف والرقيم.
184

وقال أبو البقاء في قوله تعالى: * (أم اتخذ مما يخلق البنات) * تقديره بل " أتخذ! "
بهمزة مقطوعة على الإنكار، ولو جعلناه همزة وصل لصار إثباتا. تعالى الله عن ذلك! ولو
كانت " أم " المنقطعة بمعنى " بل " وحدها دون الهمزة وما بعد " بل " متحقق، فيصير ذلك في
الآية متحققا، تعالى الله عن ذلك!
مسألة
[في ضرورة تقدم الاستفهام على " أم "]
" أم " لا بد أن يتقدمها استفهام أو ما في معناه. والذي في معناه التسوية; فإن الذي
يستفهم، استوى عنده الطرفان; ولهذا يسأل، وكذا المسؤول استوى عنه الأمران.
فإذا ثبت هذا; فإن المعادلة تقع بين مفردين وبين جملتين، والجملتان يكونان اسميتين
وفعليتين; ولا يجوز أن يعادل بين اسمية وفعلية; إلا أن تكون الاسمية بمعنى الفعلية،
أو الفعلية بمعنى الاسمية، كقوله تعالى: * (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) *
أي أم صمتم.
وقوله: * (أفلا تبصرون. أم أنا خير) *; لأنهم إذا قالوا له: أنت خير، كانوا
عنده بصراء، فكأنه قال: أفلا تبصرون أم أنتم بصراء؟
قال الصفار: إذا كانت الجملتان موجبتين قدمت أيهما شئت، وإن كانت إحداهما
منفية أخرتها، فقلت: أقام زيد أم لم يقم؟ ولا يجوز: ألم يقم، أم لا؟ ولا سواء على ألم تقم
أم قمت! لأنهم يقولون: سواء على أقمت أم لا؟ يريدون: أم لم تقم؟ فيحذفون لدلالة الأول،
فلا يجوز هذا: سواء على أم قمت؟ لأنه حذف من غير دليل، فحملت سائر المواضع المنفية
على هذا.
185

قال: فإنه لا بد أن يتقدمها الاستفهام أو التسوية، بخلاف " أو " فإنه يتقدمها كل
كلام إلا التسوية، فلا تقول: سواء على قمت وقد أو قعدت; لأن الواحد لا يكون " سواء ".
مسألة
قال الصفار: ينبغي أن يعلم أن السؤال ب‍ " أو " غير السؤال ب‍ " أم ".
فإذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فجواب هذا: زيد أو عمرو؟ وجواب " أو "
نعم، أو لا. ولو قلت في جواب الأول: نعم، أو لا، كان محالا، لأنك مدع أن
أحدهما عنده.
فإن قلت: وهل يجوز أن تقول: زيد أو عمرو؟ في جواب: أقام زيد
أو عمرو؟
قلت: يكون تطوعا بما لا يلزم، ولا قياس يمنعه.
وقال الزمخشري وابن الحاجب: وضع " أم " للعلم بأحد الأمرين، بخلاف " أو "
فأنت مع " أم " عالم بأن أحدهما عنده، مستفهم عن التعيين، ومع " أو " مستفهم عن واحد
منهما، على حسب ما كان في الخبر، فإذا قلت: أزيد عندك أو عمرو؟ فمعناه: هل واحد
منهما عندك؟ ومن ثم كان جوابه ب‍ " نعم " أو لا مستقيما، ولم يكن ذلك مستقيما في " أم " لأن السؤال عن التعيين.
186

إذن
نوعان:
الأول: أن تدل على إنشاء السببية والشرط; بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها،
نحو " أزورك " فتقول: " إذن أكرمك "، وهي في هذا الوجه عاملة تدخل على الجملة
الفعلية فتنصب المضارع المستقبل; إذا صدرت، ولم تفصل، ولم يكن الفعل حالا.
والثاني: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمقدم، أو منبهة على سبب حصل في الحال.
وهي في الحال غير عاملة; لأن المؤكدات لا يعتمد عليها، والعامل يعتمد عليه، نحو " إن "
تأتني إذن آتك "، " والله إذن لأفعلن "، ألا ترى أنها لو سقطت لفهم الارتباط.
وتدخل هذه على الاسمية، نحو أزورك فتقول: إذن أنا أكرمك.
ويجوز توسطها وتأخرها.
ومن هذا قوله تعالى: * (ولئن اتبعت أهواءهم من بعدك ما جاءك من العلم إنك
إذا لمن الظالمين) *، فهي مؤكدة للجواب، وتربطه بما تقدم.
وذكر بعض المتأخرين لها معنى ثالثا; وهي أن تكون مركبة من " إذ " التي
هي ظرف زمن ماض ومن جملة بعدها تحقيقا أو تقديرا، لكن حذفت الجملة تخفيفا، وأبدل
التنوين منها، كما في قولهم " حينئذ ":.
وليست هذه الناصبة المضارع; لأن تلك تختص به، وكذلك ما عملت فيه، ولا يعمل
إلا ما يختص، وهذه لا تختص به، بل تدخل على الماضي نحو: * (وإذا لآتيناهم من
لدنا أجرا عظيما) *، و * (إذا لأمسكتم خشية الإنفاق) *، و * (إذا
لأذقناك) *.
187

وعلى الاسم، نحو: إن كنت ظالما فإذن حكمك في ماض، وقوله تعالى: * (وإنكم
إذا لمن المقربين) *.
ورام بعض النحويين جعلها فيه بمعنى " بعد ".
* * *
واعلم أن هذا المعنى لم يذكره النحاة، لكنه قياس قولهم: إنه قد تحذف الجملة المضاف
إليها " إذ ". ويعوض عنها التنوين كيومئذ، ولم يذكروا حذف الجملة من " إذا "
وتعويض التنوين عنها.
وقال الشيخ أبو حيان: في،، التذكرة،،: ذكر لي علم الدين القمتي، أن القاضي
تقى الدين بن رزين، كان يذهب إلى أن " إذن " عوض من الجملة المحذوفة. وليس هذا بقول
نحوي. انتهى.
وقال القاضي ابن الجويني: وأنا أظن أنه يجوز أن تقول لمن قال: أنا آتيك: " إذن
أكرمك " بالرفع، على معنى " إذا أتيتني أكرمك " فحذف " أتيتني " وعوض التنوين
عن الجملة، فسقطت الألف لالتقاء الساكنين.
وقال: ولا يقدح في ذلك اتفاق النحاة، على أن الفعل في مثل هذا المثال منصوب
ب‍ " إذن "; لأنهم يريدون بذلك ما إذا كانت حرفا ناصبا للفعل، ولا ينفى ذلك رفع
الفعل بعده، إذا أريد به " إذ " الزمانية معوضا عن جملته التنوين، كما أن منهم
من يجزم ما بعدها، نحو: من يزرني أكرمه. يريدون بذلك الشرطية، ولا يمنع مع ذلك
الرفع بها إذا أريد الموصولة، نحو: من يزورني أكرمه.
قيل: ولولا قول النحاة: إنه لا يعمل إلا ما يختص، وإن " إذن " عاملة في المضارع
لقيل: إن " إذن " في الموضعين واحدة، وإن معناها تقييد ما بعدها بزمن أو حال; لأن
188

معنى قولهم: أنا أزورك، فيقول السامع: إذن أكرمك، وهو بمعنى قوله: أنا أكرمك زمن
أو حال أو عند زيارتك لي.
ثم عند سيبويه معناها الجواب; فلا يجوز أن تقول: " إذن يقوم زيد " ابتداء، من
غير أن تجيب به أحدا.
وأما قوله تعالى: * (فعلتها إذا وأنا من الضالين) *، على أنه لجواب مقدر،
وأنه أجاب بذلك قوله: * (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) *،
أي بأنعمنا، فأجاب: لم أفعل ذلك كفرا للنعمة كما زعمت، بل فعلتها وأنا غير
عارف بأن الوكزة تقضى، بدليل قراءة بعضهم: * (وأنا من الجاهلين) *.
189

إذا
نوعان: ظرف ومفاجأة.
فالتي للمفاجأة: خرجت فإذا السبع.
وتجئ اسما وحرفا، فإذا كانت اسما كانت ظرف مكان، وإذا كانت حرفا كانت
من حروف المعاني الدالة على المفاجأة; كما أن الهمزة تدل على الاستفهام. فإذا قلت:
خرجت فإذا زيد، فلك أن تقدر " إذا " ظرف مكان، ولك أن تقدرها حرفا;
فإن قدرتها حرفا كان الخبر محذوفا، والتقدير " موجود "، وإن قدرتها ظرفا كان الخبر، وقد
تقدم; كما تقول: عندي زيد، فتخبر بظرف المكان عن الجثة، والمعنى: حيث خرجت
فهناك زيد.
ولا يجوز أن يكون في هذه الحالة ظرف زمان، لامتناع وقوع الزمان خبرا عن الجثة،
وإذا امتنع أن تكون للزمان تعين أن تكون مكانا. وقد اجتمعا في قوله تعالى: * (فإذا
أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون) *، فإذا الأولى ظرفية،
والثانية مفاجأة. وتجئ ظرف زمان، وحق زمانها أن يكون مستقبلا، * (إذا جاء نصر الله
والفتح) *.
وقد تستعمل للماضي من الزمان، ك‍ " إذ " كما في قوله تعالى: * (يا أيها الذين
آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض) *،
لأن " قالوا " ماض " فيستحيل أن يكون زمانه مستقبلا.
ومثله قوله تعالى: * (إذا أتوا على وادي النمل) * * (إذا جاءوك
190

يجادلونك) *، * (إذا بلغ بين السدين) * * (حتى إذا ساوى بين
الصدفين) * * (حتى إذا جعله نارا) *، * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا
إليها) * لأن الانفضاض واقع في الماضي.
وتجئ للحال، كقوله تعالى: * (والنجم إذا هوى) *، * (والليل إذا يغشى.
والنهار إذا تجلى) *; والتقدير: والنجم هاويا، والليل غاشيا، والنهار متجليا،
ف‍ " إذا " ظرف زمان، والعامل فيه استقرار محذوف في موضع نصب على الحال، والعامل فيها
" أقسم " المحذوف.
وقد استشكل الزمخشري تقدير العامل في ذلك، وأوضحه الشيخ أثير الدين،
فقال: إذا ظرف مستقبل، ولا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف، لأن
" أقسم " إنشائي فهو في الحال، وإذا لما يستقبل فيأبى أن يعمل الحال في المستقبل;
لاختلاف زمان العامل والمعمول. ولا جائز أن يكون ثم مضاف أقيم المقسم به مقامه،
أي وطلوع النجوم، ومجئ الليل; لأنه معمول لذلك الفعل، فالطلوع حال، ولا يعمل
في المستقبل، ضرورة أن زمان العامل زمان المعمول. ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم
به، لأنه ليس من قبيل ما يعمل، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف، ويكون قد عمل
فيه، فيكون ذلك العامل في موضع الحال، وتقديره: والنجم كائنا إذا هوى، والليل
كائنا إذا يغشى، لأنه يلزم " كائنا " ألا يكون منصوبا بعامل، إذ لا يصح ألا يكون معمولا
لشئ مما فرضناه أن يكون عاملا.
فيكون المقسم به جثة، وظروف الزمان لا تكون أحوالا عن الجثث، كما
لا تكون أخبارا لهن.
191

فأما الوجه الأول فهو الذي ذكره أبو البقاء، قال في قوله تعالى: * (والنجم
إذا هوى) *: العامل في الظرف فعل القسم المحذوف، تقديره: أقسم بالنجم
وقت هويه.
وما ذكره الشيخ عليه من الأشكال فقد يجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أن الزمانين لما اشتركا في الوقوع المحقق نزلا منزلة الزمان الواحد; ولهذا يصح
عطف أحدهما على الآخر، كقوله تعالى: * (إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) *،
ثم قال: * (ويجعل) *.
وهو قريب من جواب الفارسي، لما سأله أبو الفتح عن قوله تعالى: * (ولن ينفعكم
اليوم إذ ظلمتم) * مستشكلا إبدال " إذ " من " اليوم " فقال: " اليوم " حال
و " ظلمتم " في الماضي، فقال: إن الدنيا والآخرة متصلتان، وإنهما في حكم الله تعالى
سواء فكأن " اليوم " ماض، وكأن " إذ " مستقبله.
والثاني: أنه على ظاهره، ولا يلزم ما ذكر، لأن الحال كما تأتى مقارنة، تأتى مقدرة،
وهي أن تقدر المستقبل مقارنا، فتكون أطلقت ما بالفعل على ما بالقوة مجازا، وجعلت
المستقبل حاضرا، كقوله تعالى: * (فادخلوها خالدين) *.
وأما الوجه الثاني; فيمكن أن يقال: يجوز تقديره، وهو العامل، ولا يلزم ما قال من
اختلاف الزمانين; لأنه يجوز الآن أن يقسم بطلوع النجم في، المستقبل ويجوز أن يقسم بالشئ
الذي سيوجد.
وأما الوجه الأخير، فهو الذي ذكره ابن الحاجب في شرح،، المفصل،، فقال: إذا
192

ثبت أنها لمجرد الظرفية، فليست متعلقة بفعل القسم، لأنه يصير المعنى: أقسم في هذا الوقت،
فهي إذن في موضع الحال من الليل. انتهى.
وقد وقع في محذور آخر; وهو أن الليل عبارة عن الزمان المعروف، فإذا جعلت " إذا "
معمولة لفعل هو حال من الليل، لزم وقوع الزمان في الزمان، وهو محال.
وقوله: " يلزم ألا يكون له عامل ".
قلنا: بل له عامل، وهو فعل القسم، ولا يضر كونه إنشاء لما ذكرنا أنها
حال مقدرة.
وأما الشبهة الأخيرة فقد سألها أبو الفتح، فقال: كيف جاز لظرف الزمان هنا أن يكون
حالا من الجثة، وقد علم امتناع كونه صلة له وصفة وخبرا!
وأجاب بأنها جرت مجرى الوقت الذي يؤخر ويقدم. وهي أيضا بعيدة لا تنالها
أيدينا، ولا يحيط علمنا بها في حال نصبها، إحاطتنا بما يقرب منها، فجرت لذلك
مجرى المعدوم.
فإن قيل: كيف جاز لظرف الزمان أن يكون حالا من النجم؟
وأجاب: بأن مثل هذا يجوز في الحال، من حيث كان فضلة. انتهى.
وقد يقال: ولئن سلمنا الامتناع في الحال أيضا، فيكون على حذف مضاف، أي
وحضور الليل، وتجعله حالا من الحضور لا من الجثة.
والتحقيق - وبه يرتفع الإشكال في هذه المسألة - أن يدعى أن " إذا " كما تجرد
عن الشرطية كذلك تجرد عن الظرفية، فهي في هذه الآية الشريفة لمجرد الوقت من دون
تعلق بالشئ تعلق الظرفية الصناعية، وهي مجرورة المحل هاهنا لكونها بدلا عن الليل،
كما جرت ب‍ " حتى " في قوله: * (حتى إذا جاءوها) *. والتقدير: أقسم بالليل وقت
193

غشيانه، أي أقسم بوقت غشيان الليل، وهذا واضح.
فإن قلت: هل صار أحد إلى تجردها عن الظرفية والشرطية معا؟
قلت: نعم نص عليه في،، التسهيل،، فقال: وقد تفارقها الظرفية، مفعولا بها، أو مجرورة
بحتى، أو مبتدأ.
وعلم مما ذكرنا زيادة رابع، وهو البدلية.
فائدة
وتستعمل أيضا للاستمرار، كقوله: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) *.
وقوله: * (لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض) *،
فهذا فيما مضى، لكن دخلت " إذا " لتدل على أن هذا شأنهم أبدا ومستمر فيما سيأتي،
كما في قوله:
وندمان فيه يزيد الكاس طيبا * سقيت إذا تغورت النجوم
ثم فيه مسائل:
* * *
الأولى: المفاجأة عبارة عن موافقة الشئ في حال أنت فيها، قال تعالى: * (
فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) *، وقوله: * (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم
إذا هم يقنطون) *.
قالوا: ولا تقع بعد " إذا " المفاجأة إلا الجملة الاسمية، وبعد " إذ " إلا الفعل الماضي.
194

ومذهب المبرد - وتبعه أكثر المتأخرين - أن المفاجأة نقلها إلى المكان عن الزمان،
ومعنى الآية موافقة الثعبان لإلقاء موسى العصا في المكان. وكذلك قولهم: خرجت فإذا السبع،
أي فإذا موافقة السبع، وعلى هذا لا يكون مضافا إلى الجملة بعدها.
* * *
الثانية: الظرفية ضربان: ظرف محض، وظرف مضمن معنى الشرط.
فالأول: نحو قولك: راحة المؤمن إذا دخل الجنة.
ومنه قوله تعالى: * (والليل إذا يغشى) *.
ومنه " إذا كنت على راضية " و " إذا كنت على غضبى " لأنه لو كان فيها معنى
الشرط، لكان جوابها معنى ما تقدم، ويصير التقدير في الأول " إذا يغشى أقسم " فيفسد
المعنى، أو يصير القسم متعلقا على شرط، لا مطلقا فيؤدى إلى أن يكون القسم غير حاصل
الآن; وإنما يحصل إذا وجد شرطه، وليس المعنى عليه، بل على حصول القسم الآن من
غير تقييد. وكذا حكم: * (والنجم إذا هوى) * * (والليل إذا يسر) *.
ومما يتمحض للظرفية العارية من الشرط قوله: * (والذين إذا أصابهم البغى
هم ينتصرون) *، لأنه لو كان فيها معنى الشرط لوجبت الفاء في جوابها.
والضرب الثاني: يقتضى شرطا وجوابا، ولهذا تقع الفاء بعدها على حد وقوعها بعد
" إذ " كقوله تعالى: * (إذا لقيتم فئة فاثبتوا) *، وكذا كثر وقوع الفعل بعد ماضي
اللفظ مستقبل المعنى، نحو: إذا جئتني أكرمتك.
ومنه: " إذا قلت لصاحبك انصت فقد لغوت " و
وتختص المضمنة معنى الشرط بالفعل، ومذهب سيبويه أنها لا تضاف إلا إلى جملة
195

فعلية، ولهذا إذا وقع بعدها اسم قدر بينه وبينها فعل، محافظة على أصلها; فإن كان الاسم مرفوعا
كان فاعل ذلك الفعل المقدر، كقوله تعالى: * (إذا السماء انشقت) *، وإن كان منصوبا
كان مفعولا والفاعل فيه أيضا ذلك المقدر، كقوله:
* ابن أبي موسى بلالا بلغته *
والتقدير: إذا بلغت.
ومنهم من منع اختصاصها بالفعل، لجواز: " إذا زيد ضربته ".
وعلى هذا فالمرفوع بعدها مبتدأ، وهو قول الكوفيين، واختاره ابن مالك.
وعلى القولين فمحل الجملة بعدها الجر بالإضافة، والفاعل فيها جوابها. وقيل: ليست
مضافة والعامل فيها الفعل الذي يليها، لا جوابها.
تنبيه: مما يفرق فيه بين المفاجأة والمجازاة، أن " إذا " التي للمفاجأة لا يبتدأ بها،
كقوله: * (إذا هم يقنطون) *، والتي بمعنى المجازاة يبتدأ بها، نص عليه سيبويه،
فقال في الأولى: إذا جواب، بمنزلة الفاء، وإنما صارت جوابا بمنزلة الفاء، لأنه لا يبدأ بها
كما لا يبدأ بالفاء.
قال ابن النحاس: ولكن قد عورض سيبويه بأن الفاء قد تدخل عليها، فكيف
تكون عوضا منها؟
والجواب أنها إنما تدخل توكيدا، وأما قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا
بينات ما كان حجتهم) *، فيحتمل أنها متمحضة الظرفية لعدم الفاء في جوابها
196

مع " ما " ويحتمل أن يكون " ما " جواب قسم مقدر، لا جواب الشرط، فلذلك
لم يجئ بالفاء.
* * *
الثالثة: جوز ابن مالك أن تجئ لا ظرفا ولا شرطا، وهي الداخلة عليها " حتى "
الجارة، كقوله تعالى: * (حتى إذا جاءوها) *. أو الواقعة مفعولا، كقوله عليه السلام:
" إني لأعلم إذا كنت على راضية ". وكما جاز تجردها عن الشرط جاز تجردها عن الظرف.
وتحصل أنها تارة ظرف لما يستقبل وفيها معنى الشرط، نحو: * (إذا طلقتم النساء) *،
وتارة ظرف مستقبل، نحو: * (ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا) *،
وتارة ظرف غير مستقبل، نحو: * (إذا ما أتوك لتحملهم) * وتارة لا ظرف ولا شرط،
وتارة لا تكون اسم زمان، وهي المفاجأة.
* * *
الرابعة: أصل " إذا " الظرفية لما يستقبل من الزمان; كما أن " إذا " لما مضى منه، ثم
يتوسع فيها، فتستعمل في الفعل المستمر في الأحوال كلها: الحاضرة والماضية والمستقبلة: فهي
في ذلك شقيقة الفعل المستقبل الذي هو يفعل حيث يفعل به نحو ذلك. قالوا: إذا استعطى
فلان أعطى، وإذا استنصر نصر، كما قالوا: فلان يعطى الراغب، وينصر المستغيث،
من غير قصد إلى تخصيص وقت دون وقت. قاله الزمخشري في كشافه القديم.
* * *
الخامسة: تجاب الشرطية بثلاثة أشياء:
197

أحدها: الفعل، نحو إذا جئتني أكرمتك.
وثانيها: الفاء، نحو إذا جئتني فأنا أكرمك.
وثالثها: إذا المكانية; قال تعالى: * (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا
أنتم تخرجون) *، وقوله: * (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم
يجأرون) *.
وما قبلها إما جوابها، نحو إذا جئتني أكرمتك، أو ما دل عليه جوابها، كقوله
تعالى: * (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ) *. والمعنى: فإذا نفخ في
الصور تقاطعوا، ودل عليه قوله: * (فلا أنساب) *.
وكذا قوله: * (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) * وإنما
احتيج لهذا التقدير; لأن ما بعد " ما " النافية في مثل هذا الموضع لا يعمل فيه ما قبلها.
وأيضا فإن " بشرى " مصدر، والمصدر لا يتقدم عليه ما كان في صلته.
ومن ذلك قوله: * (إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون) *،
فالعامل في " إذا " الأولى ما دل عليه * (إذا أنتم تخرجون) *، والتقدير " خرجتم ".
ولا يجوز أن يعمل فيه " تخرجون " لامتناع أن يعمل ما بعد " إذا " المكانية فيما قبلها،
وحكمها في ذلك حكم الفاء.
ومنه قوله تعالى: * (فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير) *، فالعامل
في " إذا " ما دل عليه قوله: * (فذلك يومئذ يوم عسير) *، والتقدير: فإذا نقر في الناقور
صعب الأمر.
وقوله: * (هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم) *، فالعامل
198

في " إذا " ما دل عليه قوله تعالى: * (إنكم لفي خلق جديد) * من معنى " بعثتم "
أو " مبعوثون ".
فإن قيل: أيجوز نصب " إذا " بقوله " جديد " لأن المعنى عليه؟
قيل: لا يجوز، لامتناع أن يعمل ما بعد " إن " فيما قبلها; وهذا يسمى مجاوبة الإعراب،
والمعنى للشئ الواحد. وكان أبو على الفارسي يلم به كثيرا; وذلك أنه يوجد في المنظوم والمنثور.
والمعنى يدعو إلى أمر، والإعراب يمنع منه; وقد سبق بيانه في نوع ما يتعلق بالإعراب.
* * *
السادسة: " إذا " توافق " إن " في بعض الأحكام، وتخالفها في بعض:
فأما الموافقة; فهي أن كل واحد منهما يطلب شرطا وجزاء، نحو، إذا قمت قمت،
وإذا زرتني أكرمتك.
وكل واحدة منهما تطلب الفعل، فإن وقع الاسم بعد واحدة منهما قدر له فعل يرفعه
يفسره الظاهر; مثاله [في إن] قوله تعالى: * (وإن امرأة خافت) *، * (إن امرؤ
هلك) *، وقوله: * (وإن أحد من المشركين استجارك) *. ومثاله في " إذا "
قوله تعالى: * (إذا السماء انشقت) *، * (إذا الشمس كورت) * وما بعدها في
السورة من النظائر، وكذا قوله: * (إذا السماء انفطرت) * وما بعدها من النظائر
و * (إذا هذا وقعت الواقعة) *.
وأما الأحكام التي تخالفها ففي مواضع:
199

الأول: ألا تدخل إلا على مشكوك; نحو إن جئتني أكرمتك، ولا يجوز: إن طلعت
الشمس آتيك، لأن طلوع الشمس متيقن. ثم إن كان المتيقن الوقوع مبهم الوقت،
جاز; كقوله تعالى: * (أفإن مت) *، ونظائره.
وأما " إذا " فظاهر كلام النحاة، يشعر بأنها لا تدخل إلا على المتيقن وما في
معناه; نحو إذا طلعت الشمس فأتني.
وقوله:
* إذا مت فادفني إلى جنب كرمة *
وقوله:
* إذا طلعت شمس النهار فسلمى *
وذلك لكونها للزمن المعين بالإضافة على مذهب الأكثر ولم يجزموا بها في الاختيار
لعدم إبهامها، كالشروط، ولذلك وردت شروط القرآن بها، كقوله: * (إذا الشمس
كورت) * ونظائرها السابقة، لكونها متحققة الوقوع.
وأما قوله تعالى: * (وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا) *، فقد أشكل دخولها على
غير الواقع.
وأجيب بأن التبديل محتمل وجهين:
أحدهما: إعادتهم في الآخرة، لأنهم أنكروا البعث.
200

والثاني: إهلاكهم في الدنيا وتبديل أمثالهم; فيكون كقوله: * (إن يشأ يذهبكم
أيها الناس ويأت بآخرين) *، فإن كان المراد في الدنيا، وجب أن يجعل هذا بمعنى
" إن " الشرطية; لأن هذا شئ لم يكن، فهي مكان " إن "، لأن الشرط يمكن أن يكون
وألا يكون، ألا ترى إلى ظهورها في قوله تعالى: * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت
بآخرين) *، * (إن نشأ نخسف بهم الأرض) *، وإنما أجاز ل‍ " إذا " أن تقع موقع
" إن " لما بينهما من التداخل والتشابه.
وقال ابن الجويني: الذي أظنه أنه يجوز دخولها على المتيقن والمشكوك، لأنها ظرف
وشرط، فبالنظر إلى الشرط تدخل على المشكوك، ك‍ " إن "، وبالنظر إلى الظرف تدخل على
المتيقن كسائر الظروف.
وإنما اشترط فيما تدخل عليه إن " أن " يكون مشكوكا فيه; لأنها تفيد الحث على الفعل
المشروط لاستحقاق الجزاء، ويمتنع فيه لامتناع الجزاء، وإنما يحث على فعل
ما يجوز ألا يقع، أما ما لابد من وقوعه فلا يحث عليه. وإنما امتنع دخول
" إذا " على المشكوك إذا لحظت فيها الظرفية، لأن المعنى حينئذ التزام الجزاء في زمان
وجود الشرط، والتزام الشئ في زمان لا يعلم وجود شرط فيه ليس بالتزام. ولما كان الفعل
بعد " إن " مجزوما به يستعمل فيه ما ينبئ عن تحققه، فيغلب لفظ الماضي، كقوله:
* (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة) *، فجئ ب‍ " إذا "
في جانب الحسنة، وب‍ " إن " في جانب السيئة; لأن المراد بالحسنة جنس الحسنة، ولهذا
عرفت، وحصول الحسنة المطلقة مقطوع به، فاقتضت البلاغة التعبير ب‍ " إذا " وجئ
ب‍ " إن " في جانب السيئة، لأنها نادرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة، كالمرض بالنسبة
إلى الصحة، والخوف بالنسبة إلى الأمن.
201

ومنه قوله تعالى في سورة الروم: * (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم
سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) *.
وقوله: * (فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون. وإن كانوا من قبل
أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين) *.
وأما قوله تعالى: * (فإذا مس الإنسان ضر) *، بلفظ " إذا " مع " الضر " فقال
السكاكي: نظر في ذلك إلى لفظ المس، وتنكير " الضر " المفيد للتعليل ليستقيم التوبيخ،
وإلى الناس المستحقين أن يلحقهم كل ضرر، وللتنبيه على أن مس قدر يسير من الضر
لأمثال هؤلاء، حقه أن يكون في حكم المقطوع به.
وأما قوله تعالى: * (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) * بعد قوله: * (وإذا أنعمنا
على الإنسان أعرض ونأى بجانبه) *، أي أعرض عن الشكر، وذهب بنفسه
وتكبر. والذي تقتضيه البلاغة أن يكون الضمير للمعرض المتكبر لا المطلق الإنسان،
ويكون لفظ " إذا " للتنبيه على أن مثل هذا المعرض المتكبر يكون ابتلاؤه بالشر مقطوعا.
الثاني: من الأحكام المخالفة أن المشروط ب‍ " إن " إذا كان عدما لم يمتنع الجزاء في
الحال; حتى يتحقق اليأس من وجوده، ولو كان العدم مشروطا ب‍ " إذا " وقع الجزاء في الحال;
مثل: إن لم أطلقك فأنت طالق، لم تطلق إلا في آخر العمر. وإذا قال: إذا لم أطلقك
فأنت طالق، تطلق في الحال; لأن معناه: أنت طالق في زمان عدم تطليقي لك، فأي زمان
تخلف عن التطليق يقع فيه الطلاق. وقوله: " إن لم أطلقك " تعليق للطلاق على امتناع
الطلاق، ولا يتحقق ذلك إلا بموته غير مطلق.
الثالث: أن " إن " تجزم الفعل المضارع إذا دخلت عليه، و " إذا " لا تجزمه; لم لأنها لا تتمحض
شرطا، بل فيها معنى التزام الجزاء في وقت الشرط، من غير وجوب أن يكون معللا بالشرط.
202

وقد جاء الجزم بها إذا أريد بها معنى " إن " وأعرض عما فيها من معنى
الزمان، كقوله:
* وإذا تصبك خصاصة فتجمل *
الرابع: أن " إذا " هل تفيد التكرار والعموم؟
فيه قولان، حكاهما ابن عصفور:
أحدهما: " نعم "، فإذا قلت: إذا قام زيد قام عمرو، أفادت أنه كلما قام زيد
قام عمرو.
والثاني: لا يلزم.
قال: والصحيح أن المراد بها العموم كسائر أسماء الشرط، وأما " إن " ففيها كلام
عن ابن جنى يأتي في باب " إن ".
الخامس: أنك تقول: أقوم إذا قام زيد، فيقتضى أن قيامك مرتبط بقيامه لا يتقدم عليه
ولا يتأخر عنه، بل يعاقبه على الاتصال، بخلاف: أقوم إن قام زيد; فيقتضى أن قيامك بعد
قيامه. وقد يكون عقبه وقد يتأخر عنه.
فالحاصل أن التقييد بالاستقبال دون اقتضاء مباعدة، بخلاف " إذا ". ذكره أبو جعفر
ابن الزبير في كتابه ملاك التأويل.
* * *
السابعة: قيل: قد تأتى زائدة، كقوله * (إذا السماء انشقت) *; تقديره: انشقت السماء،
كما قال: * (اقتربت الساعة) *، * (أتى أمر الله) *.
ورد هذا بأن الجواب مضمر.
203

ويحوز مجيئها بمعنى " إذا " وجعل منه ابن مالك قوله تعالى: * (وإذا رأوا تجارة
أو لهوا) *.
ورد بفوات المعنى، لأن " إذا " تفيد أن هذا حالهم المستمر، بخلاف " إذا " فإنها
لا تعطى ذلك
وقولهم: " إذا فعلت كذا "، فيكون على ثلاثة أضرب:
أحدها: يكون المأمور به قبل الفعل، تقول: إذا أتيت الباب، فالبس أحسن الثياب،
ومنه قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) *، * (فإذا قرأت
القرآن فاستعذ) *.
الثاني: أن يكون مع الفعل، كقولك: إذا قرأت فترسل.
الثالث: أن يكون بعده، كقوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا) *، * (إذا نودي
للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا) *.
فائدة
من الأسئلة الحسنة، في قوله تعالى: * (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم
قاموا) * أنه يقال: لم أتى قبل " أضاء " ب‍ " كلما ".
وقبل " أظلم " ب‍ " إذا "؟ وما وجه المناسبة في ذلك؟
وفيه وجوه: الأول أن تكرار الإضاءة يستلزم تكرار الإظلام، فكان تنويع
الكلام أعذب.
204

الثاني: أن مراتب الإضاءة مختلفة متنوعة، فذكر " كلما " تنبيها على ظهور التعدد
وقوته لوجوده بالصورة والنوعية، والإظلام نوع واحد فلم يؤت بصيغة التكرار لضعف
التعدد فيه، بعدم ظهوره بالنوعية، وإن حصل بالصورة.
الثالث: قاله الزمخشري، وفيه تكلف - أنهم لما اشتد حرصهم على الضوء المستفاد
من النور، كانوا كلما حدث لهم نور تجدد لهم باعث الضوء فيه، لا يمنعهم من ذلك تقدم فقده
واختفاؤه منهم، وأما التوقف بالظلام فهو نوع واحد.
وهذا قريب من الجواب الثاني، لكنه بمادة أخرى. ويفترقان بأن جواب الزمخشري
يرجع التكرار فيه إلى جواب " كلما " لا إلى مشروطها الذي يليها ويباشرها، فطلب
تكراره - وهو الأولى في مدلول التكرار، والجواب المتقدم يرجع إلى تكرار مشروطها،
يتبعه الجواب من حيث هو ملزومه، وتكرره فرع تكرر الأول.
الرابع: أن إضاءة البرق منسوبة إليه وإظلامه ليس منسوبا إليه، لأن إضاءته هي لمعانه،
والظلام أمر يحدث عن اختفائه; فتظلم الأماكن كظلام الأجرام الكثائف، فأتى بأداة التكرار
عند الفعل المتكرر من البرق، وبالأداة التي لا تقتضي التكرار عند الفعل الذي ليس متكررا
منه، ولا صادرا عنه.
الخامس: ذكره ابن المنير - إن المراد بإضاءة البرق الحياة، وبالظلام الموت، فالمنافق تمر
حاله في حياته بصورة الإيمان، لأنها دار مبنية على الظاهر، فإذا صار إلى الموت رفعت له
أعماله، وتحقق مقامه، فتستقيم " كلما " في الحياة، و " إذا " في الممات، وهكذا كقول النبي
صلى الله عليه وسلم: " اللهم أحيني ما دامت الحياة خير لي، وأمتني إذا كانت الوفاة
خيرا لي " فاستعمل مع الحياة لفظ التكرار والدوام، واستعمل مع لفظ الوفاة لفظ
الاختصار والتقييد.
205

قيل: إن ذلك لأحد معنيين: إما لأن الحياة مأثورة لازدياد العمل الصالح الذي
الهمم العالية معقودة به، فعرض بالاستكثار منه، والدوام عليه، ونبه على أن الموت
لا يتمنى، ولكن إذا نزل وقته رضى به. وإما لأن الحياة يتكرر زمانها، وأما الموت
مرة واحدة.
وجواب آخر، أن الكلام في الأنوار هو الأصل المستمر، وأما خفقان البرق في
أثناء ذلك فعوارض تتصل بالحدوث والتكرار، فناسب الإتيان فيها " بكلما " وفى تلك
ب‍ " إذا " والله أعلم.
-،، * * * *،، -
206

إذ
ظرف لماضي الزمان، يضاف للجملتين، كقوله تعالى: * (واذكروا إذ أنتم
قليل) *، وتقول: أيدك الله إذ فعلت؟
وأما قوله تعالى: * (ولو ترى إذ وقفوا على النار) * ف‍ " ترى " مستقبل،
و " إذ " ظرف للماضي، وإنما كان كذلك لأن الشئ كائن، وإن لم يكن بعد;
وذلك عند الله قد كان; لأن علمه به سابق، وقضاءه به نافذ; فهو كائن لا محالة.
قيل: المعنى: ولو ترى ندمهم وخزيهم في ذلك اليوم بعد وقوفهم على النار ف‍ " إذا "
ظرف ماض، لكن بالإضافة إلى ندمهم الواقع بعد المعاينة، فقد صار وقت التوقف ماضيا
بالإضافة إلى ما بعده، والذي بعده هو مفعول " ترى ".
وأجاز بعضهم مجيئها مفعولا به، كقوله: * (واذكروا إذ أنتم قليل) *، ومنعه
آخرون، وجعلوا المفعول محذوفا، و " إذ " ظرف، عامله ذلك المحذوف، والتقدير * (واذكروا
نعمة الله عليكم) * إذا، واذكروا حالكم.
ونحو قوله: * (إذ قال الله يا عيسى) *، قيل: قال له ذلك لما رفعه إليه.
وتكون بمعنى " حين " كقوله: * (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا
إذ تفيضون فيه) *، أي حين تفيضون فيه.
وحرف تعليل، نحو: * (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم) * * (وإذ لم
يهتدوا به) *.
وقيل: تأتى ظرفا لما يستقبل بمعنى " إذا "، وخرج عليه بعض ما سبق.
وكذا قوله: * (فسوف يعلمون. إذ الأغلال في أعناقهم) * وأنكره السهيلي;
لأن " إذا " لا يجئ بعدها المضارع مع النفي.
207

وقد تجئ بعد القسم، كقوله: * (والليل إذا يسر) * لانعدام معنى الشرطية فيه.
وقيل: تجئ زائدة، نحو: * (وإذ قال ربك للملائكة) *. وقيل هي فيه بمعنى " قد ".
وقد تجئ بمعنى " أن "، حكاه السهيلي في،، الروض،، عن نص سيبويه في كتابه،
قال: ويشهد له قوله تعالى: * (بعد إذ أنتم مسلمون) *.
وعليه يحمل قوله تعالى: * (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب
مشتركون) *. قال: وغفل الفارسي عما في الكتاب من هذا، وجعل الفعل المستقبل
الذي بعد " أن " عاملا في الظرف الماضي، فصار بمنزلة من يقول: سآتيك اليوم أمس.
قال: وليت شعري ما تقول في قوله تعالى: * (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك
قديم) *، فإن جوز وقوع الفعل في الظرف الماضي على أصله، فكيف يعمل ما بعد الفاء
فيما قبلها; لا سيما مع السين وهو قبيح أن تقول: غدا سآتيك! فكيف إن قلت: غدا
فسآتيك! فكيف إن رددت على هذا وقلت: أمس فسآتيك وإذا على أصله بمعنى أمس.
تنبيه
[في وقوع " إذ " بعد " واذكر "]
وقعت " إذ " بعد " واذكر " فالمراد به الأمر بالنظر إلى ما اشتمل عليه
ذلك الزمان، لغرابة ما وقع فيه، فهو جدير بأن ينظر فيه. وقد أشار إلى هذا الزمخشري
في قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت) *.
وقوله: * (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا. إذ قال لأبيه) *،
ونظائره.
208

أو
تقع في الخبر والطلب; فأما في الخبر فلها فيه معان:
الأول: الشك، نحو قام زيد أو عمرو.
الثاني: الإبهام، وهو إخفاء الأمر على السامع مع العلم به، كقوله تعالى: * (وإنا أو
إياكم لعلى هدى) *.
وقوله: * (أتاها أمرنا ليلا أو نهارا) *، يريد: إذا أخذت الأرض زخرفها، وأخذ
أهلها الأمن، أتاها أمرنا وهم لا يعلمون. أي فجأة; فهذا إبهام; لأن الشك محال على
الله تعالى.
وقوله: * (إلى مائة ألف أو يزيدون) *.
فإن قلت: " يزيدون " فعل، ولا يصح عطفه على المجرور ب‍ " إلى "، فإن حرف
الجر لا يصح تقديره على الفعل، ولذلك لا يجوز: مررت بقائم ويقعد، على تأويل:
" قائم وقاعد ".
قلت: " يزيدون " خبر مبتدأ محذوف في محل رفع، والتقدير " أوهم يزيدون ".
قاله ابن جنى في،، المحتسب،،.
وجاز عطف الاسمية على الفعلية ب‍ " أو " لاشتراكهما في مطلق الجملة.
فإن قلت: فكيف تكون " أو " هنا لأحد الشيئين، والزيادة لا تنفك عن
المزيد عليه؟
209

قلت: الأمر كذلك، ولهذا قدروا في المبتدأ ضمير المائة ألف، والتقدير: وأرسلناك
إلى مائة ألف معها زيادة. ويحتمل أن تكون على بابها للشك، وهو بالنسبة إلى المخاطب،
أي لو رأيتموهم لعلمتم أنهم مائة ألف أو يزيدون.
الثالث: التنويع، كقوله تعالى: * (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) *، أي أن قلوبهم
تارة تزداد قسوة، وتارة ترد إلى قسوتها الأولى، فجئ ب‍ " أو " لاختلاف أحوال قلوبهم.
الرابع: التفصيل، كقوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا
أو نصارى) *، أي قالت اليهود: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن
يدخل الجنة إلا الذين هم نصارى. وكذلك قوله: * (كونوا هودا أو نصارى) *.
الخامس: للإضراب ك‍ " بل "، كقوله: * (كلمح البصر أو هو أقرب) *،
و * (مأة ألف أو يزيدون) * على حد قوله: * (قاب قوسين أو أدنى) *.
السادس: بمعنى الواو، كقوله: * (فالملقيات ذكرا. عذرا أو نذرا) *.
* (لعله ما يتذكر أو يخشى) *.
لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) *.
* * *
وأما في الطلب فلها معان:
الأول: الإباحة، نحو تعلم فقها أو نحوا، كقوله تعالى: * (ولا على أنفسكم أن تأكلوا
من بيوتكم أو بيوت آبائكم...) * الآية.
وكذلك قوله: * (كالحجارة أو أشد قسوة) *، يعنى إن شبهت قلوبهم بالحجارة
فصواب، أو بما هو أشد فصواب.
210

وقوله: * (كمثل الذي استوقد نارا) *، * (أو كصيب) *
والمعنى أن التمثيل مباح في المنافقين إن شبهتموهن بأي النوعين.
قوله: * (لعله يتذكر أو يخشى) * إباحة لإيقاع أحد الأمرين.
الثاني: التخيير، نحو خذ هذا الثوب أو ذاك، ومنه قوله تعالى: * (فإن استطعت
أن تبتغى نفقا في الأرض أو سلما في السماء...) * الآية; فتقديره: " فافعل ";
كأنه خير على تقدير الاستطاعة أن يختار أحد الأمرين; لأن الجمع بينهما غير ممكن.
والفرق بينهما أن التخيير فيما أصله المنع; ثم يرد الأمر بأحدهما; لا على التعيين، ويمتنع
الجمع بينهما. وأما الإباحة فأن يكون كل منهما مباحا ويطلب الإتيان بأحدهما; ولا يمتنع
من الجمع بينهما; وإنما يذكر ب‍ " أو " لئلا يوهم بأن الجمع بينهما هو الواجب لو ذكرت
الواو; ولهذا مثل النحاة الإباحة بقوله تعالى: * (فكفارته إطعام عشرة مساكين...) *
وقوله: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) *; لأن المراد به الأمر بأحدهما رفقا
بالمكلف; فلو أتى بالجمع لم يمنع منه; بل يكون أفضل.
وأما تمثيل الأصوليين بآيتي الكفارة والفدية للتخيير مع إمكان الجمع; فقد أجاب عنه
صاحب،، البسيط،، بأنه إنما قال يمتنع الجمع بينهما في المحظور; لأن أحدهما ينصرف إليه
الأمر، والآخر يبقى محظورا لا يجوز له فعله; ولا يمتنع في خصال الكفارة; لأنه يأتي
بما عدا الواجب تبرعا; ولا يمنع من التبرع.
* * *
واعلم أنه إذا ورد النهى عن الإباحة جاز عن صرفه إلى مجموعهما; وهو ما كان يجوز فعله;
أو إلى أحدهما وهو ما تقتضيه " أو ".
211

وأما قوله تعالى: * (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) *; فليس المراد منه النهى
عن إطاعة أحدهما دون الآخر; بل النهى عن طاعتهما مفردين أو مجتمعين، وإنما ذكرت
" أو " لئلا يتوهم أن النهى عن طاعة من اجتمع فيه الوصفان.
وقال ابن الحاجب: استشكل قوم وقوع " أو " في النهى في هذه الآية، فإنه لو انتهى
عن أحدهما لم يتمثل، ولا يعد ممتثلا; إلا بالانتهاء عنهما جميعا!
فقيل: أنها بمعنى " الواو " والأولى أنها على بابها; إنما جاء التعيين فيها من
القرينة، لأن المعنى قبل وجود النهى: " تطيع آثما أو كفورا " أي واحدا منهما;
فإذا جاء النهى ورد على ما كان ثابتا في المعنى; فيصير المعنى: " ولا تطع واحدا منهما "،
فيجئ التعميم فيهما من جهة النهى الداخل; وهي على بابها فيما ذكرناه، لأنه لا يحصل
الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهى عنهما; بخلاف الإثبات; فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر.
قال: فهذا معنى دقيق، يعلم منه أن " أو " في الآية على بابها، وأن التعميم لم يجئ
منها; وإنما جاء من جهة المضموم إليها. انتهى.
ومن هذا وإن كان خبرا - قوله تعالى: * (من بعد وصية يوصى بها أو دين) *;
لأن الميراث لا يكون إلا بعد إنفاذ الوصية والدين; وجد أحدهما أو وجدا معا.
وقال أبو البقاء في،، اللباب،،: إن اتصلت بالنهي وجب اجتناب الأمرين عند
النحويين; كقوله تعالى: * (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) *، ولو جمع بينهما لفعل
المنهى عنه مرتين; لأن كل واحد منهما أحدهما.
وقال في موضع آخر: مذهب سيبويه أن " أو " في النهى نقيضية " أو " في الإباحة;
212

فقولك: جالس الحسن اوب ابن سيرين إذن في مجالستهما ومجالسة من شاء منهما، فضده
في النهى " لا تطع منهم آثما أو كفورا "، أي لا تطع هذا ولا هذا; والمعنى لا تطع أحدهما،
ومن أطاع منهما كان أحدهما; فمن ها هنا كان نهيا عن كل واحد منهما، ولو جاء بالواو
في الموضعين أو أحدهما لأوهم الجمع.
وقيل: " أو " بمعنى الواو; لأنه لو انتهى عن أحدهما لم يعد ممتثلا بالانتهاء عنهما جميعا.
قال الخطيبي: والأولى أنها على بابها; وإنما جاء التعميم فيها من النهى الذي فيه
معنى النفي، والنكرة في هذه سياق النفي تعم; لأن المعنى قبل وجود النهى: " تطيع آثما أو
كفورا "، أي واحدا منهما، فالتعميم فيهما; فإذا جاء النهى ورد على ما كان ثابتا;
فالمعنى: لا تطع واحدا منهما فسمى التعميم فيهما من جهة النهى، وهي على بابها فيما ذكرناه;
لأنه لا يحصل الانتهاء عن أحدهما; حتى ينتهى عنهما; بخلاف الإثبات; فإنه قد ينتهى
عن أحدهما دون الآخر.
تنبيهان
الأول: روى البيهقي في سننه في باب الفدية بغير النعم، عن ابن جريج، قال كل
شئ في القرآن فيه " أو " للتخيير، إلا قوله تعالى: * (أن يقتلوا أو يصلبوا) *، ليس
بمخير فيهما.
قال الشافعي: وبهذا أقول.
* * *
والثاني: من أجل أن مبناها على عدم التشريك، أعاد الضمير إلى مفرديها بالأفراد;
213

بخلاف الواو; وأما قوله تعالى: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) *، فقد
قيل: إن " أو " بمعنى الواو; ولهذا قال: * (بهما) *، ولو كانت لأحد الشيئين لقيل " به ".
وقيل: على بابها، ومعنى * (غنيا أو فقيرا) *: إن يكن الخصمان غنيين أو فقيرين،
أو منهما، أي الخصمين على أي حال كان; لأن ذلك ذكر عقيب قوله: * (كونوا
قوامين بالقسط شهداء لله) * يشير للحاكم والشاهد، وذلك يتعلق باثنين.
وقيل: الأولوية المحكوم بها ثابته للمفردين معا، نحو: جاءني زيد أو عمرو ورأيتهما،
فالضمير راجع إلى الغنى والفقير المعلومين من وجوه الكلام; فصار كأنه قيل: فالله أولى
بالغنى والفقير.
ويستعمل ذلك المذكور وغيره; ولو قيل: " فالله أولى به "، لم يشمله، ولأنه لما لم
يخرج المخلوقون عن الغنى والفقر، صار المعنى: افعلوا ذلك، لأن الله أولى ممن خلق; ولو قيل:
أولى به، لعاد إليه من حيث الشهادة فقط.
214

إن
المكسورة الخفية
ترد لمعان:
الأول: الشرطية، وهو الكثير، نحو: * (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) *.
* (وإن ينتهوا يغفر لهم) *.
ثم الأصل في عدم جزم المتكلم بوقوع الشرط، كقوله: * (إن كنت قلته فقد
علمته) *، وعيسى جازم بعدم وقوع قوله.
وقد تدخل على المتيقن وجوده إذا أبهم زمانه، كقوله: * (أفإن مت فهم
الخالدون) *.
وقد تدخل على المستحيل، نحو: * (إن كان للرحمن ولد) *.
ومن أحكامها أنها للاستقبال، وأنها تخلص الفعل له وأن كان ماضيا، كقولك:
إن أكرمتني أكرمتك، ومعناه إن تكرمني. وأما قولهم: إن أكرمتني اليوم فقد
أكرمتك أمس، وقوله: * (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت) *، فقيل: معنى
" أكرمتني اليوم " يكون سبب للإخبار بذلك، وإن ثبت كان قميصه قد من قبل يكون
سببا للإخبار بذلك.
قاله ابن الحاجب. وهي عكس " لو " فإنها للماضي، وإن دخلت على المضارع.
مسألة
إن دخلت " إن " على لم يكن الجزم ب‍ " لم " لا بها، كقوله تعالى: * (وإن لم ينتهوا) *
215

* (فإن لم تفعلوا) *، وإن دخلت على " لا " كان الجزم بها لا ب‍ " لا "، كقوله تعالى:
* (وإلا تغفر لي) *.
والفرق بينهما أن " لم " عامل يلزم معموله، ولا يفرق بينهما بشئ، و " إن " يجوز
أن يفرق بينهما وبين معمولها معمول معمولها، نحو: إن زيدا يضرب أضربه.
وتدخل أيضا على الماضي فلا تعمل في لفظه، ولا تفارق العمل، وأما " لا " فليست
عاملة في الفعل، فأضيف العمل إلى " إن ".
* * *
الثاني: بمنزلة " لا " وتدخل على الجملة الاسمية، كقوله في الأنعام: * (إن هي إلا حياتنا
الدنيا) *، بدليل " ما " في الجاثية: * (ما هي إلا حياتنا الدنيا) *.
وقوله: * (إن أنت إلا نذير) *.
* (إن الكافرون إلا في غرور) *.
* (إن كل نفس لما عليها حافظ) *.
* (إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) *.
* (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) *.
* (إن نحن إلا بشر مثلكم) *.
* (إن أنتم إلا بشر مثلنا) *.
وعلى الجملة الفعلية، نحو: * (إن أردنا إلا الحسنى) *.
216

* (إن يقولون إلا كذبا) *.
* (إن يدعون من دونه إلا إناثا) *.
* (إن لبثتم إلا قليلا) *.
* (إن كانت إلا صيحة واحدة) *.
* (بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) *.
وزعم بعضهم أن شرط النافية مجئ " إلا " في خبرها، كهذه الآيات، أو " لما " التي
بمعناها، كقراءة بعضهم: * (إن كل نفس لما عليها حافظ) *، بتشديد الميم، أي
ما كل كان نفس إلا عليها حافظ.
* (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) *.
* (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) *.
ورد بقوله: * (وإن أدرى لعله فتنة لكم) *.
* (وإن أدرى أقريب أم بعيد) *.
* (إن عندكم من سلطان) *.
* (بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) *.
وأما قوله: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به) *، فالتقدير: وإن أحد
من أهل الكتاب.
217

وأما قوله: * (ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) *، فالأولى شرطية
والثانية نافية، جواب للقسم الذي أذنت به اللام الداخلة على الأولى، وجواب الشرط
محذوف وجوبا.
واختلف في قوله: * (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) *، فقال الزمخشري
وابن الشجري: إن نافية، أي فيما ما مكناكم فيه، إلا أن " إن " أحسن في اللفظ لما في مجامعة
مثلها من التكرار المستبشع، ومثله يتجنب. قالا: ويدل على النفي قوله تعالى:
* (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) *.
وحكى الزمخشري أنها زائدة، قال: والأول أفخم.
وقال ابن عطية: " ما " بمعنى " الذي " و " إن " نافيه وقعت مكان " ما "
فيختلف اللفظ، ولا تتصل ما ب‍ " ما "، والمعنى: لقد أعطيناهم من القوة والغنى
ما لم نعطكم، ونالهم بسبب كفرهم هذا العقاب، فأنتم أحرى بذلك إذا كفرتم.
وقيل: إن شرطية، والجواب محذوف، أي الذي إن مكناكم فيه طغيتم.
وقال: وهذا مطرح في التأويل.
وعن قطرب أنها بمعنى " قد " حكاه ابن الشجري
ويحتمل النكرة الموصوفة.
واعلم أن بعضهم أنكر مجئ النافية، وقال في الآيات السابقة إن " ما " محذوفة
والتقدير: " ما إن الكافرون إلا في غرور "، " ما إن تدعون "، " ما إن أدرى " ونظائرها،
كما قال الشاعر:
218

وما إن طبنا حبن ولكن * منايانا ودولة آخرينا
فحذفت " ما " اختصارا كما حذف " لا " في * (تالله تفتأ) *.
* * *
الثالث: مخففة من الثقيلة، فتعمل في اسمها وخبرها، ويلزم خبرها اللام، كقوله
تعالى:
* (وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم) *.
ويكثر إهمالها، نحو: * (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) *.
* (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) *.
* (إن كل نفس لما عليها حافظ) *; في قراءة من خفف " لما " أي أنه كل
نفس لعليها حافظ.
* * *
الرابع: للتعليل بمعنى " إذ " عند الكوفيين، كقوله: * (وأنتم الأعلون
إن كنتم مؤمنين) *، قال بعضهم: لم يخبرهم بعلوهم إلا بعد أن كانوا مؤمنين.
وقوله: * (اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين) *.
قال بعضهم: لو كانت للخبر لكان الخطاب لغير المؤمنين.
وكذا: * (وإن كنتم في ريب) * ونحوه; مما الفعل فيه محقق الوقوع; والبصريون
يمنعون ذلك، وهو التحقيق، كالمعنى مع " إذا ".
وأجابوا عن دخولها في هذه المواطن لنكتة، وهي أنه من باب خطاب التهييج،
نحو: إن كنت ولدى فأطعمني.
219

وأما قوله: * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) *، فالاستثناء مع
تحقق الدخول تأدبا بأدب الله في المشيئة. والاستثناء من الداخلين; لا من الرؤيا; لأنه كان بين الرؤيا
وتصديقها سنة، ومات بينهما خلق كثير، فكأنه قال: كلكم
إن شاء الله.
* * *
الخامس: بمعنى " لقد " في قوله: * (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) *، أي
لقد كنا.
* (إن كان وعد ربنا لمفعولا) *.
* (وتالله إن كدت لتردين) *.
* (تالله إن كنا لفي ضلال مبين) *.
فائدة
ادعى ابن جنى في كتاب،، القد،، أن " إن " الشرطية تفيد معنى التكثير لما كان
فيه هذا الشياع والعموم; لأنه شائع في كل مرة. ويدل لذلك دخولها على " أحد " التي
لا يستعمل إلا في النفي العام، كقوله تعالى: * (وإن أحد من المشركين استجارك) *;
لأنه ليس في واحد يقتصر عليه، فلذلك ادخل عليه " أحد "، الذي لا يستعمل
في الإيجاب.
قال: يجوز أن تكون " أحد " هنا ليست التي للعموم، بل بمنزلة " أحد " من
220

" أحد وعشرين " ونحوه، إلا أنه دخله معنى العموم، لأجل " إن " كما في قوله: * (وإن امرأة) *
* (إن امرؤ) *.
تنبيه
قيل: قد وقع في القرآن الكريم " إن " بصيغة الشرط، وهو غير مراد،
في مواضع:
* (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) *.
وقوله: * (واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون) *.
وقوله: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) *.
وقوله: * (أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) *.
وقوله: * (إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر) *.
قد يقال: أما الأولى فيمتنع النهى عن إرادة التحصن، فإنهن إذا لم يردن التحصن
يردن البغاء، والإكراه على المراد ممتنع.
وقيل: إنها بمعنى " إذا " لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن التحصن، أو هو
شرط مقحم، لأن ذكر الإكراه يدل عليه، لأنهن لا يكرهنهن لأنه إلا عند إرادة التحصين.
وفائدة إيجابه المبالغة في النهى عن الإكراه; فالمعنى: إن أردن العفة فالمولى أحق
بإرادة ذلك.
221

وأما الرابعة فهو يشعر بالإتمام. ولا نسلم أن الأصل الإتمام، وقد قالت عائشة رضي الله عنها
" فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر ".
وأما البواقي فظاهر الشرط ممتنع فيه، بدليل التعجب المذكور، لكنه لا يمنع مخالفة
الظاهر لعارض.
222

أن
المفتوحة الهمزة، الساكنة النون
ترد لمعان:
الأول: حرفا مصدريا ناصبا للفعل المضارع، وتقع معه في موقع المبتدأ، والفاعل،
والمفعول، والمضاف إليه.
فالمبتدأ، يكون في موضع رفع، نحو: * (أن تصوموا خير لكم) *.
* (وأن تصبروا خير لكم) *، * (وأن يستعففن خير لهن) *.
* (وأن تعفوا أقرب للتقوى) *.
والفاعل، كقوله تعالى: * (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن
يتخلفوا) *.
* (أكان للناس عجبا أن أوحينا) *.
* (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا) *، في قراءة من نصب " جواب ".
وتقع معه موقع المفعول به، فيكون في موضع نصب، نحو: * (وما كان هذا القرآن
أن يفترى) *.
* (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) *.
* (فأردت أن أعيبها) *.
223

* (وأمرت لأن أكون) *.
وقوله: * (فإن استطعت أن تبتغى) *.
* (يريد الله أن يخفف عنكم) *.
* (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر) *، معناه " بأن أنذر "، فلما حذفت الباء
تعدى الفعل فنصب.
ومنه في أحد القولين: * (إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله) *; نصب على
البدل من قوله: * (ما أمرتني به) *.
والمضاف إليه، فيكون في موضع جر كقوله: * (قل هو القادر على أن يبعث
عليكم) *، * (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا) * أي من قبل إتيانك.
وإنما لم ينصب في قوله تعالى: * (أكان للناس عجبا أن أوحينا) *، وإن كان المعنى: لوحينا
لأن الفعل بعدها لم يكن مستحقا للأعراب، ولا يستعمل إلا أن تعمل فيه العوامل.
وقد يعرض ل‍ " إن " هذه حذف حرف الجر، كقوله تعالى * (ألم أحسب الناس أن
تتركوا أن يقولوا) *، أي بأن يقولوا، كما قدرت في قوله تعالى: * (وبشر الذين آمنوا
وعملوا الصالحات أن لهم) *، أي بأن لهم. ومذهب سيبويه أنها في موضع نصب،
ونفاها الخليل على أصل الجر.
وتقع بعد " عسى "، فتكون مع صلتها في تأويل مصدر منصوب، إن كانت ناقصة; نحو
عسى زيد أن يقوم.
224

ومثله: * (عسى ربكم أن يرحمكم) *
وتكون في تأويل مصدر مرفوع إن كانت تامة، كقولك: عسى أن ينطلق زيد،
ومثله: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا) *.
* * *
الثاني: مخففة من الثقيلة، فتقع بعد فعل اليقين وما في معناه، ويكون اسمها ضمير الشأن،
وتقع بعدها الجملة خبرا عنها، نحو * (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا) *.
* (علم أن سيكون منكم مرضى) *.
* (وحسبوا ألا تكون فتنة) *.
* (وأن عسى أن يكون) *
* (أن لو استقاموا) *.
* (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) *.
وجعل ابن الشجري منه: * (وناديناه أن يا إبراهيم) *، أي أنه يا إبراهيم.
* * *
الثالث: مفسرة بمنزلة " أي " التي لتفسير ما قبلها، بثلاثة شروط: تمام ما قبلها من الجملة،
وعدم تعلقها بما بعدها، وأن يكون الفعل الذي تفسره في معنى القول، كقوله تعالى: * (وناديناه
أن يا إبراهيم) *، * (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا) *، * (وأن طهرا بيتي) *
225

قال ابن الشجري: تكون هذه في الأمر خاصة، وإنما شرط مجيئها بعد كلام تام،
لأنها تفسير ولا موضع لها من الإعراب; لأنها حرف يعبر به عن المعنى.
وخرج بالأول * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) *; لأن الكلام لم يتم،
فإن ما قبلها مبتدأ وهي في موضع الخبر; ولا يمكن أن تكون ناصبة، لوقوع الاسم بعدها
بمقتضى أنها المخففة من الثقيلة.
وأما قوله تعالى: * (وانطلق الملأ منهم أن امشوا) *; فقيل: إنها مفسرة، لإن
الانطلاق متضمن لمعنى القول.
وقال الخليل: يريدون أنهم انطلقوا في الكلام بهذا، وهو امشوا، أي أكثروا
يقال: أمشى الرجل ومشى، إذا كثرت ماشيته، فهو لا يريد: انطلقوا بالمشي الذي
هو انتقال; إنما يريد: قالوا هذا.
وقيل: عبارة عن الأخذ في القول فيكون بمنزلة صريحه، وأن مفسرة.
وقيل مصدرية.
فإن قيل: قد جاءت بعد صريح القول، كقوله تعالى: * (ما قلت لهم إلا ما أمرتني
به أن اعبدوا الله) *.
قلنا: لا دلالة فيه، لاحتمال أنها مصدرية.
وقال الصفار: لا تتصور المصدرية هنا بمعنى " إلا عبادة الله "، لأن القول لا يقع بعده
المفرد; إلا أن يكون هو المقول بنفسه، أو يكون في معنى المقول، نحو: قلت خبرا وشعرا،
لأنهما في معنى الكلام، أو يقول: قلت " زيدا "، أي هذا اللفظ، وهذا لا يمكن في الآية;
لأنهم لم يقولوا هذه العبارة، فثبت أنها تفسيرية، أي اعبدوا الله.
226

وقال السيرافي: ليست " أن " تفسيرا للقول، بل للأمر، لأن فيه معنى القول، فلو
كان " ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله " لم يجز لذكر القول.
* * *
الرابع: زائدة، وتكون بعد " لما " التوقيتية، كقوله تعالى في سورة العنكبوت: * (ولما أن
جاءت رسلنا لوطا...) * بدليل قوله في سورة هود: * (ولما جاءت رسلنا لوطا) *،
فجاء فيها على الأصل.
وأما قوله: * (فلما أن جاء البشير) *، فجئ ب‍ " أن " ولم يأت على الأصل من
الحذف; لأنه لما كان مجئ البشير إلى يعقوب عليه السلام بعد طول الحزن وتباعد المدة،
ناسب ذلك زيادة " أن "، لما في مقتضى وصفها من التراخي.
وذهب الأخفش إلى أنها قد تنصب الفعل، وهي مزيدة، كقوله تعالى: * (وما لنا
ألا نقاتل في سبيل الله) *، * (وما لكم ألا تنفقوا) * " وأن " في الآيتين زائدة بدليل:
* (وما لنا لا نؤمن بالله) *.
* * *
الخامس: شرطية في قول الكوفيين، كقوله: * (أن تضل إحداهما فتذكر) *،
قالوا: ولذلك دخلت الفاء.
* * *
السادس: نافية بمعنى " لا " في قوله تعالى: * (قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد) *، أي لا يؤتى
أحد. والصحيح أنها مصدرية.
227

وزعم المبرد أن " يؤتى " متصل بقوله: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) *،
واللام زائدة.
وقيل: إن " يؤتى " في موضع رفع، أي أن الهدى أن يؤتى.
* * *
السابع: التعليل، بمنزلة " لئلا " كقوله تعالى: * (يبين الله لكم أن
تضلوا) *.
وقال البصريون: على حذف مضاف، أي كراهة أن تضلوا.
وكذا قوله: * (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) *.
وقوله: * (أن تقول نفس يا حسرتى) *.
* * *
الثامن: بمعنى " إذ " مع الماضي، كقوله: * (بل عجبوا أن جاءهم) *.
وقيل: بل المعنى " لأن جاءهم "، أي من أجله.
قيل: ومع المضارع، كقوله: * (أن تؤمنوا بالله ربكم) *، أي إذا آمنتم. والصحيح
أنها مصدرية.
وأجاز الزمخشري أن تقع " أن " مثل " ما " في نيابتها عن ظرف الزمان، وجعل منه
قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك) *، وقوله:
* (إلا أن يصدقوا) *.
ورد بأن استعمالها للتعليل مجمع عليه، وهو لائق في هاتين الآيتين، والتقدير " لأن
آتاه " و " لئلا يصدقوا ".
228

إن
المكسورة المشددة
لها ثلاثة أوجه:
أحدها: للتأكيد، نحو: * (إن الله كان عليما حكيما) *.
وللتعليل، أثبته ابن جنى من النحاة، وكذا أهل البيان، وسبق بيانه في نوع التعليل من
قسم التأكيد.
وبمعنى " نعم " في قوله تعالى: * (إن هذان لساحران) * فيمن شدد النون.
قال أبو إسحاق: عرضت هذا على محمد بن يزيد، وإسماعيل بن إسحاق، فرضياه.
وقال ابن برهان: كأنهم أجمعوا بعد التنازع على قذف النبيين بالسحر، صلى
الله عليهما!
وعبارة غيره: هي بمعنى " أجل " وإن لم يتقدم سؤال عن سحرهم، فقد تقدم: * (أجئتنا
لتخرجنا من أرضنا بسحرك) * فتكون على هذا القول مصروفة إلى تصديق ألسنتهم
فيما ادعوه من السحر.
واستضعفه الفارسي بدخول اللام في خبر المبتدأ، وهو لا يجوز إلا في ضرورة.
فإن قدرت مبتدأ محذوفا - أي فهما ساحران - فمردود; لأن التأكيد لا يليق
به الحذف.
وقيل: دخلت اللام في خبر المبتدأ مراعاة للفظ، أو لما كانت تدخل معها في الخبرية.
وقيل: جاء على لغة بنى الحارث، في استعمال المثنى بالألف مطلقا.
229

أن
المفتوحة المشددة
تجئ للتأكيد كالمكسورة. واستشكله بعضهم، لأنك لو صرحت يقول بالمصدر المنسبك
منها لم تفد توكيدا. وهو ضعيف لما علم من الفرق بين " أن والفعل " والمصدر.
وقال في المفصل: إن وأن تؤكدان مضمون الجملة: إلا أن المكسورة الجملة معها
على استقلالها بفائدتها، [والمفتوحة تقلبها إلى حكم المفرد].
قال ابن الحاجب: لأن وضع " إن " تأكيد للجملة من غير تغيير لمعناها، فوجب أن
تستقل بالفائدة بعد دخولها، وأما المفتوحة فوضعها وضع الموصولات، في أن الجملة معها
كالجملة مع الموصول; فلذلك صارت مع جملتها في حكم الخبر، فاحتاجت إلى جزء آخر ليستقل
معها بالكلام، فتقول: إن زيدا قائم، وتسكت. وتقول: أعجبني أن زيدا قائم، فلا تجد بدا
من هذا الجزء الذي معها، لكونها صارت في حكم الجزء الواحد، إذ معناه: أعجبني قيام
زيد، ولا يستقل بالفائدة ما لم ينضم إليه جزء آخر، فكذلك المفتوحة مع جملتها. ولذلك
وقعت فاعلة ومفعولة ومضافا إليها، وغير ذلك مما تقع فيه المفردات.
ومن وجوه الفرق بينهما أنه لا تصدر بالمفتوحة الجملة كما تصدر بالمكسورة، لأنها
لو صدرت لوقعت مبتدأ، والمبتدأ معرض لدخول " إن " فيؤدى إلى اجتماعهما.
. لأنها قد تكون بمعنى " لعل "، كما في قوله تعالى: * (وما يشعركم أنها إذا جاءت
لا يؤمنون) * وتلك لها صدر الكلام، فقصدوا إلى أن تكون هذه مخالفة لتلك
في الوضع.
230

إنما
لقصر الصفة على الموصوف، أو الموصوف على الصفة، وهي للحصر عند جماعة،
كالنفي والاستثناء.
وفرق البيانيون بينهما، فقالوا: الأصل أن يكون ما يستعمل له " إنما " مما يعلمه
المخاطب ولا ينكره، كقولك: إنما هو أخو ك، وإنما هو صاحبك القديم; لمن يعلم ذلك
ويقر به. وما يستعمل له النفي والاستثناء، على العكس، فأصله أن يكون مما يجهله المخاطب
وينكره، نحو: * (وما من اله إلا الله) *.
ثم إنه قد ينزل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب، فيستعمل له النفي والاستثناء،
نحو: * (وما محمد إلا رسول...) * الآية، ونحو: * (إن أنتم إلا بشر مثلنا) *
والرسل ما كانوا على دفع البشرية عن أنفسهم وادعاء الملائكية; لكن الكفار كانوا
يعتقدون أن الله لا يرسل إلا الملائكة، وجعلوا أنهم بادعائهم النبوة ينفون عن أنفسهم
البشرية، فأخرج الكلام مخرج ما يعتقدون، وأخرج الجواب أيضا مخرج ما قالوا، حكاية
لقولهم، كما يحكى المجادل كلام خصمه، ثم يكر عليه بالإبطال، كأنه قيل: الأمر كما زعمتم
أننا بشر، ولكن ليس الأمر كما زعمتم من اختصاص الملائكة بالرسالة، فإن الله
يبعث من الملائكة رسلا ومن الناس.
وقد ينزل المجهول منزلة المعلوم لادعاء المتكلم ظهوره، فيستعمل له " إنما "،
كقوله تعالى: * (إنما نحن مصلحون) *، فإن كونهم مصلحين منتف فهو مجهول،
بمعنى أنه لم يعلم بينهم صلاح، فقد نسبوا الإصلاح إلى أنفسهم، وادعوا أنهم كذلك
ظاهر جلى، ولذلك جاء الرد عليهم مؤكدا من وجوه.
231

إلى
لانتهاء الغايات، وهي مقابلة " من ". ثم لا يخلوا أن يقترن بها قرينة تدل على أن ما بعدها
داخل فيما قبلها، أو غير داخل. وإن لم يقترن بها قرينة تدل على أن ما بعدها داخل فيما
قبلها أو غير داخل، فيصار إليه قطعا، وإن لم يقترن بها.
واختلف في دخول ما بعدها في حكم ما قبلها على مذاهب:
أحدها: لا تدخل إلا مجازا، لأنها تدل على غاية الشئ ونهايته التي هي حده، وما بعد
الحد لا يدخل في المحدود; ولهذا لم يدخل شئ من الليل في الصوم في قوله تعالى: * (ثم
أتموا الصيام إلى الليل) *.
الثاني: عكسه، أي أنه يدخل ولا يخرج إلا مجازا، بدليل آية الوضوء.
والثالث: أنها مشتركة فيهما لوجود الدخول وعدمه.
والرابع: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها أو جزءا كالمرافق، دخل، وإلا فلا.
والحق أنه لا يطلق، فقد يدخل نحو: * (وأيديكم إلى المرافق) *، وقد
لا يدخل نحو: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) *.
وقيل في آية المرافق: إنها على بابها، وذلك أن المرفق هو الموضع الذي يتكئ الإنسان
عليه في رأس العضد وذلك هو المفصل وفريقه، فإن فيدخل فيه مفصل الذراع، ولا يجب في الغسل
أكثر منه.
وقيل: " إلى " تدل على وجوب الغسل إلى المرافق، ولا ينبغي وجوب غسل المرفق;
232

لأن الحد لا يدخل في المحدود، ولا ينفيه التحديد، كقولك: سرت إلى الكوفة، فلا يقتضى
دخولها ولا ينفيه، كذلك المرافق; إلا أن غسله ثبت بالسنة.
ومنشأ الخلاف في آية الوضوء أن " إلى " حرف مشترك، يكون للغاية والمعية، واليد
تطلق في كلام العرب على ثلاثة معان: على الكفين فقط، وعلى الكف والذراع والعضد،
فمن جعل " إلى " بمعنى " مع " وفهم من اليد مجموع الثلاثة، أوجب دخوله في الغسل، ومن
فهم من " إلى " الغاية، ومن اليد ما دون المرفق لم يدخلها في الغسل.
قال الآمدي: ويلزم من جعلها بمعنى " مع " أن يوجب غسلها إلى المنكب، لأن العرب
تسمية يدا.
وقد تأتى بمعنى " مع " كقوله: * (من أنصاري إلى الله) *.
* (ويزدكم قوة إلى قوتكم) *.
* (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) *.
* (وأيديكم إلى المرافق) *.
* (وإذا خلوا إلى شياطينهم) *.
قيل: ترجع إلى الانتهاء، والمعنى في الأول: من يضيف نصرته إلى نصرة الله؟
وموضعها حال، أي من أنصاري مضافا إلى الله؟.
والمعنى في الأخرى: ولا تضيفوا أموالكم إلى أموالهم، وكنى عنه بالأكل كما قال:
* (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * أي لا تأخذوا.
وقد تأتى للتبيين، قال ابن مالك: وهي المعلقة في تعجب أو تفضيل بحب أو بغض.
233

مبينة لفاعلية مصحوبها، كقوله تعالى: * (قال رب السجن أحب إلى) *.
ولموافقة اللام كقوله: * (والأمر إليك) *. وقيل: للانتهاء، وأصله والأمر إليك.
وكقوله: * (ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) * وموافقة " في " في قوله
تعالى: * (هل لك إلى أن تزكى) *، وقيل: المعنى: بل أدعوك إلى أن تزكى.
وزائدة، كقراءة بعضهم: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم) * بفتح الواو.
وقيل: ضمن " تهوى " معنى " تميل "
تنبيه
من الغريب أن " إلى " قد تستعمل اسما، فيقال: انصرفت من إليك، كما يقال:
غدوت من عليك. حكاه ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري.
ولم يقف الشيخ ابن حيان على هذا فقال في تفسيره في قوله: * (وهزي إليك بجذع
النخلة) * وقوله: * (واضمم إليك جناحك) *: إلى حرف جر بالإجماع وظاهرها،
أنها متعلقة ب‍ " هزى ".
وكيف يكون ذلك مع القاعدة المشهورة، أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير متصل.
وقد يرفع المتصل وهما لمدلول واحد، فلا تقول: ضربتني ولا ضربتك إلا في باب ظن،
والضمير المجرور عندهم بالحرف كالمنصوب المستقل، فلا تقول: هززت إلى، ولا
هززت إليك.
234

ألا
بالفتح والتخفيف
تأتى للاستفتاح، وفائدته التنبيه على تحقيق ما بعدها، ولذلك قل وقوع الجمل بعدها
إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، نحو: * (ألا إنهم هم المفسدون) *.
* (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم إلا إنه بكل شئ محيط) *.
* (ألا لعنة الله على الظالمين) *
* (ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعد لثمود) *.
* (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم) *.
* (ألا حين يستغشون ثيابهم) *.
وتأتي مركبة من كلمتين: همزة الاستفهام ولا النافية.
والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا، كقوله تعالى: * (قوم فرعون
ألا يتقون) *.
وقوله: * (قال ألا تأكلون) *.
والتقدير أنهم ليسوا بمتقين، وليسوا بآكلين.
وللعرض وهو طلب بلين، نحو: * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) *.
* (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) *.
235

ألا
بالفتح والتشديد
حرف تحضيض، مركبة من " أن " الناصبة و " لا " النافية، كقوله تعالى: * (ألا تعلوا
على) *، * (ألا يسجدوا لله) *.
ثم قيل: المشددة أصل والمخففة فرع. قيل بالعكس.
وقيل: الهمزة بدل من الهاء، وبالعكس، حكاه ابن هشام الخضراوي في
حاشية سيبويه.
إلا
ترد لمعان:
الأول: الاستثناء. وينقسم إلى متصل، وهو ما كان المستثنى من جنس المستثنى منه،
نحو جاء القوم إلا زيدا. وإلى منقطع وهو ما كان من غير جنسه.
وتقدر ب‍ " لكن "، كقوله: * (لست عليهم بمصيطر. إلا من تولى وكفر) *.
و * (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء) *.
وقوله: * (إلا الذين آمنوا) * في سورة الانشقاق.
و * (إلا من تولى وكفر) *، في آخر الغاشية.
236

وكذلك: * (إلا من ارتضى من رسول) *، ودخول الفاء في: * (فإنه يسلك) *
دليل انقطاعه، ولو كان متصلا لتم الكلام عند قوله: " رسول ".
وقوله: * (إلا تذكره لمن يخشى) *. ويجوز أن تكون * (تذكرة) * بدلا من
* (لتشقى) *، وهو منصوب ب‍ " أنزلنا " تقديره: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة.
وقوله: * (وما لأحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) *،
فابتغاء وجه ربه ليس من جنس النعم التي تجزى.
وقوله: * (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) *. فقولهم:
* (ربنا الله) * ليس بحق يوجب إخراجهم.
وقوله: * (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر) *، لا حرج
عليهم في قعودهم; وإنما كان منقطعا; لأن القاعد عن ضرر - وإن كانت له نية الجهاد -
ليس مستويا في الأجر مع المجاهد، لأن الأجر على حسب العمل، والمجاهد يعمل ببدنه
وقلبه، والقاعد بقلبه.
وقوله: * (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس) *، إذ لو كان
متصلا لكان المعنى: فهل آمنت قرية إلا قوم يونس، فلا يؤمنون! فيكون طلب
الإيمان من خلاف قوم يونس، وذلك باطل، لأن الله تعالى يطلب من كل شخص الإيمان،
فدل على أن المعنى: لكن قوم يونس.
237

وقال الزجاج: يمكن اتصاله، لأن قوله: * (فلولا) * في المعنى نفى، فإن الخطاب
لما يقع منه الإيمان، وذلك إذا كان الكلام نفيا، كان ما بعد " إلا " يوجب إنكاره.
قال: ما من قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس.
وقد رد عليه الآمدي بأن جعل " إلا " منقطعة عما قبلها لغة فصيحة، وإن كان جعلها
متصلة أكثر، وحمل الكلام على المعنى ليس بقياس.
ومنه قوله تعالى: * (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) *، فإن
" من رحم " بمعنى المرحوم ليس من جنس العاصمين; وإنما هو معصوم، فدل على أنها
بمعنى " لكن ".
فإن قيل: يمكن اتصاله على أن * (من رحم) * بمعنى " الراحم " أي الذي يرحم،
فيكون الثاني من جنس الأول.
قيل: حمل هذه القراءة على القراءة الأخرى، أعني قراءة * (رحم) * بضم الراء،
حتى يتفق معنى القراءتين.
* * *
الثاني: بمعنى " بل " كقوله تعالى: * (طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى.
إلا تذكرة...) *، أي بل تذكرة.
* * *
الثالث: عاطفة بمعنى " الواو " في التشريك، كقوله تعالى: * (لئلا يكون للناس
عليكم حجة إلا الذين ظلموا) *، معناه " ولا الذين ظلموا ".
وقوله: * (إني لا يخاف لدى المرسلون. إلا من ظلم) *، أي ومن ظلم. تأولها
الجمهور على الاستثناء المنقطع.
* * *
238

الرابع: بمعنى " غير " إذا كانت صفة. ويعرب الاسم بعد " إلا " إعراب " غير "
كقوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) *، وليست هنا للاستثناء،
وإلا لكان التقدير: لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا، وهو باطل.
ومثله قوله تعالى: * (ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) *، فلو كان استثناء
لكان من غير الجنس; لأن " أنفسهم " ليس شهودا على الزنا; لأن الشهداء على الزنا
يعتبر فيهم العدد، ولا يسقط الزنا المشهود به بيمين المشهود عليه.
وإذا جعل وصفا فقد أمن فيه مخالفة الجنس ف‍ " إلا " هي بمنزلة " غير " لا بمعنى
الاستثناء; لأن الاستثناء إما من جنس المستثنى منه أو من غير جنسه. ومن توهم في صفة
الله واحدا من الأمرين فقد أبطل.
قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني: هذا توهم منه، وخاطر خطر من غير أصل; ويلزم عليه
أن تكون " إلا " في قوله تعالى: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) *، وقوله:
* (ضل من تدعون إلا إياه) * استثناء، وأن تكون بمنزلة " غير " وذلك لا يقوله
أحد; لأن " إلا " إذا كانت صفة، كان إعراب الاسم الواقع بعدها إعراب الموصوف بها،
وكان تابعا له في الرفع والنصب والجر.
وقال: والاسم بعد " إلا " في الآيتين منصوب كما ترى، وليس قبل " إلا " في واحد
منهما منصوب بإلا.
واعلم أنه يوصف بما بعد " إلا "، سواء كان استثناء منقطعا أو متصلا. قال المبرد
والجرمى في قوله تعالى: * (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) *، لو قرئ بالرفع " قليل " على الصفة
لكان حسنا والاستثناء منقطع.
239

الخامس: بمعنى " بدل " وجعل ابن الضائع منه قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة
إلا الله لفسدتا) *، أي " بدل الله " أي عوض الله; وبه يخرج على الإشكال المشهور
في الاستثناء، وفى الوصف ب‍ " إلا " من جهة المفهوم.
بقى أن يقال: إن ابن مالك جعلها في الآية صفة، وأنها للتأكيد لا للتخصيص،
لأنه لو قيل: لو كان فيهما آلهة فسدتا، لصح; لأن الفساد مرتب على تعدد الآلهة.
فيقال: ما فائدة الوصف المقتضى ها هنا للتأكيد؟ وجوابه أن " آلهة " تدل على الجنس،
أو على الجمع، فلو اقتصر عليه لتوهم أن الفساد مرتب على الجنس من حيث هو، فأتى
بقوله: * (إلا الله) * ليدل على أن الفساد مرتب على التعدد. وهذا نظير قولهم في: * (إلهين
اثنين) *، أن الوصف هنا مخصص لا مؤكد، لأن * (إلهين) * يدل على الجنسية
وعلى التثنية، فلو اقتصر عليه لم يفهم النهى عن أحدهما، فأتى ب‍ " اثنين " ليدل على أن النهى
عن الاثنين على ما سبق.
* * *
السادس: للحصر إذا تقدمها نفى:
إما صريح، كقوله تعالى: * (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) *.
أو مقدر، كقوله تعالى: * (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) *، فإن " إلا " ما
دخلت بعد لفظ الإيجاب إلا لتأويل ما سبق إلا بالنفي، أي فإنها لا تسهل، وهو معنى
" كبيرة "، وأما لأن الكلام صادق معها، أي وإنها لكبيرة على كل أحد إلا على
الخاشعين، بخلاف ضربت إلا زيدا، فإنه لا يصدق.
* * *
240

السابع: مركبة من " إن " الشرطية، و " لا " النافية، ووقعت في عدة مواقع
من القرآن.
نحو: * (إلا هذا تنصروه فقد نصره الله) *.
* (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض) *.
* (إلا تنفروا يعذبكم) *.
* (. إلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) *.
* (وإلا تصرف عنى كيدهن) *.
ولأجل الشبه الصوري غلط بعضهم فقال في " إلا تفعلوه ": إن الاستثناء منقطع
أو متصل.
وعجبت من أن ابن مالك في شرح،، التسهيل،، حيث عدها في أقسام " إلا "، لكنه
في،، شرح الكافية،، قال في باب الاستثناء: لا حاجة للاحتراز عنها. فائدة
قال الرماني في تفسيره: معنى " إلا ": اللازم لها الاختصاص بالشئ دون غيره، فإذا
قلت: جاءني القوم إلا زيدا، فقد اختصصت زيدا بأنه لم يجئ، وإذا قلت: ما جاءني
إلا زيد، فقد اختصصته بالمجئ. وإذا قلت: ما جاءني زيد إلا راكبا، فقد اختصصت
هذه الحال دون غيرها، من المشي والعدو ونحوه.
241

أما
المفتوحة الهمزة المشددة الميم
كلمة فيها معنى الشرط، بدليل لزوم الفاء في جوابها.
وقدرها سيبويه ب‍ " مهما " وفائدتها في الكلام، أنها تكسبه فضل تأكيد، تقول:
زيد ذاهب; فإذا قصدت أنه لا محالة ذاهب، قلت: أما زيد فذاهب. ولهذا قال سيبويه:
مهما يكن من شئ فزيد ذاهب.
وفى إيرادها في قوله تعالى: * (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) *
إحماد عظيم للمؤمنين، ونعى على الكافرين لرميهم بالكلمة الحمقاء.
والاسم الواقع بعدها، إن كان مرفوعا فهو مبتدأ، كقوله: * (أما السفينة فكانت
لمساكين) *، * (أما الغلام) *، * (أما الجدار) *.
وإن كان منصوبا، فالناصب له ما بعد الفاء على الأصح، كقوله تعالى: * (فأما اليتيم
فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر) *.
وقرئ: * (وأما ثمود فهديناهم) *، بالرفع والنصب، فالرفع بالابتداء لاشتغال الفعل
عنهم بضميرهم.
وتذكر لتفصيل ما أجمله المخاطب. وللاقتصار حدثنا على بعض ما ادعى.
فالأول، كقوله تعالى: * (فأما الذين شقوا ففي النار) *، * (وأما الذين سعدوا
242

ففي الجنة) *، فهذا تفصيل لما جمع في قوله تعالى: * (ذلك يوم مجموع له الناس) *،
وبيان أحكام الشقي والسعيد.
والثاني: كما لو قيل: زيد عالم شجاع كريم; فيقال: أما زيد فعالم، أي لا يثبت له
بما ادعى سوى العلم.
واختلف في تعدد الأقسام بها، فقيل: أنه لازم، وحمل قوله تعالى: * (والراسخون
في العلم) * على معنى " وأما الراسخون "، ليحصل بذلك التعدد بعدها، وقطعه عن قوله:
* (ما يعلم تأويله إلا الله) *.
ومنهم من قال: إنه غير لازم، بل قد يذكر فيها قسم واحد. ولا ينافي ذلك أن تكون
للتفصيل ما في نفس المتكلم، كقوله تعالى: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) *.
حكى القولين ابن جمعة الموصلي في شرح،، الدرة،، وصحح الأول.
والأقرب الثاني، والتقدير في الآية: " وأما غيرهم فيؤمنون به ويكلون معناه إلى ربهم "
ودل عليه: * (والراسخون...) * الآية.
قال بعضهم: وهذا المعنى هو المشار إليه في آية البقرة: * (فأما الذين آمنوا فيعلمون
أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا) *، إلى قوله: * (وما يضل به
إلا الفاسقين) *.
وهذا حكاه ابن قتيبة عن بعض المتقدمين، قال: فالفاسقون ها هنا هم الذين في قلوبهم
زيغ، وهم الضالون بالتمثيل. ثم خالفه فقال: وأنت إذا جعلت المتبعين المتشابه بالتأويل
المنافقين في اليهود المحرفين له دون المؤمنين، كما قال الله تعالى: * (في قلوبهم زيغ) *
243

أي غير الإسلام، وضح لك الأمر وصح ما قلناه من معرفة الراسخين بالمتشابه، وعلى هذا
فالوقف على: * (والراسخون في العمل) *.
وأما قوله تعالى: * (وأما إن كان من أصحاب اليمين. فسلام لك) *، فقيل:
الفاء جواب " أما "، يكون الشرط لا جواب له، وقد سد جواب " أما " مسد
جواب الشرط.
وقيل: بل جواب الشرط، والشرط وجوابه سد مسد جواب " أما ".
وتجئ أيضا مركبة من " أم " المنقطعة و " ما " الاستفهامية، وأدغمت الميم في الميم،
كقوله تعالى: * (أم ماذا كنتم تعملون) *.
-،، * * * *،، -
244

إما
المكسورة المشددة
نحو اشتر لي، إما لحما وإما لبنا.
وكقوله تعالى: * (إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) *.
* (إما أن تلقى وإما أن نكون) *.
* (فإما منا بعد وإما فداء) * وانتصب " منا " و " فداء " على المصدر، أي من
" مننتم " و " فاديتم ".
وقال صاحب " الأزهية ": حكها في هذا القسم التكرير، ولا تكرير إذا
كان في الكلام عوض من تكريرها، تقول: إما تقول الحق وإلا فاسكت، و " إلا "
بمعنى " إما ".
وبمعنى الإبهام، نحو: * (إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) *.
* (إما العذاب وإما الساعة) *.
* (أما شاكرا وإما كفورا) *.
وتكون بمعنى الشرطية، مركبة من " إن " الشرطية و " ما " الزائدة، وهذه
لا تكرر.
والأكثر في جوابها نون التوكيد، نحو: * (فإما ترين من البشر أحدا) *.
245

* (قل رب إما تريني ما يوعدون) *.
* (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم) *.
* (وإما تخافن من قوم خيانة) *.
وإنما دخلت معها نون التوكيد للفرق بينها وبين التي للتخيير.
واختلف في قوله تعالى: * (إما شاكرا وإما كفورا) *، فقال البصريون:
للتخيير، فانتصاب " شاكرا " و " كفورا " على الحال.
وقيل: التخيير هنا راجع إلى إخبار الله بأنه يفعل ما يشاء.
وقيل: حال مقيدة، أي إما أن تجد عندهما الشكر، فهو علامة السعادة، أو الكفر
فهو علامة الشقاوة، فعلى هذا تكون للتفصيل.
وأجاز الكوفيون أن تكون ها هنا شرطية، أي إن شكر وإن كفر.
قال مكي: وهذا ممنوع، لأن الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن تضمر بعد " أن "
فعلا كقوله تعالى: * (وإن أحد من المشركين استجارك) *، ولا يجب إضماره هنا،
لأنه يلزم رفع " شاكر " بذلك الفعل.
ورد عليه ابن الشجري، بأن النحويين يضمرون بعد " إن " الشرطية فعلا يفسره
ما بعده، من لفظه فيرتفع الاسم بعد أن يكون فاعلا لذلك المضمر; كقوله تعالى: * (إن
امرؤ هلك) *، * (وإن امرأة خافت) *، كذلك يضمرون بعده أفعالا تنصب
الاسم، بأنه مفعول به، كقولك: إن زيدا أكرمته نفعك، أي إن أكرمت.
أل
تقدمت بأقسامها في قاعدة التنكير والتعريف.
246

الأن
اسم الوقت الحاضر بالحقيقة. وقد تستعمل في غيره مجازا.
وقال قوم: هي حد للزمانين، أي ظرف للماضي وظرف للمستقبل. وقد يتجوز بها
عما قرب من الماضي وما يقرب من المستقبل. حكاه أبو البقاء في،، اللباب،،.
وقال ابن مالك: لوقت حضر جميعه، كوقت فعل الإنشاء حال النطق به، أو ببعضه،
كقوله تعالى: * (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) *، * (الآن خفف الله
عنكم) *.
وهذا سبقه إليه الفارسي، فقال: " الآن " يراد به الوقت الحاضر، ثم قد تتسع فيه العرب
فتقول: أنا الآن أنظر في العلم، وليس الغرض أنه في ذلك الوقت اليسير يفعل ذلك، ولكن
الغرض أنه في وقته ذلك، وما أتى بعده، كما تقول: أنا اليوم خارج، تريد به اليوم الذي
عقب الليلة.
قال ابن مالك: وظرفيته غالبة، لا لازمة.
247

أف
صوت يستعمل عند التكره والتضجر، واختلف في قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف) *
فقيل: اسم لفعل الأمر، أي كفا، أو اتركا.
وقيل: اسم لفعل ماض، أي كرهت وتضجرت. حكاهما أبو البقاء.
وحكى غيره ثالثا; أنه اسم لفعل مضارع، أي اتضجر منكما.
وأما قوله تعالى في سورة الأنبياء: * (أف لكم) *، فأحال أبو البقاء على ما سبق في
الإسراء، وقضيته تساوى المعنيين.
وقال العزيزي في،، غريبه،، في هذه: أي تلفا لكم، فغاير بينهما، وهو الظاهر.
وفسر صاحب،، الصحاح،، أف، بمعنى " قذرا ".
248

أنى
مشتركة بين الاستفهام والشرط، ففي الشرط تكون بمعنى " أين "، نحو أنى يقم
زيد يقم عمرو.
وتأتي بمعنى " كيف " كقوله تعالى: * (أنى يحيى هذه الله بعد موتها) *.
* (فأنى لهم) *، * (أنى يؤفكون) *.
* (فأتوا حرثكم أنى شئتم) *، أي كيف شئتم، مقبلة ومدبرة.
وقال الضحاك: متى شئتم. ويرده سبب نزول الآية.
وقال بعضهم: من أي جهة شئتم، وهو طبق سبب النزول.
وتجئ بمعنى " من أين " نحو: * (أنى لك هذا) *.
وقوله: * (أنى يكون لي ولد) *.
* (أنى يكون لي غلام) *.
قال ابن فارس: والأجود أن يقال في هذا أيضا " كيف ": وقال ابن قتيبة
المعنيان متقاربان.
وقرئ شاذا: * (أنى صببنا الماء صبا) * أي " من أين "، فيكون الوقف عند
قوله * (إلى طعامه) *.
249

وتكون بمعنى " متى " كقوله تعالى: * (أنى يحيى هذه الله بعد موتها) *.
وقوله: * (قلتم أنى هذا) *، ويحتمل أن يكون معناه " من أين ".
والحاصل أنها للسؤال عن الحال وعن المكان.
قال الفراء: أنى مشاكلة لمعنى " أين " إلا أن " أين " للموضع خاصة، " وأنى "
تصلح لغير ذلك.
وقال ابن الدهان: فيها معنى يزيد على " أين "، لأنه لو قال: أين لك هذا؟ كان
يقصر عن معنى " أنى لك "، لأن معنى " أنى لك " " من أين لك "، فإن معناه مع
حرف الجر، لأنه يرى أنه وقع في الجواب، كذلك قوله: * (هو من عند الله) *، ولم يقل:
هو عند الله. وجواب " أنى لك " غير جواب " من أين لك "، هذا فاعرفه.
250

أيان
في الكشاف في آخر سورة الأعراف. قيل اشتقاقه: من " أي " " فعلان "، منه
لأن معناه، أي وقت، وأي فعل، من أويت إليه، لأن البعض آو إلى الكل، متساند
إليه. وهو بعيد.
وقيل: أصله: أي أوان.
وقال السكاكي: جاء " أيان " بفتح الهمزة وكسرها، وكسر همزتها يمنع من أن
يكون أصلها أي أوان، كما قال بعضهم، حذفت الهمزة من " أوان " والياء الثانية من
أي فبعد قلب الواو واللام ياء أدغمت الياء الساكنة فيها. وجعلت الكلمتان واحدة.
وهي في الأزمان، بمنزلة " متى " إلا أن " متى " أشهر منها، وفى " أيان " تعظيم.
ولا تستعمل إلا في موضع التفخيم، بخلاف " متى "، قال تعالى: * (أيان مرساها) *
* (أيان يبعثون) *، * (أيان يوم الدين) *، * (أيان يوم القيامة) *.
وقال صاحب،، البسيط،،: إنها تستعمل في الاستفهام عن الشئ المعظم أمره.
قال: وسكت الجمهور عن كونها شرطا.
وذكر بعض المتأخرين مجيئها، لدلالتها بمنزلة " متى "، ولكن لم يسمع ذلك.
أي
حرف جواب بمعنى " نعم "، كقوله تعالى: * (ويستنبئونك أحق هو قل أي وربى
إنه لحق) *، ولا يأتي قبل النهى صلة لها.
251

حرف الباء
أصله للإلصاق، ومعناه اختلاط الشئ بالشئ، ويكون حقيقة، وهو الأكثر، نحو:
" به داء " ومجازا ك‍ " مررت به "، إذ معناه: جعلت مروري ملصقا بمكان قريب منه،
لا به، فهو وارد على الاتساع.
وقد جعلوا منه قوله تعالى: * (وامسحوا برؤسكم) *.
* * *
وقد تأتى زائدة:
إما مع الخبر; نحو: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *.
وإما مع الفاعل، نحو: * (وكفى بالله شهيدا) * ف‍ " الله " فاعل و " شهيدا "
نصب على الحال أو التمييز، والباء زائدة، ودخلت لتأكيد الاتصال، أي لتأكيد شدة
ارتباط الفعل بالفاعل، لأن الفعل يطلب فاعله طلبا لا بد منه، والباء توصل الأول إلى
الثاني، فكأن الفعل يصل إلى الفاعل، وزادته الباء اتصالا.
قال ابن الشجري: فعلوا ذلك; إيذانا بأن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في عظم المنزلة، فضوعف لفظها ليضاعف معناها.
وقيل: دخلت الباء لتدل على المعنى; لأن المعنى: اكتفوا بالله.
وقيل: الفاعل مقدر، والتقدير كفى الاكتفاء بالله، فحذف المصدر وبقى معموله
دالا عليه.
252

وفيه نظر، لأن الباء إذا سقطت ارتفع اسم الله على الفاعلية، كقوله:
* كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا *
وإما مع المفعول، كقوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *.
وقوله: * (تلقون إليهم بالمودة) *، أي تبذلونها لهم.
وقوله: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) *.
وقوله: * (بأيكم المفتون) *; جعلت " المفتون " اسم مفعول لا مصدرا،
كالمعقول والمعسور والميسور.
وقوله: * (عينا يشرب بها عباد الله) *.
* (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) *.
* (تنبت بالدهن) *.
وقوله: * (فامسحوا برؤسكم) *، ونحوه.
والجمهور على أنها لا تجئ زائدة، وأنه إنما يجوز الحكم بزيادتها إذا تأدى المعنى
المقصود بوجودها وحالة عدمها على السواء، وليس كذلك هذه الأمثلة، فإن معنى:
* (وكفى بالله شهيدا) *، كما هي في: أحسن بزيد! ومعنى من * (امسحوا برؤوسكم) *:
اجعلوا المسح ملاصقا برؤسكم، وكذا * (بوجوهكم) *، أشار إلى مباشرة العضو بالمسح، وإنما
لم يحسن في آية الغسل " فاغسلوا بوجوهكم " لدلالة الغسل على المباشرة، وهذا كما تتعين
المباشرة في قولك: " أمسكت به " وتحتملها في " أمسكته ".
وأما قوله: * (ولا تلقوا بأيديكم) *، فحذف المفعول للاختصار.
253

وأما * (تلقون إليهم بالمودة) * فمعناه: تلقون إليهم النصيحة بالمودة.
وقال النحاس: معناه تخبرونهم بما يخبر به الرجل أهل مودته.
وقال السهيلي: ضمن * (تلقون) * معنى " ترمون "، من الرمي بالشئ، يقال:
ألقى زيد إلى بكذا، أي رمى به; وفى الآية إنما هو إلقاء بكتاب أو برسالة، فعبر عنه
بالمودة، لأنه من أفعال أهل المودة، فلهذا جئ بالباء.
وأما قوله: * (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *، فليست زائدة، وإلا للحق
الفعل قبلها علامة التأنيث، لأنه للنفس، وهو مما يغلب تأنيثه.
وجوز في الفعل وجهان: أحدهما أن تكون " كان " مقدرة بعد " كفى " ويكون
" بنفسك " صفة له قائمة مقامه.
والثاني: أنه مضمر يفسره المنصوب بعده، أعني " حسيبا "، كقولك: نعم
رجلا زيد.
* * *
وتجئ للتعدية، وهي القائمة مقام الهمزة في إيصال الفعل اللازم إلى المفعول به، نحو:
* (ولو شاء الله لذهب بسمعهم) *، أي أذهب.
كما قال: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) *.
ولهذا لا يجمع بينهما، فهما متعاقبتان; وأما قوله تعالى * (أسرى بعبده) *، فقيل
" أسرى " و " سرى " بمعنى، كسقى وأسقى، والهمزة ليست للتعدية، وإنما المعدى الباء
في " بعبده ".
وزعم ابن عطية أن مفعول " أسرى " محذوف، وأن التعدية بالهمزة، أي أسرى
الليلة بعبده.
254

ومذهب الجمهور أنها بمعنى الهمزة، لا تقتضي مشاركة الفاعل للمفعول.
وذهب المبرد والسهيلي أنها تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في الفعل بخلاف الهمزة.
ورد بقوله تعالى: * (ذهب الله بنورهم) *، * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم
وأبصارهم) *، ألا ترى أن الله لا يذهب مع سمعهم، فالمعنى: لأذهب سمعهم.
وقال الصفار: وهذا لا يلزم، لأنه يحتمل أن يكون فاعل " ذهب " البرق،
ويحتمل أن يكون الله تعالى، ويكون الذهاب على صفة تليق به سبحانه، كما قال:
* (وجاء ربك) *.
قال: وإنما الذي يبطل مذهبه قول الشاعر:
ديار التي كانت ونحن على منى * تحل بنا لولا نجاء الركائب
أي تجعلنا حلالا، لا محرمين، وليست الديار داخلة معهم في ذلك.
واعلم أنه لكون الباء بمعنى الهمزة، لا يجمع بينهما، فإن قلت: كيف جاء * (تنبت
بالدهن) * والهمزة في " أنبت " للنقل؟
قلت: لهم في الانفصال عنه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون الباء زائدة.
والثاني: أنها باء الحال، كأنه قال: تنبت ثمرها وفيه الدهن، أي وفيهما الدهن، والمعنى:
تنبت الشجرة بالدهن، أي ما هو موجود منه، وتختلط به القوة بنبتها، على موقع المنة،
ولطيف القدرة، وهداية إلى استخراج صبغة الآكلين.
والثالث: أن " نبت " و " أنبت " بمعنى.
* * *
255

وللاستعانة، وهي الدالة على آلة الفعل، نحو كتبت بالقلم، ومنه في أشهر الوجهين:
* (بسم الله الرحمن الرحيم) *.
* * *
وللتعليل بمنزلة اللام، كقوله: * (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) *.
* (فبظلم من الذين هادوا) *.
* (فكلا أخذنا بذنبه) *.
* * *
وللمصاحبة بمنزلة " مع "، وتسمى باء الحال، كقوله تعالى: * (قد جاءكم الرسول
بالحق) * أي مع الحق أو محقا.
* (يا نوح اهبط بسلام منا) *.
* * *
وللظرفية بمنزلة " في ".
وتكون مع المعرفة، نحو: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين. وبالليل) *.
* (وبالأسحار هم يستغفرون) *.
ومع النكرة، نحو: * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) *
* (نجينا هم بسحر) *.
قال أبو الفتح في،، التنبيه،،: وتوهم بعضهم أنها لا تقع إلا مع المعرفة،
نحو: كنا بالبصرة، وأقمنا بالمدينة.
256

وهو محجوج بقول الشماخ:
وهن وقوف ينتظرن قضاءه * بضاحي غداة أمره وهو ضامز
أي في ضاحي وهي نكرة.
* * *
وللمجاوزة ك‍ " عن " نحو: * (فاسأل به خبيرا) *.
* (سأل سائل بعذاب واقع) *.
* (ويوم تشقق السماء بالغمام) *، أي عن الغمام.
* (بين أيديهم وبأيمانهم) *، أي وعن أيمانهم.
* * *
وللاستعلاء، كعلى: * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار) *، أي على
قنطار، كما قال: * (هل آمنكم عليه) *.
ونحو: * (وإذا مروا بهم يتغامزون) *، أي عليهم، كما قال: * (وإنكم لتمرون
عليهم مصبحين) *.
* * *
وللتبعيض ك‍ " من "، نحو: * (يشرب بها عباد الله) *، أي منها وخرج عليه:
* (وامسحوا برؤسكم) *.
والصحيح أنها باء الاستعانة، فإن " مسح " يتعدى إلى مفعول، وهو المزال عنه،
وإلى آخر بحرف الجر وهو المزيل; فيكون التقدير: " فامسحوا أيديكم برءوسكم ".
257

بل
حرف إضراب عن الأول، وإثبات للثاني; يتلوه جملة ومفرد.
فالأول الإضراب فيه، إما بمعنى ترك الأول والرجوع عنه بإبطاله، وتسمى حرف ابتداء،
كقوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون) * أي بل هم
عباد. وكذا: * (أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق) *.
وإما الانتقال من حديث إلى حديث آخر، والخروج من قصة إلى قصة; من غير
رجوع عن الأول; وهي في هذه الحالة عاطفة، كما قاله الصفار، كقوله تعالى: * (ولقد
جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) *.
* (بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا) *.
وقوله: * (أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك) *; انتقل من القصة الأولى
إلى ما هو أهم منها.
* (وما يشعرون أيان يبعثون. بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها
بل هم منها عمون) * ليست للانتقال، بل هم متصفون بهذه الصفات.
وقوله: * (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) *.
وفى موضع: * (بل أنتم قوم تجهلون) *.
258

وفى موضع: * (بل أنتم قوم مسرفون) *;
والمراد تعديد خطاياهم، واتصافهم بهذه الصفات، وبل لم ينو ما أضافه إليهم، من
إتيان الذكور والإعراض عن الإناث، بل استدرك بها بيان عدوانهم; وخرج من تلك
القصة إلى هذه الآية.
وزعم صاحب،، البسيط،، وابن مالك أنها لا تقع في القرآن إلا بهذا المعنى; وليست
كذلك لما سبق، وكذا قال ابن الحاجب في شرح،، المفصل،، إبطال ما للأول وإثباته
للثاني، إن كان في الإثبات، نحو جاء زيد بل عمرو; فهو من باب الغلط; فلا يقع مثله في
القرآن، ولا في كلام فصيح. وإن كان ما في النفي نحو: ما جاءني زيد بل عمرو. ويجوز أن
يكون من باب الغلط، يكون عمرو غير جاء، ويجوز أن يكون مثبتا لعمرو المجئ، فلا يكون
غلطا. انتهى.
ومنه أيضا: * (قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى. بل تؤثرون
الحياة الدنيا) *.
وقوله: * (ولدينا كتاب ينطق بالحق وهو لا يظلمون. بل قلوبهم في غمرة) *.
وقوله: * (ص والقرآن ذي الذكر. بل الذين كفروا في عزة وشقاق) *،
ترك الكلام الأول، وأخذ ب‍ " بل " في كلام ثان، ثم قال حكاية عن المشركين:
* (أأنزل عليه الذكر من بيننا) *، ثم قال: * (بل هم في شك من ذكرى) *،
ثم ترك الكلام الأول، وأخذ ب‍ " بل " في كلام آخر، فقال: * (بل لما يذوقوا
عذاب) *.
259

والثاني - أعني ما يتلوها مفرد - فهي عاطفة. ثم إن تقدمها إثبات نحو: اضرب زيدا
بل عمرا، وأقام زيد بل عمرو، فقال النحاة: هي تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه،
فلا يحكم عليه بشئ، ويثبت ما بعدها. وإن تقدمها نفى أو نهى، فهي
لتقرير ما قبلها على حاله. وجعل ضده لما بعدها، نحو ما قام زيد بل عمرو، ولا يقم زيد
بل عمرو.
ووافق المبرد على ما ذكرنا، غير أنه أجاز مع ذلك أن تكون ناقلة مع النهى أو النفي
إلى ما بعدها.
وحاصل الخلاف أنه إذا وقع قبلها النفي هل تنفى الفعل أو توجبه؟.
-،، * * * *،، -
260

بلى
لها موضعان:
أحدهما: أن تكون ردا لنفى يقع قبلها، كقوله تعالى: * (ما كنا نعمل من سوء
بلى إن الله عليم) *، أي عملتم السوء.
وقوله: * (لا يبعث الله من يموت بلى) *.
وقوله: * (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) * ثم قال: * (بلى) *،
أي عليهم سبيل.
* * *
والثاني: أن تقع جوابا لاستفهام، دخل عليه نفى حقيقة، فيصير معناها
التصديق لما قبلها، كقولك: " ألم أكن صديقك! " " ألم أحسن إليك! " فتقول: " بلى "
أي كنت صديقي.
ومنه قوله تعالى: * (ألم يأتكم نذير. قالوا بلى قد جاءنا نذير) *.
ومنه: * (ألست بربكم قالوا بلى) *، أي أنت ربنا. فهي في هذا الأصل تصديق
لما قبلها، وفى الأول رد لما قبلها وتكذيب.
وقوله: * (ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى) *، أي كنتم معنا. ويجوز
أن يقرن النفي بالاستفهام مطلقا، أعم من الحقيقي والمجازي، فالحقيقي كقوله: * (أم يحسبون
261

أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى) * * (أيحسب الانسان أن لن نجمع
عظامه. بلى) *.
ثم قال الجمهور: التقدير بل نحييها قادرين; لأن الحساب إنما يقع من الإنسان
على نفى جمع العظام، و " بلى " إثبات فعل النفي، فينبغي أن يكون الجمع بعدها مذكورا
على سبيل الإيجاب.
وقال الفراء: التقدير فلنحيها قادرين، لدلالة " أيحسب " عليه، وهو ضعيف; لأنه
عدول عن مجئ الجواب، على نمط السؤال.
والمجازي كقوله تعالى: * (ألست بربكم قالوا بلى) *، فإن الاستفهام هنا
ليس على حقيقته، بل هو للتقرير، لكنهم أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في
رده ب‍ " بلى ".
وكذلك قال ابن عباس: لو قالوا: نعم لكفروا. ووجهه أن " نعم " تصديق لما بعد
الهمزة، نفيا كان أو إثباتا.
ونازع السهيلي وغيره في المحكى عن ابن عباس من وجه أن الاستفهام التقريري
إثبات قطعا، وحينئذ فنعم في الإيجاب تصديق له، فهلا أجيب بما أجيب به الإيجاب!
فإن قولك: ألم أعطك درهما! بمنزلة أعطيتك.
والجواب من أوجه:
أحدها: ذكره الصفار، أن المقرر قد يوافقه المقرر فيما يدعيه وقد لا. فلو قيل في جواب: ألم
أعطك! " نعم " لم يدر: هل أراد: نعم لم تعطني، فيكون مخالفا للمقرر، أو نعم أعطيتني
فيكون موافقا. فلما كان يلتبس أجابوه على اللفظ، ولم يلتفتوا إلى المعنى.
262

تنبيهات
الأول: ما ذكرنا من كون " بلى " إنما يجاب بها النفي، هو الأصل، وأما قوله
تعالى: * (بلى قد جاءتك آياتي) *، فإنه لم يتقدمها نفى لفظا لكنه مقدر; فإن معنى
* (لو أن الله هداني) * ما هداني، فلذلك أجيب ب‍ " بلى " التي هي جواب النفي المعنوي،
ولذلك حققه بقوله: * (قد جاءتك آياتي) * وهي من أعظم الهدايات.
ومثله * (بلى قادرين) *، فإنه سبق نفى، وهو * (أن لن نجمع عظامه) *، فجاءت
الآية على جهة التوبيخ لهم في اعتقادهم أن الله لا يجمع عظامهم، فرد عليهم بقوله: * (بلى
قادرين) *.
وقال ابن عطية: حق " بلى " أن تجئ بعد نفى عليه تقرير. وهذا القيد الذي ذكره
في النفي لم يذكره غيره، وأطلق النحويون أنها جواب النفي.
وقال الشيخ أثير الدين: حقها أن تدخل على النفي، ثم حمل التقرير على النفي، ولذلك
لم يحمله عليه بعض العرب، وأجابه بنعم.
وسأل الزمخشري: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله: * (أن الله
هداني) *، [ولم يفصل بينهما بآية؟]
وأجاب بأنه إن تقدم على إحدى القرائن الثلاث فرق بينهن وبين النظم، فلم يحسن،
وإن تأخرت القرينة الوسطى نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعليل
بفقد الهداية ثم تمنى الرجعة; فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس
على ترتيبها ونظمها. ثم أجاب عما اقتضى الجواب من بينها.
263

* * *
الثاني: اعلم أنك متى رأيت " بلى " أو " نعم " بعد كلام يتعلق بها تعلق الجواب، وليس
قبلها ما يصلح أن يكون جوابا له، فاعلم أن هناك سؤالا مقدرا، لفظه لفظ الجواب، ولكنه
اختصر وطوى ذكره، علما بالمعنى، كقوله تعالى: * (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله
أجره عند ربه) *، فقال المجيب: " بلى "، ويعاد السؤال في الجواب.
وكذا قوله: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) *، ليست " بلى " فيه
جوابا لشئ قبلها، بل ما قبلها دال على ما هي جواب له، والتقدير: ليس من كسب سيئة
وأحاطت به خطيئته خالدا في النار أو يخلد في النار، فجوابه الحق " بلى ".
وقد يكتفى بذكر بعض الجواب دالا على باقيه، كما قال تعالى: * (بلى قادرين) *،
أي بلى نجمعها قادرين، فذكر الجملة بمثابة ذكر الجزاء من الجملة، وكاف عنها.
* * *
الثالث: من القواعد النافعة أن الجواب إما أن يكون لملفوظ قبل به أو مقدر.
فإن كان لمقدر، فالجواب بالكلام; كقولك لمن تقدره مستفهما عن قيام زيد: قام
زيد، أو لم يقم زيد، ولا يجوز أن تقول " نعم " ولا " لا " لأنه لا يعلم ما يعنى بذلك;
وإن كان الجواب للملفوظ به; فإن أردت التصديق قلت: نعم، وفى تكذيبه " بلى "،
فتقول في جواب من قال: أما قام زيد؟ " نعم " إذا صدقته، و " بلى " إذا كذبته.
وكذلك إذا أدخلت أداة الاستفهام على النفي، ولم ترد التقرير، بل أبقيت الكلام
264

على نفيه، فتقول في تصديق النفي: " نعم " وفى تكذيبه " بلى " نحو ألم يقم زيد؟ فتقول
في تصديق النفي: " نعم " وفى تكذيبه " بلى ".
* * *
الرابع: يجوز الإثبات والحذف بعد " بلى "; فالإثبات كقوله تعالى: * (ألم يأتكم
نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير) *.
وقوله: * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم) *.
ومن الحذف قوله تعالى: * (بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بلى إن تصبروا) *،
فالفعل المحذوف بعد " بلى " في هذا الموضع " يكفيكم " أي بلى يكفيكم أن تصبروا.
وقوله: * (أولم تؤمن قال بلى) *، أي قد آمنت.
وقوله: * (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *، ثم قال: " بلى "، أي تمسسكم أكثر
من ذلك.
وقوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *، ثم قال: بلى،
أي يدخله غيرهم.
وقوله: * (ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى) *.
وقد تحذف " بلى " وما بعدها، كقوله تعالى: * (قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي
صبرا) *، أي بلى قلت لي.
265

ثم
للترتيب مع التراخي، وأما قوله: * (لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) *،
والهداية سابقة على ذلك، فالمراد " ثم دام على الهداية " بدليل قوله: * (وآمنوا وعملوا الصالحات
ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا) *.
قد تأتى لترتيب الأخبار، لا لترتيب المخبر عنه، كقوله تعالى: * (فإلينا مرجعهم
ثم الله شهيد) *.
وقوله: * (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه) *.
وتقول: زيد عالم كريم، ثم هو شجاع.
قال ابن بري: قد تجئ " ثم " كثيرا لتفاوت ما بين رتبتين في قصد المتكلم
فيه تفاوت ما بين مرتبتي الفعل مع السكوت عن تفاوت رتبتي الفاعل، كقوله تعالى: * (
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا
بربهم يعدلون) *، ف‍ " ثم " هنا لتفاوت رتب الخلق والجعل من رتبة العدل،
مع السكوت عن وصف العادلين.
ومثله قوله تعالى: * (فلا اقتحم العقبة) *، إلى قوله: * (ثم كان من الذين
آمنوا) *، دخلت لبيان تفاوت رتبة الفك والإطعام، من رتبة الإيمان، إلا أن فيها
زيادة تعرض لوصف المؤمنين بقوله: * (وتواصوا بالصبر. وتواصوا بالمرحمة) *.
وذكر غيره في قوله تعالى: * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) *: أن " ثم "
266

دخلت لبعد ما بين الكفر وخلق السماوات والأرض.
وعلى ذلك جرى الزمخشري في مواضع كثيرة من الكشاف، كقوله تعالى: * (لغفار
لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) *.
وقوله: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) *، قال: كلمة التراخي دلت
على تباين المنزلتين; دلالتها على تباين الوقتين، في " جاءني زيد ثم عمرو - أعني أن منزلة
الاستقامة على الخبر مباينة لمنزلة أهل الخير نفسه; لأنها أعلى منها وأفضل.
ومنه قوله تعالى: * (إنه فكر وقدر. فقتل كيف قدر. ثم قتل كيف قدر) *
إن قلت: ما معنى " ثم الداخلة " في تكرير الدعاء؟ قلت: الدلالة على أن الكرة الثانية
من الدعاء أبلغ من الأولى) *.
وقوله: * (ثم كان من الذين آمنوا) *، قال: جاء ب‍ " ثم " لتراخي الإيمان
وتباعده في الرتبة والفضيلة على العتق والصدقة، لا في الوقت، لأن الإيمان هو السابق
المقدم على غيره.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم
حنيفا) *: إن " ثم " [هذه] فيها من تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وإجلال محله
والإيذان بأنه أولى وأشرف ما أوتى خليل الله [إبراهيم من الكرامة، وأجل ما أوتى من النعمة
أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم] في ملته.
واعلم أنه بهذا التقدير يندفع الاعتراض بأن " ثم " قد تخرج عن الترتيب والمهلة
وتصير كالواو; لأنه إنما يتم على أنها تقتضي الترتيب الزماني لزوما، أما إذا قلنا: إنها ترد
267

لقصد التفاوت والتراخي عن الزمان لم يحتج إلى الانفصال عن شئ مما ذكر من هذه
الآيات الشريفة، لا أن تقول: إن " ثم " قد تكون بمعنى الواو.
والحاصل أنها للتراخي في الزمان، وهو المعبر عنه بالمهلة، وتكون للتباين في الصفات
وغيرها من غير قصد مهلة زمانية، بل ليعلم موقع ما يعطف بها وحاله، وأنه لو انفرد لكان
كافيا فيما قصد فيه، ولم يقصد في هذا ترتيب زماني، بل تعظيم الحال فيما عطف عليه وتوقعه،
وتحريك النفوس لاعتباره.
وقيل: تأتى للتعجب، نحو: * (الذين كفروا بربهم يعدلون) *.
وقوله: * (ثم يطمع أن أزيد. كلا) *.
وقيل: بمعنى واو العطف، كقوله: * (فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد) *، أي
هو شهيد.
وقوله: * (ثم إن علينا بيانه) *.
والصواب أنها على بابها لما سبق قبله.
وقوله: ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا) *،
وقد أمر الله الملائكة بالسجود قبل خلقنا، فالمعنى: وصورناكم.
وقيل على بابها، والمعنى ابتدأنا خلقكم; لأن الله تعالى خلق آدم من تراب ثم صوره
وابتدأ خلق الإنسان من نطفة ثم صوره.
وأما قوله: * (خلقكم من طين ثم قضى أجلا) *، وقد كان قضى الأجل،
فمعناه: أخبركم أنى خلقته من طين، ثم أخبركم أنى قضيت الأجل، [كما تقول: كلمتك
اليوم ثم كلمتك أمس، أي أنى أخبرك بذاك، ثم أخبرك بهذا] وهذا يكون في الجمل،
268

فأما عطف المفردات فلا تكون إلا للترتيب. قاله ابن فارس.
قيل: وتأتي زائدة، كقوله تعالى: * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) * إلى قوله:
* (ثم تاب عليهم) *، لأن " تاب " جواب " إذا " من قوله: * (حتى إذا
ضاقت) *.
وتأتي للاستئناف، كقوله تعالى: * (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم
لا ينصرون) *.
فإن قيل: ما المانع من الجزم على العطف؟
فالجواب، أنه عدل به عن حكم الجزاء، إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قال: ثم أخبركم
أنهم لا ينصرون.
فإن قيل: أي فرق بين رفعة وجزمه في المعنى؟
قيل: لو جزم لكان نفى النصر مقيدا بمقاتلتهم كتوليهم، وحين رفع كان النصر
وعدا مطلقا، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم أنى أخبركم عنها، وأبشركم بها بعد التولية
أنهم مخذولون، منعت عنهم النصرة والقوة، ثم لا ينهضون بعدها بنجاح،
ولا يستقيم لهم أمر.
واعلم أنها وإن كانت حرف استئناف، ففيها معنى العطف وهو عطف الخبر
على جملة الشرط والجزاء، كأنه قال: أخبركم أنهم يقاتلونكم فيهزموا، ثم أخبركم
أنهم لا ينصرون.
فإن قيل: ما معنى التراخي في " ثم "؟
269

قيل: التراخي في الرتبة، لأن الأخبار التي تتسلط عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الأدبار،
وكقوله تعالى: * (ألم نهلك الأولين. ثم نتبعهم الآخرين) *.
ثم
المفتوحة
ظرف للبعيد بمعنى هنالك، قال تعالى: * (وإذا رأيت ثم رأيت) *.
وقرئ: * (فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد) *، أي هنالك الله شهيد، بدليل:
* (هنالك الولاية لله الحق) *.
وقال الطبري في قوله: * (أثم إذا ما وقع آمنتم به) *، معناه: أهنالك، وليست
" ثم " العاطفة. وهذا وهم اشتبه عليه المضمومة بالمفتوحة.
270

حاشا
اسم يأتي بمعنى التنزيه، كقوله تعالى: * (حاش لله) *، بدليل قول بعضهم:
" حاشا لله " بالتنوين، كما قيل: * (براءة من الله) * من كذا، أي حاشا لله بالتنوين
كقولهم: رعيا لزيد.
وقراءة ابن مسعود * (حاشا الله) * بالإضافة، فهذا مثل سبحان الله، ومعاذ الله.
وقيل: بمعنى جانب يوسف المعصية لأجل الله، وهذا لا يتأتى في: * (حاش لله
ما هذا بشرا) *.
قال الفارسي: وهو فاعل، من الحشا الذي هو الناحية، أي صار في ناحية،
أي بعد مما رمى به وتنحى عنه فلم يغشه ولم يلابسه.
فإن قلت: إذا قلنا باسمية " حاشا "، فما وجه ترك التنوين في قراءة الجماعة وهي
غير مضافة؟
قلت: قال ابن مالك: والوجه أن تكون " حاشى " المشبهة بحاشى الذي هو حرف،
وأنه شابهه لفظا ومعنى، فجرى مجراه في البناء.
271

حتى
ك‍ " إلى " لكن يفترقان; في أن ما بعد " حتى " يدخل في حكم ما قبلها قطعا،
كقولك: قام القوم حتى زيد; ف‍ " زيد " هاهنا دخل في القيام، ولا يلزم ذلك
في قام القوم إلى زيد. ولهذا قال سيبويه: إن " حتى " تجرى مجرى الواو " وثم "
في التشريك.
ومن الدليل على دخول ما بعدها فيما قبلها; قوله صلى الله عليه وسلم: " كل شئ
بقضاء وقدر حتى العجز والكيس ".
وقوله: " أريت كل شئ حتى الجنة والنار ".
وقال الكواشي في تفسيره: الفرق بينهما أن " حتى " تختص بالغاية المضروبة،
ومن ثم جاز: أكلت السمكة حتى رأسها، وامتنع " حتى نصفها " أو " ثلثها " وإلى عامة
في كل غاية. انتهى.
ثم الغاية تجئ عاطفة; وهي للغاية كيف وقعت; إما في الشرف، كجاء القوم حتى
رئيسهم، أو الضعة، نحو أسنت الفصال حتى القرعى.
أو تكون جملة من القول على حال هو آخر الأحوال المفروضة أو المتوهمة، بحسب
ذلك الشأن; إما في الشدة; نحو: * (وزلزلوا حتى يقول) * إذا أريد حكاية الحال;
ولولا ذلك لم تعطف الجملة الحالية، على الجملة الماضية. فإن أريد الاستقبال لزم النصب.
وإما في الرخاء، نحو شربت الإبل حتى يجئ البعير يجر بطنه، على الحكاية.
272

ولانتهاء الغاية، نحو: * (حتى مطلع الفجر) *، * (حتى يبلغ الكتاب
أجله) *.
والتعليل، وعلامتها أن تحسن في موضعها " كي " نحو: " حتى تغيظ ذا الحسد ";
ومنه قوله تعالى: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين) *.
ويحتملها: * (حتى تفئ) *.
وقوله: * (ولا يزالوا يقاتلونكم حتى يردوكم) *.
* (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) *.
قيل: وللاستثناء، كقوله تعالى: * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا) *; والظاهر
أنها للغاية.
وحرف ابتداء; أي تبتدأ به الجملة الاسمية أو الفعلية، كقوله تعالى: * (حتى يقول
الرسول) * في قراء نافع.
وكذا الداخلة على " إذا "، في نحو: * (حتى إذا فشلتم) * ونظائره، والجواب محذوف.
273

ظرف مكان. قال الأخفش: وللزمان، وهي مبنية على الضم تشبيها بالغايات، فإن
الإضافة إلى الجملة كلا إضافة، ولهذا قال الزجاج في قوله تعالى: * (من حيث لا ترونهم) *:
ما بعد " حيث " صلة لها وليست بمضافة إليه; يريد أنها ليست مضافة للجملة بعدها،
فصارت كالصلة لها، أي كالزيادة.
وفهم الفارسي أنه أراد أنها موصولة، فرد عليه.
ومن العرب من يعرب " حيث "، قراءة بعضهم: * (من حيث لا يعلمون) *،
بالكسر تحتملها. وتحتمل البناء على الكسر. وقد ذكروا الوجهين في قراءة:
* (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) * بفتح الثاء.
والمشهور أنها ظرف لا يتصرف.
وجوز الفارسي وغيره في هذه الآية كونها مفعولا به على السعة، قالوا: ولا تكون
ظرفا، لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان.
وإذا كانت مفعولا لم يعمل فيها " أعلم " لأن " أعلم "; لا يعمل في المفعول به،
فيقدر لها فعل.
واختار الشيخ أثير الدين أنها باقية على ظرفيتها مجازا. وفيه نظر.
274

دون
نقيض " فوق "، ولها معان:
أحدها: من ظروف المكان المبهم; لاحتمالها الجهات الست.
وقيل: هي ظرف يدل على السفل في المكان أو المنزلة، كقولك: زيد دون عمرو.
وقال سيبويه: وأما " دون " فتقصير عن الغاية.
قال الصفار: لا يريد الغاية على الإطلاق، بل الغاية التي تكون بعدها، فإذا قلت:
أنا دونك في العلم، معناه: أنا مقصر عنك، وهو ظرف مكان متجوز فيه، أي أنا
في موضع من العلم لا يبلغ موضعك. ونظيره: فلان فوقك في العلم.
* * *
الثاني: اسم، نحو: * (من دونه) *.
* * *
الثالث: صفة، نحو: هذا الشئ دون، أي ردئ، فيجرى بوجوه الإعراب.
وقد تكون صفة لا بمعنى ردئ، ولكن على معناه من الظرفية; نحو: رأيت
رجلا دونك.
ثم قد يحذف هذا الموصوف وتقام الصفة مقامه; وحينئذ فللعرب فيه لغتان: أحدهما:
إعرابها كإعراب الموصوف وجريها بوجوه الإعراب، والثانية: إبقاؤها على أصلها من
275

الظرفية، وعليها جاء قوله: * (ومنا دون ذلك) *، قرئ بالرفع والنصب.
وقال الزمخشري: معناه: أدنى مكان من الشئ.
* * *
ومنه الدون للحقير، ويستعمل للتفاوت في الحال، نحو: زيد دون عمرو، أي في الشرف
والعلم، واتسع فيه، فاستعمل في تجاوز حد إلى حد، نحو قوله تعالى: * (أولياء من دون
المؤمنين) *، أي لا يتجاوزون ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين.
وقيل: إنه مشتق من " دون " فعل، يقال: دان يدون دونا، وأدين إدانة; والمعنى
على الحقارة والتقريب. وهذا دون ذلك، أي قريب منه. ودون الكتب إذا جمعها; لأن
جمع الأشياء إدناء بعضها من بعض وتقليل المسافة بينها، ودونك هذا، أصله خذه من دونك،
أي من أدنى منك فاختصر.
-،، * * * *،، -
276

ذو وذات
بمعنى صاحب، ومنه قوله تعالى: * (ذو العرش المجيد) *، وقوله: * (ذواتا
أفنان) *. ولا يستعمل إلا مضافا، ولا يضاف إلى صفة، ولا إلى ضمير.
وإنما وضعت وصلة إلى وصف الأشخاص بالأجناس، كما أن " الذي " وضعت وصلة
إلى وصل المعارف بالجمل، وسبب ذلك أن الوصف إنما يراد به التوضيح والتخصيص،
والأجناس أعم من الأشخاص فلا يتصور تخصيصها لها; فإنك إذا قلت: مررت برجل
علم، أو مال، أو فضل; ونحوه لم يعقل; ما لم يقصد به المبالغة; فإذا قلت: بذى علم، صح
الوصف، وأفاد التخصيص; ولذلك كانت الصفة تابعة للموصوف في إعرابه ومعناه.
وأما قراءة ابن مسعود: * (وفوق كل ذي عالم عليم) *، فقيل: " العالم "
هنا مصدر، كالصالح والباطل، وكأنه قال: * (وفوق كل ذي علم) *; فالقراءتان في
المعنى سواء.
وقيل: " ذي " زائدة.
وقيل: من إضافة المسمى إلى الاسم، أي وفوق كل ذي شخص يسمى عالما، أو يقال
له عالم عليم.
ولا يضاف إلى ضمير الأشخاص، ولهذا لحنوا قول بعضهم: " صلى الله على
محمد وذويه ".
277

واختلفوا هل تضاف " ذو " إلى ضمير الأجناس، فمنعه الأكثرون. والظاهر الجواز;
لأن ضمير الجنس هو الجنس في المعنى.
وعن ابن بري أنها تضاف إلى ما يضاف إليه صاحب، لأنها رديفته; وأنه لا يمتنع
إضافتها للضمير إلا إذا كانت وصلة، وإلا فلا يمتنع.
وقال المطرزي في،، المغرب،،: ذو بمعنى الصاحب تقتضي شيئين: موصوفا
ومضافا إليه; تقول: جاءني رجل ذو مال، بالواو في الرفع، وبالألف في النصب، بالياء
في الجر، ومنه: ذو بطن خارجة، أي جنينها، وألقت الدجاجة ذا بطنها،
أي باضت أو سلحت. وتقول للمؤنث: امرأة ذات، مال وللبنتين ذواتا مال، وللجماعة
ذوات مال.
قال: هذا أصل الكلمة، ثم اقتطعوا عنها مقتضاها; وأجروها مجرى الأسماء التامة
المستقلة، غير المقتضية لما سواها، فقالوا: ذات متميزة، وذات قديمة ومحدثة، ونسبوا
إليها كما هي من غير تغيير علامة التأنيث، فقالوا: الصفات الذاتية، واستعملوها استعمال
النفس والشئ.
وعن أبي سعيد - يعنى السيرافي - كل شئ ذات، وكل ذات شئ.
وحكى صاحب،، التكملة،، قول العرب: جعل ما بيننا في ذاته، وعليه قول أبى تمام:
* يضرب في ذات الإله فيوجع *
قال شيخنا - يعنى الزمخشري: إن صح هذا، فالكلمة عربية، وقد استمر المتكلمون
في استعمالها، وأما قوله: * (عليم بذات الصدور) *، وقوله: " فلان قليل ذات اليد "،
278

فمن الأول، والمعنى الإقلال، لمصاحبة اليد. وقولهم: " أصلح الله ذات بينه "، و " ذو اليد
أحق ". انتهى.
وقال السهيلي: والإضافة ل‍ " ذي " أشرف من الإضافة لصاحب، لأن: قولك: " ذو "
يضاف إلى التابع، و " صاحب " يضاف إلى المتبوع، تقول: أبو هريرة صاحب النبي
صلى الله عليه وسلم، ولا تقول: النبي صاحب أبي هريرة إلا على جهة ما، وأما " ذو "
فإنك تقول فيها: ذو المال، وذو العرش، فتجد الاسم الأول متبوعا غير تابع، ولذلك
سميت أقيال حمير بالأذواء، نحو: قولهم: ذو جدن، ذو يزن، في الإسلام أيضا:
ذو العين، وذو الشهادتين، وذو السماكين، وذو اليدين; هذا كله تفخيم للشئ، وليس
ذلك في لفظة " صاحب " وبنى على هذا الفرق أنه سبحانه قال في سورة الأنبياء:
* (وذا النون) *، فأضافه إلى " النون " وهو الحوت، وقال في سورة القلم: * (ولا تكن
كصاحب الحوت) *، قال: والمعنى واحد، لكن بين اللفظين تفاوت كبير في حسن
الإشارة إلى الحالتين، وتنزيل الكلام في الموضعين، فإنه ذكر في موضع الثناء عليه
ذو النون، ولم يقل صاحب النون، لأن الإضافة ب‍ " ذي " أشرف من صاحب، ولفظ
النون أشرف من الحوت، لوجود هذا الاسم في حروف الهجاء أوائل السور، وليس
في اللفظ الآخر ما يشرفه لذلك. إلى تنزيل الكلام في الآيتين يلح لك ما أشرنا
إليه في هذا الغرض; فإن التدبر لإعجاز القرآن واجب مفترض.
وقوله تعالى: * (وأصلحوا ذات بينكم) * أي الحال بينكم، وأزيلوا المشاجرة.
وتكون للإرادة والنية، كقوله: * (عليم بذات الصدور) *، أي السرائر.
279

رويد
تصغير " رود " وهو المهل، قال تعالى: * (أمهلهم رويدا) *، أي قليلا.
قال ابن قتيبة: وإذا لم يتقدمها " أمهلهم "; كانت بمعنى " مهلا " ولا يتكلم بها
إلا مصغرا مأمورا بها.
ربما
لا يكون الفعل بعدها إلا ماضيا; لأن دخول " ما " لا يزيلها عن موضعها في اللغة،
فأما قوله تعالى: * (ربما يود الذين كفروا) *، فقيل على إضمار " كان " تقديره " ربما
كان يود الذين كفروا ".
السين
حرف استقبال. قيل: وتأتي للاستمرار، كقوله تعالى: * (ستجدون آخرين) *.
وقوله: * (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم) *; لأن ذلك إنما نزل
بعد قولهم: * (ما ولاهم) *، فجاءت السين إعلاما بالاستمرار لا بالاستقبال.
قال الزمخشري: أفادت السين وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد
الوعيد إذا قلت: سأنتقم منك.
280

ومثله قول سيبويه في قوله: * (فسيكفيكهم الله) *: معنى السين أن ذلك كائن
لا محالة، وإن تأخرت إلى حين.
وقال الطيبي: مراد الزمخشري أن السين في الإثبات مقابلة " إن " في النفي; وهذا
مردود; لأنه لو أراد ذلك لم يقل: السين توكيد للوعد، بل كانت حينئذ توكيدا للموعود به،
كما أن " لو " تفيد تأكيد النفي بها.
وتأتي زائدة، كقوله تعالى: * (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) * أي تجيبون.
وقوله: * (ويستجيب الذين آمنوا) *.
281

سوف
حرف يدل على التأخير والتنفيس، وزمانه أبعد من زمان السين; لما فيها من
إرادة التسويف.
ومنه قيل: فلان يسوف فلانا، قال تعالى: * (وسوف تسألون) *.
وقال: * (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم) *، فقرب القول.
وممن صرح بالتفاوت بينهما الزمخشري وابن الخشاب في شرح الجمل، وابن يعيش وابن
أبان وابن بابشاذ، وابن عصفور وغيرهم.
ومنع ابن مالك كون التراخي في " سوف " أكثر، بأن الماضي والمستقبل متقابلان،
والماضي لا يقصد به إلا مطلق المضي دون تعرض لقرب الزمان أو بعده، فكذا المستقبل،
ليجري المتقابلان على سنن واحد، ولأنهما قد استعملا في الوقت الواحد. وقال تعالى في سورة:
* (عم يتساءلون) *: * (كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون) *. وفى سورة التكاثر:
* (كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون) *.
وقوله: * (سوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) *.
قلت: ولا بد من دليل على أن قوله تعالى: * (وسوف يؤت الله المؤمنين) *، وقوله:
* (فسيدخلهم في رحمة منه وفضل) * معبرا به عن معنى واحد.
ولمانع أن يمنعه مستندا إلى أن الله تعالى وعد المؤمنين أحوال خير في الدنيا والآخرة،
فجاز أن يكون ما قرن بالسين لما في الدنيا، وما قرن بسوف لما في الآخرة. ولا يخفى خروج
282

قوله: * (كلا سيعلمون) *، وقوله: * (كلا سوف تعلمون) * عن دعواه; لأن الوعد
والوعيد مع " سوف " لا إسكان فيه، ومع السين للمبالغة وقصد تقريب الوقوع، بخلاف سيقوم
زيد، وسوف يقوم; مما القصد فيه الإخبار المجرد.
وفرق ابن بابشاذ أيضا بينهما، بأن " سوف " تستعمل كثيرا في الوعيد والتهديد، وقد
تستعمل في الوعد.
مثال الوعيد: * (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) *، و * (كلا
سيعلمون) *.
وأمثالها في الوعد: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * فأما قوله تعالى:
* (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) *، لتضمنه الوعد والوعيد جميعا، فالوعد
لأجل المؤمنين والمحبين، والوعيد لما تضمنت من جواب المرتدين بكونهم أعزة عليهم وعلى
جميع الكافرين.
والأكثر في السين الوعد، وتأتي للوعيد.
مثال الوعد: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم
الرحمن ودا) *.
ومثال الوعيد: * (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) *.
283

على
للاستعلاء حقيقة، نحو: * (وعليها وعلى الفلك تحملون) *.
أو مجازا، نحو: * (ولهم على ذنب) *.
* (فضلنا بعضهم على بعض) *.
وأما قوله: * (وتوكل على الحي الذي لا يموت) *، فهي بمعنى الإضافة والإسناد،
أي أضفت توكلي وأسندته إلى الله تعالى; لا إلى الاستعلاء; فإنها لا تفيده هاهنا.
وللمصاحبة، كقوله: * (آتي المال على حبه) *.
* (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) *.
وتأتي للتعليل، نحو: * (لتكبروا الله على ما هداكم) * أي لهدايته إياكم.
قال بعضهم: وإذا ذكرت النعمة في الغالب مع الحمد لم تقترن ب‍ " على "، نحو: * (الحمد لله
الذي خلق السماوات والأرض) * * (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) *،
وإذا أريدت فقال النعمة أتى ب‍ " على "، ففي الحديث: كان إذا رأى ما يكره قال الحمد لله
على كل حال. ثم أورد هذه الآية.
وأجاب بأن العلو هنا رفع الصوت بالتكبير.
وتجئ للظرفية، نحو: * (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) *.
284

ونحو: * (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان) *، أي في ملك سليمان، أو
في زمن سليمان، أي زمن ملكه.
ويحتمل أن " تتلوا " ضمن معنى " تقول "، فتكون بمنزلة * (ولو تقول علينا) *.
وبمعنى " من " كقوله تعالى: * (اكتالوا على الناس) *.
وحمل عليه قوله: * (من الذين استحق عليهم الأوليان) * أي منهم.
وقوله: * (كان على ربك حتما مقضيا) * أي كان الورود حتما مقضيا من ربك.
وبمعنى عند نحو: * (ولهم على ذنب) *، أي عندي
والباء، نحو: * (حقيق على أن لا أقول) * وفى قراءة أبى رضي الله عنه: بالباء.
تنبيه
حيث وردت في حق الله تعالى; فإن كانت في جانب الفضل كان معناه الوقوع وتأكيده،
كقوله: * (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) *.
وقوله: * (ثم إن علينا حسابهم) *.
285

عن
تقتضي مجاوزة ما أضيف إليه نحو غيره وتعديه عنه، تقول: أطعمته عن جوع،
أي أزلت عنه الجوع، ورميت عن القوس; أي طرحت السهم عنها. وقولك: أخذت
العلم عن فلان، مجاز، لأن علمه لم ينتقل عنه; ووجه المجاز أنك لما تلقيته منه صار كالمنتقل
إليك عن محله، وكذلك قوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) *، لأنهم
إذا خالفوا هذا أمره بعدوا عنه وتجاوزوه.
قال أبو محمد البصري: عن تستعمل أعم من " على " لأنه يستعمل في الجهات الست،
وكذلك وقع موقع " على " في قوله:
* إذا رضيت على بنو قشير *
ولو قلت: أطعمته من جوع، وكسوته على عرى، لم يصح.
* * *
وتجئ للبدل، نحو: * (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا) *.
وللاستعلاء، نحو: * (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) *.
وقوله: * (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربى) *، أي قدمته عليه.
وقيل: على بابها، أي منصرفا عن ذكر ربى.
وحكى الرماني عن أبي عبيدة أن " أحببت "، من أحب البعير إحبابا; إذا برك
فلم يقم، ف‍ " عن " متعلقة باعتبار معناه التضمين، أي تثبطت عن ذكر ربى، وعلى هذا
ف‍ " حب الخير " مفعول لأجله.
* * *
286

وللتعليل، نحو: * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة) *.
* (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) *.
* * *
وبمعنى " بعد " نحو: * (عما قليل ليصبحن نادمين) *.
* (يحرفون الكلم عن مواضعه) *، بدليل أن في مكان آخر " من
بعد مواضعه ".
* (لتركبن طبقا عن طبق) *.
* * *
وبمعنى " من " نحو * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) *.
* (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) *، بدليل: * (فتقبل من أحدهما
ولم يتقبل من الآخر) *.
* * *
وبمعنى " الباء " نحو: * (وما ينطق عن الهوى) *. وقيل: على حقيقتها،
أي: وما يصدر قوله عن هوى. وقيل: للمجاوزة; لأن نطقه متباعد عن الهوى،
متجاوز عنه.
وفيه نظر، لأنها إذا كانت بمعنى الباء، نفى عنه النطق في حال كونه متلبسا بالهوى،
وهو صحيح، وإذا كانت على بابها نفى عنه التعلق حال كونه مجاوزا عن الهوى، فيلزم أن يكون
النطق حال كونه متلبسا بالهوى. وهو فاسد.
287

عسى
للترجي في المحبوب، والإشفاق في المكروه. وقد اجتمعا في قوله تعالى: * (وعسى
أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) *.
قال ابن فارس: وتأتي للقرب والدنو، كقوله تعالى: * (قل عسى أن يكون
ردف لكم) *، قال: وقال الكسائي: كل ما في القرآن من " عسى " على وجه الخبر
فهو موحد، نحو: * (عسى أن يكونوا خير منهم) *، * (وعسى أن تكرهوا
شيئا) *، ووحد على " عسى الأمر أن يكون كذا ".
وما كان على الاستفهام فهو يجمع، كقوله تعالى: * (فهل عسيتم إن توليتم) *.
قال أبو عبيدة معناه: هل عدوتم ذلك؟ هل جزتموه؟
وروى البيهقي في سننه عن ابن عباس، قال: كل " عسى " في القرآن
فهي واجبة.
وقال الشافعي: يقال: عسى من الله واجبة.
وحكى ابن الأنباري عن بعض المفسرين أن " عسى " في جميع القرآن واجبة،
إلا في موضعين في سورة بني إسرائيل:
* (عسى ربكم أن يرحمكم) *، يعنى بنى النضير، فما رحمهم الله، بل قاتلهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوقع عليهم العقوبة.
288

وفى سورة التحريم: * (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) *،
ولازمنه حتى محمد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعمم بعضهم القاعدة، وأبطل الاستثناء، لأن تقديره أن يكون على شرط، أي في
وقت من الأوقات، فلما زال الشرط وانقضى الوقت، وجب عليكم العذاب، فعلى هذا
لم تخرج عن بابها الذي هو الإيجاب.
وكذا قوله: * (عسى ربه إن طلقكن) * تقديره: واجب أن يبدله أزواجا
خيرا منكن، أي لبت طلاقكن، ولم يبت طلاقهن، فلا يجب التبديل.
وقال صاحب،، الكشاف،، في سورة التحريم: * (عسى ربه) * إطماع من الله
تعالى لعباده. وفيه وجهان: أحدهما أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة
ب‍ " لعل " وعسى، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت. والثاني أن تجئ تعليما للعباد وجوب
الترجيح بين الخوف والرجاء.
289

عند
ظرف مكان بمعنى " لدن " إلا أن " عند " معربة، وكان القياس بناءها لافتقارها
إلى ما تضاف إليه، ك‍ " لدن " وإذ، ولكن أعربوا " عند " لأنهم توسعوا فيها،
فأوقعوها على ما هو ملك الشخص، حضره أو غاب عنه، بخلاف " لدن " فإنه لا يقال:
لدن فلان; إلا إذا كان بحضرة القائل، ف‍ " عند " بهذا الاعتبار أعم من " لدن ";
ويستأنس له بقوله: * (آتيناه كان رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) *، أي من
العلم الخاص بنا، وهو علم الغيب.
وقوله: * (وهب لنا من لدنك رحمة) *، الظاهر أنها بمعنى " عندك "; وكأنها
أعم من " لدن " لما ذكرنا، فهي أعم " من بين يدي "; لاختصاص هذه بجهة " أمام ";
فإن من حقيقتها الكون من جهتي مسامتة البدن.
وتفيد معنى القرب.
وقد تجئ بمعنى " وراء " و " أمام "، إذا تضمنت معنى " قبل " ك‍ " بين
يدي الساعة ".
وقد تجئ " وراء " بمعنى " لدى " المضمن معنى " أمام "، كقوله تعالى: * (وكان
ورائهم ملك) *.
* (من ورائه جهنم) *.
290

* (ويكفرون بما وراءه) *.
وقوله: * (من وراء جدر) *، ويتناول الحالين بالتضايف.
وقد يطلق لتضمنه معنى الطواعية وترك الاختيار مع المخاطب، كقوله تعالى:
* (ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله) *، من النهى عن التقديم، أو التقدم على وجه المبادرة
بالرأي والقول، أي لا تقدموا القول، أو لا تقدموا بالقول بين يدي قول الله. وعلى هذا
يكون المعنى بقوله: * (بين يدي الله ورسوله) * املاء بالمعنى.
وإذا ثبت أن " عند " و " لدى " للقرب، فتارة يكون حقيقيا، كقوله: * (ولقد رآه
نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى) *.
* (وألفيا سيدها لدى الباب) *.
وتارة مجازا، إما قرب المنزلة والزلفى، كقوله: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون.
* (إن الذين عند ربك) * وعلى هذا قيل: الملائكة المقربون.
أو قرب التشريف، كقوله: * (رب ابن لي عند ك بيتا في الجنة) *، وقوله صلى الله
عليه وسلم: " اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدي، كذلك عندي "، أي في
دائرتي; إشارة لأحوال أمته; وإلا فقد ثبتت له العصمة.
وتارة بمعنى الفضل; ومنه: * (فإن أتممت عشرا فمن عندك) *، أي من
فضلك وإحسانك.
وتارة يراد به الحكم، كقوله: * (فأولئك عند الله هم الكاذبون) *.
291

* (وهو عند الله عظيم) * أي في حكمه تعالى.
وقوله: * (إن كان هذا هو الحق من عندك) * أي في حكمك. وقيل بحذف
" عند " في الكلام; وهي مرادة للإيجاز كقوله تعالى: * (الحق من ربك) *.
* (رسول من الله) *.
* (عذاب من الرحمن) *، أي من عند الرحمن; لظهور: * (قد جائكم
من الله نور) *.
وقد تكون " عند " للحضور، نحو: * (فلما رآه مستقرا عنده) *.
وقد يكون الحضور والقرب معنويين، نحو: * (قال الذي عنده علم من
الكتاب) *.
ويجوز: وأنزل عندك.
-،، * * * *،، -
292

غير
متى حسن موضعها " لا " كانت حالا، ومتى حسن موضعها " إلا " كانت استثناء.
ويجوز أن تقع صفة لمعرفة، إذا كان مضافها إلى ضد الموصوف، بشرط أن يكون له
ضد واحد، نحو مررت بالرجل الصادق غير الكاذب; لأنه حينئذ يتعرف.
ومنه قوله تعالى: * (الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم) *، فإن الغضب
ضد النعمة، والأول هم المؤمنون والثاني هم الكفار.
وأورد عليه قوله تعالى: * (نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) *، فإنه أضيف
إلى الذين كانوا يعملون، وهو ضد الصالح كأنه قيل: " الصالح ".
وأجيب بأن الذين كانوا يعملون بعض الصالح فلم يتمحض فيهما.
293

الفاء
ترد عاطفة، وللسببية، وجزاء، وزائدة.
الأول: العاطفة; ومعناها التعقيب، نحو قام زيد فعمرو; أي أن قيامه بعده
بلا مهلة. والتعقيب في كل شئ بحسبه; نحو: * (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما
مما كانا فيه) *
وأما قوله تعالى: * (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا) *، والبأس
في الوجود قبل الهلاك - وبها احتج الفراء على أن ما بعد الفاء يكون سابقا - ففيه
عشرة أوجه:
أحدها: أنه حذف السبب وأبقى المسبب; أي أردنا إهلاكها.
الثاني: أن الهلاك على نوعين: استئصال، [وبغير استئصال]، والمعنى: وكم قرية
أهلكناها بغير استئصال للجميع، فجاءها بأسنا باستئصال الجميع.
الثالث: أنه لما كان مجئ البأس مجهولا للناس، والهلاك معلوم لهم، وذكره عقب
الهلاك، وإن كان سابقا; لأنه لا يتضح إلا بالهلاك.
الرابع: * (أن المعنى قاربنا إهلاكها; فجاءها بأسنا; فأهلكناها.
الخامس: أنه على التقديم والتأخير; أي جاءها بأسنا فأهلكناها.
السادس: أن الهلاك ومجئ البأس، لما تقاربا في المعنى، جاز تقديم أحدهما
على الآخر.
294

السابع: أن معنى: * (فجاءها) * أنه لما شوهد الهلاك، علم مجئ البأس، وحكم به
من باب الاستدلال بوجود الأثر على المؤثر.
الثامن: أنها عاطفة للمفصل على المجمل; كقوله تعالى: * (إنا أنشأناهن إنشاء.
فجعلناهن أبكارا. عربا) *.
التاسع: أنها للترتيب الذكرى.
العاشر...
* * *
وتجئ للمهلة ك‍ " ثم "، كقوله تعالى: * (ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة
مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما) *; ولا شك أن بينها وسائط.
وكقوله: * (والذي أخرج المرعى. فجعله غثاء أحوى) *، فإن بين الإخراج
والغثاء وسائط.
وجعل منه ابن مالك قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح
الأرض مخضرة) *. وتؤولت على أن " تصبح " معطوف على محذوف تقديره
" أتينا به فطال النبت، فتصبح ".
وقيل: بل هي للتعقيب، والتعقيب على ما بعد في العادة، تعقيبا لا على سبيل المضيافة،
فرب سنين بعد الثاني عقب الأول في العادة; وإن كان بينهما أزمان كثيرة، كقوله:
* (ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا) *. قاله ابن الحاجب.
وقيل: بل للتعقيب الحقيقي على بابها; وذلك لأن أسباب الاخضرار عند زمانها;
295

فإذا تكاملت أصبحت مخضرة بغير مهلة، والمضارع بمعنى الماضي يصح عطفه على الماضي،
وإنما لم ينصب على جواب الاستفهام لوجهين:
أحدهما: أنه بمعنى التقرير، أي قد رأيت; فلا يكون له جواب; لأنه خبر.
والثاني: أنه إنما ينصب ما بعد الفاء; إذا كان الأول سببا له، ورؤيته لإنزال الماء
ليست سببا لاخضرار الأرض; إنما السبب هو إنزال الماء; ولذلك عطف عليه.
وأما قوله تعالى: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ) *، * (إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا) *، فالتقدير: فإذا أردت; فاكتفى بالسبب عن المسبب.
ونظيره: * (إن اضرب بعصاك الحجر) *، أي فضرب فانفجرت.
وأما قوله: * (ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما
فكسونا العظام لحما) *، فقيل: الفاء في * (فخلقنا العلقة) *، وفى * (فكسونا) * بمعنى
" ثم " لتراخي معطوفها.
وقال صاحب،، البسيط،،: طول المدة وقصرها بالنسبة إلى وقوع الفعل فيهما; فإن
كان الفعل يقتضى زمنا طويلا طالت المهلة; وإن كان في التحقيق وجود الثاني عقيب الأول
بلا مهلة; وأن كان الفعل يقتضى زمنا قصيرا ظهر التعقيب بين الفعلين; فالآية واردة على
التقدير الأول; فلا ينافي معنى الفاء.
والحاصل أن المهلة بين الثاني والأول بالنسبة إلى زمن الفعل; وأما بالنسبة إلى الفعل
فوجود الثاني عقب الأول من غير مهلة بينهما، هذا كله في سورة المؤمنين.
296

وقال في سورة الحج: * (ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة) * فعطف الكل
ب‍ " ثم "، ولهذا قال لبعضهم: ثم لملاحظة أول زمن المعطوف عليه، والفاء لملاحظة آخره;
وبهذا يزول سؤال أن المخبر عنه واحد وهو مع أحدهما بالفاء وهي للتعقيب، وفى الأخرى
بثم وهي المهلة، وهما متناقضان.
وقد أورد الشيخ عز الدين هذا السؤال في قوله: * (ثم إلى ربكم مرجعكم
فينبئكم بما كنتم تعملون) *، وفى أخرى: * (ثم ينبئكم) *.
وأجاب بأن أول ما تحاسب أمة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الأمم بعدهم، فتحمل الفاء
على أول المحاسبين; ويكون من باب نسبة الفعل إلى الجماعة إذا صدر عن بعضهم; كقوله
تعالى: * (وقتلهم الأنبياء بغير حق) *، ويحمل " ثم " على تمام الحساب.
فإن قيل: حساب الأولين متراخ عن البعث، فكيف يحسن الفاء؟ فيعود السؤال.
قلنا: نص الفارسي في،، الإيضاح،، على أن " ثم " أشد تراخيا من " الفاء "،
فدل على أن الفاء لها تراخ، وكذا ذكر غيره من المتقدمين، ولم يدع أنها للتعقيب إلا
المتأخرون. انتهى.
وتجئ لتفاوت ما بين رتبتين; كقوله: * (والصافات صفا فالزاجرات زجرا. فالتاليات
ذكرا) * تحتمل الفاء فيه التفاوت رتبة الصف من الزجر ورتبة الزجر من التلاوة، ويحتمل
تفاوت رتبة الجنس الصاف من رتبة الجنس الزاجر; بالنسبة إلى صفهم وزجرهم، ورتبة
الجنس الزاجر من الجنس التالي بالنسبة إلى زجره وتلاوته.
وقال الزمخشري: للفاء مع الصفات ثلاثة أحوال:
أحدها: أنها تدل على ترتيب معانيها في الوجود، كقوله:
297

يا لهف زيابة للحارث * فالصابح فالغانم فالآيب
أي الذي أصبح فغنم فآب.
الثاني: أن تدل على ترتيبها في التفاوت من بعض الوجوه; نحو قولك: خذ الأكمل
فالأفضل، واعمل الأحسن فالأجمل.
الثالث: أنها تدل على ترتيب موصوفاتها; فإنها في ذلك، نحو " رحم الله المحلقين
فالمقصرين ".
* * *
النوع الثاني: لمجرد السببية والربط، نحو: * (إنا أعطيناك الكوثر فصل) *، ولا يجوز
أن تكون عاطفة; فإنه لا يعطف الخبر على الإنشاء، وعكسه عكسها بمجرد العطف فيما سبق،
من نحو: * (غثاء أحوى) *.
وقد تأتى لهما، نحو: * (فو كزه موسى فقضى عليه) *، * (فتلقى آدم من ربه
كلمات فتاب عليه) *، * (لآكلون من شجر من زقوم. فمالئون منها البطون.
فشاربون عليه من الحميم. فشاربون شرب الهيم) *.
وأما قوله تعالى: * (فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) *، فهذه
ثلاث فاءات; وهذا هو الغالب على الفاء المتوسطة بين الجمل المتعاطفة.
وقال بعضهم: إذا ترتب الجواب بالفاء، فتارة يتسبب عن الأول، وتارة يقام مقام
ما تسبب عن الأول.
مثال الجاري على طريق السببية: * (سنقرئك فلا تنسى) *، * (فآمنوا فمتعناهم
298

إلى حين) *، * (فكذبوه فأنجيناه) *.
ومثال الثاني: * (ما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا) *، * (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا
وأفئدة فما أغنى عنهم) *.
* * *
والنوع الثالث: الجزائية، والفاء تلزم في جواب الشرط إذا لم يكن فعلا خبريا، أعني
ماضيا ومضارعا، فإن كان فعلا خبريا امتنع دخول الفاء، فيحتاج إلى بيان ثلاثة أمور:
العلة، وتعاقب الفعل الخبري والفاء.
والجواب عن اجتماعهما في قوله تعالى: * (ومن جاء بالسيئة فكبت) *. وقوله:
* (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا) *. وقراءة حمزة: * (إن تضل إحداهما
فتذكر إحداهما الأخرى) *.
وعن ارتفاعهما في قوله تعالى: * (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم
يقنطون) * وفى قول الشاعر:
* من يفعل الحسنات الله يشكرها *
والجواب عن الأول، وهو السؤال عن علة تعاقب الفعل والفاء; أن الجواب هو جملة
تامة; يجوز استقلالها فلا بد من شئ يدل على ارتباطها بالشرط، وكونها جوابا له; فإذا
كانت الجملة فعلية صالحة لأن تكون جزاء، اكتفى بدلالة الحال على كونها جوابا; لأن
الشرط يقتضى جوابا، وهذه الجملة تصلح جوابا ولم يؤت بغيرها; فلزم كونها جوابا. وإذا
تعقبت الجواب امتنع دخول الفاء للاستغناء عنها، فإن كانت الجملة غير فعلية لم تكن صالحة
299

للجواب بنفسها; لأن الشرط إنما يقتضى فعلين: شرطا وجزاء; فما ليس
من مقتضيات أداة الشرط; حتى يدل اقتضاؤها على أنه الجزاء، فلا بد من رابطة،
فجعلوا الفاء رابطة; لأنها للتعقيب; فيدل تعقيبها الشرط بتلك الجملة; على أنها الجزاء، فهذا
هو السبب في تعاقب الفعل والفاء في باب الجزاء.
والجواب عن الثاني: هو أن اجتماع الفعل والفاء في الآيتين غير مبطل للمدعى بتعاقبهما
من أن المدعى تعاقبهما، إذا كان الفعل صالحا لأن يجازى به; وهو إذا ما كان صالحا
للاستقبال; لإن الجزاء لا يكون إلا مستقبلا.
وقوله: " صدقت " و " كذبت " المراد بالفعل في الآية المضي; فلم يصح أن يكون
جوابا فوجبت الفاء.
فإن قيل: فلم سقطت " الفاء " في قوله: * (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) *؟
قلنا عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن " إذا " في الآية ليست شرطا، بل لمجرد الزمان; والتقدير: والذين هم
ينتصرون زمان إصابة البغى لهم.
الثاني: أن " هم " زائدة للتوكيد.
الثالث: أن الفاء حسن حذفها كون الفعل ماضيا.
بالأول يجاب عن قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم
إلا أن قالوا) *.
300

والجواب عن الثالث أن الفعل والفاء أيضا من قوله: * (وإن تصبهم سيئة بما قدمت
أيديهم إذا هم يقنطون) *، فهو أن " إذا " قامت مقام الفاء، وسدت مسدها،
لحصول الربط بها، كما يحصل بالفاء; وذلك لأن " إذا " للمفاجأة، وفى المفاجأة معنى التعقيب.
وأما الأخفش، فإنه جوز حذف الفاء حيث يوجب سيبويه دخولها، واحتج بقوله
تعالى: * (وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون) *.
وبقراءة من قرأ: * (وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم) *، في قراءة
نافع وابن عامر.
ولا حجة فيه، لأن الأول يجوز أن يكون جواب قسم، والتقدير: والله إن أطعمتموهم;
فتكون * (إنكم لمشركون) * جوابا للقسم; والجزاء محذوف سد جواب القسم مسده.
. أما الثانية; فلأن " ما " فيه موصولة لا شرطية، فلم يجز دخول الفاء في خبرها.
* * *
والرابع: الزائدة، كقوله تعالى: * (فليذوقوه حميم) *، والخبر " حميم "
وما بينهما معترض.
وجعل منه الأخفش: * (فذلك الذي يدع اليتيم) *.
وقال سيبويه: هي جواب لشرط مقدر أي إن أردت عليه فذلك.
وقوله * (فصل لربك وانحر) * بين على قول
301

في
لمعان كثيرة:
للظرفية:
ثم تارة يكون الظرف والمظروف حسيين، نحو زيد في الدار; ومنه: * (إن المتقين في
ظلال وعيون) *، * (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) *، * (وادخلني برحمتك في
عبادك الصالحين) *، * (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم) *.
وتارة يكونان معنويين; نحو رغبت في العلم، ومنه: * (ولكم في القصاص حياة) *،
وتارة يكون المظروف جسما، نحو: * (إنا لنراك في ضلال مبين) *.
وتارة يكون الظرف جسما، نحو: * (في قلوبهم مرض) *.
والأول حقيقة، والرابع أقرب المجازات إلى الحقيقة.
وتجئ بمعنى " مع "، نحو: * (في تسع آيات) *، * (فادخلي في عبادي) *،
على قول.
وبمعنى " عند "، نحو: * (ولبثت فينا من عمرك سنين) *.
وللتعليل: * (فذالكن الذي لمتنني فيه) *.
* * *
302

وبمعنى " على " كقوله تعالى: * (إذا كنتم في الفلك) *; بدليل قوله: * (فإذا
استويت أنت ومن ومعك على الفلك) *، وقوله: * (ولأصلبنكم في جذوع
النخل) * لما في الكلام من معنى الاستعلاء.
وقيل: ظرفية; لأن الجذع للمصلوب بمنزلة القبر للمقبور; فلذلك جاز أن يقال: في.
وقيل: إنما آثر لفظة " في " للإشعار بسهولة صلبهم; لأن " على " تدل على نبو
يحتاج فيه إلى تحرك إلى فوق.
وبمعنى " إلى " نحو: * (فتهاجروا فيها) *.
* (فردوا أيديهم في أفواههم) *.
وبمعنى " من ": * (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا) *.
* * *
وللمقايسة وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق، كقوله تعالى: * (فما متاع
الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) *.
وللتوكيد، كقوله تعالى: * (اركبوا فيها) *.
* * *
وبمعنى بعد: * (وفصاله في عامين) * أي بعد عامين.
303

وبمعنى " عن "، كقوله: * (فهو في الآخرة أعمى) *، قيل لما نزلت: * (ولقد
كرمنا بني آدم) *، لم يسمعوا ولم يصدقوا; فنزل: * (ومن كان في هذه أعمى فهو في
الآخرة أعمى) * أي عن النعيم الذي قلناه، ووصفناه في الدنيا، فهو في نعيم الآخرة أعمى
إذ لم يصدق.
304

قد
تدخل على الماضي المتصرف، وعلى المضارع; بشرط تجرده عن الجازم والناصب
وحرف التنفيس.
وتأتي لخمس معان: التوقع، والتقريب، والتقليل، والتكثير، والتحقيق.
* * *
فأما التوقع فهو نقيض " ما " التي للنفي. وتدخل على الفعل المضارع، نحو: قد يخرج
زيد، تدل على أن الخروج متوقع; أي منتظر. وأما مع الماضي فلا يتحقق الوقوع بمعنى
الانتظار; لأن الفعل قد وقع، وذلك ينافي كونه منتظرا، ولذلك استشكل بعضهم كونها
للتوقع مع الماضي; ولكن معنى التوقع فيه أن " قد " تدل على أنه كان متوقعا منتظرا،
ثم صار ماضيا; ولذلك تستعمل في الأشياء المترقبة.
قال الخليل: إن قولك: قد قعد، كلام لقول ينتظرون الخبر. ومنه قول المؤذن: قد
قامت الصلاة; لأن الجماعة منتظرون.
وظاهر كلام ابن مالك في،، تسهيله،، أنها لم تدخل على المتوقع لإفادة كونه متوقعا،
بل لتقريبه من الحال. انتهى.
ولا يبعد أن يقال: إنها حينئذ تفيد المعنيين.
واعلم أنه ليس من الوجه الابتداء بها إلا أن تكون جوابا لمتوقع، كقوله تعالى:
* (قد أفلح المؤمنون) *; لأن القوم توقعوا علم حالهم عند الله.
305

وكذلك قوله: * (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) *; لأنها كانت
تتوقع إجابة الله تعالى لدعائها.
* * *
وأما التقريب; فإنها ترد للدلالة عليه مع الماضي فقد، فتدخل لتقريبه من الحال;
ولذلك تلزم " قد " مع الماضي إذا وقع حالا، كقوله تعالى: * (وقد فصل لكم ما حرم
عليكم) * وأما ما ورد دون " قد " فقوله تعالى: * (هذه بضاعتنا ردت إلينا) *،
ف‍ " قد " فيه مقدرة; هذا مذهب المبرد والفراء وغيرهما.
وقيل: لا يقدر قبله قد.
قال ابن عصفور: إن جواب القسم بالماضي المتصرف المثبت، إن كان قريبا من
زمن الحال دخلت عليه " قد واللام " نحو: والله لقد قام زيد; وإن كان بعيدا لم تدخل،
نحو: والله لقام زيد.
وكلام الزمخشري يدل على أن " قد " مع الماضي في جواب القسم للتوقع، قال في
الكشاف عند قوله: * (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) * في سورة الأعراف.
فإن قلت: مالهم لا يكادون ينطقون باللام إلا مع " قد " وقل عندهم مثل قوله:
حلفت لها بالله حلفة فاجر * لناموا فما إن حديث ولا صال
قلت: إنما كان كذلك; لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها
التي هي جوابها; فكانت مظنة لمعنى التوقع; الذي هو معنى " قد " عند استماع المخاطب
كلمة القسم.
306

وقال ابن الخباز: إذا دخلت " قد " على الماضي أثرت فيه معنيين: تقريبه من زمن
الحال، وجعله خبرا منتظرا; فإذا قلت: قد ركب الأمير، فهو كلام لقوم ينتظرون حديثك.
هذا تفسير الخليل. انتهى.
وظاهر أنها تفيد المعنيين معا في الفعل الواحد.
ولا يقال: إن معنى التقريب ينافي معنى التوقع; لأن المراد به ما تقدم تفسيره.
وكلام الزمخشري في،، المفصل،، يدل على أن التقريب لا ينفك عن
معنى التوقع.
* * *
وأما التقليل، فإنها ترد له مع المضارع، إما لتقليل وقوع الفعل نحو: قد يجود البخيل
وقد يصدق الكذوب. أو للتقليل لمتعلق، كقوله تعالى: * (قد يعلم ما أنتم عليه) *،
أي ما هم عليه هو أقل معلوماته سبحانه.
وقال الزمخشري: هي للتأكيد، وقال: إن " قد " إن دخلت على المضارع كانت بمعنى " ربما "،
فوافقت " ربما " في خروجها إلى معنى التكثر; والمعنى: إن جميع السماوات والأرض
مختصا به خلقا وملكا وعلما، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين!
قال في سورة الصف: * (لم تؤذونني وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم) *: قد
معناها التوكيد، كأنه قال: تعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه.
ونص ابن مالك على أنها كانت للتقليل صرفت المضارع إلى الماضي.
وقد نازع بعض المتأخرين في أن " قد " تفيد التقليل، مع أنه مشهور ونص عليه
الجمهور، فقال: قد تدل على توقع الفعل عمن أسند إليه، وتقليل المعنى لم يستفد من " قد "
بل لو قيل: البخيل يجود والكذوب يصدق، فهم منه التقليل; لأن الحكم على من شأنه
307

البخل بالجود، وعلى من شأنه الكذب بالصدق، إن لم يحمل ذلك على صدور ذلك قليلا،
كان الكلام كذبا; لأن آخره يدفع أوله.
* * *
وأما التكثير فهو معنى غريب; وله من التوجيه نصيب، وقد ذكره جماعة
من المتأخرين.
وجعل منه الزمخشري: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) *.
وجعلها غيره للتحقيق.
وقال ابن مالك: إن المضارع هنا بمعنى الماضي، أي قد رأينا.
* * *
وأما التحقيق فترد لتحقيق وقوع المتعلق مع المضارع والماضي، لكنه قد يرد والمراد به
المضي، كما في قوله تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) *.
* (قد نعلم أنه ليحزنك) *.
* (قد يعلم ما أنتم عليه) *.
وقال الراغب: إن دخلت على الماضي اجتمعت لكل فعل متجدد، نحو: * (قد من
الله علينا) *.
* (قد كان لكم آية) *.
* (لقد رضى الله عن المؤمنين) *.
* (لقد تاب الله) *.
308

لهذا لا تستعمل في أوصاف الله، لا يقال: " قد كان الله غفورا رحيما ".
فأما قوله: * (أن سيكون منكم مرضى) *، فهو متأول للمرضى في المعنى;
كما أن النفي في قولك: ما علم الله زيد يخرج، هو للخروج، وتقديره: وما يخرج زيد فيما علم
الله. وإن دخلت على المضارع فذلك لفعل يكون في حاله، نحو: * (قد يعلم الله الذين
يتسللون منكم) *، أي قد يتسللون فيما علم الله.
-،، * * * *،، -
309

الكاف
للتشبيه، نحو: * (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام) * وهو كثير.
وللتعليل، كقوله تعالى: * (كما أرسلنا فيكم رسولا) *، قال الأخفش: أي
لأجل إرسالي أي فيكم رسولا منكم، فاذكروني.
وهو ظاهر في قوله تعالى: * (واذكروه كما هداكم) *.
وجعل ابن برهان النحوي منه قوله تعالى: * (ويكأنه لا يفلح الكافرون) *.
وللتوكيد: * (أو كالذي مر على قرية) *.
وقوله: * (ليس كمثله شئ) *، أي ليس شئ مثله; وإلا لزم إثبات المثل.
قال ابن جنى: وإنما زيدت لتوكيد نفى المثل; لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة
الجملة ثانيا.
وقال غيره: الكاف زائدة; لئلا يلزم إثبات المثل لله تعالى; وهو محال، لأنها تفيد
نفى المثل عن مثله، لا عنه، لأنه لولا الحكم بزيادتها لأدى إلى محال آخر; وهو أنه
إذا لم يكن مثل شئ لزم ألا يكون شيئا; لأن مثل المثل مثله.
قيل: المراد مثل الشئ ذاته وحقيقته، كما يقال: مثلي لا يفعل كذا، أي أنا لا أفعل;
وعلى هذا لا تكون زائدة.
وقال ابن فورك: هي غير زائدة، والمعنى ليس مثل مثله شئ، وإذا نفيت التماثل عن
الفعل، فلا مثل لله على الحقيقة.
قال صاحب المستوفى. ولتأكيد الوجود، كقوله تعالى: * (قل رب ارحمهما كما
ربياني صغيرا) *، أي أن تربيتهما لي قد وجدت، كذلك أوجد رحمتك لهما يا رب.
310

كان
تأتى للمضي، وللتوكيد، وبمعنى القدرة كقوله: * (ما كان لكم أن تنبتوا
شجرها) *، أي ما قدرتم.
وبمعنى " ينبغي " كقوله: * (ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) *، أي لم ينبغ لنا.
وتكون زائدة، كقوله تعالى: * (وما علمي بما كانوا يعملون) *، أي بما يعملون;
لأنه قد كان عالما ما علموه من إيمانهم به.
قد سبقت في مباحث الأفعال.
كأن
للتشبيه المؤكد; ولهذا جاء * (كأنه هو) *، دون غيرها من أدوات التشبيه.
ولليقين، كما في قوله تعالى: * (ويكأن الله يبسط الرزق) *، على ما سيأتي.
وقد تخفف، قال تعالى: * (كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) *.
كأين
بمعنى " كم " للتكثير; لأنها كناية عن العدد، قال تعالى: * (وكأين من قرية
عتت عن أمر ربها ورسله) *. وفيها قراءتان: " كائن " على وزن " قائل " و " بائع "
" وكأين " بتشديد الياء.
311

قال ابن فارس: سمعت بعض أهل القرية يقول: ما أعلم كلمة تثبت فيها النون خطا
غيره هذه.
كاد
بمعنى قارب، وسبقت في مباحث الأفعال.
-،، * * * *،، -
312

كلا
قال سيبويه: حرف ردع وزجر.
قال الصفار: إنها تكون اسما للرد، إما لرد ما قبلها، وإما لرد ما بعدها، كقوله
تعالى: * (كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون) *، هي رد لما قبلها; لأنه
لما قال: * (ألهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر) *، كان إخبارا بأنهم لا يعلمون
الآخرة ولا يصدقون بها، فقال: * (سوف تعلمون) *، فلا يحسن الوقف عليها
هنا إلا لتبيين ما بعدها، ولو لم يفتقر لما بعدها لجاز الوقف.
وقوله: * (يحسب أن ماله أخلده. كلا) *، هي رد لما قبلها; فالوقف عليها
حسن. انتهى.
وقال ابن الحاجب: شرطه أن يتقدم ما يرد بها ما في غرض المتكلم; سواء كان من كلام
غير المتكلم على سبيل الحكاية أو الإنكار، أو من كلام غيره.
كقوله تعالى: * (كلا) * بعد قوله: * (يقول الإنسان يومئذ أين
المفر) *.
كقوله تعالى: * (قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا) *.
وكقولك: أنا أهين العالم! كلا. انتهى.
313

هي نقيض " أي " في الإثبات، كقوله: * (كلا لا تطعه) *.
وقوله: * (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا. كلا) *.
وقوله: * (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا. كلا) *.
وتكون بمعنى " حقا " صلة لليمين، كقوله: * (كلا والقمر) *.
* (كلا إذا دكت الأرض دكا دكا) *.
وقوله: * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) *، * (كلا إن كتاب
الفجار لفي سجين) *، * (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين) *.
وأما قوله: * (يحسب أن ماله أخلده. كلا) *، فيحتمل الأمرين.
* * *
قد اختلف القراء في الوقف عليها.
فمنهم من يقف عليها أينما وقعت، وغلب عليها معنى الزجر.
ومنهم من يقف دونها أينما وقعت; ويبتدئ بها، وغلب عليها معنى الزجر.
ومنهم من يقف دونها أينما وقعت، ويبتدئ بها، وغلب عليها أن تكون
لتحقيق ما بعدها.
ومنهم من نظر إلى المعنيين، فيقف عليها إذا كانت بمعنى الردع، ويبتدئ بها إذا كانت
بمعنى التحقيق. وهو أولى.
314

ونقل ابن فارس عن بعضهم أن " ذلك " و " هذا " نقيضان [ل‍ " لا "، وأن
" كذلك " نقيض] ل‍ " كلا "، كقوله تعالى: * (ذلك ولو يشاء الله لانتصر
منهم) * على معنى: ذلك كما قلنا وكما فعلنا.
ومثله: * (هذا وإن للطاغين لشر مآب) *.
قال: ويدل على هذا المعنى دخول الواو بعد قوله: " ذلك " و " هذا " لأن
ما بعد الواو يكون معطوفا على ما قبله بها وإن كان مضمرا. وقال تعالى: * (وقال الذين
كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) *، ثم قال: * (كذلك) * أي كذلك
فعلنا ونفعله من التنزيل، وهو كثير.
وقيل: إنها إذا كانت بمعنى " لا " فإنها تدخل على جملة محذوفة، فيها نفى لما
قبلها، والتقدير: ليس الأمر كذلك; وهي على هذا حرف دال على هذا المعنى،
ولا تستعمل عند خلاف النحويين بهذا المعنى إلا في الوقف عليها، ويكون زجرا وردا
أو إنكارا لما قبلها; وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد والزجاج وغيرهم; لأن
فيها معنى التهديد والوعيد; ولذلك لم تقع في القرآن إلا في سورة مكية، لأن التهديد والوعيد
أكثر ما نزل بمكة; لأن أكثر عتو المشركين وتجبرهم بمكة، فإذا رأيت سورة فيها " كلا "،
فأعلم أنها مكية.
وتكون " كلا " بمعنى " حقا " عند الكسائي، فيبتدأ بها لتأكيد ما بعدها،
فتكون في موضع المصدر، ويكون موضعها نصبا على المصدر، والعامل محذوف، أي
أحق ذلك حقا.
315

لا تستعمل بهذا المعنى عند حذاق النحويين; إلا إذا ابتدئ بها لتأكيد ما بعدها.
وتكون بمعنى " ألا " فيستفتح بها الكلام، وهي على هذا حرف. وهذا مذهب أبي
حاتم; واستدل على أنها للاستفتاح أنه روى أن جبريل نزل على النبي صلى الله
عليه وسلم بخمس آيات من سورة العلق، ولما قال: * (علم الإنسان ما لم يعلم) *، طوى
النمط. فهو وقف صحيح، ثم لما نزل بعد ذلك: * (إن الإنسان ليطغى) *، فدل
على أن الابتداء ب‍ " كلا " من طريق الوحي، فهي في الابتداء بمعنى " ألا " عنده.
فقد حصل ل‍ " كلا " معاني النفي في الوقف عليها، و " حقا " و " ألا " في الابتداء بها.
وجميع " كلا " في القرآن ثلاثة وثلاثون موضعا، في خمس عشرة سورة، ليس في
النصف الأول من ذلك شئ.
وقوله تعالى: * (كلا إنها كلمة هو قائلها) *، على معنى " ألا "، واختار قوم
جعلها بمعنى حقا. وهو بعيد لأنه يلزم فتح " إن " بعدها ولم يقرأ به أحد.
316

كل
اسم وضع لضم أجزاء الشئ على جهة الإحاطة; من حيث كان لفظه مأخوذا من لفظ
" الإكليل " و " الكلة " و " الكلالة "; مما هو للإحاطة بالشئ، وذلك ضربان:
أحدهما انضمام لذات الشئ وأحواله المختصة به، وتفيد معنى التمام، كقوله تعالى: * (ولا
تبسطها كل البسط) *، أي بسطا تاما.
* (فلا تميلوا كل الميل) *، ونحوه.
الثاني انضمام الذوات; وهو المفيد للاستغراق.
ثم إن دخل على منكر أوجب عموم أفراد المضاف إليه، أو على معرف أوجب عموم
أجزاء ما دخل عليه.
وهو ملازم للأسماء، ولا يدخل على الأفعال.
وأما قوله تعالى: * (وكل أتوه داخرين) *، فالتنوين بدل من المضاف، أي
كل واحد.
وهو لازم للإضافة معنى، ولا يلزم إضافته لفظا إلا إذا وقع تأكيدا أو نعتا، وإضافته
منوية عند تجرده منها.
يضاف تارة إلى الجمع المعرف، نحو كل القوم. ومثله اسم الجنس، نحو: * (كل
الطعام كان حلا لبني إسرائيل) *، وتارة إلى ضميره نحو: * (وكلهم آتيه يوم
317

القيامة فردا) *، * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) *، * (ليظهره على الدين
كله) *.
وإلى نكرة مفردة، نحو: * (وكل إنسان ألزمناه طائره) *، * (والله بكل
شئ عليم) *، * (كل نفس بما كسبت رهينة) *.
وربما خلا من الإضافة لفظا وينوى فيه، نحو: * (كل في فلك يسبحون) *
* (وكل أتوه داخرين) *، * (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) *، * (كلا
هدينا) *، * (كل من الصابرين) *، * (كلا ضربنا له الأمثال) *.
هل تنوينه حينئذ عوض أو تنوين صرف؟ قولان.
قال أبو الفتح: وتقديمها أحسن من تأخيرها; لأن التقدير: " كلهم "، فلو أخرت
لباشرت العوامل، مع أنها في المعنى منزلة منزلة ما لا يباشره، فلما تقدمت أشبهت المرتفعة
بالابتداء; في أن كلا منهما لم يل عاملا في اللفظ، وأما " كل " المؤكد بها فلازمة للإضافة.
وتحصل لها ثلاثة أحوال:
مؤكدة، ومبتدأ بها مضافة، ومقطوعة عن الإضافة.
فأما المؤكدة فالأصل فيها أن تكون توكيدا للجملة، أو ما هو في حكم الجملة مما يتبعض،
لأن موضوعها الإحاطة كما سبق.
وأما المضافة غير المؤكدة، فالأصل فيها أن تضاف إلى النكرة الشائعة في الجنس لأجل
318

معنى الإحاطة، وهو إنما ما يطلب جنسا يحيط به، فإن أضفته إلى جملة معرفة نحو كل
إخوتك ذاهب، قبح إلا في الابتداء، إلا أنه إذا كان مبتدأ وكان خبره مفردا، تنبيها على
أن أصله الإضافة للنكرة لشيوعها.
فإن لم يكن مبتدأ وأضفته إلى جملة معرفة، نحو: ضربت كل إخوتك، وضربت
كل القوم، لم يكن في الحسن بمنزلة ما قبله، لأنك لم تضفه إلى جنس، ولا معك في
الكلام خبر مفرد يدل على معنى إضافته إلى جنس معرف بالألف واللام حسن ذلك،
كقوله تعالى: * (فأخرجنا به من كل الثمرات) *، لأن الألف واللام للجنس، ولو
كانت للعهد لم يحسن، لمنافاتها معنى الإحاطة.
ويجوز أن يؤتى بالكلام على أصله، فتؤكد الكلام ب‍ " كل " فتقول: خذ من
الثمرات كلها.
فإن قيل: فإذا استوى الأمران في قوله: كل من كل الثمرات، وكل من الثمرات
كلها، فما الحكمة في اختصاص أحد الجائزين في نظم القرآن دون الآخر؟
قال السهيلي في،، النتائج،،: له حكمة، وهو أن " من " في الآية لبيان الجنس
لا للتبعيض، والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف، وإنما يريد الثمرات أنفسها،
لأنه أخرج منها شيئا، وأدخل " من " لبيان الجنس كله. ولو قال: " أخرجنا به من الثمرات
كلها " لقيل: أي شئ أخرج منها؟ وذهب التوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف وأن
مفعول * (أخرجنا) * فيما بعد، وهذا يتوهم مع تقدم " كل " لعلم المخاطبين أن " كلا "
319

إذا تقدمت اقتضت الإحاطة بالجنس، وإذا تأخرت اقتضت الإحاطة بالمؤكد بتمامه;
جنسا شائعا كان أو معهودا.
وأما قوله تعالى: * (كلي من كل الثمرات) *، ولم يقل " من الثمرات كلها "
ففيه الحكمة السابقة، وتزيد فائدة، وهي أنه قد تقدمها في النظم: * (ومن ثمرات النخيل
والأعناب...) * الآية.
فلو قال بعدها. " ثم كلي من الثمرات كلها " لأوهم أنها للعهد المذكور قبله; فكان
الابتداء ب‍ " كل " أحضر للمعنى، وأجمع للجنس، وأرفع للبس.
وأما المقطوع عن الإضافة، فقال السهيلي: حقها أن تكون مبتدأة مخبرا عنها،
أو مبتدأة منصوبة بفعل بعدها لا قبلها، أو مجرورة يتعلق خافضها بما بعدها، كقولك:
كلا ضربت وبكل مررت. فلا بد من مذكورين قبلها، لأنه إن لم يذكر قبلها جملة،
ولا أضيفت إلى جملة، بطل معنى الإحاطة فيها، ولم يعقل لها معنى.
* * *
واعلم أن لفظ " كل " لأفراد التذكير، ومعناه بحسب ما يضاف إليه، والأحوال
ثلاثة:
فالأول أن يضاف إلى نكرة فيجب مراعاة معناها، فلذلك جاء الضمير مفردا مذكرا
في قوله تعالى: * (وكل شئ فعلوه في الزبر) *، * (وكل إنسان ألزمناه) *
ومفردا مؤنثا في قوله: * (كل نفس بما كسبت رهينة) *، * (كل نفس ذائقة الموت) *،
320

مجموعا مذكرا في قوله: * (كل حزب بما لديهم فرحون) *، في معنى الجمع;
لأنه اسم جمع.
وما ذكرناه من وجوب مراعاة المعنى مع النكرة دون لفظ " كل " قد أوردوا عليه
نحو قوله تعالى: * (وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه) *، وقوله: * (وعلى كل
ضامر يأتين) *، وقوله: * (وحفظا من كل شيطان مارد. لا يسمعون إلى الملأ
الأعلى) *.
أجيب بأن الجمع في الأولى باعتبار " الأمة ".
وكذلك في الثانية فإن الضامر اسم جمع; كالجامل والباقر.
وكذلك في الثالثة; إنما عاد الضمير إلى الجمع المستفاد من الكلام، فلا يلزم عوده
إلى " كل ".
وزعم الشيخ أثير الدين في تفسيره: * (ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله) *،
ثم قال: * (أولئك لهم عذاب مهين) *، أنه مما روعي فيه المعنى بهذا اللفظ.
وليس كذلك; فإن الضمير لم يعد إلى " كل " بل على " الأفاكين " الدالة عليه
* (كل أفاك) *.
وأيضا فهاتان جملتان والكلام في الجملة الواحدة.
* * *
الثاني: أن تضاف إلى معرفة، فيجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها، سواء كانت
الإضافة لفظا، نحو: * (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) *، فراعى لفظ " كل ".
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته " ولم يقل: راعون ولا مسؤولون.
321

أو معنى; نحو: * (فكلا أخذنا بذنبه) *، فراعى لفظها، وقال: * (وكل أتوه
داخرين) *، فراعى المعنى.
وقد اجتمع مراعاة اللفظ والمعنى في قوله تعالى: * (إن كل من في السماوات والأرض
إلا آتي الرحمن عبدا. لقد أحصاهم وعدهم عدا. وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) *;
هذا إذا جعلنا " من " موصولة، فإن جعلناها نكرة موصوفة، خرجت من هذا القسم
إلى الأول.
* * *
الثالث: أن تقطع عن الإضافة لفظا، فيجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها.
فمن الأول: * (كل آمن بالله) *، * (قل كل يعمل على شاكلته) *،
* (إن كل إلا كذب الرسل) *، ولم يقل: " كذبوا "، * (فكلا أخذنا
بذنبه) *.
ومن الثاني: * (وكل كانوا ظالمين) *، * (كل في فلك يسبحون) *،
* (كل له قانتون) *، * (وكل أتوه داخرين) *
قال أبو الفتح: وعلته أن أحد الجمعين عندهم كان عن صاحبه; فإن لفظ " كل "
للأفراد ومعناها الجمع، وهذا يدل على أنهم قدروا المضاف إليه المحذوف في الموضعين جمعا،
فتارة روعي كما إذا صرح به، وتارة روعي لفظ " كل "، وتكون حالة الحذف مخالفة
لحال الإثبات.
322

قيل: ولو قال قائل: حيث أفرد يقدر الحذف مفردا، وحيث جمع يقدر جمعا،
فيقدر في قوله: * (فكلا أخذنا بذنبه) * " كل واحد "، ويقدر في قوله: * (وكل أتوه
داخرين) * " كل نوع مما سبق " لكان موافقا إذا أضيف لفظا إلى نكرة.
وما ذكروه يقتضى أن تقديره: وكلهم أتوه، وكلا التقديرين سائغ،
والمراد الجمع.
ويتعين في قوله تعالى: * (كل في فلك يسبحون) *، أن كلا من الشمس والقمر
والليل والنهار لا يصح وصفه بالجمع. وقد قدر الزمخشري: * (كل يعمل على شاكلته) *:
كل أحد، وهو يساعد ما ذكرناه.
وما ذكرناه في هذه الحالة هو المشهور.
وقال السهيلي في،، نتاج الفكر،،: إذا قطعت " كل " عن الإضافة فيجب أن يكون
خبرها جمعا; لأنها أسم في معنى الجمع، تقول: كل ذاهبون; إذا تقدم ذكر قوم. وأجاب
عن إفراد الخبر في الآيات السابقة; بأن فيها قرينة تقتضي تحسين المعنى بهذا اللفظ دون غيره.
أما قوله: * (كل يعمل على شاكلته) *، فلأن قبلها ذكر فريقين مختلفين،
مؤمنين وظالمين، فلو جمعهم في الأخبار وقال: كل يعملون، لبطل معنى الاختلاف، وكان
لفظ الإفراد أدل على المراد، والمعنى: كل فريق يعمل على شاكلته.
وأما قوله: * (إن كل إلا كذب الرسل) *، فلأنه ذكر قرونا وأمما، وختم ذكرهم
بقوم تبع، فلو قال: كل كذبوا، لعاد إلى أقرب مذكور، فكان يتوهم أن الأخبار
عن قوم تبع خاصة، فلما قال: * (إن كل إلا كذب) *، علم أنه يريد كل فريق منهم كذب،
لأن إفراد الخبر عن " كل " حيث وقع إنما يدل على هذا المعنى.
323

مسألة
وتتصل " ما " ب‍ " كل " نحو: * (كلما رزقوا منها) *، وهي مصدرية،
لكنها نائبة بصلتها عن ظرف زمان، كما ينوب عنه المصدر الصريح، والمعنى:
كل وقت.
وهذه تسمى " ما " المصدرية الظرفية، أي النائبة عن الظرف، لا أنها ظرف في
نفسها، ف‍ " كل " من " كلما " منصوب على الظرفية لإضافته إلى شئ هو قائم
مقام الظرف.
ثم ذكر الفقهاء والأصوليون أن " كلما " للتكرار. قال الشيخ أبو حيان: وإنما ذلك
من عموم " ما " لأن الظرفية مراد بها العموم، فإذا قلت: أصحبك ما ذر لله شارق، فإنما
تريد العموم، ف‍ " كل " أكدت العموم الذي أفادته " ما " الظرفية; لا أن لفظ " كلما "
وضع للتكرار كما يدل عليه كلامهم، وإنما جاءت " كل " توكيدا للعموم المستفاد من
" ما " الظرفية. انتهى.
وقوله: إن التكرار من عموم " ما " ممنوع; فإن " ما " المصدرية لا عموم لها،
ولا يلزم من نيابتها عن الظرف دلالتها على العموم; وإن استفيد عموم في مثل هذا الكلام
فليس من " ما " إنما هو من التركيب نفسه.
وذكر بعض الأصوليين أنها إذا وصلت " ما " صارت أداة لتكرار الأفعال وعمومها
قصدي، وفى الأسماء ضمني. قال تعالى: * (كلما نضجت جلودهم) *، وإذا جردت
من لفظ " ما "، انعكس الحكم وصارت عامة في الأسماء قصدا، وفى الأفعال ضمنا.
324

ويظهر الفرق بينهما في قوله: كل امرأة أتزوجها فهي طالق تطلق كل امرأة يتزوجها،
وتكون عامة في جميع النساء لدخولها على الاسم وهو قصدي. ولو تزوج امرأة ثم تزوجها
مرة أخرى لم تطلق في الثانية لعدم عمومها قصدا في الأسماء. ولو قال: كلما تزوجت امرأة
فهي طالق فتزوج امرأة مرارا طلقت في كل مرة لاقتضائها عموم الأفعال قصدا،
وهو التزوج.
مسألة
ويأتي " كل " صفة، ذكره سيبويه في باب النعت قال: ومن الصفة أنت الرجل
كل الرجل; ومررت بالرجل كل الرجل.
قال الصفار: هذا يكون عند قصد التأكيد والمبالغة، فإن قولك: " الرجل " معناه
الكامل، ومعنى " كل الرجل " أي هو الرجل، لعظمته قد قام مقام الجنس، كما تقول:
أكلت شاة كل شاة. وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: " كل الصيد في جوف الفرا "
أي أن من صاده فقد صاد جميع الصيد لقيامه مقامه لعظمته، قال: وهذا إنما يجوز إذا سبقها
ما فيه رائحة الصفة كما ذكرنا، فلو كان جامدا لم يجز، نحو: مررت بعبد الله، كل الرجل.
لا يفهم من " عبد الله " شئ.
325

كلا وكلتا
هما توكيد الاثنين; وفيهما معنى الإحاطة; ولهذا قال الراغب: هي في التثنية ككل
في الجمع، ومفرد اللفظ مثنى المعنى; عبر عنه مرة بلفظه، ومرة بلفظ الاثنين، اعتبارا بمعناه;
قال تعالى: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) *.
قلت: لا خلاف أن معناها التثنية. واختلف في لفظها، فقال البصريون: مفرد، وقال
الكوفيون: تثنية.
والصحيح الأول; بدليل عود الضمير إليها مفردا في قوله: * (كلتا الجنتين
آتت) *; فالإخبار عن " كلتا " بالمفرد دليل على أنها مفرد; إذ لو كان مثنى لقال:
" آتتا "، ودليل إضافتها إلى المثنى في قوله: * (أحدهما أو كلاهما) *، ولو كان مثنى لم يجز
إضافته إلى التثنية; لأنه لا يجوز إضافة الشئ إلى نفسه. والفصيح مراعاة اللفظ; لأنه
الذي ورد به القرآن; فيقال: كلا الرجلين خرج، وكلتا المرأتين حضرت.
وقد نازع بعض المتأخرين وقال: ليس معناه التثنية على الإطلاق كما ذكره النحاة،
ولو كان كذلك لكثرة مراعاة المعنى; كما كثرت مراعاته في " من " و " ما "
الموصولتين; لكن أكثر ما جاء في لسان العرب عود الضمير مفردا; * (كلتا الجنتين
آتت) *، وما جاء فيه مراعاة المعنى في غاية القلة.
قال: فالصواب أن معناها مفرد صالح لكل من الأمرين المضاف إليهما. وأما مراعاة
التثنية فيه فعلى سبيل التوسع; ووجه التوسع أن كل فرد في جانب الثبوت معه غيره;
326

فجاءت التثنية بهذا الاعتبار; فالإفراد فيه مراعاة المعنى واللفظ، والتثنية مراعاة المعنى من
بعض الوجوه.
فائدة
وقع في شعر أبى تمام " كلا الآفاق "، وخطأه المعرى; لأن " كلا " يستعمل في
الاثنين لا الجمع.
قال: ولم يأت في المسموع: كلا القوم، ولا كلا الأصحاب; وإنما يقال: كلا الرجلين
ونحوه; فإن أخذ من الكلأ; من قولك: كلأت الشئ إذا رعيته وحفظته، فالمعنى
يصح; إلا أن المتكلم يقصر; وهي ممدودة.
327

كم
نكرة لا تتعرف; لأنها مبهمة في العدد، ك‍ " أين " في الأمكنة، و " متى " في
الأزمنة، و " كيف " في الأحوال.
وقول سيبويه: كم أرضك جريبا؟ " كم " مبتدأ، و " أرضك " مبنى عليه; مجاز
ليس بحقيقة; وإنما " أرضك " مبتدأ، و " كم " الخبر، مثل كيف زيد؟.
وهي قسمان:
استفهامية تحتاج إلى جواب; بمعنى: أي عدد؟، فينصب ما بعدها، نحو: كم
رجلا ضربت؟
وخبرية لا تحتاج إلى جواب; بمعنى: عدد كثير، فيجر ما بعدها; نحو: كم
عبد ملكت.
وقد تدخل عليها " من "، كقوله: * (كم من قرية أهلكناها) * * (وكم
قصمنا من قرية) *.
ليست الاستفهامية أصلا للخبرية; خلافا للزمخشري حيث ادعى ذلك في سورة
" يس " عند الكلام على: * (ألم يروا كم أهلكنا) *.
لم تستعمل الخبرية غالبا إلا في مقام الافتخار والمباهاة; لأن معناها التكثير;
328

ولهذا ميزت بما يميز العدد الكثير; وهو مائة وألف; فكما إن " مائة " تميز بواحد مجرور;
فكذلك " كم ".
واعلم أن " كم " مفردة اللفظ، ومعناها الجمع; فيجوز في ضميرها الأمران بالاعتبارين،
قال تعالى: * (وكم من ملك في السماوات) * ثم قال: * (لا تغنى شفاعتهم) *، فأتى به
جمعا. وقال: * (كم من قرية أهلكناها) *، ثم قال: * (أو هم قائلون) *.
-،، * * * *،، -
329

كيف
استفهام عن حال الشئ لا عن ذاته; كما أن " ما " سؤال عن حقيقته، و " من "
عن مشخصاته; ولهذا لا يجوز أن يقال في " الله " " كيف ".
وهي مع ذلك منزلة منزلة الظرف; فإذا قلت: كيف زيد؟ كان " زيد " مبتدأ،
و " كيف " في محل الخبر، والتقدير. على أي حال زيد؟
هذا أصلها في الوضع; لكن قد تعرض لها معان تفهم من سياق الكلام، أو من
قرينة الحال; مثل معنى التنبيه والاعتبار وغيرهما.
وقال بعضهم: لها ثلاثة أوجه:
أحدها: سؤال محض عن حال; نحو كيف زيد؟
ثانيها: حال لا سؤال معه، كقولك: لأكرمنك كيف أنت، أي على أي
حال كنت.
ثالثها: معنى التعجب.
وعلى هذين تفسير قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا
فأحياكم) *. قال الراغب في تفسيره: كيف هنا استخبار لا استفهام; والفرق بينهما
إن الاستخبار قد يكون تنبيها للمخاطب وتوبيخا; ولا يقتضى عدم المستخبر،
والاستفهام بخلاف ذلك.
وقال في " المفردات ": كل ما أخبر الله بلفظ " كيف " عن نفسه فهو إخبار على
طريق التنبيه للمخاطب أو توبيخ; نحو: * (كيف تكفرون) *.
330

* (كيف يهدى الله قوما) *.
* (كيف يكون للمشركين عهد) *.
* (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) *.
* (فانظروا كيف بدأ الخلق) *.
* (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده) *.
قال غيره: قد تأتى للنفي والإنكار، كقوله: * (كيف يكون للمشركين عهد
عند الله وعند رسوله) *. * (كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم) *.
ولتضمنها معنى الجحد شاع أن يقع بعدها " إلا "، كقوله: * (إلا الذين عاهدتم) *.
وللتوبيخ، كقوله: * (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله) *،
* (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) *.
وللتحذير، كقوله: * (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم) *.
وللتنبيه والاعتبار; كقوله: * (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) *.
وللتأكيد وتحقيق ما قبلها; كقوله: * (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) *.
331

وقوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) *، فإنه توكيد لما تقدم وتحقيق
لما بعده; على تأويل: إن الله لا يظلم الناس شيئا في الدنيا فكيف في الآخرة!
وللتعظيم والتهويل: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) *، أي فكيف
حالهم إذا جئنا! وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: " كيف بك إذا بقيت
في حثالة من الناس "!
وقيل: وتجئ مصدرا، كقوله تعالى: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) *،
* (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها) *.
وتأتي ظرفا في قول سيبويه; وهي عنده في قوله: * (كيف تكفرون) * منصوبة
على التشبيه بالظرف، أي في حال تكفرون. وعلى الحال عند الأخفش، أي على
حال تكفرون.
وجعل منه بعضهم قوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) *; فإن شئت
قدرت بعدها اسما، وجعلتها خبرا، أي كيف صنعكم أو حالكم؟ وإن شئت قدرت بعدها
فعلا، تقديره: كيف تصنعون؟
وأثبت بعضهم لها الشرط; كقوله تعالى: * (ينفق كيف يشاء) *، * (يصوركم
في الأرحام كيف يشاء) *، * (فيبسطه في السماء كيف يشاء) *.
وجوابه في ذلك محذوف; لدلالة ما قبلها.
332

ومراد هذا القائل، الشرط المعنوي; وهو إنما يفيد الربط فقط; أي ربط جملة بأخرى
كأداة الشرط، لا اللفظي، وإلا لجزم الفعل.
وعن الكوفيين أنها تجزم، نحو كيف تكن أكن.
وقد يحذف الفعل بعدها، قال تعالى: * (كيف وإن يظهروا عليكم) *، أي
كيف توالونهم!
-،، * * * *،، -
333

اللام
قسمان: إما أن تكون عاملة، أو غير عاملة.
القسم الأول
غير العاملة
وتجئ لعشرة معان: معرفة، ودالة على البعد، ومخففة، وموجبة، ومؤكدة،
ومتممة، وموجهة، ومسبوقة والمؤذنة، والموطئة.
* * *
فالمعرفة: التي معها ألف الوصل، عند من يجعل المعرفة اللام وحدها، وينسب
لسيبويه. وذهب الخليل إلى أنه ثنائي، وهمزته همزة قطع، وصلت لكثرة الاستعمال.
وتنقسم المعرفة إلى عهدية واستغراقية، وقد سبقا في قاعدة التنكير والتعريف. وزاد
قوم طلب الصلة، وجعل منه: * (ركبا في السفينة) *، * (فأكله الذئب) *.
وللإضمار، * (فإن الجحيم هي المأوى) *، ولا خلاف أن الإضمار بعدها مراد;
وإنما اختلفوا في تقديره; فعند الكوفيين: " هي مأواه " وعند البصريين: " هي المأوى له.
واللام في التعريف مرققة إلا في اسم الله فيجب تفخيمها; إذا كان قبلها ضمة أو فتحة،
وهي في الأسماء تفخيم الجرس، وفى المعنى توقير المسمى وتعظيمه، سبحانه!
334

والدالة على البعد الداخلة على أسماء الإشارة; إعلاما بالبعد أو توكيدا له، على
الخلاف فيه.
* * *
والمخففة التي يجوز معها تخفيف " إن " المشددة; نحو: * (إن كل نفس لما عليها
حافظ) *.
وتسمى لام الابتداء، والفارقة; لأنها تفرق بينها وبين إن النافية.
والمخففة هي التي تحقق الخبر مع المبتدأ; كقوله تعالى: * (ولمن صبر وغفر) *،
* (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) *.
* * *
والموجبة: بمعنى " إلا " عند الكوفيين، كقوله تعالى: * (وإن كل لما جميع
لدينا محضرون) *، * (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) *، أي، ما كل،
فجعلوا: " إن " بمعنى " ما "، واللام بمعنى " إلا " في الإيجاب.
وقرأ الكسائي: * (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) *، بالرفع والمراد:
" وما كان مكرهم إلا لتزول منه ".
* * *
والمؤكدة; وهي الزائدة أول الكلام; وتقع في موضعين:
أحدهما: المبتدأ; وتسمى لام الابتداء; فيؤذن بأنه المحكوم; قال تعالى: * (لمسجد
335

أسس على التقوى) *، * (ليوسف وأخوه أحب) *، * (لأنتم أشد رهبة) *.
ثانيهما: في باب " إن "، على اسمها إذا تأخر; نحو * (إن في ذلك لعبرة) *.
وعلى خبرها، نحو: * (إن ربك لبالمرصاد) *، * (إن إبراهيم لحليم أواه) *،
* (إن بطش ربك لشديد) *.
ف‍ " إن " في هذا توكيد لما يليها; واللام لتوكيد الخبر.
وكذا في " أن " المفتوحة، كقراءة سعيد * (إلا أنهم ليأكلون) *، بفتح الهمزة;
فإنه ألغى اللام; لأنها لا تدخل إلا على " إن " المكسورة، أو على ما يتصل بالخبر إذا
تقدم عليه; نحو: * (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) *، فإن تقديره: " ليعمهون
في سكرتهم ".
واختلف في اللام في قوله: * (لمن ضره) *; فقيل هي مؤخرة، والمعنى: يدعو
لمن ضره أقرب من نفعه.
وجاز تقديمها وإيلاؤها المفعول; لأنها لام التوكيد واليمين; فحقها أن تقع
صدر الكلام.
واعترض بأن اللام في صلة " من " فتقدمها على الموصول ممتنع. وأجاب الزمخشري
بأنها حرف لا يفيد غير التوكيد; وليست بعاملة، ك‍ " من " المؤكدة، في نحو: ما جاءني من
أحد، دخولها وخروجها سواء; ولهذا جاز تقديمها.
ويجوز ألا تكون هنا موصولة; بل نكرة; ولهذا قال الكسائي: اللام في غير
336

موضعها; و " من " في موضع نصب ب‍ " يدعو "، والتقدير: " يدعو من ضره أقرب
من نفعه "، أي يدعو إلها ضره أقرب من نفعه.
قال المبرد: يدعو في موضع الحال، والمعنى في ذلك هو الضلال البعيد في حال دعائه
إياه، وقوله: * (لمن) * مستأنف مرفوع بالابتداء، وقوله: * (ضره أقرب من نفعه) *
في صلته، و * (لبئس المولى) * خبره.
وهذا يستقيم لو كان في موضع * (يدعو) *، " يدعى "، لكن مجيئه بصيغة فعل
الفاعل، وليس فيه ضميره يبعده.
* * *
والمتمة، كقوله تعالى: * (إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) *، * (إذن
لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) *; فاللام هنا لتتميم الكلام.
قال الزمخشري: " إذن " دالة على أن ما بعدها جواب وجزاء.
* * *
والموجهة، في جواب " لولا " كقوله تعالى: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن
إليهم) *; فاللام في * (لقد) * توجه للتثبيت.
* * *
والمسبوقة في جواب " لو "; كقوله تعالى: * (لو نشاء لجعلناه حطاما) *; أي تفيد
تأخره لأشد العقوبة; كقوله تعالى: * (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها
أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس) *.
337

وهذا بخلاف قوله: * (لو نشاء جعلناه أجاجا) * بغير لام; فإنه يفيد التعجيل; أي جعلناه
أجاجا لوقته.
* * *
والمؤذنة: الداخلة على أداة الشرط بعد تقدم القسم لفظا أو تقديرا، لتؤذن أن الجواب له،
لا للشرط، أو للإيذان بأن ما بعدها مبنى على قسم قبلها.
وتسمى الموطئة; لأنها وطأت الجواب للقسم، أي مهدته.
وقول المعربين: إنها موطئة للقسم فيه تجوز; وإنما هي موطئة لجوابه، كقوله:
* (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن
الأدبار) *، وليست جوابا للقسم; وإنما الجواب ما يأتي بعد الشرط. ويجمع هذه
الأربعة المتأخرة; قولك: لام الجواب.
وقد اجتمعا في قوله تعالى: * (كلا لئن لم ينته لنسفعا) *، فاللام في " لئن "
مؤذنة، وقوله: * (نسفعا) * جواب القسم المقدر; تقديره: والله لنسفعن.
ومن جواب القسم قوله: * (ولقد آتينا موسى الكتاب) *. وزعم الشيخ أثير
الدين في تفسيره أنها لام التوكيد; وليس كما قال; وقد قال الواحدي في،، البسيط،،:
إنها لام القسم، ولا يجوز أن تكون لام ابتداء; لأن لام الابتداء لا تلحق إلا الأسماء،
وما يكون بمنزلتها كالمضارع.
338

القسم الثاني
العاملة
وهي على ثلاثة أقسام: جارة، وناصبة، وجازمة.
* * *
الأولى: الجارة، وتأتي لمعان:
للملك الحقيقي; كقوله تعالى: * (إن الأرض لله) *، * (ألم تعلم أن لله له
ملك السماوات والأرض) *، * (ولله جنود السماوات والأرض) *.
والتمليك، نحو: وهبت لزيد دينارا; ومنه: * (ووهبنا لهم من رحمتنا) *.
والاختصاص، ومعناها أنها تدل على أن بين الأول والثاني، نسبة باعتبار ما دل عليه
متعلقة; نحو: هذا صديق لزيد، وأخ له; ومنه: الجنة للمؤمنين.
وللتخصيص، ومنه: * (إن وهبت نفسها للنبي) *.
وللاستحقاق، كقوله تعالى: * (ويل للمطففين) *، * (لهم اللعنة ولهم سوء
الدار) *.
والفرق بينه وبين الملك; أن الملك لما حصل وثبت، وهذا لم يحصل بعد; ولكن
هو في حكم الحاصل، من حيث ما قد استحق. قاله الراغب.
339

وللولاية، كقوله: * (لله الأمر من قبل ومن بعد) *.
ويجوز أن تجمع هذه الثلاثة، كقولك: الحمد لله; لأنه يستحق الحمد، ووليه،
والمخصوص به; فكأنه يقول: الحمد لي وإلى.
وللتعليل; وهي التي يصلح موضعها " من أجل "، كقوله تعالى: * (وإنه لحب
الخير لشديد) *; أي من أجل حب الخير.
وقوله: * (لإيلاف قريش) *; وهي متعلقة بقوله: * (فليعبدوا) *، أو بقوله:
* (فجعلهم كعصف مأكول) *; ولهذا كانتا في مصحف أبى سورة واحدة.
وضعف بأن جعلهم كعصف مأكول; إنما هو لكفرهم وتجرئهم على البيت.
وقيل: متعلق بمحذوف، أي " اعجبوا ".
وقوله: * (سقناه لبلد ميت) *، أي لأجل بلد ميت; بدليل: * (فأنزلنا به
الماء) *.
هذا قول الزمخشري; وهو أولى من قول غيره إنها بمعنى " إلى ".
وقوله: * (ولا تكن للخائنين خصيما) *; أي لا تخاصم الناس لأجل الخائنين.
قال الراغب: ومعناه كمعنى: * (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) *،
وليست كالتي في قولك: لا تكن لله خصيما، لدخولها على المفعول; أي لا تكن
خصيم الله.
وبمعنى " إلى " كقوله: * (وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى) *
بدليل قوله: * (ويؤخركم إلى أجل مسمى) *.
340

وقوله: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) *.
* (الحمد لله الذي هدانا لهذا) *.
* (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للإيمان) *.
وقوله: * (بأن ربك أوحى لها) *، بدليل: * (وأوحى ربك إلى النحل) *.
وزيفه الراغب لأن الوحي للنحل، جعل ذلك له للتسخير والإلهام، وليس كالوحي الموحى
إلى الأنبياء; فاللام على جعل ذلك الشئ له بالتسخير.
وبمعنى " على "، نحو: * (ويخرون للأذقان) *.
* (فلما أسلما وتله للجبين) *.
وقوله: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) *; أي فعليها;
لأن السيئة على الإنسان لا له; بدليل قوله تعالى: * (فعلي اجرامي) *.
وقوله: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) *، وقوله: * (ذلك
لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) *، أي من لم يكن.
وقوله: * (لهم اللعنة ولهم سوء الدار) *.
وبمعنى " في " كقوله: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) *، * (يا ليتني
قدمت لحياتي) *.
341

* (لا يجليها لوقتها إلا هو) *.
وبمعنى " بعد "، نحو: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) *. وقال ابن أبان: الظاهر
أنها للتعليل.
وبمعنى " عن " مع القول، كقوله تعالى: * (وقال الذين كفروا للذين آمنوا
لو كان خيرا ما سبقونا) * أي عن الذين آمنوا، وليس المعنى خطابهم بذلك، وإلا لقيل:
" سبقتمونا ". وقيل لام التعليل، وقيل للتبليغ، والتفت عن الخطاب إلى الغيبة.
وكقوله: * (قالت أخراهم لأولاهم) *، وأما قوله: * (قالت أولاهم
لأخراهم) *; فاللام للتبليغ; كذلك قسمها ابن مالك، كقوله تعالى: * (ألم أقل
لك) *.
وغيره يسميها لام التبليغ، فإن عرف من غاب عن القول حقيقة أو حكما، فللتعليل
نحو: * (وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا) *، * (ولا أقول للذين تزدري
أعينكم) *.
وذكره ابن مالك وغيره ضابطا في اللام المتعلقة بالقول; وهو إن دخلت على مخاطبة القائل;
فهي لتعدية القول للمقول له، نحو: * (وقولوا لهم قولا معروفا) *.
* (وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا) *.
وقوله: * (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا) *.
342

وقوله: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب) *.
وقوله: * (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا. إلا أن يشاء الله) *.
وهو كثير.
وبمعنى " أن " المفتوحة الساكنة. قاله الهروي: وجعل منه:
* (يريدون ليطفئوا نور الله) *.
* (يريد الله ليبين لكم) *.
* (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) *.
وهذه اللام لا تكون إلا بعد " أردت "، و " أمرت "، وذلك لأنهما يطلبان
المستقبل، ولا يصلحان في الماضي، فلهذا جعل معهما بمعنى " أن "; وبذلك صرح صاحب
،، الكشاف،، في تفسير سورة الصف، فقال: * (يريدون ليطفئوا نور الله) *،
[أصله: يريدون أن يطفئوا]، كما جاء في سورة براءة.
وللتعدية; وهي التي تعدى العامل إذا عجز، نحو: * (إن كنتم للرؤيا تعبرون) *،
فاللام فيه للتعدية; لأن الفعل يضعف بتقديم المفعول عليه.
وسماها ابن الأنباري: آلة الفعل، وذكر أن البصريين يسمونها لام الإضافة;
كقوله تعالى: * (أن اشكر لي ولوالديك) *، * (أن أنصح لكم) *.
وقال الراغب: التعدية ضربان: تارة لتقوية الفعل، ولا يجوز حذفه، نحو: * (وتله
للجبين) *، وتارة يحذف، نحو: * (يريد الله ليبين لكم) *، * (فمن يرد الله
343

أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله) *، فأثبت في موضع وحذف
في موضع. انتهى.
وللتبيين; كقوله تعالى: * (وقالت هيت لك) *; أي أقبل وتعال أقول لك.
وذكر ابن الأنباري أن اللام المكسورة تجئ جوابا للقسم، كقوله تعالى: * (لله
ما في السماوات وما في الأرض ليجزى) *، والمعنى " ليجزين " بفتح اللام والتوكيد
بالنون، فلما حذف النون أقام المكسورة مقام المفتوحة.
وهذا ضعيف، وذكر مثله عن أبي حاتم.
ويحتمل أن يكون قبلها فعل مقدر; أي آمنوا ليجزى
* * *
الثاني: الناصبة على قول الكوفيين في موضعين: لام كي ولام الجحود.
ولام الجحود هي الواقعة بعد الجحد; أي النفي; كقوله: * (ما كان الله ليذر
المؤمنين) *، * (وما كان الله ليعذبهم) *; * (لم يكن الله ليغفر لهم) *.
وضابطها أنها لو سقطت تم الكلام بدونها; وإنما ذكرت توكيدا لنفى الكون;
بخلاف لام كي.
قال الزجاج: اللام في قوله: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) *، لأنه لام
كي; لأن لام الجحود إذا سقطت لم يختل الكلام; ولو سقطت اللام من الآية بطل
344

المعنى. ولأنه يجوز إظهار " أن " بعد لام " كي "، ولا يجوز بعد لام الجحود; لأنها في
كلامهم نفى للفعل المستقبل; فالسين بإزائها، فلم يظهر بعدها ما لا يكون بعدها، كقوله
تعالى: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) *، فجاء بلام الجحد حيث كانت نفيا لأمر
متوقع مخوف في المستقبل، ثم قال: * (ما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) *
فجاء باسم الفاعل الذي لا يختص بزمان; حيث أراد نفى العذاب بالمستغفرين على العموم
في الأحوال.
ومثله: * (وما كان ربك ليهلك القرى) *، ثم قال: * (وما كنا مهلكي
القرى) *.
ومثال لام " كي " و " كي " مضمرة معها، قوله تعالى: * (لينذر بأسا) *،
* (لنثبت به فؤادك) *، * (لنصرف عنه السوء) *، * (ليبين لهم الذي
يختلفون فيه وليعلم) *.
وقوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء) *، يريد:
" كي تكونوا ".
وقوله: * (لتكون لمن خلفك آية) *.
وقد تجئ معها " كي " نحو: * (لكيلا يعلم بعد علم شيئا) *، * (لكيلا
يكون على المؤمنين حرج) *، * (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) *.
345

وربما جاءت " كي " بلا لام، كقوله: * (كي لا يكون دولة بين الأغنياء) *
وفى معناه الصيرورة، كقوله تعالى: * (ليكون لهم عدوا وحزنا) *، * (وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون) *.
وتسمى لام العاقبة; فإن من المعلوم أنهم لم يلتقطوه لذلك; بل لضده، بدليل قوله:
* (عسى أن ينفعنا أو تتخذه ولدا) *.
وحكى ابن قتيبة عن بعضهم أن علامتها جواز تقدير الفاء موضعها; وهو يقتضى أنها
لام التعليل; لكن الفرق بينها وبين لام التعليل التي في نحو قوله: * (لنحيي به بلدة
ميتا) *، أن لام التعليل تدخل على ما هو غرض لفاعل الفعل، ويكون مرتبا على الفعل
وليس في لام الصيرورة إلا الترتب فقط.
وقال الزمخشري في تفسير سورة المدثر: أفادت اللام نفس العلة والسبب، ولا يجب
في العلة أن تكون غرضا; ألا ترى إلى قولك: خرجت من البلد مخافة الشر، فقد جعلت
المخافة علة لخروجك، وما هي بغرضك.
ونقل ابن فورك عن الأشعري: أن كل لام نسبها الله إلى نفسه; فهي للعاقبة
والصيرورة دون التعليل; لاستحالة الغرض.
واستشكله الشيخ عز الدين بقوله: * (كي لا يكون دولة) *، وقوله:
* (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله) *، فقد صرح فيه بالتعليل. ولا مانع
من ذلك; إذ هو على وجه التفضل.
346

وأقول: ما جعلوه للعاقبة هو راجع للتعليل; فإن التقاطهم أفضى إلى عداوته; وذلك
يوجب صدق الإخبار بكون الالتقاط للعداوة; لأن ما أفضى إلى الشئ يكون علة،
وليس من شرطه أن يكون نصب العلة صادرا عمن نسب الفعل إليه لفظا; بل جاز أن
يكون ذلك راجعا إلى من ينسب الفعل إليه خلقا; كما تقول: جاء الغيث لإخراج الأزهار،
وطلعت الشمس لإنضاج الثمار، فإن الفعل يضاف إلى الشمس والغيث.
وكذلك التقاط آل فرعون موسى; فإن الله قدره لحكمته، وجعله علة لعداوته،
لإفضائه إليه بواسطة حفظه وصيانته; كما في مجئ الغيث بالنسبة إلى إخراج الأزهار.
وإليه يشير الزمخشري أيضا: التحقيق أنها لام العلة، وأن التعليل بها وارد على طريق
المجاز دون الحقيقة; لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط كونه لهم عدوا وحزنا; بل المحبة
والتبني; غير أن ذلك لما إن نتيجة التقاطهم له وثمرته; شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل
لأجله [وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجئ]، فاللام مستعارة لما يشبه التعليل.
وقال ابن خالويه في كتاب،، المبتدأ،، في النحو: فأما قوله تعالى: * (فالتقطه
آل فرعون ليكون) *، فهي لام " كي " عند الكوفيين، ولام الصيرورة عند
البصريين، والتقدير: فصار عاقبة أمرهم إلى ذلك; لأنهم لم يلتقطوه لكي يكون
عدوا. انتهى.
وجوز ابن الدهان في الآية وجها غريبا: على التقديم والتأخير، أي فالتقط
آل فرعون، و * (عدوا وحزنا) * حال من الهاء في: * (ليكون لهم) *; أي
ليتملكوه.
347

قال: ويجوز أن يكون التقدير: فالتقطه آل فرعون; لكراهة أن يكون لهم
عدوا وحزنا.
وأما قوله: * (ليغفر لك الله) *، فحكى الهروي عن أبي حاتم أن اللام جواب القسم،
والمعنى: ليغفرن الله لك; فلما حذفت النون كسرت اللام، وإعمالها إعمال " كي ";
وليس المعنى: فتحنا لك لكي يغفر الله لك; فلم يكن الفتح سببا للمغفرة.
قال وأنكره ثعلب، وقال: هي لام " كي "، ومعناه: لكي يجتمع لك مع المغفرة
تمام النعمة، فلما انضم إلى المغفرة شئ حادث واقع، حسن معه " كي ".
وكذلك قوله: * (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) *.
وأما قوله تعالى: * (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا
ربنا ليضلوا عن سبيلك) *، فقال الفراء: لام كي.
وقال قطرب والأخفش: لم يؤتوا المال ليضلوا، ولكن لما كان عاقبة أمرهم الضلال
كانوا كأنهم أوتوها، لذلك فهي لام العاقبة.
هذا كله على مذهب الكوفيين، وأما البصريون فالنصب عندهم بإضمار " أن "،
وهما جارتان للمصدر; واللام الجارة هي لام الإضافة.
واعلم أن الناصبة للمضارع تجئ لأسباب:
منها القصد والإرادة; إما في الإثبات، نحو: * (لتنذر أم القرى) *، أو النفي
نحو: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم) *، فهو على تقدير حذف
المضاف; أي لنعلم ملائكتنا وأولياؤنا.
348

ويجوز أن يكون تعالى خاطب الخلق بما يشاكل طريقتهم في معرفة البواطن والظواهر
على قدر فهم المخاطب.
وقد تقع موقع " أن "، وإن كانت غير معلولة لها في المعنى، وذلك إن كان الكلام
متضمنا لمعنى القصد والإرادة، نحو: * (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) *، * (إنما يريد الله
ليعذبهم بها) *.
ومنها العاقبة على ما سبق.
* * *
الثالث: الجازمة; وهي الموضوعة للطلب، وتسمى لام الأمر; وتدخل على المضارع لتؤذن أنه مطلوب للمتكلم; وشرطها أن يكون الفعل الفاعل المخاطب; فيقولون:
لتضرب أنت، ومنه قراءة بعضهم: * (فبذلك فلتفرحوا) *.
ووصفها أن تكون مكسورة إذا ابتدى بها; نحو: * (لينفق ذو سعة من سعته) *
* (ليستأذنكم) *.
وتسكن بعد الواو والفاء; نحو: * (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي) *.
* (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) *.
ويجوز الوجهان بعد " ثم " كقوله تعالى: * (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم
وليطوفوا بالبيت العتيق) *، قرى في السبع بتسكين * (ليقضوا) * وبتحريكه.
وتجئ لمعان:
منها: التكليف; كقوله تعالى: * (لينفق ذو سعة من سعة) *.
349

ومنها أمر المكلف نفسه; كقوله تعالى: * (ولنحمل خطاياكم) *.
والابتهال، وهو الدعاء، نحو: * (ليقض علينا ربك) *.
والتهديد نحو: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) *.
والخبر، نحو: * (من كان في الضلال فليمدد له الرحمن مدا) *، أي يمد.
ويحتمله: * (ولنحمل) *، أي ونحمل.
ويجوز حذفها ورفع الفعل، ومنه قوله: * (تؤمنون بالله ورسوله) *، ويدل
على أنه للطلب، قوله تعالى بعد: * (نغفر لكم) * مجزوما; فلولا أنه طلب لم يصح الجزم;
لأنه ليس ثم وجه سواه.
350

لا
على ستة أوجه:
أحدهما: أن تكون للنفي: وتدخل على الأسماء والأفعال.
فالداخلة على الأسماء تكون عاملة وغير عاملة.
فالعاملة قسمان:
تارة تعمل عمل " إن "، وهي النافية للجنس، وهي تنفى ما أوجبته " إن "،
فلذلك تشبه بها في الأعمال، نحو: * (لا تثريب عليكم) *، * (لا مقام لكم) *،
* (لا جرم أن لهم النار) *.
ويكثر حذف خبرها إذا علم، نحو: * (لا ضير) *، * (فلا فوت) *. وتارة
تعمل عمل " ليس ".
وزعم الزمخشري في،، المفصل،، أنها غير عاملة.
وكذا قال الحريري في،، الدرة،،: إنها لا تأتى إلا لنفى الوحدة.
قال ابن بري: وليس بصحيح; بل يجوز أن يريد منه العموم، كما في النصب، وعليه
قال: " لا ناقة لي في هذا ولا جمل "، يعنى فإنه نفى الجنس لما عطف.
وكذلك قولك: " لا رجل في الدار ولا امرأة "، تفيد نفى الجنس; لأن العطف
أفهم للعموم.
351

وممن نص على ذلك أبو البقاء في،، المحصل،،. ويؤيده قوله تعالى:
* (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) *، قرئ بالرفع والنصب فيهما، والمعنى
فيهما واحد.
وقال ابن الحاجب: ما قاله الزمخشري لا يستقيم، ولا خلاف عند أصحاب الفهم أنه
يستفاد العموم منه، كما في المبنية على الفتح، وإن كانت المبنية أقوى في الدلالة عليه; إما
لكونه نصا أو لكونه أقوى ظهورا، وسبب العموم أنها نكرة في سياق النفي فتعم.
وقال ابن مالك في،، التحفة،،: قد تكون المشبه ب‍ " ليس " نافية للجنس، ويفرق
فيها بين إرادة الجنس وغيره بالقرائن. هذا كله في العاملة.
وأما غير العاملة; فيرفع الاسم بعدها بالابتداء إذا لم يرد نفى العموم، ويلزم التكرار.
ثم تارة تكون نكرة، كقوله: * (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) *.
* (لا بيع فيه ولا خلال) *.
وتارة تكون معرفة كقوله: * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) *.
ولذلك يجب تكرارها إذا وليها نعت نحو: * (زيتونة لا شرقية ولا غربية) *،
وقوله تعالى: * (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث) *.
فإن قيل: لم لم تكررها وقد أوجبوا تكرارها في الصفات؟
وجوابه أنه من الكلام المحمول على المعنى، والتقدير: لا تثير الأرض، ولا ساقية
للحرث، أي لا تثير ولا تسقى.
352

وقال الراغب: هي في هذه الحالة تدخل في المتضادين، ويراد بها إثبات الأمرين بهما
جميعا، نحو: زيد ليس بمقيم ولا ظاعن، أي تارة يكون كذا، وتارة يكون كذا. وقد
يراد إثبات حالة بينهما; نحو: زيد ليس بأبيض ولا أسود.
ومنها قوله تعالى: * (لا شرقية ولا غربية) *، قيل: معناه أنها شرقية وغربية.
وقيل: معناه مصونة عن الإفراط والتفريط، وأما الداخلة على الأفعال; فتارة تكون لنفى
الأفعال المستقبلة، كقوله تعالى: * (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) *; لأنه جزاء،
فلا يكون إلا مستقبلا.
ومثله: * (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم) *.
وقد ينفى المضارع مرادا به نفى الدوام، كقوله تعالى: * (لا يعزب عنه مثقال ذرة
في السماوات ولا في الأرض) *.
وقد يكون للحال، كقوله: * (لا أقسم بيوم القيامة) *. * (فلا أقسم برب
المشارق) *، * (فلا أقسم بمواقع النجوم) *، * (فلا وربك لا يؤمنون) *.
وقوله: * (ومالكم لا تقاتلون) *. يصح أن تكون في موضع الحال، أي
مالكم غير مقاتلين.
وقيل: ينفى بها الحاضر على التشبيه ب‍ " ما "، كقولك في جواب من قال: " زيد يكتب
الآن ": لا يكتب.
والنفي بها يتناول فعل المتكلم، نحو: لا أخرج اليوم ولا أسافر غدا. ومنه قوله تعالى:
353

* (قل لا أسألكم عليه أجرا) *.
وفعل المخاطب، كقولك: إنك لا تزورنا، ومنه قوله تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى) *،
* (فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) *.
وتدخل على الماضي في القسم والدعاء، نحو: الله لا صليت، ونحو: لا ضاق صدرك.
وفى غيرها نحو: * (فلا صدق ولا صلى) *.
والأكثر تكرارها، وقد جاءت غير مكررة في قوله تعالى: * (فلا اقتحم
العقبة) *.
قال الزمخشري: لكنها مكررة في المعنى; لأن المعنى: لا فك رقبة، ولا أطعم مسكينا،
ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك؟ وقيل: إنه دعاء، أي أنه يستحق أن يدعى عليه بأن
يفعل خيرا.
وقد يراد الدعاء في المستقبل والماضي، كقولك: لا فض الله فاك. وقوله:
" لا يبعدن قومي ".
* * *
الثانية: أن تكون للنهي، ينهى بها الحاضر والغائب، نحو: لا تقم ولا يقم. وقال
تعالى: * (لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء) *.
* (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) *.
* (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا. إلا أن يشاء الله) *.
* (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) *.
* (لا يسخر قوم من قوم) *.
354

* (ولا تنابزوا بالألقاب) *.
* (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان) *.
* (ولا يحطمنكم سليمان) *.
وتخلص المضارع للاستقبال، نحو: * (لا تخافي ولا تحزني) *.
وترد للدعاء، نحو: * (لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) *، ولذلك قال بعضهم:
" لا الطلبية " ليشمل النهى وغيره.
وقد تحتمل النفي والنهى، كقوله تعالى: * (ألا تعبدوا إلا الله) *، * (ومالكم
لا تقاتلون) *.
* * *
الثالثة: أن تكون جوابية، أي رد في الجواب، مناقض ل‍ " نعم " أو بلى، فإذا
قال مقررا: ألم أحسن إليك؟ قلت: لا، أو بلى، وإذا قال مستفهما: هل زيد عندك؟
قلت: لا أو نعم، قال تعالى: * (ألست بربكم قالوا بلى) *، * (فهل وجدتم ما وعد
ربكم حقا قالوا نعم) *.
* * *
الرابعة: أن تكون بمعنى " لم "، ولذلك اختصت بالدخول على الماضي، نحو:
* (فلا صدق ولا صلى) *، أي لم يصدق ولم يصلى.
ومثله: * (فلا اقتحم العقبة) *.
355

الخامسة: أن تكون عاطفة تشرك ما بعدها في إعراب ما قبلها، وتعطف بعد
الإيجاب، نحو يقوم زيد لا عمرو. وبعد الأمر، نحو اضرب زيدا لا عمرا، وتنفى
عن الثاني ما ثبت للأول، نحو: خرج زيد لا بكر.
فإن قلت: ما قام زيد ولا بكر، فالعطف للواو دونها، لأنها أم حروف العطف.
* * *
السادسة: أن تكون زائدة، في مواضع:
الأول: بعد حرف العطف المتقدم عليه النفي أو النهى فتجئ مؤكدة له، كقولك:
ما جاءني زيد ولا عمرو، وقوله تعالى: * (وما أموالكم ولا أولادكم) *.
* (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) *.
وقوله: * (ولا الضالين) *.
قال أبو عبيدة: وقيل: إنما دخلت هنا مزيلة لتوهم أن " الضالين " هم " المغضوب
عليهم "، والعرب تنعت الواو، وتقول: مررت بالظريف والعاقل، فدخلت لإزالة التوهم.
وقيل: لئلا يتوهم عطف " الضالين " على " الذين ".
ومثال النهى قوله تعالى: * (لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى
ولا القلائد) *، ف‍ " لا " زائدة، وليست بعاطفة; لأنها إنما يعطف بها في غير النهى
وإنما دخلت هنا لنفى احتمال أن يكون المقصود نفى مجيئها جميعا، تأكيدا للظاهر من اللفظ،
ونفيا للاحتمال الآخر، فإنه يفيد النفي عن كل واحد منها نصا، ولو لم يأت ب‍ " لا " لجاز أن
يكون النفي عنهما على جهة الاجتماع ولكنه خلاف الظاهر; فلذلك كان يقول ببقاء
الزيادة أولى، لبقاء الكلام بإثباتها على حالة عند عدمها، وإن كانت دلالته عند
مجيئها أقوى.
356

وأما قوله تعالى: * (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة) *، فمن قال: المراد أن الحسنة
لا تساوى السيئة، ف‍ " لا " عنده زائدة، ومن قال: إن جنس الحسنة لا يستوى إفراده،
وجنس السيئة يستوى إفراده - وهو الظاهر من سياق الآية - فليست زائدة، والواو عاطفة
جملة على جملة، وقد سبق فيها مزيد كلام في بحث الزيادة.
وأما قوله تعالى: * (وما يستوى الأعمى والبصير...) * الآية، فالأولى والثانية
غير زائدة، والثالثة والرابعة والخامسة زوائد.
وقال ابن الشجري: قد تجئ مؤكدة للنفي في غير موضعها الذي تستحقه، كقوله
تعالى: * (وما يستوى الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات
ولا المسئ) *، لأنك لا تقول: ما يستوى زيد ولا عمرو، ولا تقول: ما يستوى زيد،
فتقتصر على واحد.
ومثله: * (ولا الظلمات ولا النور. ولا الظل ولا الحرور) *، * (وحرام على
قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) *.
وقال غيره: " لا " هاهنا صلة; لأن المساواة لا تكون إلا بين شيئين، فالمعنى:
ولا الظلمات والنور، حتى تقع المساواة بين شيئين، كما قال تعالى: * (وما يستوى
الأعمى والبصير) *، ولو قلت: ما يستوى زيد ولا عمرو لم يجز إلا على زيادة " لا ".
الثاني: بعد " أن " المصدرية الناصبة للفعل المضارع، كقوله تعالى: * (ما منعك
ألا تسجد) *.
وقيل: إنما زيدت توكيدا للنفي المعنوي الذي تضمنته: * (منعك) *، بدليل الآية
الأخرى: * (ما منعك أن تسجد) *.
357

وقال ابن السيد: إنما دخلت لما يقتضيه معنى المنع لا يحتمل حقيقة اللفظ; لأن المانع من
الشئ بأمر الممنوع، بألا يفعل، مهما كان المنع في تأويل الأمر بترك الفعل، والحمل على تركه
أجراه مجراها.
ومن هنا قوله تعالى: * (لئلا يعلم أهل الكتاب) * أي لئن لم، لأن المعنى
يتم بذلك.
وقيل: ليست زائدة والمعنى عليها.
وهذا كما تكون محذوفة لفظا مرادة معنى، كقوله تعالى: * (يبين الله لكم أن
تضلوا) *، المعنى ألا تضلوا; لأن البيان إنما يقع لأجل ألا تضلوا.
وقيل: على حذف مضاف، أي كراهة أن تضلوا.
وأما السيرافي فجعلها على بابها، حيث جاءت، زعم أن الإنسان إذا فعل شيئا لأمر ما،
قد يكون فعله لضده، فإذا قلت: جئت لقيام زيد، فإن المعنى أن المجئ وقع لأجل القيام،
وهل هو لأن يقع أو لئلا يقع؟ محتمل، فمن جاء للقيام، فقد جاء لعدم القيام، ومن جاء
لعدم القيام فقد جاء للقيام; برهان ذلك أنك إذا نصصت على مقصودك، فقلت: جئت لأن
يقع، أو أردت إن يقع، فقد جئت لعدم القيام، أي لأن يقع عدم القيام، وهو - أعني عدم الوقوع -
طلب وقوعه.
وإن قلت: وقصدي ألا يقع القيام، ولهذا جئت، فقد جئت لأن يقع عدم القيام،
فيتصور أن تقول: جئت للقيام، تعنى به عدم القيام.
وكذلك قوله تعالى: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * أي يبين الضلال، أي لأجل
الضلال يقع البيان: هل هو لوقوعه أو عدمه؟ المعنى: يبين ذلك.
358

وكذلك قوله تعالى: * (لئلا يعلم) * أي فعل الله هذا لعدم علمهم: هل وقع أم لا؟
وإذا علموا أنهم لا يقدرون على شئ من فضل الله، يبين لهم أنهم لا يعلمون، فقوله:
* (لئلا يعلم) * باق على معناه، ليس فيه زيادة.
الثالث: قبل قسم، كقوله: * (لا أقسم بيوم القيامة) *، المعنى أقسم، بدليل قراءة
ابن كثير: * (لأقسم) * وهي قراءة قويمة لا يضعفها عدم نون التوكيد مع اللام; لأن المراد
بأقسم فعل الحال، ولا تلزم النون مع اللام.
وقيل إنها غير زائدة، بل هي نافية.
وقيل: على بابها، ونفى بها كلاما تقدم منهم، كأنه قال: ليس الأمر كما قلتم من إنكار
القيامة، ف‍ " لا أقسم " جواب لما حكى من جحدهم البعث، كما كان قوله: * (ما أنت بنعمة
ربك بمجنون) * جوابا لقوله: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) *،
لأن القرآن يجرى مجرى السورة الواحدة.
وهذا أولى من دعوى الزيادة، لأنها تقتضي الإلغاء، وكونها صدر الكلام يقتضى
الاعتناء بها، وهما متنافيان.
قال ابن الشجري: وليست " لا " في قوله: * (فلا أقسم بمواقع النجوم) *،
وقوله: * (فلا أقسم برب المشارق) *. ونحوه بمنزلتها في قوله: * (لا أقسم
بيوم القيامة) *، كما زعم بعضهم; لأنها ليست في أول السورة لمجيئها بعد الفاء،
359

والفاء عاطفة كلمة على كلمة، تخرجها عن كونها بمنزلتها في: * (لا أقسم بيوم القيامة) *،
فهي إذن زائدة للتوكيد.
وأجاز الخارزنجي في: * (لا أقسم بيوم القيامة) *، كون " لا " فيه بمعنى
الاستثناء، فحذفت الهمزة وبقيت " لا ".
وجعل الزمخشري " لا " في قوله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون) *، مزيدة
لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في: * (لئلا يعلم) *، لتأكيد وجوب العلم، * (لا يؤمنون) *
جواب القسم، ثم قال:
فإن قلت: هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر " لا " في * (لا يؤمنون) *؟
وأجاب بأنه يمنع من ذلك استواء النفي والإثبات فيه، وذلك قوله: * (فلا أقسم
بما تبصرون وما لا تبصرون. إنه لقول رسول كريم) *. انتهى.
وقد يقال: هب أنه لا يتأتى في آية الواقعة، فما المانع من تأتيه في النساء؟ إلا أن يقال:
استقر بآية الواقعة أنها تزاد لتأكيد معنى القسم فقط، ولم يثبت زيادتها متظاهرة لها
في الجواب.
* * *
السابعة: تكون اسما في قول الكوفيين، أطلق بعضهم نقله عنهم.
وقيل: إن ما قالوه، إذا دخلت على نكرة، وكان حرف الجر داخلا عليها، نحو غضبت
من لا شئ، وجئت بلا مال، وجعلوها بمنزلة " غير ".
وكلام ابن الحاجب يقتضى أنه أعم من ذلك، فإنه قال: جعلوا " لا " بمعنى " غير "
360

لأنه يتعذر فيها الإعراب، فوجب أن يكون إعرابها على ما هو من تتمتها، وهو ما بعدها،
كقولك: جائني رجل لا عالم ولا عاقل.
ومنه قوله تعالى: * (لا فارض ولا بكر) *، * (وظل من يحموم. لا بارد ولا
كريم) *، وقوله: * (لا مقطوعة ولا ممنوعة) *.
-،، * * * *،، -
361

لات
قال سيبويه: " لات " مشبهة ب‍ " ليس " في بعض المواضع، ولم تتمكن تمكنها،
ولم يستعملوها إلا مضمرا فيها; لأنها ك‍ " ليس " في المخاطبة، والإخبار عن غائب، ألا ترى
أنك تقول: ليست وليسوا، وعبد الله ليس ذاهبا، فتبنى عليها، ولات فيها ذلك، قال
تعالى: * (لات حين مناص) *، أي ليس حين مهرب.
وكان بعضهم يرفع " حين " لأنها عنده بمنزلة " ليس " والنصب بها الوجه.
لا جرم
جاءت في القرآن في خمسة مواضع متلوة بأن واسمها، ولم يجئ بعدها فعل.
الأول: في هود، وثلاثة في النحل، والخامس في غافر، وفيه
فسرها الزمخشري.
وذكر اللغويون والمفسرون في معناها أقوالا:
أحدها: أن " لا " نافية ردا للكلام المتقدم، و " جرم " فعل معناه حق، و " أن " مع ما في
حيزها فاعل، أي حق، ووجب بطلان دعوته. وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش،
فقوله تعالى: * (لا جرم) *، معناه أنه رد على الكفار وتحقيق لخسرانهم.
362

الثاني: أن " لا " زائدة و " جرم " معناه كسب، أي كسب عملهم الندامة، وما في
خبرها على هذا القول في موضع نصب، وعلى الأول في موضع رفع.
الثالث: لا جرم، كلمتان ركبتا وصار معناهما حقا، وأكثر المفسرين يقتصر
على ذلك.
الرابع: أن معناها " لا بد " وأن الواقعة بعدها في موضع نصب، بإسقاط الخافض.
لو
على خمسة أوجه:
أحدها: الامتناعية; هذا واختلف في حقيقتها، فقال سيبويه: هي حرف لما كان سيقع
لوقوع غيره.
ومعناه كما قال الصفار: أنك إذا قلت: لو قام زيد قام عمرو، دلت على أن قيام عمرو
كان يقع لو وقع من زيد. وأما أنه إذا امتنع قيام زيد، هل يمتنع قيام عمرو أو يقع القيام
من عمرو بسبب آخر؟ فمسكوت عنه لم يتعرض له اللفظ.
وقال غيره: هي لتعليق ما امتنع بامتناع غيره.
وقال ابن مالك: هي حرف شرط يقتضى امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه.
وهي تسمى امتناعية شرطية، ومثاله قوله تعالى: * (ولو شئنا لرفعناه بها) *،
دلت على أمرين:
أحدهما: أن مشيئة الله لرفعه منتفية، ورفعه منتف; إذ لا سبب لرفعه إلا المشيئة.
الثاني: استلزام مشيئة الرفع للرفع; إذ المشيئة سبب والرفع مسبب; وهذا بخلاف:
363

" لو لم يخف الله لم يعصه "; إذ لا يلزم من انتفاء " لم يخف " انتفاء " لم يعص " حتى
يكون خاف وعصى; لأن انتفاء العصيان له سببان: خوف العقاب والإجلال، وهو أعلى;
والمراد أن صهيبا لو قدر خلوه عن الخوف لم يعص للإجلال; كيف والخوف حاصل!
ومن فسرها بالامتناع اختلفوا، فقال الأكثرون إن الجزاء - وهو الثاني - امتنع
لامتناع الشرط - وهو الأول - فامتنع الثاني وهو الرفع، لامتناع الأول; وهو المشيئة.
قال ابن الحاجب ومن تبعه كابن جمعة الموصلي وابن خطيب زملكا: امتنع الأول
لامتناع الثاني، قالوا: لأن امتناع الشرط لا يستلزم امتناع الجزاء، لجواز إقامة شرط آخر
مقامه; وأما امتناع الجزاء فيستلزم امتناع الشرط مطلقا.
وذكروا أن لها مع شرطها وجوابها أربعة أحوال:
أحدها: أن تتجرد من النفي، نحو: لو جئتني لأكرمتك; وتدل حينئذ على انتفاء
الأمرين، وسموها حرف وجوب لوجوب; ومنه قوله تعالى: * (ولو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.
* (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) *.
وقوله: * (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) *، أي ما هداني
بدليل قوله بعده: * (بلى قد جاءتك آياتي) *; لأن " بلى " جواب للنفي.
ثانيها: إذا اقترن بها حرف النفي، تسمى حرف امتناع لامتناع، نحو: لو لم تكرمني
لم أكرمك، فيقتضى ثبوتهما لأنهما للامتناع; فإذا اقترن بهما حرف نفى، سلب عنهما
الامتناع، فحصل الثبوت; لأن سلب السلب إيجاب.
ثالثها: أن يقترن حرف النفي بشرطها دون جوابها، وهي حرف امتناع لوجوب،
نحو: لو تكرمني أكرمتك; ومعناه عند الجمهور انتفاء الجزاء وثبوت الشرط.
364

رابعها: عكسه وهو حرف وجوب لامتناع، نحو: لو جئتني لم أكرمك، فيقتضى
ثبوت الجزاء وانتفاء الشرط، ومنه قوله تعالى: * (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل
إليه ما اتخذوهم أولياء) *.
واعلم أن تفسير سيبويه لها مطرد في جميع مواردها، ألا ترى أن مفهوم الآية عدم
نفاد كلمات الله مع فرض شجر الأرض أقلاما والبحر ممدودا بسبعة أبحر مدادا، ولا
يلزم ألا يقع عدم نفاد الكلمات إذا لم يجعل الشجر أقلاما والبحر مدادا.
وكذا في " نعم العبد صهيب " فإن مفهومه أن عدم العصيان كان يقع عند عدم
الخوف، ولا يلزم ألا يقع عدم العصيان إلا عند الخوف، وهكذا الباقي.
وأما تفسير من فسرها بأنها حرف امتناع لامتناع، وذكر لها هذه الأحوال الأربعة
فلا يطرد، وذلك لتخلف هذا المعنى في بعض الموارد; وهو كل موضوع دل الدليل فيه
على أن الثاني ثابت مطلقا; إذ لو كان منفيا لكان النفاد حاصلا، والعقل يجزم بأن
الكلمات إذا لم تنفد مع كثرة هذه الأمور فلأن تنفد مع قلتها وعدم بعضها أولى.
وكذا قوله تعالى: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا
عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا) *.
وكذا قوله: * (ولو أسمعهم لتولوا) *، فإن التولي عند عدم الإسماع أولى.
وأما قوله: " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " فنفى العصيان ثابت، إذ لو
انتفى نفى العصيان لزم وجوده; وهو خلاف ما يقتضيه سياق الكلام في المدح.
365

ولما لم يطرد لهم هذا التفسير مع اعتقادهم صحته، اختلفوا في تخريجها على طرق:
الأول: دعوى أنها في مثل هذه المواضع - أعني الثابت فيها الثاني دائما - إنما جاءت
لمجرد الدلالة على ارتباط الثاني بالأول، لا للدلالة على الامتناع، وضابطها ما يقصد به
الدلالة على مجرد الارتباط دون امتناع كل موضع قصد فيه ثبوت شئ على كل حال،
فيربط ذلك الشئ بوجود أحد النقيضين لوجوده دائما، ثم لا يذكر إذ ذاك إلا النقيض
الذي يلزم من وجود ذلك الشئ، على تقدير وجود النقيض الآخر، فعدم النفاد في الآية
الكريمة واقع على تقدير كون ما في الأرض من شجرة أقلام، وكون البحر مد من سبعة
أبحر، فعدم النفاد على تقدير انتفاء كون هذين الأمرين أولى. وكذا عدم عصيان صهيب
واقع على تقدير عدم خوفه، فعدم عصيانه على تقدير وجود الخوف أولى. وعلى هذا يتقرر
جميع ما يرد عليك من هذا الباب.
والتحقيق أنها تفيد امتناع الشرط كما سبق من الآيات الشريفة. وتحصل أنها تدل
على أمرين:
أحدهما: امتناع شرطها، والآخر بكونه مستلزما لجوابها، ولا يدل على امتناع الجواب
في نفس الأمر ولا ثبوته; فإذا قلت: لو قام زيد لقام عمرو، فقيام زيد محكوم
بانتفائه فيما مضى، وبكونه مستلزما ثبوته لثبوت قيام عمرو، وهل لقيام عمرو وقت آخر
غير اللازم عن قيام، أو ليس له؟ لا يعرض في الكلام لذلك; ولكن الأكثر كون الثاني
والأول غير واقعين.
وقد سلب الإمام فخر الدين الدلالة على الامتناع مطلقا، وجعلها لمجرد الربط، واحتج
بقوله تعالى: * (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا) *، قال:
366

فلو أفادت " لو " انتفاء الشئ لانتفاء غيره، لزم التناقض; لأن قوله: * (ولو علم الله
فيهم خيرا لأسمعهم) *، يقتضى أنه ما علم فيهم خيرا وما أسمعهم، وقوله: * (ولو أسمعهم
لتولوا) *، يفيد أنه تعالى ما أسمعهم ولا تولوا; لكن عدم التولي خير، فيلزم أن يكون
وما علم فيهم خيرا.
قال: فعلمنا أن كلمة " لو " لا تفيد إلا الربط. هذا كلامه.
وقد يمنع قوله: " إن عدم التولي خير "; فإن الخير إنما هو عدم التولي، بتقدير حصول
الإسماع، والفرض أن الإسماع لم يحصل، فلا يكون عدم التولي على الإطلاق خيرا، بل
عدم التولي المرتب على الإسماع.
الطريق الثاني: أن قولهم: لامتناع الشئ لامتناع غيره، معناه أن ما كان جوابا لها
كان يقع لوقوع الأول، فلما امتنع الأول امتنع أن يكون الثاني واقعا لوقوعه، فإن وقع
فلأمر آخر; وذلك لا ينكر فيها; ألا ترى أنك إذا قلت: لو قام زيد قام عمرو،
دل ذلك على امتناع قيام عمرو الذي كان يقع منه لو وقع قيام زيد، لا على امتناع قيام
عمرو لسبب آخر. وكذلك " لو لم يخف الله لم يعصه "، امتنع عدم العصيان الذي كان
سيقع عند عدم الخوف لو وقع، ولا يلزم امتناع عدم العصيان عند وجود الخوف.
الثالث: أن تحمل " لو " فيما جاء من ذلك; على أنها محذوفة الجواب فيكون قوله:
* (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) * معناه، لو كان هذا لتكسرت الأشجار،
وفنى المداد، ويكون قوله: * (ما نفدت) * مستأنف، أو على حذف حرف العطف، أي
وما نفدت.
الرابع: أن تحمل " لو " في هذه المواضع على التي بمعنى " إن "، قال أبو العباس: لو
أصلها في الكلام أن تدل على وقوع الشئ لوقوع غيره، تقول: لو جئتني لأعطيتك، ولو
كان زيد هناك لضربتك، ثم تتسع فتصير في معنى " إن " الواقعة للجزاء، تقول: أنت لا
367

تكرمني ولو أكرمتك، تريد " وإن "، قال تعالى: * (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا
صادقين) *.
وقوله: * (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) *، تأويله
عند أهل اللغة: لا يقبل أن يتبرر به وهو مقيم على الكفر، ولا يقبل وإن افتدى به.
فإن قيل: كيف يسوغ هذا في قوله: * (ولو أن ما في الأرض) *، فإن " إن " الشرطية
لا يليها إلا الفعل، " وإن " المشددة مع ما عملت فيه اسم; فإذا كانت " لو " بمنزلة " إن "
فينبغي ألا تليها.
أجاب الصفار، بأنه قد يلي " أن " الاسم في اللفظ. فأجاز ذلك في " إن " نفسها
فأولى أن يجوز في " لو " المحمولة عليها، وكما جاز ذلك في " لو " قبل خروجها إلى الشرط;
مع أنها من الحروف الطالبة للأفعال.
قال: والدليل على إن " لو " في الآيتين السابقين بمعنى " إن " أن الماضي بعدها في
موضع المستقبل، " ولو " الامتناعية تصرف معنى المستقبل إلى الماضي، فإن المعنى
" وإن يفتد به ".
واعلم أن ما ذكرناه من أنها تقتضي امتناع ما يليها أشكل عليه قوله تعالى: * (ولو كنا
صادقين) *; فإنهم لم يقروا بالكذب.
وأجيب بوجهين: أحدهما أنها بمعنى " إن "، والثاني قاله الزمخشري أنه على الفرض;
أي ولو كنا من أهل الصدق عندك.
وقال الزمخشري فيما أفرده على سورة الحجرات: " لو " تدخل على جملتين فعليتين،
تعلق ما بينهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط; ولما لم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها،
368

وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا; من حيث إفادتها في مضموني جملتها، أن الثاني امتنع
لامتناع الأول; وذلك أن تكسو الناس فيقال لك: هلا كسوت زيدا! فتقول: لو جاءني
زيد لكسوته; افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على التعليق، فزيدت اللام، ولم تفتقر
إلى مثل ذلك " إن " لعملها في فعلها، وخلوصها للشرط.
ويتعلق ب‍ " لو " الامتناعية مسائل:
الأولى: إنها كالشرطية في اختصاصها بالفعل، فلا يليها إلا فعل أو معمول فعل يفسره
ظاهر بعده، كقوله تعالى: * (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى) *، حذف
الفعل فانفصل الضمير.
انفردت " لو " بمباشرة " أن "، كقوله تعالى: * (ولو أنهم صبروا حتى تخرج
إليهم) *، وهو كثير.
واختلف في موضع " أن " بعد " لو "، فقال سيبويه: في موضع رفع بالابتداء، واختلف
عنه في الخبر، فقيل محذوف، وقيل لا يحتاج إليه.
وقال الكوفيون: فاعل بفعل مقدر تقديره: " ولو ثبت أنهم "، وهو أقيس
لبقاء الاختصاص.
الثانية: قال الزمخشري: يجب كون خبر " أن " الواقعة بعد " لو " فعلا; ليكون
عوضا عن الفعل المحذوف.
وقال أبو حيان: هو وهم، وخطأ فاحش، قال الله تبارك وتعالى: * (ولو أن ما في
الأرض من شجرة أقلام) *. وكذا رده ابن الحاجب وغيره بالآية، وقالوا: إنما ذاك في
الخبر المشتق، لا الجامد كالذي في الآية.
369

وأيد بعضهم كلام الزمخشري، بأنه إنما جاء من حيث إن قوله: * (والبحر يمده) *،
لما التبس بالعطف بقوله: * (ما في الأرض من شجرة أقلام) * صار خبر الجملة المعطوفة،
وهو * (يمده) * أبى خبر الجملة المعطوف عليها لالتباسها بها.
قال الشيخ في،، المغنى،،: وقد وجدت آية في التنزيل وقع فيها الخبر مشتقا ولم يتنبه
لها الزمخشري، كما لم يتنبه لآية لقمان، ولا ابن الحاجب وإلا لمنع ذلك.
قلت: وهذا عجيب، فإن " لو " في الآية للتمني، والكلام في الامتناعية، بل أعجب
من ذلك كله أن مقالة الزمخشري سبقه إليها السيرافي، وهذا الاستدراك وما استدرك به منقول
قديما في شرح،، الإيضاح،، لابن الخباز; لكن في غير مظنته; فقال في باب إن وأخواتها:
قال السيرافي: تقول لو أن زيدا أقام لأكرمته، ولا تجوز: لو أن زيدا حاضر لأكرمته;
لأنك لم تلفظ بفعل يسد مسد ذلك الفعل.
هذا كلامهم، وقد قال الله تعالى: * (وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بأدون
في الأعراب) *، فأوقع خبرها صفة. ولهم أن يفرقوا بأن هذه للتمني، فأجريت مجرى
" ليت " كما تقول: ليتهم بأدون. انتهى كلامه.
تنبيه
ذكر الزمخشري بعد كلامه السابق في سورة الحجرات سؤالا، وهو: ما الفرق بين قولك:
لو جاءني زيد لكسوته، ونظيره قوله تعالى: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى) *
وبين قوله: لو زيد جاءني لكسوته، ومنه قوله تعالى: * (قل لو أنتم تملكون خزائن
370

رحمة ربى) *، وبين قوله: لو أن زيدا جاءني لكسوته، ومنه قوله تعالى: * (ولو أنهم
صبروا) *.
وأجاب بأن القصد في الأول أن الفعلين، تعليق أحدهما بصاحبه لا غير، من غير تعرض
لمعنى زائد على التعليق الساذج على الوجه الذي بينته، وهو المعنى في الآية الأولى; لأن
الغرض نفى أن يتخذ الرحمن ولدا، وبيان تعاليه عن ذلك، وليس لأداء هذا
الغرض إلا تجديد الفعلين للتعلق; دون أمر زائد عليه، وأما في الثاني فقد انضم إلى
التعليق بأحد معنيين; إما نفى الشك أو الشبهة، وأن المذكور الذي هو زيد مكسو لا محالة
لو وجد منه المجئ ولم يمتنع، وإما بيان أنه هو المختص بذلك دون غيره. وقوله تعالى:
* (قل لو أنتم تملكون) * محتمل المعنيين جميعا، أعني أنهم لا محالة يمسكون، وأنهم
المخصوصون بالإمساك لو ملكوا، إشارة إلى أن الإله الذي هو مالكها، وهو الله الذي وسعت
رحمته كل شئ لا يمسك.
فإن قلت: " لو " لا تدخل إلا على فعل، و " أنتم " ليس بمرفوع بالابتداء، ولكن
ب‍ " تملك " مضمرا، وحينئذ فلا فرق بين " لو تملكون " وبين " لو أنتم تملكون "
لمكان القصد إلى الفعل في الموضعين دون الاسم; وإنما يسوغ هذا الفرق
لو ارتفع بالابتداء.
قلت: التقدير وإن كان على ذلك، إلا أنه لما كان تمثيلا لا يتكلم به، ينزل الاسم
في الظاهر منزلة الشئ تقدم لأنه أهم، بدليل " لو ذات سوار لطمتني "، في ظهور قصدهم
إلى الاسم، لكنه أهم فيما ساقه المثل لأجله.
وكذا قوله: * (وإن أحد من المشركين استجارك) *، وإن كان " أحد "
مرفوعا بفعل مضمر في التقدير.
371

وأما في الثالث، ففيه ما في الثاني مع زيادة التأكيد الذي تعطيه " أن " وفيه إشعار
بأن زيدا كان حقه أن يجئ، وأنه بتركه المجئ قد أغفل حظه. فتأمل هذه الفروق،
وقس عليها نظائر التراكيب في القرآن العزيز، فإنها لا تخرج عن واحد من الثلاثة.
الثالثة: الأكثر في جوابها المثبت، اللام المفتوحة; للدلالة على أن ما دخلت عليه هو
اللازم لما دخلت عليه " لو "، قال تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) *،
ففي اللام إشعار بأن الثانية لازمة للأولى.
وقوله: * (لو نشاء لجعلناه حطاما) * ويجوز حذفها: * (لو نشاء جعلناه
أجاجا) *.
الرابعة: يجوز حذف جوابها للعلم به. وللتعظيم، كقوله تعالى: * (ولو أن لي بكم قوة) *،
وقوله: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) *، وهو كثير، سبق في باب الحذف على ما فيه
من البحث، وأما قوله: * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) * فيحتمل أن يكون
جواب " لو " محذوفا والتقدير لنفدت هذه الأشياء، وما نفدت كلمات الله، وأن يكون
ما * (نفدت) * هو الجواب مبالغة في نفى النفاد; لأنه إذا كان نفى النفاد لازما على تقدير
كون ما في الأرض من شجرة أقلاما والبحر مدادا كان لزومه على تقدير عدمها أولى.
وقيل: تقدر هي وجوابها ظاهرا، كقوله تعالى: * (ما اتخذ الله من ولد وما كان
معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق) *، تقديره: ولو كان معه آلهة إذا
لذهب كل إله.
وقوله: * (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب
المبطلون) *، أي ولو يكون وخططت، إذن لارتاب.
372

الوجه الثاني: من أوجه " لو " أن تكون شرطية، وعلامتها أن يصلح موضعها
" إن " المكسورة، وإنما أقيمت مقامها; لأن في كل واحدة منهما معنى الشرط، وهي
مثلها فيليها المستقبل، كقوله تعالى: * (ولو أعجبك حسنهن) *، * (ولو نشاء
لطمسنا) *.
وإن كان ماضيا لفظا صرفه للاستقبال، كقوله: * (ولو كره المشركون) *.
ومنه قوله تعالى: * (ولو كنا صادقين) *، وقوله: * (وليخش الذين لو تركوا
من خلفهم) *، * (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) *، ونظائره.
قالوا: ولولا أنها بمعنى الشرط لما اقتضت جوابا; لأنه لا بد لها من جواب ظاهر أو مضمر،
وقد قال المبرد في،، الكامل،،: إن تأويله عند أهل اللغة: لا يقبل منه أن يفتدى به وهو مقيم
على الكفر، ولا يقبل إن افتدى به.
قالوا: وجوابها يكون ماضيا لفظا كما سبق، وقوله تعالى: * (ولو سمعوا ما استجابوا
لكم) *، ومعنى; ويكون باللام غالبا، نحو: * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم) *.
وقد يحذف نحو: * (لو نشاء جعلناه أجاجا) *، ولا يحذف غالبا إلا في صلة، نحو:
* (وليخش الذين لو تركوا....) *، الآية.
* * *
الثالث: لو المصدرية، وعلامتها أن يصلح موضعها " أن " المفتوحة، كقوله تعالى: * (يود
أحدهم لو يعمر ألف سنة) *.
373

وقوله: * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) *.
* (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم) *.
* (يود المجرم لو يفتدى) *، أي الافتداء.
ولم يذكر الجمهور مصدرية " لو " وتأولوا الآيات الشريفة على حذف مفعول
" يود " وحذف جواب " لو "، أي يود أحدهم طول العمر لو يعمر ألف سنة ليسر بذلك.
وأشكل قول الأولين بدخولها على " أن " المصدرية، في نحو قوله تعالى: * (تود لو
أن بينها وبينه) *، والحرف المصدري لا يدخل على مثله!
وأجيب: بأنها إنما دخلت على فعل محذوف مقدر تقديره " يود لو ثبت أن بينها "
فانتفت مباشرة الحرف المصدري لمثله.
وأورد ابن مالك السؤال في: * (فلو أن لنا كرة) * حديث وأجاب بهذا، وبأن هذا من باب
توكيد عند اللفظ بمرادفه، نحو: * (فجاجا سبلا) *.
وفى كلا الوجهين نظر، أما الأول وهو دخول " لو " على " ثبت " مقدرا، إنما هو مذهب
المبرد، وهو لا يراه فكيف يقرره في الجواب!
وأما الثاني، فليست هنا مصدرية بل للتمني كما سيأتي. ولو سلم فإنه يلزم ذلك وصل
" لو " بجملة اسمية مؤكدة ب‍ " أن ". وقد نص ابن مالك وغيره; على أن صلتها لا بد أن
تكون فعلية بماض أو مضارع.
قال ابن مالك: وأكثر وقوع هذه بعد " ود " أو " يود " أو ما في معناهما من مفهم
تمن. وبهذا يعلم غلط من عدها حرف تمن، لو صح ذلك لم يجمع بينها وبين فعل تمن، كما
لا يجمع بين ليت وفعل تمن.
374

الرابع: لو التي للتمني، وعلامتها أن يصح موضعها " ليت "، نحو: لو تأتينا فتحدثنا، كما تقول:
ليتك تأتينا فتحدثنا، ومنه قوله تعالى: * (فلو أن لنا كرة) *، ولهذا نصب، فيكون
في جوابها; لأنها أفهمت التمني، كما انتصب * (فأفوز) *، في جواب " ليت ": * (يا ليتني
كنت معهم) *.
* * *
وذكر بعضهم قسما آخر وهو التعليل كقوله: * (ولو على أنفسكم) *.
-،، * * * *،، -
375

لولا
مركبة عند سيبويه من " لو " و " لا "، حكاه الصفار. والصحيح أنها بسيطة.
ومن التركيب ما يغير، ومنه ما لا يغير، فمما لا يغير " لولا ". ومما يتغير بالتركيب
" حبذا " صارت للمدح والثناء، وانفصل " ذا " عن أن يكون مثنى أو مجموعا أو مؤنثا،
وصار بلفظ واحد لهذه الأشياء; وكذلك " هلا " زال عنها الاستفهام جملة.
ثم هي على أربعة أضرب:
* * *
الأول حرف امتناع لوجوب، وبعضهم يقول: لوجود، بالدال.
قيل: ويلزم على عبارة سيبويه في " لو " أن تقول حرف لما سيقع، لانتفاء ما قبله.
وقال صاحب،، رصف المباني،،: الصحيح أن تفسيرها بحسب الجمل التي تدخل
عليها; فإن كانت الجملتان بعدها موجبتين، فهي حرف امتناع لوجوب; نحو: لولا زيد
لأحسنت إليك; فالإحسان امتنع لوجود زيد، وإن كانتا منفيتين، فحرف وجود لامتناع،
نحو: لولا عدم زيد لأحسنت إليك. انتهى.
ويلزم في خبرها الحذف، ويستغنى بجوابها عن الخبر. والأكثر في جوابها المثبت اللام،
نحو: * (لولا أنتم لكنا مؤمنين) *، * (فلولا أنه كان من المسبحين. للبث
في بطنه إلى يوم يبعثون) *.
وقد يحذف للعلم به، كقوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله
تواب حكيم) *.
376

وقد قيل: في قوله تعالى: * (وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) *، لهم بها،
لكنه امتنع همه بها لوجود رؤية برهان ربه، فلم يحصل منه هم البتة، كقولك: لولا زيد
لأكرمتك; المعنى أن الأكرام ممتنع لوجود زيد; وبه يتخلص من الإشكال الذي يورد:
وهو كيف يليق به الهم!
وأما جوابها إذا كان منفيا فجاء القرآن بالحذف، نحو: * (ما زكى منكم من
أحدا أبدا) *.
وهو يرد قول ابن عصفور أن المنفى ب‍ " ما " الأحسن باللام.
* * *
الثاني: التحضيض، فتختص بالمضارع، نحو: * (لولا تستغفرون الله) *.
* (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار) *.
* (لولا أخرتني إلى أجل قريب) *.
والتوبيخ والتنديم، فتختص بالماضي، نحو: * (لولا جاءوا عليه بأربعة
شهداء) *.
* (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) *.
وفى كل من القسمين تختص بالفعل; لأن التحضيض والتوبيخ لا يردان إلا على
الفعل; هذا هو الأصل.
وقد جوزوا فيها إذا وقع الماضي بعدها أن يكون تحضيضا أيضا; وهو حينئذ يكون قرينة
صارفة للماضي عن المضي إلى الاستقبال، فقالوا في قوله تعالى: * (فلولا نفر من كل
377

فرقة منهم طائفة) *، يجوز بقاء " نفر " على معناه في المضي، فيكون " لولا "
توبيخا. ويجوز أن يراد به الاستقبال، فيكون تحضيضا.
قالوا: وقد تفصل من الفعل بإذ وإذا معمولين له، وبجملة شرطية معترضة.
فالأول: * (ولولا إذ سمعتموه قلتم) * * (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) *.
الثاني والثالث: نحو: * (فلولا إذا بلغت الحلقوم. وأنتم حينئذ تنظرون.
ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون. فلولا إن كنتم غير مدينين.
ترجعونها إن كنتم صادقين) *، المعنى: فهلا ترجعون للروح إذا بلغت الحلقوم إن كنتم
مؤمنين; وحالتكم أنكم شاهدون ذلك، ونحن أقرب إلى المحتضر منكم بعلمنا، أو بالملائكة،
ولكنكم لا تشاهدون ذلك. ولولا الثانية تكرار للأولى.
* * *
الثالث: للاستفهام بمعنى هل، نحو: * (لولا أخرتني إلى أجل قريب) *.
* (لولا أنزل عليه ملك) *.
قاله الهروي: ولم يذكره الجمهور; والظاهر أن الأولى للعرض، والثانية مثل: * (لولا
جاءوا عليه بأربعة شهداء) *.
* * *
الرابع: للنفي بمعنى " لم " نحو قوله تعالى: * (فلولا كانت قرية آمنت) *،
أي لم تكن.
* (فلولا كان من القرون من قبلكم) *، أي فلم يكن. ذكره ابن فارس
في كتاب،، فقه العربية،، والهروي في،، الأزهية،،.
378

والظاهر أن المراد " فهلا "، ويؤيده أنها في مصحف أبى * (فهلا كانت قرية) *،
نعم، يلزم من ذلك الذي ذكراه معنى المضي، لأن اقتران التوبيخ بالماضي يشعر بانتفائه
وقال ابن الشجري: هذا يخالف أصح الإعرابين; لأن المستثنى بعد النفي يقوى فيه البدل، ويجوز فيه النصب، ولم يأت في الآيتين إلا النصب، أي فدل على أن الكلام
موجب، وجوابه ما ذكرنا، من أن فيه معنى النفي.
وجعل ابن فارس منه: * (لولا يأتون عليهم بسلطان بين) *، المعنى: اتخذوا
من دون الله آلهة ولا يأتون عليه بسلطان.
ونقل ابن برجان في تفسيره في أواخر سورة هود، عن الخليل، أن جميع ما في القرآن
من " لولا " فهي بمعنى " هلا " إلا قوله في سورة الصافات: * (فلولا أنه كان من
المسبحين. للبث) *; لأن جوابها بخلاف غيرها.
وفيه نظر لما سبق.
لوما
هي قريب من " لولا "، كقوله تعالى: * (لوما تأتينا بالملائكة) *، قال
ابن فارس: هي بمعنى " هلا ".
379

لم
نفى للمضارع وقبله ماضيا، وتجزمه، نحو: * (لم يلد ولم يولد) *.
ومن العرب من ينصب بها، وعليه قراءة: * (ألم نشرح) *، بفتح الحاء:
وخرجت على أن الفعل مؤكد بالنون الخفيفة، ففتح لها ما قبلها، ثم حذفت ونويت
380

لما
على ثلاثة أوجه:
أحدها: تدخل على المضارع، فتجزمه وتقبله ماضيا، ك‍ " لم "، نحو: * (ولما يعلم الله
الذين جاهدوا منكم) *، * (بل لما يذوقوا عذاب) *، أي لم يذوقوه: * (ولما
يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) *.
لكنها تفارق " لم " من جهات:
أحدها: أن " لم " لنفى فعل، و " لما " لنفى " قد فعل "، فالمنفي بها آكد. قال
الزمخشري في،، الفائق،،: لما مركبة من " لم " و " ما " هي نقيضة " قد " وتنفى
ما تثبته من الخبر المنتظر.
وهذا أخذه من أبى الفتح، فإنه قال: أصل " لما " " لم " زيدت عليها " ما "،
فصارت نفيا، تقول: قام زيد، فيقول المجيب بالنفي: لم يقم; فإن قلت: قد قام، قلت: لما
يقم; لما زاد في الإثبات " قد " زاد في النفي " ما "، إلا أنهم لما ركبوا " لم " مع " ما " حدث
لها معنى ولفظ، أما المعنى فإنها صارت في بعض المواضع ظرفا، فقالوا: لما قمت قام زيد، أي
وقت قيامك قام زيد. وأما اللفظ، فلأنه يجوز الوقف عليها دون مجزومها، نحو جئتك ولما.
أي ولما تجئ. انتهى.
ويخرج من كلامه ثلاثة فروق: ما ذكرناه أولا، وكونها قد تقع اسما هو ظرف، وأنه
يجوز الوقف عليها دون المنفى، بخلاف " لم ".
381

ورابها: يجئ اتصال منفيها بالحال، والمنفي بلم لا يلزم فيه ذلك، بل قد يكون منقطعا،
نحو: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) *، وقد
يكون متصلا نحو: * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) *.
وخامسها: أن الفعل بعد " لما " يجوز حذفه اختيارا.
سادسها: أن " لم " تصاحب وأدوات الشرط بخلاف، " لما " فلا يقال: " إن لما يقم "،
وفى التنزيل * (وإن لم تفعل) *، * (وإن لم ينتهوا) *.
سابعها: أن منفى " لما " متوقع ثبوته، بخلاف منفى " لم " ألا ترى أن معنى: * (بل
لما يذوقوا عذاب) *; أنهم لم يذوقوه إلى الآن، وأن ذوقهم له متوقع.
قال الزمخشري في قوله تعالى: * (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) *: ما في " لما "
من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
وأنكر الشيخ أبو حيان دلالة " لما " على التوقع، فكيف يتوهم أنه يقع بعد.
وأجاب بعضهم بأن " لما " ليست لنفى المتوقع حيث يستبعد توقعه; وإنما هي لنفى
الفعل المتوقع، كما أن " قد " لإثبات الفعل المتوقع; وهذا معنى قول النحويين: إنها موافقة
ل‍ " قد فعل ": أي يجاب بها في النفي حيث يجاب ب‍ " قد " في الإثبات; ولهذا قال ابن السراج:
جاءت " لما "، بعد فعل، يقول القائل: " لما يفعل "، فتقول: قد فعل.
* * *
382

الوجه الثاني: أن تدخل على ماض; فهي حرف لوجود، أو وجوب لوجوب،
فيقتضى وقوع الأمرين جميعا; عكس " لو " نحو: لما جاءني زيد أكرمته.
وقال ابن السراج والفارسي: ظرف بمعنى " حين ".
ورده ابن عصفور بقوله: * (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا) * قال: لأن
الهلاك لم يقع حين ظلموا; بل كان بين الظلم والهلاك إرسال الرسل وإنذارهم إياهم; وبعد
ذلك وقع الإهلاك، فليست بمعنى " حين "; وهذا الرد لا يحسن إلا إذا قدرنا الإهلاك أول
ما ابتدا الظلم; وليس كذلك، بل قوله: * (ظلموا) * في معنى " استداموا الظلم " أي وقع الإهلاك
لهم حين ظلمهم; أي في حين استدامتهم الظلم، وهم متلبسون به.
ومن أمثلتها قوله تعالى: * (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم) *.
وقوله: * (ولما ورد ماء مدين) *.
* (ولما جاءت رسلنا لوطا) *.
* (إلا قوم يونس لما آمنوا) *.
* (فلما أحسوا بأسنا) *.
وأما جوابها فقد يجئ ظاهرا كما ذكرنا، قد يكون جملة اسمية مقرونة بالفاء; نحو:
* (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) *.
أو مقرونة بما النافية، كقوله: * (فلما جاءهم نذير ما زادهم) *.
وبإذ المفاجئة، نحو: * (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون) *.
383

* (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون) *.
* (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) *.
* (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) *.
وبهذا رد على من زعم أنها ظرف بمعنى " حين " فإن " ما " النافية " وإذا " الفجائية
لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما; فانتفى أن يكون ظرفا.
وقد يكون مضارعا، كقوله: * (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى
يجادلنا) * وهو بمعنى الماضي، أي جادلنا.
وقد يحذف، كقوله: * (فمنهم مقتصد) *، قال بعضهم: التقدير انقسموا قسمين،
منهم مقتصد، ومنهم غير ذلك، لكن الحق أن * (مقتصد) * هو الجواب; هو الذي
ذكره ابن مالك، ونوزع في ذلك من جهة أن خبرها مقرون بالفاء يحتاج لدليل.
وقوله: * (لو أن لي بكم قوة) *; جوابه محذوف; أي لمنعتكم.
وأما قوله عز وجل: * (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا
من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) *.
قيل جواب " لما " الأولى " لما " الثانية; وجوابها ورد باقترانه.
وقيل: * (كفروا به) * جواب لهما; لأن الثانية تكرير للأولى.
وقيل: جواب الأولى محذوف، أي أنكروه.
واختلف في قوله تعالى: * (فلما أضاءت ما حوله) *، فقيل: الجواب * (ذهب
الله) *. وقيل: محذوف استطالة للكلام مع أمن اللبس، أي حمدت.
384

وكذلك قوله: * (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه) *: قيل الجواب قوله:
* (وأوحينا إليه) *، على جعل الواو زائدة.
وقيل: الجواب محذوف، أي أنجيناه وحفظناه.
وقوله: * (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا) *، قيل:
الجواب * (وجاءته) * فقال على زيادة الواو.
وقيل: الجوا ب محذوف، أي أخذ يجادلنا.
وقيل: * (يجادلنا) * مؤول ب‍ " جادلنا ".
وكذلك قوله: * (فلما أسلما وتله للجبين) *، أي أجزل له الثواب وتله.
وأما قوله: * (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) *، فما تقدم من قوله:
* (وجعلنا) * يسد مسد الجواب، لا أنه الجواب; لأن الجواب لا يقدم عليها.
وكذا قوله: * (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا) *، فما تقدم من قوله:
* (أهلكناهم) *، يسد مسد الجواب، لا أنه الجواب، لأن الجواب لا يقدم عليها.
وقوله: * (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا) *; فإنما وقع جوابها بالنفي;
لأن التقدير: فلما جاءهم نذير زادهم نفورا، أو ازداد نفورهم.
تنبيه: يختلف المعنى بين تجردها من " أن " ودخولها عليها; وذلك أن من شأنها
أن تدل على أن الفعل الذي هو ناصبها قد تعلق بعقب الفعل الذي هو خافضته
من غير مهلة; وإذا انفتحت " أن " بعدها أكدت هذا المعنى وشددته، وذكره الزمخشري
في كشافه القديم قال: ونراه مبنيا في قوله تعالى: * (ولما أن جاءت رسلنا لوطا...) *
الآية، كأنه قال: لما أبصرهم لحقته المساءة، وضيق الذرع في بديهة الأمر وغرته.
385

الوجه الثالث: حرف استثناء، كقوله تعالى: * (إن كل نفس لما عليها حافظ) *
على قراءة تشديد الميم.
وقوله: * (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) *.
لما
المخففة
مركبة من حرفين: اللام وما النافية. وسيبويه يجعل " ما " زائدة، والفارسي يجعل
اللام; وسيأتي في حرف الميم.
-،، * * * *،، -
386

لن
صيغة مرتجلة للنفي في قول سيبويه، ومركبة عند الخليل من " لا " و " أن ".
واعترض بتقديم المفعول عليها، نحو: زيدا لن أضرب.
وجوابه: يجوز في المركبات ما لا يجوز في البسائط.
وكان ينبغي أن تكون جازمة، وقد قيل به; إلا أن الأكثر النصب.
وعلى كل قول; فهي لنفى الفعل في المستقبل; لأنها في النفي نقيضة السين وسوف
وأن في الإثبات; فإذا قلت: سأفعل أو سوف أفعل كان نقيضه " لن أفعل ".
وهي في نفى الاستقبال آكد من " لا "، وقوله تعالى: * (فلن أبرح الأرض) *
آكد من قوله: * (لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين) *.
وليس معناها النفي على التأييد; خلافا لصاحب،، الأنموذج،، بل إن النفي مستمر
في المستقبل; إلا أن يطرأ ما يزيله، فهي لنفى المستقبل " ولم " لنفى الماضي، و " ما "
لنفى الحال.
ومن خواصها أنها تنفى ما قرب، ولا يمتد ثنا معنى النفي فيها كامتداد معناها، وقد جاء
في قوله تعالى: * (ولا يتمنونه أبدا) * بحرف " لا " في الموضع الذي اقترن به حرف
الشرط بالفعل، فصار من صيغ العموم يعم الأزمنة، كأنه يقول: متى زعموا ذلك لوقت
من الأوقات. وقيل لهم: تمنوا الموت، فلا يتمنونه.
وقال في البقرة: * (ولن يتمنوه) *، فقصر من صيغة النفي، لأن قوله تعالى:
387

* (قل إن كانت لكم الدار الآخرة) *، وليست " لن " مع " كان " من صيغ
العموم; لأن " كان " لا تدخل على حدث; وإنما هي داخلة على المبتدأ والخبر، عبارة
عن قصر الزمان الذي كان فيه ذلك الحدث; كأنه يقول: إن كان قد وجب لكم
الدار الآخرة، فتمنوا الموت، ثم قال في الجواب: * (ولن يتمنوه) *، فانتظم معنى الآيتين.
وأما التأبيد فلا يدل على الدوام، تقول: زيد يصوم أبدا، ويصلى أبدا; وبهذا
يبطل تعلق المعتزلة بأن " لن " تدل على امتناع الرؤية; ولو نفى ب‍ " لا " لكان لهم فيه متعلق;
إذ لم يخص بالكتاب أو بالسنة، وأما الإدراك الذي نفى ب‍ " لا " فلا يمنع من الرؤية; لقول النبي
صلى الله عليه وسلم: " أنكم ترون ربكم "، ولم يقل: " تدركون ربكم "، والعرب
تنفى المظنون ب‍ " لن " والمشكوك ب‍ " لا ".
وممن صرح بأن التأبيد عبارة عن الزمن الطويل لا عن الذي لا ينقطع ابن الخشاب.
وقد سبق مزيد كلام فيها في فصل التأبيد وأدواته.
قيل: وقد تأتى للدعاء كما أتت " لا " لذلك، ومنه قوله تعالى: * (قال رب بما أنعمت
على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) *.
ومنعه آخرون، لأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم; بل إلى المخاطب والغائب، نحو:
يا رب لا عذبت فلانا! ونحوه:
لا عذب الله عمرا.
388

لكن
للاستدراك مخففة ومثقلة; وحقيقته رفع مفهوم الكلام السابق، تقول: ما زيد شجاع
ولكنه غير كريم، فرفعت ب‍ " لكن " ما أفهمه الوصف بالشجاعة من ثبوت الكرم له، لكونهما
كالمتضايفين; فإن رفعنا ما أفاده منطوق الكلام السابق فذاك استثناء; وموقع الاستدراك
بين متنافيين بوجه ما; فلا يجوز وقوعها بين متوافقين، وقوله تعالى: * (ولو أراكهم كثيرا
لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم) *، لكونه جاء في سياق " لو "، " ولو "
تدل على امتناع الشئ لامتناع غيره; فدل على أن الرؤية ممتنعة في المعنى; فلما قيل:
* (ولكن الله سلم) * علم إثبات ما فهم إثباته أولا وهو سبب التسليم; وهو نفى الرؤية،
فعلم أن المعنى: ولكن الله ما أراكهم كثيرا ليسلمكم، فحذف السبب وأقيم المسبب مقامه.
قال ابن الحاجب: الفرق بين " بل " و " لكن "; وإن اتفقا في أن الحكم للثاني;
أن " لكن " وضعها على مخالفة ما بعدهما لما قبلهما، ولا يستقيم تقديره إلا مثبتا
لامتناع تقدير النفي في المفرد; وإذا كان مثبتا وجب أن يكون ما قبله نفيا، كقولك:
ما جاءني زيد لكن عمرو; ولو قلت: جاءني زيد لكن عمرو، لم يجز لما ذكرنا. وأما بل
فللإضراب مطلقا، موجبا كان الأول أو منفيا.
وإذا ثقلت فهي من أخوات " إن " تنصب الاسم وترفع الخبر; ولا يليها الفعل.
وأما وقوع المرفوع بعدها في قوله تعالى: * (لكنا هو الله ربى) *، و " هو "
ضمير الرفع، فجوابه أنها هنا ليست المثقلة بل هي المخففة; والتقدير: لكن أنا هو الله ربى;
389

ولهذا تكتب في المصاحف بالألف، ويوقف عليها بها; إلا أنهم ألقوا حركة الهمزة على النون;
فالتقت النونان، فأدغمت الأولى في الثانية، وموضع " أنا " رفع بالابتداء، وهو مبتدأ ثان
و " الله " مبتدأ ثالث، و " ربى " خبر المبتدأ الثالث، والمبتدأ الثالث وخبره خبر الثاني
والثاني هو خبر الأول، والراجع إلى الأول الياء.
ثم المخففة قد تكون مخففة من الثقيلة، فهي عاملة، وقد تكون غير عاملة، فيقع بعدها
المفرد، نحو: ما قام زيد لكن عمرو، فتكون عاطفة على الصحيح، وإن وقع بعدها جملة
كانت حرف ابتداء.
وقال صاحب،، البسيط،، إذا وقع بعدها جملة; فهل هي للعطف، أو حرف ابتداء.
قولان; كقوله تعالى: * (لكن الله يشهد) *.
قال: ونظير فائدة الخلاف في جواز الوقف على ما قبلها; فعلى العطف لا يجوز، وعلى
كونها حرف ابتداء يجوز.
قال: وإذا دخل عليها الواو انتقل العطف إليها، وتجردت للاستدراك.
وقال الكسائي: المختار عند العرب تشديد النون إذا اقترنت بالواو، وتخفيفها إذا لم
تقترن بها; وعلى هذا جاء أكثر القرآن العزيز، كقوله تعالى: * (ولكن الظالمين بآيات
الله يجحدون) *.
* (ولكن أكثرهم لا يعلمون) *.
* (لكن الله يشهد) *.
* (لكن الرسول) *.
390

* (لكن الذين اتقوا) *
* (لكن الظالمون اليوم) *.
وعلل الفراء ذلك بأنها مخففة تكون عاطفة فلا تحتاج إلى واو معها ك‍ " بل "، فإذا
كان قبلها واو لم تشبه " بل " لأن " بل " لا تدخل عليها الواو، وأما إذا كانت مشددة
فإنها تعمل عمل " إن " ولا تكون عاطفة.
وقد اختلف القراء في * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول
الله) *، فأكثرهم على تخفيفها ونصب " رسول " باضمار " كان " أو بالعطف على " أبا
أحد ". والأول أليق، لكن ليست عاطفة لأجل الواو، فالأليق لها أن تدخل على الجمل
ك‍ " بل " العاطفة.
وقرأ أبو عمرو بتشديدها على أنها عاملة، وحذف خبرها; أي ولكن رسول الله
هو، أي محمد.
391

لعل
تجئ لمعان:
الأول للترجي في المحبوب، نحو: لعل الله يغفر لنا، وللإشفاق في المكروه، نحو: لعل
الله يغفر للعاصي. ثم وردت في كلام من يستحيل عليه الوصفان، لأن الترجي للجهل
بالعاقبة وهو محال على الله وكذلك الخوف والإشفاق.
فمنهم من صرفها إلى المخاطبين. قال سيبويه في قوله تعالى: * (لعله يتذكر أو
يخشى) *، معناه: كونا على رجاء كما في ذكرهما، يعنى أنه كلام منظور فيه إلى جانب
موسى وهارون عليهما السلام; لأنهما لم يكونا جازمين بعدم إيمان فرعون.
وأما استعمالهما في الخوف; ففي قوله تعالى: * (لعل الساعة قريب) *، فإن الساعة مخوفة
في حق المؤمنين، بدليل قوله: * (والذين آمنوا مشفقون منها) *.
وفى هذا رد على الزمخشري حيث أنكر أن تكون هذه الآية من هذا القبيل.
فإن قلت: ما معنى قولهم: " لعل من الله واجبة "؟ هل ذلك من شأن المحبوب، أو
مطلقا؟ وإذا كانت في المحبوب فهل ذلك إخراج لها عن وضع الترجي إلى وضع الخبر، فيكون
مجازا أم لا؟
قلت: ليس إخراجا لها عن وضعها; وذلك أنهم لما رأوها من الكريم للمخاطبين في
ذلك المحبوب تعريض بالوعد، وقد علم أن الكريم لا يعرض بأن يفعل إلا بعد التصميم
عليه، فجرى الخطاب الإلهي مجرى خطاب عظماء الملوك من الخلق. وقوله: * (يا أيها الناس اعبدوا
392

ربكم..) * الآية إلى * (تتقون) *، إطماع المؤمن بأن يبلغ بإيمانه درجة التقوى العالية،
لأنه بالإيمان يفتتحها وبالإيمان يختتمها، ومن ثم قال مالك وأبو حنيفة: الشرع ملزم.
وقد قال الزمخشري: وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن، لكنه
كريم رحيم، إذا أطمع فعل ما يطمع لا محالة، فجرى إطماعه له مجرى وعده، فلهذا قيل:
إنها من الله واجبة.
وهذا فيه رائحة الاعتزال في الإيجاب العقلي، وإنما يحسن الإطماع دون التحقيق.
كيلا يتكل العباد، كقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا
عسى ربكم أن يكفر عنكم) *.
قال الراغب: " لعل " طمع وإشفاق.
وذكر بعض المفسرين أن " لعل " من الله واجبة، وفسر في كثير من المواضع ب‍ " لا "
وقالوا: إن الطمع والإشفاق لا يصح على الله تعالى.
وقال: ولعل - وإن كان طمعا - فإن ذلك يقتضى في كلامهم تارة طمع المخاطب، وتارة
طمع المخاطب، وتارة طمع غيرهما، فقوله تعالى: * (لعلنا نتبع السحرة) * فذلك
طمع منهم في فرعون.
وفى قوله: * (لعله يتذكر أو يخشى) *، إطماع موسى وهارون، ومعناه: قولا له
قولا لينا راجيين أن يتذكر أو يخشى.
وقوله: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) *، أي تظن بك الناس.
وعليه قوله تعالى: * (لعلك باخع نفسك) *، وقوله: * (واذكروا الله كثيرا
لعلكم تفلحون) *، أي راجين الفلاح.
393

كما قال: * (يرجون رحمة الله) *.
وزعم بعضهم بأنها لا تكون للترجي إلا في الممكن، لأنه انتطار، ولا ينتظر
إلا في ممكن; فأما قوله تعالى: * (لعلى أبلغ الأسباب...) * الآية، فاطلاع
فرعون إلى الإله مستحيل، وبجهله اعتقد إمكانه، لأنه يعتقد في الإله الجسمية والمكان
تعالى الله عن ذلك!
* * *
الثاني للتعليل، كقوله تعالى: * (فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) *.
* (وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون) *، أي كي.
وجعل منه ثعلب: * (لعله يتذكر) *، أي " كي "، حكاه عنه صاحب
،، المحكم،،.
* * *
الثالث: الاستفهام، كقوله تعالى: * (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *.
* (وما يدريك لعله يزكى) *.
* * *
وحكى البغوي في تفسيره عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من " لعل " فإنها للتعليل،
إلا قوله: * (لعلكم تخلدون) *، فإنها للتشبيه.
وكونها للتشبيه غريب لم يذكره النحاة، ووقع في صحيح البخاري في قوله:
* (لعلكم تخلدون) * أن " لعل " للتشبيه.
394

وذكر غيره أنها للرجاء المحض; وهو بالنسبة إليهم
واعلم أن الترجي والتمني من باب الإنشاء، كيف يتعلقان بالماضي!
وقد وقع خبر " ليت " ماضيا في قوله: * (يا ليتني مت قبل هذا) *.
وممن نص على منع وقوع الماضي خبرا للعل الرماني.
* * *
395

ليس
فعل معناه نفى مضمون الجملة في الحال، إذا قلت: ليس زيدا قائما، نفيت قيامه في
حالك هذه. وإن قلت: ليس زيد قائما غدا لم يستقم، ولهذا لم يتصرف فيكون
فيها مستقبلا.
هذا قول الأكثرين; وبعضهم يقول: إنها لنفى مضمون الجملة عموما.
وقيل مطلقا; حالا كان أو غيره. وقواه ابن الحاجب.
ورد الأول بقوله تعالى: * (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم) *; وهذا نفى
لكون العذاب مصروفا عنهم يوم القيامة، فهو نفى في المستقبل; وعلى هذين القولين يصح
" ليس إلا الله "; وعلى الأول يحتاج إلى تأويل، وهو أنه قد ينفى عن الحال بالقرينة، نحو
ليس خلق الله مثله.
وهل هو لنفى الجنس أو الوحدة؟ لم أر من تعرض لذلك غير ابن مالك في كتاب
،، شواهد التوضيح،، فقال في قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس صلاة أثقل على المنافقين "
ففيه شاهد على استعمال " ليس " للنفي العام المستغرق به للجنس; وهو مما يغفل عنه.
ونظيره قوله تعالى: * (ليس لهم طعام إلا من ضريع) *
لدن
بمعنى " عند "، وهي أخص منها لدلالتها على ابتدائها به، نحو: أقمت عنده من لدن
396

الشمس إلى غروبها. فتوضح نهاية الفعل وهي أبلغ من " عند "، قال تعالى: * (قد
بلغت من لدني عذرا) *.
* (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا) *.
* (من لدن حكيم عليم) *.
* (فهب لي من لدنك وليا) *.
وقد سبق الفرق بينهما في عند.
وقد تحذف نونها، قال تعالى: * (وألفيا سيدها لدى الباب) *.
* (هذا ما لدى عتيد) *.
-،، * * * *،، -
397

ما
تكون على اثنى عشر وجها: ستة منها أسماء، وستة حروف.
[ما الاسمية]
فالاسمية ضربان: معرفة ونكرة; لأنه إذا حسن موضعها " الذي " فهي معرفة،
أو " شئ " فهي نكرة; وإن حسنا معا جاز الأمران، كقوله تعالى: * (ويغفر ما دون
ذلك) * و * (هذا ما لدى عتيد) *.
والنكرة ضربان: ضرب يلزم الصفة، وضرب لا يلزمه، والذي يلزمه الاستفهامية
والشرطية والتعجب، وما عداها تكون منه نكرة، فلا بد لها من صفة تلزمها.
* * *
فالأول من الستة: الأسماء الخبرية، وهي الموصولة، ويستوى فيها التذكير والتأنيث،
والإفراد والتثنية والجمع، كقوله تعالى: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) *، وقوله:
* (بما أنزل إليك) * * (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض) *.
فإن كان المراد بها لمذكر كانت للتذكير، بمعنى " الذي "، وإن كان المراد بها
المؤنث كانت للتأنيث بمعنى " التي ".
وقال السهيلي: كذا يقول النحويون، إنها بمعنى " الذي " مطلقا، وليس كذلك،
بل بينهما تخالف في المعنى وبعض الأحكام.
أما المعنى; فلأن " ما " اسم مبهم في غاية الإبهام; حتى إنه يقع على المعدوم، نحو:
" إن الله عالم بما كان وبما لم يكن ".
398

وأما في الأحكام فإنها لا تكون نعتا لما قبلها، ولا منعوتة، لأن صلتها تغنيها عن
النعت ولا تثني عليه ولا تجمع. انتهى.
ثم لفظها مفرد ومعناها الجمع، ويجوز مراعاتها في الضمير.
ونحوه من مراعاة المعنى: * (ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم) *،
ثم قال: * (هؤلاء شفعاؤنا) *، لما أراد الجمع.
وكذا قوله: * (ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض
شيئا ولا يستطيعون) *.
ومن مراعاة اللفظ: * (قل بئسما يأمركم به إيمانكم) *.
وأصلها أن تكون لغير العاقل، كقوله تعالى: * (ما عندكم ينفد) *.
وقد تقع على من يعقل عند اختلاطه بمالا يعقل تغليبا، كقوله تعالى: * (أولم ينظروا
في ملكوت السماوات والأرض) *، وقوله: * (إنكم وما تعبدون من دون
الله...) *، الآية، بدليل نزول الآية بعدها مخصصة: * (إن الذين سبقت لهم منا
الحسنى) *.
قالوا: وقد تأتى لأنواع من يعقل، كقوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من
النساء) *، أي الأبكار إن شئتم أو الثيبات.
ولا تكون لأشخاص من يعقل على الصحيح; لأنها اسم مبهم يقع على جميع الأجناس،
فلا يصح وقوعها إلا على جنس.
399

ومنهم من جوزه، محتجا بقوله تعالى: * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) *،
والمراد آدم.
وقوله: * (والسماء وما بناها) *.
وقوله: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) *، أي الله.
فأما الأولى فقيل إنها مصدرية. وقال السهيلي: بل إنها وردت في معرض التوبيخ
على امتناعه من السجود، وليستحق هذا من حيث كان السجود لما يعقل، ولكن لعلة
أخرى، وهي المعصية والتكبر; فكأنه يقول: لم عصيتني وتكبرت ما على ما خلقته
وشرفته؟ فلو قال: ما منعك أن تسجد لمن؟ كان استفهاما مجردا من توبيخ، ولتوهم
أنه وجب السجود له من حيث كان يعقل، أو لعلة موجودة فيه أو لذاته; وليس كذلك.
وأما آية السماء; فلأن القسم تعظيم للمقسم به من حيث ما في خلقها من العظمة
والآيات، فثبت لهذا القسم بالتعظيم كائنا ما كان. وفيه إيحاء إلى قدرته تعالى على إيجاد
هذا الأمر العظيم، بخلاف قوله: " من " لأنه كان يكون المعنى مقصورا على ذاته
دون أفعاله. ومن هذا يظهر غلط من جعلها بتأويل المصدر.
وأما * (ما أعبد) * فهي على بابها; لأنها واقعة على معبوده عليه السلام على الإطلاق;
لأن الكفار كانوا يظنون أنهم يعبدون الله وهم جاهلون به، فكأنه قال: أنتم لا تعبدون
معبودي.
ووجه آخر، وهو أنهم كانوا يحسدونه ويقصدون مخالفته كائنا من كان معبوده،
فلا يصح في اللفظ إلا لفظة " ما " لإبهامها ومطابقتها لغرض أو لازدواج الكلام; لأن معبودهم
لا يعقل، وكرر الفعل على بنية المستقبل حيث أخبر عن نفسه، إيماء إلى عصمة الله له عن
400

الزيغ والتبديل، وكرره بلفظ حين أخبر عنهم بأنهم يعبدون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم;
بفرض أن يعبدوا اليوم مالا يعبدونه غدا.
وهاهنا ضابط حسن الفرق بين الخبرية والاستفهامية، وهو أن " ما " إذا جاءت قبل
" ليس " أو " لم " أو " لا "، أو بعد " إلا "، فإنها تكون خبرية، كقوله: * (ما ليس
لي بحق) *، * (ما لم يعلم) *، * (ما لا تعلمون) *، * (إلا ما علمتنا) *، وشبهه.
وكذلك إذا جاءت بعد حرف الجر، نحو: " ربما " و " عما " و " فيما " ونظائرها;
إلا لا بعد كاف التشبيه.
وربما كانت مصدرا بعد الباء، نحو: * (بما كانوا يظلمون) *، * (بما كانوا
يكذبون) *، * (بما تعملون) *.
وإن وقعت بين فعلين سابقهما علم أو دراية أو نظر، جاز فيها الخبر والاستفهام، كقوله:
تعالى: * (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) *.
* (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) *، * (وإنك لتعلم ما نريد) *.
* (هل علمتم ما فعلتم) *.
* (وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم) *.
* (ولتنظر نفس ما قدمت) *.
* * *
401

الثاني: الشرطية، ولها صدر الكلام، ويعمل فيها ما بعدها من الفعل، نحو: ما تصنع
أصنع، وفى التنزيل: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) *.
* (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) *.
* (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) *.
* (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) *.
* (وما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) *.
ف‍ " ما " في هذه المواضع في موضع نصب بوقوع الفعل عليها.
* * *
الثالث: الاستفهامية، بمعنى " أي شئ "، ولها صدر الكلام كالشرط، ويسأل
بها عن أعيان ما لا يعقل وأجناسه وصفاته، عن أجناس العقلاء وأنواعهم وصفاتهم، قال
تعالى: * (ما هي) *، و * (ما لونها) *، * (وما تلك بيمينك يا موسى) *.
قال الخليل في قوله تعالى: * (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ) *:
ما: استفهام، أي أي شئ تدعون من دون الله؟
ومثال مجيئها لصفات من يعلم قوله تعالى: * (وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا) *،
ونظيرها - لكن في الموصولة - * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) *.
402

وجوز بعض النحويين أن يسأل بها عن أعيان من يعقل أيضا. حكاه الراغب; فإن
كان مأخذه قوله تعالى عن فرعون: * (وما رب العالمين) *، فإنما هو سؤال عن الصفة;
لأن الرب هو المالك والملك صفة، ولهذا أجابه موسى بالصفات. ويحتمل أن " ما " سؤال
عن ماهية الشئ، ولا يمكن ذلك في حق الله تعالى، فأجابه موسى تنبيها على صواب السؤال.
ثم فيه مسألتان: إحداهما في إعرابها; وهو بحسب الاسم المستفهم عنه، فإن كانت هي
المستفهم عنها كانت في موضع رفع بالابتداء، نحو قوله تعالى: * (ما لونها *) و * (ما هي) *
* (ما أصابك من حسنة فمن الله) *.
وإن كان ما بعدها هو المسؤول عنه، كانت في موضع الخبر، كقوله: * (وما الرحمن) *
وقوله: * (ما القارعة) * * (ما الحاقة) *.
الثانية: في حذف ألفها; ويكثر في حالة الخفض، قصدوا مشاكلة اللفظ للمعنى، فحذفوا
الألف كما أسقطوا الصلة، ولم يحذفوا في حال النصب والرفع، كيلا تبقى الكلمة على حرف
واحد، فإذا اتصل بها حرف الجر أو مضاف اعتمدت عليه; لأن الخافض والمخفوض بمنزلة
الكلمة الواحدة، كقوله تعالى: * (فيم أنت من ذكراها) *، * (ولم تحرم ما أحل
الله لك) *، * (فبم تبشرون) *، و * (عم يتساءلون) *.
وأما قوله: * (يا ليت قومي يعلمون. بما غفر لي ربى) *، فقال المفسرون: معنا
بأي شئ غفر لي، فجعلوا " ما " استفهاما. وقال الكسائي: معناه بمغفرة ربى، فجعلها مصدرية.
قال الهروي: إثبات الألف في " ما " بمعنى الاستفهام مع اتصالها بحرف الجر لغة،
وأما قوله: * (فبما أغويتني لأقعدن لهم) *، فقيل: إنها للاستفهام، أي بأي شئ
403

أغويتني؟ ثم ابتدأ * (لأقعدن لهم) *. وقيل مصدرية والباء متعلقة بفعل القسم المحذوف،
أي فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدن، أي بسبب إغوائك أقسم.
ويجوز أن تكون الباء للقسم، أي فأقسم بإغوائك لأقعدن، وإنما أقسم بالإغواء
لأنه كان مكلفا، والتكليف من أفعال الله، لكونه تعريفا لسعادة الأبد، وكان جديرا أن
يقسم به.
فإن قيل: تعلقها ب‍ * (لأقعدن) *، قيل يصد عنه لام القسم، ألا ترى أنك لا تقول: والله
لا بزيد لأمرن.
* * *
والرابع: التعجبية، كقوله تعالى: * (فما أصبرهم على النار) *.
* (قتل الإنسان ما أكفره) *.
ولا ثالث لهما في القرآن إلا في قراءة سعيد بن جبير: * (ما أغرك بربك الكريم) *.
وتكون في موضع رفع بالابتداء و " ما " خبر، وهو قريب مما قبله; لأن الاستفهام والتعجب
بينهما تلازم; لأنك إذا تعجبت من شئ فبالحري أن تسأل عنه.
* * *
والخامس: نكرة بمعنى " شئ "، ويلزمها النعت، كقولك: رأيت ما معجبا لك، وفى
التنزيل: * (بعوضة فما فوقها) *، * (إن الله نعما يعظكم به) * أي نعم شيئا
يعظكم به.
404

والسادس: نكرة بغير صفة ولا صلة، كالتعجب، وموضعها نصب على التمييز،
كقوله: * (وإن تبدوا الصدقات فنعما هي) *، أي فنعم شيئا هي، كما تقول: نعم
رجلا زيد، أي نعم الرجل رجلا زيد، ثم قام " ما " مقام الشئ.
فائدة: قال بعضهم: وقد تجئ " ما " مضمرة، كقوله تعالى: * (وإذا رأيت ثم
رأيت) * أي ما ثم.
وقوله: * (هذا فراق بيني وبينك) * أي ما بيني.
* (لقد تقطع بينكم) *، أي ما بينكم.
[ما الحرفية]
وأما الحرفية فستة:
الأول النافية، ولها صدر الكلام. وقد تدخل على الأسماء
والأفعال، ففي الأسماء
ك‍ " ليس " ترفع وتنصب في لغة أهل الحجاز، ووقع في القرآن في ثلاثة مواضع:
قال تعالى: * (ما هذا بشرا) *.
قال تعالى: * (ما هن أمهاتهم) * أو على قراءة كسر التاء. وقوله:
* (فما منكم من أحد عنه حاجزين) *.
وعلى الأفعال فلا تعمل، وتدخل على الماضي بمعنى " لم " نحو ما خرج، أي لم يخرج.
وقوله تعالى: * (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) *.
وعلى المضارع لنفى الحال، بمعنى " لا "، نحو ما يخرج زيد، أي لا يخرج، نفيت أن
يكون منه خروج في الحال.
405

ومنهم من يسميه جحدا، وأنكره بعضهم. وسبق الفرق بين الجحد والنفي في
الكلام على قاعدة المنفى.
وقال ابن الحاجب: هي لنفى الحال في اللغتين الحجازية والتميمية، نحو: ما زيد منطلقا
ومنطلق; ولهذا جعلها سيبويه في النفي جوابا ل‍ " قد " في الإثبات; ولا ريب أن " قد "
للتقريب من الحال، فلذلك جعل جوابا لها في النفي.
قال: ويجوز أن تستعمل للنفي في الماضي والمستقبل عند قيام القرائن، قال تعالى حكاية
عن الكفار: * (وما نحن بمنشرين) *، * (وما نحن بمبعوثين) *.
وفى الماضي، نحو: * (ما جاءنا من بشير ولا نذير) *، فإنه ورد للتعليل، على معنى
كراهة أن يقولوا عند إقامة الحجة عليهم: ما جاءنا في الدنيا من بشير ولا نذير; وهذا
للماضي المحقق، وأمثال ذلك كثير.
قال: ثم إن سيبويه جعل فيها معنى التوكيد; لأنها جرت موضع " قد " في النفي،
فكما أن " قد " فيها معنى التأكيد، فكذلك ما جعل جوابا لها.
وهنا ضابط; وهو إذا ما أتت بعدها " إلا " في القرآن; فهي من نفى " إلا في ثلاثة
عشر موضعا ":
أولها: في البقرة قوله تعالى: * (مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا) *.
الثاني: * (فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون) *.
الثالث: في النساء قوله: * (لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين) *.
الرابع: * (ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) *.
406

الخامس في المائدة: * (وما أكل السبع إلا ما ذكيتم) *.
السادس في الأنعام: * (ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئا) *. السابع: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا) *.
الثامن والتاسع: في هود * (ما دامت السماوات والأرض إلا) *، في موضعين،
أحدهما: في ذكر أهل النار، والثاني: في ذكر أهل الجنة.
العاشر والحادي عشر: في يوسف: * (فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا) *،
وفيها: * (ما قدمت لهن إلا) *.
الثاني عشر: في الكهف * (وما يعبدون إلا الله) *، على خلاف فيها.
الثالث عشر: * (وما بينهما إلا بالحق) * حيث كان.
* * *
والثاني: المصدرية، وهي قسمان: وقتية وغير وقتية.
فالوقتية هي التي تقدر بمصدر نائب عن الظرف الزمان، كقوله تعالى: * (خالدين فيها
ما دامت السماوات والأرض) *، وقوله: * (إلا ما دمت عليه قائما) *،
و * (ما دمتم حرما) *، أي مدة دوام السماوات والأرض، ووقت دوام قيامكم
وإحرامكم، وتسمى ظرفية أيضا.
وغير الوقتية هي التي تقدر مع الفعل، نحو بلغني ما صنعت، أي صنعك، قال تعالى:
* (وبما كانوا يكذبون) * أي بتكذيبهم، أو بكذبهم على القرآن.
407

وقوله: * (ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) * وقوله: * (كما آمن الناس) *
و * (أرسلنا فيكم رسولا) * و * (بئسما اشتروا) * أي كإيمان الناس، وكإرسال
الرسل، وبئس اشتراؤهم.
وكلما أتت بعد كاف التشبيه أو " بئس " فهي مصدرية على خلاف فيه، وصاحب
الكتاب يجعلها حرفا، والأخفش يجعلها اسما. وعلى كلا القولين لا يعود عليها من صلتها شئ.
* * *
والثالث: الكافة للعامل عن عمله، وهو ما يقع بين ناصب ومنصوب، أو جار
ومجرور، أو رافع ومرفوع.
فالأول: كقوله تعالى: * (إنما الله إله واحد) *، * (إنما يخشى الله من عباده
العلماء) *، * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) *.
والثاني: كقوله: ربما رجل أكرمته، وقوله: * (ربما يود الذين كفروا) *.
والثالث: كقولك: قلما تقولين، وطالما تشتكين.
* * *
والرابع: المسلطة، وهي التي تجعل اللفظ متسلطا بالعمل بعد أن لم يكن عاملا; نحو
" ما " في " إذ ما " و " حيثما "; لأنهما لا يعملان بمجردهما في الشرط، ويعملان عند
دخولها عليها.
* * *
والخامس: أن تكون مغيرة للحرف عن حاله، كقوله في " لو ": لوما، غيرتها إلى معنى
" هلا "، قال تعالى: * (لو ما تأتينا) *.
408

والسادس: المؤكد اللفظ ويسميه بعضهم صلة، وبعضهم زائدة، والأول أولى، لأنه
ليس في القرآن حرف إلا وله معنى. ويتصل بها الاسم والفعل، وتقع أبدا حشوا
أو آخرا، ولا تقع ابتداء، وإذا وقعت حشوا فلا تقع، إلا بين الشيئين المتلازمين; وهو مما
يؤكد زيادتها لإقحامها بين ما هو كالشئ الواحد.
نحو: * (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا) *.
* (أينما تكونوا يدرككم الموت) *.
وكذا قوله تعالى: * (أينما تولوا فثم وجه الله) *.
* (أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) *.
* (فبما رحمة من الله لنت لهم) *.
* (فبما نقضهم ميثاقهم) *.
* (عما قليل) *.
* (أيما الأجلين قضيت) *.
* (مما خطيئاتهم) *.
وجعل منه سيبويه في باب الحروف الخمسة قوله تعالى: * (إن كل نفس لما عليها
حافظ) *، قال: فجعلها زائدة.
وأجاز الفارسي زيادة اللام، والمعنى: إن كل نفس ما عليها حافظ.
409

ثم قال سيبويه: وقال تعالى: * (وإن كل لما جميع) *، إنما هو: لجميع،
و " ما " لغو.
قال الصفار: والذي دعاه إلى أن يجعلها لغوا ولم يجعلها موصولا; لأن بعدها مفرد،
فيكون من باب: * (تماما على الذين أحسن) *.
فإن قيل: فهلا جعلها في * (لما عليها حافظ) * موصولة لأن بعدها الظرف؟
قلنا: منع من ذلك وقوع " ما " على آحاد من يعقل، ألا ترى كل نفس! وهذا يمنع
في الآيتين من الصلة.
انتهى. وكان ينبغي أن يتجنب عبارة اللغو.
-،، * * * *،، -
410

من
لا تكون إلا اسما لوقوعها فاعلة ومفعولة ومبتدأة، ولها أربعة اقسام متفق عليها:
الموصولة، والاستفهامية، والشرطية، والنكرة الموصوفة.
* * *
فالموصولة كقوله تعالى: * (من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون) *.
* (ولله يسجد من في السماوات والأرض) *.
* * *
والاستفهامية، وهي التي أشربت معنى النفي، ومنه: * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) *
و * (ومن يقنط من رحمة الله إلا الضالون) *.
ولا يتقيد جواز ذلك بأن يتقدمها الواو، خلافا لابن مالك في،، التسهيل،،، بدليل
* (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) *.
* * *
والشرطية، كقوله تعالى: * (من عمل صالحا فلنفسه) *.
و * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) *.
* * *
والنكرة الموصوفة، كقوله: * (ومن الناس من يقول) *، أي فريق يقول.
411

وقيل: موصولة، وضعفة أبو البقاء بأن " الذي " يتناول أقواما بأعيانهم، والمعنى هاهنا
على الإيهام.
وتوسط الزمخشري فقال: إن كانت " أل " للجنس فنكرة، أو للعهد فموصولة; وكأنه
قصد مناسبة الجنس للجنس، والعهد للعهد، لكنه ليس بلازم، بل يجوز أن تكون للجنس
ومن موصولة، وللعهد ومن نكرة.
ثم الموصولة قد توصف بالمفرد وبالجملة، وفى التنزيل: * (كل من عليها فان) *;
في أحد الوجهين، أي كل شخص مستقر عليها.
قالوا: وأصلها أن تكون لمن يعقل، وإن استعملت في غيره فعلى المجاز.
هذه عبارة القدماء، وعدل جماعة إلى قولهم: " من يعلم " لإطلاقها على الباري، كما
في قوله تعالى: * (قل من رب السماوات والأرض قل الله) *، وهو سبحانه يوصف بالعلم
لا بالعقل، لعدم الإذن فيه.
وضيق سيبويه العبارة فقال: هي للأناسي.
فأورد عليه أنها تكون للملك، كقوله تعالى: * (ألم تر أن الله يسجد له من في
السماوات) * فكان حقه أن يأتي بلفظ يعم الجميع، بأن يقول " لأولى العلم ".
وأجيب بأن هذا يقل فيها، فاقتصر على الأناسي للغلبة.
وإذا أطلقت على ما لا يعقل; فإما لأنه عومل معاملة من يعقل، وإما لاختلاطه به.
فمن الأول قوله تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *، والذي لا يخلق المراد به
الأصنام; لأن الخطاب مع العرب لكنه لما عوملت بالعبادة عبر عنها ب‍ " من "، بالنسبة إلى
اعتقاد المخاطب. ويجوز أن يكون المراد ب‍ " من " لا يخلق العموم الشامل لكل ما عبد من دون
412

الله من العاقلين وغيرهم، فيكون مجئ " من " هنا للتغليب الذي اقتضاه الاختلاط في
قوله تعالى: * (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشى على بطنه...) * الآية،
فعبر بها عمن يمشى على بطنه، وهم الحيات، وعمن يمشى على أربع وهم البهائم،
لاختلاطهم مع من يعقل في صدر الآية; لأن عموم الآية يشمل العقلاء وغيرهم، فغلب على
الجميع حكم العاقل.
-،، * * * *،، -
413

فائدة
قيل: إنما كان " من " لمن يعقل و " ما " لما لا يعقل; لأن مواضع " ما " في الكلام
أكثر من مواضع " من " وما لا يعقل أكثر ممن يعقل، فأعطوا ما كثرت مواضعه
للكثير، وأعطوا ما قلت مواضعه للقليل، وهو من يعقل، للمشاكلة والمجانسة.
تنبيه
ذكر الأبياري في شرح،، البرهان،، أن اختصاص " من " بالعاقل و " ما " بغيره
مخصوص بالموصولتين، أما الشرطية فليست من هذا القبيل; لأن الشرط يستدعى الفعل
ولا يدخل على الأسماء.
تنبيه
وقد سبق في قاعدة مراعاة اللفظ والمعنى بيان حكم " من " في ذلك، وقوله تعالى:
* (إلا من كان هودا أو نصارى) * فجعل اسم " كان " مفردا حملا على لفظ " من "،
وخبرها، جمعا حملا على معناها، ولو حمل الاسم والخبر على اللفظ معا لقال " إلا من كان
يهوديا أو نصرانيا "; ولو حملهما على معناها لقال: " إلا من كانوا هودا أو نصارى "
فصارت الآية الشريفة بمنزلة قولك: لا يدخل الدار إلا من كان عاقلين، وهذه المسألة
منعها ابن السراج وغيره، وقالوا: لا يجوز أن يحمل الاسم والخبر معا على اللفظ، فيقال: " إلا من
كان عاقلا "، أو يحملا معا على المعنى فيقال: إلا من كانوا عاقلين "، وقد جاء القرآن بخلاف قولهم.
414

من
حرف يأتي لبضعة عشر معنى:
الأول: ابتداء الغاية، إذا كان في مقابلتها " إلى " التي للانتهاء.
وذلك إما في اللفظ، نحو سرت من البصرة إلى الكوفة، وقوله تعالى: * (من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) *.
وإما في المعنى; نحو زيد أفضل من عمرو; لأن معناه زيادة الفضل على عمرو، وانتهاؤه
في الزيادة إلى زيد.
ويكون في المكان اتفاقا، نحو: من المسجد الحرام.
وما نزل منزلته، نحو من فلان، ومنه: * (إنه من سليمان) * وقوله: ضربت
من الصغير إلى الكبير، إذا أردت البداءة من الصغير والنهاية بالكبير.
وفى الزمان عند الكوفيين، كقوله تعالى: * (من أول يوم) *.
وقوله: * (لله الأمر من قبل ومن بعد) *. فإن " قبل " و " بعد " ظرفا زمان.
وتأوله مخالفوهم على حذف مضاف، أي من تأسيس أول يوم، ف‍ " من " داخلة في
التقدير على التأسيس، وهو مصدر، وأما " قبل " و " بعد " فليستا ظرفين في الأصل،
وإنما هما صفتان.
* * *
الثاني: الغاية، وهي التي تدخل على فعل هو محل لابتداء الغاية وانتهائه معا، نحو
415

أخذت من التابوت، فالتابوت محل ابتداء الأخذ وانتهائه. وكذلك أخذته من زيد،
ف‍ " زيد " محل الابتداء الأخذ وانتهائه كذلك.
قاله الصفار: وغاير قيله وبين ما قبله، قال: وزعم بعضهم أنها تكون لانتهاء
الغاية، نحو قولك: رأيت الهلال من داري من خلل السحاب، فابتداء الرؤية وقع من
الدار، وانتهاؤها من خلل السحاب، وكذلك: شممت الريحان من داري من الطريق، فابتداء
الشم من الدار وانتهاؤه إلى الطريق.
قال: وهذا لا حجة فيه، بل هما لابتداء الغاية، فالأولى لابتداء الغاية في حق الفاعل،
والثانية لابتداء الغاية في حق المفعول، ونظيره كتاب أبى عبيدة بن الجراح إلى عمر بالشام،
وأبو عبيدة لم يكن وقت كتبه إلى عمر بالشام، بل الذي كان في الشام عمر، فقوله " بالشام "
ظرف للفعل بالنسبة إلى المفعول.
قال: وزعم ابن الطراوة أنها إذا كانت لابتداء الغاية في الزمان لزمها إلى الانتهاء
فأجاز: سرت من يوم الجمعة إلى يوم الأحد; لأنك لو لم تذكر لم يدر إلى أين انتهى السير.
قال الصفار: وهذا الذي قاله غير محفوظ من كلامهم، وإذا أرادت العرب هذا أنت
فيه بمذ ومنذ، ويكون الانتهاء إلى زمن الإخبار.
* * *
الثالث: التبعيض، ولها علامتان: أن يقع موقعها وأن يعم ما قبلها ما بعدها
إذا حذفت كقوله تعالى: * (حتى تنفقوا مما تحبون) *، ولهذا في مصحف ابن مسعود:
" بعض ما تحبون ".
وقوله: * (منهم من كلم الله) *.
416

وقوله: * (إني أسكنت من ذريتي) *; فإنه كان نزل ببعض ذريته.
* * *
الرابع: بيان الجنس. وقيل: إنها لا تنفك عنه مطلقا، حكاه التراس; ولها علامتان:
أن يصح وضع " الذي " موضعها، وأن يصح وقوعها صفة لما قبلها.
وقيل: هي أن تذكر شيئا تحته أجناس، والمراد أحدها، فإذا أردت واحدا منها بينته،
كقوله تعالى: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) *، وغيرها، فلما اقتصر عليه لم يعلم
المراد، فلما صرح بذكر الأوثان علم أنها المراد من الجنس. وقرنت ب‍ " من " للبيان;
فلذلك قيل: إنها للجنس، وأما اجتناب غيرها فمستفاد من دليل آخر، والتقدير: واجتنبوا
الرجس الذي هو الأوثان، أي اجتنبوا الرجس الوثني، فهي راجعة إلى معنى الصفة.
وهي بعكس التي للتبعيض; فإن تلك يكون ما قبلها بعضا مما بعدها. فإذا قلت: أخذت
درهما من الدراهم كان الدرهم بعض الدراهم. وهذه ما بعدها بعض مما قبلها، ألا ترى أن
الأوثان بعض الرجس.
ومنه قوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات) *، أي
الذين هم أنتم; لأن الخطاب للمؤمنين، فلهذا لم يتصور فيها التبعيض.
وقد اجتمعت المعاني الثلاثة في قوله تعالى: * (وينزل من السماء من جبال فيما من
برد) *، ف‍ " من " الأولى لابتداء الغاية، أي ابتداء الإنزال من السماء، والثانية
للتبعيض; أي بعض جبال منها، والثالثة لبيان الجنس، لأن الجبال تكون بردا وغير برد.
ونظيرها: * (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل
عليكم من خير من ربكم) *، فالأولى للبيان; لأن الكافرين نوعان: كتابيون
417

ومشركون، والثانية: مزيدة لدخولها على نكرة منفية، والثالثة: لابتداء الغاية.
وقوله: * (تجرى من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب) *;
فالأولى: لابتداء الغاية، والثانية: لبيان الجنس، أو زائدة، بدليل قوله: * (وحلوا أساور) *،
والثالثة: لبيان الجنس أو التبعيض.
وقد أنكر القوم من متأخري المغاربة بيان الجنس، وقالوا: هي في الآية الشريفة لابتداء
الغاية; لأن الرجس جامع للأوثان وغيرها. فإذا قيل " من الأوثان "، فمعناه الابتداء من هذا
الصنف، لأن الرجس ليس هو ذاتها، ف‍ " من " في هذه الآية كهي في أخذته من التابوت.
وقيل: للتبعيض; لأن الرجس منها هو عبارتها. واختاره ابن أبي الربيع، ويؤيده قوله:
* (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) *.
وأما قوله * (منكم) * فهي للتبعيض، ويقدر الخطاب عاما للمؤمنين وغيرهم.
وأما قوله: * (من جبال) * فهو بدل من السماء، لأن السماء مشتملة على جبال البرد،
فكأنه قال " وينزل من برد في السماء "، وهو من قبيل ما أعيد فيه العامل مع البدل،
كقوله: * (للذين استضعفوا لمن آمن منهم) *.
وأما قوله: * (ويلبسون ثيابا خضرا من سندس) *، ففي موضع الصفة،
فهي للتبعيض.
وكثيرا ما تقع بعد ما ومهما، لإفراط إبهامهما، نحو: * (ما يفتح الله للناس من
رحمة) *، * (ما ننسخ من آية) *، * (مهما تأتينا به من آية) *، وهي
ومخفوضها في موضع نصب على الحال.
418

وقد تقع بعد غيرهما: * (يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضر
من سندس وإستبرق) * الشاهد في غير الأولى، فإن تلك للابتداء: سعيد وقيل زائدة.
* * *
الخامس: التعليل، ويقدر بلام، نحو: * (مما خطيئاتهم أغرقوا) *، وقوله:
* (أطعمهم من جوع) * أي من أجل الجوع.
ورده الأبذي بأن الذي فهم منه العلة إنما هو لأجل المراد، وإنما هي للابتداء، أي
ابتداء الإطعام من أجل الجوع.
* * *
السادس: البدل من حيث العوض عنه، فهو كالسبب في حصول العوض; فكأنه
منه أتى، نحو قوله تعالى: * (لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) *، لأن
الملائكة لا تكون من الإنس.
وقوله: * (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) *، أي بدلا من الآخرة، ومحلها
مع مجرورها النصب على الحال.
وقوله: * (لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) *، أي بدل طاعة
الله أو رحمة الله.
وقوله: * (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) *، أي بدل الرحمن.
419

السابع: بمعنى " على " نحو: * (ونصرناه من القوم) * أي على القوم. وقيل: على
التضمين، أي منعناه منهم بالنصر.
* * *
الثامن: بمعنى " عن "، نحو: * (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) *،
* (يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا) *، وقيل: هي للابتداء فيهما.
وقوله: * (أطعمهم من جوع) *; فقد أشار سيبويه إلى أن " من " هنا تؤدى
معنى " عن ".
وقيل: هي بمنزلة اللام للعلة، أي لأجل الجوع. وليس بشئ، فإن الذي فهم منه
العلة إنما هو " أجل " لا " من ".
واختار الصفار أنها لابتداء الغاية.
* * *
التاسع: بمعنى الباء، نحو: * (ينظرون من طرف خفى) *; حكاه البغوي عن
يونس. وقيل: إنما قال: * (من طرف) * لأنه لا يصح عنه، وإنما نظره ببعضها.
وجعل منه ابن أبان: * (يحفظونه من أمر الله) *، أي بأمر الله.
وقوله: * (من كل أمر. سلام) *.
* * *
العاشر: بمعنى " في " نحو: * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) *.
420

* (أروني ماذا خلقوا من الأرض) *.
وقيل: لبيان الجنس.
* * *
الحادي عشر: بمعنى " عند " نحو: * (لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من
الله) *: قال أبو عبيد: وقيل إنها للبدل.
* * *
الثاني عشر: بمعنى الفصل، وهي الداخلة بين المتضادين، نحو: * (والله يعلم المفسد من
المصلح) *، * (حتى يميز الخبيث من الطيب) *.
* * *
الثالث عشر: الزائدة، ولها شرطان عند البصريين: أن تدخل على نكرة، وأن
يكون الكلام نفيا، نحو ما كان من رجل. أو نهيا، نحو لا تضرب من رجل. أو استفهاما،
نحو هل جاءك من رجل؟
وأجرى بعضهم الشرط مجرى النفي، نحو: إن قام رجل قام عمرو.
وقال الصفار: الصحيح المنع.
ولها في النفي معنيان:
أحدهما: أن تكون للتنصيص على العموم، وهي الداخلة على مالا يفيد العموم،
نحو: ما جاءني من رجل; فإنه قبل دخولها يحتمل نفى الجنس ونفى الوحدة; فإذا دخلت
" من " تعين نفى الجنس، وعليه قوله تعالى: * (وما من إله إلا إله واحد) *،
421

* (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) *.
* (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) *.
وثانيهما: لتوكيد العموم، وهي الداخلة على الصيغة المستعملة في العموم، نحو ما جاءني
من أحد، أو من ديار; لأنك لو أسقطت " من " لبقى العموم على حاله; لأن " أحدا "
لا يستعمل إلا للعموم في النفي.
وما ذكرناه من تغاير المعنيين خلاف ما نص عليه سيبويه من تساويهما.
قال الصفار: وهو الصحيح عندي; وأنها مؤكدة في الموضعين، فإنها لم تدخل على:
" جاءني رجل " إلا وهو يراد به " ما جاءني أحد "، لأنه قد ثبت فيها تأكيد
الاستغراق مع " أحد "، ولم يثبت لها الاستغراق، فيحمل هذا عليه، فلهذا كان مذهب
سيبويه أولى.
قال: وأشار إلى أن المؤكدة ترجع لمعنى التبعيض، فإذا قلت: " ما جاءني
من رجل " فكأنه قال: " ما أتاني بعض هذا الجنس ولا كله "، وكذا " ما أتاني من
أحد "، أي بعض من الأحدين. انتهى.
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: نص سيبويه على أنها نص في العموم، قال: فإذا
قلت: ما أتاني رجل، فإنه يحتمل ثلاثة معان:
أحدها: أن تريد أنه ما أتاك من رجل واحد، بل أكثر من واحد.
الثاني: أن تريد ما أتاك من رجل في قوته ونفاذه، بل أتاك الضعفاء.
والثالث: أن تريد ما أتاك رجل واحد، ولا أكثر من ذلك.
422

فإن قلت: ما أتاني من رجل، كان نفيا لذلك كله، قال: هذا معنى كلامه.
والحاصل أن " من " في سياق النفي تعم وتستغرق.
ويلتحق بالنفي الاستفهام، كقوله تعالى: * (هل ترى من فطور) *.
وجوز الأخفش زيادتها في الإثبات، كقوله: * (يغفر لكم من ذنوبكم) *،
والمراد الجميع، بدليل: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) *، فوجب حمل الأول على الزيادة
دفعا للتعارض.
وقد نوزع في ذلك، بأنه إنما يقع التعارض لو كانتا في حق قبيل واحد، وليس
كذلك، فإن الآية التي فيها " من " لقوم نوح، والأخرى لهذه الأمة.
فإن قيل: فإذا غفر للبعض كان البعض الآخر معاقبا عليه، فلا يحصل كمال الترغيب
في الإيمان، إلا بغفران الجميع.
وأيضا: فكيف يحسن التبعيض فيها، مع أن الإسلام يجب ما قبله، فيصح قول
الأخفش، فالجواب من وجوه:
أحدها: أن المراد بغفران بعض الذنوب في الدنيا، لأن إغراق قوم نوح عذاب لهم،
وذلك إنما كان في الدنيا مضافا إلى عذاب الآخرة، فلو آمنوا لغفر لهم من الذنوب ما استحقوا به
الإغراق في الدنيا، وأما غفران الذنب بالإيمان في الآخرة فمعلوم.
والثاني: أن الكافر إذا آمن فقد بقى عليه ذنوب وهي مظالم العباد، فثبت التبعيض
بالنسبة للكافر.
الثالث: أن قوله: * (ذنوبكم) * يشمل الماضية والمستقبلة، فإن الإضافة تفيد
423

العموم، فقيل " من " لتفيد أن المغفور الماضي، وعدم إطماعهم في غفران المستقبل بمجرد
الإسلام حتى يجتنبوا المنهيات.
وقيل: إنها لابتداء الغاية وهو حسن، لقوله: * (يغفر لهم ما قد سلف) *،
وسيبويه يقدر في نحو ذلك مفعولا محذوفا، أي يغفر لكم بعضا من ذنوبكم محافظة
على معنى التبعيض.
وقيل: بل الحذف للتفخيم، والتقدير: " يغفر لكم من ذنوبكم ما لو كشف لكم
عن كنهه لاستعظمتم ذلك "، والشئ إذا أرادوا تفخيمه أبهموه، كقوله: * (فيغشيهم من اليم
ما غشيهم) *، أي أمر عظيم.
وقال الصفار: " من " للتبعيض على بابها، وذلك أن " غفر " تتعدى لمفعولين:
أحدهما: باللام، فالأخفش يجعل المفعول المصرح " الذنوب " وهو المفعول الثاني، فتكون
" من " زائدة، ونحن نجعل المفعول محذوفا، وقامت " من ذنوبكم " مقامه، أي جملة
من ذنوبكم، وذلك أن المغفور لهم بالإسلام ما اكتسبوه في حال الكفر لا حال الإسلام،
والذي اكتسبوه في حال الكفر بعض ذنوبهم لا جميعها.
وأما قوله في آية الصدقة: * (ويكفر عنكم من سيئاتكم) * فللتبعيض، لأن أخذ
الصدقة لا يمحو كل السيئات.
ومما احتج به الأخفش أيضا قوله تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) *،
أي أبصارهم، وقوله: * (ولهم فيها من كل الثمرات) *، أي كل الثمرات.
وقوله: * (ولقد جاءك من نبأ المرسلين) *.
424

وهذا ضعيف أيضا، بل هي في الأول للتبعيض، لإن النظر قد يكون عن تعمد
وغير تعمد، والنهى إنما يقع على نظر العمد فقط، ولهذا عطف عليه قوله: * (ويحفظوا
فروجهم) *، من غير إعادة " من "، لأن حفظ الفروج واجب مطلقا، ولأنه
يمكن التحرز منه، ولا يمكن في النظر لجواز وقوعه اتفاقا، وقد يباح للخطبة
وللتعليم ونحوهما.
وأما الثانية; فإن الله وعد أهل الجنة أن يكون لهم فيها كل نوع من أجناس الثمار
مقدار ما يحتاجون إليه وزيادة، ولم يجعل جميع الذي خلقه الله من الثمار عندهم; بل عند
كل منهم من الثمرات ما يكفيه، وزيادة على كفايته، وليس المعنى على أن جميع الجنس
عندهم حتى لم تبق معه بقية; لأن في ذلك وصف ما عند الله بالتناهي.
وأما الثالثة: فللتبعيض، بدليل قوله: * (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا
لم نقصصهم عليك) *.
* * *
لطيفة: إنها حيث وقعت في خطاب المؤمنين لم تذكر، كقوله في سورة الصف:
* (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم) * إلى قوله: * (يغفر
لكم ذنوبكم) *.
وقوله في سورة الأحزاب: * (أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * إلى قوله:
* (ويغفر لكم ذنوبكم) *.
وقال في خطاب الكفار في سورة نوح: * (يغفر لكم من ذنوبكم) *.
وفى سورة الأحقاف: * (يا قومنا أجيبوا داعي الله آمنوا به يغفر لكم من
425

ذنوبكم) *، وما ذاك إلا للتفرقة بين الخطابين، لئلا يسوى بين الفريقين في الوعد، ولهذا
إنه في سورة نوح والأحقاف وعدهم مغفرة بعض الذنوب بشرط الإيمان، لا مطلقا، وهو
غفران ما بينه وبينهم، لا مظالم العباد.
* * *
الرابع عشر الملابسة، كقوله تعالى: * (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) *،
أي يلابس بعضهم بعضا ويواليه، وليس المعنى على النسل والولادة; لأنه قد يكون من
نسل المنافق مؤمن وعكسه.
ونظيره قوله تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) *.
وكذا قوله: * (ذرية بعضها من بعض) *.
كما يتبرأ الكفار، كقوله: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا
من الذين اتبعوا) *.
فأما قوله: * (والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض) *، أي بعضكم يلابس
بعضا ويواليه في ظاهر الحكم، من حيث يشملكم الإسلام.
-،، * * * *،، -
426

مع
للمصاحبة بين أمرين لا يقع بينهما مصاحبة واشتراك إلا في حكم يجمع بينهما، ولذلك
لا تكون الواو التي بمعنى " مع " إلا بعد فعل لفظا أو تقديرا، لتصح المعية.
وكمال معنى المعية الاجتماع في الأمر الذي به الاشتراك دون زمانه.
فالأول يكثر في أفعال الجوارح والعلاج، نحو: دخلت مع زيد، وانطلقت مع عمرو،
وقمنا معا، ومنه قوله تعالى: * (ودخل معه السجن فتيان) *، * (أرسله معنا غدا) *
* (فأرسل معنا أخانا) *، * (لن أرسله معكم) *.
والثاني يكثر في الأفعال المعنوية، نحو آمنت مع المؤمنين وتبت مع التائبين، وفهمت
المسألة مع من فهمها، ومنه قوله تعالى: * (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع
الراكعين) *.
وقوله: * (وكونوا مع الصادقين) *. * (وقيل ادخلا النار مع الداخلين) *.
* (إنني معكما أسمع وأرى) *.
* (إن معي ربى سيهدين) *. * (
لا تحزن إن الله معنا) *، أي بالعناية والحفظ.
* (يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه) *، يعنى الذين شاركوه في الإيمان،
وهو الذي وقع فيه الاجتماع والاشتراك من الأحوال والمذاهب.
427

وقد ذكروا الاحتمالين المذكورين في قوله تعالى: * (واتبعوا النور الذي أنزل
معه) *، قيل: إنه من باب المعية في الاشتراك، فتمامه الاجتماع في الزمان على حذف
مضاف; إما أن يكون تقديره أنزل مع نبوته، وإما أن يكون التقدير مع اتباعه.
وقيل: لأنه فيما وقع به الاشتراك دون الزمان، وتقديره: واتبعوا معه النور.
وقد تكون المصاحبة في الاشتراك بين المفعول وبين المضاف، كقوله: شممت طيبا
مع زيد.
ويجوز أن يكون منه قوله تعالى: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) *، نقل ذلك
أبو الفتح القشيري في شرح،، الإلمام،، عن بعضهم، ثم قال: وقد ورد في الشعر استعمال " مع "
في معنى ينبغي أن يتأمل ليلحق بأحد الأقسام وهو قوله:
يقوم مع الرمح الردينى قامة * ويقصر عنه طول كل نجاد
* * *
وقال الراغب: مع تقتضي الاجتماع، إما في المكان، نحو: هما معا في الدار، أو في
الزمان، نحو: ولدا معا، أو في المعنى كالمتضايقين; نحو: الأخ والأب، فإن أحدهما صار أخا
للآخر في حال ما صار الآخر أخاه، وإما في الشرف والرتبة، نحو: هما معا في العلو،
وتقتضي " مع " النصرة والمضاف إليه لفظ " مع " هو المنصور، نحو: قوله تعالى: * (لا تحزن
إن الله معنا) *.
* (إن الله مع الذين اتقوا) *.
* (وهو معكم أينما كنتم) *، * (واعلموا أن الله مع المتقين) *، * (إن
معي ربى سيهدين) *. انتهى.
428

وقال ابن مالك: إن " معا " إذا أفردت تساوى " جميعا " معنى.
ورد عليه الشيخ أبو حيان بأن بينهما فرقا. قال ثعلب: إذا قلت: قام زيد وعمرو جميعا
احتمل أن يكون القيام في وقتين، وأن يكون في واحد، وإذا قلت: قام زيد وعمرو معا;
فلا يكون إلا في وقت واحد.
والتحقيق ما سبق.
ويكون بمعنى النصرة والمعونة والحضور، كقوله: * (إنني معكما) *، أي ناصر كما.
* (إن الله مع الذين اتقوا) * أي معينهم.
* (وهو معكم أينما كنتم) *، أي عالم بكم ومشاهدكم; فكأنه حاضر معهم;
وهو ظرف زمان عند الأكثرين، إذا قلت: كان زيد مع عمرو، أي زمن مجئ عمرو،
ثم حذف الزمن والمجئ وقامت " مع " مقامهما.
-،، * * * *،، -
429

النون
للتأكيد، وهي إن كانت خفيفة كانت بمنزلة تأكيد الفعل مرتين، أو شديد فمنزلة
تأكيده ثلاثا، وأما قوله تعالى: * (ليسجنن وليكونا من الصاغرين) *، من حيث
أكدت السجن بالشدة دون ما بعده إعظاما.
ولم يقع التأكيد بالخفيفة في القرآن إلا في موضعين: هذا، وقوله: * (لنسفعا
بالناصية) *.
وفى القواعد أنها إذا دخلت على فعل الجماعة الذكور كان ما قبلها مضموما، نحو: يا رجال
اضربن زيدا، ومنه وقوله تعالى: * (لتؤمنن به ولتنصرنه) *، فأما قوله تعالى:
* (لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل) *، فإنما
جاء قبلها مفتوحا، لأنها دخلت على فعل الجماعة المتكلمين، وهو بمنزلة الواحد، ولا تلحقه
واو الجماعة، لأن الجماعة إذا أخبروا عن أنفسهم قالوا: نحن نقوم، ليكون فعلهم كفعل
الواحد، والرجل الرئيس إذا أخبر عن نفسه قال كقولهم، فلما دخلت النون هذا الفعل
مرة أخرى بنى آخره معها على الفتح لما كان لا يلحقه واو الجمع، وإنما يضمون ما قبل
النون في الأفعال التي تكون للجماعة، ويلحقها واو الجمع التي هي ضميرهم، وذلك أن واو الجمع
يكون ما قبلها مضموما، نحو قولك: يضربون، فإذا دخلت النون حذفت نون الإعراب
لدخولها، وحذف الواو لسكونها وسكون النون، وبقى ما قبل الواو مضموما، ليدل عليه.
ومثله: * (لنكونن من الخاسرين) *.
فإن كان ما قبل الواو مفتوحا لم يحذفها، ولكنها تحركها لالتقاء الساكنين; نحو اخشون زيدا.
430

الهاء
تكون ضميرا للغائب، وتستعمل في موضع الجر والنصب، نحو: * (قال له صاحبه
وهو يحاوره) *. وتكون لبيان السكت. وتلحق وقفا لبيان الحركة، وإنما تلحق
بحركة بناء، لا تشبه حركة الإعراب، نحو: * (ما هيه) *، وكالهاء في * (كتابيه) *،
و * (حسابيه) *، و * (سلطانيه) *، و * (ماليه) *.
وكان حقها أن تحذف وصلا وتثبت وقفا، وإنما أجرى الوصل مجرى الوقف،
أو وصل بنية الوقف في: * (كتابيه) * و * (حسابيه) * اتفاقا، فأثبتت الهاء كذا عند الجميع القراء
إلا حمزة; فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاث، وأثبتها وقفا. أعني في " ماليه "
و " سلطانيه " و " ماهيه " في القارعة; لأنها في الوقف يحتاج إليها لتحصين حركة الموقوف
عليه، وفى الوصل يستغنى عنه.
فإن قيل: فلم لا يفعل ذلك في " كتابيه " و " حسابيه "؟ قيل: إنه جمع
بين اللغتين.
431

ها
كلمة تستعمل على ضربين:
أحدهما: أن تكون اسما سمى به الفعل.
وثانيهما: للتنبيه، ولها موضعان:
أحدهما: أن تلحق الأسماء المبهمة المفردة، نحو: هذا وتتنزل منزلة حرف من الكلمة،
ولهذا يدخل حرف الجر عليه، كقوله تعالى: * (ومن هؤلاء من يؤمن به) *.
ويفصل به بين المضاف والمضاف إليه، كقوله: * (لمثل هذا فليعمل العاملون) *.
الثاني: أن تدخل على الجملة، كقوله: * (ها أنتم أولاء تحبونهم) *.
* (ها أنتم جادلتم عنهم) *.
ويدل على دخول حرف التنبيه على الجملة، أنه لا يخلوا إما أن يقدر به الدخول على
الاسم المفرد، أو الجملة; لا يجوز الأول، لأن المبهم في الآيتين دخل عليهما حرف الإشارة;
فعلم أن دخولها إنما هو الجملة. ذكره أبو على.
-،، * * * *،، -
432

هل
للاستفهام، قيل: ولا يكون المستفهم معها إلا فيما لا ظن له فيه البتة; بخلاف الهمزة،
فإنه لا بد أن يكون معه إثبات. فإذا قلت: أعندك زيد؟ فقد هجس في نفسك أنه عندك
فأردت أن تستثبته; بخلاف " هل ". حكاه ابن الدهان.
وقد سبق فروق في الكلام على معنى الاستفهام.
وقد تأتى بمعنى " قد " كقوله تعالى: * (وهل أتاك حديث موسى) *، * (هل أتاك
حديث الغاشية) *، * (هل أتى على الإنسان) *.
وذكر بعضهم أن " هل " تأتى للتقرير والإثبات، كقوله تعالى: * (هل في ذلك قسم لذي
حجر) *، أي في ذلك قسم. وكذا قوله: * (هل أتى على الإنسان) *، على القول
بأن المراد آدم، فإنه توبيخ لمن ادعى ذلك.
وتأتي بمعنى " ما " كقوله: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من
الغمام) *.
وبمعنى " ألا " كقوله: * (هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) *.
وبمعنى الأمر، نحو: * (فهل أنتم منتهون) *.
وبمعنى السؤال: * (هل من مزيد) *.
433

وبمعنى التمني: * (هل في ذلك قسم لذي حجر) *.
وبمعنى " أدعوك "، نحو: * (هل لك إلى أن تزكى) *; فالجار والمجرور متعلق به.
هيهات
لتبعيد الشئ; ومنه * (هيهات هيهات لما توعدون) *،
قال الزجاج: البعد لما توعدون. وقيل: وهذا غلط من الزجاج أوقعه فيه اللام; فإن تقديره: بعد الأمر لما توعدون.
أي لأجله.
-،، * * * *،، -
434

الواو
[الواو العاملة]
حرف يكون عاملا وغير عامل.
فالعامل قسمان: جار وناصب.
فالجار واو القسم، نحو: * (والله ربنا ما كنا مشركين) *.
وواو " رب " على قول كوفي. والصحيح أن الجر ب‍ " رب " المحذوفة لا بالواو.
والناصب ثنتان: واو " مع " فتنصب المفعول معه عند قوم، والصحيح أنه منصوب
بما قبل الواو من فعل أو شبهه بواسطة الواو.
والواو التي ينتصب المضارع بعدها في موضعين: في الأجوبة الثمانية، وأن يعطف بها
الفعل على المصدر، على قول كوفي.
والصحيح أن الواو فيه عاطفة والفعل منصوب بأن مضمرة.
ولها قسم آخر عند الكوفيين; تسمى واو الصرف، ومعناها: أن الفعل كان يقتضى
إعرابا فصرفته الواو عنه إلى النصب، كقوله تعالى: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء) * على قراءة النصب.
[الواو غير العاملة]
وأما غير العاملة فلها معان:
* * *
435

الأول: وهو أصلها - العاطفة تشرك في الإعراب والحكم. وهي لمطلق الجمع على
الصحيح، ولا تدل على أن الثاني بعد الأول، بل قد يكون كذلك، وقد يكون قبله
وقد يكون معه، فمن الأول: * (إذا زلزلت الأرض زلزالها. وأخرجت الأرض
أثقالها) *; فإن الإخراج متأخر عن الزلزال; وذلك معلوم من قضية الوجود
لا من الواو.
ومن الثاني: * (واسجدي واركعي مع الراكعين) *، والركوع قبل السجود،
ولم ينقل أن شرعهم كان مخالفا لشرعنا في ذلك.
وقوله تعالى مخبرا عن منكري البعث: * (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) *
أي نحيا ونموت.
وقوله: * (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام) *، والأيام هنا قبل الليالي،
إذ لو كانت الليالي قبل الأيام كانت الأيام مساوية لليالي وأقل.
قال الصفار: ولو كان على ظاهره لقال: " سبع ليال وستة أيام "، أو " سبعة أيام "،
وأما " ثمانية " فلا يصح على جعل الواو للترتيب.
* * *
فائدة: وقوله تعالى: * (ذرني ومن خلقت وحيدا) *، * (وذرني والمكذبين) *
أجاز أبو البقاء كون الواو عاطفة، وهو فاسد; لأنه يلزم فيه أن يكون الله تعالى أمر نبيه
عليه السلام أن يتركه، وكأنه قال: اتركني واترك من خلقت وحيدا، وكذلك: اتركني
واترك المكذبين، فتعين أن يكون المراد: خل بيني وبينهم، وهو واو " مع " كقولك:
لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها.
* * *
436

الثاني: واو الاستئناف، وتسمى واو القطع والابتداء; وهي التي يكون بعدها جملة
غير متعلقة بما قبلها في المعنى، ولا مشاركة في الإعراب، ويكون بعدها الجملتان.
فالاسمية، كقوله تعالى: * (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) *.
والفعلية، كقوله: * (لنبين لكم ونقر في الأرحام) * * (هل تعلم له سميا.
ويقول الإنسان) * والظاهر أنها الواو العاطفة; لكنها تعطف الجمل التي لا محل لها من
الإعراب لمجرد الربط; وإنما سميت واو الاستئناف لئلا يتوهم أن ما بعدها من المفردات
معطوف على ما قبلها.
* * *
الثالث: واو الحال الداخلة على الجملة الاسمية; وهي عندهم مغنية عن ضمير صاحبها،
كقوله تعالى: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة
قد أهمتهم أنفسهم) *.
وقوله: * (لئن أكله الذئب ونحن عصبة) *.
وقوله: * (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين
لكارهون) *.
وقد يجتمعان نحو: * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *.
* (وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب) *.
437

* (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) *.
* (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) *.
* (لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون) *.
* (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *.
* (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه) *.
* (أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ) *.
* (أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر) *.
* * *
الرابع: للإباحة، نحو جالس الحسن وابن سيرين; لأنك أمرت بمجالستهما معا.
قال: وعلى هذا أخذ مالك: قوله تعالى: * (إنما الصدقات للفقراء
والمساكين...) * الآية.
* * *
الخامس: واو الثمانية، والعرب تدخل الواو بعد السبعة إيذانا بتمام العدد; فإن السبعة
عندهم هي العقد التام كالعشر عندنا، فيأتون فيه بحرف العطف الدال على المغايرة
بين المعطوف والمعطوف عليه، فتقول: خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، فيزيدون الواو
إذا بلغوا الثمانية.
438

حكاه البغوي عن عبد الله بن جابر عن أبي بكر بن عبدوس، ويدل عليه قوله تعالى:
* (سبع ليال وثمانية أيام) *.
ونقل عن ابن خالويه وغيره، ومثلوه بقوله تعالى: * (وثامنهم كلبهم) * بعد ما ذكر
العدد مرتين بغير واوا.
وقوله تعالى في صفة الجنة: * (وفتحت أبوابها) *، بالواو لأنها ثمانية، وقال تعالى
في صفة النار: * (فتحت أبوابها) *، بغير الواو لأنها سبعة، وفعل ذلك فرقا بينهما.
وقوله: * (والناهون عن المنكر) *، بعد ما ذكر قبلها من الصفات بغير واو.
وقيل: دخلت فيه إعلاما بأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره بالمعروف
فهما حقيقتان متلازمتان.
وليس قوله: * (ثيبات وأبكارا) * من هذا القبيل، خلافا لبعضهم; لأن الواو
لو أسقطت منه لاستحال المعنى، لتناقض الصفتين.
ولم يثبت المحققون واو الثمانية، وأولوا ما سبق على العطف أو واو الحال، وإن دخلت
في آية الجنة، لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم، وحذفت في الأول لأنها كانت مغلقة
قبل مجيئهم.
وقيل: زيدت في صفة الجنة علامة لزيادة رحمة الله على غضبه وعقوبته، وفيها زيادة
كلام سبق في مباحث الحذف.
وزعم بعضهم أنها لا تأتى في الصفات إلا إذا تكررت النعوت، وليس كذلك
439

بل يجوز دخولها من غير تكرار، قال تعالى: * (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) *.
وقال: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين) *.
وتقول: جاءني زيد والعالم.
* * *
السادس: الزيادة للتأكيد، كقوله تعالى: * (إلا ولها كتاب معلوم) *، بدليل
الآية الأخرى.
قال الزمخشري: دخلت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، الدالة على أن
اتصافه بها أمر ثابت مستقر.
وضابطه أن تدخل على جملة صفة للنكرة، نحو جاءني رجل ومعه ثوب آخر، وكذا
* (وثامنهم كلبهم) *.
وقال الشيخ جمال الدين بن مالك في باب الاستثناء من شرح،، التسهيل،،، وتابعه
الشيخ أثير الدين: إن الزمخشري تفرد بهذا القول; وليس كذلك; فقد ذكر الأزهري
في،، الأزهرية،،; فقال: وتأتي الواو للتأكيد، نحو: ما رأيت رجلا إلا وعليه ثوب
حسن. وفى القرآن منه: * (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) *، وقال:
* (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) *. انتهى.
وأجازه أبو البقاء أيضا في الآية، وفى قوله تعالى: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو
خير لكم) *، فقال: يجوز أن تكون الجملة في موضع نصب صفة ل‍ " شئ " وساغ
دخول الواو، لما كانت صورة الجملة هنا كصورتها إذا كانت حالا.
440

وأجاز أيضا في قوله تعالى: * (على قرية وهي خاوية) *، فقال: الجملة في موضع
جر صفة ل‍ " قرية ".
وأما قوله: * (فاضرب به ولا تحنث) *، فقيل: الواو زائدة، ويحتمل أن يكون
مجزوما جواب الأمر، بتقدير: أضرب به ولا تحنث.
ويتحمل أن يكون نهيا.
قال ابن فارس: والأول أجود.
وكذلك قوله: * (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه) *، قيل:
الواو زائدة.
وقيل: ولنعلمه فعلنا ذلك.
كذلك: * (وحفظا من كل شيطان) * أي وحفظا فعلنا ذلك.
وقيل في قوله: * (وفتحت أبوابها) *: إنها زائدة للتأكيد، والصحيح أنها عاطفة،
وجواب " إذا " محذوف، أي سعدوا وأدخلوا.
وقيل: وليعلم فعلنا ذلك، وكذلك: * (وحفظا من كل شيطان) * أي وحفظا
فعلنا ذلك.
441

وقيل في قوله: * (فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم) *، أي
ناديناه. والصحيح أنها عاطفة، والتقدير: عرف صبره وناديناه: * (وكذلك نرى إبراهيم
ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) *.
وقوله: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين) *.
وقوله: * (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم) * أي لنعلم.
وقوله: * (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) *.
وزعم الأخفش أن " إذا " من قوله تعالى: * (إذا السماء أنشقت) *، أو مبتدأ وخبرها
" إذا " في قوله: * (وإذا الأرض مدت) *، والواو زائدة، والمعنى أن وقت انشقاق
السماء هو وقت مد الأرض وانشقاقها، واستبعده أبو البقاء; لوجهين:
أحدهما: أن الخبر محط الفائدة، ولا فائدة في إعلامنا بأن الوقت الانشقاق في وقت المد،
بل الغرض من الآية عظم الأمر يوم القيامة.
والثاني: بأن زيادة الواو تغلب في القياس والاستعمال.
* * *
وقد تحذف كثيرا من الجمل، كقوله تعالى: * (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم
قلت) *، أي " وقلت "، والجواب قوله تعالى: * (تولوا) *.
وقوله: * (يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون) *.
وفى قول أكثر: * (قال فرعون وما رب العالمين. قال رب السماوات
والأرض...) * الآية.
وقوله: إنهم كانوا قبل ذلك مترفين. وكانوا يصرون على الحنث العظيم) *.
442

ويكأن
قال الكسائي كلمة تندم وتعجب، قال تعالى: * (ويكأن الله يبسط الرزق) *،
* (ويكأن لا يفلح الكافرون) *.
وقيل: إنه صوت لا يقصد به الإخبار عن التندم. ويحتمل أنه اسم فعل مسماه
" ندمت " أو " تعجبت ".
وقال الصفار: قال المفسرون معناه: ألم تر، فإن أرادوا به تفسير المعنى فمسلم، وإن
أرادوا تفسير الإعراب فلم يثبت ذلك.
وقيل بمعنى " ويلك "، فكان ينبغي كسر " إن ".
وقيل " وي " تنبيه، وكأن للتشبيه وهو الذي نص عليه سيبويه.
ومنهم من جعل كأن زائدة لا تفيد تشبيها.... ولم يثبت، فلم يبق إلا أنها
للتشبيه، الأمر يشبه هذا، بل هو كذا.
قلت: عن هذا اعتذر سيبويه، فقال: المعنى على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر
علمهم، أو نبهوا، فقيل لهم: أما يشبه أن يكون ذا عندكم هكذا!
وهذا بديع جدا كأنهم لم يحققوا هذا الأمر، فلم يكن عندهم إلا ظن، فقالوا نشبه
أن يكون الأمر كذا، ونهوا. ثم قيل لهم: يشبه أن يكون الأمر هكذا على وجه
التقرير انتهى.
وقال صاحب،، البسيط،، كأنه على مذهب البصريين، لا يراد به التشبيه بل القطع واليقين
443

وعلى مذهب الكوفيين يحتمل أن تكون الكاف حرفا للخطاب; لأنه إذا كان اسم
فعل لم يضف.
وذهب بعضهم إلى أنه بكماله اسم.
وذهب الكسائي إلى أن أصله " ويلك " فحذفت اللام وفتحت على مذهبه، أن
باسم الفعل قبلها.
وأما الوقف فأبو عمرو ويعقوب يقفا على الكاف على موافقة مذهب الكوفيين،
والكسائي يقف على الياء; وهو مذهب البصريين; وهذا يدل على أنهم لم يأخذوا
قراءتهم من نحوهم، وإنما أخذوها نقلا، وإن خالف مذهبهم في النحو ولم يكتبوها منفصلة،
لأنه لما كثر بها الكلام وصلت.
ويل
قال الأصمعي: " ويل " تقبيح، قال تعالى: * (ولكم الويل مما تصفون) *.
وقد توضع موضع التحسر والتفجع منه، كقوله: * (يا ويلتنا) *، * (يا ويلتى
أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) *.
444

يا
لنداء البعيد حقيقة أو حكما، ومنه قول الداعي: يا الله; * (وهو أقرب إليه من حبل
الوريد) *، استصغار لنفسه، واستبعادا لها من مظان الزلفى.
وقد ينادى بها القريب إذا كان ساهيا أو غافلا، تنزيلا لهما منزلة البعيد.
وقد ينادى بها القريب الذي ليس بساه ولا غافل; إذا كان الخطاب المرتب على النداء
في محل الاعتناء بشأن المنادى.
وقد تحذف، نحو: * (يوسف أعرض عن هذا) *. * (ربنا إنك آتيت فرعون
وملأه زينة) * * (قال ابن أم) *.
وقد قيل في قوله تعالى: * (أمن هو قانت آناء الليل) * في قراءة تخفيف " من ":
إن الهمزة فيه للنداء; أي يا صاحب هذه الصفات.
قال ابن فارس: تأتى للتأسف والتلهف; نحو: * (ألا يسجدوا) *. وقيل
للتنبيه.
قال: وللتلذذ; نحو:
* يا بردها على الفؤاد لو تقف *
* * *
* وهذا مع التوفيق كاف فحصلا *
* * *
445

في آخر النسخة المنقول منها ما مثاله:
تمت النسخة المباركة بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه، ونسأل الله العظيم، رب
العرش العظيم أن يجعله خالصا لوجهه الكريم مقربا بالفوز في جنات النعيم، وذلك في اليوم
المبارك السعيد، رابع عشر شهر شعبان الفرد، من شهور سنة تسع وسبعين وثمانمائة من
الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، والحمد الله رب العالمين وصلى الله
على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وغفر الله لنا ولكم ولجميع المسلمين والحمد الله رب العالمين.
وإن تجد عيبا فسد الخللا * فجل من لا فيه عيب وعلا
446