الكتاب: تفسير البحر المحيط
المؤلف: أبي حيان الأندلسي
الجزء: ٦
الوفاة: ٧٤٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض، شارك في التحقيق ١) د.زكريا عبد المجيد النوقي ٢) د.أحمد النجولي الجمل
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠١م
المطبعة: لبنان/ بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

((سورة الإسراء))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الا قصى الذى باركنا حوله لنريه من ءاياتنآ إنه هو السميع البصير * وءاتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى إسراءيل ألا تتخذوا من دونى وكيلا * ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا * وقضينآ إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدن فى الا رض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنآ أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جآء وعد الا خرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا * إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا * وأن الذين لا يؤمنون بالا خرة أعتدنا لهم عذابا أليما * ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير وكان الإنسان عجولا * وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شىء فصلناه تفصيلا * وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا * من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى
3

وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا * وإذآ أردنآ أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا * وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا * من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الا خرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولائك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هاؤلاء وهاؤلاء من عطآء ربك وما كان عطآء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللا خرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا * لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا) *))
) *
جاس يجوس جوسا وجوسانا تردد في الغارة قاله الليث. وقال أبو عبيدة: جاسوا فتشوا هل بقي ممن لم يقتل. وقال الفراء: قيلوا. قال حسان:
ومنا الذي لاقى لسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر.
وقال قطرب: نزلوا قال الشاعر:
* فجسنا ديارهم عنوة
*
وأبناء ساداتهم موثقينا
*
وقيل: داسوا، ومنه:
إليك جسنا الليل بالمطي
وقال أبو زيد: الجوس والحوس والعوس والهوس الطواف بالليل. فالجوس والحوس طلب الشئ باستقصاء. حظرت الشيء منعته.
* (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من ءاياتنا إنه هو) *.
سبب نزول * (سبحان الذى أسرى بعبده) * ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم) لقريش الإسراء به وتكذبيهم له، فأنز الله ذلك تصديقا له، وهذه السورة مكية قال صاحب الغنيان بإجماع وقيل: إلا آيتين * (وإن كادوا ليفتنونك) * * (وإن كادوا ليستفزونك) * وقيل: إلا أربع هاتان وقوله: * (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) * وقوله * (وقل رب أدخلنى مدخل صدق) *، وزاد مقاتل قوله تعالى: * (إن الذين أوتوا
4

العلم من قبله) * الآية وقال قتادة إلا ثماني آيات أنزلت بالمدينة وهي من قوله: * (وإن كادوا ليفتنونك) * إلى آخرهن. ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما أمره بالصبر ونهاه عن الحزن عليهم وأن يضيق صدره من مكرهم، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والسعر وغير ذلك مما رموه به، أعقب تعالى ذلك بذكر شرفه وفضله واحتفائه به وعلو منزلته عنده، وتقدم الكلام على سبحان في البقرة. وزعم الزمخشري أنه علم للتسبيح كعثمان للرجل. وقال ابن عطية: ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفا انتهى. ويعنيان والله أعلم أنه إذا لم يضف كقوله:
سبحان من علقمة الفاخر
وأما إذا أضيف فلو فرضنا أنه علم لنوي تنكيره ثم يضاف وصار إذ ذاك تعريفه بالإضافة لا بالعلمية.
* (* وأسرى) * بمعنى سرى وليست الهمزة فيه للتعدية وعديا بالباء ولا يلزم من تعديته بالباء المشاركة في الفعل، بل المعنى جعله يسرى لأن السرى يدل على الانتقال كمشى وجرى وهو مستحيل على الله تعالى، فهو كقوله: * (الله لذهب بسمعهم) * أي لأذهب سمعهم، فأسرى وسرى على هذا كسقى وأسقى إذا كانا بمعنى واحد، ولذلك قال المفسرون معناه سرى بعبده. وقال ابن عطية: ويظهران * (أسرى) * معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره أسرى الملائكة بعبده لأنه يقلق أن
يسند أسرى وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث: (أتيته سعيا وأتيته هرولة) حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث، و * (أسرى) * في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا يحتاج إلى تجوز قلق في مثل هذه اللفظة فإنه ألزم للنقلة من أتيته وأتى الله بنيانهم انتهى. وإنما احتاج ابن عطية إلى هذه الدعوى اعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول وهذا شيء ذهب إليه المبرد، فإذا قلت: قمت بزيد لزم منه قيامك وقيام زيد عنده وهذا ليس كذلك، التبست عنده باء التعدية بباء الحال، فباء الحال يلزم فيه المشاركة إذ المعنى قمت ملتبسا بزيد وباء التعدية مرادفة للهمزة، فقمت بزيد والباء للتعدية كقولك أقمت زيدا ولا يلزم من إقامتكه أن تقوم أنت.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون أسرى بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى: * (ذهب الله بنورهم) * يعني أن يكون التقدير أسرت ملائكته بعبده، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا مبني على اعتقاد أنه يلزم المشاركة والباء للتعدية وأيضا فموارد القرآن في فأسر بقطع الهمزة ووصلها يقتضي أنهما بمعنى واحد، ألا ترى أن قوله: * (فأسر بأهلك) * * (وأن * أسر بعبادى) * قرىء بالقطع والوصل، ويبعد مع القطع تقدير مفعول محذوف إذ لم يصرح به في موضع، فيستدل بالمصرح على المحذوف. والظاهر أن هذا الإسراء كان بشخصه ولذلك كذبت قريش به وشنعت عليه، وحين قص ذلك على أم هانىء قالت: لا تحدث الناس بها فيكذبوك ولو كان مناما استنكر ذلك وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الذي ينبغي أن يعتقد. وحديث الإسراء مروي في المسانيد عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، وذكر أنه رواه عشرون من الصحابة. قيل وما روي عن عائشة ومعاوية أنه كان مناما فلعله لا يصح عنهما، ولو صح لم يكن في ذلك حجة لأنهما لم
5

يشاهدا ذلك لصغر عائشة وكفر معاوية إذ ذاك، ولأنهما لم يسندا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) ولا حدثا به عنه. وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها وقوله: * (بعبده) * هو محمد صلى الله عليه وسلم). وقال أبو القاسم سليمان الأنصاري: لما وصل محمد صلى الله عليه وسلم) إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعارج أوحى الله إليه: يا محمد أشرفك؟ قال: يا رب بنسبتي إليك بالعبودية، فأنزل فيه * (سبحان الذى أسرى بعبده) * الآية انتهى. وعنه قالوا: عبد الله ورسوله، وعنه إنما أنا عبد وهذه إضافة تشريف واختصاص. وقال الشاعر:
* لا تدعني إلا بيا عبدها
*
لأنه أشرف أسمائي
*
وقال العلماء: لو كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم) اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة.
وانتصب * (ليلا) * على الظرف، ومعلوم أن السرى لا يكون في اللغة إلا بالليل، ولكنه ذكر على سبيل التوكيد. وقيل: يعني في جوف الليل فلم يكن إدلاجا ولا إدلاجا. وقال الزمخشري: أراد بقوله: * (ليلا) * بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة من الليل أي بعض الليل كقوله: * (ومن اليل فتهجد به) * على الأمر بالقيام في بعض الليل انتهى. والظاهر أن قوله: * (من المسجد الحرام) * هو المسجد المحيط بالكعبة بعينه، وهو قول أنس. وقيل من الحجر. وقيل من بين زمزم والمقام. وقيل من شعب أبي طالب. وقيل من بيت أم هانىء. وقيل من سقف بيته عليه السلام، وعلى هذه الأقوال الثلاثة يكون أطلق المسجد الحرام على مكة. وقال قتادة ومقاتل: قبل الهجرة بعام. وقالت عائشة بعام ونصف في رجب. وقيل في سبع عشرة من ربيع الأول والرسول عليه السلام ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما. وعن ابن شهاب بعد المبعث بسبعة أعوام. وعن الحربي ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة وقبل بيعة العقبة، ووقع لشريك بن أبي نمر في الصحيح أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه، ولا خلاف بين المحدثين أن ذلك وهم من شريك. وحكى الزمخشري عن أنس والحسن أنه كان قبل المبعث.
وقال أبو بكر محمد بن علي بن القاسم الرعيني في تاريخه: أسري به من مكة إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء قبل مبعثه بثمانية عشر شهرا، ويروى أنه كان نائما في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء، فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء وقال: (مثل لي النبيون فصليت بهم). وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال: (مالك)؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم، قال: (وإن كذبوني) فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم) بحديث الإسراء. فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا، وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمي الصديق رضي الله تعالى عنه. ومنهم من سافر إلى المسجد الأقصى فاستنعتوه، فجلى له بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أما النعت فقد أصاب فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال: (تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق) فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية. فقال قائل منهم: والله هذه الشمس قد شرقت. وقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت بقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا وقالوا: ما هذا إلا سحر بين، وقد عرج به إلى السماء في تلك
6

الليلة وكان العروج به من بيت المقدس، وأخبر قريشا أيضا بما رأى في السماء من العجائب، وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى. وهذا على قول من
قال أن هذه الليلة هي ليلة المعراج وهو قول ابن مسعود وجماعة. وذهب بعضهم إلى أن ليلة المعراج هي غير ليلة الإسراء.
* (والمسجد * الاقصى) * مسجد بيت المقدس وسمي الأقصى لأنه كان في ذلك الوقت أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة انتهى. ولفظه * (إلى) * تقتضي أنه انتهى الإسراء به إلى حد ذلك المسجد ولا يدل من حيث الوضع على دخوله.
* (والذى * باركنا حوله) * صفة مدح لإزالة اشتراط عارض وبركته بما خص به من الخيرات الدينية كالنبوة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر ونواحيه ونواديه، والدنياوية من كثرة الأشجار والأنهار وطيب الأرض. وفي الحديث (أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس).
وقرأ الجمهور * (لنريه) * بالنون وهو التفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، وقراءة الحسن ليريه بالياء فيكون الالتفات في آياتنا وهذه رؤيا عين والآيات التي أريها هي العجائب التي أخبر بها الناس وإسراؤه من مكة وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحدا واحدا حسبما ثبت في الصحيح. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد ليرى محمدا للناس آية، أي يكون النبي صلى الله عليه وسلم) آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع فتكون الرؤية على هذا رؤية القلب.
قال الزمخشري: * (إنه هو السميع) * لأقوال محمد * (البصير) * بأفعاله العالم بتهذيبها وخلوصها فيكرمه ويقربه على حسب ذلك. وقال ابن عطية: وعيد من الله للكفار على تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم) في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي هو السميع لما تقولون البصير بأفعالكم انتهى.
ولما ذكر تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم) بالإسراء وإراءته الآيات ذكر تشريف موسى بايتائه التوراة * (وءاتينا) * معطوف على الجملة السابقة من تنزيه الله تعالى وبراءته من السوء، ولا يلزم من عطف الجمل المشاركة في الخبر أو غيره. وقال ابن عطية: عطف قوله وآتينا على ما في قوله أسرى بعبده من تقدير الخبر كأنه قال: أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا وآتينا. وقال العكبري وآتينا معطوف على أسرى انتهى. وفيه بعد و * (الكتاب) * هنا التوراة، والظاهر عود الضمير من وجعلناه على الكتاب، ويحتمل أن يعود على موسى، ويجوز أن تكون أن تفسيرية ولا نهي وأن تكون مصدرية تعليلا أي لأن لا يتخذوا ولا نفي، ولا يجوز أن تكون أن زائدة ويكون لا تتخذوا معمولا لقول محذوف خلافا لمجوز ذلك إذ ليس من مواضع زيادة أن.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبو رجاء وأبو عمرو من السبعة: يتخذوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بتاء الخطاب، والوكيل فعيل من التوكل أي متوكلا عليه. وقال الزمخشري ربا تكلون إليه أموركم. وقال ابن جرير: حفيظا لكم سواي. وقال أبو الفرج بن الجوزي: قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل انتهى. وانتصب * (ذرية) * على النداء أي يا ذرية أو على البدل من وكيلا، أو على المفعول الثاني ليتخذوا ووكيلا وفي معنى الجمع أي لا يتخذوا وكلاء ذرية، أو على إضمار أعني. وقرأت فرقة ذرية بالرفع وخرج على أن يكون بدلا من الضمير في يتخذوا على قراءة من قرأ بياء الغيبة. وقال ابن عطية: ولا يجوز في القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت ضربتك زيدا على البدل لم يجز انتهى. وما ذكره من إطلاق إنك لا تبدل من ضمير مخاطب يحتاج إلى تفصيل، وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف، وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وإن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف، نحو: مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد، فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في كلام العرب، وقد استدللنا على صحة ذلك في شرح كتاب التسهيل، وذكر من حملنا مع نوح تنبيها على النعمة التي نجاهم بها من الغرق. وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان وزيد بن علي ومجاهد في رواية بكسر
7

ذال ذرية. وقرأ مجاهد أيضا بفتحها. وعن زيد بن ثابت ذرية بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعليه كمطيه. والظاهر أن الضمير في أنه عائد على نوح. قال سلمان الفارسي: كان يحمد الله على طعامه. وقال إبراهيم شكره إذا أكل قال: بسم الله، فإذا فرغ قال: الحمد لله. وقال قتادة: كان إذا لبس ثوبا قال: بسم الله، وإذا نزعه قال: الحمد لله. وقيل: الضمير في أنه عائد إلى موسى انتهى. ونبه على الشكر لأنه يستلزم التوحيد إذ النعم التي يجب الشكر عليها هي من عنده تعالى، فكأنه قيل كونوا موحدين شاكرين لنعم الله مقتدين بنوح الذي أنتم ذرية من حمل معه.
* (وقضينا إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدن فى الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الاخرة * ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) *.
* (قضى) * يتعدى بنفسه إلى مفعول كقوله: * (فلما قضى موسى الاجل) * ولما ضمن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدى بإلى أي وأوحينا أو أنفذنا إلى بني إسرائيل في القضاء المحتوم المبتوت. وعن ابن عباس معناه أعلمناهم، وعنه أيضا قضينا عليهم، وعنه أيضا كتبنا. واللام في * (لتفسدن) * جواب قسم، فإما أن يقدر محذوفا ويكون متعلق القضاء محذوفا تقديره وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم في الأرض وعلوهم، ثم أقسم على وقوع ذلك وأنه كائن لا محالة، فحذف متعلق قضينا وأبقى منصوب القسم المحذوف. ويجوز أن يكون قضينا أجري مجرى القسم ولتفسدن جوابه، كقولهم قضاء الله لأقومن. وقرأ أبو العالية وابن جبير في الكتب على الجمع والجمهور على الإفراد فاحتمل أن يريد به الجنس، والظاهر أن يراد التوراة. وقرأ ابن عباس ونصر بن علي وجابر بن زيد لتفسدن بضم التاء وفتح السين مبنيا للمفعول أي يفسدكم غيركم. فقيل من الإضلال. وقيل من الغلبة. وقرأ عيسى لتفسدن أي فسدتم بأنفسكم بارتكاب المعاصي مرتين أولاهما قتل زكرياء عليه السلام قاله السدي عن أشياخه، وقاله ابن مسعود وابن عباس، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا ولا يسمعون من زكريا. فقال الله له: قم في
قومك أوح على لسانك، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها حتى قطعوه في وسطها. وقيل: سبب قتل زكريا أنهم اتهموه بمريم قيل قالوا حين حملت مريم: ضيع بنت سيدنا حتى زنت، فقطعوه بالمنشار في الشجرة. وقيل شعياء قاله ابن إسحاق وإن كان زكرياء مات موتا ولم يقتل وإن الذي دخل الشجرة وقطع نصفين بالمنشار في وسطها هو شعياء، وكان قبل زكرياء وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله والآخرة قبل يحيى بن زكرياء وقصد قتل عيسى ابن مريم أعلم الله بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وكفر لنعم الله تعالى في الرسل وفي الكتب وغير ذلك، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ثم يرحمهم بعد ذلك ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور فتقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحا ودل الوجود بعد ذلك على هذا الأمر كله، قيل وكان بين آخر الأولى والثانية مائة سنة وعشر سنين ملكا مؤيدا ثابتا. وقيل سبعون سنة. وقال الكلبي لتعصن في الأرض المقدسة ولتعلن أي تطغون وتعظمون.
وقرأ زيد بن علي عليا كبيرا في الموضعين بكسر اللام والياء المشددة. وقراءة الجمهور * (علوا) * والصحيح في فعول المصدر أكثر كقوله: * (وعتوا عتوا كبيرا) * بخلاف الجمع، فإن الإعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو نهو ونهو خلافا فاللفراء إذ جعل
8

ذلك قياسا * (فإذا جآء وعد أولاهما) * أي موعد أولاهما لأن الوعد قد سبق ذلك والموعود هو العقاب. وقال الزمخشري: معناه وعد عقاب أولاهما. وقيل: الوعد بمعنى الوعيد. وقيل: بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت، والضمير في أولاهما عائد على المرتين.
وقرأ الجمهور * (عبادا) * وقرأ الحسن وزيد بن علي عبيدا. قال ابن غزاهم وقتادة جالوت من أهل الجزيرة. وقال ابن جبير وابن إسحاق غزاهم سنجاريب وجنوده ملك بابل. وقيل بختنصر، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس وهو حامل يسير في مطبخ الملك، فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم يعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش وبعثه وخرب بيت المقدس وقتلهم أجلاهم ثم انصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك. وقيل هم العمالقة وكان كفارا. وقيل كان المبعوثون قوما مؤمنين بعثهم الله وأمرهم بغزو بني إسرائيل والبعث هنا الإرسال والتسليط. وقال الزمخشري: معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوه ولم نمنعهم على أن الله عز وعلا أسند بعث الكفرة إلى نفسه فهو كقوله: * (وكذالك نولى بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) * وكقول الداعي: وخالف بين كلمتهم وأسند الجوس وهو التردد خلال الديار بالفساد إليهم، فتخريب المسجدة وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم انتهى. وفي قوله خلينا بينهم وبين ما فعلوا دسيسة الاعتزال.
وقال ابن عطية: * (بعثنا) * يحتمل أن يكون الله أرسل إلى ملك تلك الأمة رسولا بأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر، ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقى في نفس الملك أي غزاهم انتهى. * (أولى بأس شديد) * أي قتال وحرب شديد لقوتهم ونجدتهم وكثرة عددهم وعددهم. وقرأ الجمهور * (فجاسوا) * بالجيم. وقرأ أبو السمال وطلحة فحاسوا بالحاء المهملة. وقرئ فتجوسوا على وزن تكسروا بالجيم. وقرأ الحسن * (خلال الديار) * واحدا ويجمع على خلل كجبل وجبال، ويجوز أن يكون خلال مفردا كالخلل وهو وسط الديار وما بينها، والجمهور على أنه في هذه البعثة الأولى خرب بيت المقدس ووقع القتل فيهم والجلاء والأسر. وعن ابن عباس ومجاهد: أنه حين غزوا جاس الغازون خلال الديار ولم يكن قتل ولا قتال في بني إسرائيل، وانصرفت عنهم الجيوش. والضمير في * (وكان) * عائدا على وعد أولاهما. قال الزمخشري: وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل انتهى. وقيل يعود على الجيوش * (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) * هذا إخبار من الله لبني إسرائيل في التوراة، وجعل * (رددنا) * موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي، والكرة الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليهم حتى تابوا ورجعوا عن الفساد ملكوا بيت المقدس قبل الكرة قبل بختنصر واستبقاء بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم، وذكر في سبب ذلك أن ملكا غزا أهل بابل وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وأبقى بقيته عندهم ببابل في الدل، فلما غزاهم ذلك الملك وغلب على بابل تزوج امرأة من بني إسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا. وقيل: الكرة تقوية طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود على قتل جالوت. وقال قتادة: كانوا أكثر شرا في زمان داود عليه السلام. وانتصب * (نفيرا) * على التمييز. فقيل: النفير والنافر واحد وأصله من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته قاله أبو مسلم. وقال الزجاج: يجوز أن يكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد، وهم المجتمعون للمصير إلى الأعداء. وقيل: النفير مصدر أي أكثر خروجا إلى الغزو كما في قول الشاعر:
* فأكرم بقحطان من والد
*
وحمير أكرم بقوم نفيرا
*
9

ويروى بالحميريين أكرم نفيرا، والمفضل عليه محذوف قدره الزمخشري وأكثر نفيرا مما كنتم وقدره غيره، وأكثر نفيرا من الأعداء.
* (إن أحسنتم) * أي أطعتم الله كان ثواب الطاعة لأنفسكم، * (وإن أسأتم) * بمعصيته كان عقاب الإساءة لأنفسكم لا يتعدى الإحسان والإساءة إلى غيركم، وجواب وإن أسأتم قوله: * (فلها) * على حذف مبتدأ محذوف ولها خبره تقديره فالإساءة لها. قال الكرماني: جاء فلها باللام ازدواجا انتهى. يعني أنه قابل قوله لأنفسكم بقوله
فلها. وقال الطبري: اللام بمعنى إلى أي فإليها ترجع الإساءة. وقيل اللام بمعنى على أي فعليها كما في قوله:
فخر صريعا لليدين وللقم
* (فإذا جاء وعد الاخرة) * أي المرة الآخرة في إفسادكم وعلوكم، وجواب إذا محذوف يدل عليه جواب إذا الأولى تقديره بعثناهم عليكم وإفسادهم في ذلك بقتل يحيى بن زيد زكريا عليهما السلام. وسبب قتله فيما روي عن ابن عباس وغيره: أن ملكا أراد أن يتزوج من لا يجوز له نكاحها، فنهاه يحيى بن زكريا وكان لتلك المرأة حاجة كل يوم عند الملك تقضيها، فألقت أمها إليها أن تسأله عن ذبح يحيى بن زكريا بسبب ما كان منعه من تزويج ابنتها فسألته ذلك، فدافعها فألحت عليه فدعا بطست فذبحه فندرت قطرة على الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بختنصر وألقي في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن، فقتل عليه منهم سبعين ألفا. وقال السهيلي: لا يصح أن يكون المبعوث في المرة الآخرة بختنصر لأن قتل بحيى بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بزمن طويل. وقيل: المبعوث عليهم الإسكندر وبين الإسكندر وعيسى نحو ثلاثمائة سنة، ولكنه إن أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعياء فكان بختنصر إذ ذاك حيا فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس وأتبعهم إلى مصر وأخرجهم منها. وروي عن عبد الله بن الزبير أن الذي غزاهم آخرا ملك اسمه خردوس وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد له فسكن الدم. وقيل قتله ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له لا حب. وقال الربيع بن أنس: كان يحيى قد أعطي حسنا وجمالا فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبى، فقالت لابنتها: سلي أباك رأس يحيى فأعطاها ما سألت.
وقرأ الجمهور * (* ليسوؤا) * بلام كي وياء الغيبة وضمير الجمع الغائب العائد على المبعوثين. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر ليسوء بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد والفاعل المضمر عائد على الله تعالى أو على الوعد أو على البعث الدال عليه جملة الجزاء المحذوفة. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي والكسائي لنسوء بالنون التي للعظمة وفيها ضمير يعود على الله. وقرأ أبي لنسوءن بلام الأمر والنون التي للعظمة ونون التوكيد الخفيفة آخرا. وعن علي أيضا لنسوءن وليسوءن بالنون والياء ونون التوكيد الشديدة وهي لام القسم، ودخلت لام الأمر في قراءة أبي على المتكلم كقوله: * (سبيلنا ولنحمل خطاياكم) * وجواب إذا هو الجملة الأمرية على تقدير الفاء. وفي مصحف أبي ليسيء بياء مضمومة بغير واو. وفي مصحف أنس ليسوء وجهكم على الإفراد، والظاهر أنه أريد بالوجوه الحقيقة لأن آثار الأعراض النفسانية في القلب تظهر على الوجه، ففي الفرح يظهر الإسفار والإشراق، وفي الحزن يظهر الكلوح والغبرة، ويحتمل أن يعبر عن الجملة بالوجه فإنهم ساؤهم بالقتل والنهب والسبي فحصلت الإساءة للذوات كلها أو عن ساداتهم وكبرائهم بالوجوه، ومنه قولهم في الخطاب يا وجه العرب.
واللام في * (وليدخلوا) * لام كي معطوفا على ما قبلها من لام كي، ومن قرأ بلام الأمر أو بلام القسم جاز أن يكون وليدخلوا وما بعدها أمرا، وجاز أن تكون لام كي أي وبعثناهم ليدخلوا. * (والمسجد) * مسجد بيت المقدس ومعنى كما دخلوه أول مرة أي بالسيف والقهر والغلبة والإذلال،
10

وهذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتل ولا قتال ولا نهب، وتقدم الكلام في أول مرة في سورة التوبة. * (وليتبروا) * بهلكوا. وقال قطرب: يهدموا. قال الشاعر:
* فما الناس إلا عاملان فعامل
*
يتبر ما يبني وآخر رافع
*
والظاهر أن * (ما) * مفعولة بيتبروا أي يهلكوا ما غلبوا عليه من الأقطار، ويحتمل أن تكون ما ظرفية أي مدة استيلائهم عسى ربكم أن يرحمكم بعد المرة الثانية إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي، وهذه الترجئة ليست لرجوع دولة وإنما هي من باب ترحم المطيع منهم، وكان من الطاعة أن يتبعوا عيسى ومحمدا عليهما السلام فلم يفعلوا. * (وإن عدتم) * إلى المعصية مرة ثالثة عدنا إلى العقوبة وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم. وعن الحسن عادوا فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم) فهم يطعون الجزية عن يد وهم صاغرون. وعن قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحي من العرب فهم منه في عذاب إلى يوم القيامة انتهى. ومعنى * (عدنا) * أي في الدنيا إلى العقوبة. وقال تعالى: * (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) * ثم ذكر ما أعد لهم في الآخرة وهو جعل جهنم لهم * (حصيرا) * والحصير السجن. قال لبيد:
* ومقامه غلب الرجال كأنهم
*
جن لدى باب الحصير قيام
*
وقال الحسن: يعني فراشا، وعنه أيضا هو مأخوذ من الحصر والذي يظهر أنها حاصرة لهم محيطة بهم من جميع جهاتهم، فحصير معناه ذات حصر إذ لو كان للمبالغة لزمته التاء لجريانه على مؤنث كما تقول: رحيمة وعليمة، ولكنه على معنى النسب كقوله السماء منفطر به أي ذات انفطار.
* (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا * وأن الذين لا يؤمنون بالاخرة أعتدنا لهم عذابا أليما * ويدع الإنسان
بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا * وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية اليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب) *.
لما ذكر تعالى من اختصه بالإسراء وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ومن آتاه التوراة وهو موسى عليه السلام وأنها هدى لبني إسرائيل، وذكر ما قضى عليهم فيها من التسليط عليهم بذنوبهم، كان ذلك رادعا من عقل عن معاصي الله فذكر ما شرف الله به رسوله من القرآن الناسخ لحكم التوراة وكل كتاب إلهي، وأنه يهدي للطريقة أو الحالة التي هي أقوم. وقال الضحاك والكلبي والفراء * (التى هى * أقوم) * هي شهادة التوحيد. وقال مقاتل: للأوامر والنواهي و * (أقوم) * هنا أفعل التفضيل على قول الزجاج إذ قدر أقوم الحالات وقدره غيره أقوم مما عداها أو من كل حال، والذي يظهر من حيث المعنى أن * (أقوم) * هنا لا يراد بها التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يرشد إليها القرآن وطريقة غيرها، وفضلت هذه
11

عليها وإنما المعنى التي هي قيمة أي مستقيمة كما قال: * (وذلك دين القيمة) * * (وفيها * كتب قيمة) * أي مستقيمة الطريقة، قائمة بما يحتاج إليه من أمر الدين. وقال الزمخشري: * (التى هى * أقوم) * للحالة التي هي أقوم الحالات وأشدها أو للملة أو للطريقة، وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في إبهام الموصوف لحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه انتهى.
* (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات) * قيد في الإيمان الكامل إذ العمل هو كمال الإيمان، نبه على الحالة الكاملة ليتحلى بها المؤمن، والمؤمن المفرط في علمه له بإيمانه حظ في عمل الصالحات والأجر الكبير الجنة. وقال الزمخشري: فإن قلت كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت: كان الناس حينئذ إما مؤمن تقي، وإما مشرك، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك انتهى. وهذا مكابرة بل وقع في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم) من بعض المؤمنين هنات وسقطات بعضها مذكور في القرآن، وبعضها مذكور في الحديث الصحيح الثابت.
* (وأن الذين لا يؤمنون بالاخرة) * عطف على قوله: * (أن لهم أجرا كبيرا) * بشروا بفوزهم بالجنة وبكينونة العذاب الأليم لأعدائهم الكفار، إذ في علم المؤمنين بذلك وتبشيرهم به مسرة لهم، فهما بشارتان وفيه وعيد للكفارة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد ويخبر بأن الذين لا يؤمنون انتهى. فلا بكون إذ ذاك داخلا تحت البشارة. وفي قوله: * (وأن الذين لا يؤمنون بالاخرة) * دليل على أن من آمن بالآخرة لا يعد له عذاب أليم، وأنه ليس عمل الصالحات شرطا في نجاته من العذاب.
وقرأ الجمهور * (ويبشر) * مشددا مضارع بشر المشدد. وقرأ عبد الله وطلحة وابن وثاب والأخوان * (ويبشر) * مضارع بشر المخفف ومعنى * (أعتدنا) * أعددنا وهيأنا، وهذه الآية جاءت عقب ذكر أحوال اليهود، واندرجوا فيمن لا يؤمن بالآخرة لأن أكثرهم لا يقول بالثواب والعقاب الجسماني وبعضهم قال: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * فلم يؤمنوا بالآخرة حقيقة الإيمان بها.
* (ويدع الإنسان) * قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في أوقات الغضب والضجر، ومناسبتها لما قبلها أن بعض من لا يؤمن بالآخرة كان يدعو على نفسه بتعجيل ما وعد به من الشر في الآخرة، كقول النضر: * (فأمطر علينا حجارة) * الآية. وكتب * (ويدع) * بغير واو على حسب السمع والإنسان هنا ليس واحدا معينا، والمعنى أن في طباع الإنسان أنه إذا ضجر وغضب دعا على نفسه وأهله وماله بالشر أن يصيبه كما يدعو بالخير أن يصيبه، ثم ذكر تعالى أن ذلك من عدم تثبته وقلة صبره. وعن سلمان الفارسي وابن عباس: أشار به إلى آدم لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر، فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقه أعجبته نفسه فذهب يمشي مستعجلا فلم يقدر، أو المعنى ذو عجلة موروثة من أبيكم انتهى. وهذا القول تنبو عنه ألفاظ الآية. وقالت فرقة: هذه الآية ذم لقريش الذين قالوا: * (اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك) * الآية. وكان الأولى أن يقولوا: فاهدنا إليه وارحمنا. وقالت فرقة: هي معاتبة للناس على أنهم إذا نالهم شر وضر دعوا وألحوا في الدعاء واستعجلوا الفرج، مثل الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير انتهى. والباء في * (بالشر) * و * (بالخير) * على هذا بمعنى في، والمدعو به ليس الشر ولا الخير، ويراد على هذا أن تكون حالتاه في الشر والخير متساويتين في الدعاء والتضرع لله والرغبة والذكر، ويبنو عن هذا المعنى قوله: * (دعاءه) * إذ هو مصدر تشبيهي يقتضي وجوده، وفي هذا القول شبه * (دعاءه) * في حالة الشر بدعاء مقصود كان ينبغي أن يوجد في حالة الخير.
وقيل: المعنى * (ويدع الإنسان) * في طلب المحرم كما يدعو في طلب المباح * (وجعلنا اليل والنهار ءايتين) * لما ذكر تعالى القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة ذكر ما أنعم به مما لم يكمل الانتفاع إلا به، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوي، وأيضا لما ذكر عجلة الإنسان وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك
12

في الانتقال لا يثبت على حال، فنور عقب ظلمة وبالعكس، وازدياد نور وانتقاض. والظاهر أن * (وسخر لكم) * مفعول أول لجعل بمعنى صير، و * (ءايتين) * ثاني المفعولين ويكونان في أنفسهما آيتين لأنهما علامتان للنظر والعبرة، وتكون الإضافة في * (وجعلنا اليل * وءاية * النهار) * للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود، أي * (فمحونا) * الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النار مبصرة. وقيل: هو على حذف مضاف فقدره بعضهم وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، وقدره بعضهم و: جعلنا ذوي الليل والنهار أي صاحبي الليل والنهار، وعلى كلا التقديرين يراد به الشمس والقمر، ويظهر أن * (ءايتين) * هو المفعول الأول، و * (وسخر لكم) * ظرفان في موضع المفعول الثاني، أي وجعلنا في الليل والنهار آيتين. وقال الكرماني: ليس جعل هنا بمعنى صير لأن ذلك يقتضي حالة تقدمت نقل الشيء عنها إلى حالة أخرى، ولا بمعنى سمى وحكم، والآية فيها إقبال كل واحد منهما وإدباره من حيث لا يعلم، ونقصان أحدهما بزيادة الآخر، وضوء النهار وظلمة
الليل * (فمحونا ءاية اليل) * إذا قلنا أن الليل والنهار هما المجعولان آيتين فمحو آية الليل عبارة عن السواد الذي فيه، بل خلق أسود أول حاله ولا تقضي الفاء تعقيبا وهذا كما يقول بنيت داري فبدأت بالأس. وإذا قلنا أن الآيتين هما الشمس والقمر، فقيل: محو القمر كونه لم يجعل له نورا. وقيل: محوه طلوعه صغيرا ثم ينمو ثم ينقص حتى يستر. وقيل: محوه نقصه عما كان خلق عليه من الإضاءة، وأنه جعل نور الشمس سبعين جزأ ونور القمر كذلك، فمحا من نور القمر حتى صار على جزء واحد، وجعل ما محى منه زائدا في نور الشمس، وهذا مروي عن علي وابن عباس.
وقال ابن عيسى: جعلناها لا تبصر المرئيات فيها كما لا يبصر ما محي من الكتاب. قال: وهذا من البلاغة الحسنة جدا. وقال الزمخشري: * (فمحونا ءاية اليل) * أي جعلنا الليل ممحوا لضوء مطموسه، مظلما لا يستبان منه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو، وجعلنا النهار مبصرا أي يبصر فيه الأشياء وتستبان، أو * (فمحونا ءاية اليل) * التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء انتهى. ونسب الإبصار إلى * (النهار مبصرة) * على سبيل المجاز كما تقول: ليل قائم ونائم، أي يقام فيه وينام فيه. فالمعنى يبصر فيها.
وقيل: معنى * (مبصرة) * مضيئة. وقيل: هو من باب أفعل، والمراد به غير من أسند أفعل إليه كقوله: أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء، وأضعف إذا كان دوابه ضعافا فأبصرت الآية إذا كان أصحابها بصراء. وقرأ قتادة وعلي ابن الحسين * (مبصرة) * بفتح الميم، والصاد وهو مصدر أقيم مقام الاسم، وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كقولهم: أرض مسبعة ومكان مضبة، وعلل المحو والإبصار بابتغاء الفضل وعلم عدد السنين والحساب، وولى التعليل بالأبتغاء ما وليه من آية النهار وتأخر التعليل بالعلم عن آية الليل. وجاء في قوله: * (ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) * البداءة بتعليل المتقدم ثم تعليل المتأخر بالعلة المتأخرة، وهما طريقان تقدم الكلام عليهما.
ومعنى * (لتبتغوا) * لتتوصلوا إلى استبانة أعمالكم وتصرفكم في معايشكم * (والحساب) * للشهور والأيام والساعات، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة آية الليل لا من جهة آية النهار * (وكل شىء) * مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم * (فصلناه) * بيناه تبيينا غير ملتبس، والظاهر أن نصب * (وكل شىء) * على الاشتغال، وكان ذلك أرجح من الرفع لسبق الجملة الفعلية في قوله: * (وجعلنا اليل والنهار) * وأبعد من ذهب إلى أن * (وكل شىء) * معطوف على قوله: * (والحساب) * والطائر.
قال ابن عباس: ما قدر له وعليه، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف إذ كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلاة، وسمي ذلك كله تطيرا. وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقي الإنسان من خير وشر، فأخبرهم الله تعالى في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر فقد سبق به القضاء وألزم حظه وعمله ومكسبه في عنقه، فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان بالطائر قاله مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير، وقولهم في الأمور على الطائر الميمون وبأسعد طائر، ومنه ما طار في المحاصة والسهم، ومنه
13

فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي كان ذلك حظنا.
وعن ابن عباس: * (* طائرة) * عمله، وعن السدي كتبه الذي يطير إليه. وعن أبي عبيدة: الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه البخت. وعن الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك، وخص العنق لأنه محل الزينة والشين فإن كان خيرا زانه كما يزين الطوق والحلي، وإن كان شرا شأنه كالغل في الرقبة. وقرأ مجاهد والحسن وأبو جاء طيره. وقرئ: * (طئره فى عنقه) * بسكون النون. وقرأ الجمهور ومنهم أبن جعفر: * (ونخرج) * بنون مضارع أخرج. * (كتابا) * بالنصب. وعن أبي جعفر أيضا ويخرج بالياء مبنيا للمفعول * (كتابا) * أي ويخرج الطائر كتابا. وعنه أيضا كتاب بالرفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله. وقرأ الحسن وابن محيصن ومجاهد: ويخرج بفتح الياء وضم الراء أي طائره كتابا إلا الحسن فقرأ: كتاب على أنه فاعل يخرج. وقرأت فرقة: ويخرج بضم الياء وكسر الراء أي ويخرج الله. وقرأ الجمهور * (يلقاه) * بفتح الياء وسكون اللام. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والحجدري والحسن بخلاف عنه * (يلقاه) * بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف. * (منشورا) * غير مطوي ليمكنه قراءته، و * (يلقاه) * و * (منشورا) * صفتان لكتاب، ويجوز أن يكون * (منشورا) * حالا من مفعول يلقاه * (اقرأ كتابك) * معمول لقول محذوف أي يقال له: * (اقرأ كتابك) *. وقال قتادة: يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. وقال الزمخشري وغيره. و * (* بنفسيك) * فاعل * (قل كفى) * انتهى. وهذا مذهب الجمهور والباء زائدة على سبيل الجواز لا اللزوم، ويدل عليه أنه إذا حذفت ارتفع ذلك الاسم بكفى. قال الشاعر.
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وقال الآخر:
* ويخبرني عن غائب المرء هديه
*
كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا وقيل: فاعل * (كفى) * ضمير يعود على الاكتفاء، أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك. وقيل: * (كفى) * اسم فعل بمعنى اكتف، والفاعل مضمر يعود على المخاطب، وعلى هذين القولين لا تكون الباء زائدة. وإذا فرعنا على قول الجمهور أن * (بنفسك) * هو فاعل * (كفى) * فكان القياس أن تدخل تاء التأنيث لتأنيث الفاعل، فكان يكون التركيب كفت بنفسك كما تلحق مع زيادة من في الفاعل إذا كان مؤنثا، كقوله تعالى: * (ما ءامنت قبلهم من قرية أهلكناها)
* وقوله: * (وما تأتيهم من ءاية) * ولا نحفظه جاء التأنيث في كفى إذا كان الفاعل مؤنثا مجرورا بالباء، والظاهر أن المراد * (بنفسك) * ذاتك أي * (كفى) * بك. وقال مقاتل: يريد بنفسه جوارحه تشهد عليه إذا أنكر. وقال أبو عبيدة أي ما أشد كفاية ما علمت بما علمت. * (واليوم) * منصوب بكفى و * (عليك) * متعلق بحسيبا. ومعنى * (حسيبا) * حاكما عليك بعملك قاله الحسن. قال: يا ابن آدم لقد أنصفك الله وجعلك حسيب نفسك. وقال الكلبي: محاسبا يعني فعيلا بمعنى مفاعل كجليس وخليط. وقيل: حاسبا كضريب القداح أي ضاربها، وصريم بمعنى صارم يعني أنه بناء مبالغة كرحيم وحفيظ، وذكر * (حسيبا) * لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير، لأن الغالب أن هذه الأمور يتولاها الرجل، وكأنه قيل: كفى بنفسك رجلا حسيبا. وقال الأنباري: وإنما قال * (حسيبا) * والنفس مؤنثة لأنه يعني بالنفس الشخص، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس، فشبهت بالسماء والأرض قال
14

تعالى: * (السماء منفطر به) *. وقال الشاعر:
ولا أرض أبقل ابقالها
*
* (من اهتدى) * الآية قالت فرقة: نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة. وقيل: نزلت في الوليد هذا قال: يا أهل مكة اكفروا بمحمد وإثمكم علي، وتقدم تفسير * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * في آخر الأنعام * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا * غيا) * انتفاء التعذيب ببعثة الرسول عليه السلام، والمعنى حتى يبعث رسولا فيكذب ولا يؤمن بما جاء به من عند الله، وانتفاء التعذيب أعم من أن يكون في الدنيا بالهلاك وغيره من العذاب أو في الآخرة بالنار فهو يشملهما، ويدل على الشمول قوله في الهلاك في الدنيا بعد هذه الآية * (وإذا أردنا) * وفي الآخرة * (فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) * وآي كثيرة نص فيها على الهلاك في الدنيا بأنواع من العذاب حين كذبت الرسل. وقوله في عذاب الآخرة كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ وقالوا: بلى قد جاءنا نذير، وكلما تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين. وقوله: * (وإن من أمة إلا * من نذير) * وذهب الجمهور إلى أن هذا في حكم الدنيا، أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار.
قال الزمخشري: فإن قلت الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسول لأن معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم ركونهم لذلك الإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان. قلت: بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم) من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلا يقولوا كنا غافلين، فلو لا بعثت إلينا رسولا ينبهنا علي النظر في أدلة العقل انتهى. وقال مقاتل: المعنى وما كنا مستأصلين في الدنيا لما اقتضته الحكمة الإلهية حتى يبعث رسولا إقامة للحجة عليهم وقطعا للعذر عنهم، كما فعلنا بعاد وثمود والمؤتفكات وغيرها.
* (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا * وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا * من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما * تشاء * لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا * لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا) *.
لما ذكر تعالى أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا بين بعد ذلك علة إهلاكهم وهي مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم) والتمادي على الفساد. وقال الزمخشري: * (وإذا أردنا) * وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إهلاكهم إلا قليل انتهى. فتؤول * (أردنا) * على معنى دنا وقت إهلاكهم وذلك على مذهب الاعتزال. وقرأ الجمهور أمرنا، وفي هذه القراءة قولان:
أحدهما: وهو الظاهر أنه من الأمر الذي هو ضد النهي، واختلف في متعلقة فذهب الأكثرون منهم ابن عباس وابن جبير إلى أن التقدير أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا. وذهب الزمخشري إلى أن التقدير أمرناهم بالفسق ففسقوا ورد على من قال أمرناهم بالطاعة فقال: أي أمرناهم بالفسق ففعلوا، والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون، فبقي أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي
15

واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية، وآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول، وهي كلمة العذاب فدمرهم. فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نفيضه. وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض. يقال: أمرته فقام وأمرته فقرأ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به، فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورا به وكأنه يقول: كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول: فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهي غير قاصد إلى مفعول. فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقسط والخير دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير * (ففسقوا) *؟ قلت: لا يصح ذلك لأن قوله * (ففسقوا) * يدافعه فكأنك أظهرت شيئا وأنت تدعي إضمار خلافه، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه. ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه تقول: لو شاء لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك، تريد لو شاء
الإحسان ولو شاء الإساءة فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت: قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم يكن على سداد انتهى.
أما ما ارتكبه من المجاز وهو أن * (أمرنا مترفيها) * صببنا عليهم النعمة صبا فيبعد جدا. وأما قوله وأقدرهم على الخير والشر إلى آخره فمذهب الاعتزال، وقوله لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز تعليل لا يصح فيما نحن بسبيله، بل ثم ما يدلر على حذفه. وقوله فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه إلى قوله علم الغيب، فنقول: حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه، ومنه ما مثل به في قوله أمرته فقام وأمرته فقرأ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضده أو نقيضه فمن ذلك قوله تعالى: * (وله ما سكن فى اليل والنهار) * قالوا: تقديره ما سكن وما تحرك. وقوله تعالى * (سرابيل تقيكم الحر) * قالوا: الحر والبرد. وقول الشاعر:
* وما أدري إذا يممت أرضا
*
أريد الخير أيهما يليني
*
* أالخير الذي أنا أبتغيه
*
أم الشر الذي هو يبتغيني
*
تقديره: أريد الخير وأجتنب الشر، وتقول: أمرته فلم يحسن فليس المعنى أمرته بعدم الإحسان فلم يحسن، بل المعنى أمرته بالإحسان فلم يحسن، وهذه الآية من هذا القبيل يستدل على حذف النقيض بإثبات نقيضه، ودلالة النقيض على النقيض كدلالة النظير على النظير، وكذلك أمرته فأساء إلي ليس المعنى أمرته بالإساءة فأساء إلي، إنما يفهم منه أمرته بالإحسان فأساء إلي. وقوله ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني. نقول: بل يلزم، وقوله لأن ذلك مناف أي لأن
16

العصيان مناف وهو كلام صحيح. وقوله: فكان المأمور به غير مدلول عليه ولا منوي هذا لا يسلم بل هو مدلول عليه ومنوي لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض كما بينا. وأما قوله: لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورا به هذا أيضا لا يسلم. وقوله في جواب السؤال لأن قوله * (ففسقوا) * يدافعه، فكأنك أظهرت شيئا وأنت تدعي إضمار خلافه. قلنا: نعم يدعي إضمار خلافه ودل على ذلك نقيضه. وقوله: ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف. قلت: ليس نظيره لأن مفعول أمر لم يستفض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه، بل لا يكاد يستعمل مثل شاء محذوفا مفعوله لدلالة ما بعده عليه، وأكثر استعماله مثبت المفعول لانتفاء الدلالة على حذفه. قال تعالى: * (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) * * (أمر * أن لا تعبدوا إلا * إياه) * * (أم تأمرهم أحلامهم بهاذا) * * (قل أمر ربي بالقسط) * * (أنسجد لما تأمرنا) * أي به ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة. وقال الشاعر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
وقال أبو عبد الله الرازي: ولقائل أن يقول كما أن قوله أمرته فعصاني يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به، أن كونه معصية ينافي كونها مأموها بها، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق. هذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصر صاحب الكشاف على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكروه، وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك عنادا وأقدموا على الفسق انتهى.
القول الثاني: أن معنى * (أمرنا) * كثرنا أي كثرنا * (مترفيها) * يقال: أمر الله القوم أي كثرهم حكاه أبو حاتم عن أبي زيد. وقال الواحدي: العرب تقول: أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم انتهى. وقال أبو علي الفارسي: الجيد في أمرنا أن يكون بمعنى كثرنا، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما جاء في الحديث: (خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة) أي كثيرة النسل، يقال: أمر الله المهرة أي كثر ولدها، ومن أنكر أمر الله القوم بمعنى كثرهم لم يلتفت إليه لثبوت ذلك لغة ويكون من باب ما لزم وعدي بالحركة المختلفة، إذ يقال: أمر القوم كثروا وأمرهم الله كثرهم، وهو من باب المطاوعة أمرهم الله فأمروا كقولك شتر الله عينه فشترت، وجدع أنفه وثلم سنه فثلمت.
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة. * (أمرنا) * بكسر الميم، وحكاها النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس، ورد الفراء هذه القراءة لا يلتفت إليه إذ نقل أنها لغة كفتح الميم ومعناها كثرنا. حكى أبو حاتم عن أبي زيد يقال: أمر الله ماله وأمره أي كثره بكسر الميم وفتحها. وقرأ علي ابن أبي طالب، وابن أبي إسحاق، وأبو رجاء، وعيسى بن عمر، وسلام، وعبد الله بن أبي يزيد، والكلبي: آمرنا بالمد وجاء كذلك عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبي العالية، وابن هرمر، وعاصم، وابن كثير، وأبي عمرو، ونافع، وهو اختيار يعقوب ومعناه كثرنا. يقال أمر الله القوم وآمرهم فتعدى بالهمزة. وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدي وزيد بن علي وأبو العالية: * (أمرنا) * بتشديد الميم وروي ذلك عن علي والحسن والباقر وعاصم وأبي عمر وعدي أمر بالتضعيف، والمعنى أيضا كثرنا وقد يكون * (أمرنا) * بالتشديد بمعنى وليناهم وصيرناهم أمراء، واللازم من ذلك أمر فلان إذا صار أميرا أي ولي الأمر. وقال أبو علي الفارسي: لا وجه لكون * (أمرنا) * من
الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلا لواحد بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم، وما قاله أبو علي لا يلزم لأنا لا نسلم أن الأمير هو الملك بل كونه ممن يأمر ويؤتمر به، والعرب تسمي أميرا من يؤتمر به وإن لم يكن ملكا. ولئن سلمنا أنه أريد به
17

الملك فلا يلزم ما قاله لأن القرية إذا ملك عليها مترف ثم فسق ثم آخر ففسق ثم كذلك كثر الفساد وتوالي الكفر ونزل بهم على الآخر من ملوكهم، ورأيت في النوم أني قرأت وقرئ بحضرتي * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها) * الآية بتشديد الميم. فأقول في النوم: ما أفصح هذه القراءة، والقول الذي حق عليهم هو وعيد الله الذي قاله رسولهم. وقيل: * (القول) * لأملأن وهؤلاء في النار ولا أبالي.
والتدمير الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء. * (وكم) * في موضع نصب على المفعول بأهلكنا أي كثيرا من القرون * (أهلكنا * ومن * القرون) * بيان لكم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس، والقرون عاد وثمود وغيرهم ويعني بالإهلاك هنا الإهلاك بالعذاب، وفي ذلك تهديد ووعيد لمشركي مكة وقال: * (من بعد نوح) * ولم يقل من بعد آدم لأن نوحا أول نبي بالغ قومه في تكذيبه، وقومه أول من حلت بهم العقوبة بالعظمى وهي الاستئصال بالطوفان. وتقدم القول في عمر القرن و * (من) * الأولى للتبيين والثانية لابتداء الغاية وتعلقا بأهلكنا لاختلاف معنييهما. وقال الحوفي: * (من بعد نوح) * من الثانية بدل من الأولى انتهى. وهذا ليس بجيد. وقال ابن عطية: هذه الباء يعني في * (وكفى بربك) * إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم انتهى. و * (بذنوب عباده) * تنبيه على أن الذنوب هي أسباب الهلكة، و * (خبيرا بصيرا) * لتنبيه على أنه عالم بها فيعاقب عليها ويتعلق بذنوب بخبيرا أو ببصيرا. وقال الحوفي: تتعلق بكفى انتهى. وهذا وهم و * (العاجلة) * هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة، ولا بد من تقدير حذف دل عليه المقابل في قوله: * (من أراد * الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن) * فالتقدير: من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر. وقيل: المراد * (من كان يريد العاجلة) * بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة والذكر كما قال عليه السلام: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). وقال عليه الصلاة والسلام: (من طلب الدنيا بعمل الآخرة فماله في الآخرة من نصيب).
وقيل: نزلت في المنافقين وكانوا يغزون مع المسلمين للغنيمة لا للثواب، و * (من) * شرط وجوابه * (عجلنا له فيها ما * تشاء) * فقيد المعجل بمشيئته أي ما يشاء تعجيله. و * (لمن نريد) * بدل من قوله: * (له) * بدل بعض من كل لأن الضمير في * (له) * عائد على من الشرطية، وهي في معنى الجمع، ولكن جاءت الضمائر هنا على اللفظ لا على المعنى، فقيد المعجل بإرادته فليس من يريد العاجلة يحصل له ما يريده، ألا ترى أن كثيرا من الناس يختارون الدنيا ولا يحصل لهم منها إلا ما قسمه الله لهم، وكثيرا منهم يتمنون النزر اليسير فلا يحصل لهم، ويجمع لهم شقاوة الدنيا وشقاوة الآخرة. وقرأ الجمهور * (ما نشاء) * بالنون وروي عن نافع ما يشاء بالياء. فقيل الضمير في يشاء يعود على الله، وهو من باب الالتفات فقراءة النون والياء سواء. وقيل يجوز أن يعود على من العائد عليها الضمير في * (له) * وليس ذلك عاما بل لا يكون له ما يشاء إلا آحاد أراد الله لهم ذلك، والظاهر أن الضمير في * (لمن نريد) * يقدر مع تقديره مضاف محذوف يدل عليه ما قبله، أي لمن نريد تعجيله له أي تعجيل ما نشاء. وقال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته وما قاله لا يدل عليه لفظ في الآية.
و * (* جلعنا) * بمعنى صيرنا، والمفعول الأول * (لخزنة جهنم) * والثاني له لأنه ينعقد منهما مبتدأ وخبر، فنقول: جهنم للكافرين كما قال هؤلاء للنار وهؤلاء للجنة و * (يصلاها) * حال من جهنم. وقال أبو البقاء: أو من الضمير الذي في * (له) *. وقال صاحب الغنيان: مفعول * (جعلنا) * الثاني محذوف تقديره مصيرا أو جزاء انتهى. * (مذموما) * إشارة إلى الإهانة. * (مدحورا) * إشارة إلى البعد والطرد من رحمة الله * (ومن أراد الاخرة) * أي ثواب الآخرة بأن يؤثرها على الدنيا، ويعقد إرادته بها * (وسعى) * فيما كلف من الأعمال والأقوال * (سعيها) * أي السعي المعد للنجاة فيها. * (وهو مؤمن) * هو الشرط الأعظم في النجاة فلا تنفع إرادة ولا سعي إلا بحصوله. وفي الحقيقة هو الناشئ عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب، وعن
18

بعض المتقدمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب، وتلا هذه الآية * (فأولئك) * إشارة إلى من اتصف بهذه الأوصاف وراعى معنى من فلذلك كان بلفظ الجمع، والله تعالى يشكرهم على طاعتهم وهو تعالى المشكور على ما أعطى من العقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل، وهو المستحق للشكر حقيقة ومعنى شكرة تعالى المطيع الإثناء عليه وثوابه على طاعته. وانتصب * (كلا) * بنمد والإمداد المواصلة بالشي، والمعنى كل واحد من الفريقين * (نمد) * كذا قدره الزمخشري: وأعربوا * (هؤلاء) * بدلا من * (كلا) * ولا يصح أن يكون بدلا من كل على تقدير كل واحد لأنه يكون إذ ذاك بدل كل من بعض، فينبغي أن يكون التقدير كل الفريقين فيكون بدل كل من كل على جهة التفصيل. والظاهر أن هذا الإمداد هو في الرزق في الدنيا وهو تأويل الحسن وقتادة، أي أن الله يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين، ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق، وإنما يقع التفاوت في الآخرة ويدل على هذا التأويل * (وما كان عطاء ربك محظورا) * أي إن رزقه لا يضيق عن مؤمن ولا كافر.
وعن ابن عباس أن معنى * (من عطاء ربك) * من الطاعات لمريد الآخرة والمعاصي لمريد العاجلة، فيكون العطاء عبارة عما قسم الله للعبد من خير أو شر، وينبوا لفظ العطاء على الإمداد بالمعاصي. والظاهر أن * (أنظر) * بصريه لأن التفاوت في الدنيا مشاهد * (وكيف) * في موضع نصب بعد حذف حرف الجر، لأن نظر يتعدى به، فانظر هنا معلقة. ولما كان النظر مفضيا وسببا إلى العلم جاز أن يعلق، ويجوز أن يكون * (أنظر) * من نظر الفكر فلا كلام في تعليقه إذ هو فعل قلبي. والتفضيل هنا عبارة عن الطاعات المؤدية إلى الجنة، والمفضل عليهم الكفار كأنه قيل: انظر في تفضيل فريق على فريق، وعلى التأويل الأول كأنه قيل في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين والكافرين، والمفضول في قوله: * (أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * محذوف تقديره من درجات الدنيا ومن تفضيل الدنيا.
وروي أن قوما من الأشراف ومن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه، فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمر: وإنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا، يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر. وقرئ أكثر بالثاء المثلثة. وقال ابن عطية: وقوله: * (أكبر درجات) * ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى، ولا بد * (أكبر درجات) * من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض، ورأى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين. وأسند الطبري في ذلك حديثا (أن أنزل أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله الجميع فما يغبط أحد أحدا). والخطاب في * (لا تجعل) * للسامع غير الرسول. وقال الطبري وغيره: الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم)، والمراد لجميع الخلق. * (فتقعد) * قال الزمخشري: من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، بمعنى صارت. يعني فتصير جامعا على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من الذل والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكا له انتهى. وما ذهب إليه من استعمال * (فتقعد) * بمعنى فتصير لا يجوز عند أصحابنا، وقعد عندهم بمعنى صار مقصورة على المثل، وذهب الفراء إلى أنه يطرد جعل قعد بمعنى صار، وجعل من ذلك قول الراجز:
* لا يقنع الجارية الخضاب
*
ولا الوشاحان ولا الجلباب
*
19

* من دون أن تلتقي الأركاب
*
ويقعد الأير له لعاب
*
وحكى الكسائي: قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها بمعنى صار، فالزمخشري أخذ في الآية بقول الفراء، والقعود هنا عبارة عن المكث أي فيمكث في الناس * (مذموما مخذولا) * كما تقول لمن سأل عن حال شخص هو قاعد في أسوأ حال، ومعناه ماكث ومقيم، وسواء كان قائما أم جالسا، وقد يراد القعود حقيقة لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا متفكرا، وعبر بغالب حاله وهي القعود. وقيل: معنى * (فتقعد) * فتعجز، والعرب تقول: ما أقعدك عن المكارم والذم هنا لا حق من الله تعالى، ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عودا أو حجرا أفضل من نفسه ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه، والخذلان في هذا يكون بإسلام الله ولا يكفل له بنصر، والمخذول الذي لا ينصره من يجب أن ينصره. وانتصب * (مذموما مخذولا) * على الحال، وعند الفراء والزمخشري على أنه خبر لتقعد كلا لمذكرين مثنى معنى اتفاقا مفردا لفظا عند البصريين على وزن فعل كمعي فلامه ألف منقلبة عن واو عند الأكثر، مثنى لفظا عند الكوفيين، وتبعهم السهيلي فألفه للتثنية لا أصل ولامه لام محذوفة عند السهيلي ولا نص عن الكوفيين فيها، ويحتمل أن تكون موضوعة على حرفين على أصل مذهبهم، ولا تنفك عن الإضافة وإن أضيف إلى مظهر فألفه ثابتة مطلقا في مشهور اللغات، وكنانة تجعله كمشهور المثنى أو إلى مضمر، فالمشهور قلب ألفه ياء نصبا وجرا، والذي يضاف إليه مثنى أو ما في معناه. وجاء التفريق في الشعر مضافا فالظاهر وحفظ الكوفيون كلاي وكلاك قاما ويستعمل تابعا توكيدا ومبتدأ ومنصوبا ومجرورا، ويخبر عنه إخبار المفرد فصيحا، وربما وجب، وإخبار المثنى قليلا وربما وجب.
2 (* (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا * ربكم أعلم بما فى نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للا وابين غفورا * وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا * وإما تعرضن عنهم ابتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا * ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا * إن ربك يبسط الرزق لمن يشآء
20

ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا * ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا * ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا * ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل إنه كان منصورا * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا * وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذالك خير وأحسن تأويلا * ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا * ولا تمش فى الا رض مرحا إنك لن تخرق الا رض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذالك كان سيئه عند ربك مكروها * ذالك ممآ أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا * أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما * ولقد صرفنا فى هاذا القرءان ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا * قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا * سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا * تسبح له السماوات السبع والا رض ومن فيهن وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا * وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالا خرة حجابا مستورا * وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك فى القرءان وحده ولوا على أدبارهم نفورا * نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الا مثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * وقالوا أءذا كنا
عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر فى صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا * وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا * ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم ومآ أرسلناك عليهم وكيلا * وربك أعلم بمن فى السماوات والا رض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وءاتينا داوود زبورا * قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولائك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا * وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذالك فى الكتاب مسطورا * وما منعنآ أن نرسل بالا يات إلا أن كذب بها الا ولون وءاتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالا يات إلا تخويفا * وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرءان ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أءسجد لمن خلقت طينا * قال أرءيتك هاذا الذى كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الا موال والا ولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * إن عبادى ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا * ربكم الذى يزجى لكم الفلك فى البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما * وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا * أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا * أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) *))
) *
* (أف) * اسم فعل بمعنى أتضجر ولم يأت اسم فعل بمعنى المضارع إلا قليلا نحو: أف وأوه بمعنى أتوجع، وكان قياسه أن لا يبنى لأنه لم يقع موقع المبني. وذكر الزناتي في كتاب الحلل له: إن في أف لغات تقارب الأربعين ونحن
21

نسردها مضبوطة كما رأيناها وهي: أف أف أف أف أف أف أفا أف أفا أف أف أف أفء أفي بغير إمالة أفي بالإمالة المحضة أفي بالإمالة بين بين أفي أفو أفه أفه أفه فهذا اثنان وعشرون مع الهمزة المضمومة إف أف إف إف إف إفا إف إف إفا إفي بالإمالة إفي فهذه إحدى عشرة مع الهمزة المكسورة أف أف آف آف أفي. وذكر ابن عطية أفاه بهاء السكت وهي تمام الأربعين. النهر الزجر بصياح وإغلاظ. قال العسكري: وأصله الظهور، ومنه النهر والانتهار، وأنهر الدم أظهره وأسأله، وانتهر الرجل أظهر له الإهانة بقبح الزجر والطرد. وقال ابن عطية: الانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ. وقال الزمخشري: النهي والنهر والنهم أخوات. التبذير الإسراف قاله أبو عبيدة يعني في النفقة، وأصله التفريق ومنه سمي البذر بذرا لأنه يفرق في المزرعة. وقال الشاعر:
* ترائب يستضيء الحلي فيها
*
كجمر النار بذر بالظلام
*
ويروى بدد أي فرق. المحسور قال الفراء: تقول العرب بعير محسور إذا انقطع سيره، وحسرت الدابة حتى انقطع سيرها، ويقال حسير فعيل بمعنى مفعول ويجمع على حسرى. قال الشاعر:
* بها جيف الحسرى فأما عظامها
*
فبيض وأما جلدها فصليب
*
القسطاس بضم القاف وكسرها وبالسين الأولى والصاد. قال مؤرج السدوسي: هي الميزان بلغة الروم وتأتي أقوال المفسرين فيه. المرح شدة الفرح، يقال: مرح يمرح مرحا. الطول ضد القصر، ومنه الطول خلاف العرض. الحجاب ما ستر الشيء عن الوصول إليه. الرفات قال الفراء: التراب. وقيل: الذي بولغ في دقه حتى تفتت، ويقال: رفت الشيء كسره يرفته بالكسر والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء مكسر، وفعال بناء لهذا المعنى كالحطام والفتات والرضاض والدقاق.
* (وقضى ربك * أن لا تعبدوا إلا * إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا) *.
قرأ الجمهور * (وقضى) * فعلا ماضيا من القضاء. وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل: وقضاء ربك مصدر * (قضى) * مرفوعا على
22

الابتداء و * (أن لا تعبدوا) * الخبر. وفي مصحف ابن مسعود وأصحابه وابن عباس وابن جبير والنخعي وميمون بن مهران من التوصية. وقرأ بعضهم: وأوصى من الإيصاء، وينبغي أن يحمل ذلك التفسير لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف والمتواتر هو * (وقضى) * وهو المستفيض عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهم في أسانيد القراء السبعة. * (وقضى) * هنا قال ابن عباس والحسن وقتادة بمعنى أمر. وقال ابن مسعود وأصحابه: بمعنى وصى. وقيل: أوجب وألزم وحكم. وقيل: بمعنى أحكم. وقال ابن عطية: وأقول أن المعنى * (وقضى ربك) * أمره * (أن لا تعبدوا إلا * إياه) * وليس في هذه الألفاظ إلا أمر بالاقتصار على عبادة الله،
فذلك هو المقضي لا نفس العبادة، والمقضي هنا هو الأمر انتهى. كأنه رام أن يترك قضى على مشهور موضوعها بمعنى قدر، فجعل متعلقه الأمر بالعبادة لا العبادة لأنه لا يستقيم أن يقضي شيئا بمعنى أن يقدر إلا ويقع، والذي فهم المفسرون غيره أن متعلق قضى هو * (أن لا تعبدوا) * وسواء كانت * (ءان) * تفسيرية أم مصدرية. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ألزم ربك عبادته و * (لا) * زائدة انتهى. وهذا وهم لدخول * (إلا) * على مفعول * (تعبدوا) * فلزم أن يكون منفيا أو منهيا والخطاب بقوله * (لا تعبدوا) * عام للخلق. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون * (قضى) * على مشهورها في الكلام ويكون الضمير في * (تعبدوا) * للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة انتهى.
قال الحوفي: الباء متعلقة بقضى، ويجوز أن تكون متعلقة بفعل محذوف تقديره وأوصى * (وبالوالدين إحسانا) * و * (إحسانا) * مصدر أي تحسنوا إحسانا. وقال ابن عطية: قوله * (وبالوالدين إحسانا) * عطف على أن الأولى أي أمر الله * (أن لا تعبدوا إلا * إياه) * وأن تحسنوا * (وبالوالدين إحسانا) * وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله: * (وبالوالدين إحسانا) * مقطوعا من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله، ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين. وقال الزمخشري: لا يجوز أن تتعلق الباء في * (* بالوالدين) * بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته. وقال الواحدي في البسيط: الباء في قوله * (* بالوالدين) * من صلة الإحسان، وقدمت عليه كما تقول: بزيد فامرر، انتهى. وأحسن وأساء يتعدى بإلى وبالباء قال تعالى: * (حقا وقد أحسن بى) * وقال الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
وكأنه تضمن أحسن معنى لطف، فعدي بالباء و * (إحسانا) * إن كان مصدرا ينحل لأن والفعل فلا يجوز تقديم متعلقه به، وإن كان بمعنى أحسنوا فيكون بدلا من اللفظ بالفعل نحو ضربا زيدا، فيجوز تقديم معموله عليه، والذي نختاره أن تكون * (ءان) * حرف تفسير و * (لا تعبدوا) * نهي و * (إحسانا) * مصدر بمعنى الأمر عطف ما معناه أمر على نهي كما عطف في:
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وقد اعتنى بالأمر بالإحسان إلى الوالدين حيث قرن بقوله: * (لا تعبدوا) * وتقديمهما اعتناء بهما على قوله: * (إحسانا) * ومناسبة اقتران بر الوالدين بإفراد الله بالعبادة من حيث أنه تعالى و الموجد حقيقة، والوالدان وساطة في إنشائه، وهو تعالى المنعم بإيجاده ورزقه، وهما ساعيان في مصالحه. وقال الزمخشري: * (أما) * هي الشرطية زيدت عليها ما توكيدا لها، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، ولو أفردت لم يصح دخولها لا تقول أن تكرمن زيدا يكرمك، ولكن إما تكرمنه
23

انتهى. وهذا الذي ذكره مخالف لمذهب سيبويه لأن مذهبه أنه يجوز أن يجمع بين إما ونون التوكيد، وأن يأتي بأن وحدها ونون التوكيد، وأن يأتي بإما وحدها دون نون التوكيد. وقال سيبويه في هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون كما أنك إن شئت لم تجيء بما يعني مع النون وعدمها، وعندك ظرف معمول ليبلغن، ومعنى العندية هنا أنهما يكونان عنده في بيته وفي كنفه لا كافل لهما غيره لكبرهما وعجزهما، ولكونهما كلا عليه وأحدهما فاعل * (يبلغن) * و * (أو كلاهما) * معطوف على * (أحدهما) *.
وقرأ الجمهور * (يبلغن) * بنون التوكيد الشديدة والفعل مسند إلى * (أحدهما) *. وروي عن ابن ذكوان بالنون الخفيفة. وقرأ الأخوان: إما يبلغان بألف التثنية ونون التوكيد المشددة وهي قراءة السلمي وابن وثاب وطلحة والأعمش والجحدري. فقيل الألف علامة تثنية لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث، وأحدهما فاعل و * (أو كلاهما) * عطف عليه، وهذا لا يجوز لأن شرط الفاعل في الفعل الذي لحقته علامة التثنية أن يكون مسند المثنى أو معرف بالعطف بالواو، ونحو قاما أخواك أو قاما زيد وعمرو على خلاف في هذا الأخير هل يجوز أو لا يجوز، والصحيح جوازه و * (أحدهما) * ليس مثنى ولا هو معرف بالعطف بالواو مع مفرد. وقيل: الألف ضمير الوالدين و * (أحدهما) * بدل من الضمير و * (كلاهما) * عطف على * (أحدهما) * والمعطوف على البدل بدل. وقال الزمخشري. فإن قلت: لو قيل إما يبلغان * (كلاهما) * كان * (كلاهما) * توكيدا لا بدلا، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله. فإن قلت: ما ضرك لو جعلته توكيدا مع كون المعطوف عليه بدلا وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل * (كلاهما) * فحسب فلما قيل * (أحدهما أو كلاهما) * علم أن التوكيد غير مراد فكان بدلا مثل الأول. وقال ابن عطية: وعلى هذه القراءة الثالثة يعني يبلغان يكون قوله * (أحدهما) * بدلا من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر:
* وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
*
وأخرى رمى فيها الزمان فشلت
*
انتهى. ويلزم من قوله أن يكون * (كلاهما) * معطوفا على * (أحدهما) * وهو بدل، والمعطوف على البدل بدل، والبدل مشكل لأنه يلزم منه أن يكون المعطوف عليه بدلا، وإذا جعلت * (أحدهما) * بدلا من الضمير فلا يكون إلا بدل بعض من كل، وإذا عطفت عليه * (كلاهما) * فلا جائز أن يكون بدل بعض من كل، لأن * (كلاهما) * مرادف للضمير من حيث التثنية، فلا يكون بدل بعض من كل، ولا جائز أن يكون بدل كل من كل لأن المستفاد من الضمير التثنية وهو المستفاد من * (كلاهما) * فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه. وأما قول ابن عطية وهو بدل مقسم كقول الشاعر:
وكنت كذي رجلين البيت
فليس من بدل التقسيم لأن شرط ذلك العطف بالواو، وأيضا فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على
24

أحد قسميه، و * (كلاهما) * يصدق عليه الضمير وهو المبدل منه، فليس من المقسم. ونقل عن أبي علي أن * (كلاهما) * توكيد وهذا لا يتم إلا بأن يعرب * (أحدهما) * بدل بعض من كل، ويضمر بعده فعل رافع الضمير، ويكون * (كلاهما) * توكيدا لذلك الضمير، والتقدير أو يبلغا * (كلاهما) * وفيه حذف المؤكد. وقد أجازه سيبويه والخليل قال: مررت بزيد وإياي أخوه أنفسهما بالرفع والنصب، الرفع على تقديرهما صاحباي أنفسهما، والنصف على تقدير أعينهما أنفسهما، إلا أن المنقول عن أبي علي وابن جني والأخفش قبلهما أنه لا يجوز حذف المؤكد وإقامة المؤكد مقامه، والذي نختاره أن يكون * (أحدهما) * بدلا من الضمير و * (كلاهما) * مرفوع بفعل محذوف تقديره أو يبلغ * (كلاهما) * فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات، وصار المعنى أن يبلغ أحد الوالدين أو يبلغ * (كلاهما) * * (عندك الكبر) *. وجواب الشرط * (فلا تقل لهما أف) * وتقدم مدلول لفظ أف في المفردات واللغات التي فيها، وإذا كان قد نهى أن يستقبلهما بهذه اللفظة الدالة على الضجر والتبرم بهما فالنهي عما هو أشد كالشتم والضرب هو بجهة الأولى، وليست دلالة أف على أنواع الإيذاء دلالة لفظية خلافا لمن ذهب إلى ذلك.
وقال ابن عباس: * (أف) * كلمة كراهة بالغ تعالى في الوصية بالوالدين، واستعمال وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال حتى لا نقول لهما عند الضجر هذه الكلمة فضلا عما يزيد عليها. قال القرطبي: قال علماؤنا: وإنما صار قول * (أف) * للوالدين أردأ شيء لأن رفضهما رفض كفر النعمة، وجحد التربية، ورد وصية الله. و * (أف) * كلمة منقولة لكل شيء مرفوض ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: * (أف لكم ولما تعبدون من دون الله) * أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم انتهى. وقرأ الحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى ونافع وحفص * (أف) * بالكسر والتشديد مع التنوين. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر كذلك بغير تنوين. وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتحها مشددة من غير تنوين. وحكى هارون قراءة بالرفع والتنوين. وقرأ أبو السمال * (أف) * بضم الفاء من غير تنوين. وقرأ زيد بن علي أفا بالنصب والتشديد والتنوين. وقرأ ابن عباس * (أف) * خفيفة فهذه سبع قراءات من اللغات التي حكيت في * (أف) *.
وقال مجاهد: إن معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخوخة الغائط والبول اللذين رأيا منك في حال الصغر فلا تقذرهما وتقول * (أف) * انتهى. والآية أعم من ذلك. ولما نهاه تعالى أن يقول لهما ما مدلوله أتضجر منكما ارتقى إلى النهي عما هو من حيث الوضع أشد من * (أف) * وهو نهرهما، وإن كان النهي عن نهرهما يدل عليه النهي عن قول * (أف) * لأنه إذا نهي عن الأدنى كان ذلك نهيا عن الأعلى بجهة الأولى، والمعنى ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك * (وقل لهما) * بدل قول أف ونهرهما * (قولا كريما) * أي جامعا للمحاسن من البر وجودة اللفظ. قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد اللفظ. وقيل: * (قولا كريما) * أي جميلا كما يقتضيه حسن الأدب. وقال عمر: أن تقول يا أبتاه يا أماه انتهى. كما خاطب إبراهيم لأبيه يا أبت مع كفره، ولا تدعوهما بأسمائهما لأنه من الجفاء وسوء الأدب ولا بأس به في غير وجهه كما قالت عائشة نحلني أبو بكر كذا. ولما نهاه تعالى عن القول المؤذي وكان لا يستلزم ذلك الأمر بالقول الطيب أمره تعالى بأن يقول لهما القول الطيب السار الحسن، وأن يكون قوله دالا على التعظيم لهما والتبجيل.
وقال عطاء: تتكلم معهما بشرط أن لا ترفع إليهما بصرك ولا تشد إليهما نظرك لأن ذلك بنا في القول الكريم. وقال الزجاج قولا سهلا سلسا لا شراسة فيه، ثم أمره تعالى بالمبالغة في التواضع معهما بقوله: * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) *. وقال القفال في تقريره وجهان. أحدهما: أن الطائر إذا ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، فخفض الجناح كناية عن حسن التدبير وكأنه قيل للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك. الثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه
25

فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه. وقال ابن عطية: استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر الذل هنا ولم يذكر في قوله: * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) * وذلك بسبب عظم الحق انتهى. وبسبب شرف المأمور فإنه لا يناسب نسبة الذل إليه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى * (جناح الذل) *؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن يكون المعنى واخفض لهما جناحك كما قال: * (واخفض جناحك للمؤمنين) * فأضافه إلى الذل أو الذل كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني: أن يجعل لذله أو لذله جناحا خفيضا كما جعل لبيد للشمال يدا، وللقرة زمانا مبالغة في التذلل والتواضع لهما انتهى. والمعنى أنه جعل اللين ذلا واستعار له جناحا ثم رشح هذا المجاز بأن أمر بخفضه. وحكي أن أبا تمام لما نظم قوله:
* لا تسقني ماء الملام فإنني
*
صب قد استعذبت ماء بكائيا
*
جاءه رجل بقصعة وقال له أعطني شيئا من ماء الملام، فقال له: حتى تأتيني بريشة من جناح الذل. وجناحا الإنسان جانباه، فالمعنى واخفض لهما جانبك ولا ترفعه فعل المتكبر عليهما. وقال بعض المتأخرين فأحسن:
* أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى
*
فلم أستطع من أرضهم طيرانا
*
وقرأ الجمهور * (من الذل) * بضم الذال. وقرأ ابن عباس وعروة بن جبير والجحدري وابن وثاب بكسر الذال وذلك على الاستعارة في الناس لأن ذلك يستعمل في الدواب في ضد الصعوبة، كما أن الذل بالضم في ضد الغير من الناس، ومن الظاهر أنها للسبب أي الحامل لك على خفض الجناح هو رحمتك لهما إذ صارا مفتقرين لك حالة الكبر كما كنت مفتقرا إليهما حالة الصغر. قال أبو البقاء: * (من الرحمة) * أي من أجل الرحمة، أي من أجل رفقك بهما فمن متعلقة ب (اخفض)، ويجوز أن يكون حالا من جناح. وقال ابن عطية: من الرحمة هنا لبيان الجنس أي أن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكمنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالا، ويصح أن يكون ذلك لابتداء الغاية انتهى. ثم أمره تعالى بأن يدعو الله بأن يرحمهما رحمته الباقية إذ رحمته عليهما لا بقاء لها. ثم نبه على العلة الموجبة للإحسان إليهما والبر بهما واسترحام الله لهما وهي تربيتهما له صغيرا، وتلك الحالة مما تزيده اشفاقا ورحمة لهما إذ هي تذكير لحالة إحسانهما إليه وقت أن لا يقدر على الإحسان لنفسه. وقال قتادة: نسخ الله من هذه الآية هذا اللفظ يعني * (وقل رب ارحمهما) * بقوله تعالى: * (ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين) * وقيل: هي مخصوصة في حق المشركين. وقيل لا نسخ ولا تخصيص لأن له أن يدعو الله لوالديه الكافرين بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان، والظاهر أن الكاف في * (كما) * للتعليل أي * (رب ارحمهما) * لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إلي حالة الصغر والافتقار. وقال الحوفي: الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رحمة مثل
26

تربيتي صغيرا.
وقال أبو البقاء: * (كما) * نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل رحمتهما. وسرد الزمخشري وغيره أحاديث وآثارا كثيرة في بر الوالدين يوقف عليها في كتبهم. ولما نهى تعالى عن عبادة غيره وأمر بالإحسان إلى الوالدين ولا سيما عند الكبر وكان الإنسان ربما تظاهر بعبادة وإحسان إلى والديه دون عقد ضمير على ذلك رياء وسمعة، أخبر تعالى أنه أعلم بما انطوت عليه الضمائر من دون قصد عبادة الله والبر بالوالدين. ثم قال: * (إن تكونوا صالحين) * أي ذوي صلاح ثم فرط منكم تقصير في عبادة أو بر وأبتم إلى الخير فإنه غفور لما فرط من هناتكم. والظاهر أن هذا عام لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج فيه من جنى على أبويه ثم تاب من جنايته. وقال ابن جبير: هي في المبارزة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير.
* (وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا * وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا * ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا * إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء * إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) *.
لما أمر تعالى ببر الوالدين أمر بصلة القرابة. قال الحسن: نزلت في قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم)، والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله * (إما يبلغن عندك الكبر) * وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه. قال نحوه ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهما. وقال علي بن الحسين فيها: هم قرابة الرسول عليه السلام، أمر بإعطائهم حقوقهم من بيت المال، والظاهر أن الحق هنا مجمل وأن * (ذا القربى) * عام في ذي القرابة فيرجع في تعيين الحق وفي تخصيص ذي القرابة إلى السنة. وعن أبي حنيفة: إن القرابة إذا كانوا محارم فقراء عاجزين عن التكسب وهو موسر حقهم أن ينفق عليهم. وعند الشافعي: ينفق على الولد والوالدين فحسب على ما تقرر في كتب الفقه. ونهى تعالى عن التبذير وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها، فنهي الله تعالى عن النفقة في غير وجوه البر وما يقرب منه تعالى. وعن ابن مسعود وابن عباس: التبذير إنفاق المال في غير حق. وقال مجاهد: لو أنفق ماله كله في حق ما كان مبذرا. وذكر الماوردي أنه الإسراف المتلف للمال، وقد احتج بهذه الآية على الحجر على المبذر، فيجب على الإمام منعه منه بالحجر والحيلولة بينه وبين ماله إلا بمقدار نفقة مثله، وأبو حنيفة لا يرى الحجر للتبذير وإن كان منهيا عنه.
وقال القرطبي: يحجر عليه إن بذله في الشهوات وخيف عليه النفاد، فإن أنفق وحفظ الأصل فليس بمبذر واخوة الشياطين كونهم قرناءهم في الدنيا وفي النار في الآخرة، وتدل هذه الأخوة على أن التبذير هو في معصية الله أو كونهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف في الدنيا. وقرأ الحسن والضحاك إخوان الشيطان على الإفراد وكذا ثبت في مصحف أنس، وذكر كفر الشيطان لربه ليحذر ولا يطاع لأنه لا يدعو إلى خيركما قال إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير. * (وإما تعرضن) *. قيل: نزلت في ناس من مزينة استحملوا الرسول فقال: (لا أجد ما أحملكم عليه). فبكوا. وقيل في بلال وصهيب وسالم وخباب: سألوه ما لا يجد فأعرض عنهم. وروي أنه عليه السلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال: (يرزقنا الله وإياكم من فضله) فالرحمة على هذا الرزق المنتظر وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وقال ابن زيد: الرحمة الأجر والثواب وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يعرض عنهم وعنه في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم، فأمره الله تعالى أن يقول لهم: * (قولا ميسورا) * يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح انتهى من كلام ابن عطية.
وقال الزمخشري: وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد * (فقل لهم قولا ميسورا) * ولا تتركهم غير مجابين إذا
27

سألوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا سئل شيئا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء، ويجوز أن يكون معنى * (وأما * أغنت عنهم) * وإن لم تنفعهم وترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك لأن من أبى أن يعطي أعرض بوجهه انتهى. والذي يظهر أنه تعالى لما أمر بإيتاء ذي القربى حقه ومن ذكر معه ونهاه عن التبذير، قال: وإن لم يكن منك إعراض عنهم فالضمير عائد عليهم، وعلل الإعراض بطلب الرحمة وهي كناية عن الرزق والتوسعة وطلب ذلك ناشىء عن فقدان ما يجود به ويؤتيه من سأله، وكأن المعنى وإن تعرض عنهم لإعسارك فوضع المسبب وهو ابتغاء الرحمة موضع السبب وهو الإعسار. وأجاز الزمخشري أن يكون * (ابتغاء رحمة من ربك) * علة لجواب الشرط فهو يتعلق به، وقدم عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا رحمة لهم وتطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك، أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم انتهى. وما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوز في قولك أن يقم فاضرب خالدا أن تقول: إن يقم خالدا فاضرب، وهذا منصوص عليه فإن حذفت الفاء في مثل إن يقم يضرب خالدا فمذهب سيبويه والكسائي الجواز، فتقول: إن يقم خالدا نضرب، ومذهب الفراء المنع فإن كان معمول الفعل مرفوعا نحو إن تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعا بيفعل، هذا وأجاز سيبويه أن يكون مرفوعا بفعل يفسره يفعل كأنك قلت: إن تفعل يفعل زيد يفعل، ومنع ذلك الكسائي والفراء. وقال ابن جبير: الضمير في * (عنهم) * عائد على المشركين، والمعنى * (وإما تعرضن عنهم) * لتكذيبهم إياك ابتغاء رحمة أي نصر لك عليهم أو هداية من الله لهم، وعلى هذا القول الميسور المداراة لهم باللسان قاله أبو سليمان الدمشقي ويسر يكون لازما ومتعديا فميسور من المتعدي تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته. قال الزمخشري: يقال يسر الأمر وعسر مثل سعد ونحس فهو مفعول انتهى. ولمعنى هذه الآية أشار الشاعر في القصيدة التي تسمى باليتيمة في قوله:
* ليكن لديك لسائل فرج
*
إن لم يكن فليحسن الرد
*
وقال آخر
* إن لم يكن ورق يوما أجود به
*
للسائلين فإني لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردودي
*
* (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * الآية. قيل: نزلت في إعطائه صلى الله عليه وسلم) قميصه ولم يكن له غيره وبقي عريانا. وقيل: أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وعيينة مثل ذلك، والعباس بن مرداس خمسين ثم كملها مائة فنزلت، وهذه استعارة استعير فيها المحسوس للمعقول، وذلك أن البخل معنى قائم بالإنسان يمنعه من التصرف في ماله فاستعير له الغل الذي هو ضم اليد إلى العنق فامتنع من تصرف يده وإجالتها حيث تريد، وذكر اليد لأن بها الأخذ والإعطاء، واستعير بسط اليد لإذهاب المال وذلك أن قبض اليد يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها، وطابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها، وغلها أبلغ في القبض وقد طابق بينهما أبو تمام. فقال في المعتصم:
* تعود بسط الكف حتى لوانه
*
ثناها لقبض لم تجبه أنامله
*
28

وقال الزمخشري: هذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والاقتار انتهى. والظاهر أنه مراد بالخطاب أمة الرسول صلى الله عليه وسلم) وإلا فهو صلى الله عليه وسلم) كان لا يدخر شيئا لغد، وكذلك من كان واثقا بالله حق الوثوق كأبي بكر حين تصدق بجميع ماله. وقال ابن جريج وغيره: المعنى لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق * (ولا تبسطها) * فيما نهيتك عنه وروي عن قالون: كل البصط بالصاد فتقعد جواب للهيئتين باعتبار الحالين، فالملوم راجع لقوله: * (ولا تجعل يدك) *. كما قال الشاعر:
* إن البخيل ملوم حيث كان
*
ولكن الجواد على علاته هرم
*
والمحسور راجع لنوله * (ولا تبسطها) * وكأنه قيل فتلام وتحسر، ثم سلاه تعالى عما كان يلحقه من الإضافة بأن ذلك ليس بهوان منك عليه ولا لبخل به عليك، ولكن
لأن بسط الرزق وتضييقه إنما ذلك بمشيئته وإرادته لما يعلم في ذلك من المصلحة لعباده، أو يكون المعنى القبض والبسط من مشيئة الله، وأما أنتم فعليكم الاقتصاد وختم ذلك بقوله * (خبيرا) * وهو العلم بخفيات الأمور و * (بصيرا) * أي بمصالح عباده حيث يبسط لقوم ويضيق على قوم.
* (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا) *.
لما بين تعالى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال * (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد، وتقدم تفسير نظير هذه الآية، والفرق بين * (خشية إملاق) * ومن إملاق وبين قوله: * (نرزقهم) * ونرزقكم. وقرأ الأعمش وابن وثاب: * (ولا تقتلوا) * بالتضعيف. وقرئ * (خشية) * بكسر الخاء، وقرأ الجمهور * (* خطأ) * بكسر الخاء وسكون الطاء. وقرأ ابن كثير بكسرها وفتح الطاء والمد، وهي قراءة طلحة وشبل والأعمش ويحيى وخالد بن إلياس وقتادة والحسن والأعرج بخلاف عنهما. وقال النحاس: لا أعرف لهذه القراءة وجها ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا. وقال الفارسي: هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطأ ولكن وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه فمنه قول الشاعر:
* تخاطأت النبل أخشاه
*
وأخر يومي فلم يعجل
*
وقول الآخر في كمأة
* تخاطأه القناص حتى وجدته
*
وخرطومه في منقع الماء راسب
*
فكان هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل. وقرأ ابن ذكوان * (* خطأ) * على وزن نبأ. وقرأ الحسن خطاء بفتحهما والمد جعله اسم مصدر من أخطأ كالعطاء من أعطى قاله ابن جني. وقال أبو حاتم: هي غلط غير جائز ولا؛ يعرف هذا في اللغة، وعنه أيضا خطى كهوى خفف الهمزة فانقلبت ألفا وذهبت لالتقائهما. وقرأ أبو رجاء والزهري كذلك إلا أنهما كسرا الخاء فصار مثل ربا وكلاهما من خطىء في الدين وأخطأ في الرأي، لكنه قد يقام كل واحد منهما مقام الآخر وجاء عن ابن عامر * (* خطأ) * بالفتح والقصر مع إسكان الطاء وهو مصدر ثالث من خطىء بالكسر.
29

* (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا * ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل (سقط: إنه كان منصورا ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنزا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا)) *: لما نهى تعالى عن قتل الأولاد نهى عن التسبب في إيجاده من الطريق غير المشروعة، فنهى عن قربان الزنا واستلزم ذلك النهي عن الزنا، والزنا الأكثر فيه القصر ويمد لغة لا ضرورة، هكذا نقل اللغويون. ومن المد قول الشاعر وهو الفرزدق:
* أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه
*
ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا ويروي أبا خالد. وقال آخر:
*
كانت فريضة ما تقول كما
كان الزناء فريضة الرجم
*
وكان المعنى لم يزل أي لم يزل * (فاحشة) * أي معصية فاحشة أي قبيحة زائدة في القبح * (وساء سبيلا) * أي وبئس طريقا طريقه لأنها سبيل تؤدي إلى النار. وقال ابن عطية: و * (سبيلا) * نصب على التمييز التقدير، وساء سبيله انتهى. وإذا كان * (سبيلا) * نصبا على التمييز فإنما هو تمييز للمضمر المستكن في * (ساء) *، وهو من المضمر الذي يفسره ما بعده، والمخصوص بالذم محذوف، وإذا كان كذلك فلا يكون تقديره وساء سبيله سبيلا لأنه إذ ذاك لا يكون فاعله ضميرا يراد به الجنس مفسرا بالتمييز، ويبقى التقدير أيضا عاريا عن المخصوص بالذم، وتقدم تفسير قوله تعالى: * (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق) * في أواخر الأنعام قال الضحاك: هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل انتهى.
ولما نهى عن قتل الأولاد وعن إيجادهم من الطريق غير المشروعة نهى عن قتل النفس فانتقل من الخاص إلى العام، والظاهر أن هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله: * (وقضى ربك) * كاندراج * (أن لا تعبدوا) * وانتصب * (مظلوما) * على الحال من الضمير المستكن في * (قتل) * والمعنى أنه قتل بغير حق،
* (فقد جعلنا لوليه) * وهو الطالب بدمه شرعا، وعند أبي حنيفة وأصحابه اندراج من يرث من الرجال والنساء والصبيان في الولي على قدر مواريثهم، لأن الولي عندهم هو الوارث هنا. وقال مالك: ليس للنساء شيء من القصاص، وإنما القصاص للرجال. وعن ابن المسيب والحسن وقتادة والحكم: ليس إلى النساء شيء من العفو والدم وللسلطان التسلط على القاتل في الاقتصاص منه أو حجة يثبت بها عليه قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: والسلطان الحجة والملك الذي جعل إليه من التخيير في قبول الدم أو العفو قاله ابن عباس والضحاك. وقال قتادة: السلطان القود وفي كتاب التحرير السلطان القوة والولاية. وقال ابن عباس: البينة في طلب القود. وقال الحسن القود. وقال مجاهد الحجة. وقال ابن زيد: الوالي أي واليا ينصفه في حقه، والظاهر عود الضمير في * (فلا يسرف) * على الولي، والإسراف المنهي عنه أن يقتل غير القاتل قاله ابن عباس والحسن، أو يقتل اثنين بواحد قاله ابن جبير، أو أشرف من الذي قتل قاله ابن زيد، أو يمثل قاله قتادة، أو يتولى القاتل دون السلطان ذكره الزجاج.
وقال أبو عبد الله الرازي: السلطنة مجملة يفسرها * (كتب عليكم القصاص) * الآية ويدل عليه أنه مخير بين القصاص والدية وقوله عليه السلام يوم الفتح: (من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية). فمعنى * (فلا يسرف فى القتل) * لا يقدم على استيفاء القتل، ويكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو ولفظة في محمولة على الباء أي فلا يصير مسرفا
30

بسبب إقدامه على القتل، ويكون معناه الترغيب في العفو كما قال * (وأن تعفوا * أقرب للتقوى) * انتهى ملخصا. ولو سلم أن * (فى) * بمعنى الباء لم يكن صحيح المعنى، لأن من القتل بحق قاتل موليه لا يصير مسرقا بقتله، وإنما الظاهر والله أعلم النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد، وقتل غير القاتل والمثلة ومكافأة الذي يقتل من قتله. وقال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد: بؤبشسع نعل كليب.
وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في * (فلا يسرف) * ليس عائدا على الولي، وإنما يعود على العامل الدال عليه، ومن قتل أي * (لا * يسرف) * في القتل تعديا وظلما فيقتل من ليس له قتله. وقرأ الجمهور * (فلا يسرف) * بياء الغيبة. وقرأ الأخوان وزيد بن علي وحذيفة وابن وثاب والأعمش ومجاهد بخلاف وجماعة، وفي نسخة من تفسير ابن عطية وابن عامر وهو وهم بتاء الخطاب والظاهر أنه على خطاب الولي فالضمير له. وقال الطبري: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم) والأئمة من بعده أي فلا تقتلوا غير القاتل انتهى. قال ابن عطية: وقرأ أبو مسلم السراج صاحب الدعوة العباسية. وقال الزمخشري قرأ أبو مسلم صاحب الدولة. وقال صاحب كتاب اللوامح أو مسلم العجلي مولى صاحب الدولة: * (فلا يسرف) * بضم الفاء على الخبر، ومعناه النهي وقد يأتي الأمر والنهي بلفظ الخبر. وقال ابن عطية في الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر، وفي قراءة أبي فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصورا انتهى. رده على ولا تقتلوا والأولى حمل قوله إن ولي المقتول على التفسير لا على القراءة لمخالفته السواد، ولأن المستفيض عنه * (إنه كان منصورا) * كقراءة الجماعة والضمير في * (أنه) * عائد على الولي لتناسق الضمائر ونصره إياه بأن أوجب له القصاص، فلا يستزاد على ذلك أو نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق. وقيل: يعود الضمير على المقتول نصره الله حيث أوجب القصاص بقتله في الدنيا، ونصره بالثواب في الآخرة. قال ابن عطية: وهو أرجح لأنه المظلوم، ولفظة النصر تقارن الظلم كقوله عليه السلام: (ونصر المظلوم وإبرار القسم) وكقوله: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) إلى كثير من الأمثلة. وقيل: على القتل. وقال أبو عبيد: على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر، وهذا ضعيف بعيد القصد. وقال الزمخشري: وإنما يعني أن يكون الضمير في أنه الذي بقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف انتهى. وهذا بعيد جدا.
* (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده) * لما نهى عن إتلاف النفوس نهى عن أخذ الأموال كما قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم). لما كان اليتيم ضعيفا عن أن يدفع عن ماله لصغره نص على النهي عن قربان ماله، وتقدم تفسير هذه الآية في أواخر الأنعام. * (وأوفوا بالعهد) * عام فيما عقده الإنسان بينه وبين ربه، أو بينه وبين ربه، أو بينه وبين آدمي في طاعة * (إن العهد كان) * ظاهره أن العهد هو المسؤول من المعاهد أن يفي به ولا ينكث ولا يضيعه أو يكون من باب التخييل، كأنه يقال: للعهد لم نكثت، فمثل كأنه ذات من الذوات تسأل لم نكثت دلالة على المطاوعة بنكثه وإلزام ما يترتب على نكثه، كما جاء * (وإذا الموءودة سئلت * بأى * ذنب قتلت) * فيمن قرأ بسكون اللام وكسر التاء التي للخطاب. وقيل: هو على حذف مضاف أي إن ذا العهد كان مسؤولا عنه إن لم يف به.
ثم أمر تعالى بإيفاء الكيل وبالوزن المستقيم، وذلك مما يرجع إلى المعاملة بالأموال. وفي قوله * (وأوفوا الكيل) * دلالة على أن الكيل هو على البائع لأنه لا يقال ذلك للمشتري. وقال الحسن: * (* القسطاس) * القبان وهو الفلسطون ويقال القرسطون. وقال مجاهد: * (* القسطاس) * العدل لا أنه آلة. وقرأ الأخوان وحفص بكسر القاف، وباقي السبعة بضمها وهما لغتان. وقرأت فرقة بالإبدال من السين الأولى صادا. قال ابن عطية: واللفظية للمبالغة من القسط انتهى. ولا يجوز أن يكون من القسط لاختلاف المادتين لأن القسط مادته ق س ط، وذلك مادته ق س ط س إلا أن
31

اعتقد زيادة السين آخرا كسين قدموس وضغبوس وعرفاس، فيمكن لكنه ليس من مواضع زيادة السين المقيسة والتقييد بقوله: * (الكيل إذا كلتم) * أي وقت كيلكم على سبيل التأكيد، وأن لا يتأخر إلايفاء بأن يكيل به بنقصان ما ثم يوفيه بعد فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل.
* (ذالك خير) * أي الإيفاء والوزن لأن فيه تطييب النفوس بالاتسام بالعدل والإيصال للحق * (وأحسن تأويلا) * أي عاقبة، إذ لا يبقى على الموفى والوازن تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو من المآل وهو المرجع كما قال: خير مردا، خير عقبا، خير أملا وإنما كانت عاقبته أحسن لأنه اشتهر بالأحتراز عن التطفيف، فعول
عليه في المعاملات ومالت القلوب إليه.
* (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا * ولا تمش فى الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذالك كان سيئه عند ربك مكروها * ذالك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا) *.
لما أمر تعالى بثلاثة أشياء، الإيفاء بالعهد، والإيفاء بالكيل، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة أمناه: * (ولا تقف) * * (ولا تمش) * * (* ولا تجعل) *. ومعنى * (تأويلا ولا تقف) * لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته. وقال ابن عباس: معناه لا ترم أحدا بما لا تعلم. وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه. وقال محمد بن الحنيفة: لا تشهد بالزور. وقال ابن عطية: ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضه انتهى. وفي الحديث: (من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج). وقال في الحديث أيضا: (نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا). ومنه قول النابغة الجعدي:
* ومثل الدمى شم العرانين ساكن
*
بهن الحيا لا يتبعن التقافيا
*
وقال الكميت
* فلا أرمي البريء بغير ذنب
*
ولا أقفو الحواضن إن قفينا
*
وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلوما، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع. قال الزمخشري: وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم، وقد أقام الشرع غالب الظن مقام العلم وأمر بالعمل به انتهى. وقرأ الجمهور: * (ولا تقف) * بحذف الواو للجزم مضارع قفا. وقرأ زيد بن علي ولا تقفو بإثبات الواو. كما قال الشاعر:
* هجوت زبان ثم جئت معتذرا
*
من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
32

وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم. وقرأ معاذ القارئ: * (ولا تقف) * مثل تقل، من قاف يقوف تقول العرب: قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب، وقاع الجمل الناقة وقعاها إذا ركبها، وليس قاف مقلوبا من قفا كما جوزه صاحب اللوامح. وقرأ الجراح العقيلي: * (والفؤاد) * بفتح الفاء والواو قلبت الهمزة واوا بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في * (الفؤاد) * وأنكرها أبو حاتم وغيره وبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدم معموله عليه. قال الحوفي: يتعلق بما تعلق به * (لك) * وهو الاستقرار وهو لا يظهر وفي قوله: * (إن السمع والبصر والفؤاد) * دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول، وجاء هذا على الترتيب القرآني في البداءة بالسمع، ثم يليه البصر، ثم يليه الفؤاد. و * (أولائك) * إشارة إلى * (السمع والبصر والفؤاد) * وهو اسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره. وتخيل ابن عطية أنه يختص بالعاقل. فقال: وعبر عن * (السمع والبصر والفؤاد) * بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل، ولذلك عبر عنها بأولئك. وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى: * (رأيتهم لى ساجدين) * إنما قال: رأيتهم في نجوم لأنه إنما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل. وحكى الزجاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري:
*
ذم المنازل بعد منزلة اللوى
والعيش بعد أولئك الأيام
*
وأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام انتهى. وليس ما تخيله صحيحا، والنحاة ينشدونه بعد أولئك الأيام ولم يكونوا لينشدوا إلا ما روي، وإطلاق أولاء وأولاك وأولئك وأولالك على ما لا يعقل لا نعلم خلافا فيه، و * (كل) * مبتدأ والجملة خبره، واسم * (كان) * عائد على * (كل) * وكذا الضمير في * (مسؤولا) *. والضمير في * (عنه) * عائد على ما من قوله * (ما ليس لك به علم) * فيكون المعنى أن كل واحد من * (السمع والبصر
والفؤاد) * يسأل عما لا علم له به أي عن انتفاء ما لا علم له به. وهذا الظاهر. وقال الزجاج: يستشهد بها كما قال * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم) *. وقال القرطبي في أحكامه: يسأل الفؤاد عما اعتقده، والسمع عما سمع، والبصر عما رأى. وقال ابن عطية: إن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي. وقيل: الضمير في * (كان) * و * (مسؤولا) * عائدان على القائف ما ليس له به علم، والضمير في * (عنه) * عائد على * (كل) * فيكون ذلك من الالتفات إذ لو كان على الخطاب لكان التركيب كل أولئك كنت عنه مسؤولا.
وقال الزمخشري: و * (عنه) * في موضع الرفع بالفاعلية، أي كل واحد منها كان مسؤولا عنه، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله * (غير المغضوب عليهم) * يقال للإنسان: لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه؟ ولم عزمت على ما لم
33

يحل لك العزم عليه؟ انتهى. وهذا الذي ذهب إليه من أن * (عنه) * في موضع الرفع بالفاعلية، ويعني به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل، فكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت. وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه، فليس * (عنه مسؤولا) * كالمغضوب عليهم لتقدم الجار والمجرور في * (عنه مسؤولا) * وتأخيره في * (المغضوب عليهم) * وقول الزمخشري: ولم نظرت ما لم يحل لك أسقط إلى، وهو لا يجوز إلا إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدى بإلى فكان التركيب، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى.
وانتصب * (مرحا) * على الحال أي * (مرحا) * كما تقول: جاء زيد ركضا أي راكضا أو على حذف مضاف أي ذا مرح، وأجاز بعضهم أن يكون مفعولا من أجله أي * (ولا تمش فى الارض) * للمرح ولا يظهر ذلك، وتقدم أن المرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرح وكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال، ولذلك بقوله علل * (إنك لن تخرق الارض) *. وقرأت فرقة فيما حكي يعقوب: * (مرحا) * بكسر الراء وهو حال أي لا تمش متكبرا مختالا. قال مجاهد: لن تخرق بمشيك على عقبيك كبرا وتنعما، * (ولن تبلغ الجبال) * بالمشي على صدور قدميك تفاخرا و * (طولا) * والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال. وقال الزجاج: * (لا * تمش فى الارض) * مختالا فخورا، ونظيره: * (وعباد الرحمان الذين يمشون على الارض هونا) * و * (تصعر خدك للناس ولا تمش فى الارض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور) *. وقال الزمخشري: * (لن تخرق الارض) * لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها وشدة وطئك، * (ولن تبلغ الجبال
34

طولا) * بتطاولك وهوتهكم بالمختال. وقرأ الجراح الأعرابي: * (لن تخرق) * بضم الراء. قال أبو حاتم: لا تعرف هذه اللغة. وقيل: أشير بذلك إلى أن الإنسان محصور بين جمادين ضعيف عن التأثير فيهما بالخرق وبلوغ الطول ومن كان بهذه المثابة لا يليق به التكبر. وقال الشاعر:
* ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا
*
فكم تحتها قوم هم منك أرفع والأجود انتصاب قوله * (طولا) * على التمييز، أي لن يبلغ طولك الجبال. وقال الحوفي: * (طولا) * نصب على الحال، والعامل في الحال * (تبلغ) * ويجوز أن يكون العامل تخرق، و * (طولا) * بمعنى متطاول انتهى. وقال أبو البقاء: * (طولا) * مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول، ويجوز أن يكون تمييزا ومفعولا له ومصدرا من معنى تبلغ انتهى. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج سيئة بالنصب والتأنيث. وقرأ باقي السبعة والحسن ومسروق * (سيئة) * بضم الهمزة مضافا. لهاء المذكر الغائب. وقرأ عبد الله سيئانه بالجمع مضافا للهاء، وعنه أيضا سيئات بغيرها، وعنه أيضا كان خبيثه. فأما القراءة الأولى فالظاهر أن ذلك إشارة إلى مصدري النهيين السابقين، وهما قفو ما ليس له به علم، والمشي في الأرض مرحا. وقيل: إشارة إلى جميع المناهي المذكورة فيما تقدم في هذه السورة، وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروها فذكر. قال الزمخشري: السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب، والاسم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئا، ألا تراك تقول: الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث انتهى. وهو تخريج حسن.
*
وقيل: ذكر * (مكروها) * على لفظ * (كل) * وجوزوا في * (مكروها) * أن يكون خبرا ثانيا لكان على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لكان، وأن يكون بدلا من سى ئة والبد بالمشتق ضعيف، وأن يكون حالا من الضمير المستكن في الظرف قبله والظرف في موضع الصفة. قيل: ويجوز أن يكون نعتا لسيئة لما كان تأنيثها مجازيا جاز أن توصف بمذكر، وضعف هذا بأن جواز ذلك إنما هو في الإسناد إلى المؤنث المجازي إذا تقدم، أما إذا تأخر وأسند إلى ضميرها فهو قبيح، تقول: أبقل الأرض إبقالها فصيحا والأرض أبقل قبيح، وأما من قرأ * (سيئة) * بالتذكير والإضافة فسيئه اسم * (كان) * و * (مكروها) * الخبر، ولما تقدم من الخصال ما هو سئ وما هو حسن أشير بذلك إلى المجموع وأفرد سيئة وهو المنهي عنه، فالحكم عليه بالكراهة من قوله لا تجعل إلى آخر المنهيات. وأما قراءة عبد الله فتخرج على أن يكون مما أخبر فيه عن الجمع إخبار الواحد المذكر وهو قليل نحو قوله:
فإن الحوادث أو دى بها
لصلاحية الحدثان مكان الحوادث وكذلك هذا أيضا كان ما يسوء مكان سيئاته ذلك إشارة إلى جميع أنواع التكاليف من قوله * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر * إلى * قوله * ولا تمش فى الارض مرحا) * وهي أربعة وعشرون نوعا من التكاليف بعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله * (لا تجعل) *. واختتم الآيات بقوله * (ولا تجعل) * وقال: مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذا أوحى إليه بتكاليف أخر، و * (مما أوحى) * خبر عن ذلك، و * (من الحكمة) * يجوز أن يكون متعلقا بأوحى وأن يكون بدلا من ما، وأن يكون حالا من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف
35

حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الأديان لا تقبل النسخ.
وعن ابن عباس: إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام، أولها * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر) * قال تعالى: * (وكتبنا له فى الالواح من كل شىء موعظة وتفصيلا لكل شىء) * وكرر تعالى النهي عن الشرك، ففي النهي الأول. * (فتقعد مذموما مخذولا) * وفي الثاني * (فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا) * والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموما أن يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر، وكونه ملوما أن يقال له بعد الفعل وذمه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفذت منه إلا إلحاق الضرر بنفسك، فأول الأمر الذم وآخره اللوم، والفرق بين مخذول ومدحور أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه، والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به، فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهانا. وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة، ولذلك جاء * (فتلقى فى جهنم) * والخطاب بالنهي في هذه الآيات للسامع غير الرسول. وقال الزمخشري: ولقد جعل الله عز وعلا فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم.
* (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملئكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما * ولقد صرفنا فى هاذا القرءان ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا * قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا * سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا * تسبح له * السماوات والارض * ومن فيهن وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) *.
لما نبه تعالى على فساد من أثبت لله شريكا ونظيرا أتبعه بفساد طريقة من أثبت لله ولدا، والاستفهام معناه الإنكار والتوبيخ والخطاب لمن اعتقد أن الملائكة بنات الله ومعنى * (أفأصفاكم) * آثركم وخصكم وهذا كما قال: * (إله * البنات ولكم البنون * ألكم الذكر وله الانثى) * وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ويكون أردؤها وأدونها للسادات. ومعنى * (عظيما) * مبالغا في المنكر والقبح حيث أضفتم إليه الأولاد ثم حيث فضلتم عليه تعالى أنفسكم فجعلتم له ما تكرهون، ثم نسبة الملائكة الذين هم من شريف ما خلق إلى الأنوثة. ومعنى * (صرفنا) * نوعنا من جهة إلى جهة ومن مثال إلى مثال، والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى جهة ثم صار كناية عن التبيين. وقرأ الجمهور * (وصرفنا) * بتشديد الراء. فقال: لم نجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا، ومحكما ومتشابها، وأمرا ونهيا، وناسخا ومنسوخا، وأخبارا وأمثالا مثل تصريف الرياح من صباودبور وجنوب وشمال، ومفعول * (صرفنا) *
36

على هذا المعنى محذوف وهي هذه الأشياء أي: صرفنا الأمثال والعبر والحكم والأحكام والأعلام. وقيل: المعنى لم ننزله مرة واحدة بل نجوما ومعناه أكثرنا صرف جبريل إليك والمفعول محذوف أي * (صرفنا) * جبريل.
وقيل: * (فى) * زائدة أي * (صرفنا) * * (هاذا القرءان) * كما قال * (وأصلح لى فى ذريتى) * وهذا ضعيف لأن في لا تزاد. وقال الزمخشري: يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى الله البنات لأنه مما صرفه وكرر ذكره، والمعنى ولقد * (صرفنا) * القول في هذا المعنى، وأوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكانا للتكرير، ويجوز أن يشير بهذا * (القرءان) * إلى التنزيل، ويريد ولقد صرفناه يعني هذا المعنى في مواضع من التنزيل، فترك الضمير لأنه معلوم انتهى. فجعل التصريف خاصا بما دلت عليه الآية قبله وجعل مفعول * (صرفنا) * أما القول في هذا المعنى أو المعنى وهو الضمير الذي قدره في صرفناه وغيره جعل التصريف عاما في أشياء فقدر ما يشمل ما سيق له ما قبله وغيره. وقرأ الحسن بتخفيف الراء. فقال صاحب اللوامح: هو بمعنى العامة يعني بالعامة قراءة الجمهور، قال؛ لأن فعل وفعل ربما تعاقبا على معنى واحد. وقال ابن عطية: على معنى صرفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى الله.
وقرأ الجمهور * (ليذكروا) * أي ليتذكروا من التذكير، أدغمت التاء في الذال. وقرأ الأخوان وطلحة وابن وثاب والأعمش ليذكروا بسكون الذال وضم الكاف من الذكر أو الذكر، أي ليتعظوا ويعتبروا وينظروا فيما يحتج به عليهم ويطمئنوا إليه * (وما يزيدهم) * أي التصريف * (إلا نفورا) * أي بعدا وفرارا عن الحق كما قال: * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * وقال: * (فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة) * والنفور من أوصاف الدواب الشديدة الشماس، ولما ذكر تعالى نسبة الولد إليهم ورد عليهم في ذلك ذكر قولهم إنه تعالى معه آلهة ورد عليهم.
وقرأ ابن كثير وحفص * (كما يقولون) * بالياء من تحت، والجمهور بالتاء. ومعنى * (لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا) * إلى مغالبته وإفساد ملكه لأنهم شركاؤه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض. وقال هذا المعنى أو مثله ابن جبير وأبو علي الفارسي والنقاش والمتكلمون أبو منصور وغيره، وعلى هذا تكون الآية بيانا للتمانع كما في قوله * (لو كان فيهما الهة إلا الله لفسدتا) * ويأتي تفسيرها إن شاء الله تعالى. وقال قتادة ما معناه: لابتغوا إلى التقرب إلى ذي العرش والزلفى لديه، وكانوا يقولون: إن الأصنام تقربهم إلى الله فإذا علموا أنها تحتاج إلى الله فقد بطل كونها آلهة، ويكون كقوله * (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) * أيهم أقرب، والكاف
من * (كما) * في موضع نصب. وقال الحوفي: متعلقة بما تعلقت به مع وهو الاستقرار و * (معه) * خبر كان. وقال أبو البقاء: كونا لقولكم.
وقال الزمخشري: و * (إذا) * دالة على أن ما بعدها وهو * (لابتغوا) * جواب عن مقالة المشركين وجزاء للو انتهى. وعطف * (وتعالى) * على قوله * (سبحانه) * لأنه اسم قام مقام المصدر الذي هو في معنى الفعل، أي براءة الله وقدر تنزه
37

وتعالى يتعلق به على سبيل الأعمال إذ يصح لسبحان أن يتعلق به عن كما في قوله * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) * والتعالي في حقه تعالى هو بالمكانة لا بالمكان. وقرأ الأخوان: عما تقولون بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء. وانتصب * (علوا) * على أنه مصدر على غير الصدر أي تعاليا ووصف تكبيرا مبالغة في معنى البراءة والبعد عما وصفوه به لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته، وبين القديم والمحدث، وبين الغني والمحتاج منافاة لا تقبل الزيادة، ونسبة التسبيح للسموات والأرض ومن فيهن من ملك وإنس وجن حمله بعضهم على النطق بالتسبيح حقيقة، وأن ما لا حياة فيه ولا نمو يحدث الله له نطقا وهذا هو ظاهر اللفظ، ولذلك جاء * (ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) *. وقال بعضهم: ما كان من نام حيوان وغيره يسبح حقيقة، وبه قال عكرمة قال: الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح.
وسئل الحسن عن الخوان أيسبح؟ فقال: قد كان يسبح مرة يشير إلى أنه حين كان شجرة كان يسبح، وحين صار خوانا مدهونا صار جمادا لا يسبح. وقيل: التسبيح المنسوب لما لا يعقل مجاز ومعناه أنها تسبح بلسان الحال حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وكماله، فكأنها تنطق بذلك وكأنها تنزه الله عما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها. ويكون قوله: * (ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) * خطابا للمشركين، وهم وإن كانوا معترفين بالخالق أنه الله لكنهم لما جعلوا معه آلهة لم ينظروا ولم يقروا لأن نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه، فإذا لم يفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق فيكون التسبيح المسند إلى السماوات والأرض ومن فيهن على سبيل المجاز قدرا مشتركا بين الجميع، وإن كان يصدر التسبيح حقيقة ممن فيهن من ملك وإنس وجان ولا يحمل نسبته إلى السماوات والأرض على المجاز، ونسبته إلى الملائكة والثقلين على الحقيقة لئلا يكون جمعا بين المجاز والحقيقة بلفظ واحد.
وقال ابن عطية ثم أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح انتهى. ويعنى بالضمير في قوله * (ومن فيهن) * وكأنه تخيل أن هن لا يكون إلا لمن يعقل من المؤنثات وليس كما تخيل بل هن يكون ضمير الجمع المؤنث مطلقا. وقرأ النحويان وحمزة وحفص: تسبح بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء، وفي بعض المصاحف سبحت له السماوات بلفظ الماضي وتاء التأنيث وهي قراءة عبد الله والأعمش وطلحة بن مصرف. * (إنه كان حليما) * حيث لا يعاجلكم بالعقوبة على سوء نظركم * (غفورا) * إن رجعتم ووحدتم الله تعالى.
* (وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا * وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك فى القرءان وحده ولوا على أدبارهم نفورا) *.
نزلت * (وإذا قرأت القرءان) * في أبي سفيان والنضر وأبي جهل وأم جميل امرأة أبي لهب، كانوا يؤذون الرسول إذا قرأ القرآن، فحجب الله أبصارهم إذا قرأ فكانوا يمرون به ولا يرونه قاله الكلبي: وعن ابن عباس نزلت في امرأة أبي لهب، دخلت منزل أبي بكر وبيدها فهر والرسول صلى الله عليه وسلم) عنده، فقالت: هجاني صاحبك، قال: ما هو بشاعر، قالت: قال * (فى جيدها حبل من مسد) * وما يدريه ما في جيدي؟ فقال لأبي بكر: (سلها هل ترى غيرك فإن ملكا لم يزل يسترني عنها) فسألها فقالت: أتهزأ بي ما أرى غيرك فانصرفت ولم تر الرسول صلى الله عليه وسلم). وقيل: نزلت في قوم
38

من بني عبد الدار كانوا يؤذونه في الليل إذا صلى وجهر بالقراءة، فحال الله بينهم وبين أذاه.
ولما تقدم الكلام في تقرير الإلهية جاء بعده تقرير النبوة وذكر شيء من أحوال الكفرة في إنكارها وإنكار المعاد، والمعنى وإذا شرعت في القراءة وليس المعنى على الفراغ من القراءة بل المعنى على أنك إذا التبست بقراءة القرآن ولا يراد بالقرآن جميعه بل ما ينطلق عليه الاسم، فإنك تقول لمن يقرأ شيئا من القرآن هذا يقرأ القرآن، والظاهر أن القرآن هنا هو ما قرىء من القرآن أي شيء كان منه. وقيل: ثلاث آيات منه معينة وهي في النحل * (أولئك الذين طبع * إلى * الغافلون) * وفي الكهف * (ومن أظلم * إلى * إذا أبدا) * وفي الجاثية * (أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه * إلى * أفلا تتذكرون) * وعن كعب أن الرسول كان يستتر بهذه الآيات، وعن ابن سيرين أنه عينها له هاتف من جانب البيت، وعن بعضهم أنه أسر زمانا ثم اهتدى قراءتها فخرج لا يبصره الكفار وهم يتطلبونه تمس ثيابهم ثيابه. قال القرطبي: ويزاد إلى هذه الآي أول يس إلى * (فهم لا يبصرون) * ففي السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم) حين نام على فراشه خرج ينثر التراب على رؤوس الكفار فلا يرونه وهو يتلو هذه الآيات من يس، ولم يبق أحد منهم إلا وضع على رأسه ترابا. والظاهر أن المعنى جعلنا بين رؤيتك وبين أبصار الذين لا يؤمنون بالآخرة كما ورد في سبب النزول.
وقال قتادة والزجاج وجماعة ما معناه: * (جعلنا بينك) * فهم ما تقرأ وبينهم * (حجابا) * فلا يقرون بنبوتك ولا بالبعث، فالمعنى قريب من الآية بعدها، والظاهر إقرار * (مستورا) * على موضوعه من كونه اسم مفعول أي * (مستورا) * عن أعين الكفار فلا يرونه، أو * (مستورا) * به الرسول عن رؤيتهم. ونسب الستر إليه لما كان مستورا به قاله المبرد، ويؤول معناه إلى أنه ذو ستر كما جاء في صيغة لابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر. وقالوا: رجل مرطوب أي ذو رطبة ولا يقال رطبته، ومكان مهول أي ذو هول، وجارية مغنوجة ولا يقال هلت المكان ولا غنجت الجارية. وقال الأخفش وجماعة * (مستورا) * ساترا واسم الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما قالوا مشؤوم وميمون يريدون شائم ويامن. وقيل: مستور وصف على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر، ورد بأن المبالغة إنما تكون باسم الفاعل ومن لفظ الأول * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) * تقدم تفسيره في أوائل الأنعام * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) *. قيل: دخل ملأ قريش
على أبي طالب يزورونه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقرأ ومر بالتوحيد، ثم قال: (يا معشر قريش قولوا لا إله إلا الله تملكون بها العرب وتدين لكم العجم) فولوا ونفروا فنزلت هذه الآية. والظاهر أن الآية في حال الفارين عند وقت قراءته ومروره بتوحيد الله، والمعنى إذا جاءت مواضع التوحيد فر الكفار إنكارا له واستبشاعا لرفض آلهتهم واطراحها.
وقال الزمخشري: وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعدا وعدة و * (وحده) * من باب رجع عوده على بدئه وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسد الحال، أصله يحد وحده بمعنى واحدا انتهى. وما ذهب إليه من أن * (وحده) * مصدر ساد مسد الحال خلاف مذهب سيبويه و * (وحده) * عند سيبويه ليس مصدرا بل هو اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فوحده عنده موضوع موضع إيحاد، وإيحاد موضوع موضع موحد. وذهب يونس إلى أن * (وحده) * منصوب على الظرف، وذهب قوم إلى أنه مصدر لا فعل له، وقوم إلى أنه مصدر لأوحد على حذف الزيادة، وقوم إلى أنه مصدر لوحد كما ذهب إليه الزمخشري وحجج هذه الأقوال مذكورة في كتب النحو.
39

وإذا ذكرت * (وحده) * بعد فاعل ومفعول نحو ضربت زيدا فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل، أي موحدا له بالضرب، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالا من المفعول فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير * (وإذا ذكرت ربك) * موحدا له بالذكر وعلى مذهب أبي العباس يجوز أن يكون التقدير موحدا بالذكر.
و * (نفورا) * حال جمع نافر كقاعد وقعود، أو مصدر على غير المصدر لأن معنى * (ولوا) * نفروا، والظاهر عود الضمير في * (ولوا) * على الكفار المتقدم ذكرهم. وقالت فرقة: هو ضمير الشياطين لأنهم يفرون من القرآن دل على ذلك المعنى وإن لم يجر لهم ذكر. وقال أبو الحوراء أوس بن عبد الله: ليس شيء أطرد للشيطان من القلب من لا إله إلا الله ثم تلا * (وإذا ذكرت) * الآية. وقال علي بن الحسين: هو البسملة * (نحن أعلم بما يستمعون به) * أي بالاستخفاف الذي يستمعون به والهزء بك واللغو، كان إذا قرأ صلى الله عليه وسلم) قام رجلان من بني عبد الله عن يمينه ورجلان منهم عن يساره، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار. وبما متعلق بأعلم، وما كان في معنى العلم والجهل وإن كان متعديا لمفعول بنفسه فإنه إذا كان في باب أفعل في التعجب، وفي أفعل التفضيل تعدى بالباء تقول: ما أعلم زيدا بكذا وما أجهله بكذا، وهو أعلم بكذا وأجهل بكذا بخلاف سائر الأفعال المتعدية لمفعول بنفسه، فإنه يتعدى في أفعل في التعجب وأفعل التفضيل باللام، تقول: ما أضرب زيدا لعمرو وزيد أضرب لعمرو من بكر. وبه قال الزمخشري في موضع الحال كما تقول: يستمعون بالهزء أي هازئين * (وإذا * يستمعون) * نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وبما به يتناجون، إذ هم ذوو نجوى * (إذ يقول) * بدل من * (إذ هم) * انتهى.
وقال الحوفي: لم يقل يستمعونه ولا يستمعونك لما كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط، وكان مضمنا أن الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا: مجنون أو مسحور، جاء الاستماع بالباء وإلى ليعلم أن الاستماع ليس المراد به تفهم المسموع دون هذا المقصد * (إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى) * فإذا الأولى تتعلق بيستمعون به وكذا * (وإذ هم نجوى) * لأن المعنى نحن أعلم بالذي يستمعون به إليك وإلى قراءتك وكلامك إنما يستمعون لسقطك وتتبع عيبك والتماس ما يطعنون به عليك، يعني في زعمهم ولهذا ذكر تعديته بالباء وإلى انتهى. وقال أبو البقاء: يستمعون به. قيل: الباء بمعنى اللام، لا وإذ ظرف ليستمعون الأولى، والنجوى مصدر، ويجوز أن يكون جمع نجى كقتيل وقتلى، وإذ بدل من * (إذ) * الأولى. وقيل: التقدير إذ كر إذ تقول. وقال ابن عطية: الضمير في به عائد على ما هو بمعنى الذي، والمراد الاستخفاف والإ عراض فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به أي هو ملازمهم، ففضح الله بهذه الآية سرهم والعامل في * (إذ) * الأولى وفي المعطوف * (يستمعون) * الأولى انتهى. تناجوا فقال النضر: ما أفهم ما تقول، وقال أبو سفيان: أرى بعضه حقا، وقال أبو جهل: مجنون، وقال أبو لهب: كاهن، وقال حويطب: شاعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين، وبعضهم إنما يعلمه بشر، وروي أن تناجيهم كان عند عتبة دعا أشراف قريش إلى طعام فدخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم) وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله. فتناجوا يقولون ساحر مجنون، والظاهر أن * (مسحورا) * من السحر أي خبل عقله السحر. وقال مجاهد:
40

مخدوعا نحو * (فأنى تسحرون) * أي تخدعون. وقال أبو عبيدة: * (مسحورا) * معناه أن له سحرا أي رئة فهو لا يستغنى عن الطعام والشراب فهو مثلكم وليس بملك، وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سحره ولكل من أكل أو شرب من آدمي وغيره مسحور. قال:
* أرانا موضعين لأمر غيب
*
ونسحر بالطعام والشراب
*
أي نغذى ونعلل ونسحر. قال لبيد:
* فإن تسألينا فيم نحن فإننا
*
عصافير من هذا الأنام المسحر
*
قال ابن قتيبة: لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. وقال ابن عطية: الآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة من السحر بكسر السين لأن في قولهم ضرب مثل، وأما على أنها من السحر الذي هو الرئة ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له، و * (الامثال) * تقدم ما قالوه في تناجيهم وكان ذلك منهم على جهة التسلية والتلبيس، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقر بها لتخييل الطارئين عليهم هو أنه ساحر فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب فيه طريقا يسلكه فلا يقدر عليه، فهو متحير في أمره عليهم فلا يستطيعون سبيلا إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان، أو سبيلا إلى إفساد أمرك وإطفاء نور الله بضربهم الأمثال واتباعهم كل حيلة في جهتك.
وحكى الطبري أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه * (وقالوا * أن كنا) * هذا استفهام تعجب وإنكار واستبعاد لما ضربوا له الأمثال وقالوا عنه إنه مسحور ذكروا ما استدلوا به على زعمهم على اتصافه بما نسبوا إليه، واستبعدوا أنه بعدما يصير الإنسان رفاتا يحييه الله ويعيده، وقد رد عليهم ذلك بأنه تعالى هو الذي فطرهم بعد العدم الصرف على ما يأتي شرحه في الآية بعد هذا، ومن قرأ من القراء إذا وإنا معا أو إحداهما على صورة الخبر فلا يريد الخبر حقيقة لأن ذلك كان يكون تصديقا بالبعث والنشأة الآخرة، ولكنه حذف همزة الاستفهام لدلالة المعنى. وفي الكلام حذف تقديره إذا كنا ترابا وعظاما نبعث أو نعاد، وحذف لدلالة ما بعده عليه وهذا المحذوف هو جواب الشرط عند سيبويه، والذي تعلق به الاستفهام وانصب عليه عند يونس وخلقا حال وهو في الأصل مصدر أطلق على المفعول أي مخلوقا. (سقط: قل كونوا حجارة أو حديدا، أو خلقا ما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك ويقولون متى قل هو عسى أن يكون قريبا)
41

(سقط الصفحة كاملة)
الجديد معروف. نغضت سنه: تحركت قال.
42

ونغضت من هرم أسنانها. تنغض وتنغض نغضا ونغوضا، وأنغض رأسه حركه برفع وخفض. قال.
لما رأتني انغضت لي الرأسا
وقال الآخر:
* أنغض نحوي رأسه وأقنعا
*
كأنه يطلب شيئا أطعما
*
وقال الفراء: أنغض رأسه حركه إلى فوق وإلى أسفل. وقال أبو الهيثم: إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكارا له فقد أنغض رأسه. وقال ذو الرمة:
* ظعائن لم يسكن أكناف قرية
*
بسيف ولم ينغض بهن القناطر
*
حنك الدابة واحتنكها: جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، واحتنك الجراد الأرض أكلت نباتها. قال:
* نشكوا إليك سنة قد أجحفت
*
جهدا إلى جهد بنا فأضعفت
*
واحتنكت أموالنا وحنفت، ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم: أحنك الشاتين أي آكلهما. استفز الرجل: استخفه، والفز الخفيف وأصله القطع ومنه تفزز الثوب انقطع، واستفزني فلان خدعني حتى وقعت في أمر أراده. وقيل لولد البقرة فز لخفته. قال الشاعر:
* كما استغاث بشيء فز غيطلة
*
خاف العيون فلم ينظرنه الحشك
*
الجلبة الصياح قاله أبو عبيدة والفراء. وقال أبو عبيدة: جلب وأجلب. وقال الزجاج: أجلب على العدو وجمع عليه الخيل. وقال ابن السكيت: جلب عليه أعان عليه. وقال ابن الأعرابي: أجلب على الرجل إذا توعده الشر، وجمع عليه الجمع. الصوت معروف. الحاصب الريح ترمي بالحصباء قاله الفراء، والحصب الرمي بالحصباء وهي الحجارة الصغار.
43

وقال الفرزدق:
* مستقبلين شمال الشام نضربهم
*
بحاصب كنديف القطن منثور
*
والحاصب العارض الرامي بالبرد والحجارة. تارة مرة وتجمع على تير وتارات. قال الشاعر:
* وإنسان عيني يحسر الماء تارة
*
فيبدوا وتارات يجم فيغرق
*
القاصف الذي يكسر كل ما يلقى، ويقال قصف الشجر يقصفه قصفا كسره. وقال أبو تمام:
* إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت
*
عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم وقيل: القاصف الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر.
*
* (قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر فى صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة * فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) *.
قال الزمخشري: لما قالوا * (أءذا كنا عظاما) * قيل لهم * (كونوا حجارة أو حديدا) * فرد قوله * (كونوا) * على قولهم * (كنا) * كأنه قيل * (كونوا حجارة أو حديدا) * ولا تكونوا عظاما فإنه يقدر على إحيائكم. والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ويرده إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحي وغضاضته بعدما كنتم عظاما يابسة، مع أن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره، فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى حالتها الأولى، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي ومن جنس ما ركب به البشر، وهو أن تكونوا * (حجارة) * يابسة * (أو حديدا) * مع أن طباعها القساوة والصلابة لكان قادرا على أن يردكم إلى حال الحياة * (أو خلقا مما يكبر) * عندكم عن قبول الحياة، ويعظم في زعمكم على الخالق احياؤه فإنه يحييه.
وقال ابن عطية: كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي لا بد من بعثكم. وقوله * (كونوا) * هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع أفعل، وبهذه الآية مثل بعضهم وفي هذا عندي نظر وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب كقوله تعالى: * (فادرءوا عن أنفسكم الموت) * ونحوه. وأما هذه الآية فمعناها كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا * (الذى فطركم) * كذلك هو يعيدكم انتهى. وقال مجاهد: المعنى * (كونوا) * ما شئتم فستعادون. وقال النحاس: هذا قول حسن لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم * (حجارة أو حديدا) * لبعثتم كما خلقتم أول مرة انتهى.
* (أو خلقا مما يكبر فى صدوركم) * صلابته وزيادته على قوة الحديد وصلابته، ولم يعينه ترك ذلك إلى أفكارهم
44

وجولانها فيما هو أصلب من الحديد، فبدأ أولا بالصلب ثم ذكر على سبيل الترقي الأصلب منه ثم الأصلب من الحديد، أي افرضوا ذواتكم شيئا من هذه فإنه لا بد لكم من البعث على أي حال كنتم. وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمر والحسن وابن جبير والضحاك الذي يكبر الموت، أي لو كنتم الموت لأماتكم ثم أحياكم. وهذا التفسير لا يتم إلا إذا أريد المبالغة لا نفس الأمر، لأن البدن جسم والموت عرض ولا ينقلب الجسم عرضا ولو فرض انقلابه عرضا لم يكن ليقبل الحياة لأجل الضدية. وقال مجاهد: الذي يكبر السماوات والأرض والجبال ولما ذكر أنهم لو كانوا أصلب شيء وأبعده من حلول الحياة به كان خلق الحياة فيه ممكنا. قالوا: من الذي هو قادر على صيرورة الحياة فينا وإعادتنا فنبههم على ما يقتضي الإعادة، وهو أن الذي أنشأكم واخترعكم أول مرة هو الذي يعيدكم و * (الذى) * مبتدأ وخبره محذوف التقدير * (الذى فطركم أول مرة) * يعيدكم فيطابق الجواب السؤال، ويجوز أن يكون فاعلا أي يعيدكم الذي فطركم، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ، أي معيدكم الذي فطركم و * (أول مرة) * ظرف العامل فيه * (فطركم) * قاله الحوفي.
* (فسينغضون) * أي يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد، ويقولون: متى هو؟ أي متى العود؟ ولم يقولوا ذلك على سبيل التسليم للعود. ولكن حيدة وانتقالا لما لا يسأل عنه لأن ما يثبت إمكانه بالدليل العقلي لا يسأل عن تعيين وقوعه، ولكن أجابهم عن سؤالهم بقرب وقوعه لا بتعيين زمانه لأن ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه، واحتمل أن يكون في * (عسى) * إضمار أي * (عسى) * هو أي العود، واحتمل أن يكون مرفوعها * (أن يكون) * فتكون تامة. و * (قريبا) * يحتمل أن يكون خبر كان على أنه يكون العود متصفا بالقرب، ويحتمل أن يكون ظرفا أي زمانا قريبا وعلى هذا التقدير يوم ندعوكم بدلا من قريبا.
وقال أبو البقاء: * (يوم يدعوكم) * ظرف ليكون، ولا يجوز أن يكون ظرفا لاسم كان وإن كان ضمير المصدر لأن الضمير لا يعمل انتهى. أما كونه ظرفا ليكون فهذا مبني على جواز عمل كان الناقصة في الظرف وفيه خلاف. وأما قوله لأن الضمير لا يعمل فهو مذهب البصريين، وأما الكوفيون فيجيزون أن يعمل نحو مروري بزيد حسن وهو بعمرو وقبيح، يعلقون بعمرو بلفظ هو أي ومروري بعمرو قبيح. والظاهر أن الدعاء حقيقة أي * (يدعوكم) * بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال * (يوم * ينادى * وأخذوا من مكان قريب) * الآية ويقال: إن إسرافيل عليه السلام ينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت. وروي في الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم): (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم). ومعنى * (فتستجيبون) * توافقون الداعي فيما دعاكم إليه. وقال الزمخشري: الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز، والمعنى يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون انتهى. والظاهر أن الخطاب للكفار إذ الكلام قبل ذلك معهم فالضمير لهم و * (بحمده) * حال منهم. قال الزمخشري: وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر، يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسرا حتى أنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه. وعن سعيد بن جبير ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك انتهى. وذلك لما ظهر لهم من قدرته
45

وقيل: معنى * (بحمده) * أن الرسول قائل ذلك لا أنهم يكون بحمده حالا منهم فكأنه قال: عسى أن تكون الساعة قريبة يوم يدعوكم فتقومون بخلاف ما تعتقدون الآن، وذلك بحمد الله على صدق خبري كما تقول لرجل خصمته أو حاورته في علم: قد أخطأت بحمد الله فبحمد الله ليس حالا من فاعل أخطأت، بل المعنى أخطأت والحمد لله. وهذا معنى متكلف نحا إليه الطبري وكان * (بحمده) * يكون اعتراضا إذ معناه والحمد لله. ونظيره قول الشاعر:
* فإني بحمد الله لا ثوب فاجر
*
لبست ولا من غدرة أتقنع أي فأني والحمد لله فهذا اعتراض بين اسم إن وخبرها، كما أن * (بحمده) * اعتراض بين المتعاطفين ووقع في لفظ ابن عطية حين قرر هذا المعنى قوله: عسى أن الساعة قريبة وهو تركيب لا يجوز، لا تقول عسى أن زيدا قائم بخلاف عسى أن يقوم زيد، وعلى أن يكون * (بحمده) * حالا من ضمير * (فتستجيبون) *. قال المفسرون: حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال قتادة: معناه بمعرفته وطاعته * (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) *. قال ابن عباس: بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت، ويدل عليه من بعثنا من مرقدنا هذا فهذا عائد إلى * (* لبثهم) * فيما بين النفختين. وقال الحسن: تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا. وقال الزمخشري: * (بحمده وتظنون) * وترون الهول فعنده تستقصرون مدة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوما أو بعض يوم، وعن قتادة تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة انتهى. وقيل: استقلوا لبثهم في عرصة القيامة لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول إلى النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة. وقيل: تم الكلام عند قوله * (قل عسى أن يكون قريبا) *.
*
و * (يوم يدعوكم) * خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأنهم يستجيبون لله * (بحمده) * يحمدونه على إحسانه إليهم فلا يليق هذا إلا بهم. وقيل: يحمده المؤمن اختيارا والكافر اضطرارا، وهذا يدل على أن الخطاب للكافر والمؤمن وهو الذي يدل عليه ما روي عن ابن جبير، وإذا كان الخطاب للكفار وهو الظاهر فيحمل أن يكون الظن على بابه فيكون لما رجعوا إلى حالة الحياة وقع لهم الظن أنهم لم ينفصلوا عن الدنيا إلا في زمانا قليل إذ كانوا في ظنهم نائمين، ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين من حيث علموا أن ذلك منقض متصرم. والظاهر أن * (وتظنون) * معطوف على تستجيبون وقاله الحوفي. وقال أبو البقاء: أي وأنتم * (* تظنون) * والجملة حال انتهى. وأن هنا نافية، * (بحمده وتظنون) * معلق عن العمل فالجملة بعده في موضع نصب، وقلما ذكر النحويون في أدوات التعليق أن النافية، ويظهر أن انتصاب قليلا على أنه نعت لزمان محذوف أي إلا زمن قليلا. كقوله * (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) * ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لبثا قليلا ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية.
* (وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان * ينزع * بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا * ربكم أعلم بكم
46

إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك * عليهم وكيلا * وربك أعلم بمن فى * السماوات والارض * ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وءاتينا * داوود * زبورا) *.
قيل: سبب نزولها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة، فسبه عمر وهم بقتله فكاد يثير فتنة فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف، وارتباطها بما قبلها أنه لما تقدم ما نسب الكفار لله تعالى من الولد، ونفورهم عن كتاب الله إذا سمعوه، وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم) ونسبته إلى أنه مسحور، وإنكار البعث كان ذلك مدعاة لإيذاء المؤمنين ومجلبة لبغض المؤمنين إياهم ومعاملتهم بما عاملوهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول، وأن لا يعاملوهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول، وأن لا يعاملوهم بمثل أفعالهم وأقوالهم، فعلى هذا يكون المعنى * (قل لعبادى) * المؤمنين * (يقولوا) * للمشركين الكلم * (التى هى أحسن) *. وقيل: المعنى * (يقولوا) * أي يقول بعض المؤمنين لبعض الكلم التي هي أحسن أي يجل بعضهم بعضا ويعظمه، ولا يصدر منه إلا الكلام الطيب والقول الجميل، فلا يكونوا مثل المشركين في معاملة بعضهم بعضا بالتهاجي والسباب والحروب والنهب للأموال والسبي للنساء والذراري.
وقيل: عبادي هنا المشركون إذ المقصود هنا الدعاء إلى الإسلام، فخوطبوا بالخطاب الحسن ليكون ذلك سببا إلى قبول الدين فكأنه قيل: قل للذين أقروا أنهم عباد لي يقولوا * (التى هى أحسن) * وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الولد واتخاذ الملائكة بنات فإن ذلك من نزغ الشيطان وسوسته وتحسينه. وقيل: عبادي شامل للفريقين المؤمنين والكافرين على ما يأتي تفسير * (التى هى أحسن) * والذي يظهر أن لفظة عبادي مضافة إليه تعالى كثر استعمالها في المؤمنين في القرآن كقوله * (فبشر * عبادى * الذين يستمعون القول) * * (فادخلى فى عبادى * عينا) * * (يشرب بها عباد الله) *.
و * (قل) * خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم)، وهو أمر، ومعمول القول محذوف تقديره قولوا * (التى هى أحسن) * وانجزم * (يقولوا) * على أنه جواب للأمر الذي هو قل قاله الأخفش، وهو صحيح المعنى على تقدير أن يكون عبادي يراد به المؤمنون لأنهم لمسارعتهم لامتثال أمر الله تعالى بنفس ما يقول لهم ذلك قالوا * (التى هى أحسن) *. وعن سيبويه إنه انجزم على جواب لشرط محذوف، أي إن يقل لهم * (يقولوا) * فيكون في قوله حذف معمول القول وحذف الشرط الذي * (يقولوا) * جوابه. وقال المبرد: انجزم جوابا للأمر الذي هو معمول * (قل) * أي قولوا * (التى هى أحسن) * * (يقولوا) *. وقيل معمول * (قل) * مذكور لا محذوف وهو * (يقولوا) * على تقدير لام الأمر وهو مجزوم بها قاله الزجاج. وقيل: * (يقولوا) * مبني وهو مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر فبني، والمعنى * (قل لعبادى) * قولوا قاله المازني، وهذه الأقوال جرت في قوله * (قل لعبادى الذين ءامنوا يقيموا الصلاة) * وترجيح ما ينبغي أن يرجح مذكور
47

في علم النحو.
و * (التى هى أحسن) * قالت فرقة منهم ابن عباس هي قول لا إله إلا الله. قال ابن عطية: ويلزم على هذا أن يكون قوله * (لعبادى) * يريد به جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلا الله. ويجيء قوله بعد ذلك * (إن الشيطان * ينزع * بينهم) * غير مناسب للمعنى إلا على تكبره بأن يجعل بينهم بمعنى خلالهم وأثناءهم ويجعل النزغ بمعنى الوسوسة والإملال. وقال الحسن يرحمك الله يغفر الله لك، وعنه أيضا الأمر بامتثال الأوامر واجتناب المناهي. وقيل القول للمؤمن يرحمك الله وللكافر هداك الله. وقال الجمهور: وهي المحاورة الحسنى بحسب معنى معنى. وقال الزمخشري: فسر * (التى هى أحسن) * بقوله: * (ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم) * يعني يقول لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم أنكم من أهل النار وأنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر. وقوله: * (إن الشيطان ينزغ بينهم) * اعتراض بمعنى يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارة والمشاقة.
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: إذا أردتم الحجة على المخالف فاذكروها بالطريق الأحسن وهو أن لا يخلط بالسب كقوله * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) * * (ولا * تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن) * وخلط الحجة بالسب سبب للمقابلة بمثله، وتنفير عن حصول المقصود من إظهار الحجة وتأثيرها، ثم نبه على هذا الطريق بقوله: * (إن الشيطان ينزغ بينهم) * جامعا للفريقين أي متى امتزجت الحجة بالإيذاء كانت الفتنة انتهى. وقرأ طلحة * (ينزغ) * بكسر الزاي. قال أبو حاتم: لعلها لغة والقراءة بالفتح. وقال صاحب اللوامح: هي لغة. وقال الزمخشري: هما لغتان نحو يعرشون ويعرشون انتهى. ولو مثل بينطح وينطح كان أنسب وبين تعالى سبب النزغ وهي العداوة القائمة لأبيهم آدم قبلهم وقوله * (ثم لآتينهم من بين أيديهم) * الآية وغيرها من الآيات الدالة على تسلطه على الإنسان وابتغاء الغوائل المهلكة له. والخطاب بقوله * (ربكم) * إن كان للمؤمنين فالرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم والتعذيب تسليطهم عليهم.
* (وما أرسلناك عليهم) * أي على الكفار حافظا وكفيلا فاشتغل أنت بالدعوة وإنما هدايتهم إلى الله. وقيل: * (يرحمكم) * بالهداية إلى التوفيق والأعمال الصالحة، وإن شاء عذبكم بالخذلان وإن كان الخطاب للكفار فقال يقابل يرحمكم الله بالهداية إلى الإيمان ويعذبكم يميتكم على الكفر. وذكر أبو سليمان الدمشقي لما نزل القحط بالمشركين قالوا * (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) * فقال الله * (ربكم أعلم بكم) * بالذي يؤمن من الذي لا يؤمن * (إن يشأ يرحمكم) * فيكشف القحط عنكم * (أو إن يشأ يعذبكم) * فيتركه عليكم. وقال ابن عطية: هذه الآية تقوي أن الآية التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة، وذلك أن قوله * (ربكم أعلم بكم) * مخاطبة لكفار مكة بدليل قوله * (وما أرسلناك عليهم وكيلا) * فكأنه أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال إنه أعلم بهم ورجاهم وخوفهم، ومعنى * (يرحمكم) * بالتوبة عليكم قاله ابن جريج وغيره انتهى. وتقدم من قول الزمخشري أن قوله * (ربكم أعلم بكم) * هي من قول المؤمنين للكفار وأنه تفسير لقوله * (التى هى أحسن) *.
وقال ابن الأنباري: * (أو) * دخلت هنا لسعة الأمرين عند الله ولا يراد عنهما، فكانت ملحقة بأو المبيحة
48

في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين يعنون قد وسعنا لك الأمر. وقال الكرماني: * (أو) * للإضراب ولهذا كرر * (ءان) * ولما ذكر تعالى أنه أعلم بمن خاطبهم بقوله: * (ربكم أعلم بكم) * انتقل من الخصوص إلى العموم فقال مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم): * (وربك أعلم بمن فى * السماوات والارض) * ليبين أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع من في السماوات والأرض، بأحوالهم ومقاديرهم وما يستأهل كل واحد منهم، و * (بمن) * متعلق بأعلم كما تعلق بكم قبله بأعلم ولا يدل تعلقه به على اختصاص أعلمته تعالى بما تعلق به كقولك: زيد أعلم بالنحو لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم. وقال أبو علي: الباء تتعلق بفعل تقديره علم * (بمن) * قال لأنه لو علقها بأعلم لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك وهذا لا يلزم، وأيضا فإن علم لا يتعدى بالباء إنما يتعدى لواحد بنفسه لا بواسطة حرف الجر أو لا يبين على ما تقرر في علم النحو. ولما كان الكفار قد استبعدوا تنبئة البشر إذ فيه تفضيل الأنبياء على غيرهم أخبر تعالى بتفضيل الأنبياء على
بعض إشارة إلى أنه لا يستبعد تفضيل الأنبياء على غيرهم إذ وقع التفضيل في هذا الجنس المفضل على الناس والله تعالى أعلم بما خص كل واحد من المزايا فهو يفضل من شاء منهم على من شاء إذ هو الحكيم فلا يصدر شيء إلا عن حكمته. وفيه إشارة إلى أنه لا يستنكر تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم) على سائر الأنبياء وخص * (داوود) * بالذكر هنا لأنه تعالى ذكر في الزبور أن محمدا خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم. وقال تعالى * (ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادى الصالحون) * وهم محمد وأمته، وكانت قريش ترجع إلى اليهود كثيرا فيما يخبرون به مما في كتبهم، فنبه على أن زبور داود تضمن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم). وفي ذلك إشارة رد على مكابري اليهود حيث قالوا: لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة، ونص تعالى هنا على إيتاء داود الزبور وإن كان قد آتاه مع ذلك الملك إشارة إلى أن التفضيل المحض هو بالعلم الذي آتاه، والكتاب الذي أنزل عليه كما فضل محمد صلى الله عليه وسلم) بما آتاه من العلم والقرآن الذي خصه به. وتقدم تفسير * (وءاتينا * داوود * زبورا) * في أواخر النساء وذكر الخلاف في ضم الزاي وفتحها.
وقال الزمخشري هنا: فإن قلت: هلا عرف الزبور كما عرف في * (ولقد كتبنا فى الزبور) * قلت: يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس والفضل وفضل، وأن يريد * (وءاتينا * داوود) * بعض الزبور وهي الكتب وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم) من الزبور، فسمي ذلك * (زبورا) * لأنه بعض الزبور كما سمي بعض القرآن قرآنا.
* (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا * وإن) *.
قال ابن مسعود: نزلت في عبدة الشياطين وهم خزاعة أسلمت الشياطين وبقوا يعبدونهم. وقال ابن عباس في عزير والمسيح وأمه، وعنه أيضا وعن ابن مسعود وابن زيد والحسن في عبدة الملائكة وعن ابن عباس في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه انتهى. ويكون * (الذين زعمتم من دونه) * عاما غلب فيه من يعقل على ما لا يعقل، والمعنى أدعوهم فلا يستطيعون أن يكشفوا عنكم. الضر من مرض أو فقر أو عذاب ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه
49

وقرأ الجمهور: * (يدعون) * بياء الغيبة وابن مسعود وقتادة بتاء الخطاب، وزيد بن علي بياء الغيبة مبنيا للمفعول، والمعنى يدعونهم آلهة أو يدعونهم لكشف ما حل بكم من الضر كما حذف من قوله * (قل ادعوا) * أي ادعوهم لكشف الضر.
وفي قوله: * (زعمتم) * ضمير محذوف عائد على * (الذين) * وهو المفعول الأول والثاني محذوف تقديره زعمتموهم آلهة من دون الله، و * (أولائك) * مبتدأ و * (الذين) * صفته، والخبر * (يبتغون) *. و * (الوسيلة) * القرب إلى الله تعالى، والظاهر أن * (أولائك) * إشارة إلى المعبودين والواو في * (يدعون) * للعابدين، والعائد على * (الذين) * منصوب محذوف أي يدعونهم.
وقال ابن فورك: الإشارة بقوله بأولئك إلى النبيين الذين تقدم ذكرهم، والضمير المرفوع في * (يدعون) * و * (يبتغون) * عائد عليهم، والمعنى يدعون الناس إلى دين الله، والمعنى على هذا أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا الله ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه، فهم أحق بالاقتداء بهم فلا يعبدوا غير الله.
وقرأ الجمهور: * (إلى ربهم) * بضمير الجمع الغائب. وقرأ ابن مسعود إلى ربك بالكاف خطابا للرسول، واختلفوا في إعراب * (أيهم أقرب) * وتقديره. فقال الحوفي: * (أيهم أقرب) * ابتداء وخبر، والمعنى ينظرون * (أيهم أقرب) * فيتوسلون به ويجوز أن يكون * (أيهم أقرب) * بدلا من الواو في * (يبتغون) * انتهى. ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق، و * (أيهم أقرب) * في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدى بفي، وإن كانت بصرية تعدت بإلى، فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله * (فلينظر أيها أزكى طعاما) * وفي إضمار الفعل المعلق نظر، والوجه الثاني قاله الزمخشري قال: وتكون أي موصولة، أي يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب انتهى. فعلى الوجه يكون * (أقرب) * خبر مبتدأ محذوف، واحتمل * (أيهم) * أن يكون معربا وهو الوجه، وأن يكون مبنيا لوجود مسوغ البناء. قال الزمخشري: أو ضمن * (يبتغون) * * (الوسيلة) * معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، فيكون قد ضمن * (يبتغون) * معنى فعل قلبي وهو يحرصون حتى يصح التعليق، وتكون الجملة الابتدائية في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن حرص يتعدى بعلى، كقوله * (إن تحرص على هداهم) *.
وقال ابن عطية: و * (أيهم) * ابتدأ و * (أقرب) * خبره، والتقدير نظرهم وودكهم * (أيهم أقرب) * وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها، أي يتبارون في طلب القرب. فجعل المحذوف نظرهم وودكهم وهذا مبتدأ فإن جعلت * (أيهم أقرب) * في موضع نصب بنظرهم المحذوف بقي المبتدأ الذي هو نظرهم بغير خبر محتاج إلى إضمار الخبر، وإن جعلت * (أيهم أقرب) * هو الخبر فلا يصح لأن نظرهم ليس هو * (أيهم أقرب) * وإن جعلت التقدير نظرهم في * (أيهم أقرب) * أي كائن أو حاصل فلا يصح ذلك لأن كائنا وحاصلا ليس مما تعلق.
وقال أبو البقاء: * (أيهم) * مبتدأ و * (أقرب) * خبره، وهو استفهام في موضع نصب بيدعون، ويجوز أن يكون * (أيهم) * بمعنى الذي وهو بدل من الضمير في * (يدعون) * والتقدير الذي هو أقرب انتهى. ففي الوجه الأولى علق * (يدعون) * وهو ليس فعلا قلبيا، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية، ولا يضر ذلك لأنها معمولة للصلة * (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) * كغيرهم من عباد الله، فكيف يزعمون أنهم آلهة * (إن عذاب ربك كان محذورا) * يحذره كل أحد.
و * (إن من * قرية) * * (ءان) * نافية و * (من) * زائدة في المبتدأ تدل على استغراق الجنس، والجملة بعد * (إلا) * خبر المبتدأ. وقيل: المراد الخصوص والتقدير وإن من قرية ظالمة. وقال ابن عطية: ومن لبيان الجنس على قول من يثبت لها هذا المعنى هو أن يتقدم قبل ذلك ما يفهم منه إبهام ما فتأتي * (من) * لبيان ما
50

أريد بذلك الذي فيه إبهام ما. كقوله * (ما يفتح الله للناس من رحمة) * وهنا لم يتقدم شيء مبهم تكون من فيه بيانا له، ولعل قوله لبيان الجنس من الناسخ ويكون هو قد قال لاستغراق الجنس ألا ترى أنه قال بعد ذلك. وقيل: المراد الخصوص انتهى.
والظاهر أن جميع القرى تهلك قبل يوم القيامة وإهلاكها تخريبها وفناؤها، ويتضمن تخريبها هلاك أهلها بالاستئصال أو شيئا فشيئا أو تعذب والمعنى هلاك أهلها بالقتل وأنواع العذاب. وقيل: الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة. وقال مقاتل: وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها: أما مكة فتخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق. والرواجف، وأما خراسان فعذابها ضروب ثم ذكرها بلدا بلدا ونحو ذلك عن وهب بن منبه فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش. * (كان ذالك فى الكتاب مسطورا) * أي في سابق القضاء أو في اللوح المحفوظ أي مكتوبا أسطارا * (وما منعنا أن نرسل) * بالآيات عن ابن عباس: أن أهل مكة سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون، اقترحوا ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم) فأوحى الله إليه إن شئت أن أفعل ذلك لهم فإن تأخروا عاجلتهم بالعقوبة، وإن شئت استأنيت بهم عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال: (بل تستأني بهم يا رب). فنزلت، واستعير المنع للترك أي ما تركنا إرسال الآيات المقترحة إلا لتكذيب الأولين بها، وتكذيب الأولين ليس علة في إرسال الآيات لقريش، فالمعنى إلا اتباعهم طريقة تكذيب الأولين بها، فتكذيب الأولين فاعل على حذف المضاف فإذا كذبوا بها كما كذب الأولون عاجلتهم بعذاب الاستئصال وقد اقتضت الحكمة أن لا أستأصلهم.
وقال الزمخشري: فالمعنى وما صرفنا عن إرسال ما تقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وإنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها، واستوجبوا العذاب المستأصل وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم انتهى.
وقرأ الجمهور * (ثمود) * ممنوع الصرف. وقال هارون: أهل الكوفة ينونون * (ثمود) * في كل وجه. وقال أبو حاتم: لا تنون العامة والعلماء بالقرآن * (ثمود) * في وجه من الوجوه، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرأها بغير ألف انتهى. وانتصب * (مبصرة) * على الحال وهي قراءة الجمهور. وقرأ زيد بن علي * (مبصرة) * بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة، وأضاف الإبصار إليها على سبيل المجاز لما كانت يبصرها الناس، والتقدير آية مبصرة. وقرأ قوم: بفتح الصاد اسم مفعول أي يبصرها الناس ويشاهدونها. وقرأ قتادة بفتح الميم والصاد مفعلة من البصر أي محل إبصار كقوله.
والكفر مخبثة لنفس النعم
أجراها مجرى صفات الأمكنة نحو أرض مسبعة ومكان مضبة، وقالوا: الولد مبخلة مجبنة * (فظلموا بها) * أي بعقرها
51

بعد قوله * (فذروها تأكل فى أرض الله) * الآية. وقيل: المعنى أنهم حجدوا كونها من عند الله. وقيل: جعلوا التكذيب بها موضع التصديق وهو معنى القول قبله، والظاهر أن الآيات الأخيرة غير الآيات الأولى، لوحظ في ذلك وصف الاقتراح وفي هذه وصف غير المقترحة وهي آيات معها إمهال لا معاجلة كالكسوف والرعد والزلزلة. وقال الحسن: والموت الذريع، وفي حديث الكسوف: (فافزعوا إلى الصلاة). قال ابن عطية: وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام قسم عام في كل شيء إذ حيثما وضعت نظرك وجدت آية. وهنا فكرة العلماء، وقسم معتاد كالرعد والكسوف ونحوه وهنا فكرة الجهلة فقط، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر توهما لما سلف منه انتهى. وهذا القسم الأخير قال فيه وقد انقضى بانقضاء النبوة وكثير من الناس يثبت هذا القسم لغير الأنبياء ويسميه كرامة.
وقال الزمخشري: إن أراد بالآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها * (إلا) * من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له، فإن لم يخافوا وقع عليهم، وإن أراد غيرها فالمعنى * (الظالمون وما نرسل) * ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها * (إلا تخويفا) * وإنذارا بعذاب الآخرة. وقيل: الآيات التي جعلها الله تخويفا لعباده سماوية كسوف الشمس، وخسوف القمر، والرعد، والبرق، والصواعق، والرجوم وما يجري مجرى ذلك. وأرضية زلازل، وخسف، ومحول ونيران تظهر في بعض البلاد، وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى تغرق بعض الأرضين، ولا سماوية ولا أرضية الرياح العواصف وما يحدث عنها من قلع الأشجار وتدمير الديار وما تسوقه من السواقي والرياح السموم.
* (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرءان) *.
لما طلبوا الرسول بالآيات المقترحة وأخبر الله بالمصلحة في عدم المجيء بها طعن الكفار فيه، وقالوا: لو كان رسولا حقا لأتى بالآيات المقترحة فبين الله أنه ينصره ويؤيده وأنه * (أحاط بالناس) *. فقيل بعلمه فلا يخرج شيء عن علمه. وقيل: بقدرته فقدرته غالبة كل شيء. وقيل: الإحاطة هنا الإهلاك كقوله * (وأحيط بثمره) * والظاهر أن الناس عام. وقيل: أهل مكة بشره الله تعالى أنه يغلبهم ويظهر عليهم، و * (أحاط) * بمعنى يحيط عبر عن المستقبل بالماضي لأنه واقع لا محالة، والوقت الذي وقعت فيه الإحاطة بهم. قيل يوم بدر. وقال العسكري: هذا خبر غيب قدمه قبل وقته، ويجوز أن يكون ذلك في أمر الخندق ومجئ الأحزاب يطلبون ثارهم ببدر فصرفهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا. وقيل: يوم بدر ويوم الفتح. وقيل: الأشبه أنه يوم الفتح فإنه اليوم الذي أحاط أمر الله بإهلاك أهل مكة فيه وأمكن منهم.
وقال الطبري: * (أحاط بالناس) * في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك، فالآية إخبار له أنه محفوظ من الكفرة أمن أن يقتل وينال بمكروه عظيم، أي فلتبلغ رسالة ربك ولا تتهيب أحدا من المخلوقين. قال ابن عطية: وهذا تأويل بين جار مع اللفظ. وقد روي نحوه عن الحسن والسدي إلا أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسبا لما بعده توطئة له.
فأقول: اختلف الناس في * (الرءيا) *. فقال الجمهور هي رؤيا عين ويقظة وهي ما رأى في ليلة الإسراء من العجائب قال الكفار: إن هذا لعجب نخب إلى بيت المقدس شهرين إقبالا وإدبارا ويقول محمد جاءه من ليلته وانصرف منه، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفاء المسلمين فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم) فنزلت هذه الآية، فعلى هذا يحسن أن يكون معنى قوله * (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) * أي في إضلالهم وهدايتهم، وأن كل واحد ميسر لما خلق له أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ولا تحزن عليهم فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر، وسميت الرؤية في هذا التأويل رؤيا إذ هما مصدران من رأى. وقال النقاش: جاء ذلك من اعتقاد من اعتقد أنها منامية وإن كانت الحقيقة غير ذلك انتهى. وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم: هو قصة الإسراء والمعراج عيانا آمن به الموفقون وكفر به المخذولون، وسماه رؤيا لوقوعه في الليل وسرعة تقضيه كأنه منام. وعن ابن عباس أيضا هو رؤياه أنه يدخل مكة فعجل في
52

سنته الحديبية ورد فافتتن الناس، وهذا مناسب لصدر الآية فإن الإحاطة بمكة أكثر ما كانت. وعن سهل بن سعد: هي رؤياه بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك ملكهم وصعودهم المنابر إنما يجعلها الله فتنة للناس. ويجيء قوله * (أحاط بالناس) * أي بأقداره وإن كان ما قدره الله فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك.
وقال الحسن بن علي في خطبته في شأن بيعته لمعاوية: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. وقالت عائشة: * (الرءيا) * رؤيا منام. قال ابن عطية: وهذه الآية تقضي بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها وما كان أحد لينكرها انتهى. ولبس كما قال ابن عطية: فإن رؤيا الأنبياء حق ويخبر النبي بوقوع ذلك لا محالة فيصير إخباره بذلك فتنة لمن يريد الله به ذلك. وقال صاحب التحرير: سألت أبا العباس القرطبي عن هذه الآية فقال: ذهب المفسرون فيها إلى أمر غير ملائم في سياق أول الآية، والصحيح أنها رؤية عين يقظة لما آتاه بدرا أراه جبريل عليه السلام مصارع القوم فأراها الناس، وكانت فتنة لقريش فإنهم لما سمعوا أخذوا في الهزء والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم). * (والشجرة الملعونة) * هنا هي أبو جهل انتهى.
وقال الزمخشري: ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر: (والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم) وهو يرمىء إلى الأرض ويقول: (هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان). فتسامعت قريش بما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) من أمر بدر وما أري في منامه من مصارعهم، فكانوا يضحكون ويستسخرون به استهزاء. وقيل: رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة انتهى. والظاهر أنه أريد بالشجرة حقيقتها. فقال ابن عباس: هي الكشوث المذكورة في قوله * (كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار) * وعنه أيضا: هي * (الشجرة) * التي تلتوي على الشجرة فتفسدها. قال: والفتنة قولهم ما بال الحشائش تذكر في القرآن. وقال الجمهور: هي شجرة الزقوم لما نزل أمرها في الصافات وغيرها. قال أبو جهل وغيره: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزيد، ثم أمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه: (تزقموا) فافتتن أيضا بهذه المقالة بعض الضعفاء.
قال الزمخشري: وما أنكروا أن يجعل الله * (الشجرة) * من جنس لا تأكله النار، فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقي المنديل سالما لا تعمل فيه النار، وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة نارا فلا تحرقها فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها. والمعنى أن الآيات إنما نرسل بها تخويفا للعباد، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحي إليك إلا فتنة لهم حيث اتخذوه سخريا وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم ثم قال * (ونخوفهم) * أي بمخاوف الدنيا والآخرة * (فما يزيدهم) * التخويف * (إلا طغيانا كبيرا) * فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات انتهى. وقوله بعد الوحي إليك هو قوله * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * وقوله * (قل للذين كفروا ستغلبون) * والظاهر إسناد اللعنة إلى * (الشجرة) * واللعن الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة. وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار ملعون.
قال الزمخشري: وسألت بعضهم فقال: نعم الطعام الملعون القشب الممحون. وقال ابن عباس: * (الملعونة) * يريد آكلها، ونمقه الزمخشري فقال: لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز انتهى. وقيل لما شبه طلعها برؤوس الشياطين، والشيطان ملعون نسبت اللعنة إليها. وقال قوم * (الشجرة) * هنا مجاز عن واحد وهو أبو جهل. وقيل هو الشيطان. وقيل مجاز عن جماعة وهو اليهود الذين تظاهروا على
53

رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولعنهم الله تعالى وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثه الرسول عليه السلام، فلما بعثه الله كفروا به وقالوا: ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم عن الإسلام. وقيل بنو أمية حتى إن من المفسرين من لا يعبر عنهم إلا بالشجرة الملعونة لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة وأخذ الأموال من غير حلها وتغيير قواعد الدين وتبديل الأحكام، ولعنها في القرآن * (ألا لعنة الله على الظالمين) * إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة.
وقرأ الجمهور: * (الشجرة * الملعونة) * عطفا على * (الرءيا) * فهي مندرجة في الحصر، أي * (وما جعلنا الرءيا التى أريناك) * * (والشجرة الملعونة) * في القرآن * (إلا فتنة للناس) *. وقرأ زيد بن علي برفع * (والشجرة الملعونة) * على الابتداء، والخبر محذوف تقديره كذلك أي فتنة، والضمير في * (ونخوفهم) * لكفار مكة. وقيل لملوك بني أمية بعد الخلافة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم): (الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكا عضوضا) والأول أصوب. وقرأ الأعمش: ويخوفهم بياء الغيبة والجمهور بنون العظمة.
* (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أءسجد لمن خلقت طينا * قال أرءيتك هاذا الذى كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *.
مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين. أحدهما أنه لما نازعوا الرسول علي السلام في النبوة واقترحوا عليه الآيات كان ذلك لكبرهم وحسدهم للرسول صلى الله عليه وسلم) على ما آتاه الله من النبوة والدرجة الرفيعة، فناسب ذكر قصة آدم عليه السلام وإبليس حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود. والثاني أنه لما قال * (فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا) * بين ما سبب هذا الطغيان وهو قول إبليس * (لاحتنكن ذريته إلا قليلا) * وانتصب * (طينا) * على الحال قاله الزجاج وتبعه الحوفي، فقال: من الهاء في خلقته المحذوفة، والعامل * (خلقت) * والزمخشري فقال * (طينا) * أما من الموصول والعامل فيه * (أءسجد) * على آسجد له وهو طين أي أصله طين، أو من الراجع إليه من الصلة على آسجد لمن كان في وقت خلقه * (طينا) * انتهى. وهذا تفسير معنى. وقال أبو البقاء: والعامل فيه * (خلقت) * يعني إذا كان حالا من العائد المحذوف وأجاز الحوفي أن يكون نصبا على حذف من التقدير من طين كما صرح به في قوله * (وخلقته من طين) * وأجاز الزجاج أيضا وتبعه ابن عطية أن يكون تمييزا ولا يظهر كونه تمييزا وقوله * (أءسجد) * استفهام إنكار وتعجب. وبين قوله * (أءسجد) * وما قبله كلام محذوف، وكأن تقديره قال: لم لم تسجد لأدم قال: * (أءسجد) * وبين قوله * (أرءيتك) * للخطاب وتقدم الكلام عليها في سورة الأنعام ولا يلحق كاف الخطاب هذه إلا إذا كانت بمعنى أخبرني، وبهذا المعنى قدرها الحوفي وتبعة الزمخشري وهو قول سيبويه فيها والزجاج.
قال الحوفي: و * (أرءيتك) * بمعنى عرفني وأخبرني، وهذا منصوب بأرأيتك، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي لم كرمته علي وقد خلقتني من نار وخلقته من طين، وحذف هذا لما في الكلام من الدليل عليه. وقال الزمخشري: الكاف للخطاب و * (هاذا) * مفعول به، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي أي فضلته لم كرمته علي وأنا خير منه، فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ فقال: * (لئن أخرتن) *. وقال ابن عطية: والكاف في * (أرءيتك) * حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة، ومعنى أرأيت أتأملت ونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد. وقال سيبويه: هي بمعنى أخبرني ومثل بقوله * (أرءيتك) * زيدا أيؤمن هو. وقاله الزجاج ولم يمثل، وقول سيبويه صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وأما في هذه الآية فهي كما قلت وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله انتهى. وما ذهب إليه
54

الحوفي والزمخشري في * (أرءيتك) * هنا هو الصحيح، ولذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته علي فقد انعقد من قوله * (هاذا الذى * الله على) * لم كرمته علي جملة من مبتدأ وخبر، وصار مثل: زيد أيؤمن هو دخلت عليه * (أرءيتك) * فعملت في الأول، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني والمستقر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاما، فإن صرح به فذلك واضح وإلا قدر. وقد أشبعنا الكلام في الأنعام وفي شرح التسهيل.
وقال الفراء: هنا للكاف محمل من الإعراب وهو النصب أي أرأيت نفسك قال: وهذا كما تقول أتدبرت آخر أمرك. فإني صانع فيه كذا، ثم ابتدأ * (هاذا الذى كرمت على) * انتهى. والرد عليه مذكور في علم النحو، ولو ذهب ذاهب إلى أن هذا مفعول أول لقوله: * (أرءيتك) * بمعنى أخبرني والثاني الجملة القسمية بعده لا نعقادهما مبتدأ وخبرا قبل دخول * (أرءيتك) * لذلك مذهبا حسنا، إذ لا يكون في الكلام إضمار، وتلخص من هذا كله الكاف إما في موضع نصب وهذا مبتدأ، وإما حرف خطاب وهذا مفعول بأرأيت بمعنى محذوف، وهو الجملة الاستفهامية أو مذكور وهو الجملة القسمية، ومعنى * (لئن أخرتن) * أي أخرت مماتي وأبقيتني حيا.
وقال ابن عباس: * (لاحتنكن) * لأستولين عليهم وقاله الفراء. وقال ابن زيد لأضلنهم. وقال الطبري: لأستأصلن وكفر إبليس بجهله صفة العدل من الله حين لحقته الأنفة والكبر، وظهر ذلك في قوله * (قال أرءيتك هاذا الذى كرمت) * إذ نص على أنه لا ينبغي أن يكرم بالسجود مني من أنا خير منه، وأقسم إبليس على أنه يحتنك ذرية آدم وعلم ذلك إما بسماعه من الملائكة، وقد أخبرهم الله به أو استدل على ذلك بقولهم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه ذو شهوة وعوارض كالغضب ونحوه، وأرى خلقته مجوفة مختلفة الأجزاء، وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عز ما فظن ذلك بذريته وهذا ليس بظاهر لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة، واستثنى القليل لأنه علم أنه يكون في ذرية آدم من لا يتسلط عليه كما قال * (لاغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) * والأمر بالذهاب ليس على حقيقته من نقيض المجيء ولكن المعنى اذهب لشأنك الذي اخترته، وعقبه بذكر ما جره سوء فعله من جزائه وجزاء اتباعه جهنم، ولما تقدم اسم غائب وضمير خطاب غلب الخطاب فقال: * (جزاؤكم) * ويجوز أن يكون ضمير من على سبيل الالتفات والموفور المكمل ووفر متعد كقوله:
* ومن يجعل المعروف من دون عرضه
*
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
*
ولازم تقول وفر المال يفر وفورا، وانتصب * (جزاء) * على المصدر والعامل فيه * (جزاؤكم) * أو يجاوز مضمره أو على الحال الموطئة. وقيل: تمييز ولا يتعقل * (واستفزز) * معطوف على فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر وكلها بمعنى التهديد كقوله * (اعملوا ما شئتم) * ومن في * (من استطعت) * موصولة مفعولة باستفزز. وقال أبو البقاء: * (ممن * استطعت) * من استفهام في موضع نصب باستطعت، وهذا ليس بظاهر لأن * (* استفزز) * ومفعول * (فإن استطعت) * محذوف تقديره * (من استطعت) * أن تستفزه والصوت هنا الدعاء إلى معصية الله. وقال مجاهد: الغناء والمزامير واللهو. وقال الضحاك: صوت المزمار وذكر الغزنوي أن آدم أسكن ولد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله. وفيهم بنات حسان، فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا. وقيل: الصوت هنا الوسوسة.
وقرأ الحسن * (وأجلب عليهم) * بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثيا، والظاهر أن إبليس له خيل ورجالة من الجن جنسه قاله قتادة، والخيل تطلق على الأفراس حقيقة وعلى أصحابها مجازا وهم الفرسان، ومنه: يا خيل الله اركبي، والباء في * (بخيلك) * قيل زائدة. وقيل: من الآدميين
55

أضيفوا إليه لانخراطهم في طاعته وكونهم أعوانهم على غيرهم قاله مجاهد.
وقال ابن عطية: وقوله * (بخيلك ورجلك) *. وقيل: هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك وأبلغ جهدك انتهى. وقال أبو علي ليس للشيطان خيل ولا رجل ولا هو مأمور إنما هذا زجر واستخفاف به كما تقول لمن تهدده اذهب فاصنع ما شئت واستعن بما شئت. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام وارد مورد التمثيل مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، واجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم انتهى. وقرأ الجمهور: * (ورجلك) * بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع واحد راجل كركب وراكب، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وحفص بكسر الجيم. قال صاحب اللوامح بمعنى الرجال. وقال ابن عطية هي صفة يقال فلان يمشي رجلا أي غير راكب ومنه قول الشاعر:
* رجلا إلا بأصحاب وقال الزمخشري: وقرئ * (ورجلك) * على أن فعلا بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب، ومعناه وجمعك الرجل وتضم جيمه أيضا فيكون مثل حدث وحدث وندس وندس وأخوات لهما انتهى. وقرأ قتادة وعكرمة ورجالك. وقرئ: ورجل لك بضم الراء وتشديد الجيم والمشاركة في الأموال. قال الضحاك: ما يذبحون لآلهتهم وقتادة البحيرة والسائبة. وقيل: ما أصيب من مال وحرام. وقيل: ما جعلوه من أموالهم لغير الله. وقيل: ما صرف في الزنا والأولى ما أخذ من غير حقه وما وضع في غير حقه والمشاركة في الأولاد. قال ابن عباس: تسميتهم عبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس وعبد الحارث، وعنه أيضا ترغيبهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية. وعنه أيضا إقدامهم على قتل الأولاد قال الحسن وقتادة. وما مجسوه وهودوه ونصروه وصبغوهم غير صبغة الإسلام. وقال مجاهد: عدم التسمية عند الجماع فالجان ينطوي إذ ذاك على إحليله فيجامع معه. وقيل ترغيبهم في القتال والقتل وحفظ الشعر المشتمل على الفحش، والأولى أنه كل تصرف في الولد يؤدي إلى ارتكاب منكر وقبيح، وأما وعده فهو الوعد الكاذب كوعدهم أن لا بعث وهذه مشاركة في النفوس.
*
وقال الزمخشري: * (وعدهم) * المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم) في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حميما، وإيثار العاجل على الآجل انتهى. وهو جاء على مذهب المعتزلة في أنه لا تغفر الذنوب بدون التوبة، وبأنه لا شفاعة في الكبائر، وبأنه لا يخرج من النار أبدا من دخلها من فاسق مؤمن. وانتصب * (غرورا) * وهو مصدر على أنه وصف لمصدر محذوف أي وعدا غرورا على الوجوه التي في رجل صوم، ويحتمل أن يكون مفعولا من أجله أي * (وما * يعدكم) * ويمنيكم ما لا يتم ولا يقع إلا لأن يغركم، والإضافة إليه تعالى في * (إن عبادى) * إضافة تشريف، والمعنى المختصين بكونهم * (عبادى) * لا يضافون إلى غيري كما قال في مقابلهم أولياؤهم الطاغوت وأولياء الشيطان.
وقيل: ثم صفة محذوفة أي * (إن عبادى) * الصالحين، ونفى السلطان وهو الحجة والاقتدار على إغوائهم عن الإيمان ويدل على لحظ الصفة قوله * (إنما سلطانه على الذين يتولونه) *. وقال الجبائي: * (عبادى) * عام في المكلفين، ولذلك استثنى منه في أي من اتبعه في قوله * (إلا من اتبعك من الغاوين) * واستدل بهذا على أنه لا سبيل له ولا قدرة على تخليط العقل وإنما قدرته على الوسوسة، ولو كان له قدرة على ذلك لخبط العلماء ليكون ضرره أتم، ومعنى * (وكيلا) * حافظا لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان أو * (وكيلا) * يكلون أمورهم إليه فهو حافظهم بتوكلهم عليه.
* (ربكم الذى يزجى لكم الفلك فى البحر لتبتغوا من
56

فضله إنه كان بكم رحيما * وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا * أفأمنتم) *.
لما ذكر تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم وأنها تضر وتنفع، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم، وتمكينه من وسوسة ذريته وستويله ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته، وأنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء، فذكر إحسانه إليهم بحرا وبرا، وأنه تعالى متمكن بقدرته مما يريده. وإزجاء الفلك سوقها من مكان إلى
مكان بالريح اللينة والمجاديف، وذلك من رحمته بعباده وابتغاء الفضل طلب التجارة أو الحج فيه أو الغزو. والضر في البحر الخوف من الغرق باضطرابه وعصف الريح، ومعنى * (ضل) * ذهب عن أوهامكم من تدعونه إلها فيشفع أو ينفع، أو * (ضل) * من تعبدونه إلا الله وحده فتفردونه إذ ذاك بالالتجاء إليه والاعتقاد أنه لا يكشف الضر إلا هو ولا يرجون لكشف الضر غيره. ثم ذكر حالهم إذ كشف عنهم من إعراضهم عنه وكفرانهم نعمة إنجائهم من الغرق، وجاءت صفة * (كفورا) * دلالة على المبالغة، ثم لم يخاطبهم بذلك بل أسند ذلك إلى الإنسان لطفا بهم وإحالة على الجنس إذ كل أحد لا يكاد يؤدي شكر نعم الله.
وقال الزجاج: المراد بالإنسان الكفار، والظاهر أن * (إلا إياه) * استثناء منقطع لأنه لم يندرج من قوله * (من تدعون) * إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله. وقيل: هو استثناء متصل وهذا على معنى ضل من يلجؤون إليه وهم كانوا يلجؤون في بعض أمورهم إلى معبوداتهم، وفي هذه الحالة لا يلجؤون إلا إلى الله والهمزة في * (أفأمنتم) * للإنكار. قال الزمخشري: والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم انتهى. وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أن الفاء والواو في مثل هذا التركيب للعطف على محذوف بين الهمزة وحرف العطف، وأن مذهب الجماعة أن لا محذوف هناك، وأن الفاء والواو للعطف على ما قبلها وأنه اعتنى بهمزة الاستفهام لكونها لها صدر الكلام فقدمت والنية التأخير، وأن التقدير فأمنتم. وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة والخطاب للسابق ذكرهم أي * (أفأمنتم) * أيها الناجون المعرضون عن صنع الله الذي نجاكم، وانتصب * (جانب) * على المفعول به بنخسف كقوله * (فخسفنا به وبداره الارض) * والمعنى أن تغيره بكم فتهلكون بذلك. وقال الزمخشري: أن نقلبه وأنتم عليه.
وقال الحوفي: * (جانب البر) * منصوب على الظرف، ولما كان الخسف تغييبا في التراب قال: * (جانب البر) * و * (بكم) * حال أي نخسف * (جانب البر) * مصحوبا بكم. وقيل: الباء للسبب أي بسببكم، ويكون المعنى * (جانب البر) * الذي أنتم فيه، فيحصل بخسفه إهلاكهم وإلا فلا يلزم من خسف * (جانب البر) * بسببهم إهلاكهم.
قال قتادة: الحاصب الحجارة. وقال السدي: رام يرميكم بحجارة من سجيل، والمعنى أن قدرته تعالى بالغة فإن كان نجاكم من الغرق وكفرتم نعمته فلا تأمنوا إهلاكه إياكم وأنتم في البر، إما بأمر يكون من تحتكم وهو تغوير الأرض بكم، أو من فوقكم بإرسال حاصب عليكم، وهذه الغاية في تمكن القدرة ثم * (لا تجدوا) * عند حلول أحد هذين بكم من تكلون أموركم إليه فيتوكل في صرف ذلك عنكم. و * (أم) * في * (أم أمنتم) * منقطعة تقدر بيل، والهمزة أي بل * (أمنتم) * والضمير في * (فيه) * عائد على البحر، وانتصب تارة على الظرف أي وقتا غير الوقت الأول، والباء في * (بما كفرتم) * سببية وما مصدرية، أي بسبب كفركم السابق منكم، والوقت الأول الذي نجاكم فيه أو بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائما. والضمير في * (به) * عائد على المصدر الدال عليه فنغرقكم، إذ هو أقرب مذكور وهو نتيجة الإرسال. وقيل عائد على الإرسال. وقيل: عليهما فيكون كاسم الإشارة والمعنى بما وقع من الإرسال والإغراق. والتبيع قال ابن عباس: النصير، وقال الفراء: طالب الثأر. وقال أبو عبيدة: المطالب. وقال الزجاج: من يتبع بالإنكار ما نزل بكم، ونظيره قوله تعالى * (فسواها * ولا يخاف عقباها) * وفي الحديث: (إذا اتبع أحدكم على
57

ملىء فليتبع). وقال الشماخ:
* كما لاذ الغريم من التبيع ويقال: فلان على فلان تبيع، أي مسيطر بحقه مطالب به. وأنشد ابن عطية:
*
* غدوا وغدت غزلانهم فإنها
*
ضوامن غرم لدهن تبيع
*
أي مطالب بحقه. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: ونخسف وأو نرسل وأن نعيدكم وفنرسل وفنغرقكم خمستها بالنون، وباقي القراء بياء الغيبة ومجاهد وأبو جعفر فتغرقكم بناء الخطاب مسندا إلى الريح والحسن وأبو رجاء * (فيغرقكم) * بياء الغيبة وفتح الغين وشد الراء، عداه بالتضعيف، والمقري لأبي جعفر كذلك إلا أنه بتاء الخطاب، وحميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن. وقرأ الجمهور: * (من الريح) * بالإفراد وأبو جعفر من الرياح جمعا.
2 (* (ولقد كرمنا بنىءادم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا * يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولائك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا * ومن كان فى هاذه أعمى فهو فى الا خرة أعمى وأضل سبيلا * وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينآ إليك لتفترى علينا غيره وإذا لآتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا * وإن كادوا ليستفزونك من الا رض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا * أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا * ومن اليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا * وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا * وقل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا * وننزل من القرءان ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) *)) 2
* (ولقد كرمنا بنىءادم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا * يوم ندعوا * كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه
فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا * ومن كان * فيه * هاذه أعمى فهو فى الاخرة أعمى وأضل سبيلا) *.
لما ذكر تعالى ما امتن به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق، تمم ذكر المنة بذكر تكرمتهم ورزقهم وتفضيلهم، أو لما هددهم بما هدد من الخسف والغرق وأنهم كافرو نعمته ذكر ما أنعم به عليهم ليتذكروا فيشكروا نعمه ويقلعوا عن ما كانوا فيه من الكفر ويطيعوه تعالى، وفي ذكر النعم وتعدادها هز لشكرها وكرم معدى بالتضعيف من كرم أي جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة، كما تقول: ثوب كريم وفر كريم أي جامع للمحاسن. وليس من كرم المال. وما جاء عن أهل التفسير من تكريمهم وتفضيلهم بأشياء ذكرها هو على سبيل التمثيل لا على الحصر في ذلك كما روي عن ابن عباس أن التفضيل بالعقل وعن الضحاك بالنطق. وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات، وعن يمان بحسن الصورة، وعن محمد بن كعب بجعل محمد عليه الصلاة والسلام منهم. وعن ابن جرير بالتسليط على غيره من الخلق وتسخيره له. وقيل: بالخط. وقيل: باللحية للرجل والذؤابة للمرأة. وعن ابن عباس: بأكله بيده وغيره بفمه. وقيل: بتدبير المعاش والمعاد. وقيل: بخلق الله آدم بيده. قال ابن عطية: وقد ذكر أن من الحيوان ما يفضل بنوع ما ابن آدم كجري الفرس وسمعه وإبصاره، وقوة الفيل، وشجاعة الأسد، وكرم الديك. قال: وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله وبه
58

يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه انتهى.
* (وحملناهم فى البر والبحر) * وهذا أيضا من تكريمهم. قال ابن عباس: في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل، وفي البحر على السفن. وقال غيره: على أكباد رطبة وأعواد يابسة. * (والطيبات) * كما تقدم الحلال أو المستلذ ولا يتسع غيره من الحيوان في الرزق اتساعه لأنه يكتسب المال ويلبس الثياب ويأكل المركب من الأطعمة بخلاف الحيوان، فإنه لا يكتسب ولا يلبس ولا يأكل غالبا إلا لحما نيئا وطعاما غير مركب، والظاهر أن كثيرا باق على حقيقته، فقالت طائفة: فضلوا على الخلائق كلهم غير جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم وهذا عن ابن عباس. وعنه إن الإنسان ليس أفضل من الملك وهو اختيار الزجاج. وقال ابن عطية: والحيوان والجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول. وقالت فرقة: الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس من حيث هم المستثنون، وقد قال تعالى * (ولا الملئكة المقربون) * وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل التساوي، وإنما يصح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع انتهى.
وقال الزمخشري: * (على كثير ممن خلقنا) * هو ما سوى الملائكة عليهم الصلاة والسلام، وحسب بني آدم * (تفضيلا) * أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتى جسرتهم المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك، ثم ذكر تشنيعا أقذع فيه يوقف عليه من كتابه. وقيل: * (وفضلناهم على كثير) * بالغلبة والاستيلاء. وقيل: بالثواب والجزاء يوم القيامة، وعلى هذين القولين لم تتعرض الآية للتفضيل المختلف فيه بين الإنس والملائكة. وقيل: المراد بكثير مجازه وهو إطلاقه على الجميع، والعرب تفعل ذلك وهو القول لا ينبغي أن يقال هنا لأنك لو جعلت جميعا كان بكثير، فقلت على جميع ممن خلقنا لكان نائيا عن الفصاحة، ولا يليق أن يحمل كلام الله تعالى الذي هو أفصح الكلام عليه، ولأبي عبد الله الرازي كلام في تكريم ابن آدم وتفضيله مستمد من كلام الذين يسمونهم حكماء يوقف عليه في تفسيره إذ هو جار على غير طريقة العرب في كلامها.
ولما ذكر تعالى أنواعا من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئا من أحوال الآخرة فقال: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) * واختلفوا في العامل في * (يوم) *. فقيل: العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو. وقيل: فتستجيبون. وقيل: هو بدل من يوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحا وهو في هذه الأقوال ظرف. وقال الحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفا بل هو مفعول. وقال ابن عطية أيضا بعد قوله هو ظرف: والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله * (ولا يظلمون) *، وحكاه أبو البقاء وقدره * (ولا يظلمون) * يوم ندعو. وقال ابن عطية أيضا: ويصح أن يعمل فيه * (وفضلناهم) * وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بين لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلا أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان، إذ يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا. وقال ابن عطية أيضا: ويصح أن يكون * (يوم) * منصوبا على البناء لما أضيف إلى غير متمكن، ويكون موضعه رفعا بالابتداء، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله * (فمن أوتى كتابه) * إلى قوله * (ومن كان) * انتهى. وقوله منصوبا على البناء كل ينبغي أن يقول مبنيا على الفتح، وقوله: لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين. وأما قوله: والخبر في التقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدر محذوفا، فقد يمكن أي ممن * (أوتى كتابه) * فيه * (بيمينه) * وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف.
وقال بعض النحاة: العامل فيه * (وفضلناهم) * على تقدير * (وفضلناهم) * بالثواب، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل. وقال الزجاج: هو ظرف لقوله ثم لا تجد. وقال الفراء: هو معمول لقوله نعيدكم
59

مضمرة أي نعيدكم * (يوم ندعوا) * والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوبا على المفعول به بأذكر مضمرة. وقرأ الجمهور: * (* ندعو) * بنون العظمة، ومجاهد يدعو بياء الغيبة أي يدعو الله، والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يدعى مبنيا للمفعول * (والمؤمنون كل) * مرفوع به، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واوا على لغة من يقول: أفعو في الوقف على أفعى، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به، وعلى أن تكون الواو ضميرا مفعولا لم يسم فاعله، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله:
* أبيت أسرى وتبيتى تدلكي
*
وجهك بالعنبر والمسك الزكي
*
أي تبيتين تدلكين وكل بدل من واو الضمير. * (* وأناس) * اسم جمع لا واحد له من لفظه، والباء في * (أناس بإمامهم) * الظاهر أنها تتعلق بندعو، أي باسم إمامهم. وقيل: هي باء الحال أي مصحوبين * (بإمامهم) *. والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العالية والربيع كتابهم الذي فيه أعمالهم. وقال الضحاك وابن زيد: كتابهم الذي نزل عليهم. وقال مجاهد وقتادة: نبيهم. قال ابن عطية: والإمام يعم هذا كله لأنه مما يؤتم به. وقال الزمخشري: إمامهم من ائتموا به نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين، فيقال: يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل: بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر. وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وشرف الحسن والحسين. وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بهاء حكمته انتهى. وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر، وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها * (فأولئك) * جاء جمعا على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولا فأفرد في قوله * (أوتى كتابه بيمينه) * وقراءتهم كتبهم هو على سبيل التلذذ بالإطلاع على ما تضمنتها من البشارة، وإلا فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهل السعادة ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر: * (هاؤم اقرؤا كتابيه) * ولم يأت هنا قسيم من * (أوتى كتابه بيمينه) * وهو من يؤتي كتابه بشماله، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله.
* (ومن كان فى هاذه أعمى) * وذلك من حيث المعنى مقابله لأن من * (أوتى كتابه بيمينه) * هم أهل السعادة * (ومن كان فى هاذه أعمى) * هم أهل الشقاوة * (ولا يظلمون فتيلا) * أي لا ينقصون أدنى شيء وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء. والظاهر أن الإشارة بقوله: * (فى هاذه) * إلى الدنيا وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي: من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي في شأن الآخرة، وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى معنى أنه خبر إن لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح. وقال مجاهد: هو أعمى في الآخرة عن حججه. وقال ابن عباس أيضا: * (ومن كان فى هاذه) * النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين * (أعمى) *. وقيل: ومن كان في الدنيا ضالا كافرا فهو في الآخرة أعمى * (وأضل سبيلا) * لأنه في الدنيا تقبل توبته، وفي الآخرة لا تقبل وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة. وقيل: فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة. وقيل: أعمى البصر كما قال * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا) * وقوله
60

* (ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا) *. وقيل: من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحق والاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار.
وقال ابن عطية: والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا * (أى منقلب * كان) * في دنياه * (هاذه) * وقت إدراكه وفهمه * (أعمى) * عن النظر في آيات الله فهو في يوم القيامة أشد حيرة وعمى لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه. وإذا جعلنا قوله * (فى الاخرة) * بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة الآيتين. وقال الزمخشري: والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أما في الدنيا فلفقد النظر، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل. ومن ثم قرأ أبو عمر والأول مما لا والثاني مفخما لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله * (أعمالكم) * وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة انتهى. وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه الزمخشري من أبي علي قال أبو علي: لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر، و * (أعمى) * ليس كذلك لأن تقديره * (أعمى) * من كذا فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر، ويقوي هذا التأويل عطف * (وأضل سبيلا) * لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو * (أضل سبيلا) * وأشد حيرة وأقرب إلى العذاب، و * (أعمى) * هنا من عمى القلب لا من عمى البصر لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا.
* (وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذا لآتخذوك خليلا * ولو * لا انفصام * ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا * وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) *.
الضمير في * (وإن كادوا) * قيل لقريش. وقيل لثقيف، وذكروا أسباب نزول مختلفة وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم)، ويوقف على ذلك في تفسير ابن عطية والزمخشري والتحرير وغير ذلك، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة، ومن عمى أهل الشقاوة أتبع ذلك بما يهم به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة، ومعنى * (ليفتنونك) * ليخدعونك وذلك في ظنهم لا أنهم قاربوا ذلك إذ هو معصوم عليه السلام أن يقاربوا فتنته عما أوحى الله إليه، وتلك المقاربة في زعمهم سببها رجاؤهم أن
يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه من تبديل الوعد وعيدا أو الوعيد وعدا، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزل عليه و * (ءان) * هذه هي المخففة من الثقيلة، وليتها الجملة الفعلية وهي * (كادوا) * لأنها من أفعال المقاربة وإنما تدخل على مذهب البصريين من الأفعال على النواسخ التي للإثبات على ما تقرر في علم النحو، واللام في * (ليفتنونك) * هي الفارقة بين أن هذه وأن النافية * (وإذا) * حرف جواب وجزاء، ويقدر قسم هنا تكون
61

* (لآتخذوك) * جوابا له، والتقدير والله * (إذا) * أي إن افتتنت وافتريت * (لآتخذوك) * ولا اتخذوك في معنى ليتخذونك كقوله * (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا) * أي ليظلن لأن * (إذا) * تقتضي الاستقبال لأنها من حيث المعنى جزاء فيقدر موضعها بأداة الشرط.
وقال الزمخشري: * (وإذا لآتخذوك) * أي ولو اتبعت مرادهم * (لآتخذوك خليلا) * ولكنت لهم وليا، ولخرجت من ولايتي انتهى. وهو تفسير معنى لا إن * (لآتخذوك) * جواب لو محذوفة. قال الزمخشري: * (ولو * لا انفصام * ثبتناك) * ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا لقد كدت تركن إليهم لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت، وفي ذلك لطف للمؤمنين إذن لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة * (إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف) * أي * (لأذقناك) * عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين. فإن قلت: كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت: أصله * (لأذقناك) * عذاب الحياة وعذاب الممات لأن العذاب عذابان، عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى: * (قال ادخلوا فى أمم قد) * يعني مضاعفا، فكان أصل الكلام * (لأذقناك) * عذابا ضعفا في الحياة، وعذابا ضعفا في الممات، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف، فقيل * (ضعف الحيواة وضعف الممات) * كما قيل * (لأذقناك) * أليم الحياة وأليم الممات، ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار والمعنى لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا. وما نؤخره لما بعد الموت انتهى.
وجواب * (لو * لا) * يقتضي إذا كان مثبتا امتناعه لوجود ما قبله، فمقاربة الركون لم تقع منه فضلا عن الركون والمانع من ذلك هو وجود تثبيت الله. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن مصرف: * (تركن) * بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وانتصب * (شيئا) * على المصدر. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات على معنى أن ما يستحقه من أذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه. وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت إلى قولهم بسبب فعلهم إليه مجازا واتساعا كما تقول للرجل: كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت.
وقال ابن عباس: كان الرسول صلى الله عليه وسلم) معصوما، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه انتهى. واللام في * (لأذقناك) * جواب قسم محذوف قبل * (إذا) * أي والله إن حصل ركون ليكونن كذا، والقول في * (لأذقناك) * كالقول في * (لآتخذوك) * من وقوع الماضي موضع المضارع الداخل عليه اللام والنون، وممن نص على أن اللام في * (لآتخذوك) * و * (لأذقناك) * هي لام القسم الحوفي. وقال الزمخشري: وفي ذكر الكيدودة وتعليلها مع اتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته انتهى. ومن ذلك * (عظيما يانساء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة) * الآية. قال الزمخشري: وفيه أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله انتهى.
وروي أنه لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين). قال حضرمي: الضمير في * (وإن كادوا) * ليهود المدينة وناحيتها كحيي بن أخطب وغيره، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقالوا: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، وإنما أرض الأنبياء الشام، ولكنك تخاف الروم فإن كنت نبيا فأخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فنزلت، وأخبر تعالى أنه لو خرج لم يلبثهم بعد * (إلا قليلا) *. وحكى النقاش أنه خرج بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت ورجع. قال ابن عطية: وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة انتهى.
وقالت فرقة: الضمير لقريش قاله ابن عباس وقتادة، واستفزازهم هو ما ذهبوا إليه من إخراجه من مكة كما ذهبوا إلى حصره في الشعب، ووقع استفزازهم
62

هذا بعد نزول الآية وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا * (إلا قليلا) * يوم بدر. وقال الزجاج حاكيا أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله والأرض على هذا الدنيا. وقال مجاهد: ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها لأنه لما أراد تعالى استبقاء قريش وأن لا يستأصلها أذن لرسوله في الهجرة فخرج بإذنه لا بقهر قريش، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم قال: ولو أخرجته قريش لعذبوا. ذهب مجاهد إلى أن الضمير في * (يلبثون) * لجميعهم. وقال الحسن: * (ليستفزونك) * ليفتنونك عن رأيك. وقال ابن عيسى: ليزعجونك ويستخفونك. وأنشد:
* يطيع سفيه القوم إذ يستفزه
*
ويعصى حليما شيبته الهزاهز
*
والظاهر أن الآية تدل على مقاربة استفزازه لأن يخرجوه، فما وقع الاستفزاز ولا إخراجهم إياه المعلل به الاستفزاز، ثم جاء في القرآن * (وكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك) * أي أخرجك أهلها. وفي الحديث: (يا ليتني كنت فيها جذعا إذ يخرجك قومك قال: أو مخرجي هم) الحديث فدل ذلك على أنهم أخرجوه
. لكن الإخراج الذي هو علة للأستفزاز لم يقع فلا تعارض بين الآيتين والحديث. وقال أبو عبد الله الرازي: ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله فزال التناقض انتهى.
* (ولا * يلبثون) * جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت * (لا يلبثون) * ولذلك لم تعمل * (إذا) * لأنها توسطت بين قسم مقدر، والفعل فلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب، ويحتمل أن تكون * (لا يلبثون) * خبرا لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره، وهم * (إذا لابتغوا * يلبثون) * فوقعت إذا بين المبتدأ وخبره فألغيت. وقرأ أبي وإذا لا يلبثوا بحذف النون أعمل إذا فنصب بها على قول الجمهور، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم وكذا هي في مصحف عبد الله محذوفة النون.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه القراءتين؟ قلت: أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم. وأما قراءة أبي ففيها الجملة برأسها التي هي وإذا لا يلبثوا عطف على جملة قوله * (وإن كادوا ليستفزونك) * انتهى. وقرأ عطاء * (لا يلبثون) * بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة. وقرأ يعقوب كذلك إلا أنه كسر الباء. وقرأ الأخوان وابن عامر وحفص * (خلافك) * وباقي السبعة خلفك والمعنى واحد. قال الشاعر:
* عفت الديار خلافهم فكأنما
*
بسط الشواطب بينهن حصيرا
*
وهذا كقوله * (فرح المخلفون بمقعدهم) * خلاف رسول الله أي خلف رسول الله في أحد التأويلات. وقرأ عطاء بن أبي رباح: بعدك مكان خلفك، والأحسن أن يجعل تفسيرا لخلفك لا قراءة لأنها لا تخالف سواد المصحف، فأراد أن يبين أن خلفك هنا ليست ظرف مكان وإنما تجوز فيها فاستعملت ظرف زمان بمعنى بعدك. وهذه الظروف التي هي قبل وبعد ونحوهما اطرد إضافتها إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله، في نحو خلفك أي خلف إخراجك، أو جاء زيد قبل عمرو أي قبل مجيء عمرو، وضحك بكر بعد خالد أي بعد ضحك خالد. وانتصب * (سنة) * على
63

المصدر المؤكد أي سن الله سنة، والمعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكهم بعد إخراجه ويستأصلهم ولا يقيمون بعده إلا قليلا. وقال الفراء: انتصب * (سنة) * على إسقاط الخافض لأن المعنى كسنة فنصب بعد حذف الكاف، وعلى هذا لا يقف على قوله * (إلا قليلا) *.
وقال أبو البقاء: * (سنة) * منصوب على المصدر أي سننا بك سنة من تقدم من الأنبياء، ويجوز أن يكون مفعولا به أي اتبع * (سنة من قد أرسلنا) * كما قال تعالى: * (فبهداهم اقتده) * انتهى. وهذا معنى غير الأول والمفسرون على الأول وهو المناسب لمعنى الآية قبلها * (ولن تجد) * لما أجرينا به العادة * (تحويلا) * منه إلى غيره إذ كل حادث له وقت معين وصفة معينة ونفي الوجدان هنا وفيما أشبهه معناه نفي الوجود.
2 (* (وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا * قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا * ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا * ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا * قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هاذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا * ولقد صرفنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا * وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الا رض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الا نهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السمآء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى فى السمآء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرءه قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان فى الا رض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السمآء ملكا رسولا * قل كفى
64

بالله شهيدا بينى وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا * ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أوليآء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا * ذلك جزآؤهم بأنهم كفروا بأاياتنا وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا * أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والا رض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا * قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا * ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات فاسأل بنى إسراءيل إذ جآءهم فقال له فرعون إنى لأظنك ياموسى مسحورا * قال لقد علمت مآ أنزل هاؤلاء إلا رب السماوات والا رض بصآئر وإنى لأظنك يافرعون مثبورا * فأراد أن يستفزهم من الا رض فأغرقناه ومن معه جميعا * وقلنا من بعده لبنى إسراءيل اسكنوا الا رض فإذا جآء وعد الا خرة جئنا بكم لفيفا * وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا * قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للا ذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنآ إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للا ذقان يبكون ويزيدهم خشوعا * قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الا سمآء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذالك سبيلا * وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا) *))
) *
الدلوك الغروب قاله الفراء وابن قتيبة، واستدل الفراء بقول الشاعر:
* هذا مقام قدمي رباح
*
غدوة حتى دلكت براح
*
أي حتى غابت الشمس، وبراح اسم الشمس وأنشد ابن قتيبة لذي الرمة:
65

* مصابيح ليست باللواتي يقودها
*
نجوم ولا بالآفلات الدوالك
*
وقيل: الدلوك زوال الشمس نصف النهار. قيل واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان تدلك عينه عند النظر إليها. وقيل الدلوك من وقت الزوال إلى الغروب. الغسق سواد الليل وظلمته. قال الكسائي غسق الليل غسوقا والغسق الاسم بفتح السين. وقال النضر بن شميل: غسق الليل دخول أوله. قال الشاعر:
* إن هذا الليل قد غسقا
*
واشتكيت الهم والأرقا
*
وأصله من السيلان غسقت العين تغسق هملت بالماء والغاسق السائل، وذلك أن الظلمة تنصب على العالم. قال الشاعر:
* ظلت تجوديداها وهي لاهية
*
حتى إذا جنح الاظلام والغسق
*
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق؟ قال: الليل بظلمته، ويقال غسقت العين امتلأت دما. وحكى الفراء غسق الليل واغتسق وظلم وأظلم ودجى وأدجى وغبش وأغبش، أبو عبيدة الهاجد النائم والمصلي. وقال ابن الإعرابي: هجد الرجل صلى من الليل، وهجد نام بالليل. وقال الليث تهجد استيقظ للصلاة. وقال ابن برزح هجدته أيقظته، فعلى ما ذكروا يكون من الأضداد، والمعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم وقد هجد هجودا نام. قال الشاعر:
* ألازارت وأهل مني هجود
*
وليت خيالنا منا يعود
*
وقال آخر:
ألا طرقتنا والرفاق هجود
وقال الآخر:
وبرك هجود قد أثارت مخافتي
66

زهقت نفسه تزهق زهوقا ذهبت، وزهق الباطل زال واضمحل، ولم يثبت. قال الشاعر:
* ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
*
إقدامه مزالة لم تزهق
*
ناء ينوء: نهض. الشاكلة الطريقة والمذهب الذي جبل عليه قاله الفراء، وهو مأخوذ من الشكل يقال لست على شكلي ولا شاكلتي، والشكل المثل والنضير، والشكل بكسر الشين الهيئة يقال جارية حسنة الشكل. الينبوع مفعول من النبع وهو عين تفور بالماء. الكسف القطع واحدها كسفة، تقول العرب: كسفت الثوب ونحوه قطعته،
وما زعم الزجاج من أن كسف بمعنى غطى ليس بمعروف في دواوين اللغة. الرقي والرقى الصعود يقال: رقيت في السلم أرقى قال الشاعر:
* أنت الذي كلفتني رقي الدرج
*
على الكلال والمشيب والعرج
*
خبت النار تخبو: سكن لهبها وخمدت سكن جمرها وضعف وهمدت طفئت جملة. قال الشاعر:
* أمن زينب ذي النار قبيل الصبح
*
ما تخبو إذا ما أخمدت ألقى عليها المندل الرطب وقال الآخر
*
وسطه كاليراع أو سرج المجدل
طورا يخبو وطورا ينير
*
الثبور: الهلاك يقال: ثبر الله العدو ثبورا أهلكه. وقال ابن الزبعري:
* إذا جارى الشيطان في سنن الغي
*
ومن مال مثله مثبور اللفيف الجماعات من قبائل شتى مختلطة قد لف بعضها ببعض. وقال بعض اللغويين: هو من أسماء الجموع لا واحد له من لفظه. وقال الطبري: هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفا ولفيفا. المكث: التطاول في المدة، يقال: مكث ومكث أطال الإقامة. الذقن مجتمع اللحيين. قال الشاعر:
*
فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم
سباع من الطير العوادي وتنتف
*
67

خافت بالكلام أسره بحيث لا يكاد يسمعه المتكلم وضربه حتى خفت أي لا يسمع له حس.
* (أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا * ومن اليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا * وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا * وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا * وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) *.
ومناسبة * (أقم الصلواة) * لما قبلها أنه تعالى لما ذكر كيدهم للرسول وما كانوا يرومون به، أمره تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه وأن لا يشغل قلبه بهم، وكان قد تقدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان وهي الصلاة وتقدم الكلام في إقامة الصلاة والمواجه بالأمر الرسول عليه الصلاة والسلام. واللام في * (لدلوك) * قالوا: بمعنى بعد أي بعد دلوك * (الشمس) * كما قالوا ذلك في قوم متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكا:
* فلما تفرقنا كأني ومالكا
*
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
*
أي بعد طول اجتماع ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا. وقال الواحدي: اللام للسبب لأنها إنما تجب بزوال الشمس، فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس. قال ابن عطية: * (أقم الصلواة) * الآية هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة. فقال ابن عمر وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور: دلوك الشمس زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل إشارة إلى المغرب والعشاء * (أقم الصلواة) * أريد به صلاة الصبح، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات. وروي ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر). وروي جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم) خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس، فقال: (أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس). وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم: دلوك الشمس غروبها والإشارة بذلك إلى المغرب * (قم اليل) * ظلمته فالإشارة إلى العتمة * (أقم الصلواة) * صلاة الصبح، ولم تقع إشارة على هذا التأويل إلى الظهر والعصر
انتهى. وعن علي أنه الغروب، وتتعلق اللام وإلى بأقم، فتكون إلى غاية للإقامة. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الصلاة قال: أي ممدودة ويعني بقرآن الفجر صلاة الصبح، وخصت بالقرآن وهو القراءة لأنه عظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها، وانتصب * (أقم الصلواة) * عطفا على * (الصلواة) *.
*
وقال الأخفش: انتصب بإضمار فعل تقديره وآثر * (أقم الصلواة) * أو عليك * (أقم الصلواة) * انتهى. وسميت صلاة الصبح ببعض ما يقع فيها. وقال الزمخشري: سميت صلاة الفجر قرآنا وهي القراءة لأنها ركن كما سميت ركوعا وسجودا وقنوتا وهي حجة علي ابن أبي علية. والأضم في زعمهما أن القراءة ليست بركن انتهى. وقيل: إذا فسرنا الدلوك بزوال الشمس كان الوقت مشتركا بين الظهر والعصر إذا غييت الإقامة بغسق الليل، ويكون الغسق وقتا مشتركا بين الغرب والعشاء، ويكون المذكور ثلاثة أوقات: أول وقت الزوال، وأول وقت المغرب، وأول وقت الفجر انتهى، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أنه أمر بإقامة الصلاة إما من أول الزوال إلى الغسق، وبقرآن الفجر، وإما من الغروب إلى
68

الغسق وبقرآن الفجر، فيكون المأمور به الصلاة في وقتين ولا تؤخذ أوقات الصلوات الخمس من هذا اللفظ بوجه.
وقال أبو عبد الله الرازي في قوله * (أقم الصلواة) * دلالة على أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة لأن الأمر على الوجوب، ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة ومن قال معنى * (أقم الصلواة) * صلاة الفجر غلط لأنه صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز بغير دليل، ولأن في نسق التلاوة * (ومن اليل فتهجد به نافلة لك) * ويستحيل التهجد بصلاة الفجر ليلا. والهاء في * (به) * كناية عن * (أقم الصلواة) * المذكور قبله، فثبت أن المراد حقيقة القرآن لامكان التهجد بالقرآن المقروء في صلاة الفجر واستحالة التهجد في الليل بصلاة الفجر، وعلى أنه لو صح أن يكون المراد ما ذكروا لكانت دلالته قائمة على وجوب القراءة في الصلاة لأنه لم تجعل القراءة عبارة عن الصلاة إلا وهي من أركانها انتهى. وفيه بعض تلخيص والظاهر ندبية إيقاع صلاة الصبح في أول الوقت لأنه مأمور بإيقاع قرآن الفجر، فكان يقتضي الوجوب أول طلوع الفجر، لكن الإجماع منع من ذلك فبقي الندب لوجود المطلوبية، فإذا انتفى وجوبها بقي ندبها وأعاد * (أقم الصلواة) * في قوله * (أقم الصلواة لدلوك) * ولم يأت مضمرا فيكون أنه على سبيل التعظيم والتنويه بقرآن الفجر ومعنى * (مشهودا) * تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار كما جاء في الحديث: (إنهم يتعاقبون ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر). وهذا قول الجمهور. وقيل يشهده الكثير من المصلين في العادة. وقيل: من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون * (أقم الصلواة) * حثا على طول القراءة في صلاة الفجر لكونها مكثورا عليها ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة انتهى. ويعني بقوله حثا أن يكون التقدير وعليك * (أقم الصلواة) * أو والزم.
وقال محمد بن سهل بن عسكر: * (مشهودا) * يشهده الله وملائكته، وذكر حديث أبي الدرداء أنه تعالى ينزل في آخر الليل ولأبي عبد الله الرازي كلام في قوله * (مشهودا) * على عادته في تفسير كتاب الله على ما لا تفهمه العرب، والذي ينبغي بل لا يعدل عنه ما فسره به الرسول صلى الله عليه وسلم) من قوله فيه: (يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار). وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح.
ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة للوقت المذكور ولم يدل أمره تعالى إياه على اختصاصه بذلك دون أمته ذكر ما اختصه به تعالى وأوجبه عليه من قيام الليل وهو في أمته تطوع. فقال: * (ومن اليل فتهجد به) * أي بالقرآن في الصلاة * (نافلة) * زيادة مخصوصا بها أنت وتهجد هنا تفعل بمعنى الإزالة والترك، كقولهم: تأثم وتحنث ترك التأثم والتحنث، ومنه تحنثت بغار حراء أي بترك التحنث، وشرح بلازمه وهو التعبد * (ومن) * للتبعيض. وقال الحوفي: * (من) * متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام تقديره واسهر من الليل بالقرآن، قال: ويجوز أن يكون التقدير وقم بعد نومة من الليل. وقال ابن عطية * (ومن) * للتبعيض التقدير وقتا من الليل أي وقم وقتا من الليل. وقال الزمخشري: * (ومن اليل) * وعليك بعض الليل * (فتهجد به) * والتهجد ترك الهجود للصلاة انتهى. فإن كان تفسيره وعليك بعض الليل تفسير معنى فيقرب، وإن كان أراد صناعة النحو والإعراب فلا يصح لأن المغري به لا يكون حرفا، وتقدير من ببعض فيه مسامحة لأنه ليس بمرادفه البتة، إذ لو كان مرادفه للزم أن يكون اسما ولا قائل بذلك، ألا ترى إجماع النحويين على أن واو مع حرف وإن قدرت بمع، والظاهر أن الضمير في * (به) * يعود على القرآن لتقدمه في الذكر، ولا تلحظ الإضافة فيه والتقدير * (فتهجد) * بالقرآن في الصلاة. وقال ابن عطية: والضمير في * (به) * عائد على وقت المقدر في وقم وقتا من الليل انتهى. فتكون الباء ظرفية أي * (فتهجد) * فيه
69

وانتصب * (نافلة) *. قال الحوفي: على المصدر أي نفلناك نافلة قال: ويجوز أن ينتصب * (نافلة) * بتهجد إذا ذهبت بذلك إلى معنى صل به نافلة أي صل نافلة لك.
وقال أبو البقاء: فيه وجهان أحدهما: هو مصدر بمعنى تهجد أي تنفل نفلا و * (نافلة) * هنا مصدر كالعاقبة والثاني هو حال أي صلاة نافلة انتهى. وهو حال من الضمير في * (به) * ويكون عائدا على القرآن لا على وقت الذي قدره ابن عطية. وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود والحجاج بن عمرو: التهجد بعد نومة. وقال الحسن: ما كان بعد العشاء الآخرة. وقال ابن عباس: * (نافلة) * زيادة لك في الفرض وكان قيام الليل فرضا عليه. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون على جهة الندب في التنفل والخطاب له والمراد هو وأمته كخطابه في * (أقم الصلواة) *. وقال مجاهد السدي: إنما هي نافلة له قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية، فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقربا أشرف من نوافل أمته لأن هذه أعني نوافل أمته إما أن يجبر بها فرائضهم، وإما أن يحط بها خطيئاتهم. وضعف الطبري قول مجاهد واستحسنه أبو عبد الله الرازي. وقال مقاتل فله كرامة وعطاء لك. وقيل: كانت فرضا ثم رخص في تركها. ومن حديث زيد بن خالد
الجهني: رمق صلاته على ه الصلاة والسلام ليلة فصلى بالوتر ثلاث عشرة ركعة. وعن عائشة: أنه ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.
و * (عسى) * مدلولها في المحبوبات الترجي. فقيل: هي على بابها في الترجي تقديره لتكن على رجاء من * (أن يبعثك) *. وقيل هي بمعنى كي، وينبغي أن يكون هذا تفسير معنى، والأجود أن أن هذه الترجية والإطماع بمعنى الوجوب من الله تعالى وهو متعلق من حيث المعنى بقوله: * (فتهجد) * * (وعسى) * هنا تامة وفاعلها * (أن يبعثك) *، و * (ربك) * فاعل بيبعثك و * (مقاما) * الظاهر أنه معموله ليبعثك هو مصدر من غير لفظ الفعل لأن يبعثك بمعنى يقيمك تقول أقيم من قبره وبعث من قبره. وقال ابن عطية: منصوب على الظرف أي في مقام محمود. وقيل: منصوب على الحال أي ذا مقام. وقيل: هو مصدر لفعل محذوف التقدير فتقوم * (مقاما) * ولا يجوز أن تكون * (عسى) * هنا ناقصة، وتقدم الخبر على الاسم فيكون * (ربك) * مرفوعا اسم * (عسى) * و * (أن يبعثك) * الخبر في موضع نصب بها إلا في هذا الإعراب الأخير. وأما في قبله فلا يجوز لأن * (مقاما) * منصوب بيبعثك و * (ربك) * مرفوع بعسى فيلزم الفصل بأجنبي بين ما هو موصول وبين معمول. وهو لا يجوز.
وفي تفسير المقام المحمود أقوال.
أحدهما: أنه في أمر الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم)، والحديث في الصحيح وهي عدة من الله تعالى له عليه الصلاة والسلام، وفي هذه الشفاعة يحمده أهل الجمع كلهم وفي دعائه المشهور: (وابعثه المقام المحمود الذي وعدته) واتفقوا على أن المراد منه الشفاعة.
الثاني: أنه في أمر شفاعته لأمته في إخراجه لمذنبهم من النار، وهذه الشفاعة لا تكون إلا بعد الحساب ودخول الجنة ودخول النار، وهذه لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء. وقد روي حديث هذه الشفاعة وفي آخره: (حتى لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن) أي وجب عليه الخلود. قال: ثم تلا هذه الآية * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *. وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: (المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي فظاهر هذا الكلام تخصيص شفاعته لأمته، وقد تأوله من حمل ذلك على الشفاعة العظمى التي يحمده بسببها الخلق كلهم على أن المراد لأمته وغيرهم أو يقال إن كل مقام منهما محمود.
الثالث: عن حذيفة: يجمع الله الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم)، فيقول: لبيك وسعديك والشر
70

ليس إليك) والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا منجأ ولا منجى إلا إليك، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت. قال: فهذا قوله * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *.
الرابع قال الزمخشري: معنى المقام المحمود المقام الذي يحمده القائم فيه، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات انتهى. وهذا قول حسن ولذلك نكر * (مقاما محمودا) * فلم يتناول مقاما مخصوصا بل كل مقام محمود صدق عليه إطلاق اللفظ.
الخامس: ما قالت فرقة منها مجاهد وقد روي أيضا عن ابن عباس أن المقام المحمود هو أن يجلسه الله معه على العرش. وذكر الطبري في ذلك حديثا وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يحدثون بهذا. قال ابن عطية: يعني من أنكر جوازه على تأويله. وقال أبو عمرو ومجاهد: إن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما هذا والثاني في تأويل * (إلى * بها * ناظرة) * قال: تنتظر الثواب ليس من النظر، وقد يؤول قوله معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله * (إن الذين عند ربك) * وقوله * (ابن لى عندك بيتا) * و * (إن الله * لمع المحسنين) * كل ذلك كناية عن المكانة لا عن المكان.
وقال الواحدي: هذا القول مروي عن ابن عباس وهو قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه.
الأول: أن البعث ضد الإجلاس بعثت التارك وبعث الله الميت أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد.
الثاني: لو كان جالسا تعالى على العرش لكان محدودا متناهيا فكان يكون محدثا.
الثالث: أنه قال * (مقاما) * ولم يقل مقعدا * (محمودا) *، والمقام موضع القيام لا موضع القعود.
الرابع: أن الحمقى والجهال يقولون إن أهل الجنة يجلسون كلهم معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنيوية فلا مزية له بإجلاسه معه.
الخامس: أنه إذا قيل بعث السلطان فلانا لا يفهم منه أجلسه مع نفسه انتهى. وفيه بعض تلخيص.
ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بعثه * (مقاما محمودا) * وذلك في الآخرة أمره بأن يدعوه بما يشمل أموره الدنيوية والأخروية، فقال * (وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق) * والظاهر أنه عام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية، والصدق هنا لفظ يقتضي رفع المذام واستيعاب المدح كما تقول: رجل صدق إذ هو مقابل رجل سوء. وقال ابن عباس والحسن وقتادة: هو إدخال خاص وهو في المدينة، وإخراج خاص وهو من مكة. فيكون المقدم في الذكر هو المؤخر في الوقوع، ومكان الواو هو الأهم فبدىء به. وقال مجاهد وأبو صالح: ما معناه إدخاله فيما حمله من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط. وقال الزمخشري: أدخلني القبر * (مدخل صدق) * إدخالا مرضيا على طهارة وطيب من السيئات، وأخرجني منه عند البعث إخراجا مرضيا ملقى بالكرامة آمنا من السخط، يدل عليه ذكره على ذكر البعث. وقيل: إدخاله مكة ظاهرا عليها بالفتح، وإخراجه منها آمنا من المشركين. وقال محمد بن المنكدر: إدخاله الغار وإخراجه منه سالما. وقيل: الإخراج من المدينة والإدخال مكة بالفتح. وقيل: الإدخال في الصلاة والإخراج في الجنة والإخراج من مكة. وقيل: الإدخال فيما أمر به والإخراج مما نهاه عنه. وقيل: * (أدخلنى) * في بحار دلائل التوحيد والتنزيه، * (وأخرجنى) * من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول
والتأمل في آثار محدثاته إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد. وقال أبو سهل: حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون: * (ليخرجن الاعز منها الاذل) * يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة، والأحسن في هذه الأقوال أن تكون على سبيل التمثيل لا التعيين، ويكون اللفظ كما ذكرناه يتناول جميع الموارد والمصادر.
وقرأ الجمهور: * (مدخل) * و * (مخرج) * بضم ميمهما وهو جار قياسا على أفعل مصدر، نحو أكرمته
71

مكرما أي إكراما. وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة بفتحهما. وقال صاحب اللوامح: وهما مصدران من دخل وخرج لكنه جاء من معنى * (أدخلنى) * * (وأخرجنى) * المتقدمين دون لفظهما ومثلهما * (أنبتكم من الارض نباتا) * ويجوز أن يكونا اسم المكان وانتصابهما على الظرف، وقال غيره: منصوبان مصدرين على تقدير فعل أي * (أدخلنى) * فأدخل * (مدخل صدق) * * (وأخرجنى) * فأخرج * (مخرج صدق) *.
والسلطان هنا قال الحسن: التسليط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بإقامة الحدود. وقال قتادة: ملكا عزيزا تنصرني به على كل من ناواني. وقال مجاهد: حجة بينة. وقيل: كتابا يحوي الحدود والأحكام. وقيل: فتح مكة. وقيل: في كل عصر * (سلطانا) * ينصرك دينك و * (نصيرا) * مبالغة في ناصر. وقيل: فعيل بمعنى مفعول، أي منصورا، وهذه الأقوال كلها محتملة لقوله * (سلطانا نصيرا) * وروي أنه تعالى وعده ذلك وأنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته. قال قتادة: و * (الحق) * القرآن و * (الباطل) * الشيطان. وقال ابن جريج: الجهاد و * (الباطل) * الشرك. وقيل: الإيمان والكفر. وقال مقاتل: جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان، وهذه الآية نزلت بمكة ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بمخصرة حسبما ذكر في السير. و * (زهوقا) * صفة مبالغة في اضمحلاله وعلم ثبوته في وقت ما.
و * (من) * في * (من ثلثى) * لابتداء الغاية. وقيل للتبعيض قاله الحوفي: وأنكر ذلك لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ورد هذا الإنكار لأن إنزاله إنما هو مبعض. وقيل: لبيان الجنس قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء، وقد ذكرنا أن من التي لبيان الجنس لا تتقدم على المبهم الذي تبينه وإنما تكون متأخرة عنه. وقرأ الجمهور: و * (ننزل) * بالنون ومجاهد بالياء خفيفة ورواها المروزي عن حفص. وقرأ زيد بن علي: * (شفاء ورحمة) * بنصبهما ويتخرج النصب على الحال وخبر هو قوله * (للمؤمنين) * والعامل فيه ما في الجار والمجرور من الفعل، ونظيره قراءة من قرأ * (والسماوات مطويات بيمينه) * بنصب مطويات. وقول الشاعر:
* رهط ابن كوز محقي أدراعهم
*
فيهم ورهط ربيعة بن حذار
*
وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف أو المجرور لا يجوز إلا عند الأخفش، ومن منع جعله منصوبا على إضمار أعني وشفاؤه كونه مزيلا للريب كاشفا عن غطاء القلب بفهم المعجزات والأمور الدالة على الله المقررة لدينه، فصار لعلات القلوب كالشفاء لعلات الأجسام. وقيل: شفاء بالرقى والعوذ كما جاء في حديث الذي رقي بالفاتحة من لسعة العقرب. واختلفوا في النشرة وهو أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه، فأجاز ذلك ابن المسيب ولم يره مجاهد. وعن عائشة: كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض. وقال أبو عبد الله المازني: النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم، سميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبهما أي تحل، ومنعها الحسن والنخعي. وروي أبو داود من حديث جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم) قال وقد سئل عن النشرة: (هي من عمل الشيطان). ويحمل ذلك على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة الرسول، والنشرة من جنس الطب في غسالة شيء له فضل.
72

وقال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين أما بعد نزول البلاء فيجوز رجاء الفرج والبرء والمرض كالرقى المباحة التي وردت السنة بها من العين وغيرها. وقال ابن المسيب: يجوز تعليق العوذة في قصبة أو رقعة من كتاب الله ويضعه عند الجماع وعند الغائط، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان.
وخسار الظالمين وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه هو بإعراضهم عنه وعدم تدبره بخلاف المؤمن فإنه يزداد بالنظر فيه وتدبر معانيه إيمانا.
* (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه كان يئوسا * قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا * ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا * ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا) *.
لما ذكر تعالى تنويع ما أنزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمن وبزيادة خسارة للظالم، وعرض بما أنعم به وما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان، ومع ذلك * (أعرض) * عنه وبعد بجانبه اشمئزازا له وتكبرا عن قرب سماعه وتبديلا مكان شكر الإنعام كفره. وقرأ الجمهور: * (ونأى) * من النأي وهو البعد، وقرأ ابن عامر وناء. وقيل هو مقلوب نأى فمعناه بعد. وقيل: معناه نهض بجانبه. وقال الشاعر:
* حتى إذا ما التأمت مفاصله
*
وناء في شق الشمال كاهله
*
أي نهض متوكئا على شماله. ومعنى * (* يؤوسا) * قنوطا من أن ينعم الله عليه. والظاهر أن المراد بالإنسان هنا ليس واحدا بعينه بل المراد به الجنس كقوله * (جمعا إن الإنسان لربه لكنود) * * (إن الإنسان خلق هلوعا) * الآية وهو راجع لمعنى الكافر، والإعراض يكون بالوجه والنأي بالجانب يكون بتولية العطف أو يراد بنأي الجانب الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين. والشاكلة قال ابن عباس: ناحيته. وقال مجاهد: طبيعته. وقال الضحاك: حدته. وقال قتادة والحسن: نيته. وقال ابن زيد: دينه. وقال مقاتل: خلقه وهذه أقوال متقاربة. وقال الزمخشري: على مذهب الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه، والدليل عليه قوله * (فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) * أي أشد مذهبا وطريقة.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: لم أر في القرآن آية أرجى من التي فيها * (غافر الذنب وقابل التوب) * قدم الغفران قبل قبول التوبة. وعن عثمان رضي الله عنه لم أر آية أرجى من * (نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم) *. وعن علي كرم الله وجهه ورضي عنه لم أر آية أرجى من * (قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) * الآية. قالوا ذلك حين تذاكروا القرآن. وعن القرطبي: لم أر آية أرجى من * (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * الآية.
وقال أبو عبد الله الرازي: الأرواح والنفوس مختلفة بماهيتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور، وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال ونكال انتهى. وثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال: إني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) في حرث بالمدينة وهو متكئ على عسيب، فمر بنا ناس من اليهود فقال: سلوه عن الروح فقال بعضهم: لا تسألوه فسيفتيكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا: يا أبا القاسم ما تقول في الروح؟ فسكت ثم ماج فأمسكت بيدي
73

على جبهته، فعرفت أنه ينزل عليه فأنزل عليه * (ويسئلونك عن الروح) * الآية. وروي أن يهود قالوا لقريش: سلوه عن الروح وعن فتية فقدوا في أول الزمان، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها فإن أجاب في ذلك كله أو لم يجب في شيء فهو كذاب، وإن أجاب في بعض ذلك وسكت عن بعض فهو نبي. وفي بعض طرق هذا: إن فسر الثلاثة فهو كذاب وإن سكت عن الروح فهو نبي فنزل في شأن الفتية * (أم حسبت أن أصحاب الكهف) * ونزل في شأن الذي بلغ الشرق والغرب * (ويسألونك عن ذى القرنين) * ونزل في الروح * (ويسئلونك عن الروح) * والظاهر من حديث ابن مسعود أن الآية مدنية ومن سؤال قريش أنها مكية، والروح على قول الجمهور هنا الروح التي في الحيوان وهو اسم جنس وهو الظاهر. وقال قتادة: هو جبريل عليه السلام قال وكان ابن عباس يكتمه. وقيل: عيسى ابن مريم عليه السلام وعن علي أنه ملك، وذكر من وصفه ما الله أعلم به ولا يصح عن علي.
وقيل: الروح القرآن ويدل عليه الآية قبله والآية بعده. وقيل: خلق عظيم روحاني أعظم من الملك. وقيل: الروح جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام ذكره العزيزي. وقال أبو صالح خلق كخلق آدم وليسوا بني آدم لهم أيد وأرجل، ولا ينزل ملك من السماء إلا ومعه واحد منهم، والصحيح من هذه الأقوال القول الأول، والظاهر أنهم سألوا عن ماهيتها وحقيقتها وقيل عن كيفية مداخلتها الجسد الحيواني وانبعاثها فيه وصورة ملابستها له، وكلاهما مشكل لا يعلمه قبل إلا الله. وقد رأيت كتابا يترجم بكتاب النفخة والتسوية لبعض الفقهاء المتصوفة يذكر فيها أن الجواب في قوله * (قل الروح من أمر ربى) * إنما هو للعوام، وأما الخواص فهم عنده يعرفون الروح، وأجمع علماء الإسلام على أن الروح مخلوقة، وذهب كفرة الفلاسفة وكثير ممن ينتمي إلى الإسلام إلى أنها قديمة واختلاف الناس في الروح بلغ إلى سبعين قولا، وكذلك اختلفوا هل الروح النفس أم شيء غيرها، ومعنى * (من أمر ربى) * أي فعل ربي كونها بأمره، وفي ذلك دلالة على حدوثها والأمر بمعنى الفعل وارد قال تعالى * (وما أمر فرعون برشيد) * أي فعله، ويحتمل أن يكون أمرا واحدا الأمور وهو اسم جنس لها أي من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها. وقيل: من وحي ربي، وكلامه ليس من كلام البشر ويتخرج على قول من قال إن الروح هنا القرآن. وقيل: من علم ربي والظاهر أن الخطاب في * (وما أوتيتم) * هم الذين سألوا عن الروح وهم طائفة من اليهود. وقيل اليهود بجملتهم. وقيل الناس كلهم.
قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح لأن قوله * (قل الروح) * إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ جميع علومهم محصورة وعلمه تعالى لا يتناهى. وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش: وما أوتوا بضمير الغيبة عائدا على السائلين، ولما ذكر تعالى ما أنعم به من تنزيل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم) شفاء ورحمة وقدرته على ذلك، ذكر قدرته على أنه لو شاء لذهب بما أوحى ولكنه تعالى لم يشأ ذلك والمعنى أنا كما نحن قادرون على إنزاله نحن قادرون على إذهابه. وقال أبو سهل: هذا تهديد لغير الرسول صلى الله عليه وسلم) بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة. وروي لا تقوم الساعة حتى يرتفع القرآن والحديث وفي حديث ابن مسعود يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وبما في القلوب، ثم قرأ عبد الله * (ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك) *. وقال صاحب التحرير: ويحتمل عندي في تأويل الآية وجه غير ما ذكر وهو أنه صلى الله عليه وسلم) لما أبطأ عليه الوحي لما سئل عن الروح شق ذلك عليه وبلغ منه الغاية، فأنزل الله تعالى تهذيبا له هذه الآية. ويكون التقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنا لو شئنا ذهبنا بما * (أوحينا إليك) * جميعه فسكت النبي صلى الله عليه وسلم) وطاب قلبه ولزم الأدب انتهى. والباء في * (لنذهبن بالذى) * للتعدية كالهمزة وتقدم الكلام على ذلك في قوله * (لذهب بسمعهم) * في أوائل سورة البقرة. والكفيل هنا قيل من يحفظ ما أوحينا
74

إليك. وقيل كفيلا بإعادته إلى الصدور. وقيل كفيلا يضمن لك أن يؤتيك ما أخذ منك. وقال الزمخشري: والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف ولم نترك له أثرا وبقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب ثم لا تجد لك بهذا الذهاب من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظا مسطورا * (إلا رحمة من ربك)
* إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كان رحمته يتوكل عليه بالرد أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة من ربك نتركه غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة في تنزيله وتحفيظه انتهى. وعلى الاستثناء المنقطع خرجه ابن الأنباري وابن عطية.
قال ابن الأنباري: لكن رحمة من ربك تمنع من أن تسلب القرآن، وقال في زاد المسير المعنى لكن الله يرحمك فأثبت ذلك في قلبك. وقال ابن عطية: لكن * (رحمة من ربك) * تمسك ذلك عليك وتخريج الزمخشري الأول جعله استثناء متصلا جعل رحمته تعالى مندرجة تحت قوله تعالى * (وكيلا) *.
* (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هاذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) *.
لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه صلى الله عليه وسلم) بالنبوة بإنزال وحيه عليه وباهر قدرته بأنه تعالى لو شاء لذهب بالقرآن، ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله، وأنه من أكبر النعم والفضل الذي أبقى له ذكرا إلى آخر الدهر ورفع له قدرا به في الدنيا والآخرة، وإذا كان فصحاء اللسان الذي نزل به وبلغاؤهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأن يكونوا أعجز عن * (أن يأتوا بمثل) * جميعه، ولو تعاون الثقلان عليه * (لا يأتون بمثله ولو كان) * الجن تفعل أفعالا مستغربة كما حكى الله عنهم في قصة سليمان عليه السلام أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ في العجز، ويحتمل أن تكون الملائكة مندرجين تحت لفظ الجن لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم كقوله * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس، ويحتمل أن يكون ذكر الجن هنا لأنه عليه السلام بعث إلى الإنس والجن فوقع التعجيز للثقلين معا لذلك.
وروي أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم): جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا، فنزلت * (ولا يأتون) * جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في * (لئن) * وهي الداخلة على الشرط كقوله * (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم) * فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط، ولذلك جاء مرفوعا. فأما قول الأعشى:
* لئن منيت بنا عن غب معركة
*
لأتلفنا عن دماء القوم ننتفل فاللام في * (لئن) * زائدة وليست موطئة لقسم قبلها. فلذلك جزم في قوله لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمع القسم والشرط وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط، ومذهب البصريين يحتم الجواب للقسم خاصة. وذكر ابن عطية هنا فصلا حسنا في ذكر الإعجاز نقلناه بقصته. قال: وفهمت
75

العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودريتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة، ففهموا العجز عنه ضرورة وشاهده وعلمه الناس بعدهم استدلالا ونظرا ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبي صلى الله عليه وسلم) وأعماله ومشاهده علم ضرورة، وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر فحصل للجميع القطع لكن في مرتبتين، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير وذي الرمة في قول الفرزدق:
علام تلفتين وأنت تحتي
*
وفي قول جرير:
تلفت إنها تحت ابن قين
وألا ترى قول الأعرابي: عز فحكم فقطع، وألا ترى إلى الاستدلال الآخر على البعث بقوله * (حتى زرتم المقابر) * فقال: إن الزيارة تقتضي الانصراف، ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
ومنه قول الأعرابي للأصمعي.
من أحوج الكريم أن يقسم
فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز، ولجأ النجاد منهم إلى السيف ورضي بالقتل والسباء وكشف الحرم. وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة انتهى. ما اقتصرنا عليه من كلامه وكان قد قدم قبل ذلك قوله والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلا الله عز وجل والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص، فإذا نظم كلمة خفي عنه العلل التي ذكرنا.
وقال الزمخشري: * (ولا يأتون) * جواب قسم محذوف، ولولا اللام الموطئة لجاز أن تكون جوابا للشرط. كقوله.
يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأن الشرط وقع ماضيا انتهى. يعني بالشرط قوله وهو صدر البيت
وإن أتاه خليل يوم مسألة
76

فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول: وإن كان مرفوعا هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضيا وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف، ومذهب الكوفيين والمبرد أنه الجواب لكنه على حذف الفاء، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو.
وقال الزمخشري: والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال: الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه، والمحال الذي لا مجال للقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلا أن يكابروا فيقولوا: هو قادر على المحال فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق انتهى. وتكرر لفظ مثل في قوله: * (لا يأتون بمثله) * على سبيل التأكيد والتوضيح، وأن المراد منهم * (أن يأتوا) * بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه، فبين بتكرار * (بمثله) * ولم يكن التركيب * (لا يأتون) * به رفعا لهذا الاحتمال، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن.
ولما ذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردد فيه وضرب من الأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلا كافرين به وبنعمه. وقرأ الجمهور: * (صرفنا) * بتشديد الراء والحسن بتخفيفها، والظاهر أن مفعول * (صرفنا) * محذوف تقديره البينات والعبر و * (من) * لابتداء الغاية. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد * (صرفنا) * * (كل مثل) * انتهى. يعني فيكون مفعول * (صرفنا) * * (كل مثل) * وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين، والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها الله تعالى.
وقال الزمخشري: * (من كل مثل) * من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. وقال أبو عبد الله الرازي: * (من كل مثل) * إشارة إلى التحدي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله * (فليأتوا بحديث مثله) * ومع ظهور عجزهم أبو * (إلا كفورا) * انتهى ملخصا. وقيل: * (من كل مثل) * من الترغيب والترهيب وأنباء الأولين والآخرين وذكر الجنة والنار وأكثر الناس. قيل: من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب. وقيل: أهل مكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله * (وقالوا لن نؤمن لك) * وتقدم القول في دخول * (إلا) * بعد * (أبى) * في سورة براءة. وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبي صلى الله عليه وسلم)، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أن يوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى، فقال: (لست أطلب ذلك). فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها الله هنا، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن * (قل لئن اجتمعت الإنس) * فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه، وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج، فقالوا ما حكاه الله عنهم.
وقرأ الكوفيون: * (* تفجره) * من فجر مخففا وباقي السبعة من فجر مشددا، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية، والأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار من أفجر رباعيا وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيها تصرف العالمين ومعاشهم، روي عنهم أنهم قالوا له: أزل جبال مكة وفجر لنا * (الارض ينبوعا
77

حتى يسهل علينا الحرث والزرع وأحي لنا قصيا فإنه كان صدوقا يخبرنا عن صدقك اقترحوا لهم أولا هذه الآية ثم اقترحوا أخرى له عليه السلام أن * (تكون) * له * (جنة من نخيل وعنب) * وهما كنا الغالب على بلادهم، ومن أعظم ما يقتنون، ومعنى * (خلالها) * أي وسط تلك الجنة وأثناءها. فتسقي ذلك النخل وتلك الكروم وانتصب * (خلالها) * على الظرف.
وقرأ الجمهور: * (تسقط) * بتاء الخطاب مضارع أسقط السماء نصبا، ومجاهد بياء الغيبة مضارع سقط السماء رفعا، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي * (كسفا) * بسكون السين وباقي السبعة بفتحها. وقولهم * (كما زعمت) * إشارة إلى قوله تعالى * (إن نشأ نخسف بهم الارض أو نسقط عليهم كسفا من السماء) *. وقيل: * (كما زعمت) * إن ربك إن شاء فعل. وقيل: هو ما في هذه السورة من قوله * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو * نرسل * عليكم حاصبا) *. قال بو علي * (قبيلا) * معاينة كقوله * (لولا أنزل علينا الملئكة أو نرى ربنا) *. وقال غيره: * (قبيلا) * كفيلا بما تقول شاهدا لصحته، والمعنى أو تأتي بالله * (قبيلا) * والملائكة * (قبيلا) * كقوله:
* كنت منه ووالدي بريا
*
وإني وقيار بها لغريب
*
أي مقابلا كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه * (لولا أنزل علينا الملئكة أو نرى ربنا) * أو جماعة حالا من الملائكة. وقرأ الأعرج قبلا م المقابلة. وقرأ الجمهور: * (من زخرف) * وعبد الله من ذهب، ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفة السواد وإنما هي تفسير. وقال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله من ذهب. وقال الزجاج: الزخرف الزينة وتقدم شرح الزخرف. * (وفى السماء) * على حذف مضاف، أي في معارج السماء. والظاهر أن * (السماء) * هنا
هي المظلة. وقيل: المراد إلى مكان عال وكل ما علا وارتفع يسمى سماء. وقال الشاعر:
* وقد يسمى سماء كل مرتفع
*
وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
*
قيل: وقائل هذه هو ابن أبي أمية قال: ابن نؤمن حتى تضع على السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول، ويحتمل أن يكون مجموع أولئك الصناديد قالوا ذلك وغيوا إيمانهم بحصول واحد من هذه المقترحات، ويحتمل أن يكون كل واحد اقترح واحدا منها ونسب ذلك للجميع لرضاهم به أو تكون * (أو) * فيها للتفضيل أي قال كل واحد منهم مقالة مخصوصة منها، وما اكتفوا بالتغيية بالرقي * (فى السماء) * حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم * (كتابا) * يقرؤونه، ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله تعالى وهو أن يأتي * (بالله والملئكة قبيلا) * أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به، ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال * (سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا) * أي ما كنت إلا بشرا رسولا أي من الله إليكم لا مقترحا عليه ما ذكرتم من الآيات.
وقال الزمخشري: وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلا العناد واللجاج، ولو جاءتهم كل أية لقالوا هذا سحر كما قال عز وعلا * (ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس * ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون) * وحين أذكروا. الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم لم يكن انتهى وشق
78

القمر أعظم من شق الأرض ونبع الماء من بين أصابعه أعظم من نبع الماء من الحجر. وقرأ ابن كثير وابن عامر قال * (سبحان ربى) * على الخبر تعجب عليه الصلاة والسلام من اقتراحاتهم عليه، ونزه ربه عما جوزوا عليه من الإتيان والانتقال وذلك في حق الله مستحيل * (هل كنت إلا بشرا) * مثلهم * (رسولا) *، والرسل لا تأتي إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات وليس أمرها إليهم إنما ذلك إلى الله.
* (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان فى الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا * قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا * ومن يهد الله فهو * المهتدى ومن يضلل * فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم) *.
الظاهر أن قوله: * (وما منع الناس) * إخبار من الله تعالى عن السبب الضعيف الذي منعهم من الإيمان، إذ ظهر لهم المعجز وهو استبعاد أن يبعث الله رسولا إلى الخلق واحدا منهم ولم يكن ملكا، وبعد أن ظهر المعجز فيجب الإقرار والاعتراف برسالته فقولهم: لا بد أن يكون من الملائكة تحكم فاسد، ويظهر من كلام ابن عطية أن قوله * (وما منع الناس) * هو من قول الرسول صلى الله عليه وسلم) قال هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبي عليه الصلاة والسلام كأنه يقول متعجبا منهم ما شاء الله كان * (ما منعك * الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا) * هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يسند إلى حجة، وبعثة البشر رسلا غير بدع ولا غريب فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما لو كان في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طبائعهم من رؤيته ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم، وإنما الله أجرى أحوالهم على معتادها انتهى.
و * (أن يؤمنوا) * في موضع نصب و * (أن قالوا) *: في موضع رفع، و * (إذ) * ظرف العامل فيه منع الناس كفار قريش القائلون تلك المقالات السابقة و * (الهدى) * هو القرآن ومن جاء به، وليس المراد مجرد القول بل قولهم الناشئ عن اعتقاد والهمزة في * (أبعث) * للإنكار و * (رسولا) * ظاهره أن نعت، ويجوز أن يكون * (رسولا) * مفعول بعث، و * (بشرا) * حال متقدمة عليه أي * (أبعث الله * رسولا) * في حال كونه * (بشرا) *، وكذلك يجوز في قوله * (ملكا رسولا) * أي * (لنزلنا عليهم من السماء) * * (رسولا) * في حال كونه * (ملكا) *. وقوله * (يمشون) * يتصرفون فيها بالمشي وليس لهم صعود إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلمون ما يجب علمه، بل هم مقيمون في الأرض يلزمهم ما يلزم المكلفين من عبادات مخصوصة وأحكام لا يدرك تفصيلها بالعقل، * (لنزلنا عليهم) * من جنسهم من يعلمهم ذلك ويلقيه إليهم.
ولما دعاهم صلى الله عليه وسلم) إلى الإيمان وتحدى على صدق نبوته بالمعجز الموافق لداعوه، أمره تعالى أن يعلمهم بأنه تعالى هو الشهيد بينه وبينهم على تبليغه وما قام به من أعباء الرسالة وعدم قبولهم وكفرهم، وما اقترحوا عليه من الآيات على سبيل العناد، وأردف ذلك بما فيه تهديد وهو قوله * (إنه كان بعباده خبيرا) * بخفيات أسرارهم * (بصيرا) * مطلقا على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم. والظاهر أن قوله: * (ومن يهد الله) * إخبار من الله تعالى وليس مندرجا تحت * (قل) * لقوله * (ونحشرهم) * ويحتمل أن يكون مندرجا لمجيء * (ومن) * بالواو، ويكون * (ونحشرهم) * إخبارا من الله تعالى. وعلى القول الأول يكون التفاتا إذ خرج من الغيبة للتكلم، ولما تقدم دعوة الرسول إلى الإيمان وتحدى بالمعجز الذي آتاه الله، ولجوا في كفرهم وعنادهم ولم يجد فيهم ما جاء به من الهدى أخبر بأن ذلك كله راجع إلى مشيئته تعالى وأنه هو الهادي وهو المفضل، فسلاه تعالى بذلك وأخبر تعالى على سبيل التهديد لهم والوعيد الصدق لحالهم وقت حشرهم يوم القيامة.
وقال الزمخشري: * (ومن يهد الله) * ومن يوفقه ويلطف به * (فهو المهتدى) * لأنه لا يلطف إلا بمن عرف أن اللطف ينفع فيه
79

* (ومن يضلل) * ومن يخذل * (فلن تجد لهم أولياء) * أنصارا انتهى. وهو على طريقة الاعتزال ومن مفعول بيهد وبيضلل، وحمل على اللفظ في قوله * (فهو المهتدى) * فأفرد ملاحظة لسبيل الهدى وهو واحدة فناسرب التوحيد التوحيد، وحمل على المعنى في قوله * (فلن * نجد * لهم أولياء) * لا على اللفظ ملاحظة لسبيل الضلال فإنها متشعبة متعددة فناسب التشعيب والتعديد الجمع، وهذا من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداء من غير أن يتقدم الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن، والظاهر أن قوله * (على وجوههم) * حقيقة كما قال تعالى * (يوم يسحبون فى النار على وجوههم) * الذي يحشرون على وجوههم إلى جهنم. وفي هذا حديث قيل: يا رسول الله كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: (أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادرا أن يمشيه في الآخرة على وجهه). قال قتادة: بلى وعزة ربنا. وقيل: * (على وجوههم) * مجاز يقال للمنصرف عن أمر خائبا مهموما انصرف على وجهه، ويقال للبعير كأنما يمشي على وجهه. وقيل: هو مجاز عن سحبهم على وجوههم على سرعة من قول العرب قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا.
والظاهر أن قوله * (عميا وبكما وصما) * هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم. وقيل: هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينطقون بحجة. وقال الزمخشري: كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامون عن سماعه فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم ولا يسمعون ما يلذ أسماعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى انتهى. وهذا قول ابن عباس والحسن قالا المعنى * (عميا) * عما يسرهم، * (* بكما) * عن التكلم بحجة * (عليها صما) * عما ينفعهم. وقيل: * (عميا) * عن النظر إلى ما جعل الله لأوليائه، * (* بكما) * عن مخاطبة الله، * (عليها صما) * عما مدح الله به أولياءه، وانتصب * (عميا) * وما بعد على الحال والعامل فيها * (نحشرهم) *. وقيل: يحصل لهم ذلك حقيقة عند قوله * (قال * اخسئوا فيها ولا تكلمون) * فعلى هذا تكون حالا مقدرة لأن ذلك لم يكن مقارنا لهم وقت الحشر.
* (كلما خبت) * قال ابن عباس: كلما فرغت من إحراقهم فيسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور فتلك زيادة السعير، فالزيادة في حيزهم، وأما جهنم فعلى حالها من الشدة لا يصيبها فتور، فعلى هذا يكون * (خبت) * مجازا عن سكون لهم مقدار ما تكون إعادتهم كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسيرهم على تكذيبهم ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل على ذلك بقوله * (ذلك جزاؤهم) * والإشارة بذلك إلى ما تقدم من حشرهم على تلك الحال وصيرورتهم إلى جهنم والعذاب فيها، والآيات تعم القرآن والحجج التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم) ونص على إنكار البعث إذ هو طعن في القدرة الإلهية وهذا مع اعترافهم بأنه تعالى منشىء العالم ومخترعه، ثم إنهم ينكرون الإعادة فصار ذلك تعجيزا لقدرته.
وتقدم الكلام على قوله * (وقالوا * أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا) * في هذه السورة فأغنى عن إعادته، ولما أنكروا البعث نبههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته فقال: * (أو لم * يروا) * وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة، واحتجاج عليهم بأنهم قد رأوا قدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعض ما تحويه البشر، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادة بعض مما خلق وذلك مما لا يحيله العقل بل هو مما يجوزه، ثم أخبر الصادق بوقوعه فوجب قبوله والرؤية هنا رؤية القلب وهي العلم، ومعنى * (مثلهم) * من الإنس لأنهم ليسوا أشد خلقا منهن كما قال * (أشد خلقا أم السماء بناها) * وإذا كان قادرا على إنشاء أمثالهم من الإنس من العدم الصرف فهو قادر على أن يعيدهم كما قال * (وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده) * وهو أهون عليه. وعطف قوله * (وجعل لهم) * على قوله
80

* (أو لم * يروا) * لأنه استفهام تضمن التقرير والمعنى قد علموا بدليل العقل كيت وكيت * (وجعل لهم) * أي للعالمين ذلك * (أجلا لا ريب فيه) * وهو الموت أو القيامة، وليس هذا الجعل واحدا في الاستفهام المتضمن التقرير، أو إن كان الأجل القيامة لأنهم منكروها وإذا كان الأجل الموت فهو اسم جنس واقع موقع آجال: * (فأبى الظالمون) * وهم الواضعون الشيء غير موضعه على سبيل الاعتداء * (إلا كفورا) * حجودا لما أتى به الصادق من توحيد الله وإفراده بالعبادة، وبعثهم يوم القيامة للجزاء.
* (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا * ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات فاسأل بنى إسراءيل إذ جاءهم فقال له فرعون إنى لاظنك ياموسى * موسى * مسحورا * قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب * السماوات والارض * بصائر وإنى لاظنك يافرعون * فرعون * مثبورا * فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقناه ومن معه جميعا * وقلنا من بعده لبنى إسراءيل اسكنوا الارض فإذا جاء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا) *.
مناسبة قوله * (قل لو أنتم تملكون خزائن) * الآية أن المشركين قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا. فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم، فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم، ولما قدموا على إيصال النفع لأحد، وعلى هذا فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا هذا ما قيل في ارتباط هذه الآية. وقاله العسكري: والذي يظهر لي أن المناسب هو أنه عليه السلام قد منحه الله ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن، فهو أحرص الناس على إيصال الخير وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله، ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحا بذلك لا يطلب منهم أجرا، وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلا الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه، فلا يصل منهم إليه إلا الأذى، فنبه تعالى بهذه الآية على سماحته عليه السلام وبذله ما آتاه الله، وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه فقال: لو ملكوا التصرف في * (خزائن رحمة) * الله التي هي
وسعت كل شيء كانوا أبخل من كل أحد بما أوتوه من ذلك بحيث لا يصل منهم لأحد شيء من النفع إذ طبيعتهم الإقتار وهو الإمساك عن التوسع في النفقة، هذا مع ما أوتوه من الخزائن، فهذه الآية جاءت مبينة تبين ما بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه، والمستقرأ في * (لو) * التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره أن يليها الفعل إما ماضيا وإما مضارعا. كقوله * (لو نشاء لجعلناه حطاما) * أو منفيا بلم أو ان وهنا في قوله * (قل لو أنتم تملكون) * وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه، فذهب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم إلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله:.
وإن هو لم يحمل على النفس ضميها. التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصار هو، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو فصار * (أنتم) *، وهذا التخريج بناء على أن * (لو) * يليها الفعل ظاهرا ومضمرا في فصيح الكلام، وهذا ليس بمذهب البصريين.
قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: لا تلي لو إلا الفعل ظاهرا و لا يليها مضمرا إلا في ضرورة أو نادر كلام مثل: ما جاء في المثل من قولهم:
لو ذات سوار لطمتني
وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ:
81

البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح، ويجيزونه شاذا كقولهم.
لو ذات سوار لطمتني وهو عندهم على فعل مضمر كقوله تعالى * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) * فهو من باب الاشتغال انتهى. وخرج ذلك أبو الحسن علي بن فضال المجاشعي على إضمار كان، والتقدير * (قل لو) * كنتم * (أنتم) * تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي * (أنتم) * توكيدا لذلك الضمير المحذوف مع الفعل، وذهب شيخنا الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلا بها، والتقدير * (قل لو) * كنتم * (تملكون) * فلما حذف الفعل انفصل المرفوع، وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد * (لو) * معهود في لسان العرب، والرحمة هنا الرزق وسائر نعمه على خلقه.
والكلام على * (إذا لأمسكتم) * تقدم نظيره في قوله * (إذا لأذقناك) * و * (خشية) * مفعول من أجله، والظاهر أن * (الإنفاق) * على مشهور مدلوله فيكون على حذف مضاف، أي * (خشية) * عاقبة * (الإنفاق) * وهو النفاد. وقال أبو عبيدة: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد، فيكون المعنى خشية الافتقار. والقتور الممسك البخيل * (* والإنسان) * هنا للجنس.
ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكى من تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول صلى الله عليه وسلم) سلاه تعالى بما جرى لموسى مع فرعون ومع قومه من قولهم * (فقالوا أرنا الله جهرة) * إذ قالت قريش * (أو تأتى بالله) * وقالت * (أو نرى ربنا) * وسكن قلبه ونبه على أن عاقبتهم للدمار والهلاك كما جرى لفرعون إذ أهلكه الله ومن معه. و * (تسع ءايات) * قال ابن عباس وجماعة من الصحابة: هي اليد البيضاء، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم هذه سبع باتفاق، وأما الثنتان فعن ابن عباس لسانه كان به عقدة فحلها الله، والبحر الذي فلق له. وعنه أيضا البحر والجبل الذي نتق عليهم. وعنه أيضا السنون ونقص من الثمرات وقاله مجاهد والشعبي وعكرمة وقتادة. وقال الحسن: السنون ونقص الثمرات آية واحدة، وعن الحسن ووهب البحر والموت أرسل عليهم. وعن ابن جبير الحجر والبحر. وعن محمد بن كعب: البحر والسنون. وقيل: * (تسع ءايات) * هي من الكتاب، وذلك أن يهوديا قال لصاحبه: تعالى حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر لا تقل إنه نبي فإنه لو سمع كلامك صارت له أربعة أعين، فأتياه وسألاه عن * (تسع ءايات بينات) * فقال: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تسخروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السبت، قال: فقبلا يده وقالا: نشهد أنك نبي فقال: ما منعكما أن تسلما؟ قالا: إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وقرأ الجمهور: فسل * (بنى إسراءيل) * وبنو إسرائيل معاصروه، وفسل معمول لقول محذوف أي فقلنا سل، والظاهر أنه خطاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم) أمره أن يسألهم عما أعلمه به من غيب القصة. ثم قال: * (إذ جاءهم) * يريد آباءهم وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم. وقال الزمخشري: سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم، أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك. ويدل عليه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم). فسأل * (بنى إسراءيل) * على لفظ الماضي بغير همز وهي لغة قريش. وقيل: فسل يا رسول الله المؤمنين من بني إسرائيل وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات لتزداد يقينا وطمأنينة قلب، لأن الدلالة إذا
82

تظافرت كان ذلك أقوى وأثبت كقول إبراهيم عليه السلام * (ولاكن ليطمئن قلبى) * انتهى. وهذا القول هو الأول وهو ما أعلمه به من غيب القصة. ولما كان متعلق السؤال محذوفا احتمل هذه التقديرات، والظاهر أن الأمر بالسؤال لبني إسرائيل هو حقيقة. وقال ابن عطية ما معناه: يحتمل أن يكون السؤال عبارة عن تطلب أخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم. نحو قوله * (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) * جعل النظر والتطلب معبرا عنه بالسؤال، ولذلك قال الحسن: سؤالك إياهم نظرك في القرآن، والظاهر أن * (إذ) * معمولة لآتينا أي * (ءاتينا) * حين جاء أتاهم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: بم نعلق * (إذ جاءهم) *؟ قلت: أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف أي فقلنا له سلهم حين جاءهم، وأما على الآخر فبآتينا أو بإضمار اذكر أويخبرونك انتهى. ولا يتأتى تعلقه باذكر ولا بيخبرونك لأنه ظرف ماض. وقراءة فسأل مروية عن ابن عباس. قال ابن عباس: كلام محذوف وتقديره فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب انتهى. وعلى قراءة فسل يكون التقدير فقلنا له سل * (بنى إسراءيل) * أي سل فرعون إطلاق بني إسرائيل. وقال أبو عبد الله الرازي: فسل * (بنى إسراءيل) * اعتراض في الكلام والتقدير، * (ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات) * إذ جاء * (بنى إسراءيل)
* فسلهم وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود صدق ما ذكره الرسول عليه السلام، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد انتهى. وعلى قراءة فسأل ماضيا وقدره فسأل فرعون * (بنى إسراءيل) * يكون المفعول الأول السأل محذوفا، والثاني هو * (بنى إسراءيل) * وجاز أن يكون من الأعمال لأنه توارد على فرعون سأل وفقال فأعمل، الثاني على ما هو أرجح.
والظاهر أن قوله * (مسحورا) * اسم مفعول أي قد سحرت بكلامك هذا مختل وما يأتي به غير مستقيم وهذا خطاب بنقيض. وقال الفراء والطبري: مفعول بمعنى فاعل أي ساحرا، فهذه العجائب التي يأتي بها من أمر السحر، وقالوا: مفعول بمعنى فاعل مشؤوم وميمون وإنما هو شائم ويامن. وقرأ الجمهور: * (لقد علمت) * بفتح التاء على خطاب موسى لفرعون وتبكيته في قوله عنه أنه مسحور أي لقد علمت أن ما جئت به ليس من باب السحر، ولا أني خدعت في عقلي، بل علمت أنه ما أنزلها إلا الله، وما أحسن ما جاء به من إسناد إنزالها إلى لفظ * (رب * السماوات والارض) * إذ هو لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له: وما رب العالمين قال: * (رب * السماوات والارض) * ينبهه على نقصه وأنه لا تصرف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى استحالة، فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات الله ومن أنزلها ولكنه مكابه معاند كقوله * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) * وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذا وهي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي والكسائي * (علمت) * بضم التاء أخبر موسى عن نفسه أنه ليس بمسحور كما وصفه فرعون، بل هو يعلم أن * (ما أنزل هؤلاء) * الآيات إلا الله.
وروي عن علي أنه قال: ما علم عدو الله قط وإنما علم موسى، وهذا القول عن علي لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول، وكيف يصح هذا القول وقراءة الجماعة بالفتح على خطاب فرعون.
و * (أنزل الله) * جملة في موضع نصب علق عنها * (علمت) *. ومعنى * (بصائر) * دلالات على وحدانية الله وصدق رسوله والإشارة بهؤلاء إلى الآيات التسع. وانتصب * (بصائر) * على الحال في قول ابن عطية والحوفي وأبي البقاء، وقالا: حال من * (هؤلاء) * وهذا لا يصح إلا على مذهب الكسائي والأخفش لأنهما يجيزان ما ضرب هندا هذا إلا زيد ضاحكة. ومذهب الجمهور أنه لا يجوز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول على إضمار فعل يدل عليه ما قبله التقدير ضربها ضاحكة، وكذلك يقدرون هنا أنزلها * (بصائر) * وعند هؤلاء لا يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى منه أو تابعا له.
وقابل موسى ظنه بظن فرعون فقال: * (وإنى لاظنك يافرعون * فرعون * مثبورا) *
83

وشتان ما بين الظنين ظن فرعون ظن باطل، وظن موسى ظن صدق، ولذلك آل أمر فوعون إلى الهلاك كان أولا موسى عليه السلام يتوقع من فرعون أذى كما قال * (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) * فأمر أن يقول له قولا لينا فلما قال له الله: لا تخف وثق بحماية الله، فصال على فرعون صولة المحمي. وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك. ومثبور مهلك في قول الحسن ومجاهد، وملعون في قول ابن عباس، وناقص العقل فيما روى ميمون بن مهران، ومسحور في قول الضحاك قال: رد عليه مثل ما قال له فرعون ما ختلاف اللفظ، وعن الفراء مثبور مصروف عن الخير مطبوع على قلبك من قولهم: ما ثبرك عن هذا؟ أي ما منعك وصرفك. وقرأ أبي وإن أخالك يا فرعون لمثبورا وهي أن الخفيفة، واللام الفارقة واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء، فحاق به مكره وأغرقه الله وقبطه أراد أن تخلو أرض مصر منهم فأخلاها الله منه. ومن قومه والضمير في * (من بعده) * عائد على فرعون أي من بعد إغراقه، و * (الارض) * المأمور بسكناها أرض الشام، والظاهر أن يكون الأمر بذلك حقيقة على لسان موسى عليه السلام ووعد الآخرة قيام الساعة.
* (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا * قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا * ويقولون) *.
وبالحق أنزلناه) * هو مردود على قوله * (*) * هو مردود على قوله * (لئن اجتمعت الإنس والجن) * الآية وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولا، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في * (أنزلناه) * عائد على موسى عليه السلام وجعل منزلا كما قال * (وأنزلنا الحديد) * أو عائد على الآيات التسع، وذكر على المعنى أو عائد على الوعد المذكور قبله. وقال أبو سليمان الدمشقي * (وبالحق) * أي بالتوحيد، * (أنزلناه وبالحق نزل) * أي بالوعد والوعيد والأمر والنهي. وقال الزهراوي: بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس، * (وبالحق نزل) * أي بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره. وقال الزمخشري: وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير، وما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظا بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين انتهى. وقد يكون * (وبالحق نزل) * توكيدا من حيث المعنى لما كان يقال أنزلته فنزل، وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من نزوله وجاء، * (وبالحق نزل) * مزيلا لهذا الاحتمال ومؤكدا حقيقة، * (وبالحق أنزلناه) * وإلى معنى التأكيد نحا الطبري. وانتصب * (مبشرا ونذيرا) * على الحال أي * (مبشرا) * لهم بالجنة ومنذرا من النار ليس لك شيء من إكراههم على الدين.
وقرأ الجمهور: * (فرقناه) * بتخفيف الراء أي بينا حلاله وحرامه قاله ابن عباس، وعن الحسن فرقنا فيه بين الحق والباطل. وقال الفراء: أحكمناه وفصلناه كقوله * (فيها يفرق كل أمر حكيم) *. وقرأ أبي وعبد الله وعلي وابن عباس وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وزيد بن علي وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه بشد الراء أي * (أنزلناه) * نجما بعد نجم. وفصلناه في النجوم. وقال بعض من اختار ذلك: لم ينزل في يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين. قال ابن عباس: كان بين أوله وآخره عشرون سنة، هكذا قال الزمخشري عن ابن عباس. وحكي عن ابن عباس في ثلاث وعشرين سنة. وقيل: في خمس
وعشرين، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في سنه عليه السلام، وعن الحسن نزل في ثمانية عشر سنة. قال ابن عطية: وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن.
وقيل معنى: * (فرقناه) * بالتشديد فرقنا آياته بين أمر ونهي، وحكم وأحكام، ومواعظ وأمثال، وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي. وانتصب * (قرءانا) * على إضمار فعل يفسره * (فرقناه) * أي وفرقنا * (قرءانا * فرقناه) * فهو من باب الاشتغال وحسن النصب، ورجحه على الرفع كونه عطفا على جملة فعلية وهي قوله * (وما أرسلناك) *. ولا بد من تقدير صفة لقوله * (وقرءانا) * حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للابتداء بها، والتقدير * (وقرءانا) * أي قرآن أي عظيما جليلا، وعلى أنه منصوب بإضمار فعل بفسره الظاهر بعده خرجه الحوفي
84

والزمخشري. وقال ابن عطية وهو مذهب سيبويه. وقال الفراء: هو منصوب بإرسلناك أي * (ما * أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * وقرءانا) * كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة وهذا إعراب متكلف وأكثر تكلفا منه قول ابن عطية، ويصح أن يكون معطوفا على الكاف في * (أرسلناك) * من حيث كان إيال هذا وإنزال هذا المعنى واحد.
وقرأ أبي وعبد الله * (فرقناه) * عليك بزيادة عليك و * (لتقرأه) * متعلق بفرقناه، والظاهر تعلق على مكث بقوله * (لتقرأه) * ولا يبالي بكون الفعل يتعلق به صرفا جر من جنس واحد لأنه اختلف معنى الحرفين الأول في موضع المفعول به، والثاني في موضع الحال أي متمهلا مترسلا.
قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج: * (على مكث) * على ترسل في التلاوة. وقيل: * (على مكث) * أي تطاول في المدة شيئا بعد شيء. وقال الحوفي: * (على مكث) * بدل من * (على الناس) * وهذا لا يصح لأن قوله * (على مكث) * هو من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم) وهو القارئ، أو صفات المقروء في المعنى وليس من صفات الناس فيكون بدلا منهم. وقيل يتعلق * (على مكث) * بقوله * (فرقناه) * ويقال مكث بضم الميم وفتحها وكسرها. وقال ابن عطية: وأجمع القراء على ضم الميم من * (مكث) *. وقال الحوفي: والمكث بالضم والفتح لغتان، وقد قرىء بهما وفيه لغة أخرى كسر الميم.
* (ونزلناه تنزيلا) * على حسب الحوادث من الأقوال والأفعال. * (قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا) * يتضمن الإعراض عنهم والاحتقار لهم والازدراء بهم وعدم الأكثرات بهم وبإيمانهم وبامتناعهم منه، وأنهم لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وأفضل هم العلماء الذي قرؤوا الكتاب وعلموا ما الوحي وما الشرائع، قد آمنوا به وصدقوه وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم، فإذا تلي عليهم خروا * (سجدا) * وسبحوا الله تعظيما لوعده ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم) وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله * (إن كان وعد ربنا لمفعولا) *.
و * (إن الذين أوتوا العلم من قبله) * يجوز أن يكون تعليلا لقوله * (به أو لا تؤمنوا إن) * أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم، وأن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية كأنه قيل * (قل) * عن إيمان الجاهلية بإيمان العلماء انتهى من كلام الزمخشري، وفيه بعض تلخيص. وقال غيره: * (قل ءامنوا) * الآية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد والمعنى أنكم لستم بحجة فسواء علينا أآمنتم أم كفرتم وإنما ضرر ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم انتهى. والظاهر أن الضمير في * (قل ءامنوا به) * عائد على القرآن، و * (الذين أوتوا العلم) * هم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جري مجراهما، فإنهما كانا ممن أوتي العلم واطلعا على التوراة والإنجيل ووجدا فيهما صفته عليه الصلاة والسلام. وقيل: هم جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم، فتذكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم) وما أنزل عليه. وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسجدوا لله وقالوا: هذا وقت نبوة المذكور في التوراة وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح فنزلت هذه الآية فيهم.
وقيل: المراد بالذين * (أوتوا العلم من قبله) * هو محمد صلى الله عليه وسلم)، والظاهر أن الضمير في * (به) * وفي * (من قبله) * عائد على الرسول عليه الصلاة والسلام.
واستأنف ذكر القرآن في قوله * (إذا يتلى عليهم) * والظاهر في قوله * (إذا يتلى عليهم) * أن الضمير في * (يتلى) * عائد على القرآن. وقيل: هو عائد على التوراة وما فيها من تصديق القرآن ومعرفة النبي عليه الصلاة والسلام، والخرور هو السقوط بسرعة، ومنه * (فخر عليهم السقف) * وانتصب * (سجدا) * على الحال، والسجود وهو وضع الجبهة على الأرض هو غاية الخرور ونهاية الخضوع، وأول ما يلقى الأرض حالة السجود الذقن، أو عبر عن الوجوه بالأذقان كما يعبر عن كل شيء ببعض ما يلاقيه. وقال الشاعر:
85

* فخروا الأذقان الوجوه تنوشهم
*
سباع من الطير العوادي وتنتف
*
وقيل: أريد حقيقة الأذقان لأن ذلك غاية التواضع وكان سجودهم كذلك. وقال ابن عباس: المعنى للوجوه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه فما معنى اللام في خر لذقنه؟ قال:
فخر صريعا لليدين وللفم
قلت: معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور، واختصه به لأن اللام للاختصاص انتهى. وقيل: اللام بمعنى على و * (سبحان ربنا) * نزهوا الله عما نسبته إليه كفار قريش
وغيرهم من أنه لا يرسل البشر رسلا وأنه لا يعيدهم للجزاء، وأن هنا المخففة من الثقيلة المعنى أن ما وعد به من إرسال محمد عليه الصلاة والسلام وإنزال القرآن عليه قد فعله وأنجزه، ونكر الخرور لاختلاف حالي السجود والبكاء، وجاء التعبير عن الحالة الأولى بالاسم وعن الحالة الثانية بالفعل لأن الفعل مشعر بالتجدد، وذلك أن البكاء ناشىء عن التفكر فهم دائما في فكرة وتذكر، فناسب ذكر الفعل إذ هو مشعر بالتجدد، ولما كانت حالة السجود ليست تتجدد في كل وقت عبر فيها بالاسم.
* (ويزيدهم) * أي ما تلي عليهم * (خشوعا) * أي تواضعا. وقال عبد الأعلى التيمي: من أوتي من العلم ما لا يبكيه خليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه لأن تعالى نعت العلماء فقال: * (إن الذين أوتوا العلم) * الآية. وقال ابن عطية: ويتوجه في هذه الآية معنى آخر، وهو أن يكون قوله * (قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا) * مخلصا للوعيد دون التحقير، المعنى فسترون ما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة إذا يتلى عليهم ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا انتهى. وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من هذا.
* (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا.
قال ابن عباس: تهجد الرسول صلى الله عليه وسلم) ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده: (يا رحمان يا رحيم). فقال المشركون: كان محمد يدعو إلها واحدا فهو الآن يدعو إلهين اثنين الله والرحمن، ما الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فنزلت قاله في التحرير. ونقل ابن عطية نحوا منه عن مكحول. وقال عن ابن عباس: سمعه المشركون يدعو يا الله يا رحمن، فقالوا: كان يدعو إلها واحدا وهو يدعو إلهين فنزلت. وقال ميمون بن مهران: كان عليه السلام يكتب: باسمك اللهم حتى نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتبها فقال مشركوا العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن؟ فنزلت. وقال الضحاك: قال أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم): إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فنزلت لما لجوا في إنكار القرآن أن يكون الله نزله على رسوله عليه السلام وعجزوا عن معارضته، وكان عليه الصلاة والسلام قد جاءهم بتوحيد الله والرفض لآلهتهم عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه، فرد الله تعالى عليهم بقوله * (قل ادعوا الله) * الآية. والظاهر من أسباب النزول أن الدعاء هنا قوله يا رحمن يا رحيم أو يا الله يا رحمن فهو من الدعاء بمعنى النداء، والمعنى إن دعوتم الله فهو اسمه وإن دعوتم الرحمن فهو صفته. قال الزمخشري: والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا ثم تترك أحدهما استغناء عنه، فتقول: دعوت زيدا انتهى. ودعوت هذه من الأفعال التي
86

تتعدي إلى اثنين ثانيهما بحرف جر، تقول: دعوت والدي بزيد ثم تتسع فتحذف الباء. وقال الشاعر في دعا هذه:
* دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن
*
أخاها ولم أرضع لها بلبان وهي أفعال تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر، يحفظ ويقتصر فيها على السماع وعلى ما قال الزمخشري يكون الثاني لقوله * (ادعوا) * لفظ الجلالة، ولفظ * (الرحمان) * وهو الذي دخل عليه الباء ثم حذف وكأن التقدير * (ادعوا) * معبودكم بالله أو ادعوه بالرحمن ولهذا قال الزمخشري: المراد بهما اسم المسمى وأو للتخيير، فمعنى * (ادعوا الله أو ادعوا الرحمان) * سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا وإما هذا انتهى. وكذا قال ابن عطية هما اسمان لمسمى واحد، فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك وأي هنا شرطية. والتنوين قيل عوض من المضاف و * (ما) * زائدة مؤكدة. وقيل: * (ما) * شرط ودخل شرط على شرط. وقرأ طلحة بن مصروف. * (أيا) * من * (تدعوا) * فاحتمل أن تكون من زائدة على مذهب الكسائي إذ قد ادعي زيادتها في قوله:
*
واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ كما جمع بين حرفي جر نحو قول الشاعر:
فأصبحن لا يسألنني عن بما به
وذلك لاختلاف اللفظ. والضمير في * (فله) * عائد على مسمى الأسمين وهو واحد، أي فلمسماهما * (الاسماء الحسنى) *، وتقدم الكلام على قوله * (الاسماء الحسنى) * في الأعراف.
وقوله: * (فله) * هو جواب الشرط. قيل: ومن وقف على * (أيا) * جعل معناه أي اللفظين دعوتموه به جاز، ثم استأنف فقال ما تدعوه * (فله الاسماء الحسنى) * وهذا لا يصح لأن ما لا تطلق على آحاد أولي العلم، ولأن الشرط يقتضي عموما ولا يصح هنا، والصلاة هنا الدعاء قاله ابن عباس وعائشة وجماعة. وعن ابن عباس أيضا: هي قراءة القرآن في الصلاة فهو على حذف مضاف أي بقراءة الصلاة، ولا يلبس تقدير هذا المضاف لأنه معلوم أن الجهر والمخافتة معتقبان على الصوت لا غير، والصلاة أفعال وأذكار وكان عليه الصلاة والسلام يرفع صوته بقراءته فيسب المشركون ويلغون فأمر بأن يخفض من صوته حتى لا يسمع المشركين، وأن لا يخافت حتى يسمعه من وراءه من المؤمنين.
* (وابتغ بين ذالك) * أي بين الجهر والمخافتة * (سبيلا) * وسطا وتقدم الكلام على * (بين ذالك) * في قوله * (عوان بين ذالك) *. وقال ابن عباس أيضا والحسن: لا تحسن علانيتها وتسيء سربتها. وعن عائشة: الصلاة يراد بها هنا التشهد. وقال ابن سيرين: كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك، وكان
أبو بكر يسر قراءته وعمر يجهر بها. فقيل لهما في ذلك فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي. وقال عمر: أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلا. وقيل لعمر: اخفض أنت قليلا. وعن ابن عباس أيضا: المعنى * (ولا تجهر) * بصلاة النهار * (ولا تخافت) * بصلاة الليل. وقال ابن زيد: معنى الآية على ما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحيانا فيرفع الناس معه، ويخفض أحيانا فيسكت الناس خلفه انتهى. كما يفعل أهل زماننا من رفع الصوت بالتلحين وطرائق النعم المتخذة للغناء.
ولما ذكر تعالى أنه واحد وإن تعددت أسماؤه أمر تعالى أن يحمده على ما أنعم به عليه مما آتاه من شرف الرسالة والاصطفاء، ووصف نفسه بأنه * (لم يتخذ ولدا) * فيعتقد فيه تكثر بالنوع،
87

وكان ذلك ردا على اليهود والنصاري والعرب الذين عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله. ونفي أولا الولد خصوصا ثم نفي الشريك في ملكه وهو أعم من أن ينسب إليه ولد فيشركه أو غيره، ولما نفي الولد ونفي الشريك نفي الولي وهو الناصر، وهو أعم من أن يكون ولدا أو شريكا أو غير شريك. ولما كان اتخاذ الولي قد يكون للانتصار والاعتزاز به والاحتماء من الذل وقد يكون للتفضل والرحمة لمن وإلى من صالحي عباده كان النفي لمن ينتصر به من أجل المذلة، إذ كان مورد الولاية يحتمل هذين الوجهين فنفي الجهة التي لأجل النقص بخلاف الولد والشريك فإنهما نفيا على الإطلاق. وجاء الوصف الأول بقوله * (الذى لم يتخذ ولدا) * والمعنى أنه تعالى لم يسم ولم يعد أحدا ولدا ولم ينفه بجهة التوالد لاستحالة ذلك في بدائه العقول، فلا يتعرض لنفيه بالمنقول ولذلك جاء ما اتخذ الله من ولد ما يتخذ صاحبة ولا ولدا.
وقال مجاهد: في قوله * (ولم يكن له ولى من الذل) * المعنى لم يخالف أحدا ولا ابتغى تصر أحد. وقال الزمخشري: * (ولى من الذل) * ناصر من الذل ومانع له منه لاعتزازه به، أو لم يوال أحدا من أجل المذلة به ليدفعها بموالاته انتهى. وقيل: ولم يكن له * (ولي) * من اليهود والنصاري لأنهم أذل الناس فيكون * (من الذل) * صفة لولي انتهى. أي * (ولى من) * أهل * (الذل) *، فعلى هذا وما تقدم يكون * (من) * في معنى المفعول به أو للسبب أو للتبعيض.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد؟ قلت: لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة فهو الذي يستحق جنس الحمد، والذي تقرر أن النفي تسلط من حيث المعنى على القيد أي لا ذل يوجد في حقه فيكون له ولي ينتصر به منه، فالذل والولي الذي يكون اتخاذه بسببه منتفيان.
* (وكبره تكبيرا) * التكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، وأكد بالمصدر تحقيقا له وإبلاغا في معناه، وابتدئت هذه السورة بتنزيه الله تعالى واختتمت به، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية * (وقل الحمد * الله) * إلى آخرها والله أعلم.
88

((سورة الكهف))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لأبآئهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا * فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا * إنا جعلنا ما على الا رض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا * أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من ءاياتنا عجبا * إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنآ ءاتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا * فضربنا علىءاذانهم فى الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا * نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية ءامنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والا رض لن ندعوا من دونه إلاها لقد قلنا إذا شططا * هاؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا * وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقا * وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منه ذالك من ءايات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل
89

فلن تجد له وليا مرشدا * وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا * وكذالك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هاذه إلى المدينة فلينظر أيهآ أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا * وكذالك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا * سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربىأعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا * ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا * إلا أن يشآء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لاقرب من هاذا رشدا * ولبثوا فى كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا * قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والا رض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا * واتل مآ أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا * واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيواة الدنيا ولا تطع
من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا * وقل الحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وسآءت مرتفقا) *))
) * (سقط: إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا، أولئك لهم جنات عدن تجري من
90

تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا)
بخع يبخع بخعا وبخوعا أهلك من شدة الوجد وأصله الجهد قاله الأخفش والفراء. وفي حديث عائشة ذكرت عمر فقالت: بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك. وقال الكسائي: بخع الأرض بالزراعة جعلها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة. وقال الليث: بخع الرجل نفسه قتلها من شدة وجده. وأنشد قول الفرزدق:
* ألا أيهذا الباخغ الوجد نفسه
*
لشيء نحته عن يديه المقادير
*
أي نحته بشد الحاء فخفف. قال أبو عبيدة: كان ذو الرمة ينشد الوجد بالرفع. وقال الأصمعي: إنما هو الوجد بالفتح انتهى. فيكون نصبه على أنه مفعول من أجله. جرزت الأرض بقحط أو جراد أو نحوه: ذهب نباتها وبقيت لا شيء فيها وأرضون أجراز، ويقال: سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها، وجرز الأرض الجراد أكل ما فيها، وامرأة جروز أي أكول. قال الشاعر:
* إن العجوز خبة جروزا
*
تأكل كل ليلة قفيزا
*
الكهف النقب المتسع في الجبل فإن لم يك واسعا فهو غار. وقال ابن الأنباري. حكي اللغويون أنه بمنزلة الغار في الجبل. الرقيم: فعيل من رقم إما بمعنى مفعول وإما بمعنى فاعل، ويأتي إن شاء الله الاختلاف في المراد به عن المفسرين. فأما قول أمية بن أبي الصلت:
* وليس بها إلا الرقيم مجاورا
*
وصيدهم والقوم في الكهف همد
*
فعني به كلبهم. أحصي الشيء حفظه وضبطه. الشطط: الجور وتعدي الحد والغلو. وقال الفراء: اشتط في الشؤم جاوز القدر، وشط المنزل بعد شطوطا، وشط الرجل وأشط جار، وشطت الجارية شطاطا وشطاطة طالت. تزور: تروع وتميل. وقال الأخف 5: تزور تنقبض انتهى. والزور الميل والأزور المائل بعينه إلى ناحية، ويكون في غير العين. قال ابن أبي ربيعة:
وجبني خيفة القوم أزوره
وقال عنترة:
91

* فازور من وقع القنا بلبانه
*
وشكا إلي بعبرة وتحمحم
*
وقال بشر بن أبي حازم
* تؤم بها الحداة مياه نخل
*
وفيها عن أبانين ازورار
*
ومنه زاره إذا مال إليه، والزور الميل عن الصدق. قرض الشيء قطعه، تقول العرب: قرضت موضع. كذا أي قطعته. وقال ذو الرمة:
* إلى ظعن يقوضن أجواز مشرف
*
شمالا وعن أيمانهن الفوارس
*
وقال الكوفيون: قرضت موضع كذا جاذبته، وحكوا عن العرب قرضته قبلا ودبرا. الفجوة: المتسع من الفجاء وهو تباعد ما بين الفخذين، رجل أفجأ وامرأة فجواء وجمع الفجوة فجاء. اليقظ المتنبه وجمعه أيقاظ كعضد وأعضاد، ويقاظ كرجل ورجال ورجل يقظان وامرأة يقظى. الرقاد معروف وسمي به علما. الوصيد الفناء. وقيل: العتبة. وقيل: الباب. قال الشاعر:
* بأرض فضاء لا يسد وصيدها
*
علي ومعروفي بها غير منكر
*
الورق الفضة مضروبة وغير مضروبة. السرادق قال أبو منصور الجواليقي: هو فارسي معرب وأصله سرادار وهو الدهليز. قال الفرزدق:
* تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم
*
تركت لهم قبل الضراب السرادقا
*
وبيت مسردق أي ذو وسرادق. المهل: ما أذيب من جواهر الأرض. وقيل دردي الزيت. شوى اللحم: أنضجه من غير مرق. السوار: ما جعل في الذراع من ذهب أو فضة أو نحاس أو رصاص ويجمع على أسورة في القلة كخمار وأخمرة، وعلى خمر وفي الكثرة كخمار وخمر إلا أنه تسكن عينه إلا في الشعر فتحرك، وأساور جمع أسورة. وقال أبو عبيدة: جمع أسوار ويقال لكل ما في الذراع من الحلي وعنه وعن قطرب: هو على حذف الزيادة وأصله أساوير. وأنشد ابن الأنباري:
* والله لولا صبية صغار
*
كأنما وجوههم أقمار
*
* تضمهم من الفنيك دار
*
أخاف أن يصيبهم إقتار
*
92

* أو لاطم ليس له أسوار
*
لما رآني ملك جبار
*
ببابه ما وضح النهار
السندس رقيق الديباج، والإستبرق ما غلظ منه، والإستبرق رومي عرب وأصله استبره أبدلوا الهاء قافا قاله ابن قتيبة. وقيل: مسمى بالفعل وهو إستبرق من البريق فقطعت بهمزة وصله. وقيل: الإستبرق اسم الحرير. وقال المرقش:
* تراهن يلبسن المشاعر مرة
*
وإستبرق الديباج طور إلباسها
*
وقال ابن بحر: الإستبراق المنسوج بالذهب. الأريكة السرير في حجلة، فإن كان وحده فلا يسمى أريكة. وقال الزجاج: الأرائك الفرش في الحجال.
* (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه
أبدا * وينذر الذين قالوا * اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لائبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا * فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا * إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) *.
هي مكية كلها إلا في قوله. وعن ابن عباس وقتادة إلا قوله * (واصبر نفسك) * الآية فمدنية. وقال مقاتل: إلا من أولها إلى * (جرزا) * ومن قوله * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) * الآيتين فمدني. وسبب نزولها أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصفالهم صفته فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألاهم فقالت: سلوه فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان بناؤه، وسلوه عن الروح فأقبل النضر وعقبة إلى مكة فسألوه فقال: (غدا أخبركم) ولم يقل إن شاء الله، فاستمسك الوحي خمسة عشر يوما فأرجف كفار قريش، وقالوا: إن محمدا قد تركه رئيه الذي كان يأتيه من الجن. وقال بعضهم: قد عجز عن أكاذيبه فشق ذلك عليه، فلما انقضى الأمد جاءه الوحي بجواب الأسئلة وغيرها.
وروي في هذا السبب أن اليهود قالت: إن أجابكم عن الثلاثة فليس بني، وإن أجاب عن اثنتين وأمسك عن الأخرى فهو نبي. فأنزل الله سورة أهل الكهف وأنزل بعد ذلك * (ويسئلونك عن الروح) *. ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أن لما قال * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) * وذكر المؤمنين به أهل العلم وأنه يزيدهم خشوعا، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولدا، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج القيم على كل الكتب المنذر من اتخذ ولدا، المبشر المؤمنين بالإجر الحسن. ثم استطرد إلى حديث كفار قريش والتفت من الخطاب في قوله * (وكبره تكبيرا) * إلى الغيبة في قوله * (على عبده) * لما في * (عبده) * من الإضافة المقتضية تشريفه، ولم يجيء التركيب أنزل عليك.
* (والكتاب) * القرآن، والعوج في المعاني كالعوج في الأشخاص ونكر
93

* (عوجا) * ليعم جميع أنواعه لأنها نكرة في سياق النفي، والمعنى أنه في غاية الإستقامة لا تناقض ولا اختلاف في معانيه، لا حوشية ولا عي في تراكيبه ومبانيه. و * (قيما) * تأكيد لإثبات الإستقامة إن كان مدلوله مستقيما وهو قول ابن عباس والضحاك. وقيل: * (قيما) * بمصالح العباد وشرائع دينهم وأمور معاشهم ومعادهم. وقيل: * (قيما) * على سائر الكتب بتصديقها. واختلفوا في هذه الجملة المنفية، فزعم الزمخشري أنها معطوفة على * (أنزل) * فهي داخلة في الصلة، ورتب على هذا أن الأحسن في انتصاب * (قيما) * أن ينتصب بفعل مضمر ولا يجعل حالا من * (الكتاب) * لما يلزم من ذلك وهو الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وقدره جعله * (قيما) *. وقال ابن عطية: * (قيما) * نصب على الحال من * (الكتاب) * فهو بمعنى التقديم مؤخر في اللفظ، أي أنزل الكتاب * (قيما) * واعترض بين الحال وذي الحال قوله * (ولم يجعل له عوجا) * ذكره الطبري عن ابن عباس، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله * (قيما) *. أما إذا قلنا بأن الجملة المنفية اعتراض فهو جائز، ويفصل بجمل للإعتراض بين الحال وصاحبها.
وقال العسكري: في الآية تقديم وتأخير كأنه قال: احمدوا الله على إنزال القرآن * (قيما) * لا عوج فيه، ومن عادة البلغاء أن يقدموا الأهم. وقال أبو عبد الله الرازي: * (ولم يجعل له عوجا) * يدل على كونه مكملا في ذاته. وقوله قيما يدل على كونه مكملا بغيره، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله، وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه. وقال الكرماني: إذ جعلته حالا وهو الأظهر فليس فيه تقديم ولا تأخير، والصحيح أنهما حالان من * (الكتاب) * الأولى جملة والثانية مفرد انتهى. وهذا على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف، وكثير من أصحابنا على منع ذلك انتهى. واختاره الأصبهاني وقال: هما حالان متواليان والتقدير غير جاعل له * (عوجا * قيما) * وقال صاحب حل العقد: يمكن أن يكون قوله قيما بدلا من قوله * (ولم يجعل له عوجا) * أي جعله مستقيما * (قيما) * انتهى. ويكون بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيدا أبو من أنه بدل جملة من مفرد وفيه خلاف. وقيل: * (قيما) * حال من الهاء المجرورة في * (ولم يجعل له) * مؤكدة. وقيل: منتقلة، والظاهر أن الضمير في * (له) * عائد على * (الكتاب) * وعليه التخاريج الإعرابية السابقة. وزعم قوم أن الضمير في * (له) * عائد على * (عبده) * والتقدير * (على عبده) * وجعله * (قيما) *. وحفص يسكت على قوله * (عوجا) * سكتة خفيفة ثم يقول * (قيما) *. وفي بعض مصاحف الصحابة * (ولم يجعل له عوجا) * لكن جعله قيما ويحمل ذلك على تفسير المعنى لا أنها قراءة.
وأنذر يتعدى لمفعولين قال * (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) * وحذف هنا المفعول الأول وصرح بالمنذر به لأنه هو الغرض المسوق إليه فاقتصر عليه، ثم صرح بالمنذر في قوله حين كرر الإنذار فقال: * (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) * فحذف المنذر أولا لدلالة الثاني عليه، وحذف المنذر به لدلالة الأول عليه، وهذا من بديع الحذف وجليل الفصاحة، ولما لم يكرر البشارة أتى بالمبشر والمبشر به، والظاهر أن * (لينذر) * متعلقة بأنزل. وقال الحوفي: تتعلق بقيما، ومفعول لينذر المحذوف قدره ابن عطية * (لينذر) * العالم، وأبو البقاء * (لينذر) *
94

العباد أو لينذركم. والزمخشري قدره خاصا قال: وأصله * (لينذر) * الذين كفروا * (بأسا شديدا) *، والبأس من قوله * (بعذاب بئيس) * وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأسا وبأسة انتهى. وكأنه راعي في تعيين المحذوف مقابلة وهو * (ويبشر المؤمنين الذين) * والبأس الشديد عذاب الآخرة ويحتمل أن يندرج فيه ما يلحقهم من عذاب الدنيا.
ومعنى من * (لدنه) * صادر من عنده. وقرأ أبو بكر بسكون الدال وإشمامها الضم وكسر النون، وتقدم الكلام عليها في أول هود. وقرئ * (ويبشر) * بالرفع
والجمهور بالنصب عطفا على * (لينذر) * والأجر الحسن الجنة، ولما كنى عن الجنة بقوله * (أجرا حسنا) * قال: * (ماكثين فيه) * أي مقيمين فيه، فجعله ظرفا لإقامتهم، ولما كان المكث لا يقتضي التأبيد قال * (أبدا) * وهو ظرف دال على زمن غير متناه، وانتصب * (ماكثين) * على الحال وذو الحال هو الضمير في * (لهم) * والذين نسبوا الولد إلى الله تعالى بعض اليهود في عزير، وبعض النصارى في المسيح، وبعض العرب في الملائكة، والضمير في * (به) * الظاهر أنه عائد على الولد الذي ادعوه. قال المهدوي: فتكون الجملة صفة للولد. قال ابن عطية: وهذا معترض لأنه لا يصفه إلا القائل وهم ليس قصدهم أن يصفوه، والصواب عندي أنه نفى مؤتنف أخبر الله تعالى به بجهلهم في ذلك، ولا موضع للجملة من الإعراب ويحتمل أن يعود على الله تعالى، وهذا التأويل أذم لهم وأقضى في الجهل التام عليهم وهو قول الطبري انتهى.
قيل: والمعنى * (ما لهم) * بالله * (من علم) * فينزهوه عما لا يجوز عليه، ويحتمل أن يعود على القول المفهوم من * (قالوا) * أي * (ما لهم) *.
بقولهم هذا * (من علم) * فالجملة في موضع الحال أي * (قالوا) * جاهلين من غير فكر ولا روية ولا نظر في ما يجوز ويمتنع. وقيل: يعود على الاتخاذ المفهوم من * (* اتخذه) * أي * (عبدناهم ما لهم) * بحكمة الاتخاذ من علم إذ لا يتخذه إلا من هو عاجز مقهور يحتاج إلى معين يشد به عضده. وهذا مستحيل على الله.
قال الزمخشري: اتخاذ الله ولدا في نفسه محال، فيكف * (قيل * ما لهم من * علم) *؟ قلت: معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته، وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به انتهى.
* (ولا لائبائهم) * معطوف على * (لهم) * وهم من تقدم من أسلافهم الذين ذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة، بل من قال ذلك إنما قاله عن جهل وتقليد. وذكر الآباء لأن تلك المقالة قد أخذوها عنهم وتلقفوها منهم.
وقرأ الجمهور: * (كلمة) * بالنصب والظاهر انتصابها على التمييز، وفاعل * (كبرت) * مضمود يعود على المقالة المفهومة من قوله * (قالوا اتخذ الله ولدا) *، وفي ذلك معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة، والجملة بعدها صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم، فإن كثيرا مما يوسوس به الشيطان في القلوب ويحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر، فكيف بمثل هذا المنكر وسميت * (كلمة) * كما يسمون القصيدة كلمة. وقال ابن عطية: وهذه المقالة هي قائمة في النفس معنى واحدا فيحسن أن تسمى * (كلمة) * وقال أيضا: وقرأ الجمهور بنصب الكلمة كما تقول نعم رجلا زيد، وفسر بالكلمة ووصفها بالخروج من أفواههم فقال بعضهم: نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى * (وساءت مرتفقا) *. وقالت فرقة: نصبها على الحال أي * (كبرت) * فريتهم ونحو هذا انتهى. فعلى قوله كما تقول نعم رجلا زيد يكون المخصوص بالذم محذوفا لأنه جعل * (تخرج) * صفة لكلمة، والتقدير * (كبرت كلمة) * خارجة * (من أفواههم) * تلك المقالة التي فاهوا بها وهي مقالتهم * (اتخذ الله ولدا) *. والضمير في * (كبرت) * ليس عائدا على ما قبله بل هو مضمر يفسره ما بعده، وهو التمييز على مذهب البصريين، ويجوز أن يكون المخصوص بالذم محذوفا وتخرج صفة له أي * (كبرت كلمة) * كلمة * (تخرج من أفواههم) *. وقال أبو عبيدة: نصب على التعجب أي أكبر بها * (كلمة) * أي من * (كلمة) *. وقرئ * (كبرت) * بسكون الباء وهي في لغة تميم. وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن
95

والقواس عن ابن كثير بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ في المعنى وأقوى، و * (ءان) * نافية أي ما * (يقولون) * و * (كذبا) * نعت لمصدر محذوف أي قولا * (كذبا) *.
* (فلعلك باخع) * لعل للترجي في المحبوب وللإشفاق في المحذور. وقال العسكري: فيها هنا هي موضوعة موضع النهي يعني أن المعنى لا تبخع نفسك. وقيل: وضعت موضع الاستفهام تقديره هل أنت * (باخع نفسك) *؟ وقال ابن عطية: تقرير وتوقيف بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك. وقال الزمخشري: شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم برجل فارقته أحبته وأعزته، فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم انتهى. وتكون لعل للاستفهام قول كوفي، والذي يظهر أنها للإشفاق أشفق أن يبخع الرسول صلى الله عليه وسلم) نفسه لكونهم لم يؤمنوا.
وقوله * (علىءاثارهم) * استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان وإعراض عن الشرع، فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في إدبارهم يحزن عليهم، ومعنى * (علىءاثارهم) * من بعدهم أي بعد يأسك من إيمانهم أو بعد موتهم على الكفر. ويقال: مات فلان على أثر فلان أي بعده، وقرئ * (باخع نفسك) * بالإضافة. وقرأ الجمهور: * (باخع) * بالتنوين * (نفسك) * بالنصب. قال الزمخشري: على الأصل يعني إن اسم الفاعل إذا استوفي شروط العلم فالأصل أن يعمل، وقد أشار إلى ذلك سيبويه في كتابه. وقال الكسائي: العمل والإضافة سواء، وقد ذهبنا إلى أن الإضافة أحسن من العمل بما قررناه في ما وضعنا في علم النحو. وقرئ: * (إن لم يؤمنوا) * بكسر الميم وفتحها فمن كسر. فقال الزمخشري: هو يعني اسم الفاعل للاستقبال، ومن فتح فللمضي يعني حالة الإضافة، أي لأن * (لم يؤمنوا) * والإشارة بهذا الحديث إلى القرآن. قال تعالى * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها) *.
و * (أسفا) * قال مجاهد: جزعا. وقال قتادة: غضبا وعنه أيضا حزنا. وقال السدي: ندما وتحسرا. وقال الزجاج: الأسف المبالغة في الحزن والغضب. وقال منذر بن سعيد: الأسف هنا الحزن لأنه على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه كان غضبا كقوله تعالى * (فلما ءاسفونا انتقمنا منهم) * أي أغضبونا. قال ابن عطية: وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد انتهى. وانتصاب * (أسفا) * على أنه مفعول من أجله أو على أنه مصدر في موضع الحال، وارتباط قوله * (إنا جعلنا) * الآية بما قبلها هو على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم) لأنه تعالى أخبر أنه خلق ما على الأرض من الزينة للإبتلاء والاختبار أي الناس * (أحسن عملا) * فليسوا على نمط واحد في الاستقامة واتباع الرسل، بل لا بد أن يكون فيهم من هو أحسن عملا ومن هو أسوأ
عملا، فلا تغتم وتحزن على من فضلت عليه بأنه يكون أسوأ عملا ومع كونهم يكفرون بي لا أقطع عنهم مواد هذه النعم التي خلقتها.
و * (جعلنا) * هنا بمعنى خلقنا، والظاهر أن ما يراد بها غير العامل وأنه يراد به العموم فيما لا يعقل. و * (زينة) * كل شيء بحسبه. وقيل: لا يدخل في ذلك ما كان فيه إيذاء من حيوان وحجر ونبات لأنه لا زينة فيه، ومن قال بالعموم قال فيه * (زينة) * من جهة خلقه وصنعته وإحكامه. وقيل: المراد بما هنا خصوص ما لا بعقل. فقيل: الأشجار والأنهار. وقيل: النبات لما فيه من الاختلاف والأزهار. وقيل: الحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال. وقيل: الذهب والفضة والنحاس والرصاص والياقوت والزبرجد والجوهر والمرجان وما يجري مجرى ذلك من نقائس الأحجار.
وقال الزمخشري: * (ما على الارض) * يعني ما يصلح أن يكون * (زينة لها) * ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها. وقالت: فرقة أراد النعيم والملابس والثمار والخضرة والمياه. وقيل: * (ما) * هنا لمن يعقل، فعن مجاهد هو الرجال وقاله ابن جبير عن ابن عباس وروى عكرمة أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء. وانتصب * (زينة) * على الحال أو على المفعول من أجله إن كان * (جعلنا) * بمعنى خلقنا، وأوجدنا، وإن كانت بمعنى صيرنا فانتصب على أنه مفعول ثان.
واللام من * (لنبلوهم) * تتعلق بجعلنا، والابتلاء الاختبار وهو متأول بالنسبة إلى الله
96

تعالى. والضمير في * (لنبلوهم) * إن كانت ما لمن يعقل فهو عائد عليها على المعنى، وأن لا يعود على ما يفهم من سياق الكلام وهو سكان الأرض المكلفون * (* وأيهم) * يحتمل أن يكون الضمير فيها إعرابا فيكون * (لنبلوهم أيهم) * مبتدأ و * (أحسن) * خبره. والجملة في موضع المفعول * (لنبلوهم) * ويكون قد علق * (لنبلوهم) * إجراء لها مجرى العلم لأن الابتلاء والاختبار سبب للعلم، كما علقوا سل وانظر البصرية لأنهما سببان للعلم وإلى أن الجملة استفهامية مبتدأ وخبر ذهب الحوفي، ويحتمل أن تكون الضمة فيها بناء على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء في أي. وهو كونها مضافة قد حذف صدر صلتها، فأحسن خبر مبتدأ محذوف فتقديره هو * (أحسن) * ويكون * (أيهم) * في موضع نصب بدلا من الضمير في * (لنبلوهم) *، والمفضل عليه محذوف تقديره ممن ليس * (أحسن عملا) *. وقال الثوري أحسنهم عملا أزهدهم فيها. وقال أبو عاصم العسقلاني: أترك لها. وقال الزمخشري: حسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها. وقال أبو بكر غالب بن عطية: أحسن العمل أخذ بحق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه. وقال الكلبي: أحسن طاعة. وقال القاسم بن محمد ما عليها من الأنبياء والعلماء ليبلو المرسل إليم والمقلدين للعلماء أيهم أحسن قبولا وإجابة. وقال سهل: أحسن توكلا علينا فيها. وقيل: أصفى قلبا وأحسن سمتا. وقال ابن إسحاق: أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي.
و * (أنا * لجاعلون) * أي مصيرون * (ما عليها) * مما كان زينة لها أو * (ما عليها) * مما هو أعم من الزينة وغيره * (صعيدا) * ترابا * (جرزا) * الأنبات فيه، وهذا إشارة إلى التزهيد في الدنيا والرغبة عنها وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم) عن ما تضمنته أيدي المترفين من زينتها، إذ مآل ذلك كزله إلى الفناء والحاق. وقال الزمخشري: * (ما عليها) * من هذه الزينة * (صعيدا جرزا) * يعني مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإماطة حسنة وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار ونحو ذلك انتهى. قيل: والصعيد ما تصاعد على وجه الأرض. وقال مجاهد: الأرض التي لا نبات بها. وقال السدي الأملس المستوي. وقيل: الطريق. وفي الحديث: (إياكم والقعود على الصعدات).
* (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من ءاياتنا عجبا * إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا ءاتنا من لدنك رحمة * وهيىء لنا من أمرنا رشدا * فضربنا علىءاذانهم فى الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا * نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية ءامنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والارض لن ندعوا من دونه إلاها لقد قلنا إذا شططا) *.
* (أم) * هنا هي المنقطعة فتتقدر ببل والهمزة. قيل: للإضراب عن الكلام الأول بمعنى الانتقال من كلام إلى آخر لا بمعنى الإبطال، والهمزة للاستفهام. وزعم بعض النحويين أن * (أم) * هنا بمعنى الهمزة فقط، والظاهر في * (أم حسبت) * أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم). فقال مجاهد: لم ينهه عن التعجب وإنما أراد كل آياتنا كذلك. وقال قتادة: لا يتعجب منها فالعجائب في خلق السماوات والأرض أكثر. وقال ابن عباس: سألوك عن ذلك ليجعلوا جوابك علامة لصدقك وكذبك، وسائر آيات القرآن أبلغ وأعجب وأدل على صدقك. وقال الطبري: تقرير له عليه السلام على حسبانه * (أن أصحاب الكهف) * كانوا * (عجبا) * بمعنى إنكار ذلك عليه أن لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم. قال: وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. وقال الزهراوي: يحتمل معنى آخر وهو أن يكون استفهاما له هل علم * (أن أصحاب الكهف * كانوا * عجبا) * بمعنى إثبات أنهم عجب، ويكون فائدة تقريره جمع نفسه للأمر لأن جوابه أن يقول لم أحسب ولا علمته، فيقال له وصفهم عند ذلك والتجوز في هذا التأويل هو في لفظة حسبت انتهى. وقال غيره: معناه أعلمت أي لم تعلمه حتى أعلمتك.
وقال الزمخشري: ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها، وإزالة ذلك كله كأن
97

لم يكن ثم قال: * (أم حسبت) * يعني * (ءان) * ذلك من قصة أهل الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة انتهى. وقيل: أي أم علمت أي فاعلم أنهم * (كانوا) * * (عجبا) * كما تقول: أعلمت أن فلانا فعل كذا أي قد فعل فاعلمه. وقيل: الخطاب للسامع، والمراد المشركون أي قل لهم * (أم حسبتم) * الآية. والظن قد يقام مقام العلم، فكذلك حسبت بمعنى علمت والكهف تقدم تفسيره في المفردات. وعن أنس: الكهف الجبل. قال القاضي: وهذا غير مشهور في اللغة. وقال مجاهد: تفريج بين الجبلين، والظاهر * (أن أصحاب الكهف والرقيم) * هم الفتية المذكورون هنا. وعن ابن المسيب أنهم قوم كان حالهم كأصحاب الكهف. فقال الضحاك * (* الرقيم)
* بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفسا أموات كلهم نيام على هيئة * (أن أصحاب الكهف) *. وقيل: هم أصحاب الغار ففي الحديث عن النعمان بن بشير أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم) يذكر الرقيم قال: (إن ثلاثة نفر أصابتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف). وذكر الحديث وهو حديث المستأجر والعفيف وبار والديه، وفيما أورده فيه زيادة ألفاظ على ما في الصحيح. ومن قال إنهم طائفتان قال: أخبر الله عن * (أصحاب الكهف) * ولم يخبر عن أصحاب * (* الرقيم) * بشيء، ومن قال: بأنهم طائفة واحدة اختلفوا في شرح * (* الرقيم) * فعن ابن عباس: إن لا يدري ما * (* الرقيم) * أكتاب أم بنيان، وعنه أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين المسيح عليه السلام. وقيل: من دين قبل عيسى، وعن ابن عباس ووهب أنه اسم قريتهم. وقيل: لوح من ذهب تحت الجدار أقامه الخضر عليه السلام. وقيل: كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وسبب خروجهم. وقيل: لوح من رصاص كتب فيه شأن الفتية ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف. وقيل: صخرة كتب فيها أسماؤهم وجعلت في سور المدينة. وقيل: اسم كلبهم وتقدم بيت أمية قاله أنس والشعبي وابن جبير، وعن الحسن: الجبل الذي به الكهف وعن عكرمة اسم الدواة بالرومية. وقيل: اسم للوادي الذي فيه الكهف. وقيل: رقم الناس حديثهم نقرا في الجبل.
و * (ءاياتنا عجبا) * نصب على أنه صفة لمحذوف دل عليه ما قبله، وتقديره آية * (عجبا) *، وصفت بالمصدر أو على تقدير ذات عجب وأما أسماء فتية أهل الكهف فأعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط، والسند في معرفتها ضعيف والرواة مختلفون في قصصهم وكيف كان اجتماعهم وخروجهم، ولم يأت في الحديث الصحيح كيفية ذلك ولا في القرآن إلا ما قص تعالى علينا من قصصهم، ومن أراد تطلب ذلك في كتب التفسير. وروي أن اسم الملك الكافر الذي خرجوا في أيامه عن ملته اسمه دقيا نوس. وروي أنهم كانوا في الروم. وقيل: في الشام وأن بالشام كهفا فيه موتي، ويزعم مجاوروه أنهم * (أصحاب الكهف) * وعليهم مسجد وبناء يسمي * (* الرقيم) * ومعهم كلب رمة. وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتي ومعهم كلب رمة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم * (أن أصحاب الكهف) *. قال ابن عطية: دخلت إليهم فرأيتهم منذ أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمي * (* الرقيم) * كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس. وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عز وجل انتهى. وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم، وأن معهم كلبا ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم، وأما ما ذكرت من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة فقد مررت عليها مرارا لا تحصى، وشاهدت فيها حجارة كبارا، ويترجح كون أهل الكهف بالأندلس لكثرة دين النصاري بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى، ولأن الأخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرفه أحد إلا بوحي من الله تعالى.
98

والعامل في * (المرسلين إذ) *. قيل: أذكر مضمرة. وقيل * (عجبا) *، ومعنى * (أوى) * جعلوه مأوى لهم ومكان اعتصام، ثم دعوا الله تعالى أن يؤتيهم رحمة من عنده وفسرها المفسرون بالرزق. وقال الزمخشري: هي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء. و * (الفتية) * جمع فتي جمع تكسير جمع قلة، وكذلك كانوا قليلين. وعند ابن السراج أنه اسم جمع لا جمع تكسير. ولفظ * (الفتية) * يشعر بأنهم كانوا شبابا وكذا روي أنهم كانوا شبابا من أبناء الأشراف والعظماء مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب وهم من الروم، اتبعوا دين عيسى عليه السلام. وقيل: كانوا قبل عيسى وأصحابنا الأندلسيون تكثر في ألفاظهم تسمية نصاري الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم، فيقولون: غزونا الروم، جاءنا الروم. وقل من ينطق بلفظ النصاري، ولما دعوا بإيتاء الرحمة وهي تتضمن الرزق وغيره، دعوا الله بأن يهيء لهم من أمرهم الذي صاروا إليه من مفارقة دين أهليهم وتوحيد الله رشدا وهي الاهتداء والديمومة عليه.
وقال الزمخشري: واجعل * (أمرنا رشدا) * كله كقولك رأيت منك أسدا. وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري: وهي ويهيي بياءين من غير همز، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء. وفي كتاب ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم: وهيء لنا ويهي لكم لا يهمز انتهى. فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياء، واحتمل أن يكون حذفها فالأول إبدال قياسي، والثاني مختلف فيه ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزوما. وقرأ أبو رجاء: رشد بضم الراء وإسكان الشين. وقرأ الجمهور * (رشدا) * بفتحهما. قال ابن عطية: وهي أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتهما، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فإنها كافية، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة انتهى.
* (فضربنا علىءاذانهم) * استعارة بديعة للإنامة المستثقلة التي لا يكاد يسمع معها، وعبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ومنه * (ضربت عليهم الذلة) * وضرب الجزية وضرب البعث. وقال الفرزدق:
* ضربت عليك العنكبوت بنسجها
*
وقضي عليك به الكتاب المنزل
*
وقال الأسود بن يعفر
* ومن الحوادث لا أبا لك أنني
*
ضربت على الأرض بالأسداد وقال آخر:
إن المروءة والسماحة والندي في قبة ضربت على ابن الحشرج استعير للزوم هذه الأوصاف لهذا الممدوح، وذكر الجارحة التي هي الآذان إذ هي يكون منها السمع لأنه لا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع. وفي الحديث: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنه) أي استثقل نومه جدا حتى لا
99

يقوم بالليل. ومفعول ضربنا محذوف أي حجابا من أن يسمع كما يقال بني على امرأته يريدون بني عليها القبة. وانتصب * (سنين) * على الظرف والعامل فيه * (فضربنا) *، و * (عددا) * مصدر وصف به أو منتصب بفعل مضمر أي بعد * (عددا) * وبمعنى اسم المفعول كالقبض والنفض، ووصف به * (سنين) * أي * (سنين) * معدودة. والظاهر في قوله * (عددا) * الدلالة على الكثرة لأنه لا يحتاج أن يعد إلا ما كثر لا ما قل.
*
وقال الزمخشري: ويحتمل أن يريد القلة لأن الكثير قليل عنده كقوله * (لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) * انتهى وهذا تحريف في التشبيه لأن لفظ الآية كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، فهذا تشبيه لسرعة انقضاء ما عاشوا في الدنيا إذا رأوا العذاب كما قال الشاعر:
* كأن الفتي لم يعر يوما إذا اكتسي
*
ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا
*
* (ثم بعثناهم) * أي أيقظناهم من نومهم، والبعث التحريك عن سكون إما في الشخص وإما عن الأمر المبعوث فيه، وإن كان المبعوث فيه متحركا و * (لنعلم) * أي لنظهر لهم ما علمناه من أمرهم، وتقدم الكلام في نظير هذا في قوله * (لنعلم من يتبع الرسول) *. وفي التحرير وقرأ الجمهور: * (لنعلم) * بالنون، وقرأ الزهري بالياء وفي كتاب ابن خالوية ليعلم * (أي الحزبين) * حكاه الأخفش. وفي الكشاف وقرئ ليعلم وهو معلق عنه لأن ارتفاعه بالابتداء لا بإسناد يعلم إليه، وفاعل يعلم مضمون الجملة كما أن مفعول يعلم انتهى. فأما قراءة لنعلم فيظهر أن ذلك التفات خرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، فيكون معناها ومعنى * (لنعلم) * بالنون سواء، وأما ليعلم فيظهر أن المفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير ليعلم الله الناس * (أي الحزبين) *. والجملة من الابتداء والخبر في موضع مفعولي يعلم الثاني والثالث، وليعلم معلق. وأما ما في الكشاف فلا يجوز ما ذكر على مذهب البصريين لأن الجملة إذ ذاك تكون في موضع المفعول الذي لا يسمى فاعله وهو قائم مقام الفاعل، فكما أن تلك الجملة وغيرها من الجمل لا تقوم مقام الفاعل فكذلك لا يقوم مقام ما ناب عنه. وللكوفيين مذهبان:
أحدهما: أنه يجوز الإسناد إلى الجملة اللفظية مطلقا.
والثاني: أنه لا يجوز إلا إن كان مما يصح تعليقه.
والظاهر أن الحزبين هما منهم لقوله تعالى * (وكذالك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم) * الآية. وكأن الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم علموا أن لبثهم تطاول، ويدل على ذلك أنه تعالى بدأ بقصتهم ولا مختصرة من قوله * (أم حسبت) * إلى قوله * (أمدا) * ثم قصها تعالى مطولة مسهبة من قوله * (نحن نقص * إلى * قوله * قل الله أعلم بما لبثوا) *.
وقال ابن عطية: والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم * (الفتية) * أي ظنوا لبثهم قليلا، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية، وهذا قول الجمهور من المفسرين انتهى. وقالت فرقة: هما حزبان كافران اختلفا في مدة أهل الكهف. قال السدي من اليهود والنصارى الذين علموا قريشا السؤال عن أهل الكهف، وعن الخضر وعن الروح وكانوا قد اختلفوا في مدة إقامة أهل الكهف في الكهف. وقال مجاهد: قوم أهل الكهف كان منهم مؤمنون وكافرون واختلفوا في مدة إقامتهم. وقيل: حزبان من المؤمنين في زمن * (أصحاب الكهف) * اختلفوا في مدة لبثهم قاله الفراء. وقال ابن عباس الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب وأهل الكهف حزب. وقال ابن بحر: الحزبان الله والخلق كقوله * (أعلم أم الله ومن) * وهذه كلها أقوال مضطربة. وقال ابن قتادة: لم يكن للفريقين علم بلبثهم لا لمؤمن ولا لكافر بدليل قوله * (الله أعلم بما لبثوا) *. وقال مقاتل: كما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث.
و * (أحصى) * جوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون فعلا ماضيا، وما مصدرية و * (أمدا) * مفعول به، وأن يكون أفعل تفضيل و * (أمدا) * تمييز.
100

واختار الزجاج والتبريزي أن يكون أفعل للتفضيل واختار الفارسي والزمخشري وابن عطية أن تكون فعلا ماضيا، ورجحوا هذا بأن * (أحصى) * إذا كان للمبالغة كان بناء من غير الثلاثي، وعندهم أن ما أعطاه وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب شاذ لا يقاس. ويقول أبو إسحاق: إنه قد كثر من الرباعي فيجوز، وخلط ابن عطية فأورد فيما بني من الرباعي ما أعطاه للمال وآتاه للخير وهي أسود من القار وماؤه أبيض من اللبن. وفهو لما سواها أضيع. قال: وهذه كلها أفعل من الرباعي انتهى. وأسود وأبيض ليس بناؤهما من الرباعي. وفي بناء أفعل للتعجب وللتفضيل ثلاثة مذاهب يبني منه مطلقا وهو ظاهر كلام سيبويه، وقد جاءت منه ألفاظ ولا يبني منه مطلقا وما ورد حمل على الشذود والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل. فلا يجوز، أو لغير النقل كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز أن تقول ما أشكل هذه المسألة، وما أظلم هذا الليل. وهذا اختيار ابن عصفور من أصحابنا. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو، وإذا قلنا بأن * (أحصى) * اسم للتفضيل جاز أن يكون * (أي
الحزبين) * موصولا مبنيا على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه، وهو كون * (أي) * مضافة حذف صدر صلتها، والتقدير ليعلم الفريق الذي هو * (أحصى) * * (لما لبثوا أمدا) * من الذين لم يحصوا، وإذا كان فعلا ماضيا امتنع ذلك لأنه إذ ذاك لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل صلة بنفسه على تقدير جعل * (أي) * موصولة فلا يجوز بناؤها لأنه فات تمام شرطها، وهو أن يكون حذف صدر صلتها.
وقال: فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس، ونحو أعدي من الجرب، وأفلس من ابن المذلق شاذ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به، ولأن * (أمدا) * لا يخلو إما أن ينصب بأفعل فأفعل لا يعمل، وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه * (أحصى) * كما أضمر في قوله:
واضرب منا بالسيوف القوانسا
على يضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون * (أحصى) * فعلا ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره انتهى. أما دعواه الشذوذ فهو مذهب أبي علي، وقد ذكرنا أن ظاهر مذهب سيبويه جواز بنائه من أفعل مطلقا وأنه مذهب أبي إسحاق وأن التفصيل اختيار ابن عصفور وقول غيره. والهمزة في * (أحصى) * ليست للنقل. وأما قوله فافعل لا يعمل ليس بصحيح فإنه يعمل في التمييز، و * (أمدا) * تمييز وهكذا أعربه من زعم أن * (أحصى) * أفعل للتفضيل، كما تقول: زيدا أقطع الناس سيفا، وزيد أقطع للهام سيفا، ولم يعربه مفعولا به. وأما قوله: وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى أي لا يكون سديدا فقد ذهب الطبري إلى نصب * (أمدا) * بلبثوا. قال ابن عطية: وهذا غير متجه انتهى. وقد يتجه ذلك أن الأمد هو الغاية ويكون عبارة عن المدة من حيث أن للمدة غاية في أمد المدة على الحقيقة، وما بمعنى الذي و * (أمدا) * منتصب على إسقاط الحرف، وتقديره لما * (لبثوا) * من أمد أي مدة، ويصير من أمد تفسيرا لما أنهم في لفظ * (ما لبثوا) * كقوله * (ما ننسخ من ءاية * ما يفتح الله للناس من رحمة) * ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل. وأما قوله: فإن زعمت إلى آخره فيقول: لا يحتاج إلى هذا الزعم لأنه
101

لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به، فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به، وإنما تأويله بضرب القوانس قول البصريين، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله * (أعلم من يضل) * من منصوبة بأعلم نصب المفعول به، ولو كثر وجود مثل.
واضرب منا بالسيوف القوانسا
لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحا لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمين، ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف القوانسا على ضرب غيرنا، ولما ذكر قوله ليعلم مشعرا باختلاف في أمرهم عقب بأنه تعالى هو الذي يقص شيئا فشيئا على رسوله صلى الله عليه وسلم) خبرهم * (بالحق) * أي على وجه الصدق، وجاء لفظ * (نحن نقص) * موازيا لقوله لنعلم.
ثم قال * (بربهم وزدناهم) * ففيه إضافة الرب وهو السيد والناظر في مصلحة عبيده، ولم يأت التركيب * (ءامنوا) * بناء للأشعار بتلك الرتبة وهي أنهم مربوبون له مملوكون. ثم قال: * (وزدناهم هدى) * ولم يأت التركيب وزادهم لما في لفظة نا من العظمة والجلال، وزيادته تعالى لهم * (هدى) * هو تيسيرهم للعمل الصالح والانقطاع إليه ومباعدة الناس والزهد في الدنيا، وهذه زيادة في الإيمان الذي حصل لهم. وفي التحرير * (زدناهم) * ثمرات * (هدى) * أو يقينا قولان، وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي، أو إنطاق الكلب لهم بأنه هو على ما هم عليه من الإيمان، أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون الدين به كله لله فآمنوا به قبل بعثه أقوال ملخصة من التحرير.
* (وربطنا على قلوبهم) * ثبتناها وقويناها على الصبر على هجرة الوطن والنعيم والفرار بالدين إلى غار في مكان قفر لا أنيس به ولا ماء ولا طعام، ولما كان الفزع وخوف النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن تشبه الربط، ومنه فلان رابط الجأش إذا كانت نفسه لا تتفرق عند الفزع والحرب. وقال تعالى: * (إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها) * والعامل في * (أن ربطنا) * أي ربطنا حين * (قاموا) *، ويحتمل القيام أن يكون مقامهم بين يدي الملك الكافر دقيانوس، فإنه مقام محتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخلعوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته، ويحتمل أن يكون عبارة عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس كما يقال: قام فلان إلى كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد.
وقال الكرماني: * (قاموا) * على أرجلهم. وقيل: * (قاموا) * يدعون الناس سرا. وقال عطاء * (قاموا) * عند قيامهم من النوم قالوا وقيل: * (قاموا) * على إيمانهم. وقال صاحب الغنيان: * (إذ قاموا) * بين يدي الملك فتحركت هرة. وقيل: فأرة ففزع دقيانوس فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا * (ربنا رب * السماوات والارض) * وكان قومهم عباد أصنام، وما أحسن ما وحدوا الله بأن ربهم هو موجد السماوات والأرض المتصرف فيها على ما يشاء، ثم أكدوا هذا التوجيد بالبراءة من إله غيره بلفظ النفي المستغرق تأبيد الزمان على قول. واللام في * (لقد) * لام توكيد و * (إذا) * حرف جواب وجزاء، أي * (لقد قلنا) * لن ندعو من دونه إلها قولا * (شططا) * أي ذا شطط وهو التعدي والجور، فشططا نعت لمصدر محذوف إما على الحذف كما قدرناه، وإما على الوصف به على جهة المبالغة. وقيل: مفعول به بقلنا. وقال قتادة: * (شططا) * كذبا. وقال أبو زيد: خطأ.
* (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وإذ) *.
ولما وحدوا الله تعالى ورفضوا ما دونه من الآلهة أخذوا في ذم قومهم وسوء فعلهم وأنهم لا حجة لهم في عبادة غير الله، ثم عظموا جرم من افترى على الله كذبا وهذه
المقالة يحتمل أن قالوها في مقامهم بين يدي الملك تقبيحا لما هو وقومهم عليه وذلك أبلغ في التبري من عبادة الأصنام، وأفت في عضد الملك إذا اجترؤوا عليه بذم ما هو عليه، ويحتمل أن قالوا ذلك عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه و * (هؤلاء) * مبتدأ.
و * (قومنا) * قال الحوفي: خبر و * (اتخذوا) * في موضع الحال. وقال الزمخشري: وتبعه أبو البقاء: * (قومنا) * عطف بيان و * (اتخذوا) * في موضع الخبر. والضمير في * (من دونه) * عائد على الله
102

ولولا تحضيض صحبه الإنكار إذ يستحيل وقوع سلطان بين على ذلك فلا يمكن فيه التحضيض الصرف، فحضوهم على ذلك على سبيل التعجيز لهم، ومعنى * (عليهم) * على اتخاذهم آلهة و * (اتخذوا) * هنا يحتمل أن يكون بمعنى عملوا لأنها أصنام هم نحتوها، وأن تكون بمعنى صيروا، وفي ما ذكروه دليل على أن الدين لا يؤخذ إلا بالحجة والدعوى إذا لم يكن عليها دليل فاسدة وهي ظلم وافتراء على الله وكذب بنسبة شركاء الله.
و * (إذ * اعتزلتموهم) * خطاب من بعضهم لبعض والأعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم فهو اعتزال جسماني وقلبي، وما معطوف على المفعول في * (اعتزلتموهم) * أي واعتزلتم معبودهم و * (إلا الله) * استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله مع آلهتهم لاندراج لفظ الجلالة في قوله * (وما يعبدون إلا الله) *.
وذكر أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله. وقال هذا أيضا الفراء، ومنقطع إن كانوا لا يعرفون الله ولا يعبدونه لعدم اندراجه في معبوداتهم. وفي مصحف عبد الله * (وما يعبدون) * من دوننا انتهى وما في مصحف عبد الله فيما ذكر هارون إنما أريد به تفسير المعنى. وإن هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم * (وما يعبدون) * من دون الله وليس ذلك قرآنا لمخالفتها لسواد المصحف، ولأن المستفيض عن عبد الله بل هو متواتر ما ثبت في السواد وهو * (ما يعبدون إلا * الله) *. وقيل: * (وما يعبدون إلا الله) * كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله تعالى، فعلى هذا * (ما) * فيه و * (إلا) * استثناء مفرغ له العامل.
* (فأووا إلى الكهف) * أي اجعلوه مأوى لكم تقيمون فيه وتأوون إليه. وقوله * (ينشر) * فيه ما كانوا عليه من التوكل حيث أووا إلى كهف، ورتبوا على مأواهم إليه نشر رحمة الله عليهم وتهيئة رفقه تعالى بهم لأن من أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان لا يضيعه، والمعنى أنه تعالى سيبسط علينا رحمته ويهيء لنا ما نرتفق به في أمر عيشنا.
قال ابن عباس: * (الله لكم) * يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه، ويأتيكم باليسر والرفق واللطف. وقال ابن الأنباري: المعنى * (الله لكم) * بدلا من أمركم الصعب * (مرفقا) *. قال الشاعر:
* فليت لنا من ماء زمزم شربة
*
مبردة باتت على طهيان أي بدلا من ماء زمزم. وقال الزمخشري: إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم، وإما أن يخبرهم به نبي في عصرهم، وإما أن يكون بعضهم نبيا. وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجي والجعفي عنه، وأبو عمرو في رواية هارون بفتح الميم وكسر الفاء. وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة والأعمش وباقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء رفقا لأن جميعا في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة حكاه الزجاج وثعلب. ونقل مكي عن الفراء أنه قال: لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء، وخالفه أبو حاتم وقال: المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد. وقال أبو زيد: هو مصدر كالرفق جاء على مفعل. وقيل: هما لغتان فيما يرتفق به وإما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير، وعن الفراء أهل الحجاز يقولون * (مرفقا) * بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعا انتهى وأجاز معاذ فتح الميم والفاء.
*
* (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال
103

وهم فى فجوة منه ذالك) *. (سقط: من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا)
هنا جمل محذوفة دل عليها ما تقدم، والتقدير * (فأووا إلى الكهف) * فألقى الله عليهم النوم واستجاب دعاءهم وأرفقهم في الكهف بأشياء. وقرأ الحرميان، وأبو عمر و * (تزاور) * بإدغام تتزاور في الزاي. وقرأ الكوفيون، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن مناذر، وخلف، وأبو عبيد، وابن سعدان، ومحمد بن عيسى الأصبهاني، وأحمد بن جبير الأنطاكي بتخفيف الزاي إذا حذفوا التاء. وقرأ ابن أبي إسحاق، وابن عامر، وقتادة، وحميد، ويعقوب عن العمري: تزور على وزن تحمر. وقرأ الجحدري، وأبو رجاء، وأيوب السختياني، وابن أبي عبلة، وجابر، وورد عن أيوب * (* تزوار) * على وزن تحمار. وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل: تزوئر بهمزة قبل الراء على قولهم ادهأم واشعأل فرارا من التقاء الساكنين، والمعنى تزوغ وتميل.
و * (كهفهم ذات اليمين) * جهة يمين الكهف، وحقيقته الجهة المسماة باليمين يعني يمين الداخل إلى الكهف أو يمين الفتية. و * (تقرضهم) * لا تقر بهم من معنى القطيعة * (وهم فى فجوة) * أي متسع من الكهف. وقرأ الجمهور: * (تقرضهم) * بالتاء. وقرأت فرقة بالياء أي يقرضهم الكهف. قال ابن عباس: المعنى أنهم
كانوا لا تصيبهم الشمس البتة. وقالت فرقة: إنها كانت الشمس بالعشي تنالهم بما في مسها صلاح لأجسامهم، وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدبور، وهم في زاوية. وقال عبد الله بن مسلم: كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش وعلى هذا كان أعلى الكهف مستورا من المطر. قال ابن عطية: كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب، اختار الله لهم مضجعا متسعا في مقناة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم وتدفع عنهم كربة الغار وغمومه. وقال الزمخشري: المعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرض لإصابة الشمس لولا أن الله يحجبها عنهم انتهى. وهو بسط قول الزجاج.
قال الزجاج: فعل الشمس آية * (من آيات الله) * دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وقال أبو علي: معنى * (تقرضهم) * تعطيهم من ضوئها شيئا ثم تزول سريعا كالقرض يسترد، والمعنى عنده أن الشمس تميل بالغدوة وتصيبه بالعشي إصابة خفيفة انتهى. ولو كان من القرض الذي يعطي ثم يسترد لكان الفعل رباعيا فكان يكون تقرضهم بالتاء مضمومة. لكنه من القطع، وإنما التقدير تقرض لهم أي تقطع لهم من ضوئها شيئا. قيل: ولو كانت الشمس لا تصيب مكانهم أصلا لكان يفسد هواؤه ويتعفن ما فيه فهلكوا، والمعنى أن تعالى دبر أمرهم فأسكنههم مسكنا لا يكثر سقوط الشمس فيه فيحمي، ولا تغيب عنه غيبوبة دائمة فيعفن. والإشارة بذلك إلى ما صنعه تعالى بهم من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آياته يعني أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصا لهم بالكرامة، ومن قال أنه كان مستقبل بنات نعش بحيث كان له حاجب من الشمس كان الإشارة إلى أن حديثهم * (من آيات الله) * وهو هدايتهم إلى توحيده وإخراجهم من بين عبدة الأوثان وإيواؤهم إلى ذلك الكهف، وحمايتهم من عدوهم وإلقاء الهيبة عليهم، وصرف الشمس عنهم يمينا وشمالا لئلا تفسد أجسامهم وإنامتهم هذه المدة الطويلة، وصونهم من البلي وثيابهم من التمزق.
ويدل على أنه إشارة إلى الهداية قوله * (من يهد الله فهو المهتد) * وهو لفظ عام يدخل فيه ما سبق نسبتهم وهم أهل الكهف، * (ومن يضلل) * عام أيضا مثل دقيانوس الكافر وأصحابه، والخطاب في * (وتحسبهم) * وفي * (وترى الشمس) * لمن قدر له أنه يطلع عليهم. قيل: كانوا مفتحة أعينهم وهم نيام فيحسبهم الناظر منتبهين. قال أبو محمد بن عطية: ويحتمل أن يحسب
104

الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغيير، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم، فيحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ، والظاهر أن قوله * (وتحسبهم أيقاظا) * إخبار مستأنف وليس على تقدير. وقيل: في الكلام حذف تقديره لو رأيتهم لحسبتهم * (أيقاظا) *.
والظاهر أن قوله * (ونقلبهم) * خبر مستأنف. وقيل: إنما وقع الحسبان من جهة تقلبهم، ولا سيما إذا كان من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين وفي قراءة الجمهور * (ونقلبهم) * بالنون مزيد اعتناء الله بهم حيث أسند التقليب إليه تعالى، وأنه هو الفاعل ذلك. وحكي الزمخشري أنه قرىء ويقلبهم بالياء مشددا أي يقلبهم الله. وقرأ الحسن فيما حكي الأهوازي في الإقناع: ويقلبهم بياء مفتوحة ساكنة القاف مخففة اللام. وقرأ الحسن فيما حكي ابن جني: وتقلبهم مصدر تقلب منصوبا، وقال: هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال: وترى أو تشاهد تقلبهم، وعنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه ضم الياء فهو مصدر مرتفع بالابتداء قاله أبو حاتم، وذكر هذه القراءة ابن خالويه عن اليماني. وذكر أن عكرمة قرأ وتقلبهم بالتاء باثنتين من فوق مضارع قلب مخففا. قيل: والفائدة في تقليبهم في الجهتين لئلا تبلي الأرض ثيابهم وتأكل لحومهم، فيعتقدوا أنهم ماتوا وهذا فيه بعد، فإن الله الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو قادر على حفظ أجسامهم وثيابهم.
وعن ابن عباس: لو مستهم الشمس لأحرقتهم، ولولا التقليب لأكلتهم الأرض انتهى. و * (ذات) * بمعنى صاحبة أي جهة * (ذات اليمين) *. ونقل المفسرون الخلاف في أوقات تقليبهم وفي عدد التقليبات، عن ابن عباس، وأبي هريرة، وقتادة، ومجاهد، وابن عياض بأقوال متعارضة متناقضة ضربنا عن نقلها صفحا وكذلك لم نتعرض لأسم كلبهم ولا لكونه كلب زرع أو غيره، لأن مثل العدد والوصف والتسمية لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بالسمع، والسمع لا يكون في مثل هذا إلا عن الأنبياء أو الكتب الإلهية، ويستحيل ورود هذا الاختلاف عنها. والظاهر أن قوله * (وكلبهم) * أريد به الحيوان المعروف، وأبعد من ذهب إلى أنه أسد، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم، أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم. وحكي أبو عمر والزاهد غلام ثعلب أنه قرىء وكالئهم اسم فاعل من كلأ إذا حفظ، فينبغي أن يحمل على أنه الكلب لحفظه للإنسان. قيل: ويحتمل أن يراد بالكاليء الرجل على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الربيئة المستخفي بنفسه. وقرأ أبو جعفر الصادق: وكالبهم بالباء بواحدة أي صاحب كلبهم، كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر.
وقال الزمخشري: * (باسط ذراعيه) * حكاية حال ماضية، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي، وإضافته إذا أضيف حقيقة معرفة كغلام
105

زيد إلا إذا نويت حكاية الحال الماضية انتهى. وقوله لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ليس إجماعا، بل ذهب الكسائي وهشام، ومن أصحابنا أبو جعفر بن مضاء إلى أنه يجوز أن يعمل، وحجج الفريقين مذكورة في علم النحو.
والوصيد قال ابن عباس: الباب. وعنه أيضا وعن مجاهد وابن جبير: الفناء. وعن قتادة: الصعيد والتراب. وقيل: العتبة. وعن ابن جبير أيضا التراب. والخطاب في * (لو اطلعت) * لمن هو في قوله * (وترى الشمس) * * (وتحسبهم أيقاظا) *. وقرأ ابن وثاب والأعمش: * (لو اطلعت) * بضم الواو وصلا. وقرأ الجمهور: بكسرها، وقد ذكر ضمها عن شيبة وأبي جعفر ونافع وغلبة الرعب لما ألقى الله عليهم من الهيبة والجلال، فمن رام الاطلاع عليهم أدركته تلك الهيبة.
ومعنى * (لوليت منهم) * أعرضت بوجهك عنهم. وأوليتهم كشحك، وانتصب * (فرارا) * على المصدر إما لفررت محذوفة، وإما * (لوليت) * لأنه بمعنى
لفررت، وإما مفعولا من أجله. وانتصب * (رعبا) * على أنه مفعول ثان، وأبعد من ذهب إلى أنه تمييز منقول من المفعول كقوله * (وفجرنا الارض عيونا) * على مذهب من أجاز نقل التمييز من المفعول، لأنك لو سلطت عليه الفعل ما تعدى إليه تعدى المفعول به بخلاف، * (وفجرنا الارض عيونا) * وقيل: سبب الرعب طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغيير أطمارهم. وقيل: لإظلام المكان وإيحاشه، وليس هذان القولان بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا * (لبثنا يوما أو بعض يوم) * ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلا العالم والبناء لا حاله في نفسه، ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الأيقاظ * (وهم فى فجوة) * تتخرقه الرياح والمكان الذي بهذه الصورة لا يكون موحشا. وقرأ ابن عباس، والحرميان، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة بتشديد اللام والهمزة. وقرأ باقي السبعة بتخفيف اللام والهمزة. وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وإبدال الياء من الهمزة. وقرأ الزهري بتخفيف اللام والإبدال، وتقدم الخلاف في * (رعبا) * في آل عمران. وقرأ هنا بضم العين أبو جعفر وعيسى.
* (وكذالك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما) *.
الكاف للتشبيه والإشارة بذلك. قيل إلى المصدر المفهوم من * (فضربنا علىءاذانهم) * أي مثل جعلنا إنامتهم هذه المدة الطويلة آية، جعلنا بعثهم آية. قاله الزجاج وحسنه الزمخشري. فقال: وكما أنمناهم تلك النومة * (كذالك * بعثناهم) * إذكارا بقدرته على الإماتة والبعث جميعا، ليسأل بعضهم بعضا ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله، ويزداد يقينا ويشكر وأما أنعم الله به عليهم وكرموا به انتهى. وناسب هذا التشبيه قوله تعالى حين أورد قصتهم أولا مختصرة * (فضربنا علىءاذانهم فى الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم) *.
وقال ابن عطية: الإشارة بذلك إلى الأمر الذي ذكره الله في جهتهم والعبرة التي فعلها فيهم، واللام في * (ليتساءلوا) * لام الصيرورة لأن بعثهم لم يكن لنفس تساؤلهم انتهى. والقائل. قيل: كبيرهم مكلمينا. وقيل: صاحب نفقتهم تمليخا وكم سؤال عن العدد والمعنى كم يوما أقمتم نائمين، والظاهر صدور الشك من المسؤولين. وقيل: * (أو) * للتفضيل. قال بعضهم * (لبثنا يوما) *. وقال بعضهم * (بعض يوم) * والسائل أحس في خاطره طول نومهم ولذلك سأل. قيل: ناموا أول النهار واستيقظوا آخر النهار، وجوابهم هذا مبني على غلبة الظن والقول بالظن الغالب لا يعد كذبا، ولما عرض لهم الشك في الإخبار ردوا علم لبثهم إلى الله تعالى.
وقال الزمخشري: * (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) * إنكار عليهم من
106

بعضهم وأن الله تعالى أعلم بمدة لبثهم كان هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من الله أن المدة متطاولة وأن مقدارها مبهم لا يعلمه إلا الله انتهى. ولما انتبهوا من نومهم أخذهم ما يأخذ من نام طويلا من الحاجة إلى الطعام، واتصل * (فابعثوا) * بحديث التساؤل كأنهم قالوا خذوا فيما يهمكم ودعوا علم ذلك إلى الله. والمبعوث قيل هو تمليخا، وكانوا قد استصحبوا حين خرجوا فارين دراهم لنفقتهم وكانت حاضرة عندهم، فلهذا أشاروا إليها بقولهم * (هاذه) *.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر والحسن والأعمش واليزيدي ويعقوب في رواية، وخلف وأبو عبيد وابن سعدان * (بورقكم) * بإسكان الراء. وقرأ باقي السبعة وزيد بن علي بكسرها. وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف وكذا إسماعيل عن ابن محيض، وعن ابن محيض أيضا كذلك إلا أنه كسر الراء ليصح الإدغام، وقال الزمخشري: وقرأ ابن كثير * (بورقكم) * بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف انتهى. وهو مخالف لما نقل الناس عنه. وحكى الزجاج قراءة بكسر الواو وسكون الراء دون إدغام. وقرأ علي بن أبي طالب بوارقكم على وزن فاعل جعله اسم جمع كباقر وجائل.
و * (المدينة) * هي مدينتهم التي خرجوا منها، وقيل وتسمى الآن طرسوس وكان اسمها عند خروجهم أفسوس. * (فلينظر) * يجوز أن يكون من نظر العين، ويجوز أن يكون من نظر القلب، والجملة في موضع نصب بفلينظر معلق عنها الفعل. و * (أيها) * استفهام مبتدأ و * (أزكى) * خبره، ويجوز أن يكون * (أيها) * موصولا مبنيا مفعولا لينظر على مذهب سيبويه، و * (أزكى) * خبر مبتدأ محذوف. و * (أزكى) * قال ابن عباس وعطاء أحل ذبيحة وأطهر لأن عامة بلدتهم كانوا كفارا يذبحون للطواغيت. وقال ابن جبير: أحل طعاما. قال الضحاك: وكان أكثر أموالهم غصوبا. وقال مجاهد: قالوا له لا تبتع طعاما فيه ظلم. وقال عكرمة: أكثر. وقال قتادة: أجود. وقال ابن السائب ومقاتل: أطيب. وقال يمان بن ريان: أرخص. وقيل: أكثر بركة وريعا. وقيل: هو الأرز. وقيل: التمر. وقيل: الزبيب. وقيل: في الكلام حذف أي أي أهلها * (أزكى طعاما) * فيكون ضمير المؤنث عائدا على * (المدينة) * وإذا لم يكن حذف فيكون عائده على ما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل أي المآكل.
وفي قوله: * (فابعثوا أحدكم بورقكم) * دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتوكلين على الإنفاقات وعلى ما في أوعية الناس. وقال بعض العلماء: ما لهذا السفر يعني سفر الحج إلا شيئان شد الهميان والتوكل على الرحمن. * (وليتلطف) * في اختفائه وتحيله مدخلا ومخرجا. وقال الزمخشري: وليتكلف اللطف والنيقة فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن، أو في أمر التخفي حتى لا يعرف انتهى. والوجه الثاني هو الظاهر. وقرأ الحسن: * (وليتلطف) * بكسر لام الأمر، وعن قتيبة الميال * (وليتلطف) * بضم الياء مبنيا للمفعول. * (ولا يشعرن) * أي لا يفعل ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بنا، سمي ذلك إشعارا منه بهم لأنه سبب فيه. وقرأ أبو صالح ويزيد بن القعقاع وقتيبة * (ولا يشعرن بكم) * أحد ببناء الفعل للفاعل، ورفع أحد.
والضمير في * (أنهم) * عائد على ما دل عليه المعنى من كفار تلك المدينة. وقيل: ويجوز أن يعود على * (أحدا) * لأن لفظه للعموم فيجوز أن يجمع الضمير كقوله * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * ففي حاجزين
107

ضمير جمع عائد على أحد.
وقال الزمخشري: الضمير في * (أنهم) * راجع إلى الأهل المقدر في * (أيها) * والظهور هنا الاطلاع عليهم والعلم بمكانهم. وقيل: العلو والغلبة. وقرأ زيد بن علي * (يظهروا) * بضم الياء مبنيا للمفعول، والظاهر الرجم بالحجارة وكان الملك عازما على قتلهم لو ظفر بهم، والرجم كان عادة فيما سلف لمن خالف من الناس إذ هي أشفى ولهم فيها مشاركة. وقال حجاج: معناه بالقول يريد السب وقاله ابن جبير * (أو يعيدوكم) * يدخلوكم فيها مكرهين، ولا يلزم من العود إلى الشيء التلبس به قبل إذ يطلق ويراد به الصيرورة * (ولن تفلحوا) * إن دخلتم في دينهم و * (إذا) * حرف جزاء وجواب، وقد تقدم الكلام عليها وكثيرا ما يتضح تقدير شرط وجزاء.
* (وكذالك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا) *.
قبل هذا الكلام جمل محذوفة التقدير فبعثوا أحدهم ونظر أيها أزكى طعاما وتلطف، ولم يشعر بهم أحدا فأطلع الله أهل المدينة على حالهم وقصة ذهابه إلى المدينة وما جرى له مع أهلها، وحمله إلى الملك وادعائهم عليه أنه أصاب كثيرا من كنوز الأقدمين، وحمل الملك ومن ذهب معه إليهم مذكور في التفاسير ذلك بأطول مما جرى والله أعلم بتفاصيل ذلك، ويقال عثرت على الأمر إذا أطلعت عليه وأعثرني غيري إذا أطلعني عليه، وتقدم الكلام على هذه المادة في قوله * (فإن عثر على أنهما استحقا إثما) * ومفعول * (أعثرنا) * محذوف تقديره * (أعثرنا عليهم) * أهل مدينتهم، والكاف في * (وكذالك) * للتشبيه والتقدير وكما أنمناهم بعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم، والضمير في * (ليعلموا) * عائد على مفعول * (أعثرنا) * وإليه ذهب الطبري.
و * (وعد الله) * هو البعث لأن حالتهم في نومهم وانتباهتهم بعد المدة المتطاولة كحال من يموت ثم يبعث و * (لا ريب) * فيها أي لا شك ولا ارتياب في قيامها والمجازاة فيها، وكان الذين أعثروا على أهل الكهف قد دخلتهم فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه. وقالوا: تحشر الأرواح فشق على ملكهم وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم حتى لبس المسوح وقعد على الرماد، وتضرع إلى الله في حجة وبيان، فأعثر الله على أهل الكهف، فلما بعثهم الله تعالى وتبين الناس أمرهم سر الملك ورجع من كان شك في أمر بعث الأجساد إلى اليقين، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله * (إذ يتنازعون بينهم أمرهم) * و * (إذ) * معمولة لأعثرنا أو * (ليعلموا) *. وقيل: يحتمل أن يعود الضمير في و * (ليعلموا) * على أصحاب الكهف، أي جعل الله أمرهم آية لهم دالة على بعث الأجساد من القبور. وقوله * (إذ يتنازعون) * على هذا القول ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم، والتنازع إذ ذاك في أمر البناء والمسجد لا في أمر القيامة.
وقيل: التنازع إنما هو في أن أطلعوا عليهم. فقال بعض: هم أموات. وقال بعض: هم أحياء. وروي أن الملك وأهل المدينة انطلقوا مع تمليخا إلى الكهف وأبصروهم ثم قالت الفتية للملك: نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم، وتوفى الله أنفسهم وألقى الملك عليهم ثيابه، وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج، وبني على باب الكهف. والظاهر أن قوله * (ربهم أعلم بهم) * من كلام المتنازعين داخل تحت القول أي أمروا بالبناء وأخبروا بمضمون هذه الجملة كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم، ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا
108

* (ربهم أعلم بهم) *. وقيل: يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى رد القول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين أو من الذين تنازعوا فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) من أهل الكتاب، والذين غلبوا. قال قتادة: هم الولاة. روي أن طائفة ذهبت إلى أن يطمس الكهف عليهم ويتركوا فيه مغيبين، وقالت الطائفة الغالبة: * (لنتخذن عليهم مسجدا) * فاتخذوه.
وروي أن التي دعت إلى البنيان كانت كافرة أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجدا. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي: * (غلبوا) * بضم الغين وكسر اللام، والمعنى أن الطائفة التي أرادت المسجد كانت تريد أن لا يبني عليهم شيء ولا يعرض لموضعهم. وروي أن طائفة أخرى مؤمنة أرادت أن لا يطمس الكهف، فلما غلبت الأولى على أن يكون بنيان ولا بد قالت يكون * (مسجدا) * فكان. وعن ابن عمر أن الله عمى على الناس أمرهم وحجبهم عنه فذلك دعاء إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم.
والظاهر أن الضمير في * (سيقولون) * عائد على من تقدم ذكرهم وهم المتنازعون في حديثهم قبل ظهورهم عليهم، فأخبر تعالى نبيه بما كان من اختلاف قومهم في عددهم وكون الضمير عائدا على ما قلنا ذكره الماوردي. وقيل: يعود على نصارى نجران تناظروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم) في عددهم. فقالت الملكانية: الجملة الأولى، واليعقوبية الجملة الثانية، والنسطورية الجملة الثالثة، وهذا يروي عن ابن عباس. وفي الكشاف أن السيد قال الجملة الأولى وكان يعقوبيا، والعاقب قال الثانية وكان نسطوريا، والمسلمون قالوا الثالثة وأصابوا وعرفوا ذلك بإخبار الرسول عن جبريل عليهما الصلاة والسلام، فتكون الضمائر في * (سيقولون) * * (ويقولون) * عائدا بعضها على نصارى نجران، وبعضها على المؤمنين. وعن علي هم سبعة نفر أسماؤهم تمليخا، ومكشلبينا ومشلبينا هؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره مرنوش، ودبرنوش، وشاذنوش وكان يستثير هؤلاء الستة في أمره، والسابع الراعي الذي وافقهم، هربوا من ملكهم دقيانوس واسم مدينتهم أفسوس واسم كلبهم قطمير انتهى.
وقال ابن عطية الضمير في قوله * (سيقولون) * يراد به أهل التوراة من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم)، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص انتهى. قيل: وجاء بسين الاستقبال لأنه كأنه في الكلام طي وإدماج، والتقدير فإذا أجبتهم عن سؤالهم وقصصت عليهم قصة أهل الكهف فسلهم عن عددهم فإنهم إذا سألتهم * (سيقولون) *. وقرأ ابن محيصن ثلاث بإدغام الثاء في التاء، وحسن ذلك لقرب مخرجهما وكونهما مهموسين، لأن الساكن الذي قبل الثاء من
حروف اللين فحسن ذلك، ويقولون لم يأت بالسين فيه ولا فيما بعده لأنه معطوف على المستقبل فدخل في الاستقبال، أو لأنه أريد به معنى الاستقبال الذي هو صالح له. وقرأ شبل بن عباد عن ابن كثير بفتح ميم * (خمسة) * وهي لغة كعشرة. وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين، وعنه أيضا إدغام التنوين في السين بغير غنة.
* (رجما بالغيب) * رميا بالشيء المغيب عنهم أو ظنا، استعير من الرجم كأن الإنسان يرمي الموضع المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة يرجم به عسى أن يصيب، ومنه الترجمان وترجمة الكتاب. وقول زهير:
* وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
*
وما هو عنها بالحديث المرجم أي المظنون، وأتت هذه عقب ما تقدم ليدل على أن قائل تلك المقالتين لم يقولوا ذلك عن علم وإنما قالوا ذلك على سبيل التخمين والحدس، وجاءت المقالة الثالثة خالية عن هذا القيد مشعرة أنها هي المقالة الصادقة كما تقدم ذكر ذلك عن علي. وعن رسول الله عن جبريل عليهما الصلاة والسلام. وانتصب * (رجما) * على أنه مصدر لفعل مضمر أي يرجمون بذلك، أو لتضمين * (سيقولون) * و * (يقولون) * معنى يرجمون، أو لكونه مفعولا من أجله أي قالوا ذلك لرميهم بالخبر
109

الخفي أو لظنهم ذلك، أي الحامل لهم على هذا القول هو الرجم بالغيب.
*
و * (ثلاثة) * خبر مبتدأ محذوف، والجملة بعده صفة أي هم ثلاثة أشخاص، وإنما قدرنا أشخاصا لأن * (رابعهم) * اسم فاعل أضيف إلى الضمير، والمعنى أنه ربعهم أي جعلهم أربعة وصيرهم إلى هذا العدد، فلو قدر * (ثلاثة) * رجال استحال أن يصير ثلاثة رجال أربعة لاختلاف الجنسين، والواو في * (وثامنهم) * للعطف على الجملة السابقة أي * (يقولون) * هم * (سبعة وثامنهم كلبهم) * فأخبروا أولا بسبعة رجال جزما، ثم أخبروا اخبارا ثانيا أن * (رابعهم كلبهم) * بخلاف القولين السابقين، فإن كلا منهما جملة واحدة وصف المحدث عنه بصفة، ولم يعطف الجملة عليه. وذكر عن أبي بكر بن عياش وابن خالويه أنها واو الثمانية، وأن قريشا إذا تحدثت تقول ستة سبعة وثمانية تسعة فتدخل الواو في الثمانية، وكونهما جملتين معطوف إحداهما على الأخرى مؤذن بالتثبيت في الإخبار بخلاف ما تقدم فإنهم أخبروا بشيء موصوف بشيء لم يتأخر عن الإخبار، ولذلك جاء فيه * (رجما بالغيب) * ولم يجيء في هاتين الجملتين بشيء يقدح فيهما. وقرئ وثامنهم كالبهم أي صاحب كلبهم، وزعم بعضهم أنهم ثمانية رجال، واستدل بهذه القراءة وأول قوله وكلبهم على حذف مضاف، أي وصاحب كلبهم. وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله * (وثامنهم) * ليس داخلا تحت قولهم بل لقولهم هو قوله: * (ويقولون سبعة) * ثم أخبر تعالى بهذا على سبيل الاستئناف، وإذا كان استئنافا من الله دل ذلك على أنهم ثمانية بالكلب، وأما * (رابعهم كلبهم) * و * (سادسهم كلبهم) * فهو من جملة المحكي من قولهم، لأن كلا من الجملتين صفة، وإلى أن العدة ثمانية بالكلب ذهب الأكثرون من الصحابة والتابعين وأئمة التفسير.
وقال الزمخشري: فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ولم دخلت عليها دون الأولتين؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف. ومنه قوله عز وعلا * (ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) * وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على اتصافه أمر ثابت مستقر، وهي الواو التي آذنت بأن الدين قالوا * (سبعة وثامنهم كلبهم) * قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم انتهى.
وكون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون، بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالا على المغايرة، وأما إذا لم يختلف فلا يجوز العطف هذا في الأسماء المفردة، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها، وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه، وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل هو على أن وليس باسم ولا فعل صفة لقوله لمعنى، وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة. وأما قوله تعالى * (إلا ولها) * فالجملة حالية ويكفي ردا لقول الزمخشري: إنا لا نعلم أحدا من علماء النحو ذهب إلى ذلك، ولما أخبر تعالى عن مقالتهم واضطرابهم في عددهم أمره تعالى أن يقول * (قل ربى أعلم بعدتهم) * أي لا يخبر بعددهم إلا من يعلمهم حقيقة وهو الله تعالى * (ما يعلمهم إلا قليل) * والمثبت في حق الله تعالى هو الأعلمية وفي حق القليل العالمية فلا تعارض. قيل: من الملائكة. وقيل: من العلماء وعلم القليل لا يكون إلا بإعلام الله.
وقال ابن عباس: أنا من القليل، ثم نهاه تعالى عن الجدال فيهم أي في عدتهم، والمراء وسمي مراجعته لهم * (مرآء) * على سبيل المقابلة لمماراة أهل الكتاب له في ذلك، وقيده بقوله ظاهرا أي غير متعمق فيه وهو إن نقص عليهم ما أوحي إليك فحسب من غير تجهيل
110

ولا تعنيف كما قال * (وجادلهم بالتى هى أحسن) *. وقال ابن زيد: * (مرآء ظاهرا) * هو قولك لهم ليس كما تعلمون. وحكي الماوردي إلا بحجة ظاهرة. وقال ابن الأنباري: إلا جدال متيقن عالم بحقيقة الخبر، والله تعالى ألقي إليك ما لا يشوبه باطل. وقال ابن بحر: * (ظاهرا) * يشهده الناس. وقال التبريزي: * (ظاهرا) * ذاهبا بحجة الخصم. وأنشد:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
أي ذاهب، ثم نهاه أن يسأل أحدا من أهل الكتاب عن قصتهم لا سؤال متعنت لأنه خلاف ما أمرت به من الجدال بالتي هي أحسن، ولا سؤال مسترشد لأنه تعالى قد أرشدك بأن أوحي إليك قصتهم، ثم نهاه أن يخبر بأنه يفعل في الزمن المستقبل شيئا إلا ويقرن ذلك بمشيئة الله تعالى، وتقدم في سبب النزول أنه عليه السلام حين سأله قريش عن أهل الكهف والخضر والروح قال: (غدا أخبركم). ولم يقل إن شاء الله، فتأخر عنه الوحي مدة. قيل: خمسة عشر يوما. وقيل: أربعين و * (إلا أن يشاء الله) * استثناء لا يمكن حمله على ظاهره لأنه يكون داخلا تحت القول، فيكون من ينهي عنه، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقدير.
فقال ابن عطية: في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز تقديره إلا أن تقول * (إلا أن يشاء الله) * أو إلا أن تقول إن شاء الله، فالمعنى إلا أن تذكر مشيئة الله فليس * (إلا أن يشاء الله) * من القول الذي نهى عنه. وقال الزمخشري: * (إلا أن يشاء الله) * متعلق بالنهي لا بقوله * (إنى فاعل) * لأنه لو قال * (إنى فاعل) * كذا * (إلا أن يشاء الله) * كان معناه إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله، وذلك ما لا مدخل فيه للنهي وتعلقه بالنهي على وجهين.
أحدهما: ولا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن ذلك فيه.
والثاني: ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله أي إلا بمشيئته وهو في موضع الحال، أي إلا ملتبسا بمشيئة الله قائلا إن شاء الله. وفيه وجه ثالث وهو أن يكون إلا أن يشاء الله في معنى كلمة ثانية كأنه قيل: ولا تقولنه أبدا ونحوه * (وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا) * لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاء الله، وهذا نهي تأديب من الله لنبيه حين قال: (ائتوني غدا أخبركم). ولم يستثن انتهى.
قال ابن عطية: وقالت فرقة هو استثناء من قوله * (ولا تقولن) * وحكاه الطبري، ورد عليه وهو من الفساد من حيث كان الواجب أن لا يحكي انتهى. وتقدم تخريج الزمخشري: ذلك على أن يكون متعلقا بالنهي، وتكلم المفسرون في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، وليست الآية في الإيمان والظاهر أمره تعالى بذكر الله إذا عرض له نسيان، ومتعلق النيسان غير متعلق الذكر. فقيل: التقدير * (واذكر ربك) * إذا تركت بعض ما أمرك به. وقيل واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي، وقد حمل قتادة ذلك على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. وقيل: * (واذكر ربك) * بالتسبيح والاستغفار * (إذا نسيت) * كلمة الاستثناء تشديدا في البعث على الاهتمام بها. وقيل: * (واذكر) * مشيئة * (ربك) * إذا فرط منك نسيان لذلك أي * (إذا نسيت) * كلمة الاستثناء ثم تنبهت لها، فتداركتها بالذكر قاله ابن جبير. قال: ولو بعد يوم أو شهر أو سنة. وقال ابن الأنباري: بعد تقضي النسيان كما تقول: اذكر لعبد الله إذا صلى صاحبك أي إذا قضى الصلاة.
والإشارة بقوله لأقرب من هذا إلى الشيء المنسي أي * (اذكر * ربك) * عند نسيانه بأن تقول * (عسى أن * يهدينى * ربى) * لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه
111

* (رشدا) * وأدنى خيرا أو منفعة، ولعل النسيان كان خيرة كقوله * (أو * ننسها نأت بخير منها) *. وقال الزمخشري: وهذا إشارة إلى بناء أهل الكهف، ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والحجج على أني نبي صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من بناء أصحاب الكهف، وقد فعل ذلك حيث آتاد من قصص الأنبياء والأخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدل انتهى. وهذا تقدمه إليه الزجاج قال المعنى: * (عسى) * أن ييسر الله من الأدلة على نبوتي أقرب من دليل أصحاب الكهف.. وقال ابن الأنباري: * (عسى) * أن يعرفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد. وقال محمد الكوفي المفسر: هي بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن وإنها كفارة لنسيان الاستثناء.
* (ولبثوا فى كهفهم مئة سنين وازدادوا تسعا * قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والارض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا * واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا) *.
الظاهر أن قوله * (ولبثوا) * الآية إخبار من الله تعالى بمدة لبثهم نياما في الكهف إلى أن أطلع الله عليهم. قال مجاهد: وهو بيان لمجمل قوله تعالى * (فضربنا علىءاذانهم فى الكهف سنين عددا) * ولما تحرر هذا العدد بإخبار من الله تعالى أمر نبيه أن يقول * (قل الله أعلم بما لبثوا) * فخبره هذا هو الحق والصدق الذي لا يدخله ريب، لأنه عالم * (غيب السماوات والارض) * والظاهر أن قوله * (بما لبثوا) * إشارة إلى المدة السابق ذكرها. وقال بعضهم: * (بما لبثوا) * إشارة إلى المدة التي بعد الاطلاع عليهم إلى مدة الرسول صلى الله عليه وسلم). وقيل: لما قال * (وازدادوا تسعا) * كانت التسعة منبهمة هي الساعات والأيام والشهور والأعوام، واختلفت بنو إسرائيل بحسب ذلك فأمره تعالى برد العلم إليه يعني في التسع وهذا بعيد لأنه إذا سبق عدد مفسر وعطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق. وحكى النقاش أنها ثلاثمائة شمسية، ولما كان الخطاب للعرب زيدت التسع إذ حساب العرب هو بالقمر لاتفاق الحسابين. وقال قتادة ومطر الوراق: * (لبثوا) * إخبار من بني إسرائيل، واحتجوا بما في مصحف عبد الله وقالوا * (لبثوا) * وعلى غير قراءة عبد الله يكون معطوفا على المحكي بقوله * (سيقولون) *.
ثم أمر الله نبيه أن يرد العلم إليه * (بما لبثوا) * ردا عليهم وتفنيدا لمقالتهم. قيل: هو من قول المتنازعين في أمرهم وهو الصحيح على مقتضى سياق الآية، ويؤيده * (قل الله أعلم بما لبثوا) * جعل ذلك من الغيوب التي هو تعالى مختص بها. وقرأ الجمهور: مائة بالتنوين. قال ابن عطية: على البدل أو عطف البيان. وقيل: على التفسير والتمييز. وقال الزمخشري: عطف بيان لثلاثمائة. وحكي أبو البقاء أن قوما أجازوا أن يكون بدلا من مائة لأن مائة في معنى مئات، فأما عطف البيان فلا يجوز على مذهب البصريين، وأما نصبه على التمييز فالمحفوظ من لسان العرب المشهور أن مائة لا يفسر إلا بمفرد مجرور، وإن قوله إذا عاش الفتى مائتين عاما من الضرورات ولا سيما وقد انضاف إلى ذلك كون * (سنين) * جمعا. وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن
عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي مائة بغير تنوين مضافا إلى * (سنين) * أوقع الجمع موقع المفرد، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ولا يجوز له ذلك. وقال أبو علي: هذه تضاف في المشهور إلى المفرد، وقد تضاف إلى الجمع. وقرأ أبي سنة وكذا في مصحف عبد الله. وقرأ الضحاك: سنون بالواو على إضمار هي سنون. وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه * (تسعا) * بفتح التاء كما قالوا عشر.
ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السماوات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها، وجاء بما دل على التعجب من إدراكه للمسموعات والمبصرات للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجما وأكثفها جرما، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر والضمير في * (به) * عائد على
112

الله تعالى، وهل هو في موضع رفع أو نصب وهل * (أسمع) * و * (أبصار) * أمران حقيقة أم أمران لفظا معناهما إنشاء التعجب في ذلك خلاف مقرر في النحو. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى * (أبصار) * بدين الله * (واسمع) * أي بصر بهدي الله وسمع فترجع الهاء إما على الهدى إما على الله ذكره ابن الأنباري. وقرأ عيسى: أسمع به وأبصر على الخبر فعلا ماضيا لا على التعجب، أي * (أبصار) * عباده بمعرفته وأسمعهم، والهاء كناية عن الله تعالى.
والضمير في قوله * (ما لهم) * قال الزمخشري: لأهل السماوات والأرض من * (ولي) * متول لأمورهم * (ولا يشرك) * قضائه * (أحدا) * منهم. وقيل: يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف أي هذه قدرته وحده. ولم يوالهم غيره يتلطف بهم ولا أشرك معه أحدا في هذا الحكم. ويحتمل أن يعود على معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم) من الكفارة ومشاقيه، وتكون الآية اعتراضا بتهديد قاله ابن عطية. وقيل: يحتمل أن يعود على مؤمني أهل السماوات والأرض أي لن يتخذ من دونه وليا. وقيل: يعود على المختلفين في مدة لبثهم أي ليس لهم من دون الله من يتولى تدبيرهم، فكيف يكونون أعلم منه؟ أو كيف يعلمون من غير إعلامه إياهم؟ وقرأ الجمهور: * (ولا يشرك) * بالياء على النفي. وقرأ مجاهد بالياء والجزم. قال يعقوب: لا أعرف وجهه. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد ابن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر: ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي.
ولما أنزل عليه ما أنزل من قصة أهل الكهف أمره بأن يقص ويتلو على معاصريه ما أوحي إليه تعالى من كتابه في قصة أهل الكهف وفي غيرهم، وأن ما أوحاه إليه * (لا مبدل) * له و * (لا مبدل) * عام و * (لكلماته) * عام أيضا فالتخصيص إما في * (لا مبدل) * أي لا مبدل له سواه، ألا ترى إلى قوله * (وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية) * وإما في كلماته أي * (لكلماته) * المتضمنة الخبر لأن ما تضمن غير الخبر وقع النسخ في بعضه، وفي أمره تعالى أن يتلو ما أوحي إليه وإخباره أنه لا مبدل * (لكلماته) * إشارة إلى تبديل المتنازعين في أهل الكهف، وتحريف أخبارهم والملتحد الملتجأ الذي تميل إليه وتعدل.
* (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيواة الدنيا ولا) *.
قال كفار قريش لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، يعنون عمارا وصهيبا وسلمان وابن مسعود وبلالا ونحوهم من الفقراء، وقالوا: إن ريح جبابهم تؤذينا، فنزلت * (واصبر نفسك) * الآية، وعن سلمان أن قائل ذلك عيينة بن حصن والأقرع وذووهم من المؤلفة فنزلت، فالآية على هذا مدنية والأول أصح لأن السورة مكية، وفعل المؤلفة فعل قريش فرد بالآية عليهم * (واصبر نفسك) * أي أحبسها وثبتها. قال أبو ذؤيب:
* فصبرت عارفة لذلك حرة
*
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
*
وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي، و * (مع) * تقتضي الصحبة والموافقة والأمر بالصبر هنا يظهر منه كبير اعتناء بهؤلاء الذين أمر أن يصبر نفسه معهم. وهي أبلغ من التي في الأنعام * (ولا تطرد الذين يدعون) * الآية. وقال ابن عمر ومجاهد وإبراهيم: * (بالغداة والعشى) * إشارة إلى الصلوات الخمس. وقال قتادة: إلى صلاة الفجر وصلاة العصر، وقد يقال: إن ذلك يراد به العموم أي * (يدعون ربهم) * دائما، ويكون مثل: ضرب زيد الظهر
113

والبطن يريد جميع بدنه لا خصوص المدلول بالوضع. وتقدم الكلام على قوله * (بالغداة والعشى) * قراءة وإعرابا في الأنعام.
* (ولا تعد) * أي لا تصرف * (عيناك) * النظر عنهم إلى أبناء الدنيا، وعدا متعد تقول: عدا فلان طوره وجاء القوم عدا زيدا، فلذلك قدرنا المفعول محذوفا ليبقى الفعل على أصله من التعدية. وقال الزمخشري: وإنما عدي بعن لتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك: نبت عنه عينه، وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به. فإن قلت: أي غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل ولا تعدهم عيناك أو * (ولا تعد عيناك عنهم) *. قلت: الغرض فيه إعطاء مجموع معنين. وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ، ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك ولا تقتحمهم عيناك مجاوزين إلى غيرهم ونحو قوله * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * أي ولا تضموها إليها آكلين لها انتهى. وما ذكره من التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى. وقرأ الحسن: * (ولا تعد) * من أعدى، وعنه أيضا وعن عيسى والأعمش * (ولا تعد) *. قال الزمخشري: نقلابا بالهمزة وبنقل الحشو ومنه قوله.
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له
لأن معناه فعد همك عما ترى انتهى. وكذا قال صاحب اللوامح. قال: وهذا مما عديته بالتضعيف كما كان في الأولى بالهمز، وما ذهبا إليه ليس بجيد بل الهمزة والتكثير
في هذه الكلمة ليسا للتعدية وإنما ذلك لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد، وإنما قلنا ذلك لأنه إذا كان مجردا متعد وقد أقر بذلك الزمخشري فإنه قال: يقال عداه إذا جاوزه، ثم قال: وإنما عدي بعن للتضمين والمستعمل في التضمين هو مجاز ولا يتسعون فيه إذا ضمنوه فيعدونه بالهمزة أو التضعيف، ولو عدي بهما وهو متعد لتعدي إلى اثنين وهو في هذه القراءة ناصب مفعولا واحدا، فدل على أنه ليس معدى بهما.
وقال الزمخشري: * (تريد زينة الحيواة الدنيا) * في موضع الحال انتهى. وقال صاحب الحال: إن قدر * (عيناك) * فكان يكون التركيب تريدان، وإن قدر الكاف فمجيء الحال من المجرور بالإضافة مثل هذا فيها إشكال لاختلاف العامل في الحال وذي الحال، وقد أجاز ذلك بعضهم إذا كان المضاف جزأ أو كالجزء، وحسن ذلك هنا أن المقصود نهيه عليه الصلاة والسلام عن الإعراض عنهم والميل إلى غيرهم، وإنما جيء بقوله * (عيناك) * والمقصود هو لأنهما بهما تكون المراعاة للشخص والتلفت له، والمعنى * (ولا تعد) * أنت * (عنهم) * النظر إلى غيرهم.
وقال الزمخشري: * (من أغفلنا قلبه) * من جعلنا قلبه غافلا عن الذكر بالخذلان أو وجدناه غافلا عنه كقولك: أجبنته وأفحمته وأبحلته إذا وجدته كذلك، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر، ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان، وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله * (واتبع هواه) * انتهى. وهذا على مذهب المعتزلة، والتأويل الآخر تأويل الرماني وكان معتزليا قال: لم نسمه بما نسم به قلوب المؤمنين بما يبين به، فلاحهم كما قال: كتب في قلوبهم الإيمان من قولهم بعير غفل لم يكن عليه سمة، وكتاب غفل لم يكن عليه إعجام، وأما أهل السنة فيقولون: إن الله تعالى أغفله حقيقة وهو خالق الضلال فيه والغفلة. وقال المفضل: أخليناه عن الذكر وهو القرآن. وقال ابن جريج: شغلنا قلبه بالكفر وغلبة الشقاء، والظاهر أن المراد بمن * (أغفلنا) * كفار قريش. وقيل: عيينة والأقرع والأول أولى لأن الآية مكية.
وقرأ عمر بن فائد وموسى الأسواري وعمرو بن عبيد * (أغفلنا) * بفتح اللام * (قلبه) * بضم الباء أسند الأفعال إلى القلب. قال ابن جني من ظننا غافلين عنه.
114

وقال الزمخشري: حسبنا قلبه غافلين من أغفلته إذا وجدته غافلا انتهى. * (واتبع هواه) * في طلب الشهوات * (وكان أمره فرطا) *. قال قتادة ومجاهد: ضياعا. وقال مقاتل بن حيان: سرفا. وقال الفراء: متروكا. وقال الأخفش: مجاوزا للحد. قيل: وهو قول عتبة إن أسلمنا أسلم الناس. وقال ابن بحر: الفرط العاجل السريع، كما قال * (وكان الإنسان عجولا) *. وقيل: ندما. وقيل: باطلا. وقال ابن زيد: مخالفا للحق. وقال ابن عطية: الفرط يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع، أي أمره الذي يجب أن يلزم، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي * (أمره) * و * (هواه) * الذي هو بسبيله انتهى.
و * (الحق) * يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، فقدره ابن عطية هذا * (الحق) * أي هذا القرآن أو هذا الإعراض عنكم وترك الطاعة لكم وصبر النفس مع المؤمنين. وقال الزمخشري: * (الحق) * خبر مبتدأ محذوف والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك، وجئ بلفظ الأمر والتخيير لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين انتهى. وهو على طريق المعتزلة ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره * (من ربكم) *. قال الضحاك: هو التوحيد. وقال مقاتل: هو القرآن. وقال مكي: أي الهدى والتوفيق والخذلان من عند الله يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن، ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إلي من ذلك شيء. وقال الكرماني: أي الإسلام والقرآن، وهذا الذي لفظه لفظ الأمر معناه التهديد والوعيد ولذلك عقبه بقوله: * (إنا أعتدنا للظالمين) * قال معناه ابن عباس. وقال السدي: هو منسوخ بقوله * (وما * تشاءون إلا أن يشاء الله) * وهذا قول ضعيف، والظاهر أن الفاعل بشاء عائد على * (من) *.
وعن ابن عباس من شاء الله له بالإيمان آمن، ومن لا فلا انتهى. وحكي ابن عطية عن فرقة أن الضمير في * (شاء) * عائد على الله تعالى، وكأنه لما كان الإيمان والكفر تابعين لمشيئة الله جاء بصيغة الأمر حتى كأنه تحتم وقوعه مأمور به مطلوب منه. وقرأ أبو السمال قعنب وقل الحق بفتح اللام حيث وقع. قال أبو حاتم: وذلك رديء في العربية انتهى. وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف. وقرأ أيضا * (الحق) * بالنصب. قال صاحب اللوامح: هو على صفة المصدر المقدر لأن الفعل يدل على مصدره وإن لم يذكر فينصبه معرفة كنصبه إياه نكرة، وتقديره * (وقل) * القول * (الحق) * وتعلق * (من) * بمضمر على ذلك مثل هو إرجاء والله أعلم. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي بكسر لامي الأمر.
ولما تقدم الإيمان والكفر أعقب بما أعد لهما فذكر ما أعد للكافرين يلي قوله * (فليكفر) * وأتى بعد ذلك بما أعد للمؤمنين، ولما كان الكلام مع الكفار وفي سياق ما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم) كانت البداءة بما أعد لهم أهم وآكد، وهما طريقان للعرب هذه الطريق والأخرى أنه يجعل الأول في التقسيم للأول في الذكر، والثاني للثاني. والسرادق قال ابن عباس: حائط من نار محيط بهم. وحكي أقضى القضاة الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا. وحكي الكلبي: أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار. وقيل: دخان * (وإن يستغيثوا) * يطلبوا الغوث مما حل بهم من النار وشدة إحراقها واشتداد عطشهم * (يغاثوا) * على سبيل المقابلة وإلا فليست إغاثة. وروي في الحديث أنه عكر الزيت إذا قرب منه سقطت فروة وجهه فيه. وقال ابن عباس: ماء غليظ مثل دردي الزيت. وعن مجاهد أنه القيح والدم الأسود. وعن ابن جبير: كل شيء ذائب قد انتهى حره. وذكر ابن الأنباري أنه الصديد. وعن الحسن أنه الرماد الذي ينفط إذا خرج من التنور. وقيل: ضرب من القطران.
و * (يشوى) * في موضع الصفة لماء أو في موضع الحال منه لأنه قد وصف فحسن مجيء الحال منه، وإنما اختص * (الوجوه) * لكونها عند شربهم يقرب حرها من وجوههم. وقيل: عبر
115

بالوجوه عن جميع أبدانهم، والمعنى أنه ينضج به جميع جلودهم كقوله * (كلما نضجت جلودهم) * والمخصوص بالذم محذوف تقديره * (بئس الشراب) * هو أي
الماء الذي يغاثون به. والضمير في * (ساءت) * عائد على النار. والمرتفق قال ابن عباس: المنزل. وقال عطاء: المقر. وقال القتبي: المجلس. وقال مجاهد: المجتمع، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى، وليس كذلك كان مجاهدا ذهب إلى معنى الرفاقة ومنه الرفقة. وقال أبو عبيدة: المتكأ. وقال الزجاج: المتكأ على المرفق، وأخذه الزمخشري فقال: متكأ من المرفق وهذا لمشاكلة قوله * (وحسنت مرتفقا) * وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء. وقال ابن الأنباري: ساءت مطلبا للرفق، لأن من طلب رفقا من جهنم عدمه. وقال ابن عطية: قريبا من قول ابن الأنباري. قال: والأظهر عندي أن يكون المرتفق بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره. وقال أبو عبد الله الرازي: والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء، وبئس موضع الترافق النار.
2 (* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا * أولائك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الا رآئك نعم الثواب وحسنت مرتفقا) *)) 2
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا * أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس) *.
لما ذكر تعالى حال أهل الكفر وما أعد لهم في النار ذكر حال أهل الإيمان وما أعد لهم في الجنة، وخبر * (ءان) * يحتمل أن تكون الجملة من قوله أولئك لهم. وقوله * (إنا لا نضيع) * الجملة اعتراض. قال ابن عطية: ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر:
* إن الخليفة إن الله ألبسه
*
سربال ملك به ترجى الخواتيم
*
انتهى، ولا يتعين في قوله إن الله ألبسه أن يكون اعتراضا هي اسم إن وخبرها الذي هو ترجى الخواتيم، يجوز أن يكون إن الله ألبسه هو الخبر، ويحتمل أن يكون الخبر قوله * (إنا لا نضيع أجر) * والعائد محذوف تقديره * (من أحسن عملا) * منهم. أو هو قوله * (من أحسن عملا) * على مذهب الأخفش في ربطه الجملة بالاسم إذا كان هو المبتدأ في المعنى، لأن * (من أحسن عملا) * هم * (الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) * فكأنه قال: إنا لا نضيع أجرهم، ويحتمل أن تكون الجملتان خبرين لأن على مذهب من يقتضي المبتدأ خبرين فصاعدا من غير شرط أن يكونا، أو يكن في معنى خبر. واحد.
وإذا كان خبر * (ءان) * قوله * (إنا لا نضيع) * كان قوله * (أولائك) * استئناف أخبار موضح لما انبهم في قوله * (إنا لا نضيع) * من مبهم الجزاء. وقرأ عيسى الثقفي * (لا نضيع) * من ضيع عداه بالتضعيف، والجمهور من أضاع عدوه بالهمزة، ولما ذكر مكان أهل الكفر وهو النار. ذكر مكان أهل الإيمان وهي * (جنات عدن) * ولما ذكر هناك ما يغاثون به وهو الماء كالمهل ذكر هنا ما خص به أهل الجنة من كون الأنهار تجري من تحتهم، ثم ذكر ما أنعم عليهم من التحلية واللباس اللذين هما زينة ظاهرة. وقال سعيد بن جبير: يحلى كل واحد ثلاثة أساور سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ ويواقيت.
وقال الزمخشري: و * (من) * الأول للابتداء والثانية للتبيين، وتنكير * (أساور) * لإبهام أمرها في الحسن انتهى. ويحتمل أن تكون * (من) * في قوله * (من ذهب) * للتبعيض لا للتبيين. وقرأ أبان عن عاصم من أسورة من غير ألف وبزيادة هاء وهو جمع سوار. وقرأ أيضا أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر: * (ويلبسون) * بكسر الباء. وقرأ ابن محيصن * (وإستبرق) * بوصل الألف وفتح القاف حيث وقع جعله فعلا ماضيا على وزن استفعل من البريق، ويكون استفعل فيه موافقا للمجرد الذي هو برق كما تقول: قر واستقر بفتح القاف ذكره الأهوازي في الإقناع عن ابن محيصن. قال ابن محيصن. وحده: * (وإستبرق) * بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه
116

انتهى. فظاهره أنه ليس فعلا ماضيا بل هو اسم ممنوع الصرف. وقال ابن خالويه: جعله استفعل من البريق ابن محيصن فظاهره أنه فعل ماض وخالفهما صاحب اللوامح. قال ابن محيصن: * (وإستبرق) * بوصل الهمزة في جميع القرآن فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس، ويجوز أنه جعله عربيا من برق يبرق بريقا. وذلك إذا تلالأ الثوب لجدته ونضارته، فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما تسمى به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة، ومعاملة المتمكنة من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب دخل في كلامهم فأعربوه انتهى.
ويمكن أن يكون القولان روايتين عنه فتح القاف وصرفه التنوين، وذكر أبو الفتح بن جني قراءة فتح القاف، وقال: هذا سهو أو كالسهو انتهى. وإنما قال ذلك لأنه جعله اسما ومنعه من الصرف لا يجوز لأنه غير علم، وقد أمكن جعله فعلا ماضيا فلا تكون هذه القراءة سهوا. قال الزمخشري: وجمع السندس وهو مارق من الديباج، وبين الإستبرق وهو الغليظ منه جمعا بين النوعين، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب، وفي القيمة أغلى، وفي العين أحلى، وبناء فعله للمفعول الذي لم يسم فاعله إشعارا بأنهم يكرمون بذلك ولا يتعاطون ذلك بأنفسهم كما قال الشاعر:
* غرائر في كن وصون ونعمة
*
تحلين ياقوتا وشذرا مفقرا
*
وأسند اللباس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا لو كان بادي العورة، ووصف الثياب بالخضرة لأنها أحسن الألوان والنفس تنبسط لها أكثر من غيرها، وقد روي في ذلك أثر إنها تزيد في ضوء البصر وقال بعض الأدباء:
* أربعة مذهبة لكل هم وحزن
*
الماء والخضرة والبستان والوجه الحسن
*
وخص الاتكاء لأنها هيئة المنعمين والملوك على أسرتهم. وقرأ ابن محيصن: * (على الارائك) * بنقل الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام على * (فيها) * فتنحذف ألف * (على) * لتوهم سكون لام التعريف والنطق به علرائك ومثله قول الشاعر:
* فما أصبحت علرض نفس برية
*
ولا غيرها إلا سليمان بالها
*
يريد على الأرض، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم الثواب ما وعدوا به، والضمير في * (حسنت) * عائد على الجنات.
2 (* (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا * كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا * وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا * ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال مآ أظن أن تبيد هاذه أبدا * ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا * قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا * لكن هو الله ربى ولا أشرك بربى أحدا * ولولاإذ دخلت جنتك قلت ما شآء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا * فعسى ربى أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السمآء فتصبح صعيدا زلقا * أو يصبح مآؤها غورا فلن تستطيع له طلبا * وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على مآ أنفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول ياليتنى لم أشرك بربى أحدا * ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا * هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا) *)) *
117

حفه: طاف به من جوانبه. قال الشاعر:
* يحفه جانبا نيق ويتبعه
*
مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد وحففته به: جعلته مطيفا به، وحف به القوم صاروا في حفته، وهي جوانبه. كلتا: اسم مفرد اللفظ عند البصريين مثنى المعنى. ومثنى لفظا، ومعنى عند البغداديين وتاؤه عند البصريين غير الجرمي بدل من واو فاصله كلوى، والألف فيه للتأنيث وزائدة عند الجرمي، والألف منقلبة عن أصلها ووزنها عنده فعيل. المحاورة: مراجعة الكلام من حار إذا رجع. البيدودة الهلاك، ويقال منه: باد يبيد بيودا وبيدودة. قال الشاعر:
*
فلئن باد أهله
لبما كان يوهل
*
النطفة القليل من الماء، يقال ما في القربة من الماء نطفة، المعنى ليس فيها قليل ولا كثير، وسمي المني نطفة لأنه ينطف أي يقطر قطرة بعد قطرة. وفي الحديث: جاء ورأسه ينطف ماء أي يقطر. الحسبان في اللغة الحساب، ويأتي أقوال أهل التفسير فيه. الزلق: ما لا يثبت فيه القدم من الأرض.
* (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب وحففناهما * هما * بنخل وجعلنا بينهما زرعا * كلتا الجنتين اتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا * وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا * ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هاذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لاجدن خيرا منها منقلبا) *.
قيل نزلت في أخوين من بني مخزوم الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل وكان كافرا، وأبي سلمة عبد الله بن الأسود كان مؤمنا. وقيل: أخوان من بني إسرائيل فرطوس وهو الكافر وقيل: اسمه قطفير، ويهوذا وهو المؤمن في قول ابن عباس. وقال مقاتل: اسمه تمليخا وهو المذكور في الصافات في قوله * (قال قائل منهم إنى كان لى قرين) * وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله. وعن مكي أنهما رجلان من بني إسرائيل اشتركا في مال كافر ستة آلاف فاقتسماها. وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالا. وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فاشترى الكافر أرضا بألف وبني
دارا بألف وتزوج امرأة بألف واشترى خدما ومتاعا بألف، واشترى المؤمن أرضا في الجنة بألف فتصدق به، وجعل ألفا صداقا للحور فتصدق به، واشترى الولدان المخلدين بألف فتصدق به، ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقة فمر في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصديق بماله.
والضمير في * (لهم) * عائد على المتجبرين الطالبين من الرسول صلى الله عليه وسلم) طرد الضعفاء المؤمنين، فالرجل الكافر بإزاء المتجبرين والرجل المؤمن بإزاء ضعفاء المؤمنين، وظهر بضرب هذا المثل الربط بين هذه الآية والتي قبلها إذ كان من أشرك إنما افتخر بماله وأنصاره، وهذا قد يزول فيصير الغني فقيرا، وإنما المفاخرة بطاعة الله والتقدير * (واضرب لهم مثلا) * قصة * (رجلين) * وجعلنا تفسير للمثل فلا موضع له من الإعراب، ويجوز أن يكون موضعه نصبا نعتا لرجلين. وأبهم في قوله * (جعلنا لاحدهما) * وتبين أنه هو الكافر الشاك في البعث، وأبهم تعالى مكان الجنتين إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة. وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين وكانتا لأخوين، فباع أحدهما نصيبه من الآخر وأنفقه في طاعة الله حتى عيره الآخر، وجرت بينهما هذه المحاورة قال: فغرقها الله في ليلة وإياهما عنى بهذه الآية. قال ابن عطية: وتأمل هذه الهيئة التي ذكر الله فإن المرء لا يكاد يتخيل أجل منهما في مكاسب الناس جنتا عنب أحاط بهما نخل بينهما
118

فسحة هي مزدرع لجميع الحبوب والماء المعين، يسقي جيمع ذلك من النهر.
وقال الزمخشري: * (جنتين من أعناب) * بساتين من كروم، * (وحففناهما) * * (بنخل وجعلنا) * النخل محيطا بالجنتين، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة انتهى. وقرأ الجمهور * (كلتا الجنتين) * وفي مصحف عبد الله كلا الجنتين، أتى بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي، ثم قرأ * (اتت) * فأنث لأنه ضمير مؤنث، فصار نظير قولهم طلع الشمس وأشرقت. وقال الفراء في قراءة ابن مسعود: كل الجنتين آتى أكله انتهى فأعاد الضمير على كل. وقال الزمخشري: جعلها أرضا جامعة للأقوات والفواكه، ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينهما مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص ثم بما هو أصل الخير ومادته من أمر الشرب، فجعله أفضل ما يسقي به وهو السيح بالنهر الجاري فيها والأكل الثمر.
وقرأ الجمهور * (وفجرنا) * بتشديد الجيم. وقال الفراء: إنما شدد * (وفجرنا) * وهو نهر واحد لأن النهر يمتد فكان التفجر فيه كله أعلم الله تعالى أن شربهما كان من نهر واحد وهو أغزر الشرب. وقرأ الأعمش وسلام ويعقوب وعيسى بن عمر بتخفيف الجيم وكذا قرأ الأعمش في سورة القمر، والتشديد في سورة القمر أظهر لقوله * (عيونا) * وقوله هنا * (نهرا) * وانتصب * (خلالهما) * على الظرف أي وسطهما، كان النهر يجري من داخل الجنتين. وقرأ الجمهور * (نهرا) * بفتح الهاء. وقرأ أبو السمال والفياض بن غزوان وطلحة بن سليمان بسكون الهاء. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وجماعة قراء المدينة: * (ثمر) * وبثمره بضم الثاء والميم جمع ثمار. وقرأ الأعمش وأبو رجاء وأبو عمرو بإسكان الميم فيهما تخفيفا أو جمع ثمرة كبدنة وبدن. وقرأ أبو جعفر والحسن وجابر بن زيد والحجاج وعاصم وأبو حاتم ويعقوب عن رويس عنه بفتح الثاء والميم فيهما. وقرأ رويس عن يعقوب * (ثمر) * بضمهما وبثمره بفتحهما فيمن قرأ بالضم. قال ابن عباس وقتادة الثمر جميع المال من الذهب والحيوان وغير ذلك. وقال النابغة:
* مهلا فداء لك الأقوام كلهم
*
وما أثمروا من مال ومن ولد وقال مجاهد: يراد بها الذهب والفضة خاصة. وقال ابن زيد: هي الأصول فيها الثمر. وقال أبو عمرو ابن العلاء: الثمر المال، فعلى هذا المعنى أنه كانت له إلى الجنتين أموال كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما، فكان متمكنا من عمارة الجنتين. وأما من قرأ بالفتح فلا إشكال أنه يعني به حمل الشجر. وقرأ أبو رجاء في رواية * (ثمر) * بفتح الثاء وسكون الميم، وفي مصحف أبي وآتيناه ثمرا كثيرا، وينبغي أن يجعل تفسيرا.
*
ويظهر من قوله * (فقال لصاحبه) * أنه ليس أخاه، * (وهو يحاوره) * جملة حالية، والظاهر أن ذا الحال هو القائل أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث، وفي إشراكه بالله. وقيل: هي حال من صاحبه أي المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الله وإلى الإيمان بالبعث، والظاهر كون أفعل للتفضيل وأن صاحبه كان له مال ونفر ولم يكن سبروتا كما ذكر أهل التاريخ، وأنه جاء يستعطيه ويدل على ذلك كونه
119

قابله بقوله * (إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا) * وهذا على عادة الكفار في الافتخار بكثرة المال وعزة العشيرة والتكبير والاغترار بما نالوه من حطام الدنيا، ومقالته تلك لصاحبه بإزاء مقالة عيينة والأقرع للرسول صلى الله عليه وسلم): نحن سادات العرب وأهل الوبر والمدر، فنح عنا سلمان وقرناءه.
وعنى بالنفر أنصاره وحشمه. وقيل: أولادا ذكورا لأنهم ينفرون معه دون الإناث، واستدل على أنه لم يكن أخاه بقوله: * (وأعز نفرا) * إذ لو كان أخاه لكان نفره وعشيرته نفر أخيه وعشيرته، وعلى التفسيرين السابقين لا يرد هذا. أما من فسر النفر بالعشيرة التي هي مشتركة بينهما فيرد، وأفرد الجنة في قوله * (ودخل جنته) * من حيث الوجود كذلك لأنه لا يدخلهما معا في وقت واحد.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته ماله جنة غيرها، يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما انتهى.
ولا يتصور ما قال لأن قوله ودخل جنته إخبار من الله تعالى بدخول ذلك الكافر جنته فلا بد أن قصد في الإخبار أنه دخل إحدى جنتيه إذ لا يمكن أن يدخلهما معا في وقت واحد، والمعنى * (ودخل جنته) * يري صاحبه ما هي عليه من البهجة والنضارة والحسن. * (وهو ظالم لنفسه) * جملة حالية أي وهو كافر بنعمة ربه مغتر بما ملكه شاك في نفاد ما خوله. وفي البعث الذي حاوره فيه صاحبه، والظاهر أن الإشارة بقوله * (هاذه) * إلى الجنة التي دخلها، وعنى بالأبد أبد حياته وذلك لطول أمله وتمادي غفلته، ولحسن قيامه عليها بما أوتي من المال والخدم فهي باقية مدة حياته على حالها من الحسن والنضارة، والحس يقتضي أن أحوال الدنيا بأسرها غير باقية أو يكون قائلا بقدم العالم، وأن ما حوته هذه الجنة فنيت أشخاص أثمارها فتخلفها أشخاص أخر، وكذا دائما. ويبعد قول من قال: يحتمل أن يشير بهذه إلى الهيئة من السماوات والأرض وأنواع المخلوقات، ودل كلامه على أن المحاورة التي كانت بينهما هي في فناء هذا العالم الذي هذه الجنة جزء منه، وفي البعث الآخروي أن صاحبه كان تقرر له هذان الأمران وهو يشك فيهما.
ثم أقسم على أنه إن رد إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وقياس الأخرى على الدنيا وكما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا تطمعا، وتمنيا على الله، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين في الدنيا إلا لاستحقاقه، وأن معه هذا الاستحقاق أين توجه كقوله * (إن لى عنده للحسنى) *.
وأما ما حكي الله تعالى عما قاله العاص بن وائل لأوتين مالا وولدا فليس على حد مقالة هذا لصاحبه لأن العاصي قصد الاستخفاف وهو مصمم على التكذيب، وهذا قال ما معناه إن كان ثم رجوع فسيكون حالي كذا وكذا. وقرأ ابن الزبير وزيد بن علي وأبو بحرية وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد وابن مناذر ونافع وابن كثير وابن عامر منهما على التثنية وعود الضمير على الجنتين، وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو * (منها) * على التوحيد وعود الضمير على الجنة المدخولة وكذا في مصاحف الكوفة والبصرة، ومعنى * (منقلبا) * مرجعا وعاقبة أي منقلب الآخرة لبقائها خير من منقلب الدنيا لزوالها، وانتصب * (منقلبا) * على التمييز المنقول من المبتدأ.
* (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا * لكنا * هو الله ربى ولا أشرك بربى أحدا * ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا) *. (سقط: فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها
120

حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا، أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا، وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحد، ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان الله منتصرا، هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا)
* (وهو يحاوره) * حال من الفاعل وهو صاحبه المؤمن. وقرأ أبي وهو يخاصمه وهي قراءة تفسير لا قراءة رواية لمخالفته سواد المصحف، ولأن الذي روي بالتواتر * (هو * يحاوره) * لا يخاصمه. و * (أكفرت) * استفهام إنكار وتوبيخ حيث أشرك مع الله غيره. وقرأ ثابت البناني: ويلك * (أكفرت) * وهو تفسير معنى التوبيخ والإنكار لا قراءة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم)، ثم نبهه على أصل نشأته وإيجاده بعد العدم وأن ذلك دليل على جواز البعث من القبور، ثم تحتم ذلك بإخبار الصادقين وهم الرسل عليهم السلام. وقوله * (خلقك من تراب) * إما أن يراد خلق أصلك * (من تراب) * وهو آدم عليه السلام وخلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقا له، أو أريد أن ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب، فنبهه أولا على ما تولد منه ماء أبيه ثم ثانيه على النطفة التي هي ماء أبيه. وأما ما نقل من أن ملكا وكل بالنطفة يلقى فيها قليلا من تراب قبل دخولها في الرحم فيحتاج إلى صحة نقل.
ثم نبهه على تسويته رجلا وهو خلقه معتدلا صحيح الأعضاء، ويقال للغلام إذا تم شبابه قد استوى. وقيل: ذكره بنعمة الله عليه في كونه رجلا ولم يخلقه أنثى، نبهه بهذه التنقلات على كمال قدرته وأنه لا يعجزه شيء. قال الزمخشري: * (سواك) * عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال، جعله كافر بالله جاحدا لأنعمه لشكه في البعث كما يكون المكذب بالرسول كافرا انتهى. وانتصب * (رجلا) * على الحال. وقال الحوفي * (رجلا) * نصب بسوى أي جعلك * (رجلا) * فظاهره أنه عدي سوي إلى اثنين، ولما لم يكن الاستفهام استفهام استعلام وإنما هو استفهام إنكار وتوبيخ فهو في الحقيقة تقرير على كفره وإخبار عنه به لأن معناه قد كفرت بالذي استدرك هو مخبرا عن نفسه، فقال * (لكن هو الله ربى) * إقرار بتوحيد الله وأنه لا يشرك به غيره.
وقرأ الكوفيون وأبو عمرو وابن كثير ونافع في رواية ورش وقالون لكن بتشديد النون بغير ألف في الوصل وبألف في الوقف وأصله، ولكن أنا نقل حركة الهمزة إلى نون * (لكن) * وحذف الهمزة فالتقى مثلان فأدغم أحدهما في الآخر. وقيل: حذف الهمزة من أنا على غير قياس فالتقت نون * (لكن) * وهي ساكنة مع نون أنا فأدغمت فيها، وأما في الوقف فإنه أثبت ألف أنا وهو المشهور في الوقف على أنا، وأما في الوصل فالمشهور حذفها وقد أبدلها ألفا في الوقف أبو عمر وفي رواية فوقف لكنه ذكره ابن خالويه. وقال ابن عطية: وروي هارون عن أبي عمرو لكنه * (هو الله ربى) * بضمير لحق * (لكن) *. وقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيلي وزيد بن علي والحسن والزهري وأبو بحرية ويعقوب في رواية وأبو عمر وفي رواية وكردم وورش في رواية وأبو جعفر بإثبات الألف وقفا ووصلا، أما في الوقف فظاهر، وأما في الوصل فبنو تميم يثبتونها فيه في الكلام وغيرهم في الاضطرار فجاء على لغة بني تميم. وعن أبي جعفر حذف الألف وصلا ووقفا وذلك من رواية الهاشمي، ودل إثباتها في الوصل أيضا على أن أصل ذلك * (لكن) * أنا.
وقال الزمخشري: وحسن ذلك يعني إثبات الألف في الوصل وقوع الألف عوضا من حذف الهمزة انتهى. ويدل على ذلك أيضا قراءة فرقة لكننا بحذف الهمزة وتخفيف النونين. وقال أيضا الزمخشري ونحوه يعني ونحو إدغام
121

نون * (لكن) * في نون أنا بعد حذف الهمزة قول القائل:
* وترمينني بالطرف أي أنت مذنب
*
وتقلينني لكن إياك لا أقلي
*
أي لكن أنا لا أقليك انتهى. ولا يتعين ما قاله في البيت لجواز أن يكون التقدير لكنني فحذف اسم لكن وذكروا أن حذفه فصيح إذا دل عليه الكلام، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر:
* فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي
*
ولكن زنجي عظيم المشافر
*
أي ولكنك زنجي، وأجاز أبو علي أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين ثم وحد في * (ربى) * على المعنى، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا انتهى. وهو تأويل بعيد. وقال ابن عطية: ويتوجه في لكنا أن تكون المشهورة من أخوات إن المعنى لكن قولي * (هو الله ربى) * إلا أني لا أعرف من يقرأ بها وصلا ووقفا انتهى. وذكر أبو القاسم يوسف بن علي ابن جبارة الهذلي في كتاب الكامل في القراءات من تأليفه ما نصه: يحذفها في الحالين يعني الألف في الحالين يعني الوصل والوقف حمصي وابن عتبة وقتيبة غير الثقفي، ويونس عن أبي عمر ويعني بحمصي ابن أبي عبلة وأبا حيوة وأبا بحرية. قرأ أبي والحسن * (لكن) * أنا * (هو الله) * على الانفصال، وفكه من الإدغام وتحقيق الهمز، وحكاها ابن عطية عن ابن مسعود. وقرأ عيسى الثقفي * (لكن هو الله) * بغير أنا، وحكاها ابن خالويه عن ابن مسعود، وحكاها الأهوازي عن الحسن. فأما من أثبت * (هو) * فإنه ضمير الأمر والشأن، وثم قول محذوف أي * (لكن) * أنا أقول * (هو الله ربى) * ويجوز أن يعود على الذي * (خلقك من تراب) *، أي أما أقول: * (هو) * أي خالقك * (الله ربى) * و * (ربى) * نعت أو عطف بيان أو بدل، ويجوز أن لا يقدر. أقول محذوفة فيكون أنا مبتدأ، و * (هو) * ضمير الشأن مبتدأ ثان و * (الله) * مبتدأ ثالث، و * (ربى) * خبره والثالث خبر عن الثاني، والثاني وخبره خبر عن أنا، والعائد عليه هو الياء في * (ربى) *، وصار التركيب نظير هند هو زيد ضاربها. وعلى رواية هارون يجوز أن يكون هو توكيد الضمير النصب في لكنه العائد على الذي خلقك، ويجوز أن يكون فصلا لوقوعه بين معرفين، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد على اسم لكن من الجملة الواقعة خبرا.
وفي قوله و * (لا * أشرك بربى أحدا) * تعريض بإشراك صاحبه وأنه مخالفه في ذلك، وقد صرح بذلك صاحبه في قوله يا ليتني لم أشرك بربي أحدا. وقيل: أراد بذلك أنه لا يرى الغنى والفقر إلا منه تعالى، يفقر من يشاء ويغني من يشاء. وقيل: لا أعجز قدرته على الإعادة، فأسوي بينه وبين غيره فيكون إشراكا كما فعلت أنت.
ولما وبخ المؤمن الكافر أورد له ما ينصحه فحضه على أن كان يقول إذا دخل جنته * (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) * أي الأشياء مقذوفة بمشيئة الله إن شاء أفقر، وإن شاء أغنى، وإن شاء نصر، وإن شاء خذل. ويحتمل أن تكون ما شرطية منصوبة بشاء، والجواب محذوف أي أي شيء شاء الله كان، ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي موفوعة على الابتداء، أي الذي شاءه الله كائن، أو على الخبر أي الأمر ما شاء الله * (ولولا) * تحضيضية، وفصل بين الفعل وبينها بالظرف وهو معمول لقوله * (قلت) *. ثم نصحه بالتبرىء من القوة فيما يحاوله ويعانيه وأن يجعل القوة لله تعالى. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال لأبي هريرة: (ألا أدلك على كلمة من
122

كنز الجنة)؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: (لا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم). ونحوه من حديث أبي موسى وفيه إلا بالله العلي العظيم.
ثم أردف تلك النصيحة بترجية من الله، وتوقعه أن يقلب ما به وما بصاحبه من الفقر والغنى. فقال: * (إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا) * أي إني أتوقع من صنع الله تعالى وإحسانه أن يمنحني جنة خيرا من جنتك لإيماني به، ويزيل عنك نعمته لكفرك به ويخرب بستانك. وقرأ الجمهور: * (أقل) * بالنصب مفعولا ثانيا لترني وهي علمية لا بصرية لوقوع * (أنا) * فصلا، ويجوز أن يكون توكيدا للضمير المنصوب في ترني، ويجوز أن تكون بصرية و * (أنا) * توكيد للضمير في ترني المنصوب فيكون * (أقل) * حالا. وقرأ عيسى بن عمر * (أقل) * بالرفع على أن تكون أنا مبتدأ، و * (أقل) * خبره، والجملة في موضع مفعول ترني الثاني إن كانت علمية، وفي موضع الحال إن كانت بصرية. ويدل قوله * (وولدا) * على أن قوله صاحبه * (وأعز نفرا) * عنى به الأولاد إن قابل كثرة المال بالقلة وعزة النفر بقلة الولد.
والحسبان، قال ابن عباس وقتادة: العذاب. وقال الضحاك: البرد. وقال الكلبي: النار. وقال ابن زيد: القضاء. وقال الأخفش: سهام ترمي في مجرى فقلما تخطىء. وقيل: النبل. وقيل: الصواعق. وقيل: آفة مجتاحة. وقال الزجاج: عذاب حسبان وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك، وهذا الترجي إن كان ذلك أن يؤتيه في
الدنيا فهي أنكى للكافر وآلم إذ يرى حاله من الغنى قد انتقلت إلى صاحبه، وإن كان ذلك أن يؤتيه في الآخرة فهو أشرف وأذهب مع الخير والصلاح * (فتصبح صعيدا) * أي أرضا بيضاء لا نبات فيها لا من كرم ولا نخل ولا زرع، قد اصطلم جميع ذلك فبقيت يبابا قفرا يزلق عليها لإملاسها، والزلق الذي لا تثبت فيه قدم ذهب غراسة وبناؤه وسلب المنافع حتى منفعة المشي فيه فهو وحل لا ينبت ولا يثبت فيه قدم. وقال الحسن: الزلق الطريق الذي لا نبات فيه. وقيل: الخراب. وقال مجاهد: رملا هائلا. وقيل: الزلق الأرض السبخة وترجي المؤمن لجنة هذا الكافر آفة علوية من السماء أو آفة سفلية من الأرض، وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع، وغور مصدر خبر عن اسم أصبح على سبيل المبالغة و * (أو يصبح) * معطوف على قوله * (يرسل) * لأن غؤور الماء لا يتسبب على الآفة السماوية إلا إن عنى بالحسبان القضاء الإلهي، فحينئذ يتسبب عنه إصباح الجنة * (صعيدا زلقا) * أو إصباح مائها * (غورا) *.
وقرأ الجمهور * (غورا) * بفتح الغين. وقرأ البرجمي: * (غورا) * بضم الغين. وقرأت فرقة بضم الغين وهمز الواو يعنون وبواو بعد الهمزة فيكون غؤورا كما جاء في مصدر غارت عينه غؤورا، والضمير في * (له) * عائد على الماء أي لن يقدر على طلبه لكونه ليس مقدورا على رد ماغوره الله تعالى. وحكى الماوردي أن معناه: لن تستطيع طلب غيره بدلا منه، وبلغ الله المؤمن ما ترجاه من هلاك ما بيد صاحبه الكافر وإبادته على خلاف ما ظن في قوله ما أظن أن تبيد هذه أبدا فأخبر تعالى أنه * (أحيط * بثمره) * وهو عبارة عن الإهلاك وأصله من أحاط به العدو وهو استدارته به من جوانبه، ومتى أحاط به ملكه واستولى عليه ثم استعملت في كل إهلاك ومنه * (إلا أن يحاط بكم) *. وقال ابن عطية: الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد انتهى.
والظاهر أن الإحاطة كانت ليلا لقوله * (فأصبح) * على أن أنه يحتمل أن يكون معنى * (فأصبح) * فصار فلا يدل على تقييد الخبر بالصباح، وتقليب كفية ظاهره أنه * (يقلب كفيه) * ظهرا لبطن وهو أنه يبدي باطن كفه ثم يعوج كفه حتى يبدو ظهرها، وهي فعلة النادم المتحسر على شيء قد فاته، المتأسف على فقدانه، كما يكنى بقبض الكف والسقوط في اليد. وقيل: يصفق بيده على الأخرى و * (يقلب كفيه) * ظهر البطن. وقيل: يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى، ولما كان هذا الفعل كناية عن الندم عداه تعدية فعل الندم فقال * (على ما * وأنزلنا فيها) * كأنه قال: فأصبح نادما على ذهاب ما أنفق في عمارة تلك الجنة * (وهى خاوية على عروشها) * تقدم
123

الكلام على هذه الجملة في أواخر البقرة. وتمنيه انتفاء الشرك الظاهر أنه صدر منه ذلك في حالة الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة، وفي ذلك زجر للكفرة من قريش وغيرهم لئلا يجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم، قيل: أرسل الله عليها نارا فأكلتها فتذكر موعظة أخيه، وعلم أنه أتى من جهة شركة وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركا. وقال بعض المفسرين: هي حكاية عن قول الكافر هذه القالة في الآخرة، ولما افتخر بكثرة ماله وعزة نفره أخبر تعالى أنه لم تكن * (له فئة) * أي جماعة تنصره ولا كان هو منتصرا بنفسه، وجمع الضمير في * (ينصرونه) * على المعنى كما أفرده على اللفظ في قوله * (فئة تقاتل فى سبيل الله) * واحتمل النفي أن يكون منسحبا على القيد فقط، أي له فئة لكنه لا يقدر على نصره. وأن يكون منسحبا على القيد، والمراد انتفاؤه لانتفاء ما هو وصف له أي لا فئة فلا نصر وما كان منتصرا بقوة عن انتقام الله.
وقرأ الأخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير ولم يكن بالياء لأن تأنيث الفئة مجاز. وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بالتاء. وقرأ ابن أبي عبلة * (فئة) * تنصره على اللفظ والحقيقة في هنالك أن يكون ظرف مكان للبعد، فالظاهر أنه أشير به لدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله كقوله * (لمن الملك اليوم) *. قيل: لما نفى عنه الفئة الناصرة في الدنيا نفى عنه أن ينتصر في الآخرة، فقال * (وما كان منتصرا * هنالك) * أي في الدار الآخرة، فيكون * (هنالك) * معمولا لقوله * (منتصرا) *. وقال الزجاج: أي * (وما كانت * منتصرا) * في تلك الحال و * (الولاية لله) * على هذا مبتدأ وخبر. وقيل: * (هنالك الولاية لله) * مبتدأ وخبر، والوقف على قوله * (منتصرا) *.
وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير * (الولاية) * بكسر الواو وهي بمعنى الرئاسة والرعاية. وقرأ باقي السبعة بفتحها بمعنى الموالاة والصلة. وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلدا وليس هنالك تولي أمور. وقال الزمخشري: * (الولاية) * بالفتح النصرة والتولي بالكسر السلطان والملك، وقد قرىء بهما والمعنى هنالك أي في ذلك المقام، وتلك الحال النصرة لله وحده لا يملكها غيره ولا يستطيعها أحد سواه تقريرا لقوله * (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله) * أو * (هنالك) * السلطان والملك * (لله) * لا يغلب ولا يمتنع منه، أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر يعني إن قوله * (ويقول ياليتنى لم أشرك بربى أحدا) * كلمة ألجىء إليها فقالها فزعا من شؤم كفره، ولولا ذلك لم يقلها. ويجوز أن يكون المعنى * (هنالك الولاية لله) * ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم، يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن. وصدق قوله عسى * (ربى إن * يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء) * ويعضده قوله * (هو خير ثوابا وخير عقبا) * أي لأوليائه انتهى.
وقرأ النحويان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني * (الحق) * برفع القاف صفة للولاية. وقرأ باقي السبعة بخفضها وصفا لله تعالى. وقرأ أبي * (هنالك الولاية) * الحق لله برفع الحق للولاية وتقديمها على قوله * (لله) *. وقرأ أبو حيوة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو * (لله الحق) * بنصب القاف. قال الزمخشري: على التأكيد كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل وهي قراءة حسنة فصيحة، وكان عمرو بن عبيد رحمة الله عليه ورضوانه من أفصح الناس وأنصحهم انتهى. وكان قد قال الزمخشري: وقرأ عمرو بن عبيد رحمه الله انتهى. فترحم عليه
وترضى عنه إذ هو من أوائل أكابر شيوخه المعتزلة، وكان على غاية من الزهد والعبادة وله أخبار في ذلك
124

إلا أن أهل السنة يطعنون عليه وعلى أتباعه، وفي ذلك يقول أبو عمرو الداني في أرجوزته التي سماها المنبهة:
* وابن عبيد شيخ الاعتزال
*
وشارع البدعة والضلال
*
وقرأ الحسن والأعمش وعاصم وحمزة * (عقبا) * بسكون القاف والتنوين، وعن عاصم عقبى بأبف التأنيث المقصورة على وزن رجعي، والجمهور بضم القاف والتنوين والثلاث بمعنى العاقبة.
2 (* (واضرب لهم مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الا رض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شىء مقتدرا * المال والبنون زينة الحيواة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا * ويوم نسير الجبال وترى الا رض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا * وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا * ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا * وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أوليآء من دونى وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا * مآ أشهدتهم خلق السماوات والا رض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا * ويوم يقول نادوا شركآئى الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا * ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا * ولقد صرفنا فى هاذا القرءان للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شىء جدلا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الا ولين أو يأتيهم العذاب قبلا * وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا ءاياتى وما أنذروا هزوا * ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا * وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا * وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) *)) 2
الهشيم اليابس قاله الفراء واحده هشيمة. وقال الزجاج وابن قتيبة: كل شيء كان رطبا ويبس، ومنه كهشيم المحتظر وهشيم الثريد، وأصل الهشيم المتفتت من يابس العشب. ذرى وأذرى لغتان فرق قاله أبو عبيدة. وقال ابن كيسان: تذروه تجيء به وتذهب. وقال الأخفش: ترفعه. غادر ترك من الغدر، ومنه ترك الوفاء، ومنه الغدير، وهو ما تركه السيل. الصف الشخص بإزاء الآخر إلى نهايتهم وقوفا أو جلوسا أو على غير هاتين الحالتين طولا أو تحليقا يقال منه: صف يصف والجمع صفوف. العضد العضو من الإنسان وغيره معروف وفيه لغتان، فتح العين وضم الضاد وإسكانها وفتحها وضم العين والضاد وإسكان الضاد، ويستعمل في العون والنصير. قال الزجاج: والإعضاد التقوي وطلب المعونة يقال: اعتضدت بفلان استعنت به. الموبق المهلك يقال: وبق يوبق وبقا ووبق يبق وبوقا إذا هلك فهو وابق، وأوبقته ذنوبه أهلكته. أدحض الحق أرهقه قاله ثعلب، وأصله من إدحاض القدم وهو إزلاقها قال الشاعر
125

* وردت ويجى اليشكري حذاره
*
وحاد كما حاد البعير عن الدحض
*
وقال آخر:
* أبا منذر رمت الوفاء وهبته
*
وحدت كما حاد البعير المدحض
*
والدحض الطين الذي يزهق فيه. الموئل قال الفراء: المنجي يقال والت نفس فلان نجت. وقال الأعشى:
* وقد أخالس رب البيت غفلته
*
وقد يحاذر مني ثم ما يئل
*
أي: ما ينجو. وقال ابن قتيبة: الملجأ يقال: وأل فلان إلى كذا ألجأ، يئل وألا وؤولا.
* (واضرب لهم مثل الحيواة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله) *.
لما بين تعالى في المثل الأول حال الكافر والمؤمن وما آل إليه افتخر به الكافر من الهلاك، بين في هذا المثل حال * (قالوا لن) * واضمحلاها ومصير ما فيها من النعيم والترفه إلى الهلاك و * (كماء) * قدره ابن عطية خبر مبتدأ محذوف، أي هي أي * (إنما مثل الحيواة) *. وقال الحوفي: الكاف متعلقة بمعنى المصدر أي ضربا * (كماء أنزلناه) * وأقول إن * (كماء) * في موضع المفعول الثاني لقوله * (واضرب) * أي وصير * (لهم مثل الحيواة الدنيا) * أي صفتها شبه ماء وتقدم الكلام على تفسير نظير هذه الجمل في قوله * (إنما مثل الحيواة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام) * في يونس * (فأصبح) * أي صار ولا يراد تقييد الخبر بالصباح فهو كقوله:
* أصبحت لا أحمل السلاح ولا
*
أملك رأس البعير إن نفرا
*
وقيل: هي دالة على التقييد بالصباح لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلا فهي كقوله * (فأصبح يقلب كفيه) *. وقرأ ابن مسعود: تذريه من أذرى رباعيا. وقرأ زيد بن علي والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير: الريح على الإفراد. والجمهور * (تذروه الرياح) *. ولما ذكر تعالى قدرته الباهرة في صيرورة ما كان في غاية النضرة والبهجة إلى حالة التفتت
126

والتلاشي إلى أن فرقته الرياح ولعبت به ذاهبة وجائية، أخبر تعالى عن اقتداره على كل شيء من الإنشاء والإفناء وغيرهما مما تتعلق به قدرته تعالى.
ولما حقر تعالى حال الدنيا بما ضربه من ذلك المثل ذكر أن ما افتخر به عيينة وأضرا به من المال والبنين إنما ذلك * (زينة) * هذه * (قالوا لن) * المحقرة، وإن مصير ذلك إنما هو إلى النفاد، فينبغي أن لا يكترث به، وأخبر تعالى بزينة المال والبنين على تقدير حذف مضاف أي مقر * (زينة) * أو وضع المال والبنين منزلة المعنى والكثرة، فأخبر عن ذلك بقوله * (زينة) * ولما ذكر مآل ما في الحياة الدنيا إلى الفناء اندرج فيه هذا الجزئي من كون المال والبنين زينة، وأنتج. أن زينة الحياة الدنيا فإن إذ ذاك فرد من أفراد ما في الحياة الدنيا، وترتيب هذا الإنتاج أن يقال * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا) * وكل ما كان * (زينة الحيواة الدنيا) * فهو سريع الانقضاء فالمال والبنون سريع الانقضاء، ومن بديهة العقل أن ما كان كذلك يقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه، وهذا برهان على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد.
* (والباقيات الصالحات) * قال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أنه كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة، ورجحه الطبري وقول الجمهور مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم) من طريق أبي هريرة وغيره. وعن قتادة: كل ما أريد به وجه الله. وعن الحسن وابن عطاء: أنا النيات الصالحة فإن بها تتقبل الأعمال وترفع، ومعنى * (خير عند ربك ثوابا) * أنها دائمة باقية وخيرات الدنيا منقرضة فانية، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي. * (وخير أملا) * أي وخير رجاء لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة دون ذي المال والبنين العاري من الباقيات الصالحات فإنه لا يرجو ثوابا.
ولما ذكر تعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة فقال * (ويوم * منه الجبال) * كقوله * (يوم تمور السماء مورا * وتسير الجبال سيرا) *. وقال: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب) *. وقال * (فقل ينسفها ربى نسفا * فيذرها قاعا صفصفا) *. وقال * (وإذا الجبال سيرت) * والمعنى أنه ينفك نظام هذا العالم الدنيوي ويؤتي بالعالم الأخروي، وانتصب * (ويوم) * على إضمار اذكر أو بالفعل المضمر عند قوله * (لقد جئتمونا) * أي قلنا يوم كذا لقد. وقرأ نافع وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرف وأبو عبد الرحمن * (نسير) * بنون العظمة الجبال بالنصب، وابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب بضم التاء وفتح الياء المشددة مبنيا للمفعول * (الجبال) * بالرفع وعن الحسن كذلك إلا أنه بضم الياء باثنتين من تحتها، وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمر وتسير من سارت الجبال. وقرأ أبي سيرت الجبال * (وترى الارض بارزة) * أي منكشفة ظاهرة لذهاب الجبال والظراب والشجر والعمارة، أو ترى أهل الأرض بارزين من بطنها. وقرأ عيسى * (وترى الارض) * مبنيا للمفعول * (وحشرناهم) * أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرصة القيامة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم جيء بحشرناهم ماضيا بعد تسير وترى؟ قلت: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم، كأنه قيل: * (وحشرناهم) * قبل ذلك انتهى. والأولى أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف، والمعنى وقد * (* حشرناهم) * أي يوقع التسيير في حالة حشرهم. وقيل: * (بارزة وحشرناهم) * * (وعرضوا) * * (ووضع الكتاب) * مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوعه. وقرأ الجمهور: نغادر بنون العظمة وقتادة تغادر على الإسناد إلى القدرة أو الأرض، وأبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنيا للمفعول واحد بالرفع وعصمة كذلك، والضحاك نغدر بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال، وانتصب * (صفا) * على الحال وهو مفرد تنزل منزلة الجمع أي صفوفا. وفي الحديث الصحيح: (يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر). الحديث بطوله وفي حديث آخر: (أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون صفا). أو
انتصب
127

على المصدر الموضوع موضع الحال أي مصطفين. وقيل: المعنى * (صفا) * صفا فحذف صفا وهو مراد، وهذا التكرار منبيء عن استيفاء الصفوف إلى آخرها، شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان مصطفين ظاهرين يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحدا.
* (لقد جئتمونا) * معمول لقول محذوف أي وقلنا * (كما خلقناكم) * نعت لمصدر محذوف أي مجيئا مثل مجيء خلقكم أي (حفاة عراة غرلا) كما جاء في الحديث، وخالين من المال والولد و * (ءان) * هنا مخففة من الثقيلة. وفصل بينها وبين الفعل بحرف النفي وهو * (لن) * كما فصل في قوله * (أيحسب الإنسان أن * لن * نجمع) * و * (بل) * للإضراب بمعنى الانتقال من خبر إلى خبر ليس بمعنى الإبطال، والمعنى أن لن نجمع لإعادتكم وحشركم * (موعدا) * أي مكان وعد أو زمان وعد لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور، والخطاب في * (لقد جئتمونا) * للكفار المنكرين البعث على سبيل تقريعهم وتوبيخهم.
* (ووضع الكتاب) * وقرأ زيد بن علي * (ووضع) * مبنيا للفاعل * (الكتاب) * بالنصب. و * (الكتاب) * اسم جنس أي كتب أعمال الخلق، ويجوز أن تكون الصحائف كلها جعلت كتابا واحدا ووضعته الملائكة لمحاسبة الخلق وإشفاقهم خوفهم من كشف أعمالهم السيئة وفضحهم وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي، ونادوا هلكتهم التي هلكوا خاصة من بين الهلكات فقالوا يا ويلنا والمراد من بحضرتهم كأنهم قالوا يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا، وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله * (فلما دخلوا على يوسف) * * (نفس ياحسرتى على ما فرطت) * * (قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا) * وقول الشاعر:
* يا عجبا لهذه الفليقة
*
فيا عجبا من رحلها المتحمل
*
إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادي. و * (لا يغادر) * جملة في موضع الحال. وعن ابن عباس: الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة. وعن ابن جبير: القبلة والزنا وعن غيره السهو والعمد. وعن الفضيل ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر، وقدمت الصغيرة اهتماما بها، وإذا أحصيت فالكبيرة أحرى * (إلا أحصاها) * ضبطها وحفظها * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) * في الصحف عتيدا أو جزاء ما عملوا. * (ولا يظلم ربك أحدا) * فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه الذي يستحقه أو يعذبه بغير جرم. قال الزمخشري: كما يزعم من ظلم الله في تعذيب أطفال المشركين انتهى. ولا يقال: إن ذلك ظلم منه تعالى لأنه تعالى كل مملوكون له فله أن يتصرف في مملوكيه بما يشاء، لا يسأل عما يفعل، والصحيح في أطفال المشركين أنهم يكونون في الجنة خدما لأهلها نص عليه في البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
* (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس * كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا * ما) *.
ذكروا في ارتباط هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بمجالسة الفقراء وكان أولئك المتكبرون قد تأنفوا عن مجالستهم، وذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم) طردهم عنه وذلك لما جبلوا عليه من التكبر والتكثر بالأموال والأولاد وشرف الأصل والنسب، وكان أولئك الفقراء بخلافهم في ذلك ناسب ذكر قصة إبليس بجامع ما اشتركا فيه من التكبر والافتخار بالأصل الذي خلق منه وهذا الذي ذكروه في الارتباط هو ظاهر بالنسبة للآيات السابقة قبل ضرب المثلين، وإما أنه واضح بالنسبة لما بعد المثلين فلا والذي يظهر في ارتباط هذه الآية بالآية التي قبلها هو أنه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المشركين مما سطر في ذلك الكتاب، وكان إبليس هو الذي حمل المجرمين على معاصيهم واتخاذ شركاء مع الله ناسب ذكر إبليس والنهي
128

عن اتخاذ ذريته أولياء من دون الله تبعيدا عن المعاصي، وعن امتثال ما يوسوس به. وتقدم الكلام في استثناء إبليس أهو استثناء متصل أم منقطع، وهل هو من الملائكة أم ليس منهم في أوائل سورة البقرة فأغني عن إعادته، والظاهر من هذه الآية أنه ليس من الملائكة وإنما هو من الجن. قال قتادة: الجن حي من الملائكة خلقوا من نار السموم. وقال شهر بن حوشب: هو من الجن الذين ظفرت بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء. وقال الحسن وغيره: هو أول الجن وبداءتهم كآدم في الإنس. وقالت فرقة: كان إبليس وقبيله جنا لكن الشياطين اليوم من ذريته فهو كنوح في الإنس. وقال الزمخشري: كان من الجن كلام مستأنف جار مجري التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلا قال: ما له لم يسجد فقيل * (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) * والفاء للتسبيب أيضا جعل كونه من الجن سببا في فسقه، يعني إنه لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله لأن الملائكة معصومون البتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس كما قال: * (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * وهذا الكلام المعترض تعمد من الله عز وعلا لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم، فما أبعد البون بين ما تعمده الله وبين قول من ضاده فزعم أنه كان ملكا ورئيسا على الملائكة فعصي فلعن ومسخ شيطانا، ثم وكه على ابن عباس انتهى.
والظاهر أن معنى * (ففسق عن أمر ربه) * فخرج عما أمره ربه به من السجود. قال رؤبة:
* يهوين في نجد وغورا غائرا
*
فواسقا عن قصدها حوائرا
*
وقيل: * (ففسق) * صار فاسقا كافرا بسبب أمر ربه الذي هو قوله * (اسجدوا لادم) * حيث لم يمتثله. قيل: ويحتمل أن يكون المعنى * (ففسق) * فأمر ربه أي بمشيئته وقضائه لأن المشيئة يطلق عليها أمر كما تقول: فعلت ذلك عن أمرك أي بحسب مرادك، والهمزة في * (أفتتخذونه) * للتوبيخ والإنكار والتعجب أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان تتخذونه وذريته أولياء من دوني مع ثبوت عداوته لكم تتخذونه وليا. وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر وهو يخطب * (أفتتخذونه وذريته) * بفتح الذال، والظاهر أن لإبليس ذرية وقال بذلك قوم منهم قتادة والشعبي وابن زيد والضحاك والأعمش. قال قتادة: ينكح وينسل كما بنسل بنو آدم. وقال الشعبي: لا يكون ذرية إلا من زوجة. وقال ابن زيد: إن الله قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها، فليس يولد لولد آدم ولد إلا ولد معه شيطان يقرن. وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم): ألك شيطان؟ قال: (نعم ألا إن الله تعالى أعانني عليه فأسلم). وسمي الضحاك وغيره من ذرية إبليس جماعة الله أعلم بصحة ذلك، وكذلك ذكروا كيفيات في وطئه وإنساله الله أعلم بذلك، وذهب قوم إلى أنه ليس لإبليس ولد وإنما الشياطين هم الذين يعينونه على بلوغ مقاصده، والمخصوص بالذم محذوف أي * (بئس للظالمين بدلا) * من الله إبليس وذريته وقال * (للظالمين) * لأنهم اعتاضوا من الحق بالباطل وجعلوا مكان ولايتهم إبليس وذريته، وهذا نفس الظالم لأنه وضع الشيء في غيره موضعه.
وقرأ الجمهور * (ما أشهدتهم) * بتاء المتكلم. وقرأ أبو جعفر وشيبة والسختياني وعون العقيلي وابن مقسم: ما أشهدناهم بنون العظمة، والظاهر عود ضمير المفعول في * (أشهدتهم) * على إبليس وذريته أي لم أشاورهم في * (خلق * السماوات والارض ولا * خلق أنفسهم) * بل خلقتهم على ما أردت، ولهذا قال * (وما كنت متخذ المضلين عضدا) *. وقال الزمخشري: يعني إنكم اتخذتم شركاء لي في العبادة وإنما كانوا يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفي
129

مشاركتهم في الإلهية بقوله: * (ما أشهدتهم خلق * السماوات والارض) * لا أعتضد بهم في خلقها * (ولا خلق أنفسهم) * أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله * (ولا تقتلوا أنفسكم) * وما كنت متخذهم أعوانا فوضع * (المضلين) * موضع الضمير ذما لهم بالإضلال فإذا لم يكونوا لي * (عضدا) * في الخلق فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة انتهى. وقيل: يعود على الملائكة والمعنى أنه ما أشهدهم ذلك ولا استعان بهم في خلقها بل خلقتهم ليطيعوني ويعبدوني فكيف يعبدونهم. وقيل: يعود على الكفار. وقيل: على جميع الخلق. وقال ابن عطية: الضمير في * (أشهدتهم) * عائد على الكفار وعلى الناس بالجملة، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين والأطباء وسواهم من كل من يتخرص في هذه الأشياء، وقاله عبد الحق الصقلي وتأول هذا التأويل في هذه الآية وأنها رادة على هذه الطوائف، وذكر هذا بعض الأصوليين انتهى.
وقرأ أبو جعفرر والجحدري والحسن وشيبة * (وما كنت) * بفتح التاء خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم). قال الزمخشري: والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم انتهى. والذي أقوله أن المعنى إخبار من الله عن نبيه وخطاب منه تعالى له في انتفاء كينونته متخذ عضد من المضلين، بل هو مذ كان ووجد عليه السلام في غاية التبري منهم والبعد عنهم لتعلم أمته أنه لم يزل محفوظا من أول نشأته لم يعتضد بمضل ولا مال إليه صلى الله عليه وسلم). وقرأ علي بن أبي طالب متخذا المضلين أعمل اسم الفاعل. وقرأ عيسى * (عضدا) * بسكون الضاد خفف فعلا كما قالوا: رجل وسبع في رجل وسبع وهي لغة عن تميم، وعنه أيضا بفتحتين. وقرأ شيبة وأبو عمر وفي رواية هارون وخارجة والخفاف * (عضدا) * بضمتين، وعن الحسن * (عضدا) * بفتحتين وعنه أيضا بضمتين. وقرأ الضحاك * (عضدا) * بكسر العين وفتح الضاد.
وقرأ الجمهور * (ويوم يقول) * بالياء أي الله. وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم: نقول بنون العظمة أي للذين أشركوا به في الدنيا * (نادوا شركائى) * وليس المعنى أنه تعالى أخبر أنهم شركاؤه ولكن ذلك على زعمكم، والإضافة تكون بأدنى ملابسة ومفعولا * (زعمتم) * محذوفان لدلالة المعنى عليهما إذ التقدير زعمتموهم شركائي والنداء بمعنى الاستغاثة، أي استغيثوا بشركائكم والمراد نادوهم لدفع العذاب عنكم أو للشفاعة لكم، والظاهر أن الضمير في * (بينهم) * عائد على الداعين والمدعوين وهم المشركون والشركاء. وقيل: يعود على أهل الهدى وأهل الضلالة، والظاهر وقوع الدعاء حقيقة وانتفاء الإجابة. وقيل: يحتمل أن يكون استعارة كأن فكرة الكافر ونظره في أن تلك الجمادات لا تغني شيئا ولا تنفع هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة.
وقرأ الجمهور * (شركائى) * ممدودا مضافا للياء، وابن كثير وأهل مكة مقصورا مضافا لها أيضا، والظاهر انتصاب * (بينهم) * على الظرف. وقال الفراء: البين هنا الوصل أي * (وجعلنا) * نواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة، فعلى هذا يكون مفعولا أول لجعلنا، وعلى الظرف يكون في موضع المفعول الثاني. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: الموبق المهلك. وقال الزجاج: جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم. وقال عبد الله بن عمر وأنس ومجاهد: واد في جهنم يجري بدم وصديد. وقال الحسن: عداوة. وقال الربيع بن أنس: إنه المجلس. وقال أبو عبيدة: الموعد.
* (ورأى المجرمون النار) * هي رؤية عين أي عاينوها، والظن هنا قيل: على موضوعه من كونه ترجيح أحد الجانبين. وكونهم لم يجزموا بدخولها رجاء وطمعا في رحمة الله. وقيل: معنى * (فظنوا) * أيقنوا قاله أكثر الناس، ومعنى * (مواقعوها) * مخالطوها واقعون فيها كقوله * (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه * الذين يظنون أنهم ملاقوا * ربهم) *. وقال ابن عطية: أطلق الناس أن الظن هنا بمعنى التيقن، ولو قال بدل ظنوا أيقنوا لكان الكلام متسقا على مبالغة فيه، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبدا في موضع يقين تام قد ناله الحسن بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق، لكنه لم يقع ذلك المظنون وإلا فمن يقع ويحس لا يكاد يوجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن.
وتأمل هذه الآية وتأمل قول دريد:
130

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
انتهى. وفي مصحف عبد الله ملاقوها مكان * (مواقعوها) * وقرأه كذلك الأعمش وابن غزوان عن طلحة، والأولى جعله تفسيرا لمخالفة سواد المصحف. وعن علقمة أنه قرأ ملافوها بالفاء مشددة من لففت. وفي الحديث: (إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة). ومعنى * (مصرفا) * معدلا ومراعا. ومنه قول أبي كبير الهذلي:
* أزهير هل عن شيبة من مصرف
*
أم لا خلود لباذل متكلف وأجاز أبو معاذ * (مصرفا) * بفتح الراء وهي قراءة زيد بن علي جعله مصدرا كالمضرب لأن مضارعه يصرف على يفعل كيصرف.
*
* (ولقد صرفنا فى هاذا القرءان للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شىء جدلا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الاولين أو يأتيهم العذاب قبلا) *.
تقدم تفسير نظير صدر هذه الآية: و * (شىء) * هنا مفرد معناه الجمع أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال إن فصلتها واحدا بعد واحد. * (جدلا) * خصومة ومماراة يعني إن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء ونحوه، فإذا هو خصيم مبين. وانتصب * (جدلا) * على التمييز. قيل: * (الإنسان) * هنا النضر بن الحارث. وقيل: ابن الزبعري. وقيل: أبي بن خلف، وكان جداله في البعث حين أتى بعظم فذره، فقال: أيقدر الله على إعادة هذا؟ قاله ابن السائب. قيل: كل من يعقل من ملك وجن يجادل و * (الإنسان أكثر) * هذه الأشياء * (جدلا) * انتهى.
وكثيرا ما يذكر الإنسان في معرض الذم وقد تلا الرسول صلى الله عليه وسلم) قوله: * (وكان الإنسان أكثر شىء جدلا) * حين عاتب عليا كرم الله وجهه على النوم عن صلاة الليل، فقال له علي: إنما نفسي بيد الله، فاستعمل * (الإنسان) * على العموم. وفي قوله * (وما منع الناس) * الآية تأسف
131

عليهم وتنبيه على فساد حالهم لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب، وإنما امتنعوا هم مع اعتقاد أنهم مصيبون لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا فكان حالهم يقتضي التأسف عليهم. و * (الناس) * يراد به كفار عصر الرسول صلى الله عليه وسلم) الذين تولوا دفع الشريعة وتكذبيها قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: إن الأولى نصب والثانية رفع وقبلهما مضاف محذوف تقديره * (وما منع الناس) * الإيمان * (إلا) * انتظار * (أن تأتيهم سنة الاولين) * وهي الإهلاك * (أو) * انتظار * (أن يأتيهم * العذاب) * يعني عذاب الآخرة انتهى. وهو مسترق من قول الزجاج. قال الزجاج: تقديره ما منعهم من الإيمان * (إلا) * طلب * (أن تأتيهم سنة الاولين) *. وقال الواحدي: المعنى ما منعهم إلا أني قد قدرت عليهم العذاب، وهذه الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين، وهذا القول نحو من قول من قال التقدير * (وما منع الناس أن يؤمنوا) * إلا ما سبق في علمنا وقضائنا أن يجري عليهم * (قل للذين) * من عذاب الاستئصال من المسخ والصيحة والخسف والغرق وعذاب الظلة ونحو ذلك، وأراد بالأولين من أهلك من الأمم السالفة. وقال صاحب الغنيان: إلا إرادة أو انتظار أن تأتيهم سنتنا في الأولين، ومن قدر المضاف هذا أو الطلب فإنما ذلك لاعتقادهم عدم صدق الأنبياء فيما وعدوا به من العذاب كما قال حكاية عن بعضهم * (إن كان هاذا هو الحق من عندك) *. وقيل: * (ما) * هنا استفهامية لا نافية، والتقدير وأي شيء * (منع الناس) * أن * (يؤمنوا) * و * (الهدى) * الرسول أو القرآن قولان.
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش وابن أبي ليلى وخلف وأيوب وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير والكوفيون بضم القاف والباء، فاحتمل أن يكون بمعنى * (قبلا) * لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة، وأن يكون جمع قبيل أي يجيئهم العذاب أنواعا وألوانا. وقرأ باقي السبعة ومجاهد وعيسى بن عمر * (قبلا) * بكسر القاف وفتح الباء ومعناه عيانا. وقرأ أبو رجاء والحسن أيضا بضم القاف وسكون الباء وهو تخفيف قبل على لغة تميم. وذكر ابن قتيبة أنه قرىء بفتحتين وحكاه الزمخشري وقال مستقبلا. وقرأ أبي بن كعب وابن غزوان عن طلحة قبيلا بفتح القاف وباء مكسورة بعدها ياء على وزن فعيل.
* (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين) * أي بالنعيم المقيم لمن آمن * (ومنذرين) * أي بالعذاب الأليم لمن كفر لا ليجادلوا ولا ليتمنى عليهم الاقتراحات * (ليدحضوا) * ليزيلوا * (واتخذوا ءاياتى) * يجمع آيات القرآن وعلامات الرسول قولا وفعلا * (وما أنذروا) * من عذاب الآخرة، واحتملت * (ما) * أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف أي * (وما) * أنذروه وأن تكون مصدرية أي وإنذارهم فلا تحتاج إلى عائد على الأصح * (* هزؤا) * أي سخرية واسخفافا لقولهم أساطير الأولين. لو شئنا لقلنا مثل هذا وجدا لهم للرسول صلى الله عليه وسلم) قولهم * (وما أنتم * إلا بشر مثلنا) * ولو شاء الله لأنزل ملائكة وما أشبه ذلك، والآيات المضاف إلى الرب هو القرآن ولذلك عاد الضمير مفردا في قوله * (أن يفقهوه) * وإعراضه عنها كونه لا يتذكر حين ذكر ولم يتدبر ونسي عاقبة ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي غير مفكر فيها ولا ناظر في أن المحسن والمسيء يجزيان بما عملا.
وتقدم تفسير نظير قوله * (ومن أظلم ممن ذكر بئايات ربه فأعرض عنها ونسى ما) * ثم أخبر تعالى أن هؤلاء لا يهتدون أبدا وهذا من العام والمراد به الخصوص، وهو من طبع الله على قلبه وقضى عليه بالموافاة على الكفر إذ قد اهتدي كثير من الكفرة وآمنوا، ويحتمل أن يكون ذلك حكما على الجميع أي * (وإن تدعهم) * أي * (إلى الهدى) * جميعا * (فلن يهتدوا) * جميعا * (أبدا) * وحمل أولا على لفظ من فأفرد ثم على المعنى في قوله * (إنا جعلنا على قلوبهم) * فجمع وجعلوا دعوة
الرسول إلى الهدى وهي التي تكون سببا لوجود الاهتداء، سببا لانتفاء هدايتهم، وهذا الشرط كأنه جواب للرسول عن تقدير قوله مالي لا أدعوهم إلى الهدى حرصا منه عليه الصلاة والسلام على حصول إيمانهم، فقيل: * (وإن تدعهم) * وتقييده بالأبدية مبالغة في انتفاء هدايتهم.
و * (الغفور) * صفة مبالغة و * (ذو الرحمة) * أي الموصوف
132

بالرحمة، ثم ذكر دليل رحمته وهو كونه تعالى * (لا * يؤاخذهم) * عاجلا بل يمهلهم مع إفراطهم في الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم)، والموعد أجل الموت، أو عذاب الآخرة، أو يوم بدر، أو يوم أحد، وأيام النصر أو العذاب إما في الدنيا وإما في الآخرة أقوال.
والموئل قال مجاهد: المحرز. وقال الضحاك: المخلص والضمير في * (من دونه) * عائد على الموعد. وقرأ الزهري مولا بتشديد الواو من غير همز ولا ياء. وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه مولا بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء. وقرأ الجمهور بسكون الواو وهمزة بعدها مكسورة، وإشارة تعالى بقوله * (وتلك القرى) * إلى القرى المجاورة أهل مكة والعرب كقرى ثمود وقوم لوط وغيرهم، ليعتبروا بما جرى عليهم وليحذروا ما يحل بهم كما حل بتلك القرى. * (وتلك) * مبتدأ و * (القرى) * صفة أو عطف بيان والخبير * (أهلكناهم) * ويجوز أن تكون * (القرى) * الخبر و * (أهلكناهم) * جملة حالية كقوله * (فتلك بيوتهم خاوية) * ويجوز أن تكون * (تلك) * منصوبا بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا * (تلك القرى * أهلكناهم) * و * (تلك القرى) * على إضمار مضاف أي وأصحاب تلك القرى، ولذلك عاد الضمير على ذلك المضمر في قوله * (أهلكناهم) *.
وقوله * (لما ظلموا) * إشعار بعلة الإهلاك وهي الظلم، وبهذا استدل الأستاذ أبو الحسن بن عصفور على حرفية * (لما) * وأنها ليست بمعنى حين لأن الظرف لا دلالة فيه على العلية. وفي قوله * (لما ظلموا) * تحذير من الظلم إذ نتيجته الإهلاك وضربنا لإهلاكهم وقتا معلوما، وهو الموعد واحتمل أن تكون مصدرا أو زمانا. وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام، واحتمل أن يكون مصدرا مضافا إلى المفعول وأن يكون زمانا. وقرأ حفص وهارون عن أبي بكر بفتحتين وهو زمان الهلاك. وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام مصدر هلك يهلك وهو مضاف للفاعل. وقيل: هلك يكون لازما ومتعديا فعلى تعديته يكون مضافا للمفعول، وأنشد أبو علي في ذلك:
ومهمه هالك من تعرجا
ولا يتعين ما قاله أبو علي في هذا البيت، بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكا فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة أصله هالك من تعرجا. فمن فاعل ثم أضمر في هالك ضمير مهمه، وانتصب * (من) * على التشبيه بالمفعول ثم أضاف من نصب، وقد اختلف في الموصول هل يكون من باب الصفة المشبهة؟ والصحيح جواز ذلك وقد ثبت في أشعار العرب. قال الشاعر وهو عمر بن أبي ربيعة:
* أسيلات أبدان دقاق خصورها
*
وثيرات ما التفت عليها الملاحف
*
وقال آخر:
* فعجتها قبل الأخيار منزلة
*
والطيبي كل ما التاثت به الأزر
*
(* (وإذ قال موسى لفتاه لاأبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله فى البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه
133

ءاتنا غدآءنا لقد لقينا من سفرنا هاذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينآ إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت ومآ أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله فى البحر عجبا * قال ذالك ما كنا نبغ فارتدا علىءاثارهما قصصا * فوجدا عبدا من عبادنآ ءاتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معى صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدنىإن شآء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا * قال فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شىء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا * قال لا تؤاخذنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا * قال إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا * فانطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية استطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هاذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) *))
) *
برح: زال مضارع يزول، ومضارع يزال فتكون من أخوات كان الناقصة. الحقب: السنون واحدها حقبة. قال الشاعر:
* فإن تنأ عنها حقبة لاتلاقها
*
فإنك مما أحدثت بالمحرب
*
وقال الفراء: الحقب سنة، ويأتي قول أهل التفسير فيه. السرب: المسلك في جوف الأرض. النصب: التعب والمشقة. الصخرة معروفة وهي حجر كبير. السفينة معروفة وتجمع على سفن وعلى سفائن، وتحذف التاء فيقال سفينة وسفين وهو مما بينه وبين مفردة تاء التأنيث وهو كثير في المخلوق نادر في المصنوع، نحو عمامة وعمام. وقال الشاعر:
* متى تأته تأت لج بحر
*
تقاذف في غوار به السفين
*
134

الأمر البشع من الأمور كالداهية والأد ونحوه. الجدار معروف ويجمع على جدر وجدران. انقض سقط، ومن أبيات معاياة الأعراب.
* مر كما انقض على كوكب
*
عفريت جن في الدجى الأجدل
*
عاب الرجل ذكر وصفا فيه يذم به، وعاب السفينة أحدث فيها ما تنقص به.
* (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله فى البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه ءاتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هاذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله فى البحر) *.
* (موسى) * المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران عليه السلام، ولم يذكر الله في كتابه موسى غيره، ومن ذهب إلى أنه غيره وهو موسى بن ميشا بن يوسف، أو موسى بن افراثيم بن يوسف فقول لا يصح، بل الثابت في الحديث الصحيح وفي التواريخ أنه موسى بن عمر ان نبي إسرائيل، والمرسل هو وأخوه هارون إلى فرعون، وفتاه هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام، والفتى الشاب ولما كان الخدم أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك. ففي الحديث: (لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي). * (* لفتاة) * لأنه كان يخدمه ويتبعه. وقيل: كان يأخذ منه العلم. ويقال: إن يوشع كان ابن أخت موسى عليه السلام وسبب هذه القصة أن موسى عليه السلام جلس يوما في مجلس لبني إسرائيل وخطب فأبلغ، فقيل له هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ * (أبلغ مجمع البحرين) * أسير أي لا أزال. قال ابن عطية: وإنما قال هذه المقالة وهو سائر. ومن هذا قول الفرزدق:
* فما برحوا حتى تهادت نساؤهم
*
ببطحاء ذي قار عباب اللطائم
*
انتهى. وهذا الذي ذكره فيه حذف خبر * (لا أبرح) * وهي من أخوات كان، ونص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل على حذفه إلا ما جاء في الشعر من قوله:
* لهفي عليك للهفة من خائف
*
يبغي جوارك حين ليس مجير
*
أي حين ليس في الدنيا. وقال الزمخشري: فإ ن قلت: * (لا أبرح) * إن كان بمعنى لا أزول من برح المكان فقد دل على الإقامة على السفر، وإن كان بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر قلت: هو بمعنى لا أزال وقد حذف الخبر لأن الحال
135

والكلام معا يدلان عليه، أما الحال فلأنها كانت حال سفر، وأما الكلام فلأن قوله * (حتى أبلغ مجمع البحرين) * غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له، فلا بد أن يكون المعنى لا يبرح مسيري * (حتى أبلغ) * على أن * (حتى أبلغ) * هو الخبر، فاما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل
عن ضمير الغائب إلى لفظ المتكلم وهو وجه لطيف انتهى. وهما وجهان خلطهما الزمخشري: أما الأول: فجعل الفعل مسندا إلى المتكلم وهو وجه وتقديرا وجعل الخبر محذوفا كما قدره ابن عطية و * (حتى أبلغ) * فضلة متعلقة بالخبر المحذوف وغاية له. والوجه الثاني جعل * (لا أبرح) * مسندا من حيث اللفظ إلى المتكلم، ومن حيث المعنى إلى ذلك المقدر المحذوف وجعله * (لا أبرح) * هو * (حتى أبلغ) * فهو عمدة إذ أصله خبر للمبتدأ لأنه خبر * (أبرح) *.
وقال الزمخشري. أيضا: ويجوز أن يكون المعنى * (لا أبرح) * ما أنا عليه بمعنى ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه * (حتى أبلغ) * كما تقول لا أبرح المكان انتهى. يعني إن برح يكون بمعنى فارق فيتعدى إذ ذاك إلى مفعول ويحتاج هذا إلى صحة نقل، وذكر الطبري عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه بمصر، فلما استقرت الحال خطب يوما فذكر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل، ثم ذكر ما هو عليه من أنه لا يعلم أحدا أعلم منه.
قال ابن عطية: وما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام، وما أراه يصح بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين، وهذا المروي عن ابن عباس ذكره الزمخشري فقال: روي أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بعد هلاك القبط أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيبا فذكر نعمة الله، وقال: إن الله اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له: قد علمنا هذا فأي الناس أعلم؟ قال: أنا فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إلى الله فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر، كان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى، وذكر أيضا في أسئلة موسى أنه قال: إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه، قال: أعلم منك الخضر انتهى. وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح من أنه قيل له هل أحد أعلم منك؟ قال: لا.
و * (مجمع البحرين) * قال مجاهد وقتادة: هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم. قال ابن عطية: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجتمع البحرين على هذا القول. وقالت فرقة منهم محمد بن كعب القرظي: هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا. وعن أبي بإفريقية. وقيل: هو بحر الأندلس والقرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء. وقيل: * (مجمع البحرين) * بحر ملح وبحر عذب فيكون الخضر على هذا عند موقع نهر عظيم في البحر. وقالت فرقة: البحران كناية عن موسى والخضر لأنهما بحر اعلم. وهذا شبيه بتفسير الباطنية وغلاة الصوفية، والأحاديث تدل على أنهما بحرا بماء.
وقال الزمخشري: من بدع التفاسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما كانا بحرين في العلم انتهى. وقيل: بحر القلزم. وقيل: بحر الأزرق. وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار * (مجمع) * بكسر الميم الثانية والنضر عن ابن مسلم في كلا الحرفين وهو شاذ، وقياسه من يفعل فتح الميم كقراءة الجمهور. والظاهر أن * (مجمع البحرين) * هو اسم مكان جمع البحرين. وقيل: مصدر.
قال ابن عباس: الحقب الدهر. وقال عبد الله بن عمرو وأبو هريرة: ثمانون سنة. وقال الحسن: سبعون. وقيل: سنة بلغة قريش ذكره الفراء. وقيل: وقت غير محدود قاله أبو عبيدة. والظاهر أن قوله * (أو أمضى) * معطوف على * (أبلغ) * فغيا بأحد الأمرين إما ببلوغه المجمع وإما بمضيه * (حقبا) *. وقيل: هي تغيية لقوله * (لا أبرح) * كقولك لا أفارقك أو تقضيني حقي، فالمعنى * (لا أبرح حتى أبلغ
136

مجمع البحرين) * إلى أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات مجمع البحرين. وقرأ الضحاك * (حقبا) * بإسكان القاف والجمهور بضمها.
* (فلما بلغا مجمع بينهما) * ثم جملة محذوفة التقدير فسار * (فلما بلغا) * أي موسى وفتاه * (مجمع بينهما) * أي بين البحرين * (نسيا حوتهما) * وكان من أمر الحوت وقصته أن موسى عليه السلام حين أوحي إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب فيكف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فنام موسى واضطرب الحوت في المكتمل فخرج منه فسقط * (فى البحر سربا) * وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق. قيل: وكان الحوت مالحا. وقيل: مشويا. وقيل: طريا. وقيل: جمع يوشع الحوت والخبز في مكتل فنزلا ليلة على شاطىء عين تسمى عين الحياة ونام موسى، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت. وروي أنهما أكلا منها. وقيل: توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء، والظاهر نسبة النسيان إلى موسى وفتاه.
وقيل: كان النسيان من أحدهما وهو فتى موسى نسي أن يعلم موسى أمر الحوت إذ كان نائما، وقد أحس يوشع بخروجه من المكتل إلى البحر ورآه قد اتخذ السرب فأشفق أن يوقظ موسى. وقال أؤخر إلى أن يستيقظ ثم نسي أن يعلمه حتى ارتحلا و * (جاوزا) * وقد يسند الشيء إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحد منهم. وقيل: هو على حذف مضاف أي نسي أحدهما. وقال الزمخشري: أي * (نسيا) * تفقد أمره وما يكون منه مما جعل إمارة على الظفر بالطلبة. وقيل: نسي يوشع أن يقدمه، ونسي موسى أن يأمر فيه بشيء انتهى. وشبه بالسرب مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده بل بقي كالطاق، هذا الذي ورد في الحديث. وقال الجمهور: بقي موضع سلوكه فارغا. وقال قتادة: ماء جامدا وعن ابن عباس: حجرا صلدا. وقال ابن زيد: إنما اتخذ سبيله سربا في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة كأنه يعني بقوله * (سربا) * تصرفا وجولانا من قولهم: فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء. ومنه قوله تعالى * (وسارب بالنهار) * أي متصرف. وقال قوم: اتخذ * (سربا) * في التراب من المكتمل، وصادف في طريقه حجرا فنقبه. والظاهر أن السرب كان في الماء ولا يفسر إلا بما ورد في الحديث الصحيح أن الماء صار عليه كالطاق وهو معجزة لموسى عليه السلام أو الخضر إن قلنا أنه نبي وإلا تكن كرامة.
وقيل: عاد موضع سلوك الحوت حجرا طريقا وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت حتى أفضى به ذلك إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر * (فلما جاوزا) * أي
مجمع البحرين. وقال الزمخشري: الموعد وهو الضخرة. قيل: سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر وألقى على موسى النصب والجوع حين جاوزا لموعد ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك فتذكر الحوت وطلبه. وقوله * (من سفرنا) * هذا إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة. وقرأ الجمهور * (نصبا) * بفتحتين وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمتين. قال صاحب اللوامح وهي إحدى اللغات الأربع التي فيها.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف نسي يوشع ذلك ومثله لا ينسى لكونه إمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها ولكونه معجزتين بينتين وهما حياة السمكة المملوحة المأكول منها وقيل: ما كانت إلا شق سمكة وقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب، ثم كيف استمر به النيسان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت قلت: قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب حتى اعتراه النسيان، وانضم إلى
137

ذلك أنه ضري بمشاهدة أمثاله عند موسى من العجائب، واستأنس بأخواته فأعان الإلف على قلة الاهتمام انتهى. قال أبو بكر غالب بن عطية والداني عبد الحق المفسر: سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظة: مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم.
وقال الزمخشري: * (أرأيت) * بمعنى أخبرني فإن قلت: فما وجه التئام هذا الكلام فإن كل واحد من * (أرأيت) * و * (إذ أوينا) * و * (فإنى نسيت الحوت) * لا متعلق له؟ قلت: لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك، كأنه قال: * (أرأيت) * ما دهاني * (إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت) * فحذف ذلك انتهى. وكون أرأيتك بمعنى أخبرني ذكره سيبويه: وقد أمعنا الكلام في ذلك في سورة الأنعام وفي شرحنا لكتاب التسهيل.
وأما ما يختص بأرأيت في هذا الموضع فقال أبو الحسن الأخفش: إن العرب أخرجتها عن معناها بالكلية فقالوا: أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة إذا كانت بمعنى أخبرني، وإذا كانت بمعنى أبصرت لم تحذف همزتها قال: وشذت أيضا فألزمتها الخطاب على هذا المعنى، ولا تقول فيها أبدا أراني زيد عمرا ما صنع، وتقول هذا على معنى أعلم. وشذت أيضا فأخرجتها عن موضعها بالكلية بدليل دخول الفاء ألا ترى قوله * (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت) * فما دخلت الفاء إلا وقد أخرجت لمعنى إما أو تنبه، والمعنى أما * (إذ أوينا إلى الصخرة) * فالأمر كذا، وقد أخرجتها أيضا إلى معنى أخبرني كما قدمنا، وإذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام، وقد يخرج لمعنى أما ويكون أبدا بعدها الشرط وظرف الزمان فقوله * (فإنى نسيت الحوت) *) * معناه أما * (*) * معناه أما * (إذ أوينا) * * (فإنى نسيت الحوت) * أو تنبه * (إذ أوينا) * وليست الفاء إلا جوابا لأرأيت، لأن إذ لا يصح أن يجازي بها إلا مقرونة بما بلا خلاف انتهى كلام الأخفش. وفيه إن * (أرأيت) * إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه، وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام وهذان مفقود إن في تقدير الزمخشري * (أرأيت) * هنا بمعنى أخبرني، ومعنى * (نسيت الحوت) * نسيت ذكر ما جرى فيه لك.
وفي قوله * (وما أنسانيه إلا الشيطان) * حسن أدب سبب النسيان إلى المتسبب فيه بوسوسته و * (أن أذكره) * بدل اشتمال من الضمير العائد على الحوت، والظاهر أن الضمير في * (واتخذ سبيله فى البحر عجبا) * عائد على الحوت كما عاد في قوله * (واتخذ سبيله فى البحر * سربا) * وهو من كلام يوشع. وقيل: الضمير عائد على موسى أي اتخذ موسى. ومعنى * (عجبا) * أي تعجب من ذلك أو اتخاذا * (عجبا) * وهو أن أثره بقي إلى حيث سار. وقدره الزمخشري * (سبيله) * * (عجبا) * وهو كونه شبيه السرب قال: أو قال * (عجبا) * في آخر كلام تعجبا من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها، أو مما رأى من المعجزتين وقوله: * (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) * اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقيل: إن * (عجبا) * حكاية لتعجب موسى وليس بذلك انتهى.
وقال ابن عطية: * (واتخذ سبيله فى البحر عجبا) * يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى أي اتخذ الحوت سبيلا عجبا للناس، ويحتمل أن يكون قوله * (واتخذ سبيله فى البحر) * تمام الخبر ثم استأنف التعجب فقال من قبل نفسه * (عجبا) * لهذا الأمر، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأكل شقه ثم حيي بعد ذلك.
قال أبو شجاع في كتاب الطبري رأيته أتيت به فإذا هو شق حوت وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شي. قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي فيه شي عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكة، ويحتمل أن يكون * (واتخذ سبيله) * الآية إخبارا من الله تعالى وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر * (عجبا) * أي تعجب منه، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله * (عجبا) * للناس انتهى. وقرأ حفص: * (وما أنسانيه) * بضم الهاء وفي الفتح عليه الله وذلك
138

في الوصل وأمال الكسائي فتحة السين، وفي مصحف عبد الله وقراءته * (أن أذكره) * * (إلا الشيطان) *. وقرأ أبو حيوة: واتخاذ سبيله عطف على المصدر على ضمير المفعول في * (أذكره) * والإشارة بقوله ذلك إلى أمر الحوت وفقده واتخاذه سبيلا في البحر لأنه إمارة الظفر بالطلبة من لقاء ذلك العبد الصالح و * (ما) * موصولة والعائد محذوف أي نبغيه. وقرئ نبغ ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع، وأما الوقف فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لرسم المصحف، وأثبتها في الحالين ابن كثير.
* (فارتدا) * رجعا على أدراجهما من حيث جاءا. * (قصصا) * أي يقصان الأثر * (قصصا) * فانتصب على المصدرية بإضمار يقصان، أو يكون في موضع الحال أي مقتصين فينصب بقوله * (فارتدا) * * (فوجدا) * أي موسى والفتى * (عبدا من عبادنا) * هذه إضافة تشريف واختصاص، وجداه عند الصخرة التي فقد الحوت عندها وهو مسجى في ثوبه مستلقيا على الأرض فقال: السلام عليك فرفع رأسه، وقال: أني بأرضك السلام ثم قال له، من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال له: ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا؟ قال: بلى، ولكن أحببت لقاءك وأن أتعلم منك، قال له: إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا. والجمهور على أنه الخضر وخالف من لا يعتد بخلافه فزعم أنه عالم آخر.
وقيل: اليسع. وقيل: الياس. وقيل: خضرون ابن قابيل بن آدم عليه السلام. قيل: واسم الخضر بليا بن ملكان، والجمهور على أن الخضر نبي وكان علمه معرفة بواطن قد أوحيت إليه، وعلم موسى الأحكام والفتيا بالظاهر. وروي أنه وجد قاعدا على ثبج البحر. وفي الحديث سمي خضرا لأنه جلس على فروة بالية فاهتزت تحته خضراء. وقيل: كان إذا صلى اخضر ما حوله. وقيل: جلس على فروة بيضاء وهي الأرض المرتفعة. وقيل: الصلبة واهتزت تحته خضراء. وقيل: كانت أمه رومية وأبوه فارسي. وقيل: كان ابن ملك من الملوك أراد أبوه أن يستخلفه من بعده فلم يقبل منه ولحق بجزائر البحر فطلبه أبوه فلم يقدر عليه. والجمهور على أنه مات.
وقال شرف الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي: أما خضر موسى بن عمران فليس بحي لأنه لو كان حيا للزمه المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم) والإيمان به واتباعه. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لو كان موسى وعيسى حيين لم يسعهما إلا اتباعي). انتهى هكذا ورد لحديث ومذهب المسلمين أن عيسى حي وأنه ينزل من السماء، ولعل الحديث: (لو كان موسى حيا لم يسعه إلا اتباعي).
والرحمة التي آتاه الله إياها هي الوحي والنبوة. وقيل: الرزق. * (وعلمناه من لدنا علما) * أي من عندنا أي مما يختص بنا من العلم وهو الإخبار عن الغيوب. وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو * (من لدنا) * بتخفيف النون وهي لغة في لدن وهي الأصل.
قيل: وقد أولع كثير ممن ينتمي إلى الصلاح بادعاء هذا العلم ويسمونه العلم اللدني، وأنه يلقي في روع الصالح منهم شيء من ذلك حتى يخبر بأن من كان من أصحابه هو من أهل الجنة على سبيل القطع، وأن بعضهم يرى الخضر. وكان قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن علي بن مطيع القشيري المعروف بابن دقيق العيد يخبر عن شيخ له أنه رأى الخضر وحدثه، فقيل له: من أعلمه أنه الخضر؟ ومن أين عرف ذلك؟ فسكت. وبعضهم يزعم أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر، وسمعنا الحديث عن شيخ يقال له عبد الواحد العباسي الحنبلي وكان أصحابه الحنابلة يعتقدون فيه أنه يجتمع بالخضر.
* (قال له موسى) * في الكلام محذوف تقديره فلما التقيا وتراجعا الكلام وهو الذي ورد في الحديث الصحيح * (قال له موسى * اتبعك) * وفي هذا دليل على التواضع للعالم، وفي هذه القصة دليل على الحث على الرحلة في طلب العلم وعلى حسن التلطف والاستنزال والأدب في طلب العلم. بقوله * (هل أتبعك) * وفيه المسافرة مع العالم لاقتباس فوائده، والمعنى هل يخف عليك ويتفق لك وانتصب * (رشدا) * على أنه مفعول ثان لقوله * (* تعلمني) * أو على أنه مصدر في موضع الحال، وذو الحال الضمير في * (نراك اتبعك) *.
وقال
139

الزمخشري: * (علما) * ذا رشد أرشد به في ديني، قال: فإن قلت: أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه كما قيل موسى بن ميشا لا موسى بن عمران لأن النبي يجب أن يكون أعلم أهل زمانه وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين؟ قلت: لا غضاضة بالنبي في أخذ العلم من نبي قبله، وإنما يغض منه أن يأخذ ممن دونه.
وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس: إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى، وأن موسى هو موسى بن ميشا فقال: كذب عدو الله انتهى.
وقرأ الحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي * (رشدا) * بفتحتين وهي قراءة أبي عمرو من السبعة. وقرأ باقي السبعة بضم الراء وإسكان الشين، ونفي الخضر استطاعة الصبر معه على سبيل التأكيد كأنها مما لا يصح ولا يستقيم، وعلل ذلك بأنه يتولى أمورا هي في ظاهرها ينكرها الرجل الصالح فكيف النبي فلا يتمالك أن يشمئز لذلك، ويبادر بالإنكار * (وكيف تصبر) * أي إن صبرك على ما لا خبرة لك به مستبعد، وفيه إبداء عذر له حيث لا يمكنه الصبر لما يرى من منافاة ما هو عليه من شريعته. وانتصب * (خبرا) * على التمييز أي مما لم يحط به خبرك فهو منقول من الفاعل أو على أنه مصدر على غير الصدر لأن معنى * (بما لم تحط به) * لم تخبره. وقرأ الحسن وابن هرمز * (خبرا) * بضم الباء.
* (قال ستجدنى إن شاء الله صابرا) * وعده بوجدانه * (صابرا) * وقرن ذلك بمشيئة الله علما منه بشدة الأمر وصعوبته، إذ لا يصبر إلا على ما ينافي ما هو عليه إذ رآه * (ولا أعصى) * يحتمل أن يكون معطوفا على * (صابرا) * أي * (صابرا) * وغير عاص فيكون في موضع نصب عطف الفعل على الاسم إذا كان في معناه كقوله * (صافات ويقبضن) * أي وقابضات، ويجوز أن يكون معطوفا على * (ستجدنى) * فلا محل له من الإعراب ولا يكون مقيدا بالمشيئة لفظا.
وقال القشيري: وعد موسى من نفسه بشيئين: بالصبر وقرنه بالاستثناء بالمشيئة فصبر حين وجد على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل، وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالاستثناء فعصاه حيث قال له * (فلا تسألنى) * فكان يسأله فما قرن بالاستثناء لم يخالف فيه وما أطلقه وقع فيه الخف انتهى. وهذا منه على تقدير أن يكون * (ولا أعصى) * معطوفا ا على * (ستجدنى) * فلم يندرج تحت المشيئة.
* (قال فإن اتبعتنى) * أي إذا رأيت مني شيئا خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك فلا تفاتحني بالسؤال حتى أكون أنا الفاتح عليك، وهذا من أدب المتعلم مع العالم المتبوع. وقرأنا نافع وابن عامر * (فلا تسألنى) * وعن أبي جعفر بفتح السين واللام من غير همز مشددة النون وباقي السبعة بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون. قال أبو علي. كلهم بياء في الحالين انتهى. وعن ابن عامر في حذف الياء خلاف غريب.
* (فانطلقا حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا * قال لا تؤاخذنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا * قال إن
سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هاذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) *.
* (فانطلقا) * أي موسى والخضر وكان معهم يوشع ولم يضمر لأنه في حكم التبع. وقيل: كان موسى قد صرفه ورده إلى بني إسرائيل. والألف واللام في * (السفينة) * لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة. وروي في كيفية ركوبهما السفينة وخرقها وسدها أقوال، والمعتمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما قالا: (فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فلكموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها * (لتغرق أهلها) * إلى قوله
140

* (عسرا) *) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (وكان الأول من موسى نسيانا قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر).
واللام في * (لتغرق أهلها) *. قيل: لام العاقبة. وقيل: لام العلة. وقرأ زيد بن علي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وحمزة والكسائي وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني ليغرق بفتح الياء والراء وسكون الغين * (أهلها) * بالرفع. وقرأ باقي السبعة بضم تاء الخطاب وإسكان الغين وكسر الراء ونصب لام * (أهلها) *. وقرأ الحسن وأبو رجاء كذلك إلا أنهما فتحا الغين وشدد الراء.
ثم ذكره الخضر بما سبق له من نفي استطاعته الصبر لما يرى فقال * (لا تؤاخذنى بما نسيت) * والظاهر حمل النسيان على وضعه. وقد قال عليه السلام: (كانت الأولى من موسى نسيانا) والمعنى أنه نسي العهد الذي كان بينهما من عدم سؤاله حتى يكون هو المخبر له أولا وهذا قول الجمهور. وعن أبي ابن كعب أنه ما نسي ولكن قوله هذا من معاريض الكلام. قال الزمخشري: أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي، أو أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان توهمه أنه نسي ليبسط عذره في الإنكار وهو من معاريض الكلام التي ينفي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السلام. هذه أختي وإني سقيم: أو أراد بالنسيان الترك أي * (لا تؤاخذنى) * بما تركت من وصيتك أول مرة انتهى.
وقد بين ابن عطية كلام أبي بكلام طويل يوقف عليه في كتابه، ولا يعتمد إلا قول الرسول: (كانت الأولى من موسى نسيانا).
* (ولا ترهقنى) * لا تغشني وتكلفني * (من أمرى) * وهو اتباعك * (عسرا) * أي شيئا صعبا، بل سهل علي في متابعتك بترك المناقشة. وقرأ أبو جعفر * (عسرا) * بضم السين حيث وقع فانطلقا في الكلام حذف تقديره فخرجا من السفينة ولم يقع غرق بأهلها، فانطلقا فبينما هما يمشيان على الساحل إذا بصر الخضر * (غلاما) * يلعب مع الصبيان وفي بعض الروايات فمر بغلمان يلعبون فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء الوجه فاقتلع رأسه. وقيل: رضه بحجر. وقيل: ذبحه. وقيل: فتل عنقه. وقيل: ضرب برأسه الحائط. قيل: وكان هذا الغلام لم يبلغ الحلم ولهذا قال: * (أقتلت نفسا زكية) *. وقيل: كان الغلام بالغا شابا، والعرب تبقى على الشاب اسم الغلام. ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج:
* شفاها من الداء الذي قد أصابها
*
غلام إذا هز القناة سقاها
*
وقال آخر:
* تلق ذباب السيف عني فإنني
*
غلام إذا هو جيت لست بشاعر وقيل: أصله من الاغتلام وهو شدة الشبق، وذلك إنما يكون في الشباب الذين قد بلغوا الحلم ويتناول الصبي الصغير تجوزا تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. (واختلف في اسم هذا الغلام واسم أبيه واسم أمه) ولم يرد شيء من ذلك في الحديث. وفي الخبر أن هذا الغلام كان يفسد ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه.
*
141

وحكي القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السلام لما قال للخضر * (أقتلت نفسا) * غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه، وإذا في عظم كتفه مكتوب كافر لا يؤمن بالله أبدا.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل * (السفينة خرقها) * بغير فاء و * (فقتله) * بالفاء؟ قلت: جعل خرقها جزاء للشرط، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفا عليه والجزاء قال * (أقتلت) *: فإن قلت: فلم خولف بينهما؟ قلت: لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام انتهى.
ومعنى * (زكية) * طاهرة من الذنوب، ووصفها بهذا الوصف لأنه لم يرها أذنبت، قيل أو لأنها صغيره لم تبلغ الحنث. وقوله * (بغير نفس) * يرده ويدل على كبر الغلام وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس. وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم
وزيد وابن بكير عن يعقوب والتمار عن رويس عنه وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف. وقرأ زيد بن علي والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون * (زكية) * بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من زاكية لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة.
وقرأ الجمهور * (نكرا) * بإسكان الكاف. وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم برفع الكاف حيث كان منصوبا. والنكر قيل: أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إعراق أهل السفينة. وقيل: معناه شيئا أنكر من الأول، لأن الخرق يمكن سده والقتل لا سبيل إلى تدارك الحياة معه. وفي قوله * (لك) * زجر وإغلاظ ليس في الأول لأن موقعه التساؤل بأنه بعد التقدم إلى ترك السؤال واستعذار موسى بالنسيان أفظع وأفظع في المخالفة لما كان أخذ على نفسه من الصبر وانتفاء العصيان.
* (قال إن سألتك عن شىء بعدها) * أي بعد هذه القصة أو بعد هذه المسألة * (فلا تصاحبنى) * أي فأوقع الفراق بيني وبينك. وقرأ الجمهور * (فلا تصاحبنى) * من باب المفاعلة. وقرأ عيسى ويعقوب فلا تصحبني مضارع صحب وعيسى أيضا بضم التاء وكسر الحاء مضارع أصحب، ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني علمك وقدره بعضهم فلا تصحبني إياك وبعضهم نفسك. وقرأ الأعرج بفتح التاء والباء وشد النون. ومعنى * (قد بلغت من لدنى عذرا) * أي قد اعتذرت إلي وبلغت إلى العذر. وقرأ الجمهور * (من لدنى) * بإدغام نون لدن في نون الوقاية التي اتصلت بياء المتكلم. وقرأ نافع وعاصم بتخفيف النون وهي نون لدن اتصلت بياء المتكلم وهو القياس، لأن أصل الأسماء إذا أضيفت إلى ياء المتكلم لم تلحق نون الوقاية نحو غلامي وفرسي، وأشم شعبة الضم في الدال، وروي عن عاصم سكون الدال. قال ابن مجاهد: وهو غلط وكأنه يعني من جهة الرواية، وأما من حيث اللغة فليست بغلط لأن من لغاتها لد بفتح اللام وسكون الدال. وقرأ عيسى * (عذرا) * بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي عذري بكسر الراء مضافا إلى ياء المتكلم. وفي البخاري قال: (يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما) وأسند الطبري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال: (رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأي العجب) ولكنه قال * (فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا) *.
والقرية التي أتيا أهلها أنطاكية أو الأبله أو بجزيرة الأندلس وهي الجزيرة الخضراء، أو برقة أو أبو حوران بنا حية أذربيجان، أو ناصرة من أرض الروم أو قرية بأرمينية أقوال مضطربة بحسب اختلافهم في أي ناحية من الأرض كانت قصة والله أعلم بحقيقة ذلك. وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله تعالى. وتكرر لفظ * (أهل) * على سبيل التوكيد، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد وهو أنهما حين * (أتيا أهل * القرية) * لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بضعهم، فلما قال * (استطعما) * احتمل أنهما لم يستطعما إلا ذلك البعض الذي أتياه
142

فجيء بلفظ أهلها ليعم جميعهم وأنهم يتبعونهم واحدا واحدا بالاستطعام، ولو كان التركيب استطعماهم لكان عائدا على البعض المأتي.
وقرأ الجمهور * (يضيفوهما) * بالتشديد من ضيف. وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بكسر الضاد وإسكان الياء من أضاف، كما تقول ميل وأمال، وإسناد الإرادة إلى الجدار من المجاز البليغ والاستعارة البارعة وكثيرا ما يوجد في كلام العرب إسناد أشياء تكون من أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل من الحيوان وإلى الجماد، أو الحيوان الذي لا يعقل مكان العاقل لكان صادرا منه ذلك الفعل. وقد أكثر الزمخشري وغيره من إيراد الشواهد على ذلك ومن له أدنى مطالعة لكلام العرب لا يحتاج إلى شاهد في ذلك.
قال الزمخشري: ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر لأن ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة، فتمحل ليرده إلى ما هو عنده أصح وأفصح، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز أدخل في الإعجاز انتهى. وما ذكره أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني من أنه ينكر المجاز في القرآن لعله لا يصح عنه، وكيف يكون ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر.
وقرأ الجمهور * (ينقض) * أي يسقط من انقضاض الطائر، ووزنه انفعل نحو انجر. قال صاحب اللوامح: من القضة وهي الحصى الصغار، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى، فعلى هذا * (يريد أن ينقض) * أي يتفتت فيصير حصاة انتهى. وقيل: وزنه أفعل من النقض كأحمر. وقرأ أبي * (ينقض) * بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنيا للمفعول من نقضته وهي مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم). وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش يريد لينقض كذلك إلا أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام. وقرأ علي وعكرمة وأبو شيخ خيوان بن خلالد الهنائي وخليد بن سعد ويحيى بن يعمر ينقاص بالصاد غير معجمة مع الألف، ووزنه ينفعل اللازم من قاص يقيص إذا كسرته تقول: قصيته فانقاص. قال ابن خالويه: وتقول العرب انقاصت السن إذا انشقت طولا. قال ذو الرمة: منقاص ومنكثب. وقيل: إذا تصدعت كيف كان. ومنه قول أبي ذؤيب:
* فراق كقص السن فالصبر إنه
*
لكل أناس عشرة وحبور
*
وقرأ الزهري: ينقاض بألف وضاد معجمة وهي من قولهم: قضته معجمة فانقاض أي هدمته فانهدم. قال أبو علي: والمشهور عن الزهري بصاد غير معجمة.
* (فأقامه) * الظاهر أنه لم يهدمه وبناه كما ذهب إليه بعضهم من أنه هدمه وقعد يبنيه. ووقع هذا في مصحف عبد الله وأيد بقوله * (لاتخذت عليه أجرا) * لأن بناءه
بعد هدمه يستحق عليه أجرا. وقال ابن جبير: مسحه بيده وأقامه فقام. وقيل: أقامه بعمود عمده به. وقال مقاتل: سواه بالشيد أي لبسه به وهو الجيار. وعن ابن عباس: دفعه بيده فاستقام وهذا أليق بحال الأنبياء. قال الزمخشري: كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة فلم يجدا مواسيا، فلما أقام الجدار لم يتمالك
143

موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن * (قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) * وطلبت على عملك جعلا حتى تنتعش به وتستدفع الضرورة انتهى. قال ابن عطية: وقوله * (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) * وإن لم يكن سؤالا ففي ضمنه الإنكار لفعله، والقول بتصويب أخذ الأجر وفي ذلك تخطئة ترك الأجر انتهى. وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وابن بحرية ولتخذت بتاء مفتوحة وخاء مكسورة، يقال تخذ واتخذ نحو تبع واتبع، افتعل من تخذ وأدغم التاء في التاء. قال الشاعر:
* وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها
*
نسيفا كأفحوص القطاة المطرق والتاء أصل عند البصريين وليس من الأخذ، وزعم بعضهم أن الاتخاذ افتعال من الأخذ وأنهم ظنوا التاء أصلية فقالوا في الثلاثي تخذ كما قالوا تقي من اتقى. والظاهر أن هذا إشارة إلى قوله * (لو شئت) * أي هذا الإعراض سبب الفراق * (بينى وبينك) * على حسب ما سبق من ميعاده. أنه قال * (إن سألتك) * وهذه الجملة وإن لم تكن سؤالا فإنها تتضمنه، إذ المعنى ألم تكن تتخذ عليه أجرا لاحتياجنا إليه.
*
وقال الزمخشري: قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام * (إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى) * فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول: هذا أخوك فلا يكون هذا إشارة إلى غير الأخ انتهى. وفيما قاله نظر.
وقرأ ابن أبي عبلة * (فراق بينى) * بالتنوين والجمهور على الإضافة. والبين قال ابن عطية: الصلاح الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما، وذلك مستعار فيه من الظرفية ومستعمل استعمال الأسماء، وتكريره * (بينى وبينك) * وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد. * (سأنبئك) * أي سأخبرك * (بتأويل) * ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، أي بما آل إليه الأمر فيما كان ظاهره أن لا يكون. وقرأ ابن وثاب سأنبيك بإخلاص الياء من غير همز. وعن ابن عباس: كان قول موسى في السفينة وفي الغلام لله، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا فكان سبب الفراق. وقال أرباب المعاني: هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى وإعجاله، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي: يا موسي أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم؟ فلما أنكر قتل الغلام قيل له: أين إنكار هذا من وكز القبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجرة؟ * (سأنبئك) * في معاني هذا معك ولا أفارقك حتى أوضح لك ما استبهم عليك.
2 (* (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأردت أن أعيبها وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينآ أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنآ أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكواة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) *)) 2
* (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكواة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) *.
144

روي أن موسى عليه السلام لما عزم الخضر على مفارقته أخذ بثيابه، وقال: لا أفارقك حتى تخبرني بم أباح لك فعل ما فعلت، فلما التمس ذلك منه أخذ في البيان والتفصيل، فقال: * (أما السفينة) * فبدأ بقصة ما وقع له أولا. قيل: كانت لعشرة إخوة، خمسة زمني وخمسة يعملون في البحر. وقيل: كانوا أجراء فنسبت إليهم للاختصاص. وقرأ الجمهور: مساكين بتخفيف السين جمع مسكين. وقرأ علي كرم الله وجهه بتشديد السين جمع مساك جمع تصحيح. فقيل: المعنى ملاحين، والمساك الذي يمسك رجل السفينة وكل منهم يصلح لذلك. وقيل: المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك، والقراءة الأولى تدل على أن السفينة كانت لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم، واحتج بهذه الآية على أن المسكين هو الذي له بلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء، وأنه أصلح حالا من الفقير. وقوله * (فأردت) * فيه إسناد إرادة العيب إليه. وفي قوله: فأراد ربك أن يبلغا لما في ذكر العيب ما فيه فلم يسنده إلى الله، ولما في ذلك من فعل الخير أسنده إلى الله تعالى.
قال الزمخشري: فإن قلت: قوله * (فأردت أن أعيبها) * مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدم عليه؟ قلت: النية به التأخير، وإنما قدم للعناية ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها * (* المساكين) * فكان بمنزلة قولك: زيد ظني مقيم.
وقيل في قراءة أبي وعبد الله كل سفينة صالحة انتهى. ومعنى * (فأردت أن أعيبها) * بخرقها. وقرأ الجمهور * (وراءهم) * وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام، ومعناه هنا أمامهم. وكذا قرأ ابن عباس وابن جبير. وكون * (وراءهم) * بمعنى أمامهم قول قتادة وأبي عبيد وابن السكيت والزجاج، ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدام، وجاء في التزيل والشعر قال تعالى * (من ورائه جهنم) * وقال * (ومن ورائه عذاب غليظ) * وقال * (ومن ورائهم برزخ) *. وقال لبيد:
* أليس ورائي إن تراخت منيتي
*
لزوم العصا يحني عليها الأصابع
*
وقال سوار بن المضرب السعدي
* أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي
*
وقومي تميم والفلاة ورائيا
*
وقال آخر
* أليس ورائي أن أدب على العصا
*
فتأمن أعداء وتسأمني أهلي وقال ابن عطية: وقوله * (وراءهم) * عندي هو على بابه، وذلك أن هذه الالفاظ إنما تجيء يراعى بها الزمن، والذي يأتي بعد هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت
145

تجدها تطرد، فهذه الآية معناها أن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك، ومن قرأ أمامهم أراد في المكان أي أنهم كانوا يسيرون إلى بلده وقوله تعالى في التوراة والإنجيل. إنها بين يدي القرآن، مطرد على ما قلناه في الزمن. وقوله * (من ورائهم) * مطرد كما قلنا من مراعاة الزمن. وقول النبي صلى الله عليه وسلم): (الصلاة أمامك) يريد في المكان، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن. وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب الألفاظ ووقع لقتادة في كتب الطبري * (أعيبها وكان وراءهم ملك) *. قال قتادة: أمامهم ألا ترى أنه يقول * (من ورائهم جهنم) * وهي من بين أيديهم، وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجاج. ويجوز أن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب فكان وراءهم حقيقة انتهى. وهو كلام فيه تكثير وكأنه ينظر إلى ما قاله الفراء. قال الفراء: لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك. قال: إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك.
*
وقال أبو علي: إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة، ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر، وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد انتهى.
قيل: واسم هذا الملك هدد بن بدد وكان كافرا. وقيل: الجلندي ملك غسان، وقوله * (فكان أبواه مؤمنين) * في هذا حذف وهو أن المعنى وكان كافرا وكذا وجد في مصحف أبي. وقرأ ابن عباس: * (وأما الغلام فكان) * كافرا وكان * (أبواه مؤمنين) * ونص في الحديث على أنه كان كافرا مطبوعا على الكفر، ويراد بأبويه أبوه وأمه ثني تغليبا من باب القمرين في القمر والشمس، وهي تثنية لا تنقاس. وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري: فكان أبواه مؤمنان، فخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن، والجملة في موضع خبر لكان، وأجاز أبو الفضل الرازي على أن في كل ضمير الشأن والجملة في موضع خبر لكان، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث ابن كعب، فيكون منصوبا، وأجاز أيضا أن يكون في كان ضمير الغلام والجملة خبر كان.
* (فخشينا) * أي خفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين * (طغيانا) * عليهما * (وكفرا) * لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شرا وبلاء، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفرة، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان، وطاغ كافر أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان. وإنما خشي الخضر منه ذلك لأن الله عز وعلا أعلمه بحاله وأطلعه على سرائر أمره وأمره بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته. وفي قراءة أبي فخاف ربك، والمعنى فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره. ويجوز أن يكون قوله * (فخشينا) * حكاية لقول الله عز وجل بمعنى فكرهنا كقوله * (لاهب لك) * قاله الزمخشري. وفي قوله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته مذهب المعتزلة في قولهم بالأجلين، والظاهر إسناد فعل الخشية في خشينا إلى ضمير الخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر
146

وتكلموا. وقيل: هو في جهة الله وعنه عبر الخضر وهو الذي قال فيه الزمخشري، ويجوز أن يكون إلى آخر كلامه. قال الطبري: ومعناه وقال: معناه فكر هنا. قال ابن عطية: والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة أي على ظن المخلوقين، والمخاطب لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للوالدين.
وقرأ ابن مسعود فخاف ربك، وهذا بين الاستعارة في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى فإن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم
أيها المخاطبون. و * (يرهقهما) * معناه يجشمهما ويكلفهما بشدة، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه. وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير * (أن يبدلهما) * بالتشديد هنا وفي التحريم والقلم. وقرأ باقي السبعة والحسن وابن محيصن بالتخفيف، والزكاة هنا الطهارة والنقاء من الذنوب وما ينطوي عليه من شرف الخلق والسكينة، والرحم والرحمة العطف مصدران كالكثر والكثرة، وافعل هنا ليست للتفضيل لأن ذلك الغلام لا زكاة فيه ولا رحمة. والظاهر أن قوله * (وأقرب رحما) * أي رحمة والديه وقال ابن جريج: يرحمانه. وقال رؤبة بن العجاج:
* يا منزل الرحم على إدريسا
*
ومنزل اللعن على إبليسا
*
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم * (رحما) * بضم الحاء. وقرأ ابن عباس * (رحما) * بفتح الراء وكسر الحاء. وقيل الرحم من الرحم والقرابة أي أو صل للرحم. قيل: ولدت غلاما مسلما. وقيل: جارية تزوجها نبي فولدت نبيا هدى الله على يديه أمة من الأمم. وقيل: ولدت سبعين نبيا. روي ذلك عن ابن عباس. قال ابن عطية: وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، ولم تكن هذه المرأة منهم انتهى. ووصف الغلامين باليتم يدل على أنهما كانا صغيرين. وفي الحديث: (لا يتم بعد بلوغ) أي كانا * (يتيمين) * على معنى الشفقة عليهما. قيل: واسمهما أصرم وصريم، واسم أبيهما كاشح واسم أمهما دهنا، والظاهر في الكنز أنه مال مدفون جسيم ذهب وفضة قاله عكرمة وقتادة. وقال ابن عباس وابن جبير: كان علما في مصحف مدفونة. وقيل: لوح من ذهب فيه كلمات حكمة وذكر، وقد ذكرها المفسرون في كتبهم ولا نطول بذكرها، والظاهر أن أباهما هو الأقرب إليهما الذي ولدهما دنية. وقيل: السابع. وقيل: العاشر وحفظ هذان الغلامان بصلاح أبيهما. وفي الحديث: (إن الله يحفظ الرجل الصالح في ذريته). وانتصب * (رحمة) * على المفعول له وأجاز الزمخشري أن ينصب على المصدر بأراد قال: لأنه في معنى رحمهما، وأجاز أبو البقاء أن ينتصب على الحال وكلاهما متكلف.
* (وما فعلته) * أي وما فعلت ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار عن اجتهاد مني ورأي، وإنما فعلته بأمر الله وهذا يدل على أنه نبي أوحي إليه. و * (تسطع) * مضارع اسطاع بهمزة الوصل. قال ابن الكسيت: يقال ما أستطيع وما اسطيع وما استتيع واستتيع أربع لغات، وأصل اسطاع استطاع على وزن استفعل، فالمحذوف في اسطاع تاء الافتعال لوجود الطاء التي هي أصل ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل، ثم أبدلوا من تاء الافتعال طاء، وأما استتيع ففيه أنهم أبدلوا من الطاء تاء، وينبغي في تستيع أن يكون المحذوف تاء الافتعال كما في تسطيع.
147

وفي كتاب التحرير والتحبير ما نصه: تعلق بعض الجهال بما جرى لموسى مع الخضر عليهما السلام على أن الخضر أفضل من موسى وطردوا الحكم، وقالوا: قد يكون بعض الأولياء أفضل من آحاد الأنبياء، واستدلوا أيضا بقول أبي يزيد خضت بحرا وقف الأنبياء على ساحله وهذا كله من ثمرات الرعونة والظنة بالنفس انتهى. وهكذا سمعنا من يحكي هذه المقالة عن بعض الضالين المضلين وهو ابن العربي الطائي الحاتمي صاحب الفتوح المكية، فكان ينبغي أن يسمي بالقبوح الهلكية وأنه كان يزعم أن الولي خير من النبي قال: لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة، والنبي يأخذ بواسطة عن الله، ولأن الولي قاعد في الحضرة الإلهية والنبي مرسل إلى قوم، ومن كان في الحضرة أفضل ممن يرسله صاحب الحضرة إلى أشياء من هذه الكفريات والزندقة، وقد كثر معظمو هذا الرجل في هذا الزمان من غلاة الزنادقة القائلة بالوحدة نسأل الله السلام في أدياننا وأبداننا.
2 (* (ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له فى الا رض وآتيناه من كل شىء سببا * فأتبع سببا * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إمآ أن تعذب وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزآء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا * كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا * قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الا رض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا * قال ما مكنى فيه ربى خير فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما * ءاتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتونىأفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا * قال هاذا رحمة من ربى فإذا جآء وعد ربى جعله دكآء وكان وعد ربى حقا * وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ونفخ فى الصور فجمعناهم جمعا * وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا * الذين كانت أعينهم فى غطآء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا * أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادى من دونىأوليآء إنآ أعتدنا جهنم للكافرين نزلا * قل هل ننبئكم بالا خسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم فى الحيواة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولائك الذين كفروا بأايات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزآؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا ءاياتى ورسلى هزوا * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات
148

كانت لهم جنات الفردوس نزلا * خالدين فيها لا يبغون عنها حولا * قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا * قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *))
) *
السد الحاجز والحائل بين الشيئين، ويقال بالضم وبالفتح. الردم: السد. وقيل: الردم أكبر من السد لأن الردم ما جعل بعضه على بعض، يقال: ثوب مردم إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة. وقيل: سد الخلل، قال عنترة.
هل غادر الشعراء من متردم
أي خلل في المعاني فيسد ردما. الزبرة: القطعة وأصله الاجتماع، ومنه زبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر، وزبرت الكتاب جمعت حروفه. الصدفان جانبا الجبل إذا تحاذيا لتقاربهما أو لتلاقيهما قاله الأزهري، ويقال: صدف بضمهما وبفتحهما وبضم الصاد وسكون الدال وعكسه. قال بعض اللغويين: وفتحهما لغة تميم وضمهما لغة حمير. وقال أبو عبيدة: الصدف كل بناء عظيم مرتفع. القطر النحاس المذاب في قول الأكثرين. وقيل: الحديد المذاب. وقيل: الرصاص المذاب. النقب مصدر نقب أي حفر وقطع. الغطاء معروف وجمعه أغطية، وهو من غطى إذا ستر. الفردوس قال الفراء: البستان الذي فيه الكرم. وقال ثعلب: كل بستان يحوط عليه فهو فردوس.
* (ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له فى الارض واتيناه من كل شىء سببا * فأتبع سببا * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة * وجد عندها * قوما قلنا ياذا * ذا * القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من امن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا * كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا) *.
الضمير في * (ويسئلونك) * عائد على قريش أو على اليهود، والمشهور أن السائلين قريش حين دستها اليهود على سؤاله عن الروح، والرجل الطواف، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك. وذو القرنين هو الإسكندر اليوناني ذكره ابن إسحاق. وقال وهب: هو رومي وهل هو نبي أو عبد صالح ليس بنبي قولان. وقيل: كان ملكا من الملائكة وهذا غريب. قيل: ملك الدنيا مؤمنان سليمان وذو القرنين، وكافران نمروذ وبخت نصر، وكان بعد نمروذ. وعن علي كان عبدا صالحا ليس بملك ولا نبي ضرب على قرنه الأيمن فمات في طاعة الله ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمي ذا القرنين. وقيل: طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها. وقيل: كان له قرنان أي ضفيرتان. وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس. وعن وهب لأنه ملك الروم وفارس وروي الروم والترك وعنه كانت صفيحتا رأسه من نحاس. وقيل: كان لتاجه قرنان. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. قال الزمخشري: ويجوز أن يسمى بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا كأنه ينطح أقرانه، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره انتهى. وقيل غير ذلك في تسميته ذا القرنين والمشهور أنه الإسكندر. وقال أبو الريحان البيروتي المنجم صاحب كتاب الآثار الباقية عن القرون
149

الخالية: هو أبو بكر بن سمي بن عمير بن إفريقس الحميري، بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال:
* قد كان ذو القرنين قبلي مسلما
*
ملكا علا في الأرض غير مبعد
*
بلغ المشارف والمغارب يبتغي
أسباب ملك من كريم سيد قال أبو الريحان: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلوا أسماؤهم من ذي كذي المنار، وذي يواس انتهى. والشعر الذي أنشده نسب أيضا إلى تبع الحميري وهو.
قد كان ذو القرنين جدي مسلما
*
وعن علي وابن عباس أن اسمه عبد الله بن الضحاك. وعن محمد بن علي بن الحسين عياش. وعن أبي خيثمة هو الصعب بن جابر بن القلمس. وقيل: مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث. وعن علي هو من القرن الأول من ولد يافث بن نوح. وعن الحسن: كان بعد ثمود وكان عمره ألف سنة وستمائة. وعن وهب: كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
والخطاب في * (عليكم) * للسائلين إما اليهود وأما قريش على الخلاف الذي سبق في السائلين. وقوله * (ذكرا) * يحتمل أن يريد قرآنا وأن يريد حديثا وخيرا، والتمكين الذي له * (فى الارض) * كونه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلها. قال بعض المفسرين: والدليل على أنه الإسكندر أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وإلى أقصى المشرق وإلى أقصى الشمال، بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال، وهذا الذي بلغه ملك هذا الرجل هو نهاية المعمور من الأرض، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلدا على وجه الدهر، وأن لا يكون مختفيا، والملك الذي اسمه في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان مع طوائف ثم قصد ملوك العرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه، ثم دخل الشام وقصد بني
إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية ودان له العراقيون والقبط والبربر، ثم نحو دار ابن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حربه، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها.
وورد في الحديث: (إن الذين ملكوا الأرض أربعة مؤمنان: سليمان بن داود، وذو القرنين). وقد تقدم ذكر ذلك وثبت في علم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر فوجب القطع أن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلفوس اليوناني. وقيل تمكينه في الأرض بالنبوة وإجراء المعجزات. وقيل: تمكينه بأن سخر له السحاب وحمله عليها وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء.
150

وقيل: بكثرة أعوانه وجنوده والهيبة والوقار وقذف الرعب في أعدائه وتسهيل السير عليه وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها.
* (واتيناه من كل شىء) * أي يحتاج إليه في الوصول إلى أغراضه * (سببا) * أي طريقا موصلا إليه، والسبب ما يتوصل به إني المقصود من علم أو قدرة أو آلة، فأراد بلوغ المغرب * (فأتبع سببا) * يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق * (فأتبع سببا) * وأراد بلوغ السدين * (فأتبع سببا) * وأصل السبب الحبل، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود. وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد. وقرأ زيد بن علي والزهري والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والكوفيون وابن عامر * (فأتبع) * ثلاثتها بالتخفيف. وقرأ باقي السبعة بالتشديد والظاهر أنهما بمعنى واحد. وعن يونس بن حبيب وأبي زيد أنه بقطع الهمزة عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، وبوصلها إنما يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات.
وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاصي وابن عمر وعبد الله بن عمرو ومعاوية والحسن وزيد بن علي وابن عامر وحمزة والكسائي حامية بالياء أي حارة. وقرأ ابن عباس وباقي السبعة وشيبة وحميد وابن أبي ليلى ويعقوب وأبو حاتم وابن جبير الأنطاكي * (حمئة) * بهمزة مفتوحة والزهري يلينها، يقال حمئت البئر تحمأ حمأ فهي حمئة، وحمأتها نزعت حمأتها وأحمأتها أبقيت فيها الحمأة، ولا تنافي بين الحامية والحمئة إذ تكون العين جامعة للوصفين. وقال أبو حاتم: وقد تمكن أن تكون حامية مهموزة بمعنى ذات حمأة فتكون القراءتان بمعنى واحد يعني إنه سهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسرة ما قبلها، وفي التوراة تغرب في ماء وطين. وقال تبع:
* فرأى مغيب الشمس عند مآبها
*
في عين ذي خلب وثاط حرمد أي في عين ماء ذي طين وحم أسود. وفي حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) نظر إلى الشمس عند غروبها فقال: (أتدري أين تغرب يا أبا ذر؟) فقلت: لا. فقال: (إنها تغرب في عين حامية). وهذا الحديث وظاهر النص دليل على أن قوله * (فى عين) * متعلق بقوله * (تغرب) * لا ما قاله بعض المتعسفين أن قوله في * (عين حمئة) * إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها أي هي آخر الأرض، ومعنى * (تغرب فى عين) * أي فيما ترى العين لا أن ذلك حقيقة كما نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض، ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها، وزعم بعض البغداديين أن * (فى) * بمعنى عند أي * (تغرب) * عند عين.
*
* (ووجد عندها قوما) * أي عند تلك العين. قال ابن السائب: مؤمنين وكافرين. وقال غيره: كفرة لباسهم جلود السباع وطعامهم ما أحرقته الشمس من الدواب، وما لفظته العين من الحوت إذا غربت. وقال وهب: انطلق يؤم المغرب إلى أن انتهى إلى باسك فوجد جمعا لا يحصيهم إلا الله، فضرب حولهم ثلاثة عساكر حتى جمعهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم في النور ودعاهم إلى عبادة الله، فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه. وقال أبو زيد السهيلي: هم أهل حابوس ويقال لها بالسريانية جرجيسا يسكنها قوم من نسل ثمود. بقيتهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام.
وظاهر قوله * (قلنا) * أنه أوحي الله إليه على لسان ملك. وقيل: كلمه كفاحا من غير رسول كما كلم موسى عليه السلام، وعلى هذين القولين يكون نبيا ويبعد ما قاله بعض المتأولين أنه إلهام وإلقاء في روعه لأن مثل هذا التخيير لا
151

يكون إلا بوحي إذ التكاليف وإزهاق النفوس لا تتحقق بالإلهام إلا بالإعلام. وقال علي بن عيسى: المعنى * (قلنا) * يا محمد قالوا * (قلنا ياذا القرنين) * ثم حذف القول الأول لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله، وعلى هذا يكون الضمير الذي في قالوا. المحذوفة يعود على جنده وعسكره الذين كانوا معه.
وقوله * (إما أن تعذب) * بالقتل على الكفر * (وإما أن تتخذ فيهم حسنا) * أي بالحمل على الإيمان والهدى، إما أن تكفر فتعذب، وإما أن تؤمن فتحسن فعبر في التخيير بالمسبب عن السبب. قال الطبري: اتخاذ الحسن هو أسرهم مع كفرهم يعني أنه خير مع كفرهم بين قتلهم وبين أسرهم، وتفصيل ذي القرنين * (أما من ظلم) * و * (أما من * من) * يدفع هذا القول ولما خيره تعالى بين تعذيبهم ودعائهم إلى الإسلام اختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم. فقال: أما من دعوته فأبى إلا البقاء على الظلم وهو الكفر هنا بلا خلاف فذلك هو المعذب في الدارين، وأما من آمن وعمل ما يقتضيه الإيمان فله جزاء الحسنى. وأتى بحرف التنفيس في * (فسوف نعذبه) * لما يتخلل بين إظهاره كفره وبين تعذيبه من دعائه إلى الإيمان وتأبيه عنه، فهو لا يعاجلهم بالقتل على ظلمهم بل يدعوهم ويذكرهم فإن رجعوا وإلا فالقتل.
وقوله * (ثم يرد إلى ربه) * أي يوم القيامة وأتى بنون العظمة في * (نعذبه) * على عادة الملوك في قولهم نحن فعلنا. وقوله * (إلى ربه) * فيه إشعار بأن التخيير لذي القرنين ليس من الله تعالى، إذ لو كان كذلك لكان التركيب ثم يرد إليك فتعذبه، ولا يبعد أن يكون التخيير من الله ويكون قد أعلم ذو القرنين بذلك أتباعه ثم فصل مخاطبا لاتباعه لا لربه تعالى، وما أحسن مجيء هذه الجمل لما ذكر ما يستحقه من ظلم بدأ بما هو أقرب لهم ومحسوس عندهم، وهو قوله * (فسوف نعذبه) *
ثم أخبر بما يلحقه آخرا يوم القيامة وهو تعذيب الله إياه العذاب النكر ولأن الترتيب الواقع هو كذا ولما ذكر ما يستحقه * (من ءامن وعمل صالحا) * ذكر جزاء الله له في الآخرة وهو * (الحسنى) * أي الجنة لأن طمع المؤمن في الآخرة ورجاءه هو الذي حمله على أن آمن لأجل جزائه في الآخرة، وهو عظيم بالنسبة للإحسان في الدنيا ثم أتبع ذلك بإحسانه له في الدنيا بقوله * (وسنقول له من أمرنا يسرا) * أي لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاق عليه أي قولا ذا يسر وسهولة كما قال قولا ميسورا. ولما ذكر ما أعد الله له من الحسنى جزاء لم يناسب أن يذكر جزاءه بالفعل بل اقتصر على القول أدبا مع الله تعالى وإن كان يعلم أنه يحسن إليه فعلا وقولا.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومحمد بن جرير * (فله جزاء) * بالنصب والتنوين وانتصب * (جزاء) * على أنه مصدر في موضع الحال أي مجازي كقولك في الدار قائما زيد. وقال أبو علي قال أبو الحسن: هذا لا تكاد العرب تكلم به مقدما إلا في الشعر. وقيل: انتصب على المصدر أي يجزي * (جزاء) *. وقال الفراء: ومنصوب على التفسير والمراد بالحسنى على قراءة النصب الجنة. وقرأ باقي السبعة * (جزاء الحسنى) * برفع * (جزاء) * مضافا إلى * (الحسنى) *. قال أبو علي جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو يراد بالحسنى الحسنة والجنة هي الجزاء، وأضاف كما قال دار الآخرة و * (جزاء) * مبتدأ وله خبره.
وقرأ عبد الله بن إسحاق * (فله جزاء) * مرفوع وهو مبتدأ وخبر و * (الحسنى) * بدل من * (جزاء) *. وقرأ ابن عباس ومسروق * (جزاء) * نصب بغير تنوين * (الحسنى) * بالإضافة، ويخرج على حذف المبتدأ لدلالة المعنى عليه، أي * (فله) * الجزاء * (جزاء الحسنى) * وخرجه المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو جعفر * (يسرا) * بضم السين حيث وقع.
* (ثم أتبع سببا) * أي طريقا إلى مقصده الذي يسر له. وقرأ الحسن وعيسى وابن محيصن * (مطلع) * بفتح اللام، ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو القياس. وقرأ الجمهور بكسرها وهو سماع في أحرف معدودة، وقياس كسره أن يكون المضارع تطلع بكسر اللام وكان الكسائي يقول: هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب، يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي * (مطلع) * بكسرها في اسم المكان والزمان على ذلك القياس، والقوم هنا الزنج. وقال قتادة هم الهنود وما وراءهم. والستر البنيان أو الثياب أو السجر والجبال أقوال، والمعنى أنهم لا شيء لهم يسترهم من حر الشمس.
152

وقيل: تنفذ الشمس سقوفهم وثيابهم فتصل إلى أجسامهم. فقيل: إذا طلعت نزلوا الماء حتى ينكسر حرها قاله الحسن وقتادة وابن جريج. وقيل: يدخلون أسرابا. وقال مجاهد: السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض. قال ابن عطية: والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم، وفعلها بقدرة الله فيهم ونيلها منهم، ولو كانت لهم أسراب لكان سترا كثيفا انتهى. وقال بعض الرجاز:
* بالزنج حر غير الأجسادا
*
حتى كسا جلودها سوادا
*
وذلك إنما هو من قوة حر الشمس عندهم واستمرارها. كذلك الإشارة إلى البلوغ أي كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها. وقيل * (أتبع سببا) * كما * (أتبع سببا) *. وقيل: كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم كذلك وجد هؤلاء عند مطلع الشمس وحكم فيهم. وقيل: كذلك أمرهم كما قصصنا عليكم. وقيل: * (تطلع) * طلوعها مثل غروبها. وقيل: * (لم نجعل لهم من دونها سترا * كذالك) * أي مثل أولئك الذين وجدهم في مغرب الشمس كفرة مثلهم، وحكمهم مثل حكمهم في التعذيب لمن بقي على الكفر والإحسان لمن آمن.
وقال الزمخشري: * (كذالك) * أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيما لأمره. وقيل * (لم نجعل لهم من دونها سترا) * مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس، والثياب من كل صنف. وقال ابن عطية: * (كذالك) * معناه فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب، وأخبر بقوله * (كذالك) * ثم أخبر تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين وما تصرف فيه من أفعاله، ويحتمل أن يكون * (كذالك) * استئناف قول ولا يكون راجعا على الطائفة الأولى فتأمله، والأول أصوب. وإذا كان مستأنفا لا تعلق له بما قبله فيحتاج إلى تقدير يتم به كلاما.
* (ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا * قالوا يأبانا * ذا * القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الارض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا * قال ما مكنى فيه * ربى خير فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما * ما * زبر الحديد حتى إذا ساوى * ساوى * بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال اتونى أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا * قال هاذا رحمة من ربى فإذا جاء وعد ربى جعله دكاء وكان وعد ربى حقا * وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ونفخ فى الصور فجمعناهم جمعا * وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا * الذين كانت أعينهم فى غطاء عن * ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا * أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادى من دونى أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) *.
* (سببا) * أي طريقا أو مسيرا موصلا إلى الشمال فإن * (السدين) * هناك. قال وهب: السدان جبلان منيفان في السماء من ورائهما ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي أرمينية وأذربيجان. وذكر الهروي أنهما جبلان من وراء بلاد الترك. وقيل: هما جبلان من جهة الشمال لينان أملسان، يزلق عليهما كل شيء، وسمي الجبلان سدين لأن كل واحد منهما سد فجاج الأرض وكانت بينهما فجوة كان يدخل منها يأجوج ومأجوج. وقرأ مجاهد وعكرمة والنخعي وحفص وابن
كثير وأبو عمرو * (بين السدين) * بفتح السين. وقرأ باقي السبعة بضمها. قال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد. وقال الخليل وسيبويه: بالضم الاسم وبالفتح المصدر. وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة: ما كان من خلق الله لم يشارك فيه أحد فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فبالفتح. وقال ابن أبي إسحاق ما رأت عيناك فبالضم، وما لا يرى فبالفتح. وانتصب * (بين) * على أنه مفعول به يبلغ كما ارتفع في * (لقد تقطع بينكم) * وانجر بالإضافة في * (هاذا فراق بينى وبينك) * و * (بين) * من الظروف المتصرفة ما لم تركب مع أخرى مثلها، نحو قولهم همزة بين بين.
* (من دونهما) * من دون السدين و * (قوما) * يعني من
153

البشر. وقال الزمخشري: هم الترك انتهى. وأبعد من ذهب إلى أنهم جان. قال الزمخشري: وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق، ونفي مقارنة فقههم * (قولا) * وتضمن نفي فقههم. وقال الزمخشري: لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة كأنه فهم من نفي يكاد أنه يقع منهم الفهم بعد عسر، وهو قول لبعضهم إن نفيها إثبات وإثباتها نفي، وليس بالمختار.
وقرأ الأعمش وابن أبي ليلى وخلف وابن عيسى الأصبهاني وحمزة والكسائي * (يفقهون) * بضم الياء وكسر القاف أي يفهمون السامع كلامهم، ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة. والضمير في * (قالوا) * عائد على هؤلاء القوم شكوا ما يلقون من يأجوج ومأجوج إذ رجوا عنده ما ينفعهم لكونه ملك الأرض ودوخ الملوك وبلغ إليهم وهم لم يبلغ أرضهم ملك قبله، و * (يأجوج ومأجوج) * من ولد آدم قبيلتان. وقيل: هما من ولد يافث بن نوح. وقيل: * (يأجوج) * من الترك * (ومأجوج) * من الجيل والديلم. وقال السدي والضحاك: الترك شرذمة منهم خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب. وقال قتادة والسدي: بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك وقد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء وهما ممنوعا الصرف، فمن زعم أنهما أعجميان فللعجمة والعلمية، ومن زعم أنهما عربيان فللتأنيث والعلمية لأنهما اسما قبيلتين.
وقال الأخفش: إن جعلنا ألفهما أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول، كأنه من أجيج النار ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فيأجوج منم يججت، ومأجوج من مججت. وقال قطرب في غير الهمز مأجوج فاعول من المج، ويأجوج فاعول من يج. وقال أبو الحسن علي بن عبد الصمد السخاوي أحد شيوخنا: الظاهر أنه عربي وأصله الهمز، وترك الهمز على التخفيف وهو إما من الأجة وهو الاختلاف كما قال تعالى * (وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض) * أو من الأج وهو سرعة العدو، قال تعالى * (وهم من كل حدب ينسلون) * وقال الشاعر:
* يؤج كما أج الظليم المنفر أو من الأجة وهو شدة الحر، أو من أج الماء يئج أجوجا إذا كان ملحا مرا انتهى. وقرأ عاصم والأعمش ويعقوب في رواية بالهمزة وفي * (يأجوج ومأجوج) * وكذا في الأنبياء وفي لغة بني أسد ذكره الفراء. قيل: ولا وجه له إلا اللغة الغربية المحكية عن العجاج أنه كان يهمز العألم والخأتم. وقرأ باقي السبعة بألف غير مهموزة وهي لغة كل العرب غير بني أسد. وقرأ العجاج ورؤبة ابنه: آجوج بهمزة بدل الياء. وإفسادهم الظاهر تحقق الإفساد منهم لا توقعه لأنها شكت من ضررنا لها. وقال سعيد بن عبد العزيز: إفسادهم أكل بني آدم. وقيل: هو الظلم والقتل ووجوه الإفساد المعلوم من البشر. وقيل: كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه، وروي أنه لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كل قد حمل السلاح.
*
* (فهل نجعل لك خرجا) * استدعاء منهم قبول ما يبذلونه مما يعينه على ما طلبوا على جهة حسب الأدب إذ سألوه ذلك كقول موسى للخضر * (هل أتبعك على أن) *. وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومن السبعة حمزة والكسائي خراجا بألف هنا، وفي حرفي قد أفلح وسكن ابن عامر الراء فيها. وقرأ باقي السبعة * (لك خرجا) * فيهما بسكون
154

الراء فخراج بالألف والخرج والخراج بمعنى واحد كالنول والنوال، والمعنى جعلا تخرجه من أموالنا، وكل ما يستخرج من ضريبة وجزية وغلة فهو خراج وخرج. وقيل: الخرج المصدر أطلق على الخراج، والخراج الاسم لما يخرج. وقال ابن الأعرابي: الخرج على الرؤوس يقال: أد خرج رأسك، والخراج على الأرض. وقال ثعلب: الخرج أخص والخراج أعم. وقيل: الخرج المال يخرج مرة والخراج المجبي المتكرر عرضوا عليه أن يجمعوا له أموالا يقيم بها أمر السد. وقال ابن عباس * (* خراجا) * أجرا.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر * (وبينهم سدا) * بضم السين وابن محيصن وحميد والزهري والأعمش وطلحة ويعقوب في رواية وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وباقي السبعة بفتحها * (قال ما مكنى فيه ربى خير) * أي ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم * (فأعينونى بقوة) * أي بما أتقوى به من فعلة وصناع يحسنون العمل والبناء؛ قاله مقاتل وبالآلات؛ قال الكلبي * (ردما) * حاجزا حصينا موثقا. وقرأ ابن كثير وحميد: ما مكنني بنونين متحركتين، وباقي السبعة بإدغام نون مكن في نون الوقاية.
ثم فسر الإعانة بالقوة فقال * (زبر الحديد حتى) * أي أعطوني. قال ابن عطية: إنما هو استدعاء مناولة لا استدعاء عطية وهبة لأنه قد ارتبط من قوله إنه لا يأخذ منهم الخراج، فلم يبق إلا استدعاء المناولة انتهى. وقرأ الجمهور * (ءاتونى) *. وقرأ أبو بكر عن عاصم ائتوني أي جيئوني. وانتصب * (زبر) * بإيتوني على إسقاط حرف الجر أي جيئوني بزبر * (الحديد) *. وقرأ الجمهور * (زبر) * بفتح الباء والحسن بضمها، وفي الكلام حذف تقديره فأتوه أو فآتوه بها فأمر برص بعضها فوق بعض * (حتى إذا ساوى) *.
وقرأ الجمهور * (ساوى) * وقتادة سوى، وابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم سووي مبنيا للمفعول. وحكي في الكيفية أن ذا القرنين قاس ما بين الصدفين من حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل حشوه الصخر وطينه النحاس مذاب، ثم يصب عليه والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا. وقيل: طول ما بين السدين مائة فرسخ وعرضه خمسون. وفي الحديث أن رجلا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم) به فقال: (كيف رأيته)؟ فقال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: (قد رأيته).
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن * (الصدفين) * بضم الصاد والدال، وأبو بكر وابن محيصن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن كذلك إلا أنه سكن الدال وباقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد وطلحة وابن أبي ليلى وجماعة عن يعقوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وابن سعدان بفتحهما، وابن جندب بالفتح وإسكان الدال، ورويت عن قتادة. وقرأ الماجشون بالفتح وضم الدال. وقرأ قتادة وأبان عن عاصم بضم الصاد وفتح الدال * (حتى إذا جعله نارا) * في الكلام حذف تقديره فنفخوا حتى. وقرأ الجمهور قال * (ءاتونى) * أي أعطوني. وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه قال: ائتوني أي جيئوني و * (قطرا) * منصوب بأفرغ على إعمال الثاني، ومفعول * (ءاتونى) * محذوف لدلالة الثاني عليه.
* (فلما * اسطاعوا) * أي يأجوج ومأجوج * (أن يظهروه) * أي يصلوا عليه لبعده وارتفاعه واملاسه، ولا أن ينقبوه
155

لصلابته وثخانته فلا سبيل إلى مجاوزته إلى غيرهم من الأمم إلا بأحد هذين: إما ارتقاء وإما نقب وقد سلب قدرتهم على ذلك.
وقرأ الجمهور * (فما اسطاعوا) * بحذف التاء تخفيفا لقربها من الطاء. وقرأ حمزة وطلحة بإدغامها في الطاء وهو إدغام على غير حده. وقال أبو علي هي غير جائزة. وقرأ الأعشى عن أبي بكر: فما اصطاعوا بالإبدال من السين صادا لأجل الطاء. وقرأ الأعمش: فما استطاعوا بالتاء من غير حذف.
* (قال هاذا رحمة من ربى) * أي قال ذو القرنين والإشارة بهذا قال ابن عطية إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به. وقال الزمخشري: إشارة إلى السد أي * (هاذا) * السد نعمة من الله و * (رحمة) * على عباده أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته. قيل: وفي الكلام حذف وتقديره فلما أكمل بناء السد واستوى واستحكم * (قال هاذا رحمة من ربى) *.
وقرأ ابن أبي عبلة هذه رحمة من ربي بتأنيث اسم الإشارة. والوعد يحتمل أن يراد به يوم القيامة، وأن يراد به وقت خروج يأجوج ومأجوج. وقال الزمخشري: فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي جعل السد دكا أي مدكوكا منبسطا مستويا بالأرض، وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقداندك انتهى. وقرأ الكوفيون: * (دكاء) * بالمد ممنوع الصرف وباقي السبعة دكا منونة مصدر دككته، والظاهر أن * (جعله) * بمعنى صيره فدك مفعول ثان. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون جعل بمعنى خلق وينصب فدكا على الحال انتهى. وهذا بعيد جدا لأن السد إذ ذاك موجود مخلوق ولا يخلق المخلوق لكنه ينتقل من بعض هيئاته إلى هيئة أخرى، ووعد بمعنى موعود قد سبق و * (تركنا) * هذا الضمير لله تعالى والأظهر أن الضمير في * (بعضهم) * عائد على يأجوج ومأجوج، والجملة المحذوفة بعد إذ المعوض منها التنوين مقدرة بإذ جاء الوعد وهو خروجهم وانتشارهم في الأرض أو مقدرة بإذ حجز السد بينهم وبين القوم الذين كانوا يفسدون عندهم وهم متعجبون من السد فماج بعضهم في بعض.
وقيل: الضمير في * (بعضهم) * يعود على الخلق أي يوم إذ جاء وعد الله وهو يوم القيامة ويقويه قوله * (ونفخ فى الصور) * فيظهر أن ذلك هو يوم القيامة، وكذلك ما جاء بعده من الجمع وعرض جهنم وتقدم الكلام على النفخ في الصور في سورة الأنعام. و * (جمعا) * مصدر كموعد * (وعرضنا) * أي أبرزنا * (جهنم يومئذ) * أي يوم إذ جمعناهم. وقيل: اللام بمعنى على كقوله:
* فخر صريعا لليدين وللفم وأبعد من ذهب إلى أنه مقلوب. والتقدير وعرضنا الكافرين على جهنم * (عرضا) * وتخصيصه بالكافرين بشارة للمؤمنين. و * (الذين كانت أعينهم) * صفة ذم في * (غطاء) * استعار الغطاء لأعينهم، والمراد أنهم لا يبصرون آياتي التي ينظر
156

إليها فيعتبر بها، واذكر بالتعظيم وهذا على خذف مضاف أي من آيات * (ذكرى) *. وقيل * (عن ذكرى) * عن القرآن وتأمل معانيه، ويكون المراد بالأعين هنا البصائر لا الجوارح لأن الجوارح لا نسبة بينها وبين الذكر * (وكانوا لا يستطيعون سمعا) * مبالغة في انتفاء السمع إذ نفيت الاستطاعة، وهم وإن كانوا صما لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به، وكان هؤلاء أصمت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع * (أفحسب الذين كفروا) * هم من عبد الملائكة وعزيرا والمسيح واتخذوهم أولياء من دون الله وهم بعض العرب واليهود والنصارى، وهو استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ، والمعنى أنهم ليس لهم من ولاية هؤلاء الذين تولوهم شيء، ولا يجدون عندهم منتفعا ويظهر أن في الكلام حذفا والتقدير * (أن يتخذوا عبادى من دونى أولياء) * فيجدي ذلك وينتفعون بذلك الاتخاذ. وقيل: العباد هنا الشياطين. روي عن ابن عباس وقال مقاتل: الأصنام لأنها خلقه وملكه، والأظهر تفسير العباد بما قلناه لإضافتهم إليه والأكثر أن تكون الإضافة في مثل هذا اللفظ إضافة تشريف.
*
وحسب هنا بمعنى ظن وبه قرأ عبد الله أفظن. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي بن الحسين ويحيى بن يعمر ومجاهد وعكرمة وقتادة ونعيم بن ميسرة والضحاك وابن أبي ليلى وابن كثير ويعقوب بخلاف عنهما وابن محيصن وأبو حيوة والشافعي ومسعود بن صاح * (أفحسب) * بإسكان السين وضم الباء مضافا إلى * (الذين) * أي أفكافيهم ومحسبهم ومنتهى عرضهم، والمعنى أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا. وقال أبو الفضل الرازي قال سهل: يعني أبا حاتم معناه: أفحسبهم وحظهم إلا أن * (أفحسب) * أبلغ في الذم لأنه جعله غاية مرادهم انتهى. وارتفع حسب على الابتداء والخبر * (أن يتخذوا) *. وقال الزمخشري: أو على الفعل
والفاعل لأن اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل كقولك: أقائم الزيدان وهي قراءة محكمة جيدة انتهى. والذي يظهر أن هذا الإعراب لا يجوز لأن حسبا ليس باسم فاعل فتعمل، ولا يلزم من تفسيره شيء بشيء أن تجري عليه جميع أحكامه، وقد ذكر سيبويه أشياء من الصفات التي تجري مجرى الأسماء وأن الوجه فيها الرفع. ثم قال: وذلك مررت برجل خير منه أبوه، ومررت برجل سواء عليه الخير والشر، ومررت برجل أب له صاحبه، ومررت برجل حسبك من رجل، ومررت برجل أيما رجل هو انتهى. ولا يبعد أن يرفع به الظاهر فقد أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبو ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة.
* (إنا أعتدنا) * أي أعددنا ويسرنا والنزل موضع النزول والنزل أيضا ما يقدم للضيف ويهيأ له وللقادم من الطعام، والنزل هنا يحتمل التفسيرنن وكونه موضع النزول قاله الزجاج هنا، وما هيىء من الطعام للنزيل قول القتبي. وقيل: جمع نازل ونصبه على الحال نحو شارف وشرف، فإن كان ما تقدم للضيف وللقادم فيكون كقوله: * (فبشرهم بعذاب أليم) *. وكقول الشاعر:
* تحية بينهم ضرب وجيع وقرأ أبو حيوة وأبو عمرو بخلاف عنه * (نزلا) * بسكون الزاي * (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم فى الحيواة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بئايات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا ءاياتى ورسلى هزوا) *.
*
أي * (قل) * يا محمد للكافرين هل نخبركم الآية فإذا طلبوا ذلك فقل لهم * (أولئك الذين كفروا) * والأخسرون أعمالا عن علي هم الرهبان كقوله * (عاملة ناصبة) *. وعن مجاهد: هم أهل الكتاب. وقيل: هم الصابئون. وسأل ابن الكواء عليا عنهم فقال: منهم أهل حروراء. وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل على الحصر إذ الأخسرون أعمالا هم كل من دان بدين غير الإسلام، أو راءى بعمله، أو أقام على بدعة
157

تؤول به إلى الكفر والأخسر من أتعب نفسه فأدى تعبه به إلى النار. وانتصب * (أعمالا) * على التمييز وجمع لأن أعمالهم في الضلال مختلفة وليسوا مشتركين في عمل واحد و * (الذين) * يصح رفعه على أنه خبر مبتدإ محذوف، أي هم * (الذين) * وكأنه جواب عن سؤال، ويجوز نصبه على الذم وخبره على الوصف أو البدل * (ضل سعيهم) * أي هلك وبطل وذهب و * (يحسبون) * و * (يحسنون) * من تجنيس التصحيف وهو أن يكون النقط فرقا بين الكلمتين. ومنه قول أبي عبادة البحتري:
* ولم يكن المغتر بالله إذ سرى
*
ليعجز والمعتز بالله طالبه
*
ومن غريب هذا النوع من التجنيس. قال الشاعر:
* سقينني ربي وغنينني
*
بحت بحبي حين بن الخرد
*
صحف بقوله سقيتني ربي وغنيتني بحب يحيى بن الجرد.
وقرأ ابن عباس وأبو السمال * (فحبطت) * بفتح الباء والجمهور بكسرها. وقرأ الجمهور * (فلا نقيم) * بالنون * (وزنا) * بالنصب ومجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله * (بآيات ربهم) * وعن عبيد أيضا يقوم بفتح الياء كأنه جعل قام متعديا. وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم: فلا يقوم مضارع قام وزن مرفوع به. واحتمل قوله * (فلا نقيم) * إلا به أنهم لا حسنة لهم توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار. واحتمل أن يريد المجاز كأنه قال: فلا قدر لهم عندنا يومئذ.
وفي الحديث: (يؤتي بالأكول الشروب الطويل فلا يزن جناح بعوضة) ثم قرأ * (فلا نقيم) * الآية. وفي الحديث أيضا: (يأتي ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئا).
* (ذلك جزاؤهم) * مبتدأ وخبر و * (جهنم) * بدل و * (ذالك) * إشارة إلى ترك إقامة الوزن، ويجوز أن يشار بذلك وإن كان مفردا إلى الجمع فيكون بمعنى أولئك ويكون * (جزاؤهم جهنم) * مبتدأ وخبرا. وقال أبو البقاء: * (ذالك) * أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون * (ذالك) * مبتدأ و * (جزآؤهم) * مبتدأ ثان و * (جهنم) * خبره. والجملة خبر الأول والعائد محذوف أي جزاؤه انتهى. ويحتاج هذا التوجيه إلى نظر قال: ويجوز أن يكون * (ذالك) * مبتدأ و * (جزآؤهم) * بدل أو عطف بيان و * (جهنم) * الخبر. ويجوز أن يكون * (جهنم) * بدلا من جزاء أو خبر لابتداء محذوف، أي هو جهنم و * (بما كفروا) * خبر ذلك، ولا يجوز أن تتعلق الباء بجزاؤهم للفصل بينهما و * (اتخذوا) * يجوز أن يكون معطوفا على * (كفروا) * وأن يكون مستأنفا انتهى. والآيات
هي المعجزات الظاهرة على أيدي الأنبياء والصحف الإلهية المنزلة عليهم.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا * خالدين فيها لا يبغون عنها حولا * قل لو كان البحر مدادا * لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا * قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلاهكم إلاه واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) *.
لما ذكر تعالى ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للمؤمنين وفي الصحيح * (جنات الفردوس) * أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما. وفي حديث عبادة * (الفردوس) * أعلاها يعني أعلا الجنة. قال قتادة وربوتها ومنها تفجر أنهار الجنة. وقال أبو هريرة جبل تتفجر منه أنهار الجنة. وفي حديث أبي أمامة * (الفردوس) * سرة الجنة. وقال مجاهد * (الفردوس) * البستان بالرومية. وقال كعب والضحاك * (جنات الفردوس) * الأعناب. وقال
158

عبيد الله بن الحارث بن كعب إنه جنات الكروم والأعناب خاصة من الثمار. وقال المبرد: * (الفردوس) * فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب. وحكى الزجاج أنه الأودية التي تنبت ضروبا من النبات، وهل هو عربي أو أعجمي؟ قولان وإذا قلنا أعجمي فهل هو فارسي أو رومي أو سرياني؟ أقوال. وقال حسان:
* وإن ثواب الله كل موحد
*
جنان من الفردوس فيها يخلد
*
قيل: ولم يسمع بالفردوس في كلام العرب إلا في هذا البيت بيت حسان، وهذا لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت:
* كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة
*
فيها الفراديس ثم الثوم والبصل
*
الفراديس جمع فردوس. والظاهر أن معنى * (جنات الفردوس) * بساتين حول الفردوس ولذلك أضاف الجنات إليه. ويقال: كرم مفردس أي معرش، وكذلك سميت الروضة التي دون اليمامة فردوسا لأجتماع نخلها وتعريشها على أرضها. وفي دمشق باب الفراديس يخرج منه إلى البساتين. و * (نزلا) * يحتمل من التأويل ما احتمل قوله * (نزلا) * المتقدم. ومعنى * (حولا) * أي محولا إلى غيرها. قال ابن عيسى: هو مصدر كالعوج والصغر. قال الزمخشري: يقال حال عن مكانه حولا كقوله.
عادني حبها عودا
يعني لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم، وهذه غاية الوصف لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه، ويجوز أن يراد نفي التحول وتأكيد الخلود انتهى. وقال ابن عطية: والحول بمعنى التحول. قال مجاهد متحولا. وقال الشاعر:
* لكل دولة أجل
*
ثم يتاح لها حول
*
وكأنه اسم جمع وكان واحده حوالة وفي هذا نظر. وقال الزجاج عن قوم: هي بمعنى الحيلة في التنقل وهذا ضعيف متكلف.
* (قل لو كان البحر) *. قيل سبب نزولها أن اليهود قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم): كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم وأنت مقصر قد سئلت عن الروح فلم تجب فيه؟ فنزلت معلمة باتساع معلومات الله وأنها غير متناهية وأن الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكر، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه وهو قوله * (قل لو كان البحر) *. وقيل قال حيي بن أخطب في كتابكم * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا) * ثم تقروؤن * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * فنزلت يعني إن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله * (قل لو كان البحر) * أي ماء البحر * (مدادا) * وهو ما يمد به الدواة من الحبر، وما يمد به السراج من السليط. ويقال: السماء مداد الأرض * (لكلمات ربى) * أي معد الكتب كلمات ربي وهو علمه وحكمته، وكتب بذلك
159

المداد * (لنفد البحر) * أي فني ماؤه الذي هو المداد قبل أن تنفد الكلمات لأن كلماته تعالى لا يمكن نفادها لأنها لا تتناهى والبحر ينفد لأنه متناه ضرورة، وليس ببدع أن أجهل شيئا من معلوماته * (وإنما أنا * بشر مثلكم) * لم أعلم إلا ما أوحي إلى به وأعلمت.
وقرأ الجمهور * (مدادا لكلمات ربى) *. وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش ومجاهد والأعرج والحسن والمنقري عن أبي عمر ومددا لكلمات ربي. وقرأ الجمهور *
(تنفد) * بالتاء من فوق. وقرأ حمزة والكسائي وعمرو بن عبيد والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى بالياء. وقرأ السلمي * (أن تنفد) * بالتشديد على تفعل على المضي، وجاء كذلك عن عاصم وأبي عمرو فهو مطاوع من نفد تقديره لنفد. وقرأ الجمهور بمثله مددا بفتح الميم والدال بغير ألف، والأعرج بكسر الميم. وأنتصب * (مددا) * على التمييز عن مثل كقوله.
فإن الهوى يكفيكه مثله صبرا
وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأعمش بخلاف والتيمي وابن محيصن وحميد والحسن في رواية، وأبو عمرو في رواية وحفص في رواية بمثله مدادا بألف بين الدالين وكسر الميم. قال أبو الفضل الرازي: ويجوز أن يكون نصبه على المصدر بمعنى ولو أمددناه بمثله إمدادا ثم ناب المدد مناب الإمداد مثل أنبتكم نباتا.
وفي قوله * (بشر مثلكم) * إعلام بالبشرية والمماثلة في ذلك لا أدعي إني ملك * (يوحى إلى) * أي علي إنما هو مستند إلى وحي ربي، ونبه على الوحدانية لأنهم كانوا كفارا بعبادة الأصنام، ثم حض على ما فيه النجاة و * (يرجو) * بمعنى يطمع و * (لقاء ربه) * على تقدير محذوف أي حسن لقاء ربه. وقيل * (يرجو) * أي يخاف سوء * (لقاء ربه) * أي لقاء جزاء ربه، وحمل الرجاء على بابه أجود لبسط النفس إلى إحسان الله تعالى. ونهى عن الإشراك بعبادة الله تعالى. وقال ابن جبير: لا يراثي في عمله فلا يبتغي إلا وجه ربه خالصا لا يخلط به غيره. قيل نزلت في جندب بن ز هير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم): إني أعمل العمل لله فإذا أطلع عليه سرني فقال: (إن الله لا يقبل ماشورك فيه). وروي أنه قال: (لك أجران أجر السر وأجر العلانية) وذلك إذا قصد أن يقتدى به. وقال معاوية بن أبي سفيان: هذه آخر آية نزلت من القرآن.
وقرأ الجمهور * (ولا يشرك) * بياء الغائب كالأمر في قوله * (فليعمل) *. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي عنه: ولا تشرك بالتاء خطابا للسامع والتفاتا من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب، وهو المأمور بالعمل الصالح ثم عاد إلى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله بربه، ولم يأت التركيب بربك إيذانا بأن الضميرين لمدلول واحد وهو من في قوله * (فمن كان يرجو) *.
160

((سورة مريم))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (كهيعص * ذكر رحمت ربك عبده زكريآ * إذ نادى ربه ندآء خفيا * قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعآئك رب شقيا * وإني خفت الموالى من ورآئى وكانت امرأتى عاقرا فهب لى من لدنك وليا * يرثنى ويرث من ءال يعقوب واجعله رب رضيا * يازكريآ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا * قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذالك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لىءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا * يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكواة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا * واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنآ إليهآ روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إنىأعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا * قال إنمآ أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا * قال كذالك قال ربك هو على هين ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا * فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتنى مت قبل هاذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتهآ ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا * وهزىإليك بجذع
161

النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلى واشربى وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولىإنى نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا * فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا * ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا * قال إنى عبد الله ءاتانى الكتاب وجعلنى نبيا * وجعلنى مباركا أين ما كنت وأوصانى بالصلواة والزكواة ما دمت حيا * وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارا شقيا * والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) *))
) *
اشتعال النار تفرقها في التهابها فصارت شعلا. وقيل: شعاع النار. الشيب معروف، شاب شعره أبيض بعدما كان بلون غيره. المخاض اشتداد وجع الولادة والطلق. الجذع ما بين الأرض التي فيها الشجرة منها وبين متشعب الأغصان، ويقال للغصن أيضا جذع وجمعه أجذاع في القلة، وجذوع في الكثرة. السري المرتفع القدر، يقال سرو يسرو، ويجمع على سراة بفتح السين وسرواء وهما شاذان فيه، وقياسه أفعلاء. والسري النهر الصغير لأن الماء يسري فيه ولامه ياء كما أن لام ذلك واو. وقال لبيد:
* فتوسطا عرض السري فصدعا
*
مسجورة متحاورا قلامها
*
أي جدولا. الهز التحريك. الرطب معروف واحده رطبة، وجمع شاذا على أرطاب كربع وأرباع وهو ما قطع قبل أن يشتد وييبس. الجني ما طاب وصلح للاجتناء. وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يجف ولم ييبس. وقيل: الجني ما ترطب من البسر. وقال الفراء: الجني والمجني واحد، وعنه الجني المقطوع. قرة العين: مأخوذ من القر، يقال: دمع الفرح بارد اللمس ودمع الحزن سخن اللمس. وقال أبو تمام:
* فأما عيون العاشقين فأسخنت
*
وأما عيون الشامتين فقرت
*
وقريش يقول: قررت به عينا، وقررت بالمكان أقر وأهل نجد قررت به عينا بالكسر. الفري العظيم من الأمر يستعمل في الخير وفي الشر، ومنه في وصف عمر: فلم أر عبقريا يفري فريه، والفري القطع وفي المثل: جاء يفري الفري أي يعمل عظيما من العمل قولا أو فعلا. وقال الزمخشري: الفري البديع وهو من فري الجلد. الإشارة معروفة تكون باليد والعين والثوب والرأس والفم، وأشار ألفه منقلبة عن ياء يقال: تشايرنا الهلال للمفاعلة. وقال كثير:
* فقلت وفي الأحشاء داء مخامر
*
ألا حبذا يا عز ذاك التشاير
*
* (بسم الله الرحمان الرحيم كهيعص * ذكر رحمت ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب * بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالى من ورائى وكانت امرأتى عاقرا فهب لى من لدنك وليا * يرثنى ويرث من ءال يعقوب واجعله رب رضيا * يازكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا * قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذالك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لىءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا * يايحيى خذ الكتاب بقوة واتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكواة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) *.
هذه السورة مكية كالسورة التي قبلها. وقال مقاتل:
162

إلا آية السجدة فهي مدنية نزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى ضمن السورة قبلها قصصا عجبا كقصة أهل الكهف، وقصة موسى مع الخضر، وقصة ذي القرنين، وهذه السورة تضمنت قصصا عجبا من ولادة يحيى بين شيخ فان وعجوز عاقر، وولادة عيسى من غير أب، فلما اجتمعا في هذا الشيء المستغرب ناسب ذكر هذه السورة بعد تلك، وتقدم الكلام في أول البقرة على هذه الحروف المقطعة التي في فواتح السور بما يوقف عليه هناك و * (ذكر) * خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو من هذا القرآن * (ذكر) *. وقيل * (ذكر) * خبر لقوله * (كهيعص) * وهو مبتدأ ذكره الفراء. قيل: وفيه بعد لأن الخبر هو المبتدأ في المعنى وليس في الحروف المقطعة ذكر الرحمة، ولا في ذكر الرحمة معناها. وقيل: * (ذكر) * مبتدأ والخبر محذوف تقديره فيما يتلى * (ذكر) *.
وقرأ الجمهور كاف بإسكان الفاء. وروي عن الحسن ضمها، وأمال نافع هاء وياء بين اللفظين، وأظهر دال صاد عند ذاك. * (ذكر) * وقرأ الحسن بضم الهاء وعنه أيضا ضم الياء وكسر الهاء، وعن عاصم ضم الياء وعنه كسرهما وعن حمزة فتح الهاء وكسر الياء. قال أبو عمرو الداني: معنى الضم في الهاء والياء إشباع التفخيم وليس بالضم الخالص الذي يوجب القلب. وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن المقري الرازي في كتاب اللوامح في شواذ القراءات خارجة عن الحسن: كاف بضم الكاف، ونصر بن عاصم عنه بضم الهاء وهارون بن موسى العتكي عن إسماعيل عنه بالضم، وهذه الثلاث مترجم عليها بالضم ولسن مضمومات المحال في الحقيقة لأنهن لو كن كذلك لوجب قلب ما بعدهن من الألفات واوات بل نحيت هذه الألفات نحو الواو على لغة أهل الحجاز، وهي التي تسمى ألف التفخيم بضد الألف الممالة فأشبهت الفتحات التي تولدت منهن الضمات، وهذه الترجمة كما ترجموا عن الفتحة الممالة المقربة من الكسرة بكسرة لتقريب الألف بعدها من الياء انتهى.
وقرأ أبو جعفر بتقطيع هذه الحروف وتخليص بعضها من بعض فرقا بينها وبين ما ائتلف من الحروف، فيصير أجزاء الكلم فاقتضين إسكان آخرهن، وأظهر الأكثرون دال صاد عند ذال * (ذكر) * وأدغمها أبو عمرو. وقرأ حفص عن عاصم وفرقة بإظهار النون من عين والجمهور على إخفائها.
وقرأ الحسن وابن يعمر * (ذكر) * فعلا ماضيا * (رحمة) * بالنصب، وحكاه أبو الفتح وذكره الزمخشري عن الحسن أي هذا المتلو من القرآن * (ذكر رحمت ربك) * وذكر الداني عن ابن يعمر * (ذكر) * فعل أمر من التذكير * (رحمة) * بالنصب و * (عبده) * نصب بالرحمة أي * (ذكر) * أن * (ذكر رحمت ربك) *. وذكر صاحب اللوامح أن * (ذكر) * بالتشديد ماضيا عن الحسن باختلاف وهو صحيح عن ابن يعمر، ومعناه أن المتلو أي القرآن * (ذكر * برحمة * ربك) * فلما نزع الباء انتصب، ويجوز أن يكون معناه أن القرآن ذكر الناس تذكيرا أن رحم الله عبده فيكون المصدر عاملا في * (عبده زكريا) * لأنه ذكرهم بما نسوه من رحمة الله فتجدد عليهم بالقرآن ونزوله على النبي صلى الله عليه وسلم)، ويجوز أن يكون * (ذكر) * على المضي مسندا إلى الله سبحانه.
وقرأ الكلبي * (ذكر) * على المضي خفيفا من الذكر * (رحمة ربك) * بنصب التاء * (عبده) * بالرفع بإسناد الفعل إليه. وقال ابن خالويه: * (ذكر رحمت
ربك عبده) * يحيى بن يعمر و * (ذكر) * على الأمر عنه أيضا انتهى.
و * (إذ) * ظرف العامل فيه قال الحوفي: * (ذكر) * وقال أبو البقاء: و * (إذ) * ظرف لرحمة أو لذكر انتهى. ووصف نداء بالخفي. قال ابن جريج: لئلا يخالطه رياء. مقاتل: لئلا يعاب بطلب الولد في الكبر. قتادة: لأن السر والعلانية عنده تعالى سواء. وقيل: أسره من مواليه الذين خافهم. وقيل: لأنه أمر دنياوي فأخفاه لأنه إن أجيب فذاك بغيته، وإلا فلا يعرف ذلك أحد. وقيل: لأنه كان في جوف الليل. وقيل: لإخلاصه فيه فلا يعلمه إلا الله. وقيل: لضعف صوته بسبب كبره، كما قيل: الشيخ صوته خفات وسمعه تارات. وقيل: لأن الإخفاء سنة الأنبياء والجهر به يعد من الاعتداء. وفي التنزيل * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) *. وفي الحديث: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا).
* (قال رب إنى وهن العظم منى) * هذه كيفية دعائه وتفسير ندائه. وقرأ الجمهور: * (وهن) * بفتح الهاء. وقرأ الأعمش بكسرها. وقرئ بضمها لغات ثلاث، ومعناه ضعف وأسند الوهن إلى العظم لأنه عمود
163

البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى ما وراءه وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أو هن ووحد * (العظام) * لأنه يدل على الجنس، وقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان قصدا آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها. وقال قتادة: اشتكى سقوط الأضراس. قال الكرماني: وكان له سبعون سنة. وقيل: خمس وسبعون. وقيل: خمس وثمانون. وقيل: ستون. وقيل: خمس وستون. وشبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكرياء فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة قاله الزمخشري، وإلى هذا نظر ابن دريد. فقال:
* واشتعل المبيض في مسوده
*
مثل اشتعال النار في جزل الغضا وبعضهم أعرب * (شيبا) * مصدرا قال: لأن معنى * (واشتعل الرأس) * شاب فهو مصدر من المعنى. وقيل: هو مصدر في موضع نصب على الحال، واشتعال الرأس استعارة المحسوس للمحسوس إذ المستعار منه النار والمستعار له الشيب، والجامع بينهما الانبساط والانتشار * (ولم أكن) * نفي فيما مضى أي ما كنت * (بدعائك رب شقيا) * بل كنت سعيدا موفقا إذ كنت تجيب دعائي فأسعد بذلك، فعلى هذا الكاف مفعول. وقيل: المعنى * (بدعائك) * إلى الإيمان * (شقيا) * بل كنت ممن أطاعك وعبدك مخلصا. فالكاف على هذا فاعل والأظهر الأول شكرا لله تعالى بما سلف إليه من إنعامه عليه، أي قد أحسنت إلي فيما سلف وسعدت بدعائي إياك فالإنعام يقتضي أن تجيبني آخر كما أجبتني أولا.
*
وروي أن حاتما الطائي أتاه طالب حاجة فقال: أنا أحسنت إليك وقت كذا، فقال حاتم: مرحبا بالذي توسل بنا إلينا وقضى حاجته.
* (وإني خفت الموالى من ورائى) * * (الموالى) * بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب. قال الشاعر:
* مهلا بني عمنا مهلا موالينا
*
لا تنبشوا بينا ما كان مدفونا وقال لبيد
*
ومولى قد دفعت الضيم عنه
وقد أمسى بمنزلة المضيم
*
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح * (الموالى) * هنا الكلالة خاف أن يرثوا ماله وأن يرثه الكلالة. وروي قتادة والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم): (يرحم الله أخي زكريا ما كان عليه ممن يرث ماله). وقالت: فرقة إنما كان مواليه مهملين الدين فخاف بموته أن يضيع الدين فطلب وليا يقوم بالدين بعده، وهذا لا يصح عنه إذ قال عليه السلام: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة) والظاهر اللائق بزكريا عليه السلام من حيث هو معصوم أنه لا يطلب الولد لأجل ما يخلفه من حطام الدنيا. وكذلك قول من قال: إنما خاف أن تنقطع النبوة من ولده ويرجع إلى عصبته لأن تلك إنما يضعها الله حيث شاء ولا يعترض على الله فيمن شاءه واصطفاه من عباده. قال الزمخشري كان مواليه
164

وهم عصبته إخوته وبنو عمه شرار بني إسرائيل فخافهم على الدين أن يغيروه وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبا صالحا من صلبه يقتدي به في إحياء الدين.
وقرأ الجمهور * (خفت) * من الخوف. وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن العاصي وابن يعمر وابن جبير وعلي بن الحسين وولده محمد وزيد وشبيل بن عزرة والوليد بن مسلم لأبي عامر * (خفت) * بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث * (الموالى) * بسكون الياء والمعنى انقطع موالي وماتوا فإنما
أطلب وليا يقوم بالدين. وقرأ الزهري * (خفت) * من الخوف * (الموالى) * بسكون التاء على قراءة * (خفت) * من الخوف يكون * (من ورائى) * أي بعد موتي. وعلى قراءة * (خفت) * يحتمل أن يتعلق * (من ورائى) * بخفت وهو الظاهر، فالمعنى أنهم خفوا قدامه أي درجوا فلم يبق منهم من له تقو واعتضاد، وأن يتعلق بالموالي أي قلوا وعجزوا عن إقامة الدين. و * (ورائى) * بمعنى خلفي ومن بعدي، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولي يرزقه. وروي عن ابن كثير من ورأي مقصورا كعصاي.
وتقدم شرح العاقر في آل عمران وقوله * (من لدنك) * تأكيد لكونه وليا مرضيا بكونه مضافا إلى الله وصادرا من عنده، أو أراد اختراعا منك بلا سبب لأني وامرأتي لا نصلح للولادة. والظاهر أنه طلب من الله تعالى أن يهبه وليا ولم يصرح بأن يكون ولد البعد ذلك عنده لكبره وكون امرأته عاقرا. وقيل: إنما سأل الولد.
وقرأ الجمهور: * (يرثنى ويرث) * برفع الفعلين صفة للولي فإن كان طلب الولد فوصفه بأن تكون الإجابة في حياته حتى يرثه لئلا تكون الإجابة في الولد لكن يحرمه فلا يحصل ما قصده. وقرأ النحويان والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني وابن محيصن وقتادة بجزمهما على جواب الأمر. وقرأ علي وابن عباس والحسن وابن يعمر والجحدري وقتادة وأبو حرب بن أبي الأسود وجعفر بن محمد وأبو نهيك * (يرثنى) * بالرفع والياء وارث جعلوه فعلا مضارعا من ورث. قال صاحب اللوامح: وفيه تقديم فمعناه * (فهب لى من لدنك وليا) * من آل يعقوب * (يرثنى) * إن مت قبله أي نبوتي وأرثه إن مات قبلي أي ماله، وهذا معنى قول الحسن. وقرأ علي وابن عباس والجحدري * (يرثنى) * وارث * (من ءال يعقوب) *. قال أبو الفتح هذا هو التجريد التقدير * (يرثنى) * منه وارث. وقال الزمخشري وارث أي * (يرثنى) * به وارث ويسمى التجريد في علم البيان، والمراد بالإرث إرث العلم لأن الأنبياء لا تورث المال. وقيل: * (يرثنى) * الحبورة وكان حبرا ويرث * (من ءال يعقوب) * الملك يقال: ورثته وورثت منه لغتان.
وقيل: * (من) * للتبعيض لا للتعدية لأن * (يعقوب كما) * ليسوا كلهم أنبياء ولا علماء. وقرأ مجاهد أو يرث من آل يعقوب على التصغير، وأصله وويرث فأبدلت الواو همزة على اللزوم لاجتماع الواوين وهو تصغير وارث أي غليم صغير. وعن الجحدري وارث بكسر الواو يعني به الإمالة المحضة لا الكسر الخالص، والظاهر أن يعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم. وقيل: هو يعقوب بن ماثان أخو زكرياء. وقيل: يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود ومرضيا بمعنى مرضي.
* (عبده زكريا) * أي قيل له بإثر الدعاء. وقيل: رزقه بعد أربعين سنة من دعائه. وقيل: بعد ستين والمنادي والمبشر زكرياء هم الملائكة بوحي من الله تعالى قال تعالى * (فنادته الملئكة) * الآية والغلام الولد الذكر، وقد يقال للأثنى غلامة كما قال.
تهان لها الغلامة والغلام
والظاهر أن * (يحيى) * ليس عربيا لأنه لم تكن عادتهم أن يسموا بألفاظ العربية فيكون منعه الصرف للعلمية والعجمة، وإن كان عربيا فيكون مسمى بالفعل كيعمر ويعيش قد سموا بيموت وهو يموت بن المزرع ابن أخت الجاحظ. وعلى أنه عربي. فقيل: سمي بذلك لأنه يحيى بالحكمة والعفة. وقيل: يحيى بهدايته إرشاده خلق كثير. وقيل لأنه يستشهد
165

والشهداء أحياء. وقيل: لأنه يعمر زمنا طويلا. وقيل: لأنه حيي بين شيخ كبير وأم عاقر. وقيل: لأنه حيي به عقر أمه وكانت لا تلد. وقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم: لم نسم قبله أحدا بيحيى. قال الزمخشري: وهذا شاهد على أن الأسامي الشنع جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النفر، حتى قال القائل في مدح قوم:
* شنع الأسامي مسبلي أزر
*
حمر تمس الأرض بالهدب
*
وقال رؤبة للنسابة البكري: وقد سأله عن نسبه أنا ابن العجاج فقال: قصرت وعرفت انتهى. وقيل للصلت بن عطاء: كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك، فقال: كنت غريب الدار غريب الاسم خفيف الحزم شحيحا بالاشلاء. فذكر مما قدمه كونه غريب الاسم إذ كان اسمه الصلت. وقال مجاهد وغيره * (سميا) * أي مثلا ونظيرا وكأنه من المساماة والسمو. قال ابن عطية: وهذا فيه بعد لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى. وقال ابن عباس أيضا لم تلد العواقر مثله.
قال الزمخشري: وإنما قيل للمثل سمي لأن كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير فكل واحد منهما سمي لصاحبه. وقيل: لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر وأنه كان حصورا انتهى.
* (وإنى) * بمعنى كيف: وتقدم الكلام عليها في قوله * (قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر) * في آل عمران والعتي المبالغة في الكبر. ويبس العود. وقرأ أبو بحرية وابن أبي ليلى والأعمش وحمزة والكسائي * (عتيا) * بكسر العين وباقي السبعة بالضم وعبد الله بفتح العين وصاد صليا جعلهما مصدرين كالعجيج والرحيل، وفي الضم هما كذلك إلا أنهما على فعول. وعن عبد الله ومجاهد عسيا بضم العين والسين كمسورة. وحكاها الداني عن ابن عباس وحكاها الزمخشري عن أبي ومجاهد يقال عتا العود وعسا يبس وجسا.
* (قال كذالك) * أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ * (قال ربك) * فالكاف رفع أو نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره * (هو على هين) * ونحوه * (وقضينآ إليه ذلك الامر أن دابر هؤلآء مقطوع مصبحين) *. وقرأ الحسن * (وهو عليم * هين) * ولا يخرج هذا إلا على الوجه الأول أي الأمر كما قلت، وهو علي ذلك يهون، ووجه آخر وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله لا إلى قول ذكرياء وقال: محذوف في كلتا القراءتين أي قال * (هو على هين) * وإن شئت لم تنوه لأن الله هو المخاطب، والمعنى أنه قال ذلك ووعده وقوله الحق قاله الزمخشري: وقال ابن عطية وقوله * (قال كذالك) * قيل إن المعنى قال له الملك * (كذالك) * فليكن الوجود كما قيل لك * (قال ربك) * خلق الغلام * (على هين) * أي غير بدع وكما خلقتك قبل وأخرجتك من عدم إلى وجود كذلك أفعل الآن. وقال الطبري: معنى قوله * (كذالك) * أي الأمر أن اللذان ذكرت من المرأة العاقر والكبر هو كذلك ولكن * (قال ربك) * والمعنى عندي قال الملك * (كذالك) * أي على هذه الحال * (قال ربك هو على هين) * انتهى. وقرأ الحسن * (هو على هين) * بكسر الياء. وقد أنشدوا قول النابغة:
* علي لعمر نعمة بعد نعمة
*
لوالده ليست بذات عقارب
*
166

بكسر ياء المتكلم وكسرها شبيه بقراءة حمزة * (وما أنتم بمصرخى) * بكسر الياء. وقرأ الجمهور * (وقد خلقتك) * بتاء المتكلم. وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي خلقناك بنون العظمة * (ولم تك شيئا) * أي شيئا موجودا. وقال الزمخشري: * (شيئا) * لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئا يعتد به كقولهم: عجبت من لا شيء إذا رأى غير شيء ظنه رجلا.
* (قال) * أي زكريا * (رب اجعل لىءاية) * أي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به وطلب ذلك ليزداد يقينا كما قال إبراهيم عليه السلام * (ولاكن ليطمئن * قبلى) * لا لتوقف منه على صدق ما وعد به، ولا لتوهم أنه ذلك من عند غير الله لعصمة الأنبياء عن مثل ذلك. وقال الزجاج: وقعت البشارة مطلقة فلم يعرف الوقت فطلب الآية ليعرف وقت الوقوع. * (قال رب) * روي عن ابن زيد أنه لما حملت زوجته بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله، فإذا أراد مناداة أحد لم يطقه. و * (سويا) * حال من ضمير أي لا تكلم في حال صحتك ليس تك خرس ولا علة قاله الجمهور وغن ابن عباس عائد على الليالي أي كاملات مستويات فتكون صفة لثلاث، ودل ذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أن المنع من الكلام استمر له ثلاثة أيام بلياليهن.
وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي * (أن لا * تكلم) * برفع الميم جعلها أن المخففة من الثقيلة التقدير أنه لا يكلم. وقرأ الجمهور بنصبها جعلوا أن الناصبة للمضارع * (فخرج على قومه من المحراب) * أي وهو بتلك الصفة من كونه لا يستطيع أن يكلم الناس، ومحرابه موضع مصلاة، والمحراب تقدم الكلام عليه في آل عمران * (فأوحى إليهم) * أي أشار. قال قتادة وابن منبه والكلبي والقرطبي أوحي إليهم أشار، وذكره الزمخشري عن مجاهد قال: ويشهد له إلا رمزا. وعن ابن عباس كتب لهم على الأرض. وقال ابن عطية: وقال مجاهد: بل كتب لهم في التراب وكلا الوجهين وحي انتهى. وقال عكرمة: كتب في ورقة والوحي في كلام العرب الكتابة. ومنه قول ذي الرمة:
* سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها
*
بقية وحي في بطون الصحائف
*
وقال عنترة
* كوحي صحائف من عهد كسرى
*
فأهداها لأعجم طمطمي
*
وقال جرير
* كأن أخا اليهود يخط وحيا
*
بكاف في منازلها ولام
*
والجمهور على أن المعنى * (أن سبحوا) * صلوا. وقيل أمرهم بذكر الله والتسبيح. قال المفسرون كان يخرج على قومه بكرة وعشيا فيأمرهم بالصلاة إشارة. قال
صاحب التحرير والتحبير وعندي في هذا معنى لطيف وهو أنه إنما خص بالتسبيح بالذكر لأن العادة جارية أن كل من رأى أمرا عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول: سبحان الله سبحان الخالق، فلما رأى حصول الولد من شيخ وعاقر عجب من ذلك فسبح وأمر بالتسبيح انتهى. وقال الزمخشري وابن عطية و * (ءان) * مفسرة. وقال الحوفي * (أن سبحوا) * * (ءان) * نصب بأوحى. وقال أبو البقاء: يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى أي انتهى. وقرأ طلحة أن سبحوه بهاء الضمير عائدة على الله تعالى. وروي ابن عزوان عن
167

طلحة أن سجن بنون مشددة من غيروا وألحق فعل الأمر نون التوكيد الشديد.
* (وعشيا يايحيى خذ الكتاب بقوة) * في الكلام حذف والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السن الذي يؤمر فيه قال الله له على لسان الملك وأبعد التبريزي في قوله إن المنادي له أبوه حين ترعرع ونشأ، والصحيح ما سبق لقوله * (واتيناه الحكم صبيا) * و * (الكتاب) * هو التوراة. قال ابن عطية بلا خلاف لأنه ولد قبل عيسى ولم يكن الإنجيل موجودا انتهى. وليس كما قال بل قيل له كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء بمثل ذلك. وقيل: * (الكتاب) * هنا اسم جنس أي أتل كتب الله. وقيل: * (الكتاب) * صحف إبراهيم. وقال الحسن وعلمه التوراة والإنجيل وأرسله إلى بني إسرائيل، وكان يصوم ويصلي في حال طفوليته ويدعو إلى الله بقوة بجد واستظهار وعمل بما فيه والحكم النبوة أو حكم الكتاب أو الحكمة أو العلم بالأحكام أو اللب وهو العقل، أو آداب الخدمة أو الفراسة الصادقة أقوال * (صبيا) * أي شابا لم يبلغ سن الكهولة. وقيل: ابن سنتين. وقيل: ابن ثلاث. وعن ابن عباس في حديث مرفوع: (ابن سبع سنين) * (وحنانا) * معطوف على الحكم والحنان الرحمة قاله ابن عباس في رواية والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عبيدة والفراء وأنشد أبو عبيدة:
* تحنن على هداك المليك
*
فإن لكل مقام مقالا
*
قال: وأكثر ما تستعمل مثنى كما قال:
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال ابن الأنباري: المعنى وجعلناه * (* حنانا) * لأهل زمانه. وقال مجاهد وتعطفا من ربه عليه. وعن ابن جبير: لينا. وعن عكرمة وابن زيد: محبة، وعن عطاء تعظيما.
وقوله * (لدنا وزكواة) * عن الضحاك وقتادة عملا صالحا. وعن ابن السائب: صدقة تصدق بها على أبويه. وعن الزجاج تطهيرا. وعن ابن الأنباري زيادة في الخبر. وقيل ثناء كما يزكي الشهود. * (وكان تقيا) *. قال قتادة: لم يهم قط بكبيرة ولا صغيرة ولا هم بامرأة. وقال ابن عباس: جعله متقيا له لا يعدل به غيره. وقال مجاهد: كان طعامه العشب المباح وكان للدمع في خديه مجار بائنة * (وبرا بوالديه) * أي كثير البر والإكرام والتبجيل. وقرأ الحسن وأبو جعفر في رواية وأبو نهيك وأبو مجلز * (وبرا) * في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر * (ولم يكن جبارا) * أي متكبرا * (عصيا) * أي عاصيا كثير العصيان، وأصله عصوى فعول للمبالغة، ويحتمل أن يكون فعيلا وهي من صيغ المبالغة.
* (وسلام عليه) *. قال الطبري: أي أمان. قال ابن عطية: والأظهر أنها التحية المتعارفة وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله، وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيى عليهما السلام التقيا وهما ابنا الخالة، فقال يحيى لعيسى: ادع لي فأنت خير مني، فقال له عيسى: بل أنت ادعى لي فأنت خير مني سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي.
وقال أبو عبد الله الرازي: * (يوم ولد) * أي أمان عليه من أن يتاله الشيطان * (ويوم يموت) * أي أمان من عذاب القبر * (ويوم يبعث حيا) * من عذاب الله يوم
168

القيامة. وفي قوله * (ويوم يبعث حيا) * تنبيه على كونه من الشهداء لقوله * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) * وهذا السلام يحتمل أن يكون من الله وأن يكون من الملائكة انتهى. والأظهر أنه من الله لأنه في سياق * (واتيناه الحكم) *.
* (واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إنى أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك * ربك لاهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا * قال كذالك قال ربك هو على هين ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا * فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتنى مت قبل هاذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتها ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا * وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلى واشربى وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولى إنى نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) *.
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة زكريا وطلبه الولد وإجابة الله إياه فولد له من شيخ فان وعجوز له عاقر وكان ذلك مما يتعجب منه، أردفه بما هو أعظم في الغرابة والعجب وهو وجود ولد من غير ذكر، فدل ذلك على عظم قدرة الله وحكمته، وأيضا فقص عليهم ما سألوه من قصة أهل الكهف وأتبع ذلك بقصة الخضر وموسى، ثم قص عليهم ما سألوه أيضا وهو قصة ذي القرنين، فذكر في هذه السورة قصصا لم يسألوه عنها وفيها غرابة، ثم أتبع ذلك بقصة إبراهيم وموسى وهارون
موجزة، ثم بقصة إسماعيل وإدريس ليستقر في أذهانهم أنه أطلع نبيه على ما سألوه وعلى ما لم يسألوه، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام وحيه في ذلك واحد يدل على صدقه وصحة رسالته من أمي لم يقرأ الكتب ولا رحل ولا خالط من له ولا عنى بجمع سير.
و * (الكتاب) * القرآن. و * (مريم) * هي ابنة عمران أم عيسى، و * (إذ) * قيل ظرف زمان منصوب باذكر، ولا يمكن ذلك مع بقائه على الظرفية لأن الاستقبال لا يقع في الماضي. وقال الزمخشري: * (إذ) * بدل من * (مريم) * بدل الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وقته، إذ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيها انتهى. ونصب * (إذ) * باذكر على جهة البدلية يقتضي التصرف في * (إذ) * وهي من الظروف التي لم يتصرف فيها إلا بإضافة ظرف زمان إليها. فالأولى أن يجعل ثم معطوف محذوف دل المعنى عليه وهو يكون العامل في * (إذ) * وتبقى على ظرفيتها وعدم تصرفها، وهو أن تقدر مريم وما جرى لها * (إذ انتبذت) * واستبعد أبو البقاء قول الزمخشري قال: لأن الزمان إذا لم يكن حالا عن الجثة ولا خبرا عنها ولا وصفا لها لم يكن بدلا منها انتهى. واستبعاده ليس بشيء لعدم الملازمة. قال: وقيل التقدير خبر مريم فإذ منصوبة لخبر. وقيل: حال من هذا المضاف المحذوف. وقيل: * (إذ) * بمعنى أن المصدرية كقولك: أكرمك إذ لم تكرمني أي إن لم تكرمني. قال أبو البقاء: فعلى هذا يصح بدل الاشتمال أي * (واذكر) * * (مريم) * انتباذها انتهى.
و * (انتبذت) * افتعل من نبذ، ومعناه ارتمت وتنحت وانفردت. قال السدي * (انتبذت) * لتطهر من حيضها وقال غيره: لتعبد الله وكانت وقفا على سدانة المتعبد وخدمته والعبادة فتنحت من الناس كذلك، وانتصب * (مكانا) * على الظرف أي في مكان، ووصف بشرقي لأنه كان مما يلي بيت المقدس أو من دارها، وسبب كونه في الشرق أنهم كانوا يعظمون جهة الشرق من حيث تطلع الشمس. وعن ابن عباس: اتخذت النصارى الشرق قبلة لميلاد عيسى عليه السلام. وقيل: قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أي شيء يسترها، وكان موضعها المسجد فبيناهي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوي الخلق لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا أو حسن الصورة مستوي الخلق. وقال قتادة * (شرقيا) * شاسعا بعيدا انتهى.
والحجاب الذي اتخذته لتستتر به عن الناس لعبادة ربها. قال السدي: كان من جدران. وقيل: من ثياب. وعن ابن عباس: جعلت الجبل بينها وبين
169

الناس * (حجابا) * وظاهر الإرسال من الله إليها ومحاورة الملك تدل على أنها نبية. وقيل: لم تنبأ وإنما كلمها مثال بشر ورؤيتها للملك كما رأى جبريل عليه السلام في صفة دحية. وفي سؤاله عن الإيمان والإسلام. والظاهر أن الروح جبريل لأن الدين يحيا به ويوحيه أو سماه روحه على المجاز محبة له وتقريبا كما تقول لحبيبك: أنت روحي. وقيل عيسى كما قال وروح منه، وعلى هذا يكون قوله * (فتمثل) * أي الملك. وقرأ أبو حيوة وسهل * (روحنا) * بفتح الراء لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقربين في قوله * (فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان) * أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا. وذكر النقاش أنه قرىء * (روحنا) * بتشديد النون اسم ملك من الملائكة وانتصب * (بشرا سويا) * على الحال لقوله وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا. قيل: وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه، ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت به من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبر لعفتها.
وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت فجلست في المشرقة وراء الجبل فأتاها الملك. وقيل: قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس، وتعليقها الاستعاذة على شرط تقواه لأنه لا تنفع الاستعاذة ولا تجدي إلا عند من يتقي الله أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك. وجواب الشرط محذوف أي فإني أعوذ. وقال الزجاج: فستتعظ بتعويذي بالله منك. وقيل: فأخرج عني. وقيل: فلا تتعرض لي وقول من قال تقي اسم رجل صالح أو رجل فاسد ليس بسديد. وقيل: * (ءان) * نافية أي ما * (كنت تقيا) * أي بدخولك علي ونظرك إلي، ولياذها بالله وعياذها به وقت التمثيل دليل على أنه أول ما تمثل لها استعاذت من غير جري كلام بينهما.
* (قال) * أي جبريل عليه السلام * (إنما أنا رسول ربك) * الناظر في مصلحتك والمالك لأمرك، وهو الذي استعذت به وقوله لها ذلك تطمين لها وإني لست ممن تظن به ريبه أرسلني إليك ليهب. وقرأ شيبة وأبو الحسن وأبو بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي ومن السبعة نافع وأبو عمر: وليهب أي ليهب ربك. وقرأ الجمهور وباقي السبعة * (لاهب) * بهمزة المتكلم وأسند الهبة إليه لما كان الإعلام بها من قبله.
وقال الزمخشري: * (لاهب لك) * لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الروع. وفي بعض المصاحف أمرني أن أهب لك، ويحتمل أن يكون محكي بقول محذوف أي قال * (لاهب) * والغلام اسم الصبي أول ما يولد إلى أن يخرج إلى سن الكهولة. وفسرت الزكاة هنا بالصلاح وبالنبوة وتعجبت مريم وعلمت بما ألقي في روعها أنه من عند الله. وتقدم الكلام على سؤالها عن الكيفية في آل عمران في قصتها وفي قولها * (ولم أك بغيا) * تخصيص بعد تعميم لأن مسيس البشر يكون بنكاح وبسفاح.
وقال الزمخشري: جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله * (من قبل أن تمسوهن) * أو لمستم النساء والزنا ليس كذلك إنما يقال فجربها وخبث بها وما أشبه ذلك، وليس بقمن أن يراعي فيه الكنايات والآداب انتهى. والبغي المجاهرة المشتهرة في الزنا، ووزنه فعول عند المبرد اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصي ودلي. قيل: ولو كان فعيلا لحقتها هاء التأنيث فيقال بغية. وقال ابن جني في كتاب التمام: هي فعيل، ولو كانت فعولا لقيل بغوكما قيل فلان نهو عن المنكر انتهى. قيل: ولما كان هذا اللفظ خاصا بالمؤنث لم يحتج إلى علامة التأنيث فصار
كحائض وطالق، وإنما يقال للرجل باغ. وقيل: بغى فعيل
170

بمعنى مفعول كعين كحيل أي مبغية بطلبها أمثالها.
* (قال كذالك قال ربك هو على هين) * الكلام عليه كالكلام السابق في قصة زكريا * (ولنجعله) * يحتمل أن يكون معطوفا على تعليل محذوف تقديره لنبين به قدرتنا * (ولنجعله) * أو محذوف متأخر أي فعلنا ذلك، والضمير في * (ولنجعله) * عائد على الغلام وكذلك في قوله * (وكان) * أي وكان وجوده * (أمرا) * مفروغا منه، وكونه رحمة من الله أي طريق هدى لعالم كثير فينالون الرحمة بذلك. وذكروا أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها أو فيه وفي كمها وقال: أي دخل الروح المنفوخ من فمها، والظاهر أن المسند إليه النفخ هو الله تعالى لقوله * (فنفخنا) * ويحتمل ما قالوا: * (فحملته) * أي في بطنها والمعنى فحملت به. قيل: وكانت بنت أربع عشرة سنة. وقيل: بنت خمس عشرة سنة قاله وهب ومجاهد. وقيل: بنت ثلاث عشرة سنة. وقيل: اثنتي عشرة سنة. وقيل: عشرة سنين. قيل: بعد أن حاضت حيضتين. وحكى محمد بن الهيصم أنها لم تكن حاضت بعد. وقيل: لم تحض قط مريم وهي مطهرة من الحيض، فما أحست وخافت ملامة الناس أن يظن بها الشر فارتمت به إلى مكان قصي حياء وفرارا. روي إنها فرت إلى بلاد مصر أو نحوها قاله وهب. وقيل: إلى موضع يعرف ببيت لحم بينه وبين إيليا أربعة أميال. وقيل: بعيدا من أهلها وراء الجبل. وقيل: أقصى الدار. وقيل: كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف فلما قيل حملت من الزنا خاف عليها قتل الملك هرب بها، فلما كان ببعض الطريق حدثته نفسه بأن يقتلها فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إنه من روح القدس فلا تقتلها فتركها حملته في ساعة واحدة فكما حملته نبذته عن ابن. وقيل: كانت مدة الحمل ثلاث ساعات. وقيل: حمل في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة. وقيل: ستة أشهر. وعن عطاء وأبي العالية والضحاك: سبعة أشهر. وقيل: ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى وهذه أقوال مضطربة متناقضة كان ينبغي أن يضرب عنها صفحا إلا أن المفسرين ذكروها في كتبهم وسودوا بها الورق، والباء في * (به) * للحال أي مصحوبة به أي اعتزلت وهو في بطنها كما قال الشاعر:
* تدوس بنا الجماجم والتريبا أي تدوس الجماجم ونحن على ظهورها.
*
ومعنى * (فأجاءها) * أي جاء بها تارة فعدي جاء بالباء وتارة بالهمزة. قال الزمخشري: إلا أن استعماله قد يغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء الإتراك، لا تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول: بلغته وأبلغنيه، ونظيره آتى حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم يقل آتيت المكان وآتانيه فلان انتهى. أما قوله وقول غيره إن الاستعمال غيره إلى معنى الإلجاء فيحتاج إلى نقل أئمة اللغة المستقرئين ذلك عن لسان العرب، والإجاءة تدل على المطلق فتصلح لما هو بمعنى الإلجاء ولما هو بمعنى الاختيار كما لو قلت: أقمت زيدا فإنه قد يكون مختارا لذلك وقد يكون قد قسرته على القيام. وأما قوله الإتراك لا تقول إلى آخره فمن رأى أن التعدية بالهمزة قياس أجاز لك ولو لم يسمع ومن لا يراه قياسا فقد سمع ذلك في جاء حيث قالوا: أجاء فيجيز ذلك، وأما تنظيره ذلك بآتي فهو تنظير غير صحيح لأنه بناه على أن الهمزة فيه للتعدية، وأن أصله أتى وليس كذلك بل آتى مما بني على أفعل وليس منقولا من أتى بمعنى جاء، إذ لو كان منقولا من أتى المتعدية لواحد لكان ذلك الواحد هو المفعول الثاني، والفاعل هو الأول إذا عديته بالهمزة تقول: أتى المال زيدا، وآتى عمرا زيدا المال، فيختلف التركيف بالتعدية لأن زيدا عند النحويين هو المفعول الأول والمال هو المفعول الثاني. وعلى ما ذكره الزمخشري كان يكون العكس فدل على أنه ليس على ما قاله. وأيضا فآتى مرادف لأعطى فهو مخالف من حيث الدلالة في
171

المعنى. وقوله: ولم تقل أتيت المكان وآتانيه هذا غير مسلم بل يقال: أتيت المكان كما تقول: جئت المكان. وقال الشاعر:
* أتوا ناري فقلت منون أنتم
*
فقالوا الجن الجن قلت عموا ظلاما
*
ومن رأى النقل بالهمزة قياسا قال: أتانيه. وقرأ الجمهور * (فأجاءها) * أي ساقها. وقال الشاعر:
* وجار سار معتمدا إليكم
*
أجائته المخافة والرجاء
*
وأما فتحه الجيم الأعمش وطلحة. وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم. قال ابن عطية وشبيل بن عزرة فاجأها من المفاجأة. وقال صاحب اللوامح شبيل بن عزرة: فاجأها. فقيل: هو من المفاجأة بوزن فاعلها فبدلت همزتها بألف تخفيف على غير قياس، ويحتمل أن تكون همزة بين بين غير مقلوبة. وروي عن مجاهد كقراءة حماد عن عاصم. وقرأ ابن كثير في رواية * (المخاض) * بكسر الميم يقال مخضت الحامل مخاضا ومخاضا وتمخض الولد في بطنها: و * (إلى) * تتعلق بفأجاءها، ومن قرأ فاجأها من المفاجأة فتتعلق بمحذوف أي مستندة أي فيحال استنادها إلى النخلة، والمستفيض المشهور أن ميلاد عيسى عليه السلام كان بيت لحم، وأنها لما هربت وخافت عليه أسرعت به وجاءت به إلى بيت المقدس فوضعته على صخرة فانخفضت الصخرة له وصارت كالمهد وهي الآن موجودة تزار بحرم بيت المقدس، ثم بعد أيام
توجهت به إلى بحر الأردن فعمدته فيه وهو اليوم الذي يتخذه النصارى ويسمونه يوم الغطاس وهم يظنون أن المياه في ذلك اليوم تقدست فلذلك يغطسون في كل ماء، ومن زعم أنها ولدته بمصر قال: بكورة اهناس.
قيل: ونخلة مريم قائمة إلى اليوم، والظاهر أن النخلة كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها. وقيل: إن الله أنبت لها نخلة تعلقت بها. وروي أنها بلغت إلى موضع كان فيه جذع نخلة يابس بال أصله مدود لا رأس له ولا ثمر ولا خضرة، وأل إما لتعريف الجنس أو الداخلة على الأسماء الغالبة كأن تلك الصحراء كان بها جذع نخلة معروف فإذا قيل * (جذع النخلة) * فهم منه ذلك دون غير. وأرشدها تعالى إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها ولظهور تلك الآيات منها فتستقر نفسها وتقر عينها، فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه * (قالت ياليتنى مت قبل هاذا) * وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيغبنها ذلك، وهذا مباح وعلى هذا الحد تمنى عمر بن الخطاب وجماعة من الصالحين. وأما النهي عن ذلك فإنما هو لضر نزل بالبدن، وتقدم الخلاف من القراء في كسر الميم من مت وضمها في آل عمران، والنسي الشيء الحقير الذي من شأنه لا ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر وخرقة الطمث. وقرأ الجمهور بكسر النون وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح وهو ما من شأنه أن يذبح. وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وحفص بفتح النون. وقرأ محمد بن كعب القرظي: نسأ بكسر النون والهمز مكان الياء وهي قراءة نون الأعرابي. وقرأ بكر بن حبيب السهمي ومحمد بن كعب أيضا نسأ بفتح النون والهمز وهو مصدر من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء، فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذي لا يرى ولا يتميز من الماء.
وقال ابن عطية: وقرأ بكر بن حبيب نسا بفتح النون والسين من غير همز بناه على فعل كالقبض
172

والنفض. قال الفراء نسي ونسي لغتان كالوتر والوتر والفتح أحب إلي. وقال أبو علي الفارسي الكسر أعلى اللغتين. وقال ابن الأنباري: من كسر فهو اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض، ومنه فتح فمصدر نائب عن اسم كما يقال: رجل دنف ودنف والمكسور هو الوصف الصحيح والمفتوح مصدر يسد مسد الوصف، ويمكن أن يكونا لمعنى كالرطل والرطل والإشارة بقوله هذا إلى الحمل.
وقيل: * (قبل هاذا) * اليوم أو * (قبل هاذا) * الأمر الذي جرى: وقرأ الأعمش وأبو جعفر في رواية * (منسيا) * بكسر الميم اتباعا لحركة السين كما قالوا منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء. وقيل: تمنت ذلك لما لحقها من فرط الحياء على حكم العادة البشرية لا كراهة لحكم الله أو لشدة التكليف عليها إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة، وبضد ما قربت من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام، أو لحزنها على الناس أو يأثم الناس بسببها. وروي أنها سمعت نداء أخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت و * (قالت ياأيها * ليتنى * مت) *. وقال وهب: أنساها كرب الولادة وما سمعت من الناس بشارة الملائكة بعيسى.
وقرأ زر وعلقمة فخاطبها مكان * (فناداها) * وينبغي أن يكون تفسيرا لا قراءة لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، والمنادي الظاهر أنه عيسى أي فولدته فأنطقه الله وناداها أي حالة الوضع. وقيل: جبريل وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وقاله الحسن وأقسم على ذلك. قيل: وكان يقبل الولد كالقابلة. وقرأ ابن عباس * (فناداها) * ملك * (من تحتها) *. وقرأ البراء بن عازب وابن عباس والحسن وزيد بن علي والضحاك وعمرو بن ميمون ونافع وحمزة والكسائي وحفص * (من) * حرف جر. وقرأ الابنان والأبوان وعاصم وزر ومجاهد والجحدري والحسن وابن عباس في رواية عنهما * (من) * بفتح الميم بمعنى الذي و * (تحتها) * ظرف منصوب صلة لمن، وهو عيسى أي ناداها المولود قاله أبي والحسن وابن جبير ومجاهد و * (ءان) * حرف تفسير أي * (لا * تحزنى) * والسري في قول الجمهور الجدول. وقال الحسن وابن زيد وقتادة عظيما من الرجال له شأن. وروي أن الحسن فسر الآية فقال: أجل لقد جعله الله * (سريا) * كريما فقال حميد بن عبد الرحمن: يا أبا سعيد إنما يعني بالسري الجدول، فقال الحسن لهذه وأشباهها أحب قربك، ولكن غلبنا الأمراء.
ثم أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع. وقالت فرقة: بل كانت النخلة مطعمة رطبا. وقال السدي: كان الجذع مقطوعا وأجى تحته النهر لجنبه، والظاهر أن المكلم هو عيسى وأن الجذع كان يابسا وعلى هذا ظهرت لها آيات تسكن إليها وحزنها لم يكن لفقد الطعام والشراب حتى تتسلى بالأكل والشرب، ولكن لما ظهر في ذلك من خرق العادة حتى يتبين لقومها أن ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها. قال ابن عباس: كان جذعا نخرا فلما هزت إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف، ثم اخضر فصار بلحا، ثم احمر فصار زهوا ثم رطبا كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع من بين يديها لا يتسرح منه شيء. وإلى حرف بلا خلاف ويتعلق بقوله * (* وهزي) * وهذا جاء على خلاف ما تقرر في علم النحو من أن الفعل لا يتعدى إلى الضمير المتصل، وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا علم وهما لمدلول واحد لا يقال: ضربتك ولا زيد ضربه أي ضرب نفسه ولا ضربني إنما يؤتى في مثل هذه التراكيب بالنفس فتقول: ضربت نفسك وزيد ضرب نفسه وضربت نفسي والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا تقول: هززت إليك ولا زيد هز إليه ولا هززت إلى ولهذا زعموا في قول الشاعر:
* دع عنك نهيا صيح في حجراته
*
ولكن حديثا ما حدثت الرواحل
*
173

وفي قول الآخر:
* وهون عليك فإن الأمو
*
ر بكف الإله مقاديرها
*
إن عن وعلى ليسا حرفين وإنما هما اسمان ظرفان، وهذا ليس ببعيد لأن عن وعلى قد ثبت كونهما اسمين في قوله:
* من عن يمين الحبيا نظرة قبل
*
وفي قوله:
* غدت من عليه بعدما تم ظمؤها
*
وبعض النحويين زعم أن على لا تكون حرفا البتة، وأنها اسم في كل مواردها ونسب إلى سيبويه، ولا يمكن أن يدعي أن إلى تكون اسما لإجماع النحاة على حرفى تها كما قلنا. ونظير قوله تعالى * (أنزلنا إليك) * قوله تعالى * (واضمم إليك جناحك) * وعلى تقرير تلك القاعدة ينبغي تأويل هذين، وتأويله على أن يكون قوله * (إليك) * ليس متعلقا بهزي ولا باضم، وإنما ذلك على سبيل البيان والتقدير أعني إليك فهو متعلق بمحذوف كما قالوا في قوله * (إني لكما لمن الناصحين) * وما أشبهه على بعض التأويلات. والباء في * (بجذع) * زائدة للتأكيد كقوله * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *. قال أبو علي كما يقال: ألقى بيده أي ألقى يده. وكقوله:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
أي لا يقرأن السور. وأنشد الطبري:
* فؤاد يمان ينبت السدر صدره
*
وأسفله بالمرخ والسهان
*
وقال الزمخشري أو على معنى أفعلي الهز به. كقوله:
يخرج في عراقيبها نصلي
174

قالوا: التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذلك التحنيك، وقالوا: كان من العجوة قاله محمد بن كعب. وقيل: ما للنفساء خير من الرطب. وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب. وقرأ الجمهور * (تساقط) * بفتح التاء والسين وشدها بعد ألف وفتح القاف. وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب ومسروق وحمزة كذلك إلا أنهم خففوا السين. وقرأ حفص * (تساقط) * مضارع ساقطت. وقرأ أبو السمال تتساقط بتاءين. وقرأ البراء بن عازب والأعمش في رواية يساقط بالياء من تحت مضارع أساقط. وقرأ أبو حيوة ومسروق. تسقط بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف. وعن أبي حيوة كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعنه تسقط بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف، وعنه كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وقال بعضهم في قراءة أبي حيوة هذه أنه قرأ رطب جني بالرفع على الفاعلية، وأما النصب فإن قرأ بفعل متعد نصبه على المفعول أو بفعل لازم فنصبه على التمييز، ومن قرأ بالياء من تحت فالفعل مسند إلى الجذع، ومن قرأ بالتاء فمسند إلى النخلة، ويجوز أن يكون مسندا إلى الجذع على حد * (يلتقطه بعض السيارة) * وفي قراءة من قرأ يلتقطه بالتاء من فوق.
وأجاز المبرد في قوله * (رطبا) * أن يكون منصوبا بقوله * (* وهزي) * أي * (وهزى إليك بجذع النخلة) * رطبا تساقط عليك، فعلى هذا الذي أجازه تكون المسألة من باب الإعمال فيكون قد حذف معمول * (تساقط) * فمن قرأه بالياء من تحت فظاهر، ومن قرأ بالتاء من فوق فإن كان الفعل متعديا جاز أن يكون من باب الإعمال، وإن كان لازما فلا لاختلاف متعلق هزي إذ ذاك والفعل اللازم.
وقرأ طلحة بن سليمان * (جنيا) * بكسر الجيم إتباعا لحركة النون والرزق فإن كان مفروغا منه فقد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه، ولذلك أمرت مريم بهز الجذع وعلى هذا جاءت الشريعة وليس ذلك بمناف للتوكل.
وعن ابن زيد قال عيسى لها لا تحزني، فقالت: كيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس؟ * (قالت ياليتنى مت قبل هاذا) * الآية فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام * (فكلى واشربى وقرى عينا) *. قال الزمخشري: أي جمعنا لك في السري والرطب فائدتين إحداهما الأكل والشرب، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين وهو معنى قوله * (فكلى واشربى وقرى عينا) * أي وطيبي نفسا ولا تغتمي وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك انتهى. ولما كانت العادة
تقديم الأكل على الشرب تقدم في الآية والمجاورة قوله * (تساقط) * عليك رطبا جنيا) * ولما كان المحزون قد يأكل ويشرب قال: * (*) * ولما كان المحزون قد يأكل ويشرب قال: * (وقرى عينا) * أي لا تحزني، ثم ألقى إليها ما تقول إن رأت أحدا. وقرئ * (وقرى) * بكسر القاف وهي لغة نجدية وتقدم ذكرها.
وقرأ أبو عمرو في ما روي عنه ابن رومي ترئن بالإبدال من الياء همزة وروى عنه لترؤن بالهمز أيضا بدل الواو. قال ابن خالويه: وهو عند أكثر النحويين لحن. وقال الزمخشري: وهذا من لغة من يقول لتأت بالحج أصلهاوحلأت السويق وذلك لتأخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال انتهى. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة * (ترين) * بسكون الياء وفتح النون خفيفة. قال ابن جني: وهي شاذة يعني لأنه لم يؤثر الجازم فيحذف النون. كما قال الأفوه الأودي:
* أما ترى رأسي أزرى به
*
مأس زمان ذي انتكاس مؤوس
*
والآمر لها بالأكل والشرب وذلك القول الظاهر أنه ولدها. وقيل جبريل على الخلاف الذي سبق، والظاهر أنه
175

أبيح لها أن تقول ما أمرت بقوله وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى * (فقولى) * أي بالإشارة لا بالكلام وإلا فكان التناقض ينافي قولها انتهى. ولا تناقض لأن المعنى * (فلن أكلم اليوم إنسيا) * بعد * (قولي) * هذا وبين الشرط وجزائه جملة محذوفة يد عليه المعنى، أي * (فإما ترين من البشر أحدا) * وسألك أو حاورك الكلام * (فقولى) *.
وقرأ زيد بن علي صياما وفسر * (صوما) * بالإمساك عن الكلام. وفي مصحف عبد الله صمتا. وعن أنس بن مالك مثله. وقال السدي وابن زيد: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام انتهى. والصمت منهي عنه ولا يصح نذره. وفي الحديث: (مره فليتكلم). وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق وأمرت بنذر الصوم لأن عيسى بما يظهر الله عليه يكفيها أمر الاحتجاج ومجادلة السفهاء. وقوله * (إنسيا) * لأنها كانت تكلم الملائكة دون الإنس.
* (فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم * مريم * لقد جئت شيئا فريا فريا * ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا * قال إنى عبد الله ءاتانى الكتاب وجعلنى نبيا * وجعلنى مباركا أين ما كنت وأوصانى بالصلواة والزكواة ما دمت حيا * وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارا شقيا * والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) *.
* (فأتت به) * قيل إتيانها كان من ذاتها. قيل: طهرت من النفاس بعد أربعين يوما وكان الله تعالى قد أراها آيات واضحات، وكلمها عيسى ابنا وحنت إلى الوطن وعلمت أن عيسى سيكفيها من يكلمها فعادت إلى قومها. وقيل: أرسلوا إليها لتحضري إليها بولدك، وكان الشيطان قد أخبر قومها بولادتها وفي الكلام حذف أي فلما رأوها وابنها * (قالوا) * قال مجاهد والسدي: الفري العظيم الشنيع. وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية * (فريا) * بسكون الراء، وفيما نقل ابن خالويه فرئا بالهمز، و * (هارون) * شقيقها أو أخوها من أمها، وكان من أمثل بني إسرائيل، أو * (هارون) * أخو موسى إذ كانت من نسله، أو رجل صالح من بني إسرائيل شبهت به، أو رجل من النساء وشبهوها به أقوال. والأولى أنه أخوها الأقرب. وفي حديث المغيرة حين خصمه نصارى نجران في قوله تعالى * (فأرسل إلى هارون) * والمدة بينهما طويلة جدا فقال له الرسول: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم). وأنكروا عليها ما جاءت به وأن أبويها كانا صالحين، فكيف صدرت منك هذه الفعلة القبيحة وفي هذا دليل على أن الفروع غالبا تكون زاكية إذا زكت الأصول، وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك.
وقرأ عمر بن لجا التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريرا * (ما كان أبوك امرأ سوء) * لجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة وحسن ذلك قليلا كونها فيها مسوع جواز الابتداء وهو الإضافة، ولما اتهموها بما اتهموها نفوا عن أبويها السوء لمناسبة الولادة، ولم ينصوا على إثبات الصلاح وإن كان نفي السوء يوجب الصلاح ونفي البغاء يوجب العفة لأنهما بالنسبة إليهما نقيضان. روي أنها لما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك. وقيل: هموا برجمها حتى تكلم عيسى فتركوها.
* (فأشارت إليه) * أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه. وقيل: كان المستنطق لعيسى
176

زكريا. ويروى أنهم لما أشاروا إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة الإنكار والتهكم بها أي إن من كان في المهد يربي لا يكلم، وإنما أشارت إليه لما تقدم لها من وعده أنه يجيبهم عنها ويغنيها عن الكلام. وقيل: بوحي من الله إليها. و * (كان) * قال أبو عبيدة: زائدة. وقيل: تامة وينتصب * (صبيا) * على الحال في هذين القولين، والظاهر أنها ناقصة فتكون بمعنى صار أو تبقى على مدلولها من اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي، ولا يدل ذلك على الانقطاع كما لم يدل في قوله * (وكان الله غفورا رحيما) * وفي قوله * (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة) * والمعنى * (كان) * وهو الآن على ما كان، ولذلك عبر بعض أصحابنا عن * (كان) * هذه بأنها ترادف لم يزل وما رد به ابن الأنباري كونها زائدة من أن الزائدة لا خبر لها، وهذه نصبت * (صبيا) * خبرا لها ليس بشيء لأنه إذ ذاك ينتصب على الحال، والعامل فيها الاستقرار.
وقال الزمخشري: كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة والدال عليه معنى الكلام وأنه مسوق للتعجب، ووجه آخر أن يكون * (نكلم) * حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس * (صبيا) *.
* (فى المهد صبيا) * فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا انتهى. والظاهر أن * (من) * مفعول بنكلم. ونقل عن الفراء والزجاج أن * (من) * شرطية و * (كان) * في معنى يكن وجواب الشرط محذوف تقديره فكيف * (نكلم) * وهو قول بعيد جدا. وعن قتادة أن * (المهد) * حجر أمه. وقيل: سريره. وقيل: المكان الذي يستقر عليه. وروي أنه قام متكئا على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمني، وأنطقه الله تعالى أولا بقوله * (قال إنى عبد الله ءاتانى) * ردا للوهم الذي ذهبت إليه النصارى.
وفي قوله * (عبد الله) * والجمل التي بعده تنبيه على براءة أمه مما اتهمت به لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بالنبوة والخلال الحميدة إلا مبرأة مصطفاة و * (الكتاب) * الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما أقوال. وظاهر قوله * (وجعلنى نبيا) * أنه تعالى نبأه حال طفوليته أكمل الله عقله واستنبأه طفلا. وقيل: إن ذلك سبق في قضائه وسابق حكمه، ويحتمل أن يجعل الآتي لتحققه كأنه قد وجد * (وجعلنى مباركا) * قال مجاهد: نفاعا. وقال سفيان: معلم خير. وقيل: آمرا بمعروف، ناهيا عن منكر. وعن الضحاك: قضاء للحوائج * (ولو كنت) * شرط وجزاؤه محذوف تقديره * (وجعلنى مباركا) * وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولا لجعلني السابق لأن * (أين) * لا يكون إلا استفهاما أو شرطا لا جائز أن يكون هنا استفهاما، فتعينت الشرطية واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله إنما هو معمول للفعل الذي يليه، والظاهر حمل الصلاة والزكاة على ما شرع في البدن والمال. وقيل: * (الزكواة) * زكاة الرؤوس في الفطر. وقيل الصلاة الدعاء، و * (الزكواة) * التطهر.
و * (ما) * في * (ما دمت) * مصدرية ظرفية. وقال ابن عطية. وقرأ * (دمت) * بضم الدال عاصم وجماعة. وقرأ * (دمت) * بكسر الدال أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وانتهى والذي في كتب القراءات أن القراء السبعة قرؤوا * (دمت حيا) * بضم الدال، وقد طالعنا جملة من الشواذ فلم نجدها لا في شواذ السبعة ولا في شواذ غيرهم على أنها لغة تقول * (دمت) * تدام كما قالوا مت تمات، وسبق أنه قرىء * (وبرا) * بكسر الباء فإما على حذف مضاف أي وذا بر، وإما على المبالغة جعل ذاته من فرط بره، ويجوز أن يضمر فعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفنيها واحد، ومن قرأ * (وبرا) * بفتح الباء فقال الحوفي وأبو البقاء: إنه معطوف على * (مباركا) * وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي * (* أوصاني) * ومتعلقها، والأولى إضمار فعل أي وجعلني * (* برا) *. وحكى الزهراوي وأبو البقاء أنه قرىء وبر بكسر الباء والراء عطفا على * (نبيا وجعلنى مباركا) *.
وقوله: * (بوالدتى) * بيان محل البر وأنه لا والد له، وبهذا القول برأها قومها. والجبار كما تقدم المتعاظم وكان في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر
177

ويجلس على التراب حيث جنه الليل لا مسكن له، وكان يقول: سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي، والألف واللام في * (والسلام) * للجنس. قال الزمخشري: هذا التعريف تعريض بلعنة متهمي مريم وأعدائهما من اليهود، وحقيقته أن اللام للجنس فإذا قال: وجنس السلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم، ونظيره * (والسلام على من اتبع الهدى) * يعني إن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض. وقيل: أل لتعريف المنكر في قصة يحيى في قوله * (وسلام) * نحو * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا) * فعصى فرعون الرسول أي وذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلي. وسبق القول في تخصيص هذه المواطن.
وقرأ زيد بن علي * (يوم ولدت) * أي يوم ولدتني جعله ماضيا لحقته تاء التأنيث ورجح وسلام علي والسلام لكونه من الله وهذا من قول عيسى عليه السلام. وقيل: سلام عيسى أرجح لأنه تعالى أقامه في ذلك مقام نفسه فسلم نائبا عن الله.
2 (* (ذالك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم * فاختلف الا حزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم * أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لاكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين * وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الا مر وهم فى غفلة وهم لا يؤمنون * إنا نحن نرث الا رض ومن عليها وإلينا يرجعون) *)) 2
* (ذالك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم * فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم * أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لاكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين * وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الامر وهم فى غفلة وهم لا يؤمنون * إنا نحن نرث الارض ومن عليها وإلينا يرجعون) *.
الإشارة بذلك إلى المولود الذي ولدته مريم المتصف بتلك الأوصاف الجميلة، و * (ذالك) * مبتدأ و * (عيسى) * خبره و * (ابن مريم) * صفة لعيسى أو خبر بعد خبر أو بدل، والمقصود ثبوت بنوته من مريم خاصة من غير أب فليس بابن له كما يزعم النصارى ولا لغير رشدة كما يزعم اليهود. وقرأ زيد بن علي وابن عامر وعاصم وحمزة وابن أبي إسحاق والحسن ويعقوب * (قول الحق) * بنصب اللام، وانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي هذه الأخبار عن * (عيسى) * أنه * (ابن مريم) * ثابت صدق ليس منسوبا لغيرها، أي إنها ولدته من غير مس بشر كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل، أي أقول * (الحق) * وأقول قول * (الحق) * فيكون * (الحق) * هنا الصدق وهو من إضافة الموصوف إلى صفته أي القول * (الحق) * كما قال * (وعد الصدق) * أي الوعد الصدق وإن عنى به الله تعالى كان القول مرادا به الكلمة كما قالوا كلمة الله كان انتصابه على المدح وعلى هذا تكون الذي صفة للقول، وعلى الوجه الأول تكون * (الذى) * صفة للحق.
وقرأ الجمهور * (قول) * برفع اللام. وقرأ ابن مسعود والأعمش قال بألف ورفع اللام. وقرأ الحسن * (قول) * بضم القاف ورفع اللام وهي مصادر كالرهب والرهب والرهب وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو أي نسبته إلى أمه فقط * (قول الحق) * فتتفق إذ ذاك قراءة النصب وقراءة الرفع في المعنى.
وقال الزمخشري: وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو بدل انتهى. وهذا الذي ذكر لا يكون إلا على المجاز في قول وهو أن يراد به كلمة الله لأن
178

اللفظ لا يكون الذات. وقرأ طلحة والأعمش في رواية زائدة قال: بألف جعله فعلا ماضيا * (الحق) * برفع القاف على الفاعلية، والمعنى قال الحق وهو الله * (ذالك) * الناطق الموصوف بتلك الأوصاف هو * (عيسى ابن مريم) * و * (الذى) * على هذا خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي. وقرأ علي كرم الله وجهه والسلمي وداود بن أبي هند ونافع في رواية والكسائي في رواية * (تمترون) * بتاء الخطاب والجمهور بياء الغيبة، وامترى افتعل إما من المرية وهي الشك، وإما من المراء وهو المجادلة والملاحاة، وكلاهما مقول هنا قالت اليهود ساحر كذاب، وقالت النصارى ابن الله وثالثها ثلاثة وهو الله * (ما كان لله أن يتخذ من * ولده) * هذا تكذيب للنصارى في دعواهم أنه ابن الله، وإذا استحالت البنوة فاستحالة الإلهية مستقلة أو بالتثليث أبلغ في الاستحالة، وهذا التركيب معناه الانتفاء فتارة يدل من جهة المعنى على الزجر * (ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) * وتارة على التعجيز * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) * وتارة على التنزيه كهذه الآية، ولذلك أعقب هذا النفي بقوله * (سبحانه) * أي تنزه عن الولد إذ هو مما لا يتأتى ولا يتصور في المعقول ولا تتعلق به القدرة لاستجالته، إذ هو تعالى متى تعلقت إرادته بإيجاد شيء أو جده فهو منزه عن التوالد. وتقدم الكلام على الجملة من قوله * (إذا قضى أمرا) *.
وقرأ الجمهور * (وأن الله) * بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ أبي بالكسر دون واو، وقرأ الحرميان وأبو عمرو * (وأن) * بالواو وفتح الهمزة، وخرجه ابن عطية على أن يكون معطوفا على قوله هذا * (قول الحق) * * (وإن الله ربى) * كذلك. وخرجه الزمخشري على أن معناه ولأنه ربي وربكم فاعبدوه كقوله * (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) * انتهى. وهذا قول الخليل وسيبويه وفي حرف أبي أيضا، وبأن * (الله) * بالواو وباء الجر أي بسبب ذلك فاعبدوه. وأجاز الفراء في * (وأن) * يكون في موضع خفض معطوفا على والزكاة، أي * (وجعلنى مباركا أين) * وبأن الله ربي وربكم انتهى. وهذا في غاية البعد للفصل الكثير، وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى الأمر * (إن الله ربى وربكم) *.
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أن يكون المعنى، وقضى * (إن الله ربى وربكم) * فهي معطوفة على قوله * (أمرا) * من قوله * (إذا قضى أمرا) * والمعنى * (إذا قضى أمرا) * وقضى * (إن الله) * انتهى. وهذا تخبيط في الإعراب لأنه إذا كان معطوفا على * (أمرا) * كان في حيز الشرط، وكونه تعالى ربنا لا يتقيد بالشرط وهذا يبعد أن يكون قاله أبو عمرو بن العلاء فإنه من الجلالة في علم النحو بالمكان الذي قل أن يوازنه أحد مع كونه عربيا، ولعل ذلك من فهم أبي عبيدة فإنه يضعف في النحو والخطاب في قول * (وربكم) * قيل لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم) من اليهود والنصارى أمر الله تعالى أن يقول لهم * (ذالك عيسى ابن مريم) * أي قل لهم يا محمد هذا الكلام. وقيل: الخطاب للذين خاطبهم عيسى بقوله * (إنى عبد الله) * الآية وإن الله معطوف على الكتاب، وقد قال وهب عهد عيسى إليهم * (إن الله ربى وربكم) * ومن كسر الهمزة عطف على قوله * (إنى عبد الله) * فيكون محكيا. يقال: وعلى هذا القول يكون قوله * (ذالك عيسى ابن مريم * إلى * وأن الله) * حمل اعتراض أخبر الله تعالى بها رسوله عليه السلام.
والإشارة بقوله * (هاذا) * أي القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة، هو الطريق المستقيم الذي يفضي بقائله ومعتقده إلى النجاة * (فاختلف الاحزاب من بينهم) * هذا إخبار من الله للرسول بتفرق بني إسرائيل فرقا، ومعنى * (من بينهم) * أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين لم يقع الاختلاف سببه غيرهم. و * (الاحزاب) * قال الكلبي: اليهود والنصارى. وقال الحسن: الذين تحزبوا على الأنبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس انتهى. فالضمير في * (بينهم) * على هذا ليس عائدا على * (الاحزاب) *. وقيل: * (الاحزاب) * هنا المسلمون واليهود والنصارى. وقيل: هم النصارى فقط.
وعن قتادة إن بني إسرائيل جمعوا أربعة من أحبارهم. فقال أحدهم: عيسى هو الله نزل إلى الأرض وأحيا من أحيا وأمات من أمات، فكذبه الثلاثة واتبعته اليعقوبية. ثم قال أحد الثلاثة: عيسى ابن الله فكذبه الاثنان واتبعته النسطورية، وقال أحد الاثنين: عيسى أحد ثلاثة الله إله، ومريم إله، وعيسى إله فكذبه
179

الرابع وأتبعته الإسرائيلية. وقال الرابع: عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فاتبعته فرقة من بني إسرائيل ثم اقتتل الأربعة، فغلب المؤمنون وظهرت اليعقوبية على الجميع فروي أن في ذلك نزلت * (إن الذين يكفرون بآيات الله) * آية آل عمران، والأربعة يعقوب ونسطور وملكا وإسرائيل.
وبين هنا أصله ظرف استعمل اسما بدخول * (من) * عليه. وقيل: * (من) * زائدة. وقيل البين هنا البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق. و * (مشهد) * مفعل من الشهود وهو الحضور أو من الشهادة ويكون مصدرا ومكانا وزمانا، فمن الشهود يجوز أن يكون المعنى من شهود هول الحساب والجزاء في يوم القيامة، وإن يكون من مكان الشهود فيه وهو الموقف، وأن يكون من وقت الشهود ومن الشهادة، يجوز أن يكون المعنى من شهادة ذلك اليوم وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر، وأن يكون من مكان الشهادة، وأن يكون من وقت الشهادة واليوم العظيم على هذه الاحتمالات يوم القيامة. وعن قتادة: هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وقيل ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه يوم اختلافهم، وتقدم الكلام على التعجب الوارد من الله في قوله تعالى * (فما أصبرهم على النار) * وأنه لا يوصف بالتعجب.
قال الحسن وقتادة: لئن كانوا صما وبكما عن الحق فما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة، ولكنهم يسمعون ويبصرون حيث لا ينفعهم السمع ولا البصر. وعن ابن عباس أنهم أسمع شيء وأبصره. وقال علي بن عيسى: هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم، ويبصرون ما يسود وجوههم. وعن أبي العالية: إنه أمر حقيقة للرسول أي * (أسمع) * الناس اليوم وأبصرهم * (بهم) * وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذا أتوا محشورين مغلولين * (لاكن الظالمون) * عموم يندرج فيه هؤلاء الأحزاب الكفارة وغيرهم من الظالمين، و * (اليوم) * أي في دار الدنيا. وقال الزمخشري: أوقع الظاهر أعني الظالمين موقع الضمير إشعارا بأن لا ظلم أشد
من ظلمهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ويسعدهم، والمراد بالضلال المبين إغفال النظر والاستماع انتهى.
* (وأنذرهم) * خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم) والضمير لجميع الناس. وقيل: يعود على الظالمين. و * (يوم الحسرة) * يوم ذبح الموت وفيه حديث. وعن ابن زيد: يوم القيامة. وقيل: حين يصدر الفريقان إلى الجنة والنار وعن ابن مسعود: حين يرى الكفارة مقاعدهم التي فاتتهم من الجنة لو كانوا مؤمنين. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون * (يوم الحسرة) * اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة، ومنها يوم الموت، ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك انتهى.
و * (إذ) * بد من * (يوم الحسرة) *. قال السدي وابن جريج: * (قضى الامر) * ذبح الموت. وقال مقاتل: قضى العذاب. وقال ابن الأنباري المعنى * (إذ قضى الامر) * الذي فيه هلاككم. وقال الضحاك: يكون ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر. وعن ابن جريج أيضا: إذا فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وقيل * (إذا * قال * اخسئوا فيها ولا تكلمون) *. وقيل: إذا يقال * (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) * وقيل: إذا قضى سد باب التوبة وذلك حين تطلع الشمس من مغربها.
* (وهم فى غفلة) *. قال الزمخشري: متعلق بقوله * (فى ضلال مبين) * عن الحسن * (وأنذرهم) * إعراض وهو متعلق بأنذرهم أي * (وأنذرهم) * على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. وقال ابن عطية: * (وهم فى غفلة) * يريد في الدنيا الآن * (وهم لا يؤمنون) * كذلك انتهى. وعلى هذا يكون حالا والعامل فيه * (وأنذرهم) * والمعنى أنهم مشتغلون بأمور دنياهم معرضون عما يراد منهم، والظاهر أن يكون المراد بقوله * (وقضى الامر) * أمر يوم القيامة.
* (إنا نحن نرث الارض ومن عليها) * تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها وراثة. وقرأ الجمهور * (يرجعون) * بالياء من تحت مبنيا
180

للمفعول، والأعرج بالتاء من فوق. وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق وعيسى بالياء من تحت مبينا للفاعل على وحكى عنهم الداني بالتاء.
* (واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لابيه ياأبت صديقا نبيا * إذ قال لابيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا * ياأبت إنى قد جاءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعنى أهدك صراطا سويا * ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا * ياأبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا * قال أراغب أنت عن الهتى ياإبراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرنى مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بى حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا * ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا) *.
* (واذكر) * خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم)، والمراد أتل عليهم نبأ * (إبراهيم) * وذاكره ومورده في التنزيل هو الله تعالى، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة مريم وابنها عيسى واختلاف الأحزاب فيهما وعبادتهما من دون الله، وكانا من قبيل من قامت بهما الحياة ذكر الفريق الضال الذي عبد جمادا والفرى قان وإن اشتركا في الضلال، والفريق العابد الجماد أضل ثم ذكر قصة إبراهيم مع أبيه عليه السلام تذكيرا للعرب بما كان إبراهيم عليه من توحيد الله وتبيين أنهم سالكو غير طريقه، وفيه صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيما أخبر به وأن ذلك متلقى بالوحي والصديق من أبنية المبالغة وهو مبني من الثلاثي للمبالغة أي كثير الصدق، والصدق عرفه في اللسان ويقابله الكذب، وقد يستعمل في الأفعال والخلق وفيما لا يعقل يقال: صدقني الطعام كذا وكذا قفيزا، وعود صدق للصلب الجيد فوصف إبراهيم بالصدق على العموم في أقواله وأفعاله، والصديقية مراتب ألا ترى إلى وصف المؤمنين بها في قوله * (من النبيين والصديقين) * ومن غريب النقل ما ذهب إليه بعض النحويين من أن فعيلا إذا كان من متعد جاز أن يعمل فتقول هذا شريب مسكر كما أعملوا عند البصريين فعولا وفعالا ومفعالا.
وقال الزمخشري: والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقا لجميع الأنبياء وكتبهم وكان * (نبيا) * في نفسه لقوله تعالى * (بل جاء بالحق وصدق المرسلين) * وكان بليغ في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك، وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله أعني * (إبراهيم) *.
و * (إذ قال) * نحو قولك: رأيت زيدا ونعم الرجل أخاك، ويجوز أن تتعلق * (إذ) * بكان أو ب * (صديقا نبيا) * أي كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات
181

انتهى. فالتخريج الأول يقتضي تصرف * (إذ) * وقد تقدم لنا أنها لا تتصرف، والتخريج الثاني مبني على أن كان لنا قصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلاف. والتخريج الثالث لا يصح لأن العمل لا ينسب إلا إلى لفظ واحد، أما أن ينسب إلى مركب من مجموع لفظين فلا، وجائز أن يكون معمولا لصديقا لأنه نعت إلا على رأي الكوفيين، ويحتمل أن يكون معمولا لنبيا أي منبأ في وقت قوله لأبيه ما قال، وأن التنبئة كانت في ذلك الوقت وهو بعيد.
وقرأ أبو البر هثيم إنه كان صادقا. وفي قوله * (* يا أبت) * تلطف واستدعاء بالنسب. وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر * (* يا أبت) * بفتح التاء وقد لحن هارون هذه القراءة، وتقدم الكلام على * (* يا أبت) * في سورة يوسف عليه السلام، وفي مصحف عبد الله وا أبت بواو بدل ياء، واستفهم إبراهيم عليه السلام عن السبب الحامل لأبيه على عبادة الصنم وهو منتف عنه السمع والبصر والإغناء عنه شيئا تنبيها على شنعة الرأي وقبحه وفساده في عبادة من انتف عنه هذه الأوصاف.
وخطب الزمخشري فقال: انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقل وانسلخ عن قضية التمييز كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك نصيحة ربه جل وعلا. حدث أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار
، تدخل مداخل الأبرار)، كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس، وأدنيه من جواري. وسرد الزمخشري بعد هذا كلاما كثيرا من نوع الخطابة تركناه.
و * (لم تعبد ما لا يسمع) * الظاهر أنها موصولة، وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ومعمول * (يسمع) * و * (يبصر) * منسي ولا ينوي أي ما ليس به استماع ولا إبصار لأن المقصود نفي هاتين الصفتين دون تقييد بمتعلق. و * (شيئا) *. إما مصدر أو مفعول به، ولما سأله عن العلة في عبادة الصنم ولا يمكن أن يجد جوابا، انتقل معه إلى إخباره بأنه قد جاءه من العلم ما لم يأته ولم يصف أباه بالجهل إذ يغني عنه السؤال السابق. وقال * (من العلم) * على سبيل التبعيض أي شيء من العلم ليس معك، وهذه المحاورة تدل على أن ذلك كان بعدما نبىء، إذ في لفظ * (جاءنى) * تجدد العلم، والذي جاءه الوحي الذي أتى به الملك أو العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها أو توحيد الله وإفراده بالألوهية والعبادة أقوال ثلاثة * (فاتبعنى) * على توحيد الله بالعبادة وارفض الأصنام * (أهدك صراطا * مستقيما) * وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة. وانتقل من أمره باتباعه إلى نهيه عن عبادة الشيطان وعبادته كونه يطيعه في عبادة الأصنام ثم نفره عن عبادة الشيطان بأنه كان عصيا للرحمن، حيث استعصى حين أمره بالسجود لآدم فأبى، فهو عدو لك ولأبيك آدم من قبل. وكان لفظ الرحمن هنا تنبيها على سعة رحمته، وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى، وإعلاما بشقاوة الشيطان حيث عصى من هذه صفته وارتكب من ذلك ما طرده من هذه الرحمة، وإن كان مختارا لنفسه عصيان ربه لا يختار لذريته من عصى لأجله إلا ما اختار لنفسه من عصيانهم.
* (إليك لاقتلك إنى أخاف) * قال الفراء والطبري * (أخاف) * أعلم كما قال * (فخشينا أن يرهقهما) * أي تيقنا، والأولى حمل * (أخاف) * على موضوعه الأصلي لأنه لم يكن آيسا من إيمانه بل كان راجيا له وخائفا أن لا يؤمن وأن يتمادى على الكفر فيمسه العذاب، وخوفه إبراهيم سوء العاقبة وتأدب معه إذ لم يصرح بلحوق العذاب به بل أخرج ذلك مخرج الخائف، وأتى بلفظ المس الذي هو ألطف من المعاقبة ونكر العذاب، ورتب على مس العذاب ما هو أكبر منه وهو
182

ولاية الشيطان كما قال في مقابل ذلك * (ورضوان من الله أكبر) * أي من النعيم السابق ذكره، وصدر كل نصيحة بقوله * (* يا أبت) * توصلا إليه واستعطافا.
وقيل: الولاية هنا كونه مقرونا معه في الآخرة وإن تباغضا وتبرأ بعضهما من بعض. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير إني أخاف أن تكون وليا في الدنيا للشيطان فيمسك في الآخرة عذاب من الرحمن. وقوله * (إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان) * لا يعين أن العذاب يكون في الآخرة، بل يحتمل أن يحمل العذاب على الخذلان من الله فيصير مواليا للشيطان، ويحتمل أن يكون مس العذاب في الدنيا بأن يبتلى على كفره بعذاب في الدنيا فيكون ذلك العذاب سببا لتماديه على الكفر وصيرورته إلى ولاية الشيطان إلى أن يوافي على الكفر كما قال * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) * وهذه المناصحات تدل على شدة تعلق قلبه بمعالجة أبيه، والطماعية في هدايته قضاء لحق الأبوة وإشادا إلى الهدى (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم).
* (قال) * أي أبوه * (أراغب أنت عن الهتى ياإبراهيم * إبراهيم) * استفهم استفهام إنكار، والرغبة عن الشيء تركه عمدا وآلهته أصنامه، وأغلظ له في هذا الإنكار وناداه باسمه ولم يقابل * (* يا أبت) * بيا بني. قال الزمخشري: وقدم الخبر على المبتدأ في قوله * (وليا قال أراغب أنت عن الهتى) * لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعني وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وإن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم) عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه انتهى. والمختار في إعراب * (أراغب أنت) * أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام، و * (أنت) * فاعل سد مسد الخبر، ويترجح هذا الإعراب على ما أعربه الزمخشري من كون * (أراغب) * خبرا و * (أنت) * مبتدأ بوجهين:
أحدهما: أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ.
والثاني: أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو * (أراغب) * وبين معموله الذي هو * (عن الهتى) * بما ليس بمعمول للعامل، لأن الخبر ليس هو عاملا في المبتدأ بخلاف كون * (أنت) * فاعلا فإن معمول * (أراغب) * فلم يفصل بين * (أراغب) * وبين * (عن الهتى) * بأجنبي إنما فصل بمعمول له.
ولما أنكر عليه رغبته عن آلهته توعده مقسما على إنفاذ ما توعده به إن لم ينته ومتعلق * (تنته) * محذوف واحتمل أن يكون عن مخاطبتي بما خاطبتني به ودعوتني إليه، وأن يكون * (لئن لم تنته) * عن الرغبة عن آلهتي * (لارجمنك) * جواب القسم المحذوف قبل * (لئن) *. قال الحسن: بالحجارة. وقيل: لأقتلنك. وقال السدي والضحاك وابن جريج: لأشتمنك.
قال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف * (واهجرنى) *؟ قلت: على معطوف عليه محذوف يدل عليه * (لارجمنك) * أي فاحذرني * (واهجرنى) * لأن * (لارجمنك) * تهديد وتقريع انتهى. وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه، وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإنشائية. فقوله * (واهجرنى) * معطوف على قوله * (لئن لم تنته لارجمنك) * وكلاهما معمول للقول. وانتصب * (مليا) * على الظرف أي دهرا طويلا قاله الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما، ومنه الملوان وهما الليل والنهار والملاوة بتثليث حركة الميم الدهر الطويل من قولهم: أمليت لفلان في الأمر إذا أطلت له. وقال الشاعر:
* فعسنا بها من الشباب ملاوة
*
فالحج آيات الرسول المحبب
*
وقال سيبويه: سير عليه ملي من الدهر أي زمان طويل. وقال ابن عباس وغيره: * (مليا) * معناه سالم سويا
183

فهو حال من فاعل * (واهجرنى) *. قال ابن عطية: وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستندا بحالك غنيا عني * (مليا) * بالاكتفاء. وقال السدي: معناه أبدا. ومنه قول مهلهل:
* فتصدعت صم الجبال لموته
*
وبكت عليه المرملات مليا
*
وقال ابن جبير: دهر، وأصل الحرف المكث يقال: تمليت حينا. وقال الزمخشري: أو * (مليا) * بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرخ فلان ملي بكذا إذا كان مطيقا له مضطلعا به انتهى.
* (قال سلام عليك) *. قرأ أبو البرهثيم: سلاما بالنصب. قال الجمهور: هذا بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية، أي أمنة مني لك وهؤلاء لا يرون ابتداء الكافر بالسلام. وقال النقاش حليم: خاطب سفيها كقوله * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *. وقيل: هي تحية مفارق، وجوز قائل هذا تحية الكافر وإن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلا بقوله تعالى * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم) * الآية وبقوله * (قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم) * الآية.
و * (قال) * إبراهيم لأبيه * (سلام عليك) * وما استدل به متأول، ومذهبهم محجوج بما ثبت في صحيح مسلم: (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام) ورفع * (سلام) * على الابتداء ونصبه على المصدر، أي سلمت سلاما دعاء له بالسلامة على سبيل الاستمالة، ثم وعده بالاستغفار وذلك يكون بشرط حصول ما يمكن معه الاستغفار وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة، وهذا كما يرد الأمر والنهي على الكافر ولا يصح الامتثال إلا بشرط الإيمان. ومعنى * (سأستغفر لك) * أدعو الله في هدايتك فيغفر لك بالإيمان ولا يتأول على إبراهيم عليه السلام أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام أول نبي أوحي إليه أن الله لا يغفر لكافر لأن هذه الطريقة إنما طريقها السمع، وكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه، وذلك أنه إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهين: إما بموته على الكفر كما روي، وإما أن يوحي إليه الحتم عليه.
وقال الزمخشري: ولقائل أن يقول الذي يمنع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع، فأما القضية العقلية فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضية العقل، والذي يدل على صحته قوله تعالى * (إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك) * فلو كان شارطا للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجبت فيه الأسرة. وقول من قال إنما استغفر له لأنه وعده أن يؤمن من مستدلا بقوله * (إلا عن موعدة وعدها إياه) * فجعل الواعد آزر والموعود إبراهيم عليه السلام ليس بجيد لاعتقابه في هذه الآية الوعد بالاستغفار بعد ذلك القول الجافي من قوله * (لئن لم تنته) * الآية. فكيف يكون وعده بالإيمان؟ ولأن الواعد هو إبراهيم ويدل عليه قراءة حماد الراوية وعدها إياه.
والحفي المكرم المحتفل الكثير البر والألطاف، وتقدم شرحه لغة في قوله * (كأنك حفى عنها) *. وقال ابن عباس: رحيما. وقال الكلبي: حليما. وقال القتبي: بارا. وقال السدي: حفيك من يهمه أمرك، ولما كان في قوله * (لارجمنك) * فظاظة وقساوة قلب قابله بالدعاء له بالسلام والأمن ووعده بالاستغفار قضاء لحق الأبوة، وإن كان قد صدر منه إغلاظ. ولما أمره بهجره الزمان الطويل أخبره بأنه يتمثل أمره ويعتزله وقومه ومعبوداتهم، فهاجر إلى الشام قيل أو إلى حران وكانوا بأرض كوثاء، وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر، والأظهر أن قوله
184

* (وأدعو ربى) * معناه وأعبد ربي كما جاء في الحديث: (الدعاء العبادة) لقوله * (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله) * ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء * (رب هب لى حكما) * إلى آخره، وعرض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله * (عسى أن * لا * أكون بدعاء ربى شقيا) * مع التواضع لله في كلمة * (عسى) * وما فيه من هضم النفس. وفي * (عسى) * ترج في ضمنه خوف شديد، ولما فارق الكفار وأرضهم أبدله منهم أولادا أنبياء، والأرض المقدسة فكان فيها ويتردد إلى مكة فولد له إسحاق وابنه يعقوب تسلية له وشدا لعضده، وإسحاق أصغر من إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة ثم حملت بإسحاق.
وقوله * (من رحمتنا) * قال الحسن: هي النبوة. وقال الكلبي: المال والولد، والأحسن أن يكون الخير الديني والدنيوي من العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة. ولسان الصدق: الثناء الحسن الباقي عليهم آخر الإبد قاله ابن عباس، وعبر باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية. واللسان في كلام العرب الرسالة الرائعة كانت في خير أو شر. قال الشاعر:
إني أتتني لسان لا أسر بها
وقال آخر:
ندمت على لسان كان مني
ولسان العرب لغتهم وكلامهم. استجاب الله دعوته * (واجعل لى لسان صدق) * في الآخرين فصيره قدوة حتى عظمه أهل الأديان كلهم وادعوه. وقال تعالى * (ملة أبيكم إبراهيم) * و * (ملة إبراهيم حنيفا) * * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * وأعطى ذلك ذريته فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم، كما أعلى ذكرهم وأثنى عليهم كما أعلى ذكره وأثنى عليه.
جثا: قعد على ركبتيه، وهي قعدة الخائف الذليل يجثو ويجثي جثوا وجثاية. حتم الأمر: أوجبه. الندى والنادي: المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة. وقيل: مجلس أهل الندى وهو الكرم. وقيل: المجلس فيه الجماعة. قال حاتم:
* فدعيت في أولى الندى
*
ولم ينظر إلي بأعين خزر
*
الري: مصدر رويت من الماء، واسم مفعول أي مروي قاله أبو علي. الزي: محاسن مجموعة من الزي وهو الجمع. كلا: حرف ردع وزجر عند الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد وعامة البصريين، وذهب الكسائي ونصر بن يوسف وابن واصل وابن الأنباري إلى أنها بمعنى حقا، وذهب النضر بن شميل إلى أنها حرف تصديق بمعنى نعم، وقد تستعمل مع القسم. وذهب عبد الله بن محمد الباهلي إلى أن كلا رد لما قبلها فيجوز الوقف عليها وما بعدها استئناف، وتكون أيضا صلة للكلام بمنزلة إي والكلام على هذه المذاهب مذكور في النحو. الضد: العون يقال: من أضداد أي أعوانكم، وكان العون سمي ضدا لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه: الأز والهز والاستفزاز أخوات، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج، ومنه أزيز المرجل وهو غليانه وحركته. وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة: قدم على سبيل التكرمة، الأد والإد: بفتح الهمزة وكسرها العجب. وقيل: العظيم المنكر والأدة الشدة، وأدني الأمر وآدني أثقلني وعظم علي أدا. الهد: قال الجوهري هدا البناء هدا كسره. وقال المبرد: هو سقوط بصوت شديد، والهدة صوت وقع الحائط ونحوه يقال: هديهد بالكسر هديدا. وقال الليث: الهد الهدم الشديد. الركز: الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح غيب طرفه في الأرض، والركاز المال المدفون. وقيل: الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم. قال الشاعر:
* فتوجست ركز الأنيس فراعها
*
عن ظهر غيب والأنيس سقامها
*
* (واذكر فى الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا * وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا * ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا * واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلواة والزكواة وكان عند ربه مرضيا * واذكر فى الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا * ورفعناه مكانا عليا * أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية * ءادم * وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسراءيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم ءايات الرحمان خروا سجدا وبكيا) *. (سقط: فخلف من بعدهم خلفا أضاع إلى آخر الصفحة،)
185

(سقط: الصفحة كاملة)
186

(سقط: استئناف، وتكون أيضا إلى السطر 13)
قرأ الكوفيون * (مخلصا) * بفتح اللام وهي قراءة أبي رزين ويحيى وقتادة، أي أخلصه الله للعبادة والنبوة. كما قال تعالى * (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) *. وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسر اللام أي أخلص العبادة عن الشرك والرياء، أو أخلص نفسه وأسلم وجهه لله. ونداؤه إياه هو تكليمه تعالى إياه.
187

و * (الطور) * الجبل المشهور بالشام، والظاهر أن * (الايمان) * صفة للجانب لقوله في آية أخرى * (جانب الطور الايمن) * بنصب الأيمن نعتا لجانب الطور، والجبل نفسه لا يمنة له ولا يسرة ولكن كان على يمين موسى بحسب وقوفه فيه، وإن كان من اليمن احتمل أن يكون صفة للجانب وهو الراجح ليوافق ذلك في الآيتين، واحتمل أن يكون صفة للطور إذ معناه الأسعد المبارك.
قال ابن القشيري: في الكلام حذف وتقديره * (وناديناه) * حين أقبل من مدين ورأى النار من الشجرة وهو يريد من يهديه إلى طريق مصر * (من جانب الطور) * أي من ناحية الجبل. * (وقربناه نجيا) * قال الجمهور: تقريب التشريف والكلام واليوم. وقال ابن عباس: أدنى موسى من الملكوت ورفعت له الحجب حتى سمع صريف الأقلام، وقاله أبو العالية وميسرة. وقال سعيد: أردفه جبريل عليه السلام. قال الزمخشري: شبهه بمن قربه بعض العظماء للمناجاة حيث كلمه بغير واسطة ملك انتهى. ونجي فعيل من المناجاة بمعنى مناج كالجليس، وهو المنفرد بالمناجاة وهي المسارة بالقول. وقال قتادة: معنى نجاه صدقه ومن في من رحمتنا للسبب أي من أجل رحمتنا له أو للتبعيض أي بعض رحمتنا.
قال الزمخشري: و * (أخاه) * على هذا الوجه بدل و * (هارون) * عطف بيان كقولك رأيت رجلا أخاك زيدا انتهى. والذي يظهر أن أخاه مفعول بقوله * (ووهبنا) * ولا ترادف من بعضا فتبدل منها، وكان هارون أسن من موسى طلب من الله أن يشد أزره بنبوته ومعونته فأجابه و * (إسماعيل) * هو ابن إبراهيم أبو
العرب يمينها ومضريها وهو قول الجمهور. وقيل: إنه إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فشجوا جلدة رأسه فخيره فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته، وصدق وعده أنه كانت منه مواعيد لله وللناس فوفى بالجميع، فلذلك خص بصدق الوعد. قال ابن جريج: لم يعد ربه موعدة إلا أنجزها، فمن مواعيده الصبر وتسليم نفسه للذبح، ووعد رجلا أن يقيم له بمكان فغاب عنه مدة. قيل: سنة. وقيل: اثني عشر يوما فجاءه، فقال: أما برحت من مكانك؟ فقال: لا والله، ما كنت لأخلف موعدي.
* (وكان يأمر أهله) *. قال الحسن: قومه وأمته، وفي مصحف عبد الله وكان يأمر قومه. وقال الزمخشري: كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، ولأنهم أولى من سائر الناس * (وأنذر عشيرتك الاقربين) * و * (أمر * وأمر أهلك) * * (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * أي ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم بالإحسان الديني أولى. وقيل: * (أهله) * أمته كلهم من القرابة وغيرهم، لأن أمم النبيين في عداد أهاليهم، وفيه أن حق الصالح أن لا يألو نصحا للأجانب فضلا عن الأقارب والمتصلين به، وأن يخطيهم بالفوائد الدينية ولا يفرط في ذلك انتهى. وقال أيضا ذكر إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له وإكراما كالتلقيب نحو الحليم الأواه والصديق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.
وقرأ الجمهور * (رضيا) * وهو اسم مفعول أي مرضوو فأعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة، والساكن ليس بحاجز حصين فكأنها وليت حركة، ولو بنيت من ذوات الواو مفعلا لصار مفعلا لأن الواو لا تكون طرفا وقبلها متحرك في الأسماء المتمكنة غير المتقيدة بالإضافة، ألا ترى أنهم حين سموا بيغزو الغازي من الضمير قالوا: بغز حين صار اسما، وهذا الإعلال أرجح من التصحيح، ولأنه اعتل في رضي وفي رضيان تثنية رضي. وقرأ ابن أبي عبلة: مرضوا مصححا. وقالت العرب: أرض مسنية ومسنوة، وهي التي تستقي بالسواني.
و * (إدريس) * هو جد أبي نوح وهو أخنوخ، وهو أول من نظر في النجوم والحساب، وجعله الله من معجزاته وأول
188

من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط، وكان خياطا وكانوا قبل يلبسون الجلود، وأول مرسل بعد آدم وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل. وقال ابن مسعود: هو إلياس بعث إلى قومه بأن يقولوا لا إلاه إلا الله ويعملوا ما شاؤوا فأبوا وأهلكوا. و * (إدريس) * اسم أعجمي منع من الصرف للعلمية والعجمة، ولا جائز أن يكون إفعيلا من الدرس كما قال بعضهم لأنه كان يجب صرفه إذ ليس فيه إلا سبب واحد وهو العلمية.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون معنى * (إدريس) * في تلك اللغة قريبا من ذلك أي من معنى الدرس، فحسبه القائل مشتقا من الدرس. والمكان العلي شرف النبوة والزلفى عند الله، وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة انتهى. وقاله جماعة وهو رفع النبوة والتشريف والمنزلة في السماء كسائر الأنبياء. وقيل: بل رفع إلى السماء. قال ابن عباس: كان ذلك بأمر الله كما رفع عيسى كان له خليل من الملائكة فحمله على جناحه وصعد به حتى بلغ السماء الرابعة، فلقي هنالك ملك الموت فقال له: إنه قيل لي اهبط إلى السماء الرابعة فاقبض فيها روح إدريس وإتي لأعجب كيف يكون هذا، فقال له الملك الصاعد: هذا إدريس معي فقبض روحه. وروي أن هذا كله كان في السماء السادسة قاله ابن عباس. وكذلك هي رتبته في حديث الإسراء في بعض الروايات من حديث أبي هريرة وأنس يقتضي أنه في السماء الرابعة. وعن الحسن: إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة. وقال قتادة: يعبد الله مع الملائكة في السماء السابعة، وتارة يرفع في الجنة حيث شاء. وقال مقاتل: هو ميت في السماء.
* (أولائك) * إشارة إلى من تقدم ذكره في هذه السورة من الأنبياء و * (من) * في * (من النبيين) * للبيان، لأن جميع الأنبياء منعم عليهم و * (من) * الثانية للتبعيض، وكان إدريس * (من ذرية * ءادم) * لقربه منه لأنه جد أبي نوح وإبراهيم من ذرية من حمل من نوح، لأنه من ولد سام بن نوح * (ومن ذرية إبراهيم) * إسحاق وإسماعيل ويعقوب وإسرائيل معطوف على إبراهيم، وزكريا ويحيى وموسى وهارون من ذرية إسرائيل، وكذلك عيسى لأن مريم من ذريته.
* (وممن هدينا) * يحتمل العطف على * (من) * الأولى أو الثانية، والظاهر أن * (الذين) * خبر لأولئك. * (وإذا تتلى) * كلام مستأنف، ويجوز أن يكون * (الذين) * صفة لأولئك والجملة الشرطية خبر. وقرأ الجمهور * (تتلى) * بتاء التأنيث. وقرأ عبد الله وأبو جعفر وشيبة وشبل بن عباد وأبو حيوة وعبد الله بن أحمد العجلي عن حمزة وقتيبة في رواية وورش في رواية النحاس، وابن ذكوان في رواية التغلي بالياء. وانتصب * (سجدا) * على الحال المقدرة قاله الزجاج لأنه حال خروره لا يكون ساجدا، والبكي جمع باك كشاهد وشهود، ولا يحفظ فيه جمعه المقيس وهو فعلة كرام ورماة والقياس يقتضيه.
وقرأ الجمهور * (* بكيا) * بضم الباء وعبد الله ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي بكسرها اتباعا لحركة الكاف كعصي ودلي، والذي يظهر أنه جمع لمناسبة الجمع قبله. قيل: ويجوز أن يكون مصدر البكا بمعنى بمكاء، وأصله بكو وكجلس جلوسا. وقال ابن عطية: و * (* بكيا) * بكسر الباء وهو مصدر لا يحتمل غير ذلك انتهى. وقوله ليس بسديد لأن اتباع حركة الكاف لا تعين المصدرية، ألا تراهم قروؤا * (جهنم جثيا) * بكسر الجيم جمع جاث، وقالوا عصي فاتبعوا.
* (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب وءامن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون * شيئا * جنات عدن التى وعد الرحمان عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا * لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا * تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا * وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذالك وما كان ربك نسيا * رب) *.
نزل * (فخلف) * في اليهود عن ابن عباس ومقاتل، وفيهم وفي النصارى عن السدي، وفي قوم من أمة الرسول يأتون عند ذهاب صالحيها يتبارزون بالزنا ينزو في الأزقة بعضهم على بعض عن مجاهد وقتادة وعطاء ومحمد بن كعب القرظي. وعن وهب: هم شرابو القهوة،
189

وتقدم الكلام على * (خلف) * في الأعراف، وإضاعة الصلاة تأخيرها عن وقتها قاله ابن مسعود والنخعي والقاسم بن مخيمرة ومجاهد وإبراهيم وعمر بن عبد العزيز.
وقال القرظي واختاره الزجاج: إضاعتها الإخلال بشروطها. وقيل: إقامتها في غير الجماعات. وقيل: عدم اعتقاد وجوبها. وقيل: تعطيل المساجد والاشتغال بالصنائع. والأسباب، و * (الشهوات) * عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وذكر الله. وعن علي من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور. وقرأ عبد الله والحسن وأبو رزين العقيلي والضحاك وابن مقسم الصلوات جمعا. والغي عند العرب كل شر، والرشاد كل خير. قال الشاعر:
* فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
*
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما وقال الزجاج: هو على حذف مضاف أي جزاء غي كقوله * (يلق أثاما) * أي مجازة آثام. وقال ابن زيد: الغي الخسران والحصول في الورطات. وقال عبد الله بن عمرو وابن مسعود وكعب: غي واد في جهنم. وقال ابن زيد: ضلال. وقال الزمخشري: أو * (غيا) * عن طريق الجنة. وحكى الكرماني: آبار في جهنم يسيل إليها الصديد والقيح. وقيل: هلاك. وقيل: شر. وقرئ فيما حكى الأخفش * (يلقون) * بضم الياء وفتح اللام وشد القاف.
*
* (إلا من تاب) * استثناء ظاهره الاتصال. وقال الزجاج: منقطع * (وامن) * هذا يدل على أن تلك الإضاعة كفر، وقرأ الحسن * (يدخلون) * مبنيا للفاعل، وكذا كل ما في القرآن من * (يدخلون) *. وقرأ كذلك هنا الزهري وحميد وشيبة والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان. وقرأ ابن غزوان عن طلحة: سيدخلون بسين الاستقبال مبنيا للفاعل.
وقرأ الجمهور جنات نصبا جمعا بدلا من * (الجنة) * * (ولا يظلمون شيئا) * اعتراض أو حال. وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر والأعمش وأحمد بن موسى عن أبي عمر و * (جنات) * رفعا جمعا أي تلك جنات وقال الزمخشري الرفع على الابتداء انتهى يعني والخبر * (التى) *. وقرأ الحسن بن حي وعلي بن صالح جنة عدن نصبا مفردا ورويت عن الأعمش وهي كذلك في مصحف عبد الله. وقرأ اليماني والحسن وإسحاق الأزرق عن حمزة جنة رفعا مفردا و * (عدن) * إن كان علما شخصيا كان التي نعتا لما أضيف إلى * (عدن) * وإن كان المعنى إقامة كان * (التى) * بدلا.
وقال الزمخشري: * (عدن) * معرفة علم لمعنى العدن وهو الإقامة، كما جعلوا فينة وسحر وأمس في من لم يصرفه أعلاما لمعاني الفينة والسحر والأمس، فجرى العدن كذلك. أو هو علم الأرض الجنة لكونها مكان إقامة، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة، ولما ساغ وصفها بالتي انتهى.
وما ذكره متعقب. أما دعواه أن عدنا علم لمعنى العدن فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب، وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه. وأما قوله ولولا ذلك إلى قوله موصوفة فليس مذهب البصريين لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم تكن موصوفة، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع علم ما بيناه في كتبنا في النحو، فملازمته فاسدة. وأما قوله: ولما ساغ وصفها
190

بالتي فلا يتعين كون التي صفة، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلا و * (بالغيب) * حال أي وعدها وهي غائبة عنهم أو وهم غائبون عنها لا يشاهدونها، ويحتمل أن تكون الباء للسبب أي بتصديق الغيب والإيمان به. وقال أبو مسلم: المراد الذين يكونون عبادا بالغيب أي الذين يعبدونه في السر، والظاهر أن * (وعده) * مصدر. فقيل: * (مأتيا) * بمعنى آتيا. وقيل: هو على موضوعه من أنه اسم المفعول. وقال الزمخشري: * (مأتيا) * مفعول بمعنى فاعل، والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها، أو هو من قولك أتى إليه إحسانا أي كان وعده مفعولا منجزا، والقول الثاني وهو قوله: والوجه مأخوذ من قول ابن جريج قال: * (وعده) * هنا موعوده وهو الجنة، و * (مأتيا) * يأتيه أولياؤه انتهى.
* (إلا سلاما) * استثناء منقطع وهو قول الملائكة * (سلام عليكم بما صبرتم) *. وقيل: يسلم الله عليهم عند دخولها. ومعنى * (بكرة وعشيا) * يأتيهم طعامهم مرتين في مقدار اليوم والليلة من الزمن. وقال مجاهد: لا بكرة ولا عشي ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا. وقد ذكر نحوه قتادة أن تكون مخاطبة بما تعرف العرب في رفاهة العيش. وقال الحسن: خوطبوا على ما كانت العرب تعلم من أفضل العيش، وذلك أن كثيرا من العرب إنما كان يجد الطعام المرة في اليوم، وكان عيش أكثرهم من شجر البرية ومن الحيوان. وقال الزمخشري: اللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته، وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) * الآية أي أن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم * (لغوا) * فلا يسمعون لغوا إلا ذلك فهو من وادي قوله:
* ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
*
بهن فلول من قراع الكتائب أو * (لا يسمعون فيها) * إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة على الاستثناء المنقطع، أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، ودار السلام هي دار السلامة وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء. فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الكلام. وقال أيضا: ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير. ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداء وعشاء. وقيل: أراد دوام الرزق ودروره كما تقول: أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا، ولا يقصد الوقتين المعلومين انتهى.
*
وقرأ الجمهور * (نورث) * مضارع أورث، والأعمش نورثها بإبراز الضمير العائد على الموصول، والحسن والأعرج وقتادة ورويس وحميد وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمر وبفتح الواو وتشديد الراء. والتوريث استعارة أي تبقى عليه الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث، والأتقياء يلقون ربهم قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى. وقيل: أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا.
* (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * أبطأ جبريل عن الرسول مرة، فلما جاء قال: (يا جبريل قداشتقت إليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا)؟ فنزلت. وقال مجاهد والضحاك: سببها أن جبريل عليه السلام تأخر في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف وهي كالتي في الضحى، وتنزل تفعل وهي للمطاوعة وهي أحد معاني تفعل، تقول: نزلته فتنزل فتكون لمواصلة العمل في مهلة، وقد تكون لا يلحظ فيه ذلك إذا كان بمعنى المجرد كقولهم: تعدى
191

الشيء وعداه ولا يكون مطاوعا فيكون تنزل في معنى نزل. كما قال الشاعر:
* فلست لأنسى ولكن لملاك
*
تنزل من جو السماء يصوب
*
وقال الزمخشري: التنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق. كقوله:
فلست لأنسى البيت
لأنه مطاوع نزل ونزل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل، والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت انتهى.
وقال ابن عطية: وهذه الواو التي في قوله * (وما نتنزل) * هي عاطفة جملة كلام على أخرى واصلة بين القولين، وإن لم يكن معناهما واحدا. وحكى النقاش عن قوم أن قوله و * (ما * نتنزل) * متصل بقوله * (إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا) * وهذا قول ضعيف انتهى.
والذي يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة زكريا ومريم وذكر إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ثم ذكر أنهم أنعم تعالى عليهم وقال * (ومن ذرية إبراهيم) * وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) من ذرية إبراهيم، وذكر تعالى أنه خلف بعد هؤلاء خلف وهم اليهود والنصارى أصحاب الكتب لأن غيرهم لا يقال فيهم أضاعوا الصلاة إنما يقال ذلك فيمن كانت له شريعة فرض عليهم فيها الصلاة بوحي من الله تعالى، وكان اليهود هم سبب سؤال قريش للنبي صلى الله عليه وسلم) تلك المسائل الثلاث، وأبطأ الوحي عنه ففرحت بذلك قريش واليهود وكان ذلك من اتباع شهواتهم، هذا وهم عالمون بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فأنزل الله تعالى * (وما نتنزل) * تنبيها على قصة قريش واليهود، وأن أصل تلك القصة إنما حدثت من أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وختما لقصص أولئك المنعم عليهم لمخاطبة أشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم) واستعذارا من جبريل عليه السلام للرسول بأن ذلك الإبطاء لم يكن منه إذ لا يتنزل إلا بأمر الله تعالى، ولما كان إبطاء الوحي سببه قصة السؤال وكونه صلى الله عليه وسلم) لم يقرن أن يجيبهم بالمشيئة، وكان السؤال متسببا عن اتباع اليهود شهواتهم وخفيات خبثهم اكتفى بذكر النتيجة المتأخرة عن ذكر ما آثرته شهواتهم الدنيوية وخبثهم.
قال أبو العالية: ما بين الأيدي الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى، وما خلف ذلك الآخرة من وقت البعث، وما بين ذلك ما بين النفختين. قال ابن عطية: وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم، وهذه المقالة هي للملائكة فتأمله. وقال ابن جريج: ما بين الأيدي هو ما مر من الزمان قبل الإيجاد، وما خلف هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة، وما بين ذلك هو مدة الحياة. وفي كتاب التحرير والتحبير * (ما بين أيدينا) * الآخرة * (وما خلفنا) * الدنيا رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير وقتادة ومقاتل وسفيان. وقال مجاهد: عكسه. وقال الأخفش: * (ما بين أيدينا) * قبل أن نخلق * (وما خلفنا) * بعد الفناء * (وما بين ذالك) * ما بين الدنيا والآخرة. وقال مجاهد وعكرمة وأبو العالية: ما بين النفختين. وقال الأخفش: حين كوننا. وقال صاحب الغينان: * (ما بين أيدينا) * نزول الملائكة من السماء، * (وما خلفنا) * من الأرض * (وما بين ذالك) * ما بين السماء والأرض. قال ابن القشيري مثل قول ابن جريج، ثم قال: حصر الأزمنة الثلاثة وهي أن كلها لله هو منشئها ومدبر أمرها على ما يشاء من تقديم إنزال وتأخيره انتهى. وفيه بعض تلخيص وتصرف.
وقال ابن عطية: إنما القصد الإشعار بملك الله تعالى لملائكته، وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم له، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد بما بين الأيدي وما خلف الأمكنة التي فيها تصرفهم والمراد بما بين ذلك هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجها كأنه قال: نحن مقيدون بالقدرة لا ننتقل ولا نتنزل إلا بأمر ربك انتهى. وما قاله فيه ابن عطية له إلى آخره ذهب إلى نحوه الزمخشري قال له: ما قدامنا وما خلفنا من الجهات والأماكن. وما بين
192

ذلك فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته، والمعنى أنه محيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادرا عما توجبه حكمته ويأمرنا ويأذن لنا فيه انتهى. وقال البغوي: له علم ما بين أيدينا.
وقال أبو مسلم وابن بحر: * (وما نتنزل) * الآية ليس من كلام الملائكة وإنما هو من كلام أهل الجنة بعضهم لبعض إذا دخلوها وهي متصلة بالآية الأولى إلى قوله * (وما بين ذالك) * أي ما ننزل الجنة إلا بأمر ربك له * (ما بين أيدينا) * أي في الجنة مستقبلا * (وما خلفنا) * مما كان في الدنيا وما بينهما أي ما بين الوقتين. وحكى الزمخشري هذا القول فقال: وقيل هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة أي وما ننزل الجنة إلا بإذن من الله علينا بثواب أعمالنا وأرنا بدخولها وهو الملك
لرقاب الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازي عليها.
ثم قال تعالى تقريرا لهم * (وما كان ربك نسيا) * لأعمال العاملين غافلا عما يجب أن يثابوا به، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذي ملكوت السماوات والأرض وما بينهما انتهى. وقال القاضي: هذا مخالف للظاهر من وجوه.
أحدهما: أن ظاهر التنزيل نزول الملائكة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ولقوله * (بأمر ربك) * فظاهر الأمر بحال التكليف أليق.
وثانيها: خطاب من جماعة لواحد، وذلك لا يليق بمخاطبة بعضهم لبعض في الجنة.
وثالثها: أن ما في مساقه * (وما كان ربك نسيا * رب * السماوات والارض * وما بينهما) * لا يليق بحال التكليف ولا يوصف به الرسول انتهى.
وقرأ الجمهور * (وما نتنزل) * بالنون عنى جبريل نفسه والملائكة. وقرأ الأعرج بالياء على أنه خبر من الله. قيل: والضمير في يتنزل عائد على جبريل عليه السلام. قال ابن عطية: ويرده له * (ما بين أيدينا) * لأنه لا يطرد معه وإنما يتجه أن يكون خبرا عن جبريل أن القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل، والضمير للوحي انتهى. ويحمل ذلك القول على إضمار أي وما يتنزل جبريل إلا بأمر ربك قائلا له * (ما بين أيدينا) * أي يقول ذلك على سبيل الاستعذار في البطء عنك بأن ربك متصرف فينا ليس لنا أن نتصرف إلا بمشيئته، وإخبار أنه تعالى ليس بناسيك وإن تأخر عنك الوحي.
وارتفع * (رب * السماوات) * على البدل أو على خبر مبتدأ محذوف. وقرأ الجمهور * (هل تعلم) * بإظهار اللام عند التاء. وقرأ الأخوان وهشام وعلي بن نصر وهارون كلاهما عن أبي عمرو والحسن والأعمش وعيسى وابن محيصن بالإدغام فيهما. قال أبو عبيدة هما لغتان وعلى الإدغام أنشدوا بيت مزاحم العقيلي:
* فذرذا ولكن هثعين متيما
*
على ضوء برق آخر الليل ناصب وعدي فاصطبر باللام على سبيل التضمين أي أثبت بالصبر لعبادته لأن العبادة تورد شدائد، فاثبت لها وأصله التعدية بعلى كقوله تعالى * (واصطبر عليها) * والسمي من توافق في الاسم تقول: هذا سميك أي اسمه مثل اسمك، فالمعنى أنه لم يسم بلفظ الله شيء قط، وكان المشركون يسمون أصنامهم آلهة والعزى إله وأما لفظ الله فلم يطلقوه على شيء من أصنامهم. وعن ابن عباس: لا يسمى أحد الرحمن غيره. وقيل: يحتمل أن يعود ذلك على قوله * (رب * السماوات والارض * وما بينهما) * أي هل تعلم من يسمى أو يوصف بهذا الوصف، أي ليس أحد من الأمم يسمى
193

شيئا بهذا الاسم سوى الله. وقال مجاهد وابن جبير وقتادة * (سميا) * مثلا وشبيها، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا. قال ابن عطية: وكان السمي بمعنى المسامي والمضاهي فهو من السمو، وهذا قول حسن ولا يحسن في ذكر يحيى انتهى. يعني لم نجعل له من قبل * (سميا) *. وقال غيره: يقال فلان سمي فلان إذا شاركه في اللفظ، وسميه إذا كان مماثلا له في صفاته الجميلة ومناقبه. ومنه قول الشاعر:
*
فأنت سمي للزبير ولست للزبير
سميا إذ غدا ما له مثل
*
وقال الزجاج: هل تعلم أحدا يستحق أن يقال له خالق وقادرا إلا هو. وقال الضحاك: ولدا ردا على من يقول ولد الله.
* (ويقول الإنسان) *.
قيل: سبب النزول أن رجلا من قريش قيل هو أبي بن خلف جاء بعظم رفات فنفخ فيه، وقال للرسول: أيبعث هذا؟ وكذب وسخر، وإسناد هذه المقالة للجنس بما صدر من بعضهم. كقول الفرزدق:
* فسيف بني عبس وقد ضربوا به
*
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله نبا بيدي، ورقاء وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، أو للجنس الكافر المنكر للبعث أو المعنى أبي بن خلف، أو العاصي بن وائل، أو أبو جهل، أو الوليد بن المغيرة أقوال.
*
وقرأ الجمهور * (* أئذا) * بهمزة الاستفهام. وقرأت فرقة منهم ابن ذكوان بخلاف عنه إذا بدون همزة الاستفهام. وقرأ الجمهور * (مت لسوف) * باللام. وقرأ طلحة بن مصرف سأخرج بغير لام وسين الاستقبال عوض سوف، فعلى قراءته تكون إذا معمولا لقوله سأخرج لأن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده من الفعل فيما قبله، على أن فيه خلافا شاذا وصاحبه محجوج بالسماع. قال الشاعر:
* فلما رأته آمنا هان وجدها
*
وقالت أبونا هكذا سوف يفعل
*
فهكذا منصوب بينفعل وهو بحرف الاستقبال. وحكى الزمخشري أن طلحة بن مصرف قرأ لسأخرج، وأما على قراءة الجمهور وما نقله الزمخشري من قراءة طلحة فاللام لام الابتداء فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فيقدر العالمل محذوفا من معنى * (لسوف أخرج) * تقديره إذا ما مت أبعث.
وقال الزمخشري: فإن قلت لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلت: لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض، واضمحل عنها معنى التعريف انتهى.
وما ذكر من أن اللام تعطي معنى الحال
194

مخالف فيه، فعلى مذهب من لا يقول ذلك يسقط السؤال، وأما قوله كما أخلصت الهمزة إلى آخره فليس ذلك إلا على مذهب من يزعم أن الأصل فيه أله، وأما من يزعم أن أصله لاه فلا تكون الهمزة فيه للتعويض إذ لم يحذف منه شيء، ولو قلنا إن أصله إله وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض، إذ لو كانت للعوض من المحذوف لثبتت دائما في النداء وغيره، ولما جاز حذفها في النداء قالوا: يا الله بحذفها وقد نصوا على أن قطع همزة الوصل في النداء شاذ. وقال ابن عطية: واللام في قوله * (لسوف) * مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى كأن قائلا قال للكافر: إذا مت يا فلان لسوف تخرج حيا، فقرر الكلام على الكلام على جهة الاستبعاد، وكرر اللام حكاية للقول الأول انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التقدير ولا أن هذا حكاية لقول تقدم، بل هذا من الكافر استفهام فيه معنى الجحد والإنكار، ومن قرأ إذا ما أن تكون حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليه، وإما أن يكون إخبارا على سبيل الهزء والسخرية بمن يقول ذلك إذ لم يرد به مطابقة للفظ للمعنى. وقرأ الجمهور * (أخرج) * مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن وأبو حيوة مبنيا للفاعل. وقال الزمخشري: وإيلاؤه أي وإيلاء الظرف حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم فهو كقولك للمسيء إلى المحسن أحين تمت عليك نعمة فلأن أسأت إليه.
وقرأ أبو بحرية والحسن وشيبة وابن أبي ليلى وابن مناذر وأبو حاتم ومن السبعة عاصم وابن عامر ونافع * (أو لا * يذكر) * خفيفا مضارع ذكر. وقرأ باقي السبعة بفتح الذال والكاف وتشديدهما أصله يتذكر أدغم التاء في الذال. وقرأ أبي يتذكر على الأصل. قال الزمخشري: الواو عاطفة لا يذكر على يقول، وسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف انتهى. وهذا رجوع منه إلى مذهب الجماعة من أن حرف العطف إذا تقدمته الهمزة فإنما عطف ما بعدها على ما قبلها، وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام، وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة والحرف ما يصلح أن يعطف عليه ما بعد الواو الهمزة على حالها، وليست مقدمة من تأخير وقد رددنا عليه هذه المقالة.
* (أنا خلقناه من قبل) * أي أنشأناه واخترعناه من العدم الصرف إلى الوجود، فكيف ينكر النشأة الثانية وهذه الحجة في غاية الاختصار والإلزام للخصم، ويسمى هذا النوع الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي، وقد تكرر هذا الاحتجاج في القرآن: * (ولم يك شيئا) * إشارة إلى العدم الصرف وانتفاء الشيئية عنه يدل على أن المعدوم لا يسمى شيئا. وقال أبو علي الفارسي: * (ولم يك شيئا) * موجود أو هي نزعة اعتزالية والمحذوف المضاف إليه * (قبل) * في التقدير قدره بعضهم * (من قبل) * بعثه، وقدره الزمخشري * (من قبل) * الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه انتهى.
ولما أقام تعالى الحجة الدامغة على حقية البعث أقسم على ذلك باسمه مضافا إلى رسوله تشريفا له وتفخيما، وقد تكرر هذا القسم في القرآن تعظيما لحقه ورفعا منه كما رفع من شأن السماء والأرض بقوله * (فورب السماء والارض إنه لحق) * والواو في * (والشياطين) * للعطف أو بمعنى مع يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة وهذا إذا كان الضمير في * (لنحشرنهم) * للكفرة وهو قول ابن عطية وما جاء بعد ذلك فهو من الإخبار عنهم وبدأ به الزمخشري، والظاهر أنه عام للخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم ولم يفرق بين المؤمنين والكافرين كما فرق في الجزاء، وأحضروا جميعا وأوردوا النار ليعاين المؤمنون الأهوال التي نجوا منها فيسروا بذلك ويشمتوا بأعدائهم الكفار، وإذا كان الضمير عاما فالمعنى يتجاثون عند موافاة شاطىء جهنم كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التوافق للحساب قبل الوصول إلى الثواب والعقاب. وقال تعالى في حالة الموقف * (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها) * و * (جثيا) * حال مقدرة. وعن ابن عباس: قعودا، وعنه
195

جماعات جمع جثوة وهو المجموع من التراب والحجارة. وقال مجاهد والحسن والزجاج: على الركب. وقال السدي قياما على الركب لضيق المكان بهم.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص * (جثيا) * و * (عتيا) * و * (صليا) * بكسر الجيم والعين والصاد والجمهور بضمها * (ثم لننزعن) * أي لنخرجن كقوله * (ونزع يده) *. وقيل: لنرمين من نزع القوس وهو الرمي بالسهم، والشيعة الجماعة المرتبطة بمذهب. قال أبو الأحوص: يبدأ بالأكابر فالأكابر جرما. وقال الزمخشري: يمتاز من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب فقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم، والضمير في * (أيهم) * عائد على المحشورين المحضرين. وقرأ الجمهور * (أيهم) * بالرفع وهي حركة بناء على مذهب سيبويه، فأيهم مفعول بننزعن وهي موصولة: و * (أشد) * خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة لأيهم وحركة إعراب على مذهب الخليل ويونس على اختلاف في التخريج. و * (أيهم أشد) * مبتدأ وخبر محكي على مذهب الخليل أي الذين يقال فيهم * (أيهم أشد) *. وفي موضع نصب فيعلق عنه * (لننزعن) * على مذهب يونس، والترجيح بين هذه المذاهب مذكور في علم النحو. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون النزع واقعا على من كل شيعة كقوله * (ووهبنا لهم من رحمتنا) * أي * (لننزعن) * بعض * (كل
شيعة) * فكأن قائلا قال: من هم؟ فقيل إنهم أشد * (عتيا) * انتهى. فتكون * (أيهم) * موصولة خبر مبتدأ محذوف، وهذا تكلف وادعاء إضمار لا ضرورة تدعو إليه، وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين، وقرن الخليل تخريجه بقول الشاعر:
* ولقد أبيت من الفتاة بمنزل
*
فأبيت لا حرج ولا محروم
*
أي فأبيت يقال في لا حرج ولا محروم، ورجح الزجاج قول الخليل وذكر عنه النحاس أنه غلط سيبويه في هذه المسألة. قال سيبويه: ويلزم على هذا أن يجوز اضرب السارق الخبيث الذي يقال له قبل، وليس بلازم من حيث هذه أسماء مفردة والآية جملة وتسلط الفعل على المفرد أعظم منه على الجملة. ومذهب الكسائي أن معنى * (لننزعن) * لنناذين فعومل معاملته فلم تعمل في أي انتهى. ونقل هذا عن الفراء. قال المهدوي: ونادى تعلق إذا كان بعده جملة نصب فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ. وقال المبرد: * (أيهم) * متعلق بشيعة، فلذلك ارتفع والمعنى من الذين تشايعوا * (أيهم أشد) * كأنهم يتبادرون إلى هذا، ويلزم أن يقدر مفعولا * (لننزعن) * محذوفا وقدر أيضا في هذا المذهب من الذين تشايعوا * (أيهم) * أي من الذين تعاونوا فنظروا * (أيهم أشد) *. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقد حكى الكسائي أن التشايع هو التعاون.
وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول: في * (أيهم) * معنى الشرط، تقول: ضربت القوم أيهم غضب، والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا فعلى هذا يكون التقدير إن اشتد عتوهم أو لم يشتد. وقرأ طلحة بن مصرف ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء وزائدة عن الأعمش * (أيهم) * بالنصب مفعولا بلننزعن، وهاتان القراءتان تدلان على أن مذهب سيبويه أنه لا يتحتم فيها البناء إذا أضيفت وحذف صدر صلتها، وقد نقل عنه تحتم البناء وينبغي أن يكون فيه على مذهبه البناء والإعراب. قال أبو عمرو الجرمي: خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحدا يقول لأضربن أيهم قائم بالضم بل بنصبها انتهى. وقال أبو جعفر النحاس: وما علمت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه، وسمعت أبا إسحاق يعني الزجاج يقول: ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلا في
196

موضعين هذا أحدهما. قال: وقد أعرب سيبويه أيا وهي مفردة لأنها تضاف فكيف يبنيها وهي مضافة؟.
و * (على الرحمان) * متعلق بأشد. و * (عتيا) * تمييز محول من المبتدأ تقديره * (أيهم) * هو عتوه * (أشد على الرحمان) * وفي الكلام حذف تقديره فيلقيه في أشد العذاب، أو فيبدأ بعذابه ثم بمن دونه إلى آخرهم عذابا. وفي الحديث: (إنه تبدو عنق من النار فتقول: إني أمرت بكل جبار عنيد فتلتقطهم). وفي بعض الآثار: (يحضرون جميعا حول جهنم مسلسلين مغلولين ثم يقدم الأكفر فالأكفر). قال ابن عباس: * (عتيا) * جراءة. وقال مجاهد: فجرا. وقيل: افتراء بلغة تميم. وقيل: * (عتيا) * جمع عات فانتصابه على الحال.
* (ثم لنحن أعلم) * أي نحن في ذلك النزع لا نضع شيئا غير موضعه، لأنا قد أحطنا علما بكل واحد فأولى بصلى النار نعلمه. قال ابن جريج: أولى بالخلود. وقال الكلبي * (صليا) * دخولا. وقيل: لزوما. وقيل: جمع صال فانتصب على الحال وبها متعلق بأولى. والواو في قوله * (وإن منكم) * للعطف. وقال ابن عطية: * (وإن منكم إلا واردها) * قسم والواو تقتضيه، ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم): (من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القسم). انتهى. وذهل عن قول النحويين أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بأن، والجواب هنا جاء على زعمه بأن النافية فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا. وقوله والواو تقتضيه يدل على أنها عنده واو القسم، ولا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار، ولا يجوز ذلك إلا إن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما أولوا في قولهم: نعم السير على بئس العير، أي على عير بئس العير. وقول الشاعر:
والله ما زيد بنام صاحبه
أي برجل نام صاحبه. وهذه الآية ليست من هذا الضرب إذ لم يحذف المقسم به وقامت صفته مقامه.
وقرأ الجمهور * (منكم) * بكاف الخطاب، والظاهر أنه عام للخلق وأنه ليس الورود الدخول لجميعهم، فعن ابن مسعود والحسن وقتادة هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها. وعن ابن عباس: قد يرد الشيء ولم يدخله كقوله * (ولما ورد ماء مدين) * ووردت القافلة البلد ولم تدخله، ولكن قربت منه أو وصلت إليه. قال الشاعر:
* فلما وردن الماء زرقا جمامة
*
وضعن عصى الحاضر المتخيم
*
وتقول العرب: وردنا ماء بني تميم وبني كلب إذا حضروهم ودخلوا بلادهم، وليس يراد به الماء بعينه. وقيل: الخطاب للكفار أي قل لهم يا محمد فيكون الورود في
حقهم الدخول، وعلى قول من قال الخطاب عام وأن المؤمنين والكافرين يدخلون النار ولكن لا تضر المؤمنين، وذكروا كيفية دخول المؤمنين النار بما لا يعجبني نقله في كتابي هذا الشناعة قولهم أن المؤمنين يدخلون النار وإن لم تضرهم.
وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعة وإن منهم: بالهاء للغيبة على ما تقدم من الضمائر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالورود جثوهم حولها وإن أريد الكفار خاصة فالمعنى بين، واسم * (كان) * مضمر يعود على الورود أي كان ورودهم حتما أي واجبا قضي به. وقرأ الجمهور * (ثم) * بحرف العطف وهذا يدل
197

على أن الورود عام. وقرأ عبد الله وابن عباس وأبي وعلي والجحدري وابن أبي ليلى ومعاوية بن قرة ويعقوب ثم بفتح الثاء أي هناك، ووقف ابن أبي ليلى ثمة بهاء السكت. وقرأ الجمهور: * (ننجى) * بفتح النون وتشديد الجيم. وقرأ يحيى والأعمش والكسائي وابن محيصن بإسكان النون وتخفيف الجيم. وقرأت فرقة نجي بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة. وقرأ علي: ننحي بحاء مهملة مضارع نحى، ومفعول * (اتقوا) * محذوف أي الشرك والظلم هنا ظلم الكفر.
* (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات) * نزلت في النضر بن الحارث وأصحابه، كان فقراء الصحابة في خشونة عيش ورثاثة سربال والمشركون يدهنون رؤوسهم ويرجلون شعورهم ويلبسون الحرير وفاخر الملابس، فقالوا للمؤمنين: * (أى الفريقين خير مقاما) * أي منزلا وسكنا * (وأحسن نديا) * ولما أقام الحجة على منكري البعث وأتبعه بما يكون يوم القيامة أخبر عنهم أنهم عارضوا تلك الحجة الدامغة بحسن شارتهم في الدنيا، وذلك عندهم يدل على كرامتهم على الله. وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن يتلي بالياء والجمهور بالتاء من فوق كان المؤمن يتلو على الكافر القرآن وينوه بآيات النبي صلى الله عليه وسلم) فيقول الكافر: إنما يحسن الله لأحب الخلق إليه وينعم على أهل الحق، ونحن قد أنعم علينا دونكم فنحن أغنياء وأنتم فقراء، ونحن أحسن مجلسا وأجمل شارة.
ومعنى * (بينات) * مرتلات الألفاظ ملخصات المعاني أو ظاهرات الإعجاز أو حججا وبراهين. و * (بينات) * حال مؤكدة لأن آياته تعالى لا تكون إلا بهذا الوصف دائما. وقرأ الجمهور * (مقاما) * بفتح الميم. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد والجعفي وأبو حاتم عن أبي عمر وبضم الميم واحتمل الفتح والضم أن يكون مصدرا أو موضع قيام أو إقامة، وانتصابه على التمييز. ثم ذكر تعالى كثرة ما أهلك من القرون ممن كان أحسن حالا منهم في الدنيا تنبيها على أنه تعالى يهلكهم ويستأصل شأفتهم كما فعل بغيرهم واتعاظا لهم إن كانوا ممن يتعظ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من حسن الأثاث والري، ويعني إهلاك تكذيب لما جاءت به الرسل. و * (من قرن) * تبيين لكم و * (كم) * مفعول بأهلكنا.
وقال الزمخشري: و * (هم أحسن) * في محل النصب صفة لكم. ألا ترى أنك لو تركت * (هم) * لم يكن لك بد من نصب * (أحسن) * على الوصفية انتهى. وتابعه أبو البقاء على أن * (هم أحسن) * صفة لكم، ونص أصحابنا على أن * (كم) * الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها، فعلى هذا يكون * (هم أحسن) * في موضع الصفة لقرن، وجمع لأن القرن هو مشتمل على أفراد كثيرة فروعي معناه، ولو أفرد الضمير على اللفظ لكان عربيا فصار كلفظ جميع. قال * (لما جميع لدينا محضرون) * وقال: نحن جميع منتصر فوصفه بالجمع وبالمفرد وتقدم تفسير الأثاث في سورة النحل.
وقرأ الجمهور * (* ورئيا) * بالهمزة من رؤية العين فعل بمعنى مفعول كالطحن والسقي. وقال ابن عباس: الرئي المنظر. وقال الحسن: معناه صورا. وقال الزهري وأبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية الهمداني وأيواب وابن سعدان وابن ذكوان وقالون وريا بتشديد الياء من غير همز، فاحتمل أن يكون مهموز الأصل من الرواء والمنظر سهلت همزته بإبدالها ياء ثم أدغمت الياء في الياء، واحتمل أن يكون من الري ضد العطش لأن الريان من الماء له من الحسن والنضارة ما يستحب ويستحن، كماله منظر حسن من وجه آخر مما يرى ويقابل. وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش عن عاصم وحميد * (* ورئيا) * بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعا، وكأنه من راء. قال الشاعر:
* وكل خليل راءني فهو قائل
*
من أجل هذا هامة اليوم أو غد
198

وقرئ ورياء بياء بعدها ألف بعدها همزة، حكاهها اليزيدي وأصله ورئاء من المراءاة أي يرى بعضهم بعضا حسنه. وقرأ ابن عباس، فيما روي عنه طلحة وريا من غير همز ولا تشديد، فتجاسر بعض الناس وقال هي لحن وليس كذلك بل لها توجيه بأن تكون من الرواء، وقلب فصار * (* ورئيا) * ثم نقلت حركة الهمزة إلى الياء وحذفت، أو بأن تكون من الري وحذفت إحدى الياءين تخفيفا كما حذفت في لا سيما، والمحذوفة الثانية لأنها لام الكلمة لأن النقل إنما حصل للكلمة بانضمامها إلى الأولى فهي أولى بالحذف. وقرأ ابن عباس أيضا وابن جبير ويزيد البربري والأعسم المكي وزيا بالزاي مشدد الياء وهي البزة الحسنة، والآلات المجتمعة المستحسنة.
*
* (قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمان مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا * ويزيد الله الذين اهتدوا هدى * والبقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا * أفرأيت الذى كفر بئاياتنا وقال لاوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا * واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *.
* (فليمدد) * يحتمل أن يكون على معناه من الطلب ويكون دعاء، وكان المعنى الأضل منا ومنكم مد الله له، أي أملى له حتى يؤول إلى عذابه. وكان الدعاء على صيغة الطلب لأنه الأصل، ويحتمل أن يكون خبرا في المعنى وصورته صورة الأمر، كأنه يقول: من كان ضالا من الأمم فعادة الله له أنه يمدد له ولا يعاجله حتى
يفضي ذلك إلى عذابه في الآخرة. وقال الزمخشري: أخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك، وإنه مفعول لا محالة كالمأمور به الممتثل ليقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة * (أو لم * نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) * أو كقوله * (إنما نملى لهم ليزدادوا إثما) * والظاهر أن * (حتى) * غاية لقوله * (فليمدد) * والمعنى إن الذين في الضلالة ممدود لهم فيها إلى أن يعاينوا العذاب بنصرة الله المؤمنين أو الساعة ومقدماتها.
وقال الزمخشري: في هذه الآية وجهان أحدهما أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها، والآيتان اعتراض بينهما أي قالوا * (أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) * * (حتى إذا رأوا ما يوعدون) * أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين * (إما العذاب) * في الدنيا وهي غلبة المسلمين عليهم، وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا، وإظهار الله دينه على الدين كله على أيديهم وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه، وأنهم * (شر مكانا وأضعف جندا) * لا * (خير مقاما وأحسن نديا) * وأن المؤمنين على خلاف صفتهم. انتهى هذا الوجه وهو في غاية البعد لطول الفصل بين قوله قالوا: * (أى الفريقين) * وبين الغاية وفيه الفصل بجملتي اعتراض ولا يجيز ذلك أبو علي.
قال الزمخشري: والثاني أن يتصل بما يليها فذكر نحوا مما قدمناه، وقابل قولهم خير مكانا بقوله * (شر مكانا) * وقوله * (وأحسن نديا) * بقوله * (وأضعف جندا) * لأن الندي هو المجلس الجامع لوجوه القوم والأعوان، والأنصار والجند هم الأعوان، والأنصار و * (إما العذاب وإما الساعة) * بدل من ما المفعولة برأوا. و * (من) * موصولة مفعولة بقوله * (فسيعلمون) * وتعدى إلى واحد واستفهامية، والفعل قبلها معلق والجملة في موضع نصب.
ولما ذكر إمداد الضال في ضلالته وارتباكه في الافتخار بنعم الدنيا عقب ذلك بزيادة هدى للمهتدي وبذكر * (* الباقيات) * التي هي بدل من تنعمهم في الدنيا الذي يضمحل ولا يثبت. و * (وخير مردا) * معناه مرجعا وتقدم تفسير * (يعملون الصالحات) * في الكهف. وقال الزمخشري: * (يزيد) * معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر تقديره من كان في
199

الضلالة مدا ويمد له الرحمن * (ويزيد) * أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه، ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه انتهى. ولا يصح أن يكون * (ويزيد) * معطوفا على موضع * (فليمدد) * سواء كان دعاء أم خبرا بصورة الأمر لأنه في موضع الخبر إن كانت * (من) * موصولة أو في موضع الجواب إن كانت * (من) * شرطية، وعلى كلا التقديرين فالجملة من قوله * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * عارية من ضمير يعود على من يربط جملة الخبر بالمبتدأ أو جملة الشرط بالجزاء الذي هو فليمدد وما عطف عليه لأن المعطوف على الخبر خبر، والمعطوف على جملة الجزاء جزاء، وإذا كانت أداة الشرط اسما لا ظرفا تعين أن يكون في جملة الجزاء ضميره أو ما يقول مقامه، وكذا في الجملة المعطوفة عليها. وقال الزمخشري: هي * (خير) * * (ثوابا) * من مفاخرات الكفار * (وخير مردا) * أي وخير مرجعا وعاقبة أو منفعة من قولهم ليس لهذا الأمر مرد وهل يرد مكاني زيدا. فإن قلت: كيف قيل خير ثوابا كان لمفاخراتهم ثوابا حتى يجعل ثواب الصالحات خيرا منه؟ قلت: كأنه قيل ثوابهم النار على طريقة قوله فاعتبوا بالصيلم. وقوله:
* شجعاء جربها الذميل تلوكه
*
أصلا إذا راح المطي غراثا
*
وقوله.
تحية بينهم ضرب وجيع
ثم بنى عليه خير ثوابا وفيه ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له عقابك النار. فإن قلت: فما وجه التفضيل في الخبر كان لمفاخرهم شركاء فيه؟ قلت: هذا من وجيز كلامهم يقولون: الصيف أحر من الشتاء أي أبلغ في حره من الشتاء في برده انتهى.
* (أفرأيت الذى كفر بئاياتنا) * نزلت في العاصي بن وائل عمل له خباب بن الإرث عملا وكان قينا، فاجتمع له عنده دين فتقاضاه فقال: لا أنصفك حتى تكفر بمحمد، فقال خباب: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك. فقال العاصي: أو مبعوث أنا بعد الموت؟ فقال خباب: نعم، قال: فائت إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك. وقال الحسن: نزلت في الوليد بن المغيرة وقد كانت للوليد أيضا أقوال تشبه هذا الغرض، ولما كانت رؤية الأشياء سبيلا إلى الإحاطة بها وصحة الخبر عنها استعملوا أرأيت بمعنى أخبر، والفاء للعطف أفادت التعقيب كأنه قيل: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر عقيب قصة أولئك، والآيات: القرآن والدلالات على البعث. وقرأ الجمهور * (ولدا) * أربعتهن هنا، وفي الزخرف بفتح اللام والواو ويأتي الخلاف في نوح. وقرأ الأعمش وطلحة والكسائي وابن أبي ليلى وابن عيسى الأصبهاني بضم الواو وإسكان اللام، فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى على الجنس لا ملحوظا فيه الإفراد وإن كان مفرد اللفظ، وعلى هذه القراءة فقيل هو جمع
200

كأسد وأسد، واحتج قائل ذلك بقول الشاعر:
* ولقد رأيت معاشرا
*
قد ثمروا مالا وولدا
*
وقيل: هو مرادف للولد بالفتحتين واحتجوا بقوله:
* فليت فلانا كان في بطن أمه
*
وليت فلانا كان ولد حمار وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر بكسر الواو وسكون اللام والهمزة في اطلع للاستفهام، ولذلك عادلتها * (أم) *. وقرئ بكسر الهمزة في الابتداء وحذفها في الوصل على تقدير حذف همزة الاستفهام لدلالة * (أم) * عليها كقوله:
بسبع رمين الجمر أم بثمان
*
يريد أبسبع، وجاء التركيب في أرأيت على الوضع الذي ذكره سيبويه من أنها تتعدى لواحد تنصبه، ويكون الثاني استفهاما فأطلع وما بعده في موضع المفعول الثاني لأرأيت، وما جاء من تركيب أرأيت بمعنى أخبرني على خلاف هذا في الظاهر ينبغي أن يرد إلى هذا بالتأويل.
قال الزمخشري: * (أطلع الغيب) * من قولهم: أطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه واطلع الثنية. قال جرير:
لاقيت مطلع الجبال وعورا
وتقول: مر مطلعا لذلك الأمر أي عاليا له مالك له، ولاختيار هذه الكلمة شأن تقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار، والمعنى أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين، إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إلى ذلك.
والعهد. قيل كلمة الشهادة. وقال قتادة: هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول. وعن الكلبي: هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك. و * (كلا) * ردع وتنبيه على الخطأ الذي هو مخطىء فيما تصوره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه. وقرأ أبو نهيك * (كلا) * بالتنوين فيهما هنا وهو مصدر من كل السيف كلا إذا نبا عن الضريبة، وانتصابه على إضمار فعل من لفظه وتقديره كلوا كلا عن عبادة الله أو عن الحق. ونحو ذلك، وكنى بالكتابة عن ما يترتب عليها من الجزاء. فلذلك دخلت السين التي للاستقبال أي سنجازيه على ما ما يقول. وقال الزمخشري: فيه وجهان.
أحدهما: سيظهر له ونعلمه إنا كتبنا قوله على طريقه قوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
أي تبين وعلم بالانتساب أني لست ابن لئيمة.
والثاني: أن المتوعد يقول للجاني سوف أنتقم منك يعني أنه لا يبخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان، واستأخر فجردها هنا لمعنى الوعيد انتهى.
وقرأ الجمهور * (سنكتب) * بالنون والأعمش بياء مضمومة والتاء مفتوحة مبنيا للمفعول، وذكرت عن عاصم * (ونمد) * أي نطول له * (من العذاب) * الذي يعذب به المستهزئون أو نزيده من العذاب ونضاعف له المدد. وقرأ علي بن أبي طالب * (ونمد له) * يقال مده وأمده بمعنى * (ونرثه ما يقول) * أي نسلبه المال والولد فنكون كالوارث له. وقال الكلبي: نجعل ما يتمنى من الجنة لغيره. وقال أبو
201

سهيل: نحرمه ما يتمناه من المال والولد ونجعله لغيره. قال الزمخشري: ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالا وولدا، وبلغت به أشعبيته أن تألي على الله في قوله * (لاوتين) * لأنه جواب قسم مضمر، ومن يتأل على الله يكذبه فيقول الله عز وعلا: هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة * (ويأتينا فردا) * غدا بلا مال ولا ولد كقوله تعالى * (ولقد جئتمونا) * الآية فما يجدي عليه تمنيه وتأليه. ويحتمل أن هذا القول إنما يقوله ما دام حيا، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله * (يقول ويأتينا) * رافضا له * (* منفردا) * عنه غير قائل له انتهى.
وقال النحاس: * (مدا ونرثه ما يقول) * معناه نحفظه عليه للعاقبة ومنه العلماء ورثة الأنبياء أي حفظة ما قالوه انتهى. و * (فردا) * تتضمن ذلته وعدم أنصاره، و * (يقول) * صلة * (ما) * مضارع، والمعنى على الماضي أي ما قال. والضمير في * (واتخذوا) * العبادة الأصنام وقد تقدم ما يعود عليه وهم الظالمون في قوله * (ونذر الظالمين) * فكل ضمير جمع ما بعده عائد عليه إن كان مما يمكن عوده عليه، واللام في * (ليكونوا) * لام كي أي * (ليكونوا) * أي الآلهة * (لهم عزا) * يتعززون بها في النصرة والمنفعة والإنقاذ من العذاب.
* (كلا) * قال الزمخشري: * (كلا) * ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة. وقرأ ابن نهيك * (كلا * وكانوا بعبادتهم) * أي سيجحدون * (كلا * وكانوا بعبادتهم) * كقولك: زيد مررت بغلامه وفي محتسب ابن جني * (كلا) * بفتح الكاف والتنوين، وزعم أن معناه كل هذا الرأي والاعتقاد كلا، ولقائل أن يقول إن صحت هذه الرواية فهي * (كلا) * التي للردع قلب الواقف عليها ألفها نونا كما في قواريرا انتهى. فقوله وقرأ ابن نهيك الذي ذكر ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية وأبو نهيك بالكنية وهو الذي يحكى عنه القراءة في الشواذ وأنه قرأ * (كلا) * بفتح الكاف والتنوين وكذا حكاه عنه أبو الفتح. وقال ابن عطية وهو يعني * (كلا) * نعت للآلهة قال: وحكى عنه أي عن أبي نهيك أبو عمر والداني * (كلا) * بضم الكاف والتنوين وهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه * (سيكفرون) * تقديره يرفضون أو يتركون أو يجحدون أو نحوه. وأما قول الزمخشري ولقائل أن يقول إلى آخره فليس بجيد لأنه قال إنها التي للردع، والتي للردع حرف ولا وجه لقلب ألفها نونا وتشبيهه
بقواريرا ليس بجيد لأن قواريرا اسم رجع به إلى أصله، فالتنوين ليس بدلا من ألف بل هو تنوين الصرف. وهذا الجمع مختلف فيه أيتحتم منع صرفه أم يجوز؟ قولان، ومنقول أيضا أن لغة للعرب يصرفون ما لا ينصرف عند غيرهم، فهذا التنوين إما على قول من لا يرى بالتحتم أو على تلك اللغة. وذكر الطبري عن أبي نهيك أنه قرأ كل بضم الكاف ورفع اللام ورفعه على الابتداء والجملة بعده الخبر، وتقدم ظاهر وهو الآلهة وتلاه ضمير في قوله ليكونوا فالأظهر أن الضمير في * (سيكفرون) * عائد على أقرب مذكور محدث عنه. فالمعنى أن الآلهة سيجحدون عبادة هؤلاء إياهم كما قال: * (وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم) * وفي آخرها * (فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) * وتكون * (ءالهة) * هنا مخصوصا بمن يعقل، أو يجعل الله للآلهة غير العاقلة إدراكا تنكر به عبادة عابديه. ويجوز أن يكون الضمير للمشركين ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا كما قالوا * (والله ربنا ما كنا مشركين) * لكن قوله * (ويكونون) * يرجح القول الأول لا تساق الضمائر لواحد، وعلى القول الآخر يختلف الضمائر إذ يكون في * (سيكفرون) * للمشركين وفي * (يكونون) * للآلهة.
ومعنى * (ضدا) * أعوانا قاله ابن عباس. وقال الضحاك: أعداء. وقال قتادة: قرناء. وقال ابن زيد: بلاء. وقال ابن عطية: معناه يجيئهم منه خلاف ما كانوا أملوه فيؤول بهم ذلك إلى ذلة ضد ما أملوه من العز، فالضد هنا مصدر وصف به الجمع كما يوصف به الواحد. وقال الزمخشري: والضد
202

العون وحد توحيد وهم على من سواهم لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامهم وتوافقهم، ومعنى كونهم عونا عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتهم.
* (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا * فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا * يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا * ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا * لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا * وقالوا اتخذ الرحمان ولدا * لقد جئتم شيئا * إذا * تكاد * السماوات * يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال * هاذا إن * دعوا للرحمان ولدا * وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا * إن كل من فى * السماوات والارض * إلا اتباع * الرحمان عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا * فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا * وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) *.
* (أرسلنا) * معناه سلطنا أو لم نحل بينهم وبينهم مثل قوله * (نقيض له شيطانا) * وتعديته بعلى دليل على أنه تسليط و * (تؤزهم) * تحركهم إلى الكفر. وقال قتادة: تزعجهم. وقال ابن زيد: تشليهم. وقال الزمخشري: تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات، والمعنى خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم، والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة من الكفار وأقاويلهم.
عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لوعدت ونحوه قوله تعالى * (ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) * انتهى. وقيل * (نعد) * أعمالهم لنجازيهم. وقيل: آجالهم فإذا جاء أحللنا العقوبة بهم. وقيل: أيامهم التي سبق قضاؤنا أن نمهلهم إليها. وقيل: أنفاسهم، وانتصب * (يوم) * باذكر أو احذر مضمرة أو على تقدير يكون ذلك جوابا لسؤال مقدر تقديره متى يكون ذلك أو سيكفرون بعبادتهم أو بيكونون عليهم ضدا أو معنى بعدا، وتضمن العد والإحصاء معنى المجازاة، أو * (يوم نحشر) * ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو بلا يملكون، وكلها مقول في نصب * (يوم) * والأوجه الأخير. وعدى * (نحشر) * بإلى * (الرحمان) * تعظيما لهم وتشريفا. وذكر صفة الرحمانية التي خصهم بها كرامة إذ لفظ الحشر فيه جمع من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة على سبيل القهر، فجاءت لفظة * (الرحمان) * مؤذنة بأنهم يحشرون إلى من يرحمهم، ولفظ السوق فيه إزعاج وهو إن عدي بإلى جهنم تفظيعا لهم وتبشيعا لحال مقرهم، ولفظة الوفد مشعرة بالإكرام والتبجيل كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عنده.
وعن علي: على نوق رحالها ذهب، وعلى نجائب سرجها ياقوت، وعنه أيضا إنهم يجيئون ركبانا على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها من ياقوت وزبرجد. وريوي عمرو بن قيس الملائي أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة في غاية الحسن، روى أنه يركب كل أحد منهم ما أحب من إبل أو خيل أو سفن تجيء عائمة بهم. والظاهر أن هذه الوفادة بعد انقضاء الحساب وأنها النهوض إلى الجنة كما قال * (فى مقعد صدق عند مليك مقتدر) * وشبهوا بالوفود لأنهم سراة الناس وأحسنهم شكلا وليست وفادة حقيقية لأنها تتضمن الانصراف من الموفود عليه، وهؤلاء مقيمون أبدا في ثواب ربهم وهو الجنة والورد العطاش قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن، والورد مصدر ورد أي سار إلى الماء. قال الراجز:
* ردي ردي ورد قطاة صما
*
كدرية أعجبها برد الماء
*
203

ولما كان من يرد الماء لا يرده إلا لعطش، أطلق الورد على العطاش تسمية للشيء بسببه. وقرأ الحسن والجحدري يحشر المتقون ويساق المجرمون مبنيا للمفعول، والضمير في * (لا يملكون) * عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه، والاستثناء متصل و * (من) * بدل من ذلك الضمير أو نصب على الاستثناء * (ولا يملكون) * استئناف إخبار. وقيل: موضه نصب على الحال من الضمير في * (لا يملكون) * ويكون عائدا على المجرمين. والمعنى غير مالكين
أن يشفع لهم، ويكون على هذا الاستثناء منقطعا. وقيل: الضمير في * (لا يملكون) * عائد على المتقين والمجرمين، والاستثناء متصل. وقيل: عائد على المتقين، واتخاذ العهد هو العمل الصالح الذي يحصل به في حيز من يشفع. وتظافرت الأحاديث على أن أهل العلم والصلاح يشفعون فيشفعون. وفي الحديث: (إن في أمتي رجلا يدخل الله بشفاعته أكثر من بني تميم). وقال قتادة: كنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين. وقال بعض من جعل الضمير للمتقين: المعنى لا يملك المتقون * (الشفاعة) * إلا لهذا الصنف، فعلى هذا يكون من اتخذ المشفوع فيهم، وعلى التأويل الأول يكون من اتخذ الشافعين فالتقدير على التقدير الثاني * (لا يملكون الشفاعة * لاحد * إلا من اتخذ) * فيكون في موضع نصب كما قال:
فلم ينج إلا جفن سيف ومئزرا.
أي لم ينج شيء إلا جفن سيف. وعلى هذه الأقوال الواو ضمير. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون يعني الواو في * (لا يملكون) * علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث، والفاعل من * (اتخذ) * لأنه في معنى الجمع انتهى. ولا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميرا. وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة. وأيضا قالوا: والألف والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلا إلا بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف، إما أن تأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو على مثنى فيحتاج في إثبات ذلك إلى نقل، وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى، والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر، ولكن الأحفظ أن لا يقال ذلك إلا بسماع. وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب يعني من على تقدير حذف المضاف أي إلا شفاعة من * (اتخذ) *.
والعهد هنا. قال ابن عباس: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفي الحديث من قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله كان له عند الله عهد). وقال السدي: العهد الطاعة. وقال ابن جريج: العمل الصالح. وقال الليث: حفظ كتاب الله. وقيل: عهد الله إذنه لمن شاء في الشفاعة من عهد الأمير إلى فلان بكذا، أي أمره به أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها. ويؤيده * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) * * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان) *. * (لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) *. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المجرمون يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم * (لا يملكون الشفاعة) * إلا العصاة المؤمنون فإنهم سيشفع فيهم،
204

فيكون الاستثناء متصلا. وفي الحديث: (لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول: يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي) انتهى. وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد. وقال ابن عطية أيضا: ويحتمل أن يراد بمن اتخذ محمد عليه الصلاة والسلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس. وقوله تعالى * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * والضمير في * (لا يملكون) * لأهل الموقف انتهى. وفيه بعض تلخيص.
* (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا) * الضمير في * (قالوا) * عائد على بعض اليهود حيث قالوا عزير ابن الله، وبعض النصارى حيث قالوا المسيح ابن الله، وبعض مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله * (لقد جئتم) * أي قل لهم يا محمد * (لقد جئتم) * أو يكون التفاتا خرج من الغيبة إلى الخطاب زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله والتعرض لسخطه وتنبيه على عظيم ما قالوا.
وقرأ الجمهور * (إدا) * بكسر الهمزة وعلي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن بفتحها أي شيئا أدا حذف المضاف وأقيم المصدر مقامه. وقرأ نافع والكسائي يكاد بالياء من تحت وكذا في الشورى وهي قراءة أبي حيوة والأعمش. وقرأ باقي السبعة بالتاء. وقرأ ينفطرن مضارع انفطر وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وابن عامر هنا وهي قراءة أبي بحرية والزهري وطلحة وحميد واليزيدي ويعقوب وأبي عبيد. وقرأ باقي السبعة * (* يتفطرون) * مضارع تفطر والتي في الشورى قرأها أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالياء والنون وباقي السبعة بالياء والتاء والتشديد. وقرأ ابن مسعود يتصد عن وينبغي أن يجعل تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه، ولرواية الثقاة عنه كقراءة الجمهور. وقال الأخفش * (العظيم تكاد) * تريد وكذلك قوله * (أكاد أخفيها) * وأنشد شاهدا على ذلك قول الشاعر:
* وكادت وكدت وتلك خير إرادة
*
لو عاد من زمن الصبابة ما مضى
*
ولا حجة في هذا البيت، والمعروف أن الكيدودة مقاربة الشيء وهذه الجمل عند الجمهور من باب الاستعارة لبشاعة هذا القول، أي هذا حقه لو فهمت الجمادات قدره وهذا مهيع للعرب. قال جرير:
*
لما أتى خبر الزبير تواضعت
سور المدينة والجبال الخشع
*
وقال آخر
* ألم تر صدعا في السماء مبينا
*
على ابن لبني الحارث بن هشام وقال الآخر
*
فأصبح بطن مكة مقشعرا
كأن الأرض ليس بها هشام
*
وقال آخر
* بكى حارث الجولان من فقد ربه
*
وحوران منه خاشع متضائل
205

حارث الجولان موضع.
*
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى انفطار السماوات وإنشقاق الأرض وخرور الجبال، ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت: فيه وجهان أحدهما أن الله يقول: كدت أفعل هذه بالمسوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا مني على من تفوه بها لولا حلمي ووقاري، وإني لا أعجل بالعقوبة كما قال * (إن الله يمسك * السماوات والارض) * الآية.
والثاني: أن يكون استعظاما للكلمة، وتهويلا من فظاعتها، وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه. وقواعده، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخر انتهى.
وقال ابن عباس إن هذا الكلام فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكدن أن يزلن منه تعظيما لله تعالى. وقيل: المعنى كادت القيامة أن تقوم فإن هذه الأشياء تكون حقيقة يوم القيامة. وقيل: * (تكاد * السماوات * يتفطرن) * أي تسقط عليهم * (وتنشق الارض) * أي تخسف بهم * (وتخر الجبال هدا) * أي تنطبق عليهم. وقال أبو مسلم: تكاد تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول، وانتصب * (هدا) * عند النحاس على المصدر قال: لأن معنى * (* تخر) * تنهد انتهى. وهذا على أن يكون * (الجبال هدا) * مصدرا لهد الحائط يهد بالكسر هديدا وهدا وهو فعل لازم. وقيل * (هدا) * مصدر في موضع الحال أي مهدودة، وهذا على أن يكون * (هدا) * مصدر هد الحائط إذا هدمه وهو فعل متعد، وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولا له أي لأنها تهد، وأجاز الزمخشري في * (أن دعوا) * ثلاثة أوجه. قال أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في منه كقوله:
* على حالة لو أن في القوم حاتما
*
على جوده لضن بالماء حاتم
*
وهذا فيه بعد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه لجملتين، قال: ومنصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي * (هدا) * لأن دعوا علل الخرور بالهد، والهد بدعاء الولد للرحمن، وهذا فيه بعد لأن الظاهر أن * (هدا) * لا يكون مفعولا بل مصدر من معنى * (وتخر) * أو في موضع الحال، قال: ومرفوعا بأنه فاعل * (هدا) * أي هدها دعاء الولد للرحمن، وهذا فيه بعد لأن ظاهر * (هدا) * أن يكون مصدرا توكيديا، والمصدر التوكيدي لا يعمل ولو فرضناه غير توكيد لم يعمل بقياس إلا إن كان أمرا أو مستفهما عنه، نحو ضرب زيدا، واضربا زيدا على خلاف فيه. وأما إن كان خبرا كما قدره الزمخشري أي هدها دعاء الرحمن فلا ينقاس بل ما جاء من ذلك هو نادر كقوله.
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
*
أي وقف صحبي.
وقال الحوفي وأبو البقاء * (أن دعوا) * في موضع نصب مفعول له، ولم يبينا العامل فيه. وقال أبو البقاء أيضا: هو في موضع جر على تقدير اللام، قال: وفي موضع رفع أي الموجب لذلك دعاؤهم، ومعنى * (دعوا) * سموا وهي تتعدى إلى اثنين حذف الأول منهما، والتقدير سموا معبودهم ولدا للرحمن أي بولد لأن دعا هذه تتعدى لاثنين، ويجوز دخول الباء على الثاني تقول: دعوت ولدي بزيد، أو دعوت ولدي زيدا. وقال الشاعر:
206

* دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن
*
أخاها ولم أرضع لها بلبان وقال آخرألا رب من يدعي نصيحا وإن يغب تجده بغيب منك غير نصيحوقال الزمخشري: اقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعا له ولدا، قال أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام: (من ادعى إلى غير مواليه). وقول الشاعر.
إنا بني نهشل لا ندعي لأب
*
أي لا ننتسب إليه انتهى. وكون * (دعوا) * هنا بمعنى سموا هو قول الأكثرين. وقيل: * (دعوا) * بمعنى جعلوا. و * (ينبغى) * مطاوع لبغي بمعنى طلب، أي وما يتأتى له اتخاذ الولد لأن التوالد مستحيل والتبني لا يكون إلا فيما هو من جنس المتبنى، وليس له تعالى جنس و * (ينبغى) * ليس من الأفعال التي لا تتصرف بل سمع لها الماضي قالوا: أنبغى وقد عدها ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وهو غلط و * (من) * موصولة بمعنى الذي أي ما كل الذي في السماوات وكل تدخل على الذي لأنها تأتي للجنس كقول تعالى * (والذى جاء بالصدق) * ونحو.
وكل الذي حملتني أتحمل
وقال الزمخشري: * (من) * موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة وقوعها بعد رب في قوله:
رب من أنضجت غيظا صدره
انتهى. والأولى جعلها موصولة لأن كونها موصوفة بالنسبة إلى الموصولة قليل. وقرأ عبد الله وابن الزبير وأبو حيوة وطلحة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ويعقوب إلا آت بالتنوين * (الرحمان) * بالنصب والجمهور بالإضافة و * (اتى) * خبر * (كل) * وانتصب * (عبدا) * على الحال. وتكرر لفظ * (الرحمان) * تنبيها على أنه لا يستحق هذا الاسم غيره، إذ أصول النعم وفروعها منه ومن في السماوات والأرض يشمل من اتخذوه معبودا من الملائكة وعيسى وعزيرا بحكم ادعائهم صحة التوالد أو بحكم زعمهم ذلك فأشركوهم في العبادة إذ خدمة الأبناء خدمة الآباء، فأخبر تعالى أنه ما من معبود لهم في السماوات أو في الأرض إلا يأتي الرحمن عبدا منقادا لا يدعي لنفسه شيئا مما نسبوه إليه.
ثم ذكر تعالى أنه * (أحصاهم) * وأحاط
207

بهم وحصرهم بالعدد، فلم يفته أحد منهم وانتصب * (فردا) * على الحال أي منفردا ليس معه أحد ممن جعلوه شريكا، وخير * (كلهم * ءاتيه) * * (فردا) * وكل إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم وكل الناس فالمنقول أنه يجوز أن يعود الضمير مفردا على لفظ كل، فتقول: كلكم ذاهب، ويجوز أن يعود جمعا مراعاة للمعنى فتقول: كلكم ذاهبون. وحكى إبراهيم ابن أصبغ في كتاب رؤوس المسائل الاتفاق على جواز الوجهين، وعلى الجمع جاء لفظ الزمخشري في تفسير هذه الآية في الكشاف * (وكلهم) * متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره، وقد خدش في ذلك أبو زيد السهيلي فقال: كل إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظا يعني إلى معرفة فلا يحسن إلا إفراد الخبر حملا على المعنى، تقول: كلكم ذاهب أي كل واحد منكم ذاهب، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح فإن قلت: في قوله * (وكلهم ءاتيه) * إنما هو حمل على اللفظ لأنه اسم مفرد قلنا: بل هو اسم للجمع واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد، تقول: القوم ذاهبون، ولا تقول: القوم ذاهب وإن كان لفظ القوم كلفظ المفرد، وإنما حسن كلكم ذاهب لأنهم يقولون كل واحد منكم ذاهب فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى انتهى. ويحتاج في إثبات كلكم ذاهبون بالجمع ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب، أما إن حذف المضاف المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان.
والسين في * (سيجعل) * للاستقبال فاحتمل أن يكون هذا الجعل في الدنيا، وجئ بأداة الاستقبال لأن المؤمنين كانوا بمكة حال نزول هذه السورة، وكانوا ممقوتين من الكفرة، فوعدهم الله بذلك إذا ظهر الإسلام وفشا. واحتمل أن يكون ذلك في الدنيا على الإطلاق كما في الترمذي. قال: (إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه، قال: فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض) قال الله عز وجل: * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا) * إلى آخر الحديث وقال: هذا حديث صحيح. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى أي أن الله تعالى لما أخبر عن إتيان كل من في السماوات والأرض في حال العبودية والانفراد، أنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم في ذلك اليوم * (ودا) * وهو ما يظهر عليهم من كرامته لأن محبة الله للعبد إنما هي ما يظهر عليه من نعمه وأمارات غفرانه انتهى.
وقال الزمخشري: وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم. وقال أيضا: والمعنى سيحدث لهم في القلوب مودة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي يكتسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع مبرة أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصا منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاما وإجلالا لمكانهم انتهى. وقيل: في الكلام حذف والتقدير سيدخلهم دار كرامته ويجعل لهم * (ودا) * بسبب نزع الغل من صدورهم بخلاف الكفار، فإنهم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا، وفي النار أيضا يتبرأ بعضهم من بعض.
وقرأ الجمهور * (ودا) * بضم الواو. وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها. وقرأ جناح بن حبيش * (ودا) * بكسر الواو. قيل: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن
عوف كان اليهود والنصارى والمنافقون يحبونه، وكان لما
208

هاجر من مكة استوحش بالمدينة فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فنزلت. وقيل: نزلت في المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب ألقى الله لهم ودا في قلب النجاشي، وذكر النقاش أنها نزلت في علي بن أبي طالب. وقال محمد بن الحنيفة: لا تجد مؤمنا إلا وهو يحب عليا وأهل بيته انتهى. ومن غريب هذا ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي رحمه الله تعالى لزبينا بن إسحاق النصراني الرسغي.
* عدي وتيم لا أحاول ذكرهم
*
بسوء ولكني محب لهاشم
*
* وما تعتريني في علي ورهطه
*
إذا ذكروا في الله لومة لائم
*
يقولون ما بال النصارى تحبهم
وأهل النهي من أعرب وأعاجم
*
* فقلت لهم إني لأحسب حبهم
*
سرى في قلوب الخلق حتى البهائم وذكر أبو محمد بن حزم أن بغض علي من الكبائر. والضمير في * (يسرناه) * عائد على القرآن، أي أنزلناه عليك ميسرا سهلا * (بلسانك) * أي بلغتك وهو اللسان العربي المبين. * (لتبشر به المتقين) * أي تخبرهم بما يسرهم وبما يكون لهم من الثواب على تقواهم واللد جمع. وقال ابن عباس: * (لدا) * ظلمة، ومجاهد فجازا، والحسن صما، وأبو صالح عوجا عن الحق، وقتادة ذوي جدل بالباطل آخذين ف يكل لديد بالمراء أي في كل جانب لفرط لجاجهم يريد أهل مكة.
*
* (وكم أهلكنا) * تخويف لهم وإنذار بالإهلاك بالعذاب والضمير في قوله * (قبلهم) * عائد على * (قوما لدا) * و * (هل تحس) * استفهام معناه النفي أي لا تحس. وقرأ الجمهور: * (هل تحس) * مضارع أحس. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وأبو جعفر المدني * (تحس) * بفتح التاء وضم الحاء. وقرئ * (تحس) * من حسه إذا شعر به ومنه الحواس والمحسوسات. وقرأ حنظلة * (أو تسمع) * مضارع أسمعت مبنيا للمفعول. وقال ابن عباس: الركز الصوت الخفي. قال ابن زيد الحس. وقال الحسن: لما أتاهم عذابنا لم يبق منهم شخص يرى ولا صوت يسمع. وقيل: المعنى ماتوا ونسي ذكرهم فلا يخبر عنهم مخبر.
209

((سورة طه))
عليه السلام مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (طه * مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الا رض والسماوات العلى * الرحمان على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الا رض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لاإلاه إلا هو له الا سمآء الحسنى * وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إنىءانست نارا لعلىآتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى * فلمآ أتاها نودى ياموسى * إنىأنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إننىأنا الله لاإلاه إلاأنا فاعبدنى وأقم الصلواة لذكرى * إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى * وما تلك بيمينك ياموسى * قال هى عصاى أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مأرب أخرى * قال ألقها ياموسى * فألقاها فإذا هى حية تسعى * قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الا ولى * واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضآء من غير سوء ءاية أخرى * لنريك من ءاياتنا الكبرى * اذهب إلى فرعون إنه طغى * قال رب اشرح لى صدرى * ويسر لىأمرى * واحلل عقدة من لسانى * يفقهوا قولي * واجعل لى وزيرا من أهلى * هارون أخى * اشدد به أزرى * وأشركه فىأمرى * كى نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا * قال قد أوتيت سؤلك ياموسى * ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينآ إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى * إذ تمشىأختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين فىأهل مدين ثم جئت على قدر ياموسى * واصطنعتك
لنفسى) *)) 2
الثرى: التراب الندي ويثنى ثريان، ويقال ثريت التربة بللتها، وثريت الأرض تثرى ثري فهي ترية ابتل ترابها بعد الجدوبة، وأثرت فهي مثرية كثر ترابها، وأرض ثرى ذات ثرى. وقال ابن الأعرابي: يقال فلان قريب الثرى بعيد النبط للذي يعد ولا يفي، ويقال: إني لأرى ثرى الغضب في وجه فلانا أي أثره، ويقال الثرى بيني وبين فلان إذا انقطع ما بينكما. وقال جرير:
* فلا تنبشوا بيني وبينكم الثرى
*
فإن الذي بيني وبينكم مثري
*
210

آنس: وجد، تقول العرب: هل آنست فلان أي وجدته. وقيل: أحس وهو قريب من وجد. قال الحارث بن حلزة:
* آنست نبأة وروعها القناص
*
عصرا وقد دنا الإمساء
*
القبس جذوة من النار تكون على رأس عود أو قصبة أو نحوه فعل بمعنى مفعول كالقبض والنفض، ويقال: قبست منه نارا أقبس فأقبسني أعطاني منه قبسا، ومنه المقبسة لما يقتبس فيه من شقفة وغيرها، واقتبست منه نارا. وعلما أي استفدته. وقال المبرد: أقبست الرجل علم وقبسته نارا. وقال الكسائي: أقبسته نارا وعلما وقبسته أيضا فيهما. الخلع والنعل معروفان وهو إزالتها من الرجل. وقيل: النعل ما هو وقاية للرجل من الأرض كان من جلد أو حديد أو خشب أو غيره. طوى: اسم موضع. السعي المشي بسرعة، وقد يطلق على العمل. ردى يردى ردى هلك، وأرداه أهلكه. قال دريد بن الصمة:
* تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا
*
فقلت أعبد الله ذلكم الردى
*
توكأ على الشيء تحامل عليه في المشي والوقوف، ومنه الاتكاء. توكأت واتكأت بمعنى. وتقدمت هذه المادة في سورة يوسف في قوله * (* متكأ) * وشرحت هنا لاختلاف الوزنين وإن كان الأصل واحدا. هش على الغنم يهش بضم الهاء خبط أوراق الشجر لتسقط، وهش إلى الرجل يهش بالكسر قاله ثعلب إذا بش وأظهر الفرح به، والأصل في هذهالمادة الرخاوة يقال: رجل هش. الغنم معروف وهو اسم جنس مؤنث. المأربة بضم الراء وفتحها وكسرها الحاجة وتجمع على مآرب، والإربة أيضا الحاجة. الحية الحنش ينطلق على الذكر والأنثى والصغير والكبير، وتقدمت مادته وكررت هنا لخصوصية المدلول. وقولهم حواء للذي يصيد الحيات من باب قوة فالمادتان مختلفتان كسبط وسبطر. الأزر: الظهر قاله الخليل، وأبو عبيد وآزره قواه، والأزر أيضا القوة. وقال الشاعر:
* بمحنية قد آزر الضال نبتها
*
مجر جيوش غانمين وخيب
*
القذف الرمي والإلقاء. الساحل شاطىء البحر وهو جانبه الخالي من الماء، سمي بذلك لأن الماء يسحله أي يقشره فهو فاعل بمعنى مفعول. وقال أبو تمام:
* هو البحر من أي النواحي أتيته
*
فلجته المعروف والجود ساحله
*
* (بسم الله الرحمان الرحيم طه * ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الارض * والسماوات العلى * الرحمان على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إلاه إلا هو له الاسماء الحسنى) *.
هذه السورة مكية بلا خلاف، كان عليه السلام يراوح بين قدميه يقوم على رجل فنزلت قاله علي. وقال الضحاك: صلى عليه السلام هو وأصحابه فأطال القيام لما أنزل عليه القرآن، فقالت قريش: ما أنزل عليه إلا ليشقى. وقال مقاتل: قال أبو جهل والنضر والمطعم: إنك لتشقى بترك ديننا فنزلت. ومناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها
أنه تعالى لما ذكر تيسير القرآن بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم) أي بلغته وكان فيما علل به قوله * (لتبشر
211

به المتقين وتنذر به قوما لدا) * أكد ذلك بقوله * (ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى) * والتذكرة هي البشارة والنذارة، وإن ما ادعاه المشركون من إنزاله للشقاء ليس كذلك بل إنما نزل تذكرة، والظاهر أن طه من الحروف المقطعة نحو: يس وألر وما أشبههما، وتقدم الكلام على ذلك في أول البقرة. وعن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة: معنى * (طه) * يا رجل. فقيل بالنبطية. وقيل بالحبشية. وقيل بالعبرانية. وقيل لغة يمنية في عك. وقيل في عكل. وقال الكلبي: لو قلت في عك يا رجل لم يجب حتى تقول * (طه) *. وقال السدي معنى * (طه) * يا فلان. وأنشد الطبري في معنى يا رجل في لغة عك قول شاعرهم:
* دعوت بطه في القتال فلم يجب
*
فخفت عليه أن يكون موائلا وقول الآخر
إن السفاهة طه من خلائقكملا بارك الله في القوم الملاعين وقيل هو اسم من أسماء الرسول. وقيل: من أسماء الله. وقال الزمخشري: ولعل عكا تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوا في يا طأ واختصروا هذا فاقتصروا على ها، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفي في البيت المستشهد به.
*
إن السفاهة طه في خلائقكم
لا قدس الله أخلاق الملاعين
*
انتهى. وكان قد قدم أنه يقال إن طاها في لغة عك في معنى يا رجل، ثم تخرص وحزر على عك بما لا يقوله نحوي هو أنهم قلبوا الياء طاء وهذا لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه. وقيل: طا فعل أمر وأصله طأ، فخففت الهمزة بإبدالها ألفا وها مفعول وهو ضمير الأرض، أي طأ الأرض بقدميك ولا تراوح إذ كان يراوح حتى تورمت قدماه. وقرأت فرقة منهم الحسن وعكرمة وأبو حنيفة وورش في اختياره * (طه) *. قيل: وأصله طأ فحذفت الهمزة بناء على قلبها في يطأ على حد لا هناك المرتع بني الأمر عليه وأدخلت هاء السكت وأجري الوصل مجرى الوقف، أو أصله طأ وأبدلت همزته هاء فقيل * (طه) *. وقرأ الضحاك وعمرو بن فائد: طاوي.
وقرأ طلحة ما نزل عليك بنون مضمومة وزاي مكسورة مشددة مبنيا للمفعول * (القرءان) * بالرفع. وقرأ الجمهور * (ما أنزلنا عليك القرءان) * ومعنى * (لتشقى) * لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله * (لعلك باخع نفسك) * والشقاء يجيء في معنى التعب ومنه المثل: أتعب من رائض مهر. وأشقى من رائض مهر. قال الزمخشري: أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعطة الحسنة انتهى. وقيل: أريد رد ما قاله أبو جهل وغيره مما تقدم ذكره في سبب النزول. و * (لتشقى) * و * (تذكرة) * علة لقوله * (ما أنزلنا) * وتعدى في * (لتشقى) * باللام لاختلاف الفاعل إذ ضمير * (ما أنزلنا) * هو لله، وضمير * (لتشقى) * للرسول صلى الله عليه وسلم)، ولما اتحد الفاعل في * (أنزلنا) * و * (تذكرة) * إذ هو مصدر ذكر، والمذكر هو الله وهو المنزل تعدى إليه الفعل فنصب على أن في اشتراط اتحاد الفاعل خلافا
212

والجمهور يشترطونه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: أما يجوز أن تقول: ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى كقوله * (أن تحبط أعمالكم) * قلت: بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في * (واختار موسى قومه) * وأما النصبة في * (تذكرة) * فهي كالتي في ضربت زيد لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها انتهى. وليس كون أن تشقى إذا حذف الجار منصوب متفقا عليه بل في ذلك خلاف. أهو منصوب تعدى إليه الفعل بعد إسقاط الحرف أو مجرور بإسقاط الجار وإبقاء عمله؟
وقال ابن عطية: * (إلا تذكرة) * يصح أن ينصب على البدل من موضع * (لتشقى) * ويصح أن ينصب بإضمار فعل تقديره لكن أنزلناه تذكرة انتهى. وقد رد الزمخشري تخريج ابن عطية الأول فقال: فإن قلت: هل يجوز أن يكون * (تذكرة) * بدلا من محل * (لتشقى) *؟ قلت: لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلا فيه بمعنى لكن انتهى. ويعني باختلاف الجنسين أن نصب * (تذكرة) * نصبة صحيحة ليست بعارضة والنصبة التي تكون في * (لتشقى) * بعد نزع الخافض نصبة عارضة والذي نقول أنه ليس له محل البتة فيتوهم البدل منه.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى * (إنا أنزلنا) * إليك * (القرءان) * لتحمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة و * (ما أنزلنا عليك) * هذا المتعب الشاق * (إلا) * ليكون * (تذكرة) * وعلى هذا الوجه يجوز أن كيون * (تذكرة) * حالا ومفعولا له * (لمن يخشى) * لمن يؤول أمره إلى الخشية انتهى. وهذا معنى متكلف بعيد من اللفظ وكون * (إلا تذكرة) * بدل من محل * (لتشقى) * هو قول الزجاج. وقال النحاس: هذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من قبل أن التذكرة ليست بشقاء. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون * (تذكرة) * بدلا من * (القرءان) * ويكون * (القرءان) * هو * (التذكرة) * وأجاز هو وأبو البقاء أن يكون مصدرا أي لكن ذكرنا به * (تذكرة) *. قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولا له لأنزلنا المذكور لأنه قد
تعدى إلى مفعول وهو * (لتشقى) * ولا يتعدى إلى آخر من جنسه انتهى. والخشية باعثة على الإيمان والعمل الصالح.
وانتصاب * (تنزيلا) * على أنه مصدر لفعل محذوف أي نزل * (تنزيلا ممن خلق) *. وقال الزمخشري: في نصب * (تنزيلا) * وجوه أن يكون بدلا من * (تذكرة) * إذا جعل حالا لا إذا كان مفعولا له، لأن الشيء لا يعلل بنفسه، وأن ينصب بنزل مضمرا، وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى * (ما أنزلنا) * * (إلا تذكرة) * أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص، وأن ينصب بيخشى مفعولا به أي أنزله الله * (تذكرة لمن يخشى) * تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين انتهى. والأحسن ما قدمناه أولا من أنه منصوب بنزل مضمرة. وما ذكره الزمخشري من نصبه على غير ذلك متكلف أما الأول ففيه جعل * (تذكرة) * و * (تنزيلا) * حالين وهما مصدران، وجعل المصدر حالا لا ينقاس، وأيضا فمدلول * (تذكرة) * ليس مدلول * (تنزيلا) * ولا * (تنزيلا) * بعض * (تذكرة) * فإن كان بدلا فيكون بدل اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها. وأما قوله: لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك لأن معنى الحصر يفوت في قوله أنزلناه تذكرة، وأما نصبه على المدح فبعيد، وأما نصبه بمن يخشى ففي غاية البعد لأن يخشى رأس آية وفاصل فلا يناسب أن يكون تنزيل مفعولا بيخشى وقوله فيه وهو معنى حسن وإعراب بين عجمة وبعد عن إدراك الفصاحة.
وقرأ ابن أبي عبلة تنزيل رفعا على إضمار هو، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق يخشى بتنزيل وأنه منقطع مما قبله فنصبه على إضمار نزل كما ذكرناه، ومن الظاهر أنها
213

متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف. وفي قوله * (ممن خلق) * تفخيم وتعظيم لشأن القرآن إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته، وتحقير لمعبوداتهم وتعريض للنفوس على الفكر والنظر وكأن في قوله * (ممن خلق) * التفات إذ فيها الخروج من ضمير التكلم وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة وفيه عادة التفنن في الكلام وهو مما يحسن إذ لا يبقى على نظام واحد وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة والتفخيم بإسناد الإنزال إلى ضمير الواحد المعظم نفسه، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد فحصل التعظيم من الوجهين.
وقال الزمخشري ويجوز أن يكون * (أنزلنا) * حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه انتهى. وهذا تجويز بعيد بل الظاهر أنه إخبار من الله تعالى عن نفسه. و * (العلى) * جمع العليا ووصف * (السماوات) * بالعلى دليل على عظم قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى، والظاهر رفع * (الرحمان) * على خبر مبتدأ محذوف تقديره هو * (الرحمان) *. وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون بدلا من الضمير المستتر في * (خلق) * انتهى. وأرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه، و * (الرحمان) * لا يمكن أن يحل محل الضمير لأن الضمير عائد على من الموصولة و * (خلق) * صلة، والرابط هو الضمير فلا يحل محله الظاهر لعدم الرابط. وأجاز الزمخشري أن يكون رفع * (الرحمان) * على الابتداء قال يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق. وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ الرحمن بالكسر. قال الزمخشري: صفة لمن خلق يعني لمن الموصولة ومذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من وما لا يجوز نعتها إلا الذي والتي فيجوز نعتهما، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون * (الرحمان) * صفة لمن فالأحسن أن يكون * (الرحمان) * بدلا من من، وقد جرى * (الرحمان) * في القرآن مجرى العلم في ولايته العوامل. وعلى قراءة الجر يكون التقدير هو * (على العرش استوى) * وعلى قراءة الرفع إن كان بدلا كما ذهب إليه ابن عطية فكذلك أو مبتدأ كما ذكره الزمخشري ففي موضع الخبر أو خبر مبتدأ كما هو الظاهر، فكيون * (الرحمان) * والجملة خبرين عن هو المضمر. وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الأعراف.
وما روي عن ابن عباس من الوقف على قوله * (على العرش) * ثم يقرأ * (استوى * له ما في السماوات) * على أن يكون فاعلا لاستوى لا يصح إن شاء الله.
ولما ذكر تعالى أنه اخترع السماوات والأرض وأنه استوى على العرش ذكر أنه تعالى * (له) * ملك جميع * (ما) * حوت * (السماوات والارض * وما بينهما وما تحت الثرى) * أي تحت الأرض السابعة قاله ابن عباس ومحمد بن كعب. وعن السدي: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة. وقيل: * (ما * تحت الثرى) * ما هو في باطن الأرض فيكون ذلك توكيدا لقوله * (وما فى الارض) * إلا إن كان المراد بفي الأرض ما هو عليها فلا يكون توكيدا. وقيل: المعنى أن علمه تعالى محيط بجميع ذلك لأنه منشئه فعلى هذا يكون التقدير * (له) * علم * (ما في السماوات) *.
ولما ذكر تعالى أولا إنشاء السماوات والأرض وذكر أن جميع ذلك وما فيهما ملكه ذكر تعالى صفة العلم وأن علمه لا يغيب عنه شيء والخطاب بقوله: * (وإن تجهر بالقول) * للرسول ظاهر أو المراد أمته، ولما كان خطاب الناس لا يتأتى إلا بالجهر بالكلام جاء الشرط بالجهر وعلق على الجهر علمه بالسر لأن علمه بالسر يتضمن علمه بالجهر، أي إذا كان يعلم السر فأحرى أن يعلم الجهر والسر مقابل للجهر كما قال * (يعلم سركم وجهركم) * والظاهر أن * (أخفى) * أفعل تفضيل أي * (وأخفى) * من السر.
قال ابن عباس: * (السر) * ما تسره إلى غيرك، والأخفى ما تخفيه في نفسك وقاله الفراء. وعن ابن عباس أيضا * (السر) * ما أسره في نفسه، والأخفى ما خفي عنه مما هو فاعله وهو لا يعلمه. وعن قتادة: قريب من هذا. وقال مجاهد: * (السر) * ما تخفيه من الناس * (وأخفى) * منه الوسوسة. وقال ابن زيد * (السر) * سر الخلائق * (وأخفى) * منه سره تعالى وأنكر ذلك الطبري. وقيل: * (السر) * العزيمة * (وأخفى) * منه ما لم يخطر على
214

القلب، وذهب بعض السلف إلى أن قوله * (وأخفى) * هو فعل ماض لا أفعل تفضيل أي * (يعلم) * أسرار العباد * (وأخفى) * عنهم ما يعلمه هو كقوله * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه) * وقوله * (ولا يحيطون به علما) *. قال ابن عطية: وهو ضعيف.
وقال الزمخشري: وليس بذلك قال: فإن قلت: كيف طابق الجزاء الشرط؟ قلت: معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول) * وإما تعليما للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر انتهى.
والجلالة مبتدأ و * (لا إلاه إلا هو) * الخبر و * (له الاسماء الحسنى) * خبر ثان، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من ذا الذي يعلم السر وأخفى؟ فقيل: هو * (الله) * و * (الحسنى) * تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة تجري على جمع التكسير، وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة والأحسنية كونها تضمنت المعاني التي هي في غاية الحسن من التقديس والتعظيم والربوبية، والأفعال التي لا يمكن صدورها إلا منه، وذكروا أن هذه * (الاسماء) * هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم): (إن لله تسعا وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة). وذكرها الترمذي مسندة.
* (وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لاهله * نارا فقال لاهله امكثوا إنىءانست نارا لعلى اتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى * فلما أتاها نودى ياموسى * إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إننى أنا الله لا إلاه إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلواة لذكرى * إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى * وما تلك بيمينك ياموسى * قال هى عصاى أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مأرب أخرى * قال ألقها ياموسى * فألقاها فإذا هى حية تسعى * قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى * واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء ءاية أخرى * لنريك من ءاياتنا الكبرى * اذهب إلى فرعون إنه طغى) *.
ولما ذكر تعالى تعظيم كتابه وتضمن تعظيم رسوله أتبعه بقصة موسى ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، كما قال تعالى * (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) * فقال تعالى: * (وهل أتاك حديث موسى) * وهذا استفهام تقرير يحث على الإصغاء لما يلقى إليه وعلى التأسي. وقيل: * (هل) * بمعنى قد أي قد * (ءاتاك) *، والظاهر خلاف هذا لأن السورة مكية. والظاهر أنه لم يكن أطلعه على قصة موسى قبل هذا. وقيل: إنه استفهام معناه النفي أي ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى، ونحن الآن قاصون قصته لتتسلى وتتأسى وكان من حديثه أنه عليه السلام لما قضى أكمل الأجلين استأذن شعيبا في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخته فأذن له، وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره، فخرج بأهله وماله وكان في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام، وامرأته حامل فلا يدري أليلا تضع أم نهارا، فسار في البرية لا يعرف طرقها، فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد، وأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فلم يور. قيل: كان رجلا غيورا يصحب الرفقة ليلا ويفارقهم نهار لئلا ترى امرأته، فأضل الطريق.
قال وهب: ولد له ابن في الطريق ولما صلد زنده * (رأى نارا) *. والظاهر أن * (إذ) * ظرف للحديث لأنه حدث. وأجاز الزمخشري أن تكون ظرفا لمضمر أي * (نارا) * كان كيت وكيت، وأن تكون مفعولا لأذكر * (امكثوا) * أي أقيموا في مكانكم، وخاطب امرأته وولديه والخادم. وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية * (لاهله امكثوا) * بضم الهاء وكذا في القصص والجمهور بكسرها * (إنى آنست) * أي أحسست، والنار على بعد لا تحس إلا بالبصر فلذلك فسره بعضهم برأيت، والإيناس أعم من الرؤية لأنك تقول
215

* (آنست) * من فلان خيرا. وقال الزمخشري: الإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم. وقيل: هو إبصار ما يؤنس به لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع، وقال: لعل ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به انتهى. والظاهر أنه رأى نورا حقيقة.
وقال الماوردي: كانت عند موسى * (نارا) * وكانت عند الله نورا. قيل: وخيل له أنه نار. قيل: ولا يجوز هذا لأن الإخبار بغير المطابق لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولفظة على ههنا على بابها من الاستعلاء، ومعناه إن أهل النار يستعلون المكان القريب منها، أو لأن المصطلين بها والمستمتعين إذا تكنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها ومنه قول الأعشى.
ويات على النار الندى والمحلق
وقال ابن الأنباري: على بمعنى عند وبمعنى مع وبمعنى الباء، وذكر الزجاج أنه ضل عن الماء فترجى أن يلقى من يهديه الطريق أو يدله على الماء، وانتصب * (هدى) * على أنه مفعول به على تقدير محذوف أي ذا * (هدى) * أو على تقدير حذف لأنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى هدى الطريق. وقيل: * (هدى) * في الدين قاله مجاهد وقتادة وهو بعيد، وهو وإن كان طلب من يهديه الطريق فقد وجد الهدى على الإطلاق.
والضمير في * (أتاها) * عائد على النار أتاها فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة عناب قاله ابن عباس. وقيل: سمرة قاله عبد الله. وقيل: عوسج قاله وهب. وقيل: عليقة عن قتادة ومقاتل والكلبي وكان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته، فأيقن أن هذا أمر من أمور الله الخارقة للعادة، ووقف متحيرا وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة و * (نودى) * وهو تكليم الله إياه. وقرأ الجمهور: * (إنى) * بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين، وعلى معاملة النداء معاملة القول لأنه ضرب منه على مذهب الكوفيين. و * (أنا) * مبتدأ أو فصل أو توكيد لضمير النصب، وفي هذه الأعاريب حصل التركيب لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: وأني بفتح الهمزة والظاهر أن التقدير بأني * (أنا ربك) *. وقال ابن عطية: على معنى لأجل * (إنى أنا ربك فاخلع نعليك) * و * (نودى) * قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو علي:
* ناديت باسم ربيعة بن مكدم
*
إن المنوه باسمه الموثوق
*
انتهى. وعلمه بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه تعالى فيه أو بالاستدلال بالمعجزة، وعند المعتزلة لا يكون ذلك إلا بالمعجز فمنهم من عينه ومنهم من قال: لا يلزم أن يعرف ما ذلك المعجز قالوا: ولا يجوز أن يكون ذلك بالعلم الضروري لأنه ينافي في التكليف، والظاهر أن أمره تعالى إياه بخلع النعلين لعظم الحال التي حصل فيها كما يخلع عند الملوك غاية في التواضع. وقيل: كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرحهما لنجاستهما. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت). قال: هذا حديث غريب، والكمة القلنسوة الصغيرة وكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ قول عكرمة وقتادة والسدي ومقاتل والكلبي والضحاك. وقيل: كانتا من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعهما البيان بركة الوادي المقدس، وتمس
216

قدماه تربته وروى أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. و * (المقدس) * المطهر و * (طوى) * اسم علم عليه فيكون بدلا أو عطف بيان.
وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن محيص بكسر الطاء منونا. وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منونا. وقرأ الحرميان وأبو عمرو بضمها غير منون. وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون. وقرأ عيس بن عمر والضحاك طاوى أذهب فمن نون فعلى تأويل المكان، ومن لم ينون وضم الطاء فيحتمل أن يكون معدولا عن فعل نحو زفر وقثم، أو أعجميا أو على معنى البقعة، ومن كسر ولم ينون فمنع الصرف باعتبار البقعة. وقال الحسن: * (طوى) * بكسر الطاء والتنوين مصدر ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين فهو بوزن الثناء وبمعناه وذلك لأن الثنا بالكسر والقصر الشيء الذي تكرره، فكذلك الطوى على هذه القراءة. وقال قطرب * (طوى) * من الليل أي ساعة أي قدس لك في ساعة من الليل لأنه نودي بالليل، فلحق الوادي تقديس محدد أي * (إنك * إذ ناداه) * ليلا. قرأ طلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وخلف في اختياره وأما بفتح الهمزة وشد النون اخترناك بنون العظمة.
وقرأ السلمي وابن هرمز والأعمش في رواية * (وأنا) * والألف عطفا على * (إنى أنا ربك) * لأنهم كسروا ذلك أيضا، والجمهور * (وأنا اخترتك) * بضمير المتكلم المفرد غير المعظم نفسه. وقرأ أبي وأني بفتح الهمزة وياء المتكلم * (اخترتك) * بتاء عطفا على * (إنى أنا ربك) * ومفعول * (اخترتك) * الثاني المتعدي إليه بمن محذوف تقديره من قومك. والظاهر أن * (لما يوحى) * من صلة استمع وما بمعنى الذي.
وقال الزمخشري وغيره: * (لما * يوحى) * للذي يوحى أو للوحي، فعلق اللام باستمع أو باخترتك انتهى. ولا يجوز التعليق باخترتك لأنه من باب الأعمال فيجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني، فكان يكون فاستمع له لما يوحى فدل على أنه إعمال الثاني.
وقال أبو الفضل الجوهري: لما قيل لموسى صلوات الله على نبينا وعليه استمع لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره، ووقف ليستمع وكان كل لباسه صوفا. وقال وهب: أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع لما يحب الله وحذف الفاعل في * (يوحى) * للعلم به ويحسنه كونه فاصلة، فلو كان مبنيا للفاعل لم يكن فاصلة والموحى قوله * (إنى أنا الله) * إلى آخره معناه وحدني كقوله تعالى * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * إلى آخر الجمل جاء ذلك تبيينا وتفسيرا للإبهام في قوله * (لما يوحى) *. وقال المفسرون * (فاعبدنى) * هنا وحدني كقوله تعالى * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * معناه ليوحدون، والأولى أن يكون * (فاعبدنى) * لفظ يتناول ما كلفه به من العبادة، ثم عطف عليه ما هو قد يدخل تحت ذلك المطلق فبدأ بالضلالة إذ هي أفضل الأعمال وأنفعها في الآخرة، والذكر مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي ليذكرني فإن ذكري أن اعبدو يصلي لي أو ليذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، ويحتمل أن تضاف إلى المفعول أي لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق، أو لأن تذكرني خاصة لا تشو به بذكر غيري أو خلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضا آخر، أو لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على إبل منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به كما قال * (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) * أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله * (فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا الله قياما وقعودا) * واللام على هذا القول مثلها في قوله * (أقم الصلواة لدلوك الشمس) * وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها).
قال الزمخشري: وكان حق العبادة أن يقال لذكرها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم))
217

: (إذا ذكرها). ومن يتمحل له يقول: إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله، أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي أو لأن الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة انتهى. وفي الحديث بعد قوله: (فليصلها إذا ذكرها) قوله (إذ لا كفارة لها إلا ذلك) ثم قرأ * (يوحى إننى أنا) *. وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء: للذكري بلام التعريف وألف التأنيث، فالذكرى بمعنى التذكرة أي لتذكيري إياك إذا ذكرتك بعد نسيانك فأقمها. وقرأت فرقة لذكرى بألف التأنيث بغير لام التعريف. وقرأت فرقة: للذكر.
ولما ذكر تعالى الأمر بالعبادة وإقامة الصلاة ذكر الحامل على ذلك وهو البعث والمعاد للجزاء فقال * (إن الساعة ءاتية) * وهي التي يظهر عندها ما عمله الإنسان
وجزاء ذلك إما ثوابا وإما عقابا. وقرأ أبو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد أخفيها بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم بمعنى أظهرها أي إنها من صحة وقوعها وتيقن كونها تكاد تظهر، ولكن تأخرت إلى الأجل المعلوم وتقول العرب: خفيت الشيء أي أظهرته. وقال الشاعر:
* خفاهن من إيقانهن كأنما
*
خفاهن ودق من عشي مجلب
*
وقال آخر
* فإن تدفنوا الداء لا نخفه
*
وإن توقدوا الحرب لا نقعد
*
ولام * (لتجزى) * على هذه القراءة متعلقة بأخفيها أي أظهرها * (لتجزى) * كل نفس. وقرأ الجمهور * (أخفيها) * بضم الهمزة وهو مضارع أخفي بمعنى ستر، والهمزة هنا للإزالة أي أزلت الخفاء وهو الظهور، وإذا أزلت الظهور صار للستر كقولك: أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة. وقال أبو علي: هذا من باب السلب ومعناه، أزيل عنها خفاءها وهو سترها، واللام على قراءة الجمهور. قال صاحب اللوامح متعلقة بآتية كأنه قال * (إن الساعة ءاتية) * لنجزي انتهى، ولا يتم ذلك إلا إذا قدرنا * (أكاد أخفيها) * جملة اعتراضية، فإن جعلتها في موضع الصفة لآتية فلا يجوز ذلك على رأي البصريين لأن أسم الفاعل لا يعمل إذا وصف قبل أخذ معموله. وقيل: * (أخفيها) * بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان، وأخفى من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى الستر. قال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد وقد حكاه أبو الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا شك في صدقه و * (أكاد) * من أفعال المقاربة لكنها مجاز هنا، ولما كانت الآية عبارة عن شدة إخفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ في إبهام وقتها فقال * (أكاد أخفيها) * حتى لا تظهر البتة، ولكن لا بد من ظهورها. وقالت فرقة * (أكاد) * بمعنى أريد، فالمعنى أريد إخفاءها وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم. قال أبو مسلم: ومن أمثالهم لا أفعل ذلك: ولا أكاد أي لا أريد أن أفعله. وقالت فرقة: خبر كاد محذوف تقديره * (أكاد) * أتى بها لقربها وصحة وقوعها كما حذف في قول صابيء البرجمي:
* هممت ولم أفعل وكذت وليتني
*
تركت على عثمان تبكي حلائله
*
أي وكدت أفعل. وتم الكلام ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها واختاره النحاس. وقالت فرقة: معناه * (أكاد أخفيها) * من نفسي إشارة إلى شدة غموضها عن المخلوقين وهو مروي عن ابن عباس.
ولما رأى بعضهم قلق هذا القول قال معنى من نفسي: من تلقائي ومن عندي. وقالت فرقة * (أكاد) * زائدة لا دخول لها في المعنى بل الإخبار أن الساعة آتية
218

وأن الله يخفي وقت إتيانها، وروي هذا المعنى عن ابن جبير، واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى * (لم يكد يراها) * وبقول الشاعر وهو زيد الخيل:
* سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
*
فما إن يكاد قرنه يتنفس
*
وبقول الآخر
* وأن لا ألوم النفس مما أصابني
*
وأن لا أكاد بالذي نلت أنجح ولا حجة في شيء من هذا. وقال الزمخشري: * (أكاد أخفيها) * فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها، ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وقيل: معناه * (أكاد أخفيها) * من نفسي ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطرح. والذي غزهم منه أن في مصحف أبي * (أكاد أخفيها) * من نفسي وفي بعض المصاحف * (أكاد أخفيها) * من نفسي فكيف أظهركم عليها انتهى. ورويت هذه الزيادة أي ضا عن أبي ذكر ذلك ابن خالويه. وفي مصحف عبد الله * (أكاد أخفيها) * من نفسي فكيف يعلمها مخلوق. وفي بعض القراءات وكيف أظهرها لكم وهذا محمول على
ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال: كذت أخفيه من نفسي، والله تعالى لا يخفى عليه شيء قال معناه قطرب وغيره. وقال الشاعر:
أيام تصحبني هند وأخبرهاما كدت أكتمه عني من الخبر وكيف يكتم من نفسه ومن نحو هذا من المبالغة، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، والضمير في * (أخفيها) * عائد على * (الساعة) * و * (الساعة) * يوم القيامة بلا خلاف، والسعي هنا العمل. والظاهر أن الضمير في * (عنها) * و * (بها) * عائد على الساعة. وقيل: على الصلاة. وقيل * (عنها) * عن الصلاة و * (بها) * أي بالساعة، وأبعد جدا من ذهب إلى أن الضمير في * (عنها) * يعود على ما تقدم من كلمة * (لا إلاه إلا أنا فاعبدنى) *.
*
والظاهر أن الخطاب في * (فلا) * لموسى عليه السلام، ولا يلزم من النهي عن الشيء إمكان وقوعه ممن سبقت له العصمة، فينبغي أن يكون لفظا وللسامع غيره ممن يمكن وقوع ذلك منه، وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم) لفظا ولأمته معنى.
وقال الزمخشري: فإن قلت: العبارة أنهى من لا يؤمن عن صد موسى، والمقصود نهي موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق؟ قلت: فيه وجهان.
أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب.
والثاني: أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك هاهنا. المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته وذلك سبب رؤيته إياه، فكان ذكر المسبب دليلا على السبب كأنه قيل: فكن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه * (هواه فتردى) * يجوز أن يكون منصوبا على جواز النهي وأن يكون مرفوعا أي فأنت تردى. وقرأ يحيى فتردى بكسر التاء.
* (وما تلك بيمينك ياموسى * موسى) * هو تقرير مضمنه التنبيه، وجمع النفس لما يورد عليها وقد علم تعالى في الأزل ما هي وإنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وجل في الخشبة
219

اليابسة من قلبها حية نضناضة، ويتقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه، وينبهه على قدرته الباهرة و * (ما) * استفهام مبتدأ و * (تلك) * خبره و * (يمينك) * في موضع الحال كقوله * (وهاذا بعلى شيخا) * والعامل اسم الإشارة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون * (تلك) * أسما موصولا صلته بيمينك، ولم يذكر ابن عطية غيره وليس ذلك مذهبا للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون، قالوا: يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولا حيث يتقدر بالموصول كأنه قيل: وما التي بيمينك؟ وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفا كأنه قيل: وما التي استقرت بيمينك؟ وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى عليه السلام استئناس عظيم وتشريف كريم.
* (قال هى عصاى) *. وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري عصي بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم. وقرأ الحسن عصاي بكسر الياء وهي مروية عن ابن أبي إسحاق أيضا وأبي عمرو معا، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين. وعن أبي إسحاق والجحدري عصاي بسكون الياء. * (قال هى) * أي أتحامل عليها في المشي والوقوف، وهذا زيادة في الجواب كما جاء (هو الطهور ماؤه الحل ميتته). في جواب من سأل أيتوضأ بماء البحر؟ وكما جاء في جواب ألهذا حج؟ قال: (نعم ولك أجر). وحكمة زيادة موسى عليه السلام رغبته في مطاولة مناجاته لربه تعالى، وازدياد لذاذته بذلك كما قال الشاعر:
* وأملي عتابا يستطاب فليتني
*
أطلت ذنوبا كي يطول عتابه
*
وتعداده نعمه تعالى عليه بما جعل له فيها من المنافع، وتضمنت هذه الزيادة تفصيلا في قوله * (قال هى عصاى أتوكؤا عليها وأهش) * وإجمالا في قوله * (ولى فيها مأرب أخرى) *. وقيل: * (قال هى) * جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال * (هى عصاى) * قال له تعالى فما تصنع بها؟ قال: * (قال هى) * الآية. وقيل: سأله تعالى عن شيئين عن العصا بقوله * (وما تلك) * وبقوله * (بيمينك) * عما يملكه، فأجابه عن * (وما تلك) *؟ بقوله * (هى عصاى) * وعن قوله * (بيمينك) * بقوله * (قال هى عصاى) * إلى آخره انتهى. وفي التحقيق ليس قوله * (بيمينك) * بسؤال وقدم في الجواب مصلحة نفسه في قوله * (قال هى) * ثم ثنى بمصلحة رعيته في قوله * (وأهش) *.
وقرأ الجمهور * (* وأهه) * بضم الهاء والشين المعجمة، والنخعي بكسرها كذا ذكر أبو الفضل الرازي وابن عطية وهي بمعنى المضمومة الهاء والمفعول محذوف وهو الورق. قال أبو الفضل: ويحتمل ذلك أن يكون من هش يهش هشاشة إذا مال، أي أميل بها على غنمي بما أصلحها من السوق وتكسير العلف ونحوهما، يقال منه: هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولأن انتهى. وقرأ الحسن وعكرمة: وأهس بضم الهاء والسين غير معجمة، والهس السوق ومن ذلك الهس والهساس غير معجمة في الصفات. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ وأهس بضم الهمزة من أهس رباعيا وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة ومجاهد وأهه بضم الهاء وتخفيف الشين قال: ولا أعرف وجهه إلا أن يكون بمعنى العامة لكن فر من قراءته من التضعيف لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي. فيكون كتخفيف ظلت ونحوه. وذكر الزمخشري عن النخعي أنه قرأ * (عليها وأهش) * بضم الهمزة والشين المعجمة من أهش رباعيا قال: وكلاهما من هش الخبز يهش إذا كان يتكسر لهشاشته.
ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال ما هي إلا عصا لا تنفع إلا منافع بنات جنسها كما ينفع العيدان ليكون جوابه مطابقا
220

للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه، ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة كأنه يقول أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة. كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها وقالوا اسم العصا نبعة انتهى.
وقرأت فرقة * (غنمى) * بسكون النون وفرقة علي غنمي بإيقاع الفعل على الغنم. والمآرب ذكر المفسرون أنها كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه.
وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين بالليل، وإذا ظهر عدو حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب. وكانت تقيه الهوام ويرد بها غنمه وإن بعد واو هذه العصا أخذها من بيت عصي الأنبياء التي كانت عند شعيب حين اتفقا على الرعية هبط بها آدم من الجنة وطولها عشرة أذرع، وقيل: اثنتا عشرة بذراع موسى عليه السلام وعامل المآرب وإن كان جمعا معاملة الواحدة المؤنثة فأتبعها صفتها في قوله أخرى ولم يقل آخر رعيا للفواصل وهي جائز في غير الفواصل. وكان أجود وأحسن في الفواصل.
وقرأ الزهري وشيبة: مارب بغير همز كذا قال الأهوازي في كتاب الإقناع في القراءات ويعني والله أعلم بغير هم محقق، وكأنه يعني أنهما سهلاها بين بين.
* (قال ألقها) * الظاهر أن القائل هو الله تعالى، ويبعد قول من قال يجوز أن يكون القائل الملك بإذن الله ومعنى * (ألقاها) * اطرحها على الأرض ومنه قول الشاعر:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
وإذا هي التي للمفاجأة، والحية تنطلق على الصغيرة والكبيرة والذكر والأنثى والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم منها، ولا تنافي بين تشبيهها بالجان في قوله * (فلما رءاها تهتز كأنها جان) * وبين كونها ثعبانا لأن تشبيهها بالجان هو في أول حالها ثم تزيدت حتى صارت ثعبانا أو شبهت بالجان وهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها مع عظم خلقها. قيل: كان لها عرف كعرف الفرس وصارت شعبتا العصا لها فما وبين لحييها أربعون ذراعا.
وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا تبتلع الصخر والشجر والمجن عنقا وعيناها تتقدان، فلما رأى هذا الأمر العجيب الهائل لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول. ومعنى * (تسعى) * تنتقل وتمشي بسرعة، وحكمة انقلابها وقت مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت إذ قد جرت له بذلك عادة وتدريبه في تلقى تكاليف النبوة ومشاق الرسالة، ثم أمره تعالى بالإقدام على أخذها ونهاه عن أن يخاف منها وذلك حين ولى مدبرا ولم يعقب. وقيل: إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها. وقيل: لما قال له الله * (لا تخف) * بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها ويبعد ما ذكره مكي في تفسيره أنه قيل له خذ مرة وثانية حتى قيل له * (خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى) * فأخذها في الثالثة لأن منصب النبوة لا يليق أن يأمره ربه مرة وثانية فلا يمتثل ما أمر به، وحين أخذها بيده صارت عصا والسيرة من السير كالركبة والجلسة، يقال: سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. وقيل: سير الأولين. وقال الشاعر:
221

* فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها
*
فأول راض سيرة من يسيرها
*
واختلفوا في إعراب * (سيرتها) * فقال الحوفي مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار مثل * (واختار موسى قومه) * يعني إلى * (سيرتها) * قال: ويجوز أن يكون بدلا من مفعول * (سنعيدها) *. وقال هذا الثاني أبو البقاء قال: بدل اشتمال أي صفتها وطريقتها. وقال الزمخشري: يجوز أن ينتصب على الظرف أي * (سنعيدها) * في طريقتها الأولى أي في حال ما كانت عصا انتهى. و * (سيرتها) * وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلا بواسطة، في ولا يجوز الحذف إلا في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون مفعولا من عاده بمعنى عاد إليه. ومنه بيت زهير:
وعادك أن تلاقيها عداء
فيتعدى إلى مفعولين انتهى. وهذا هو الوجه الأول الذي ذكره الحوفي. قال: ووجه ثالث حسن وهو أن يكون * (سنعيدها) * مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها، بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولا ونصب * (سيرتها) * بفعل مضمر أي تسير * (سيرتها الاولى) * يعني * (سنعيدها) * سائرة * (سيرتها الاولى) * حيث كنت تتوكأ عليها، ولك فيها المآرب التي عرفتها انتهى.
والجناح حقيقة في الطائر والملك، ثم توسع فيه فأطلق على اليد وعلى العضد وعلى جنب الرجل. وقيل لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة، وسمي جناح
الطائر لأنه يجنح به عند الطيران، ولما كان المرغوب من ظلمة أو غيرها إذا ضم يده إلى جناحه فتر رغبة وربط جأشه أمره تعالى أن يضم يده إلى جناحه ليقوى جأشه ولتظهر له هذه الآية العظيمة في اليد. والمراد إلى جنبك تحت العضد. ولهذا قال * (تخرج) * فلو لم يكن دخول لم يكن خروج كما قال في الآية الأخرى * (وأدخل يدك فى جيبك تخرج) * وفي الكلام حذف إذ لا يترتب الخروج على الضم وإنما يترتب على الإخراج والتقدير * (واضمم يدك إلى جناحك) * تنضم وأخرجها * (تخرج) * فحذف من الأول وأبقى مقابله، ومن الثاني وأبقى مقابله وهو * (* اضمم) * لأنه بمعنى أدخل كما يبين في الآية الأخرى.
* (جناحك تخرج بيضاء من غير سوء) * قيل خرجت بيضاء تشف وتضئ كأنها شمس، وكان آدم اللون وانتصب * (بيضاء) * على الحال والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة، وكما كنوا عن جذيمة وكان أبرص بالأبرص والبرص أبغض شيء إلى العرب وطباعهم تنفر منه وأسماعهم تمج ذكره فكنى عنه. وقوله * (من غير سوء) * متعلق ببيضاء كأنه قال ابيضت * (من غير سوء) *. وقال الحوفي: * (من غير سوء) * في موضع النعت لبيضاء، والعامل فيه الاستقرار انتهى. ويقال له عند أرباب البيان الاحتراس لأنه لو اقتصر على قوله * (بيضاء) * لأوهم أن ذلك من برص أو بهق. وانتصب * (ءاية) * على الحال وهذا على مذهب من يجيز تعداد الحال لذي حال واحد. وأجاز الزمخشري أن يكون منصوبا على إضمار خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام كذا قال، فأما تقدير خذ فسائغ وأما دونك فلا يسوغ لأنه اسم فعل من باب الإغراء فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب عنه ولذلك لم يجر مجراه في جميع أحكامه، وأجاز أبو البقاء والحوفي أن يكون * (ءاية) * بدلا من * (بيضاء) * وأجاز أبو البقاء أن يكون حالا من الضمير في * (بيضاء) * أي تبيض * (ءاية) *. وقيل منصوب بمحذوف تقديره
222

جعلناها * (ءاية) * أو آتيناك * (ءاية) *.
واللام في * (لنريك) * قال الحوفي متعلقة باضمم، ويجوز أن تتعلق بتخرج. وقال أبو البقاء: تتعلق بهذا المحذوف يعني المقدر جعلناها أو آتيناك، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه * (ءاية) * أي دللنا بها * (لنريك) *. وقال الزمخشري: * (لنريك) * أي خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض * (الكبرى اذهب) * أو * (لنريك) * بهما * (الكبرى) * من * (ءاياتنا) * أو * (لنريك من ءاياتنا الكبرى) * فعلنا ذلك، وتهنى أنه جاز أن يكون مفعول * (لنريك) * الثاني * (الكبرى) * أو يكون * (من ءاياتنا) * في موضع المفعول الثاني. وتكون * (الكبرى) * صفة لآياتنا على حد * (الاسماء الحسنى) * و * (مأرب أخرى) * بجريان مثل هذا الجمع مجرى الواحدة المؤنثة، وأجاز هذين الوجهين من الإعراب الحوفي وابن عطية وأبو البقاء. والذي نختاره أن يكون * (من ءاياتنا) * في موضع المفعول الثاني، و * (الكبرى) * صفة لآياتنا لأنه يلزم من ذلك أن تكون إياته تعالى كلها هي الكبر لأن ما كان بعض الآيات الكبر صدق عليه أنه * (الكبرى) *. وإذا جعلت * (الكبرى) * مفعولا لم تتصف الآيات بالكبر لأنها هي المتصفة بأفعل التفضيل، وأيضا إذا جعلت * (الكبرى) * مفعولا فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معا لأنهما كان يلزم التثنية في وصفيهما فكان يكون التركيب الكبريين ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن كلا منهما فيها معنى التفضيل. ويبعد ما قال الحسن من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه ذكر عقيب اليد * (لنريك من ءاياتنا الكبرى) * لأنه جعل * (الكبرى) * مفعولا ثانيا * (لنريك) * وجعل ذلك راجعا إلى الآية القريبة وهي إخراج اليد بيضاء من غير سوء وقد ضعف قوله هذا لأنه ليس في اليد إلا تغيير اللون، وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الشجر والحجر، ثم عادت عصا بعد ذلك فقد وقع التغيير مرارا فكانت أعظم من اليد.
وملا أراه تعالى هاتين المعجزتين العظيمتين في نفسه وفيما يلابسه وهو العصا أمره بالذهاب إلى فرعون رسولا من عنده تعالى وعللك حكمة الذهاب إليه بقوله * (إنه طغى) * وخص فرعون وإن كان مبعوثا إليهم كلهم لأنه رأس الكفر ومدعي الإلهية وقومه تباعه. قال وهب بن منبه: قال الله لموسى عليه السلام اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي أرعاك بعيني وسمعي، وإن معك يدي ونصري، وألبسك جنة من سلطاني تستكمل بها العزة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، أقسم بعزتي لولا الحجة والقدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار، ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. وقل له قولا لينا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل. قال: فسكت موسى عليه السلام سبعة أيام. وقيل: أكثر فجاءه ملك فقال انفذ ما أمرك ربك.
* (قال رب اشرح لى صدرى * ويسر لى أمرى * واحلل عقدة من لسانى * يفقهوا قولي * واجعل لى وزيرا من أهلى * هارون أخى * اشدد به أزرى * وأشركه فى أمرى * كى نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا * قال قد أوتيت سؤلك ياموسى * موسى * ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له وألقيت عليك محبة منى) *. (سقط ولتصنع على عيني، إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتنالك فتونا فلبث سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى، واصطنعتك لنفسي)
223

لما أمره تعالى بالذهاب إلى فرعون عرف أنه كلف أمرا عظيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح، فسأل ربه ورغب في أن يشرح صدره ليحتمل ما يرد عليه من الشدائد التي يضيق لها الصدر، وأن يسهل عليه أمره للذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة جلائل الخطوب، وقد علم ما عليه فرعون من الجبروت والتمرد والتسلط. وقال ابن جريج: معناه وسع لي صدري لأعي عنك ما تودعه من وحيك. وقال الكرماني وسع قلبي ولينه لفهم خطابك وأداء رسالتك. والقيام بما كلفتنيه من أعبائها، والعقدة استعارة لثقل كان في لسانه خلقة.
وقال مجاهد: كانت من الجمرة التي أدخلها فاه وكانت آسية قد ألقى الله محبته في قلبها وسألت فرعون أن لا يذبحه، فبيناهي ترقصه يوما أخذه فرعون في حجره فأخذ خصلة من لحيته. وقيل: لطمه. وقيل: ضربه بقضيب كان في يده فغضب فرعون فدعاء بالسياف فقالت: إنما هو صبي لا يفرق بين الياقوت والجمر. فاحضرا وأراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه السلام يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه انتهى وإحراق النار وتأثيرها في لسانه لا في يده دليل على فساد قول القائلين بالطبيعة. وعن ابن عباس كانت في لسانه رثت. وقيل: حدثت العقدة بعد المناجاة حتى لا يكلم أحد بعدها. وقال قطرب: كانت فيه مسكة عن الكلام. وقال ابن عيسى: العقدة كالتمتمة والفأفأة. وطلب موسى من حل العقدة قدر ما يفقه قوله، قيل: وبقي بعضها لقوله وأخي هارون هو أفصح مني لسان وقوله ولا يكاد يبين. وقيل: زالت لقوله * (قد أوتيت سؤلك ياموسى * موسى) * وهو قول الحسن، قيل: وهو ضعيف لأنه لم يقل واحلل العقدة بل قال * (عقدة) * فإذا حل عقدة فقد آتاه الله سؤله. وقيل في قوله ولا يكاد يبين أن معناه لا يأتي ببيان وحجة، وإنما قال ذلك فرعون تمويها وقد خاطبه وقومه وكانوا يفهمون عنه فكيف يمكن نفي البيان أو مقاربته؟.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لي في قوله * (اشرح لى صدرى * ويسر لى أمرى) * ما جدواه والكلام بدون مستتب؟ قلت: قد أبهم الكلام أولا فقال * (اشرح لى) * * (ويسر لى) * فعلم أن ثم مشروحا وميسرا ثم بين ورفع الإبهام فذكرهما فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره، وأمره من أن يقول اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الشارح لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل. وقال أيضا: وفي تنكير العقدة وإن لم يقل * (واحلل عقدة) * * (لسانى) * أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهما جيدا ولم يطلب الفصاحة الكاملة، و * (من لسانى) * صفة للعقدة كأنه قيل * (عقدة من) * عقد * (لسانى) * انتهى. ويظهر أن * (من لسانى) * متعلق باحلل لأن موضع الصفة لعقدة وكذا قال الحوفي. وأجاز أبو البقاء الوجهين والوزير المعين القائم بوزر الأمور أي بثقلها فوزير الملك يتحمل عنه أوزاره ومؤنه. وقيل: من الوزر وهو الملجأ يلتجىء إليه الإنسان. وقال الشاعر:
* من السباع الضواري دونه وزر
*
والناس شرهم ما دونه وزر
*
* كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع
*
وما نرى بشرا لم يؤذهم بشر فالملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أموره. وقال الأصمعي: هو من المؤازرة وهي المعاونة والمساعدة،
224

والقياس أزير وكذا قال الزمخشري: قال وكان القياس أزير فقلبت الهمزة إلى الواو ووجه قلبها أن فعيلا جاء في معنى مفاعل مجيأ صالحا كعشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم، فلما قلب في أخيه قلبت فيه، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز. ونظرا إلى يوازر وأخواته وإلى الموازرة انتهى ولا حاجة إلى ادعاء قلب الهمزة واوا لأن لنا اشتقاقا واضحا وهو الوزر، وأما قلبها في يؤازر فلأجل ضمة ما قبل الواو وهو أيضا إبدال غير لازم، وجوزوا أن يكون * (لى وزيرا) * مفعولين لاجعل و * (هارون) * بدل أو عطف بيان، وأن يكون * (وزيرا) * و * (هارون) * مفعولية، وقدم الثاني اعتناء بأمر الوزارة و * (أخى) * بدل من * (هارون) * في هذين الوجهين.
*
قال الزمخشري: وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن انتهى. ويبعد فيه عطف البيان لأن الأكثر في عطف البيان أن يكون الأول دونه في الشهرة، والأمر هنا بالعكس. وجوزوا أن يكون * (وزيرا من أهلى) * هما المفعولان و * (لى) * مثل قوله * (ولم يكن له كفوا أحد) * يعنون أنه به يتم المعنى. و * (هارون) * على ما تقدم. وجوزوا أن ينتصب * (هارون) * بفعل محذوف أي اضم إلي هارون وهذا لا حاجة إليه لأن الكلام تام بدون هذا المحذوف.
وقرأ الحسن وزيد بن علي وابن عامر * (اشدد) * بفتح الهمزة * (وأشركه) * بضمها فعلا مضارعا مجزوما على جواب الأمر وعطف عليه * (وأشركه) *. وقال صاحب اللوامح عن الحسن أنه قرأ أشدد به مضارع شدد للتكثير، والتكرير أي كلما حزنني أمر شددت * (به أزرى) *. وقرأ الجمهور * (اشدد) * * (وأشركه) * على معنى الدعاء في شد الأزر وتشريك هارون في النبوة، وكان الأمر في قراءة ابن عامر لا يريد به النبوة بل يريد تدبيره ومساعدته لأنه ليس لموسى أن يشرك في النبوة أحدا. وفي مصحف عبد الله أخي وأشدد.
وقال الزمخشري: ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل * (أخى) * مرفوعا على الابتداء * (واشدد * به) * خبره ويوقف على * (هارون) * انتهى. وهو خلاف الظاهر فلا يصار إليه لغير حاجة، وكان هارون أكبر من موسى بأربعة أعوام، وجعل موسى ما رغب فيه وطلبه من نعم سببا تلزم منه العبادة والاجتهاد في أمر الله والتظافر على العبادة والتعاون فيها مثير للرغبة والتزيد من الخير.
* (كى نسبحك) * ننزهك عما لا يليق بك * (ونذكرك) * بالدعاء والثناء عليك وقدم التسبيح لأنه تنزيهه تعالى في ذاته وصفاته وبراءته عن النقائص، ومحل ذلك القلب والذكر والثناء على الله بصفات الكمال ومحله اللسان، فلذلك قدم ما محله القلب على ما محله اللسان. و * (كثيرا) * نعت لمصدر محذوف أو منصوب على
الحال، أي نسبحك التسبيح في حال كثرتهم على ما ذهب إليه سيبويه * (إنك كنت بنا بصيرا) * عالما بأحوالنا. والسؤل فعل بمعنى المسؤول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول، والمعنى أعطيت طلبتك وما سألته من شرح الصدر وتيسر الأمر وحل العقدة، وجعل أخيك وزيرا وذلك من المنة عليه.
ثم ذكره تعالى تقديم منته عليه على سبيل التوقيف ليعظم اجتهاده وتقوي بصيرته و * (مرة) * معناه منة و * (أخرى) * تأنيث آخر بمعنى غير أي منة غير هذه المنة، وليست * (أخرى) * هنا بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى، وتخيل ذلك بعضهم فقال: سماها * (أخرى) * وهي أولى لأنها * (أخرى) * في الذكر والأخرى لفظ مشترك يكون تأنيث الآخر بفتح الخاء وتأنيث الآخر بمعنى آخره فهذه يلحظ فيها معنى التأخر. والمعنى أني قد حفظتك وأنت طفل رضيع فكيف لا أحفظك وقد أهلتك للرسالة. وفي قوله * (مرة أخرى) * إجمال يفسره قوله * (إذا * أوحينا إلى أمك) *. قال الجمهور: هي وحي إلهام كقوله * (وأوحى ربك إلى النحل) *. وقيل: وحي إعلام إما بإراءة ذلك في منام، وإما ببعث ملك إليها لا على جهة النبوة كما بعث إلى مريم وهذا و الظاهر لظاهر قوله * (يأخذه عدو لى وعدو له) * ولظاهر آية القصص * (إنا رادوه إليك * وجاء * كنت من المرسلين) * ويبعد ما صدر به
225

الزمخشري قوله: من يرد يده إما أن يكون على لسان نبي في وقتها كقوله * (وإذا * أوحيت إلى الحواريين) * لأنه لم ينقل أنه كان في زمن فرعون، وكان في زمن الحواريين زكريا ويحيى. وفي قوله * (ما يوحى) * إبهام وإجمال كقوله * (إذ يغشى السدرة ما يغشى) * * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) * وفيه تهويل وقد فسر هنا بقوله * (أن اقذفيه فى التابوت) *.
قال الزمخشري: و * (ءان) * هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول. وقال ابن عطية: و * (ءان) * في قوله * (أن اقذفيه) * بدل من ما يعني أن * (ءان) * مصدرية فلذلك كان لها موضع من الإعراب. والوجهان سائغان والظاهر أن * (التابوت) * كان من خشب. وقيل: من بردى شجر مؤمن آل فرعون سدت خروقه وفرشت فيه نطعا. وقيل: قطنا محلوجا وسدت فمه وجصصته وقيرته وألقته في * (أليم) * وهو اسم للبحر العذب. وقيل: اسم للنيل خاصة والأول هو الصواب كقوله * (فأغرقناهم في اليم) * ولم يغرقوا في النيل.
والظاهر أن الضمير في * (فاقذفيه فى اليم) * عائد على موسى، وكذلك الضميران بعده إذ هو المحدث عنه لا * (التابوت) * إنما ذكر * (التابوت) * على سبيل الوعاء والفضلة. وقال ابن عطية: والضمير الأول في * (* قذفيه) * عائد على موسى وفي الثاني عائد على * (فى التابوت) * ويجوز أن يعود على موسى. وقال الزمخشري: والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلت: ما ضرك لو قلت المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر انتهى.
ولقائل أن يقول أن الضمير إذا كان صالحا لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحا، وقد نص النحويون على هذا فعوده على * (التابوت) * في قوله * (فاقذفيه فى اليم فليلقه اليم) * راجح، والجواب أنه إذا كان أحدهما هو المحدث عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدث عنه أرحج، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن حزم في دعواه أن الضمير في قوله * (فإنه رجس) * عائد على خنزير لا على لحم لكونه أقرب مذكور، فيحرم بذلك شحمه وغضروفه وعظمه وجلده بأن المحدث عنه هو لحم خنزير لا خنزير.
و * (فليلقه) * أمر معناه الخبر، وجاء بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها، ومنه قول النب: ي صلى الله عليه وسلم): (قوموا فلأصل لكم). أخرج الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك وهو قوله * (يأخذه) *. وقال الزمخشري: لما كانت مشيئة الله وإرادته أن لا يخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقاءه إليه سلك في ذلك سبل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل * (فليلقه اليم بالساحل) * انتهى. وقال الترمذي: إنما ذكره بلفظ الأمر لسابق علمه بوقوع المخبر به على ما أخبر به، فكأن البحر مأمور ممتثل للأمر. وقال الفراء: * (فاقذفيه فى اليم) * أمر وفيه معنى المجازاة أي اقذفيه يلقه اليم، والظاهر أن البحر ألقاه بالساحل فالتقطه منه.
وروي أن فرعون كان يشرب في موضع من النيل إذ رأى التابوت فأمر به فسيق إليه وامرأته معه ففتح قرأوه فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابنا فأباح لها ذلك. وروي أن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء. فأخذت التابوت وجلبته إليها فأخرجته وأعلمته فرعون والعد والذي لله ولموسى هو فرعون، وأخبرت به أم موسى على طريق الإلهام ولذلك قالت لأخته * (قصيه) * وهي لا تدري أين استقر.
* (وألقيت
226

عليك محبة منى) *. قيل: محبة آسية وفرعون، وكان فرعون قد أحبه حبا شديدا حتى لا يتمالك أن يصبر عنه. قال ابن عباس: أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال عطية: جعلت عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه. وقال ابن عطية: وأقوى الأقوال أنه القبول. وقال الزمخشري: * (مني) * لا يخلوا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا فيها في القلوب وزرعتها فيها، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك.
وقرأ الجمهور * (ولتصنع) * بكسر لام كي وضم التاء ونصب الفعل أي ولتربي ويحسن إليك. وأنا مراعيك وراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به. قال قريبا منه قتادة. وقال النحاس: يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه وهو معطوف على علة محذوف أي ليتلطف بك * (ولتصنع) * أو متعلقة بفعل متأخر تقديره
فعلت ذلك. وقرأ الحسن وأبو نهيك بفتح التاء. قال ثعلب: معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني. وقرأ شيبة وأبو جعفر في رواية بإسكان اللام والعين وضم التاء فعل أمر، وعن أبي جعفر كذلك إلا أنه كسر اللام.
* (إذ تمشى أختك) * قيل اسمها مريم سبب ذلك أن آسية عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته بالتفتيش في المدينة لعلها تقع على خبره، فبصرت به في طوافها فقالت * (أنا * أدلكم على من يكفله * لكم وهم له ناصحون) * فتعلقوا بها وقالوا: أنت عرفين هذا الصبي؟ فقالت: لا، ولكن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها، فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها فسرت آسية وقالت لها: كوني معنى في القصر، فقالت: ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي قالت: نعم، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة، ولما كمل رضاعه أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شباب، فسرت به ودخلت به على فرعون ليراه وليهبه فأعجبه وقربه، فأخذ موسى بلحية فرعون وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة.
والعامل في * (إذا) * قال ابن عطية فعل مضمر تقديره ومننا إذ. وقال الزمخشري العامل في * (إذ تمشى) * * (* ألقيت) * أو تصنع، ويجوز أن يكون بدلا من * (أخرى إذ أوحينا) * فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل لقيت فلانا سنة كذا، فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك. وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها انتهى. وليس كما ذكر لأن السنة تقبل الاتساع فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصصيهما بما أضيفا إليه فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول، إذ الأول ليس متسعا لوقوع الوحي فيه ووقوع مشي الأخت فليس وقت وقوع الوحي مشتملا على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة. وقال الحوفي: * (إذ) * متعلقة بتصنع، ولك أن تنصب * (إذ) * بفعل مضمر تقديره واذكر.
وقرأ الجمهور * (كى تقر) * بفتح التاء والقاف. وقرأت فرقة بكسر القاف، وتقدم أنهما لغتان في قوله * (وقرى عينا) *. وقرأ جناح بن حبيش بضم التاء وفتح القاف مبنيا للمفعول. و * (قتلت نفسا) * هو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة، واغتم بسبب القتل خوفا من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون، فغفر الله له باستغفاره حين قال * (رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى) * ونجاه من فرعون حين هاجر به إلى مدين والغم ما يغم على القلب بسبب خوف أو فوات مقصود، والغم بلغة قريش القتل، وقيل: من غم التابوت. وقيل: من غم البحر، والظاهر أنه من غم القتل حين ذهبنا بك من مصر إلى مدين. والفتون مصدر جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي * (* فتناك) *
227

ضروبا من الفتن، والفتنة المحنة وما يشق على الإنسان. وعن ابن عباس خلصناك من محنة بعد محنة. ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، وألقته أمه في البحر وهم فرعون بقتله، وقتل قبطيا وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة انتهى. وهذه الفتون اختبره بها وخلصه حتى صلح للنبوة وسلم لها والسنون التي لبثها في مدين عشر سنين. وقال وهب: ثمان وعشرون سنة منها مهر ابنته وبين مصر ومدين ثمان مراحل وفي الكلام حذف والتقدير * (الغم وفتناك فتونا) * فخرجت خائفا إلى * (أهل مدين) * فلبثت سنين وكان عمره حين ذهب إلى مدين اثني عشر عاما وأقام عشرة أعوام في رعي غنم شعيب، ثم ثمانية عشر عاما بعد بنائه بامرأته بنت شعيب، وولد له فيها فكمل له أربعون سنة وهي المدة التي عادة الله إرسال الأنبياء على رأسها.
* (ثم جئت) * إلى المكان الذي ناجيتك فيه وكلمتك واستنبأتك. * (على قدر) * أي وقت معين قدرته لم تتقدمه ولم تتأخر عنه. وقيل على مقدار من الزمان يوحى إلى الأنبياء فيه وهو الأربعون. وقال الشاعر:
* نال الخلافة أو جاءت على قدركما أتى ربه موسى على قدر
*
* (واصطنعتك لنفسى) * أي جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإكمال والإحسان، وأخلصتك بالألطاف واخترتك لمحبتي يقال: اصطنع فلان فلانا اتخذه صنيعة وهو افتعال من الصنع وهو الإحسان إلى الشخص حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان. وقال الزمخشري: هذا تمثيل لما خوله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه الملوك بجميع خصال فيه وخصائص أهلا لأن يكون أقرب منزلة إليه وألطف محلا فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويستخلصه لنفسه انتهى. ومعنى * (لنفسى) * أي لأوامري وإقامة حججي وتبليغ رسالتي، فحركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لأحد غيرك.
2 (* (اذهب أنت وأخوك بأاياتى ولا تنيا فى ذكرى * اذهبآ إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى * قالا ربنآ إننا نخاف أن يفرط علينآ أو أن يطغى * قال لا تخافآ إننى معكمآ أسمع وأرى * فأتياه فقولاإنا رسولا ربك فأرسل معنا بنىإسراءيل ولا تعذبهم قد جئناك بأاية من ربك والسلام على من اتبع الهدى * إنا قد أوحى إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى * قال فمن ربكما ياموسى * قال ربنا الذىأعطى كل شىء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الا ولى * قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى * الذى جعل لكم الا رض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن فى ذالك لأيات لا ولى النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى * ولقد أريناه ءاياتنا كلها فكذب وأبى * قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا
228

نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى * قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى * قالوا إن هاذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى) *))
) *
الونى: الفتور، يقال: ونى يني وهو فعل لازم، وإذا عدي فبعن وبفي وزعم بعض البغداديين أنه يأتي فعلا ناقصا من أخوات ما زال وبمعناها، واختاره ابن مالك وأنشد:
* لا يني الخب شيمة الحب
*
ما دام فلا تحسبنه ذا ارعواء
*
وقالوا: امرأة آناءة أي فاترة عن النهوض، أبدلوا من واوها همزة على غير قياس. قال الشاعر:
فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر
شت الأمر شتا وشتاتا تفرق، وأمر شت متفرق، وشتى فعلى من الشت وألفه للتأنيث جمع شتيت كمريض ومرضى، ومعناه متفرقة، وشتان اسم فاعل سحت: لغة الحجاز وأسحت لغة نجد وتميم، وأصله استقصاء الحلق للشعر. وقال الفرزدق وهو تميمي:
* وعض زمان يا ابن مروان لم يك
*
من المال إلا مسحت أو محلق
*
ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب. الخيبة: عدم الظفر بالمطلوب. الصف: موضع المجمع قاله أبو عبيدة، وسمي المصلى الصف وعن بعض العرب الفصحاء ما استطعت أن آتي الصف أي المصلى، وقد يكون مصدرا ويقال جاؤوا صفا أي مصطفين. التخييل: إبداء أمر لا حقيقة له، ومنه الخيال وهو الطيف الطارق في النوم. قال الشاعر:
ألا يا لقومي للخيال المشوق وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي
*
* (اذهب أنت وأخوك بئاياتى ولا تنيا فى ذكرى * اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى * قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى * فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بنى إسراءيل ولا تعذبهم قد جئناك بئاية من ربك والسلام على من اتبع) *.
أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون فلما دعا ربه وطلب منه أشياء كان
229

فيها أن يشرك أخاه هارون فذكر الله أنه آتاه سؤله وكان منه إشراك أخيه، فأمره هنا وأخاه بالذهاب و * (أخوك) * معطوف على الضمير المستكن في * (اذهب أنت * وربك) * في سورة المائدة وقول بعض النحاة، أن * (وربك) * مرفوع على إضمار فعل، أي وليذهب ربك وذلك البحث جار هنا. وروي أن الله أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى. وقيل: سمع بمقدمه. وقيل: ألهم ذلك وظاهر * (بآياتي) * الجمع. فقيل: هي العصا، واليد، وعقدة لسانه. وقيل: اليد، والعصا. وقد يطلق الجمع على المثنى وهما اللتان تقدم ذكرهما ولذلك لما قال: فائت بآية ألقى العصا ونزع اليد، وقال: فذانك برهانان. وقيل العصا مشتملة على آيات انقلابها حيوانا، ثم في أول الأمر كانت صغيرة ثم عظمت حتى صارت ثعبانا، ثم إدخال موسى يده في فمها فلا تضره. وقيل: ما أعطي من معجزة ووحي.
* (ولا) * أي لا تضعفا ولا تقصرا. وقيل: تنسياني ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما، ويجوز أن يراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها، فكان جديرا أن يطلق عليه اسم الذكر. وقرأ ابن وثاب: ولا تنيا بكسر التاء اتباعا لحركة النون. وفي مصحف عبد الله ولا تهنا أي ولا تلنا من قولهم هين لين، ولما حذف من يذهب إليه في الأمر قبله نص عليه في هذا الأمر الثاني. فقيل: * (ذكرى اذهبا إلى فرعون) * أي بالرسالة وأبعد من ذهب إلى أنهما أمرا بالذهاب أولا إلى الناس وثانيا إلى فرعون، فكرر الأمر بالذهاب لاختلاف المتعلق، ونبه على سبب الذهاب إليه بالرسالة من عنده بقوله * (إنه طغى) * أي تجاوز الحد في الفساد ودعواه الربوبية والإلاهية من دون الله. والقول اللين هو مثل ما في النازعات * (هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى) * وهذا من ليف الكلام إذ أبرز ذلك في صورة الاستفهام والمشورة والعرض لما فيه من الفوز العظيم. وقيل: عداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. وقيل: لا تجبهاه بما يكره وألطفا له في القول لما له من حق تربية موسى. وقيل: كنياه وهو ذو الكنى الأربع أبو مرة، وأبو مصعب، وأبو الوليد، وأبو العباس. وقيل: القول اللين لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، ولينها خفتها على اللسان. وقال الحسن: هو قولهما
إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين يديك جنة ونارا فآمن بالله يدخلك الجنة يقك عذاب النار. وقيل: أمرهما تعالى أن يقدما المواعيد على الوعيد كما قال الشاعر:
* أقدم بالوعد قبل الوعيد
*
لينهى القبائل جهالها
*
وقيل: حين عرض عليه موسى وهارون عليهما السلام ما عرضا شاور آسية فقالت: ما ينبغي لأحد أن يرد هذا فشاور هامان وكان لا يبت أمرا دون رأيه، فقال له: كنت أعتقد أنك ذو عقل تكون مالكا فتصير مملوكا وربا فتصير مربوبا فامتنع من قبول ما عرض عليه موسى، والترجي بالنسبة لهما إذ هو مستحيل وقوعه من الله تعالى أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه، وفائدة إرسالهما مع علمه تعالى أنه لا يؤمن إقامة الحجة عليه وإزالة المعذرة كما قال تعالى: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله) * الآية.
وقيل: القول اللين ما حكاه الله هنا وهو * (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك * إلى * قوله * والسلام على من اتبع الهدى) * وقال أبو معاذ: * (قولا لينا) * وقال الفراء لعل هنا بمعنى كي أي كي يتذكر أو يخشى كما تقول: اعمل لعلك تأخذ أجرك، أي كي تأخذ أجرك. وقيل: لعل هنا استفهام أي هل يتذكر أو يخشى، والصحيح أنها على بابها من الترجي وذلك بالنسبة إلى البشر وفي قوله * (لعله يتذكر أو يخشى) * دلالة على أنه لم يكن شاكا في الله. وقيل:
230

* (يتذكر) * حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وأبعد وخر ساجدا لله راغبا أن لا يخجله ثم ركب فأخذ النيل يتبع حافر فرسه فرجا أن يتذكر حلم الله وكرمه وأن يحذر من عذاب الله. وقال الزمخشري: أي * (يتذكر) * ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه والإذغان للحق * (أو يخشى) * أن يكون الأمر كما يصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة.
فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط تسبق الخيل انتهى. وقال الشاعر:
* واستعجلونا وكانوا من صحابتنا
*
كما تقدم فارط الوراد
*
وفي الحديث: (أنا فرطكم على الحوض). أي متقدمكم وسابقكم، والمعنى إننا نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها. وقرأ يحيى وأبو نوفل وابن محيصن في روايته * (أن يفرط) * مبنيا للمفعول أي يسبق في العقوبة ويسرع بها، ويجوز أن يكون من الإفراط ومجاوزة الحد في العقوبة خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعذاب من شيطان، أو من جبروته واستكباره وادعائه الربوبية، أو من حبه الرياسة، أو من قومه القبط المتمردين الذين قال الله فيهم * (قال الملا من قوم فرعون) * * (وقال الملا من قومه) *.
وقرأت فرقة والزعفراني عن ابن محيصن * (يفرط) * بضم الياء وكسر الراء من الإفراط في الأذية * (أو أن يطغى) * في التخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي تجرئة عليك وقسوة قلبه، وفي المجيء به هكذا على سبيل الإطلاق والرمز باب من حسن الأدب والتجافي عن التفوه بالعظيمة.
والمعية هنا بالنصرة والعون أسمع أقوالكما وأرى أفعالكما. وقال ابن عباس * (أسمع) * جوابه لكما * (وأرى) * ما يفعل بكما وهما كناية عن العلم * (فأتياه) * كرر الأمر بالإتيان * (فقولا إنا رسولا ربك) * وخاطباه بقولهما * (ربك) * تحقيرا له وإعلاما أنه مربوب مملوك إذ كان هو يدعي الربوبية. وأمرا بدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من ذل خدمة القبط وكانوا يعذبونهم بتكليف الأعمال الشاقة من الحفر والبناء ونقل الحجارة والسخرة في كل شيء مع قتل الولدان واستخدام النساء. وقد ذكر في غير هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان فجملة ما دعى إليه فرعون الإيمان وإرسال بني إسرائيل.
ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا * (قد جئناك بئاية من ربك) * وتكرر أيضا قولهما * (من ربك) * على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور، والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد، ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما. وقال الزمخشري: * (قد جئناك بئاية من ربك) * جارية من الجملة الأولى وهي * (إنا رسولا ربك) * مجرى البيان والتفسير، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية، وإنما وحد بآية ولم يثن ومعه آيتان لأن المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال: قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك * (قد جئتكم ببينة من ربكم) * * (ما أنت إلا بشر مثلنا فأت) * * (أو * لو * جئتك بشىء مبين) * انتهى. وقيل: الآية اليد. وقيل: العصا، والمعنى بآية تشهد لنا بأنا رسولا ربك. والظاهر أن قوله * (والسلام على من اتبع الهدى) * فصل للكلام، فالسلام بمعنى التحية رغبا به عنه وجريا على العادة في التسليم عند الفراغ من القول، فسلما على متبعي الهدى وفي هذا توبيخ له. وفي هذا المعنى استعمل الناس هذه الآية في مخاطباتهم ومحاوراتهم. وقيل: هو مدرج متصل بقوله * (إنا قد أوحى إلينا) * فيكون إذ ذاك خبرا بسلامة المهتدين من العذاب. وقيل * (على) * بمعنى اللام أي والسلامة * (لمن اتبعك * الهدى) *.
وقال الزمخشري: وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين، وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين انتهى. وهو تفسير غريب.
وقد يقال: السلام هنا السلامة من العذاب بدليل قوله * (إنا قد أوحى
231

إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) * وبني * (أوحى) * لما لم يسم فاعله، ولم يذكر الموحى لأن فرعون كانت له بادرة فربما صدر منه في حق الموحى ما لا يليق به، والمعنى على من كذب الأنبياء وتولى عن الإيمان. وقال ابن عباس هذه أرجى آية في القرآن لأن المؤمن ما كذب وتولى فلا يناله شيء من العذاب. وفي الكلام حذف تقديره فأتيا فرعون وقالا له ما أمرهما الله أن يبلغاه قال * (فمن ربكما ياموسى * موسى) * خاطبهما معا وأفرد بالنداء موسى. قال ابن عطية: إذ كان صاحب عظم الرسالة وكريم الآيات. وقال الزمخشري لأنه الأصل في النبوة وهارون وزيره وتابعه، ويحتمل أن يحمله خبثه وذعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى، ويدل عليه قوله * (أم أنا خير من هاذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين) * انتهى.
واستبد موسى عليه السلام بجواب فرعون من حيث خصه بالسؤال والنداء معا ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا حيث خصه بالسؤال والنداء معا ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا بوجه مجاز. قال الزمخشري: ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق انتهى. والمعنى أعطى كل ما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر:
* وله في كل شيء خلقة
*
وكذلك الله ما شاء فعل
*
وهذا قول مجاهد وعطية ومقاتل وقال الضحاك * (* خلقة) * من المنفعة المنوطة به المطابقة له * (خلقه ثم هدى) * أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه، فأعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه. قال القشيري: والخلق المخلوق لأن البطش والمشي والرؤية والنطق معان مخلوقة أودعها الله للأعضاء، وعلى هذا مفعول * (أعطى) * الأول * (كل شىء) * والثاني * (خلقه) * وكذا في قول ابن عباس وابن جبير والسدي وهو أن المعنى * (أعطى كل شىء) * مخلوقه من جنسه أي كل حيوان ذكر نظيره أنثى في الصورة. فلم يزاوج منهما غير جنسه ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وعن ابن عباس أنه هداه إلى إلفه والاجتماع به والمناكحة. وقال الحسن وقتادة * (أعطى كل شىء) * صلاحه وهداه لما يصلحه.
وقيل * (كل شىء) * هو المفعول الثاني لأعطى و * (خلقه) * المفعول الأول أي * (أعطى) * خليقته * (كل شىء) * يحتاجون إليه ويرتفقون به. وقرأ عبد الله وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأبو نهيك وابن أبي إسحاق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائي وابن نوح عن قتيبة وسلام خلقه بفتح اللام فعلا ماضيا في موضع الصفة لكل شيء أو لشيء، ومفعول * (أعطى) * الثاني حذف اقتصارا أي * (كل شىء خلقه) * لم يخله من عطائه وإنعامه * (ثم هدى) * أي عرف كيف يرتفق بما أعطى وكيف يتوصل إليه. وقيل: حذف اختصارا لدلالة المعنى عليه، أي * (أعطى كل شىء خلقه) * ما يحتاج إليه وقدره ابن عطية كماله أو مصلحته.
* (قال فما بال القرون الاولى) * لما أجابه موسى بجواب مسكت، ولم يقدر فرعون على معارضته فيه انتقل إلى سؤال آخر وهو ما حال من هلك من القرون، وذلك على سبيل الروغان عن الاعتراف بما قال موسى وما أجابه به، والحيدة والمغالطة. قيل: سأله عن أخبارها وأحاديثها ليختبر أهما نبيان أو هما من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة، ولم يكن عنده عليه السلام علم بالتوراة إنما أنزلت عليه بعد هلاك فرعون فقال * (علمها عند ربى) *. وقيل: مراده من السؤال عنها لم عبدت الأصنام ولم تعبد الله إن كان الحق ما وصفت؟ وقيل: مراده ما لها لا تبعث ولا تحاسب ولا تجازى فقال * (علمها عند ربى) * فأجابه بأن هذا سؤال عن
232

الغيب وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو. وقال النقاش: إنما سأل لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون * (ءامن ياقوم إنى أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب) * الآية فرد علم ذلك إلى الله لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة. وقيل لما قال * (إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) * قال فرعون * (فما بال القرون الاولى) * فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا. وقيل: لما قرر أمر المبدأ والدلالة القاطعة على إثبات الصانع قال فرعون: إن كان ما ذكرت في غاية الظهور فما بال القرون الأولى نسوه وتركوه، فلو كانت الدلالة واضحة وجب على القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها. فعارض الحجة النقلية، ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة الله بكل شيء وتبينه لكل معلوم فتعنت وقال: ما تقول في سوالف القرون وتمادي كثرتهم وتباعد أطراف عددهم، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم، فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه وهو مثبت عنده * (فى كتاب) * ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل، أي * (لا يضل) * كما تضل أنت * (ولا ينسى) * كما تنسى يا مدعي الربوبية بالجهل والوقاحة قاله الزمخشري.
والظاهر عود الضمير في * (علمها) * إلى * (القرون الاولى) * أي مكتوب عند ربي في اللوح المحفوظ لا يجوز عليه أن يخطئ شيئا أو ينساه، يقال: ضللت الشيء إذا أخطجته ف مكانه، وضللته لغتان فلم يهتد إليه كقولك: ضللت الطريق والمنزل ولا يقال أضللته إلا إذا ضاع منك كالدابة إذا انفلتت وشبهها قاله الفراء. وقال
الزجاج: ضللته أضله إذا جعلته في مكان ولم تدر أين هو، وأضللته والكتاب هنا اللوح المحفوظ. وقيل * (فى كتاب) * فيما كتبته الملائكة من أحوال البشر. وقيل: الضمير في * (علمها) * عائد على القيامة لأنه سأله عن بعث الأمم. وقال السدي * (لا يضل) * لا يغفل. وقال ابن عيسى * (لا يضل) * لا يذهب عليه تقول العرب ضل منزله بغير ألف. وفي الحيوان أضل بعيره بالألف. وقيل: التقدير * (لا يضل ربى) * الكتاب * (ولا ينسى) * ما فيه قاله مقاتل. وقال القفال * (لا يضل) * عن معرفة الأشياء فيحيط بكل المعلومات * (ولا ينسى) * إشارة إلى بقاء ذلك العلم أبد الآباد على حاله لا يتغير. وقال الحسن: لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه.
وقال مجاهد: معنى الجملتين واحد وهو إشارة إلى أنه لا يعرض في علمه ما يغيره. وقال ابن جرير: لا يخطئ في التدبير فيعتقد في غير الصواب صوابا وإذا عرفه لا ينساه، وقال أبو عبد الله الرازي: علم الله صفة قائمة به ولا تكون حاصلة في الكتاب لأن ذلك لا يعقل، فالمعنى أن بقاء تلك المعلومات في علمه كبقاء المكتوبات في الكتاب، فالغرض التوكيد بأن أسرارها معلومة له لا يزول شيء منها، ويتأكد هذا بقوله * (لا يضل ربى ولا ينسى) * أو المعنى أنه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده يظهر للملائكة مزيادة لهم في الاستدلال على أنه عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة انتهى. وفيه بعض تلخيص.
وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وحماد بن سلمة وابن محيصن وعيسى الثقفي لا يضل بضم الياء أي * (لا يضل) * الله ذلك الكتاب فيضيع * (ولا ينسى) * ما أثبته فيه. وقرأ السلمي لا يضل ربي ولا ينسى مبنيتين للمفعول، والظاهر أن الجملتين استئناف وإخبار عنه تعالى بانتفاء هاتين الصفتين عنه. وقيل: هما في موضع وصف لقوله * (فى كتاب) * والضمير العائد على الموصوف محذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه. والظاهر أن الضمير في * (ولا ينسى) * عائد على الله. وقيل: يحتمل أن يعود على * (كتاب) * أي لا يدع شيئا فالنسيان استعارة كما قال * (إلا أحصاها) * فأسند الإحصاء إليه من حيث الحصر فيه، وعن ابن عباس لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه.
* (الذى جعل لكم الارض * مهادا * وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن فى ذالك لأيات لاولى * لاولى النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى * ولقد أريناه ءاياتنا كلها فكذب وأبى * قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى * قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى * قالوا إن هاذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم
233

بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى) *.
ولما ذكر موسى دلالته على ربوبية الله تعالى وثم كلامه عند قوله * (ولا ينسى) * ذكر تعالى ما نبه به على قدرته تعالى ووحدانيته، فأخبر عن نفسه بأنه تعالى هو الذي صنع كيت وكيت، وإنما ذهبنا إلى أن هذا هو من كلام الله تعالى لقوله تعالى * (فأخرجنا) * وقوله * (كلوا وارعوا أنعامكم) * وقوله * (ولقد أريناه) * فيكون قوله * (فأخرجنا) * و * (أريناه) * التفاتا من الضمير الغائب في * (* أعل) * وسلك إلى ضمير المتكلم لمعظم نفسه، ولا يكون الالتفات من قائلين وأبعد من ذهب إلى أن الذي نعت لقوله * (إنه ربى) * فيكون في موضع رفع أو يكون في موضع نصب على المدح وقالهما الحوفي والزمخشري لكونه كان يكون كلام موسى فلا يتأتى الالتفات في قوله * (فأخرجنا) * * (ولقد أريناه) *.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون * (فأخرجنا) * من كلام موسى حكاية عن الله تعالى على تقدير يقول عز وجل * (فأخرجنا) * ويحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله * (وأنزل من السماء ماء) * ثم وصل الله كلام موسى بإخباره لمحمد صلى الله عليه وسلم) والمراد بالخطاب في لكم الخلق أجمع نبههم على هذه الآيات. وقرأ الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة والكسائي * (مهادا) * بفتح الميم وإسكان الهاء، وباقي السبعة مهادا وكذا في الزخرف فقال المفضل: مصدران مهد مهدا ومهادا. وقال أبو عبيد: مهاد اسم، ومهد الفعل يعني المصدر. وقال آخر * (مهادا) * مفرد ومهاد جمعه، ومعنى ذلك أنه تعالى جعلها لهم يتصرفون عليها في جميع أحوالهم ومنافعهم، ونهج لكم فيها طرقا لمقاصدكم حتى لا تتعذر عليكم مصالحكم. والضمير في * (به) * عائد على الماء أي بسببه.
* (أزواجا) * أي أصنافا وهذا الالتفات في أخرجنا كهو في قوله * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا) * * (أمن خلق * السماوات والارض * وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا) * * (وهو الذى أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شىء) * وفي هذا الالتفات تخصيص أيضا بأنا نحن نقدر على مثل هذا، ولا يدخل تحت قدرة أحد والأجود أن يكون * (شتى) * في موضع نصب نعتا لقوله * (أزواجا) * لأنها المحدث عنها.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة للنبات، والنبات مصدر سمي به النابت كما سمي بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع، يعني أنها * (شتى) * مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.
قالوا: من نعمته عز وجل أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله * (كلوا وارعوا أنعامكم) * أمر إباحة معمول لحال محذوفة أي * (فأخرجنا) * قائلين أي آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها، عدي هنا * (وارعوا) * ورعى يكون لازما ومتعديا تقول: رعت الدابة رعيا، ورعاها صاحبها رعاية إذا سامها وسرحها وأراحها قاله الزجاج. وأشار بقوله * (إن فى ذلك) * للآيات السابقة من جعل الأرض مهدا وسلك سبلها وإنزال الماء وإخراج النبات. وقالوا * (النهى) * جمع نهية وهو العقل سمي بذلك لأنه ينهى عن القبائح، وأجاز أبو علي أن يكون مصدرا
كالهدي. والضمير في * (منها) * يعود على الأرض، وأراد خلق أصلهم آدم. وقيل: ينطلق الملك إلى تربة المكان الذي يدفن فيه من يخلق فيبددها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معا قاله عطاء الخراساني. وقيل: من الأغذية التي تتولد من الأرض فيكون ذلك تنبيها على ما تولدت منها الأخلاط المتولد منها الإنسان فهو من باب مجاز المجاز * (وفيها نعيدكم) * أي بالدفن بها أو بالتمزيق عليها * (ومنها نخرجكم تارة) * بالبعث * (تارة) * مرة * (أخرى) * يؤلف أجزاءهم المتفرقة ويردهم كما كانوا أحياء. وقوله * (أخرى) * أي إخراجة أخرى لأن معنى قوله * (منها خلقناكم) * أخرجناكم.
* (ولقد أريناه ءاياتنا كلها) * هذا إخبار من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم)، وهذا يدل على أن قوله * (فأخرجنا) * إنما هو خطاب له عليه السلام * (ولقد أريناه) * هي المنقولة
234

من رأى البصرية، ولذلك تعدت إلى اثنين بهمزة النقل و * (ءاياتنا) * ليس عاما إذ لم يره تعالى جميع الآيات، وإنما المعنى آياتنا التي رآها، فكانت الإضافة تفيد ما تفيده الألف واللام من العهد. وإنما رأى العصا واليد والطمسة وغير ذلك مما رآه فجاء التوكيد بالنسبة لهذه الآيات المعهودة. وقيل: المعنى آيات بكمالها وأضاف الآيات إليه على حسب التشريف كأنه قال آيات لنا. وقيل: يكون موسى قد أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم، وهو نبي صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به * (فكذب * بها) * جميعا * (وأبى) * أن يقبل شيئا منها انتهى. وقاله الزمخشري وفيه بعد لأن الإخبار بالشيء لا يسمى رؤية إلا بمجاز بعيد.
وقيل: * (أريناه) * هنا من رؤية القلب لا من رؤية العين، لأنه ما كان أراه في ذلك الوقت إلا العصا واليد البيضاء أي ولقد أعلمنا * (كلها فكذب) * هي الآيات التسع. قيل: ويجوز أن يكون أراد بالآيات آيات توحيده التي أظهرها لنا في ملكوت السماوات والأرض فيكون من رؤية العين. وقال ابن عطية وأبي: يقتضي كسب فرعون وهذا الذي يتعلق به الثواب والعقاب، ومتعلق التكذيب محذوف فالظاهر أنه الآيات واحتمل أن يكون التقدير * (فكذب) * موسى * (وأبى) * أن يقبل ما ألقاه إليه من رسالته.
قيل: ويجوز أن يكون أراد وكذب أنها من آيات الله وقال: من سحر، ولهذا * (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى * موسى) * ويبعد هذا القول قوله * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب * السماوات والارض * بصائر) * وقوله * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) * فيظهر أنه كذب لظلمه لا أنه التبس عليه أنها آيات سحر. وفي قوله * (أجئتنا لتخرجنا) * وهن ظهر منه كثير واضطراب لما جاء به موسى إذ علم أنه على الحق وأنه غالبه على ملكه لا محالة، وذكر علة المجيء وهي إخراجهم وألقاها في مسامع قومه ليصيروا مبغضين له جدا إذ الإخراج من الموطن مما يشق وجعله الله مساويا للقتل في قوله * (أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) * وقوله * (بسحرك) * تعلل وتحير لأنه لا يخفى عليه أن ساحرا لا يقدر أن يخرج ملك مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر، وأورد ذلك على سبيل الشبهة الطاعنة في النبوة، وأن المعجز إنما يتميز عن السحر بكون المعجز مما تتعذر معارضته فقال * (فلنأتينك بسحر مثله) * ويدل على أن أمر موسى عليه السلام كان قد قوي وكثر منعته من بني إسرائيل ووقع أمره في نفوس الناس، إذ هي مقالة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه، وأرضهم هي أرض مصر وخاطبه بقوله * (بسحرك) * لأن الكلام كان معه والعصا واليد إنما ظهرنا من قبله * (فلنأتينك) * جواب لقسم محذوف، أوهم الناس أن ما جاء به موسى إنما هو من باب السحر وأن عنده من يقاومه في ذلك، فطلب ضرب موعد للمناظرة بالسحر. والظاهر أن * (موعدا) * هنا هو زمان أي فعين لنا وقت اجتماع ولذلك أجاب بقوله * (قال موعدكم يوم الزينة) * ومعنى * (لا نخلفه) * أي لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه وقدره بعضهم مكانا معلوما وينبوعه قوله * (موعدكم يوم الزينة) *.
وقال القشيري: الأظهر أنه مصدر ولذلك قال * (لا نخلفه) * أي ذلك الموعد والإخلاف أن يعد شيئا ولا ينجزه. وقال الزمخشري: إن جعلته زمانا نظرا في قوله * (موعدكم يوم الزينة) * مطابق له لزمك شيئان أن نجعل الزمان مخلفا وأن يعضل عليك ناصب * (مكانا) * وإن جعلته مكانا لقوله * (مكانا) * لزمك أيضا أن يقع الإخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله * (قال موعدكم يوم الزينة) * وقراءة الحسن غير مطابقة له * (مكانا) * جميعا لأنه قرأ * (يوم الزينة) * بالنصب فبقي أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد، ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد. ويجعل الضمير في * (نخلفه) * و * (مكانا) * بدل من المكان المحذوف. فإن قلت: كيف طابقته قوله * (موعدكم يوم الزينة) * ولا بد من أن تجعله زمانا والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا لأنه لا بد لهم
235

من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهرا باجتماعهم فيه في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان.
وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير، والمعنى إنجاز وعدكم يوم الزينة وطابق هذا أيضا من طريق المعنى، ويجوز أن يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى اجعل * (بيننا وبينك) * وعدا * (لا نخلفه) * فإن قلت: فبم ينتصب * (مكانا) *؟ قلت: بالمصدر أو بفعل يدل عليه المصدر، فإن قلت: كيف يطابقه الجواب؟ قلت: أما على قراءة الحسن فظاهر، وأما على قراءة العامة فعلى تقدير وعدكم وعد يوم الزينة.
ويجوز على قراءة الحسن أن يكون * (موعدكم) * مبتدأ بمعنى الوقت و * (ضحى) * خبره على نية التعريف فيه لأنه قد وصف قبل العمل بقوله * (لا نخلفه) * وهو موصول، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم. وقوله و * (ضحى) * خبره على نية التعريف فيه، لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه، هو وإن كان ضحى ذلك اليوم بعينه ليس على نية التعريف بل هو نكرة، وإن كان من يوم بعينه لأنه ليس معدولا عن الألف واللام كسحر ولا هو معرف بالإضافة. ولو قلت: جئت يوم الجمعة بكرا لم ندع أن بكرا معرفة وإن كنا نعلم أنه من يوم بعينه.
وقرأ أبو جعفر وشيبة لا نخلفه بجزم الفاء على أنه جواب الأمر. وقرأ الجمهور برفعها صفة لموعد. وقال الحوفي * (موعدا) * مفعول اجعل * (مكانا) * طرف العامل فيه اجعل. وقال أبو علي * (موعدا) * مفعول أولا لأجعل و * (مكانا) * مفعول ثان، ومنع أن يكون * (مكانا) * معمولا لقوله * (موعدا) * لأنه قد وصف. قال ابن عطية: وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو عطف عليها أو أخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الأسماء كمثل هذا لم تعمل ولا يعلق بها شيء هو منها، وقد يتوسع في الظروف فيعلق بعد ما ذكرنا لقوله عز وجل * (ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان) * فقوله إذ متعلق بقوله لمقت. وهو قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة ومنع قوم أن يكون * (مكانا) * نصبا على المفعول الثاني لنخلفه، وجوزه جماعة من النحاة ووجهه أن يتسع في أن يحلف الموعد انتهى. وقوله إذا نعت هذا ليس مجمعا عليه في كل عامل عمل الفعل، ألا ترى اسم الفاعل العاري عن أل إذا وصف قبل العمل في إعماله خلاف البصريون يمنعون والكوفيون يجوزون، وكذلك أيضا إذا صغر في إعماله خلاف، وأما إذا جمع فلا يعلم خلاف في جواز إعماله، وأما المصدر إذا جمع ففي جواز إعماله خلاف، وأما استثناؤه من المعمولات الظروف فغيره يذهب إلى منع ذلك مطلقا في المصدر، وينصب إذ بفعل يقدر بما قبله أي مقتكم إذ تدعون.
* (ولا أنت) * معطوف على الضمير المستكن في * (تخلفه) * المؤكد بقوله * (نحن) *. وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب والحسن وقتادة وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وأبو حاتم وابن جرير * (سوى) * بضم السين منونا في الوصل. وقرأ باقي السبعة بكسرها منونا في الوصل. وقرأ الحسن أيضا (سوى) * بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنه منعه الصرف لأن فعلا من الصفات متصرف كحطم ولبد. وقرأ عيسى سوى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل أيضا مجرى الوقف، ومعنى * (*) * بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنه منعه الصرف لأن فعلا من الصفات متصرف كحطم ولبد. وقرأ عيسى سوى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل أيضا مجرى الوقف، ومعنى * (سوى) * أي عدلا ونصفة. قال أبو علي: كأنه قال قربه منكم قربه منا. وقال غيره: إنما أراد أن حالنا فيه مستوية فيعم ذلك القرآن، وأن تكون المنازل فيه واحدة في تعاطي الحق لا تعترضكم فيه الرئاسة وإنما يقصد الحجة. وعن مجاهد وهو من الاستواء لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها، وهذا معنى ما تقدم من قول أبي علي قربه منكم قربه منا. وقال الأخفش * (سوى) * مقصور إن كسرت سينه أو ضممت، وممدود إن فتحتها ثلاث لغات ويكون فيها جميعا بمعنى غير وبمعنى عدل، ووسط بين الفريقين. وقال الشاعر:
* وإن أبانا كان حل بأهله سوى
*
بين قيس قيس غيلان والفزر
*
236

قال: وتقول مررت برجل سواك وسواك وسواك أي غيرك، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر قاله النحاس. وقالت فرقة: معنى * (مكانا سوى) * مستويا من الأرض أي لا وعر فيه، ولا جبل، ولا أكمة، ولا مطمئن من الأرض بحيث يسير ناظر أحد فلا يرى مكان موسى والسحرة وما يصدر عنهما، قال ذلك واثقا من غلبة السحرة لموسى فإذا شاهدوا غلبهم إياه رجعوا عما كانوا اعتقدوا فيه. وقالت فرقة: معناه مكانا سوى: مكاننا هذا وليس بشيء لأن سوى إذا كانت بمعنى غير لا تستعمل إلا مضافة لفظا ولا تقطع عن الإضافة.
وقرأ الحسن والأعمش وعاصم في رواية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة والزعفراني يوم الزينة بنصب الميم وتقدم تخريج هذه القراءة في كلام الزمخشري وروي أن * (يوم الزينة) * كان عيدا لهم ويوما مشهودا وصادف يوم عاشوراء، وكان يوم سبت. وقيل: هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم. وقيل: يوم النيروز وكان رأس سنتهم. وقيل: يوم السبت فإنه يوم راحة ودعة. وقيل: يوم سوق لهم. وقيل: يوم عاشوراء.
وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو عمران الجوني وأبو نهيك وعمرو بن فايد وأن تحشر بتاء الخطاب أي يا فرعون وروي عنهم بالياء على الغيبة، والناس نصب في كلتا القراءتين. قالصاحب اللوامح * (وأن يحشر) * الحاشر * (الناس ضحى) * فحذف الفاعل للعلم به انتهى. وحذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين. وقال غيره * (وأن يحشر) * القوم قال ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم لقوله * (موعدكم) * وجعل * (يحشر) * لفرعون ويجوز أن يكون * (وأن يحشر) * في موضع رفع عطفا على * (يوم الزينة) * وأن يكون في موضع جر عطفا على * (الزينة) * وانتصب * (ضحى) * على الظرف وهو ارتفاع النهار، ويؤنث ويذكر والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر وهو عند ارتباع النهار الأعلى، وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر. والظاهر أن قوله * (قال موعدكم يوم الزينة) * من كلام موسى عليه السلام لأنه جواب لقول فرعون * (فاجعل بيننا وبينك موعدا) * ولأن تعيين اليوم إنما يليق بالمحق الذي يعرف اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. ولقوله * (موعدكم) * وهو خطاب للجميع، وأبعد من ذهب إلى أنه من كلام فرعون.
* (فتولى فرعون) * أي معرضا عن قبول الحق أو * (تولى) * ذلك الأمر بنفسه أو فرجع إلى أهله لاستعداد مكايده، أو أدبر على عادة المتواعدين أن يولي كل واحد منهما صاحبه ظهره إذا افترقا. أقوال * (فجمع كيده) * أي ذوي كيده وهم السحرة. وكانوا عصابة لم يخلق الله أسحر منها * (ثم أتى) * للموعد الذي كانوا
تواعدوه. وأتى موسى أيضا بمن معه من بني إسرائيل قال لهم موسى * (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا) * وتقدم تفسير ويل في سورة البقرة، خاطبتهم خطاب محذر وندبهم إلى قول الحق إذ رأوه وأن لا يباهتوا بكذب. وعن وهب لما قال للسحرة * (ويلكم) * قالوا ما هذا بقول ساحر * (فيسحتكم) * يهلككم ويستأصلكم، وفيه دلالة على عظم الافتراء وأنه يترتب عليه هلاك الاستئصال، ثم ذكر أنه لا يظفر بالبغية ولا ينجح طلبه * (من افترى) * على الله الكذب.
ولما سمع السحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعت في نفوسهم مهابته * (فتنازعوا أمرهم) * أي تجاذبوه والتنازع يقتضي الاختلاف. وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن جرير * (فيسحتكم) * بضم الياء وكسر الحاء من أسحت رباعيا. وقرأ باقي السبعة ورويس وابن عباعي بفتحهما من سحت ثلاثيا. وإسرارهم النجوى خيفة من فرعون أن يتبين فيهم ضعفا لأنهم لم يكونوا مصممين على غلبة موسى بل كان ظنا من بعضهم. وعن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه، وعن قتادة إن كان ساحرا فسنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر.
وقال الزمخشري: والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب
237

القول، ثم * (قالوا إن هاذان لساحران) * فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفا من غلبتهما وتثبيطا للناس من اتباعهما انتهى. وحكى ابن عطية قريبا من هذا القولعن فرقة قالوا: إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا * (إن هاذان لساحران) * والأظهر أن تلك قيلت علانية، ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع. وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوان والصاحبان من السبعة إن بتشديد النون * (هاذان) * بألف ونون خفيفة * (لساحران) * واختلف في تخريج هذه القراءة. فقال القدماء من النحاة إنه على حذف ضمير الشأن والتقدير إنه هذان لساحران، وخبر * (ءان) * الجملة من قوله * (هاذان لساحران) * واللام في * (لساحران) * داخلة على خبر المبتدأ، وضعف هذا القول بأن حذف هذا الضمير لا يجيء إلا في الشعر وبأن دخول اللام في الخبر شاذ.
وقال الزجاج: اللام لم تدخل على الخبر بل التقدير لهما ساحران فدخلت على المبتدأ المحذوف، واستحسن هذا القول شيخه أبو العباس المبرد والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد. وقيل: ها ضمير القصة وليس محذوفا، وكان يناسب على هذا أن تكون متصلة في الخط فكانت كتابتها * (إن هاذان لساحران) * وضعف ذلك من جهة مخالفته خط المصحف. وقيل * (ءان) * بمعنى نعم، وثبت ذلك في اللغة فتحمل الآية عليه و * (هاذان لساحران) * مبتدأ وخبر واللام في * (لساحران) * على ذينك التقديرين في هذا التخريج، والتخريج الذي قبله وإلى هذا ذهب المبرد وإسماعيل بن إسحاق وأبو الحسن الأخفش الصغير، والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائما وهي لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب، ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية حكي ذلك عن الكسائي، ولبني العنبر وبنى الهجيم ومراد وعذرة. وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفا.
وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير * (ءان) * بتخفيف النون هذا بالألف وشدد نون * (هاذان) * ابن كثير، وتخريج هذه القراءة واضح وهو على أن أن هي المخففة من الثقيلة و * (* هذان * (مبتدأ و * (لساحران) * الخبر واللام للفرق بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة على رأي البصريين والكوفيين، يزعمون أن إن نافية واللام بمعنى إلا. وقرأت فرقة إن ذان لساحران وتخريجها كتخريج القراءة التي قبلها، وقرأت عائشة والحسن والنخعي والجحدري والأعمش وابن جبير وابن عبيد وأبو عمر وإن هذين بتشديد نون إن وبالياء في هذين بدل الألف، وإعراب هذا واضح إذ جاء على المهيع المعروف في التثنية لقوله * (فذانك برهانان * إحدى ابنتى هاتين) * بالألف رفعا والياء نصبا وجرا. وقال الزجاج: لا أجيز قراءة أبي عمر ولأنها خلاف المصحف. وقال أبو عبيد: رأيتها في الإمام مصحف عثمان هذن ليس فيها ألف، وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها، وقالت جماعة منهم عائشة وأبو عمر: وهذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب.
وقرأ عبد الله إن ذان إلا ساحران قاله ابن خالويه وعزاها الزمخشري لابي. وقال ابن مسعود: إن هذان ساحران بفتح أن وبغير لام بدل من * (النجوى) * انتهى. وقرأت فرقة ما هذا إلا ساحران وقولهم * (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما) * تبعوا فيه مقالة فرعون * (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك) * ونسبوا السحر أيضا لهارون لما كان مشتركا معه في الرسالة وسالكا طريقته، وعلقوا الحكم على الإرادة وهم لا اطلاع لهم عليها تنقيصا لهما وحطا من قدرهما، وقد كان ظهر لهم من أمر اليد والعصا ما يدل على صدقهما، وعلموا أنه ليس في قدرة الساحر أن يأتي بمثل ذلك، والظاهر أن الضمير في * (قالوا) * عائد على السحرة خاطب بعضهم بعضا. وقيل: خاطبوا فرعون مخاطبة التعظيم، والطريقة السيرة والمملكة والحال التي هم عليها. و * (المثلى) * تأنيث الأمثل أي الفضلى الحسنى. وقيل: عبر عن السيرة بالطريقة وأنه يراد بها أهل العقل والسن والحجى، وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة قومه أي
238

سيدهم، وعن علي نحو ذلك قال: وتصرفات وجوه الناس هليهما. وقيل: هو على حذف مضاف أي * (ويذهبا) * بأهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل لقول موسى * (أرسل معنا بنى إسراءيل) * بالغوا في التنفيرعنهما بنسبتهما إلى السحر، وبالطبع ينفر عن السحر وعن رؤية الساحر ثم بإرادة الإخراج من أرضهم ثم بتغيير حالتهم من المناصب والرتب المرغوب فيها.
وحكى تعالى عنهم في متابعة فرعون في قوله * (فجمع كيده) * قوله * (فأجمعوا كيدكم) * وقيل: هو من كلام فرعون، والظاهر أنه من كلام السحرة بعضهم لبعض. وقرأ الجمهور * (فأجمعوا) * بقطع الهمزة وكسر الميم من أجمع رباعيا أي اعزموا واجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا ولا يتخلف واحد منكم المسألة المجمع عليها. وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب في رواية وأبو حاتم بوصل الألف وفتح الميم موافقا لقوله * (فتولى فرعون فجمع كيده) * وتقدم الكلام
في جمع وأجمع في سورة يونس في قصة نوح عليه السلام.
وتداعوا إلى الإتيان * (صفا) * لأنه أهيب في عيون الرائين، وأظهر في التمويه وانتصب * (صفا) * على الحال أي مصطفين أو مفعولا به إذ هو المكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم. وقرأ شبل بن عباد وابن كثير في رواية شبل عنه ثم ايتوا بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء تخفيفا. قال أبو علي وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم. وقال صاحب اللوامح: وذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في العامة كذلك * (وقد أفلح اليوم) * أي ظفر وفاز ببغيته من طلب العلو في أمره وسعى سعيه، واختلفوا في عدد السحرة اختلافا مضطربا جدا فأقل ما قيل أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل ساحر عصي وحبال، وأكثر ما قيل تسعمائة ألف.
2 (* (قالوا ياموسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس فى نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الا على * وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى * فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على ما جآءنا من البينات والذى فطرنا فاقض مآ أنت قاض إنما تقضى هاذه الحيواة الدنيآ * إنآ آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ومآ أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولائك لهم الدرجات العلى * جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذالك جزآء من تزكى * ولقد أوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى * فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قومه وما هدى * يابنى إسراءيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الا يمن ونزلنا عليكم المن والسلوى * كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى * وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى * ومآ أعجلك عن قومك ياموسى * قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامرى * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى * قالوا مآ أخلفنا موعدك بملكنا ولاكنا حملنآ أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامرى * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هاذآ إلاهكم وإلاه موسى فنسى * أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا * ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعونى وأطيعوا أمرى) *)) 2
* (قالوا يأبانا * موسى إماما * أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس فى نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى * وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى * فألقى السحرة سجدا قالوا امنا برب هارون * قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا) *.
في الكلام حذف تقديره فجاؤوا مصطفين إلى مكان الموعد، وبيد كل واحد منهم عصا وحبل، وجاء موسى وأخوه ومعه عصاه فوقفوا و * (قالوا يأبانا * موسى إماما * أن تلقى) * وذكروا الإلقاء لأنهم علموا أن آية موسى في إلقاء العصا. قيل: خيروه ثقة منهم بالغلب لموسى، وكانوا يعتقدون أن أحدا لا يقاومهم في السحر. وقال الزمخشري: وهذا التخيير منهم
239

استعمال أدب حسن معه وتواضع له وخفض جناح، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم، وكان الله عز وجل ألهمهم ذلك وعلم موسى عليه السلام اختيار إلقائهم أولا مع ما فيه من مقابلة الأدب بأدب حتى يبرزوا ما معهم من مكائد السحر ويستنفذوا أقصى طرقهم ومجهودهم، فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه وقذف بالحق على الباطل فدمغه وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية بينة للناظرين بينة للمعتبرين انتهى. وهو تكثير وخطابة وإن ما بعده ينسبك بمصدر فإما أن يكون مرفوعا وإما أن يكون منصوبا والمعنى أنك تختار أحد الأمرين، وقدر الزمخشري الرفع الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا فجعله خبر المبتدأ محذوف، واختار أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره إلقاؤك أول ويدل عليه قوله * (وإما أن نكون أول من ألقى) * فتحسن المقابلة من حيث المعنى وإن كان من حيث التركيب اللفظي لم تحصل المقابلة لأنا قدرنا إلقاؤك أول، ومقابلة كونهم يكونون أول من يلقي لكنه يلزم من ذلك أن يكون إلقاؤهم أول فهي مقابلة معنوية. وفي تقدير الزمخشري الأمر إلقاؤك لا مقابلة فيه.
وقدر الزمخشري النصب اختر أحد الأمرين وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، وتفسير الإعراب * (أما) * نختار * (أن تلقى) * وتقدم نحو هذا التركيب في الأعراف.
* (قال بل ألقوا) * لا يكون الأمر بالإلقاء من باب تجويز السحر والأمر به لأن الغرض في ذلك الفرق بين إلقائهم والمعجزة، وتعين ذلك طريقا إلى كشف الشبهة إذ الأمر مقرون بشرط أي ألقوا إن كنتم محقين لقوله * (فأتوا بسورة مثله) * ثم قال * (إن كنتم صادقين) * وفي الكلام حذف تقديره فألقوا فإذا.
قال أبو البقاء: * (فإذا حبالهم) * الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا وإذا في هذا ظرف مكان، والعامل فيه ألقوا انتهى. فقوله * (فإذا) * الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا ليست هذه فاء جواب لأن فألقوا لا تجاب، وإنما هي للعطف عطفت جملة المفاجأة على ذلك المحذوف. وقوله وإذا في هذا ظرف مكان يعني أن إذا التي للمفاجأة ظرف مكان وهو مذهب المبرد وظاهر كلام سيبويه، وقوله: والعامل فيه ألقوا ليس بشيء لأن الفاء تمنع من العمل ولأن إذا هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو * (حبالهم وعصيهم) * إن لم يجعلها هي في موضع الخبر، لأنه يجوز أن يكون الخبر يخيل، ويجوز أن تكون إذا ويخيل في موضع الحال، وهذا نظير: خرجت فإذا الأسد رابض ورابضا فإذا رفعنا رابضا كانت إذا معمولة، والتقدير فبالحضرة الأسد رابض أو في المكان، وإذا نصبتا كانت خبرا ولذلك تكتفي بها، وبالمرفوع بعدها كلاما نحو خرجت فإذا الأسد.
وقال الزمخشري: يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى * (فإذا حبالهم وعصيهم) * ففاجأ موسى وقت تخييل حبالهم وعصيهم، وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى. فقوله: والتحقيق فيها إذا كانت الكائنة بمعنى الوقت هذا مذهب الرياشي أن إذا الفجائية ظرف زمان وهو قول مرجوح، وقول الكوفيين أنها حرف قول مرجوح أيضا وقوله الطالبة ناصبا لها صحيح، وقوله: وجملة تضاف إليها هذا عند أصحابنا ليس بصحيح لأنها إما أن تكون هي خبر المبتدأ وإما معمولة لخبر المبتدأ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة لأنها إما أن تكون بعض لجملة أو معمولة لبعضها، فلا تمكن الإضافة. وقوله خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة قد بينا الناصب لها، وقوله والجملة ابتدائية لا غير هذا الحصر ليس بصحيح بل قد نص الأخفش في الأوسط على أن الجملة المصحوبة بقد تليها وهي فعلية تقول: خرجت فإذا قد ضرب
240

زيد عمرا وبنى على ذلك سأله الاشتغال خرجت فإذا زيد قد ضربه عمرو، برفع زيد ونصبه، وأما قوله: والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي فهذا بعكس ما قدر بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم إياه. فإذا قلت: خرجت فإذا السبع، فالمعنى أنه فاجني السبع وهجم ظهوره.
وقرأ الحسن وعيسى عصيهم بضم العين حيث كان وهو الأصل لأن الكسر اتباع لحركة الصاد وحركة الصاد لأجل الياء. وفي كتاب اللوامح الحسن وعصيهم بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع فهو أيضا جمع كالعامة لكنه على فعل. وقرأ الزهري والحسن وعيسى وأبو حيوة وقتادة والجحدري وروح والوليدان وابن ذكوان تخيل بالتاء مبنيا للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصي و * (أنها تسعى) * بدل اشتمال من ذلك الضمير. وقرأ أبو السماك تخيل بفتح التاء أي تتخيل وفيها أيضا ضمير ما ذكر و * (وإنها * تسعى) * بدل اشتمال أيضا من ذلك الضمير لكنه فاعل من جهة المعنى. وقال ابن عطية: إنها مفعول من أجله. وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلسي في كتاب الكامل من تأليفه عن أبي السماك أنه قرأ تخيل بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل، و * (أنها تسعى) * في موضع نصب على المفعول به. ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن والثقفي يعني عيسى، ومن بني تخيل للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله للمحنة والابتلاء وروى الحسن بن أيمن عن أبي حيوة نخيل بالنون وكسر الياء، فالمخيل لهم ذلك هو الله والضمير في * (إليه) * الظاهر أنه يعود على موسى لقوله قبل * (قال بل ألقوا) * ولقوله بعد * (فأوجس فى نفسه خيفة موسى) * وقيل: يعود على فرعون، والظاهر من القصص أن الحبال والعصي كانت تتحرك وتنتقل الانتقال الذي يشبه انتقال من قامت به الحياة، ولذلك ذكر السعي وهو وصف من يمشي من الحيوان، فروى أنهم جعلوا في الحبال زئبقا وألقوها في الشمس فأصاب الزئبق حرارة الشمس فتحرك فتحركت العصي والحبال معه. وقيل: حفروا الأرض وجعلوا تحتها نارا وكانت العصي والحبال مملوءة بزئبق، فلما أصابتها حرارة الأرض تحركت وكان هذا من باب الدك. وقيل: إنها لم تتحرك وكان ذلك من سحر العيون وقد صرح تعالى بهذا فقالوا * (سحروا أعين الناس) * فكان الناظر يخيل إليه أنها تنتقل. وتقدم شرح أوجس.
وقال الزمخشري: كان ذلك لطبع الجبلة البشرية وأنه لا يكاد يمكن الخلو من مثله وهو قول الحسن. وقيل: كان خوفه على الناس أن يفتتنوا لهول ما رأى قبل أن يلقي عصاه وهو قول مقاتل، والإيجاس هو من الهاجس الذي يخطر بالبال وليس يتمكن و * (خيفة) * أصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون خوفه بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب.
* (إنك أنت الاعلى) * تقرير لغلبته وقهره وتوكيد بالاستئناف وبكلمة التوكيد وبتكرير الضمير وبلام التعريف، وبالأعلوية الدالة على التفضيل * (وألق ما فى يمينك) * لم يأت التركيب وألق عصاك لما في لفظ اليمين من معنى اليمن والبركة. قال الزمخشري: وقوله * (ما فى يمينك) * ولم يقل عصاك جائز أن يكون تصغيرا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يتلقفها على حدته وكثرتها وصغره وعظمها، وجائز أن يكون تعظيما لها أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها، فألقه تتلقفها بإذن الله وتمحقها انتهى. وهو تكثير وخطابه لا طائل في ذلك.
وفي ذوله * (تلقف) * جمل على معنى ما لا على لفظها إذ أطلقت ما على العصا والعصا مؤنثة، ولو حمل على اللفظ لكان بالياء. وقرأ الجمهور تلقف بفتح اللام وتشديد القاف مجزوما على جواب الأمر. وقرأ ابن عامر كذلك وبرفع الفاء على الاستئناف أو على الحال من الملقى. وقرأ أبو جعفر وحفص وعصمة عن عاصم * (تلقف) * بإسكان اللام والفاء وتخفيف القاف وعن قنبل أنه كان يشدد من تلقف يريد يتلقف.
وقرأ الجمهور * (كيد) * بالرفع على أن * (ما) * موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف، ويحتمل أن تكون * (ما) * مصدرية أي أن صنعتم كيد، ومعنى
241

* (صنعوا) * هنا زوروا وافتعلوا كقوله * (تلقف ما يأفكون) *. وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن علي * (كيد * ساحر) * بالنصب مفعولا لصنعوا وما مهيئة. وقرأ أبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير وحمزة والكسائي سحر بكسر السين وإسكان الحاء بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر، أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه أو بذاته، أو بين الكيد لأنه يكون سحرا وغير سحر كما تبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو.
وقرأ الجمهور ساحر اسم فاعل من سحر، وأفرد ساحر من حيث أن فعل الجميع نوع واحد من السحر، وذلك الحبال والعصي فكأنه صدر من ساحر واحد لعدم اختلاف أنواعه. وقال الزمخشري: لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى أن قوله * (ولا يفلح الساحر) * أي هذا الجنس انتهى.
وعرف في قوله * (ولا يفلح الساحر) * لأنه عاد على ساحر النكرة قبله كقوله * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) *. وقال الزمخشري: إنما نكر يعني أولا من أجل تنكير المضاف لا من أجل تنكيره في نفسه كقول العجاج:
في سعي دنيا طال ما قد مدت
وفي حديث عمر رضي الله عنه: لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة المراد تنكير الأمر كأنه قال: إنما صنعوا كيد سحري وفي سعي دنياوي وأمر دنياوي وأخراوي انتهى. وقول العجاج. في سعي دنيا، محمول على الضرورة إذ دنيا تأنيث الأدنى، ولا يستعمل تأنيثه إلا بالألف واللام أو بالإضافة وأما قول عمر فيحتمل أن يكون من تحريف الرواة.
ومعنى * (ولا يفلح) * لا يظفر ببغيته * (حيث أتى) * أي حيث توجه وسلك. وقالت فرقة معناه أن الساحر بقتل حيث تقف وهذا جزاء من عدم الفلاح. وقرأت فرقة أين أتى وبعد هذا جمل محذوفة، والتقدير فزال إيجاس الخيفة وألقى ما في يمينه وتلقفت حبالهم وعصيهم ثم انقلبت عصا، وفقدوا الحبال والعصي وعلموا أن ذلك معجز ليس في طوق البشر * (فألقى السحرة سجدا) * وجاء التركيب * (فألقى السحرة) * ولم يأت فسجدوا كأنه جاءهم أمر وأزعجهم وأخذهم فصنع بهم ذلك، وهو عبارة عن سرعة ما تأثروا لذلك الخارق العظيم فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين. وقدم موسى في الأعراف وأخر هارون لأجل الفواصل ولكون موسى هو المنسوب إليه العصا التي ظهر فيها ما ظهر من الإعجاز، وأخر موسى لأجل الفواصل أيضا كقوله * (لكان لزاما وأجل مسمى) * وأزواجا من نبات إذا كان شتى صفة لقوله أزواجا ولا فرق بين قام زيد وعمرو وقام عمرو وزيدا إذا لوأ ولا تقتضي ترتيبا على أنه يحتمل أن يكون القولان من قائلين نطقت طائفة بقولهم رب موسى وهارون، وطائفة بقولهم: رب هارون وموسى ولما اشتركوا في المعنى صح نسبة كل من القولين إلى الجميع. وقيل: قدم * (هارون) * هنا لأنه كان أكبر سنا من * (موسى) *. وقيل لأن فرعون كان ربى موسى فبدؤوا بهارون ليزول تمويه فرعون أنه ربي موسى فيقول أنا ربيته. وقالوا: رب هارون وموسى ولم يكتفوا بقولهم برب العالمين للنص على أنهم آمنوا * (برب) * هذين وكان فيما قبل يزعم أنه رب العالمين.
وتقدم الخلاف في قراءة * (أمنتم) * وفي لأقطعن ولأصلبن في الأعراف. وتفسير نظير هذه الآية فيها وجاء هناك آمنتم به وهنا له، وآمن يوصل بالباء إذا كان بالله وباللام لغيره في الأكثر نحو * (فما ءامن لموسى) * * (لن نؤمن لك) * * (وما أنت بمؤمن لنا) * * (فئامن له لوط) * واحتمل الضمير في به أن يعود على موسى وأن يعود على الرب، وأراد بالتقطيع والتصليب في الجذوع التمثيل بهم، ولما كان الجذع مقرا للمصلوب واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف عدي الفعل بفي التي للوعاء. وقيل في بمعنى على. وقيل: نقر فرعون
242

الخشب وصلبهم في داخله فصار ظرفا لهم حقيقة حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا ومن تعدية صلب بفي قول الشاعر:
* وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة
*
فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
*
وفرعون أول من صلب، وأقسم فرعون على ذلك وهو فعل نفسه وعلى فعل غيره، وهو * (ولتعلمن أينا) * أي أيي وأي من آمنتم به. وقيل: أيي وأي موسى، وقال ذلك على سبيل الاستهزاء لأن موسى لم يكن من أهل التعذيب وإلى هذا القول ذهب الزمخشري قال: بدليل قوله * (له قبل) * واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله كقوله * (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) * وفيه نفاحة باقتداره وقهره وما ألفه وضري به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع لموسى عليه السلام واستضعاف مع الهزء به انتهى. وهو قول الطبري قال: يريد نفسه وموسى عليه السلام، والقول الأول أذهب مع مخرقة فرعون * (ولتعلمن) * هنا معلق * (فرعون أشد) * جملة استفهامية من مبتدإ وخبر في موضع نصب لقوله * (ولتعلمن) * سدت مسد المفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كان * (* لتعلمن) * معدى تعدية عرف، ويجوز على الوجه أن يكون * (ولتعلمن أينا) * مفعولا * (* لتعلمن) * وهو مبني على رأي سيبويه و * (فرعون أشد) * خبر مبتدأ محذوف، و * (أينا) * موصولة والجملة بعدها صلة والتقدير و * (* لتعلمن) * من هو * (أينا أشد عذابا وأبقى) *.
*
* (قالوا لن نؤثرك) * أي لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك وسلامتنا من عذابك * (على ما جاءنا من البينات) * وهي المعجزة التي أتتنا وعلمنا صحتها. وفي قولهم هذا توهين له واستصغار لما هددهم به وعدم اكتراث بقوله. وفي نسبة المجيء إليهم وإن كانت البينات جاءت لهم ولغيرهم لأنهم كانوا أعرف بالسحر من غيرهم، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر فكانوا على جلية من العلم بالمعجز، وغيرهم يقلدهم في ذلك وأيضا فكانوا هم الذين حصل لهم النفع بها فكانت بينات واضحة في حقهم.
والواو في * (والذى فطرنا) * واو عطف على * (ما جاءنا) * أي وعلى * (الذى * فطرنا) * لما لاحت لهم حجة الله في المعجزة بدؤوا بها ثم ترقوا إلى القادر على خرق العادة وهو الله تعالى وذكروا وصف الاختراع وهو قولهم * (الذى * فطرنا) * تبيننا لعجز فرعون وتكذيبه في ادعاء ربوبيته وإلاهيته وهو عاجز عن صرف ذبابة فضلا عن اختراعها. وقيل: الواو للقسم وجوابه محذوف، ولا يكون * (لن نؤثرك) * جوابا لأنه لا يجاب في النفي بلن إلا في شاذ من الشعر و * (ما) *
موصولة بمعنى الذي وصلته * (أنت قاض) * والعائد محذوف أي ما أنت قاضيه. قيل: ولا يجوز أن تكون * (ما) * مصدرية لأن المصدرية توصل بالأفعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر انتهى. وهذا ليس مجمعا عليه بل قد ذهب ذاهبون من النحاة إلى أن * (ما) * المصدرية توصل بالجملة الاسمية. وانتصب * (هاذه الحيواة) * على الظرف وما مهيئة ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن قضاءك كائن في * (هاذه الحيواة الدنيا) * لا في الآخرة، بل في الآخرة لنا النعيم ولك العذاب.
وقرأ الجمهور * (تقضى) * مبنيا للفاعل خطابا لفرعون. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة تقضى مبنيا للمفعول هذه الحياة بالرفع اتسع في الظرف فاجري مجرى المفعول به، ثم بني الفعل لذلك ورفع به كما تقول: صم يوم الجمعة وولد له ستون عاما. ولم يصرح في القرآن بأنه أنفذ فيهم وعيده ولا أنه قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، بل الظاهر أنه تعالى سلمهم منه ويدل على ذلك قوله * (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) * وقيل: أنفذ فيهم وعيده وصلبهم على الجذوع وإكراهه إياهم على السحر. قيل: حملهم على معارضة موسى. وقيل: كان يأخذ ولدان الناس ويجربهم على ذلك فأشارت السحرة إلى
243

ذلك قاله الحسن * (والله خير وأبقى) * رد على قوله * (أينا أشد عذابا وأبقى) * أي وثواب الله وما أعده لمن آمن به، روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائما ففعل فوجده ويحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه ويظهر من قولهم أئن لنا لأجرا عدم الإكراه.
* (إنه من يأت * إلى من * تزكى) * قيل هو حكاية لهم عظة لفرعون. وقيل: خبر من الله لا على وجه الحكاية تنبيها على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة موعظة وتحذيرا، والمجرم هنا الكافر لذكر مقابله * (ومن يأته مؤمنا) * ولقوله * (لا يموت فيها ولا يحيا) * أي يعذب عذابا ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهز عليه فيستريح، بل يعاد جلده ويجدد عذابه فهو لا يحيا حياة طيبة بخلاف المؤمن الذي يدخل النار فهم يقاربون الموت ولا يجهز عليهم فهذا فرق بين المؤمن والكافر. وفي الحديث (إنهم يماتون إماتة) وهذا هو معناه لأنه لا يموت في الآخرة و * (تزكى) * تطهر من دنس الكفر. وقيل: قال لا إله إلا الله.
* (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم) *.
هذا استئناف إخبار عن شيء من أمر موسى عليه السلام وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان، حدث فيها لموسى وفرعون حوادث، وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقوي أمره وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، فأقام موسى على وعده حتى غدره فرعون ونكث وأعلمه أنه لا يرسلهم معه، فبعث الله حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات الجراد والقمل إلى آخرها كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب، فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى فلما كملت الآيات أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يخرج بني إسرائيل في الليل ساريا والسري مسير الليل.
ويحتمل أن * (ءان) * تكون مفسرة وأن تكون الناصبة للمضارع و * (بعبادى) * إضافة تشريف لقوله * (ونفخت فيه من روحى) * والظاهر أن الإيحاء إليه بذلك وبأن يضرب البحر كان متقدما بمصر على وقت اتباع فرعون موسى وقومه بجنوده. وقيل: كان الوحي بالضرب حين قارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني إسرائيل، ويروى أن موسى عليه السلام نهض ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف إنسان، فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم، واتصل الخبر فرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحى الله إلى موسى أن يقصد البحر فجزع بنو إسرائيل، ورأوا أن العدو من ورائهم والبحر من أمامهم وموسى يثق بصنع الله، فلما رآهم فرعون قد نهضوا نحو البحر طمع فيهم وكان مقصدهم إلى موضع ينقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة. قيل: وكان في خيل فرعون سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان. وقيل: أكثر من هذا فضرب موسى عليه السلام البحر فانفرق اثنتي عشرة فرقة طرقا واسعة بينها حيطان الماء واقفة، ويدل عليه فكان كل فرق كالطود العظيم. وقيل: بل هو طريق واحد لقوله * (فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا) * انتهى.
وقد يراد بقوله * (طريقا) * الجنس فدخل موسى عليه السلام بعد أن بعث الله ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست ودخل بنو إسرائيل، ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في
244

البحر فرأى الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر فقال لهم: إنما انفلق من هيبتي وتقدم غرق فرعون وقومه في سورة يونس. والظاهر أن لفظة اضرب هنا على حقيقتها من مس العصا بقوة، وتحامل على العصا ويوضحه في آية أخرى * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * فالمعنى أن اضرب بعصاك البحر لينفلق لهم فيصير طريقا فتعدى إلى الطريق بدخول هذا المعنى لما كان الطريق متسببا عن الضرب جعل كأنه المضروب.
وقال الزمخشري: * (فاضرب لهم طريقا) * فاجعل لهم من قولهم: ضرب له في ماله سهما، وضرب اللبن عمله انتهى. وفي الحديث: (اضربوا لي معكم بسهم). ولما لم يذكر المضروب حقيقة وهو البحر، ولو كان صرح بالمضروب حقيقة لكان التركيب طريقا فيه، فكان يعود على البحر المضروب و * (يبسا) * مصدر وصف به الطريق وصفه بما آل إليه إذ كان حالة الضرب لم يتصف باليبس بل مرت عليه الصبا فجففته كما روي، ويقال: يبس يبسا ويبسا كالعدم والعدم ومن كونه مصدرا وصف به المؤنث قالوا: شاة يبس وناقة يبس إذا جف لبنها. وقرأ الحسن يبسا بسكون الباء. قال صاحب اللوامح: قد يكون مصدرا كالعامة وقد يكون بالإسكان المصدر وبالفتح الاسم كالنفض. وقال الزمخشري: لا يخلو اليبس من أن يكون مخففا عن اليبس أو صفة على فعل أو جمع يابس كصاحب وصحب، وصف به الواحد تأكيدا لقوله ومعا جياعا جعله لفرط جوعه كجماعة جياع انتهى. وقرأ أبو حيوة: يابسا اسم فاعل.
وقرأ الجمهور: لا تخاف وهي جملة في موضع الحال من الضمير * (فاضرب) * وقيل في موضع الصفة للطريق، وحذف العائد أي لا تخاف فيه. وقرأ الأعمش: وحمزة وابن أبي ليلى * (لا تخف) * بالجزم على جواب الأمر أو على نهي مستأنف قاله الزجاج. وقرأ أبو حيوة وطلحة والأعمش، دركا بسكون الراء والجمهور بفتحها، والدرك والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك * (ولا تخشى) * أنت ولا قومك غرقا وعطفه على قراءة الجمهور لا تخاف
ظاهر، وأما على قراءة الجزم فخرج على أن الألف جيء بها لأجل أواخر الآي فاصلة نحو قوله * (فأضلونا السبيلا) * وعلى أنه إخبار مستأنف أي وأنت * (لا) * وعلى أنه مجزوم بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال: ألم يأتيك وهي لغة قليلة. وقال الشاعر:
* إذا العجوز غضبت فطلق
*
ولا ترضاها ولا تملق
*
وقرأ الجمهور: * (تخشى فأتبعهم) * بسكون التاء، وأتبع قد يكون بمعنى تبع فيتعدى إلى واحد كقوله * (فأتبعه الشيطان) * وقد يتعدى إلى اثنين كقوله: وأتبعناهم ذرياتهم فتكون التاء زائدة أي جنوده، أو تكون للحال والمفعول الثاني محذوف أي رؤساؤه وحشمه. وقرأ أبو عمرو في رواية والحسن فاتبععهم بتشديد التاء وكذا عن الحسن في جميع ما في القرآن إلا * (فأتبعه شهاب) * والباء في بجنوده في موضع الحال كما تقول: اخرج زيد بسلاحه أو الباء للتعدي لمفعول ثان بحرف جر، إذ لا يتعدى اتبع بنفسه إلا إلى حرف واحد.
وقرأ الجمهور * (بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) * على وزن فعل مجرد من الزيادة. وقرأت فرقة منهم الأعمش فغشاهم من اليم ما غشاهم بتضعيف العين فالفاعل في القراءة الأولى * (ما) * وفي الثانية الفاعل الله أي فغشاهم الله. قال الزمخشري: أو فرعون لأنه الذي ورط جنوده وتسبب لهلاكهم. وقال * (ما غشيهم) * من باب الاختصار ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة، أي * (غشيهم) * ما لا يعلم كنهه إلا الله. وقال ابن
245

عطية: * (ما غشيهم) * إبهام أهول من النص على قدر ما، وهو كقوله * (إذ يغشى السدرة ما يغشى) * والظاهر أن الضمير في * (غشيهم) * في الموضعين عائد على فرعون وقومه، وقيل الأول على فرعون وقومه، والثاني على موسى وقومه: وفي الكلام حذف على هذا القول تقديره فنجا موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه. وقال الزجاج: وقرئ وجنوده عطفا على فرعون.
* (وأضل فرعون قومه) * أي من أول مرة إلى هذه النهاية ويعني الضلال في الدين. وقيل: أضلهم في البحر لأنهم غرقوا فيه، واحتج به القاضي على مذهبه فقال: لو كان الضلال من خلق الله لما جاز أن يقال: * (وأضل فرعون قومه) * بل وجب أن يقال: الله أضلهم لأن الله تعالى ذمه بذلك فكيف يكون خالقا للكفر لأن من ذم غيره بفعل شيء لا بد أن يكون المذموم فاعلا لذلك الفعل وإلا استحق الذام الذم انتهى. وهو على طريقة الاعتزال * (وما هدى) * أي ما هداهم إلى الدين، أو ما نجا من الغرق، أو ما هتدى في نفسه لأن * (هدى) * قد يأتي بمعنى اهتدى.
* (هدى يابنى إسراءيل قد أنجيناكم من عدوكم) * ذكرهم تعالى بأنواع نعمه وبدأ بإزالة ما كانوا فيه من الضرر من الإذلال والخراج والذبح وهي آكد أن تكون مقدمة على المنفعة الدنيوية لأن إزالة الضرر أعظم في النعمة من إيصال تلك المنفعة، ثم أعقب ذلك بذكر المنفعة الدينية وهو قوله * (وواعدناكم جانب الطور الايمن) * إذ أنزل على نبيهم موسى كتابا فيه بيان دينهم وشرح شريعتهم، ثم يذكر المنفعة الدنيوية وهو قوله * (ونزلنا عليكم المن والسلوى) * والظاهر أن الخطاب لمن نجامع موسى بعد إغراق فرعون. وقيل: لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم) اعتراضا في أثناء قصة موسى توبيخا لهم إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله فهو على حذف مضاف، أي أنجينا آباءكم من تعذيب آل فرعون. وخاطب الجميع بواعدناكم وإن كان الموعودون هم السبعين الذين اختارهم موسى عليه السلام لسماع كلام الله، لأن سماع أولئك السبعين تعود منفعته على جميعهم إذ تطمئن قلوبهم وتسكن وتقدم الكلام في * (جانب الطور الايمن) * في سورة مريم، وعلى * (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) * في سورة البقرة. وقرأ حمزة والكسائي وطلحة: قد أنجيتكم وواعدتكم ما رزقتكم بتاء الضمير، وباقي السبعة بنون العظمة وحميد نجيناكم بتشديد الجيم من غير ألف قبلها وبنون العظمة وتقدم خلاف أبي عمرو وفي واعد في البقرة.
والطيبات هنا الحلال اللذيذ لأنه جمع الوصفين. وقرئ * (الايمان) * قال الزمخشري بالجر على الجوار نحو جحر ضب خرب انتهى. وهذا من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرج القراءة عليه، والصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن وأما لكونه على يمين من يستقبل الجبل، ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم وهو أن يتعدوا حدود الله فيها بأن يكفروها ويشغلهم اللهو والنعم عن القيام بشكرها، وأن ينفقوها في المعاصي ويمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيها.
وقرأ زيد بن علي ولا تطغوا فيه بضم الغين.. وعن ابن عباس * (ولا تطغوا فيه) * لا يظلم بعضكم بعضا فيأخذه من صاحبه يعني بغير حق. وعن الضحاك ومقاتل: لا تجاوزوا حد الإباحة. وعن الكلبي: لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي. وقرأ الجمهور * (فيحل) * بكسر الحاء * (ومن يحلل) * بكسر اللام أي فيجب ويلحق. وقرأ الكسائي بضم الحاء ولام يحلل أي ينزل وهي قراءة قتادة وأبي حيوة والأعمش وطلحة ووافق ابن عتيبة في يحلل فضم، وفي الإقناع لأبي علي الأهوازي ما نصه ابن غزوان عن طلحة لا يحلن عليكم * (غضبى) * بلام ونون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء أي: لا تتعرضوا للطغيان فيه فيحل عليكم غضبي من باب لا أرينك هنا وفي كتاب اللوامح قتادة وعبد الله بن مسلم بن يسار وابن وثاب والأعمش فيحل بضم الياء وكسر الحاء من الإحلال فهو متعد من حل بنفسه، والفاعل فيه مقدر ترك لشهرته وتقديره فيحل به طغيانكم * (غضبى) * عليكم ودل على ذلك * (ولا تطغوا) * فيصير * (غضبى) * في موضع نصب مفعول به. وقد يجوز أن يسند الفعل إلى * (غضبى) * فيصير في موضع رفع بفعله، وقد حذف منه المفعول للدليل عليه وهو العذاب أو نحوه انتهى. * (فقد هوى) * كنى به عن الهلاك، وأصله أن يسقط من جبل فيهلك يقال هوى الرجل أي سقط، ويشبه الذي يقع في ورطة بعد أن بنجوة منها بالساقط، أو * (هوى) * في جهنم وفي سخط الله
وغضب الله عقوباته، ولذلك وصف بالنزول.
246

ولما حذر تعالى من الطغيان فيما رزق وحذر من حلول غضبه فتح باب الرجاء للتائبين وأتى بصيغة المبالغة وهي قوله * (وإنى لغفار لمن تاب) * قال ابن عباس من الشرك * (وامن) * أي وحد الله * (وعمل صالحا) * أدى الفرائض * (ثم اهتدى) * لزم الهداية وأدامها إلى الموافاة على الإسلام. وقيل: معناه لم يشك في إيمانه. وقيل: ثم استقام. قال ابن عطية: والذي تقوى في معنى * (ثم اهتدى) * أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن يخالف الحق في شيء من الأشياء، فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل. وقال الزمخشري: الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح، ونحوه: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * وكلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في جاءني زيد ثم عمر، وأعني أن منزلة الاستقامة على الخبر مباينة لمنزلة الخبر نفسه لأنها أعلى منه وأفضل.
* (وما أعجلك عن قومك ياموسى * موسى * قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامرى * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال ياقوم * قوم * ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى * قالوا) *.
لما نهض موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل، رأى على وجه الاجتهاد أن يقدم وحده مبادرا إلى أمر الله وحرصا على القرب منه وشوقا إلى مناجاته، واستخلف هارون على بني إسرائيل وقال لهم موسى: تسيرون إلى جانب الطور فلما انتهى موسى عليه السلام وناجى ربه، زاده في الأجل عشرا وحينئذ وقفه على استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر فيقع الإعلام له بما صنعوا * (وما) * استفهام أي أي شيء عجل بك عنهم. قال الزمخشري: وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه وينجز ما وعد به بناء على اجتهاده، وظن أن ذلك أقرب إلى رضا الله، وزال عنه أنه عز وجل ما وقت أفعاله إلا نظرا إلى دواعي الحكمة وعلما بالمصالح المتعلقة بكل وقت، فالمراد بالقوم النقباء انتهى.
والظاهر أن قوله عز وجل * (عن قومك) * يريد به جميع بني إسرائيل كما قد بينا قبل لا السبعين. وقال الزمخشري: وليس يقول من جوز أن يراد جميع قومه وأن يكون قد فارقهم قبل الميعاد وجه صحيح ما يأباه قوله * (هم أولاء على أثرى) * انتهى. * (وما أعجلك) * سؤال عن سبب العجلة وأجاب بقوله * (هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى) * لأن قوله * (وما أعجلك) * تضمن تأخر قومه عنه، فأجاب مشيرا إليهم لقربهم منه إنهم على أثره جائين
247

للموعد، وذلك على ما كان عهد إليهم أن يجيئوا للموعد. ثم ذكر السبب الذي حمله على العجلة وهو ما تضمنه قوله * (وعجلت إليك رب لترضى) * من طلبه رضا الله تعالى في السبق إلى ما وعده ربه ومعنى * (إليك) * إلى مكان وعدك و * (لترضى) * أي ليدوم رضاك ويستمر، لأنه تعالى كان عنه راضيا.
وقال الزمخشري: فإن قلت: * (ما * أعجلك) * سؤال عن سبب العجلة، فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال: طلب زيادة رضاك والشوق إلى كلامك وينجز موعدك وقوله * (هم أولاء على أثرى) * كما ترى غير منطبق عليه. قلت: قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين أحدهما إنكار العجلة في نفسها، والثاني السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه، فاعتل بأنه لم يوجد مني إلا تقدم يسير مثله لا يعتد به في العادة ولا يحتفل به، وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال * (وعجلت إليك رب لترضى) * ولقائل أن يقول: حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام انتهى. وفيه سوء أدب على الأنبياء عليهم السلام.
وقرأ الحسن وابن معاذ عن أبيه أولائي بياء مكسورة وابن وثاب وعيسى في رواية * (أولاء) * بالقصر. وقرأت فرقة أولاي بياء مفتوحة. وقرأ عيسى ويعقوب وعبد الوارث عن أبي عمرو وزيد بن علي إثري بكسر الهمزة وسكون الثاء. وحكى الكسائي أثري بضم الهمزة وسكون الثاء وتروى عن عيسى. وقرأ الجمهور * (أولاء) * بالمد والهمز على * (أثرى) * بفتح الهمز والثاء و * (على أثرى) * يحتمل أن يكون خبرا بعد خبر، أو في موضع نصب على الحال.
قال: * (فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامرى) * أي اختبرناهم بما فعل السامري أو ألقيناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف * (من بعدك) * أي من بعد فراقك لهم. وقال الزمخشري: أراد بالقوم المفتونين الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فإن قلت: فيي القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوا أربعين مع أيامها، وقالوا قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل بعد ذلك، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه * (إنا قد * فتنا قومك من بعدك) *؟ قلت: قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته، وافترض السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه. وأخذ في تدبير ذلك فكان بدء الفتنة موجودا انتهى.
وقرأ الجمهور: * (وأضلهم) * فعلا ماضيا. وقرأ أبو معاذ وفرقة وأضلهم برفع اللام مبتدأ والسامري خبره وكان أشدهم ضلالا لأنه ضال في نفسه مضل غيره. وفي القراءة الشهري أسند الضلال إلى السامري لأنه كان السبب في ضلالهم، وأسند الفتنة إليه تعالى لأنه هو الذي خلقها في قلوبهم. و * (السامرى) * قيل اسمه موسى بن ظفر. وقيل: منجا وهو ابن خالة موسى أو ابن عمه أو عظيم من بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة، أو علج من كرمان، أو من باجرما أو من اليهود أو من القبط آمن بموسى وخرج معه، وكان جاره أو من عباد البقر وقع في مصر فدخل في بني إسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر أقوال وتقوم في الأعراف كيفية اتخاذ العجل وقبل ذلك في البقرة فأغنى عن إعادتها هنا.
* (فرجع موسى إلى قومه) * وذلك بعدما استوفى الأربعين وانتصب * (غضبان أسفا) * على الحال، والأسف أشد الغضب. وقيل: الحزن وغضبه من حيث له قدرة على تغيير منكرهم، وأسفه وهو حزنه من حيث علم أنه موضع عقوبة لا يد له بمدفعها ولا بد منها. قال ابن عطية: والأسف في كلام العرب متى كان من ذي قدرة على من دونه فهو غضب، ومتى كان من الأقل على الأقوى فهو حزن، وتأمل ذلك فهو مطرد، ثم أخذ موسى عليه السلام يوبخهم على إضلالهم والوعد الحسن ما وعدهم من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله أهل
248

طاعته. وقال الزمخشري: وعدهم الله بعدما استوفى الأربعين أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل. وقال الحسن: الوعد الحسن الجنة. وقيل: أن يسمعهم كلامه والعهد الزمان، يريد مفارقته لهم يقال طال عهدي بكذا أي طال زماني بسبب مفارقتك، وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فأخلفوا موعد بعبادتهم العجل انتهى.
وانتصب * (وعدا) * على المصدر والمفعول الثاني ليعدكم محذوف أو أطلق الوعد ويراد به الموعود فيكون هو المفعول الثاني وفي قوله * (أفطال) * إلى آخره توقيف على أعذار لم تكن ولا تصح لهم وهو طول العهد حتى يتبين لهم خلف في الموعد وإرادة حلول غضب الله، وذلك كله لم يكن ولكنهم عملوا عمل من لم يتدبر. وسمي العذاب غضبا من حيث هو ناشىء عن الغضب فإن جعل بمعنى الإرادة فصفة ذات أو عن ظهور النقمة والعذاب فصفة فعل. * (موعدى) * مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي أوجدتموني أخلفت ما وعدتكم من قول العرب. فلان أخلف وعد فلان إذا وجد وقع فيه الخلف قاله المفضل، وأن يضاف إلى المفعول وكانوا وعدوه أن يتمسكوا بدين الله وسنة موسى عليه السلام ولا يخالفوا أمر الله أبدا فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل.
وقرأ الأخوان والحسن والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وقعنت بملكنا بضم الميم. وقرأ زيد بن علي ونافع وعاصم وأبو جعفر وشيبة وابن سعدان بفتحها وباقي السبعة بكسرها. وقرأ عمر رضي الله عنه بملكنا بفتح الميم واللام وحقيقته بسلطاننا، فالملك والملك بمنزلة النقض والنقض. والظاهر أنها لغات والمعنى واحد وفرق أبو علي وغيره بين معانيها فمعنى الضم أنه لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري، فليس المعنى أن لهم ملكا وإنما هذا كقول ذي الرمة:
* لا يشتكي سقط منها وقد رقصت
*
بها المفاوز حتى ظهرها حدب أي لا يكون منها سقطة فتشتكي، وفتح الميم مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ولا وقفنا له، بل غلبتنا أنفسننا وكسر الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها. والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي * (* يملكنا) * الصواب. وقال الزمخشري؛ أي * (قالوا ما أخلفنا موعدك) * بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه، ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده.
*
وقرأ الأخوان وأبو عمرو وابن محيصن بفتح الحاء والميم وأبو رجاء بضم الحاء وكسر الميم. وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد ويعقوب غير روح كذلك إلا أنهم شددوا الميم، والأوزار الأثقال أطلق على ما كانوا استعاروا من لقيط برسم التزين أوزارا لثقلها، أو لسبب أنهم أثموا في ذلك فسميت أوزارا لما حصلت الأوزار التي هي الآثام بسببها. والقوم هنا القبط. وقيل: أمرهم بالاستعارة موسى. وقيل: أمر الله موسى بذلك. وقيل: هو ما ألقاه البحر مما كان على الذين غرقوا. وقيل: الأوزار التي هي الآثام من جهة أنهم لم يردوها إلى أصحابها، ومعنى أنهم حملوا الآثام وقذفوها على ظهورهم كما جاؤهم يحملون أوزارهم على ظهورهم. وقيل معنى * (* فقذفناهم) * أي الحلي على أنفسنا وأولادنا. وقيل * (القوم فقذفناها) * في النار أي ذلك الحلي، وكان أشار عليهم بذلك السامري فحفرت حفرة وسجرت فيها النار وقذف كل من معه شيء ما عنده من ذلك في النار. وقذف السامري ما معه. ومعنى * (فكذلك) * أي مثل قذفنا إياها * (ألقى السامرى) * ما كان معه. وظاهر هذه الألفاظ أن العجل لم يصنعه السامري.
وقال الزمخشري: * (فكذلك ألقى السامرى) * أراهم أنه يلقي
249

حليا في يده مثل ما ألقوا وإنما ألقى التربة التي أخدها من موطىء حيزوم فرس جبريل عليه السلام، أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتا صار حيوانا فأخرج لهم السامري من الحفرة عجلا خلقه الله من الحلي التي سبكتها النار تخور كخور العجاجيل. والمراد بقوله * (إنا قد * فتنا قومك) * هو خلق العجل للامتحان أي امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال وأوقعهم فيه حين قال لهم * (هاذا إلاهكم وإلاه موسى) * انتهى.
وقيل: معنى * (جسدا) * شخصا. وقيل: لا يتغذى، وتقدم الكلام على قوله * (له خوار) * في الأعراف. والضمير في * (فقالوا) * لبني إسرائيل أي ضلوا حين قال كبارهم لصغارهم و * (هاذا) * إشارة إلى العجل. وقيل: الضمير في * (فقالوا) * عائد على السامري أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيما لجرمه. وقيل: عليه وعلى تابعيه. وقرأ الأعمش فنسي بسكون الياء، والظاهر أن الضمير في * (فنسى) * عائد على السامري أي * (فنسى) * إسلامه وإيمانه قاله ابن عباس، أو فترك ما كان عليه من الدين قاله مكحول، وهو كقول ابن عباس أو * (فنسى) * أن العجل * (لا يرجعون * إليهم قولا ولا يملك * ضرا ولا نفعا) * و * (فنسى) * الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء وعلى هذه الأقوال يكون * (فنسى) * إخبارا من الله عن السامري. وقيل: الضمير
عائد على موسى عليه السلام أي * (فنسى) * موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم أو * (فنسى) * الطريق إلى ربه، وكلا هذين القولين عن ابن عباس. أو * (فنسى) * موسى إلهه عندكم وخالفه في طريق آخر قاله قتادة، وعلى هذه الأقوال يكون من كلام السامري.
ثم بين تعالى فساد اعتقادهم بأن الألوهية لا تصلح لمن سلبت عنه هذه الصفات فقال: * (أفلا يرون أنا * لا يرجعون * إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) * وهذا كقول إبراهيم ليه * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر) * والرؤية هنا بمعنى العلم، ولذلك جاء بعدها أن المخففة من الثقيلة كما جاء * (ألم يروا أنه لا يكلمهم) * بأن الثقيلة وبرفع يرجع قرأ الجمهور. وقرأ أبو حيوة * (أن لا * يرجع) * بنصب العين قاله ابن خالويه وفي الكامل ووافقه على ذلك وعلى نصب * (ولا يملك) * الزعفراني وابن صبيح وأبان والشافعي محمد بن إدريس الإمام المطلبي جعلوها أن الناصبة للمضارع وتكون الرؤية من الإبصار.
2 (* (قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى * قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمرى * قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنىإسرءيل ولم ترقب قولى * قال فما خطبك ياسامري * قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذالك سولت لى نفسى * قال فاذهب فإن لك فى الحيواة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلاهك الذى ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا * إنمآ إلاهكم الله الذى لاإلاه إلا هو وسع كل شىء علما * كذالك نقص عليك من أنبآء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وسآء لهم يوم القيامة حملا * يوم ينفخ فى الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا
250

يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما * ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولاأمتا * يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضى له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما * وعنت الوجوه للحى القيوم وقد خاب من حمل ظلما * ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما * وكذالك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا * فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدنى علما * ولقد عهدنآ إلىءادم من قبل فنسى ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقلنا ياأادم إن هاذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى * فوسوس إليه الشيطان قال ياأادم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصىءادم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتنىأعمى وقد كنت بصيرا * قال كذالك أتتك آياتنا فنسيتها وكذالك اليوم تنسى * وكذالك نجزى من أسرف ولم يؤمن بأايات ربه ولعذاب الا خرة أشد وأبقى * أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك لأيات لا ولى النهى * ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى * فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءانآء اليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى * ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيواة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى * وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى * وقالوا لولا يأتينا بأاية من ربه أولم تأتهم بينة ما فى الصحف الا ولى * ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولاأرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك من قبل أن نذل
251

ونخزى * قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) *))
) *
اللحية معروفة وتجمع على لحى بكسر اللام وضمها. نسف ينسف بكسر سين المضارع وضمها نسفا فرق وذرى. وقال ابن الأعرابيي: قلع من الأصل. الزرقة: لون معروف، يقال: زرقت عينه وازرقت وازراقت، القاع قال ابن الأعرابي: الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء. وقال الجوهري: المستوي من الأرض. ومنه قول ضرار بن الخطاب:
* ليكونن بالبطاح قريش
*
فقعة القاع في أكف الإماء
*
والجمع أقوع وأقواع وقيعان. وحكى مكي أن القاع في اللغة المكان المنكشف. وقال بعض أهل اللغة: القاع مستنقع الماء. الصفصف: المستوى الأملس. وقيل: الذي لا نبات فيه، وهو مضاعف كالسبسب. الأمت: التل. والعوج: التعوج في الفجاج قاله ابن الأعرابي. الهمس: الصوت الخفي قاله أبو عبيدة. وقيل: وطء الأقدام. قال الشاعر:
وهن يمشين بنا هميسا
ويقال للأسد الهموس لخفاء وطئه، ويقال همس الطعام مضغه. عنا يعنو: ذل وخضع، وأعناه غيره أذلة. وقال أمية بن أبي الصلت:
* مليك على عرش السماء مهيمن
*
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
*
الهضم: النقص تقول العرب: هضمت لك حقي أي حططت منه، ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وفي الصحاح: رجل هضيم ومتهضم مظلوم وتهضمه واهتضمه ظلمه. وقال المتوكل الليثي:
* إن الأذلة واللئام لمعشر
*
مولاهم المنهضم المظلوم
*
عرى يعرى لم يكن على جلده شيء يقيه. قال الشاعر:
* وإن يعرين إن كسى الجواري
*
فتنبو العين عن كرم عجاف
*
ضحى يضحي: برز للشمس. قال عمرو بن أبي ربيعة:
252

* رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت
*
فيضحي وأما بالعشي فيحضر
*
الضنك: الضيق والشدة: ضنك عيشة يضنك ضناكة وضنكا، وامرأة ضناك كثيرة اللحم صار جلدها به. زهرة: بفتح الهاء وسكونها نحو نهر ونهر ما يروق من النور، وسراج زاهر له بريق، والأنجم الزهر المضيئة، وأزهر الشجر بدا زهره وهو النور.
*
* (ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم * قوم * إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعونى وأطيعوا أمرى * قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى * قال ياءادم * هارون ما * منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا * رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمرى * قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرءيل ولم ترقب قولى * قال فما خطبك ياسامري * قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذالك سولت لى نفسى * قال فاذهب فإن لك فى الحيواة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلاهك الذى) *.
أشفق هارون على نفسه وعليهم وبذل لهم النصيحة، وبين أن ما ذهبوا إليه من أمر العجل إنما هو فتنة إذ كان مأمورا من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أخيه موسى عليه السلام * (اخلفنى فى قومى) * الآية ولا يمكنه أن يخالف أمر الله وأمر أخيه. وروي أن الله أوحى إلى يوشع إني مهلك من قومك أربعين ألفا فقال: يا رب فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم تغضبوا لغضبي، والمضاف إليه المقطوع عنه من قبل قدره الزمخشري من قبل أن يقول لهم السامري ما قال، كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه قبل أن ينطق السامري بادر هارون عليه السلام بقوله * (إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان) *.
وقال ابن عطية: أخبر عز وجل أن هارون قد كان قال لهم في أول حال العجل إنما هي فتنة وبلاء وتمويه من السامري، وإنما ربكم الرحمن الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع * (فاتبعونى) * إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه * (وأطيعوا أمرى) * فيما ذكرته لكم انتهى. والضمير في * (به) * عائد على العجل، زجرهم أولا هارون عن الباطل وإزالة الشبهة بقوله * (إنما فتنتم) * ثم نبههم على معرفة ربهم وذكر وصف الرحمة تنبيها على أنهم متى تابوا قبلهم وتذكيرا لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل، ثم أمرهم باتباعه تنبيها على أنه نبي يجب أن يتبع ويطاع أمره.
وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية وأن ربكم بفتح الهمزة والجمهور بكسرها، والمصدر المنسبك منها في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره والأمر * (إن ربكم * الرحمان) * فهو من عطف جملة على جملة، وقدره أبو حاتم ولأن ربكم الرحمن. وقرأت فرقة أنما وأن ربكم بفتح الهمزتين وتخريج هذه القراءة على لغة سليم حيث يفتحون أن بعد القول مطلقا.
ولما وعظهم هارون ونبههم على ما فيه رشدهم اتبعوا سبيل الغي و * (قالوا لن نبرح) * على عبادته مقيمين ملازمين له، وغيوا ذلك برجوع موسى وفي قولهم ذلك دليل على عدم رجوعهم إلى الاستدلال وأخذ بتقليدهم السامري ودلالة على أن * (لن) * لا تقتضي التأييد خلافا للزمخشري إذ لو كان من موضوعها التأبيد لما جازت
التغيية بحتى لأن التغيية لا تكون إلا حيث يكون الشيء محتملا فيزيل ذلك الاحتمال بالتغيية.
وقيل قوله * (قال ياءادم * هارون) * كلام محذوف تقديره فرجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل * (قال ياءادم * هارون) * وكان ظهور العجل في سادس وثلاثين يوما وعبدوه وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين، فعتب موسى على عدم اتباعه لما رآهم قد ضلوا و * (لا) * زائدة كهي في قوله * (ما منعك أن * لا تسجدوا) *. وقال علي بن عيسى دخلت * (لا) * هنا لأن المعنى ما دعاك إلى أن لا تتبعني، وما حملك على أن لا تتبعني بمن معك من المؤمنين) * أفعصيت أمري) * يريد قوله * (*) * أفعصيت أمري) * يريد قوله * (*) * يريد قوله * (اخلفنى) * الآية. وقال الزمخشري: ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدة الزجر على الكفر والمعاصي،
253

وهلا قاتلت من كفر بمن آمن ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهدا، أو مالك لم تلحقني. وفي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله وتكثير ولما كان قوله تتبعني لم يذكر متعلقه كان الظاهر أن لا تتبعني إلى جبل الطور ببني إسرائيل فيجيء اعتذار هارون بقوله * (إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرءيل) * إذ كان لا يتبعه إلا المؤمنون ويبقى عباد العجل عاكفين عليه كما قالوا * (لن نبرح عليه عاكفين) * ويحتمل أن يكون المعنى تتبعني تسير بسيري في الإصلاح والتسديد، فيجيء اعتذاره أن الأمر تفاقم فلو تقويت عليه تقاتلوا واختلفوا فكان تفريقا بينهم وإنما لاينت جهدي.
وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بلحيتي بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز. وكان موسى عليه السلام شديد الغضب لله ولدينه، ولما رأى قومه عبدوا عجلا من دون الله بعد ما شاهدوا من الآيات العظام لم يتمالك أن أقبل على أخيه قابضا على شعر رأسه، وكان كثير الشعر وعلى شعر وجهه يجره إليه فأبدى عذره فإنه لو قاتل بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا، فانتظرتك لتكون المتدراك لهم، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتني به والعمل بموجبها. وتقدم الكلام على * (ابن أم) * قراءة وإعرابا وغير ذلك. وقرأ أبو جعفر ولم يرقب بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب.
ولما اعتذر له أخوه رجع إلى مخاطبة الذي أوقعهم في الضلال وهو السامري وتقدم الكلام في الخطب في سورة يوسف. وقال ابن عطية * (ما خطبكما) * كما تقول ما شأنك وما أمرك، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهارا لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال: ما تحسك وما شؤمك، وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك انتهى. وهذا ليس كما ذكر ألا ترى إلى قوله قال * (فما خطبكم أيها المرسلون) * وهو قول إبراهيم لملائكة الله فليس هذا يقتضي انتهارا ولا شيئا مما ذكر. وقال الزمخشري: خطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه، فإذا قيل لمن يفعل شيئا ما خطبك، فمعناه ما طلبك له انتهى. ومنه خطبة النكاح وهو طلبه. وقيل: هو مشتق من الخطاب كأنه قال له: ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت وفعلت معهم ما فعلت * (قال بصرت بما لم يبصروا به) *. قال أبو عبيدة: علمت ما لم يعلموا. وقال الزجاج: بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر. وقيل: بصر به وأبصره بمعنى واحد. وقرأ الأعمش وأبو السماك: بصرت بكسر الصاد بما لم تبصروا بفتح الصاد. وقرأ عمرو بن عبيد بصرت بضم الباء وضم الصاد بما لم تبصروا بضم التاء وفتح الصاد مبنيا للمفعول فيهما. وقرأ الجمهور * (بصرت) * بضم الصاد وحمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنت تبصروا بتاء الخطاب لموسى وبني إسرائيل وباقي السبعة * (يبصروا) * بياء الغيبة.
وقرأ الجمهور * (فقبضت قبضة) * بالضاد المعجمة فيهما أي أخذت بكفي مع الأصابع. وقرأ عبد الله وأبي وابن الزبير وحميد والحسن بالصاد فيهما، وهو الأخذ بأطراف الأصابع. وقرأ الحسن بخلاف عنه وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة، وأدغم ابن محيصن الضاد المنقوطة في تاء المتكلم وأبقى الإطباق مع تشديد التاء. وقال المفسرون * (الرسول) * هنا جبريل عليه السلام، وتقديره من * (أثر) * فرس * (الرسول) * وكذا قرأ عبد الله، والأثر التراب الذي تحت حافره * (فنبذتها) * أي ألقيتها على الحلي الذي تصور منه العجل فكان منها ما رأيت. وقال الأكثرون رأى السامري جبريل يوم فلق البحر، وعن علي رآه حين ذهب موسى إلى الطور وجاءه جبريل فأبصره دون الناس.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم سماه * (الرسول) * دون جبريل وروح القدس؟ قلت: حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال: إن لهذا
254

لشأنا فقبض القبضة من تربة موطئه، فلما سأله موسى عن قصته قال قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد، ولعله لم يعرف أنه جبريل انتهى. وهو قول علي مع زيادة.
وقال أبو مسلم الأصبهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام، وأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أن موسى لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القول في العجل * (قال بصرت بما لم يبصروا به) * أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من دينك * (فنبذتها) * أي طرحتها. فعند ذلك أعلم موسى بما له من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أراد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا أو بماذا يأمر الأمير، وتسميته رسولا مع جحده وكفره، فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله * (وقالوا يأيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * فإن لم يئمنوا بالإنزال قيل: وما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق إلا أن فيه مخالفة المفسرين. قيل: ويبعد ما قالوه أن جبريل ليس معهودا باسم رسول، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر، ولأن ما قالوه لا بد من إضمار أي من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل، ولأن اختصاص
السامري برؤية جبريل ومعرفته من بين الناس يبعد جدا، وكيف عرف أن حافر فرسه يؤثر هذا الأثر الغريب العجيب من إحياء الجماد به وصيرورته لحما ودما؟ وكيف عرف جبريل يتردد إلى نبي وقد عرف نبوته وصحت عنده فحاول الإضلال؟ ويكف اطلع كافر على تراب هذا شأنه؟ فلقائل أن يقول: لعل موسى اطلع على شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات، فيصير ذلك قادحا فيما أتوا به من الخوارق انتهى. ما رجح به هذا القائل قول أبي مسلم الأصبهاني.
* (وكذالك سولت لى نفسى) * أي كما حدث ووقع قربت لي نفسي وجعلته لي رسولا وإربا حتى فعلته، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي، فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا، وجعل له أن يقول مدة حياته * (لا مساس) * أي لا مماسة ولا إذابة. وقال الزمخشري: عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا، وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة حم الماس والممسوس فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصبح * (لا مساس) * ويقال إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم انتهى. وكون الحمى تأخذ الماس والممسوس قول قتادة والأمر بالذهاب حقيقة ودخلت الفاء للتعقيب إثر المحاورة وطرده بلا مهلة زمانية، وعبر بالمماسة عن المخالطة لأنها أدنى أسباب المخالطة فنبه بالأدنى على الأعلى، والمعنى لا مخالطة بينك وبين الناس فنفر من الناس ولزم البرية وهجر البرية وبقي مع الوحوش إلى أن استوحش وصار إذا رأى أحدا يقول * (لا مساس) * أي لا تمسني ولا أمسك. وقيل: ابتلي بعذاب قيل له * (لا مساس) * بالوسواس وهو الذي عناه الشاعر بقوله:
* فأصبح ذلك كالسامري
*
إذ قال موسى له لا مساسا
*
ومنه قول رؤبة:
حتى تقول الأزد لا مساسا
وقيل: أراد موسى قتله فمنعه الله من قتله لأنه كان شيخا. قال بعض شيوخنا وقد وقع مثل هذا في شرعنا في
255

قصة الثلاثة الذين خلفوا أمر الرسول عليه السلام أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله عليهم. وقرأ الجمهور * (لا مساس) * بفتح السين والميم المكسورة و * (مساس) * مصدر ماس كقتال من قاتل، وهو منفي بلا التي لنفي الجنس، وهو نفي أريد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين. فقال صاحب اللوامح: هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال بمعنى أنزل وأنظر، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف ولا تدخل عليها إلا النافية التي تنصب النكرات نحو لا مال لك، لكنه فيه نفي الفعل فتقديره لا يكون منك مساس، ولا أقول مساس ومعناه النهي أي لا تمسني انتهى. وظاهر هذا أن مساس اسم فعل. وقال الزمخشري * (لا مساس) * بوزن فجار ونحوه قولهم في الظباء:
* إن وردن الماء فلا عباب
*
وإن فقدنه فلا إباب
*
وهي أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب وهو الطلب. وقال ابن عطية * (لا مساس) * هو معدول عن المصدر كفجار ونحوه، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه، والشبه صحح من حيث هي معدولات، وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر ومساس وفجار عدلت عن المصدر. ومن هذا قول الشاعر:
* تميم كرهط السامري وقوله
*
ألا لا يريد السامري مساس
*
انتهى. فكلام الزمخشري وابن عطية يدل على أن مساس معدول عن المصدر الذي هو المسة، كفجار معدولا عن الفجرة * (وإن لك موعدا) * أي في يوم القيامة. وقرأ الجمهور * (لن تخلفه) * بالتاء المضمومة وفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف بل ينجزه لك الله في الآخرة على الشرك والفساد بعدما عاقبك في الدنيا. وقال الزمخشري: وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا. قال الأعشى:
* أثوى وقصر ليله ليزودا
*
فمضى وأخلف من قتيلة موعدا
*
وقرأ ابن كثير والأعمش وأبو عمرو بضم التاء وكسر اللام أي لن تستطيع الروغان عنه. والحيدة فتزول عن موعد العذاب. وقرأ أبو نهيك: لن تخلفه بفتح التاء وضم اللام هكذا بالتاء منقوطة من فوق عن أبي نهيك في نقل ابن خالويه. وفي اللوامح أبو نهيك لن يخلفه بفتح الياء وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده أي الموعد الذي لك لا يدفع قولك الذي تقوله فيما بعد * (لا مساس) * بالفعل فهو مسند إلى الموعد أو الموعد لن يختلف ما قدر لك من العذاب في الآخرة. وقال سهل: يعني أبا حاتم لا يعرف لقراءة أبي نهيك مذهبا انتهى. وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه نخلفه بالنون وكسر اللام أي لا ننقص مما وعدنا لك من الزمان شيئا. وقال ابن جني لن يصادفه مخالفا. وقال الزمخشري: لن يخلفه الله. حكى قوله عز وكل كما مر في * (لاهب لك) * انتهى.
ثم وبخ موسى عليه السلام السامري بما أراد أن يفعل بالعجل الذي اتخذه إلها من الاستطالة عليه بتغيير هيئته، فواجهه بقوله * (وانظر إلى إلاهك) * وخاطبه وحده إذ كان هو رأس الضلال وهو ينظر لقولهم * (لن نبرح عليه عاكفين) * وأقسم * (لنحرقنه) * وهو أعظم فساد الصورة * (ثم لننسفنه فى اليم) * حتى تتفرق أجزاؤه فلا يجتمع، ويظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل وهو داخل البحر حالة تقدم فرعون وتبعه فرعون في الدخول ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه
256

السامري من الحلي الذي كان أصله للقبط. وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيها على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم. وألقى في محل ما قامت به الحياة وإن أموال القبط قذفها الله في البحر بحيث لا ينتفع بها كما قذف الله أشخاص مالكيها في البحر وغرقهم فيه.
وقرأ الجمهور ونصر بن عاصم لابن يعمر * (ظلت) * بظاء مفتوحة ولام ساكنة. وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه كذلك إلا أنهم كسروا الظاء، وعن ابن يعمر ضمها وعن أبي والأعمش ظللت بلامين على الأصل، فأما حذف اللام فقد ذكره سيبويه في الشذوذ يعني شذوذ القياس لا شذوذ الاستعمال مع مست وأصله مسست وأحست أصله أحسست، وذكر ابن الأنباري همت وأصله هممت ولا يكون ذلك إلا إذا سكن آخر الفعل نحو ظلت إذ أظله ظللت. وذكر بعض من عاصرناه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث تسكن آخر الفعل. وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل من تأليفنا، فأما من كسر الظاء فلأنه نقل حركة اللام إلى الظاء بعد نزع حركتها تقديرا ثم حذف اللام، وأما من ضمها فيكون على أنه جاء في بعض اللغات على فعل بضم العين فيهما، ونقلت ضمة اللام إلى الظاء كما نقلت في حالة الكسر على ما تقرر.
وقرأ الجمهور * (لنحرقنه) * مشددا مضارع حرق مشددا. وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وأبو رجاء والكلبي مخففا من أحرق رباعيا. وقرأ علي وابن عباس وحميد وأبو جعفر في رواية وعمرو بن فائد بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء، والظاهر أن حرق وأحرق هو بالنار. وأما القراءة الثالثة فمعناها لنبردنه بالمبرد يقال حرق يحرق ويحرق بضم راء المضارع وكسرها. وذكر أبو علي أن التشديد قد يكون مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد. وفي مصحف أبي وعبد الله لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه وتوافق هذه القراءة من روى أنه صار لحما ودما ذا روح، ويترتب الإحراق بالنار على هذا، وأما إذا كان جمادا مصوغا من الحلي فيترتب برده لا إحراقه إلا إن عنى به إذابته.
وقال السدي: أمر موسى بذبح العجل فذبح وسالمنه الدم ثم أحرق ونسف رماده. وقيل: بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها. وقرأ الجمهور * (لننسفنه) * بكسر السين. وقرت فرقة منهم عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم: لننسفنه بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين. والظاهر وقول الجمهور أن موسى تعجل وحده فوقع أمر العجل، ثم جاء موسى وصنع بالعجل ما صنع ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضا على أمر المناجاة، فكان لموسى عليه السلام نهضتان. وأسند مكي خلاف هذا أن موسى كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل، وأن الله أعلم موسى بذلك فكتمه عنهم وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيل حول العجل، فحينئذ علمهم موسى انتهى. ولما فرغ من إبطال ما عمله السامري عاد إلى بيان الدين الحق فقال * (إنما إلاهكم الله) * وقرأ الجمهور * (واسع) * فانتصب علما على التمييز المنقول من الفاعل، وتقدم نظيره في الأنعام. وقرأ مجاهد وقتادة وسع بفتح السين مشددة. قال الزمخشري: وجهه أن * (واسع) * متعد إلى مفعول واحد وهو كل شيء. وأما * (علما) * فانتصابه على التمييز وهو في المعنى فاعل، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين فنصبهما معا على المفعولية، لأن المميز فاعل في المعنى كما تقول: خاف زيد عمرا خوفت زيدا عمرا، فترد بالنقل ما كان فاعلا مفعولا. وقال ابن عطية * (واسع) * بمعنى خلق الأشياء وكثرها بالاختراع فوسعها موجودات انتهى.
* (كذالك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد اتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا * يوم ينفخ فى الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما * ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا * يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له وخشعت الاصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضى له قولا * يعلم ما بين
257

أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما * وعنت الوجوه للحى القيوم وقد خاب من حمل ظلما * ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما * وكذالك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا * فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدنى علما) *.
ذلك إشارة إلى نبأ موسى وبني إسرائيل وفرعون أي كقصنا هذا النبأ الغريب نقص عليك من أنباء الأمم السابقة، وهذا فيه ذكر نعمة عظيمة وهي الإعلام بأخبار الأمم السالفة ليتسلى بذلك ويعلم أن ما صدر من الأمم لرسلهم وما قاست الرسل منهم، والظاهر أن الذكر هنا القرآن امتن تعالى عليه بإيتائه الذكر المشتمل على القصص والأخبار الدال ذلك على معجزات أوتيها. وقال مقاتل: * (ذكرا) * بيانا. وقال أبو سهل: شرفا وذكرا في الناس.
* (من أعرض عنه) * أي عن القرآن بكونه لم يؤمن به ولم يتبع ما فيه. وقرأ الجمهور * (يحمل) * مضارع حمل مخففا مبنيا للفاعل. وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع: يحمل مشدد الميم مبنيا للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعا و * (وزرا) * مفعول ثان و * (وزرا) * ثقلا باهظا يؤده حمله وهو ثقل العذاب. وقال مجاهد: إثما. وقال الثوري شركا والظاهر أنه عبر عن العقوبة بالوزر لأنه سببها ولذلك قال * (خالدين فيه) * أي في العذاب والعقوبة وجمع خالدين، والضمير في * (لهم) * حملا على معنى من بعد الحمل على لفظها في أعرض وفي فإنه يحمل، والمخصوص بالذم محذوف أي وزرهم و * (لهم) * للبيان كهي في * (هيت لك) * لا متعلقة بساء * (وساء) * هنا هي التي جرت مجرى بئس لا ساء التي بمعنى أحزن وأهم لفساد المعنى.
ويوم ننفخ بدل من يوم القيامة. وقرأ الجمهور * (ينفخ) * مبنيا للمفعول * (ونحشر) * بالنن مبنيا للفاعل بنون العظمة. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد: ننفخ بنون العظمة لنحشر أسند النفخ إلى الآمر به، والنافخ هو إسرافيل ولكرامته أسند ما يتولاه إلى ذاته المقدسة و * (الصور) * تقدم الكلام فيه في الأنعام. وقرئ ينفخ ويحخشر بالياء فيهما مبنيا للفاعل. وقرأ الحسن وابن عياض في جماعة * (فى الصور) * على وزن درر والحسن: يحشر، بالياء مبنيا للمفعول، ويحشر مبنيا للفاعل، وبالياء أي ويحشر الله. والظاهر أن المراد بالزرق زرقة العيون، والزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب لأن الروم أعداؤهم وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين. وقال الشاعر:
* وما كنت أخشى أن تكون وفاته
*
بكفي سبنتي أزرق العين مطرق وقد ذكر في آية أخرى أنهم يحشرون سود الوجوه، فالمعنى تشويه الصورة من سواد الوجه وزرقة العين وأيضا فالعرب تتشاءم بالزرقة. قال الشاعر:
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبرألا كل عليسى من اللؤم أزرق وقيل: المعنى عميا لأن العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها، وبهذا التأويل يقع الجمع بين قوله * (زرقا) * في هذه الآية و * (عميا) * في الآية الأخرى. وقيل: زرق ألوان أبدانهم، وذلك غاية في التشويه إذ يجيئن كلون الرماد وفي كلام العرب يسمى هذا اللون أزرق، ولا تزرق الجلود إلا من مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها. وقيل: * (زرقا) * عطاشا والعطش الشديد يرد سواد العين إلى البياض، ومنه قولهم سنان أزرق وقوله:
فلما وردن الماء زرقا جمامه
أي ابيض، وذكرت الآيتان لابن عباس فقال ليوم القيامة حالات فحالة يكونون فيها زرقا وحالة يكونون
258

عميا.
*
* (يتخافتون) * يتسارون لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم قد عزب عنهم قدر المدة التي لبثوا فيها * (إن لبثتم) * أي في دار الدنيا أو في البرزح أو بين النفختين في الصور ثلاثة أقوال: ووصف ما لبثوا فيه بالقصر لأنها لما يعاينون من الشدائد كانت لهم في الدنيا أيام سرور، وأيام السرور قصار أو لذهابها عنهم وتقضيها، والذاهب وإن طالت مدته قصير بالانتهاء، أو لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا، ويقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة و * (إذ) * معمولة لأعلم. و * (أمثالهم) * أعدلهم. و * (طريقة) * منصوبة على التمييز. * (إلا يوما) * إشارة لقصر مدة لبثهم. و * (إلا عشرا) * يحتمل عشر ليال أو عشرة أيام، لأن المذكر إذا حذف وأبقى عدده قد لا يأتي بالتاء. حكى الكسائي عن أبي الجراح: صمنا من الشهر خمسا، ومنه ما جاء في الحديث ثم أتبعه بست من شوال، يريد ستة أيام وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة رأس آية ذكر أولا منتهى أقل العدد وهو العشر، وذكر أعدلهم طريقة أقل العدد، وهو اليوم الواحد ودل ظاهر قوله * (إلا يوما) * على أن المراد بقولهم * (عشرا) * عشرة أيام.
وضمير الغائب في * (ويسئلونك) * عائد على قريش منكري البعث أو على المؤمنين سألوا عن ذلك، أو على رجل من ثقيف وجماعة من قومه أقوال ثلاثة. والكاف خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم)، والظاهر وجود السؤال ويبعد قول من قال إنه لم يكن سؤال بل المعنى أن يسألوك * (عن الجبال فقل) * فضمن معنى الشرط، فلذلك أجيب بالفاء وروي أن الله يرسل على الجبال ريحا فيدككها حتى تكون كالعهن المنفوش، ثم يتوالى عليها حتى يعيدها كالهباء المنبث فذلك هو النسف، والظاهر عود الضمير في * (فيذرها) * على الجبال أي بعد النسف تبقى * (قاعا) * أي مستويا من الأرض معتدلا. وقيل فيذر مقارها ومراكزها. وقيل: يعود على الأرض وإن لم يجر لها ذكر لدلالة الجبال عليها.
وقال ابن عباس * (عوجا) * ميلا * (ولا * من) * أثرا مثل الشراك. وعنه أيضا * (عوجا) * واديا * (ولا أمتا) * رابية. وعنه أيضا الأمت الارتفاع. وقال قتادة * (عوجا) * صدعا * (ولا أمتا) * أكمة. وقيل: الأمت الشقوق في الأرض. وقيل: غلظ مكان في الفضاء والجبل ويرق في مكان حكاه الصولي. وقيل: كان الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الهواء، والعوج في الأرض مختص بالأرض.
وقال الزمخشري: فإن قلت: قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا: العوج بالكسر في المعاني، والعوج بالفتح في الأعيان والأرض، فكيف صح فيها المكسور العين؟ قلت: اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أن لم يبق فيها اعوجاج قط ثم استطلعت رأي المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك بذلك بحاسة البصر، ولكن بالقياس الهندسي فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإرداك اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه عوج بالكسرة. الأمت النتو اليسير، يقال: مد حبله حتى ما فيه أمت انتهى.
* (يومئذ) * أي يوم إذ ينسف الله البجال * (يتبعون) * أي الخلائق * (الداعى) * داعي الله إلى المحشر نحو قوله * (مهطعين إلى الداع) * وهو إسرافيل يقوم على صخرة بيت المقدس يدعو الناس فيقبلون من كل جهة يضع الصور في فيه، ويقول: أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلم إلى العرض على الرحمن. وقال محمد بن كعب: يجمعون في ظلمة قد طويت السماء وانتثرت النجوم فينادي مناد فيموتون موته. وقال علي بن عيسى * (الداعى) * هنا الرسول صلى الله عليه وسلم) الذي كان يدعوهم إلى الله فيعوجون على الصراط يمينا وشمالا ويميلون عنه ميلا عظيما، فيومئذ لا ينفعهم اتباعه، والظاهر أن الضمير في * (له) * عائد على * (الداعى) * نفى عنه العوج أي * (لا عوج) * لهم عنه بل يأتون مقبلين إليه متبعين لصوته من غير انحراف.
259

وقال الزمخشري: أي لا يعوج له مدعو بل يستوون إليه انتهى. وقيل * (لا عوج له) * في موضع وصف لمنعوت محذوف أي اتباعا * (لا عوج له) * فيكون الضمير في * (له) * عائدا على ذلك المصدر المحذوف. وقال ابن عطية يحتمل أن يريد به الإخبار أي لا شك فيه، ولا يخالف وجوده خبره ويحتمل أن يريد لا محيد لأحد عن اتباعه، والمشي نحو صوته والخشوع التطامن والتواضع وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء. والاستسرار للرحمن أي لهيبة الرحمن وهو مطلع قدرته. وقيل هو على حذف مضاف أي وخشع أهل الأصوات والهمس الصوت الخفي الخافت، ويحتمل أن يريد بالهمس المسموع تخافتهم بينهم وكلامهم السر، ويحتمل أن يريد صوت الأقدام وأن أصوات النطق ساكنة.
وقال الزمخشري: * (إلا همسا) * وهو الركز الخفي ومنه الحروف المهموسة. وقيل: هو من همس الإبل وهو صوت إخفافها إذا مشت، أي لا يسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر انتهى. وعن ابن عباس وعكرمة وابن جبير: الهمس الإقدام، واختاره الفراء والزجاج وعن ابن عباس أيضا وتحريك الشفاه بغير نطق، وعن مجاهد الكلام الخفي ويؤيد قراءة أبي فلا ينطقون * (إلا همسا) * وعن أبي عبيدة الصوت الخفي يومئذ بدل من * (يومئذ يتبعون) * أو يكون التقدير يوم إذ * (يتبعون) * ويكون منصوبا بلا تنفع و * (من) * مفعول بقوله * (لا تنفع) * و * (له) * معناه لأجله وكذا في ورضي له أي لأجله، ويكون من للمشفوع له أو بدل من الشفاعة على حذف مضاف أي إلا شفاعة من أذن له أو منصوب على الاستثناء على هذا التقدير، أو استثناء منقطع فنصب على لغة الحجاز، ورفع على لغة تميم، ويكون * (من) * في هذه الأوجه للشافع والقول المرضي عن ابن عباس لا إله إلا الله.
والظاهر أن الضمير في * (أيديهم وما خلفهم) * عائد على الخلق المحشورين وهم متبعو الداعي. وقيل: يعود على الملائكة. وقيل: على الناس لا بقيد الحشر والاتباع، وتقدم تفسير هذه الجملة في آية الكرسي في البقرة، والضمير في * (به) * عائد على * (ما) * أي * (ولا يحيطون) * بمعلوماته * (علما) * والظاهر عموم * (الوجوه) * أي وجوه الخلائق، وخص * (الوجوه) * لأن آثار الذل إنما تظهر في أول * (الوجوه) *. وقال طلق بن حبيب: المراد سجود الناس على الوجوه والآراب السبعة، فإن كان روى أن هذا يكون يوم القيامة فتكون الآية إخبارا عنه، واستقام المعنى وإن كان أراد في الدنيا فليس ذلك بملائم للآيات التي قبلها وبعدها. وقال الزمخشري: المراد بالوجود وجوه العصاة وأنهم إذا عاينوا يوم القيامة الخيبة والشقوة وسوء الحساب صارت وجوههم عانية أي ذليلة خاضعة مثل وجوه العناة وهم الأسارى ونحوه * (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا) * * (ووجوه يومئذ باسرة) * و * (القيوم) * تقدم الكلام عليه في البقرة.
* (وقد خاب) * أي لم ينجح ولا ظفر بمطلوبه، والظلم يعم الشرك والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم، فخيبة المشرك دائما وخيبة المؤمن العاصي مقيدة بوقت في العقوبة إن عوقب. ولما خص الزمخشري الوجوه بوجوه العصاة قال في قوله * (وقد خاب من حمل ظلما) * أنه اعتراض كقولك: خابوا وخسروا حتى تكون الجملة دخلت بين العصاة وبين من يعمل من الصالحات، فهذا عنده قسيم * (وعنت الوجوه) *. وأما ابن عطية فجعل قوله * (ومن يعمل * إلى * هضما) * معادلا لقوله * (وقد خاب من حمل ظلما) * لأنه جعل * (وعنت الوجوه) * عامة في وجوه الخلائق. و * (من الصالحات) * بيسير في الشرع لأن * (من) * للتبعيض والظلم مجاوزة الحد في عظم سيئاته، والهضم نقص من حسناته قاله ابن عباس. وقال قتادة: الظلم أن يزاد من ذنب غيره. وقال ابن زيد: الظلم أن لا يجزى بعمله. وقيل: الظلم أن يأخذ من صاحبه فوق حقه، والهضم أن يكسر من حق أخيه فلا يوفيه له كصفة المطفقين يسترجحون لأنفسهم إذا اكتالوا ويخسرون هذا كالوا انتهى. والظلم والهضم متقاربان. قال الماوردي:
260

والفرق أن الظلم منع الحق كله والهضم منع بعضه.
وقرأ الجمهور * (فلا يخاف) * على الخبر أي فهو لا يخاف. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد فلا يخف علي النهي * (وكذالك) * عطف على كذلك نقص أي ومثل ذلك الإنزال أو كما أنزلنا عليك هذه الآيات المضمنة الوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة مكررين فيه آيات الوعيد ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة، والذكر يطلق على الطاعة والعبادة. وقيل: كما قدرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذرنا هؤلاء أمرها و * (أنزلناه قرانا
عربيا) * وتوعدنا فيه بأنواع * (من الوعيد لعلهم) * بحسب توقع الشر وترجيهم * (يتقون) * الله ويخشون عقابه فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم، وما حذرهم من أليم عقابه هذا تأويل فرقة في قوله * (أو يحدث لهم ذكرا) * وقالت فرقة: معناه أو يكسبهم شرفا ويبقي عليهم إيمانهم ذكرا في الغابرين. وقيل: المعنى كما رغبنا أهل الإيمان بالوعد حذرنا أهل الشرك بالوعيد * (وصرفنا فيه من الوعيد) * كالطوفان والصيحة والرجفة والمسخ، ولم يذكر الوعد لأن الآية سيقت مساق التهديد * (لعلهم يتقون) * أي ليكونوا على رجاء من أن يوقع في قلوبهم الاتقاء أو يتقون أن ينزل بهم ما نزل بمن تقدمهم أي * (يحدث لهم ذكرا) * أي عظة وفكرا واعتبارا. وقال قتادة ورعا. وقيل: أنزل القرآن ليصيروا محترزين عمالا ينبغي * (أو يحدث لهم ذكرا) * يدعوهم إلى الطاعات، وأسند ترجي التقوى إليهم وترجي إحداث الذكر للقرآن لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح، وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يسند القرآن وأسند إحداث الذكر إلى القرآن لأنه أمر حدث بعد أن لم يكن والظاهر أن أو هنا لأحد الشيئين. قيل: * (أو) * كهي في جالس أو ابن سيرين أي لا تكن خاليا منهما. وقرأ الحسن * (أو يحدث) * ساكنة الثاء. وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام، أو نحدث بالنون وجزم الثاء، وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالا لحركته نحو قول جرير:
أو نهر تيري فلا تعرفكم العرب
ولما كان فيما سبق تعظيم القرآن في قوله * (وقد اتيناك من لدنا ذكرا) * * (وكذالك أنزلناه قرءانا عربيا) * ذكر عظمة منزله تعالى ثم ذكر هاتين الصفتين وهي صفة * (الملك) * التي تضمنت القهر، والسلطنة والحق وهي الصفة الثابتة له إذ كل من يدعي إلها دونه باطل لا سيما الإله الذي صاغوه من الحلي ومضمحل ملكه ومستعار، وتقدم أيضا صفة سلطانه يوم القيامة وعظم قدرته وذلة عبيده وحسن تلطفه بهم، فناسب تعاليه ووصفه بالصفتين المذكورتين، ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد طالبا منه التأني في تحفظ القرآن * (ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه) * أي تأن حتى يفرغ الملقى إليك الوحي ولا تساوق في قراءتك قراءته وإلقاء، كقوله تعالى * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * وقيل: معناه لا تبلغ ما كان منه مجملا حتى يأتيك البيان.
وقيل: سبب الآية أن امرأة شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم) أن زوجها لطمها، فقال لها (بينكما القصاص) ثم نزلت * (الرجال قوامون على النساء) * ونزلت هذه بمعنى الأمر بالتثبت في الحكم بالقرآن. وقيل: كان إذا نزل عليه الوحي أمر بكتبه للحين، فأمر أن يتأتى حتى يفسر له المعاني ويتقرر عنده. وقال الماوردي: معناه ولا تسأل قبل أن يأتيك الوحي إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا: يا محمد أخبرنا عن كذا وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه، وفشت المقالة بين اليهود قد غلب محمد فنزلت * (ولا تعجل بالقرءان) * أي بنزوله. وقال أبو مسلم * (ولا تعجل) * بقراءته في نفسك أو في تأديته إلى غيرك أو في اعتقاد ظاهره أو في تعريف غيرك ما يقتضيه ظاهره احتمالات.
* (من قبل إن * يقضى * إليك وحيه) * أي تمامه أو بيانه احتمالات، فالمراد إذا أن لا ينصب نفسه ولا غيره عليه حتى يتبين بالوحي تمامه أو بيانه أو هما جميعا، لأنه يجب التوقف في المعنى لما يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات، وهذه العجلة لعله فعلها باجتهاد عليه السلام انتهى. وفيه بعض تلخيص.
وقرأ الجمهور: * (يقضى إليك) * مبنيا للمفعول * (وحيه
261

مرفوع به. وقرأ عبد الله والجحدري والحسن وأبو حيوة ويعقوب وسلام والزعفراني وابن مقسم نقضي بنون العظمة مفتوح الياء وحيه بالنصب. وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من يقضي. قال صاحب اللوامح: وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفا انتهى.
* (وقل رب زدنى علما) * قال مقاتل أي قرآنا. وقيل: فهما. وقيل: حفظا وهذا القول متضمن للتواضع لله والشكر له عندما علم من ترتيب التعلم أي علمتني مآرب لطيفة في باب التعلم وأدبا جميلا ما كان عندي، فزدني علما. وقيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في طلب العلم.
* (ولقد عهدنا إلى * من ربه * قبل فنسى ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقلنا يائادم * أن لا * هاذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك * أن لا * تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا * ولا تضحى * فوسوس إليه الشيطان قال يئادم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوءتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصىءادم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن) *.
تقدمن قصة آدم في البقرة والأعراف والحجر والكهف، ثم ذكر ههنا لما تقدم * (كذالك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) * كان من هذا الإنباء قصة آدم ليتحفظ بنوه من وسوسة الشيطان ويتنبهوا على غوائله، ومن أطاع الشيطان منهم ذكر بما جرى لأبيه آدم معه وأنه أوضحت له عداوته، ومع ذلك نسي ما عهد إليه ربه وأيضا لما أمر بأن يقول * (رب زدنى علما) * كان من ذلك ذكر قصة آدم وذكر شيء من أحواله فيها لم يتقدم ذكرها، فكان في ذلك مزيد علم له عليه السلام، والعهد عند الجمهور الوصية. والظاهر أن المضاف إليه المحذوف بعد قوله * (من قبل) * تقديره * (من قبل) * هؤلاء الذين صرف لهم من الوعيد في القرآن لعلهم يتقون، وهم الناقضو عهد الله والتاركو الإيمان. وقال الحسن: * (من قبل) * الرسول والقرآن. وقيل: * (من قبل) * أن يأكل من الشجرة.
وقال الطبري: المعنى أن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي ويخالفوا رسلي ويطيعوا إبليس، فقدما فعل ذلك أبوهم آدم. قال ابن عطية: وهذا ضعيف وذلك أن كون آدم مثالا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء، وآدم عليه السلام إنما عصى بتأويل ففي هذا غضاضته عليه السلام، وإنما الظاهر في هذه الآية إما أن يكون ابتداء
قصص لا تعلق له بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه إنما هو لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم) أن لا يعجل بالقرآن مثل له بنبي قبله عهد إليه * (فنسى) * فعرف ليكون أشد في التحذير وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم).
وقال الزمخشري: يقال في أموامر الملوك ووصاياهم: تقدم الملك إلى فلان وأوغر عليه وعزم عليه وعهد إليه، عطف الله سبحانه وتعالى قصة آدم على قوله * (وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون) * والمعنى وأقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها وذلك * (من قبل) * وجودهم * (من قبل) * أن نتوعدهم فخالف إلى ما نهي عنه وتوعد في ارتكابه مخالفتهم، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون كأنه يقول: إن أساس أمر بني آدم على ذلك وعرقهم راسخ فيه انتهى. والظاهر أن النسيان هنا الترك إن ترك ما وصي به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها. وقال الزمخشري: يجوز أن يراد بالنسيان الذي هو نقيض الذكر وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس حتى
262

تولد من ذلك النسيان انتهى. وقاله غيره. وقال ابن عطية: ونسيان الذهول لا يمكن هنا لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب انتهى. وقرأ اليماني والأعمش فنسي بضم النون وتشديد السين أي نساه الشيطان، والعزم التصميم والمضي.
قال الزمخشري: أي على ترك الأكل وأن يتصلب في ذلك تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل له، والوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه * (له عزما) * وأن يكون نقيض العدم كأنه قال وعد منا * (له عزما) * انتهى. وقيل * (ولم نجد له عزما) * على المعصية وهذا يتخرج على قول من قال إنه فعل نسيانا. وقيل: حفظا لما أمر به. وقيل: صبرا عن أكل الشجرة. وقيل * (عزما) * في الاحتياط في كيفية الاجتهاد.
وتقدم الكلام على نظير قوله * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى) * و * (أبى) * جملة مستأنفة مبينة أن امتناعه من السجود إنما كان عن إباء منه وامتناع، والظاهر حذف متعلق * (أبى) * وأنه يقدر هنا ما صرح به في الآية الأخرى * (أبى أن يكون مع الساجدين) * وقال الزمخشري * (أبى) * جملة مستأنفة كأنه جواب قائل قال: لم لم يسجد؟ والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله * (اسجدوا) * وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط انتهى.
و * (هاذا) * إشارة إلى إبليس و * (عدو) * يطلق على الواحد والمثنى والمجموع، عرف تعالى آدم عداوة إبليس له ولزوجته ليحذراه فلن يغني الحذر عن القدر، وسبب العداوة فيما قيل إن إبليس كان حسودا فلما رأى آثار نعم الله على آدم حسده وعاداه. وقيل: العداوة حصلت من تنافي أصليهما إذ إبليس من النار وآدم من الماء والتراب * (فلا يخرجنكما) * النهي له والمراد غيره أي لا يقع منكما طاعة له في إغوائه فيكون ذلك سبب خروجكما من الجنة، وأسند الإخراج إليه وإن كان المخرج هو الله تعالى لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج * (فتشقى) * يحتمل أن يكون منصوبا بإضمار أن في جواب النهي وأن يكون مرفوعا على تقدير فأنت تشقى. وأسند الشقاء إليه وحده بعد اشتراكه مع زوجه في الإخراج من حيث كان هو المخاطب أولا والمقصود بالكلام ولأن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله، وفي سعادته سعادتها فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على الفاصلة.
وقيل: أراد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك راجع إلى الرجل. وعن ابن جبير: أهبط له ثور أحمر يحرث عليه فيأكل بكد يمينه وعرق جبينه. وقرأ شيبة ونافع وحفص وابن سعدان * (وأنك لا تظمؤا) * بكسر همزة وإنك. وقرأ الجمهور بفتحها فالكسر عطف على أن لك، والفتح عطف على المصدر المنسبك من ن لا تجوع، أي أن لك انتفاء جوعك وانتفاء ظمئك، وجاز عطف * (إنك) * على أن لاشتراكهما في المصدر، ولو باشرتها إن المكسورة لم يجز ذلك وإن كا على تقديرها ألا ترى أنها معطوفة على اسم إن، وهو أن لا تجوع لكنه يجوز في العطف ما لا يجوز في المباشرة، ولما كان الشبع والري والكسوة والسكن هي الأمور التي هي ضرورية للإنسان اقتصر عليها لكونها كافية له. وفي الجنة ضروب من أنواع النعيم والراحة ما هذه بالنسبة إليها كالعدم فمنها الأمن من الموت الذي هو مكدر لكل لذة، والنظر إلى وجه الله سبحانه ورضاه تعالى عن أهلها، وأن لا سقم ولا حزن ولا ألم ولا كبر ولا هرم ولا غل ولا غضب ولا حدث ولا مقاذير ولا تكليف ولا حزن ولا خوف ولا ملل، وذكرت هذه الأربعة بلفظ النفي لأثبات أضدادها وهو الشبع والري والكسوة والسكن، وكانت نقائضها بلفظ النفي وهو الجوع والعري والظمأ والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.
قال ابن عطية: وكان عرف الكلام أن يكون الجوع مع الظمأ والعري مع الضحاء لأنها تتضاد إذ العري نفسه البرد فيؤذي والحر يفعل ذلك بالضاحي، وهذه الطريقة مهيع في كلام العرب أن يقرن النسب. ومنه قول امرئ القيس:
263

* كأني لم أركب جوادا للذة
*
ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
*
* ولم أسبأ الرق الروي ولم أقل
*
لخيلي كري كرة بعد إجفال
*
وقد ذهب بعض الأدباء إلى أن بيتي امرئ القيس كافطاني للنسب، وأن ركوب الخيل للصيد وغيره من الملاذ يناسب تبطن الكاعب انتهى.
وقيل: هذا الجواب على قدر السؤال لما أمر الله آدم بسكنى الجنة قال: إلهي ألي فيها ما آكل؟ ألي فيها ما ألبس؟ ألي فيها ما أشرب؟ ألي فيها ما أستظل به؟ وقيل: هي مقابلة معنوية، فالجوع خلو الباطن، والتعري خلو الظاهر، والظمأ إحراق الباطن، والضحو إحراق الظاهر فقابل الخلو بالخول والإحراق بالإحراق. وقيل: جمع امرؤ القيس في بيتيه بين ركوب الخيل للذة والنزهة، وبين تبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما، وجمع بين سباء الرق وبين قوله لخيله كري لما فيهما من الشجاعة ولما عيب على أبي الطيب قوله:
* وقفت وما في الموت شك لواقف
*
كأنك في جفن الردى وهو نائم
*
* تمر بك الأبطال هزمى كليمة
*
ووجهك وضاح وثغرك باسم
*
فقال: إن كنت أخطأت فقد أخطأ امرؤ القيس. وتقدم الكلام في * (فوسوس) * والخلاف في كيفيتها في الأعراف، وتعدى وسوس هنا بإلى وفي الأعراف باللام، فالتعدي بإلى معناه أنهى الوسوسة إليه والتعدي بلام الجر، قيل معناه: لأجله ولما وسوس إليه ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكن للاستماع، ثم عرض عليه ما يلقى بقوله * (هل أدلك) * على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنضح. ويؤثر قبول من يخاطبه كقول موسى * (هل لك إلى أن تزكى) * وهو عرض فيه مناصحة، وكان آدم قد رغبه الله تعالى في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله * (فلا يخرجنكما) * الآية ورغبة إبليس في دوام الراحة بقوله: * (هل أدلك) * فجاءه إبليس من الجهة التي رغبه الله فيها. وفي الأعراف * (ما نهاكما ربكما عن هاذه الشجرة) *. وهنا * (هل أدلك) * والجمع بينهما أن قوله * (هل أدلك) * يكون سابقا على قوله * (ما نهاكما) * لما رأى إصغاءه وميله إلى ما عرض عليه انتقل إلى الإخبار والحصر.
ومعنى * (على شجرة الخلد) * أي الشجرة التي من أكل منها خلد وحصل له ملك لا يخلق، وهذا يدل لقراءة الحسن بن علي وابن عباس إلا أن تكونا ملكين بكسر اللام * (فأكلا منها فبدت لهما * سوءتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) * تقدم الكلام على نحو هذه الآية في الأعراف * (وعصى * ءادم * ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) * قال الزمخشري عن ابن عباس: لا شبهة في أن آدم صلوات الله عليه لم يمتثل ما رسم الله له وتخطى فيه ساحة الطاعة، وذلك هو العصيان. ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشدا وخيرا فكان غيا لا محالة لأن الغي خلاف الرشد. ولكن قوله * (وعصىءادم ربه فغوى) * بهذا الإطلاق وهذا التصريح، وحيث لم يقل وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك مما يعبر به عن الزلات والفرطات فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعتب على النبي المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلظة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات
264

والصغائر فضلا عن أن تجسروا عن التورط في الكبائر، وعن بعضهم * (فغوى) * فسئم من كثرة الأكل، وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المسكور ما قبلها ألفا فيقول في فنى وبقى فنا وبقا، وهم بنو طيىء تفسير خبيث انتهى.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحدنا اليوم أن يخبر بذلك عنه عليه السلام إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى أو قول نبيه عليه السلام، فإما أن يبتدئ ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا المماثلين لنا، فكيف ففي أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم الذي اجتباه الله وتاب عليه وغفر له. قال القرطبي: وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز والإخبار عن صفات الله كاليد والرجل والأصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسول عليه السلام، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس: من وصف شيئا من ذات الله مثل قوله تعالى * (وقالت اليهود يد الله مغلولة) * فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبه الله سبحانه بنفسه.
* (ثم اجتباه) * أي اصطفاه وقربه وتاب عليه أي قبل توبته * (وهدى) * أي هداه للنبوة أو إلى كيفية التوبة، أو هداه رشده حتى رجع إلى الندم. والضمير في * (اهبطا) * ضمير تثنية وهو أمر لآدم وحواء جعل هبوطهما عقوبتهما و * (جميعا) * حال منهما. وقال ابن عطية: ثم أخبرهما بقوله * (جميعا) * أن إبليس والحية مهبطان معهما، وأخبرهما أن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة انتهى. ولا يدل قوله * (جميعا) * أن إبليس والحية يهبطان معهما لأن * (جميعا) * حال من ضمير الاثنين أي مجتمعين، والضمير في * (بعضكم لبعض) * ضمير جمع. قيل: يريد إبليس وبنيه وآدم وبنيه. وقيل: أراد آدم وذريته، فالعداوة واقعة بينهم والبغضاء لاختلاف الأديان وتشتت الآراء. وقيل: آدم وإبليس والحية. وقال أبو مسلم الأصبهاني: الخطاب لآدم عليه السلام ولكونهما جنسين صح قوله * (اهبطا) *
ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله * (فإما يأتينكم منى هدى) *.
وقال الزمخشري: لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلي البشر والسببين اللذين منهما نشؤوا وتفرعوا جعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم، فقيل * (فإما يأتينكم) * على لفظ الجماعة، ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب وهو في الحقيقة للمسبب انتهى. و * (هدى) * شريعة الله. وعن ابن عباس ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا * (فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) * والمعنى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه. وعن ابن جبير من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب. وقال أبو عبد الله الرازي: وهذه الآية تدل على أن المراد بالهدى الذي ذكره الله تعالى اتباع الأدلة واتباعها لا يتكامل إلا بأن يستدل بها، وبأن يعمل بها، ومن هذه حاله فقد ضمن تعالى أن لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة. وقيل * (لا يضل * ولا يشقى) * في الدنيا. فإن قيل: المنعم بهدى الله قد يلحقه الشقاء في الدنيا. قلنا: المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل بسبب آخر فلا بأس انتهى.
ولما ذكر تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض عن ذكره، والذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية. وضنك: مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، والمعنى النكد الشاق من العيش والمنازل ومواطن الحرب نحوها. ومنه قول عنترة:
* إن المنية لو تمثل مثلت
*
مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
*
وعن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الأسود بن عبد الأسد المخزومي، والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه. وقال الحسن وقتادة والكلبي: هو الضيق في الآخرة في جهنم فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين، ولا يموتون فيها ولا يحيون، وقال عطاء: المعيشة الضنك معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب. وقال ابن جبير: يسلب القناعة حتى لا يشبع. وقال أبو سعيد الخدري والسدي: هو عذاب القبر، ورواه أبو هريرة
265

رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم). وقال الجوهري: المعيشة الضنك في الدنيا، والمعنى أن الكافر وإن كان متسع الحال والمال فمعه من الحرص والأمل والتعذيب بأمور الدنيا والرغبة وامتناع صفاء العيش لذلك ما تصير معيشته ضنكا وقالت فرقة * (ضنكا) * بأكل الحرام.
ويستدل على أن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة * (ونحشره يوم القيامة أعمى) * وقوله: * (ولعذاب الاخرة أشد وأبقى) * فكأنه ذكر نوعا من العذاب، ثم ذكر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى، وحسن قول الجمهور الزمخشري فقال: ومعنى ذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته، فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة فيعيش عيشا طيبا كما قال تعالى * (فلنحيينه حيواة طيبة) * والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطيح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة انتهى.
وقرأ الحسن ضنكي بألف التأنيث ولا تنوين وبالإمالة بناؤه صفة على فعلى من الضنك. وقرأ الجمهور * (ضنكا) * بالتنوين وفتحة الكاف فتحة إعراب. وقرأ الجمهور * (ونحشره) * بالنون، وفرقة منهم أبان بن تغلب بسكون الراء فيجوز أن يكون تخفيفا، ويجوز أن يكون جرما بالعطف على موضع * (فإن له معيشة ضنكا) * لأنه جواب الشرط، وكأنه قيل * (ومن أعرض عن ذكرى) * تكن له معيشة ضنك * (ونحشره) * ومثله * (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) * في قراءة من سكن ويذرهم. وقرأت فرقة ويحشره بالياء. وقرئ ويحشره بسكون الهاء على لفظ الوقف قاله الزمخشري. ونقل ابن خالويه هذه القراءة عن أبان بن تغلب والأحسن تخريجه على لغة بني كلاب وعقيل فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء. وقرئ * (لربه لكنود) * والظاهر أن قوله * (أعمى) * المراد به عمى البصر كما قال * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا) * وقيل: أعمى البصيرة. قال ابن عطية: ولو كان هذا لم يحس الكافر بذلك لأنه مات أعمى البصيرة ويحشر كذلك. وقال مجاهد والضحاك ومقاتل وأبو صالح وروي عن ابن عباس: * (أعمى) * عن حجته لا حجة له يهتدي بها. وعن ابن عباس يحشر بصيرا ثم إذا استوى إلى المحشر * (أعمى) *. وقيل: * (أعمى) * عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه. وقيل * (أعمى) * عن كل شيء إلا عن جهنم. وقال الجبائي: المراد من حشره * (أعمى) * لا يهتدي إلى شيء. وقال إبراهيم بن عرفة: كل ما ذكره الله عز وجل في كتابه فذمه فإنما يريد عمى القلب قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
وقال مجاهد: معنى * (لم حشرتنى أعمى) * أي لا حجة لي وقد كنت عالما بحجتي بصيرا بها أحاج عن نفسي في الدنيا انتهى. سأل العبد ربه عن السبب الذي استحق به أن يحشر أعمى لأنه جهله، وظن أنه لا ذنب له فقال له جل ذكره * (كذالك أتتك اياتنا فنسيتها وكذالك اليوم تنسى) * أي مثل ذلك أنت، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر، ولم تتبصر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك قاله الزمخشري. والنسيان هنا بمعنى الترك لا بمعنى الذهول، ومعنى * (تنسى) * تترك في العذاب * (وكذالك نجزى) * أي مثل ذلك الجزاء * (نجزى من أسرف) * أي من جاوز الحد في المعصية ثم أخبر تعالى أن عذاب الآخرة أشد أي من عذاب الدنيا لأنه أعظم منه * (وأبقى) * أي منه لأنه دائم مستمر وعذاب الدنيا منقطع. وقال الزمخشري: والحشر على العمى الذي لا يزوال أبدا أشد من ضيق العيش المنقضي، أو أراد ولتركنا إياه في العمى * (أشد وأبقى) * من تركه لآياتنا.
* (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك لايات لاولى النهى * ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى * فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءاناء اليل فسبح وأطراف النهار لعلك) *. (سقط: ترضى، ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك
266

(سقط: خير وأبقى، وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليهم لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى، وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتيه بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فتنبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى، قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتتدى)
قرأ الجمهور * (يهد) * الياء. وقرأ فرقة منهم ابن عباس والسلمي بالنون، وبخهم تعالى وذكرهم العبر بمن تقدم من القرون، ويعني بالإهلاك الإهلاك الناشئ عن تكذيب الرسل وترك الإيمان بالله واتباع رسله، والفاعل ليهد ضمير عائد على الله تعالى، ويؤيد هذا التخريج قراءة نهد بالنون ومعناه نبين وقاله الزجاج. وقيل: الفاعل مقدر تقديره الهدى والآراء والنظر والاعتبار. وقال ابن عطية: وهذا أحسن ما يقدر به عندي انتهى. وهو قول المبرد وليس بجيد إذ فيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين، وتحسينه أن يقال الفاعل مضمر تقديره * (يهد) * هو أي الهدى. وقال أبو البقاء: الفاعل ما دل عليه * (أهلكنا) * والجملة مفسرة له. قال الحوفي * (كم أهلكنا) * قد دل على هلاك القرون، فالتقدير أفلم نبين لهم هلاك من * (أهلكنا) * * (من القرون) * ومحو آثارهم فيتعظوا بذلك.
وقال الزمخشري: فاعل * (لم يهدنى) * الجملة بعده يريد ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه ونظيره قوله تعالى * (وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على نوح فى العالمين) * أي تركنا عليه هذا الكلام، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول انتهى. وكون الجملة فاعلا هو مذهب كوفي، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله * (تركنا * عليه فى الاخرين * سلام على نوح فى العالمين) * فإن تركنا عليه معناه معنى القول فحكيت به الجملة كأنه قيل وقلنا عليه، وأطلقنا عليه هذا اللفظ والجملة تحكي بمعنى القول كما تحكى بلفظه، وأحسن التخاريج الأول وهو أن يكون الفاعل ضميرا عائدا على الله كأنه قال * (أفلم) * يبين الله ومفعول يبين محذوف، أي العبر بإهلاك القرون السابقة ثم قال * (كم أهلكنا) * أي كثيرا أهلكنا، فكم مفعوله بأهلكنا والجملة كأنها مفسرة للمفعول المحذوف ليهد.
وقال الحوفي: قال بعضهم هي في موضع رفع فاعل * (يهد) * وأنكر هذا على قائله لأن كم استفهام لا يعمل فيها ما قبلها انتهى. وليست كم هنا استفهاما بل هي خبرية.
وقال أبو البقاء: * (يهد لهم) * في فاعله وجهان أحدهما ضمير اسم الله تعالى أي ألم يبين الله لهم وعلق * (يهد) * هنا إذ كانت بمعنى يعلم كما علقت في قوله تعالى * (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) * انتهى.
و * (كم) * هنا خبرية والخبرية لا تعلق العامل عنها، وإنما تعلق عنه الاستفهامية. وقرأ ابن السميفع: يمسون بالتشديد مبنيا للمفعول لأن المثنى يخلق خطوة بخطوة وحركة بحركة وسكونا بسكون، فناسب البناء للمفعول والضمير في * (يمشون) * عائد على ما عاد عليه لهم وهم الكفار الموبخون يريد قريشا، والعرب يتقلبون في بلاد عاد وثمود والطوائف التي كانت قريش تمر عليها إلى الشام وغيره، ويعاينون آثار هلاكهم و * (يمشون فى مساكنهم) * جملة في موضع الحال من ضمير * (لهم) * والعامل * (* يهذ) * أي ألم نبين للمشركين في حال مشيهم في مساكن من أهلك من الكفار. وقيل: حال من مفعول * (ولقد أهلكنا) * أي أهلكناهم غارين آمنين متصرفين في مساكنهم لم يمنعهم عن التمتع والتصرف مانع من مرض ولا غيره، فجاءهم الإهلاك بغتة على حين غفلة منهم به.
* (إن فى ذلك) * أي في ذلك التبيين بإهلاك القرون الماضية * (لايات لاولى) * أي العقول السليمة. ثم بين تعالى الوجه الذي لأجله لا يترك العذاب معجلا على من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم) والكلمة السابقة هي المعدة بتأخير جزائهم في الآخرة قال تعالى: * (الدبر بل الساعة موعدهم) * تقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمودا لازما هؤلاء الكفرة، واللزام إما مصدر لازم وصف به وإما فعال بمعنى مفعل أي ملزم كأنه آلة للزوم، ولفظ لزومه كما قالوا لزاز خصم. وقال أبو
267

عبد الله الرازي: لا شبهة أن الكلمة إخبار الله تعالى ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم) وإن كذبوا يؤخرون ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من الاستئصال انتهى.
والأجل أجل حياتهم أو أجل إهلاكهم في الدنيا أو عذاب يوم القيامة، أقوال: فعلى الأول يكون العذاب ما يلقى في قبره وما بعده. وعلى الثاني: قتلهم بالسيف يوم بدر. وعلى الثالث: هو عذاب جهنم. وفي صحيح البخاري (أن يوم بدر هو اللزام وهو البطشة الكبرى) والظاهر عطف * (وأجل مسمى) * على كلمة وأخر المعطوف عن المعطوف عليه، وفصل بينهما بجواب * (لولا) * لمراعاة الفواصل ورؤوس الآي، وأجاز الزمخشري أن يكون * (وأجل) * معطوفا على الضمير المستكن في كان قال أي * (لكان) * الأخذ العاجل * (وأجل مسمى) * لازمين له كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل انتهى.
ثم أمره تعالى بالصبر على ما يقول مشركو قريش، وهم الذين عاد الضمير عليهم في * (أفلم يهد لهم) * وكانوا يقولون أشياء قبيحة مما نص الله عنهم في كتابه، فأمره تعالى بالصبر على أذاهم والاحتمال لما يصدر من سوء أخلاقهم، وأمره بالتسبيح والحمد لله و * (إن ربك) * في موضع الحال، أي وأنت حامد لربك. والظاهر أنه أمر بالتسبيح مقرونا بالحمد، وإما أن يراد اللفظ أي قل سبحان الله والحمد لله، أو أريد المعنى وهو التوزيه والتبرئة من السوء والثناء الجميل عليه. وقال أبو مسلم: لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله في هذه الأوقات. قال أبو عبد الله الرازي: وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره لأنه صبره
أولا * (على ما يقولون) * من التكذيب ومن إظهار الكفر والشرك الذي يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه عن قولهم حتى يكون مظهرا لذلك وداعيا، ولذلك ما جمع كل الأوقات أو يراد المجاز فيكون المراد الصلاة فقبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبها صلاة العصر * (ومن ءاناء اليل) * المغرب والعتمة * (وأطراف النهار) * الظهر وحده. قال ابن عطية: ويحتمل اللفظ أن يراد قول سبحان الله وبحمده من بعد صلاة الصبح إلى ركعتي الضحى وقبل غروب الشمس، فقد قال عليه السلام: (من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه) انتهى.
وقال الزمخشري: * (وقبل غروبها) * يعني الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها، وتعمد * (أمن هو) * * (وأطراف النهار) * مختصا لها بصلاتك، وذلك أن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدو الرجل والخلو بالرب. وقال تعالى: * (إن ناشئة اليل) * وقال: * (أمن هو قانت ءاناء اليل) * الآيتين. ولأن الليل وقت السكون والراحة فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند الله وقد تناول التسبيح في * (أمن هو) * صلاة العتمة * (وفى * اليل النهار) * صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله * (حافظوا على الصلوات والصلواة الوسطى) * عند بعض المفسرين انتهى. وجاء هنا * (وأطراف النهار) * وفي هود * (وأقم الصلواة طرفى النهار) * فقيل: جاء على حد قوله.
ومهمهين قذفين مرتين. ظهراهما مثل ظهور الترسين.
جاءت التثنية على الأصل والجمع لا من اللبس إذ النهار ليس له إلا طرفان. وقيل: هو على حقيقة الجمع الفجر الطرف الأول، والظهر والعصر من الطرف الثاني، والطرف الثالث المغرب والعشاء. وقيل: النهار له أربعة أطراف عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند زوال الشمس، وعند وقوفها للزوال. وقيل: الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر، فهي في طرفين منه، والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب. وقيل
268

يجعل النهار للجنس فلكل يوم طرف فيتكرر بتكرره. وقيل: المراد بالأطراف الساعات لأن الطرف آخر الشيء. وقرأ الجمهور: * (وأطراف) * بنصب الفاء وهو معطوف على * (ومن ءاناء اليل) *. وقيل: معطوف على * (قبل طلوع الشمس) * وقرأ الحسن وعيسى بن عمر * (وأطراف) * بخفض الفاء عطفا على * (ءاناء) *.
* (لعلك ترضى) * أي تثاب على هذه الأعمال بالثواب الذي تراه وأبرز ذلك في صورة الرجاء والطمع لا على القطع. وقيل: لعل من الله واجبة. وقرأ أبو حيوة وطلحة والكسائي وأبو بكر وأبان وعصمة وأبو عمارة عن حفص وأبو زيد عن المفضل وأبو عبيد ومحمد بن عيسى الأصبهاني ترضى بضم التاء أي يرضيك ربك.
ولما أمره تعالى بالصبر وبالتسبيح جاء النهي عن مد البصر إلى ما متع به الكفرة يقال: مد البصر إلى ما متع به الكفار، يقال: مد نظره إليه إذا أدام النظر إليه، والفكرة في جملته وتفصيله. قيل: والمعنى على هذا ولا تعجب يا محمد مما متعناهم به من مال وبنين ومنازل ومراكب وملابس ومطاعم، فإنما ذلك كله كالزهرة التي لا بقاء لها ولا دوام، وإنها عما قليل تفنى وتزول. والخطاب وإن كان في الظاهر للرسول صلى الله عليه وسلم) فالمراد أمته هو كان صلى الله عليه وسلم) أبعد شيء عن النظر في زينة الدنيا وأعلق بما عند الله من كل أحد، وهو القائل في الدنيا (ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله) وكان شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها * (ولا تمدن) * أبلغ من لا تنظر لأن مد البصر يقتضي الإدامة والاستحسان بخلاف النظر، فإنه قد لا يكون ذلك معه والعين لا تمد فهو على حذف مضاف أي * (لا تمدن) * نظر * (عينيك) * والنظر غير الممدد معفو عنه. وذلك مثل من فاجأ الشيء ثم غض بصره. والنظر إلى الزخارف مركوز في الطبائع فمن رأى منها شيئا أحب إدمان النظر إليه، وقد شدد المتقون في غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة مركوبا وملبوسا وغيرهما لأنهم إنما اتخذوها لعيون النظارة حتى يفتخروا بها، فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمغرى لهم على اتخاذها. وانتصب * (أزواجا) * على أنه مفعول به، والمعنى أصنافا من الكفرة و * (منهم) * في موضع الصفة لأزواجا أي أصنافا وأقواما من الكفرة. كما قال: * (وءاخر من شكله أزواج) *.
وأجاز الزمخشري أن ينتصب * (أزواجا) * عن الحال من ضمير * (به) * و * (متعنا) * مفعوله منهم كأنه قيل إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم، وناسا منهم. و * (زهرة) * منصوب على الذم أو مفعول ثان لمتعنا على تضمينه معنى أعطينا أو بدل من محل الجار والمجرور، أو بدل من * (أزواجا) * على تقدير ذوي زهرة، أو جعلهم * (زهرة) * على المبالغة أو منصوب بفعل محذوف يدل عليه * (متعنا) * أي جعلنا لهم * (زهرة) * أو حال من الهاء، أو ما على تقدير حذف التنوين من * (زهرة) * لالتقاء الساكنين وخبر * (الحيواة) * على البدل من * (ما) * وكل هذه الأعاريب منقول والأخير اختاره مكي، ورد كونه بدلا من محل * (ما) * لأن فيه الفصل بالبدل بين الصلاة وهي * (متعنا) * ومعمولها وهو * (لنفتنهم) * فالبدل وهو * (زهرة) *.
وقرأ الجمهور * (زهرة) * بسكون الهاء. وقرأ الحسن وأبو البر هشيم وأبو حيوة وطلحة وحميد وسلام ويعقوب وسهل وعيسى والزهري بفتحها. وقرأ الأصمعي عن نافع لنفتنهم بضم النون من أفتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه، والزهرة والزهرة بمعنى واحد كالجهرة والجهرة. وأجاز الزمخشري في * (زهرة) * المفتوح الهاء أن يكون جمع زاهر نحو كافر وكفرة، وصفهم بأنهم زاهر وهذه الدنيا الصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم وشارتهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب، ومعنى * (لنفتنهم فيه) * أي لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم أو لنعذبهم في الآخرة بسببه.
* (ورزق ربك خير * واتقى) * أي ما ذخر لهم من المواهب في الآخرة * (خير) * مما متع به هؤلاء في الدنيا * (وأبقى) * أي أدوم. وقيل: ما رزقهم وإن كان قليلا خير مما رزقوا وإن كان كثير الحلية ذلك وحرمية هذا. وقيل: ما رزقت من النبوة والإسلام. وقيل: ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد
269

والغنائم. وقيل: القناعة. وقيل: ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا.
ولما أمره تعالى بالتسبيح في تلك الأوقات المذكورة ونهاه عن مد بصره إلى ما متع به الكفار أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة التي هي بعد الشهادة آكد أركان الإسلام، وأمره بالاصطبار على مداومتها ومشاقها وأن لا يشتغل عنها، وأخبره تعالى أن لا يسأله أن يرزق نفسه وأن لا يسعى في تحصيل الرزق ويدأب في ذلك، بل أمره بتفريغ باله لأمر الآخرة ويدخل في خطابه عليه السلام أمته. وقرأ الجمهور * (نرزقك) * بضم القاف. وقرأت فرقة: منهم وابن وثاب بإدغام القاف في الكاف وجاء ذلك عن يعقوب. قال صاحب اللوامح: وإنما امتنع أبو عمرو من إدغام مثله بعد إدغامه * (نرزقكم) * ونحوها لحلول الكاف منه طرفا وهو حرف وقف، فلو حرك وقفا لكان وقوفه على حركة وكان خروجا عن كلامهم. ولو أشار إلى الفتح لكان الفتح أخف من أن يتبعض بل خروج بعضه كخروج كله، ولو سكن لأجحف بحرف. ولعل من أدغم ذهب مذهب من يقول جعفر وعامر وتفعل فيشدد وقفا أو أدغم على شرط أن لا يقف بحال فيصير الطرف كالحشو انتهى.
و * (العاقبة) * أي الحميدة أو حسن العاقبة لأهل التقوى * (وقالوا لولا يأتينا بئاية من ربه) * هذه عادتهم في اقتراح الآيات كأنهم جعلوا ما ظهر من الآيات ليس بآيات، فاقترحوا هم ما يختارون على ديدنهم في التعنت فأجيبوا بقوله * (أو لم * تأتهم بينة ما فى الصحف الاولى) * أي القرآن الذي سبق التبشيرية وبإيحائي من الرسل به في الكتب الإلهية السابقة المنزلة على الرسل، والقرآن أعظم الآيات في الإعجاز وهي الآية الباقية إلى يوم القيامة. وفي هذا الاستفهام توبيخ لهم. وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص * (تأتهم) * بالتاء على لفظ بينة. وقرأ باقي السبعة وأبو بحرية وابن محيصن وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وخلف وأبو عبيدة وابن سعدان وابن عيسى وابن جبير الأنطاكي يأتهم بالياء لمجاز تأنيث الآية والفصل. وقرأ الجمهور بإضافة * (بينة) * إلى * (ما) * وفرقة منهم أبو زيد عن أبي عمرو بالتنوين و * (ما) * بدل. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون ما نفيا وأريد بذلك ما في القرآن من الناسخ والفصل مما لم يكن في غيره من الكتب. وقرأت فرقة بنصب * (بينة) * والتنوين و * (ما) * فاعل بتأتهم و * (بينة) * نصب على الحال، فمن قرأ يأتهم بالياء فعلى لفظ * (ما) * ومن قرأ بالتاء راعى المعنى لأنه أشياء مختلفة وعلوم من مضى وما شاء الله.
وقرأ الجمهور * (فى الصحف) * بضم الحاء، وفرقة منهم ابن عباس بإسكانها والضمير في ضمن قبله يعود على البينة لأنها في معنى البرهان، والدليل قاله الزمخشري والظاهر عوده على الرسول صلى الله عليه وسلم) لقوله: * (لولا أرسلت إلينا رسولا) * ولذلك قدره بعضهم قبل إرساله محمدا إليهم والذل والخزي مقترنان بعذاب الآخرة. وقيل * (نذل) * في الدنيا و * (* نخزى) * في الآخرة. وقيل: الذل الهوان والخزي الافتضاح.
وقرأ الجمهور * (أن نذل ونخزى) * مبنيا للفاعل، وابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن علي والحسن في رواية عباد والعمري وداود والفزاري وأبو حاتم ويعقوب مبنيا للمفعول.
* (قل كل متربص فتربصوا) * أي منتظر منا ومنكم عاقبة أمره، وفي ذلك تهديد لهم ووعيد وأفرد الخبر وهو * (متربص) * حملا على لفظ * (كل) * كقوله * (قل كل يعمل على شاكلته) * والتربص التأني والانتظار للفرح و * (من أصحاب) * مبتدأ وخبر علق عنه) * فستعلمون) * وأجاز الفراء أن تكون ما موصولة بمعنى الذي فتكون مفعولة بفستعلمون و * (*) * فستعلمون) * وأجاز الفراء أن تكون ما موصولة بمعنى الذي فتكون مفعولة بفستعلمون و * (*) * وأجاز الفراء أن تكون ما موصولة بمعنى الذي فتكون مفعولة بفستعلمون و * (أصحاب) * خبر مبتدأ محذوف تقديره الذي هم أصحاب، وهذا جار على مذهب الكوفيين إذ يجيزون حذف مثل هذا الضمير مطلقا سواء كان في الصلة طول أم لم يكن وسواء كان الموصول أيا أم غيره.
وقرأ الجمهور * (السوي) * على وزن فعيل أي المستوي. وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير السواء أي الوسط. وقرأ الجحدري وابن يعمر السوأى على وزن فعلى أنث لتأنيث * (الصراط) * وهو مما يذكر ويؤنث تأنيث الأسواء من السوأى على ضد الاهتداء قوبل به * (ومن اهتدى) * على الضد ومعناه * (فستعلمون) * أيها الكفار من على الضلال ومن على الهدى، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس الصراط السوء وقد روي عنهما أنهما قرآ السوأى على وزن فعلى، فاحتمل أن يكون أصله السووي إذ روي ذلك عنهما فخفف الهمزة بإبدالها واوا
270

وأدغم، واحتمل أن يكون فعلى من السواء أبدلت ياؤه واوا وأدغمت الواو وفي الواو، وكان القياس أنه لما بني فعلى من السواءان يكون السويا فتجتمع واو وياء، وسبقت إحداهما بالسكون فتقلب الواو ياء وتدغم في الياء، فكان يكون التركيب السيا. وقرئ السوي بضم السين وفتح الواو وشد الياء تصغير السوء. قاله الزمخشري، وليس بجيد إذ لو كان تصغير سوء لثبتت همزته في التصغير، فكنت تقول سؤيي والأجود أن يكون تصغير سواء كما قالوا في عطاء عطي. ومن قرأ السوأى أو السوء كان في ذلك مقابلة لقوله * (ومن اهتدى) * وعلى قراءة الجمهور لم تراع المقابلة في الاستفهام.
271

((سورة الأنبياء))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هاذآ إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون * قال ربى يعلم القول فى السمآء والا رض وهو السميع العليم * بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بأاية كمآ أرسل الا ولون * مآ ءامنت قبلهم من قرية أهلكناهآ أفهم يؤمنون * ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحىإليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * وما جعلناهم جسدا لا
يأكلون الطعام وما كانوا خالدين * ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشآء وأهلكنا المسرفين * لقد أنزلنآ إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون * وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما ءاخرين * فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * قالوا ياويلنآ إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين * وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما لاعبين * لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنآ إن كنا فاعلين * بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون * وله من فى السماوات والا رض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون * أم اتخذوا آلهة من الا رض هم ينشرون * لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون * لا يسأل عما يفعل وهم يسألون * أم اتخذوا من دونه ءالهة قل هاتوا برهانكم هاذا ذكر من معى وذكر من قبلى بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون * ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا
272

نوحىإليه أنه لاإلاه إلا أنا فاعبدون * وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إنىإلاه من دونه فذالك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين * أولم ير الذين كفروا أن السماوات والا رض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من المآء كل شىء حى أفلا يؤمنون * وجعلنا فى الا رض رواسى أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون * وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن ءاياتها معرضون * وهو الذى خلق اليل والنهار والشمس والقمر كل فى فلك يسبحون * وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون * كل نفس ذآئقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون * وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمان هم كافرون * خلق الإنسان من عجل سأوريكم ءاياتى فلا تستعجلون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون * بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون * ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون * قل من يكلؤكم باليل والنهار من الرحمان بل هم عن ذكر ربهم معرضون * أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون * بل متعنا هاؤلاء وءابآءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتى الا رض ننقصها من أطرافهآ أفهم الغالبون * قل إنمآ أنذركم بالوحى ولا يسمع الصم الدعآء إذا ما ينذرون * ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن ياويلنآ إنا كنا ظالمين * ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *))
) *
القصم: كسر الشيء الصلب حتى يبين تلاؤم أجزائه. الركض: ضرب الدابة بالرجل. خمدت النار: طفئت. دمغة: أصاب دماغه، نحو كبده ورأسه أصاب كبده ورأسه. رتق الشيء: سده فارتتق ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج. فتق: فصل ما بين المتصلين. الفج: الطريق المتسع. السبح: العوم، كلأه: حفظه يكلؤه كلاءة. ويقال: اذهب في كلاءة الله واكتلأت منه احترست. وقال ابن هرمة:
* إن سليمى والله يكلؤها
*
ضنت بشيء ما كان يرزؤها
*
النفخة: الخطوة، ونفخ له من عطاياه أجزأه نصيبا. قال الشاعر:
* إذا ربدة من حيث ما نفخت له
*
إياه برياها خليل يواصله
*
273

الخردل: حب معروف.
* (اقترب * حسابهم وهم فى غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هاذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون * قال ربى يعلم القول فى السماء والارض وهو السميع العليم * بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بئاية كما أرسل الاولون * ما ءامنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون * وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم * فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين * ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين * لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) *.
هذه السورة مكية بلا خلاف، وعن عبد الله: الكهف، ومريم، وطه، والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي أي من قديم ما حفظت وكسبت من القرآن كالمال التلاد. ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه لما ذكر * (قل كل متربص فتربصوا) * قال مشركو قريش: محمد يهددنا بالمعاد والجزاء على الأعمال وليس بصحيح، وإن صح ففيه بعد فأنزل الله تعالى * (اقترب للناس حسابهم) *، و * (اقترب) * افتعل بمعنى الفعل المجرد وهو قرب كما تقول: ارتقب ورقب. وقيل: هو أبلغ من قرب للزيادة التي في البناء. والناس مشركو مكة. وقيل: عام في منكري البعث، واقتراب الحساب اقتراب وقته والحساب في اللغة إخراج الكمية من مبلغ العدد، وقد يطلق
على المحسوب وجعل ذلك اقترابا لأن كل ما هو آت وإن طال وقت انتظاره قريب، وإنما البعيد هو الذي انقرض أو هو مقترب عند الله كقوله * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * أو باعتبار ما بقي من الدنيا فإنه أقصر وأقل مما مضى. وفي الحديث: (بعثت أنا والساعة كهاتين). قال الشاعر:
* فما زال من يهواه أقرب من غد
*
وما زال من يخشاه أبعد من أمس
*
و * (للناس) * متعلق باقترب. وقال الزمخشري: هذه اللام لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب، أو تأكيدا لإضافة الحساب إليهم كما تقول أزف للحي رحيلهم، الأصل أزف رحيل الحي ثم أزف للحي رحيلهم ونحوه ما أورده سيبويه في باب ما يثني فيه المستقر توكيدا عليك زيد حريص عليك، وفيك زيد راغب فيك ومنه قولهم: لا أبا لك لأن اللام مؤكدة لمعنى الإضافة، وهذا الوجه أغرب من الأول انتهى يعني بقوله صلة أنها تتعلق باقترب، وأما جعله اللام تأكيدا لإضافة الحساب إليهم مع تقدم اللام ودخولها على الاسم الظاهر فلا نعلم أحدا يقول ذلك، وأيضا فيحتاج إلى ما يتعلق به ولا يمكن تعلقها بحسابهم لأنه مصدر موصول ولا يتقدم معموله عليه، وأيضا فالتوكيد يكون متأخرا عن المؤكد وأيضا فلو أخر في هذا التركيب لم يصح. وأما تشبيهه بما أورد سيبويه فالفرق واضح لأن عليك معمول لحريص، وعليك الثانية متأخرة توكيدا وكذلك فيك زيد راغب فيك يتعلق فيك براغب، وفيك الثانية توكيد، وإنما غره في ذلك صحة تركيب حساب الناس. وكذلك أزف رحيل الحي فاعتقد إذا تقدم الظاهر مجرورا باللام وأضيف المصدر لضميره أنه من باب فيك زيد راغب فيك وليس مثله، وأما لا أبا لك فهي مسألة مشكلة وفيها خلاف، ويمكن أن يقال فيها ذلك لأن اللام جاورت
274

الإضافة ولا يقاس على مثلها غيرها لشذوذها وخروجها عن الأقيسة، وقد أمعنا الكلام عليها في شرح التسهيل والواو في * (وهم) * واو الحال.
*
وأخبر عنهم بخبرين ظاهرهما التنافي لأن الغفلة عن الشيء والإعراض عنه متنافيان، لكن يجمع بينهما باختلاف حالين أخبر عنهم أولا أنهم لا يتفكرون في عاقبة بل هم غافلون عما يؤول إليه أمرهم. ثم أخبر عنهم ثانيا أنهم إذا نبهوا من سنة الغفلة وذكروا بما يؤول إليه أمر المحسن والمسيء أعرضوا عنه ولم يبالوا بذلك، والذكر هنا ما ينزل من القرآن شيئا بعد شيء. وقيل المراد بالذكر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم) في أمر الشريعة ووعظه وتذكيره ووصفه بالحدوث إذا كان القرآن لنزوله وقتا بعد وقت. وسئل بعض الصحابة عن هذه الآية فقال محدث النزول محدث المقول. وقال الحسن بن الفضل: المراد بالذكر هنا النبي صلى الله عليه وسلم) بدليل * (هل هاذا إلا بشر مثلكم) * وقال: * (قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا) * وقد احتجت المعتزلة على حدوث القرآن بقوله * (محدث) * وهي مسألة يبحث فيها في علم الكلام. وقرأ الجمهور * (محدث) * بالجر صفة لذكر على اللفظ، وابن أبي عبلة بالرفع صفة لذكر على الموضع، وزيد بن علي بالنصب على الحال * (من ذكر) * إذ قد وصف بقوله * (من ربهم) * ويجوز أن يتعلق * (من ربهم) * بيأتيهم. و * (استمعوه) * جملة حالية وذو الحال المفعول في * (ما يأتيهم) * * (وهم يلعبون) * جملة حالية من ضمير * (استمعوه) * و * (لاهية) * حال من ضمير * (يلعبون) * أو من ضمير * (استمعوه) * فيكون حالا بعد حال، واللاهية من قول العرب لهي عنه إذا ذهل وغفل يلهى لهيا ولهيانا، أي وإن فطنوا لا يجدي ذلك لاستيلاء الغفلة والذهول وعدم التبصر بقلوبهم. وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى * (لاهية) * بالرفع على أنه خبر بعد خبر لقوله * (وهم) *.
و * (النجوى) * من التناجي ولا يكون إلا خفية فمعنى * (وأسروا) * بالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون. وقال أبو عبيد: * (أسروا) * هنا من الأضداد يحتمل أن يكون أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكون أظهروه ومنه قول الفرزدق:
* فلما رأى الحجاج جرد سيفه
*
أسر الحروري الذي كان أضمرا وقال التبريزي: لا يستعمل في الغالب إلا في الإخفاء، وإنما * (أسروا) * الحديث لأنه كان ذلك على طريق التشاور، وعادة المتشاورين كتمان سرهم عن أعدائهم، وأسروها ليقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم) وللمؤمنين إن ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررناه وجوزوا في إعراب * (الذين ظلموا) * وجوها الرفع والنصب والجر، فالرفع على البدل من ضمير * (وأسروا) * إشعارا أنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به قاله المبرد، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه أو على أنه فاعل، والواو في * (أسروا) * علامة للجمع على لغة أكلوني البراغيث قاله أبو عبيدة والأخفش وغيرهما. قيل: وهي لغة شاذة. قيل: والصحيح أنها لغة حسنة، وهي من لغة أزدشنوءة وخرج عليه قوله * (ثم عموا وصموا كثير منهم) * وقال شاعرهم:
*
يلومونني في اشتراء
النخيل أهلي وكلهم ألوم
*
275

أو على أن * (الذين) * مبتدأ * (وأسروا النجوى) * خبره قاله الكسائي فقدم عليه، والمعنى: وهؤلاء * (أسروا * النجوى) * فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم أنه ظلم، أو على أنه فاعل بفعل القول وحذف أي يقول * (الذين ظلموا) * والقول كثيرا يضمر واختاره النحاس قال ويدل على صحة هذا أن بعده هل هذا إلا بشر مثلكم. وقيل التقدير أسرها الذين ظلموا. وقيل: * (الذين) * خبر مبتدأ محذوف، أي هم * (الذين) * والنصب على الذم قاله الزجاج، أو على إضمار أعني قاله بعضهم. والجر على أن يكون نعتا للناس أو بدلا في قوله * (اقترب للناس) * قاله الفراء وهو أبعد الأقوال.
* (هل هاذا إلا بشر مثلكم) * استفهام معناه التعجب أي كيف خص بالنبوة دونكم مع مماثلته لكم في البشرية، وإنكارهم وتعجبهم من حيث كانوا يرون أن الله لا يرسل إلا ملكا. و * (أفتأتون السحر) * استفهام معناه التوبيخ و * (السحر) * عنوا به ما ظهر على يديه من المعجزات التي أعظمها القرآن والذكر المتلو عليهم، أي أفتحضرون * (السحر وأنتم تبصرون) * أنه سحر وأن من أتى به هو * (بشر مثلكم) * فكيف تقبلون ما أتى به وهو سحر، وكانوا يعتقدون أن الرسول من عند الله لا يكون إلا ملكا وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بمعجزة فهو ساحر ومعجزته سحر، وهاتان الجملتان الاستفهاميتان الظاهر أنهما متعلقتان بقوله: * (وأسروا النجوى) * وأنهما محكيتان بقوله للنجوى لأنه بمعنى القول الخفي، فهما في موضع نصب على المفعول بالنجوى.
وقال الزمخشري: في محل النصب بدلا من * (النجوى) * أي * (وأسروا) * هذا الحديث ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمرا انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وأيوب وخلف وابن سعدان وابن جبير الأنطاكي وابن جرير * (قال ربى) * على معنى الخبر عن نبيه عليه الصلاة والسلام. وقرأ باقي السبعة قل على الأمر لنبيه صلى الله عليه وسلم) * (يعلم) * أقوالكم هذه، وهو يجازيكم عليها و * (القول) * عام يشمل السر والجهر، فكان في الإخبار بعلمه القول علم السر وزيادة، وكان آكد في الاطلاع على نجواهم من أن يقول يعلم سرهم. ثم بين ذلك بقوله * (وهو السميع العليم) * * (السميع) * لأقوالكم * (العليم) * بما انطوت عليه ضمائركم.
ولما ذكر تعالى عنهم أنهم قالوا إن ما أتى به سحر ذكر اضطرابهم في مقالاتهم فذكر أنهم أضربوا عن نسبة السحر إليه و * (قالوا) * ما يأتي به إنما هو * (أضغاث أحلام) * وتقدم تفسيرها في سورة يوسف عليه السلام، ثم أضربوا عن هذا فقالوا * (بل افتراه) * أي اختلقه وليس من عند الله، ثم أضربوا عن هذا فقالوا * (بل هو شاعر) * وهكذا المبطل لا يثبت على قول بل يبقى متحيرا، وهذه الأقوال الظاهر أنها صدرت من قائلين متفقين انتقلوا من قول إلى قول أو مختلفين قال كل منهم مقالة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تنزيلا من الله لأقوالهم في درج الفساد، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني وكذلك الرابع من الثالث انتهى. وقال ابن عطية ثم حكى قول من قال إنه شاعر وهي مقالة فرقة عامية لأن بنات الشعر من العرب لم يخف عليهم بالبديهة، وإن مباني القرآن ليست مباني شعر. وقال أبو عبد الله الرازي: حكى الله عنهم هذه الأقوال الخمسة وترتيب كلامهم أن كونه بشرا مانع من كونه رسولا لله سلمنا أنه غير مانع، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدار البشر قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك سحرا وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا إنه أضغاث أحلام، وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراء، وإن ادعينا أنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعر، وعلى جميع هذه التقديرات لا يثبت كونه معجزا.
ولما فرغوا من تقدير هذه الاحتمالات قالوا * (بل قالوا أضغاث أحلام بل) * اقترحوا من الآيات ما لا إمهال بعدها كالآيات في قوله * (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا
276

قال الزمخشري: صحة التشبيه في قوله * (كما أرسل الاولون) * من حيث إنه في معنى كما أتى الأولون بالآيات، لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات، ألا ترى أنه لا فرق بين أن تقول أتى محمد بالمعجزة، وأن تقول: أرسل محمد بالمعجزة انتهى. والكاف في * (كما أرسل) * يجوز أن يكون في موضع النعت لآية، وما أرسل في تقدير المصدر والمعنى بآية مثل آية إرسال * (الاولين) *، ويجوز أن يكون في النعت لمصدر محذوف أي إتيانا مثل إرسال * (الاولين) * أي مثل إتيانهم بالآيات، وهذه الآية التي طلبوها هي على سبيل اقتراحهم، ولم يأت الله بآية مقترحة إلا أتى بالعذاب بعده. وأراد تعالى تأخير هؤلاء وفي قولهم * (كما أرسل الاولون) * دلالة على معرفتهم بإتيان الرسل.
ثم أجاب تعالى عن قولهم * (بل قالوا) * بقوله * (ما ءامنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) * والمراد بهم قوم صالح وقوم فرعون وغيرهما، ومعنى * (أهلكناها) * حكمنا بإهلاكها بما اقترحوا من الآيات * (أفهم يؤمنون) * استبعاد وإنكارأي هؤلاء أعني من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا فأهلكهم الله، فلو أعطينا هؤلاء ما اقترحوا لكانوا أنكث من أولئك، وكان يقع استئصالهم ولكن حكم الله تعالى بإبقائهم ليؤمن من آمن ويخرج منهم مؤمنين.
ولما تقدم من قولهم * (هل هاذا إلا بشر مثلكم) * وأن الرسول لا يكون إلا من عند الله من جنس البشر قال تعالى رادا عليهم * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا) * أي بشرا ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا، ثم أحالهم على * (أهل الذكر) * فإنهم وإن كانوا مشايعين للكفار ساعين في إخماد نور الله لا يقدرون على إنكار إرسال البشر. وقوله * (إن كنتم لا تعلمون) * من حيث إن قريشا لم يكن لها كتاب سابق ولا إثارة من علم. والظاهر أن * (أهل الذكر) * هم أحبار أهل الكتابين وشهادتهم تقوم بها الحجة في إرسال الله البشر هذا مع موافقة قريش في ترك الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم)، فشهادتهم لا مطعن فيها. وقال عبد الله بن سلام: أنا من أهل الذكر. وقيل: هم أهل القرآن. وقال علي: أنا من أهل الذكر. وقال ابن عطية: لا يصلح أن يكون المسؤول أهل القرآن في ذلك الوقت لأنهم كانوا خصومهم انتهى. وقيل *
(أهل الذكر) * هم أهل التوراة. وقيل: أهل العلم بالسير وقصص الأمم البائدة والقرون السالفة، فإنهم كانوا يفحصون عن هذه الأشياء وإذا كان * (أهل الذكر) * أريد بهم اليهود والنصارى فإنهم لما بلغ خبرهم حد التواتر جاز أن يسألوا ولا يقدح في ذلك كونهم كفارا.
وقرأ الجمهور: يوحي مبنيا للمفعول. وقرأ طلحة وحفص * (نوحى) * بالنون وكسر الحاء و * (* الجسد) * يقع على ما لا يتغذى من الجماد. وقيل: يقع على المتعذي وغيره، فعلى القول الأول يكون النفي قد وقع على * (* الجسد) * وعلى الثاني يكون مثبتا، والنفي إنما وقع على صفته ووحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال: ذوي ضرب من الأجساد، وهذا رد لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام، وهذه الجملة من تمام الجواب للمشركين الذين قالوا * (ظلموا هل هاذا إلا بشر مثلكم) * لأن البشرية تقتضي الجسمية الحيوانية، وهذه لا بد لها من مادة تقوم بها، وقد خرجوا بذلك في قولهم * (هل هاذا إلا بشر مثلكم) * يأكل مما تإكلون منه ويشرب مما تشربون، ولما أثبت أنهم كانوا أجسادا يأكلون الطعام بين أنهم مآلهم إلى الفناء والنفاد، ونفى عنهم الخلود وهو البقاء السرمدي أو البقاء المدة المتطاولة أي هؤلاء الرسل بشر أجساد يطعمون ويموتون كغيرهم من البشر، والذي صاروا به رسلا هو ظهور المعجزة على أيديهم وعصمتهم من الصفات القادحة في التبليغ وغيره.
* (ثم صدقناهم الوعد) * ذكر تعالى سيرته مع أنبيائه فكذلك يصدق نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ما وعدهم به من النصر وظهور الكلمة، فهذه عدة للمؤمنين ووعيد للكافرين و * (صدقناهم الوعد) * من باب اختار وهو ما يتعدى الفعل فيه إلى واحد وإلى الآخر بحرف جر، ويجوز حذف ذلك الحرف أي في * (الوعد) * وهو باب لا ينقاس عند الجمهور، وإنما يحفظ من ذلك أفعال قليلة ذكرت في النحو ونظير * (صدقناهم الوعد) * قولهم: صدقوهم القتال وصدقني سن بكره وصدقت زيدا الحديث و * (من نشاء) * هم المؤمنون، والمسرفون هم الكفار المفرطون في غيهم وكفرهم، وكل من ترك الإيمان فهو مفرط مسرف وإنجاؤهم من شر أعدائهم ومن العذاب الذي نزل بأعدائهم.
ولما توعدهم في هذه الآية أعقب ذلك بوعده
277

بنعمته عليهم فقال * (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم) * والكتاب هو القرآن. وعن ابن عباس: * (ذكركم) * شرفكم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وعن الحسن ذكر دينكم، وعن مجاهد فيه حديثكم، وعن سفيان مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم. وقيل: تذكرة لتحذروا ما لا يحل وترغبوا فيما يجب. وقال صاحب التحرير: الذي يقتضيه سياق الآيات أن المعنى فيه ذكر مشانئكم ومثالبكم وما عاملتهم به أنبياء الله من التكذيب والعناد، فعلى هذا تكون الآية ذما لهم وليست من تعداد النعم عليهم، ويكون الكلام على سياقه ويكون معنى قوله * (هل هاذا إلا بشر مثلكم) * * (أفلا تعقلون) * إنكارا عليهم على إهمالهم المتدبر والتفكر المؤديين إلى اقتضاء الغفلة. وقال ابن عطية: يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما نذكر عظم الأمور، وفي هذا تحريض ثم أكد التحريض بقوله * (أفلا تعقلون) * وحركهم بذلك إلى النظر. وقال الزمخشري نحوه قال: * (ذكركم) * شرفكم وصيتكم كما قال * (وإنه لذكر لك ولقومك) * أو موعظتكم أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء، وحسن الذكر كحسن الجوار والوفاء بالعهد وصدق الحديث وأداء الأمانة والسخاء وما أشبه ذلك.
* (تعقلون وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما ءاخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وله من فى السماوات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) *.
لما رد الله تعالى عليهم ما قالوه بالغ تعالى في زجرهم بذكر ما أهلك من القرى، فقال: * (وكم قصمنا) * والمراد أهلها إذ لا توصف القرية بالظلم كقوله * (من هاذه القرية الظالم أهلها) * قال ابن عباس: الإنشاء إيجاد الشيء من غير سبب أنشأه فنشأ وهو ناشىء والجمع نشاء كخدم، والقصم أفظع الكسر عبر به عن الإهلاك الشديد * (وكم) * تقتضي التكثير، فالمعنى كثيرا من أهل القرى أهلكنا إهلاكا شديدا مبالغا فيه. وما روي عن ابن عباس أنها حضوراء قرية باليمن، وعن ابن وهب عن بعض رجاله أنهما قريتان باليمن بطر أهلهما فيحمل على سبيل التمثيل لا على التعيين في القرية، لأن * (كم) * تقتضي التكثير. ومن حديث أهل حضوراء أن الله بعث إليهم نبيا فقتلوه، فسلط الله عليهم بخت نصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشا فهزموه، ثم بعث آخر فهزموه، ثم خرج إليهم بنفسه فهزمهم في الثالثة، فلما أخذ القتل فيهم ركضوا هاربين.
* (فلما أحسوا بأسنا) * أي باشروه بالإحساس والضمير في * (أحسوا) * عائد على أهل المحذوف من قوله * (وكم * قسمنا * من قرية) * ولا يعود على قوله * (قوما ءاخرين) * لأنه لم يذكر لهم ذنب يركضون من أجله، والضمير في * (منها) * عائد على القرية، ويحتمل أن يعود على * (بأسنا) * لأنه في معنى الشدة، فأنث على المعنى ومن على هذا السبب، والظاهر أنهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين. قيل: ويجوز أن شبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم فهم * (يركضون) * الأرض بأرجلهم، كما قال * (اركض برجلك) * وجواب لما * (إذا) * الفجائية وما بعدها، وهذا أحد الدلائل على أن لما في هذا التركيب حرف لا ظرف، وقد تقدم لنا القول في ذلك.
وقوله: * (لا تركضوا) * قال ابن عطية: يحتمل أن يكون من قول رجال بخت نصر على الرواية المتقدمة، فالمعنى على هذا أنهم خدعوهم واستهزؤا بهم بأن قالوا للهاربين منهم: لا تفروا وارجعوا إلى منازلكم * (لعلكم تسألون) * صلحا أو جزية أو أمرا يتفق عليه، فلما انصرفوا أمر بخت نصر أن ينادي فيهم يا لثارات النبي
278

المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم، هذا كله مروي ويحتمل أن يكون قوله: * (لا تركضوا) * إلى آخر الآية من كلام ملائكة العذاب، وصف قصة كل قرية وأنه لم
يرد تعيين حضوراء ولا غيرها، فالمعنى على هذا أن أهل هذه القرى كانوا باغترارهم يرون أنهم من الله بمكان وأنه لو جاءهم عذاب أو أمر لم ينزل بهم حتى يتخاصموا ويسألوا عن وجه تكذيبهم لنبيهم فيحتجون هم عند ذلك بحجج تنفعهم في ظنهم، فلما نزل العذاب دون هذا الذي أملوه وركضوا فارين نادتهم الملائكة على وجه الهزء بهم.
* (لا تركضوا) * * (ومساكنكم لعلكم تسألون) * كما كنتم تطمعون لسفه آرائكم.
وقال الزمخشري: يحتمل أن يكون يعني القائل بعض الملائكة، أو من ثم من المؤمنين، أو يجعلون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم.
* (وارجعوا إلى ما أترفتم فيه) * من العيش الرافه والحال الناعمة، والإتراف إبطار النعمة وهي الترفة * (لعلكم تسألون) * غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو * (ارجعوا) * واجلسوا كما كنتم في مجالسكم وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم، ويقولوا لكم: بم تأمرون وماذا ترسمون، وكيف نأتي ونذر كعادة المنعمين المخدمين، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم ويستضيئون بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع، ويستطرون ساحئب أكفكم ويميرون إخلاف معروفكم وأياديكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رياء الناس وطلب الثناء، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم وتوبيخا إلى توبيخ انتهى.
ونداء الويل هو على سبيل المجاز كأنهم قالوا: يا ويل هذا زمانك، وتقدم تفسير الويل في البقرة. والظلم هنا الإشراك وتكذيب الرسل وإيقاع أنفسهم في الهلاك، واسم * (زالت) * هو اسم الإشارة وهو * (تلك) * وهو إشارة إلى الجملة المقولة أي فما زالت تلك الدعوى * (دعواهم) *. قال المفسرون: فما زالوا يكررون تلك الكلمة فلم تنفعهم كقوله * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * والدعوى مصدر دعا يقال: دعا دعوى ودعوة كقوله * (دعواهم فيها) * لأن المويل كأنه يدعو الويل. وقال الحوفي: وتبعه الزمخشري وأبو البقاء: * (تلك) * اسم * (زالت) * و * (دعواهم) * الخبر، ويجوز أن يكون * (دعواهم) * اسم * (زالت) * و * (تلك) * في موضع الخبر انتهى. وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء قاله الزجاج قبلهم، وأما أصحابنا المتأخرون فاسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول، فكما لا يجوز في باب الفاعل والمفعول إذا ألبس أن يكون المتقدم الخبر والمتأخر الاسم لا يجوز ذلك في باب كان، فإذا قلت: كان موسى صديقي لم يجز في موسى إلى أن يكون اسم كان وصديقي الخبر، كقولك: ضرب موسى عيسى، فموسى الفاعل وعيسى المفعول، ولم ينازع في هذا من متأخري أصحابنا إلا أبو العباس أحمد بن علي عرف باب الحاج وهو من تلاميذ الأستاذ أبو علي الشلوبين ونبهائهم، فأجاز أن يكون المتقدم هو المفعول والمتأخر هو الفاعل وأن ألبس فعلى ما قرره جمهور الأصحاب يتعين أن يكون * (تلك) * اسم * (زالت) * و * (دعواهم) * الخبر.
وقوله: * (حصيدا) * أي بالعذاب تركوا كالصحيد * (خامدين) * أي موتى دون أرواح مشبهين بالنار إذا طفئت و * (حصيدا) * مفعول ثان. قال الحوفي: و * (خامدين) * نعت لحصيدا على أن يكون * (حصيدا) * بمعنى محصودين يعني وضع المفرد ويراد به الجمع، قال: ويجوز أن يجعل * (خامدين) * حالا من الهاء والميم. وقال الزمخشري: * (جعلناهم) * مثل الحصيد شبههم في استئصالهم واصطلامهم كما تقول: جعلناهم رمادا أي مثل الرماد، والضمير المنصوب هو الذي كان
279

مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له، فلما دخل عليهما جعل نصبهما جميعا على المفعولية. فإن قلت: كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل؟ قلت: حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد لأن معنى قولك: جعلته حلوا حامضا جعلته للطعمين، وكذلك معنى ذلك * (جعلناهم) * جامعين لمماثلة الحصيد والخمود، والخمود عطف على المماثلة لا على الحصيد انتهى.
ولما ذكر تعالى قصم تلك القرى الظالمة أتبع ذلك بما يدل على أنه فعل ذلك عدلا منه ومجازاة على ما فعلوا وأنه إنما أنشأ هذا العالم العلوي المحتوي على عجائب من صنعه وغرائب من فعله، وهذا العالم السفلي وما أودع فيه من عجائب الحيوان والنبات والمعادن وما بينهما من الهواء والسحاب والرياح على سبيل اللعب بل لفوائد دينية تقضي بسعادة الأبد أو بشقاوته، ودنياوية لا تعد ولا تحصى كقوله * (وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا) * وقوله * (ما خلقناهما إلا بالحق) *.
قال الكرماني: اللعب فعل يدعو إليه الجهل يروق أوله ولا ثبات له، وإنما خلقناهما لنجازي المحسن والمسيء، وليستدل بهما على الوحدانية والقدرة انتهى. و * (لو أردنا أن نتخذ لهوا) * أصل اللهو ما تسرع إليه الشهوة ويدعو إليه الهوى، وقد يكنى به عن الجماع، وأما هنا فعن ابن عباس والسدي هو الولد. وقال الزجاج: هو الولد بلغة حضرموت. وعن ابن عباس: إن هذا رد على من قال * (اتخذ الله ولدا) * وعنه أن اللهو هنا اللعب. وقيل: اللهو هنا المرأة. وقال قتادة: هذا في لغة أهل اليمن، وتكون ردا على من ادعى أن لله زوجة ومعنى * (من لدنا) * من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى. وقال السدي: من السماء لا من الأرض. وقيل: من الحور العين. وقيل: من جهة قدرتنا. وقيل: من الملائكة لا من الإنس ردا لولادة المسيح وعزير. وقال الزمخشري: بين أن السبب في ترك التخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعالي أن الحكمة صارفة عنه، وإلا فأنا قادر على اتخاذه إن كنت فاعلا لأني على كل شيء قدير انتهى. ولا يجيء هذا إلا على قول من قال: اللهو هو اللعب، وأما من فسره بالولد والمرأة فذلك مستحيل لا تتعلق به القدرة. والظاهر أن * (ءان) * هنا شرطية وجواب الشرط محذوف، يدل عليه جواب * (لو) * أي إن كنا فاعلين اتخذناه إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله. وقال الحسن: وقتادة وجريج * (ءان) * نافية أي ما كنا فاعلين.
* (بل نقذف) * أي نرمي بسرعة * (بالحق) * وهو القرآن * (على الباطل) * وهو الشيطان قاله مجاهد، وقال كل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان. وقيل: بالحق بالحجة على الباطل وهو شبههم ووصفهم الله بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل: الحق عام في القرآن والرسالة والشرع، والباطل أيضا عام كذلك و * (بل)
* إضراب عن اتخاذ اللعب واللهو، والمعنى أنه يدحض الباطل بالحق واستعار لذلك القذف والدمغ تصويرا لإبطاله وإهداره ومحقه، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلا قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه أي أصاب دماغه، وذلك مهلك في البشر فكذلك الحق يهلك الباطل. وقرأ عيسى بن عمر * (فيدمغه) * بنصب الغين، قال الزمخشري: وهو في ضعف قوله:
* سأترك منزلي لبني تميم
*
وألحق بالحجاز فأستريحا
*
وقرئ * (فيدمغه) * بضم الميم انتهى. و * (لكم * الويل) * خطاب للكفار أي الخزي والهم مما تصفون أي تصفونه مما لا يليق به تعالى من اتخاذ الصاحبة والولد ونسبة المستحيلات إليه. وقيل * (لكم) * خطاب لمن تمسك بتكذيب الرسل ونسب
280

القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام، وهو المعنى بقوله * (مما تصفون) * وأبعد من ذهب إلى أنه التفات من ضمير الغيبة في * (فما زالت تلك دعواهم) * إلى ضمير الخطاب، ثم أخبر تعالى أن من في السماوات والأرض ملك له فاندرج فيه من سموه بالصاحبة والولد ومن عنده هم الملائكة، واحتمل أن يكون معطوفا على * (من) * فيكونون قدر اندرجوا في الملائكة بطريق العموم لدخولهم في * (من) * وبطريق الخصوص بالنص على أنهم من عنده، ويكون * (لا يستكبرون) * جملة حالية منهم أو استئناف إخبار، واحتمل أن يكون ومن عنده مبتدأ وخبره * (لا يستكبرون) * وعند هنا لا يراد بها ظرف المكان لأنه تعالى منزه عن المكان، بل المعنى شرف المكانة وعلو المنزلة، والظاهر أن قوله * (وله من فى * السماوات والارض) * استئناف إخبار بأن جميع العالم ملكه. وقيل: يحتمل أن يكون معادلا لقوله * (ولكم الويل مما تصفون) * كأنه يقسم الأمر في نفسه أي للمتخلفين هذه المقالة الويل، ولله تعالى من في السماوات والأرض انتهى.
والمراد أن الملائكة مكرمون منزلون لكرامتهم على الله منزلة المقربين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم، ويقال: حسر البعير واستحسر كل وتعب وحسرته أنا فهو متعد ولازم، وأحسرته أيضا وقال الشاعر:
* بها جيف الحسرى فإما عظامها
*
فبيض وأما جلدها فصليب
*
قال الزمخشري: فإن قلت: الاستحسار مبالغة في الحسور، وكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور قلت: في الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه، وأنهم أخفاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون انتهى.
* (يسبحون) * هم الملائكة بإجماع الأمة وصفهم بتسبيح دائم. وعن كعب: جعل الله لهم التسبيح كالنفس وطرف العين للبشر يقع منهم دائما دون أن يلحقهم فيه سآمة، وفي الحديث: (إني لأسمع أطيط السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع راحة إلا وفيه ملك ساجد أو قائم.
* (أم اتخذوا الهة من الارض هم ينشرون * لو كان فيهما الهة * لا * الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون * لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون * أم اتخذوا من دونه ءالهة قل هاتوا برهانكم هاذا ذكر من معى وذكر من قبلى بل أكثرهم لا يعلمون) *.
لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته وأن من في السماوات والأرض كلهم ملك له، وأن الملائكة المكرمين هم في خدمته لا يفترون عن تسبيحه وعبادته، عاد إلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم و * (أم) * هنا منقطعة تتقدر ببل والهمزة ففيها إضراب وانتقال من خبر إلى خبر، واستفهام معناه التعجب والإنكار أي * (اتخذوا الهة من الارض) * يتصفون بالإحياء ويقدرون عليها وعلى الإماتة، أي لم يتخذوا آلهة بهذا الوصف بل اتخذوا آلهة جمادا لا يتصف بالقدرة على شيء فهي غير آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة.
281

وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى لأنهم مع إقرارهم بأن الله خالق السماوات والأرض وبأنه قادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى منكرين للبعث، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة؟ قلت: الأمر كما ذكرت ولكنهم بادعائهم الإلهية يلزمهم أن يدعوا لها الإنشاء لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور، والإنشاء من جملة المقدورات وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل، وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة ونحو قوله * (من الارض) * قولك: فلان من مكة أو من المدينة، تريد مكي أو مدني، ومعنى نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لا أن الآلهة أرضية وسماوية، من ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أين ربك؟) فأشارت إلى السماء فال: (إنها مؤمنة) لأنه فهم منها أن مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام لا إثبات السماء مكانا لله تعالى. ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض.
فإن قلت: لا بد من نكتة في قوله * (هم) * قلت: النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية كأنه قيل * (أم اتخذوا الهة) * لا تقدر على الإنشاء إلا هم وحدهم انتهى.
و * (اتخذوا) * هنا يحتمل أن يكون المعنى فيها صنعوا وصوروا، و * (من الارض) * متعلق باتخذوا، ويحتمل أن يكون المعنى جعلوا الآلهة أصناما من الأرض كقوله * (وإذ قال إبراهيم) * وقوله * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * وفيه معنى الاصطفاء والاختيار. وقرأ الجمهور: * (ينشرون) * مضارع أنشر ومعناه يحيون. وقال قطرب: معناه يخلقون كقوله * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *. وقرأ الحسن ومجاهد * (ينشرون) * مضارع نشر، وهما لغتان نشر وانشر متعديان، ونشر يأتي لازما تقول أنشر الله الموتى فنشروا أي فحيوا، والضمير في * (فيهما) * عائد على السماء والأرض وهما كناية عن العالم. و * (إلا) * صفة لآلهة أي آلهة غير * (الله) * وكون * (إلا) * يوصف بها معهود في لسان العرب ومن ذلك ما أنشد سيبويه رحمه الله:
* وكل أخ مفارقه أخوه
*
لعمر أبيك إلا الفرقدان
*
قال الزمخشري: فإن قلت: ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأن لو بمنزلة إن في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله * (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) * وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه، والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما * (لفسدتا) * وفيه دلالة على أمرين أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده كقوله * (إلا الله) *.
فإن قلت: لم وجب الأمران قلت: لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف.
وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز علي من دم ناظري ولكن لا يجتمع فحلان في شول وهذا ظاهر. وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجادل وطراد ولأن هذه الأفعال محتاجة إلى تلك
282

الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقر. وقال ابن عطية: وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض ويذهب بما خلق، واقتضاب القول في هذا أن الهين لو فرضنا بينهما الاختلاف في تحريك جسم ولا تحريكه فمحال أن تتم الإرادتان، ومحال أن لا تتم جميعا، وإذا تمت الواحدة كان صاحب الأخرى عاجزا وهذا ليس بإله، وجواز الاختلاف عليهما بمنزلة وقوعه منهما، ونظر آخر وذلك أن كل جزء يخرج من العدم إلى الوجود فمحال أن تتعلق به قدرتان، فإذا كانت قدرة أحدهما توجده ففي الآخر فضلا لا معنى له في ذلك الجزء ثم يتمادى النظر هكذا جزأ جزأ.
وقال أبو عبد الله الرازي: لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لذاتهما فلا بد أن يشتركا في الوجود ولا بد أن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بمعيته وما به المشاركة غير ما به الممايزة، فيكون كل واحد مشاركا للآخر وكل مركب فهو مفتقر إلى آخر ممكن لذاته، فإذا واجب الوجود ليس إلا واحدا فكل ما عدا هذا فهو محدث، ويمكن جعل هذا تفسيرا لهذه الآية لأنا لما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجبا، وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات، فحينئذ يلزم الفساد في كل العالم.
وقال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون بدلا لأن المعنى يصير إلى قولك * (لو كان فيهما) * الله * (لفسدتا) * ألا ترى أنك لو قلت: ما جاءني قومك إلا زيد على البدل لكان المعنى جاءني زيد وحده. وقيل: يمتنع البدل لأن ما قبله إيجاب ولا يجوز النصب على الاسثناء لوجهين، أحدهما أنه فاسد في المعنى وذلك أنك إذا قلت: لو جاءني القوم إلا زيدا لقتلهم كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم، فلو نصب في الآية لكان المعنى فساد السماوات والأرض امتنع لوجود الله مع الآلهة، وفي ذلك إثبات الإله مع الله، وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مثل ذلك لأن المعنى * (لو كان فيهما) * غير * (الله لفسدتا) *. والوجه الثاني أن * (ءالهة) * هنا نكرة، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء انتهى. وأجاز أبو العباس المبرد في * (إلا الله) * أن يكون بدلا لأن ما بعد لو غير موجب في المعنى، والبدل في غير الواجب أحسن من الوصف. وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل. وقال الأستاذ أبو علي الشلوبين في مسألة سيبويه: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا أن المعنى لو كان معنا رجل مكان زيد لغلبنا فإلا بمعنى غير التي بمعنى مكان. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ: لا يصح المعنى عندي إلا أن تكون * (إلا) * في معنى غير الذي يراد بها البدل أي * (لو كان فيهما الهة) * عوض واحد أي بدل الواحد الذي هو * (الله لفسدتا) * وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة انتهى.
ولما أقام البرهان على وحدانيته وانفراده بالألوهية نزه نفسه عما وصفه به أهل الجهل بقوله * (فسبحان الله) * ثم وصف نفسه بأنه مالك هذا المخلوق العظيم الذي جميع العالم هو متضمنهم ثم وصف نفسه بكمال القدرة ونهاية الحكم فقال * (لا يسأل عما يفعل) * إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء، وفعله على أقصى درجات الحكمة فلا اعتراض ولا تعقب عليه، ولما كانت عادة الملوك أنهم لا يسألون عما يصدر من أفعالهم مع إمكان الخطأ فيها، كان ملك الملوك أحق بأن لا يسأل هذا مع علمنا أنه لا يصدر عنه إلا ما اقتضته الحكمة العارية عن الخلل والتعقب، وجاء * (عما يفعل) * إذ الفعل جامع لصفات الأفعال مندرج تحته كل ما يصدر عنه من خلق ورزق ونفع وضر وغير ذلك، والظاهر في قوله * (لا يسأل) * العموم في الأزمان. وقال الزجاج: أي في القيامة * (لا يسأل) * عن حكمه في عباده * (وهم يسئلون) * عن أعمالهم. وقال ابن بحر: لا يحاسب وهم يحاسبون. وقيل: لا يؤاخذ وهم يؤاخذون انتهى.
283

* (وهم يسئلون) * لأنهم مملوكون مستعبدون واقع منهم الخطأ كثيرا فهم جديرون أن يقال لهم لم فعلتم كذا.
وقرأ الحسن: لا يسل ويسلون بفتح السين نقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة.
ثم كرر تعالى عليهم الإنكار والتوبيخ فقال: * (أم اتخذوا من دونه ءالهة) * استفظاعا لشأنهم واستعظاما لكفرهم، وزاد في هذا التوبيخ قوله * (من دونه) * فكأنه وبخهم على قصد الكفر بالله عز وجل، ثم دعاهم إلى الإتيان بالحجة على ما اتخذوا ولا حجة تقوم على أن الله تعالى شريكا لا من جهة العقل ولا من جهة النقل، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه تعالى عن الشركاء والأنداد كما في الوحي الذي جئتكم به * (هاذا ذكر من معى) * أي عظة للذين معي وهم أمته * (وذكر) * للذين * (من قبلى) * وهم أمم الأنبياء، فالذكر هنا مراد به الكتب الإلهية ويجوز أن يكون * (هاذا) * إشارة إلى القرآن. والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم. والمعنى على هذا عرض القرآن في معرض البرهان أي * (هاتوا برهانكم) * فهذا برهاني في ذلك ظاهر. وقرأ الجمهور: بإضافة * (ذكر) * إلى * (من) * فيهما على إضافة المصدر إلى المفعول كقوله * (بسؤال نعجتك) *.
وقرئ بتنوين * (ذكر) * فيهما و * (من) * مفعول منصوب بالذكر كقوله * (أو إطعام فى يوم ذى مسغبة * يتيما) *. وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بتنوين * (ذكر) * فيهما وكسر ميم * (من) * فيهما، ومعنى * (معى) * هنا عندي، والمعنى * (هاذا ذكر من) * عندي و * (من قبلى) * أي أذكركم بهذا القرآن الذي عندي كما ذكر الأنبياء من قبلي أممهم، ودخول * (من) * على مع نادر، ولكنه اسم يدل على الصحبة والاجتماع أجري مجرى الظرف فدخلت عليه * (من) *) * كما دخلت على قبل وبعد وعند، وضعف أبو حاتم هذه القراءة لدخول * (*) * كما دخلت على قبل وبعد وعند، وضعف أبو حاتم هذه القراءة لدخول * (من) * على مع ولم ير لها وجها. وعن طلحة * (ذكر) * منونا * (معى) * دون * (من) * * (وذكر) * منونا * (قبلى) * دون * (من) *. وقرأت فرقة * (وذكر من) * بالإضافة * (وذكر) * منونا * (من قبلى) * بكسر ميم من. وقرأ الجمهور * (الحق) * بالنصب والظاهر نصبه على المفعول به فلا يعلمون أي أصل شرهم وفسادهم هو الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل، ومن ثم جاء الإعراض عنه.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المنصوب أيضا على معنى التوكيد لمضمون الجملة السابقة كما تقول: هذا عبد الله الحق لا الباطل، فأكد نسبة انتفاء العلم عنهم، والظاهر أن الإعراض متسبب عن انتفاء العلم لما فقدوا التمييز بين الحق والباطل أعرضوا عن الحق. وقال ابن عطية ثم حكم عليهم تعالى بأن * (أكثرهم لا يعلمون الحق) * لإعراضهم عنه وليس المعنى * (فهم معرضون) * لأنهم لا يعلمون بل المعنى * (فهم معرضون) * ولذلك * (لا يعلمون الحق) * وقرأ الحسن وحميد وابن محيصن * (الحق) * بالرفع. قال صاحب اللوامح: ابتداء والخبر مضمر، أو خبر والمبتدأ قبله مضمر. وقال ابن عطية: هذا القول هو * (الحق) * والوقف على هذه القراءة على * (لا يعلمون) *.
وقال الزمخشري: وقرئ * (الحق) * بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل انتهى.
284

ولما ذكر انتفاء علمهم الحق وإعراضهم أخبر أنه ما أرسل * (من رسول) * إلا جاء مقررا لتوحيد الله وإفراده بالإلهية والأمر بالعبادة. ولما كان * (من رسول) * عاما لفظا ومعنى، أفرد على اللفظ في قوله إلا يوحى إليه ثم جمع على المعنى في قوله * (فاعبدون) * ولم يأت التركيب فاعبدني، ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته، وهذه العقيدة من توحيد الله لم تختلف فيها النبوات وإنما وقع الاختلاف في أشياء من الأحكام. وقرأ الأخوان والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والقطعي وابن غزوان عن أيوب وخلف وابن سعدان وابن عيسى وابن جرير * (نوحى) * بالنون وباقي السبعة بالياء وفتح الحاء، واختلف عن عاصم.
ثم نزه تعالى نفسه عما نسبوا إليه من الولد. قيل: ونزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت النصارى نحو هذا في عيسى واليهود في عزير ثم أضرب تعالى عن نسبة الولد إليه فقال * (بل عباد مكرمون) * ويشمل هذا اللفظ الملائكة وعزيرا والمسيح، ويظهر من كلام الزمخشري أنه مخصوص بالملائكة قال: نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله نزه ذاته عن ذلك، ثم أخبر عنهم بأنهم * (عباد) * والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم * (مكرمون) * مقربون عندي مفضلون على سائر العباد لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم، فذلك هو الذي غرمتهم من زعم أنهم أولادي تعاليت عن ذلك علوا كبيرا انتهى. وقرأ عكرمة * (مكرمون) * بالتشديد والجمهور بالتخفيف، وقرأ * (لا يسبقونه) * بكسر الباء. وقرئ بضمها من سابقني فسبقته أسبقه، والمعنى أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله: فلا يسبق قولهم قوله. وأل في بالقول نابت مناب الضمير على مذهب الكوفيين أي بقولهم وكذا قال الزمخشري: والمراد بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة أو الضمير محذوف أي بالقول منهم، وذلك على مذهب البصريين.
وهم بأمره يعملون) * فكما أن قولهم تابع لقوله كذلك فعلهم مبني على أمره لا يعملون عمالا ما لم يؤمروا به، وهذه عبارة عن توغلهم في طاعته والامتثال لأمره.
ثم أخبر تعالى أنه * (*) * فكما أن قولهم تابع لقوله كذلك فعلهم مبني على أمره لا يعملون عمالا ما لم يؤمروا به، وهذه عبارة عن توغلهم في طاعته والامتثال لأمره.
ثم أخبر تعالى أنه * (يعلم ما بين أيديهم) * أي ما تقدم من أفعالهم وأقوالهم، والحوادث التي لها إليهم تسبب وما تأخر وعلمه بذلك يجري مجرى السبب لطاعتهم لما علموه عالما بجميع المعلومات وظواهرهم وبواطنهم كان ذلك داعيا لهم إلى نهاية الخضوع والدؤوب على العبادة. قال ابن عباس: * (يعلم) * ما قدموا وما أخروا من أعمالهم. وقال نحوه عمار بن ياسر، قال: ما عملوا وما لم يعملوا بعد، وقيل * (ما بين أيديهم) * الآخرة * (وما خلفهم) * الدنيا. وقيل عكس ذلك. وقيل * (يعلم) * ما كان قبل أن خلقهم وما كان بعد خلقهم.
ولما كانوا مقهورين تحت أمره وملكوته وهو محيط بهم لم يجسروا على أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في زيادة الثواب والتعظيم، ثم * (هم) * مع ذلك * (من خشيته مشفقون) * متوقعون حذرون لا يأمنون مكر الله. وقال ابن عباس: * (لمن ارتضى) * هو من قال: لا إله إلا الله وشفاعتهم: الاستغفار. وقال مجاهد لمن ارتضاه الله أن يشفع. وقيل: شفاعتهم في القيامة وفي الصحيح أنهم يشفعون في الدنيا والآخرة.
وبعد أن وصف كرامتهم عليه وأثنى عليهم وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية فاجأ بالوعيد الشديد وأنذر بعذاب جهنم من ادعى منهم أنه إله وذلك على سبيل العرض والتمثيل مع علمه بأنه لا يكون كقوله * (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) * قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد. وقرأ الجمهور * (نجزيه) * بفتح النون. وقرأ أبو عبد الرحمن المقري بضمها أراد نجزئه بالهمز من أجزائي كذا كفاني، ثم خفف الهمزة فانقلبت ياء كذلك أي مثل هذا الجزاء * (نجزى الظالمين) * وهم الكافرون والواضعون الشيء في غير موضعه، وأداة الشرط
285

تدخل على الممكن والممتنع نحو قوله * (لئن أشركت) *.
* (أو لم * ير الذين كفروا أن * السماوات والارض * كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شىء حى أفلا يؤمنون * وجعلنا فى الارض رواسى أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون * وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن ءاياتها معرضون * وهو الذى خلق اليل والنهار والشمس والقمر كل فى فلك يسبحون * وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون * كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) *.
هذا استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة، ودلالة على تنزيهه عن الشريك، وتوكيد لما تقدم من أدلة التوحيد، ورد على عبدة الأوثان من حيث أن الإله القادر على هذه المخلوقات المتصرف فيها التصرف العجيب، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع والرؤية هنا من رؤية القلب. وقيل: من رؤية البصر وذلك على الاختلاف في الرتق والفتق. وقرأ ابن كثير وحميد وابن محيصن ألم ير بغير واو العطف والجمهور * (أو لم) * بالواو. * (كانتا) * قال الزجاج: السماوات جمع أريد به الواحد، ولهذا قال * (كانتا رتقا) * لأنه أراد السماء والأرض، ومنه أن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا جعل السماوات نوعا والأرضين نوعا، فأخبر عن النوعين كما أخبر عن اثنين كما تقول: أصلحت بين القوم ومر بنا غنمان أسودان لقطيعي غنم. وقال الحوفي: قال * (كانتا رتقا) * والسماوات جمع لأنه أراد الصنفين، ومنه قول الأسود بن يعفر:
* إن المنية والحتوف كلاهما
*
يوفي المحارم يرقبان سوادي
*
لأنه أراد النوعين. وقال أبو البقاء: الضمير يعود على الجنسين. وقال الزمخشري: وإنما قال * (كانتا) * دون كن لأن المراد جماعة * (السماوات) * وجماعة * (الارض) * ونحوه قولهم: لقاحان سوداوان إن أراد جماعتان فعل في المضمر ما فعل في المظهر. وقال ابن عطية: وقال * (كانتا) * من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شييم:
* ألم يحزنك أن جبال قيس
*
وتغلب قد تباينت انقطاعا
*
قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: كانتا شيئا واحدا ففصل الله بينهما بالهواء. وقال كعب: خلق الله السماوات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحا بوسطها ففتحها بها وجعل السماوات سبعا والأرضين سبعا. وقال مجاهد والسدي وأبو صالح: كانت السماوات والأرض مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرضون كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبعا. وقالت فرقة: السماوات والأرض رتق بالظلمة وفتقها الله بالضوء. وقالت فرقة: السماء قبل المطر رتق، والأرض قبل النبات رتق * (ففتقناهما) * بالمطر والنبات كما قال * (والسماء ذات الرجع * والارض ذات الصدع) * قال ابن عطية: وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة للمحسوس بين، ويناسب قوله * (وجعلنا من الماء كل شىء حى) * أي من الماء الذي أوجده الفتق انتهى.
وعلى هذين القولين تكون الرؤية من البصر وعلى ما قبلهما من رؤية القلب، وجاء تقريرهم بذلك لأنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد، ولأن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من مخصص، وهو الله سبحانه وقرأ الجمهور * (رتقا) * بسكون التاء وهو مصدر يوصف به كزور
286

وعدل فوقع خبرا للمثنى. وقرأ الحسن وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى * (رتقا) * بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالقبض والنفض، فكان قياسه أن يبني ليطابق الخبر الاسم. فقال الزمخشري: هو على تقدير موصوف أي * (كانتا) * شيئا * (رتقا) *. وقال أبو الفضل الرازي: الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسما بمعنى المفعول والساكن مصدر، أو قد يكونان مصدرين لكن المتحرك أولى بأن يكون في معنى المفعول لكن هنا الأولى أن يكونا مصدرين فأقيم كل واحد منهما مقام
المفعولين، ألا ترى أنه قال * (كانتا رتقا) * فلو جعلت أحدهما اسما لوجب أن تثنيه فلما قال * (رتقا) * كان في الوجهين كرجل عدل ورجلين عدل وقوم عدل انتهى.
* (وجعلنا) * إن تعدت لواحد كانت بمعنى * (وخلقنا * من الماء) * كل حيوان أي مادته النطفة قاله قطرب وجماعة أو لما كان قوامه الماء المشروب وكان محتاجا إليه لا يصبر عنه جعل مخلوقا منه كقوله * (خلق الإنسان من عجل) * قاله الكلبي وغيره، وتكون الحياة على هذا حقيقة ويكون كل شيء عاما مخصوصا إذ خرج منه الملائكة والجن وليسوا مخلوقين من نطفة ولا محتاجين للماء.
وقال قتادة: أي خلقنا كل نام من الماء فيدخل فيه النبات والمعدن، وتكون الحياة فيهما مجازا أو عبر بالحياة عن القدر المشترك بينهما وبين الحيوان وهو النمو ويكون أيضا على هذا عاما مخصوصا، وإن تعدت * (جعلنا) * لاثنين فالمعنى صيرنا * (كل شىء حى) * بسبب من الماء لا بد له منه. وقرأ الجمهور * (حى) * بالخفض صفة لشيء. وقرأ حميد حيا بالنصب مفعولا ثانيا لجعلنا، والجار والمجرور لغو أي ليس مفعولا ثانيا * (لجعلنا) * * (أفلا يؤمنون) * استفهام إنكار وفيه معنى التعجب من ضعف عقولهم، والمعنى أفلا يتدبرون هذه الأدلة ويعملوا بمقتضاها ويتركوا طريقة الشرك، وأطلق الإيمان على سببه وقد انتظمت هذه الآية دليلين من دلائل التوحيد وهي من الأدلة السماوية والأرضية.
ثم ذكر دليلا آخر من الدلائل الأرضية فقال: * (وجعلنا فى الارض رواسى أن تميد بهم) * وتقدم شرح نظير هذه الجملة في سورة النحل * (وجعلنا فيها فجاجا سبلا) * وهذا دليل رابع من الدلائل الأرضية، والظاهر أن الضمير في * (فيها) * عائد على الأرض. وقيل يعود على الرواسي، وجاء هنا تقديم * (فجاجا) * على قوله * (سبلا) * وفي سورة نوح * (لتسلكوا منها سبلا فجاجا) *. فقال الزمخشري: وهي يعني * (فجاجا) * صفة ولكن جعلت حالا كقوله:
لمية موحشا ظلل
يعني أنها حال من سبل وهي نكرة، فلو تأخر * (فجاجا) * لكان صفة كما في تلك الآية ولكن تقدم فانتصب على الحمال قال: فإن قلت: ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت: وجهان أحدهما إعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة، والثاني بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة انتهى. يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفا به حالة الإخبار عنه، وإن كان الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه، ألا ترى أنه يقال: مررت بوحشي القاتل حمزة، فحالة المرور لم يكن قائما به قتل حمزة، وأما الحال فهي هيئة ما تخبر عنه حالة لإخبار * (لعلهم يهتدون) * في مسالكهم وتصكرفهم. وما رفع وسمك على شيء فهو سقف. قال قتادة: حفظ من البلي والتغير على طول الدهر. وقيل: حفظ من السقوط لإمساكه من غير علاقة ولا عماد. وقيل: حفظ من الشرك والمعاصي. وقال الفراء: حفظ من الشياطين
287

بالرجوم. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) نظر إلى السماء فقال: (إن السماء سقف مرفوع وموح مكفوف يجري كما يجري السهم محفوظا من الشياطين) وإذا صح هذا الحديث كان نصا في معنى الآية.
* (وهم عن ءاياتها) * أي عن ما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس والقمر وسائر النيرات ومسايرها وطلوعها وغروبها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة. وقرأ الجمهور * (عن ءاياتها) * بالجمع. وقرأ مجاهد وحميد عن آيتها بالإفراد، فيجوز أنه جعل الجعل أو السقف أو الخلق أي خلق السماء آية واحدة تحوي الآيات كلها، ويجوز أنه أراد بها الجمع فجعلها اسم الجنس، ودل على ذلك كثرة ما في السماء من الآيات. والمعنى * (وهم عن) * الاعتبار بآياتها * (معرضون) * وقال الزمخشري: هم يتفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنياوية كالاستضاءة بقمريها والاهتداء بكواكبها وحياة الأرض والحيوان بأمطارها * (وهم عن) * كونها آية بينة على الخالق * (معرضون) *.
والتنوين في * (كل) * عوض من المضاف إليه، والفلك الجسم الدائر دورة اليوم والليلة. وعن ابن عباس والسدي: الفلك السماء. وقال أكثر المفسرين: الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر. وقال قتادة: الفلك استدارة بين السماء والأرض يدور بالنجوم مع ثبوت السماء. وقيل: الفلك القطب الذي تدور عليه النجوم وهو قطب الشمال. وقيل: لكل واحد من السيارات فلك، وفلك الأفلاك يحركها حركة واحدة من المشرق إلى المغرب. وقال الضحاك: الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم، والظاهر أنه جسم وفيه الاختلاف المذكور والظاهر أن كلا يسبح في فلك واحد. قيل: ولكل واحد فلك يخصه فهو كقولهم: كساهم الأمير حلة أي كسى كل واحد، وجاء * (يسبحون) * بواو الجمع العاقل، فأما الجمع فقيل ثم معطوف محذوف وهو والنجوم، ولذلك عاد الضمير مجموعا ولو لم يكن ثم معطوف محذوف لكان يسبحان مثنى.
وقال الزمخشري، الضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد انتهى. وحسن ذلك كونه جاء فاصلة رأس آية، وأما كونه ضمير من يعقل ولم يكن التركيب يسبحن. فقال الفراء: لما كانت السباحة من أفعال الآدميين جاء ما أسند إليهما مجموعا من يعقل كقوله * (رأيتهم لى ساجدين) * قال أبو عبد الله الرازي: وعلى قول أبي علي بن سينا سبب ذلك أنها عنده تعقل انتهى. وهذه الجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار فلا محل لها، أو محلها النصب على الحال من * (الشمس والقمر) * لأن * (وسخر لكم) * لا يتصفان بأنهما يجريان * (فى فلك) * فهو كقولك: رأيت زيدا وهندا متبرجة والسباحة العوم والذي يدل عليه الظاهر أن الشمس والقمر هما اللذان يجريان في الفلك، وأن الفلك لا يجري.
* (وما جعلنا) * الآية. قيل: إن بعض المسلمين قال: إن محمدا لن يموت وإنما هو مخلد، فأنكر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم) فنزلت. وقيل: طعن كفار مكة عليه بأنه بشر يأكل الطعام ويموت فكيف يصح إرساله. وقال الزمخشري: كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة بهذا أي قضى الله أن لا يخلد في الدنيا بشرا فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت فإن مت أيبقى هؤلاء؟ وفي معناه قول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
* تمنى رجال أن أموت وإن أمت
*
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
288

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تزود لأخرى مثلها فكأن قد
*
وقول الآخر:
* فقل للشامتين بنا أفيقوا
*
سيلقى الشامتون كما لقينا
*
والفاء في * (وما جعلنا) * العطف قدمت عليها همزة الاستفهام لأن الاستفهام له صد الكلام، دخلت على إن الشرطية والجملة بعدها جواب للشرط، وليست مصب الاستفهام فتكون الهمزة داخلة عليها، واعترض الشرط بينهما فحذف جوابه هذا مذهب سيبويه. وزعم يونس أن تلك الجملة هي مصب الاستفهام والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف. قال ابن عطية: وألف الاستفهام داخلة في المعنى على جواب الشرط انتهى. وفي هذه الآية دليل لمذهب سيبويه إذ لو كان على ما زعم يونس لكان التركيب * (وما جعلنا) * هم * (الخالدون) * بغير فاء، وللمذهبينن تقرير في علم النحو.
* (كل نفس ذائقة الموت) * تقدم تفسير هذه الجملة * (ونبلوكم) * نختبركم وقدم الشر لأن الابتلاء به أكثر، ولأن العرب تقدم الأقل والأردأ، ومنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات. وعن ابن عباس: الخير والشر هنا عام في الغنى والفقر، والصحة والمرض، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال. قال ابن عطية: هذان الأخيران ليسا داخلين في هذا لأن من هدى فلي هداه اختيارا ولا من أطاع. بل قد تبين خيره. والظاهر أن المراد من الخير والشر هنا كل ما صح أن يكون فتنة وابتلاء انتهى. وعن ابن عباس أيضا بالشدة والرخاء أتصبرون على الشدة وتشكرون على الرخاء أم لا. وقال الضحاك: الفقر والمرض والغنى والصحة. وقال ابن زيد: المحبوب والمكروه، وانتصب * (فتنة) * على أنه مفعول له أو مصدر في موضع الحال، أو مصدر من معنى * (* نبلوكم) * * (فتنة وإلينا ترجعون) * فنجازيكم على ما صدر منكم في حالة الابتلاء من الصبر والشكر، وفي غير الابتلاء. وقرأ الجمهور * (ترجعون) * بتاء الخطاب مبنيا للمفعول. وقرأت فرقة بالتاء مفتوحة مبنيا للفاعل. وقرأت فرقة بضم الياء للغيبة مبنيا للمفعول على سبيل الالتفات.
* (وإذا راك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى يذكر الهتكم وهم بذكر الرحمان هم كافرون * خلق الإنسان من عجل * سأوريكم ءاياتى فلا تستعجلون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون * بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون * ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون * قل من يكلؤكم باليل والنهار من الرحمان بل هم عن ذكر ربهم معرضون * أم لهم الهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون) *:
قال السدي ومقاتل: مر الرسول عليه الصلاة والسلام بأبي جهل وأبي سفيان، فقال أبو جهل: هذا نبي عبد مناف، فقال أبو سفيان: وما تنكرون أن يكون نبيا في بني عبد مناف، فسمعهما الرسول صلى الله عليه وسلم) فقال لأبي جهل: (ما تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية) فنزلت.
ولما كان الكفار يغمهم ذكر آلهتهم بسوء شرعوا في الاستهزاء وتنقيص من يذكرهم على سبيل
289

المقابلة و * (ءان) * نافية بمعنى ما، والظاهر أن جواب * (إذا) * هو * (إن يتخذونك) * وجواب إذا بان النافية لم يرد منه في القرآن إلا هذا وقوله في القرآن * (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا) * ولم يحتج إلى الفاء في الجواب كما لم تحتج إليه ما إذا وقعت جوابا كقوله * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات) * ما كان حجتهم بخلاف أدوات الشرط، فإنها إذا كان الجواب مصدرا بما النافية فلا بد من الفاء، نحو إن تزورنا فما نسيء إليك. وفي الجواب لاذا بأن وما النافيتين دليل واضح على أن * (إذا) * ليست معمولة للجواب، بل العامل فيها الفعل الذي يليها وليست مضافة للجملة خلافا لأكثر النحاة. وقد استدللنا على ذلك بغير هذا من الأدلة في شرح التسهيل.
وقيل: جواب * (إذا) * محذوف وهو يقولون المحكي به قولهم * (أهاذا الذى يذكر الهتكم) * وقوله * (إن يتخذونك إلا هزوا) * كلام معترض بين * (إذا) * وجوابه و * (يتخذونك) * يتعدى إلى اثنين، والثاني * (هزوا) * أي مهزوأ به، وهذا استفهام فيه إنكار وتعجيب. والذكر يكون بالخير وبالشر، فإذا لم يذكر متعلقه
فالقرينة تدل عليه، فإن كان من صديق فالذكر ثناء أو من غيره فذم، ومنه * (سمعنا فتى يذكرهم) * أي بسوء، وكذلك هنا * (أهاذا الذى يذكر الهتكم) *.
ثم نعى عليه إنكارهم عليه ذكر آلهتهم بهذه الجملة الحالية وهي * (وهم بذكر الرحمان هم كافرون) * أي ينكرون وهذه حالهم يكفرون بذكر الرحمن، وهو ما أنزل من القرآن فمن هذه حاله لا ينبغي أن ينكر على من يغيب آلهتهم، والظاهر أن هذه الجملة حال من الضمير في يقولون المحذوف.
وقال الزمخشري: والجملة في موضع الحال أي * (يتخذونك * هزوا) * وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله انتهى. فجعل الجملة الحالية العامل فيها * (يتخذونك * هزوا) * المحذوفة وكررهم على سبيل التوكيد. وروي أنها نزلت حين أنكروا لفظة * (الرحمان) * وقالوا: ما نعرف الرحمن إلا في اليمامة، والمراد بالرحمن هنا الله، كأنه قيل * (وهم بذكر) * الله ولما كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى ازقرار والعلم نهاهم تعالى عن الاستعجال وقدم أولا ذم * (الإنسان) * على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها، والظاهر أنه يراد بالإنسان هنا اسم الجنس وكونه * (خلق) * * (من عجل) * وهو على سبيل المبالغة لما كان يصدر منه كثيرا. كما يقول لمكثر اللعب أنت من لعب، وفي الحديث (لست من دد ولا دد مني). وقال الشاعر:
* وإنا لمما يضرب الكبش ضربة
*
على رأسه تلقى اللسان من الفم
*
لما كانوا أهل ضرب الهام وملازمة الحرب قال: إنهم من الضرب، وبهذا التأويل يتم معنى الآية ويترتب عليه قوله * (عن ءاياتي) * أي آيات الوعيد * (فلا تستعجلون) * في رؤيتكم العذاب الذي تستعجلون به، ومن يدعي القلب فيه وهو أبو عمرو وإن التقدير خلق العجل من الإنسان وكذا قراءة عبد الله على معنى أنه جعل طبيعة من طبائعه وجزأ من أخلاقه، فليس قوله بجيد لأن القلب الصحيح فيه أن لا يكون في كلام فصيح وإن بابه الشعر. قيل: فمما جاء في الكلام من ذلك قول العرب: إذا طلعت الشعرى استوى العود على الحر باء. وقالوا: عرضت الناقة على الحوض وفي الشعر قوله:
حسرت كفى عن السربال آخذه
وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والضحاك ومقاتل والكلبي * (الإنسان) * هنا آدم. قال مجاهد: لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال: يا رب عجل تمام خلقي قبل أن تغيب الشمس. وقال سعيد: لما
290

بلغت الروح ركبتيه كاد يقوم فقال الله * (خلق الإنسان من عجل) *. وقال ابن زيد: خلقه الله يوم الجمعة على عجلة في خلقه. وقال الأخفش * (من عجل) * لأن الله قال له كن فكان. وقال الحسن: * (من عجل) * أي ضعيف يعني النطفة. وقيل: خلق بسرعة وتعجيل على غير تريب الآدميين من النطفة والعلقة والمضغة، وهذا يرجع لقول الأخفش. وقيل: * (من عجل) * من طين والعجل بلغة حمير الطين. وأنشد أبو عبيدة لبعض الحميريين:
* النبع في الصخرة الصماء منبته
*
والنخل منبته في الماء والعجل
*
وقيل: * (الإنسان) * هنا النضر بن الحارث والذي ينبغي أن تحمل الآية عليه هو القول الأول وهو الذي يناسب آخرها. والآيات هنا قيل: الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة أي يأتيكم في وقته. وقيل: أدلة التوحيد وصدق الرسول. وقيل: آثار القرون الماضية بالشام واليمن، والقول الأول أليق أي سيأتي ما يسؤوكم إذا دمتم على كفركم، كأنه يريد يوم بدر وغيره في الدنيا وفي الآخرة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله * (خلق الإنسان من عجل) * وقوله * (وكان الإنسان عجولا) * أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ قلت: هذا كما ركب فيه من الشهوة وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة انتهى. وهو على طريق الاعتزال.
وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم * (خلق) * مبنيا للفاعل * (الإنسان) * بالنصب أي * (خلق) * الله * (الإنسان) * وقوله * (متى هاذا الوعد) * استفهام على جهة الهزء، وكان المسلمون يتوعدونهم على لسان الشرع و * (متى) * في موضع الجر لهذا فموضعه رفع، ونقل عن بعض الكوفيين أن موضع * (متى) * نصب على الظرف والعامل فيه فعل مقدر تقديره يكون أو يجيء، وجواب * (لو) * محذوف لدلالة الكلام عليه، وحذفه أبلغ وأهيب من النص عليه فقدره ابن عطية لما استعجلوا ونحوه، وقدره الزمخشري لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال. وقيل: لعلموا صحة البعث. وقيل: لعلموا صحة الموعود. وقال الحوفي: لسارعوا إلى الإيمان. وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة وحين يراد به وقت الساعة يدل على ذلك، بل تأتيهم بغتة انتهى.
و * (حين) * قال الزمخشري: مفعول به ليعلم أي لو يعلمون الوقت الذي يستعجلون عنه بقولهم * (متى هاذا الوعد) * وهو وقت صعب شديد تحيط بهم النار من وراء وقدام، ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم. قال: ويجوز أن يكون * (يعلم) * متروكا فلا تعدية بمعنى * (لو) * كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين، و * (حين) * منصوب بمضمر أي * (حين لا يكفون عن وجوههم النار) * يعلمون أنهم كانوا على الباطل، وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم أي لا
يكفونها انتهى. والذي يظهر أن مفعول * (يعلم) * محذوف لدلالة ما قبله أي لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستنبطوه. و * (حين) * منصوب بالمفعول الذي هو مجيء ويجوز أن يكون من باب الإعمال على حذف مضاف، وأعمل الثاني والمعنى لو يعلمون مباشرة النار حين لا يكفونها عن وجوههم، وذكر الوجوه لأنها أشرف ما في الإنسان وعجل حواسه، والإنسان أحرص على الدفاع عنه من غيره من أعضائه، ثم عطف عليها الظهور والمراد عموم النار لجميع
291

أبدانهم ولا أحد يمنعهم من العذاب * (بل تأتيهم بغتة) * أي تفجؤهم. قال ابن عطية * (بل * تأتهم) * استدراك مقدر قبله نفي تقديره إن الآيات لا تأتي بحسب اقتراحهم انتهى. والظاهر أن الضمير في * (تأتيهم) * عائد على النار. وقيل: على الساعة التي تصبرهم إلى العذاب. وقيل: على العقوبة. وقال الزمخشري: في عود الضمير إلى النار أو إلى الوعد لأنه في معنى النار وهي التي وعدوها، أو على تأويل العدة والموعدة أو إلى الحين لأنه في معنى الساعة أو إلى البعثة انتهى.
وقرأ الأعمش بل يأتيهم بالياء بغتة بفتح الغين فيبهتهم بالياء والضمير عائد إلى الوعد أو الحين قاله الزمخشري. وقال أبو الفضل الرازي: لعله جعل النار بمعنى العذاب فذكر ثم رد ردها إلى ظاهر اللفظ * (ولا هم ينظرون) * أي يؤخرون عما حل بهم، ولما تقدم قوله * (إن يتخذونك إلا هزوا) * سلاه تعالى بأن من تقدمه من الرسل وقع من أممهم الاستهزاء بهم، وأن ثمرة استهزائهم جنوها هلاكا وعقابا في الدنيا والآخرة، فكذلك حال هؤلاء المستهزئين. وتقدم تفسير مثل هذه الآية في الأنعام.
ثم أمره تعالى أن يسألهم من الذي يحفظكم في أوقاتكم من بأس الله أي لا أحد يحفظكم منه، وهو استفهام تقريع وتوبيخ. وفي آخر الكلام تقدير محذوف كأنه ليس لهم مانع ولا كالىء، وعلى هذا النفي تركيب بل في قوله * (بل هم عن ذكر ربهم معرضون) * قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: بل هم معرضون عن ذكره لا يخطرونه ببالهم فضلا أن يخافوا بأسه حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالىء وصلحوا للسؤال عنه، والمراد أنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالىء ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم انتهى. وقرأ أبو جعفر والزهري وشيبة: يكلوكم بضمة خفيفة من غير همز. وحكى الكسائي والفراء يكلوكم بفتح اللام وإسكان الواو.
* (أم لهم الهة) * بمعنى بل، والهمزة كأنه قيل بل ألهم آلهة فأضرب ثم استفهم * (تمنعهم) * من العذاب. وقال الحوفي * (من دوننا) * متعلق بتمنعهم انتهى. قيل: والمعنى ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز من أن ينالهم مكروه من جهتنا. وقال ابن عباس: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم تقول: منعت دونه كففت أذاه فمن دوننا هو من صلة * (ءالهة) * أي أم لهم آلهة دوننا أو من صلة * (تمنعهم) * أي * (أم لهم) * مانع من سوانا. ثم استأنف الإخبار عن آلهتهم فبين أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره؟ وقال ابن عباس * (يصحبون) * يمنعون. وقال مجاهد: ينصرون. وقال قتادة: لا يصحبون من الله بخير. وقال الشاعر:
* ينادي بأعلى صوته متعوذا
*
ليصحب منا والرماح دوان
*
وقال مجاهد: يحفظون. وقال السدي: لا يصحبهم من الملائكة من يدفع عنهم، والظاهر عود الضمير في * (ولاهم) * على الأصنام وهو قول قتادة. وقيل: على الكفار وهو قول ابن عباس، وفي التحرير مدار هذه الكلمة يعني * (يصحبون) * على معنيين أحدهما أنه من صحب يصحب، والثاني من الإصحاب أصحب الرجل منعه من الآفات.
292

* (بل متعنا هؤلاء وءاباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتى الارض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون قل) *:. (سقط: قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون، ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين، ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين، ولقد ءآتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين، الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون، وهذا ذكر مبارك أنزلناه فهل أنتم له منكرون)
* (هؤلاء) * إشارة إلى المخاطبين قبل وهم كفار قريش، ومن اتخذ آلهة من دون الله أخبر تعالى أنه متع * (هؤلاء) * الكفار * (وءاباءهم) * من قبلهم بما رزقهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة، وتدعسوا في الضلالة بإمهاله تعالى إياهم وتأخيرهم إلى الوقت الذي يأخذهم فيه * (أفلا يرون أنا نأتى الارض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون) * تقدم تفسير هذه الجملة في آخر الرعد. واقتصر الزمخشري من تلك الأقوال على معنى أنا ننقص أرض الكفر ودار الحرب ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام قال: فإن قلت: أي فائدة في قوله * (نأتى الارض) *؟ قلت: الفائدة فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها انتهى. وفي ذلك تبشير للمؤمنين بما يفتح الله عليهم، وأكثر المفسرين على أنها نزلت في كفار مكة وفي قولهم: * (أفهم الغالبون) * دليل على ذلك إذ المعنى أنهم هم الغالبون، فهو استفهام فيه تقريع وتوبيخ حيث لم يعتبروا بما يجري عليهم.
ثم أمره تعالى أن يقول * (إنما أنذركم بالوحى) * أي أعلمكم بما تخافون منه بوحي من الله لا من تلقاء نفسي، وما كان من جهة الله فهو الصدق الواقع لا محالة كما رأيتم بالعيان من نقصان الأرض من أطرافها، ثم أخبر أنهم مع إنذارهم معرضون عما أنذروا به فالإنذار لا يجدي فيهم إذ هم صم عن سماعه، ولما كان الوحي من
المسموعات كان ذكر الصمم مناسبا و * (الصم) * هم المنذرون، فأل فيه للعهد وناب الظاهر مناب المضمر لأن فيه التصريح بتصامهم وسد أسماعهم إذا أنذروا، ولم يكن الضمير ليفيد هذا المعنى ونفي السماع هنا نفي جدواه.
وقرأ الجمهور * (يسمع) * بفتح الياء والميم * (الصم) * رفع به و * (الدعاء) * نصب. وقرأ ابن عامر وابن جبير عن أبي عمرو وابن الصلت عن حفص بالتاء من فوق مضمومة وكسر الميم * (الصم الدعاء) * بنصبهما والفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم). وقرأ كذلك إلا أنه بالياء من نحت أي * (ولا يسمع) * الرسول وعنه أيضا * (ولا يسمع) * مبنيا للمفعول * (الصم) * رفع به ذكره ابن خالويه. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو * (يسمع) * بضم الياء وكسر الميم * (الصم) * نصبا * (الدعاء) * رفعا بيسمع، أسند الفعل إلى الدعاء اتساعا والمفعول الثاني
293

محذوف، كأنه قيل: ولا يسمع النداء الصم شيئا.
ثم أخبر تعالى أن هؤلاء الذين صموا عن سماع ما أنذروا به إذا نالهم شيء مما أنذروا به، ولو كان يسيرا نادوا بالهلاك وأقروا بأنهم كانوا ظالمين، نبهوا على العلة التي أوجبت لهم العذاب وهو ظلم الكفر وذلوا وأذعنوا. قال ابن عباس: * (نفحة) * طرف وعنه هو الجوع الذي نزل بمكة وقال ابن جريج: نصيب من قولهم نفح له من العطاء نفحة إذا أعطاه نصيبا وفي قوله * (ولئن مستهم نفحة) * ثلاث مبالغات لفظ المس، وما في مدلول النفح من القلة إذ هو الريح اليسير أو ما يرضخ من العطية، وبناء المرة منه ولم يأت نفح فالمعنى أنه بأدنى إصابة من أقل العذاب أذعنوا وخضعوا وأقروا بأن سبب ذلك ظلمهم السابق.
ولما ذكروا حالهم في الدنيا إذا أصيبوا بشيء استطرد لما يكون في الآخرة التي هي مقر الثواب والعقاب، فأخبر تعالى عن عدله وأسند ذلك إلى نفسه بنون العظمة فقال * (ونضع الموازين) * وتقدم الكلام في الموازين في أول الأعراف، واختلاف الناس في ذلك هل ثم ميزان حقيقة وهو قول الجمهور أو ذلك على سبيل التمثيل عن المبالغة في العدل التام وهو قول الضحاك وقتادة؟ قالا: ليس ثم ميزان ولكنه العدل والقسط مصدر وصفت به الموازين مبالغة كأنها جعلت في أنفسها القسط، أو على حذف مضاف أي ذوات * (القسط) * ويجوز أن يكون مفعولا لأجله أي لأجل * (القسط) *. وقرئ القصط بالصاد. واللام في * (ليوم القيامة) * قال الزمخشري: مثلها في قولك: جئت لخمس ليال خلون من الشهر. ومنه بيت النابغة:
* ترسمت آيات لها فعرفتها
*
لستة أعوام وذا العام سابع
*
انتهى. وذهب الكوفيون إلى أن اللام تكون بمعنى في ووافقهم ابن قتيبة من المتقدمين، وابن مالك من أصحابنا المتأخرين، وجعل من ذلك قوله * (القسط ليوم القيامة) * أي في يوم، وكذلك لا يجليها لوقتها إلا هو أي في وقتها وأنشد شاهدا على ذلك لمسكين الدارمي:
* أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم
*
كما قد مضى من قبل عاد وتبع وقول الآخر:
وكل أب وابن وإن عمرا معا مقيمين مفقود لوقت وفاقد وقيل اللام هنا للتعليل على حذف مضاف، أي لحساب يوم القيامة و * (شيئا) * مفعول ثان أو مصدر.
*
وقرأ الجمهور: * (مثقال) * بالنصب خبر * (كان) * أي وإن كان الشيء أو وإن كان العمل وكذا في لقمان، وقرأ زيد بن علي وأبو جعفر وشيبة ونافع * (مثقال) * بالرفع على الفاعلية و * (كان) * تامة. وقرأ الجمهور * (ءاتينا) * من الإتيان أي جئنا بها، وكذا قرأ أبي أعني جئنا وكأنه تفسير لأتينا. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني آتينا بمده على وزن فاعلنا من المواتاة وهي المجازاة والمكافأة، فمعناه جازينا بها ولذلك تعدى بحرف جر، ولو كان على أفعلنا من الإيتاء بالمد على ما توهمه بعضهم لتعدى مطلقا دون جاز قاله أبو الفضل الرازي.
وقال الزمخشري: مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء انتهى.
294

وقال ابن عطية على معنى: و * (ءاتينا) * من المواتاة، ولو كان آتينا أعطينا لما تعدت بحرف جر، ويوهن هذه القراءة أن بدل الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف، وإنما يعرف ذلك في المضمومة والمكسورة انتهى. وقرأ حميد: أثبنا بها من الثواب وأنث الضمير في * (بها) * وهو عائد على مذكر وهو * (مثقال) * لإضافته إلى مؤنث) * كفى بنا حاسبين) * فيه توعد وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب وهو العد والإحصاء، والمعنى أنه لا يغيب عنا شيء من أعمالهم. وقيل: هو كناية عن المجازاة، والظاهر أن * (*) * كفى بنا حاسبين) * فيه توعد وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب وهو العد والإحصاء، والمعنى أنه لا يغيب عنا شيء من أعمالهم. وقيل: هو كناية عن المجازاة، والظاهر أن * (*) * فيه توعد وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب وهو العد والإحصاء، والمعنى أنه لا يغيب عنا شيء من أعمالهم. وقيل: هو كناية عن المجازاة، والظاهر أن * (حاسبين) * تمييز لقبوله من، ويجوز أن يكون حالا.
ولما ذكر ما أتى به رسوله صلى الله عليه وسلم) من الذكر وحال مشركي العرب معه، وقال: * (قل إنما أنذركم بالوحى) * أتبعه بأنه عادة الله في أنبيائه فذكر ما
آتى * (موسى وهارون) * إشارة إلى قصتهما مع قومهما مع ما أوتوا من الفرقان والضياء والذكر، ثم نبه على ما آتى رسوله من الذكر المبارك ثم استفهم على سبيل الذكر على إنكارهم ثم نبه على ما آتى رسوله صلى الله عليه وسلم). و * (الفرقان) * التوراة وهو الضياء، والذكر أي كتابا هو فرقان وضياء، وذكر ويدل على هذا المعنى قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك ضياء وذكرا بغير واو في ضياء. وقالت فرقة: القرآن ما رزقه الله من نصره وظهور حجته وغير ذلك، مما فرق بين أمره وأمر فرعون والضياء التوراة، والذكر التذكرة والموعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف والعطف بالواو يؤذن بالتغاير. وعن ابن عباس * (الفرقان) * الفتح لقوله * (يوم الفرقان) * وعن الضحاك قلق البحر. وعن محمد بن كعب: المخرج من الشبهات و * (الذين) * صفة تابعة أو مقطوعة برفع أو نصب أو بدل.
ولما ذكر التقوى ذكر ما أنتجته وهو خشية الله والإشفاق من عذاب يوم القيامة والساعة القيامة وبالغيب. قال الجمهور: يخافونه ولم يروه. وقال مقاتل: يخافون عذابه ولم يروه. وقال الزجاج: يخافونه من حيث لا يراهم أحد ورجحه ابن عطية. وقال أبو سليمان الدمشقي: يخافونه إذا غابوا عن أعين الناس، والإشفاق شدة الخوف، واحتمل أن يكون قوله * (وهم من الساعة مشفقون) * استئناف إخبار عنهم، وأن يكون معطوفا على صلة * (الذين) *، وتكون الصلة الأولى مشعرة بالتجدد دائما كأنها إحالتهم فيما يتعلق بالدنيا، والصلة الثانية من مبتدأ وخبر عنه بالاسم المشعر بثبوت الوصف كأنها حالتهم فيما يتعلق بالآخرة.
ولما ذكر ما آتى موسى وهارون عليهما السلام أشار إلى ما آتى محمدا صلى الله عليه وسلم) فقال * (وهاذا) * أي القرآن * (ذكر مبارك) * أي كثير منافعه غزير خبره، وجاء هنا الوصف بالاسم ثم بالجملة جريا على الأشهر وتقدم الكلام على قوله في الأنعام * (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك) * وبينا هناك حكمة تقديم الجملة على الاسم * (أفأنتم له منكرون) * استفهام إنكار وتوبيخ وهو خطاب للمشركين، والضمير في * (له) * عائد على ذكر وهو القرآن، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم) إذا أنكر ذلك المشركون كما أنكر أسلاف اليهود ما أنزل الله على موسى عليه السلام.
2 (* (ولقد ءاتينا موسى وهارون الفرقان وضيآء وذكرا للمتقين * الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون * وهاذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون * ولقد ءاتينآ إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لابيه وقومه ما هاذه التماثيل التىأنتم لها عاكفون * قالوا وجدنآ ءابآءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وءابآؤكم فى ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربكم رب السماوات والا رض الذى فطرهن وأنا على ذالكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا إلا
295

كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون * قالوا من فعل هاذا بأالهتنآ إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم * قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون * قالوا ءأنت فعلت هاذا بأالهتنا ياإبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هاذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هاؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون * قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يانار كونى بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الا خسرين * ونجيناه ولوطا إلى الا رض التى باركنا فيها للعالمين * ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينآ إليهم فعل الخيرات وإقام الصلواة وإيتآء الزكواة وكانوا لنا عابدين * ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه فى رحمتنآ إنه من الصالحين * ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا بأاياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين * وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون * ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الا رض التى باركنا فيها وكنا بكل شىء عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذالك وكنا لهم حافظين * وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وءاتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين * وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين * وأدخلناهم فى رحمتنا إنهم من الصالحين * وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا إلاه إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين *
296

فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذالك ننجى المؤمنين * وزكريآ إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين * والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنهآ ءاية للعالمين * إن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون * وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون * فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون * وحرام على قرية أهلكناهآ أنهم لا يرجعون * حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق فإذا هى شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا فى غفلة من هاذا بل كنا ظالمين * إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هاؤلاء ءالهة ما وردوها وكل فيها خالدون * لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون * إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولائك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم فى ما اشتهت أنفسهم خالدون * لا يحزنهم الفزع الا كبر وتتلقاهم الملائكة هاذا يومكم الذى كنتم توعدون * يوم نطوى السمآء كطى السجل للكتب كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين * ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الا رض يرثها عبادى الصالحون * إن فى هاذا لبلاغا لقوم عابدين * ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين * قل إنمآ يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فهل أنتم مسلمون * فإن تولوا فقل ءاذنتكم على سوآء وإن أدرىأقريب أم بعيد ما توعدون * إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون * وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين * قال رب احكم بالحق
وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون) *))
) *
التمثال: الصورة المصنوعة مشبهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى، مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به. قال الشاعر:
* ويا رب يوم قد لهوت وليلة
*
بآنسة كأنها خط تمثال
*
297

الجذ القطع. قال الشاعر:
* بنو المهلب جذ الله دابرهم
*
أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف النكس: قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفل، ونكس رأسه بالتشديد والتخفيف طأطأ حتى صار أعلاه أسفل. البرد: مصدر برد، يقال: برد الماء حرارة الجوف يبردها. قال الشاعر:
*
وعطل قلوصي في الركاب فإنها
ستبرد أكبادا وتبكي بواكيا
*
النفس: رعي الماشية بالليل بغير راع، والهمل بالنهار بلا راع، الغوص: الدخول تحت الماء لاستخراج ما فيه. قال الشاعر:
* أو درة صدقة غواصها بهج
*
متى يرها يهل ويسجد
*
النون: الحوت ويجمع على نينان، وروي: النينان قبله الحمر. الفرج: يطلق على الحر والذكر مقابل الحر وعلى الدبر. قال الشاعر:
* وأنت إذا استدبرته شد فرجه
*
مضاف فويق الأرض ليس بأعزل
*
الحدب: المسنم من الأرض كالجبل والكدبة والقبر ونحوه. النسلان: مقاربة الخطو مع الإسراع قال الشاعر:
* عسلان الذئب أمسى قاربا
*
برد الليل عليه فنسل
*
الحصب: الحطب بلغة الحبشة إذا رمى به في النار قبل وقبل أن يرمي به لا يسمى حصبا. وقيل: الحصب ما توقد به النار. السجل: الصحيفة.
* (ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لابيه وقومه ما هاذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا ءاباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وءاباؤكم فى ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربكم رب * السماوات والارض * الذى فطرهن وأنا على ذالكم من الشاهدين * وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) *.
لما تقدم الكلام في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أتبع ذلك بثلاثة عشر نبيا غير مراعى في ذكرهم الترتيب الزماني، وذكر بعض ما نال كثيرا منهم من الابتلاء كل ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم) وليتأسى بهم فيما جرى عليه من قومه.
وقرأ الجمهور * (رشده) * بضم الراء وسكون الشين. وقرأ عيسى الثقفي * (* رشدة) * بفتح الراء والشين وأضاف الرشد إلى * (ضيف إبراهيم) * بمعنى أنه رشد مثله وهو رشد الأنبياء وله شأن أي شأن، والرشد النبوة والاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا، أو هما داخلان تحت الرشد أو الصحف والحكمة أو التوفيق
للخير
298

صغيرا أقوال خمسة، والمضاف إليه من قبل محذوف وهو معرفة ولذلك بنى * (قبل) * أي * (من قبل) * موسى وهارون قاله الضحاك كقوله في الأنعام * (ونوحا هدينا من قبل) * أي من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأبعد من ذهب إلى أن التقدير * (من قبل) * بلوغه أو * (من قبل) * نبوته يعني حين كان في صلب آدم. وأخذ ميثاق الأنبياء، أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم) لأنها محذوفات لا يدل على حذفها دليل بخلاف * (من * قيل) * موسى وهارون لتقدم ذكرهما. وقربه، والضمير في * (به) * الظاهر أنه عائد على إبراهيم. وقيل: على الرشد وعلمه تعالى أنه علم منه أحوالا عجيبة وأسرارا بديعة فأهله لخلته كقوله: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، وهذا من أعظم المدح وأبلغه إذ أخبر تعالى أنه آتاه الرشد وأنه عالم بما آتاه به عليه السلام.
ثم استطرد من ذلك إلى تفسير الرشد وهو الدعاء إلى توحيد الله ورفض ما عبد من دونه. و * (إذ) * معمولة لآتينا أو * (* رشدة) * و * (به عالمين) * وبمحذوف أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت، وبدأ أولا بذكر أبيه لأنه الأهم عنده في النصيحة وإنقاذه من الضلال ثم عطف عليه * (قومه) * كقوله * (وأنذر عشيرتك الاقربين) * وفي قوله * (ما هاذه التماثيل) * تحقير لها وتصغير لشأنها وتجاهل بها مع علمه بها وبتعظيمهم لها. وفي خطابه لهم بقوله * (أنتم) * استهانة بهم وتوقيف على سوء صنيعهم، وعكف يتعدى بعلى كقوله * (يعكفون على أصنام لهم) * فقيل * (لها) * هنا بمعنى عليها كما قيل في قوله * (وإن أسأتم فلها) * والظاهر أن اللام في * (لها) * لام التعليل أي لتعظيمها، وصلة * (عاكفون) * محذوفة أي على عبادتها. وقيل: ضمن * (عاكفون) * معنى عابدين فعداه باللام.
وقال الزمخشري: لم ينو للعاكفين محذوفا وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقوله فاعلون العكوف لها أو واقفون لها انتهى.
ولما سألهم أجابوه بالتقليد البحت، وأنه فعل آبائهم اقتدوا به من غير ذكر برهان، وما أقبح هذا التقليد الذي أدى بهم إلى عبادة خشب وحجر ومعدن ولجاجهم في ذلك ونصرة تقليدهم وكان سؤاله عن عبادة التماثيل وغايته أن يذكروا شبهة في ذلك فيبطلها، فلما أجابوه بما لا شبهة لهم فيه وبدا ضلالهم * (قال لقد كنتم أنتم وءاباؤكم فى ضلال مبين) * أي في حيرة واضحة لا التباس فيها، وحكم بالضلال على المقلدين والمقلدين وجعل الضلال مستقرا لهم و * (أنتم) * توكيد للضمير الذي هو اسم * (كان) * قال الزمخشري: و * (أنتم) * من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ونحوه * (اسكن أنت وزوجك الجنة) * انتهى، وليس هذا حكما مجمعا عليه فلا يصح الكلام مع الإخلال به لأن الكوفيين يجيزون العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد بالضمير المنفصل المرفوع، ولا فصل وتنظيره ذلك: باسكن أنت وزوجك الجنة مخالف لمذهبه في * (اسكن أنت وزوجك) * لأنه يزعم أن وزوجك ليس معطوفا على الضمير المستكن في * (اسكن) * بل قوله: * (وزوجك) * مرتفع على إضمار، وليسكن فهو عنده من عطف الجمل وقوله هذا مخالف لمذهب سيبويه.
ولما جرى هذا السؤال وهذا الجواب تعجبوا من تضليله إياهم إذ كان قد نشأ بينهم وجوزوا أن ما قاله هو على سبيل المزاح لا الجد، فاستفهموه أهذا جد منه أم لعب والضمير في * (قالوا) * عائد عى أبيه وقومه و * (بالحق) * متعلق بقولهم * (أجئتنا) * ولم يريدوا حقيقة المجيء لأنه لم يكن عنهم غائبا فجاءهم وهو نظير * (قال أوحى * لو * جئتك بشىء مبين) * والحق هنا ضد الباطل وهو الجد، ولذلك قابلوه باللعب، وجاءت الجملة
299

اسمية لكونها أثبت كأنهم حكموا عليه بأنه لاعب هازل في مقالته لهم ولكونها فاصلة.
ثم أضرب عن قولهم وأخبر عن الجد وأن المالك لهم والمستحق العبادة هو ربهم ورب هذا العالم العلوي والعالم السفلي المندرج فيه أنتم ومعبوداتكم نبه على الموجب للعبادة وهو منشىء هذا العالم ومخترعه من العدم الصرف. والظاهر أن الضمير في * (فطرهن) * عائد على السماوات والأرض، ولما لم تكن السماوات والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة. وقيل في * (فطرهن) * عائد على التماثيل. قال الزمخشري: وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم انتهى. وقال ابن عطية: * (فطرهن) * عبارة عنها كأنها تعقل، هذه من حيث لها طاعة وانقياد وقد وصفت في مواضع بما يوصف به من يعقل. وقال غير * (فطرهن) * أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنها من قبيل من يعقل، فإن الله أخبر بقوله * (قالتا أتينا طائعين) * وقوله صلى الله عليه وسلم): (أطلت السماء وحق لها أن تئط). انتهى. وكأن ابن عطية وهذا القائل تخيلا أن هن من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين من يعقل وما لا يعقل من المؤنث المجموع ومن ذلك قوله * (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) * والضمير عائد على الأربعة الحرم، والإشارة بقوله: * (ذالكم) * إلى ربوبيته تعالى ووصفه بالاختراع لهذا العالم و * (من) * للتبعيض أي الذين يشهدون بالربوبية كثيرون، وأنا بعض منهم أي ما قلته أمر مفروغ منه عليه شهود كثيرون فهو مقال مصحح بالشهود. و * (على ذالكم) * متعلق بمحذوف تقديره * (وأنا) * شاهد * (على ذالكم من الشاهدين) * أو على جهة البيان أي أعني * (على ذالكم) * أو باسم الفاعل وإن كان في صلة أل لاتساعهم في الظرف والمجرور أقوال تقدمت في * (إني لكما لمن الناصحين) * وبادرهم أولا بالقول المنبه على دلالة العقل فلم ينتفعوا بالقول، فانتقل إلى القول الدال على الفعل الذي مآله إلى الدلالة التامة على عدم الفائدة في عبارة ما يتسلط عليه بالكسر والتقطيع وهو لا يدفع ولا يضر ولا ينفع ولا يشعر بما ورد عليه من فك أجزائه فقال: * (وتالله لاكيدن أصنامكم) * وقرأ الجمهور * (وتالله) * بالتاء. وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالله بالباء بواحدة من أسفل. قال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين التاء والباء؟ قلت: إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها، وإن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يبده وتأتيه لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصا في زمن نمروذ مع عتوه واستكبار وقوة سلطانه وتهالكه على نصر دينه ولكن.
إذا الله سنى عقد شيء تيسرا
انتهى. أما قوله الباء هي الأصل إنما كانت أصلا لأنها أوسع حروف القسم إذ تدخل على الظاهر، والمضمر ويصرح بفعل القسم معها وتحذف وأما أن التاء بدل من واو القسم الذي أبدل من باء القسم فشئ قاله كثير من النحاة، ولا يقوم على ذلك دليل وقدر هذا القول السهيلي والذي يقتضيه النظر أنه ليس شيء منها أصفلا لآخر. وأما قوله: إن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب فنصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب، ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم.
والكيد الاحتيال في وصول الضرر إلى المكيد، والظاهر أن هذه الجملة خاطب بها أباه
300

وقومه وأنها مندرجة تحت القول من قوله * (قال بل ربكم) *. وقيل: قال ذلك سرا من قومه وسمعه رجل واحد. وقيل: سمعه قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين. وقيل: اثنين وسبعين. وقرأ الجمهور * (تولوا مدبرين) * مضارع ولى. وقرأ عيسى بن عمر * (تولوا) * فحذف إحدى التاءين وهي الثانية على مذهب البصريين. والأولى على مذهب هشام وهو مضارع تولى وهو موافق لقوله * (فتولوا عنه مدبرين) * ومتعلق * (تولوا) * محذوف أي إلى عيدكم. وروي أن آزر خرج به في يوم عيد لهم فبدؤوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم، وقالوا: لن ترجع بركة الآلهة على طعامنا فذهبوا، فلما كان في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال: إني سقيم. وقال الكلبي: كان إبراهيم من أهل بيت ينظرون في النجوم، وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضا فأتاهم إبراهيم بالذي هم فيه فنظر قبل يوم العيد إلى السماء وقال لأصحابه: إني أشتكي غدا وأصبح معصوب الرأس فخرجوا ولم يتخلف أحد غيره، وقال * (وتالله لاكيدن) * إلى آخره وسمعه رجل فحفظه ثم أخبر به فانتشر انتهى.
وفي الكلام حذف تقديره فتولوا إلى عيدهم فأتى إبراهيم الأصنام * (فجعلهم جذاذا) * قال ابن عباس: حطاما. وقال الضحاك: أخذ من كل عضوين عضوا. وقيل: وكانت الأصنام مصطفة وصنم منها عظيم مستقبل الباب من ذهب وفي عينيه درتان مضيئتان فكسرها بفأس إلا ذلك الصنم وعلق الفأس في عنقه، وقيل: علقه في يده. وقرأ الجمهور * (جذاذا) * بضم الجيم والكسائي وابن محيصن وابن مقسم وأبو حيوة وحميد والأعمش في رواية بكسرها، وابن عباس وأبو نهيك وأبو السماك بفتحها وهي لغات أجودها الضم كالحظام والرفات قاله أبو حاتم. وقال اليزيدي * (جذاذا) * بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة. وقيل: بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام. وقيل: الفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود فالمعنى مجذوذين. وقال قطرب في لغاته الثلاث هو مصدر لا يثنى ولا يجمع. وقرأ يحيى بن وثاب جذذا بضمتين جمع جذيذ كجديد وجدد. وقرئ جعذذا بضم الجيم وفتح الذال مخففا من فعل كسر رفي سرر جمع سرير وهي لغة لكلب، أو جمع جذة كقبة وقبب.
وأتى بضمير من يعقل في قوله * (فجعلهم) * إذ كانت تعبد وقوله * (إلا كبيرا لهم) * استثناء من الضمير في * (فجعلهم) * أي فلم يكسر، والضمير في * (لهم) * يحتمل أن يعود على الأصنام وأن يعود على عباده، والكبر هنا عظم الجثة أو كبيرا في المنزلة عندهم لكونهم صاغوه من ذهب وجعلوا في عينيه جوهرتين تضيئان بالليل، والضمير في * (إليه) * عائد على إبراهيم أي فعل ذلك ترجيا منه أن يعقب ذلك رجعه إليه وإلى شرعه. قال الزمخشري: وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكار لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بما أجاب به من قوله * (بل فعله كبيرهم هاذا فاسئلوهم) *. وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود إلى الكبير المتروك ولكن يضعف ذلك دخول الترجي في الكلام انتهى وهو قول الكلبي. قال الزمخشري: ومعنى هذا لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس على عاتقك قال: هذا بناء على ظنه بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالا، وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل فإن قلت: فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم فأي فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضا؟ قلت: إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر وظهر أنهم في عبادته على أمرعظيم.
* (قالوا من فعل هاذا بئالهتنا إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم * قالوا * قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون * قالوا ءأنت فعلت هاذا بئالهتنا يإبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هاذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) *.
في الكلام محذوف تقديره: فلما
301

رجعوا من عيدهم إلى آلهتهم ورأوا ما فعل بها استفهموا على سبيل البحث والإنكار فقالوا: * (من فعل هاذا) * أي التكسير والتحطيم إنه لظالم في اجرتائه على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير * (قالوا) * أي قال الذين سمعوا قوله * (وتالله لاكيدن أصنامكم) * * (يذكرهم) * أي بسوء. قال الفراء: يقول الرجل للرجل لئن ذكرتني لتندمن أي بسوء. قال الزمخشري: فإن قلت: ما حكم الفعلين بعد * (سمعنا فتى) * وأي فرق بينهما؟ قلت: هما صفتان لفتى إلا أن الأول وهو يذكرهم لا بد منه لسمع لأنك لا تقول: سمعت زيدا وتسكت حتى تذكر شيئا مما يسمع، وأما الثاني فليس كذلك انتهى. وأما قوله: هما صفتان فلا يتعين ذلك لما أذكره إما سمع فإما أن يدخل على مسموع أو غيره إن دخلت على مسموع فلا خلاف أنها تتعدى إلى واحد نحو: سمعت كلام زيد ومقالة خالد، وإن دخلت على غير مسموع فاختلف فيها. فقيل: إنها تتعدى إلى اثنين وهو مذهب الفارسي، ويكون الثاني مما يدل على صوت فلا يقال سمعت زيدا بركب، ومذهب غيره أن سمع يتعدى إلى واحد والفعل بعده إن كان معرفة في موضع الحال منها أو نكرة في موضع الصفة، وكلا المذهبين يستدل لهما في علم النحو فعلى هذا المذهب الآخر يتمشى قول الزمخشري أنه صفة لفتى، وأما على مذهب أبي علي فلا يكون إلا في موضع المفعول الثاني لسمع.
وأما * (يقال له إبراهيم) * فيحتمل أن يكون جوابا لسؤال مقدر لما قالوا * (سمعنا فتى يذكرهم) * وأتوا به منكرا قيل: من يقال له فقيل له إبراهيم، وارتفع * (
إبراهيم) * على أنه مقدر بجملة تحكى بقال، إما على النداء أي * (يقال له) * حين يدعى يا * (إبراهيم) * وإما على خبر مبتدأ محذوف أي هو * (إبراهيم) * أو على أنه مفرد مفعول لما لم يسم فاعله، ويكون من الإسناد للفظ لا لمدلوله، أي يطلق عليه هذا اللفظ وهذا الآخر هو اختيار الزمخشري وابن عطية، وهو مختلف في إجازته فذهب الزجاجي والزمخشري وابن خروف وابن مالك إلى تجويز نصب القول للمفرد مما لا يكون مقتطعا من جملة نحو قوله:
إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة
ولا مفردا معناه معنى الجملة نحو قلت: خطبة ولا مصدرا نحو قلت قولا، ولا صفة له نحو: قلت حقا بل لمجرد اللفظ نحو قلت زيدا. ومن النحويين من منع ذلك وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم قال: فلان زيدا ولا قال ضرب ولا قال ليت، وإنما وقع القول في كلام العرب لحكاية الجمل وذهب الأعلم إلى أن * (إبراهيم) * ارتفع بالإهمال لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه، إذ القول لا يؤثر إلا في المفرد المتضمن لمعنى الجملة فبقي مهملا والمهمل إذا ضم إلى غيره ارتفع نحو قولهم: واحد واثنان إذا عدوا ولم يدخلوا عاملا لا في اللفظ ولا في التقدير، وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض، والكلام على مذهب الأعلم وإبطاله مذكور في النحو.
* (قالوا) * أي أحضروه * (به على أعين الناس) * أي معاينا بمرأى منهم فعلى أعين الناس في موضع الحال و * (على) * معناها الاستعلاء المجازي كأنه لتحديقهم إليه وارتفاع أبصارهم لرؤيته مستعل على أبصارهم * (لعلهم يشهدون) * عليه بما سمع منه أو بما صدر منه من تكسير أصنامهم أو يشهدون ما يحل به من عذابنا أو غلبنا له المؤدي إلى عذابه. وقيل: * (الناس) * هنا خواص الملك وأولياؤه وفي الكلام حذف تقديره * (فأتوا به) * على تلك الحالة من نظر الناس إليه.
* (قالوا ءأنت فعلت هاذا) * أي الكسر والتهشيم * (بئالهتنا) * وارتفاع * (أنت) * المختار أنه بفعل محذوف يفسره * (فعلت) * ولما حذف انفصل الضمير، ويجوز أن يكون مبتدأ وإذا تقدم الاسم في نحو هذا التركيب على الفعل كان الفعل صادرا واستفهم عن فاعله وهو المشكوك فيه، وإذا تقدم الفعل كان الفعل مشكوكا فيه فاستفهم عنه أوقع أو لم يقع، والظاهر أن * (بل) * للإضراب عن جملة محذوفة أي قال لم أفعله إنما
302

الفاعل حقيقة هو الله * (بل فعله كبيرهم) * وأسند الفعل إلى * (كبيرهم) * على جهة المجاز لما كان سببا في كسر هذه الأصنام هو تعظيمهم وعبادتهم له ولما دونه من الأصنام كان ذلك حاملا على تحطيمها وكسرها فأسند الفعل إلى الكبير إذ كان تعظيمهم له أكثر من تعظيمهم ما دونه، وقال قريبا من هذا الزمخشري. ويحتمل أن يكون فعل الكبير متقيدا بالشرط فيكون قد علق على ممتنع أي فلم يكن وقع أي إن كان هؤلاء الأصنام * (ينطقون) * ويخبرون من الذي صنع بهم ذلك فالكبير هو الذي صنع ذلك وأشار إلى نحو من هذا ابن قتيبة.
وقال الزمخشري: هذا من تعاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني، والقول فيه إن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما قال لك صاحبك وقد كتبت إليه كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط أو لا يقدر إلا على خرمشة فاسدة؟ فقلت له: بل كتبته أنت كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك ولا إثباته للأمي أو المخرمش لأن إثباته والأمر دائر بينكما للعاجز منكما استهزاء وإثبات للقادر، ويجوز أن يكون حكاية لما يعود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إلها أن يقدر على هذا وأشد منه.
ويحكى أنه قال * (فعله كبيرهم) * هذا غضب أن يعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها انتهى. ومن جعل الفاعل بفعله ضميرا يعود على قوله فتى أو على إبراهيم أو قال آخر بغير المطابق لمصلحة دينية، واستدل بما روي في الحديث أو وقف على * (بل فعله) * أي فعله من فعله وجعل * (كبيرهم هاذا) * مبتدأ وخبرا وهو الكسائي أو أصله * (* فعلة) * بمعنى لعله وخفف اللام وهو الفراء مستدلا بقراءة ابن السميفع * (بل فعله) * بمعنى لعله مشدد اللام فهم بعداء عن طريق الفصاحة * (فرجعوا إلى أنفسهم) * أي إلى عقولهم حين ظهر لهم ما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أن الأصنام التي أهلوها للعبادة ينبغي أن تسأل وتستفسر قبل، ويحتمل أن يكون * (فرجعوا) * أي رجع بعضهم إلى بعض * (فقالوا إنكم أنتم الظالمون) * في سؤالكم إبراهيم حين سألتموه ولم تسألوها ذكره ابن جرير، أو حين عبدتم ما لا ينطق قاله ابن عباس، أو حين لم تحفظوا آلهتكم قاله وهب، أو في عبادة الأصاغر مع هذا الكبير قاله وهب أيضا أو حين أبهتهم إبراهيم والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل وابن إسحاق أو * (الظالمون) * حقيقة حيث نسيتم إبراهيم إلى الظلم في قولكم * (إنه على * الظالمين) * إذ هذه الأصنام مستحقة لما فعل بها.
* (ثم نكسوا على * رؤوسهم) * أي ارتكبوا في ضلالهم وعلموا أن الأصنام لا تنطق فساءهم ذلك حين نبه على قيام الحجة عليهم وهي استعارة للذي يرتطم في غيه كأنه منكوس على رأسه وهي أقبح هيئة للإنسان، فكان عقله منكوس أي مقلوب لانقلاب شكله، وجعل أعلاه أسفله فرجوعهم إلى أنفسهم كناية عن استقامة فكرهم ونكسهم كناية عن مجادلتهم ومكابرتهم. ويحتمل أن يكون * (نكسوا على * رؤوسهم) * كناية عن تطأطىء رؤوسهم وتنكيسها إلى الأرض على سبيل الخجل والانكسار مما بهتهم به إبراهيم من قول الحق ودمغهم به فلم يطيقوا جوابا.
* (ولقد علمت) * جواب قسم محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال أي قائلين * (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) * فكيف تقول لنا * (فاسئلوهم) * إنما قصدت بذلك توبيخا ويحتمل أن يكون النكس للفكرة فيما يجيبون به. وقال مجاهد * (نكسوا على * رؤوسهم) * أي ردت السفلة على الرؤساء و * (علمت) * هنا معلقة، والجملة المنفية في موضع مفعولي علمت إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن الجارود والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف * (نكسوا) * وقرأ رضوان بن المعبود * (نكسوا) * بتخفيف الكاف مبنيا للفاعل أي نكسوا أنفسهم.
ولما ظهرت الحجة عليهم أخذ يقرعهم ويوبخهم بعباده تماثيل ما لا ينفع ولا يضر، ثم
303

أبدى لهم التضجر منهم ومن معبوداتهم وتقدم الخلاف في قراءة * (أف) * واللغات فيها واللام في * (لكم) * لبيان المتأفف به أي لكم ولآلهتكم، هذا التأفف ثم نبههم على ما به يدرك حقائق الأشياء وهو العقل فقال: * (أفلا تعقلون) * أي قبح ما أنتم عليه وهو استفهام توبيخ وإنكار.
* (قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا ياذا * نار * كونى بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين * ونجيناه ولوطا إلى الارض التى باركنا فيها للعالمين * ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلواة وإيتاء الزكواة وكانوا لنا عابدين * ولوطا اتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه فى رحمتنا إنه من الصالحين * ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا بئاياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين * وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون * ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الارض التى باركنا فيها وكنا بكل شىء عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذالك وكنا لهم حافظين) *.
ولما نبههم على قبيح مرتكبهم وغلبهم بإقامة الحجة عليهم لاذوا بالإيذاء له والغضب لآلهتهم واختاروا أشد العذاب وهو الإحراق بالنار التي هي سبب للإعدام المحض والإتلاف بالكلية وكذا كل من أقيمت عليه الحجة وكانت له قدرة يعدل إلى المناصبة والإذابة كما كانت قريش تفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) حين دمغهم بالحجة وعجزوا عن معارضة ما آتاهم به عدلوا إلى الانتقام وإيثار الاغتيال، فعصمه الله والظاهر أن قول * (قالوا حرقوه) * أي قال بعضهم لبعض. وقيل: أشار بإحراقه نمروذ. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: رجل من أعراب العجم. قال الزمخشري: يريد الأكراد. وقال ابن عطية: روي أنه رجل من الأكراد من أعراب فارس أي باديتها فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وذكروا لهذا القائل اسما مختلفا فيه لا يوقف منه على حقيقة لكونه ليس مضبوطا بالشكل والنقط، وهكذا تقع أسماء كثيرة أعجمية في التفاسير لا يمكن الوقوف منها على حقيقة لفظ لعدم الشكل والنقط فينبغي اطراح نقسها.
وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثي واختلفوا في عدة حبسه وفي عرض الحظيرة وطولها، ومدة جمع الحطب، ومدة الإيقاد، ومدة سنه إذ ذاك، ومدة إقامته في النار وكيفية ما صارت أماكن النار اختلافا متعارضا تركنا ذكره واتخذوا منجنيقا. قيل: بتعليم إبليس إذ كان لم يصنع قبل فشد إبراهيم رباطا ووضع في كفة المنجنيق ورمى به فوقع في النار. وروي أن جبريل عليه السلام جاءه وهو في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وذكر المفسرون أشياء صدرت من الورغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط الله أعلم بذلك. وعن ابن عباس: إنما نجا بقوله حسبي الله ونعم الوكيل. قيل: وأطل نمروذ من الصرح فإذا إبراهيم في روضة ومعه جليس له من الملائكة فقال إني مقرب إلى آلهك فذبح أربعة آلاف بقرة. وكف عن إبراهيم، وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ست عشرة سنة، وقد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه ألقي في النار فجعلها الله عليه * (بردا وسلاما) * وخرج منها سالما فكانت أعظم آية والظاهر أن القائل * (قلنا ياذا * نار) * هو الله تعالى. وقيل: جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. وعن ابن عباس: لو لم يقل: * (وسلاما) * لهلك إبراهيم من البرد، ولو لم يقل على إبراهيم لما أحرقت نار بعدها ولا اتقدت انتهى. ومعنى * (وسلاما) * سلامة، وأبعد من ذهب إلى أنها هنا تحية من الله ولو كانت تحية لكان الرفع أولى بها من
304

النصب. والمعنى ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كان ذاتها برد وسلام، ولما كانت النار تنفعل لما أراده الله منها كما ينفعل من يعقل عبر عن ذلك بالقول لها والنداء والأمر.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف بردت النار وهي نار؟ قلت: نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال، كما كانت والله على كل شيء قدير، ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم أدنى حرها ويذيقه فيها عكس ذلك كما يفعل بخزنة جهنم، ويدل عليه قوله * (على إبراهيم) * انتهى.
وروي أنهم قالوا هي نار مسجورة لا تحرق فرموا فيها شيخا منهم فاحترق وأرادوا به كيدا. قيل: هو إلقاؤه في النار * (فجعلناهم الاخسرين) * أي المبالغين في الخسران وهو إبطال ما راموه جادلوا إبراهيم فجدلهم وبكتهم وأظهر لهم وأقر عقولهم، وتقووا عليه بالأخذ والإلقاء فخلصه الله. وقيل: سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم، وسلط الله على نمروذ بعوضة واختلف في كيفية إذايتها له وفي مدة إقامتها تؤذيه إلى أن مات منها.
والضمير في * (ونجيناه) * عائدا على إبراهيم وضمن معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض ولذلك تعدى * (نجيناه) * بإلى ويحتمل أن يكون * (إلى) * متعلقا بمحذوف أي منتهيا * (إلى الارض) * فيكون في موضع الحال، ولا تضمين في * (ونجينا) * على هذا و * (الارض) * التي خرجا منها هي كوثى من أرض العراق، والأرض التي صار إليها هي أرض الشام وبركتها ما فيها من الخصب والأشجار والأنهار وبعث أكثر الأنبياء منها. وقيل: مكة قاله ابن عباس، كما قال * (إن أول بيت) * الآية. وقيل أرض مصر وبركتها نيلها وزكاة زروعها وعمارة مواضعها.
وروي أن إبراهيم خرج مهاجرا إلى ربه ومعه لوط وكان ابن أخيه، فآمنت به سارة وهي ابنة عمه فأخرجها معه فارا بدينه، وفي هذه الخرجة لقي الجبار الذي رام أخذها منه فنزل حران ومكث زمانا بها. وقيل: سارة ابنة ملك حران تزوجها إبراهيم وشرط عليه أبوها أن لا يغيرها، والصحيح أنها ابنة عمه هاران الأكبر، ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب فبعثه الله نبيا. والنافلة العطية قاله مجاهد
وعطاء أو الزيادة كالمتطوع به إذا كان إسحاق ثمرة دعائه رب هب لي من الصاحين، وكان * (يعقوب) * زيادة من غير دعاء. وقيل: النافلة ولد الولد فعلى الأول يكون مصدرا كالعاقبة والعافية وهو من غير لفظ * (وهبنا) * بل من معناه، وعلى الآخرين يراد به * (يعقوب) * فينتصب على الحال، و * (كلا) * يشمل من ذكر إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب.
* (يهدون بأمرنا) * يرشدون الناس إلى الدين. و * (أئمة) * قدوة لغيرهم.
* (وأوحينا إليهم) * أي خصصناهم بشرف النبوة لأن الإيحاء هو التنبئة. قال الزمخشري: * (فعل الخيرات) * أصله أن يفعل * (فعل الخيرات) * ثم فعلا الخيرات وكذلك * (صالحين وجعلناهم أئمة يهدون) * انتهى. وكان الزمخشري لما رأى أن * (فعل الخيرات وإقام الصلواة وإيتاء الزكواة) * ليس من الأحكام المختصة بالموحي إليهم بل هم وغيرهم في ذلك مشتركون، بنى الفعل للمفعول حتى لا يكون المصدر مضافا من حيث المعنى إلى ضمير الموحى، فلا يكون التقدير فعلهم الخيرات وإقامهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة، ولا يلزم ذلك إذ الفاعل مع الصمدر محذوف، ويجوز أن يكون مضافا من حيث المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم، أي فعل المكلفين الخيرات، ويجوز أن يكون ذلك مضافا إلى الموحى إليهم أي أن يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وإذا كانوا قد أوحي إليهم ذلك فأتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به ثم اعتقاد بناء المصدر للمفعول الذي لم يسم فاعله مختلف فيه أجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه، فليس ما اختاره الزمخشري مختارا.
وقال ابن عطية: والإقام مصدر وفي هذا نظر انتهى. وأي نظر في هذا وقد
305

نص سيبويه على أنه مصدر بمعنى الإقامة، وإن كان الأكثر الإقامة بالتاء وهو المقيس في مصدر أفعل إذا اعتلت عينه وحسن ذلك هنا أنه قابل * (وإيتاء) * وهو بغير تاء فتقع الموازنة بين قوله * (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) * وقال الزجاج: فحذفت الهاء من إقامة لأن الإضافة عوض عنها انتهى. وهذا قول الفراء زعم أن تاء التأنيث قد تحذف للإضافة وهو مذهب مرجوح.
ولما ذكر تعالى ما أنعم على إبراهيم ما أنعم به على من هاجر معه فارا بدينه وهو لوط ابن أخيه وانتصب * (ولوطا) * على الاشتغال والحكم الذي أوتيه النبوة. وقيل: حسن الفصل بين الخصوم في القضاء. وقيل: حفظ صحف إبراهيم، ولما ذكر الحكم ذكر ما يكون به وهو العلم و * (القرية) * سدوم وكانت قراهم سبعا وعبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة، وكانت من كورة فلسطين إلى حد السراة إلى حد نجد بالحجاز، قلب منها تعالى ستا وأبقى منها زغر لأنها كانت محل لوط وأهله ومن آمن به أي * (ونجيناه من) * أهل * (القرية) * أي خلصناه منهم أو من العذاب الذي حل بهم، ونسب عمل * (الخبائث) * إلى القرية مجازا وهو لأهلها وانتصب * (الخبائث) * على معنى * (تعمل) * لأعمال أو الفعلات الخبيثة وهي ما ذكره تعالى في غير هذه السورة مضافا إلى كفرهم بالله وتكذيبهم نبيه، وقوله * (أنهم) * يدل على أن التقدير من أهل القرية * (وأدخلناه فى رحمتنا) * أي في أهل رحمتنا أو في الجنة، سماها رحمة إذ كانت أثر الرحمة.
ولما ذكر تعالى قصة إبراهيم وهو أبو العرب وتنجيته من أعدائه ذكر قصة أبي العالم الإنسي كلهم وهو الأب الثاني لآدم لأنه ليس أحد من نسله من سام وحام ويافث، وانتصب * (نوحا) * على إضمار اذكر أي واذكر * (نوحا) * أي قصته * (إذ نادى) * ومعنى نادى دعا مجملا بقوله * (أنى مغلوب) * فانتصر مفصلا بقوله * (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) * والكرب أقصى الغم والأخذ بالنفس، وهو هنا الغرق عبر عنه بأول أحوال ما يأخذ الغريق، وغرقت في بحر النيل ووصلت إلى قرار الأرض ولحقني من الغم والكرب ما أدركت أن نفسي صارت أصغر من البعوضة، وهو أول أحوال مجيء الموت.
* (ونصرناه من القوم) * عداه بمن لتضمنه معنى * (نجيناه) * بنصرنا * (من القوم) * أو عصمناه ومنعناه أي من مكروه القوم لقوله * (أفمن * ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) *. وقال الزمخشري: هو نصر الذي مطاوعه انتصر، وسمعت هذليا يدعو على سارق: اللهم انصرهم منه أي اجعلهم منتصرين منه، وهذا معنى في نصر غير المتبادر إلى الذهن. وقال أبو عبيدة * (من) * بمعنى على أي * (ونصرناه) * على * (القوم) * * (فأغرقناهم) * أي أهلكناهم بالغرق. و * (أجمعين) * تأكيد للضمير المنصوب وقد كثر التوكيد بأجمعين غير تابع لكلهم في القرآن، فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعمه أن التأكيد بأجمعين قليل، وأن الكثير استعماله تابعا لكلهم.
* (وداوود وسليمان) * عطف على * (ونوحا) *. قال الزمخشري: * (وإذا) * بدل منهما انتهى. والأجود أن يكون التقدير واذكر * (داوود * وسليمان) * أي قصتهما وحالهما * (إذ يحكمان) * وجعل ابن عطية * (وداوود وسليمان) * معطوفين على قوله * (ونوحا) * معطوفا على قوله * (ولوطا) * فيكون ذلك مشتركا في العامل الذي هو * (ءاتينا) * المقدرة الناصبة للوط المفسرة بآتينا فالتقدير وآتينا نوحا وداود وسليمان أي آتيناهم * (حكما وعلما) * ولا يبعد ذلك وتقدير اذكر قاله جماعة. وكان داود ملكا نبيا يحكم بين الناس فوقعت هذه النازلة، وكان ابنه إذ ذاك قد كبر وكان يجلس على الباب الذي
306

يخرج منه الخصوم وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر، فتخاصم إليه رجل له زرع وقيل كرم و * (الحرث) * يقال فيهما وهو في الزرع أكثر، وأبعد عن الاستعارة دخلت حرثه غنم رجل فأفسدت عليه، فرأى داود دفعها إلى صاحب الحرث فعلى أنه كرم رأى أن الغنم تقاوم وما أفسدت من الغلة وعلى أنه زرع رأى أنها تقاوم الحرث والغلة فخرجا على سليمان فشكى صاحب الغنم فجاء سليمان فقال: يا نبي الله إني أرى ما هو أرفق بالجميع، أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل، فإذا عاد الحرث إلى حاله صرف كل مال صاحبه إليه فرجعت الغنم إلى ربها والحرث إلى ربه فقال داود: وفقت يا بني وقضى بينهما بذلك. والظاهر أن كلا من داود وسليمان حكم بما ظهر له وهو متوجه عنده فحكمهما
باجتهاد وهو قول الجمهور، واستدل بهذه الآية على جواز الاجتهاد.
وقيل: حكم كل واحد منهما بوحي من الله ونسخ حكم داود بحكم سليمان، وأن معنى * (ففهمناها سليمان) * أي فهمناه القضاء الفاصل الناسخ الذي أراد الله أن يستقر في النازلة. وقرأ عكرمة فأفهمناها عدي بالهمزة كما عدي في قراءة الجمهور بالتضعيف والضمير في * (ففهمناها) * للحكومة أو الفتوى، والضمير في * (لحكمهم) * عائد على الحاكمين والمحكوم لهما وعليهما، وليس المصدر هنا مضافا لا إلى فاعل ولا مفعول، ولا هو عامل في التقدير فلا ينجل بحرف مصدري. والفعل به هو مثل له ذكاء ذكاء الحكماء وذهن ذهن الأذكياء وكان المعنى وكنا للحكم الذي صدر في هذه القضية * (شاهدين) * فالمصدر هنا لا يراد به العلاج بل يراد به وجود الحقيقة. وقرأ * (* لحكمهما) * ابن عباس فالضمير لداود وسليمان. ومعنى * (لحكمهم شاهدين) * لا يخفى علينا منه شيء ولا يغيب قال الزمخشري (وان قلت) ما وجه كل واحدة من الحكومتين (قلت) أم وجه حكومة داود فلأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك أو يفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث، ووجه حكومة سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان.
فإن قلت: فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه لا يرون فيه ضمانا بالليل والنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد، والشافعي يوجب الضمان انتهى.
والظاهر أن كلا من الحكمين صواب لقولهه * (وكلا ءاتينا حكما وعلما) *. والظاهر أن * (يسبحن) * جملة حالية من * (الجبال) * أي مسبحات. وقيل: استئناف كأن قائلا قال: كيف سخرهن؟ فقال: * (يسبحن) * قيل: كان يمر بالجبال مسبحا وهي تجاوبه. وقيل: كانت تسير معه حيث سار، والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق خلق الله فيها الكلام كما سبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) وسمع الناس ذلك، وكان داود وحده يسمعه قاله يحيى بن سلام. وقيل: كل واحد. قال قتادة: * (يسبحن) * يصلين. وقيل: يسرن من السباحة. وقال الزمخشري: كما خلقه يعني الكلام في الشجرة حين كلم موسى انتهى. وهو قول المعتزلة ينفون صفة الكلام حقيقة عن الله تعالى. وقيل: إسناد التسبيح إليهن مجاز لما كانت تسير بتسيير الله حملت من رآها على التسبيح فأسند إليها، والأكثرون على تسبيحهن هو قول سبحان الله. وانتصب * (والطير) * عطفا على * (الجبال) * ولا يلزم من العطف دخوله في قيد التسبيح. وقيل: هو مفعول معه أي يسبحن مع الطير. وقرئ * (والطير) * مرفوعا على الابتداء والخبر محذوف أي مسخر لدلالة سخرنا عليه، أو على الضمير المرفوع في * (يسبحن) * على مذهب الكوفيين وهو توجيه قراءة شاذة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم
307

قدمت * (الجبال) * على * (الطير) *؟ قلت: لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق انتهى. وقوله: ناطق إن عنى به أنه ذو نفس ناطقة كما يقولون في حد الإنسان أنه حيوان ناطق فيلزم أن يكون الطير إنسانا، وإن عنى أنه متكلم كما يتكلم الإنسان فليس بصحيح وإنما عنى به مصوت أي له صوت، ووصف الطير بالنطق مجاز لأنها في الحقيقة لا نطق لها.
وقوله * (وكنا فاعلين) * أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهن والطير لمن نخصه بكرامتنا * (وعلمناه صنعة لبوس لكم) * اللبوس الملبوس فعول بمعنى مفعول كالركوب بمعنى المركوب، وهو الدرع هنا. واللبوس ما يلبس. قال الشاعر:
* عليها أسود ضاريات لبوسهم
*
سوابغ بيض لا يخرقها النبل
*
قال قتادة: كانت صفائح فأول من سردها وحلقها داوود فجمعت الخفة والتحصين. وقيل: اللبوس كل آلة السلاح من سيف ورمح ودرع وبيضة وما يجري مجرى ذلك، وداود أول من صنع الدروع التي تسمى الزرد. قيل: نزل ملكان من السماء فمرا بداود فقال أحدهما للآخر: نعم الرجل إلا أنه يأكل من بيت المال، فسأل الله أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدروع امتن تعالى عليه بإيتائه حكما وعلما وتسخير الجبال والطير معه وتعليم صنعة اللبوس، وفي ذلك فضل هذه الصنعة إذ أسند تعليمها إياه إليه تعالى.
ثم امتن علينا بها بقوله * (لتحصنكم من بأسكم) * أي ليكون وقاية لكم في حربكم وسبب نجاة من عدوكم. وقرئ * (لبوس) * بضم اللام والجمهور بفتحها. وقرأ الجمهور: ليحصنكم بياء الغيبة أي الله فيكون التفاتا إذ جاء بعد ضمير متكلم في * (وعلمناه) * ويدل عليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالنون وهي قراءة أبي حنيفة ومسعود بن صالح ورويس والجعفي وهارون ويونس والمنقر كلهم عن أبي عمرو ليحصنكم داود، واللبوس قيل أو التعليم. وقرأ ابن عامر وحفص والحسن وسلام وأبو جعفر وشيبه وزيد بن علي بالتاء أي * (لتحصنكم) * الصنعة أو اللبوس على معنى الدرع ودرع الحديد مؤنثة وكل هذه القراءات الثلاث بإسكان الحاء والتخفيف. وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء من تحت وفتح الحاء وتشديد الصاد، وابن وثاب والأعمش بالتاء من فوق والتشديد واللام في * (لكم) * يجوز أن تكون للتعليل فتتعلق بعلمناه، أي لأجلكم وتكون * (لتحصنكم) * في موضع بدل أعيد معه لام الجر إذ الفعل منصوب بإضمار إن فتتقدر بمصدر أي * (لكم)
* لإحصانكم * (من بأسكم) * ويجوز أن تكون * (لكم) * صفة للبوس فتتعلق بمحذوف أي كائن لكم، واحتمل أن يكون ليحصنكم تعليلا للتعليم فيتعلق بعلمناه، وأن يكون تعليلا للكون المحذوف المتعلق به * (لكم) * * (فهل أنتم شاكرون) * استفهام يتضمن الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم كقوله * (فهل أنتم منتهون) * أي انتهوا عما حرم الله.
ولما ذكر تعالى ما خص به نبيه داود عليه السلام ذكر ما خص به ابنه سليمان عليه السلام، فقال * (ولسليمان الريح) * وجاء التركيب هنا حين ذكر تسخير الريح لسليمان باللام، وحين ذكر تسخير الجبال جاء بلفظ مع فقال * (وسخرنا مع * داوود * الجبال) * وكذا جاء * (فضلا ياجبال أوبى معه) * وقال فسخرنا له الريح تجري بأمره، وذلك أنه لما اشتركا في التسبيح ناسب ذكر مع الدالة على الاصطحاب، ولما كانت الريح مستخدمة لسليمان أضيفت إليه بلام التمليك لأنها في طاعته وتحت أمره. وقرأ الجمهور * (الريح) * مفردا بالنصب. وقرأ ابن هرمز وأبو بكر في رواية بالرفع مفردا. وقرأ الحسن وأبو رجاء الرياح بالجمع والنصب. وقرأ بالجمع والرفع أبو حيوة فالنصب على إضمار سخرنا، والرفع على الابتداء و * (عاصفة) * حال العامل فيها سخرنا في قراءة من نصب * (الريح) * وما يتعلق به الجار في قراءة من رفع ويقال: عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة، ولغة أسد أعصفت فهي
308

معصف ومعصفة، ووصفت هذه الريح بالعصف وبالرخاء والعصف الشدة في السير والرخاء اللين. فقيل: كان ذلك بالنسبة إلى الوقت الذي يريد فيه سليمان أحد الوصفين فلم يتحد الزمان. وقيل: الجمع بين الوصفين كونها رخاء في نفسها طيبة كالنسيم عاصفة في عملها تبعد في مدة يسيرة كما قال تعالى * (غدوها شهر ورواحها شهر) *. وقيل: الرخاء في البداءة والعصف بعد ذلك في التقول على عادة البشر في الإسراع إلى الوطن، وهذا القول راجع إلى اختلاف الزمان وجريها بأمره طاعتها له على حسب ما يريد، ويأمر.
و * (الارض) * أرض الشام وكانت مسكنه ومقر ملكه. وقيل: أرض فلسطين. وقيل: بيت المقدس. قال الكلبي كان يركب عليها من إصطخر إلى الشام. قيل: ويحتمل أن تكون * (الارض) * التي يسير إليها سليمان كائنة ما كانت ووصفت بالبركة لأنه هذا حل أرضا أصلحها بقتل كفارها وإثبات الإيمان فيها وبث العدل، ولا بركة أعظم من هذا. والظاهر: أن * (التى باركنا) * صفة للأرض. وقال منذر بن سعيد: الكلام تام عند قوله * (إلى الارض) * و * (التى باركنا فيها) * صفة للربح ففي الآية تقديم وتأخير، يعني إن أصل التركيب ولسليمان الريح * (التى باركنا فيها) * عاصفة تجري بأمره * (إلى الارض) *. وعن وهب: كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره، وكان لا يقعد عن الغزو فيأمر بخشب فيمد والناس عليه والدواب وآلة الحرب، ثم يأمر العاصف فيقله ثم يأمر الرخاء فتمر به شهرا في رواحة وشهرا في غدوه وعن مقاتل: نسجت له الشياطين بساطا ذهبا في إبريسم فرسخا في فرسخ، ووضعت له في وسطه منبرا من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء، وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء، وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين، والطير تظله من الشمس، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح، وقد أكثر الأخباريون في ملك سليمان ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما قصه الله في كتابه وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ولما كانت هذه الاختصاصات في غاية الغرابة من المعهود، أخبر تعالى أن علمه محيط بالأشياء يجريها على ما سبق به علمه، ولما ذكر تعالى تسخير الريح له وهي جسم شفاف لا يعقل وهي لا تدرك بالبصر ذكر تسخير الشياطين له، وهم أجسام لطيفة تعقل والجامع بينهما أيضا سرعة الانتقال ألا ترى إلى قوله * (قال عفريت من الجن أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك) * * (ومن) * في موضع نصب أي وسخرنا * (من * الشياطين من يغوصون) * أو في موضع رفع على الابتداء، والخبر في الجار والمجرور قبله. والظاهر أن * (من) * موصولة. وقال أبو البقاء: هي نكرة موصوفة، وجمع الضمير في * (يغوصون) * حملا على معنى * (من) * وحسن ذلك تقدم جمع قبله كما قال الشاعر:
* وإن من النسوان من هي روضة
*
يهيج الرياض قبلها وتصوح
*
لما تقدم لفظ النسوان حمل على معنى من فأنث، ولم يقل من هو روضة والمعنى * (يغوصون) * له في البحار لاستخراج اللآلىء، ودل الغوص على المغاص فيه وعلى ما يغاص لاستخراجه وهو الجوهر، فلذلك لم يذكر أو قال له أي لسليمان لأن الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره، فذكر أن الغوص ليس لأنفسهم إنما هو لأجل سليمان وامتثالهم أمره والإشارة بذلك إلى الغوص أي دون الغوص من بناء المدائن والقصور كما قال * (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل) * الآية. وقيل: الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من استخراجهم.
* (وكنا لهم حافظين) * أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يغيروا أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه. وقيل
309

* (حافظين) * أن يهيجوا أحدا في زمان سليمان. وقيل * (حافظين) * حتى لا يهربوا. قيل: سخر في أمر لا يحتاج إلى حفظ لأنه لا يفسد ما عمل، وتسخير أكثف الأجسام لداود وهو الحجر إذ أنطقه بالتسبيح والحديد إذ جعل في أصابعه قوة النار حتى لان له الحديد، وعمل منه الزرد، وتسخير ألطف الأجسام لسليمان وهو الريح والشياطين وهم من نار. وكانوا يغوصون في المائ والماء يطفئ النار فلا يضرهم، دليل واضح على باهر قدرته وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم
الرميم، وجعل التراب اليابس حيوانا فإذا أخبر به الصادق وجب قبوله واعتقاد وجوده انتهى.
* (وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وءاتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين * وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين * وأدخلناهم فى رحمتنا إنهم من الصالحين * وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا إلاه إلا أنت سبحانك) *.
طول الأخباريون في قصة أيوب، وكان أيوب روميا من ولد إسحاق بن يعقوب، استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله، وكان له سبع بنين وسبع بنات، وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ونخيل، فابتلاه الله بذهاب ولده انهدم عليهم البيت فهلكوا وبذهاب ماله وبالمرض في بدنه ثمان عشرة سنة. وقيل دون ذلك فقالت له امرأته يوما لو دعوت الله فقال لها: كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة، فقال: أنا أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي، فلما كشف الله عنه أحياء ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم. وروي أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابنا وذكروا كيفية في ذهاب ماله وأهله وتسليط إبليس عليه في ذلك الله أعلم بصحتها.
وقرأ الجمهور * (إنى) * بفتح الهمزة وعيسى بن عمر بكسرها إما على إضمار القول أي قائلا * (إنى) * وإما على إجراء * (نادى) * مجرى قال وكسر إني بعدها وهذا الثاني مذهب الكوفيين، والأول مذهب البصريين و * (الضر) * بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال فرق بين البناءين لافتراق المعنيين، وقد ألطف أيوب في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب ولم يعين الضر الذي مسه.
واختلف المفسرون في ذلك على سبعة عشر قولا أمثلها أنه نهض ليصلي فلم يقدر على النهوض، فقال * (مسنى الضر) * إخبارا عن حالة لا شكوى لبلائه رواه أنس مرفوعا، والألف واللام في * (الضر) * للجنس تعم * (الضر) * في البدن والأهل والمال. وإيتاء أهله ظاهره أن ما كان له من أهل رده عليه وأحياهم له بأعيانهم، وآتاه مثل أهله مع أهله من الأولاد والأتباع، وذكر أنه جعل له مثلهم عدة في الآخرة. وانتصب * (رحمة) * على أنه مفعول من أجله أي لرحمتا إياه * (وذكرى) * منا بالإحسان لمن عندنا أو * (رحمة) * منا لأيوب * (وذكرى) * أي موعظة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب.
وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد: كان ذو الكفل عبدا صالحا ولم يكن نبيا. وقال الأكثرون: هو نبي فقيل: هو إلياس. وقيل: زكريا. وقيل: يوشع، والكفل لنصيب والحظ أي ذو الحظ من الله المحدود على الحقيقة. وقيل: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقيل: في تسميته ذا الكفل أقوال مضطربة لا تصح. وانتصب * (مغاضبا) * على الحال. فقيل: معناه غضبان وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكا، نحو: عاقبت اللص وسافرت. وقيل * (مغاضبا) * لقومه أغضبهم بمفارقته وتخوفهم حلول العذاب، وأغضبوه حين دعاهم إلى الله مدة فلم يجيبوه فأوعدهم بالعذاب، ثم خرج من بينهم على عادة الأنبياء عند نزول العذاب قبل أن يأذن الله له في الخروج. وقيل * (مغاضبا) * للملك حزقيا حين عينه لغزو ملك كان قد عاب في بني إسرائيل فقال له يونس: آلله أمرك بإخراجي؟ قال:
310

لا، قال فهل سماني لك؟ قال: لا، قال ههنا غيري من الأنبياء، فألح عليه فخرج * (مغاضبا) * للملك. وقول من قال * (مغاضبا) * لربه وحكى في المغاضبة لربه كيفيات يجب اطراحه إذ لا يناسب شيء منها منصب النبوة، وينبغي أن يتأول لمن قال ذلك من العلماء كالحسن والشعبي وابن جبير وغيرهم من التابعين، وابن مسعود من الصحابة بأن يكون معنى قولهم * (مغاضبا) * لربه أي لأجل ربه ودينه، واللام لام العلة لا اللام الموصلة للمفعول به. وقرأ أبو شرف مغضبا اسم مفعول.
* (فظن أن لن نقدر عليه) * أي نضيق عليه من القدر لا من القدرة، وقيل: من القدرة بمعنى * (أن لن نقدر عليه) * الابتلاء. وقرأ الجمهور * (نقدر) * بنون العظمة مخففا. وقرأ ابن أبي ليلى وأبو شرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب بضم الياء وفتح الدال مخففا، وعيسى والحسن بالياء مفتوحة وكسر الدال، وعلي بن أبي طالب واليماني بضم الياء وفتح القاف والدال مشددة، والزهري بالنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال مشددة.
* (فنادى فى الظلمات) * في الكلام جمل محذوفة قد أوضحت في سورة والصافات، وهناك نذكر قصته إن شاء الله تعالى وجمع * (الظلمات) * لشدة تكاثفها فكأنها ظلمة مع ظلمة. وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت آخر فصار في ظلمتي بطني الحوتين وظلمة البحر. وروي أن يونس سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر، و * (ءان) * في * (أن لا إلاه إلا أنت) * تفسيرية لأنه سبق * (فنادى) * وهو في معنى القول، ويجوز أن يكون التقدير بأنه فتكون مخففة من الثقيلة حصر الألوهية فيه تعالى ثم نزهه عن سمات النقص ثم أقر بما بعد ذلك.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم): (ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له). و * (الغم) * ما كان ناله حين التقمه الحوت ومدة بقائه في بطنه. وقرأ الجمهور: * (ننجى) * مضارع أنجى، والجحدري مشددا مضارع نجى. وقرأ ابن عامر وأبو بكر نجى بنون مضمومة وجيم مشددة وياء ساكنة، وكذلك هي في مصحف الإمام ومصاحف الأمصار بنون واحدة، واختارها أبو عبيد لموافقة المصاحف فقال الزجاج والفارسي هي لحن. وقيل: هي مضارع أدغمت النون في الجيم ورد بأنه لا يجوز إدغام النون في الجيم التي هي فاء الفعل لاجتماع المثلين كما حذفت في قراءة من قرأ ونزل الملائكة يريد وننزل الملائكة، وعلى هذا أخرجها أبو الفتح. وقيل: هي فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله وسكنت الياء كما سكنها من قرأ وذر وإما بقي من الربا والمقام مقام الفاعل ضمير المصدر أي نجى، هو أي النجاء المؤمنين كقراءة أبي جعفر * (ليجزى قوما) * أي وليجزي هو أي الجزاء، وقد أجاز إقامة غير المفعول من مصدر أو ظرف مكان أو ظرف زمان أو مجرور الأخفش والكوفيون وأبو عبيد، وذلك مع وجود المفعول به وجاء السماع في إقامة المجرور مع وجود المفعول به نحو قوله:
* أتيح لي من العدا نذيرا
*
به وقيت الشر مستطيرا
*
وقال الأخفش: في المسائل ضرب الضرب الشديد زيدا، وضرب اليومان زيدا، وضرب مكانك زيدا وأعطى إعطاء حسن أخاك درهما مضروبا عبده زيدا. وقيل: ضمير المصدر أقيم مقام الفاعل و * (المؤمنين) * منصوب بإضمار فعل أي * (وكذالك) * هو أي النجاء * (وكذالك ننجى المؤمنين) * والمشهور عند البصريين أنه متى وجد المفعول به لم يقم غيره إلا أن صاحب اللباب حكى الخلاف في ذلك عن البصريين، وأن بعضهم أجاز ذلك.
* (لا تذرنى فردا) * أي وحيدا بلا وارث، سأل ربه أن يرزقه ولدا يرثه ثم رد أمره إلى الله فقال * (وأنت خير الوارثين) * أي إن لم ترزقني من يرثني فأنت خير وارث، وإصلاح زوجه بحسن خلقها، وكانت سيئة الخلق قاله عطاء ومحمد بن كعب وعون بن عبد الله. وقيل: إصلاحها للولادة بعد أن كانت عاقرا قاله قتادة. وقيل: إصلاحها رد شبابها إليه، والضمير في * (أنهم) * عائد على الأنبياء السابق ذكرهم أي إن ستجابتنا لهم في طلباتهم كان لمبادرتهم الخير ولدعائهم لنا.
* (رغبا ورهبا) * أي وقت الرغبة ووقت الرهبة، كما قال تعالى * (يحذر الاخرة ويرجوا * رحمة ربه) * وقيل: الضمير يعود على * (زكريا) * و * (زوجه
311

وابنهما يحيى. وقرأت فرقة يدعونا حذفت نون الرفع وطلحة بنون مشددة أدغم نون الرفع في نا ضمير النصب. وقرأ ابن وثاب والأعمش ووهب بن عمرو والنحوي وهارون وأبو معمر والأصمعي واللؤلؤي ويونس وأبو زيد سبعتهم عن أبي عمر و * (رغبا) * ورهبا) * بالفتح وإسكان الهاء، والأشهر عن الأعمش بضمتين فيهما. وقرأ فرقة: بضم الراءين وسكون الغين والهاء، وانتصب * (*) * بالفتح وإسكان الهاء، والأشهر عن الأعمش بضمتين فيهما. وقرأ فرقة: بضم الراءين وسكون الغين والهاء، وانتصب * (رغبا ورهبا) * على أنهما مصدران في موضع الحال أو مفعول من أجله.
* (والتى أحصنت فرجها) * هي مريم بنت عمران أم عيسى عليه السلام، والظاهر أن الفرج هنا حياء المرأة أحصنته أي منعته من الحلال والحرام كما قالت * (ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا) *. وقيل: الفرج هنا جيب قميصها منعته من جبريل لما قرب منها لينفخ حيث لم يعرف، والظاهر أن قوله * (فنفخنا فيها من روحنا) * كناية عن إيجاد عيسى حيا في بطنها، ولا نفخ هناك حقيقة، وأضاف الروح إليه تعالى على جهة التشريف. وقيل: هناك نفخ حقيقة وهو أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها وأسند النفخ إليه تعالى لما كان ذلك من جبريل بأمره تعالى تشريفا. وقيل: الروح هنا جبريل كما قال * (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها) * والمعنى * (فنفخنا فيها) * من جهة جبريل وكان جبريل قد نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها.
قال الزمخشري: فإن قلت: نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه قال الله تعالى * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحى) * أي أحييته، وإذا ثبت ذلك كان قوله * (فنفخنا فيها من روحنا) * ظاهر الإشكال لأنه يدل على إحياء مريم. قلت: معناه نفخنا الروح في عيسى فيها أي أحييناه في جوفها، ونحو ذلك أن يقول الزمار نفخت في بيت فلان أي نفخت في المزمار في بيته انتهى. ولا إشكال في ذلك لأنه على حذف مضاف أي * (فنفخنا فيه) * ابنها * (من روحنا) * وقوله قلت معناه نفخنا الروح في عيسى فيها استعمل نفخ متعديا، والمحفوظ أنه لا يتعدى فيحتاج في تعديه إلى جماع وغير متعد استعمله هو في قوله أي نفخت في المزمار في بيته انتهى. ولا إشكال في ذلك. وأفرد * (ءاية) * لأن حالهما لمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل، وإن كان في مريم آيات وفي عيسى آيات لكنه هنا لحظ أمر الولادة من غير ذكر، وذلك هو آية واحدة وقوله * (للعالمين) * أي لمن اعتبر بها من عالمي زمانها فمن بعدهم، ودل ذكر مريم مع الأنبياء في هذه السورة على أنها كانت نبية إذ قرنت معهم في الذكر، ومن منع تنبؤ النساء قال ذكرت لأجل عيسى وناسب ذكرهما هنا قصة زكريا وزوجه ويحيى للقرابة التي بينهم.
* (إن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون * وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون * فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه * له كاتبون * وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون * حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق فإذا هى شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا فى غفلة من هاذا بل كنا ظالمين * إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء ءالهة ما وردوها وكل فيها خالدون * لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون) *.
والظاهر أن قوله * (أمتكم) * خطاب لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم) و * (هاذه) * إشارة إلى ملة الإسلام، أي إن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها ملة واحدة غير مختلفة، ويحتمل أن تكون * (هاذه) * إشارة إلى الطريقة التي كان عليها الأنبياء المذكورون من توحيد الله تعالى هي طريقتكم وملتكم طريقة واحدة لا اختلاف فيها في أصول العقائد، بل ما جاء به الأنبياء من ذلك هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: معنى * (أمة واحدة) * مخلوقة له تعالى مملوكة له، فالمراد بالأمة الناس كلهم. وقيل: الكلام يحتمل أن يكون متصلا بقصة مريم وابنها أي * (وجعلناها وابنها ءاية للعالمين) * بأن بعث لهم بملة وكتاب، وقيل لهم * (إن هاذه أمتكم) * أي دعا الجميع إلى الإيمان بالله وعبادته.
ثم أخبر تعالى أنهم بعد ذلك اختلفوا * (وتقطعوا أمرهم) * وقرأ الجمهور * (أمتكم) * بالرفع خبر * (ءان * أمة واحدة) * بالنصب على الحال، وقيل بدل
312

من * (هاذه) * وقرأ الحسن * (أمتكم) * بالنصب بدل من * (هاذه) *. وقرأ أيضا هو وابن إسحاق والأشهب العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجعفي وهارون عن أبي عمرو والزعفراني * (أمتكم أمة واحدة) * برفع الثلاثة على أن * (أمتكم) * و * (أمة واحدة) * خبر * (ءان) * أو * (أمة واحدة) * بدل من * (
أمتكم) * بدل نكرة من معرفة، أو خبر مبتدأ محذوف أي هي) * أمة واحدة) * والضمير في * (*) * أمة واحدة) * والضمير في * (*) * والضمير في * (وتقطعوا) * عائد على ضمير الخطاب على سبيل الالتفات أي وتقطعتم.
ولما كان هذا الفعل من أقبح المرتكبات عدل عن الخطاب إلى لفظ الغيبة كأن هذا الفعل ما صدر من المخاطب لأن في الإخبار عنهم بذلك نعيا عليهم ما أفسدوه، وكأنه يخبر غيرهم ما صدر من قبيح فعلهم ويقول ألا ترى إلى ما ارتكب هؤلاء في دين الله جعلوا أمر دينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء لهذا نصيب ولهذا نصيب، تمثيلا لاختلافهم ثم توعدهم برجوع هذه الفرقة المختلفة إلى جزائه. وقيل: كل من الثابت على دينه الحق والزائغ عنه إلى غيره. وقرأ الأعمش زبرا بفتح الباء جمع زبرة، ثم ذكر حال المحسن وأنه لا يكفر سعيه والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه إذا قيل لله شكور ولا لنفي الجنس فهو أبلغ من قوله فلا يكفر سعيه، والكتابة عبارة عن إثبات عمله الصالح في صحيفة الأعمال ليثاب عليه، ولا يضيع، والكفران مصدر كالكفر. قال الشاعر:
* رأيت أناسا لا تنام جدودهم
*
وجدي ولا كفران لله نائم
*
وفي حرف عبد الله لا كفر و * (لسعيه) * متعلق بمحذوف، أي نكفر * (لسعيه) * ولا يكون متعلقا بكفران إذ لو كان متعلقا به لكان اسم لا مطولا فيلزم تنوينه.
وقرأ الجمهور * (وحرام) * وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وطلحة والأعمش وأبو حنيفة وأبو عمرو في رواية وحرم بكسر الحاء وسكون الراء. وقرأ قتادة ومطر الوراق ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الحاء وسكون الراء. وقرأ عكرمة وحرم بكسر الراء والتنوين. وقرأ ابن عباس وعكرمة أيضا وابن المسيب وقتادة أيضا بكسر الراء وفتح الحاء والميم على المضي بخلاف عنهما، وأبو العالية وزيد بن علي بضم الراء وفتح الحاء والميم على المضي. وقرأ ابن عباس أيضا بفتح الحاء والراء والميم على المضي. وقرأ اليماني وحرم بضم الحاء وكسر الراء مشددة وفتح الميم. وقرأ الجمهور * (أهلكناها) * بنون العظمة.
وقرأ السلمي وقتادة بتاء المتكلم، واستعير الحرام للمتنع وجوده ومنه * (إن الله حرمهما على الكافرين) * ومعنى * (أهلكناها) * قدرنا إهلاكها على ما هي عليه من الكفر، فالإهلاك هنا إهلاك عن كفر و * (لا) * في * (لا يرجعون) * صلة وهو قول أبي عبيد كقولك: ما منعك أن لا تسجد، أي يرجعون إلى الإيمان والمعنى وممتنع على أهل قرية قدرنا عليهم إهلاكهم لكفرهم رجوعهم في الدنيا إلى الإيمان إلى أن تقول القيامة، فحينئذ يرجعون ويقولون * (كفروا ياويلنا قد كنا فى غفلة من هاذا) * وغيا بما قرب من مجيء الساعة وهو فتح * (يأجوج ومأجوج) * وقرئ * (أنهم) * بالكسر فيكون الكلام قد تم عند قوله * (أهلكناها) * ويقدر محذوف تصير به * (وحرام على قرية أهلكناها) * جملة أي ذاك، وتكون إشارة إلى العمل الصالح المذكور في قسيم هؤلاء المهلكين، والمعنى * (وحرام * على) * أهل * (قربة) * قدرنا إهلاكهم لكفرهم عمل صالح ينجون به من الإهلاك ثم أكد ذلك وعلله بأنهم * (لا يرجعون) * عن الكفر، فكيف لا يمتنع ذلك فالمحذوف مبتدأ والخبر * (وحرام) * وقدره بعضهم متقدما كأنه قال: والإقالة والتوبة حرام. وقراءة الجمهور بالفتح تصح على هذا المعنى وتكون * (لا) * نافية على بابها والتقدير لأنهم لا يرجعون. وقيل * (أهلكناها) * أي وقع إهلاكنا إياهم ويكون رجوعهم إلى الدنيا فيتوبون بل هم صائرون إلى العذاب. وقيل: الإهلاك بالطبع على القلوب، والرجوع هو إلى التوبة والإيمان. وقال الزجاج * (وحرام على قرية أهلكناها) * حكمنا بإهلاكها أن نتقبل أعمالهم لأنها * (لا يرجعون) * أي لا يتوبون، ودل على هذا
313

المعنى قوله قبل * (فلا كفران لسعيه) * أي يتقبل عمله ثم ذكر هذا عقيبه وبين أن الكافر لا يتقبل عمله.
وقال أبو مسلم بن بحر * (حرام) * ممتنع و * (أنهم لا يرجعون) * انتقام الرجوع إلى الآخرة، وإذا امتنع الانتفاء وجب الرجوع فالمعنى أنه يجب رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة ويكون الغرض إنكار قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد وأنه يجزى على ذلك يوم القيامة. وقيل: الحرام يجيء بمعنى الواجب يدل عليه * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم * أن لا * تشركوا) * وترك الشرك واجب. وقالت الخنساء:
* حرام علي أن لا أرى الدهر باكيا
*
على شجوه إلا بكيت على صخر
*
وأيضا فمن الاستعمال إطلاق الضمير على ضده، وعلى هذا فقال مجاهد والحسن * (لا يرجعون) * عن الشرك. وقال قتادة ومقاتل إلى الدنيا. قال ابن عطية: ويتجه في الآية معنى ضمنه وعيد بين وذلك أنه ذكر من عمل صالحا وهو مؤمن ثم عاد إلى ذكر الكفرة الذين من كفرهم ومعتقدهم أنهم لا يحشرون إلى رب ولا يرجعون إلى معاد فهم يظنون بذلك أنه لا عقاب ينالهم، فجاءت الآية مكذبة لظن هؤلاء أي وممتنع على الكفرة المهلكين * (أنهم لا يرجعون) * بل هم راجعون إلى عقاب الله وأليم عذابه، فيكون لا على بابها والحرام على بابه. وكذلك الحرم فتأمله انتهى.
و * (حتى) * قال أبو البقاء متعلقة في المعنى بحرام أي يستمر الامتناع إلى هذا الوقت ولا عمل لها في * (إذا) *. وقال الحوفي * (حتى) * غاية، والعمل فيها
ما دل عليه المعنى من تأسفهم على ما فرطوا فيه من الطاعة حين فاتهم الاستدراك. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلقت * (حتى) * واقعة غاية له وأية الثلاث هي؟ قلت: هي متعلقة بحرام، وهي غاية له لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة، وهي * (حتى) * التي تحكي الكلام، والكلام المحكي الجملة من الشرط والجزاء أعني إذا وما في حيزها انتهى.
وقال ابن عطية: هي متعلقة بقوله * (وتقطعوا) * ويحتمل على بعض التأويلات المتقدمة أن تعلق بيرجعون، ويحتمل أن تكون حرف ابتداء وهو الأظهر بسبب * (إذ) * لأنها تقتضي جوابا هو المقصود ذكره انتهى. وكون * (حتى) * متعلقة فيه بعد من حيث ذكر الفصل لكنه من جهة المعنى جيد، وهو أنهم لا يزالون مختلفين غير مجتمعين على دين الحق إلى قرب مجيء الساعة، فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك الاختلاف وعلم الجميع أن مولاهم الحق وأن الدين المنجي هو كان دين التوحيد. وجواب * (إذا) * محذوف تقديره * (قالوا يأبانا) * قاله الزجاج وجماعة أو تقديره، فحينئذ يبعثون * (الحق فإذا هى شاخصة) *.
أو مذكور وهو واقترب على زيادة الواو قاله بعضهم، وهو مذهب الكوفيين وهم يجيزون زيادة الواو والفاء في فإذا هي قاله الحوفي. وقال الزمخشري: وإذا هي المفاجأة وهي تقع في المفاجآت سادة مسد الفاء لقوله تعالى * (إذا هم يقنطون) * فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط، فيتأكد ولو قيل * (إذا * هى شاخصة) * كان سديدا.
وقال ابن عطية: والذي أقول أن الجواب في قوله * (فإذا هى شاخصة) * وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره لأنه رجوعهم الذي كانوا يكذبون به وحرم عليهم امتناعه، وتقدم الخلاف في * (فتحت) * في الأنعام ووافق ابن عامر أبو جعفر وشيبة وكذا التي في الأنعام والقمر في تشديد التاء، والجمهور على التخفيف فيهن و * (فتحت يأجوج) * على حذف مضاف أي سد * (يأجوج ومأجوج) * وتقدم الخلاف في قراءة * (يأجوج ومأجوج) * والظاهر أن ضمير * (وهم) * عائد على * (يأجوج ومأجوج) * أي يطلعون من كل ثنية ومرتفع ويعمون الأرض. وقيل: الضمير للعالم ويدل عليه قراءة عبد الله وابن عباس من كل جدث بالثاء المثلثة وهو القبر. وقرئ
314

بالفاء الثاء للحجاز والفاء لتميم وهي بدل من الثاء كما أبدلوا الثاء منها قالوا وأصله مغفور.
وقرأ الجمهور * (ينسلون) * بكسر السين وابن أبي إسحاق وأبو السمال بضمها * (واقترب الوعد الحق) * أي الوعد بالبعث الحق الذي لا شك فيه * (واقترب) * قيل: أبلغ في القرب من قرب وضمير * (هى) * للقصة كأنه قيل: فإذا القصة والحادثة * (أبصار الذين كفروا) * * (شاخصة) * ويلزم أن تكون * (شاخصة) * الخبر و * (أبصار) * مبتدأ، ولا يجوز ارتفاع أبصار شاخصة لأنه يلزم أن تكون بعد ضمير الشأن، أو القصة جملة تفسر الضمير مصرح بجزأيها، ويجوز ذلك على مذهب الكوفيين. وقال الزمخشري: * (هى) * ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره كما فسر الذين ظلموا وأسروا انتهى. ولم يذكر غير هذا الوجه وهو قول للفراء. قال الفراء: * (هى) * ضمير الأبصار تقدمت لدلالة الكلام ومجئ ما يفسرها وأنشد على ذلك قول الشاعر:
* فلا وأبيها لا تقول خليلتي
*
إلا قر عني مالك بن أبي كعب
*
وذكر أيضا الفراء أن * (هى) * عماد يصلح في موضعها هو وأنشد:
* يثوب ودينار وشاة ودرهم
*
فهل هو مرفوع بما ههنا رأس
*
وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي في إجازته تقديم الفصل مع الخبر على المبتدأ أجاز هو القائم زيد على أن زيد هو المبتدأ والقائم خبره، وهو عماد وأصل المسألة زيد هو القائم، ويقول: أصله هذه فإذا * (أبصار الذين كفروا) * هي * (شاخصة) * فشاخصة خبر عن * (أبصار) * وتقدم مع العماد، ويجيء على مذهب من يجيز العماد قبل خبره نكرة، وذكر الثعلبي وجها آخر وهو أن الكلام ثم عند قوله: * (فإذا هى) * أي بارزة واقعة يعني الساعة، ثم ابتدأ فقال * (شاخصة أبصار الذين كفروا) * وهذا وجه متكلف متنافر التركيب. وروى حذيفة لو أن رجلا اقتنى فلو أبعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة يعني في مجيء الساعة إثر خروجهم.
* (* يا ويلنا) * معمول لقول محذوف. قال الزمخشري: تقديره يقولون وهو في موضع الحال من الذين كفروا وتقدم قول الزجاج أن هذا القول جواب * (من قبلكم إذا) * والشخوص إحداد النظر دون أن يطرف في غفلة من هذا انتهى. أي مما وجدنا الآن وتبينا من الحقائق ثم أضربوا عن قولهم * (قد كنا فى غفلة) * وأخبروا بما قد كانوا تعمدوه من الكفر والإعراض عن الإيمان فقالوا * (بل كنا ظالمين) * والخطاب بقوله * (إنكم وما تعبدون من دون الله) * للكفار المعاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولا سيما أهل مكة ومعبوداتهم هي الأصنام.
وقرأ الجمهور * (حصب) * بالحاء والصاد المهملتين، وهو ما يحصب به أي يرمى به في نار جهنم. وقبل أن يرمي به لا يطلق عليه حصب إلا مجازا. وقرأ ابن
السميفع وابن أبي عبلة ومحبوب وأبو حاتم عن ابن كثير بإسكان الصاد، ورويت عن ابن عباس وهو مصدر يراد به المفعول أي المحصوب. وقرأ ابن عباس: بالضاد المعجمة المفتوحة وعنه إسكانها، وبذلك قرأ كثير عزة: والحضب ما يرمى به في النار، والمحضب العود أو الحديدة أو غيرهما مما تحرك به النار. قال الشاعر:
* فلا تك في حربنا محضبا
*
فتجعل قومك شتى شعوبا
*
315

وقرأ أبي وعلي وعائشة وابن الزبير وزيد بن علي حطب بالطاء، وجمع الكفار مع معبوداتهم في النار لزيادة غمهم وحسرتهم برؤيتهم معهم فيها إذ عذبوا بسببهم، وكانوا يرجون الخير بعبادتهم فحصل لهم الشر من قبلهم ولأنهم صاروا لهم أعداء ورؤية العدو مما يزيد في العذاب. كما قال الشاعر:
* واحتمال الأذى ورؤية جابيه
*
غذاء تضنى به الأجسام
*
* (أنتم لها) * إي للنار * (واردون) * الورود هنا ورود دخول * (لو كان هؤلاء) * أي الأصنام التي تعبدونها * (ما وردوها وكل) * أي ما دخلوها ودل على أنه ورود دخول قوله * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * وقرأ الجمهور * (ءالهة) * بالنصب على خبر * (كان) *. وقرأ طلحة بالرفع على أن في * (كان) * ضمير الشأن * (وكل فيها) * أي كل من العابدين ومعبوداتهم.
* (لهم فيها زفير) * وهو صوت نفس المغموم يخرج من القلب، والظاهر أن الزفير إنما يكون ممن تقوم به الحياة وهم العابدون والمعبودون ممن كان يدعي الإلهية كفرعون وكغلاة الإسماعيلية الذين كانوا ملوك مصر من بني عبيد الله أول ملوكهم، ويجوز أن يجعل الله للأصنام التي عبدت حياة فيكون لها زفير. وقال الزمخشري: إذا كانوا هم وأصنامهم في قرن واحد جاز أن يقال لهم فيها إن لم يكن الزافرين إلا وهم فيها * (لا يسمعون) * وروي عن ابن مسعود أنهم يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون وقال تعالى * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) * وفي سماع الأشياء روح فمنع الله الكفار ذلك في النار. وقيل * (لا يسمعون) * ما يسرهم من كلام الزبانية.
* (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم * فيما * اشتهت * أنفسهم خالدون * لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملئكة هاذا يومكم الذى كنتم توعدون * يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين * ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادى الصالحون * إن فى هاذا لبلاغا لقوم عابدين * وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين * قل إنما يوحى إلى أنما إلاهكم إلاه واحد فهل أنتم مسلمون * فإن تولوا فقل ءاذنتكم على سواء وإن أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون * إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون * وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين * قال رب احكم بالحق وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون) *.
سبب نزول * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * قول ابن الزبعري حين سمع * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم): قد خصمتك ورب الكعبة، أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة فقال صلى الله عليه وسلم): (هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك) فأنزل الله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) *. وقيل: لما اعترض ابن الزبعري قيل لهم: ألستم قوما عربا أو ما تعلمون أن من لمن يعقل وما لما لا يعقل، فعلى القول الأول يكون ابن الزبعري قد فهم من قوله * (وما تعبدون) * العموم فلذلك نزل قوله * (إن الذين سبقت لهم) * الآية تخصيصا لذلك العموم، وعلى هذا القول الثاني يكون ابن الزبعري رام مغالطة، فأجيب بأن من لمن يعقل وما لما لا يعقل فبطل اعتراضه.
* (* والحسنى) * الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن، إما السعادة وإما البشرى بالثواب، وإما التوفيق للطاعة. والظاهر من قوله * (عنها مبعدون) * فما بعده أن من سبقت له الحسنى لا يدخل النار. وروي أن عليا كرم الله وجهه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، ثم أقيمت الصلاة فقام يجر رداءه وهو يقول * (لا يسمعون حسيسها) * والحسيس الصوت الذي يحس من حركة الأجرام، وهذا الإبعاد وانتفاء سماع صوتها قيل هو قبل دخول الجنة. وقيل: بعد دخولهم واستقرارهم فيها، والشهوة طلب النفس اللذة.
وقال ابن عطية: وهذه صفة لهم بعد دخولهم الجنة لأن الحديث يقتضي أنه في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا
316

جثا على ركبتيه و * (الفزع الاكبر) * عام في كل هول يكون في يوم القيامة فكان يوم القيامة بجملته هو * (الفزع الاكبر) * وإن خصص بشيء فيجب أن يقصد لا عظم هو له انتهى. وقيل: * (الفزع الاكبر) * وقوع طبق جهنم عليها قاله الضحاك. وقيل: النفخة الأخيرة. وقيل: الأمر بأهل النار إلى النار، روي عن ابن جبير وابن جريج والحسن. وقيل: ذبح الموت. وقيل: إذا نودي * (اخسئوا فيها ولا تكلمون) * وقيل * (يوم نطوى السماء) * ذكره مكي.
* (وتتلقاهم الملئكة) * بالسلام عليهم. وعن ابن عباس: تلقاهم الملائكة بالرحمة عند خروجهم من القبور قائلين لهم * (هاذا يومكم الذى كنتم توعدون) * بالكرامة
والثواب والنعيم. وقرأ أبو جعفر * (لا يحزنهم) * مضارع أحزن وهي لغة تميم، وحزن لغة قريش، والعامل في * (يوم لا) * و * (* تتلقاهم) * وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلا من العائد المحذوف في * (كنتم توعدون) * فالعامل فيه * (توعدون) * أي أيوعدونه أو مفعولا باذكر أو منصوبا بأعني. وأجاز الزمخشري أن يكون العامل فيه * (الفزع) * وليس بجائز لأن * (الفزع) * مصدر وقد وصف قبل أخذ معموله فلا يجوز ما ذكر.
وقرأ الجمهور * (نطوى) * بنون العظمة. وفرقة منهم شيبة بن نصاح يطوي بياء أي الله، وأبو جعفر وفرقة بالتاء مضمومة وفتح الواو و * (السماء) * رفعا والجمهور * (السجل) * على وزن الطمر. وأبو هريرة وصاحبه وأبو زرعة بن عمرو بن جرير بضمتين وشد اللام، والأعمش وطلحة وأبو السماك * (السجل) * بفتح السين والحسن وعيسى بكسرهما، والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة. وقال أبو عمر: وقراءة أهل مكة مثل قراءة الحسن. وقال مجاهد * (السجل) * الصحيفة. وقيل: هو مخصوص من الصحف بصحيفة العهد، والمعنى طيا مثل طي السجل، وطي مصدر مضاف إلى المفعول، أي ليكتب فيه أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة، والأصل * (* كثي) * الطاوي * (كطى السجل) * فحذف الفاعل وحذفه يجوز مع المصدر المنحل لحرف مصدري، والفعل، وقدره الزمخشري مبنيا للمفعول أي كما يطوى السجل. وقال ابن عباس وجماعة * (السجل) * ملك يطوى كتب بني آدم إذا رفعت إليه. وقالت فرقة: هو كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، وعلى هذين القولين يكون المصدر مضافا للفاعل. وقال أبو الفضل الرازي: الأصح أنه فارسي معرب انتهى. وقيل: أصله من المساجلة وهي من * (السجل) * وهو الدلو ملأى ماء. وقال الزجاج: هو رجل بلسان الحبش.
وقرأ الجمهور: للكتاب مفردا وحمزة والكسائي وحفص * (للكتب) * جمعا وسكن التاء الأعمش. وقال الزمخشري: * (أول خلق) * مفعول نعيد الذي يفسره * (نعيده) * والكاف مكفوفة بما، والمعنى نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيها للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء فإن قلت: وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه قلت: أو له إيجاده من العدم، فكما أوجده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم. فإن قلت: ما بال خلق منكرا؟ قلت: هو كقولك: هو أول رجل جائني تريد أول الرجال، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا فكذلك معنى * (أول خلق) * أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع ووجه آخر، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده وما موصولة، أي نعيد مثل الذي بدأناه * (نعيده) * و * (أول خلق) * ظرف لبدأناه أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى انتهى. والظاهر أن الكاف ليست مكفوفة كما ذكر بل هي جارة وما بعدها مصدرية ينسبك منها مع الفعل مصدر هو في موضع جر بالكاف. و * (أول خلق) * مفعول * (بدأنا) * والمعنى نعيد أول خلق إعادة مثل بدأتنا له، أي كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود. في ما قدره الزمخشري تهيئة * (بدأنا) * لأن ينصب * (أول خلق) * على المفعولية. وقطعه عنه من غير ضرورة
317

تدعو إلى ذلك وارتكاب إضمار يعيد مفسرا بنعيده وهذه عجمة في كتاب الله، وما قوله: ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره * (نعيده) * فهو ضعيف جدا لأنه مبني على أن الكاف اسم لا حرف، فليس مذهب الجمهور إنما ذهب إلى ذلك الأخفش وكونها اسما عند البصريين غير مخصوص بالشعر. وقال ابن عطية: يحتمل معنيين أحدهما: أن يكون خبرا عن البعث أي كما اخترعنا الخلق أولا على غير مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى فنبعثهم من القبور. والثاني أن يكون خبرا عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا ويؤيده (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا) * (كما بدأنا أول خلق نعيده) * وقوله * (كما بدأنا) * الكاف متعلقة بقوله * (نعيده) * انتهى.
وانتصب * (وعدا) * على أنه مفعول مصدر مؤكدا لمضمون الجملة الخبرية قبله * (إنا كنا فاعلين) * تأكيد لتحتم الخبر أي نحن قادرون على أن نفعل و * (الزبور) * الظاهر أنه زبور داود وقاله الشعبي، ومعنى هذه الآية موجود في زبور داودوقرأناه فيه و * (الذكر) * التوراة قاله ابن عباس. وقيل * (الزبور) * ما بعد التوراة من الكتب و * (الذكر) * التوراة وقيل * (الزبور) * يعم الكتب المنزلة و * (الذكر) * اللوح المحفوظ. * (الارض) * قال ابن عباس أرض الجنة. وقيل: الأرض المقدسة * (يرثها) * أمة محمد صلى الله عليه وسلم).
والإشارة في قوله * (إن فى هاذا) * أي المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة لبلاغا كفاية يبلغ بها إلى الخير. وقيل: الإشارة إلى القرآن جملة، وكونه عليه السلام رحمة لكونه جاءهم بما يسعدهم.
* (* وللعالمين) * قيل خاص بمن آمن به. وقيل: عام وكونه * (منه رحمة) * للكافر حيث أخر عقوبته، ولم يستأصل الكفار بالعذاب قال معناه ابن عباس. قال: عوفي مما أصاب غيرهم من الأمم من مسخ وخسف وغرق وقذف وأخر أمره إلى الآخرة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون معناه * (وما أرسلناك) * للعالمين * (إلا رحمة) * أي هو رحمة في نفسه وهدى بين أخذ به من أخذ وأعرض عنه من أعرض انتهى. ولا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد * (إلا) * بالفعل قبلها إلا أن كان العامل مفرغا له نحو ما مررت إلا بزيد. وقال الزمخشري: إنما تقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد وقد اجتمع المثلان في هذه الآية لأن * (إنما يوحى إلى) * مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد و * (أنما إلاهكم إلاه واحد) * بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) مقصور على استئثار الله بالوحدانية انتهى.
وأما ما ذكره في * (إنما) * إنها لقصر ما ذكر فهو مبني على إنما للحصر وقد قررنا أنها لا تكون للحصر، وإنما مع أن كهي مع كان ومع لعل، فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ولا الحصر في الترجي فكذلك لا تفيده مع أن وأما جعله * (إنما) * المفتوحة الهمزة مثل مكسورتها يدل على القصر، فلا نعلم الخلاف إلا في * (إنما) * بالكسر، وأما بالفتح فحرف مصدري ينسبك منع مع ما بعدها مصدر، فالجملة بعدها ليست جملة مستقلة، ولو كانت إنما دالة على الحصر لزم أن يقال إنه لم
يوح إليه شيء إلا التوحيد. وذلك لا يصح الحصر فيه إذ قد أوحى له أشياء غير التوحيد وفي الآية دليل على تظافر المنقول للمعقول وأن النقل أحد طريقي التوحيد، ويجوز في ما من * (إنما) * أن تكون موصولة.
* (فهل أنتم مسلمون) * استفهام يتضمن الأمر بإخلاص التوحيد والانقياد إلى الله تعالى * (ءاذنتكم) * أعلمتكم وتتضمن معنى التحذير والنذارة * (على سواء) * لم أخص أحدا دون أحد، وهذا الإيذان هو إعلام بما يحل بمن تولى من العقاب وغلبة الإسلام، ولكني لا أدري متى يكون ذلك و * (ءان) * نافية و * (أدرى) * معلقة والجملة الاستفهامية في موضع نصب بأدري، وتأخر المستفهم عنه لكونه فاصلة إذ لو كان التركيب * (أقريب) * * (ما توعدون) * * (أم بعيد) * لم تكن فاصلة وكثيرا ما يرجح الحكم في الشيء لكونه فاصلة آخر آية. وعن ابن عامر في رواية * (وإن أدرى) * بفتح الياء في الآيتين تشبيها بياء الإضافة لفظا، وإن كانت لام الفعل ولا تفح إلا بعامل، وأنكر ابن مجاهد فتح هذه الياء والمعنى أنه تعالى لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه، والله هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء.
* (وإن أدرى لعله فتنة) * أي لعل تأخير هذا الموعد امتحان لكم لننظر كيف تعملون، أو يمتنع لكم إلى حين ليكون ذلك حجة وليقع الموعد في وقت هو
318

حكمة، ولعل هنا معلقه أيضا وجملة الترجي هي مصب الفعل، والكوفيون يجرون لعل مجرى هل، فكما يقع التعليق عن هل كذلك عن لعل، ولا أعلم أحدا ذهب إلى أن لعل من أدوات التعليق وإن كان ذلك ظاهرا فيها كقوله * (وما يدريك لعل الساعة قريب) * * (وما يدريك لعله يزكى) * وقيل * (إلى حين) * إلى يوم القيامة. وقيل: إلى يوم بدر.
وقرأ الجمهور * (قل رب) * أمروا بكسر الباء. وقرأ حفص قال وأبو جعفر * (رب) * بالضم. قال صاحب اللوامح: على أنه منادى مفرد وحذف حرف النداء فيما جاز أن يكون وصفا لأي بعيد بابه الشعر انتهى. وليس هذا من نداء النكرة المقبل عليها بل هذا من اللغات الجائزة في يا غلامي، وهي أن تبنيه على الضم وأنت تنوي الإضافة لما قطعته عن الإضافة وأنت تريدها بنيته، فمعنى * (رب) * يا ربي. وقرأ الجمهور * (أحكم) * على الأمر من حكم. وقرأ ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن ربي بإسكان الياء أحكم جعله أفعل التفضيل فربي أحكم مبتدأ وخبر. وقرأت فرقة أحكم فعلا ماضيا. وقرأ الجمهور * (تصفون) * بتاء الخطاب. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم) قرأ على أبي على ما يصفون بياء الغيبة، ورويت عن ابن عامر وعاصم.
319

((سورة الحج))
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولاكن عذاب الله شديد * ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير * ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الا رحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الا رض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذالك بأن الله هو الحق وأنه يحى الموتى وأنه على كل شىء قدير * وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور * ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق * ذالك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد * ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والا خرة ذالك هو الخسران المبين * يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذالك هو الضلال البعيد * يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير * إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الا نهار إن الله يفعل ما يريد * من كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا والا خرة فليمدد بسبب إلى السمآء ثم ليقطع فلينظر هل
320

يذهبن كيده ما يغيظ * وكذالك أنزلناه ءايات بينات وأن الله يهدى من يريد * إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شىء شهيد * ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الا رض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشآء * هاذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم * يصهر به ما فى بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق * إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الا نهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد * إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سوآء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم * وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطآئفين والقآئمين والركع السجود * وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فىأيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير * ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق * ذالك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الا نعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الا وثان واجتنبوا قول الزور * حنفآء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السمآء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق * ذالك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب * لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلهآ إلى البيت العتيق * ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الا نعام فإلاهكم إلاه واحد فله أسلموا وبشر المخبتين * الذين
إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على مآ أصابهم والمقيمى الصلواة ومما رزقناهم ينفقون * والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا
321

اسم الله عليها صوآف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذالك سخرناها لكم لعلكم تشكرون * لن ينال الله لحومها ولا دمآؤها ولاكن يناله التقوى منكم كذالك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) *))
) *
ذهل عن الشيء ذهولا: اشتغل عنه قاله قطرب، وقال غيره: غفل لطريان شاغل من أهم أو وجع أو غيره. وقيل: مع دهشة. المضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ. المخلقة: المسواة الملساء لا نقص ولا عيب فيها، يقال: خلق السواك والعود سواه وملسه، من قولهم: صخرة خلقاء أي ملساء. الطفل: يقال من وقت انفصال الولد إلى البلوغ، ويقال لولد الوحشية طفل، ويوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، ويقال أيضا طفل وطفلان وأطفال وأطفلت المرأة صارت ذا طفل، والطفل بفتح الطاء الناعم، وجارية طفلة ناعمة، وبنان طفل، وقد طفل الليل أقبل ظلامه، والطفل بالتحريك بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب، والطفل أيضا مطر. وقال المبرد: هو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل يقع على الواحد والجمع. همدت الأرض: يبست ودرست، والثوب بلي انتهى. وقال الأعشى:
* قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا
*
وأرى ثيابك باليات همدا
*
البهيج: الحسن السار للناظر، يقال: فلان ذو بهجة أي حسن، وقد بهج بالضم بهاجة وبهجة فهو بهيج، وأبهجني: أعجبني بحسنه. العطف: الجانب، وعطفا الرجل يمينه وشماله وأصله من العطف وهو اللين، ويسمى الرداء العطاف. المجوس: قوم يعبدون النار والشمس والقمر. وقيل: يعبدون النار. وقيل: قوم اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح. وقيل: قوم أخذوا من دين النصارى شيئا ومن دين اليهود شيئا وهم القائلون العالم أصلان نور وظلمة. وقيل: الميم في المجوس بدل من النون لاستعمالهم النجاسات. صهرت الشحم بالنار أذبته، والصهارة الآلية المذابة. وقيل: ينضج قال الشاعر:
تصهره الشمس ولا ينصهر
المقمعة: بكسر الميم المقرعة يقمع بها المضروب. اللؤلؤ: الجوهر. وقيل: صغاره وكباره. الضامر: المهزول. العميق: البعيد، وأصله البعد سفلا يقال: بئر عميق أي بعيدة الغور، والفعل عمق وعمق. قال الشاعر:
* إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة
*
يمد بها في السير أشعث شاحب ويقال: غميق بالغين. وقال الليث: يقال عميق ومعيق لتميم، وأعمقت البئر وأمعقتها وقد عمقت ومعقت عماقة ومعاقة وهي بعيدة العمق والمعق والأمعاق والأعماق أطراف المفازة قال:
322

وقائم الأعماق خاوي المخترق
التفث: أصله الوسخ والقذر، يقال لمن يستقذر: ما تفثك. وعن قطرب: تفث الرجل كثر وسخه في سفره. وقال أبو محمد البصري: التفث من التف وهو وسخ الأظفار، وقلبت الفاء ثاء كمغثور. السحيق: البعيد. وجب الشيء سقط، ووجبت الشمس جبة قال أوس بن حجر:
*
ألم يكسف الشمس شمس النها
ر والبدر للجبل الواجب
*
القانع: السائل، قنع قنوعا سأل وقنع قناعة تعفف واستغنى ببلغته. قال الشماخ:
* مفاقره أعف من القنوع
*
لمال المرء يصلحه فيغني
*
الوثن: قال شمر كل تمثال من خشب أو حجارة أو ذهب أو فضة أو نحاس ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها ويطلق على الصليب. قال الأعشى:
* يطوف العفاة بأبوابه
*
كطوف النصارى بباب الوثن
*
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليا: (ألق الوثن عنك). واشتقاقه من وثن الشيء أقامه في مكانه وثبت، والواثن المقيم الراكز في مكانه. وقال رؤبة:
على أخلاء الصفاء الوثن
يعني الدوم على العهد. البدن: جمع بدنة كثمر جمع ثمرة قاله الزجاج، سميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن. وقال الليث: البدنة بالهاء تقع على الناقة والبقرة والبعير مما يجوز في الهدي والأضاحي، ولا يقع على الشاة وسميت بدنة لعظمها. وقيل: تختص بالإبل. وقيل: ما أشعر من ناقة أو بقرة قاله عطاء وغيره. وقيل: البدن مفرد اسم جنس يراد به العظيم السمين من الإبل والبقر، ويقال للسمين من الرجال. المعتر: المتعرض من غير سؤال. وقال ابن قتيبة: غره واغتره وعراه واعتراه أتاه طالبا لمعروفه. قال الشاعر:
* سلي الطارق المعتر يا أم مالك
*
إذا ما اعتراني بين قدري ومجزري وقال الآخر:
*
323

لعمرك ما المعتر يغشى بلادنا
لنمنعه بالضائع المنهضم
*
* (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
هذه السورة مكية إلا * (هذان خصمان) * إلى تمام ثلاث آيات قاله ابن عباس ومجاهد، وعن ابن عباس أيضا إنهن أربع آيات إلى قوله * (عذاب الحريق) * وقال الضحاك: هي مدنية. وقال قتادة: إلا من قوله * (وما أرسلنا من قبلك من رسول * إلى عذاب * مقيم) *. وقال الجمهور: منها مكي ومنها مدني.
ومناسبة أولهذه السورة لما قبلها أنه ذكر تعالى حال الأشقياء والسعداء وذكر الفزع الأكبر وهو ما يقول يوم القيامة، وكان مشركو مكة قد أنكروا المعاد وكذبوه بسبب تأخر العذاب عنهم. نزلت هذه السورة تحذيرا لهم وتخويفا لما انطوت عليه من ذكر زلزلة الساعة وشدة هولها، وذكر ما أعد لمنكرها وتنبيههم على البعث بتطويرهم في خلقهم، وبهمود الأرض واهتزازها بعد بالنبات، والظاهر أن قوله * (يذهبكم أيها الناس) * عام. وقيل: المراد أهل مكة، ونبه تعالى على سبب اتقائه وهو ما يؤول إليه من أهوال الساعة وهو على حذف مضاف أي * (اتقوا) * عذاب * (ربكم) *، والزلزلة الحركة المزعجة وهي عند النفخة الأولى. وقيل: عند الثانية. وقيل: عند قول الله يا آدم ابعث بعث النار. وقال الجمهور: في الدنيا آخر الزمان ويتبعها طلوع الشمس من مغربها. وعن الحسن: يوم القيامة. وعن علقمة والشعبي: عند طلوع الشمس من مغربها، وأضيفت إلى الساعة لأنها من أشراطها، والمصدر مضاف للفاعل فالمفعول المحذوف وهو الأرض يدل عليه * (إذا زلزلت الارض زلزالها) * والناس ونسبة الزلزلة إلى * (الساعة) * مجاز، ويجوز أن يضاف إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف، فتكون * (الساعة) * مفعولا بها وعلى هذه التقادير يكون ثم * (زلزلة) * حقيقة.
وقال الحسن: أشد الزلزال ما يكون مع قيام الساعة. وقيل: الزلزلة استعارة، والمراد أشد الساعة وأهوال يوم القيامة و * (شىء) * هنا يدل على إطلاقه على المعدوم لأن الزلزلة لم تقع بعد، ومن منع إيقاعه على المعدوم قال: جعل الزلزلة شيئا لتيقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود.
وذكر تعالى أهول الصفات في قوله * (ترونها) * الآية لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم ليكون ذلك حاملا على تقواه تعالى إذ لا نجاة من تلك الشدائد إلا بالتقوى. وروي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدرا، وكانوا من بين حزين باك ومفكر. والناصب ليوم * (تذهل) * والظاهر أن الضمير المنصوب في * (ترونها) * عائدا على الزلزلة لأنها المحدث عنها، ويدل على ذلك وجود ذهول المرضعة ووضع الحمل هذا إذا أريد الحقيقة وهي الأصل، ويكون ذلك في الدنيا. وعن الحسن * (تذهل) * المرضعة عن ولدها لغير فطام * (وتضع) * الحامل ما في بطنها لغير تمام. وقالت فرقة: الضمير يعود على * (الساعة
) * فيكون الذهول والوضع عبارة عن شدة الهول في ذلك اليوم، ولا ذهول ولا وضع هناك كقولهم: يوم يشيب فيه الوليد. وجاء
324

لفظ * (مرضعة) * دون مرضع لأنه أريد به الفعل لا النسب، بمعنى ذات رضاع. وكما قال الشاعر:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت
بني بطنها هذا الضلال عن القصد، والظاهر أن ما في قوله * (عما أرضعت) * بمعنى الذي، والعائد محذوف أي أرضعته، ويقويه تعدي وضع إلى المفعول به في قوله * (حملها) * لا إلى المصدر. وقيل: ما مصدرية أي عن إرضاعها. وقال الزمخشري: المرضعة هي التي في حال الإرضاع تلقم ثديها الصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به. فقيل * (مرضعة) * ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبي بمرضعة والمستأجرة بمرضع وهذا باطل بقول الشاعر:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت
البيت فهذه * (مرضعة) * بالتاء وليست أما للذي ترضع. وقول الكوفيين إن الوصف الذي يختص بالمؤنث لا يحتاج فيه إلى التاء لأنها إنما جيء بها للفرق مردود بقول العرب مرضعة وحائضة وطالقة.
وقرأ الجمهور * (تذهل كل) * بفتح التاء والهاء ورفع كل، وابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسر الهاء أي * (تذهل) * الزلزلة أو الساعة كل بالنصب، والحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة. وقرأ الجمهور * (وترى) * بالتاء مفتوحة خطاب المفرد وزيد بن علي بضم التاء وكسر الراء أي وترى الزلزلة أو الساعة. وقرأ الزعفراني وعباس في اختياره بضم التاء وفتح الراء، ورفع * (الناس) * وأنث على تأويل الجماعة. وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة بن عمرو بن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا * (الناس) * دى * (ترى) * إلى مفاعيل ثلاثة أحدها الضمير المستكن في * (ترى) * وهو ضمير المخاطب مفعول لم يسم فاعله، والثاني والثالث * (الناس سكارى) * أثبت أنهم * (سكارى) * على طريق التشبيه ثم نفى عنهم الحقيقة وهي السكر من الخمر، وذلك لما هم فيه من الحيرة وتخليط العقل.
وقرأ الجمهور * (سكارى) * فيهما على وزن فعالى وتقدم ذكر الخلاف في فعالى بضم الفاء أهو جمع أو اسم جمع. وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما وهو جمع تكسير واحده سكران. وقال أبو حاتم: هي لغة تميم. وقرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح سكرى فيهما، ورويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم) رواها عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة. وقال سيبويه: وقوم يقولون سكرى جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان، ثم جعلوا روبي مثل سكرى وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب. قال أبو علي الفارسي: ويصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن، وقد حكى سيبويه: رجل سكر بمعنى سكران فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع. وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش سكرى بضم السين فيهما. قال أبو الفتح: هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو علي انتهى. وقال الزمخشري: هو غريب. وقال أبو الفضل الرازي: فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد انتهى. وعن أبي زرعة أيضا سكرى بفتح السين بسكرى بضمها. وعن ابن جبير أيضا سكرى بالفتح من غير ألف * (بسكارى) * بالضم
325

والألف. وعن الحسن أيضا * (سكارى) * بسكر وقال أو لا ترونها على خطاب الجمع جعلوا جميعا رائيين لها. ثم قال * (وترى) * على خطاب الواحد لأن الرؤية معلقة بكون الناس على حال السكر، فجعل كل واحد رائيا لسائرهم غشيهم من خوف عذاب الله ما أذهب عقولهم وردهم في حال من يذهب السكر عقله وتمييزه، وجاء هذا الاستدراك بالإخبار عن * (عذاب الله) * أنه * (شديد) * لما تقدم ما هو بالنسبة إلى العذاب كالحالة اللينة وهو الذهول والوضع ورؤية الناس أشباه السكارى، وكأنه قيل: وهذه أحوال هينة * (ولاكن عذاب الله شديد) * وليس بهين ولا لين لأن لكن لا بد أن تقع بين متنافيين بوجه ما وتقدم الكلام فيها.
* (ومن الناس من يجادل فى الله) * أي في قدرته وصفاته. قيل: نزلت في أبي جهل. وقيل: في أبي بن خلف والنضر بن الحارث. وقيل: في النضر وكان جدلا يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين، ولا يقدر الله على إحياء من بلي وصار ترابا والآية في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز من الصفات والأفعال، ولا يرفع إلى علم ولا برهان ولا نصفة. والظاهر أن قوله * (كل شيطان مريد) * هو من الجن كقوله * (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) *. وقيل: يحتمل أن يكون من الإنس كقوله * (شياطين الإنس والجن) *.
لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة ذكر من غفل عن الجزاء في ذلك اليوم وكذب به. وقرأ زيد بن علي * (ويتبع) * خفيفا، والظاهر أن الضمير في * (عليه) * عائد على * (من) * لأنه المحدث عنه، وفي * (أنه) * و * (تولاه) * وفي * (فإنه) * عائد عليه أيضا، والفاعل يتولى ضمير * (من) * وكذلك الهاء في * (يضله) * ويجوز أن تكون الهاء في هذا الوجه أنه ضمير الشأن، والمعنى أن هذا المجادل لكثرة جداله بالباطل واتباعه الشيطان صار إماما في الضلال لمن يتولاه، فشأنه أن يضل من يتولاه. وقيل: الضمير في * (عليه) * عائد على * (كل شيطان مريد) * قاله قتادة ولم يذكر الزمخشري غيره، وأورد ابن عطية القول الأول احتمالا. وقال ابن عطية: ويظهر لي أن الضمير في * (أنه) * الأولى للشيطان والثانية لمن الذي هو للمتولي. قال الزمخشري: والكتبة عليه مثل أي إنما * (كتاب) * إضلال من يتولاه * (عليه) * ورقم به لظهور ذلك في حاله.
وقرأ الجمهور * (كتاب) * مبنيا للمفعول. وقرئ * (كتاب) * مبنيا للفاعل أي كتب الله. وقرأ الجمهور: * (أنه) * بفتح الهمزة في موضع المفعول الذي لم يسم
فاعله، * (فإنه) * بفتحها أيضا، والفاء جواب * (من) * الشرطية أو الداخلة في خبر * (من) * إن كانت موصولة. و * (فإنه) * على تقدير فشأنه أنه * (يضله) * أي إضلاله أو فله أن يضله.
وقال الزمخشري: فمن فتح فلأن الأول فاعل * (كتاب) * بعني به مفعولا لم يسم فاعله، قال: والثاني عطف عليه انتهى. وهذا لا يجوز لأنك إذا جعلت * (فإنه) * عطفا على * (أنه) * بقيت بلا استيفاء خبر لأن * (من تولاه) * من، فيه مبتدأة، فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى يستقل خبرا لأنه وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها إذ جعلت * (فإنه) * عطفا على * (أنه) * ومثل قول الزمخشري قال ابن عطية قال * (وأنه) * في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله، وأنه الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها، وخطا خطأ لما بيناه. وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمر و * (أنه) * * (فإنه) * بكسر الهمزتين. وقال ابن عطية: وقرأ أبو عمرو * (أنه من تولاه فأنه يضله) * بالكسر فيهما انتهى، وليس مشهورا عن أبي عمرو. والظاهر أن ذلك من إسناد * (كتاب) * إلى الجملة إسنادا لفظيا أي * (كتاب) * عليه هذا الكلام كما تقول: كتب إن الله يأمر بالعدل. وقال الزمخشري: أو عن تقدير قبل أو على المفعول الذي لم يسم فاعله الكتب، والجملة من * (أنه من تولاه) * في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لقيل المقدرة،
326

وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة فلا يكون ذلك مفعولا لم يسم فاعله، وأما الثاني فلا يجوز أيضا على مذهب البصريين لأنه لا تكسر أن بعد ما هو بمعنى القول، بل بعد القول صريحة، ومعنى * (ويهديه) * ويسوقه وعبر بلفظ الهداية على سبيل التهكم.
ولما ذكر تعالى من يجادل في قدرة الله بغير علم وكان جدالهم في الحشر والمعاد ذكر دليلين واضحين على ذلك أحدهما في نفس الإنسان وابتداء خلقه، وتطوره في مراتب سبع وهي التراب، والنطفة، والعلقة، والمضغة، والإخراج طفلا، وبلوغ الأشد، والتوفي أو الرد إلى الهرم. والثاني في الأرض التي تشاهدون تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلا فإذا ورد خبر الشرع بوقوعه وجب التصديق به وأنه واقع لا محالة.
وقرأ الحسن * (من البعث) * بفتح العين وهي لغة فيه كالحلب والطرد في الحلب والطرد، والكوفيون إسكان العين عندهم تخفيف يقيسونه فيما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر، والبصريون لا يقيسونه وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان. والمعنى إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم * (من تراب) * أي أصلكم آدم وسلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته، أو باعتبار وسائط التولد لأن المني ودم الطمث يتولدان من الأغذية والأغذية حيوان ونبات، والحيوان يعود إلى النبات، والنبات من الأرض والماء والنطفة المني. وقيل * (نطفة) * آدم قاله النقاش. والعلقة قطعة الدم الجامدة ومعنى * (وغير مخلقة) * أي ليست كاملة ولا ملساء فالمضغ متفاوتة لذلك تفاوتوا طولا وقصرا وتماما ونقصانا. وقال مجاهد * (غير * مخلقة) * هي التي تستسقط وقاله قتادة والشعبي وأبو العالية. ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن تضعيف الفعل لأن فيه خلقا كثيرة.
وقرأ ابن أبي عبلة * (مخلقة) * بالنصب وغير بالنصب أيضا نصبا على الحال من النكرة المتقدمة، وهو قليل وقاسه سيبويه. قال الزمخشري: و * (لنبين لكم) * بهذا التدريج قدرتنا وإن من قدر على خلق البشر * (من تراب) * أولا * (ثم من نطفة) * ثانيا ولا تناسب بين التراب والماء، وقدر على أن يجعل النطفة * (علقة) * وبينهما تباين ظاهر ثم يجعل العلقة * (مضغة) * والمضغة عظاما قدر على إعادة ما أبداه، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس وورود الفعل غير معدي إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الفكر ولا يحيط به الوصف انتهى.
و * (لنبين) * متعلق بخلقناكم. وقيل * (لنبين) * لكم أمر البعث. قال ابن عطية: وهو اعتراض بين الكلامين. وقال الكرماني: يعني رشدكم وضلالكم. وقيل * (لنبين لكم) * أن التخليق هو اختيار من الفاعل المختار، ولولاه ما صار بعضه غير مخلق. وقرأ ابن أبي عبلة ليبين لكم ويقر بالياء. وقرأ يعقوب وعاصم في رواية * (ونقر) * بالنصب عطفا على * (لنبين) *.
وعن عاصم أيضا ثم يخرجكم بنصب الجيم عطفا على * (ونقر) * إذا نصب. وعن يعقوب * (ونقر) * بفتح النون وضم القاف والراء من قر الماء صبه. وقرأ أبو زيد النحوي ويقر بفتح الياء والراء وكسر القاف وفي الكلام لابن حبار * (لنبين) * * (ونقر) * * (* ونخرجكم) * بالنصب فيهن. المفضل وبالياء فيهما مع النصب، أبو حاتم وبالياء والرفع عمر بن شبة انتهى.
قال الزمخشري: والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره من ذلك.
* (ويؤخركم إلى أجل مسمى) * وهو وقت الوضع وما لم يشأ إقراره مجته الأرحام أو أسقطته. والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل والمعنى * (خلقناكم) * مدرجين هذا التدريج لغرضين أحدهما: أن نبين قدرتنا والثاني أن * (نقر فى * الارحام) * من نقر حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم. ويعضد هذه القراءة قوله * (ثم لتبلغوا أشدكم) * انتهى.
وقرأ يحيى بن وثاب * (ما نشاء) * بكسر النون والأجل المسمى مختلف فيه بحسب جنين جنين فساقط وكامل أمره خارج حيا ووحد * (طفلا) * لأنه مصدر في
327

الأصل قاله المبرد والطبري، أو لأن الغرض الدلالة على الجنس، أو لأن معنى يخرجكم كل واحد كقولك الرجال يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد. وقال الزمخشري: الأشد كمال القوة والعقل والتمييز، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأشدة والقيود وغير ذلك وكأنها مشدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع انتهى.
وتقدم الكلام في الأشد ومقداره من الزمان. وإن من الناس من قال إنه جمع شدة كأنعم جمع نعمة وأما القيود: فعن أبي عمرو الشيباني إن واحدة قيد * (ومنكم من يتوفى
) * وقرئ * (يتوفى) * بفتح الياء أي يستوفى أجله، والجمهور بالضم أي بعد الأشد وقبل الهرم، وهو * (أرذل العمر) * والخرف، فيصبر إلى حالة الطفولية ضعيف البنية سخيف العقل، ولا زمان لذلك محدود بل ذلك بحسب ما يقع في الناس وقد نرى من علت سنه وقارب المائة أو بلغها في غاية جودة الذهن والإدراك مع قوة ونشاط، ونرى من هو في سن الاكتهال وقد ضعفت بنيته أوضح تعالى أنه قادر على إنهائه إلى حالة الخرف كما أنه كان قادرا على تدريجه إلى حالة التمام، فكذلك هو قادر على إعادة الأجساد التي درجها في هذه المناقل وإنشائها النشأة الثانية.
و * (* ليكلا) * يتعلق بقوله، يرد) * قال الكلبي * (*) * قال الكلبي * (يسير لكيلا) * يعقل من بعد عقله الأول شيئا. وقيل * (لكيلا) * يستفيد علما وينسى ما علمه. وقال الزمخشري: أي ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته، يقول لك من هذا؟ فتقول فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه. وروى عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم * (العمر) *.
* (وترى الارض هامدة) * هذا هو الدليل الثاني الذي تضمنته، والدليل الأول الآية، ولما كان الدليل الأول بعض مراتب الخلقة فيه غير مرتبين قال * (إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم) * فلم يحل في جميع رتبه على الرؤية، ولما كان هذا الدليل الثاني مشاهدا للأبصار أحال ذلك على الرؤية فقال * (وترى) * أيها السامع أو المجادل * (الارض هامدة) * ولظهوره تكرر هذا الدليل في القرآن و * (الماء) * ماء المطر والأنهار والعيون والسواني واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات * (وربت) * أي زادت وانتفخت. وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وأبو عمرو في رواية وربأت بالهمز هنا وفي فصلت أي ارتفعت وأشرفت، يقال: فلان يربأ بنفسه عن كذا: أي يرتفع بها عنه. قال ابن عطية: ووجهها أن يكون من ربأت القوم إذا علوت شرفا من الأرض طليعة فكان الأرض بالماء تتطاول وتعلو انتهى. ويقال ربىء وربيئة. وقال الشاعر:
* بعثنا ربيئا قبل ذلك مخملا
*
كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقى
*
ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطورهم في تلك المراتب، ومن إحياء الأرض حاصل بهذا وهو حقيقته تعالى فه الثابت الموجود القادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وقد وعد بالبعث وهو قادر عليه فلا بد من كيانه. وقوله * (وأن الساعة) * إلى آخره توكيد لقوله * (ذالك بأن الله) * والظاهر أن قوله * (وأن الساعة ءاتية) * ليس داخلا في سبب ما تقدم ذكره، فليس معطوفا على أنه الذي يليه، فيكون على تقدير. والأمر * (إن الساعة) * وذلك مبتدأ وبأن الخبر. وقيل ذلك منصوب بمضمر أي فعلنا ذلك.
* (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق * ذالك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد * ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر) *. (سقط: خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، يدعو من دون الله ما لا يضر ولا ينفع ذلك هو الضلال البعيد، يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير، إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد، من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله)
328

(سقط يهدي من يريد)
الظاهر أن المجادل في هذه الآية غير المجادل في الآية قبلها، فعن محمد بن كعب أنها نزلت في الأخنس بن شريق. وعن ابن عباس في أبي جهل. وقيل: الأولى في المقلدين وهذه في المقلدين، والجمهور على أنها والتي قبلها في النضر كررت مبالغة في الذم، ولكون كل واحدة اشتملت على زيادة ليست في الأخرى. وقد قيل فيه: نه نزلت فيه بضع عشرة آية. وقال ابن عطية: وكرر هذه على وجه التوبيخ، فكأنه يقول: هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان * (ومن الناس) * مع ذلك * (من يجادل) * فكان الواو واو الحال، والآية المتقدمة الواو فيها واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار وهي ههنا مكررة للتوبيخ انتهى. ولا يتخيل أن الواو في * (ومن الناس من يجادل) * واو حال، وعلى تقدير الجملة التي قدرها قبله لو كان مصرحا بها لم يتقدر بإذ فلا تكون للحال، وإنما هي للعطف قسم المخذولين إلى مجادل * (فى الله بغير علم) * متبع لشيطان مريد، ومجادل * (بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) * إلى آخره وعابد ربه على حرف والمراد بالعلم العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة، وبالكتاب المنير الوحي أي * (يجادل) * بغير واحد من هذه الثلاثة.
وانتصب * (ثانى عطفه) * على الحال من الضمير المستكن في * (يجادل) * قال ابن عباس: متكبرا، ومجاهد: لاويا عنقه بقبح، والضحاك شامخا بأنفه وابن جريج: معرضا عن الحق، وقرأ الحسن ثاني عطف بفتح العين أي: تعطفه وترحمه و (ليضل) متعلق ب (تجادل) وقرأ مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية * (ليضل) * بفتح الياء أي * (ليضل) * في نفسه والجمهور بضمها أي * (ليضل) * غيره، وهو يترتب على إضلاله كثرة العذاب، إذ عليه وزر من عمل به. ولما كان مآل جداله إلى الإضلال كان كأنه علة له، وكذلك لما كان معرضا عن الهدى مقبلا على الجدال بالباطل كان كالخارج من الهدى إلى الضلال.
والخزي في الدنيا ما لحقه يوم بدر من الأسر والقتل والهزيمة، وقد أسر النضر. وقيل: يوم بدر بالصفراء. و * (الحريق) * قيل طبقة من طباق جهنم، وقد يكون
من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الحريق أي المحرق كالسميع بمعنى المسمع.
وقرأ زيد بن علي فأذيقه بهمزة المتكلم ذلك إشارة إلى الخزي والإذاقة، وجوزوا في إعراب ذلك هذا ما جوزوا في إعراب ذلك بأن الله هو الحق. وتقدم المراد في * (بما قدمت يداك) * أي باجترامك وبعدل الله فيك إذ عصيته، ويحتمل أن يكون وأن الله متقطعا ليس ذلك في السبب والتقدير والأمر أن الله. قال ابن عطية: والعبيد هنا ذكروا في معنى مسكنتهم وقلة قدرتهم، فلذلك جاءت هذه الصيغة انتهى. وهو يفرق بين العبيد والعباد وقد رددنا عليه تفرقته في أواخر آل عمران في قوله * (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * وشرحنا هنا قوله * (بظلام) *.
من * (يعبد الله) * نزلت في أعراب من أسلم وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا. وقيل: في أعراب لا يقين لهم يسلم أحدهم فيتفق تثمير ماله وولادة ذكر وغير ذلك من الخير، فيقول: هذا دين جيد أو ينعكس حاله فيتشاءم ويرتد كما جرى للعرنيين قال معناه ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. وعن ابن عباس: في شيبة بن ربيعة أسلم قبل ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم)، فلما أوحى إليه ارتد. وقيل: في يهودي أسلم فأصيب فتشاءم بالإسلام، وسأل الرسول إلا قاله فقال: (إن الإسلام لا يقال) فنزلت. وعن الحس: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه وقال ابن عيسى: على ضعف يقين. وقال أبو عبيد * (على حرف) * على شك. وقال ابن عطية * (حرف) * على انحراف منه عن العقيدة البيضاء، أو على شفا منها معدا للزهوق.
وقال الزمخشري * (على حرف) * على طرف من الدين لا في وسطه وقبله، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة كالذي يكون على طرف من العسكر، فأن أحسن بظفر وغنيمة قر واطمأن وإلا فر وطار على وجهه انتهى. وخسرانه الدنيا إصابته فيها بما يسوؤه من ذهاب ماله وفقد أحبائه فلم يسلم للقضاء. وخسران الآخرة حيث حرم ثواب من صبر فارتد عن
329

الإسلام.
وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم خاسر الدنيا اسم فاعل نصبا على الحل. وقرئ خاسر اسم فاعل مرفوعا على تقدير وهو خاسر. وقال الزمخشري: والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير وهو وجه حسن انتهى. وقرأ الجمهور: * (خسر) * فعلا ماضيا وهو استئناف إخبار، ويجوز أن يكون في موضع الحال ولا يحتاج إلى إضمار قد لأنه كثر وقوع الماضي حالا في لسان العرب بغير قد فساغ القياس عليه، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون بدلا من قوله * (انقلب على وجهه) * كما كان يضاعف بدلا من يلق. وتقدم تفسير * (الضلال البعيد) * في قوله * (ضلالا بعيدا) * ونفى هنا الضر والنفع وأثبتهما في قوله * (لمن ضره أقرب من نفعه) * وذلك لاختلاف المتعلق، وذلك أن قوله * (ما لا ينفعهم) * هو الأصنام والأوثان، ولذلك أتى التعبير عنها بما التي لا تكون لآحاد من يعقل. وقوله * (يدعو لمن ضره) * هو من عبد باقتضاء، وطلب من عابديه من المدعين الإلهية كفرعون وغيره من ملوك بني عبيد الذين كانوا بالمغرب ثم ملكوا مصر، فإنهم كانوا يدعون الإلهية ويطاف بقصرهم في مصر وينادون بما ينادي به رب العالمين من التسبيح والتقديس، فهؤلاء وإن كان منهم نفع ما لعابديهم في دار الدنيا فضررهم أعظم وأقرب من نفعهم، إذ هم في الدنيا مملوكون للكفار وعابدون لغير الله، وفي الآخرة معذبون العذاب الدائم ولهذا كان التعبير هنا بمن التي هي لمن يعقل، وعلى هذا فتكون الجملتان من إخبار الله تعالى عمن يدعو إلها غير الله.
وقال الزمخشري: فإن قلت: الضر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا تناقض قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ولا
330

نفعا وهو يعتقد فيه بجهله وضلالته أن سينتفع به، ثم قال يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها * (لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير) * وكرر يدعوا كأنه قال * (يدعو) * * (يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه) * ثم قال * (لمن ضره) * بكونه معبودا * (أقرب من نفعه) * بكونه شفيعا * (لبئس المولى) * انتهى. فجعل الزمخشري المدعو في الآيتين الأصنام وأزال التعارض باختلاف القائلين بالجملة الأول من قول الله تعالى إخبارا عن حال الأصنام. والجملة الثانية من كلام عباد الأصنام يقولون ذلك في الآخرة، وحكى الله عنهم ذلك وأنهم أثبتوا ضرا بكونهم عبدوه، وأثبتوا نفعا بكونهم اعتقدوه شفيعا. فالنافي هناك غير المثبت هنا، فزال التعارض على زعمه والذي أقول إن الصنم ليس له نفع البتة حتى يقال * (ضره أقرب من نفعه) *.
وأجاب بعضهم عن زعم من زعم أن الظاهر الآيتين يقتضي التعارض بأنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها نسب الضرر إليها كقوله * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * أضاف الإضلال إليهم إذ كانوا سبب الضلال، فكذا هنا نفي الضرر عنهم لكونها ليست فاعلة ثم أضافه إليها لكونها سبب الضرر. وقال آخرون: هي في الحقيقة لا تضر ولا تنفع بين ذلك في الآية الأولى ثم أثبت لها الضر والنفع في الثانية على طريق التسليم، أي ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها، وتكلف المعربون وجوها فقالوا * (يدعو) * إما أن يكون لها تعلق بقوله * (لمن ضره) * أولا إن لم يكن لها تعلق فوجوه.
أحدها: أن يكون توكيدا لفظيا ليدعو الأولى، فلا يكون لها معمول.
الثاني: أن تكون عاملة في ذلك من قوله * (ذالك هو الضلال) * وقد المفعول الذي هو * (ذالك) * وجعل موصولا بمعنى الذي قاله أبو علي الفارسي، وهذا لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة أن يكون موصولا، والبصريون لا يجيزون ذلك إلا في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أو من.
الثالث: أن يكون * (يدعو) * في موضع الحال، * (وذلك) * مبتدأ وهو فصل أو مبتدأ وحذف الضمير من * (يدعو) * أي يدعوه وقدره مدعوا وهذا ضعيف، لأن يدعوه لا يقدر مدعوا إنما يقدر داعيا، فلو كان يدعى مبنيا للمفعول لكان تقديره مدعوا جاريا على القياس. وقال نحوه الزجاج وإن كان له تعلق بقوله * (لمن ضره) * فوجوه.
أحدها: ما قاله الأخفش وهو أن * (يدعو) * بمعنى يقول و * (من) * مبتدأ موصول صلته الجملة بعده. وهي * (ضره أقرب من نفعه) * وخبر المبتدأ محذوف، تقديره إله وإلهي. والجملة في موضع نصب محكية بيدعو التي هي بمعنى يقول، قيل: هو فاسد المعنى لأن الكافر لم يعتقد قط أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها. وقيل: في هذا القول يكون * (لبئس) * مستأنفا لأنه لا يصح دخوله في الحكاية لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم * (لبئس المولى) *.
الثاني: أن * (يدعو) * بمعنى يسمي، والمحذوف آخرا هو المفعول الثاني ليسمى تقديره إلها وهذا لا يتم إلا بتقدير زيادة اللام أي يدعو من ضره.
الثالث: أن يدعو شبه بأفعال القلوب لأن الدعاء لا يصدر إلا عن اعتقاد، والأحسن أن يضمن معنى يزعم ويقدر لمن خبره، والجملة في موضع نصب ليدعو أشار إلى هذا الوجه الفارسي.
والرابع: ما قاله الفراء وهو أن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير * (يدعو) * من لضره أقرب من نفعه، وهذا
331

بعيد لأن ما كان في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول.
الخامس: أن تكون اللام زائدة للتوكيد، و * (من) * مفعول بيدعو وهو ضعيف لأنه ليس من مواضع زيادة اللام، لكن يقويه قراءة عبد الله يدعو من ضره بإسقاط اللام، وأقرب التوجيهات أن يكون * (يدعو) * توكيدا ليدعو الأول؛ واللام في * (لمن) * لام الابتداء، والخبر الجملة التي هي قسم محذوف، وجوابه * (لبئس المولى) * والظاهر أن * (يدعو) * يراد به النداء والاستغاثة. وقيل: معناه بعيد، و * (المولى) * هنا الناصر والعشير الصاحب المخالط.
ولما ذكر تعالى حالة من يعبده على حرف وسفه رأيه وتوعده بخسرانه في الآخرة عقبة بذكر حال مخالفيهم من أهل الإيمان وما وعدهم به من الوعد الحس، ثم أخذ في توبيخ أولئك الأولين كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله لن ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم) وأتباعه، ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا، فمن ظن غير ذلك فليمدد بسبب ويختلق وينظر هل يذهب بذلك غيظه، قال هذا المعنى قتادة، وهذا على جهة المثل السائر قولهم: دونك الجبل فاختنق، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه، فعلى هذا تكون الهاء في * (ينصره) * للرسول صلى الله عليه وسلم) وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي، واختاره الفراء والزجاج فالمعنى إن لن ينصر الله محمدا في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه، والرسول وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله * (إن الله يدخل الذين ءامنوا) * وظان ذلك قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر أو أعراب استبطؤوا ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم) فتباطؤوا عن الإسلام. والظاهر أن الضمير في * (ينصره) * عائد على * (من) * لأنه المذكور، وحق الضمير أن يعود على المذكور وهو قول مجاهد. وحمل بعض قائلي هذا القول النصر هنا على الرزق كما قالوا: أرض منصورة أي ممطورة. وقال الشاعر:
* وإنك لا تعطي امرا فوق حقه
*
ولا تملك الشق الذي أنت ناصره
*
أي معطييه. وقال: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره الله، فالمعنى من كان يظن أن لن يرزقه الله فيعدل عن دين محمد لهذا الظن كما وصف في قوله * (وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) * فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق، فإن ذلك لا يبلغه إلا ما قدر له ولا يجعله مرزوقا أكثر مما قسم له، ويحتمل على هذا القول أن يكون النصر على بابه أي من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخر فيغتاظ لانتفاء نصره فليمذدد، ويدل على قوله فيغتاظ قوله * (هل يذهبن كيده ما يغيظ) * ويكون معنى قوله * (فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع) * فليتحيل بأعظم الحيل في نصرة الله إياه ثم ليقطع الحبل * (فلينظر هل يذهبن كيده) * وتحيله في إيصال النصر إليه الشيء الذي يغيظه من انتفاء نصره بتسلط أعدائه عليه.
وقال الزمخشري: هذا كلام دخله اختصار والمعنى: أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ويغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مد جبلا إلى سماء بيته فاختنق، * (فلينظر) * وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه، وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه، ومنه قيل للبهر القطع وسمى فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد به نفسه، والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه.
وقيل
332

* (فليمدد) * بحبل * (إلى السماء) * المظلة وليصعد عليه فليقطع الوحي أن ينزل عليه وهذا قول ابن زيد. وقيل: الضمير في * (ينصره) * عائد على الدين
والإسلام. قال ابن عطية: وأبين وجوه هذه الآية أن يكون مثلا ويكون النصر المعروف والقطع الاختناق والسماء الارتفاع في الهواء سقف أو شجرة أو نحوه فتأمله، وما في * (ما يغيظ) * بمعنى الذي، والعائد محذوف أو مصدرية. وكذلك أي ومثل ذلك الإنزال * (أنزلنا) * القرآن كله * (بينات فاسأل) * أي لا تفاوت في إنزال بعضه ولا إنزال كله والهاء في * (أنزلناه) * للقرآن أضمر للدلالة عليه كقوله * (حتى توارت بالحجاب) * والتقدير والأمر * (إن الله * يهدى من يريد) * أي يخلق الهداية في قلبك يريد هدايته لا خالق للهداية إلا هو.
* (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على) *.
لما ذكر قيل أن الله يهدي من يريد) * عقب ببيان من يهديه ومن لا يهديه، لأن ما قبله يقتضي أن من لا يريد هدايته لا يهديه يدل إثبات الهداية لمن يريد على نفيها عمن لا يريد، والذين أشركوا هم عبدة الأوثان والأصنام، ومن عبد غير الله. قال الزمخشري: ودخلت * (*) * عقب ببيان من يهديه ومن لا يهديه، لأن ما قبله يقتضي أن من لا يريد هدايته لا يهديه يدل إثبات الهداية لمن يريد على نفيها عمن لا يريد، والذين أشركوا هم عبدة الأوثان والأصنام، ومن عبد غير الله. قال الزمخشري: ودخلت * (ءان) * على كل واحد جزأي الجملة لزيادة التأكيد، ونحوه قول جرير:
* إن الخليفة إن الله سربله
*
سربال ملك به ترجى الخواتيم
*
وظاهر هذا أنه شبه البيت بالآية، وكذلك قرنه الزجاج بالآية ولا يتعين أن يكون البيت كالآية لأن البيت يحتمل أن يكون خبر إن الخليفة قوله: به ترجى الخواتيم، ويكون إن الله سربله سربال ملك جملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله * (إن الله يفصل) * وحسن دخول * (ءان) * على الجملة الواقعة خبرا طول الفصل بينهما بالمعاطيف، والظاهر أن الفصل بينهم يوم القيامة هو بصيرورة المؤمنين إلى الجنة والكافرين إلى النار، وناسب الختم بقوله * (شهيدا) * الفصل بين الفرق.
وقال الزمخشري: الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد. وقيل * (يفصل بينهم) * يقضي بين المؤمنين والكافرين، والظاهر أن السجود هنا عبارة عن طواعية ما ذكر تعالى والانقياد لما يريده تعالى، وهذا معنى شمل من يعقل وما لا يعقل، ومن * (يسجد) * سجود التكليف ومن لا يسجده، وعطف على ما من عبد من دون الله ففي * (السماوات) * الملائكة كانت تعبدها و * (الشمس) * عبدتها حمير. وعبد * (القمر) * كنانة قاله ابن عباس. والدبران تميم. والشعرى لخم وقريش. والثريا طيىء وعطاردا أسد. والمرزم ربيعة. و * (فى الارض) * من عبد من البشر والأصنام المنحوتة من * (الجبال * والشجر) * والبقر وما عبد من الحيوان. وقرأ الزهري * (والدواب) * بتخفيف الباء. قال أبو الفضل الرازي ولا وجه لذلك إلا أن يكون فرارا من التضعيف مثل ظلت وقرن ولا تعارض بين قوله * (ومن فى الارض) * لعمومه وبين قوله * (وكثير من الناس) * لخصوصه لأنه لا يتعين عطف * (وكثير) * على ما قبله من المفردات المعطوفة الداخلة تحت يسجد إذ يجوز إضمار * (يسجد له) * كثير من الناس سجود عبادة دل عليه المعنى لا أنه يفسره * (يسجد) *
333

الأول لاختلاف الاستعمالين، ومن يرى الجمع بين المشركين وبين الحقيقة والمجاز بجيز عطف * (وكثير من الناس) * على المفردات قبله، وإن اختلف السجود عنده بنسبته لما لا يعقل ولمن يعقل ويجوز أن يرتفع على الابتداء، والخبر محذوف يدل على مقابلة الذين في الجملة بعده أي * (وكثير من الناس) * مثاب.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون * (من الناس) * خبرا له أي * (من الناس) * الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون، ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فعطفت كثير على كثير ثم، عبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قال * (وكثير) * * (وكثير من الناس * حق) * عليهم * (العذاب) * انتهى. وهذان التخريجان ضعيفان.
وقرأ جناح بن حبيش وكبير حق بالباء. وقال ابن عطية * (وكثير حق عليه العذاب) * يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم أي * (وكثير حق عليه العذاب) * يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره، ونحو ذلك قاله مجاهد وقال سجوده بظله. وقرئ * (وكثير) * حقا أي * (حق عليهم * العذاب) * حقا. وقرئ * (حق) * بضم الحاء ومن مفعول مقدم بيهن. وقرأ الجمهور * (من مكرم) * اسم فاعل. وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على المصدر أي من إكرام. قال الزمخشري: ومن أهانه الله كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه، فقد بقي مهانا لمن يجد له مكرما أنه يفعل ما يشاء من الإكرام والإهانة، ولا يشاء من ذلك إلا ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال.
ولما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة ذكر ما دار بينهم من الخصومة في دينه، فقال * (هاذان) * قال قيس بن عباد وهلال بن يساف، نزلت في المتبارزين يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث برز والعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وعن علي: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى، وأقسم أبو ذر على هذا ووقع في صحيح البخاري أن الآية فيهم. وقال ابن عباس: الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وقع بينهم تخاصم، قالت اليهود: نحن أقدم دينا منكم فنزلت. وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم، وخصم مصدر وأريد به هنا الفريق، فلذلك جاء * (اختصموا)
* مراعاة للمعنى إذ تحت كل خصم أفراد، وفي رواية عن الكسائي * (خصمان) * بكسر الخاء ومعنى * (فى ربهم) * في دين ربهم. وقرأ ابن أبي عبلة اختصما، راعى لفظ التثنية ثم ذكر تعالى ما أعد للكفار.
وقرأ الزعفراني في اختياره: * (قطعت) * بتخفيف الطاء كأنه تعالى يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، والظاهر أن هذا المقطع لهم يكون من النار. وقال سعيد بن جبير * (ثياب) * من نحاس مذاب وليس شيء إذا حمي أشد حرارة منه، فالتقدير من نحاس محمى بالنار. وقيل: الثياب من النار استعارة عن إحاطة النار بهم كما يحيط الثوب بلابسه. وقال وهب: يكسى أهل النار والعري خير لهم، ويحيون والموت خير لهم.
ولما ذكر ما يصب على رؤوسهم إذ يظهر في المعروف أن الثوب إنما يغطى به الجسد دون الرأس فذكر ما يصيب الرأس من العذاب. وعن ابن عباس: لو سقطت من الحميم نقطة على جبال الدنيا لأذابتها ولما ذكر ما يعذب به الجسد ظاهره وما يصب على الرأس ذكر ما يصل إلى باطن المعذب وهو الحميم الذي يذيب ما في البطن من الحشا ويصل ذلك الذوب إلى الظاهر وهو الجلد فيؤثر في الظاهر تأثيره في الباطن كما قال تعالى * (فقطع أمعاءهم) * وقرأ الحسن وفرقة * (يصهر) * بفتح الصاد وتشديد الهاء. وفي الحديث: (إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان). والظاهر عطف * (والجلود) * على * (ما) * من قوله * (يصهر به ما فى بطونهم) * وأن * (* الجلود) * تذاب كما تذاب الأحشاء. وقيل: التقدير وتخرق * (* الجلود) * لأن الجلود لا تذاب إنما تجتمع على النار وتنكمش وهذا كقوله:
334

* علفتها تبنا وماء باردا أي وسقيتها ماء. والظاهر أن الضمير في * (بها ولهم) * عائد على الكفار، واللام للاستحقاق. وقيل: بمعنى على أي وعليهم كقوله * (ولهم اللعنة) * أي وعليهم. وقيل: الضمير يعود على ما يفسره المعنى وهو الزبانية. وقال قوم منهم الضحاك: المقامع المطارق. وقيل: سياط من نار وفي الحديث: (لو وضع مقمع منها في الأرض مث اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض) * (ومن * غم) * بد من منها بدل اشتمال، أعيد معه الجار وحذف الضمير لفهم المعنى أي من غمها، ويحتمل أن تكون من للسبب أي لأجل الغم الذي يلحقهم، والظاهر تعليق الإعادة على الإرادة للخروج فلا بد من محذوف يصح به المعنى، أي من أماكنهم المعدة لتعذيبهم * (أعيدوا فيها) * أي في تلك الأماكن. وقيل * (أعيدوا فيها) * بضرب الزبانية إياهم بالمقامع * (وذوقوا) * أي ويقال لهم ذوقوا.
*
ولما ذكر تعالى ما أعد لأحد الخصمين من العذاب ذكر ما أعد من الثواب للخصم الآخر. وقرأ الجمهور * (يحلون) * بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الللام. وقىء بضم الياء والتخفيف. وهو بمعنى المشدد. وقرأ ابن عباس * (يحلون) * بفتح الياء واللام وسكون الحاء من قولهم: حلى الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي والمرأة ذات حلي والمرأة حال. وقال أبو الفضل الرازي: يجوز أن يكون من حلي يعيني يحلى إذا استحسنته، قال فتكون * (من) * زائدة فيكون المعنى يستحسنون فيها الأساورة الملبوسة انتهى. وهذا ليس بجيد لأنه جعل حلى فعلا متعديا ولذلك حكم بزيادة * (من) * في الواجب وليس مذهب البصريين، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز لأنه لا يحفظ لازما فإن كان بهذا المعنى كانت * (من) * للسبب أي بلباس أساور الذهب يحلون بعين من يراهم أي يحلى بعضهم بعين بعض. قال أبو الفضل الرازي: ويجوز أن تكون * (من) * حليت به إذا ظفرت به، فيكون المعنى * (يحلون فيها) * بأساور فتكون * (من) * بدلا من الباء، والحلية من ذلك فإما إذا أخذته من حليت به فإنه الحلية، وهو من الياء وإن أخذته من حلي بعيني فإنه من الحلاوة من الواو انتهى. ومن معنى الظفر قولهم: لم يحل فلان بطائل، أي لم يظفر. والظاهر أن * (من) * في * (من أساور) * للتبعيض وفي * (من ذهب) * لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب.
وقال ابن عطية: * (من) * في * (من أساور) * لبيان الجنس، ويحتمل أن تكون للتبيعض. وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف. وقرأ ابن عباس من أسور بفتح الراء من غير ألف ولا هاء، وكان قياسه أن يصرفه لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجودا فمنعه الصرف. وقرأ أصم ونافع والحسن والجحدري والأعرج وأبو جعفر وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب * (ولؤلؤا) * هنا وفي فاطر بالنصب وحمله أبو الفتح على إضمار فعل وقدره الزمخشري ويؤتون * (لؤلؤا) * ومن جعل * (من) * في * (من أساور) * زائدة جاز أن يعطف * (ولؤلؤا) * على موضع * (أساور) * وقيل يعطف على موضع * (من أساور) * لأنه يقدر و * (يحلون) * حليا * (من أساور) *. وقرأ باقي السبعة والحسن أيضا وطلحة وابن وثاب والأعمش. وأهل مكة ولؤلؤ بالخفض عطفا على * (أساور) * أو على * (ذهب) * لأن السوار يكون من ذهب ولؤلؤ، يجمع بعضه إلى بعض.
قال الجحدري: الألف ثابتة بعد الواو في الإمام. وقال الأصمعي: ليس فيها ألف، وروى يحيى عن أبي بكر همز الأخير وإبدال الأولى. وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك. وقرأ الفياض: ولوليا قلب الهمزتين واوا صارت الثانية واوا قبلها ضمة، عمل فيها ما عمل في أدل من قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة. وقرأ ابن عباس وليليا أبدل المهمزتين واوين ثم قلبهما ياءين اتبع الأولى للثانية. وقرأ طلحة ولول مجرورا عطفا على ما عطف عليه المهموز.
* (والطيب * من القول) * إن كانت الهداية في الدنيا فهو قول لا إله إلا الله، والأقوال الطيبة من الأذكار وغيرها، ويكون الصراط طريق الإسلام وإن كان إخبارا عما يقع منهم في الآخرة فهو قولهم: الحمد لله الذي صدقنا وعده وما أشبه ذلك من محاورة أهل الجنة، ويكون الصراط الطريق إلى الجنة. وعن ابن عباس: هو لا إله إلا الله والحمد لله زاد ابن زيد والله أكبر. وعن السدي القرآن. وحكى
335

الماوردي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعن ابن عباس: هو الحمد لله الذي صدقنا وعده، والظاهر أن * (الحميد) * وصف لله تعالى. قال ابن عطية: ويحتمل أن يرد بالحميد نفس الطريق، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله: دار الآخرة.
* (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه) *.
المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار، ومنه * (ويصدون عن سبيل الله) * كقوله * (الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) * وقيل: هو مضارع أريد به الماضي عطفا على * (كفروا) * وقيل: هو على إضمار مبتدأ أي وهم * (يصدون) * وخبر إن محذوف قدره ابن عطية بعد * (والباد) * خسروا أو هلكوا وقدره الزمخشري بعد قوله * (الحرام) * نذيقهم * (من عذاب أليم) * ولا يصح تقديره بعده لأن الذي صفة * (المسجد الحرام) * فموضع التقدير هو بعد * (والباد) * لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ، ابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك. وقيل: الواو في * (ويصدون) * زائدة وهو خبر إن تقديره إن الذين كفروا يصدون. قال ابن عطية: وهذا مفسد للمعنى المقصود انتهى. ولا يجيز البصريون زيادة الواو وإنما هو قول كوفي مرغوب عنه.
وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صد رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك بجمع إلا أن يراد صدهم لأفراد من الناس فقد وقع ذلك في صدر المبعث، والظاهر أنه نفس المسجد ومن صد عن الوصول إليه فقد صد عنه. وقيل: الحرم كله لأنهم صدوه وأهله عليه السلام فنزلوا خارجا عنه لكنه قصد بالذكر المهم المقصد من الحرم.
وقرأ الجمهور * (سوآء) * بالرفع على أن الجملة من مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني، والأحسن أن يكون * (العاكف) * هو المبتدأ و * (فيه سوآء) * الخبر، وقد أجيز العكس. وقال ابن عطية: والمعنى * (الذى جعلناه للناس) * قبلة أو متعبدا انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلا إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني، فلا يحتاج إلى هذا التقدير. وقرأ حفص والأعمش * (سوآء) * بالنصب وارتفع به * (العاكف) * لأنه مصدر في معنى مستو اسم الفاعل. ومن كلامهم: مررت برجل سواء هو والعدم، فإن كانت جعل تتعدى إلى اثنين فسواء الثاني أو إلى واحد فسواء حال من الهاء. وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي * (سوآء) * بالنصب * (العاكف فيه) * بالجر. قال ابن عطية: عطفا على الناس انتهى. وكأنه يريد عطف البيان الأولى أن يكون بدل تفصيل.
وقرئ * (* والبادي) * وصلا ووقفا وبتركها فيهما، وبإثباتها وصلا وحذفها وقفا * (سواء العاكف) * المقيم فيه * (* والبادي) * الطارىء عليه، وأجمعوا على الاستواء في نفس المسجد الحرام واختلفوا في مكة، فذهب عمر وابن عباس ومجاهد وجماعة إلى أن الأمر كذلك في دوس مكة، وأن القادم له النزول حيث وجد وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى، وقال به الثوري وكذلك كان الأمر في الصدر الأول. قال ابن سابط: وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة، فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه، فاتخذ الناس الأبواب وهذا الخلاف مترتب على الخلاف في فتح مكة أكان عنوة أو صلحا؟ وهي مسألة يبحث عنها في الفقه.
والإلحاد الميل عن القصد. ومفعول * (من برد) * قال أبو عبيدة هو * (بإلحاد) * والباء زائدة في المفعول. قال الأعشى
336

* ضمنت برزق عيالنا أرماحنا أي رزق وكذا قراءة الحسن منصوبا قرأ * (ومن يرد) * إلحاده بظلم أي إلحادا فيه فتوسع. وقال ابن عطية: يجوز أن يكون التقدير * (ومن يرد فيه) * الناس * (بإلحاد) *. وقال الزمخشري: * (بإلحاد بظلم) * حالان مترادفتان ومفعول * (يرد) * متروك ليتناول كل متناول، كأنه قال * (ومن يرد فيه) * مراد إما عادلا من القصد ظالما * (نذقه من عذاب أليم) * وقيل: الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته. وعن سعيد بن جبير: الاحتكار. وعن عطاء: قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله انتهى. والأولى أن تضمن * (يرد) * معنى يتلبس فيتعدى بالباء. وعلق الجزاء وهو * (نذقه) * على الإرادة، فلو نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بها إلا في مكة وهذا قول ابن مسعود وجماعة. وقال ابن عباس: الإلحاد هنا الشرك. وقال أيضا: هو استحلال الحرام. وقال مجاهد: هو العمل السئ فيه. وقال ابن عمر: لا والله وبلى والله من الإلحاد. وقال حبيب بن أبي ثابت: الحكر بمكة من الإلحاد بالظلم، والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر إذ الكلام يدل على العموم. وقرأت فرقة * (ومن يرد) * بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء ومعناه ومن أتى به * (بإلحاد) * ظالما.
*
ولما ذكر تعالى حال الكفار وصدهم عن المسجد الحرام وتوعد فيه من أراد فيه بإلحاد ذكر حال أبيهم إبراهيم وتوبيخهم على سلوكهم غير طريقه من كفرهم باتخاذ الأصنام وامتنانه عليهم بإنفاد العالم إليهم * (وإذ بوأنا) * أي واذكر * (إذ * بوأنا) * أي جعلنا * (لإبراهيم مكان البيت) * مباءة أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة. قيل: واللام زائدة أي بوأنا إبراهيم مكان البيت أي جعلنا يبوء إليه كقوله * (لنبوئنهم من الجنة غرفا) * وقال الشاعر:
* كم صاحب لي صالح
*
بوأته بيدي لحدا
*
وقيل: مفعول * (بوأنا) * محذوف تقديره بوأنا الناس، واللام في * (لإبراهيم) * لام العلة أي لأجل إبراهيم كرامة له وعلى يديه. والظاهر أن قوله * (أن لا
تشرك بى شيئا) * خطاب لإبراهيم وكذا ما بعده من الأمر. وقيل: هو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم) * (وأن) * مخففة من الثقيلة قاله ابن عطية، والأصل أن يليها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة أو حرف تفسير. قاله الزمخشري وابن عطية وشرطها أن يتقدمها جملة في معنى القول و * (بوأنا) * ليس فيه معنى القول، والأولى عندي أن تكون * (ءان) * الناصبة للمضارع إذ يليها الفعل المتصرف من ما ض ومضارع وأمر النهي كالأمر.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة؟ قلت: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له * (لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى) * من الأصنام والأوثان والأقذار أن تطرح حوله.
وقرأ عكرمة وأبو نهيك: أن لا يشرك بالياء على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى أن * (لا تشرك) *. والقائمون هم المصلون ذكر من أركانها أعظمها وهو القيام والركوع والسجود.
وقرأ الجمهور * (وأذن) * بالتشديد أي ناد. روي أنه صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس حجوا بيت ربكم وتقدم قول من قال إنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم)، وقاله الحسن قال: أمر أن يفعل ذلك في
337

حجة الوداع. وقرأ الحسن وابن محيصن وآذن بمدة وتخفيف الذال. قال ابن عطية: وتصحف هذا على ابن جني فإنه حكى عهما * (وأذن) * على فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على * (بوأنا) * انتهى. وليس بتصحيف بل قد حكى أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه. وصاحب اللوامح أبو الفضل الرازي ذلك عن الحسن وأبن محيصن. قال صاحب اللوامح: وهو عطف على * (وإذ بوأنا) * فيصير في الكلام تقديم وتأخير، ويصير * (يأتوك) * جزما على جواب الأمر الذي هو * (وطهر) * انتهى. وقرأ ابن أبي إسحاق * (بالحج) * بكسر الحاء حيث وقع الجمهور بفتحها. وقرأ الجمهور * (رجالا) * وابن أبي إسحاق بضم الراء والتخفيف، وروي كذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز، وهو اسم جمع كظؤار وروي عنهم وعن ابن عباس ومجاهد وجعفر بن محمد بضم الراء وتشديد الجيم. وعن عكرمة أيضا رجالي على وزن النعامى بألف التأنيث المقصورة، وكذلك مع تشديد الجيم عن ابن عباس وعطاء وابن حدير، ورجال جمع راجل كتاجر وتجار.
وقرأ الجمهور * (يأتين) * فالظاهر عود الضمير * (على كل * ضامر) * لأن الغالب أن البلاد الشاسعة لا يتوصل منها إلى مكة بالركوب، وقد يجوز أن يكون الضمير يشمل * (رجالا) * و * (كل ضامر) * على معنى الجماعات والرفاق. وقرأ عبد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة يأتون غلب العقلاء الذكور في البداءة برجال تفضيلا للمشاة إلى الحج. وعن ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني أن لا أكون حججت ماشيا، والاستدلال بقوله * (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) * على سقوط فرض الحج على من يركب البحر ولا طريق له سواه، لكونه لم يذكر في هذه الآية ضعيف لأن مكة ليست على بخر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين مشي أو ركوب، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها. وقرأ ابن مسعود فج معيق. قال ابن عباس وغيره من المنافع التجارة. وقال الباقر: الأجر. وقال مجاهد وعطاء كلاهما، واختاره ابن العربي.
قال الزمخشري: ونكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنياوية لا توجد في غيرها من العبادات. وعن أبي حنيفة أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص، وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا، وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه وقد حسن الكلام تحسينا بينا أن جمع بين قوله ليذكروا اسم الله عليه. وقوله * (على ما رزقهم) * ولو قيل لينحروا * (فى أيام معلومات) * * (بهيمة الانعام) * لم تر شيئا من ذلك الحسن والروعة انتهى.
واستدل من قال أن المقصود بذكر اسم الله هو على الذبح والنحر على أن الذبح لا يكون بالليل ولا يجوز فيه لقوله * (فى أيام) * وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي. وقيل: الذكر هنا حمده وتقديسه شكرا على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام: (أنها أيام أكل وشرب) وذكر اسم الله والأيام المعلومات أيام العشر قاله ابن عباس والحسن وإبراهيم وقتادة وأبو حنيفة، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة. وقالت فرقة منهم مالك وأصحابه: المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة، فيوم النحر معلوم لا معدود واليومان بعده معلومان معدودان، والرابع معدود لا معلوم ويوم النحر ويومان بعده هي أيام النحر عند علي وابن عباس وابن عمر وأنس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وأبي حنيفة والثوري، وعند الحسن وعطاء والشافعي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وعند النخعي النحر يومان، وعند ابن سيرين النحر يوم واحد، وعن أبي سلمة وسليمان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم. وقال ابن عطية: ويظهر أن تكون المعلومات والمعدودات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها، ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا معلوم، ويكون فائدة قوله * (معلومات) * ومعدودات التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي
338

ليست كغيرها فكأنه قال هي مخصوصات فلتغتنم انتهى.
والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وتقدم الخلاف في مدلول * (بهيمة الانعام) * في أول المائدة، والظاهر وجوب الأكل والإطعام. وقيل: باستحبابهما. وقيل: باستحباب الأكل ووجوب الإطعام. و * (البائس) * الذي أصابه بؤس أي شدة. والتفث: ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعثه ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث، وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضي التفث إلا بعد ذلك. وقال ابن عمر: التفث ما عيهم من الحج وعنه المناسك كلها، والنذور هنا ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم. وقيل: المراد الخروج عما وجب عليهم نذروا أو
لم ينذروا. وقرأ شعبة عن عاصم * (وليوفوا) * مشددا والجمهور مخففا * (وليطوفوا) * هو طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج، وبه تمام التحلل. وقيل: هو طواف الصدر وهو طواف الوداع. وقال الطبري: لا خلاف بين المتأولين أنه طواف الإفاضة. قال ابن عطية: ويحتمل بحسب الترتيب أن يكون طواف الوداع انتهى.
و * (العتيق) * القديم قاله الحسن وابن زيد، أو المعتق من الجبابرة قاله ابن الزبير وابن أبي نجيح وقتادة، كم جبار سار إليه فأهلكه الله قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج، فأشار الأخيار عليه أن يكف عنه وقالوا له: رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه وأما الحجاج فلم يقصد التسليط على البيت لكن تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه أو المحرر لم يملك موضعه قط قاله مجاهد، أو المعتق من الطوفان قاله مجاهد أيضا وابن جبير، أو الجيد من قولهم: عتاق الخيل وعتاق الطير أو الذي يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. قال ابن عطية: وهذا يرده التصريف انتهى. ولا يرده التصريف لأنه فسره تفسير معنى، وأما من حيث الإعراب فلأن * (العتيق) * فعيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين، ونسب الإعتاق إليه مجازا إذ بزيارته والطواف به يحصل الإعتاق، وينشأ عن كونه معتقا أن يقال فيه: يعتق فيه رقاب المذنبين.
* (ذالك) * خبر مبتدأ محذوف قدره ابن عطية فرضكم * (ذالك) * أو الواجب * (ذالك) * وقدره الزمخشري الأمر أو الشأن * (ذالك) * قال كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا انتهى. وقيل: مبتدأ محذوف الخبر أي * (ذالك) * الأمر الذي ذكرته. وقيل في موضع نصب تقديره امتثلوا * (ذالك) * ونظير هذه الإشارة البليغة قول زهير وقد تقدم له جمل في وصف هرم:
* هذا وليس كمن يعيا بخطبته
*
وسط الندى إذا ما ناطق نطقا وكان وصفه قبل هذا بالكرم والشجاعة، ثم وصفه في هذا البيت بالبلاغة فكأنه قال: هذا خلقه وليس كمن يعيا بخطبته، والحرمات ما لا يحل هتكه وجميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها حرمه، والظاهر عمومه في جميع التكاليف، ويحتمل الخصوص مبا يتعلق بالحج وقاله الكلبي قال: ما أمر به من المناسك، وعن ابن عباس هي جميع المناهي في الحج: فسوق وجدال وجماع وصيد. وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام، والمسجد الحرام، والبيت الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل. وضمير * (فهو) * عائد على المصدر المفهوم من قوله * (ومن يعظم) * أي فالتعظيم * (خير له عند ربه) * أي قربة منه وزيادة في طاعته يثيبه عليها، والظاهر أن خيرا هنا ليس أفعل تفضيل.
*
* (وأحلت لكم * بهيمة الانعام) * دفعا لما كانت عليه من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة، ويعني بقوله * (إلا ما يتلى عليكم) * ما نص في كتابه على تحريمه، والمعنى * (ما يتلى عليكم) * آية تحريمه.
ولما حث على تعظيم حرمات الله وذكر أن تعظيمها خير لمعظمها عند الله أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور لأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات، وجمعا في قران واحد لأن الشرك من باب الزور لأن المشرك يزعم أن الوثن يستحق العبادة فكأنه قال * (فاجتنبوا) * عبادة * (الاوثان) * التي
339

هي رأس الزور * (واجتنبوا قول الزور) * كله. و * (من) * في * (من الاوثان) * لبيان الجنس، ويقدر بالموصول عندهم أي الرجس الذي هو الأوثان، ومن أنكر أن تكون * (من) * لبيان الجنس جعل * (من) * لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، وعلى القول الأول يكون النهي عن سائر الأرجاس من موضع غير هذا.
قال ابن عطية: ومن قال أن * (من) * للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده انتهى. وقد يمكن التبعيض فيها بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان، وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج، فكأنه قال: فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع؟ فكأن للوثن جهات منها عبادتها، وهو المأمور باجتنابه وعبادتها بعض جهاتها، ولما كان قول الزور معادلا للكفر لم يعطف على الرجس بل أفرد بأن كرر له العامل اعتناء باجتنابه. وفي الحديث: (عدلت شهادة الزور بالشرك).
ولما أمر باجتناب عبادة الأوثان وقول الزور ضرب مثلا للمشرك فقال * (ومن يشرك بالله) * الآية. قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق، فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من * (خر من السماء) * فاختطفته * (الطير) * فتفرق مرعا في حواصلها، وعصفت به * (الريح) * حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والإهواء التي تنازع أوكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي * (تهوى) * مما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة انتهى. وقرأ نافع * (فتخطفه) * بفتح الخاء والطاء مشددة وباقي السبعة بسكون الخاء وتخفيف الطاء. وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش بكسر التاء والخاء والطاء مشددة، وعن الحسن كذلك إلا أنه فتح الطاء مشددة. وقرأ الأعمش أيضا تخطه بغير فاء وإسكان الخا وفتح الطاء مخففة. وقرأ أبو جعفر والحسن وأبو رجاء: الرياح.
* (ذالك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب * لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق * ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم
من بهيمة الانعام فإلاهكم إلاه واحد فله أسلموا وبشر) *.
إعراب * (ذالك) * كإعراب * (ذالك) * المتقدم، وتقدم تفسير * (شعائر الله) * في أول المائدة، وأما هنا فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة: هي البدن الهدايا، وتعظيمها تسمينها والاهتبال بها والمغالاة فيها. وقال زيد بن أسلم: الشعائر ست: الصفا، والمروة، والبدن، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. وتعظيمها إتمام ما يفعل فيها. وقال ابن عمر والحسن ومالك وابن زيد: مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك، وهذا نحو من قول زيد بن أسلم.
وقيل: شرائع دينه وتعظيمها التزامها والمنافع الأجر، ويكون والضمير في * (فيها) * من قوله * (لكم فيها منافع) * عائدا على الشعائر التي هي الشرائع أي * (لكم فى) * التمسك بها * (منافع إلى أجل) * منقطع التكليف * (ثم محلها) * بشكل على هذا التأويل. فقيل: فقيل: الإيمان والتوجه إليه بالصلاة، وكذلك القصد في الحج والعمرة، أي محل ما يختص منها بالإحرام * (البيت العتيق) * وقيل: معنى ذلك ثم أجرها على رب * (البيت العتيق) * قيل: ولو قيل على هذا التأويل أن * (البيت العتيق) * الجنة لم يبعدوا الضمير في إنها عائد على الشعائر على حذف مضاف أي فإن تعظيمها أو على التعظمة، وأضاف التقوى إلى القلوب كما قال عليه الصلاة والسلام: (التقوى ههنا). وأشار إلى صدره. وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يبيعها ويشتري بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك وقال: (بل اهدها) وأهدى هو عليه السلام مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب، وكان ابن عمر يسوق البدن
340

مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها، ويعتقد أن طاعة الله في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بد أن يقام به ويسارع فيه، وذكر * (القلوب) * لأن المنافق يظهر التقوى وقلبه خال عنها، فلا يكون مجدا في أداء الطاعات، والمخلص التقوى بالله في قلبه فيبالغ في أدائها على سبيل الإخلاص.
وقال الزمخشري: فإن تعظيمها * (من) * أفعال ذوي * (تقوى القلوب) * فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى * (من) * ليتربط به، وإنما ذكرت * (القلوب) * لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء انتهى.
وما قدره عار من راجع إلى الجزاء إلى * (من) * ألا ترى أن قوله فإن تعظيمها من أفعال القلوب ليس في شيء منه ضمير يعود إلى * (من) * يربط جملة الجزاء بجملة الشرط الذي أداته * (من) * وإصلاح ما قاله أن يكون التقدير فأي تعظيمها منه، فيكون الضمير في منه عائدا على من فيرتبط الجزاء بالشرط.
وقرئ * (القلوب) * بالرفع على الفاعلية بالمصدر الذي هو * (تقوى) * والضمير في * (فيها) * عائد على البدن على قول الجمهور، والمنافع درها ونسلها وصوفها وركوب ظهرها * (إلى أجل مسمى) * وهو أن يسميها ويوجبها هديا فليس له شيء من منافعها. قاله ابن عباس في رواية مقسم، ومجاهد وقتادة والضحاك. وقال عطاء: منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هديا بأن تركب ويشرب لبنها عند الحاجة * (إلى أجل مسمى) * أي إلى أن تنحر. وقيل: إلى أن تشعر فلا تركب إلا عند الضرورة. وروى أبو رزين عن ابن عباس: الأجل المسمى الخروج من مكة. وعن ابن عباس * (إلى أجل مسمى) * أي إلى الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها. وقيل: الأجل يوم القيامة. وقال الزمخشري: إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها.
و * (ثم) * للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأفعال، والمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وإنما يعبد الله بالمنافع الدينية قال تعالى: * (تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة) * وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطا في النفع محلها إلى البيت أي وجوب نحرها، أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله * (هديا بالغ الكعبة) * والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت لأن الحرم هو حريم البيت، ومثل هذا في الاتساع قولك: بلغنا البلد وإنما شارفتموه واتصل مسيركم بحدوده. وقيل: المراد بالشعائر المناسك كلها و * (محلها إلى البيت العتيق) * يأباه انتهى.
وقال القفال: الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه، فإذا بلغ منى فهي محله وكل فجاج مكة. وقال ابن عطية: وتكرر * (ثم) * لترتيب الجمل لأن المحل قبل الأجل، ومعنى الكلام عند هاتين الفريقين يعني من قال مجاهد ومن وافقه، ومن قال بقول عطاء * (ثم محلها) * إلى موضع النحر فذكر البيت لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره، والأجل الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله * (ثم محلها) * مأخوذ من إحلال المحرم معناه، ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق، فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه قاله مالك في الموطأ انتهى.
والمنسك مفعل من نسك واحتمل أن يكون موضعا للنسك، أي مكان نسك، واحتمل أن يكون مصدرا واحتمل أن يراد به مكان العبادة مطلقا أو العبادة، واحتمل أن يراد نسك خاص أو نسكا خاصا وهو موضع ذبح أو ذبح، وحمله الزمخشري على الذبح، يقال: شرع الله لكل أمة أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على وجه التقرب، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدست أسماؤه على المناسك انتهى. وقياس بناء مفعل مما مضارعه يفعل يضم العين مفعل بفتحها في المصدر والزمان والمكان، وبالفتح قرأ الجمهور. وقرأ بكسرها الأخوان وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو ويونس ومحبوب وعبد الوارث إلا القصبي عنه. قال ابن عطية: والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب. وقال الأزهري: مينسك ومنسك لغتان. وقال مجاهد: المنسك الذبح، وإراقة الدماء يقال: نسك إذا ذبح، والذبيحة نسيكة وجمعها نسك. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب المعتاد في خير وبر. وقال ابن عرفة * (منسكا) * أي مذهبا من طاعة الله، يقال: نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم. وقال الفراء * (منسكا) * عيدا وقال قتادة: حجا.
341

* (ليذكروا اسم الله) * معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله، وأن يكون الذبح له لأنه رازق ذلك، ثم خرج إلى الحاضرين فقال * (فإلاهكم إلاه واحد فله أسلموا) * أي انقادوا، وكما أن الإله واحد يجب أن يخلص له في الذبيحة ولا يشرك فيها لغيره، وتقدم شرح الإخبات. وقال عمرو بن أوس: المخبتون الذين لا يظلمون وإذا
ظلموا لم ينتصروا. وقرأ الجمهور * (الذين إذا) * بالخفض على الإضافة وحذفت النون لأجلها. وقرأ ابن أبي إسحاق والحسن وأبو عمرو في رواية * (الصلواة) * بالنصب وحذفت النون لأجلها. وقرأ ابن مسعود والأعمش والمقيمين بالنون * (الصلواة) * بالنصب. وقرأ الضحاك: والمقيم الصلاة، وناسب تبشير من اتصف بالإخبات هنا لأن أفعال الحج من نزع الثياب والتجرد من المخيط وكشف الرأس والتردد في تلك المواضع الغبرة المحجرة، والتلبس بأفعال شاقة لا يعلم معناها إلا الله تعالى مؤذن بالاستسلام المحض والتواضع المفرط حيث يخرج الإنسان عن مألوفه إلى أفعال غريبة، ولذلك وصفهم بالإخبات والوجل إذا ذكر الله تعالى والصبر على ما أصابهم من المشاق وإقامة الصلوات في مواضع لا يقيمها إلا المؤمنون المصطفون والإنفاق مما رزقهم ومنها الهدايا التي يغالون فيها.
وقرأ الجمهور * (والبدن) * بإسكان الدال. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى بضمها وهي الأصل، ورويت عن أبي جعفر ونافع. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا بضم الياء والدال وتشديد النون، فاحتمل أن يكون اسما مفردا بني على فعل كعتل، واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف، وأجرى الوصل مجرى الوقف، والجمهور على نصب * (والبدن) * على الاشتغال أي وجعلنا * (* البدن) * وقرئ بالرفع على الابتداء و * (الله لكم) * أي لأجلكم و * (من شعائر) * في موضع المفعول الثاني، ومعنى * (من شعائر الله) * من أعلام الشريعة التي شرعها الله وأضافها إلى اسمه تعالى تعظيما لها * (لكم فيها) * قال ابن عباس: نفع في الدنيا، وأجر في الآخرة. وقال السدي أجر. وقال النخعي: من احتاج إلى ظهرها ركب وإلى لبنها شرب * (الله عليها صواف) * أي على نحرها. قال مجاهد: معقولة. وقال ابن عمر، قائمة قد صفت أيديها بالقيود. وقال ابن عيسى: مصطفة وذكر اسم الله أن يقول عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، اللهم منك وإليك. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج: صوافي جمع صافية ونون الياء عمرو بن عبيد.
قال الزمخشري: التنوين عوض من حرف عند الوقف انتهى. والأولى أن يكون على لغة من صرف ما لا ينصرف، ولا سيما الجمع المتناهي، ولذلك قال بعضهم والصرف في الجمع أي كثيرا حتى ادعى قوم به التخيير أي خوالص لوجه الله تعالى لا يشرك فيها بشيء، كما كانت الجاهلية تشرك.
وقرأ الحسن أيضا * (صواف) * مثل عوار وهو على قول من قال فكسرت غار لحمه يريد عاريا وقولهم: اعط القوس باريها. وقرأ عبد الله وابن عمر وابن عباس والباقر وقتادة ومجاهد وعطاء والضحاك والكلبي والأعمش بخلاف عنه صوافن بالنون، والصافنة من البدن ما اعتمدت على طرف رجل بعد تمكنها بثلاث قوائم وأكثر ما يستعمل في الخيل * (فإذا وجبت جنوبها) * عبارة عن سقوطها إلى الأرض بعد نحرها. قال محمد بن كعب ومجاهد وإبراهيم والحسن والكلبي * (القانع) * السائل * (والمعتر) * المعترض من غير سؤال، وعكست فرقة هذا. وحكى الطبري عن ابن عباس * (القانع) * المستغني بما أعطيه * (والمعتر) * المعترض من غير سؤال. وحكى عنه * (القانع) * المتعفف * (والمعتر) * السائل. وعن مجاهد * (القانع) * الجار وإن كان غنيا. وقال قتادة * (القانع) * من القناعة * (والمعتر) * المعترض للسؤال. وقيل * (* المعتر) * الصديق الزائر. وقرأ أبو رجاء: القنع بغير ألف أي * (وأطعموا القانع) * فحذف الألف كالحذر والحاذر. وقرأ الحسن والمعتري اسم فاعل من اعترى. وقرأ عمرو وإسماعيل * (والمعتر) * بكسر الراء دون ياء، هذا نقل ابن خالويه.
وقال أبو الفضل الرازي في
342

كتاب اللوامح أبو رجاء بخلاف عنه، وابن عبيد والمعتري على مفتعل. وعن ابن عباس برواية المقري * (والمعتر) * أراد المعتري لكنه حذف الياء تخفيفا واستغناء بالكسرة عنها، وجاء كذلك عن أبي رجاء. قال ابن مسعود: الهدي أتلات. وقال جعفر بن محمد أطعم القانع والمعتر ثلثا، والبائس الفقير ثلثا، وأهلي ثلثا. وقال ابن المسيب: ليس لصاحب الهدي منه إلا الربع وهذا كله على جهة الاستحباب لا الفرض قاله ابن عطية * (كذالك) * سخرها لكم أي مثل ذلك التسخير * (سخرناها لكم) * تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها فتطعنون في لباتها، منن عليهم تعالى بذلك ولولا تسخير الله لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرما وأقل قوة، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهدا وعبرة. وقال ابن عطية: كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرنا لكم لن ينال الله لحومها ولا دماؤها.
قال مجاهد: أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوبا حول الكعبة ونضح الكعبة حواليها بالدم تقربا إلى الله، فنزلت هذه الآية. وعن ابن عباس قريب منه، والمعنى لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر، والمراد أصحاب اللحوم والدماء، والمعنى لن يرضى المضحون والمقربون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص والاحتياط بشروط التقوى في حل ما قرب به وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع، فإذا لم يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية والتقريب، وإن كثر ذلك منهم قاله الزمخشري وهو تكثير في اللفظ. وقرأ مالك بن دينار والأعرج وابن يعمر والزهري وإسحاق الكوفي عن عاصم والزعفراني ويعقوب. وقال ابن خالويه: تناله التقوى بالتاء يحيى بن يعمر والجحدري. وقرأ زيد بن علي * (لحومها ولا) * بالنصب * (دماؤها ولاكن يناله) * بضم الياء وكرر ذكر النعمة بالتسخير. قال الزمخشري: لتشكروا الله على هدايته إياكم لإعلام دينه ومناسك حجه بأن تكبروا وتهللوا فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعدي تعديته انتهى. * (وبشر المحسنين) * ظاهر في العموم. قال ابن عباس: وهم الموحدون وروي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة.
2 (* (إن الله يدافع عن الذين ءامنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور * أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز * الذين إن مكناهم فى الا رض أقاموا الصلواة وآتوا الزكواة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الا مور * وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير * فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا فى الا رض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الا بصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور *
ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون * وكأين من قرية أمليت لها وهى ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير * قل ياأيها الناس إنمآ أنا لكم
343

نذير مبين * فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين أولائك أصحاب الجحيم * ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فىأمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله ءاياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفى شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم * ولا يزال الذين كفروا فى مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم * الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى جنات النعيم * والذين كفروا وكذبوا بأاياتنا فأولائك لهم عذاب مهين * والذين هاجروا فى سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم * ذالك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور * ذالك بأن الله يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وأن الله سميع بصير * ذالك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلى الكبير * ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فتصبح الا رض مخضرة إن الله لطيف خبير * له ما فى السماوات وما فى الا رض وإن الله لهو الغنى الحميد * ألم تر أن الله سخر لكم ما فى الا رض والفلك تجرى فى البحر بأمره ويمسك السمآء أن تقع على الا رض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم * وهو الذىأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور * لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك فى الا مر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم * وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون * ألم تعلم أن الله يعلم ما فى السمآء والا رض إن ذالك فى كتاب إن ذالك على الله يسير * ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر يكادون
344

يسطون بالذين يتلون عليهم ءاياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذالكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير * ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز * الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الا مور * ياأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هاذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على الناس فأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) *))
) *
الهدم: معروف وهو نقض ما بني. قال الشاعر:
* وكل بيت وإن طالت إقامته
*
على دعائمه لا بد مهدوم
*
الصومعة: موضع العبادة وزنها فعولة، وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى، والأصمع من الرجال الحديد القول، وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين، قاله قتادة ثم استعمل في مئذنة المسلمين. البيع: كنائس النصارى واحدها بيعة. وقيل: كنائس اليهود. البئر: من بأرت أي حفرت، وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول، وقد تذكر على معنى القليب. تعطيل الشيء: إبطال منافعه. العقم: الامتناع من الولادة، يقال: امرأة عقيم ورجل عقيم لا يولد له، والجمع عقم وأصله من القطع، ومنه الملك عقيم أي يقطع فيه الأرحام بالقتل، والعقيم الذي قطعت ولادتها. وقال أبو عبيد العقم السد، يقال: امرأة معقومة الرحم أي مسدودة الرحم. السطو: القهر. وقال ابن عيسى: السطوة إظهار ما يهول للإخافة. الذباب: الحيوان المعروف يجمع على ذباب بكسر الذال وضمها، وعلى ذب والمذبة ما يطرد به الذباب، وذباب السيف طرفه والعين إنسانها، وأسنان الإبل. سلبت الشيء: اختطفته بسرعة. استنقذ: استفعل بمعنى أفعل أي أنقذ نحو أبل واستبل.
* (إن الله يدافع عن الذين ءامنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور * أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع) *.
روي أن المؤمنين لما كثروا بمكة أذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنة من الكفار ويحتال ويغدر، فنزلت إلى قوله * (كفور) * وعد فيها بالمدافعة ونهى عن الخيانة، وخص المؤمنين بالدفع عنهم والنصرة لهم، وعلل ذلك بأنه لا يحب أعداءهم الخائنين الله والرسول الكافرين نعمه.
345

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة مما يفعل في الحج، وكان المشركون قد صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عام الحديبية وآذوا من كان بمكة من المؤمنين، أنزل الله تعالى هذه الآيات مبشرة المؤمنين بدفعه تعالى عنهم ومشيرة إلى نصرهم وإذنه لهم في القتال وتمكينهم في الأرض يردهم إلى ديارهم وفتح مكة، وأن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى وقال تعالى: * (والعاقبة للمتقين) *.
وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع * (يدافع) * ولولا دفاع الله. وقرأ أبو عمرو وابن كثير يدفع * (ولولا دفع) * وقرأ الكوفيون وابن عامر * (يدافع) * * (ولولا
دفع) * وفاعل هنا بمعنى المجرد نحو جاوزت وجزت. وقال الأخفش: دفع أكثر من دافع. وحكى الزهراوي أن دفاعا مصدر دفع كحسب حسابا. وقال ابن عطية: يحسن * (يدافع) * لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته، ودفعه مدافعة عنهم انتهى. يعني فيكون فاعل لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظا والاشتراك فيهما معنى. وقال الزمخشر: ومن قرأ * (يدافع) * فمعناه يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ انتهى. ولم يذكر تعالى ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم ولما هاجر المؤمنون إلى المدينة أذن الله لهم في القتال.
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو بضم همزة * (أذن) * وفتح باقي السبعة. وقرأ نافع وابن عامر وحفص * (يقاتلون) * بفتح التاء والباقون بكسرها، والمأذون فيه محذوف أي في القتال لدلالة * (يقاتلون) * عليه وعلل للإذن * (بأنهم ظلموا) * كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم) من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: (اصبروا فإني لم أومر بالقتال) حتى هاجر وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية. وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم.
* (وإن الله على نصرهم لقدير) * وعد بالنصر والإخبار بكونه يدفع عنهم * (الذين أخرجوا) * في موضع جر نعت للذين، أو بدل أو في موضع نصب بأعني أو في موضع رفع على إضمارهم. و * (إلا أن * الناس أن يتركوا أن يقولوا) * في موضع نصب لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل عليه، فهو مقدر بلكن من حيث المعنى لأنك لو قلت * (الذين أخرجوا من ديارهم) * * (إلا أن يقولوا ربنا الله) * لم يصح بخلاف ما في الدار أحد إلا حمار، فإن الاستثناء منقطع ويمكن أن يتوجه عليه العامل فتقول: ما في الدار إلا حمار فهذا يجوز فيه النصب والرفع النصب للحجاز والرفع لتميم بخلاف مثل هذا فالعرب مجمعون على نصبه. وأجاز أبو إسحاق فيه الجر على البدل واتبعه الزمخشري فقال * (أن يقولوا) * في محل الجر على الإبدال من * (حق) * أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتبشير، ومثله * (هل تنقمون منا إلا أن ءامنا) * انتهى.
وما أجازاه من البدل لا يجوز لأن البدل لا يكون إلا إذا سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي، نحو: ما قام أحد إلا زيد، ولا يضرب أحد إلا زيد، وهل يضرب أحد إلا زيد، وأما إذا كان الكلام موجبا أو أمرا فلا يجوز البدل: لا يقال قام القوم إلا زيد على البدل، ولا يضرب القوم إلا زيد على البدل، لأن البدل لا يكون إلا حيث يكون العامل يتسلط عليه، ولو قلت قام إلا زيد، وليضرب إلا عمر ولم يجز. ولو قلت في غير القرآن أخرج الناس من ديارهم إلا بأن يقولوا لا إله إلا الله لم يكن كلاما هذا إذا تخيل أن يكون * (إلا أن يقولوا) * في موضع جر بدلا من غير المضاف إلى * (حق) * وإما أن يكون بدلا من حق كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيرا فيصير التركيب بغير * (إلا أن يقولوا) * وهذا لا يصح، ولو قدرت * (إلا) * بغير كما يقدر في النفي في ما مررت بأحد إلا زيد فتجعله بدلا لم يصح، لأنه يصير التركيب بغير غير قولهم * (ربنا الله) * فتكون قد أضفت غيرا إلى غير وهي هي فصار بغير غير، ويصح في ما مررت بأحد إلا زيد أن تقول: ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل قدره بغير موجب سوى التوحيد، وهذا تمثيل للصفة جعل إلا بمعنى سوى، ويصح على الصفة فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل، ويجوز أن تقول:
346

مررت بالقوم إلا زيد على الصفة لا على البدل.
* (ولولا دفع الله الناس) * الآية فيها تحريض على القتال المأذون فيه قبل، وأنه تعالى أجرى العاد بذلك في الأمم الماضية بأن ينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم وأهلها من القتل والشتات، وكأنه لما قال * (أذن للذين يقاتلون) * قيل: فليقاتل المؤمنون، فلولا القتال لتغلب على الحق في كل أمة وانظر إلى مجيء قوله * (ولولا * دفع الله الناس بعضهم ببعض) * لفسدت الأرض إثر قتال طالوت لجالوت، وقتل داود جالوت. وأخبر تعالى أنه لولا ذلك الدفع فسدت الأرض فكذلك هنا.
وقال علي بن أبي طالب: ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم، وأخذ الزمخشري قول علي وحسنه وذيل عليه فقال: دفع الله بعض الناس ببعض إظهاره وتسليط المؤمنين منهم على الكافرين بالمجاهدة، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعا ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات، ولا للمسلمين مساجد، ولغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم) على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم، وهدموا متعبدات الفريقين انتهى.
وقال مجاهد: * (ولولا دفع الله) * ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا. وقال قوم * (دفع) * ظلم الظلمة بعدل الولاة. وقالت فرقة * (دفع) * العذاب بدعاء الأخيار. وقال قطرب: بالقصاص عن النفوس. وقيل: بالنبيين عن المؤمنين. وقال الحسن: لولا أمان الإسلام لخربت متعبدات أهل الذمة، ومعنى الدفع بالقتال أليق بالآية وأمكن في دفع الفساد.
وقرأ الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني * (* فهدمت) * مخففا وباقي السبعة وجماعة مشددة لما كانت المواضع كثيرة ناسب مجيء التضعيف لكثرة المواضع فتكرر الهدم لتكثيرها. وقرأ الجمهور * (الله وصلوات) * جمع صلاة. وقرأ جعفر بن محمد * (وصلوات) * بضم الصاد واللام. وحكى عنه ابن خالويه * (صلوات) * بسكون اللام وكسر الصاد، وحكيت عن الجحدري والجحدري * (صلوات) * بضم الصاد وفتح اللام، وحكيت عن الكلبي وأبي العالية بفتح الصاد وسكون اللام * (صلوات) * والحجاج بن يوسف والجحدري أيضا وصلوات وهي مساجد النصارى بضمتين من غير ألف ومجاهد كذلك إلا أنه بفتح التاء وألف بعدها والضحاك والكلبي وصلوث بضمتين من غير ألف وبثاء منقوطة بثلاث، وجاء كذلك عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد كذلك إلا أنه بعد
الثاء ألف. وقرأ عكرمة: وصلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف، والجحدري أيضا * (صلوات) * بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة النقط. وحكى ابن مجاهد أنه قرىء كذلك إلا أنه بكسر الصاد. وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري صلوب بالباء بواحدة على وزن كعوب جمع صليب كظريف وظروف، وأسينة وأسون وهو جمع شاذ أعني جمع فعيل على فعول فهذه ثلاثة عشرة قراءة والتي بالثاء المثلثة النقط.
قيل: هي مساجد اليهود هي بالسريانية مما دخل في كلام العرب. وقيل: عبرانية وينبغي أن تكون قراءة الجمهور يراد بها الصلوات المعهودة في الملل، وأما غيرها مما تلاعبت فيه العرب بتحريف وتغيير فينظر ما مدلوله في اللسان الذي نقل منه فيفسر به. وروى هارون عن أبي عمرو * (صلوات) * كقراءة الجماعة إلا أنه لا ينون التاء كأنه جعله اسم موضع كالمواضع التي قبله، وكأنه علم فمنعه الصرف للعلمية والعجمة وكملت القراءات بهذه أربع عشرة قراءة والأظهر في تعداد هذه المواضع أن ذلك بحسب معتقدات الأمم فالصوامع للرهبان. وقيل: للصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين وقاله خصيف. قال ابن عطية: والأظهر أنه قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات، وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لهم كتاب على قديم الدهر، ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك لأن هؤلاء ليس لهم ما يوجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع
347

انتهى.
والظاهر عود الضمير في قوله * (يذكر فيها) * على المواضع كلها جميعها وقاله الكلبي ومقاتل، فيكون * (يذكر) * صفة للمساجد وإذا حملنا الصلوات على الأفعال التي يصليها أهل الشرائع كان ذلك إما على حذف مضاف أي ومواضع صلوات وإما على تضمين * (لهدمت) * معنى عطلت فصار التعطيل قدرا مشتركا بين المواضع والأفعال، وتأخير المساجد إما لأجل قدم تلك وحدوث هذه، وإما لانتقال من شريف إلى أشرف. وأقسم تعالى على أنه تنصر من ينصر أي ينصر دينه وأولياءه، ونصره تعالى هو أن يظفر أولياءه بأعدائهم جلادا وجدالا وفي ذلك حض على القتال. ثم أخبر تعالى أنه قوي على نصرهم * (عزيز) * لا يغالب.
والظاهر أنه يجوز في إعراب * (الذين إن مكناهم فى الارض) * ما جاز في إعراب * (الذين أخرجوا) * وقال الزجاج: هو منصوب بدل ممن ينصره، والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر على الخلق، والظاهر أنه من وصف المأذون لهم في القتال وهم المهاجرون، وفيه إخبار بالغيب عما يكون عليه سيرتهم إن مكن لهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين. وعن عثمان رضي الله عنه: هذا والله ثناء قبل بلاء، يريد أن الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا، وقالوا: فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن الله تعالى لم يجعل التمكن ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة لغيرهم من المهاجرين لاحظ في ذلك للأنصار والطلقاء. وفي الآية أخذ العهد على من مكنه الله أن يفعل ما رتب على التمكين في الآية. وقيل: نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم). وعن الحسن وأب العالية: هم أمته عليه السلام. وعن عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس، وهو قريب مما قبله. وقال ابن أبي نجيح: هم الولاة. وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله من آناه الملك.
وقال ابن عباس: المهاجرون والأنصار والتابعون * (ولله عاقبة الامور) * توعد للمخالف ما ترتب على التمكين * (وإن يكذبوك) * الآية فيها تسلية للرسول بتكذيب من سبق من الأمم المذكورة لأنبيائهم، ووعيد لقريش إذ مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند الفعل بعلامة التأنيث من حيث أراد الأمة والقبيلة، وبنى الفعل للمفعول في * (وكذب موسى) * أن قومه لم يكذبوه وإنما كذبه القبط * (فأمليت للكافرين) * أي أمهلت لهم وأخرت عنهم العذاب مع علمي بفعلهم، وفي قوله * (فأمليت للكافرين) * ترتيب الإملاء على وصف الكفر، فكذلك قريش أملى تعالى لهم ثم أخذهم في غزوة بدر وفي فتح مكة وغيرهما، والأخذ كناية عن العقاب والإهلاك، النكير مصدر كالندير المراد به المصدر، والمعنى فكيف كان إنكاري عليهم وتبديل حالهم الحسنة بالسيئة وحياتهم بالهلاك ومعمورهم بالخراب؟ وهذا استفهام يصحبه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أشد ما كان إنكاري عليهم وفي الجملة إرهاب لقريش * (فكأين) * للتكثير، واحتمل أن يكون في موضع رفع على الابتداء وفي موضع نصب على الاشتغال.
وقرأ أبو عمرو وجماعة أهلكها بتاء المتكلم، والجمهور بنون العظمة * (وهى ظالمة) * جملة حالية * (فهى خاوية على عروشها) * تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة في قوله * (أو كالذى مر على قرية) * وقال الزمخشري: فإن قلت: ما محل الجملتين من الإعراب؟ أعني * (وهى ظالمة فهى خاوية) * قلت: الأولى في محل نصب على الحال، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على * (* هلكناها) * وهذا الفعل ليس له محل انتهى.
وهذا الذي قاله ليس بجيد لأن * (نكير فكأين) * الأجود في إعرابها أن تكون مبتدأة والخبر الجملة من قوله * (أهلكناها) * فهي في موضع رفع والمعطوف على الخبر خبر، فيكون قوله * (فهى خاوية) * في موضع رفع، لكن يتجه قول الزمخشري على الوجه القليل وهو إعراب * (فكأين) * منصوبا بإضمار فعل على الاشتغال، فتكون الجملة من قوله * (* وأهلكناها) * مفسرة لذلك الفعل، وعلى هذا لا محل لهذه الجملة المفسرة فالمعطوف عليها لا محل له.
وقرأ الجحدري والحسن وجماعة * (وبئر معطلة) * مخففا يقال: عطلت البئر وأعطلتها فعطلت، هي بفتح الطاء، وعطلت المرأة من الحلي بكسر الطاء. قال الزمخشري: ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها، والمشيد المجصص أو المرفوع البنيان والمعنى كم قرية أهلكنا، وكم بئر عطلنا عن سقاتها و * (وقصر مشيد) * أخليناه عن ساكنيه، فترك ذلك
348

لدلالة * (معطلة) * عليه انتهى.
* (وبئر) * * (وقصر) * معطوفان على * (من قرية) * * (ومن * قرية) * تمييز لكأين، * (وكأين) * تقتضي التكثير، فدل ذلك على أنه لا يراد بقربه وبئر وقصر معين، وإن كان الإهلاك إنما يقع في معين لكن من حيث الوقوع لا من حيث دلالة اللفظ، وينبغي أن يكون * (* بئر) * * (معطلة وقصر) * من حيث عطفا على * (من قرية) * أن يكون التقدير أهلكتهما كما كان أهلكتها مخبرا به عن * (* كأين) * الذي هو القرية من حيث المعنى. والمراد أهل القرية والبئر والقصر، وجعل * (عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد) * معطوفين على * (عروشها) * جهل بالفصاحة ووصف القصر بمشيد ولم يوصف بمشيد كما في قوله في * (بروج مشيدة) * لأن ذلك جمع ناسب التكثير فيه، وهذا مفرد وأيضا * (مشيد) * فاصلة آية.
وقد عين بعض المفسرين هذه البئر. فعن ابن عباس أنها كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس. وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني وهو منذر بن عاد بن إرم بن عاد. وعن الضحاك وغيره: أن البئر بحضرموت من أرض الشحر، والقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى، والبئر في سفحه لا يقر الريح شيئا يسقط فيها. روي أن صالحا عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب. وهي بحضرموت، وسميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات وثم بلدة عند البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمروا عليهم جليس بن جلاس، وأقاموا بها زمنا ثم كفروا وعبدوا صنما، وأرسل إليهم حنظلة بن صفوان، وقيل: اسمه شريح بن صفوان نبيا فقتلوه في السوق فأهلكهم الله عن آخرهم وعطل بئرهم وخرب قصرهم. وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري أنه قال: رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها عكا فكيف يكون بحضرموت.
* (أفلم يسيروا فى الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا لا تعمى الابصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور * ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون * وكأين من قرية أمليت لها وهى ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير * قل يأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين * فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم) *.
لما ذكر تعالى من كذب الرسل من الأمم الخالية وكان عند العرب أشياء من أحوالهم ينقلونها وهم عارفون ببلادهم وكثيرا ما يمرون على كثير منها قال * (أفلم يسيروا) * فاحتمل أن يكون حثا على السفر ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا، أو يكونوا قد سافروا وشاهدوا فلم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. وقرأ مبشر بن عبيد: فيكون بالياء والجمهور بالتاء * (فتكون) * منصوب على جواب الاستفهام قاله ابن عطية، وعلى جواب التقرير قاله الحوفي. وقيل: على جواب النفي، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار إن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم، ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على * (يسير) *، وردوه إلى أخي الجزم وهو النصب هذا معنى الصرف عندهم، ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها وإسناد العقل إلى القلب يدل على أنه محله، ولا ينكر أن للدفاع بالقلب اتصالا يقتضي فساد العقل إذا فسد الدماغ ومتعلق * (يعقلون بها) * محذوف أي ما حل بالأمم السابقة حين كذبوا أنبياءهم و * (يعقلون) * ما يجب من التوحيد، وكذلك مفعول * (يسمعون) * أي يسمعون أخبار تلك الأمم أو ما يجب سماعه من الوحي. والضمير في * (فإنها) * ضمير القصة وحسن التأنيث هنا ورجحه كون الضمير وليه فعل بعلامة التأنيث وهي التاء في * (لا تعمى) * ويجوز في الكلام التذكير وقرأ به عبد الله فإنه لا تعمى.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره * (الابصار) * وفي * (تعمى) * راجع إليه انتهى. وما ذكره لا يجوز لأن الذي يفسره ما بعده محصور، وليس هذا واحدا منها وهو في باب رب وفي باب نعم. وبئس، وفي باب الأعمال، وفي باب البدل، وفي باب المتبدأ والخبر على خلاف في هذه الأربعة على ما قرر ذلك في أبوابه. وهذه الخمسة يفسر الضمير فيها المفرد وفي ضمير
349

الشأن ويفسر بالجملة على خلاف فيه أيضا وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحدا من هذه الستة فوجب اطراحه والمعنى أن أبصارهم سالمة لا عمى بها، وإنما العمى بقلوبهم، ومعلوم أن الأبصار قد تعمى لكن المنفي فيها ليس العمى الحقيقي وإنما هو ثمرة البصر وهو التأدية إلى الفكرة فيما يشاهد البصر لكن ذلك متوقف على العقل الذي محله القلب، ووصفت * (القلوب) * بالتي * (فى الصدور) *. قال ابن عطبة مبالغة كقوله * (يقولون بأفواههم) * وكما تقول نظرت إليه بعيني.
وقال الزمخشري: الذي قد تعورف واعتد أن العمى على الحقيقة مكان البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله في القلب استعارة ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك فقولك: الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه، وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوا مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا انتهى.
وقوله ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا فصل الضمير وليس من مواضع فصله، والصواب ولكن تعمدته به كما تقول السيف ضربتك به ولا تقول: ضربت به إياك، وفصله في مكان اتصاله عجمة، وقال أبو عبد الله الرازي: وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر، والتدبير كقوله تعالى * (إن فى ذالك لذكرى لمن كان له قلب) * وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر.
والضمير في * (ويستعجلونك) * لقريش، وكان صلى الله عليه وسلم) يحذرهم نقمات الله ويوعدهم بذلك دنيا وآخرة وهم لا يصدقون بذلك ويستبعدون وقوعه، فكان استعجالهم على سبيل الاستهزاء وأن ما توعدتنا به لا يقع وإنه لا بعث وفي قوله * (ولن يخلف الله وعده) * أي إن ذلك واقع لا محالة، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه. وأضاف الوعد إليه تعالى لأن رسوله عليه الصلاة والسلام هو المخبر به عن الله تعالى.
وقال الزمخشري: أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل والآجل، كأنه قال: ولم يستعجلون به كأنهم يجوزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف والله عز وعلا لا يخلف الميعاد، وما وعده ليصيبهم ولو بعد حين وهو سبحانه حليم لا يعجل انتهى. وفي قوله وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف دسيسة الاعتزال.
وقيل: * (ولن يخلف الله وعده) * في النظرة والإمهال واختلفوا في هذا التشبه. فقيل: في العدد أي اليوم عند الله ألف سنة من عددكم. وفي الحديث الصحيح: (يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وذلك خمسمائة عام فالمعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله. وقيل: التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه، والشدة أي * (وإن يوما) * من أيام عذاب الله لشدة العذاب فيه وطوله * (كألف سنة) * من عددكم إذ أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة، وكان ذلك اليوم الواحد كألف سنة من سني العذاب والمعنى أنهم لو عرفوا حال الآخرة ما استعجلوه وهذا القول قريب من قول أبي مسلم. وقيل: التشبيه بالنسبة إلى علمه تعالى وقدرته وإنفاذ ما يريد * (كألف سنة) * واقتصر على ألف سنة وإن كان اليوم عنده كما لا نهاية له من العدد لكون الألف منتهى العدد دون تكرار، وهذا القول لا يناسب مورد الآية إلا إن أريد أنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضا إمهال ألف سنة. وقال ابن عباس: أراد باليوم من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض. وقال ابن عيسى يجمع لهم عذاب ألف سنة في يوم واحد، ولأهل الجنة سرور ألف سنة في يوم واحد. وقال الفراء: تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة، وأريد العذاب في الدنيا أي * (لن * يخلف الله وعده) * في إنزال
350

العذاب بكم في الدنيا، * (وإن يوما) * من أيام عذابكم في الآخرة * (كألف سنة) * من سني الدنيا فكيف تستعجلون العذاب. وقال الزجاج: تفضل تعالى عليهم بالإمهال والمعنى أن اليوم عند الله والألف سواء في قدرته بين ما استعجلوا به وبين تأخره.
وقرأ الأخوان وابن كثير يعدون بياء الغيبة، وباقي السبعة بتاء الخطاب وعطفت * (فكأين) * الأولى بالفاء وهذه الثانية بالواو. وقال الزمخشري: الأولى وقعت بدلا عن قوله * (فكيف كان نكير) * وما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله * (لن * يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة) * وتكرر التكثير بكائن في القرى لإفادة معنى غير ما جاءت له الأولى لأنه ذكر فيها القرى التي أهلكها دون إملاء وتأخير، بل أعقب الإهلاك التذكير وهذه الآية لما كان تعالى قد أمهل قريشا حتى استعجلت بالعذاب جاءت بالإهلاك بعد الإملاء تنبيها على أن قريشا وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم.
ثم أمر نبيه أن يقول لأهل مكة * (قل يأيها الناس إنما أنا لكم نذير) * من عذاب الله موضح لكم ما تحذرون أو موضح النذارة لا تلجلج فيها، وذكر النذارة دون البشارة وإن كان التقسيم بعد ذلك يقتضيهما لأن الحديث مسوق للمشركين، و * (يذهبكم أيها الناس) * نداء لهم وهم المقول فيهم * (أفلم يسيروا) * والمخير عنهم باستعجال العذاب وإنما ذكر المؤمنون هنا وما أعد الله لهم من الثواب ليغاظ المشركون بذلك وليحرضهم على نيل هذه الرتبة الجليلة التي فيها فوزهم، وحصر النذارة لأن المعنى ليس لي تعجيل عذابكم ولا تأخيره عنكم وإنما أنا منذركم به.
وقال الكرماني: التقدير بشير و * (نذير) * فحذف والتقسيم داخل في المقول، والسعي الطلب والاجتهاد في ذلك، ويقال: سعى فلان في أمر فلان فيكون بإصلاح وبإفساد وقد يستعمل في الشر، يقال: فيه سعى بفلان سعاية أي تحيل، وكاد في إيصال الشر إليه وسعيهم بالفساد في آيات الله حيث طعنوا فيها قسموها سحرا وشعرا وأساطير الأولين، وثبطوا الناس عن الإيمان بها.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني معجزين بالتشديد هنا وفي حرفي سبأ زاد الجحدري في جميع القرآن أي مثبطين. وقرأ باقي السبعة بألف. وقرأ ابن الزبير معجزين بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزني إذا سبقك فقاتك. قال صاحب اللوامح: لكنه هنا بمعنى معاجزين أي ظانين أنهم يعجزوننا، وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون. وقيل: في * (معاجزين) * معاندين، وأما معجزين بالتشديد فإنه بمعنى مثبطين الناس عن الإسلام، ويقال: مثبطين.
وقال الزمخشري: عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه، فالمعنى سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم، طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم انتهى.
وقال أبو علي الفارسي: معجزين معناه ناسبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) إلى العجز كما تقول: فسقت فلانا إذا نسبته إلى الفسق. وتقدم شرح أخرى هاتين الجملتين الواردتين تقسيما.
* (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى) *.
لما ذكر تعالى أنه يدفع عن الذين آمنوا وأنه تعالى أذن للمؤمنين في القتال وأنهم كانوا أخرجوا من ديارهم وذكر مسلاة رسوله صلى الله عليه وسلم) بتكذيب من تقدم من الأمم لأنبيائهم وما آل إليه أمرهم من الإهلاك إثر التكذيب وبعد الإمهال، وأمره أن ينادي الناس ويخبرهم أنه
351

نذير لهم بعد أن استعجلوا بالعذاب، وأنه ليس له تقديم العذاب ولا تأخيره، ذكر له تعالى مسلاة ثانية باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم متمنين لذلك مثابرين عليه، وأنه ما منهم أحد إلا وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه وبث ذلك إليهم وإلقائه في نفوسهم، كما أنه صلى الله عليه وسلم) كان من أحرص الناس على هدى قومه وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث يلقون لقومه وللوافدين عليه شبها يثبطون بها عن الإسلام، ولذلك جاء قبل هذه الآية * (والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين) * وسعيهم بإلقاء الشبه في قلوب من استمالوه، ونسب ذلك إلى الشيطان لأنه هو المغوي والمحرك شياطين الإنس للإغواء كما قال * (
لاغوينهم) * وقيل: إن * (الشيطان) * هنا هو جنس يراد به شياطين الإنس. والضمير في * (أمنيته) * عائد على * (الشيطان) * أي في أمنية نفسه، أي بسبب أمنية نفسه. ومفعول * (ألقى) * محذوف لفهم المعنى وهو الشر والكفر، ومخالفة ذلك الرسول أو النبي لأن الشيطان ليس يلقي الخير. ومعنى * (فينسخ الله ما يلقى الشيطان) * أي يزيل تلك الشبه شيئا فشيئا حتى يسلم الناس، كما قال * (ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا) * و * (يحكم الله ءاياته) * أي معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها * (ليجعل ما يلقى الشيطان) * من تلك الشبه وزخارف القول * (فتنة) * لمريض القلب ولقاسيه * (وليعلم) * من أوتي العلم أن ما تمنى الرسول والنبي من هداية قومه وإيمانهم هو الحق. وهذه الآية ليس فيها إسناد شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء إذا تمنوا.
وذكر المفسرون في كتبهم ابن عطية والزمخشري فمن قبلها ومن بعدهما ما لا يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوبا إلى المعصوم صلوات الله عليه، وأطالوا في ذلك وفي تقريره سؤالا وجوابا وهي قصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية، فقال: هذا من وضع الزنادقة، وصنف في ذلك كتابا. وقال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، وقال ما معناه: إن رواتها مطعون عليهم وليس في الصحاح ولا في التصانيف الحديثية شيء مما ذكروه فوجب اطراحه ولذلك نزهت كتابي عن ذكره فيه. والعجب من نقل هذا وهم يتلون في كتاب الله تعالى * (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى) * وقال الله تعالى آمرا لنبيه * (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى) * وقال تعالى * (ولو تقول علينا بعض الاقاويل) * الآية وقال تعالى: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم) * الآية فالتثبيت واقع والمقاربة منفية. وقال تعالى * (كذلك لنثبت به فؤادك) * وقال تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى) * وهذه نصوص تشهد بعصمته، وأما من جهة المعقول فلا يمكن ذلك لأن تجويزه يطرق إلى تجويزه في جميع الأحكام والشريعة فلا يؤمن فيها التبديل والتغيير، واستحالة ذلك معلومة.
ولنرجع إلى تفسير بعض ألفاظ الآية إذ قد قررنا ما لاح لنا فيها من المعنى فقوله * (من قبلك) * * (من) * فيه لابتداء الغاية و * (من) * في * (من رسول) * زائدة تفيد استغراق الجنس. وعطف * (ولا نبى) * على * (من رسول) * دليل على المغايرة. وقد تقدم لنا الكلام على مدلوليهما فأغنى عن إعادته هنا، وجاء بعد * (إلا) * جملة ظاهرها الشرط وهو * (إذا تمنى ألقى الشيطان) * وقاله الحوفي، ونصوا على أنه يليها في النفي مضارع لا يشترط فيه شرط، فتقول: ما زيد إلا بفعل كذا، وما رأيت زيدا إلا بفعل كذا، وماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله * (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا) * أو يكون الماضي مصحوبا بقدر نحو: ما زيد إلا قد قام، وما جاء بعد * (إلا) * في الآية جملة شرطية ولم يلها مرض مصحوب بقد ولا عار منها، فإن صح ما نصوا عليه تؤول على أن إذا جردت للظرفية ولا شرط فيها وفصل بها بين * (إلا) * والفعل الذي هو * (ألقى) * وهو فصل جائز فتكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل * (إلا) * وهو * (وما أرسلنا) * وعاد الضمير في * (* تمني) * مفردا وذكروا أنه إذا كان العطف بالواو عاد الضمير
352

مطابقا للمتعاطفين، وهذا عطف بالواو وما جاء غير مطابق أولوه على الحذف فيكون تأويل هذا * (معرضون وما أرسلنا من قبلك من رسول) * * (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته) * * (ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته) * فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه و * (تمنى) * تفعل من المنية.
قال أبو مسلم: التمني نهاية التقدير، ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله، ومنى الله لك أي قدر. وقال رواه اللغة: الأمنية القراءة، واحتجوا ببيت حسان وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكر فإن التالي مقدر للحروف فذكرها شيئا فشيئا انتهى. وبيت حسان:
* تمنى كتاب الله أول ليلة
*
وآخره لاقى حمام المقادر
*
وقال آخر: تمنى كتاب الله أول ليلة
تمنى داوود الزبور على رسل
وحمل بعض المفسرين قوله * (إذا تمنى) * على تلا و * (فى أمنيته) * على تلاوته. والجملة بعد * (إلا) * في موضع الحال أي * (وما * أرسلناه) * إلا، وحاله هذه. وقيل: الجملة في موضع الصفة وهو قول الزمخشري في نحو: ما مررت بأحد إلا زيد خير منه، والصحيح أن الجملة حالية لا صفة لقبولها واو الحال، واللام في * (ليجعل) * متعلقة بيحكم قاله الحوفي. وقال ابن عطية: بينسخ. وقال غيرهما: ألقى، والظاهر أنها للتعليل. وقيل: هي لام العاقبة و * (ما) * في * (يلقى) * الظاهر أنها بمعنى الذي، وجوز أن تكون مصدرية.
والفتنة: الابتلاء والاختبار. والذين في قلوبهم مرض عامة الكفار. وقال الزمخشري: المنافقون والشاكون * (والقاسية قلوبهم) * خواص من الكفار عتاة كأبي جهل والنضر وعتبة. وقال الزمخشري: المشركون المكذبون * (وإن الظالمين) * يريد وإن هؤلاء المنافقين والمشركين، وأصله وإنهم فوضع الظاهر موضع المضمر، قضاء عليهم بالظلم. والشقاق المشاقة أي في شق غير شق الصلاح، ووصفه بالبعيد مبالغة في انتهائه وأنهم غير مرجو رجعتهم منه.
والضمير في: * (أنه) * قال ابن عطية: عائد على القرآن * (والذين أوتوا العلم) * أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقد تقدم من قولنا في الآية ما يعود
الضمير إليه * (فتخبت) * أي تتواضع وتتطامن بخلاف من في قلبه مرض وقسا قلبه. وقرأ الجمهور * (لهاد الذين ءامنوا) * الإضافة، وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين * (* الهاد) *.
المرية: الشك. والضمير في * (الكتاب منه) * قيل: عائد على القرآن. وقيل: على الرسول. وقيل: ما ألقى الشيطان، ولما ذكر حال الكافرين أولا ثم حال المؤمنين ثانيا عاد إلى شرح حال الكافرين، والظاهر أن * (الساعة) * يوم القيامة. قيل: واليوم العقيم يوم بدر. وقيل: ساعة موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر، واليوم العقيم يوم القيامة.
وقال الزمخشري: اليوم العقيم يوم بدر، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقم على سبيل المجاز.
وقيل: هو الذي لا خير فيه يقال: ريح عقيم إذا لم تنشىء مطرا ولم تلقح شجرا. وقيل: لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه. وعن الضحاك: إنه يوم القيامة وإن المراد بالساعة مقدماته ويجوز أن يراد بالساعة و * (يوم عقيم) * يوم القيامة كأنه قيل * (حتى تأتيهم الساعة) * أو يأتيهم عذابها فوضع * (يوم عقيم) * موضع الضمير انتهى. وقال ابن عطية: وسمى يوم القيامة أو يوم
353

الاستئصال عقيما لأنه لا ليلة بعده ولا يوم، والأيام كلها نتائج يجيء واحد أثر واحد، وكان آخر يوم قد عقم وهذه استعارة، وجملة هذه الآية توعد انتهى. و * (حتى) * غاية لاستمرار مريتهم، فالمعنى * (حتى تأتيهم الساعة) * * (أو عذاب * يوم عقيم) * فتزول مريتهم ويشاهدون الأمر عيانا.
والتنوين في * (يومئذ) * تنوين العوض، والجملة المعوض منها هذا التنوين هو الذي حذف بعد الغاية أي * (الملك) * يوم تزول مريتهم وقدره الزمخشري أولا يوم يؤمنون وهو لازم لزوال المرية، فإنه إذا زالت المرية آمنوا، وقدر ثانيا كما قدرنا وهو الأولى. والظاهر أن هذا اليوم هو يوم القيامة من حيث أنه لا ملك فيه لأحد من ملوك الدنيا كما قال تعالى * (لمن الملك اليوم) * ويساعد هذا التقسيم بعده، ومن قال إنه يوم بدر ونحوه فمن حيث ينفذ قضاء الله وحده ويبطل ما سواه ويمضي حكمه فيمن أراد تعذيبه، ويكون التقسيم إخبارا متركبا على حالهم في ذلك اليوم العقيم من الإيمان والكفر وألفاظ التقسيم ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح. وقابل النعيم بالعذاب ووصفه بالمهين مبالغة فيه.
* (والذين هاجروا) * الآية هذا ابتداء معنى آخر، وذلك أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه، فنزلت مسوية بينهم في أن الله يرزقهم * (رزقا حسنا) * وظاهر * (والذين هاجروا) * العموم. وقال مجاهد: نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم. وروي أن طوائف من الصحابة قالوا: يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا، فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.
وقال الزمخشري: لما جمعتهم المهاجرة في سبيل الله سوى بينهم في الموعد أن يعطي من مات منهم مثل ما يعطي من قتل فضلا منه وإحسانا والله عليم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم، حليم عن تفريط المفرط منهم بفضله وكرمه انتهى. وفي قوله: ومراتب استحقاقهم دسيسة الاعتزال، والتسوية في الوعد بالرزق لا تدل على تفضيل في قدر المعطى، ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل. وقيل: المقتول والميت في سبيل الله شهيدان.
والرزق الحسن يحتمل أن يراد به رزق الشهداء في البرزخ، ويحتمل أنه بعد يوم القيامة في الجنة وهو النعيم فيها. وقال الكلبي: هو الغنيمة. وقال الأصلم: هو العلم والفهم كقول شعيب * (ورزقنى منه رزقا حسنا) * وضعف هذان القولان لأنه تعالى جعل الرزق الحسن جزاء على قتلهم في سبيل الله أو موتهم بعد هجرتهم، وبعد ذلك لا يكون الرزق في الدنيا. والظاهر أن * (خير الرازقين) * أفعل تفضيل، والتفاوت أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره تعالى، وبأنه الأصل في الرزق وغيره إنما يرزق بماله من الرزق من جهة الله.
ولما ذكر الرزق ذكر المسكن فقال * (ليدخلنهم مدخلا يرضونه) * وهو الجنة يرضونه يختارونه إذ فيه رضاهم كما قال * (لا يبغون عنها حولا) * وتقدم الخلاف في القراءة بضم الميم أو فتحها في النساء، والأولى أن يكون يراد بالمدخل مكان الدخول أو مكان الإدخال، ويحتمل أن يكون مصدرا.
* (وذلك * من * عاقب) * الآية قيل: نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في الأشهر الحرم فأبى المؤمنون من قتالهم وأبى المشركون إلا القتال، فلما اقتتلوا جد المؤمنون ونصرهم الله. ومناسبتها لما قبلها واضحة وهو أنه تعالى لما ذكر ثواب من هاجر وقتل أو مات في سبيل الله أخبر أنه لا يدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم. وقال ابن جريج: الآية في المشركين بغوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأخرجوه والتقدير الأمر ذلك. قال الزمخشري: تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث أنه سبب وذلك مسبب عنه كما يجملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة فإن قلت: كيف طابق ذكر العفو الغفور هذا الموضع
354

قلت: المعاقب مبعوث من جهة الله عز وجل على الإخلال بالعقاب، والعفو عن الجاني على طريق التنزيه لا التحريم ومندوب إليه ومستوجب عند الله المدح إن آثر ما ندب إليه وسلك سبيل التنزيه، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب ولم ينظر في قول * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) * * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * * (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور) * فإن * (الله لعفو غفور) * أي لا يلومه على ترك ما بعثه عليه وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه، ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي فيعرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو، ويلوح به ذكر هاتين الصفتين أو دل بذكر العفو والمغفرة على نه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على حده ذلك، أي ذلك النصر بسبب أنه قادر.
ومن آيات قدرته البالغة أنه * (يولج اليل فى النهار) * و * (النهار ويولج النهار) * أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار. وأنه * (سميع) * لما يقولون * (بصير) * بما يفعلون وتقدم في أوائل آل عمران شرح هذا الإيلاج.
* (ذالك) * أي ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجري فيهما وإدراك كل قول وفعل بسبب * (إن الله) * * (الحق) * الثابت الإلهية وأن كل ما يدعى إلها دونه باطل الدعوة، وأنه لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا. وقرأ الجمهور * (وإن ما) * بفتح الهمزة. وقرأ الحسن بكسرها. وقرأ الإخوان وأبو عمرو وحفص * (يدعون) * بياء الغيبة هنا في لقمان. وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وكلاهما الفعل فيه مبني للفاعل. وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري يدعو بالياء مبنيا للمفعول والواو عائدة على ما على معناها و * (ما) * الظاهر أنها أصنامهم. وقيل: الشياطين والأولى العموم في كل مدعو دون الله تعالى.
* (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الارض مخضرة إن الله لطيف خبير * له ما في السماوات وما في الارض * وإن الله لهو الغنى الحميد * أم تريدون * أن الله سخر لكم ما فى الارض والفلك تجرى فى البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الارض إلا) *.
لما ذكر تعالى ما دل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وهما أمران مشاهدان مجيء الظلمة والنور، ذكر أيضا ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي، وهو نزول المطر وإنبات الأرض وإنزال المطر واخضرار الأرض مرئيان، ونسبة الإنزال إلى الله تعالى مدرك بالعقل. وقال أبو عبد الله الرازي: الماء وإن كان مرئيا إلا أن كون الله منزله من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم، لأن المقصود من تلك الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل.
وقال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل فأصبحت ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت: لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثرر المطر زمانا بعد مان. كما تقول أنعم علي فلان عام كذا، فأروح وأغذو شاكرا له. ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع.
فإن قلت: فما باله رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟ قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه، وإن رفعته فأنتم ثبت للشكر هذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.
وقال ابن عطية: وقوله * (فتصبح الارض) * بمنزلة قوله فتضحى أو تصير عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ووقع قوله * (فتصبح) * من حيث الآية خبرا، والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جوابا لقوله * (ألم تر) * فاسد المعنى انتهى. ولم يبين هو ولا الزمخشري كيف يكون النصب نافيا للاخضرار، ولا كون المعنى فاسدا. وقال سيبويه: وسألته يعني الخليل عن * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الارض مخضرة) * فقال: هذا واجب وهو تنبيه. كأنك قلت: أتسمع * (أنزل الله من السماء * ماء) * فكان كذا
355

وكذا. قال ابن خروف، وقوله فقال هذا واجب، وقوله فكان كذا يريد أنهما ماضيان، وفسر الكلام بأتسمع ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام لضعف حكم الاستفهام فيه، ووقع في الشرقية عوض أتسمع انتبه انتهى. ومعنى في الشرقية في النسخة الشرقية من كتاب سيبويه.
وقال بعض شراح الكتاب * (فتصبح) * لا يمكن نصبه لأن الكلام واجب ألا ترى أن المعنى * (أن الله أنزل) * فالأرض هذا حالها. وقال الفراء * (ألم تر) * خبر كما تقول في الكلام اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا انتهى. ويقول إنما امتنع النصب جوابا للاستفهام هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريرا في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى إلى قوله * (ألست بربكم قالوا بلى) * وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب، فإذا قلت: ما تأتينا فتحدثنا بالنصب، فالمعنى ما تأتينا محدثا إنما يأتي ولا يحدث، ويجوز أن يكون المعنى إنك لا تأتي فكيف تحدث، فالحديث منتف في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة، وينتفي الجواب فيلزم من هذا الذي قررناه إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار وهو خلاف المقصود. وأيضا فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء فقوله:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم
يتقدر أن تسأل فتخبرك الرسوم، وهنا لا يتقدر أن ترى إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتبا على علمك أو رؤيتك، إنما هو مترتب على الإنزال، وإنما عبر بالمضارع لأن فيه تصويرا للهيئة التي الأرض عليها، والحالة التي لابست الأرض، والماضي يفيد انقطاع الشيء وهذا كقول جحدر بن معونة العكلي، يصف حاله مع أشد نازلة في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف:
* يسمو بناظرتين تحسب فيهما
*
لما أجالهما شعاع سراج
*
* لما نزلت بحصن أزبر مهصر
*
للقرن أرواح العدا محاج
*
* فأكرأ حمل وهو يقعي باسته
*
فإذا يعود فراجع أدراجي
*
* وعلمت أني إن أبيت نزاله
*
أني من الحجاج لست بناجي
*
فقوله: فأكر تصوير للحالة التي لابسها. والظاهر تعقب اخضرار الأرض إنزال المطر وذلك موجود بمكة وتهامة فقط قاله عكرمة وأخذ تصبح على حقيقتها أي: تصبح، من ليلة المطر. وذهب إلى أن الاخضرار في غير مكة وتهامة يتأخر. وقال ابن عطية: وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي قد نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضعف انتهى.
وإذا جعلنا * (فتصبح) * بمعنى فتصير لا يلزم أن يكون ذلك الاخضرار في وقت الصباح، وإذا كان الاخضرار متأخرا عن إنزال المطر فثم جمل محذوفة التقدير، فتهتز وتربو فتصبح يبين ذلك قوله تعالى * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت) *. وقرئ * (مخضرة) * على وزن مفعلة ومسبعة أي ذات خضر، وخص تصبح دون سائر أوقات النهاى لأن رؤية الأشياء المحبوبة أول النهار أبهج وأسر للرائي.
* (إن الله
356

لطيف) * أي باستخراج النبات من الأرض بالماء الذي أنزله * (* خيبر) * بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره. وقيل * (تعملون خبير) * بلطيف التدبير * (خبير) * بالصنع الكثير. وقيل: * (خبير) * بمقادير مصالح عباده فيفعل على قدر ذلك من غير زيادة ولا نقصان. وقال ابن عباس * (لطيف) * بأرزاق عباده * (* خيبر) * بما في قلوبهم من القنوط. وقال الكلبي * (الله لطيف) * بأفعاله * (خبير) * بأعمال خلقه. وقال الزمخشري * (لطيف) * وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء * (خبير) * بمصالح الخلق ومنافعهم. وقال ابن عطية: واللطيف المحكم للأمور برفق. * (ما فى الارض) * يشمل الحيوان والمعادن والمرافق.
وقرأ الجمهور * (والفلك) * بالنصب وضم اللام ابن مقسم والكسائي عن الحسن، وانتصب عطفا على * (ما) * ونبه عليها وإن كانت مندرجة في عموم ما تنبيها على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها، وهذا هو الظاهر. وجوز أن يكون معطوفا على الجلالة بتقدير وأن * (الفلك) * وهو إعراب بعيد عن الفصاحة و * (تجرى) * حال على الإعراب الظاهر. وفي موضع الجر على الإعراب الثاني. وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني بضم الكاف مبتدأ وخبر، ومن أجاز العطف على موضع اسم إن أجازه هنا فيكون * (تجرى) * حالا. والظاهر أن * (ءان) * تقع في موضع نصب بدل اشتمال، أي ويمنع وقوع السماء على الأرض. وقيل هو مفعول من أجله يقدره البصريون كراهة * (أن تقع) * والكوفيون لأن لا تقع. وقوله * (إلا بإذنه) * أي يوم القيامة كأن طي السماء بعض هذه الهيئة لوقوعها، ويجوز أن يكون ذلك وعيدا لهم في أنه إن أذن في سقوطها كسفا عليكم سقطت كما في قولهم: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا * (وإلا * بإذنه) * متعلق بأن تقع أي * (إلا بإذنه) * فتقع. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يعود قوله * (إلا بإذنه) * على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه، فكأنه أراد إلا بإذنه فيها يمسكها انتهى. ولو كان على ما قاله ابن عطية لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء أي يكون التقدير ويمسك السماء بإذنه.
* (وهو الذى أحياكم) * أي بعد أن كنتم جمادا ترابا ونطفة وعلقة ومضغة وهي الموتة الأولى المذكورة في قوله تعالى * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * و * (الإنسان) *. قال ابن عباس: هو الكافر. وقال أيضا: هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وأبي بن خلف. وهذا على طريق التمثيل. * (لكفور) * لجحود لنعم الله، يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المذكورة وبغيرها.
و * (لكل أمة جعلنا منسكا) * روي أنها نزلت بسبب جدال الكفار بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما في الذبائح وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم وهو من قتلكم، ولا تأكلون ما قتل الله فنزلت بسبب هذه المنازعة. وقال ابن عطية * (هم ناسكوه) * يعطى أن المنسك المصدر ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه انتهى. ولا يتعين ما قال إذ قد يتسع في معمول اسم الفاعل كما يتسع في معمول الفعل فهو موضع اتسع فيه فأجرى مجرى المفعول به على السعة، ومن الاتساع في ظرف المكان قوله:
357

* ومشرب شربه رسيل
*
لا آجن الماء ولا وبيل
*
مشرب مكان الشرب عاد عليه الضمير، وكان أصله أشرب فيه فاتسع فيه فتعدى الفعل إلى ضميره ومن الاتساع سير بزيد فرسخان. وقرئ * (فلا ينازعنك) * بالنون الخفيفة أي أثبت على دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك، ومثله * (ولا يصدنك عن ءايات الله) * وهذا النهي لهم عن المنازعة من باب لا أرينك ههنا، والمعنى فلا بد لهم بمنازعتك فينازعوك. وقرأ أبو مجلز * (فلا ينازعنك) * من النزع بمعنى فلا يقلعنك فيحملونك من دينك إلى أديانهم من نزعته من كذا و * (الامر) * هنا الدين، وما جئت به وعلى ما روي في سبب النزول يكون * (فى الامر) * بمعنى في الذبح * (لعلى * هدى) * أي إرشاد. وجاء * (ولكل أمة) * بالواو وهنا * (لكل أمة) * لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الورادة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا قاله الزمخشري.
* (وإن جادلوك) * آية موادعة نسختها آية السيف أي وإن أبوا للجاجهم إلا المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء، وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين * (الله يحكم بينكم) * خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب، ومسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم) بما كان يلقى منهم.
* (ألم تعلم أن الله يعلم ما فى السماء والارض إن ذالك فى كتاب إن ذالك على الله يسير ويعبدون) *.
لما تقدم ذكر الفصل بين الكفار والمؤمنين يوم القيامة أعقب تعالى أنه عالم بجميع * (ما فى السماء والارض) * فلا تخفى عليه أعمالكم و * (إن ذالك فى كتاب) * قيل: هو أم الكتاب الذي كتبه الله قبل خلق السماوات والأرض، كتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقيل: الكتاب اللوح المحفوظ. والإشارة بقوله * (إن ذالك على الله يسير) * قيل: إلى الحكم السابق، والظاهر أنه إشارة إلى حصر المخلوقات تحت علمه وإحاطته. وقال الزمخشري: ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السماوات والأرض وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه، والإحاط بذلك وإثباته وحفظه عليه يسير لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم انتهى. وفي قوله لأن العالم الذات فيه دسيسة الاعتزال لأن من مذهبهم نفي الصفات فهو عالم لذاته لا يعلم عندهم.
* (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا) * أي حجة وبرهانا سماويا من جهة الوحي والسمع * (وما ليس لهم به علم) * أي دليل عقلي ضروري أو غيره. * (وما للظالمين) * أي المجاوزين الحد في عبادة ما لا يمكن عبادته * (من نصير) * ينصرهم فيما ذهبوا إليه أو إذا حل بهم العذاب.
* (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا) * أي يتلوه الرسول أو غيره * (ءاياتنا) * الواضحة في رفض آلهتهم ودعائهم إلى توحيد الله وعبادته * (تعرف فى وجوه الذين كفروا) * أي الذين ستروا الحق وغطوه وهو واضح بين والمنكر مصدر بمعنى الإنكار. ونبه على موجب المنكر وهو الكفر وناب الظاهر مناب المضمر كأنه قيل: تعرف في وجوههم لكنه نبه على العلة الموجبة لظهور المنكر في وجوههم، والمنكر المساءة والتجهم والبسور والبطش الدال ذلك كله على سوء المعتقد وخبث السريرة، لأن الوجه يظهر فيه الترح والفرح اللذان محلهما القلب.
* (يكادون يسطون) * أي هم دهرهم بهذه الصفة فهم يقاربون ذلك طول زمانهم، وإن كان قد وقع منهم سطو ببعض الصحابة في شاذ من الأوقات. قال ابن عباس: * (يسطون) * يبسطون إليهم. وقال محمد بن كعب: يقعون بهم. وقال الضحاك: يأخذونهم أخذا باليد والمعنى واحد. وقرأ عيسى بن عمر يعرف مبنيا للمفعول المنكر ووقع * (قل) * هل أنبئكم * (بشر من ذالكم) * وعيد وتقريع والإشارة إلى غيظهم على التالين وسطوهم عليهم، أو إلى ما أصابهم من الكراهة والبسور بسبب ما تلي
358

عليهم. وقرأ الجمهور * (النار) * رفعا على إضمار مبتدأ كأن قائلا يقول قال: وما هو؟ قال: النار، أي نار جهنم. وأجاز الزمخشري أن تكون * (النار) * مبتدأ و * (وعدها) * الخبر وأن يكون * (وعدها) * حالا على الإعراب الأول، وأن تكون جملة إخبار مستأنفة وأجيز أن تكون خبرا بعد خبر، وذلك في الإعراب الأول، وروي أنهم قالوا: محمد وأصحابه شر خلق فقال الله قل لهم يا محمد * (أفأنبئكم بشر) * ممن ذكرتم على زعمكم أهل النار فهم أنتم خشر خلق الله. وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى وزيد بن علي * (النار) * بالنصب. قال الزمخشري: على الاختصاص ومن أجاز في الرفع أن تكون * (النار) * مبتدأ فقياسه أن يجيز في النصب أن يكون من باب الاشتغال. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة * (النار) * بالجر على البدل من * (شر) * والظاهر أن الضمير في * (وعدها) * هو المفعول الأول على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم، ألا ترى إلى قولها هل من مريد، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني * (والذين كفروا) * هو الأول كما قال * (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم) *.
* (المصير يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم) *.
لما ذكر تعالى أن الكفار يعبدون ما لا دليل على عبادته لا من سمع ولا من عقل ويتركون عبادة من خلقهم، ذكر ما عليه معبوداتهم من انتفاء القدرة على خلق أقل الأشياء بل على رد ما أخذه ذلك الأقل منه، وفي ذلك تجهيل عظيم لهم حيث عبدوا من هذه صفته لقوله * (إن الذين تدعون) * بتاء الخطاب. وقيل: خطاب للمؤمنين أراد الله أن يبين لهم خطأ الكافرين فيكون * (تدعون) * خطابا لغيرهم الكفار عابدي غير الله. وقيل: الخطاب عام يشمل من نظر في أمر عبادة غير الله، فإنه يظهر له قبح ذلك. و * (ضرب) * مبني للمفعول، والظاهر أن ضارب المثل هو الله تعالى، ضرب مثلا لما يعبد من دونه أي بين شبها لكم ولمعبودكم. وقيل: ضارب المثل هم الكفار، جعلوا مثلا لله تعالى أصنامهم وأوثانهم أي فاسمعوا أنتم أيها الناس لحال هذا المثل ونحوه ما قال الأخفش قال: ليس ههنا * (مثل) * وإنما المعنى جعل الكفار لله مثلا. وقيل: هو * (مثل) * من حيث المعنى لأنه * (ضرب مثل) * من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذبابا.
وقال الزمخشري: فإن قلت: الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلا؟ قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم انتهى.
وقرأ الجمهور * (تدعون) * بالتاء. وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو بالياء وكلاهما مبني للفاعل. وقرأ اليماني وموسى الأسواري بالياء من أسفل مبنيا للمفعول. وقال الزمخشري * (لن) * أخت لا في نفي المستقبل إلا أن تنفيه نفيا مؤكدا، وتأكيده هنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم كأنه قال: محال أن يخلقوا انتهى. وهذا القول الذي قاله في * (لن) * هو المنقول عنه أن * (لن) * للنفي على التأييد، ألا تراه فسر ذلك بالاستحالة وغيره من النحاة يجعل * (لن) * مثل لا في النفي ألا ترى إلى قوله * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * كيف جاء
359

النفي بلا وهو الصحيح، والاستدلال عليه مذكور في النحو. وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل المخلوقات من حيث أن الاختراع صفة له تعالى ثابتة مختصة لا يشركه فيها أحد، وثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو أمر سلب * (الذباب) * وعدم استنقاذ شيء مما * (يسلبهم) * وكان الذباب كثيرا عند العرب، وكانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك. وعن ابن عباس: كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وموضع * (ولو اجتمعوا له) * قال الزمخشري: نصب على الحال كأنه قال مستحيل: أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا لخلقه، وتعاونهم عليه انتهى.
وتقدم لنا الكلام على نظير * (ولو) * هذه، وتقرر أن الواو فيه للعطف على حال محذوفة، كأنه قيل * (لن يخلقوا ذبابا) * على كل حال ولو في هذه الحال التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم، ولكنه ليس في مقدورهم ذلك.
* (ضعف الطالب والمطلوب) * قال ابن عباس: الصنم والذباب، أي ينبغي أن يكون الضم طالبا لما سلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان. وقيل * (* المطلوب) * الآلهة و * (ضعف الطالب) * الذباب فضعف الآلهة أن لا منعة لهم، وضعف الذباب في استلابه ما على الآلهة. وقال الضحاك: العابد والمعبود فضعف العابد في طلبهم الخير من غير جهته، وضعف المعبود في إيصال ذلك لعابده. وقال الزمخشري: وقوله * (ضعف الطالب والمطلوب) *
. وقيل: معناه التعجب أي ما أضعف الطالب والمطلوب.
* (ما قدروا الله حق قدره) * أي ما عرفوه حق معرفته منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة حيث عبدوا من هو منسلخ عن صفاته وسموه باسمه، ولم يؤهلوا خالقهم للعبادة ثم ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة * (الله يصطفى) * الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة * (عليه الذكر من بيننا بل) * الآية، وأنكروا أن يكون الرسول من البشر فرد الله عليهم بأن رسله ملائكة وبشر، ثم ذكر أنه عالم بأحوال المكلفين لا يخفى عليه منهم شيء وإليه مرجع الأمور كلها.
ولما ذكر تعالى أنه اصطفى رسلا من البشر إلى الخلق أمرهم بإقامة ما جاءت به الرسل من التكاليف وهو الصلاة قيل: كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويرجعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بكوع وسجود واتفقوا على مشروعية السجود في آخر آية * (ألم تر أن الله يسجد له) * وأما في هذه الآية فمذهب مالك وأبي حنيفة أنه لا يسجد فيها، ومذهب الشافعي وأحمد أنه يسجد فيها وبه قال عمر وابنه عبد الله وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس * (واعبدوا ربكم) * أي افردوه بالعبادة * (وافعلوا الخير) * قال ابن عباس: صلة الأرحام ومكارم الأخلاق، ويظهر في هذا الترتيب أنهم أمروا أولا بالصلاة وهي نوع من العبادة، وثانيا بالعبادة وهي نوع من فعل الخير، وثالثا بفعل الخير وهو أعم من العبادة فبدأ بخاص ثم بعام ثم بأعم.
* (وجاهدوا فى الله) * أمر بالجهاد في دين الله وإعزاز كلمته يشمل جهاد الكفار والمبتدعة وجهاد النفس. وقيل: أمر بجهاد الكفار خاصة * (حق جهاده) * أي استفرغوا جهدكم وطاقتكم في ذلك، وأضاف الجهاد إليه تعالى لما كان مختصا بالله من حيث هو مفعول لوجهه ومن أجله، فالإضافة تكون بأدنى ملابسة. قال الزمخشري: ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله:
ويوم شهدناه سليما وعامرا
انتهى. يعني بالظرف الجار والمجرور، كأنه كان الأصل حق جهاد فيه فاتسع بأن حذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى الضمير. و * (حق جهاده) * من باب هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقا وعالم جدا. وعن مجاهد والكلبي أنه منسوخ بقوله * (فاتقوا الله ما استطعتم) *.
* (هو اجتباكم) * أي اختاركم لتحمل
360

تكليفاته وفي قوله * (هو) * تفخيم واختصاص، أي هو لا غيره. * (من حرج) * من تضييق بل هي حنيفية سمحة ليس فيها تشديد بني إسرائيل بل شرع فيها التوبة والكفارات والرخص. وانتصب * (ملة أبيكم) * بفعل محذوف، وقدره ابن عطية جعلها * (ملة) * وقال الزمخشري: نصب الملة بمضمون ما تقدمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه أو على الاختصاص أي أعني بالدين * (ملة أبيكم) * كقوله: الحمد لله الحميد، وقال الحوفي وأبو البقاء: اتبعوا ملة إبراهيم. وقال الفراء: هو نصب على تقدير حذف الكاف، كأنه قيل كلمة * (أبيكم) * بالإضافة إلى أبيه الرسول، وأمة الرسول في حكم أولاده فصارا بالأمته بهذه الوساطة. وقيل: لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب طلب الأكثر فأضيف إليهم. وجاء قوله * (ملة) * * (إبراهيم) * باعتبار عبادة الله وترك الأوثان وهو المسوق له الآيات المتقدمة، فلا يدل ذلك على الاتباع في تفاصيل الشرائع.
والظاهر أن الضمير في * (هو سماكم) * عائد على * (إبراهيم) * وهو أقرب مذكور ولكل نبي دعوة مستجابة ودعا إبراهيم فقال * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) * فاستجاب الله له فجعلها أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وقاله ابن زيد والحسن. وقيل: يعود * (هو) * إلى الله وهو قول ابن عباس وقتادة
ومجاهد والضحاك. وعن ابن عباس: إن الله * (سماكم المسلمين من قبل) * أي في كل الكتب * (وفى هاذا) * أي القرآن، ويدل على أن الضمير لله قراءة أبي الله سماكم. قال ابن عطية: وهذه اللفظة يعني قوله * (وفى هاذا) * تضعيف قول من قال الضمير لإبراهيم، ولا يتوجه إلا على تقدير محذوف من الكلام مستأنف انتهى. وتقدير المحذوف وسميتم في هذا القرآن المسلمين، والمعنى أنه فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم.
* (ليكون الرسول شهيدا عليكم) * أنه قد بلغكم * (وتكونوا شهداء على الناس) * بأن الرسل قد بلغتهم، وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه فهو خير مولى وناصر. وعن قتادة أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي. قيل للنبي: أنت شهيد على أمتك. وقيل له: ليس عليك حرج. وقيل له: سل تعط. وقيل: لهذه الأمة: * (وتكونوا شهداء على الناس) * وقيل لهم * (ما جعل * عليكم فى الدين من حرج) * وقيل لهم * (ادعونى أستجب لكم) * * (واعتصموا) * قال ابن عباس سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره. وقال الحسن تمسكوا بدين الله.
361

((سورة المؤمنون))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (قد أفلح المؤمنون * الذين هم فى صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكواة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى ورآء ذالك فأولائك هم العادون * والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولائك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون * ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذالك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون * ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق وما كنا عن الخلق غافلين * وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه فى الا رض وإنا على ذهاب به لقادرون * فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون * وشجرة تخرج من طور سينآء تنبت بالدهن وصبغ للأكلين * وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى الفلك تحملون * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون * فقال الملؤا الذين كفروا من قومه ما هاذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شآء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهاذا فىءابآئنا الا ولين * إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين * قال رب انصرنى بما كذبون * فأوحينآ إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جآء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبنى فى الذين ظلمو
362

1764 ا إنهم مغرقون * فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلنى منزلا مباركا وأنت خير المنزلين * إن فى ذالك لأيات وإن كنا لمبتلين * ثم أنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين * فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون * وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الا خرة وأترفناهم فى الحيواة الدنيا ما هاذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون * أيعدكم أنكم إذا مت م وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين * قال رب انصرنى بما كذبون * قال عما قليل ليصبحن نادمين * فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثآء فبعدا للقوم الظالمين * ثم أنشأنا من بعدهم قرونا ءاخرين * ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون * ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جآء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون * ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بأاياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين * فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون * فكذبوهما فكانوا من المهلكين * ولقد ءاتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون * وجعلنا ابن مريم وأمه ءاية وءاويناهمآ إلى ربوة ذات قرار ومعين * ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم * وإن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون * فذرهم فى غمرتهم حتى حين * أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون * إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بأايات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون * والذين يؤتون مآ ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولائك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون * ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون * بل قلوبهم فى غمرة من هاذا ولهم أعمال من دون ذالك هم لها عاملون * حتى إذآ أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون * لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون * قد كانت ءايتى تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون * أفلم يدبروا القول أم جآءهم ما لم يأت ءابآءهم الا ولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * أم يقولون به جنة بل جآءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون * ولو اتبع الحق أهوآءهم لفسدت السماوات والا رض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون * أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين * وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالا خرة عن الصراط لناكبون * ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا فى طغيانهم يعمهون * ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون * حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون) *))
) *
363

السلالة: فعالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته منه. وقال أمية:
* خلق البرية من سلالة منتن
*
وإلى السلالة كلها ستعود
*
والولد سلالة أبيه كأنه انسل من ظهر أبيه. قال الشاعر:
* فجاءت به عصب الأديم غضنفرا
*
سلالة فرج كان غير حصين
*
وهو بناء يدل على القلة كالقلامة والنحاتة. سيناء وسينون: اسمان لبقعة، وجمهور العرب على فتح سين سيناء فالألف فيه للتأنيث كصحراء فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم، وكنانة تكسر السين فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم أيضا عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث، وعند البصريين يمتنع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث، لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق كعلباء ودرحاء. قيل: وهو جبل فلسطين. وقيل: بين مصر وأيلة. الدهن: عصارة الزيتون واللوز وما أشبههما مما فيه دسم، والدهن: بفتح الدال مسح الشيء بالدهن. هيهات: اسم فعل يفيد الاستبعاد فمعناها بعد، وفيها لغات كثيرة ذكرناها في كتاب التكميل لشرح التسهيل، ويأتي منها ما قرىء به إن شاء الله. الغثاء: الزبد وما ارتفع على السيل ونحو ذلك مما لا ينتفع به قاله أبو عبيد. وقال الأخفش: الغثاء والجفاء واحد، وهو ما احتمله السيل من القذر والزبد. وقال الزجاج: البالي من ورق الشجر إذا جرى السيل خالط زبده انتهى. وتشدد ثاؤه وتخفف، ويجمع غلى أغثاء شذوذا، وروى بيت امرئ القيس: من السيل والغثاء بالتخفيف والتشديد بالجمع. تترى واحدا بعد واحد. قال الأصمعي: وبينهما مهلة. وقال غيره: المواترة التتابع بغير مهلة، وتاؤه مبدلة من واو على غير قياس، إذ أصله الوتر كتاء تولج وتيقور الأصل وولج وويقور لأنه من الولوج والوقار، وجمهور العرب على عدم تنوينه فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم وكنانة تنونه، وينبغي أن تكون الألف فيه للإلحاق كهي في علقي المنون، وكتبه بالياء يدل على ذلك، ومن زعم أن التنوين فيه كصبرا ونصرا فهو مخطىء لأنه يكون وزنه فعلا ولا يحفظ فيه الإعراب في الراء، فتقول تتر في الرفع وتتر في الجر لكن ألف الإلحاق في المصدر نادر، ولا يلزم وجود النظير. وقيل: تترى اسم جمع كأسرى وشتى. المعين: الميم فيه زائدة ووزنه مفعول كمخيط، وهو المشاهد جريه بالعين تقول: عانه أدركه بعينه كقولك: كبده ضرب كبده، وأدخله الخليل في باب ع ي ن. وقيل: الميم أصلية من باب معن الشيء معانة كثر فوزنه فعيل، وأجاز الفراء الوجهين. وقال جرير:
* إن الذين غدوا بلبك غادروا
*
وشلا بعينك ما يزال معينا
*
الغمرة: الجهالة زجل غمرغافل لم يجرب الأمور وأصله الستر، ومنه الغمر للحقد لأنه يغطي القلب، والغمر للماء الكثير لأنه يغطي الأرض، والغمرة الماء الذي يغمر القامة، والغمرات الشدائد ورجل غامر إذا كان يلقي نفسه في المهالك، ودخل في غمار الناس أي في زحمتهم. الجؤار: مثل الخوار جأر الثور يجأر صاح، وجأر الرجل إلى الله تضرع بالدعاء قاله الجوهري. وقال الشاعر:
364

يراوح من صلوات المليك فطورا سجودا وطورا جؤارا وقيل: الجؤار الصراخ باستغاثة قال: جأر ساعات النيام لربه. السامر: مفرد بمعنى الجمع، يقال: قوم سامر وسمر ومعناه سهر الليل مأخوذ من السمر، وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر وكانوا يجلسون للحديث في ضوء القمر، والسمير الرفيق بالليل في السهر ويقال له السمار أيضا، ويقال لا أفعله ما أسمر ابنا سمير، والسمير الدهر وابناه الليل والنهار. نكب عن الطريق ونكب بالتشديد: إذا عدل عنه. اللجاج في الشيء: التمادي عليه.
* (قد أفلح المؤمنون * الذين هم فى صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكواة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذالك فأولئك هم العادون * والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون * ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله) *.
هذه السورة مكية بلا خلاف، وفي الصحيح للحاكم عنه صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة) ثم قرأ قد * (أفلح المؤمنون) * إلى عشر آيات. ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله * (الامور يأيها الذين ءامنوا اركعوا) * الآية وفيها * (لعلكم تفلحون) * وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله * (قد أفلح المؤمنون) * إخبارا بحصول ما كانوا رجوه من الفلاح.
وقرأ طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد * (قد أفلح المؤمنون) * بضم الهمزة وكسر اللام مبنيا للمفعول، ومعناه ادخلوا في الفلاح فاحتمل أن يكون من فلح لازما أو يكون أفلح يأتي متعديا ولازما. وقرأ طلحة أيضا بفتح الهمزة واللام وضم الحاء. قال عيسى بن عمر: سمعت طلحة بن مصرف يقرأ قد أفلحوا المؤمنون، فقلت له: أتلحن؟ قال: نعم، كما لحن أصحابي انتهى. يعني أن مرجوعه في القراءة إلى ما روي وليس بلحن لأنه على لغة أكلوني البراغيث. وقال الزمخشري: أو على الإبهام والتفسير. وقال ابن عطية: وهي قراءة مردودة، وفي كتاب ابن خالويه مكتوبا بواو بعد الحاء، وفي اللوامح وحذفت واو الجمع بعد الحاء لالتقائهما في الدرج، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل نحو * (ويمح الله الباطل) *. وقال الزمخشري: وعنه أي عن طلحة * (أفلح) * بضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله:
فلو أن الأطباء كان حولي
انتهى. وليس بجيد لأن الواو في * (أفلح) * حذفت لالتقاء الساكنين وهنا حذفت للضرورة فليست مثلها. قال الزمخشري: قد تقتضيه لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه انتهى.
والخشوع لغة الخضوع والتذلل، وللمفسرين فيه هنا أقوال: قال عمرو بن دينار: هو السكون وحسن الهيئة. توقال مجاهد: غض البصر وخفض الجناح. وقال مسلم بن
365

يسار وقتادة: تنكيس الرأس. وقال الحسن: الخوف. وقال الضحاك: وضع اليمين على الشمال. وعن علي: ترك الالتفات في الصلاة. وعن أبي الدرداء: إعظام المقام وإخلاص المقال واليقين التام وجمع الاهتمام. وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي رافعا بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده، ومن الخشوع أن تستعمل الآداب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسده وثيابه والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك والاختصار وتقليب الحصى. وفي التحرير: اختلف في الخشوع، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين، والصحيح الأول ومحله القلب، وهو أول علم يرفع من الناس قاله عبادة بن الصامت.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت: لأن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى له، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته فهي صلاته، وأما المصلى له فغني متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها.
* (اللغو) * ما لا يعنيك من قول أو فعل كاللعب والهزل، وما توجب المروءة اطراحه يعني أن بهم من الجد ما يشغلهم عن الهزل لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعهم الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشافين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف انتهى. وإذا تقدم معمول اسم الفاعل جاز أن يقوي تعديته باللام كالفعل، وكذلك إذا تأخر لكنه مع التقديم أكثر فلذلك جاء * (للزكواة) * باللام ولو جاء منصوبا لكان عربيا والزكاة إن أريد بها التزكية صح نسبة الفعل إليها إذ كل ما يصدر يصح أن يقال فيه فعل، وإن أريد بالزكاة قدر ما يخرج من المال للفقير فيكون على حذف أي لأداء الزكاة * (فاعلون) * إذ لا يصح فعل الأعيان من المزكى أو يضمن فاعلون معنى مؤدون، وبه شرحه التبريزي. وقيل * (للزكواة) * للعمل الصالح كقوله * (خيرا منه زكواة) * أي عملا صالحا قاله أبو مسلم. وقيل: الزكاة هنا النماء والزيادة، واللام لام العلة ومعمول * (فاعلون) * محذوف التقدير * (والذين هم) * لأجل تحصيل النماء والزيادة * (فاعلون) * الخير. وقيل: المصروف لا يسمى زكاة حتى يحصل بيد الفقير. وقيل: لا تسمى العين المخرجة زكاة، فكان التغيير بالفعل عن إخراجه أولى منه بالأداء، وفيه رد على بعض زنادقة الأعاجم الأجانب عن ذوق العربية في قوله: ألا قال مؤدون، قال في التحرير والتحبير: وهذا كما قيل لا عقل ولا نقل، والكتاب العزيز نزل بأفصح اللغات وأصحها بلا خلاف. وقد قال أمية بن أبي الصلت:
* المطعمون الطعام في السنة الأز
*
مة والفاعلون للزكوات
*
ولم يرد عليه أحد من فصحاء العرب ولا طعن فيه علماء العربية، بل جميعهم يحتجون به ويستشهدون انتهى. وقال الزمخشري: وحمل البيت على هذا أصح لأنها فيه مجموعة يعني على أن الزكاة يراد بها العين وهو على حذف مضاف، أي لأداء الزكوات، وعلل ذلك بجمعها يعني أنها إذا أريد بها العين صح جمعها، وإذا أريد بها التزكية لم تجمع لأن التزكية مصدر، والمصادر لا تجمع وهذا غير مسلم بل قد جاء منها مجموعا ألفاظ كالعلوم والحلوم والأشغال، وأما إذا اختلفت فالأكثرون على جواز جمعها وهنا اختلفت بحسب متعلقاتها فإخراج النقد غير إخراج الحيوان وغير إخراج النبات والزكاة في قول أمية مما جاء جمعا من المصادر، فلا يتعدى حمله على المخرج لجمعه.
وحفظ لا يتعدى بعلى. فقيل: على بمعنى من أي إلا من أزواجهم كما استعملت من بمعنى على في قوله * (ونصرناه من القوم) * أي على القوم قاله الفراء، وتبعه ابن مالك وغيره والأولى أن يكون من باب التضمين ضمن * (حافظون) * معنى ممسكون أو
366

قاصرون، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله * (أمسك عليك زوجك) * وتكلف الزمخشري هنا وجوها. فقال * (على أزواجهم) * في موضع الحال أي الأوالين على أزواجهم أو قوامين عليهن من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلانا، ونظيره كان زياد على البصرة أي واليا عليها. ومنه قولهم: فلان تحت فلان
ومن ثم سميت المرأة فراشا أو تعلق على بمحذوف يدل عليه غير ملومين، كأنه قيل: يلامون * (إلا على أزواجهم) * أي يلامون على كل مباشر إلا على أما أطلق لهم * (فإنهم غير ملومين) * عليه أو يجعله صلة لحافظين من قولك احفظ علي عنان فرسي على تضمينه معنى النفي، كما ضمن قولهم: نشدتك الله إلا فعلت بمعنى ما طلبت منك إلا فعلك انتهى. يعني أن يكون حافظون صورته صورة المثبت وهو منفي من حيث المعنى، أي والذين هم لم يحفظوا فروجهم إلا على أزواجهم، فيكون استثناء مفرغا متعلقا فيه على بما قبله كما مثل بنشدتك الذي صورته صورة مثبت، ومعناه النفي أي ما طلبت منك. وهذه التي ذكرها وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة.
وقوله * (وما ملكت) * أريد بما النوع كقوله * (فانكحوا ما طاب لكم) * وقال الزمخشري: أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث انتهى. وقوله وهم الإناث ليس بجيد لأن لفظ هم مختص بالذكور، فكان ينبغي أن يقول وهو الإناث على لفظ ما أوهن الإناث على معنى ما، وهذا الاستثناء حد يجب الوقوف عنده، والتسري خاص بالرجال ولا يجوز للنساء بإجماع، فلو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فأعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار. وقال النخعي والشعبي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة: يبقيان على نكاحهما وفي قوله * (أو ما ملكت أيمانهم) * دلالة على تعميم وطء ما ملك باليمين وهو مختص بالإناث بإجماع، فكأنه قيل * (أو ما ملكت أيمانهم) * من النساء. وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها أو خالتها خلاف، ويخص أيضا في الآية بتحريم وطء الحائض والأمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر، ويشمل قوله وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم والاستمناء ومعنى وراء ذلك وراء هذا الحد الذي حد من الأزواج ومملوكات النساء، وانتصابه على أنه مفعول بابتغى أي خلاف ذلك. وقيل: لا يكون وراء هنا إلا على حذف تقدير ما وراء ذلك.
والجمهور على تحريم الاستمناء ويسمى الخضخضة وجلد عميرة يكنون عن الذكر بعميرة، وكان أحمد بن حنبل يجيز ذلك لأنه فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالقصد والحجامة، وسأل حرملة بن عبد العزيز مالكا عن ذلك فتلا هذه الآية وكان جرى في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتح محمد بن علي بن مطيع القشيري ابن دقيق العيد فاستدل على منع ذلك بما استدل مالك من قوله * (فمن ابتغى وراء ذالك) * فقلت له: إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر بذلك في أشعارها، وكان ذلك كثيرا فيها بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات، ولم يكونوا ينكرون ذلك. وأما جلد عميرة فلم يكن معهودا فيها ولا ذكره أحد منهم في أشعارهم فيما علمناه فليس بمندرج في قوله * (وراء ذالك) * ألا ترى أن محل ما أبيح وهو نساؤهم بنكاح أو تسر فالذي وراء ذلك هو من جنس ما أحل لهم وهو النساء، فلا يحل لهم شيء منهن إلا بنكاح أو تسر، والظاهر أن نكاح المتعة لا يندرج تحت قوله * (فمن ابتغى وراء ذالك) * لأنها ينطلق عليها اسم زوج. وسأل الزهري القاسم بن محمد عن المتعة فقال: هي محرمة في كتاب الله وتلا * (والذين هم لفروجهم حافظون) * الآية ولا يظهر التحريم في هذه الآية.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية لأمانتهم بالإفراد وباقي السبعة بالجمع، والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن تعالى عليه العبد من قول وفعل واعتقاد، فيدخل في ذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك وما ائتمنه الإنسان قبل، ويحتمل الخصوص في أمانات الناس. والأمانة: هي الشيء المؤتمن عليه ومراعاتها القيام عليها لحفظها إلى أن تؤدى، والأمانة أيضا المصدر وقال تعالى * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الاحمانات إلى أهلها) * والمؤدى هو العين المؤتمن عليه أو القول إن كان المؤتمن عليه لا المصدر. وقرأ الأخوان على صلاتهم بالتوحيد، وباقي السبعة بالجمع. والخشوع
367

والمحافظة متغايران بدأ أولا بالخشوع وهو الجامع للمراقبة القلبية والتذلل بالأفعال البدنية، وثنى بالمحافظة وهي تأديتها في وقتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وأداء أركانها على أحسن هيئاتها ويكون ذلك دأبه في كل وقت. قال الزمخشري: ووحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أي صلاة كانت، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على إعدادها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف وصلاة الضحى والتهجد وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة وغيرها من النوافل.
* (أولائك) * أي الجامعون لهذه الأوصاف * (هم الوارثون) * الأحقاء أن يسموا وراثا دون من عداهم، ثم ترجم الوارثين بقوله * (الذين يرثون الفردوس) * فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر، ومعنى الإرث ما مر في سورة مريم انتهى. وتقدم الكلام في * (الفردوس) * في آخر الكهف.
* (ولقد خلقنا الإنسان) * الآية لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي، ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحة النشأة الآخرة. وقال ابن عطية: هذا ابتداء كلام والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة، وإن تباينت في المعاني انتهى. وقد بينا المناسبة بينهما ولم تتباين في المعاني من جميع الجهات. * (الإنسان) * هنا. قال قتادة وغيره ورواه عن سلمان وابن عباس آدم لأنه انسل من الطين * (ثم جعلنا) * عائد على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلا له ونظيره * (حتى توارت بالحجاب) * أو على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله. وعن ابن عباس أيضا أن * (الإنسان) * ابن آدم و * (سلالة من طين) * صفوة الماء يعني المني وهو اسم جنس، والطين يراد به آدم إذ كانت نشأة من الطين كما سمى عرق الثرى أو جعل من الطين لكونه سلالة من أبويه وهما متغذيان بما يكون من الطين. وقال الزمخشري: خلق جوهر الإنسان أولا طينا ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة انتهى. فجعل الإنسان جنسا باعتبار حالتيه لا باعتبار كل مردود منه و * (من) * الأولى لابتداء الغاية و * (من) * الثانية قال الزمخشري للبيان كقوله * (من الاوثان) * انتهى. ولا تكون للبيان إلا على تقدير أن تكون السلالة هي الطين، أما إذا قلنا أنه ما انسل من الطين فتكون لابتداء الغاية. والقرار مكان الاستقرار والمراد هنا الرحم. والمكين المتمكن وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال، أو لتمكن من يحل فيه فوصف بذلك على سبيل المجاز كقوله طريق سائر لكونه يسار فيه، وتقدم تفسير النطفة والعلقة والمضغة.
وقرأ الجمهور عظاما و * (العظام) * الجمع فيهما. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والفضل والحسن وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن
بإفراد الأول وجمع الثاني. وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضا بجمع الأول وإفراد الثاني فالإفراد يراد به الجنس. وقال الزمخشري: وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس لأن الإنسان ذو عظام كثيرة انتهى. وهذا لا يجوز عند سيبويه وأصحابنا إلا في الضرورة وأنشدوا:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
ومعلوم أن هذا لا يلبس لأنهم كلهم ليس لهم بطن واحد ومع هذا خصوا مجيئه بالضرورة * (ثم خلقنا النطفة علقة) * قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد، هو نفخ الروح فيه. وقال ابن عباس أيضا: خروجه إلى الدنيا. وقالت فرقة: نبات شعره. وقال مجاهد: كمال شبابه. وقال ابن عباس أيضا تصرفه في أمور الدنيا. قال ابن
368

عطية: وهذا التخصيص لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجود النطق والإدراك، وأول رتبة من كونه آخرنفخ الروح وآخره تحصيله المعقولات إلى أن يموت انتهى. ملخصا وهو قريب مما رواه العوفي عن ابن عباس، ويدل عليه قوله بعد ذلك * (ثم إنكم بعد ذالك لميتون) *.
وقال الزمخشري ما ملخصه: * (خلقا ءاخر) * مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا ناطقا سميعا بصيرا، وأودع كل عضو وكل جزء منه عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح، وقد احتج أبو حنيفة بقوله * (خلقا ءاخر) * على أن غاصب بيضة أفرخت عنده يضمن البيضة ولا يرد الفرخ. وقال * (أنشأنا) * جعل إنشاء الروح فيه وإتمام خلقه إنشاء له. قيل: وفي هذا رد على النظام في زعمه أن الإنسان هو الروح فقط، وقد بين تعالى أنه مركب من هذه الأشياء ورد على الفلاسفة في زعمهم أن الإنسان شيء لا ينقسم، وتبارك فعل ماض لا يتصرف. ومعناه تعالى وتقدس و * (أحسن الخالقين) * أفعل التفضيل والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل إضافتها محضة أم غير محضة؟ فمن قال محضة أعرب * (أحسن) * صفة، ومن قال غير محضة أعربه بدلا. وقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أحسن الخالقين، ومعنى * (الخالقين) * المقدرين وهو وصف يطلق على غيرالله تعالى كما قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري قال الأعلم: هذا مثل ضربه يعني زهيرا، والخالق الذي لا يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه والفري القطع. والمعنى أنك إذا تهيأت لأمر مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه. وقال ابن عطية: معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئا خلقه وأنشد بيت زهير. قال: ولا تنفي هذه اللفظة عن البشر في معنى الصنع إنما هي منفية بمعنى الاختراع. وقال ابن جريج: قال * (الخالقين) * لأنه أذن لعيسى في أن يخلق وتمييز أفعل التفضيل محذوف لدلالة الخالقين عليه، أي * (أحسن الخالقين) * خلقا أي المقدرين تقديرا. وروي أن عمر لما سمع * (ولقد خلقنا الإنسان) * إلى آخره قال * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * فنزلت. وروي أن قائل ذلك معاذ. وقيل: عبد الله بن أبي سرح، وكانت سبب ارتداده ثم أسلم وحسن إسلامه.
وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن لمائتون بالألف يريد حدوث الصفة، فيقال أنت مائت عن قليل وميت ولا يقال مائت للذي قد مات. قال الفراء: إنما يقال في الاستقبال فقط وكذا قال ابن مالك، وإذا قصد استقبال المصوغة من ثلاثي على غير فاعل ردت إليه ما لم يقدر الوقوع، يعني إنه لا يقال لمن مات مائت. وقال الزمخشري: والفرق بين الميت والمائت أن الميت كالحي صفة ثابتة، وأما المائت فيدل على الحدوث، تقول: زيد مائت الآن ومائت غدا كقولك: يموت ونحوها ضيق وضائق في قوله * (وضائق به صدرك) * انتهى. والإشارة بقوله بعد ذلك إلى هذا التطوير والإنشاء * (خلقا ءاخر) * أي وانقضاء مدة حياتكم.
* (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) * ونبه تعالى على عظيم قدرته بالاختراع أولا، ثم بالإعدام ثم بالإيجاد، وذكره الموت والبعث لا يدل على انتفاء الحياة في القبر لأن المقصود ذكر الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة في القبر من جنس الإعادة ومعنى * (تبعثون) * للجزاء فإن قلت: الموت مقطوع به عند كل أحد، والبعث قد أنكرته طوائف واستبعدته وإن كان مقطوعا به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجئ السمع به فوجب القطع به فما بال جملة الموت جاءت مؤكدة بأن وباللام ولم تؤكد جملة البعث بأن؟ فالجواب: أنه بولغ في تأكيد ذلك تنبيها للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه، فإن مآله إليه فكأنه أكدت جملته ثلاث مرار لهذا المعنى، لأن الإنسان في الحياة الدنيا يسعى فيها غاية السعي، ويؤكد ويجمع حتى كأنه مخلد فيها فنبه بذكر الموت مؤكدا مبالغا فيه ليقصر، وليعلم أن آخره إلى الفناء فيعمل لدار البقاء، ولم تؤكد جملة البعث إلا بأن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكارا وإنه حتم لا بد من
369

كيانه فلم يحتج إلى توكيد ثان، وكنت سئلت لم دخلت اللام في قوله * (لميتون) * ولم تدخل في * (تبعثون) * فأجبت: بأن اللام مخلصة المضارع للحال غالبا فلا تجامع يوم القيامة، لأن أعمال * (تبعثون) * في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبال فتنافي الحال، وإنما قلت غالبا لأنه قد جاءت قليلا مع الظرف المستقبل كقوله تعالى * (وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة) * على أنه يحتمل تأويل هذه الآية وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال بأن يقدر عامل في يوم القيامة.
* (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين * وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه فى الارض وإنا على ذهاب به لقادرون * فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون * وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للاكلين * وإن لكم فى الانعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى الفلك تحملون) *.
لما ذكر تعالى ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه و * (سبع طرائق) * السماوات قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض، طارق النعل جعله على نعل، وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر قاله الخليل والفراء والزجاج كقوله * (طباقا) *. وقيل: لأنها طرائق الملائكة في العروج. وقيل: لأنها طرائق في الكواكب في مسيرها. وقيل: لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى. قال ابن عطية: ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء.
* (وما كنا عن الخلق غافلين) * نفى تعالى عنه الغفلة عن خلقه وهو ما خلقه تعالى فهو حافظ السماوات من السقوط وحافظ عباده بما يصلحهم، أي هم بمرأى منا
ندبرهم كما نشاء * (يقدر) * بتقدير منا معلوم لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم * (فأسكناه فى الارض) * أي جعلنا مقره في الأرض. وعن ابن عباس: أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل. وفي قوله * (فأسكناه فى الارض) * دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض، فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على إذهابه. قال الزمخشري: * (على ذهاب به) * من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه انتهى. و * (ذهاب) * مصدر ذهب، والباء في * (به) * للتعدية مرادفة للهمزة كقوله * (لذهب بسمعهم) * أي لأذهب سمعهم. وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله * (قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) * وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء. قال ابن عطية: ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلا فالأجاج نابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط، وأيضا فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السماوات والأرض، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء انتهى. وقيل: ما نزل من السماء أصله من البحر، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ولو كان باقيا على حاله ما انتفع به من ملوحته.
ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال * (فأنشأنا لكم به جنات) * وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع، ووصف النخل والعنب بقوله * (لكم فيها) * إلى آخره لأن ثمرهما جامع بين أمرين أنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطبا ويابسا رطبا وعنبا وتمرا وزبيبا، والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا، ويحتمل أن يكون قوله * (ومنها تأكلون) * من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن صنعة يغتلها، ومن تجارة يتربح بها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه. كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترتزقون وتتعيشون قاله الزمخشري. وقال الطبري: وذكر النخيل
370

والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما، والضمير في * (ولكم فيها) * عائد على الجنات وهو أعم لسائر الثمرات، ويجوز أن يعود على النخيل والأعناب.
وعطف * (وشجرة) * على جنات وهي شجرة الزيتون وهي كثيرة بالشام. وقال الجمهور * (سيناء) * اسم الجبل كما تقول: جبل أحد من إضافة العام إلى الخاص. وقال مجاهد: معنى * (* سينا) * مبارك. وقال قتادة: معناه الحسن والقولان عن ابن عباس. وقيل الحسن بالحبشة. وقيل: بالنبطية. وقال معمر عن فرقة: معناه ذو شجر. وقيل: * (طور سيناء) * اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده قاله مجاهد أيضا. وقرأ الحرميان وأبو عمرو والحسن بكسر السين وهي لغة لبني كنانة. وقرأ عمر بن الخطاب وباقي السبعة بالفتح وهي لغة سائر العرب. وقرأ سيني مقصورا وبفتح السين والأصح أن * (سيناء) * اسم بقعة وأنه لي س مشتقا من السناء لاختلاف المادتين على تقدير أن يكون سيناء عربي الوضع لأن نون السناء عين الكلمة وعين سيناء ياء.
وقرأ الجمهور * (تنبت) * بفتح التاء وضم الباء والباء في * (بالدهن) * على هذا باء الحال أي * (تنبت) * مصحوبة * (بالدهن) * أي ومعها الدهن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري بضم التاء وكسر الباء، فقيل * (بالدهن) * مفعول والباء زائدة التقدير تنبت الدهن. وقيل: المفعول محذوف أي * (تنبت) * جناها و * (بالدهن) * في موضع الحال من المفعول المحذوف أي تنبت جناها ومعه الدهن. وقيل: أنبت لازم كنبت فتكون الباء للحال، وكان الأصمعي ينكر ذلك ويتهم من روى في بيت زهير:
قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
بلفظ أنبت. وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز بضم التاء وفتح الباء مبنيا للمفعول و * (بالدهن) * حال. وقرأ زر بن حبيش بضم التاء وكسر الباء الدهن بالنصب. وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان بالألف، وما رووا من قراءة عبد الله يخرج الدهن وقراءة أبي تثمر بالدهن محمول على التفسير لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه، ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور والصبغ الغمس والائتدام.
وقال مقاتل: الصبغ الزيتون والدهن الزيت جعل تعالى في هذه الشجرة تأدما ودهنا. وقال الكرماني: القياس أن يكون الصبغ غير الدهن لأن المعطوف غير المعطوف عليه. وقرأ الأعمش وصبغا بالنصب. وقرأ عامر بن عبد الله وصباغ بالألف، فالنصب عطف على موضع * (بالدهن) * كان في موضع الحال أو في موضع المفعول، والصباغ كالدبغ والدباغ وفي كتاب ابن عطية. وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعا * (للاكلين) * كأنه يريد تفسير الصبغ.
ذكر تعالى شرف مقر هذه الشجرة وهو الجبل الذي كلم الله فيه نجيه موسى عليه السلام، ثم ذكر ما فيها من الدهن والصبغ ووصفها بالبركة في قوله * (من شجرة مباركة زيتونة) * قيل: وهي أول شجرة يثبت بعد الطوفان * (وإن لكم فى الانعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها) * تقدم تفسير نظير هذه الجملة في النحل * (ولكم فيها منافع) * من الحمل والركوب والحرث والانتفاع بجلودها وأوبارها، ونبه على غزارة فوائدها وألزامها وهو الشرب والأكل، وأدرج باقي المنافع في قوله * (ولكم فيها منافع كثيرة) * ثم ذكر ما تكاد تختص به بعض الأنعام وهو الحمل عليها وقرنها بالفلك لأنها سفائن البر كما أن * (الفلك) * سفائن البحر. قال ذو الرمة:
سفينة بر تحت خدي زمامها
يريد صيدح ناقته.
* (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم * قوم * اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون * فقال الملؤا الذين كفروا من قومه
371

ما هاذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لانزل) *.
لما ذكر أولا بدء الإنسان وتطوره في تلك الأطوار، وما امتن به عليه مما جعله تعالى سببا لحياتهم، وإدراك مقاصدهم، ذكر أمثالا لكفار قريش من الأمم السابقة المنكرة لإرسال الله رسلا المكذبة بما جاءتهم به الأنبياء عن الله، فابتدأ قصة نوح لأنه أبو البشر الثاني كما ذكر أولا آدم في قوله * (من سلالة من طين) * ولقصته أيضا مناسبة بما قبلها إذ قبلها * (وعلى الفلك تحملون) * فذكر قصة من صنع الفلك أولا وأنه كان سبب نجاة من آمن وهلك من لم يكن فيه الفلك من نعمة الله، كل هذه القصص يحذر بها قريشا نقم الله ويذكرهم نعمه.
* (ما لكم من إلاه * غيرى) * جملة مستأنفة منبهة على أن يفرد بالعبادة من كان منفردا بالإلهية فكأنها تعليل لقوله * (اعبدوا الله) * * (أفلا تتقون) * أي أفلا تخافون عقوبته إذا عبدتم غيره * (فقال الملا) * أي كبراء الناس وعظماؤهم، وهم الذين هم أعصى الناس وأبعدهم لقبول الخير. * (ما هاذا إلا بشر مثلكم) * أي مساويكم في البشرية. فأتى تؤفكون له اختصاص بالرسالة.
* (يريد أن يتفضل عليكم) * أي يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله: * (وتكون لكما الكبرياء فى الارض) * * (ولو شاء الله لانزل ملائكة) * هذا يدل على أنهم كانوا مقرين بالملائكة وهذه شنشنة قريش ودأبها في استبعاد إرسال الله البشر، والإشارة في هذا تحتمل أن تكون لنوح عليه السلام، وأن تكون إلى ما كلمهم به من الأمر بعبادة الله ورفض أصنامهم، وأن يكون إلى ما أتى به من أنه رسول الله وهو بشر، وأعجب بضلال هؤلاء استبعدوا رسالة البشر واعتقدوا إلهية الحجر. وقولهم * (ما سمعنا بهاذا) * الظاهر أنهم كانوا مباهتين وإلا فنبوة إدريس وآدم لم تكن المدة بينها وبينهم متطاولة بحيث تنسى فدافعوا الحق بما أمكنهم دفاعه، ولهذا قالوا * (إن هو إلا رجل به جنة) * ومعلوم عندهم أنه ليس بمجنون * (فتربصوا به) * أي انتظروا حاله حتى يجلي أمره وعاقبة خبره.
فدعا ربه تعالى بأن ينصره ويظفره بهم بسبب ما كذبوه. وقال الزمخشري: يدل ما كذبون كما تقول: هذا بذاك أي بدل ذاك ومكانه، والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم * (إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * انتهى.
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن * (قال رب) * بضم الباء، وتقدم توجيهه في قوله * (قال رب احكم) * بضم الباء وتقدم الكلام على أكثر تفسير ألفاظ هذه الآية في سورة هود، ونهاه تعالى أن يخاطبه في قومه بدعاء نجاة أو غيره وبين علة النهي بأنه تعالى قد حكم عليهم بالإغراق، وأمره تعالى بأن يحمده على نجاته وهلاكهم وكان الأمر له وحده وإن كان الشرط قد شمله ومن معه لأنه نبيهم وإمامهم وهم متبعوه في ذلك إذ هو قدوتهم. قال مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي انتهى.
ثم أمره أن يدعوه بأنه ينزله * (منزلا مباركا) * قيل وقال ذلك عند الركوب في السفينة. وقيل: عند الخروج منها. وقرأ الجمهور * (منزلا) * بضم الميم وفتح الزاي فجاز أن يكون مصدرا ومكانا أي إنزالا أو موضع إنزال. وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبان: بفتح الميم وكسر الزاي أي مكان نزول * (إن فى ذلك) * خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام أي إن في ما جرى على هذه أمة نوح لدلائل وعبرا * (وإن كنا لمبتلين) * أي لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو لمختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا كقوله * (ولقد تركناها ءاية فهل من مدكر) *.
* (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين * فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون * وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الاخرة وأترفناهم فى الحيواة الدنيا ما هاذا إلا بشر مثلكم يأكل) *. (سقط: مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون، أيعدكم أنكم إذا)
372

(سقط: متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون، هيهات هيهات لما توعدون، إن هي إلا حياتنا نوت ونحيا وما نحن بمبعوثين، إن هو إلا رجل به جنة افترى على الله كذبا وما نحن بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون، قال عما قليل ليصبحن نادمين، فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين)
ذكر هذه القصة عقيب قصة نوح، يظهر أن هؤلاء هم قوم هود والرسول هو هود عليه السلام وهو قول الأكثرين. وقال أبو سليمان الدمشقي والطبري: هم ثمود، والرسول صالح عليه السلام هلكوا بالصيحة. وفي آخر القصة * (فأخذتهم الصيحة) * ولم يأت أن قوم هود هلكوا بالصيحة وقصة قوم هود جاءت في الأعراف، وفي هود، وفي الشعراء بأثر قصة قوم نوح. وقال تعالى * (واذكروا * إذا * جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) * والأصل في أرسل أن يتعدى بإلى كأخوانه وجه، وأنفذ وبعث وهنا عدي بفي، جعلت الأمة موضعا للإرسال كما قال رؤبة:
أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام
وجاء بعث كذلك في قوله * (ويوم نبعث فى كل أمة) * * (ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا) * و * (ءان) * في * (أن اعبدوا الله) * يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية وجاء هنا * (وقال) * بالواو. وفي الأعراف وسورة هود في قصه بغير واو قصد في الواو العطف على ما قاله، أي اجتمع قوله الذي هو حق، وقولهم الذي هو باطل كأنه إخبار بتباين الحالين والتي بغير واو قصد به الاستئناف وكأنه جواب لسؤال مقدر، أي فما كان قولهم له قال قالوا كيت وكيت * (وكذبوا بلقاء الاخرة) * أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها * (وأترفناهم) * أي بسطنا لهم الآمال والأرزاق ونعمناهم، واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين، وكان العطف مشعرا بغلبة التكذيب والكفر، أي الحامل لهم على ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم، وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا نعمتنا بالإيمان وتصديق من أرسلته إليهم، وأن تكون جملة حالية أي وقد * (* أترفناهم) * أي * (لما كذبوا) * في هذه الحال، ويؤول هذا المعنى إلى المعنى الأول أي * (كذبوا) * في حال الإحسان إليهم، وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإيمان والتصديق لرسلي.
وقوله * (أكل * مما تأكلون منه) * تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم، وأن لا مزية له عليهم، والظاهر أن ما موصولة في قوله * (مما تشربون) * وأن العائد محذوف تقديره * (مما تشربون) * منه لوجود شرائط الحذف، وهو اتحاد المتعلق والمتعلق كقوله: مررت بالذي مررت، وحسن هذا الحذف ورجحه كون * (تشربون) * فاصلة ولدلالة منه عليه في قوله * (مما تأكلون) * وفي التحرير وزعم الفراء أن معنى قوله * (ويشرب مما تشربون) * على حذف أي * (مما تشربون) * منه، وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف البتة لأن ما إذا كانت مصدرا لم تحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم تحتج إلى إضمار من انتهى. يعني أنه يصير التقدير مما تشربونه، فيكون المحذوف ضميرا متصلا وشروط جواز الحذف فيه موجودة، وهذا تخريج على قاعدة البصريين إلا أنه يفوت فصاحة معادلة التركيب ألا ترى أنه قال * (مما تأكلون منه) * فعداه بمن التبعيضية، فالمعادلة تقتضي أن يكون التقدير * (مما تشربون) * منه، فلو كان التركيب مما تأكلونه لكان تقدير تشربونه هو الراجح.
وقال الزمخشري: حذف الضمير والمعنى من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه انتهى. فقوله حذف الضمير معناه مما تشربونه وفسره بقوله مشروبكم لأن الذي تشربونه هو مشروبكم.
وقال الزمخشري * (إذا) * واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم، أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آبائكم انتهى. وليس * (إذا) * واقعا في جزاء الشرط بل واقعا بين * (إنكم) * والخبر و * (إنكم) * والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل إن الموطئة، ولو كانت * (إنكم) * والخبر جوابا للشرط للزمت الفاء في * (إنكم) * بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزا إلا عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ. واختلف المعربون في تخريج * (إنكم) * الثانية، والمقتول عن سيبويه أن * (إنكم) * بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد، وخبر * (إنكم) * الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه
373

تقديره * (إنكم) * تبعثون * (إذا مت م) * وهذا الخبر المحذوف هو العامل في * (إذا) * وذهب الفراء والجرمي والمبرد إلى أن * (إنكم) * الثانية كررت للتأكيد لما طال الكلام حسن التكرار، وعلى هذا يكون * (مخرجون) * خبر * (إنكم) * الأولى، والعامل في * (إذا) * هو هذا الخبر، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقبل إذ لم يذكر خبر أن الأولى. وذهب الأخفش إلى أن * (أنكم مخرجون) * مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره: يحدث إخراجكم فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبرا لأنكم، ويكون جواب * (إذا) * ذلك الفعل المحذوف، ويجوز أن يكون ذلك الفعل المحذوف هو خبر * (إنكم) * ويكون عاملا في * (إذا) *.
وذكر الزمخشري قول المبرد بادئا به فقال: شيء * (إنكم) * للتوكيد، وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف و * (مخرجون) * خبر عن الأول وهذا قول المبرد. قال الزمخشري: أو جعل * (أنكم مخرجون) * مبتدأ و * (إذا مت م) * خبرا على معنى إخراجكم إذا متم، ثم أخبر بالجملة عن * (إنكم) * انتهى. وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه. قال: أو رفع * (أنكم مخرجون) * بفعل هو جزاء الشراط كأنه قيل * (إذا مت م) * وقع إخراجكم انتهى. وهذا قول الأخفش إلا أنه حتم أن تكون الجملة الشرطية خبرا عن * (إنكم) * ونحن جوزنا في قول الأخفش هذا الوجه، وأن يكون خبر * (إنكم) * ذلك الفعل المحذوف وهو العامل في * (إذا) * وفى قراءة عبد الله * (أيعدكم) * * (إذا مت م) * بإسقاط * (إنكم) * الأولى.
وقرأ الجمهور * (هيهات هيهات) * بفتح التاءين وهي لغة الحجاز. وقرأ هارون عن أبي عمرو بفتحهما منونتين ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس. وقرأ أبو حيوة بضمهما من غير تنوين، وعنه عن الأحمر بالضم والتنوين وافقه أبو السماك في الأول وخالفه في الثاني. وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسرهما من غير تنوين، وروي هذا عن عيسى وهي في تميم وأسد وعنه أيضا، وعن خالد بن إلياس بكسرهما والتنوين. وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضا بإسكانهما، وهذه الكلمة تلاعبت بها العرب تلاعبا كبيرا بالحذف والإبدال والتنوين وغيره، وقد ذكرنا في التكميل لشرح التسهيل ما ينيف على أربعين لغة، فالذي اختاره أنها إذا نونت وكسرت أو كسرت ولم تنون لا تكون جمعا لهيهات، ومذهب سيبويه أنها جمع لهيهات وكان حقها عنده أن تكون * (هيهات) * إلا أن ضعفها لم يقتض إظهار الباء قال سيبويه، هي مثل بيضات يعني في أنها جمع، فظن بعض النحاة أنه أراد في اتفاق المفرد، فقال واحد: هيهات هيهة، وتحرير هذا كله مذكور في علم النحو ولا تستعمل هذه الكلمة غالبا إلا مكررة، وجاءت غير مكررة في قول جرير:
وهيهات خل بالعقيق نواصله وقول رؤبة:
هيهات من متحرق هيهاؤه و * (هيهات) * اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهرا أو مضمرا، وهنا جاء التركيب * (هيهات هيهات لما توعدون) * لم يظهر الفاعل فوجب ن يعتقد إضمار تقديره هو أي إخراجكم، وجاءت اللام للبيان أي أعني لما توعدون كهي بعد بعد سقيا لك فتتعلق بمحذوف وبنيت المستبعد ما هو بعد اسم الفعل الدال على البعد كما جاءت في * (هيت لك) * لبيان المهيت به. وقال الزجاج: البعد * (لما توعدون) * أو بعد * (لما توعدون) * وينبغي أن يجعل كلامه تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية * (هيهات) * وقول الزمخشري: فمن نونه نزله منزلة المصدر ليس بواضح لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال، ولا نقول إنها إذا نونت تنزلت منزلة المصدر. وقال ابن عطية: طورا تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد، وأحيانا يكون الفاعل محذوفا وذلك عند اللام كهذه الآية التقدير بعد الوجود * (لما توعدون) * انتهى. وهذا ليس بجيد لأن فيه حذف الفاعل، وفيه أنه مصدر حذف وأبقى معموله ولا يجيز البصريون شيئا من هذا. وقال ابن عطية أيضا في قراءة من ضم ونون أنه اسم معرب مستقل، وخبره * (لما توعدون) * أي البعد لوعدكم كما تقول: النجح لسعيك. وقال صاحب اللوامح: فأما من
قال * (هيهات) * فرفع ونون احتمل أن يكونا
374

اسمين متمكنين مرتفعين بالابتداء وما بعدهما خبرهما من حروف الجر بمعنى البعد * (لما توعدون) * والتكرار للتأكيد، ويجوز أن يكونا اسمين للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة انتهى. وقرأ ابن أبي عبلة * (هيهات هيهات) * ما * (توعدون) * بغير لام وتكون ما فاعلة بهيهات. وهي قراءة واضحة.
وقالوا * (إن هى) * هذا الضمير يفسره سياق الكلام لأنهم قبل أنكروا المعاد فقالوا * (أيعدكم أنكم) * الآية فاستفهموا استفهام استبعاد وتوقيف واستهزاء، فتضمن أن لا حياة إلا حياتهم. وقال الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله أن الحياة * (إلا حياتنا) * الدنيا ثم وضع * (هى) * موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبنيها، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت وهي العرب تقول: ما شاءت، والمعنى: لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا لأن * (ءان) * الثانية دخلت على * (هى) * التي هي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس.
* (نموت ونحيا) * أي يموت بعض ويولد بعض ينقرض قرن ويأتي قرن انتهى، ثم أكدوا ما حصروه من أن لا حياة إلا حياتهم وحرموا بانتفاء بعثهم من قبورهم للجزاء وهذا هو كفر الدهرية، ثم نسبوه إلى افتراء الكذب على الله في أنه نبأه وأرسله إلينا وأخبره أنا نبعث * (وما نحن له بمؤمنين) * أي بمصدقين، ولما أيس من إيمانهم ورأى إصرارهم على الكفر دعا عليهم وطلب عقوبتهم على تكذيبهم * (قال عما قليل) * أي عن زمن قليل، وما توكيد للقلة وقليل صفة لزمن محذوف وفي معناه قريب. قيل: أي بعد الموت تصيرون نادمين. وقيل * (عما قليل) * أي وقت نزول العذاب في الدنيا ظهور علاماته والندامة على ترك قبول ما جاءهم به رسولهم حيث لا ينفع الرجوع، واللام في * (ليصبحن) * لام القسم و * (عما قليل) * متعلق بما بعد اللام إما بيصبحن وإما بنادمين، وجاز ذلك لأنه جار ومجرور ويتسامح في المجرورات والظروف ما لا يتسامح في غيرها، ألا ترى أنه لو كان مفعولا به لم يجز تقديمه لو قلت: لأضربن زيدا لم يجز زيدا لأضربن، وهذا الذي قررناه من أن * (عما قليل) * يتعلق بما بعد لام القسم هو قول بعض أصحابنا وجمهورهم على أن لام القسم لا يتقدم شيء من معمولات ما بعدها عليها سواء كان ظرفا أو مجرورا أو غيرهما، فعلى قول هو لا يكون * (عما قليل) * يتعلق بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره * (عما قليل) * تنصر لأن قبله قال * (رب انصرنى) *. وذهب الفراء وأبو عبيدة إلى جواز تقديم معمول ما بعد هذه اللام عليها مطلقا. وفي اللوامح عن بعضهم لتصبحن بتاء على المخاطبة، فلو ذهب ذاهب إلى أن يصير القول من الرسول إلى الكفار بعدما أجيب دعاؤه لكان جائزا والله أعلم انتهى.
* (فأخذتهم الصيحة) * قال الزمخشري: صيحة جبريل عليه السلام صاح عليهم فدمرهم * (بالحق) * بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك أو بالعدل من الله من قولك: فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضاياه شبههم بالغثاء في دمارهم وهو حميل السيل مما يلي واسود من الورق والعيدان انتهى. وعن ابن عباس * (الصيحة) * الرجفة. وقيل: هي نفس العذاب والموت. وقيل: العذاب المصطلم. قال الشاعر:
* صاح الزمان بآل زيد صيحة
*
خروا لشنتها على الأذقان
*
وقال المفضل: * (بالحق) * بما لا مدفع له كقوله: وجاءت سكرة الموت بالحق. وانتصب بعدا بفعل متروك إظهاره أي بعدوا بعدا. أي هلكوا، يقال بعد بعدا وبعدا نحو رشد رشدا ورشدا. وقال الحوفي * (للقوم) * متعلق بعدا. وقال الزمخشري: و * (للقوم الظالمين) * بيان لمن دعى عليه بالبعد نحو * (هيت لك) * و * (لما توعدون) * انتهى فلا تتعلق ببعدا بل بمحذوف.
* (ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا القوم لا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشر مثلنا وقومهما لنا
375

عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين، ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرة ر ومعين يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون.
* (قرونا) * قال ابن عباس: هم بنو إسرائيل. وقيل: قصة لوط وشعيب وأيوب ويونس صلوات الله عليهم * (ما تسبق) * إلى آخر الآية تقدم الكلام عليها في الحجر * (ثم أرسلنا رسلنا تترى) * أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشيبه وابن محيصن والشافعي * (تترى) * منونا وباقي السبعة بغير تنوين، وانتصب على الحال أي متواترين واحدا بعد واحد، وأضاف الرسل إليه تعالى وأضاف رسولا إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإضافة تكون بالملابسة، فالأول كانت الإضافة لتشريف الرسل، والثاني كانت الإضافة إلى الأمة حيث كذبته ولم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإضافة إليهم.
* (فأتبعنا بعضهم بعضا) * أي بعض القرون أو بعض الأمم بعضا في الإهلاك الناشئ عن التكذيب. و * (أحاديث) * جمع حديث وهو جمع شاذ، وجمع أحدوثة وهو جمع قياسي. والظاهر أن المراد الثاني أي صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك على سبيل التعجب والاعتبار وضرب المثل بهم. وقال الأخفش: لا يقال هذا إلا
في الشر ولا يقال في الخير. قيل: ويجوز أن يكون جمع حديث، والمعنى أنه لم يبق منهم عين ولا أثر إلا الحديث عنهم. وقال الزمخشري: الأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) انتهى. وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير وهو لم يلفظ له بواحد فأحرى * (أحاديث) * وقد لفظ له وهو حديث، فالصحيح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرناه.
* (بئاياتنا) * قال ابن عباس هي التسع وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، والسنون، ونقص من الثمرات * (وسلطان مبين) * قيل: هي العصا واليد، وهما اللتان اقترن بهما التحدي ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل. وقال الحسن: * (بئاياتنا) * أي بديننا. * (وسلطان مبين) * هو المعجز، ويجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات، وبسلطان مبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء فقد فارقتها في قوة دلالتها على قول موسى عليه السلام. قيل: ويجوز أن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها كانت أم آيات موسى وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بالضرب بها، وكونها حارسا وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلوا ورشاء، جعلت كأنها ليست بعض الآيات لما استبدت به من الفضل فلذلك عطفت عليها كقوله * (وجبريل وميكال) * ويجوز أن يراد بسلطان مبين الآيات أنفسها أي هي آيات وحجة بينة * (فاستكبروا) * عن الإيمان بموسى وأخيه نفة.
* (قوما عالين) * أي رفيعي الحال في الدنيا أي متطاولين على الناس قاهرين بالظلم، أو متكبرين كقوله * (إن فرعون علا فى الارض) * أي وكان من شأنهم التكبر. والبشر يطلق على المفرد والجمع كقوله * (فإما ترين من البشر أحدا) * ولما أطلق على الواحد جازت تثنيته فلذلك جاء * (لبشرين) * ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولا يؤنث، وقد يطابق تثنية وجمعا و * (* قومهما) * أي بنو إسرائيل * (وقومهما لنا عابدون) * أي خاضعون متذللون، أو لأنه كان يدعي الإلهية فادعى الناس العبادة، وإن طاعتهم له عبادة على الحقيقة. وقال أبو عبيد: العرب تسمي كل من دان للملك عابدا، ولما كان ذلك الإهلاك كالمعلول للتكذيب أعقبه بالفاء أي فكانوا ممن حكم عليهم بالفرق إذ لم يحصل الغرق عقيب التكذيب.
* (موسى الكتاب) * أي قوم موسى و * (الكتاب) * التوراة، ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف في قوله * (لعلهم) * ولا يصح عود هذا الضمير في * (لعلهم) * على فرعون وقومه لأن * (الكتاب) * لم يؤته موسى إلا بعد هلاك فرعون لقوله: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون
376

الاولى) *. * (لعلهم) * ترج بالنسبة إليهم * (لعلهم يهتدون) * لشرائعها ومواعظها.
* (وجعلنا ابن مريم وأمه) * أي قصتهما وهي * (ءاية) * عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل، ويحتمل أن يكون حذف من الأول آية لدلالة الثاني أي وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية. والربوة هنا. قال ابن عباس وابن المسيب: الغوطة بدمشق، وصفتها أنها * (ذات قرار ومعين) * على الكمال. وقال أبو هريرة: رملة فلسطين. وقال قتادة وكعب: بيت المقدس، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء، وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر ميلا. وقال ابن زيد ووهب: الربوة بأرض مصر، وسبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرها المفسرون. وقرأ الجمهور * (ربوة) * بضم الراء وهي لغة قريش، والحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتحها، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها وابن أبي إسحاق رباوة بضم الراء بالألف، وزيد بن علي والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف. وقرئ بكسرها وبالألف * (ذات قرار) * أي مستوية يمكن القرار فيها للحرث والغراسة، والمعنى أنها من البقاع الطيبة. وعن قتادة: ذات ثمار وماء، يعني أنها لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها.
ونداء * (الرسل) * وخطابهم بمعنى نداء كلواحد وخطابه في زمانه إذ لم يجتمعوا في زمان واحد فينادون ويخاطبون فيه، وإنما أتى بصورة الجمع ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يوحد به ويعمل عليه. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وجاء بلفظ الجمع لقيامه مقام * (الرسل) * وقيل: ليفهم بذلك أن هذه طريقة كل رسول كما تقول تخاطب تاجرا: يا تجار اتقوا الربا. وقال الطبري: الخطاب لعيسى، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه والمشهور من بقل البرية. وقال الزمخشري: ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي * (* آويناهما) * وقلنا لهما هذا الذي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا وكلا مما رزقنا كما واعملا صالحا اقتداء بالرسل والطيبات الحلال لذيذا كان أو غير لذيذ. وقيل: ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ويشهد له * (ربوة ذات قرار ومعين) * وقدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح دلالة على أنه لا يكون صالحا إلا مسبوقا بأكل الحلال.
* (إنى بما تعملون عليم) * تحذير في الظاهر والمراد اتباعهم * (وإن هاذه أمتكم) * الآية تقدم تفسير مثلها في أواخر الأنبياء. وقرأ الكوفيون * (وأن) * بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف، والحرميان: وأبو عمرو بالفتح والتشديد أي ولأن، وابن عامر بالفتح والتخفيف وهي المخففة من الثقيلة، ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه قوله * (وإن هاذه أمتكم) *.
وقوله * (فتقطعوا) * وجاء هنا * (وأنا ربكم فاتقون) * وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء * (فاعبدون) * لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح، والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء وإن تقدمت أيضا قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا * (فتقطعوا) * بالفاء إيذانا بأن التقطيع اعتقب الأمر بالتقوى، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته. وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله، وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق.
ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآل أمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالا لقريش، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله * (فذرهم فى غمرتهم حتى حين) * وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقائل هو شاعر، وقائل ساحر، وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم من الأمم كما قال * (أتوا * به بل هم قوم طاغون) *. قال الكلبي * (فى غمرتهم) * في جهالتهم. وقال ابن بحر: في حيرتهم. وقال ابن سلام: في غفلتهم. وقيل: في ضلالتهم * (حتى حين) * حتى ينزل بهم الموت. وقيل: حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب. وقيل: هو يوم بدر. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. وقرأ الجمهور * (فى غمرتهم) * وعلي بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع
377

لأن لكل واحد غمرة، وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام. وقال الزمخشري: الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل، قال الشاعر:
كأني ضارب في غمرة لعب
سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم) بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره انتهى. ثم وقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم، وبين تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان.
وقرأ ابن وثاب * (أنما نمدهم) * بكسر الهمزة. وقرأ ابن كثير في رواية يمدهم بالياء، وما في * (إنما) * إما بمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها، وخبر إن هي الجملة من قوله * (نسارع لهم فى الخيرات) * والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره: نسارع لهم به في الخيرات، وحسن حذفه استطالة الكلام مع أمن اللبس. وتقدم نظيره في قوله * (أنما نمدهم به) * وقال هشام بن معونة: الضرر الرابط هو الظاهر وهو * (فى الخيرات) * وكان المعنى * (نسارع لهم) * فيه ثم أظهر فقال * (فى الخيرات) * فلا حذف على هذا التقدير، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، فالخيرات من حيث المعنى هي الذي مدوا به من المال والبنين وإن كانت ما مصدرية فالمسبوك منها ومما بعدها هو مصدر اسم إن وخبر إن هو * (نسارع) * على تقدير مسارعة فيكون الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل، والتقدير أيحسبون أن إمدادنا لهم بالمال والبنين مسارعة لهم في الخيرات. وإن كانت ما كافة مهيئة فهو مذهب الكسائي فيها هنا فلا تحتاج إلى ضمير ولا حذف، ويجوز الوقف على * (وبنين) * كما تقول حسبت إنما يقوم زيد، وحسبت أنك منطلق، وجاز ذلك لأن ما بعد حسبت قد انتظم مسندا ومسندا إليه من حيث المعنى، وإن كان في ما يقدر مفردا لأنه ينسبك من أن وما بعدها مصدر.
وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء وكسر الراء فإن كان فاعل * (نسارع) * ضمير يعود على ما بمعنى الذي، أو على المصدر المنسبك من ما نمد فنسارع خبر لأن ولا ضمير ولا حذف أي يسارع هو أي الذي يمد ويسارع، هو أي إمدادنا. وعن ابن أبي بكرة المذكور بالياء وفتح الراء مبنيا للمفعول. وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون مضارع أسرع * (بل لا يشعرون) * إضراب عن قوله * (أيحسبون) * أي بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور فيتأملوا ويتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخير وفيه تهديد ووعيد.
* (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بئايات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون * والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون * ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون * بل قلوبهم فى غمرة من هاذا ولهم أعمال من دون ذالك هم لها عاملون * حتى إذا أخذنا مترفيهم * العذاب إذا هم * يجئرون * لا تجئروا اليوم إنكم منا لا تنصرون * قد كانت ءايتى تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون) *.
لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم، والإشفاق أبلغ التوقع والخوف ومنهم من حمل الخشية على العذاب والمعنى والذين هم من عذاب * (ربهم مشفقون) * وهو قول الكلبي ومقاتل و * (من خشية) * متعلق بمشفقون قاله الحوفي. وقال ابن عطية: و * (من) * في * (من خشية) * هي لبيان جنس الإشفاق، والإشفاق إنما هو من عذاب الله، والآيات تعم القرآن والعبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر. وفي كل شيء له آية.
ثم ذكر نفي الإشراك وهو عبادتهم آلهتهم التي هي
378

الأصنام، إذ لكفار قريش أن تقول: نحن نؤمن بآيات ربنا ونصدق بأنه المخترع الخالق. وقيل: ليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشرك لله لأن ذلك داخل في قوله * (والذين هم بئايات ربهم يؤمنون) * المراد نفي الشرك للحق وهو أن يخلصوا في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه. وقرأ الجمهور * (يؤتون ما ءاتوا) * أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات * (وقلوبهم وجلة) * أي خائفة أن لا يقبل منهم لتقصيرهم أنهم أي وجلة لأجل رجوعهم إلى الله أي خائفة لأجل ما يتوقعون من لقاء الجزاء. قال ابن عباس وابن جبير: هو عام في جميع أعمال البر كأنه قال: والذين يفعلون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم. وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي يأتون ما أتوا من الإتيان أي يفعلون ما فعلوا قالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم): هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر، وهو على ذلك يخاف الله قال: (لا يا ابنة الصديق ولكنه هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل). قيل: وجل العارف من طاعته أكثر من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة والطاعة تطلب التصحيح. وقال الحسن: المؤمن يجمع إحسانا وشفقة، والمنافق يجمع إساءة وأمنا. وقرأ
الأعمش * (أنهم) * بالكسر. وقال أبو عبد الله الرازي ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز، والثانية على تحصيل الإيمان بالله، والثالثة على ترك الرياء في الطاعة، والرابعة على أن المستجمع لهذه الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع خوف من التقصير وهو نهاية مقامات الصديقين انتهى.
* (أولئك يسارعون) * جملة في موضع خبر أن. قال ابن زيد * (الخيرات) * المخافتة والإيمان والكف عن الشرك. قال الزمخشري: * (يسارعون فى الخيرات) * يحتمل معنيين أحدهما أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها، والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع، ووجوه الإكرام كما قال * (فاتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الاخرة) * * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب) * لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها، وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين انتهى. وقرأ الحر النحوي: يسرعون مضارع أسرع، يقال أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد، وأما المسارعة فالمسابقة أي يسارعون غيرهم. قال الزجاج * (يسارعون) * أبلغ من يسرعون انتهى. وجهة المبالغة أن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه.
* (وهم لها سابقون) * الظاهر أن الضمير في * (لها) * عائد على * (الخيرات) * أي سابقون إليها تقول: سبقت لكذا وسبقت إلى كذا، ومفعول * (سابقون) * محذوف أي سابقون الناس، وتكون الجملة تأكيدا للتي قبلها مفيدة تجدد الفعل بقوله * (يسارعون) * وثبوته بقوله * (سابقون) * وقيل اللام للتعليل أي لأجلها سابقون الناس إلى رضا الله. وقال الزمخشري * (لها سابقون) * أي فاعلون السبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها انتهى. وهذان القولان عندي واحد. قال أيضا أو إياها سابقون أي ينالوها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا انتهى. ولا يدل لفظ * (لها سابقون) * على هذا التفسير لأن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق، فكيف يقال لهم وهم يسبقون الخيرات هذا لا يصح. وقال أيضا: ويجوز أن كون * (لها سابقون) * خبرا بعد خبر ومعنى وهم لها كمعنى قوله أنت لها انتهى. وهذا مروي عن ابن عباس. قال: المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها، ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى انتهى. والظاهر القول الأول وباقيها متعسف وتحميل للفظ غير ظاهره. وقيل: الضمير في * (لها) * عائد على لجنة. وقيل: على الأمم.
* (ولا نكلف نفسا إلا وسعها) * تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في آخر البقرة * (ولدينا كتاب ينطق بالحق) * أي كتاب فيه إحصاء أعمال الخلق يشير إلى الصحف الت يقرؤون فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ. وقيل: القرآن.
* (بل قلوبهم
379

أي قلوب الكفار في ضلال قد غمرها كما يغمر الماء * (من هاذا) * أي من هذا العمل الذي وصف به المؤمنون أو من الكتاب الذي لدينا أو من القرآن، والمعنى من اطراح هذا وتركه أو يشير إلى الذين بجملته أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم) أقوال خمسة * (ولهم أعمال) * من دون ذلك أي من دون الغمرة والضلال المحيط بهم، فالمعنى أنهم ضالون معرضون عن الحق، وهم مع ذلك لهم سعايات فساد وصفهم تعالى بحالتي شر قال هذا المعنى قتادة وأبو العالية، وعلى هذا التأويل الإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه. وقيل: الإشارة بذلك إلى قوله * (من هاذا) * وكأنه قال لهم أعمال من دون الحق، أو القرآن ونحوه. وقال الحسن ومجاهد: إنما أخبر بقوله * (ولهم أعمال) * عما يستأنف من أعمالهم أي أنهم لهم أعمال من الفساد. وعن ابن عباس * (أعمال) * سيئة دون الشرك. وقال الزمخشري * (ولهم أعمال) * متجاوزة متخطئة لذلك أي لما وصف به المؤمنون هم معتادون وبها ضارون ولا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب و * (حتى) * هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية انتهى. وقيل الضمير في قوله * (بل) * يعود إلى المؤمنين المشفقين * (هم فى غمرة) * من هذا وصف لهم بالحيرة كأنه قيل * (وهم) * مع ذلك الخوف والوجل كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة * (ولهم أعمال من دون ذلك أي من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه، ويريد بالأعمال الأول الفرائض، وبالثاني النوافل.
* (حتى إذا أخذنا مترفيهم) * رجوع إلى وصف الكفار قاله أبو مسلم. قال أبو عبد الله الرازي: وهو أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما اتصل به كان أولى من رده إلى ما بعده خصوصا وقد رغب المرء في الخير بأن يذكر أن أعمالهم محفوظة كما يحذر بذلك من الشر، وأن يوصف بشدة فكرة في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة، ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو رده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر فإن قيل: فما المراد بقوله * (من هاذا) *؟ قلنا: إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم بين استيلاء ذلك على قلوبهم انتهى. وتقدم قول الزمخشري في * (حتى) * أنها التي يبتدأ بعدها الكلام، وأنها غاية لما قبلها، وقد رد ذلك أنهم معتادون لها حتى يأخذهم الله بالعذاب. وقال الحوفي * (حتى) * غاية وهي عاطفة، * (إذا) * ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط * (إذا) * الثانية في موضع جواب الأولى، ومعنى الكلام عامل في * (إذا) * والتقدير جأروا، فيكون جأد العامل في * (إذا) * الأولى، والعامل في الثانية * (أخذنا) * انتهى وهو كلام مخبط ليس أهلا أن يرد.
وقال ابن عطية و * (حتى) * حرف ابتداء لا غير، و * (إذا) * الثانية التي هي جواب يمنعان من أن تكون حتى غاية لعاملون انتهى. وقال مكي: أي لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البر * (لها عاملون) * إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم * (بالعذاب إذا هم) * يضجون ويستغيثون، والمترفون المنعمون والرؤساء والعذاب القحط سبع سنين والجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقد والأولاد. وقيل: العذاب قتلهم يوم بدر. وقيل: عذاب الآخرة، والظاهر أن الضمير في * (إذا
هم) * عائد على * (مترفيهم) * إذ هم المحدث عنهم صاحوا حين نزل بهم العذاب. وقيل: يعود على الباقين بعد المعذبين. قال ابن جريج: المعذبون قتلى بدر، والذين * (يجئرون) * أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا.
* (لا تجئروا اليوم) * أي يقال لهم إما حقيقة تقول لهم الملائكة ذلك وإما مجازا أي لسان الحال يقول ذلك هذا إن كان الذين يجأرون هم المعذبون وعلى قول ابن جريج ليس القائل الملائكة. وقال قتادة * (يجئرون) * يصرخون بالتوبة فلا يقبل منهم. وقال الربيع بن أنس: تجأرون تجزعون، عبر بالصراخ بالجزع إذ الجزع سببه * (إنكم منا لا تنصرون) * أي لا تمنعون من عذابنا أو لا يكون لكم نصر من جهتنا، فالجوار غير نافع لكم ولا مجد.
* (قد كانت ءايتى) * هي آيات القرآن * (تنكصون) * ترجعون استعارة للإعراض عن الحق. وقرأ علي بن أبي طالب * (تنكصون) * بضم الكاف والضمير في * (به) * عائد على المصدر الدال عليه * (تنكصون) * أي بالنكوص والتباعد من سماع الآيات أو على الآيات لأنها في معنى الكتاب، وضمن * (مستكبرين) * معنى مكذبين فعدي بالباء أو تكون الباء
380

للسبب، أي يحدث لكم بسبب سماعه استكبار وعتو. والجمهور على أن الضمير في * (به) * عائد على الحرم والمسجد وإن لم يجر له ذكر، وسوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وأنه لم تكن لهم معجزة إلا أنهم ولاته والقائمون به، وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم) ويحسنه أن في قوله * (تتلى عليكم) * دلالة على التالي وهو الرسول عليه السلام، وهذه أقوال تتعلق فيها بمستكبرين. وقيل تتعلق بسامرا أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا وسب من أتى به.
وقرأ الجمهور * (سامرا) * وابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمر وسمرا بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر، وابن عباس أيضا وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك كذلك، وبزيادة ألف بين الميم والراء جمع سامر أيضا وهما جمعان مقيسان في مثل سامر.
وقرأ الجمهور * (تهجرون) * بفتح التاء وضم الجيم. وروى ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات. قال ابن عباس * (تهجرون) * الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر. وقال ابن زيد وأبو حاتم: من هجر المريض إذا هذى أي يقولون اللغو من القول. وقرأ ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد بضم التاء وكسر الجيم مضارع اهجر أي يقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش. قال ابن عباس: إشارة إلى السب للصحابة وغيرهم. وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضا وزيد بن علي وعكرمة وأبو نهيك وابن محيصن أيضا وأبو حيوة كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء وشددوا الجيم وهو تضعيف من هجر ماضي الهجر بالفتح بمعنى مقابل الوصل أو الهذيان أو ماضي الهجر وهو الفحش. وقال ابن جني: لو قيل إن المعنى أنكم مبالغون في المجاهرة حتى أنكم إن كنتم سمرا بالليل فكأنكم تهجرون في الهاجرة على الاقتضاح لكان وجها.
* (أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت ءاباءهم الاولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون * ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت * السماوات والارض * ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون * أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرزقين * وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالاخرة عن الصراط لناكبون * ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا فى طغيانهم يعمهون * ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون * حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون) *.
ذكر تعالى توبيخهم على إعراضهم عن اتباع الحق والقول القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم)، أي أفلم يتفكروا فيما جاء به عن الله فيعلموا أنه المعجز الذي لا يمكن معارضته فيصدقوا به وبمن جاء به، وبخهم ووقفهم على تدبره وأنهم بمكابرتهم ونظرهم الفاسد قال بعضهم سحر وقال بعضهم شعر، وهو أعظم الدلائل الباقية على غابر الدهر قرعهم أولا بترك الانتفاع بالقرآن ثم ثانيا بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين، أي إرسال الرسل ليس بدعا ولا مستغربا بل جاءت الرسل الأمم قبلهم، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن واستئصال من كذب آباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان، وروي: لا تسبوا مضر، ولا ربيعة، ولا الحارث بن كعب، ولا أسد بن خزيمة، ولا تميم بن مرة ولا قسا وذكر أنهم
381

كانوا مسلمين وأن تبعا كان مسلما وكان على شرطه سليمان بن داود وبخهم ثالثا بأنهم يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم) وصحة نسبة وحلوله في سطة هاشم وأمانته وصدقه وشهامته وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش، وكفى بخطبة أبي طالب حين تزوج خديجة وأنها احتوت على صفات له صلى الله عليه وسلم) طرقت آذان قريش فلم تنكر منها شيئا أي قد سبقت معرفتهم له جملة وتفصيلا، فلا يمكن إنكار شيء من أوصافه.
ثم وبخهم رابعا بأنهم نسبوه إلى الجن وقد علموا أنه أرجحهم عقلا وأثقبهم ذهنا، وأن الفرق بين الحكمة وفصل الخطاب الذي جاء به وبين كلام ذي الجنة غير خاف على من له مسكة من عقل، وهذه التوبيخات الأربع كان يقتضي ما وبخوا به منها أن يكون سببا لانقيادهم إلى الحق لأن التدبير لما جاء به والنظر في سير الماضين وإرسال الرسل إليهم ومعرفة الرسول ذاتا وأوصافا وبراءته من الجنون هاد لمن وفقه الله للهداية، ولكنه جاءهم بما حال بينهم وبين أهوائهم ولم يوافق ما نشؤوا عليه من اتباع الباطل، ولما لم يجدوا له مدفعا لأنه الحق عاملوا بالبهت وعولوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر.
* (بل جاءهم بالحق) * أي بالقرآن المشتمل على التوحيد وما به النجاة في الآخرة والسؤدد في الدنيا.
* (وأكثرهم للحق كارهون) * يدل على أن فيهم من لا يكره الحق وذلك من يترك الإيمان أنفة واستكبارا من توبيخ قومه أن يقولوا: صبأ وترك دين آبائه * (ولو اتبع الحق أهواءهم) * قرأ ابن وثاب * (ولو اتبع) * بضم الواو والظاهر أنه * (الحق) * الذي ذكر قبل في قولهم * (بل جاءهم بالحق) * أي لو كان ما جاء به الرسول من الإسلام والتوحيد متبعا أهواءهم لانقلب شرا وجاء الله بالقيامة وأهلك العالم ولم يؤخر قال معناه الزمخشري وبعضه بلفظه. وقال أيضا: دل بهذا على عظم
شأن الحق، فلو * (أتبع * أهواءهم) * لانقلب باطلا ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام. وقيل: لو كان ما جاء به الرسول بحكم هوى هؤلاء من اتخاذ شريك لله وولد وكان ذل حقا لم يكن لله الصفات العلية ولم تكن له القدرة كما هي، وكان في ذلك فساد السماوات والأرض. وقيل: كانوا يرون الحق في اتخاذ الآلهة مع الله لكنه لم يصح ذلك لوقع الفساد في السماوات والأرض على ما قرر في دليل التمانع في قوله تعالى * (لو كان فيهما الهة إلا الله لفسدتا) * وقيل: كانت آراؤهم متناقضة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض واختل نظام العالم. وقال قتادة * (الحق) * هنا الله تعالى.
فقال الزمخشري: معناه ولو كان الله يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي لما كان إلها ولما قدر على أن يمسك السماوات والأرض. وقال ابن عطية: ومن قال إن * (الحق) * في الآية هو الله تعالى وكان قد حكاه عن ابن جريج وأبي صالح تشعب له لفظة * (أتبع) * وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع إنما هي استعارة بمعنى أن يكون أهواؤهم يقررها الحق، فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم وليس في ذلك فساد سماوات، وأما نفسه الذي هو الصواب فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله انتهى.
وقرأ الجمهور: بنون العظمة وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمرو ويونس عن أبي عمرو بياء المتكلم، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضا وأبو البر هثيم وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء بتاء الخطاب للرسول عليه السلام، وأبو عمرو في رواية * (ءاتيناهم) * بالمد أي أعطيناهم، والجمهور * (بذكرهم) * أي بوعظهم والبيان لهم قاله ابن عباس. وقرأ عيسى بذكراهم بألف التأنيث، وقتادة نذكرهم بالنون مضارع ذكر ونسبة الإتيان الحقيقي إلى الله لا تصح، وإنما هو مجاز أي بل آتاهم كتابنا أو رسولنا.
وقال الزمخشري: * (بذكرهم) * أي بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم، وفخرهم أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين.
* (أم تسألهم خرجا) * هذا استفهام توبيخ أيضا المعنى بل أتسألهم مالا فغلبوا لذلك واستثقلوك من أجله، قاله ابن عطية وخطب الزمخشري بأحسن كلام فقال * (أم تسئلهم) * على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق والكثير من عطاء الخالق خير فقد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره علنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم
382

يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر انتهى.
وتقدم الكلام في قوله * (خرجا فخراج) * في قوله تعالى * (فهل نجعل لك خرجا) * في الكهف قراءة ومدلولا. وقرأ الحسن وعيسى خراجا فخرج فكلمت بهذه القراءة ربع قراءات، وفي الحرفين * (فخراج ربك) * أي ثوابه لأنه الباقي وما يؤخذ من غيره فان. وقال الكلبي: فعطاؤه لأنه يعطي لا لحاجة وغيره يعطي لحاجة. وقيل: فرزقه ويؤيده * (خير الرازقين) * قال الجبائي: * (خير الرازقين) * دل على أنه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده، ودل على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا انتهى. وهذا مدلول * (خير) * الذي هو أفعل التفضيل ومدلول * (الرازقين) * الذي هو جمع أضيف إليه أفعل التفضيل.
ولما زيف طريقة الكفار أتبع ذلك ببيان صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم) فقال * (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) * وهو دين الإسلام، ثم أخبر أن من أنكر المعاد ناكب عن هذا الصراط لأنه لا يسلكه إلا من كان راجيا للثواب خائفا من العقاب وهؤلاء غير مصدقين بالجزاء فهم مائلون عنه، وأبعد من زعم أن الصراط الذي هم ناكبون عنه هو طريق الجنة في الآخرة، ومن زعم أن الصراط هو في الآخرة ناكبون عنه بأخذهم يمنة ويسرة إلى النار. قال ابن عباس: * (لناكبون) * لعادلون. وقال الحسن: تاركون له. وقال قتادة: حائرون. وقال الكلبي: معرضون، وهذه أقوال متقاربة المعنى.
* (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر) * قيل: هو الجوع. وقيل: القتل والسبي. وقيل: عذاب الآخرة أي بلغوا من التمرد والعناد أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه من البعد وهذا القول بعيد بل الظاهر أن هذا التعليق كان يكون في الدنيا ويدل على ذلك قوله * (ولقد أخذناهم بالعذاب) * إلى آخر الآية استشهد على شدة شكيمتهم في الكفر ولجاجهم على تقدير رحمته لهم بأنه أخذهم بالسيوف أولا، وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل فأبلسوا وخضعت رقابهم. والظاهر من هذا أن الضمير هو القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا مروي عن ابن عباس وابن جريج.
وسبب نزول الآية دليل على ذلك روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منع الميرة من أهل مكة، فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت الرحمة للعالمين؟ فقال: (بلى) فقال: قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية. والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو الهزل والقحط الذي أصابهم ووجدوا الخصب لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله والمؤمنين وإفراطهم فيها. وقيل: المعنى لو امتحناهم بكل محنة من القتل والجوع فما ريء فيهم استكانة ولا انقياد حتى إذا عذبزا بنار جهنم أبلسوا، كقوله * (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) * * (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) * فعلى هذا القول يكون الفتح لباب العذاب الشديد في الآخرة، وعلى الأول كان في الدنيا.
ووزن استكان استفعل أي انتقل من كون إلى كون كما تقول: استحال انتقل من حال إلى حال، وقول من زعم أن استكان افتعل من السكون وأن الألف إشباع ضعيف لأن
الإشباع بابه لشعر كقوله:
* أعوذ بالله من العقراب
*
الشائلات عقد الأذناب
*
383

ولأن الإشباع لا يكون في تصاريف الكلمة، ألا ترى أن من أشبع في قوله:
* ومن ذم الزمان بمنتزاح لا تقول انتزاح ينتزيح فهو منتزيح، وأنت تقول: استكان يستكين فهو مستكين ومستكان ومجئ مصدره استكانة يدل على أن الفعل وزنه استفعل كاستقام استقامة، وتخالف * (استكانوا) * و * (يتضرعون) * في الصيغة فلم يكونا ماضيين ولا مضارعين. قال الزمخشري: لأن المعنى محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة، وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد.
*
والملبس: الآيس من الشر الذي ناله. وقرأ السلمي * (مبلسون) * بفتح اللام.
2 (* (وهو الذىأنشأ لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون * وهو الذى ذرأكم فى الا رض وإليه تحشرون * وهو الذى يحاى ويميت وله اختلاف اليل والنهار أفلا تعقلون * بل قالوا مثل ما قال الا ولون * قالوا أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * لقد وعدنا نحن وءابآؤنا هاذا من قبل إن هاذآ إلا أساطير الا ولين * قل لمن الا رض ومن فيهآ إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون * بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون * ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إلاه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون * قل رب إما ترينى ما يوعدون * رب فلا تجعلنى فى القوم الظالمين * وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون * ادفع بالتى هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون * حتى إذا جآء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلىأعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قآئلها ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون * فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون * فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولائك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون * ألم تكن ءاياتى تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون * قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين * ربنآ أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنآ ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم
384

سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون * إنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفآئزون * قال كم لبثتم فى الا رض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العآدين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون * أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم * ومن يدع مع الله إلها ءاخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون * وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) *))
) *
الهمز: النخس والدفع بيد وغيرها، ومنه مهماز الرائض وهمز الناس باللسان. البرزخ: الحاجز بين المسافتين. وقيل: الحجاب بين الشيئين يمنع أحدهما أن يصلى إلى الآخر. النسب: القرابة من جهة الولادة. اللفح: إصابة النار الشيء بوهجها وإحراقها. وقال الزجاج: اللفح أشد من اللقيح تأثيرا. الكلوح: تشمر الشفتين عن الأسنان ومنه كلوح كلوح الكلب والأسد. وقيل: الكلوح بسور الوجه وهو تقطيبه، وكلح الرجل كلوحا وكلاحا ودهر كالح وبرد كالح شديد. العبث: اللعب الخالي عن فائدة.
* (وهو الذى أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون * وهو الذى * الذى ذرأكم فى الارض وإليه تحشرون * وهو الذى يحى ويميت وله اختلاف اليل والنهار أفلا تعقلون * بل قالوا مثل ما قال الاولون * قالوا أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * لقد وعدنا نحن وءاباؤنا هاذا من قبل إن هاذا إلا أساطير الاولين * قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون * بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون * ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إلاه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) *.
مناسبة * (وهو الذى أنشأ لكم) * لما قبله أنه لما بين إعراض الكفار عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل في الحقائق خاطب قيل المؤمنين، والظاهر العالم بأسرهم تنبيها على أن من لم يعمل هذه الأعضاء في ما خلقه الله تعالى وتدبر ما أودعه فيها من الدلائل على وحدانيته وباهر قدرته فهو كعادم هذه الأعضاء، وممن قال تعالى فيهم * (فما * أغنى * عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شىء) * فمن أنشأ هذه الحواس وأنشئت هي له وأحيا وأمات وتصرف في اختلاف الليل والنهار هو قادر على البعث. وخص هذه الأعضاء بالذكر لأنه يتعلق بها منافع الدين والدنيا من أعمال السمع والبصر في آيات الله والاستدلال بفكر القلب على وحدانية الله وصفاته، ولما كان خلقها من أتم النعم على العبد قال * (قليلا ما تشكرون) * أي تشكرون قليلا و * (ما) * زائدة للتأكيد. ومن شكر النعمة الإقرار بالمنعم بها ونفي الند والشريك.
و * (ذرأكم) * خلقكم وبثكم فيها. * (وإليه) * أي وإلى حكمه وقضائه وجزائه * (تحشرون) * يريد البعث والجمع في الآخرة بعد التفرق في الدنيا والاضمحلال. * (وله اختلاف اليل والنهار) * أي. هو مختص به ومتوليه وله القدرة التي ذلك الاختلاف عنها. والاختلاف هنا التعاقب أي يخلف هذا هذا. * (أفلا تعقلون) * من هذه تصرفات قدرته وآثار قهره فتوحدونه وتنفون عنه الشركاء والأنداد، إذ هم ليسوا بقادرين على شيء من ذلك. وقرأ أبو عمرو في رواية: يعقلون بياء الغيبة على الالتفات.
* (بل قالوا) * * (بل) * إضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات * (بل قالوا) * والضمير لأهل مكة ومن جرى مجراهم في إنكار البعث مثل ما قال آباؤهم عاد وثمود ومن يرجعون إليهم من الكفار. ولما اتخذوا من دون الله تعالى آلهة ونسبوا إليه الولد نبههم على فرط
385

جهلهم بكونهم يقرون بأنه تعالى له الأرض ومن فيها ملك وأنه رب العالم العلوي وأنه مالك كل شيء وهم مع ذلك ينسبون له الولد ويتخذون له شركاء.
وقرأ عبد الله والحسن والجحدري ونصر بن عاصم وابن وثاب وأبو الأشهب وأبو عمرو من السبعة * (سيقولون * الله) * الثاني والثالث بلفظ الجلالة مرفوعا وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام. وقرأ باقي السبعة * (لله) * فيها بلام الجر فالقراءة الأولى فيها المطابقة لفظا ومعنى، والثانية جاءت على المعنى لأن قولك: من رب هذا؟ ولمن هذا؟ في معنى واحد، ولم يختلف في الأول أنه باللام. وقرأ ابن محيصن * (العظيم) * برفع الميم نعتا للرب، وتقول أجرت فلانا على فلان إذا منعته منه أي وهو يمنع من يشاء ممن يشاء ولا يمنع أحد منه أحدا. ولا تعارض بين قوله * (إن كنتم تعلمون) * لا ينفي عنهم وبين ما حكي عنهم من قولهم. * (سيقولون * الله) * لأن قوله * (إن كنتم تعلمون) * لا ينفي علمهم بذلك، وقد يقال مثل ذلك في الاحتجاج على وجه التأكيد لعلمهم، وختم كل سؤال بما يناسبه فختم ملك الأرض ومن فيها حقيق أن لا يشرك به بعض خلقه ممن في الأرض ملكا له الربوبية وختم ما بعدها بالتقوى وهي أبلغ من التذكر وفيها وعيد شديد أي أفلا تخافونه فلا تشركوا به. وختم ما بعد هذه بقوله * (فإني * تسحرون) * مبالغة في التوبيخ بعد إقرارهم والتزامهم ما يقع عليهم به في الاحتجاج وأني بمعنى كيف قرر أنهم مسحورون وسألهم عن الهيئة التي سحروا بها أي كيف تخدعون عن توحيده وطاعته، والسحر هنا مستعار وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع من المسحور عبر عنهم بذلك.
وقرئ بل آتيتهم بتاء المتكلم، وابن أبي إسحاق بتاء الخطاب * (وإنهم لكاذبون) * فيما ينسبون إلى الله تعالى من اتخاذ الولد ومن الشركاء وغير ذلك مما هم فيه كاذبون. ثم نفى اتخاذ الولد وهو نفي استحالة ونفي الشريك بقوله * (وما كان معه من إله) * أي وما كان معه شريك في خلق العالم واختراعهم ولا في غير ذلك مما يليق به من الصفات العلى، فنفي الولد تنبيه على من قال: الملائكة بنات الله، ونفي الشريك في الألوهية تنبيه على من قال: الأصنام آلهة، ويحتمل أن يراد به إبطال قول النصارى والثنوية و * (من ولد) * و * (من إله) * نفي عام يفيد استغراق الجنس، ولهذا جاء * (إذا لذهب كل إلاه) * ولم يأت التركيب إذا لذهب الإله. ومعنى * (لذهب) * أي لا نفرد * (كل إلاه) * بخلقه الذي خلق واستبد به وتميز ملك كل واحد عن ملك الآخر وغلب بعضهم بعضا كحال ملوك الدنيا، وإذا لم يقع الانفراد والتغالب فاعلموا أنه إله واحد وإذا لم يتقدمه في اللفظ شرط ولا سؤال سائل ولا عدة قالوا: فالشرط محذوف تقديره، ولو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله * (وما كان معه من إله) * عليه وهذا قول الفراء: زعم أنه إذا جاء بعدها اللام كانت لو وما دخلت عليه محذوفة وقد قررنا تخريجا لها على غير هذا في قوله * (وإذا لآتخذوك خليلا) * في سورة الإسراء: والظاهر أن ما في * (بما خلق) * بمعنى الذي وجوز أن تكون مصدرية.
* (سبحان الله عما يصفون) * تنزيه عن الولد والشريك. وقرئ عما تصفون بتاء الخطاب. وقرأ الإبنان وأبو عمرو وحفص * (عالم) * بالجر. قال الزمخشري: صفة لله. وقال ابن عطية: اتباع للمكتوبة. وقرأ باقي السبعة وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو بحرية بالرفع. قال الأخفش: الجر أجود ليكون الكلام من وجه واحد. قال أبو علي الرفع أن الكلام قد انقطع، يعني أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو * (عالم) *. وقال ابن عطية: والرفع عندي أبرع. والفاء في قوله * (فتعالى) * عاطفة فالمعنى كأنه قال * (عالم الغيب والشهادة فتعالى) * كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته أي شجع فعظمت، ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى * (عما يشركون) * على إخبار مؤتنف. و * (الغيب) * ما غاب عن الناس و * (الشهادة) * ما شاهدوه انتهى.
* (قل رب إما ترينى ما يوعدون * رب فلا تجعلنى فى القوم الظالمين * وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون * ادفع بالتى هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون * حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون * فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم
386

المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) *.
لما ذكر ما كان عليه الكفار من ادعاء الولد والشريك له، وكان تعالى قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم) أنه ينتقم منهم ولم يبين إذ ذاك في حياته أم بعد موته، أمره بأنه يدعو بهذا الدعاء أي إن ترني ما تعدهم واقعا بهم في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني معهم، ومعلوم أنه عليه السلام معصوم مما يكون سببا لجعله معهم، ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهارا للعبودية وتواضعا لله، واستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا قام من مجلسه سبعين مرة من هذا القبيل. وقال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم. قال الحسن: كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه.
وجاء الدعاء بلفظ الرب قبل الشرط وقبل: الجزاء مبالغة في الابتهال إلى الله تعالى والتضرع، ولأن الرب هو المالك الناظر في مصالح العبد. وقرأ الضحاك وأبو عمر إن الجوني ترئني بالهمز بدل الياء، وهذا كما قرىء فأما ترئن ولترؤن بالهمز وهو إبدال ضعيف، ثم أخبر تعالى أنه قادر على تعجيل العذاب لهم كما كانوا يطلبون ذلك
وذلك في حياته عليه الصلاة والسلام ولكن تأخيره لأجل يستوفون، والجمهور على أن هذا العذاب في الدنيا. فقيل: يوم بدر. وقيل: فتح مكة. وقيل: هو عذاب الآخرة.
ثم أمره تعالى بحسن الأخلاق والتي هي أحسن شهادة أن لا إله إلا الله و * (السيئة) * الشرك. وقال الحسن: الصفح والإغضاء. وقال عطاء والضحاك: السلام إذا أفحشوا. وحكى الماوردي: * (ادفع) * بالموعظة المنكر والأجود العموم في الحسنى وفيما يسوء و * (التى هى أحسن) * أبلغ من الحسنة للمبالغة الدال عليها أفعل التفضيل، وجاء في صلة التي ليدل على معرفة السامع بالحالة التي هي أحسن. قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. وقيل: هي محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم يؤد إلى ثلم دين وإزراء بمروءة. * (نحن أعلم بما يصفون) * يقتصي أنها آية موادعة، والمعنى بما يذكرون ويصفونك به مما أنت بخلافه.
ثم أمره تعالى أن يستعيذ من نحسات الشياطين والهمز من الشيطان عبارة عن حثه على العصيان والإغراء به كما يهمز الرائض الدابة لتسرع، ثم أمره أن يستعيذ بسورة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه. وقال ابن زيد: همز الشيطان الجنون، والظاهر أنه أمر بالاستعاذة من حضور الشياطين في كل وقت. وعن ابن عباس عند تلاوة القرآن.
* (حتى إذا جاء أحدهم الموت) * قال الزمخشري: * (حتى) * يتعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعينا بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم، أو على قوله وإنهم لكاذبون انتهى. وقال ابن عطية: * (حتى) * في هذا الموضع حرف ابتداء، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف والأول أبين لأن ما بعدها هو المعنى به المقصود ذكره انتهى. فتوهم ابن عطية أن حتى إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية وهي إذا كانت حرف ابتداء لا تفارقها الغاية ولم يبين الكلام المحذوف المقدر. وقال أبو البقاء * (حتى) * غاية في معنى العطف، والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون حتى غاية لها يدل عليها ما قبلها التقدير: فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم * (حتى إذا جاء أحدهم الموت) * ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر:
فيا عجبا حتى كليب تسبني
أي يسبني الناس حتى كليب، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة وفي الآية دل ما قبلها عليها. وقال القشيري: احتج تعالى عليهم وذكرهم قدرته ثم قال: مصرون على الإنكار * (حتى إذا حضر أحدهم الموت) * تيقن ضلالته وعاين الملائكة ندم ولا ينفعه الندم انتهى. وجمع الضمير في * (ارجعون) * إما مخاطبة له تعالى مخاطبة الجمع
387

تعظيما كما أخبر عن نفسه بنون الجماعة في غير موضع. وقال الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء سواكم
وقال آخر
ألا فارحموني يا إله محمد
وإما استغاث أولا بربه وخاطب ملائكة العذاب وقاله ابن جريج. والظاهر أن الضمير في * (أحدهم) * راجع إلى الكفار، ومساق الآيات إلى آخرها يدل على ذلك. وقال ابن عباس: من لم يزك ولم يحج سأل الرجعة. فقيل له ذلك للكفار فقرأ مستدلا لقوله * (وأنفقوا مما * رزقناكم) * آية سورة المنافقين. وقال الأوزاعي: هو مانع الزكاة، وجاء الموت أي حضر وعاينه الإنسان فحينئذ يسأل الرجعة إلى الدنيا وفي الحديث: (إذا عاين المؤمن الموت قالت له الملائكة: نرجعك فيقول إلى دار الهموم والأحران بل قدما إلى الله، وأما الكافر فيقول: (ارجعون لعلي أعمل صالحا).
ومعنى * (فيما تركت) * في الإيمان الذي تركته والمعنى لعلي آتى بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحا كما تقول: لعلي أبني على أس، يريد أؤس أسا وأبني عليه. وقيل: * (فى ما * تركت) * من المال على ما فسره ابن عباس: * (كلا) * كلمة ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد. فقيل: هي من قول الله لهم. وقيل: من قول من عاين الموت يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم، ومعنى * (هو قائلها) * لا يسكت عنها ولا ينزع لاستيلاء الحسرة عليه، أو لا يجد لها جدوى ولا يجاب لما سأل ولا يغاث * (ومن ورائهم) * أي الكفار * (برزخ) * حاجز بينهم وبين الرجعة إلى وقت البعث. وفي هذه الجملة اقناط كلي أن لا رجوع إلى الدنيا، وإنما الرجوع إلى الآخرة استعير البرزخ للمدة التي بين موت الإنسان وبعثه.
وقرأ ابن عباس والحسن وابن عياض * (فى الصور) * بفتح الواو جمع صورة، وأبو رزين بكسر الصاد وفتح الواو، وكذا فأحسن صوركم وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسر الفاء شاذ. * (فلا أنساب) * نفي عام، فقال ابن عباس: عند النفخة الأولى يموت الناس فلا يكون بينهم نسب في ذلك الوقت وهم أموات، وهذا القول يزبل هول الحشر. وقال ابن مسعود وغيره: عند قيام الناس من القبور فلهول المطلع اشتغل كل امرئ بنفسه فانقطعت الوسائل وارتفع التفاخر والتعاون بالأنساب. وعن قتادة: ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممن يعرف لأنه يخاف أن يكون له عنده مظلمة، وفي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. وقيل: * (فلا أنساب) * أي لا تواصل بينهم حين افتراقهم إلى ما أعد لهم من ثواب وعقاب، وإنما التواصل بالأعمال.
وقرأ عبد الله ولا يساءلون بتشديد السين أدغم التاء في السين إذ أصله * (يتساءلون) * ولا تعارض بين انتفاء التساؤل هنا وبين إثباته في قوله * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * لأن يوم القيامة مواطن ومواقف، ويمكن أن يكون انتفاء التساؤل عند النفخة الأولى، وأما في الثانية فيقع التساؤل.
وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها في أوائل الأعراف. وقال الزمخشري؛ * (فى جهنم خالدون) * بدل من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف انتهى. جعل * (فى جهنم) * بدلا * (من * خسروا) * وهذا بدل غريب، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي يتعلق به * (فى جهنم) * أي استقروا في جهنم، وكأنه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم. وأجاز أبو البقاء أن يكون * (الذين) * نعتا لأولئك، وخبر * (أولائك) * * (فى جهنم) * والظاهر أن
388

يكون خبرا لأولئك لا نعتا.
وخص الوجه باللفح لأنه أشرف ما في الإنسان، والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء، فإذا لفح الأشرف فما دونه ملفوح. ولما ذكر إصابة النار للوجه ذكر الكلوح المختص ببعض أعضاء الوجه وفي الترمذي تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته قال هذا حديث حسن صحيح. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة كلحون بغير ألف.
* (ألم تكن ءاياتى تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون * قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال * اخسئوا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنا ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الرحمين * فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون * إنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون * قال كم لبثتم فى الارض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون * أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم * ومن يدع مع الله إلها ءاخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون * وقل) *.
يقول الله لهم على لسان من يشاء من ملائكته * (ألم تكن ءاياتى) * وهي القرآن، ولما سمعوا هذا التقرير أذعنوا وأقروا على أنفسهم بقولهم * (غلبت علينا شقوتنا) * من قولهم: غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك وامتلكه، والشقاوة سوء العاقبة. وقيل: الشقوة الهوى وقضاء اللذات لأن ذلك يؤدي إلى الشقوة. أطلق اسم المسبب على السبب قاله الجبائي. وقيل: ما كتب علينا في اللوح المحفوظ وسبق به علمك. وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم: شقاوتنا بوزن السعادة وهي لغة فاشية، وقتادة أيضا والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه كذلك إلا أنه بكسر الشين، وباقي السبعة والجمهور بكسر الشين وسكون القاف وهي لغة كثيرة في الحجاز. قال الفراء: أنشدني أبو ثروان وكان فصيحا:
* علق من عنائه وشقوته
*
بنت ثماني عشرة من حجته
*
وقرأ شبل في اختياره بفتح الشين وسكون القاف. * (وكنا قوما ضالين) * أي عن الهدى، ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم أقروا والإقرار بالذنب اعتذار، فقالوا * (ربنا أخرجنا منها) * أي من جهنم * (فإن عدنا) * أي إلى التكذيب واتخاذ آلهة وعبادة غيرك * (فإنا ظالمون) * أي متجاوز والحد في العدوان حيث ظلمنا أنفسنا أولا ثم سومحنا فظلمنا ثانيا. وحكى الطبري حديثا طويلا في مقاولة تكوين بين الكفار وبين مالك خازن النار، ثم بينهم وبين ربهم جل وعز وآخرها * (قال * اخسئوا فيها ولا تكلمون) * قال وتنطبق عليهم جهنم ويقع اليأس ويبقون ينبح بعضهم في وجه بعض. قال ابن عطية: واختصرت ذلك الحديث لعدم صحته، لكن معناه صحيح ومعنى * (* اخسؤوا) * أي ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا ازجرت، يقال: خسأت الكلب وخسأ هو بنفسه يكون متعديا ولازما. و * (لا * تكلمون) * أي في رفع العذاب أو تخفيفه. قيل: هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون.
* (إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنا ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الرحمين) *. قرأ أبي وهارون العتكي * (أنه) * بفتح الهمزة أي لأنه، والجمهور بكسرها والهاء ضمير الشأن وهو محذوف مع أن المفتوحة الهمزة والفريق هنا هم المستضعفون من المؤمنين، وهذه الآية مما يقال للكفار على جهة التوبيخ، ونزلت في كفار قريش مع صهيب وعمار وبلال ونظرائهم، ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديما وبقية الدهر. وقرأ حمزة والكسائي ونافع * (سخريا) * بضم السين وباقي السبعة بالكسر. قال الزمخشري: مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسب زيادة قوة في الفعل، كما قيل: الخصوصية في الخصوص وهما بمعنى الهزء في قول الخليل وأبي زيد الأنصاري وسيبويه. وقال أبو
389

عبيدة والكسائي والفراء: ضم السين من السخرة والاستخدام والكسر من السخر وهو الاستهزاء. ومنه قول الأعشى:
* إني أتاني حديث لا أسر به
*
من علو لا كذب فيه ولا سخر
*
وقال يونس: إذا أريد التخديم فضم السين لا غير، وإذا أريد الهزء فالضم والكسر. قال ابن عطية.
وقرأ أصحاب عبد الله وابن أبي إسحاق والأعرج بضم السين كل ما في القرآن. وقرأ الحسن وأبو عمرو بالكسر إلا التي في الزخرف فإنهما ضما السين كما فعل الناس انتهى. وكان قد قال عن أبي علي يعني الفارسي أن قراءة كسر السين أوجه لأنه بمعنى الاستهزاء، والكسر فيه أكثر وهو أليق بالآية ألا ترى قوله * (وكنتم منهم تضحكون) * انتهى قول أبي علي ثم قال ابن عطية: ألا ترى إلى إجماع القراء على ضم السين في قوله * (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) * لما تخلص الأمر للتخديم انتهى. وليس ما ذكره من إجماع القراء على ضم السين في الزخرف صحيحا لأن ابن محيصن وابن مسلم كسرا في الزخرف، ذكر ذلك أبو القاسم بن جبارة الهذلي في كتاب الكامل.
*
* (فاتخذتموهم سخريا) * أي هزأة تهزوؤن منهم * (حتى أنسوكم ذكرى) * أي بتشاغلكم بهم فتركتم ذكري أي أن تذكروني فتخافوني في أوليائي، وأسند النسيان إلى فريق المؤمنين من حيث كان سببه.
وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي وخارجة عن نافع * (إنهم هم) * بكسر الهمزة وباقي السبعة بالفتح، ومفعول * (جزيتهم) * الثاني محذوف تقديره الجنة أو رضواني. وقال الزمخشري: في قراءة من قرأ * (أنهم) * بالفتح هو المفعول الثاني أي * (جزيتهم) * فوزهم انتهى. والظاهر أنه تعليل أي * (جزيتهم) * لأنهم، والكسر هو على الاستئناف وقد يراد به التعليل فيكون الكسر مثل الفتح من حيث المعنى لا من حيث الإعراب لا ضطرار المفتوحة إلى عامل. و * (الفائزون) * الناجون من هلكة إلى نعمة.
وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير * (قال كم) * والمخاطب ملك يسألهم أو بعض أهل النار، فلذا قال عبر عن القوم. وقرأ باقي السبعة قال. والقائل الله تعالى أو المأمور بسؤالهم من الملائكة. وقال الزمخشري: قال في مصاحف أهل الكوفة و * (قل) * في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقال ابن عطية: وفي المصاحف قال فيهما إلا في مصحف الكوفة فإن فيه * (قل) * بغير ألف، وتقدم إدغام باب لبثت في البقرة سألهم سؤال توقيف على المدة. وقرأ الجمهور * (عدد سنين) * على الإضافة و * (كم) * في موضع نصب على ظرف الزمان وتمييزها عدد. وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم عددا بالتنوين. فقال أبو الفضل الرازي صاحب كتاب اللوامح * (سنين) * نصب على الظرف والعدد مصدر أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدم على المنعوت، ويجوز أن يكون معنى * (لبثتم) * عددتم فيكون نصب عددا على المصدر و * (سنين) * بدل منه انتهى. وكون * (لبثتم) * بمعنى عددتم بعيد.
ولما سئلوا عن المدة التي أقاموا فيها في الأرض ويعني في الحياة الدنيا قاله الطبري وتبعه الزمخشري فنسوا الفرط هول العذاب حتى قالوا * (يوما أو بعض يوم) * أجابوا بقولهم * (لبثنا يوما أو بعض يوم) * ترددوا فيما لبثوا قاله ابن عباس. وقيل: أريد بقوله * (فى الارض) * في جوف التراب أمواتا وهذا قول جمهور المتأولين. قال ابن عطية: وهذا هو الأصوب من حيث أنكروا البعث، وكانوا قولهم أنهم لا يقومون من التراب قيل لهم لما قاموا * (كم لبثتم) * وقوله آخرا * (وأنكم إلينا لا ترجعون) * يقتضي ما قلناه انتهى.
* (فاسأل العادين) * خطاب للذي سألهم. قال مجاهد: * (العادين) * الملائكة أي هم الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصون عليهم ساعاتهم. وقال قتادة: أهل الحساب، والظاهر أنهم من يتصف بهذه الصفة ملائكة أو غيرهم لأن النائم والميت لا يعد فيتقدر له الزمان. وقال الزمخشري: والمعنى لا نعرف من عدد تلك السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم لما نحن فيه من العذاب، وما فينا أن يعدكم بفي فسئل من فيه أن يعد ومن يقدر أن
390

يلقي إليه فكره انتهى. وقرأ الحسن والكسائي في رواية * (العادين) * بتخفيف الدال أي الظلمة فإنهم يقولون كما تقول. قال ابن خالويه: ولغة أخرى العاديين يعني بياء مشددة جمع عادي يعني للقدماء. وقال الزمخشري: وقرئ العاديين أي القدماء المعمرين فإنهم يستقصرونها فيكف بمن دونهم.
وقرأ الأخوان * (قل إن * لبثتم) * على الأمر، وباقي السبعة و * (ءان) * نافية أي ما * (لبثتم إلا قليلا) * أي قريب ولكنكم كذبتم به إذ كنتم لا تعلمون أي لم ترغبوا في العلم والهدى وانتصب * (عبثا) * على الحال أي عابثين أو على أنه مفعول من أجله، والمعنى في هذا ما خلقناكم للعبث، وإنما خلقناكم للتكليف والعبادة. وقرأ الأخوان * (لا ترجعون) * مبنيا للفاعل، وباقي السبعة مبنيا للمفعول، والظاهر عطف * (وإنكم) * على * (إنما) * فهو داخل في الحسبان.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون على * (عبثا) * أي للعبث ولترككم غير مرجوعين انتهى.
* (فتعالى الله) * أي تعاظم وتنزه عن الصاحبة والولد والشريك والعبث وجميع النقائص، بل هو * (الملك الحق) * الثابت هو وصفاته العلي و * (الكريم) * صفة للعرش لتنزل الخيرات منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين. وقرأ أبان بن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير * (الكريم) * بالرفع صفة لرب العرش أو * (العرش) *، ويكون معطوفا على معنى المدح.
و * (من) * شرطية والجواب * (فإنما) * و * (لا برهان له به) * صفة لازمة لا للاحتراز من أن يكون ثم آخر يقوم عليه برهان فهي مؤكدة كقوله * (يطير بجناحيه) * ويجوز أن تكون جملة اعتراض إذ فيها تشديد وتأكيد فتكون لا موضع لها من الإعراب كقولك: من أساء إليك لا أحق بالإساءة منه، فأسيء إليه. ومن ذهب إلى أن جواب الشرط هو * (لا برهان له به) * هروبا من دليل الخطاب من أن يكون ثم داع له برهان فلا يصح لأنه يلزم منه حذف الفاء في جواب الشرط، ولا يجوز إلا في الشعر وقد خرجناه على الصفة اللازمة أو على الاعتراض وكلاهما تخريج صحيح. وقرأ الحسن وقتادة (انه) لا يفلح بفتح الهمزة، أي هو فوضع الكافرون موضع الضمير حملا على معنى من والجمهور بكسر الهمزة وخبر (حسابه) الظرف أنه استئناف وقرأ الحسن يفلح بفتح الفاء واللام وافتتح السورة بقوله * (
قد أفلح المؤمنون) * وأورد في خاتماتها إنه لا يفلح الكافرون فانظر تفاوت بين الإفتتاح والاختتام، ثم امر رسول الله صلى الله عليه وسلم) بان يدعوا بالغفران والرحمة وقرأ ابن محيص وقرأ الحسن وقتادة * (إنه لا يفلح) * بفتح الهمزة أي هو فوضع * (الكافرون) * موضع الضمير حملا على معنى من، والجمهور بكسر الهمزة وخبر * (حسابه) * الظرف و * (أنه) * استئناف. وقرأ الحسن * (يفلح) * بفتح الفاء واللام، وافتتح السورة بقوله * (قد أفلح المؤمنون) * وأورد في خاتمتها * (إنه لا يفلح الكافرون) * فانظر تفاوت ما بين الافتتاح والاختتام. ثم أمر رسوله عليه السلام بأن يدعو بالغفران والرحمة. وقرأ ابن محيصن * (رب) * بضم الباء.
391

((سورة النور))
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيهآ ءايات بينات لعلكم تذكرون * الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الا خر وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين * الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك وحرم ذالك على المؤمنين * والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولائك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذالك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم * والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليهآ إن كان من الصادقين * ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم) *)) 2
هذه السورة مدنية بلا خلاف، ولما ذكر تعالي مشركي قريش ولهم أعمال من دون ذلك أي أعمال سيئة هم لها عاملون، واستطرد بعد ذلك إلى أحوالهم، واتخاذهم الولد والشريك، وإلى مآلهم في النار كان من أعمالهم السيئة أنه كان لهم جوار بغايا يستحسنون عليهن ويأكلون من كسبهم من الزنا، فأنزل الله أول هذه السورة تغليظا في أمر الزنا وكان فيما ذكر وكأنه لا يصح ناس من المسلمين هموا بنكاحهن.
وقرأ الجمهور * (سورة) * بالرفع فجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه * (سورة) * أو مبتدأ محذوف الخبر، أي فيما أوحينا إليك أو فيما يتلى عليكم. وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون مبتدأ أو الخبر * (الزانية والزانى) * وما بعد ذلك، والمعنى السورة المنزلة والمفروضة كذا وكذا إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم إلا أن يكون المبتدأ ليس بالبين أنه الخبر إلا أن يقدر الخبر في السورة كلها وهذا بعيد في القياس و * (أنزلناها) * في هذه الأعاريب في موضع الصفة انتهى.
وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأم الدرداء * (سورة) * بالنصب فخرج على إضمار فعل أي أتلو سورة و * (أنزلناها) * صفة. قال الزمخشري: أو على دونك * (سورة) * فنصب على الإغراء، ولا يجوز حذف أداة الإغراء وأجازوا أن يكون من باب الاشتغال أي أنزلنا * (سورة أنزلناها) * فأنزلناها مفسر لأنزلنا المضمرة فلا موضع له من الإعراب إلا أنه فيه الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلا إن اعتقد حذف وصف أي * (سورة
392

معظمة أو موضحة * (أنزلناها) * فيجوز ذلك.
وقال الفراء: * (سورة) * حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه انتهى. فيكون الضمير المنصوب في * (أنزلناها) * ليس عائدا على * (سورة) * وكان المعنى أنزلنا الأحكام * (* فرضناها) * سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن، فليست هذه الأحكام ثابتة بالسنة فقط بل بالقرآن، والسنة.
وقرأ الجمهور * (أنزلناها وفرضناها) * بتخفيف الراء أي فرضنا أحكامها وجعلناها واجبة متطوعا بها. وقيل: وفرضنا العمل بما فيها. وقرأ عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير بتشديد الراء ما للمبالغة في الإيجاب، وإما لأن فيها فرائض شتى أو لكثرة المفروض عليهم. قيل: وكل أمر ونهي في هذه السورة فهو فرض.
* (سورة أنزلناها وفرضناها) * بينات أمثالا ومواعظ وأحكاما ليس فيها مشكل يحتاج إلى تأويل. وقرأ الجمهور * (الزانية والزانى) * بالرفع، وعبد الله والزان بغير ياء، ومذهب سيبويه أنه مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم * (الزانية والزانى) * وقوله * (فاجلدوا) * بيان لذلك الحكم، وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن الخبر * (فاجلدوا) * وجوزه الزمخشري، وسبب الخلاف هو أنه عند سيبويه لا بد أن يكون المبتدأ الداخل الفاء في خبره موصولا بما يقبل أداة الشرط لفظا أو تقديرا، واسم الفاعل واسم المفعول لا يجوز أن يدخل عليه أداة الشرط وغير سيبويه ممن ذكرنا لم يشرط ذلك، وتقرير المذهبين والترجيح مذكور في النحو. وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فأئد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ورويس * (الزانية والزانى) * بنصبهما على الاشتغال، أي واجلدوا * (الزانية والزانى) * كقولك زيدا فضربه، ولدخول الفاء تقرير ذكر في علم النحو والنصب هنا أحسن منه في * (سورة أنزلناها) * لأجل الأمر، وتضمنت السورة أحكاما كثيرة فيما يتعلق بالزنا ونكاح الزواني وقذف المحصنات والتلاعن والحجاب وغير ذلك. فبدى بالزناء لقبحه وما يحدث عنه من المفاسد والعار. وكان قد نشأ في العرب وصار من إمائهم أصحاب رايات وقدمت الزانية على الزاني لأن داعيتها أقوى لقوة شهوتها ونقصان عقلها، ولأن زناها أفحش وأكثر عارا وللعلوق بولد الزنا
وحال النساء الحجبة والصيانة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: قدمت الزانية على الزاني أولا ثم قدم عليها ثانيا؟ قلت: سبقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة على المادة التي منها نشأت الجناية، فإنها لو لم تطمع الرجل ولم تربض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلا وأولا في ذلك بدىء بذكرها، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب انتهى. ولا يتم هذا الجواب في الثانية إلا إذا حمل النكاح على العقد لا على الوطء. وأل في * (الزانية والزانى) * للعموم في جميع الزناة.
وقال ابن سلام وغيره: هو مختص بالبكرين والجلد إصابة الجلد بالضرب كما تقول: رأسه وبطنه وظهره أي ضرب رأسه وبطنه وظهره وهذا مطرد في أسماء الأعيان الثلاثية العضوية، والظاهر اندراج الكافر والعبد والمحصن في هذا العموم وهو لا يندرج في المجنون ولا الصبي بإجماع. وقال ابن سلام وغيره: واتفق فقهاء الأمصار على أن المحصن يرجم ولا يجلد. وقال الحسن وإسحاق وأحمد: يجلد ثم يرجم: وجلد علي رضي الله عنه شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولا حجة في كون مرجومة أنيس والغامدية لم ينقل جلدهما لأن ذلك معلوم من أحكام القرآن فلا ينقل إلا ما كان زائدا على القرآن وهو الرجم، فلذلك ذكر الرجم ولم يذكر الجلد. ومذهب أبي حنيفة أن من شرط الإحصان الإسلام، ومذهب الشافعي أنه ليس بشرط، واتفقوا على أن الأمة تجلد خمسين وكذا العبد على مذهب الجمهور. وقال أهل الظاهر: يجلد العبد مائة ومنهم من قال: تجلد الأمة مائة إلا إذا تزوجت فخمسين، والظاهر اندراج الذميين في الزانية والزاني فيجلدان عند أبي حنيفة والشافعي وإذا كانا محصنين يرجمان عند الشافعي. وقال مالك: لا حد عليهما والظاهر أنه ليس على الزانية والزاني حد غير الجلد فقط وهو مذهب الخوارج، وقد ثبت الرجم بالسنة المستفيضة وعمل به بعد الرسول خلفاء الإسلام أبو بكر وعمر وعلي، ومن الصحابة جابر وأبو هريرة وبريدة الأسلمي
393

وزيد بن خالد، واختلفوا في التغريب بنفي البكر بعد الجلد. وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والشافعي ينفي الزاني. وقال الأوزاعي ومالك: ينفي الرجل ولا تنفى المرأة قال مالك: ولا ينفي العبد نصف سنة، والظاهر أن هذا الجلد إنما هو على من ثبت عليه الزنا فلو وجدا في ثوب واحد فقال إسحاق يضرب كل واحد منهما مائة جلدة، وروي عن عمر وعلي. وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد: يؤدبان على مذاهبهم في الأدب، وأما الإكراه فالمكرهة لا حد عليها وفي حد الرجل المكره خلاف وتفصيل بين أن يكرهه سلطان فلا يحد أو غيره فيحد، وهو قول أبي حنيفة وقول أبي يوسفض ومحمد والحسن بن صالح والشافعي لا يحد في الوجهين، وقول زفر يحد فيهما جميعا. والظاهر أنه لا يندرج في الزنا من أتى امرأة من دبرها ولا ذكرا ولا بهيمة. وقيل: يندرج والمأمور بالجلد أئمة المسلمين ونوابهم. واختلفوا في إقامة الخارجي المتعلب الحدود. فقيل له ذلك. وقيل: لا وفي إقامة السيد على رقيقه. فقال ابن مسعود وابن عمر وعائشة وفاطمة والشافعي: له ذلك. وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر: لا، وقال مالك والليث: له ذلك إلا في القطع في السرقة فإنما يقطعه الإمام، والجلد كما قلنا ضرب الجلد ولم تتعرض الآية لهيئة الجالد ولا هيئة المجلود ولا لمحل الجلد ولا لصفة الآلة المجلود بها وذلك مذكور في كتب الفقه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: هذا حكم جميع الزناة والزواني أم حكيم بعضهم؟ قلت: بل هو حكم من ليس بمحصن منهم، فإن المحصن حكمه الرجم فإن قلت: اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني لأن قوله * (الزانية والزانى) * عام في الجميع يتناوله المحصن وغير المحصن قلت: * (الزانية والزانى) * بدلان على الجنسين المنافيين لجنسي العفيف والعفيفة دلالة مطلقة، والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعا فأيهما قصد المتكلم فلا عليه كما يفعل بالأسم المشترك انتهى. وليست دلالة اللفظ على الجنسين كما ذكر دلالة مطلقة لأن دلالة عموم الاستغراق مباينة لدلالة عموم البدل وهو الإطلاق، وليست كدلالة المشترك لأن دلالة العموم هي كل فرد فرد على سبيل الاستغراق، ودلالة المشترك تدل على فرد فرد على الاستغراق أعني في الاستعمال وإن كان في ذلك خلاف في أصول الفقه، لكن ما ذكرته هو الذي يصح في النظر واستعمال كلام العرب.
وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد: ولا يأخذكم بالياء لأن تأنيث الرأفة مجاز وحسن ذلك الفصل. وقرأ الجمهور بالتاء الرأفة لفظا. وقرأ الجمهور * (رأفة) * بسكون الهمزة وابن كثير بفتحها وابن جريج بألف بعد الهمزة. وروي هذا عن عاصم وابن كثير، وكلها مصادر أشهرها الأول والرأفة المنهي أن تأخذ المتولين إقامة الحد. قال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء: هي في إسقاط الحد، أي أقيموه ولا يدرأ هذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما. ومن مذهبهم أن الحد في الزنا والفرية والخمر على نحو واحد. وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما: الرأفة المنهي عنها هي في تخفيف الضرب على الزناة، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الفرية والخمر ويشدد ضرب الزنا.
وقال الزمخشري: والمعنى أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجد والمتانة فيه، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استبقاء حدوده انتهى. فهذا تحسين قول أبي مجلز ومن وافقه. وقال الزهري: يشدد في الزنا والفرية ويخفف في حد الشرب.
وقال مجاهد والشعبي وابن زيد: في الكلام حذف تقديره * (ولا تأخذكم بهما رأفة) * فتعطلوا الحدود ولا تقيموها. والنهي في الظاهر للرأفة والمراد ما تدعو إليه الرأفة وهو تعطيل الحدود أو نقصها ومعنى * (فى دين الله) * في الإخلال بدين الله أي بشرعه. قيل: ويحتمل أن يكون الدين بمعنى الحكم * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر) * تثبيت وحض وتهييج للغضب لله ولدينه، كما تقول: إن كنت رجلا فافعل، وأمر تعالى بحضور جلدهما طائفة إغلاظا على الزناة وتوبيخا لهم بحضرة الناس، وسمى الجلد عذابا إذ فيه إيلام وافتضاح وهو عقوبة على ذلك الفعل، والطائفة المأمور بشهودها ذلك يدل
394

الاشتقاق على ما يكون يطوف بالشيء وأقل ما يتصور ذلك فيه ثلاثة وهي صفة غالبة لأنها الجماعة الحافة بالشيء. وعن ابن عباس وابن زيد في تفسيرها أربعة إلى أربعين. وعن الحسن: عشرة. وعن قتادة والزهري: ثلاثة فصاعدا. وعن عكرمة وعطاء: رجلان فصاعدا وهو مشهور قول مالك. وعن مجاهد: الواحد فما فوقه واستعمال الضمير الذي للجمع عائدا على الطائفة في كلام العرب دليل على أنه يراد بها الجمع وذلك كثير في القرآن.
* (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة) * الظاهر أنه خبر قصد به تشنيع الزنا وأمره، ومعنى * (لا ينكح) * لا يطأ وزاد * (* المشركة) * في التقسيم، فالمعنى أن الزاني في وقت زناه لا يجامع إلا زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة، والنكاح بمعنى الجماع مروي عن ابن عباس هنا. وقال الزمخشري: وقيل المراد بالنكاح الوطء وليس بقول لأمرين. أحدهما: أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم يرد بها إلا معنى العقد. والثاني: فساد المعنى وأداؤه إلى قولك الزاني لا يزني إلا بزانية، والزانية لا تزني إلا بزان انتهى. وما ذكره من الأمر الأول أخذه من الزجاج قال: لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج وليس كما قال، وفي القرآن حتى تنكح زوجا غيره، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم) أنه بمعنى الوطء. وأما الأمر الثاني فالمقصود به تشنيع الزنا وتشنيع أمره وأنه محرم على المؤمنين. وقال الزمخشري: وأخذه من الضحاك وحسنه الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا، والخبث لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته، وإنما يرغب في فاسقه خبيثة من شكله، أو في مشركة. والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين، ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم محظور لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور. موقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد ومجالسة الخطائين، كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب وإقدامه على ذلك انتهى.
وعن ابن عمر وابن عباس وأصحابه أنها في قوم مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كن من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن، فنزلت الآية بسببهن والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية وقوله * (الزانى لا ينكح) * أي لا يتزوج، وعلى هذين التأويلين فيه معنى التفجع عليهم وفيه توبيخ كأنه يقول: الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة، أي تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم، ويرد على هذين التأويلين الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك في قومه * (وحرم ذالك على المؤمنين) *. أي نكاح أولئك البغايا، فيزعم أهل هذين التأويلين أن نكاحهن حرمه الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم).
وقال الحسن: المراد الزاني المحدود، والزانية المحدودة قال: وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا زانية. وقد روي أن محدودا تزوج غير محدودة فرد علي بن أبي طالب نكاحها. * (وحرم ذالك على المؤمنين) * يريد الزنا. وروى الزهراني في هذا حديثا من طريق أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله). قال ابن عطية: وهذا حديث لا يصح، وقول فيه نظر، وإدخال المشرك في الآية يرده وألفاظ الآية تأباه وإن قدرت المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك انتهى. وقال ابن المسيب: هذا حكم كان في الزناة عام أن لا يتزوج زان إلا زانية، ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله * (وأنكحوا * طائفة منكم) * وقوله * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * وروي ترتيب هذا النسخ عن مجاهد إلا أنه قال: حرم نكاح أولئك البغايا النفر. قال ابن عطية: وذكر الإشراك في الآية يضعف هذه المناحي انتهى.
وعن الجبائي إنها منسوخة بالإجماع، وضعف بأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وتلخص من هذه الأقوال أن
395

النكاح إن أريد به الوطء فالآية وردت مبالغة في تشنيع الزنا، وإن أريد به التزويج فإما أن يراد به عموم في الزناة ثم نسخ، أو عموم في الفساق الخبيثين لا يرغبون إلا فيمن هو شكل لهم، والفواسق الخبائث لا يرغبن إلا فيمن هو شكل لهن، ولا يجوز التزويج على ما قرره الزمخشري، أو يراد به خصوص في قوم كانوا في الجاهلية زناة ببغايا فأرادوا تزويجهن لفقرهم وإيسارهن مع بقائهن على البغاء فلا يتزوج عفيفة، ولو زنا رجل بامرأة ثم أراد تزويجها فأجاز ذلك أبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وطاوس وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة ومالك والثوري والشافعي، ومنعه ابن مسعود والبراء ابن عازب وعائشة وقالا: لا يزالان زانيين ما اجتمعا، ومن غريب النقل أنه لو تزوج معروف بالزنا أو بغيره من الفسوق ثبت الخيار في البقاء معه أو فراقه وهو عيب من العيوب التي يترتب الخيار عليها، وذهب قوم إلى أن الآية محكمة، وعندهم أن من زنى من الزوجين فسد النكاح بينهما وقال قوم منهم لا ينفسخ ويؤمر بطلاقها إذا زنت فإن أمسكها أثم قالوا لا تجوز التزويج بالزانية ولا من الزاني فإن ظهرت التوبة جاز.
وقال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت: معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر، ومعنى الثانية صفتها بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة، وهما معنيان مختلفان.
وعن عمرو بن عبيد * (لا ينكح) * بالجزم على النهي والمرفوع فيه معنى النهي ولكن هو أبلغ وآكد كما أن رحمك الله ويرحمك الله أبلغ من ليرحمك، ويجوز أن يكون خبرا محضا على معنى إن عادتهم جارية على ذلك، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها انتهى. وقرأ أبو البرهثيم * (وحرم) * مبنيا للفاعل أي الله، وزيد بن علي * (وحرم) * بضم الراء وفتح الحاء والجمهور * (وحرم) * مشددا مبنيا للمفعول.
والقذف الرمي بالزنا وغيره، والمراد به هنا الزنا لاعتقابه إياه ولاشتراط أربعة شهداء وهو مما يخص القذف بالزنا إذ في غيره يكفي شاهدان. قال ابن جبير: ونزلت بسبب قصة الإفك. وقيل: بسبب القذفة عاما، واستعير الرمي للشتم لأنه إذاية بالقول. كما قال:
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال:
* رماني بأمر كنت منه ووالدي
*
بريئا ومن أجل الطوي رماني
*
و * (المحصنات) * الظاهر أن المراد النساء العفائف، وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشركونهن في الحكم لأن القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس، ومن حيث هن هوى الرجال ففيه إيذاء لهن ولأزواجهن وقراباتهن. وقيل: المعنى الفروج المحصنات كما قال: * (والتى أحصنت فرجها) *. وقيل: الأنفس المحصنات وقاله ابن حزم: وحكاه الزهراوي فعلى هذين القولين يكون اللفظ شاملا للنساء وللرجال، ويدل على الثاني قوله * (والمحصنات من النساء) * وثم محذوف أي بالزنا، وخرج بالمحصنات من ثبت زناها أو زناه، واستلزم الوصف بالإحصان الإسلام والعقل والبلوغ والحرية. قال أبو بكر الرازي: ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى، والمراد بالمحصنات غير مزوجات الرامين أو لمن زوجه حكم يأتي بعد ذلك، والرمي بالزنا الموجب للحد هو التصريح بأن يقول: يا زانية، أو يا زاني، أو يا ابن الزاني وابن الزانية، يا ولد الزنا لست لأبيك لست لهذه وما أشبه ذلك من الصرائح، فلو عرض كأن يقول: ما أنا بزان ولا أمي بزانية لم يحد في مذهب أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي، ويحد في مذهب مالك، وثبت الحد فيه عن عمر بعد مشاورته الناس
396

وقال أحمد وإسحاق هو قذف في حال الغضب دون الرضا، فلو قذف كتابيا إذا كان للمقذوف ولد مسلم. وقيل: إذا قذف الكتابية تحت المسلم حد واتفقوا على أن قاذف الصبي لا يحد وإن كان مثله يجامع، واختلفوا في قاذف الصبية. فقال مالك: يحد إذا كان مثلها يجامع. وقال مالك والليث: يحد إذا كان مثلها يجامع. وقال مالك والليث: يحد قاذف المجنون. وقال غيرهما: لا يحد.
* (والذين يرمون) * ظاهره الذكور وحكم الراميات حكمهم، ولو قذف الصبي أو المجنون زوجته أو أجنبية فلا حد عليه أو أخرس وله كناية معروفة أو إشارة مفهومة حد عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصح قذفه ولا لعانه ولما كانت معصية الزنا كبيرة من أمهات الكبائر وكان متعاطيها كثيرا ما يتسير بها فقلما يطلع أحد عليها، شدد الله تعالى على القاذف حيث شرط فيها أربعة شهداء رحمة بعباده وسترا لهم والمعنى * (ثم لم يأتوا) * الحكام والجمهور على إضافة * (أربعة) * إلى * (شهداء) *. وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم * (بأربعة) * بالتنوين وهي قراءة فصيحة، لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الاتباع أجود من الإضافة، ولذلك رجح ابن جني هذه القراءة على قراءة الجمهور من حيث أخذ مطلق الصفة وليس كذلك، لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء، ومن ذلك شهيد ألا ترى إلى قوله * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) * وقوله * (واستشهدوا شهيدين) * وكذلك: عبد فثلاثة شهداء بالإضافة أفصح من التنوين والاتباع، وكذلك ثلاثة أعبد.
وقال ابن عطية: وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى. وليس كما ذكر إنما يرى ذلك سيبويه في العدد الذي بعده اسم نحو: ثلاثة رجال، وأما في الصفة فلا بل الصحيح التفصيل الذي ذكرناه، وإذا نونت أربعة فشهداء بدل إذ هو وصف جرى مجرى الأسماء أو صفة لأنه صفة حقيقية، ويضعف قول من قال أنه حال أو تمييز، وهذه الشهادة تكون بالمعاينة البليغة كالمرود في المكحلة، والظاهر أنه لا يشترط شهادتهم أن تكون حالة اجتماعهم بل لو أتى بهم متفرقين صحت شهادتهم. وقال أبو حنيفة: شرط ذلك أن يشهدوا مجتمعين، فلو جاؤوا متفرقين كانوا قذفه. والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شهداء ولقوله * (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) * ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا أجنبيين، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وتحد المرأة، وروي ذلك عن الحسن والشعي. وقال مالك والشافعي: يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروي مثله عن ابن عباس.
* (فاجلدوهم) * أمر للإمام ونوابه بالجلد، والظاهر وجوب الجلد وإن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: لا يحد إلا بمطالبته. وقال مالك كذلك إلا أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف، والظاهر أن العبد القاذف حرا إذا لم يأت بأربعة شهداء حد ثمانين لاندراجه في عموم * (والذين يرمون) * وبه قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري وعثمان البتي والشافعي: يجلد أربعين وهو قول علي وفعل أبي بكر وعمر وعلي ومن بعدهم من الخلفاء قاله عبد الله بن ربيعة، ولو قذف واحد جماعة بلفظ واحد أو أفرد لكل واحد حد حدا واحدا وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والليث. وقال عثمان البتي والشافعي لكل واحد حد. وقال الشعبي وابن أبي ليلى: إن كان بلفظ واحد نحو يا زناة فحد واحد، أو قال: لكل واحد يا زاني فلكل إنسان حد، والظاهر من الآية أنه لا يجلد إلا القاذف ولم يأت جلد الشاهد إذا لم يستوف عدد الشهود، وليس من جاء للشهادة للقاذف بقاذف وقد أجراه عمر مجرى القاذف. وجلد أبا بكرة وأخاه نافعا وشبل بن معبد البجلي لتوقف الرابع وهو زيادة في الشهادة فلم يؤدها كاملة، ولو أتى بأربعة شهداء فساق. فقال زفر: يدرأ الحد عن القاذف والشهور. وعن أبي يوسف يحد القاذف ويدرأ عن الشهود. وقال مالك وعبيد الله بن الحسن: يحد الشهود والقاذف.
* (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) * الظاهر أنه لا يقبل شهادته أبدا وإن أكذب نفسه وتاب، وهو نهي جاء بعد أمر، فكما أن حكمه الجلد كذلك حكمه رد شهادته وبه قال
شريح القاضي والنخعي وابن المسيب وابن جبير والحسن والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح: لا تقبل شهادة المحدود في القذف وإن تاب، وتقبل شهادته في غير المقذوف إذا تاب.
397

وقال مالك: تقبل في القذف بالزنا وغيره إذا تاب وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعي والقاسم بن محمد وسالم والزهري، وقال: لا تقبل شهادة محدود في الإسلام يعني مطلقا، وتوبته بماذا تقبل بإكذاب نفسه في القذف وهو قول الشافعي وكذا فعل عمر بنافع وشبل أكذبا أنفسهما فقبل شهادتهما، وأصر أبو بكرة فلم تقبل شهادته حتى مات.
* (وأولئك هم الفاسقون) * الظاهر أنه كلام مستأنف غير داخل في حيز الذين يرمون، كأنه إخبار بحال الرامين بعد انقضاء الموصول المتضمن معنى الشرط وما ترتب في خبره من الجلد وعدم قبول الشهادة أبدا.
* (إلا الذين تابوا) * هذا الاستثناء يعقب جملا ثلاثة، جملة الأمر بالجلد وهو لو تاب وأكذب نفسه لم يسقط عنه حد القذف، وجملة النهي عن قبول شهادتهم أبدا وقد وقع الخلاف في قبول شهادتهم إذا تابوا بناء على أن هذا الاستثناء راجع إلى جملة النهي، وجملة الحكم بالفسق أو هو راجع إلى الجملة الأخيرة وهي الثالثة وهي الحكم بفسقهم والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصا في الجملة الأخيرة، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها خلاف وتفصيل، ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة وهو الذي نختاره، وقد استدللنا على صحة ذلك في كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل. وقال الزمخشري: وجعل يعني الشافعي الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية وحق المستثنى عنده أن يكون مجرور بدلا من * (هم) * في * (لهم) * وحقه عند أبي حنيفة النصب لأنه عن موجب، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث مجموعهن جزاء الشرط يعني الموصول المضمن معنى الشرط كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسقوه أي اجمعوا له الحد والرد والفسق.
* (إلا الذين تابوا) * عن القذف * (وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) * فينقلبون غير محدودين ولا مردودين ولا مفسقين انتهى. وليس يقتضي ظاهر الآية عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلا عند الحاجة.
ولما ذكر تعالى قذف المحصنات وكان الظاهر أنه يتناول الأزواج وغيرهن ولذلك قال سعد بن عبادة: يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء والله لأضربنه بالسيف غير مصفح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) عزم على حد هلال بن أمية حين رمى زوجته بشريك بن سحماء فنزلت * (والذين يرمون أزواجهم) * واتضح أن المراد بقوله * (والذين يرمون المحصنات) * غير الزوجات، والمشهور أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر. وقيل: نازلة عويمر قبل، والمعنى بالزنا ولم يكن لهم شهداء ولم يقيد بعدد اكتفاء بالتقييد في قذف غير الزوجات، والمعنى * (شهداء) * على صدق قولهم. وقرئ ولم تكن بالتاء. وقرأ الجمهور بالياء وهو الفصيح لأنه إذا كان العامل مفرغا لما بعد إلا وهو مؤنث فالفصيح أن يقول ما قام إلا هند، وأماما قامت إلا هند فأكثر أصحابنا يخصه بالضرورة، وبعض النحويين يجيزه في الكلام على قلة.
و * (أزواجهم) * يعم سائر الأزواج من المؤمنات والكافرات والإماء، فكلهن يلاعن الزوج للانتفاء من العمل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: بأحد معنيين أحدهما: أن تكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد وإن كان أجنبيا، نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية وقد وطئت وطأ حر إما في غير ملك. والثاني: أن يكون أحدهما ليس من أهل الشهادة بأن يكون محدودا في قذف أو كافرا أو عبدا، فأما إذا كان أعمى أو فاسقا فله أن يلاعن. وقال الثوري والحسن بن صالح: لا لعان إذا كان أحد الزوجين مملوكا أو كافرا، ويلاعن المحدود في القذف. وقال الأوزاعي: لالعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته. وقال الليث: يلاعن العبد امرأته الحرة والمحدود في القذف. وعن مالك: الأمة المسلمة والحرة الكتابية يلاعن الحر المسلم والعبد يلاعن زوجته الكتابية، وعنه: ليس بين المسلم والكافرة لعان إلا لمن يقول رأيتها تزني فيلاعن ظهر الحمل أو لم يظهر، ولا يلاعن المسلم الكافرة ولا زوجته الأمة إلا في نفي الحمل ويتلاعن عن المملوكان المسلمان لا الكافران. وقال الشافعي كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن، والظاهر العموم في الرامين وزوجاتهم المرميات بالزنا، والظاهر إطلاق الرمي بالزنا سواء قال: عاينتها تزني أم قال زنيت وهو قول أبي حنيفة
398

وأصحابه، وكان مالك لا يلاعن عن إلا أن يقول: رأيتك تزنين أو ينفي حملا بها أو ولد منها والأعمى يلاعن. وقال الليث: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيت عليها رجلا أو يكون استبرأها، فيقول: ليس هذا الحمل مني ولم تتعرض الآية في اللعان إلا لكيفيته من الزوجين. وقد أطال المفسرون الزمخشري وابن عطية وغيرهما في ذكر كثير من أحكام اللعان مما لم تتعرض له الآية وينظر ذلك في كتب الفقه.
وقرأ الجمهور * (أربع شهادات) * بالنصب على المصدر. وارتفع * (فشهادة) * خبرا على إضمار مبتدأ، أي فالحكم أو الواجب أو مبتدأ على إضمار الخبر متقدما أي فعليه أن يشهد أو مؤخرا أي كافيه أو واجبه. و * (بالله) * من صلة * (شهادات) * ويجوز أن يكون من صلة * (فشهادة) * قاله ابن عطية، وفرغ الحوفي ذلك على الأعمال، فعلى رأي البصريين واختيارهم يتعلق بشهادات، وعلى اختيار الكوفيين يتعلق بقوله * (فشهادة) *. وقرأ الأخوان وحفص والحسن وقتادة والزعفراني وابن مقسم وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وأبان وابن سعدان * (أربع) * بالرفع خبر للمبتدأ، وهو * (فشهادة) * و * (بالله) * من صلة * (
شهادات) * على هذه القراءة، ولا يجوز أن يتعلق بفشهادة للفصل بين المصدر ومعموله بالجر ولا يجوز ذلك.
وقرأ الجمهور * (والخامسة) * بالرفع فيهما. وقرأ طلحة والسلمي والحسن والأعمش وخالد بن أياس ويقال ابن إلياس بالنصب فيهما. وقرأ حفص والزعفراني بنصب الثانية دون الأولى، فالرفع على الابتداء وما بعده الخبر، ومن نصب الأولى فعطف على * (أربع) * في قراءة من نصب * (أربع) *، وعلى إضمار فعل يدل عليه المعنى في قراءة من رفع * (أربع) * أي وتشهد * (* الخامسة) * ومن نصب الثانية فعطف على * (أحدهم أربع) * وعلى قراءة النصب في * (* الخامسة) * يكون * (حميم ءان) * بعده على إسقاط حرف الجر، أي بأن، وجوز أن يكون * (ءان) * وما بعده بدلا من * (* الخامسة) *. وقرأ نافع * (بينهم أن لعنة) * بتخفيف * (ءان) * ورفع * (لعنة) * و * (أن غضب) * بتخفيف * (ءان) * و * (غضب) * فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة، وهي ان المخففة من الثقيلة لما خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن. وقرأ أبو رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما، والحسن * (أن لعنة) * كقراءة نافع، و * (أن غضب) * بتخفيف * (ءان) * و * (غضب) * مصدر مرفوع وخبر ما وبعده وهي أن المخففة من الثقيلة. وقرأ باقي السبعة * (أن لعنة الله) * و * (أن غضب الله) * بتشديد * (ءان) * ونصب ما بعدهما اسما لها وخبر ما بعد. قال ابن عطية: و * (ءان) * الخفيفة على قراءة نافع في قوله * (أن غضب) * قد وليها الفعل.
قال أبو علي: وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلا أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله * (علم أن سيكون) * وقوله * (أفلا يرون أنا * لا يرجعون) * وأما قوله تعالى * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * فذلك لعلة تمكن ليس في الأفعال. وأما قوله * (أن بورك من فى النار) * فبورك على معنى الدعاء فلم يجر دخول الفواصل لئلا يفسد المعنى انتهى. ولا فرق بين * (أن غضب الله) * و * (أن بورك) * في كون الفعل بعد أن دعاء، ولم يبين ذلك ابن عطية ولا الفارسي، ويكون غضب دعاء مثل النحاة أنه إذا كان الفعل دعاء لا يفصل بينه وبين أن بشيء، وأورد ابن عطية * (أن غضب) * في قراءة نافع مورد المستغرب.
* (ويدرؤا عنها العذاب) * أي يدفع و * (العذاب) * قال الجمهور الحد. وقال أصحاب الرأي لا حد عليها إن لم يلاعن ولا يوجبه عليها قول الزوج. وحكى الطبري عن آخرين أن * (العذاب) * هو الحبس، والظاهر الاكتفاء في اللعان بهذه الكيفية المذكورة في الآية وبه قال الليث، ومكان ضمير الغائب ضمير المتكلم في شهادته مطلقا وفي شهادتها في قوله عليها تقول علي. فقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف: يقول بعد * (من الصادقين) * فيما رماها به من الزنا وكذا بعد من الكاذبين، وكذا هي بعد من الكاذبين و * (من الصادقين) * فإن كان هناك ولد ينفيه زاد بعد قوله فيما رماها به من الزنا في نفي الولد. وقال مالك: يقول أشهد بالله أني رأيتها تزني وهي أشهد بالله ما رآني أزني، والخامسة تقول ذلك أربعا و * (* الخامسة) * لفظ الآية.
وقال الشافعي: يقول أشهد بالله أني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان، ويشير إليها إن كان حاضرة أربع مرات، ثم يقعد الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه ويقول: إن قولك وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنا، فإن قذفها بأحد يسميه بعينه واحد أو اثنين في كل شهادة، وإن نفي ولدها زاد وأن
399

هذا الولد ما هو مني، والظاهر أنه إذا طلقها بائنا فقذفها وولدت قبل انقضاء العدة فنفي الولد أنه يحد ويلحقه الولد لأنه لا ينطلق عليها زوجة إلا مجازا. وعن ابن عباس: إذا طلقها تطليقة أو تطليقتين ثم قذفها حد. وعن ابن عمر: يلاعن. وعن الليث والشافعي: إذا أنكر حملها بعد البينونة لاعن. وعن مالك: إن أنكره بعد الثلاث لاعنها. ولو قذفها ثم بانت منه بطلاق أو غيره فقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا حد ولا لعان. وقال الأوزاعي والليث والشافعي: يلاعن وهذا هو الظاهر لأنها كانت زوجته حالة القذف، والظاهر من قوله * (أنفسهم فشهادة أحدهم) * أنه يلزم ذلك فإن نكل حبس حتى يلاعن وكذلك هي، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
وقال مالك والحسن بن صالح والليث والشافعي: أيهما نكل حد هو للقذف وهي للزنا. وعن الحسن: إذا لاعن وأبت حبست. وعن مكحول والضحاك والشعبي: ترجم ومشروعية اللعان دليل على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما خلافا للخوارج في قولهم: إن ذلك كفر من الكاذب منهما لاستحقاق اللعن من الله والغضب. قال الزمخشري: فإن قلت: لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله؟ قلت: تغليظا عليها لأنها هي أصل الفجور ومتبعة بإطماعها، ولذلك كانت مقدمة في آية الجلد ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم) الخويلة: (والرجم أهون عليك من غضب الله).
* (ولو * لا * فضل الله) * إلى آخره. قال السدي فضله منته ورحمته نعمته. وقال ابن سلام: فضله الإسلام ورحمته الكتمان. ولما بين تعالى حكم الرامي الحصنات والأزواج كان في فضله ورحمته أن جعل اللعان سبيلا إلى الستر وإلى درء الحد وجواب * (لو * لا) * محذوف. قال التبريزي: تقديره لهلكتم أو لفضحكم أولعاجلكم بالعقوبة أو لتبين الكاذب. وقال ابن عطية: لكشف الزناة بأيسر من هذا أو لأخذهم بعقاب من عنده، ونحو هذا من المعاني التي يوجب تقديرها إبهام الجواب.
(* (إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذى تولى كبره منهم له عذاب عظيم * لولاإذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هاذآ إفك مبين * لولا جآءو عليه بأربعة شهدآء فإذ لم يأتوا بالشهدآء فأولائك عند الله هم الكاذبون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته فى الدنيا والا خرة لمسكم فى مآ أفضتم فيه عذاب عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم * ولولاإذ سمعتموه قلتم ما يكون لنآ أن نتكلم بهاذا سبحانك هاذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين * ويبين الله لكم الا يات والله عليم حكيم * إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين ءامنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والا خرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم) *))
) *
سبب نزول هذه الآيات مشهور مذكور في الصحيح، والإفك: الكذب والأفتراء. وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك. والعصبة: الجماعة وقد تقدم الكلام عليها في سورة يوسف عليه السلام. * (منكم) * أي من أهل ملتكم
400

وممن ينتمي إلى الإسلام، ومنهم منافق ومنهم مسلم، والظاهر أن خبر * (ءان) * هو * (عصبة منكم) * و * (منكم) * في موضع الصفة وقاله. الحوفي وأبو البقاء. و * (لا تحسبوه) *: مستأنف. وقال ابن عطية * (عصبة) * رفع على البدل من الضمى ر في * (* جاؤوا) * وخبر * (حميم ءان) * في قوله و * (لا تحسبوه) * التقدير أن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون * (عصبة) * خبر * (ءان) * انتهى. والعصبة: عبد الله بن أبي رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحنة بنت جحش ومن ساعدهم ممن لم يرد ذكر اسمه، و * (تحسبوه) * الظاهر أنه عائد على الإفك وعلى اعراب ابن عطية * (لا تحسبوه) * الظاهر أنه عائد على الإفك، وعلى إعراب ابن عطية. يعول على ذلك المحذوف الذي قدره اسم * (ءان) *. قيل: ويجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من * (* جاؤوا) * وعلى ما نال المسلمين من الغم، والمعنى * (منكم لا تحسبوه) * ينزل بكم منه عار * (بل هو خير لكم) * لبراءة الساحة وثواب الصبر على ذلك الأذى وانكشاف كذب القاذفين.
وقيل: الخطاب ب تحسبوه للقاذفين وكينونة ذلك خيرا لهم حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة، وحيث ناب بعضهم. وهذا القول ضعيف لقوله بعد: * (لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم) * أي جزاء ما اكتسب، وذلك بقدر ما خاض فيه لأن بعضهم ضحك وبعضهم سكت وبعضهم تكلم، و * (اكتسب) * مستعمل في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في الترتيب وكسب مستعمل في الخير لأن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه، وقد يستعمل كسب في الوجهين.
* (والذين * تولى) * كبره المشهور أنه عبد الله بن أبي، والعذاب العظيم عذاب يوم القيامة. وقيل: هو ما أصاب حسان من ذهاب بصره وشل يده، وكان ذلك من عبد الله بن أبي لإمعانه في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم) وانتهازه الفرص، وروي عنه كلام قبيح في ذلك نزهت كتابي عن ذكره وقلمي عن كتابته قبحه الله. وقيل: * (الذى تولى * كبره) * جسان، والعذاب الأليم عماه وحده وضرب صفوان له بالسيف على رأسه وقال له:
* توق ذباب السيف عني فإنني
*
غلام إذا هوجيت لست بشاعر
*
* ولكنني أحمي حماي وأتقي
*
من الباهت الرامي البريء الظواهر
*
وأنشد حسان أبياتا يثني فيها على أم المؤمنين ويظهر براءته مما نسب إليه وهي:
* حصان رزان ما تزن بريبة
*
وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
*
* حليلة خير الناس دينا ومنصبا
*
نبي الهدى والمكرمات الفواضل
*
* عقيلة حي من لؤي بن غالب
*
كرام المساعي مجدها غير زائل
*
مهذبة قد طيب الله خيمها
وطهرها من كل شين وباطل
*
* فإن كان ما بلغت عني قلته
*
فلا رفعت سوطي إلي أناملي
*
وكيف وودي ما حييت ونصرتي
بآل رسول الله زين المحافل
*
* له رتب عال على الناس فضلها
*
تقاصر عنها سورة المتطاول والمشهور أنه حد حسان ومسطح وحنة. قيل: وعبد الله بن أبي وقد ذكره بعض شعراء ذلك العصر في شعر. وقيل: لم يحد مسطح. وقيل: لم يحد عبد الله. وقيل: لم يحد أحد في هذه القصة وهذا مخالف للنص. * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) * وقابل ذلك بقول: إنما يقال الحد بإقرار أو بينة، ولم يتقيد بإقامته بالإخبار كما لم يتقيد بقتل المنافقين، وقد أخبر
401

تعالى بكفرهم.
*
وقرأ الجمهور * (كبره) * بكسر الكاف. وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو رجاء ومجاهد وأبو البرهثيم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف، والكبر والكبر مصدران لكبر الشيء عظم لكن استعمال العرب الضم ليس في السن. هذا كبر القوم أي كبيرهم سنا أو مكانة. وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة: (الكبر الكبر). وقيل * (كبره) * بالضم معظمه، وبالكسر البداءة بالإفك. وقيل: بالكسر الإثم.
* (لو * لا * إذ سمعتموه) * هذا تحريض على ظن الخير وزجر وأدب، والظاهر أن الخطاب للمؤمنين حاشا من تولى كبره. قيل: ويحتمل دخولهم في الخطاب وفيه عتاب، أي كان الإنكار واجبا عليهم، وعدل بعد الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر فلم يجيء التركيب ظننتم بأنفسكم * (خيرا) * وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا طاعن، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظن الخير، وأن يقول بناء على ظنه * (هاذا إفك مبين) * هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن ومعنى * (بأنفسهم) * أي كان يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات هذا الأمر على أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد عليهم قضوا بأنه في حق من هو خير منهم أبعد. وقيل: معنى * (بأنفسهم) * بأمهاتهم. وقيل: بإخوانهم. وقيل: بأهل دينهم، وقال * (ولا تلمزوا أنفسكم) * فسلموا على أنفسكم أي لا يلمز بعضكم بعضا، وليسلم بعضكم على بعض.
* (لو * لا * جاءو عليه بأربعة شهداء) * جعل الله فصلا بين الرمي الكاذب والرمي الصادق ثبوت أربعة شهداء وانتفاؤها. * (فإذا * لم يأتوا) * فهم في حكم الله وشريعته كاذبون، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك ولم يجدوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل.
* (ولو * لا * فضل الله) * أي في الدنيا بالنعم التي منها الإمهال للتوبة * (ورحمته) * عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة. * (لمسكم) * العذاب فيما خضتم فيه من حديث الإفك يقال: أفاض في الحديث واندفع وهضب وخاض. * (إذ تلقونه) * لعامل في * (إذا) * * (لمسكم) * وقرأ الجمهور * (تلقونه) * بفتح الثلاث وشد القاف وشد التاء البزي وأدغم ذال * (إذ) * في التاء النحوين وحمزة أي يأخذه بعضكم من بعض، يقال: تلقى القول وتلقنه وتلقفه والأصل تتلقونه وهي قراءة أبي. وقرأ ابن السميفع * (تلقونه) * بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى وعنه * (تلقونه) * بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي. وقرأت عائشة وابن عباس وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من قول العرب: ولق الرجل كذب، حكاه أهل اللغة. وقال ابن سيده، جاؤوا بالمتعدي شاهد على غير المتعدي، وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف الحرف ووصل الفعل للضمير. وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد، وكلام في أثر كلام، يقال: ولق في سيره إذا أسرع قال:
جاءت به عيسى من الشام يلق
وقرأ ابن أسلم وأبو جعفر تألقونه بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق وهو الكذب. وقرأ يعقوب في رواية المازني تيلقونه بتاء مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا: تيجل مضارع وجلت. وقال سفيان: سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه يعني مضارع ثقف قال: وكان أبوها يقرأ بحرف ابن
مسعود. ومعنى * (بأفواهكم) * وتديرونه فيها من غير علم لأن الشيء المعلوم يكون في القلب ثم يعبر عنه اللسان، وهذا الإفك ليس محله إلا الأفواه كما قال * (يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم) *.
* (وتحسبونه هينا) * أي ذنبا
402

صغيرا * (وهو عند الله) * من الكبائر وعلق مس العذاب بثلاثة آثام تلقى الإفك والتكلم به واستصغاره ثم أخذ يوبخهم على التكلم به، وكان الواجب عليهم إذ سمعوه أن لا يفوهوا به.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز الفصل بين * (لو * لا) * و * (قلتم) *؟ قلت: للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها لوقوعها فيها، وأنها لا تنفك عنها فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها انتهى. وما ذكره من أدوات التحضى ض يوهم أن ذلك مختص بالظرف وليس كذلك، بل يجوز تقديم المفعول به على الفعل فتقول: لولا زيدا ضربت وهلا عمرا قتلت.
قال الزمخشري: فإن قلت: فأي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلا؟ قلت: الفائدة بيان أنه كان الواجب عليهم أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم.
فإن قلت: ما معنى * (يكون) * والكلام بدونه متلئب لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا قلت: معناه ما ينبغي ويصح أي ما ينبغي * (لنا أن نتكلم بهاذا) * ولا يصح لنا ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق * (* وسبحانك) * تعجب من عظم الأمر.
فإن قلت: ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت: الأصل في ذلك أن تسبيح الله عند رؤية المتعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، أو لتنزيه الله عن أن تكون حرمة نبيه صلى الله عليه وسلم) كما قيل فيها انتهى.
* (عظيم يعظكم الله أن تعودوا) * أي في أن تعودوا، تقول: وعظت فلانا في كذا فتركه. * (إن كنتم مؤمنين) * حث لهم على الاتعاظ وتهييج لأن من شأن المؤمن الاحتزاز مما يشينه من القبائح. وقيل: * (أن تعودوا) * مفعول من أجله أي كراهة * (أن تعودوا) *. * (ويبين الله لكم الايات) * أي الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع ويعلمكم من الآداب، ويعظكم من المواعظ الشافية. * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) *. قال مجاهد وابن زيد الإشارة إلى عبد الله بن أبي ومن أشبهه. * (إن الذين يحبون) * لعداوتهم لهم، والعذاب الأليم في الدنيا الحد، وفي الآخرة النار. والظاهر في * (الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) * العموم في كل قاذف منافقا كان أو مؤمنا، وتعليق الوعيد على محبة الشياع دليل على أن إرادة الفسق فسق والله يعلم أي البريء من المذنب وسرائر الأمور، ووجه الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد.
وقال الحسن: عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين، وأنهم قصدوا وأحبوا إذاية الرسول صلى الله عليه وسلم) وذلك كفر وملعون فاعله. وقال أبو مسلم: هم المنافقون أوعدهم الله بالعذاب في الدنيا على يد الرسول بالمجاهدة كقوله * (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) *. وقال الكرماني: والله يعلم كذبهم * (وأنتم لا تعلمون) * لأنه غيب. وجواب * (لو * لا) * محذوف أي لعاقبكم. * (إن الله) * بالتبرئة * (لرءوف رحيم) * بقبول توبة من تاب ممن قذف. قال ابن عباس: الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والظاهر العموم.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشآء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولاكن الله يزكى من يشآء والله سميع عليم * ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم * إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا فى الدنيا والا خرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين * الخبيثات للخبيثين
403

والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولائك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم) *))
) *
تقدم الكلام على * (خطوات الشيطان) * تفسيرا وقراءة في البقرة. والضمير في * (فإنه) * عائد على * (من) * الشرطية، أي فإن متبع خطوات الشيطان * (يأمر بالفحشاء) * وهو ما أفرط قبحه * (والمنكر) * وهو ما تنكره العقول السليمة أي يصير رأسا في الضلال بحيث يكون آمرا يطيعه أصحابه.
* (ولو * لا * فضل الله عليكم ورحمته) * بالتوبة الممحصة ما طهر أحد منكم. وقرأ الجمهور * (ما زكى) * بتخفيف الكاف، وأمال حمزة والكسائي وأبو حيوة والحسن والأعمش وأبو جعفر في رواية وروح بتشديدها، وأماله الأعمش وكبت * (زكى) * المخفف بالياء وهو من ذوات الواو على سبيل الشذوذ لأنه قد يمال، أو على قراءة من شد الكاف. * (ولاكن الله يزكى من يشاء) * ممن سبقت له السعادة، وكان علمه الصالح أمارة على سبقها أو من يشاء بقبول التوبة النصوح * (والله سميع) * لأقوالهم * (عليم) * بضمائرهم.
* (ولا يأتل) * هو مضارع ائتلى افتعل من الألية وهي الحلف. وقيل: معناه يقصر من افتعل ألوت قصرت ومنه * (لا يألونكم) *. وقول الشاعر:
* وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
*
بمدرك أطراف الخطوب ولا آل وهذا قول أبي عبيدة، واختاره أبو مسلم. وسبب نزولها المشهور أنه حلف أبي بكر على مسطح أن لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة. وقال ابن عياش والضحاك: قطع جماعة من المؤمنين منافعهم عمن قال في الإفك، وقالوا: لا نصل من تكلم فيه فنزلت في جميعهم. والآية تتناول من هو بهذا الوصف. وقرأ الجمهور * (يأتل) *. وقرأ عبد الله بن عياش بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم والحسن يتأل مضارع تألى بمعنى حلف. قال الشاعر:
*
تألى ابن أوس حلفة ليردني
إلى نسوة كأنهن معائد
*
والفضل والسعة يعني المال، وكان مسطح ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان من المهاجرين وممن شهد بدرا، وكان ما نسب إليه داعيا أبا بكر أن لا يحسن إليه، فأمر هو ومن جرى مجراه بالعفو والصفح، وحين سمع أبو بكر * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) *؟ قال: بلى، أحب أن يغفر الله لي ورد إلى مسطح نفقته وقال: والله لا أنزعها أبدا. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهثيم أن تؤتوا بالتاء على الالتفات، ويناسبه * (ألا تحبون) * و * (أن يؤتوا) * نصب الفعل المنهي فإن كان بمعنى الحلف فيكون التقدير كراهة * (أن يؤتوا) * وأن لا يؤتوا فحذف لا، وإن كان بمعنى يقصر فيكون التقدير في أن يؤتوا أو عن أن يؤتوا. وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد ولتعفوا ولتصفحوا بالتاء أمر خطاب للحاضرين.
* (إن الذين يرمون) * عام في الرامين واندرج فيه الراميان تغليبا للمذكر على المؤنث. و * (المحصنات) * ظاهره أنه عام في النساء العفائف. وقال النحاس: من أحسن ما قيل فيه أنه عام لجميع الناس من ذكر وأنثى، وأن التقدير يرمون الأنفس * (المحصنات) * فيدخل فيه المذكر والمؤنث. وقيل: هو خاص بمن تكلم فيها في حديث الإفك. وقيل: خاص بأمهات المؤمنين وكبراهن منزلة وجلالة تلك فعلى أنه خاض بها جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بتلك الصفات من الإحصان والعقل والإيمان كما قال:
قدني من نصر الخبيبن قدي
يعني عبد الله بن
404

الزبير وأشياعه. و * (الغافلات) * السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولا يفطن لما يفطن له المجريات، كما قال الشاعر:
* ولقد لهوت بطفلة ميالة
*
بلهاء تطلعني على أسرارها
*
وكذلك البله من الرجال في قوله (أكثر أهل الجنة البله). * (لعنوا فى الدنيا والاخرة) * في قذف المحصنات. قيل: هذا الاستثناء بالتوبة وفي هذه لم يجيء استثناء. وعن ابن عباس أن من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته، والصحيح أن الوعيد في هذه الآية مشروط بعدم التوبة، ولا فرق بين الكفر والفسق وأن من تاب غفر له. ويناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا: خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني، ويؤيده قوله * (يوم تشهد عليهم) * وعن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أبي كان يشك في الدين فإذا كان يوم القيامة علم حيث لا ينفعه. والناصب ليوم تشهد ما تعلق به الجار والمجرور وهو ولهم. وقال الحوفي: العامل فيه عذاب، ولا يجوز لأنه موصوف إلا على رأي الكوفيين. وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان يشهد بياء من تحت لأنه تأنيث مجازي، ووقع الفصل، وباقي السبعة بالتاء، ولما كان قلب الكافر لا يريد ما يشهد به أنطق الله الجوارح والألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا وأقدرها على ذلك، وليست الحياة شرطا لوجود الكلام. وقالت المعتزلة: يخلق في هذه الجوارح الكلام، وعندهم المتكلم فاعل الكلام فتكون تلك الشهادة من الله في الحقيقة إلا أنه تعالى أضافها إلى الجوارح توسعا. وقالوا أيضا: إنه تعالى ينشئ هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه، ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله. قال القاضي: وهذا أقرب إلى الظاهر لأن ذلك يفيد أنها بفعل الشهادة.
وانتصب * (يومئذ) * بيوفيهم، والتنوين في إذ عوض من الجملة المحذوفة، والتقدير يوم إذ تشهد. وقرأ زيد بن علي * (يوفيهم) * مخففا والدين هنا الجزاء أي جزاء أعمالهم. وقال:
* ولم يبق سوى العد
*
وإن دناهم كما دانوا
*
ومنه: كما تدين تدان. وقرأ الجمهور * (الحق) * بالنصب صفة لدينهم. وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة بالرفع صفة لله، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصول وصفته و * (يعلمون) * إلى آخره يقوي قول من قال: إن الآية في عبد الله بن أبي لأن كل مؤمن يعلم * (أن الله هو الحق المبين) *.
قال الزمخشري: ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وما أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعذاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما نزل فيه على طرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة وأن * (ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم) * تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا به، وأنه * (يوفيهم) * جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا عند الله * (أن الله هو الحق المبين) * فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة انتهى. وهو كلام حسن. ثم قال بعد كلام فإن قلت: ما معنى قوله * (هو الحق المبين) *؟ قلت: معناه ذو الحق المبين العادل الذي لا ظلم في حكمه، والمحق الذي لا يوصف بباطل، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه انتهى. وفي قوله لم تسقط عنده إساءة مسيء دسيسة الاعتزال.
والظاهر أن * (الخبيثات) * وصف للنساء، وكذلك * (الطيبات) * أي النساء الخبيثات للرجال * (* الخبيثين) * ويرجحه مقابلته بالذكور فالمعنى أن * (المبين الخبيثات) * من النساء ينزعن للخباث من الرجال، فيكون قريبا من قوله * (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة) *
405

وكذلك * (الطيبات) * من النساء * (للطيبين) * من الرجال ويدل على هذا التأويل قول عائشة حين ذكرت التسع التي ما أعطيتهن امرأة غيرها. وفي آخرها: ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما. وهذا التأويل نحا إليه ابن زيد فهو تفريق بين عبد الله وأشباهه والرسول وأصحابه، فلم يجعل الله له إلا كل طيبة وأولئك خبيثون فهم أهل النساء الخبائث. وقال ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة: هي الأقوال والأفعال، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: الكلمات والفعلات الخبيثة لا يقولها ولا يرضاها إلا الخبيثون من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه. وقال بعضهم الكلمات: والفعلات لا تليق وتلصق عند رمي الرامي وقذف القاذف إلا بالخبيثين من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه.
* (أولائك) * إشارة للطيبين أو إشارة لهم وللطيبات إذا عنى بهن النساء. * (مبرءون مما يقولون) * أي يقول الخبيثون من خبيثات الكلم أو القاذفون الرامون المحصنات ووعد الطيبين المغفرة عند الحساب والرزق الكريم في الجنة. (سقط: يا أيها الذين ءآمنوا لا تدخلوا إلى آخر الصفحة)
406

(سقط: الصفحة كاملة)
407

(سقط: الصفحة كاملة)
غض البصر: أطبق الجفن على الجفن بحيث تمتنع الرؤية. قال الشاعر:
* فغض الطرف إنك من نمير
*
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
*
408

الخمر: جمع خمار وهو المقنعة التي تلقي المرأة على رأسها، وهو جمع كثرة مقيس فيه، ويجمع في القلة على أخمرة وهو مقيس فيها أيضا. قال الشاعر:
* وترى الشجراء في ريقه
*
كرؤوس قطعت فيها الخمر
*
الجيب: فتح يكون في طريق القميص يبدو منه بعض الجسد. والعورة: ما احترز من الاطلاع عليه ويغلب في سوأة الرجل. والمرأة الأيم: قال النضر بن شميل: كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها ووزنه فعيل كلين ويقال: آمت تئيم. وقال الشاعر:
* كل امرئ ستئيم من
*
ه العرس أو منها يئم
*
أي: سينفرد فيصير أيما، وقياس جمعه أيائم كسيائد في جمع سيد وجمعه على فعالى محفوظ لا مقيس. البغاء: الزنا، يقال: بغت المرأة تبغي بغاء فهي بغي وهو مختص بزنا النساء. المشكاة: الكوة غير النافذة. قال الكلبي حبشي معرب. الزجاجة: جوهر مصنوع معروف، وضم الزاي لغة الحجاز، وكسرها وفتحها لغة قيس. الزيت: الدهن المعتصر من حب شجرة الزيتون. قال الكرماني: السراب بخار يرتفع من قعور القيعان فيكيف فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه الماء من بعيد، فإذا
دنا منه الإنسان لم يره كما كان يراه بعيدا. وقال الفراء: السراب: ما لصق بالأرض. وقيل: هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر، يخيل للناظر أنه الماء السارب أي الجاري. وقال الشاعر:
* فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
*
كلمع سراب في الفلا متألق
*
وقال:
أمر الطول لماع السراب
وقيل: السراب ما يرقون من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة. اللجي: الكثير الماء، ولجة البحر معظمة، وكان لجيا مسنوب إلى اللجة. الودق: المطر شديده وضعيفه. قال الشاعر:
* فلا مزنة ودقت ودقها
*
ولا أرض أبقل إبقالها
*
وقال أبو الأشهب العقيلي: هو البرق. ومنه قول الشاعر:
* أثرن عجاجة وخرجن منها
*
خروج الودق من خلل السحاب
*
والودق: مصدر ودق السحاب يدق ودقا، ومنه استودقت الفرس. البرد: معروف وهو قطع متجمدة يذوب منه ماء بالحرارة. السنا: مقصور من ذوات الواو وهو الضوء. قال الشاعر:
409

يضيء سناه أو مصابيح راهب
يقال: سنا يسنو سنا، والسنا أيضا نبت يتداوي به، والسناء بالمد الرفعة والعلو قال:
وسن كسنق سناء وسنما
أذعن للشيء: انقاد له. وقال الزجاج: الإذعان: الإسراع مع الطاعة. الحيف: الميل في الحكم، يقال: حاف في قضيته أي جار. اللواذ: الروغان من شيء إلى شيء في خفية.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذالكم خير لكم لعلكم تذكرون * فإن لم تجدوا فيهآ أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم * ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون * قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذالك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابآئهن أو ءابآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسآئهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون) *)) 2
جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل علي رجل من أهلي فنزلت * (رقيبا يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا) * الآية. فقال أبو بكر بعد نزولها: يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل * (ليس عليكم جناح) * الآية. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة، فصارت كأنها طريق للتهمة، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به. والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله * (غير بيوتكم) * ويروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم): أأستأذن على أمي؟ قال: (نعم) قال: ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: (أتحب أن تراها عريانة) قال الرجل: لا، قال: وغيا النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت، والظاهر أن الاستئناس هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش من جفاء الحال إذا أذن له استأنس
، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله: * (لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم) * وهذا من باب الكنايات والإرداف، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال * (تستأنسوا) * معناه تستأذنوا، ومن روى عن ابن عباس أن قوله * (تستأنسوا) * خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ حتى تستأذنوا فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين، وابن عباس بريء من هذا القول. و * (تستأنسوا) * متمكنة في المعنى بنية الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم): أستأنس يا رسول الله وعمر وأقف على باب الغرفة الحديث المشهور. وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم). وقيل: هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف، استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، ومنه استأنس هل ترى أحدا واستأنست فلم أر أحدا، أي تعرفت واستعلمت ومنه بيت النابعة:
* كان رحلي وقد زال النهار بنا
*
يوم الجليل على مستأنس وحد
410

ويجوز أن يكون من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان. وعن أبي أيوب قال: قلنا: يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: (يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة يتنحنح يؤذن أهل البيت والتسليم أن يقول السلام عليكم). وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته: حييتم صباحا وحييتم مساء ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. واحد فصد الله عن ذلك وعلم الأحسن الأكمل. وذهب الطبري في * (تستأنسوا) * إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم. قال ابن عطية: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس انتهى. وقال عطاء: الاستئذان واجب على كل محتلم، والظاهر مطلق الاستئذان فيكفي فيه المرة الواحدة. وفي الحديث: (الاستئذان ثلاث) يعني كماله. (فإن أذن له وإلا فليرجع ولا يزيد على ثلاث إلا أن يحقق أن من في البيت لم يسمع). والظاهر تقديم الاستئذان على السلام. وفي حديث أبي داود: قل السلام عليكم أأدخل؟ والواو في * (وتسلموا) * لا تقتضي ترتيبا فشرع النداء بالسلام على الإذن لما في السلام من التفاؤل بالسلامة.
*
* (ذالكم) * إشارة إلى المصدر المفهوم من * (تستأنسوا) * و * (* تسلموا) * أي * (الاخر ذالكم) * الاستئناس والتسليم * (خير لكم) * من تحية الجاهلية. * (لعلكم تذكرون) * أي شرعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم الاطلاع على ما تكرهون الاطلاع عليه * (لعلكم تذكرون) * اعتناء بمصالحكم.
* (فإن لم تجدوا فيها أحدا) * أي يأذن لكم فلا تقدموا على الدخول في ملك غيركم * (حتى يؤذن لكم) * إذ قد يكون لرب البيت فيه ما لا يحب أن يطلع عليه. * (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا) * وهذا عائد إلى من استأذن في دخول بيت غيره فلم يؤذن له سواء كان فيه من يأذن أم لم يكن، أي لا تلحوا في طلب الإذن ولا في الوقوف على الباب منتظرين. * (هو أزكى) * أي الرجوع أطهر لكم وأنمى خيرا لما فيه من سلامة الصدر والبعد عن الريبة. ثم أخبر أنه تعالى * (بما تعملون عليم) * أي بما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه، وفي ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غيره والنظر لما لا يحل.
* (ليس عليكم جناح) * قال الزمخشري: استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين، والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع انتهى. وما ذكره الزمخشري من أنه استثناء من البيوت كما ذكر هو مروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن، ولا يظهر أنه استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والمملوكة، ولذلك قال * (بيوتا غير بيوتكم) * وهذا الآية الثانية هي في البيوت المباحة، وقد مثل العلماء لهذه البيوت أمثلة. فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد: هي في الفنادق التي في طرق المسافرين. قال مجاهد: لا يسكنها أحد بل هي موقوفة يأوي إليها كل ابن سبيل. و * (فيها متاع) * لهم أي استمتاع بمنفعتها، ومثل عطاء بالخرب التي تدخل للتبرز. وقال ابن زيد والشعبي: هي حوانيت القيسارية والسوق. قال ابن الحنيفة أيضا: هي دور مكة، وهذا لا يسوغ إلا على القول بأن دور مكة غير مملوكة، وأن الناس فيها شركاء وأن مكة فتحت عنوة. * (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) * وعيد للذين يدخلون البيوت غير المسكونة من أهل الريب.
و * (من) * في * (من أبصارهم) * عند الأخفش زائدة أي * (يغضوا) * * (أبصارهم) * عما يحرم، وعند غيره للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك، ويؤيده قوله لعلي كرم الله وجهه: لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك
411

الثانية. وقال ابن عطية: يصح أن تكون * (من) * لبيان الجنس، ويصح أن تكون لابتداء الغاية انتهى. ولم يتقدم مبهم فتكون * (من) * لبيان الجنس على أن الصحيح أن من ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس. * (ويحفظوا فروجهم) * أي من الزنا ومن التكشف. ودخلت * (من) * في قوله * (من أبصارهم) * دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدور والعضد والساق والقدم، وكذلك الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها وأما أمر الفرج فمضيق. وعن أبي العالية وابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذا فهو من الاستتار، ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين. * (ذالك) * أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم * (إن الله خبير بما يصنعون) * من إحالة النظر وانكشاف العورات، فيجازي على ذلك. وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا يكاد يقدر على الاختزاز منه، وهو
الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته. وقال بعض الأدباء:
* وما الحب إلا نظرة إثر نظرة
*
تزيد نموا إن تزده لجاجا
*
ثم ذكر تعالى حكم المؤمنات في تساويهن مع الرجال في الغض من الأبصار وفي الحفظ للفروج. ثم قال * (ولا يبدين زينتهن) * واستثنى ما ظهر من الزينة، والزينة ما تتزين به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثنى. وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في الأمر بالتصون والتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الحسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان، فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر لا يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل النظر إليها غير ملابسة لها، وسومح في الزينة الظاهرة لأن سترها فيه حرج فإن المرأة لا تجديدا من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها خاصة الفقيرات منهن وهذا معنى قوله * (إلا ما ظهر منها) * يعني إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره، والأصل فيه الظهور وسومح في الزينة الخفيفة. أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفر عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. وقال ابن مسعود * (ما ظهر منها) * هو الثياب، ونص على ذلك أحمد قال: الزينة الظاهرة الثياب، وقال تعالى * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * وفسرت الزينة بالثياب. وقال ابن عباس: الكحل والخاتم. وقال الحسن في جماعة: الوجه والكفان. وقال ابن جريج: الوجه والكحل والخاتم والخضاب والسوار. وقال الحسن أيضا: الخاتم والسور. وقال ابن عباس: الكحل والخاتم فقط. وقال المسور بن مخرمة: هما والسوار. وقال الحسن أيضا: الخاتم والسوار. وقال ابن بحر: الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله وعلى ما يتزين به من فضل لباس، فنها هن الله عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن اخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف على غير التلذذ. وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة والأقرب دخوله في الزينة وأي زينة أحسن من خلق العضو في غاية الاعتدال والحسن.
وفي قوله * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) * دليل على أن الزينة ما يعم الخلقة وغيرها، منعهن من إظهار محاسن خلقهن فأوجب سترها بالخمار. وقد يقال لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورها عادة وعبادة في الصلاة والحج حسن أن يكون الاستثناء راجعا إليهما، وفي السنن لأبي داود أنه عليه السلام قال: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا: وأشار إلى وجهه وكفيه. وقال ابن خويز منداد: إذا كانت جميلة وخيف من وجهها
412

وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وكان النساء يغطين رؤوسهن بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهن وضمن * (وليضربن) * معنى وليلقين وليضعن، فلذلك عداه بعلى كما تقول ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه. وقرأ عياش عن أبي عمرو * (وليضربن) * بكسر اللام وطلحة * (بخمرهن) * بسكون الميم وأبو عمرو ونافع وعاصم وهشام * (جيوبهن) * بضم الجيم وباقي السبعة بكسر الجيم.
وبدأ تعالى بالأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من الزينة، ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر، فالأب والأخ ليس كابن الزوج فقد يبدي للأب ما لا يبدي لابن الزوج. ولم يذكر تعالى هنا العم ولا الخال. وقال الحسن: هما كسائر المحارم في جواز النظر قال: لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب، وقال في سورة الأحزاب * (لا جناح عليهن فىءابائهن) * ولم يذكر فيها البعولة وذكرهم هنا، والإضافة في * (نسائهن) * إلى المؤمنات تقتضي تعميم ما أضيف إليهن من النساء من مسلمة وكافرة كتابية ومشركة من اللواتي يكن في صحبة المؤمنات وخذمتهن، وأكثر السلف على أن قوله * (أو نسائهن) * مخصوص بمن كان على دينهن.
قال ابن عباس: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لقوله * (أو ما ملكت أيمانهن) * وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن امنع نساء أهل الذمة من دخول الحمام مع المؤمنات. والظاهر العموم في قوله * (أو ما ملكت أيمانهن) * فيشمل الذكور والإناث، فيجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون وهو مذهب عائشة وأم سلمة. وعن مجاهد: كان أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم، وروي أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها. وعن سعيد بن المسيب مثله ثم رجع عنه. وقال ابن مسعود والحسن وابن المسيب وابن سيرين: لا ينظر العبد إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة. وفي الحديث: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم) والعبد ليس بذي محرم. وقال سعيد بن المسيب: لا يغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء. قال الزمخشري: وهذا هو الصحيح لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصيا كان أو فحلا. وعن ميسون بنت بحدل الكلابية: إن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه، فقال: هو خصي فقالت: يا معاوية أترى المثلة تحلل ما حرم الله. وعند أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم انتهى. والإربة الحاجة إلى الوطء لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمر النساء، ويتبعون لأنهم يصيبون من فضل الطعام. قال ابن عطية: ويدخل في هذه الصفة المجنون والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمن الموقوذ بزمانته.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر بالنصب على الحال أو الاستثناء وباقي السبعة بالجر على النعت وعطف * (أو الطفل) * على * (من الرجال) * قسم التابعين غير أولي
الحاجة للوطء إلى قسمين رجال وأطفال، والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم، ولذلك وصف بالجمع في قوله * (الذين لم يظهروا) * ومن ذلك قول العرب: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض يريد الدنانير والدراهم فكأنه قال: أو الأطفال. و * (الطفل) * ما لم يبلغ الحلم وفي مصحف حفصة أو الأطفال جمعا. وقال الزمخشري: وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونحوه * (يخرجكم طفلا) * انتهى. ووضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وإنما قوله * (الطفل) * من باب المفرد المعرف بلام الجنس فيعم كقوله * (إن الإنسان * لفى * خسر) * ولذلك صح الاستثناء منه والتلاوة ثم يخرجكم بثم لا بالواو. وقوله ونحوه ليس نحوه لأن هذا معرف بلام الجنس وطفلا نكره، ولا يتعين حمل طفلا هنا على الجمع الذي لا يقيسه سيبويه لأنه يجوز أن يكون المعنى ثم يخرج كل واحد منكم كما قيل في قوله تعالى * (وأعتدت لهن) * أي لكل واحدة منهن. وكما تقول: بنو فلان يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد منهم رغيف. وقوله * (الذين
413

لم يظهروا) * إما من قولهم ظهر على الشيء إذا اطلع عليه أي لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها، وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرن أخذه. ومنه * (فأصبحوا ظاهرين) * أي غالبين قادرين عليه، فالمعنى لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء.
وقرأ الجمهور * (عورات) * بسكون الواو وهي لغة أكثر العرب لا يحركون الواو والياء في نحو هذا الجمع. وروي عن ابن عباس تحريك واو * (عورات) * بالفتح. والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في مثل هذا الجمع هو لغة هذيل بن مدركة. ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ * (عورات) * بالفتح. قال: وسمعنا ابن مجاهد يقول: هو لحن وإنما جعله لحنا وخطأ من قبل الرواية وإلا فله مذهب في العربية بنو تميم يقولون: روضات وجورات وعورات، وسائر العرب بالإسكان. وقال الفراء: العرب على تخفيف ذلك إلا هذيلا فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو. وأنشدني بعضهم:
* أبو بيضات رائح متأوب
*
رفيق بمسح المنكبين سبوح
*
* (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) * كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقال ابن عباس: هو قرع الخلخال بالإجراء وتحريك الخلاخل عند الرجال. وزعم حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالا من فضة واتخذت جزعا فجعلته في ساقها، فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية. وقال الزجاج: وسماع صوت ذي الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها انتهى. وقال أبو محمد بن حزم ما معناه أنه تعالى نهاهن عن ذلك لأن المرأة إذا مرت على الرجال قد لا يلتفت إليها ولا يشعر بها: وهي تكره أن لا ينظر إليها، فإذا فعلن ذلك نبهن على أنفسهن وذلك بحبهن في تعلق الرجال بهن، وهذا من خفايا الإعلام بحالهن. وقال مكي: ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه، جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.
وقال الزمخشري: وإنما نهى عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهى عن إظهار الحلي علم بذلك أن النهي عن إظهار مواقع الحلي أبلغ.
* (وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون) * لما سبقت أوامر منه تعالى ومناه، وكان الإنسان لا يكاد يقدر على مراعاتها دائما وإن ضبط نفسه واجتهد فلا بد من تقصير أمر بالتوبة وبترجي الفلاح إذا تابوا. وعن ابن عباس * (توبوا) * مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. وقرأ ابن عامر * (ءاية * المؤمنون) * ويا أية الساحر يا أيه الثقلان بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف بالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها وضمها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق ابن سلمة، ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها ووقف بعضهم بالألف.
2 (* (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم * وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وءاتوهم من مال الله الذىءاتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحيواة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم * ولقد أنزلنآ إليكم ءايات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين) *)) 2
لما تقدمت أوامر ونواة في غض البصر وحفظ الفرج وإخفاء الزينة وغير ذلك وكان الموجب للطموح من الرجال إلى النساء ومن النساء إلى الرجال هو عدم التزوج غالبا لأن في تكاليف النكاح وما يجب لكل واحد من الزوجين ما يشغل أمر تعالى بإنكاح الأيامى، وهم الذين لا أزواج لهم من الصنفين حتى يشتغل كل منهما بما يلزمه، فلا يلتفت إلى غيره. والظاهر أن الأمر في قوله * (وأنكحوا) * للوجوب، وبه قال أهل الظاهر، وأكثر العلماء على أنه هنا للندب ولم يخل عصر من الأعصار من وجود * (الايامى) * ولم ينكر ذلك ولا أمر الأولياء بالنكاح.
وقال الزمخشري: * (الايامى) * واليتامى أصلهما أيائم ويتائم فقلبا
414

انتهى. وفي التحرير قال أبو عمر: وأيامى مقلوب أيائم، وغيره من النحويين ذكر أن أيما ويتيما جمعا على أيامي ويتامى شذوذا يحفظ ووزنه فعالى، وهو ظاهر كلام سيبويه. قال سيبويه في أواخر هذا باب تكسير ما كان من الصفات. وقالوا: وج ووجيا كما قالوا: زمن وزمنى فأجروه على المعنى كما قالوا: يتيم ويتامى وأيم وأيامى
فأجروه مجرى رجاعي انتهى. وتقدم في المفردات الأيم من لا زوج له من ذكر أو أنثى. وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف: الأيم التي لا زوج لها، وأصله في التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزء طرأ عليها فهو من البلايا، ثم قبل في البكر مجازا لأنها لا زوج لها انتهى.
* (منكم) * خطاب للمؤمنين، أمر تعالى بإنكاح من تأيم من الأحرار والحرائر ومن فيه صلاح من العبيد والإماء، واندرج المؤنث في المذكر في قوله * (والصالحين) * وخص الصالحين ليحصن لهم دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن * (الصالحين) * من الأرقاء هم الذين يشفق مواليهم عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودة، فكانوا مظنة للاهتمام بشأنهم وتقبل الوصية فيهم، والمفسدون منهم حالهم عند مواليهم على عكس ذلك. وقيل: معنى * (والصالحين) * أي للنكاح والقيام بحقوقه. وقرأ مجاهد والحسن من عبيدكم بالياء مكان الألف وفتح العين وأكثر استعماله في المماليك.
و * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) * هذا مشروط بالمشيئة المذكورة في قوله: * (وإن خفتم * عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) *. * (والله واسع) * أي ذو غنى وسعة، يبسط الله لمن يشاء * (عليهم) * بحاجات الناس، فيجري عليهم ما قدر من الرزق. * (وليستعفف) * أي ليجتهد في العفة وصون النفس وهو استفعل بمعنى طلب العفة من نفسه وحملها عليها، وجاء الفك على لغة الحجاز ولا يعلم أحد قرأ وليستعف بالإدغام * (الذين لا يجدون نكاحا) *. قيل النكاح هنا اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس، ويؤيده قوله * (حتى يغنيهم الله من فضله) * فالمأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به ويقوم بمصالح الزوجية. والظاهر أنه أمر ندب لقوله قبل * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) *.
ومعنى * (لا يجدون نكاحا) * أي لا يتمكنون من الوصول إليه، فالمعنى أنه أمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر، ثم أغلب الموانع عن النكاح عدم المال و * (حتى يغنيهم) * ترجئة للمستعففين وتقدمة للوعد بالتفضل عليهم، فالمعنى ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا في استعفافهم وربطا على قلوبهم، وما أحسن ما ترتبت هذه الأوامر حيث أمر أولا بما يعصم عن الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه انتهى. وهو من كلام الزمخشري وهو حسن، ولما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحرارا فيتصرفون في أنفسهم.
* (والذين يبتغون الكتاب) * أي المكاتبة كالعتاب والمعاتبة. * (مما ملكت) * يعم المماليك الذكور والإناث. و * (الذين) * يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره الجملة، والفاء دخلت في الخبر لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط، ويحتمل أن يكون منصوبا كما تقول: زيدا فاضربه لأنه يجوز أن تقول زيدا فاضرب، وزيدا اضرب، فإذا دخلت الفاء كان التقدير بنية فاضرب زيدا فالفاء في جواب أمر محذوف، وهذا يوضح في النحو بأكثر من هذا. قال الأزهري: وسمي هذا العقد مكاتبة لما يكتب للعبد على السيد من العتق إذا أدى ما تراضيا عليه من المال، وما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها، والظاهر وجوب المكاتبة لقوله * (فكاتبوهم) * وهذا مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود، وظاهر قول عمر لأنه قال لأنس حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس كاتبه، أو لأضربنك بالدرة، وذهب مالك وجماعة إلى أنه أمر ندب وصيغتها كاتبتك على كذا، ويعين ما كاتبه عليه، وظاهر الأمر يقتضي أنه لا يشترط تنجيم ولا حلول بل يكون حالا
415

ومؤجلا ومنجما وغير منجم، وهذا مذهب أبي حنيفة.
وقال الشافعي: لا يجوز على أقل من ثلاثة أنجم. وقال أكثر العلماء: يجوز على نجم واحد. وقال ابن خويز منداد: إذا كاتب على مال معجل كان عتقا على مال ولم تكن كتابة، وأجاز بعض المالكية الكتابة الحالية وسماها قطاعة. والخير المال قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك، أو الحيلة التي تقتضي الكسب قاله ابن عباس أيضا أو الدين قاله الحسن، أو إقامة الصلاة قاله عبيدة السلماني، أو الصدق والوفاء والأمانة قاله الحسن وإبراهيم أو إرادة خير بالكتابة قاله سعيد بن جبير. وقال الشافعي: الأمانة والقوة على الكسب والذي يظهر من الاستعمال أنه الدين يقول: فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلا الصلاح، والأمر بالكتابة مقيد بهذا الشرط، فلو لم يعلم فيه خيرا لم تكن الكتابة مطلوبة بقوله * (فكاتبوهم) * والظاهر في * (وءاتوهم) * أنه أمر للمكاتبين وكذا قال المفسرون وجمهور العلماء، واختلفوا هل هو على الوجوب أو على الندب؟ واستحسن ابن مسعود والحسن أن يكون ثلث الكتابة وعلى ربعها، وقتادة عشرها. وقال عمر: من أول نجومه مبادرة إلى الخير. وقال مالك: من آخر نجم. وقال بريدة والحسن والنخعي وعكرمة والكلبي والمقاتلان: أمر الناس جميعا بمواساة المكاتب وإعانته. وقال زيد بن أسلم: الخطاب لولاة الأمور أن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حقهم وهو الذي تضمنه قوله * (وفي الرقاب) *.
وقال صاحب النظم: لو كان المراد بالإيتاء الحط لوجب أن تكون العبارة العربية ضعوا عنهم أو قاصوهم، فلما قال * (وءاتوهم) * دل على أنه من الزكاة إذ هي مناولة وإعطاء، ويؤكده أنه أمر بإعطاء وما أطلق عليه الإعطاء كان سبيله الصدقة. وقوله * (من فضله والذين يبتغون الكتاب) * هو ما ثبت ملكه للمالك أمر بإخراج بعضه، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده، والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح، وأيضا ما آتاه الله هو الذي يحصل في يده ويملكه وما يسقطه عقيب العقد لا يحصل له عليه ملك فلا يستحق الصفة بأنه من مالك الله الذي آتاه.
* (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) * في صحيح مسلم عن جابر إن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا، فشكيا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فنزلت. وقيل: كانت له ست معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة جاءته إحداهن ذات يوم بدينار وأخرى ببرد، فقال لهما ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل ذلك وقد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا، فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم) وشكتا فنزلت والفتاة المملوكة وهذا خطاب للجميع، ويؤكد أن يكون * (وءاتوهم) * خطابا للجميع والنهي عن الإكراه على الزنا مشروط بإرادة التعفف منهن، لأنه لا يمكن الإكراه إلا مع إرادة التحصن، أما إذا كانت
مريدة للزنا فإنه لا يتصور الإكراه. وكلمه * (ءان) * وايثارها على إذا إيذان بأن المسافحات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من خبر الشاذ النادر. وقد ذهب هذا النظر على كثير من المفسرين فقال بعضهم * (إن أردن) * راجع إلى قوله * (وأنكحوا الايامى منكم) * وهذا فيه بعد وفصل كثير، وأيضا فالأيامى يشمل الذكور والإناث، فكان لو أريد هذا المعنى لكان التركيب: إن أرادوا تحصنا فيغلب المذكر على المؤنث. وقال بعضهم: هذا الشرط ملغى. وقال الكرماني: هذا شرط في الظاهر وليس بشرط كقوله * (ءان * الله فيهم خيرا) * ومع أنه وإن كان لم يعلم خيرا صحت الكتابة.
وقال ابن عيسى: جاء بصيغة الشرط لتفحيش الإكراه على ذلك، وقال: لأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة انتهى. و * (عرض الحيواة الدنيا) * هو ما يكسبنه بالزنا. وقوله * (فإن الله) * جواب للشرط. والصحيح أن التقدير * (غفور رحيم) * لهم ليكون جواب الشرط فيه ضمير يعود على من الذين هو اسم الشرط، ويكون ذلك مشروطا بالتوبة. ولما غفل الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء عن هذا الحكم قدروا * (فإن الله) * * (غفور رحيم) * لهن أي للمكرهات، فعريت جملة جواب الشرط من ضمير يعود على اسم الشرط. وقد ضعف ما قلناه أبو عبد الله الرازي فقال: فيه وجهان أحدهما: فإن الله غفور رحيم لهن لأن الإكراه يزيل الإثم والعقوبة من المكره فيما فعل، والثاني: فإن الله غفور رحيم للمكره بشرط التوبة، وهذا ضعيف لأنه على التفسير الأول لا حاجة لهذا الإضمار. وعلى الثاني يحتاج إليه انتهى.
416

وكلامهم كلام من لم يمعن في لسان العرب.
فإن قلت: قوله * (إكراههن) * مصدر أضيف إلى المفعول والفاعل مع المصدر محذوف، والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهن والربط يحصل بهذا المحذوف المقدر فلتجز المسألة قلت: لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف، تقول: هند عجبت من ضربها زيدا فتجوز المسألة، ولو قلت هند عجبت من ضرب زيدا لم تجز. ولما قدر الزمخشري في أحد تقدير أنه لهن أورد سؤالا فإن قلت: لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن لأن المكرهة على الزنا بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة قلت: لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو من ضرب عنيف وغيره حتى يسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة انتهى. وهذا السؤال والجواب مبنيان على تقدير لهن.
وقرأ * (مبينات) * بفتح الياء الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر أي بين الله في هذه السورة وأوضح آيات تضمنت أحكاما وحدودا وفرائض، فتلك الآيات هي المبينة، ويجوز أن يكون المراد مبينا فيها ثم اتسع فيكون المبين في الحقيقة غيرها. وهي ظرف للمبين. وقرأ باقي السبعة والحسن وطلحة والأعمش بكسر الياء، فإما أن تكون متعدية أي * (مبينات) * غيرها من الأحكام والحدود، فأسند ذلك إليها مجاذا، وإما أن تكون لا تتعدى أي بينات في نفسها لا تحتاج إلى موضح بل هي واضحة لقولهم في المثل. قد بين الصبح لذي عينين. أي قد ظهر ووضح. وقوله * (ومثلا) * معطوف على آيات، فيحتمل أن يكون المعنى * (ومثلا) * من أمثال الذين من قبلكم، أي قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم في براءتهما لبراءة من رميت بحديث الإفك لينظروا قدرة الله في خلقه وصنعه فيه فيعتبروا. وقال الضحاك: والمراد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود، فأنزل في القرآن مثله. وقال مقاتل: أي شبها من حالهم في تكذيب الرسل أي بينا لكم ما أحللنا بهم من العذاب لتمردهم، فجعلنا ذلك مثلا لكم لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العقاب. * (وموعظة للمتقين) * أي ما وعظ في الآيات والمثل من نحو قوله * (ولا تأخذكم بهما رأفة) * * (ولا أذى * سمعتموه * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا) * وخص المتقين لأنهم المنتفعون بالموعظة.
2 (* (الله نور السماوات والا رض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح فى زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا
417

غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدى الله لنوره من يشآء ويضرب الله الا مثال للناس والله بكل شىء عليم * فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والا صال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلواة وإيتآء الزكواة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والا بصار * ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشآء بغير حساب) *))
) *
النور في كلام العرب الضوء المدرك بالبصر، فإسناده إلى الله تعالى مجاز كما تقول زيد كرم وجود وإسناده على اعتبارين، إما على أنه بمعنى اسم الفاعل أي منور السماوات والأرض، ويؤيد هذا التأويل قراءة علي بن أبي طالب وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن علي وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة * (نور) * فعلا ماضيا و * (الارض) * بالنصب. وإما على حذف أي ذو نور، ويؤيده قوله * (مثل نوره) * ويحتمل أن يجعل نورا على سبيل المدح، كما قالوا فلان شمس البلاد ونور القبائل وقمرها، وهذا مستفيض في كلام العرب وأشعارها. قال الشاعر:
* كأنك شمس والملوك كواكب وقال:
*
* قمر القبائل خالد بن زيد وقال:
*
* إذا سار عبد الله من مرو ليلة
*
فقد سار منها بدرها وجمالها
*
ويروى نورها، وأضاف النور إلى * (السماوات والارض) * لدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى يضيء له السماوات والأرض، أو يراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون به. وقال ابن عباس: * (نور * السماوات) * أي هادي أهل السماوات. وقال مجاهد: مدبر أمور السماوات. وقال الحسن: منور السماوات. وقال أبي: الله به نور السماوات أو منه نور السماوات أي ضياؤها. وقال أبو العالية: مزين السماوات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء. وقيل: المنزه من كل عيب امرأة نوار بريئة من الريبة والفحشاء. وقال الكرماني: هو الذي يرى ويرى به مجاز وصف الله به لأنه يرى ويرى بسببه مخلوقاته لأنه خلقها وأوجدها.
والظاهر أن الضمير في * (مثل نوره) * عائد على الله تعالى. واختلفوا في هذا القول ما المراد بالنور المضاف إليه تعالى. فقيل: الآيات البينات في قوله * (ولقد أنزلنا إليكم ءايات مبينات) * وقيل: الإيمان المقذوف في قلوب المؤمنين. وقيل: النور هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: النور هنا المؤمن. وقال كعب وابن جبير: الضمير في * (نوره) * عائد على محمد صلى الله عليه وسلم)، أي مثل نور محمد. وقال أبي: هو عائد على المؤمنين وفي قراءته مثل نور المؤمن. وروي أيضا فيها مثل نور من آمن به. وقال الحسن: يعود على القرآن والإيمان وهذه الأقوال الثلاثة عاد فيها الضمير على غير مذكور، ونقلت المعنى المقصود بالآية بحلاف عوده على الله تعالى، ولذلك
418

قال مكي يوقف على * (والارض) * في تلك الأقوال الثلاثة. واختلفوا في هذا التشبيه أهو تشبيه جملة بجملة لا يقصد فيها إلى تشبيه جزء بجزء ومقابلة شيء بشيء، أو مما قصد به ذلك أي مثل نور الله الذي هو هداه واتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، أي مثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر. وقيل: هو من التشبيه المفصل المقابل جزءا بجزء، وقرروه على تلك الأقوال الثلاثة أي * (مثل نوره) * في محمد أو في المؤمن أو في القرآن والإيمان * (كمشكاة) * فالمشكاة هو الرسول أو صدره * (* والمصباح) * هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه و * (زجاجة الزجاجة) * قلبه. والشجرة المباركة الوحي والملائكة رسل الله إليه، وشبه الفصل به بالزيت وهو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي وعلى قول المؤمن فالمشكاة صدره و * (المصباح) * الأيمان والعلم. و * (الزجاجة) * قلبه والشجرة القرآن وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها. قال أبي: فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات، وعلى قول الإيمان والقرآن أي مثل الإيمان والقرآن في صدر المؤمن في قلبه * (كمشكاة) * وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان.
وقال الزمخشري: أي صفة * (نوره) * لعجيبة الشأن في الإضاءة * (كمشكاة) * أي كصفة مشكاة انتهى. ويظهر لي أن قوله * (كمشكاة) * هو على حذف مضاف أي * (مثل نوره) * مثل نور مشكاة وتقدم في المفردات أن المشكاة هي الكوة غير النافذة، وهو قول ابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور. وقال أبو موسى: المشكاة الحديدة والرصاصة التي تكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة. وقال مجاهد: المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه، وقال أيضا الحدائد التي تعلق فيها القناديل.
* (فيها مصباح) * أي سراج ضخم، والظاهر أن * (الزجاجة) * ظرف للمصباح لقوله * (المصباح فى زجاجة) * وقدره الزمخشري في زجاج شامي، وكان عنده أصفى الزجاج هو الشامي ولم يقيد في الآية. وقرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم * (فى زجاجة الزجاجة) * بكسر الزاي فيهما، وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد بفتحها. * (كأنها) * أي كأن الزجاجة لصفاء جوهرها وذاتها وهو أبلغ في الإنارة، ولما احتوت عليه من نور المصباح.
* (كوكب درى) * قال الضحاك: هو الزهرة شبه الزجاجة في زهرتها بأحد الدراري من الكواكب المشاهير، وهي المشتري، والزهرة، والمريخ، وسهيل ونحو ذلك. وقرأ الجمهور من السبعة نافع وابن عامر وحفص وابن كثير * (درى) * بضم الدال وتشديد الراء والياء، والظاهر نسبة الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه، ويحتمل أن يكون أصله الهمز فأبدل وأدغم. وقرأ قتادة وزيد بن علي والضحاك كذلك إلا أنهما فتحا الدال. وروى ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن المسيب. وقرأ الزهري كذلك إلا أنه كسر الدال. وقرأ حمزة كذلك إلا أنه همز من الدرء بمعنى الدفع، أي يدفع بعضها بعضا، أو يدفع ضوؤها خفاءها ووزنها فعيل. قيل: ولا يوجد فعيل إلا قولهم مريق للعصفر ودريء في هذه القراءة. قيل: وسرية إذا قيل إنها مشتقة من السرور، وأبدل من أحد المضعفات الياء فأدغمت فيها ياء فعيل، وسمع أيضا مريخ للذي في داخل القرن اليابس بضم الميم وكسرها. وقيل: منه عليه. وقيل: * (درى) * ووزنه في الأصل فعول كسبوح فاستثقل الضم فرد إلى الكسر، وكذا قيل في سرته ودرته. وقرأ أبو عمرو والكسائي كذلك إلا أنه كسر الدال وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف سكير. وقرأ قتادة أيضا وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن فائد والأعمش ونصر بن عاصم كذلك إلا أنه بفتح الدال. قال ابن جني: وهذا عزيز لم يحفظ منه إلا السكينة بفتح السين وشد الكاف انتهى. وفي الأبنية حكى الأخفش كوكب دريء من درأته ودرية وعليك بالسكينة والوقار عن أبي زيد. وحكى الفراء بكسر السين.
وقرأ الأخوان وأبو بكر والحسن وزيد بن علي وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش * (* توقد) * بضم التاء أي * (زجاجة الزجاجة) * مضارع أوقدت مبينا للمفعول، ونافع وابن عامر وحفص كذلك إلا أنه بالياء أي * (المصباح) * وابن كثير
419

وأبو عمرو * (* توقد) * بفتح الأربعة فعلا ماضيا أي * (مصباح المصباح) *. والحسن والسلمي وقتادة وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل
عن عاصم كذلك إلا أنه بضم الدال مضارع * (* توقد) * وأصله تتوقد أي * (زجاجة الزجاجة) *. وقرأ عبد الله وقد بغير تاء وشدد القاف جعله فعلا ماضيا أي وقد المصباح. وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضا كذلك إلا أنه بالياء من تحت. وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن، وأصله يتوقد أي * (المصباح) * إلا أن حذف الياء في يتوقد مقيس لدلالة ما أبقى على ما حذف. وفي * (يوقد) * شاذ جدا لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة، وله وجه من القياس وهو حمله على يعد إذ حمل يعد وتعد وأعد في حذف الواو كذلك هذ لما حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء وإن لم يكن اجتماع التاء والياء مستثقلا.
* (من شجرة) * أي من زيت شجرة، وهي شجرة الزيتون. * (مباركة) * كثيرة المنافع أو لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين. وقيل: بارك فيها للعالمين. وقيل: بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليه السلام، والزيتون من أعظم الشجر ثمرا ونماء واطراد أفنان ونضارة أفنان. وقال أبو طالب:
* بورك الميت الغريب كما
*
بورك نضر الرمان والزيتون
*
* (لا شرقية ولا غربية) *. قال ابن زيد: هي من شجر الشام فهي ليست من شرق الأرض ولا من غربها، لأن شجر الشام أفضل الشجر. وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم: هي في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها، فليست خالصة للشرق فتسمى * (شرقية) *، ولا للغرب فتسمى * (غربية) * وقال الحسن: هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية. وعن ابن عباس: أنها في درجة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب، وهذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها. وقال ابن عطية: إنها في وسط الشجر لا تصيبها الشمس طالعة ولا غاربة، بل تصيبها بالغداة والعشي. وقال عكرمة: هي من شجر الجنة. وقال ابن عمر: الشجرة مثل أي إنها ملة إبراهيم ليست بيهودية ولا نصرانية. وقيل: ملة الإسلام ليست بشديدة ولا لينة. وقيل: لا مضحى ولا مفيأة، ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها.
و * (زيتونة) * بدل من * (شجرة) * وجوز بعضهم فيه أن يكون عطف بيان، ولا يجوز على مذهب البصريين لأن عطف البيان عندهم لا يكون إلا في المعارف، وأجاز الكوفيون وتبعهم الفارسي أنه يكون في النكرات. و * (لا شرقية) * * (ولا) * على * (غربية) * على قراءة الجمهور بالخفض صفة لزيتونة. وقرأ الضحاك بالرفع أي لا هي شرقية ولا غربية، والجملة في موضع الصفة.
* (يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار) * مبالغة في صفاء الزيت وأنه لإشراقه وجودته يكاد يضيء من غير نار. والجملة من قوله * (ولو لم تمسسه نار) * حالية معطوفة على حال محذوفة أي * (يكاد زيتها يضىء) * في كل حال ولو في هذه الحال التي تقتضي أنه لا يضيء لانتفاء مس النار له، وتقدم لنا أن هذا العطف إنما يأتي مرتبا لما كان لا ينبغي أن يقع لامتناع الترتيب في العادة وللاستقصاء حتى يدخل ما لا يقدر دخوله فيما قبله نحو: (أعطوا السائل ولو جاء على فرس، ردوا السائل ولو بظلف محرق). وقرأ الجمهور: * (تمسسه) * بالتاء وابن عباس والحسن بالياء من تحت، وحسنه الفصل وأن تأنيث النار مجازي وهو مؤنث بغير علامة.
* (نور على نور) * أي متضاعف تعاون عليه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، فلم يبق مما يقوى النور ويزيده إشراقا شيء لأن المصباح إذا كان في مكان ضيق كان أجمع لنوره بخلاف المكان المتسع، فإنه ينشر النور، والقنديل أعون شيء على زيادة النور وكذلك الزيت وصفاؤه، وهنا تم المثال.
ثم قال * (يهدى الله لنوره من يشاء) * أي لهداه والإيمان من يشاء هدايته ويصطفيه لها. ومن فسر * (النور) * في * (مثل نوره) *
420

بالنبوة قدر يهدي الله إلى نبوته. وقيل: إلى الاستدلال بالآيات، ثم ذكر تعالى أنه يضرب الأمثال للناس ليقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان، ثم ذكر إحاطة علمه بالأشياء فهو يضع هداه عند من يشاء. * (فى بيوت) * متعلق بيوقد قاله الرماني، أو في موضع الصفة لقوله * (كمشكاة) * أي كمشكاة في بيوت قاله الحوفي، وتبعه الزمخشري قال * (كمشكاة) * في بعض بيوت الله وهي المساجد. وقال * (مثل نوره) * كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت انتهى. وقوله كأنه إلى آخره تفسير معنى لا تفسير إعراب أو في موضع الصفة لمصباح أي مصباح * (فى بيوت) * قاله بعضهم أو في موضع الصفة لزجاجة قاله بعضهم، وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على قوله * (عليم) *. وقيل: * (فى بيوت) * مستأنف والعامل فيه * (يسبح) * حكاه أبو حاتم وجوزه الزمخشري. فقال: وقد ذكر تعلقه بكمشكاة قال: أو بما بعده وهو * (يسبح) * أي * (يسبح له) * رجال في بيوت وفيها تكرير كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف كقوله * (وأدخل يدك فى) * أي سبحوا في بيوت انتهى. وعلى هذا الأقوال الثلاثة يوقف على قوله * (عليم) * والذي اختاره أن يتعلق * (فى بيوت) * بقوله * (يسبح) * وإن ارتباط هذه بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر أنه يهدي لنوره من يشاء ذكر حال من حصلت له الهداية لذلك النور وهم المؤمنون، ثم ذكر أشرف عبادتهم القلبية وهو تنزيههم الله عن النقائص وإظهار ذلك بالتلفظ به في مساجد الجماعات، ثم ذكر سائر أوصافهم من التزام ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخوفهم ما يكون في البعث. ولذلك جاء مقابل المؤمنين وهم الكفار في قوله * (والذين كفروا) * وكأنه لما ذكرت الهداية للنور جاء في التقسيم لقابل الهداية وعدم قابلها، فبدىء بالمؤمن وما تأثر به من أنواع الهدى ثم ذكر الكافر. والظاهر أن قوله * (فى بيوت) * أريد به مدلوله من الجمعية.
وقال الحسن: أريد به بيت المقدس، وسمى بيوتا من حيث فيه يتحيز بعضها عن بعض، ويؤثر أن عادة بني إسرائيل في وقيده في غاية التهمم والزيت مختوم على ظروفه وقد صنع صنعة وقدس حتى لا يجري الوقيد بغيره، فكان أضوأ بيوت الأرض. والظاهر أن * (فى بيوت) * مطلق فيصدق على المساجد والبيوت التي تقع
فيها الصلاة والعلم. وقال مجاهد: بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم). وقال ابن عباس والحسن أيضا ومجاهد: هي المساجد التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح. وقيل: الكعبة وبيت المقدس ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ومسجد قباء. وقيل: بيوت الأنبياء. ويقوي أنها المساجد قوله * (يسبح له فيها بالغدو والاصال) * وإذنه تعالى وأمره بأن * (ترفع) * أي يعظم قدرها قاله الحسن والضحاك. وقال ابن عباس ومجاهد: تبنى وتعلى من قوله * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) *. وقيل: * (ترفع) * تظهر من الأنجاس والمعاصي. وقيل: * (ترفع) * أي ترفع فيها الحوائج إلى الله. وقيل: * (ترفع) * الأصوات بذكر الله وتلاوة القرآن.
* (ويذكر فيها اسمه) * ظاهره مطلق الذكر فيعم كل ذكر عموم البدل. وعن ابن عباس: توحيده وهو لا إله إلا الله. وعنه: يتلى فيها كتابه. وقيل: أسماؤه الحسنى. وقيل: يصلى فيها. وقرأ الجمهور * (يسبح) * بكسر الباء وبالياء من تحت، وابن وثاب وأبو حيوة كذلك إلا أنه بالتاء من فوق، وابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمهال عن يعقوب والمفضل وأبان بفتحها وبالياء من تحت واحد المجرورات في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، والأولى الذي يلي الفعل لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى من طلبه للمنصوب الفضلة. وقرأ أبو جعفر: تسبح بالتاء من فوق وفتح الباء.
وقال الزمخشري: ووجهها أن تسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة. والمراد بها كصيد عليه يومان والمراد وحشهما انتهى. ويجوز أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير التسبيحة الدال عليه * (تسبح) * أي تسبح له هي أي التسبيحة كما قالوا * (ليجزى قوما) * في قراءة من بناء للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء.
وقرأ أبو مجلز: والإيصال وتقدم نظيره وارتفع * (رجال) * على هاتين القراءتين على الفاعلية بإضمار فعل أي * (يسبح) * أو يسبح له رجال. واختلف في اقتياس هذا، فعلى اقتياسه نحو ضربت هند زيد أي ضربها زيد، ويجوز أن
421

يكون خبر مبتدأ محذوف أي المسبح رجال. وتقدم الكلام في تفسير الغدو والآصال والمراد بهما.
ثم ذكر تعالى وصف المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله وطلبهم رضاه لا يشتغلون عن ذكر الله واحتمل قوله * (لا تلهيهم تجارة ولا بيع) * وجهين: أحدهما: أنهم لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم عن ذكر الله كقوله:
* على لا حب لا يهتدى بمناره أي لا منار له فيهتدى به. والثاني: أنهم ذوو تجارة وبيع ولكن لا يشغلهم ذلك عن ذكر الله وعما فرض عليهم، والظاهر مغايرة التجارة والبيع، ولذلك عطف فاحتمل أن تكون تجارة من إطلاق العام ويراد به الخاص، فأراد بالتجارة الشراء ولذلك قابله بالبيع، أو يراد تجارة الجلب ويقال: تجر فلان في كذا إذا جلبه وبالبيع البيع بالأسواق، ويحتمل أن يكون * (ولا بيع) * من ذكر خاص بعد عام، لأن التجارة هي البيع والشراء طلبا للريح. ونبه على هذا الخاص لأنه في الإلهاء أدخل من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته ألهته ما لا يلهيه شيء يتوقع فيه الريح لأن هذا يقين وذاك مطنون.
*
قال الزمخشري: التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل أقوام، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت ونحوه:
* وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا انتهى. وهذا الذي ذكر من أن التاء سقطت لأجل الإضافة هو مذهب الفراء ومذهب البصريين، أن التاء من نحو هذا لا تسقط للإضافة وتقدم لنا الكلام على * (ليس البر) * في الأنبياء وصدر البيت الذي أنشد عجزه قوله:
*
* إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وقد تأول خالد بن كلثوم قوله عدا الأمر على أنه جمع عدوة، والعدوة الناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه.
*
* (يخافون يوما) * هو يوم القيامة، والظاهر أن معنى * (تتقلب) * تضطرب من هول ذلك اليوم كما قال تعالى * (وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر) * فتقلبها هو قلقها واضطرابها، فتتقلب من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى هلاك. وهذا المعنى تستعمله العرب في الحروب كقوله:
* بل كان قلبك في جناحي طائر ويبعد قول من قال * (تتقلب) * على جمر جهنم لأن ذلك ليس في يوم القيامة بل بعده. وقول من قال إن تقلبها ظهور الحق لها أي فتتقلب عن معتقدات الضلال إلى اعتقاد الحق على وجهه فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عميا والقول الأول أبلغ في التهويل. وقرأ ابن محيصن: تقلب بإدغام التاء في التاء.
*
واللام في * (ليجزيهم) * متعلقة بمحذوف أي فعلوا ذلك * (ليجزيهم) * ويجوز أن تتعلق بيسبح وهو الظاهر. وقال الزمخشري: والمعنى يسبحون ويخافون * (ليجزيهم) * انتهى. والظاهر أن قوله * (يخافون) * صفة لرجال كما أن * (لا تلهيهم) * كذلك. * (أحسن) * هو على حذف مضاف أي ثواب أحسن ما عملوا، أو * (أحسن) * جزاء ما عملوا. * (ويزيدهم من فضله) * على ما تقتضيه أعمالهم، فأهل الجنة أبدا في مزيد. وقال الزمخشري: * (ليجزيهم) * ثوابهم مضاعفا * (ويزيدهم) * على الثواب تفضيلا وكذلك معنى قوله * (الحسنى) *
422

وزيادة المثوبة الحسنى، وزيادة عليها من التفضل وعطاء الله عز وجل إما تفضل وإما ثواب وإما عوض.
* (والله يرزق من يشاء) * ما يتفضل به * (بغير حساب) * فأما الثواب فله حسنات لكونه على حسب الاستحقاق انتهى. وفي قوله على حسب الاستحقاق دسيسة اعتزال.
2 (* (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذآ أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) *)) 2
لما ذكر تعالى حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم ووصفهم بما وصفهم من الأعمال النافعة في الآخرة أعقب ذلك بذكر مقابلهم الكفرة وأعمالهم، فمثل لهم ولأعمالهم مثلين أحدهما يقتضي بطلان أعمالهم في الآخرة وأنهم لا ينتفعون بها. والثاني يقتضي حالها في الدنيا من ارتباكها في الضلال والظلمة شبه أولا أعمالهم في اضمحلالها وفقدان ثمرتها بسراب في مكان منخفض ظنه العطشان ماء فقصده وأتعب نفسه في الوصول إليه. * (حتى إذا جاءه) * أي جاء موضعه الذي تخيله. فيه * (لم يجده شيئا) * أي فقده لأنه مع الدنو لا يرى شيئا. كذلك الكافر يظن أن عمله في الدنيا نافعه حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم ينفعه عمله بل صار وبالا عليه.
وقرأ مسلمة بن محارب: بقيعات بتاء ممطوطة جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة، وعنه أيضا بتاء شكل الهاء ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة، ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا البناه والأخواه في الوقف على البنات والأخوات. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يريد قيعة كالعامة أي كالقراءة العامة، لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف مثل مخر نبق لينباع. وقال الزمخشري: وقد جعل بعضهم بقيعات بتاء ممدودة كرجل عزهاة. وقال صاحب اللوامح: ويجوز أنه جعله مثل سعلة وسعلاة وليلة وليلاة، والقيعة مفرد مرادف للقاع أو جمع قاع كنار ونيرة، فتكون على هذا قراءة قيعات جمع صحة تناول جمع تكسير مثل رجالات قريش وجمالات صفر.
وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما * (الظمان) * بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم، والظاهر أن قوله * (يحسبه الظمان) * هو من صفات السراب ولا يعني إلا مطلق * (الظمان) * لا الكافر * (الظمان) * وقال الزمخشري: شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها أن تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه يوم القيامة، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد ربانية الله عنده، يأخذونه ويعتلونه ويسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم * (عاملة ناصبة) * * (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) * * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) *. وقيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام انتهى. فجعل * (الظمان) * هو الكافر حتى تطرد الضمائر في * (جاءه) * و * (لم يجده) * * (ووجد) * و * (عنده) * و * (فوفاه) * لشخص واحد، وغيره غاير بين الضمائر فالضمير في * (جاءه) * و * (لم يجده) * للظمآن. وفي * (ووجد) * للكافر الذي ضرب له مثلا بالظمآن، أي ووجد هذا الكافر وعد الله بالجزاء على عمله بالمرصاد * (فوفاه حسابه) * عمله الذي جازاه عليه. وهذا معنى قول أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأفرد الضمير في * (ووجد) * بعد تقدم الجمع حملا على كل واحد من الكفار.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود الضمير في * (جاءه) * على السراب. ثم في الكلام متروك كثير يدل عليه الظاهر تقديره وكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعا * (حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) * ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله * (أعمالهم) * ويكون تمام المثل في قوله * (ماء) * ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به.
* (ووجد الله عنده) * أي بالمجازاة، والضمير في * (عنده) * عائد على العمل انتهى. والذي يظهر لي أنه تعالى شبه أعمالهم في عدم انتفاعهم بها بسراب صفته كذا، وأن الضمائر فيما بعد * (الظمان) * له. والمعنى في * (ووجد الله عنده) * أي * (ووجد) * مقدور * (الله) * عليه من هلاك بالظمأ * (عنده) * أي عند موضع السراب * (فوفاه) * ما كتب له من ذلك. وهو المحسوب له، والله معجل حسابه لا يؤخره عنه فيكون الكلام متناسقا آخذا بعضه
423

بعنق بعض. وذلك باتصال الضمائر لشيء واحد، ويكون هذا التشبيه مطابقا لأعمالهم من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم تنفعهم وحصل لهم الهلاك بأثر ما حوسبوا. وأما في قول الزمخشري: فإنه وإن جعل الضمائر للظمآن لكنه جعل * (الظمان) * هو الكافر وهو تشبيه الشيء بنفسه كما قال. وشبه الماء بعد الجهد بالماء. وأما في قول غيره: ففيه تفكيك الكلام إذ غاير بين الضمائر وانقطع ترصيف الكلام بجعل بعضه مفلتا من بعض.
* (أو كظلمات) * هذا التشبيه الثاني لأعمالهم فالأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة، وهذا الثاني فيما هم عليه في حال الدنيا. وبدأ بالتشبيه الأول لأنه آكد في الإخبار لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب السرمدي. ثم أتبعه بهذا التمثيل الذي نبههم على ما هي أعمالهم عليه لعلهم يرجعون إلى الإيمان ويفكرون في نور الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم)، والظاهر أنه تشبيه لأعمالهم وضلالهم بالظلمات المتكاثفة.
وقال أبو علي الفارسي: التقدير أو كذي ظلمات، قال: ودل على هذا المضاف قوله * (إذا أخرج يده) * فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف، فالتشبيه وقع عند أبي علي للكافر لا للأعمال وهو خلاف الظاهر، ويتخيل في تقرير كلامه أن يكون التقدير أو هم كذي ظلمات فيكون التشبيه الأول لأعمالهم. والثاني لهم في حال ضلالهم. وقال أبو البقاء: في التقدير وجهان أحدهما: أو كأعمال ذي ظلمات، فيقدر ذي ظلمات ليعود الضمير من قوله * (إذا أخرج يده) * إليه، ويقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات. والثاني: لا حذف فيه، والمعنى أنه شبه أعمال الكفار بالظلمة في حيلولتها بين القلب وبين ما يهتدى إليه، فأما الضمير في قوله * (إذا أخرج يده) * فيعود إلى مذكور حذف اعتمادا على المعنى تقديره إذا أخرج من فيها يده.
وقال الجرجاني: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار. والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضا من أعمالهم، وقد قال تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور. من الكفر إلى الإيمان، فيكون التمثيل قد وقع لأعمالهم بكفر الكافر و * (أعمالهم) * منها كفرهم، فيكون قد شبه * (أعمالهم) * بالظلمات، والعطف بأو هنا لأنه قصد التنويع والتفصيل لا أن * (أو) * للشك. وقال الكرماني: * (أو) * للتخيير على تقدير شبه أعمال الكفار بأيهما شئت.
وقرأ سفيان بن حسين * (أو كظلمات) * بفتح الواو جعلها واو عطف تقدمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام. والظاهر أن الضمير في * (يغشاه) * عائد على * (بحر لجى) * أي يغشى ذلك البحر أي يغطي بعضه بعضا، بمعنى أن تجيء موجة تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن، وأخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، وفوق هذا الموج * (سحاب) * وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى بها، وللريح والمطر الناشئين مع السحاب. ومن قدر أو كذي ظلمات أعاد الضمير في * (يغشاه) * على ذي المحذوف، أي يغشى صاحب الظلمات.
وقرأ الجمهور * (سحاب) * بالتنوين * (ظلمات) * بالرفع على تقدير خبر لمبتدأ محذوف، أي هذه أو تلك * (ظلمات) * وأجاز الحوفي أن تكون مبتدأ و * (بعضها فوق بعض) * مبتدأ وخبره في موضع خبر * (ظلمات) *. والظاهر أنه لا يجوز لعدم المسوغ فيه للابتداء بالنكرة إلا إن قدرت صفة محذوفة أي ظلمات كثيرة أو عظيمة * (بعضها فوق بعض) *. وقرأ البزي * (سحاب ظلمات) * بالإضافة. وقرأ قنبل * (سحاب) * بالتنوين * (ظلمات) * بالجر بدلا من * (ظلمات) * و * (بعضها فوق بعض) * مبتدأ وخبر في موضع الصفة لكظلمات.
قال الحوفي: ويجوز على رفع * (ظلمات) * أن يكون * (بعضها) * بدلا منها، وهو لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله أعلم الأخبار بأنها ظلمات، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة وليس على الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة. وتقدم الكلام في كاد إذا دخل عليها حرف نفي مشبعا في البقرة في قوله * (وما كادوا يفعلون) * فأغنى عن إعادته، والمعنى هنا انتفاء مقاربة الرؤية، ويلزم من ذلك انتفاء الرؤية ضرورة وقول من اعتقد زيادة يكد أو أنه يراها بعد عسر ليس بصحيح، والزيادة قول ابن الأنباري وأنه لم يرها إلا بعد الجهد قول المبرد والفراء.
وقال ابن عطية ما معناه: إذا كان الفعل بعد كان منفيا دل على ثبوته نحو كاد
424

زيد لا يقوم، أو مثبتا دل على نفيه كاد زيد يقوم، وإذا تقدم النفي على كاد احتمل أن يكون منفيا تقول: المفلوخ لا يكاد يسكن فهذا تضمن نفي السكون. وتقول: رجل منصرف لا يكاد يسكن فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد انتهى. والظاهر أن هذا التشبيه الثاني هو تشبيه أعمال الكفار بهده الظلمات المتكاثفة من غير مقابلة في المعنى بأجزائه لا جزاء المشبه.
قال الزمخشري: وشبهها يعني أعماله في ظلمتها وسوادها لكونا باطلة، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لجج البحر والأمواج والسحاب، ومنهم من لاحظ التقابل فقال: الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة. والبحر اللجي صدر الكافر وقلبه، والموج الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان.
وقال الفراء: هذا مثل لقلب الكافر أي إنه يعقل ولا يبصر. وقيل: * (الظلمات) * أعماله والبحر هواه. القيعان القريب الغرق فيه الكثير الخطر، والموج ما يغشى قلبه من جهل وغفلة، والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة، والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء على عكس ما في مثل نور الدين انتهى. والتفسير بمقابلة الأجزاء شبيه بتفسير الباطنية، وعدول عن منهج كلام العرب.
ولما شبه أعمال الكفار بالظلمات المتراكمة وذكر أنه لا يكاد يرى اليد من شدة الظلمة قال * (ومن لم يجعل الله له نورا) * أي من لم ينور قلبه بنور الإيمان ويهده إليه فهو في ظلمة ولا نور له، ولا يهتدي أبدا. وهذا النور هو في الدنيا. وقيل: هو في الآخرة أي من لم ينوره الله بعفوه ويرحمه برحمته له، وكونه في الدنيا أليق بلفظ الآية وأيضا فذلك متلازم لأن نور الآخرة هو لمن نور الله قلبه في الدنيا. وقال الزمخشري: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له. وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات لأن الألطاف إنما نردف الإيمان والعمل الصالح أو كونهما مرتقبين، ألا ترى إلى قوله * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * وقوله * (ويضل الله الظالمين) * انتهى. وهو على طريقة الاعتزال.
2 (* (ألم تر أن الله يسبح له من فى السماوات والا رض والطير صآفات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون * ولله ملك السماوات والا رض وإلى الله المصير * ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السمآء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشآء ويصرفه عن من يشآء يكاد سنا برقه يذهب بالا بصار * يقلب الله اليل والنهار إن فى ذالك لعبرة لأولى الا بصار * والله خلق كل دآبة من مآء فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع يخلق الله ما يشآء إن الله على كل شىء قدير * لقد أنزلنآ ءايات مبينات والله يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *)) 2
لما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر وأن الإيمان والضلال أمرهما راجع إليه أعقب بذكر الدلائل على قدرته وتوحيده، والظاهر حمل التسبيح على حقيقته وتخصيص * (من) * في قوله ومن في الأرض بالمطيع لله تعالى من الثقلين. وقيل: * (من) * عام لكل موجود غلب من يعقل على ما لا يعقل، فأدرج ما لا يعقل فيه ويكون المراد بالتسبيح دلالته بهده الأشياء على كونه تعالى منزها عن النقائص موصوفا بنعوت الكمال. وقيل: المراد بالتسبيح التعظيم فمن ذي الدين بالنطق والصلاة ومن غيرهم من مكلف وجماد بالدلالة، فيكون ذلك قدرا مشتركا بينهما وهو التعظيم. وقال سفيان: تسبيح كل شيء بطاعته وانقياده.
* (والطير صافات) * أي صفت أجنحتها في الهواء للطيران، وإنما خص الطير بالذكر لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت فهي خارجة من جملة * (من فى
* السماوات والارض) * حالة طيرانها. وقرأ الجمهور * (والطير) * مرفوعا عطفا على * (من) * و * (صافات) * نصب على الحال. وقرأ الأعرج * (والطير) * بالنصب على أنه مفعول معه. وقرأ الحسن وخارجة عن نافع * (والطير صافات) * برفعهما مبتدأ وخبر تقديره يسبحن. قيل: وتسبيح الطير حقيقي قاله الجمهور. قال الزمخشري: ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. وقال الحسن وغيره: هو تجوز إنما تسبيحه ظهور الحكمة فيه فهو لذلك يدعو إلى التسبيح.
* (كل) * أي كل ممن ذكر، فيشمل الطير والظاهر أن الفاعل المستكن في * (علم) * وفي
425

* (صلاته وتسبيحه) * عائد على * (كل) * وقاله الحسن قال: فهو مثابر عليهما يؤديهما. وقال الزجاج: الضمير في * (علم) * وفي * (صلاته وتسبيحه) * لكل. وقيل: الضمير في * (علم) * لكل وفي * (صلاته وتسبيحه) * لله أي صلاة الله وتسبيحه اللذين أمر بهما وهدى إليهما، فهذه إضافة خلق إلى خالق. وقال مجاهد: الصلاة للبشر والتسبيح لما عداهم.
وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمر وتفعلون بتاء الخطاب، وفيه وعيد وتخويف. و * (ولله ملك * السماوات والارض) * إخبار بأن جميع المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم بما يشاء تصرف القاهر الغالب. وإليه * (المصير) * أي إلى جزائه من ثواب وعقاب. وفي ذلك تذكير وتخويف.
ولما ذكر انقياد من في السماوات والأرض والطير إليه تعالى وذكر ملكه لهذا العالم وصيرورتهم إليه أكد ذلك بشيء عجيب من أفعاله مشعر بانتقال من حال إلى حال. وكان عقب قوله وإليه المصير فاعلم بانتقال إلى المعاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في نقل الأشياء من حال إلى حال ومعنى * (يزجى) * يسوق قليلا قليلا ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب والإبل، والسحاب اسم جنس واحده سحابة، والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة. * (ثم يؤلف بينه) * أي بين أجزائه لأنه سحابة تتصل بسحابة فجعل ذلك ملتئما بتأليف بعض إلى بعض. وقرأ ورش يولف بالواو، وباقي السبعة بالهمز وهو الأصل. فيجعله * (ركاما) * أي متكاثفا يجعل بعضه إلى بعض، وانعصاره بذلك * (من خلاله) * أي فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار. والخلال: قيل مفرد. وقيل: جمع خلل كجبال وجبل. وقرأ ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من خلله بالإفراد، والظاهر أن في السماء جبالا من برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين: خلقها الله كما خلق في الأرض جبالا من حجر. وقيل: جبال مجاز عن الكثرة لا أن في السماء جبالا كما تقول: فلان يملك جبالا من ذهب، وعنده جبال من العلم يريد الكثرة. قيل: أو هو على حذف حرف التشبيه.
و * (السماء) * السحاب أي * (من السماء) * التي هي جبال أي كجبال كقوله * (حتى إذا جعله نارا) * أي كنار قاله الزجاج، فجعل السماء هو السحاب المرتفع سمي بذلك لسموه وارتفاعه. وعلى القول الأول المراد بالسماء الجسم الأزرق المخصوص وهو المتبادر للذهن، ومن استعماله الجبال في الكثرة مجازا قول ابن مقبل:
* إذا مت عن ذكر القوافي فلن
*
ترى لها شاعرا مني أطلب وأشعرا
*
* وأكثر بيتا شاعرا ضربت له
*
بطون جبال الشعر حتى تيسرا
*
واتفقوا على أن
426

* (من) * الأولى لابتداء الغاية. وأما * (من جبال) *. فقال الحوفي: هي بدل من * (السماء) * ثم قال: وهي للتبعيض، وهذا خطأ لأن الأولى لابتداء الغاية في ما دخلت عليه، وإذ كانت الثانية بدلا لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية، لو قلت: خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معا لابتداء الغاية. وقال الزمخشري وابن عطية: هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لينزل. قال الحوفي والزمخشري: والثانية للبيان انتهى. فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي البرد فالمنزل برد لأن بعض البرد برد فمفعول * (ينزل) * * (من جبال) *.
قال الزمخشري: أو الأولان للابتداء والأخيرة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها انتهى. فيكون * (من جبال) * بدلا * (من السماء) *.
وقيل: * (من) * الثانية والثالثة زائدتان وقاله الأخفش، وهما في موضع نصب عنده كأنه قال: وينزل من السماء جبالا فيها أي في السماء بردا وبردا بدل أي برد جبال. وقال الفراء: هما زائدتان أي جبالا فيها برد لا حصى فيها ولا حجر، أي يجتمع البرد فيصير كالجبال على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره. والضمير في * (فيها) * عائد على * (الجبال) * أو فاعل بالجار والمجرور لأنه قد اعتمد بكونه في موضع الصفة لجبال. وقيل: * (من) * الأولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة أي * (وينزل من السماء من جبال) * السماء بردا. وقال الزجاج: معناه * (وينزل من السماء من جبال) * برد فيها كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، أي خاتم حديد في يدي، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت، ولأنك إذا قلت: هذا خاتم حديد كان المعنى واحدا انتهى. فعلى هذا يكون * (من برد) * في
موضع الصفة لجبال، كما كان من في من حديد صفة لخاتم، فيكون في موضع جر ويكون مفعول * (ينزل) * هو * (من جبال) * وإذا كانت الجبال * (من برد) * لزم أن يكون المنزل بردا. والظاهر إعادة الضمير في * (به) * على البرد، ويحتمل أن يكون أريد به الودق والبرد وجرى في ذلك مجرى اسم الإشارة. وكأنه قال: فيصيب بذلك والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان.
وقرأ الجمهور * (سنا) * مقصورا * (برقه) * مفردا. وقرأ طلحة بن مصرف سناء ممدودا * (برقه) * بضم الباء وفتح الراء جمع برقه بضم الباء، وهي المقدار من البرق كالغرفة واللقمة، وعنه بضم الباء والراء اتبع حركة الراء لحركة الباء كما اتبعت في * (ظلمات) * وأصلها السكون. والسناء بالمد ارتفاع الشأن كأنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان، فإن ذلك صيب لا يحس به بصر. وقرأ الجمهور * (يذهب) * بفتح الياء والهاء وأبو جعفر * (يذهب) * بضم الياء وكسر الهاء. وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئة أبي جعفر في هذه القراءة قالا: لأن الياء تعاقب الهمزة وليس بصواب لأنه لم يكن ليقرأ إلا بما روي. وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أبي وغيره، ولم ينفرد بها أبو جعفر بل قرأه شيبة كذلك وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار. وعلى أن الباء بمعنى من والمفعول محذوف تقديره يذهب النور من الأبصار كما قال:
شع شرب النزيف ببرد ماء الحشرج يريد من برد. وتقليب الليل والنهار آيتان أحدهما بعد الآخر أو زيادة هذا وعكسه، أو يغير النهار بظلمة السحاب مرة وضوء الشمس أخرى، ويغير الليل باشتداد ظلمته مرة وضوء القمر أخرى، أو باختلاف ما يقدر فيهما من الخير والنفع والشدة والنعمة والأمن ومقابلاتها ونحو ذلك أقوال أربعة إن في ذلك إشارة إلى ما تقدم من الدلائل الدالة على وحدانيته من تسبيح من ذكر وتسخير السحاب. وما يحدثه تعالى فيه من أفعاله حتى ينزل المطر فيقسم رحمته بين خلقه وإراءتهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف الأبصار ويقلب الليل والنهار.
* (لعبرة) * أي اتعاظا. وخص أولو الأبصار بالاتعاظ لأن البصر والبصيرة إذا استعملا وصلا إلى إدراك الحق كقوله * (إنما يتذكر أولو الالباب) *.
وقرأ الجمهور * (خلق) * فعلا ماضيا. * (كل) * نصب. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش خالق اسم فاعل مضاف إلى * (كل) *. والدابة: ما يحرك أمامه قدما ويدخل فيه الطير. قال الشاعر:
* دبيب قطا البطحاء في كل منهل والحوت وفي الحديث: (دابة من البحر مثل الظرب). واندرج في * (كل دابة) * المميز وغيره، فسهل التفصيل بمن التي لمن يعقل وما لا يعقل إذا كان مندرجا في العام، فحكم له بحكمه كان الدواب كلهم مميزون. والظاهر أن * (من ماء) * متعلق بخلق. و * (من) * لابتداء الغاية، أي ابتدأ خلقها من الماء. فقيل: لما كان غالب الحيوان مخلوقا من الماء لتولده من النطفة أو لكونه لا يعيش إلا بالماء أطلق لفظ * (كل) * تنزيلا للغالب منزلة العام، ويخرج عما خلق من ماء ما خلق من نور
427

وهم الملائكة، ومن نار وهم الجن، ومن تراب وهم آدم. وخلق عيسى من الروح وكثير من الحيوان لا يتولد من نطفة. وقيل * (كل دابة) * على العموم في هذه الأشياء كلها وإن أصل جميع المخلوقات الماء، فروي أن أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور، ولما كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة وكان الأصل الأول هو الماء قال: * (خلق كل دابة من ماء) *. وقال القفال: ليس * (من ماء) * متعلقا بخلق وإنما هو في موضع الصفة لكل دابة، فالمعنى الإخبار أنه تعالى خلق كل دابة متولدة من الماء أي متولدة من الماء مخلوقة لله تعالى. ونكر الماء هنا وعرف في * (وجعلنا من الماء كل شىء حى) * لأن المعنى هنا * (خلق كل دابة) * من نوع من الماء مختص بهذه الدابة، أو * (من ماء) * مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة هوام وبهائم وناس كما قال * (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الاكل) * وهنا قصد أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينها وبينه وسائط كما قيل: إن أصل النور والنار والتراب الماء.
*
وسمي الزحف على البطن مشيا لمشاكلته ما بعده من ذكر الماشين أو استعارة، كما قالوا: قد مشى هذا الأمر وما يتمشى لفلان أمر، كما استعاروا المشفر للشفة والشفة للجحفلة. والماشي * (على بطنه) * الحيات والحوت ونحو ذلك من الدود وغيره. و * (على رجلين) * الإنسان والطير والأربع لسائر حيوان الأرض من البهائم وغيرها، فإن وجد من له أكثر من أربع. فقيل: اعتماده إنما هو على أربع ولا يفتقر في مشيه إلى جميعها وقد ما هو أعرف في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة مشى من له رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع. وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان لكنه لم يثبت قرآنا ولعله ما أورده قرآن بل تنبيها على أن الله خلق من يمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت والعقرب والرتيلاء وذي أربع وأربعين رجلا وتسمى الاذن وهذا النوع لندوره لم يذكر.
* (يخلق الله ما يشاء) * إشارة إلى أنه تعالى ما تعلقت به إرادة خلقه أنشأه واخترعه، وفي ذلك تنبيه على كثرة الحيوان وأنها كما اختلفت بكيفية المشيء اختلفت بأمور أخر.
2 (* (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذالك ومآ أولائك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفى قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولائك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولائك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولائك هم الفآئزون * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن
أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون * قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين * وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الا رض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ومن كفر بعد ذالك فأولائك هم الفاسقون * وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون * لا تحسبن الذين كفروا معجزين فى الا رض ومأواهم النار ولبئس المصير) *)) 2
نزلت إلى قوله * (إلا البلاغ المبين) * في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم)، ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت.
ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذم قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائدهم. * (ثم يتولى فريق منهم) * عن الإيمان. * (بعد ذلك) * أي بعد قولهم * (من) * * (وما أولئك) * إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان، أو إلى الفريق المتولي فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيمانا إنما كان ادعاء باللسان من غير مواطأة بالقلب. وأفرد الضمير في * (ليحكم بينهم) * وقد تقدم قوله * (إلى الله ورسوله) * لأن حكم الرسول هو عن الله. قال الزمخشري: كقولك أعجبني زيد وكرمه يريد كرم زيد ومنه:
428

* ومنهل من الفلافي أوسطه
*
غلسته قبل القطا وفرطه
*
أراد قبل فرط القطا انتهى. أي قبل تقدم القطا إليه. وقرأ أبو جعفر * (ليحكم) * في الموضعين مبنيا للمفعول و * (إذا) * الثانية للفجاءة. جواب * (إذا) * الأولى الشرطية، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية خلافا للأكثرين من النحاة، لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وقد أحكم ذلك في علم النحو. والظاهر أن * (إليه) * متعلق بيأتوا. والضمير في * (إليه) * عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم). وأجاز الزمخشري أن يتعلق * (إليه) * بمذعنين قال: لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص. وقد رددنا عليه ذلك وفي ما رجح تهيئة العامل للعمل وقطعه عن العمل وهو مما يضعف، والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معه إلا الحق المر والعدل البحت يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم الحق على خصم أسرع إليك كلهم ولم يرضوا إلا بحكومتك.
* (أفى قلوبهم مرض * أو ارتابوا أم يخافون) * * (أم) * هنا منقطعة والتقدير: بل ارتابوا بل أيخافون وهو استفهام توقيف وتوبيخ، ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به ويذم، أو مما يمدح به وهو بليغ جدا فمن المبالغة في الذم. قول الشاعر:
* ألست من القوم الذين تعاهدوا
*
على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر
*
ومن المبالغة في المدح. قول جرير:
* ألستم خير من ركب المطايا
*
وأندى العالمين بطون راح
*
وقسم تعالى جهات صدودهم عن حكومته فقال * (أفى قلوبهم مرض) * أي نفاق وعدم إخلاص * (أم ارتابوا) * أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين * (أم يخافون) * أي يعرض لهم الخوف من الحيف في الحكومة، فيكون ذلك ظلما لهم. ثم استدرك ببل أنهم * (هم الظالمون) *.
وقرأ علي وابن أبي إسحاق والحسن * (إنما كان قول) * بالرفع والجمهور بالنصب. قال الزمخشري: والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسما لكان أو غلهما في التعريف و * (أن يقولوا) * أو غل
429

لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين. وكان هذا من قبيل كان في قوله * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * * (ما يكون لنا أن نتكلم بهاذا) * انتهى. ونص سيبويه على أن اسم كان وخبرها إذا كانتا معرفتين فأنت بالخيار في جعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر من غير اعتبار شرط في ذلك ولا اختيار.
وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس * (ليحكم بينهم) * مبنيا للمفعول، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير المصدر أي * (ليحكم) * هو أي الحكم، والمعنى ليفعل الحكم * (بينهم) * ومثله قولهم: جمع بينهما وألف بينهما وقوله تعالى * (وحيل بينهم) *. قال الزمخشري: ومثله * (لقد تقطع بينكم) * فيمن قرأ
* (بينكم) * منصوبا أي وقع التقطع بينكم انتهى. ولا يتعين ما قاله في الآية إذ يجوز أن يكون الفاعل ضميرا يعود على شيء قبله وتقدم الكلام في ذلك في موضعه.
* (أن يقولوا سمعنا) * أي قول الرسول * (وأطعنا) * أي أمره. وقرئ * (ويتقه) * بالإشباع والاختلاس والإسكان. وقرئ * (ويتقه) * بسكون القاف وكسر الهاء من غير إشباع أجرى خبر كان المنفصل مجرى المتصل، فكما يسكن علم فيقال علم كذلك سكن ويتقه لأنه تقه كعلم وكما قال السالم:
* قالت سليمى اشتر لنا سويقا يريد اشتر لنا * (ومن يطع الله) * في فرائضه * (ورسوله) * في سننه و * (يخشى الله) * على ما مضى من ذنوبه * (ويتقه) * فيما يستقبل. وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه.
*
ولما بلغ المنافقين ما أنزل تعالى فيهم أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) وأقسموا إلى آخره أي * (ليخرجن) * عن ديارهم وأموالهم ونسائهم و * (لئن أمرتهم) * بالجهاد * (ليخرجن) * إليه وتقدم الكلام في * (جهد أيمانهم) * في الأنعام. ونهاهم تعالى عن قسمهم لعلمه تعالى أنه ليس حقا. * (طاعة معروفة) * أي معلومة لا شك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين المطابق باطنهم لظاهرههم، لا أيمان تقسموا بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو طاعتكم طاعة معروفة بالقول دون الفعل، أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: يحتمل معاني.
أحدها: النهي عن القسم الكاذب إذ قد عرف أن طاعتهم دغلة رديئة فكأنه يقول: لا تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه.
والثاني: لا تتكلفوا القسم طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى عليكم، وفي هذا الوجه إبقاء عليهم.
والثالث: لا تقنعوا بالقسم طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم هو المطلوب منكم.
والرابع: لا تقنعوا لأنفسكم بإرضائنا بالقسمة طاعة الله معروفة وجهاد عدوه مهيع لائح انتهى.
و * (طاعة) * مبتدأ و * (معروفة) * صفة والخبر محذوف، أي أمثل وأولى أو خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا أو المطلوب * (طاعة معروفة) *. وقال أبو البقاء: ولو قرىء بالنصب لكان جائزا في العربية وذلك على المصدر أي أطيعوا طاعة انتهى. وقدراه بالنصب زيد بن علي واليزيدي وتقدير بعضهم الرفع على إضمار ولتكن * (طاعة معروفة) * ضعيف لأنه لا يحذف الفعل ويبقى الفاعل، إلا إذا كان ثم مشعر به نحو * (رجال) * بعد * (يسبح) * مبنيا للمفعول أي يسبحه رجال، أو يجاب به نفي نحو: بلى زيد لمن قال: ما جاء أحد. أو استفهام نحو قوله:
* ألا هل أتى أم الحويرث مرسل
*
بلى خالد إن لم تعقه العوائق
*
أي أتاها خالد. * (إن الله خبير بما تعملون) * أي مطلع على سرائركم ففاضحكم. والتفت من الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في تبكيتهم.
ولما بكتهم بأن مطلع على سرائرهم تلطف بهم فأمرهم بطاعة الله والرسول وهو أمر عام للمنافقين وغيرهم. * (فإن تولوا) * أي فإن تتولوا. * (فإنما عليه) * أي على الرسول * (ما حمل) * وهو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في إنذارهم. * (وعليكم ما حملتم) * وهو السمع والطاعة واتباع الحق. ثم علق هدايتهم على طاعته فلا يقع إلا بطاعته * (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) * تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في المائدة.
روي أي بعض الصحابة شكا جهد
430

مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزل * (وعد الله الذين ءامنوا منكم) *. وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال بعضهم ما أتى علينا يوم نأمن من فيه ونضع السلاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم): (لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليسمعه حديدة). قال ابن عباس: وهذا الوعد وعده الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم) في التوراة والإنجيل. والخطاب في * (منكم) * للرسول وأتباعه و * (من) * للبيان أي الذين هم أنتم وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء. وقوله * (فى الارض) * هي البلاد التي تجاورهم وهي جزيرة العرب، ثم افتتحوا بلاد الشرق والغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا. وفي الصحيح: (زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي عنها). قال بعض العلماء: ولذلك اتسع نطاق الإسلام في الشرق والغرب دون اتساعه في الجنوب والشمال. قلت: ولا سيما في عصرنا هذا بإسلام معظم العالم في المشرق كقبائل الترك، وفي المغرب كبلاد السودان التكرور والحبشة وبلاد الهند.
* (كما استخلف الذين من قبلهم) * أي بني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة. وقيل: هو ما كان في زمان داود وسليمان عليهما السلام، وكان الغالب على الأرض المؤمنون. وقرئ * (كما استخلف) * مبنيا للمفعول. واللام في * (ليستخلفنهم) * جواب قسم محذوف، أي وأقسم * (ليستخلفنهم) * أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاوب به القسم. وعلى التقدير حذف القسم بكون معمول * (وعد) * محذوفا تقديره استخلافكم وتمكين دينكم. ودل عليه جواب القسم المحذوف. وقال الضحاك: هذه الآية تتضمن خلافه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات. وقال صلى الله عليه وسلم): (الخلافة بعدي ثلاثون) انتهى. ونيدرج من جرى مجراهم في العدل من استخلف من قريش كعمر بن عبد العزيز من الأمويين، والمهتدين بالله في العباسيين.
* (وليمكنن لهم دينهم) * أي يثبته ويوطده بإظهاره وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله. و * (الذى ارتضى لهم) * صفة مدح جليلة وقد بلغت هذه الأمة في تمكين هذا الدين الغاية القصوى مما أظهر الله على أيديهم من الفتوح والعلوم التي فاقوا فيها جميع العالم من لدن آدم إلى زمان هذه الملة المحمدية. وقرأ الجمهور * (وليبدلنهم) * بالتشديد وابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف. وقال أبو العالية: لما أظهر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم) على جزيرة العرب وضعوا السلاح وآمنوا، ثم قبض الله نبيه عليه السلام فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة، فأدخل الله عليهم الخوف فغيروا فغير الله ما بهم.
* (يعبدوننى) * الظاهر أنه مستأنف فلا موضع له من الإعراب كأنه قيل: ما لهم يستخلفون ويؤمنون فقال * (يعبدوننى) * قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: * (يعبدوننى) * فعل مستأنف أي هم * (يعبدوننى) * ويعني بالاستئناف الجملة لا نفس الفعل وحده وقاله الحوفي قال: ويجوز أن يكون مستأنفا على طريق الثناء عليهم أي هم * (يعبدوننى) *. وقال الزمخشري: وإن جعلته حالا عن وعدهم أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحله النصب انتهى. وقال الحوفي قبله. وقال أبو البقاء: * (يعبدوننى) * حال من * (ليستخلفنهم) * و * (* ليبدلنهم) * * (بربهم لا يشركون) * بدل من * (يعبدوننى) * أو حال من الفاعل في * (يعبدوننى) * موحدين انتهى. والظاهر أنه متى أطلق الكفر كان مقابل الإسلام والإيمان وهو ظاهر قول حذيفة قال: كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم)، وقد ذهب ولم يبق إلا كفر بعد إيمان. قال ابن عطية: يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون الفسق على هذا غير مخرج عن الملة. قيل: ظهر في قتلة عثمان.
وقال الزمخشري: * (ومن كفر) * يريد كفران النعمة كقوله * (فكفرت بأنعم الله) * * (فأولئك هم الفاسقون) * أي هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة. والظاهر
431

أن قوله * (وأقيموا) * التفات من الغيبة إلى الخطاب ويحسنه الخطاب في منكم. وقال الزمخشري: * (وإذ أخذنا) * معطوف على * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه. فاصل. وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وكررت طاعة الرسول توكيدا لوجوبها انتهى.
وقرأ الجمهور * (لا تحسبن) * بتاء الخطاب والتقدير، * (لا تحسبن) * أيها المخاطب ولا يندرج فيه الرسول، وقالوا: هو خطاب للرسول وليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصور وقوعه فيه عليه السلام. وقرأ حمزة وابن عامر لا يحسبن بالياء للغيبة، والتقدير لا يحسبن حاسب، والرسول لا يندرج في حاسب وقالوا: يكون ضمير الفاعل للرسول لتقدم ذكره في * (وأطيعوا الرسول) * قاله أبو علي والزمخشري وليس بجيد لما ذكرناه في قراءة التاء. وقال النحاس: ما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن، وممن قال هذا أبو حاتم انتهى. وقال الفراء: هو ضعيف وأجازه على حذف المفعول الثاني وهو قول البصريين تقديره أنفسهم. و * (معاجزين) * المفعول الثاني.
وقال علي بن سليمان: * (الذين كفروا) * في موضع نصب قال: ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر * (الذين كفروا معجزين فى الارض) *. وقال الكوفيون: * (معاجزين) * المفعول الأول. و * (فى الارض) * الثاني قيل: وهو خطأ وذلك لأن ظاهر في * (الارض) * تعلقه بمعجزين، فلا يكون مفعولا ثانيا. وخرج الزمخشري ذلك متبعا قول الكوفيين. فقال * (معجزين فى الارض) * هما المفعولان والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا لهم في مثل ذلك، وهذا معنى قوي جيد انتهى. وقال أيضا: يكون الأصل: لا يحسبنهم * (الذين كفروا معجزين) * ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشئ الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث انتهى. وقد رددنا هذا التخريج في آل عمران في قوله * (لا * يحسبن الذين * يفرحون بما أتوا) * في قراءة من قرأ بياء الغيبة، وجعل الفاعل * (الذين يفرحون) * وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يتقدر لا يحسبنهم إذ لا يجوز ظنه زيد قائما على تقدير رفع زيد بظنه.
* (ومأواهم النار) * قال الزمخشري: عطف على * (لا تحسبن) * كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله * (ومأواهم النار) * والمراد بهم المقسمون جهد أيمانهم انتهى. وقال صاحب النظام لا يحتمل أن يكون * (ومأواهم) * متصلا بقوله * (لا تحسبن الذين كفروا معجزين فى الارض) * بل هم مقهورون * (ومأواهم النار) * انتهى. واستبعد العطف من حيث إن * (لا تحسبن) * نهي * (ومأواهم النار) * جملة خبرية فلم يناسب عنده أن يعطف الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم. ولما أحسن الزمخشري بهذا قال: كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة، والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضا على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلواة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلواة العشآء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الا يات والله عليم حكيم * وإذا بلغ الا طفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذالك يبين الله لكم ءاياته والله عليم حكيم * والقواعد من النسآء اللاتى لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم * ليس على الا عمى حرج ولا على الا عرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت ءابآئكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الا يات لعلكم تعقلون) *)) 2
روي أن عمر بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) غلاما من الأنصار يقال له مدلج، وكان نائما فدق عليه الباب ودخل، فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا عن
432

الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن. ثم انطلق إلى الرسول فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا. وقيل: نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قيل: دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا حالا نكرهها.
* (ليستأذنكم) * أمر والظاهر حمله على الوجوب والجمهور على الندب. وقيل: بنسخ ذلك إذ صار للبيوت أبواب روي ذلك عن ابن عباس وابن المسيب والظاهر عموم * (الذين ملكت أيمانكم) * في العبيد والإماء دون العبيد. * (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) * عام في الأطفال عبيد كانوا أو أحرارا. وقرأ الحسن وأبو عمر وفي رواية وطلحة * (الحلم) * بسكون اللام وهي لغة تميم. وقيل * (منكم) * أي من الأحرار ذكورا كانوا أو إناثا. والظاهر من قوله * (ثلاث مرات) * ثلاث استئذانات لأنك إذا ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: (الاستئذان ثلاث) والذي عليه الجمهور أن معنى * (ثلاث مرات) * ثلاث أوقات وجعلوا ما بعده من ذكر تلك الأوقات تفسيرا لقوله * (ثلاث مرات) * ولا يتعين ذلك بل تبقى * (ثلاث مرات) * على مدلولها.
* (من قبل صلواة الفجر) * لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وقد ينكشف النائم. * (وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة) * لأنه وقت وضع الثياب للقائلة لأن النهار إذ ذاك يشتد حره في ذلك الوقت. و * (من) * في * (من الظهيرة) * قال أبو البقاء: لبيان الجنس أي حين ذلك هو الظهيرة، قال: أو بمعنى من أجل حر الظهيرة و * (حين) * معطوف على موضع * (من قبل) * * (ومن بعد صلواة العشاء) * لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم * (ثلاث عورات لكم) * سمى كل واحد منها عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان، والأعور المختل العين. وقرأ حمزة والكسائي * (ثلاث) * بالنصب قالوا: بدل من * (ثلاث عورات) * وقدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء أوقات * (ثلاث عورات) * وقال ابن عطية: إنما يصح يعنى البدل بتقدير أوقات * (عورات) * فحذف المضاف وقيم المضاف إليه مقامه. وقرأ باقي السبعة بالرفع أي هن * (ثلاث عورات) * وقرأ الأعمش * (عورات) * بفتح الواو وتقدم أنها لغة هذيل بن مدركة وبني تميم وعلى رفع * (ثلاث) *.
قال الزمخشري: يكون * (ليس عليكم) * الجملة في محل رفع على الوصف والمعنى هن * (ثلاث عورات) * مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاما مقررا بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة.
* (بعدهن) * أي بعد استئذانهم فيهن حذف الفاعل وحرف الجر بفي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر وقيل * (ليس) * على العبيد والإماء ومن لم يبلغ الحلم في الدخول * (عليكم) * بغير استئذان * (جناح) * بعد هذه الأوقات الثلاث * (طوفون عليكم) * يمضون ويجيؤون وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم * (طوفون) * أي المماليك والصغار * (طوفون عليكم) * أي يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن إلا في تلك الأوقات. وجوزوا في * (بعضكم على بعض) * أن يكون مبتدأ وخبرا لكن الجر قدروه طائف على بعض وهو كون مخصوص فلا يجوز حذفه. قال الزمخشري: وحذف لأن طوافون يدل عليه وأن يكون مرفوعا بفعل محذوف تقديره يطوف بعضكم. وقال ابن عطية * (بعضكم) * بدل من قوله * (طوفون) * ولا يصح لأنه إن أراد بدلا من * (طوفون) * نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم * (بعضكم على بعض) * وهذا معنى لا يصح. وإن جعلته بدلا من الضمير في * (طوفون) * فلا يصح أيضا إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقدير المبتدأ هم لأنه يصير التقدير هم يطوف * (بعضكم على بعض) * وهو لا يصح. فإن جعلت التقدير أنتم يطوف * (عليكم بعضكم على بعض) * فيدفعه أن قوله * (عليكم) * بدل على أنهم هم المطوف عليهم، وأنتم طوافون، يدل على أنهم طائفون فتعارضا. وقرأ ابن أبي عبلة طوافين بالنصب على الحال من ضمير * (عليهم) *. وقال الحسن: إذا بات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ولا في هذه الأوقات الثلاثة.
* (وإذا بلغ الاطفال) * أي من أولادكم وأقربائكم * (فليستأذنوا) * أي في كل الأوقات فإنهم قبل البلوغ كانوا يستأذنون في ثلاث الأوقات. * (كما استأذن الذين من قبلهم) * يعني البالغين. وقيل: الكبار من أولاد الرجل وأقربائه. ودل ذلك على أن الابن والأخ البالغين كالأجنبي في ذلك وتكلموا هنا
433

فيما به البلوغ وهي مسألة تذكر في الفقه. كذلك الإشارة إلى ما تقدم ذكره من استئذان المماليك وغير البلغ.
ولما أمر تعالى النساء بالتحفظ من الرجال ومن الأطفال غير البلغ في الأوقات التي هي مظنة كشف عورتهن استثنى * (القواعد من * النساء) * اللاتي كبرن وقعدن عن الميل إليهن والافتتان بهن فقال * (والقواعد) * وهو جمع قاعد من صفات الإناث. وقال ابن السكيت: امرأة قاعد قعدت عن الحيض. وقال ابن قتيبة: سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود. وقال ربيعة لقعودهن عن الاستمتاع بهن فأيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج. وقيل قعدن عن الحيض والحبل. و * (ثيابهن) * الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار والملاء الذي فوق الثياب أو الخمر أو الرداء والخمار أقوال، ويقال للمرأة إذا كبرت امرأة واضع أي وضعت خمارها. * (غير متبرجات بزينة) * أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن، وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤه أو غير قاصدات التبرج بالوضع، ورب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر بها جمال.
* (وأن يستعففن) * عن وضع الثياب ويتسترن كالشباب أفضل لهن. * (والله سميع) * لما يقول كل قائل * (عليم) * بالمقاصد. وفي ذكر هاتين الصفتين توعد وتحذير.
عن ابن عباس لما نزل * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنه لا يستطيع
المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله هذه الآية قيل: وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة أن تلك إنما هي في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله أو بصفقة فاسدة ونحوه. وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وابن المسيب كانوا إذا نهضوا ءلى الغزو وخلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم تحرجوا من أكل مال الغائب فنزلت مبيحة لهم ما تمس إليه حاجتهم من مال الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك. وقال مجاهد: كان الرجل إذا ذهب بأهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب بهم إلى بيوت قراباته فتحرج أهل الأعذار من ذلك فنزلت. وقيل: كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار فبعضهم تقذرا لمكان جولان يد الأعمى، ولانبساط الجلسة مع الأعرج، ولرائحة المريض وهي أخلاق جاهلية وكبر. فنزلت واستبعد هذا لأنه لو كان هذا السبب لكان التركيب ليس عليكم حرج أن تأكلوا معهم ولم يكن * (ليس على الاعمى حرج) * وأجاب بعضهم: بأن * (على) * في معنى أي في مواكلة الأعمى وهذا بعيد جدا. وفي كتاب الزهراوي عن ابن عباس أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم فنزلت. وعلى هذه الأقوال كلها يكون نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في المطاعم. وقال الحسن وعبد الرحمن بن زيد الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه، والحرج المنفي عمن بعدهم في الأكل مما ذكر وهو مقطوع مما قبله إذ متعلق الحرجين مختلف. وإن كان قد اجتمعا في انتفاء الحرج. وهذا القول هو الظاهر. ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاء بذكر بيوتكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه، وبيته بيته. وفي الحديث (إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه).
ومعنى * (من بيوتكم) *. من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم، والولد أقرب من عدد من القرابات فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى. وقرأ طلحة إمهاتكم بكسر الهمزة. * (أو ما ملكتم) *. قال ابن عباس: هو وكيل الرجل أن يتناول من التمر ويشرب من اللبن. وقال قتادة: العبد لأن ماله لك. وقال مجاهد والضحاك: خزائن بيوتكم إذا ملكتم مفاتيحها. وقال ابن جرير: الزمنى ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها. وقيل: ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر ما قال تعالى * (فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * ومفاتحه بيده.
وقرأ الجمهور * (ملكتم) * بفتح الميم واللام خفيفة. وقرأ ابن جبير بضم الميم وكسر اللام مشددة، والجمهور * (مفاتحه) * جمع مفتح وابن جبير مفاتيحه جمع مفتاح، وقتادة وهارون عن أبي عمرو مفتاحه مفردا. * (أو صديقكم) * قرىء بكسر الصاد إتباعا لحركة الدال حكاه حميد الخزاز، قرن الله الصديق بالقرابة المحضة. قيل لبعضهم: من أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: لا أحب أخي إلا إذا كان صديقي. وقال معمر: قلت لقتادة ألا أشرب من هذا
434

الحب؟ قال: أنت لي صديق فما هذا الاستئذان. وقال ابن عباس: الصديق أوكد من القرابة لا ترى استغاثة الجهنميين * (فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم) * ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات ومعنى * (أو صديقكم) * أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون للواحد والجمع كالخليط والقطين، وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب فجاء فسر بذلك وقال: هكذا وجدناهم يعني كبراء الصحابة، وكان الرجل يدخل بيت صديقه فيأخذ من كيسه فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك. وعن جعفر الصادق: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وترك الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ. وقال هشام بن عبد الملك: نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه. وقال أهل العلم: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح.
وانتصب * (جميعا أو أشتاتا) * على الحال أي مجتمعين أو متفرقين. قال الضحاك وقتادة: نزلت في حي من كنانة تحرجوا أن يأكل الرجل وحده فربما قعدوا لطعام بين يديه لا يجد من يؤاكله حتى يمسي فيضطر إلى الأكل وحده. وقال بعض الشعراء:
* إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له
*
أكيلا فإني لست آكله وحدي
*
وقال عكرمة في قوم من الأنصار: إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون لا معه. وقيل في قوم: تحرجوا أن يأكلوا جميعا مخافة أن يزيد أحدهم على الآخرة في الأكل. وقيل * (أو صديقكم) * هو إذا دعاك إلى وليمة فحسب. وقيل: هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام (ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر: (لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه) وبقوله تعالى * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا) *.
* (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) *. قال ابن عباس والنخعي: المساجد فسلموا على من فيها فإن لم يكن فيها أحد قال السلام على رسول الله. وقيل: يقول السلام عليكم يعني الملائكة، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال جابر وابن عباس وعطاء: البيوت المسكونة وقالوا يدخل فيها غير المسكونة، فيقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال ابن عمر: بيوتا خالية. وقال السدي * (على أنفسكم) * على أهل دينكم. وقال قتادة: على أهاليكم في بيوت أنفسكم. وقيل: بيوت الكفار * (فسلموا على أنفسكم) * وقال الزمخشري * (فإذا دخلتم بيوتا) * من هذه البيوت لتأكلوا، فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم فيها منكم دينا وقرابة. و * (تحية من عند الله) * أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة وحياة للمسلم عليه ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة وطيب الرزق انتهى. وقال مقاتل: مباركة بالأجر. وقيل: بورك فيها بالثواب. وقال الضحاك: في السلام عشر حسنات، ومع الرحمة عشرون، ومع البركات ثلاثون. وانتصب * (تحية) * بقوله * (فسلموا) * لأن معناه فيحوا كقولك: قعدت جلوسا.
2 (* (إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولائك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم * لا تجعلوا دعآء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم * ألاإن لله ما فى السماوات والا رض قد يعلم مآ أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شىء عليم) *)) 2
لما افتتح السورة بقوله * (سورة أنزلناها) * وذكر أنواعا من الأوامر والحدود مما أنزله على الرسول عليه السلام اختتمها بما يجب له عليه السلام على أمته من التتابع والتشايع على ما فيه مصلحة الإسلام ومن
435

طلب استئذانه إن عرض لأحد منهم عارض، ومن توقيره في دعائهم إياه. وقال الزمخشري: أراد عز وجل أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) بغير إذنه.
* (إذا * كانوا معه على أمر جامع) * فجعل ترك ذهابهم * (حتى) * ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم)، وجعلهما كالتسبيب له والنشاط لذكره. وذلك مع تصدير الجملة بإنما وارتفاع المؤمنين مبتدأ ومخبر عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتسديدا بحيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله * (إن الذين * يستذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) * وضمنه شيئا آخر وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين، وعرض بحال الماضين وتسللهم لو إذا.
ومعنى قوله * (لم يذهبوا حتى يستذنوه) * لم يذهبوا حتى يستأذنوه وبأذن لهم، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن بأذن له، والأمر الجامع الذي يجمع له الناس، فوصف بالجمع على المجاز وذلك نحو مقابلة عدو وتشاور في أمرهم أو تضام لإرهاب مخالف، أو ما ينتج في حلف وغير ذلك. والأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وفي قوله * (وإذا كانوا معه على أمر جامع) * أنه خطب جليل لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه من ذوي رأي وقوة يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضئ بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفاءته، فمفارقة أحدهم في مثل هذه الحالة مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه. فمن ثم غلظ عليهم وضيق الأمر في الاستئذان مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه واعتراض ما يهمهم ويعينهم، وذلك قوله * (لبعض شأنهم) * وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه.
وقيل: نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن لذلك ينبغي أن يكون الناس مع أثمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل، ولا يتفرقون عنهم، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن على حسب ما اقتضاه رأيه انتهى. وهو تفسير حسن ويجري هذا المجرى إمام الأمرة إذا كان الناس معه مجتمعين لمراعاة مصلحة دينية فلا يذهب أحد منهم عن المجمع إلا بإذن منه إذ قد يكون له رأي في حضور ذلك الذاهب. وقال مكحول والزهري: الجمعة من الأمر الجامع، فإذا عرض للحاضر ما يمنعه الحضور من سبق رعاف فليستأذن حتى يذهب عنه سوء الظن به. وقال ابن سيرين: كانوا يستأذنون الإمام على المنبر، فلما كثر ذلك قال زياد: من جعل يده على أنفه فليخرج دون إذن وقد كان هذا بالمدينة حتى إن سهيل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام. وقال ابن سلام: هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والاستسقاء. وقال ابن زيد: في الجهاد. وقال مجاهد: الاجتماع في طاعة الله. قيل: في قوله * (فأذن لمن شئت منهم) * أريد بذلك عمر بن الخطاب. وقرأ اليماني على أمر جميع.
* (لا تجعلوا) * خطاب لمعاصري الرسول عليه السلام لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة، أمروا بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم) بأحسن ما يدعى به نحو: يا رسول الله، يا نبي الله، ألا ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول: يا محمد وفي قوله * (كدعاء بعضكم بعضا) * إشارة إلى جواز ذلك مع بضعهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه عليه السلام إلا من دعاه لا من دعا غيره. وكانوا يقولون: يا أبا القاسم يا محمد فنهوا عن ذلك. وقيل: نهاهم عن الإبطاء والتأخر إذا دعاهم، واختارهم المبرد والقفال ويدل عليه * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * وهذا القول موافق لمساق الآية ونظمها.
وقال الزمخشري: إذا احتاج إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه على دعاء بعضكم بعضا ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي انتهى. وهو قريب مما قبله. وقال أيضا: ويحتمل * (لا تجعلوا) * دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم، يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده، وإن دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم) مسموعة مستجابة انتهى. وقال ابن عباس: إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه. قال ابن عطية: ولفظ الآية يدفع هذا المعنى انتهى.
وقرأ الحسن ويعقوب في رواية نبيكم بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء مشددة بدل قوله * (بينكم) * ظرفا قراءة الجمهور. قال صاحب اللوامح: وهو النبي عليه السلام على البدل من * (الرسول) * فإنما صار بدلا لاختلاف تعريفهما باللام مع الإضافة، يعني أن الرسول معرفة باللام ونبيكم معرفة
436

بالإضافة إلى الضمير فهو في رتبة العلم، فهو أكثر تعريفا من ذي اللام فلا يصح النعت به على المذهب المشهور، لأن النعت يكون دون المنعوت أو مساويا له في التعريف. ثم قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نعتا لكونهما معرفتين انتهى. وكأنه مناقض لما قرر من اختياره البدل وينبغي أن يجوز النعت لأن الرسول قد صار علما بالغلبة كالبيت للكعبة إذ ما جاء في القرآن والسنة من لفظ الرسول إنما يفهم منه أنه محمد صلى الله عليه وسلم)، فإاذ كان كذلك فقد تساويا في التعريف. ومعنى * (يتسللون) * ينصرفون قليلا قليلا عن الجماعة في خفية، ولواذ بعضهم ببعض أي هذا يلوذ بهذا وهذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتارا من الرسول.
وقال الحسن * (لواذا) * فرارا من الجهاد. وقيل: في حفر الخندق ينصرف المنافقون بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة. وقال مجاهد لوذا خلافا. وقال أيضا * (يتسللون) * من الصف في القتال وقيل: * (يتسللون) * على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعلى كتابه وعلى ذكره. وانتصب * (لواذا) * على أنه مصدر في موضع الحال أي متلاوذين، و * (لواذا) * مصدر لاوذ صحت العين في الفعل فصحت في المصدر، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذا كقام قياما. وقرأ يزيد بن قطيب * (لواذا) * بفتح اللام، فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم يقبل لأنه لا كسرة قبل الواو فهو كطاف طوافا. واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو وخالف يتعدى بنفسه تقول: خالفت أمر زيد وبالي تقول: خالفت إلى كذا فقوله * (عن أمره) * ضمن خالف معنى صد وأعرض فعاده بعن. وقال ابن عطية: معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول كان المرط عن ريح و * (عن) * هي لما عدا الشيء. وقال أبو عبيدة والأخفش * (عن) * زائدة أي * (أمره) * والظاهر أن الأمر بالحذر للوجوب وهو قول الجمهور، وأن الضمير في * (أمره) * عائد على الله. وقيل على الرسول.
وقرئ يخلفون بالتشديد أي يخلفون أنفسهم بعد أمره، والفتنة القتل قاله ابن عباس أيضا أو بلاء قاله مجاهد، أو كفر قاله السدي ومقاتل، أو إسباغ النعم استدراجا قاله الجراح، أو قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر قاله الجنيد، أو طبع على القلوب قاله بعضهم. وهذه الأقوال خرجت مخرج التمثيل لا الحصر وهي في الدنيا. أو * (عذاب أليم) *. قيل: عذاب الآخرة. وقيل: هو القتل في الدنيا.
* (ألا إن لله ما فى * السماوات والارض) * هذا كالدلالة على قدرته تعالى عليهما وعلى المكلف فيما يعامله به من المجازاة من ثوابه وعقابه. * (قد يعلم ما أنتم عليه) * أي من مخالفة أمر الله وأمر رسوله وفيه تهديد ووعيد، والظاهر أنه خطاب للمنافقين. وقال الزمخشري: ادخل * (قد) * ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التنكير في نحو قوله:
* فإن يمس مهجور الفناء فربما
*
أقام به بعد الوفود وفود
*
ونحو من ذلك قول زهير:
* أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله
*
ولكنه قد يهلك المال نائله
*
انتهى. وكون قد إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول بعض النحاة وليس بصحيح، وإنما التكثير مفهوم من سياقة الكلام في المدح والصحيح في رب إنها لتقليل الشيء أو تقليل نظيره فإن فهم تكثير فليس ذلك من رب. ولا قد إنما هو من سياقه الكلام، وقد بين ذلك في علم النحو.
وقرأ الجمهور * (يرجعون) * مبنيا للمفعول. وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو مبنيا للفاعل. والتفت من ضمير الخطاب في * (أنتم) * إلى ضمير الغيبة في * (يرجعون) * ويجوز
437

أن يكون * (ما أنتم عليه) * خطابا عاما ويكون * (يرجعون) * للمنافقين. والظاهر عطف * (ويوم) * على * (ما أنتم عليه) * فنصبه نصب المفعول. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون التقديم والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف.
* (للناس وأنزل الفرقان) *
الهباء قال أبو عبيدة والزجاج: مثل الغبار يدخل الكوة مع ضوء الشمس. وقال ابن عرفة: الهبوة والهباء التراب الدقيق. وقال الجوهري يقال منه إذا ارتفع هبا يهبو هبوا، وأهبيته أنا إهباء. وقيل: هو الشرر الطائر من النار إذا أضرمت. النثرب: التفريق. العض: وقع الأسنان على المعضوض بقوة وفعله على وزن فعل بكسر العين، وحكى الكسائي عضضت بفتح عين الكلمة. فلان كناية عن علم من يعقل. الجملة من الكلام هو المجتمع غير المفرق. الترتيل سرد اللفظ بعد اللفظ يتخلل بينهما زمن يسير من قولهم: ثغر مرتل أي مفلج الأسنان. السبات: الراحة، ومنه يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت قاله أبو مسلم. وقال الزمخشري: السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة. مرج: قال ابن عرفة خلط ومرج الأمر اختلط واضطرب. وقيل: مرج وأمرج أجرى، ومرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد. العذب: الحلو. والفرات البالغ في الحلاوة. الملح: المالح. والأجاج البالغ في الملوحة. وقيل: المر. وقيل: الحار. الصهر، قال الخليل: لا يقال لأهل بيت المرأة إلا أصهار، ولأهل بيت الرجل إلا أختان، ومن العرب من يجعلهم أصهارا كلهم. السراج: الشمس. الهون: الرفق واللبن. الغرفة: العلية وكل بناء عال فهو غرفة. عباء من العبء وهو الثقيل، يقال: عبأت الجيش بالتخفيف والتثقيل هيأته للقتال، ويقال: ما عبأت به أي ما اعتددت به كقولك: ما اكترثت به.
438

((سورة الفرقان))
2 (* (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذى له ملك السماوات والا رض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك وخلق كل شىء فقدره تقديرا * واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيواة ولا نشورا * وقال الذين كفروا إن هاذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون فقد جآءوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الا ولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذى يعلم السر فى السماوات والا رض إنه كان غفورا رحيما * وقالوا ما لهاذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الا سواق لولاأنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الا مثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * تبارك الذىإن شآء جعل لك خيرا من ذالك جنات تجرى من تحتها الا نهار ويجعل لك قصورا * بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا * وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا * قل أذالك خير أم جنة الخلد التى وعد المتقون كانت لهم جزآء ومصيرا * لهم فيها ما يشآءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا) *)) 2
هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي * (والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر) * إلى قوله * (وكان الله غفورا رحيما) * وقال الضحاك مدنية إلا من أولها إلى قوله * (ولا نشورا) * فهو مكي
439

ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم توقف انفصال واحد منهم على إذنه وحذر من يخالف أمره وذكر أن له ملك السماوات والأرض وأنه تعالى عالم بما هم عليه ومجازيهم على ذلك، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار ناسب أن يفتتح هذه السورة بأنه تعالى منزه في صفاته عن النقائص كثير الخير، ومن خيره أنه * (نزل الفرقان) * على رسوله منذرا لهم فكان في ذلك أطماع في خيره وتحذيره من عقابه. و * (تبارك) * تفاعل مطاوع بارك وهو فعل لا يتصرف ولم يستعمل في غيره تعالى فلا يجيء منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مصدر. وقال الطرماح:
* تباركت لا معط لشيء منعته
*
وليس لما أعطيت يا رب مانع
*
قال ابن عباس: لم يزل ولا يزول. وقال الخليل: تمجد. وقال الضحاك: تعظم. وحكى الأصمعي تبارك عليكم من قول عربي صعد رابية فقال لأصحابه ذلك، أي تعاليت وارتفعت. ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات. وقال ابن عباس أيضا والحسن والنخعي: هو من البركة وهي التزايد في الخير من قبله، فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر، وعلى هذا يكون صفة فعل وجاء الفعل مسندا إلى * (الذى) * وهم وإن كانوا لا يقرون بأنه تعالى هو الذي نزل الفرقان فقد قام الدليل على إعجازه فصارت الصلة معلومة بحسب الدليل، وإن كانوا منكرين لذلك. وتقدم في آل عمران لم سمي القرآن فرقانا.
وقرأ الجمهور * (على عبده) * وهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم). وقرأ ابن الزبير على عباده أي الرسول وأمته كما قال * (لقد أنزلنا إليكم) * * (وما أنزل إلينا) * ويبعد أن يراد بالقرآن الكتب المنزلة، وبعبده من نزلت عليهم فيكون اسم جنس كقوله * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * والضمير في * (ليكون) *. قال ابن زيد: عائد على * (عبده) * ويترجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل وهو من وصفه تعالى كقوله * (إنا كنا منذرين) *. والظاهر أن * (نذيرا) * بمعن منذر. وجوز أن يكون مصدرا بمعنى لإنذر كالنكير بمعنى الإنكار، ومنه * (فكيف كان عذابى ونذر) *. و * (للعالمين) * عام للإنس والجن، ممن عاصره أو جاء بعده وهذا معلوم من الحديث المتواتر وظواهر الآيات. وقرأ ابن الزبير * (للعالمين) * للجن والإنس وهو تفسير * (للعالمين) *.
ولما سبق في أواخر السورة لا إن لله ما في السماوات والأرض فكان إخبارا بأن ما فيهما ملك له، أخبر هنا أنه له ملكهما أي قهرهما وقهر ما فيهما، فاجتمع له الملك والملك لهما. ولما فيهما، والذي مقطوع للمدح رفعا أو نصبا أو نعت أو بد من * (الذى نزل) * وما بعد * (نزل) * من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلا بين النعت أو البدل ومتبوعه.
* (ولم يتخذ ولدا) * الظاهر نفي الاتخاذ أي لم ينزل أحدا منزلة الولد. وقيل: المعنى لم يكن له ولد بمعنى قوله لم يلد لأن التوالد مستحيل عليه. وفي ذلك رد على مشركي قريش وعلى النصارى واليهود الناسبين لله الولد. * (ولم يكن له شريك فى الملك) * تأكيد لقوله * (له ملك السماوات والارض) * ورد على من جعل لله شريكا.
* (وخلق كل شىء) * عام في خلق الذوات وأفعالها. قيل: وفي الكلام حذف تقديره * (وخلق كل شىء) * مما يصح خلقه لتخرج عنه ذاته وصفاته القديمة انتهى. ولا يحتاج إلى هذا المحذوف لأن من قال: أكرمت كل رجل لا يدخل هو في العموم فكذلك لم يدخل في عموم * (وخلق كل شىء) * ذاته تعالى ولا صفاته القديمة. * (فقدره تقديرا) * إن كان الخلق بمعنى التقدير، فكيف جاء * (فقدره) * إذ يصير المعنى وقدر كل شيء يقدره * (تقديرا) *. فقال الزمخشري: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير
440

والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له، أو سمي إحداث الله خلقا لأنه لا يحدث شيئا لحكمته إلا على وجه التقدير من غير تفاوت. فإذا قيل: خلق الله كذا فهو بمنزلة إحداث
الله وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده متفاوتا. وقيل: فجعل له غاية ومنتهى، ومعناه * (فقدره) * للبقاء إلى أمد معلوم. وقال ابن عطية: تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والاتقان انتهى.
* (واتخذوا من دونه ءالهة) * الضمير في * (واتخذوا) * عائد على ما يفهم من سياق الكلام لأن في قوله * (ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك) * دلالة على ذلك لم ينف إلا وقد قيل به. وقال الكرماني: الواو ضمير للكفار وهم مندرجون في قوله * (للعالمين) *. وقيل: لفظ * (نذيرا) * ينبئ عنهم لأنهم المنذرون ويندرج في * (واتخذوا) * كل من ادعى إلها غير الله، ولا يختص ذلك بعباد الأوثان وعباد الكواكب. وقال القاضي: يبعد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع. والأقرب أن المراد به عبدة الأصنام، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لعبادها كثرة انتهى. ولا يلزم ما قال لأن * (واتخذوا) * جمع و * (ءالهة) * جمع، وإذا قوبل الجمع بالجمع تقابل الفرد بالفرد، ولا يلزم أن يقابل الجمع بالجمع فيندرج معبود النصارى في لفظ * (ءالهة) *.
ثم وصف الآلهة بانتفاء إنشائهم شيئا من الأشياء إشارة إلى انتفاء القدرة بالكلية، ثم بأنهم مخلوقون لله ذاتا أو مصنوعون بالنحت والتصوير على شكل مخصوص، وهذا أبلغ في الخساسة ونسبة الخلق للبشر تجوز. ومنه قول زهير:
* ولأنت تفري ما خلقت وبعض
*
القوم يخلق ثم لا يفري
*
وقال الزمخشري: الخلق بمعنى الافتعال كما في قوله * (وتخلقون إفكا) * والمعنى أنهم آثروا على عبادته عبادة آلهة لا عجز أبين من عجزهم، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا أفعال العباد حيث لا يفتعلون شيئا وهم يفتعلون لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير * (ولا يملكون لانفسهم) * دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها، وهم يستطيعون وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلا الله أعجز.
* (وقال الذين كفروا) *. قال ابن عباس: هو النضر بن الحارث وأتباعه، والإفك أسوأ لكذب. * (وقال الذين كفروا إن) *، قال مجاهد: قوم من اليهود ألقوا أخبار الأمم إليه. وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وجبر مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤون التوراة أسلموا وكان الرسول يتعهدهم. وقال ابن عباس: أشاروا إلى قوم عبيد كانوا للعرب من الفرس أبو فكيهة مولى الحضرميين. وجبر ويسار وعداس وغيرهم. وقال الضحاك: عنوا أبا فكيهة الرومي. وقال المبرد: عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن آخر لا يكون إلا من جنس الأول انتهى. وما قاله لا يلزم للاشتراك في جنس الإنسان، ولا يلزم الاشتراك في الوصف. ألا ترى إلى قوله * (فئة تقاتل فى سبيل الله وأخرى كافرة) * فقد اشتركتا في مطلق الفئة، واختلفتا في الوصف.
والظاهر أن الضمير في * (فقد) * عائد على * (وقال الذين كفروا) * والمعنى أن هؤلاء الكفار وردوا ظلما كما تقول: جئت المكان فيكون جاء متعديا بنفسه قاله الكسائي، ويجوز أن يحذف الجار أي بظلم وزور ويصل الفعل بنفسه. وقال الزجاج: إذا جاء يستعمل بهذين الاستعمالين وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، والزور إن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه. وقيل: الضمير عائد على قوم آخرين وهو من كلام الكفار، والضمير في * (وقالوا) * للكفار وتقدم الكلام على * (أساطير الاولين) * * (اكتتبها) * أي جمعها من قولهم كتب الشيء أي جمعه أو من الكتابة أي كتبها بيده، فيكون ذلك من جملة كذبهم عليه وهم يعلمون أنه لا يكتب ويكون كاستكب الماء واصطبه أي سكبه وصبه. ويكون لفظ افتعل مشعرا بالتكلف والاعتمال أو بمعنى
441

أمر أن يكتب كقولهم احتجم وافتصد إذا أمر بذلك. * (فهى تملى عليه) * أي تلقى عليه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على المتحفظ كصورة الإملاء على الكاتب.
و * (أساطير الاولين) * خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذه * (أساطير) * و * (اكتتبها) * خبر ثان، ويجوز أن يكون * (أساطير) * مبتدأ و * (اكتتبها) * الخبر. وقرأ الجمهور * (اكتتبها) * مبنيا للفاعل. وقراءة طلحة مبنيا للمفعول والمعنى * (اكتتبها) * كاتب له لأنه كان أميا لا يكتب بيده وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار * (اكتتبها) * إياه كاتب كقوله * (واختار موسى قومه) * ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان بارزا منصوبا وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار * (اكتتبها) * كما ترى انتهى. وهو من كلام الزمخشري ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين لأن * (اكتتبها) * له كاتب وصل فيه اكتتب لمفعولين أحدهما مسرح وهو ضمير الأساطير، والآخر مقيد وهو ضميره عليه السلام. وثم اتسع في الفعل فحذف حرف الجر فصار * (اكتتبها) * إياه كاتب فإذا بني هذا الفعل للمفعول إنما يتوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظا وتقديرا لا المسرح لفظا المقيد تقديرا، فعلى هذا كان يكون التركيب اكتتبته لا * (اكتتبها) * وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع عن العرب في هذا النوع الذي أحد المفعولين فيه مسرح لفظا وتقديرا والآخر مسرح لفظا لا تقديرا. قال الشاعر وهو الفرزدق:
* ومنا الذي اختير الرجال سماحة
*
وجودا إذا هب الرياح الزعازع
*
ولو جاء على ما قرره الزمخشري لجاء التركيب ومنا الذي اختيره الرجال لأن اختار تعدى إلى الرجال على إسقاط حرف الجر إذ تقديره اختير من الرجال. والظاهر أن قوله * (اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا) * من تمام قول الكفار. وعن الحسن أنه قول الله سبحانه بكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة في * (اكتتبها) * للاستفهام الذي في معنى الإنكار، ووجهه أن يكون نحو قوله:
* أفرح إن أرزأ الكرام وإن
*
آخذ ذودا شصايصا نبلا
*
وحق للحسن أن يقف على الأولين. والظهير تقييد الإملاء بوقت انتشار الناس وحين الإيواء إلى مساكنهم وهما البكرة والأصيل، أو يكونان عبارة عن الديمومة. وقرأ طلحة وعيسى فهي تتلى بالتاء بدل الميم.
* (قل أنزله الذى يعلم السر) * أي كل سر خفي، ورد عليهم بهذا وهو وصفه تعالى بالعلم لأن هذا القرآن لم يكن ليصدر إلا من علام بكل المعلومات لما احتوى عليه من إعجاز التركيب الذي لا يمكن صدوره من أحد، ولو استعان بالعالم كلهم ولاشتماله على مصالح العالم وعلى أنواع العلوم واكتفى بعلم السر لأن ما سواه أولى أن يتعلق علمه به، أو * (يعلم) * ما تسرون من الكيد لرسوله مع علمكم ببطل ما تقولون فهو مجازيكم * (إنه كان غفورا رحيما) * إطماع في أنهم إذا تابوا غفر لهم ما فرط من كفرهم ورخمهم. أو * (غفورا رحيما) * في كونه أمهلكم ولم يعاجلكم على ما استوجبتموه من العقاب بسبب مكابرتكم، أو لما تقدم ما يدل على العقاب أعقبه بما يدل على القدرة عليه لأن المتصف بالغفران والرحمة قادر على أن يعاقب.
* (وقالوا) * الضمير لكفار قريش، وكانوا قد جمعهم والرسول مجلس مشهور ذكره ابن إسحاق في السير فقال عتبة وغيره: إن كنت تحب الرئاسة وليناك علينا أو المال جمعنا لك، فلما أبي عليهم اجتمعوا عليه فقالوا: مالك وأنت رسول من الله تأكل الطعام وتقف بالأسواق لالتماس الرزق سل ربك أن ينزل معك ملكا ينذر معك، أو يلقي إليك كنزا تنفق منه، أو يرد لك جبال مكة ذهبا وتزال الجبال، ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت الآية.
442

وكتب في المصحف لام الجر مفصولة من * (هاذا) * و * (هاذا) * استفهام يصحبه استهزاء أي * (مال * هاذا) * الذي يزعم أنه رسول أنكروا عليه ما هو عادة للرسل كما قال * (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الاسواق) * أي حاله كحالنا أي كان يجب أن يكون مستغنيا عن الأكل والتعيش، ثم قالوا: وهب أنه بشر فهلا أرفد بملك ينذر معه أو يلقى إليه كنز من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم اقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ويرتزق كالمياسير. وقرئ فتكون بالرفع حكاه أبو معاذ عطفا على * (أنزل) * لأن * (أنزل) * في موضع رفع وهو ماض وقع موقع المضارع، أي هلا ينزل إليه ملك أو هو جواب التحضيض على إضمار هو، أي فهو يكون. وقراءة الجمهور بالنصب على جواب التحضيض. وقوله * (أو يلقى) * * (أو) * يكون عطف على * (أنزل) * أي لولا ينزل فيكون المطلوب أحد هذه الأمور أو مجموعها باعتبار اختلاف القائلين، ولا يجوز النصب في * (أو يلقى) * ولا في * (أو تكون) * عطفا على * (فيكون) * لأنهما في حكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب لقوله * (لو * لا * أنزل) *. وقرأ قتادة والأعمش: أو يكون بالياء من تحت. وقرأ * (يأكل) * بياء الغيبة أي الرسول، وزيد بن علي وحمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش بنون الجمع أي يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم.
* (وقال الظالمون) * أي للمؤمنين. قال الزمخشري: وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوه انتهى. وتركيبه وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم ليس تركيبا سائغا بل التركيب العربي أن يقول: وأرادهم بأعيانهم بالظالمين * (مسحورا) * غلب على عقله السحر وهذا أظهر، أو ذا سحر وهو الرئة، أو يسحر بالطعام وبالشراب أي يغذي، أو أصيب سحره كما تقول رأسته أصبت رأسه. وقيل * (مسحورا) * ساحرا عنوا به أنه بشر مثلهم لا ملك. وتقدم تفسيره في الإسراء وبهذين القولين قيل: والقائلون ذلك النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد ومن تابعهم.
* (انظر كيف ضربوا لك الامثال) * أي قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة من نبوة مشتركة بين إنسان وملك وإلقاء كنز عليك وغير ذلك فبقوا متحيرين ضلالا لا يجدون قولا يستقرون عليه، أي فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا له. وقيل: * (ضربوا لك الامثال) * بالمسحور والكاهن والشاعر وغيره * (فضلوا) * أخطؤوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه لالتباسهم بضده من الضلال. وقيل * (فلا يستطيعون سبيلا) * إلى حجة وبرهان على ما يقولون، فمرة يقولون هو بليغ فصيح يتقول القرآن من نفسه ويفتريه ومرة مجنون ومرة ساحر ومرة مسحور. وقال ابن عباس: شبه لك هؤلاء المشركون الأشباه بقولهم هو مسحور فضلوا بذلك عن قصد السبيل، فلا يجدون طريقا إلى الحق الذي بعثك به. وقال مجاهد: لا يجدون مخرجا يخرجهم عن الأمثال التي * (ضربوا لك) *. ومعناه أنهم * (ضربوا لك) * هذه ليتوصلوا بها إلى تكذيبك * (فضلوا) * عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا.
وقال بو عبد الله الرازي؛ * (انظر كيف) * اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك، لم يجدوا إلى القدح سبيلا إذا لطعن عليه إنما يكون فيما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول. وقال الفراء: لا يستطيعون في أمرك حيلة. وقال السدي * (سبيلا) * إلى الطعن.
ولما قال المشركون ما قالوا قيل: فيما يروى إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها، ولم يعط ذلك أحد قبلك ولا يعطاه أحد بعدك وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا، وإن شئت جمعناه لك في الآخرة فقال: يجمع لي ذلك في الآخرة فنزل * (تبارك الذى) *. وعن ابن عباس عنه عليه السلام قال: عرض على جبريل عليه السلام بطحاء مكة ذهبا فقلت: بل شبعة وثلاث جوعات، وذلك أكثر لذكري ومسألتي. قال الزمخشري في * (تبارك) * أي تكاثر خيرا * (الذى إن شاء) * وهب لك في الدنيا * (خيرا) * مما قالوا وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور انتهى. والإشارة بذلك الظاهر أنه إلى ما ذكره الكفار من الجنة والكنز في الدنيا قاله مجاهد. ويبعد تأويل ابن عباس أنه إشاة إلى أكله الطعام
443

ومشيه في الأسواق والظاهر أن هذا الجعل كان يكون في الدنيا لو شاءه الله. وقيل: في الآخرة ودخلت إن على المشيئة تنبيها أنه لا ينال ذلك إلا برحمته وأنه معلق على محض مشيئته ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة. والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم. قال ابن عطية: ويرده قوله بعد ذلك * (بل كذبوا بالساعة) * انتهى. ولا يرده لأن المعنى به متمكن وهو عطف على ما حكى عنهم يقول: بل أتى بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة. وقرأ الجمهور * (ويجعل) * بالجزم قالوا عطفا على موضع جعل لأن التقدير إن يشأ يجعل ويجوز أن يكون مرفوعا أدغمت لامه في لام * (لك) * لكن ذلك لا يعرف إلا من مذهب أبي عمرو والذي قرأ بالجزم من السبعة نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو، وليس من مذهب الثلاثة إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو من مذهب أبي عمر وكما ذكرنا. وقرأ مجاهد وابن عامر وابن كثير وحميد وأبو بكر ومحبوب عن أبي عمرو بالرفع. قال ابن عطية: والاستئناف ووجهه العطف على المعنى في قوله * (جعل) * لأن جواب الشرط هو موضع استئناف. ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط؟ وقال الحوفي من رفع جعله مستأنفا منقطعا مما قبله انتهى. وقال أبو البقاء وبالرفع على الاستئناف. وقال الزمخشري: وقرئ * (ويجعل) * بالرفع عطفا على * (جعل) * لأن الشرط إذا وقع ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله:
* وإن أتاه خليل يوم مسألة
*
يقول لا غائب مالي ولا حرم
*
انتهى. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري من أنه إذا كان فعل الشرط ماضيا جاز في جوابه الرفع ليس مذهب سيبويه، إذ مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن هذا المضارع المرفوع النية به التقديم، ولكون الجواب محذوفا لا يكون فعل الشرط إلا بصيغة الماضي. وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء، وذهب غير هؤلاء إلى أنه هو الجواب وليس على حذف الفاء ولا على التقديم، ولما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط لكونه ماضي اللفظ ضعف عن العمل في فعل الجواب فلم تعمل فيه، وبقي مرفوعا وذهب الجمهور إلى أن هذا التركيب فصيح وأنه جائز في الكلام. وقال بعض أصحابنا: هو ضرورة إذ لم يجئ إلا في الشعر وهو على إضمار الفاء والكلام في هذه المذاهب مذكور في علم النحو. وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان * (ويجعل) * بالنصب على إضمار أن. وقال أبو الفتح هي على جواب الشرط بالواو، وهي قراءة ضعيفة انتهى. ونظير هذه القراءات الثلاث قول النابغة:
* فإن يهلك أبو قابوس يهلك
*
ربيع الناس والشهر الحرام
*
* ونأخذ بعده بذناب عيش
*
أجب الظهر ليس له سنام
*
يروى بجرم نأخذ ورفعه ونصبه. * (بل كذبوا بالساعة) * قال الكرماني: المعنى ما منعهم من الإيمان أكلك الطعام ولا مشيك في السوق، بل منعهم تكذيبهم بالساعة. وقيل: ليس ما تعلقوا به شبهة بل الحامل على تكذبيك تكذبيهم بالساعة استثقالا للاستعداد لها. وقيل: يجوز أن يكون متصلا بما يليه كأنه قال * (بل كذبوا بالساعة) * فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة انتهى. وبل لترك اللفظ المتقدم من غير إبطال لمعناه. وأخذ في لفظ آخر * (وأعتدنا) * جعلناه معدا. * (سعيرا) * نارا كبيرة الإيقاد. وعن الحسن: اسم من أسماء جهنم. * (إذ
444

ا رأتهم) * قيل هو حقيقة وإن لجهنم عينين وروي في ذلك أثر فإن صح كان هو القول الصحيح. وإلا كان مجازا، أي صارت منهم بقدر ما يرى الرائي من البعد كقولهم: دورهم تتراءى أي تتناظر وتتقابل، ومنه: لا تتراءى ناراهما. وقال قوم: النار اسم لحيوان ناري يتكلم ويرى ويسمع ويتغير ويزفر حكاه الكرماني، وقيل: هو على حذف مضاف أي رأتهم جزنتها من مكان بعيد، قيل: مسيرة خمسمائة عام. وقيل: مائة سنة. وقيل: سنة * (سمعوا لها) * صوت تغيظ لأن التغيظ لا يسمع
، وإذا كان على حذف المضاف كان المعنى تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار وشهوة للانتقام منهم. وقيل * (سمعوا) * صوت لهيبها واشتعالها وقيل هو مثل قول الشاعر:
* فيا ليت زوجك قد غدا
*
متقلدا سيفا ورمحا
*
وهذا مخرج على تخريجين أحدهما الحذف أي ومعتقلا رمحا. والثاني تضمين ضمن متقلدا معنى متسلحا فكذلك الآية أي * (سمعوا لها) * ورأوا * (تغيظا وزفيرا) * وعاد كل واحد إلى ما يناسبه. أو ضمن * (سمعوا) * معنى أدركوا فيشمل التغيظ والزفير. وانتصب * (مكانا) * على الظرف أي في مكان ضيق. وعن ابن عباس: تضيق عليهم ضيق الزج في الرمح مقرنين قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. وقيل: يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد. وقرأ ابن كثير وعبيد عن أبي عمر وضيقا. قال ابن عطية: وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل مقرنون بالواو وهي قراءة شاذة، والوجه قراءة الناس ونسبها ابن خالويه إلى معاذ بن جبل ووجهها أن يرتفع على البدل من ضمير * (ألقوا) * بدل نكرة من معرفة ونصب على الحال، والظاهر دعاء الثبور وهي الهلاك فيقولون: واثبوراه أي يقال يا ثبور فهذا أوانك. وقيل: المدعو محذوف تقديره دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبورا. والثبور قال ابن عباس: هو الويل، وقال الضحاك: هو الهلاك ومنه قول ابن الزبعري:
* إذ يجاري الشيطان في سنن الغي
*
ومن مال ميله مثبور
*
* (لا تدعوا اليوم) * يقول لهم * (لا تدعوا) * أو هم أحق أن يقال لهم ذلك وإن لم يكن هناك قول، أي لا تقتصروا على حزن واحد بل احزنوا حزنا كثيرا وكثرته إما لديمومة العذاب فهو متجددا دائما، وإما لأنه أنواع وكل نوع يكون منه ثبور لشدته وفظاعته. وقرأ عمرو بن محمد * (ثبورا) * بفتح الثاء في ثلاثتها وفعول بفتح الواو في المصادر قليل نحو البتول. وحكى علي بن عيسى: ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك. كأنهم دعوا بما فعلوا فقالوا: واصرفاه عن طاعة الله كما تقول: واندامتاه. روي أن أول ما ينادي بذلك إبليس يقول: واثبوراه حتى يكسى حلة من جهنم يضعها على جبينه ويسحبها من خلفه، ثم يتبعه في القول أتباعه فيقول لهم خزان جهنم * (لا تدعوا) *. وقيل: نزلت في ابن خطل وأصحابه. والظاهر أن الإشارة بذلك إلى النار وأحوال أهلها. وقيل إلى الجنة والكنز في قولهم. وقيل إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة و * (خير) * هنا ليست تدل على الأفضلية بل هي على ما جرت عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله:
شع فشركما لخيركما الفداء وكقول العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة. وكقوله * (السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه) * وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ.
قال ابن عطية: ومن حيث كان الكلام استفهاما جاز فيه
445

مجيء لفظه للتفضيل بين الجنة والنار في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ، وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خبرا لأن فيه مخالفة، وأما إذا كان استفهاما فذلك سائغ انتهى. وما ذكره يخالفه قوله:
فشركما لخيركما الفداء
وقوله * (السجن أحب إلى) * فإن هذا خبر. وكذلك قولهم: العسل أحلى من الخل إلا إن تقيد الخبر بأنه إذا كان واضحا الحكم فيه للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد أيهما أفضل فإنه يجوز. وضمير * (التى) * محذوف أي وعدها وضمير * (ما يشآءون) * كذلك أي ما يشاؤونه وفي قوله ما يشاؤنه دليل على أن حصول المرادات بأسرها لا تكون ألا في الجنة. وشمل قوله * (جزاء ومصيرا) * الثواب ومحله كما قال * (نعم الثواب وحسنت مرتفقا) * وفي ضده * (بئس الشراب وساءت مرتفقا) * لأنه بطيب المكان يتضاعف النعيم، كما أنه برداءته يتضاعف العذاب * (وعدا) * أي موعودا * (مسؤولا) * سألته الملائكة في قولهم * (ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم) * قاله محمد بن كعب والناس في قولهم * (ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك) * * (ربنا ءاتنا فى الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة) * وقال معناه ابن عباس وابن زيد.
وقال الفراء: * (وعدا * مسؤولا) * أي واجبا يقال لأعطينك ألفا وعدا مسؤولا أي واجبا، وإن لم يسأل. قيل: وما قاله الفراء محال انتهى. وليس محالا إذ يكون المعنى أنه ينبغي أن يسأل هذا الوعد الذي وعدته أو بصدد أن يسأل أي من حقه أن يكون مسؤولا. و * (على ربك) * أي بسبب الوعد صار لا بد منه. وقال الزمخشري: كان ذلك موعودا واجبا على ربك انجازه حقيقا أن يسأل. ويطلب لأنه جزاء وأجر مستحق، وهذا على مذهب المعتزلة.
2 (* (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أءنتم أضللتم عبادى هاؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغى لنآ أن نتخذ من دونك من أوليآء ولاكن متعتهم وءابآءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا * فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا * ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الا سواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا * وقال الذين لا يرجون لقآءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا فىأنفسهم وعتوا عتوا كبيرا * يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا * وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا * أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) *)) 2
* (ويوم نحشرهم * وما يعبدون من دون الله فيقول أءنتم أضللتم عبادى هؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولاكن متعتهم وءاباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا) *
446

قرأ أبو جعفر والأعرج وابن كثير وحفص * (يحشرهم) * و * (فيقول) * بالياء فيهما. وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر بالنون فيهما. وقرأ باقي السبعة في نحشرهم بالنون وفي * (فيقول) * بالياء. وقرأ الأعرج * (يحشرهم) * بكسر الشين. قال صاحب اللوامح في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي. وقال ابن عطية: وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين المتعدي أقيس من يفعل بضم العين انتهى. وهذا ليس كما ذكر إبل فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيرا، فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع وإلا فالخيار حتى أن بعض أصحابنا خير فيهما سمعا للكلمة أو لم يسمعا.
* (وما يعبدون) * قال الضحاك وعكرمة: الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله على هذه المقالة من الجواب. وقال الكلبي: يحيي الله الأصنام يومئذ لتكذيب عابديها. وقال الجمهور: من عبد ممن يعقل ممن لم يأمر بعبادته كالملائكة وعيسى وعزير وهو الأظهر كقوله * (أضللتم عبادى) * وما بعده من المحاورة التي ظاهرها أنها لا تصدر إلا من العقلاء، وجاء ما يشبه ذلك منصوصا في قوله * (ثم * تقول * للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * * (قلت للناس اتخذونى وأمى إلاهين من دون الله قال) * وسؤاله تعالى وهو عالم بالمسؤول عنه ليجيبوا بما أجابوا به فيبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فيزيد حسرتهم ويسر المؤمنون بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين. وجاء الاستفهام مقدما فيه الاسم على الفعل ولم يأت التركيب * (* أأضللتم) * ولا أضلوا لأن كلا من الإضلال والضلال واقع والسؤال إنما هو من فاعله. وتقدم نظير هذا في * (قالوا ءأنت فعلت هاذا بئالهتنا * إبراهيم) * وقال الزمخشري: وفيه كسر بين لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة حيث يقول للمعبودين من دونه * (أضللتم عبادى) * أم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤون من ضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون: بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا الرحمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا تبرأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منهم فهم لربهم الغنى العدل أشد تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها. وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحا الإضلال المجازي الذي أسنده الله إلى ذاته في قوله * (يضل من يشاء) * ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتم انتهى. وهو على طريقة المعتزلة.
والمعنى * (أءنتم) * أوقعتم هؤلاء ونسبتم لهم في إضلالهم عن الحق، أم * (ضلوا) * بأنفسهم عنه. ضل أصله أن يتعدى بعن كقوله * (من يضل عن سبيله) * ثم أتسع فحذف، وأضله عن السبيل كما أن هدى يتعدى بإلى ثم يحذف ويضل مطاوع أضل كما تقول: أقعدته فقعد. و * (سبحانك) * تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادة أحد أو يفرد بعبادة فأنى لهم أن يقع منهم إضلال أحدوهم المنزهون المقدسون، أن يكون أحد منهم ندا وهو المنزه عن الند والنظير.
وقال الزمخشري: * (سبحانك) * تعجب منهم مما قيل لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضرل الذي هو مختص بإبليس وحزبه انتهى.
وقرأ علقمة ما ى نبغي بسقوط كان وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى لأنهم أخبروا عن حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه. وقرأ أبو عيسى الأسود القاري * (ينبغى لنا) * مبنيا للمفعول. وقال ابن خالويه: زعم سيبويه أن ينبغي لغة.
وقرأ الجمهور: * (أن نتخذ) * مبنيا للفاعل و * (من أولياء) * مفعول على زيادة * (من) * وحسن زيادتها انسحاب النفي على * (نتخذ) * لأنه معمول لينبغي. وإذا انتفى الابتغاء لزم منه انتفاء متعلقة وهو اتخاذ ولي من دون الله. ونظيره * (ما يود
447

الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير) * أي خير والمعنى ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحدا دونك، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك. وقال أبو مسلم * (ما كان ينبغى لنا) * أن نكون أمثال الشياطين نريد الكفر فنتولى الكفار قال * (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) *. وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن علي وأخوه الباقر ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبو بشر والزعفراني أن يتخذ مبنيا للمفعول واتخذ مما يتعدى تارة لواحد كقوله * (أم اتخذوا الهة من الارض) * وعليه قراءة الجمهور وتارة إلى اثنين كقوله * (أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه) * فقيل: هذه القراءة منه فالأول الضمير في * (نتخذ) * والثاني * (من أولياء) * و * (من) * للتبعيض أي لا يتخذ بعض أولياء وهذا قول الزمخشري.
وقال ابن عطية: ويضعف هذه القراءة دخول * (من) * في قوله * (من أولياء) * اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره. وقال أبو الفتح * (من أولياء) * في موضع الحال ودخلت * (من) * زيادة لمكان النفي المتقدم كما تقول: ما اتخذت زيدا من وكيل. وقيل * (من أولياء) * هو الثاني على زيادة * (من) * وهذا لا
يجوز عند أكثر النحويين إنما يجوز دخولها زائدة على المفعول الأول بشرطه. وقرأ الحجاج أن نتخذ من دونك أولياء فبلغ عاصما فقال: مقت المخدج أو ما علم أن فيها * (من) * ولما تضمن قولهم * (ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) * أنا لم نضلهم ولم نحملهم على الامتناع من الإيمان صلح أن يستدرك بلكن، والمعنى لكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعم وأطلت أعمارهم وكان يجب عليهم شكرها والإيمان بما جاءت به الرسل، فكان ذلك سببا للإعراض عن ذكر الله. قيل: ولكن متعتهم كالرمز إلى ما صرح به موسى من قوله * (إن هى إلا فتنتك) * أي أنت الذي أعطيتهم مطالبهم من الدنيا حتى صاروا غرقى في بحر الشهوات فكان صارفا لهم عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك و * (الذكر) * ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء أو الكتب المنزلة أو القرآن. والبور: قيل مصدر يوصف به الواحد والجمع. وقيل: جمع بائر كعائذ وعوذ. قيل: معناه هلكى. وقيل: فدى وهي لغة الأزد يقولون: أمر بائر أي فاسد، وبارت البضاعة: فسدت. وقال الحسن: لا خير فيهم من قولهم أرض بور أي معطلة لا نبات فيها. وقيل * (بورا) * عميا عن الحق.
* (فقد كذبوكم) * هذا من قول الله بلا خلاف وهي مفاجأة، فالاحتجاج والإلزام حسنة رابعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وهو على إضمار القول كقوله * (موهن كيد الكافرين إن تستفتحوا فقد جاءكم) * أي فقلنا قد جاءكم. وقول الشاعر:
* قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
*
ثم القفول فقد جئنا خراسانا
*
أي فقلنا قد جئنا وكذلك هذا أي فقلنا قد كذبوكم، فإن كان المجيب الأصنام فالخطاب للكفار أي قد كذبتكم معبوداتكم من الأصنام بقولهم * (ما كان ينبغى لنا) * وإن كان الخطاب للمعبودين من العقلاء عيسى والملائكة وعزير عليهم السلام، وهو الظاهر لتناسق الخطاب مع قوله * (أضللتم عبادى) * أي كذبكم المعبودون * (بما تقولون) * أي بقولهم أنكم أضللتموهم، وزعمهم أنكم أولياؤهم من دون الله. ومن قرأ * (بما تقولون) * بتاء الخطاب فالمعنى فيما تقولون أي * (سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) *. وقيل: الخطاب للكفار العابدين أي كذبكم المعبودون بما تقولون من الجواب. * (سبحانك ما كان ينبغى لنا) * أو فيما تقولون أنتم من الافتراء عليهم خوطبوا على جهة التوبيخ والتقريع. وقيل: هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي قد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد والشرع. وقرأ الجمهور * (بما تقولون) * بالتاء من فوق. وأبو حيوة وابن الصلت عن قنبل بالياء من تحت.
وقرأ حفص وأبو حيوة والأعمش
448

وطلحة * (فما تستطيعون) * بتاء الخطاب، ويؤيد هذه القراءة أن الخطاب في * (كذبوكم) * للكفار العابدين. وذكر عن ابن كثير وأبي بكر أنهما قرآ بما يقولون فما يستطيعون بالياء فيهما أي هم. * (صرفا) * أي صرف العذاب أو توبة أو حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال، هذا إن كان الخطاب في * (كذبوكم) * للكفار فالتاء جارية على ذلك، والياء التفات وإن كان للمعبودين فالتاء التفات. والياء جارية على ضمير * (كذبوكم) * المرفوع وإن كان الخطاب للمؤمنين أمة الرسول عليه السلام في قوله * (فقد كذبوكم) * فالمعنى أنهم شديد والشكيمة في التكذيب * (فما تستطيعون) * أنتم صرفهم عما هم عليه من ذلك. وبالياء فما يستطيعون * (صرفا) * لأنفسهم عما هم عليه. أو ما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه. * (ولا نصرا) * لأنفسهم من البلاء الذي استوجبوه بتكذبيهم.
* (ومن يظلم منكم) * الظاهر أنه عام. وقيل: خطاب للمؤمنين. وقيل: خطاب للكافرين. والظلم هنا الشرك قاله ابن عباس والحسن وابن جريج، ويحتمل دخول المعاصي غير الشرك في الظلم. وقال الزمخشري: العذاب الكبير لا حق لكل من ظلم والكافر ظالم لقوله * (إن الشرك لظلم عظيم) * والفاسق ظالم لقوله * (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) * انتهى وفيه دسيسة الاعتزال. وقرئ: يذقه بياء الغيبة أي الله وهو الظاهر. وقيل: هو أي الظلم وهو المصدر المفهوم من قوله * (يظلم) * أي يذقه الظلم.
ولما تقدم الطعن على الرسول بأكل الطعام والمشي في الأسواق أخبر تعالى أنها عادة مستمرة في كل رسالة ومفعول * (أرسلنا) * عند الزجاج والزمخشري ومن تبعهما محذوف تقديره أحدا. وقدره ابن عطية رجالا أو رسلا. وعاد الضمير في * (أنهم) * على ذلك المحذوف كقوله * (وما منا إلا له مقام) * أي وما منا أحد والجملة عند هؤلاء صفة أعني قوله * (ألا إنهم) * كأنه قال إلا آكلين وماشين. وعند الفراء المفعول محذوف وهو موصول مقدر بعد إلا أي إلا من. * (أنهم) * والضمير عائد على * (من) * على معناها فيكون استثناء مفرغا وقيل: إنهم قبله قول محذوف أي * (إلا) * قيل * (أنهم) * وهذان القولان مرجوحان في العربية. وقال ابن الأنباري: التقدير إلا وإنهم يعنى أن الجملة حالية وهذا هو المختار. قد رد على من قال إن ما بعد إلا قد يجيء صفة وإما حذف الموصول فضعيف وقد ذهب إلى حكاية الحال أيضا أبو البقاء قال: وقيل لو لم تكن اللام لكسرت لأن الجملة حالية إذ المعنى إلا وهم يأكلون. وقرئ * (أنهم) * بالفتح على زيادة اللام وإن مصدرية التقدير إلا أنهم يأكلون أي ما جعلناهم رسلا إلى الناس إلا لكونهم مثلهم. وقرأ الجمهور: * (ويمشون) * مضارع مشى خفيفا. وقرأ علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله * (يمشون) * مشددا مبنيا للمفعول، أي يمشيهم حوائجهم والناس. قال الزمخشري: ولو قريء * (يمشون) * لكان أوجه لولا الرواية انتهى. وقد قرأ كذلك أبو عبد الرحمن السلمي مشدد مبنيا للفاعل، وهي بمعنى * (يمشون) * قراءة الجمهور. قال الشاعر:
* ومشى بأعطان المباءة وابتغى
*
قلائص منها صعبة وركوب
*
* (وجعلنا بعضكم) *. قال ابن عطية: هو عام للمؤن والكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الشاكر فتنة للغني، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره، وكذلك العلماء وحكام العدل. وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى. وروي قريب من هذه عن ابن عباس والحسن. قال ابن عطية: والتوقيف بأتصبرون خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمة محمد صلى الله عليه وسلم)، كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختبارا ثم وقفهم. هل تصبرون أم لا؟ ثم أعرب قوله * (وكان ربك بصيرا) * عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين.
وقال الزمخشري: * (فتنة) * أي محنة وبلاء، وهذا تصبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم) على ما قالوه واستبعدوه من أكله الطعام ومشيه في اوسواق
449

بعدما احتج عليهم بسائر الرسل يقول: جرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل ونحوه * (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) * الآية وموقع * (أتصبرون) * بعد ذكر الفتنة موقع * (أيكم) * بعد الابتلاء في قوله * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *.
* (بصيرا) * عالما بالصواب فيما يبتلى به وبغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليهم سعادة، وفوزك في الدارين. وقيل: هو تسلية عما عيروه به من الفقر حين قالوا * (أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة) * وأنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء لينظر هل تصبرون وأنها حكمته ومشيئته يغني من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل: جعلنا فتنة لهم لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا، وإنما بعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله من غير طمع دينوي. وقيل: كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان فرفعوا علينا إدلالا بالسابقة فهو افتتان بعضهم ببعض انتهى. وفيه تكثير وهذا القول الأخير قول الكلبي والفراء والزجاج. والأولى أن قوله * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) * يشمل معاني هذه الألفاظ كلها لأن بين الجميع قدرا مشتركا. وقيل: في قوله * (أتصبرون) * أنه استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا، والظاهر حمل الرجاء على المشهور من استعماله والمعنى لا يأملون لقاءنا بالخير وثوابنا على الطاعة لتكذيبهم بالبعث لكفرهم بما جئت به. وقال أبو عبيدة وقوم: معناه لا يخافون. وقال الفراء: لا يرجون نشورا لا يخافون، وهذه الكلمة تهامية وهي أيضا من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف. فتقول: فلان لا يرجو ربه يريدون لا يخاف ربه، ومن ذلك * (ما لكم لا ترجون لله وقارا) * أي لا تخافون لله عظمة وإذا قالوا: فلان يرجو ربه فهذا معنى الرجاء لا على الخوف. وقال الشاعر:
* إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
*
وحالفها في بيت نوب عوامل وقال آخر:
*
لا ترجى حين تلاقي الذائذا
أسبعة لاقت معا أم واحدا
*
انتهى. ومن لازم الرجاء للثواب الخوف من العقاب، ومن كان مكذبا بالبعث لا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا ومن تأول لم يرج لسعها على معنى لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها. فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله فتأويله ممكن لكن الفراء وغيره نقلوا ذلك لغة لهذيل في النفي والشاعر هذلي، فينبغي أن لا يتكلف للتأويل وأن يحمل على لغته.
* (لو * لا * أنزل علينا الملئكة) * فتخبرنا أنك رسول حقا * (أو نرى ربنا) * فيخبرنا بذلك قاله ابن جريج وغيره. وهذه كما قالت اليهود * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * وكقولهم أعني المشركين * (أو تأتى بالله والملئكة قبيلا) * وهذا كله في سبيل التعنت، وإلا فما جاءهم به من المعجزات كاف لو وفقوا. * (لقد استكبروا) * أي تكبروا * (فى أنفسهم) * أي عظموا أنفسهم بسؤال رؤية الله، وهم ليسوا بأهل لها. والمعنى أن سؤال ذلك إنما هو لما أضمروا في أنفسهم من الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد الكامن في قلوبهم الظاهر عنه ما لا يقع لهم كما قال * (إن
450

فى صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) * واللام في لقد جواب قسم محذوف و * (عتوا) * تجاوزوا الحد في الظلم ووصفه بكبير مبالغة في إفراطه أي لم يجسروا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو. وجاء هنا * (عتوا) * على الأصل وفي مريم * (عتيا) * على استثقال اجتماع الواوين والقلب لمناسبة الفواصل. قال ابن عباس * (عتوا) * كفروا أشد الكفر وأفحشوا. وقال عكرمة: تجبروا. وقال ابن سلام: عصوا. وقال ابن عيسى: أسرفوا. قال الزمخشري: هذه الجملة في حسن استيفائها غاية في أسلوبها. ونحوه قول القائل:
* وجارة جساس أبأنا بنابها
*
كليبا غلت ناب كليب بواؤها
*
في نحو هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب، ألا ترى أن المعنى ما أشد استكبارهم وما أكثر عتوهم وما أغلى نابا بواؤها كليب.
* (يوم يرون الملئكة) * * (يوم) * منصوب ب (اذكر) وهو أقرب أو بفعل يدل عليه * (لا) * أي يمنعون البشرى ولا يعمل فيه * (الملئكة لا بشرى) * لأنه مصدر ولأنه منفي بلا التي لنفي الجنس لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وكذا الداخلة على الأسماء عاملة عمل ليس، ودخول * (لا) * على * (بشرى) * لانتفاء أنواع البشرى وهذا اليوم الظاهر أنه يوم القيامة لقوله بعد * (وقدمنا إلى ما عملوا) * وعن ابن عباس: عند الموت والمعنى أن هؤلاء الذين اقترحوا نزول الملائكة لا يعرفون ما يكون لهم إذا رأوهم من الشر وانتفاء البشارة وحصول الخسار والمكروه. واحتمل * (بشرى) * أن يكون مبنيا مع * (لا) * واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنيا مع * (لا) * احتمل أن يكون الخبر * (يومئذ) * خبر بعد خبر أو نعت لبشرى، أو متعلق بما تعلق به الخبر، وأن يكون * (فزع يومئذ) * صفة لبشرى، والخبر * (للمجرمين) * ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس * (لا) * أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع * (لا) * وما بني معها؟ وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون * (يومئذ) * معمولا لبشرى، وأن يكون صفة، والخبر من الخبر. وأجاز أن يكون * (يومئذ) * و * (للمجرمين) * خبر وجاز أن يكون * (يومئذ) * خبرا و * (للمجرمين) * صفة، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنيا لنفس لا بإجماع.
وقال الزمخشري: و * (يومئذ) * للتكرير وتبعه أبو البقاء، ولا يجوز أن يكون تكريرا سواء أريد به التوكيد اللفظي أم أريد به البدل، لأن * (يوم) * منصوب بما تقدم ذكره من اذكر أو من يعدمون البشرى وما بعد * (لا) * العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبل إلا والظاهر عموم المجرمين فيندرج هؤلاء القائلون فيهم. قيل: ويجوز أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير، والظاهر أن الضمير في * (ويقولون) * عائد على القائلين لأن المحدث عنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة، ثم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو ونزول الشدة وقال معناه مجاهد قال * (حجرا) * عواذا يستعيذون من الملائكة. وقال مجاهد وابن جريج: كانت العرب إذا كرهت شيئا قالوا حجرا. وقال أبو عبيدة: هاتان اللفظتان عوذة للعرب يقولهما من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة انتهى. ومنه قول المتلمس:
* حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها
*
حجر حرام ألا تلك الدهايس أي هذا الذي حننت إليه هو ممنوع، وذكر سيبويه * (حجرا) * في المصادر المنصوبة غير المتصرفة. وقال بعض الرجاز:
*
451

قالت وفيها حيرة وذعر
عوذ يرى منكم وحجر
*
وأنه واجب إضمار ناصبها. قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا؟ فيقول حجرا وهي من حجره إذا منعه لأن المتسعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه لا يلحقه.
وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك * (حجرا) * بضم الحاء. وقيل: الضمير في * (ويقولون) * عائد على الملائكة أي تقول الملائكة للمجرمين * (حجرا محجورا) * عليكم البشرى و * (محجورا) * صفة يؤكد معنى * (حجرا) * كما قالوا: موت مائت، وذيل ذائل، والقدوم الحقيقي مستحيل في حق الله تعالى فهو عبارة عن حكمه بذلك وإنفاذه.
قيل: أو على حذف مضاف أي قدمت ملائكتنا وأسند ذلك إليه لأنه عن أمره، وحسنت لفظة * (* قدمنا) * لأن القادم على شيء مكروه لم يقرره ولا أمر به مغير له ومذهب، فمثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف، ومن علي أسير. وغير ذلك من مكارمهم بحال قوم خالفوا سلطانهم فقصد إلى ما تحت أيديهم فمزقها بحيث لم يترك لها أثرا، وفي أمثالهم أقل من الهباء و * (هباء منثورا) * صفة للهباء شبهه بالهباء لقلته وأنه لا ينتفع به، ثم وصفه بمنثورا لأن الهباء تراه منتظما مع الضوء فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب. وقال الزمخشري: أو جعله يعني * (منثورا) * مفعولا ثالثا لجعلناه أي * (فجعلناه) * جامعا لحقارة الهباء والتناثر. كقوله * (كونوا قردة خاسئين) * أي جامعين للمسخ والخسء انتهى. وخالف ابن درستويه فخالف النحويين في منعه أن يكون لكان خبران وأزيد. وقياس قوله في جعل أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث.
وقال ابن عباس: الهباء المنثور ما تسفي به الرياح وتبثه. وعنه أيضا: الهباء الماء المهراق والمستقر مكان الاستقرار في أكثر الأوقات. والمقيل المكان الذي يأوون إليه في الاسترواح إلى الأزواج والتمتع، ولا نوم في الجنة فسمي مكان استرواحهم إلى الحور * (مقيلا) * على طريق التشبيه إذ المكان المتخير للقيلولة يكون أطيب
المواضع. وفي لفظ * (أحسن) * رمز إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور إلى غير ذلك من التحاسين. و * (خير) * قيل: ليست على بابها من استعمالها دلالة على الأفضلية فيلزم من ذلك خير في مستقر أهل النار، ويمكن إبقاؤها على بابها ويكون التفضيل وقع بين المستقرين والمقيلين باعتبار الزمان الواقع ذلك فيه. فالمعنى * (خير مستقرا) * في الآخرة من الكفار المترفين في الدنيا * (وأحسن مقيلا) * في الآخرة من أولئك في الدنيا. وقيل: * (خير مستقرا) * منهم لو كان لهم مستقر، فيكون التقدير وجود مستقر لهم فيه خير. وعن ابن مسعود وابن عباس والنخعي وابن جبير وابن جريج ومقاتل: إن الحساب يكمل في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، ويقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
2 (* (ويوم تشقق السمآء بالغمام ونزل الملئكة تنزيلا * الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا * ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا * ياويلتا ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جآءنى وكان الشيطان للإنسان خذولا * وقال الرسول يارب إن قومى اتخذوا هاذا القرءان مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا * وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة
452

كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا * ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا * الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولائك شر مكانا وأضل سبيلا) *))
) *
* (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا * الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا * ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتنى * ليتنى * اتخذت مع الرسول سبيلا * الرسول سبيلا * ياويلتا ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للإنسان خذولا * وقال الرسول يارب إن قومى اتخذوا هاذا القرءان مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا * وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا * ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا * الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا) *.
قرأ الحرميان وابن عامر * (تشقق) * بإدغام التاء من تتشقق في الشين هنا. وفي ق وباقي السبعة بحذف تلك التاء ويعني يوم القيامة كقوله * (السماء منفطر به) *. وقرأ الجمهور: * (ونزل) * ماضيا مشددا مبنيا للمفعول، وابن مسعود وأبو رجاء * (ونزل) * ماضيا مبنيا للفاعل. وعنه أيضا وأنزل مبنيا للفاعل وجاء مصدره * (تنزيلا) * وقياسه إنزالا إلا أنه لما كان معنى أنزل ونزل واحدا جاز مجيء مصدر أحد ما للآخر كما قال الشاعر:
حتى تطويت انطواء الخصب
كأنه قال: حتى انطويت. وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية وأنزل ماضيا رباعيا مبنيا للمفعول مضارعه ينزل. وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو * (ونزل) * ثلاثي ا مخففا مبنيا للفاعل، وهارون عن أبي عمرو وتنزل بالتاء من فوق مضارع نزل مشددا مبنيا للفاعل، وأبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو * (ونزل الملائكة) * بضم النون وشد الزاي، أسقط النون من وننزل وفي بعض المصاحف وننزل بالنون مضارع نزل مشددا مبنيا للفاعل. ونسبها ابن عطية لابن كثير وحده قال: وهي قراءة أهل مكة ورويت عن أبي عمرو. وعن أبي أيضا وتنزلت. وقرأ أبي ونزلت ماضيا مشددا مبنيا للمفعول بتاء التأنيث. وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو: * (ونزل) * مخففا مبنيا للمفعول * (الملائكة) * رفعا، فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وتقديره: ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى * (الملائكة) * بمعنى نزول نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه في ترتيب اللازم للمفعول به لأن الفعل يدل على مصدره انتهى.
وقال أبو الفتح: وهذا غير معروف لأن * (نزل) * لا يتعدى إلى مفعول فيبني هنا للملائكة، ووجهه أن يكون مثل زكم الرجل وجن فإنه لا يقال إلا أزكمه الله وأجنه. وهذا باب سماع لا قياس انتهى. فهذه إحدى عشرة قراءة. والظاهر أن الغمام هو السحاب المعهود. وقيل هو الله في قوله * (في ظلل من الغمام) *. وقال ابن جريج: الغمام الذي يأتي الله فيه في الجنة زعموا. وقال الحسن: سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه تنسخ أعمال بني آدم ليحاسبوا. وقيل: غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم، والظاهر أن * (السماء) * هي المظلة لنا. وقيل: تتشقق سماء سماءى قاله مقاتل. والباء باء الحال أي متغيمة أو باء السبب أي بسبب طلوع الغمام منه كأنه الذي تتشقق به السماء كما تقول: شق السنام بالشفرة وانشق بها ونظيره قوله * (السماء منفطر به) * أو بمعنى عن أقوال ثلاثة. والفرق بين الباء السببية وعن أن انشق عن كذا تفتح عنه وانشق بكذا أنه هو الشاق له.
* (ونزل الملائكة) * أي إلى الأرض لوقوع الجزاء والحساب. و * (الحق) * صفة للملك أي الثابت لأن كل ملك يومئذ يبطل، ولا يبقى إلا ملكه تعالى وخبر * (الملك) * * (يومئذ) *. و * (الرحمان) * متعلق بالحق أو للبيان أعني * (للرحمان) *. وقيل: الخبر * (للرحمان) * و * (يومئذ) * معمول للملك. وقيل: الخبر * (الحق) * و * (للرحمان) * متعلق به أو للبيان، وعسر ذلك اليوم على الكافرين بدخولهم النار وما في خلال ذلك من المخاوف. ودل قوله * (على الكافرين) * على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث أنه يهون حتى يكون على المؤمن أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا والظاهر
453

عموم الظالم إذ اللام فيه للجنس قاله مجاهد وأبو رجاء، وقالا: فلان هو كناية عن الشيطان.
وقال ابن عباس وجماعة: * (الظالم) * هنا عقبة بن أبي معيط إذ كان جنح إلى الإسلام وأبي بن خلف هو المكني عنه بفلان، وكان بينهما مخالة فنهاه عن الإسلام فقبل منه. وعن ابن عباس أيضا. عكس هذا القول. قيل وسبب نزولها هو عقبة وأبي. وقيل: كان عقبة خليلا لأمية فأسلم عقبة فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا فكفر وارتد لرضا أمية فنزلت قاله الشعبي. وذكر من إساءة عقبة على الرسول ما كان سبب أن قال له الرسول عليه السلام: (لا ألقاك خارجا من مكة إلا
علوت رأسك بالسيف). فقتل عقبة يوم بدر صبرا أمر عليا فضرب عنقه، وقتل أبي بن خلف يوم أحد في المبارزة. والمقصود ذكر هول يوم القيامة بتندم الظالم وتمنيه أنه لم يكن أطاع خليله الذي كان يأمره بالظلم وما من ظالم إلا وله في الغالب خليل خاص به يعبر عنه بفلان. والظاهر أن * (الظالم) * * (يعض على يديه) * فعل النادم المتفجع. وقال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت، ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت. وقيل: هو مجاز عبر به عن التحير والغم والندم والتفجع ونقل أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعض على إبهامه ندما وقال الشاعر:
* لطمت خدها بحمر لطاف
*
نلن منها عذاب بيض عذاب
*
* فتشكى العناب نور إقاح
*
واشتكى الورد ناضر العناب
*
وفي المثل: يأكل يديه ندما ويسيل دمعه دما. وقال الزمخشري: عض الأنامل واليدين والسقوط في اليد وأكل البنان وحرق الأسنان والإرم وفروعها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفها فتذكر الرادفة. ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجد عند لفظ المكنى عنه انتهى. وقال الشاعر في حرق الناب:
* أبى الضيم والنعمان يحرق نابه
*
عليه فأفضى والسيوف معاقله
*
* (يقول) * في موضع الحال أي قائلا * (ياويلتا ليتنى) * فان كانت اللام للعهد فالمعنى أنه تمنى عقبة أن لو صحب النبي صلى الله عليه وسلم) وسلك طريق الحق، وإن كانت اللام للجنس فالمعنى أنه تمنى. سلوك طريق الرسول وهو الإيمان، ويكون الرسول للجنس لأن كل ظالم قد كلف اتباع ما جاء به رسول من الله إلى أن جاءت الملة المحمدية فنسخت جميع الملل، فلا يقبل بعد مجيئه دين غير الذي جاء به. ثم ينادي بالويل والحسرة يقول * (* يا ويلتي) * أي يا هلكاه كقوله * (نفس ياحسرتى على ما فرطت فى جنب الله) *. وقرأ الحسن وابن قطيب * (ياويلتا ليتنى) * بكسر التاء والياء ياء الإضافة وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها تعالي فهذا أوانك. وقرأت فرقة بالإمالة. قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن لأن هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفا فرارا من الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولا. وفلان كناية عن العلم وهو متصرف وقل كناية عن نكرة الإنسان نحو: يا رجل وهو مختص بالنداء، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك ولام فل ياء أو واو وليس مرخما من فلان خلافا للفراء. ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان. وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل عن العرب.
و * (الذكر) * ذكر الله أو القرآن أو الموعظة، والظاهر حمل الشيطان على ظاهره لأنه هو الذي وسوس إليه في مخالة من أضله سماه شيطانا لأنه يضل كما يضل الشيطان ثم خذ له ولم ينفعه في العاقبة. وتحتمل هذه الجملة أن تكون من تمام كلام الظالم، ويحتمل أن تكون إخبارا من كلام الله على جهة الدلالة على وجه ضلالهم والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك
454

المبلغ. وفي الحديث الصحيح تمثيل الجليس الصالح بالمسك والجليس السوء بنافخ الكير. والظاهر أن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم) ربه وإخباره بهجر قومه قريش القرآن هو مما جرى له في الدنيا بدليل إقباله عليه مسليا مؤانسا بقوله * (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين) * وأنه هو الكافي في هدايته ونصره فهو وعد منه بالنصر وهذا القول من الرسول وشكايته فيه تخويف لقومه. وقالت فرقة منهم أبو مسلم إنه قوله عليه السلام في الآخرة كقوله * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * والظاهر أن * (مهجورا) * بمعنى متروكا من الإيمان به مبعدا مقصيا من الهجر بفتح الهاء. وقاله مجاهد والنخعي وأتباعه. وقيل: من الهجر والتقدير * (مهجورا) * فيه بمعنى أنه باطل. وأساطير الأولين أنهم إذا سمعوه هجروا فيه كقوله * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه) *.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر كالملحود والمعقول، والمعنى اتخذوه هجرا والعد ويجوز أن يكون واحدا وجمعا انتهى.
وانتصب * (هاديا) * و * (نصيرا) * على الحال أو على التمييز. وقالوا أي الكفار على سبيل الاقتراح والاعتراض الدال على نفورهم عن الحق. قال الزمخشري: * (نزل) * ههنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلا كان متدافعا انتهى. وإنما قال أن * (نزل) * بمعنى أنزل لأن نزل عنده أصلها أن تكون للتفريق، فلو
أقره على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو. وقوله * (جملة واحدة) * وقد قررنا أنا * (نزل) * لا تقتضي التفريق لأن التضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة. وقد بينا ذلك في أول آل عمران وقائل ذلك كفار قريش قالوا: لو كان هذا من عند الله لنزل جملة كما نزلت التوراة والإنجيل. وقيل: قائلوا ذلك اليهود وهذا قول لا طائل تحته لأن أمر الاحتجاج به والإعجاز لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرقا بل الإعجاز في نزوله مفرقا أظهر إذ يطالبون بمعارضة سورة منه، فلو نزل جملة واحدة وطولبوا بمعارضته مثل ما نزل لكانوا أعجز منهم حين طولبوا بمعارضة سورة منه فعجزوا والمشار إليه غير مذكور. فقيل: هو من كلام الكفار وأشاروا إلى التوراة والإنجيل أي تنزيلا مثل تنزيل تلك الكتب الإلهية جملة واحدة ويبقى * (لنثبت به فؤادك) * تعليلا لمحذوف أي فرقناه في أوقات * (لنثبت به فؤادك) *. وقيل: هو مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلامهم، ولما تضمن كلامهم معنى لم أنزل مفرقا أشير بقوله كذلك إلى التفريق أي * (كذالك) * أنزل مفرقا.
قال الزمخشري: والحكمة فيه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء، وجزأ عقيب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لكان يعيا في حفظه والرسول عليه السلام فارقت حاله حال داود وموسى وعيسى عليهم السلام حيث كان أميا لا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزل عليه منجما في عشرين سنة. وقيل: في ثلاث وعشرين سنة وأيضا فكان ينزل على حسب الحوادث وجواب السائلين، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا انتهى.
واللام في * (لنثبت به) * لام العلة. وقال أبو حاتم: هي لام القسم والتقدير والله ليثبتن فحذفت النون وكسرت اللام انتهى. وهذا قول في غاية الضعف وكان ينحو إلى مذهب الأخفش أن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغي إليه أفئدة وهو مذهب مرجوح. وقرأ عبد الله ليثبت بالياء أي ليثبت الله * (ورتلناه) * أي فصلناه. وقيل: بيناه. وقيل: فسرناه.
* (ولا يأتونك بمثل) * يضربونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل الإحاء القرآن بالحق في ذلك ثم هو أوضح بيانا وتفصيلا. وقال الزمخشري: * (ولا يأتونك بمثل) * بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان إلا أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من
455

سؤالهم. ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل معناه كذا أو * (ولا يأتونك) * بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت هذه صفتك وحالك نحو إن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقى إليك كنز أو تكون لك جنة أو ينزل عليك القرآن جملة إلا أعطيناك ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته انتهى. وقيل: * (ولا يأتونك) * بشبهة في إبطال أمرك إلا جئناك بالحق الذي يدحض شبهة أهل الجهل ويبطل كلام أهل الزيغ، والمفضل عليه محذوف أي * (وأحسن تفسيرا) * من مثلهم ومثلهم قولهم * (لو * لا * أنزل عليه * وقال الذين كفروا) *.
و * (الذين يحشرون) *. قال الكرماني: متصل بقوله * (أصحاب الجنة يومئذ) * الآية. قيل: ويجوز أن يكون متصلا بقوله * (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين) * انتهى. والذي يظهر أنهم لم اعترضوا في حديث القرآن وإنزاله مفرقا كان في ضمن كلامهم أنهم ذو ورشد وخير، وأنهم على طريق مستقيم ولذلك اعتراضوا فأخبر تعالى بحالهم وما يؤول إليه أمرهم في الآخرة بكونهم * (شر مكانا وأضل سبيلا) * والظاهر أنه يحشر الكافر على وجهه بأن يسحب على وجهه. وفي الحديث (إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم). وهذا قول الجمهور. وقيل: هو مجاز للذلة المفرطة والهوان والخزي. وقيل: هو من قول العرب مر فلان على وجه إذا لم يدر أين ذهب. ويقال: مضى على وجهه إذا أسرع متوجها لقصده و * (شر) * و * (أضل) * ليسا على بابهما من الدلالة على التفضيل. وقوله * (شر مكانا) * أي مستقرا وهو مقابل لقوله * (خير مستقرا) * ويحتمل أن يراد بالمكان المكانة والشرف لا المستقر.
وأعربوا * (الذين) * مبتدأ والجملة من * (أولائك) * في موضع الخبر ويجوز عندي أن يكون * (الذين) * خبر مبتدأ محذوف لما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا قال إبعادا لهم وتسميعا بما يؤول إليه حالهم هم * (الذين يحشرون) * ثم استأنف إخبارا أخبر عنهم فقال * (أولئك شر مكانا) *
2 (* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا * فقلنا اذهبآ إلى القوم الذين كذبوا بأاياتنا فدمرناهم تدميرا * وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس ءاية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما * وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذالك كثيرا * وكلا ضربنا له الا مثال وكلا تبرنا تتبيرا * ولقد أتوا على القرية التىأمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا * وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا * أرءيت من اتخذ إلاهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالا نعام بل هم أضل سبيلا) *)) 2
لما تقدم تكذيب قريش والكفار لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم) ذكر تعالى ما فيه تسلية للرسول وإرهاب للمكذبين وتذكير
456

لهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من هلاك الاستئصال لما كذبوا رسلهم، فناسب أن ذكر أولا من نزل عليه كتابه جملة واحدة ومع ذلك كفروا وكذبوا به فكذلك هؤلاء لو نزل عليه القرآن دفعة لكذبوا وكفروا كما كذب قوم موسى.
و * (الكتاب) * هنا التوراة و * (هارون) * بدل أو عطف بيان، واحتمل أن يكون معه المفعول الثاني لجعلنا. وأن يكون * (وزيرا) * والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان في الزمان الواحد أنبياء يوازر بعضهم بعضا، والمذهوب إليهم القبط وفرعون. وفي الكلام حذف أي فذهبا وأديا الرسالة فكذبوهما * (فدمرناهم) * والتدمير
أشد الإهلاك وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه. وقصة موسة ومن أرسل إليه ذكرت منتهية في غير ما موضع وهنا اختصرت فأوجز بذكر أولها وآخرها لأنه بذلك يلزم الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
وقرأ علي والحسن ومسلمة بن محارب: فدمراهم على الأمر لموسى وهارون، وعن علي أيضا: إلا أنه مؤكد بالنون الشديدة. وعنه أيضا فدمرا أمرا لهما بهم بباء الجر، ومعنى الأمر كونا سبب تدميرهم.
وانتصب * (وقوم نوح) * على الاشتغال وكان النصب أرجح لتق / م الجمل الفعلية قبل ذلك، ويكون * (لما) * في هذا الإعراب ظرفا على مذهب الفارسي. وأما إن كانت حرف وجوب لوجوب فالظاهر أن * (أغرقناهم) * جواب لما فلا يفسر ناصبا لقوم فيكون معطوفا على المفعول في * (فدمرناهم) * أو منصوبا على مضمر تقديره اذكر. وقد جوز الوجوه الثلاثة الحوفي.
* (لما كذبوا الرسل) * كذبوا نوحا ومن قبله أو جعل تكذيبهم لنوح تكذيبا للجميع، أو لم يروا بعثه الرسل كالبراهمة والظاهر عطف * (وعادا) * على و * (قوم) *. وقال أبو إسحاق: يكون معطوفا على الهاء والميم في * (وجعلناهم للناس ءاية) *. قال: ويجوز أن يكون معطوفا على * (الظالمين) * لأن التأويل وعدنا الظالمين بالعذاب ووعدنا * (عادا * وثمودا * وقرا * عبد الله * بلدة ميتا كذالك الخروج * كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس) *. قال ابن عباس: هم قوم ثمود ويبعده عطفه على ثمود لأن العطف يقتضي التغاير. وقال قتادة: أهل قرية من اليمامة يقال ها الرس والفلج. قيل: قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وقوم صالح. وقال كعب ومقاتل والسدي بئر بأنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين وهو حبيب النجار. وقيل: قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي دسوه فيه.
وقال وهب الكلبي * (أصحاب * الرس) * وأصحاب الأيكة قومان أرسل إليهما شعيب أرسل إلى أصحاب الرس وكانوا قوما من عبدة الأصنام وأصحاب آبار ومواش، فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه فبينما هم حول الرس وهي البئر غير المطوية. وعن أبي عبيدة انهارت بهم فخسف بهم وبدارهم. وقال علي فيما نقله الثعلبي: قوم عبدوا شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت رسوا نبيهم في بئر حفروه له في حديث طويل. وقيل: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير، سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فج وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا. وقيل: الرس هم أصحاب الأخدود والرس الأخدود. وقال ابن عباس: الرس بئر أذربيجان. وقيل: الرس ما بين نجران إلى اليمن إلى حضرموت. وقيل: قوم بعث الله إليهم أنبياء فقتلوهم ورسوا عظامهم في بئر. وقيل: قوم بعث إليهم نبي فأكلوه. وقيل: قوم نساؤهم سواحق. وقيل: الرس ماء ونخل لبني أسد. وقيل: الرس نهر من بلاد المشرق بعث الله إليهم نبيا من إولاد يهوذا ابن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمانا فشكا إلى الله منهم فحفروا له بئرا وأرسلوه فيها، وقالوا: نرجو أن يرضى عنا إلهنا فكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم، فدعا بتعجيل قبض روحه فمات وأضلتهم سحابة سوداء أذابتهم كما يذوب الرصاص.
وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم) (أن أهل الرس أخذوا نبيهم فرسوه في بئر وأطبقوا عليه صخرة فكان عبد أسود آمن به يجيء بطعام إلى تلك البئر فيعينه الله على تلك الصخرة فيقلها فيعطيه ما يغذيه به. ثم يرد الصخة، إلى أن ضرب الله يوما على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به). في حديث طويل. قال الطبري: فيمكن أنهم كفروا بعد ذلك فذكرهم الله في هذه الآية وكثر الاختلاف في أصحاب الرس، فلو صح ما نقله عكرمة ومحمد بن كعب كان هو القول الذي لا يمكن خلافه
457

وملخص هذه الأقوال أنهم قوم أهلكهم الله بتكذيب من أرسل إليهم.
* (وقرونا بين ذالك) * هذا إبهام لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله * (ذالك) * إشارة إلى أولئك المتقدمي الذكر فلذلك حسن دخول * (بين) * عليه من غير أن يعطف عليه شيء كأنه قيل بين المذكورين وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة. ثم يشير إليها. وانتصب * (كلا) * الأول على الاشتغال أي وأنذرنا كلا أو حذرنا كلا والثاني على أنه مفعول بتبرنا لأنه لم يأخذ مفعولا وهذا من واضح الإعراب. ومعنى ضرب الأمثال أي بين لهم القصص العجيبة من قصص الأولين ووصفنا لهم ما أدى إليه تكذيبهم بأنبيائهم من عذاب الله وتدميره إياهم ليهتدوا بضرب الأمثال فلم يهتدوا وأبعد من جعل الضمير في * (له) * لرسول صلى الله عليه وسلم) قال: والمعنى وكل الأمثال ضربنا للرسول وعلى هذا و * (كلا) * منصوب بضربنا و * (الامثال) * بدل من * (كلا) * والضمير في * (ولقد أتوا) * لقريش كانوا يمرون على سدوم من قرى قوم لوط في متاجرهم إلى الشام وكانت قرى خمسة أهلك الله منها أربعا وبقيت واحدة وهي زغر لم يكن أهلها يعملون ذلك العمل قاله ابن عباس و * (مطر السوء) * الحجارة التي أمطرت عليهم من السماء فهلكوا. وكان إبراهيم عليه السلام ينادي نصيحة لكم: يا سدوم يوم لكم من الله عز وجل أنهاكم أن تتعرضوا للعقوبة من الله، ومعنى * (أتوا) * مروا فلذلك عداه بعلى. وأفراد لفظ القرية وإن كانت قرى لأن سدوم هي أم تلك القرى وأعظمها.
وقال مكي: الضمير في * (أتوا) * عائد على الذين اتخذوا القرآن مهجوار انتهى. وهم قريش وانتصب * (مطر) * على أنه مفعول ثان لأمطرت على معنى أوليت، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد أي إمطار السوء. * (أفلم يكونوا يرونها) * أن ينظرون إلى ما فيها من العبر والآثار الدالة على ما حل بها من النقم كما قال * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل) * وقال * (وإنهما لبإمام مبين) * وهو استفهام معناه التعجب ومع ذلك فلم يعتبروا برؤيتها أن يحل بهم في الدنيا ما حل بأولئك، بل كانوا كفرة لا يؤمنون بالبعث فلم يتوقعوا عذاب الآخرة وضع الرجاء موضع التوقع لأنه إنما بتوقع العاقبة من يؤمن، فمن ثم لم ينظروا ولم يتفكروا ومروا بها كما مرت ركابهم، أو لا يأملون * (نشورا) * كما يأمله المؤمنون لطمعهم إلى ثواب أعمالهم أو لا يخافون على اللغة التهامية. وقرأ زيد بن علي مطرت ثلاثي مبنيا
للمفعول ومطر متعد. قال الشاعر:
* كمن بواديه بعد المحل ممطور
*
وقرأ أبو السماك * (مطر السوء) * بضم السين.
* (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا) * لم يقتصر المشركون على إنكار نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وترك الإيمان به، بل زادوا على ذلك بالاستهزاء والاحتقار. حتى يقول بعبضهم لبعض * (أهاذا الذى بعث الله رسولا) * و * (ءان) * نافية جواب * (إذا) * وانفردت * (إذا) * بأنه إذا كان جوابها منفيا بما أو بلا لا تدخله الفاء بخلاف أدوات الشرط غيرها فلا بد من الفاء مع ما ومع لا إذا ارتفع المضارع، فلو وقعت إن النافية في جواب غير إذا فلا بد من الفاء كما النافية ومعنى * (* هزؤا) * موضع هزء أو مهزوا به * (هزوا أهاذا) * قبله قول محذوف أي يقولون وقال: جواب * (إذا) * ما أضمر من القول أي * (وإذا رأوك) * قالوا * (أهاذا الذى بعث الله رسولا) * و * (إن يتخذونك * جمالة * من قبلكم إذا) * وجوابها.
قيل: ونزلت في أبي جهل كان إذا رأى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: * (أهاذا الذى بعث الله رسولا) *؟ وأخبر بلفظ الجمع تعظيما لقبح صنعه أو لكون جماعة معه قالوا ذلك: والظاهر أن قائل ذلك جماعة كثيرة وهذا الاستفهام استصغار واحتقار منهم أخرجوه بقولهم بعث الله رسولا في معرض التسليم والإقرار وهم على غاية الجحود
458

والإنكار سخرية واستهزاء، ولو لم يستهزئوا لقالوا هذا زعم أو ادعى أنه مبعوث من عند الله رسولا.
وقولهم * (إن كاد ليضلنا) * دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم) في دعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم مع عرض الآيات والمعجزات حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام لولا فرط لاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم. و * (لولا) * في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث اللفظ مجرى التقييد للحكم المطلق قاله الزمخشري. وقال أبو عبد الله الرازي: الاستهزاء إما بالصورة فكان أحسن منهم خلقة أو بالصفة فلا يمكن لأن الصفة التي تميز بها عنهم ظهور المعجز عليه دونهم، وما قدروا على القدح في حجته ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ثم لوقاحتهم قلبوا القصة والستهزؤوا بالرسول عليه الصلاة والسلام انتهى. قيل: وتدل الآية على أنهم صاروا في ظهور حجته عليه الصلاة والسلام عليهم كالمجانين استهزؤوا به أولا ثم إنهم وصفوه بأنه * (كاد ليضلنا) * عن مذهبنا * (لولا) * أنا قابلناه بالجمود والإصرار فهذا يدل على أنهم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل، فكونهم جمعوا بين الاستهزاء وبين هذه الكيدودة دل على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره تارة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل.
* (وسوف يعلمون) * وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال فلا بد للوعيد أن يلحقهم فلا يغرنهم التأخير، ولما قالوا * (إن كاد ليضلنا) * جاء قوله * (من أضل سبيلا) * أي سيظهر لهم من المضل ومن الضال بمشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه. والظاهر أن من استفهامية وأضل خبره والجملة في موضع مفعول * (يعلمون) * إن كانت متعدية إلى واحد أو في موضع مفعولين إن كانت تعدت إلى اثنين، ويجوز أن تكون * (من) * موصولة مفعولة بيعلمون و * (أضل) * خبر مبتدأ محذوف أي هو أضل، وصار حذف هذا المضمر للاستطالة التي حصلت في قول العرب ما أنا بالذي قائل لك سواء.
* (أرءيت من اتخذ إلاهه هواه) * هذا يأس عن إيمانهم وإشارة إليه عليه السلام أن لا يتأسف عليهم، وإعلام أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم ثم ذكر أنهم * (أضل سبيلا) * من الأنعام من حيث لهم فهم وتركوا استعماله فيما يخلصهم من عذاب الله. والأنعام لا سبيل لها إلى فهم المصالح. و * (أرأيت) * استفهام تعجب من جهل من هذه الحالة و * (إلاهه) * المفعول الأول لاتخذ، و * (هواه) * الثاني أي أقام مقام الإله الذي يعبده هواه فهو حار على ما يكون في * (هواه) * والمعنى أنه لم يتخذ إلها إلا هواه وادعاء القلب ليس بجيد إذ يقدره من اتخذ هواه إلهه والبيت من ضرائر الشعر ونادر الكلام فينزه كلام الله عنه كان الرجل يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه وأخذ الأحسن.
قيل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي، كان إذا هوى شيئا عبده، والهوى ميل القلب إلى الشيء أفأنت تجبره على ترك هواه، أو أفأنت تحفظه من عظيم جهله. وقرأ بعض أهل المدينة من اتخذ آلهة منونة على الجمع، وفيه تقديم جعل هواه أنواعا أسماء لأجناس مختلفة فجعل كل جنس من هواه إلها آخر. وقرأ ابن هرمز: إلاهة على وزن فعالة وفيه أيضا تقديم أي هواه إلاهة بمعنى معبود لأنها بمعنى المألوهة. فالهاء فيها للمبالغة فلذلك صرفت. وقيل: بل الإلاهة الشمس ويقال لها ألاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام المعرفة في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت بمنزلة النعوت فتنكرت قاله صاحب اللوامح. ومفعول * (أرأيت) * الأول هو * (من) * والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني. وتقدم الكلام في * (أرأيت) * في أوائل الأنعام ومعنى * (وكيلا) * أي هل تستطيع أن تدعو إلى الهدى فتتوكل عليه وتجبره على الإسلام. و * (أم) * منقطعة تتقدر ببل والهمزة على المذهب الصحيح كأنه قال: بل أتحسب كان هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حفت بالإضراب عنها إليها وهو كونها مسلوبي الأسماع والعقول لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذنا إلى تدبره عقلا، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة، ونفى ذلك عن أكثرهم لأن فيهم من سبقت له السعادة فأسلم، وجعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب منفعتها وتتجنب مضرتها وتهتدي إلى مراعيها ومشاربها، وهم لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم ولا يرغبون في
459

الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولا يهتدون للحق.
2 (* (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شآء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا * وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا * وهو الذىأرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته وأنزلنا من السمآء مآء طهورا * لنحيى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنآ أنعاما وأناسى كثيرا * ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا * ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا * وهو الذى مرج البحرين هاذا عذب فرات وهاذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا * وهو الذى خلق من المآء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا * ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا * ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * قل مآ أسألكم عليه من أجر إلا من شآء أن يتخذ إلى ربه سبيلا * وتوكل على الحى الذى لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا * الذى خلق السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمان فاسأل به خبيرا * وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) *)) 2 (تكرار:
* (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا * وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا * وهو الذى أرسل الرياح * بشرا بين * يدى رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا * لنحيى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسى كثيرا * ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا * ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا * وهو الذى مرج البحرين هاذا عذب فرات وهاذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا * وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا * ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا * وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا * وتوكل على الحى الذى لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا * الذى خلق السماوات والارض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمان فاسأل به خبيرا * وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) *.)
لما بين تعالى جهل المعترضين على دلائل الصانع وفساد طريقتهم ذكر أنواعا من الدلائل الواضحة التي تدل على قدرته التامة لعلهم يتدبرونها ويؤمنون بمن هذه قدرته وتصرفه في عالمه، فبدأ بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وأن ذلك جار على مشيئته. وتقدم الكلام على * (ألم تر) * في البقرة في قصة الذي حاج إبراهيم. والمعنى * (ألم تر إلى) * صنع * (ربك) * وقدرته. و * (كيف) * سؤال عن حال في موضع نصب بمد. والجملة في موضع متعلق * (ألم تر) * لأن * (تر) * معلقة والجملة الاستفهامية التي هي معلق عنها فعل القلب ليس باقي على حقيقة الاستفهام. فالمعنى ألم تر إلى مد ربك الظل.
وقال الجمهور: * (الظل) * هنا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مثل ظل الجنة ظل ممدود لا شمس فيه ولا ظلمة. واعترض بأنه في غير النهار بل في بقايا الليل ولا يسمى ظلا. وقيل: * (الظل) * الليل لا ظل الأرض وهو يغمر الدنيا كلها. وقيل: من غيبوبة الشمس إلى طلوعها وهذا هو القول الذي قبله ولكن أورده كذا. وقيل: ظلال الأشياء كلها كقوله * (أو لم * يروا إلى ما خلق الله من شىء * يتفيأ ظلاله) *. وقال أبو عبيدة: * (الظل) * بالغداة والفيء بالعشي. وقال ابن السكيت: * (الظل) * ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس. وقيل: ما لم تكن عليه الشمس ظل وما كانت عليه فزالت فيء.
* (ولو شاء لجعله ساكنا) * قال ابن عباس وقتادة وابن زيد: كظل الجنة الذي لا شمس تذهبه. وقال مجاهد: لا تصيبه ولا تزول. وقال الحسن: * (لو شاء) * لتركه ظلا كما هو. وقيل: لأدامه أبدا بمنع طلوع الشمس بعد غيبوبتها، فلما طلعت الشمس دلت على زوال الظل وبدا فيه النقصان فبطلوع الشمس يبدو
460

النقصان في الظل، وبغروبها تبدو الزيادة في الظل فبالشمس استدل أهل الأرض على الظل وزيادتها ونقصه، وكلما علت الشمس نقص الظل، وكلما دنت للغروب زاد وهو قوله * (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) * يعني في وقت علو الشمس بالنهار ينقص الظل نقصانا يسيرا بعد يسير وكذلك زيادته بعد نصف النهار يزيد يسيرا بعد يسير حتى يعم الأرض. كلها فأما زوال الظل كله فإنما يكون في البلدان المتوسطة في وقت.
وقال الزمخشري: ومعنى * (مد الظل) * أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس. * (ولو شاء لجعله ساكنا) * أي لاصقا بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر وغير منبسط فلم ينتفع به أحد، سمي انبساط الظل وامتداده تحركا منه وعدم ذلك سكونا ومعنى كون الشمس دليلا أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتا في مكان وزائلا ومتسعا ومتقلصا فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك. وقبضه إلى ه أن ينسخه بظل الشمس * (يسيرا) * أي على مهل وفي هذا القبض اليسير شيئا بعد شيء من المنافع ما لا يعد ولا يحصى، ولو قبض دفعة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا فإن قلت: ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت: موقعها البيان تفاضل الأمور الثلاثة كأن الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم من الثاني تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر وهو أنه بنى الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض لعدم النير.
* (ولو شاء لجعله ساكنا) * مستقرا على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعله على ذلك الظل سلطها عليه وجعلها دليلا متبوعا لهم كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد بها وينقص ويمتد ويقلص، ثم نسخه بها قبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير، ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه وقوله * (قبضناه إلينا) * يدل عليه وكذلك قوله * (يسيرا) * كما قال * (ذلك حشر علينا يسير) * انتهى وقوله: سمى انبساط الظل وامتداده تحركا منه لم يسم الله ذلك إنما قال كيف مد الظل وقوله: ويحتمل أن يريد قبضه عند قيامه الساعة فهذا يبعد احتماله لأنه إنما ذكر آثار صنعته وقدرته لتشاهد ثم قال * (مد الظل) * وعطف عليه ماضيا مثله فيبعد أن يكون التقدير ثم قبضه عند قيام الساعة مع ظهور كونه ماضيا مستداما أمثاله.
وقال ابن عطية: * (ولو شاء لجعله ساكنا) * أي ثابتا غير متحرك ولا منسوخ، لكنه جعل الشمس ونسخها إياه بطردها له من موضع إلى موضع دليلا عليه مبينا لوجوده ولوجه العبرة فيه. وحكى الطبري: أنه لولا الشمس لم يعلم أن الظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها. وقال ابن عباس: * (يسيرا) * معجلا. وقال مجاهد لطيفا أي شيئا بعد شيء، ويحتمل أن يريد سهلا قريب التناول. وقال أبو عبد الله الرازي: أكثر الناس في تأويل هذه الآية ويرفع الكلام فيها إلى وجهين.
الأول: أن الظل لا ضوء خالص ولا ظلمة خالصة، وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وكذلك الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأبنية الجدارات، وهي أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الخالص يحير الحس البصري ويحدث السخونة القوية وهي مؤذية، ولهذا قيل في الجنة * (وظل ممدود) * والناظر إلى الجسم الملون كأنه يشاهد بالظل شيئا سوى الجسم وسوى اللون والظل ليس أمرا ثالثا ولا معرفة به إلا إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم ثم مال عرف للظل وجود وماهية، ولولاها ما عرف لأن الأشياء تدرك بأضدادها، فظهر للعقل أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون ولذلك قال * (ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) * أي جعلنا الظل أولا بما فيه من المنافع واللذات، ثم هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت دليلا على وجود الظل. * (ثم قبضناه) * أي أزلناه لا دفعة بل * (يسيرا) * يسيرا كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل من جانب المغرب، ولما كانت الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيرا يسيرا كان زوال الأظلال كذلك.
والثاني: أنه لما خلق السماء والأرض وقع السماء على الأرض فجعل الشمس دليلا لأنه بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فهما متعاقبان متلازمان لا واسطة
461

بينهما، فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر، فكما أن المهتدي يقتدي بالهادي والدليل ويلازمه فكذلك الأظلال ملازمة للأضواء، ولذلك جعل الشمس دليلا عليه انتهى. ملخصا وهو مأخوذ من كلام الزمخشري، ومحسن بعض تحسين. والآية في غاية الظهور ولا تحتاج إلى هذا التكثير.
وقال أيضا: * (الظل) * ليس عدما محضا بل هو أضواء مخلوطة بظلام، فهو أمر وجودي وفي تحقيقه دقيق يرجع فيه إلى الكتب العقلية انتهى. والآية في غاية الوضوح ولا تحتاج إلى هذا التكثير وقد تركت أشياء من كلام المفسرين مما لا تمس إليه الحاجة. * (جعل اليل * لباسا) * تشبيها بالثوب الذي يغطي البدن ويستره من حيث الليل يستر الأشياء. والسبات: ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا فشبه النوم به، والسبت الإقامة في المكان فكان السبات سكونا تاما والنشور هنا الإحياء شبه اليقظة به ليتطابق الإحياء مع الإماتة اللذين يتضمنهما النوم والسبات انتهى. ومن كلام ابن عطية وقال غيره: السبات الراحة جعل * (نومكم سباتا) * أي سبب راحة.
وقال الزمخشري: السبات الموت وهو كقوله * (وهو الذى يتوفاكم باليل) * فإن قلت: هلا فسرته بالراحة؟ قلت: النشور في مقابلته يأباه انتهى. ولا يأباه إلا لو تعين تفسير خبر مبتدأ محذوف، و * (الرحمان) * صفة له. أو يكون * (الذى) * منصوبا على إضمار أعني ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون * (الرحمان) * مبتدأ. و * (فاسأل) * خبره تخريجه على حد قول الشاعر:
* وكم لظلام الليل عندي من يد
*
تخبر أن المانوية تكذب
*
والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة أي عبرة فيهما لمن اعتبر. وعن لقمان أنه قال لابنه: يا بني كما تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر.
وتقدم الخلاف في قراءة الريح بالإفراد والجمع في البقرة. قال ابن عطية: وقراءة الجمع أوجه لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرق وتأتي لينة ومن ههنا وههنا وشيئا اثر شيء، وريح العذاب خرجت لاتتداءب وإنما تأتي جسدا واحدا. ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه. قال الرماني: جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح: الجنوب، والصبا، والشمال. وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور. قال أي ابن عطية: يرد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم): إذا هبت الريح: (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا) انتهى. ولا يسوغ أن يقال: هذه القراءة أوجه لأنه كلا من القراءتين متواتر والألف واللام في الريح للجنس فتعم، وما ذكر من أن قول الرماني يرده الحديث فلا يظهر لأنه يجوز أن يريد بقوله عليه السلام: (رياحا). الثلاثة اللواقح وبقوله (ولا تجعلها ريحا) الدبور. فيكون ما قاله الرماني مطابقا للحديث على هذا المفهوم.
وتقدم الخلاف في قراءة * (نشرا) * وفي مدلوله في الأعراف * (بين يدى رحمته) * استعارة حسنة أي قدام المطر لأنه يجيء معلما به. والطهور فعول إما للمبالغة كنؤوم فهو معدول عن طاهر، وإما أن يكون اسما لما يتطهر به كالسحور والفطور، وإما مصدر لتطهر جاء على غير المصدر حكاه سيبويه. والظاهر في قوله * (ماء طهورا) * أن يكون للمبالغة في طهارته وجهة المبالغة كونه لم يشبه شيء بخلاف ما نبع من الأرض ونحوه فإنه تشوبه أجزاء أرضية من مقره أو ممره أو مما يطرح فيه، ويجوز أن يوصف بالاسم وبالمصدر. وقال ثعلب: هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره، فإن كان ما قاله شرحا لمبالغته في الطهارة كان سديدا ويعضده * (وينزل عليكم من السماء ليطهركم به
462

وإلا ففعول لا يكون بمعنى مفعل، ومن استعمال طهور للمبالغة قوله تعالى * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *. وقال الشاعر:
* إلى رحج الأكفال غيد من الظبا
*
عذاب الثنايا ريقهن طهور وقرأ عيسى وأبو جعفر * (ميتا) * بالتشديد ووصف بلده بصفة المذكر لأن البلدة تكون في معنى البلد في قوله * (فسقناه إلى بلد ميت) * ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلا من المصادر، فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلا من حيث قبوله للثاء إلا فيما خص المؤنث نحو طامث. وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما * (ونسقيه) * بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب. وقرأ يحيى بن الحارث الذماري * (وأناسى) * بتخفيف الياء. ورويت عن الكسائي * (وأناسى) * جمع إنسان في مذهب سيبويه. وجمع أنسي في مذهب الفراء والمبرد والزجاج، والقياس أناسيه كما قالوا في مهلبي مهالبة. وحكي أناسين في جمع إنسان كسرحان وسراحين، ووصف الماء بالطهارة وعلل إنزاله بالإحياء والسقي لأنه لما كان الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصف بالطهور وإكراما له وتتميما للنعمة عليه، والتعليل يقتضي أن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. وقدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي لأن حياتهم بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو السبب في ذلك ولأنهم إذا وجدوا ما يسقي أرضهم ومواشيهم وجدوا سقياهم. ونكر الأنعام والأناسي ووصفا بالكثرة لأن كثيرا منهم لا يعيشهم إلا ما أنزل الله من المطر، وكذلك * (وأحيينا به بلدة ميتا) * يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظان الماء بخلاف سكان المدن فإنهم قريبون من الأودية والأنهار والعيون فهم غنيون غالبا عن سقي ماء المطر، وخص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب لأن الطيور والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام فإنها قنية الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام بسقيهم.
*
والضمير في * (صرفناه) * عائد على الماء المنزل من السماء، أي جعلنا إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض وهو في كل عام بمقدار واحد قاله الجمهور منهم ابن مسعود وابن عباس ومجاهد، فعلى هذا التأويل * (إلا كفورا) * هو قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة. وقيل * (كفورا) * على الإطلاق لما تركوا التذكر. وقال ابن عباس أيضا: عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضده * (وجاهدهم به) * لتوافق الضمائر، وعلى أنه للمطر يكون به للقرآن. وقال أبو مسلم: راجع إلى المطر والرياح والسحاب وسائر ما ذكر فيه من الأدلة. وقال الزمخشري: صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الأكتراث بها. وقيل: صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وجود ورذاذ وديمة ورهام فأبوا إلا الكفور. وأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكروا رحمته وصنعته. وعن ابن عباس: ما من عام أقل مطرا من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية. ويروى أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام لأنه لا يختلف، ولكن يختلف في البلاد وينتزع من ههنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي كأنه قال: ليحي به بعض البلاد الميتة، ونسقيه بعض الأنعام والأناسي وذلك البعض كثير انتهى. وقرأ عكرمة * (صرفناه) * بتخفيف الراء.
* (ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا) * لما علم تعالى ما كابده الرسول من أذى قومه أعلمه أنه تعالى لو أراد لبعث في كل قرية نذيرا فيخفف عنك الأمر ولكنه أعظم أجرك وأجلك إذ جعل إنذارك عاما للناس كلهم، وخصك بذلك ليكثر ثوابك لأنه على
463

كثرة المجاهدة يكون الثواب، وليجمع لك حسنات من آمن بك إذ أنت مؤسسها. * (فلا تطع الكافرين) * يعنى كفار قريش فإنهم كانوا استمعوا إليه ورغبوا أن يرجع إلى دين آبائهم ويملكونه عليهم ويجمعون له مالا عظيما فنهاه تعالى عن طاعتهم حتى يظهر لهم أنه لا رغبة له في شيء من ذلك، لكن رغبته في الدعاء إلى الله والإيمان به. * (وجاهدهم به) * أي القرآن أو بالإسلام أو بالسيف أو بترك طاعتهم و * (جهادا) * مصدر وصف بكبيرا لأنه يلزمه عليه السلام مجاهدة جميع العالم فهو جهاد كبير.
و * (مرج) * خلط بينهما أو أفاض أحدهما في الآخر أو أجراهما أقوال، والظاهر أنه يراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح. وقيل: بحران معينان. فقيل: بحر فارس، وبحر الروم. وقيل: بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام قاله ابن عباس. وقال مجاهد: مياه الأنهار الواقعة في البحر الأجاج وهذا قريب من القول الأول. قال ابن عطية: والمقصد بالآية التنبيه على قدرة الله وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض مياها عذبة كثيرة من الأنهار والعيون والآبار وجعلها خلال الأجاج، وجعل الأجاج خلالها فترى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه ويلقى الماء البحر في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج، والبرزخ والحجر ما حجز بينهما من الأرض والسد قاله الحسن. ويتمشى هذا على قول من قال أن * (مرج) * بمعنى أجرى. وقيل: البرزخ البلاد والقفار فلا يختلفان إلا بزوال الحاجز يوم القيامة. قال الأكثرون: الحاجز مانع من قدرة الله. قال الزجاج: فهما مختلطان في مرائي العين منفصلان بقدرة الله، وسواد البصرة ينحدر الماء العذب منه في دجلة نحو البحر، ويأتي المد من البحر فيلتقيان من غير اختلاط فماء البحر إلى الخضرة الشديدة، وماء دجلة إلى الحمرة، فالمستقي يغرف من ماء دجلة عندنا لا يخالطه شيء ونيل مصر في فيضه يشق البحر المالح شقا بحيث يبقى نهرا جاريا أحمر في وسط المالح ليستقي الناس منه، وترى المياه قطعا في وسط البحر المالح فيقولون: هذا ماء ثلج فيسقون منه من وسط البحر.
وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي * (ملح) * بفتح الميم وكسر اللام وكذا في فاطر. قال أبو حاتم وهذا منكر في القراءة. وقال أبو الفتح أراد مالحا وحذف الألف كما حذفت من برد أي بارد. وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح: هي لغة شاذة قليلة. وقيل: أراد مالح فقصره بحذف الألف فالمالح جائز في صفة الماء لأن الماء
يوجد في الضفيان بأن يكون مملوحا من جهة غيره، ومالحا لغيره وإن كان من صفته أن يقال: ماء ملح موصوف بالمصدر أي ماء ذو ملح، فالوصف بذلك مثل حلف ونضو من الصفات.
قال الزمخشري: فإن قلت: * (حجرا محجورا) * ما معناه؟ قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها وهي ههنا واقعة على سبيل المجاز، كان كل واحد من البحرين متعوذ من صاحبه ويقول له * (حجرا محجورا) * كما قال * (لا يبغيان) * أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة، فانتفاء البغي ثم كالتعوذ ههنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة انتهى.
والظاهر أن * (حجرا محجورا) * معطوف على * (برزخا) * عطف المفعول على المفعول وكذا أعربه الحوفي، وعلى ما ذكره الزمخشري يكون ذلك على إضمار القول المجازي أي، ويقولان أي كل واحد منهما لصاحبه * (حجرا محجورا) *.
والظاهر عموم البشر وهم بنو آدم والبشر ينطلق على الواحد والجمع. وقيل: المراد بالنسب آدم وبالصهر حواء. وقيل: النسب البنون والصهر البنات و * (من الماء) * إما النطفة، وإما أنه أصل خلقة كل حي، والنسب والصهر يعمان كل قربى بين آدميين، فالنسب أن يجتمع مع آخر في أب وأم قرب ذلك أو بعد، والصهر هو نواشج المناكحة. وقال علي بن أبي طالب النسب ما لا يحل نكاحه والصهر قرابة الرضاع. وعن طاوس: الرضاعة من الصهر. وعن علي: الصهر ما يحل نكاحه والنسب ما لا يحل نكاحه. وقال الضحاك: الصهر قرابة الرضاع. وقال ابن سيرين: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم) وعلي لأنه جمعه معه نسب وصهر. قال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. * (وكان ربك قديرا) * حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين ذكرا وأنثى.
ولما ذكر دلائل قدرته وما امتن به على عباده من غرائب مصنوعاته ثبت بذلك أنه المستحق للعبادة لنفعه وضره بين فساد عقول المشركين حيث
464

يعبدون الأصنام. والظاهر أن * (الكافر) * اسم جنس فيعم. وقيل: هو أبو جهل والآية نزلت فيه. وقال عكرمة * (الكافر) * هنا إبليس والظهير والمظاهر كالمعين والمعاون قاله مجاهد والحسن وابن زيد، وفعيل بمعنى مفاعل كثير والمعنى أن * (الكافر) * يعاون الشيطان على ربه بالعداوة والشريك. وقيل: معناه وكان الذي يفعل هذا الفعل وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هينا مهينا من قولهم: ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا يلتفت إليه، وهذا نحو قوله * (أولئك لا خلاق لهم) * الآية قاله الطبري. وقيل: * (على ربه) * أي معينا على أولياء الله. وقيل: معينا للمشركين على أن لا يوحد الله.
* (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) * سلى نبيه بذلك أي لا تهتم بهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وإنما أنت رسول تبشر تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكفرة بالنار، ولست بمطلوب بإيمانهم أجمعين. ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم مزيلا لوجوه التهم بقوله * (قل ما أسألكم عليه من أجر) * أي لا أطلب مالا ولا نفعا يختص بي. والضمير في * (عليه) * عائد على التبشير والإنذار، أو على القرآن، أو على إبلاغ الرسالة أقوال. والظاهر في * (إلا من شاء) * أنه استثناء منقطع وقاله الجمهور. فعلى هذا قيل بعباده * (لكن * من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) * فليفعل. وقيل: لكن من أنفق في سبيل الله ومجاهدة أعدائه فهو مسؤولي. وقيل: هو متصل على حذف مضاف تقديره: إلا أجر من اتخذ إلى ربه سبيلا أي إلا أجر من آمن أي الأجر الحاصل لي على دعائه إلى الإيمان وقبوله، لأنه تعالى يأجرني على ذلك. وقيل: إلا أجر من آمن من يعني بالأجرة الإنفاق في سبيل الله أي لا أسألكم أجرا إلا الإنفاق في سبيل الله، فجعل الإنفاق أجرا.
ولما أخبر أنه فطم نفسه عن سؤالهم شيئا أمره تعالى تفويض أمره إليه وثقته به واعتماده عليه فهو المتكفل بنصره وإظهار دينه. ووصف تعالى نفسه بالصفة التي تقتضي التوكل في قوله * (الحى الذى لا يموت) * لأن هذا المعنى يختص به تعالى دون كل حي كما قال * (كل شىء هالك إلا وجهه) *. وقرأ بعض السلف هذه الآية فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق، ثم أمره بتنزيهه وتمجيده مقرونا بالثناء عليه لأن التنزيه محله اعتقاد القلب والمدح محله اللسان الموافق للأعتقاد. وفي الحديث: (من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر. وهي الكلمتان الخفيفتان على اللسان الثقيلتان في الميزان).
* (وكفى به بذنوب عباده خبيرا) * أراد أنه ليس إليه من أمور عباده شيء آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم. وفي هذه الجملة تسلية للرسول ووعيد للكافر. وفي بعض الأخبار كفى بك ظفرا أن يكون عدوك عاصيا وهي كلمة يراد بها المبالغة تقول: كفى بالعلم جمالا. وكفى بالأدب مالا، أي حسبك لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم.
ولما أمره بالتوكل والتسبيح وذكر صفة الحياة الدائمة ذكر ما دل على القدرة التامة وهو إيجاد هذا العالم. وتقدم الكلام في نظير هذا الكلام واحتمل * (الذى) * أن يكون صفة للحي الذي لا يموت. ويتعين على قراءة زيد بن علي * (الرحمان) * بالجر وأما على قراءة الجمهور * (الرحمان) * بالرفع فإنه يحتمل أن يكون * (الذى) * صفة للحي و * (الرحمان) * خبر مبتدأ محذوف. ويحتمل أن يكون * (الذى) * مبتدأ و * (الرحمان) * خبره. وأن يكون * (الذى) * (سقط: منصوبا على إضمار أعني، ويجوز على مذاهب الأخفش أن يكون الرحمن مبتدأ وفاسأل خبره تخريجه على حده قول الشاعر وقائلة خولا فانكح فتاتهم، وجوزوا أيضا في الرحمن أن يكون بدلا من الضمير المستكين في استوى والظاهر: تعلق به بقوله فاسأل وبقاء الباء غير مضمنة معنى عن، وخبيرا من صفات الله، كما نقول لقيت بزيد أسدا ولقيت بزيد البحر تريد: أنه هو الأسد شجاعة والبحر رما، والمعنى أنه تعالى اللطيف العالم الخبير، والمعنى فاسأل الله الخبير بالأشياء)
465

* (وزادهم) * أي هذا القول وهو الأمر بالسجود للرحمن * (زادهم) * ضلالا يختص به مع ضلالهم السابق، وكان حقه أن يكون باعثا على فعلى السجود والقبول. وقال الضحاك: سجد أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعثمان بن مظعون وعمرو ابن غلسة، فرآهم المشركون
466

فأخذوا في ناحية المسجد يستهزوؤن، فهذا المراد بقوله * (وزادهم نفورا) * ومعنى * (نفورا) * فرارا.
2 (* (تبارك الذى جعل فى السمآء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا * وهو الذى جعل اليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا * وعباد الرحمان الذين يمشون على الا رض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها سآءت مستقرا ومقاما * والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما * والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذالك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا فأولائك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا * والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما * والذين إذا ذكروا بأايات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا * والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما * أولائك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما * خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما * قل ما يعبؤا بكم ربى لولا دعآؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) *)) 2
* (تبارك الذى جعل فى السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا * وهو الذى جعل اليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا * وعباد الرحمان الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها ساءت مستقرا ومقاما * والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما * والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل) *.
لما جعلت قريش سؤالها عن اسمه الذي هو الرحمن سؤالا عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بألوهيته. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما، ووصف نفسه بالرحمن، وسألوا هم فيه عما وضع في السماء من النيرات وما صرف من حال الليل والنهار لبادروا بالسجود والعبادة للرحمن، ثم نبههم على مالهم به اعتناء تام من رصد الكواكب وأحوالها ووضع أسماء لها. والظاهر أن المراد بالبروج المعروفة عند العرب وهي منازل الكواكب السيارة وهي الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. سميت بذلك لشبهها بما شبهت به. وسميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البرج من التبرج لظهوره.
وقيل: البروج هنا القصور في الجنة. قال الأعمش. وكان أصحاب عبد الله يقرؤونها * (فى السماء) * قصورا. وقال أبو صالح: البروج هنا الكواكب العظام. قال ابن عطية: والقول بأنها قصور في الجنة تحط من غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل. والضمير في * (فيها) * الظاهر أنه عائد على * (السماء) *. وقيل: على البروج، فالمعنى وجعل في جملتها * (سراجا) *. وقرأ الجمهور * (سراجا) * على الإفراد وهو الشمس. وقرأ عبد الله وعلقمة والأعمش والأخوان سرجا بالجمع مضموم
467

الراء وهو يجمع الأنوار، فيكون خص القمر بالذكر تشريفا. وقرأ الأعمش أيضا والنخعي وابن وثاب كذلك بسكون الراء. وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم * (* وقمر) * بضم القاء وسكون الميم فالظاهر أنه لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب. وقيل: جمع قمراء أي ليلة قمراء كأنه قال: وذا قمر منير لأن الليلة تكون قمراء بالقمر، فأضافه إليها ونظيره في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه قول حسان:
بردى يصفق بالرحيق السلسل
يريد ماء بردى. فمنيرا وصف لذلك المحذوف كما قال يصفق بالياء من تحت، ولو لم يراع المضاف لقال: تصفق بالتاء وقال * (وقمرا منيرا) * أي مضيئا ولم يجعله * (سراجا) * كالشمس لأنه لا توقد له.
وانتصب * (خلفة) * على الحال. فقيل: هو مصدر خلف خلفة. وقيل: هو اسم هيئة كالركبة ووقع حالا اسم الهيئة في قولهم: مررت بماء قعدة رجل، وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر. والمعنى جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا، ويقال الليل والنهار يختلفان كما يقال يعتقبان ومنه قوله * (واختلاف اليل والنهار) * ويقال: بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيرا إلى متبرزه ومن هذا المعنى قول زهير:
بها العيس والآرام يمشين خلفة
وقول الآخر
يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا:
* ولها بالما طرون إذا
*
أكل النمل الذي جمعا
*
* خلفة حتى إذا ارتفعت
*
سكنت من جلق بيعا
*
* في بيوت وسط دسكرة
*
حولها الزيتون قد ينعا
*
وقيل * (خلفة) * في الزيادة والنقصان. وقال مجاهد وقتادة والكسائي: هذا أسود وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير. * (لمن أراد أن يذكر) *. قال عمر وابن عباس والحسن: معناه * (لمن أراد أن يذكر) * ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه. وقال مجاهد وغيره: أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. وقال الزمخشري: وعن أبي بن كعب يتذكر والمعنى. لينظر في اختلافهما الناظر فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال وتغيرهما من نافل ومغير، ويستدل بذلك على عظم قدرته ويشكر الشاكر على النعمة من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى: * (ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) * وليكونا وقتين للمتذكر والشاكر من فاته في أحدهما ورده من العبادة أتى به في الآخر. وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن علي وطلحة وحمزة تذكر مضارع ذكر خفيفا.
ولما تقدم ذكر الكفار وذمهم جاء * (لما * أراد أن يذكر أو أراد شكورا) * ذكر أحوال المؤمنين المتذكرين الشاكرين فقال: * (وعباد الرحمان) * وهذه إضافة تشريف وتفضل، وهو جمع عبد. وقال ابن بحر: جمع عابد كصاحب وصحاب، وتاجر وتجار، وراجل ورجال، أي الذين يعبدونه حق عبادته.
468

والظاهر أن * (وعباد) * مبتدأ و * (الذين يمشون) * الخبر. وقيل: أولئك الخبر و * (الذين) * صفة، وقوم من عبد القيس يسمون العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب. وقيل: لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله. وقرأ اليماني: وعباد جمع عابد كضارب وضراب. وقرأ الحسن: وعبد بضم العين والباء. وقرأ السلمي واليماني * (يمشون) * مبنيا للمفعول مشددا. والهون: الرفق واللين. وانتصب * (هونا) * على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشيا هونا أو على الحال، أي يشمون هينين في تؤدة وسكينة وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق. وقال مجاهد: بالحلم والوقار. وقال ابن عباس: بالطاعة والعفاف والتواضع. وقال الحسن: حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقال ابن عطية * (هونا) * عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك المعظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال * (هونا) * بمعنى أمره هون أي ليس بخشن، وذهبت فرقة إلى أن * (هونا) * مرتبط بقوله * (يمشون على الارض) * أي إن المشي هو الهون، ويشبه أن يتأول هذا على أن يكون أخلاق ذلك الماشي * (هونا) * مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بينا، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل، لأن رب ماش * (هونا) * رويدا وهو ذنب أطلس. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب. وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية وقوله عليه السلام: (من مشى منكم في طمع فليمش رويدا). أراد في عمر نفسه ولم يرد المشي وحده ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر:
* كلهم يمشي رويدا
*
كلهم يطلب صيدا
*
وقال الزهري: سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه، يريد الإسراع الخفيف لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط. وقال زيد بن أسلم: أنه رأى في النوم من فسر له * (الذين يمشون على الارض هونا) * بأنهم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض. وقال عياض بن موسى: كان عليه السلام يرفع في مشيه رجليه بسرعة وعد وخطوة خلاف مشية المختال، ويقصد سمته وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال: (إنما ينحط من صبب). وكان عمر يسرع جبلة لا تكلفا.
* (وإذا خاطبهم الجاهلون) * أي مما لا يسوغ الخطاب به * (قالوا سلاما) * أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه * (سلام عليك) * قاله الأصم. وقال مجاهد: قولا سديدا فهو منصوب بقالوا. وقيل: هو على إضمار فعل تقديره سلمنا * (سلاما) * فهو جزء من متعلق الجملة المحكية. قال ابن عطية: والذي أقوله أن * (قالوا) * هو العامل في * (سلاما) * لأن المعنى قالوا هذا اللفظ. وقال الزمخشري: تسلما منكم فأقيم السلام مقام التسليم. وقيل: قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الأذى والإثم والمراد بالجهل السفه وقلة الأدب وسوء الرغبة من قوله:
* ألا لا يجهلن أحد علينا
*
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
*
انتهى. وقال الكلبي: وأبو العالية نسختها آية القتال. وقال ابن عطية: وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة وبقي حكمها في المسلمين إلى يوم
القيامة، وذكره سيبويه في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه. ورجح به أنه المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة، والآية مكية فنسختها آية السيف. وفي التاريخ ما معناه أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفا عن علي بن أبي طالب فرآه في النوم قد تقدمه إلى عبور قنطرة، فقال له: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك، وكان حكى ذلك للمأمون قال: فما رأيت له
469

بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون: فما أجابك به؟ قال: كان يقول لي سلاما سلاما، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال: يا عم قد أجابك بأبلغ جواب. فخزي إبراهيم واستحيا، وكان إبراهيم لم يحفظ الآية أو ذهب عنه حالة الحكاية.
والبيتوتة هو أن يدرك الليل نمت أو لم تنم، وهو خلاف الظلول وبجبيلة وأزد السراة يقولون: بيات وسائر العرب يقولون: يبيت، ولما ذكر حالهم بالنهار بأنهم يتصرفون أحسن تصرف ذكر حالهم بالليل والظاهر أنه يعنى إحياء الليل بالصلاة أو أكثره. وقيل: من قرأ شيئا من القرآن بالليل في صلاة فقد بات ساجدا وقائما. وقيل: هما الركعتان بعد المغرب، والركعتان بعد العشاء. وقيل: من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في هذه الآية. وفي هذه الآية حض على قيام الليل في الصلاة. وقدم السجود وإن كان متأخرا في الفعل لأجل الفواصل، ولفضل السجود فإنها حالة أقرب ما يكون العبد فيها من الله. وقرأ أبو البرهثيم: سجودا على وزن قعودا. ومدحهم تعالى بدعائه أن يصرف عنهم عذاب جهنم وفيه تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء. قال ابن عباس: * (غراما) * فظيعا وجيعا. وقال الخدري: لازما ملحا دائما. قال الحسن: كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم. وقال السدي: شديدا. وأنشدوا على أن * (غراما) * لازما قوله الشاعر وهو بشر بن أبي خازم:
* ويوم اليسار ويوم الجفار
*
كانا عذابا وكانا غراما
*
وقال الأعشى.
* إن يعاقب يكن غراما
*
وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالي وصفهم بإحياء الليل ساجدين ثم عقبه بذكر دعائهم هذا إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون يبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم. و * (ساءت) * احتمل أن يكون بمعنى بئست. والمخصوص بالذم محذوف وفي * (ساءت) * ضمير مبهم ويتعين أن يكون * (مستقرا ومقاما) * تمييز. والتقدير * (ساءت مستقرا ومقاما) * هي وهذا المخصوص بالذم هو رابط الجملة الواقعة خبرا لأن. ويجوز أن يكون * (ساءت) * بمعن أحزنت فيكون المفعول محذوفا أي ساءتهم. والفاعل ضمير جهنم وجاز في * (مستقرا ومقاما) * أن يكونا تمييزين وأن يكونا حالين قد عطف أحدهما على الآخر. والظاهر أن التعليلين غير مترادفين ذكر أولا لزوم عذابها، وثانيا مساءة مكانها وهما متغايران وإن كان يلزم من لزوم العذاب في مكان دم ذلك المكان. وقيل: هما مترادفان، والظاهر أنه من كلام الداعين وحكاية لقولهم. وقيل: هو من كلام الله، ويظهر أن قوله * (ومقاما) * معطوف على سبيل التوكيد لأن الاستقرار والإقامة كأنهما مترادفان. وقيل: المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون فيها ولا يقيمون، والإقامة للكفار. وقرأت فرقة * (ومقاما) * بفتح الميم أي مكان قيام، والجمهور بالضم أي مكان إقامة.
*
* (لم يسرفوا) * ولم يقتروا. قال أبو عبد الرحمن الجيلي: الإنفاق في غير طاعة اسراف، والإمساك عن طاعة إقتار. وقال معناه ابن عباس ومجاهد وابن زيد. وسمع رجل رجلا يقول: لا خير في الإسراف فقال: لا إسراف في الخير. وقال عون بن عبد الله بن عتبة: الإسراف أن تنفق مال غيرك. وقال النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول: الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاما للذة وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ قال له عمر: الحسنة بين
470

السيئتين. ثم تلا الآية. والإسراف مجاوزة الحد في النفقة والقتر التضييق الذي هو نقيض الإسراف. وعن أنس في سنن ابن ماجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته). وقال الشاعر:
* ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد
*
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
*
وقال آخر
* إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت
*
ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
*
وساقت إليه الإثم والعار بالذي
دعته إليه من حلاوة عاجل
*
وقال حاتم
* إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله
*
فرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم: يقترون بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع، وابن عامر بضم الياء وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق. وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعيا هنا. وقال أقتر إذا افتقر. ومنه * (وعلى المقتر قدره) * وغاب عنه ما حكاه الأصمعي وغيره: من اقتر بمعنى ضيق، والقوام الاعتدال بين الحالتين. وقرأ حسان بن عبد الرحمن * (قواما) * بالكسر. فقيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: بالكسر ما يقام به الشيء يقال: أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص. وقيل: * (قواما) * بالكسر مبلغا وسدادا وملاك حال، و * (بين ذالك) * و * (قواما) * يصح أن يكونا خبرين عند من يجيز تعداد خبر * (كان) * وأن يكون * (بين) * هو الخبر و * (قواما) * حال مؤكدة، وأن يكون * (قواما) * خبرا و * (بين ذالك) * إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف، وأن يكون حالا من * (قواما) * لأنه لو تأخر لكان صفة، وأجاز الفراء أن يكون * (بين ذالك) * اسم * (كان) * وبني لإضافته إلى مبني كقوله * (ومن خزى يومئذ) * في قراءة من فتح الميم و * (قواما) * الخبر.
*
قال الزمخشري: وهو من جهة الإعراب لا بأس به، ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة انتهى.
وصفهم تعالى بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير، وبمثله خوطب الرسول صلى الله عليه وسلم) بقوله * (ولا تجعل يدك مغلولة) * الآية. * (والذين لا يدعون) * الآية سأل ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي الذنب أعظم؟ فقال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك). قال: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك). قال: ثم أي؟ قال: (أن تزاني حليلة جارك). فأنزل الله تصديقها * (والذين لا يدعون) * الآية. وقيل: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) مشركون قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، فقالوا: إن الذين تقول وتدعو إليه لحسن، أو تخبرنا أن لما علمنا كفارة فنزلت إلى * (غفورا رحيما) *. وقيل: نزولها قصة وحشي في إسلامه في حديث طويل. قال الزمخشري: نفي هذه التقبيحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدفين للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم، كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. وقال ابن عطية: إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحا انتهى. وتقدم تفسير نظير * (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق) * في
471

سورة الأنعام. وقرئ * (يلق) * بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة وابن مسعود وأبو رجاء يلقى بألف، كان نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقر الألف. والآثام في اللغة العقاب وهو جزاء الإثم. قال الشاعر:
* جزى الله ابن عروة حيث أمسى
*
عقوق والعقوق له آثام أي حد وعقوبة وبه فسره قتادة وابن زيد. وقال عبد الله بن عمرو ومجاهد وعكرمة وابن جبير: آثام واد في جهنم هذا اسمه جعله الله عقابا للكفرة. وقال أبو مسلم: الآثام الإثم، ومعناه * (يلق) * جزاء آثام، فأطلق اسم الشيء على جزائه. وقال الحسن: الآثام اسم من أسماء جهنم. وقيل: بئر فيها. وقيل: جبل. وقرأ ابن مسعود: يلق أياما جمع يوم يعني شدائد. يقال: يوم ذو أيام لليوم العصيب. وذلك في قوله * (ومن يفعل ذالك) * يظهر أنه إشارة إلى المجموع من دعاء إله وقتل النفس بغير حق والزنا، فيكون التضعيف مرتبا على مجموع هذه المعاصي، ولا يلزم ذلك التضعيف على كل واحد منها. ولا شك أن عذاب الكفار يتفاوت بحسب جرائمهم.
*
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي * (يضاعف له العذاب) * مبنيا للمفعول وبألف * (ويخلد) * مبنيا للفاعل. والحسن وأبو جعفر وابن كثير كذلك إلا أنهم شددوا العين وطرحوا الألف. وقرأ أبو جعفر أيضا وشيبة وطلحة بن سليمان نضعف بالنون مضمومة وكسر العين مشددة * (العذاب) * نصب. وطلحة بن مصرف * (يضاعف) * بالياء مبنيا للفاعل * (العذاب) * نصب. وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بتاء الخطاب على الالتفات مرفوعا أي وتخلد أيها الكافر. وقرأ أبو حيوة * (
ويخلد) * مبنيا للمفعول مشدد اللام مجزوما. ورويت عن أبي عمرو وعنه كذلك مخففا. وقرأ أبو بكر عن عاصم * (يضاعف) * * (ويخلد) * بالرفع عنهما وكذا ابن عامر والمفضل عن عاصم * (يضاعف) * * (ويخلد) * مبنيا للمفعول مرفوعا مخففا. والأعمش بضم الياء مبنيا للمفعول مرفوعا مخففا. والأعمش بضم الياء مبنيا للمفعول مشددا مرفوعا فالرفع على الاستئناف أو الحال والجزم على البدل من * (يلق) *. كما قال الشاعر:
* متى تأتنا تلمم بنافي ديارنا
*
تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
*
والضمير في * (فيه) * عائد على العذاب، والظاهر أن توبة المسلم القاتل النفس بغير حق مقبولة خلافا لابن عباس، وتقدم ذلك في النساء وتبديل سيئاتهم حسنات هو جعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة ويكون ذلك سبب رحمة الله إياهم قاله ابن عباس. وابن جبير والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وردوا على من قال هو في يوم القيامة. وقال الزجاج: السيئة بعينها لا تصير حسنة، ولكن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة، والكافر يحبط عملة وتثبت عليه السيئات. وتأول ابن مسيب ومكحول أن ذلك يوم القيامة وهو بمعنى كرم العفو. وفي كتاب مسلم إن الله يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئات حسنات. وقالا تمحى السيئة ويثبت بدلها حسنة. وقال القفال والقاضي: يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد ما يستحق بهما.
* (إلا من تاب) * استثناء متصل من الجنس، ولا يظهر لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه * (يضاعف له العذاب) * فيصير التقدير * (إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا) * فلا يضاعف له العذاب. ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعا أي لكن من تاب وآمن عمل صالحا * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) * وإذا كان كذلك فلا يلقى عذابا البتة و * (سيئاتهم) * هو المفعول الثاني، وهو أصله أن يكون مقيدا بحرف الجر أي بسيئاتهم. و * (حسنات) * هو المفعول الأول وهو المصرح كما قال تعالى * (وبدلناهم بجناتهم جنتين) *. وقال الشاعر:
472

* تضحك مني أخت ذات النحيين
*
أبد لك الله بلون لونين
*
سواد وجه وبياض عينين
الظاهر أن * (ومن تاب) * أي أنشأ التوبة فإنه يتوب إلى الله أي يرجع إلى ثوابه وإحسانه. قال ابن عطية * (ومن تاب) * فإنه قد تمسك بأمر وثيق. كما تقول لمن يستحسن قوله في أمر: لقد قلت يا فلان قولا فكذلك الآية معناها مدح المتاب، كأنه قال: فإنه يجد الفرج والمغفرة عظيما. وقال الزمخشري: ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإن بذلك تائب إلى الله الذي يعرف حق التائبين، ويفعل بهم ما يستوجبون، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين. وقيل: من عزم على التوبة فإنه يتوب إلى الله فليبادر إليها ويتوجه بها إلى الله. وقيل * (من تاب) * من ذنوبه فإنه يتوب إلى من يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. وقيل: * (ومن تاب) * استقام على التوبة فإنه يتوب إلى الله أي فهو التائب حقا عند الله.
* (والذين لا يشهدون الزور) * عاد إلى ذكر أوصاف * (عباد الرحمان) * والظاهر أن المعنى لا يشهدون بالزور أو شهادة الزور، قاله علي والباقر فهو من الشهادة. وقيل: المعنى لا يحضرون من المشاهدة والزور الشرك والصنم أو الكذب أو آلة الغناء أو أعياد النصارى. أو لعبة كانت في الجاهلية أو النوح أو مجالس يعاب فيها الصالحون، أقوال. فالشرك قاله الضحاك وابن زيد، والغناء قاله مجاهد، والكذب قاله ابن جريج. وفي الكشاف عن قتادة مجالس الباطل. وعن ابن الحنفية: اللهو والغناء. وعن مجاهد: أعياد المشركين و * (اللغو) * كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى * (وإذا مروا) * بأهل اللغو * (مروا) * معرضين عنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم. والخوض معهم لقوله * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) * انتهى.
* (بآيات ربهم) * هي القرآن. * (لم يخروا عليها صما وعميانا) * النفي متوجه إلى القيد الذي هو صم وعميان لا للخرور الداخل عليه، وهذا الأكثر في لسان العرب أن النفي يتسلط على القيد، والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها بآذان واعية وأعين راعية، بخلاف غيرهم من المنافقين وأشباههم، فإنهم إذا ذكروا بها كانوا مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها في ظاهر الأمر، وكانوا * (صما وعميانا) * حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها. قال ابن عطية: بل يكون خرورهم سجدا وبكيا كما تقول: لم يخرج زيد إلى الحرب جزعا أي إنما خرج جريئا معدما، وكان المسمع المذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض كان ذلك خرورا وهو السقوط على غير نظام وترتيب، وإن كان قد أشبه الذي يخر ساجدا لكن أصله أنه على غير ترتيب انتهى. وقال السدي * (لم يخروا) * * (صما وعميانا) * هي صفة للكفار، وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك. وقرن ذلك بقولك: قعد فلان يتمنى، وقام فلان يبكي، وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.
* (قرة أعين) * كناية عن السرور والفرح، وهو مأخوذ من القر وهو البرد. يقال: دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن، ويقال: أقر الله عينك، وأسخن الله عين
العدو. وقال أبو تمام:
* فأما عيون العاشقين فأسخنت
*
وأما عيون الشامتين فقرت
*
وقيل: مأخوذ من القرار أي يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره. وقال أبو عمرو: وقرة العين النوم أي آمنا لأن الأمن لا يأتي مع الخوف حكاه القفال، وقرة العين فيمن ذكروا رؤيتهم مطيعين لله قاله ابن عباس والحسن وحضرمي كانوا في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافروا والزوج والزوجة كافرة، وكانت قرة عيونهم في إيمان أحبابهم. وقال
473

ابن عباس: قرة عين الولدان تراه يكتب الفقه والظاهر أنهم دعوا بذلك ليجابوا في الدنيا فيسروا بهم. وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أولئك في الجنة ليتم لهم سرورهم انتهى. ويتضمن هذا القول الأول الذي هو في الدنيا لأن ذلك نتيجة إيمانهم في الدنيا. ومن الظاهر أنها لابتداء الغاية أي * (هب لنا) * من جهتهم ما تقربه عيوننا من طاعة وصلاح، وجوز أن تكون للبيان قاله الزمخشري قال: كأنه قيل * (هب لنا) * * (قرة أعين) * ثم بينت القرة وفسرت بقوله * (من أزواجنا وذرياتنا) * ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين من قولك: رأيت منك أسدا أي أنت أسد انتهى. وتقدم لنا أن * (من) * التي لبيان الجنس لا بد أن تتقدم المبين. ثم يأتي بمن البيانية وهذا على مذهب من أثبت أنها تكون لبيان الجنس. والصحيح أن هذا المعنى ليس بثابت لمن.
وقرأ ابن عامر والحرميان وحفص وذرياتنا على الجمع وباقي السبعة وطلحة على الإفراد. وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة قرأت على الجمع، والجمهور على الإفراد. ونكرت القرة لتنكير الأعين كأنه قال هب لنا منهم سرورا وفرحا وجاء * (أعين) * بصيغة جمع القلة دون عيون الذي هو صيغة جمع الكثرة لأنه أريد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قاله الزمخشري. وليس بجيد لأن أعين تنطلق على العشرة فما دونه من الجمع، والمتقون ليست أعينهم عشرة بل هي عيون كثيرة جدا وإن كانت عيونهم قليلة بالنسبة إلي عيون غيرهم فهي من الكثرة بحيث تفوت العد. وأفرد * (إماما) * إما اكتفاء بالواحد عن الجمع، وحسنه كونه فاصلة ويدل على الجنس ولا لبس، وأما لأن المعنى واجعل كل واحد * (إماما) * وإما أن يكون جمع آم كحال وحلال، وإما لاتحادهم واتفاق كلمتهم قالوا: واجعلنا إماما واحد ادعوا الله أن يكونوا قدوة في الدين ولم يطلبوا الرئاسة قاله النخعي. وقيل: في الآية ما يدل على أن الرئاسة في الدين يجب أن تطلب. ونزلت في العشرة المبشرين بالجنة.
* (أولائك) * إشارة إلى الموصوفين بهذه الصفات العشرة. و * (الغرفة) * اسم معرف بأل فيعم أي الغرف كما جاء * (وهم فى الغرفات * ءامنوا) * وهي العلالي. قال ابن عباس: وهي بيوت من زبرجد ودر وياقوت. وقيل * (الغرفة) * من أسماء الجنة. وقيل: السماء السابعة غرفة. وقيل: هي أعلى منازل الجنة. وقيل: المراد العلو في الدرجات والباء في * (بما صبروا) * للسبب. وقيل: للبدل أي بدل صبرهم كما قال:
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا
أي فليت لي بدلهم قوما ولم يذكر متعلق الصبر مخصصا ليعم جميع متعلقاته. وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر والحرميان وأبو عمرو وأبو بكر * (ويلقون) * بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة. وقرأ طلحة ومحمد اليماني وباقي السبعة بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. والتحية دعاء بالتعمير والسلام دعاء بالسلامة، أي تحييهم الملائكة أو يحيي بعضهم بعضا. وقيل: يحيون بالتحف جمع لهم بينهم المنافع والتعظيم. * (حسنت مستقرا ومقاما) * معادل لقوله في جهنم * (ساءت مستقرا ومقاما) *.
ولما وصف عباده العباد وعدد ما لهم من صالح الأعمال أمر رسوله صلى الله عليه وسلم) أن يصرح للناس بأن لا اكتراث لهم عند ربهم إنما هو العبادة والدعاء في قوله * (لولا دعاؤكم) * هو العبادة والظاهر أن * (ما) * نفي أي ليس * (يعبؤا بكم ربى لولا دعاؤكم) * ويجوز أن تكون استفهامية فيها معنى النفي أي، أي عبء يعبأ بكم، و * (دعاؤكم) * مصدر أضيف إلى الفاعل أي لولا عبادتكم إياه أي لولا دعاؤكم وتضرعكم إليه أو ما يعبأ بتعذيبكم لولا دعاؤكم الأصنام آلهة. وقيل: أضيف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته. والذي يظهر أن قوله * (قل ما يعبؤا بكم) * خطاب لكفار قريش القائلين نسجد لما تأمرنا أي لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إياه في الشدائد.
* (فقد كذبتم) * بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم)
474

، فتستحقون العقاب * (فسوف يكون) * العقاب وهو ما أنتجه تكذبيكم ونفس لهم في حلوله بلفظة * (فسوف يكون لزاما) * أي لازما لهم لا ينفكون منه. وقرأ عبد الله وابن عباس وابن الزبير: فقد كذب الكافرون وهو محمول على أنه تفسير لا قرآن، والأكثرون على أن اللزام هنا هو يوم بدر وهو قول ابن مسعود وأبي. وقيل: عذاب الآخرة. وقيل: الموت ولا يحمل على الموت المعتاد بل القتل ببدر. وقيل: التقدير * (فسوف يكون) * هو أي العذاب وقد صرح به من قرأ * (فسوف يكون) * العذاب * (لزاما) * والوجه أن يترك اسم كان غير منطوق به بعدما علم أنه مما توعد به لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف. وعن ابن عباس * (فسوف يكون) * هو أي التكذيب * (لزاما) * أي لازما لكم لا تعطون توبة ذكره الزهراوي. قال الزمخشري: والخطاب إلى الناس على الإطلاق ومنهم مؤمنون عابدون
ومكذبون عاصون، فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب * (فقد كذبتم) * يقول إذا أعلمتكم أن حكمي أنى لا أعتد إلا بعبادتهم، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار. ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن عصى عليه: إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع أمري، فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك. وقرأ ابن جريج: فسوف تكون بتاء التأنيث أي فسوف تكون العاقبة، وقرأ الجمهور * (لزاما) * بكسر اللام. وقرأ المنهال وأبان بن ثعلب وأبو السمال بفتحها مصدر يقول لزم لزوما ولزاما، مثل ثبت ثبوتا وثباتا. وأنشد أبو عبيدة علي كسر اللام لصخر الغي:
* فإما ينج من حتف أرض
*
فقد لقيا حتوفهما لزاما
*
ونقل ابن خالويه عن أبي السمال أنه قرأ لزام على وزن حذام جعله مصدرا معدولا عن اللزمة كفجار معدول عن الفجرة.
475