الكتاب: تفسير القرطبي
المؤلف: القرطبي
الجزء: ١٢
الوفاة: ٦٧١
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٥ - ١٩٨٥ م
المطبعة:
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: مؤسسة التاريخ العربي

الجامع لاحكام القرآن
لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي
الجزء الثاني عشر
أعاد طبعه
دار احياء التراث العربي
بيروت - لبنان
1405 ه‍ 1985 م
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الحج
وهي مكية، سوى ثلاث آيات: قوله تعالى: " هذان خصمان " (1) [الحج: 19] إلى تمام ثلاث آيات،
قاله ابن عباس ومجاهد. وعن ابن عباس أيضا (أنهن أربع آيات)، قوله " عذاب الحريق ". [الحج: 22]
وقال الضحاك وابن عباس أيضا: (هي مدنية) - وقاله قتادة - إلا أربع آيات: " وما أرسلنا (1)
من قبلك من رسول ولا نبي " [الحج: 52] إلى " عذاب يوم عقيم " [الحج: 55] فهن مكيات. وعد النقاش
ما نزل بالمدينة عشر آيات. وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني. وهذا
هو الأصح، لان الآيات تقتضي ذلك، لان " يا أيها الناس " مكي، (1) و " يا أيها الذين آمنوا "
مدني. الغزنوي: وهي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا،
سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها، مختلف العدد.
قلت: وجاء في فضلها ما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني عن عقبة بن عامر قال
قلت: يا رسول الله، فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟ قال: (نعم، ومن لم يسجدهما
فلا يقرأهما). لفظ الترمذي. وقال: هذا حديث حسن ليس إسناده بالقوي.
واختلف أهل العلم في هذا، فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابن عمر
أنهما قالا: " فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين ". وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد
وإسحاق. ورأى بعضهم أن فيها سجدة واحدة، وهو قول سفيان الثوري. روى الدارقطني
عن عبد الله بن ثعلبة قال: رأيت عمر بن الخطاب سجد في الحج سجدتين، قلت في الصبح؟ قال في الصبح.

(1) راجع ص 79 وص 87 من هذا الجزء.
(2) يعنى غالبه مكي.
1

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم (1)
روى الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت: " يا أيها الناس
اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم - إلى قوله - ولكن عذاب الله شديد " قال: أنزلت
عليه هذا الآية وهو في سفر فقال: " أتدرون أي يوم ذلك "؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم،
قال: " ذاك يوم يقول الله لادم أبعث بعث النار قال يا رب وما بعث النار قال تسعمائة وتسعة
وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة ". فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " قاربوا وسددوا فإنه لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية - قال - فيؤخذ العدد
من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة (1) في ذراع الدابة
أو كالشامة (2) في جنب البعير - ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبروا،
ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة - فكبروا، ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا
نصف أهل الجنة " فكبروا. قال: لا أدري قال الثلثين أم لا. قال: هذا حديث حسن
صحيح، وقد روي من غير وجه عن الحسن عن عمران بن حصين. وفيه: فيئس القوم حتى
ما أبدوا بضاحكة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اعملوا وأبشروا فوالذي
نفسي بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شئ إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم
وبني إبليس " قال: فسري عن القوم بعض الذي يجدون، فقال: " اعملوا وأبشروا فوالذي
نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة " قال:
هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري [رضي الله عنه] قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك
- قال - يقول أخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (3)

(1) الرقمة الهنة الناشئة في ذراع الدابة.
(2) الشامة: علامة تخالف البدن الذي هي فيه.
(3) في بعض النسخ: " تسعمائة وتسعة وتسعون " فالنصب على المفعولية، والرفع على الخبرية.
2

قال فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم
بسكارى ولكن عذاب الله شديد ". قال: فاشتد ذلك عليهم، قالوا: يا رسول الله، أينا ذلك
الرجل؟ فقال: " أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل ". وذكر الحديث بنحو
ما تقدم في حديث عمران بن حصين. وذكر أبو جعفر النحاس قال: حدثنا أحمد بن محمد
ابن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك
رضي الله عنه قال: " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم - إلى - ولكن
عذاب الله شديد " قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له، فرفع بها صوته
حتى ثاب إليه أصحابه فقال: " أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقول الله عز وجل لادم صلى الله
عليه وسلم يا آدم قم فابعث بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار
وواحد إلى الجنة ". فكبر ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سدوا
وقاربوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة
في ذراع الحمار وإن معكم الخليقتين ما كانتا مع شئ إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن هلك من
كفرة الجن والإنس ".
قوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم " المراد بهذا النداء المكلفون، أي اخشوه
في أوامره أن تتركوها، ونواهيه أن تقدموا عليها. والاتقاء: الاحتراس من المكروه، وقد
تقدم في أول " البقرة " القول فيه مستوفى (1)، فلا معنى لإعادته. والمعنى: احترسوا بطاعته
عن عقوبته.
قوله تعالى: " إن زلزلة الساعة شئ عظيم " الزلزلة شدة الحركة، ومنه " وزلزلوا حتى
يقول الرسول " (2) [البقرة: 214]. وأصل الكلمة من زل عن الموضع، أي زال عنه وتحرك. وزلزل الله قدمه،
أي حركها. وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشئ. وقيل: هي الزلزلة المعروفة التي هي إحدى
شرائط الساعة، التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة، هذا قول الجمهور. وقد قيل: إن هذه
الزلزلة تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها، فالله أعلم.

(1) راج ج 1 ص 161.
(2) راجع ج 3 ص 33.
3

قوله تعالى: يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع
كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن
عذاب الله شديد (2)
قوله تعالى: (يوم ترونها) الهاء في " ترونها " عائدة عند الجمهور على الزلزلة،
ويقوي هذا وقوله عز وجل. " تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها ".
والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا. وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة، واحتجوا بحديث
عمران بن حصين الذي ذكرناه، وفيه: " أتدرون أي يوم ذلك... " الحديث. وهو الذي
يقتضيه سياق مسلم في حديث أبي سعيد الخدري.
قوله: " تذهل " أي تشتغل، قاله قطرب. وأنشد:
ضربا (1) يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
وقيل: تنسى. وقيل تلهو. وقيل: تسلو، والمعنى متقارب. " عما أرضعت " قال
المبرد: " ما " بمعنى المصدر، أي تذهل عن الارضاع. قال: وهذا يدل على أن هذه
الزلزلة في الدنيا، إذ ليس بعد البعث حمل وإرضاع. إلا أن يقال: من ماتت حاملا
تبعث حاملا فتضع حملها للهول. ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك. ويقال: هذا
كما قال الله عز وجل: " يوما يجعل الولدان شيبا " (2) [المزمل: 17]. وقيل: تكون مع النفخة الأولى.
وقيل: تكون مع قيام الساعة، حتى يتحرك الناس من قبورهم في النفخة الثانية. ويحتمل أن
تكون الزلزلة في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى: " مستهم البأساء والضراء
وزلزلوا " (3) [البقرة: 214]. وكما قال عليه السلام: " اللهم أهزمهم وزلزلهم ". وفائدة ذكر هول ذلك اليوم
التحريض على التأهب له والاستعداد بالعمل الصالح. وتسمية الزلزلة ب‍ " شئ " إما لأنها

(1) في الأصول: " بضرب " والتصويب عن سيرة ابن هشام. وقبله:
نحن قتلنا كم على تأويله * كما قتلنا كم على تنزيله
والرجز لعبد الله بن رواحة، ارتجزه وهو يقود ناقة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة في عمرة
القضاء. - راجع سيرة ابن هشام).
(2) راجع ج 19 ص 47.
(3) راجع ج 3 ص 33 فما بعد.
4

حاصلة متيقن وقوعها، فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي معدومة، إذ اليقين يشبه
الموجودات. وإما على المآل، أي هي إذا وقعت شئ عظيم. وكأنه لم يطلق الاسم
الان، بل المعنى أنها إذا كانت فهي إذا شئ عظيم، ولذلك تذهل المراضع وتسكر
الناس، كما قال: (وترى الناس سكارى) أي من هولها ومما يدركهم من الخوف والفزع.
(وما هم بسكارى) من الخمر. وقال أهل المعاني، وترى الناس كأنهم سكارى. يدل عليه
قراءة أبي زرعة هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله " وترى الناس " بضم التاء، أي تظن
ويخيل إليك. وقرأ حمزة والكسائي " سكرى " بغير ألف. الباقون " سكارى " وهما لغتان
لجمع سكران، مثل كسلى وكسالى. والزلزلة: التحريك العنيف. والذهول. الغفلة عن
الشئ بطروء (1) ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره. قال ابن زيد: المعنى تترك ولدها
للكرب الذي نزل بها.
قوله تعالى: ومن الناس من يجدل في الله بغير علم ويتبع
كل شيطن مريد (3) كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه
إلى عذاب السعير (4)
قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) قيل: المراد النضر بن الحارث،
قال: إن الله عز وجل غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد ترابا. (ويتبع) أي في قوله
ذلك. (كل شيطان مريد) متمرد. (كتب عليه أنه من تولاه) قال قتادة ومجاهد:
أي من تولى الشيطان. (فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير).
قوله: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا
خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة
وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى

(1) في الأصول: " بطريان ".
5

ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد
إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة
فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5)
قوله تعالى: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث - إلى قوله - مسمى)
فيه اثنتا عشرة مسألة:
الأولى - قوله تعالى: (إن كنتم في ريب من البعث) هذا احتجاج على العالم
بالبداءة الأولى. وقوله: " إن كنتم في ريب " متضمنة التوقيف. وقرأ الحسن
ابن أبي الحسن: " البعث " بفتح العين، وهي لغة في " البعث " عند البصريين. وهي عند الكوفيين
بتخفيف " بعث ". والمعنى: يا أيها الناس إن كنتم في شك من الإعادة. (فإنا خلقناكم)
أي خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر، يعني آدم عليه السلام (من تراب). (ثم) خلقنا
ذريته. (من نطفة) وهو المني، سمي نطفة لقلته، وهو القليل من الماء، وقد يقع على الكثير
منه، ومنه الحديث " حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا ". أراد بحر المشرق
وبحر المغرب. والنطف: القطر. نطف ينطف وينطف. وليلة نطوفة دائمة القطر.
(ثم من علقة) وهو الدم الجامد. والعلق الدم العبيط، أي الطري. وقيل: الشديد
الحمرة. (ثم من مضغة) وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ، ومنه الحديث " ألا وإن في الجسد
مضغة ". وهذه الأطوار أربعة أشهر. قال ابن عباس: وفي العشر بعد الأشهر الأربعة
ينفخ فيه الروح، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها، أربعة أشهر وعشر.
الثانية - روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن
ابن مسعود وعن ابن عمر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: " يا رب،
ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، ما الاجل والأثر (1)، بأي أرض تموت؟ فيقال له أنطلق إلى

(1) الأثر: الاجل، وسمى به لأنه يتبع العمر.
6

أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، فتخلق
فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها، ثم قرأ
عامر: " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ". وفي الصحيح
عن أنس بن مالك - ورفع الحديث - قال: " إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول
أي رب نطفة. أي رب علقة. أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا - قال -
قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد. فما الرزق فما الاجل. فيكتب كذلك في بطن
أمه ". وفي الصحيح أيضا عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها
وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى... " وذكر
الحديث. وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو الصادق المصدوق " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك
علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات
بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد... " الحديث. فهذا الحديث مفسر للأحاديث
الأول، فإن فيه: " يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة
ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح " فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ
الملك الروح، وهذه عدة المتوفي [عنها زوجها] كما قال ابن عباس. وقوله: " إن أحدكم
يجمع خلقه في بطن أمه " قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش: ما يجمع في بطن أمه؟ فقال:
حدثنا خيثمة قال قال عبد الله: إذا وقعت النطفة في الرحم فأراد أن يخلق منها بشرا
طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تصير دما في الرحم، فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة.
الثالثة - نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن ما صدر عنه
فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه، ألا تراه سبحانه
7

قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال: " ولقد خلقناكم
ثم صورناكم " (1) [الأعراف: 11]. وقال: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار (2)
مكين " [المؤمنون: 12 - 13]. وقال: " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من
نطفة ". وقال تعالى: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " (3) [التغابن: 2]. ثم قال: " وصوركم
فأحسن صوركم ". (4) [غافر: 64]. وقال: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم " (5) [التين: 4]. وقال: " خلق الانسان
من علق ". [العلق: 2]. إلى غير ذلك من الآيات، مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشئ
من المخلوقات إلا رب العالمين. وهكذا القول في قول: " ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح "
أي أن النفخ سبب خلق الله فيها الروح والحياة. وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة،
فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره. فتأمل هذا الأصل وتمسك به، ففيه النجاة من مذاهب
أهل الضلال الطبعيين (6) وغيرهم.
الرابعة - لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك
تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، كما بيناه بالأحاديث. وعليه يعول فيما يحتاج إليه من
الاحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات، وذلك لتيقنه
بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل: إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر،
وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل.
الخامسة - النطفة ليست بشئ يقينا، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع
في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل، فإذا طرحته علقة فقد تحققنا أن النطفة
قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال يتحقق به أنه ولد. وعلى هذا فيكون
وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم، وتنقضي به العدة، ويثبت به
لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك رضي الله عنه وأصحابه. وقال الشافعي رضي الله عنه:

(1) راجع ج 7 ص 168.
(2) راجع ص 108 فما بعد من هذا الجزء.
(3) راجع ج 18 ص 132.
(4) راجع ج 15 ص 326.
(5) راجع ج 20 ص 113 فما بعد. وص 119.
(6) في الأصول: الطبائع.
8

لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط، فإن خفي التخطيط
وكان لحما فقولان بالنقل والتخريج، والمنصوص أنه تنقضي به العدة ولا تكون أم ولد.
قالوا: لان العدة تنقضي بالدم الجاري، فبغيره أولى.
السادسة - قوله تعالى: (مخلقة وغير مخلقة) قال الفراء: " مخلقة " تامة الخلق،
" وغير مخلقة " السقط. وقال ابن الأعرابي: " مخلقة " قد بدأ خلقها، " وغير مخلقة "
لم تصور بعد. ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، و " غير مخلقة " التي
لم يخلق فيها شئ. قال ابن العربي: إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة
والمضغة مخلقة، لان الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة
كما قال الله تعالى: " ثم أنشأناه خلقا آخر " [المؤمنون: 14] فذلك ما قال ابن زيد.
قلت: التخليق من الخلق، وفيه معنى الكثرة، فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقا بعد
خلق، وإذا كان نطفة فهو مخلوق، ولهذا قال الله تعالى: " ثم أنشأناه خلقا أخر " [المؤمنون: 14] والله أعلم.
وقد قيل: إن قوله: " مخلقة وغير مخلقة " يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط، أي منهم من
يتم الرب سبحانه مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع، ومنهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام.
وقيل: المخلقة أن تلد المرأة لتمام الوقت. ابن عباس: المخلقة ما كان حيا، وغير المخلقة
السقط. قال:
أفي غير المخلقة البكاء * فأين الحزم ويحك والحياء
السابعة - أجمع العلماء على أن الأمة تكون أم ولد بما تسقطه من ولد تام الخلق.
وعند مالك والأوزاعي وغيرهما بالمضغة كانت مخلقة أو غير مخلقة. قال مالك: إذا علم أنها
مضغة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن كان قد تبين له شئ من خلق بني آدم أصبع أو عين
أو غير ذلك فهي له أم ولد. وأجمعوا على أن المولود إذا استهل صارخا يصلى عليه، فإن
لم يستهل صارخا لم يصل عليه عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهما. وروي عن ابن عمر
أنه يصلى عليه، وقاله ابن المسيب وابن سيرين وغيرهما. وروي عن المغيرة بن شعبة أنه
9

كان يأمر بالصلاة على السقط، ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم وحنطوهم، فإن الله
أكرم بالاسلام كبيركم وصغيركم، ويتلو هذه الآية " فإنا خلقناكم من تراب - إلى - وغير
مخلقة ". قال ابن العربي: لعل المغيرة بن شعبة أراد بالسقط ما تبين خلقه فهو الذي
يسمى، وما لم يتبين خلقه فلا وجود له. وقال بعض السلف: يصلي عليه متى نفخ فيه الروح
وتمت له أربعة أشهر. وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: " إذا أستهل المولود ورث ". الاستهلال: رفع الصوت، فكل مولود
كان ذلك منه أو حركة أو عطاس أو تنفس فإنه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة.
وإلى هذا ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي. قال الخطابي: وأحسنه قول أصحاب
الرأي. وقال مالك: لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل [صارخا]. (1) وروي
عن محمد ابن سيرين والشعبي والزهري وقتادة.
الثامنة - قال مالك رضي الله عنه: ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه
ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرة (2). وقال الشافعي: لا شئ فيه حتى يتبين من خلقه [شئ]. (1)
قال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخا ففيه الغرة. وسواء تحرك أو عطس فيه الغرة
أبدا، حتى يستهل صارخا ففيه الدية كاملة. وقال الشافعي رضي الله عنه وسائر فقهاء الأمصار:
إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو باستهلال أو بغير ذلك مما تستيقن به حياته ففيه الدية.
التاسعة - ذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع، واحتج
عليه بأنه حمل، وقال قال الله تعالى: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ". (3) قال
القاضي إسماعيل: والدليل على ذلك أنه يرث أباه، فدل على وجوده خلقا وكونه ولدا وحملا.
قال ابن العربي: ولا يرتبط به شئ من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا.
قلت: ما ذكرناه من الاشتقاق وقول عليه الصلاة والسلام: " إن أحدكم يجمع خلقه
في بطن أمه " يدل على صحة ما قلناه، ولأن مسقطة العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا

(1) من ك.
(2) الغرة عند الفقهاء: ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد والإماء.
(3) راجع ج 18 ص 162 فما بعد.
10

ألقته أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها، فيشملها قوله تعالى: " وأولات الأحمال
أجلهن أن يضعن حملهن ". [الطلاق: 4] ولأنها وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط،
وهذا بين. العاشرة - روى ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا
يزيد عن عبد الملك النوفلي عن يزيد بن رومان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه [خلفي] " (1). وأخرجه
الحاكم في معرفة علوم الحديث له عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فقال:
" أحب إلي من ألف فارس أخلفه ورائي ". الحادية عشرة - (لنبين لكم) يريد: كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم. (ونقر
في الأرحام) قرئ بنصب " نقر " و " نخرج "، رواه أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن
عاصم قال قال أبو حاتم: النصب على العطف. وقال الزجاج: " نقر " بالرفع لا غير، لأنه
ليس المعنى: فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، وإنما خلقهم عز وجل ليدلهم على الرشد
والصلاح. وقيل: المعنى لنبين لهم أمر البعث، فهو اعتراض بين الكلامين. وقرأت هذه
الفرقة بالرفع. " ونقر "، المعنى: ونحن نقر. وهي قراءة الجمهور. وقرئ: " ويقر " و " يخرجكم "
بالياء، والرفع على هذا سائغ. وقرأ ابن وثاب: " ما نشاء " بكسر النون. والأجل المسمى
يختلف بحسب جنين جنين، فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا. وقال: " ما نشاء "
ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل، أي نقر في الأرحام ما نشاء من الحمل ومن المضغة
وهي جماد فكنى عنها بلفظ ما.
الثانية عشرة - قوله تعالى: (ثم نخرجكم طفلا) أي أطفالا، فهو اسم جنس.
وأيضا فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد، قال الشاعر:
يلحينني في حبها ويلمنني * وإن العواذل ليس لي بأمير

(1) زيادة عن سنن ابن ماجة.
11

ولم يقل أمراء. وقال المبرد: وهو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل، فيقع على الواحد
والجمع، قال الله تعالى: " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " (1) [النور: 31]. وقال الطبري:
وهو نصب على التمييز، كقوله تعالى: " فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا " (2) [النساء: 4]. وقيل: المعنى
ثم نخرج كل واحد منكم طفلا. والطفل يطلق من وقت انفصال الولد إلى البلوغ. وولد كل
وحشية أيضا طفل. ويقال: جارية طفل، وجاريتان طفل وجوار طفل، وغلام طفل،
وغلمان طفل. ويقال أيضا: طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال. ولا يقال:
طفلات. وأطفلت المرأة صارت ذات طفل. والمطفلة: الظبية معها طفلها، وهي قريبة
عهد بالنتاج. وكذلك الناقة، [والجمع] مطافل ومطافيل. والطفل (بالفتح في الطاء) الناعم،
يقال: جارية طفلة أي ناعمة، وبنان طفل. وقد طفل الليل إذا أقبل ظلامه. والطفل
(بالتحريك): بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب. والطفل (أيضا): مطر، قال:
* لوهد (3) جاده طفل الثريا *
(ثم لتبلغوا أشدكم) قيل: إن " ثم " زائدة كالواو في قوله " حتى إذا جاءوها وفتحت
أبوابها " (4) [الزمر: 73]، لان ثم من حروف النسق كالواو. " أشدكم " كمال عقولكم ونهاية قواكم.
وقد مضى في " الانعام " (5) بيانه.
" ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) أي أخسه وأدونه،
وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل، ولهذا قال: (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) كما قال
في سورة يس: " ومن نعمره ننكسه في الخلق " (6) [يس: 68]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم. يدعو
فيقول: " اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل
العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر ". أخرجه النسائي عن سعد، وقال: وكان
يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب (7) الغلمان. وقد مضى في النحل هذا المعنى (8).

(1) راجع ص 226 من هذا الجزء فما بعد.
(2) راجع ج 5 ص 23 فما بعد.
(3) الوهد والوهدة:
المطمئن من الأرض كأنه حفرة.
(4) راجع ج 15 ص 184 فما بعد.
(5) راجع ج 7 ص 124.
(6) راجع ج 15 ص 38 فما بعد.
(7) المكتب المعلم.
(8) راجع ج 10 ص 140.
12

قوله تعالى: (وترى الأرض هامدة) ذكر دلالة أقوى على البعث فقال في الأول:
" فإنا خلقناكم من تراب " فخاطب جمعا. وقال في الثاني: " وترى الأرض " فخاطب
واحدا، فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل من حيث الاحتجاج على منكري
البعث. (هامدة) يابسة لا تنبت شيئا، قال ابن جريج. وقيل: دارسة. والهمود
الدروس. قال الأعشى:
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا * وأرى ثيابك باليات همدا
الهروي: " هامدة " أي جافة ذات تراب. وقال شمر: يقال: همد شجر الأرض إذا بلي
وذهب. وهمدت أصواتهم إذا سكنت. وهمود الأرض ألا يكون فيها حياة ولا نبت
ولا عود ولم يصبها مطر. وفي الحديث: " حتى كاد يهمد من الجوع " أي يهلك. يقال:
همد الثوب يهمد إذا بلي. وهمدت النار تهمد.
قوله تعالى: (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت) أي تحركت. والاهتزاز: شدة الحركة،
يقال: هززت الشئ فاهتز، أي حركته فتحرك. وهز الحادي الإبل هزيزا فاهتزت
هي إذا تحركت في سيرها بحدائه. واهتز الكوكب في انقضاضه. وكوكب هاز. فالأرض
تهتز بالنبات، لان النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية، فسماه اهتزازا
مجازا. وقيل: اهتز نباتها، فحذف المضاف، قال المبرد، واهتزازه شدة حركته،
كما قال الشاعر:
تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت * كما اهتز غصن ألبان في ورق خضر
والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض. (وربت) أي ارتفعت وزادت. وقيل:
انتفخت، والمعنى واحد، وأصله الزيادة. ربا الشئ يربو ربوا أي زاد، ومنه الربا
والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس " وربأت " أي ارتفعت حتى صارت
بمنزلة الربيئة، وهو الذي يحفظ القوم على شئ مشرف، فهو رابئ وربيئة على المبالغة.
قال امرؤ القيس:
13

بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا * كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي (1)
(وأنبتت) أي أخرجت. (من كل زوج) أي لون. (بهيج) أي حسن، عن قتادة.
أي يبهج من يراه. والبهجة الحسن، يقال: رجل ذو بهجة. وقد بهج (بالضم) بهاجة وبهجة
فهو بهيج. وأبهجني أعجبني بحسنه. ولما وصف الأرض بالانبات دل على أن قوله:
" اهتزت وربت " يرجع إلى الأرض لا إلى النبات. والله أعلم.
قوله تعالى: ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على
كل شئ قدير (6) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث
من في القبور (7)
قوله تعالى: " ذلك بأن الله هو الحق " لما ذكر افتقار الموجودات إليه وتسخيرها
على وفق اقتداره واختياره في قول: " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث - إلى قوله -
بهيج ". قال بعد ذلك: " ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شئ
قدير. وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ". فنبه سبحانه وتعالى
بهذا على أن كل ما سواه وإن كان موجودا حقا فإنه لا حقيقة له من نفسه، لأنه مسخر
مصرف. والحق الحقيقي: هو الموجود المطلق الغني المطلق، وأن وجود كل ذي وجود
عن وجوب وجوده، ولهذا قال في آخر السورة: " وأن ما يدعون من دونه هو الباطل " (2) [الحج: 62].
والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، وهو الله تعالى. وقيل: ذو الحق على
عباده. وقيل: الحق (3) بمعنى في أفعاله. وقال الزجاج: " ذلك " في موضع رفع، أي الامر
ما وصف لكم وبين. (بأن الله هو الحق) أي لان الله هو الحق. وقال: ويجوز أن يكون

(1) المخمل: الذي يخمل نفسه، أي يسيرها ويخفيها لئلا يشعر به الصيد والغضى: الشجر، والعرب تقول:
أخبث الذئاب ذئب الغضى، وإنما صار كذلك لأنه لا يباشر الناس إلا إذا أراد أن يغير. والضراء (بالفتح والمد):
الشجر الملتف في الوادي يستر من دخل فيه. وفلان يمشى الضراء: إذا مشى مستخفيا فيما يواري من الشجر.
(2) راجع ص 91 من هذا الجزء.
(3) في ك: الحق في أفعاله. وفي ط: " وقيل الحق أي بمعنى كذا في أفعاله "
14

" ذلك " نصبا، أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق. (وأنه يحيي الموتى) أي بأنه
(وأنه على كل شئ قدير) أي وبأنه قادر على ما أراد.
(وأن الساعة آتية) عطف على
قوله: " ذلك بأن الله هو الحق " من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى، إذ لا يقال
فعل الله ما ذكر بأن الساعة آتية، بل لابد من إضمار فعل يتضمنه، أي وليعلموا أن الساعة آتية
(لا ريب فيها) أي لا شك. (وأن الله يبعث من في القبور) يريد للثواب والعقاب.
قوله تعالى: ومن الناس من يجدل في الله بغير علم ولا هدى
ولا كتب منير (8) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا
خزي ونذيقه يوم القيمة عذاب الحريق (9) ذلك بما قدمت
يداك وأن الله ليس بظلم للعبيد (10)
قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير)
أي نير بين الحجة. نزلت في النضر بن الحارث. وقيل: في أبي جهل بن هشام، قال ابن عباس.
والمعظم على أنها نزلت في النضر بن الحارث كالآية الأولى، فهما في فريق واحد، والتكرير
للمبالغة في الذم، كما تقول للرجل تذمه وتوبخه: أنت فعلت هذا! أنت فعلت هذا! ويجوز
أن يكون التكرير لأنه وصفه في كل آية بزيادة، فكأنه قال: إن النضر بن الحارث يجادل في الله
بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، والنضر بن الحارث يجادل في الله من غير علم ومن غير هدى
وكتاب منير، ليضل عن سبيل الله. وهو كقولك: زيد يشتمني وزيد يضربني، وهو تكرار
مفيد، قال القشيري. وقد قيل: نزلت فيه بضع عشرة آية. فالمراد بالآية الأولى
إنكاره البعث، وبالثانية إنكاره النبوة، وأن القرآن منزل من جهة الله. وقد قيل: كان
من قول النضر بن الحارث أن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى: " من "
في موضع رفع بالابتداء. والخبر في قوله: " ومن الناس ". (ثاني عطفه) نصب على الحال.
ويتأول على معنيين: أحدهما - روي عن ابن عباس أنه قال: هو النضر بن الحارث،
15

لوى عنقه مرحا وتعظما. والمعنى الاخر: وهو قول الفراء: أن التقدير: ومن الناس من
يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه، أي معرضا عن الذكر، ذكره النحاس. وقال مجاهد
وقتادة: لاويا عنقه كفرا. ابن عباس: معرضا عما يدعى إليه كفرا. والمعنى واحد.
وروى الأوزاعي عن مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن عباس في قوله عز وجل:
" ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله " قال: هو صاحب البدعة. المبرد: العطف ما انثنى من
العنق. وقال المفضل: والعطف الجانب، ومنه قولهم: فلان ينظر في أعطافه، أي في جوانبه.
وعطفا الرجل من لدن رأسه إلى وركه. وكذلك عطفا كل شئ جانباه. ويقال: ثنى
فلان عني عطفه إذا أعرض عنك. فالمعنى: أي هو معرض عن الحق في جداله ومول
عن النظر في كلامه، وهو كقوله تعالى: " ولى مستكبرا كأن لم يسمعها " (1) [لقمان: 7]. وقوله تعالى:
" لووا رؤوسهم " (2) [المنافقون: 5]. وقوله: " أعرض ونأى بجانبه " (3) [الاسراء: 83]. وقوله: " ذهب إلى أهله يتمطى " (4) [القيامة: 33].
(ليضل عن سبيل الله) أي عن طاعة الله تعالى. وقرئ " ليضل " بفتح الياء. واللام
لام العاقبة، أي يجادل فيضل، كقوله تعالى: " ليكون لهم عدوا وحزنا " (5) [القصص: 8]. أي فكان لهم
كذلك. ونظيره " إذا فريق منكم بربهم يشركون. ليكفروا " (3) [النحل: 54 - 55]. (له في الدنيا خزي)
أي هوان وذل بما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة، كما قال:
" ولا تطع كل حلاف مهين " (4) [القلم: 10] الآية. وقوله تعالى: " تبت يدا أبي لهب وتب " (6) [المسد: 1]. وقيل:
الخزي هاهنا القتل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرا،
كما تقدم في آخر الأنفال. (ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) أي نار جهنم.
(ذلك بما قدمت يداك) أي يقال له في الآخرة إذا دخل النار: ذلك العذاب بما قدمت
يداك من المعاصي والكفر. وعبر باليد عن الجملة، لان اليد التي تفعل وتبطش للجملة.
و " ذلك " بمعنى هذا، كما تقدم في أول البقرة. (7)

(1) راجع ج 14 ص 57.
(2) راجع ج 18 ص 126 فما بعد وص 231.
(3) راجع ج 10 ص 321 وص 114.
(4) راجع ج 19 ص 111 فما بعد وص 231.
(5) راجع ج 13 ص 250.
(6) راجع ج 20 ص 234.
(7) راجع ج 1 ص 157.
16

قوله تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه
خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا
والآخرة ذلك هو الخسران المبين (11)
قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) " من " في موضع رفع بالابتداء، والتمام
" انقلب على وجهه " على قراءة الجمهور " خسر ". وهذه الآية خبر عن المنافقين. قال ابن عباس:
يريد شيبة بن ربيعة كان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أوحى إليه
ارتد شيبة بن ربيعة. وقال أبو سعيد الخدري: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله،
فتشاءم بالاسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقلني! فقال: " إن الاسلام لا يقال " فقال:
إني لم أصب في ديني هذا خيرا! ذهب بصري ومالي وولدي! فقال: " يا يهودي إن الاسلام
يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب "، فأنزل الله تعالى: " ومن الناس
من يعبد الله على حرف ". وروى إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال: " ومن الناس من يعبد الله على حرف " قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته
غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح، فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء.
وقال المفسرون: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون،
فإن نالوا رخاء أقاموا، وإن نالتهم شدة ارتدوا. وقيل نزلت في النضر بن الحارث. وقال
ابن زيد وغيره: نزلت في المنافقين. ومعنى " على حرف " على شك، قاله مجاهد وغيره.
وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه. وحرف كل شئ
طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الجبل، وهو أعلاه المحدد. وقيل: " على حرف " أي على
وجه واحد، وهو أن يعبده على السراء دون الضراء، ولو عبدوا الله على الشكر في السراء والصبر
على الضراء لما عبدوا الله على حرف. وقيل: " على حرف " على شرط، وذلك أن شيبة
ابن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر أمره: أدع لي ربك أن يرزقني مالا وإبلا
17

وخيلا وولدا حتى أو من بك وأعدل إلى دينك، فدعا له فرزقه الله عز وجل ما تمنى، ثم أراد
الله عز وجل فتنته واختباره وهو أعلم به فأخذ منه ما كان رزقه بعد أن أسلم فارتد عن الاسلام
فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: " ومن الناس من يعبد الله على حرف " يريد شرط. وقال
الحسن: هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه. وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس
داخلا بكليته، وبين هذا بقوله (فإن أصابه خير) صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام
على دينه. (وإن أصابته فتنة) أي خلاف ذلك مما يختبر به (انقلب على وجهه) أي ارتد
فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر. (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين)
قرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق - وروي عن يعقوب -
" خاسر الدنيا " بألف، نصبا على الحال، وعليه فلا يوقف على " وجهه ". وخسرانه الدنيا
بأن لاحظ في غنيمة ولا ثناء، والآخرة بأن لا ثواب له فيها.
قوله تعالى: يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك
هو الضلل البعيد (12)
قوله تعالى: (يدعوا من دون الله) أي هذا الذي يرجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي
ولا ينفع ولا يضر.
(ذلك هو الضلال البعيد) قال الفراء: الطويل.
قوله تعالى: يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى
ولبئس العشير (13)
قوله تعالى: (يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه) أي هذا الذي انقلب على وجهه يدعو
من ضره أدنى من نفعه، أي في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا، ولكنه
قال: ضره أقرب من نفعه ترفيعا للكلام، كقوله تعالى: " وإنا أو إياكم لعلى هدى
أو في ضلال مبين " (1) [سبأ: 24]. وقيل: يعبدونهم توهم أنهم يشفعون لهم غدا، كما قال الله تعالى:

(1) راجع ج 14 ص 298.
18

" ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " (1) [يونس: 18].
وقال تعالى: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " (2) [الزمر: 3]. وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى
الكلام القسم والتأخير، أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه. فاللام مقدمة في غير
موضعها. و " من " في موضع نصب ب‍ " يدعو " واللام جواب القسم. و " ضره " مبتدأ
و " أقرب " خبره. وضعف النحاس تأخير اللام وقال: وليس للام من التصرف ما يوجب
أن يكون فيها تقديم ولا تأخير.
قلت: حق اللام التقديم وقد تؤخر، قال الشاعر:
خالي لأنت ومن جرير خال * ينل العلاء ويكرم الأخوالا
أي لخالي أنت، وقد تقدم. النحاس: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال:
في الكلام حذف، والمعنى يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها. قال النحاس: وأحسب
هذا القول غلطا على محمد بن يزيد، لأنه لا معنى له، لان ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب
إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلا قول الأخفش، وهو أحسن ما قيل في الآية
عندي، والله أعلم، قال: " يدعو " بمعنى يقول. و " من " مبتدأ وخبره محذوف، والمعنى
يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه.
قلت: وذكر هذا القول القشيري رحمه الله عن الزجاج والمهدوي عن الأخفش، وكمل
إعرابه فقال: " يدعو " بمعنى يقول، و " من " مبتدأ، و " ضره " مبتدأ ثان، و " أقرب "
خبره، والجملة صلة " من "، وخبر " من " محذوف، والتقدير يقول لمن ضره أقرب من
نفعه إلهه، ومثله قول عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها * أشطان بئر في لبان الأدهم (3)
قال القشيري: والكافر الذي يقول الصنم معبودي لا يقول ضره أقرب من نفعه، ولكن
المعنى يقول الكافر لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين معبودي وإلهي. وهو كقوله

(1) راجع ج 8 ص 321.
(2) راجع ج 15 ص 232.
(3) الأشطان: جمع شطن، وهو حيل
البئر. واللبان (بفتح اللام): الصدر. والأدهم: الفرس. يريد أن الرماح في صدر هذا الفرس بمنزلة حبال البئر من
الدلاء، لان البئر إذا كانت كثيرة الجرفة اضطربت الدلو فيها فيجعل لها حبلان لئلا تضطرب. (عن شرح المعلقات).
19

تعالى: " يا أيها الساحر ادع لنا ربك " (1) [الزخرف: 49]، أي يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرا.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون " يدعو " في موضع الحال، وفيه هاء محذوفة، أي ذلك
هو الضلال البعيد يدعوه، أي في حال دعائه إياه، ففي " يدعو " هاء مضمرة، ويوقف على
هذا على " يدعو ". وقوله: " لمن ضره أقرب من نفعه " كلام مستأنف مرفوع بالابتداء،
وخبره " لبئس المولى "، وهذا لان اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام. قال الزجاج
ويجوز أن يكون " ذلك " بمعنى الذي، ويكون في محل النصب بوقوع " يدعو " عليه، أي الذي
هو [في] (1) الضلال البعيد يدعو، كما قال: " وما تلك بيمنك يا موسى " (3) أي ما الذي. ثم قوله
" لمن ضره " كلام مبتدأ، و " لبئس المولى " خبر المبتدأ، وتقدير الآية على هذا: يدعو الذي
هو الضلال البعيد، قدم المفعول وهو الذي، كما تقول: زيدا يضرب، واستحسنه أبو علي.
وزعم الزجاج أن النحويين أغفلوا هذا القول، وأنشد:
عدس ما لعباد عليك إمارة * نجوت وهذا تحملين طليق (4)
أي والذي. وقال الزجاج أيضا والفراء: يجوز أن يكون " يدعو " مكررة على ما قبلها،
على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، ولا تعديه إذ قد عديته أولا، أي يدعو من دون
الله ما لا ينفعه ولا يضره يدعو، مثل ضربت زيدا ضربت، ثم حذفت يدعو الآخرة
اكتفاء بالأولى. قال الفراء: ويجوز " لمن ضره " بكسر اللام، أي يدعو إلى من ضره
أقرب من نفعه، قال الله عز وجل: " بأن ربك أوحى لها " (5) أي إليها. وقال الفراء أيضا
والقفال: اللام صلة، أي يدعو من ضره أقرب من نفعه، أي يعبده. وكذلك هو في قراءة
عبد الله بن مسعود. (لبئس المولى) أي في التناصر (ولبئس العشير) أي المعاشر والصاحب
والخليل. مجاهد: يعني الوثن.

(1) راجع ج 16 ص 96.
(2) من ك.
(3) راجع ج 11 ص 186.
(4) هذا البيت أول أبيات
ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري. وعدس: زجر للبغل ليسرع. وعباد هو ابن زياد أخو عبيد الله بن زياد الذي قاتل
الحسين بن علي رضي الله عنهما في كربلاء. هجا ابن مفرغ هذا عبادا فحقد عليه وجفاه، فأخذه أخوه عبيد الله وحبسه
وعذبه، فلما طال حبسه دخل أهل اليمن إلى معاوية فشفوا فيه فأطلق سراحه. (راجع الشعر والشعراء لابن قتيبة
وخزانة الأدب في الشاهد الثالث بعد الثلثمائة والثامن والعشرين بعد الأربعمائة).
(5) راجع ج 20 ص 149.
20

قوله تعالى: إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنت
تجري من تحتها الأنهر إن الله يفعل ما يريد (14)
قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)
لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين والشياطين ذكر حال المؤمنين في الآخرة أيضا.
(إن الله يفعل ما يريد) أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء، فللمؤمنين الجنة بحكم وعده
الصدق وبفضله، وللكافرين النار بما سبق من عدله، لا أن فعل الرب معلل بفعل العبيد.
قوله تعالى: من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة
فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده
ما يغيظ (15)
قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى
السماء) قال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل فيها أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر
الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. (فليمدد بسبب إلى السماء)
أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء. (ثم ليقطع) أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له. (فلينظر
هل يذهبن كيده) وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلى الله عليه وسلم. والفائدة في الكلام
أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر. وكذا قال
ابن عباس: إن الكناية في " ينصره الله " ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو وإن لم يجر
ذكره فجميع الكلام دال عليه، لان الايمان هو الايمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والانقلاب
عن الدين انقلاب عن الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، أي من كان يظن ممن
يعادي محمدا صلى الله عليه وسلم ومن يعبد الله على حرف أنا لا ننصر محمدا فليفعل كذا وكذا.
وعن ابن عباس أيضا أن الهاء تعود على " من " والمعنى: من كان يظن أن الله لا يرزقه
فليختنق، فليقتل نفسه، إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله. والنصر على هذا القول الرزق،
21

تقول العرب: من ينصرني نصره الله، أي من أعطاني أعطاه الله. ومن ذلك قول العرب:
أرض منصورة، أي ممطورة. قال الفقعسي: (1)
وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه * ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره
وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: " من كان يظن أن لن ينصره الله " أي لن يرزقه.
وهو قول أبي عبيدة. وقيل: إن الهاء تعود على الدين، والمعنى: من كان يظن أن لن ينصر
الله دينه. (فليمدد بسبب) أي بحبل. والسبب ما يتوصل به إلى الشئ. " إلى السماء " إلى
سقف البيت. ابن زيد: هي السماء المعروفة. وقرأ الكوفيون " ثم ليقطع " بإسكان اللام.
قال النحاس: وهذا بعيد في العربية، لان " ثم " ليست مثل الواو والفاء، لأنها يوقف، عليها
وتنفرد. وفي قراءة عبد الله: " فليقطعه ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ". قيل: " ما "
بمعنى الذي، أي هل يذهبن كيده الذي يغيظه، فحذف الهاء ليكون أخف. وقيل: " ما "
بمعنى المصدر، أي هل يذهبن كيده غيظه.
قوله تعالى: وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي
من يريد (16)
قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه آيات بينات) يعني القرآن. (وأن الله) أي وكذلك
أن الله (يهدي من يريد)، علق وجود الهداية بإرادته، فهو الهادي لا هادي سواه.
قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى
والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيمة
إن الله على كل شئ شهيد (17)
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا) أي بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم. (والذين هادوا)
اليهود، وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه السلام. (والصابئين) هم قوم يعبدون النجوم.

(1) في الأصول الفقيمي والتصويب عن تفسير الطبري.
22

(والنصارى) هم المنتسبون إلى ملة عيسى. (والمجوس) هم عبد ة النيران القائلين أن للعالم
أصلين: نور وظلمة. قال قتادة: الأديان خمسة، أربعة للشيطان وواحد للرحمن. وقيل:
المجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات، والميم والنون يتعاقبان كالغيم والغين،
والأيم والأين. وقد مضى في البقرة هذا كله مستوفى. (1) (والذين أشركوا) هم العرب عبد ة
الأوثان. (إن الله يفضل بينهم يوم القيامة) أي يقضي ويحكم، فللكافرين النار، وللمؤمنين
الجنة. وقيل: هذا الفصل بأن يعرفهم المحق من المبطل بمعرفة ضرورية، واليوم يتميز المحق
عن المبطل بالنظر والاستدلال. (إن الله على كل شئ شهيد) أي من أعمال خلقه وحركاتهم
وأقوالهم، فلا يعزب عنه شئ منها، سبحانه! وقوله " إن الله يفصل بينهم " خبر " إن "
في قوله " إن الذين آمنوا " كما تقول: إن زيدا إن الخير عنده. وقال الفراء: ولا يجوز
في الكلام إن زيدا إن أخاه منطلق، وزعم أنه إنما جاز في الآية لان في الكلام معنى المجازاة،
أي من آمن ومن تهود أو تنصر أو صبأ يفصل بينهم، وحسابهم على الله عز وجل. ورد
أبو إسحاق على الفراء هذا القول، واستقبح قوله: لا يجوز إن زيدا إن أخاه منطلق، قال:
لأنه لا فرق بين زيد وبين الذين، و " إن " تدخل على كل مبتدأ فتقول إن زيدا هو منطلق،
ثم تأتي بإن فتقول: إن زيدا إنه منطلق. وقال الشاعر:
إن الخليفة إن الله سربله * سربال عز به ترجى الخواتيم (2)
قوله تعالى: ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن
في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب
وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من
مكرم إن الله يفعل ما يشاء (18)

(1) راجع ج 1 ص 433.
(2) ويروى: " تزجى " بالزاي والجيم، والازجاء السوق.
والخواتيم جمع الخاتام لغة في الخاتم. يريد أن سلاطين الآفاق يرسلون إليه خواتمهم خوفا منه فيضاف ملكهم إلى
ملكه. وهذا البيت من قصيدة لجرير يمدح بها عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك. (عن خزانة الأدب).
23

قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض) هذه رؤية
القلب، أي ألم تر بقلبك وعقلك. وتقدم معنى السجود في " البقرة "، (1) وسجود الجماد في " النحل ". (2)
" والشمس " معطوفة على " من ". وكذا (والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير
من الناس). ثم قال: (وكثير حق عليه العذاب) وهذا مشكل من الاعراب، كيف لم ينصب
ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل، مثل: " والظالمين أعد لهم عذابا أليما (3) "؟ [الانسان: 31]
فزعم الكسائي والفراء أنه لو نصب لكان حسنا، ولكن اختير الرفع لان المعنى وكثير أبى
السجود، فيكون ابتداء وخبرا، وتم الكلام عند قوله: " وكثير من الناس ". ويجوز أن يكون
معطوفا، على أن يكون السجود التذلل والانقياد لتدبير الله عز وجل من ضعف وقوة وصحة
وسقم وحسن وقبح، وهذا يدخل فيه كل شئ. ويجوز أن ينتصب على تقدير: وأهان
كثيرا حق عليه العذاب، ونحوه. وقيل: تم الكلام عند قوله " والدواب " ثم ابتدأ فقال:
" وكثير من الناس " في الجنة " وكثير حق عليه العذاب ". وكذا روي عن ابن عباس أنه قال:
(المعنى وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب، ذكره ابن الأنباري. وقال
أبو العالية: ما في السماوات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجد الله حين يغيب، ثم لا ينصرف
حتى يؤذن له فيرجع من مطلعه. قال القشيري: وورد هذا في خبر مسند في حق الشمس،
فهذا سجود حقيقي، ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في هذا الساجد.
قلت: الحديث المسند الذي أشار إليه خرجه مسلم، وسيأتي في سورة " يس " عند قوله
تعالى: " والشمس تجري لمستقر لها " (4). [يس: 38]. وقد تقدم في البقرة معنى السجود لغة ومعنى.
قوله تعالى: (ومن يهن الله فما له من مكرم) أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر
أحد على دفع الهوان عنه. وقال ابن عباس: إن من تهاون بعبادة الله صار إلى النار.
(إن الله يفعل ما يشاء) يريد أن مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لاحد عليه. وحكى الأخفش
والكسائي والفراء: " ومن يهن الله فما له من مكرم " أي إكرام.

(1) راجع ج 1 ص 291.
(2) راجع ج 10 ص 112.
(3) راجع ج 19 ص 150.
(4) راجع ج 15 ص 26 فما بعد.
24

قوله تعالى: هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا
قطعت لهم ثياب من نار يثب من فوق رؤوسهم الحميم (19) يصهر به
ما في بطونهم والجلود (20) ولهم مقمع من حديد (21)
قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) خرج مسلم عن قيس بن عباد قال:
سمعت أبا ذر يقسم قسما إن " هذان خصمان اختصموا في ربهم " إنها نزلت في الذين برزوا يوم
بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة.
وبهذا الحديث ختم مسلم رحمه الله كتابه. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآيات الثلاث
على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين، وسماهم،
كما ذكر أبو ذر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إني لأول من يجثو للخصومة بين
يدي الله يوم القيامة، يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه، ذكره البخاري. وإلى هذا
القول ذهب هلال بن يساف وعطاء بن يسار وغيرهما. وقال عكرمة: المراد بالخصمين الجنة
والنار، اختصمتا فقالت النار: خلقني لعقوبته. وقالت الجنة: خلقني لرحمته.
قلت: وقد ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت
هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال
لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها). خرجه البخاري ومسلم
والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال ابن عباس أيضا: هم أهل الكتاب قالوا
للمؤمنين: نحن أولى بالله منكم، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق
بالله منكم، آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل إليه من كتاب، وأنتم تعرفون نبينا وتركتموه
وكفرتم به حسدا، فكانت هذه خصومتهم، وأنزلت فيهم هذه الآية. وهذا قول قتادة،
والقول الأول أصح رواه البخاري عن حجاج بن منهال عن هشيم عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن
25

قيس بن عباد عن أبي ذر، ومسلم عن عمرو بن زرارة عن هشيم، ورواه سليمان التيمي عن
أبي مجلز عن قيس بن عباد عن علي قال. فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر
" هذان خصمان اختصموا في ربهم - إلى قوله - عذاب الحريق ". وقرأ ابن كثير:
" هذان خصمان " بتشديد النون من " هذان ". وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان
أهل دينين، وزعم أن الخصم الواحد المسلمون والآخر اليهود والنصارى، اختصموا في دين
ربهم، قال: فقال " اختصموا " لأنهم جمع، قال: ولو قال " اختصما " لجاز. قال النحاس:
وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث ولا بكتب أهل التفسير، لان الحديث في هذه الآية
مشهور، رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال:
سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب
وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن
ابن عباس. وفيه قول رابع أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا، قاله مجاهد
والحسن وعطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي وهذا القول بالعموم يجمع المنزل
فيهم وغيرهم. وقيل: نزلت في الخصومة في البعث والجزاء، إذ قال به قوم وأنكره قوم.
(فالذين كفروا) يعني من الفرق الذين تقدم ذكرهم. (قطعت لهم ثياب من نار) أي
خيطت وسويت، وشبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب. وقوله: " قطعت "
أي تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار، وذكر بلفظ الماضي لان ما كان من أخبار الآخرة
فالموعود منه كالواقع المحقق، قال الله تعالى: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت
للناس " (1) [المائدة: 116] أي يقول الله تعالى. ويحتمل أن يقال قد أعدت الآن تلك الثياب لهم
ليلبسوها إذا صاروا إلى النار. وقال سعيد بن جبير: " من نار " من نحاس، فتلك الثياب
من نحاس قد أذيبت وهي السرابيل المذكورة في " قطر آن " (2) [إبراهيم: 50] وليس في الآنية شئ إذا حمي

(1) راجع ج 6 ص 374.
(2) راجع ج 9 ص 385، والقطر النحاس المذاب والآني الذي
انتهى إلى حره.
26

يكون أشد حرا منه. وقيل: المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة إذا
لبسوها عليهم، فصارت من هذا الوجه ثيابا لأنها بالإحاطة كالثياب، مثل: " وجعلنا الليل
لباسا " (1) [النبأ: 10].
(يصب من فوق رؤوسهم الحميم) أي الماء الحار المغلى بنار جهنم. وروى
الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحميم ليصب على رؤوسهم
فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر
ثم يعاد كما كان). قال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(يصهر) يذاب.
(به ما في بطونهم) والصهر إذابة الشحم. والصهارة ما ذاب منه، يقال: صهرت الشئ فانصهر، أي أذبته فذاب، فهو صهير. قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة:
تروي لقى ألقي في صفصف * تصهره الشمس فما ينصهر (2)
أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك.
(والجلود) أي وتحرق الجلود، أو تشوى الجلود، فإن
الجلود لا تذاب، ولكن يضم في كل شئ ما يليق به، فهو كما تقول: أتيته فأطعمني ثريدا،
إي والله ولبنا قارصا (3)، أي وسقاني لبنا. وقال الشاعر:
* علفتها تبنا وماء باردا *
(ولهم مقامع من حديد) أي يضربون بها ويدفعون، الواحدة مقمعة، ومقمع أيضا
كالمحجن، يضرب به على رأس الفيل. وقد قمعته إذا ضربته بها. وقمعته وأقمعته بمعنى،
أي قهرته وأذللته فانقمع. قال ابن السكيت: أقمعت الرجل عنى إقماعا إذا طلع عليك
فرددته عنك. وقيل: المقامع المطارق، وهي المرازب أيضا. وفي الحديث (بيد كل ملك
من خزنة جهنم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضربة فيهوي بها سبعين ألفا). وقيل: المقامع
سياط من نار، وسميت بذلك لأنها تقمع المضروب، أي تذلله.

(1) راجع ج 19 ص 169 فما بعد.
(2) تروى تسوق إليه الماء، أي تصير له كالراوية.
واللقى (بالفتح): الشئ الملقى لهوانه. والصفصف: المستوي من الأرض.
(3) القارص: الحامض من ألبان الإبل خاصة. وقيل: القارص اللبن الذي يحذي اللسان، ولم يخصص.
27

قوله تعالى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها
وذوقوا عذاب الحريق (22)
قوله تعالى: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها) أي من النار. (أعيدوا فيها) بالضرب
بالمقامع. وقال أبو ظبيان: ذكر لنا أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش بهم وتفور
فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان إليها بالمقامع. وقيل:
إذا اشتد غمهم فيها فروا، فمن خلص منهم إلى شفيرها أعادتهم الملائكة فيها بالمقامع، ويقولون
لهم: (ذوقوا عذاب الحريق) أي المحرق، مثل الأليم والوجيع. وقيل: الحريق الاسم من
الاحتراق. تحرق الشئ بالنار واحترق، والاسم الحرقة والحريق. والذوق مماسة يحصل
معها إدراك الطعم، وهو هنا توسع، والمراد به إدراكهم الألم.
قوله تعالى: إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنت
تجرى من تحتها الأنهر يحلون فيها من أساروا من ذهب ولؤلؤا
ولباسهم فيها حرير (23)
قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها
الأنهار) لما ذكر أحد الخصمين وهو الكافر ذكر حال الخصم الآخر وهو المؤمن. (يحلون
فيها من أساور من ذهب) " من " صلة (1). والأساور جمع أسورة، وأسورة واحدها سوار،
وفيه ثلاث لغات: ضم السين وكسرها وإسوار. قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس
في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده
ثلاثة أسورة: سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ. قال هنا وفي فاطر (2):

(1) هذا على مذهب الأخفش والكوفيين الذين يجيزون زيادة " من " في الايجاب. أما الذين لا يجيزون
زيادتها في الايجاب فقال بعضهم إنها للتبعيض إنها للابتداء، وبعضهم إنها بيانية. (راجع البحر المحيط)
وروح المعاني في الكلام عن هذه الآية).
(2) راجع ج 14 ص...
28

" من أساور من ذهب ولؤلؤا " [فاطر: 33] وقال في سورة الانسان (1): " وحلوا أساور من فضة "
[الانسان: 21].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحلية
من المؤمن حيث يبلغ الوضوء). وقيل: تحلى النساء بالذهب والرجال بالفضة. وفيه نظر،
والقرآن يرده. (ولؤلؤا) قرأ نافع وابن القعقاع وشيبة وعاصم هنا وفي سورة الملائكة (2):
" لؤلؤا " بالنصب، على معنى ويحلون لؤلؤا، واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع المصاحف هنا
بألف. وكذلك قرأ يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر بالنصب هنا والخفض في " فاطر "
اتباعا للمصحف، ولأنها كتبت هاهنا بألف وهناك بغير ألف. الباقون (3 * بالخفض في الموضعين.
وكان أبو بكر لا يهمز " اللؤلؤ " في كل القرآن، وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف.
قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ
مصمت (4).
قلت: وهو ظاهر القرآن بل نصه. وقال ابن الأنباري: من قرأ " لؤلؤ " بالخفض
وقف عليه ولم يقف على الذهب. وقال السجستاني: من نصب " اللؤلؤ " فالوقف الكافي
" من ذهب "، لان المعنى ويحلون لؤلؤ. قال ابن الأنباري: وليس كما قال، لأنا إذا
خفضنا " اللؤلؤ " نسقناه على لفظ الأساور، وإذا نصبناه نسقناه على تأويل الأساور، وكأنا
قلنا: يحلون فيها أساور ولؤلؤا، فهو في النصب بمنزلته في الخفض، فلا معنى لقطعه من (5) الأول.
قوله تعالى: (ولباسهم فيها حرير) أي وجميع ما يلبسونه من فرشهم ولباسهم وستورهم
حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير. وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها
في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة - ثم قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم - لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة). فإن قيل:
قد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الأشياء الثلاثة وأنه يحرمها في الآخرة، فهل يحرمها

(1) راجع ج 19 ص 141.
(2) راجع ج 14 ص....
(3) الذي في المصحف طبعة الحكومة
المصرية أنها بالألف في الموضعين.
(4) المصمت: الذي لا يخالطه غيره.
(5) في ك: عن.
29

إذا دخل الجنة؟ قلنا: نعم! إذا لم يتب منها حرمها في الآخرة وإن دخل الجنة، لاستعجاله
ما حرم الله عليه في الدنيا. لا يقال: إنما يحرم ذلك في الوقت الذي يعذب في النار أو بطول
مقامه في الموقف، فأما إذا دخل الجنة فلا، لان حرمان شئ من لذات الجنة لمن كان
في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة، والجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه.
فإنا نقول: ما ذكرتموه محتمل، لولا ما جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر الحديث
الذي ذكرناه. وما رواه الأئمة من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (من شرب
الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة). والأصل التمسك بالظاهر حتى يرد نص
يدفعه، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده:
حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل
الجنة ولم يلبسه هو). وهذا نص صريح وإسناده صحيح. فإن كان (وإن دخل الجنة
لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو) من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في البيان،
وإن كان من كلام الراوي على ما ذكر فهو أعلم بالمقال وأقعد بالحال، ومثله لا يقال بالرأي،
والله أعلم. وكذلك (من شرب الخمر ولم يتب) و (من استعمل آنية الذهب والفضة)
وكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه، وليس ذلك بعقوبة، كذلك لا يشتهي خمر الجنة
ولا حريرها ولا يكون ذلك عقوبة. وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفي، والحمد لله،
وذكرنا فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة، وقد ذكرناه في سورة الكهف (1).
قوله تعالى: وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط
الحميد (24)
قوله تعالى: (وهدوا إلى الطيب من القول) أي أرشدوا إلى ذلك. قال ابن عباس:
يريد لا إله إلا الله والحمد لله. وقيل: القرآن، ثم قيل: هذا في الدنيا، هدوا إلى الشهادة،

(1) راجع ج 10 ص 397.
30

وقراءة القرآن. (وهدوا إلى صراط الحميد) أي إلى صراط الله. وصراط الله: دينه
وهو الاسلام. وقيل: هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول، وهو الحمد لله، لأنهم يقولون
غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، فليس في الجنة لغو ولا كذب
فما يقولونه فهو طيب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله، إذ ليس في الجنة شئ
من مخالفة أمر الله. وقيل: الطيب من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة.
" وهدوا إلى صراط الحميد " أي إلى طريق الجنة.
قوله تعالى: إن الذين كفروا عن سبيل الله والمسجد
الحرام الذي جعلنه للناس سواء العكف فيه والباد ومن يرد فيه
بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم (25)
فيه سبع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون) أعاد الكلام إلى مشركي العرب
حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم
صد قبل ذلك الجمع، إلا أن يريد صدهم لافراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر [من (1)] المبعث.
والصد: المنع، أي وهم يصدون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي. وقيل:
الواو زائدة " ويصدون " خبر " إن ". وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر
عند قوله: (والباد " تقديره: خسروا إذا هلكوا. وجاء " ويصدون " مستقبلا إذ هو فعل
يديمونه، كما جاء قوله تعالى: " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر (2) الله " [الرعد: 28]، فكأنه قال: إن الذين
كفروا من شأنهم الصد. ولو قال إن الذين كفروا وصدروا لجاز. قال النحاس: وفي كتابي
عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر " نذقه من عذاب أليم ". قال
أبو جعفر: وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه، لأنه جاء بخبر " إن " جزما، وأيضا

(1) من ك.
(2) راجع ج 9 ص 314.
31

فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر " إن " لبقي الشرط، بلا جواب، ولا سيما والفعل الذي
في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب.
الثانية - قوله تعالى: (والمسجد الحرام) قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر
القرآن، لأنه لم يذكر غيره. وقيل: الحرم كله، لان المشركين صدوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه، قال الله تعالى: " وصدوكم عن
المسجد الحرام (1) " [الفتح: 25] وقال: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام " [الاسراء: 1]. وهذا
صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك.
الثالثة - قوله تعالى: (الذي جعلناه للناس) أي للصلاة والطواف والعبادة،
وهو كقوله تعالى: " إن أول بيت وضع للناس " (2) [آل عمران: 96].
سواء العاكف فيه والباد)
العاكف: المقيم الملازم. والبادي: أهل البادية ومن يقدم عليهم. يقول: سواء في تعظيم
حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد، فليس أهل مكة أحق من النازح
إليه. وقيل: إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ
عليها. وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله، وهذا قول مجاهد ومالك، رواه عنه ابن القاسم.
وروي عن عمر وابن عباس وجماعة أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل
أن يؤويه شاء أو أبى. وقال ذلك سفيان الثوري وغيره. وكذلك كان الامر في الصدر الأول،
كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة، فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا
في وجه حاج بيت الله تعالى:؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ
الناس الأبواب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع
أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب
في الدور. وروى عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد، وهذا هو العمل اليوم. وقال بهذا جمهور من الأمة (3).

(1) راجع ج 16 ص 283.
(2) راجع ج 4 ص 237.
(3) في ك: الأئمة.
32

وهذا الخلاف يبنى على أصلين: أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس.
وللخلاف سببان: أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم، كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وعفا لهم
عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك
لاتباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة
والأوزاعي. أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم،
وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاءوا. وروى عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية
بأربعة آلاف وجعلها سجنا، وهو أول من حبس في السجن في الاسلام، على ما تقدم بيانه
في آية المحاربين من سورة " المائدة " (1). وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة.
وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة.
قلت: الصحيح ما قاله مالك، وعليه تدل ظواهر الاخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة.
قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شئ من البلاد. وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة
قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة
إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وزاد في رواية، وعثمان. وروى أيضا
عن علقمة بن نضلة الكناني قال: كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع من احتاج سكن ومن استغنى أسكن.
وروى أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى حرم مكة
فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال - من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا).
قال الدارقطني: كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه، ووهم أيضا في قوله: عبيد الله (2) بن أبي يزيد
وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضا عن
عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر

(1) راجع ج 6 ص 153.
(2) أحد رجال سند الحديث.
33

بيوتها). وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله، ألا أبني لك بمنى
بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: (لا، إنما هو مناخ من سبق إليه). وتمسك الشافعي
رضي الله عنه بقوله تعالى: " الذين أخرجوا من ديارهم " الحج: 40] فأضافها إليهم. وقال عليه السلام
يوم الفتح: (من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن).
الرابعة - قرأ جمهور الناس: " سواء " بالرفع، وهو على الابتداء، و " العاكف " خبره.
وقيل: الخبر " سواء " وهو مقدم، أي العاكف فيه والبادي سواء، وهو قول أبي علي:
والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء. وقرأ حفص عن
عاصم: " سواء " بالنصب، وهي قراءة الأعمش. وذلك يحتمل أيضا وجهين: أحدهما -
أن يكون؟؟ مفعولا ثانيا لجعل، ويرتفع " العاكف " به لأنه مصدر، فأعمل عمل اسم الفاعل
لأنه في معنى مستو. والوجه الثاني - أن يكون حالا من الضمير في جعلناه. وقرأت فرقة:
" سواء " بالنصب " العاكف " بالخفض، و " البادى " عطفا على الناس، التقدير: الذي
جعلناه للناس العاكف واليادى. وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء ووقف أبو عمرو
بغير ياء ووصل بالياء. وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف (1). وأجمع الناس على الاستواء
في نفس المسجد الحرام، واختلفوا في مكة، وقد ذكرناه.
الخامسة - (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) شرط، وجوابه " نذقه من عذاب أليم ".
والالحاد في اللغة: الميل، إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد. واختلف في الظلم،
فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " قال: الشرك. وقال
عطاء: الشرك والقتل. وقيل: معناه صيد حمامه، وقطع شجره، ودخوله غير محرم. وقال
ابن عمر: كنا نتحدث أن الالحاد فيه أن يقول الانسان: لا والله! وبلى والله! وكلا والله!
ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والاخر في الحرم، فكان إذا أراد الصلاة دخل
فسطاط الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى
والله، حين عظم الله الذنب فيه. وكذلك كان لعبد الله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما

(1) أثبتها ورش عن نافع في الوصل دون الوقف.
34

في الحل والاخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي
صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدث أن من الالحاد في الحرم أن نقول
كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين،
إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام، وهكذا الأشهر الحرم سواء.
وقد تقدم. وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه). وهو قول عمر بن الخطاب. والعموم يأتي على هذا كله.
السادسة - ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية
تدل على أن الانسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله. وقد روى نحو
ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا: لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو (بعدن أبين) (1)
لعذبه الله.
قلت: هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة " ن والقلم " [القلم: 1] مبينا، على ما يأتي بيانه (2)
هناك إن شاء الله تعالى.
السابعة - الباء في " بإلحاد " زائدة كزيادتها في قوله تعالى: " تنبت بالدهن " (3)
[المؤمنون: 20]، وعليه حملوا قول الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج (4) * نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أراد: نرجو الفرج. وقال الأعشى:
* ضمنت برزق عيالنا أرماحنا *
أي رزق. وقال آخر (5):
ألم يأتيك والأنباء تنمي * بما لاقت لبون بني زياد

(1) عدن: مدينة مشهورة واقعة بالقرب من مدخل البحر الأحمر، وتضاف إلى " أبين " وهي بخلاف عدن.
(2) راجع ج 18 ص 241.
(3) راجع ص 14 من هذا الجزء.
(4) الفلج (بتحريك ثانية):
موضع لبني جعدة بن قيس بنجد، وهو في أعلى بلاد قيس (راجع معجم ما استعجم وكتاب خزانة الأدب في الشاهد التاسع
والثمانين بعد السبعمائة).
(5) القائل هو قيس بن زهير العبسي، شاعر جاهلي. وهو من قصيدة دالية قالها فيما
كان شجر بينه وبين الربيع بن زياد العبسي. (راجع خزانة الأدب في الشاهد السادس والثلاثين بعد الستمائة).
35

أي ما لاقت، والباء زائدة، وهو كثير. وقال الفراء: سمعت أعرابيا وسألته عن شئ فقال:
أرجو بذاك، أي أرجو ذاك. وقال الشاعر:
بواد يمان ينبت الشث صدره * وأسفله بالمرخ والشبهان (1)
أي المرخ. وهو قول الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحادا بظلم. وقال الكوفيون:
دخلت الباء لان المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف. ويجوز أن يكون التقدير:
ومن برد الناس فيه بإلحاد. وهذا الالحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر،
فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه. ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب
عليها إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم، وقد ذكرناه آنفا.
قوله تعالى: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا
وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26)
فيه مسألتان:
الأولى - قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم،
يقال: بوأته منزلا وبوأت له. كما يقال: مكنتك ومكنت لك، فاللام في قوله: " لإبراهيم "
صلة للتأكيد، كقوله: " ردف لكم " (2) [النمل: 72]، وهذا قول الفراء. وقيل: " بوأنا لإبراهيم مكان
البيت " أي أريناه أصله ليبنيه، وكان قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم
عليه السلام أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشفت
عن أساس آدم عليه السلام، فرتب قواعده عليه، حسبما تقدم بيانه في " البقرة " (3). وقيل:
" بوأنا " نازلة منزلة فعل يتعدى باللام، كنحو جعلنا، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ.
وقال الشاعر:
كم من أخ لي ماجد * بوأته بيدي لحدا (4)

(1) الشث: شجر طيب الريح مر الطعم يدبغ به. والمرخ: شجر كثير النار. والشبهان: نبت شائك له ورد
لطيف أحمر.
(2) راجع ج 13 ص 230.
(3) راجع ج 2 ص 122.
(4) البيت من قصيدة لعمرو بن معديكرب الزبيدي.
36

الثانية - (أن لا تشرك) هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور. وقرأ
عكرمة: " أن لا يشرك " بالياء، على نقل معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم: ولا بد
من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى لئلا يشرك. وقيل: إن " أن " مخففة من
الثقيلة. وقيل مفسرة. وقيل زائدة، مثل: " فلما أن جاء البشير " (1) [يوسف: 96]. وفي الآية طعن
على من أشرك من قطان البيت، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده وأنتم، فلم تفوا
بل أشركتم. وقالت فرقة: الخطاب من قوله: " أن لا تشرك " لمحمد صلى الله عليه وسلم،
وأمر بتطهير البيت والاذان بالحج. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم، وهو الأصح. وتطهير
البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء. وقيل: عنى به التطهير عن الأوثان،
كما قال تعالى: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " (2) [الحج: 30]، وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام
في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام. وقيل: المعنى نزه بيتي عن أن يعبد
فيه صنم. وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره
من المساجد بما فيه كفاية في سورة " براءة " (3). والقائمون هم المصلون. وذكر تعالى من أركان
الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود.
قوله تعالى: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر
يأتين من كل فج عميق (27)
فيه سبع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج) قرأ جمهور الناس: " وأذن " بتشديد
الذال. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن: " وآذن " بتخفيف الذال ومد الألف.
ابن عطية: وتصحف هذا على بن جني، فإنه حكى عنهما " وآذن " على أنه فعل ماض،
وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على " بوأنا ". والاذان الاعلام، وقد تقدم في " براءة " (3).

(1) راجع ج 9 ص 259.
(2) راجع ص 53 من هذا الجزء فما بعد.
(3) راجع ج 8 ص 104 وص 69.
37

الثانية - لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج،
قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الابلاغ، فصعد إبراهيم خليل الله جبل
أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من
عذاب النار، فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فمن
أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة، إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين، وجرت
التلبية على ذلك، قاله ابن عباس وابن جبير. وروى عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس:
(أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت لا! قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس
بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى، فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شئ: لبيك
اللهم لبيك. وقيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله: " السجود "، ثم خاطب الله
عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال: " وأذن في الناس بالحج " أي أعلمهم أن عليهم
الحج. وقول ثالث - إن الخطاب من قوله: " أن لا تشرك " مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا قول أهل النظر، لان القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة
فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك. وهاهنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي
صلى الله عليه وسلم، وهو " أن لا تشرك بي " بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم
عليه السلام غائب، فالمعنى على هذا: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على
توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس: " بالحج " بفتح
الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها. وقيل: إن نداء إبراهيم من جملة
ما أمر به من شرائع الدين. والله أعلم.
الثالثة - قوله تعالى: (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) وعده إجابة الناس إلى حج
البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال " يأتوك " وإن كانوا يأتون الكعبة لان المنادى
إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم، لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم.
ابن عطية: " رجالا " جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب. وقيل: الرجال
38

جمع رجل، والرجل جمع، راجل مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال
في الجمع: رجال بالتشديد، مثل كافر وكفار. وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة " رجالا " بضم
الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد. وقرأ مجاهد " رجالي "
على وزن فعالى، فهو مثل كسالى. قال النحاس: في جمع راجل خمسة أوجه، ورجالة مثل
ركاب، وهو الذي روى عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورجلة، ورجل، ورجالة. الذي
روى عن مجاهد رجالا غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى،
ولو نون لكان على فعال، وفعال في الجمع قليل. وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم
في المشي. (وعلى كل ضامر يأتين) لان معنى " ضامر " معنى ضوامر. قال الفراء:
ويجوز " يأتي " على اللفظ. والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر، يقال: ضمر
يضمر ضمورا، فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور
فقال: " يأتين من كل فج عميق " أي أثر فيها طول السفر. ورد الضمير إلى الإبل تكرمة
لها لقصدها الحج مع أربابها، كما قال: " والعاديات ضبحا " (1) [العاديات: 1] في خيل الجهاد تكرمة لها
حين سعت في سبيل الله.
الرابعة - قال بعضهم: إنما قال " رجالا " لان الغالب خروج الرجال إلى الحج دون
الإناث، فقوله " رجالا " من قولك: هذا رجل، وهذا فيه بعد، لقوله " وعلى كل ضامر "
يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء. ولما قال تعالى: " رجالا " وبدأ بهم دل ذلك
على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس: ما آسى على شئ فاتني إلا أن
لا أكون حججت ماشيا، فإني سمعت الله عز وجل يقول: " يأتوك رجالا ". وقال ابن أبي نجيح:
حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين. وقرأ أصحاب ابن مسعود: " يأتون " وهي قراءة
ابن أبي عبلة والضحاك، والضمير للناس.
الخامسة - لا خلاف في جواز الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما، فذهب
مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكثرة

(1) راجع ج 20 ص 153.
39

النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من
المشقة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة
من المدينة إلى مكة، وقال: (اربطوا أوساطكم بأزركم) ومشى خلط (1) الهرولة، خرجه
ابن ماجة في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل، للاقتداء
بالنبي صلى الله عليه وسلم.
السادسة - استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج
بالبحر ساقط. قال مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكرا، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من
سقوط ذكره سقوط الفرض فيه، وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن،
ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر، فإنما ذكرت
حالتا الوصول، وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوى. فأما إذا اقترن به
عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا، فمالك والشافعي وجمهور الناس
على سقوط الوجوب بهذه الاعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية: وذكر
صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما، ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشئ من هذه
الاعذار، وهذا ضعيف.
قلت: وأضعف من ضعيف، وقد مضى في " البقرة " (2) بيانه. والفج: الطريق
الواسعة، والجمع فجاج. وقد مضى في " الأنبياء " (3). والعميق معناه البعيد. وقراءة الجماعة
" يأتين ". وقرأ أصحاب عبد الله " يأتون " وهذا للركبان و " يأتين " للجمال، كأنه.
قال: وعلى إبل ضامرة يأتين (من كل فج عميق) أي بعيد، ومنه بئر عميقة أي بعيدة
القعر، ومنه:
* وقاتم الأعماق خاوي المخترق (4)

(1) خلط الهرولة (بالكسر) أي شيئا مخلوطا بالهرولة، بأن يمشى حينا ويهرول حينا أو معتدلا.
(2) راجع ج 2 ص 195. (3 * راجع ج 11 ص 285.
(4) هذا أول أرجوزة من أراجيز رؤية بن العجاج، وبعده:
* مشتبه الاعلام لماع الخفق *
40

السابعة - واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا،
فروى أبو داود قال، سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال:
ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلم نكن نفعله. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين
والجمرتين). وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق
وضعفوا حديث جابر، لان مهاجرا المكي راوية مجهول. وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية
البيت. وعن ابن عباس مثله.
قوله تعالى: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام
معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس
الفقير (28) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (29)
فيه ثلاث وعشرون مسألة:
الأولى - قوله تعالى: (ليشهدوا) أي أذن بالحج يأتوك رجالا وركبانا ليشهدوا،
أي ليحضروا. والشهود الحضور. (منافع لهم) أي المناسك، كعرفات والمشعر الحرام.
وقيل المغفرة. وقيل التجارة. وقيل هو عموم، أي ليحضروا منافع لهم، أي ما يرضي الله
تعالى من أمر الدنيا والآخرة، قال مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي، فإنه يجمع ذلك كله من
نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى. ولا خلاف في أن المراد بقوله: " ليس عليكم
جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " (1) [البقرة: 198] التجارة.
الثانية - (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) قد مضى في " البقرة " الكلام
في الأيام المعلومات والمعدودات (2). والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر، مثل

(1) راجع ج 2 ص 413.
(2) راجع ج 3 ص 1.
41

قولك: باسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك. ومثل قولك عند الذبح " إن صلاتي ونسكي " (1)
[الانعام: 162]
الآية. وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم، فبين الرب أن الواجب الذبح على اسم الله،
وقد مضى في " الانعام ".
الثالثة - واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر، فقال مالك رضي الله عنه: بعد
صلاة الامام وذبحه، إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به. وراعى أبو حنيفة
الفراغ من الصلاة دون ذبح. والشافعي دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه الخطبتين
فاعتبر الوقت دون الصلاة. هذه رواية المزني عنه، وهو قول الطبري. وذكر الربيع عن
البويطي قال قال الشافعي: ولا يذبح أحد حتى يذبح الامام إلا أن يكون ممن لا يذبح،
فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح. وهذا كقول مالك. وقال أحمد: إذا انصرف
الامام فاذبح. وهو قول إبراهيم. وأصح هذه الأقوال قول مالك، لحديث جابر بن عبد الله
قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال ونحروا وظنوا
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر
آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم والترمذي وقال: وفي الباب
عن جابر وجندب وأنس وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري، وهذا حديث
حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يضحى الامام. وقد
احتج أبو حنيفة بحديث البراء، وفيه: (ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة
المسلمين). خرجه مسلم أيضا. فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح، وحديث جابر
يقيده. وكذلك حديث البراء أيضا، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما نبدأ به
في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا) الحديث. وقال
أبو عمر بن عبد البر: لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر
أنه غير مضح، لقوله عليه السلام: (من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم).

(1) راجع ج 7 ص 152 وص 72 فما بعد.
42

الرابعة - وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور مذهب مالك [أنه] (1) يتحرى وقت
ذبح الامام، أو أقرب الأئمة إليه. وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع
الشمس لم يجزه، ويجزيه إن ذبح بعده. وقال أهل الرأي يجزيهم من بعد الفجر. وهو قول
ابن المبارك، ذكره عنه الترمذي. وتمسكوا بقوله تعالى: " ويذكروا اسم الله في أيام
معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ". فأضاف النحر إلى اليوم. وهل اليوم من
طلوع الفجر أو من طلوع الشمس، قولان. ولا خلاف أنه لا يجزى ذبح الأضحية قبل
طلوع الفجر من يوم النحر.
الخامسة - واختلفوا كم أيام النحر؟ فقال مالك: ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده.
وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل، وروى ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك
من غير اختلاف عنهما. وقال الشافعي: أربعة، يوم النحر وثلاثة بعده. وبه قال الأوزاعي،
وروى ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وروى عنهم
أيضا مثل قول مالك وأحمد. وقيل: هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذي الحجة،
وروى عن ابن سيرين. وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أنهما قالا: النحر في الأمصار
يوم واحد وفي منى ثلاثة أيام. وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات: إحداها
كما قال مالك، والثانية كما قال الشافعي، والثالثة إلى آخر يوم من ذي الحجة، فإذا أهل هلال
المحرم فلا أضحى.
قلت: وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ورويا حديثا مرسلا
مرفوعا خرجه الدارقطني: الضحايا إلى هلال ذي الحجة، ولم يصح، ودليلنا قوله تعالى:
" في أيام معلومات " الآية، وهذا جمع قلة، لكن المتيقن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير
متيقن فلا يعمل به. قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى،
وأجمعوا على أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، ولا يصح عندي في هذا إلا قولان: أحدهما
- قول مالك والكوفيين. والاخر - قول الشافعي والشاميين، وهذان القولان مرويان

(1) من ك.
43

عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما، لان ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول
الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما. وقد روى عن قتادة قول سادس، وهو أن
الأضحى يوم النحر وستة أيام بعده، وهذا أيضا خارج عن قول الصحابة فلا معنى له.
السادسة - واختلفوا في ليالي النحر هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أولا،
فروى عن مالك في المشهور أنها لا تدخل فلا بجوز الذبح بالليل. وعليه جمهور أصحابه وأصحاب
الرأي، لقوله تعالى: " ويذكروا اسم الله في أيام " فذكر الأيام، وذكر الأيام دليل على
أن الذبح في الليل لا يجوز. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور:
الليالي داخلة في الأيام ويجزى الذبح فيها. وروى عن مالك وأشهب نحوه، ولأشهب
تفريق بين الهدى والضحية، فأجاز الهدى ليلا ولم يجز الضحية ليلا.
السابعة - قوله تعالى: " على ما رزقهم " أي على ذبح ما رزقهم. (من بهيمة الأنعام
) والانعام هنا الإبل والبقر والغنم. وبهيمة الانعام هي الانعام، فهو كقولك
صلاة الأولى، ومسجد الجامع.
الثامنة - (فكلوا منها) أمر معناه الندب عند الجمهور. ويستحب للرجل أن
يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل.
وشذت طائفة فأوجبت الاكل والاطعام بظاهر الآية (1)، ولقوله عليه السلام: (فكلوا
وادخروا وتصدقوا). قال الكيا: قوله تعالى " فكلوا منها وأطعموا " يدل على أنه لا يجوز
بيع جميعه ولا التصدق بجميعه.
التاسعة - دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها. ومشهور مذهب مالك رضي الله
عنه أنه لا يأكل من ثلاث: جزاء الصيد، ونذر المساكين وفدية الأذى، ويأكل مما سوى
ذلك إذا بلغ محله، واجبا كان أو تطوعا. ووافقه على ذلك جماعة من السلف وفقهاء الأمصار.
العاشرة - فإن أكل مما منع منه فهل يغرم قدر ما أكل أو يغرم هديا كاملا، قولان
في مذهبنا، وبالأول قال ابن الماجشون. قال ابن العربي: وهو الحق، لا شئ عليه غيره.

(1) في ب وج‍ وك: بظاهر الامر.
44

وكذلك لو نذر هديا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل - خلافا
للمدونة - لان النحر قد وقع، والتعدي إنما هو على اللحم، فيغرم قدر ما تعدى فيه.
قوله (1) تعالى: (وليوفوا نذورهم) يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دما أو هديا
أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر، وكذلك جزاء الصيد
وفدية الأذى، لان المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك
كان عليه هدى كامل. والله أعلم.
الحادية عشرة - هل يغرم قيمة اللحم أو يغرم طعاما، ففي كتاب محمد عن عبد الملك
أنه يغرم طعاما. والأول أصح، لان الطعام إنما هو في مقابلة الهدى كله عند تعذره عبادة،
وليس حكم التعدي حكم العبادة.
الثانية - فإن عطب من هذا الهدى المضمون الذي هو جزاء الصيد وفدية
الأذى ونذر المساكين شئ قبل محله أكل منه صاحبه وأطعم منه الأغنياء والفقراء ومن
أحب، ولا يبيع من لحمه ولا جلده ولا من قلائده شيئا. قال إسماعيل بن إسحاق: لان
الهدى المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدله، لذلك جاز أن يأكل منه
صاحبه ويطعم. فإذا عطب الهدى التطوع قبل أن يبلغ محله لم يجز أن يأكل منه ولا يطعم،
لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدى وينحر من غير أن يعطب، فاحتيط
على الناس، وبذلك مضى العمل. وروى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعث معه بهدى وقال: (إن عطب منها شئ فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل
بينه وبين الناس). وبهذا الحديث قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق
وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن اتبعهم في الهدى التطوع: لا يأكل منها سائقها شيئا، ويخلى
بينها وبين الناس يأكلونها. وفي صحيح مسلم: (ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل
رفقتك). وبظاهر هذا النهى قال ابن عباس والشافعي في قوله الاخر، واختاره ابن المنذر،
فقالا: لا يأكل منها [سائقها] ولا أحد من أهل رفقته. قال أبو عمر قوله عليه السلام
(ولا يأكل منها ولا أحد من أهل رفقتك) لا يوجد إلا في حديث ابن عباس. وليس ذلك

(1) كذا في جميع الأصول. والمتبادر أنه استدلال للقول الثاني. فليتأمل.
45

في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية. وهو عندنا أصح من حديث ابن عباس، وعليه
العمل عند الفقهاء. ويدخل في قوله عليه السلام: (خل بينها وبين الناس) أهل رفقته
وغيرهم. وقال الشافعي وأبو ثور: ما كان من الهدى أصله واجبا فلا يأكل منه، وما كان
تطوعا ونسكا أكل منه وأهدى وادخر وتصدق. والمتعة والقرآن عنده نسك. ونحوه مذهب
الأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يأكل من هدى المتعة والتطوع، ولا يأكل مما سوى
ذلك مما وجب بحكم الاحرام. وحكى عن مالك: لا يأكل من دم الفساد. وعلى قياس
هذا لا يأكل من دم الجبر، كقول الشافعي والأوزاعي. تمسك مالك بأن جزاء الصيد جعله
الله للمساكين بقوله تعالى: " أو كفارة طعام مساكين " (1) [المائدة: 95]. وقال في فدية الأذى: " ففدية
من صيام أو صدقة أو نسك " (2) [البقرة: 196]. وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: (أطعم ستة
مساكين مدين لكل مسكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك شاة). ونذر المساكين مصرح به،
وأما غير ذلك من الهدايا فهو باق على أصل قوله: " والبدن جعلنا لكم من شعائر الله
- إلى قوله - فكلوا منها " [الحج: 36]. وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رضي الله عنه من الهدى
الذي جاء به وشربا من مرقه، وكان عليه السلام قارنا في أصح الأقوال والروايات، فكان
هديه على هذا واجبا، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح. والله أعلم.
وإنما أذن الله سبحانه من الاكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل
من نسكها، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم، فلا جرم كذلك شرع
وبلغ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم صلى الله عليه وسلم.
الثالثة عشرة - (فكلوا منها) قال بعض العلماء: قوله تعالى " فكلوا منها " ناسخ
لفعلهم، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم ولا يأكلون منها - كما قلناه في الهدايا -
فنسخ الله ذلك بقوله: " فكلوا منها " وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ضحى فليأكل
من أضحيته) ولأنه عليه السلام أكل من أضحيته وهديه. وقال الزهري: من السنة أن تأكل
أولا من الكبد.

(1) قراءة نافع راجع ج 6 ص 302.
(2) راجع ج 2 ص 365 فما بعد.
46

الرابعة عشرة - ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث
ويأكل هو وأهله الثلث. وقال ابن القاسم عن مالك: ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم
موصوف. قال مالك في حديثه: وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه العمل. روى الصحيح
وأبو داود قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ثم قال: (يا ثوبان، أصلح لحم
هذه الشاة) قال: فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة. وهذا نص في الفرض.
واختلف قول الشافعي، فمرة قال: يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى:
" فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " فذكر شخصين. وقال مرة: يأكل ثلثا ويهدى ثلثا
ويطعم ثلثا، لقوله تعالى: " فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " [الحج: 36] فذكر ثلاثة.
الخامسة عشرة - المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر، إذ الأصل عموم
الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء. وخالف في ذلك أبو حنيفة والنخعي، وروى عن علي،
والحديث حجة عليهم. واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية، وبه قال
النخعي. وروى ذلك عن الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة من السلف رضي الله عنهم، لان
الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدى. فإذا أراد أن يضحى جعله هديا، والناس غير
الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم.
السادسة عشرة - اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال. روى عن علي وابن عمر
رضي الله عنهما من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث. وروياه عن النبي صلى
الله عليه وسلم، وسيأتي. وقالت جماعة: ما روى من النهى عن الادخار منسوخ، فيدخر
إلى أي وقت أحب. وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي. وقالت فرقة: يجوز
الاكل منها مطلقا. وقالت طائفة: إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر، لان النهى إنما
كان لعلة وهي قوله عليه السلام: (إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت (1)) ولما ارتفعت
ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ. وتنشأ هنا مسألة أصولية وهي:

(1) الدافة: القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد. والدافة: قوم من الاعراب يريدون المصر، يريد أنهم قوم
قدموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي ليفرقوها ويتصدقوا بها فينتفع أولئك القادمون بها.
(ابن الأثير).
47

السابعة عشرة - وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته. أعلم أن
المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة، فلو قدم على
أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها
فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
الثامنة عشرة - الأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة صحاح ثابتة. وقد جاء
المنع والإباحة معا، كما هو منصوص في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع وأبى سعيد الخدري
رواها الصحيح. وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر
ابن الخطاب قال: ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: فصلى لنا قبل
الخطبة ثم خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم
نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها. وروى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق (1) ثلاث. قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم
الأضاحي فوق ثلاث. وروى أبو داود عن نبيشة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا وأتجروا
ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل). قال أبو جعفر النحاس: وهذا
القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تتضاد، ويكون قول أمير المؤمنين على
ابن أبي طالب وعثمان محصور، لان الناس كانوا في شدة محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين قدمت الدافة. والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك قال: حدثنا
أحمد قال حدثنا ليث قال حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها
سألت عائشة رضي الله عنها عن لحوم الأضاحي فقالت: قدم علينا علي بن أبي طالب من
سفر فقدمنا إليه منه، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال:
(كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة). وقال الشافعي: من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث
لم يسمع الرخصة. ومن قال بالرخصة مطلقا لم يسمع النهى عن الادخار. ومن قال بالنهي

(1) في ك: بعد.
48

والرخصة سمعهما جميعا فعمل بمقتضاهما. والله أعلم. وسيأتي في سورة " الكوثر " (1)
الاختلاف في وجوب الأضحية وندبيتها وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم، إن شاء الله تعالى.
التاسعة عشرة - قوله تعالى: (وأطعموا البائس الفقير) " الفقير " من صفة
البائس، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر، يقال: بئس يبأس بأسا إذا افتقر، فهو بائس.
وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم يكن فقيرا، ومنه قوله عليه السلام: (لكن
البائس سعد (2) بن خولة). ويقال رجل بئيس أي شديد. وقد بؤس يبؤس بأسا إذ اشتد،
ومنه قوله تعالى: " وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس " (3) [الأعراف: 165] أي شديد. وكلما كان التصدق
بلحم الأضحية أكثر كان الاجر أوفر. وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه، فقيل.
النصف، لقوله: " فكلوا، وأطعموا " وقيل: الثلثان، لقوله: (ألا فكلوا وادخروا
وأتجروا) أي اطلبوا الاجر بالاطعام. واختلف في الاكل والاطعام، فقيل: واجبان.
وقيل مستحبان. وقيل: بالفرق بين الاكل والاطعام، فالاكل مستحب والاطعام
واجب، وهو قول الشافعي.
الموفية عشرين - قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم) أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا
والهدايا ما بقى عليهم من أمر الحج، كالحلق ورمى الجمار وإزالة شعث ونحوه. قال ابن عرفة:
أي ليزيلوا عنهم أدرانهم. وقال الأزهري: التفث الاخذ من الشارب وقص الأظفار
ونتف الإبط وحلق العانة، وهذا عند الخروج من الاحرام. وقال النضر بن شميل: التفث
في كلام العرب إذهاب الشعث، وسمعت الأزهري يقول: التفث في كلام العرب لا يعرف
إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير. وقال الحسن: هو إزالة قشف الاحرام. وقيل:
التفث مناسك الحج كلها، رواه ابن عمر وابن عباس. قال ابن العربي: لو صح عنهما لكان
حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة، قال: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها
شعرا ولا أحاطوا بها خبرا، لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال:

(1) راجع ج 20 ص 216.
(2) رثى له النبي صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. يعنى في الأرض
التي هاجر منها: (راجع ترجمته في كتاب الاستيعاب). (3) راجع ج 7 ص 0008؟؟؟
49

إنه قص الأظفار وأخذ الشارب وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح. قال: ولم يجئ فيه
شعر يحتج به. وقال صاحب العين: التفث هو الرمي والحلق والتقصير والذبح وقص الأظفار
والشارب والإبط. وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء. وقال
قطرب: تفث الرجل إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصلت:
حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا * ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا
وما أشار إليه قطرب هو الذي قاله ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث. وهذه
صورة إلقاء التفث لغة، وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه وحلق رأسه
وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس فقد أزال تفثه ووفى نذره، والنذر ما لزم الانسان والتزمه.
قلت: ما حكاه عن قطرب وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي. وذكر
بيتا آخر فقال:
قضوا تفثا ونحبا (1) ثم ساروا * إلى نجد وما انتظروا عليا
وقال الثعلبي: وأصل التفث في اللغة الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك
أي ما أوسخك وأقذرك. قال أمية بن أبي الصلت:
ساخين (2) آباطهم لم يقذفوا تفثا * وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
الماوردي: قيل لبعض الصلحاء: ما المعنى في شعث المحرم؟ قال: ليشهد الله تعالى منك
الاعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته.
الحادية والعشرون - (وليوفوا نذورهم) أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان
معصية، لقوله عليه السلام: (لا وفاء لنذر في معصية الله)، وقوله: (من نذر أن يطيع
الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه). (وليطوفوا بالبيت العتيق) الطواف المذكور
في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري: لا خلاف بين
المتأولين في ذلك.

(1) من معاني النحب: الحاجة والنذر.
(2) ساخين: تاركين.
50

الثانية والعشرون - للحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة،
وطواف الوداع. قال إسماعيل بن إسحاق: طواف القدوم سنة، وهو ساقط عن المراهق
وعن المكي وعن كل من يحرم بالحج من مكة. قال: والطواف الواجب الذي لا يسقط
بوجه من الوجوه، وهو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة، قال الله تعالى: " ثم ليقضوا
تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ". قال: فهذا هو الطواف المفترض في كتاب
الله عز وجل، وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله. قال الحافظ أبو عمر: ما ذكره
إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة، وهي رواية ابن وهب وابن نافع
وأشهب عنه. وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء أهل الحجاز والعراق. وقد روى
ابن القاسم وابن عبد الحكم عن مالك أن طواف القدوم واجب. وقال ابن القاسم في غير
موضع من المدونة ورواه أيضا عن مالك: الطواف الواجب طواف القادم مكة. وقال:
من نسى الطواف في حين دخوله مكة أو نسى شوطا منه، أو نسى السعي أو شوطا منه حتى
رجع إلى بلده ثم ذكره، فإن لم يكن أصاب النساء رجع إلى مكة حتى يطوف بالبيت ويركع
ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يهدى. وإن أصاب النساء رجع فطاف وسعى، ثم اعتمر
وأهدى. وهذا كقوله فيمن نسى طواف الإفاضة سواء. فعلى هذه الرواية الطوافان جميعا
واجبان، والسعي أيضا. وأما طواف الصدر وهو المسمى بطواف الوداع فروى ابن القاسم
وغيره عن مالك فيمن طاف طواف الإفاضة على غير وضوء: أنه يرجع من بلده فيفيض
إلا أن يكون تطوع بعد ذلك. وهذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه، وأنه يجزيه تطوعه عن
الواجب المفترض عليه من طوافه. وكذلك أجمعوا أن من فعل في حجه شيئا تطوع به من
عمل الحج، وذلك الشئ واجب في الحج قد جاز وقته، فإن تطوعه ذلك يصير للواجب لا للتطوع
بخلاف الصلاة. فإذا كان التطوع ينوب عن الفرض في الحج كان الطواف لدخول مكة
أحرى أن ينوب عن طواف الإفاضة، إلا ما كان من الطواف بعد رمى جمرة العقبة يوم النحر
أو بعده للوداع. ورواية ابن عبد الحكم عن مالك بخلاف ذلك، لان فيها أن طواف
51

الدخول مع السعي ينوب عن طواف الإفاضة لمن رجع إلى بلده مع الهدى، كما ينوب
طواف الإفاضة مع السعي لمن لم يطف ولم يسع حين دخوله مكة مع الهدى أيضا عن
طواف القدوم. ومن قال هذا قال: إنما قيل لطواف الدخول واجب ولطواف الإفاضة
واجب لان بعضهما، ينوب عن بعض، ولأنه قد روى عن مالك أنه يرجع من نسى أحدهما
من بلده على ما ذكرنا، ولأن الله عز وجل لم يفترض على الحاج إلا طوافا واحدا بقوله:
" وأذن في الناس بالحج "، وقال في سياق الآية: " وليطوفوا بالبيت العتيق " والواو
عندهم في هذه الآية وغيرها لا توجب رتبة إلا بتوقيف. وأسند الطبري عن عمرو
ابن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى: " وليطوفوا بالبيت العتيق " فقال:
هو طواف الوداع. وهذا يدل على أنه واجب، وهو أحد قولي الشافعي، لأنه عليه السلام
رخص للحائض أن تنفر دون أن تطوفه، ولا يرخص إلا في الواجب.
الثالثة والعشرون - اختلف المتأولون في وجه صفة البيت بالعتيق، فقال مجاهد
والحسن: العتيق القديم. يقال: سيف عتيق، وقد عتق أي قدم، وهذا قول يعضده
النظر. وفي الصحيح (أنه أول مسجد وضع في الأرض). وقيل: عتيقا لان الله أعتقه من
أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان، قال معناه ابن الزبير ومجاهد. وفى الترمذي
عن عبد الله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما سمى البيت العتيق
لأنه لم يظهر عليه جبار) قال: هذا حديث حسن صحيح (1)، وقد روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم مرسلا. فإن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف ونصبه المنجنيق على الكعبة حتى كسرها
قيل له: إنما أعتقها عن كفار الجبابرة، لأنهم إذا أتوا بأنفسهم متمردين ولحرمة البيت غير
معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء فعصمت منهم ولم تنلها أيديهم، كان ذلك دلالة على أن
الله عز وجل صرفهم عنها قسرا. فأما المسلمون الذين اعتقدوا حرمتها فإنهم إن كفوا عنها
لم يكن في ذلك من الدلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون منها في كف الأعداء، فقصر الله
تعالى هذه الطائفة عن الكف بالنهي والوعيد، ولم يتجاوزه إلى الصرف بالالجاء والاضطرار،

(1) في ب وج‍ وط وك: عريب.
52

وجعل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمر. وقالت طائفة: سمى عتيقا لأنه لم يملك
موضعه قط. وقالت فرقة: سمى عتيقا لان الله عز وجل يعتق فيه رقاب المذنبين من
العذاب. وقيل: سمى عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان، قاله ابن جبير. وقيل: العتيق
الكريم. والعتق الكرم. قال طرفة يصف أذن الفرس:
مؤللتان تعرف العتق فيهما * كسامعتي مذعورة وسط ربرب (1)
وعتق الرقيق: الخروج من ذل الرق إلى كرم الحرية. ويحتمل أن يكون العتيق صفة مدح
تقتضي جودة الشئ، كما قال عمر: حملت على فرس عتيق، الحديث. والقول الأول أصح
للنظر والحديث الصحيح. قال مجاهد: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام، وسمى عتيقا
لهذا، والله أعلم.
قوله تعالى: ذلك ومن يعظم حرمت الله فهو خير له عند ربه
وأحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان
واجتنبوا قول الزور (30) حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله
فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق (31)
فيه ثمان مسائل:
الأولى - قوله تعالى: " ذلك " يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير: فرضكم
ذلك، أو الواجب ذلك. ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير: امتثلوا ذلك، ونحو
هذه الإشارة البليغة قول زهير:
هذا وليس كمن يعيا بخطته * وسط الندى إذا ما قائل نطقا

(1) المؤلل: المحدد. والربرب: القطيع من بقر الوحش، وقيل الظباء. وهذه الرواية في البيت مخالفة
لما في ديوانه ومعلقته. والرواية فيهما:
مؤللتان تعرف العتق فيهما * كسا معتى شاة بحومل مفرد
؟؟؟ بالشاة هنا الثور الوحشي.
53

والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله: " ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا
نذورهم "، ويدخل في ذلك تعظيم المواضع، قاله ابن زيد وغيره. ويجمع ذلك أن تقول:
الحرمات امتثال الامر من فرائضه وسننه. وقوله: (فهو خير له عند ربه) أي التعظيم
خير له عند ربه من التهاون بشئ منها. وقيل: ذلك التعظيم خير من خيراته ينتفع به،
وليست للتفضيل وإنما هي عدة بخير.
الثانية - قوله تعالى: (وأحلت لكم الانعام) أن تأكلوها: وهي الإبل والبقر
والغنم. (إلا ما يتلى عليكم) أي في الكتاب من المحرمات، وهي الميتة والموقوذة وأخواتها.
ولهذا اتصال بأمر الحج، فإن في الحج الذبح، فبين ما يحل ذبحه وأكل لحمه. وقيل: " إلا ما يتلى
عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم " (1)
الثالثة - قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) الرجس: الشئ القذر.
الوثن: التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصبها
وتعبدها. والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه فهو كالتمثال أيضا. وقال عدى
ابن حاتم: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: (ألق هذا
الوثن عنك) أي الصليب، وأصله من وثن الشئ أي أقام في مقامه. وسمى الصنم وثنا
لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه. يريد اجتنبوا عبادة الأوثان، روى عن ابن عباس
وابن جريج. وسماها رجسا لأنها سبب الرجز وهو العذاب. وقيل: وصفها بالرجس،
والرجس النجس فهي نجسة حكما. وليست النجاسة وصفا ذاتيا للأعيان وإنما هي وصف
شرعي من أحكام الايمان، فلا تزال إلا بالايمان كما لا تجوز الطهارة إلا بالماء.
الرابعة - (من) في قوله: " من الأوثان " قيل: إنها لبيان الجنس، فيقع نهيه
عن رجس (2) الأوثان فقط، ويبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع. ويحتمل أن تكون
لابتداء الغاية، فكأنهم نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم، إذ عبادة
الوثن جامعة لكل فساد ورجس. ومن قال إن " من " للتبعيض، قلب معنى الآية وأفسده.

(1) راجع ج 6 ص 31.
(2) في ك: جنس الأوثان.
54

الخامسة - قوله تعالى: (واجتنبوا قول الزور) والزور: الباطل والكذب.
وسمى زورا لأنه أميل عن الحق، ومنه " تزاور عن كهفهم " (1)، [الكهف: 17]، ومدينة زوراء، أي مائلة.
وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور. وفي الخبر أنه عليه السلام قام خطيبا فقال:
(عدلت شهادة الزور الشرك بالله) قالها مرتين أو ثلاثا. يعنى أنها قد جمعت مع عبادة
الوثن في النهى عنها.
السادسة - هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور، وينبغي للحاكم إذا عثر
على الشاهد بالزور أن يعززه وينادى عليه ليعرف لئلا يغتر بشهادته أحد. ويختلف الحكم
في شهادته إذا تاب، فإن كان من أهل العدالة المشهور بها المبرز فيها لم تقبل، لأنه لا سبيل
إلى علم حاله في التوبة، إذ لا يستطيع أن يفعل من القربات أكثر مما هو عليه. وإن كان
دون ذلك فشمر في العبادة وزادت حاله في التقى قبلت شهادته. وفي الصحيح عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: (إن أكبر الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقول
الزور). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
السابعة - (حنفاء لله) معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق. ولفظة
" حنفاء " من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل. و " حنفاء " نصب على الحال.
وقيل: " حنفاء " حجاجا، وهذا تخصيص لا حجة معه.
الثامنة - قوله تعالى: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء) أي هو يوم القيامة
بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا، فهو بمنزلة من خر من
السماء، فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه. ومعنى، (فتخطفه الطير) أي تقطعه بمخالبها.
وقيل: هذا عند خروج روحه وصعود الملائكة بها إلى سماء الدنيا، فلا يفتح لها فيرمى
بها إلى الأرض، كما في حديث البراء، وقد ذكرناه في التذكرة. والسحيق: البعيد، ومنه
قوله تعالى: " فسحقا لأصحاب السعير " (2) [الملك: 11]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (فسحقا فسحقا).

(1) راجع ج 10 ص 368.
(2) راجع ج 18 ص 212.
55

قوله تعالى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب (32)
لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق (33) فيه سبع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (ذلك) فيه ثلاثة أوجه. قيل: يكون في موضع رفع
بالابتداء، أي ذلك أمر الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محذوف.
ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي اتبعوا ذلك.
الثانية - قوله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله) الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شئ لله
تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم، ومنه شعار القوم في الحرب، أي علامتهم التي يتعارفون بها. ومنه
إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة، فهي تسمى شعيرة بمعنى
المشعورة. فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك. وقال قوم: المراد هنا تسمين البدن
والاهتمام بأمرها والمغالاة بها، قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة. وفيه إشارة لطيفة، وذلك أن
أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه، فلا يدل على الاخلاص فإذا عظمها مع حصول
الاجزاء بما دونه فلا يظهر له عمل إلا تعظيم الشرع، وهو من تقوى القلوب. والله أعلم.
الثالثة - الضمير في " إنها " عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام: ولو قال فإنه لجاز.
وقيل: إنها راجعة إلى الشعائر، أي فإن تعظيم الشعائر، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه،
فرجعت الكناية إلى الشعائر.
الرابعة - قوله تعالى: " فإنها من تقوى القلوب " قرئ " القلوب " بالرفع على أنها
فاعلة بالمصدر الذي هو " تقوى " وأضاف التقوى إلى القلوب (1) لان حقيقة التقوى في القلب،
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في صحيح الحديث: (التقوى هاهنا) وأشار إلى صدره.
الخامسة - قوله تعالى: (لكم فيها منافع) يعني البدن من الركوب والدر والنسل
والصوف وغير ذلك، إذا لم يبعثها ربها هديا، فإذا بعثها فهو الاجل المسمى، قاله ابن عباس.

(1) في الأصول: " وأضاف إلى القلب ".
56

فإذا صارت بدنا هديا فالمنافع فيها أيضا ركوبها عند الحاجة، وشرب لبنها بعد رى فصيلها.
وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال:
(اركبها) فقال: إنها بدنة. فقال: (اركبها) قال: إنها بدنة. قال: (اركبها ويلك)
في الثانية أو الثالثة. وروى عن جابر بن عبد الله وسئل عن ركوب الهدى فقال: سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا).
والأجل المسمى على هذا القول نحرها، قاله عطاء بن أبي رباح.
السادسة - ذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة لقوله عليه الصلاة والسلام:
(اركبها). وممن أخذ بظاهره أحمد وإسحاق وأهل الظاهر. وروى ابن نافع عن مالك:
لا بأس بركوب البدنة ركوبا غير فادح. والمشهور أنه لا يركبها إلا إن اضطر إليها لحديث
جابر فإنه مقيد والمقيد يقضى على المطلق. وبنحو ذلك قال الشافعي وأبو حنيفة. ثم إذا
ركبها عنده الحاجة نزل، قاله إسماعيل القاضي. وهو الذي يدل عليه مذهب مالك، وهو خلاف
ما ذكره ابن القاسم أنه لا يلزمه النزول، وحجته إباحة النبي صلى الله عليه وسلم له الركوب
فجاز له استصحابه. وقوله: (إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا) يدل على صحة ما قاله الإمام الشافعي
وأبو حنيفة رضي الله عنهما، وما حكاه إسماعيل عن مذهب مالك. وقد جاء صريحا
أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهد، فقال: (اركبها). وقال
أبو حنيفة والشافعي: إن نقصها الركوب المباح فعليه قيمة ذلك ويتصدق به.
السابعة - قوله تعالى: (ثم محلها إلى البيت العتيق) يريد أنها تنتهي إلى البيت،
وهو الطواف. فقوله: " محلها " مأخوذ من إحلال المحرم. والمعنى أن شعائر الحج كلها من
الوقوف بعرفة ورمى الجمار والسعي ينتهى إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. فالبيت على
هذا التأويل مراد بنفسه، قاله مالك في الموطأ. وقال عطاء: ينتهى إلى مكة. وقال
الشافعي: إلى الحرم. وهذا بناء على أن الشعائر هي البدن، ولا وجه لتخصيص الشعائر
مع عمومها وإلغاء خصوصية ذكر البيت. والله أعلم.
57

قوله تعالى: ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم
من بهيمة الأنعام فإلهكم إليه وحد فله أسلموا وبشر المخبتين (34)
قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكا) لما ذكر تعالى الذبائح بين أنه لم يخل منها
أمة، والأمة القوم المجتمعون على مذهب واحد، أي ولكل جماعة مؤمنة جعلنا منسكا.
والمنسك الذبح وإراقة الدم، قاله مجاهد. يقال: نسك إذا ذبح ينسك نسكا. والذبيحة
نسيكة، وجمعها نسك، ومنه قوله تعالى: " أو صدقة أو نسك " (1) [البقرة: 196]. والنسك أيضا الطاعة. وقال
الأزهري في قوله تعالى: " ولكل أمة جعلنا منسكا ": إنه يدل على موضع النحر في هذا
الموضع، أراد مكان نسك. ويقال: منسك ومنسك، لغتان، وقرئ بهما. قرأ الكوفيون
إلا عاصما بكسر السين، الباقون بفتحها. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب الموضع
المعتاد في خير أو شر. وقيل مناسك الحج لترداد الناس إليها من الوقوف بعرفة ورمى الجمار
والسعي. وقال ابن عرفة في قوله: " ولكل أمة جعلنا منسكا ": أي مذهبا من طاعة الله
تعالى، يقال: نسك نسك (2) قومه إذا سلك مذهبهم. وقيل: منسكا عيدا، قاله الفراء.
وقيل: حجا، قاله قتادة. والقول الأول أظهر، لقوله تعالى: (ليذكروا اسم الله على
ما رزقهم من بهيمة الأنعام) أي على ذبح ما رزقهم. فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون
الذبح له، لأنه رازق ذلك. ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه
فالإله واحد لجميعكم، فكذلك الامر في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له.
فوله تعالى: (فله أسلموا) معناه لحقه ولوجهه وإنعامه آمنوا وأسلموا. ويحتمل أن
يريد الاستسلام، أي له أطيعوا وانقادوا.
قوله تعالى: (وبشر المخبتين) المخبت: المتواضع الخاشع من المؤمنين. والخبت
ما انخفض من الأرض، أي بشرهم بالثواب الجزيل. قال عمرو بن أوس: المخبتون الذين
لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا (3). وقال مجاهد فيما روى عنه سفيان عن ابن أبي نجيح:
المخبتون المطمئنون بأمر الله عز وجل.

(1) راجع ج 2 ص 365 فما بعد.
(2) مثلثة النون، وبضمتين.
(3) الانتصار: الانتقام.
58

قوله تعالى: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على
ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (35)
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: (وجلت قلوبهم) أي خافت وحذرت مخالفته. فوصفهم
بالخوف والوجل عند ذكره، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، ووصفهم
بالصبر وإقامة الصلاة وإدامتها. وروى أن هذه الآية قوله: " وبشر المخبتين " نزلت
في أبى بكر وعمر وعلى رضوان الله عليهم. وقرأ الجمهور: " الصلاة " بالخفض على الإضافة،
وقرأ أبو عمرو: " الصلاة " بالنصب على توهم النون، وأن حذفها للتخفيف لطول الاسم.
وأنشد سيبويه:
* الحافظو عورة العشيرة (1)... *
الثانية - هذه الآية نظير قوله تعالى: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت
قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون " (2) [الأنفال: 2]، وقوله تعالى: " الله نزل
أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم
وقلوبهم إلى ذكر الله " (3) [الزمر: 23]. هذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته، لا كما يفعله
جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير، ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير،
فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع: إنك لم تبلغ أن تساوى حال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى والخوف منه والتعظيم لجلاله،
ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله. وكذلك وصف الله
تعالى أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه، ومن لم يكن كذلك فليس على
هديهم ولا على طريقتهم، قال الله تعالى: " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم

(1) البيت بتمامه: الحافظو عورة العشيرة لا * يأتيهم من ورائنا نطف
(2) راجع ج 7 ص 365.
(3) راجع ج 15 ص 248.
59

تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (1) " [المائدة: 83]. فهذا وصف
حالهم وحكاية مقالهم، فمن كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من
أخسهم حالا، والجنون فنون. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي
صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه (2) في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال: (سلوني
لا تسألوني عن شئ إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا) فلما سمع ذلك القوم أرموا (3) ورهبوا
أن يكون بين [يدي (4)] أمر قد حضر. قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان
لاف رأسه في ثوبه يبكى. وذكر الحديث. وقد مضى القول في هذه المسألة بأشبع من هذا
في سورة " الأنفال " (5) والحمد لله.
قوله تعالى: والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير
فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها
وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون (36)
فيه عشر مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (والبدن) وقرأ ابن أبي إسحاق: " والبدن " لغتان، واحدتها
بدنة. كما يقال: ثمرة وثمر وثمر، وخشبة وخشب وخشب. وفى التنزيل: " وكان له ثمر " (6)
وقرئ: " ثمر " لغتان. وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن. وقيل: إن هذا الاسم
خاص بالإبل. وقيل: البدن جمع " بدن " بفتح الباء والدال. ويقال: بدن الرجل (بضم
الدال) إذا سمن. وبدن (بتشديدها) إذا كبر وأسن. وفى الحديث (إني قد بدنت)
أي كبرت وأسننت. وروى (بدنت) وليس له معنى، لأنه خلاف صفته صلى الله عليه
وسلم، ومعناه كثرة اللحم. يقال: بدن الرجل يبدن بدنا وبدانة فهو بادن، أي ضخم.

(1) راجع ج 6 ص 258. (أي أكثروا عليه. وأحفى في السؤال وألحف بمعنى ألح.
(3) أرم الرجل: سكت، فهو مرم.
(4) الزيادة عن صحيح مسلم.
(5) راجع ج 7 ص 366.
(6) راجع ج 10 ص 298
60

الثانية - اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا، فقال
ابن مسعود وعطاء والشافعي: لا. وقال مالك وأبو حنيفة: نعم. وفائدة الخلاف فيمن
نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة، فهل تجزيه أم لا، فعلى مذهب
الشافعي وعطاء لا تجزيه. وعلى مذهب مالك تجزيه. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء،
لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة: (من راح في الساعة الأولى فكأنما
قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) الحديث. فتفريقه عليه السلام
بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة، والله أعلم. وأيضا قوله تعالى:
" فإذا وجبت جنوبها " يدل على ذلك، فإن الوصف خاص بالإبل. والبقر يضجع ويذبح
كالغنم، على ما يأتي. ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد
فيهما جميعا. وأيضا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل، حتى تجوز
البقرة في الضحايا على سبعة كالإبل. وهذا حجة لأبي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك،
وليس ذلك في مذهبنا. وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة، وهو قول شاذ. والبدن
هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة. والهدى عام في الإبل والبقر والغنم.
الثالثة - قوله تعالى: (من شعائر الله) نص في أنها بعض الشعائر. وقوله:
(لكم فيها خير) يريد به المنافع التي تقدم ذكرها. والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة.
الرابعة - قوله تعالى: (فاذكروا اسم الله عليها صواف) أي انحروها على اسم الله.
و " صواف " أي قد صفت قوائمها. والإبل تنحر قياما معقولة. وأصل هذا الوصف
في الخيل، يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى سنبك الرابعة،
والسنبك طرف الحافر. والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم.
وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري: " صوافي " أي خوالص لله
عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا. وعن الحسن أيضا " صواف " بكسر
الفاء وتنوينها مخففة، وهي بمعنى التي قبلها، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس.
61

و " صواف " قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها، من صف يصف. وواحد صواف صافة،
وواحد صوافي صافية. وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن علي " صوافن "
بالنون جمع صافنة. ولا يكون واحدها صافنا، لان فاعلا (1) لا يجمع على فواعل إلا في حروف
مختصة لا يقاس عليها، وهي فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وخالف وخوالف (2).
والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. ومنه قوله تعالى: " الصافنات الجياد (3) " [ص: 31]. وقال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه * مقلدة أعنتها صفونا
ويروى:
تظل جياده نوحا عليه * مقلدة أعنتها صفونا
وقال آخر:
ألف الصفون فما يزال كأنه * مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال أبو عمرو الجرمي: الصافن عرق في مقدم الرجل، فإذا ضرب على الفرس
رفع رجله. وقال الأعشى:
وكل كميت كجذع السحوق * يرنو القناء إذا ما صفن
الخامسة - قال ابن وهب: أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف
فقال: تقيدها ثم تصفها. وقال لي مالك بن أنس مثله. وكان العلماء على استحباب ذلك،
إلا أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركة وقياما. وشذ عطاء فخالف واستحب
نحرها باركة. والصحيح ما عليه الجمهور، لقوله تعالى: " فإذا وجبت جنوبها " معناه
سقطت بعد نحرها، ومنه وجبت الشمس. وفى صحيح مسلم عن زياد بن جبير أن ابن عمر
أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر، وأخبرني عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقى من قوائمها.

(1) " فاعل " الذي لا يجمع على " فواعل " إذا كان وصفا لمذكر عاقل، أما " صافن " فليس وصفا لعاقل.
(2) في شرح الأشموني على ألفية ابن مالك أنها فارس وناكس وهالك وغائب وشاهد.
(3) راجع ج 15 ص 192.
62

السادسة - قال مالك: فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأسا
أن ينحرها معقولة. والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة، إلا أن يتعذر ذلك فتعقل
ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها. ونحرها باركة أفضل من أن
تعرقب. وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحرها في صدرها ويخرجها
على سنامها، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه، ويمسك معه الحربة رجل آخر، وآخر
بخطامها. وتضجع البقر والغنم.
السابعة - ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع. وكذلك الأضحية
لا تجوز قبل الفجر. فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم،
بخلاف الأضحية في سائر البلاد. والمنحر منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر. ولو نحر
الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما، إن شاء الله تعالى.
الثامنة - قوله تعالى: (فإذا وجبت جنوبها) يقال: وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط. قال قيس بن الخطيم:
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم * عن السلم حتى كان أول واجب
وقال أوس بن حجر:
ألم تكسف الشمس والبدر وال * كواكب للجبل الواجب (1)
فقوله تعالى: " فإذا وجبت جنوبها " يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة. كنى عن الموت
بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله تعالى: " فإذ كروا اسم الله عليها ".
والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح. قال الشاعر:
فتركته جزر السباع ينشنه * ما بين قلة رأسه والمعصم (2)

(1) هذه رواية البيت كما في ديوانه. وروايته في الأصول:
ألم تكسف الشمس ضوء النهار * والبدر للجبل الواجب
ويريد بالجبل: فضالة بن كلدة. وهو من قصيدة يرثيه بها، وفيها:
لهلك فضالة لا تستوى * الفقود ولا خلة الذاهب
(2) البيت من معلقة عترة. والجزر: جمع جزرة، وهي الشاة والناقة تذبح وتنحر.
63

وقال عنترة:
* وضربت قرني كبشها فتجدلا (1) *
أي سقط مقتولا إلى الجدالة، وهي الأرض، ومثله كثير. والوجوب للجنب بعد النحر
علامة نزف الدم وخروج الروح منها، وهو وقت الاكل، أي وقت قرب الاكل، لأنها
إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شئ من الذبيحة ثم يطبخ. ولا تسلخ حتى تبرد لان ذلك من باب
التعذيب، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لا تعجلوا الأنفس أن تزهق.
التاسعة - قوله تعالى: (فكلوا منها) أمر معناه الندب. وكل العلماء يستحب
أن يأكل الانسان من هدية، وفيه أجر وامتثال، إذا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم
كما تقدم. وقال أبو العباس بن شريح: الاكل والاطعام مستحبان، وله الاقتصار على أيهما
شاء. وقال الشافعي: الاكل مستحب والاطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن
أكل جميعها لم يجزه، وهذا فيما كان تطوعا، فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا
حسبما تقدم بيانه.
العاشرة - قوله تعالى: (وأطعموا القانع والمعتر) قال مجاهد وإبراهيم والطبري:
قوله: " وأطعموا " أمر إباحة. و " القانع " السائل. يقال: قنع الرجل يقنع قنوعا
إذا سأل، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل (2)، يقنع قناعة فهو قنع، إذا تعفف
واستغنى ببلغته ولم يسأل، مثل حمد يحمد - قناعة وقنعا وقنعانا، قاله الخليل. ومن الأول
قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغنى * مفاقره أعف من القنوع
وقال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك
المسألة. وروى عن أبي رجاء أنه قرأ " وأطعموا القنع " ومعنى هذا مخالف للأول.

(1) هذا صدر بيت، وعجزه كما في ديوانه:
* وحملت مهري وسطها فمضاها *
(2) هذه اللغة لم تجدها في المعاجم، على أن في العبارة ها هنا اضطرابا. والذي في كتب اللغة أنه يقال: قنع
الرجل يقنع (بفتح النون فيهما) قنوعا إذا سأل. وقنع يقنع (بكسر النون في الماضي وفتحها في المستقيل) قناعة وقنعا
وقنعانا - كما ذكر المؤلف - إذا رضى. راجع معاجم اللغة.
64

يقال: قنع الرجل فهو قنع إذا رضى. وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك،
سائلا كان أو ساكتا. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن
ابن أبي الحسن: المعتر المعترض من غير سؤال. قال زهير:
على مكثريهم رزق من يعتريهم * وعند المقلين السماحة والبذل
وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع الفقير، والمعتر الزائر. وروى عن الحسن أنه قرأ:
" والمعترى " ومعناه كمعنى المعتر. يقال: اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده
أو طلبه، ذكره النحاس.
قوله تعالى: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى
منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هديكم وبشر
المحسنين (37)
فيه خمس مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها) قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية
يضرجون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فنزلت الآية. والنيل لا يتعلق
بالبارئ تعالى، ولكنه عبر عنه تعبيرا مجازيا عن القبول، المعنى: لن يصل إليه. وقال
ابن عباس: لن يصعد إليه. ابن عيسى: لن يقبل لحومها ولا دماءها، ولكن يصل إليه
التقوى منكم، أي ما أريد به وجهه، فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه،
ومنه الحديث (إنما الأعمال بالنيات). والقراءة " لن ينال الله " و " يناله " بالياء فيهما.
وعن يعقوب بالتاء فيهما، نظرا إلى اللحوم.
الثانية - قوله تعاب: (كذلك سخرها لكم) من سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا
من تصريفها وهي أعظم منا أبدانا وأقوى منا أعضاء، ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على
ما يظهر إلى العبد من التدبير، وإنما هي بحسب ما يريدها (1) العزيز القدير، فيغلب الصغير
الكبير ليعلم الخلق أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده.

(1) في ك: يدبرها.
(5 - 12)
65

الثالثة - قوله تعالى: (لتكبروا الله على ما هداكم) ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها
من الآية قبلها فقال عز من قائل: " فاذكروا اسم الله عليها " وذكر هنا التكبير. وكان
ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول: بسم الله والله أكبر، وهذا من فقهه
رضي الله عنه. وفى الصحيح عن أنس قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين (1)
أقرنين. قال: ورأيته يذبحهما بيده، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما (2)، وسمى وكبر.
وقد اختلف العلماء في هذا، فقال أبو ثور: التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة، وكافة
العلماء على استحباب ذلك. فلو قال ذكرا آخر فيه اسم من أسماء الله تعالى وأراد به التسمية
جاز. وكذلك لو قال: الله أكبر فقط، أولا إله إلا الله، قاله ابن حبيب. فلو لم يرد
التسمية لم يجز عن التسمية ولا تؤكل؟ قاله الشافعي ومحمد بن الحسن. وكره كافة العلماء من
أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح أو ذكره، وقالوا:
لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح.
الرابعة - ذهب الجمهور إلى أن قول المضحي: اللهم تقبل منى، جائز. وكره ذلك
أبو حنيفة، والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: ثم قال (باسم الله اللهم
تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) ثم ضحى به. واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية
" ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (3) " [البقرة: 127]. وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال:
هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن
جابر بن عبد الله قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين (4)
أملحين، فلما وجههما قال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا -
وقرأ إلى قوله: وأنا أول المسلمين (5) - اللهم منك ولك (6) عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر)
ثم ذبح. فلعل مالكا لم يبلغه هذا الخبر، أو لم يصح عنده، أو رأى العمل يخالفه. وعلى هذا
يدل قوله: إنه بدعة. والله أعلم.

(1) الأملح: الذي بياضه أكثر من سواده. وقيل: النفي البياض.
(2) الصفاح (بكسر الصاد)
الجوانب، المراد الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثنى إشارة إلى أنه فعل ذلك في كل منهما.
(3) راجع ج 2 ص 120.
(4) أي خصيين.
(5) كذا في كل الأصول. راجع ج
؟؟ وص 152.
(6) في الأصول: وإليك.
66

الخامسة - قوله تعالى: (وبشر المحسنين) روى أنها نزلت في الخلفاء الأربعة،
حسبما تقدم في الآية التي قبلها. فأما ظاهر اللفظ فيقتضى العموم في كل محسن.
قوله تعالى: إن الله يدفع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب
كل خوان كفور (38)
روى أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى
أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال،
فنزلت هذه الآية إلى قوله: " كفور ". فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى أفصح نهى عن
الخيانة والغدر. وقد مضى في " الأنفال " (1) التشديد في الغدر، وأنه (ينصب للغادر لواء عند
استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان) (2). وقيل: المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم
حتى يتمكن الايمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم، وإن جرى إكراه
فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم. وقيل: يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة. ثم قتل كافر
مؤمنا نادر، وإن فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته. وقرأ نافع " يدافع "
" ولولا دفاع ". وقرأ أبو عمرو وابن كثير " يدفع " " ولولا دفع ". وقرأ عاصم وحمزة
والكسائي " يدافع " " ولولا دفع الله ". ويدافع بمعنى يدفع، مثل عاقبت اللص، وعافاه
الله، والمصدر دفعا. حكى الزهراوي أن " دفاعا " مصدر دفع، كحسب حسابا.
قوله تعالى: أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم
لقدير (39)
فيه مسألتان:
الأولى - قوله تعالى: " أذن للذين يقاتلون " قيل: هذا بيان قوله: " إن الله يدافع
عن الذين آمنوا " أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم، وفيه إضمار، أي

(1) راجع ج 8 ص 33.
(2) في ك: " فلان بن فلان ".
67

أذن للذين يصلحون للقتال في القتال، فحذف لدلالة الكلام على المحذوف. وقال الضحاك:
استأذن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة، فأنزل الله " إن الله
لا يحب كل خوان كفور " فلما هاجر نزلت " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ". وهذا ناسخ
لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح (1). وهي أول آية نزلت في القتال (2). قال ابن عباس
وابن جبير: نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وروى النسائي
والترمذي عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر:
أخرجوا نبيهم ليهلكن، فأنزل الله تعالى " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم
لقدير " فقال أبو بكر: لقد علمت أنه سيكون قتال. فقال: هذا حديث حسن. وقد
روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلا، وليس
فيه: عن ابن عباس.
الثانية - في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة، لان قوله:
" أذن " معناه أبيح، وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع. وقد تقدم هذا المعنى
في " البقرة " وغير موضع. وقرئ " أذن " بفتح الهمزة، أي أذن الله. " يقاتلون " بكسر التاء
أي يقاتلون عدوهم. وقرئ " يقاتلون " بفتح التاء، أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون.
ولهذا قال: " بأنهم ظلموا " أي أخرجوا من ديارهم.
قوله تعالى: الذين أخرجوا من ديرهم بغير حق إلا أن يقولوا
ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع
وصلوت ومسجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره
إن الله لقوي عزيز (40)

(1) في ك، وصفح.
(2) يلاحظ أن الذي تقدم في الجزء الثاني ص 347 عند قوله تعالى:
" وقاتلوا في سبيل الله... " خلاف ما هنا.
68

فيه ثمان مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (الذين أخرجوا من ديارهم) هذا أحد ما ظلموا به، وإنما
أخرجوا لقولهم: ربنا الله وحده. فقوله: " إلا أن يقولوا ربنا الله " استثناء منقطع، أي
لكن لقولهم ربنا الله، قاله سيبويه. وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض، يقدرها
مردودة على الباء، وهو قول أبى إسحاق الزجاج، والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم
بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله، أي أخرجوا بتوحيدهم، أخرجهم أهل الأوثان. و " الذين
أخرجوا " في موضع خفض بدلا من قوله: " للذين يقاتلون ".
الثانية - قال ابن العربي: قال علماؤنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة
العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى
والصفح عن الجاهل مدة عشرة أعوام، لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي
أمتن به بفضله في قوله: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " (1) [الاسراء: 15]. فاستمر الناس في الطغيان
وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين
حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم، فمنهم من فر إلى أرض الحبشة: ومنهم من خرج
إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى. فلما عتت قريش على الله تعالى وردوا أمره وكذبوا
نبيه عليه السلام، وعذبوا من آمن به ووحده وعبده، وصدق نبيه عليه السلام واعتصم بدينه،
أذن (2) الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل " أذن للذين يقاتلون بأنهم
ظلموا - إلى قوله - الأمور ".
الثالثة - في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي
ألجأه وأكرهه، لان الله تعالى نسب الاخراج إلى الكفار، لان الكلام في معنى
تقدير الذنب وإلزامه. وهذه الآية مثل قوله تعالى: " إذ أخرجه الذين كفروا " [التوبة: 40] والكلام
فيهما واحد، وقد تقدم في " براءة " (3) والحمد لله.

(1) راجع ج 10 ص 231.
(2) هذا دليل قاطع بأن الجهاد شرع لحماية الدعوة.
(3) راجع ج 8 ص 143.
69

الرابعة - قوله تعالى (1): (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) أي لولا ما شرعه
الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته (2) أرباب
الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد
أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أذن في القتال،
فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الامر في القتال بقوله: " ولولا دفع الله الناس " الآية،
أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة. فمن استبشع من النصارى والصابئين
الجهاد فهو مناقض لمذهبه، إذ لولا القتال لما بقى الدين الذي يذب عنه. وأيضا هذه
المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم، وقبل نسخ تلك الملل بالاسلام إنما ذكرت لهذا
المعنى، أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفى زمن عيسى الصوامع والبيع،
وفى زمن محمد عليه السلام المساجد. (لهدمت (3)) من هدمت البناء أي نقضته فانهدم.
قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
أنه قال: ولولا دفع الله بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الكفار عن التابعين فمن
بعدهم. وهذا وإن كان فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق، كما تقدم. وقال مجاهد
لولا دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول. وقالت فرقة: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة.
وقال أبو الدرداء: لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد،
وبمن يغزو عمن لا يغزو، لأتاهم العذاب. وقالت فرقة: ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء
والأخيار إلى غير ذلك من التفصيل المفسر لمعنى الآية، وذلك أن الآية ولا بد تقتضي مدفوعا؟
من الناس ومدفوعا عنه، فتأمله.
الخامسة - قال بن خويزمنداد: تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل
الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان
لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة
وجب نقضها. وينقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع والكنائس. وإنما لم ينقض

(1) من ب.
(2) كذا في ب وز وط وك. وفى ا وج‍ " بينته ".
(3) بالتخفيف قراءة نافع.
70

ما في بلاد الاسلام لأهل الذمة، لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها
في الصيانة. ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة لان في ذلك إظهار أسباب الكفر. وجائز أن
ينقض المسجد ليعاد بنيانه، وقد فعل ذلك عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
السادسة - قرئ " لهدمت " بتخفيف الدال وتشديدها. (صوامع) جمع صومعة،
وزنها فوعلة، وهي بناء مرتفع حديد الاعلى، يقال: صمع الثريدة أي رفع رأسها وحدده.
ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة. والأصمع من الرجال الحديد القول. وقيل: هو الصغير
الاذن من الناس وغيرهم. وكانت قبل الاسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين
- قاله قتادة - ثم استعمل في مئذنة المسلمين. والبيع. جمع بيعة، وهي كنيسة النصارى.
وقال الطبري: قيل هي كنائس اليهود، ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضى ذلك. (وصلوات)
قال الزجاج والحسن: هي كنائس اليهود، وهي بالعبرانية صلوتا. وقال أبو عبيدة: الصلوات
بيوت تبنى للنصارى في البراري يصلون فيها في أسفارهم، تسمى صلوتا فعربت فقيل صلوات.
وفى " صلوات " تسع قراءات ذكرها ابن عطية: صلوات، صلوات، صلوات، صلولى على
وزن فعولى، صلوب بالباء بواحدة جمع صليب، صلوث بالثاء المثلثة على وزن فعول، صلوات
بضم الصاد واللام وألف بعد الواو، صلوثا بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء المثلثة،
[صلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها
ألف (1)]. وذكر النحاس: وروى عن عاصم الجحدري أنه قرأ " وصلوب ". وروى عن
الضحاك " وصلوث " بالثاء معجمة بثلاث، ولا أدرى أفتح الصاد أم ضمها.
قلت: فعلى هذا تجئ هنا عشر قراءات. وقال ابن عباس: الصلوات الكنائس.
أبو العالية: الصلوات مساجد الصابئين. ابن زيد: هي صلوات المسلمين تنقطع إذا
دخل عليهم العدو وتهدم المساجد، فعلى هذا استعير الهدم للصلوات من حيث تعطل،
أو أراد موضع صلوات فحذف المضاف. وعلى قول ابن عباس والزجاج وغيرهم يكون الهدم

(1) ما بين المربعات عبارة أبى حيان. والذي في ا و ج وب: صلوثيا بكسر الصاد والثاء المثلثة.
71

حقيقة. وقال الحسن: هدم الصلوات تركها، قطرب: هي الصوامع الصغار ولم يسمع لها
واحد. وذهب خصيف إلى أن القصد بهذه الأسماء تقسيم متعبدات الأمم. فالصوامع
للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين. قال ابن عطية: والأظهر
أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات. وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها، إلا البيعة
فإنها مختصة بالنصارى في لغة العرب. ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها (1) كتاب على
قديم الدهر. ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الاشراك، لان هؤلاء ليس لهم
ما يجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع. وقال النحاس: " يذكر فيها
اسم الله " الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر أن يكون " يذكر فيها اسم الله " عائدا
على المساجد لا على غيرها، لان الضمير يليها، ويجوز أن يعود على " صوامع " وما بعدها،
ويكون المعنى وقت شرائعهم وإقامتهم الحق.
السابعة - فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين؟
قيل: لأنها أقدم بناء. وقيل: لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر، كما أخر السابق
في قوله: " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " (2) [فاطر: 32].
الثامنة - قوله تعالى: (ولينصرن الله من ينصره) أي من ينصر دينه ونبيه.
(إن الله لقوي) أي قادر. قال الخطابي: القوى يكون بمعنى القادر، ومن قوى على شئ
فقد قدر عليه. (عزيز) أي جليل شريف، قاله الزجاج. وقيل الممتنع الذي لا يرام،
وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
قوله تعالى: الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عقبة الأمور (41) قال الزجاج: " الذين " في موضع نصب ردا على " من "، يعنى في قوله: " ولينصرن
الله من ينصره ". وقال غيره: " الذين " في موضع خفض ردا على قوله: " أذن للذين

(1) في ج وك: لهم.
(2) راجع ج 14 ص....
72

يقاتلون " ويكون " الذين إن مكناهم في الأرض " أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم يكن في الأرض غيرهم. وقال ابن عباس: (المراد المهاجرون والأنصار والتابعون
بإحسان. وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة: هم أهل الصلوات
الخمس. وقال الحسن وأبو العالية: هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة. وقال
ابن أبي نجيح: يعنى الولاة. وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه
الملك، وهذا حسن. قال سهل بن عبد الله: الامر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب على
السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان، لان ذلك لازم
له واجب عليه، ولا يأمروا العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم.
قوله تعالى: وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد
وثمود (42) وقوم إبراهيم وقوم لوط (43) وأصحب مدين وكذب موسى
فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير (44)
هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية، أي كان قبلك أنبياء كذبوا فصبروا إلى أن
أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر.
(وكذب موسى) أي كذبه فرعون وقومه. فأما
بنو إسرائيل فما كذبوه، فلهذا لم يعطفه على ما قبله فيكون وقوم موسى. (فأمليت للكافرين)
أي أخرت عنهم العقوبة. (ثم أخذتهم) فعاقبتهم. (فكيف كان نكير) استفهام بمعنى
التغيير، أي فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك، فكذلك
أفعل بالمكذبين من قريش. قال الجوهري: النكير والانكار تغيير المنكر، والمنكر
واحد المناكير.
قوله تعالى: فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية
على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد (45)
73

قوله تعالى: (فكأين من قرية أهلكناها) أي أهلكنا أهلها. وقد مضى
في " آل عمران " (1) الكلام في كأين. (وهي ظالمة) أي بالكفر. (فهي خاوية على عروشها)
تقدم في الكهف (2). (وبئر معطلة وقصر مشيد) قال الزجاج: " وبئر معطلة " معطوف
على " من قرية " أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر. والفراء يذهب إلى أن " وبئر "
معطوف على " عروشها ". وقال الأصمعي: سألت نافع بن أبي نعيم أيهمز البئر والذئب؟
فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما. وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما، إلا ورشا فإن
روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز. ومعنى " معطلة " متروكة، قاله الضحاك.
وقيل: خالية من أهلها لهلاكهم. وقيل: غائرة الماء. وقيل: معطلة من دلائها
وأرشيتها، والمعنى متقارب. (وقصر مشيد) قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل. قال عدي بن زيد:
شاده مرمرا وجلله كلسا * فللطير في ذراه وكور
أي رفعه. وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: مجصص، من الشيد وهو الجص.
قال الراجز (2):
لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا * كحينة الماء بين الطين والشيد
وقال امرؤ القيس:
* ولا أطما إلا مشيدا بجندل (4) *
وقال ابن عباس: (مشيد) أي حصين، وقاله الكلبي. وهو مفعل بمعنى مفعول كمبيع
بمعنى مبيوع. وقال الجوهري: والمشيد المعمول بالشيد. والشيد (بالكسر): كل شئ
طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر. تقول: شاده يشيده شيدا جصصه.
والمشيد (بالتشديد) المطول. وقال الكسائي: " المشيد " للواحد، من قوله تعالى:
" وقصر مشيد "، والمشيد للجمع، من قوله تعالى: " في بروج مشيدة " (5). [النساء: 78]. وفى الكلام مضمر

(1) راجع ج 4 ص 228.
(2) راجع ج 10 ص 410.
(3) البيت للشماخ. كما في اللسان
من البسيط وليس برجز. والغمر (بفتح الغين وكسر الميم) لغة في الغمر (بضم الغين وسكون الميم) وهو الغر الذي
لم يجرب الأمور.
(4) هذا عجز البيت. وصدره: * وتيهاء لم يترك بها جذع نخلة *
(5) راجع ج 5 ص 282.
74

محذوف تقديره: وقصر مشيد مثلها معطل. ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضرموت
معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئا
سقط فيه إلا أخرجته. وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الابار ملوك البوادي،
أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء. وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن
المقرئ وغيرهما: أن البئر الرس، وكانت بعدن باليمن بحضرموت، في بلد يقال له حضوراء
نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمى
المكان حضرموت، لان صالحا لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر، وأمروا
عليهم رجلا يقال له العلس بن جلاس بن سويد، فيما ذكر الغزنوي. الثعلبي: جلهس بن جلاس.
وكان حسن السيرة فيهم عادلا عليهم، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سوادة، فأقاموا دهرا
وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقى المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم
والبقر وغير ذلك، لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها،
وأبازن (بالنون) من رخام وهي شبه الحياض كثيرة تملأ للناس، وأخر للدواب، وأخر للبقر،
وأخر للغنم. والقوام يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون، ولم يكن لهم ماء غيرها. وطال
عمر الملك الذي أمروه، فلما جاءه الموت طلى بدهن لتبقى صورته لا تتغير، وكذلك كانوا
يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم. فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن
أمرهم فسد، وضجوا جميعا بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته
بأيام كثيرة، فكلمهم وقال: إني لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم، ففرحوا
أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف
الموت في صورته. فنصبوا صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب. وأخبرهم أنه
لا يموت أبدا وأنه إلههم (1)، فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم وارتاب
بعضهم، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر.
فأصفقوا (2) على عبادته، فبعث الله إليهم نبيا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة، كان اسمه

(1) في ب وك: وأنه إله لهم.
(2) أصفقوا على الامر: اجتمعوا عليه.
75

حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم، وأن
الله لا يتمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله، ووعظهم ونصحهم وحذرهم
سطوة ربهم ونقمته، فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة، حتى قتلوه
في السوق وطرحوه في بئر، فعند ذلك أصابتهم النقمة، فباتوا شباعا رواء من الماء وأصبحوا
والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وضجت البهائم
عطشا، حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك، وخلفتهم في أرضهم السباع، وفى منازلهم الثعالب
والضباع، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر (1) وشوك العضاه (2) والقتاد (3)، فلا يسمع فيها
إلا عزيف الجن وزئير الأسد، نعوذ بالله من سطواته، ومن الاصرار على ما يوجب نقماته.
قال السهيلي. وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله -
فيما ذكروا وزعموا - وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس، وإقفاره
بعد العمران، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال، لما يسمع فيه من عزيف
الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادوا
وما عادوا، فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة، وذكرا وتحذيرا من مغبة
المعصية وسوء عاقبة المخالفة، نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل. وقيل: إن
الذي أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة " الأنبياء " في قوله: " وكم قصمنا من قرية " (4) [الأنبياء: 11].
فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم.
قوله تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها
أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب
التي في الصدور (46)

(1) السدر من الشجر، وهو سدران: أحدهما بري لا ينتفع بثمره ولا يصلح ورقه للغسول ثمره عفص لا يسوغ
في الخلق، والعرب تسميه الضال. والسدر الثاني: ينبت الماء وثمره النبق وورقه غسول.
(2) العضاه:
كل شجر يعظم وله شوك، واحدها عضاهة وعضهة وعضة.
(3) القتاد: شجر صلب له شوك كالإبر.
(4) راجع ج 11 ص 274.
76

قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض) يعنى كفار مكة فيشاهدوا هذه القرى
فيتعظوا، ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن قبلهم. (فتكون لهم قلوب يعقلون
بها) أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محله الاذن. وقد قيل: إن العقل محله
الدماغ، وروى عن أبي حنيفة، وما أراها عنه صحيحة. (فإنها لا تعمى الابصار) قال
الفراء: الهاء عماد، ويجوز أن يقال فإنه، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، والمعنى واحد،
التذكير على الخبر، والتأنيث على الابصار أو القصة، أي فإن الابصار لا تعمى، أو فإن
القصة. (لا تعمى الابصار) أي أبصار العيون ثابتة لهم. (ولكن تعمى القلوب التي
في الصدور) أي عن درك الحق والاعتبار. وقال قتادة: البصر الناظر جعل بلغة ومنفعة،
والبصر النافع في القلب. وقال مجاهد: لكل عين أربع أعين، يعنى لكل إنسان أربع أعين:
عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لاخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه
فلم يضره عماه شيئا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا. وقال
قتادة وابن جبير: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى. قال ابن عباس ومقاتل:
لما نزل: " ومن كان في هذه أعمى " (1) [الاسراء: 72] قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، فأنا في الدنيا
أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت: " فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي
في الصدور ". أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الاسلام فهو في الآخرة في النار).
قوله تعالى: ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما
عند ربك كألف سنة مما تعدون (47)
قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب) نزلت في النضر بن الحارث، وهو قوله:
" فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " (2) [الأعراف: 70]. وقيل: نزلت في أبى جهل بن هشام،
وهو قوله: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " (2) [الأنفال: 32]. (ولن يخلف الله وعده) أي
في إنزال العذاب. قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعملهم الله أنه لا يفوته شئ، وقد نزل
بهم في الدنيا يوم بدر.

(1) راجع ج 10 ص 298.
(2) راجع ج 7 ص 237 وص 398.
77

قوله تعالى: (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) قال ابن عباس ومجاهد:
يعنى من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض. عكرمة: يعنى من أيام الآخرة، أعلمهم
الله إذ استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة أنه يأتيهم به في أيام طويلة. قال الفراء: هذا
وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة، أي يوم من الأيام عذابهم في الآخرة ألف سنة. وقيل:
المعنى وإن يوما في الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سنى الدنيا فيها خوف وشدة،
وكذلك يوم النعيم قياسا. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: " مما يعدون " بالياء المثناة
تحت، واختاره أبو عبيد لقوله: " ويستعجلونك ". والباقون بالتاء على الخطاب،
واختاره أبو حاتم.
قوله تعالى: وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها
وإلى المصير (48)
قوله تعالى: (وكأين من قرية أمليت لها) أي أمهلتها مع عتوها. (ثم أخذتها)
أي بالعذاب. (وإلى المصير).
قوله تعالى: قل يا أيها الناس إنما إنا لكم نذير مبين (49)
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم (50)
والذين
سعوا في آياتنا معجزين أولئك أصحاب الجحيم (51)
قوله تعالى: (قل يا أيها الناس) يعنى أهل مكة. (إنما أنا لكم نذير) أي منذر
مخوف. وقد تقدم في البقرة الانذار (1) في أولها. (مبين) أي أبين لكم ما تحتاجون إليه من
أمر دينكم. (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم) يعنى الجنة.
(والذين سعوا في آياتنا) أي في إبطال آياتنا. (معاجزين) أي مغالبين مشاقين، قاله
ابن عباس. الفراء: معاندين. وقال عبد الله بن الزبير: مثبطين عن الاسلام. وقال

(1) راجع ج 1 ص 184.
78

الأخفش: معاندين مسابقين. الزجاج: أي ظانين أنهم يعجزوننا لأنهم ظنوا أن لا بعث،
وظنوا أن الله لا يقدر عليهم، وقاله قتادة. وكذلك معنى قراءة ابن كثير وأبى عمرو
" معجزين " بلا ألف مشددا. ويجوز أن يكون معناه أنهم يعجزون المؤمنين في الايمان
بالنبي عليه السلام وبالآيات، قاله السدى. وقيل: أي ينسبون من اتبع محمدا صلى الله عليه
وسلم إلى العجز، كقولهم: جهلته وفسقته. (أولئك أصحاب الجحيم).
قوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى
ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله
آياته والله عليم حكيم (52)
فيه ثلاث مسائل:
الأولى - قوله تعالى: " تمنى " أي قرأ وتلا. و (ألقى الشيطان في أمنيته) أي قراءته
وتلاوته. وقد تقدم في البقرة (1). قال ابن عطية: وجاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ:
" وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث " ذكره مسلمة بن القاسم بن عبد الله،
ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس. قال مسلمة: فوجدنا المحدثين (2) معتصمين
بالنبوة - على قراءة ابن عباس - لأنهم تكلموا بأمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا
بالحكمة الباطنة فأصابوا فيما تكلموا وعصموا فيما نطقوا، كعمر بن الخطاب في قصة سارية (3)،
وما تكلم به من البراهين العالية.

(1) راجع ج 2 ص 5.
(2) المحدثون (بفتح الدال وتشديدها) قال ابن الأثير: إنهم
الملهمون، والملهم هم الذي يلقى في نفسه الشئ فيخبر به حدسا وفراسة، وهو نوع يختص به الله عز وجل من يشاء من
عباده الذين اصطفى مثل عمر، كأنهم حدثوا بشئ فقالوه.
(3) هو سارية بن زنيم بن عبد الله. وكان من
قصته أن عمر رضي الله عنه أمره على جيش وسيره إلى فارس سنة ثلاث وعشرين، فوقع في خاطر سيدنا عمر وهو يخطب
يوم الجمعة أن الجيش المذكور لاقى العدو وهم في بطن واد وقد هموا بالهزيمة، وبالقرب منهم جبل، فقال في أثناء
خطبته: يا سارية، الجبل الجبل! ورفع صوته، فألقاه الله في سمع سارية فانحاز بالناس إلى الجبل وقاتلوا العدو من جانب
واحد، ففتح الله عليهم. (راجع ترجمته في كتب الصحابة).
79

قلت: وقد ذكر هذا الخبر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد له، وقد حدثني أبي رحمه الله
حدثنا على بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ
" وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث " قال أبو بكر: فهذا حديث لا يؤخذ به
على أن ذلك قرآن. والمحدث هو الذي يوحى إليه في نومه، لان رؤيا الأنبياء وحى.
الثانية - قال العلماء: إن هذه الآية مشكلة من جهتين: إحداهما - أن قوما
يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين. وغيرهم يذهب إلى أنه
لا يجوز أن يقال نبي حتى يكون مرسلا. والدليل على صحة هذا قوله تعالى: " وما أرسلنا
من قبلك من رسول ولا نبي " فأوجب للنبي صلى الله عليه وسلم الرسالة. وأن معنى " نبي " أنبأ
عن الله عز وجل، ومعنى أنبأ عن الله عز وجل الارسال بعينه. وقال الفراء: الرسول الذي
أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل عليه السلام إليه عيانا، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما
أو مناما، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. قال المهدوي: وهذا هو الصحيح، أن أ كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا قال:
والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، واحتج بحديث
أبي ذر، وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
والجهة الأخرى التي فيها الاشكال وهي:
الثالثة - الأحاديث المروية في نزول هذه الآية، وليس منها شئ يصح. وكان
مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم: حق الأنبياء ألا يعجزوا عن شئ، فلم لا يأتينا محمد
بالعذاب وقد بالغنا في عداوته؟ وكانوا يقولون أيضا: ينبغي ألا يجرى عليهم سهو وغلط،
فبين الرب سبحانه أنهم بشر، والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر
السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان. روى الليث عن يونس
عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: قرأ رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " والنجم إذا هوى " [النجم: 1] فلما بلغ " أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى " (2)
[النجم: 19 - 20]

(1) في ج: حديث حسن.
(2) راجع ج 17 ص 99.
80

سها فقال: (إن شفاعتهم ترتجى) فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه
وفرحوا، فقال: (إن ذلك من الشيطان) فأنزل الله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من
رسول ولا نبي " الآية. قال النحاس: وهذا حديث منقطع وفيه هذا الامر العظيم. وكذا
حديث قتادة وزاد فيه (وإنهن لهن (1) الغرانيق العلا). وأفظع (2) من هذا ما ذكره الواقدي عن
كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال: سجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة فإنه
أخذ ترابا من الأرض فرفعه إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخا كبيرا. ويقال: إنه أبو أحيحة
سعيد بن العاص، حتى نزل جبريل عليه السلام فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له:
(ما جئتك به)! وأنزل الله: " لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " (3) [الاسراء: 74]. قال النحاس: وهذا
حديث منكر منقطع ولا سيما من حديث الواقدي. وفى البخاري أن الذي أخذ قبضة من تراب
ورفعها إلى جبهته هو أمية بن خلف. وسيأتي تمام كلام النحاس على الحديث - إن شاء الله -
آخر الباب. قال ابن عطية: وهذا الحديث الذي فيه هي الغرانيق العلا وقع في كتب التفسير
ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور، بل يقتضى مذهب
أهل الحديث أن الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره. ولا خلاف أن إلقاء
الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة. ثم اختلف الناس في صورة هذا الالقاء،
فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ على
لسانه. وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا
لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ، وإنما الامر أن الشيطان نطق
بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة
الأخرى (4) " [النجم: 19 - 20] وقرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الامر على المشركين،
وقالوا: محمد قرأها. وقد روى نحو هذا التأويل عن الامام أبى المعالي. وقيل: الذي ألقى
شيطان الانس، كقوله عز وجل: " والغوا فيه (5) " [فصلت: 26]. قتادة: هو ما تلاه ناعسا.

(1) في ك: لمن.
(2) كذا في ب.
(3) راجع ج 10 ص 300.
(4) راجع ج 17 ص 99.
(5) راجع ج 15 ص 355 فما بعد.
81

وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي صلى الله عليه
وسلم، وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الاخبار عن شئ بخلاف
ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا أو غلطا: اعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل
هذا الحديث مأخذين: أحدهما - في توهين أصله، والثاني على تسليمه. أما المأخذ الأول
فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند [صحيح (1)] سليم متصل
ثقة، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من
الصحف كل صحيح وسقيم. قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره، إلا ما رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد
ابن جبير عن ابن عباس فيما أحسب، والشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة...
وذكر القصة. ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير.
وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه
لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه
الذي ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه
ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار رحمه الله. والذي منه في الصحيح: أن النبي
صلى الله عليه وسلم قرأ: " والنجم " بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس،
هذا توهينه من طريق النقل.
وأما المأخذ الثاني فهو مبنى على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن
على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة، منها الغث والسمين. والذي يظهر
ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن
ترتيلا، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته، كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك
السكتات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث
يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأشاعوها.

(1) من ك.
82

ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال
النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه، فيكون ما روى من حزن النبي
صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى: " وما أرسلنا
من قبلك من رسول ولا نبي (1) " الآية.
قلت: وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا. وقد قال سليمان بن حرب: إن " في "
بمعنى عنده، أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله
عز وجل: " ولبثت فينا (2) " [الشعراء: 18] أي عندنا. وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن
علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي، وقال قبله: إن هذه الآية نص
في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه
أنه قاله، وذلك أن الله تعالى قال: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى
ألقى الشيطان في أمنيته " أي في تلاوته. فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه
إذا قالوا عن الله تعالى قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي. تقول:
ألقيت في الدار كذا، وألقيت في الكيس كذا، فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قاله
النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به. ثم ذكر معنى كلام عياض
إلى أن قال: وما هدى لهذا إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه في العلم، وشدة
ساعده في النظر، وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوب على هذا المرمى، وقرطس بعدما ذكر
في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها،
ولكنه فعال لما يريد.
وأما غيره من التأويلات مما حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى قال كذا فهو محال،
إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الانسان الاختيار، قال الله تعالى مخبرا عنه: " وما كان لي
عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي (3) " [إبراهيم: 22]، ولو كان للشيطان هذه القدرة لما بقى لاحد

(1) راجع كتاب الشفا للقاضي عياض ج 2 ص 116، 131 طبع الآستانة.
(2) راجع ج 13 ص 93.
(3) راجع ج 9 ص 356.
83

من بني آدم قوة في طاعة، ومن توهم أن للشيطان هذه القوة فهو قول الثنوية والمجوس في أن
الخير من الله والشر من الشيطان. ومن قال جرى ذلك على لسانه سهوا قال: لا يبعد أنه
كان سمع الكلمتين من المشركين وكانتا على حفظه فجرى عند قراءة السورة ما كان في حفظه
سهوا، وعلى هذا يجوز السهو عليهم ولا يقرون عليه، وأنزل الله عز وجل هذه الآية تمهيدا
لعذره وتسلية له، لئلا يقال: إنه رجع عن بعض قراءته، وبين أن مثل هذا جرى على الأنبياء
سهوا، والسهو إنما ينتفى عن الله تعالى، وقد قال ابن عباس: إن شيطانا يقال له الأبيض
كان قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل عليه السلام وألقى في قراءة النبي
صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترتجي. وهذا التأويل وإن كان أشبه
مما قبله فالتأويل الأول عليه المعول، فلا يعدل عنه إلى غيره لاختيار العلماء المحققين إياه،
وضعف الحديث مغن عن كل تأويل، والحمد لله. ومما يدل على ضعفه أيضا وتوهينه
من الكتاب قوله تعالى: " وإن كادوا ليفتنونك (1) " [الاسراء: 73] الآيتين، فإنهما تردان الخبر الذي رووه،
لان الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبته لكان يركن إليهم.
فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفترى وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا
فكيف كثيرا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه
قال عليه الصلاة والسلام: افتريت على الله وقلت ما لم يقل. وهذا ضد مفهوم الآية، وهي
تضعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له. وهذا مثل قوله تعالى: " ولولا فضل الله عليك
ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ " (2) [النساء: 113].
قال القشيري: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه
بالايمان به إن فعل ذلك، فما فعل! ولا كان ليفعل! قال ابن الأنباري: ما قارب الرسول
ولا ركن. وقال الزجاج: أي كادوا، ودخلت إن واللام للتأكيد. وقد قيل: إن معنى
" تمنى " حدث، لا " تلا ". روى عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل:
(إلا إذا تمنى) قال: إلا إذا حدث " ألقى الشيطان في أمنيته) قال: في حديثه (فينسخ

(1) راجع ج 10 ص 299.
(2) راجع ج 5 ص 381 فما بعد.
84

الله ما يلقى الشيطان) قال: فيبطل الله ما يلقى الشيطان. قال النحاس: وهذا من أحسن
ما قيل في الآية وأعلاه وأجله. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل بمصر صحيفة في التفسير،
رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا. والمعنى عليه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة
فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون، ويعلم الله عز وجل أن الصلاح
في غير ذلك، فيبطل ما يلقى الشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وحكى الكسائي
والفراء جميعا: " تمنى " إذا حدث نفسه، وهذا هو المعروف في اللغة. وحكيا أيضا " تمنى "
إذا تلا. وروى عن ابن عباس أيضا وقاله مجاهد والضحاك وغيرهما. وقال أبو الحسن
ابن مهدي: ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شئ، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا صفرت يداه من المال، ورأى ما بأصحابه من سوء الحال، تمنى الدنيا بقلبه ووسوسة
الشيطان. وذكر المهدوي عن ابن عباس أن المعنى: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه،
وهو اختيار الطبري.
قلت: قوله تعالى: " ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة " الآية، يرد حديث النفس، وقد
قال ابن عطية: لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة،
فالله أعلم. قال النحاس: ولو صح الحديث واتصل إسناده لكان المعنى فيه صحيحا، ويكون
معنى سها أسقط، ويكون تقديره: أفرأيتم اللات والعزى، وتم الكلام، ثم أسقط (والغرانيق
العلا) يعنى الملائكة (فإن شفاعتهم) يعود الضمير على الملائكة. وأما من روى: فإنهن
الغرانيق العلا، ففي روايته أجوبة، منها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء
كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخا، لان قبله " أفرأيتم " ويكون هذا
احتجاجا عليهم، فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة. وقد روى في هذه
القصة أنه كان مما يقرأ: أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. والغرانقة العلا. وأن
شفاعتهن لترتجي. روى معناه عن مجاهد. وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلا الملائكة، وبهذا فسر
الكلبي الغرانقة أنها الملائكة. وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون [أن] الأوثان والملائكة بنات
85

الله، كما حكى الله تعالى عنهم، ورد عليهم في هذه السورة بقوله: " ألكم الذكر وله الأنثى " (1) فأنكر
الله كل هذا من قولهم. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح، فلما تأوله المشركون على أن المراد
بهذا الذكر آلهتهم ولبس عليهم الشيطان بذلك، نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته،
ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس، كما نسخ كثير من القرآن،
ورفعت تلاوته. قال القشيري: وهذا غير سديد، لقوله: " فينسخ الله ما يلقى الشيطان "
أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة. (والله عليم حكيم) " عليم " بما أوحى إلى نبيه
صلى الله عليه وسلم. " حكيم " في خلقه.
قوله تعالى: (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة) أي ضلالة. (للذين في قلوبهم مرض)
أي شرك ونفاق. (والقاسية قلوبهم) فلا تلين لأمر الله تعالى. قال الثعلبي: وفي الآية
دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان والغلط بوسواس الشيطان أو عند شغل القلب
حتى يغلط، ثم ينبه ويرجع إلى الصحيح، وهو معنى قوله: " فينسخ الله ما يلقى الشيطان
ثم يحكم الله آياته ". ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما يضاف إليه
من قولهم: تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، لان فيه تعظيم الأصنام،
ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن ثم ينشد شعرا ويقول: غلطت
وظننته قرآنا. (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) أي الكافرين لفي خلاف وعصيان ومشاقة
لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم في " البقرة (2) " والحمد لله وحده.
قوله تعالى: وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به
فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم (54)

(1) راجع ج 17 ص 102.
(2) راجع ج 2 ص 143.
86

قوله تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم) أي من المؤمنين. وقيل: أهل الكتاب.
(أنه) أي أن الذي أحكم من آيات القرآن هو (الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له
قلوبهم) أي تخشع وتسكن. وقيل: تخلص. (وإن الله لهادي الذين آمنوا) قرأ
أبو حياة: " وإن الله لهاد الذين آمنوا " بالتنوين. (إلى صراط مستقيم) أي يثبتهم على الهداية.
قوله تعالى: ولا يزال كفروا في مرية منه حتى تأتيهم
الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم (55)
قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) يعنى في شك من القرآن، قاله
ابن جريج. وغيره: من الدين، وهو الصراط المستقيم. وقيل: مما ألقى الشيطان على
لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون: ما باله ذكر الأصنام بخير ثم ارتد عنها. وقرأ
أبو عبد الرحمن السلمي: " في مرية " بضم الميم. والكسر أعرف، ذكره النحاس. (حتى
تأتيهم الساعة) أي القيامة. (بغتة) أي فجأة. (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) قال
الضحاك: عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة. النحاس: سمى يوم القيامة عقيما لأنه
ليس يعقب بعده يوما مثله، وهو معنى قول الضحاك. والعقيم في اللغة عبارة عمن لا يكون
له ولد، ولما كان الولد يكون بين الأبوين وكانت الأيام تتوالى قبل وبعد، جعل الاتباع
فيها بالبعدية كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم. وقال ابن عباس
ومجاهد وقتادة: المراد عذاب يوم بدر، ومعنى عقيم لا مثل له في عظمه، لان الملائكة
قاتلت فيه. ابن جريج: لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء فصار يوما
لا ليلة له. وكذلك يكون معنى قول الضحاك أنه يوم القيامة، لأنه لا ليلة له. وقيل:
لأنه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وكان عقيما من كل خير، ومنه قوله تعالى: " إذ أرسلنا
عليهم الريح العقيم (1) " [الذاريات: 41] أي التي لا خير فيها ولا تأتى بمطر ولا رحمة.

(1) راجع ج 17 ص 50.
87

قوله تعالى: الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا
الصالحات في جنت النعيم (56) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
فأولئك لهم عذاب مهين (57).
قوله تعالى: (الملك يومئذ لله يحكم بينهم) يعنى يوم القيامة هو لله وحده لا منازع
له فيه ولا مدافع. والملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور. ثم بين حكمه فقال:
(فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم
عذاب مهين).
قلت: وقد يحتمل أن تكون الإشارة ب‍ " يومئذ " ليوم بدر، وقد حكم فيه بإهلاك
الكافر وسعادة المؤمن، وقد قال عليه السلام لعمر: (وما يدريك لعل الله اطلع على
أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
قوله تعالى: والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم
الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين (58) ليدخلنهم مدخلا
يرضونه وإن الله لعليم حليم (59)
أفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقتلوا تفضيلا لهم وتشريفا على سائر الموتى.
وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد
قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية
مسوية بينهم، وأن الله يرزق جميعهم رزقا حسنا. وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول
أفضل. وقد قال بعض أهل العلم: إن المقتول في سبيل الله والميت في سبيل الله شهيد،
ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله. وقال بعضهم: هما سواء، واحتج بالآية،
وبقوله تعالى: " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع
88

أجره على الله " (1) [النساء: 100]، وبحديث أم حرام، فإنها صرعت عن دابتها فماتت ولم تقتل فقال لها النبي
صلى الله عليه وسلم: (أنت من الأولين)، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله
ابن عتيك: (من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله فخر عن دابته فمات أو لدغته حية
فمات أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ومن مات قعصا (2) فقد استوجب المآب).
وذكر ابن المبارك عن فضالة بن عبيد في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غزاة
بمنجنيق فمات والاخر مات هناك، فجلس فضالة عند الميت فقيل له: تركت الشهيد ولم تجلس
عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، ثم تلا قوله تعالى: " والذين هاجروا
في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا " الآية كلها. وقال سليمان بن عامر: كان فضالة برودس أميرا
على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين: أحدهما قتيل والاخر متوفى، فرأى ميل الناس مع جنازة
القتيل إلى حفرته، فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل! فوالذي نفسي بيده ما أبالي
من أي حفرتيهما بعثت، اقرأوا قوله تعالى: " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا
أو ماتوا ". كذا ذكره الثعلبي في تفسيره، وهو معنى ما ذكره ابن المبارك. واحتج من قال:
إن للمقتول زيادة فضل بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الجهاد
أفضل؟ قال: (من أهريق دمه وعقر جواده). وإذا كان من أهريق دمه وعقر جواده
أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة مفضول. قرأ ابن عامر وأهل الشام: " قتلوا "
بالتشديد على التكثير. الباقون بالتخفيف. (ليدخلنهم مدخلا يرضونه) أي الجنان.
قراءة أهل المدينة " مدخلا " بفتح الميم، أي دخولا. وضمها الباقون، وقد مضى
في " سبحان (3) ". (وإن الله لعليم حليم) قال ابن عباس: عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم.
قوله تعالى: ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه
لينصرنه الله إن الله لعفو غفور (60)

(1) راجع ج 5 ص 347 فما بعد.
(2) القعص: أن يضرب الانسان فيموت مكانه.
وأراد بوجوب المآب حسن المرجع بعد الموت.
(3) راجع ج 10 ص 313.
89

قوله تعالى: ((ذلك ومن عاقب) " ذلك " في موضع رفع، أي ذلك الامر الذي
قصصنا عليك. قال مقاتل: نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين
بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم،
فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا القتال، فحملوا عليهم
فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين، وحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر
الحرام شئ، فنزلت هذه الآية. وقيل: نزلت في قوم من المشركين، مثلوا بقوم من
المسلمين قتلوهم يوم أحد فعاقبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله. فمعنى " من عاقب بمثل
ما عوقب به " أي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، فسمى جزاء العقوبة عقوبة لاستواء
الفعلين في الصورة، فهو مثل: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (1) [الشورى: 40]. ومثل: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (2) [البقرة: 194]. وقد تقدم. (ثم بغى عليه) أي بالكلام والازعاج من وطنه،
وذلك أن المشركين كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به وأخرجوه وأخرجوهم من مكة، وظاهروا على
إخراجهم. (لينصرنه الله) أي لينصرن الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن الكفار
بغوا عليهم. (إن الله لعفو غفور) أي عفا عن المؤمنين ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام وستر.
قوله تعالى ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار
في الليل وأن الله سميع بصير (61)
قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار) أي ذلك الذي قصصت عليك من
نصر المظلوم هو بأنى أنا الذي أولج الليل في النهار فلا يقدر أحد على ما أقدر عليه، أي من
قدر على هذا قدر على أن ينصر عبده. وقد مضى في " آل عمران " معنى يولج الليل في النهار (3).
(وأن الله سميع بصير) يسمع الأقوال ويبصر الافعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ولا دبيب
نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها.

(1) راجع ج 16 ص 38 فما بعد.
(2) راجع ج 2 ص 354.
(3) راجع ج 4 ص 56.
90

قوله تعالى: ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه
هو البطل وأن الله هو العلى الكبير (62)
قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق) أي ذو الحق، فدينه الحق وعبادته حق.
والمؤمنون يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق. (وأن ما يدعون من دونه هو الباطل)
أي الأصنام التي لا استحقاق لها في العبادات. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر
" وأن ما تدعون " بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم. الباقون بالياء على الخبر هنا
وفي لقمان (1)، واختاره أبو عبيد. (وأن الله هو العلى) أي العالي على كل شئ بقدرته، والعالي
عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. (الكبير)
أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن. وقيل: الكبير ذو الكبرياء والكبرياء عبارة
عن كمال الذات، أي له الوجود المطلق أبدا وأزلا، فهو الأول القديم، والاخر الباقي بعد فناء خلقه.
قوله تعالى: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض
مخضرة إن الله لطيف خبير (63)
قوله تعالى: (ألم تر أن الله من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة) دليل على كمال
قدرته، أي من قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت، كما قال الله عز وجل:
" فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت (2) " [فصلت: 39]. ومثله كثير. " فتصبح " ليس بجواب فيكون
منصوبا، وإنما هو خبر عند الخليل وسيبويه. قال الخليل: المعنى انتبه! أنزل الله من
السماء ماء فكان كذا وكذا، كما قال:
ألم تسأل الربع القواء فينطق * وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق (3)

(1) راجع ج 14 ص 78.
(2) راجع ص 6 من هذا الجزء.
(3) البيت لجميل بن عبد الله
صاحب بثينة. والقواء (بفتح القاف): القفر. والبيداء: القفر أيضا، الذي يبيد من سلك فيه. والسملق
(بفتح السين وسكون الميم وفتح اللام): الأرض التي لا تنبت، وهي السهلة المستوية. (شواهد العبنى).
91

معناه قد سألته فنطق. وقيل استفهام تحقيق، أي قد رأيت، فتأمل كيف تصبح! أو عطف
لان المعنى ألم تر أن الله ينزل. وقال الفراء: " ألم تر " خبر، كما تقول في الكلام: اعلم
أن الله عز وجل ينزل من السماء ماء. (فتصبح الأرض مخضرة) أي ذات خضرة،
كما تقول: مبقلة ومسبعة، أي ذات بقل وسباع. وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء
بالنبات واستمرارها كذلك عادة. قال ابن عطية: وروى عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكون
إلا بمكة وتهامة. ومعنى هذا: أنه أخذ قوله: " فتصبح " مقصودا به صباح ليلة المطر
وذهب إلى أن ذلك الاخضرار يتأخر في سائر البلاد، وقد شاهدت هذا بسوس الأقصى
نزل المطر ليلا بعد قحط أصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات
ضعيف رقيق. (إن الله لطيف خبير) قال ابن عباس: " خبير " بما ينطوي عليه العبد
من القنوط عند تأخير المطر. " لطيف " بأرزاق عباده. وقيل: " لطيف " باستخراج
النبات من الأرض، " خبير " بحاجتهم وفاقتهم. قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو
الغنى الحميد (64)
قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض) خلقا وملكا، وكل محتاج إلى
تدبيره وإتقانه. (وإن الله لهو الغنى الحميد) فلا يحتاج إلى شئ، وهو المحمود في كل حال.
قوله تعالى: ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجرى
في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه
إن الله بالناس لرءوف رحيم (65)
قوله تعالى: (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض) ذكر نعمة أخرى، فأخبر أنه
سخر لعباده ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار. (والفلك) أي وسخر لكم الفلك
في حال جريها. وقرأ أبو عبد الرحمن الأعرج: " والفلك " رفعا على الابتداء وما بعده خبره.
92

الباقون بالنصب نسقا على قوله: " ما في الأرض ". (ويمسك السماء إن تقع على الأرض)
أي كراهية أن تقع. وقال الكوفيون: لئلا تقع. وإمساكه لها خلق السكون فيها حالا بعد
حال. (إلا بإذنه) أي إلا بإذن الله لها بالوقوع، فتقع بإذنه، أي بإرادته وتخليته (1).
(إن الله بالناس لرءوف رحيم) أي في هذه الأشياء التي سخرها لهم.
قوله تعالى: وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الانسان
لكفور (66)
قوله تعالى: (وهو الذي أحياكم) أي بعد أن كنتم نطفا. (ثم يميتكم) عند انقضاء
آجالكم. (ثم يحييكم) أي للحساب والثواب والعقاب. (إن الانسان لكفور) أي
لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته. قال ابن عباس: يريد الأسود
ابن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام وجماعة من المشركين. وقيل: إنما
قال ذلك لان الغالب على الانسان كفر النعم، كما قال تعالى: " وقليل من عبادي الشكور (2) " [سبأ: 13].
قوله تعالى: لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينزعنك
في الامر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم (67)
قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكا) أي شرعا. (هم ناسكوه) أي عاملون به.
(فلا ينازعنك في الامر) أي لا ينازعنك أحد منهم فيما يشرع لأمتك، فقد كانت الشرائع
في كل عصر. وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح،
وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة، فكان ما قتل الله أحق أن
تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم، فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة. وقد مضى هذا
في " الانعام (3) " والحمد لله. وقد تقدم في هذه السورة ما للعلماء في قوله تعالى: " منسكا (4) " [الحج: 34].
وقوله: " هم ناسكوه " يعطى أن المنسك المصدر، ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه.

(1) كذا في ب وط وك وى. وفى أ وج‍: بحيلنه.
(2) راجع ج 14 ص 276.
(3) راجع ج 7 ص 72.
(4) ص 58 من هذا الجزء.
93

وقال الزجاج: " فلا ينازعنك في الامر " أي فلا يجادلنك، ودل على هذا " وإن
جادلوك ". ويقال: قد نازعوه فكيف قال فلا ينازعنك، فالجواب أن المعنى فلا تنازعهم
أنت. نزلت الآية قبل الامر بالقتال، تقول: لا يضاربنك فلان فلا تضاربه أنت، فيجرى
هذا في باب المفاعلة. ولا يقال: لا يضربنك زيد وأنت تريد لا تضرب زيدا. وقرأ
أبو مجلز: " فلا ينزعنك في الامر " أي لا يستخفنك (1) ولا يغلبنك عن دينك. وقراءة الجماعة
من المنازعة. ولفظ النهى في القراءتين للكفار، والمراد النبي صلى الله عليه وسلم. (وادع
إلا ربك) أي إلى توحيده ودينه والايمان به. (إنك لعلى هدى) أي دين. (مستقيم)
أي قويم لا اعوجاج فيه.
قوله تعالى: وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون (68)
الله يحكم بينكم يوم القيمة فيما كنتم فيه تختلفون (69).
قوله تعالى: (وإن جادلوك) أي خاصموك يا محمد، يريد مشركي مكة. (فقل الله
أعلم بما تعملون) يريد من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس. وقال
مقاتل: هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء وهو في السماء السابعة
لما رأى من آيات ربه الكبرى، فأوحى الله إليه: " وإن جادلوك " بالباطل فدافعهم بقولك:
" الله أعلم بما تعملون " من الكفر والتكذيب، فأمره الله تعالى بالاعراض عن مماراتهم
صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم، ولا جواب لصاحب العناد. (الله يحكم بينكم يوم القيامة)
يريد بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه. (فيما كنتم فيه تختلفون) يريد في خلافكم آياتي،
فتعرفون حينئذ الحق من الباطل.
مسألة - في هذه الآية أدب حسن علمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب
ولا يناظر ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن هذه الآية
منسوخة بالسيف، يعنى السكوت عن مخالفه والاكتفاء بقوله: " الله يحكم بينكم ".

(1) كذا في أ وب وج‍ وط وك وى.
94

قوله تعالى: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض
إن ذلك في كتب إن ذلك على الله يسير (70)
قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض) أي وإذ قد علمت يا محمد
هذا وأيقنت فاعلم أنه يعلم أيضا ما أنتم مختلفون فيه فهو يحكم بينكم. وقد قيل: إنه استفهام
تقرير للغير. (إن ذلك في كتاب) أي ما يجرى في العالم فهو مكتوب عند الله في أم
الكتاب. (إن ذلك على الله يسير) أي إن الفصل بين المختلفين على الله يسير. وقيل:
المعنى إن كتاب القلم الذي أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة على الله يسير.
قوله تعالى: ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطنا
وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير (71)
قوله تعالى: (ويعبدون) يريد كفار قريش. (من دون الله ما لم ينزل به سلطانا)
أي حجة وبرهانا، وقد تقدم في " آل عمران " (1). (وما ليس لهم به علم وما للظالمين من
نصير).
قوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينت تعرف في وجوه
الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا
قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس
المصير (72).
قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) يعنى القرآن. تعرف في وجوه
الذين كفروا المنكر) أي الغضب والعبوس. (يكادون يسطون) أي يبطشون. والسطوة
شدة البطش، يقال: سطابه يسطو إذا بطش به، كان ذلك بضرب أو بشتم، وسطا

(1) راجع ج 4 ص 232.
95

عليه. (بالذين يتلون عليهم آياتنا) وقال ابن عباس: يسطون يبسطون إليهم أيديهم.
محمد بن كعب: أي يقعون بهم. الضحاك: أي يأخذونهم أخذا باليد، والمعنى واحد.
وأصل السطو القهر. والله ذو سطوات، أخذات شديدة. (قل أفأنبئكم بشر من
ذلكم النار) أي أكره من هذا القرآن الذي تسمعون هو النار. فكأنهم قالوا: ما الذي
هو شر، فقيل هو النار. وقيل: أي هل أنبئكم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم هو النار،
فيكون هذا وعيدا لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن. ويجوز في " النار " الرفع والنصب
والخفض، فالرفع على هو النار، أو هي النار. والنصب بمعنى أعني، أو على إضمار فعل مثل
الثاني، أو يكون محمولا على المعنى، أي أعرفكم بشر من ذلكم النار. والخفض على البدل.
(وعدها الله الذين كفروا) في القيامة. (وبئس المصير) أي الموضع الذي يصيرون
إليه وهو النار.
قوله تعالى: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين
تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم
الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73)
قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) هذا متصل بقوله: " ويعبدون
من دون الله ما لم ينزل به سلطانا ". وإنما قال: " ضرب مثل " لان حجج الله تعالى
عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم. فإن قيل: فأين المثل المضروب، ففيه وجهان:
الأول - قال الأخفش: ليس ثم مثل، وإنما المعنى ضربوا لله مثلا فاستمعوا قولهم، يعنى
أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره، فكأنه قال جعلوا لي شبيها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا
الشبيه. الثاني - قول القتبي: وأن المعنى يا أيها الناس، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق
ذبابا وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه. وقال النحاس: المعنى ضرب الله
عز وجل ما يعبد من دونه مثلا، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه، أي بين الله لكم شبها
96

ولمعبودكم. (إن الذين تدعون من دون الله) قراءة العامة " تدعون " بالتاء. وقرأ السلمي
وأبو العالية ويعقوب: " يدعون " بالياء على الخبر. والمراد الأوثان الذين عبدوهم من دون
الله، وكانت حول الكعبة (1)، وهي ثلاثمائة وستون صنما. وقيل: السادة الذين صرفوهم عن
طاعة الله عز وجل. وقيل: الشياطين حملوهم على معصية الله تعالى، والأول أصوب.
(لن يخلقوا ذبابا) الذباب اسم واحد للذكر والأنثى، والجمع القليل أذبة والكثير ذبان،
على مثل غراب وأغربة وغربان، وسمى به لكثرة حركته. الجوهري: والذباب معروف
الواحدة ذبابة، ولا تقل ذبانة. والمذبة ما يذب به الذباب. وذباب أسنان الإبل حدها.
وذباب السيف طرفه الذي يضرب به. وذباب العين إنسانها. والذبابة البقية من الدين.
وذبب النهار إذا لم يبق منه إلا بقية. والتذبذب التحرك. والذبذبة نوس الشئ المعلق
في الهواء. والذبذب الذكر لتردده. وفي الحديث (من وقى شر ذبذبه). [وهذا مما
لم يذكره، أعني قوله: وفي الحديث (2)]. (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه)
الاستنقاذ والانقاذ التخليص. قال ابن عباس: كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فتجف
فيأتي فيختلسه. وقال السدى: كانوا يجعلون للأصنام طعاما فيقع عليه الذباب فيأكله.
(ضعف الطالب والمطلوب) قيل: الطالب الالهة والمطلوب الذباب. وقيل بالعكس.
وقيل: الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم، فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه،
والصنم المطلوب إليه. وقد قيل: " وإن يسلبهم الذباب شيئا " راجع إلى ألمه في قرص (3)
أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لهم والوقار معها. وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته
وضعفه ولاستقذاره وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من
عبدوه من دون الله عز وجل على خلق مثله ودفع أذيته فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين
وأربابا مطاعين. وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان.
قوله تعالى: ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز (74)

(1) في ك: حول البيت.
(2) ما نقله المؤلف رحمه الله عن الجوهري مذكور كله في الصحاح إلى قوله:
"... شر ذبذبه ". والذي يبدو أن نسخة المصنف من الجوهري غير مشتملة على هذه الجمل. وفى ج: وفى التنزيل
يدل وفى الحديث.
(3) في ب وك: قرض.
(7 - 12)
97

قوله تعالى: (ما قدروا الله حق قدره) أي ما عظموه حق عظمته، حيث جعلوا
هذه الأصنام شركاء له. وقد مضى في " الانعام (1) ". (إن الله لقوي عزيز) تقدم.
قوله تعالى: الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله
سميع بصير (75) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع
الأمور (76)
قوله تعالى: (الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس) ختم السورة بأن الله
اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة، أي ليس بعثه محمدا أمرا بدعيا. وقيل: إن
الوليد بن المغيرة قال: أو أنزل عليه الذكر من بيننا، فنزلت الآية. وأخبر أن الاختيار إليه
سبحانه وتعالى. (إن الله سميع) لأقوال عباده (بصير) بمن يختاره من خلقه لرسالته.
(يعلم ما بين أيديهم) يريد ما قدموا. (وما خلفهم) يريد ما خلفوا، مثل قوله في يس:
" إنا نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا (2) " [يس: 12] يريد ما بين أيديهم " وآثارهم " يريد ما خلفوا.
(وإلى الله ترجع الأمور).
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم
وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) تقدم في أول السورة أنها فضلت
بسجدتين، وهذه السجدة الثانية لم يرها مالك وأبو حنيفة من العزائم، لأنه قرن الركوع
بالسجود، وأن المراد بها الصلاة المفروضة، وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة.
وقد مضى القول في الركوع والسجود مبينا في " البقرة (3) " والحمد لله وحده.
قوله تعالى: (واعبدوا ربكم) أي امتثلوا أمره. (وافعلوا الخير) ندب فيما عدا
الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع.

(1) راجع ج 7 ص 36.
(2) راجع ج 15 ص 11.
(3) راجع ج 1 ص 344.
98

قوله تعالى: وجهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل
عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين
من قبل وفى هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء
على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم
فنعم المولى ونعم النصير (78)
قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده) قيل: عنى به جهاد الكفار. وقيل:
هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه، أي جاهدوا أنفسكم
في طاعة الله وردوها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في رد وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم،
والكافرين في رد كفرهم. قال ابن عطية: وقال مقاتل وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
" فاتقوا الله ما استطعتم (1) " [التغابن: 16]. وكذا قال هبة الله: إن قوله: " حق جهاده " وقوله في الآية الأخرى.
" حق تقاته (2) " [آل عمران: 102] منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة في هذه الأوامر. ولا حاجة إلى تقدير
النسخ، فإن هذا هو المراد من أول الحكم، لان " حق جهاده " ما ارتفع عنه الحرج. وقد
روى سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير دينكم أيسره).
وقال أبو جعفر النحاس. وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ، لأنه واجب على الانسان،
كما روى حياة بن شريح يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المجاهد من جاهد نفسه
لله عز وجل) وكما روى أبو غالب عن أبي أمامة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم:
أي الجهاد أفضل؟ عند الجمرة الأولى فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله
عند جمرة العقبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أين السائل)؟ فقال: أنا ذا، فقال عليه
السلام: (كلمة عدل عند سلطان جائر).

(1) راجع ج 18 ص 144.
(2) راجع ج 4 ص 157.
99

قوله تعالى: (هو اجتباكم) أي اختاركم للذب عن دينه والتزام أمره، وهذا تأكيد
للامر بالمجاهدة، أي وجب عليكم أن تجاهدوا لان الله اختاركم له.
قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) فيه ثلاث مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (من حرج) أي من ضيق. وقد تقدم في " الانعام (1) ".
وهذه الآية تدخل في كثير من الاحكام، وهي مما خص الله بها هذه الأمة. روى معمر عن
قتادة قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي اذهب فلا حرج
عليك، وقيل لهذه الأمة: " وما جعل عليكم في الدين من حرج ". والنبي شهيد على أمته،
وقيل لهذه الأمة: " لتكونوا شهداء على الناس ". ويقال للنبي: سل تعطه، وقيل لهذه
الأمة: " ادعوني أستجب لكم (2) ".
الثانية - واختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله تعالى، فقال عكرمة: هو
ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك. وقيل: المراد قصر الصلاة،
والافطار للمسافر، وصلاة الايماء لمن لا يقدر على غيره، وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج
والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه، والغريم ومن له والدان، وحط الإصر الذي
كان على بني إسرائيل. وقد مضى تفصيل أكثر هذه الأشياء (3). وروى عن ابن عباس
والحسن البصري أن هذه في تقديم الأهلة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم، فإذا أخطأت
الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم، على خلاف فيه
بيناه في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه. وما ذكرناه هو الصحيح
في الباب. وكذلك الفطر والأضحى، لما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المنكدر
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم
تضحون). خرجه أبو داود والدارقطني، ولفظه ما ذكرناه. والمعنى: باجتهادكم من غير
حرج يلحقكم. وقد روى الأئمة أنه عليه السلام سئل يوم النحر عن أشياء، فما يسأل عن

(1) راجع ج 7 ص 80 وص 300.
(2) راجع ج 15 ص 326.
(3) راجع ج 2 ص 155 وج‍ 3 ص 430.
100

أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها:
(أفعل ولا حرج).
الثالثة - قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة
والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس
في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى، ومع صحة اليقين
وجودة العزم ليس بحرج.
قوله تعالى: (ملة أبيكم) قال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم. الفراء: انتصب
على تقدير حذف الكاف، كأنه قال كملة. وقيل: المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام
الفعل مقام الملة. وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة. وقيل: الخطاب لجميع المسلمين، وإن
لم يكن الكل من ولده، لان حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد. (هو سماكم
المسلمين من قبل) قال ابن زيد والحسن: " هو " راجع إلى إبراهيم، والمعنى: هو سماكم
المسلمين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم. (وفى هذا) أي وفي حكمه أن من اتبع محمدا
صلى الله عليه وسلم فهو مسلم. قال ابن زيد: وهو معنى قوله: " ربنا واجعلنا مسلمين لك
ومن ذريتنا أمة مسلمة لك (1) " [البقرة: 128]. قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول عظماء (2) الأمة. روى
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: سماكم الله عز وجل المسلمين من قبل، أي في الكتب
المتقدمة وفي هذا القرآن، قاله مجاهد وغيره. (ليكون الرسول شهيدا عليكم) أي بتبليغه
إياكم. (وتكونوا شهداء على الناس) أن رسلهم قد بلغتهم، كما تقدم في " البقرة (1) ".
(فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) قد تقدم (3) مستوفى والحمد لله [رب العالمين (4)].

(1) راجع ج 2 ص 126 وص 153 فما بعد.
(2) في ك: علماء.
(3) راجع ج 1 ص 164، 343 وج‍ 4 ص 156.
(4) من ك.
101

سورة المؤمنون
مكية كلها في قول الجميع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم
خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكوة
فعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم
أو ما ملكت أيمنهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغى وراء ذلك
فأولئك هم العادون (7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8)
والذين هم على صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10)
الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون (11)
فيه تسع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون) روى البيهقي من حديث أنس عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما خلق اللجنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها تكلمي
فقالت قد أفلح المؤمنون). وروى النسائي عن عبد الله بن السائب قال: حضرت رسول
الله صلى يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة، فخلع نعليه فوضعهما عن يساره فافتتح
سورة المؤمنون، فلما جاء ذكر موسى أو عيسى عليهما السلام أخذته سعلة فركع. خرجه مسلم
بمعناه. وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل، وأنزل عليه يوما فمكثنا [عنده (1)] ساعة فسرى
عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه وقال: (اللهم زدنا ولا تنقصنا وارضنا وأرض عنا - ثم قال -

(1) من ك.
102

أنزل على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة - ثم قرأ - قد أفلح المؤمنون) حتى ختم
عشر آيات، صححه ابن العربي. وقال النحاس: معنى " من أقامهن " من أقام عليهن ولم
يخالف ما فيهن، كما تقول: فلان يقوم بعمله. ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والحج
فدخل معهن. وقرأ طلحة بن مصرف: " قد أفلح المؤمنون " بضم الألف على الفعل المجهول،
أي أبقوا في الثواب والخير. وقد مضى في أول " البقرة " من الفلاح لغة ومعنى (1)،
والحمد لله وحده.
الثانية - قوله تعالى: (خاشعون) روى المعتمر عن خالد عن محمد بن سيرين
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية
" الذين هم في صلاتهم خاشعون ". فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد.
وفي رواية هشيم: كان المسلمون يلتفتون في الصلاة وينظرون حتى أنزل الله تعالى: " قد أفلح
المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون "، فأقبلوا على صلاتهم وجعلوا ينظرون أمامهم.
وقد تقدم ما للعلماء في حكم المصلى إلى حيث ينظر في " البقرة " عند قوله: " فول وجهك
شطر المسجد الحرام (2) " [البقرة: 144]. وتقدم أيضا معنى الخشوع لغة ومعنى في البقرة أيضا عند قوله تعالى:
" وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (1) " [البقرة: 45]. والخشوع محله القلب، فإذا خشع خشعت الجوارح
كلها لخشوعه، إذ هو ملكها، حسبما بيناه أول البقرة. وكان الرجل من العلماء إذا أقام
الصلاة وقام إليها يهاب الرحمن أن يمد بصره إلى شئ وأن يحدث نفسه بشئ من الدنيا.
وقال عطاء: هو ألا يعبث بشئ من جسده في الصلاة. وأبصر النبي صلى الله عليه وسلم
رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه). وقال
أبو ذر قال النبي صلى الله عليه وسلم. (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يحركن
الحصى ". رواه الترمذي. وقال الشاعر:

(1) راجع ج 1 ص 181 وص 374.
(2) راجع ج 2 ص 158.
103

ألا في الصلاة الخير والفضل أجمع * لان بها الآراب (1) لله تخضع
وأول فرض من شريعة ديننا * وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع
فمن قام للتكبير لاقنه رحمة * وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته * نجيا فيا طوباه لو كان يخشع
وروى أبو عمران (2) الجوني قال: قيل لعائشة ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: أتقرأون سورة المؤمنين؟ قيل نعم. قالت: اقرأوا، فقرئ عليها: " قد أفلح
المؤمنون - حتى بلغ - يحافظون ". وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلحظ في صلاته يمينا وشمالا، ولا يلوي عنقه خلف ظهره.
وقال كعب بن مالك في حديثه الطويل: ثم أصلى قريبا منه - يعنى من النبي صلى الله
عليه وسلم - وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلى وإذا التفت نحوه أعرض
عنى... الحديث، ولم يأمره بإعادة.
الثالثة - اختلف الناس في الخشوع، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها
ومكملاتها على قولين. والصحيح الأول، ومحله القلب، وهو أول عمل يرفع من الناس، قاله
عبادة بن الصامت، رواه الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء، وقال: هذا
حديث حسن غريب. وقد خرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك
الأشجعي من طريق صحيحة (3). قال أبو عيسى: ومعاوية (4) بن صالح ثقة عند أهل الحديث،
ولا نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان.
قلت: معاوية بن صالح أبو عمرو ويقال أبو عمر الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس،
سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: صالح الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به. واختلف
فيه قول يحيى بن معين، ووثقه عبد الرحمن بن مهدي أحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي،
واحتج به مسلم في صحيحه.
وتقدم في " البقرة " معنى اللغو والزكاة فلا معنى للإعادة (5). وقال

(1) الآراب: جمع الإرب (بكسر فسكون) وهو العضو.
(2) كذا في أ وب وج‍ وط وك.
(3) كذا في كل الأصول وهي لغة الحجاز والتذكير لغة نجد وبها جاء القرآن.
(4) هو أحد رجال سند الحديث المتقدم.
(5) راجع ج 1 ص 343، ج 3 ص 99.
104

الضحاك: إن اللغو هنا الشرك. وقال الحسن: إنه المعاصي كلها. فهذا قول جامع يدخل
فيه قول من قال هو: الشرك، وقول من قال هو الغناء، كما روى مالك بن أنس عن محمد
ابن المنكدر، على ما يأتي في " لقمان " بيانه (1). ومعنى " فاعلون " أي مؤدون، وهي فصيحة،
وقد جاءت في كلام العرب. قال أمية بن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السنة * الأزمة والفاعلون للزكوات
الرابعة - قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون) قال ابن العربي: " من
غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء، كسائر ألفاظ القرآن التي هي
محتملة لهم فإنها عامة فيهم، إلا قوله " والذين هم لفروجهم حافظون " فإنما خاطب بها الرجال
خاصة دون الزوجات، بدليل قوله: " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ". وإنما عرف
حفظ المرأة فرجها من أدلة أخرى كآيات الاحصان عموما وخصوصا وغير ذلك من الأدلة ".
قلت: وعلى هذا التأويل في الآية فلا يحل لامرأة أن يطأها من تملكه إجماعا من العلماء،
لأنها غير داخلة في الآية، ولكنها لو أعتقته بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها كما يجوز لغيره
عند الجمهور. وروى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والشعبي والنخعي أنها لو أعتقته حين
ملكته كانا على نكاحهما. قال أبو عمر: ولا يقل هذا أحد من فقهاء الأمصار، لان تملكها
عندهم يبطل النكاح بينهما، وليس ذلك بطلاق وإنما هو فسخ للنكاح، وأنها لو أعتقته بعد
ملكها له لم يراجعها إلا بنكاح جديد ولو كانت في عدة منه.
الخامسة - قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز قال: سألت مالكا
عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية: " والذين هم لفروجهم حافظون - إلى قوله -
العادون ". وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة، وفيه يقول الشاعر:
إذا حللت بواد لا أنيس به * فاجلد عميرة لا داء ولا حرج
ويسميه أهل العراق الاستمناء، وهو استفعال من المنى. وأحمد بن حنبل على ورعه
يجوزه، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة، أصله الفصد والحجامة. وعامة

(1) راجع ج 14 ص 51 فما بعد.
105

العلماء على تحريمه. وقال بعض العلماء: إنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها الشيطان
وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل، ولو قام الدليل على جوازها لكان
ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها. فإن قيل: إنها خير من نكاح الأمة، قلنا: نكاح الأمة
ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا، وإن كان قد قال به قائل أيضا،
ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل، عار بالرجل الدنئ (1) فكيف بالرجل الكبير.
السادسة - قوله تعالى: (إلا على أزواجهم) قال الفراء: أي من أزواجهم
اللاتي أحل الله لهم لا يجاوزون (2). (أو ما ملكت أيمانهم) في موضع خفض معطوفة على
" أزواجهم " و " ما " مصدرية. وهذا يقتضى تحريم الزنى، وما قلناه من الاستنماء، ونكاح
المتعة، لان المتمتع بها لا تجرى مجرى الزوجات، لا ترث ولا تورث، ولا يلحق به ولدها،
ولا يخرج من نكاحها بطلاق يستأنف لها، وإنما يخرج بانقضاء المدة التي عقدت عليها
وصارت كالمستأجرة. ابن العربي: إن قلنا إن نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل ينطلق
عليها اسم الزوجية. وإن قلنا بالحق الذي أجمعت عليه الأمة من تحريم نكاح المتعة لما كانت
زوجة فلم تدخل في الآية.
قلت: وفائدة هذا الخلاف هل يجب الحد ولا يلحق الولد كالزنى الصريح، أو يدفع الحد
للشبهة ويلحق الولد؟ قولان لأصحابنا. وقد كان للمتعة في التحليل والتحريم أحوال، فمن
ذلك أنها كانت مباحة ثم حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر، ثم حللها في غزاة
الفتح، ثم حرمها بعد، قاله ابن خويز منداد من أصحابنا وغيره، وإليه أشار ابن العربي.
وقد مضى في " النساء " القول فيها مستوفى (3).
السابعة - قوله تعالى: (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) فسمى من
نكح ما (4) لا يحل عاديا، وأوجب عليه الحد لعدوانه، واللائط عاد قرآنا ولغة، بدليل قوله
تعالى: " بل أنتم قوم عادون " [الشعراء: 166] وكما تقدم في " الأعراف (5) "، فوجب أن يقام الحد عليهم،
وهذا ظاهر لا غبار عليه.

(1) في ب: البهى.
(2) في ب وط: يجاوزن.
(3) راجع ج 5 ص 129.
(4) في ك: من لا تحل.
(5) راجع ج 7 ص 242 فما بعد.
106

قلت: فيه نظر، ما لم يكن جاهلا أو متأولا، وإن كان الاجماع منعقدا على أن
قوله تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم
غير ملومين " خص به الرجال دون النساء، فقد روى معمر عن قتادة قال: تسررت امرأة
غلامها، فذكر ذلك لعمر فسألها: ما حملك على ذلك؟ قالت: كنت أراه يحل لي بملك
يميني كما يحل للرجل المرأة بملك اليمين، فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقالوا: تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله: لا رجم عليها. فقال عمر: لا جرم!
والله لا أحلك لحر بعده أبدا. عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها، وأم العبد ألا يقربها. وعن أبي
بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول: أنا حضرت عمر بن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها
وضئ فقالت: إني استسررته فمنعني بنو عمى عن ذلك، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له
الوليدة فيطؤها، فإنه عنى بنى عمى، فقال عمر: أتزوجت قبله؟ قالت نعم، قال أما والله
لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة، ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير
بلدها. و " وراء " بمعنى سوى، وهو مفعول ب‍ " ابتغى " أي من طلب سوى الأزواج
والولائد المملوكة له. وقال الزجاج: أي فمن ابتغى ما بعد ذلك، فمفعول الابتغاء محذوف،
و " وراء " ظرف. و " ذلك " يشار به إلى كل مذكور مؤنثا كان أو مذكرا. (فأولئك
هم العادون) أي المجاوزون الحد، من عدا أي جاوز الحد وجازه.
الثامنة - قوله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) والذين هم على
صلواتهم يحافظون) قرأ الجمهور: " لأماناتهم " بالجمع. وابن كثير بالافراد. والأمانة والعهد
يجمع كل ما يحمله الانسان من أمر دينه ودنياه قولا فعلا. وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد
وغير ذلك، وغاية ذلك حفظه والقيام به. والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة
فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد.
التاسعة - قرأ الجمهور: " صلواتهم " وحمزة والكسائي " صلاتهم " بالافراد،
وهذا الافراد اسم جنس فهو في معنى الجميع. والمحافظة على الصلاة إقامتها والمبادرة إليها أوائل
107

أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها. وقد تقدم في " البقرة (1) " مستوفى. ثم قال: (أولئك
هم الوارثون) أي من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهم الوارثون، أي يرثون منازل
أهل النار من الجنة. وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
(إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم
ويرثون منازل الكفار ويجعل الكفار في منازلهم في النار). خرجه ابن ماجة بمعناه. عن أبي
هريرة أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وله منزلان
منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى:
" أولئك هم الوارثون "). إسناده صحيح. ويحتمل أن يسمى الحصول على الجنة وراثة
من حيث حصولها دون غيرهم، فهو اسم مستعار على الوجهين.
والفردوس ربوة الجنة
وأوسطها وأفضلها. خرجه الترمذي من حديث الربيع بنت النضر أم حارثة، وقال: حديث
حسن صحيح. وفي صحيح (2) مسلم (فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى
الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة). قال أبو حاتم محمد بن حبان: قوله صلى الله عليه وسلم
(فإنه أوسط الجنة) يريد أن الفردوس في وسط الجنان في العرض وهو أعلى الجنة، يريد
في الارتفاع. وهذا كله يصحح قول أبي هريرة: إن الفردوس جبل الجنة التي تتفجر منه
أنهار الجنة. واللفظة فيما قال مجاهد: رومية عربت. وقيل: هي فارسية عربت. وقيل:
حبشية، وإن ثبت ذلك فهو وفاق بين اللغات. وقال الضحاك: هو عربي وهو الكرم،
والعرب تقول للكروم فراديس. (هم فيها خالدون) فأنث على معنى الجنة.
قوله تعالى: ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين (12)
ثم جعلنه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا
العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظما فكسونا العظم لحما ثم أنشأناه
خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)

(1) راجع ج 1 ص 164 فما بعد.
(2) كذا في ب‍ وج‍ وك.
108

فيه خمس مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (ولقد خلقنا الانسان) الانسان هنا آدم عليه الصلاة والسلام،
قاله قتادة وغيره، لأنه استل من الطين. ويجئ الضمير في قوله: (ثم جعلناه) عائدا على
ابن آدم، وإن كان لم يذكر لشهرة الامر، فإن المعنى لا يصلح إلا له. نظير ذلك " حتى
توارت بالحجاب (1) " [ص: 32]. وقيل: المراد بالسلالة ابن آدم، قاله ابن عباس وغيره. والسلالة على
هذا صفوة الماء، يعنى المنى. والسلالة فعالة من السل وهو استخراج الشئ من الشئ،
يقال: سللت الشعر من العجين، والسيف من الغمد فانسل، ومنه قوله:
* فسلى ثيابي من ثيابك تنسل (2) *
فالنطفة سلالة، والولد سليل وسلالة، عنى به الماء يسل من الظهر سلا. قال الشاعر:
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا * سلالة فرج كان غير حصين (3)
وقال آخر:
وما هند إلا مهرة عربية * سليلة أفراس تجللها بغل (4)
وقوله: " من طين) أي أن الأصل آدم وهو من طين.
قلت: أي من طين خالص، فأما ولده فهو من طين ومنى، حسبما بيناه في أول سورة الأنعام (5).
وقال الكلبي: السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك، فالذي يخرج هو السلالة.
الثانية - قوله تعالى: (نطفة) قد مضى القول في النطفة والعلقة والمضغة
وما في ذلك من الاحكام في أول الحج (6)، والحمد لله على ذلك.
الثالثة - قوله تعالى: (ثم أنشأناه خلقا آخر) اختلف الناس في الخلق الاخر،
فقال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد: هو نفخ الروح فيه بعد أن كان

(1) راجع ج 15 ص 195 فما بعد.
(2) هذا عجز بيت من معلقة امرئ القيس. وصدره:
* وإن تك قد ساءتك منى خليقة *
(3) البيت لحسان بن ثابت.
(4) نسب صاحب لسان العرب هذا البيت لهند بنت النعمان (مادة سلل).
وتجللها: علاها. وقوله: " بغل " قال ابن بري: وذكر بعضهم أنها تصحيف، وأن صوابه " نغل " بالنون وهو الخسيس
من الناس والدواب، وفى ب و ج وك: تحللها. بالمهملة وهو المشهور.
(5) راجع ج 6 ص 387.
(6) راجع ص 6 من هذا الجزء.
109

جمادا. وعن ابن عباس: خروجه إلى الدنيا. وقال قتادة عن فرقة: نبات شعره. الضحاك:
خروج الأسنان ونبات الشعر. مجاهد: كمال شبابه، وروى عن ابن عمر. والصحيح أنه
عام في هذا وفي غيره من النطق والادراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت.
الرابعة - قوله تعالى: (فتبارك الله أحسن الخالقين) يروى أن عمر بن الخطاب
لما سمع صدر الآية إلى قوله: " خلقا آخر " قال فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت). وفي مسند الطيالسي: ونزلت " ولقد خلقنا الانسان
من سلالة من طين " الآية، فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت:
" تبارك الله أحسن الخالقين ". ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل. وروى أن قائل
ذلك عبد الله بن أبي سرح، وبهذا السبب ارتد وقال: اتى بمثل ما يأتي محمد، وفيه نزل
" ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل
مثل ما أنزل الله " [الانعام: 93] على ما تقدم بيانه في " الانعام (1) ". وقوله تعالى: " فتبارك " تفاعل من البركة.
(أحسن الخالقين) أتقن الصانعين. يقال لمن صنع شيئا خلقه، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفرى ما خلقت وبعض * القوم يخلق ثم لا يفرى (2)
وذهب بعض الناس إلى نفى هذه اللفظة عن الناس، وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى.
وقال ابن جريح: إنما قال: " أحسن الخالقين " لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه السلام
أن يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك. ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع، وإنما
هي منفية بمعنى الاختراع والايجاد من العدم.
الخامسة (3): من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة
القدر فقالوا: الله أعلم، فقال عمر: ما تقول يا بن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى
خلق السماوات سبعا والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع وجعل رزقه في سبع، فأراها

(1) راجع ج 7 ص 39.
(2) البيت لزهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان. والفري: القطع.
(3) كذا في ك وز. وفى ب وج‍ وط: مسألة.
110

في ليلة سبع وعشرين. فقال عمر رضي الله عنه أعجز (1) كم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام
الذي لم تجتمع شؤون رأسه. وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أبي شيبة. فأراد ابن عباس
" خلق ابن آدم من سبع " بهذه الآية (2)، وبقوله: " وجعل رزقه في سبع " قوله: " فأنبتنا فيها (3)
حبا. وعنبا وقضبا. وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا " [عبس: 27 - 31] الآية. السبع منها
لابن آدم، والأب للانعام. والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء، هذا قول.
وقيل: القضب البقول لأنها تقضب، فهي رزق ابن آدم. وقيل: القضب والأب للانعام،
والست الباقية لابن آدم، والسابعة هي للانعام، إذ هي من أعظم رزق ابن آدم.
قوله تعالى: ثم إنكم بعد ذلك لميتون (15) ثم إنكم يوم القيمة
تبعثون (16)
قوله تعالى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون) أي بعد الخلق والحياة. النحاس: ويقال في هذا
المعنى لمائتون. ثم أخبر بالبعث بعد الموت فقال: (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون).
قوله تعالى: ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق
غافلين (17)
قوله تعالى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) قال أبو عبيدة: أي سبع سماوات.
وحكى عنه أنه يقال: طارقت الشئ، أي جعلت بعضه فوق بعض، فقيل للسموات
طرائق لان بعضها فوق بعض. والعرب تسمى كل شئ فوق شئ طريقة. وقيل: لأنها
طرائق الملائكة.
(وما كنا عن الخلق غافلين) قال بعض العلماء: أي عن خلق السماء.
وقال أكثر المفسرين: أي عن الخلق كلهم من أن تسقط عليهم فتهلكهم.
قلت: ويحتمل أن يكون المعنى " وما كنا عن الخلق غافلين " أي في القيام بمصالحهم
وحفظهم (4)، وهو معنى الحي القيوم، على ما تقدم (5).

(1) في الدر المنثور: " أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام ".
(2) كذا في الأصول، وسياق الكلام
يقتضى أن تكون العبارة هكذا: فأراد ابن عباس بقوله: " خلق ابن آدم من سبع هذه الآية... " الخ.
(3) راجع ج 19 ص 218 فما بعد.
(4) كذا في ك. وفى ب وج‍ بالافراد.
(5) راجع ج 3 ص 271.
111

قوله تعالى: وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكنه في الأرض
وإنا على ذهاب به لقادرون (18)
فيه أربع مسائل:
الأولى - هذه الآية من نعم الله تعالى على خلقه ومما أمتن به عليهم، ومن أعظم المنن
الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان. والماء المنزل من السماء على قسمين: هذا
الذي ذكر الله سبحانه وتعالى وأخبر بأنه استودعه في الأرض، وجعله فيها مختزنا لسقي الناس
يجدونه عند الحاجة إليه، وهو ماء الأنهار والعيون وما يستخرج من الابار. وروى عن
ابن عباس وغيره أنه إنما أراد الأنهار الأربعة: سبحان وجيحان ونيل مصر والفرات.
وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء. وهذا ليس على إطلاقه، وإلا
فالأجاج ثابت في الأرض، فيمكن أن يقيد قوله بالماء العذب، ولا محالة أن الله تعالى قد
جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء. وقد قيل: إن قوله: " وأنزلنا من السماء ماء "
إشارة إلى الماء العذب، وأن أصله من البحر، رفعه الله تعالى بلطفه وحسن تقديره من
البحر إلى السماء، حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به، ولو كان
الامر إلى ماء البحر لما انتفع به من ملوحته.
الثانية - قوله تعالى: (بقدر) أي على مقدار مصلح، لأنه لو كثر أهلك، ومنه
قوله تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (1) " الحجر: 21]. (وإنا على
ذهاب به لقادرون) يعنى الماء المختزن. وهذا تهديد ووعيد، أي في قدرتنا إذهابه
وتغويره، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم، وهذا كقوله تعالى: " قل أرأيتم إن
أصبح ماؤكم غورا - أي غائرا - فمن يأتيكم بماء معين (2) " [الملك: 30].
الثالثة - ذكر النحاس: قرئ على أبى يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن
جامع بن سوادة فال: حدثنا سعيد بن سابق قال حدثنا مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيان

(1) راجع ج 10 ص 14.
(2) راجع ج 18 ص 222.
112

عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل الله عز
وجل من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة
والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة
في أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض
وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله جل ثناؤه: " وأنزلنا من السماء ماء
بقدر فأسكناه في الأرض " فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عز وجل جبريل
فرفع من الأرض القرآن والعلم وجميع الأنهار الخمسة فيرفع ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى:
" وإنا على ذهاب به لقادرون " فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا).
الرابعة - كل ما نزل من السماء مختزنا كان أو غير مختزن فهو طاهر مطهر يغتسل به
ويتوضأ منه، على ما يأتي في " الفرقان (1) " بيانه.
قوله تعالى: فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها
فواكه كثيرة ومنها تأكلون (19)
فيه مسألتان:
الأولى - قوله تعالى: (فأنشأنا) أي جعلنا ذلك سبب النبات، وأوجدناه به وخلقناه.
وذكر تعالى النخيل والأعناب، لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما، قاله الطبري.
ولأنها أيضا أشرف الثمار، فذكرها تشريفا لها وتنبيها عليها. (لكم فيها) أي في الجنات.
(فواكه) من غير الرطب والعنب. ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة إذ فيها
مراتب وأنواع، والأول أعم لسائر الثمرات.
الثانية - من حلف ألا يأكل فاكهة، ففي الرواية عندنا يحنث بالباقلاء الخضراء
وما أشبهها. وقال أبو حنيفة، لا يحنث بأكل القثاء والخيار والجزر، لأنها من القبول
لا من الفاكهة. وكذلك الجوز واللوز والفستق، لان هذه الأشياء لا تعد من الفاكهة.

(1) راجع ج 13 ص 39.
113

وإن أكل تفاحا أو خوخا أو مشمشا أو تينا أو إجاصا يحنث. وكذلك البطيخ، لان هذه
الأشياء كلها تؤكل على جهة التفكه قبل الطعام وبعده، فكانت فاكهة. وكذلك يابس هذه
الأشياء إلا البطيخ اليابس لان ذلك لا يؤكل إلا في بعض البلدان. ولا يحنث بأكل البطيخ
الهندي لأنه لا يعد من الفواكه. وإن أكل عنبا أو رمانا أو رطبا لا يحنث. وخالفه صاحباه
فقالا يحنث، لان هذه الأشياء من أعز الفواكه، وتؤكل على وجه التنعم. والافراد لها بالذكر
في كتاب الله عز جل لكمال معانيها، كتخصيص جبريل وميكائيل من الملائكة. واحتج
أبو حنيفة بأن قال: عطف هذه الأشياء على الفاكهة مرة فقال: " فيهما فاكهة ونخل ورمان (1) "
[الرحمن: 68]
ومرة عطف الفاكهة على هذه الأشياء فقال: " وفاكهة (2) وأبا " [عبس: 31] والمعطوف غير المعطوف
عليه، ولا يليق بالحكمة ذكر الشئ الواحد بلفظين مختلفين في موضع المنة. والعنب والرمان
يكتفى بهما في بعض البلدان فلا يكون فاكهة، ولأن ما كان فاكهة لا فرق بين رطبه
ويابسه، ويابس هذه الأشياء لا يعد فاكهة فكذلك رطبها.
قوله تعالى: وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ
للاكلين (20) فيه ست مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (وشجرة) شجرة عطف على جنات. وأجاز الفراء الرفع لأنه
لم يظهر الفعل، بمعنى وثم شجرة، ويريد بها شجرة الزيتون. وأفردها بالذكر لعظيم منافعها
في أرض الشام والحجاز وغيرهما من البلاد، وقلة تعاهدها بالسقي والحفر وغير ذلك من المراعاة
في سائر الأشجار. (تخرج) في موضع الصفة. (من طور سيناء) أي أنبتها الله في الأصل
من هذا الجبل الذي بارك الله فيه. وطور سيناء من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم الله
عليه موسى عليه السلام، قاله ابن عباس وغيره، وقد تقدم في البقرة والأعراف (3). والطور
الجبل في كلام العرب. وقيل: هو مما عرب من كلام العجم. وقال ابن زيد: هو جبل

(1) راجع ج 17 ص 185.
(2) راجع ج 19 ص 220.
(3) راجع ج 3 ص 264، ج 7 ص 287.
114

بيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة (1). واختلف في سيناء، فقال قتادة: معناه الحسن،
ويلزم على هذا التأويل أن ينون الطور على النعت. وقال مجاهد: معناه مبارك. وقال معمر
عن فرقة: معناه شجر، ويلزمهم أن ينونوا الطور. وقال الجمهور: هو اسم الجبل، كما تقول
جبل أحد. وعن مجاهد أيضا: سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده. وقال
مقاتل: كل جبل يحمل الثمار فهو سيناء، أي حسن. وقرأ الكوفيون بفتح السين على وزن
فعلاء، وفعلاء في كلام العرب كثير، يمنع من الصرف في المعرفة والنكرة، لان في آخرها ألف
التأنيث، وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه، وليس في الكلام فعلاء، ولكن من قرأ سيناء
بكسر السين جعله فعلا لا، فالهمزة فيه كهمزة حرباء، ولم يصرف في هذه الآية لأنه جعل
اسم بقعة. وزعم الأخفش أنه اسم أعجمي.
الثانية - قوله تعالى: (تنبت بالدهن) قرأ الجمهور " تنبت " بفتح التاء وضم
الباء، والتقدير: تنبت ومعها الدهن، كما تقول: خرج زيد بسلاحه. وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو بضم التاء وكسر الباء. واختلف في التقدير على هذه القراءة، فقال أبو على الفارسي:
التقدير تنبت جناها ومعه الدهن، فالمفعول محذوف. وقيل: الباء زائدة، مثل: " ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة (2) " [البقرة: 195] وهذا مذهب أبي عبيدة. وقال الشاعر:
* نضرب بالسيف ونرجو بالفرج *
وقال آخر:
هن الحرائر لا ربات أخمرة (3) * سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ونحو هذا قال أبو على أيضا، وقد تقدم. وقيل: نبت وأنبت بمعنى، فيكون المعنى
كما مضى في قراءة الجمهور، وهو مذهب الفراء وأبى إسحاق، ومنه قول زهير:
* حتى إذا أنبت البقل *

(1) أيلة: تعرف اليوم باسم " العقبة ".
(2) راجع ج 2 ص 361.
(3) كذا في الأصول
ولسان العرب مادة " سور " بالخاء المعجمة. وأورده صاحب خزانة الأدب بالحاء المهملة، قال: " والأحمرة جمع
حمار (بالحاء المهملة) جمع قلة، وخص الحمير لأنها رذال المال وشره... وقد صحف الدما مبنى هذه الكلمة بالخاء
المعجمة، وقال والأخمرة جمع خمار، وهو ما تستر به المرأة رأسها ". (راجع الشاهد الخامس بعد السبعمائة من الخزانة)
115

والأصمعي ينكر أنبت، ويتهم قصيدة زهير التي فيها:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم * قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
أي نبت. وقرأ الزهري والحسن والأعرج: " تنبت بالدهن " برفع التاء ونصب الباء. قال
ابن جنى والزجاج: هي باء الحال، أي تنبت ومعها دهنها. وفي قراءة ابن مسعود: " تخرج بالدهن "
وهي باء الحال. ابن درستويه: الدهن الماء اللين، تنبت من الانبات. وقرأ زر بن حبيش:
" تنبت - بضم التاء وكسر الباء - الدهن " بحذف الباء ونصبه. وقرأ سليمان بن عبد الملك
والأشهب: " بالدهان ". والمراد من الآية تعديد نعمة الزيت على الانسان، وهي من أركان النعم
التي لا غنى بالصحة عنها. ويدخل في معنى الزيتون (1) شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار.
الثالثة - قوله تعالى: (وصبغ للاكلين) قراءة الجمهور. وقرأت فرقة: " وأصباغ "
بالجمع. وقرأ عامر بن عبد قيس: " ومتاعا "، ويراد به الزيت الذي يصطبغ به الاكل، يقال:
صبغ وصباغ، مثل دبغ ودباغ، ولبس ولباس. وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ، حكاه
الهروي وغيره. وأصل الصبغ ما يلون به الثوب، وشبه الادام به لان الخبز يلون (2) بالصبغ إذا
غمس فيه. وقال مقاتل: الادم الزيتون، والدهن الزيت. وقد جعل الله تعالى في هذه
الشجرة أدما ودهنا، فالصبغ على هذا الزيتون.
الرابعة - لا خلاف أن كل ما يصطبغ فيه من المائعات كالزيت والسمن والعسل
والرب والخل وغير ذلك من الأمراق أنه إدام. وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الخل فقال: (نعم الادام الخل) رواه تسعة من الصحابة، سبعة رجال وامرأتان. وممن رواه
في الصحيح جابر وعائشة وخارجة وعمر وابنه عبيد الله وابن عباس وأبو هريرة وسمرة
ابن جندب وأنس وأم هانئ.
الخامسة - واختلف فيما كان جامدا كاللحم والتمر والزيتون وغير ذلك من الجوامد،
فالجمهور أن ذلك كله إدام، فمن حلف ألا يأكل إداما فأكل لحما أو جبنا حنث. وقال أبو حنيفة:
لا يحنث، وخالفه صاحباه. وقد روى عن أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة. والبقل ليس
بإدام في قولهم جميعا. وعن الشافعي في التمر وجهان، والمشهور أنه ليس بإدام لقوله في التنبيه.

(1) في ب وج‍ وز وط وك: في معنى الزيتونة.
(2) في ك: يلوث.
116

وقيل يحنث، والصحيح أن هذا كله إدام. وقد روى أبو داود عن يوسف بن عبد الله
ابن سلام قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة فقال:
(هذا إدام هذه). وقال صلى الله عليه وسلم: (سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم). ذكره أبو عمر.
وترجم البخاري (باب الادام) وساق حديث عائشة، ولأن الادام مأخوذ من المؤادمة وهي
الموافقة، وهذه الأشياء توافق الخبز فكان إداما. وفي الحديث عنه عليه السلام: (ائتدموا
ولو بالماء). ولأبي حنيفة أن حقيقة الادام الموافقة في الاجتماع على وجه لا يقبل الفصل،
كالخل والزيت ونحوهما، وأما اللحم والبيض وغيرهما لا يوافق الخبز بل يجاوزه (1) كالبطيخ والتمر
والعنب. والحاصل: أن كل ما يحتاج في الاكل إلى موافقة الخبز كان إداما، وكل
ما لا يحتاج ويؤكل على حدة لا يكون إداما، والله أعلم.
السادسة - روى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة). هذا حديث
لا يعرف إلا من حديث عبد الرزاق، وكان يضطرب فيه، فربما يذكر فيه عن عمر عن النبي
صلى الله عليه وسلم، وربما رواه على الشك فقال: أحسبه عن عمر عن النبي صلى الله عليه
وسلم، وربما قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل:
خص الطور بالزيتون لان أول الزيتون نبت منها. وقيل: إن الزيتون أول شجرة نبتت
في الدنيا بعد الطوفان. والله أعلم.
قوله تعالى: وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها
ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون (21) وعليها وعلى الفلك
تحملون (22) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يقوم اعبدوا الله
مالكم من إليه غيره أفلا تتقون (23) فقال الملأ الذين كفروا
من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء

(1) كذا في الأصول من المجاورة.
117

الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (24) إن هو إلا
رجل به جنة فتربصوا به حتى حين (25) قال رب انصرني
بما كذبون (26) فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا
جاء أمرنا وفار التنور فأسئلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك
إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخطبني في الذين ظلموا
إنهم مغرقون (27)
قوله تعالى: (وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع
كثيرة ومنها تأكلون. وعليها وعلى الفلك تحملون) تقدم القول فيهما في " النحل (1) والحمد لله.
وفى هود (2) قصة السفينة ونوح، وركوب البحر في غير موضع (3).
قوله تعالى: (وعليها) أي وعلى الانعام في البر. (وعلى الفلك) في البحر. (تحملون)
وإنما يحمل في البر على الإبل فيجوز أن ترجع الكناية إلى بعض النعام. وروى أن رجلا ركب
بقرة في الزمان الأول فأنطقها الله تعالى معه فقالت: إنا لم نخلق لهذا! وإنما خلقت للحرث.
قوله تعالى: (مالكم من إله غيره) قرئ بالخفض ردا على اللفظ، وبالرفع ردا على
المعنى. وقد مضى في " الأعراف (4) "
قوله تعالى: (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم) أي يسودكم ويشرف عليكم
بأن يكون متبوعا ونحن له تبع. (ولو شاء الله لأنزل ملائكة) أي لو شاء الله ألا يعبد شئ
سواه لجعل رسوله ملكا. (ما سمعنا بهذا) أي بمثل دعوته. وقيل: ما سمعنا بمثله بشرا،
أتى (5) برسالة ربه. (في آبائنا الأولين) أي في الأمم الماضية، قاله ابن عباس. والباء في " بهذا "
زائدة، أي ما سمعنا هذا كائنا في آبائنا الأولين، ثم عطف بعضهم على بعض فقالوا. (إن هو)

(1) راجع ج 10 ص 68، 89.
(2) راجع ج 9 ص 30.
(3) راجع ج 2 ص 195.
(4) راجع ج 7 ص 233.
(5) كذا في ج وك. وفى ط وب وى: أي.
118

يعنون نوحا (إلا رجل به جنة) أي جنون لا يدرى ما يقول. (فتربصوا به حتى حين)
أي انتظروا موته. وقيل: حتى يستبين جنونه. وقال الفراء: ليس يراد بالحين ها هنا وقت
بعينه، إنما هو كقوله: دعه إلى يوم ما. فقال حين تمادوا على كفرهم: (رب انصرني
بما كذبون) أي انتقم ممن لم يطعني ولم يسمع رسالتي. (فأوحينا إليه) أي أرسلنا إليه
رسلا من السماء (أن اصنع الفلك) على ما تقدم بيانه.
قوله تعالى: (فاسلك فيها) أي أدخل فيها واجعل فيها، يقال: سلكته في كذا
وأسلكته فيه إذا أدخلته. قال عبد مناف بن ربع الهذلي:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة * شلا كما تطرد الجمالة الشردا (1).
(من كل زوجين اثنين) قرأ حفص: " من كل " بالتنوين، الباقون بالإضافة، وقد ذكر (2).
وقال الحسن: لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض، فأما البق والذباب والدود فلم يحمل
شيئا منها، وإنما خرج من الطين. وقد مضى القول في السفينة والكلام فيها مستوفى،
والحمد لله.
قوله تعالى: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد
لله الذي نجينا من القوم الظالمين (28)
قوله تعالى: (فإذا استويت) أي علوت. (أنت ومن معك على الفلك) راكبين.
(فقل الحمد لله) أي احمدوا الله على تخليصه إياكم. (من القوم الظالمين) ومن الغرق. والحمد لله: كلمة كل شاكر لله. وقد مضى في الفاتحة بيانه (3).
قوله تعالى: وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين (29)
قوله تعالى: (وقل رب أنزلني منزلا مباركا) قراءة العامة: " منزلا " بضم الميم وفتح
الزاي، على المصدر الذي هو الانزال، أي أنزلني إنزالا مباركا. وقرأ زر بن حبيش وأبو بكر

(1) قنائدة: موضع بعينه. والثل: الطرد. والشرد: جمع شرود.
(2) راجع ج 9 ص 34.
(3) راجع ج 1 ص 131.
119

عن عاصم والمفضل: " منزلا " بفتح الميم وكسر الزاي على الموضع، أي أنزلني موضعا مباركا.
الجوهري: المنزل (بفتح الميم والزاي) النزول وهو الحلول، تقول: نزلت نزولا ومنزلا. وقال:
أأن ذكرتك الدار منزلها جمل * بكيت فدم العين منحدر سجل
نصب " المنزل " لأنه مصدر (1). وأنزله غيره واستنزله بمعنى. ونزله تنزيلا، والتنزيل أيضا
الترتيب. قال ابن عباس ومجاهد: هذا حين خرج من السفينة، مثل قوله تعالى:
" اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك (2) " [هود: 48]. وقيل: حين دخلها، فعلى هذا
يكون قوله: " مباركا " يعنى بالسلامة والنجاة.
قلت: وبالجملة فالآية تعليم من الله عز وجل لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا أن يقولوا
هذا، بل وإذا دخلوا بيوتهم وسلموا قالوا. وروى عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا دخل
المسجد قال: اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين.
قوله تعالى: إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين (30)
قوله تعالى: (إن في ذلك لايات) أي في أمر نوج والسفينة وإهلاك الكافرين.
" لايات " أي دلالات على كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر أنبياءه ويهلك أعداءهم.
(وإن كنا لمبتلين) أي ما كنا إلا مبتلين الأمم قبلكم، أي مختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم
ليظهر المطيع والعاصي فيتبين للملائكة حالهم، لا أن يستجد الرب علما. وقيل: أي نعاملهم
معاملة المختبرين. وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة (3) " وغيرها. وقيل: " إن كنا "
أي وقد كنا.
قوله تعالى: ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (31) فأرسلنا فيهم
رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (32)

(1) يلاحظ أن " منزلها " بالنصب مفعول ثان لذكرتك. " جمل " فاعل بالمصدر، وهو المنزل
(2) راجع ج 9 ص 48.
(3) راجع ج 2 ص 173.
120

قوله تعالى: (ثم أنشأنا من بعدهم) أي من بعد هلاك قوم نوح. (قرنا آخرين)
قيل: هم قوم عاد. (فأرسلنا فيهم رسولا منهم) يعنى هودا، لأنه ما كانت أمة أنشئت
في إثر قوم نوح إلا عاد. وقيل: هم قوم ثمود " فأرسلنا فيهم رسولا " يعنى صالحا. قالوا:
والدليل عليه قوله تعالى آخر الآية: " فأخذتهم الصيحة " [المؤمنون: 41]، نظيرها: " وأخذ الذين ظلموا
الصيحة (1) " [هود: 67].
قلت: وممن أخذ بالصيحة أيضا أصحاب مدين قوم شعيب، فلا يبعد أن يكونوا هم،
والله أعلم. " منهم " أي من عشيرتهم، يعرفون مولده ومنشأه ليكون سكونهم إلى قوله أكثر.
قوله تعالى: وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء
الآخرة وأترفنهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل
مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون (33) ولئن أطعتم بشرا مثلكم
إنكم إذا لخاسرون (34) أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظما
أنكم مخرجون (35)
قوله تعالى: (وقال الملا) أي الاشراف والقادة والرؤساء. (من قومه الذين كفروا
وكذبوا (2) بلقاء الآخرة) يريد بالبعث والحساب. (وأترفناهم في الحياة الدنيا) أي وسعنا
عليهم نعم الدنيا حتى بطروا وصاروا يؤتون بالترفة، وهي مثل التحفة. (ما هذا إلا بشر
مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون) فلا فضل له عليكم لأنه محتاج إلى
الطعام والشراب كأنتم. وزعم الفراء أن معنى: " ويشرب مما تشربون " على حذف من،
أي مما تشربون منه، وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف ألبتة، لان " ما "
إذا كان مصدرا لم يحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم يحتج إلى إضمار
من. (ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) يريد لمغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه

(1) راجع ج 9 ص 59.
(2) في ب وج‍ وك " كذبوا ب‍ " آياتنا و " لقاه ".
121

من غير فضيلة له عليكم. (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) أي مبعوثون
من قبوركم. و " أن " الأولى في موضع نصب بوقوع " يعدكم " عليها، والثانية بدل منها،
هذا مذهب سيبويه. والمعنى: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم. قال الفراء: وفي قراءة
عبد الله " أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون "، وهو كقولك: أظن إن خرجت
أنك نادم. وذهب الفراء والجرمي وأبو العباس المبرد إلى أن الثانية مكررة للتوكيد، لما
طال الكلام كان تكريرها حسنا. وقال الأخفش: المعنى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا
وعظاما يحدث إخراجكم، ف‍ " أن " الثانية في موضع رفع بفعل مضمر، كما تقول: اليوم
القتال، فالمعنى اليوم يحدث القتال. وقال أبو إسحاق: ويجوز " أيعدكم إنكم إذا متم وكنتم
ترابا وعظاما إنكم مخرجون "، لان معنى " أيعدكم " أيقول إنكم.
قوله تعالى: هيهات هيهات لما توعدون (36)
قال ابن عباس: هي كلمة للبعد، كأنهم قالوا بعيد ما توعدون، أي إن هذا لا يكون
ما يذكر من البعث. وقال أبو على: هي بمنزلة الفعل، أي بعد ما توعدون. وقال
ابن الأنباري: وفي " هيهات " عشر لغات: هيهات لك (بفتح التاء) وهي قراءة الجماعة.
وهيهات لك (بخفض التاء)، ويروى عن أبي جعفر بن القعقاع " وهيهات لك (بالخفض
والتنوين) يروى عن عيسى بن عمر. وهيهات لك (برفع التاء)، الثعلبي: وبها قرأ نصر بن عاصم
وأبو العالية. وهيهات لك (بالرفع والتنوين) وبها قرأ أبو حياة الشامي، ذكره الثعلبي أيضا.
وهيهاتا لك (بالنصب والتنوين) قال الأحوص:
تذكرت أياما مضين من الصبا * وهيهات هيهاتا إليك رجوعها
واللغة السابعة: أيهات أيهات، وأنشد الفراء:
فأيهات أيهات العقيق ومن به * وأيهات خل بالعقيق نواصله
قال المهدوي: وقرأ عيسى الهمداني " هيهات هيهات " بإسكان. قال ابن الأنباري:
ومن العرب من يقول: " أيهان " بالنون، ومنهم من يقول " أيها " بلا نون. وأنشد الفراء:
122

ومن دوني الأعيان والقنع كله * وكتمان أيها ما أشت وأبعدا (1)
فهذه عشر لغات. فمن قال: " هيهات " بفتح التاء جعله مثل أين وكيف. وقيل: لأنهما
أداتان مركبتان مثل خمسة عشر وبعلبك ورام هرمز، وتقف على الثاني بالهاء، كما تقول:
خمس عشرة وسبع عشرة. وقال الفراء: نصبها كنصب ثمت وربت، ويجوز أن يكون الفتح
اتباعا للألف والفتحة التي قبلها. ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء. قال:
* وهيهات هيهات (2) إليك رجوعها *
قال الكسائي: ومن كسر التاء وقف عليها بالهاء، فيقول هيهاه. ومن نصبها وقف بالتاء
وإن شاء بالهاء. ومن ضمها فعلى مثل منذ وقط وحيث. ومن قرأ: " هيهات " بالتنوين فهو
جمع ذهب به إلى التنكير (3)، كأنه قال بعدا بعدا. وقيل: خفض ونون تشبيها بالأصوات
بقولهم: غاق وطاق. وقال الأخفش: يجوز في " هيهات " أن تكون جماعة فتكون التاء
التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث. ومن قرأ: " هيهات " جاز أن يكون أخلصها اسما معربا فيه
معنى البعد، ولم يجعله اسما للفعل فيبنيه. وقيل: شبه التاء بتاء الجمع، كقوله تعالى: " فإذا
أفضتم من عرفات (4) " [البقرة: 198]. قال الفراء: وكأني أستحب الوقف على التاء، لان من العرب من
يخفض التاء على كل حال، فكأنها مثل عرفات وملكوت وما أشبه ذلك. وكان مجاهد
وعيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء والكسائي وابن كثير يقفون عليها " هيهاه " بالهاء. وقد
روى عن أبي عمرو أيضا أنه كان يقف على " هيهات " بالتاء، وعليه بقية القراء لأنها حرف.
قال ابن الأنباري. من جعلهما حرفا واحدا لا يفرد أحدهما من الاخر، وقف على الثاني
بالهاء ولم يقف على الأول، فيقول: هيهات هيهاه، كما يقول خمس عشره، على ما تقدم.
ومن نوى إفراد أحدهما من الاخر وقف فيهما جميعا بالهاء والتاء، لان أصل الهاء تاء.
قوله تعالى: إن هي إلا حياتنا نموت ونحيا وما نحن
بمبعوثين (37)

(1) الأعيان والقنع وكتمان، كلها مواضع. وفى ب وج‍ وك بدل " الأعيان " الاعيار. وكذا في اللسان
مادة أيه. وفى مادة هيه " الاعراض " والكل مواضع.
(2) كذا في الأصول والذي في اللسان: وهيهات
هيهاتا - بالفتح والتنوين.
(3) في ب وج‍ وط وك: التكثير.
(4) راجع ج 2 ص 413.
123

قوله تعالى: (إن هي إلا حياتنا الدنيا) " هي " كناية عن الدنيا، أي ما الحياة إلا
ما نحن فيه لا الحياة الآخرة التي تعدنا بعد البعث. (نموت ونحيا) يقال: كيف قالوا نموت
ونحيا وهم لا يقرون بالبعث؟ ففي هذا أجوبة، منها أن يكون المعنى: نكون مواتا، أي نطفا
ثم نحيا في الدنيا. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي إن هي إلا حياتنا الدنيا نحيا فيها ونموت،
كما قال: " واسجدي واركعي (1) " [آل عمران: 43]. وقيل: " نموت " يعنى الاباء، " ونحيا " يعنى الأولاد.
(وما نحن بمبعوثين) أي بعد الموت.
قوله تعالى: إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له
بمؤمنين (38) قال رب انصرني بما كذبون (39) قال عما قليل ليصبحن
نادمين (40) فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم
الظالمين (41)
قوله تعالى: (إن هو إلا رجل) يعنون الرسول. إلا رجل (افترى) أي اختلق.
(على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين. قال رب انصرني بما كذبون) تقدم. (قال عما
قليل) أي عن قليل، و " ما " زائدة مؤكدة. (ليصبحن نادمين) على كفرهم، واللام
لام القسم، أي والله ليصبحن. (فأخذتهم الصيحة) في التفاسير: صاح بهم جبريل
عليه السلام صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها فماتوا عن آخرهم. (فجعلناهم
غثاء) أي هلكى هامدين كغثاء السيل، وهو ما يحمله من بالي الشجر من الحشيش والقصب
مما يبس وتفتت. (فبعدا للقوم الظالمين) أي هلاكا لهم. وقيل بعدا لهم من رحمة الله،
وهو منصوب على المصدر. ومثله سقيا له ورعيا.
قوله تعالى: ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين (42) ما تسبق من
أمة أجلها وما يستأخرون (43) ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة
رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم
لا يؤمنون (44)

(1 * راجع ج 4 ص 84 فما بعد.
124

قوله تعالى: (ثم أنشأنا من بعدهم) أي من بعد هلاك هؤلاء. (قرونا) أي أمما.
(آخرين) قال ابن عباس: يريد بني إسرائيل، وفي الكلام حذف: فكذبوا أنبياءهم
فأهلكناهم. (ما تسبق من أمة أجلها) " من " صلة، أي ما تسبق أمة الوقت المؤقت لها
ولا تتأخره، مثل قوله تعالى: " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ويستقدمون (1) " [الأعراف: 34]. ومعنى
(تترى) تتواتر، ويتبع بعضهم بعضا ترغيبا وترهيبا. قال الأصمعي: واترت كتبي عليه أتبعت
بعضها بعضا، إلا أن بين كل كل واحد وبين الاخر مهلة. وقال غيره: المواترة التتابع بغير
مهلة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: " تترى " بالتنوين على أنه مصدر أدخل فيه التنوين على
فتح الراء، كقولك: حمدا وشكرا، فالوقف على هذا على الألف المعوضة من التنوين.
ويجوز أن يكون ملحقا بجعفر، فيكون مثل أرطى وعلقى، كما قال:
* يستن في علقى وفي مكور *
فإذا وقف على هذا الوجه جازت الإمالة، على أن ينوى الوقف على الألف الملحقة. وقرأ
ورش بين اللفظتين، مثل سكرى وغضبى، وهو اسم جمع، مثل شتى وأسرى. وأصله
وترى من المواترة والتواتر، فقلبت الواو تاء، مثل التقوى والتكلان وتجاه ونحوها. وقيل:
هو [من (2)] الوتر وهو الفرد، فالمعنى أرسلناهم فردا فردا. النحاس: وعلى هذا يجوز " تترا " بكسر
التاء الأولى، وموضعها نصب على المصدر، لان معنى " ثم أرسلنا " واترنا. ويجوز أن
يكون في موضع الحال أي متواترين. (فأتبعنا بعضهم بعضا) أي بالهلاك. (وجعلناهم
أحاديث) جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به، كأعاجيب جمع أعجوبة، وهي ما يتعجب منه.
قال الأخفش: إنما يقال هذا في الشر " جعلناهم أحاديث " ولا يقال في الخير، كما يقال:
صار فلان حديثا أي عبرة ومثلا، كما قال في آية أخرى: " فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل
ممزق (3) " [سبأ: 19].
قلت: وقد يقال فلان حديث حسن، إذا كان مقيدا بذكر ذلك، ومنه قول ابن دريد:
وإنما المرء حديث بعده * فكن حديثا حسنا لمن وعى

(1) راجع ج 7 ص 201.
(2) من ب وط وك.
(3) راجع ج 14 ص 290.
125

قوله تعالى: ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين (45)
إلى فرعون وملأه فاستكبروا وكانوا قوما عالين (46) فقالوا أنؤمن
لبشرين مثلنا وقومهما لنا عبدون (47) فكذبوهما فكانوا من
المهلكين (48)
قوله تعالى: (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين) تقدم (1). ومعنى
(عالين) متكبرين قاهرين لغيرهم بالظلم، كما قال تعالى: " إن فرعون علا في الأرض (2) " [القصص: 4]
(فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا) الآية، تقدم أيضا. ومعنى (من المهلكين) أي بالغرق في البحر.
قوله تعالى: ولقد آتينا موسى الكتب لعلهم يهتدون (49)
قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب) يعنى التوراة، وخص موسى بالذكر لان
التوراة أنزلت عليه في الطور، وهارون خليفة في قومه. ولو قال: " ولقد آتيناهما " جاز (3)
كما قال: " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان (4) " [الأنبياء: 48].
قوله تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمة آية وآويناهما إلى ربوة
ذات قرار ومعين (50)
قوله تعالى: (وجعلنا ابن مريم وأمة آية) تقدم في " الأنبياء (4) " القول فيه.
(وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) الربوة المكان المرتفع من الأرض، وقد تقدم
في " البقرة (5) ". والمراد بها ها هنا في قول أبي هريرة فلسطين. وعنه أيضا الرملة (6)، وروى
عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس وابن المسيب وابن سلام: دمشق. وقال كعب
وقتادة: بيت المقدس. قال كعب: وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. قال:
فكنت هميدا تحت رمس بربوة * تعاورني (7) ريح جنوب وشمال

(1) راجع ج 9 ص 93.
(2) راجع ج 13 ص 48.
(3) أي في غير القرآن.
(4) راجع ج 11 ص 295، وص 337.
(5) راجع ج 3 ص 315.
(6) الرملة
مدينة عظيمة بفلسطين وكانت قصبتها، وكانت رباطا للمسلمين.
(7) في ب وط وك: تعاودي.
126

وقال ابن زيد: مصر. وروى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير: " وآويناهما إلى ربوة "
قال: النشز من الأرض. (ذات قرار) أي مستوية يستقر عليها. وقيل: ذات ثمار،
ولأجل الثمار يستقر فيها الساكنون. (ومعين) ماء جار ظاهر للعيون. يقال: معين
ومعن، كما يقال: رغيف ورغف، قاله على بن سليمان. وقال الزجاج: هو الماء الجاري
في العيون، فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع، وكذلك الميم زائدة في قول من قال إنه
الماء الذي يرى بالعين. وقيل: إنه فعيل بمعنى مفعول. قال على بن سليمان: يقال معن
الماء إذا جرى فهو معين ومعيون. ابن الأعرابي: معن الماء يمعن معونا إذا جرى
وسهل، وأمعن أيضا وأمعنته، ومياه معنان.
قوله تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صلحا إني
بما تعملون عليم (51)
فيه ثلاث مسائل:
الأولى - روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين
فقال: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم " وقال تعالى:
" يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم (1) " [البقرة: 172] - ثم ذكر (2) - الرجل (3) يطيل السفر أشعث
أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي
بالحرام فأنى يستجاب لذلك).
الثانية - قال بعض العلماء: والخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم،
وأنه أقامه مقام الرسل، كما قال: " الذين قال لهم الناس (4) " [آل عمران: 173] يعنى نعيم بن مسعود. وقال

(1) راجع ج 2 ص 215. (2 (هذه الجملة من كلام الراوي، والضمير فيه للنبي صلى الله عليه وسلم.
(3) الرجل، بالرفع مبتدأ، مذكور على وجه الحكاية من لفظ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويجوز أن
ينصب على أنه مفعول " ذكر ".
(4) راجع ج 4 ص 279.
127

الزجاج: هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودل الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا،
أي كلوا من الحلال. وقال الطبري: الخطاب لعيسى عليه السلام، روى أنه كان يأكل
من غزل أمه. والمشهور عنه أنه كان يأكل من بقل البرية. ووجه خطابه لعيسى
ما ذكرناه من تقديره لمحمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له. وقيل: إن هذه المقالة خوطب
بها كل نبي، لان هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها. فيكون المعنى: وقلنا يا أيها الرسل
كلوا من الطيبات، كما تقول لتاجر: يا تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا، فأنت تخاطبه بالمعنى.
وقد اقترن بذلك أن هذه المقالة تصلح لجميع صنفه، فلم يخاطبوا قط مجتمعين صلوات الله
عليهم أجمعين، وإنما خوطب كل واحد في عصره. قال الفراء: هو كما تقول للرجل
الواحد، كفوا عنا أذاكم.
الثالثة - سوى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال
وتجنب الحرام، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: " إني بما تعملون عليم "
صلى الله على رسله وأنبيائه. وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم. وقد مضى
القول في الطيبات والرزق في غير موضع (1)، والحمد لله. وفي قوله عليه السلام (يمد يديه)
دليل على مشروعية مد اليدين عند الدعاء إلى السماء، وقد مضى الخلاف في هذا والكلام
فيه والحمد لله (2). وقوله عليه السلام (فأنى يستجاب لذلك) على جهة الاستبعاد، أي أنه ليس
أهلا لإجابة دعائه لكن يجوز أن يستجيب الله له تفضلا ولطفا وكرما.
قوله تعالى: وإن هذه أمتكم أمة وحدة وأنا ربكم فاتقون (52)
فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما فرحون (53) فذرهم
في غمرتهم حتى حين (54)

(1) راجع ج 1 ص 177.
(2) راجع ج 7 ص 198، وص 223.
128

فيه أربع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) المعنى: هذا الذي تقدم ذكره
هو دينكم وملتكم فالتزموه. والأمة هنا الدين، وقد تقدم محامله (1)، ومنه قوله تعالى:
" إنا وجدنا آباءنا على أمة (2) " [الزخرف: 22] أي على دين. وقال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
الثانية - قرئ " وإن هذه " بكسر " إن " على القطع، وبفتحها وتشديد النون.
قال الخليل: هي في موضع نصب لما زال الخافض، أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي
أمرتكم أن تؤمنوا به. وقال الفراء: " أن " متعلقة بفعل مضمر تقديره: واعلموا أن هذه
أمتكم. وهي عند سيبويه متعلقة بقوله " فاتقون "، والتقدير فاتقون لان أمتكم واحدة.
وهذا كقوله تعالى: " وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (3) " [الجن: 18]، أي لان المساجد لله
فلا تدعوا معه غيره. وكقوله: " لايلاف قريش (4) " [قريش: 1]، أي فليعبدوا رب هذا البيت لايلاف قريش.
الثالثة - وهذه الآية تقوى أن قوله تعالى: " يا أيها الرسل " إنما هو مخاطبة
لجميعهم، وأنه بتقدير حضورهم. وإذا قدرت " يا أيها الرسل " مخاطبة لمحمد صلى الله عليه
وسلم قلق (5) اتصال هذه الآية واتصال قوله: " فتقطعوا ". أما أن قوله:
" وأنا ربكم فاتقون " وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون فيه بالمعنى، فيحسن بعد ذلك اتصال. (فتقطعوا)
أي افترقوا، يعنى الأمم، أي جعلوا دينهم أديانا بعد ما أمروا بالاجتماع. ثم ذكر تعالى أن
كلا منهم معجب برأيه وضلالته وهذا غاية الضلال.
الرابعة - هذه الآية تنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن من قبلكم من
أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين
ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة) الحديث. خرجه أبو داود، ورواه

(1) راجع ج 2 ص 127 وج‍ 3 ص 30.
(2) راجع ج 16 ص 74.
(3) راجع ج 19 ص 19.
(4) راجع ج 20 ص 200.
(5) كذا في ب وج‍ وك‍ والمعنى المراد واضح، وهو أن هذا التقدير يقلق ويقطع الاتصال بين الاثنين.
129

الترمذي وزاد: قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي) خرجه من
حديث عبد الله بن عمرو. وهذا يبين أن الافتراق المحذر منه في الآية والحديث إنما هو
في أصول الدين وقواعده، لأنه قد أطلق عليها مللا، وأخبر أن التمسك بشئ من تلك الملل
موجب لدخول النار. ومثل هذا لا يقال في الفروع، فإنه لا يوجب تعديد الملل ولا عذاب
النار، قال الله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (1) " [المائدة: 48].
قوله تعالى: (زبرا) يعنى كتبا وضعوها وضلالات ألفوها، قاله ابن زيد. وقيل:
إنهم فرقوا الكتب فاتبعت فرقة الصحف وفرقة التوراة وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل،
ثم حرف الكل وبدل، قاله قتادة. وقيل: أخذ كل فريق منهم كتابا آمن به وكفر بما سواه.
و " زبرا " بضم الباء قراءة نافع، جمع زبور. والأعمش وأبو عمرو بخلاف عنه " زبرا " بفتح
الباء، أي قطعا كقطع الحديد، كقوله تعالى: " آتوني زبر الحديد (2) " [الكهف: 96]. (كل حزب) أي
فريق وملة. (بما لديهم) أي عندهم من الدين. (فرحون) أي معجبون به. وهذه الآية
مثال لقريش خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم في شأنهم متصلا بقوله: " فذرهم في غمرتهم "
أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل
شئ وقت. والغمرة في اللغة ما يغمرك ويعلوك، وأصله الستر، ومنه الغمر الحقد لأنه
يغطى القلب. والغمر الماء الكثير لأنه يغطى الأرض. وغمر الرداء الذي يشمل الناس
بالعطاء، قال:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا * غلقت لضحكته رقاب المال
المراد هنا الحيرة والغفلة والضلالة. ودخل فلان في غمار الناس، أي في زحمتهم. وقوله تعالى:
(حتى حين) قال مجاهد: حتى الموت، فهو تهديد لا توقيت، كما يقال: سيأتي لك يوم.
قوله تعالى: أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع
لهم في الخيرات بل لا يشعرون (56)

(1) راجع ج 6 ص 210.
(2) راجع ج 11 ص 60.
130

قوله تعالى: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين) " ما " بمعنى الذي، أي
أيحسبون يا محمد أن الذي نعطيهم في الدنيا من المال والأولاد هو ثواب لهم، إنما هو
استدراج وإملاء، ليس إسراعا في الخيرات. وفي خبر " أن " ثلاثة أقوال، منها أنه محذوف.
وقال الزجاج: المعنى نسارع لهم به في الخيرات، وحذفت به. وقال هشام الضرير قولا
دقيقا، قال: " أنما " هي الخيرات، فصار المعنى: نسارع لهم فيه، ثم أظهر فقال " في الخيرات "،
ولا حذف فيه على هذا التقدير. ومذهب الكسائي أن " أنما " حرف واحد فلا يحتاج إلى
تقدير حذف، ويجوز الوقف على قوله: " وبنين ". ومن قال: " أنما " حرفان فلا بد من ضمير
يرجع من الخبر إلى اسم " أن " ولم يتم الوقف على " وبنين ". وقال السختياني: لا يحسن
الوقف على " وبنين "، لان " يحسبون " يحتاج إلى مفعولين، فتمام المفعولين " في الخيرات "
قال ابن الأنباري: وهذا خطأ، لان " أن " كافية من اسم أن وخبرها ولا يجوز أن يؤتى
بعد " أن " بمفعول ثان. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة " يسارع "
بالياء، على أن يكون فاعله إمدادنا. وهذا يجوز أن يكون على غير حذف، أي يسارع لهم
الامداد. ويجوز أن يكون فيه حذف، ويكون المعنى يسارع الله لهم. وقرئ " يسارع لهم
في الخيرات " وفيه ثلاثة أوجه: أحدها على حذف به. ويجوز أن يكون يسارع الامداد.
ويجوز أن يكون " لهم " اسم ما لم يسم فاعله، ذكره النحاس. قال المهدوي: وقرأ الحر
النحوي " نسرع لهم في الخيرات " وهو معنى قراءة الجماعة. قال الثعلبي: والصواب قراءة
العامة، لقوله: " نمدهم ". (بل لا يشعرون) أن ذلك فتنة لهم واستدراج.
قوله تعالى: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (57)
والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (58) والذين هم بربهم
لا يشركون (59) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى
ربهم راجعون (60)
131

قوله تعالى: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) لما فرغ من ذكر الكفرة
وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين المسارعين في الخيرات ووعدهم، وذكر ذلك بأبلغ
صفاتهم. و (مشفقون) خائفون وجلون مما خوفهم الله تعالى. (والذين هم بآيات ربهم
يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) قال الحسن:
يؤتون الاخلاص ويخافون ألا يقبل منهم. وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها زوج
النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " والذين
يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة " قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال:
(لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل
منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات). وقال الحسن: لقد أدركنا (1) أقواما كانوا من
حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها. وقرأت عائشة رضي الله عنها
وابن عباس والنخعي: " والذين يأتون ما أتوا " مقصورا من الاتيان. قال الفراء:
ولو صحت هذه القراءة عن عائشة لم تخالف قراءة الجماعة، لان الهمز من العرب من يلزم
فيه الألف في كل الحالات إذا كتب، فيكتب سئل الرجل بألف بعد السين، ويستهزئون
بألف بين الزاي والواو، وشئ وشئ بألف بعد الياء، فغير مستنكر في مذهب هؤلاء
أن يكتب " يؤتون " بألف بعد الياء، فيحتمل هذا اللفظ بالبناء على هذا الخط قراءتين
" يؤتون ما آتوا " و " يأتون ما أتوا ". وينفرد ما عليه الجماعة باحتمال تأويلين: أحدهما -
الذين يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقة وقلوبهم خائفة. والاخر - والذين يؤتون
الملائكة الذين يكتبون الأعمال على العباد ما آتوا وقلوبهم وجلة، فحذف مفعول في هذا
الباب لوضوح معناه، كما حذف في قوله عز وجل: " فيه يغاث الناس وفيه يعصرون " [يوسف: 49]
والمعنى يعصرون السمسم والعنب، فاختزل المفعول لوضوح تأويله. ويكون الأصل
في الحرف على هجائه الوجود في الامام " يأتون " بألف مبدلة من الهمزة فكتبت الألف

(1) في ب وك: أدركت.
(2) راجع ج 9 ص 204 فما بعد.
132

واوا لتآخي حروف المد واللين في الخفاء، حكاه ابن الأنباري. قال النحاس: المعروف من
قراءة ابن عباس " والذين يأتون ما أتوا " وهي القراءة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم
وعن عائشة رضي الله عنها، ومعناها يعملون ما عملوا، كما روى في الحديث. والوجل نحو
الاشفاق والخوف، فالتقى والتائب خوفه أمر العاقبة وما يطلع عليه بعد الموت.
وفي قوله:
(أنهم إلى ربهم راجعون) تنبيه على الخاتمة. وفي صحيح البخاري (وإنما الأعمال بالخواتيم).
وأما المخلط فينبغي له أن يكون تحت خوف من أن ينفذ عليه الوعيد بتخليطه. وقال
أصحاب الخواطر: وجل العارف من طاعته أكثر وجلا من وجله من مخالفته، لان المخالفة
تمحوها التوبة، والطاعة تطلب بتصحيح الغرض. (1) (أنهم) أي لأنهم، أو من أجل
(أنهم إلى ربهم راجعون).
قوله تعالى: أولئك يسرعون في الخيرات وهم لها سابقون (61)
قوله تعالى: (أولئك يسارعون في الخيرات) أي في الطاعات، كي ينالوا بذلك أعلى
الدرجات والغرفات. وقرئ: " يسرعون " في الخيرات، أي يكونوا سراعا إليها. ويسارعون على
معنى يسابقون من سابقهم إليها، فالمفعول محذوف. قال الزجاج: يسارعون أبلغ من يسرعون.
(ولهم لها سابقون) أحسن ما قيل فيه: أنهم يسبقون إلى أوقاتها. ودل بهذا أن
الصلاة في أول الوقت أفضل، كما تقدم في " البقرة (2) " وكل من تقدم في شئ فهو سابق
إليه، وكل من تأخر عنه فقد سبقه وفاته، فاللام في " لها " على هذا القول بمعنى إلى،
كما قال: " بأن ربك أوحى (3) لها " [الزلزلة: 5] أي أوحى إليها. وأنشد سيبويه:
تجانف عن جو اليمامة ناقتي * وما قصدت من أهلها لسوائكا (4)
وعن ابن عباس في معنى " وهم لها سابقون " سبقت لهم من الله السعادة، فلذلك سارعوا
في الخيرات. وقيل: المعنى وهم من أجل الخيرات سابقون.

(1) كذا في ب وج‍ وفى ك وط: الغرض وفى ا: الفرض.
(2) راجع ج 2 ص 165.
(3) راجع ج 20 ص 148 فما بعد.
(4) البيت للأعشى. والتجانف: الانحراف والجو
ما اتسع من الأدوية.
133

قوله تعالى: ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتب ينطق بالحق
وهم لا يظلمون (62)
قوله تعالى: (ولا نكلف نفسا إلا وسعها) قد مضى في " البقرة (1) " وأنه ناسخ لجميع
ما ورد في الشرع من تكليف ما لا يطاق. (ولدينا كتاب ينطق بالحق) أظهر ما قيل
فيه: إنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة، وأضافه إلى نفسه لان الملائكة
كتبت فيه أعمال العباد بأمره، فهو ينطق بالحق. وفي هذا تهديد وتأييس من الحيف والظلم.
ولفظ النطق يجوز في الكتاب، والمراد أن النبيين تنطق بما فيه. والله أعلم. وقيل: عنى
اللوح المحفوظ، وقد أثبت فيه كل شئ، فهم لا يجاوزون ذلك. وقيل: الإشارة بقوله:
" ولدينا كتاب " القرآن، فالله أعلم، وكل محتمل والأول أظهر.
قوله تعالى: بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمل من دون
ذلك هم لها عاملون (63) حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم
يجئرون (64) لا تجئروا اليوم إنكم منا لا تنصرون (65)
قوله تعالى: (بل قلوبهم في غمرة من هذا) قال مجاهد: أي في غطاء وغفلة وعماية
عن القرآن. ويقال: غمره الماء إذا غطاه. ونهر غمر يغطى من دخله. ورجل غمر يغمره
آراء الناس (2). وقيل: " غمرة " لأنها تغطي الوجه. ومنه دخل في غمار الناس وخمارهم،
أي فيما يغطيه من الجمع. وقيل: " بل قلوبهم في غمرة " أي في حيرة وعمى، أي مما
وصف من أعمال البر في الآيات المتقدمة، قال قتادة. أو من الكتاب الذي ينطق بالحق.
(ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون) قال قتادة ومجاهد: أي لهم خطايا لا بد
أن يعملوها من دون الحق. وقال الحسن وابن زيد: المعنى ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من

(1) راجع ج 3 ص 427.
(2) كذا في الأصول. والذي في كتب اللغة: " ورجل غمر وغمر
لا تجربة له بحرب ولا أمر، ولم تحنكه التجارب.
134

دون ما هم عليه، لا بد أن يعملوها دون أعمال المؤمنين، فيدخلون بها النار، لما سبق لهم من
الشقوة. ويحتمل ثالثا - أنه ظلم الخلق مع الكفر بالخالق، ذكره الماوردي. والمعنى متقارب.
(حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب) يعني بالسيف يوم بدر، قاله ابن عباس. وقال
الضحاك: يعنى بالجوع حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أشدد وطأتك على مضر
الله اجعلها عليهم سنين كسني يوسف). فابتلاهم الله بالقحط والجوع حتى أكلوا العظام
والميتة والكلاب والجيف، وهلك الأموال والأولاد. (إذا هم يجارون) أي يضجون
ويستغيثون. وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع كما يفعل الثور. وقال الأعشى (1)
يصف بقرة:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة * وكان النكير أن تضيف وتجأرا
قال الجوهري: الجؤار مثل الخوار، يقال: جأر الثور يجأر أي صاح. وقرأ بعضهم:
" عجلا جسدا له جؤار (2) " حكاه الأخفش. وجأر الرجل إلى الله عز وجل تضرع بالدعاء.
قتادة: يصرخون بالتوبة فلا تقبل منهم. قال:
يراوج من صلوات المليك * فطورا سجودا وطورا جؤارا
وقال ابن جريج: " حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب " هم الذين قتلوا ببدر " إذا هم يجأرون "
هم الذين بمكة، فجمع بين القولين المتقدمين، وهو حسن. (لا تجأروا اليوم إنكم منا)
أي من عذابنا. (لا تنصرون) لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم. وقال الحسن: لا تنصرون
بقبول التوبة. وقيل: معنى هذا النهى الاخبار، أي إنكم إن تضرعتم لم ينفعكم.
قوله تعالى: قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقبكم
تنكصون (66) مستكبرين به سمرا تهجرون (67)

(1) راجع هامش ص 115 من ج 10.
(2) راجع ج 7 ص 284.
135

قوله تعالى: (قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون) الآيات يريد
بها القرآن. " تتلى عليكم " أي تقرأ. قال الضحاك: قبل أن تعذبوا بالقتل و " تنكصون "
ترجعون وراءكم. مجاهد: تستأخرون، وأصله أن ترجع القهقرى. قال الشاعر:
زعموا بأنهم على سبل النجا * ة وإنما نكص على الأعقاب (1)
وهو هنا استعارة للاعراض عن الحق. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه " على
أدباركم " بدل " على أعقابكم "، " تنكصون " بضم الكاف. (مستكبرين) حال،
والضمير في " به " قال الجمهور: هو عائد على الحرم أو المسجد أو البلد الذي هو مكة،
وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الامر، أي يقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف. وقيل:
المعنى أنهم يعتقدون في نفوسهم أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل،
فيستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق. وقالت فرقة: الضمير عائد عل القرآن من
حيث ذكرت الآيات، والمعنى: يحدث لكم سماع آياتي كبرا وطغيانا فلا تؤمنوا به. قال
ابن عطية: وهذا قول جيد. النحاس: والقول الأول أولى، والمعنى: أنهم يفتخرون
بالحرم ويقولون نحن أهل حرم الله تعالى.
قوله تعالى: (سامرا تهجرون) فيه أربع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (سامرا تهجرون) " سامرا " نصب على الحال، ومعناه
سمارا، وهم الجماعة يتحدثون بالليل، مأخوذ من السمر وهو ظل القمر، ومنه سمرة اللون.
وكانوا يتحدثون حول الكعبة في سمر القمر، فسمى التحدث به. قال الثوري: يقال لظل
القمر السمر، ومنه السمرة في اللون، ويقال له: الفخت، ومنه قيل: فاختة. وقرأ أبو رجاء
" سمارا " وهو جمع سامر، كما قال:
* ألست ترى السمار والناس أحوالي (2) *

(1) في الأصول: " إنهم " والبيت لا يتزن إلا بدخول الباء، وهي هنا زائدة، كقول النابغة:
* زعم الغداف بأن رحلتنا غدا *
والبيت في ط وك من الخفيف:
زعموا أنهم على سبل الق؟؟ * وأنا نكص على الأعقاب
(2) هذا عجز بيت لامرئ القيس. وصدره: * فقالت سباك الله إنك فاضحي *
136

وفي حديث قيلة: إذا جاء زوجها (1) من السامر، يعنى من القوم الذين يسمرون بالليل، فهو
اسم مفرد بمعنى الجمع، كالحاضر وهم القوم النازلون على الماء، والباقر جمع البقر، والجامل
جمع الإبل، ذكورتها وإناثها، ومنه قوله تعالى: " ثم نخرجكم طفلا (2) " [الحج: 5] أي أطفالا. يقال:
قوم سمر وسمر وسامر، ومعناه سهر الليل، مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشجار من ضوء
القمر. قال الجوهري: السامر أيضا السمار، وهم القوم الذين يسمرون، كما يقال للحاج:
حجاج، وقول الشاعر:
* وسامر طال فيه اللهو والسمر *
كأنه سمى المكان الذي يجتمع فيه للسمر بذلك. وقيل: وحد سامرا وهو بمعنى السمار،
لأنه وضع موضع الوقت، كقول الشاعر:
من دونهم إن جئتهم سمرا * عزف القيان ومجلس غمر
فقال: سمرا، لان معناه: إن جئتهم ليلا وجدتهم وهم يسمرون. وابنا سمير: الليل والنهار،
لأنه يسمر فيهما، يقال: لا أفعله ما سمر ابنا سمير أبدا. ويقال، السمير الدهر، وابناه
الليل والنهار. ولا أفعله السمر والقمر، أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمراء. ولا أفعله
سمير الليالي. قال الشنفري:
هنالك لا أرجو حياة تسرني * سمير الليالي مبسلا بالجرائر
والسمار (بالفتح) اللبن الرقيق. وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث، وهذا أوجب معرفتها
بالنجوم، لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب. وكانت قريش تسمر حول
الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها: فعابهم الله بذلك. و " تهجرون " قرئ بضم التاء وكسر
الجيم من أهجر، إذا نطق بالفحش. وبنصب التاء وضم الجيم من هجر المريض إذا هذى.
ومعناه: يتكلمون بهوس وسئ من القول في النبي صلى الله عليه وسلم وفي القرآن،
عن ابن عباس وغيره:
الثانية - روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنما كره السمر حين نزلت
هذه الآية: " مستكبرين به سامرا تهجرون "، يعنى أن الله تعالى ذم أقواما يسمرون في غير

(1) في ب وك: زوجنا.
(2) راجع ص 6 من هذا الجزء
137

طاعة الله تعالى، إما في هذيان وإما في إذاية. وكان الأعمش يقول: إذا رأيت الشيخ ولم
يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمر، يعنى يجتمعون في ليالي القمر فيتحدثون بأيام
الخلفاء والامراء ولا يحسن أحدهم يتوضأ للصلاة.
الثالثة - روى مسلم عن أبي برزة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء
إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها. قال العلماء: أما الكراهية للنوم قبلها فلئلا
يعرضها للفوات عن كل وقتها أو أفضل وقتها، ولهذا قال عمر: فمن نام فلا نامت عينه،
ثلاثا. وممن كره النوم قبلها عمر وابنه عبد الله وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب مالك.
ورخص فيه بعضهم، منه على وأبو موسى وغيرهم، وهو مذهب الكوفيين. وشرط بعضهم
أن يجعل معه من يوقظه للصلاة. وروى عن ابن عمر مثله وإليه ذهب الطحاوي.
وأما كراهية الحديث بعدها فلان الصلاة قد كفرت خطاياه فينام على سلامة، وقد ختم الكتاب
صحيفته بالعبادة، فإن هو سمر وتحدث فيملؤها بالهوس ويجعل خاتمتها اللغو والباطل، وليس
هذا من فعل المؤمنين. وأيضا فإن السمر في الحديث مظنة غلبة النوم آخر الليل فينام عن
قيام آخر الليل، وربما ينام عن صلاة الصبح. وقد قيل: إنما يكره السمر بعدها لما
روى جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والسمر بعد هدأة
الرجل فإن أحدكم لا يدرى ما يبث الله تعالى من خلقه أغلقوا الأبواب وأوكوا السقاء وخمروا
الاناء وأطفئوا المصابيح). وروى عن عمر أنه كان يضرب الناس على الحديث بعد العشاء،
ويقول: أسمرا أول الليل ونوما آخره! أريحوا كتابكم. حتى أنه روى عن ابن عمر أنه
قال: من قرض بيت شعر بعد العشاء لم تقبل له صلاة حتى يصبح. وأسنده شداد بن أوس
إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها إنما هو لما
أن الله تعالى جعل الليل سكنا، أي يسكن فيه، فإذا تحدث الانسان فيه فقد جعله في النهار
الذي هو متصرف المعاش، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده
فقال: " وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا " (1) [الفرقان: 47].

(1) راجع ج 13 ص 38.
138

الرابعة - هذه الكراهة إنما تختص بما لا يكون من قبيل القرب والأذكار وتعليم
العلم، ومسامرة الأهل بالعلم وبتعليم المصالح وما شابه ذلك، فقد ورد عن النبي صلى الله
عليه وسلم وعن السلف ما يدل على جواز ذلك، بل على ندبيته. وقد قال البخاري:
(باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء) وذكر أن قرة بن خالد قال: انتظرنا الحسن وراث (1)
علينا حتى جاء قريبا من وقت قيامه، فجاء فقال: دعانا جيراننا هؤلاء. ثم قال أنس:
انتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى كان شطر الليل فجاء فصلى ثم خطبنا
فقال: (إن الناس قد صلوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة). قال الحسن:
فإن القوم لا يزالون في خير ما انتظروا الخير. قال: (باب السمر مع الضيف والأهل)
وذكر حديث أبي بكر بن عبد الرحمن أن أصحاب الصفة كانوا فقراء... الحديث. أخرجه
مسلم أيضا. وقد جاء في حراسة الثغور وحفظ العساكر بالليل من الثواب الجزيل والاجر
العظيم ما هو مشهور في الاخبار. وقد مضى من ذلك جملة في آخر " آل عمران (2) "
والحمد لله وحده.
قوله تعالى: أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم
الأولين (68)
قوله تعالى: (أفلم يدبروا القول) يعنى القرآن، وهو كقوله تعالى: " أفلا يتدبرون
القرآن (3) " [النساء: 82]. وسمى القرآن قولا لأنهم خوطبوا به.
(أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين)
فأنكروه وأعرضوا عنه. وقيل: " أم " بمعنى بل، أي بل جاءهم ما لا عهد لآبائهم به،
فلذلك أنكروه وتركوا التدبر له. قاله ابن عباس: وقيل: المعنى أم جاءهم أمان من العذاب،
وهو شئ لم يأت آباءهم الأولين فتركوا الأعز.
قوله تعالى: أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون (69)

(1) راث: أبطأ.
(2) راجع ج 4 ص 323 فما بعد.
(3) راجع ج 5 ص 288 فما بعد.
139

هذا تستعمله العرب على معنى التوقيف والتقبيح، فيقولون: الخير أحب إليك أم الشر،
أي قد أخبرت الشر فتجنبه، وقد عرفوا رسولهم وأنه من أهل الصدق والأمانة، ففي اتباعه
النجاة والخير لولا العنت. قال سفيان: بلى! قد عرفوه ولكنهم حسدوه!
قوله تعالى: أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم
للحق كارهون (70)
قوله تعالى: (أم يقولون به جنة) أي أم يحتجون في ترك الايمان به بأنه مجنون،
فليس هو هكذا! لزوال أمارات الجنون عنه. (بل جاءهم بالحق) يعنى القرآن والتوحيد
الحق والدين الحق. (وأكثرهم) أي كلهم (للحق كارهون) حسدا وبغيا وتقليدا.
قوله تعالى: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض
ومن فيهن بل أتيناهم بذكر هم فهم عن ذكر هم معرضون (71)
قوله تعالى: (ولو اتبع الحق) " الحق " هنا هو الله سبحانه وتعالى، قاله الأكثرون،
منهم مجاهد وابن جريج وأبو صالح وغيرهم. وتقديره في العربية: ولو اتبع صاحب الحق،
قاله النحاس. وقد قيل: هو مجاز، أي لو وافق الحق أهواءهم، فجعل موافقته اتباعا مجازا،
أي لو كانوا يكفرون بالرسل ويعصون الله عز وجل ثم لا يعاقبون ولا يجازون على ذلك
إما عجزا وإما جهلا لفسدت السماوات والأرض. وقيل: المعنى ولو كان الحق ما يقولون
من اتخاذ آلهة مع الله تعالى لتنافت الالهة، وأراد بعضهم ما لا يريده بعض، فاضطرب التدبير
وفسدت السماوات والأرض، وإذا فسدتا فسد من فيهما. وقيل: " لو اتبع الحق أهواءهم "
أي بما يهواه الناس ويشتهونه لبطل نظام العالم، لان شهوات الناس تختلف وتتضاد، وسبيل
الحق أن يكون متبوعا، وسبيل الناس الانقياد للحق. وقيل: " الحق " القرآن، أي لو نزل
القرآن بما يحبون لفسدت السماوات والأرض. (ومن فيهن) إشارة إلى من يعقل من
ملائكة السماوات وإنس الأرض وجنها، الماوردي. وقال الكلبي: يعنى وما بينهما من
140

خلق، وهي قراءة ابن مسعود " لفسدت السماوات والأرض وما بينهما ". فيكون على
تأويل الكلبي وقراءة ابن مسعود محمولا على فساد من يعقل وما لا يعقل من حيوان وجماد.
وظاهر التنزيل في قراءة الجمهور يكون محمولا على فساد ما يعقل من الحيوان، لان ما لا يعقل
تابع لما يعقل في الصلاح والفساد، فعلى هذا ما يكون من الفساد يعود على من في السماوات
من الملائكة بأن جعلت أربابا وهي مربوبة، وعبدت وهي مستعبدة. وفساد الانس يكون
على وجهين: أحدهما - باتباع الهوى، وذلك مهلك. الثاني - بعبادة غير الله، وذلك كفر.
وأما فساد ما عدا ذلك فيكون على وجه التبع، لأنهم مدبرون بذوي العقول فعاد فساد
المدبرين عليهم.
قوله تعالى: (بل أتيناهم بذكرهم) أي بما فيه شرفهم وعزهم، قاله السدى
وسفيان. وقال قتادة: أي بما لهم فيه ذكر ثوابهم وعقابهم.
ابن عباس: أي ببيان الحق
وذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين. (فهم عن ذكرهم معرضون).
قوله تعالى: أم تسئلهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير
الرازقين (72)
قوله تعالى: (أم تسألهم خرجا) أي أجرا على ما جئتهم به، قاله الحسن وغيره.
(فخراج ربك خير) وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب: " خراجا " بألف.
الباقون بغير ألف. وكلهم قد قرأوا " فخراج " بالألف إلا ابن عامر وأبا حياة فإنهما قرأ
بغير الألف. والمعنى: أم تسألهم رزقا فرزق ربك خير. (وهو خير الرازقين) أي ليس
يقدر أحد أن يرزق مثل رزقه، ولا ينعم مثل إنعامه. وقيل: أي ما يؤتيك الله من الاجر
على طاعتك له والدعاء إليه خير من عرض الدنيا، وقد عرضوا عليك أموالهم حتى تكون كأعين
رجل من قريش فلم تجبهم إلى ذلك، قال معناه الحسن. والخرج والخراج واحد، إلا أن
اختلاف الكلام أحسن، قاله الأخفش. وقال أبو حاتم: الخرج الجعل، والخراج العطاء.
141

المبرد: الخرج المصدر، والخراج الاسم. وقال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء
عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك، والخرج ما تبرعت به. وعنه أن
الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض. ذكر الأول الثعلبي والثاني الماوردي.
قوله تعالى: وإنك لتدعوهم إلى صرط مستقيم (73) وإن الذين
لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون (74)
قوله تعالى: (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) أي إلى دين قويم. والصراط
في اللغة الطريق، فسمى الدين طريقا لأنه يؤدى إلى الجنة فهو طريق إليها. (وإن الذين
لا يؤمنون بالآخرة) أي بالبعث. (عن الصراط لناكبون) قيل: هو مثل الأول.
وقيل: إنهم عن طريق الجنة لناكبون حتى يصيروا إلى النار. نكب عن الطريق ينكب
نكوبا إذا عدل عنه ومال إلى غيره، ومنه نكبت الريح إذا لم تستقم على مجرى. وشر
الريح النكباء.
قوله تعالى: ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا
في طغيانهم يعمهون (75)
قوله تعالى: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر) أي لو رددناهم إلى الدنيا
ولم ندخلهم النار وامتحناهم (للجوا في طغيانهم) قال السدى: في معصيتهم. (يعمهون)
قال الأعمش: يترددون. وقال ابن جريج: " ولو رحمناهم " يعنى في الدنيا " وكشفنا ما بهم
من ضر " أي من قحط وجوع " للجوا " أي لتمادوا " في طغيانهم " وضلالتهم وتجاوزهم
الحد " يعمهون " يتذبذبون ويخبطون.
قوله تعالى: ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم
وما يتضرعون (76)
142

قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب) قال الضحاك: بالجوع. وقيل: بالأمراض
والحاجة والجوع. وقيل: بالقتل والجوع. (فما استكانوا لربهم) أي ما خضعوا.
(وما يتضرعون) أي ما يخشعون لله عز وجل في الشدائد تصيبهم. قال ابن عباس:
نزلت في قصة ثمامة بن أثال لما أسرته السرية وأسلم وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
سبيله، حال بين مكة وبين الميرة وقال: والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن
فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخذ الله قريشا بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة
والكلاب والعلهز، قيل: وما العلهز؟ قال: كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم
ثم يشوونه ويأكلونه. فقال له أبو سفيان: أنشدك الله والرحم! أليس تزعم أن الله بعثك
رحمة للعالمين؟ قال (بلى). قال: فوالله ما أراك إلا قتلت الاباء بالسيف، وقتلت الأبناء
بالجوع، فنزل قوله: " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ".
قوله تعالى: حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه
مبلسون (77) قوله تعالى: (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد) قال عكرمة: هو باب من
أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، وقد فلعت
الرحمة من قلوبهم، إذا بلغوه فتحه الله عز وجل عليهم. وقال ابن عباس: هو قتلهم بالسيف
يوم بدر. مجاهد: هو القحط الذي أصابهم حتى أكلوا العلهز من الجوع، على ما تقدم.
وقيل: فتح مكة. (إذا هم فيه مبلسون) أي يائسون متحيرون لا يدرون ما يصنعون،
كالآيس من الفرج ومن كل خير. وقد تقدم في " الانعام (1) ".
قوله تعالى: وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصر والأفئدة قليلا
ما تشكرون (78)

(1) راجع ج 6 ص 426.
143

قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار) عرفهم كثرة نعمه وكمال قدرته.
(قليلا ما تشكرون) أي ما تشكرون إلا شكرا قليلا. وقيل: أي لا تشكرون ألبتة.
قوله تعالى: وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون (79)
قوله تعالى: (وهو الذي ذرأكم في الأرض) أي أنشأ كم وبثكم وخلقكم. (وإليه
تحشرون) أي تجمعون للجزاء.
قوله تعالى: وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار
أفلا تعقلون (80) بل قالوا مثل ما قال الأولون (81) قالوا أإذا متنا
وكنا ترابا وعظما أإنا لمبعوثون (82) لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا
من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (83) قل لمن الأرض ومن فيها
إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب
السماوات السبع ورب العرش العظيم (86) سيقولون لله قل أفلا
تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه
إن كنتم تعلمون (88) سيقولون لله قل فأنى تسحرون (89)
قوله تعالى: (وهو الذي يحيى ويميت وله اختلاف الليل والنهار) أي جعلهما
مختلفين، كقولك: لك الاجر والصلة، أي إنك تؤجر وتوصل، قاله الفراء. وقيل:
اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الاخر. وقيل: اختلافهما في النور والظلمة. وقيل:
تكررهما يوما بعد ليلة وليلة بعد يوم. ويحتمل خامسا: اختلاف ما مضى فيهما من سعادة
وشقاء وضلال وهدى. (أفلا تعقلون) كنه قدرته وربوبيته ووحدانيته، وأنه لا يجوز
أن يكون له شريك من خلقه، وأنه قادر على البعث. ثم عيرهم بقولهم وأخبر عنهم أنهم
144

(قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) هذا لا يكون
ولا يتصور. (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل) أي من قبل مجئ محمد صلى الله عليه
وسلم، فلم نر له حقيقة. (إن هذا) أي ما هذا (إلا أساطير الأولين) أي أباطيلهم
وترهاتهم، وقد تقدم هذا كله. قال الله تعالى: (قل) يا محمد جوابا لهم عما قالوه (لمن
الأرض ومن فيها) يخبر بربوبيته ووحدانيته وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول، ف‍ (سيقولون لله) ولا بد لهم من ذلك. ف‍ (قل أفلا تذكرون) أي أفلا تتعظون
وتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو على إحياء الموتى بعد موتهم قادر. (قل
من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون لله قل أفلا تتقون) يريد
أفلا تخافون حيث تجعلون لي ما تكرهون، زعمتم أن الملائكة بناتي، وكرهتم لأنفسكم البنات.
(قل من بيده ملكوت كل شئ) يريد السماوات وما فوقها وما بينهن، والأرضين وما تحتهن
وما بينهن، وما لا يعلمه أحد إلا هو. وقال مجاهد: " ملكوت كل شئ " خزائن كل شئ.
الضحاك: ملك كل شئ. والملكوت من صفات المبالغة كالجبروت والرهبوت، وقد مضى
في " الانعام (1) ". (وهو يجير ولا يجار عليه) أي يمنع ولا يمنع منه. وقيل: " يجير " يؤمن
من شاء. " ولا يجار عليه " أي لا يؤمن من أخافه. ثم قيل: هذا في الدنيا، أي من أراد
الله إهلاكه وخوفه لم يمنعه منه مانع، ومن أراد نصره وأمنه لم يدفعه من نصره وأمنه دافع.
وقيل: هذا في الآخرة، أي لا يمنعه من مستحق الثواب مانع ولا يدفعه عن مستوجب
العذاب دافع. (فأنى تسحرون) أي فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعته وتوحيده.
أو كيف يخيل إليكم أن تشركوا به مالا يضر ولا ينفع! والسحر هو التخييل. وكل هذا
احتجاج على العرب المقرين بالصانع. وقرأ أبو عمرو: " سيقولون الله " في الموضعين الأخيرين،
وهي قراءة أهل العراق. الباقون: " لله "، ولا خلاف في الأول أنه " لله "، لأنه جواب ل‍ " قل
لمن الأرض ومن فيها " فلما تقدمت اللام في " لمن " رجعت في الجواب. ولا خلاف أنه

(1) راجع ج 7 ص 23.
145

مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف. وأما من قرأ: " سيقولون الله " فلان السؤال بغير لام
فجاء الجواب على لفظه، وجاء في الأول " لله " لما كان السؤال باللام. وأما من قرأ: " لله "
باللام في الأخيرين وليس في السؤال لام فلان معنى " قل من رب السماوات السبع ورب
العرش العظيم ": قل لمن السماوات السبع ورب العرش العظيم. فكان الجواب " لله "، حين
قدرت اللام في السؤال. وعلة الثالثة كعلة الثانية. وقال الشاعر:
إذا قيل من رب المزالف والقرى * ورب الجياد الجرد قلت لخالد (1)
أي لمن المزالف، [والمزالف: البراغيل وهي البلاد التي بين الريف والبر: الواحدة مزلفة (2)].
ودلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار وإقامة الحجة عليهم. وقد تقدم في " البقرة (3) ".
ونبهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع والايجاد والابداع هو المستحق للألوهية والعبادة.
قوله تعالى: بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون (90) ما اتخذ الله
من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا
بعضهم على بعض سبحن الله عما يصفون (91) علم الغيب والشهدة
فتعالى عما يشركون (92)
قوله تعالى: (بل أتيناهم بالحق) أي بالقول الصدق، لا ما تقوله الكفار من إثبات
الشريك ونفى البعث. (وإنهم لكاذبون) أن الملائكة بنات الله. فقال الله تعالى:
(ما اتخذ الله من ولد) " من " صلة. (وما كان معه من إله) " من " زائدة، والتقدير:
ما اتخذ الله ولدا كما زعمتم، ولا كان معه إله فيما خلق. وفي الكلام حذف، والمعنى: لو كانت
معه آلهة لا نفرد كل إله بخلقه. (ولعلا بعضهم على بعض) أي ولغالب وطلب القوى
الضعيف كالعادة بين الملوك، وكان الضعيف المغلوب لا يستحق الإلهية. وهذا الذي يدل
على نفى الشريك يدل على نفى الولد أيضا، لان الولد ينازع الأب في الملك منازعة الشريك.

(1) الأجرد من الخيل والدواب: القصير الشعر.
(2) من ب.
(3) راجع ج 3 ص 286.
146

(سبحان الله عما يصفون) تنزيها له عن الولد والشريك. (عالم الغيب والشهادة) [أي هو (1)
عالم الغيب] (فتعالى عما يشركون) تنزيه وتقديس. وقرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي:
" عالم " بالرفع على الاستئناف، أي هو عالم الغيب. الباقون بالجر على الصفة لله. وروى
رويس عن يعقوب: " عالم " إذا وصل خفضا. وعالم " إذا ابتدأ رفعا.
قوله تعالى: قل رب إما تريني ما يوعدون (93) رب فلا تجعلني
في القوم الظالمين (94) علمه ما يدعو به، أي قل رب، أي يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب.
(فلا تجعلني في القوم الظالمين) أي في نزول العذاب بهم، بل أخرجني منهم. وقيل:
النداء معترض، و " ما " في " إما " زائدة. وقيل: إن أصل إما إن ما، ف‍ " إن " شرط
و " ما " شرط، فجمع بين الشرطين توكيدا، والجواب: " فلا تجعلني في القوم الظالمين "، أي إذا
أردت بهم عقوبة فأخرجني منهم. وكان عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم
الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره الرب بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره وليكون
في كل الأوقات ذاكرا لربه تعالى.
قوله تعالى: وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون (95)
نبه على أن خلاف المعلوم مقدور، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف،
ونجاه الله ومن آمن به من ذلك.
قوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون (96)
قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) أمر بالصفح ومكارم الأخلاق، فما كان
منها لهذه الأمة فيما بينهم فهو محكم باق في الأمة أبدا. وما كان فيها من [معنى (2)] موادعة الكفار
وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال. (نحن أعلم بما يصفون) أي من
الشرك والتكذيب. وهذا يقتضى أنها آية موادعة، والله تعالى أعلم.

(1) من ب.
(2) من ب وج‍ وط وك.
147

قوله تعالى: وقل رب أعوذ بك من همزت الشيطين (97) وأعوذ
بك رب أن يحضرون (98)
قوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين).
فيه مسئلتان:
الأولى - قوله تعالى: (من همزات الشياطين) الهمزات هي جمع همزة. والهمز
في اللغة النخس والدفع، يقال: همزة ولمزه ونخسه دفعه. قال الليث: الهمز كلام من وراء
القفا، واللمز مواجهة. والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن آدم، وهو قوله:
" أعوذ بك من همزات الشياطين " أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى.
وفي الحديث: كان يتعوذ من همز الشياطين ولمزه وهمسه. قال أبو الهيثم: إذا أسر الكلام
وأخفاه فذلك الهمس من الكلام. وسمى الأسد هوسا، لأنه يمشى بخفة فلا يسمع صوت
وطئه. وقد تقدم في " طه (1) ".
الثانية - أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان
في همزاته، وهي سورات الغضب التي لا يملك الانسان فيها نفسه، وكأنها هي التي كانت
تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة فلذلك اتصلت بهذه الآية. فالنزغات وسورات
الغضب الواردة من الشيطان هي المتعوذ منها في الآية، وقد تقدم في آخر " الأعراف (2)
بيانه مستوفى، وفي أو الكتاب أيضا (3). وروى عن علي بن حرب بن محمد الطائي حدثنا
سفيان عن أيوب عن محمد بن حبان أن خالدا كان يؤرق من الليل، فذكر ذلك للنبي صلى الله
عليه وسلم، فأمره أن يتعوذ بكلمات الله التامة من غضب الله وعقابه ومن شر عباده ومن
همزات الشياطين وأن يحضرون. وفي كتاب أبى داود قال عمر: وهمزه الموتة، قال
ابن ماجة: الموتة يعنى الجنون. والتعوذ أيضا من الجنون وكيد. وفي قراءة أبى " رب
عائذا بك من همزات الشياطين، وعائذا بك أن يحضرون، أي يكونوا معي في أموري،

(1) راجع ج 11 ص 247.
(2) راجع ج 7 ص 347.
(3) راجع ج 1 ص 86.
148

فإنهم إذا حضروا الانسان كانوا معدين للهمز، وإذا لم يكن حضور فلا همز. وفي صحيح
مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الشيطان يحضر
أحدكم عند كل شئ من شأنه حتى يحضر عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط
ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدرى
في أي طعامه البركة).
قوله تعالى: حتى إذا أحدهم الموت قال رب ارجعون (99)
لعلى أعمل صلحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم
برزخ إلى يوم يبعثون (100)
قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون) عاد الكلام إلى ذكر
المشركين، أي قالوا: " أئذا متنا - إلى قوله - إن هذا إلا أساطير الأولين ". ثم احتج عليهم
وذكرهم قدرته على كل شئ، ثم قال: هم مصرون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن
ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه، كما قال تعالى: " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا
الملائكة (1) " [الأنفال: 50]. (فال رب ارجعون) تمنى الرجعة كي يعمل صالحا فيما ترك. وقد يكون القول
في النفس، قال الله عز وجل: " ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول (2) " [المجادلة: 8]. فأما قوله
" ارجعون " وهو مخاطب ربه عز وجل ولم يقل: " ارجعني " جاء على تعظيم الذكر للمخاطب.
وقيل: استغاثوا بالله عز وجل أولا، فقال قائلهم: رب، ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة
فقال: ارجعون إلى الدنيا، قاله ابن جريج. وقيل: إن معنى " ارجعون " على جهة التكرير،
أي ارجعني ارجعني ارجعني وهكذا. قال المزني في قوله تعالى: " ألقيا في جهنم (2) " [ق: 24] قال: معناه
ألق ألق. قال الضحاك: المراد به أهل الشرك.
قلت: ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما في آخر سورة المنافقين
على ما يأتي (3). ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف اضطرارا أهو من أولياء

(1) راجع ج 8 ص 28.
(2) راجع ج 17 ص 294، وص 16.
(3) راجع ج 18 ص 130.
149

الله أم من أعداء الله، ولولا ذلك لما سأل الرجعة، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه.
(لعلى أعمل صالحا) قال ابن عباس: يريد أشهد أن لا إله إلا الله. (فيما تركت)
أي فيما ضيعت وتركت العمل به من الطاعات. وقيل: " فيما تركت " من المال فأتصدق.
و " لعل " تتضمن ترددا، وهذا الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب، وهو يوطن نفسه على
العمل الصالح قطعا من غير تردد. فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا، وإما إلى التوفيق، أي
أعمل صالحا إن وفقتني، إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رد إلى الدنيا.
(كلا) هذه كلمة رد، أي ليس الامر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا،
بل هو كلام يطيح في أدراج الريح. وقيل: لو أجيب إلى ما يطلب لما وفى بما يقول،
كما قال: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه (1) " [الانعام: 28]. وقيل: " كلا إنها كلمة هو قائلها " ترجع
إلى الله تعالى، أي لا خلف في خبره، وقد أخبر أنه لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وأخبر بأن
هذا الكافر لا يؤمن. وقيل: " إنها كلمة هو قائلها " عند الموت، ولكن لا تنفع. (ومن
ورائهم برزخ) أي ومن أمامهم وبين أيديهم. وقيل: من خلفهم. " برزخ " أي حاجز بين
الموت والبعث، قاله الضحاك ومجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيضا أن البرزخ هو الحاجز
بين الموت والرجوع إلى الدنيا. وعن الضحاك: هو ما بين الدنيا والآخرة. ابن عباس:
حجاب. السدى: أجل. قتادة: بقية الدنيا. وقيل: الامهال إلى يوم القيامة، حكاه
ابن عيسى. الكلبي: هو الاجل ما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة. وهذه الأقوال
متقاربة. وكل حاجز بين شيئين فهو برزخ. قال الجوهري: البرزخ الحاجز بين الشيئين.
والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث، فمن مات فقد دخل في البرزخ.
وقال رجل بحضرة الشعبي: رحم الله فلانا فقد صار من أهل الآخرة! فقال: لم يصر من
أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة. وأضيف
" يوم " إلى " يبعثون " لأنه ظرف زمان، والمراد بالإضافة المصدر.

(1) راجع ج 6 ص 10.
150

قوله تعالى: فإذا نفح في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ
ولا يتساءلون (101)
قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور) المراد بهذا النفخ النفخة الثانية. (فلا أنساب
بينهم يومئذ ولا يتساءلون) قال ابن عباس: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون
بها في الدنيا، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا، من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب،
ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم. وعن ابن عباس أن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من
في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، ثم نفخ
فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وسأل رجل ابن عباس
عن هذه الآية وقوله: " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (1) " [الصافات: 50] فقال: لا يتساءلون في النفخة
الأولى، لأنه لا يبقى على الأرض حي، فلا أنساب ولا تساؤل. وأما قوله: " فأقبل بعضهم
على بعض يتساءلون " فإنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا. وقال ابن مسعود: إنما عنى في هذه
الآية النفخة الثانية. وقال أبو عمر زاذان: دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخير
واليمنة قد سبقوني إليه، فناديت بأعلى صوت: يا عبد الله بن مسعود! من أجل أنى رجل
أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني! فقال: ادنه، فدنوت، حتى ما كان بيني وبينه جليس
فسمعته يقول: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين
ثم ينادى مناد: هذا فلان بن فلان، ومن كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن
يدور لها الحق على أبيها أو على زوجها أو على أخيها أو على ابنها، ثم قرأ ابن مسعود:
" فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " فيقول الرب سبحانه وتعالى (آت هؤلاء
حقوقهم) فيقول: يا رب قد فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم، فيقول الرب للملائكة: (خذوا
من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته) فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة
من خردل فيضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: " إن الله لا يظلم

(1) راجع ج 15 ص 81.
151

مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (1) " [النساء: 40]. وإن كان شقيا قالت
الملائكة: رب! فنيت حسناته وبقي طالبون، فيقول الله تعالى: (خذوا من أعمالهم
فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكا إلى جهنم).
قوله تعالى: فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (102) ومن
خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خلدون (103)
تقدم الكلام فيهما (2).
قوله تعالى: تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون (104) ألم تكن
آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون (105) قوله تعالى: (تلفح وجوههم النار) ويقال " تنفح " بمعناه: ومنه: " ولئن مستهم
نفحة من عذاب ربك " [الأنبياء: 46]. إلا أن " تلفح " أبلغ بأسا، يقال: لفحته النار والسموم بحرها
أحرقته. ولفحته بالسيف لفحة إذا ضربته به [ضربة (4)] خفيفة.
(وهم فيها كالحون) قال
ابن عباس: عابسون. وقال أهل اللغة: الكلوح تكشر في عبوس. والكالح: الذي
قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه. قال الأعمش:
وله المقدم لا مثل له * ساعة الشدق عن الناب كلح
وقد كلح الرجل كلوحا وكلاحا. وما أقبح كلحته، يراد به الفم وما حواليه. ودهر كالح
أي شديد. وعن ابن عباس أيضا " وهم فيها كالحون " يريد كالذي كلح وتقلصت شفتاه
وسال صديده. وقال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار، وقد بدت أسنانه وقلصت
شفتاه. وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وهم فيها
كالحون - قال - تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته
السفلى حتى تضرب سرته) قال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

(1) راجع ج 5 ص 194 فما بعد.
(2) راجع ج 7 ص 166.
(3) راجع ج 11 ص 292 فما بعد.
(4) كذا في معاجم اللغة. وفى الأصول: ضربته حقيقة وهو تحريف.
152

قوله تعالى: قالوا ربنا غلبت شقوتنا وكنا قوما ضالين (106)
ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون (107) قال اخسئوا فيها
ولا تكلمون (108)
قوله تعالى: (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا) قراءة أهل المدينة وأبى عمرو وعاصم
" شقوتنا " وقرأ الكوفيون إلا عاصما: " شقاوتنا ". وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود
والحسن. ويقال: شقاء وشقا، بالمد والقصر. وأحسن ما قيل في معناه: غلبت علينا لذاتنا
وأهواؤنا، فسمى اللذات والأهواء شقوة، لأنهما يؤديان إليها، كما قال الله عز وجل:
" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا (1) " [النساء: 10]، لان ذلك يؤديهم إلى
النار. وقيل: ما سبق في علمك وكتب علينا في أم الكتاب من الشقاوة. وقيل: حسن
الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق. (وكنا قوما ضالين) أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى.
وليس هذا اعتذار منهم إنما هو إقرار، ويدل على ذلك قولهم: (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا
فإنا ظالمون) طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت. " فإن عدنا " إلى الكفر
" فإنا ظالمون " لأنفسنا بالعود إليه فيجابون بعد ألف سنة: (اخسؤا فيها ولا تكلمون)
أي ابعدوا في جهنم، كما يقال للكلب: اخسأ، أي أبعد. خسأت الكلب خسئا طردته.
وخسأ الكلب بنفسه خسوءا، يتعدى ولا يتعدى. وانخسأ الكلب أيضا. وذكر ابن المبارك
قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة يذكره عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو
ابن العاصي قال: إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يرد عليهم: إنكم
ماكثون. قال: هانت والله دعوتهم على مالك ورب مالك. قال: ثم يدعون ربهم
فيقولون: " ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا
فإنا ظالمون ". قال: فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين. قال: ثم يرد عليهم اخسئوا
فيها. قال: فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق من نار جهنم

(1) راجع ج 5 ص 53
153

فشبه أصواتهم بصوت الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق. خرجه الترمذي مرفوعا بمعناه من
حيث أبى الدرداء. وقال قتادة: صوت الكفار في النار كصوت الحمار، أوله زفير وآخره
شهيق. وقال ابن عباس: يصير لهم نباح كنباح الكلاب. وقال محمد بن كعب القرظي:
بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة... الخبر بطوله، ذكره ابن المبارك، وقد
ذكرناه بكماله في التذكرة، وفي آخره: ثم مكث عنهم ما شاء الله، ثم ناداهم " ألم تكن آياتي تتلى
عليكم فكنتم بها تكذبون " قال: فلما سمعوا صوته قالوا الان يرحمنا ربنا، فقالوا عند ذلك.
" ربنا غلبت علينا شقوتنا " أي الكتاب الذي كتب علينا " وكنا قوما ضالين. ربنا أخرجنا
منها فإن عدنا فإنا ظالمون " فقال عند ذلك: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " فانقطع عند ذلك
الدعاء والرجاء، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض، وأطبقت عليهم.
قوله تعالى: إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر
لنا وارحمنا وأنت خير الرحمين (109) فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم
ذكرى وكنتم منهم تضحكون (110) إني جزيتهم اليوم بما صبروا
أنهم هم الفائزون (111) قوله تعالى: (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا) الآية. قال
مجاهد: هم بلال وخباب وصهيب، وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين، كان أبو جهل وأصحابه
يهزءون بهم. (فاتخذتموهم سخريا) بالضم قراءة نافع وحمزة والكسائي ها هنا وفي " ص (1) ".
وكسر الباقون. قال النحاس: وفرق أبو عمرو بينهما، فجعل المكسورة من جهة التهزؤ،
والمضمومة من جهة السخرة، ولا يعرف هذا التفريق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي
ولا الفراء. قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، كما يقال: عصى وعصى، ولجى ولجى.
وحكى الثعلبي عن الكسائي والفراء: الفرق الذي ذكره أبو عمرو، وأن الكسر بمعنى الاستهزاء

(1) راجع ج 15 ص 224 فما بعد.
154

والسخرية بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل. وقال المبرد: إنما يؤخذ
التفريق بين المعاني عن العرب، وأما التأويل فلا يكون. والكسر في سخرى في المعنيين
جميعا، لان الضمة تستثقل في مثل هذا. (حتى أنسوكم ذكرى) أي [حتى (1)] اشتغلتم بالاستهزاء
بهم عن ذكرى. (وكنتم منهم تضحكون) استهزاء بهم، وأضاف الانساء إلى المؤمنين
لأنهم كانوا سببا لاشتغالهم عن ذكره، وتعدى شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر
على قلوبهم. (إني جزيتهم اليوم بما صبروا) على أذاكم، وصبروا على طاعتي. (أنهم
هم الفائزون) قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على ابتداء المدح من الله تعالى لهم: وفتح
الباقون، أي لأنهم هم الفائزون. ويجوز نصبه بوقوع الجزاء عليه، تقديره: إني جزيتهم
اليوم الفوز بالجنة.
قلت: وينظر إلى معنى هذا قوله تعالى في آخر المطففين: " فاليوم الذين آمنوا من
الكفار يضحكون " [المطففين: 34] إلى آخر السورة، على ما يأتي بيانه هناك (2) إن شاء الله تعالى. ويستفاد
من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين والاحتقار لهم، والازراء
عليهم والاشتغال بهم فيما لا يغنى، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل.
قوله تعالى: قل كم لبثتم في الأرض عدد سنين (112) قالوا لبثنا
يوما أو بعض يوم فسئل العادين (113) قل إن لبثتم إلا قليلا
لو أنكم كنتم تعلمون (114)
قوله تعالى: (قال كم لبثتم في الأرض) قيل: يعنى في القبور. وقيل: هو سؤال لهم
عن مدة حياتهم في الدنيا. وهذا السؤال للمشركين في عرصات القيامة أو في النار. (عدد
سنين) بفتح النون على أنه جمع مسلم، ومن العرب من يخفضها وينونها. (قالوا لبثنا يوما
أو بعض يوم) أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في القبور. وقيل: لان العذاب رفع عنهم
بين النفختين فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم. قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا
فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى الثانية، وذلك أنه ليس من أحد قتله نبي أو قتل نبيا

(1) من ب.
(2) راجع ج 19 ص 265 فما بعد.
155

أو مات بحضرة نبي إلا عذب من ساعة يموت إلى النفخة الأولى، ثم يمسك عنه العذاب
فيكون كالماء حتى ينفخ الثانية. وقيل: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ورأوه
يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده. (فاسأل العادين) أي سل الحساب الذين يعرفون ذلك
فإنا قد نسيناه، أو فاسأل الملائكة الذين كانوا معنا في الدنيا، الأول قول قتادة، والثاني قول
مجاهد، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: " قل كم لبثتم في الأرض " على الامر. ويحتمل
ثلاثة معان: أحدها - قولوا كم لبثتم، فأخرج الكلام مخرج الامر للواحد والمراد الجماعة،
إذ كان المعنى مفهوما. الثاني - أن يكون أمرا للملك ليسألهم يوم البعث عن قدر مكثهم
في الدنيا. أو أراد قل أيها الكافر كم لبثتم، وهو الثالث. الباقون " قال كم " على الخبر، أي
قال الله تعالى لهم، أو قالت الملائكة لهم كم لبثتم. وقرأ حمزة والكسائي أيضا: (قل إن لبثتم
إلا قليلا) الباقون " قال " على الخبر، على ما ذكر من التأويل الأول، أي ما لبثتم في الأرض
إلا قليلا، وذلك أن مكثهم في القبور وإن طال كان متناهيا. وقيل: هو قليل بالنسبة إلى
مكثهم في النار، لأنه لا نهاية له. (لو أنكم كنتم تعلمون) ذلك.
قوله تعالى: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115)
قوله تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) أي مهملين كما خلقت البهائم لا ثواب لها
ولا عقاب عليها، مثل قوله تعالى: " أيحسب الانسان أن يترك سدى (1) " [القيامة: 36] يريد كالبهائم مهملا
لغير فائدة. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي: إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا
ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام
من رق الدنيا، ملوك في دار الاسلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أباق سقاط لئام،
وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران. و " عبثا " نصب على الحال عند سيبويه وقطرب.
وقال أبو عبيدة: هو نصب على المصدر أو لأنه مفعول له. (وأنكم إلينا لا ترجعون)
فتجازون بأعمالكم. قرأ حمزة والكسائي " ترجعون " بفتح التاء وكسر الجيم من الرجوع.

(1) راجع ج 19 ص 114 فما بعد.
156

قوله تعالى: فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش
الكريم (116)
قوله تعالى: (فتعالى الله الملك الحق) أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد
والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها، لأنه الحكيم. (لا إله إلا هو رب
العرش الكريم) ليس في القرآن غيرها. وقرأ ابن محيصن وروى عن ابن كثير " الكريم "
بالرفع نعتا لله (1).
قوله تعالى: ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهن له به فإنما
حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرين (117) وقل رب اغفر وارحم
وأنت خير الرحمين (118) قوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) أي لا حجة له عليه (فإنما
حسابه عند ربه) أي هو يعاقبه ويحاسبه. " إنه " الهاء ضمير الامر والشأن. (لا يفلح
الكافرون) وقرأ الحسن وقتادة: " لا يفلح " - بالفتح - من كذب وجحد ما جئت به
وكفر نعمتي.
ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالاستغفار لتقتدى به الأمة. وقيل: أمره
بالاستغفار لامته. وأسند الثعلبي من حديث ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش
ابن عبد الله الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنه مر بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه: " أفحسبتم أنما
خلقناكم عبثا " حتى ختم السورة فبرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا قرأت
في أذنه)؟ فأخبره، فقال: (والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال).

(1) في روح المعاني: " الكريم بالرفع على أنه صفة الرب، وجوز أن يكون صفة للعرش على القطع ".
157

سورة النور
مدنية بالاجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينت
لعلكم تذكرون (1) مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل
الكوفة: علموا نساءكم سورة النور. وقالت عائشة رضي الله عنها: (لا تنزلوا النساء الغرف
ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل. (وفرضناها) قرئ بتخفيف الراء،
أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الاحكام. وبالتشديد: أي أنزلنا فيها فرائض
مختلفة. وقرأ أبو عمرو: " وفرضناها " بالتشديد أي قطعناها في الانزال نجما نجما. والفرض
القطع، ومنه فرضة القوس. وفرائض الميراث وفرض النفقة. وعنه أيضا: " فرضناها "
فصلناها وبيناها. وقيل: هو على التكثير، لكثرة ما فيها من الفرائض. والسورة في اللغة
اسم للمنزلة الشريفة، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة. قال زهير (1):
ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك دونها يتذبذب
وقد مضى في مقدمة الكتاب (2) القول فيها. وقرئ: " سورة " بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها
" أنزلناها "، قاله أبو عبيدة والأخفش. وقال الزجاج والفراء والمبرد: " سورة " بالرفع لأنها
خبر الابتداء، لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع، أي هذه سورة. ويحتمل أن
يكون قوله: " سورة " ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء
لذلك، ويكون الخبر في قوله: " الزانية والزاني ". وقرئ " سورة " بالنصب، على تقدير أنزلنا
سورة أنزلناها. وقال الشاعر (3):

(1) كذا في الأصول. والمعروف أن هذا البيت للنابغة الذيباني من قصيدة يمدح بها النعمان ويعتذر.
(2) راجع ج 1 ص 65.
(3) هو الربيع بن ضبيع بن وهب (عن شرح الشواهد الكبرى للعيني).
158

والذئب أخشاه إن مررت به * وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي أنل سورة. وقال الفراء: هي حال من الهاء والألف
والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه.
قوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل وحد منهما مائة جلدة
ولا تأخذ كم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2) فيه اثنان (1) وعشرون مسألة:
الأولى - (قوله تعالى: (الزانية والزاني) كان الزنى في اللغة معروفا قبل الشرع، مثل
اسم السرقة والقتل. وهو اسم لوطئ الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح
بمطاوعتها. وإن شئت قلت: هو إدخال فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا، فإذا كان
ذلك وجب الحد. وقد مضى الكلام في حد الزنى وحقيقته وما للعلماء في ذلك. وهذه
الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة [النساء (2)] باتفاق.
الثانية - قوله تعالى: (مائة جلدة) هذا حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك
الزانية البالغة البكر الحرة. وثبت بألسنة تغريب عام، على الخلاف في ذلك. وأما المملوكات
فالواجب خمسون جلدة، لقوله تعالى: " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات
من العذاب (2) " [النساء: 25] وهذا في الأمة، ثم العبد في معناها. وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون
الجلد. ومن العلماء من يقول: يجلد مائة ثم يرجم. وقد مضى هذا كله ممهدا في [النساء]
فأغنى عن إعادته، والحمد لله.
الثالثة - قرأ الجمهور: " الزانية والزاني " بالرفع. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي " الزانية "
بالنصب، وهو أوجه عند سيبويه، لأنه عنده كقولك: زيدا اضرب. ووجه الرفع عنده:

(1) كذا في ك.
(2) راجع ج 5 ص 82 فما بعد وص 361 فما بعد.
159

خبر ابتدأ (1)، وتقديره: فيما يتلى عليكم [حكم (2)] الزانية والزاني. وأجمع الناس على الرفع وإن
كان القياس عند سيبويه النصب. وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه،
والخبر في قوله: " فاجلدوا " لان المعنى: الزانية والزاني مجلودان بحكم الله وهو قول جيد،
وهو قول أكثر النحاة. وإن شئت قدرت الخبر: ينبغي أن يجلدا. وقرأ ابن مسعود
" والزان " بغير ياء.
الرابعة - ذكر الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى، والزاني كان يكفي منهما، فقيل:
ذكرهما للتأكيد كما قال تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما (3) [المائدة: 38]. ويحتمل أن
يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة
فلا يجب عليها حد، فذكرها رفعا لهذا الاشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي.
فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطئ في رمضان، لأنه قال: جامعت أهلي في نهار رمضان، فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم (كفر). فأمره بالكفارة، والمرأة ليس بمجامعة ولا واطئة.
الخامسة - قدمت " الزانية " في الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى
النساء فاش، وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكن مجاهرات بذلك. وقيل: لان
الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر. وقيل: لان الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب،
فصدرها تغليظا لتردع شهوتها، وإن كان قد ركب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله.
وأيضا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهن الحجب (4) والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما.
السادسة - الألف واللام في قوله: " الزانية والزاني " للجنس، وذلك يعطى أنها عامة
في جميع الزناة. ومن قال بالجلد مع الرجم قال: السنة جاءت بزيادة حكم فيقام مع الجلد.
وهو قول إسحاق بن راهويه والحسن بن أبي الحسن، وفعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه
بشراحة، وقد مضى في [النساء (5)] بيانه. وقال الجمهور: هي خاصة في البكرين، واستدلوا
على أنها غير عامة بخروج العبيد والإماء منها.

(1) في هذه العبارة تساهل، فإن التقدير الذي يقتضى أن يكون مبتدأ محذوف الخير، كما ذكر ذلك غير
واحد من المفسرين.
(2) زيادة من كتب التفسير.
(3) راجع ج 6 ص 159.
(4) في الأصول: " الحجبة " (5) راجع ج 5 ص 87.
160

السابعة - نص الله سبحانه وتعالى [على] ما يجب على الزانيين إذا شهد بذلك عليهما
على ما يأتي وأجمع العلماء على القول به. واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوب
واحد، فقال إسحاق بن راهويه: يضرب كل واحد منهما مائة جلدة. وروى ذلك عن
عمر وعلى، وليس يثبت ذلك عنهما. وقال عطاء وسفيان الثوري: يؤدبان. وبه قال
مالك وأحمد، على قدر مذاهبهم في الأدب. قال ابن المنذر: والأكثر ممن رأيناه يرى على
من وجد على هذه الحال الأدب. وقد مضى في " هود (1) " اختيار ما في هذه المسألة،
والحمد لله وحده.
الثامنة - قوله تعالى: (فاجلدوا) دخلت الفاء لأنه موضع أمر والامر مضارع
للشرط. وقال المبرد: فيه معنى الجزاء، أي إن زنى زان فافعلوا به كذا، ولهذا دخلت
الفاء، وهكذا " السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما (2) ".
[المائدة: 38].
التاسعة - لا خلاف أن المخاطب بهذا الامر الامام ومن ناب منابه. وزاد مالك
والشافعي: السادة في العبيد. قال الشافعي: في كل جلد وقطع. وقال مالك: في الجلد
دون القطع. وقيل: الخطاب للمسلمين، لان إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين،
ثم الامام ينوب عنهم، إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
العاشرة - أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب. والسوط الذي يجب أن
يجلد به يكون سوطا بين سوطين. لا شديدا ولا لينا. وروى مالك عن زيد بن أسلم أن
رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له رسول الله
صلى الله عليه وسلم بسوط، فأتى بسوط مكسور، فقال: (فوق هذا) فأتى بسوط جديد
لم تقطع ثمرته (3)، فقال: (دون هذا) فأتى بسوط قد ركب به (4)، ولأن. فأمر به رسول الله
صلى الله عليه وسلم فجلد... الحديث. قال أبو عمر: هكذا روى الحديث مرسلا جميع

(1) في ص 88 - 89 ج 9 ذكر بعض أحكام التأديب ولعل المصنف توهم أنه ذكر التفاصيل وراجع ج 5 ص 86.
(2) راجع ج 6 ص 159.
(3) الثمرة: الطرف يريد أن طرفه محدد لم تنكسر حدته ولم يخلق بعد.
(4) يريد قد انكسرت حدته ولم يخلق ولا بلغ من اللين مبلغا لا يألم من ضرب به. (راجع الموطأ كتاب الحدود).
(11 - 12)
161

رواة الموطأ ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه، وقد روى معمر عن يحيى
ابن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء. وقد تقدم في " المائدة " ضرب عمر
قدامة (1) في الخمر بسوط تام. يريد وسطا.
الحادية عشرة - اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنى، فقال مالك وأبو حنيفة
وغيرهما: يجرد، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب. وقال الأوزاعي: الامام
مخير إن شاء جرد وإن شاء ترك. وقال الشعبي والنخعي: لا يجرد ولكن يترك عليه قميص.
قال ابن مسعود: لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد، وبه قال الثوري.
الثانية عشرة - اختلف العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء، فقال مالك: الرجل
والمرأة في الحدود كلها سواء، لا يقام واحد منهما، ولا يجزى عنده إلا في الظهر. وأصحاب
الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه
. وقال الليث [بن سعد (2)] وأبو حنيفة والشافعي: الضرب في الحدود كلها وفي التعزير
مجردا قائما غير ممدود، إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه. وحكاه المهدوي في التحصيل
عن مالك. وينزع عنه الحشو والفرو. وقال الشافعي: إن كان مده صلاحا مد.
الثالثة عشرة - واختلفوا في المواضع التي تضرب من الانسان في الحدود، فقال
مالك: الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر، وكذلك التعزير. وقال الشافعي وأصحابه:
يتقى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء، وروى عن علي. وأشار ابن عمر بالضرب إلى
رجلي أمة جلدها في الزنى. قال ابن عطية: والاجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل.
واختلفوا في ضرب الرأس فقال الجمهور: يتقى الرأس. وقال أبو يوسف: يضرب الرأس.
وروى عن عمر وابنه فقالا: يضرب الرأس. وضرب عمر رضي الله عنه صبيغا (3) في رأسه
وكان تعزيرا لا حدا. ومن حجة مالك: ما أدرك عليه الناس، وقوله عليه السلام:
(البينة وإلا حد في ظهرك) وسيأتي.

(1) في الأصول: " الجارود " وهو تحريف، لان الذي ضربه سيدنا عمر رضي الله عنه هو قدامة بن مظعون،
وقد ذكر المؤلف رحمه الله تعالى قصته في ج 6 ص 297 فراجعه هناك، وراجع ترجمته في كتب الصحابة.
(2) من ب وج‍ وط وك.
(3) هو صبيغ (كأمير) بن عسل، كان يعنت الناس بالغوامض
والسؤالات، فنفاه سيدنا عمر إلى البصرة.
162

الرابعة عشرة - الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يبضع،
ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه. وبه قال الجمهور، وهو قول على وابن مسعود
رضي الله عنهما. وأتي عمر رضي الله عنه برجل في حد فأتي بسوط بين سوطين وقال
للضارب: اضرب ولا يرى إبطك، وأعط كل عضو حقه. وأتي رضي الله عنه بشارب
فقال: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة، فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدوى فقال:
إذا أصبحت الغد فاضربه الحد، فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضربا شديدا فقال: قتلت
الرجل! كم ضربته؟ فقال ستين، فقال: أقص عنه بعشرين. قال أبو عبيدة [قوله (1)]: " أقص
عنه بعشرين " يقول: اجعل شدة هذا الضرب الذي ضربته قصاصا بالعشرين التي بقيت
ولا تضربه العشرين. وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف.
وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضربا وهي:
الخامسة عشرة - فقال مالك وأصحابه والليت بن سعد: الضرب في الحدود كلها
سواء ضرب غير مبرح، ضرب بين ضربين. وهو قول الشافعي رضي الله عنه. وقال
أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر، وضرب
الشارب أشد من ضرب القذف. وقال الثوري: ضرب الزنى أشد من ضرب القذف،
وضرب القذف أشد من ضرب الخمر. احتج مالك بورود التوقيف على عدد الجلدات،
ولم يرد في شئ منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له. احتج أبو حنيفة بفعل عمر،
فإنه ضرب في التعزير ضربا أشد منه في الزنى. احتج الثوري بأن الزنى لما كان أكثر عددا
في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية. وكذلك الخمر، لأنه لم يثبت الحد
إلا بالاجتهاد، وسبيل مسائل الاجتهاد لا يقوى قوة مسائل التوقيف.
السادسة عشرة - الحد الذي أوجب الله في الزنى والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي
أن يقام بين أيدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم يختارهم الامام لذلك.
وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شئ من ذلك، رضي الله عنهم. وسبب ذلك أنه

(1) من ب وك.
163

قيام بقاعدة شرعية وقربة تعبدية، تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها، بحيث
لا يتعدى شئ من شروطها ولا أحكامها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فيجب مراعاته
بكل ما أمكن. روى الصحيح عن حضين (1) بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان
ابن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان، أحدهما
حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها،
فقال: يا علي قم فاجلده، فقال على: قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن: ول حارها (2) من
تولى قارها (فكأنه وجد عليه) فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلى يعد...
الحديث. وقد تقدم في المائدة. فانظر قول عثمان للامام على: قم فاجلده.
السابعة عشرة - نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف، وثبت التوقيف
في الخمر على ثمانين من فعل عمر في جميع (3) الصحابة - على ما تقدم في المائدة (4) - فلا يجوز
أن يتعدى الحد في ذلك كله. قال ابن العربي: " وهذا ما لم يتابع الناس في الشر ولا احلولت
لهم المعاصي، حتى يتخذوها ضراوة (5) ويعطفون عليها بالهوادة فلا يتناهوا عن منكر فعلوه،
فحينئذ تتعين الشدة ويزاد الحد (6) لأجل زيادة الذنب. وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه
مائة، ثمانين حد الخمر وعشرين لهتك حرمة الشهر. فهكذا يجب أن تركب العقوبات على
تغليظ الجنايات وهتك الحرمات. وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغير
[ذلك (7)] مالك حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي،
والتظاهر بالمناكر وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة، لمات كمدا ولم يجالس
أحدا، وحسبنا الله ونعم الوكيل ".

(1) بحاء مهملة مضمومة وضاد معجمة.
(2) قال النووي في شرح هذا الحديث " الحار: الشديد
المكروه والقار: البارد الهنئ الطيب. وهذا مثل من أمثال العرب، ومعناه: ول شدتها وأوساخها من تولى هنيئها
ولذاتها، والضمير عائد إلى الخلافة والولاية، أي كما أن عثمان وأقاربه يتولون هنئ الخلافة ويختصون به يتولون
نكدها وقاذوراتها. ومعناه: ليتول هذا الجلد عثمان بنفسه أو بعض خاصة أقاربه الأدنين ".
(3) أي في حضرتهم.
(4) راجع ج 6 ص 297.
(5) الضراوة: العادة وشدة الشهوة.
(6) في ب وج‍ وط وك: الجلد.
(7) زيادة عم ابن العربي.
164

قلت: ولهذا المعنى - والله أعلم - زيد في حد الخمر حتى انتهى إلى ثمانين. وروى
الدارقطني " حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا
صفوان بن عيسى حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد،
فأتى بسكران، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن عنده فضربوه بما في أيديهم.
وقال: وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه التراب. قال: ثم أتى أبو بكر رضي الله عنه
بسكران، قال: فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ، فضرب أربعين. قال الزهري:
ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر،
قال فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعلى وطلحة والزبير وهم معه
متكئون في المسجد فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول:
إن الناس قد انهمكوا في الخمر! وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم.
فقال على: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون، قال فقال عمر:
أبلغ صاحبك ما قال. قال: فجلد خالد ثمانين وعمر ثمانين. قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل
الضعيف الذي كانت منه الزلة ضربه أربعين، قال: وجلد عثمان أيضا ثمانين وأربعين ".
ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لو تأخر الهلال لزدتكم) كالمنكل لهم حين أبوا
أن ينتهوا. في رواية (لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم (1)). وروى
حامد بن يحيى عن سفيان عن مسعر عن عطاء بن أبي مروان أن عليا ضرب النجاشي في الخمر
مائة جلدة، ذكره أبو عمرو ولم يذكر سببه.
الثامنة عشر - قوله تعالى: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) أي لا تمتنعوا
عن إقامة الحدود شفقة على المحدود، ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع، وهذا قول جماعة
أهل التفسير. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: " لا تأخذكم بهما رأفة " قالوا:

(1) الحديث ذكر في صحيح مسلم في (كتاب الصوم. باب النهى عن الوصال الصوم). وصحيح البخاري
في (كتاب الاعتصام. باب ما يكره من التعمق والتنازع... الخ).
165

في الضرب والجلد. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر
أربعين ليلة، ثم قرأ هذه الآية. والرأفة أرق الرحمة. وقرئ: " رأفة " بفتح الألف على وزن
فعلة. وقرئ: " رآفة " على وزن فعالة، ثلاث لغات، وهي كلها مصادر، أشهرها الأولى،
من رؤوف إذا رق ورحم. ويقال: رأفة ورآفة، مثل كأبة وكآبة. وقد رأفت به ورؤفت به.
والرؤوف من صفات الله تعالى: العطوف الرحيم.
التاسعة عشرة - قوله تعالى: (أي في حكم الله، كما قال تعالى:
" ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك (1) " [يوسف: 76] أي في حكمه. وقيل: " في دين الله " أي في طاعة الله
وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود.
قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله تعالى:
" إن كنتم تؤمنون بالله ". وهذا كما تقول لرجل تحضه: إن كنت رجلا فافعل كذا! أي هذه
أفعال الرجال.
الموفية عشرين - قوله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) قيل:
لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق (2) التأديب. قال مجاهد: رجل فما فوقه إلى ألف. وقال
ابن زيد: لا بد من حضور أربعة قياسا على الشهادة على الزنى، وأن هذا باب منه، وهو
قول مالك والليث والشافعي. وقال عكرمة وعطاء: لا بد من اثنين، وهذا مشهور قول
مالك، فرآها موضع شهادة. وقال الزهري: ثلاثة، لأنه أقل الجمع. الحسن: واحد
فصاعدا، وعنه عشرة. الربيع: ما زاد على الثلاثة. وحجة مجاهد قوله تعالى: " فلولا نفر
من كل فرقة منهم طائفة (3) " [التوبة: 122]، وقوله: " وإن طائفتان (4) " [الحجرات: 9]، ونزلت في تقاتل رجلين، فكذلك
قوله تعالى: " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ". والواحد يسمى طائفة إلى الألف،
وقاله ابن عباس وإبراهيم. وأمر أبو برزة الأسلمي بجارية له قد زنت وولدت فألقى عليها
ثوبا، وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربة غير مبرح ولا خفيف لكن مؤلم، ودعا جماعة
ثم تلا: " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ".

(1) راجع ج 9 ص 235 فما بعد.
(2) كذا في ج وط وك. وفى ب: إلا من يستحق. ولعله الأشبه.
(3) راجع ج 8 ص 293 فما بعد.
(4) راجع ج 16 ص 315.
166

الحادية والعشرون - اختلف في المراد بحضور الجماعة. هل المقصود بها الأغلاط
على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس، وأن ذلك يدع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به
ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده، أو الدعاء لهما بالتوبة والرحمة، قولان للعلماء.
الثانية (1) والعشرون - روى عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(يا معاشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال ثلاثا في الدنيا وثلاثا في الآخرة فأما اللواتي
في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما اللواتي في الآخرة فيوجب السخط
وسوء الحساب والخلود في النار). وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن
أعمال أمتي تعرض على كل جمعة مرتين فاشتد غضب الله على الزناة). وعن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله على أمتي فغفر لكل مؤمن
لا يشرك بالله شيئا إلا خمسة ساحرا وكاهنا وعاقا لوالديه ومدمن خمر ومصرا على الزنى).
قوله تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية
لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين (3)
فيه سبع مسائل:
الأولى - اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل:
الأول - أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنى وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين.
واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ. ويريد بقوله: " لا ينكح " أي لا يطأ، فيكون النكاح
بمعنى الجماع. وردد القصة مبالغة وأخذا من كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك
من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنى، فالمعنى: الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية
من المسلمين، أو من هي أحسن منها من المشركات. وقد روى عن ابن عباس وأصحابه أن
النكاح في هذه الآية الوطئ. وأنكر ذلك الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا

(1) يلاحظ أن الأصول إحدى وعشرون مسألة عداك فاثنتان وعشرون، كما هو مثبت.
167

بمعنى التزويج. وليس كما قال، وفي القرآن " حتى تنكح زوجا غيره " [البقرة: 230] وقد بينه النبي صلى الله
عليه وسلم أنه بمعنى الوطئ، وقد تقدم في [البقرة (1)]. وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل
عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، ولكن غير مخلص ولا مكمل. وحكاه الخطابي عن
ابن عباس، وأن معناه الوطئ، أي لا يكون زنى إلا بزانية، ويفيد أنه زنى في الجهتين،
فهذا قول.
الثاني - ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد
ابن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغى يقال لها " عناق " وكانت صديقته،
قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، آنكح عناق؟ قال: فسكت عنى،
فنزلت: " والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك "، فدعاني فقرأها على وقال: (لا تنكحها).
لفظ أبى داود، وحديث الترمذي أكمل. قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت
كافرة، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
الثالث - أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضا أستأذن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في نكاح امرأة يقال لها " أم مهزول " وكانت من بغايا (2) الزانيات، وشرطت أن تنفق
عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله عمرو بن العاصي ومجاهد.
الرابع - أنها نزلت في أهل الصفة وكانوا قوما من المهاجرين، ولم يكن لهم في المدينة
مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة المسجد وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون
إلى الصفة بالليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور، مخاصيب بالكسوة والطعام، فهم
أهل الصفة أن يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن، فنزلت
هذه الآية صيانة لهم عن ذلك، قاله ابن أبي صالح.
الخامس - ذكره الزجاج وغيره عن الحسن، وذلك أنه قال: المراد الزاني المحدود
والزانية المحدودة، قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة.

(1) راجع ج 3 ص 146.
(2) في ب وج‍: بقايا.
168

وقال إبراهيم النخعي نحوه. وفي مصنف أبى داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله). وروى أن محدودا تزوج غير محدودة
ففرق على رضي الله عنه بينهما. قال ابن العربي: وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا،
وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون
ذلك، وعلى أي أصل يقاس من الشريعة!
قلت - وحكى هذا القول الكيا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين، وأن الزاني
إذا تزوج غير زانية فرق بينهما لظاهر الآية. قال الكيا: وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه
أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك، وهذا في غاية
البعد، وهو خروج عن الاسلام بالكلية، وربما قال هؤلاء إن الآية منسوخة في المشرك
خاص دون الزانية.
السادس - أنها منسوخة، روى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال
: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك " قال: نسخت
هذه الآية التي بعدها " وأنكحوا الأيامى منكم (1) " [النور: 32]، وقاله ابن عمرو، قال: دخلت الزانية في أيامى
المسلمين. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء. وأهل الفتيا يقولون:
إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها. وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد (2)
وعطاء وطاوس ومالك بن أنس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: القول
فيها كما قال سعيد بن المسيب، إن شاء الله هي منسوخة. قال ابن عطية: وذكر الاشراك
في هذه الآية يضعف هذه المناحي. قال ابن العربي: والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن
يراد به الوطئ كما قال ابن عباس أو العقد، فإن أريد به الوطئ فإن معناه: لا يكون زنى
إلا بزانية، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة من الجهتين، ويكون تقدير الآية:
وطئ الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك، وهذا يؤثر عن ابن عباس، وهو معنى صحيح.

(1) راجع ص 239 من هذا الجزء.
(2) الثابت عن جابر بن زيد تحريم المزني بها عمن زنى بها محققه.
169

فإن قيل: فإذا زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل
زنى، فهذا زان نكح غير زانية، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم. قلنا: هو زنى من كل
جهة، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والاخر ثبت فيه. وإن أريد به العقد كان معناه:
أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني، إلا أنه لا حد عليه
لاختلاف العلماء في ذلك. وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعا.
وقيل: ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قط إلا زانية إذ قد يتصور أن يتزوج غير
زانية، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان، فكأنه قال: لا ينكح الزانية إلا زان،
فقلب الكلام، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راض بزناها، وإنما يرضى بذلك إذا كان
هو أيضا يزنى.
الثانية - في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح. وإذا زنت زوجة الرجل
لم يفسد النكاح، وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته، وهذا على أن الآية منسوخة.
وقيل إنها محكمة. وسيأتي.
الثالثة - روى أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبى بكر رضي الله عنه فجلدهما مائة جلدة،
ثم زوج أحدهما من الاخر مكانه، ونفاهما سنة. وروى مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر
رضي الله عنهم. وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق من
حائط ثمرة ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرة، فما سرق حرام وما اشترى حلال (1). وبهذا
أخذ الشافعي وأبو حنيفة، ورأوا أن الماء لا حرمة له. وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه
أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا. وبهذا أخذ مالك
رضي الله عنه، فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، لان النكاح له حرمة،
ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح، فيختلط الحرام بالحلال، ويمتزج ماء المهانة
بماء العزة.

(1) عبارة ابن العربي كما في أحكامه: " مثل رجل سرق ثمرة ثم اشتراها ".
170

الرابعة - قال ابن خويز منداد: من كان معروفا بالزنى أو بغيره من الفسوق معلنا به
فتزوج إلى أهل بيت ستر وغرهم من نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه، وذلك كعيب
من العيوب، واحتج بقوله عليه السلام: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله). قال
ابن خويز منداد. وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق، وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين
غيره، فأما من لم يشتهر بالفسق فلا.
الخامسة - قال قوم من المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة، وعند هؤلاء: من
زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها.
وقال قوم من هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت،
ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني، بل لو ظهرت التوبة فحينئذ
يجوز النكاح.
السادسة - (وحرم ذلك على المؤمنين) أي نكاح أولئك البغايا، فيزعم بعض أهل
التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد عليه السلام، ومن أشهرهن عناق (1).
السابعة - حرم الله تعالى الزنى في كتابه، فحيثما زنى الرجل فعليه الحد. وهذا قول مالك
والشافعي وأبى ثور. وقال أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرت بأمان وزنى
هنالك ثم خرج لم يحد. قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الاسلام سواء، ومن زنى فعليه
الحد على ظاهر قوله: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " [النور: 2].
قوله تعالى: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمنين جلدة ولا تقبلوا لهم شهداء أبدا وأولئك هم
الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله
غفور رحيم (5)

(1) في ك: وهذا على أن الآية منسوخة. ولم يظهر له وجه محققه.
171

فيه ست وعشرون مسألة:
الأولى - هذه الآية نزلت في القاذفين. قال سعيد بن جبير: كان سببها ما قيل في عائشة
أم المؤمنين رضي الله عنها. وقيل: بل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة. وقال
ابن المنذر: لم نجد في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا يدل على تصريح القذف، وظاهر
كتاب الله تعالى مستغنى به دالا على القذف الذي يوجب الحد، وأهل العلم على ذلك مجمعون.
الثانية - قوله تعالى: " والذين يرمون " يريد يسبون، واستعير له اسم الرمي لأنه
إذاية بالقول، كما قال النابغة:
* وجرح اللسان كجرح اليد *
وقال آخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريئا ومن أجل الطوى رماني (1)
ويسمى قذفا، ومنه الحديث: إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء، أي رماها.
الثالثة - ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن (2) أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع
وأنكى للنفوس. وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك. وهذا
نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه، ونحو ذلك بالمعنى والاجماع.
وحكى الزهراوي أن المعنى: والأنفس المحصنات، فهي بلفظها تعم الرجال والنساء، ويدل على
ذلك قوله: " والمحصنات من النساء (3) ". [النساء: 24]. وقال قوم: أراد بالمحصنات الفروج، كما قال تعالى:
" والتي أحصنت فرجها (4) " [الأنبياء: 91] فيدخل فيه فروج الرجال والنساء. وقيل: إنما ذكر المرأة الأجنبية
إذا قذفت ليعطف عليها قذف الرجل زوجته، والله أعلم. وقرأ الجمهور: " المحصنات " بفتح
الصاد، وكسرها يحيى بن وثاب. والمحصنات العفائف في هذا الموضع. وقد مضى في " النساء "
ذكر الاحصان (3) ومراتبه. والحمد لله.

(1) البيت لابن أحمر. والعلوي: البئر.
(2) في الأصول: " من حيث هو أهم ". وعبارة البحر
المحيط لأبي حيان أبين، وهي: " وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشركونهن في الحكم لان القذف فيهن أشنع
وأنكر للنفوس، ومن حيث هن هوى الرجال " الخ.
(3) راجع ج 5 ص 120. وص 139 فما بعد.
(4) راجع ج 11 ص 337 فما بعد.
172

الرابعة - للقذف شروط عند العلماء تسعة: شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ،
لأنهما أصلا التكليف، إذ التكليف ساقط دونهما. وشرطان في الشئ المقذوف به، وهو أن
يقذف بوطئ يلزمه فيه الحد، وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة
في المقذوف، وهي العقل والبلوغ والاسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمى بها، كان عفيفا
من غيرها أم لا. وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطنا هما في القاذف وإن لم يكونا
من معاني الاحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذاية بالمضرة الداخلة على المقذوف،
ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ، إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى.
الخامسة - اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفا ورميا موجبا للحد، فإن
عرض ولم يصرح فقال مالك: هو قذف. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يكون قذفا حتى
يقول أردت به القذف. والدليل لما قاله مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة
المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرة بالتعريض وجب أن يكون قذفا
كالتصريح، والمعول على الفهم، وقد قال تعالى مخبرا عن شعيب: " إنك لأنت الحليم
الرشيد " [هود: 87] أي السفيه الضال، فعرضوا له بالسب بكلام ظاهر المدح في أحد التأويلات،
حسبما تقدم في هود (1). وقال تعالى في أبى جهل: " ذق إنك أنت العزيز الكريم (2) " [الدخان: 49]. وقال
حكاية عن مريم: " يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك (3) بغيا " [مريم: 28]، فمدحوا
أباها ونفوا عن أمها البغاء أي الزنى، وعرضوا لمريم بذلك، ولذلك قال تعالى:
" وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (4) " [النساء: 156]، وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض
لها، أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا، أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد.
وقال تعالى: " قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى
أو في ضلال مبين (5) " [سبأ: 24]، فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن
الله تعالى ورسوله على الهدى، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه. وقد حبس عمر
رضي الله عنه الحطيئة لما قال:

(1) راجع ج 9 ص 87.
(2) راجع ج 16 ص 151.
(3) راجع ج 11 ص 99.
(4) راجع ج 6 ص 7 فما بهد.
(5) راجع ج 14 ص 298.
173

دع المكارم لا ترحل لبغيتها * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون. ولما سمع قول النجاشي:
قبيلته لا يغدرون بذمة * ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال: ليت الخطاب كذلك، وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة، ومثله كثير.
السادسة - الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب
أو امرأة منهم. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد
من مسلم. وفيه قول ثالث - وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد. قال
ابن المنذر: وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحدا ولا لقيته يخالف
في ذلك. وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة، لا أعلم
في ذلك خلافا (1).
السابعة - والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين: لأنه حد
يتشطر بالرق كحد الزنى. وروى عن ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد
ثمانين، وجلد أبو بكر بن محمد عبدا قذف حرا ثمانين، وبه قال الأوزاعي. احتج الجمهور
بقول الله تعالى: " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب (2) " [النساء: 25].
وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حد الزنى لله تعالى، وأنه ربما كان أخف فيمن قلت نعم
الله عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه. وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية
على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية. وربما قالوا: لو كان يختلف
لذكر كما ذكر من الزنى. قال ابن المنذر: والذي عليه [عوام] (2) علماء الأمصار القول الأول،
وبه أقول.
الثامنة - وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه، لتباين مرتبتهما،
ولقوله عليه السلام: (من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون
كما قال) خرجه البخاري ومسلم. وفي بعض طرقه: (من قذف عبده بزنى ثم لم يثبت أقيم

(1) في ك: اختلافا.
(2) راجع ج 5 ص 136.
(3) من ج وط وك وى. أي عامة.
174

عليه يوم القيامة الحد ثمانون) ذكره الدارقطني. قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة
لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد، ولم يكن لاحد فضل إلا بالتقوى،
ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن
يعفو المظلوم عن الظالم. وإنما لم يتكافئوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين
من مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير، حكمة من
الحكيم العليم، لا إله إلا هو.
التاسعة - قال مالك والشافعي: من قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد،
وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر. قال مالك: ومن قذف أم الولد حد گ وروى
عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي. وقال الحسن البصري: لا حد عليه.
العاشرة - واختلف العلماء فيمن قال لرجل: يا من وطئ بين الفخذين، فقال
ابن القاسم: عليه الحد، لأنه تعريض. وقال أشهب: لا حد فيه، لأنه نسبة إلى فعل لا يعد
زنى إجماعا.
الحادية عشرة - إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك.
وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: ليس بقذف، لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها، ويعزر.
قال ابن العربي: والمسألة محتملة مشكلة، لكن مالك طلب (1) حماية عرض المقذوف،
وغيره راعى حماية ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أولى، لان القاذف كشف ستره
بطرف لسانه فلزمه الحد. قال ابن المنذر: وقال أحمد في الجارية بنت تسع: يجلد قاذفها،
وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه. قال إسحاق: إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه
الحد، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك. قال ابن المنذر: لا يحد من قذف من لم يبلغ،
لان ذلك كذب، ويعزر على الأذى. قال أبو عبيد: في حديث على رضي الله عنه أن امرأة
جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال: إن كنت صادقة رجمناه وإن كنت كاذبة

(1) في ابن العربي: " غلب ".
175

جلدناك. فقالت: ردوني إلى أهلي غيري نغرة (1). قال أبو عبيد: في هذا الحديث من الفقه
أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد.
وفيه أيضا: إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد، ألا تسمع قوله: وإن كنت
كاذبة جلدناك. ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلا بما يأتي وبما يقول، فإن كان
جاهلا وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله.
وفيه أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شئ
على القاذف حتى يجئ فيطلب حده، لأنه لا يدرى لعله يصدقه، ألا ترى أن عليا عليه السلام
لم يعرض لها.
وفيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد
بسماعه، ألا تراه يقول: وإن كنت كاذبة جلدناك، وهذا لأنه من حقوق الناس.
قلت: اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين، وسيأتي. قال أبو عبيد:
قال الأصمعي سألني شعبة عن قوله: " غيري نغرة " فقلت له: هو مأخوذ من نغر القدر،
وهو غليانها وفورها يقال منه: نغرت تنغر، ونغرت تنغر إذا غلت. فمعناه أنها أرادت
أن جوفها يغلى من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد. قال: ويقال منه رأيت فلانا
يتنغر على فلان أي يغلى جوفه عليه غيظا.
الثانية عشرة - من قذف زوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حد حدين، قاله
مسروق. قال ابن العربي: والصحيح أنه حد واحد، لعموم قوله تعالى: " والذين يرمون
المحصنات " الآية، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن، لان شرف المنزلة لا يؤثر
في الحدود، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص. والله أعلم. وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة
رضي الله عنها، هل يقتل أم لا.
الثالثة عشرة - قوله تعالى: (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) الذي يفتقر إلى أربعة
شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى، رحمة بعباده وسترا لهم. وقد تقدم في سورة النساء (2).

(1) سيأتي الكلام على هذه الجملة بعد قليل.
(2) راجع ج 5 ص 72.
176

الرابعة عشرة - من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك
في مجلس واحد، فإن افترقت لم تكن شهادة. وقال عبد الملك: تقبل شهادتهم مجتمعين
ومفترقين. فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد، وبه قال ابن الحسن. ورأى عبد الملك أن
المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل، وهو قول عثمان البتي وأبى ثور واختاره ابن المنذر
لقوله تعالى: " ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " وقوله: " فإذ لم يأتوا بالشهداء " [النور: 13] ولم يذكر
مفترقين ولا مجتمعين.
الخامسة عشرة - فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا، فكان الحسن البصري والشعبي
يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود، وبه قال أحمد والنعمان ومحمد بن الحسن. وقال
مالك: إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسخوطا (1) عليه أو عبدا يجلدون جميعا.
وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى: يضربون.
السادسة عشرة - فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في الزنى، فقالت
طائفة: يغرم ربع الدية ولا شئ على الآخرين. وكذلك قال قتادة وحماد وعكرمة وأبو هاشم
ومالك وأحمد وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: إن قال تعمدت ليقتل، فالأولياء بالخيار
إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وأخذوا ربع الدية، وعليه الحد. وقال الحسن البصري:
يقتل، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية. وقال ابن سيرين: إذا قال أخطأت وأردت غيره
فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل [به] (2)، وبه قال ابن شبرمة.
السابعة عشرة: واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق
الآدميين أو فيه شائبة منهما، الأول - قول أبي حنيفة. والثاني - قول مالك والشافعي.
والثالث - قاله بعض المتأخرين. وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا له تعالى وبلغ الامام أقامه
وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتشطر
فيه الحد بالرق كالزنى. وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه الامام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط
بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.

(1) كذا في ب وط وك. وفى ج وأ: مسقوطا.
(2) من ب وك.
177

الثامنة عشرة - قوله تعالى: (بأربعة شهداء) قراءة الجمهور على إضافة الأربعة
إلى الشهداء. وقرأ عبد الله (1) بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير " بأربعة " (بالتنوين)
" شهداء ". وفيه أربعة أوجه: يكون في موضع جر على النعت لأربعة، أو بدلا. ويجوز أن
يكون حالا من نكرة أو تمييزا، وفي الحال والتمييز نظر، إذ الحال من نكرة، والتمييز مجموع.
وسيبويه يرى أنه تنوين العدد، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر. وقد حسن أبو الفتح عثمان
ابن جنى هذه القراءة وحبب (2) على قراءة الجمهور. قال النحاس: ويجوز أن يكون " شهداء "
في موضع نصب، بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء.
التاسعة عشرة - حكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة
على ما تقدم في " النساء " (3) في نص الحديث. وأن تكون في موطن واحد، على قول مالك.
وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة، كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة، وذلك أنه شهد
عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع، وقال الزهراوي: عبد الله بن الحارث،
وزياد أخوهما لام وهو مستلحق معاوية، وشبل بن معبد البجلي، فلما جاءوا لأداء الشهادة
وتوقف زياد ولم يؤدها، جلد عمر الثلاثة المذكورين.
الموفية عشرين - قوله تعالى: (فاجلدوهم) الجلد الضرب. والمجالدة والمضاربة
في الجلود أو بالجلود، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره. ومنه قول قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا * كأن يدي بالسيف محراق لاعب
(ثمانين) نصب على المصدر. (جلدة) تمييز. (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) هذا يقتضى
مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون، أي خارجون عن طاعة الله عز وجل.
الحادية والعشرين - قوله تعالى: (إلا الذين تابوا) في موضع نصب على الاستثناء.
ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل. المعنى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا
وأصلحوا من بعد القذف (فإن الله غفور رحيم). فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف:

(1) في ك: عبد الرحمن. والصواب: عبد الله.
(2) وردت هذا الكلمة مضطربة في نسخ الأصل،
ففي ب وك حسب، وفى ط: وحت.
(3) راجع ج 5 ص 73.
178

جلده، ورد شهادته أبدا، وفسقه. فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع، إلا ما روى عن
الشعبي على ما يأتي. وعامل في فسقه بإجماع. واختلف الناس في عمله في رد الشهادة،
فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة:
لا يعمل الاستثناء في رد شهادته، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى. وأما شهادة القاذف
فلا تقبل ألبتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال. وقال الجمهور:
الاستثناء عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وإنما كان ردها لعلة
الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده، وهو قول عامة الفقهاء.
ثم اختلفوا في صورة توبته، فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره، أن توبته
لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه. وهكذا فعل عمر، فإنه قال للذين
شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته،
فأكذب الشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل گ
فكان لا يقبل شهادته. وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة. وقالت فرقة - منها
مالك رحمه الله تعالى وغيره -: توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله
بتكذيب، وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله، وهو قول ابن جرير.
ويروى عن الشعبي أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة، إذا تاب وظهرت توبته
لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق، لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء، وقد قال
الله عز وجل: " وإني لغفار لمن (1) تاب " [طه: 82] الآية.
الثانية والعشرون - اختلف علماؤنا رحمهم الله تعالى متى تسقط شهادة القاذف، فقال
ابن الماجشون: بنفس قذفه. وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون: لا تسقط حتى يجلد،
فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: شهادته
في مدة الاجل موقوفة، ورجح (2) القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأي
رجوع لعدل إن قذف وحد وبقى على عدالته.

(1) راجع ج 11 ص 231.
(2) في ك: وترجيح القول بالتوبة إنما يكون الخ.
179

الثالثة والعشرون - واختلفوا أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شئ
تجوز، فقال مالك رحمه الله تعالى: تجوز في كل شئ مطلقا، وكذلك كل من حد في شئ
من الأشياء، رواه نافع وابن عبد الحكم عن مالك، وهو قول ابن كنانة. وذكر الوقار (1) عن
مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك، وهو قول مطرف
وابن الماجشون. وروى العتبى عن أصبغ وسحنون مثله. قال سحنون: من حد في شئ
من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه. وقال مطرف وابن الماجشون: من حد
في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شئ من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان وإن كان
عدلا، وروياه عن مالك. واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى.
الرابعة والعشرون - الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك
والشافعي وأصحابهما. وعند أبي حنيفة وجل أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو
الفسق، ولهذا لا تقبل شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة.
وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان: أحدهما - هل هذه الجمل في حكم الجملة
الواحدة للعطف الذي فيها، أو لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال وحرف العطف محسن
لا مشرك، وهو الصحيح في عطف الجمل، لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض، على
ما يعرف من النحو.
السبب الثاني - يشبه (2) الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى
جميعها عند الفقهاء، أو لا يشبه به، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما يعرف
في أصول الفقه. والأصل أن كل ذلك محتمل ولا ترجيح، فتعين ما قال القاضي من الوقف.
ويتأيد (3) الاشكال بأنه قد جاء في كتاب الله عز وجل كلا الامرين، فإن آية المحاربة فيها عود
الضمير إلى الجميع باتفاق، وآية قتل المؤمن خطأ فيها رد الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق،
وآية القذف محتملة للوجهين، فتعين الوقف من غير مين. قال علماؤنا: وهذا نظر

(1) الوقار (كسحاب): لقب زكريا بن الفقيه المصري.
(2) في ب وك: تشبيه.
(3) في ك: يتأكد.
180

كلي أصولي. ويترجح قول مالك والشافعي رحمهما الله من جهة نظر الفقه الجزئي بأن
يقال: الاستثناء راجع إلى الفسق والنهى (1) عن قبول الشهادة جميعا إلا أن يفرق بين ذلك
بخبر يجب التسليم له. وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما دون
ذلك أولى، والله أعلم. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، قال: وليس
من نسب إلى الزنى بأعظم جرما من مرتكب الزنى، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته، لان
(التائب من الذنب كمن لا ذنب له). وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى،
مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: " إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله - [المائدة: 33] إلى قوله - إلا الذين تابوا (2) " [المائدة: 34]. ولا شك أن هذا الاستثناء
إلى الجميع، وقال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن
تقبل شهادته. قال: وقوله " أبدا " أي ما دام قاذفا، كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر
أبدا، فإن معناه ما دام كافرا. وقال الشعبي للمخالف في هذه المسألة: يقبل الله توبته ولا تقبلون
شهادته! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله:
" وأولئك هم الفاسقون " تعليل لا جملة مستقلة بنفسها، أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم،
فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم؟. ثم توبة القاذف إكذابه نفسه، كما قال عمر لقذفة
المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير، مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير
ذلك من الأقطار. ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن
الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبدا، ولم يسعهم السكوت عن القضاء
بتحريف تأويل الكتاب، فسقط قولهم، والله المستعان.
الخامسة والعشرون - قال القشيري: ولا خلاف أنه إذا لم يجلد القاذف بأن مات
المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف، فالشهادة
مقبولة، لان عند الخصم في المسألة النهى عن قبول الشهادة معطوف على الجلد، قال الله تعالى:

(1) عبارة الأصل: " الاستثناء راجع إلى الفسق والتوبة جميعا... " والتصويب عن كتب الفقه.
(2) راجع ج 6 ص 147 فما بعد.
181

" فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ". وعند هذا قال الشافعي: هو قبل أن
يحد شر منه حين حد، لان الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما.
قلت: هكذا قال ولا خلاف. وقد تقدم عن ابن الماجشون أنه بنفس القذف ترد شهادته.
وهو قول الليث والأوزاعي والشافعي: ترد شهادته وإن لم يحد، لأنه بالقذف يفسق، لأنه
من الكبائر فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.
السادسة والعشرون - قوله تعالى: " وأصلحوا " يريد إظهار التوبة. وقيل:
وأصلحوا العمل. (فإن الله غفور رحيم) حيث تابوا وقبل توبتهم.
قوله تعالى: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء
إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهدت بالله إنه لمن الصدقين (6)
والخمسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين (7) ويدرؤا عنها
العذاب أن تشهد أربع شهدت بالله إنه لمن الكاذبين (8)
والخمسة أن غضب الله عليها إن كان من الصدقين (9) ولولا
فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)
فيه ثلاثون مسألة:
الأولى - قوله تعالى: (ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) " أنفسهم " بالرفع على
البدل. ويجوز النصب على الاستثناء: وعلى خبر " يكن ". (فشهادة أحدهم أربع شهادات)
بالرفع قراءة الكوفيين على الابتداء والخبر، أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع
شهادات. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو: " أربع " بالنصب، لان معنى " فشهادة " أن
يشهد، والتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فالامر أن يشهد أحدهم أربع
شهادات، ولا خلاف في الثاني أنه منصوب بالشهادة. (والخامسة) رفع بالابتداء.

(1) من ك.
182

والخبر " أن " وصلتها، ومعنى المخففة كمعنى المثقلة لان معناها أنه. وقرأ أبو عبد الرحمن
وطلحة وعاصم في رواية حفص: " والخامسة " بالنصب، بمعنى وتشهد الشهادة الخامسة. الباقون
بالرفع على الابتداء، والخبر في " أن لعنة الله عليه "، أي والشهادة الخامسة قوله: لعنة الله عليه.
الثانية - في سبب نزولها، وهو ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن هلال بن أمية
قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(البينة أو حد في ظهرك قال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة!
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (البينة وإلا حد في ظهرك) فقال هلال: والذي
بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت " والذين
يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " فقرأ حتى بلغ " من الصادقين الحديث
بكماله. وقيل: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواج
وغيرهم قال سعد بن معاذ: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي
بأربعة! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير منى). وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة،
هذا نحو معناها. ثم جاء من بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك بن سحماء
البلوى على ما ذكرناه، وعزم النبي صلى الله عليه وسلم على ضربه حد القذف، فنزلت هذه
الآية عند ذلك، فجمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وتلاعنا، فتلكأت المرأة
عند الخامسة لما وعظت وقيل: إنها موجبة (1)، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم (2)، فالتعنت،
وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وولدت غلاما كأنه جمل أورق (3) - على النعت
المكروه - ثم كان الغلام بعد ذلك أميرا بمصر، وهو لا يعرف لنفسه أبا. وجاء أيضا
عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن. والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب
الآية. وقيل: نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل، وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة.

(1) أي الشهادة الخامسة موجبة للعذاب الأليم إن كانت كاذبة.
(2) أريد باليوم الجنس أي جمع الأيام.
(3) الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض إلى سواد.
183

قال أبو عبد الله بن أبي صفرة: الصحيح أن القاذف لزوجه عويمر، وهلال بن أمية خطأ.
قال الطبري يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية: وإنما القاذف عويمر بن زيد (1) بن الجد
ابن العجلاني، شهد أحدا مع النبي صلى الله عليه وسلم، رماها بشريك بن السحماء، والسحماء
أمه، قيل لها ذلك لسوادها، وهو ابن عبدة بن الجد بن العجلاني، كذلك كان يقول أهل الأخبار
. وقيل: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في الخطبة يوم الجمعة " والذين
يرمون المحصنات " فقال عاصم بن عدي الأنصاري: جعلني الله فداك! لو أن رجلا منا وجد
على بطن امرأته رجلا، فتكلم فأخبر بما جرى جلد ثمانين، وسماه المسلمون فاسقا فلا تقبل
شهادته، فكيف لاحدنا عند ذلك بأربعة شهداء، وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ
الرجل من حاجته! فقال عليه السلام: (كذلك أنزلت يا عاصم بن عدي). فخرج عاصم سامعا
مطيعا، فاستقبله هلال بن أمية يسترجع، فقال: ما وراءك؟ فقال: شر! وجدت شريك
ابن السحماء على بطن امرأتي خولة يزنى بها، وخولة هذه بنت عاصم بن عدي، كذا في هذا الطريق
أن الذي وجد مع امرأته شريكا هو هلال بن أمية، والصحيح خلافه حسبما تقدم بيانه.
قال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني، لكثرة ما روى أن
النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته. واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك
ابن عبدة وأمه السحماء، وكان عويمر وخولة بنت قيس وشريك بنى عم عاصم، وكانت هذه
القصة في شعبان سنة تسع من الهجرة، منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى
المدينة، قاله الطبري. وروى الدارقطني عن عبد الله بن جعفر قال: حضرت رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين لا عن بين عويمر العجلاني وامرأته، مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
من غزوة تبوك، وأنكر حملها الذي في بطنها وقال هو لابن السحماء، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (هات امرأتك فقد نزل القرآن فيكما)، فلاعن بينهما بعد العصر عند المنبر
على خمل (2). في طريقه الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن عمران بن أبي أنس قال: سمعت
عبد الله بن جعفر يقول...... فذكره.

(1) في أسد الغابة عن الطبري: عويمر بن الحارث بن زيد بن حارثة بن الجد.
(2) الخمل هدب القطيفة ونحوها مما ينسج وتفضل له فضول كحمل الطنفسة.
184

الثالثة - قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) عام في كل رمى، سواء قال:
زنيت أو يا زانية أو رأيتها تزني، أو هذا الولد ليس منى، فإن الآية مشتملة عليه. ويجب
اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، وهذا قول جمهور العلماء وعامة الفقهاء وجماعة أهل
الحديث. وقد روى عن مالك مثل ذلك. وكان مالك يقول: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك
تزني، أو ينفى حملا أو ولدا منها. وقول أبى الزناد ويحيى بن سعيد والبتي مثل قول مالك:
إن الملاعنة لا تجب بالقذف وإنما تجب بالرؤية أو نفى الحمل مع دعوى الاستبراء، هذا
هو المشهور عند مالك، وقاله ابن القاسم. والصحيح الأول لعموم قوله: " والذين يرمون
أزواجهم ". قال ابن العربي: وظاهر القرآن يكفي لايجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية،
فلتعولوا عليه، لا سيما وفي الحديث الصحيح: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا؟ فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: (فاذهب فأت بها) ولم يكلفه ذكر الرؤية. وأجمعوا أن الأعمى
يلاعن إذا قذف امرأته. ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى، قاله أبو عمر
وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجه
في فرجها. والحجة لمالك ومن اتبعه ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند
أهله رجلا، فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا، فرأيت بعيني
وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه، فنزلت: " والذين
يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " الآية، وذكر الحديث. وهو نص
على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت في الرؤية، فلا يجب
أن يتعدى ذلك. ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤية حد، لعموم قوله تعالى: " والذين
يرمون المحصنات ".
الرابعة - إذا نفى الحمل فإنه يلتعن، لأنه أقوى من الرؤية ولا بد من ذكر عدم
الوطئ والاستبراء بعده. واختلف علماؤنا في الاستبراء، فقال المغيرة ومالك في أحد قوليهما:
185

يجزى في ذلك حيضة. وقال مالك أيضا: لا ينفيه إلا بثلاث حيض. والصحيح الأول،
لان براءة الرحم من الشغل يقع بها كما في استبراء الأمة، وإنما راعينا الثلاث حيض في العدد
لحكم آخر يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى. وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة:
لا ينفى الولد بالاستبراء، لان الحيض يأتي على الحمل. وبه قال أشهب في كتاب ابن المواز،
وقاله المغيرة. وقال: لا ينفى الولد إلا بخمس سنين لأنه أكثر مدة الحمل على ما تقدم.
الخامسة - اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبدين، مؤمنين أو كافرين،
فاسقين أو عدلين. وبه قال الشافعي. ولا لعان بين الرجل وأمته، ولا بينه وبين أم ولده.
وقيل: لا ينتفى ولد الأمة عنه إلا بيمين واحدة، بخلاف اللعان. وقد قيل: إنه إذا نفى
ولد أم الولد لاعن. والأول تحصيل مذهب مالك، وهو الصواب. وقال أبو حنيفة:
لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين، وذلك لان اللعان عنده شهادة، وعندنا وعند
الشافعي يمين، فكل من صحت يمينه صح قذفه ولعانه. واتفقوا على أنه لا بد أن يكونا مكلفين.
وفي قوله (1): " وجد مع امرأته رجلا ". دليل على أن الملاعنة تجب على كل زوجين، لأنه
لم يخص رجلا من رجل ولا امرأة من امرأة، ونزلت آية اللعان على هذا الجواب فقال:
" والذين يرمون أزواجهم " ولم يخص زوجا من زوج. وإلى هذا ذهب مالك وأهل المدينة،
وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبى عبيد وأبى ثور. وأيضا فإن اللعان يوجب فسخ النكاح
فأشبه الطلاق، فكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه. واللعان أيمان لا شهادات، قال الله تعالى
وهو أصدق القائلين: " لشهادتنا أحق من شهادتهما (2) " [المائدة: 107] أي أيماننا. وقال تعالى:
" إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول (3) الله " [المنافقون: 1]. ثم قال تعالى: " اتخذوا أيمانهم جنة (4) " [المجادلة: 16].

(1) أي قول عويمر، أو غيره على الخلاف المتقدم. وفى الأصول: " وفى قوله صلى الله عليه وسلم
وجد.... الخ " وهو تحريف.
(2) راجع ج 6 ص 359.
(3) راجع ج 18 ص 120.
(4) راجع ج 17 ص 303 فما بعد.
186

وقال عليه السلام: (لولا الايمان لكان لي ولها شأن). وأما ما احتج به الثوري وأبو حنيفة
فهي حجج لا تقوم على ساق، منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والأمة لعان
وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية
لعان). أخرجه الدارقطني من طرق ضعفها كلها. وروى عن الأوزاعي وابن جريج وهما
إمامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله، ولم يرفعه (1) إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
واحتجوا من جهة النظر أن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقوله: " ولم يكن لهم
شهداء إلا أنفسهم " وجب ألا يلاعن إلا من تجوز شهادته. وأيضا فلو كانت يمينا ما رددت،
والحكمة في ترديدها قيامها في الاعداد مقام الشهود في الزنى. قلنا: هذا يبطل بيمين القسامة
فإنها تكرر وليست بشهادة إجماعا، والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء. قال
ابن العربي: والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه
وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لاحد أن يدعى في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما
يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر.
السادسة - واختلف العلماء في ملاعنة الأخرس، فقال مالك والشافعي: يلاعن،
لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه، إذا فهم ذلك عنه. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن،
لأنه ليس من أهل الشهادة، ولأنه قد ينطق بلسانه فينكر اللعان، فلا يمكننا إقامة الحد عليه.
وقد تقدم هذا المعنى في سورة " مريم " (2) والدليل عليه، والحمد لله.
السابعة - قال ابن العربي: رأى أبو حنيفة عموم الآية فقال: إن الرجل إذا قذف
زوجته بالزنى قبل أن يتزوجها فإنه يلاعن، ونسي أن ذلك قد تضمنه قوله تعالى:
" والذين يرمون المحصنات " وهذا رماها محصنة غير زوجة، وإنما يكون اللعان في قذف
يلحق فيه النسب، وهذا قذف لا يلحق فيه نسب فلا يوجب لعانا، كما لو قذف أجنبية.

(1) في سنن الدارقطني: " يرفعاه ".
(2) راجع ج 11 ص 101.
187

الثامنة - إذا قذفها بعد الطلاق نظرت، فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه
أو حمل يتبرأ منه لاعن وإلا لم يلاعن. وقال عثمان البتي: لا يلاعن بحال لأنها ليست
بزوجة. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن في الوجهين، لأنها ليست بزوجة. وهذا ينتقض
عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا، بل هذا أولى، لان النكاح قد تقدم وهو يريد
الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد يلحق به فلا بد من اللعان. وإذا لم يكن هنالك حمل
يرجى ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به وكان قذفا مطلقا داخلا تحت
عموم قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات " الآية، فوجب عليه الحد وبطل ما قاله
البتي لظهور فساده.
التاسعة - لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة،
وهي أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها،
ثم يقدم فينفيه فله أن يلاعنها ها هنا بعد العدة. وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد لاعن لنفسه
وهي ميتة بعد مدة من العدة، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما.
العاشرة - إذا انتفى من الحمل ووقع ذلك بشرطه لاعن قبل الوضع، وبه قال
الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن إلا بعد أن تضع، لأنه يحتمل أن يكون ريحا
أو داء من الأدواء. ودليلنا النص الصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن قبل الوضع،
وقال: (إن جاءت به كذا فهو لأبيه وإن جاءت به كذا فهو لفلان) فجاءت به على
النعت المكروه.
الحادية عشرة - إذا قذف بالوطئ في الدبر [لزوجه (1)] لاعن. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن،
وبناه على أصله في أن اللواط لا يوجب الحد. وهذا فاسد، لان الرمي به معرة وقد دخل
تحت عموم قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " وقد تقدم في " الأعراف " (2) و " المؤمنون " (3)
أنه يجب به الحد.

(1) زيادة يقتضيها المقام.
(2) راجع ج 7 ص 242 فما بعد.
(3) راجع ص 106 من هذا الجزء.
188

الثانية عشرة - قال ابن العربي: من غريب أمر هذا الرجل أنه [قال] (1) إذا قذف زوجته
وأمها بالزنى: إنه إن حد للام سقط حد البنت، وإن لاعن للبنت لم يسقط حد الام،
وهذا لا وجه له، وما رأيت لهم [فيه] شيئا يحكى، وهذا باطل جدا، فإنه خص عموم الآية
في البنت وهي زوجة بحد الام من غير أثر ولا أصل قاسه عليه.
الثالثة عشرة - إذا قذف زوجته ثم زنت قبل التعانه فلا حد ولا لعان. وبهذا قال
أبو حنيفة والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال الثوري والمزني: لا يسقط الحد عن القاذف،
وزنى المقذوف بعد أن قذف لا يقدح في حصانته المتقدمة ولا يرفعها، لأن الاعتبار الحصانة
والعفة في حال القذف لا بعده. كما لو قذف مسلما فارتد المقذوف بعد القذف وقبل أن يحد
القاذف لم يسقط الحد عنه. وأيضا فإن الحدود كلها معتبرة بوقت الوجوب لا وقت الإقامة.
ودليلنا هو أنه قد ظهر قبل استيفاء اللعان والحد معنى لو كان موجودا في ابتداء منع صحة
اللعان ووجوب الحد، فكذلك إذا طرأ في الثاني، كما إذا شهد شاهدان ظاهرهما العدالة فلم يحكم
الحاكم بشهادتهما حتى ظهر فسقهما بأن زنيا أو شربا خمرا فلم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهما تلك.
وأيضا فإن الحكم بالعفة والاحصان يؤخذ من طريق الظاهر لا من حيت القطع واليقين، وقد
قال عليه السلام: (ظهر المؤمن حمى)، فلا يحد القاذف إلا بدليل قاطع، وبالله التوفيق.
الرابعة عشرة - من قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا، هو لدفع الحد، وهي
لدرء العذاب. فإن كانت صغيرة لا تحمل لا عن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت
لم يلزمها شئ. وقال ابن الماجشون: لا حد على قاذف من لم تبلغ. قال اللخمي: فعلى
هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل.
الخامسة عشرة - إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى أحدهم زوجها فإن الزوج يلاعن
وتحد الشهود الثلاثة، وهو أحد قولي الشافعي. والقول الثاني أنهم لا يحدون. وقال
أبو حنيفة: إذا شهد الزوج والثلاثة ابتداء قبلت شهادتهم وحدت المرأة. ودليلنا قوله

(1) زيادة عن ابن العربي.
189

تعالى: " والذين يرمون المحصنات " الآية. فأخبر أن من قذف محصنا ولم يأت بأربعة
شهداء حد، فظاهره يقتضى أن يأتي بأربعة شهداء سوى الرامي، والزوج رام لزوجته فخرج
عن أن يكون أحد الشهود، والله أعلم.
السادسة عشرة - إذا ظهر بامرأته حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد سكوته.
وقال شريح ومجاهد: له أن ينفيه أبدا. وهذا خطأ، لان سكوته بعد العلم به رضى به،
كما لو أقر به ثم ينفيه فإنه لا يقبل منه، والله أعلم.
السابعة عشرة - فإن أخر ذلك إلى أن وضعت وقال: رجوت أن يكون ريحا ينفش
أو تسقطه فأستريح من القذف، فهل لنفيه بعد وضعه مدة ما فإذا تجاوزها لم يكن له ذلك،
فقد اختلف في ذلك، فنحن نقول: إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام
فهو راض به ليس له نفيه، وبهذا قال الشافعي. وقال أيضا: متى أمكنه نفيه على
ما جرت به العادة من تمكنه من الحاكم فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك. وقال
أبو حنيفة: لا أعتبر مدة. وقال أبو يوسف ومحمد: يعتبر فيه أربعون يوما، مدة النفاس.
قال ابن القصار: والدليل لقولنا هو أن نفى ولده محرم عليه، واستلحاق ولد ليس منه محرم
عليه، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ويفكر، هل يجوز له نفيه أولا. وإنما جعلنا
الحد ثلاثة لأنه أول حد الكثرة وآخر حد القلة، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر بها حال المصراة (1)
، فكذلك ينبغي أن يكون هنا. وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهم بأولى من اعتبار مدة الولادة
والرضاع، إذ لا شاهد لهم في الشريعة، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة.
الثامنة عشرة - قال ابن القصار إذا قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي يا زانية - بالهاء -
وكذلك الأجنبي لأجنبي، فلست أعرف فيه نصا لأصحابنا، ولكنه عندي يكون قذفا وعلى
قائله الحد، وقد زاد حرفا، وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف:

(1) المصراة: الناقة أو البقرة أو الشاة تصر أخلافها ولا تحلب أياما حتى يجتمع اللبن في ضرعها، فإذا حلبها
المشترى استغزرها. ومنه الحديث: (من اشترى مصراة فهو بخير النظرين) أي خير الامرين له، إما إمساك المبيع أو رده.
190

لا يكون قذفا. واتفقوا أنه إذا قال لامرأته يا زان أنه قذف. والدليل على أنه يكون في الرجل
قذفا هو أن الخطاب إذا فهم منه معناه ثبت حكمه، سواء كان بلفظ أعجمي أو عربي.
ألا ترى أنه إذا قال للمرأة زنيت (بفتح التاء) كان قذفا، لان معناه يفهم منه، ولأبي حنيفة
وأبى يوسف أنه لما جاز أن يخاطب المؤنث بخطاب المذكر لقوله تعالى: " وقال نسوة (1) "
صلح أن يكون قوله يا زان للمؤنث قذفا. ولما لم يجز أن يؤنث فعل المذكر إذا تقدم عليه
لم يكن لخطابه بالمؤنث حكم، والله أعلم.
التاسعة عشرة - يلاعن في النكاح الفاسد زوجته لأنها صارت فراشا ويلحق النسب
فيه فجرى اللعان عليه.
الموفية عشرين - اختلفوا في الزوج إذا أبى من الالتعان، فقال أبو حنيفة: لا حد
عليه، لان الله تعالى جعل على الأجنبي الحد وعلى الزوج اللعان، فلما لم ينتقل اللعان إلى
الأجنبي لم ينتقل الحد إلى الزوج ويسجن أبدا حتى يلاعن لان الحدود لا تؤخر قياسا.
وقال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء: إن لم يلتعن الزوج حد، لان اللعان له براءة كالشهود
للأجنبي، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهداء حد، فكذلك الزوج إن لم يلتعن. وفي حديث
العجلاني ما يدل على هذا، لقوله: إن سكت سكت على غيظ وإن قتلت قتلت وإن
نطقت، جلدت.
الحادية والعشرون - واختلفوا أيضا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده، فقال مالك
والشافعي: يلاعن كان له شهود أو لم يكن، لان الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد،
وأما رفع الفراش ونفى الولد فلا بد فيه من اللعان. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما جعل
اللعان للزوج إذا لم يكن له شهود غير نفسه، لقوله تعالى: " ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ".
الثانية والعشرون - البداءة في اللعان بما بدأ الله به، وهو الزوج، وفائدته درء الحد
عنه ونفى النسب منه، لقوله عليه السلام: (البينة وإلا حد في ظهرك). ولو بدئ بالمرأة
قبله لم يجز لأنه عكس ما رتبه الله تعالى. وقال أبو حنيفة: يجزى. وهذا باطل، لأنه

(1) راجع ج 9 ص 175 فما بعد.
191

خلاف القرآن، وليس له أصل يرده إليه ولا معنى يقوى به، بل المعنى لنا، لأن المرأة إذا
بدأت باللعان فتنفى
ما لم يثبت وهذا لا وجه له.
الثالثة والعشرون - وكيفية اللعان أن يقول الحاكم للملاعن: قل أشهد بالله لرأيتها تزني
ورأيت فرج الزاني في فرجها كالمرود في المكحلة وما وطئتها بعد رؤيتي. وإن شئت قلت:
لقد زنت وما وطئتها بعد زناها. يردد ما شاء من هذين اللفظين أربع مرات، فإن نكل عن هذه
الايمان أو عن شئ منها حد. وإذا نفى حملا قال: أشهد بالله لقد استبرأتها وما وطئتها بعد،
وما هذا الحمل منى، ويشير إليه، فيحلف بذلك أربع مرات ويقول في كل يمين منها: وإني
لمن الصادقين في قولي هذا عليها. ثم يقول في الخامسة: على لعنة الله إن كنت من الكاذبين،
وإن شاء قال: إن كنت كاذبا فيما ذكرت عنها. فإذا قال ذلك سقط عنه الحد وانتفى عنه
الولد. فإذا فرغ الرجل من التعانه قامت المرأة بعده فحلفت بالله أربعة أيمان، تقول فيها:
أشهد بالله إنه لكاذب، أو إنه لمن الكاذبين فيما ادعاه على وذكر عنى. وإن كانت حاملا
قالت: وإن حملي هذا منه. ثم تقول في الخامسة: وعلى غضب الله إن كان صادقا، أو إن
كان من الصادقين في قوله ذلك. ومن أوجب اللعان بالقذف يقول في كل شهادة من
الأربع: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة من الزنى. ويقول في الخامسة:
على لعنة الله إن كنت كاذبا فيما رميتها به من الزنى. وتقول هي: أشهد بالله إنه لكاذب فيما
رماني به من الزنى. وتقول في الخامسة: على غضب الله إن كان صادقا فيما رماني به من
الزنى. وقال الشافعي: يقول الملاعن أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجي
فلانة بنت فلان، ويشير إليها إن كانت حاضرة، يقول ذلك أربع مرات، ثم يوعظه الامام
ويذكره الله تعالى ويقول: إني أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله، فإن رآه يريد
أن يمضى على ذلك أمر من يضع يده على فيه، ويقول: إن قولك وعلى لعنة الله إن كنت
من الكاذبين موجبا، فإن أبى تركه يقول ذلك: لعنة الله على إن كنت من الكاذبين فيما
رميت به فلانة من الزنى. احتج بما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمر رجلا حيث أمر المتلاعنين أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول: إنها موجبة.
192

الرابعة والعشرون - اختلف العلماء في حكم من قذف امرأته برجل سماه، هل يحد
أم لا، فقال مالك: عليه اللعان لزوجته، وحد للمرمى. وبه قال أبو حنيفة، لأنه قاذف
لمن لم يكن له ضرورة إلى قذفه. وقال الشافعي: لا حد عليه، لان الله عز وجل لم يجعل
على من رمى زوجته بالزنى إلا حدا واحدا بقوله: " والذين يرمون أزواجهم "، ولم يفرق
بين من ذكر رجلا بعينه وبين من لم يذكر، وقد رمى العجلاني زوجته بشريك وكذلك هلال
ابن أمية، فلم يحد واحد منهما. قال ابن العربي: وظاهر القرآن لنا، لان الله تعالى وضع
الحد في قذف الأجنبي والزوجة مطلقين، ثم خص حد الزوجة بالخلاص باللعان وبقى الأجنبي
على مطلق الآية. وإنما لم يحد العجلاني لشريك ولا هلال لأنه لم يطلبه، وحد القذف
لا يقيمه الامام إلا بعد المطالبة (1) إجماعا منا ومنه.
الخامسة والعشرون - إذا فرغ المتلاعنان من تلاعنهما جميعا تفرقا وخرج كل واحد
منهما على باب من المسجد الجامع غير الباب الذي يخرج منه صاحبه، ولو خرجا من باب واحد
لم يضر ذلك لعانهما. ولا خلاف في أنه لا يكون اللعان إلا في مسجد جامع تجمع فيه الجمعة
بحضرة السلطان أو من يقوم مقامه من الحكام. وقد استحب جماعة من أهل العلم أن
يكون اللعان في الجامع بعد العصر. وتلتعن النصرانية من زوجها المسلم في الموضع الذي
تعظمه من كنيستها بمثل (2) ما تلتعن به المسلمة.
السادسة والعشرون - قال مالك وأصحابه: وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين،
فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده، وهو
قول الليث بن سعد وزفر بن الهذيل والأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد
ابن الحسن: لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما، وهو قول الثوري،
لقول ابن عمر: فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين، فأضاف الفرقة إليه،
ولقوله عليه السلام: (لا سبيل لك عليها). وقال الشافعي: إذا أكمل الزوج الشهادة
والالتعان فقد زال فراش امرأته، التعنت أو لم تلتعن. قال: وأما التعان المرأة فإنما
هو لدرء الحد عنها لا غير، وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى. ولما كان لعان الزوج ينفى

(1) في ك: إلا بمطالبة المقذوف.
(2) من ب وك. وفى أ وج‍ وط: مثل.
(13 - 12)
193

الولد ويسقط الحد رفع الفراش. وكان عثمان البتي لا يرى التلاعن ينقص شيئا من عصمة
الزوجين حتى يطلق. وهذا قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة، على أن البتي قد استحب
للملاعن أن يطلق بعد اللعان، ولم يستحسنه قبل ذلك، فدل على أن اللعان عنده قد
أحدث حكما. وبقول عثمان قال جابر بن زيد فيما ذكره الطبري، وحكاه اللخمي عن محمد
ابن أبي صفرة. ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة. واحتج أهل هذه المقالة
بأنه ليس في كتاب الله تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة، وبقول عويمر:
كذبت عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا، قال: ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه
ولم يقل له لم قلت هذا، وأنت لا تحتاج إليه، لان باللعان قد طلقت. والحجة لمالك
في المشهور ومن وافقه قوله عليه السلام: (لا سبيل لك عليها). وهذا إعلام منه أن تمام
اللعان رفع سبيله عليها (1) وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم، وإنما كان تنفيذا لما أوجب الله
تعالى بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان في اللغة.
السابعة والعشرون - ذهب الجمهور من العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا، فإن
أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، ولم ترجع إليه أبدا. وعلى هذا السنة التي لا شك
فيها ولا اختلاف. وذكر ابن المنذر عن عطاء أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد،
وقال: قد تفرقا بلعنة من الله. وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به
الولد، وكان خاطبا من الخطاب إن شاء، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير
وعبد العزيز بن أبي سلمة، وقالوا: يعود النكاح حلالا كما لحق به الولد، لأنه لا فرق بين شئ
من ذلك. وحجة الجماعة قوله عليه السلام: (لا سبيل لك عليها)، ولم يقل إلا أن تكذب
نفسك. وروى ابن إسحاق وجماعة عن الزهري قال: فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما
فلا يجتمعان أبدا. ورواه الدارقطني، ورواه مرفوعا من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر
رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا).
وروى عن علي وعبد الله قالا: مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان. عن علي: أبدا.

(1) كذا في ب وك وط.
194

الثامنة والعشرون - اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء:
عدد الألفاظ - وهو أربع شهادات على ما تقدم.
والمكان - وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان، إن كان بمكة فعند الركن والمقام،
وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر
البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه،
إن كانا يهوديين فالكنيسة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل
الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه.
والوقت - وذلك بعد صلاة العصر.
وجمع الناس - وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا، فاللفظ وجمع الناس
مشروطان، والزمان والمكان مستحبان.
التاسعة والعشرون - من قال: إن الفراق لا يقع إلا بتمام التعانهما، فعليه لو مات أحدهما
قبل تمامه ورثه الاخر. ومن قال: لا يقع إلا بتفريق الامام فمات أحدهما قبل ذلك وتمام
اللعان ورثه الاخر. وعلى قول الشافعي: إن مات أحدهما قبل أن تلتعن المرأة لم يتوارثا.
الموفية ثلاثين - قال ابن القصار: تفريق اللعان عندنا ليس بفسخ، وهو مذهب
المدونة: فإن اللعان حكم تفريقه حكم تفريق الطلاق، ويعطى لغير المدخول بها نصف
الصداق. وفي مختصر ابن الجلاب: لا شئ لها، وهذا على أن تفريق اللعان فسخ.
قوله تعالى: إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا
لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي
تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون
والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين (12) لولا جاؤوا
195

عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم
الكاذبون (13) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة
لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم (14) إذ تلقونه بألسنتكم
وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله
عظيم (15) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا
سبحانك هذا بهتان عظيم (16) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا
إن كنتم مؤمنين (17) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (18)
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم
في الدنيا والآخرة والله رؤوف رحيم (20) يا أيها الذين آمنوا
لا تتبعوا خطوت الشيطان ومن يتبع خطوت الشيطان فإنه يأمر
بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم
من أحد أبدا ولكن الله يزكى من يشاء والله سميع عليم (21)
ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى
والمسكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون
أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم (22)
196

فيه ثمان وعشرون مسألة (1):
الأولى - قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) " عصبة " خبر
" إن ". ويجوز نصبها على الحال، ويكون الخبر " لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم ".
وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة رضوان الله عليها،
وهو خبر صحيح مشهور، أغنى اشتهاره عن ذكره، وسيأتي مختصرا. وأخرجه البخاري تعليقا،
وحديثه أتم. قال: وقال أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأخرجه أيضا
عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت:
لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها. وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال:
حدثني مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت: بينا أنا قاعدة
أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله بفلان وفعل [بفلان] فقالت
أم رومان: وما ذاك؟ قالت إنني فيمن حدث الحديث! قالت: وما ذاك؟ قالت كذا
وكذا. قالت عائشة: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت نعم. قالت: وأبو بكر؟
قالت نعم! فخرت مغشيا عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض (2) فطرحت عليها ثيابها
فغطيتها: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما شأن هذه؟) فقلت: يا رسول الله،
أخذتها الحمى بنافض. قال: (فلعل في حديث تحدث به) قالت نعم. فقعدت عائشة
فقالت: والله، لئن حلفت لا تصدقونني! ولئن قلت لا تعذرونني! مثلي ومثلكم كيعقوب
وبنيه (3)، والله المستعان على ما تصفون. قالت: وانصرف ولم يقل شيئا فأنزل الله عذرها.
قالت: بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك. قال أبو عبد الله الحميدي: كان بعض من لقينا من الحفاظ
البغداديين يقول: الارسال في هذا الحديث أبين، واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت
في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسروق لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف.
وللبخاري من حديت عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ: " إذ تلقونه

(1) يلاحظ أن المسائل سبع وعشرون في جميع الأصول.
(2) أي برعشة.
(3) إذ قال في محنته: والله المستعان... الخ.
197

بألسنتكم " وتقول: الولق الكذب. قال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم بذلك (1) من غيرها لأنه
نزل فيها. قال البخاري: وقال معمر (2) بن راشد عن الزهري: كان حديث الإفك في غزوة
المريسيع. قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست. وقال موسى بن عقبة: سنة أربع. وأخرج
البخاري من حديت معمر عن الزهري قال قال لي الوليد بن عبد الملك: أبلغك أن عليا كان
فيمن قذف؟ قال: قلت لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن
وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما: كان على مسلما (3) في شأنها.
وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر عن
الزهري، وفيه: قال كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم علي بن أبي
طالب؟ فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة
كلهم يقول سمعت عائشة تقول: والذي تولى كبره عبد الله بن أبي [بن سلول (4)]. وأخرج (5) البخاري
أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة: والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي.
الثانية - قوله تعالى: (بالإفك) الإفك: الكذب. والعصبة: ثلاثة رجال، قاله
ابن عباس. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة. ابن عيينة: أربعون رجلا. مجاهد: من
عشرة إلى خمسة عشر. وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض.
والخير حقيقته: ما زاد نفعه على ضره. والشر: ما زاد ضره على نفعه. وإن خيرا لا شر فيه
هو الجنة. وشرا لا خير فيه هو جهنم. فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير، لان ضرره
من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى. فنبه الله تعالى عائشة وأهلها
وصفوان، إذ الخطاب لهم في قوله: " لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم "، لرجحان
النفع والخير على جانب الشر.
الثالثة - لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة معه في غزوة بنى المصطلق
وهي غزوة المريسيع، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل

(1) أي بالذي قرأت به.
(2) الذي في البخاري " النعمان بن راشد ".
(3) قوله: " مسلما "
بكسر اللام المشددة من التسليم، أي ساكتا في شأنها. وقيل: بفتح اللام، من السلامة من الخوض فيه.
(4) من ك.
(5) في ك: وأخرجه.
198

فمشت حتى جاوزت الجيش، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا
عقد من جزع ظفار قد (1) انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه، فوجدته وانصرفت فلم تجد
أحدا، وكانت شابة قليلة اللحم، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه، فلما لم تجد أحدا
اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول
صفوان بن المعطل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة.
وقيل: إنها استيقظت لاسترجاعه، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ
يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة، فوقع أهل الإفك في مقالتهم، وكان الذي يجتمع
إليه فيه ويستوشيه (2) ويشعله عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، وهو الذي رأى صفوان آخذا
بزمام ناقة عائشة فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل.
وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. هذا اختصار الحديث،
وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم، وهو في مسلم أكمل. ولما بلغ صفوان قول حسان
في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال:
تلق ذباب السيف عنى فإنني * غلام إذا هوجيت ليس بشاعر
فأخذ جماعة حسان ولببوه (3) وجاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدر رسول الله صلى الله عليه
وسلم جرح حسان واستوهبه إياه. وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر، على ما يأتي والله أعلم.
وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته،
وكان من خيار الصحابة [رضي الله عنه وعنهم (4)]. وقيل: كان حصورا لا يأتي النساء، ذكره
ابن إسحاق من طريق عائشة. وقيل: كان له ابنان، يدل على ذلك حديثه المروى مع امرأته،
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنيه: (لهما أشبه به من الغراب بالغراب). وقوله في الحديث:
والله ما كشف كنف أنثى قط، يريد بزنى. وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية
سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.

(1) الجزع (بفتح الجيم وسكون الزاي): خرز معروف في سواده بياض كالعروق. وظفار (كخضار):
مدينة باليمن.
(2) يستوشبه: يستخرجه بالبحث والمسألة ثم يفشيه ويشيعه ويحركه.
(3) لبب فلان فلانا: أخذ بتلبيبه، أي جمع ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة ثم جره.
(4) من ك.
199

الرابعة - قوله تعالى: (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم) يعنى ممن تكلم
بالإفك. ولم يسم من أهل الإفك. إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله: وجهل الغير، قاله
عروة بن الزبير، وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان، وقال: إلا أنهم كانوا عصبة،
كما قال الله تعالى. وفي مصحف حفصة: " عصبة (1) أربعة ".
الخامسة - قوله تعالى: (والذي تولى كبره منهم) وقرأ حميد الأعرج ويعقوب:
" كبره " بضم الكاف. قال الفراء: وهو وجه جيد، لان العرب تقول: فلان تولى عظم
كذا وكذا، أي أكبره. روى عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمى: لعل العذاب
العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره، رواه عنها مسروق. وروى عنها أنه عبد الله بن أبي،
وهو الصحيح، وقاله ابن عباس. وحكى أبو عمر بن عبد البر أن عائشة برأت حسان من
الفرية، وقالت: إنه لم يقل شيئا. وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله:
حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (2)
حليلة خير الناس دينا ومنصبا * نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب * كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها (3) * وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت أنى قلته * فلا رفعت سوطي إلى أناملي
فكيف وودي ما حييت ونصرتي * لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها * تقاصر عنها سورة المتطاول
وقد روى أنه لما أنشدها: حصان رزان، قالت له: لست كذلك، تريد أنك وقعت
في الغوافل. وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال: إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا،
ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه، والله أعلم.

(1) في ك: عصيبة بالتصغير.
(2) الحصان: العفيفة. ورزان: ذات ثبات ووقار وعفاف.
وغرثى: جائعة. ما تزن: ماتتهم. الغوافل: جمع غافلة، أي لا ترتع في أعراض الناس.
(3) الخيم (بالكسر): الشيمة والطبيعة والخلق والأصل.
200

وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا، وهل جلد الحد أم لا، فالله أعلم
أي ذلك كان: وهي المسألة:
السادسة - فروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك
رجلين وامرأة: مسطحا وحسان وحمنة، وذكره الترمذي وذكر القشيري عن ابن عباس
قال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار. قال
القشيري: والذي ثبت في الاخبار أنه ضرب ابن أبي وضرب حسان وحمنة، وأما مسطح
فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح. قال الماوردي (1) وغيره:
اختلفوا هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإفك، على قولين: أحدهما أنه لم يحد
أحدا من أصحاب الإفك لان الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبده الله أن يقيمها
بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم.
قلت: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن، فإن الله عز وجل يقول: " والذين يرمون
المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " أي على صدق قولهم: " فاجلدوهم ثمانين جلدة ".
والقول الثاني - أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أهل الإفك عبد الله بن أبي ومسطح
ابن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وفي ذلك قال شاعر من المسلمين:
لقد ذاق حسان الذي كان أهله * وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
وابن سلول ذاق في الحد خزية * كما خاض في إفك من القول يفصح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم * وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا (2)
وآذوا رسول الله فيها فجلدوا * مخازي تبقى عمموها وفضحوا
فصب عليهم محصدات كأنها * شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح.
قلت: المشهور من الاخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة،
ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبي. روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل
عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين

(1) في ك وط: السابعة قال الماوردي... الخ.
(2) أي جاء بأمر مفرط في الاثم.
201

والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش.
وفي كتاب الطحاوي: " ثمانين ثمانين ". قال علماؤنا. وإنما لم يحد (1) عبد الله بن أبي لان الله
تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما، فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة
وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها،
فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف، كما قال الله تعالى:
" فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ". وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم
إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه
وسلم في الحدود (إنها كفارة لمن أقيمت عليه)، كما في حديث عبادة بن الصامت. ويحتمل
أن يقال: إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة
من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه، كما في صحيح مسلم. والله أعلم.
السابعة - قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا)
هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا. قال
ابن زيد: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه، قاله المهدوي. و " لولا " بمعنى هلا.
وقيل: المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الامر على أنفسهم، فإن
كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد. وروى أن هذا النظر السديد وقع
من أبى أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك أنه دخل عليها فقالت له: يا أبا أيوب، أسمعت
ما قيل! فقال نعم! وذلك الكذب! أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك! قالت:
لا والله! قال: فعائشة والله أفضل منك، قالت أم أيوب نعم. فهذا الفعل ونحوه هو الذي
عاتب الله تعالى عليه (2) المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم.
الثامنة - قوله تعالى: (بأنفسهم) قال النحاس: معنى " بأنفسهم " بإخوانهم.
فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره (3) بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا
عليه ويكذبوه. وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.

(1) في ك: عدو الله.
(2) في الأصول وتفسير ابن عطية: " عاتب الله تعالى على المؤمنين ".
(3) كذا في ك.
202

قلت: ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الايمان التي حازها
الانسان، ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن (1)، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه
خبر محتمل وإن شاع، إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.
التاسعة - قوله تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) هذا توبيخ لأهل
الإفك. و " لولا " بمعنى هلا، أي هلا جاءوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء.
وهذا رد على الحكم الأول، وإحالة على الآية السابقة في آية القذف.
العاشرة - قوله تعالى: (فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون)
أي هم في حكم الله كاذبون. وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكنه
في حكم الشرع وظاهر الامر كاذب لا في علم الله تعالى، وهو سبحانه إنما رتب الحدود على
حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالانسان على ما هو عليه، فإنما
يبنى على ذلك حكم الآخرة.
قلت: ومما يقوى هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أنه قال: أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الان بما ظهر لنا من أعمالكم،
فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شئ الله يحاسبه في سريرته، ومن
أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة. وأجمع العلماء أن أحكام
الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل.
الحادية عشرة - قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته (2)) " فضل " رفع بالابتداء
عند سيبويه، والخبر محذوف لا تظهره العرب. وحذف جواب " لولا " لأنه قد ذكر مثله
بعد، قال الله عز وجل " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " لمسكم " أي بسبب ما قلتم في عائشة
عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وهذا عتاب من الله تعالى بليغ، ولكنه برحمته ستر عليكم
في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا والإفاضة: الاخذ في الحديث، وهو الذي وقع
عليه العتاب، يقال: أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه.

(1) في ك: المر..
(2) يريد آية 10 وهي قوله تعالى: " وهي قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ".
203

الثانية عشرة - قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم) قراءة محمد بن السميقع بضم
التاء وسكون اللام وضم القاف، من الالقاء، وهذه قراءة بينة. وقرأ أبى وابن مسعود:
" إذ تتلقونه " من التلقي، بتاءين. وقرأ جمهور السبعة: بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال
دون إدغام، وهذا أيضا من التلقي. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بإدغام الذال في التاء.
وقرأ ابن كثير: بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء، وهذه قراءة قلقة، لأنها تقتضي اجتماع
ساكنين، وليست كالادغام في قراءة من قرأ: " فلا تناجوا. ولا تنابزوا " لان دونه الألف
الساكنة، وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال. وقرأ ابن يعمر
وعائشة رضي الله عنهما - وهم أعلم الناس بهذا الامر - " إذ تلقونه " بفتح التاء وكسر اللام
وضم القاف، ومعنى هذه القراءة من قول العرب: ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر
عليه، فجاءوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدى. قال ابن عطية: وعندي أنه أراد إذ تلقون
فيه، فحذف حرف الجر فاتصل الضمير. وقال الخليل وأبو عمرو: أصل الولق الاسراع،
يقال: جاءت الإبل تلق، أي تسرع. قال:
لما رأوا جيشا عليهم قد طرق * جاءوا بأسراب من الشأم ولق
إن الحصين زلق وزملق * جاءت به عنس (1) من الشأم تلق
يقال: رجل زلق وزملق، مثال هدبد، وزمالق وزملق (بتشديد الميم) وهو الذي ينزل قبل
أن يجامع، قال الراجز:
* إن الحصين زلق وزملق *
والولق أيضا أخف الطعن. وقد ولقه يلقه ولقا. يقال: ولقه بالسيف ولقات، أي ضربات،
فهو مشترك.
الثالثة عشرة - قوله تعالى: (وتقولون بأفواهكم) مبالغة وإلزام وتأكيد.
الضمير
في (تحسبونه) عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له. و (هينا) أي سيئا يسيرا
لا يلحقكم فيه إثم.
(وهو عند الله) في الوزر (عظيم). وهذا مثل قوله عليه السلام
في حديث القبرين: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) أي بالنسبة إليكم.

(1) العنس: الناقة القوية.
204

الرابعة عشرة - قوله تعالى: (ولولا إذا سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك
هذا بهتان عظيم. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين. ويبين الله لكم الآيات
والله عليم حكيم) عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم
من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه
عليه الصلاة والسلام. وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان، وحقيقة البهتان أن يقال
في الانسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الانسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة.
و " أن " مفعول من أجله، بتقدير: كراهية أن، ونحوه.
الخامسة عشرة - قوله تعالى: (إن كنتم مؤمنين) توقيف وتوكيد، كما تقول:
ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا.
السادسة عشرة - قوله تعالى: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا " يعنى في عائشة،
لان مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم، لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه
وأهله، وذلك كفر من فاعله.
السابعة عشرة - قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب،
ومن سب عائشة قتل، لان الله تعالى يقول: " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم
مؤمنين "، فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. قال ابن العربي:
" قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضي الله عنها أدب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله:
" إن كنتم مؤمنين " في عائشة [لان ذلك (1)] كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام: (لا يؤمن
من لا يأمن جاره بوائقه). ولو كان سلب الايمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان
سلبه في قوله: (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن) حقيقة. قلنا: ليس (2) كما زعمتم، فإن (3)

(1) زيادة عن ابن العربي.
(2) في الأصول " لئن كان كما زعمتم أن أهل " والتصويب عن ابن العربي.
(3) في الأصول وابن العربي: " أن " بدون فاء.
205

أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه
مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر، فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة (1) لأهل
البصائر. ولو (2) أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب.
الثامنة عشر - قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) أي تفشو، يقال:
شاع الشئ شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعة، أي ظهر وتفرق. (في الذين آمنوا)
أي في المحصنين والمحصنات. والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما.
والفاحشة: الفعل القبيح المفرط القبح. وقيل: الفاحشة في هذه الآية القول السئ.
(لهم عذاب أليم في الدنيا) أي الحد. وفي الآخرة عذاب النار، أي للمنافقين، فهو مخصوص.
وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة. وقال الطبري: معناه إن مات مصرا غير تائب.
التاسعة عشرة - قوله تعالى: (والله يعلم) أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة
عليه، ويعلم كل شئ. (وأنتم لا تعلمون) روى من حديث أبي الدرداء أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها
فهو في سخط الله حتى ينزع عنها. وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام
فقد عاند الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة. وأيما رجل أشاع على
رجل مسلم كلمة وهو منها برئ يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها
في النار - ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى: - إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة
في الذين آمنوا " الآية.
الموفية عشرين - قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان) يعنى
مسالكه ومذاهبه، المعنى: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان. وواحد الخطوات
خطوة، هو ما بين القدمين. والخطوة (بالفتح) المصدر، يقال: خطوت خطوة، وجمعها
خطوات. وتخطى إلينا فلان، ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة.

(1) في الأصول: " الآية ".
(2) في الأصل: " ولو أن رجلا سب عائشة بعين - في ك: ببعض
ما برأها الله منه لكان جزاؤه الكفر ". والتصويب عن ابن العربي.
206

وقرأ الجمهور " خطوات " بضم الطاء. وسكنها عاصم والأعمش. وقرأ الجمهور: " ما زكى "
بتخفيف الكاف، أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا. وقيل: " ما زكى " أي ما صلح،
يقال: زكا يزكو زكاء، أي صلح. وشددها الحسن وأبو حياة، أي أن تزكيته لكم
وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم. وقال الكسائي: " يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا
خطوات الشيطان " معترض، وقوله: " ما زكى منكم من أحد أبدا " جواب لقوله أولا وثانيا:
" ولولا فضل الله عليكم ".
الحادية والعشرون - قوله تعالى: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة) الآية. المشهور
من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبى بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة.
وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين. وهو مسطح بن أثاثة
ابن عباد بن المطلب بن عبد مناف. وقيل: اسمه عوف، ومسطح لقب. وكان أبو بكر رضي الله عنه
ينفق عليه لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال، حلف
أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح فاعتذر وقال: إنما كنت أغشى
مجالس حسان فأسمع ولا أقول. فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل، ومر على
يمينه، فنزلت الآية. وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن
كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة، فنزلت الآية في جميعهم.
والأول أصح، غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف
ألا ينفع من هذه صفته غابر الدهر. وروى الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل: " إن الذين
جاءوا بالإفك عصبة منكم " العشر آيات، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره:
والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: " ولا يأتل أولوا الفضل
منكم والسعة " إلى قوله - ألا تحبون أن يغفر الله لكم ". قال عبد الله بن المبارك: هذه
أرجى آية في كتاب الله تعالى، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لأحب أن يغفر الله لي،
فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا.
207

الثانية والعشرون - في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال،
لان الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والايمان، وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط
الأعمال غير الشرك بالله، قال الله تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك (1) " [الزمر: 65].
الثالثة والعشرون - من حلف على شئ لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه،
أو كفر عن يمينه وأتاه، كما تقدم في " المائدة " (2). ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل
سنة من السنن أو مندوبا وأبد ذلك أنها جرحة في شهادته، ذكره الباجي في المنتقى.
الرابعة والعشرون - قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل) " ولا يأتل " معناه
يحلف، وزنها يفتعل، من الالية وهي اليمين، ومنه قوله تعالى: " للذين يؤلون من نسائهم "
وقد تقدم في " البقرة " (3). وقالت فرقة: معناه يقصر، من قولك: ألوت في كذا إذا قصرت
فيه، ومنه قوله تعالى: " لا يألونكم خبالا (4) " [آل عمران: 118].
الخامسة والعشرون - قوله تعالى: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) تمثيل وحجة أي كما
تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه
السلام: (من لا يرحم لا يرحم).
السادسة والعشرون - قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من
حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل. أرجى آية في كتاب الله عز وجل
قوله تعالى: " وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (5) " [الأحزاب: 47]. وقد قال تعالى في آية أخرى:
" والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو
الفضل الكبير (6) " [الشورى: 22]، فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك. ومن آيات
الرجاء قوله تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم (1) " [الزمر: 53]. وقوله تعالى: " الله لطيف

(1) راجع ج 15 ص 276 وص 267.
(2) راجع ج 6 ص 264 فما بعد.
(3) راجع ج 3 ص 103.
(4) راجع ج 4 ص 178.
(5) راجع ج 14 ص 201.
(6) راجع ج 16 ص 20.
208

بعباده (1) [الشورى: 19]. وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل: " ولسوف يعطيك ربك فترضى (2) " " [الضحى: 5]،
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار.
السابعة والعشرون - قوله تعالى: (أن يؤتوا) أي ألا يؤتوا، فحذف " لا "،
كقول القائل: * فقلت يمين الله أبرح قاعدا (3)
ذكره الزجاج. وعلى قول أبى عبيدة لا حاجة إلى إضمار " لا ". (وليعفو) من عفا الربع
أي درس، فهو محو الذنب كما يعفو أثر الربع.
قوله تعالى: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات
لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23)
فيه مسألتان:
الأولى - قوله تعالى: (المحصنات) تقدم في " النساء " (4). وأجمع العلماء على أن حكم
المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا، وقد بيناه أول السورة والحمد لله.
واختلف فيمن المراد بهذه الآية، فقال سعيد بن جبير: هي في رماة عائشة رضوان الله عليها
خاصة. وقال قوم: هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس
والضحاك وغيرهما. ولا تنفع التوبة. ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له
توبة، لأنه قال: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء - إلى قوله - إلا الذين
تابوا " فجعل الله لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة، قاله الضحاك. وقيل: هذا الوعيد
لمن أصر على القذف ولم يتب. وقيل: نزلت في عائشة، إلا أنه يراد بها كل من اتصف
بهذه الصفة. وقيل: إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى، ويكون التقدير: إن
الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، واختاره النحاس.
وقيل: نزلت في مشركي مكة، لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر.

(1) راجع ج 16 ص 16.
(2) راجع ج 20 ص 95.
(3) هذا صدر بيت
لامرئ القيس، وتمامه. * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي *
(4) راجع ج 5 ص 120.
(14 - 12)
209

الثانية: (لعنوا في الدنيا والآخرة) قال العلماء: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين
من القذفة فالمراد باللعنة الابعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم، وزوالهم
عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين. وعلى قول من قال: هي خاصة
لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أبي وأشباهه. وعلى قول من قال: نزلت
في مشركي مكة فلا كلام، فإنهم مبعدون، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، ومن أسلم فالاسلام
يجب ما قبله. وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية إنه عام
لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى، ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات،
فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في الذين يرمون، إلا أنه غلب المذكر على المؤنث.
قوله تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا
يعملون (24)
قراءة العامة بالياء، واختاره أبو حاتم. وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف:
" يشهد " بالياء، واختاره أبو عبيد، لان الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل، والمعنى:
يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان. وقيل: تشهد
عليهم ألسنتهم ذلك اليوم بما تكلموا به. " وأيديهم وأرجلهم " أي وتتكلم الجوارح بما
عملوا في الدنيا.
قوله تعالى: يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله
هو الحق المبين (25)
أي حسابهم وجزاؤهم. وقرأ مجاهد: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق " برفع " الحق "
على أنه نعت لله عز وجل. قال أبو عبيد: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع،
ليكون نعتا لله عز وجل، وتكون موافقة لقراءة أبى، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت
في مصحف أبى " يوفيهم الله الحق دينهم ". قال النحاس: وهذا الكلام من أبى عبيد غير
210

مرضى، لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم. ولا حجة أيضا فيه لأنه لو صح هذا أنه
في مصحف أبى كذا جاز أن تكون القراءة: يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم، يكون " دينهم "
بدلا من الحق. وعلى قراءة " دينهم الحق " يكون " الحق " نعتا لدينهم، والمعنى
حسن، لان الله عز وجل ذكر المسيئين وأعلم أنه يجازيهم (1) بالحق، كما قال عز وجل:
" وهل نجازي إلا الكفور (2) " [سبأ: 17]، لان مجازاة الله عز وجل للكافر والمسئ بالحق والعدل، ومجازاته
للمحسن بالاحسان والفضل. (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) اسمان من أسمائه سبحانه.
وتعالى. وقد ذكرناهما في غير موضع، وخاصة في الكتاب الأسنى.
قوله تعالى: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات
للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة
ورزق كريم (26)
قال ابن زيد: المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون للخبيثات،
وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين:
المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من
القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات
من القول. قال النحاس في كتاب معاني القرآن: وهذا من أحسن ما قيل في هذه الآية.
ودل على صحة هذا القول " أولئك مبرؤون مما يقولون " أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون
والخبيثات. وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة " [النور: 3]
الآية، فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الطيبون والطيبات. واختار هذا القول
النحاس أيضا، وهو معنى قول ابن زيد. (أولئك مبرؤون مما يقولون) يعنى به الجنس.
وقيل: عائشة وصفوان فجمع كما قال: " فإن كان له إخوة " [النساء: 11] والمراد أخوان (3)، قاله الفراء.

(1) في ك: مجازيهم.
(2) راجع ج 14 ص 288.
(3) راجع ج 5 ص 72.
211

و " مبرؤون " يعنى منزهين (1) مما رموا به. قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام
لما رمى بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها
الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى
بالقرآن، فما رضى لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان. وروي
عن علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة رضي الله عنها [أنها (2)] قالت: لقد أعطيت
تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفي صلى
الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفت الملائكة بيتي، وإن
كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفون (3) عنه، وأن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه
فما يبينني عن جسده، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد
خلقت طيبة وعند طيب (4)، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما، تعنى قوله تعالى: " لهم مغفرة
ورزق كريم " وهو الجنة.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم
حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون (27)
فيه سبع عشرة مسألة:
الأولى - قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا) لما خصص الله سبحانه
ابن آدم الذي كرمه وفضله بالمنازل وسترهم فيها عن الابصار، وملكهم الاستمتاع بها على
الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها،
أدبهم بما يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة. وفي صحيح مسلم عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل
لهم أن يفقئوا عينه). وقد اختلف في تأويله، فقال بعض العلماء: ليس هذا على ظاهره،

(1) في ك: يعنى منزهون.
(2) من ط وك.
(3) فيتفرقون عليه.
(4) في ك: لقد خلقت من طيبة عند طيب.
212

فإن فقأ فعليه الضمان، والخبر منسوخ، وكان قبل نزول قوله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا (1) " [النحل: 126]
ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب
الله تعالى لا يجوز العمل به. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر
وهو يريد شيئا آخر، كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال:
(قم فاقطع لسانه) وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا، ولم يرد به القطع في الحقيقة.
وكذلك هذا يحتمل أن يكون ذكر فق ء العين والمراد أن يعمل به عمل حتى لا ينظر بعد ذلك
في بيت غيره. وقال بعضهم: لا ضمان عليه ولا قصاص، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى،
لحديث أنس، على ما يأتي.
الثانية - سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة
من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد،
لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل على وإنه لا يزال يدخل على رجل من أهلي وأنا على تلك
الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت الآية. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أفرأيت
الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن، فأنزل الله تعالى: " ليس عليكم جناح
أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة " [النور: 29].
الثالثة - مد الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية
هي الاستئناس، وهو الاستئذان. قال ابن وهب قال مالك: الاستئناس فيما نرى والله أعلم
الاستئذان، وكذا في قراءة أبى وابن عباس وسعيد بن جبير: " حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها ".
وقيل: إن معنى: " تستأنسوا " تستعلموا، أي تستعلموا من في البيت. قال مجاهد: بالتنحنح
أو بأي وجه أمكن، ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به، ويدخل إثر ذلك. وفال معناه
الطبري، ومنه قوله تعالى: " فإن آنستم منهم رشدا (1) " [النساء: 6] أي علمتم. وقال الشاعر:
آنست نبأة وأفزعها القناص * عصرا وقد دنا الامساء

(1) راجع ج 10 ص 200 فما بعد.
(2) راجع ج 5 ص 26.
213

قلت: وفي سنن ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل
ابن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب الأنصاري قال قلنا: يا رسول الله، هذا السلام،
فما الاستئناس (1)؟ قال: (يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت).
قلت: وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان، كما قال مجاهد ومن وافقه.
الرابعة - وروي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير: " حتى
تستأنسوا " خطأ أو وهم من الكاتب، إنما هو: " حتى تستأذنوا ". وهذا غير صحيح عن ابن
عباس وغيره، فإن مصاحف الاسلام كلها قد ثبت فيها " حتى تستأنسوا "، وصح الاجماع فيها
من لدن مدة عثمان، فهي التي لا يجوز خلافها. وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ
أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس، وقد قال عز وجل: " لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم (2) حميد " [فصلت: 42]، وقال تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر
وإنا له لحافظون (3) " [الحجر: 9]. وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والمعنى: حتى
تسلموا على أهلها وتستأنسوا حكاه أبو حاتم. قال ابن عطية. ومما ينفى هذا القول عن ابن
عباس وغيره أن " تستأنسوا " متمكنة في المعنى، بينة الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر
للنبي صلى الله عليه وسلم: أستأنس يا رسول الله، وعمر واقف على باب الغرفة، الحديث
المشهور. وذلك يقتضى أنه طلب الانس به صلى الله عليه وسلم، فكيف يخطئ ابن عباس
أصحاب الرسول في مثل هذا.
قلت: قد ذكرنا من حديث أبي أيوب أن الاستئناس إنما يكون قبل السلام، وتكون
الآية على بابها لا تقديم فيها ولا تأخير، وأنه إذا دخل سلم. والله أعلم.
الخامسة - السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها. قال ابن وهب قال
مالك: الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى
بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع. وصورة الاستئذان أن يقول الرجل: السلام
عليكم أأدخل، فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن

(1) كذا في ط وك. وهو الصواب. وج‍ وأ: فما الاستئذان.
(2) راجع ج 15 ص 366 فما بعد.
(3) راجع ج 10 ص 5.
214

ثلاثا، ثم ينصرف من بعد الثلاث. وإنما قلنا: إن السنة الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد
عليها لحديث أبى موسى الأشعري، الذي استعمله مع عمر بن الخطاب وشهد به لأبي موسى
أبو سعيد الخدري، ثم أبي بن كعب. وهو حديث مشهور أخرجه الصحيح، وهو نص
صريح، فإن فيه: فقال - يعنى عمر - ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: أتيت فسلمت على
بابك ثلاث مرات فلم ترد على فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا
استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع). وأما ما ذكرناه من صورة الاستئذان فما رواه
أبو داود عن ربعي قال: حدثنا رجل من بنى عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم
وهو في بيت، فقال: ألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: (أخرج إلى هذا فعلمه
الاستئذان - فقال له - قل السلام عليكم أأدخل) فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم
أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل. وذكره الطبري وقال: فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لامة له يقال لها: " روضة ": (قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل؟)
الحديث. وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاطا لامرأة من قريش فقال: السلام
عليكم أأدخل؟ فقالت المرأة: أدخل بسلام، فأعاد فأعادت، فقال لها: قولي أدخل. فقالت
ذلك فدخل، فتوقف لما قالت: بسلام، لاحتمال اللفظ أن تريد بسلامك لا بشخصك.
السادسة - قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما خص الاستئذان بثلاث لان الغالب
من الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم؟، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة
أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا. وإذا كان الغالب هذا،
فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن رب المنزل لا يريد الاذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه
عذر لا يمكنه قطعه، فينبغي للمستأذن أن ينصرف، لان الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل،
وربما يضره الالحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
لأبي أيوب حين استأذن عليه فخرج مستعجلا فقال: (لعلنا أعجلناك...) الحديث. وروى عقيل
عن ابن شهاب قال: أما سنة التسليمات الثلاث فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سعد
215

ابن عبادة فقال: (السلام عليكم) فلم يردوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السلام
عليكم) فلم يردوا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فقد سعد تسليمه عرف أنه
قد انصرف، فخرج سعد في أثره حتى أدركه، فقال: وعليكم السلام يا رسول الله، إنما
أردنا أن نستكثر من تسليمك، وقد والله سمعنا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع
سعد حتى دخل بيته. قال ابن شهاب: فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك، ورواه الوليد
ابن مسلم عن الأوزاعي قال: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول حدثني محمد بن عبد الرحمن
ابن أسعد بن زرارة [عن قيس (1) بن سعد] قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا (2) فقال:
(السلام عليكم ورحمة الله) قال فرد سعد ردا خفيا (3)، قال قيس: فقلت ألا تأذن لرسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ذره (4) يكثر علينا من السلام...
(5) الحديث، أخرجه أبو داود وليس
فيه " قال ابن شهاب فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك ". قال أبو داود: ورواه عمر
ابن عبد الواحد وابن سماعة عن الأوزاعي مرسلا لم يذكرا قيس بن سعد.
السابعة - روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الاستئذان ترك العمل به الناس.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وذلك لاتخاذ الناس الأبواب وقرعها، والله أعلم. روى أبو داود
عن عبد الله بن بسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل
الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: (السلام عليكم السلام عليكم)
وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.
الثامنة - فإن كان الباب مردودا فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن، وإن شاء
دق الباب، لما رواه أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حائط
بالمدينة على قف البئر (6) فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (إيذن له وبشره بالجنة). هكذا رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد وتابعه صالح
ابن كيسان ويونس بن يزيد، فرووه جميعا عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن نافع

(1) زيادة عن سنن أبي داود يقتضيها السياق.
(2) في ى: منزل لنا.
(3) في ج: خفيفا.
(4) في ج: دعه.
(5) في ك: التسليم.
(6) قف البئر: هو الدكة التي تجعل حولها. وأصل القف: ما غلظ من الأرض وارتفع.
216

عن أبي موسى ". وخالفهم محمد بن عمرو الليثي فرواه عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن نافع
ابن عبد الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، وإسناده الأول أصح، والله أعلم.
التاسعة: وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك، فقد
روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافير،
ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في جامعه.
العاشرة - روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من هذا)؟ فقلت أنا، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: (أنا أنا)! كأنه كره ذلك. قال علماؤنا: إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك لان قوله أنا لا يحصل بها تعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه كما فعل عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وأبو موسى، لان في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب. ثبت عن
عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال: السلام عليك
يا رسول الله، السلام عليكم أيدخل عمر؟ وفي صحيح مسلم أن أبا موسى جاء إلى عمر
ابن الخطاب فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري... الحديث.
الحادية عشرة - ذكر الخطيب في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال: قدمت
البصرة فأتيت منزل شعبة فدققت عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت أنا، فقال: يا هذا!
ما لي صديق يقال له أنا، ثم خرج إلى فقال: حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله
قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لي فطرقت عليه الباب فقال: (من هذا)؟
فقلت أنا، فقال: (أنا أنا) كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره قولي هذا، أو قوله هذا.
وذكر عن عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال: دققت على عمرو بن عبيد الباب
فقال لي: من هذا؟ فقلت أنا، فقال: لا يعلم الغيب إلا الله. قال الخطيب: سمعت على
ابن المحسن القاضي يحكى عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه فقال من ذا؟ فقال الذي
على الباب أنا، يقول الشيخ: أنا هم دق.
217

الثانية عشرة - ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة (1)، كما رواه أبو بكر الخطيب
مسندا عن أبي عبد الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني
مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي، فلما قام بالباب قال: أندر؟ قالت أندرون. وترجم عليه
(باب الاستئذان بالفارسية). وذكر عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل أصبهان
نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: أندرون، فلقبه أهل المدينة الدراوردي (2).
الثالثة عشرة - روى أبو داود عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغا بيس (3) والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فدخلت
ولم أسلم فقال: (ارجع فقل السلام عليكم) وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية. وروى
أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له).
وذكر ابن جريج أخبرني عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقول: إذا قال الرجل أدخل؟ ولم يسلم
فقل لا حتى تأتى بالمفتاح، فقلت السلام عليكم؟ قال نعم. وروي أن حذيفة جاءه رجل فنظر
إلى ما في البيت فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال حذيفة: أما بعينك فقد دخلت!
وأما بآستك فلم تدخل.
الرابعة عشرة - ومما يدخل في هذا الباب ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (رسول الرجل إلى الرجل إذنه)، أي إذا أرسل إليه فقد أذن
له في الدخول، يبينه قوله عليه السلام: (إذا دعي أحدكم [إلى طعام (4)] فجاء مع الرسول
فإن ذلك له إذن). أخرجه أبو داود أيضا عن أبي هريرة.
الخامسة عشرة - فإن وقعت العين على العين فالسلام قد تعين، ولا تعد رؤيته إذنا
لك في دخولك عليه، فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد عليه تقول: أدخل؟ فإن أذن
لك وإلا رجعت.

(1) في ك: في العادة.
(2) هو عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد. (راجع ترجمته في كتاب تهذيب
التهذيب).
(3) الجداية: الذكر والأنثى من أولاد الظباء إذا بلغ ستة أشهر أو سبعة، بمنزلة الجدي من المعز.
والضغا بيس القثاء، واحدها ضغبوس. وقيل: هي نبت ينبت في أصول الثمام، يسلق بالخل والزيت ويؤكل.
(4) زيادة عن سنن أبي داود.
218

السادسة عشرة - هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك الذي
تسكنه فإن كان فيه أهلك فلا إذن عليها، إلا أنك تسلم إذا دخلت. قال قتادة: إذا دخلت
بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم. فإن كان فيه معك أمك أو أختك فقالوا:
تنحنح واضرب برجلك حتى ينتبها لدخولك، لان الأهل لا حشمة بينك وبينها. وأما الام
والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها. قال ابن القاسم قال مالك: ويستأذن
الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما. وقد روى عطاء بن يسار أن رجلا
قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أستأذن على أمي؟ قال (نعم) قال: إني أخدمها؟ قال:
(استأذن عليها) فعاوده ثلاثا، قال (أتحب أن تراها عريانة)؟ قال لا، قال:
(فاستأذن عليها) ذكره الطبري.
السابعة عشرة - فإن دخل بيت نفسه وليس فيه أحد، فقال علماؤنا: يقول السلام
علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات، لله السلام. رواه ابن وهب عن النبي صلى الله
عليه وسلم، وسنده ضعيف. وقال قتادة: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين، فإنه يؤمر بذلك. قال: وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم. قال
ابن العربي: والصحيح ترك السلام والاستئذان، والله أعلم.
قلت: قول قتادة حسن.
قوله تعالى: فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم
وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم (28)
فيه أربع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: " فإن لم تجدوا فيها أحدا " الضمير في " تجدوا فيها " للبيوت التي
هي بيوت الغير. وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: معنى قوله: " فإن لم تجدوا فيها أحدا "
أي لم يكن لكم فيها متاع. وضعف الطبري هذا التأويل، وكذلك هم في غاية الضعف،
وكأن مجاهدا رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن إذا كان للداخل فيها متاع.
219

ورأى لفظة " المتاع " متاع البيت، الذي هو البسط والثياب، وهذا كله ضعيف. والصحيح
أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها والأحاديث، التقدير: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير
بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا، فإن أذن لكم فأدخلوا وإلا فارجعوا، كما فعل عليه السلام مع
سعد، وأبو موسى مع عمر رضي الله عنهما. فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها
حتى تجدوا إذنا. وأسند الطبري عن قتادة قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري
[كله (1)] هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فارجع
وأنا مغتبط، لقوله تعالى: " هو أزكى لكم ".
الثانية - سواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا، لان الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول
حتى يفتحه الاذن من ربه، بل يجب عليه أن يأتي الباب ويحاول الاذن على صفة لا يطلع
منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه. فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال:
(من ملا عينيه من قاعة بيت فقد فسق.) وروي الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع
في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى (2) يرجل به
رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك
إنما جعل الله الاذن من أجل البصر). وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته (3) بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح).
الثالثة - إذا ثبت أن الاذن شرط في دخوله المنزل فإنه يجوز (4) من الصغير والكبير.
وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك
الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله عنهم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر السورة
إن شاء الله تعالى.
الرابعة - قوله تعالى: (والله بما تعملون عليم) توعد لأهل التجسس على البيوت
وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في محظور.

(1) من ط وك.
(2) المدرى والمدراة: شئ يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان.
المشط وأطول منه يسرح به الشعر.
(3) الخذف: رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمى بها.
(4) أولى أن يقال: يجب.
220

قوله تعالى: ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها
متع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (29)
فيه مسألتان:
الأولى - روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الامر (1)، فكان
لا يأتي موضعا خربا ولا مسكونا إلا سلم واستأذن، فنزلت هذه الآية، أباح الله تعالى فيها رفع
الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد، لان العلة في الاستئذان إنما هي لأجل خوف الكشفة
على الحرمات، فإذا زالت العلة زال الحكم.
الثانية - اختلف العلماء في المراد بهذه البيوت، فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد:
هي الفنادق التي في طرق السابلة. قال مجاهد: لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل
ابن سبيل، وفيها متاع لهم، أي استمتاع بمنفعتها. وعن محمد بن الحنفية أيضا أن المراد بها
دور مكة، ويبينه قول مالك. وهذا على القول بأنها غير متملكة، وأن الناس شركاء فيها
وأن مكة أخذت عنوة. وقال ابن زيد والشعبي: هي حوانيت القيساريات. قال الشعبي:
لأنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس هلم. وقال عطاء: المراد بها الخرب التي
يدخلها الناس للبول والغائط، ففي هذا أيضا متاع. وقال جابر بن زيد: ليس يعنى بالمتاع
الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة، أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار، أو خربة يدخلها
لقضاء حاجة، أو دار ينظر إليها فهذا متاع وكل منافع الدنيا متاع. قال أبو جعفر النحاس:
وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين، وهو موافق للغة. والمتاع في كلام العرب:
المنفعة، ومنه أمتع الله بك. ومنه " فمتعوهن (2) " [الأحزاب: 49].
قلت: واختاره أيضا القاضي أبو بكر بن العربي وقال: أما من فسر المتاع بأنه جميع
الانتفاع فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل، وبين أن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع
فالطالب يدخل في الخانكات وهي المدارس لطلب العلم، والساكن يدخل الخانات

(1) في ك: الاذن.
(2) راجع ج 14 ص 202.
221

وهي الفناتق، أي الفنادق، والزبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة،
وكل يؤتى على وجهه من بابه. وأما قول ابن زيد والشعبي فقول (1)! وذلك أن بيوت
القيساريات محظورة بأموال الناس، غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع، ولا يدخلها
إلا من أذن له ربها، بل أربابها موكلون بدفع الناس.
قوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصرهم ويحفظوا فروجهم
ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (30)
فيه سبع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) وصل تعالى بذكر الستر
ما يتعلق به من أمر النظر، يقال: غض بصره يغضه غضا، قال الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقال عنترة.
وأغض طرفي ما بدت؟؟ لي جارتي * حتى يواري جارتي مأواها
ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة، وأن المراد
منه المحرم دون المحلل. وفي البخاري: " وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن إن نساء العجم
يكشفن صدورهن ورؤوسهن؟ قال: اصرف بصرك، يقول الله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا
من أبصارهم ويحفظوا فروجهم " وقال قتادة: عما لا يحل لهم، " وقل للمؤمنات يغضضن
من أبصارهن ويحفظن فروجهن " [النور: 31] خائنة الأعين [من (2)] النظر إلى ما نهى عنه.
الثانية - قوله تعالى: (من أبصارهم) " من " زائدة، كقوله: " فما منكم من أحد
عنه حاجزين (3) " [الحاقة: 47]. وقيل: " من " للتبعيض، لان من النظر ما يباح. وقيل: الغض النقصان،
يقال: غض فلان من فلان أي وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو موضوع منه
ومنقوص. ف‍ " - من " [من (4)] صلة الغض، وليست للتبعيض ولا للزيادة.

(1) في ط: فتقول.
(2) زيادة عن صحيح البخاري.
(3) راجع ج 18 ص 276.
(4) من ب وك.
222

البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب
ذلك كثر السقوط من جهته. ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات،
وكل ما يخشى الفتنة من أجله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس على الطرقات)
فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. فقال: (فإذا أبيتم إلا المجلس
فأعطوا الطريق حقه) قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: (غض البصر وكف
الأذى ورد السلام والامر بالمعروف والنهى عن المنكر). رواه أبو سعيد الخدري، خرجه
البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم لعلى: (لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست
لك الثانية). وروى الأوزاعي قال: حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري
كانا في بعض مغازيهم، فكشفت جارية فنظر إليها غزوان، فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت (1)،
فقال: إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك، فلقي أبا موسى فسأله فقال: ظلمت عينك،
فاستغفر الله وتب، فإن لها أول نظرة وعليها ما كان بعد ذلك. قال الأوزاعي: وكان غزوان
ملك نفسه فلم يضحك حتى مات رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري. وهذا
يقوي قول من يقول: إن " من " للتبعيض، لان النظرة الأولى لا تملك فلا تدخل تحت
خطاب تكليف، إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفا
بها، فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك في الفرج، لأنها تملك. ولقد كره الشعبي أن
يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته، وزمانه خير من زماننا هذا! وحرام على الرجل
أن ينظر إلى ذات محرمة (2) نظر شهوة يرددها.
الرابعة قوله تعالى: (ويحفظوا فروجهم) أي يستروها عن أن يراها من لا يحل.
وقيل: " ويحفظوا فروجهم " أي عن الزنى، وعلى هذا القول لو قال (3): " من فروجهم "
لجاز. والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام. وروى بهز بن حكيم بن معاوية القشيري
عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله، عوراتنا ما نأتى منها وما نذر؟ قال: (احفظ

(1) نفرت العين وغيرها من الأعضاء تنفر نفورا: هاجت وورمت.
(2) في ك: محرم.
(3) أي في غير القرآن.
223

عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك). قال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال:
(إن استطعت ألا يراها (1) فافعل). قلت: فالرجل يكون خاليا؟ فقال: (الله أحق أن
يستحيا منه من الناس). وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحالها معه فقالت: ما رأيت ذلك منه، ولا رأى ذلك منى.
الخامسة - بهذه الآية حرم العلماء نصا دخول الحمام بغير مئزر. وقد روي عن
ابن عمر أنه قال: أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة. وصح عن ابن عباس أنه
دخل الحمام وهو محرم بالجحفة. فدخوله جائز للرجال بالمآزر، وكذلك النساء للضرورة كغسلهن
من الحيض أو النفاس أو مرض يلحقهن، والأولى بهن والأفضل لهن غسلهن إن أمكن
ذلك في بيوتهن، فقد روى أحمد بن منيع حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا
زبان عن سهل بن معاذ عن أبيه عن أم الدرداء أنه سمعها تقول: لقيني رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقد خرجت من الحمام فقال: (من أين يا أم الدرداء)؟ فقالت: من الحمام،
فقال: (والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي
هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل). وخرج أبو بكر البزار عن طاوس عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احذروا بيتا يقال له الحمام). قالوا:
يا رسول الله، ينقى الوسخ؟ قال: (فاستتروا). قال أبو محمد عبد الحق: هذا أصح إسناد
حديث في هذا الباب، على أن الناس يرسلونه عن طاوس، وأما ما خرجه أبو داود في هذا
من الحظر والإباحة فلا يصح منه شئ لضعف الأسانيد، وكذلك ما خرجه الترمذي.
قلت: أما دخول الحمام في هذه الأزمان فحرام على أهل الفضل والدين، لغلبة الجهل
على الناس واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رموا مآزرهم (2)، حتى يرى الرجل البهى ذو الشيبة قائما
منتصبا وسط الحمام وخارجه باديا عن عورته ضاما بين فخذيه ولا أحد يغير عليه. هذا أمر
بين الرجال فكيف من النساء! لا سيما بالديار المصرية إذ حماماتهم خالية عن المظاهر التي
هي عن أعين الناس سواتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم!.

(1) في ك: " أن لا يراها أحد ".
(2) في ك: ميازرهم.
224

السادسة - قال العلماء: فإن استتر فليدخل بعشرة شروط:
الأول - ألا يدخل إلا بنية التداوي أو بنية التطهير عن الرحضاء (1).
الثاني - أن يعتمد أوقات الخلوة أو قلة الناس.
الثالث - أن يستر عورته بإزار صفيق (2).
الرابع - أن يكون نظره إلى الأرض أو يستقبل الحائط لئلا يقع بصره على محظور.
الخامس - أن يغير ما يرى من منكر برفق، يقول: استتر سترك الله!
السادس - إن دلكه أحد لا يمكنه من عورته، من سرته إلى ركبته إلا امرأته
أو جاريته. وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا.
السابع - أن يدخله بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس.
الثامن - أن يصب الماء على قدر الحاجة.
التاسع - إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه.
العاشر - أن يتذكر به جهنم. فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر وليجتهد في غض البصر.
ذكر الترمذي أبو عبد الله في نوادر الأصول من حديث طاوس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا بيتا يقال له الحمام). قيل: يا رسول الله،
إنه يذهب به الوسخ ويذكر النار فقال: (إن كنتم لا بد فاعلين فأدخلوه مستترين). وخرج
من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم البيت يدخله الرجل
المسلم بيت الحمام - وذلك لأنه إذا دخله سأل الله الجنة واستعاذ به من النار - وبئس البيت
يدخله الرجل بيت العروس). وذلك لأنه يرغبه في الدنيا وينسيه الآخرة. قال أبو عبد الله:
فهذا لأهل الغفلة، صير الله هذه الدنيا بما فيها سببا للذكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم،
فأما أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصب أعينهم فلا بيت حمام يزعجه (3) ولا بيت عروس

(1) الرحضاء: العرق في أثر الحمى.
(2) صفيق: متين جيد النسج وفى ك: ضيق. وليس بصحيح.
(3) في ك: يعجبه.
(15 - 12)
225

يستفزه، لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة، حتى أن جميع نعيم
الدنيا في أعينهم كنثارة الطعام من مائدة عظيمة، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كقتلة
عوقب بها مجرم أو مسئ قد كان استوجب [بها (1)] القتل أو الصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا.
السابعة - قوله تعالى: (ذلك أزكى لهم) أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر
في الدين وأبعد من دنس الأنام. (إن الله خبير) أي عالم. (بما يصنعون) تهديد ووعيد.
قوله تعالى: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن
فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على
جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن
أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى
أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى
الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورت النساء
ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا
أيه المؤمنون لعلكم تفلحون (31)
قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين
زينتهن) إلى قوله: (من زينتهن) فيه ثلاث وعشرون مسألة:
الأولى - قوله تعالى: (وقل للمؤمنات) خص الله سبحانه وتعالى الإناث هنا
بالخطاب على طريق التأكيد، فإن قوله: " قل للمؤمنين " يكفي، لأنه قول عام يتناول الذكر
والأنثى من المؤمنين، حسب كل خطاب عام في القرآن. وظهر التضعيف في " يغضضن "
ولم يظهر في " يغضوا " لان لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة، وهما في موضع

(1) من ك:
226

جزم جوابا. وبدأ بالغض قبل الفرج لان البصر رائد للقلب، كما أن الحمى رائد الموت.
وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
ألم تر أن العين للقلب رائد * فما تألف العينان فالقلب آلف
وفي الخبر (النظر سهم من سهام إبليس مسموم فمن غض بصره أورثه الله الحلاوة في قلبه).
وقال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر، فإذا أدبرت جلس
على عجزها فزينها لمن ينظر. وعن خالد بن أبي عمران قال: لا تتبعن النظرة النظرة فربما نظر العبد
نظرة نغل (1) منها قلبه كما ينغل الأديم فلا ينتفع به. فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات
بغض الابصار عما لا يحل، فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل، فإن
علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك
ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر...) الحديث. وقال الزهري في النظر إلى التي
لم تحض من النساء: لا يصلح النظر إلى شئ منهن ممن يشتهى النظر إليهن وإن كانت صغيرة.
وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري. وفي الصحيحين عنه
عليه السلام أنه صرف وجه الفضل عن الخثعمية حين سألته، وطفق الفضل ينظر إليها (2).
وقال عليه السلام: (الغيرة من الايمان والمذاء من النفاق). والمذاء هو أن يجمع الرجل بين
النساء والرجال ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضا، مأخوذ من المذي. وقيل: هو إرسال الرجال
إلى النساء، من قولهم: مذيت الفرس إذا أرسلتها ترعى. وكل ذكر يمذي، وكل أنثى تقذي،
فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له، أو لمن هي محرمة
عليه على التأبيد، فهو آمن أن يتحرك طبعه إليها لوقوع اليأس له منها.

(1) النغل (بالتحريك): الفساد. ونغل الأديم إذا عفن وتهرى في الدباغ فينفسد ويهلك.
(2) في البخاري: " عن ابن عباس قال: كان الفضل رديف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم،
فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الاخر، فقالت:
إن فريضة الله أدركت أبى شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال نعم ".
227

الثانية - روى الترمذي عن نبهان مولى أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها
ولميمونة وقد دخل عليها ابن أم مكتوم: (احتجبا) فقالتا: إنه أعمى، قال: (أفعمياوان
أنتما ألستما تبصرانه). فإن قيل: هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل لان راويه عن أم سلمة
نبهان مولاها وهو ممن لا يحتج بحديثه. وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه عليه السلام تغليظ على
أزواجه لحرمتهن كما غلظ عليهن أمر الحجاب، كما أشار إليه أبو داود وغيره من الأئمة. ويبقى
معنى الحديث الصحيح الثابت وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد
في بيت أم شريك، ثم قال: (تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه
رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك). قلنا: قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على
أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة كالرأس ومعلق
القرط، وأما العورة فلا. فعلى هذا يكون مخصصا لعموم قوله تعالى: " وقل للمؤمنات يغضضن
من أبصارهن "، وتكون " من " للتبعيض كما هي في الآية قبلها. قال ابن العربي: وإنما
أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى بيت ابن أم مكتوم لان ذلك أولى بها من بقائها
في بيت أمر شريك، إذ كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها، فيكثر الرائي لها، وفي بيت
ابن أم مكتوم لا يراها أحد، فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى، فرخص لها
في ذلك، والله أعلم.
الثالثة - أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين، إلا ما استثناه
من الناظرين في باقي الآية حذارا من الافتتان، ثم استثنى، ما يظهر من الزينة، واختلف الناس
في قدر ذلك، فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير الوجه. وقال
سعيد بن جبير أيضا وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب. وقال ابن عباس وقتادة
والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع (1) والقرطة
والفتخ (2)، ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس. وذكر الطبري عن

(1) في ج وط وك: السياق. وصوابه الذراع على ما يأتي.
(2) الفتخ (بفتحتين جمع الفتحة):
خواتيم كبار تلبس في الأيدي.
228

قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آخر عن عائشة
رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر
إذا عركت (1) أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى ها هنا) وقبض على نصف الذراع. قال
ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الاخفاء
لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن
ونحو ذلك. ف‍ " - ما ظهر " على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه.
قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة
وعبادة وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما. يدل على ذلك
ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقال لها: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا)
وأشار إلى وجهه وكفيه. فهذا أقوى من جانب الاحتياط، ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي
المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها، والله الموفق لا رب سواه. وقد قال
ابن خويز منداد من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة
فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها.
الرابعة - الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة، فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة
وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية، لما فيه من المنافع وطرق العلوم. وأما الزينة المكتسبة فهي
ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها، كالثياب والحلي والكحل والخضاب، ومنه قوله تعالى:
" خذوا زينتكم (2) " [الأعراف: 31]. وقال الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى * وإذا عطلن فهن خير عواطل
الخامسة - من الزينة ظاهر وباطن، فما ظهر فمباح أبدا لكل الناس من المحارم
والأجانب، وقد ذكرنا ما للعلماء فيه. وأما ما بطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سماهم الله تعالى في هذه

(1) عركت المرأة: حاضت.
(2) راجع ج 7 ص 188 فما بعد.
229

الآية، أو حل محلهم. واختلف في السوار، فقالت عائشة: هي من الزينة الظاهرة لأنه
في اليدين. وقال مجاهد: هو من الزينة الباطنة، لأنها خارج عن الكفين وإنما يكون
في الذراع. قال ابن العربي: وأما الخضاب فهو من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.
السادسة - قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) قرأ الجمهور: بسكون
اللام التي هي للامر. وقرأ أبو عمرو: في رواية ابن عباس بكسرها على الأصل، لان الأصل
[لام] (1) الامر الكسر، وحذفت الكسرة لثقلها، وإنما تسكينها لتسكين عضد وفخذ.
و " يضربن " في موضع جزم بالامر، إلا أنه بنى على حالة واحدة اتباعا للماضي عند سيبويه.
وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة وهي المقانع
سدلنها من وراء الظهر. قال النقاش: كما يصنع النبط، فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر
على ذلك، فأمر الله تعالى بلى الخمار على الجيوب، وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها
على جيبها لتستر صدرها. روى البخاري عن عائشة أنها قالت: رحم الله نساء (2) المهاجرات
الأول، لما نزل: " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " شققن أزرهن فاختمرن بها. ودخلت
على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن رضي الله عنهم وقد اختمرت بشئ يشف عن
عنقها وما هنالك، فشقته عليها وقالت: إنما يضرب بالكثيف الذي يستر.
السابعة - الخمر: جمع الخمار، وهو ما تغطي به رأسها، ومنه اختمرت المرأة وتخمرت،
وهي حسنة الخمرة. والجيوب: جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، وهو
من الجوب وهو القطع. ومشهور القراءة ضم الجيم من " جيوبهن ". وقرأ بعض الكوفيين:
بكسرها بسبب الياء، كقراءتهم ذلك في: بيوت وشيوخ. والنحويون القدماء لا يجيزون
هذه القراءة ويقولون: بيت وبيوت كفلس وفلوس. وقال الزجاج: يجوز على أن تبدل
من الضمة كسرة، فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر فمحال، لا يقدر أحد أن
ينطق به إلا على الايماء إلى ما لا يجوز. وقال مقاتل: " على جيوبهن " أي على صدورهن،
يعنى على مواضع جيوبهن.

(1) من ك وط.
(2) أي النساء المهاجرات. وهو نحو شجر الأراك، أي شجر هو الأراك.
230

الثامنة - في هذه الآية دليل على أن الجيب إنما يكون في الثوب موضع الصدر.
وكذلك كانت الجيوب في ثياب السلف رضوان الله عليهم، على ما يصنعه النساء عندنا
بالأندلس وأهل الديار المصرية من الرجال والصبيان وغيرهم. وقد ترجم البخاري رحمة
الله تعالى عليه (باب جيب القميص من عند الصدر وغيره) وساق حديث أبي هريرة قال:
ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من
حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما...) الحديث، وقد تقدم بكماله (1)، وفيه:
قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعيه هكذا في جيبه،
فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع (2). فهذا يبين لك أن جيبه عليه السلام كان في صدره، لأنه لو كان
في منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثدييه وتراقيه. وهذا استدلال حسن.
التاسعة - قوله تعالى: (إلا لبعولتهن) البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب،
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: (إذا ولدت الأمة بعلها) يعنى سيدها،
إشارة إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات، فيأتي الأولاد من الإماء فتعتق كل أم بولدها
وكأنه سيدها الذي من عليها بالعتق، إذ كان العتق حاصلا لها من سببه، قاله ابن العربي.
قلت: ومنه قوله عليه السلام في مارية: (أعتقها ولدها) فنسب العتق إليه. وهذا
من أحسن تأويلات هذا الحديث. والله أعلم.
مسألة - فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محل من بدنها حلال
له لذة ونظرا. ولهذا المعنى بدأ بالبعولة، لان اطلاعهم يقع على أعظم من هذا، قال الله تعالى:
" والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " (3) [المؤمنون: 5 - 6].
العاشرة - اختلف الناس في جواز نظر الرجل إلى فرج المرأة، على قولين:
أحدهما - يجوز، لأنه إذا جاز له التلذذ به فالنظر أولى. وقيل: لا يجوز، لقول عائشة

(1) راجع ج 10 ص 250.
(2) جواب " لو " محذوف، أي لعجبت.
(3) راجع ص 105 من هذا الجزء.
231

رضي الله عنها في ذكر حالها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت ذلك منه ولا رأى
ذلك منى) والأول أصح، وهذا محمول على الأدب، قاله ابن العربي. وقد قال أصبغ من
علمائنا: يجوز له أن يلحسه بلسانه. وقال ابن خويزمنداد: أما الزوج والسيد فيجوز له
أن ينظر إلى سائر الجسد وظاهر الفرج دون باطنه. وكذلك المرأة يجوز أن تنظر إلى عورة
زوجها، والأمة إلى عورة سيدها.
قلت: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (النظر إلى الفرج يورث الطمس)
أي العمى، أي في الناظر. وقيل: إن الولد بينهما يولد أعمى. والله أعلم.
الحادية عشرة - لما ذكر الله تعالى الأزواج وبدأ بهم ثنى بذوي المحارم وسوى بينهم
في إبداء الزينة، ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر. فلا مرية أن كشف
الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها. وتختلف مراتب ما يبدي لهم، فيبدي
للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج. وقد ذكر القاضي إسماعيل عن الحسن والحسين رضي الله عنهما
أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهن تحل. قال
إسماعيل: أحسب أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية
التي في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى: " لا جناح عليهن في آبائهن " (1) [الأحزاب: 55].
وقال في سورة النور: " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن " الآية. فذهب ابن عباس إلى
هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية أخرى.
الثانية عشرة - قوله تعالى: (أو أبناء بعولتهن) يريد ذكور أولاد الأزواج، ويدخل
فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا، من ذكران كانوا أو إناث، كبني البنين وبنى البنات. وكذلك
آباء البعولة والأجداد وإن علوا من جهة الذكران لاباء الاباء وآباء الأمهات، وكذلك أبناؤهن
وإن سفلوا. وكذلك أبناء البنات وإن سفلن، فيستوي فيه أولاد البنين وأولاد البنات.
وكذلك أخواتهن، وهم من ولده الاباء والأمهات أو أحد الصنفين. وكذلك بنو الاخوة

(1) راجع ج 14 ص 231.
232

وبنو الأخوات وإن سفلوا من ذكران كانوا أو إناث كبني بنى الأخوات وبنى بنات
الأخوات. وهذا كله في معنى ما حرم من المناكح، فإن ذلك على المعاني في الولادات وهؤلاء
محارم، وقد تقدم في [النساء] (1). والجمهور على أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر لهما
إلى ما يجوز لهم. وليس في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب على ما تقدم. وعند الشعبي
وعكرمة ليس العم والخال من المحارم. وقال عكرمة: لم يذكرهما في الآية لأنهما تبعان لأبنائهما.
الثالثة عشرة - قوله تعالى: (أو نسائهن) يعنى المسلمات، ويدخل في هذا الإماء
المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لامرأة مؤمنة أن
تكشف شيئا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها، فذلك قوله تعالى:
" أو ما ملكت أيمانهن ". وكان ابن جريج وعبادة بن نسى وهشام القارئ يكرهون أن تقبل
النصرانية المسلمة أو ترى عورتها، ويتأولون " أو نسائهن ". وقال عبادة بن نسى: وكتب
عمر رضي الله عنه إلى أبى عبيدة بن الجراح: أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات
مع نساء المسلمين، فامنع من ذلك، وحل دونه، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية (2) المسلمة.
قال: فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد
إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية، لئلا تصفها لزوجها. وفي هذه المسألة خلاف
للفقهاء. فإن كانت الكافرة أمة لمسلمة جاز أن تنظر إلى سيدتها، وأما غيرها فلا، لانقطاع
الولاية بين أهل الاسلام وأهل الكفر، ولما ذكرناه. والله أعلم.
الرابعة عشرة - قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانهن) ظاهر الآية يشمل العبيد
والإماء المسلمات والكتابيات. وهو قول جماعة من أهل العلم، وهو الظاهر من مذهب
عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. وقال ابن عباس: لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر
مولاته. وقال أشهب: سئل مالك أتلقى المرأة خمارها بين يدي الخصي؟ فقال نعم، إذا كان

(1) راجع ج 5 ص 105 وما بعدها.
(2) مرية المرأة: ما يعرى منها وينكشف.
233

مملوكا لها أو لغيرها، وأما الحر فلا. وإن كان فحلا كبيرا وغدا (1) تملكه، لا هيئة له ولا منظر
فلينظر إلى شعرها. قال أشهب قال مالك: ليس بواسع أن تدخل جارية الولد أو الزوجة
على الرجل المرحاض، قال الله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم ". وقال أشهب عن مالك:
ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته، ولا أحبه لغلام الزوج. وقال سعيد بن المسيب:
لا تغرنكم هذه الآية " أو ما ملكت أيمانهن " إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان الشعبي
يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. وهو قول مجاهد وعطاء. وروى أبو داود عن أنس
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة ثوب إذا
غطت به رأسها لم يبلغ إلى رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ إلى رأسها، فلما رأى النبي
صلى الله عليه وسلم ما تلقى من ذلك قال: (إنه لا بأس عليك إنما هو أبوك وغلامك).
الخامسة عشرة - قوله تعالى: (أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال) أي غير
أولى الحاجة والإربة الحاجة، يقال: أربت كذا آرب أربا. والإرب والإربة والمأربة
والإرب: الحاجة، والجمع مأرب، أي حوائج. ومنه قوله تعالى: " ولى فيها مآرب
أخرى " [طه: 18] وقد تقدم (2). وقال طرفة:
إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا (3) * تقدم يوما ثم ضاعت مآربه
واختلف الناس في معنى قوله: " أو التابعين غير أولى الإربة " فقيل: هو الأحمق
الذي لا حاجة به إلى النساء. وقيل الأبله. وقيل: الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق
بهم، وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن. وقيل العنين. وقيل الخصي. وقيل
المخنث. وقيل الشيخ الكبير، والصبي الذي لم يدرك. وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى،
ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء. وبهذه الصفة كان هيت المخنث
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن المرأة: بادية بنة
غيلان، أمر بالاحتجاب منه. أخرج حديثه مسلم وأبو داود ومالك في الموطأ وغيرهم عن

(1) الوغد: الدنى من الرجال الذي يخدم بطعام بطنه. وقيل: الخفيف العقل.
(2) راجع ج 11 ص 187.
(3) الحوب (بضم الحاء وفتحها): الاثم. والخنا: الفحش.
234

هشام بن عروة عن عروة عن عائشة. قال أبو عمر: ذكر عبد الملك بن حبيب عن حبيب
كاتب مالك قال قلت لمالك: إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان: (أن مخنثا يقال له هيت)
وليس في كتابك هيت؟ فقال مالك: صدق، هو كذلك وغربه النبي صلى الله عليه وسلم
إلى الحمى وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها. قال حبيب وقلت لمالك:
وقال سفيان في الحديث: إذا قعدت تبنت (1)، وإذا تكلمت تغنت. قال مالك: صدق، هو
كذلك. قال أبو عمر: ما ذكره حبيب كاتب مالك عن سفيان أنه قال في الحديث يعنى حديث
هشام بن عروة (أن مخنثا يدعى هيتا) فغير معروف عند أحد من رواته عن هشام، لا ابن عيينة
ولا غيره، ولم يقل في نسق الحديث (إن مخنثا يدعى هيتا) وإنما ذكره عن ابن جريج
بعد تمام الحديث، وكذلك قوله عن سفيان أنه يقول في الحديث: إذا قعدت تبنت وإذا
تكلمت تغنت. هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره في حديث هشام بن عروة، وهذا اللفظ
لا يوجد إلا من رواية الواقدي، والعجب أنه يحكيه عن سفيان ويحكى عن مالك أنه كذلك،
فصارت رواية عن مالك، ولم يروه عن مالك غير حبيب ولا ذكره عن سفيان غيره أيضا،
والله أعلم. وحبيب كاتب مالك متروك الحديث ضعيف عند جميعهم، لا يكتب حديثه
ولا يلتفت إلى ما يجئ به. ذكر الواقدي والكلبي أن هيتا المخنث قال لعبد الله بن أمية المخزومي
وهو أخو أم سلمة لأبيها، وأمة عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له وهو في بيت
أخته أم سلمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: إن فتح الله عليكم الطائف فعليك ببادية
بنت غيلان بن سلمة الثقفي، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان (2)، مع ثغر كالأقحوان، إن جلست
تبنت وإن تكلمت تغنت، بين رجليها كالإناء المكفوء (3)، وهي كما قال قيس بن الخطيم،
تغترق الطرف وهي لاهية * كأنما شف وجهها نزف (4)

(1) أي صارت كالمبناة من سمنها وعظمها. قال ابن الأثير: أي فرجت رجليها لضخم ركبها (فرجها)، كأنه شبهها
بالقبة من الادم.
(2) يعنى تقبل بأربع عكن وتدبر بثمان عكن. والعكن والاعكان: ما انطوى وتثنى
من لحم البطن سمنا.
(3) يعنى ضخم ركبها (فرجها) ونهوده كأنه إناء مكبوب.
(4) يقول: من
نظر إليها استغرقت طرفه وبصره وشغلته عن النظر إلى غيرها، وهي لاهية غير محتفلة. والترف (بضم فسكون، وحرك
هنا لضرورة الشعر): خروج الدم. وفى شرح ديوان قيس: " أراد أن في لونها مع البياض صفرة، وذلك أحسن ".
235

بين شكول النساء خلقتها * قصد فلا جبلة ولا قضف (1)
تنام عن كبر شأنها فإذا * قامت رويدا تكاد تنقصف
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله). ثم أجلاه عن
المدينة إلى الحمى. قال: فلما افتتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له منه
بريهة، في قول الكلبي. ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم،
فلما ولى أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده، فلما ولى عمر كلم فيه فأبى، ثم كلم فيه عثمان بعد.
وقيل: إنه قد كبر وضعف واحتاج، فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه.
قال: وكان هيت مولى لعبد الله بن [أبى] أمية المخزومي، وكان له طويس (2) أيضا، فمن ثم قبل (3)
الخنث. قال أبو عمر: يقال " بادية " بالياء و " بادنة " بالنون، والصواب فيه عندهم بالياء،
وهو قول أكثرهم، وكذلك ذكره الزبيري بالياء.
السادسة عشرة - وصف التابعين ب‍ " - غير " لان التابعين غير مقصودين بأعيانهم،
فصار اللفظ كالنكرة. و " غير " لا يتمحض نكرة فجاز أن يجري وصفا على المعرفة. وإن شئت
قلت هو بدل. والقول فيها كالقول في " غير المغضوب عليهم (4) " [الفاتحة: 7]. وقرأ عاصم وابن عامر " غير "
بالنصب فيكون استثناء، أي يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم. ويجوز أن يكون
حالا، أي والذين يتبعونهن عاجزين عنهن، قاله أبو حاتم. وذو الحال ما في " التابعين " من الذكر.
السابعة عشرة - قوله تعالى: (أو الطفل) اسم جنس بمعنى الجمع، والدليل على ذلك
نعته ب‍ " - الذين ". وفي مصحف حفصة " أو الأطفال " على الجمع. ويقال: طفل
ما لم يراهق الحلم. و (يظهروا) معناه يطلعوا بالوطئ، أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع
لصغرهن. وقيل: لم يبلغوا أن يطيقوا النساء، يقال: ظهرت على كذا أي علمته، وظهرت

(1) الشكول: الضروب. وقصد: ليست بالجسيمة ولا النحيفة. والجبلة: الغليظة، من جبل (كفرج) فهو
جبل وجبل. والقضف: الدقة وقلة اللحم.
(2) طويس لقب غلب عليه، واسمه عيسى بن عبد الله، مولى
بنى مخزوم، وهو أول من غنى بالعربي بالمدينة، وأول من ألقى الخنث بها. (راجع ترجمته في الأغالي ج 3 ص 37
طبع دار الكتب).
(3) في الأصول: " قيل المخنت " والتصويب عن الأغاني.
(4) راجع ج 1 ص 149.
236

على كذا أي قهرته. والجمهور على سكون الواو من " عورات " لاستثقال الحركة على الواو.
وروي عن ابن عباس (1) فتح الواو، مثل جفنة وجفنات. وحكى الفراء أنها لغة قيس " عورات "
[بفتح] (2) الواو. النحاس: وهذا هو القياس، لأنه ليس بنعت، كما تقول: جفنة وجفنات،
إلا أن التسكين أجود في " عورات " وأشباهه، لان الواو إذا تحركت وتحرك ما قبلها قلبت
ألفا، فلو قيل هذا لذهب المعنى.
الثامنة عشرة - اختلف العلماء في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين منه على قولين:
أحدهما - لا يلزم، لأنه لا تكليف عليه، وهو الصحيح. والاخر - يلزمه، لأنه قد يشتهى
وقد تشتهى أيضا هي، فإن راهق فحكمه حكم البالغ وجوب الستر. ومثله الشيخ الذي سقطت
شهوته اختلف فيه أيضا على قولين كما في الصبي، والصحيح بقاء الحرمة، قاله ابن العربي.
التاسعة عشرة - أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل والمرأة، وأن المرأة
كلها عورة، إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيهما. وقال أكثر العلماء في الرجل: من
سرته إلى ركبته عورة، لا يجوز أن ترى. وقد مضى في [الأعراف] القول في هذا مستوفى (3).
الموفية عشرين - قال أصحاب الرأي: عورة المرأة مع عبدها من السرة إلى الركبة.
ابن العربي: وكأنهم ظنوها رجلا أو ظنوه امرأة، والله تعالى قد حرم المرأة على الاطلاق
لنظر أو لذة، ثم استثنى اللذة للأزواج وملك اليمين، ثم استثنى الزينة لاثني عشر شخصا العبد
منهم، فما لنا ولذلك! هذا نظر فاسد واجتهاد عن السداد متباعد. وقد تأول بعض الناس
قوله: " أو ما ملكت أيمانهن " على الإماء دون العبيد، منهم سعيد بن المسيب، فكيف يحملون
على العبيد ثم يلحقون بالنساء هذا بعيد جدا! [قال ابن العربي] (4) وقد قيل: إن التقدير أو ما
ملكت أيمانهن من غير أولي الإربة أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال، حكاه المهدوي.
الحادية والعشرون - قوله تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن) الآية، أي لا تضرب
المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها، فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد،

(1) في ب وك: ابن عامر.
(2) من ب.
(3) راجع ج 7 ص 172.
(4) من ك.
237

والغرض التستر. أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال: زعم حضرمي أن امرأة
اتخذت برتين (1) من فضة واتخذت جزعا (2) فجعلت في ساقها فمرت على القوم فضربت برجلها
الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت، فنزلت هذه الآية. وسماع هذه الزينة أشد تحريكا
للشهوة من إبدائها، قاله الزجاج.
الثانية والعشرون - من فعل ذلك منهن فرحا بحليهن فهو مكروه. ومن فعل ذلك منهن
تبرجا وتعرضا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله من الرجال، إن فعل ذلك
تعجبا حرم، فإن العجب كبيرة. وإن فعل ذلك تبرجا لم يجز.
الثالثة والعشرون - قال مكي رحمه الله تعالى: ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر
من هذه، جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.
قوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون) فيه مسألتان:
الأولى - قوله تعالى: " وتوبوا " أمر. ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة،
وأنها فرض متعين، وقد مضى الكلام فيها في " النساء " (3) وغيرها فلا معنى لإعادة ذلك.
والمعنى: وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تتركوا
التوبة في كل حال.
الثانية - قرأ الجمهور (أيه) بفتح الهاء. وقرأ ابن عامر بضمها، ووجهه أن تجعل
الهاء من نفس الكلمة، فيكون إعراب المنادى فيها. وضعف أبو على ذلك جدا وقال:
آخر الاسم هو الياء الثانية من أي، فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم، ولو جاز ضم الهاء
ها هنا لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم في " اللهم " لاقترانها بالكلمة في كلام طويل. والصحيح
أنه إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة، فإن القرآن
هو الحجة. وأنشد الفراء:
يأيه القلب اللجوج النفس * أفق عن البيض الحسان اللعس

(1) البرة: الخلخال، وكل حلقة من سوار وقرط.
(2) الجزع (بفتح الجيم) ضرب من الخرز.
(3) راجع ج 5 ص 90.
238

اللعس: لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك يستملح، يقال: شفة
لعساء وفتية ونسوة لعس. وبعضهم يقف " أيه ". وبعضهم يقف " أيها " بالألف
لأن علة حذفها في الوصل إنما هو سكونها وسكون اللام، فإذا كان الوقف ذهبت العلة
فرجعت الألف كما ترجع الياء إذا وقفت على " محلى " من قوله تعالى: " غير محلى الصيد " (1) [المائدة: 1].
وهذا الاختلاف الذي ذكرناه كذلك هو في " يأيه الساحر (2) ". و " أيه الثقلان (3) ".
قوله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم
وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله وسع عليم (32)
فيه سبع مسائل:
الأولى - هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح، أي زوجوا من لا زوج له منكم
فإنه طريق التعفف، والخطاب للأولياء. وقيل: للأزواج. والصحيح الأول، إذ لو أراد
الأزواج لقال " وأنكحوا " بغير همز، وكانت الألف للوصل. وفي هذا دليل على أن المرأة
ليس لها أن تنكح نفسها بغير ولى، وهو قول أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة: إذا زوجت
الثيب أو البكر نفسها بغير ولى كفئا لها جاز. وقد مضى هذا في " البقرة " (4) مستوفى.
الثانية - اختلف العلماء في هذا الامر على ثلاثة أقوال، فقال علماؤنا: يختلف
الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت، ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر
وزوال خشية العنت عنه. وإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حتم.
وإن لم يخش شيئا وكانت الحال مطلقة فقال الشافعي: النكاح مباح. وقال مالك وأبو حنيفة:
هو مستحب. تعلق الشافعي بأنه قضاء لذة فكان مباحا كالأكل والشرب. وتعلق علماؤنا
بالحديث الصحيح: (من رغب عن سنتي فليس منى).
الثالثة - قوله تعالى: (الأيامى منكم) أي الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء،
واحدهم أيم. قال أبو عمرو: أيامى مقلوب أيايم. واتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل

(1) راجع ج 6 ص 31.
(2) راجع 16 ص 96.
(3) راجع ج 17 ص 168.
(4) راجع ج 3 ص 72.
239

هي المرأة التي لا زوج لها، بكرا كانت أو ثيبا، حكى ذلك أبو عمرو والكسائي وغيرهما. تقول
العرب: تأيمت المرأة إذا أقامت لا تتزوج. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وامرأة
سفعاء (1) الخدين تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة).
وقال الشاعر:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمى * وإن كنت أفتى منكم أتأيم
ويقال: أيم بين الأيمة. وقد آمت هي، وإمت أنا. قال الشاعر:
لقد إمت حتى لامني كل صاحب * رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت
قال أبو عبيد: يقال رجل أيم وامرأة أيم، وأكثر ما يكون ذلك في النساء، وهو كالمستعار
في الرجال. وقال أمية بن أبي الصلت:
لله در بنى علي * أيم منهم وناكح
وقال قوم: هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى: " والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك
وحرم ذلك على المؤمنين " [النور: 3]. وقد بيناه في أول السورة والحمد لله.
الرابعة - المقصود من قوله تعالى: " وأنكحوا الأيامى منكم " الحرائر والأحرار،
ثم بين حكم المماليك فقال: " والصالحين من عبادكم وإمائكم ". وقرأ الحسن " والصالحين من
عبيدكم "، وعبيد اسم للجمع. قال الفراء: ويجوز " وإماءكم " بالنصب، يرده على " الصالحين "
يعنى الذكور والإناث، والصلاح الايمان. وقيل: المعنى ينبغي أن تكون الرغبة في تزويج
الإماء والعبيد إذا كانوا صالحين فيجوز تزويجهم، ولكن لا ترغيب فيه ولا استحباب، كما قال:
" فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " [النور: 33]. ثم قد تجوز الكتابة وإن لم يعلم أن في العبد خيرا، ولكن
الخطاب ورد في الترغيب والاستحباب، وإنما يستحب كتابة من فيه خير.
الخامسة - أكثر العلماء على أن للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح، وهو قول
مالك وأبي حنيفة وغيرهما. قال مالك: ولا يجوز ذلك إذا كان ضررا. وروي نحوه عن

(1) السفع: السواد والشحوب. أراد أنها بذلت نفسها وتركت الزينة والترفه حتى شحب لونها واسود، إقامة
على ولدها بعد وفاة زوجها.
(2) راجع ص 167 من هذا الجزء.
240

الشافعي، ثم قال: ليس للسيد أن يكره العبد على النكاح. وقال النخعي: كانوا يكرهون
المماليك على النكاح ويغلقون عليهم الأبواب. تمسك أصحاب الشافعي فقالوا: العبد مكلف
فلا يجبر على النكاح، لان التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدمية، وإنما تتعلق
به المملوكية فيما كان حظا للسيد من ملك الرقبة والمنفعة، بخلاف الأمة فإنه له حق المملوكية
في بضعها ليستوفيه، فأما بضع العبد فلا حق له فيه، ولأجل ذلك لا تباح السيدة لعبدها.
هذه عمدة أهل خراسان والعراق، وعمدتهم أيضا الطلاق، فإنه يملكه العبد بتملك عقده.
ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد، ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه
بإجماع. والنكاح وبابه إنما هو من المصالح، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد، هو يراها
ويقيمها للعبد.
السادسة - قوله تعالى: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) رجع الكلام
إلى الأحرار، أي لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة، " إن يكونوا فقراء يغنهم
الله من فضله ". وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا الله واعتصاما من معاصيه.
وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، وتلا هذه الآية. وقال عمر رضي الله عنه: عجبي
ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله تعالى: " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ".
وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا. ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة كلهم حق على الله عونه المجاهد في سبيل
الله والناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء). أخرجه ابن ماجة في سننه. فإن قيل: فقد
نجد الناكح لا يستغنى، قلنا: لا يلزم أن يكون هذا على الدوام، بل لو كان في لحظة واحدة
لصدق الوعد. وقد قيل: يغنيه، أي يغنى النفس. وفي الصحيح (ليس الغنى عن كثرة
العرض (1) إنما الغنى غنى النفس). وقد قيل: ليس وعدا لا يقع فيه خلف، بل المعنى أن المال
غاد ورائح، فارجوا الغنى. وقيل: المعنى يغنيهم الله من فضله إن شاء، كقوله تعالى:

(1) العرض (بالتحريك): متاع الدنيا وحطامها.
241

" فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " (1) [الانعام: 41]، وقال تعالى: " يبسط الرزق لمن يشاء " (2) [الشورى: 12]. وقيل:
المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بالحلال ليتعففوا عن الزنى.
السابعة - هذه الآية دليل على تزويج الفقير، ولا يقول كيف أتزوج وليس لي مال،
فإن رزقه على الله. وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس
له إلا إزار واحد، وليس لها بعد ذلك فسخ النكاح بالاعسار لأنها دخلت عليه، وإنما يكون ذلك
إذا دخلت على اليسار فخرج معسرا، أو طرأ الاعسار بعد ذلك، لان الجوع لا صبر عليه، قاله
علماؤنا. وقال النقاش: هذه الآية حجة على من قال: إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا
كان الزوج فقيرا لا يقدر على النفقة، لان الله تعالى قال: " يغنهم الله " ولم يقل يفرق. وهذا
انتزاع ضعيف، وليس هذه الآية حكما فيمن عجز عن النفقة، وإنما هي وعد بالاغناء لمن تزوج
فقيرا. فأما من تزوج موسرا وأعسر بالنفقة فإنه يفرق بينهما، قال الله تعالى: " وإن يتفرقا
يغن الله كلا من سعته " (3) [النساء: 130]. ونفحات الله تعالى مأمولة في كل حال موعود بها.
قوله تعالى: وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله
من فضله والذين يبتغون الكتب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم
إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا
فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا
ومن يكرههن فإن الله من بعده إكراههن غفور رحيم (33) ولقد أنزلنا
إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة
للمتقين (34)
قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله)
فيه أربع مسائل:

(1) راجع ج 6 ص 423.
(2) راجع ج 9 ص 318 فما بعد.
(3) راجع ج 5 ص 404.
242

الأولى - قوله تعالى: (وليستعفف الذين) الخطاب لمن يملك أمر نفسه، لا لمن
زمامه بيد غيره فإنه يقوده إلى ما يراه، كالمحجور [عليه] (1) - قولا واحدا - والأمة والعبد
على أحد قولي العلماء.
الثانية - و " استعفف " وزنه استفعل، ومعناه طلب أن يكون عفيفا، فأمر الله
تعالى بهذه الآية كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر (2) أن يستعفف. ثم لما
كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال وعد بالاغناء من فضله، فيرزقه ما يتزوج به، أو يجد
امرأة ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه شهوة النساء. وروى النسائي عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة كلهم حق على الله عز وجل عونهم المجاهد في سبيل
الله والناكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء).
الثالثة - قوله تعالى: (لا يجدون نكاحا) أي طول نكاح، فحذف المضاف.
وقيل: النكاح ها هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة، كاللحاف اسم لما يلتحف به
. واللباس اسم لما يلبس، فعلى هذا لا حذف في الآية، قاله جماعة من المفسرين، وحملهم على
هذا قوله تعالى: " حتى يغنيهم الله من فضله " فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عدم
المال الذي يتزوج به. وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف، وذلك ضعيف،
بل الامر بالاستعفاف متوجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه تعذر، كما قدمناه،
والله تعالى أعلم.
الرابعة - من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطول فالمستحب له أن يتزوج،
وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف فإن أمكن ولو بالصوم فإن الصوم له وجاء (3)، كما جاء في الخبر
الصحيح. ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى. وفي الخبر (خيركم
الخفيف الحاذ (4) الذي لا أهل له ولا ولد). وقد تقدم جواز نكاح الإماء عند عدم الطول للحرة
في " النساء " (5) والحمد لله. ولما لم يجعل الله له بين) (6) العفة والنكاح درجة دل على أن ما عداهما

(1) من ك.
(2) في ك: يعذر.
(3) الوجاء - بالكسر - الخصاء. أي
الصوم يقطع الشهوة كما يقطعها الخصاء.
(4) الحاذ الحال تفسيره ما بعده.
(5) راجع ج 5 ص 136 فما بعد.
(6) من ب وك.
243

محرم ولا يدخل فيه ملك اليمين لأنه بنص آخر مباح، وهو قوله تعالى: " أو ما ملكت
أيمانكم " فجاءت فيه زيادة، ويبقى على التحريم الاستمناء ردا على أحمد (1). وكذلك يخرج عنه
نكاح المتعة بنسخه، وقد تقدم هذا في [أول] (1) " المؤمنون ".
قوله تعالى: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم أن علمتم فيهم خيرا)
فيه ست عشرة مسألة:
الأولى - قوله تعالى: (والذين يبتغون الكتاب) " الذين " في موضع رفع. وعند
الخليل وسيبويه في موضع نصب على إضمار فعل، لان بعده أمرا. ولما جرى ذكر العبيد
والإماء فيما سبق وصل به أن العبد إن طلب الكتاب فالمستحب كتابته، فربما يقصد بالكتابة
أن يستقل ويكتسب ويتزوج إذا أراد، فيكون أعف له. قيل: نزلت في غلام لحويطب
ابن عبد العزى يقال له صبح - وقيل: صبيح - طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى، فأنزل الله
تعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا فأداها،
وقتل بحنين في الحرب، ذكره القشيري وحكاه النقاش. وقال مكي: هو صبيح القبطي غلام
حاطب بن أبي بلتعة. وعلى الجملة فإن الله تعالى أمر المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من
له مملوك وطلب المملوك الكتابة وعلم سيده منه خيرا.
الثانية - الكتاب والمكاتبة سواء، مفاعلة مما لا تكون إلا بين اثنين، لأنها معاقدة
بين السيد وعبده، يقال: كاتب يكاتب كتابا ومكاتبة، كما يقال: قاتل قتالا ومقاتلة.
فالكتاب في الآية مصدر كالقتال والجلاد والدفاع. وقيل: الكتاب ها هنا هو الكتاب
المعروف الذي يكتب فيه الشئ، وذلك أنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم
بذلك كتابا. فالمعنى يطلبون العتق الذي يكتب به الكتاب فيدفع إليهم.
الثالثة - معنى المكاتبة في الشرع: هو أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجما
عليه، فإذا أداه فهو حر. ولها حالتان: الأولى - أن يطلبها العبد ويجيبه السيد، فهذا

(1) راجع ص 10 فما بعد من هذا الجزء.
244

مطلق الآية وظاهرها. الثانية - أن يطلبها العبد ويأباها السيد، وفيها قولان: الأول:
لعكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بن دينار والضحاك بن مزاحم وجماعة أهل الظاهر أن ذلك
واجب على السيد. وقال علماء الأمصار: لا يجب ذلك. وتعلق من أوجبها بمطلق الامر،
وأفعل بمطلقه على الوجوب حتى يأتي الدليل بغيره. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن
عباس، واختاره الطبري. واحتج داود أيضا بأن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك
الكتابة وهو مولاه فأبى أنس، فرفع عمر عليه الدرة، وتلا: " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا "،
فكاتبه أنس. قال داود: وما كان عمر ليرفع الدرة على أنس فيما له مباح ألا يفعله.
وتمسك الجمهور بأن الاجماع منعقد على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، ولم يجبر
عليه وإن ضوعف له في الثمن. وكذلك لو قال له أعتقني أو دبرني أو زوجني لم يلزمه ذلك
بإجماع، فكذلك الكتابة، لأنها معاوضة فلا تصح إلا عن تراض. وقولهم: مطلق الامر يقتضى
الوجوب صحيح، لكن إذا عري عن قرينة تقتضي صرفه عن الوجوب، وتعليقه هنا بشرط
علم الخير فيه، فعلق (1) الوجوب على أمر باطن وهو علم السيد بالخيرية. وإذا قال العبد: كاتبني،
وقال السيد: لم أعلم فيك خيرا، وهو أمر باطن، فيرجع فيه إليه ويعول عليه. وهذا قوي في بابه.
الرابعة - واختلف العلماء في قوله تعالى: (خيرا) فقال ابن عباس وعطاء:
المال. مجاهد: المال والأداء. والحسن والنخعي: الدين والأمانة. وقال مالك: سمعت
بعض أهل العلم يقولون هو القوة على الاكتساب والأداء. وعن الليث نحوه، وهو قول
الشافعي. وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة والخير (2). قال الطحاوي: وقول من قال إنه
المال لا يصح عندنا، لان العبد مال لمولاه، فكيف يكون له مال. والمعنى عندنا: إن
علمتم فيهم الدين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من
الكتابة والصدق في المعاملة فكاتبوهم. وقال أبو عمر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر
أن يقال إن علمتم فيهم مالا، وإنما يقال: علمت فيه الخير والصلاح والأمانة، ولا يقال:
علمت فيه المال، وإنما يقال علمت عنده المال.

(1) في ك: تعلق.
(2) لعل كلمة " والخير " مقحمة. ولعل المراد بالخير سائر الخصال المحمودة.
245

قلت: وحديث بريرة يرد قول من قال: إن الخير المال، على ما يأتي.
الخامسة - اختلف العلماء في كتابة من لا حرفة له، فكان ابن عمر يكره أن يكاتب
عبده إذا لم تكن له حرفة، ويقول: أتأمرني أن آكل أوساخ الناس؟ ونحوه عن سلمان
الفارسي. وروى حكيم بن حزام فقال: كتب عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد: أما بعد!
فإنه مزن قبلك من المسلمين أن يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس. وكرهه الأوزاعي وأحمد
وإسحاق. ورخص في ذلك مالك وأبو حنيفة والشافعي. وروي عن علي رضي الله عنه
أن ابن التياح مؤذنه قال له: أكاتب وليس لي مال؟ قال نعم، ثم حض الناس على الصدقة
على، فأعطوني ما فضل عن مكاتبتي، فأتيت عليا فقال: اجعلها في الرقاب. وقد روي
عن مالك كراهة ذلك، وأن الأمة التي لا حرفة لها يكره مكاتبتها لما يؤدي إليه من فسادها.
والحجة في السنة لا فيما خالفها. روى الأئمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على بريرة
فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين، كل سنة أوقية، فأعينيني...
الحديث. فهذا دليل على أن للسيد أن يكاتب عبده وهو لا شئ معه، ألا ترى أن بريرة
جاءت عائشة تخبرها بأنها كاتبت أهلها وسألتها أن تعينها، وذلك كان في أول كتابتها قبل أن
تؤدي منها شيئا، كذلك ذكره ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت
تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، أخرجه البخاري وأبو داود. وفي هذا
دليل على جواز كتابة الأمة، وهي غير ذات صنعة ولا حرفة ولا مال، ولم يسأل النبي صلى الله
عليه وسلم هل لها كسب أو عمل واصب (1) أو مال، ولو كان هذا واجبا لسأل عنه ليقع حكمه
عليه، لأنه بعث مبينا معلما صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الحديث ما يدل على أن من تأول
في قوله تعالى: " إن علمتم فيهم خيرا " أن المال الخير، ليس بالتأويل الجيد، وأن الخير
المذكور هو القوة على الاكتساب مع الأمانة. والله أعلم.
السادسة - الكتابة تكون بقليل المال وكثيره، وتكون على أنجم، لحديث بريرة.
وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء والحمد لله. فلو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلا نجمت

(1) وصب الشئ: دام.
246

عليه بقدر سعايته وإن كره السيد. قال الشافعي: لا بد فيها من أجل، وأقلها ثلاثة أنجم.
واختلفوا إذا وقعت على نجم واحد فأكثر أهل العلم يجيزونها على نجم واحد. وقال الشافعي:
لا تجوز على نجم واحد، ولا تجوز حالة ألبتة، وإنما ذلك عتق على صفة، كأنه قال: إذا
أديت كذا وكذا فأنت حر وليست كتابة. قال ابن العربي: اختلف العلماء والسلف في الكتابة
إذا كانت حالة على قولين، واختلف قول علمائنا كاختلافهم. والصحيح في النظر أن الكتابة
مؤجلة، كما ورد بها الأثر في حديث بريرة حين كاتبت أهلها على تسع أواق في كل عام أوقية،
وكما فعلت الصحابة، ولذلك سميت كتابة لأنها تكتب ويشهد عليها، فقد استوسق (1) الاسم
والأثر، وعضده المعنى، فإن المال إن جعله حالا وكان عند العبد شئ فهو مال مقاطعة
وعقد مقاطعة لا عقد كتابة. وقال ابن خويز منداد: إذا كاتبه على مال معجل كان عتقا
على مال، ولم تكن كتابة. وأجاز غيره من أصحابنا الكتابة الحالة وسماها قطاعة، وهو القياس،
لان الاجل فيها إنما هو فسحة للعبد في التكسب. ألا ترى أنه لو جاء بالمنجم عليه قبل محله
لوجب على السيد أن يأخذه ويتعجل للمكاتب عتقه. وبجواز (2) الكتابة الحالة، قال الكوفيون.
قلت: لم يرد عن مالك نص في الكتابة الحالة، والأصحاب يقولون: إنها جائزة،
ويسمونها قطاعة. وأما قول الشافعي إنها لا تجوز على أقل من ثلاثة أنجم فليس بصحيح،
لأنه لو كان صحيحا لجاز لغيره أن يقول: لا يجوز على أقل من خمسة نجوم، لأنها أقل النجوم
التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بريرة، وعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم
وقضى فيها، فكان بصواب الحجة أولى. روى البخاري عن عائشة أن بريرة دخلت عليها
تستعينها في كتابتها وعليها خمسة أواق نجمت عليها في خمس سنين... الحديث. كذا قال الليث
عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: وعليها خمسة أواق نجمت عليها في خمس
سنين. وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت:
جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق... الحديث. وظاهر الروايتين

(1) استوسق: اجتمع.
(2) في ك: وتجوز الكتابة الحالة. قاله الخ.
247

تعارض، غير أن حديث هشام أولى لاتصاله وانقطاع حديث يونس، لقول البخاري:
وقال الليث حدثني يونس، ولأن هشاما أثبت في حديث أبيه وجده من غيره، والله أعلم.
السابعة - المكاتب عبد ما بقى عليه من مال الكتابة شئ، لقوله عليه السلام:
(المكاتب عبد ما بقى عليه من مكاتبته درهم). أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده. وروي عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما عبد كاتب على
مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد). وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم
والثوري وأحمد وإسحاق وأبى ثور وداود والطبري. وروي ذلك عن ابن عمر من وجوه،
وعن زيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة، لم يختلف عنهم في ذلك رضي الله عنهم. وروي
ذلك عن عمر بن الخطاب، وبه قال ابن المسيب والقاسم وسالم وعطاء. قال مالك: وكل
من أدركنا ببلدنا يقول ذلك. وفيها قول آخر روي عن علي أنه إذا أدى الشطر فهو غريم،
وبه قال النخعي. وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه، والاسناد عنه بأن المكاتب عبد ما بقى
عليه درهم، خير من الاسناد عنه بأن المكاتب إذا أدى الشطر فلا رق عليه، قاله أبو عمر.
وعن علي أيضا يعتق منه بقدر ما أذى. وعنه أيضا أن العتاقة تجري فيه بأول نجم يؤديه.
وقال ابن مسعود: إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم، وهذا قول شريح. وعن
ابن مسعود: لو كانت الكتابة مائتي دينار وقيمة العبد مائة دينار فأدى العبد المائة التي هي
قيمته عتق، وهو قول النخعي أيضا. وقول سابع - إذا أدى الثلاثة الأرباع وبقى الربع
فهو غريم ولا يعود عبدا، قاله عطاء بن أبي رباح، رواه ابن جريج عنه. وحكى عن بعض
السلف أنه بنفس عقد الكتابة حر، وهو غريم بالكتابة ولا يرجع إلى الرق (1) أبدا. وهذا القول
يرده حديث بريرة لصحته عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه دليل واضح على أن المكاتب
عبد، ولولا ذلك ما بيعت بريرة، ولو كان فيها شئ من العتق ما أجاز بيع ذلك، إذ من
سنته المجمع عليها ألا يباع الحر. وكذلك كتابة سلمان وجويرية، فإن النبي صلى الله عليه
وسلم حكم لجميعهم بالرق حتى أدوا (2) الكتابة. وهي حجة للجمهور في أن المكاتب عبد ما بقى

(1) أصحاب هذا القول يرون أنه استرد حريته لأنها الأصل في الانسان محققة.
(2) في ك: يؤدوا.
248

عليه شئ. وقد ناظر علي بن أبي طالب زيد بن ثابت في المكاتب، فقال لعلى: أكنت
راجمه لو زنى، أو مجيزا شهادته لو شهد؟ فقال على لا. فقال زيد: هو عبد ما بقى عليه
شئ. وقد روى النسائي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ويقام عليه الحد بقدر ما أدى ويرث بقدر
ما عتق منه). وإسناده صحيح. وهو حجة لما روي عن علي، ويعتضد بما رواه أبو داود
عن نبهان مكاتب أم سلمة قال سمعت أم سلمة تقول: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه). وأخرجه الترمذي
وقال: حديث حسن صحيح. إلا أنه يحتمل أن يكون خطابا مع زوجاته، أخذا بالاحتياط
والورع في حقهن، كما قال لسودة: (احتجبي منه) مع أنه قد حكم بأخوتها له، وبقوله
لعائشة وحفصة: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه) يعنى ابن أم مكتوم، مع أنه قال لفاطمة
بنت قيس: (اعتدي عند ابن أم مكتوم) وقد تقدم هذا المعنى.
الثامنة - أجمع العلماء على أن المكاتب إذا حل عليه نجم من نجومه أو نجمان أو نجومه
كلها فوقف السيد عن مطالبته وتركه بحاله أن الكتابة لا تنفسخ ما داما على ذلك ثابتين.
التاسعة - قال مالك: ليس للعبد أن يعجز نفسه إذا كان له مال ظاهر، وإن
لم يظهر له مال فذلك إليه. وقال الأوزاعي: لا يمكن من تعجيز نفسه إذا كان قويا على الأداء.
وقال الشافعي: له أن يعجز نفسه، علم له مال أو قوة على الكتابة أو لم يعلم، فإذا قال: قد
عجزت وأبطلت الكتابة فذلك إليه. وقال مالك: إذا عجز المكاتب فكل ما قبضه منه سيده
قبل العجز حل له، كان من كسبه أو من صدقة عليه. وأما ما أعين به على فكاك رقبته
فلم يف ذلك بكتابته كان لكل من أعانه الرجوع بما أعطى أو تحلل منه المكاتب. ولو أعانوه
صدقة لا على فكاك رقبته فذلك إن عجز حل لسيده ولو تم به فكاكه وبقيت منه فضلة. فإن
كان بمعنى الفكاك ردها إليهم بالحصص أو يحللونه منها. هذا كله مذهب مالك فيما ذكر
ابن القاسم. وقال أكثر أهل العلم: إن ما قبضه السيد منه من كتابته، وما فضل بيده بعد عجزه
249

من صدقة أو غيرها فهو لسيده، يطيب له أخذ ذلك كله. هذا قول الشافعي وأبي حنيفة
وأصحابهما وأحمد بن حنبل، ورواية عن شريح. وقال الثوري: يجعل السيد ما أعطاه
في الرقاب، وهو قول مسروق والنخعي، ورواية عن شريح. وقالت طائفة: ما قبض
منه السيد فهو له، وما فضل بيده بعد العجز فهو له دون سيده، وهذا قول بعض من
ذهب إلى أن العبد يملك. وقال إسحاق: ما أعطى بحال الكتابة رد على أربابه.
العاشرة - حديث بريرة على اختلاف طرقه وألفاظه يتضمن أن بريرة وقع فيها بيع
بعد كتابة تقدمت. واختلف الناس في بيع المكاتب بسبب ذلك. وقد ترجم البخاري
(باب بيع المكاتب إذا رضى). وإلى جواز بيعه للعتق إذا رضى المكاتب بالبيع ولو لم يكن
عاجزا - ذهب ابن المنذر والداودي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر، وبه قال
ابن شهاب (1) وأبو الزناد وربيعة غير أنهم قالوا: لان رضاه بالبيع عجز منه. وقال مالك وأبو حنيفة
وأصحابهما: لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتبا حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابته بحال،
وهو قول الشافعي بمصر، وكان بالعراق يقول: بيعه جائز، وأما بيع كتابته فغير جائزة.
وأجاز مالك بيع الكتابة، فإن أداها عتق، وإلا كان رقيقا لمشتري الكتابة. ومنع من ذلك
أبو حنيفة، لأنه بيع غرر. واختلف قول الشافعي في ذلك بالمنع والإجازة. وقالت
طائفة: يجوز بيع المكاتب على أن يمضى في كتابته، فإن أدى عتق وكان ولاؤه للذي ابتاعه
ولو عجز فهو عبد له. وبه قال النخعي وعطاء والليث وأحمد وأبو ثور. وقال الأوزاعي:
لا يباع المكاتب إلا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه، وهو قول أحمد وإسحاق. قال
أبو عمر: في حديث بريرة إجازة بيع المكاتب إذا رضى بالبيع ولم يكن عاجزا عن أداء نجم قد
حل عليه، بخلاف قول من زعم أن بيع المكاتب غير جائز إلا بالعجز، لان بريرة لم تذكر أنها
عجزت عن أداء نجم، ولا أخبرت بأن النجم قد حل عليها، ولا قال لها النبي صلى الله عليه
وسلم أعاجزة أنت أم هل حل عليك نجم. ولو لم يجز بيع المكاتب والمكاتبة إلا بالعجز عن
أداء ما قد حل لكان النبي صلى الله عليه وسلم قد سألها أعاجزة هي أم لا، وما كان ليأذن

(1) في ك: أشهب.
250

في شرائها إلا بعد علمه صلى الله عليه وسلم أنها عاجزة ولو عن أداء نجم واحد قد حل عليها.
وفي حديث الزهري أنها لم تكن قضت من كتابتها شيئا. ولا أعلم في هذا الباب حجة أصح
من حديث بريرة هذا، ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم شئ يعارضه، ولا في شئ من
الاخبار دليل على عجزها. استدل من منع من بيع المكاتب بأمور: منها أن قالوا إن الكتابة
المذكورة لم تكن انعقدت، وأن قولها كاتبت أهلي معناه أنها راوضتهم عليها، وقدروا مبلغها
وأجلها ولم يعقدوها. وظاهر الأحاديث خلاف هذا إذا تؤمل مساقها. وقيل: إن بريرة
عجزت عن الأداء فاتفقت هي وأهلها على فسخ الكتابة، وحينئذ صح البيع، إلا أن هذا إنما
يتمشى على قول من يقول: إن تعجيز المكاتب غير مفتقر إلى حكم حاكم إذا اتفق العبد والسيد
عليه، لان الحق لا يعدوهما، وهو المذهب المعروف. وقال سحنون: لا بد من السلطان،
وهذا إنما خاف أن يتواطأ على ترك حق الله تعالى. ويدل على صحة أنها عجزت ما روي أن
بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة:
ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضى عنك كتابتك فعلت. فظاهر هذا أن جميع كتابتها
أو بعضها استحق عليها، لأنه لا يقضى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به، والله أعلم.
هذه (1) التأويلات أشبه ما لهم وفيها من الدخل ما بيناه. وقال ابن المنذر: ولا أعلم حجة لمن
قال ليس له بيع المكاتب إلا أن يقول لعل بريرة عجزت. قال الشافعي: وأظهر معانيه أن
لمالك المكاتب بيعه.
الحادية عشرة - المكاتب إذا أدى كتابته عتق ولا يحتاج إلى ابتداء عتق من السيد.
كذلك ولده الذين ولدوا في كتابته من أمته، يعتقون بعتقه ويرقون برقه، لان ولد الانسان
من أمته بمثابته اعتبارا بالحر وكذلك ولد المكاتبة، فإن كان لهما ولد قبل الكتابة لم يدخل
في الكتابة إلا بشرط.
الثانية عشرة - (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) هذا أمر للسادة بإعانتهم في مال
الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئا مما في أيديهم - أعني أيدي السادة - أو يحطوا عنهم شيئا

(1) في ب وك: وهذان التأويلان أشبهه ما لهم وفيهما. الخ.
251

من مال الكتابة. قال مالك: يوضع عن المكاتب من آخر كتابته. وقد وضع ابن عمر
خمسة آلاف من خمسة وثلاثين ألفا. واستحسن على رضي الله عنه أن يكون ذلك ربع
الكتابة. قال الزهراوي: روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. واستحسن ابن مسعود
والحسن بن أبي الحسن ثلثها. وقال قتادة: عشرها. ابن جبير: يسقط عنه شيئا،
ولم يحده، وهو قول الشافعي، واستحسنه الثوري. قال الشافعي: والشئ أقل شئ يقع عليه
اسم شئ، ويجبر عليه السيد ويحكم به الحاكم على الورثة إن مات السيد. ورأى مالك رحمه الله
تعالى هذا الامر على الندب، ولم ير لقدر الوضعية حدا. احتج الشافعي بمطلق الامر في قوله:
" وآتوهم "، ورأى أن عطف الواجب على الندب معلوم في القرآن ولسان العرب كما قال
تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى " (1) [النحل: 90] وما كان مثله. قال ابن العربي:
وذكره قبله إسماعيل بن إسحاق القاضي، جعل الشافعي الايتاء واجبا، والكتابة غير واجبة،
فجعل الأصل غير واجب والفرع واجبا، وهذا لا نظير له، فصارت دعوى محضة. فإن
قيل: يكون ذلك كالنكاح لا يجب فإذا انعقد وجبت أحكامه، منها المتعة. قلنا: عندنا
لا تجب المتعة فلا معنى لأصحاب الشافعي. وقد كاتب عثمان بن عفان عبده وحلف ألا يحطه...،
في حديث طويل.
قلت: وقد قال الحسن والنخعي وبريدة إنما الخطاب بقوله: " وآتوهم " للناس أجمعين
في أن يتصدقوا على المكاتبين، وأن يعينوهم في فكاك رقابهم. وقال زيد بن أسلم: إنما
الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم، وهو الذي تضمنه قوله تعالى
" وفي الرقاب " (2). وعلى هذين القولين فليس لسيد المكاتب أن يضع شيئا عن مكاتبه. ودليل
هذا أنه لو أراد حط شئ من نجوم الكتابة لقال وضعوا عنهم كذا.
الثالثة عشرة - إذا قلنا: إن المراد بالخطاب السادة فرأى عمر بن الخطاب أن يكون
ذلك من أول نجومه، مبادرة إلى الخير خوفا ألا يدرك آخرها. ورأى مالك رحمه الله تعالى
وغيره أن يكون الوضع من آخر نجم. وعلة ذلك أنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد

(1) راجع ج 10 ص 165.
(2) راجع ج 8 ص 182.
252

فرجع هو وماله إلى السيد، فعادت إليه وضيعته وهي شبه الصدقة. وهذا قول عبد الله
ابن عمر وعلى. وقال مجاهد: يترك له من كل نجم. قال ابن العربي: والأقوى عندي أن
يكون في آخرها، لان الاسقاط أبدا إنما يكون في أخريات الديون.
الرابعة عشرة - المكاتب إذا بيع للعتق رضا منه بعد الكتابة وقبض بائعه ثمنه لم يجب
عليه أن يعطيه من ثمنه شيئا، سواء باعه لعتق أو لغير عتق، وليس ذلك كالسيد يؤدي إليه
مكاتب كتابته فيؤتيه منها، أو يضع عنه من آخره نجما أو ما شاء، على ما أمر الله به في كتابه
لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر موالي بريرة بإعطائها مما قبضوا شيئا، وإن كانوا قد
باعوها للعتق.
الخامسة عشرة - اختلفوا في صفة عقد الكتابة، فقال ابن خويزمنداد: صفتها أن
يقول السيد لعبده كاتبتك على كذا وكذا من المال، في كذا وكذا نجما، إذا أديته فأنت حر.
أو يقول له أد إلى ألفا في عشرة أنجم وأنت حر. فيقول العبد قد قبلت ونحو ذلك من الألفاظ
فمتى أداها عتق. وكذلك لو قال العبد كاتبني، فقال السيد قد فعلت، أو قد كاتبتك. قال
ابن العربي: وهذا لا يلزم، لان لفظ القرآن لا يقتضيه والحال يشهد له، فإن ذكره فحسن،
وإن تركه فهو معلوم لا يحتاج إليه. ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة، وقد ذكرنا من
أصوله جملة، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية.
السادسة عشرة - في ميراث المكاتب، واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
فمذهب مالك أن المكاتب إذا هلك وترك مالا أكثر مما بقى عليه من كتابته وله ولد ولدوا
في كتابته أو كاتب عليهم، ورثوا ما بقى من المال بعد قضاء كتابته، لان حكمهم كحكمه،
وعليهم السعي فيما بقى من كتابته لو لم يخلف مالا، ولا يعتقون (1) إلا بعتقه، ولو أدى عنهم
ما رجع بذلك عليهم، لأنهم يعتقون عليه، فهم أولى بميراثه لأنهم مساوون له في جميع حاله.
والقول الثاني - أنه يؤدى عنه من ماله جميع كتابته، وجعل كأنه قد مات حرا، ويرثه
جميع ولده، وسواء في ذلك من كان حرا قبل موته من ولده ومن كاتب عليهم أو ولدوا

(1) في ب: ولا يكتفون.
253

في كتابته لأنهم قد استووا في الحرية كلهم حين تأدت عنهم كتابتهم. روي هذا القول عن علي
وابن مسعود، ومن التابعين عن عطاء والحسن وطاوس وإبراهيم، وبه قال فقهاء الكوفة
سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي، وإليه ذهب إسحاق.
والقول الثالث - أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدا،
وكل ما يخلفه من المال فهو لسيده، ولا يرثه أحد من أولاده، لا الأحرار ولا الذين معه
في كتابته، لأنه لما مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدا وماله لسيده، فلا يصح
عتقه بعد موته، لأنه محال أن يعتق عبد بعد موته، وعلى ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا
في كتابته أن يسعوا في باقي الكتابة، ويسقط عنهم منها قدر حصته، فإن أدوا عتقوا لأنهم
كانوا فيها تبعا لأبيهم، وإن لم يؤدوا ذلك رقوا. هذا قول الشافعي، وبه قال أحمد
ابن حنبل، وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة.
قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) روي عن جابر بن عبد الله
وابن عباس رضي الله عنهم أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي، وكانت له جاريتان
إحداهما تسمى معاذة والأخرى مسيكة، وكان يكرههما على الزنى ويضربهما عليه ابتغاء الاجر
وكسب الولد، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من
المنافقين. ومعاذة هذه أم خولة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها. وفي صحيح
مسلم عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة فكان يكرههما
على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل " ولا تكرهوا فتياتكم
على البغاء - إلى قوله - غفور رحيم ".
قوله تعالى: (إن أردن تحصنا) راجع إلى الفتيات، وذلك أن الفتاة إذا أرادت
التحصن فحينئذ يمكن ويتصور أن يكون السيد مكرها، ويمكن أن ينهى عن الاكراه. وإذا
كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها، لان الاكراه لا يتصور فيها
وهي مريدة للزنى. فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه. وإلى هذا المعنى أشار ابن العربي
254

فقال: إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة لان ذلك هو الذي يصور الاكراه،
فأما إذا كانت هي راغبة في الزنى لم يتصور إكراه، فحصلوه. وذهب هذا النظر عن كثير من
المفسرين، فقال بعضهم قوله: " إن أردن تحصنا " راجع إلى الأيامى، قال الزجاج والحسين
بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن
أردن تحصنا. وقال بعضهم: هذا الشرط في قول: " إن أردن " ملغى، ونحو ذلك مما يضعف والله الموفق.
أي الشئ الذي تكسبه الأمة بفرجها والولد يسترق فيباع.
وقيل: كان الزاني يفتدي ولده من المزني بها بمائة من الإبل يدفعها إلى سيدها.
" ومن يكرهن " أي يقهرهن. " فإن الله من بعد إكراههن غفور " لهن " رحيم " بهن.
وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير " لهن غفور " بزيادة لهن. وقد مضى الكلام في الاكراه في [النحل] والحمد لله.
عدد تعالى على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات
وفيها ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه.
النور في كلام العرب: الأضواء المدركة بالبصر.
واستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه: كلام له نور. ومنه: الكتاب المنير،
ومنه قول الشاعر: نسب كأن عليه من شمس الضحا * نورا ومن فلق الصباح عمودا
والناس يقولون: فلان نور البلد، وشمس العصر وقمره. وقال:
فإنك شمس والملوك كواكب
وقال آخر:
هلا خصصت من البلاد بمقصد * قمر القبائل خالد بن يزيد
وقال آخر:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة * فقد سار منها نورها وجمالها
255

فيجوز أن يقال: لله تعالى نور من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها وعنه
صدورها وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وقد قال هشام الجوالقي وطائفة من المجسمة: هو نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام.
وهذا كله محال على الله تعالى عقلا ونقلا على ما يعرف في موضعه من علم الكلام.
ثم إن قولهم متناقض، فإن قولهم جسم أو نور حكم عليه بحقيقة ذلك،
وقولهم لا كالأنوار ولا كالأجسام نفي لما أثبتوه من الجسمية والنور، وذلك متناقض،
وتحقيقه في علم الكلام. والذي أوقعهم في ذلك ظواهر اتبعوها منها هذه الآية،
وقول عليه السلام إذا قام من الليل يتهجد (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض).
وقال عليه السلام وقد سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: (رأيت نورا).
إلى غير ذلك من الأحاديث.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: المعنى أي به
وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها.
فالكلام على التقريب للذهن، كما يقال: الملك نور أهل البلد، أي
به قوام أمرها وصلاح جملتها، لجريان أموره على سنن السداد.
فهو في الملك مجاز، وهو في صفة الله حقيقة محضة، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نورا هاديا،
لان ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات، تبارك وتعالى لا رب غيره.
قال معناه مجاهد والزهري وغيرهما. قال ابن عرفة: أي منور السماوات والأرض.
وكذا قال الضحاك والقرظي. كما يقولون: فلان غياثنا، أي مغيثنا.
وفلان زادي، أي مزودي. قال جرير:
وأنت لنا نور وغيث وعصمة * ونبت لمن يرجو نداك وريق
أي ذو ورق. وقال مجاهد: مدبر الا أمور في السماوات والأرض. أبي بن كعب والحسن وأبو العالية: مزين السماوات بالشمس والقمر والنجوم،
256

ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقال ابن عباس وأنس:
المعنى الله هادي أهل السماوات والأرض. والأول أعم للمعاني وأصح مع التأويل.
أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن، والدلائل تسمى نورا. وقد سمى الله تعالى كتابه نورا
فقال: " وأنزلنا إليكم نورا مبينا " [النساء: 174] وسمى نبيه نورا
فقال: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " [المائدة: 15].
وهذا لان الكتاب يهدي ويبين، وكذلك الرسول. ووجه الإضافة إلى الله تعالى أنه مثبت الدلالة
ومبينها وواضعها. وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به،
بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة، وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه
وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة، كهذه الجملة من النور
الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة، التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس،
فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر. والمشكاة: الكوة في
الحائط غير النافذة، قال ابن جبير وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء،
والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها، وأصلها الوعاء يجعل فيه الشئ.
والمشكاة وعاء من أدم كالدلو يبرد فيها الماء، وهو على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة. قال الشاعر:
كأن عينيه مشكاتان في حجر * قيضا اقتياضا بأطراف المناقير
وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد: هي القنديل.
وقال " في زجاجة " لأنه جسم شفاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج.
والمصباح: الفتيل بناره
أي في الإنارة والضوء. وذلك يحتمل معنيين: إما أن يريد أنها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد
أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك. وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور.
257

قال الضحاك: الكوكب الدري هو الزهرة.
أي من زيت شجرة، فحذف المضاف. والمبارة المنماة، والزيتون من أعظم الثمار نماء، والرمان كذلك.
والمعنى يقتضي ذلك. وقول أبى طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس:
ليت شعري مسافر بن أبي عمرو * وليت يقولها المحزون
بورك الميت الغريب كما بو * رك نبع الرمان والزيتون
وقيل: من بركتهما أن أغصانهما تورق من أسفلها إلى أعلاها.
وقال ابن عباس: في الزيتونة منافع، يسرج بالزيت، وهو إدام ودهان ودباغ، ووقود يوقد
بحطبه وتفله، وليس فيه شئ إلا وفيه منفعة، حتى الرماد يغسل به الإبريسم.
وهي أول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان، وتنبت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة،
ودعا لها سبعون نبيا بالبركة، منهم إبراهيم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم
فإنه قال: (اللهم بارك في الزيت والزيتون). قاله مرتين.
اختلف العلماء في قوله تعالى: " لا شرقية ولا غربية " فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة
وغيرهم: الشرقية التي تصيبها الشمس إذا شرقت ولا تصيبها إذا غربت لان لها سترا.
والغربية عكسها، أو أنها شجرة في صحراء ومنكشف من الأرض لا يواريها عن الشمس شئ وهو
أجود لزيتها، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقيا غربية.
وقال الطبري عن ابن عباس: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب.
قال ابن عطية: وهذا قول لا يصح عن ابن عباس لان الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها وذلك
مشاهد في الوجود. وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه
الله تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية. الثعلبي: وقد
258

أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا، لأنها بدل من الشجرة، فقال " زيتونة ". وقال ابن زيد: إنها من شجر الشأم، فإن شجر الشأم لا شرقي ولا غربي، وشجر الشأم هو أفضل
الشجر، وهي الأرض المباركة. و " شرقية " نعت ل‍ " - زيتونة " و " لا " ليست تحول بين
النعت والمنعوت، " ولا غربية " عطف عليه.
قوله تعالى: (يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار) مبالغة في حسنه وصفائه وجودته.
(نور على نور) أي اجتمع في المشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة وإلى ضوء الزيت فصار
لذلك نور على نور. واعتقلت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما يكون، فكذلك
براهين الله تعالى واضحة، وهي برهان بعد برهان، وتنبيه بعد تنبيه، كإرساله الرسل وإنزاله
الكتب، ومواعظ تتكرر فيها لمن له عقل معتبر. ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من
عباده، وذكر تفضله للعباد في ضرب الأمثال لتقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الايمان.
وقرأ عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي " الله نور " بفتح النون والواو
المشددة. واختلف المتأولون في عود الضمير في " نوره " على من يعود، فقال كعب الأحبار
وابن جبير: هو عائد على محمد صلى اله عليه وسلم، أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الأنباري: " الله نور السماوات والأرض " وقف حسن، ثم تبتدئ " مثل نوره
كمشكاة فيها مصباح " على معنى نور محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أبي بن كعب وابن جبير
259

أيضا والضحاك: هو عائد على المؤمنين. وفي قراءة أبى: " مثل نور المؤمنين ". وروي أن
في قراءته " مثل نور المؤمن ". وروي أن فيها " مثل نور من آمن به ". وقال الحسن:
هو عائد على القرآن والايمان. قال مكي: وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله: " والأرض ".
قال ابن عطية: وهذه الأقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها مقابلة جزء من
المثال بجزء من الممثل، فعلى من قال الممثل به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول كعب الحبر، (1)
فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المشكاة أو صدره والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من
عمله (2) وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة هي الوحي، والملائكة رسل الله إليه وسببه
المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي. ومن قال: الممثل به
المؤمن، وهو قول أبى، فالمشكاة صدره، والمصباح الايمان والعلم، والزجاجة قلبه، وزيتها
هو الحجج والحكمة التي تضمنها. قال أبى: فهو على أحسن الحال يمشى في الناس كالرجل
الحي يمشى في قبور الأموات. ومن قال: إن الممثل به هو القرآن والايمان، فتقدير الكلام:
مثل نوره الذي هو الايمان في صدر المؤمن في قلبه كمشكاة، أي كهذه الجملة. وهذا القول
ليس في مقابلة التشبيه كالأولين، لان المشكاة ليست تقابل الايمان. وقالت طائفة: الضمير
في " نوره " عائد على الله تعالى. وهذا قول ابن عباس فيما ذكر الثعلبي والماوردي والمهدوي،
وقد تقدم معناه. ولا يوقف على هذا القول على " الأرض ". قال المهدوي: الهاء لله عز وجل،
والتقدير: الله هادي أهل السماوات والأرض، مثل هداه في قلوب المؤمنين كمشكاة، وروي
ذلك عن ابن عباس. وكذلك قال زيد بن أسلم، والحسن: إن الهاء لله عز وجل. وكان
أبى وابن مسعود يقرأنها " مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة ". قال محمد بن علي الترمذي:
فأما غيرهما فلم يقرأها في التنزيل هكذا، وقد وافقهما في التأويل أن ذلك نوره قلب المؤمن،
وتصديقه في آية أخرى يقول: " أ فمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من (3) ربه " [الزمر: 22].
واعتل الأولون بأن قالوا: لا يجوز أن يكون الهاء لله عز وجل، لان الله عز وجل لا حد

(1) الحبر (بالفتح والكسر): العالم ذميا كان أو مسلما. وكعب الحبر (بالكسر): منسوب إلى الحبر الذي
يكتب به، لأنه صاحب كتب. في ك: كعب الأحبار.
(2) في ابن عطية: " من علمه ".
(3) راجع ج 15 ص 246.
260

لنوره. وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمر الدوري الألف من " مشكاة " وكسر الكاف
التي قبلها. وقرأ نصر بن عاصم: " زجاجة " بفتح الزاي و " الزجاجة " كذلك، وهي لغة.
وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم: " دري " بضم الدال وشد الياء، ولهذه القراءة وجهان:
إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه، وإما أن يكون أصله درئ مهموز،
فعيل من الدرء وهو الدفع، وخففت الهمزة. ويقال للنجوم العظام التي لا تعرف أسماؤها:
الدراري، بغير همز فلعلهم خففوا الهمزة، والأصل من الدرء الذي هو الدفع. وقرأ حمزة
وأبو بكر عن عاصم: " درئ " بالهمز والمد، وهو فعيل من الدرء، بمعنى أنها يدفع بعضها بعضا.
وقرأ الكسائي وأبو عمرو: " درئ " بكسر الدال والهمز من الدرء والدفع، مثل السكير
والفسيق. قال سيبويه: أي يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه. قال النحاس: وضعف
أبو عبيد قراءة أبى عمرو والكسائي تضعيفا شديدا، لأنه تأولها من درأت أي دفعت، أي
كوكب يجري من الأفق إلى الأفق. وإذا كان التأويل على ما تأوله لم يكن في الكلام فائدة،
ولا كان لهذا الكوكب مزية على أكثر الكواكب، ألا ترى أنه لا يقال جاءني إنسان من
بني آدم. ولا ينبغي أن يتأول لمثل أبى عمرو والكسائي مع علمهما وجلالتهما هذا التأويل
البعيد، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك: كوكب
مندفع بالنور، كما يقال: اندرأ الحريق أن اندفع. وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة. وحكى
سعيد بن مسعدة أنه يقال: درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا. وقال الجوهري
في الصحاح: ودرأ علينا فلان يدرأ دروءا أي طلع مفاجأة. ومنه كوكب درئ، على فعيل،
مثل سكير وخمير، لشدة توقده وتلألئه. وقد درأ الكوكب دروءا. وقال أبو عمرو بن العلاء
سألت رجلا من سعد بن بكر من أهل ذات عرق فقلت: هذا الكوكب الضخم ما تسمونه؟
قال: الدرئ، وكان من أفصح الناس. قال النحاس: فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعا
قالوا: هي لحن لا تجوز، لأنه ليس في كلام العرب اسم على فعيل. وقد اعترض أبو عبيد
في هذا فاحتج لحمزة فقال: ليس هو فعيل وإنما هو فعول، مثل سبوح، أبدل من الواو ياء،
كما قالوا: عتي. قال أبو جعفر النحاس: وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط
261

وأشده، لان هذا لا يجوز ألبتة، ولو جاز ما قال لقيل في سبوح (1) سبيح، وهذا لا يقوله أحد،
وليس عتي من هذا، والفرق بينهما واضح بين، لأنه ليس يخلو عتي من إحدى جهتين: إما أن
يكون جمع عات فيكون البدل فيه لازما، لان الجمع باب تغيير، والواو لا تكون طرفا في الأسماء
وقبلها ضمة، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز حصين أبدل
من الضمة كسرة فقلبت الواو ياء. وإن كان عتي واحدا كان بالواو أولى، وجاز قلبها لأنها
طرف، والواو في فعول ليست طرفا فلا يجوز قلبها. قال الجوهري: قال أبو عبيد إن
ضممت الدال قلت دري، يكون منسوبا إلى الدر، على فعلى ولم تهمزه لأنه ليس في كلام العرب
فعيل. ومن همزه من القراء فإنما أراد فعولا مثل سبوح فاستثقل [لكثرة (2) الضمات] فرد بعضه
إلى الكسر. وحكى الأخفش عن بعضهم: " درئ " من درأته، وهمزها وجعلها على فعيل
مفتوحة الأول. قال: وذلك من تلألئه. قال الثعلبي: وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء:
" درئ " بفتح الدال مهموزا. قال أبو حاتم: هذا خطأ لأنه ليس في الكلام فعيل، فإن
صح عنهما فهما حجة. (يوقد) قرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام
وحفص: " يوقد " بياء مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال. وقرأ الحسن والسلمي
وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء البصري: " توقد " مفتوحة الحروف كلها مشددة القاف،
واختارها أبو حاتم وأبو عبيد. قال النحاس: وهاتان القراءتان متقاربتان، لأنهما جميعا
للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف، لأنه الذي ينير ويضئ، وإنما الزجاجة وعاء له.
و " توقد " فعل ماض من توقد يتوقد، ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد. وقرأ نصر
ابن عاصم: " توقد " والأصل على قراءته تتوقد حذف إحدى التاءين لان الأخرى تدل عليها.
وقرأ الكوفيون: " توقد " بالتاء يعنون الزجاجة. فهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة.
(من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية) تقدم القول فيه. (يكاد زيتها يضئ ولو لم
تمسسه نار نور على نور) على تأنيث النار. وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلا هذه القراءة.
وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قرأ: " ولو لم يمسسه نار "
بالياء. قال محمد بن يزيد: التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي، وكذا سبيل المؤنث عنده.

(1) في ك: شيوخ شييخ.
(2) من ب وك.
262

وقال ابن عمر: المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي
جعله الله تعالى في قلبه يوقد شجرة مباركة، أي أن أصله من إبراهيم وهو شجرته،
فأوقد الله تعالى في قلب محمد صلى الله عليه وسلم النور كما جعله في قلب إبراهيم عليه السلام.
وقال محمد بن كعب: المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمد صلوات الله عليهم
أجمعين، سماه الله تعالى مصباحا كما سماه سراجا فقال: " وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (1) " [الأحزاب: 46]
يوقد من شجرة مباركة وهي آدم عليه السلام، بورك في نسله وكثر منه الأنبياء والأولياء.
وقيل: هي إبراهيم عليه السلام، سماه الله تعالى مباركا لان أكثر الأنبياء كانوا من
صلبه. (لا شرقية ولا غربية) أي لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وإنما كان حنيفا مسلما.
وإنما قال ذلك لان اليهود تصلى قبل المغرب والنصارى تصلى فبل المشرق. (يكاد زيتها
يضئ) أي يكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن أوحى الله تعالى إليه.
(نور على نور) نبي من نسل نبي. وقال الضحاك: شبه عبد المطلب بالمشكاة وعبد الله
بالزجاجة والنبي صلى الله عليه وسلم بالمصباح كان في قلبهما، فورث النبوة من إبراهيم.
" من شجرة " أي شجرة التقى والرضوان وعشيرة الهدى والايمان شجرة أصلها نبوة، وفرعها
مروءة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل. قال القاضي أبو بكر
ابن العربي: ومن غريب الامر أن بعض الفقهاء قال إن هذا مثل ضربه الله تعالى لإبراهيم
ومحمد ولعبد المطلب وابنه عبد الله، فالمشكاة هي الكوة بلغة الحبشة، فشبه عبد المطلب
بالمشكاة فيها القنديل وهو الزجاجة، وشبه عبد الله بالقنديل وهو الزجاجة، ومحمد كالمصباح
يعنى من أصلابهما، وكأنه كوكب دري وهو المشتري " يوقد من شجرة مباركة " يعنى إرث
النبوة من إبراهيم عليه السلام هو الشجرة المباركة، يعنى حنيفية لا شرقية ولا غربية، لا يهودية
ولا نصرانية. " يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار " يقول: يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من
قبل أن يوحى إليه. " نور على نور " إبراهيم ثم محمد صلى الله عليه وسلم. قال القاضي: وهذا
كله عدول عن الظاهر، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه.

(1) راجع ج 14 ص 199 فما بعد.
263

قلت: وكذلك في جميع الأقوال لعدم ارتباطه بالآية ما عدا القول الأول، وأن هذا
مثل ضربه الله تعالى لنوره، ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلا تنبيها لخلقه إلا ببعض
خلقه، لان الخلق لقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم، ولولا ذلك ما عرف الله
إلا الله وحده، قاله ابن العربي. قال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن
كما يكاد الزيت الصافي يضئ قبل أن تمسه النار، فإن مسته النار، زاد ضوءه، كذلك قلب المؤمن
يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم زاده هدى على هدى ونورا على نور،
كقول إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة: " هذا ربى (1) "، من قبل أن يخبره أحد أن له ربا،
فلما أخبره الله أنه ربه زاد هدى، ف‍ " - قال له ربه: أسلم قال أسلمت لرب العالمين (2) " [البقرة: 131]. ومن قال
إن هذا مثل للقرآن في قلب المؤمن قال: كما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص فكذلك
القرآن يهتدى به ولا ينقص، فالمصباح القرآن، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه
وفهمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي. (يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار) تكاد حجج
القرآن تتضح ولو لم يقرأ. (نور على نور) يعنى أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه، مع ما أقام
لهم من الدلائل والاعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نورا على نور. ثم أخبر أن هذا
النور المذكور عزيز، وأنه لا يناله إلا من أراد الله هداه فقال: (يهدي الله لنوره من يشاء
ويضرب الله الأمثال للناس) أي يبين الأشباه تقريبا إلى الافهام. (والله بكل شئ عليم)
أي بالمهدي والضال. وروي عن ابن عباس أن اليهود قالوا: يا محمد، كيف يخلص نور
الله تعالى من دون السماء، فضرب الله تعالى ذلك مثلا لنوره.
قوله تعالى: في بيوت أذن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح
له فيها بالغدو والآصال (36) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن
ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه
القلوب والأبصر (37) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من
فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب (38)

(1) راجع ج 7 ص 25.
(2) راجع ج 2 ص 134.
264

قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال.
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) فيه تسع عشرة مسألة:
الأولى - قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع) الباء في " بيوت " تضم وتكسر،
وقد تقدم (1). واختلف في الفاء من قوله: " في " فقيل: هي متعلقة ب‍ " مصباح ". وقيل:
ب‍ " يسبح له "، فعلى هذا التأويل يوقف على " عليم ". قال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس
يقول هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب، كأنه قال وهي في بيوت. وقال الترمذي الحكيم
محمد بن علي: " في بيوت " منفصل، كأنه يقول: الله في بيوت أذن الله أن ترفع، وبذلك
جاءت الاخبار أنه (من جلس في المسجد فإنه يجالس ربه). وكذا ما جاء في الخبر فيما يحكى
عن التوراة (أن المؤمن إذا مشى إلى المسجد قال الله تبارك اسمه عبدي زارني وعلى قراه
ولن أرضى له قرى دون الجنة). قال ابن الأنباري: إن جعلت " في " متعلقة ب‍ " - يسبح "
أو رافعة للرجال حسن الوقف على قوله " والله بكل شئ عليم " [البقرة: 282]. وقال الرماني: هي
متعلقة ب‍ " يوقد " وعليه فلا يوقف على " عليم ". فإن قيل: فما الوجه إذا كان البيوت
متعلقة ب‍ " يوقد " في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيوت؟ ولا يكون مشكاة واحدة
إلا في بيت واحد. قيل: هذا من الخطاب المتلون الذي يفتح: بالتوحيد ويختم بالجمع، كقوله
تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " (2) [الطلاق: 1] ونحوه. وقيل: رجع إلى كل واحد من البيوت. وقيل:
هو كقوله تعالى: " وجعل القمر فيهن نورا " (2) [نوح: 16] وإنما هو في واحدة منها. واختلف الناس
في البيوت هنا على خمسة أقوال: الأول - أنها المساجد المخصوصة لله تعالى بالعبادة، وأنها
تضئ لأهل السماء كما تضئ النجوم لأهل الأرض، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن.
الثاني - هي بيوت بيت المقدس، عن الحسن أيضا. الثالث - بيوت النبي صلى الله
عليه وسلم، عن مجاهد أيضا. الرابع - هي البيوت كلها، قاله عكرمة. وقوله: " يسبح له
فيها بالغدو والآصال " يقوي أنها المساجد. وقول خامس - أنها المساجد الأربعة التي

(1) راجع ج 2 ص 346.
(2) راجع ج 18 ص 147 فما بعد وص 304.
265

لم يبنها إلا نبي: الكعبة وبيت أريحا ومسجد المدينة ومسجد قباء، قاله ابن بريدة. وقد
تقدم ذلك في " براءة ".
قلت - الأظهر القول الأول، لما رواه أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (من أحب الله عز وجل فليحبني ومن أحبني فليحب أصحابي ومن أحب
أصحابي فليحب القرآن ومن أحب القرآن فليحب المساجد فإنها أفنية الله أبنيته أذن الله في رفعها
وبارك فيها ميمونة ميمون أهلها محفوظة محفوظ أهلها هم في صلاتهم والله عز وجل في حوائجهم
هم في مساجدهم والله من ورائهم).
الثانية - قوله تعالى (أذن الله أن ترفع) " أذن " معناه أمر وقضى. وحقيقة الاذن
العلم والتمكين دون حظر، فإن اقترن بذلك أمر وإنقاذ كان أقوى. و " ترفع " قيل: معناه
تبنى وتعلى، قاله مجاهد وعكرمة. ومنه قوله تعالى: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت " (2) [البقرة: 127]
وقال صلى الله عليه وسلم: (من بنى مسجدا من ماله بنى الله له بيتا في الجنة). وفي هذا
المعنى أحاديث كثيرة تحض على بنيان المساجد. وقال الحسن البصري وغيره: معنى " ترفع "
تعظم، ويرفع شأنها، وتطهر من الأنجاس والأقذار، ففي الحديث (إن المسجد لينزوي
من النجاسة كما ينزوي الجلد من النار). وروى ابن ماجة في سننه عن أبي سعيد الخدري قال
قال رسول الله: (من أخرج أذى من المسجد بنى الله له بيتا في الجنة).
وروي عن عائشة قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ
المساجد في الدور وأن تطهر وتطيب.
الثالثة - إذا قلنا: إن المراد بنيانها فهل تزين وتنقش؟ اختلف في ذلك، فكرهه قوم
وأباحه آخرون. فروى حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس، وقتادة عن أنس
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد).
أخرجه أبو داود. وفي البخاري - وقال أنس: (يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا). وقال

(1) راجع ج 8 ص 260.
(2) راجع ج 2 ص 120.
266

ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. وروى الترمذي الحكيم أبو عبد الله
في نوادر الأصول من حديث أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم). احتج من أباح ذلك بأن فيه تعظيم
المساجد والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله: " في بيوت أذن الله أن ترفع " يعنى تعظم. وروي
عن عثمان أنه بنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالساج (1) وحسنه. قال أبو حنيفة: لا بأس
بنقش المساجد بماء الذهب. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبي صلى الله عليه
وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه، وذلك في زمن ولايته قبل خلافته، ولم ينكر عليه أحد ذلك.
وذكر أن الوليد بن عبد الملك أنفق في عمارة مسجد دمشق وفي تزيينه مثل خراج الشام ثلاث
مرات. وروي أن سليمان بن داود عليهما [الصلاة و] (2) السلام بنى مسجد بيت المقدس
وبالغ في تزيينه.
الرابعة - ومما تصان عنه المساجد وتنزه عنه الروائح الكريهة والأقوال السيئة وغير
ذلك على ما نبينه، وذلك من تعظيمها. وقد صح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك: (من أكل من هذه الشجرة - يعنى
الثوم - فلا يأتين المساجد). وفي حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه سلم قال: (من
أكل من هذه البقلة الثوم) وقال مرة: (من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا
فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته:
(ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين ولا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من رجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع،
فمن أكلهما فليمتهما طبخا. خرجه مسلم في صحيحه. قال العلماء: وإذا كانت العلة في إخراجه
من المسجد أنه يتأذى به ففي القياس أن كل من تأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب
اللسان سفيها عليهم، أو كان ذا رائحة قبيحة لا تريمه (3) لسوء صناعته، أو عاهة مؤذية كالجذاء

(1) الساج: شجر يعظم جدا، لا ينبت ببلاد الهند، وخشبه رزين، لا تكاد الأرض تبليه.
(2) من ك.
(3) أي لا تفارقه.
267

وشبهه. وكل ما يتأذى به الناس كان لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة فيه حتى تزول.
وكذلك يجتنب مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها كمجالس العلم والولائم وما أشبهها،
من أكل الثوم وما في معناه، مما له رائحة كريهة تؤذي الناس. ولذلك جمع بين البصل والثوم
والكراث، وأخبر أن ذلك مما يتأذى به. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد شاهدت شيخنا
أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام رحمه الله أفتى في رجل شكاه جيرانه واتفقوا عليه أنه
يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده فشوور فيه، فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه،
وألا يشاهد (1) معهم الصلاة، إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه، فذاكرته يوما
أمره وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك وراجعته فيه القول، فاستدل بحديث الثوم، وقال:
هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد.
قلت: وفي الآثار المرسلة " إن الرجل ليكذب الكذبة فيتباعد الملك من نتن ريحه ".
فعلى هذا يخرج من عرف منه الكذب والتقول (2) بالباطل فإن ذلك يؤذي.
الخامسة - أكثر العلماء على أن المساجد كلها سواء، لحديث ابن عمر.
وقال بعضهم: إنما خرج النهى على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل جبريل عليه السلام
ونزوله فيه، ولقوله في حديث جابر: (فلا يقربن مسجدنا). والأول أصح، لأنه ذكر الصفة
في الحكم وهي المسجدية، وذكر الصفة في الحكم تعليل. وقد روى الثعلبي بإسناده عن أنس
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا
كأنها نجائب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك وأزمتها من
الزبرجد الأخضر وقوامها المؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز
عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون وأنبياء مرسلون
فينادي ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة
محمد صلى الله عليه وسلم). وفي التنزيل: " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله " (3) [التوبة: 18]. وهذا عام

(1) في ك: يشهد.
(2) في ك: والقول الباطل.
(3) راجع ج 8 ص 90.
268

في كل مسجد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له
بالايمان) إن الله تعالى يقول: " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ") [التوبة: 18]. وقد تقدم.
السادسة: وتصان (1) المساجد أيضا عن البيع والشراء وجميع الاشتغال، لقوله صلى
الله عليه وسلم للرجل الذي دعا إلى الجمل الأحمر (2): (لا وجد ت إنما بنيت المساجد لما بنيت
له). أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى
قام رجل فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وجدت
إنما بنيت المساجد لما بنيت له). وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير
الصلوات والأذكار وقراءة القرآن. وكذا جاء مفسرا من حديث أنس قال: بينما نحن في المسجد
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه دعوه) (3).
فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: (إن هذه المساجد
لا تصلح لشئ من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن).
أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه (4)
عليه. خرجه مسلم. ومما يدل على هذا من الكتاب قول الحق: " ويذكر فيها اسمه ". وقوله
صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن الحكم السلمي: (إن هذه المساجد (5) لا يصلح فيها شئ من كلام
الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن). أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث بطوله خرجه مسلم في صحيحه، وحسبك وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوت
رجل في المسجد فقال: ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت! وكان خلف بن أيوب جالسا
في مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شئ فقام وخرج من المسجد وأجابه، فقيل له في ذلك
فقال: ما تكلمت في المسجد بكلام الدنيا منذ كذا وكذا، فكرهت أن أتكلم اليوم.

(1) في ك: ويصان المسجد.
(2) أي من وجد ضالتي، وهو الجمل الأحمر فدعاني إليه.
(3) أ ي لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم البول (بالكسر) انقطع، وأرزمه غيره.
(4) الشن: الصب المنقطع، أي رشه عليه رشا متفرقا.
(5) الذي في صحيح مسلم: " إن هذه الصلاة... الخ ".
269

السابعة: روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تناشد الاشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن
يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة. قال: وفي الباب عن بريدة وجابر وأنس حديث عبد الله
بن عمر وحديث حسن. قال محمد بن إسماعيل: رأيت محمدا (1) وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون
بحديث عمرو بن شعيب. وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد، وبه يقول
أحمد وإسحاق. وروي أن عيسى ابن مريم عليهما السلام أتى على قوم يتبايعون في المسجد
فجعل رداءه مخراقا (2)، ثم جعل يسعى عليهم ضربا ويقول: يا أبناء الأفاعي، اتخذتم مساجد الله
أسواقا هذا سوق الآخرة.
قلت: وقد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد، ورأى أنه من باب البيع.
وهذا إذا كان بأجرة، فلو كان بغير أجرة لمنع أيضا من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرزون
عن الأقذار والوسخ، فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد أمر صلى الله عليه وسلم
بتنظيفها وتطييبها فقال: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وسل سيوفكم وإقامة حدودكم
ورفع أصواتكم وخصوماتكم وأجمروها في الجمع واجعلوا على أبوابها المطاهر). في إسناده
العلاء بن كثير الدمشقي مولى بني أمية، وهو ضعيف عندهم، ذكره أبو أحمد بن عدي
الجرجاني الحافظ. وذكر أبو أحمد أيضامن حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
صليت صليت العصر مع عثمان أمير المؤمنين فرأى خياطا في ناحية المسجد فأمر بإخراجه، فقيل له:
يا أمير المؤمنين، إنه يكنس المسجد ويغلق الأبواب ويرش أحيانا. فقال عثمان: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جنبوا صناعكم من مساجدكم). هذا حديث غير
محفوظ، في إسناده محمد بن مجيب الثقفي، وهو ذاهب الحديث.
قلت: ما ورد في هذا المعنى وإن كان طريقه لينا فهو صحيح معنى، يدل على صحته
ما ذكرناه قبل. قال الترمذي: وقد روي عن بعض أهل العالم من التابعين رخصة في البيع

(1) الذي في الترمذي: " أحمد ".
(2) المخراق: ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا.
270

والشراء في المسجد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث رخصة في إنشاد
الشعر في المسجد.
قلت: أما تناشد الاشعار فاختلف في ذلك، فمن مانع مطلقا، ومن مجيز مطلقا،
والأولى التفصيل، وهو أن ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضى الثناء على الله عز وجل أو على
رسوله صلى الله عليه وسلم أو الذب عنهما كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحض على الخير
والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها، فهو حسن في المساجد وغيرها، كقول القائل:
طوفي يا نفس كي أقصد فردا صمدا * وذريني لست أبغي غير ربى أحدا
فهو أنسى وجليسي ودعى الناس * فما إن تجدي من دونه ملتحدا (1)
وما لم يكن كذلك لم يجز، لان الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين
بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك، لقوله
تعالى: " في بيوت أذن الله أن ترفع ". وقد يجوز إنشاده في المسجد، كقول القائل:
كفحل العداب (2) القرد يضربه الندى * تعلى الندى في متنه وتحدرا
وقول الاخر:
إذا سقط السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا
فهذا النوع وإن لم يكن فيه حمد ولا ثناء يجوز، لأنه خال عن الفواحش والكذب. وسيأتي
ذكر الاشعار الجائزة وغيرها بما فيه كفاية في " الشعراء " إن شاء الله تعالى. وقد روي
الدارقطني من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكر الشعراء
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح). وفي الباب
عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكره في السنن.
قلت: وأصحاب الشافعي يأثرون هذا الكلام عن الشافعي وأنه لم يتكلم به غيره، وكأنهم
لم يقفوا على الأحاديث في ذلك. والله أعلم.

(1) من مجزوه الرمل وإنشاده: طوفي يا نفس كي * أقصد فردا صمدا.
(2) العداب (بالفتح
والدال المهملة): ما استرق من الرمل. وقيل: جانبه الذي يرق ويلي الجدد من الأرض. الواحد والجمع سواه؟.
271

الثامنة - وأما رفع الصوت فإن كان مما يقتضى مصلحة للرافع صوته دعي عليه بنقيض
قصده، لحديث بريرة المتقدم، وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا).
وإلى هذا ذهب مالك وجماعة، حتى كرهوا رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره. وأجاز
أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت في الخصومة والعلم، قالوا:
لأنهم لا بد لهم من ذلك. وهذا مخالف لظاهر الحديث، وقولهم: " لا بد لهم من ذلك "
ممنوع، بل لهم بد من ذلك لوجهين: أحدهما: بملازمة الوقار والحرمة، وبإحضار ذلك
بالبال والتحرز من نقيضه. والثاني: أنه إذا لم يتمكن من ذلك فليتخذ لذلك موضعا يخصه،
كما فعل عمر حيث بنى رحبة تسمى البطيحاء، وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا -
يعنى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فليخرج إلى هذه الرحبة. وهذا يدل على أن
عمر كان يكره إنشاد الشعر في المسجد، ولذلك بنى البطيحاء خارجه.
التاسعة - وأما النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء
ومن لا بيت له فجائز، لان في البخاري - وقال أبو قلابة عن أنس: قدم رهط من عكل
على النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا في الصفة (1)، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب
الصفة فقراء. وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له
في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. لفظ البخاري: وترجم (باب نوم المرأة في المسجد)
وأدخل حديث عائشة في قصة السوداء (2)، التي اتهمها أهلها بالوشاح، قالت عائشة: وكان لها
خباء في المسجد أو حفش...
(3) الحديث. ويقال: كان مبيت عطاء بن أبي رباح في المسجد
أربعين سنة.

(1) موضع مظلل في أخريات المسجد النبوي تأوى إليه المساكين.
(2) السوادء:...؟ سوداء
كانت لحى من العرب، فاتهموها بسرقة وشاح وطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها. قالت: والله إني لقائمة معهم
إذ مرت الحدياة فألقته بينهم... فجاءت إلى رسول الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد......
راجع صحيح البخاري (باب المساجد).
(3) الخباء: الخيمة من صوف أو وبر. والحفش (بكسر الحاء
وسكون الفاء): بيت صغير.
272

العاشرة - روى مسلم عن أبي حميد أو عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل
اللهم إني أسألك من فضلك). خرجه أبو داود كذلك، إلا أنه زاد بعد قوله: (إذا دخل
أحدكم المسجد: فليسلم وليصل (1) على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل اللهم افتح لي...)
الحديث. وروى ابن ماجة عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: (باسم الله والسلام على رسول الله اللهم
أغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال باسم الله والصلاة على رسول الله اللهم
اغفر لي ذنوبي وأفتح لي أبواب رحمتك وفضلك ". وروى عن أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم
وليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل
اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم). وخرج أبو داود عن حياة بن شريح قال: لقيت
عقبة بن مسلم فقلت له بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم
من الشيطان الرجيم) قال نعم. قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ منى سائر اليوم.
الحادية عشرة - روى مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى عليه وسلم قال:
(إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس) وعنه قال: دخلت المسجد
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس، قال فجلست فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس)؟ فقلت: يا رسول الله،
رأيتك جالسا والناس جلوس. قال: (فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع
ركعتين). قال العلماء: فجعل صلى الله عليه وسلم للمسجد مزية يتميز بها عن سائر البيوت،
وهو ألا يجلس حتى يركع. وعامة العلماء (2) على أن الامر بالركوع على الندب والترغيب.

(1) الذي في سنن أبي داود (فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم).
(2) في ك: الفقهاء.
273

وقد ذهب داود وأصحابه إلى أن ذلك على الوجوب، وهذا باطل، ولو كان الامر على ما قالوه
لحرم دخول المسجد على المحدث الحدث الأصغر حتى يتوضأ، ولا قائل به فيما أعلم، والله
أعلم. فإن قيل: فقد روى إبراهيم بن يزيد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة
عن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم
المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين وإذا دخل أحدكم بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين فإن الله
جاعل من ركعتيه في بيته خيرا)، وهذا يقتضى التسوية بين المسجد والبيت. قيل [له] (1):
هذه الزيادة في الركوع عند دخول البيت لا أصل لها، قال ذلك البخاري. وإنما يصح
في هذا حديث أبي قتادة الذي تقدم لمسلم، وإبراهيم هذا لا أعلم روى عنه إلا سعد
ابن عبد الحميد، ولا أعلم له إلا هذا الحديث الواحد، قاله أبو محمد عبد الحق.
الثانية عشرة - روى سعيد بن زبان حدثني أبي عن أبيه عن جده عن أبي هند رضي الله عنه
قال: حمل تميم - يعنى الداري - من الشام إلى المدينة قناديل وزيتا ومقطا، فلما
انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة فأمر غلاما يقال له أبو البزاد فقام فنشط (2) المقط وعلق
القناديل وصب فيها الماء والزيت وجحل فيها الفتيل، فلما غربت الشمس أمر أبا البزاد
فأسرجها، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا هو بها تزهر، فقال: (من
فعل هذا)؟ قالوا: تميم الداري يا رسول الله، فقال: (نورت الاسلام نور الله عليك في الدنيا
والآخرة أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها). قال نوفل بن الحارث: لي ابنة يا رسول الله
تسمى المغيرة بنت نوفل فافعل بها ما أردت، فأنكحه إياها. زبان (بفتح الزاي والباء وتشديدها
بنقطة واحدة من تحتها) ينفرد بالتسمي به سعيد وحده، فهو أبو عثمان سعيد بن زبان
ابن قائد بن زبان بن أبي هند، وأبو هند هذا مولى بنى (3) بياضة حجام النبي صلى الله عليه وسلم.
والمقط: جمع المقاط، وهو الحبل، فكأنه مقلوب القماط. والله أعلم. وروى ابن ماجة عن أبي
سعيد الخدري قال: أول من أسرج في المساجد تميم الداري. وروي عن أنس أن النبي

(1) من ب وك.
(2) نشط الحبل: ربطه.
(3) كذا في ب وك. وهو الصواب.
274

صلى الله عليه وسلم قال: (من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يصلون
عليه ويستغفرون له ما دام ذلك الضوء فيه وإن كنس غبار المسجد نقد الحور العين).
قال العلماء: ويستحب أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق القناديل ونصب الشموع
فيه، ويزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد.
الثالثة عشرة - قوله تعالى: (يسبح فيها بالغدو والآصال. رجال) اختلف العلماء
في وصف الله تعالى المسبحين، فقيل: هم المراقبون أمر الله، الطالبون رضاءه، الذين لا يشغلهم
عن الصلاة وذكر الله شئ من أمور الدنيا. وقال كثير من الصحابة: نزلت هذه الآية
في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا. ورأى سالم
ابن عبد الله أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال: هؤلاء الذين أراد الله بقوله: " لا تلهيهم
تجارة ولا بيع عن ذكر الله ". وروي ذلك عن ابن مسعود. وقرأ عبد الله بن عامر وعاصم
في رواية أبى بكر عنه والحسن " يسبح له فيها " بفتح الباء على ما لم يسم فاعله. وكان نافع
وابن عمر وأبو عمرو وحمزة يقرءون " يسبح " بكسر الباء، وكذلك روى أبو عمرو عن عاصم.
فمن قرأ " يسبح " بفتح الباء كان على معنيين: أحدهما أن يرتفع " رجال " بفعل مضمر
دل عليه الظاهر، بمعنى يسبحه رجال، فيوقف على هذا على " الآصال ". وقد ذكر سيبويه
مثل هذا. وأنشد:
ليبك يزيد ضارع لخصومة * ومختبط مما تطيح الطوائح (1)
المعنى: يبكيه ضارع. وعلى هذا تقول: ضرب زيد عمرو، على معنى ضربه عمرو.
والوجه الاخر - أن يرتفع " رجال " بالابتداء، والخبر " في بيوت "، أي في بيوت أذن
الله أن ترفع. رجال. و " يسبح له فيها " حال من الضمير في " ترفع "، كأنه قال: أن ترفع،

(1) اختلف في قائله، ونسبه صاحب الخزانة لنهشل بن حرى. وهذا البيت من أبيات في مرثية أخيه يزيد، ومطلعها:
لعمري لئن أمسى يزيد بن نهشل * حشا جدت تسفى عليه الروائح
وقوله: " ضارع " من الضراعة، وهو الخضوع والتذلل. و " المختبط " الذي يسألك من غير معرفة كانت بينكما،
وأراد به هنا المحتاج. و " تطيح " تذهب وتهلك. و " الطوائح " جمع مطيحة، وهي القواذف. و " الحشا.
ما في البطن. و " حديث " بفتح الجيم والثاء: القبر. و " الروامح ": الأيام الروائح.
275

مسبحا له فيها، ولا يوقف على " الآصال " على هذا التقدير. ومن قرأ " يسبح " بكسر
الباء لم يقف على " الآصال "، لان " يسبح " فعل للرجال، والفعل مضطر إلى فاعله
ولا إضمار فيه. وقد تقدم القول في " الغدو والآصال " في آخر " الأعراف " (1) والحمد لله وحده.
الرابعة عشرة - قوله تعالى: (يسبح له فيها) قيل: معناه يصلى. وقال ابن عباس:
كل تسبيح في القرآن صلاة، ويدل عليه قوله: " بالغدو والآصال "، أي بالغداة والعشي.
وقال أكثر المفسرين: أراد الصلاة المفروضة، فالغدو صلاة الصبح، والآصال صلاة الظهر
والعصر والعشائين، لان اسم الآصال يجمعها.
الخامسة عشرة - روى أبو داود عن أبي أمامة أن رسول الله صلى عليه وسلم قال:
(من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح
الضحا لا ينصبه إلا إياه فأجره المعتمر وصلاة على إثر صلاة [لا لغو بينهما] (2) كتاب
في عليين). وخرج عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشر المشائين في الظلم
إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح).
في غير الصحيح من الزيادة (كما أن أحدكم لو زار من يحب زيارته لاجتهد في كرامته)،
ذكره الثعلبي. وخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضى فريضة من فرائض
الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة). وعنه قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا
وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه (3) إلا الصلاة
لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل
المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على

(1) راجع ج ص 355 فما بعد.
(2) زيادة عن سنن أبي داود.
(3) النهز: الدفع.
276

أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم
يؤذ فيه ما لم يحدث فيه). في رواية: ما يحدث؟ قال: (يفسو أو يضرط). وقال
حكيم بن زريق: قيل لسعيد بن المسيب أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد؟
فقال: من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان، والجلوس في المسجد
أحب إلى، لان الملائكة تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه اللهم تب عليه. وروي عن
الحكم بن عمير صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(كونوا في الدنيا أضيافا واتخذوا المساجد بيوتا وعودوا قلوبكم الرقة وأكثروا التفكر والبكاء
ولا تختلف بكم الأهواء. تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون).
وقال أبو الدرداء لابنه: ليكن المسجد بيتك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (إن المساجد بيوت المتقين ومن كانت المساجد بيته ضمن الله تعالى له الروح
والراحة والجواز على الصراط). وكتب أبو صادق الأزدي إلى شعيب بن الحبحاب: أن
عليك بالمساجد فالزمها، فإنه بلغني أنها كانت مجالس الأنبياء. وقال أبو إدريس الخولاني:
المساجد مجالس الكرام من الناس. وقال مالك بن دينار: بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول:
(إني أهم بعذاب عبادي فأنظر إلى عمار المساجد وجلساء القرآن وولدان الاسلام فيسكن
غضبي). وروي عنه عليه السلام أنه قال: (سيكون في آخر الزمان رجال يأتون المساجد
فيقعدون فيها حلقا حلقا ذكرهم الدنيا وحبها فلا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة). وقال
ابن المسيب: من جلس في مسجد فإنما يجالس ربه، فما حقه أن يقول إلا خيرا. وقد مضى
من تعظيم المساجد وحرمتها ما فيه (1) كفاية. وقد جمع بعض العلماء في ذلك خمس عشرة خصلة،
فقال: من حرمة المسجد أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوسا، وإن لم يكن في المسجد
أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا
يشتري فيه ولا يبيع، ولا يسل فيه سهما ولا سيفا، ولا يطلب فيه ضالة، ولا يرفع فيه صوتا

(1) راجع ج 8 ص 90.
277

بغير ذكر الله تعالى، ولا يتكلم فيه بأحاديث الدنيا، ولا يتخطى رقاب الناس، ولا ينازع في المكان،
ولا يضيق على أحد في الصف، ولا يمر بين يدي مصل، ولا يبصق، ولا يتنخم، ولا يتمخط
فيه، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشئ من جسده، وأن ينزه عن النجاسات والصبيان والمجانين،
وإقامة الحدود، وأن يكثر ذكر الله تعالى ولا يغفل عنه. فإذا فعل هذه الخصال فقد أدى
حق المسجد، وكان المسجد حرزا له وحصنا من الشيطان الرجيم. وفي الخبر (أن مسجدا ارتفع
بأهله إلى السماء يشكوهم إلى الله لما يتحدثون فيه من أحاديث الدنيا). وروي الدارقطني
عن عامر الشعبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتراب الساعة أن يرى
الهلال قبلا (1) فيقال لليلتين وأن تتخذ المساجد طرقا وأن يظهر موت الفجأة). هذا يرويه
عبد الكبير بن المعافى عن شريك عن العباس بن ذريح عن الشعبي عن أنس. وغيره يرويه
عن الشعبي مرسلا، والله أعلم. وقال أبو حاتم: عبد الكبير بن معافى ثقة كان يعد من
الابدال (2). وفي البخاري عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مر في شئ
من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلما). وخرج مسلم عن
أنس قال قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: (البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها).
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت على أعمال أمتي حسنها وسيئها
فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة (3) تكون
في المسجد لا تدفن). وخرج أبو داود عن الفرج بن فضالة عن أبي سعد (4) الحميري قال:
رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق بصق على الحصير ثم مسحه برجله، فقيل له:
لم فعلت هذا؟ قال: لأني رأيت رسول الله صلى عليه وسلم يفعله. فرج بن فضالة ضعيف،
وأيضا فلم يكن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حصر. والصحيح أن رسول الله صلى

(1) قال ابن الأثير: " أي يرى ساعة ما يطلع لعظمه ووضوحه من أن يتطلب. وهو بفتح القاف والباء ".
(2) الابدال: قوم من الصالحين، بهم يقيم الله الأرض: أربعون في الشام وثلاثون في سائر البلاد، لا يموت
منهم أحد إلا قام مكانه آخر، فلذلك سموا أبدالا. وواحد الابدال العباد بدل وبدل. وقال ابن دريد: الواحد بديل.
(3) النخاعة، النخامة.
(4) في الأصول: " عن أبي سعيد الخدري " وهو تحريف، لان فرج
ابن فضالة لم يرو عن أبي سعيد الخدري، وإنما روى عن أبي سعد الحميري، وأبو سعد هذا صاحب واثلة بن الأسقع.
278

الله عليه وسلم إنما بصق على الأرض ودلكه بنعله اليسرى، ولعل واثلة إنما أراد هذا فحمل
الحصير عليه.
السادسة عشرة - لما قال تعالى: " رجال " وخصهم بالذكر دل على أن النساء لا حظ
لهن في المساجد، إذ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وأن صلاتهن في بيوتهن أفضل. روى أبو داود
عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل
من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها).
السابعة عشرة - قوله تعالى: " لا تلهيهم " أي لا تشغلهم.
(تجارة ولا بيع عن ذكر الله)
خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الانسان عن الصلاة. فإن قيل: فلم كرر ذكر
البيع والتجارة تشمله؟ قيل له: أراد بالتجارة الشراء لقوله: " ولا بيع ". نظيره قول تعالى:
" وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " (1) [الجمعة: 11] قاله الواقدي. وقال الكلبي: التجار هم الجلاب
المسافرون، والباعة هم المقيمون. (عن ذكر الله) اختلف في تأويله، فقال عطاء: يعنى
حضور الصلاة، وقال ابن عباس، وقال: المكتوبة. وقيل: عن الاذان، ذكره يحيى بن سلام.
وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى، أي يوحدونه ويمجدونه. والآية نزلت في أهل الأسواق،
قاله ابن عمر. قال سالم: جاز عبد الله بن عمر بالسوق وقد أغلقوا حوانيتهم وقاموا ليصلوا
في جماعة فقال: فيهم نزلت: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع " الآية. وقال أبو هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم: (هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله). وقيل:
إن رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما بياعا فإذا سمع النداء بالصلاة فإن
كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وضعا، وإن كان بالأرض لم يرفعه. وكان الاخر قينا
يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة، وإن كان قد
رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الاذان، فأنزل الله تعالى هذا ثناء عليهما وعلى كل من
افتدى بهما.

(1) راجع ج 18 ص 97.
279

الثامنة عشرة - قوله تعالى: (وإقام الصلاة) هذا يدل على أن المراد بقوله: " عن ذكر
الله " غير الصلاة، لأنه يكون تكرارا. يقال: أقام الصلاة إقامة، والأصل إقواما فقلبت
حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وبعدها ألف ساكنة فحذفت إحداهما، وأثبتت الهاء
لئلا تحذفها فتجحف، فلما أضيفت قام المضاف مقام الهاء فجاز حذفها، وإن لم تضف لم يجز
حذفها، ألا ترى أنك تقول: وعد عدة، ووزن زنة، فلا يجوز حذف الهاء، لأنك قد حذفت
واوا، لان الأصل وعد وعدة، ووزن وزنة، فإن أضفت حذفت الهاء، وأنشد الفراء:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا * وأخلفوك عد الامر الذي وعدوا
يريد عدة، فحذف الهاء لما أضاف. وروي من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها
من الزعفران ورؤوسها من المسك وأزمتها من الزبرجد الأخضر وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها
وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل
الموقف هؤلاء ملائكة مقربون أو أنبياء مرسلون فينادى ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم
أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم). وعن علي رضي الله عنه
أنه قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى من الاسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه،
يعمرون مساجدهم وهي من ذكر الله خراب، شر أهل ذلك الزمن علماؤهم، منهم تخرج الفتنة
وإليهم تعود، يعنى أنهم يعلمون ولا يعملون بواجبات ما علموا.
التاسعة عشرة - قوله تعالى: (وإيتاء الزكاة) قيل: الزكاة المفروضة، قاله الحسن.
وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة الله تعالى والاخلاص، إذ ليس لكل مؤمن مال.
(يخافون يوما) يعنى يوم القيامة.
(تتقلب فيه القلوب والابصار) يعنى من هوله وحذر
الهلاك. والتقلب التحول، والمراد قلوب الكفار وأبصارهم. فتقلب القلوب انتزاعها من
أماكنها إلى الحناجر، فلا هي ترجع إلى أماكنها ولا هي تخرج. وأما تقلب الابصار فالزرق
بعد الكحل والعمى بعد البصر. وقيل: تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من
280

الهلاك، والابصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم، وإلى أي ناحية يؤخذ بهم.
وقيل: إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك، وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين،
وذلك مثل قول تعالى: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " (1) [ق: 22] فما كان يراه في الدنيا
غيا يراه رشدا، إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة. وقيل: تقلب على جمر جهنم كقوله
تعالى: " يوم تقلب وجوههم في النار " (2) [الأحزاب: 66]، " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم " (3) [الانعام: 110]. في قول من جعل
المعنى تقلبها على لهب النار. وقيل: تقلب بأن تلفحها النار مرة وتنضجها مرة. وقيل: إن
تقلب القلوب وجيبها (4)، وتقلب الابصار النظر بها إلى نواحي الأهوال. (ليجزيهم الله أحسن
ما عملوا) فذكر الجزاء على الحسنات، ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازي عليها
لامرين: أحدهما - أنه ترغيب، فاقتصر على ذكر الرغبة. الثاني - أنه في صفة قوم
لا تكون منهم الكبائر، فكانت صغائرهم مغفورة. (ويزيدهم من فضله) يحتمل وجهين:
أحدهما - ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها. الثاني - ما يتفضل به من غير جزاء.
(والله يرزق من يشاء بغير حساب) أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، إذ لا نهاية
لعطائه. وروي أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد قباء،
فحضر عبد الله بن رواحة فقال: يا رسول الله، قد أفلح من بنى المساجد؟ قال: (نعم
يا بن رواحة) قال: وصلى فيها قائما وقاعدا؟ قال: (نعم يا بن رواحة) قال: ولم يبت
لله إلا ساجدا؟ قال: (نعم يا بن رواحة. كف عن السجع فما أعطى عبد شيئا شرا من طلاقة
في لسانه)، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: والذين كفروا أعملهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن
ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفه حسابه والله
سريع الحساب (39)

(1) راجع ج 17 ص 15.
(2) راجع ج 14 ص 249.
(3) راجع ج 7 ص 65.
(4) وجب القلب وجيبا: اضطرب.
281

قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) لما ضرب مثل المؤمن ضرب
مثل الكافر. قال مقاتل: نزلت في شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، كان يترهب متلمسا للدين،
فلما خرج صلى الله عليه وسلم كفر. أبو سهل: في أهل الكتاب. الضحاك: في أعمال الخير
للكافر، كصلة الرحم ونفع الجيران. والسراب: ما يرى نصف النهار في اشتداد الحر،
كالماء في المفاوز يلتصق بالأرض. والآل الذي يكون ضحا كالماء إلا أنه يرتفع عن الأرض
حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء. وسمى السراب سرابا لأنه يسرب أي يجري كالماء.
ويقال: سرب الفحل أي مضى وسار في الأرض. ويسمى الآل أيضا، ولا يكون إلا في البرية
والحر فيغتر به العطشان. قال الشاعر:
فكنت كمهريق الذي في سقائه * لرقراق آل فوق رابية صلد
وقال آخر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودهم * كلمع سراب بالفلا متألق
وقال امرؤ القيس:
ألم أنض المطي بكل خرق * أمق الطول لماع السراب (1)
والقيعة جمع القاع، مثل جيرة وجار، قاله الهروي وقال أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد، حكاه
النحاس. والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب.
وأصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء، وجمعه قيعان. قال الجوهري:
والقاع المستوي من الأرض، والجمع أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها،
والقيعة مثل القاع، وهو أيضا من الواو. وبعضهم يقول: هو جمع. (يحسبه الظمآن)
أي العطشان. (ماء) أي يحسب السراب ماء. (حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) مما قدره
ووجد أرضا لا ماء فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار، يعولون على ثواب أعمالهم فإذا

(1) في الأصول: " طويل الطول " والتصويب عن ديوان امرئ القيس. والأمق: الطويل. قال الوزير
أبو بكر عاصم بن أيوب (شارح الديوان): وفى البيت ما يسأل عمه من طريق العربية، وهو إضافة " أمق " إلى " الطول ".
فيتوهم أنه من إضافة الشئ إلى نفسه، لان الأمق هو الطويل، وليس على ما يتوهم، إنما هو كما تقول: " بعيد البعد ".
282

قدموا على الله تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر، أي لم يجدوا شيئا كما لم يجد صاحب
السراب إلا أرضا لا ماء فيها، فهو يهلك أو يموت. (ووجد الله عنده) أي وجد الله
بالمرصاد. (فوفاه حسابه) أي جزاء عمله. قال امرؤ القيس:
فولى مدبرا يهوي حثيثا * وأيقن أنه لاقى الحسابا
وقيل: وجد وعد الله بالجزاء على عمله. وقيل: وجد أمر الله عند حشره، والمعنى متقارب.
وقرئ " بقيعات ". المهدوي: ويجوز أن تكون الألف مشبعة من فتحة العين. ويجوز
أن تكون مثل رجل عزه وعزهاة، للذي لا يقرب النساء. ويجوز أن يكون جمع قيعة،
ويكون على هذا بالتاء في الوصل والوقف. وروى عن نافع وابن جعفر وشيبة " الظلمان "
بغير همز، والمشهور عنهما الهمز، يقال: ظمئ يظمأ ظمأ فهو ظمآن، وإن خففت الهمزة
قلت: الظمآن. وقوله: " والذين كفروا " ابتداء " أعمالهم " بدلا من " الذين
كفروا "، أي وأعمال الذين كفروا كسراب، فحذف المضاف.
قوله تعالى: أو كظلمات في بحر لجئ يغشه موج من فوقه موج
من فوقه سحاب ظلمت بعضها فوق بعض إذا يده لم يكد
يريها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (40)
قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجئ) ضرب تعالى مثلا آخر للكفار، أي أعمالهم
كسراب بقيعة أو كظلمات. قال الزجاج: إن شئت مثل بالسراب وإن شئت مثل
بالظلمات، ف‍ " - أو " للإباحة حسبما تقدم من القول في " أو كصيب " (1) [البقرة: 19]. وقال الجرجاني:
الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، والثانية في ذكر كفرهم، ونسق الكفر على أعمالهم لان
الكفر أيضا من أعمالهم، وقد قال تعالى: " يخرجهم من الظلمات إلى (2) النور " [البقرة: 257] أي من الكفر

(1) راجع ج 1 ص 215.
(2) راجع ج 3 ص 282.
283

إلى الايمان. وقال أبو على: " أو كظلمات " أو كذي ظلمات، ودل على هذا المضاف قوله
تعالى: " إذا أخرج يده " فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. قال القشيري: فعند الزجاج
التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجرجاني لكفر الكافر، وعند أبى على للكافر.
وقال ابن عباس في رواية: هذا مثل قلب الكافر. (في بحر لجئ) قيل: هو منسوب
إلى اللجة، وهو الذي لا يدرك قعره. واللجة معظم الماء، والجمع لجج. والتج البحر إذا تلاطمت
أمواجه، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ركب البحر إذا التج
فقد برئت منه الذمة). والتج الامر إذا عظم واختلط. وقوله تعالى: " حسبته لجة " (1) [النمل: 44]
أي ماله عمق. ولججت السفينة أي خاضت اللجة (بضم اللام). فأما اللجة (بفتح اللام)
فأصوات الناس، يقول: سمعت لجة الناس، أي أصواتهم وصخبهم. قال أبو النجم:
* في لجة أمسك فلانا عن فل *
والتجت الأصوات أي اختلطت وعظمت. (يغشاه موج) أي يعلو ذلك البحر اللجي
موج. (من فوقه موج) أي من فوق الموج موج، ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب،
فيجتمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب. وقيل: المعنى يغشاه موج من بعده
موج، فيكون المعنى: الموج يتبع بعضه بعضا حتى كأن بعضه فوق بعض، وهو أخوف
ما يكون إذا توالى موجه وتقارب، ومن فوق هذا الموج سحاب. وهو أعظم للخوف من
وجهين: أحدهما - أنه قد غطى النجوم التي يهتدي بها. الثاني - الريح التي تنشأ
مع السحاب والمطر الذي ينزل منه. (ظلمات بعضها فوق بعض) قرأ ابن محيصن والبزي
عن ابن كثير " سحاب ظلمات " بالإضافة والخفض. قنبل " سحاب " منونا " ظلمات "
بالجر والتنوين. الباقون بالرفع والتنوين. قال المهدوي: من قرأ " من فوقه سحاب ظلمات "
بالإضافة فلان السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات فأضيف إليها، كما يقال: سحاب رحمة
إذا ارتفع في وقت المطر. ومن قرأ " سحاب ظلمات " جر " ظلمات " على التأكيد ل‍ " - ظلمات "

(1) راجع ج 13 ص 208.
284

الأولى أو البدل منها. و " سحاب " ابتداء و " من فوقه " الخبر. ومن قرأ " سحاب
ظلمات " فظلمات خبر ابتداء محذوف، التقدير: هي ظلمات أو هذه ظلمات. قال
ابن الأنباري: " من فوقه موج " غير تام، لان قوله " من فوقه سحاب " صلة للموج، والوقف:
على قوله " من فوقه سحاب " حسن، ثم تبتدئ " ظلمات بعضها فوق بعض " على معنى
هي ظلمات بعضها فوق بعض. وروي عن أهل مكة أنهم قرأوا " ظلمات " على معنى
أو كظلمات ظلمات بعضها فوق بعض، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على السحاب.
ثم قيل: المراد بهذه الظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة الليل وظلمة البحر،
فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا ولا كوكبا. وقيل: المراد بالظلمات الشدائد،
أي شدائد بعضها فوق بعض. وقيل: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجي قلبه،
وبالموج فوق الموج، ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرين والختم والطبع
على قلبه. روي معناه عن ابن عباس وغيره، أي لا يبصر بقلبه نور الايمان، كما أن صاحب
الظلمات في البحر إذا أخرج يده لم يكد يراها. وقال أبي بن كعب: الكافر يتقلب في خمس
من الظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم
القيامة إلى الظلمات في النار وبئس المصير. (إذا أخرج يده) يعنى الناظر. (لم يكد يراها)
أي من شدة الظلمات. قال الزجاج وأبو عبيدة: المعنى لم يرها ولم يكد، وهو معنى قول
الحسن. ومعنى " لم يكد " لم يطمع أن يراها. وقال الفراء: كاد صلة، أي لم يرها،
كما تقول: ما كدت أعرفه. وقال المبرد: يعنى لم يرها إلا من بعد الجهد، كما تقول:
ما كدت أراك من الظلمة، وقد رآه بعد يأس وشدة. وقيل: معناه قرب من الرؤية ولم ير
كما يقال: كاد العروس يكون أميرا، وكاد النعام يطير، وكاد المنتعل يكون راكبا. النحاس:
وأصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها، فإذا لم يقارب رؤيتها فلم يرها رؤية بعيدة
ولا قريبة. (ومن لم يجعل الله نورا) يهتدي به أظلمت عليه الأمور. وقال ابن عباس:
أي من لم يجعل الله له دينا فما له من دين، ومن لم يجعل الله له نورا يمشى به يوم القيامة لم يهتد
285

إلى الجنة، كقوله تعالى: " ويجعل لكم نورا تمشون به " (1) [الحديد: 28]. وقال الزجاج: ذلك في الدنيا
والمعنى: من لم يهده الله لم يهتد. وقال مقاتل بن سليمان: نزلت في عتبة بن ربيعة، كان
يلتمس الدين في الجاهلية، ولبس المسوح، ثم كفر في الاسلام. الماوردي: في شيبة
ابن ربيعة، وكان يترهب في الجاهلية ويلبس الصوف ويطلب الدين، فكفر في الاسلام.
قلت: وكلاهما مات كافرا، فلا يبعد أن يكونا هما المراد بالآية وغيرهما. وقد قيل:
نزلت في عبد الله بن جحش، وكان أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة ثم تنصر بعد إسلامه. وذكر
الثعلبي: وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلقني من نور وخلق
أبا بكر من نوري وخلق عمر وعائشة من نور أبى بكر وخلق المؤمنين من أمتي من نور عمر وخلق
المؤمنات من أمتي من نور عائشة فمن لم يحبني ويحب أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور).
فنزلت: " ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ".
قوله تعالى: ألم تر أن الله يسبح له في السماوات والأرض
والطير صفت كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون (41)
ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير (42)
قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات) لما
ذكر وضوح الآيات زاد في الحجة والبينات، وبين أن مصنوعاته تدل بتغييرها على أن لها صانعا
قادرا على الكمال، فله بعثة الرسل، وقد بعثهم وأيدهم بالمعجزات، وأخبروا بالجنة والنار.
والخطاب في " ألم تر " للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: ألم تعلم، والمراد الكل. (أن الله
يسبح له من في السماوات) من الملائكة. (والأرض) من الجن والإنس. (والطير
صافات) قال مجاهد وغيره: الصلاة للانسان والتسبيح لما سواه من الخلق. وقال سفيان:
للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود. وقيل: إن ضربها بأجنحتها صلاة، وإن أصواتها

(1) راجع ج 17 ص 266.
286

تسبيح، حكاه النقاش. وقيل: التسبيح هاهنا ما يرى في المخلوق من أثر الصنعة. ومعنى
" صافات " مصطفات الأجنحة في الهواء. وقرأ الجماعة " والطير " بالرفع عطفا على " من "
وقال الزجاج: ويجوز " والطير " بمعنى مع الطير. قال النحاس: وسمعته يخبر " قمت وزيدا "
بمعنى مع زيد. قال: وهو أجود من الرفع. قال: فإن قلت قمت أنا وزيد، كان الأجود
الرفع، ويجوز النصب. (كل قد علم صلاته وتسبحه) يجوز أن يكون المعنى: كل قد
علم الله صلاته وتسبيحه، أي علم صلاة المصلى وتسبيح المسبح. ومن هذه الجهة يجوز نصب " كل "
عند البصريين والكوفيين بإضمار فعل يفسره ما بعده. وقد قيل: المعنى قد علم كل مصل
ومسبح صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلفه. وقرأ بعض الناس " كل قد علم صلاته وتسبيحه "
غير مسمى الفاعل. وذكر بعض النحويين أن بعضهم قرأ " كل قد علم صلاته وتسبيحه "،
فيجوز أن يكون تقديره: كل قد علمه الله صلاته وتسبيحه. ويجوز أن يكون المعنى:
كل قد علم غيره صلاته وتسبيحه، أي صلاة نفسه، فيكون التعليم الذي هو الافهام والمراد
الخصوص، لان من الناس من لم يعلم. ويجوز أن يكون المعنى كل قد استدل منه المستدل،
فعبر عن الاستدلال بالتعليم، قاله المهدوي. والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر تأكيدا، كقوله
" يعلم السر والنجوى ". والصلاة قد تسمى تسبيحا، قاله القشيري. (ولله ملك السماوات
والأرض وإلى الله المصير) تقدم في غير موضع.
قوله تعالى: ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله
ركاما فترى الودق يخرج من خلله وينزل من السماء من جبال
فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا
برقه يذهب بالأبصار (43) يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك
لعبرة لأولي الأبصار (44)
287

قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحابا) ذكر من حججه شيئا آخر، أي ألم تر بعيني
قلبك. (يزجي سحابا) أي يسوق إلى حيث يشاء. والريح تزجي السحاب، والبقرة تزجي
ولدها أي تسوقه. ومنه زجا الخراج يزجو زجاء (ممدودا) إذا تيسرت جبايته. وقال النابغة:
إني أتيتك من أهلي ومن وطني * أزجى حشاشة نفس ما بها رمق
وقال أيضا:
أسرت عليه من الجوزاء سارية * تزجي الشمال عليه جامد البرد
(ثم يؤلف بينه) أي يجمعه عند انتشائه، ليقوى ويتصل ويكثف. والأصل في التأليف
الهمز، تقول: تألف. وقرئ " يؤلف " بالواو تخفيفا. والسحاب واحد في اللفظ، ولكن
معناه جمع، ولهذا قال: " ينشئ السحاب " (1) [الرعد: 12]. و " بين " لا يقع إلا لاثنين فصاعدا، فكيف
جاز بينه؟ فالجواب أن " بينه " هنا لجماعة السحاب، كما تقول: الشجر قد جلست بينه لأنه
جمع، وذكر الكناية على اللفظ، قال معناه الفراء. وجواب آخر - وهو أن يكون السحاب
واحدا فجاز أن يقال بينه لأنه مشتمل على قطع كثيرة، كما قال:
*... بين الدخول فحومل *
فأوقع " بين " على الدخول، وهو واحد لاشتماله على مواضع. وكما تقول: ما زلت أدور بين الكوفة
لان الكوفة أماكن كثيرة، قال الزجاج وغيره. وزعم الأصمعي أن هذا لا يجوز، وكان يروى:
*... بين الدخول وحومل *
(ثم يجعله ركاما) أي مجتمعا، يركب بعضه بعضا، كقوله تعالى: " وإن يروا كسفا من
السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم " (2) [الطور: 44]. والركم جمع الشئ، يقال منه: ركم الشئ يركمه ركما
إذا جمعه وألقى بعضه على بعض. وارتكم الشئ وتراكم إذا اجتمع. والركمة الطين المجموع.
والركام: الرمل المتراكم. وكذلك السحاب وما أشبهه. ومرتكم الطريق (بفتح الكاف)
جادته. (فترى الودق يخرج من خلاله) في " الودق " قولان: أحدهما - أنه البرق،
قاله أبو الأشهب العقيلي. ومنه قول الشاعر:
أثرنا عجاجة وخرجن منها * خروج الودق من خلل السحاب

(1) راجع ج 9 ص 295.
(2) راجع ج 17 ص 77.
288

الثاني - أنه المطر، قاله الجمهور. ومنه قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها * ولا أرض أبقل إبقالها
وقال امرؤ القيس:
فدمعهما ودق وسح وديمة * وسكب وتوكاف وتنهملان
يقال: ودقت السحابة فهي وادقة. وودق المطر يدق ودقا، أي قطر. وودقت إليه
دنوت منه. وفي المثل: ودق العير (1) إلى الماء، أي دنا منه. يضرب لمن خضع للشئ لحرصه
عليه. والموضع مودق. وودقت [به] ودقا استأنست به. ويقال لذات الحافر إذا أرادت
الفحل: ودقت تدق ودقا، وأودقت واستودقت. وأتان ودوق وفرس ودوق، ووديق أيضا،
وبها وداق. والوديقة: شدة الحر. وخلال جمع خلل، مثل الجبل والجبال، وهي فرجه
ومخارج القطر منه. وقد تقدم في " البقرة " (2) أن كعبا قال: إن السحاب غربال المطر، لولا
السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. وقرأ ابن عباس والضحاك
وأبو العالية: " من خلله " على التوحيد. وتقول: كنت في خلال القوم، أي وسطهم.
(وينزل من السماء من جبال فيها من برد) قيل: خلق الله في السماء جبالا من برد، فهو ينزل
منها بردا، وفيه إضمار، أي ينزل من جبال البرد بردا، فالمفعول محذوف. ونحو هذا قول
الفراء، لان التقدير عنده: من جبال برد، فالجبال عنده هي البرد. و " برد " في موضع
خفض، ويجب أن يكون على قوله المعنى: من جبال برد فيها، بتنوين جبال. وقيل:
إن الله تعالى خلق في السماء جبالا فيها برد، فيكون التقدير: وينزل من السماء من جبال فيها
برد. و " من " صلة. وقيل: المعنى وينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من برد
إلى الأرض، ف‍ " - من " الأولى للغاية لان ابتداء الانزال من السماء، والثانية للتبعيض، لان
البرد بعض الجبال، والثالثة لتبيين الجنس، لان جنس تلك الجبال من البرد. وقال الأخفش:
إن " من " في الجبال و " برد " زائدة في الموضعين، والجبال والبرد في موضع نصب، أي ينزل
من السماء بردا يكون كالجبال. والله أعلم.
(فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء)

(1) في ب وج‍ وك: البعير. ولعلها رواية في المثل أو تحريف الناسخ.
(2) راجع ج 2 ص 201.
(19 - 12)
289

فتكون إصابته نقمة، وصرفه نعمة. وقد مضى في " البقرة " (1). و " الرعد " (2) أن من قال حين
يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك
الرعد. (يكاد سنا برقه) أي ضوء ذلك البرق الذي في السحاب (يذهب بالابصار)
من شدة بريقه وضوئه. قال الشماخ:
وما كادت إذا رفعت سناها * ليبصر ضوءها إلا البصير
وقال امرؤ القيس:
يضئ سناه أو مصابيح راهب * أهان السليط في الذبال المفتل
فالسنا (مقصور) ضوء البرق. والسنا أيضا نبت يتداوى به. والسناء من الرفعة ممدود. وكذلك
قرأ طلحة بن مصرف " سناء " بالمد على المبالغة من شدة الضوء والصفاء، فأطلق عليه اسم
الشرف. قال المبرد: السنا (مقصور) وهو اللمع، فإذا كان من الشرف والحسب فهو ممدود،
وأصلهما واحد وهو الالماع (4). وقرأ طلحة بن مصرف: " سناء برقه " قال أحمد بن يحيى:
وهو جمع برقة. قال النحاس: البرقة المقدار من البرق، والبرقة المرة الواحدة. وقرأ الجحدري
وابن القعقاع: " يذهب بالابصار " بضم الياء وكسر الهاء، من الا ذهاب، وتكون الباء
في " بالابصار " صلة زائدة. الباقون " يذهب بالابصار " بفتح الياء والهاء، والباء للالصاق.
والبرق دليل على تكاثف السحاب، وبشير بقوة المطر، ومحذر من نزول الصواعق. (يقلب الله
الليل والنهار) قيل: تقليبهما أن يأتي بأحدهما بعد الاخر. وقيل: تقليبهما نقصهما وزيادتهما
وقيل: هو تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى، وكذا الليل مرة بظلمة
السحاب ومرة بضوء القمر، قاله النقاش. وقيل: تقليبهما باختلاف ما يقدر فيهما من خير
وشر ونفع وضر. (إن في ذلك) أي في الذي ذكرناه من تقلب الليل والنهار، وأحوال المطر
والصيف والشتاء (لعبرة) أي اعتبارا (لأولي الابصار) أي لأهل البصائر من خلقي.

(1) راجع ج 1 ص 218.
(2) راجع ج 9 ص 298.
(3) السليط: الزيت. والذبال: جمع ذبالة، وهي الفنيلة.
(4) كذا في ب وج‍ وك.
290

قوله تعالى: والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشى على
بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع يخلق
الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير (45) لقد أنزلنا آيات
مبينات والله يهدى من يشاء إلى صرط مستقيم (46)
قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء) قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة
والكسائي " والله خالق كل " بالإضافة. الباقون " خلق " على الفعل. قيل: إن المعنيين
في القراءتين صحيحان. أخبر الله عز وجل بخبرين، ولا ينبغي أن يقال في هذا: إحدى
القراءتين أصح من الأخرى. وقد قيل: إن " خلق " لشئ مخصوص، وإنما يقال خالق
على العموم، كما قال الله عز وجل: " الخالق البارئ " (1) [الحشر: 24]. وفي الخصوص " الحمد لله
الذي خلق السماوات والأرض " (2) [الانعام: 1] وكذا: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة " (3) [الأعراف: 189]. فكذا يجب
أن يكون: " والله خلق كل دابة من ماء ". والدابة كل ما دب على وجه الأرض من
الحيوان، يقال: دب يدب فهو داب، والهاء للمبالغة. وقد تقدم في " البقرة " (4) (من
ماء) لم يدخل في هذا الجن والملائكة، لأنا لم نشاهدهم، ولم يثبت أنهم خلقوا من ماء، بل
في الصحيح (إن الملائكة خلقوا من نور والجن خلقوا (5) من نار). وقد تقدم (6). وقال المفسرون:
" من ماء " أي من نطفة. قال النقاش: أراد أمنية الذكور. وقال جمهور النظرة: أراد
أن خلقة كل حيوان فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين، وعلى هذا يتخرج قول النبي صلى
الله عليه وسلم للشيخ الذي سأله في غزاة بدر: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(نحن من ماء). الحديث. وقال قوم: لا يستثنى الجن والملائكة، بل كل حيوان خلق من
الماء، وخلق النار من الماء، وخلق الريح من الماء، إذ أول ما خلق الله تعالى من العالم
الماء، ثم خلق منه كل شئ.

(1) راجع ج 18 ص 48.
(2) راجع ج 6 ص 383.
(3) راجع ج 7 ص 337.
(4) راجع ج 2 ص 196.
(5) من ك.
(6) راجع ج 10 ص 23 فما بعد.
291

قلت: ويدل على صحة هذا قوله تعالى: " فمنهم من يمشى على بطنه) المشي على البطن
للحيات والحوت، ونحوه من الدود وغيره. وعلى الرجلين للانسان والطير إذا مشى. والأربع
لسائر الحيوان. وفي مصحف أبى " ومنهم من يمشى على أكثر "، فعم بهذه الزيادة جميع
الحيوان كالسرطان والخشاش، ولكنه قرآن لم يثبته إجماع، لكن قال النقاش: إنما اكتفى
في القول بذكر ما يمشى على أربع عن ذكر ما يمشى على أكثر، لان جميع الحيوان إنما اعتماده
على أربع، وهي قوام مشيه، وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في خلقته، لا يحتاج ذلك الحيوان
في مشيه إلى جميعها. قال ابن عطية: والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا بل هي
محتاج إليها في تنقل الحيوان، وهي كلها تتحرك (1) في تصرفه. وقال بعضهم: ليس في الكتاب
ما يمنع من المشي على أكثر من أربع، إذ لم يقل ليس منها ما يمشى على أكثر من أربع.
وقيل فيه إضمار: ومنهم من يمشى على أكثر من أربع، كما وقع في مصحف أبى. والله أعلم.
و " دابة " تشمل من يعقل وما لا يعقل، فغلب من يعقل لما اجتمع مع من لا يعقل، لأنه
المخاطب والمتعبد، ولذلك قال " فمنهم ". وقال: " من يمشى " فأشار بالاختلاف إلى ثبوت
الصانع، أي لولا أن للجميع صانعا مختارا لما اختلفوا، بل كانوا من جنس واحد، وهو
كقوله: " يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في (2) ذلك لايات ". [الرعد: 4].
(يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ) مما يريد خلقه (قدير).
(لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) تقدم بيانه
في غير موضع.
قوله تعالى: ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق
منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (47)

(1) في ك: تتصرف وتتحرك.
(2) راجع ج 9 ص 281.
292

قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول) يعنى المنافقين، يقولون بألسنتهم آمنا
بالله وبالرسول من غير يقين ولا إخلاص. (وأطعنا) أي ويقولون، وكذبوا. (ثم يتولى
فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين).
قوله تعالى: وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق
منهم معرضون (48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49)
أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله
بل أولئك هم الظالمون (50)
فيه أربع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) قال الطبري وغيره:
إن رجلا من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض، فدعاه
اليهودي إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافق مبطلا، فأبى من ذلك
وقال: إن محمدا يحيف علينا، فلنحكم كعب بن الأشرف، فنزلت الآية فيه. وقيل: نزلت
في المغيرة بن وائل من بنى أمية، كان بينه وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه خصومة
في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم عليا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه
يبغضني، فنزلت الآية، ذكره الماوردي. وقال: " ليحكم " ولم يقل ليحكما لان المعنى به
الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما بدأ بذكر الله إعظاما لله واستفتاح كلام.
الثانية - قوله تعالى: (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) أي طائعين
منقادين، لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحق. يقال: أذعن فلان لحكم فلان يذعن إذعانا.
وقال النقاش: " مذعنين " خاضعين، ومجاهد: مسرعين. الأخفش وابن الأعرابي:
مقرين. (أفي قلوبهم مرض) شك وريب. (أم ارتابوا) أم حدث لهم شك في نبوته
293

وعدله. (أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله) أي يجور في الحكم والظلم. وأتى بلفظ
الاستفهام لأنه أشد في التوبيخ وأبلغ في الذم، كقوله جرير في المدح:
ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح
(بل أولئك هم الظالمون) أي المعاندون الكافرون، لاعراضهم عن حكم الله تعالى الثالثة - القضاء يكون للمسلمين إذا كان الحكم بين المعاهد والمسلم ولا حق لأهل
الذمة فيه. وإذا كان بين ذميين فذلك إليهما. فإن جاءا قاضى الاسلام فإن شاء حكم وإن
شاء أعرض، كما تقدم في " المائدة " (1)
الرابعة - هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لان الله سبحانه ذم
من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم فقال: " أفي قلوبهم مرض "
الآية. قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم
يعلم أن الحاكم فاسق، أو عداوة بين المدعى والمدعى عليه. وأسند الزهراوي عن الحسن
ابن أبي الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعاه خصمه إلى الحاكم من حكام
المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له). ذكره الماوردي أيضا. قال ابن العربي: هذا
حديث باطل، فأما قوله (فهو ظالم) فكلام صحيح، وأما قوله (فلا حق له) فلا يصح،
ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق.
قوله تعالى: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله
ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)
قوله تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله) أي إلى كتاب
الله وحكم ورسوله. (أن يقولوا سمعنا وأطعنا) قال ابن عباس: أخبر بطاعة المهاجرين
والأنصار، وإن كان ذلك فيما يكرهون، أي هذا قولهم، وهؤلاء لو كانوا مؤمنين لكانوا

(1) راجع ج 6 ص 184.
294

يقولون سمعنا وأطعنا. فالقول نصب على خبر كان، واسمها في قوله: " أن يقولوا " نحو:
" وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا " [آل عمران: 147]. وقيل: إنما قول المؤمنين، وكان
صلة في الكلام، كقوله تعالى: " كيف نكلم من كان في المهد صبيا " (1). [مريم: 29]. وقرأ ابن القعقاع
" ليحكم بينهم " غير مسمى الفاعل. علي بن أبي طالب " إنما كان قول " بالرفع.
قوله تعالى: ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك
هم الفائزون (52) قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله) فيما أمر به حكم. (ويخش الله ويتقه)
قرأ حفص: " ويتقه " بإسكان القاف على نية الجزم، قال الشاعر:
ومن يتق فإن الله معه * ورزق الله مؤتاب وغادي
وكسرها الباقون، لان جزمه بحذف آخره. وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر. واختلس
الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والبستي عن أبي عمرو وحفص. وأشبع كسرة الهاء الباقون.
(فأولئك هم الفائزون) ذكر أسلم أن عمر [رضي الله عنه] (3) بينما هو قائم في مسجد النبي صلى الله
عليه وسلم وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله. فقال له عمر: ما شأنك (4)؟ قال: أسلمت لله. قال: هل لهذا سبب!
قال: نعم! إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرا
يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله فأسلمت:
قال: ما هذه الآية؟ قال قوله تعالى: " ومن يطع الله " في الفرائض " ورسوله " في السنن
" ويخش الله " فيما مضى من عمره " ويتقه " فيما بقى من عمره: " فأولئك هم الفائزون " والفائز
من نجا من النار وأدخل الجنة. فقال عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتيت
جوامع الكلم).

(1) راجع ج 4 ص 227.
(2) راجع ج 11 ص 101.
(3) من ك.
(4) في ك: ما شأنك أسلمت. ولعلها زيادة ناسخ.
295

قوله تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمنهم لئن أمرتهم ليخرجن
قل لا تقسموا طاع ء معروفة إن الله خبير بما تعملون (53)
قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) عاد إلى ذكر المنافقين، فإنه لما بين كراهتهم
لحكم النبي صلى الله عليه وسلم أتوه فقالوا: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا ونسائنا
وأموالنا لخرجنا، ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا، فنزلت هذه الآية. أي وأقسموا بالله أنهم
يخرجون معك في المستأنف ويطيعون. " جهد أيمانهم " أي طاقة ما قدروا أن يحلفوا.
وقال مقاتل: من حلف بالله فقد أجهد في اليمين. وقد مضى في " الانعام " (1) بيان
هذا. و " جهد " منصوب على مذهب المصدر تقديره: إقساما بليغا. (قل لا تقسموا)
وتم الكلام. (طاعة معروفة) أولى بكم من أيمانكم، أو ليكن منكم طاعة معروفة، وقول
معروف بإخلاص القلب، ولا حاجة إلى اليمين. وقال مجاهد: المعنى قد عرفت طاعتكم
وهي الكذب والتكذيب، أي المعروف منكم الكذب دون الاخلاص. (إن الله خبير بما
تعملون) من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل.
قوله تعالى: قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه
ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوا تهتدوا وما على الرسول
إلا البلغ المبين (54)
قوله تعالى: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) بإخلاص الطاعة وترك النفاق.
(فإن تولوا) أي فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين. ودل على هذا أن بعده " وعليكم "
ولم يقل وعليهم. (فإنما عليه ما حمل) أي من تبليغ الرسالة. (وعليكم ما حملتم)
أي من الطاعة له، عن ابن عباس وغيره. (وإن تطيعوا تهتدوا) جعل الاهتداء مقرونا
بطاعته. (وما على الرسول إلا البلاغ) أي التبليغ (المبين).

(1) راجع ج 7 ص 62.
296

قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات
ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم
دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني
لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55)
نزلت في أبى بكر وعمر رضي الله عنهما، قاله مالك. وقيل: إن سبب هذه الآية
أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شكا جهد مكافحة العدو، وما كانوا فيه من الخوف
على أنفسهم، وأنهم لا يضعون أسلحتهم، فنزلت الآية. وقال أبو العالية: مكث رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين بعدما أوحى إليه خائفا هو وأصحابه، يدعون إلى الله
سرا وجهرا، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح.
فقال رجل: يا رسول الله، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام:
(لا تلبثون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملا العظيم محتبيا ليس عليه حديدة). ونزلت
هذه الآية، وأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح وأمنوا. قال النحاس: فكان
في هذه الآية دلالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لان الله عز وجل أنجز ذلك الوعد.
قال الضحاك في كتاب النقاش: هذه [الآية] (1) تتضمن خلافة أبى بكر وعمر وعثمان وعلى
لأنهم أهل الايمان وعملوا الصالحات. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخلافة
بعدي ثلاثون). وإلى هذا القول ذهب ابن العربي في أحكامه، واختاره وقال: قال علماؤنا
هذه الآية دليل على خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وأن الله استخلفهم ورضى أمانتهم،
وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم، لأنهم لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فاستقر
الامر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبوا عن حوزة الدين، فنفذ الوعد فيهم، وإذا لم
يكن هذا الوعد لهم نجز، وفيهم نفذ، وعليهم ورد، ففيمن يكون إذا؟ وليس بعدهم مثلهم
إلى يومنا هذا، ولا يكون فيما بعده. رضي الله عنهم. وحكى هذا القول القشيري عن

(1) من ك.
297

ابن عباس. واحتجوا بما رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا). قال سفينة:
أمسك [عليك] (1) خلافة أبى بكر سنتين، وخلافة عمر عشرا، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة،
وخلافة على ستا. وقال قوم: هذا وعد لجميع الأمة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الاسلام،
كما قال عليه الصلاة والسلام: (زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك
أمتي ما زوي لي منها). واختار هذا القول ابن عطية في تفسيره حيث قال: والصحيح
في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها، كالذي
جرى في الشأم والعراق وخراسان والمغرب. قال ابن العربي: قلنا لهم هذا وعد عام في النبوة
والخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله، حتى
في المفتين والقضاة والأئمة، وليس للخلافة محل تنفذ فيه الموعدة الكريمة إلا من تقدم من
الخلفاء. ثم ذكر اعتراضا وانفصالا معناه: فإن قيل هذا الامر لا يصح إلا في أبى بكر
وحده، فأما عمر وعثمان فقتلا غيلة، وعلى قد نوزع في الخلافة. قلنا: ليس في ضمن الامن
السلامة من الموت بأي وجه كان، وأما على فلم يكن نزاله في الحرب مذهبا للأمن، وليس
من شرط الامن رفع الحرب إنما شرطه ملك الانسان لنفسه باختياره، لا كما كان أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم بمكة. ثم قال في آخر كلامه: وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين
فصاروا قاهرين، وكانوا مطلوبين فصاروا طالبين، فهذا نهاية الامن والعز.
قلت: هذه الحال لم تختص بالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم حتى يخصوا بها من عموم
الآية، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم. ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين
في أحد وغيرها وخاصة الخندق، حتى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال: " إذ جاءوكم من
فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا.
هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا " (2) [الأحزاب: 10 - 11]. ثم إن الله رد الكافرين لم ينالوا خيرا، وأمن

(1) زيادة عن ابن العربي. والخطاب لسعيد بن حمدان راوي الحديث عن سفينة.
298

المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وهو المراد بقوله: " ليستخلفنهم في الأرض ".
وقوله: " كما استخلف الذين من قبلهم " يعنى بني إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر،
وأورثهم أرضهم وديارهم فقال: " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض
ومغاربها " (1) [الأعراف: 137]. وهكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين، ثم إن الله تعالى أمنهم ومكنهم
وملكهم، فصح أن الآية عامة لامة محمد صلى الله عليه وسلم غير مخصوصة، إذ التخصيص
لا يكون إلا بخبر ممن يجب [له] التسليم، ومن الأصل المعلوم التمسك بالعموم. وجاء في معنى
تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أصحابه: أما يأتي علينا يوم
نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: (لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم
في الملا العظيم محتبيا ليس عليه حديدة). وقال صلى الله عليه وسلم: (والله ليتمن الله هذا
الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم
تستعجلون). خرجه مسلم في صحيحه، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم. فالآية معجزة
النبوة، لأنها إخبار عما سيكون فكان.
قوله تعالى: (ليستخلفنهم في الأرض) فيه قولان: أحدهما - يعنى أرض مكة،
لان المهاجرين سألوا الله تعالى ذلك فوعدوا كما وعدت بنو إسرائيل، قال معناه النقاش.
الثاني - بلاد العرب والعجم. قال ابن العربي: وهو الصحيح، لان أرض مكة محرمة على
المهاجرين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكن البائس سعد بن خولة). يرثى له رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. وقال في الصحيح أيضا: (يمكث المهاجر بمكة بعد
قضاء نسكه ثلاثا). واللام في " ليستخلفهم " جواب قسم مضمر، لان الوعد قول،
مجازها: قال الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات والله ليستخلفنهم في الأرض فيجعلهم ملوكها
وسكانها. (كما استخلف الذين من قبلهم) يعنى بني إسرائيل، أهلك الجبابرة بمصر والشام
وأورثهم أرضهم وديارهم. وقراءة العامة: " كما استخلف " بفتح التاء واللام، لقوله: " وعد ".
وقوله: " ليستخلفنهم ". وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم: " استخلف " بضم

(1) راجع ج 7 ص 272.
299

التاء وكسر اللام على الفعل المجهول. (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) وهو الاسلام،
كما قال تعالى: " ورضيت لكم الاسلام دينا " [المائدة: 3] وقد تقدم (1). وروي سليم بن عامر عن المقداد
ابن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما على ظهر الأرض بيت
حجر ولا مدر إلا أدخله الله كلمة الاسلام بعز عزيز أو ذل ذليل أما بعزهم فيجعلهم من أهلها
وأما بذلهم فيدينون بها). ذكره الماوردي حجة لمن قال: إن المراد بالأرض بلاد العرب
والعجم، وهو القول الثاني، على ما تقدم آنفا. (وليبدلنهم) قرأ ابن محيصن وابن كثير
ويعقوب وأبو بكر بالتخفيف، من أبدل، وهي قراءة الحسن، واختيار أبى حاتم. الباقون
بالتشديد، من بدل، وهي اختيار أبى عبيد، لأنها أكثر ما في القرآن، قال الله تعالى: " لا تبديل
لكلمات (2) الله " [يونس: 64]. وقال: " وإذا بدلنا (3) آية " [النحل: 101] ونحوه، وهما لغتان. قال النحاس: وحكى
محمد بن الجهم عن الفراء قال: قرأ عاصم والأعمش: " وليبدلنهم " مشددة، وهذا غلط عن
عاصم، وقد ذكر بعده غلطا أشد منه، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف. قال النحاس:
وزعم أحمد بن يحيى أن بين التثقيل والتخفيف فرقا، وأنه يقال: بدلته أي غيرته، وأبدلته
أزلته وجعلت غيره. قال النحاس: وهذا القول صحيح، كما تقول: أبدل لي هذا الدرهم،
أي أزله وأعطني غيره. وتقول: قد بدلت بعدنا، أي غيرت، غير أنه قد يستعمل أحدهما
موضع الاخر، والذي ذكره أكثر. وقد مضى هذا في " النساء " (4) والحمد لله، وذكرنا في سورة
" إبراهيم " الدليل من السنة على أن بدل معناه إزالة العين، فتأمله هناك (5). وقرئ: " عسى ربنا
أن يبدلنا (6) " [القلم: 32] مخففا ومثقلا (يعبدونني) هو في موضع الحال، أي في حال عبادتهم الله
بالاخلاص. ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم. (لا يشركون بي شيئا) فيه
أربعة أقوال: أحدها - لا يعبدون إلها غيري، حكاه النقاش. الثاني - لا يراءون بعبادتي
أحدا. الثالث - لا يخافون غيري، قاله ابن عباس. الرابع - لا يحبون، غيري قاله
مجاهد. (ومن كفر بعد ذلك) أي بهذه النعم. والمراد كفران النعمة لأنه، قال تعالى:
(فأولئك هم الفاسقون) الكافر بالله فاسق بعد هذا الانعام وقبله.

(1) راجع ج 6 ص 63.
(2) راجع ج 8 ص 358.
(3) راجع ج 10 ص 176.
(4) راجع ج 5 ص 425.
(5) راجع ج 9 ص 382.
(6) راجع ج 18 ص 244.
300

قوله تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم
ترحمون (56)
تقدم، فأعاد الامر بالعبادة تأكيدا.
قوله تعالى: لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأويهم
النار ولبئس المصير (57)
قوله تعالى: (لا تحسبن الذين كفروا) هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعد
بالنصرة. وقراءة العامة " تحسبن " بالتاء خطابا. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو حياة: " يحسبن "
بالياء، بمعنى لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض، لان الحسبان يتعدى
إلى مفعولين. وهذا قول الزجاج. وقال الفراء وأبو على: يجوز أن يكون الفعل للنبي صلى الله
عليه وسلم، أي لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين في الأرض. ف‍ " - الذين " مفعول أول،
و " معجزين " مفعول ثان. وعلى القول الأول " الذين كفروا " فاعل " أنفسهم " مفعول
أول، وهو محذوف مراد " معجزين " مفعول ثان. قال النحاس: وما علمت أحدا من أهل
العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن، لأنه لم يأت
إلا بمفعول واحد ليحسبن. وممن قال هذا أبو حاتم. وقال الفراء: هو ضعيف، وأجازه
على ضعفه، على أنه يحذف المفعول الأول، وقد بيناه. قال النحاس: وسمعت على
ابن سليمان يقول في هذه القراءة: يكون " الذين كفروا " في موضع نصب. قال: ويكون
المعنى ولا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض.
قلت: وهذا موافق لما قاله الفراء وأبو على، إلا (1) أن الفاعل هناك النبي صلى الله عليه
وسلم. وفي هذا القول الكافر. و (معجزين) معناه فائتين. وقد تقدم (2). (ومأواهم
النار ولبئس المصير) أي المرجع.

(1) كذا في ك.
(2) راجع ج 7 ص 88.
301

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم
والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلث مرت من قبل صلاة الفجر
وحين تضعفون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلث
عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم
بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (58)
فيه ثمان (1) مسائل:
الأولى - قال العلماء، هذه الآية خاصة والتي قبلها عامة، لأنه قال: " يا أيها الذين
آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " [النور: 27] ثم خص هنا فقال:
" ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " فخص في هذه الآية بعض المستأذنين، وكذلك أيضا
يتأول القول في الأولى في جميع الأوقات عموما. وخص في هذه الآية بعض الأوقات،
فلا يدخل فيها عبد ولا أمة، وغدا كان أو ذا منظر إلا بعد الاستئذان. قال مقاتل: نزلت
في أسماء بنت مرثد، دخل عليها غلام لها كبير، فاشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فنزلت عليه الآية. وقيل: سبب نزولها دخول مدلج على عمر، وسيأتي.
الثانية - اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: " ليستأذنكم " على ستة أقوال
الأول - أنها منسوخة، قاله ابن المسيب وابن جبير.
الثاني - أنها ندب غير واجبة، قاله أبو قلابة، قال: إنما أمروا بهذا نظرا لهم.
الثالث - عنى بها النساء، قاله أبو عبد الرحمن السلمي.
وقال ابن عمر: هي في الرجال
دون النساء. وهو القول الرابع.
الخامس - كان ذلك واجبا، إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب، ولو عاد الحال لعاد
الوجوب، حكاه المهدوي عن ابن عباس.

(1) كذا في ك. وهو الموجود.
302

السادس - أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم
القاسم وجابر بن زيد والشعبي. وأضعفها قول السلمي لان " الذين " لا يكون للنساء في كلام
العرب، إنما يكون للنساء اللاتي واللواتي ". وقول ابن عمر يستحسنه أهل النظر، لان
" الذين " للرجال في كلام العرب، وإن كان يجوز أن يدخل معهم النساء فإنما يقع ذلك
بدليل، والكلام على ظاهره، غير أن في إسناده ليث بن أبي سليم. وأما قول ابن عباس
فروى أبو داود عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: آية لم يؤمر بها أكثر
الناس آية الاستئذان وإني لأمر جاريتي هذه تستأذن على. قال أبو داود: وكذلك رواه
عطاء عن ابن عباس " يأمر به ". وروى عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا: يا بن عباس،
كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها [أحد] (2)، قول الله عز وجل
: " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات
من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات
لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم ". قال أبو داود: قرأ القعنبي إلى
" عليم حكيم " قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس
لبيوتهم ستور ولا حجال (3)، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله،
فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحدا يعمل
بذلك [بعد] (2).
قلت: هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير، فإنه ليس فيه دليل على نسخ
الآية، ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان،
بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها. وروى

(1) في تهذيب التهذيب: " قال ابن حبان اختلط في آخر عمره، فكان يقلب الأسانيد ويرفع المراسل، ويأتي
عن الثقات بما ليس من حديثهم. وقال البزار: كأن أحد العباد، إلا أنه أصابة اختلاط فاضطرب حديثه... الخ ".
(2) زيادة عن سنن أبي داود. في ك: ولا نعمل بها.
(3) الحجال: جمع الحجلة (بالتحريك)
وهو بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كبار.
303

وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن الشعبي " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين
ملكت أيمانكم " قال: ليست بمنسوخة. قلت: إن الناس لا يعملون بها، قال: الله
عز وجل المستعان.
الثالثة - قال بعض أهل العلم: إن الاستئذان ثلاثا مأخوذ من قوله تعالى:
" يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث
مرات " قال يزيد (1): ثلاث دفعات. قال: فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الجميع. قال ابن عبد البر: ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير
معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها، والذي عليه جمهورهم في قوله: " ثلاث مرات "
أي في ثلاث أوقات. ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها: " من قبل صلاة الفجر وحين
تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ".
الرابعة - أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم،
والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها، يستأذنون على أهليهم
في هذه الأوقات الثلاثة، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة
التعري. فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب
النهار. ووقت القائلة وقت التجرد أيضا وهي الظهيرة، لان النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه
واشتد حره. وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم، فالتكشف غالب في هذه الأوقات.
يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب
ظهيرة ليدعوه، فوجده نائما قد أغلق عليه الباب، فدق عليه الغلام الباب فناداه، ودخل،
فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شئ، فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا
وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخر ساجدا شكرا لله. وهي مكية.

(1) كذا في ب. وفى ك وح‍ وأ: يزيد. ولا وجه له.
304

الخامسة - قوله تعالى: (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) أي الذين لم يحتلموا من
أحراركم، قاله مجاهد. وذكر إسماعيل بن إسحاق كان (1) يقول: ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم
مما ملكت أيمانكم، على التقديم والتأخير، وأن الآية في الإماء. وقرأ الجمهور بضم اللام،
وسكنها الحسن بن أبي الحسن لثقل الضمة، وكان أبو عمرو يستحسنها. و " ثلاث مرات "
نصب على الظرف، لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثا، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة
مواطن، والظرفية في " ثلاث " بينة: من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من
الظهيرة، ومن صلاة العشاء. وقد مضى معناه. ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل
وقت. (ثلاث عورات لكم) قرأ جمهور السبعة " ثلاث عورات " برفع " ثلاث ". وقرأ
حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم " ثلاث " بالنصب على البدل من الظرف في قوله " ثلاث
مرات ". قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود. وقال الفراء: الرفع أحب إلى. قال:
وإنما اخترت الرفع لان المعنى: هذه الخصال ثلاث عورات. والرفع عند الكسائي بالابتداء،
والخبر عنده ما بعده، ولم يقل بالعائد، وقال نصا بالابتداء. قال: والعورات الساعات التي
تكون فيها العورة، إلا أنه قرأ بالنصب، والنصب فيه قولان: أحدهما - أنه مردود على قوله
" ثلاث مرات "، ولهذا استبعده الفراء. وقال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات،
فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. و " عورات " جمع عورة، وبابه في الصحيح
أن يجئ على فعلات (بفتح العين) كجفنة وجفنات، ونحو ذلك. وسكنوا العين في المعتل كبيضة
وبيضات؟ لان فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك، فأما قول الشاعر:
أبو بيضات رائح متأوب * رفيق بمسح المنكبين سبوح (2)
[فشاذ].

(1) كذا في نسخ الأصل، وظاهر أن في العبارة سقطا.
(2) كذا في اللسان مادة " بيض ". والذي في نسخ الأصل.
أبو بيضات رائح أو مغتد * عجلان ذا زاد وغير مزود
وهذا البيت للنابغة الذبياني، وصواب إنشاده: أمن آل مية رائح أو مغتد *......... الخ.
305

السادسة - قوله تعالى: (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن) أي في الدخول
من غير أن يستأذنوا وإن كنتم متبذلين. (طوافون) بمعنى هم طوافون. قال الفراء:
كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم. وأجاز الفراء نصب " طوافين " لأنه
نكرة، والمضمر في " عليكم " معرفة. ولا يجيز البصريون أن يكون حالا من المضمرين اللذين
في " عليكم " وفي " بعضكم " لاختلاف العاملين. ولا يجوز مررت يزيد ونزلت على عمرو
العاقلين، على النعت لهما. فمعنى " طوافون عليكم " أي يطوفون عليكم وتطوفون عليهم، ومنه
الحديث في الهرة (إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات) (1). فمنع في الثلاث العورات من
دخولهم علينا، لان حقيقة العورة كل شئ لا مانع دونه، ومنه قوله: " إن بيوتنا عورة " (2) [الأحزاب: 13] أي
سهلة للمدخل، فبين العلة الموجبة للاذن، وهي الخلوة في حال العورة، فتعين امتثاله وتعذر
نسخه. ثم رفع الجناح بقوله: " ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على
بعض " أي يطوف بعضكم على بعض. (كذلك يبين الله لكم الآيات) الكاف في موضع
نصب، أي يبين الله لكم آياته الدالة على متعبداته بيانا مثل ما يبين لكم هذه الأشياء.
(والله عليم حكيم) تقدم (3)
السابعة - قوله تعالى: (ومن بعد صلاة العشاء) يريد العتمة. وفي صحيح مسلم
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى يقول:
(لا تغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل). وفي رواية
(فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل). وفي البخاري عن أبي برزة: كان النبي
صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء. وقال أنس: أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء. وهذا
يدل على العشاء الأولى. وفي الصحيح: فصلاها، يعنى العصر بين العشاءين المغرب والعشاء.
وفي الموطأ وغيره: ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا. وفي مسلم عن جابر

(1) قوله: " أو الطوافات " يحتمل أن يكون على معنى الشك من الراوي. ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم
قال ذلك، يريد أن هذا الحيوان لا يخلو أن يكون من جملة الذكور الطوافين أو الإناث الطوافات (عن الباجي).
(2) راجع ج 14 ص 147.
(3) راجع ج 1 ص 287.
306

ابن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الصلوات نحوا من صلاتكم، وكان يؤخر
العتمة بعد صلاتكم شيئا، وكان يخف الصلاة. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذه أخبار
متعارضة، لا يعلم منها الأول من الاخر بالتاريخ، ونهيه عليه السلام عن تسمية المغرب عشاء
وعن تسمية العشاء عتمة ثابت، فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلا عمن عداهم. وقد كان
ابن عمر يقول: من قال صلاة العتمة فقد أثم. وقال ابن القاسم قال مالك: " ومن بعد
صلاة العشاء " فالله سماها صلاة العشاء فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تسمى بما سماها
الله تعالى به، ويعلمها الانسان أهله وولده، ولا يقال عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم.
وقد قال حسان [بن ثابت] (1):
وكانت لا يزال بها أنيس * خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف * يؤرقني إذا ذهب العشاء
وقد قيل: إن هذا النهى عن اتباع الاعراب في تسميتهم العشاء عتمة، إنما كان لئلا يعدل
بها عما سماها الله تعالى في كتابه إذ قال: " ومن بعد صلاة العشاء "، فكأنه نهى، إرشاد
إلى ما هو الأولى، وليس على جهة التحريم، وعلى أن تسميتها العتمة لا يجوز.
ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق عليها ذلك، وقد أباح تسميتها
بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقيل: إنما نهى عن ذلك تنزيها لهذه العبادة الشريفة
الدينية عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية، وهي الحلبة التي كانوا يحتلبونها في ذلك
الوقت ويسمونها العتمة، ويشهد لهذا قوله: (فإنها تعتم بحلاب الإبل).
الثامنة - روى ابن ماجة في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش
عن عمارة بن غزية عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه كان يقول: (من صلى في جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء
كتب الله بها عتقا من النار). وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله صلى

(1) من ك.
307

الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة
فكأنما قام الليل كله). وروي الدارقطني في سننه عن سبيع أو تبيع عن كعب قال: من
توضأ فأحسن الوضوء وصلى العشاء الآخرة وصلى بعدها أربع ركعات فأتم ركوعهن وسجودهن
ويعلم ما يقترئ (1) فيهن كن له بمنزلة ليلة القدر.
قوله تعالى: وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا كما استئذن
الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله حكيم (59)
قرأ الحسن: " الحلم " فحذف الضمة لثقلها. والمعنى: أن الأطفال أمروا بالاستئذان
في الأوقات الثلاثة المذكورة، وأبيح لهم الامر في غير ذلك كما ذكرنا. ثم أمر الله تعالى في هذه
الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت. وهذا بيان من
الله عز وجل لأحكامه وإيضاح حلاله وحرامه، وقال: " فليستأذنوا " ولم يقل فليستأذنوكم.
وقال في الأولى: " ليستأذنكم " لان الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين. وقال ابن جريج:
قلت لعطاء " وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا " قال: واجب على الناس أن يستأذنوا
إذا احتلموا، أحرارا كانوا أو عبيدا. وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للأوزاعي ما حد
الطفل الذي يستأذن؟ قال: أربع سنين، قال لا يدخل على امرأة حتى يستأذن. وقاله (2)
الزهري: أي يستأذن الرجل على أمه، وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية.
قوله تعالى: والقواعد من النساء التي لا يرجعون نكاحا فليس
عليهم جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن
خير لهن والله سميع عليم (60)

(1) يقترئ بمعنى يقرأ.
(2) كذا في ك.
308

فيه خمس مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (والقواعد من النساء) القواعد واحدتها قاعد، بلا هاء،
ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا: امرأة حامل، ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل.
قال الشاعر:
فلو أن ما في بطنه بين نسوة * حبلن وإن كن القواعد عقرا
وقالوا في غير ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها، بالهاء. والقواعد أيضا: أساس
البيت، واحدة قاعدة، بالهاء.
الثانية - القواعد: العجز اللواتي قعدن عن التصرف من السن، وقعدن عن الولد
والمحيض، هذا قول أكثر العلماء. قال ربيعة: هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها.
وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد، وليس ذلك بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد
وفيها مستمتع، قاله المهدوي.
الثالثة - قوله تعالى: (فليس عليهن جناح أن يضعفن ثيابهن غير متبرجات بزينة)
إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن، إذ لا يذهب للرجال فيهن، فأبيح لهن
ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهم كلفة التحفظ المتعب لهن.
الرابعة - قرأ ابن مسعود وأبى وابن عباس: " أن يضعن من ثيابهن " بزيادة
" من " قال ابن عباس: وهو الجلباب. وروي عن ابن مسعود أيضا: " من جلابيبهن "
والعرب تقول: امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خمارها. وقال قوم: الكبيرة التي أيست
من النكاح، لو بدا شعرها فلا بأس، فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار. والصحيح أنها كالشابة
في التستر، إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، قاله ابن مسعود
وابن جبير وغيرهما.
الخامسة - قوله تعالى: (غير متبرجات بزينة) أي غير مظهرات ولا متعرضات
بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق. والتبرج: التكشف
والظهور للعيون، ومنه: بروج مشيدة. وبروج السماء والأسوار، أي لا حائل دونها يسترها.
309

وقيل لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين
والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء، قصتكن قصة امرأة
واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرما. وقال
عطاء: هذا في بيوتهن، فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب. وعلى هذا " غير متبرجات "
غير خارجات من بيوتهن. وعلى هذا يلزم أن يقال: إذا كانت في بيتها فلا بدلها من جلباب
فوق الدرع، وهذا بعيد، إلا إذا دخل عليها أجنبي. ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن،
واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزم الشباب أفضل لهن وخير. وقرأ ابن مسعود:
" وأن يتعففن " بغير سين. ثم قيل: من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها.
روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل
النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات
مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها
ليوجد من مسيرة كذا وكذا). قال ابن العربي: وإنما جعلهن كاسيات لان الثياب عليهن،
وإنما وصفهن بأنهن عاريات لان الثواب إذا رق يصفهن، ويبدي محاسنهن، وذلك حرام.
قلت: هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى. والثاني - أنهن كاسيات من الثياب
عاريات من لباس التقوى الذي قال الله تعالى فيه: " ولباس التقوى ذلك خير ". (1) وأنشدوا:
إذا المرء لم يلبس ثياب من التقى * تقلب عريانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه * ولا خير فيمن كان لله عاصيا
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا
نائم رأيت الناس يعرضون على (2) وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ومر عمر
ابن الخطاب وعليه قميص يجره) قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: (الدين).
فتأويله صلى الله عليه وسلم القميص بالدين مأخوذ من قوله تعالى: " ولباس التقوى ذلك
خير ". العرب تكنى عن الفضل والعفاف بالثياب، كما قال شاعرهم:

(1) راجع ج 7 ص 184.
(2) الذي في صحيح مسلم: " يعرضون وعليهم... ".
310

* ثياب بنى عوف طهارى نقية (1) *
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعثمان: (إن الله سيلبسك قميصا فإن أرادوك أن تخلعه
فلا تخلعه). فعبر عن الخلافة بالقميص، وهي استعارة حسنة معروفة.
قلت: هذا التأويل أصح التأويلين، وهو اللائق بهن في هذه الأزمان، وخاصة الشباب،
فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات، فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة، ظاهرا
وباطنا، حيث تبدي زينتها، ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد
في الوجود منهن، فلو كان عندهن شئ من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك.
ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهن في بقية الحديث في قوله: (رؤوسهن كأسنمة
البخت). والبخت ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الأسنمة، شبه رؤوسهن بها لما
رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رؤوسهن. وهذا مشاهد معلوم، والناظر إليهن ملوم.
قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء). خرجه البخاري.
قوله تعالى: ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على
المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت
آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخوتكم
أو بيوت أعمامكم أو بيوت عمتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت
خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح
أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية
من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم
تعقلون (61)

(1) هذا صدر بيت لأمري القيس، وعجزه كما في ديوانه:
* وأوجههم عند المشاهد غران *
311

فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج) اختلف العلماء في تأويل هذه
الآية على أقوال ثمانية. أقربها - هل هي منسوخة أو ناسخة أو محكمة، فهذه ثلاثة أقوال:
الأول - أنها منسوخة من قوله تعالى: " ولا على أنفسكم " إلى آخر الآية، قاله عبد الرحمن
ابن زيد، قال: هذا شئ انقطع، كانوا في أول الاسلام ليس على أبوابهم أغلاق،
وكانت الستور مرخاة، فربما جاء الرجل فدخل البيت وهو جائع وليس فيه أحد، فسوغ
الله عز وجل أن يأكل منه، ثم صارت الاغلاق على البيوت فلا يحل لاحد أن يفتحها،
فذهب هذا وانقطع. قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه..)
الحديث. خرجه الأئمة.
الثاني - أنها ناسخة، قاله جماعة. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال:
لما أنزل الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " (1) قال المسلمون:
إن الله عز وجل قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن الطعام من أفضل الأموال،
فلا يحل لاحد منا أن يأكل عند أحد، فكف الناس عن ذلك، فأنزل الله عز وجل: " ليس
على الأعمى حرج - إلى - أو ما ملكتم مفاتحه ". قال: هو الرجل يوكل الرجل بضيعته.
قلت: علي بن أبي طلحة هذا هو مولى بنى هاشم سكن الشام، يكنى أبا الحسن ويقال
أبا محمد، اسم أبيه أبى طلحة سالم، تكلم في تفسيره، فقيل: إنه لم ير ابن عباس، والله أعلم.
الثالث - أنها محكمة، قاله جماعة من أهل العلم ممن يقتدي بقولهم، منهم سعيد
ابن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وروى الزهري عن عروة عن عائشة
رضي الله عنها قالت: كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضمناهم ويقولون: إذا احتجتم فكلوا، فكانوا يقولون إنما أحلوه
لنا عن غير طيب نفس، فأنزل الله عز وجل: " ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت
آبائكم " إلى آخر الآية. قال النحاس: " يوعبون " أي يخرجون بأجمعهم في المغازي،

(1) راجع ج 2 ص 337.
312

يقال: أوعب بنو فلان لبني فلان إذا جاءوهم بأجمعهم. وقال ابن السكيت: يقال أوعب
بنو فلان جلاء، فلم يبق ببلدهم منهم أحد. وجاء الفرس بركض وعيب، أي بأقصى ما عنده.
وفي الحديث: (في الانف إذا استوعب جدعه الدية) إذا لم يترك منه شئ. واستيعاب
الشئ استئصاله. ويقال: بيت وعيب إذا كان واسعا يستوعب كل ما جعل فيه. والضمني
هم الزمنى، واحدهم ضمن زمن. قال النحاس: وهذا القول من أجل ما روي في الآية،
لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوقيف أن الآية نزلت في شئ بعينه. قال ابن العربي:
وهذا كلام منتظم لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد وبقاء أموالهم بأيديهم، لكن قوله " أو ما ملكتم
مفاتحه " قد اقتضاه، فكان هذا القول بعيدا جدا. لكن المختار أن يقال: إن الله رفع الحرج
عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به
من المشي، وما يتعذر من الافعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه،
كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك. ثم قال بعد ذلك مبينا: وليس
عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم. فهذا معنى صحيح، وتفسير بين مفيد، ويعضده الشرع
والعقل، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل.
قلت: وإلى هذا أشار ابن عطية فقال: فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن
الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم فيه الاتيان بالأكمل،
ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا. فأما ما قال الناس
في هذا الحرج هنا وهي:
الثانية - فقال ابن زيد: وهو الحرج في الغزو، أي لا حرج عليهم في تأخرهم.
وقوله تعالى: " ولا على أنفسكم " الآية، معنى مقطوع من الأول. وقالت فرقة: الآية
كلها في معنى المطاعم. قالت: وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الاكل مع
أهل الاعذار، فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الأعمى، ولانبساط الجلسة
من الأعرج، ولرائحة المريض وعلاته، وهي أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت الآية مؤذنة.
313

وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجا من غير أهل الاعذار، إذ هم مقصرون عن درجة الأصحاء
في الاكل، لعدم الرؤية في الأعمى، وللعجز عن المزاحمة في الأعرج، ولضعف المريض،
فنزلت الآية في إباحة الاكل معهم. وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي: إن أهل الاعذار
تحرجوا في الاكل مع الناس من أجل عذرهم، فنزلت الآية مبيحة لهم. وقيل: كان الرجل
إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب به إلى بيوت قرابته، فتحرج أهل الاعذار
من ذلك، فنزلت الآية.
الثالثة - قوله تعالى: (ولا على أنفسكم) هذا ابتداء كلام، أي ولا عليكم أيها
الناس. ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام. وذكر
بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأبناء، فقال المفسرون: ذلك لأنها داخلة في قوله:
" في بيوتكم " لان بيت ابن الرجل بيته وفي الخبر (أنت ومالك لأبيك). ولأنه ذكر
الأقرباء بعد ولم يذكر الأولاد. قال النحاس: وعارض بعضهم هذا القول فقال: هذا
تحكم على كتاب الله تعالى، بل الأولى في الظاهر ألا يكون الابن مخالفا لهؤلاء، وليس
الاحتجاج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) بقوي لوهى هذا
الحديث، وأنه لو صح لم تكن فيه حجة، إذ قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أن مال
ذلك المخاطب لأبيه. وقد قيل إن المعنى (1): أنت لأبيك، ومالك مبتدأ، أي ومالك لك.
والقاطع لهذا التوارث بين الأب والابن. وقال الترمذي الحكيم: ووجه قوله تعالى:
" ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم " كأنه يقول مساكنكم التي فيها أهاليكم وأولادكم،
فيكون للأهل والولد هناك شئ قد أفادهم هذا الرجل الذي له المسكن، فليس عليه حرج
أن يأكل معهم من ذلك القوت، أو يكون للزوجة والولد هناك شئ من ملكهم فليس عليه
في ذلك حرج.

(1) في ب وك: " إن معنى ".
314

الرابعة - قوله تعالى: (أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم
أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم)
قال بعض العلماء: هذا إذا أذنوا له في ذلك. وقال آخرون: أذنوا له أو لم يأذنوا فله أن
يأكل، لان القرابة التي بينهم هي إذن منهم. وذلك لان في تلك القرابة عطفا تسمح
النفوس منهم بذلك العطف أن يأكل هذا من شيئهم ويسروا بذلك إذا علموا. ابن العربي:
أباح لنا الاكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولا، فإذا كان محوزا (1)
دونهم لم يكن لهم أخذه، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن
غير محوز عنهم إلا بإذن منهم.
الخامسة - قوله تعالى: (أو ما ملكت مفاتحة) يعنى مما اختزنتم وصار في قبضتكم.
وعظم ذلك ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه، وذلك هو تأويل الضحاك وقتادة ومجاهد.
وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء. قال ابن عباس: عنى وكيل
الرجل على ضيعته، وخازنه على ماله، فيجوز له أن يأكل مما هو قيم عليه. وذكر معمر عن
قتادة عن عكرمة قال: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشئ اليسير.
ابن العربي: وللخازن أن يأكل مما يخزن إجماعا، وهذا إذا لم تكن له أجرة، فأما إذا كانت له
أجرة على الخزن حرم عليه الاكل. وقرأ سعيد بن جبير: " ملكتم " بضم الميم وكسر اللام وشدها.
وقرأ أيضا " مفاتيحه " بياء بين التاء والحاء، جمع مفتاح، وقد مضى في " الانعام ". وقرأ قتادة:
" مفتاحه " على الافراد. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو، خرج
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا
فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
السادسة - قوله تعالى: (أو صديقكم) الصديق بمعنى الجمع، وكذلك العدو، قال
الله تعالى: " فإنهم (3) عدو لي " [الشعراء: 77]. وقال جرير:
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا * بأسهم أعداء وهن صديق

(1) من ج وك. وفى أ: محرزا.
(2) راجع ج 7 ص 1.
(3) راجع ج 13 ص 110.
315

والصديق من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك. ثم قيل: إن هذا منسوخ بقوله:
" لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم " (1) [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى: " فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا
تدخلوها " [النور: 28] الآية، وقوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه).
وقيل: هي محكمة، وهو أصح. ذكر محمد بن ثور عن معمر قال: دخلت بيت قتادة فأبصرت
فيه رطبا فجعلت آكله، فقال: ما هذا؟ فقلت: أبصرت رطبا في بيتك فأكلت، قال: أحسنت،
قال الله تعالى: " أو صديقكم ". وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: " أو صديقكم "
قال: إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته لم يكن بذلك بأس. وقال معمر: قلت
لقتادة: ألا أشرب من هذا الحب (2)؟ قال: أنت لي صديق! فما هذا الاستئذان. وكان
صلى الله عليه وسلم يدخل حائط أبى طلحة المسمى ببيرحا (3) ويشرب من ماء فيها طيب بغير
إذنه، على ما قاله علماؤنا، قالوا: والماء متملك لأهله. وإذا جاز الشرب من ماء الصديق
بغير إذنه جاز الاكل من ثماره وطعامه إذا علم أن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسير
مؤنته، أو لما بينهما من المودة. ومن هذا المعنى إطعام أم حرام له صلى الله عليه وسلم إذا نام
عندها، لان الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل، وأن يد زوجته في ذلك عارية.
وهذا كله ما لم يتخذ الاكل خبنة (4)، ولم يقصد بذلك وقاية ماله، وكان تافها يسيرا.
السابعة - قرن الله عز وجل في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة، لان
قرب المودة لصيق. قال ابن عباس في كتاب النقاش: الصديق أو كد من القرابة، ألا ترى
استغاثة الجهنميين: " فما لنا من شافعين. ولا صديق (5) حميم " [الشعراء: 100 - 101].
قلت: ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه، كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه.
وقد مضى بيان هذا والعلة فيه في " النساء " (6). وفي المثل " أيهم أحب إليك أخوك
أم صديقك " قال: أخي إذا صديقي.

(1) راجع ج 14 ص 223.
(2) الحب (بضم الحاء المهملة): الجرة الضخمة، والخابية.
وقال ابن دريد: هو الذي يجعل فيه الماء، فلم ينوعه.
(3) راجع الكلام على ضبطها في معجم البلدان لياقوت.
(4) الخبة: معطف الإزار وطرف الثوب، أي لا يأخذ منه في ثوبه.
(5) راجع ج 13 ص 117.
(6) راجع ج 5 ص 410 فما بعدها.
316

الثامنة - قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا) قيل:
إنها نزلت في بنى ليث بن بكر، وهم حي من بنى كنانة، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده
ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله. ومنه قول بعض الشعراء:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له * أكيلا فإني لست آكله وحدي
قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثة عندهم عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فإنه كان
لا يأكل وحده. وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه،
فنزلت الآية مبينة سنة الاكل، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل
المنفرد ما كان عند العرب محرما، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار
الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد.
التاسعة - قوله تعالى: (جميعا أو أشتاتا) " جميعا " نصب على الحال. و " أشتاتا "
جمع شت، والشت المصدر بمعنى التفرق، يقال: شت القوم أي تفرقوا. وقد ترجم البخاري
في صحيحه (باب - ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج)
الآية. و (والنهد والاجتماع). ومقصوده فيما قاله علماؤنا في هذا الباب: إباحة الاكل
جميعا وإن اختلفت أحوالهم في الاكل. وقد سوغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فصارت
تلك سنة في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد والولائم وفي الاملاق في السفر.
وما ملكت مفاتحه بأمانة أو قرابة أو صداقة فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك.
والنهد: ما يجمعه الرفقاء من مال أو طعام على قدر في النفقة ينفقونه بينهم، وقد تناهدوا، عن
صاحب العين. وقال ابن دريد: يقال من ذلك: تناهد القوم الشئ بينهم. الهروي:
وفي حديث الحسن (أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم). النهد: ما تخرجه
الرفقة عند المناهدة، وهو استقسام النفقة بالسوية في السفر وغيره. والعرب تقول: هات
نهدك، بكسر النون. قال المهلب: وطعام النهد لم يوضع للاكلين على أنهم يأكلون بالسواء،
وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره. وقد قيل: إن
317

تركها أشبه بالورع. وإن كانت الرفقة تجتمع كل يوم على طعام أحدهم فهو أحسن من النهد
لأنهم لا يتناهدون إلا ليصيب كل واحد منهم من ماله، ثم لا يدري لعل أحدهم يقصر عن
ماله ويأكل غيره أكثر من ماله، وإذا كانوا يوما عند هذا ويوما عند هذا بلا شرط فإنما
يكونون أضيافا والضيف يأكل بطيب نفس مما يقدم إليه. وقال أيوب السختياني:
إنما كان النهد أن القوم كانوا يكونون في السفر فيسبق بعضهم إلى المنزل فيذبح ويهيئ الطعام
ثم يأتيهم، ثم يسبق أيضا إلى المنزل فيفعل مثل ذلك، فقالوا: إن هذا الذي تصنع كلنا
نحب أن نصنع مثله فتعالوا نجعل بيننا شيئا لا يتفضل بعضنا على بعض، فوضعوا النهد بينهم.
وكان الصلحاء إذا تناهدوا تحرى أفضلهم أن يزيد على ما يخرجه أصحابه، وإن لم يرضوا بذلك
منه إذا علموه فعله سرا دونهم.
العاشرة - قوله تعالى: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله
مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون) اختلف المتأولون في أي البيوت
أراد، فقال إبراهيم النخعي والحسن: أراد المساجد، والمعنى: سلموا على من فيها من
ضيفكم (1). فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء: السلام على رسول الله. وقيل:
يقول السلام عليكم، يريد الملائكة، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله
تعالى: " فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم " الآية، قال: إذا دخلت المسجد فقل السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقيل: المراد بالبيوت البيوت المسكونة، أي فسلموا على
أنفسكم. قاله جابر بن عبد الله وابن عباس أيضا وعطاء بن أبي رباح. وقالوا: يدخل
في ذلك البيوت غير المسكونة، ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد
الله الصالحين. قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على
التخصيص، وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه، فإذا دخل
بيتا لغيره استأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتا لنفسه سلم كما ورد في الخبر، يقول: السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين، قاله ابن عمر. وهذا إذا كان فارغا، فإن كان فيه أهله وخدمه

(1) كذا في ك: وهو الأشبه. وفى أ وب وج‍ وى: ضيفكم.
318

فليقل: السلام عليكم. وإن كان مسجدا فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وعليه حمل ابن عمر البيت الفارغ. قال ابن العربي: والذي أختاره إذا كان البيت فارغا
ألا يلزم السلام، فإنه إن كان المقصود الملائكة فالملائكة لا تفارق العبد بحال، أما إنه
إذا دخلت بيتك يستحب لك ذكر الله بأن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وقد تقدم
في سورة " الكهف " (1). وقال القشيري في قوله: " إذا دخلتم بيوتا ": والأوجه أن يقال
إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإن كان
في البيت من ليس بمسلم قال السلام على من اتبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين. وذكر ابن خويز منداد قال: كتب إلى أبو العباس الأصم قال حدثنا محمد
ابن عبد الله بن عبد الحكم قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا جعفر بن ميسرة عن زيد بن أسلم
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أهلها واذكروا اسم الله
فإن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر اسم الله تعالى على طعامه يقول الشيطان لأصحابه
لا مبيت لكم ها هنا ولا عشاء وإذا لم يسلم أحدكم إذا دخل ولم يذكر اسم الله على طعامه قال
الشيطان لأصحابه أدركتم المبيت والعشاء).
قلت: هذا الحديث ثبت (2) معناه مرفوعا من حديث جابر، خرجه مسلم. وفي كتاب
أبى داود عن أبي مالك الأشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولج الرجل
بيته فليقل اللهم إني أسألك خير الولوج وخير الخروج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى
الله ربنا توكلنا ليسلم على أهله).
الحادية عشرة - قوله تعالى: (تحية) مصدر، لان قوله: " فسلموا " معناه فحيوا.
وصفها بالبركة لان فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه. ووصفها أيضا بالطيب لان
سامعها يستطيبها. والكاف من قوله: " كذلك " كاف تشبيه. و " ذلك " إشارة إلى هذه
السنن، أي كما بين لكم سنة دينكم في هذه الأشياء يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم.
"

(1) راجع ج 10 ص 406.
(2) كذا في الأصول. وقد ورد معنى هذا الحديث في كتاب الأدب
المفرد للبخاري من رواية جابر.
319

قوله تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا
معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك
أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم
فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم (62)
قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر
جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه) فيه مسألتان:
الأولى - قوله تعالى: (إنما المؤمنون) " إنما " في هذه الآية للحصر، المعنى:
لا يتم ولا يكمل إيمان من آمن بالله ورسول إلا بأن يكون من الرسول سامعا غير معنت في أن
يكون الرسول يريد إكمال أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع، ونحو ذلك. وبين
تعالى في أول السورة أنه أنزل آيات بينات، وإنما النزول على محمد صلى الله عليه وسلم، فختم
السورة بتأكيد الامر في متابعته عليه السلام، ليعلم أن أوامره كأوامر القرآن.
الثانية - واختلف في الامر الجامع ما هو، فقيل: المراد به ما للامام من حاجة إلى
تجمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، من إقامة سنة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم وللحروب،
قال الله تعالى: " وشاورهم في (1) الامر " [آل عمران: 159]. فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور
في ذلك. والامام الذي يترقب إذنه هو إمام الامرة، فلا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه، فإذا
ذهب بإذنه ارتفع عنه الظن السيئ. وقال مكحول والزهري: الجمعة من الامر الجامع.
وإمام الصلاة ينبغي أن يستأذن إذا قدمه إمام الامرة، إذا كان يرى المستأذن. قال
ابن سيرين: كانوا يستأذنون الامام على المنبر، فلما كثر ذلك قال زياد: من جعل يده على
فيه فليخرج دون إذن، وقد كان هذا بالمدينة حتى أن سهل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة
فاستأذن الامام. وظاهر الآية يقتضى أن يستأذن أمير الامرة الذي هو في مقعد النبوة،
فإنه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين. فأما إمام الصلاة فقط

(1) راجع ج 4 ص 250.
320

فليس ذلك إليه، لأنه وكيل على جزء من أجزاء الدين للذي هو في مقعد النبوة. وروي أن هذه
الآية نزلت في حفر الخندق حين جاءت قريش وقائدها أبو سفيان، وغطفان وقائدها عيينة
بن حصن، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم الخندق على المدينة، وذلك في شوال سنة خمس
من الهجرة، فكان المنافقون يتسللون لواذا من العمل ويعتذرون بأعذار كاذبة. ونحوه روى
أشهب وابن عبد الحكم عن مالك، وكذلك قال محمد بن إسحاق. وقال مقاتل: نزلت في عمر
رضي الله عنه، استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في الرجعة فأذن له وقال:
(انطلق فوالله ما أنت بمنافق) يريد بذلك أن يسمع المنافقين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما
: إنما استأذن عمر رضي الله عنه في العمرة فقال عليه السلام لما أذن له: (يا أبا حفص
لا تنسنا في صالح دعائك).
قلت: والصحيح الأول لتناوله جميع الأقوال. واختار ابن العربي ما ذكره في نزول الآية
عن مالك وابن إسحاق، وأن ذلك مخصوص في الحرب. قال: والذي يبين ذلك أمران:
أحدهما - قوله في الآية الأخرى: " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا " [النور: 63]. وذلك
أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأمر الله جميعهم بألا يخرج أحد منهم حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك
يتبين إيمانه. الثاني - قوله: " لم يذهبوا حتى يستأذنوه " وأي إذن في الحدث (1) والامام يخطب،
وليس للامام خيار في منعه ولا إبقائه، وقد قال: " فأذن لمن شئت منهم "، فبين بذلك أنه
مخصوص في الحرب.
قلت: القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى. (فأذن لمن شئت منهم) فكان
النبي صلى الله عليه وسلم بالخيار إن شاء أن يأذن وإن شاء منع. وقال قتادة: قوله: " فأذن لمن
شئت منهم " منسوخة بقوله: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " (2) [التوبة: 43].
أي لخروجهم
عن الجماعة إن علمت لهم عذرا. (إن الله غفور رحيم).

(1) في ب وج‍ وك: المحدث.
(2) راجع ج 8 ص 154.
321

قوله تعالى: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا
قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخلفون عن
أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63)
قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) يريد: يصيح من
بعيد: يا أبا القاسم! بل عظموه كما قال في الحجرات: " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله " (1) [الحجرات: 3]
الآية. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا يا رسول الله، في رفق ولين، ولا تقولوا
يا محمد بتجهم. وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه. ابن عباس: لا تتعرضوا لدعاء
الرسول عليكم بإسخاطه فإن دعوته موجبة. (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا) التسلل
والانسلال: الخروج. واللواذ من الملاوذة، وهي أن تستتر بشئ مخافة من يراك، فكان
المنافقون يتسللون عن صلاة الجمعة. " لواذا " مصدر في موضع الحال، أي متلاوذين،
أي يلوذ بعضهم ببعض، ينضم إليه استتارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن
على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة، حكاه النقاش، وقد مضى القول فيه.
وقيل: كانوا يتسللون في الجهاد رجوعا عنه يلوذ عضهم ببعض. وقال الحسن: لواذا
فرارا من الجهاد، ومنه قول حسان:
وقريش تجول (2) منا لواذا * لم تحافظ وخف منها الحلوم
وصحت واوها لتحركها في لاوذ. يقال، لاوذ يلاوذ ملاوذة ولواذا. ولاذ يلوذ [لوذا]
ولياذا، انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها اتباعا للاذ في الاعتلال، فإذا كان مصدر فاعل
لم يعل، لان فاعل لا يجوز أن يعل.
قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) بهذه الآية احتج الفقهاء على أن
الامر على الوجوب. ووجهها أن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد

(1) راجع ج 16 ص 328.
(2) في الأصول: " منكم " والتصويب عن الديوان، والرواية فيه،
وقريش تلوذ منا لواذا * لم يقيموا وخفف منها الحلوم
322

بالعقاب عليها بقوله: (أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) فتحرم مخالفته، فيجب
امتثال أمره. والفتنة هنا القتل، قاله ابن عباس. عطاء: الزلازل والأهوال. جعفر بن محمد:
سلطان جائر يسلط عليهم. وقيل: الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول. والضمير
في " أمره " قيل هو عائد إلى أمر الله تعالى، قاله يحيى بن سلام. وقيل: إلى أمر رسوله
عليه السلام، قاله قتادة. ومعنى: " يخالفون عن أمره " أي يعرضون عن أمره. وقال
أبو عبيدة والأخفش: " عن " في هذا الموضع زائدة. وقال الخليل وسيبويه: ليست
بزائدة، والمعنى: يخالفون بعد أمره، كما قال:
*... لم تنتطق عن تفضل (1)
ومنه قوله: " ففسق عن أمر ربه " (2) [الكهف: 50] أي بعد أمر ربه. و " أن " في موضع نصب ب‍ " - يحذر ".
ولا يجوز عند أكثر النحويين حذر زيدا، وهو في " أن " جائز، لان حروف الخفض
تحذف معها.
قوله تعالى: ألا إن الله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم
عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم (64)
قوله تعالى: (ألا إن الله ما في السماوات والأرض) خلقا وملكا. (قد يعلم ما أنتم
عليه) فهو يجازيكم به. و " يعلم " هنا بمعنى علم. (ويوم يرجعون إليه) بعد ما كان
في خطاب رجع في خبر، وهذا يقال له: خطاب التلوين. (فينبئهم بما عملوا) أي يخبرهم
بأعمالهم ويجازيهم بها. (والله بكل شئ عليم) من أعمالهم وأحوالهم.
ختمت السورة بما تضمنت من التفسير، والحمد لله على التيسير.

(1) هذا من معلقة امرئ القيس. والبيت بتمامه:
وتضحى فتيت المسك فوق فراشها * نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
(2) راجع ج 10 ص 419 فما بعد.
323

تم بعون الله تعالى الجزء الثاني عشر من تفسير القرطبي
يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء عشر، وأوله سورة " الفرقان "
محققه
أبو إسحاق إبراهيم أطفيش
324