الكتاب: دقائق التفسير
المؤلف: ابن تيمية
الجزء: ٢
الوفاة: ٧٢٨
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: د. محمد السيد الجليند
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٠٤
المطبعة: دمشق - مؤسسة علوم القرآن
الناشر: مؤسسة علوم القرآن
ردمك:
ملاحظات:

فصل
قال شيخ الإسلام
الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم) *
7

وقوله تعالى * (إلا ما ذكيتم) * عائد إلى ما تقدم من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكلية السبع عند عامة العلماء كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم
فما أصابه الموت قبل أن يموت أبيح لكن تنازع العلماء فيما يذكى من ذلك فمنهم من قال ما تيقن موته لا يذكى كقول مالك ورواية عن أحمد
ومنهم من يقول ما يعيش معظم اليوم ذكي
ومنهم من يقول ما كانت فيه حياة مستقرة ذكي كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد
ثم من هؤلاء من يقول الحياة المستقرة ما يزيد على حركة المذبوح ومنهم من يقول ما يمكن أن يزيد على حياة المذبوح والصحيح أنه إذا كان حيا فذكي حل أكله ولا يعتبر في ذلك حركة مذبوح فإن حركات المذبوح لا تنضبط بل فيها ما يطول زمانه وتعظم حركته وفيها ما يقل زمانه وتضعف حركته وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا فمتى جرى الدم الذي يجري من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله
والناس يفرقون بين دم ما كان حيا ودم ما كان ميتا فإن الميت يجمد دمه ويسود ولهذا حرم الله الميتة لاحتقان الرطوبات فيها فإذا جرى منه الدم الذي يخرج من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله وإن تيقن أنه يموت فإن المقصود ذبح وما فيه حياة فهو حي وإن تيقن أنه يموت بعد ساعة فعمر بن الخطاب رضي الله عنه تيقن أنه يموت وكان حيا جازت وصيته وصلاته وعهوده وقد أفتى غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم بأنها إذا مصعت بذنبها أو طرفت بعينها أو ركضت برجلها بعد الذبح حلت ولم يشترطوا أن تكون حركتها قبل ذلك أكثر من حركة المذبوح وهذا قاله الصحابة لأن الحركة دليل على الحياة والدليل لا ينعكس فلا يلزم إذا لم يوجد هذا منها أن تكون ميتة بل قد تكون حية وإن لم يوجد منها مثل ذلك والإنسان قد يكون نائما فيذبح وهو نائم ولا يضطرب وكذلك المغمي عليه يذبح ولا يضطرب وكذلك الدابة قد تكون حية فتذبح ولا تضطرب لضعفها عن الحركة وإن كانت حية ولكن خروج الدم الذي لا يخرج إلا من مذبوح وليس هو دم الميت دليل على الحياة والله أعلم
8

فصل
وتجوز ذكاة المرأة والرجل وتذبح المرأة وإن كانت حائضا فإن حيضتها ليست في يدها وذكاة المرأة جائزة باتفاق المسلمين وقد ذبحت امرأة شاة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها
فصل
والتسمية على الذبيحة مشروعة لكن قيل هي مستحبة كقول الشافعي وقيل واجبة مع العمد وتسقط مع السهو كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه وقيل تجب مطلقا فلا تؤكل الذبيحة بدونها سواء تركها عمدا أو سهوا كالرواية الأخرى عن أحمد اختارها أبو الخطاب وغيره وهو قول غير واحد من السلف وهذا أظهر الأقوال فإن الكتاب والسنة قد علقا الحل بذكر اسم الله في غير موضع كقوله * (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) * وقوله * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * * (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *
وفي الصحيحين أنه قال
ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا وفي الصحيح أنه قال لعدي
إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فقتل فكل وإن خالط كلبك كلاب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره وثبت في الصحيح أن الجن سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال
لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي صلى الله عليه وسلم
فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن
فهو صلى الله عليه وسلم لم يبح للجن المؤمنين إلا ما ذكر اسم الله عليه فكيف بالإنس ولكن إذا وجد الإنسان لحما قد ذبحه غيره جاز له أن يأكل منه ويذكر اسم الله عليه لحمل أمر الناس على الصحة والسلامة كما ثبت في الصحيح أن قوما قالوا
يا رسول الله إن ناسا حديثي عهد بالإسلام يأتونا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا فقال سموا أنتم وكلوا
فصل
أما عظم الميتة وقرنها وظفرها وما هو من جنس ذلك كالحافر ونحوه وشعرها وريشها ووبرها
9

ففي هذين النوعين للعلماء ثلاثة أقوال
أحدها نجاسة الجميع كقول الشافعي في المشهور وذلك رواية عن أحمد
والثاني أن العظام ونحوها نجسة والشعور ونحوها طاهرة وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأحمد
والثالث أن الجميع طاهر كقول أبي حنيفة وهو قول في مذهب مالك وأحمد وهذا القول هو الصواب لأن الأصل فيها الطهارة ولا دليل على النجاسة
وأيضا فإن هذه الأعيان هي من الطيبات ليست من الخبائث فتدخل في آية التحليل وذلك لأنها لم تدخل فيما حرمه الله من الخبائث لا لفظا ولا معنى أما اللفظ فكقوله تعالى * (حرمت عليكم الميتة) * لا يدخل فيها الشعور وما أشبهها وذلك لأن الميت ضد الحي والحياة نوعان حياة الحيوان وحياة النبات فحياة الحيوان خاصتها الحس والحركة الإرادية وحياة النبات النمو والاغتذاء
وقوله * (حرمت عليكم الميتة) * إنما هو بما فارقته الحياة الحيوانية دون النباتية فإن الزرع والشجر إذا يبس لم ينجس باتفاق المسلمين وقد تموت الأرض ولا يوجب ذلك نجاستها باتفاق المسلمين وإنما الميتة المحرمة ما كان فيها الحس والحركة الإرادية وأما الشعر فإنه ينمو ويغتذي ويطول كالزرع ليس فيه حس ولا يتحرك بإرادة ولا تحله الحياة الحيوانية حتى يموت بمفارقتها ولا وجه لتنجيسه
وأيضا فلو كان الشعر جزءا من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوم يحبون أسنمة الإبل وأليات الغنم فقال
ما أبين من البهيمة وهي حية فهو ميت رواه أبو داود وغيره وهذا متفق عليه بين العلماء فلو كان حكم الشعر حكم السنام والألية لما جاز قطعه في حال الحياة فلما اتفق العلماء على أن الشعر والصوف إذا جز من الحيوان كان حلالا طاهرا علم أنه ليس مثل اللحم
وأيضا فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى شعره لما حلق رأسه للمسلمين وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستنجي ويستجمر فمن سوى بين الشعر والبول والعذرة فقد أخطأ خطأ مبينا
وأما العظام ونحوها فإذا قيل أنها داخلة في الميتة لأنها تنجس قيل لمن قال ذلك لم تأخذوا بعموم اللفظ فإن ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب والخنفساء لا ينجس عندكم
10

وعند جمهور العلماء مع أنها ميتة موتا حيوانيا
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء ومن نجس هذا قال في أحد القولين أنه لا ينجس المائعات الواقعة فيه لهذا الحديث وإذا كان كذلك علم أن علة نجاسة الميتة إنما هو احتباس الدم فيها فما لا نفس له سائلة ليس فيه دم سائل فإذا مات لم يحتبس فيه الدم فلا ينجس فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجيس من هذا فإن العظم ليس فيه دم سائل ولا كان متحركا بالإرادة إلا على وجه التبع
فإذا كان الحيوان الكامل الحساس المتحرك بالإرادة لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه سائل
ومما يبين صحة قول الجمهور أن الله إنما حرم علينا الدم المسفوح كما قال تعالى * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) * فإذا عفي عن الدم غير المسفوح مع أنه من جنس الدم حيث علم أن الله سبحانه فرق بين الدم الذي يسيل وبين غيره فلهذا كان المسلمون يصنعون اللحم في المرق وخيوط الدم في القدر تبين ويأكلون ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها ولولا هذا لاستخرجوا الدم من العروق كما يفعل اليهود
والله تعالى حرم ما مات حتف أنفه أو لسبب غير جارح محدد كالموقودة والمتردية والنطيحة وحرم صلى الله عليه وسلم ما صيد بغيره من المعراض وقال إنه وقيذ والفرق بينهما إنما هو سفح الدم فدل على أن سبب التنجيس هو احتقان الدم واحتباسه وإذا سفح بوجه خبيث بأن يذكر عليه غير اسم الله كان الخبث هنا من وجه آخر فإن التحريم تارة لوجود الدم وتارة لفساد التذكية كذكاة المجوسي والمرتد والذكاة في غير المحل
فإذا كان كذلك فالعظم والظفر والقرن والظلف وغير ذلك ليس فيه دم مسفوح فلا وجه لتنجيسه وهذا قول جمهور السلف
قال الزهري كان خيار هذه الأمة يتمشطون بأمشاط من عظام الفيل وقد روي في العاج حديث معروف لكن فيه نظر ليس هذا موضعه فإنا لا نحتاج إلى الاستدلال بذلك
وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شاة ميمونة
هلا أخذتم إهابها
11

فانتفعتم به قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها وليس في البخاري ذكر الدباغ ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه ولكن ذكره ابن عيينة ورواه مسلم في صحيحه وقد طعن الإمام أحمد في ذلك وأشار إلى غلط ابن عيينة فيه وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لأجل هذا الحديث
وحينئذ فهذا النص يقتضي جواز الانتفاع بها بعد الدبغ بطريق الأولى لكن إذا قيل أن الله حرم بعد ذلك الانتفاع بالجلود حتى تدبغ أو قيل إنها لا تطهر بالدباغ لم يلزم تحريم العظام ونحوها لأن الجلد جزء من الميتة فيه الدم كما في سائر أجزائه والنبي صلى الله عليه وسلم جعل ذكاته دباغه لأن الدبغ ينشف رطوبته فدل على أن سبب التنجيس هو الرطوبات والعظم ليس فيه نفس سائلة وما كان فيه منها فإنه يجف وييبس وهي تبقى وتحفظ أكثر من الجلد فهي أولى بالجهارة من الجلد
والعلماء تنازعوا في الدباغ هل يطهر فذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما أنه لا يطهر ومذهب الشافعي وأبي حنيفة والجمهور أنه يطهر وإلى هذا القول رجع الإمام أحمد كما ذكر ذلك عنه الترمذي
وحديث ابن حكيم يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن ينتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب بعد أن كان أذن لهم في ذلك لكن هذا قد يكون قبل الدباغ فيكون قد
رخص فإن حديث الزهري بين أنه قد رخص في جلود الميتة قبل الدباغ فيكون قد رخص لهم في ذلك لما نهاهم عن الانتفاع بها قبل الدباغ نهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولهذا قال طائفة من أهل اللغة أن الإهاب اسم لما لا يدبغ ولهذا قرن معه العصب والعصب لا يدبغ
فصل وأما لبن الميتة وأنفحتها ففيه قولان مشهوران للعلماء
أحدهما أن ذلك طاهر كقول أبي حنيفة وغيره وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد
والثاني أنه نجس كقول الشافعي والرواية الأخرى عن أحمد وعلى هذا النزاع انبنى نزاعهم في جبن المجوس فإن ذبائح المجوس حرام عند جمهور السلف والخلف وقد قيل أن ذلك مجمع عليه بين الصحابة فإذا صنعوا جبنا والجبن يصنع بالأنفحة كان فيه هذان القولان
والأظهر أن إنفحة الميتة ولبنها طاهر لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا من جبن المجوس وكان هذا ظاهرا سائغا بينهم وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر
12

فإنه من نقل بعض الحجازيين وفيه نظر وأهل العراق كانوا أعلم بهذا فإن المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحجاز
ويدل على ذلك أن سلمان الفارسي كان نائب عمر بن الخطاب على المدائن وكان يدعو الفرس إلى الإسلام وقد ثبت عنه أنه سئل عن شيء من السمن والجبن والفراء فقال الحلال ما حلله الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه وقد رواه أبو داود مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه لم يكن السؤال عن جبن المسلمين وأهل الكتاب فإن هذا أمر بين وإنما كان السؤال عن جبن المجوس فدل ذلك على أن سلمان كان يفتي بحلها وإذا كان ذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انقطع النزاع بقول النبي صلى الله عليه وسلم
وأيضا فاللبن والإنفحة لم يموتا وإنما نجسها من نجسها لكونها في وعاء نجس فتكون مائعا في وعاء نجس فالنجس مبني على مقدمتين على أن المائع لاقى وعاء نجسا وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجسا فيقال أولا لا نسلم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة وقد تقدم أن السنة دلت على طهارته لا على نجاسته ويقال ثانيا الملاقاة في الباطن لا حكم لها كما قال تعالى * (من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) * ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في باطنه والله أعلم
فصل
في قوله تعالى * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * سئل شيخ الإسلام عن جماعة من المسلمين اشتد نكيرهم على من أكل من ذبيحة يهودي أو نصراني مطلقا ولا يدري ما حالهم هل دخلوا في دينهم قبل نسخه وتحريفه وقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أم بعد ذلك بل يتناكحون وتقر مناكحتهم عند جميع الناس وهم أهل ذمة يؤدون الجزية ولا يعرف من هم ولا من هم آباؤهم فهل للمنكرين عليهم منعهم من الذبح للمسلمين أم لهم الأكل من ذبائحهم كسائر بلاد المسلمين
أجاب رضي الله عنه ليس لأحد أن ينكر على أحد أكل من ذبيحة اليهود والنصارى في هذا الزمان ولا يحرم ذبحهم للمسلمين ومن أنكر ذلك فهو جاهل مخطىء مخالف لإجماع المسلمين فإن أصل هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين علماء المسلمين ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء كيف والقول بتحريم ذلك
13

في هذا الزمان وقبله قول ضعيف جدا مخالف لما علم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما علم من حال أصحابه والتابعين لهم بإحسان وذلك لأن المنكر لهذا لا يخرج عن قولين
إما أن يكون ممن يحرم ذبائح أهل الكتاب مطلقا كما يقول ذلك من يقوله من الرافضة وهؤلاء يحرمون نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم وهذا ليس من أقوال أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالفتيا ولا من أقوال أتباعهم وهو خطأ مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم فإن الله تعالى قال في كتابه * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) *
فإن قيل هذه الآية معارضة بقوله * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * وبقوله تعالى * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * قيل الجواب من ثلاثة أوجه
أحدهما أن الشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب وإنما يدخلون في الشرك المقيد قال الله تعالى * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * فجعل المشركين قسما غير أهل الكتاب وقال تعالى * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا) * فجعلهم قسما غيرهم فأما دخولهم في المقيد ففي قوله تعالى * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) * فوصفهم بأنهم مشركون
وسبب هذا أن أصل دينهم الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل ليس فيه شرك كما قال تعالى * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) * وقال تعالى * (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) * وقال * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) * ولكنهم بدلوا وغيروا فابتدعوا من الشرك ما لم ينزل به الله سلطانا فصار فيهم شرك باعتبار ما ابتدعوا لا باعتبار أصل الدين وقوله تعالى " ولا تمسكوا بعصم
14

الكوافر هو تعريف للكوافر المعروفات اللاتي كن في عصم المسلمين وأولئك كن مشركات لا كتابيات من أهل مكة ونحوها
والوجه الثاني إذا قدر أن لفظ المشركات ولفظ الكوافر يعني الكتابيات فآية المائدة خاصة وهي متأخرة نزلت بعد سورة البقرة والممتحنة باتفاق باتفاق العلماء كما في
الحديث
المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها والخاص المتأخر يقضي على العام المتقدم باتفاق علماء المسلمين لكن الجمهور يقولون أنه مفسر له فتبين أن صورة التخصيص لم ترد باللفظ العام وطائفة يقولون أن ذلك نسخ بعد أن شرع
الوجه الثالث إذا فرضنا النصين خاصين فأحد النصين حرم ذبائحهم ونكاحهم والآخر أحلهما فالنص المحلل لهما هنا يجب تقديمه لوجهين
أحدهما أن سورة المائدة هي المتأخرة باتفاق العلماء فتكون ناسخة للنص المتقدم ولا يقال أن هذا نسخ للحكم مرتين لأن فعل ذلك قبل التحريم لم يكن بخطاب شرعي حلل ذلك بل كان لعدم التحريم بمنزلة شرب الخمر وأكل الخنزير ونحو ذلك والتحريم المبتدأ لا يكون نسخا لاستصحاب حكم الفعل ولهذا لم يكن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ناسخا لما دل عليه قوله تعالى * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه) * الآية من أن الله عز وجل لم يحرم قبل نزول الآية إلا هذه الأصناف الثلاثة فإن هذه الآية نفت تحريم ما سوى الثلاثة إلى حين نزول الآية ولم يثبت تحليل ما سوى ذلك بل كان ما سوى ذلك عفوا لا تحليل فيه ولا تحريم كفعل الصبي والمجنون وكما في الحديث المعروف
الحلال ما حلله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه وهذا محفوظ عن سلمان الفارسي موقوفا عليه أو مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ويدل على ذلك أنه قال في سورة المائدة * (اليوم أحل لكم الطيبات) * فأخبر أنه أحلها ذلك اليوم وسورة المائدة مدنية بالإجماع وسورة الأنعام مكية بالإجماع فعلم أن تحليل الطيبات كان بالمدينة لا بمكة وقوله تعالى * (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات) * * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) * إلى آخرها فثبت
15

نكاح الكتابيات وقبل ذلك كان إما عفوا على الصحيح وإما محرما ثم نسخ يدل عليه أن آية المائدة لم ينسخها شيء
الوجه الثاني أنه قد ثبت حل طعام أهل الكتاب بالكتاب والسنة والإجماع والكلام في نسائهم كالكلام في ذبائحهم فإذا ثبت حل أحدهما ثبت حل الآخر وحل أطعمتهم ليس له معارض أصلا ويدل على ذلك أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل على أنهم كانوا مجتمعين على جواز ذلك
فإن قيل قوله تعالى * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * محمول على الفواكه والحبوب قيل هذا خطأ لوجوه
أحدها أن هذه مباحة من أهل الكتاب والمشركين والمجوس فليس في تخصيصها بأهل الكتاب فائدة
الثاني أن إضافة الطعام إليهم يقتضي أنه صار طعاما بفعلهم وهذا إنما يستحق في الذبائح التي صارت لحما بذكاتهم فأما الفواكه فإن الله خلقها مطعومة لم تصر طعاما بفعل آدمي
الثالث أنه قرن حل الطعام بحل النساء وأباح طعامنا لهم كما أباح طعامهم لنا ومعلوم أن حكم النساء مختص بأهل الكتاب دون المشركين وكذلك حكم الطعام والفاكهة والحب لا يختص بأهل الكتاب
الرابع أن لفظ الطعام عام وتناوله اللحم ونحوه أقوى من تناوله للفاكهة فيجب إقرار اللفظ على عمومه لا سيما وقد قرن به قوله تعالى * (وطعامكم حل لهم) * ونحن يجوز لنا أن نطعمهم كل أنواع طعامنا فكذلك يحل لنا أن نأكل أنواع طعامهم
وأيضا فقد ثبت في الصحاح بل بالنقل المستفيض أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدت له اليهودية عام خيبر شاة مشوية فأكل منها لقمة ثم قال
إن هذه تخبرني أن فيها سما ولولا أن ذبائحهم حلال لما تناول من تلك الشاة وثبت في الصحيح أنهم لما غزوا خيبر أخذ بعض الصحابة جرابا فيه شحم قال قلت لا أطعم اليوم من هذا أحدا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ولم ينكر عليه وهذا مما استدل به العلماء على جواز أكل جيش المسلمين من طعام أهل الحرب قبل القسمة
وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب دعوة يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة رواه الإمام أحمد والإهالة في الودك الذي يكون من الذبيحة ومن السمن ونحوه الذي يكون في أوعيتهم التي يطبخون فيها في العادة ولو كانت ذبائحهم محرمة لكانت أوانيهم كأواني المجوس ونحوهم
16

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأكل في أوعيتهم حتى رخص أن يغسل
وأيضا فقد استفاض أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتحوا الشام والعراق ومصر كانوا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب اليهود والنصارى وإنما امتنعوا من ذبائح المجوس ووقع في جبن المجوس من النزاع ما هو معروف بين المسلمين لأن الجبن يحتاج إلى الإنفحة وفي إنفحة الميتة نزاع معروف بين العلماء فأبو حنيفة يقول بطهارتها ومالك والشافعي يقولان بنجاستها وعن أحمد روايتان
فصل المأخذ الثاني الإنكار على من يأكل ذبائح أهل الكتاب هو كون هؤلاء الموجودين لا يعلم أنهم من ذرية من دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل وهو المأخذ الذي دل عليه كلام السائل وهو المأخذ الذي تنازع فيه علماء المسلمين أهل السنة والجماعة وهذا مبني على أصل وهو أن قوله تعالى * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * هل المراد به من هو بعد نزول القرآن متدين بدين أهل الكتاب أو المراد به من كان آباؤه قد دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل على قولين للعلماء
فالقول الأول هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلاف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين في مذهب أحمد بل هو المنصوص عنه صريحا
والثاني قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد
وأصل هذا القول أن عليا وابن عباس تنازعا في ذبائح بني تغلب فقال علي لا تباح ذبائحهم ولا نساؤهم فإنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر وروي عنه تغزوهم لأنهم لم يقوموا بالشروط التي شرطها عليهم عثمان فإنه شرط عليهم أن لا وغير ذلك من الشروط وقال ابن عباس بل تباح لقوله تعالى * (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) * وعامة المسلمين من الصحابة وغيرهم لم يحرموا ذبائحهم ولا يعرف ذلك إلا عن علي وحده وقد روي معنى قول ابن عباس عن عمر بن الخطاب
فمن العلماء من رجح قول عمر وابن عباس وهو قول الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وصححها طائفة من أصحابه بل هي آخر قوليه بل عامة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا القول وقال أبو بكر الأثرم ما علمت أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كرهه إلا عليا وهذا قول جماهير فقهاء الحجاز والعراق وفقهاء الحديث والرأي كالحسن وإبراهيم النخعي والزهري وغيرهم وهو الذي نقله عن أحمد أكثر
17

أصحابه وقال إبراهيم بن الحارث كان آخر قولي أحمد على أنه لا يرى بذبائحهم بأسا
ومن العلماء من رجح قول علي وهو قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه وأحمد إنما اختلف اجتهاده في بني تغلب وهم الذين تنازع فيهم الصحابة فأما سائر اليهود والنصارى من العرب مثل تنوخ وبهراء وغيرهما من اليهود فلا أعرف عن أحمد في حل ذبائحهم نزاعا ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وغيرهم من السلف وإنما كان النزاع بينهم في بني تغلب خاصة ولكن من أصحاب أحمد من جعل فيهم روايتين كبني تغلب والحل مذهب الجمهور كأبي حنيفة ومالك وما أعلم للقول الآخر قدوة من السلف
ثم هؤلاء المذكورون من أصحاب أحمد قالوا بأنه من كان أحد أبويه غير كتابي بل مجوسيا لم تحل ذبيحته ومناكحته نسائه وهذا مذهب الشافعي فيما إذا كان الأب مجوسيا وأما الأم فله فيها قولان فإن كان الأبوان مجوسيين حرمت ذبيحته عند الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد وحكي ذلك عن مالك وغالب ظني أن هذا غلط على مالك فإني لم أجده في كتب أصحابه وهذا تفريع على الرواية المخرجة عن أحمد في سائر اليهود والنصارى من العرب
وهذا مبني على إحدى الروايتين عنه في نصارى بني تغلب وهي الرواية التي اختارها هؤلاء فأما إذا جعل الروايتين في بني تغلب دون غيرهم من العرب أو قيل أن النزاع عام وفرعنا على القول بحل ذبائح بني تغلب ونسائهم كما هو قول الأكثرين فإنه على هذه الرواية لا عبرة بالنسب بل لو كان الأبوان جميعا مجوسيين أو وثنيين والولد من أهل الكتاب فحكمه حكم أهل الكتاب على هذا القول بلا ريب كما صرح بذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهم
ومن ظن من أصحاب أحمد وغيرهم أن تحريم نكاح من أبواه مجوسيان أو أحدهما مجوسي قول واحد في مذهبه فهو مخطىء خطأ لا ريب فيه لأنه لم يعرف أصل النزاع في هذه المسألة ولهذا كان من هؤلاء من يتناقض فيجوز أن يقر بالجزية من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل ويقول مع هذا بتحريم نكاح نصراني العرب مطلقا ومن كان أحد أبويه غير كتابي كما فعل ذلك طائفة من أصحاب أحمد وهذا تناقض
والقاضي أبو يعلى وإن كان قد قال هذا القول هو وطائفة من أتباعه فقد رجع عن هذا القول في الجامع الكبير وهو آخر كتبه فذكر فيمن انتقل إلى دين أهل الكتاب من عبدة الأوثان كالروم وقبائل من العرب وهم تنوخ وبهراء ومن بني تغلب هل تجوز مناكحتهم وأكل ذبائحهم وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا بأس بنكاح نصارى بني تغلب وأن الرواية الأخرى مخرجة على الروايتين عنه في ذبائحهم واختار أن المنتقل إلى دينهم حكمه حكمهم
18

سواء كان انتقاله بعد مجيء شريعتنا أو قبلها وسواء انتقل إلى دين المبدلين أو دين لم يبدل ويجوز مناكحته وأكل ذبيحته
وإذا كان هذا فيمن أبواه مشركان من العرب والروم فمن كان أحد أبويه مشركا فهو أولى بذلك هذا هو المنصوص عن أحمد فإن قد نص على أنه من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن دخل في دينهم في هذا الزمان فإنه يقر بالجزية قال أصحابه وإذا أقررناه بالجزية حلت ذبائحهم ونساؤهم وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما
وأصل النزاع في هذه المسألة ما ذكرته من نزاع علي وغيره من الصحابة في بني تغلب والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه والجمهور أحلوها وهي الرواية الأخرى عن أحمد
ثم الذين كرهوا ذبائح بني تغلب تنازعوا في مأخذ علي فظن بعضهم أن عليا إنما حرم ذبائحهم ونساءهم لكونه لم يعلم أن آباءهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل وبنوا على هذا أن الاعتبار في أهل الكتاب بالنسب لا بنفس الرجل وأن من شككنا في أجداده هل كانوا من أهل الكتاب أم لا أخذنا بالاحتياط فحقنا دمه بالجزية احتياطا وحرمنا ذبيحته ونساءه احتياطا وهذا مأخذ الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد
وقال آخرون بل علي لم يكره ذبائح بني تغلب إلا لكونهم ما تدينوا بدين أهل الكتاب في واجباته ومحظوراته بل أخذوا منه حل المحرمات فقط ولهذا قال إنهم لم يتمسكوا من دين أهل الكتاب إلا بشرب الخمر وهذا المأخذ من قول علي هو المنصوص عن أحمد وغيره وهو الصواب
وبالجملة فالقول بأن أهل الكتاب المذكورين في القرآن هم من كان دخل جده في ذلك قبل النسخ والتبديل قول ضعيف والقول بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراد ذلك قول ضعيف بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وهو المنصوص الصريح عن أحمد وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم ولا أعلم بين الصحابة في ذلك نزاعا
وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم واحتج بذلك في هذه المسألة على من لا يقر الرجل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن هو في زماننا إذا انتقل إلى دين أهل الكتاب فإنه تؤكل ذبيحته وتنكح نساؤه وهذا يبين خطأ من يناقض منهم
19

وأصحاب هذا القول الذي هو قول الجمهور يقولون من دخل هو أو أبواه أو جده في دينهم بعد النسخ والتبديل أقر بالجزية سواء دخل في زماننا هذا أو قبله وأصحاب القول الآخر يقولون متى علمنا أنه لم يدخل إلا بعد النسخ والتبديل لم تقبل منه الجزية كما يقوله بعض أصحاب أحمد مع أصحاب الشافعي والصواب قول الجمهور والدليل عليه من وجوه
أحدها أنه قد ثبت أنه كان من أولاد الأنصار جماعة تهودوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بقليل كما قال ابن عباس أن المرأة كانت مقلاتا والمقلات التي لا يعيش لها ولد كثيرة القلت والقلت الموت والهلاك كما ياقل امرأة مذكار ميناث إذا كانت كثيرة الولادة للذكور والإناث والسما الكثيرة الموت قال ابن عباس فكانت المرأة تنذر إن عاش لها ولدان تجعل أحدهما يهوديا لكون اليهود كانوا أهل علم وكتاب والعرب كانوا أهل شرك وأوثان فلما بعث الله محمدا كان جماعة من أولاد الأنصار تهودوا فطلب آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام فأنزل الله تعالى * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) * الآية
فقد ثبت أن هؤلاء كان آباؤهم موجودين تهودوا ومعلوم أن هذا دخول بأنفسهم في اليهودية قبل الإسلام وبعد مبعث المسيح صلوات الله عليه وهذا بعد النسخ والتبديل ومع هذا نهى الله عز وجل عن إكراه هؤلاء الذين تهودوا بعد النسخ والتبديل على الإسلام وأقرهم بالجزية وهذا صريح في جواز عقد الذمة لمن دخل بنفسه في دين أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل فعلم أن هذا القول هو الصواب دون الآخر
ومتى ثبت أنه يعقد له الذمة ثبت أن العبرة بنفسه لا بنسبه وأنه تباح ذبيحته وطعامه باتفاق المسلمين فإن المانع لذلك لم يمنعه إلا بناء على أن هذا الصنف ليسوا من أهل الكتاب فلا يدخلون فإذا ثبت بنص السنة أنهم من أهل الكتاب دخلوا في الخطاب بلا نزاع
الوجه الثاني أن جماعة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وحولها كانوا عربا ودخلوا في دين اليهود ومع هذا فلم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم في أكل طعامهم وحل نسائهم وإقرارهم بالذمة بين من دخل أبواه بعد مبعث عيسى عليه السلام ومن دخل قبل ذلك ولا بين المشكوك في نفسه بل حكم في الجميع حكما واحدا عاما فعلم أن التفريق بين طائفة وطائفة وجعل طائفة لا تقر بالجزية وطائفة تقر ولا تؤكل ذبائحهم وطائفة يقرون وتؤكل ذبائحهم تفريق ليس له أصل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه
وقد علم من النقل الصحيح المستفيض أن أهل المدينة كان فيهم يهود كثير من العرب وغيرهم من بني كنانة وحمير وغيرهما من العرب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن
20

إنك تأتي قوما أهل كتاب وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وعدله مغافر ولم يفرق بين من دخل أبوه قبل النسخ أو بعده وكذلك وفد نجران وغيرهم من النصارى الذين كان فيهم عرب كثيرون أقرهم بالجزية وكذلك سائر اليهود والنصارى من قبائل العرب لم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه وأصحابه بين بعضهم وبعض بل قبلوا منهم الجزية وأباحوا ذبائحهم ونساءهم وكذلك نصارى الروم وغيرهم لم يفرقوا بين صنف وصنف ومن تدبر السيرة النبوية علم كل هذا بالضرورة وعلم أن التفريق قول محدث لا أصل له في الشريعة
الوجه الثالث أن كون الرجل مسلما أو يهوديا أو نصرانيا ونحو ذلك من أسماء الدين هو حكم يتعلق بنفسه لا باعتقاده وإرادته وقوله وعمله لا يلحقه هذا الاسم بمجرد اتصاف آبائه بذلك لكن الصغير حكمه في أحكام الدنيا حكم أبويه لكونه لا يستقل بنفسه فإذا بلغ وتكلم بالإسلام أو بالكفر كان حكمه معتبرا بنفسه باتفاق المسلمين فلو كان أبواه يهودا أو نصارى فأسلم كان من المسلمين باتفاق المسلمين ولو كانوا مسلمين فكفر كان كافرا باتفاق المسلمين فقد كفر بردة لم يقر عليه لكونه مرتدا لأجل آبائه وكل حكم علق بأسماء الدين من إسلام وإيمان وكفر ونفاق وردة وتهود وتنصر إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك وكون الرجل من المشركين أو أهل الكتاب هو من هذا الباب فمن كان بنفسه مشركا فحكمه حكم أهل الشرك وإن كان أبواه غير مشركين ومن كان أبواه مشركين وهو مسلم فحكمه حكم المسلمين لا حكم المشركين فكذلك إذا كان يهوديا أو نصرانيا وآباؤه مشركين فحكمه حكم اليهود والنصارى أما إذا تعلق عليه حكم المشركين مع كونه من اليهود والنصارى لأجل كونه آبائه قبل النسخ والتبديل كانوا مشركين فهذا خلاف الأصول
الوجه الرابع أن يقال قوله تعالى * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * وقوله * (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا) * وأمثال ذلك إنما هو خطاب لهؤلاء الموجودين وإخبار عنهم المراد بالكتاب هو الكتاب الذي بأيديهم الذي جرى عليه من النسخ والتبديل ما جرى ليس المراد به من كان متمسكا به قبل النسخ والتبديل فإن أولئك لم يكونوا كفارا ولا هم ممن خوطبوا بشرائع القرآن ولا قيل لهم في القرآن يا أهل الكتاب فإنهم قد ماتوا قبل نزول القرآن وإذا كان كذلك فكل من تدين بهذا الكتاب الموجود عند أهل الكتاب فهو من أهل الكتاب وهم كفار تمسكوا بكتاب مبدل منسوخ وهم مخلدون في نار جهنم كما يخلد سائر أنواع الكفار والله تعالى مع ذلك سوغ إقرارهم بالجزية وأحل طعامهم ونساءهم
الوجه الخامس أن يقال هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب بالقرآن هم كفار وإن كان أجدادهم كانوا مؤمنين وليس عذابهم في الآخرة بأخف من عذاب من كان أبوه من غير
21

أهل الكتاب بل وجود النسب الفاضل هو إلى تغليظ كفرهم أقرب منه إلى تخفيف كفرهم فمن كان أبوه مسلما وارتد كان كفره أغلظ من كفر من أسلم هو ثم ارتد ولهذا تنازع الناس فيمن ولد على الفطرة إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام هل تقبل توبته على قولين هما روايتان عن أحمد وإذا كان كذلك فمن كان أبوه من أهل الكتاب قبل النسخ
والتبديل ثم إنه لما بعث الله عيسى ومحمدا صلى الله عليهما كفر بهما وبما جاءا به من عند الله واتبع الكتاب المبدل المنسوخ كان كفره من أغلظ الكفر ولم يكن كفره أخف من كفر من دخل بنفسه في هذا الدين المبدل ولا له بمجرد نسبه حرمة عند الله ولا عند رسوله ولا ينفعه دين آبائه إذا كان هو مخالفا لهم فإن آباءه كانوا إذ ذاك مسلمين فإن دين الله هو الإسلام في كل وقت فكل من آمن بكتب الله ورسله في كل زمان فهو مسلم ومن كفر بشيء من كتب الله فليس مسلما في أي زمان كان
وإذا لم يكن لأولاد بني إسرائيل إذا كفروا مزية على أمثالهم من الكفار الذين ماثلوهم في اتباع الدين المبدل المنسوخ علم بذلك بطلان الفرق بين الطائفتين وإكرام هؤلاء بإقرارهم بالجزية وحل ذبائحهم ونسائهم دون هؤلاء وأنه فرق مخالف لأصول الإسلام وأنه لو كان الفرق بالعكس كان أولى ولهذا يوبخ الله بني إسرائيل على تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ما لا يوبخه غيرهم من أهل الكتاب لأنه تعالى أنعم على أجدادهم نعما عظيمة في الدين والدنيا فكفروا نعمته وكذبوا رسله وبدلوا كتابه وغيروا دينه فضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
فهم مع شرف آبائهم وحق دين أجدادهم من أسوأ الكفار عند الله وهو أشد غضبا عليهم من غيرهم لأن في كفرهم من الاستكبار والحسد والمعاندة والقسوة وكتمان العلم وتحريف الكتاب وتبديل النص وغير ذلك ما ليس في كفر هؤلاء فكيف يجعل لهؤلاء الأرجاس الأنجاس الذين هم من أبغض الخلق إلى الله مزية على سائر إخوانهم الكفار مع أن كفرهم إما مماثل لكفر إخوانهم الكفار وإما أغلظ منه إذ لا يمكن أحدا أن يقول إن كفر الداخلين أغلظ من كفر هؤلاء مع تماثلهما في الدين بهذا الكتاب الموجود
الوجه السادس أن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو حكم من أحكام الجاهلية الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل فإن الله تعالى قال * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * وقال النبي صلى الله عليه وسلم
لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على
22

أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدا بنسبه ولا يذم أحدا بنسبه وإنما يمدح الإيمان والتقوى ويذم الكفر والفسوق والعصيان
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال
أربع من أمر الجاهلية في أمتي لن يدعوهن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والنياحة والاستسقاء بالنجوم فجعل الفخر بالأحساب من أمول الجاهلية فإذا كان المسلم لا فخر له على المسلم بكون أجداده لهم حسب شريف فكيف يكون لكافر من أهل الكتاب فخر على كافر من أهل الكتاب بكون أجداده كانوا مؤمنين وإذا لم تكن مع التماثل في الدين فضيلة لأجل النسب علم أنه لأفضل لمن كان من اليهود والنصارى آباؤه مؤمنين متمسكين بالكتاب الأول قبل النسخ والتبديل على من كان أبوه داخلا فيه بعد النسخ والتبديل وإذا تماثل دينهما تماثل حكمهما في الدين والشريعة إنما علقت بالنسب أحكاما مثل كون الخلافة من قريش وكون ذوي القربى لهم الخمس وتحريم الصدقة على آل محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك لأن النسب الفاضل مظنة أن يكون أهله أفضل من غيرهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا والمظنة تعلق الحكم بما إذا خفيت الحقيقة أو انتشرت فأما إذا ظهر دين الرجل الذي به تتعلق الأحكام وعرف نوع دينه وقدره لم يتعلق بنسبه الأحكام الدينية ولهذا لم يكن لأبي لهب مزية على غيره لما عرف كفره كان أحق بالذم من غيره ولهذا جعل لمن يأتي بفاحشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ضعفين من العذاب كما جعل لمن يقنت منهن لله ورسوله أجرين من الثواب
فذووا الأنساب الفاضلة إذا أساؤوا كان إساءتهم أغلظ من إساءة غيرهم وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم فكفر من كفر من بني إسرائيل إن لم يكن أشد من كفر غيرهم وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم فلا أقل من المساواة بينهم ولهذا لم يقل أحد من العلماء أن من كفر وفسق من قريش والعرب تخفف عنه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة بل إما أن تكون عقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم في أشهر القولين أو تكون عقوبتهم أغلظ في القول الآخر لأن من أكرمه بنعمته ورفع قدره إذا قابل حقوقه بالمعاصي وقابل نعمه بالكفر كان أحق بالعقوبة ممن لم ينعم عليه كما أنعم عليه
23

الوجه السابع أن يقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وغيرهم كانوا يأكلون ذبائحهم لا يميزون بين طائفة وطائفة ولم يعرف عن أحد من الصحابة الفرق بينهم بالأنساب وإنما تنازعوا في بني تغلب خاصة لأمر يختص بهم كما أن عمر ضعف عليهم الزكاة وجعل جزيتهم مخالفة لجزية غيرهم ولم يلحق بهم سائر العرب وإنما ألحق بهم من كان بمنزلتهم
الوجه الثامن أن يقال هذا القول مستلزم أن لا يحل لنا طعام جمهور من أهل الكتاب لأنا لا نعرف نسب كثير منهم ولا نعلم قبل أيام الإسلام أن أجداده كانوا يهودا أو نصارى قبل النسخ والتبديل ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع فإذا كان هذا القول مستلزما رفع ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم أنه باطل
الوجه التاسع أن يقال ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين وهذه الوجوه كلها لبيان رجحان القول بالتحليل وأنه مقتضى الدليل فأما أن مثل هذه المسألة أو نحوها من مسائل الاجتهاد يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل فهذا خلاف إجماع المسلمين فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين وليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر على صاحب القول الآخر إلابحجة شرعية
وكذلك تنازعوا في متروك التسمية وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها غير الله وفي شحم الثرب والكليتين وذبحهم لذوات الظفر كالإبل والبط ونحو ذلك مما حرمه الله
عليهم وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا ونحو ذلك من المسائل وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين فمن صار إلى قول مقلد لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت
ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل ولا يتعصب لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة بل من كان مقلدا لزم حل التقليد فلم يرجح ولم يزيف ولم يصوب ولم يخطئ ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سمع ذلك منه فقبل ما تبين أنه حق ورد ما تبين أنه باطل ووقف ما لم يتبين فيه أحد الأمرين والله تعالى قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان كما فاوت بينهم في قوى الأبدان
وهذه المسألة ونحوها فيها من أغوار الفقه وحقائقه ما لا يعرفه إلا من عرف أقاويل العلماء ومآخذهم فأما من لم يعرف إلا قول عالم واحد وحجته دون قول العالم الآخر وحجته فإنه من العوام المقلدين لا من العلماء الذين يرجحون ويزيفون والله تعالى يهدينا وإخواننا لما
24

يحبه ويرضاه وبالله التوفيق والله أعلم
فصل
قوله تعالى * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) *
فيه قراءتان مشهورتان النصب والخفض
فمن قرأ بالنصب فإنه معطوف على الوجه واليدين والمعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم
ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه بعض الناس لأوجه
أحدها أن الذين قرؤوا ذلك من السلف قالوا عاد الأمر إلى الغسل
الثاني أنه لو كان عطفا على الرؤوس لكان المأمور به مسح الأرجل لا المسح بها والله إنما أمر في الوضوء والتيمم بالمسح بالعضو لا مسح العضو فقال تعالى * (وامسحوا برؤوسكم) * وقال * (فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * ولم يقرأ القراء المعروفون في آية التيمم وأيديكم بالنصب كما قرؤوا في آية الوضوء فلو كان عطفا لكان الموضعان سواء وذلك أن قوله * (وامسحوا برؤوسكم) * وقوله * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) * يقضتي إلصاق الممسوح لأن الباء للإلصاق وهذا يقتضي إيصال الماء والصعيد إلى أعضاء الطهارة وإذا قيل امسح رأسك ورجلك لم يقتض إيصال الماء إلى العضو وهذا يبين أن لباء حرف جاء لمعنى لا زائدة كما يظنه بعض الناس وهذا خلاف قوله
معاوى إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا فإن الباء هنا مؤكدة فلو حذفت لم يختل المعنى والباء في آية الطهارة إذا حذفت اختل المعنى فلم يجز أن يكون العطف على محل المجرور بها بل على لفظ المجرور بها أو على ما قبله
الثالث أنه لو كان عطفا على المحل لقرىء في آية التيمم * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * فكان في الآية ما يبين فساد مذهب الشارح بأنه قد دلت عليه * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) *
25

بالنصب لأن اللفظين سواء فلما اتفقوا على الجر في آية التيمم مع إمكان العطف على المحل لو كان صوابا علم أن العطف على اللفظ ولم يكن في آية التيمم منصوب معطوف على اللفظ كما في آية الوضوء
الرابع أنه قال * (وأرجلكم إلى الكعبين) * ولم يقل إلى الكعاب فلو قدر أن العطف على المحل كالقول الآخر وأن التقدير أن في كل رجلين كعبين وفي كل رجل كعب واحد لقيل إلى الكعاب كما قيل إلى المرافق لما كان في كل يد مرفق وحينئذ فالكعبان هما العظمان الناتئان في جانبي الساق ليس هو معقد الشراك مجمع الساق والقدم كما يقوله من يرى المسح على الرجلين فإذا كان الله تبارك وتعالى إنما أمر بطهارة الرجلين إلى الكعبين الناتئين والماسح يمسح إلى مجمع القدم والساق علم أنه مخالف القرآن
الوجه الخامس أن القراءتين كالآيتين والترتيب في الوضوء إما واجب وإما مستحب مؤكد الاستحباب فإذا فصل ممسوح بين مغسولين وقطع النظير عن النظير دل ذلك على الترتيب المشروع في الوضوء
الوجه السادس أن السنة تفسر القرآن وتدل عليه وتعبر عنه وهي قد جاءت بالغسل
الوجه السابع أن التيمم جعل بدلا عن الوضوء عند الحاجة فحذف شطر أعضاء الوضوء وخف الشطر الثاني وذلك فإنه حذف ما كان ممسوحا ومسح ما كان مغسولا
وأما القراءة الأخرى وهي قراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض فهي لا تخالف السنة المتواترة إذ القراءتان كالآيتين والسنة الثابتة لا تخالف كتاب الله بل توافقه وتصدقه ولكن تفسره وتبينه لمن قصر فهمه عن فهم القرآن فإن القرآن فيه دلالات خفية تخفى على كثير من الناس وفيه مواضع ذكرت مجملة تفسرها السنة وتبينها
والمسح اسم جنس يدل على إلصاق الممسوح به بالممسوح ولا يدل على لفظه وجريانه لا بنفي ولا إثبات قال أبو زيد الأنصاري وغيره العرب تقول تمسحت للصلاة فتسمي الوضوء كله مسحا ولكن من عادة العرب وغيرهم إذا كان الاسم عاما تحته نوعان خصوا أحد نوعيه باسم خاص وأبقوا الاسم العام للنوع الآخر كما في لفظة الدابة فإنه عام للإنسان وغيره من الدواب لكن للإنسان اسم يخصه فصاروا يطلقونه على غيره
وكذلك لفظ الحيوان ولفظ ذوي الأرحام يتناول لكل ذي رحم لكن للوارث بفرض أو تعصيب اسم يخصه
وكذلك لفظ المؤمن يتناول من آمن بالله وبملائكته وكتبه ورسله ومن آمن بالجبت
26

والطاغوت فصار لهذا النوع اسم يخصه وهو الكافر وأبقي اسم الإيمان مختصا بالأول وكذلك لفظ البشارة ونظائر ذلك كثيرة
ثم إنه مع القرينة تارة ومع الإطلاق أخرى يستعمل اللفظ العام في معنيين كما إذا أوصى لذوي رحمه فإنه يتناول أقاربه من مثل الرجال والنساء فقوله تعالى في آية الوضوء * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) * يقتضي إيجاب مسمى المسح بينهما وكل واحد من المسح الخاص الخالي عن الإسالة والمسح الذي معه إسالة يسمى مسحا فاقتضت الآية القدر المشترك في الموضعين ولم يكن في لفظ الآية ما يمنع كون الرجل يكون المسح بها هو المسح الذي معه إسالة ودل على ذلك قوله * (إلى الكعبين) * فأمر بمسحهما إلى الكعبين
وأيضا فإن المسح الخاص هو إسالة الماء مع الغسل فهما نوعان المسح العام الذي هو إيصال الماء ومن لغتهم في مثل ذلك أن يكتفي بأحد اللفظين كقولهم علفتها تبنا وماء باردا والماء سقي لا علف وقوله
* ورأيت زوجك في الوغى
* متقلدا سيفا ورمحا
*
والرمح لا يتقلد ومنه قوله تعالى * (يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس) * إلى قوله * (وحور عين) * فكذلك اكتفى بذكر أحد اللفظين وإن كان مراده الغسل ودل عليه قوله * (إلى الكعبين) * والقراءة الأخرى مع السنة المتواترة
ومن يقول يمسحان بلا إسالة يمسحهما إلى الكعاب لا إلى الكعبين فهو مخالف لكل واحدة من القراءتين كما أنه مخالف للسنة المتواترة وليس معه لا ظاهر ولا باطن ولا سنة معروفة وإنما هو غلط في فهم القرآن وجهل بمعناه وبالسنة المتواترة
وذكر المسح بالرجل مما يشعر بأن الرجل يمسح بها بخلاف الوجه واليد فإنه لا يمسح بهما بحال ولهذا جاء في المسح على الخفين اللذين على الرجلين ما لم يجئ مثله في الوجه واليد ولكن دلت السنة مع دلالة القرآن على المسح بالرجلين
ومن مسح على الرجلين فهو مبتدع مخالف للسنة المتواترة وللقرآن ولا يجوز لأحد أن يعمل بذلك مع إمكان الغسل والرجل إذا كانت ظاهرة وجب غسلها وإذا كانت في الخف كان حكمها مما بينته السنة كما في آية الفرائض فإن السنة بينت حال الوارث إذا كان عبدا أو كافرا أو قاتلا ونظائره متعددة والله سبحانه أعلم
27

فصل
في مجادلة أهل الكتاب في أمر المسيح
قال شيخ الإسلام
قال تعالى * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) * وقال تعالى أيضا * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) * وقال تعالى * (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) *
28

وقال تعالى * (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) *
وقال تعالى * (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) * فقد قال تعالى * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) * في موضعين
وقال تعالى * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) *
وقال تعالى * (ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم) *
وقال تعالى * (وقالت النصارى المسيح ابن الله) *
فذكر الله عنهم هذه الأقوال الثلاثة والنصارى قالت الأقوال الثلاثة لكن من الناس من يظن أن هذا قول طائفة منهم وهذا قول طائفة منهم وهذا وهذا قول طائفة منهم وقولهم ثالث ثلاثة قول النسطورية وقولهم أنه ابن الله قول الملكانية ومنهم من يقول قوله أن الله هو المسيح بن مريم قول اليعقوبية وقولهم والابن وروح القدس
وظن ابن جرير الطبري أن هذه الطوائف كانوا قبل اليعقوبية والنسطورية والملكية كما ذكره طائفة من المفسرين كابن جرير الطبري والثعلبي وغيرهما ثم تارة يحكون عن اليعقوبية أن عيسى هو الله وعن النسطورية أنه ابن الله وعن المريوسية أنه ثالث ثلاثة وتارة يحكون عن النسطورية أنه ثالث ثلاثة وعن الملكية أنه الله ويفسرون قولهم ثالث ثلاثة بالأب والابن وروح القدس
29

والصواب أن هذه الأقوال جميعها قول طوائف النصارى المشهورة الملكية واليعقوبية والنسطورية فإن هذه الطوائف كلها تقول بالأقانيم الثلاثة الأب والابن وروح القدس فتقول إن الله ثالث ثلاثة وتقول عن المسيح إنه الله وتقول إنه ابن الله وهم متفقون على اتحاد اللاهوت والناسوت وأن المتحد هو الكلمة وهم متفقون على عقيدة إيمانهم التي تتضمن ذلك وهو قولهم نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل خالق السماوات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من إله حق مولود غير مخلوق
وأما قوله تعالى * (ولا تقولوا ثلاثة) * وقوله * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) *
فقد فسروه بالتثليث المشهور عنهم المذكور في أمانتهم ومن الناس من يقول إن الله هو المسيح بن مريم قول اليعقوبية وقولهم ثالث ثلاثة هو قول النصارى الذين يقولون بالأب والابن وهم قد جعلوا الله فيها ثالث ثلاثة وسموا كل واحد من الثلاثة بالإله والرب وقد فسره طائفة بجعلهم عيسى وأمه إلهين يعبدان من دون الله
قال السدي في قوله تعالى * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) * قال قالت النصارى إن الله هو المسيح وأمه فذلك قوله * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) *
وقد قيل قول ثالث أغرب من ذلك عن أبي صخر قال لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
قال هو قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا ضعيف وقد ذكر سعيد بن البطريق في أخبار النصارى أن منهم طائفة يقال لهم المرسية يقولون إن مريم إله وإن عيسى إله فقد يقال إن هذا قول هؤلاء كما أن القول بأن عزيرا ابن الله قول طائفة من اليهود
وأما الأول فمتوجه فإن النصارى المتفقين على الأمانة كلهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة والله تعالى قد نهاهم عن أن يقولوا ذلك فقال تعالى * (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم) *
30

فذكر سبحانه في هذه الآية التثليث والاتحاد ونهاهم عنهما وبين أن المسيح إنما هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وقال * (فآمنوا بالله ورسله) * ثم قال * (ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم) * ولم يذكر هنا أمه وقوله تعالى * (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) * قال معمر عن قتادة وكلمته ألقاها إلى مريم وهو قوله كن فكان وكذلك قال قتادة ليس الكلمة صار عيسى ولكن بالكلمة صار عيسى وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل في مصنفه الذي صنفه في كتبه في الرد على الجهمية وذكره عنه الخلال والقاضي أبو يعلى قال أحمد ثم إن الجهم ادعى أمرا آخر فقال إنا وجدنا في كتاب الله آية تدل على أن القرآن مخلوق قلنا أي آية
قال قول الله * (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم) *
فقلنا إن الله منعكم الفهم في القرآن عيسى عليه السلام تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن لأن عيسى يجري عليه نسمة ومولود وطفل وصبي وغلام يأكل ويشرب وهو يخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قول عيسى ولكن المعنى في قوله جل ثناؤه * (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) * فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو الكن ولكن بالكن كان عيسى فالكن من الله قوله وليس الكن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا عيسى روح الله وكلمته لأن الكلمة مخلوقة
قالت النصارى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة
قال أحمد وأما قوله جل ثناءه * (وروح منه) * يقول من أمره كان الروح فيه كقوله * (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) * يقول من أمره وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقها الله كما يقول عبد الله وسماء الله وفي نسخة روح يملكها الله خلقها الله
وقال الشعبي في قوله تعالى * (وكلمته ألقاها إلى مريم) * الكلمة حين قال له كن
31

فكان عيسى ب كن وليس عيسى هو الكن ولكن بالكن كان وقال الليث عن مجاهد وروح منه قال رسول منه يريد مجاهد قوله * (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك) *
والمعنى أن عيسى خلق من هذه الروح وهو جبريل روح القدس سمي روحا كما سمي كلمة لأنه خلق بالكلمة والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس لأنه جاء كذلك في الكتب المتقدمة لكن ظنوا أن روح القدس هو صفة لله وجعلوها حياته وقدرته وهو رب وهذا غلط منهم فإنه لم يسم أحد من الأنبياء حياة الله ولا قدرته ولا شيئا من صفاته روح القدس بل روح القدس في غير موضع من كلام الأنبياء عليهم السلام يراد بها ما ينزله الله على قلوب الأنبياء كالوحي والهدى والتأييد ويراد بها الملك وهكذا في تفسير ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن عيسى بن مريم استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل
ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عيسى ذلك قال اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم أتهم من تلقاء نفسي وذكر تمام الحديث
وقد قال تعالى * (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين) *
وقال تعالى * (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) *
فهذا يوافق قوله تعالى * (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك) * وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أنهم سواء صدقوا محمدا أو كذبوه فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به وأمر بجهادهم فمن علم أنه نبي ولو إلى طائفة معينة فيجب تصديقه في كل ما أخبر به وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم فإذا ثبت هذا لم يغن
32

عنهم الاحتجاج بشيء من الكتب ولا الاحتجاج بشيء من المعقول بل يعلم من حيث الجملة أن كل ما يحتجون به على صحة دينهم فهو باطل وإن لم يبين فساد حججهم على التفصيل لأن الأنبياء لا يقولون إلا حقا كما أن المسيح عليه السلام لما حكم بكفر من كذبه من اليهود كان كل ما يحتج به اليهود على خلاف ذلك باطلا فكل ما عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم فهو باطل وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما مطلقا وقالوا ليس هو نبي أصلا ولا أرسل إلى أحد لا إلى العرب ولا إلى غيرهم بل كان من الكذابين امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره فإن الطريق الذي يعلم به بنوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد بطريق الأولى فإذا قالوا علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا قيل لهم معجزات محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وتواترها أبلغ والكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو صلى الله عليه وسلم قد جمع في شريعته بين العدل والفضل فإن ساغ لقائل أن يقول هو مع هذا كاذب مفتر كان على هذا التقدير الباطل غيره أولى أن يقال فيه ذلك فيبطل بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم جميع ما معهم من النبوات إذ حكم أحد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه فلو قال قائل إن هارون ويوشع وداود وسليمان كانوا أنبياء وموسى لم يكن نبيا أو أن داود وسليمان ويوشع ويحيى كانوا أنبياء والمسيح لم يكن نبيا أو قال ما يقوله السامرة إن يوشع كان نبيا ومن بعده كداود وسليمان والمسيح لم يكونوا أنبياء أو قال ما يقوله اليهود إن داود وسليمان وشيعا وحبقوق ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء والمسيح بن مريم لم يكن نبيا كان هذا قولا متناقضا معلوم البطلان فإن الذين نفى هؤلاء عنهم النبوة أحق بالنبوة وأكمل نبوة ممن أثبتوها له ودلائل نبوة الأكمل أفضل فكيف يجوز إثبات النبوة للنبي المفضول دون الفاضل وصار هذا كما لو قال قائل إن زفر وابن القاسم والمزني والأثرم كانوا فقهاء وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء أو قال إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة والخليل وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة أو قال إن صاحب الملكي والمسيحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء وبقراط وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء أو قال إن كوشيار والخرقي ونحوهما كانوا يعرفون علم الهيئة وبطليموس ونحوه لم يكن له علم بالهيئة
ومن قال إن داود وسليمان ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء ومحمد بن عبد الله لم يكن نبيا فتناقضه أظهر وفساد قوله أبين من هذا جميعه بل وكذلك من قال إن
33

موسى وعيسى رسولان رسولان والتوراة والإنجيل كتابان منزلان من عند الله ومحمدا ليس برسول والقرآن لم ينزل من الله فبطلان قوله في غاية الظهور والبيان لن تدبر ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من قبله وتدبر كتابه والكتب التي قبله وآيات نبوته وآيات نبوة هؤلاء وشرائع دينه وشرائع دين هؤلاء وهذه الجملة مفصلة مشروحة في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا التنبيه على مجامع جوابهم وهؤلاء القوم لم يأتوا بدليل واحد يدل على صدق من احتجوا به من الأنبياء فلو ناظرهم من يكذب بهؤلاء الأنبياء كلهم من المشركين والملاحدة لم يكن فيما ذكروه حجة لهم ولا حجة لهم أيضا على المسلمين الذين يقرون بنبوة هؤلاء فإن جمهور المسلمين إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بإخبار محمد أنهم أنبياء فيمتنع أن يصدقوا بالفرع مع القدح في الأصل الذي به علموا صدقهم وأيضا فالطريق الذي به علمت نبوة هؤلاء بما ثبت من معجزاتهم وأخبارهم فكذلك تعلم نبوة محمد بما ثبت من معجزاته وأخباره بطريق الأولى فيمتنع أن يصدق أحد من المسلمين بنبوة واحد من هؤلاء مع تكذيبه لمحمد في كلمة مما جاء به
فصل في عقوبة المحاربين بين وقطاع الطريق
قال الله تعالى فيهم * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * وقد روى الشافعي رحمه الله في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه في قطاع الطريق
إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا
وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا
وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف
وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض وهذا قول كثير من أهل العلم
34

كالشافعي وأحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله
ومنهم من قال للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيهم ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا والأول قول الأكثر فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول بخلاف ما لو قتل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب
الخاصة فإن هذا دمه لأولياء المقتول إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص
وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس فضررهم عام بمنزلة السراق فكان قتلهم حدا لله وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول عير مكافىء للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة والأقوى أنه يقتل لأنه قتل للفساد العام حدا كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم
وإذ كان المحاربون الحرامية جماعة فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له فقد قيل إنه يقتل المباشر فقط والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة وأن الردء والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال
المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ويرد متسريهم على قعدهم يعني أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية
35

فغنمت مالا فإن الجيش يشاركها فيما غنمت لأنها بظهره وقوته تمكنت ولكن تنفل عنه نفلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية إذا كانوا في بدايتهم الربع بعد الخمس فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية نفلهم الثلث بعد الخمس وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية لأنها في مصلحة الجيش كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير يوم بدر لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن نحوهما ظالمتان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال أراد قتل صاحبه أخرجاه في الصحيحين وتضمن كل طائفة أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد
وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا كما قد يفعله الأعراب كثيرا فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم وهذا معنى قول الله تعالى * (أو تقطع أيديهم وأرجلهم) * تقطع اليد التي يبطش بها والرجل التي يمشي عليها وتحسم يده ورجله بالزيت المغلي ونحوه لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه وكذلك تحسم يد السارق بالزيت وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا بخلاف القتل فإنه قد ينسى وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله
وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا ثم اغمدوه أو هربوا أو تركوا الحراب فإنهم ينفون فقيل نفيهم تشريدهم فلا يتركون يأوون في بلد وقيل هو حبسهم وقيل هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك
والقتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه لأن ذلك أوحى أنواع القتل
36

وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه وقال النبي صلى الله عليه وسلم
إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته وقال
إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان
وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم وهو بعد القتل عند جمهور العلماء ومنهم من قال يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف حتى قال يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل
فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانها عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم ما فعلوا والترك أفضل كما قال الله تعالى * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله) * قيل إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا فأنزل الله هذه الآية وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * وقوله * (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) * وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل نصبر
وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث
37

أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاهم بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول
اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا
ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال فقد قيل إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس
وقال أكثرهم إن حكمهم في البنيان والصحراء واحد وهذا قول مالك في المشهور عنه والشافعي وأكثر أصحاب أحمد وبعض أصحاب أبي حنيفة بل هم في البنيان أحق
بالعقوبة منهم في الصحراء لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله والمسافر لا يكون معه غالبا إلا بعض ماله وهذا الصواب لا سيما هؤلاء المحترفون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر المنسر وكانوا يسمون ببغداد العيارين
ولو حاربوا بالعصي والحجارة والمقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها فهم محاربون أيضا وقد حكي عن بعض الفقهاء لا محاربة إلا بالمحدد وحكى بعضهم الإجماع على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل
وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع كما أن من قاتل المسلمين من الكفار بأني نوع كان من أنواع القتال فهو حربي ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو عصا فهو مجاهد في سبيل الله
وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله وهذا يسمى القتل غيلة ويسميهم بعض العامة المعرجين فإذا كان المال فهل هم كالمحاربين أو يجري عليهم حكم القود فيه قولان للفقهاء
أحدهما أنهم كالمحاربين لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة كلاهما لا يمكن الاحتراز منه بل قد يكون ضرر هذا أشد لأنه لا يدري به
والثاني أن المحارب هو المجاهر بالقتال وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم والأول أشبه بأصول الشريعة بل قد يكون هذا أشد لأنه لا يدري به
38

واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان وقاتل علي رضي الله عنهما هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم على قولين في مذهب أحمد وغيره لأن في قتله فسادا
فصل
وهذا كله إذا قدر عليه فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا وإن أفضى إلى ذلك سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا ويقتلون في القتال كيفما أمكن في العنق وغيره ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم فهذا قتال وذاك إقامة حد وقتال هؤلاء أوكد من قتال الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام فإن هؤلاء قد تحزبوا لفساد النفوس والأموال وهلاك الحرث والنسل ليس مقصودهم إقامة دين ولا ملك وهؤلاء كالمحاربين الذين يأوون إلى حصن أو مغارة أو رأس جبل أو بطن واد ونحو ذلك يقطعون الطريق على من مر بهم وإذا جاءهم جند ولي الأمر يطلبهم للدخول في طاعة المسلمين والجماعة لإقامة الحدود قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات أو الجبلية الذين يعتصمون برؤوس الجبال أو المغارات لقطع الطريق وكالأحلاف الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق ويسمون ذلك النهيضة فإنهم يقاتلون كما ذكرناه ولكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار إذا لم يكونوا كفارا ولا تؤخذ أموالهم إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق فإن عليهم ضمانها فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا وإن لم نعلم عين الآخذ وكذلك لو علم عينه فإن الردء والمباشر سواء كما قلناه لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه ويرد ما يؤخذ منه على أرباب الأموال فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين من رزق الطائفة المقاتلة لهم وغير ذلك بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود ومنعهم من الفساد فإذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا لم يجهز عليه حتى يموت إلا أن يموت يكون قد وجب عليه القتل وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه إلا أن يكون عليه حد أو نخاف عاقبته ومن أسر منهم أقيم عليه الحد الذي يقام على غيره ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها وأكثرهم يأبون ذلك فأما إذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارجة عن شريعة الإسلام وأعانوهم على المسلمين قوتلوا كقتالهم
وأما من كان لا يقطع الطريق ولكنه يأخذ خفارة أو ضريبة من أبناء السبيل على الرؤوس
39

والدواب والأحمال ونحو ذلك فهذا مكاس عليه عقوبة المكاسين وقد اختلف الفقهاء جواز قتله وليس هو من قطاع الطريق فإن الطريق لا ينقطع به مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية
لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له
ويجوز للمظلومين الذين تراد أموالهم قتل المحاربين بإجماع المسلمين ولا يجب أن يبذل لهم من المال لا قليل ولا كثير إذا أمكن قتالهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال
من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد وهذا الذي يسميه الفقهاء الصائل وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية فإذا كان مطلوبه المال جاز منعه بما يمكن فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل وإن ترك القتال وأعطاهم شيئا من المال جاز وأما إذا كان مطلوبه الحرمة مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان أو يطلب من المرأة أو الصبي المملوك أو غيره الفجوربه فإنه يجب عليه أن يدفع نفسه بما يمكن ولو بالقتال ولا يجوز التمكين منه بحال بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه لأن بذل المال جائز وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز
وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان جاز له الدفع عن نفسه وهل يجب عليه قتله أم لا على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره وهذا إذا كان للناس سلطان فأما إذا كان والعياذ بالله فتنة مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين ويقتتلان على الملك فهل يجوز للإنسان إذا دخل أحدهما بلد الآخر وجرى السيف أن يدفع عن نفسه في الفتنة أو يستسلم فلا يقاتل فيها على قولين لأهل العلم في مذهب أحمد وغيره فإذا ظفر السلطان بالمحاربين الحرامية وقد أخذوا الأموال التي للناس فعليه أن يستخرج منهم الأموال التي للناس ويردها عليهم مع إقامة الحد على أبدانهم
وكذلك السارق فإن امتنعوا من إحضارهم المال بعد ثبوته عليهم عاقبهم بالحبس والضرب حتى يمكنوا من أخذه بإحضاره أو توكيل من يحضره والإخبار بمكانه كما يعاقب كل ممتنع من حق وجب عليه أداؤه فإن الله قد أباح للرجل في كتابه أن يضرب امرأته إذا نشزت فامتنعت من الحق الواجب عليها حتى تؤديه فهؤلاء أولى وأحرى وهذا المطالبة والعقوبة حق لرب المال فإن أراد هبتهم المال أو المصالحة عليه أو العفو عن عقوبتهم فله ذلك بخلاف إقامة الحد عليهم فإنه لا سبيل إلى العفو عنه بحال
40

وليس للإمام أن يلزم رب المال بترك شيء من حقه وإن كانت الأموال قد تلفت بالأكل وغيره عندهم أو عند السارق فقيل يضمنونها لأربابها كما يضمن سائر الغارمين وهو قول الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وتبقى مع الإعسار في ذمتهم إلى ميسرة وقيل لا يجتمع الغرم والقطع وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقيل يضمنونها مع اليسار فقط دون الإعسار وهو قول مالك رحمه الله
ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلا عن طلب المحاربين وإقامة الحد وارتجاع أموال الناس منهم ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمي البيكار وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزاة فإن كان له أقطاع أو عطاء يكفيهم وإلا أعطاهم تمام كفاية غزوهم من مال المصالح من الصدقات فإن هذا من سبيل الله فإن كان على أبناء السبيل المأخوذين زكاة مثل التجار الذين قد يؤخذون فأخذ الإمام زكاة أموالهم وأنفقها في سبيل الله كنفقة الذين يطلبون المحاربين جاز ولو كانت لهم شوكة قوية تحتاج إلى تأليف فأعطى الإمام من الفيء والمصالح أو الزكاة لبغض رؤسائهم يعينهم على إحضار الباقين أو لترك شره فيضعف الباقون ونحو ذلك جاز وكان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم وقد ذكر مثل ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره وهو ظاهر بالكتاب والسنة وأصول الشريعة
ولا يجوز أن يرسل الإمام من يضعف عن مقارمة الحرامية ولا من يأخذ مالا من المأخوذين التجار ونحوهم من أبناء السبيل بل يرسل من الجند الأقوياء الأمناء إلا أن يتعذر ذلك فيرسل الأمثل فالأمثل فإن كان بعض نواب السلطان أو رؤساء القرى ونحوهم يأمرون الحرامية بالأخذ في الباطن أو الظاهر حتى إذا أخذوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم وأرضى المأخوذين ببعض أموالهم أو لم يرضهم فهذا أعظم جرما من مقدم الحرامية لأن ذلك يمكن دفعه بدون ما يندفع به هذا والواجب أن يقال فيه الردء والعون لهم
فإن قتلوا قتل هو على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأكثر أهل العلم
وإن أخذوا المال قطعت يده ورجله
وإن قتلوا وأخذوا المال قتل وصلب وعلى قول طائفة من أهل العلم يقطع ويقتل ويصلب وقيل يخير بين هذين وإن كان لم يأذن لهم لكن لما قدر عليهم قاسمهم الأموال وعطل بعض الحقوق والحدود
41

ومن آوى محاربا أو سارقا أو قاتلا ونحوهم ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي ومنعه ممن يستوفي منه الواجب بلا عدوان فهو شريكه في الجرم وقد لعنه الله ورسوله روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث فإنه يطلب منه إحضاره أو الإعلام به فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب فما وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق أو الرجل المطلوب بحق وهو الذي يمنعه فإنه يجب عليه الإعلام به والدلالة عليه ولا يجوز كتمانه فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى وذلك واجب بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل فإنه لا يحل الإعلام به لأنه من التعاون على الإثم والعدوان بل يجب الدفع عنه لأنه نصر المظلوم واجب ففي الصحيحين عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه وروى مسلم نحوه عن جابر
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم وإجابة الدعوة ونصر المظلوم ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب بالفضة وعن المياثر وعن لبس الحرير والقسي والديباج والإستبرق فإن امتنع هذا العالم به من الإعلام بمكانه جاز عقوبته بالحبس وغيره حتى يخبر به لأنه امتنع من حق واجب عليه لا تدخله النيابة فعوقب كما تقدم ولا تجوز عقوبته على ذلك إلا إذا عرف أنه عالم به وهذا مطرد في ما تتولاه الولاة والقضاة وغيرهم في كل من امتنع من واجب من قول أو فعل وليس هذا مطالبة للرجل بحق وجب على غيره ولا عقوبة على جناية غيره حتى يدخل في قوله تعالى * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم
ألا لا يجني جان إلى علي نفسه وإنما ذلك مثل أن يطالب بمال قد وجب على غيره وهو ليس وكيلا ولا ضامنا ولا له عنده مال
42

أو يعاقب الرجل بجريمة قريبه أو جاره من غير أن يكون قد أذنب لا بترك واجب ولا بفعل محرم فهذا الذي لا يحل فأما هذا فإنما يعاقب على ذنب نفسه وهو أن يكون قد علم مكان الظالم الذي يطلب حضوره لاستيفاء الحق أو مكان المال الذي قد تعلق به حقوق المستحقين فيمتنع من الإعانة والنصرة الواجبة عليه في الكتاب والسنة والإجماع إما محاباة وحمية لذلك الظالم كما قد يفعل أهل المعصية بعضهم ببعض وإما معاداة أو بغضا للمظلوم وقد قال الله تعالى * (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) * وإما إعراضا عن القيام لله والقيام بالقسط الذي أوجبه الله وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه كما يفعله التاركون لنصر الله ورسوله ودينه
وكتابه الذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله اثاقلوا إلى الأرض وعلى كل تقدير فهذا الضرب يستحق العقوبة باتفاق العلماء ومن لم يسلك هذه السبل عطل الحدود وضيع الحقوق وأكل القوي الضعيف وهو يشبه من عنده مال الظالم المماطل من عين أو دين وقد امتنع من تسليمه لحاكم عادل يوفى به دينه أو يؤدي منه النفقة الواجبة عليه لأهله أو أقاربه أو مماليكه أو بهائمه وكثيرا ما يجب على الرجل حق بسبب غيره كما تجب عليه النفقة بسبب حاجة قريبة وكما تجب الدية على عاقلة القاتل
وهذا الضرب من التعزير عقوبة لمن علم أن عنده مالا أو نفسا يجب إحضاره وهو لا يحضره كالقطاع والسراق وحماتهم أو علم أنه خبير به وهو لا يخبر بمكانه فأما إن امتنع من الإخبار والإحضار لئلا يعتدي عليه الطالب أو يظلمه فهذا محسن وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر ويجتمع شبهه وشهرته والواجب تمييز الحق من الباطل وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة وإذا استجار بهم مستجير أو كان بينهما قرابة أو صداقة فإنهم يرون الحمية الجاهلية والعزة بالإثم والسمعة عند الأوباش أنهم ينصرونه وإن كان ظالما مبطلا على المحق المظلوم لا سيما إن كان المظلوم رئيسا يناوئهم ويناوؤنه فيرون في تسليم المستجير بهم إلى من يناوئهم ذلا أو عجزا وهذا على الإطلاق جاهلية محضة وهم من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا وقد ذكر أنه إنما كان سبب حروب من حروب الأعراب كحرب البسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب إلى نحو هذا وكذا سبب دخول الترك المغول دار الإسلام واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو هذا ومن أذل نفسه لله أعزها ومن بذل الحق من نفسه فقد أكرم نفسه فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم ومن اعتز بالظلم في منع وفعل الإثم فقد أذل نفسه وأهانها قال الله تعالى * (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) *
43

وقال تعالى عن المنافقين * (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) * وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) * وإنما الواجب على من استجار به مستجير إن كان مظلوما ينصره ولا يثبت أنه مظلوم بمجرد دعواه فطالما اشتكى الرجل وهو ظالم بل يكشف خبره من خصمه وغيره فإن كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن أما من صلح أو حكم بالقسط وإلا فبالقوة وإن كان كل منهما ظالما كأهل الأهواء من قيس ويمن ونحوهم وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي أو كانا جميعا غير ظالمين لشبهة أو تأويل أو غلط وقع فيما بينهما سعى بينهما بالإصلاح أو الحكم كما قال الله تعالى * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) * وقال تعالى * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * وقد روى أبو داود في السنن
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له أمن العصبية أن ينصر الرجل قومه في الحق قال لا قال ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه في الباطل وقال
خيركم الدافع عن قومه ما لم يأثم وقال
مثل الذي ينصر قومه بالباطل كبعير تردى في بئر فهو يجر بذنبه وقال
من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا
44

وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار قال النبي صلى الله عليه وسلم
أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وغضب لذلك غضبا شديدا
فصل
وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) * ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة أو بالإقرار تأخيره لا بحبس ولا مال يفتدي به ولا غيره بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها فإن إقامة الحد من العبادات كالجهاد في سبيل الله فينبغي أن يعرف أن إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات لا شفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق بمنزلة الوالد إذا أدب ولده فإنه لو كف عن تأيب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة
فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها فإنه متى كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم وآبتغي بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره ألان الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير وكفاه العقوبة البشرية وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد وأما إذا كان غرضه العلو عليهم وإقامة رياسته ليعظموه أو ليبذلوه له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ساسهم سياسة صالحة فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب فسأل أهل المدينة عن عمر كيف هيبته فيكم قالوا ما نستطيع أن ننظر إليه قال كيف محبتكم له قالوا هو أحب إلينا من أهلنا قال فكيف أدبه فيكم قالوا ما بين
45

الثلاثة الأسواط إلى العشرة هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه هذا أمر من السماء
وإذا قطعت يده حسمت واستحب أن تعلق في عنقه فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثا ورابعا ففيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء أحدهما تقطع أربعته في الثالثة والرابعة وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين والثاني أنه يحبس وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين وأحمد في روايته الأخرى
وإنما تقطع يده إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحديث وغيرهم كمالك والشافعي وأحمد ومنهم من يقول دينار أو عشرة دراهم فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم وفي لقظ لمسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاث دراهم والمجن الترس وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا وفي رواية للبخاري قال اقطعو في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك وكان ربع الديار يومئذ دراهم والدينار اثني عشر درهما
ولا يكون السارق سارقا حتى يأخذ المال من حرز فأما المال الضائع من صاحبه والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط والماشية التي لا راعي عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزر الأخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث
وقد اختلف أهل العلم في التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا قطع في ثمر ولا كثر والكثر جمار النخل رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال
سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله جئت أسألك عن الضالة من الإبل قال معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها قال فالضالة من الغنم قال لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها قال فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها قال فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع
46

إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قال يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثلية وجلدات نكال رواه أهل السنن لكن هذا سياق النسائي ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذي يجتذب الشيء فيعلم به قبل أخذه وأما الطرار وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فإنه يقطع على الصحيح
فصل
* (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) * قال عامة المفسرين كابن عباس ومجاهد وعطاء والفراء الوسيلة القربة
قال قتادة تقربوا إلى الله بما يرضيه قال أبو عبيدة توسلت إليه أي تقربت وقال عبد الرحمن بن زيد تحببوا إلى الله والتحبب والتقرب إليه إنما هو بطاعة رسوله فالإيمان بالرسول وطاعته هو وسيلة الخلق إلى الله ليس لهم وسيلة يتوسلون بها البتة إلا الإيمان برسوله وطاعته وليس لأحد من الخلق وسيلة إلى الله تبارك وتعالى إلا توسله بالإيمان بهذا الرسول الكريم وطاعته وهذه يؤمر بها الإنسان حيث كان من الأمكنة وفي كل وقت وما خص من العبادات بمكان كالحج أو زمان كالصوم والجمعة فكل في مكانه وزمانه وليس لنفس الحجرة من داخل فضلا عن جدارها من خارج اختصاص شيء في شرع العبادات ولا فعل شيء منها فالقرب من الله أفضل منه بالبعد منه باتفاق المسلمين والمسجد خص بالفضيلة في حياته صلى الله عليه وسلم قبل وجود القبر فلم تكن فضيلة مسجده لذلك ولا استحب هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا علماء أمته أن يجاور أحد عند قبر ولا يعكف عليه لا قبره المكرم ولا قبر غيره ولا أن يقصد السكنى قريبا من قبر أي قبر كان وسكنى المدينة النبوية هو أفضل في حق من تتكرر طاعته لله ورسوله فيها أكثر كما كان الأمر لما كان الناس مأمورين بالهجرة إليها فكانت الهجرة إليها والمقام بها أفضل من جميع البقاع مكة وغيرها بل كان ذلك
47

واجبا من أعظم الواجبات فلما فتحت مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم
لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وكان من اتى من أهل مكة وغيرهم ليهاجر ويسكن المدينة يأمره أن يرجع إلى مدينته ولا يأمره بسكناها كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر الناس عقب الحج أن يذهبوا إلى بلادهم لئلا يضيقوا على أهل مكة وكان يأمر كثيرا من أصحابه وقت الهجرة أن يخرجوا إلى أماكن أخرى لولاية مكان وغيره وكانت طاعة الرسول بالسفر إلى غير المدينة يخرجوا إلى أماكن أخرى لولاية مكان وغيره وكانت طاعة الرسول بالسفر إلى غير المدينة أفضل من المقام عنده بالمدينة حين كانت دار الهجرة فكيف بها بعد ذلك إذ كان الذي ينفع الناس طاعة الله ورسوله وأما ما سوى ذلك فإنه لا ينفعهم لا قرابة ولا مجاورة ولا غير ذلك كما ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال
يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا وقال صلى الله عليه وسلم إن
آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين وقال
إن أوليائي المتقون حيث كانوا ومن كانوا
قال الشيخ الإسلام رحمه الله
فصل
قوله * (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) *
قيل اللام لام كي أي يسمعون ليكذبوا ويمسعون لينقلوا إلى قوم آخرين لم يأتوك فيكونون كذابين ونمامين جواسيس والصواب أنها لام التعدية مثل قوله سمع الله لمن حمده فالسماع متضمن معنى القول أي قائلون للكذب ويسمعون من قوم آخرين لم يأتوك ويطيعونهم فيكون ذما لهم على قبول الخبر الكاذب وعلى طاعة غيره من الكفار والمنافقين مثل قوله * (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم) * أي هم يطلبون أن يفتنوكم وفيكم من يسمع منهم فيكون قد ذمهم على اتباع الباطل في نوعي الكلام خبره وإنشائه فإن باطل الخبر الكذب وباطل الإنشاء طاعة غير الرسل وهذا بعيد
48

9
ثم قال * (سماعون للكذب أكالون للسحت) * فذكر أنهم في غذاءي الجسد والقلب يغتدون الحرام بخلاف من يأكل الحلال ولا يقبل إلا الصدق وفيه ذم لمن يروج عليه الكذب ويقبله أو يؤثره لموافقته هواه فيدخل فيه قبول المذاهب الفاسدة لأنها كذب لا سيما إذا اقترن بذلك قبولها لأجل العوض عليها سواء كان العوض من ذي سلطان أو وقف أو فتوح أو هدية أو أجرة أو غير ذلك وهو شبيه بقوله * (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) * أهل البدع وأهل الفجور الذين يصدقون بما كذب به على الله ورسوله وأحكامه والذين يطيعون في معصية الخالق
ومثله * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) * فإنما تنزلت بالسمع الذي يخلط فيه بكلمة الصدق ألف كلمة من الكذب على من هو كذاب فاجر فيكون سماعا للكذب من مسترقة السمع
ثم قال في السورة * (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت) * فقول الإثم وسماع الكذب وأكل السحت أعمال متلازمة في العادة وللحكام منها خصوص فإن الحاكم إذا ارتشى سمع الشهادة المزورة والدعوى الفاجرة فصار سماعا للكذب أكالا للسحت قائلا للإثم
ولهذا خير نبيه صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم وبين تركه لأنه ليس قصدهم قبول الحق وسماعه مطلقا بل يسمعون ما وافق أهواءهم وإن كان كاذبا وكذلك العلماء الذين يتقولون الروايات المكذوبة
فصل
قال تعالى * (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم) * إلى قوله * (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) *
49

يعلم من هذا أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فيها حكم الله
والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن قيل أنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك فإن هذا غير معلوم لنا وهو أيضا متعذر بل يمكن تغيير كثير من النسخ وإشاعة ذلك عند الأتباع حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غير بعد ذلك ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب إنما يختلف في اليسير من ألفاظها فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول ممكن لا يمكن أحدا أن يجزم بنفيه ولا يقدر أحد من اليهود والنصارى أن يشهد بأن كل نسخة في العالم بالكتابين متفقة الألفاظ إذ هذا لا سبيل لأحد إلى علمه والاختلاف اليسير في ألفاظ هذه الكتب موجود في الكثير من النسخ كما قد تختلف نسخ بعض كتب الحديث أو تبدل بعض ألفاظ بعض النسخ وهذا بخلاف القرآن المجيد الذي حفظت ألفاظه في الصدور وبالنقل المتواتر لا يحتاج أن يحفظ في كتاب كما قال تعالى * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وذلك أن اليهود قبل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عهده وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها وعندهم نسخ كثيرة من التوراة
وكذلك النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها ولو كان هذا ممكنا لكان ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وكذلك في الإنجيل قال تعالى * (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) *
فعلم أن في هذا الإنجيل حكما أنزله الله تعالى لكن الحكم هو من باب الأمر والنهي وذلك لا يمنع أن يكون التغيير في باب الأخبار وهو الذي وقع فيه التبديل لفظا وأما الأحكام التي في التوراة فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها وقد ذكر طائفة من العلماء أن قوله تعالى في الإنجيل * (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) * هو خطاب لمن كان على دين المسيح قبل النسخ والتبديل لا الموجودين بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم
وهذا القول يناسب مناسبة ظاهرة لقراءة من قرأ وليحكم أهل الإنجيل بكسر اللام كقراءة حمزة فإن هذه لام كي فإنه تعالى قال * (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) *
50

فإذا قرأ وليحكم كان المعنى وآتيناه الإنجيل لكذا وكذا وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذا يوجب الحكم بما أنزل الله في الإنجيل الحق ولا يدل على أن الإنجيل
الموجود في زمن الرسول هو ذلك الإنجيل
وأما قراءة الجمهور * (وليحكم أهل الإنجيل) * فهو أمر بذلك فمن العلماء من قال هو أمر لمن كان الإنجيل الحق موجودا عندهم أن يحكموا بما أنزل الله فيه وعلى هذا يكون قوله تعالى * (وليحكم) * أمرا لهم قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وقال آخرون لا حاجة إلى هذا التكليف فإن القول في الإنجيل كالقول في التوراة وقد قال تعالى * (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل) * فهذا قد صرح بأن أولئك الذين تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود عندهم التوراة فيها حكم الله ثم تولوا عن حكم الله وقال بعد ذلك * (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) * وهذه لام الأمر وهو أمر من الله أنزله على لسان محمد وأمر من مات قبل هذا الخطاب
51

ممتنع وإنما يكون الأمر لمن آمن به من بعد خطاب الله لعباده بالأمر فعلم أنه أمر لمن كان موجودا حينئذ أن يحكموا بما أنزل الله في الإنجيل والله أنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم كما أمر به في التوراة فليحكموا بما أنزل الله في الإنجيل مما لم ينسخه محمد صلى الله عليه وسلم كما أمر أهل التوراة أن يحكموا بما أنزله مما لم ينسخه المسيح وما نسخه فقد أمروا فيه باتباع المسيح وقد أمروا في الإنجيل باتباع محمد صلى الله عليه وسلم لمن حكم من أهل الكتاب بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بما أنزله الله في التوراة والإنجيل ولم يحكم بما يخالف حكم محمد صلى الله عليه وسلم إذ كانوا مأمورين في التوراة والإنجيل باتباع محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى * (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) *
وقال تعالى * (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) *
فجعل القرآن مهيمنا والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل ولهذا قال * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) *
وقد ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد هذا ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم قالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق يا محمد فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما
وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال
أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا فانطلق حتى جاء يهودي فقال ما تجدون في التوراة على من زنى قالوا نسود وجوههما ويطاف بهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين قال فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها فقال عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم قالوا صدق فيها آية الرجم ولكننا نتكاتمه بيننا وإن أحبارنا أحدثوا التحميم
52

والتحبية فأمر رسول الله وسلم برجمهما فرجما
وأخرج مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال
مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم فدعى رجلا من علمائهم فقال أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجد الرجم ولكنه كثير في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله تعالى * (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم) * إلى قوله * (فأولئك هم الكافرون) * إلى * (الظالمون) * إلى * (الفاسقون) * قال هي في الكفارة كلها
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أنه قال
رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم ورجلا من اليهود وأما السنن ففي سنن أبي داود عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال
أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدارس فقالوا يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بينهم فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها ثم قال ائتوني التوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال ائتوني بأعمالكم فأتي
بشاب ثم ذكر قصة الرجم
وأخرج أيضا أبو داود وغيره عن أبي هريرة أنه قال
زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله فقلنا نبي من أنبيائك قالوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدارسهم فقام على الباب فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن
قالوا نحمم ونحبيه ونجلده والتحبية أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل
53

أقفيتهما ويطاف بهما قال وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ساكتا أنشده فقال اللهم إذا نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم قال النبي صلى الله عليه وسلم فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما
قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا) *
وكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم وأيضا فقد تحاكموا إليه في القود الذي كان بين بني قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل بعض إحدى القبيلتين قتيلا من الأخرى فيقتلونه ولم يضعفوا الدية وإذا قتل من القبيلة الشريفة قتلوا به وأضعفوا الدية
قال أبو داود سلمان بن الأشعث في سننه حدثنا محمد بن العلا حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق من تمر
فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه إلينا نقتله فقالوا بيننا وبينكم محمد فأتوه فنزلت * (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) *
والقسط النفس بالنفس ثم نزلت * (أفحكم الجاهلية يبغون) * قال أبو داود قريظة والنضير من ولد هارون
وبسط هذا له موضع آخر وعلى كل قول فقد أخبر الله عز وجل أن في التوراة الموجودة بعد المسيح عليه السلام حكم الله وأن أهل الكتاب اليهود تركوا حكم الله الذي في التوراة مع كفرهم بالمسيح وهذا ذم من الله لهم على ما تركوه من حكمه الذي جاء به الكتاب الأول ولم ينسخه الرسول الثاني
وهذا من التبديل الثاني الذي ذموا عليه ودل على أن في التوراة الموجودة بعد مبعث المسيح حكما أنزله الله أمروا أن يحكموا به وهكذا يمكن أن يقال في الإنجيل ومعلوم أن
54

الحكم الذي أمروا أن يحكموا به من أحكام التوراة لم ينسخه الإنجيل ولا القرآن فكذلك ما أمروا أن يحكموا به من أحكام الإنجيل هو مما لم ينسخه القرآن وذلك أن الدين الجامع أن يعبد الله وحده ويأمر بما أمر الله به ويحكم بما أنزله الله في أي كتاب أنزله ولم ينسخه فإنه يحكم به
ولهذا كان مذهب جماهير السلف والأئمة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل الله كما أن الله أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكموا بما أنزل الله في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ فهكذا القول في جنس الكتب المنزلة
قال تعالى سورة المائدة الآيات 48 56
فقد أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحكم بما أنزل الله إليه وحذره اتباع أهوائهم وبين أن المخالف لحكمه وهو حكم الجاهلية حيث قال تعالى * (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) *
55

وأخبره تعالى أنه جعل لكل من أهل التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاجا وأمره تعالى بالحكم بما أنزل الله أمر عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن ليس لأحد في وقت من الأوقات أن يحكم بغير ما أنزل الله والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة وإن تنوعوا في الشرعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ فهو شبيه بتنوع حال الكتاب فإن المسلمين كانوا أولا مأمورين بالصلاة لبيت المقدس ثم أمروا أن يصلوا إلى المسجد الحرام وفي كلا الأمرين إنما اتبعوا ما أنزل الله عز وجل
وكذلك موسى عليه السلام كان مأمورا بالسبت محرما عليه ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزله الله عز وجل والمسيح صلى الله عليه وسلم أحل بعض ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزل الله عز وجل فليس في أمر الله لأهل التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ كما أنه ليس في أمر أهل القرآن أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ بل كان إذا ناسخ ومنسوخ فالذي أنزل الله هو الحكم بالناسخ دون المنسوخ فمن حكم بالمنسوخ فقد حكم بغير ما أنزل الله ومما يوضح هذا قوله تعالى * (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين) * فإن هذا يبين أن هذا أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب الذي بعث إليهم أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم فدل ذلك على أنهم عندهم ما يعلم أنه منزل من الله وأنهم مأمورون بإقامته إذا كان ذلك مما قرره محمد صلى الله عليه وسلم ولم ينسخه ومعلوم أن كل ما أمر الله به على لسان نبي ولم ينسخه النبي الثاني بل أقره كان الله آمرا به على لسان نبي بعد نبي ولم يكن في بعثة الثاني ما يضاد وجوب اتباع ما أمر به النبي الأول
وقرره النبي الثاني
ولا يجوز أن يقال إن الله ينسخ بالكتاب الثاني جميع ما شرعه بالكتاب الأول إنما المنسوخ قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والشرائع
وأيضا ففي التوراة والإنجيل ما دل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإذا حكم أهل التوراة والإنجيل بما أنزل الله فيهما حكموا بما أوجب عليهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن في التوراة والإنجيل ما يعلمون أن الله أنزله إذ لا يؤمرون أن يحكموا بما أنزل الله ولا يعلمون
56

ما أنزل الله والحكم إنما يكون في الأمر والنهي والعلم ببعض معاني الكتب لا ينافي عدم العلم ببعضها وهذا متفق عليه في المعاني فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وأنه أرسل إلى الخلق رسلا من البشر وأنه أوجب العدل وحرم الظلم والفواحش والشرك وأمثال ذلك من الشرائع الكلية وأن فيها الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب بل هم متفقون على الإيمان باليوم الآخر وقد تنازعوا في بعض معانيها واختلفوا في تفسير ذلك كما اختلفت اليهود والنصارى في المسيح المبشر به النبوات هل هو المسيح بن مريم عليه السلام أو مسيح آخر ينتظر والمسلمون يعلمون أن الصواب في هذا مع النصارى لكن لا يوافقنهم على ما أحدثوا فيه من الإفك والشرك
وكذلك يقال إذا بدل قليل من ألفاظها الخبرية لم يمنع ذلك أن يكون أكثر ألفاظها لم يبدل لا سيما إذا كان في نفس الكتاب ما يدل على المبدل وقد يقال إن ما بدل من ألفاظ التوراة والإنجيل ففي نفس التوراة والإنجيل ما يدل على تبديله فبهذا يحصل الجواب على شبهة عن يقول إنه لم يبدل شيء من ألفاظها فإنهم يقولون إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة والإنجيل قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلم الحق من الباطل فسقط الاحتجاج بهما ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيها واستشهد بهما في مواضع وجواب ذلك أن ما وقع من التبديل قليل والأكثر لم يبدل والذي لم يبدل فيه ألفاظ صريحة بينة بالمقصود تبين غلط ما خالفها ولها شواهد ونظائر متعددة يصدق بعضها بعضا بخلاف المبدل فإنه ألفاظ قليلة وسائر نصوص الكتب يناقضها وصار هذا بمنزلة كتب الحديث المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا وقع في سنن أبي داود والترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة كان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين ضعف تلك بل وكذلك صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة غلط وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها مثل ما روي أن الله خلق التربة يوم السبت وجعل خلق المخلوقات في الأيام السبعة فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وغيرهم أنه غلط وأنه ليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار كما قد بسط في موضعه والقرآن يدل على غلط هذا وبين أن الخلق في ستة أيام وثبت في الصحيح أن آخر الخلق كان يوم الجمعة فيكون أول الخلق يوم الأحد وكذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف بركوعين أو ثلاثة فإن الثابت المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وغيرهم أنه صلى كل ركعة بركوعين ولهذا لم يخرج البخاري إلا ذلك وضعف الشامي والبخاري وأحمد فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما
57

صلى الكسوف مرة في أحد الروايتين عنه وغيرهم حديث الثلاثة والأربع فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلى مرة واحدة وفي حديث الثلاث والأربع أنه صلاها يوم مات إبراهيم ابنه وأحاديث الركوعين كانت ذلك اليوم فمثل هذا الغلط إذا وقع كان في نفس الأحاديث الصحيحة ما يبين أنه غلط والبخاري إذا روى الحديث بطرق في بعضها غلط في بعض الألفاظ ذكر معه الطرق التي تبين ذلك الغلط كما قد بسطنا الكلام على ذلك في موضعه
فكذلك إذا قيل أنه وقع تبديل في بعض ألفاظ الكتب المتقدمة كان في الكتب ما يبين ذلك الغلط وقد قدمنا أن المسلمين لا يدعون أن كل نسخة في العالم من زمن محمد صلى الله عليه وسلم بكل لسان من التوراة والإنجيل والزبور بدلت ألفاظها فإن هذا لا أعرف أحدا من السلف قاله وإن كان من المتأخرين من قد يقول ذلك كما في بعض المتأخرين من يجوز الاستنجاء بكل ما في العالم من نسخ التوراة والإنجيل فليست هذه الأقوال ونحوها من أقوال سلف الأمة وأئمتها وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به ولم يجزم عمر رضي الله عنه بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيهما ما أنزله الله عز وجل والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر ولا حاجة بنا إلى ذكره ولا علم لنا بذلك ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختياره وامتحانه وإنما يعلم مثل هذا بالوحي وإلا فلا يمكن أحدا من البشر أن يقابل كل نسخة موجودة في العالم بل نسخة من جميع الألسنة بالكتب الأربعة والعشرين وقد رأيناها مختلفة في الألفاظ اختلافا بينا والتوراة هي أصح الكتب وأشهرها عند اليهود والنصارى ومع هذا فنسخة السامرة مخالفة لنسخة اليهود والنصارى حتى في نفس الكلمات العشر ذكر في نسخة السامرة منها من أمر استقبال الطور ما ليس في نسخة اليهود والنصارى وهذا مما يبين أن التبديل وقع في كثير من نسخ هذا الكتب فإن عند السامرة نسخا متعددة وكذلك رأينا في الزبور نسخا متعددة تخالف بعضها بعضا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني يقطع من رآها أن كثيرا منها كذب على زبور داود عليه السلام وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة
فإن قيل فإذا كانت الكتب المتقدمة منسوخة فلماذا ذم أهل الكتاب عن ترك الحكم بما أنزل الله منها قيل النسخ لم يقع إلا في قليل من الشرائع وإلا فالأخبار عن الله وعن
58

اليوم الآخر وغير ذلك فلم تنسخ
وكذلك الدين الجامع والشرائع الكلية لا نسخ فيها وهو سبحانه ذمهم على ترك اتباع الكتاب الأول لأن أهل الكتاب كفروا من جهتين من جهة تبديلهم الكتاب الأول وترك
الإيمان والعمل ببعضه ومن جهة تكذيبهم بالكتاب الثاني وهو القرآن كما قال تعالى * (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) *
فبين أنهم كفروا قبل مبعثه بما أنزل عليهم وقتلوا الأنبياء كما كفروا حين مبعثه بما أنزل عليه قال تعالى * (الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) *
وقال تعالى * (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير) *
وقال تعالى * (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين) *
وإذا كان الأمر كذلك فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في التوراة والإنجيل وعلى ترك اتباع ما أنزله في القرآن وبين كفرهم بالكتاب الأول وبالكتاب الثاني وليس في شيء من ذلك أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول كما ليس في أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في الكتاب الثاني
فصل
قوله في سورة المائدة * (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) *
59

فهذا ثناء منه على المسيح والإنجيل وأمر للنصارى بالحكم بما أنزل الله فيه كما أثنى على موسى والتوراة بأعظم مما عظم به المسيح والإنجيل فقال تعالى * (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) * أي قائلون للكذب مصدقون مستجيبون مطيعون لقوم آخرين لم يأتوك فهم مصدقون للكذب مطيعون لما يخالفك وأنت رسول الله
فكل من تصديق الكذب والطاعة لمن خالف رسول الله من أعظم الذنوب
ولفظ السميع يراد به الإحساس بالصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به قبوله فيقال فلان سمع ما يقول فلان أي يصدقه أو يطيعه ويقبل منه بقوله سماعون للكذب أي مصدقون به وإلا مجرد سماع صوت الكاذب وفهم كلامه ليس مذموما على الإطلاق وكذلك سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي مستجيبون لهم مطيعون لهم كما قال في حق المنافقين وفيكم سماعون لهم أي مستجيبون لهم مطيعون لهم ومن قال إن المراد به الجاسوس فهو غالط كغلط من قال سماعون لهم هم الجواسيس فإن الجاسوس إنما ينقل خبر القوم إلى من لا يعرفه ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ما يذكره ويأمر به ويفعله يراه ويسمعه كل من بالمدينة مؤمنهم ومنافقهم ولم يكن يقصد أن يكتم يهود المدينة ما يقوله ويفعله خلاف من كان يأتيهم من اليهود وهم يصدقون الكذب ويطيعون لليهود الآخرين الذين لم يأتوه والله نهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحزنه المسارعون في الكفر من هاتين الطائفتين المنافقتين الذين أظهروا الإيمان به ولم تؤمن قلوبهم ومن أهل الكتاب الذين يطلبون أن يحكم بينهم وليس مقصودهم أن يطيعوه ويتبعوا حكمه بل إن حكم بما يهوونه قبلوه وإن حكم بخلاف ذلك لم يقبلوه لكونهم مطيعين لقوم آخرين لم يأتوه
قال تعالى * (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) * أي لم يأتك أولئك القوم الآخرون يقولون أي يقول السماعون * (إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) *
60

والحكم يفتقر إلى الصدق والعدل فلا بد أن يكون الشاهد صادقا والحاكم عادلا وهؤلاء يصدقون الكاذبين من الشهود ويتبعون حكم المخالفين للرسل الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وإذا لم يكن قصدهم اتباع الصدق والعدل فليس عليك أن تحكم بينهم بل إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فلا تحكم
ولكن إذا حكمت فلا تحكم إلا بما أنزل الله إليك إذ هو العدل
قال تعالى * (سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) * ثم قال سورة المائدة الآيات 43 46
فهذا ثناؤه على التوراة وإخباره أن فيها حكم الله وأنه أنزل التوراة وفيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال عقب ذكرها * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * وهذا أعظم مما ذكره في الإنجيل فإنه قال في الإنجيل * (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور) * وقال فيه * (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) *
وقال في التوراة * (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) * وقال عقب ذكرها * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * فهو سبحانه مع إخباره بإنزال
61

الكتابين يصف التوراة بأعظم مما يصف به الإنجيل
كما قال تعالى * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) *
وإذا كان ما ذكره من مدح موسى والتوراة لم يوجب ذلك مدح اليهود الذين كذبوا المسيح ومحمدا صلى الله عليهما وسلم تسليما وليس فيه ثناء على دين اليهود المبدل المنسوخ باتفاق المسلمين والنصارى فكذلك ما ذكره من مدح المسيح والإنجيل ليس فيه مدح النصارى الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وبدلوا أحكام التوراة
والإنجيل واتبعوا المبدل المنسوخ واليهود توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح للنصارى والنصارى توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح لليهود بعد النسخ والتبديل فعلم اتفاق أهل الملل كلها المسلمون واليهود والنصارى على أنه ليس فيما ذكر في القرآن من ذكر التوراة والإنجيل وموسى وعيسى مدح لأهل الكتاب الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا مدح لدينهم المبدل قبل مبعثه فليس في ذلك مدح لمن تمسك بدين مبدل ولا بدين منسوخ فكيف بمن تمسك بدين مبدل منسوخ
فصل
* (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) *
وهذه حال من قاتل المرتدين وأولهم الصديق ومن اتبعه إلى يوم القيامة فهم الذين جاهدوا المرتدين كأصحاب مسيلمة الكذاب ومانعي الزكاة وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار وغلبوا فارس والروم وكانوا أزهد الناس كما قال عبد الله بن مسعود لأصحابه أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد وهم كانوا خيرا منكم قالوا لم يا أبا عبد الرحمن قال لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة
فهؤلاء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم بخلاف الرافضة فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ومن عدوهم وهم كما قال تعالى * (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون) *
62

ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل
ثم يقال من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ولم تأخذهم في الله لومة لائم ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وبايع عليا فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهرا لمخالفتهم ومبايعة علي بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال أنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم
وأما في حال ولاية علي فقد كان رضي الله عنه من أكثر الناس لوما لمن معه على قلة جهادهم ونكولهم عن القتال فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من هؤلاء الشيعة
وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيما لأبي بكر وعمر واتباعا لهما وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان لا على أبي بكر وعمر وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان رضي الله عنه ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن أحد يسمى من الشيعة ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا غيرهما فلما قتل عثمان تفرق المسلمون فمال قوم إلى عثمان ومال قوم إلى علي واقتتلت الطائفتان وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي
وفي صحيح مسلم عن سعد بن هشام أنه أراد أن يغزو في سبيل الله وقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارا له بها فيجعله في السلاح والكراع ويجاهد الروم حتى يموت فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال
أليس لكم بي أسوة فلما حدثوه بذلك راجع امرأته وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن عباس ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال عائشة رضي الله عنها فأتها فاسألها ثم ائتني فأخبرني بردها عليك قال فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها فقال ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما إلا مضيا قال فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة رضي الله عنها وذكر الحديث
63

وقال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي فقال لا على ملة علي ولا على ملة عثمان أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر وإنما كان النزاع في تقدمه على عثمان ولم يكن حينئذ يسمى أحد لا إماميا ولا رافضا وإنما سموا رافضة وصاروا رافضة لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر فترحم عليهم فرفضه قوم فقال رفضتموني رفضتموني فسموا رافضة وتولاه قوم فسموا زيدية لانتسابهم إليه ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى رافضة إمامية وزيدية وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر فالزيدية خير من الرافضة أعلم وأصدق وأزهد وأشجع
ثم بعد أبي بكر عمر بن الخطاب وهو الذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه رحم الله عمر لقد تركه الحق ماله من صديق
فصل
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ
منها قوله تعالى * (وعبد الطاغوت) * والصواب عطفه على قوله * (من لعنه الله) * فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية لكن المتقدمة الفاعل الله مظهرا أو مضمرا وهذا الفعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير في عبد ولم يعد حرف من لأن هذه الأفعال لصنف واحد وهم اليهود والله أعلم
فصل في بطلان الاستدلال بالمتشابه
قال تعالى * (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا
يستكبرون) *
64

فذكر القسيسين والرهبان لئلا يقال إن هذا قيل عن غيرنا فدل هذا على أفعالنا وحسن نياتنا ونفى عنا اسم الشرك بقوله اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا والذين قالوا إنا نصارى أقربهم مودة
والجواب أن يقال تمام الكلام * (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) *
فهو سبحانه لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذين قال فيهم * (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) *
والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهم الشهداء الذين قال فيهم * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * ولهذا قال ابن عباس وغيره * (فاكتبنا مع الشاهدين) * قال محمد صلى الله عليه وسلم وأمته
وكل من شهد للرسل بالتصديق فهو من الشاهدين كما قال الحواريون * (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) *
وقال تعالى * (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) *
65

وأما قوله في أول الآية * (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) * فهو كما أخبر سبحانه وتعالى فإن عداوة المشركين واليهود للمؤمنين أشد من عداوة النصارى والنصارى أقرب مودة لهم وهذا معروف من أخلاق اليهود فإن اليهود فيهم من البغض والحسد والعداوة ما ليس في النصارى
وفي النصارى من الرحمة والمودة ما ليس في اليهود والعداوة أصلها البغض فاليهود كانوا يبغضون أنبياءهم فكيف ببغضهم للمؤمنين
واما النصارى فليس في الدين الذي يدينون به عداوة ولا بغض لأعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا فكيف بعداوتهم وبغضهم للمؤمنين المعتدلين أهل ملة إبراهيم المؤمنين بجميع الكتب والرسل
وليس في هذا مدح للنصارى بالإيمان بالله ولا وعد لهم بالنجاة من العذاب واستحقاق الثواب وإنما فيه أنهم أقرب مودة وقوله تعالى * (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) * أي بسبب هؤلاء وسبب ترك الاستكبار يصير فيهم من المودة ما يصيرهم بذلك خيرا من المشركين وأقرب مودة من اليهود والمشركين
ثم قال تعالى * (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) * فهؤلاء الذين مدحهم بالإيمان ووعدهم بثواب الآخرة والضمير وإن عاد إلى المتقدمين فالمراد به جنس المتقدمين لا كل واحد منهم كقوله تعالى * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) *
وكان جنس الناس قالوا لهم إن جنس الناس قد جمعوا ويمتنع العموم فإن القائل من الناس والمقول له عنه من الناس والمقول عنه من الناس ويمتنع أن يكون جميع الناس قال لجميع الناس إنه قد جمع لكم جميع الناس
ومثل هذا قوله تعالى * (وقالت اليهود عزير ابن الله) * أي جنس اليهود قال هذا لم يقل هذا كل يهودي ومن هذا أن في النصارى من رقة القلوب التي توجب لهم الإيمان ما ليس في اليهود وهذا حق وأما قولهم ونفى عنا اسم الشرك فلا ريب أن الله فرق بين المشركين وأهل الكتاب في عدة مواضع ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع بل قد ميز بين الصابئين والمجوس وبين المشركين في عدة مواضع وكلا الأمرين حق فالأول كقوله
66

تعالى * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) *
وقوله تعالى * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا) * وقال تعالى * (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) *
وأما وصفهم بالشرك ففي قوله * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) * فنزه نفسه عن شركهم وذلك أن أصل دينهم ليس فيه شرك فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد والنهي عن الشرك كما قال تعالى * (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) *
وقال تعالى * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) *
وقال تعالى * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) *
فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه لم يأمر أحد من الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كواكب ولا وثن ولا أن تسأل الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب ولا نبي ولا ملك فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة ويقول اشفعوا لنا إلى الله ولا يدعو الأنبياء والصالحين الموتى والغائبين ويقول اشفعوا لنا إلى الله ولا تصور تماثيلهم لا مجسدة ذات ظل ولا مصورة في الحيطان ولا يجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها
قربة وطاعة سواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل أو تعظيمهم والاستشفاع بهم وطلبوا منهم أن يسألوا الله تعالى وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها وقصدوا دعاء التماثيل ولم يستشعروا أن المقصود دعاء أصحابها كما فعله جهال المشركين وإن كان في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يقصدون عبادته فإنه يتصور لهم في صورة ما يظنون أنها صورة الذي يعظمونه ويقول أنا الخضر أنا المسيح أنا جرجس أنا الشيخ فلان
كما قد وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى وقد يدخل الشيطان في
67

بعض التماثيل فيخاطبهم وقد يقضي بعض حاجاتهم فبهذا السبب وأمثاله ظهر الشرك قديما وحديثا وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوه من الشرك
وأما الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه فنهوا عن هذا كله ولم يشرع أحد منهم شيئا من ذلك فالنصارى لا يأمرون بتعظيم الأوثان المجسدة ولكن بتعظيم التماثيل المصورة فليسوا على التوحيد المحض وليسوا كالمشركين الذين يعبدون الأوثان ويكذبون الرسل فلهذا جعلهم الله نوعا غير المشركين تارة وذمهم على ما أحدثوه من الشرك تارة
وإذا أطلق لفظ الشرك فطائفة من المسلمين تدخل فيه جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم كقوله تعالى * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) * * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * فمن الناس من يجعل اللفظ عاما لجميع الكفار لا سيما النصارى ثم من هؤلاء من ينهى عن نكاح هؤلاء كما كان عبد الله بن عمر ينهي عن نكاح هؤلاء ويقول لاأعظم شركا من أن يقول عيسى ربنا
وهذا قول طائفة من الشيعة وغيرهم
وأما جمهور السلف والخلف فيجوزون نكاح الكتابيات ويبيحون ذبائحهم لكن إذا قالوا لفظ المشركين عام قالوا هذه الآية مخصوصة أو منسوخة بآية المائدة وهو قوله تعالى * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان) *
وطائفة أخرى تجعل لفظ المشركين إذا أطلق لا يدخل فيه أهل الكتاب وأما كون النصارى فيهم شرك كما ذكره الله فهذا متفق عليه بين المسلمين كما نطق به القرآن كما أن المسلمين متفقون على أن قوله * (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) * لأن النصارى لم يدخلوا في لفظ الذين أشركوا كما لم يدخلوا في لفظ اليهود
وكذلك قوله * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * ونحو ذلك وهذا لأن لفظ الواحد تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران فيدخل فيه مع الأفراد والتجريد ما لا
68

يدخل فيه عند الاقتران كلفظ المعروف والمنكر في قوله تعالى * (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) * فإنه يتناول جميع ما أمر الله به فإنه معروف وجميع ما نهى عنه فإنه منكر
وفي قوله * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) * فهنا قرن الصدقة بالمعروف والإصلاح بين الناس
وكذلك المنكر في قوله * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * قرن الفحشاء بالمنكر وقوله * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) * قرن الفحشاء بالمنكر والبغي
وكذلك لفظ البر والإيمان وإذا أفرده دخل فيه الأعمال والتقوى كقوله * (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين) *
وقال * (إن الأبرار لفي نعيم) * وقوله * (إنما المؤمنون) * * (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري) * وقال * (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) * وقد يقرنه بغيره كقوله * (وتعاونوا على البر والتقوى) * وقوله * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * وكذلك لفظ الفقير والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه لفظ الآخر
وقد يجمع بينهما في قوله * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * فيكونان هنا صنفين وفي تلك المواضع صنف واحد فكذلك لفظ الشرك في مثل قوله * (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) * يدخل فيه جميع الكفار
69

أهل الكتاب وغيرهم عند عامة العلماء لأنه أفرده وجرده وإن كانوا إذا قرن بأهل الكتاب كانا صنفين
وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا أرسل أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا وقال لهم اغزوا بسم الله في سبيل الله في دعة قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث فإنهم ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم إلى الإسلام فإن أجابوك إلى ذلك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الغنيمة والفيء نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم
وهذا الحديث كان بعد نزول آية الجزية وهي إنما نزلت عام تبوك لما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم النصارى بالشام واليهود باليمن
وهذا الحكم ثابت في أهل الكتاب باتفاق المسلمين كما دل عليه الكتاب والسنة ولكن تنازعوا في الجزية هل تؤخذ من غير أهل الكتاب وهذا مبسوط في موضعه
فصل في ادعاء النصارى أن القرآن سوى بين الأديان
قالوا في سورة المائدة * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
فساوى بهذا القول بين سائر الناس اليهود والمسلمون وغيرهم
والجواب أن يقال أولا لا حجة لكم في هذه الآية على مطلوبكم فإنه يسوي بينكم وبين اليهود والصابئين وأنتم مع المسلمين متفقون على أن اليهود كفار من بعث المسيح إليهم فكذبوه
وكذا الصابئون من حيث بعث إليهم رسول فكذبوه فهم كفار فإن كان في الآية مدح
70

لدينكم الذي أنتم عليه بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ففيها مدح دين اليهود أيضا وهذا باطل عندكم وعند المسلمين
وإن لم يكن فيها مدح اليهود بعد النسخ والتبديل فليس فيها مدح لدين النصارى بعد النسخ والتبديل
وكذلك يقال لليهودي إن احتج بها على صحة دينه
وأيضا فإن النصارى يكفرون اليهود فإن كان دينهم حقا لزم كفر اليهود وإن كان باطلا لزم بطلان دينهم فلا بد من بطلان أحد الدينين فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما وقد سوت بينهما
فعلم أنها لم تمدح واحدا منهما بعد النسخ والتبديل وإنما معنى الآية أن المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم والذين هادوا الذين اتبعوا موسى عليه السلام وهم الذين كانوا على شرعة قبل النسخ والتبديل والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام وهم الذين كانوا على شريعته قبل النسخ والتبديل
والصابئون وهم الصائبون الحنفاء كالذين كانوا من العرب وغيرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق قبل التبديل والنسخ
فإن العرب من ولد إسماعيل وغيره الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل كانوا حنفاء على ملة إبراهيم إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة وهو عمرو بن لحي وهو أول من غير دين إبراهيم بالشرك وتحريم ما لم يحرمه الله ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه أي أمعاءه في النار وهو أول من بحر البحيرة وسيب السوائب وغير دين إبراهيم
وكذلك بنو إسحاق الذين كانوا قبل مبعث موسى متمسكين بدين إبراهيم كانوا من السعداء المحمودين فهؤلاء الذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم ونحوهم الذين مدحهم الله تعالى * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله ولا باليوم الآخر وعمل صالحا كما قال تعالى * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) *
71

3
فصل في كفارة اليمين
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
كفارة اليمين هي المذكورة في سورة المائدة قال تعالى * (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) * فمتى كان واحدا فعليه أن يكفر بإحدى الثلاث فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام وإذا اختار أن يطعم عشرة مساكين فله ذلك ومقدار ما يطعم مبني على أصل وهو أن إطعامهم هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف فيه قولان للعلماء منهم من قال هو مقدر بالشرع وهؤلاء على أقوال
منهم من قال يطعم كل مسكين صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من بر كقول أبي حنيفة وطائفة
ومنهم من قال يطعم كل واحد نصف صاع من تمر أو شعير أو ربع صاع من بر وهو مد كقول أحمد وطائفة
ومنهم من قال بل يجزئ في الجميع مد من الجميع كقول الشافعي وطائفة
والقول الثاني أن ذلك مقدر بالعرف لا بالشرع فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرا ونوعا وهذا معنى قول مالك قال إسماعيل بن إسحاق كان مالك يرى في كفارة اليمين أن المد يجزئ بالمدينة قال مالك وأما البلدان فإن لهم عيشا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم لقول الله تعالى * (من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم) * وهو مذهب داود وأصحابه مطلقا
والمنقول عن أكثر الصحابة والتابعين هذا القول ولهذا كانوا يقولون الأوسط خبز ولبن خبز وسمن خبز وتمر والأعلى خبز ولحم وقد بسطنا الآثار عنهم في غير هذا الموضع وبينا أن هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وهو قياس مذهب أحمد وأصوله فإن أصله أن ما لم يقدره الشارع فإنه يرجع فيه إلى العرف وهذا لم يقدره الشارع فيرجع فيه إلى العرف لا سيما مع قوله تعالى * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) * فإن أحمد لا يقدر طعام المرأة والولد ولا المملوك ولا يقدر أجرة الأجير المستأجر بطعامه وكسوته في ظاهر مذهبه ولا يقدر الضيافة الواجبة عنده قولا واحدا ولا يقدر الضيافة المشروطة على أهل الذمة للمسلمين في ظاهر مذهبه هذا مع أن هذه واجبة بالشرط فكيف يقدر طعاما واجبا بالشرع بل ولا يقدر الجزية في أظهر الروايتين عنه ولا الخراج ولا يقدر أيضا الأطعمة الواجبة مطلقا سواء
وجبت بشرع أو شرط ولا غير الأطعمة مما وجبت مطلقا فطعام الكفارة أولى أن لا يقدر
والأقسام ثلاثة فما له حد في الشرع أو اللغة رجع في ذلك إليهما وما ليس له حد فيهما رجع فيه إلى العرف ولهذا لا يقدر للعقود ألفاظا بل أصله في هذه الأمور من جنس أصل مالك كما أن قياس مذهبه أن يكون الواجب في صدقة الفطر نصف صاع من بر وقد
83

دل على كلامه أيضا كما قد بين في موضع آخر وإن كان المشهور عنه تقدير ذلك وبالصاع كالتمر والشعير
وقد تنازع العلماء في الأدم هل هو واجب أو مستحب على قولين والصحيح أنه إن كان يطعم أهله بأدم أطعم المساكين بأدم وإن كان إنما يطعمهم بلا أدم لم يكن عليه أن يفضل المساكين على أهله بل يطعم المساكين من أوسط ما يطعم أهله
وعلى هذا فمن البلاد من يكون أوسط طعام أهله مدا من حنطة كما يقال عن أهل المدينة وإذا صنع خبزا جاء نحو رطلين بالعراقي وهو بالدمشقي خمسة أواق وخمسة أسباع أوقية فإن جعل بعضه أدما كما جاء عن السلف كان الخبز نحوا من أربعة أواق وهذا لا يكفي أكثر أهل الأمصار فلهذا قال جمهور العلماء يطعم في غير المدينة أكثر من هذا إما مدان أو مد ونصف على قدر طعامهم فيطعم من الخبز إما نصف رطل بالدمشقي وإما ثلثا رطل وإما رطل وإما أكثر وإما مع الأدم وإما بدون الأدم على قدر عادتهم في الأكل في وقت
فإن عادة الناس تختلف بالرخص والغلاء واليسار والإعسار وتختلف بالشتاء والصيف وغير ذلك
وإذا حسب ما يوجبه أبو حنيفة خبزا كان رطلا وثلثا بالدمشقي فإنه يوجب نصف صاع عنده ثمانية أرطال وأما ما يوجبه من التمر والشعير فيوجب صاعا ثمانية أرطال وذلك بقدر ما يوجبه الشافعي ست مرات وهو بقدر ما يوجبه أحمد بن حنبل ثلاث مرات
والمختار أن يرجع في ذلك إلى عرف الناس وعادتهم فقد يجزئ في بلد ما أوجبه أبو حنيفة وفي بلد ما أوجبه أحمد وفي بلد آخر ما بين هذا وهذا على حسب عادته عملا بقوله تعالى * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) *
وإذا جمع عشرة مساكين وعشاهم خبزا أو أدما من أوسط ما يطعم أهله أجزأه ذلك عند أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهم وهو أظهر القولين في الدليل فإن الله تعالى أمر بالإطعام لم يوجب التمليك وهذا إطعام حقيقة ومن أوجب التمليك احتج بحجتين
إحداهما أن الطعام الواجب مقدر بالشرع ولا يعلم إذا أكلوا أن كل واحد يأكل قدر حقه
وجواب الأولى أنا لا نسلم أنه مقدر بالشرع وإن قدر أنه مقدر به فالكلام إنما هو إذا أشبع كل واحد منهم غداء وعشاء وحينئذ فيكون قد أخذ كل واحد قدر حقه وأكثر وأما التصرف بما شاء فالله تعالى لم يوجب ذلك إنما أوجب الإطعام ولو أراد ذلك لأوجب مالا
85

من النقد والزكاة ونحوه وهو لم يوجب ذلك
والزكاة إنما أوجب فيها التمليك لأنه ذكرها باللام بقوله تعالى * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * ولهذا حيث ذكر الله التصرف كقوله * (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله) * فالصحيح أنه لا يجب التمليك بل يجوز أن يعتق من الزكاة وإن لم يكن تمليكا للمعتق ويجوز أن يشتري منها سلاحا يعين به في سبيل الله وغير ذلك ولهذا قال من قال من العلماء الإطعام أولى من التمليك لأن المملك قد يبيع ما أعطيته ولا يأكله بل قد يكنزه فإذا أطعم الطعام حصل مقصود الشارع قطعا
وغاية ما يقال أن التمليك قد يسمى إطعاما كما يقال أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدة السدس وفي الحديث
ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلي الأمر من بعده
لكن يقال لا ريب أن اللفظ يتناول الإطعام المعروف بطريق الأولى ولأن ذلك إنما يقال إذا ذكر المطعم فيقال أطعمه كذا فأما إذا أطلق وقيل أطعم هؤلاء المساكين فإنه لا يفهم منه إلا نفس الإطعام لكن لما كانوا يأكلون ما يأخذونه سمى التمليك للطعام إطعاما لأن المقصود هو الإطعام أما إذا كان المقصود مصرفا غير الأكل فهذا لا يسمى إطعاما عند الإطعام
86

91
فصل في معنى روح القدس
قال تعالى * (يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس) *
فيقال هذا مما لا ريب فيه ولا حجة لكم فيه بل هو حجة عليكم فإن الله أيد المسيح عليه السلام بروح القدس كما ذكر ذلك في هذه الآية وقال تعالى في البقرة * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) *
وقال تعالى * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) *
وهذا ليس مختصا بالمسيح بل قد أيد غيره بذلك وقد ذكروا هم أنه قال لداود روحك القدس لا تنزع مني وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت
اللهم أيده بروح القدس
وفي لفظ روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه
وكلا اللفظين في الصحيح
91

وعند النصارى أن الحواريين حلت فيهم روح القدس وكذلك عندهم روح القدس حدث في جميع الأنبياء
وقد قال تعالى سورة النحل الآيات 98 102
وقد قال تعالى في موضع آخر * (نزل به الروح الأمين على قلبك) *
وقال * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) *
فقد تبين أن روح القدس هنا جبريل وقال تعالى * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) *
وقال تعالى * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) *
وقال تعالى * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) *
وقال تعالى * (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق) *
فهذه الروح التي أوحاها والتي تنزل بها الملائكة على من يشاء من عباده غير الروح الأمين التي تنزل بالكتاب وكلاهما يتسمى روحا وهما متلازمان فالروح التي ينزل بها
92

الملك مع الروح الأمين التي ينزل بها روح القدس يراد بها هذا وهذا
وبكلا القولين فسر المفسرون قوله في المسيح * (وأيدناه بروح القدس) *
ولم يقل أحد أن المراد بذلك حياة الله ولا اللفظ يدل على ذلك ولا استعمل فيه وهم إما أن يسلموا أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله فإذا ثبت أن لها معنى غير الحياة فلو استعمل في حياة الله أيضا لم يتعين أن يراد بها ذلك في حق المسيح فكيف ولم يستعمل في حياة الله في حق المسيح وإما أن يدعوا أن المراد بها حياة الله في حق الأنبياء والحواريين فإن قالوا ذلك لزمهم أن يكون اللاهوت حالا في جميع الأنبياء والحواريين وحينئذ فلا فرق بين هؤلاء وبين المسيح
ويلزمهم أيضا أن يكون في المسيح لاهوتان لاهوت الكلمة ولاهوت الروح فيكون قد اتحد به أقنومان ثم في قوله تعالى * (وأيدناه بروح القدس) * يمتنع أن يراد بها حياة الله فإن حياة الله صفة قائمة بذاته لا تقوم بغيره ولا تختص ببعض الموجودات غيره وأما عندهم فالمسيح هو الله الخالق فكيف يؤيد بغيره وأيضا فالمتحد بالمسيح هو الكلمة دون الحياة فلا يصح تأييده بها
فتبين أنهم يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية من جنس واحد
فصل عيسى عبد الله ورسوله
قال تعالى سورة البقرة الآية 87
فأخبر عن المسيح أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به بقوله أن اعبدوا الله ربي وربكم وكان عليهم شهيدا ما دام فيهم وبعد وفاته كان الله الرقيب عليهم فإذا كان بعضهم قد
93

غلط في النقل عنه أو في تفسير كلامه أو تعمد تغيير دينه لم يكن على المسيح عليه السلام من ذلك درك وإنما هو رسول عليه البلاغ المبين
وقد أخبر الله سبحانه أن أول ما تكلم به المسيح أن قال * (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا) *
ثم طلب لنفسه السلام فقال * (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) *
والنصارى يقولون علينا منه السلام كما يقوم الغالية فيمن يدعون فيه الإلهية كالنصيرية في علي والحاكمية في الحاكم
الوجه الثاني أن يقال إن الله لم يذكر أن المسيح مات ولا قتل وإنما قال * (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا) * وقال المسيح * (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) *
وقال تعالى سورة النساء الآيات 155 161
فذم الله اليهود بأشياء منها * (وقولهم على مريم بهتانا عظيما) * حيث زعموا أنها بغي ومنها قولهم * (إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) *
قال تعالى * (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) * وأضاف هذا القول إليهم
94

وذمهم عليه ولم يذكر النصارى لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود ولم يكن أحد من النصارى شاهدا معهم بل كان الحواريون خائفين غائبين فلم يشهد أحد منهم الصلب وإنما شهده اليهود وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح والذين نقلوا أن المسيح صلب من النصارى وغيرهم إنما نقلوه عن أولئك اليهود وهم شرط من أعوان الظلمة لم يكونوا خلقا كثيرا يمتنع تواطؤهم على الكذب
قال تعالى * (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) * فنفى عنه القتل ثم قال * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) *
وهذا عند أكثر العلماء معناه قبل موت المسيح وقد قيل قبل موت اليهود وهو ضعيف كما قيل إنه قبل موت محمد صلى الله عليه وسلم وهو أضعف فإنه لو آمن به قبل الموت لنفعه إيمانه به فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر
وإن قيل المراد به الإيمان الذي يكون بعد الغرغرة لم يكن في هذا فائدة فإن كل أحد بعد موته يؤمن بالغيب الذي كان يجحده فلا اختصاص للمسيح به ولأنه قال قبل موته
ولم يقل بعد موته ولأنه ولا فرق بين إيمانه بالمسيح وبمحمد صلوات الله عليه وسلامه واليهودي الذي يموت على اليهودية فيموت كافرا بمحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام ولأنه قال * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) * وقوله * (ليؤمنن به) * فعل مقسم عليه وهذا إنما يكون في المستقبل فدل ذلك على أن هذا الإيمان بعد إخبار الله بهذا ولو أريد قبل موت الكتابي لقال وإن من أهل الكتاب إلا من يؤمن به لم يقل ليؤمنن به
وأيضا فإنه قال إن من أهل الكتاب وهذا يعم اليهود والنصارى فدل ذلك على أن جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى يؤمنون بالمسيح قبل موت المسيح وذلك إذا نزل آمنت اليهود والنصارى بأنه رسول الله ليس كاذبا كما يقول اليهود ولا هو الله كما تقوله النصارى
والمحافظة على هذا العموم أولى من أن يدعي أن كل كتابي ليؤمنن به قبل أن يموت الكتابي فإن هذا يستلزم إيمان كل يهودي ونصراني وهذا خلاف الواقع وهو لما قال * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) * ودل على أن المراد بإيمانهم قبل أن يموت هو علم أنه أريد بالعموم عموم من كان موجودا حين نزوله أي لا يتخلف منهم أحد عن الإيمان به لا إيمان من كل منهم ميتا
وهذا كما يقال إنه لا يبقى بلد إلا دخله الدجال إلا مكة والمدينة أي في المدائن الموجودة حينئذ وسبب إيمان أهل الكتاب به حينئذ ظاهر فإنه يظهر لكل أحد أنه رسول مؤيد ليس بكذاب ولا هو رب العالمين
95

فالله تعالى ذكر إيمانهم به إذا نزل إلى الأرض فإنه تعالى لما ذكر رفعه إلى الله بقوله * (إني متوفيك ورافعك إلي) * وهو ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ويموت حينئذ أخبر الآية الزخرف الآيات 59 65
في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية
وقوله تعالى * (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما) * بيان أن الله رفعه حيا وسلمه من القتل وبين أنهم يؤمنون به قبل أن يموت
وكذلك قوله * (ومطهرك من الذين كفروا) * ولو مات لم يكن فرق بينه وبين غيره
معنى التوفي
ولفظ التوفي في لغة العرب معناه الاستيفاء والقبض وذلك ثلاثة أنواع أحدها توفي النوم والثاني توفي الموت والثالث توفي الروح والبدن جميعا فإنه بذلك خرج عن حال أهل الأرض الذين يحتاجون إلى الأكل والشرب واللباس ويخرج منهم الغائط والبول والمسيح عليه السلام توفاه الله وهو في السماء الثانية إلى أن ينزل إلى الأرض ليست حاله كحالة أهل الأرض في الأكل والشرب واللباس والنوم والغائط والبول ونحو ذلك
الوجه الثالث قولهم إنه عنى بموته عن موت الناسوت كان ينبغي لهم أن يقولوا على أصلهم عنى بتوفيته عن توفي الناسوت وسواء قيل موته أو توفيته فليس هو شيئا غير الناسوت فليس هناك شيء غيره لم يتوف الله تعالى قال
96

* (إني متوفيك ورافعك إلي) * فالمتوفى هو المرفوع إلى الله وقولهم إن المرفوع هو اللاهوت مخالف لنص القرآن ولو كان هناك موت فكيف إذا لم يكن فإنهم جعلوا المرفوع غير المتوفى والقرآن أخبر أن المرفوع هو المتوفى
وكذلك قوله في الآية الأخرى * (وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه) * هو تكذيب لليهود في قولهم * (إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) * واليهود لم يدعوا قتل لاهوت ولا أثبتوا لله لاهوتا في المسيح والله تعالى لم يذكر دعوى قتله عن النصارى حتى يقال إن مقصودهم قتل الناسوت دون اللاهوت بل عن اليهود الذين لا يثبتون إلا الناسوت
وقد زعموا أنهم قتلوه فقال تعالى * (وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه) * فأثبت رفع الذي قالوا إنهم قتلوه وإنما هو الناسوت فعلم أنه هو الذي نفي عنه القتل وهو الذي رفع والنصارى معترفون برفع الناسوت لكن يزعمون أنه صلب وأقام في القبر إما يوما وإما ثلاثة أيام ثم صعد إلى السماء وقعد عن يمين الأب الناسوت مع اللاهوت
وقوله تعالى * (وما قتلوه يقينا) * معناه أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه بخلاف الذين اختلفوا بأنهم في شك منه من قتله وغير قتله فليسوا مستيقنين أنه قتل إذ لا حجة معه بذلك
ولذلك كانت طائفة من النصارى يقولون إنه لم يصلب فإن الذين صلبوا المصلوب هم اليهود وكان قد اشتبه عليهم المسيح بغيره كما دل عليه القرآن وكذلك عند أهل الكتاب أنه اشتبه بغيره فلم يعرفوا من هو المسيح من أولئك حتى قال لهم بعض الناس أنا أعرفه فعرفوه وقول من قالوا معنى الكلام ما قتلوه علما بل ظنا قول ضعيف
الوجه الرابع أنه قال تعالى * (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا) * فلو كان المرفوع هو اللاهوت لكان رب العالمين قال لنفسه أو لكلمته * (ورافعك إلي) * وكذلك قوله * (بل رفعه الله إليه) * فالمسيح عندهم هو الله
ومن المعلوم أنه يمتنع رفع نفسه إلى نفسه وإذا قالوا هو الكلمة فهم مع ذلك أنه الإله الخالق لا يجعلونه بمنزلة التوراة والقرآن ونحوهما مما هو كلام الله الذي قال فيه * (إليه يصعد الكلم الطيب) * بل عندهم هو الله الخالق الرازق رب العالمين ورفع رب العالمين إلى رب العالمين ممتنع
الوجه الخامس قوله * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) * دليل على أنه بعد توفيته لم يكن الرقيب عليهم إلا الله دون المسيح فإن
قوله كنت أنت يدل على الحصر كقوله إن كان هذا هو الحق ونحو ذلك فعلم أن المسيح بعد
97

توفيته ليس رقيبا على اتباعه بل الله هو الرقيب المطلع عليهم المحصي أعمالهم المجازي عليها والمسيح ليس برقيب فلا يطلع على أعمالهم ولا يحصيها ولا يجازيهم بها
فصل فساد قول النصارى في أن المسيح خالق
قالوا وقد سماه الله أيضا في هذا الكتاب خالقا حيث قال * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني) * سورة المائدة 110
فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذة من مريم أنه كذا قال على لسان داود النبي
بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه
وهذا مما يوافق رأينا واعتقادنا في السيد المسيح لذكره لأنه حيث قال وتخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت
والجواب إن جميع ما يحتجون به من هذه الآيات وغيرها فهو حجة عليهم لا لهم وهكذا شأن جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما نطق به أنبياؤه فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله تعالى
إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه ويفهموه
وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزل الله دون بعض فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به كما قال تعالى عن النصارى * (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) *
وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم ومن جهة ترجمة
98

أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم ببعض ببع ويؤخذ كلامه ها هنا وها هنا وتعرف ما عادته يعينه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده
وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ يجعل كلامه متناقضا ويترك كلامه على ما يناسب سائر كلامه كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه
فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم فإذا عرف هذا فيقول
الرد عليهم
الجواب عما ذكروه هنا من وجوه
أحدهما أن الله لم يذكر عن المسيح خلقا مطلقا ولا خلقا عاما كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى فأول ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم * (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) *
وقال تعالى * (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى) *
فذكر نفسه بأنه الخالق البارىء المصور ولم يصف قط شيئا من المخلوقات بهذا لا ملكا ولا نبيا وكذلك قال تعالى * (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض) *
وقال تعالى * (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) *
99

ووصف نفسه بأنه رب العالمين وبأنه مالك يوم الدين وأنه له الملك وله الحمد وأنه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم ونحو ذلك من خصائص الربوبية ولم يصف شيئا من مخلوقاته لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بشيء من الخصائص التي يختص بها التي وصف بها نفسه سبحانه وتعالى
وأما المسيح عليه السلام فقال فيه * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني) *
وقال المسيح عن نفسه * (أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله) * فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله فكيف يكون هذا الخلق هو ذاك
الوجه الثاني أنه خلق من الطين كهيئة الطير والمراد به تصويره بصورة الطير وهذا الخلق يقدر عليه عامة الناس فإنه يمكن أحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير وغير الطير من الحيوانات ولكن التصوير محرم بخلاف تصوير المسيح فإن الله أذن له فيه
والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيرا بإذن الله عز وجل ليس المعجزة مجرد خلقه من الطين فإن هذا مشترك ولقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المصورين وقال
إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون
الوجه الثالث أن الله أخبر أن المسيح إنما فعل التصوير وهو محرم والنفخ بإذنه تعالى وأخبر المسيح عليه السلام أنه فعله بإذن الله وأخبر الله أن هذا من نعمته التي أنعم بها على المسيح عليه السلام كما قال تعالى * (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) *
وقال تعالى له * (عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات) *
100

وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله وإنما هو عبد الله فعل ذلك بإذن الله كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء وصريح بأن الإذن غير المأذون له والمعلم ليس هو المعلم والمنعم عليه وعلى والدته ليس هو إياه كما ليس هو والدته
والوجه الرابع أنهم قالوا أشاروا بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت ثم قالوا في قوله * (بإذن الله) * أي بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت وهذا يبين تناقضهم وافتراءهم على القرآن لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ففرق بين المسيح وبين الله وبين أن الله هو الآذن للمسيح وهؤلاء زعموا أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بناسوت المسيح هو الخالق وهو الآذن فجعلوا الخالق هو الآذن وهو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن
الوجه الخامس أن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه فإنهم يقولون هو إله واحد وهو الخالق فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه وينعم على نفسه
الوجه السادس أن الخالق إما أن يكون هو الذات الموصوفة بالكلام أو الكلام الذي هو صفة للذات فإن كان هو الكلام فالكلام صفة لا تكون ذاتا قائمة بنفسها خالقة ولو لم تتحد بالناسوت واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكنا فكيف وهو ممتنع
فقد تبين امتناع كونه الكلمة تكون خالقة من وجوه وإن كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين وعندهم هو الأب والمسيح عندهم ليس هو الأب فلا يكون هو الخالق لكل شيء والقرآن يبين أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله ولا صفة من صفاته فليس المسيح هو ابن قديم أزلي لله ولكن عبده فعل بإذنه
الوجه السابع قولهم فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذة من مريم أنه كذا قال على لسان داود النبي بكلمة الله خلقت السماوات والأرض
فيقال لهم هذا النص عن داود حجة عليكم كما أن التوراة والقرآن وسائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم فإن داود عليه السلام قال بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ولم يقل إن كلمة الله هي الخالقة كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله
والفرق بين الخالق للسماوات والأرض وبين الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض أمر ظاهر معروف كالفرق بين القادر والقدرة فإن القادر هو الخالق وقد خلق الأشياء
101

بقدرته وليست القدرة هي الخالقة وكذلك الفرق بين المريد والإرادة فإن خلق الأشياء بمشيئته وليست مشيئته هي الخالقة وكذلك الدعاء والعبادة هو للإله الخالق لا لشيء من صفاته فالناس كلهم يقولون يا الله يا ربنا يا خالقنا ارحمنا واغفر لنا ولا يقول أحد يا كلام الله اغفر لنا وارحمنا ولا يا قدرة الله ويا مشيئة الله ويا علم الله اغفر لنا وارحمنا والله تعالى يخلق بقدرته ومشيئته وكلامه وليست صفاته هي الخالقة
الوجه الثامن أن قول داود عليه السلام بكلمة الله خلقت السماوات والأرض يوافق ما جاء في القرآن والتوراة وغير ذلك من كتب الأنبياء أن الله يقول للشيء كن فيكون وهذا في القرآن في غير موضع وفي التوراة قال الله ليكن كذا ليكن كذا
الوجه التاسع قولهم لأنه ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه إن أرادوا بكلمته كلامه وبروحه حياته فهذه من صفات الله كعلمه وقدرته فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنها روح الله فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب عليه ثم يقال هذا كلامه وحياته من صفات الله كعلمه وقدرته وحينئذ فالخالق هو الله وحده وصفاته داخلة في مسمى اسمه لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن بأن الله له شريك في خلقه فإن الله لا شريك له
ولهذا لما قال تعالى * (الله خالق كل شيء) * دخل كل ما سواه في مخلوقاته ولم تدخل صفاته كعلمه وقدرته ومشيئته وكلامه لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أسماؤه مباينة له بل أسماؤه الحسنى متناولة لذاته المقدسة المتصفة بهذه الصفات لا يجوز أن يراد بأسمائه ذات مجردة عن صفات الكمال فإن تلك حقيقة لها ويمتنع وجود ذات مجردة عن صفة فضلا عن وجود ذاته تعالى مجردة عن صفات كماله التي هي لازمة لذاته يمتنع تحقق ذاته دونها
ولهذا لا يقال الله وعلمه خلق والله وقدرته خلق وإن أرادوا بكلمته وروحه المسيح أو شيئا اتحد بناسوت المسيح فالمسيح عليه السلام كله مخلوق كسائر الرسل والله وحده هو الخالق وإن شئت قلت إن أريد بالروح والكلمة ما هو صفة لله فتلك داخلة في مسمى اسمه وإن أريد ما ليس بصفة فذلك مخلوق له كالناسوت
الوجه العاشر أن داود عليه السلام لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت وهو عندهم اسم اللاهوت والناسوت لما اتحد والاتحاد فعل حادث عندهم فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحيا فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح ولكن غايتهم أن يقولوا أراد الكلمة التي اتحدت فيها بعد المسيح لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله * (يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين) *
102

فالكلمة التي ذكرها وأنها هي التي بها خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فاحتجاجهم بهذا على هذا احتجاج باطل بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم والمسيح لا بد أن يدخل فيه الناسوت فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح
103

فصل
قال تعالى * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) * سورة الأنعام 53
فتخصيص هذا بالإيمان كتخصيص هذا بمزيد علم وقوة وصحة وجمال ومال قال تعالى * (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) * سورة الزخرف 32 وإذا خص أحد الشخصين بقوة وطبيعة تقتضي غذاء صالحا خصه بما يناسب ذلك من الصحة والعافية ون لم يعط الآخر ذلك نقص عنه وحصل له ضعف ومرض
والظلم وضع الشيء في غير موضعه فهو لا يضع العقوبة إلا في المحل الذي يستحقها لا يضعها على محسن أبدا وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
يمين الله ملأى لا يغيضها
107

نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يقبض ويبسط فبين أنه سبحانه وتعالى يحسن ويعدل ولا يخرج فعله عن العدل والإحسان ولهذا قيل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل
ولهذا يخبر أنه تعالى يعاقب الناس بذنوبهم وأن إنعامه عليهم إحسان منه كما في الحديث الصحيح الإلهي يقول الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
وقد قال تعالى * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * سورة النساء 79 أي ما أصابك من نعم تحبها كالنصر والرزق فالله أنعم بذلك عليك وما أصابك من نقم تكرهها فبذنوبك وخطاياك فالحسنات والسيئات هنا أراد بها النعم والمصائب كما قال تعالى * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) * سورة الأعراف 68 وكما قال تعالى * (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل) * سورة التوربة 50 وقوله تعالى * (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) * سورة آل عمران 120 ومثل هذا قوله تعالى * (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) * سورة الروم 36 فأخبر أن ما يصيب به الناس من الخير فهو رحمة منه أحسن بها إلى عباده وما أصابهم به من العقوبات فبذنوبهم وتمام الكلام على هذا مبسوط في مواضع آخر
وكذلك الحكمة أجمع المسلمون على أن الله تعالى موصوف بالحكمة لكن تنازعوا في تفسير ذلك
فقالت طائفة الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده
108

ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة
وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم بل هو حكيم في خلقه وأمره والحكمة ليست مطلق المشيئة إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة والغايات المحبوبة والقول بإثبات هذه الحكمة ليس هو قول المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة فقط بل هو قول جماهير طوائف المسلمين من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في الأحكام الشرعية وإنما ينازع في ذلك طائفة من نفاة القياس وغير نفاته وكذلك ما في خلقه من المنافع والحكم والمصالح لعباده معلوم
وأصحاب القول الأول كجهم بن صفوان وموافقيه كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم يقولون ليس في القرآن لام التعليل في أفعال الله بل ليس فيه إلا لام العاقبة
وأما الجمهور فيقولون بل لام التعليل داخلة في أفعال الله وأحكامه
والقاضي أبو يعلى وأبو الحسن بن الزاغوني ونحوهما من أصحاب أحمد وإن كانوا قد يقولون بالأول فهم يقولون بالثاني أيضا في غير موضع وكذلك أمثالهم من الفقهاء أصحاب مالك والشافعي وغيرهما
وأما ابن عقيل في بعض المواضع وأبو خازم بن القاضي أبي يعلى وأبو الخطاب الصغير فيصرحون بالتعليل والحكمة في أفعال الله موافقة لمن قال ذلك من أهل النظر
والحنفية هم من أهل السنة وقائلين بالقدر وجمهورهم يقولون بالتعليل والمصالح
109

والكرامية وأمثالهم هم أيضا من القائلين بالقدر المثبتين لخلافة الخلفاء المفضلين لأبي بكر وعمر وعثمان وهم أيضا يقولون بالتعليل والحكمة وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقولون بالتعليل والحكمة وبالتحسين والتقبيح العقليين كأبي بكر القفال وأبي علي بن أبي هريرة وغيرهم من أصحاب الشافعي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب من أصحاب أحمد
وفي الجملة النزاع في تعليل أفعال الله وأحكامه مسألة لا تتعلق بالأمانة أصلا وأكثر أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل
ولكن الذين أنكروا ذلك من أهل السنة احتجوا بحجتين
إحداهما أن ذلك يستلزم التسلسل فإنه إذا فعل لعلة فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلى علة إن وجب أن يكون لكل حادث علة وإن عقل الإحداث بلا علة لم يحتج إلى إثبات علة فهم يقولون إن أمكن الإحداث بغير علة لم يحتج إلى علة ولم يكن ذلك عبثا وإن لم يكن وجود الإحداث إلا لعلة فالقول في حدوث العلة كالقول في حدوث المعلول وذلك يستلزم التسلسل
الحجة الثانية أنهم قالوا من فعل لعلة كان مستكملا بها لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها لم تكن علة والمستكمل بغيره ناقص بنفسه وذلك ممتنع على الله
وأوردوا على المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة حجة تقطعهم على أصولهم فقالوا العلة التي فعل لأجلها إن كان وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء امتنع أن تكون علة وإن كان وجودها أولى فإن كانت منفصلة عنه لزم أن يستكمل بغيره وإن كانت قائمة به لزم أن يكون محلا للحوادث
110

وأما المجوزون للتعليل فهم متنازعون فالمعتزلة وأتباعهم من الشيعة تثبت من التعليل ما لا يعقل وهو أنه فعل لعلة منفصلة عن الفاعل مع كون وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء
وأما أهل السنة القائلون بالتعليل فإنهم يقولون إن الله يحب ويرضى كما دل على ذلك الكتاب والسنة ويقولون إن المحبة والرضا أخص من الإرادة وأما المعتزلة وأكثر أصحاب الأشعري فيقولون إن المحبة والرضا والإرادة سواء فجمهور أهل السنة يقولون إن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يرضاه وإن كان داخلا في مراده كما دخلت سائر المخلوقات لما في ذلك من الحكمة وهو وإن كان شرا بالنسبة إلى الفاعل فليس كل ما كان شرا بالنسبة إلى شخص يكون عديم الحكمة بل لله في المخلوقات حكم قد يعلمها بعض الناس وقد لا يعلمها
فصل
قال تعالى * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم) * سورة الأنعام 54 لم يمنع هذا أن يكون كل منهم متصفا بهذه الصفة ولا يجوز أن يقال إنهم لو عملوا سوءا بجهالة ثم تابوا من بعده وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم
ولهذا تدخل من هذه في النفي لتحقيق نفي الجنس كما في قوله تعالى * (وما ألتناهم من عملهم من شيء) * سورة الطور 21 وقوله تعالى * (وما من إله إلا الله) * سورة آل عمران 62 وقوله * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * سورة الحاقة 47 ولهذا إذا دخلت في النفي تحقيقا أو تقديرا أفادت نفي الجنس قطعا فالتحقيق ما ذكر والتقدير كقوله تعالى * (وما من إله إلا الله) * سورة آل عمران 62 وقوله * (لا ريب فيه) * سورة البقرة 2 ونحو ذلك بخلاف ما إذا لم تكن من موجودة كقولك ما رأيت رجلا فإنها ظاهرة لنفي الجنس ولكن قد يجوز أن ينفي بها الواحد من الجنس كما قال سيبويه يجوز أن يقال ما رأيت رجلا بل رجلين فتبين أنه يجوز إرادة الواحد وإن كان الظاهر نفي الجنس بخلاف ما إذا دخلت من فإنه ينفي الجنس قطعا
ولهذا لو قال لعبيده من أعطاني منكم ألفا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفا عتقوا
111

كلهم وكذلك لو قال لنسائه من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق فأبرأنه كلهن طلقن كلهن فإن المقصود بقوله منكم بيان جنس المعطي والمبرىء لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج
فإن قيل فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفا بهذه الصفة فلا يوجب ذلك أيضا فليس في قوله * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات) * ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك
قيل نعم ونحن لا ندعي أن مجرد هذا اللفظ دل على أن جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح ولكن مقصودنا أن من لا ينافي شمول هذا الوصف لهم فلا يقول قائل إن الخطاب دل على أن المدح شملهم وعمهم بقوله * (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) * إلى آخر الكلام ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا والسيما في وجوههم من أثر السجود وأنهم يبتدؤون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح فذكر ما به يستحقون الوعد وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم
فصل
في قول إبراهيم
لا أحب الآفلين
ظن هؤلاء أن قول إبراهيم عليه السلام * (هذا ربي) * سورة الأنعام 77 أراد به هذا خالق السماوات والأرض القديم الأزلي وأنه استدل على حدوثه بالحركة
وهذا خطأ من وجوه
112

أحدها أن قول الخليل * (هذا ربي) * سواء قاله على سبيل التقدير لتقريع قومه أو على سبيل الاستدلال والترقي أو غير ذلك ليس المراد به هذا رب العالمين القديم الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا كان قومه يقولون إن الكواكب أو القمر أو الشمس رب العالمين الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا قال هذا أحد من أهل المقالات المعروفة التي ذكرها الناس لا من مقالات أهل التعطيل والشرك الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب ولا من مقالات غيرهم بل قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذونها أربابا يدعونها ويتقربون إليها بالبناء عليها والدعوة لها والسجود والقرابين وغير ذلك وهو دين المشركين الذين صنف الرازي كتابه على طريقتهم وسماه السر المكتوم في دعوة الكواكب والنجوم والسحر والطلاسم والعزائم
وهذا دين المشركين من الصابئين كالكشدانيين والكنعانيين واليونانيين وأرسطو وأمثاله من أهل هذا الدين وكلامه معروف في السحر الطبيعي الروحاني والكتب المعروفة
بذخيرة الإسكندر بن فيلبس الذي يؤرخون به وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة
وكانت اليونان مشركين يعبدون الأوثان كما كان قوم إبراهيم مشركين يعبدون الأوثان ولهذا قال الخليل * (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) * سورة الزخرف 26 27 وقال * (أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) * سورة الشعراء 75 77 وأمثال ذلك مما يبين تبرؤه مما يعبدوه غير الله
وهؤلاء القوم عامتهم من نفاة صفات الله وأفعاله القائمة به كما هو مذهب الفلاسفة المشائين فإنهم يقولون إنه ليس له صفة ثبوتية بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وهو مذهب القرامطة الباطنية القائلين بدعوة الكواكب والشمس والقمر والسجود لها كما كان على ذلك من كان عليه من بني عبيد ملوك القاهرة وأمثالهم
فالشرك الذي نهى عنه الخليل وعادى أهله عليه كان أصحابه هم أئمة هؤلاء النفاة للصفات والأفعال وأول من أظهر هذا النفي في الإسلام الجعد بن درهم معلم مروان ابن محمد
113

قال الإمام أحمد وكان يقال إنه من أهل حران وعنه أخذ الجهم بن صفوان مذهب نفاة الصفات وكان بحران أئمة هؤلاء الصابئة الفلاسفة بقايا أهل هذا الدين أهل الشرك ونفي الصفات والأفعال ولهم مصنفات في دعوة الكواكب كما صنفه ثابت بن قرة وأمثاله من الصابئة الفلاسفة أهل حران وكما صنفه أبو معشر البلخي وأمثاله وكان لهم بها هيكل العلة الأولى وهيكل العقل الفعال وهيكل النفس الكلية وهيكل زحل وهيكل المشتري وهيكل المريخ وهيكل الشمس وهيكل الزهرة وهيكل عطارد وهيكل القمر وقد بسط هذا في هذا الموضع
الوجه الثاني أنه لو كان المراد بقوله * (هذا ربي) * أنه رب العالمين لكانت قصة الخليل حجة على نقيض مطلوبهم لأن الكواكب والقمر والشمس ما زال متحركا من حين بزوغه إلى عند أفوله وغروبه وهو جسم متحرك متحيز صغير فلو كان مراده هذا للزم أن يقال إن إبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من كون المتحرك المنتقل رب العالمين بل ولا كونه صغيرا بقدر الكوكب والشمس والقمر وهذا مع كونه لا يظنه عاقل ممن هو دون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه فإن جوزوه عليه كان حجة عليهم لا لهم
الوجه الثالث أن الأفول هو المغيب والاحتجاب ليس هو مجرد الحركة والانتقال ولا يقول أحد لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير إن الشمس والقمر في حال ميسرهما في السماء إنهما آفلان ولا يقول للكواكب المرئية في السماء في حال ظهورها وجريانها إنها آفلة ولا يقول عاقل لكل من مشى وسافر وطار إنه آفل
الوجه الرابع أن هذا القول الذي قالوه لم يقله أحد من علماء السلف أهل التفسير ولا بد من أهل اللغة بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع
وبسبب هذا الابتداع أخذ ابن سينا وأمثاله لفظ الأفول بمعنى الإمكان كما قال في إشاراته
قال قوم إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكن إذا تذكرت ما
114

قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوث قوله تعالى * (لا أحب الآفلين) * سورة الأنعام 76 فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما فهذا قوله
ومن المعلوم بالضرورة من لغة العرب أنهم لا يسمون كل مخلوق موجود آفلا ولا كل موجود بغيره آفلا ولا كل موجود يجب وجوده بغيره لا بنفسه آفلا ولا ما كان من هذه المعاني التي يعنيها هؤلاء بلفظ الإمكان بل هذا أعظم افتراء على القرآن واللغة من تسمية كل متحرك آفلا ولو كان الخليل أراد بقوله * (لا أحب الآفلين) * سورة الأنعام 76 هذا المعنى لم ينتظر مغيب الكوكب والشمس والقمر ففساد قول هؤلاء المتفلسفة في الاستدلال بالآية أظهر من فساد قول أولئك
وأعجب من هذا قول من قال في تفسيره إن هذا قول المحققين
واستعارته لفظ الهوى والحظيرة لا يوجب تبديل اللغة المعروفة في معنى الأفول فإن وضع هو لنفسه وضعا آخر فليس له أن يتلو عليه كتاب الله تعالى فيبدله أو يحرفه
وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيرا آخر كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته كمشكاة الأنوار وغيرها أن الكواكب والشمس والقمر هي النفس والعقل الفعال والعقل الأول ونحو ذلك
وشبهتهم في ذلك أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أجل من أن يقول لمثل هذه الكواكب إنه رب العالمين بخلاف ما ادعوه من النفس ومن العقل الفعال الذي يزعمون أنه رب كل ما تحت فلك القمر والعقل الأول الذي يزعمون أنه مبدع العالم كله
وقول هؤلاء وإن كان معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام فابتداع أولئك طرق مثل هؤلاء على هذا الإلحاد
ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أن هذه المعاني ليست هي المفهوم من لفظ الكوكب والقمر والشمس
وأيضا فلو قدر أن ذلك يسمى كوكبا وقمرا وشمسا بنوع من التجوز فهذا غايته أن يسوغ للإنسان أن يستعمل اللفظ في ذلك لكنه لا يمكنه أن يدعي أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون أن يدعي أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون هذا بهذا
115

والقرآن نزل بلغة الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم فليس لأحد أن يستعمل ألفاظه في معان بنوع من التشبيه والاستعارة ثم يحمل كلام من تقدمه على هذا الوضع الذي أحدثه هو
وأيضا فإنه قال تعالى * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) * الأنعام 76 فذكره منكرا لأن الكواكب كثيرة ثم قال * (فلما رأى القمر) * الأنعام 77 * (فلما رأى
الشمس) * سورة الأنعام 78 بصيغة التعريف لكي يبين أن المراد القمر المعروف والشمس المعروفة وهذا صريح بأن الكواكب متعددة وأن المراد واحد منها وأن الشمس والقمر هما هذان المعروفان
وأيضا فإن قال * (لا أحب الآفلين) * والأفول هو المغيب والاحتجاب فإن أريد بذلك المغيب عن الأبصار الظاهرة فما يدعونه من العقل والنفس لا يزال محتجبا عن الأبصار لا يرى بحال بل وكذلك واجب الوجوب عندهم لا يرى بالأبصار بحال بل تمتنع رؤيته بالأبصار عندهم
وإن أراد المغيب عن بصائر القلوب فهذا أمر نسبي إضافي فيمكن أن تكون تارة حاضرة في القلب وتارة غائبة عنه كما يمكن مثل ذلك في واجب الوجود فالأفول أمر يعود إلى حال العارف بها لا يكسبها صفة نقص ولا كمال ولا فرق في ذلك بينها وبين غيرها
وأيضا فالعقول عندهم عشرة والنفوس تسعة بعدد الأفلاك
فلو ذكر القمر والشمس فقط لكانت شبهتهم أقوى حيث يقولون نور القمر مستفاد من نور الشمس كما أن النفس متولدة عن العقل مع ما في ذلك لو ذكروه من الفساد أما مع ذكر كوكب فقولهم هذا من أظهر الأقوال للقرامطة الباطنية فسادا لما في ذلك من عدم الشبه والمناسبة التي تسوغ في اللغة إرادة مثل هذا
فصل
الأنبياء أفضل الخلق
قال تعالى * (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) * * (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) * سورة الأنعام 84 87 فأخبر أنه اجتباهم وهداهم
والأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون والشهداء
116

والصالحون فلولا وجوب كونهم من المقربين الذين هم فوق أصحاب اليمين لكان الصديقون أفضل منهم أو من بعضهم
والله تعالى قد جعل خلقه ثلاثة أصناف فقال تعالى في تقسيمهم في الأخرة * (وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم) * سورة الواقعة 7 12 وقال في تقسيمهم عند الموت * (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم) * سورة الواقعة 88 94 وكذلك ذكر في سورة الإنسان والمطففين هذه الأصناف الثلاثة
والأنبياء أفضل الخلق وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة فيمتنع أن يكون النبي من الفجار بل ولا يكون من عموم أصحاب اليمين بل من أفضل السابقين المقربين فإنهم أفضل من عموم الصديقين والشهداء والصالحين وإن كان النبي أيضا يوسف بأنه صديق وصالح وقد يكون شهيدا لكن ذلك أمر يختص بهم لا يشركهم فيه من ليس بنبي كما قال عن الخليل * (وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) * سورة العنكبوت 27 وقال يوسف * (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) * سورة يوسف 101
فهذا مما يوجب تنزيه الأنبياء أن يكونوا من الفجار والفساق وعلى هذا إجماع سلف الأمة وجماهيرها
وأما من جوز أن يكون غير النبي أفضل منه فهو من أقوال بعض ملاحدة المتأخرين من غلاة الشيعة والصوفية والمتفلسفة ونحوهم
وما يحكى عن الفضلية من الخوارج أنهم جوزوا الكفر على النبي فهذا بطريق
117

اللازم لهم لأن كل معصية عندهم كفر وقد جوزوا المعاصي على النبي وهذا يقتضي فساد قولهم بأن قولهم كل معصية كفر وقولهم بجواز المعاصي عليهم وإلا فلم يلتزموا أن يكون النبي كافرا ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبا
وطوائف أهل الكلام الذين يجوزون بعثة كل مكلف من الجهمية والأشعرية ومن وافقهم من اتباع الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم متفقوه أيضا على أن الأنبياء أفضل الخلق وأن النبي لا يكون فاجرا لكن يقولون هذا لم يعلم بالعقل بل علم بالسمع بناء على ما تقدم من أصلهم من أن الله يجوز أن يفعل كل ممكن
وأما الجمهور الذين يثبتون الحكمة والأسباب فيقولون نحن نعلم بما عملناه من حكمة الله أنه لا يبعث نبيا فاجرا وأن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة لا تكون شياطين كما قال تعالى * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين) * إلى قوله * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) * سورة الشعراء 192 226
فهذا مما بين الله به الفرق بين الكاهن والنبي وبين الشاعر والنبي لما زعم المفترون أن محمدا صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الوحي في أول الأمر وخاف على نفسه قبل أن يستيقن أنه ملك قال لخديجة لقد خشيت على نفسي قالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فاستدلت رضي الله عنها بحسن عقلها على أن من يكون الله قد خلقه بهذه الأخلاق الكريمة التي هي من أعظم صفات الأبرار الممدوحين أنه لا يخزيه فيفسد الشيطان عقله ودينه ولم يكن معها قبل ذلك وحي تعلم به انتفاء ذلك بل علمته بمجرد عقلها الراجح
وكذلك لما ادعى النبوة من ادعاها من الكذابين مثل مسيلمة الكذاب والعنسي وغيرهما مع ما كان يشتبه من أمرهم لما كان ينزل عليهم من الشيطان ويوحون إليهم
118

حتى يظن الجاهل أن هذا من جنس ما ينزل على الأنبياء ويوحى إليهم فكان ما يبلغ العقلاء وما يرونه من سيرتهم والكذب الفاحش والظلم ونحو ذلك يبين لهم أنه ليس بنبي إذ قد علموا أن النبي لا يكون كاذبا ولا فاجرا
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو الخويصرة اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء والرواية الصحيحة بالفتح أي أنت خاسر خائب إن لم أعدل إن ظننت أني ظالم مع اعتقادك أني نبي فإنك تجوز أن يكون الرسول الذي آمنت به ظالما وهذا خيبة وخسران فإن ذلك ينافي النبوة ويقدح فيها
وقد قال تعالى * (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) * سورة آل عمران 161 وفيه قراءتان يغل ويغل أي ينسب إلى الغلول بين سبحانه أنه ما لأحد أن ينسبه إلى الغلول كما أنه ليس له أن يغل فدل على أن النبي لا يكون غالا
ودلائل هذا الأصل عظيمة لكن مع وقوع الذنب الذي هو بالنسبة إليه ذنب وقد لا يكون ذنبا من غيره مع تعقبه بالتوبة والاستغفار لا يقدح في كون الرجل من المقربين السابقين ولا الأبرار ولا يلحقه بذلك وعيد في الآخرة فضلا عن أن يجعله من الفجار
وقد قال تعالى في عموم وصف المؤمنين * (ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة) * سورة النجم 31 32 وقال * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) * سورة آل عمران 333 336 وقال تعالى * (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) *
119

سورة الزمر 33 35 وقال * (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) * سورة الأحقاف 15 16
وقد قال في قصة إبراهيم عليه السلام * (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم) * سورة العنكبوت 26 وقال في قصة شعيب عليه السلام * (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) * سورة الأعراف 88 89 وقال في سورة إبراهيم * (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين) * سورة إبراهيم 13
وقد ذم الله تعالى وتبارك فرعون بكونه رفع نبوة موسى بما تقدم من قتله نفسا بغير حق فقال * (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين) * سورة الشعراء 18 21 وكان موسى صلى الله عليه وسلم قد تاب من ذلك كما أخبر الله تعالى عنه وغفر له بقوله * (فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم) * سورة القصص 15 16
فإن قيل فإذا كان قد غفر له فلماذا يمتنعون من الشفاعة يوم القيامة لأجل ما بدا منهم فيقول آدم إذا طلبت منه الشفاعة إني نهيت عن أكل الشجرة وأكلت منها نفسي نفسي اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر
120

بها والخليل يذكر تعريضاته الثلاث التي سماها كذبا وكانت تعريضا وموسى يذكر قتل النفس
قيل هذا من كمال فضلهم وخوفهم وعبوديتهم وتواضعهم فإن من فوائد ما يتاب منه أن يكمل عبودية العبد ويزيده خوفا وخضوعا فيرفع الله بذلك درجته وهذا الامتناع مما يرفع الله به درجاتهم وحكمة الله تعلى في ذلك أن تصير الشفاعة لمن غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر
ولهذا كان ممن امتنع ولم يذكر ذنبا المسيح وإبراهيم أفضل منه وقد ذكر ذنبا ولكن قال المسيح لست هناكم اذهبوا إلى عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وتأخر المسيح عن المقام المحمود الذي خص به محمد صلى الله عليه وسلم هو من فضائل المسيح ومما يقربه إلى الله صلوات الله عليهم أجميعن
فعلم أن تأخرهم عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعي من كمال مغفرة الله للعبد وكمال عبودية العبد لله ما اختص به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال المسيح اذهبوا إلى محمد عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع وإن كن لم يشفع إلا بعد الإذن بل إذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه لم يكن يحسنها قبل ذلك فيقال له أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه
121

واشفع تشفع وهذا كله في الصحيحين وغيرهما
وأما من قيل له تقدم ولم يعرف أنه غفر له ما تأخر فيخاف أن يكون ذهابه إلى الشفاعة قبل أن يؤذن له في الشفاعة ذنبا فتأخر لكمال خوفه من الله تعالى ويقول أنا قد أذنبت وما غفر لي فأخاف أن أذنب ذنبا آخر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين
ومن معاني ذلك أنه لا يؤتى من وجه واحد مرتين فإذا ذاق ما في الذنب من الألم وزال عنه خاف أن يذنب ذنبا آخر فيحصل له ذلك الألم وهذا كمن مرض من أكلة ثم عوفي فإذا دعي إلى كل شيء خاف أن يكون مثل ذلك الأول لم يأكله يقول قد أصابني بتلك الأكلة ما أصابني فأخاف أن تكون هذه مثل تلك ولبسط هذه الأمور موضع آخر
فصل
قال تعالى * (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) * فإن قوله * (بديع السماوات والأرض) * أي مبدعهما كما ذكر مثل ذلك في البقرة وليس المراد أنهما بديعة سماواته وأرضه كما تحتمله العربية لولا السياق لأن المقصود نفي ما زعموه من خرق البنين والبنات له ومن كونه اتخذ ولدا
وهذا ينتفي بضده كونه أبدع السماوات ثم قال * (أنى يكون له ولد) * وذكر ثلاثة أدلة على نفي ذلك
أحدها كونه ليس له صاحبة فهذا نفي الولادة المعهودة وقوله * (وخلق كل شيء) * نفي للولادة العقلية وهي التولد لأن خلق كل شيء ينافي تولدها عنه وقوله
122

* (وهو بكل شيء عليم) * يشبه والله أعلم أن يكون لما ادعت النصارى أن المتحد به هو الكلمة التي يفسرونها بالعلم والصائبة القائلون بالتولد والعلة لا يجعلونه عالما بكل شيء ذكر أنه بكل شيء عليم لإثبات هذه الصفة له ردا على الصائبة ونفيها عن غيره ردا على النصارى
وإذا كان كذلك فقول من قال بتولد العقول والنفوس التي يزعمون أنها الملائكة أظهر في كونهم يقولون أنه ولد الملائكة وأنهم بنوه وبناته فالعقول بنوه والنفوس بناته من قول النصارى
ودخل في هذا من تفلسف من المنتسبة إلى الإسلام حتى إني أعرف كبيرا لهم سئل عن العقل والنفس فقال بمنزلة الذكر والأنثى فقد جعلهم كالابن والبنت وهم يجعلونهم متولدين عنه تولد المعلول عن العلة فلا يمكنه أن يفك ذاته عن معلوله ولا معلوله عنه كما لا يمكنه أن يفصل نفسه عن نفسه بمنزلة شعاع الشمس مع الشمس وأبلغ
وهؤلاء يقولون إن هذه الأرواح التي ولدها متصلة بالأفلاك الشمس والقمر والكواكب كاتصال اللاهوت بجسد المسيح فيعبدونها كما عبدت النصارى المسيح إلا أنهم أكفر من وجوه كثيرة وهم أحق بالشرك من النصارى فإنهم يعبدون ما يعلمون أنه منفصل عن الله وليس هو إياه ولا صفة من صفاته والنصارى يزعمون أنهم ما يعبدون إلا ما اتحد بالله لا لما ولده من المعلولات
ثم من عبد الملائكة والكواكب وأرواح البشر وأجسادهم اتخذ الأصنام على صورهم وطبائعهم فكان ذلك أعظم أسباب عبادة الأصنام
ولهذا كان الخليل إمام الحنفاء مخاطبا لهؤلاء الذين عبدوا الكواكب والشمس والقمر والذين عبدوا الأصنام مع إشراكهم واعترافهم بأصل الجميع
وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير موضع وأولئك هم الصابئون المشركون الذين ملكهم نمروذ وعلماؤهم الفلاسفة من اليونانيين وغيرهم الذين كانوا بأرض الشام والجزيرة والعراق وغيرها وجزائر البحر قبل النصارى وكانوا بهذه البلاد في أيام بني إسرائيل وهم الذين كانوا يقاتلون بني إسرائيل فيغلبون تارة ويغلبون تارة وسنحاريب وبخت نصر ونحوهما هم ملوك الصابئة بعد الخليل والنمروذ الذي كان في زمانه
فتبين بذلك ما في القرآن من الرد لمقالات المتقدمين قبل هذه الأمة والكفار والمنافقين فيها من إثبات الولادة لله وإن كان كثير من الناس لا يفهم دلالة القرآن على هذه المقالات لأن ذلك يحتاج إلى شيئين إلى تصور مقالتهم بالمعنى لا بمجرد اللفظ وإلى تصور
123

معنى القرآن والجمع بينهما فتجد المعنى الذي عنوه قد دل القرآن على ذكره وإبطاله
وأما اتحاد الولد فيفسر بعين الولادة وهو من باب الأفعال لا من باب الصفات كما يقوله طائفة من النصارى في المسيح
فصل
فهذا نفي كونه سبحانه والدا لشيء أو متخذا لشيء ولدا بأي وجه من وجوه الولادة أو اتخاذ الولد أيا كان
وأما نفي كونه مولودا فيتضمن نفي كونه متولدا بأي نوع من التوالد من أحد من البشر وسائر ما تولد من غيره فهو رد على من قال المسيح هو الله ورد على الدجال الذي يقول إنه الله ورد على من قال في بشر إنه الله من غالية هذه الأمة في علي وبعض أهل البيت أو بعض المشايخ كما قال قوم ذلك في علي وطائفة من أهل البيت وقالوه في الأنبياء أيضا وقاله قوم في الحلاج وقوم في الحاكم بمصر وقوم في الشيخ عدي وقوم في يونس العنيني وقوم يعمونه في المشايخ ويصوبون هذا كله
فقوله سبحانه * (ولم يولد) * نفي لهذا كله فإن هؤلاء كلهم مولودون والله لم يولد ولهذا لما ذكر الله المسيح في القرآن قال * (ابن مريم) * بخلاف سائر الأنبياء كقوله * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح) * وقوله * (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) * وقوله * (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك) * وقوله * (يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * وقوله * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) * وقوله * (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) *
وفي ذلك فائدتان
إحداهما بيان أنه مولود والله لم يولد
والثانية نسبته إلى مريم بأنه ابنها ليس هو ابن الله
124

وأما قوله * (لن يستنكف المسيح) * الآية وقوله * (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) * فإنه حكى قولهم الذي قالوه وهم قد نسبوه إلى الله أنه ابنه فلم يضمنوا ذلك قولهم المسيح ابن مريم
وقوله * (ولم يكن له كفوا أحد) * نفي للشركاء والأنداد يدخل فيه كل من جعل شيئا كفوا لله في شيء من خواص الربوبية مثل خلق الخلق والإلهية كالعبادة له ودعائه ونحو ذلك
فهذه نكت تبين اشتمال كتاب الله على إبطال قول من يعتقد في أحد من البشر الإلهية باتحاد أو حلول أو غير ذلك
فصل
قوله تعالى * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * سورة الأنعام 103
أولا النزاع في هذه المسألة بين طوائف الإمامية كما النزاع فيها بين غيرهم فالجهمية والمعتزلة والخوارج وطائفة من غير الإمامية تنكرها والإمامية لهم فيها قولان فجمهور قدمائهم يثبت الرؤية وجمهور متأخريهم ينفونها وقد تقدم أن أكثر قدمائهم يقولون بالتجسيم
قال الأشعري وكل المجمسة إلا نفرا قليلا يقول بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم
قلت وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأبي يوسف وأمثال هؤلاء وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية وغيرهم فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى والأحاديث بها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بحديثه
وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقد ذكر الإمام أحمد وغيره من الأئمة العالمين أقوال السلف أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار ومتفقون على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ولم يتنازعوا في ذلك
125

إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة منهم من نفى رؤيته بالعين في الدنيا ومنهم من أثبتها وقد بسطت هذه الأقوال والأدلة من الجانبين في غير هذا الموضع والمقصود هنا نقل إجماع السلف على إثبات الرؤية بالعين في الآخرة ونفيها في الدنيا إلا الخلاف في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة
وأما احتجاجه واحتجاج النفاة أيضا بقوله تعالى * (لا تدركه الأبصار) * سورة الأنعام 103 فالآية حجة عليهم لا لهم لأن الإدراك إما أن يراد به مطلق الرؤية أو الرؤية المقيدة بالإحاطة وألأول باطل لأنه ليس كل من رأى شيئا يقال أنه أدركه كما لا يقال أحاط به كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال ألست ترى السماء قال بلى قال أكلها ترى قال لا
ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة لا يقال أنه أدركها وإنما يقال أدركها إذا أحاط بها رؤية ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند المنع بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية وأن كل من رأى شيئا يقال في لغتهم أنه أدركه وهذا لا سبيل إليه كيف وبين لفظ الرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص أو اشتراك لفظي فقد تقع رؤية بلا إدراك وقد يقع إدراك بلا رؤية فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا منه فأدركه ولم يره وقد قال تعالى * (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين) * سورة الشعراء 61 62 فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي فعلم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك والإدراك هنا هو إدراك القدرة أي ملحقون محاط بنا وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفي إحاطة البصر أيضا
ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر هذه الآية يمدح بها نفسه سبحانه وتعالى ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح لأن النفي المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا ولأن المعدوم أيضا لا يرى والمعدوم لا يمدح فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه
وهذا أصل مستمر وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتا لا مدح فيه ولا كمال فلا يمدح الرب نفسه به بل ولا يوصف نفسه به وإنما يصفها بالنفي المتضمن معنى ثبوت كقوله * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * وقوله * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * وقوله * (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) * وقوله * (ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم) * سورة البقرة 225 وقوله * (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض) * سورة سبأ 3 وقوله * (وما مسنا من لغوب) *
126

سورة ق 38 ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصف الرب تعالى بها نفسه وأنها تتضمن اتصافه بصفات الكمال الثبوتية مثل كمال حياته وقيوميته وملكه وقدرته وعلمه وهدايته وانفراده بالربوبية والإلهية ونحو ذلك وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدما محضا ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه أنه لا يرى فعلم أن نفي الرؤية عدم محض ولا يقال في العدم المحض لا يدرك وإنما يقال هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه
وإذا كان المنفي هو الإدراك فهو سبحانه وتعالى لا يحاط به رؤية كما لا يحاط به علما ولا يلزم من نفي إحاطة العلم والرؤية نفي العلم والرؤية بل يكون ذلك دليلا على أنه يرى ولا يحاط به كما يعلم ولا يحاط به فإن تخصيص الإحاطة بالنفي يقتضي أن مدرك الرؤية ليس بمنفي وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم وقد روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وقد روي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحتاج الآية إلى تخصيص ولا خروج عن ظاهر
الآية فلا نحتاج أن نقول لا نراه في الدنيا أو نقول لا تدركه الأبصار بل المبصرون أو لا تدركه كلها بل بعضها ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف
ثم نحن في هذا المقام يكفينا أن نقول الآية تحتمل ذلك فلا يكون فيها دلالة على نفي الرؤية فبطل استدلال من استدل بها على الرؤية وإذا أردنا أن نثبت دلالة الآية على الرؤية مع نفيها للإدراك الذي هو الإحاطة أقمنا الدلالة على أن الإدراك في اللغة ليس هو مرادفا للرؤية بل هو أخص منها وأثبتنا ذلك باللغة ليس هو مرادفا للرؤية بل هو أخص منها وأثبتنا ذلك باللغة وأقوال المفسرين من السلف وبأدلة أخرى سمعية وعقلية
127

فصل في ذبائح أهل الكتاب
قال شيخ الإسلام
قال الله عز وجل * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * وقال * (وما أهل به لغير الله) * فكل ما ذبح لغير الله فلا يؤكل لحمه
وروى ابن حنبل عن عطاء في ذبيحة النصراني يقول اسم المسيح قال كل
قال ابن حنبل سمعت أبا عبد الله يسأل عن ذلك قال لا تأكل قال الله * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * فلا أرى هذا ذكاته * (وما أهل لغير الله به) *
فاحتجاج أبي عبد الله بالآية دليل على أن الكراهة عنده كراهة تحريم وهذا قول عامة قدماء الأصحاب
قال الخلال في باب التوقي لأكل ما ذبحت النصارى وأهل الكتاب لأعيادهم وذبائح أهل الكتاب لكنائسهم كل من روي عن أبي عبد الله روى الكراهة فيه وهي متفرقة في هذه الأبواب
وما قال ابن حنبل في هاتين المسألتين ذكر عن أبي عبد الله * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * * (وما أهل لغير الله به) * فإنما الجواب من أبي عبد الله فيما أهل لغير الله به وأما التسمية وتركها فقد روى عنه جميع أصحابه أنه لا بأس بأكل ما لم يسموا عليه إلا في
130

وقت ما يذبحون لأعيادهم وكنائسهم فإنه في معنى قوله تعالى * (وما أهل لغير الله به) *
وعند أبي عبد الله أن تفسير * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * إنما عنى به الميتة وقد أخرجته في موضعه
ومقصود الخلال أن نهي أحمد لم يكن لأجل ترك التسمية فقط فإن ذلك عنده لا يحرم وإنما كان لأنهم ذبحوه لغير الله سواء كانوا يسمون غير الله أو لا يسمون الله ولا غيره ولكن قصدهم الذبح لغير الله
لكن قال ابن أبي موسى ويجتنب أكل كل ما ذبحه اليهود والنصارى لكنائسهم وأعيادهم ولا يؤكل ما ذبح للزهرة
والرواية الثانية أن ذلك مكروه غير محرم وهذا الذي ذكره القاضي وغيره وأخذوا ذلك فيما أظنه مما نقله عبد الله بن أحمد سألت أبي عمن ذبح للزهرة قال لا يعجبني قلت أحرام أكله قال لا أقول حراما ولكن لا يعجبني وذلك أنه أثبت الكراهة دون التحريم
ويمكن أن يقال إنما توقف عن تسميته محرما لأن ما اختلف في تحريمه وتعارضت فيه كالجمع بين الأختين ونحوه هل يسمى حراما على روايتين كالروايتين عنده في أن ما اختلف في وجوبه هل يسمى فرضا على روايتين
ومن أصحابنا من أطلق الكراهة ولم يفسر هل أراد التحريم أو التنزيه
قال أبو الحسن الآمدي ما ذبح لغير الله مثل الكنائس والزهرة والشمس والقمر فقال أحمد هو مما أهل به لغير الله أكرهه كل ما ذبح لغير الله والكنائس وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه فأما ما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به
وكذلك مذهب مالك يكره ما ذبحه النصارى لكنائسهم أو ذبحوا على اسم المسيح أو الصليب أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم
وفي المدونة وكره مالك أكل ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم أو لأعيادهم من غير تحريم وتأول قول الله * (أو فسقا أهل لغير الله به) *
قال ابن القاسم وكذلك ما ذبحوا وسموا عليه اسم المسيح وهو بمنزلة ما ذبحوا لكنائسهم ولا أرى أن يؤكل
ونقلت الرخصة في ذبائح الأعياد ونحوها عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم وهذا فيما لم يسموا عليه غير الله فإن سموا غير الله في عيدهم أو غير عيدهم حرم في أشهر
131

الروايتين وهو مذهب الجمهور وهو مذهب الفقهاء الثلاثة فيما نقله غير واحد وهو قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة منهم أبو الدرداء وأبو أمامة والعرباض بن سارية وعبادة بن الصامت وهو قول أكثر فقهاء الشام وغيرهم
والثانية لا يحرم وإن سموا غير الله وهو قول عطاء ومجاهد ومكحول والأوزاعي والليث
نقل ابن منصور أنه قيل لأبي عبد الله سئل سفيان عن رجل ذبح ولم يذكر اسم الله متعمدا قال أرى أن لا يؤكل قيل له أرأيت إن كان يرى أنه يجزئ عنه فلم يذكر قال أرى أنه لا يؤكل قال أحمد المسلم فيه اسم الله يؤكل ولكن قد أساء في ترك التسمية النصارى أليس يذكرون غير اسم الله
ووجه الاختلاف أن هذا قد دخل في قوله عز وجل * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * وفي عموم قوله تعالى * (وما أهل لغير الله به) * لأن هذه الآية تعم كل ما نطق به لغير الله يقال أهللت بكذا إذا تكلمت به وإن كان أصله الكلام الرفيع فإن الحكم لا يختلف برفع الصوت وخفضه وإنما لما كانت عادتهم رفع الصوت في الأصل خرج الكلام على ذلك فيكون المعنى وما تكلم به لغير الله وما نطق به لغير الله
ومعلوم أن ما حرم أن تجعل غير الله مسمى فكذلك منويا إذ هذا مثل النيات في العبادات فإن اللفظ بها وأن كان أبلغ لكن الأصل القصد
ألا ترى أن المتقرب بالهدايا والضحايا سواء قال أذبحه لله أو سكت فإن العبرة بالنية وتسميته الله على الذبيحة غير ذبحها لله فإنه يسمي على ما يقصد به اللحم وأما القربان فيذبح لله سبحانه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في قربانه
اللهم منك ولك بعد قوله بسم الله والله أكبر لقوله تعالى * (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) * والكافرون يصنعون بآلهتهم كذلك فتارة يسمون آلهتهم على الذبائح وتارة يذبحونها قربانا إليهم وتارة يجمعون بينهما وكل ذلك والله أعلم يدخل فيما أهل لغير الله به فإن من سمى غير الله فقد أهل به لغير الله فقوله باسم كذا استعانة به وقوله لكذا عبادة له ولهذا جمع الله بينهما في قوله * (إياك نعبد وإياك نستعين) *
132

وأيضا فإنه سبحانه حرم ما ذبح على النصب وهي كل ما ينصب ليعبد من دون الله
وأما احتجاج أحمد على هذه المسألة بقوله تعالى * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * فحيث اشترطت التسمية في ذبيحة المسلم هل تشترط في ذبيحة الكتابي على روايتين وإن كان الخلال هنا قد ذكر عدم الاشتراط فاحتجاجه بهذه الآية يخرج على إحدى الروايتين
فلما تعارض العموم الحاظر وهو قوله تعالى * (وما أهل لغير الله به) * والعموم المبيح وهو قوله * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * اختلف العلماء في ذلك
والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه أكثر كلام أحمد من الحظر وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال وذلك لأن عموم قوله تعالى * (وما أهل لغير الله به) * * (وما ذبح على النصب) * عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم والمسلم لو ذبح لغير الله أو ذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك فكذلك الذمي لأن قوله تعالى * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) * سواء وهم وإن كانوا يستحلون هذا ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه يحل لنا
ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح فالحاظر أولى أن يقدم
ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام فهو من الشرك الذي أحدثوه فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا والله تعالى أعلم
فإن قيل ما إذا سموا عليه غير الله بأن يقولوا باسم المسيح ونحوه فتحريمه ظاهر أما إذا لم يسموا أحدا ولكن قصدوا الذبح للمسيح أو للكوكب ونحوهما فما وجه تحريمه
قيل قد تقدمت الإشارة إلى ذلك وهو أن الله سبحانه قد حرم ما ذبح على النصب وذلك يقتضي تحريمه وإن كان ذابحه كتابيا لأنه لو كان التحريم لكونه وثينا لم يكن فرق بين ذبحه على النصب وغيرها ولأنه لما أباح لنا طعام أهل الكتاب دل على أن طعام المشركين حرام فتخصيص ما ذبح على الوثن يقتضي فائدة جديدة
وأيضا فإنه ذكر تحريم ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله وقد دخل فيما أهل به
133

لغير الله ما أهل به أهل الكتاب لغير الله فكذلك كل ما ذبح على النصب فإذا ذبح الكتابي على ما قد نصبوه من التماثيل في الكنائس فهو مذبوح على النصب
ومعلوم أن حكم ذلك لا يختلف بحضور الوثن وغيبته فإنما حرم لأنه قصد بذبحه عبادة الوثن وتعظيمه وهذه الأنصاب قد قيل هي من الأصنام وقيل هي غير الأصنام
قالوا كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون عليها وكانوا إذا شاؤوا أبدلوا هذه الحجارة بحجارة هي أعجب إليهم منها ويدل على ذلك قول أبي ذر في حديث إسلامه حتى صرت كالنصب الأحمر يريد أنه كان يصير أحمر من تلوثه بالدم
وفي قوله * (وما ذبح على النصب) * قولان
أحدهما أن نفس الذبح كان يكون عليها كما ذكرناه فيكون ذبحهم غير الأصنام فيكون الذبح عليها لأجل أن المذبوح عليها مذبوح للأصنام أو مذبوح لها وذلك يقتضي تحريم كل ما ذبح لغير الله ولأن الذبح في البقعة لا تأثير له إلا من جهة الذبح لغير الله كما كرهه النبي صلى الله عليه وسلم من الذبح في مواضع أصنام المشركين ومواضع أعيادهم وإنما يكره المذبوح في البقعة المعينة لكونها محل شرك فإذا وقع الذبح حقيقة لغير الله كانت حقيقة التحريم قد وجدت فيه
والقول الثاني أن الذبح على النصب أي لأجل النصب كما قيل
أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على زينب بخبز ولحم وأطعم فلان على ولده وذبح فلان على ولده ونحو ذلك ومنه قوله تعالى * (لتكبروا الله على ما هداكم) * وهذا ظاهر على قول من يجعل النصب نفس الأصنام ولا منافاة بين كون الذبح لها وبين كونها كانت تلوث بالدم
وعلى هذا القول فالدلالة ظاهرة
واختلاف هذين القولين في قوله تعالى * (على النصب) * نظير الاختلاف في قوله تعالى * (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) * وقوله تعالى * (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) *
134

فإنه قد قيل المراد بذكر اسم الله عليها إذا كانت حاضرة
وقيل بل يعم ذكره لأجلها في مغيبها وشهودها بمنزلة قوله تعالى * (لتكبروا الله على ما هداكم) *
وفي الحقيقة مآل القولين إلى شيء واحد في قوله تعالى * (وما ذبح على النصب) * كما قد أومأنا إليه
وفيها قول ثالث ضعيف أن المعنى على اسم النصف وهذا ضعيف لأن هذا المعنى حاصل من قوله تعالى * (وما أهل لغير الله به) * فيكون تكريرا لكن اللفظ يحتمله كما روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه
فصل
قال شيخ الإسلام
الجن مأمورون ومنهيون كالإنس وقد بعث الله الرسل من الإنس إليهم وإلى الإنس وأمر الجميع بطاعة الرسل كما قال تعالى * (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) * وهذا بعد قوله * (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله) * قال غير واحد من السلف أي كثير من أغويتم من الإنس وأضللتموهم قال البغوي قال بعضهم استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون لهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم
135

لهم الأمور التي يهيؤونها ويسهل سبيلها عليهم واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينن لهم من الضلالة والمعاصي قال محمد بن كعب هو طاعة بعضهم لبعض وموافقة بعضهم بعضا وذكر ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعلمت الإنس وعن محمد بن كعب قال هو الصحابة في الدنيا وقال ابن السائب استمتاع الإنس بالجن استعاذتهم بهم واستمتاع الجن بالإنس أن قالوا قد أسرنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في أنفسهم وعظما في نفوسهم وهذا كقوله * (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) *
قلت الاستمتاع بالشيء هو أن يتمتع به ينال به ما يطلبه ويريده ويهواه ويدخل في ذلك استمتاع الرجال بالنساء بعضهم لبعض كما قال * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) * ومن ذلك الفواحش كاستمتاع الذكور بالذكور والإناث بالإناث
ويدخل في هذا الاستمتاع بالاستخدام وأئمة الرياسة كما يتمتع الملوك والسادة بجنودهم ومماليكهم ويدخل في ذلك الاستمتاع بالأموال كاللباس ومنه قوله * (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) * وكان من السلف من يمتع المرأة بخادم فهي تستمتع بخدمته ومنهم من يمتع بكسوة أو نفقة ولهذا قال الفقهاء أعلى المتعة خادم وأدناها كسوة يجزئ فيها الصلاة
وفي الجملة استمتاع الإنس بالجن والجن بالإنس يشبه استمتاع الإنس بالإنس قال تعالى * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * وقال تعالى * (وتقطعت بهم الأسباب) * قال مجاهد هي المودات التي كانت لغير الله قال الخليل * (إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) * قال تعالى * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * فالمشرك يعبد ما يهواه واتباع الهوى هو استمتاع من صاحبه بما يهواه وقد وقع في الإنس والجن هذا كله
136

وتارة يخدم هؤلاء لهؤلاء في أغراضهم وهؤلاء لهؤلاء في أغراضهم فالجن تأتيه بما يريد من صورة أو مال أو قتل عدوه والإنس تطيع الجن فتارة يسجد له وتارة لما يأمره بالسجود له وتارة يمكنه من نفسه فيفعل به الفاحشة وكذلك الجينات منهن من يريد من الإنس الذي يخدمنه ما يريد نساء الإنس من الرجال وهذا كثير في رجال الجن ونسائهم فكثير من رجالهم ينال من نساء الإنس ما يناله الإنسي وقد يفعل ذلك بالذكران
وصرع الجن للإنس هو لأسباب ثلاثة
تارة يكون الجني يحب المصروع ليتمتع به وهذا الصرع يكون أرفق من غيره وأسهل
وتارة يكون الإنسي آذاهم إذا بال عليهم أو صب عليهم ماء حارا أو يكون قتل بعضهم أو غير ذلك من أنواع الأذى هذا أشد الصرع وكثيرا ما يقتلون المصروع
وتارة يكون بطريق العبث به كما يعبث سفهاء الإنس بأبناء السبيل
ومن استمتاع الإنس والجن استخدامهم في الإخبار بالأمور الغائبة كما يخبر الكهان فإن في الإنس من له غرض في هذا لما يحصل به من الرياسة والمال وغير ذلك فإن كان القوم كفارا كما كانت العرب لم تبال بأن يقال أنه كاهن كما كان العرب كهانا وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها كهان وكان المنافقون يطلبون التحاكم إلى الكهان وكان أبو أبرق الأسلمي أحد الكهان قبل أن يسلم وإن كان القوم مسلمين لم يظهر أنه كاهن بل يجعل ذلك من باب الكرامات وهو من جنس الكهان فإنه لا يخدم الإنسي بهذه الأخبار إلا لما يستمتع به من الإنسي بأن يطيعه الإنسي في بعض ما يريده إما في شرك وإما في فاحشة وإما في أكل حرام وإما في قتل بغير حق فالشياطين لهم غرض فيما نهى الله عنه من الكفر والفسوق والعصيان ولهم لذة في الشر والفتن يحبون ذلك وإن لم يكن فيه منفعة لهم وهم يقومون بأمر السارق أن يسرق ويذهب إلى أهل المال فيقولون فلان سرق متاعكم ولهذا يقال القوة الملكية والبهيمية والسبعية والشيطانية فإن الملكية فيها العلم النافع والعمل الصالح والبهيمية فيها الشهوات كالأكل والشرب والسبعية فيها الغضب وهو دفع المؤذي وأما الشيطانة فشر محض ليس فيها جلب منفعة ولا دفع مضرة
والفلاسفة ونحوهم ممن لا يعرف الجن والشياطين لا يعرفون هذه وإنما يعرفون الشهوة والغضب والشهوة والغضب خلقا لمصلحة ومنفعة لكن المذموم هو العدوان فيهما
وأما الشيطان فيأمر بالشر الذي لا منفعة فيه ويحب ذلك كما فعل إبليس بآدم لما وسوس له وكما امتنع من السجود له فالحسد يأمر به الشيطان والحاسد لا ينتفع بزوال النعمة عن المحسود
137

لكن يبغض ذلك وقد يكون بغضه لفوات غرضه وقد لا يكون
ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم في إحضار بعض ما يطلبونه من مال وطعام وثياب ونفقة فقد يأتون ببعض ذلك وقد يدلونه على كنز وغيره واستمتاع الجن بالإنس استعمالهم فيما يريده الشيطان من كفر وفسوق ومعصية
ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم فيما يطلبه الإنس من شرك وقتل وفواحش فتارة بتمثل الجني في صورة الإنسي فإذا استغاث به في بعض أتباعه أتاه فظن أنه الشيخ نفسه وتارة يكون التابع قد نادى شيخه وهتف به يا سيدي فلان فينقل الجني ذلك الكلام إلى الشيخ بمثل صوت الإنسي حتى يظن الشيخ أنه صوت الإنسي بعينه ثم إن الشيخ يقول نعم ويشير إشارة يدفع بها ذلك المكروه فيأتي الجني بمثل ذلك الصوت والفعل يظن ذلك الشخص أنه شيخه نفسه وهو الذي أجابه وهو الذي فعل ذلك حتى إن تابع الشيخ قد تكون يده في إناء يأكل فيضع الجني يده في صورة يد الشيخ ويأخذ من الطعام فيظن ذلك التابع أنه شيخه حاضر معه والجني يمثل للشيخ نفسه مثل ذلك الإناء فيضع يده فيه حتى يظن الشيخ أن يده في ذلك الإناء فإذا حضر المريد ذكر له الشيخ أن يدي كانت في الإناء فيصدقه ويكون بينهما مسافة شهر والشيخ في موضعه ويده لم تطل ولكن الجني مثل للشيخ ومثل للمريد حتى ظن كل منهما أن أحدهما عند الآخر وإنما كان عنده ما مثله الجني وخيله وإذا سئل الشيخ المخدوم عن أمر غائب إما سرقة وإما شخص مات وطلب منه أن يخبر بحاله أو علة في النساء أو غير ذلك فإن الجني قد يمثل ذلك فيريه صورة المسروق فيقول الشيخ ذهب لكم كذا وكذا ثم إن كان صاحب المال معظما وأراد أن يدله على سرقته مثل له الشيخ الذي أخذه أو المكان الذي فيه المال فيذهبون إليه فيجدونه كما قال والأكثر منهم أنهم يظهرون صورة المال ولا يكون عليه لأن الذي سرق المال معه أيضا حتى يخدمه والجن يخاف بعضهم من بعض كما أن الإنس يخاف بعضهم بعضا فإذا دل الجني عليه جاء إليه أولياء السارق فآذوه وأحيانا لا يدل لكون السارق وأعوانه يخدمونه ويرشونه كما يصيب معرف اللصوص من الإنس تارة يعرف السارق ولا يعرف به إما لرغبة ينالها منه وإما لرهبة وخوف منه وإذا كان المال المسروق لكبير يخافه ويرجوه عرف سارقه فهذا وأمثاله من استمتاع بعضهم ببعض
والجن مكلفون كتكليف الإنس ومحمد صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الثقلين الجن والإنس وكفار الجن يدخلون النار بنصوص وإجماع المسلمين وأما مؤمنهم ففيهم قولان وأكثر العلماء على أنهم يثابون أيضا ويدخلون الجنة وقد روي أنهم يكونون في ربضها يراهم الإنس من
138

حيث لا يرون الإنس عكس الحال في الدنيا وهو حديث رواه الطبراني في معجمه الصغير يحتاج النظر في إسناده وقد احتج ابن أبي ليلى وأبو يوسف على ذلك بقوله تعالى * (ولكل درجات مما عملوا) * وقد ذكر الجن والإنس الأبرار والفجار في الأحقاف والأنعام واحتج الأوزاعي وغيره بقوله تعالى * (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) * وقد قال تعالى في الأحقاف * (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ولكل درجات مما عملوا) * وقد تقدم قبل هذا ذكر أهل الجنة وقوله * (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة) * ثم قال * (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون) * قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات أهل الجنة تذهب علوا ودرجات أهل النار تذهب سفلا وقد قال تعالى عن قول الجن * (منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا) * وقالوا * (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) * ففيهم الكفار والفساق والعصاة وفيهم من فيه عباة ودين بنوع من قلة العلم كما في الإنس وكل نوع من الجن يميل إلى نظيره من الإنس فاليهود مع اليهود والنصارى مع النصارى والمسلمون مع المسلمين والفساق مع الفساق وأهل الجهل والبدع مع أهل الجهل والبدع
واستخدام الإنس لهم مثل استخدام الإنس للإنس بشيء منهم من يستخدمهم المحرمات من الفواحش والظلم والشرك والقول على الله بلا علم وقد يظنون ذلك من كرامات الصالحين وإنما هو من أفعال الشياطين
ومنهم من يستخدمهم في أمور مباحة إما إحضار ماله أو دلالة على مكان فيه مال ليس له مالك معصوم أو دفع من يؤذيه ونحو ذلك فهذا كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك
139

والنوع الثالث أن يستعملهم في طاعة الله ورسوله كما يستعمل الإنس في مثل ذلك فيأمرهم بما أمر الله به ورسوله وينهاههم عما نهاهم الله عنه ورسوله كما يأمر الإنس وينهاهم وهذه حال نبينا صلى الله عليه وسلم وحال من اتبعه واقتدى به من أمته وهم أفضل الخلق فإنهم يأمرون الإنس والجن بما أمرهم الله به ورسوله وينهون الإنس والجن عما نهاهم الله عنه ورسوله إذ كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثا بذلك إلى الثقلين الإنس والجن وقد قال الله له * (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) * وقال * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) * وعمر رضي لما نادى يا سارية الجبل قال إن لله جنودا يبلغون صوتي وجنود الله هم من الملائكة ومن صالحي الجن فجنود الله بلغوا صوت عمر إلى سارية وهو أنهم نادوه بمثل صوت عمر وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة وهذا كالرجل يدعو آخر وهو بعيد عنه فيقول يا فلان فيعان على ذلك فيقول الواسطة بينهما يا فلان وقد يقول لمن هو بعيد عنه يا فلان احبس الماء تعال إلينا وهو لا يسمع صوته فيناديه الواسطة بمثل ذلك يا فلان احبس الماء أرسل الماء إما بمثل صوت الأول إن كان لا يقبل إلا صوته وإلا فلا يضر بأي صوت كان إذا عرف أن صاحبه قد ناداه وهذا حكاية كان عمر مرة قد أرسل جيشا فجاء شخص وأخبر أهل المدينة بانتصار الجيش وشاع الخبر فقال عمر من أين لكم هذا قالوا شخص صفته كيت وكيت فأخبرنا فقال عمر ذاك أبو الهيتم يريد الجن وسيجئ بريد الإنسان بعد ذلك بأيام
وقد يأمر الملك بعض الناس بأمر ويستكتمه إياه فيخرج فيرى الناس يتحدثون به فإن الجن تسمعه وتخبر به الناس والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان لكن أعطي ملكا لا ينبغي لأحد بعده وسخرت له الإنس والجن وهذا لم يحصل لغيره والنبي صلى الله عليه وسلم لما تفلت عليه العفريت ليقطع عليه صلاته قال فأخذته فدعته حتى سال لعابه على يدي وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته فلم يستخدم النبي الجن أصلا لكن دعاهم إلى الإيمان بالله وقرأ عليهم القرآن وبلغهم الرسالة وبايعهم كما فعل بالإنس والذي أوتيه صلى الله عليه وسلم أعظم مما أوتيه سليمان فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة الله وحده وسعادتهم في الدنيا والآخرة لا لغرض يرجع إليه إلا ابتغاء وجه الله وطلب مرضاته واختار أن يكون عبدا رسولا على أن يكون نبيا ملكا فداود وسليمان ويوسف أنبياء ملوك وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسل
140

عبيد فهو أفضل كفضل السابقين المقربين على الأبرار أصحاب اليمين وكثير ممن يرى هذه العجائب الخارقة يعتقد أنها من كرامات الأولياء وكثير من أهل الكلام والعلم لم يعرفوا الفرق بين الأنبياء والصالحين في الآيات الخارقة وما لأولياء الشيطان من ذلك من السحرة والكهان والكفار من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والضلال من الداخلين في الإسلام جعلوا الخوارق جنسا واحدا وقالوا كلها يمكن أن تكون معجزة إذا اقترنت بدعوى النبوة والاستدلال بها والتحدي بمثلها
وإذا ادعى النبوة من ليس بنبي من الكفار والسحرة فلا بد أن يسلبه الله ما كان معه من ذلك وأن يقيض له من يعارضه ولو عارض واحد من هؤلاء النبي لأعجزه الله فخاصة المعجزات عندهم مجرد كون المرسل إليهم لا يأتون بمثل ما أتى به النبي كان معتادا للناس قالوا إن عجز الناس عن المعارضة خرق عادة فهذه هي المعجزات عندهم وهم ضاهوا سلفهم من المعتزلة الذين قالوا المعجزات هي خرق العادة لكن أنكروا كرامات الصالحين وأنكروا أن يكون السحر والكهانة من جنس الشعبذة وحيل لم يعلموا أن الشياطين تعين على ذلك وأولئك أثبتوا الكرامات ثم زعموا أن المسلمين أجمعوا على أن هذه لا تكون إلا لرجل صالح أو نبي قالوا فإذا ظهرت على يد رجل كان صالحا بهذا الإجماع وهؤلاء أنفسهم قد ذكروا أنها تكون للسحرة ما هو مثلها وتناقضوا في ذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع
فصار كثير من الناس لا يعلمون ما للسحرة والكهان وما يفعله الشياطين من العجائب وظنوا أنها لا تكون إلا لرجل صالح فصار من ظهرت هذه له يظن أنها كرامة فيقوى قلبه بأن طريقته هي طريقة الأولياء وكذلك غيرهم يظن فيه ذلك ثم يقولون الولي إذا تولى لا يعترض عليه فمنهم من يراه مخالفا لما علم بالاضطرار من دين الرسول مثل ترك الصلاة المفروضة وأكل الخبائث كالخمر والحشيشة والميتة وغير ذلك وفعل الفواحش والفحش والتفحش في المنطق وظلم الناس وقتل النفس بغير حق والشرك بالله وهو مع ذلك يظن فيه أنه ولي من أولياء الله قد وهبه هذه الكرامات بلا عمل فضلا من الله تعالى ولا يعلمون أن هذه من أعمال الشياطين وأن هذه من أولياء الشياطين يضل به الناس ويغويهم
ودخلت الشياطين في أنواع من ذلك
فتارة يأتون الشخص في النوم يقول أحدهم أنا أبو بكر الصديق وأنا أتوبك لي وأصير شيخك وأنت تتوب الناس لي ويلبسه فيصبح وعلى رأسه ما ألبسه فلا يشك أن الصديق هو الذي جاءه ولا يعلم أنه الشيطان وقد جرى مثل هذا لعدد من المشايخ بالعراق والجزيرة والشام وتارة يقص شعره في النوم فيصبح فيجد شعره مقصوصا وتارة يقول أنا الشيخ فلان فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه وقص شعره
141

وكثيرا ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت فيأتونه في صورة ذلك الشيخ وقد يخلصونه مما يكره فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه أو أن ملكا تصور بصورته وجاءه ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل إنما هو الشيطان لما أشرك بالله أضلته الشياطين والملائكة لا تجيب مشركا
وتارة يأتون إلى من هو خال في البرية وقد يكون ملكا أو أميرا كبيرا ويكون كافرا وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت فيأتيه في صورة إنسي ويسقيه ويدعوه إلى الإسلام ويتوبه فيسلم على يديه ويطعمه ويدله على الطريق ويقول من أنت فيقول أنا فلان ويكون في موضع
كما جرى مثل هذا لي كنت في مصر في قلعتها وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق وقال له ذلك الشخص أنا ابن تيمية فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو وأخبر بذلك ملك ماردين وأرسل بذلك ملك ماردين إلى مصر رسولا وكنت في الحبس فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس ولكن كان هذا جنيا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاؤوا إلى دمشق كنت أدعوهم إلى الإسلام فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ما تيسر فعمل معهم مثل ما كنت أعمل وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك
قال لي طائفة من الناس فلم لا يجوز أن يكون ملكا قلت لا إن الملك لا يكذب وهذا قد قال أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك
وكثير من الناس رأى من قال إني أن الخضر وإنما كان جنيا ثم صار من الناس من يكذب بهذه الحكايات إنكارا لموت الخضر والذين قد عرفوا صدقها يقطعون بحياة الخضر وكل من الطائفتين مخطىء فإن الذين رأوا من قال إني أنا الخضر هم كثيرون صادقون والحكايات متواترة لكن أخطؤوا في ظنهم أنه الخضر وإنما كان جنيا ولهذا يجري مثل هذا لليهود والنصارى فكثيرا ما يأتيهم في كنائسهم من يقول أنه الخضر وكذلك اليهود يأتيهم في كنائسهم من يقول أنه الخضر وفي ذلك من الحكايات الصادقة ما يضيق عنه هذا الموضع يبين صدق من رأى شخصا وظن أنه الخضر وأنه غلط في ظنه أنه الخضر وإنما كان جنيا وقد يقول أنا المسيح أو موسى أو محمد أو أبو بكر أو عمر أو الشيخ فلان فكل هذا قد وقع والنبي صلى الله عليه وسلم قال من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي قال ابن عباس في صورته التي كان عليه في حياته وهذه رؤيا في المنام وأما في اليقظة فمن ظن أن أحدا من الموتى يجيء بنفسه للناس عيانا قبل يوم القيامة فمن جهله أتى
ومن هنا ضلت النصارى حيث اعتقدوا أن المسيح بعد أن صلب كما يظنون أنه أتى
142

إلى الحواريين وكلمهم ووصاهم وهذا مذكور في أناجيلهم وكلها تشهد بذلك وذاك الذي جاء كان شيطانا قال أنا المسيح ولم يكن هو المسيح نفسه ويجوز أن يشتبه مثل هذا على الحواريين كما اشتبه على كثير من شيوخ المسلمين ولكن ما أخبرهم المسيح قبل أن يرفع بتبليغه فهو الحق الذي يجب عليهم تبليغه ولم يرفع حتى بلغ رسالات ربه فلا حاجة إلى مجيئه بعد أن رفع إلى السماء
وأصحاب الحلاج لما قتل كان يأتيهم من يقول أن الحلاج فيرونه في صورته عيانا وكذلك شيخ بمصر يقال له الدسوقي بعد أن مات كان يأتي أصحابه من جهته رسائل وكتب مكتوبة وأراني صادق من أصحابه الكتاب الذي أرسله فرأيته بخط الجن وقد رأيت خط الجن غير مرة وفيه كلام من كلام الجن وذاك المعتقد يعتقد أن الشيخ حي وكان يقول انتقل ثم مات وكذلك شيخ آخر كان بالمشرق وكان له خوارق من الجن وقيل كان بعد هذا يأتي خواص أصحابه في صورته فيعتقدون أنه هو وهكذا الذين كانوا يعتقدون بقاء علي أو بقاء محمد بن الحنفية قد كان يأتي إلى بعض أصحابهم جني في صورته وكذا منتظر الرافضة قد يراه أحدهم أحيانا ويكون المرئي جنيا جنيا فهذا باب واسع واقع كثيرا وكلما كان القوم أجهل كان عندهم أكثر ففي المشركين أكثر مما في النصارى وهو في النصارى كما هو في الداخلين في الإسلام وهذه الأمور يسلم بسببها ناس ويتوب بسببها ناس يكونون أضل من أصحابها فينتقلون بسببها إلى ما هو خير مما كان عليه كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيرا مما كانوا وإن كان قصد ذلك الرجل فاسدا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم وهذا كان كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل ويقوى بها قلوب كثير من أهل الحق وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها والخير والشر درجات فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من أن يكونوا كفارا وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوا يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثما بذلك ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارا فصاروا مسلمين وذاك كان شرا بالنسبة إلى القائم بالواجب وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه وإن كانت كذبا وهذا كالرجل يسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه فنفس ذلك الكفر الذي كان عليه وانتهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافرا فانتقل إلى خير مما كان عليه وخف الشر الذي كان فيه ثم
143

إذا أراد الله هدايته أدخل الإيمان في قلبه والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتعليلها والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق بغاية الإمكان ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان * (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون) * وأكثر المتكلمين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين فيصير الكافر مسلما مبتدعا وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهي بدعة أهل السنة وقد ذكرنا فيما تقدم أصناف البدع
ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة وكلهم يتولون أبا بكر وعمر وعثمان وكذلك المعروف عنهم أنهم يتولون عليا ومنهم من يفضله على أبي بكر وعمر ولكن حكي عن بعض متقدميهم أنه قال فسق يوم الجمل إحدى الطائفتين ولا أعلم عينها وقالوا أنه قال لو شهد علي والزبير لم أقبل شهادتهما لفسق أحدهما لا بعينه ولو شهد علي مع آخر ففي قبول شهادته قولان وهذا القول شاذ فيهم والذي عليه عامتهم تعظيم علي
ومن المشهور عندهم ذم معاوية وأبي موسى وعمرو بن العاص لأجل علي ومنهم من يكفر هؤلاء ويفسقهم بخلاف طلحة والزبير وعائشة فإنهم يقولون أن هؤلاء تابوا من قتاله وكلهم يتولى عثمان ويعظمون أبا بكر وعمر ويعظمون الذنوب فهو يتحرون الصدق كالخوارج لا يختلقون الكذب كالرافضة ولا يرون أيضا اتخاذ دار غير دار الإسلام كالخوارج ولهم كتب في تفسير القرآن ونصر الرسول ولهم محاسن كثيرة يترجحون على الخوارج والروافض وهو قصدهم إثبات توحيد الله ورحمته وحكمته وصدقه وطاعته وأصولهم الخمس على هذه الصفات الخمس لكنهم غلطوا في بعض ما قالوه في كل واحد من أصولهم الخمس فجعلوا من التوحيد نفي الصفات وإنكار الرؤية والقول بأن القرآن مخلوق فوافقوا في ذلك الجهمية وجعلوا من العدل أنه لا يشاء ما يكون ويكون ما لا يشاء وأنه لم يخلق أفعال العباد فنفوا قدرته ومشيئته وخلقه لإثبات العدل وجعلوا من الرحمة نفي أمور خلقها لم يعرفوا ما فيها من الحكمة وكذلك هم الخوارج قالوا بإنفاذ الوعيد ليثبتوا أن الرب صادق لا يكذب إذا كان عندهم قد أخبر بالوعيد العام فمتى لم يقل بذلك لزم كذبه وغلطوا في فهم الوعيد وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف قصدوا به طاعة الله ورسوله كما يقصده الخوارج والزيدية فغلطوا في ذلك وكذلك إنكارهم للخوارق غير المعجزات قصدوا به إثبات النبوة ونصرها وغلطوا فيما سلكوه فإن النصر لا يكون بتكذيب الحق وذلك لكونهم لم يحققوا خاصة آيات الأنبياء ولأشعرية ما ردوه من بدع المعتزلة والرافضة والجهمية وغيرهم وبينوا ما بينوه من تناقضهم وعظموا الحديث والسنة ومذهب الجماعة فحصل بما قالوه من بيان تناقض
144

أصحاب البدع الكبار وردهم ما انتفع به خلق كثير
فإن الأشعري كان من المعتزلة وبقي على مذهبهم أربعين سنة يقرأ على أبي علي الجبائي فلما انتقل عن مذهبهم كان خبيرا بأصولهم وبالرد عليهم وبيان تناقضهم وأما ما بقي عليه من السنة فليس هو من خصائص المعتزلة بل هو من القدر المشترك بينهم وبين الجهمية وأما خصائص المعتزلة فلم يوالهم الأشعري في شيء منها بل ناقضهم في جميع أصولهم ومال في مسائل العدل والأسماء والأحكام إلى مذهب جهم ونحوه وكثير من الطوائف كالنجارية اتباع حسين النجار والضرارية أتباع ضرار بن عمر ويخالفون المعتزلة في القدر والأسماء والأحكام وإنفاذ الوعيد والمعتزلة من أبعد الناس عن طريق أهل الكشف والخوارق والصوفية يذمونها ويعيبونها وكذلك يبالغون في
ذم النصارى أكثر مما يبالغون في ذم اليهود وهم إلى اليهود أقرب كما أن الصوفية ونحوهم إلى النصارى أقرب فإن النصارى عندهم عبادة وزهد وأخلاق بلا معرفة ولا بصيرة فهم ضالون واليهود عندهم علم ونظر بلا قصد صالح ولا عبادة ولا زهد ولا أخلاق كريمة فهم مغضوب عليهم والنصارى ضالون
قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ولا أعلم في هذا الحرف اختلافا بين المفسرين وروى بإسناد عن أبي روق عن ابن عباس وغير طريق الضالين وهم النصارى الذين أضلهم الله بفريتهم عليه يقول فألهمنا دينك الحق وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له حتى لا تغضب علينا كما غضبت على اليهود ولا تضلنا كما أضللت النصارى فتعذبنا كما تعذبهم يقول امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك ورأفتك وقدرتك قال ابن أبي حاتم ولا أعلم في هذا الحرف اختلافا بين المفسرين وقد قال سفيان بن عيينة كانوا يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى
فأهل الكلام أصل أمرهم هو النظر في العلم ودليله فيعظمون العلم وطريقه وهو الدليل والسلوك في طريقه وهو النظر
وأهل الزهد يعظمون الإرادة والمريد وطريق أهل الإرادة فهؤلاء يبنون أمرهم على الإرادة وأولئك يبنون أمرهم على النظر وهذه هي القوة العلمية ولا بد لأهل الصراط المستقيم من هذا وهذا ولا بد أن يكون هذا وهذا موافقا لما جاء به الرسول
فالإيمان قول وعمل وموافقة السنة وأولئك عظموا النظر وأعرضوا عن الإرادة وعظموا جنس النظر ولم يلتزموا النظر الشرعي فغلطوا من جهة كون جانب الإرادة لم يعظموه وإن كانوا يوجبون الأعمال الظاهرة فهم لا يعرفون أعمال القلوب وحقائقها ومن جهة أن النظر لم يميزوا فيه بين النظر الشرعي الحق الذي أمر به الشارع وأخبر به وبين النظر البدعي الباطل المنهي عنه
145

وكذلك الصوفية عظموا جنس الإرادة إرادة القلب وذموا الهوى وبالغوا في الباب ولم يميز كثير منهم بين الإرادة الشرعية الموافقة لأمر الله ورسوله وبين الإرادة البدعية بل أقبلوا على طريق الإرادة طريقة النظر
وأعرض كثير منهم فدخل عليهم الداخل من هاتين الجهتين ولهذا صار هؤلاء يميل إليهم النصارى ويميلون إليهم وأولئك يميل إليهم اليهود ويميلون إليهم وبين اليهود والنصارى غاية التنافر والتباغض وكذلك بين أهل الكلام والرأي وبين أهل التصوف والزهد تنافر وتباغض هذا وهذا من الخروج عن الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
ونسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين
146

148
فصل
قال تعالى * (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير) * الآية وفيهما قراءتان إحداهما بالنصب فيكون لباس التقوى أيضا منزلا واما قراءة الرفع فلا وكلتاهما حق وقد قيل خلقناه وقيل وقدلتاهما حق وقد قيل خلقناه وقيل وقدلتاهما حق وقد قيل خلقناه وقيل أنزلنا أسبابه وقيل ألهمناهم كيفية صنعته وهذه الأقوال ضعيفة فإن النبات الذي ذكروا لم يجيءفيه لفظ أنزلنا ولم يستعمل في كل ما يصنع أنزلنا فلم يقل أ أنزلنا الدور وأنزلنا الطبخ ونحو ذلك وهو لم يقل إنا أنزلنا كل لباس ورياش
وقد قيل إن الريش والرياش المراد به اللباس الفاخر كلاهما بمعنى واحد مثل اللبس واللباس
وقد قيل هما المال والخصب والمعاش وارتاش فلان حسنت حالته
والصحيح أن الرياض هو الأثاث والمتاع قا أبو عمرو والعرب تقول أعطاني فلان ريشه أي كسوته وجهازه
وقال غيره الرياض في كلام العرب الأثاث وما ظهر من المتاع والثياب والفرش ونحوها
وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال والمراد به مال مخصوص
148

قال أبو زيد جمالا وهذا لأنه مأخوذ من ريش الطائر وهو ما يروش به ويدفع عنه الحر والبرد وجمال الطائر ريشه وكذلك ما يبيت فيه الإنسان من الفرش وما يبسطه تحته ونحو ذلك والقرآن مقصوده جنس اللباس الذي يلبس على البدن وفي البيوت
والله أعلم
149

فصل
قال تعالى * (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) * سورة الأعراف 29 لم يقل عند كل مشهد وقال * (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) * سورة التوبة 17 18 ولم يقل * (إنما يعمر) * مشاهد الله بل عمار المشاهد يخشون بها غير الله ويرجون غير الله وقال تعالى * (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) * سورة الجن 18 ولم يقل وأن المشاهد لله وقال * (ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) * سورة الحج 40 ولم يقل ومشاهد وقال * (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) * سورة النور 36 37
وأيضا فقد علم بالنقل المتواتر بل علم بالاضطرار من دين الاسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم شرع لأمته عمارة المساجد بالصلوات والاجتماع للصلوات الخمس
ولصلاة الجمعة والعيدين وغير ذلك وأنه لم يشرع لأمته أن يبنوا على قبر نبي ولا رجل صالح لا من أهل البيت ولاغيرهم لا مسجدا ولا مشهدا ولم يكن على عهده صلى الله عليه وسلم في الإسلام
150

مشهد مبين على قبر وكذلك على عهد خلفائه الراشدين وأصحابه الثلاثة وعلي بن أبي طالب ومعاوية لم يكن على عهدهم مشهد مبني لا على قبر نبي ولا غيره لا على قبر إبراهيم الخليل ولا على غيره
بل لما قدم المسلمون إلى الشام غير مرة ومعهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم ثم لما قدم عمر لفتح بيت المقدس ثم لما قدم لوضع الجزية على أهل الذمة ومشارطتهم ثم لما قدم إلى سرغ ففي جميع هذه المرات لم يكن أحدهم يقصد السفر إلى قبر الخليل ولا كان هناك مشهد بل كان هناك البناء المبني على المغارة وكان مسدودا بلا باب له مثل حجة النبي صلى الله عليه وسلم
ثم لم يزل الأمر هكذا في خلافة بني أمية وبني العباس إلى أن ملك النصارى تلك البلاد في أواخر المائة الخامسة فبنوا ذلك البناء واتخذوه كنيسة ونقبوا باب البناء فلهذا تجد الباب منقوبا لا مبنيا ثم لما استنقذ المسلمون منهم تلك الأرض اتخذها من اتخذها مسجدا
بل كان الصحابة إذا رأوا أحدا بنى مسجدا على قبر نهوه عن ذلك ولما ظهر قبر دانيال بتستر كتب فيه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر أن تحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وتدفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به
وكان عمر بن الخطاب إذا رآهم ينتابون مكانا يصلون فيه لكونه موضع نبي ينهاهم عن ذلك ويقول إنما هلك من كان قبلكم باتخاذ آثار أنبيائهم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب
فهذا وأمثاله كانوا يحققون به التوحيد الذي أرسل الله به الرسول إليهم ويتبعون في ذلك سنته صلى الله عليه وسلم
والإسلام مبني على أصلين أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع
فالنصارى خرجوا عن الأصلين وكذلك المبتدعون من هذه الأمة من الرافضة وغيرهم
وأيضا فإن النصارى يزعمون أن الحواريين الذين اتبعوا المسيح أفضل من إبراهيم
151

وموسى وغيرهما من الأنبياء والمرسلين ويزعمون أن الحواريين رسل شافههم الله بالخطاب لأنهم يقولون إن الله هو المسيح ويقولون أيضا إن المسيح ابن الله
والرافضة تجعل الأئمة الاثني عشر أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغالبيتهم يقولون إنهم أفضل من الأنبياء لأنهم يعتقدون فيهم الإلهية كما اعتقدته النصارى في المسيح
والنصارى يقولون إن الدين مسلم للأحبار والرهبان فالحلال ما حللوه والحرام ما حرموه والدين ما شرعوه
والرافضة تزعم أن الدين مسلم إلى الأئمة فالحلال ما حللوه والدين ما شرعوه
وأما من دخل في غلو الشيعة كالإسماعيلية الذين يقولون بإلهية الحاكم ونحوه من أئمتهم ويقولون إن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله وغير ذلك من مقالات الغالية من الرافضة فهؤلاء شر من أكثر الكفار من اليهود والنصارى والمشركين وهم ينتسبون إلى الشيعة يتظاهرون بمذاهبهم
فإن قيل ما وصفت به الرافضة من الغلو والشرك والبدع موجود كثير منه في كثير من المنتسبين إلى السنة فإن في كثير منهم غلوا في مشايخهم وإشراكا بهم وابتداعا لعبادات غير مشروعة وكثير منهم يقصد قبر من يحسن الظن به إما ليسأله حاجاته وإما ليسأل الله تعالى به حاجة وإما لظنه أن الدعاء عند قبره أجوب منه في المساجد وفيهم من يفضل زيارة قبورشيوخهم على الحج ومنهم من يجد عند قبر من يعظمه من الرقة والخشوع ما لا يجده في المساجد والبيوت وغير ذلك مما يوجد في الشيعة
ويروون أحاديث مكذوبة من جنس أكاذيب الرافضة مثل قوله لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه الله به وقولهم إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وقولهم قبر فلان هو الترياق المجرب
ويروون عن بعض شيوخهم أنه قال لصاحبه إن كان لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث بي ونحو ذلك فإن في المشايخ من يفعل بعد مماته كما كان يفعل في حياته وقد يستغيث الشخص بواحد منهم فيتمثل له الشيطان في صورته إما حيا وإما ميتا وربما قضى حاجته أو قضى بعض حاجته كما يجري نحو ذلك للنصارى مع شيوخهم ولعباد الأصنام من العرب والهند والترك وغيرهم
قيل هذا كله مما نهى الله عنه ورسوله وكل ما نهى الله عنه ورسوله فهو مذموم منهي عنه سواء كان فاعله منتسبا إلى السنة أو إلى التشييع ولكن الأمور المذمومة المخالفة للكتاب
152

والسنة في هذا وغيره هي في الرافضة أكثر منها في أهل السنة فما يوجد في أهل السنة من الشر ففي الرافضة أكثر منه وما يوجد في الرافضة من الخبر ففي أهل السنة أكثر منه
وهذا حال أهل الكتاب مع المسلمين فما يوجد في المسلمين شر إلا وفي أهل الكتاب أكثر منه ولا يوجد في أهل الكتاب خير إلا وفي المسلمين أعظم منه
ولهذا يذكر سبحانه وتعالى مناظرة الكفار من المشركين وأهل الكتاب بالعدل فإذا ذكروا عيبا في المسلمين لم يبرئهم منه لكن يبين أن عيوب الكفار أعظم
كما قال تعالى * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير) * ثم قال * (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله
والفتنة أكبر من القتل) * سورة البقرة 217 وهذه الآية نزلت لأن سرية من المسلمين ذكر أنهم قتلوا ابن الحضرمي في آخر يوم من رجب فعابهم المشركون بذلك فأنزل الله هذه الآية
153

فصل
في قوله تعالى * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) *
وقد روى مالك في موطئه عن زيد بن اسلم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية * (أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) * الآية فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار
وهذا الحديث إنما رواه أهل السنن والمسانيد كأبي داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن وقد قيل إن إسناده منقطع وأن راويه مجهول ومع هذا فقد رواه مالك في الموطأ مع أنه أبلغ من غيره لقوله ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ومن العجب أن الآجري يروي في كتاب الشريعة له من طريق مالك والثوري والليث وغيرهم فلو تأمل أبو المعالي وذووه الكتاب الذي أنكروه لوجدوا فيه ما يخصمهم ولكن أبو المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم وعلو قدره في فنه كان قليل المعرفة بالآثار النبوية ولعله لم يطالع الموطأ بحال حتى يعلم ما فيه فإنه لم يكن له بالصحيحين البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي أمثال هذه السنن علم أصلا فكيف بالموطأ ونحوه وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني وأبو الحسن مع تمام إمامته في الحديث فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه ويجمع طرقها فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله فأما الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما فكان يستغني عنها في ذلك فلهذا كان مجرد
168

الاكتفاء بكتابه في هذا الحديث يورث جهلا عظيما بأصول الإسلام واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي الذي هو نخبة عمره نهاية المطلب في دراية المذهب ليس فيه حديث واحد معزو إلى صحيح البخاري إلا حديث واحد في البسملة وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه في مذهب الشافعي فإذا لم يسوغ أصحابه أن يعتد بخلافهم في مسألة من فروع الفقه كيف يكون حالهم في غير هذا وإذا اتفق أصحابه على أن لا يجوز أن يتخذ إماما في مسألة واحدة من مسائل الفروع فكيف يتخذ إماما في أصول الدين مع العلم بأنه إنما نبل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي رضي الله عنه لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين غايته فيه أنه يوجد منه نقل جمعة أو بحث تفطن له فلا يجعل إماما فيه كالأئمة الذين لهم وجوه فكيف بالكلام الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بعد الشرك بالله ذنب أعظم منه وقد بينا أن ما جعله أصل دينه في الإرشاد والشامل وغيرهما هو بعينه من الكلام الذي نصت عليه الأئمة ولهذا روى عنه ابن طاهر أنه قال وقت الموت لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يدركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا أموت على عقيدة أمي أو عقائد عجائز نيسابور وقال أبو عبد الله بن العباس الرستمي حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الطبري الفقيه قال دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرضه الذي مات فيه بنيسابور فأقعد فقال لنا اشهدوا على أني رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح عليهم السلام وإني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور وعامة المتأخرين من أهل الكلام سلكوا خلفه من تلامذته وتلامذة تلامذته وتلامذة تلامذة تلامذته ومن بعدهم ولقلة علمه بالكتاب والسنة وكلام سلف الأمة يظن أن أكثر الحوادث ليست في الكتاب والسنة والإجماع ما يدل عليها وإنما يعلم حكمها بالقياس كما يذكر ذلك في كتبه ومن كان له علم بالنصوص ودلالتها على الأحكام علم أن قول أبي محمد بن حزم وأمثاله أن النصوص تستوعب جميع الحوادث أقرب إلى الصواب من هذا القول وإن كان في طريقة هؤلاء من الإعراض عن بعض الأدلة الشرعية ما قد يسمى قياسا جليا وقد يجعل من دلالة اللفظ مثل فحوى الخطاب والقياس في معنى الأصل وغير ذلك ومثل الجمود على الاستصحاب الضعيف ومثل الإعراض عن متابعة أئمة من الصحابة ومن بعدهم ما هو معيب عليهم وكذلك القدح في أعراض الأئمة لكن الغرض أن قول هؤلاء في استيعاب النصوص للحوادث وإن الله ورسوله قد بين للناس دينهم هو أقرب إلى العلم والإيمان الذي هو الحق ممن يقول أن الله لم يبين الناس حكم أكثر ما يحدث لهم من الأعمال بل وكلهم فيها إلى الظنون المتقابلة والآراء المتعارضة ولا ريب أن سبب هذا كله ضعف العلم بالآثار النبوية والآثار السلفية
169

وإلا فلو كان لأبي المعالي وأمثاله بذلك علم راسخ وكانوا قد عضوا عليه بضرس قاطع لكانوا ملحقين بأئمة المسلمين لما كان فيهم من الاستعداد لأسباب الاجتهاد ولكن اتبع أهل الكلام المحدث والرأي الضعيف للظن وما تهوى الأنفس الذي ينقص صاحبه إلى حيث جعله الله مستحقا لذلك وإن كان له من الاجتهاد في تلك الطريقة ما ليس لغيره فليس الفضل بكثرة الاجتهاد ولكن بالهدى والسداد كما جاء في الأثر ما ازداد مبتدع اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ويوجد لأهل البدع من أهل القبلة لكثير من الرافضة والقدرية والجهمية وغيرهم من الاجتهاد ما لا يوجد لأهل السنة في العلم والعمل وكذلك لكثير من أهل الكتاب والمشركين لكن إنما يراد
الحسن من ذلك كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * قال أخلصه وأصوبه فقيل له يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
وأما الشافعي رضي الله عنه فقد روى الأحاديث التي تتعلق بغرض كتابه مثل حديث النزول وحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة وقد رواه مسلم في صحيحه بل روى في كتابه الكبير الذي اختصر منه مسنده من الحديث ما هو من أبلغ أحاديث الصفات ورواه بإسناد فيه ضعف فقال أخبرنا إبراهيم بن محمد قال حدثني موسى بن عبيدة حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبيد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك يقول أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذه قال هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد قال النبي صلى الله عليه وسلم يا جبريل وما يوم المزيد قال إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب مسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله عز وجل ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد للنبيين وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة
170

بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون ويجلس من ورائهم على تلك الكثب فيقول الله عز وجل لهم أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فاسألوني أعطكم فيقولون ربنا نسألك رضوانك فيقول قد رضيت عنكم ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من خير وهو اليوم الذي استوى ربكم على العرش فيه وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة
وأما ما رواه الثوري والليث بن سعد وابن جريج والأوزاعي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة ونحوهم من هذه الأحاديث فلا يحصيه إلا الله بل هؤلاء عليهم مدار هذه الأحاديث من جهتهم أخذت وحماد بن سلمة الذي قال إن مالكا احتذى موطأه على كتابه هو قد جمع أحاديث الصفات لما أظهرت الجهمية إنكارها حتى إن حديث خلق آدم على صورته أو صورة الرحمن قد رواه هؤلاء الأئمة رواه الليث بن سعد عن ابن عجلان ورواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد ومن طريقه رواه مسلم في صحيحه ورواه الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ولفظه خلق آدم على صورة الرحمن مع أن الأعمش رواه مسندا فإذا كان الأئمة يروون مثل هذا الحديث وأمثاله مرسلا فكيف يقال أنهم كانوا يمتنعون عن روايتها
والحديث هو في الصحيحين من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة وفي صحيح مسلم من حديث قتادة عن أبي أيوب عن أبي هريرة وقد روي عن ابن القاسم قال سألت مالكا عن من يحدث الحديث إن الله خلق آدم على صورته والحديث إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة وإنه يدخل في النار يده حتى يخرج من أراد فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث به أحد
قلت هذان الحديثان كان الليث بن سعد يحدث بهما فالأول حديث الصورة حدث به عن ابن عجلان والثاني هو في حديث أبي سعيد الخدري الطويل وهذا الحديث قد أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث والأول قد أخرجاه في الصحيحين من حديث غيره وابن القاسم إنما سأل مالكا لأجل تحديث الليث بذلك فيقال إما أن يكون ما قاله مالك مخالفا لما فعله الليث ونحوه أوليس بمخالف بل يكره أن يتحدث بذلك لمن يفتنه ذلك ولا يحمله عقله كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقد كان مالك يترك رواية أحاديث كثيرة لكونه لا يأخذ بها ولم يتركها غيره فله في ذلك مذهب فغاية ما يعتذر لمالك أن يقال كره أن يتحدث بذلك حديث يفتن المستمع الذي لا يحمل عقله ذلك
واما إن قيل أنه كره التحدث بذلك مطلقا فهذا مردود على من قاله فقد حدث بهذه الأحاديث من هم أجل من مالك عند نفسه وعند المسلمين كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن
171

عباس وعطاء بن أبي رباح وقد حدث بها نظراؤه كسفيان الثوري والليث بن سعد وابن عيينة والثوري أعلم من مالك بالحديث وأحفظه له وهو أقل غلطا فيه من مالك وإن كان مالك ينقي من يحدث عنه وأما الليث فقد قال فيه الشافعي كان أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه ففي الجملة هذا كلام في حديث مخصوص أما أن يقال أن الأئمة أعرضوا عن هذه الأحاديث مطلقا فهذا بهتان عظيم
172

179
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التوبة
فصل
سئل شيخ الإسلام رحمه الله
عن قوله تعالى * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) * فسماه هنا كلام الله وقال في مكان آخر * (إنه لقول رسول كريم) * فما معنى ذلك فإن طائفة ممن يقول بالعبارة يدعون أن هذا حجة لهم ثم يقولون أنتم تعتقدون أن موسى صلوات الله عليه سمع كلام الله عز وجل حقيقة من الله من غير واسطة وتقولون إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة فما الفرق بين هذا وهذا وتقولون أن القرآن صفة لله تعالى فما الفرق بين هذا وهذا وتقولون إن القرآن صفة لله تعالى وإن صفات الله تعالى قديمة فإن قلتم أن هذا نفس كلام الله تعالى فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا
ونحن نطلب منكم في ذلك جوابا نعتمد عليه إن شاء الله تعالى
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذه الآية حق كما ذكر الله وليست إحدى الآيتين معارضة للأخرى بوجه من الوجوه ولا في واحدة منهما حجة لقول باطل وإن كان كل من الآيتين قد يحتج بها بعض الناس على قول باطل وذلك أن قوله * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) * فيه دلالة على أن يسمع كلام الله من التالي المبلغ وأن ما يقرؤه المسلمون هو كلام الله كما في حديث جابر في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما خرج
179

على المشركين فقرأ عليهم * (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) * قالوا له هذا كلامك أم كلام صاحبك فقال ليس بكلامي ولا بكلام صاحبي ولكنه كلام الله
وقد قال تعالى * (ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر) * فمن قال إن هذا القرآن قول البشر كان قوله مضاهيا لقول الوحيد الذي أصلاه الله سقر ومن المعلوم لعامة العقلاء أن من بلغ كلام غيره كالمبلغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى إذا سمعه الناس من المبلغ قالوا هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قال المبلغ هذا كلامي وقولي لكذبه الناس لعلمهم بأن الكلام كلام لمن قاله مبتدئا منشئا لا لمن أداه راويا مبلغا فإذا كان مثل هذا معلوما في تبليغ كلام المخلوق فكيف لا يعقل في تبليغ كلام الخالق الذي هو أولى أن لا يجعل كلاما لغير الخالق جل وعلا
وقد أخبر تعالى بأنه منزل منه فقال * (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) * وقال * (حم تنزيل من الرحمن الرحيم) * * (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) * فجبريل رسول الله من الملائكة جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكلاهما مبلغ له كما قال * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) * وقال * (إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) * وهو مع هذا كلام الله
180

ليس لجبريل ولا لمحمد فيه إلا التبليغ والأداء كما أن المعلمين له في هذا الزمان والتاليين له في الصلاة أو خارج الصلاة ليس لهم فيه إلا ذلك لم يحدثوا شيئا من حروفه ولا معانيه قال الله تعالى * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * إلى قوله * (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) *
كان بعض المشركين يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلمه من بعض الأعاجم الذين بمكة إما عبد بن الحضرمي وإما غيره كما ذكر ذلك المفسرين فقال تعالى * (لسان الذي يلحدون إليه) * أي يضيفون إليه التعليم لسان * (أعجمي وهذا لسان عربي مبين) * فكيف يتصور من يعلمه أعجمي وهذا الكلام عربي وقد أخبر أنه نزله روح القدس من ربك بالحق فهذا بيان أن هذا القرآن العربي الذي تعلمه من غيره لم يكن هو المحدث لحروفه ونظمه إذ يمكن لو كان كذلك أن يكون تلقى من الأعجمي معانيه وألف هو حروفه وبيان أن هذا الذ تعلمه من غير نزل به روح القدس من ربك بالحق يدل على أن القرآن جميعه منزل من الرب سبحانه وتعالى لم ينزل معناه دون حروفه
ومن المعلوم أن من بلغ كلام غيره كمن بلغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الناس أو أنشد شعر غيره كما لو أنشد منشد قول لبيد
* ألا كل شيء ما خلا الله باطل
*
أو قول عبد الله بن رواحة حيث قال
* شهدت بأن وعد الله حق
* وأن النار مثوى الكافرينا
*
* وأن العرش فوق الماء طاف
* وفوق العرش رب العالمينا
*
أو قوله
* وفينا رسول الله يتلو كتابه
* إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
* إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
*
* أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
* به موقنات أن ما قال واقع
*
181

وهذا الشعر قال منشئه لفظه ومعناه وهو كلامه لا كلام غيره بحركته وصوته ومعناه القائم بنفسه ثم إذا أنشده المنشد وبلغه عنه علم أن شعر ذلك المنشىء وكلامه ونظمه وقوله مع أن هذا التالي أنشده بحركة نفسه وصوت نفسه وقام بقلبه من المعنى نظير من قام بقلب الأول وليس الصوت المسموع من المنشد هو الصوت المسموع من المنشىء والشعر شعر المنشىء لا شعر المنشد والمحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا روى قوله إنما الأعمال بالنيات بلغه بحركته وصوته مع أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به بحركته وصوته وليس صوت المبلغ صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولا حركته كحركته والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلام المبلغ له عنه
فإذا كان هذا معلوما معقولا فكيف لا يعقل أن يكون ما يقرأ القارئ إذا قرأ * (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) * أن يقال هذا الكلام كلام البارىء وإن كان الصوت صوت القارئ فمن ظن أن الأصوات المسموعة من القراء صوت الله فهو ضال مفتر مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول قائل قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين بل قد أنكر الإمام أحمد وغيره على من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق وبدعوه كما جهموا من قال لفظي بالقرآن مخلوق وقالوا القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف فكيف من قال لفظي به قديم أو صوتي به قديم فابتدع هذا وضلاله أوضح فمن قال إن لفظه بالقرآن غير مخلوق أو صوته أو فعله أو شيئا من ذلك فهو ضال مبتدع
وهؤلاء قد يحتجون بقوله * (حتى يسمع كلام الله) * ويقولون هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق فهذا غير مخلوق ونحن لا نسمع إلا صوت القارئ وهذا جهل منهم فإن سماع كلام الله بل وسماع كل كلام يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة ويكون بواسطة الرسول المبلغ له قال تعالى * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) *
ومن قال إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا
ولو قال قائل إنا نسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه الصحابة منه لكان ضلاله واضحا فكيف من يقول أنا أسمع كلام الله منه كما سمعه موسى وإن كان الله كلم موسى تكليما بصوت سمعه موسى فليس صوت المخلوقين صوتا للخالق وكذلك مناداته لعباده بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وتكلمه بالوحي حتى يسمع أهل السماوات والأرض صوته كجر السلسلة على الصفا وأمثال ذلك مما جاءت به النصوص والآثار كلها ليس فيها أن
182

صفة المخلوق هي صفة الخالق بل ولا مثلها بل فيها الدلالة على الفرق بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق فليس كلامه مثل كلامه ولا معناه مثل معناه ولا حرفه مثل حرفه ولا صوته مثل صوته كما أنه ليس علمه مثل علمه ولا قدرته مثل قدرته ولا سمعه مثل سمعه ولا بصره مثل بصره فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
ولما استقر في فطر الخلق كلهم الفرق بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وبين سماعه من المبلغ عنه كان ظهور هذا الفرق في سماع كلام الله من المبلغين عنه أوضح من أن يحتاج إلى الإطناب
وقد بين أئمة السنة والعلم كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتابه في خلق الأفعال وغيرهما من أئمة السنة من الفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت العباد بالقرآن وغيره ما لا يخالفهم فيه أحد من العلماء أهل العقل والدين
فصل
وأما قوله تعالى * (إنه لقول رسول كريم) * فهذا قد ذكره في موضعين فقال في الحاقة * (إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون) * فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم وقال في التكوير * (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين) * فالرسول هنا جبريل فأضافه إلى الرسول من البشر تارة وإلى الرسول من الملائكة تارة باسم الرسول ولم يقل إنه لقول ملك ولا نبي لأن لفظ الرسول يبين أنه مبلغ عن غيره لا منشيء له من عنده * (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) * فكان قوله * (إنه لقول رسول كريم) * بمنزلة قوله لتبليغ رسول أو مبلغ من رسول كريم أو جاء به رسول كريم أو مسموع عن رسول كريم وليس معناه أنه أنشأه أو أحدثه أو أنشأ شيئا منه أو أحدثه رسول كريم إذ لو كان منشئا لم يكن رسولا فيما أنشأه وابتدأه وإنما يكون رسولا فيما بلغه وأداه ومعلوم أن الضمير عائد إلى القرآن مطلقا
وأيضا فلو كان أحد الرسولين أنشأ حروفه ونظمه امتنع أن يكون الرسول الآخر هو المنشىء المؤلف لها فبطل أن تكون إضافته إلى الرسول لأجل أحداث لفظه ونظمه ولو جاز
183

أن تكون الإضافة هنا لأجل إحداث الرسول له أو لشيء منه لجاز أن نقول إنه قول البشر وهذا قول الوحيد الذي أصلاه الله سقر
فإن قال قائل فالوحيد جعل الجميع قول البشر ونحن نقول إن الكلام العربي قول البشر وأما معناه فهو كلام الله
فيقال لهم هذا نصف قول الوحيد ثم هذا باطل من وجوه أخرى
وهو أن معاني هذا النظم معان متعددة متنوعة وأنتم تجعلون ذلك المعنى واحدا هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وتجعلون ذلك المعنى إذا عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإذا عبر عنه بالعبرانية كان توراة وإذا عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة من العقل والدين فإن التوراة إذا عربناها لم يكن معناها معنى القرآن والقرآن إذا ترجمناه بالعبرانية لم يكن معناه معنى التوراة
وأيضا فإن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين وإنما يشتركان في معنى الكلام ومسمى كلام الله كما تشترك الأعيان في مسمى النوع فهذا الكلام وهذا الكلام وهذا الكلام كله يشترك في أنه كلام الله اشتراك الأشخاص في أنواعها كما أن هذا الإنسان وهذا الإنسان وهذا الإنسان يشتركون في مسمى الإنسان وليس في الخارج خص بعينه هو هذا وهذا وهذا وكذلك ليس في الخارج كلام واحد هو معنى التوراة والإنجيل والقرآن وهو معنى آية الدين وآية الكرسي
ومن خالف هذا كان في مخالفته لصريح المعقول من جنس من قال إن أصوات العباد وأفعالهم قديمة أزلية فاضرب بكلام البدعتين رأس قائلهما والزم الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وبسبب هاتين البدعتين الحمقاوين ثارت الفتن وعظمت الإحن وإن كان كل من أصحاب القولين قد يفسرونهما بما قد يلتبس على كثير من الناس كما فسر من قال إن الصوت المسموع من العبد أو بعضه قديم وأن القديم ظهر في المحدث من غير حلول فيه
وأما أفعال العباد فرأيت بعض المتأخرين يزعم أنها قديمة خيرها وشرها وفسر ذلك بأن الشرع قديم والقدر قديم وهي مشروعة مقدرة ولم يفرق بين الشرع الذي هو كلام الله والمشروع الذي هو المأمور به والمنهي عنه ولم يفرق بين القدر الذي هو علم الله وكلامه وبين المقدور الذي هو مخلوقاته والعقلاء كلهم يعلمون بالاضطرار أن الأمر والخبر نوعان للكلام لفظه ومعناه ليس الأمر والخبر صفات لموصوف واحد فمن جعل الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواعا له فقد خالف ضرورة العقل وهؤلاء في هذا بمنزلة من زعم أن الوجود
184

واحد إذ لم يفرق بين الواحد بالنوع والواحد بالعين فإن انقسام الموجود إلى القديم والمحدث والواجب والممكن والخالق والمخلوق والقائم بنفسه والقائم بغيره كانقسام الكلام إلى الأمر والخبر أو إلى الإنشاء والإخبار أو إلى الأمر والنهي والخبر فمن قال الكلام معنى واحد هو الأمر والخبر فهو كمن قال الوجود واحد هو الخالق والمخلوق أو الواجب والممكن وكما أن حقيقة هذا تؤول إلى تعطيل الخالق فحقيقة هذا تؤول إلى تعطيل كلامه وتكليمه
وهذا حقيقة قول فرعون الذي أنكر الخالق وتكليمه لموسى ولهذا آل الأمر بمحقق هؤلاء إلى تعظيم فرعون وتوليه وتصديقه في قوله * (أنا ربكم الأعلى) * بل إلى تعظيمه على موسى وإلى الاستحقار بتكليم الله لموسى كما قد بسط في غير هذا الموضع
وأيضا فيقال ما تقول في كلام كل متكلم إذا نقله عنه غيره كما قد ينقل كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء والشعراء وغيرهم ويسمع من الرواة أو المبلغين أن ذلك المسموع من المبلغ بصوت المبلغ هو كلام المبلغ أو كلام المبلغ عنه
فإن قال كلام المبلغ لزم أن يكون القرآن كلاما لكل من سمع منه فيكون القرآن المسموع كلام ألف ألف قارىء لا كلام الله تعالى وأن يكون قوله إنما الأعمال بالنيات ونظائره كلام كل من رواه لا كلام الرسول وحينئذ فلا فضيلة للقرآن * (إنه لقول رسول كريم) * فإنه على قول هؤلاء قول كل منافق قرأه والقرآن يقرأه المؤمن والمنافق كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها وعلى هذا التقدير فلا يكون القرآن قول بشر واحد بل قول ألف ألف بشر وأكثر من ذلك وفساد هذا في العقل والدين واضح
وإن قال كلام المبلغ عنه علم أن الرسول المبلغ للقرآن ليس القرآن كلامه ولكنه كلام الله ولكن لما كان الرسول الملك قد يقال إنه شيطان بين الله أنه تبليغ ملك كريم لا تبليغ شيطان رجيم ولهذا قال * (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين) * إلى قوله * (وما هو بقول شيطان رجيم) * وبين في هذه الآية أن الرسول البشري الذي صحبناه وسمعناه منه ليس بمجنون وما هو على الغيب بمتهم وذكره باسم الصاحب لما في ذلك
185

من النعمة به علينا إذ كنا لا نطيق أن نتلقى إلا عمن صحبناه وكان من جنسنا كما قال تعالى * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * وقال * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) * كما قال في الآية الأخرى * (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى) * وبين أن الرسول الذي من أنفسنا والرسول الملكي أنهما مبلغان فكان في هذا تحقيق أنه كلام الله
فلما كان الرسول البشري يقال إنه مجنون أو مفتر نزهه عن هذا وهذا وكذلك في السورة الأخرى قال * (إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين) * وهذا مما يبين أنه إضافة إليه لأنه بلغه وأداه لا لأنه أحدثه وأنشأه فإنه قال * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين) * فجمع بين قوله * (إنه لقول رسول كريم) * وبين قوله * (وإنه لتنزيل رب العالمين) * والضميران عائدان إلى واحد فلو كان الرسول أحدثه وأنشأه لم يكن تنزيلا من رب العالمين بل كان يكون تنزيلا من الرسول ومن جعل الضمير في هذا عائدا إلى غير ما يعود إليه الضمير الآخر مع أنه ليس في الكلام ما يقتضي
اختلاف الضميرين ومن قال أن هذا عبارة عن كلام الله فقل له هذا الذي تقرأه أهو عبارة عن العبارة التي أحدثها الرسول الملك أو البشر على زعمك أم هو نفس تلك العبارة فإن جعلت هذا عبارة عن تلك العبارة جاز أن تكون عبارة جبريل أو الرسول عبارة عن عبارة الله وحينئذ فيبقى النزاع لفظيا فإنه متى قال إن محمدا سمعه من جبريل جميعه وجبريل سمعه من الله جميعه والمسلمون سمعوه من الرسول جميعه فقد قال الحق وبعد هذا فقوله عبارة لأجل التفريق بين التبليغ والمبلغ عنه كما سنبينه
وإن قلت ليس هذا عبارة عن تلك العبارة بل هو نفس تلك العبارة فقد جعلت ما يسمع من المبلغ هو بعينه ما يسمع من المبلغ عنه إذ جعلت هذه العبارة هي بعينها عبارة جبريل فحينئذ هذا يبطل أصل قولك
واعلم أن أصل القول بالعبارة أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب هو أول من قال في الإسلام إن معنى القرآن كلام الله وحروفه ليست كلام الله فأخذ بنصف قول المعتزلة ونصف قول أهل السنة والجماعة وكان قد ذهب إلى إثبات الصفات لله تعالى
186

وخالف المعتزلة في ذلك وأثبت العلو لله على العرش ومباينة المخلوقات وقرر ذلك تقريرا هو أكمل من تقرير أتباعه بعده وكان الناس قد تكلموا فيمن بلغ كلام غيره هل يقال له حكاية عنه أم لا وأكثر المعتزلة قالوا هو حكاية عنه فقال ابن كلاب القرآن العربي حكاية عن كلام الله ليس بكلام الله
فجاء بعهد أبو الحسن الأشعري فسلك مسلكه في إثبات أكثر الصفات وفي مسألة القرآن أيضا واستدرك عليه قوله أن هذا حكاية وقال الحكاية إنما تكون مثل المحكي فهذا يناسب قول المعتزلة وإنما يناسب قولنا أن نقول هو عبارة عن كلام الله لأن الكلام ليس من جنس العبارة فأنكر أهل السنة والجماعة عليهم عدة أمور
أحدها قولهم إن المعنى كلام الله وإن القرآن العربي ليس كلام الله وكانت المعتزلة تقول هو كلام الله وهو مخلوق فقال هؤلاء هو مخلوق وليس بكلام الله لأن من أصول أهل السنة أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل فإذا قام الكلام بمحل كان هو المتكلم به كما أن العلم والقدرة إذا قاما بمحل كان هو العالم القادر وكذلك الحركة وهذا مما احتجوا به على المعتزلة وغيرهم من الجهمية في قولهم إن كلام الله مخلوق خلقه في بعض الأجسام قالوا لهم لو كان كذلك لكان الكلام كلام ذلك الجسم الذي خلقه فيه فكانت الشجرة هي القائلة * (إني أنا الله رب العالمين) * فقال أئمة الكلابية إذا كان القرآن العربي مخلوقا لم يكن كلام الله فقال طائفة من متأخريهم بل نقول الكلام مقول بالاشتراك بين المعنى المجرد وبين الحروف المنظومة فقال لهم المحققون فهذا يبطل أصل حجتكم على المعتزلة فإنكم إذا سلمتم أن ما هو كلام الله حقيقة لا يمكن قيامه به بل بغيره أمكن المعتزلة أن يقولوا ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره
الثاني قولهم إن ذلك المعنى هو الأمر والنهي والخبر وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن وقال أكثر العقلاء هذا الذي قالوه معلوم الفساد بضرورة العقل
الثالث أن ما نزل به جبريل من المعنى واللفظ وما بلغه محمد لأمته من المعنى واللفظ ليس هو كلام الله
ومسألة القرآن لها طرفان أحدهما تكلم الله به وهو أعظم الطرفين والثاني تنزيله إلى خلقه والكلام في هذا سهل بعد تحقيق الأول وقد بسطنا الكلام في ذلك في عدة مواضع وبينا مقالات أهل الأرض كلهم في هذه المسائل وما دخل في ذلك من الاشتباه ومأخذ كل طائفة ومعنى قول السلف القرآن كلام الله غير مخلوق وأنهم قصدوا به إبطال
187

قول من يقول إن الله لم يقم بذاته كلام ولهذا قال الأئمة كلام الله من الله ليس ببائن عنه وذكرنا اختلاف المنتسبين إلى السنة هل يتعلق الكلام بمشيئته وقدرته أم لا وقول من قال من أئمة السنة لم يزل الله متكلما إذا شاء وأن قول السلف منه بدأ لم يريدوا به أنه فارق ذاته وحل في غيره فإن كلام المخلوق بل وسائر صفاته لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فكيف يجوز أن يفارق ذات الله كلامه أو غيره من صفاته بل قالوا منه بدأ أي هو المتكلم به ردا على المعتزلة والجهمية وغيرهم الذين قالوا بدأ من المخلوق الذي خلق فيه وقولهم إليه يعود أي يسري عليه فلا يبقى في المصاحف منه حرف ولا في الصدور منه آية
والمقصود هنا الجواب عن مسائل السائل
فصل
وأما قول القائل أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه حقيقة من غير واسطة وتقولون أن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة وتسمعونه من وسائل بأصوات مختلفة فما الفرق بين ذلك
فيقال له بين هذا وهذا من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق فإن كل عاقل يفرق بين سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه بغير واسطة كسماع الصحابة منه وبين سماعه منه بواسطة المبلغين عنه كأبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس وكل من السامعين سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة وكذلك من سمع شعر حسان بن ثابت أو عبد الله بن رواحة أو غيرهما من الشعراء منه بلا واسطة ومن سمعه من الرواة عنه يعلم الفرق بين هذا وهذا وهو في الموضعين شعر حسان لا شعر غيره والإنسان إذا تعلم شعر غيره فهو يعلم أن ذلك الشاعر أنشأ معانيه ونظم حروفه بأصواته المقطعة وإن كان المبلغ يرويه بحركة نفسه وأصوات نفسه
فإذا كان هذا الفرق معقولا في كلام المخلوقين بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وسماعه بواسطة الراوي عنه أو المبلغ عنه فكيف لا يعقل ذلك في سماع كلام الله وقد تقدم أن من ظن أن المسموع من القراء هو صوت الرب فهو إلى تأديب المجانين أقرب منه إلى خطاب العقلاء وكذلك من توهم أن الصوت قديم أو أن المداد قديم فهذا لا يقوله ذو حس سليم بل ما بين لوحي المصحف كلام الله وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين لا كلام غيره فمن قال إن الذي في المصحف ليس كلام الله بل كلام غيره فهو ملحد مارق
ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره كما كتب في المصاحف أو أن المداد قديم أزلي فهو أيضا ملحد مارق بل كلام المخلوقين يكتب في الأوراق وهو لم يفارق ذواتهم
188

فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله تعالى
والشبهة تنشأ في مثل هذا من جهة أن بعض الناس لا يفرق بين المطلق من الكلام والمقيد مثال ذلك أن الإنسان يقول رأيت الشمس والقمر والهلال إذ رآه بغير واسطة وهذه الرؤية المطلقة وقد يراه في ماء أو مرآة فهذه رؤية مقيدة فإذا أطلق قوله رأيته أو ما رأيته حمل على مفهوم اللفظ المطلق وإذا قال لقد رأيت الشمس في الماء والمرآة فهو كلام صحيح مع التقييد واللفظ يختلف معناه بالإطلاق والتقييد فإذا وصل بالكلام ما يغير معناه كالشرط والاستثناء ونحوهما من التخصيصات المتصلة كقوله * (ألف سنة إلا خمسين عاما) * كان هذا المجموع دالا على تسعمائة وخمسين سنة بطريق الحقيقة عند جماهير الناس
ومن قال إن هذا مجاز فقد غلط فإن هذا المجموع لم يستعمل في غير موضعه وما يقترن باللفظ من القرائن اللفظية الموضوعة هي من تمام الكلام ولهذا لا يحتمل الكلام معها معنيين ولا يجوز نفي مفهومهما بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع مع أن قول القائل هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز نزاع لفظي وهو مستند من أنكر المجاز في اللغة أو في القرآن ولم ينطق بهذا أحد من السلف والأئمة ولم يعرف لفظ المجاز في كلام أحد من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمد فإنه قال فيما كتبه من الرد على الزنادقة والجهمية هذا من مجاز القرآن وأول من قال ذلك مطلقا أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه الذي صنفه في مجاز القرآن ثم إن هذا كان معناه عند الأولين مما يجوز في اللغة ويسوغ فهو مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء عقد لازم وجائز وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من معنى الحقيقة إلى معنى المجاز ثم إنه لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة
والمقصود أن القائل إذا قال رأيت الشمس أو القمر أو الهلال أو غير ذلك في الماء والمرآة فالعقلاء متفقون على الفرق بين هذه الرؤية وبين رؤية ذلك بلا واسطة وإذا قال قائل ما رأى ذلك بل رأى مثاله أو خياله أو رأى الشعاع المنعكس أو نحو ذلك لم يكن هذا مانعا لما يعلمه الناس ويقولونه من أنه رآه في الماء أو المرآة وهذه الرؤية في الماء أو المرآة حقيقة مقيدة وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي هو كما قال صلى الله عليه وسلم رآه في المنام حقا فمن قال ما رآه في المنام حقا فقد أخطأ ومن قال إن رؤيته في اليقظة بلا واسطة كالرؤية بالواسطة المقيدة بالنوم فقد أخطأ ولهذا يكون لهذه تأويل وتعبير دون تلك
189

وكذلك ما سمعه منه من الكلام في المنام هو سماع منه في المنام وليس هذا كالسماع منه في اليقظة وقد يرى الرائي في المنام أشخاصا يخاطبهم ويخاطبونه والمرئيون لا شعور لهم بذلك وإنما رأى مثالهم ولكن يقال رآهم في المنام حقيقة فيحترز بذلك عن الرؤيا التي هي حديث النفس
فإن الرؤيا ثلاثة أقسام رؤيا بشرى من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في المنام وقد ثبت هذا التقسيم في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الرؤيا يظهر لكل أحد من الفرق بينها وبين اليقظة ما لا يظهر في غيرها فكما أن الرؤية تكون مطلقة وتكون مقيدة بواسطة المرآة والماء أو غير ذلك حتى إن المرئي يختلف باختلاف المرآة فإذا كانت كبيرة مستديرة رأى كذلك وإن كانت صغيرة أو مستطيلة رأى كذلك فكذلك في السماع يفرق بين من سمع كلام غيره منه ومن سمعه بواسطة المبلغ ففي الموضعين المقصود سماع كلامه كما أن هناك في الموضعين يقصد رؤية نفس النبي لكن إذا كان بواسطة اختلف باختلاف الواسطة فيختلف باختلاف أصوات المبلغين كما يختلف المرئي باختلاف المرايا قال تعالى * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) *
فجعل التكليم ثلاثة أنواع الوحي المجرد والتكليم من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام والتكليم بواسطة إرسال الرسول كما كلم الرسل بإرسال الملائكة وكما نبأنا الله من أخبار المنافقين بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم
والمسلمون متفقون على أن الله أمرهم بما أمرهم به في القرآن ونهاهم عما نهاهم عنه في القرآن وأخبرهم بما أخبرهم به في القرآن فأمره ونهيه وإخباره بواسطة الرسول فهذا تكليم مقيد بالإرسال وسماعنا لكلامه سماع مقيد بسماعه من المبلغ لا منه وهذا القرآن كلام الله مبلغا عنه مؤدا عنه وموسى سمع كلامه مسموعا منه لا مبلغا عنه ولا مؤدا عنه وإذا عرف هذا المعنى زاحت الشبهة
والنبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه ويخبر عن ربه ويحكي عن ربه فهذا يذكر ما يذكره عن ربه من كلامه الذي قاله راويا حاكيا عنه فلو قال من قال إن القرآن حكاية إن محمدا حكاه عن الله كما يقال بلغه عن الله وأداه عن الله لكان قد قصد معنى صحيحا لكن يقصدون ما يقصده القائل بقوله فلان يحكي فلانا أي يفعل مثل فعله وهو أنه يتكلم بمثل كلام الله فهذا باطل قال الله تعالى * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) *
190

ونكتة الأمر أن العبرة بالحقيقة المقصودة لا بالوسائل المطلوبة لغيرها فلما كان مقصود الرائي أن يرى الوجه مثلا فرآه في المرأة حصل مقصوده وقال رأيت الوجه وإن كان ذلك بواسطة انعكاس الشعاع في المرآة وكذلك من كان مقصوده أن يسمع القول الذي قاله غيره الذي ألف ألفاظه وقصد معانيه فإذا سمعه منه أو من غيره حصل هذا المقصود وإن كان سماعه من غيره هو بواسطة صوت ذلك الغير الذي يتخلف باختلاف الصائتين والقلوب إنما تشير إلى المقصود لا إلى ما ظهر به المقصود كما في الاسم والمسمى فإن القائل إذا قال جاء زيد وذهب عمرو ولم يكن مقصوده إلا الإخبار بالمجيء عن المسمى ولكن بذكر الاسم أظهر ذلك
فمن ظن أن الموصوف بالمجيء والإتيان هو لفظ زيد أو لفظ عمرو كان مبطلا فكذلك إذا قال القائل هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق فالمقصود هنا الكلام نفسه من حيث هو هو وإن كان إنما ظهر وسمع بواسطة حركة التالي وصوته فمن ظن أن المشار إليه هو صوت القارئ وحركته كان مبطلا ولهذا لما قرأ أبو طالب المكي على الإمام أحمد رضي الله عنه * (قل هو الله أحد) * وسأله هل هذا كلام الله وهل هو مخلوق فأجابه بأنه كلام الله وأنه غير مخلوق فنقل عنه أبو طاب خطأ منه أنه قال
لفظي بالقرآن غير مخلوق فاستدعاه وغضب عليه وقال أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق قال لا ولكن قرأت عليك * (قل هو الله أحد) * وقلت لك هذا غير مخلوق فقلت نعم قال فلم تحكي عني ما لم أقل لا تقل هذا فإن هذا لم يقله عالم وقصته مشهورة حكاها عبد الله وصالح وحنبل والمروذي وفوزان وبسطها الخلال في كتاب السنة وصنف المروذي في مسألة اللفظ مصنفا ذكر فيه أقوال الأئمة
وهذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن الكلام وأدقه فإن الإشارة إذا أطلقت انصرفت إلى المقصود وهو كلام الله الذي تكلم به لا إلى ما وصل به إلينا من أفعال العباد وأصواتهم فإذا قيل لفظي جعل نفس الوسائط غير مخلوقة وهذا باطل كما أن من رأى وجها في مرآة فقال أكرم الله هذا الوجه وحياه أو قبحه كان دعاؤه على الوجه الموجود في الحقيقة الذي رأى بواسطة المرآة لا على الشعاع المنعكس فيها وكذلك إذا رأى القمر في الماء فقال قد أبدر أو لم يبدر فإنما مقصوده القمر الذي في السماء لا خياله وكذلك من سمعه يذكر رجلا فقال هذا رجل صالح أو رجل فاسق علم أن المشار إليه هو الشخص المسمى بالاسم لا نفس
191

الصوت المسموع من الناطق فلو قال هذا الصوت أو صوتي بفلان صالح أو فاسق فسد المعنى
وكان بعضهم يقول لفظي بالقرآن مخلوق فرأى في منامه وضارب يضربه وعليه فروة فأوجعه بالضرب فقال له لا تضربني فقال أنا ما أضربك وإنما أضرب الفروة فقال إنما يقع الضرب علي فقال هكذا إذا قلت لفظي بالقرآن مخلوق فالخلق إنما يقع على القرآن يقول كما أن المقصود بالضرب بدنك واللباس واسطة فهكذا المقصود بالتلاوة كلام الله وصوتك واسطة فإذا قلت مخلوق وقع ذلك على المقصود كما إذا سمعت قائلا يذكر رجلا فقلت أنا أحب هذا وأنا أبغض هذا انصرف الكلام إلى المسمى المقصود بالاسم لا إلى صوت الذاكر ولهذا قال الأئمة القرآن كلام الله غير مخلوق كيفما تصرف بخلاف أفعال العباد وأصواتهم فإنه من نفى عنها الخلق كان مبتدعا ضالا
فصل
وأما قول القائل تقولون إن القرآن صفة الله وإن صفات الله غير مخلوقة فإن قلتم أن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون بالحلولية والاتحادية وإن قلتم مغير ذلك قلتم بمقالتنا
فمن تبين له ما نبهنا عليه سهل عليه الجواب عن هذا وأمثاله فإن منشأ الشبهة أن قول القائل هذا كلام الله يجعل أحكامه واحدة سواء كان كلامه مسموعا منه أو كلامه مبلغا عنه
ومن هنا تختلف طوائف من الناس
طائفة قالت هذا كلام الله وهذا حروف وأصوات مخلوقة فكلام الله مخلوق
وطائفة قالت هذا مخلوق وكلام الله ليس بمخلوق فهذا ليس كلام الله
وطائفة قالت هذا كلام الله وكلام الله ليس بمخلوق وهذا ألفاظنا وتلاوتنا فألفاظنا وتلاوتنا غير مخلوقة
ومنشأ ضلال الجميع من عدم الفرق في المشار إليه في هذا فأنت تقول هذا الكلام الذي تسمعه من قائله صدق وحق وصواب وهو كلام حكيم وكذلك إذا سمعته من ناقله تقول هذا الكلام صدق وحق وصواب وهو كلام حكيم فالمشار إليه في الموضعين واحد وتقول أيضا إن هذا صوت حسن وهذا كلام من وسط القلب ثم إذا سمعته من الناقل تقول هذا صوت حسن أو كلام من وسط القلب فالمشار إليه هنا ليس هو المشار إليه
192

هناك بل أشار إلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه وإلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه وإذا كتب الكلام في صفحتين كالمصحفين تقول في كلم فهما هذا قرآن كريم وهذا كتاب مجيد وهذا كلام الله فالمشار إليه واحد ثم تقول هذا خط حسن وهذا قلم النسخ أو الثلث وهذا الخط أحمر أو أصفر والمشار إليه هنا ما يختص به كل من المصحفين عن الآخر
فإذا ميز الإنسان في المشار إليه بهذا وهذا تبين المتفق والمفترق وعلم أن من قال هذا القرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق أن المشار إليه الكلام من حيث هو مع قطع النظر عما به وصل إلينا من حركات العباد وأصواتهم ومن قال هذا مخلوق وأشار به إلى مجرد صوت العبد وحركته لم يكن له في هذا حجة على أن القرآن نفسه حروفه ومعانيه الذي تعلم هذا القارئ من غيره وبلغه بحركته وصوته مخلوق من اعتقد ذلك فقد أخطأ وضل
ويقال لهذا هذا الكلام الذي أشرت إليه كان موجودا قبل أن يخلق هذا القارئ فهب أن القارئ لم تخلق نفسه ولا وجدت لا أفعاله ولا أصواته فمن أين يلزم أن يكون الكلام نفسه الذي كان موجودا قبله يعدم بعدمه ويحدث بحدوثه فإشارته بالخلق إن كانت إلى ما يختص به هذا القارئ من أفعاله وأصواته فالقرآن غني عن هذا القارئ وموجود قبله فلا يلزم من عدم هذا عدمه وإن كانت إلى الكلام الذي يتعلمه الناس بعضهم من بعض فهذا هو الكلام المنزل من الله الذي جاء به جبريل إلى محمد وبلغه محمد لأمته وهو كلام الله الذي تكلم به فذاك يمتنع أن يكون مخلوقا فإنه لو كان مخلوقا لكان كلاما لمحله الذي خلق فيه ولم يكن كلاما لله ولأنه لو كان سبحانه إذا خلق كلاما كان كلامه كان ما أنطق به كل ناطق كلامه مثل تسبيح الجبال والحصى وشهادة الجلود بل كان كلام في الوجود وهذا قول الحلولية يقولون
* وكل كلام في الوجود كلامه
* سواء علينا نثره ونظامه
*
ومن قال القرآن مخلوق فهو بين أمرين إما أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه وبين أن يجعله غير متكلم بشيء أصلا فيجعل العباد المتكلمين أكمل منه وشبهه بالأصنام
والجمادات والموات كالعجل الذي لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا فيكون قد فر من إثبات صفات الكمال له حذرا في زعمه من التشبيه فوصفه بالنقص وشبهه بالجامد والموات
وكذلك قول القائل هذا نفس كلام الله وعين كلام الله وهذا الذي في المصحف هو عين كلام الله ونفس كلام الله وأمثال هذه العبارات هذه مفهومها عند الإطلاق في فطر المسلمين أنه كلامه لا كلام غيره وأنه لا زيادة فيه ولا نقصان فإن من ينقل كلام غيره
193

ويكتبه في كتاب قد يزيد فيه وينقص كما جرت عادة الناس في كثير من مكاتبات الملوك وغيرها فإذا جاء كتاب السلطان فقيل هذا الذي فيه كلام السلطان بعينه بلا زيادة ولا نقص يعني لم يزد فيه الكاتب ولا نقص وكذلك من نقل كلام بعض الأئمة في مسألة من تصنيفه قيل هذا الكلام كلام فلان بعينه يعني لم يزد فيه ولم ينقص كما قال النبي صلى الله عليه وسلم نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه
فقوله فبلغه كما سمعه لم يرد به أنه يبلغه بحركاته وأصواته التي سمعه بها ولكن أراد أنه يأتي بالحديث على وجهه لا يزيد فيه ولا ينقص فيكون قد بلغه كما سمعه فالمستمع له من المبلغ يسمعه كما قاله صلى الله عليه وسلم ويكون قد سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله وذلك معنى قولهم هذا كلامه بعينه وهذا نفس كلامه لا يريدون أن هذا هو صوته وحركاته وهذا لا يقوله عاقل ولا يخطر ببال عاقل ابتداء ولكن اتباع الظن وما تهوى الأنفس يلجىء أصحابه إلى القرمطة في السمعيات والسفسطة في العقليات
ولو ترك الناس على فطرتهم لكانت صحيحة سليمة فإذا رأى الناس كلاما صحيحا فإن من تكلم بكلام وسمع منه ونقل عنه أو كتبه في كتاب لا يقول عاقل أن نفس ما قام المتكلم من المعاني التي في قلبه والألفاظ القائمة بلسانه فارقته وانتقلت عنه إلى المستمع والمبلغ عنه ولا فارقته وحلت في الورق بل ولا يقول أن نفس ما قام به من المعاني والألفاظ هو نفس المداد الذي في الورق بل ولا يقول أن نفس ألفاظه التي هي أصواته هي أصوات المبلغ عنه فهذه الأمور كلها ظاهرة لا يقولها عاقل في كلام المخلوق إذا سمع وبلغ أو كتب في كتاب فكيف يقال ذلك في كلام الله الذي سمع منه وبلغ عنه أو كتبه سبحانه كما كتب التوراة لموسى وكما كتب القرآن في اللوح المحفوظ وكما كتبه المسلمون في مصاحفهم
وإذا كان من سمع كلام مخلوق فبلغه عنه بلفظه ومعناه بل شعر مخلوق كما يبلغ شعر حسان وابن رواحة ولبيد وأمثالهم من الشعراء ويقول الناس هذا شعر حسان بعينه وهذا هو نفس شعر حسان وهذا شعر لبيد بعينه كقوله
* ألا كل شيء ما خلا الله باطل
*
ومع هذا فيعلم كل عاقل أن رواة الشعر ومنشديه لم يسلبوا الشعراء نفس صفاتهم حتى حلت بهم بل ولا نفس ما قام بأولئك من صفاتهم وأفعالهم كأصواتهم وحركاتهم حلت بالرواة والمنشدين فكيف يتوهم متوهم أن صفات الباري كلامه أو غير كلامه فارق ذاته وحل في مخلوقاته وأن ما قام بالمخلوق من صفاته وأفعاله كحركاته وأصواته هي صفات الباري حلت
194

فيه وهم لا يقولون مثل ذلك في المخلوق بل يمثلون العلم بنور السراج يقتبس منه المتعلم ولا ينقص ما عند العالم كما يقتبس المقتبس ضوء السراج فيحدث الله له ضوءا كما يقال أن الهوى ينقلب نارا بمجاورة الفتيلة للمصباح من غير أن تتغير تلك النار التي في المصباح والمقرىء والمعلم يقرئ القرآن ويعلم العلم ولم ينقص مما عنده شيء بل يصير عند المتعلم مثل ما عنده
ولهذا يقال فلان ينقل علم فلان وينقل كلامه ويقال العلم الذي كان عند فلان صار إلى فلان وأمثال ذلك كما يقال نقلت ما في الكتاب ونسخت ما في الكتاب أو نقلت الكتاب أو نسخته وهم لا يريدون أن نفس الحروف التي في الكتاب الأول عدمت منه وحلت في الثاني بل لما كان المقصود من نسخ الكتاب من الكتب ونقلها من جنس نقل العلم والكلام وذلك يحصل بأن يجعل في الثاني مثل ما في الأول فيبقى المقصود بالأول منقولا منسوخا وإن كان لم يتغير الأول بخلاف نقل الأجسام وتوابعها فإن ذلك إذا نقل من موضع إلى موضع زال عن الأول
وذلك لأن الأشياء لها وجود في أنفسها وهو وجودها العيني ولها ثبوتها في العلم ثم في اللفظ المطابق للعمل ثم في الخط وهذا الذي يقال وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان وجود عيني ووجود علمي ولفظي ورسمي ولهذا افتتح الله كتابه بقوله تعالى * (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) * فذكر الخلق عموما وخصوصا ثم ذكر التعليم عموما وخصوصا فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق العلم والعلم هو المطابق للمعلوم
ومن هنا غلط من غلط فظن أن القرآن في المصحف كالأعيان في الورق فظن أن قوله * (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) * كقوله * (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) * فجعل إثبات القرآن الذي هو كلام الله في المصاحف كإثبات الرسول في المصاحف وهذا غلط إثبات القرآن كإثبات اسم الرسول هذا كلام وهذا كلام وأما إثبات اسم الرسول فهذا كإثبات الأعمال أو كإثبات القرآن في زبر الأولين قال تعالى * (وكل شيء فعلوه في الزبر) * وقال تعالى * (وإنه لفي زبر الأولين) * فثبوت الأعمال في الزبر وثبوت القرآن في زبر الأولين هو مثل كون الرسول مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ولهذا قيد سبحانه هذا بلفظ الزبر والكتب زبر يقال زبرت الكتاب إذا كتبته والزبور بمعنى
195

المزبور أي المكتوب فالقرآن نفسه ليس عند بني إسرائيل ولكن ذكره كما أن محمدا نفسه ليس عندهم ولكن ذكره فثبوت الرسول في كتبهم كثبوت القرآن في كتبهم بخلاف
ثبوت القرآن في اللوح المحفوظ وفي المصاحف فإن نفس القرآن أثبت فيها فمن جعل هذا مثل هذا كان ضلاله بينا وهذا مبسوط في موضعه
والمقصود هنا أن نفس الموجودات وصفاتها إذا انتقلت من محل إلى محل حلت في ذلك المحل الثاني وأما العلم بها والخبر عنها فيأخذه الثاني عن الأول مع بقائه في الأول وإن كان الذي عند الثاني هو نظير ذلك ومثله لكن لما كان المقصود بالعلمين واحدا في نفسه صارت وحدة المقصود توجب وحدة التابع له والدليل عليه ولم يكن للناس غرض في تعدد التابع كما في الاسم مع المسمى فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون ودعا به أناس متعددون فالناس يقولون إنه اسم واحد لمسمى واحد فإذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله وقال ذلك هذا المؤذن وهذا المؤذن وقاله غير المؤذن فالناس يقولون إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله كما أن المسمى هو الله ورسوله
وإذا قال * (اقرأ باسم ربك) * وقال * (اركبوا فيها بسم الله) * وقال * (سبح اسم ربك الأعلى) * وقال * (بسم الله) * ففي الجميع المذكور هو اسم الله وإن تعدد الذكر والذاكر فالخبر الواحد عن المخبر الواحد من مخبره والأمر الواحد بالمأمور به من الآمر الواحد بمنزلة الاسم الواحد لمسماه هذا في المركب نظير هذا في المفرد وهذا هو واحد باعتبار الحقيقة وباعتبار اتحاد المقصود وإن تعدد من يذكر ذلك الاسم والخبر وتعددت حركاتهم وأصواتهم وسائر صفاتهم
وأما قول القائل إن قلتم إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية فهذا قياس فاسد مثاله مثال رجل ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم يحل بذاته في بدن الذي يقرأ حديثه فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل في بدن غيره فقال أنتم تقولون إن المحدث يقرأ كلامه وإن ما يقرأه هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قلتم ذلك فقد قلتم بالحلول ومعلوم أن هذا في غاية الفساد
والناس متفقون على إطلاق القول بأن كلام زيد في هذا الكتاب وهذا الذي سمعناه كلام زيد ولا يستجيز العاقل إطلاق القول بأنه هو نفسه في هذا المتكلم أو في هذا الورق وقد نطقت النصوص بأن القرآن في الصدور كقول النبي صلى الله عليه وسلم استذكروا القرآن فلهو أشد نفلتا من صدور الرجال من النعم في عقلها وقوله الجوف الذي ليس فيه شيء من
196

القرآن كالبيت الخرب وأمثال ذلك وليس هذا عند عاقل مثل أن يقال الله في صدورنا وأجوافنا ولهذا لما ابتدع شخص يقال له الصوري بأن من قال القرآن في صدورنا فقد قال بقول النصارى فقيل لأحمد قد جاءت جهمية رابعة أي جهمية الخلقية واللفظية والواقفية وهذه الرابعة اشتد نكيره لذلك وقال هذا أعظم من الجهمية وهو كما قال
فإن الجهمية ليس فيهم من ينكر أن يقال القرآن في الصدور ولا يشبه هذا بقول النصارى بالحلول إلا من هو في غاية الضلالة والجهالة فإن النصارى يقولون الأب والابن وروح القدس إله واحد وإن الكلمة التي هي اللاهوت تدرعت الناسوت وهو عندهم إله يخلق ويرزق ولهذا كانوا يقولون إن الله هو المسيح ابن مريم ويقولون المسيح ابن الله ولهذا كانوا متناقضين فإن الذي تدرع المسيح إن كان هو الإله الجامع للأقانيم فهو الأب نفسه وإن كان هو صفة من صفاته فالصفة لا تخلق ولا ترزق وليست إلها والمسيح عندهم إله ولو قال النصارى إن كلام الله في صدر المسيح كما هو في صدور سائر الأنبياء والمؤمنين لم يكن في قولهم ما ينكر
فالحلولية المشهورون بهذا الاسم من يقول بحلول الله في البشر كما قالت النصارى والغالية من الرافضة وغلاة أتباع المشايخ أو يقولون بحلوله في كل شيء كما قالت الجهمية أنه بذاته في كل مكان وهو سبحانه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته وكذلك من قال باتحاده بالمسيح أو غيره أو قال باتحاده بالمخلوقات كلها أو قال وجوده وجود المخلوقات أو غير ذلك
فاما قول القائل إن كلام الله في قلوب أنبيائه وعباده المؤمنين وإن الرسل بلغت كلام الله والذي بلغته هو كلام الله وإن الكلام في الصحيفة ونحو ذلك فهذا لا يسمى حلولا ومن سماه حلولا لم يكن بتسميته لذلك مبطلا للحقائق وقد تقدم أن ذلك لا يقتضي مفارقة صفة المخلوق له وانتقالها إلى غيره فكيف صفة الخالق تبارك وتعالى ولكن لما كان فيه شبهة الحلول تنازع الناس في إثبات لفظ الحلول ونفيه عنه هل يقال إن كلام الله حال في المصحف أو حال في الصدور وهل يقال كلام الناس المكتوب حال في المصحف أو حال في قلوب
197

حافظيه ونحو ذلك فمنهم طائفة نفت الحلول كالقاضي أبي يعلى وأمثاله وقالوا ظهر كلام الله في ذلك ولا نقول حل لأن حلول صفة الخالق في المخلوق أو حلول القديم في المحدث ممتنع
وطائفة أطلقت القول بأن كلام الله حال في المصحف كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي الملقب بشيخ الإسلام وغيره وقالوا ليس هذا هو الحلول المحذور الذي نفيناه بل نطلق القول بأن الكلام في الصحيفة ولا يقال بأن الله في الصحيفة أو في صدر الإنسان كذلك نطلق القول بأن كلامه حال في ذلك دون حلول ذاته
وطائفة ثالثة كأبي علي بن أبي موسى وغيره قالوا لا نطلق الحلول نفيا ولا إثباتا لأن إثبات ذلك يوهم انتقال صفة الرب إلى المخلوقات ونفي ذلك يوهم نفي نزول القرآن إلى الخلق فنطلق ما أطلقته النصوص ونمسك عما في إطلاق محذور لما في ذلك من الإجمال
واما قول القائل إن قلتم إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا فجواب ذلك أن المقالة المنكرة هنا تتضمن ثلاثة أمور فإذا زالت لم يبق منكرا
أحدها من يقول إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنما أحدثه غير الله كجبريل ومحمد والله خلقه في غيره
الثاني قول من يقول إن كلام الله ليس إلا معنى واحدا هو الأمر والنهي والخبر وإن الكتب الإلهية تختلف باختلاف العبارات لا باختلاف المعاني فيجعل معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحدا وكذلك معنى آية الدين وآية الكرسي كمن يقول إن معاني أسماء الله الحسنى بمعنى واحد فمعنى العليم والقدير والرحيم والحكيم معنى واحد فهذا إلحاد في أسمائه وصفاته وآياته
الثالث قول من يقول إن ما بلغته الرسل عن الله من المعنى والألفاظ ليس هو كلام الله وإن القرآن كلام التالين لا كلام رب العالمين فهذه الأقوال الثلاثة باطلة بأي عبارة عبر عنها
واما قول من قال إن القرآن العربي كلام الله بلغه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه تارة
198

يسمع من الله وتارة من رسله مبلغين عنه وهو كلام الله حيث تصرف وكلام الله تكلم به لم يخلقه في غيره ولا يكون كلام الله مخلوقا ولو قرأه الناس وكتبوه وسمعوه وقال مع ذلك إن أفعال العباد وأصواتهم وسائر صفاتهم مخلوقة فهذا لا ينكر عليه
وإذا نفى الحلول وأراد به أن صفة الموصوف لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فقد أصاب في هذا المعنى لكن عليه مع ذلك أن يؤمن أن القرآن العربي كلام الله تعالى وليس هو ولا شيء منه كلاما لغيره ولكن بلغته عنه رسله وإذا كان كلام المخلوق يبلغ عنه مع العلم بأنه كلامه حروفه ومعانيه ومع العلم بأن شيئا من صفاته لم تفارق ذاته فالعلم بمثل هذا من كلام الخالق أولى وأظهر والله أعلم
199

فصل
قال تعالى * (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون) * سورة التوبة 59 فجعل الإيتاء لله والرسول لأن المراد به الإيتاء الشرعي وهو ما أباحه الله على لسان رسوله بخلاف ما آتاه الملك خلقا وقدرا ولم يطع الله ورسوله فيه فإن ذلك مذموم مستحق للعقاب وإن كان قد آتاه الله ذلك خلقا وقدرا وأما من رضي بما آتاه الله ورسوله فهو ممن رضي بما أحله الله ورسوله ولم يطلب ما حرم عليه كالذين قال الله فيهم * (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) * ثم قال * (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله) * سورة التوبة 58 59 ولم يقل ورسوله لأن الله وحده كاف عبده كما قال الله تعالى * (أليس الله بكاف عبده) * سورة الزمر 36 وقال * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) * سورة آل عمران 173 ثم دعاهم إلى أن يقولوا * (سيؤتينا الله من فضله ورسوله) * فذكر أن الرسول يؤتيهم وأن ذلك من فضل الله وحده لم يقل من فضله وفضل رسوله ثم ذكر قوله * (إنا إلى الله راغبون) * ولم يقل ورسوله كما قال في الآية الأخرى * (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب) * سورة الشرح 7 8
وأما ما في القرآن من ذكر عبادته وحده ودعائه وحده والاستعانة به وحده والخوف
200

منه وحده فكثير كقوله * (ولا يخشون أحدا إلا الله) * سورة الأحزاب 39 وقوله * (فإياي فارهبون) * سورة النحل 51 و * (وإياي فاتقون) * سورة البقرة 41 وقوله * (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) * سورة آل عمران 175 وكذلك قوله * (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين) * سورة الشعراء 213 * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) * سورة النساء 36
وأما المحبة فهي لله ورسوله والإرضاء لله والرسول كقوله تعالى * (أحب إليكم من الله ورسوله) * سورة التوبة 24 وقوله * (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) * سورة التوبة 62 فالرسول علينا أن نحبه وعلينا أن نرضيه بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده والناس أجمعين وكذلك الطاعة لله والرسول قال تعالى * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * سورة النساء 80
والعبادات بأسرها الصلاة والسجود والطواف والدعاء والصدقة والنسك والذبح لا يصلح إلا لله ولم يخص الله بقعة نفعل الصلاة فيها إلا المساجد لا مقبرة ولا مشهدا ولا مغارة ولا مقام نبي ولا غير ذلك ولا خص بقعة غير المساجد بالذكر والدعاء إلا مشاعر الحج لا قبر نبي ولا صالح ولا مغارة ولا غير ذلك ولا يقبل على وجه الأرض شئ عبادة لله إلا الحجر الأسود ولا يتمسح إلا به وبالركن اليماني ولا يستلم الركنان الشاميان وهما من البيت فكيف غيرهما وقد طاف ابن عباس ومعاوية فجعل معاوية يستلم الأركان الأربعة فقال ابن عباس رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية ليس من البيت شيء مهجور فقال ابن عباس رضي الله عنه لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقال معاوية صدقت ورجع إلى قوله
فالعبادات مبناها على أصلين أحدهما أن لا يعبد إلا الله وحده لا نعبد من دونه شيئا لا ملكا ولا نبيا ولا صالحا ولا شيئا من المخلوقات والثاني أن نعبده بما أمرنا به على لسان رسوله لا نعبده ببدع لم يشرعها الله ورسوله
والعبادات تتضمن كمال الحب وكمال الخضوع فمن أحب شيئا من المخلوقات كما يحب الخالق فهو مشرك قال الله تعالى * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) *
201

سورة البقرة 165 وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال ثم أن تزاني بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) * سورة الفرقان 68
والنبي قد أمر بالعبادة في المساجد وذكر فضل الصلاة في الجماعة ورغب في ذلك ولم يأمر قط بقصد مكان لأجل نبي ولا صالح بل نهى عن اتخاذها مساجد فلا يجوز أن تقصد للصلاة فيها والدعاء وهذا كله لتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله فقد قال بعض الناس يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أو بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) * سورة البقرة 186
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يستغفرني فأغفر له من يسألني فأعطيه حتى يطلع الفجر
فالرسل صلوات الله عليهم وسلامه أمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعائه ونهوا أن يدعى أحد من دون الله تعالى وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أحب البقاع إلى الله تعالى المساجد وأبغضها إلى الله تعالى الأسواق يعني البقاع التي كانت
202

تكون في مدينته ونحوها ولم يكن بالمدينة لا حانة ولا كنيسة ولا موضع شرك وهذه المواضع شر من الأسواق
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم شرار الناس الذين تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد هذا إذا بنى المسجد المسمى مشهدا على قبر صحيح فكيف وكثير من هذه المشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهم كذب وكثير منها مختلف فيه لا يتوثق فيه بنقل ينقل في ذلك مما يوجد بالشام والعراق وخراسان وغير ذلك والسبب في خفائها وكثرة الخلاف فيها أن الله حفظ الدين الذي بعث به رسوله بقوله * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * سورة الحجر 9 واتخاذ هذه معابد ليس من الدين فلهذا لم يحفظ هذه المقامات والمشاهد بل مبني أمرهم على الجهل والضلال وإنما يستند أهلها إلى منامات تكون من الشياطين أو إلى أخبار وإما مكذوبة وإما منقولة عمن ليس قوله حجة
والشياطين تضل أهلها كما تضل عباد الأصنام فتارة تكلمهم وتارة تتراءى لهم وتارة تقضي بعض حوائجهم وتارة تصيح وتحرك السلاسل التي فيها القناديل وتطفىء القناديل وتارة تفعل أمورا أخر كما تفعل عبادة الأوثان التي كانت للعرب وهي اليوم تفعل مثل ذلك في أوثان الترك والصين والسودان وغيرهم فيظنون أن ذلك هو الميت أو ملك صور على صورته وإنما هو شيطان أضلهم بالشرك كما يجري ذلك لعباد الأصنام المصورة على صورة الآدميين هذا باب واسع ليس هذا موضع استقصائه
203

205
فصل
* (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) * سورة التوبة 100 هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة
وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى القبلتين وهذا ضعيف فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة ولكن فيه سبق الذين أدركوا ذلك على من لم يدركه كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد أو قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل تحريم الربا كذلك فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئا فشيئا وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه وله بذلك فضيلة ففضيلة من اسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا الباب وليس مثل هذا مما يتميز به السابقون الأولون عن التابعين إذ ليس بعض هذه الشرائع بأولى بجعله خيرا من بعض ولأن القرآن والسنة قد دلا على تقديم أهل الحديبية فوجب أن تفسر هذه الآية بما يوافق سائر النصوص
وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة
205

والزبير وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيده عن عثمان لأنه كان غائبا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته وبسببه بايع النبي صلى الله عليه وسلم الناس لما بلغه أنهم قتلوه
وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة
وقال تعالى * (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) * سورة التوبة 117 فجمع بينهم وبين الرسول في التوبة
وقال تعالى * (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا) * سورة الأنفال 72 إلى قوله * (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) * سورة الأنفال 75 فأثبت الموالاة بينهم
وقال للمؤمنين * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * سورة المائدة 51 إلى قوله * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) * المائدة 55 56 وقال تعالى * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * سورة التوبة 71 فأثبت الموالاة بينهم وأمر بموالاتهم والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم وأصل الموالاة المحبة وأصل المعاداة البغض وهم يبغضونهم ولا يحبونهم
وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل وكذبه بين من وجوه كثيرة
206

منها أن قوله الذين صيغة جمع وعلي واحد
منها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة
ومنها أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق علماء الملة فإن في الصلاة شغلا
ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير حال الركوع بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن
ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
ومنها أنه لم يكن له أيضا خاتم ولا كانوا يلبسون الخواتم حتى كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى كسرى فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما فاتخذ خاتما من ورق ونقش فيها محمد رسول الله
ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة
ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور لا ينتظر أن يسأله سائل
ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين كما يدل عليه سياق الكلام
وسيجئ إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذه الآية فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة والرافضة مخالفون لها
والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين وهذا أمر مشهور فيهم يعادون خيار عباد الله المؤمنين ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم
وقال تعالى * (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * سورة الأنفال 64 أي الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين والصحابة أفضل من اتبعه من
207

المؤمنين وأولهم
وقال تعالى * (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) * والذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون في دين الله أفواجا هم الذين كانوا على عصره
وقال تعالى * (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم) * سورة الأنفال 62 63 وإنما أيده في حياته بالصحابة
وقال تعالى * (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) * سورة الزمر 33 35 وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذب بالحق لما جاءه كما سنبسط القول فيهما إن شاء الله تعالى
والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن القرآن حق هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء
وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبا بالحق من المنتسب إلى التشيع ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم ومنهم من ادعى إلهية البشر وادعى النبوة في غير النبي صلى الله عليه وسلم وادعى العصمة في الأئمة ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف واتفق أهل العلم على أن الكذب ليس في طائفة من الطوائف المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم
208

218
فصل
وقال شيخ الإسلام رحمه الله
قوله تعالى * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) *
وقوله * (وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا) * وقوله * (الشمس والقمر بحسبان) * قوله * (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) * وقوله * (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) * دليل على توقيت ما فيها من التوقيت للسنين والحساب فقوله * (لتعلموا عدد السنين والحساب) * إن علق بقوله * (وقدره منازل) * كان الحكم مختصا بالقمر وإن أعيد إلى أول الكلام تعلق بهما ويشهد للأول قوله من الأهلة فإنه موافق لذلك ولأن كون الشمس ضياء والقمر نورا لا يوجب علم عدد السنين والحساب بخلاف تقدير القمر منازل فإنه هو الذي يقتضي علم عدد السنين والحساب ولم يذكر انتقال الشمس في البروج
ويؤيد ذلك قوله * (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله) * الآية فإنه نص على أن السنة هلالية وقوله * (الحج أشهر معلومات) * يؤيد ذلك لكن يدل على الآخر قوله * (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب) *
وهذا والله أعلم لمعنى تظهر به حكمة ما في الكتاب وما جاءت به الشريعة من اعتبار الشهر والعام الهلالي دون الشمسي إن كل واحد من الشهر والعام ينقسم في اصطلاح الأمم إلى عددي وطبيعي فأما الشهر الهلالي فهو طبيعي وسنته عددية
واما الشهر الشمسي فعددي وسنته طبيعية فأما جعل شهرنا هلاليا فحكمته ظاهرة لأنه طبيعي وإنما علق بالهلال دون الاجتماع لأنه أمر مضبوط بالحس لا يدخله
218

خلل ولا يفتقر إلى حساب بخلاف الاجتماع فإنه أمر خفي يفتقر إلى حساب وبخلاف الشهر الشمسي لو ضبط
وأما السنة الشمسية فإنها وإن كانت طبيعية فهي من جنس الاجتماع ليس أمرا ظاهرا للحس بل يفتقر إلى حساب سير الشمس في المنازل وإنما الذي يدركه الحس تقريب ذلك فإن انقضاء الشتاء ودخول الفصل الذي تسميه العرب الصيف ويسميه غيرها الربيع أمر ظاهر بخلاف محاذاة الشمس لجزء من أجزاء الفلك يسمى برج كذا أو محاذاتها لإحدى نقطتي الرأس أو الذنب فإنه يفتقر إلى حساب
ولما كانت البروج اثني عشر فمتى تكرر الهلالي اثني عشر فقد انتقل فيها كلها فصار ذلك سنة كاملة تعلقت به أحكام ديننا من المؤقتات شرعا أو شرطا إما بأصل الشرع كالصيام والحج وإما بسبب من العبد كالعدة ومدة الإيلاء وصوم الكفارة والنذر وإما بالشرط كالأجل في الدين والخيار والأيمان وغير ذلك
فصل
* (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
و * (أولياء الله) * هم * (الذين آمنوا وكانوا يتقون) * كما ذكر الله تعالى في كتابه وهم قسمان المقتصدون أصحاب اليمين والمقربون السابقون
فولي الله ضد عدو الله قال الله تعالى * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون) * وقال تعالى * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) * وقال تعالى * (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) * وقال * (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون) * وقال * (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو) * وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى من عادى لي
219

وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه
والولي مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الصنفين المقتصدين من أصحاب اليمين وهم المتقربون إلى الله بالواجبات والسابقين المقربين وهم المتقربون إليه بالنوافل بعد الواجبات
وذكر الله الصنفين في سورة فاطر والواقعة والإنسان والمطففين وأخبر أن الشراب الذي يروى به المقربون بشربهم إياه صرفا يمزج لأصحاب اليمين
والولي المطلق هو من مات على ذلك فأما إن قام به الإيمان والتقوى وكان في علم الله أنه يرتد عن ذلك فهل يكون في حال إيمانه وتقواه وليا لله أو يقال لم يكن وليا لله قط لعلم الله بعاقبته هذا فيه قولان للعلماء وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة ما يحبط من الأعمال بعد كماله أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب الشمس في صيامه ومن أحدث قبل السلام في صلاته فيه أيضا قولان للفقهاء والمتكلمين والصوفية
والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم لكن أكثر أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يشترط سلامة العاقبة وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث كالأشعري ومن متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع أن ولي الله هل يصير عدوا لله وبالعكس ومن أحبه الله ورضي عنه هل أبغضه وسخط عليه في وقت ما وبالعكس ومن أبغضه الله وسخط عليه هل أحبه الله ورضي عنه في وقت ما على القولين
والتحقيق هو الجمع بين القولين فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه وبغضه وسخطه وولايته وعداوته لا يتغير فمن علم الله منه أنه يوافي حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلق به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلا وأبدا وكذلك من علم الله منه
220

أنه يوافي حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله وعداوته وسخطه أزلا وأبدا لكن مع ذلك فإن الله تعالى يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته وقد يقال أنه يبغضه ويمقته على ذلك كما ينهاه عن ذلك وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى ويحب ما يأمر به ويرضاه وقد يقال أنه يواليه حينئذ على ذلك
والدليل على ذلك اتفاق الأئمة على أن من كان مؤمنا ثم ارتد فإنه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسدا بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال وإنما يقال كما قال الله تعالى * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) * وقال * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * وقال * (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) * ولو كان فاسدا في نفسه لوجب الحكم بفساد أنكحته المتقدمة وتحريم ذبائحه وبطلان إرثه المتقدم وبطلان عباداته جميعها حتى لو كان قد حج عن غيره كان حجه باطلا ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان عليهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه ولو شهد أو حكم ثم ارتد لوجب أن تفسد صلاته وحكمه ونحو ذلك وكذلك أيضا الكافر إذا تاب من كفره لو كان محبوبا لله وليا له في حال كفره لوجب أن يقضي بعدم أحكام ذلك الكفر وهذا كله خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع
والكلام في هذه المسألة نظير الكلام في الأرزاق والآجال وهي أيضا مبنية على قاعدة الصفات الفعلية وهي قاعدة كبيرة
وعلى هذا يخرج جواب السائل فمن قال إن ولي الله لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره ومن قال قد يكون وليا لله من كان مؤمنا تقيا وإن لم تعلم عاقبته فالعلم به أسهل
ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه ولغيره ولكنه قليل ولا يجوز لهم القطع على ذلك فمن ثبتت ولايته بالنص وأنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة
يشهدون له بما شهد له به النص وأما من شاع له لسان صدق في الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء عليه فهل يشهد له بذلك هذا فيه نزاع بين أهل السنة والأشبه أن يشهد له بذلك هذا في الأمر العام
وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف الله لهم لكن هذا ليس ممن
221

يجب التصديق العام به فإن كثيرا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنا لا يغني من الحق شيئا وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله ولا يكتفوا بمجرد ذلك فإن سند المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر ابن الخطاب وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه
ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة ولو كان أحد يأتيه من الله مالا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنيا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض دينه وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى ومن قال هذا فهو كافر
وقد قال الله تعالى * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) * فقد ضمن الله للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في أمنيته ولم يضمن ذلك للمحدث ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن عباس وغيره وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته
ويحتمل والله أعلم أن لا يكون هذا الحرف متلوا حيث لم يضمن نسخ ما ألقى الشيطان في أمنية المحدث فإن نسخ ما ألقى الشيطان ليس إلا للأنبياء والمرسلين إذ هم معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان وغيرهم لا تجب عصمته من ذلك وإن كان من أولياء الله المتقين فليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورا لهم بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقا بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة
وقد قال الله تعالى * (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) * فقد وصفهم الله بأنهم هم المتقون والمتقون هم أولياء
222

الله ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان
وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشائخ ومن يعتقدون أنه من الأولياء فالرافضة تزعم أن الاثني عشر معصومون من الخطأ والذنب ويرون هذا من أصول دينهم والغالية في المشائخ قد يقولون إن الولي محفوظ والنبي معصوم وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه وقد بلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي وأفضل منه وإن زاد الأمر جعلوا له نوعا من الإلهية وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية فإن في النصارى من الغلو في المسيح والأحبار والرهبان ما ذمهم الله عليه في القرآن وجعل ذلك عبرة لنا لئلا نسلك سبيلهم ولهذا قال سيد ولد آدم لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها
منها قوله تعالى * (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء) * ظن طائفة أن ما نافية وهو خطأ بل هي استفهام فإنهم يدعون معه شركاء كما أخبر عنهم في غير موضع فالشركاء يوصفون في القرآن بأنهم يدعون لأنهم يتبعون وإنما يتبع الأئمة ولهذا قال * (إن يتبعون إلا الظن) * ولو أراد النفي لقال إن يتبعون إلا من ليسوا شركاء بل بين أن الشرك لا علم معه إن هو إلا الظن والخرص كقوله * (قتل الخراصون) *
223

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة هود
فصل عرض لما تضمنته السورة
قد افتتح السورة فقال * (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير) * فذكر أنه نذير وبشير نذير ينذر بالعذاب لأهل النار وبشير يبشر بالسعادة لأهل الحق
ثم ذكر حال الفريقين في السراء والضراء فقال * (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) *
ثم ذكر بعد هذا قصص الأنبياء وحال من اتبعهم ومن كذبهم كيف سعد هؤلاء في الدنيا والآخرة وشقي هؤلاء في الدنيا والآخرة فذكر ما جرى لهم إلى قوله * (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك) * إلى قوله * (وذلك يوم مشهود) *
ثم ذكر حال الذين سعدوا والذين شقوا ثم قال * (إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة) * فإنه قد يقال غاية ما أصاب هؤلاء أنهم ماتوا والناس كلهم يموتون
224

وأما كونهم أهلكوا كلهم وصارت بيوتهم خاوية وصاروا عبرة يذكرون بالشر ويلعنون إنما يخاف ذلك من آمن بالآخرة فإن لعنة المؤمنين لهم بالآخرة وبغضهم لهم كما جرى لآل فرعون هو مما يزيدهم عذابا كما أن لسان الصدق وثناء الناس ودعاءهم للأنبياء واتباعهم لهم هو مما يزيدهم ثوابا
فمن استدل بما أصاب هؤلاء على صدق الأنبياء فآمن بالآخرة خاف عذاب الآخرة وكان ذلك له آية وأما من لم يؤمن بالآخرة ويظن أن من مات لم يبعث فقد لا يبالي بمثل هذا وإن كان يخاف هذا من لا يخاف الآخرة لكن كل من خاف الآخرة كان هذا حاله وذلك له آية
وقد ختم السورة بقوله * (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون) * إلى آخرها كما افتتحها بقوله * (أن لا تعبدوا إلا الله) * فذكر التوحيد والإيمان بالرسل فهذا دين الله في الأولين والآخرين قال أبو العالية كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين
ولهذا قال * (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) * و * (أين شركائي الذين كنتم تزعمون) * هو الشرك في العبادة وهذان هما الإيمان والإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ تارة في ركعتي الفجر سورتي الإخلاص وتارة بآيتي الإيمان والإسلام فيقرأ قوله * (آمنا بالله وما أنزل إلينا) * الآية فأولها الإيمان وآخرها الإسلام ويقرأ في الثانية * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله) * فأولها إخلاص العبادة لله وآخرها الإسلام له
وقال * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) * ففيها الإيمان والإسلام في آخرها وقال * (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) *
225

فصل
وقوله تعى لي * (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) * فقد فصله بعد إحكامه بخلاف من تكلم لم يحكمه وقد يكون في الكلام المحكم ما لم يبينه لغيره فهو سبحانه أحكم كتابه ثم فصله وبينه لعباده كما قال * (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) * وقال * (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) * فهو سبحانه بينه وأنزله على عباده بعلم ليس كمن يتكلم بلا علم
وقد ذكر براهين التوحيد والنبوة قبل ذكر الفرق بين أهل الحق والباطل فقال * (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) * إلى قوله * (فهل أنتم مسلمون) * فلما تحداهم بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات هم وجميع من يستطيعون من دونه كان في مضمون تحديه أن هذا لا يقدر أحد على الإتيان بمثله من دون الله كما قال * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) *
وحينئذ فعلم أن ذلك من خصائص من أرسله الله وما كان مختصا بنوع فهو دليل عليه فإنه مستلزم له وكل ملزوم دليل على لازمه كآيات الأنبياء كلها فإنها مختصة بجنسهم
وهذا القرآن مختص بجنسهم ومن بين الجنس خاتمهم لا يمكن أن يأتي به غيره وكان ذلك برهانا بينا على أن الله أنزله وأنه نزل بعلم الله هو الذي أخبره بخبره وأمر بما أمر به كما قال * (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه) * الآية وثبوت الرسالة ملزوم لثبوت التوحيد وأنه لا إله إلا الله من جهة أن الرسول أخبر بذلك ومن جهة أنه لا يقدر أحد على الإتيان بهذا القرآن إلا الله فإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله إلى غير ذلك من وجوه البيان فيه كما قد بسط ونبه عليه في غير هذا الموضع ولا سيما هذه السورة فإن فيها
226

من البيان والتعجيز ما لا يعلمه إلا الله وفيها من المواعظ والحكم والترغيب والترهيب ما لا يقدر قدره إلا الله
والمقصود هنا هو الكلام على قوله * (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) * حيث سأل السائل عن تفسيرها وذكر ما في التفاسير من كثرة الاختلاف فيها وأن ذلك الاختلاف يزيد الطالب عمى عن معرفة المراد الذي يحصل به الهدى والرشاد فإن الله تعالى إنما نزل القرآن ليهتدي به لا ليختلف فيه والهدى إنما يكون إذا عرفت معانيه فإذا حصل الاختلاف المضاد لتلك المعاني التي لا يمكن الجمع بينه وبينها ولم يعرف الحق ولم تفهم الآية ومعناها ولم يحصل به الهدى والعلم الذي هو المراد بإنزال الكتاب
قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عثمان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا
وقال الحسن البصري ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا نزلت وماذا عنى بها وقد قال تعالى * (أفلا يتدبرون القرآن) * وتدبر الكلام إنما ينتفع به إذا فهم وقال * (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) *
فالرسل تبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم وعليهم أن يبلغوا الناس البلاغ المبين والمطلوب من الناس أن يعقلوا ما بلغه الرسل والعقل يتضمن العلم والعمل فمن عرف الخير والشر فلم يتبع الخير ويحذر الشر لم يكن عاقلا ولهذا لا يعد عاقلا إلا من فعل ما ينفعه واجتنب ما يضره فالمجنون الذي لا يفرق بين هذا وهذا قد يلقي نفسه في المهالك وقد يفر مما ينفعه
فصل
قال تعالى * (خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) * سورة هود 7 وأخبر أنه * (استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * سورة فصلت 11
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان
227

عرشه على الماء وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه
على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض وفي رواية ثم خلق السماوات والأرض والآثار متواترة عن الصحابة والتابعين بما يوافق القرآن والسنة من أن الله تعالى خلق السماوات من بخار الماء الذي سماه الله دخانا
وقد تكلم علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في أول هذه المخلوقات على قولين حكاهما الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره أحدهما أنه هو العرش والثاني أنه هو القلم ورجحوا القول الأول لما دل عليه الكتاب والسنة أن الله تعالى لما قدر مقادير الخلائق بالقلم الذي أمره أن يكتب في اللوح كان عرشه على الماء فكان العرش مخلوقا قبل القلم قالوا الآثار المروية أن أول ما خلق الله القلم معناها من هذا العالم وقد اخبر الله تعالى أنه خلقه في ستة أيام فكان حين خلقه زمن يقدر به خلقه ينفصل إلى أيام
فعلم أن الزمان كان موجودا قبل أن يخلق الله الشمس والقمر ويخلق في هذا العالم الليل والنهار
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته عام حجة الوداع إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا ومنها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان وفي الصحيح عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم
هذا وفي التوراة ما يوافق خبر الله تعالى في القرآن وأن الأرض كانت مغمورة بالماء والهواء يهب فوق الماء وأن في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض وأنه خلق ذلك في
228

أيام ولهذا قال من قال من علماء أهل الكتاب ما ذكره الله تعالى في التوراة يدل على أنه خلق هذا العالم من مادة أخرى وأنه خلق ذلك في أزمان قبل أن يخلق الشمس والقمر
وليس فيما أخبر الله تعالى به في القرآن وغيره أنه خلق السماوات والأرض من غير مادة ولا أنه خلق الإنس أو الجن أو الملائكة من غير مادة بل يخبر أنه خلق ذلك من مادة وإن كانت المادة مخلوقة من مادة أخرى كما خلق الإنس من آدم وخلق آدم من طين وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم
والمقصود هنا أن المنقول عن أساطين الفلاسفة القدماء لا يخالف ما أخبرت به الأنبياء من خلق هذا العالم من مادة بل المنقول عنهم أن هذا العالم محدث كائن بعد إن لم يكن
وأما قولهم في تلك المادة هل هي قديمة الأعيان أو محدثة بعد أن لم تكن أو محدثة من مادة أخرى بعد مادة قد تضطرب النقول عنهم في هذا الباب والله أعلم بحقيقة ما يقوله كل من هؤلاء فإنها أمة عربت كتبهم ونقلت من لسان إلى لسان وفي مثل ذلك قد يدخل من الغلط والكذب ما لا يعلم حقيقته ولكن ما تواطأت به النقول عنهم يبقى مثل المتواتر وليس لنا غرض معين في معرفة قول كل واحد منهم بل * (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) * سورة البقرة 134 141
لكن الذي لا ريب فيه أن هؤلاء أصحاب التعاليم كأرسطو واتباعه كانوا مشركين يعبدون المخلوقات ولا يعرفون النبوات ولا المعاد البدني وأن اليهود والنصارى خير منهم في الإلهيات والنبوات والمعاد
وإذا عرف أن نفس فلسفتهم توجب عليهم أن لا يقولوا بقدم شيء من العالم علم أنهم مخالفون لصريح المعقول كما أنهم مخالفون لصحيح المنقول وأنهم في تبديل القواعد الصحيحة المعقولة من جنس اليهود والنصارى في تبديل ما جاءت به الرسل وهذا هو المقصود في هذا الباب
ثم إنه إذا قدر أنه ليس عندهم من المعقول ما يعرفون به أحد الطرفين فيكفي في ذلك إخبار الرسل باتفاقهم على خلق السماوات والأرض وحدوث هذا العالم والفلسفة الصحيحة المبنية على المعقولات المحضة توجب عليهم تصديق الرسل فيما أخبرت به وتبين
229

أنهم علموا ذلك بطريق يعجزون عنها وأنهم أعلم بالأمور الإلهية والمعاد وما يسعد النفس ويشقيها منهم وتدلهم على أن من اتبع الرسل كان سعيدا في الآخرة ومن كذبهم كان شقيا في الآخرة وأنه لو علم الرجل من الطبيعيات والرياضيات ما عسى أن يعلم وخرج عن دين الرسل كان شقيا وأن من أطاع الله ورسوله بحسب طاقته كان سعيدا في الآخرة وإن لم يعلم شيئا من ذلك
ولكن سلفهم أكثروا الكلام في ذلك لأنهم لم يكن عندهم من آثار الرسل ما يهتدون به إلى توحيد الله وعبادته وما ينفع في الآخرة وكان الشرك مستحوذا عليهم بسبب السحر والأحوال الشيطانية وكانوا ينفقون أعمارهم في رصد الكواكب ليستعينوا بذلك على السحر والشرك وكذلك الأمور الطبيعية وكان منتهى عقلهم أمورا عقلية كلية كالعلم بالوجود المطلق وانقسامه إلى علة ومعلول وجوهر عرض وتقسيم الجواهر ثم تقسيم الأعراض وهذا هو عندهم الحكمة العليا والفلسفة الأولى ومنتهى ذلك العلم بالوجود المطلق الذي لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان
230

فصل
في قوله تعالى * (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) *
وزعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته أن فرعون كان مؤمنا وأنه لا يدخل النار وزعموا أنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه بل فيه ما
ينفيه كقوله * (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * قالوا فإنما أدخل آله دونه وقوله * (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) * قالوا إنما أوردهم ولم يدخلها قالوا ولأنه قد آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ووضع جبريل الطين في فمه لا يرد إيمان قلبه
وهذا القول كفر معلوم فساده باضطرار من دين الإسلام لم يسبق ابن عربي إليه فيما أعلم أحد من أهل القبلة بل ولا من اليهود ولا من النصارى بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون
فهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل فإنه لم يكفر أحد بالله ويدعي لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون
ولهذا ثنى الله قصته في القرآن في مواضع فإن القصص إنما هي أمثال مضروبة للدلالة على الإيمان وليس في الكفار أعظم من كفره والقرآن قد دل على كفره وعذابه في الآخرة في مواضع
أحدها قوله تعالى في القصص * (فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين) * إلى قوله * (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) *
فأخبر سبحانه أنه أرسله إلى فرعون وقومه وأخبر أنهم كانوا قوما فاسقين وأخبر أنهم * (قالوا ما هذا إلا سحر مفترى) * وأخبر أن فرعون قال * (ما علمت لكم من إله غيري) * وأنه أمر باتخاذ الصرح ليطلع إلى إله موسى وأنه يظنه كاذبا وأخبر أنه استكبر فرعون وجنوده وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله وأنه أخذ فرعون وجنوده فنبذهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأنه أتبعهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين
254

فهذا نص في أن فرعون من الفاسقين المكذبين لموسى الظالمين الداعين إلى النار الملعونين في الدنيا بعد غرقهم المقبوحين في الدار الآخرة
وهذا نص في أن فرعون بعد غرقه ملعون وهو في الآخرة مقبوح غير منصور وهذا إخبار عن غاية العذاب وهو موافق للموضع الثاني في سورة المؤمن وهو قوله * (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * وهذا إخبار عن فرعون وقومه أنه حاق بهم سوء العذاب في البرزخ وأنهم في القيامة يدخلون أشد العذاب وهذه الآية أحد ما استدل به العلماء على عذاب البرزخ
وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء الجهال لما سمعوا آل فرعون فظنوا أن فرعون خارج منهم وهذا تحريف للكلم عن مواضعه بل فرعون داخل في آل فرعون بلا نزاع بين أهل العلم بالقرآن واللغة يتبين ذلك بوجوه
أحدها أن لفظ آل فلان في الكتاب والسنة يدخل فيها ذلك الشخص مثل قومه في الملائكة الذي ضافوا إبراهم * (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته) * ثم قال * (فلما جاء آل لوط المرسلون قال) * يعني لوطا * (إنكم قوم منكرون) * وكذلك قوله * (إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر) * ثم قال بعد ذلك * (ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر) *
ومعلوم أن لوطا في هذه المواضع وكذلك فرعون داخل في آل فرعون والمكذبين المأخوذين ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وكذلك قوله كما باركت على آل إبراهيم فإبراهيم داخل في ذلك وكذلك قوله للحسن إن الصدقة لا تحل لآل محمد
وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان القوم إذا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة يصلي عليهم فأتى أبي بصدقة فقال اللهم صل على آل أبي أوفى وأبو أوفى هو صاحب الصدقة
255

ونظير هذا الاسم أهل البيت فإن الرجل يدخل في أهل بيته كقول الملائكة * (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) * وقول النبي صلى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت وقوله تعالى * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) * وذلك لأن آل الرجل ممن يؤول إليه ونفسه ممن يؤول إليه وأهل بيته هم من يأهله وهو ممن يأهل أهل بيته
فقد تبين أن الآية التي ظنوا أنها حجة لهم هي حجة عليهم في تعذيب فرعون مع سائر آل فرعون في البرزخ وفي يوم القيامة ويبين ذلك أن الخطاب في القصة كلها إخبار عن فرعون وقومه قال تعالى * (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) * إلى قوله * (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) * إلى قوله * (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى) * إلى قوله * (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) * إلى قوله * (قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد) *
فأخبر عقب قوله * (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * عن محاجتهم في النار وقول الضعفاء للذين استكبروا وقول المستكبرين للضعفاء * (إنا كل فيها) * ومعلوم أن فرعون هو رأس المستكبرين وهو الذي استخف قومه فأطاعوه ولم يستكبر أحد استكبار فرعون فهو أحق بهذا النعت والحكم من جميع قومه
الموضع الثاني وهو حجة عليهم لا لهم قوله تعالى * (فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود) * إلى قوله * (بئس الرفد المرفود) * فأخبر أن يقدم قومه ولم يقل يسوقهم وأنه أوردهم النار ومعلوم أن المتقدم إذا أورد المتأخرين النار كان هو أول من يردها وإلا لم يكن قادما بل كان سائقا يوضح ذلك أنه قال * (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) * فعلم أنه وهم يردون النار وأنهم جميعا ملعونون في الدنيا والآخرة
256

وما أخلق المحاج عن فرعون أن يكون بهذه المثابة فإن المرء مع من أحب * (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) * وأيضا فقد قال الله تعالى * (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا) * يقول هلا آمن قوم فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس
وقال تعالى * (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض) * إلى قوله * (سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) * فأخبر عن الأمم المكذبين للرسل أنهم آمنوا عند رؤية البأس وأنه لم يك ينفعهم إيمانهم حينئذ وأن هذه سنة الله الخالية في عباده
وهذا مطابق لما ذكره الله في قوله لفرعون * (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) * فإن هذا الخطاب هو استفهام إنكار أي الآن تؤمن وقد عصيت قبل فأنكر أن يكون هذا الإيمان نافعا أو مقبولا فمن قال إنه نافع مقبول فقد خالف نص القرآن وخالف سنة الله التي قد خلت في عباده
يبين ذلك أنه لو كان إيمانه حينئذ مقبولا لدفع عنه العذاب كما دفع عن قوم يونس فإنهم لما قبل إيمانهم متعوا إلى حين فإن الإغراق هو عذاب على كفره فإذا لم يكن كافرا لما يستحق عذابا
وقوله بعد هذا * (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) * يوجب أن يعتبر من خلفه ولو كان إنما مات مؤمنا لم يكن المؤمن مما يعتبر بإهلاكه وإغراقه وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره ابن مسعود بقتل أبي جهل قال هذا فرعون هذه الأمة فضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في رأس الكفار المكذبين له برأس الكفار المكذبين لموسى
فهذا يبين أنه هو الغاية في الكفر فكيف يكون قد مات مؤمنا ومعلوم أن من مات مؤمنا لا يجوز أن يوسم بالكفر ولا يوصف لأن الإسلام يهدم ما كان قبله وفي مسند أحمد وإسحاق وصحيح أبي حاتم عن عوف بن مالك عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة يأتي مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف
257

وسئل رحمه الله
عن قوله تعالى * (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) * وقوله تعالى * (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) *
فأجاب الحمد لله قال طوائف من العلماء أن قوله * (ما دامت السماوات والأرض) * أراد بها سماء الجنة وأرض الجنة كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفه عرش الرحمن وقال بعض العلماء في قوله تعالى * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) * هي أرض الجنة
وعلى هذا فلا منافاة بين انطواء هذه السماء وبقاء السماء التي هي سقف الجنة إذ كل ما علا فإنه يسمى في اللغة سماء كما يسمى السحاب سماء والسقف سماء
وأيضا فإن السماوات وإن طويت وكانت كالمهل واستحالت عن صورتها فإن ذلك لا يوجب عدمها وفسادها بل أصلها باق بتحويلها من حال إلى حال كما قال تعالى * (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) * وإذا بدلت فإنه لا يزال سماء دائمة وأرض دائمة والله أعلم
258

272
فصل
وأما قوله * (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) * فالهم اسم جنس تحته نوعان كما قال الإمام أحمد الهم همان هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة ويوسف صلى الله عليه وسلم هم هما تركه لله ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها وقال تعالى * (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) * وأما ما ينقل من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضا
272

على يده وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء وقدحا فيهم وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفا واحدا
وقوله * (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) * فمن كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن حيث قال تعالى * (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم) * فهذا كله كلام امرأة العزيز ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك ولا سمع كلامه ولا رآه ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * أي لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهودته راودته فحينئذ * (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) * وقد قال كثير من المفسرين إن هذا من كلام يوسف ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه بل الأدلة تدل على نقيضه وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
273

فصل
وسئل الشيخ الإمام العالم العامل
الحبر الكامل شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين ابن تيمية أيده الله وزاده من فضله العظيم عن الصبر الجميل في قوله تعالى * (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * و * (الصفح) * الهجر الجميل وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس
فأجاب رحمه الله
الحمد لله أما بعد الله أمر نبيه بالهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل فالهجر الجميل هجر بلا أذى والصفح الجميل صفح بلا عتاب والصبر الجميل صبر بلا شكوى قال يعقوب عليه الصلاة والسلام * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) * مع قوله * (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل ويروى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي اللهم إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) * ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف
بخلاف الشكوى إلى المخلوق قرىء على الإمام أحمد في مرض موته أن طاووسا كره أنين المريض وقال إنه شكوى فما أن حتى مات وذلك أن المشتكي طالب بلسان
294

الحال إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه كما قال تعالى * (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب) * وقال لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله
ولا بد للإنسان من شيئين طاعته بفعل المأمور وترك المحظور وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور فالأول هو التقوى والثاني هو الصبر قال تعالى * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) * إلى قوله * (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط) * وقال تعالى * (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * وقال تعالى * (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) * وقد قال يوسف * (أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) *
ولهذا كان الشيخ عبد القادر الجيلاني ونحوه من المشائخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين المسارعة إلى فعل المأمور والتقاعد عن فعل المحظور والصبر والرضا بالأمر المقدور وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة بل ومن السالكين فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن الله خالق كل شيء وربه ولا يفرق بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يسخطه ويبغضه وإن قدره وقضاه ولا يميز بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات سعيدها وشقيها مشهد الجمع الذي يشترك فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبىء الكاذب وأهل الجنة وأهل النار وأولياء الله وأعداؤه والملائكة المقربون والمردة الشياطين
فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية وهو أن الله ربهم وخالقهم ومليكهم لا رب لهم غيره ولا يشهد الفرق الذي فرق الله به بين أوليائه
295

وأعدائه وبين المؤمنين والكافرين والأبرار والفجار وأهل الجنة والنار وهو توحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له وطاعته رسوله وفعل ما يحبه ويرضاه وهو ما أمر به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب وترك ما نهى الله عنه ورسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإلا فهو من جنس المشركين وهو شر من اليهود والنصارى
فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية إذ هم يقرون بأن الله رب كل شيء كما قال تعالى * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) * وقال تعالى * (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون) * ولهذا قال سبحانه * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * قال بعض السلف تسألهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره
فمن أقر بالقضاء والقدر دون الأمر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى فإن أولئك يقرون بالملائكة والرسل الذين جاؤوا بالأمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما قال تعالى * (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا) *
وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر ويسلك هذه الحقيقة فلا يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر الله الذي بعث به رسله وبين من عصى الله ورسوله من الكفار والفجار فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض الأبرار وبين
296

بعض الفجار ولا يفرق بين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق بين أوليائه وأعدائه
ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه الأمة فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس
ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه
فهذا التقسيم في القول والاعتقاد
وكذلك هم في الأحوال والأفعال فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه من المقدور فهو عند الأمر والنهي والدين والشريعة ويستعين بالله على ذلك كما قال تعالى * (إياك نعبد وإياك نستعين) *
وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات ولا يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها كما قال بعضهم أطعتك بفضلك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي إلا غفرت لي وفي الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع
وآخرون قد يشهدون الأمر فقط فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر وآخرون
297

يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله واتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه والمؤمن يعبده ويستعينه
والقسم الرابع شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه فلا هو مع الشريعة الأمرية ولا من القدر الكوني وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو ذلك وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام
أحدها أهل التقوى والصبر وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة
والثاني الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرض أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه
والثالث قوم له نوع من الصبر بلا تقوى مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام وهؤلاء هم الذين يريدون علوا في الأرض أو فسادا من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور وفعلوه من المحظور وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى إذا قدر
وأما القسم الرابع فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا بل هم كما قال الله تعالى * (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا) *
298

فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبا وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم
فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيها لهم من هذا الوجه وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وإذا كان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب وهو به أحق ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق والكامل هو من كان لله أطوع وعلى ما يصيبه أصبر فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه وصبرا على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك
وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعا في غير موضع من كتابه وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين المعاندين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة قال الله تعالى * (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * وقال الله تعالى * (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) * وقال تعالى * (يا أيها الذين
آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط) *
299

وقال إخوة يوسف له * (أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) *
وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عموما وخصوصا فقال تعالى * (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) *
وفي اتباع ما أوحي إليه التقوى كلها تصديقا لخبر الله وطاعة لأمره وقال تعالى * (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) * وقال تعالى * (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) * وقال تعالى * (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل) * وقال تعالى * (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) * وقال تعالى * (استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) * فهذه مواضع قرن فيه الصلاة والصبر
وقرن بين الرحمة والصبر في مثله قوله تعالى * (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) * وفي الرحمة والإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها فإن القسمة أيضا رباعية إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع والمحمود هو الذي يصبر ويرحم كما قال الفقهاء في المتولي ينبغي أن يكون قويا من غير عنف لينا من غير ضعف فبصبره يقوى وبلينه يرحم وبالصبر ينصر العبد فإن النصر مع الصبر وبالرحمة يرحمه الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما يرحم الله
300

من عباده الرحماء وقال من لا يرحم لا يرحم وقال لا تنزع الرحمة إلا من شقي وقال الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء والله أعلم انتهى
301

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد
فصل
قال تعالى * (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) *
شبه ما ينزل من السماء على القلوب من الإيمان القرآن فيختلط بالشبهات والأهواء المغوية بالمطر الذي يحتمل سيله الزبد وبالذهب والفضة والحديد ونحوه إذا أذيب بالنار فاحتمل الزبد فقذفه بعيدا عن القلب وجعل ذلك الزبد هو مثل ذلك الباطل الذي لا منفعة فيه وأما ما ينفع الناس من الماء والمعادن فهو مثل الحق النافع فيستقر ويبقى في القلب
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
فصل
في قوله تعالى * (وجعلوا لله شركاء قل سموهم) * قيل المراد سموهم بأسماء حقيقية لها معان تستحق بها الشرك له والعبادة فإن لم تقدروا بطل ما تدعونه
312

وقيل إذا سميتموها آلهة فسموها باسم الإله كالخالق والرازق فإذا كانت هذه كاذبة عليها فكذلك اسم الآلهة وقد حام حول معناها كثير من المفسرين فما شفوا عليلا ولا أرووا غليلا وإن كان ما قالوه صحيحا
فتأمل ما قبل الآية وما بعدها يطلعك على حقيقة المعنى فإنه سبحانه يقول * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) * وهذا استفهام تقرير يتضمن إقامة الحجة عليهم ونفي كل معبود مع الله الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت بعلمه وقدرته وجزائه في الدنيا والآخرة فهو رقيب عليها حافظ لأعمالها مجاز لها بما كسبت من خير وشر
فإذا جعلتم أولئك شركاء فسموهم إذ بالأسماء التي يسمى بها القائم على كل نفس بما كسبت فإنه سبحانه يسمى بالحي المحيي المميت السميع البصير الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه ووجوه كل شيء به فهل تستحق آلهتكم اسما من تلك الأسماء فإن كانت آلهة حقا فسموها باسم من هذه الأسماء وذلك بهت بين فإذا انتفى عنها ذلك علم بطلانها كما علم بطلان مسماها
وأما إن سموها بأسمائها الصادقة عليها كالحجارة وغيرها من مسمى الجمادات وأسماء الحيوان التي عبدوها من دون الله كالبقر وغيرها وبأسماء الشياطين الذين أشركوهم مع الله جل وعلا وبأسماء الكواكب المسخرات تحت أوامر الرب والأسماء الشاملة لجميعها أسماء المخلوقات المحتاجات المدبرات المقهورات
وكذلك بنو آدم عبادة بعضهم بعضا فهذه أسماؤها الحق وهي تبطل إلهيتها لأن الأسماء التي من لوازم الإلهية مستحيلة عليها فظهر أن تسميتها آلهة من أكبر الأدلة على بطلان إلهيتها وامتناع شركاء لله عز وجل
313

324
فصل
* (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) *
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله
الحمد لله رب العالمين هذه المسألة مبنية على أصلين
أحدهما الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلا من المخاطب بل هو الذي يكون المخاطب به ويخلقه بدون فعل من المخاطب أو قدرة أو إرادة أو وجود له وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلا أو تركا يفعله بقدرة وإرادة وإن كان ذلك جميعه بجول الله وقوته إذ لا حول ولا قوة إلا بالله وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده لا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده وكذلك تنازعوا في الأول هل هو خطاب حقيقي أو هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة
والأصل الثاني أن المعدوم في حال عدمه هل هو شيء أم لا فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شيء في الخارج وذات عين وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة وأن وجودها زائد على حقيقتها وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من
324

المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة والذي عليه جماهير الناس وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة أنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلا ولا ذات ولا عين وأنه ليس في الخارج شيئان أحدهما حقيقة والآخر وجوده الزائد على خقيقته فإن الله ابدع الذوات التي هي الماهيات فكل ما سواه سبحانه فهو مخلوق ومجعول ومبدع ومبدو له سبحانه وتعالى لكن في هؤلاء من يقول المعدوم ليس بشيء أصلا وإنما سمي شيئا باعتبار ثبوته في العلم كان مجازا ومنهم من يقول لا ريب أن له ثبوتا في العلم ووجودا فيه فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شيء وذات وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت كما فرق من قال المعدوم شيء ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء من الممكن والممتنع كما فرق من قال المعدوم شيء ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء بين الممكن والممتنع كما فرق أولئك إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس بشيء وإنما النزاع في الممكن وعمدة من جعله شيئا إنما هو لأنه ثابت في العلم وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخير عنه والأمر به والنهي عنه وغير ذلك قالوا وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم والمحض فإن خص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي زالت الشبهة في هذا الباب
وقوله تعالى * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * وذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه وبذلك كان مقدرا مقضيا فإن سبحان وتعالى يقول ويكتب من ما يعلمه ما شاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كان الله ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال ما أكتب قال ما هو كائن إلى يوم القيامة إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلوما مخبرا عنه مكتوبا فيه شيء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتا في الخارج بل هو عدم محض ونفي صرف وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله * (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) * وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة وتعلقت به القدرة وخلق وكون كما قال * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * فالذي يقال له كن هو الذي يراد وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز في العلم والتقدير ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره وبهذا يحصل الجواب عن
325

التقسيم فإن قول السائل إن كان المخاطب موجودا فتحصيل الحاصل محال يقال له هذا إذا كان موجود في الخارج وجوده الذي هو وجوده ولا ريب أن المعدوم ليس موجودا ولا هو في نفسه ثابت وأما ما علم وأريد وكان شيئا في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالا بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة وهو قول السائل إن كان معدوما فكيف يتصور خطاب المعدوم ويقال له أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم في الخطاب بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال إلا من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه بمعنى أنه يطلب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل وكذلك أيضا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج وأنه يخاطب بأن يكون وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه فليس ذلك محالا بل هو أمر ممكن بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه فيقد أمر ا في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته فإن كان قادرا على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم وإن كان عاجزا لم يحصل وقد يقول الإنسان ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه والله سبحانه على كل شيء قدير وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فإن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
326

فصل
في قوله تعالى * (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) *
سئل شيخ الإسلام
ابن تيمية قدس الله روحه عن قول النبي صلى الله عليه وسلم دعوة أخي ذي النون * (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) * ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته ما معنى هذه الدعوة ولم كانت كاشفة للكرب وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها حتى يوجب كشف ضره وما مناسبة ذكره * (إني كنت من الظالمين) * مع أن التوحيد يوجب كشف الضر وهل يكفيه اعترافه أم لا بد من التوبة والعزم في المستقبل وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق والتعلق بهم وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين والتعلق بهم بالكلية وتعلقه بالله تعالى ورجائه وانصرافه إليه بالكلية وما السبب المعين على ذلك
فأجاب الحمد لله رب العالمين
لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين
دعاء العبادة
ودعاء المسألة
قال الله تعالى * (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين) * وقال تعالى * (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) * وقال تعالى * (ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو) * وقال * (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) * وقال * (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) * وقال تعالى * (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه) * وقال تعالى * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) * وقال في آخر السورة * (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) *
358

قيل لولا دعاؤكم إياه وقيل لولا دعاؤه إياكم فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول تارة ولكن إضافته إلى الفاعل أقوى لأنه لا بد له من فاعل فلهذا كان هذا أقوى القولين أي ما يعبأ بكم لولا أنكم تدعونه فتعبدونه وتسألونه * (فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) * أي عذاب لازم للمكذبين
ولفظ الصلاة في اللغة أصله الدعاء وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معنى الدعاء وهو العبادة والمسألة
وقد فسر قوله تعالى * (ادعوني أستجب لكم) * بالوجهين قيل اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم كما قال تعالى * (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * أي يستجيب لهم وهو معروف في اللغة يقال استجابه واستجاب له كما قال الشاعر
* وداع دعايا من يجيب إلى الندى
* فلم يستجبه عند ذاك مجيب
*
وقيل سلوني أعطكم
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له فذكر أولا لفظ الدعاء ثم ذكر السؤال والاستغفار والمستغفر سائل كما أن السائل داع لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير وذكرهما جميعا بعد ذكر الداعي الذي تناولهما وغيرهما فهو من باب عطف الخاص على العام
وقال تعالى * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) *
وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسؤول ولك عابد له فهو أيضا راغب وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه فكل عابد سائل وكل سائل عابد فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه ولكن إذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال
والعابد الذي يريد وجه الله والنظر إليه هو أيضا راج خائف راغب راهب يرغب في حصول مراده ويرهب من فواته قال تعالى * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا) * وقال تعالى * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا) * ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب من الخوف والطمع
وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة فهذا قد يفسر
359

مراده بأن المقربين يريدون وجه الله فيقصدون التلذذ بالنظر إليه وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به وهؤلاء يرجون حصول هذا المطلوب ويخافون حرمانه فلم يخلوا عن الخوف والرجاء لكن مرجوهم بحسب مطلوبهم
ومن قال من هؤلاء لم أعبدك شوقا إلى جنتك ولا خوفا من نارك فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات والنار اسم لما لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة بل كل ما أعده الله لأوليائه فهو من الجنة والنظر إليه هو من الجنة ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته قال إني أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها فدندن
وقد أنكر على من قال هذا الكلام يعني أسألك لذة النظر إلى وجهك فريق من أهل الكلام ظنوا أن الله لا يتلذذ بالنظر إليه وأنه لا نعيم إلا بمخلوق فغلط هؤلاء في معنى
الجنة كما غلط أولئك لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن يطلب وهؤلاء أنكروا ذلك
وأما التألم بالنار فهو أمر ضروري ومن قال لو أدخلني النار لكنت راضيا فهو عزم منه على الرضا والعزائم قد تنفسخ عند وجود الحقائق ومثل هذا يقع في كلام طائفة مثل سمنون الذي قال
* وليس لي في سواك حظ
* فكيف ما شئت فامتحني
*
فابتلي بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول ادعوا لعمكم الكذاب قال تعالى * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) *
وبعض من تكلم في علل المقامات جعل الحب والرضا والخوف والرجاء من مقامات العامة بناء على مشاهدة القدر وأن من شهد القدر فشهد توحيد الأفعال حتى فني من لم يكن وبقي من لم يزل يخرج عن هذه الأمور وهذا كلام مستدرك حقيقة وشرعا
أما الحقيقة فإن الحي لا يتصور أن لا يكون حساسا محبا لما يلائمة مبغضا لما ينافره ومن قال إن إن الحي يستوي عنده جميع المقدورات فهو أحد رجلين إما أنه لا يتصور ما يقول بل هو جاهل وإما أنه مكابر معاند ولو قدر أن الإنسان حصل له حال أزال عقله سواء سمى اصطلاما أو محوا أو فناء أو غشيا أو ضعفا فهذا لم يسقط إحساس نفسه بالكلية بل له إحساس بما يلائمه وما ينافره وإن سقط إحساسه ببعض الأشياء فإنه لم يسقط بجميعها
360

فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع والفناء فلا يشهد فرقا فإنه غالط بل لا بد من الفرق فإنه أمر ضروري
لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقي في الفرق الطبعي فيبقى متبعا لهواه لا مطيعا لمولاه
ولهذا لما وقعت هذه المسألة بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم الفرق الثاني وهو أن يفرق بين المأمور والمحظور وبين ما يحبه الله وما يكرهه مع شهوده للقدر الجامع فيشهد الفرق في القدر الجامع ومن لم يفرق بين المأمور والمحظور خرج عن دين الإسلام
وهؤلاء الذين يتكلمون في الجمع لا يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية وإن خرجوا عنه كانوا كفارا من شر الكفار وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود فلا يفرقون بين الخالق والمخلوق ولكن ليس كل هؤلاء ينتهون إلى هذا الإلحاد بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون الله ورسوله تارة كالعصاة من أهل القبلة وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن لفظ الدعوة والدعاء يتناول هذا وهذا قال الله تعالى * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * وفي الحديث أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله رواه ابن ماجة وابن أبي الدنيا وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته سماها دعوة لأنها تتضمن نوعي الدعاء فقوله لا إله إلا أنت اعتراف بتوحيد الإلهية وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء فإن الإله هو المستحق لأن يدعى دعاء عباده ودعاء مسألة وهو الله لا إله إلا هو
وقوله * (إني كنت من الظالمين) * اعتراف بالذنب وهو يتضمن طلب المغفرة فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب وتارة يسأل بصيغة الخبر إما يوصف حاله وإما بوصف حال المسؤول وإما بوصف الحالين كقول نوح عليه السلام * (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) * فهذا ليس صيغة طلب وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر
ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة وكذلك قول آدم عليه السلام * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * هو من هذا الباب ومن ذلك قول
361

موسى عليه السلام * (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) * فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الله إليه من الخير وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير إليه
وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين رواه الترمذي وقال حديث حسن ورواه مالك بن الحويرث وقال من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وأظن البيهقي رواه مرفوعا بهذا اللفظ
وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان
* أأذكر حاجتي أم قد كفاني
* حباؤك إن شيمتك الحباء
*
* إذا أثنى عليك المرء يوما
* كفاه من تعرضه الثناء
*
قال فهذا مخلوق يخاطب مخلوقا فكيف بالخالق تعالى
ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى عليه السلام اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان فهذا خبر يتضمن السؤال
ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلام * (أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) * فوصف نفسه ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره وهي صيغة خبر تضمنت السؤال وهذا من باب حسن الأدب في السؤال والدعاء فقول القائل لمن يعظمه ويرغب إليه أنا جائع أنا مريض حسن أدب في السؤال وإن كان في قوله أطعمني وداوني ونحو ذلك مما هو بصيغة الطلب طلب جازم من المسؤول فذاك فيه إظهار حاله وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب
وهذه الصيغة صيغة الطلب والاستدعاء إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك فإنها تقال على وجه الأمر إما لما في ذلك من حاجة الطالب وإما لما فيه من نفع المطلوب فأما إذا كانت من الفقير من كل وجهه للغني من كل وجه فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار وإظهار الحال
362

ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال وهو أبلغ من جهة العلم والبيان
وذلك أظهر من جهة القصد والإرادة فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني لأن الطالب السائل يتصور مقصوده ومراده فيطلبه ويسأله فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول وتصريح به باللفظ وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسؤول فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضى للسؤال والإجابة ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال فيتضمن السؤال والمقتضى له والإجابة كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم أخرجاه في الصحيحين
فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه وفيه بيان المقتضى للإجابة وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب
وكثير من الأدعية يتضمن بعض ذلك كقول موسى عليه السلام * (أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) * فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الإجابة وقوله * (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) * فيه وصف حال النفس والطلب وقوله * (إني لما أنزلت إلي من خير فقير) * فيه الوصف المتضمن للسؤال بالحال فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة
يبقى أن يقال فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب
فيقال لأن المقام مقام اعتراف بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي فأصل الشر هو الذنب والمقصود دفع الضر والاستغفار جاء بالقصد الثاني فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لاستشعاره أنه مسيء ظالم وهو الذي أدخل الضر على نفسه فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه ولم يذكر صيغة طلب المغفرة لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني بخلاف كشف الكرب فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصد الأول إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر فهذا مقدم في قصده وإرادته وأبلغ ما ينال به رفع سببه فجاء بما يحصل مقصوده
363

وهذا يتبين بالكلام على قوله * (سبحانك) * فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه والمقام يقتضي تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب يقول أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي قال تعالى * (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * وقال تعالى * (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) * وقال * (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) * وقال آدم عليه السلام * (ربنا ظلمنا أنفسنا) *
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الاستفتاح اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وفي صحيح البخاري سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعتمك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة
فالعبد عليه أن يعترف بعدل الله وإحسانه فإنه لا يظلم الناس شيئا فلا يعاقب أحدا إلا بذنبه وهو يحسن إليهم فكل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل
فقوله لا إله إلا أنت فيه إثبات انفراده بالإلهية والألهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ففيها إثبات إحسانه إلى العباد فإن الإله هو المألوه والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزمك أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل
وقوله * (سبحانك) * يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم وغيره من النقائص فإن التسبيح وإن كان يقال يتضمن نفي النقائص وقد روي في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول العبد سبحان الله إنها براءة الله من السوء فالنفي لا يكون مدحا إلا إذا تضمن ثبوتا وإلا فالنفي المحض لا مدح فيه ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله ولله الأسماء الحسنى
وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله كقوله تعالى * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) * فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته وقوله * (وما مسنا من لغوب) * يتضمن كمال قدرته ونحو ذلك فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء ونفي النقض عنه يتضمن تعظيمه ففي قوله
364

* (سبحانك) * تبرئته من الظلم وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم فإن الظالم إنما يظلم لحاجته إلى الظلم أو لجهله والله غني عن كل شيء عليم بكل شيء وهو غني بنفسه وكل ما سواه فقير إليه وهذا كمال العظمة
وأيضا ففي هذا الدعاء للتهليل والتسبيح فقوله * (لا إله إلا أنت) * تهليل وقوله * (سبحانك) * تسبيح وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الكلام أفضل قال ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وفي القرآن * (فسبح بحمد ربك) * وقالت الملائكة * (ونحن نسبح بحمدك) *
وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد والأخرى بالتعظيم فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص المتضمن إثبات المحاسن والكمال والحمد إنما يكون على المحاسن وقرن بين الحمد والتعظيم كما قرن بين الجلال والإكرام إذ ليس كل معظم محبوبا محمودا ولا كل محبوب محمودا معظما وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب المتضمن معنى الحمد وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن وفيها الذل له الناشئ عن عظمته وكبريائه ففي إجلاله وإكرامه وهو سبحانه المستحق للجلال والإكرام فهو مستحق غاية الإجلال وغاية الإكرام
ومن الناس من يحسب أن الجلال هو الصفات السلبية والإكرام الصفات الثبوتية كما ذكر ذلك الرازي ونحوه والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن يعظم كقوله * (إن الله هو الغني الحميد) * وكذلك قوله * (له الملك وله الحمد) * فإن كثيرا ممن يكون له الملك والغنى لا يكون محمودا بل مذموما إذ الحمد يتضمن الإخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة فيتضمن إخبارا بمحاسن المحبوب محبة له
وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك فالأول يهاب ويخاف ولا يحب وهذا يحب ويحمد ولا يهاب ولا يخاف والكمال اجتماع الوصفين كما ورد في الأثر أن المؤمن رزق حلاوة ومهابة وفي نعت النبي صلى الله عليه وسلم كان من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه
365

فقرن التسبيح بالتحميد وقرن التهليل بالتكبير كما في كلمات الأذان ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الآخر إذا أفرد فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم الإلهية فإن الإلهية تتضمن كونه محبوبا بل تتضمن أنه لا يستحق كمال الحب إلا هو والحمد هو الإخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق أن يجب فالإلهية تتضمن كمال الحمد ولهذا كان الحمد لله مفتاح الخطاب وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجدم وسبحان الله فيها إثبات عظمته كما قدمناه ولهذا قال * (فسبح باسم ربك العظيم) * وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم رواه أهل السنن وقال اما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فقمن أن يستجاب لكم رواه مسلم فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود والتسبيح يتضمن التعظيم
ففي قوله سبحان الله وبحمده إثبات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده وأما قوله لا إله إلا الله والله أكبر ففي لا إله إلا الله إثبات محامده فإنها كلها داخلة في إثبات إلهيته وفي قوله الله أكبر إثبات عظمته فإن الكبرياء تتضمن العظمة ولكن الكبرياء أكمل
ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول الله أكبر فإن ذلك أكمل من قول الله أعظم كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما عذبته فجعل العظمة كالإزار والكبرياء كالرداء ومعلوم أن الرداء أشرف فلما كان التكبير أبلغ من التعظيم صرح بلفظه وتضمن ذلك التعظيم وفي قوله سبحان الله صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم فصار كل من الكلمتين متضمنا معنى الكلمتين الأخريين إذا أفردتا وعند الاقتران تعطي كل كلمة خاصيتها
وهذا كما أن كل اسم من أسماء الله فإنه يستلزم معنى الآخر لكن هذا باللزوم وأما دلالة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة ودلالتها على أحدهما بالتضمن
فقول الداعي لا إله إلا أنت سبحانك يتضمن معنى الكلمات الأربع اللاتي هن أفضل الكلام بعد القرآن وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ففيها كمال المدح
وقوله * (إني كنت من الظالمين) * فيه اعتراف بحقيقة حاله وليس لأحد من العباد أن يبرئ نفسه عن هذا الوصف لا سيما في مقام مناجاته لربه وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى وقال من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب فمن ظن أنه خير من يونس بحيث يعلم أنه ليس
366

عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب ولهذا كان سادات الخلائق لا يفضلون أنفسهم على يونس في هذا المقام بل يقولون كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم
فصل
في بطلان الاحتجاج بقوله تعالى * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) *
سئل شيخ الإسلام حسنة الأيام أحد المجتهدين قامع المبتدعين تقي الدين أحمد بن عبد السلام ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي رضي الله عنه عن قوم يحتجون بالقدر ويقولون قد قضي الأمر من الذر فالسعيد سعيد والشقي شقي من الذر ويحتجون بقوله تعالى * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) * ويقولون ما لنا في جميع الأفعال قدرة وإنما القدرة لله تعالى قدر الخير والشر وكتبه علينا والمراد بيان خطأ هؤلاء بالأدلة القاطعة ويقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ويحتجون بالحديث الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم وإن زنا وإن سرق وبغير ذلك فما الجواب عن هذا جميعه أفتونا مأجورين
فأجاب نفعنا الله بعلومه الحمد لله رب العالمين هؤلاء القوم إذا صبروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى فإن النصارى واليهود يؤمنون بالأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب لكن حرفوا وبدلوا وآمنوا ببعض وكفروا ببعض كما قال تعالى * (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما) * فإذا كان من آمن ببعض وكفر ببعض فهو كافر حقا فكيف بمن كفر بالجميع ومن لم يقر بأمر الله ونهيه ووعده ووعيده بل ترك ذلك محتجا بالقدر فهو أكفر ممن آمن ببعض وكفر ببعض وقول هؤلاء يظهر بطلانه من وجوه
أحدها أن الواحد من هؤلاء إما أن يرى القدر حجة للعبد وإما أن لا يراه حجة للعبد فإن كان القدر حجة للعبد فهو حجة لجميع الناس فإنهم كلهم مشتركون في القدر
367

وحينئذ يلزمه أن لا ينكر على من يظلمه ويشتمه ويأخذ ماله ويفسد حريمه ويضرب عنقه ويهلك الحرث والنسل وهؤلاء جميعهم كذابون متناقضون فإن أحدهم لا يزال يذم هذا ويبغض هذا ويخالف هذا حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه وينكرون عليه فإذا كان القدر حجة لمن فعل المحرمات وترك الواجبات لزمهم أن لا يذموا أحدا ولا يبغضوا أحدا ولا يقولون عن أحد أنه ظالم ولو فعل ما فعل ومعلوم أن هذا لا يمكن أحدا فعله ولو فعل الناس هذا لهلك العالم فتبين أن قولهم فاسد في العقل كما أنه كفر في الشرع وأنهم كذابون مفترون في قولهم إن القدر حجة للعبد
الوجه الثاني أن هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون وقوم نوح وقوم هود وكل من أهلكه الله بذنوبه معذورين وهذا من الكفر الذي اتفق عليه أرباب الملل
الوجه الثالث أن هذا يلزم منه أن لا يفرق بين أولياء الله وأعداء الله ولا بين المؤمنين والكفار ولا أهل الجنة وأهل النار وقد قال تعالى * (وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات) * وقال تعالى * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) * وقال تعالى * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) * وذلك أن هؤلاء جميعهم سبقت لهم من الله تعالى السوابق وكتب الله تعالى مقاديرهم قبل أن يخلقهم وهم مع هذا قد انقسموا إلى سعيد بالإيمان والعمل الصالح وإلى شقي بالكفر والفسوق والعصيان فعلم بذلك أن القضاء والقدر ليس بحجة لأحد على معاصي الله تعالى
الوجه الرابع أن القدر نؤمن به ولا نحتج به فمن احتج بالقدر فحجته داحضة ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولا لقبل من إبليس وغيره من العصاة ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب الله أحدا من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة ولو كان القدر حجة لم يقطع سارق ولا قتل قاتل ولا أقيم حد على ذي جريمة ولا جوهد في سبيل الله ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر
الوجه الخامس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا فإنه قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة فقيل يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على
368

الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له رواه البخاري ومسلم وفي حديث آخر في الصحيح أنه قيل له يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون أفيما جفت به الأقلام وطويت به الصحف فقيل ففيم العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له
الوجه السادس أن يقال إن الله تعالى علم الأمور وكتبها على ما هي عليه فهو سبحانه قد كتب أن فلانا يؤمن ويعمل صالحا فيدخل الجنة وفلانا يفسق ويعصي فيدخل النار كما علم وكتب أن فلانا يتزوج امرأة ويطؤها فيأتيه ولد وأن فلانا يأكل ويشرب فيشبع ويروى وأن فلانا يبذر البذر فينبت الزرع فمن قال إن كنت من أهل الجنة فأنا أدخلها بلا عمل صالح كان قوله قولا باطلا متناقضا لما علمه الله وقدره ومثال من يقول أنا لا أطأ امرأة فإن كان الله قضى لي بولد فهو يولد فهذا جاهل فإن الله تعالى إذا قضى بالولد قضى أن أباه يطأ امرأة فتحبل وتلد فأما الولد بلا حبل ولا وطء فإن الله لم يقدره ولم يكتبه كذلك الجنة إنما أعدها الله تعالى للمؤمنين فمن ظن أنه يدخل الجنة بلا إيمان كان ظنه باطلا وإذا اعتقد أن الأعمال التي أمر الله بها لا يحتاج إليها ولا فرق بين أن يعملها أو لا يعملها كان كافرا والله قد حرم الجنة إلا على أصحابها
فصل وأما قوله تعالى * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * الآية فمن سبقت له من الله الحسنى فلا بد أن يصير مؤمنا تقيا فمن لم يكن من المؤمنين لم تسبق له من الله الحسنى لكن الله إذا سبقت للعبد منه سابقة استعمله بالعمل الذي يصل به إلى تلك السابقة كمن سبق له من الله تعالى أن يولد له ولد فلا بد أن يطأ امرأة يحبلها فإن الله سبحانه وتعالى قدر الأسباب والمسببات فسبق منه هذا وهذا فمن ظن أن أحدا سبق له من الله الحسنى بلا سبب فقد ضل بل هو سبحانه ميسر الأسباب والمسببات وهو قد قدر فيما مضى هذا وهذا
فصل ومن قال أن آدم عليه الصلاة والسلام ما عصى فهو مكذب للقرآن يستتاب فإن تاب وإلا قتل فإن الله تعالى قال * (وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه
وهدى) * والمعصية هي مخالفة الأمر الشرعي فمن خالف أمر الله الذي أرسل فيه رسله وأنزل به كتبه فقد عصاه وإن كان داخلا فيما قدره الله وقضاه وهؤلاء ظنوا أن المعصية هي الخروج عن قدر الله فإن لم تكن المعصية إلا هذا فلا يكون إبليس وفرعون وقوم نوح وقوم عاد وثمود وجميع الكفار عصاة أيضا لأنهم داخلون في قدر الله تعالى ثم قائل هذا يضرب ويهان فإذا تظلم ممن فعل ذلك به قيل له هذا الذي فعل هذا ليس هو بعاص لله
369

تعالى فإنه داخل في قدر الله عز وجل كسائر الخلق وقائل هذا القول متناقض لا يثبت على حال
فصل وأما قول القائل ما لنا في جميع أفعالنا قدرة فقد كذب فإن الله تعالى فرق بين المستطيع القادر وغير المستطيع وقال * (فاتقوا الله ما استطعتم) * وقال تعالى * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * وقال تعالى * (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) * والله تعالى قد أثبت للعبد مشيئة وفعلا كما قال تعالى * (لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) * وقال تعالى * (جزاء بما كانوا يعملون) * لكن الله سبحانه خالقه وخالق كل ما فيه من قدرة ومشيئة وعمل فإنه لا رب غيره ولا إله سواه وهو خالق كل شيء وربه ومليكه
فصل وأما قول القائل الزنا من المعاصي مكتوب فهو كلام صحيح لكن هذا لا ينفعه الاحتجاج به فإن الله تعالى كتب أفعال العباد خيرها وشرها وكتب ما يصيرون إليه من السعادة والشقاوة وجعل الأعمال سببا للثواب والعقاب وكتب ذلك كما كتب الأمراض وجعلها سببا للثواب والعقاب وكتب ذلك كما كتب الأمراض وجعلها سببا للمرض والموت فمن أكل السم فإنه يمرض أو يموت والله تعالى قدر وكتب هذا وهذا كذلك من فعل ما نهي عنه من الكفر والفسوق والعصيان فإنه فعل ما كتب عليه وهو مستحق لما كتبه الله من الجزاء لمن عمل ذلك وحجة هؤلاء بالقدر على المعاصي من جنس حجة المشركين الذين قال الله تعالى عنهم * (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم) * وقال تعالى * (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) *
370

454
فصل
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه ونور ضريحه في قوله تعالى * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) *
454

في طرده الكلام على ما يتعلق بهذه الآية وغيرها فقال وأما الجواب المفصل فمن ثلاثة أوجه
أحدها أن هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة في قول كثير من أهل العلم فروى هشيم عن العوام بن حوشب ثنا شيخ من بني كاهل قال فسر ابن عباس سورة النور فلما أتى على هذه الآية * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات) * إلى آخر الآية قال هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وهي مبهمة ليس فيها توبة ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * إلى قوله * (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) * فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة قال فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر
وقال أبو سعيد الأشج حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات) * نزلت في عائشة خاصة واللعنة في المنافقين عامة فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لابنها لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه فإن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيما ولهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت ودرأ الحد عنه باللعان ولم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال
ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف ولهذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين المنصوصتين عنه إلى أن من قذف امرأة غير محصنة كالأمة والذمية ولها زوج أو ولد محصن حد لقذفها لما ألحقه من العار بولدها وزوجها المحصنين والرواية الأخرى عنه وهي قول الأكثرين أنه لا حد عليه لأنه أذى لهما لا قذف لهما والحد التام إنما يجب بالقذف وفي جانب النبي صلى الله عليه وسلم بعيب أزواجه فهو منافق وهذا معنى قول ابن عباس اللعنة في المنافقين عامة
وقد وافق ابن عباس جماعة فروى الإمام أحمد والأشج عن خصيف قال سألت سعيد بن جبير فقلت الزنا أشد أو قذف المحصنة قال لا بل الزنا قال قلت فإن الله تعالى يقول * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة) *
455

فقال إنما كان هذا في عائشة خاصة وروى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة) * فقال إنما كان هذا في عائشة خاصة وروى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة) * قال هذه الآية لأمهات المؤمنين خاصة وروى الأشج بإسناده عن الضحاك في هذه الآية قال هن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقال معمر عن الكلبي إنما عنى بهذه الآية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأما من رمى امرأة من المسلمين فهو فاسق كما قال الله تعالى * (أو يتوب) *
ووجه هذا أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد القذف فتكون اللام في قوله * (المحصنات الغافلات المؤمنات) * لتعريف المعهود والمعهود هنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأن الكلام في قصة الإفك ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة أو يقصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك ويؤيد هذا القول أن الله
سبحانه رتب هذا الوعد على قذف محصنات غافلات مؤمنات وقال في أول السورة * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) * الآية فرتب الحدود والشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات فلا بد أن يكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات وذلك والله أعلم لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مشهود لهن بالإيمان لأنهن أمهات المؤمنين وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان ولأن الله سبحانه قال في قصة عائشة والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم فتخصيصه متولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم وقال * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم) * فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف وإنما يمس متولي كبره فقط وقال هنا * (ولهم عذاب عظيم) * فعلم أن الذي رمى أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم وتولى كبر الإفك وهذه صفة المنافق ابن أبي والله أعلم على هذا القول تكون هذه الآية حجة أيضا موافقة لتلك الآية لأنه لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم لعن صاحبه في الدنيا والآخرة ولهذا قال ابن عباس ليس فيها توبة لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته أو يريد إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاما جديدا وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة فإنه ما بغت امرأة نبي قط
456

وما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه عن أهل بيتي فوالله ما علمت على أهل بيتي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ لعمر الله لا تقتلنه ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين قالت فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت
وفي رواية أخرى صحيحة أن هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ويقول آخرون يعني أزواج المؤمنين عامة وقال أبو سلمة قذف المحصنات من الموجبات ثم قرأ * (إن الذين يرمون المحصنات) * الآية وعن عمر بن قيس قال قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة رواها الأشنج وهذا قول كثير من الناس ووجهه ظاهر الخطاب فإنه عام فيجب إجراؤه على عمومه إذ لا موجب لخصوصه وليس هو مختصا بنفس السبب بالاتفاق لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم داخل في العموم وليس هو من السبب ولأنه لفظ جمع والسبب في واحدة هنا ولأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك وقد علم أن شيئا منها لم يقصر على سببه والفرق بين الآيتين أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد ورد الشهادة والتفسيق وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه عن أصحابه أن قذف المحصنات من الكبائر وفي لفظ في الصحيح قذف المحصنات الغافلات المؤمنات
ثم اختلف هؤلاء فقال أبو حمزة الثمالي بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
457

مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا إنها خرجت تفجر فعلى يكون يكون فيمن قذف المؤمنات قذفا يصدهن به عن الإيمان ويقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام كما فعل كعب بن الأشرف وعلى هذا فمن فعل ذلك فهو كافر وهو بمنزلة من سب النبي صلى الله عليه وسلم
وقوله إنها نزلت زمن العهد يعني والله أعلم أنه عنى بها مثل أولئك المشركين المعاهدين وإلا فهذه الآية نزلت ليالي الإفك في غزوة بني المصطلق قبل الخندق والهدنة كانت بعد ذلك بسنتين
ومنهم من أجراها على ظاهرها وعمومها لأن سبب نزولها قذف عائشة وكان فيمن قذفها مؤمن ومنافق وسبب النزول لا بد أن يندرج في العموم ولأنه لا موجب لتخصيصها والجواب على هذا التقدير أنه سبحانه قال هنا * (لعنوا في الدنيا والآخرة) * على بناء الفعل للمفعول ولم يسم اللاعن وقال في الآية الأخرى * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) * وإذا لم يسم الفاعل جاز أن يلعنهم غير الله من الملائكة والناس وجاز أن يلعنهم الله في وقت ويلعنهم بعض خلقه في وقت وجاز أن الله يتولى لعنة بعضهم وهو من كان قذفه طعنا في الدين ويتولى خلقه لعنة الآخرين وإذا كان اللاعن مخلوقا فلعنه قد يكون بمعنى الدعاء عليهم وقد يكون بمعنى أنهم يبعدونهم عن رحمة الله
ويؤيد هذا أن الرجل إذا قذف امرأته تلاعنا وقال الزوج في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبا في القذف أن يلعنه الله كما أمر الله ورسوله أن يباهل من حاجة في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين فهذا مما يعلن به القاذف ومما يلعن به أن يجلد وأن ترد شهادته ويفسق فإنه عقوبة له وإقصاء له عن مواطن الأمن والقبول وهي من رحمة الله وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا والآخرة فإن لعنة الله توجب زوال النصر عنه من كل وجه وبعده عن أسباب الرحمة في الدارين
ومما يؤيد الفرق أنه قال * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) * ولم يجيء إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار كقوله * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) * وقوله * (وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا
مهينا) *
458

وقوله * (فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) * * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) * * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين) * * (وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) * * (وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين) * * (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين) *
وأما قوله تعالى * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) * فهي والله أعلم فيمن جحد الفرائض واستخف بها على أنه لم يذكر أن العذاب أعد له وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيدا للمؤمنين في قوله * (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) * وقوله * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم) * وفي المحارب * (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * وفي القاتل * (وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) * وقوله * (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) * وقد قال سبحانه * (ومن يهن الله فما له من مكرم) * وذلك لأن الإهانة إذلال وتحقير وخزي وذلك قدر زائد على ألم العذاب فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان فلما قال في هذه الآية * (وأعد لهم عذابا مهينا) * علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار والمنافقين ولما قال هناك * (ولهم عذاب عظيم) *
459

جاز أن يكون من جني العذاب في قوله * (لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم) *
ومما يبين به الفرق أيضا سبحانه قال هناك * (وأعد لهم عذابا مهينا) * والعذاب إنما أعد للكافرين فإن جهنم لهم خلقت لأنهم لا بد أن يدخلوها وما هم منها بمخرجين
وأهل الكبائر من المؤمنين يجوز أن يدخلوها إذا غفر الله لهم وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين قال سبحانه * (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) * فأمر سبحانه المؤمنين أن لا يأكلوا الربا وأن يتقوا الله وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي مع أنها معدة للكافرين لا لهم ولذلك جاء في الحديث أما أهل النار هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما أقوام لهم ذنوب فيصيبهم سفع من نار ثم يخرجهم الله منها
وهذا كما أن الجنة أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء وإن كان يدخلها الأبناء بعمل آبائهم ويدخلها قوم بالشفاعة وقوم بالرحمة وينشىء الله لما فضل منها خلقا آخر في الدار الآخرة فيدخلهم إياها وذلك لأن الشيء إنما يعد لمن يستوجبه ويستحقه ولمن أولى الناس به ثم قد يدخل معه غيره بطريق التبع أو لسبب آخر والله أعلم
460

فصل
اعتراض وجوابه
قال المعترض في أسماء الله الحسنى النور الهادي يجب تأويله قطعا إذ النور كيفية قائمة بالجسمية وهو ضد الظلمة وجل الحق سبحانه أن يكون له ضد ولو كان نورا لم تجز إضافته إلى نفسه في قوله * (مثل نوره) * فتكون إضافته الشيء إلى نفسه وهو غير جائز وقوله * (الله نور السماوات والأرض) * قال المفسرون يعني هادي أهل السماوات والأرض وهو ضعيف لأن ذكر الهادي بعده يكون تكرارا وقيل منور السماوات بالكواكب وقيل بالأدلة والحجج الباهرة والنور جسم لطيف شفاف فلا يجوز على الله والتأويل مروي عن ابن عباس وأنس وسالم وهذا يبطل دعواه أن التأويل يبطل الظاهر ولم ينقل عن السلف ولو كان نورا حقيقة كما يقوله المشبهة لوجب أن يكون الضياء ليلا ونهارا على الدوام
وقوله * (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) * ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن السراج المعروف وإنما سمي سراجا بالهدى الذي جاء به ووضوح أدلته بمنزلة السراج المنير
وروي عن ابن عباس في رواية أخرى وأبي العالية والحسن يعني منور السماوات والأرض شمسها وقمرها ونجومها ومن كلام العارفين النور هو الذي نور قلوب الصادقين بتوحيده ونور أسرار المحبين بتأييده وقيل هو الذي أحيا قلوب العارفين بنور معرفته ونفوس العابدين بنور عبادته
والجواب أن هذا الكلام وأمثاله ليس باعتراض علينا وإنما هو ابتداء نقص حرمته منهم لما يظن أنه يلزمنا أو يظن أنا نقوله على الوجه الذي حكاه وقد قال تعالى * (اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) *
470

وقال النبي صلى الله عليه وسلم
إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وإذا كان في الكلام إخبار عن الغير بأنه يقول أقوالا باطلة في العقل والشرع وفيه رد تلك الأقوال كان هذا كذبا وظلما فنعوذ بالله من ذلك ثم مع كونه ظلما لنا يا ليته كان كلاما صحيحا مستقيما فكنا نحلله من حقنا ويستفاد ما فيه من العلم ولكن فيه من تحريف كتاب الله والإلحاد في آياته وأسمائه والكذب والظلم والعدوان الذي يتعلق بحقوق الله مما فيه لكن عفونا عن حقنا فحق الله إليه لا إلى غيره
ونحن نذكر من القيام بحق الله ونصر كتابه ودينه ما يليق بهذا الموضع فإن هذا الكلام الذي ذكره فيه من التناقض والفساد ما لا أظن تمكنه من ضبطه من وجوه
أحدها أنه قال في أوله النور كيفية قائمة بالجسمية ثم قال في آخره جسم لطيف شفاف فذكر في أول الكلام أنه عرض وصفة في آخره جسم وهو جوهر قائم بنفسه
الثاني أنه ذكر عن المفسرين أنهم تأولوا ذلك بالهادي وضعف ذلك ثم ذكر في آخره أن من كلام العارفين أن النور هو الذي نور قلوب الصادقين بتوحيده وأسرار المحبين بتأييده وأحيا قلوب العارفين بنور معرفته وهذا هو معنى الهادي الذي ضعفه أولا فيضعفه أولا ويجعله من كلام العارفين وهي كلمة لها صولة في القلوب وإنما هو من كلام بعض المشايخ الذين يتكلمون بنوع من الوعظ الذي ليس فيه تحقيق فإن الشيخ أبا عبد الرحمن ذكر في تحقيق التفسير من الإشارات التي بعضها كلام حسن مستفاد
وبعضها مكذوب على قائله مفترى كالمنقول عن جعفر وغيره وبعضها من المنقول الباطل المردود فإن إشارات المشايخ وهي إشارتهم بالقلوب وذلك هو الذي امتازوا به وليس هذا موضعه وينقسم إلى الإشارات المتعلقة بالأقوال مثل ما يأخذونها من القرآن ونحوه فتلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص مثل الاعتبار والقياس الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام لكن هذا يستعمل في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال ودرجات الرجال ونحو ذلك فإن كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح كانت حسنة مقبولة وإن كانت كالقياس الضعيف كان لها حكمه وإن كان تحريفا للكلام على غير تأويله كانت من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية فتدبر هذا فإني قد أوضحت هذا في قاعدة الإشارات
الوجه الثالث في تناقضه فإن قال التأويل منقول عن ابن عباس وأنس وسالم ولم يذكر
471

إلا ثلاثة أقوال أحدها أنه هادي أهل السماوات والأرض وقد ضعف ذلك فإن كان المنقول هو هذا الضعيف فيا خيبة المسعى إذ لم ينقل عن السلف في جميع كلامه إلى هنا شيئا عن السلف إلا هذا الذي ضعفه وأوهاه وإن كان المنقول عن هؤلاء الثلاثة أنه منور السماوات بالكواكب كان متناقضا من وجه آخر وهو أنه قد ذكر فيما بعد أن هذا روي عن ابن عباس في رواية أخرى وأبي العالية والحسن أنه منورها بالشمس والقمر والنجوم وهذا يوجب أن يكون المنقول عن ابن عباس والاثنين أولا غير المنقول عنه في رواية أخرى وعمن ليس معه في الأولى وإن كان نوره بالحجج الباهرة والأدلة كان متناقضا فإن هذا هو معنى الهادي إذا نصبه للأدلة والحجج هي من هدايته وهو قد ضعف هذا القول فما أدري من أيهما العجب أم من حكايته القولين اللذين أحدهما داخل في معنى الآخر أم من تضعيفه لقول السائل الذي يوجب تضعيف الاثنين وهو لا يدري أنه قد ضعفهما جميعا
فيجب على الإنسان أن يعرف معنى الأقوال المنقولة ويعرف أن الذي يضعفه ليس هو الذي عظمه
الوجه الرابع أنه قد تبين أنه لم ينقل عن ابن عباس وأنس وسالم إلا القول الذي ضعفه أو ما يدخل فيه فإنه إن كان قولهم الهادي فقد صرح بضعفه وإن كان مقيم الأدلة فهو من معنى الهادي وإن كان المنور بالكواكب فقد جعله قولا آخر وإن كان ما ذكره عن بعض العارفين فهو أيضا داخل في الهادي وإذا كان قد اعترف بضعف ما حكاه عن ابن عباس وأنس وسالم لم يكن فيه حجة علينا
فتبين أن ما ذكره عن السلف إما أن يكون مبطلا في نقله أو مفتريا بتضعيفه وعلى التقديرين لا حجة علينا بذلك
الوجه الخامس أنه أساء الأدب على السلف إذ يذكر عنهم ما يضعفه وأظهر للناس أن السلف كانوا يتأولون ليحتج بذلك على التأويل في الجملة وهو قد اعترف بضعف هذا التأويل ومن احتج بحجة وقد ضعفها وهو لا يعلم أنه ضعفها فقد رمى نفسه بسهمه ومن رمى بسهم البغي صرع به والله لا يهدي القوم الظالمين
الوجه السادس قوله هذا يبطل دعواه أن التأويل دفع الظاهر ولم ينقل عن السلف فإن هذا القول لم أقله وإن كنت قلته فهو لم ينقل إلا ما عرف أنه ضعيف والضعيف لا يبطل شيئا فهذه الوجوه في بيان تناقضه وحكايته عنا ما لم نقله
وأما بيان فساد الكلام فنقول أما قوله يجب تأويله قطعا فلا نسلم أنه يجب تأويله ولا نسلم أن ذلك لو وجب قطعي بل جماهير المسلمين لا يتأولون هذا الاسم وهذا مذهب
472

السلفية وجمهور الصفاتية من أهل الكلام والفقهاء والصوفية وغيرهم وهو قول أبي سعيد بن كلاب ذكره في الصفات ورد على الجمهية تأويل اسم النور وهو شيخ المتكلمين الصفاتية الأشعرية الشيخ الأول وحكاه عنه أبو بكر ابن فورك في كتاب مقالات ابن كلاب والأشعرية ولم يذكرا تأويله إلا عن الجهمية المذمومين باتفاق وهو أيضا قول أبي الحسن الأشعري ذكره في الموجز
وأما قوله إن هذا ورد في الأسماء الحسنى فالحديث الذي ذكر فيه ذلك هو حديث الترمذي روى الأسماء الحسنى في جامعه من حديث الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ورواها ابن ماجة في سننه من طريق مخلد بن زياد القطواني عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كل منهما من كلام بعض السلف فالوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين كما جاء مفسرا في بعض طرق حديثه ولهذا اختلف أعيانهما عنه فروى عنه في إحدى الروايات من الأسماء بدل ما ذكر في الرواية الأخرى لأن الذين جمعوها قد كانوا يذكرون هذا تارة وهذا تارة واعتقدوا هم وغيرهم أن الأسماء الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة ليست شيئا معينا بل من أحصى تسعة وتسعين اسما من أسماء الله دخل الجنة أو أنها وإن كانت معينة فالاسمان اللذان يتفقان معناهما يقوم أحدهما مقام صاحبه كالأحد والواحد فإن في رواية هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم عنه رواها عثمان بن سعيد الأحد بل الواحد والمعطي بدل المغني وهما متقاربان وعند الوليد هذه الأسماء بعد أن روى الحديث عن خليد بن دعلج عن قتادة عن ابن سيرين عن أبي
473

هريرة ثم قال هشام وحدثنا الوليد حدثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك وقال كلها في القرآن * (هو الله الذي لا إله إلا هو) * مثل ما ساقها الترمذي لكن الترمذي رواها عن طريق صفوان بن صالح عن الوليد عن شعيب وقد رواها ابن أبي عاصم وبين ما ذكره هو والترمذي خلاف في بعض المواضع
وهذا كله مما يبين لك أنها من الموصول المدرج في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الطرق وليست من كلامه ولهذا جمعها قوم آخرون على غير هذا الجمع واستخرجوها من القرآن منهم سفيان بن عيينة والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم كما ذكرت ذلك فيما تكلمت به قديما على هذا وهذا كله يقتضي أنها عندهم مما يقبل البدل فإن الذي عليه جماهير المسلمين أن أسماء الله أكثر من تسعة وتسعين قالوا ومنهم الخطابي قوله
إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها التقييد بالعدد عائد إلى الأسماء الموصوفة بأنها هي هذه الأسماء فهذه الجملة وهي قوله
من أحصاها دخل الجنة صفة للتسعة والتسعين ليست جملة مبتدأة ولكن موضعها النصب ويجوز أن تكون مبتدأة والمعنى لا يختلف والتقدير إن لله أسماء بقدر هذا العدد من
أحصاها دخل الجنة كما يقول القائل إن مائة غلام أعددتهم للعتق وألف درهم أعددتها للحج فالتقييد بالعدد هو في الموصوف بهذه الصفة لا في أصل استحقاقه لذلك العدد فإنه لم يقل إن أسماء الله تسعة وتسعون
قال ويدل على ذلك قوله في الحديث الذي رواه أحمد في المسند
اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك فهذا يدل على أن لله أسماء فوق تسعة وتسعين يحصيها بعض المؤمنين
وأيضا فقوله
إن لله تسعة وتسعين تقييد بهذا العدد بمنزلة قوله تعالى * (عليها تسعة عشر) * فلما استقلوهم قال * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * فأن لا يعلم أسماءه إلا
474

هو أولى وذلك أن هذا لو كان قد قيل منفردا لم يفد النفي إلا بمفهوم العدد الذي هو دون مفهوم الصفة والنزاع فيه مشهور وإن كان المختار عندنا أن التخصيص بالذكر بعد قيام المقتضى للعموم يفيد الاختصاص بالحكم فإن العدول عن وجوب التعميم إلى التخصيص إن لم يكن للاختصاص بالحكم وإلا كان تركا للمقتضى بلا معارض وذلك ممتنع فقوله إن لله تسعة وتسعين قد يكون للتحصيل بهذا العدد فوائد غير الحصر ومنها ذكر أن إحصاءها يورث الجنة فإنه لو ذكر هذه الجملة منفردة وأتبعها بهذه منفردة لكان حسنا فكيف والأصل في الكلام الاتصال وعدم الانفصال فتكون الجملة الشرطية صفة لا ابتدائية فهذا هو الراجح في العربية مع ما ذكر من الدليل ولهذا قال إنه
وتر يحب الوتر ومحبته لذلك تدل على أنه متعلق بالإحصاء أي يجب أن يحصي من أسمائه هذا العدد وإذا كانت أسماء الله أكثر من تسعة وتسعين أمكن أن يكون إحصاء تسعة وتسعين اسما يورث الجنة مطلقا على سبيل البدل فهذا يوجه قول هؤلاء وإن كان كثيرا
وكثير من الناس من يجعلها أسماء معينة ثم من هؤلاء من يقول ليس إلا تسعة وتسعين اسما فقط وهو قول ابن حزم وطائفة والأكثرون منهم يقولون وإن كانت أسماء الله أكثر لكن الموعود بالجنة لمن أحصاها هي معينة وبكل حال فتعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة حديثه ولكن روي في ذلك عن السلف أنواع
من ذلك ما ذكره الترمذي ومنها غير ذلك فإذا عرف هذا فقوله في أسمائه الحسنى النور الهادي لو نازعه منازع في ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن له حجة ولكن جاء ذلك في أحاديث صحاح مثل قوله في الحديث الذي في الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول
اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن الحديث وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه أو قال رأيت نورا فالذي في القرآن والحديث الصحيح إضافة النور بقوله * (نور السماوات والأرض) * أو نور السماوات والأرض ومن فيهن
وأما قوله أن النور كيفية قائمة فنقول النور المخلوق محسوس لا يحتاج إلى بيان كيفية لكنه نوعان أعيان وأعراض فالأعيان هو نفس جرم النار حيث كانت نور السراج والمصباح
475

الذي في الزجاجة وغيره وهي النور الذي ضرب الله به المثل ومثل القمر فإن الله سماه نورا فقال * (جعل الشمس ضياء والقمر نورا) * ولا ريب أن النار جسم لطيف شفاف وأعراض مثل ما يقع من شعاع الشمس والقمر والنار على الأجسام الصقيلة وغيرها فإن المصباح إذا كان في البيت أضاء جوانب البيت فذلك النور والشعاع الواقع على الجدر والسقف والأرض هو عرض وهو كيفية قائمة بالجسم
وقد يقال ليس الصفة القائمة بالنار والقمر ونحوهما نورا فيكون الاسم على الجوهر تارة وعلى صفة أخرى ولهذا يقال لضوء النهار نور كما قال تعالى * (وجعل الظلمات والنور) * ومن هذا تسمية الليل ظلمة والنهار نورا فإنهما عرضان وقد قيل هما جوهران وليس هذا موضع بسط ذلك فتبين أن اسم النور يتناول هذين والمعترض ذكر أولا حد العرض وذكر ثانيا حد الجسم فتناقض وكأنه أخذ ذلك من كلامي ولم يهتدوا لوجه الجمع وكذلك اسم الحق يقع على ذات الله تعالى وعلى صفاته القدسية القديمة كقول النبي صلى الله عليه وسلم أنت الحق وقولك الحق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق
وأما قول المعترض النور ضد الظلمة وجل الحق أن يكون له ضد فيقال له لم تفهم معنى الضد المنفي عن الله فإن الضد يراد به ما يمنع ثبوت الآخر كما يقال في الأعراض المتضادة مثل السواد والبياض ويقول الناس الضدان لا يجتمعان ويمتنع اجتماع الضدين وهذا التضاد عند كثير من الناس لا يكون إلا في الأعراض وأما الأعيان فلا تضاد فيها فيمتنع عند هذا أن يقال لله ضد أوليس له ضد ومنهم من يقول يتصور التضاد فيها والله تعالى ليس له ضد يمنع ثبوته ووجوده بلا ريب بل هو القاهر الغالب الذي لا يغلب
وقد يراد بالضد المعارض لأمره وحكمه وإن لم يكن مانعا من وجود ذاته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره رواه أبو داود وتسمية المخالف لأمره وحكمه ضدا كتسميته عدوا وبهذا الاعتبار فالمعادون المضادون لله كثيرون فأما على التفسير الأول فلا ريب أنه ليس في نفس الأمر مضادا لله لكن المضاد يقع
476

في نفس الكافر فإن الباطل ضد الحق والكذب ضد الصدق فمن اعتند في الله ما هو منزه عنه كان هذا ضدا للإيمان الصحيح به
وأما قوله النور ضد الظلمة وجل الحق أن يكون له ضد فيقال له والحي ضد الميت والعليم ضد الجاهل والسميع والبصير والذي يتكلم ضد الأصم لأعمى الأبكم وهكذا
سائر ما سمى الله به من الأسماء لها أضداد وهو منزه عن أن يسمى بأضدادها فجل الله أن يكون ميتا أو عاجزا أو فقيرا ونحو ذلك
وأما وجود مخلوق له موصوف بضد صفته مثل وجود الميت والجاهل والفقير والظالم فهذا كثير بل غالب أسمائه لها أضداد موجودة في الموجودين ولا يقال لأولئك إنهم أضداد الله ولكن يقال إنهم موصوفون بضد صفات الله فإن التضاد بين إنما يكن في المحل الواحد لا في محلين فمن كان موصوفا بالموت ضادته الحياة ومن كان موصوفا بالحياة ضاده الموت والله سبحانه يمتنع أن يكون ظلمة أو موصوفا بالظلمة كما يمتنع أن يكون ميتا أو موصوفا بالموت فهذا المعترض أخذ لفظ الضد بالاشتراك ولم يميز بين الضد الذي يضاد ثبوته ثبوت الحق وصفاته وأفعاله وبين أن يكون في مخلوقاته ما هو موصوف بضد صفاته وبين ما يضاده في أمره ونهيه فالضد الأول هو الممتنع وأما الآخران فوجودهما كثير لكن لا يقال إنه ضد الله فإن المتصف بضد صفاته لم يضاده والذين قالوا النور ضد الظلمة قالوا يمتنع اجتماعهما في عين واحدة ولم يقولوا أنه يمتنع أن يكون شيء موصوف بأنه نور وشئ آخر موصوف بأنه ظلمة فليتدبر العاقل هذا التعطيل والتخطيط
وأما قوله لو كان نورا لم يجز إضافته إلى نفسه في قوله * (مثل نوره) * فالكلام عليه من طريقين أحدهما أن نقول النص في كتاب الله وسنة رسوله قد سمى الله نور السماوات والأرض وقد أخبر النص أن الله نور وأخبر أيضا أنه يحتجب بالنور فهذه ثلاثة أنوار في النص وقد تقدم ذكر الأول
وأما الثاني قوله * (وأشرقت الأرض بنور ربها) * وفي قوله * (مثل نوره) * وفيما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ومنه قوله
477

ص = في دعاء الطائف
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك رواه الطبراني وغيره ومنه قول ابن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه ومنه قوله ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه فهذا الحديث فيه ذكر حجابه فإن تردد الراوي في لفظ النار والنور لا يمنع ذلك فإن مثل هذه النار الصافية التي كلم بها موسى يقال لها نار ونور كما سمى الله نار المصباح نورا بخلاف النار المظلمة كنار جهنم فتلك لا تسمى نورا
فالأقسام ثلاثة إشراق بلا إحراق وهو النور المحض كالقمر وإحراق بلا إشراق وهي النار المظلمة وما هو نار ونور كالشمس ونار المصابيح التي في الدنيا توصف بالأمرين وإذا كان كذلك صح أن يكون نور السماوات والأرض وأن يضاف إليه النور وليس المضاف هو عين المضاف إليه
والطريق الثاني أن يقال هذا يرد عليكم لا يختص بمن يسميه بما سمى به نفسه وبينه فأنت إذا قلت هاد أو منور أو غير ذلك فالمسمى نورا هو الرب نفسه ليس هو النور المضاف إليه فإذا قلت هو الهادي فنوره الهدى جعلت أحد النورين عينا قائمة والآخر صفة فهكذا يقول من يسميه نورا وإذا كان السؤال يرد على القولين والقائلين كان تخصيص أحدهما بأنه مخالف ظلما ولددا في المحاجة أو جهلا وضلالا عن الحق
واما ما ذكره من الأقوال فلا ريب أن للناس فيها من الأقوال أكثر مما ذكره والموجود بأيدي الأمة من الروايات الصادقة والكاذبة والآراء المصيبة والمخطئة لا يحصيه إلا الله والكلام في تفسير أسماء الله وصفاته وكلامه فيه من الغث والسمين ما لا يحصيه إلا رب العالمين وإنما الشأن في الحق والعلم والدين
وقد كتبت قديما في بعض كتبي لبعض الأكابر أن العلم ما قام عليه الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول فالشأن في أن نقول علما وهو النقل والصدق والبحث المحقق فإن ما سوى ذلك وإن زخرف مثله بعض الناس خزف مزوق وإلا فباطل مطلق مثلما ذكره في هذه الآية وغيرها
478

وهذه الكتب التي يسميها كثير من الناس كتب التفسير فيها كثير من التفسير منقولات عن السلف مكذوبة عليهم وقول على الله ورسوله بالرأي المجرد بل بمجرد شبهة قياسية أو شبهة أدبية فالمفسرون الذين ينقل عنهم لم يسمهم ومع هذا فقد ضعف قولهم بالباطل فإن القوم فسروا النور في الآية بأنه الهادي ولم يفسروا النور في الأسماء الحسنى والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصح تضعيف قولهم بما ضعفه ونحن ما ذكرنا ذلك لبيان تناقضه وأنه لا يحتج علينا بشيء يروج على ذي لب فإن التناقض أول مقامات الفساد وهذا التفسير قد قاله طائفة من المفسرين
وأما كونه ثابتا عن ابن عباس أو غيره فهذا مما لم يثبته ومعلوم أن في كتب التفسير من النقل عن ابن عباس من الكذب شيء كثير من رواية الكلبي عن أبي صالح وغيره فلا بد من تصحيح النقل لتقوم الحجة فليراجع كتب التفسير التي يحرر فيها النقل مثل تفسير محمد بن جرير الطبري الذي ينقل فيه كلام السلف بالإسناد وليعرض عن تفسير مقاتل بقي بن مخلد الأندلسي وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الشامي وعبد بن حميد الكشي وغيرهم إن لم يصعد إلى تفسير الإمام إسحاق ابن راهويه وتفسير الإمام أحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة الذين هم أعلم أهل الأرض بالتفاسير الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين كما هو أعلم الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين في الأصول والفروع وغير ذلك من العلوم فأما أن يثبت أصلا يجعله قاعدة بمجرد رأي فهذا إنما ينفق على الجهال بالدلائل الأغشام في المسائل ومثل هذه المنقولات التي لا يميز صدقها من كذبها والمعقولات التي لا يميز صدقها من خطئها ضل من ضل من أهل المشرق في الأصول والفروع والفقه والتصوف
وما أحسن ما جاء هذا في آية النور التي قال الله تعالى فيها * (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) * نسأل الله يجعل لنا نورا
ثم نقول هذا القول الذي قاله بعض المفسرين في قوله * (الله نور السماوات والأرض) * أي هادي أهل السماوات لا يضرنا ولا يخالف ما قلناه فإنهم قالوه في تفسير الآية التي ذكر النور فيها مضافا لم يذكروه في تفسير نور مطلق كما ادعيت أنت من ورود الحديث به فأين هذا من هذا
ثم قول من قال من السلف هادي أهل السماوات والأرض لا يمنع أن يكون في نفسه نورا فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسر من الأسماء أو بعض أنواعه ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات المسمى بل قد يكونان متلازمين ولا دخول لبقية
479

الأنواع فيه وهذا قد قررناه غير مرة في القواعد المتقدمة ومن تدبره علم أن أكثر أقوال السلف في التفسير متفقة غير مختلفة
مثال ذلك قول بعضهم في الصراط المستقيم إنه الإسلام وقول آخر إنه القرآن وقول آخر إنه السنة والجماعة وقول آخر إنه طريق العبودية فهذه كلها صفات له متلازمة لا مباينة وتسميته بهذه الأسماء بمنزلة تسمية القرآن والرسول بأسمائه بل بمنزلة أسماء الله الحسنى
ومثال الثاني قوله تعالى * (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) * فذكر منهم صنفا من الأصناف والعبد يعم الجميع فالظالم لنفسه المخل ببعض الواجب والمقتصد القائم به والسابق المتقرب بالنوافل بعد الفرائض وكل من الناس يدخل في هذا بحسب طريقه والتفسير والترجمة ببيان النوع والجنس ليقرب الفهم على المخاطب كما قال الأعجمي ما الخبز فقيل له هذا وأشير إلى الرغيف فالغرض الجنس لا هذا الشخص فهكذا تفسير كثير من السلف وهو من جنس التعليم فقول من قال نور السماوات والأرض هادي أهل السماوات والأرض كلام صحيح فإن من معاني كونه نور السماوات والأرض أن يكون هاديا لهم أما أنهم نفوا ما سوى ذلك فهذا غير معلوم وأما أنهم أرادوا ذلك فقد ثبت عن ابن مسعود أنه قال إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه وقد تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر وجهه وفي رواية النور ما فيه كفاية فهذا بيان معنى غير الهداية وقد أخبر الله في كتابه أن الأرض تشرق بنور ربها فإذا كانت تشرق من نوره كيف لا يكون هو نورا ولا يجوز أن يكون هذا النور المضاف إليه إضافة خلق وملك واصطفاء كقوله * (ناقة الله) * ونحو ذلك من الوجوه
أحدها أن النور لم يضف قط إلى الله إذا كان صفة لأعيان قائمة فلا يقال في المصابيح إنها نور الله ولا في الشمس والقمر وإنما يقال كما قال عبد الله بن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه وفي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة
الثاني أن الأنوار المخلوقة كالشمس والقمر تشرق لها الأرض في الدنيا وليس من نور إلا هو خلق من خلق الله وكذلك من قال منور السماوات والأرض لا ينافي أنه نور وكل
480

منور نور فهما متلازمان ثم إن الله تعالى ضرب مثل نوره الذي في قلوب المؤمنين بالنور الذي في المصباح وهو في نفسه نور وهو منور لغيره فإذا كان نوره في القلوب هو نور وهو منور فهو في نفسه أحق بذلك وقد علم أن كل ما هو نور فهو منور
وأما قول من قال معناه منور السماوات بالكواكب فهذا إن أراد به قائله أن ذلك من معنى كونه نور السماوات والأرض وليس له معنى إلا هذا فهو مبطل لأن الله أخبر أنه نور السماوات والأرض والكواكب لا يحصل نورها في جميع السماوات والأرض وأيضا فإنه قال * (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) * فضرب المثل لنوره الموجود في قلوب المؤمنين نور الإيمان والعلم المراد من الآية لم يضربها على النور الحسي الذي يكون للكواكب وهذا هو الجواب عما رواه عن ابن عباس في رواية أخرى وأبي العالية والحسن بعد المطالبة بصحة النقل والظن ضعفه عن ابن عباس لأنهم جعلوا ذلك من معاني النور أما أن يقولوا قوله * (الله نور السماوات والأرض) * ليس معناه إلا التنوير بالشمس والقمر والنجوم فهذا باطل قطعا
وقد قال صلى الله عليه وسلم
أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ومعلوم أن العميان لاحظ لهم في ذلك ومن يكون بينه وبين ذلك حجاب لاحظ له في ذلك والموتى لا نصيب لهم من ذلك وأهل الجنة لا نصيب لهم من ذلك فإن الجنة ليس فيها شمس ولا قمر كيف وقد روي أن أهل الجنة يعلمون الليل والنهار بأنوار تظهر من العرش مثل ظهور الشمس لأهل الدنيا فتلك الأنوار خارجة عن الشمس والقمر
وأما قوله قد قيل بالأدلة والحجج فهذا بعض معنى الهادي وقد تقدم الكلام على قوله هذا يبطل قوله أن التأويل دفع للظاهر ولم ينقل عن السلف فإن هذا الكلام مكذوب علي وقد ثبت تناقض صاحبه وأنه لم يذكر عن السلف إلا ما اعترف بضعفه
وأما الذي أقوله الآن وأكتبه وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي وإنما أقوله في كثير من المجالس إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه أول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء
481

كثير وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في قوله تعالى * (يوم يكشف عن ساق) * فروي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيين ولا ريب أن ظاهر القرآن يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال * (يوم يكشف عن ساق) * نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله ولم يقل عن ساقه فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر ومثل هذا ليس بتأويل إنما
التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف ولكن كثيرا من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولا له ثم يريدون صرفه عنه ويجعلون هذا تأويلا وهذا خطأ من وجهين كما قدمنا غير مرة
وأما قوله لو كان نورا حقيقة كما تقوله المشبهة لوجب أن يكون الضياء ليلا ونهارا على الدوام فنحن نقول بموجب ما ذكره من هذا القول فإن المشبهة يقولون إنه نور كالشمس والله تعالى ليس كمثله شيء فإنه ليس كشيء من الأنوار كما أن ذاته ليست كشيء من الذوات لكن ما ذكره له حجة عليهم فإنه يمكن أن يكون نورا يحجبه عن خلقه كما قال في الحديث حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه
لكن غلط هنا في النقل وهو إضافة هذا القول إلى المشبهة فإن هذا من أقوال الجهمية المعطلة أيضا كالمريسي فإنه كان يقول إنه نور وهو كبير الجهمية وإن كان قصده بالمشبهة من أثبت أن الله نور حقيقة فالمثبتة للصفات كلهم عنده مشبهة وهذه لغة الجهمية المحضة يسمون كل من أثبت الصفات مشبها فقد قدمنا أن ابن كلاب والأشعري وغيرهما ذكرا أن نفي كونه نورا في نفسه هو قول الجهمية والمعتزلة وأنهما أثبتا أنه نور وقررا ذلك هما وأكابر أصحابهما فكيف بأهل الحديث وأئمة السنة وأول هؤلاء المؤمنين بالله وبأسمائه
482

وصفاته ورسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا السؤال الذي عارض به المعترض فقال صلى الله عليه وسلم
حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه فأخبر أنه حجب عن المخلوقات بحجابه النور أن تدركها سبحات وجهه وأنه لو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه فهذا الحجاب عن إحراق السبحات يبين ما يراد في هذا المقام
وأما ما ذكره عن ابن عباس في روايته الأخرى فمعناه بعض الأنوار الحسية وما ذكره من كلام العارفين فهو بعض معاني هدايته لعباده وإنما ذلك تنويع بعض الأنواع بحسب حاجة المخاطبين كما ذكرناه من عادة السلف أن يفسرها بذكر بعض الأنواع يقع على سبيل التمثيل لحاجة المخاطبين لا على سبيل الحصر والتحديد فقد تبين أن جميع ما ذكر من الأقوال يرجع إلى معنيين من معاني كونه نور السماوات والأرض وليس في ذلك دلالة على أنه في نفسه ليس بنور
483

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة غافر
فصل
قوله تعالى * (ادعوني أستجب لكم) *
سئل شيخ الإسلام فقيل له
قوله إذا جف القلم بما هو كائن فما معنى قوله * (ادعوني أستجب لكم) * وإن كان الدعاء أيضا مما هو كائن فما فائدة الأمر به ولا بد من وقوعه
فيقال الدعاء في اقتضائه الإجابة كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة وكسائر الأسباب في اقتضائه المسببات ومن قال إن الدعاء علامة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسؤول ليس بسبب أو هو عبادة محضة لا أثر له في حصول المطلوب وجودا ولا عدما بل ما يحصل بالدعاء يحصل بدونه فهما قولان ضعيفان فإن الله علق الإجابة به تعليق المسبب بالسبب كقوله * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى خصال ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له من الخير مثلها وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها قالوا يا رسول الله إذا نكثر قال الله أكثر فعلق العطايا بالدعاء تعليق الوعد والجزاء بالعمل المأمور به وقال عمر بن الخطاب إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه وأمثال ذلك كثير
وأيضا فالواقع المشهود يدل على ذلك وبينه كما يدل على ذلك مثله في سائر أسباب وقد أخبر سبحانه من ذلك ما أخبر به في مثل قوله * (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون) * وقوله تعالى
517

* (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) * وقوله * (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) * وقوله تعالى عن زكريا * (رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه) * وقال تعالى * (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) * وقال تعالى * (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص) *
فأخبر أنه إن شاء أوبقهن فاجتمع أخذهم بذنوبهم وعفوه عن كثير منها مع علم المجادلين في آياته أنه ما لهم من محيص لأنه في مثل هذا الحال يعلم المورد للشبهات في الدلائل الدالة على ربوبية الرب وقدرته ومشيئته ورحمته أنه لا مخلص له مما وقع فيه كقوله في الآية الأخرى * (وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) *
فإن المعارف التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية أثبت وأرسخ من المعارف التي ينتجها مجرد النظر القياسي الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال هل الرب موجب بذاته فلا يكون هو المحدث للحوادث ابتداء ولا يمكنه أن يحدث شيئا ولا يغير العالم حتى يدعى ويسأل وهل هو عالم بالتفصيل والإجمال وقادر على تصريف الأحوال حتى يسأل التحويل من حال إلى حال أوليس كذلك كما يزعمه من المتفلسفة وغيرهم من الضلال فيجتمع مع العقوبة والعفو من ذي الجلال علم أهل المراء
والجدال أنه لا محيص لهم عما أوقع بمن جادلوا في آياته وهو شديد المحال وقد تكلمنا على هذا وأشباهه وما يتعلق به من المقالات والديانات في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يعلم أن الدعاء والسؤال هو سبب لنيل المطلوب المسؤول ليس وجوده كعدمه في ذلك ولا هو علامة محضة كما دل عليه الكتاب والسنة وإن كان قد نازع في ذلك طوائف من أهل القبلة وغيرهم مع أن ذلك يقربه جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين لكن طوائف من المشركين والصابئين من المتفلسفة المشائين اتباع
518

أرسطو ومن تبعه من متفلسفة أهل الملل كالفارابي وابن سينا ومن سلك سبيلهما ممن خلط ذلك بالكلام والتصوف والفقه ونحو هؤلاء يزعمون أن تأثير الدعاء في نيل المطلوب كما يزعمونه في تأثير سائر الممكنات المخلوقات من القوى الفلكية والطبيعية والقوى النفسانية والعقلية فيجعلون ما يترتب على الدعاء هو من تأثير النفوس البشرية من غير أن يثبتوا للخالق سبحانه بذلك علما مفصلا أو قدرة على تغيير العالم أو أن يثبتوا أنه لو شاء أن يفعل غير ما فعل لأمكنه ذلك فليس هو عندهم قادرا على إن يجمع عظام الإنسان ويسوي بنانه وهو سبحانه هو الخالق لها ولقواها فلا حول ولا قوة إلا بالله
أما قوله وإن كان الدعاء مما هو كائن فما فائدة الأمر به ولا بد من وقوعه فيقال الدعاء المأمور به لا يجب كونا بل إذا أمر الله العباد بالدعاء فمنهم من يطيعه فيستجاب له دعاؤه وينال طلبته ويدل ذلك على أن المعلوم المقدور هو الدعاء والإجابة ومنهم من يعصيه فلا يدعو فلا يحصل ما علق بالدعاء فيدل ذلك على أنه ليس في المعلوم المقدور الدعاء ولا الإجابة فالدعاء الكائن هو الذي تقدم العلم بأنه كائن والدعاء الذي لا يكون هو الذي تقدم العلم بأنه لا يكون
فإن قيل فما فائدة الأمر فيما علم أنه يكون من الدعاء قيل الأمر هو سبب أيضا في امتثال المأمور به كسائر الأسباب فالدعاء سبب يدفع البلاء فإذا كان أقوى منه دفعه وإن كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه لكن يخففه ويضعفه ولهذا أمر عند الكسوف والآيات بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق والله أعلم
519

527
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الذاريات
فصل
سئل شيخ الإسلام عن قوله تعالى * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * فقال رحمه الله
قال السائل قوله تعالى * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * إن كانت هذه اللام للصيرورة في عاقبة الأمر فما صار ذلك وإن كانت اللام للغرض لزم أن لا يتخلف أحد من المخلوقين عن عبادته وليس الأمر كذلك فما التخلص من هذا المضيق
فيقال هذه اللام ليست هي اللام التي يسميها النحاة لام العاقبة والصيرورة ولم يقل ذلك أحد هنا كما ذكره السائل من أن ذلك لم يصر إلى علي قول من يفسر يعبدون بمعنى يعرفون يعني المعرفة التي أمر بها المؤمن والكافر لكن هذا قول ضعيف وإنما زعم بعض الناس ذلك في قوله * (ولذلك خلقهم) * التي في آخر سورة هود فإن بعض القدرية زعم أن تلك اللام لام العاقبة والصيرورة أي صارت عاقبتهم إلى الرحمة وإلى الاختلاف وإن لم يقصد ذلك الخالق وجعلوا ذلك كقوله * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * وقول الشاعر
* لدوا للموت وابنوا للخراب
*
وهذا أيضا ضعيف هنا لأن لام العاقبة إنما تجيء في حق من لا يكون عالما بعواقب الأمور
527

ومصايرها فيفعل الفعل الذي له عاقبة لا يعلمها كآل فرعون فأما من يكون عالما بعواقب الأفعال ومصايرها فلا يتصور منه أن يفعل فعلا له عاقبة لا يعلم عاقبته وإذا علم أن فعله له عاقبة فلا يقصد بفعله ما يعلم أنه لا يكون فإن ذلك تمن وليس بإرادة
وأما اللام فهي اللام المعروفة وهي لام كي ولام التعليل التي إذا حذفت انتصب المصدر المجرور بها على المفعول له وتسمى العلة الغائية وهي متقدمة في العلم والإرادة متأخرة في الوجود والحصول وهذه العلة هي المراد المطلوب المقصود من الفعل
لكن ينبغي أن يعرف أن الإرادة في كتاب الله على نوعين
أحدهما الإرادة الكونية وهي الإرادة المستلزمة لوقوع المراد التي يقال فيها ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذه الإرادة في مثل قوله * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) * وقوله * (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) * وقال تعالى * (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) * وقال تعالى * (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) * وأمثال ذلك وهذه الإرادة هي مدلول اللام في قوله * (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) *
قال السلف خلق فريقا للاختلاف وفريقا للرحمة ولما كانت الرحمة هنا الإرادة وهناك كونية وقع المراد بها فقوم اختلفوا وقوم رحموا
وأما النوع الثاني فهو الإرادة الدينية الشرعية وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاهم بالحسنى كما قال تعالى * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * وقوله تعالى * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) * وقوله * (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم
ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) *
528

فهذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد إلا أن يتعلق به النوع الأول من الإرادة ولهذا كانت الأقسام أربعة
أحدها ما تعلقت به الإرادتان وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة فإن الله إرادة إرادة دين وشرع فأمر به وأحبه ورضيه وأراده إرادة كون فوقع ولولا ذلك لما كان
والثاني ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار فتلك كلها إرادة دين وهو يحبها ويرضاها لو وقعت ولو لم تقع
والثالث ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
والرابع ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي وإذا كان كذلك فمقتضى اللام في قوله * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * هذه الإرادة الدينية الشرعية وهذه قد يقع مرادها وقد لا يقع فهو العمل الذي خلق العباد له أي هو الذي يحصل كمالهم وصلاحهم الذي به يكونون مرضيين محبوبين فمن لم تحصل منه هذه الغاية كان عادما لما يحب ويرضى ويراد له الإرادة الدينية التي فيها سعادته ونجاته وعادما لكماله وصلاحه العدم المستلزم فساده وعذابه وقول من قال العبادة هي العزيمة أو الفطرية فقولان ضعيفان فاسدان يظهر فسادهما من وجوه متعددة
والله أعلم
تم الجزء الرابع وبه تم الكتاب والحمد لله رب العالمين
واللهم اجعله لنا لا علينا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم آمين
529