الكتاب: تفسير الثعالبي
المؤلف: الثعالبي
الجزء: ٥
الوفاة: ٨٧٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الدكتور عبد الفتاح أبو سنة - الشيخ علي محمد معوض - والشيخ عادل أحمد عبد الموجود
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي ، مؤسسة التاريخ العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

تفسير الثعالبي
الجزء الخامس
1

تفسير الثعالبي
المسمى
بالجواهر الحسان في تفسير القرآن
للامام عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي
(786 - 875 ه‍)
حقق أصوله أربع نسخ وعلق عليه وخرج أحاديثه
الشيخ علي محمد معوض
والشيخ عادل احمد عبد الموجود
وشارك في تحقيقه
الأستاذ الدكتور عبد الفتاح أبو سنة
خبير التحقيق بجميع البحوث الاسلامية
وعضو المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية
وعضو لجنة المصحف بالأزهر الشريف
الجزء الخامس
دار احياء التراث العربي - مؤسسة التاريخ العربي
بيروت - لبنان
3

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة
لدار احياء التراث العربي
بيروت - لبنان
الطبعة الأولى
1418 ه‍ - 1997 م
4

تفسير سورة يس
وهي مكية باجماع
إلا أن فرقة قالت إن قوله تعالى: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) نزلت في بني سلمة
حين أرادوا أن ينتقلوا إلى جوار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وورد في فضل يس آثار عديدة فعن
معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قلب القرآن يس لا يقرؤها رجل يريد الله والدار
الآخرة إلا غفر له اقرؤوها على موتاكم " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم في
المستدرك وهذا لفظ النسائي وهو عند الباقين مختصر انتهى من السلاح
بسم الله الرحمن الرحيم قوله عز وجل
(يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين) قد تقدم الكلام في
الحروف المقطعة ويختص هذا الموضع بأقوال منها أن ابن جبير قال: يس اسم من
أسماء محمد عليه السلام وقال ابن عباس معناه يا انسان بالحبشية
وقال أيضا هو بلغة طئ وقال قتادة " يس " قسم والصراط الطريق
والمعنى إنك على طريق هدى ومهيع رشاد واختلف المفسرون في قوله تعالى
5

(ما أنذر آباؤهم) فقال عكرمة " ما " بمعنى الذي والتقدير: الشئ الذي أنذر آباؤهم
من النار والعذاب ويحتمل أن تكون " ما " مصدرية على هذا القول ويكون الآباء هم
الأقدمون على مر الدهر
وقوله (فهم) مع هذا التأويل بمعنى فإنهم دخلت الفاء لقطع الجملة من
الجملة وقال قتادة " ما " نافية فالآباء على هذا هم الأقربون منهم وهذه الآية كقوله
تعالى (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) [سبأ: 44] وهذه النذارة المنفية هي نذارة
المباشرة كما قدمنا و (حق القول) معناه وجب العذاب وسبق القضاء به وهذا فيمن
لم يؤمن من قريش كمن قتل ببدر وغيرهم
وقوله تعالى (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا...) الآية
قال مكي: قيل هي حقيقة في الآخرة إذا دخلوا النار
وقال ابن عباس وغيره: الآية استعارة لحال الكفرة الذين أرادوا النبي صلى الله عليه وسلم بسوء
فجعل الله هذه مثلا لهم في كفه إياهم عنه ومنعهم من إذايته حين بيتوه.
وقالت فرقة: الآية مستعارة المعاني من منع الله تعالى إياهم من الإيمان وحوله
بينهم وبينه وهذا أرجح الأقوال و " الغل " ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق
والتعذيب
وقوله " فهي " يحتمل أن تعود على الأغلال أي هي عريضة تبلغ بحرفها
الأذقان والذقن: مجتمع اللحيين فتضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء وذلك هو
الإقماح وهو نحو الإقناع في الهيئة
6

قال قتادة: المقمح الرافع رأسه ويحتمل - وهو قول الطبري - أن تعود
(هي) على الأيدي وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين وروي أن في مصحف
ابن مسعود وأبي " إنا جعلنا في أيمانهم " وفي بعضها " في أيديهم " وأرى الناس
علي بن أبي طالب الإقماح فجعل يديه تحت لحييه وألصقهما ورفع رأسه وقرأ
الجمهور " سدا " بضم السين في الموضعين - وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما " سدا "
- بفتح السين - فقيل: هما بمعنى أي حائلا يسد طريقهم وقال عكرمة ما كان مما
يفعله البشر فهو بالضم وما كان خلقة فهو بالفتح ومعنى الآية: إن طريق الهدى سد
دونهم
وقوله تعالى (إنما تنذر من اتبع الذكر...) الآية " إنما " ليست للحصر هنا بل
هي على جهة تخصيص من ينفعه الإنذار " واتباع الذكر " هو العمل بما في كتاب الله
والاقتداء به قال قتادة الذكر القرآن
وقوله (بالغيب) أي بالخلوات عند مغيب الانسان عن أعين البشر ثم أخبر
تعالى الموتى ردا على الكفرة ثم توعدهم بذكر كتب الآثار وإحصاء كل شئ
وكل ما يصنعه الانسان فيدخل فيما قدم ويدخل في آثاره لكنه سبحانه ذكر الأمر من
الجهتين ولينبه على الآثار التي تبقى وتذكر بعد الانسان من خير وشر.
7

وقال جابر بن عبد الله وأبو سعيد: أن هذه الآية نزلت في بني سلمة على ما
تقدم وقول النبي عليه السلام لهم " ديارك تكتب آثاركم " والإمام المبين: قال قتادة
وابن زيد هو اللوح المحفوظ وقالت فرقة: أراد صحف الأعمال.
وقوله تعالى (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية...) الآية روي عن ابن عباس
والزهري وعكرمة أن القرية هنا هي أنطاكية واختلف في هؤلاء المرسلين فقال قتادة
وغيره كانوا من الحواريين الذين بعثهم عيسى حين رفع وصلب الذي ألقي عليه شبهه
فتفرق الحواريين في الآفاق فقص الله تعالى هنا قصة الذين نهضوا إلى أنطاكية
وقالت فرقة بل هؤلاء أنبياء من قبل الله عز وجل
8

قال (ع) وهذا يرجحه قول الكفرة " ما أنتم إلا بشر مثلنا " فإنها محاورة إنما
تقال لمن ادعى الرسالة من الله تعالى والآخر محتمل وذكر المفسرون في قصص الآية
أشياء يطول ذكرها والصحة فيها غير متيقنة فاختصرته واللازم من الآية أن الله تعالى بعث
إليها رسولين فدعيا أهل القرية إلى عبادة الله وتوحيده فكذبوهما فشدد الله أمرهما
بثالث وقامت الحجة على أهل القرية وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى وقتلوه في
آخر أمره وكفروا وأصابتهم صيحة من السماء فخمدوا وقرأ الجمهور " فعززنا " بشد
الزاي على معنى قوينا وشددنا وبهذا فسره مجاهد وغيره وهذه الأمة أنكرت
النبوءات بقولها (وما أنزل الرحمن من شئ) قال بعض المتأولين لما كذب أهل القرية
المرسلين أسرع فيهم الجذام
وقال مقاتل احتبس عنهم المطر فلذلك قالوا (إنا تطيرنا بكم) أي تشاءمنا
بكم والأظهر أن تطير هؤلاء إنما كان بسبب ما دخل قريتهم من اختلاف كلمتهم وافتتان
الناس.
وقوله (أئن ذكرتم) جوابه محذوف أي تطيرتم قاله أبو حيان وغيره
انتهى وقولهم عليهم السلام (طائركم معكم) معناه حظكم وما صار لكم من خير
وشر معكم أي: من أفعالكم ومن تكسباتكم ليس هو من أجلنا وقرأ حمزة والكسائي
وابن عامر " أإن ذكرتم " بهمزتين الثانية مكسورة وقرأ نافع وغيره بتسهيل الثانية
وردها ياء أين ذكرتم وأخبر تعالى عن حال رجل جاء من أقصى المدينة يسعى سمع
المرسلين وفهم عن الله تعالى فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم إذ هو
9

الحق فروي عن ابن عباس وغيره أن اسم هذا الرجل حبيب وكان نجارا وكان فيما
قال وهب بن منبه قد تجذم
وقيل كان في غار يعبد ربه فقال: (يا قوم اتبعوا المرسلين...) الآية وذكر
الناس في أسماء الرسل صادق وصدوق وشلوم وغير هذا والله أعلم بصحته
واختلف المفسرون في قوله " فاسمعون " فقال ابن عباس وغيره خاطب بها قومه
أي على جهة المبالغة والتنبيه
وقيل خاطب بها الرسل على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم
قال (ع) وهنا محذوف تواترت به الأحاديث والروايات وهو أنهم قتلوه فقيل
له عند موته (ادخل الجنة) فلما أقر الله عينه بما رأى من الكرامة قال (يا ليت قومي
يعلمون...) الآية قيل: أراد بذلك الإشفاق والنصح لهم أي لو علموا ذلك لآمنوا
بالله تعالى وقيل أراد أن يعلموا ذلك فيندموا له على فعلهم به ويخزيهم ذلك وهذا
موجود في جبلة البشر إذا نال الشخص عزا وخيرا في أرض غربة ودان يعلم ذلك جيرانه
وأترابه الذين نشأ فيهم كما قيل: [السريع]
العز مطلوب وملتمس... وأحبه ما نيل في الوطن
قال (ع) والتأويل الأول أشبه بهذا العبد الصالح وفي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم
" نصح قومه حيا وميتا " وقال قتادة نصحهم على حالة الغضب والرضا وكذلك لا تجد
المؤمن إلا ناصحا للناس
10

وقوله تعالى (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند...) الآية مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم
فيها توعد لقريش وتحذير أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بقوم حبيب النجار
قال مجاهد لم ينزل الله عليهم من جند أراد أنه لم يرسل إليهم رسولا ولا
استعتبهم قال قتادة والله ما عاتب الله قومه بعد قتله حتى أهلكهم.
وقال ابن مسعود: أراد لم يحتج في تعذيبهم إلى جند بل كانت صيحة واحدة
لأنهم كانوا أيسر وأهون من ذلك واختلف في قوله تعالى: (وما كنا منزلين) فقالت
فرقة " ما " نافية وقالت فرقة " ما " عطف على جند أي من جند ومن الذي كنا منزلين
على الأمم مثلهم قبل ذلك و " خامدون " محمد أي ساكنون موتى
وقوله تعالى (يا حسرة) الحسرة التلهف وذلك أن طباع كل بشر توجب عند
سماع حالهم وعذابهم على الكفر وتضييعهم أمر الله أن يشفق ويتحسر على العباد
وقال الثعلبي قال الضحاك إنها حسرة الملائكة على العباد في تكذيبهم الرسل وقال
ابن عباس حلوا محل من يتحسر عليه انتهى وقرأ الأعرج وأبو الزناد ومسلم بن
جندب (يا حسرة) بالوقف على الهاء وهو أبلغ في معنى التحسر والتشفيق وهز
النفس
وقوله تعالى: (ما يأتيهم من رسول...) الآية تمثيل لفعل قريش وإياهم عني
11

بقوله (ألم يروا كم أهلكنا) كان وقرأ جمهور الناس " لما جميع " بتخفيف الميم وذلك
على زيادة " ما " للتأكيد والمعنى لجميع وقرأ عاصم والحسن وابن جبير " لما " بشد
الميم قالوا: هي بمنزلة " إلا " (ومحضرون) قال قتادة محشرون يوم القيامة
وقوله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها...) الآية (وآية) معناه وعلامة
على الحشر وبعث الأجساد والضمير في (لهم) لكفار قريش والضمير في (ثمره) قيل هو
عائد على الماء الذي تضمنه ذكر العيون وقيل هو عائد على جميع ما تقدم مجملا كأنه
قال من ثمر ما ذكرنا (وما) في قوله (وما عملته أيديهم) قال الطبري هي اسم
معطوف على الثمر أي يقع الأكل من الثمر ومما عملته الأيدي بالغرس والزراعة
ونحوه.
وقالت فرقة: هي مصدرية وقيل هي نافية والتقدير أنهم يأكلون من ثمره وهو شئ
لم تعمله أيديهم بل هي نعمة من الله تعالى عليهم والأزواج الأنواع من جميع
الأشياء.
وقوله: (ومما لا يعلمون) نظير قوله تعالى: (ويخلق ما لا تعلمون) [النحل: 8]
12

وقوله تعالى (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) هذه الآيات جعلها الله عز وجل
أدلة على قدرته ووجوب الألوهية له و (نسلخ) معناه نكشط ونقشر فهي استعارة.
قلت: قال الهروي قوله تعالى (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) أي نخرجه منه
إخراجا لا يبقى من ضوء النهار معه شئ انتهى. و (مظلمون) عبد داخلون في الظلام
ومستقر في الشمس على ما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي ذر " بين يدي العرش
تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها " وهو في البخاري وفي حديث آخر " أنها تسجد في
عين حمئة " و (منازل) منصوبة على الظرف وهي المنازل المعروفة عند العرب وهي
ثمانية وعشرون منزلة يقطع القمر منها كل ليلة منزلة وعودته هي استهلاله رقيقا وحينئذ
يشبه العرجون وهو الغصن من النخلة الذي فيه شماريخ التمر فإنه ينحني ويصفر إذا
قدم ويجئ أشبه شئ بالهلال قاله الحسن والوجود يشهد له و (القديم) معناه:
العتيق الذي قد مر عليه زمن طويل و (ينبغي) هنا مستعملة فيما لا يمكن خلافه لأنها لا
قدرة لها على غير ذلك والفلك فيما روي عن ابن عباس متحرك مستدير كفلكة المغزل
فيه جميع الكواكب و (يسبحون) معناه يجرون ويعومون.
13

وقوله تعالى: " وآية لهم أنا حملنا ذرياتهم في الفلك " الآية ذكر الذرية لضعفهم عن
السفر فالنعمة فيهم أمكن والضمير المتصل بالذريات هو ضمير الجنس كأنه قال
ذريات جنسهم أو نوعهم هذا أصح ما يتجه في هذا
وأما معنى الآية فقال ابن عباس وجماعة يريد بالذريات المحمولين أصحاب نوح
في السفينة ويريد بقوله: (من مثله) السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة
وإياها أراد بقوله (وإن نشأ نغرقهم) وقال مجاهد وغيره المراد بقوله " إنا حملنا
ذرياتهم في الفلك المشحون " السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة ويريد بقوله
(وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) الإبل وسائر ما يركب فتكون المماثلة في أنه مركوب
مبلغ الأقطار فقط ويعود قوله (وإن نشأ نغرقهم) على السفن الموجودة في
الناس والصريخ هنا بمعنى المصرخ المغيث
وقوله تعالى (إلا رحمة منا) قال الكسائي نصب (رحمة) على الاستثناء كأنه
قال إلا أن نرحمهم
وقوله (إلى حين) يريد إلى آجالهم المضروبة لهم ثم ابتدأ الأخبار عن عتو قريش
بقوله (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم) قال قتادة ومقاتل ما بين أيديهم هو عذاب
الأمم الذي قد سبقهم في الزمن وهذا هو النظر الجيد وقال الحسن خوفوا بما مضى
من ذنوبهم وبما يأتي منها قال (ع) وهذا نحو الأول في المعنى
وقوله تعالى (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله...) الآية الضمير في قوله
14

(لهم) لقريش وسبب الآية أن الكفار لما أسلم حواشيهم من الموالي وغيرهم
والمستضعفين قطعوا عنهم نفقاتهم وصلاتهم وكان الأمر بمكة أولا فيه بعض الاتصال
في وقت نزول آيات الموادعة فندب أولئك المؤمنون قراباتهم من الكفار إلى أن
يصلوهم وينفقوا عليهم مما رزقهم الله فقالوا عند ذلك (أنطعم من لو يشاء الله
أطعمه)
وقالت فرقة: سبب الآية إن قريشا شحت بسبب أزمة على المساكين جميعا مؤمن
وغير مؤمن فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين وقولهم يحتمل معنين:
أحدهما يخرج على اختيار لجهال العرب فقد روي أن أعربيا كان يرعى إبله
فيجعل السمان في الخصب والمهازيل في المكان الجدب فقيل له في ذلك فقال أكرم
ما أكرم الله وأهين ما أهان الله فيخرج قول قريش على هذا المعنى ومن أمثالهم " كن
مع الله على المدبر ".
والتأويل الثاني: أن يكون كلامهم بمعنى الاستهزاء بقول محمد عليه السلام إن
ثم إلها هو الرزاق فكأنهم قالوا لم لا يرزقهم إلهك الذي تزعم أي نحن لا نطعم من
لو يشاء هذا الإله الذي زعمت لأطعمه
وقوله تعالى (إن أنتم إلا في ضلال مبين) يحتمل أن يكون من قول الكفرة
للمؤمنين أي في أمركم لنا بالنفقة وفي غير ذلك من دينكم ويحتمل أن يكون من قول
الله تعالى للكفرة وقولهم (متى هذا الوعد) أي متى يوم القيامة
وقيل أرادوا متى هذا العذاب الذي تتهددنا أبي به (وما ينظرون) أي ينتظرون
" وما " نافية وهذه الصيحة هي صيحة القيامة وهي النفخة الأولى وفي حديث أبي
هريرة أن بعدها نفخة الصعق ثم نفخة الحشر وهي التي تدوم فما لها من فواق
واصل (يخصمون) يختصمون والمعنى وهم يتحاورون ويتراجعون الأقوال بينهم
وفي مصحف أبي بن كعب " يختصمون " (ولا إلى أهلهم يرجعون) لإعجال الأمر
بل تفيض أنفسهم حيث ما أخذتهم الصيحة
15

وقوله سبحانه (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) هذه
نفخة البعث والأجداث القبور و (ينسلون) أي يمشون مسرعين وفي قراءة ابن
مسعود " من أهبنا من مرقدنا " وروي عن أبي بن كعب وغير أن جميع البشر ينامون
نومة قبل الحشر
قال (ع) وهذا غير صحيح الإسناد وإنما الوجه في قولهم (من مرقدنا)
إنها استعارة كما تقول في قتيل هذا مرقده إلى يوم القيامة
وقوله (هذا ما وعد الرحمن) جوز الزجاج أن يكون هذا إشارة إلى المرقد ثم
استأنف (ما وعد الرحمن) ويضمر الخبر " حق " أو نحوه وقال الجمهور ابتداء الكلام
(هذا ما وعد الرحمن) واختلف في هذه المقالة من قالها فقال ابن زيد هي من قول
الكفرة وقال قتادة ومجاهد هي من قول المؤمنين للكفار
وقال الفراء هي من قول الملائكة وقالت فرقة هي من قول الله تعالى على
جهة التوبيخ وباقي الآية بين
16

وقوله تعالى (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل) قال ابن عباس وغيره هو
افتضاض الأبكار
وقال ابن عباس أيضا هو سماع الأوتار
وقال مجاهد معناه نعيم قد شغلهم
قال (ع) وهذا هو القول الصحيح وتعيين شئ دون شئ لا قياس له
وقوله سبحانه (هم وأزواجهم في ظلال) جاء في صحيح البخاري وغيره عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " سبعة يظلهم الله في ظل يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في
عبادة ربه ورجل قلبه متعلق بالمسجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه
ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة
فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه
انتهى وهذا الظل المذكور في الحديث هو في المحشر.
قال الشيخ ابن أبي جمرة رضي الله عنه وظلال الآخرة ما فيها مباح بل كلها
قد تملكت بالأعمال التي عملها العاملون الذين هداهم الله تعالى فليس هناك لصعلوك
الأعمال ظل انتهى وهو كما قال فشمر عن ساق الجد إن أردت الفوز أيها الأخ
والسلام و (الأرائك) السرر المفروشة قيل ومن شرطها أن تكون عليها حجلة وإلا
17

فليست بأريكة ما وبذلك قيدها ابن عباس وغيره
وقوله (ما يدعون) بمنزلة ما يتمنون
قال أبو عبيدة العرب تقول ادع علي ما شئت بمعنى تمن علي
وقوله (سلام) قيل هي صفة أي مسلم لهم وخالص وقيل هو مبتدأ وقيل هو خبر مبتدأ
وقوله تعالى (وامتازوا اليوم) فيه حذف تقديره ونقول للكفرة (وامتازوا) معناه
انفصلوا وانحجزوا لأن العالم في الموقف إنما هم مختلطون قلت: وهذا يحتاج إلى
سند صحيح وفي الكلام إجمال ويوم القيامة هو مواطن ثم خاطبهم تعالى لما تميزوا
توبيخا وتوقيفا على عهده إليهم ومخالفتهم له وعبادة الشيطان هي طاعته والانقياد
لإغوائه
وقوله (هذا صراط مستقيم) إشارة إلى الشرائع إذ بعث الله آدم إلى ذريته ثم لم
تخل الأرض من شريعة إلى ختم الرسالة بسيدنا محمد خاتم النبيين " والجبل " الأمة
العظيمة ثم أخبر سبحانه نبيه محمدا عليه السلام أخبارا تشاركه فيه أمته بقوله
(اليوم نختم على أفواههم) وذلك أن الكفار يجحدون ويطلبون شهيدا عليهم من
أنفسهم حسبما ورد في الحديث الصحيح فعند ذلك يختم الله تعالى على أفواههم
ويأمر جوارحهم بالشهادة فتشهد
18

وقوله سبحانه (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) الضمير في " أعينهم " لكفار قريش
ومعنى الآية: تبيين أنهم في قبضة القدرة وبمدرج العذاب.
قال الحسن وقتادة أراد الأعين حقيقة والمعنى لأعميناهم فلا يرون كيف
يمشون ويؤيد هذا مجانسة المسخ للعمي الحقيقي
وقوله (فاستبقوا الصراط) معناه على الفرض والتقدير كأنه قال ولو شئنا
لأعميناهم فاحسب أو قدر أنهم يستبقون الصراط وهو الطريق فإني لهم بالأبصار وقد
أعميناهم وعبارة الثعلبي وقال الحسن والسدي ولو نشاء لتركناهم عميا يترددون
فكيف يبصرون الطريق حينئذ انتهى وقال ابن عباس: أراد أعين البصائر والمعنى
لو شئنا لحتمنا عليهم بالكفر فلم يهتد منهم أحدا أبدا وبين تعالى في تنكيسه المعمرين
وأن ذلك مما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتنكيسه: تحول خلقه من القوة إلى الضعف
ومن الفهم إلى البله ونحو ذلك.
ثم أخبر تعالى عن حال نبيه محمد عليه السلام رادا على من قال من الكفرة إنه
شاعر وأن القرآن شعر بقوله (وما علمناه الشعر...) الآية
وقوله تعالى: (لتنذر من كان حيا) أي حي القلب والبصيرة ولم يكن ميتا لكفره
وهذه استعارة قال الضحاك (من كان حيا) معناه عاقلا (ويحق القول) معناه
19

يحتم العذاب ويجب الخلود
وقوله تعالى (أولم يروا أنا خلقنا) الآية مخاطبة لقريش أيضا
وقوله (أيدينا) عبارة عن القدرة والله تعالى منزه عن الجارحة
وقوله تعالى (فهم لها مالكون) تنبيه على النعمة
وقوله (وهم لهم جند محضرون) أي يحضرون لهم في الآخرة على معنى
التوبيخ والنقمة وسمى الأصنام جندا إذ هم عدة للنقمة من الكفرة ثم أنس الله
نبيه - عليه الصلاة والسلام بقوله: (فلا يحزنك قولهم) وتوعد الكفرة بقوله (إنا نعلم
ما يسرون وما يعلنون).
وقوله تعالى (أولم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة...) الآية والصحيح في سبب
نزول الآية هو ما رواه ابن وهب عن مالك وقاله ابن إسحاق وغيره أن أبي بن خلف
جاء بعظم رميم ففته في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وحياله وقال من يحيي هذا يا محمد
ولأبي هذا مع النبي صلى الله عليه وسلم مقامات ومقالات إلى أن قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد طعنه بحربة
في عنقه.
وقوله (ونسي خلقه) يحتمل أن يكون نسيان الذهول ويحتمل أن يكون نسيان
الترك والرميم البالي المتفتت وهو الرفات ثم دلهم سبحانه على الاعتبار بالنشأة
الأولى ثم عقب تعالى بدليل ثالث في إيجاد النار في العود الأخضر المرتوي ماء وهذا
20

هو زناد العرب والنار موجودة في كل عود غير أنها في المتخلخل المفتوح المسام أوجد
وكذلك هو المرخ والعفار وجمع الضمير جمع من يعقل في قوله: (مثلهم) من حيث
أن السماوات والأرض متضمنة من يعقل من الملائكة والثقلين هذا تأويل جماعة وقيل
مثلهم عائد على الناس وباقي الآية بين
21

تفسير سورة الصافات
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم قوله عز وجل
(والصافات صفا) الآية أقسم الله تعالى في هذه الآية بأشياء من مخلوقاته
قال ابن مسعود وغيره " الصافات " هي الملائكة تصف في السماء في عبادة الله عز وجل
وقالت فرقة: المراد صفوف بني آدم في القتال في سبيل الله قال (ع)
واللفظ يحتمل أن يعم هذه المذكورات كلها قال مجاهد (والزاجرات) هي الملائكة تزجر
السحاب وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى وقال قتادة (الزاجرات) هي آيات
القرآن (والتاليات ذكرا) معناه القارئات قال مجاهد أراد الملائكة التي تتلو ذكره
22

وقال قتادة أراد بني آدم الذين يتلون كتبه المنزلة وتسبيحه وتكبيره ونحو ذلك والمقسم
عليه قوله: (إن إلهكم لواحد).
وقوله (ما رد) قال العراقي ما رد سخط عليه وهكذا (مريد) [الحج: 3] انتهى
وهذا لفظه والملأ الأعلى أهل السماء الدنيا فما فوقها وسمي الكل منهم أعلى
بالإضافة إلى ملأ الأرض الذي هو أسفل والضمير في (يسمعون) للشياطين وقرأ
حمزة وعاصم في رواية حفص: (لا يسمعون) - بشد السين والميم - بمعنى لا
يتسمعون فينتفي على قراءة الجمهور سماعهم وإن كانوا يستمعون وهو المعنى
الصحيح ويعضده قوله تعالى: (إنهم عن السمع لمعزولون) [الشعراء: 212]
(ويقذفون) معناه يرجمون والدحور: الإصغار والإهانة لأن الدحر هو الدفع بعنف
وقال البخاري (ويقذفون) يرمون و (دحورا) مطردين في وقال ابن عباس: " مدحورا "
مطرودا انتهى والواصب الدائم قاله مجاهد وغيره وقال أبو صالح الواصب
الموجع ومنه الوصب والمعنى هذه الحال هي الغالبة على جميع الشياطين إلا من
شذ فخطف خبرا أو نبأ (فأتبعه شهاب) فأحرقه والثاقب النافذ بضوءه وشعاعه المنير
قاله قتادة وغيره.
23

وقوله تعالى (فاستفتهم أهم أشد خلقا) أي: فلا يمكنهم أن يقولوا إلا
أن خلق من سواهم من الأمم والملائكة والجن والسماوات والأرض والمشارق والمغارب
وغير ذلك هو أشد من هؤلاء المخاطبين وبان الضمير (في خلقنا) يراد به ما تقدم
ذكره قال مجاهد وقتادة وغيرهما ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود " أم من عددنا "
وكذلك قرأ الأعمش
وقوله تعالى (إنا خلقناهم من طين) أي خلق أصلهم وهو آدم عليه السلام
واللازب والأزم يلزم ما جاوره ويلصق به وهو الصلصال (بل عجبت) يا محمد من
أعراضهم عن الحق وقرأ حمزة والكسائي (بل عجبت) - بضم التاء - وذلك على أن
يكون تعالى هو المتعجب ومعنى ذلك من الله تعالى أنه صفة فعل ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم
" يعجب الله من الشاب ليست له صبوة " فإنما هي عبارة عما يظهره الله تعالى في جانب
المتعجب منه من التعظيم أو التحقير هذه حتى يصير الناس متعجبين منه قال الثعلبي قال
الحسين ابن الفضل التعجب من الله إنكار الشئ وتعظيمه وهو لغة العرب انتهى
وقوله (ويسخرون) أي وهم يسخرون من نبوتك
وقوله (وإذا رأوا آية يستسخرون) يريد بالآية العلامة والدلالة وروي أنها نزلت
في ركانة وهو رجل من المشركين من أهل مكة لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في جبل خال وهو يرعى
غنما له وكان أقوى أهل زمانه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا ركانة أرأيت أن صرعتك أتؤمن
بي قال نعم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها
24

ونحو ذلك مما اختلفت فيه ألفاظ الحديث فلما فرغ ذلك لم يؤمن وجاء إلى مكة
فقال يا بني هاشم ساخروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت هذه الآية فيه وفي نظرائه
(ويستسخرون) قال مجاهد وقتادة معناه يسخرون ثم أمر تعالى نبيه أن يجيب
تقريرهم واستفهامهم سنة عن البعث ب‍ (نعم) وأن يزيدهم في الجواب إنهم مع البعث في
صغار وذلة واستكانة والداخر الصاغر الذليل وقد تقدم بيانه غير ما مرة والزجرة
الواحدة هي نفخة البعث قال العراقي الزجرة الصيحة بانتهار انتهى و (الدين)
الجزاء وأجمع المفسرون على أن قوله تعالى هذا (يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون)
ليس هو من قول الكفرة وإنما المعنى: يقال لهم.
وقوله (وأزواجهم) معناه أنواعهم وضرباؤهم قاله عمر وابن عباس وقتادة
ومعهم (ما كانوا يعبدون من دون الله) من آدمي رضي بذلك ومن صنم ووثن
توبيخا لهم وإظهار لسوء حالهم وقال الحسن: (أزواجهم) نساؤهم المشركات وقاله
ابن عباس أيضا.
وقوله تعالى (فاهدوهم) معناه: قدموهم واحملوهم على طريق الجحيم ثم يأمر
الله تعالى بوقوفهم على جهة التوبيخ لهم والسؤال قال جمهور المفسرين يسألون عن
أعمالهم ويوقفون على قبحها وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم " لا تزول قدما عبد... " الحديث قال
(ع) ويحتمل عندي أن يكون المعنى على نحو ما فسره تعالى بقوله: (ما لكم ما
25

تناصرون) أي: أنهم مسؤولون عن امتناعهم عن التناصر وهذا على جهة التوبيخ
وقرأ خلق " لا تتناصرون " (ت) قال عياض في المدارك كان أبو إسحاق الجبنياني
ظاهر الحزن كثير الدمعة يسرد الصيام قال ولده أبو الطاهر قال لي أبي إن إنسانا بقي
في آية سنة لم يتجاوزها وهي قوله تعالى (وقفوهم إنهم مسؤولون) فقلت له أنت هو
فسكت فعلمت أنه هو وكان إذا دخل في الصلاة لو سقط البيت الذي هو فيه ما
التفت إقبالا على صلاته واشتغالا بمناجاة ربه وكان رحمه الله من أشد الناس تضييقا
على نفسه ثم على أهله وكان يأكل البقل البري والجراد إذا وجده ويطحن قوته بيده
شعيرا ثم يجعله بنخالته دقيقا في قدر مع ما وجد من بقل بري وغيره حتى أنه ربما رمى
بشئ منه لكلب أو هر فلا يأكله وكان لباسه يجمعه من خرق المزابل ويرقعه الرحمن وكان
يتوطأ الرمل وفي الشتاء يأخذ قفاف المعاصر الملقاة على المزابل يجعلها تحته قال ولده
أبو الطاهر وكنا إذا بقينا بلا شئ نقتاته وكان كنت أسمعه في الليل يقول: [البسيط]
ما لي تلاد ولا استطرفت من نشب * وما أؤمل روى غير الله من أحد
إن القنوع بحمد الله يمنعني * من التعرض للمنانة ولم النكد
انتهى
وقوله تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) هذه الجماعة التي يقبل بعضها
على بعض هي جن وإنس قاله قتادة وتساؤلهم هو على معنى التقريع واللوم
والتسخط والقائلون (إنكم كنتم تأتوننا) إما أن يكون الإنس يقولونها للشياطين وهذا
قول مجاهد وابن زيد وإما أن يكون ضعفة الإنس يقولونها للكبراء والقادة واضطرب
26

المتأولون في معنى قولهم: (عن اليمين) فعبر ابن زيد وغيره عنه بطريق الجنة ونحو
هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى ولا يختص بنفس اللفظة والذي يخصها معان:
منها أن يريد باليمين القوة أي تحملوننا على طريق الضلالة بقوة ومنها أن يريد
باليمين اليمن أي تأتوننا من جهة النصائح والعمل الذي يتيمن به ومن المعاني التي
تحتملها الآية أن يريدوا إنكم كنتم تجيئوننا من جهة الشهوات وأكثر ما يتمكن هذا
التأويل مع إغواء الشياطين وقيل المعنى تحلفون لنا فاليمين على هذا القسم وقد
ذهب بعض العلماء في ذكر إبليس جهات بني آدم في قوله: (من بين أيديهم ومن خلفهم
وعن أيمانهم وعن شمائلهم) [الأعراف: 17] إلى ما ذكرناه من جهة الشهوات ثم أخبر
تعالى عن قول الجن المجيبين لهؤلاء بقولهم (بل لم تكونوا مؤمنين) أي ليس الأمر
كما ذكرتم بل كان لكم اكتساب الكفر وما كان لنا عليكم حجة وبنحو هذا فسر قتادة
وغيره أنه قول الجن إلى (غاوين) ثم أخبر تعالى بأنهم جميعا في العذاب مشتركون
وأن هذا فعله بأهل الجرم والكفر.
وقوله سبحانه: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله...) الآية قلت جاء في
فضل " لا إله إلا الله " أحاديث كثيرة فمنها ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: قال موسى يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال قل يا موسى " لا إله
إلا الله " قال يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل " لا إله إلا الله " قال: إنما أريد
شيئا تخصني به قال يا موسى لو أن السماوات السبع والأرضين السبع في كفة و " لا إله
إلا الله " في كفة مالت بهن " لا إله إلا الله " رواه النسائي وابن حبان في
27

" صحيحه " واللفظ لابن حبان وعنه صلى الله عليه وسلم قال " وقول لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا
يشبهها عمل " رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين وقال صحيح الإسناد
انتهى من السلاح والطائفة التي قالت (أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) هي قريش
وإشارتهم بالشاعر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرد الله عليهم بقوله (بل جاء بالحق وصدق
المرسلين) الذين تقدموه ثم أخبر تعالى مخاطبا لهم بقوله (إنكم لذائقوا العذاب
الأليم) الآية.
وقوله تعالى (إلا عباد الله المخلصين) استثناء منقطع وهؤلاء المؤمنون.
وقوله (معلوم) معناه عندهم.
وقوله (بيضاء) يحتمل أن يعود على الكاس ويحتمل أن يعود على الخمر وهو
أظهر قال الحسن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن وفي قراءة ابن مسعود
" صفراء " فهذا وصف الخمر وحدها والغول اسم عام في الأذى وقال ابن عباس
وغيره الغول وجع في البطن وقال قتادة هو صداع في الرأس (وينزفون) من
28

قولك نزف الرجل إذا سكر وبإذهاب بين العقل فسره ابن عباس وقرأ حمزة والكسائي
" ينزفون " بكسر الزاي من أترف وله معنيان.
[أحدهما: سكر
والثاني: نفد شرابه
وهذا كله منفي عن أهل الجنة.
(وقاصرات الطرف)] قال ابن عباس وغيره معناه على أزواجهن أي لا
ينظرون إلى غيرهم و (عين) جمع " عيناء " وهي الكبيرة العينين في جمال.
وقوله تعالى (كأنهن بيض مكنون) قال ابن جبير والسدي شبه ألوانهن بلون قشر
البيضة الداخلي وهو المكنون أي المصون ورجحه الطبري وقال الجمهور شبه
ألوانهن بلون قشر البيضة من النعام وهو بياض قد خالطته صفرة حسنة و (مكنون) أي
بالريش وقال ابن عباس فيما حكى الطبري " البيض المكنون " أراد به الجوهر
29

المصون قال (ع) وهذا يرده لفظ الآية فلا يصح عن ابن عباس.
وقوله تعالى (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم...) الآية
هذا التساؤل الذي بين أهل الجنة هو تساؤل راحة وتنعم يتذاكرون أمورهم في الجنة وأمر
الدنيا وحال الطاعة والإيمان فيها ثم أخبر تعالى عن قول قائل منهم في قصته وهو مثال
لكل من له قرين سوء فيعطي هذا المثال التحفظ من قرناء السوء قال الثعلبي قوله
(إني كان لي قرين) قال مجاهد كان شيطانا انتهى وقال ابن عباس وغيره كان
هذان من البشر مؤمن وكافر وقال فرات بن ثعلبة البهراني في قصص هذين أنهما
كانا شريكين بثمانية آلاف دينار فكان أحدهما مشغولا بعبادة الله وكان الآخر كافرا مقبلا
على ماله فحل الشركة مع المؤمن وبقي وحده لتقصير المؤمن في التجارة وجعل الكافر
كلما اشترى شيئا من دار أو جارية أو بستان ونحوه عرضه على المؤمن وفخر عليه
فيمضي المؤمن عند ذلك ويتصدق بنحو ذلك ليشتري به من الله تعالى في الجنة فكان
من أمرهما في الآخرة ما تضمنته هذه الآية وحكى السهيلي أن هذين الرجلين هما
المذكوران في قوله تعالى (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من
أعناب) الآية [الكهف: 32] انتهى " ومدينون " معناه مجازون محاسبون قاله ابن
عباس وغيره.
30

وقوله تعالى (قال هل أنتم مطلعون) الآية في الكلام حذف تقديره فقال لهذا
الرجل حاضروه من الملائكة أن قرينك هذا في جهنم يعذب فقال عند ذلك (هل أنتم
مطلعون) يخاطب ب‍ " أنتم " الملائكة أو رفقاءه في الجنة أو خدمته وكل هذا حكي
المهدوي وقرأ أبو عمرو في رواية حسين " مطلعون " بسكون الطاء وفتح النون وقرئ
شاذا " مطلعون " بسكون الطاء وكسر النون قال ابن عباس وغيره (سواء الجحيم)
وسطه فقال له المؤمن عند ذلك (تالله إن كدت لترديني) أي تهلكني بإغوائك
والردى الهلاك وقول المؤمن (أفما نحن بميتين) إلى قوله (بمعذبين) يحتمل أن
تكون مخاطبة لرفقائه في الجنة لما رأى ما نزل بقرينه ونظر إلى حاله في الجنة وحال
رفقائه قدر النعمة قدرها فقال لهم على جهة التوقيف على النعمة أفما نحن بميتين ولا
معذبين ويجئ على هذا التأويل قوله (إن هذا لهو الفوز العظيم) إلى قوله
(العاملون) متصلا بكلامه خطابا لرفقائه ويحتمل قوله (أفما نحن بميتين) أن تكون
31

مخاطبة لقرينه على جهة التوبيخ كأنه يقول: أين الذي كنت تقول من أنا نموت وليس
بعد الموت عقاب ولا عذاب ويكون قوله تعالى (إن هذا لهو الفوز العظيم) إلى قوله
(العاملون) يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه وإليه ذهب قتادة ويحتمل أن
يكون من خطاب الله تعالى لمحمد عليه السلام وأمته ويقوى هذا قوله (لمثل
هذا فليعمل العاملون) وهو حض على العمل والآخرة ليست بدار عمل.
وقوله تعالى (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم) المراد بالآية تقرير قريش
والكفار قال (ع) وفي بعض البلاد الجدبة المجاورة للصحارى عند شجرة مرة
مسمومة لها لبن إن مس جسم أحد تورم ومات منه في أغلب الأمر تسمى شجرة
الزقوم والتزقم لأنه في كلام العرب البلع على شدة وجهد.
وقوله تعالى (إنا جعلناها فتنة للظالمين) قال قتاد ومجاهد والسدي يريد أبا
جهل ونظراءه أخبرنا وقد تقدم بيان ذلك.
وقوله تعالى (كأنه رؤس الشياطين) اختلف في معناه فقالت فرقة شبه طلعها
بثمر شجرة معروفة يقال لها " رؤس الشياطين " وهي بناحية اليمن يقال لها " الأستن "
وقالت فرقة شبه برؤوس صنف من الحيات يقال لها الشياطين وهي ذوات أعراف
وقالت فرقة شبه بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها وإن كانت لا
ترى لأن الناس إذا وصفوا شيئا بغاية القبح قالوا كأنه شيطان ونحو هذا قول امرئ
القيس [الطويل]
32

أيقتلني والمشرفي مضاجعي * ومسنونة زرق كأنياب أغوال.
فإنما شبه بما استقر في النفوس من هيئتها والشوب المزاج والخلط قاله ابن
عباس وقتادة والحميم السخن جدا من الماء ونحوه فيريد به هاهنا شرابهم الذي هو
طينة الخبال صديدهم وما ينماع منهم هذا قول جماعة من المفسرين
وقوله تعالى: (ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم) كقوله تعالى (يطوفون بينهما وبين
حميم آن) [الرحمن: 44] وقوله سبحانه (إنهم ألفوا آباءهم...) الآية تمثيل لقريش
(ويهرعون) معناه يسرعون قاله قتادة وغيره وهذا تكسبهم للكفر وحرصهم عليه
وقوله تعالى (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) يقتضي الإخبار بأنه عذبهم ولذلك
حسن الاستثناء في قوله (إلا عباد الله المخلصين) ونداء نوح تضمن أشياء كطلب
النصرة والدعاء على قومه وغير ذلك قال أبو حيان (فلنعم المجيبون) جواب
قسم كقوله [من الطويل]
يمينا لنعم السيدان وجدتما......
33

والمخصوص بالمدح محذوف أي فلنعم المجيبون نحن انتهى.
وقوله تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين) قال ابن عباس وقتادة أهل الأرض كلهم
من ذرية نوح وقالت فرقة إن الله تعالى أبقى ذرية نوح ومد نسله وليس الأمر بأن
أهل الدنيا انحصروا إلى نسله بل في الأمم من لا يرجع إليه والأول أشهر عن علماء
الأمة وقالوا نوح هو آدم الأصغر قال السهيلي ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في
قوله عز وجل (وجعلنا ذريته هم الباقين) إنهم سام وحام ويافث انتهى.
وقوله تعالى (وتركنا عليه في الآخرين) معناه ثناء حسنا جميلا باقيا آخر الدهر
قاله ابن عباس وغيره و (سلام) رفع بالابتداء مستأنف سلم الله به عليه ليقتدي بذلك
البشر * ت * قال أبو عمر في " التمهيد " قال سعيد يعني ابن عبد الرحمن
الجمحي بلغني أنه من قال حين يمسى (سلام على نوح في العالمين) لم تلدغه
عقرب ذكر هذا عند قول النبي صلى الله عليه وسلم للأسلمي الذي لدغته عقرب " أما لو أنك قلت حين
أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله " قال أبو
34

عمر وروى [ابن وهب] هذا الحديث عن مالك يعني حديث " أعوذ بكلمات الله
التامات " بإسناده مثل ما في " الموطأ " إلا أنه قال في اخره " لم يضرك شئ " انتهى
وقوله تعالى (أغرقنا الآخرين) قال جماعة من العلماء ان الغرق عم جميع
الناس وأسندوا في ذلك أحاديث قالوا ولم يكن الناس حينئذ بهذه الكثرة لان عهد
آدم كان قريبا وكانت دعوة نوح ونبوته قد بلغت جميعهم لطول المدة واللبث فيهم
فتمادوا على كفرهم ولم يقبلوا ما دعاهم إليه من عبادة الرحمن فلذلك أغرق الله
جميعهم
35

وقوله تعالى (وإن من شيعته) قال ابن عباس وغيره الضمير عائد على نوح
والمعنى في الدين والتوحيد وقال الطبري وغيره عن الفراء الضمير عائد على محمد
والإشارة إليه
وقوله: (أئفكا) استفهام بمعنى التقرير اي أكذبا ومحالا (آلهة دون الله
تريدون)
وقوله (فما ظنكم) توبيخ وتحذير وتوعد.
وقوله تعالى (فنظر نظرة في النجوم) روي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه
فدعوا إبراهيم عليه السلام إلى الخروج معهم فنظر حينئذ واعتذر بالسقم وأراد البقاء
ليخالفهم إلى الأصنام وروي ان علم النجوم كان عندهم منظورا فيه مستعملا فأوهمهم
هو من تلك الجهة قالت فرقة وقوله: اني سقيم) من المعاريض الجائزة
وقوله تعالى (فراغ إلى آلهتهم) " راغ " معناه مال.
وقوله (ألا تأكلون) هو على جهة الاستهزاء بعبدة تلك الأصنام ثم مال عند ذلك
إلى ضرب تلك الأصنام بفأس حتى جعلها جذاذا واختلف في معنى قوله (باليمين)
فقال ابن عباس أراد يمنى يديه وقيل أراد بقوته لأنه كان يجمع يديه معا بالفأس
وقيل أراد باليمين القسم في قوله (وتالله لأكيدن أصنامكم) [الأنبياء: 57] والضمير
36

في " أقبلوا " لكفار قومه (ويزفون) معناه يسرعون واختلف المتأولون في قوله (وما
تعملون) فمذهب جماعة من المفسرين ان " ما " مصدرية والمعنى ان الله خلقكم
وأعمالكم وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق الله تعالى أفعال العباد وهو مذهب أهل السنة
وقالت فرقة " ما " بمعنى الذي و " البنيان " قيل كان في موضع إيقاد النار
37

وقيل بل كان للمنجنيق الذي رمي عنه والله أعلم.
38

وقوله (إني ذاهب إلى ربي...) الآية قالت فرقة كان قوله هذا بعد خروجه من
النار وانه أشار بذهابه إلى هجرته من [ارض] بابل حيث كانت مملكة نمرود فخرج
إلى الشام وقالت فرقة قال هذه المقالة قبل أن يطرح في النار وانما أراد لقاء الله لأنه
ظن أن النار سيموت فيها وقال (سيهدين) اي: إلى الجنة نحا إلى هذا المعنى
قتادة قال (ع) وللعارفين بهذا الذهاب تمسك واحتجاج في الصفاء وهو
محمل حسن في (اني ذاهب) وحده والتأويل الأول أظهر في نمط الآية بما يأتي بعد
لأن الهداية معه تترتب والدعاء في الولد كذلك ولا يصح مع ذهاب الموت وباقي الآية
تقدم قصصها وان الراجح ان الذبيح هو إسماعيل وذكر الطبري ان ابن عباس قال
الذبيح إسماعيل وتزعم اليهود انه إسحاق وكذبت اليهود وذكر أيضا ان عمر بن
عبد العزيز سأل عن ذلك رجلا يهوديا كان أسلم وحسن اسلامه فقال الذبيح هو
إسماعيل وان اليهود لتعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ان تكون هذه
41

الآيات والفضل والله في أبيكم والسعي في هذه الآية: العمل والعبادة والمعونة قاله ابن
عباس وغيره وقال قتادة السعي على القدم يريد سعيا متمكنا وهذا في المعنى نحو
الأول
وقوله (إني أرى في المنام...) الآية يحتمل أن يكون رأى ذلك بعينه ورؤيا
الأنبياء وحي وعين له وقت الامتثال ويحتمل أنه أمر في نومه بذبحه فعبر عن ذلك
بقوله (إني أرى) أي أرى ما يوجب أن أذبحك قال ابن العربي في " أحكامه "
واعلم أن رؤيا الأنبياء وحي فما ألقى إليهم ونفث به الملك في روعهم وضرب المثل له
عليهم فهو حق ولذلك قالت عائشة: وما كنت أظن أنه ينزل في قرءان يتلى ولكني
رجوت أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها وقد بينا حقيقة الرؤيا وأن الباري
تعالى يضربها مثلا للناس فمنها أسماء وكنى فمنها رؤيا تخرج بصفتها ومنها رؤيا
تخرج بتأويل وهو كنيتها ولما استسلم إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام لقضاء
الله أعطي إبراهيم ذبيحا فداء وقيل له هذا فداء ولدك فامتثل فيه ما رأيت فإنه حقيقة
ما خاطبناك / فيه وهو كناية لا اسم وجعله مصدقا للرؤيا بمبادرة الامتثال انتهى.
43

وقوله تعالى (فلما أسلما) أي أسلما أنفسهما واستسلما لله عز وجل وقرأ
ابن عباس وجماعة (سلما) والمعنى فوضا إليه في قضائه وقدره سبحانه فأسلم
إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه قال بعض البصريين جواب " لما " محذوف تقديره
فلما أسلما وتله للجبين أجزل أجرهما ونحو هذا مما يقتضيه المعنى (وتله) معناه
وضعه بقوة ومنه الحديث في القدح فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده أي وضعه بقوة
(وللجبين) معناه: لتلك الجهة وعليها كما يقولون في المثل: [الطويل]....... وخر ضريعا لليدين وللفم
44

وكما تقول سقط لشقه الأيسر والجبينان: ما اكتنف الجبهة من ههنا ومن ههنا
" وأن " من قوله (أن يا إبراهيم) مفسرة لا موضع لها من الإعراب و (صدقت الرؤيا)
يحتمل أن يريد بقلبك أو بعملك و " الرؤيا " اسم لما يرى من قبل الله - تعالى - والمنام
والحلم اسم لما يرى من قبل الشيطان ومنه الحديث الصحيح " الرؤيا من الله والحلم
من الشيطان " و (البلاء) الاختبار والذبح العظيم في قول الجمهور كبش أبيض
أعين وجده وراءه مربوطا بسمرة وأهل السنة على أن هذه القصة نسخ فيها العزم على
الفعل خلافا للمعتزلة قال أحمد بن نصر الداوودي وأن نسخ الله آية قبل العمل بها
فإنما ينسخها بعد اعتقاد قبولها وهو عمل انتهى من تفسيره عند قوله تعالى: (ما ننسخ من آية) [البقرة: 106] قال (ع) ولا خلاف أن إبراهيم أمر الشفرة على حلق ابنه فلم
تقطع والجمهور أن أمر الذبح كان بمنى وقال الشعبي رأيت قرني كبش إبراهيم معلقتين
في الكعبة وروى عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا فاطمة قومي لأضحيتك
فاشهديها فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه وقولي: إن صلاتي
ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين
قال عمران: قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة قال
" لا بل للمسلمين عامة " رواه الحاكم في المستدرك انتهى من السلاح. وقوله تعالى (وظالم لنفسه) توعد لمن كفر من اليهود بمحمد عليه السلام
و (الكتاب المستبين): هو التوراة قال قتادة وابن مسعود إلياس هو إدريس عليه
45

السلام وقالت فرقة هو من ولد هارون وقرأ نافع وابن عامر " على آل ياسين "
وقرأ الباقون " على إلياسين " بألف مكسورة ولام ساكن فوجهت الأولى على أنها
بمعنى " أهل " و " ياسين " اسم لإلياس وقيل: هو اسم لمحمد عليه السلام
ووجهت الثانية على أنها جمع " إلياسي " وقرأ ابن مسعود والأعمش " وإن إدريس لمن
المرسلين وسلام على إدريسين " قال السهيلي قال ابن جني العرب تتلاعب بالأسماء
الأعجمية تلاعبا ف‍ " ياسين " و " إلياس " و " الياسين " شئ واحد انتهى.
(ت) وحكى الثعلبي هنا حكاية عن عبد العزيز بن أبي رواد عن رجل لقي
إلياس في أيام مروان بن الحكم وأخبره بعدد الأبدال وعن الخضر في حكاية طويلة لا
ينبغي إنكار مثلها فأولياء الله يكاشفون بعجائب فلا يحرم الانسان التصديق بها جعلنا
الله من زمرة أوليائه انتهى.
وقوله (أتدعون بعد بعلا) معناه أتعبدون قال الحسن والضحاك وابن زيد بعل
اسم صنم كان لهم ويقال له بعلبك وذكر ابن إسحاق عن فرقة: إن بعلا اسم امرأة
كانت أتتهم بضلالة وقرأ حمزة والكسائي وعاصم " الله ربكم ورب آبائكم " كل ذلك
46

بالنصب بدلا من قوله (أحسن الخالقين) وقرأ الباقون كل ذلك بالرفع على القطع
والاستيناف والضمير في (كذبوه) عائد على قوم إلياس و (محضرون) معناه
مجموعون لعذاب الله.
وقوله تعالى (وإنكم لتمرون عليهم) مخاطبة لقريش ثم وبخهم بقوله (أفلا
تعقلون).
وقوله تعالى (وأن يونس...) الآية هو يونس بن متى صلى الله عليه وسلم وهو من بني إسرائيل.
وقوله تعالى (إذ ابق...) الآية وذلك أنه لما أخبر قومه بوقت مجئ العذاب
وغاب عنهم ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب أنابوا إلى الله فقبل توبتهم فلما مضى
وقت العذاب ولم يصبهم قال يونس لا ارجع إليهم بوجه كذاب وروي أنه كان في
سيرتهم أن يقتلوا الكذاب فأبق إلى الفلك أي أراد الهروب ودخل في البحر وعبر عن
هروبه بالإباق من حيث إنه فر عن غير إذن مولاه فروي عن ابن مسعود أنه لما حصل
في السفينة وأبعدت الذي في البحر ركدت ولم تجر وغيرها من السفن يجري يمينا وشمالا
فقال أهلها أن فينا لصاحب ذنب وبه يحبسنا الله تعالى فقالوا لنقترع فأخذوا لكل واحد
سهما واقترعوا فوقعت القرعة على يونس ثلاث مرات فطرح حينئذ نفسه والتقمه
الحوت وروي أن الله تعالى أوحى إلى الحوت إني لم اجعل يونس لك رزقا وإنما
جعلت بطنك له حرزا وسجنا فهذا معنى (فساهم)
والمدحض: المغلوب في محاجة أو مساهمة وعبارة ابن العربي في
" الأحكام " وأوحى الله تعالى إلى الحوت أنا لم نجعل يونس لك رزقا وإنما
جعلنا بطنك له مسجدا " الحديث انتهى ولفظة " مسجد " أحسن من السجن فرحم
الله عبدا لزم الأدب لا سيما مع أنبيائه وأصفيائه وال‍ " مليم " الذي أتى ما يلام عليه
47

وبذلك فسر مجاهد وابن زيد.
وقوله سبحانه (فلولا أنه كان من المسبحين) قيل المراد القائلين سبحان الله
في بطن الحوت قاله ابن جريج وقالت فرقة بل التسبيح هنا الصلاة قال ابن عباس
وغيره صلاته في وقت الرخاء نفعته في وقت الشدة وقال هذا جماعة من العلماء
وقال الضحاك بن قيس على منبره اذكروا الله عباد الله في الرخاء يذكركم في الشدة
إن يونس كان عبدا لله ذاكرا له فلما أصابته الشدة نفعه ذلك قال الله عز وجل
(فلو لا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) وإن فرعون كان طاغيا
باغيا فلما أدركه الغرق قال آمنت فلم ينفعه ذلك فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في
الشدة وقال ابن جبير الإشارة بقوله (من المسبحين) إلى قوله (لا إله إلا أنت
سبحانك إني كنت من الظالمين) [الأنبياء: 87]
وقوله سبحانه (فنبذناه بالعراء...) الآية " العراء " الأرض الفيحاء التي لا شجر
فيها ولا معلم قال ابن عباس وغيره في قوله (وهو سقيم) أنه كالطفل المنفوس
بضعة لحم وقال بعضهم كاللحم النئ إلا أنه لم ينقص من خلقه شئ فأنعشه الله
في ظل اليقطينة بلبن أروية حتى [كانت تغاديه، وتراوحه وقيل: بل كان يتغذى من اليقطينة
48

ويجد منها ألوان الطعام وأنواع] شهواته قال ابن عباس وأبو هريرة وعمرو بن ميمون
اليقطين القرع خاصة وقيل كل ما لا يقوم على ساق كالبقول والقرع والبطيخ ونحوه
مما يموت من عامة ومشهور اللغة أن اليقطين هو القرع فنبت لحم يونس عليه
السلام وصح وحسن لونه لأن ورق القرع أنفع شئ لمن تسلخ جلده وهو يجمع
خصالا حميدة برد الظل [ولين] الملمس وأن الذباب لا يقربها حكى النقاش أن ماء
ورق القرع إذا رش به مكان لم يقربه ذباب وروي أنه كان يوما نائما فأيبس الله تلك
اليقطينة وقيل بعث عليها الأرضة فقطعت ورقها فانتبه يونس لحر الشمس فعز عليه
شأنها وجزع له فأوحى الله إليه يا يونس جزعت ليبس اليقطينة ولم تجزع لإهلاك
مائة ألف أو يزيدون تابوا فتبت عليهم.
وقوله تعالى (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) قال الجمهور إن هذه الرسالة
هي رسالته الأولى ذكرها الله فئ اخر القصص وقال قتادة وغيره هذه رسالة أخرى بعد
أن نبذ بالعراء وهي إلى أهل " نينوى " من ناحية الموصل وقرأ الجمهور " أو
يزيدون " فقال ابن عباس " أو " بمعنى " بل " وروي عنه أنه قرأ " بل يزيدون " وقالت
فرقة " أو " هنا بمعنى الواو وقرأ جعفر بن محمد " ويزيدون " وقال المبرد وكثير من
49

البصريين قوله " أو يزيدون " المعنى على نظر البشر وحرزهم أي من رآهم قال
مائة ألف أو يزيدون وروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا مائة وعشرين ألفا
(ت) وعبارة أحمد بن نصر الداوودي وعن أبي بن كعب قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن
الزيادتين (الحسنى وزيادة) [يونس: 26] (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) قال
يزيدون عشرين ألفا واحسبه قال الحسنى الجنة " والزيادة " النظر إلى وجه الله عز
وجل انتهى وفي قوله (فآمنوا فمتعناهم إلى حين) مثال لقريش أن آمنوا ومن هنا
حسن انتقال القول والمحاورة إليهم بقوله (فاستفتهم) فإنما يعود على ضميرهم على
ما في المعني من ذكرهم والاستفتاء السؤال وهو هنا بمعنى التقريع والتوبيخ في جعلهم
البنات لله تعالى الله عن قولهم ثم أخبر [الله] تعالى عن فرقة منهم بلغ بها الإفك
والكذب إلى أن قالت ولد الله الملائكة لأنه نكح في سروات الجن تعالى الله عن
قولهم وهذه فرقة من بنى مدلج فيما روي وقرأ الجمهور " اصطفى البنات " بهمزة
الاستفهام على جهة التقريع والتوبيخ.
وقوله تعالى (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) الجنة هنا: قيل هم الملائكة لأنها
مستجنة أي مستترة وقيل الجنة هم الشياطين والضمير في (جعلوا) لفرقة من كفار
قريش والعرب (ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون) أي ستحضر أمر الله وثوابه
وعقابه ثم نزه تعالى نفسه عما يصفه الكفرة ومن هذا استثنى عباده المخلصين لأنهم
يصفونه بصفاته العلا وقالت فرقة: استثناهم من قوله (لمحضرون) وعبارة الثعلبي
50

(ولقد علمت الجنة) أي: الملائكة أن قائلي هذه المقالة من الكفرة (لمحضرون) في
النار وقيل للحساب والأول أولى لأن الأحضار متى جاء في هذه الصورة عني به العذاب
(الا عباد الله المخلصين) فإنهم ناجون من النار انتهى في البخاري (لمحضرون)
أي سيحضرون للحساب انتهى.
وقوله تعالى (فإنكم وما تعبدون) بمعنى: قل لهم يا محمد إنكم وأصنامكم ما
أنتم بمضلين أحدا بسببها وعليها إلا من قد سبق عليه القضاء فإنه يصلى الجحيم في
الآخرة وليس لكم إضلال من هدى الله تعالى وقالت فرقة (عليه) بمعنى " به "
والفاتن: المضل في هذا الموضع وكذلك فسره ابن عباس وغيره وحذفت الياء من
(صال) للإضافة.
ثم حكى - سبحانه - قول الملائكة (وما منا إلا له مقام معلوم) وهذا يؤيد أن الجنة
أراد بها الملائكة وتقدير الكلام وما منا ملك وروت عائشة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أن السماء ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي وعن ابن
مسعود وغيره نحوه.
(والصافون) معناه: الواقفون صفوفا (والمسبحون) يحتمل أن يريد به الصلاة
ويحتمل أن يريد قول: سبحان الله قال الزهراوي قيل أن المسلمين إنما اصطفوا في
الصلاة مذ نزلت هذه الآية ولا يصطف أحد من أهل الملل غير المسلمين ثم ذكر
تعالى مقالة بعض الكفار قال قتادة وغيره فإنهم قبل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قالوا لو كان
لنا كتاب أو جاءنا رسول لكنا عباد الله المخلصين فلما جاءهم محمد كفروا به فسوف
51

يعلمون وهذا وعيد محض ثم أنس تعالى نبيه وأولياءه بأن القضاء قد سبق والكلمة
قد حقت بأن رسله سبحانه هم المنصورون على من ناواهم وجند الله هم الغزاة.
وقوله تعالى (فتول عنهم) أمر لنبيه بالموادعة ووعد جميل و (حتى حين) قيل
هو يوم بدر وقيل يوم القيامة.
وقوله تعالى (وأبصرهم فسوف يبصرون) وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم ثم وبخهم
على استعجال العذاب (فإذا نزل) أي العذاب (بساحتهم فساء صباح المنذرين)
والساحة الفناء وسوء الصباح أيضا مستعمل في ورود الغارات قلت ومنه قول
النبي صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر " الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء
صباح المنذرين انتهى.
52

وقرأ ابن مسعود " فبئس صباح " والعزة في قوله (رب العزة) هي العزة المخلوقة
الكائنة للأنبياء والمؤمنين وكذلك قال الفقهاء من أجل أنها مربوبة قال محمد بن سحنون
وغيره من حلف بعزة الله فإن كان أراد صفته الذاتية فهي يمين وإن كان أراد عزته
التي خلق بين عباده وهي التي في قوله: (رب العزة) فليست بيمين وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين فإنما أنا أحدهم صلى الله
عليه وعلى آله وعلى جميع النبيين وسلم.
53

تفسير سورة " ص "
وهي مكية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قرأ أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق " صاد " بكسر الدال والمعنى
ماثل القرآن بعملك وقاربه بطاعتك وكذا فسره الحسن أي انظر أين عملك منه
وقال الجمهور: أنه حرف معجم يدخله ما يدخل أوائل السور من الأقوال ويختص هذا
بأن قال بعض الناس معناه صدق محمد صلى الله عليه وسلم وقال الضحاك معناه صدق الله
وقال محمد بن كعب القرظي هو مفتاح أسماء الله: صمد صادق ونحوه
وقوله (والقرءان ذي الذكر) قسم قال ابن عباس وغيره معناه ذي الشرف
الباقي المخلد.
54

وقال قتادة ذي التذكرة للناس والهداية لهم وقالت فرقة ذي الذكر للأمم والقصص
والغيوب (ت) ولا مانع [من] أن يراد الجميع قال (ع) وأما جواب القسم
فاختلف فيه فقالت فرقة الجواب في قوله (ص) إذ هو بمعنى صدق الله أو صدق
محمد صلى الله عليه وسلم وقال الكوفيون والزجاج الجواب في قوله (أن ذلك لحق تخاصم أهل
النار [ص: 64] وقال بعض البصريين ومنهم الأخفش الجواب قي قوله: (إن كل الا
كذب الرسل) [ص: 14] قال (ع) وهذان القولان بعيدان وقال قتادة
والطبري الجواب مقدر قبل " بل " وهذا هو الصحيح وتقديره: والقرآن ما الأمر كما
يزعمون ونحو هذا من التقدير فتدبره وقال أبو حيان: الجواب انك لمن
المرسلين وهو ما أثبت جوابا للقرآن حين أقسم به انتهى وهو حسن قال أبو حيان
وقوله (في عزة) هي قراءة الجمهور وعن الكسائي بالغين المعجمة والراء اي في
غفلة انتهى.
والعزة هنا: المعازة والمغالبة والشقاق ونحوه أي: هم في شق والحق في شق
وكم للتكثير وهي خبر فيه مثال ووعيد وهي في موضع نصب ب‍ (أهلكنا).
وقوله (فنادوا) معناه: مستغيثين والمعنى أنهم فعلوا ذلك بعد المعاينة فلم ينفعهم
ذلك ولم يكن في وقت نفع و (لات) بمعنى ليس واسمها مقدر عند سيبويه تقديره
ولات الحين حين مناص والمناص المفر ناص ينوص: إذا فر وفات وسلم قال ابن عباس
المعنى ليس بحين نزولا ولا فرار ضبط القوم والضمير في (عجبوا) الكفار قريش.
55

قوله تعالى (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم...) الآية
روى في قصص هذه الآية أن اشراف قريش اجتمعوا عند مرض أبي طالب وقالوا أن
من القبيح علينا أن يموت أبو طالب ونؤذي محمدا بعده فتقول العرب تركوه مدة عمه
فلما مات آذوه إن ولكن لنذهب إلى أبي طالب فينصفنا منه ويربط بيننا وبينه ربطا فنهضوا
إليه فقالوا يا أبا طالب أن محمدا يسب آلهتنا ويسفه آراءنا ونحن لا نقاره على
ذلك ولكن افصل بيننا وبينه في حياتك بأن يقيم في منزله يعبد ربه الذي يزعم ويدع آلهتنا
وسبها ولا يعرض لأحد منا بشئ من هذا فبعث أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
يا محمد إن قومك قد دعوك إلى النصفة وهي أن تدعهم وتعبد ربك وحدك فقال أو
غير ذلك يا عم قال وما هو قال يعطونني كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم
الجزية بها العجم قالوا وما هي فانا نبادر إليها قال لا إله إلا الله فنفروا عند
ذلك وقالوا ما يرضيك منا غير هذا قال " والله لو أعطيتموني الأرض ذهبا ومالا "
وفي رواية " لو جعلتم الشمس في يميني والقمر في شمالي ما أرضاني منكم غيرها " فقاموا
عند ذلك وبعضهم يقول لبعض (اجعل الآلهة إلها واحدا أن هذا لشئ عجاب)
ويرددون هذا المعنى وعقبة بن أبي معيط يقول (امشوا واصبروا على آلهتكم) فقوله
تعالى (وانطلق الملأ) عبارة عن خروجهم عن أبي طالب وانطلاقهم من ذلك الجمع
هذا قول جماعة من المفسرين.
وقوله (أن امشوا) نقل الامام الفخر ان " أن " بمعنى " أي " انتهى وقولهم
(أن هذا لشئ يراد) يريدون ظهور محمد وعلوه أي يراد منا الانقياد له وأن نكون له
اتباعا ويريدون بالملة الآخرة ملة عيسى قال ابن عباس وغيره وذلك أنها ملة شهر فيها التثليث.
56

ثم توعدهم سبحانه بقوله (بل لما يذوقوا عذاب) أي: لو أذاقوه لتحققوا أن
هذه الرسالة [حق].
وقوله تعالى (أم عندهم خزائن رحمة ربك...) الآية عبارة الثعلبي (أم
عندهم خزائن رحمة ربك) يعني مفاتيح النبوة حتى يعطوا من اختاروا نظيرها (أهم
يقسمون رحمة ربك) [الزخرف: 32].
قوله تعالى: (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما) يعني أن ذلك
لله تعالى يصطفي من يشاء (فليرتقوا في الأسباب) فليصعدوا فيما يوصلهم إلى
السماوات فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون وهذا أمر توبيخ وتعجيز انتهى ونحوه
كلام (ع)
ثم وعد الله نبيه النصر فقال: (جند ما هنالك مهزوم) أي: مغلوب ممنوع من
الصعود إلى السماء (من الأحزاب) أي من جملة الأحزاب قال (ع) وهذا
تأويل قوي وقالت فرقة الإشارة ب‍ (هنالك) إلى حماية الأصنام وعضدها أي هؤلاء
القوم جند مهزوم في هذه السبيل وقال مجاهد: الإشارة ب‍ (هنالك) إلى يوم بدر وهي
من الأمور المغيبة أخبر بها عليه السلام.
" وما " في قوله (جند ما) زائدة مؤكدة وفيها تخصيص وباقي الآية بين.
وقال أبو حيان (جند) خبر مبتدأ محذوف أي هم جند وما زائدة أو صفة أريد
بها التعظيم على سبيل الهزء بهم أو الاستخفاف لأن الصفة تستعمل على هذين
المعنيين و (هنالك) ظرف مكان يشار به إلى البعيد في موضع صفة ل‍ (جند) أي
كائن هنالك أو متعلق ب‍ (مهزوم) انتهى.
57

وقوله تعالى (وما ينظر هؤلاء) أي ينتظر (الا صيحة واحدة) قال قتادة:
توعدهم سبحانه بصيحة القيامة والنفخ في الصور قال الثعلبي وقد روي هذا التفسير
مرفوعا وقالت طائفة توعدهم الله بصيحة يهلكون بها في الدنيا (ما لها من فواق) قرأ
الجمهور بفتح الفاء وقرأ حمزة والكسائي " فواق " بضم الفاء قال ابن عباس
هما بمعنى أي ما لها من انقطاع وعودة بل هي متصلة حتى تهلكهم ومنه: فواق
الحلب وهي المهلة التي بين " الشيخين " وقال ابن زيد وغيره المعنى مختلف فالضم
كما تقدم من معنى فواق الناقة والفتح بمعنى الإفاقة أي لا يفيقون فيها كما يفيق
المريض والمغشي عليه والقط الحظ والنصيب والقط أيضا الصك والكتاب من
السلطان بصلة ونحوه واختلف في القط هنا ما أرادوا به فقال ابن جبير أرادوا به
عجل لنا نصيبنا من الخير والنعيم في دنيانا وقال أبو العالية أرادوا عجل لنا صحفنا
بأيماننا وذلك لما سمعوا في القرآن أن الصحف تعطي يوم القيامة بالأيمان والشمائل
وقال ابن عباس وغيره أرادوا ضد هذا من العذاب ونحوه وهذا نظير قولهم (فأمطر
58

علينا حجارة من السماء) [الأنفال: 32] قال (ع) وعلى كل تأويل فكلامهم خرج
على جهة الاستخفاف والهزء.
(واذكر عبدنا داود ذا الأيد) أي فتأس به ولا تلتفت إلى هؤلاء والأيد القوة في
الدين والشرع والصدع به وال‍ (أواب) الرجاع إلى طاعة الله وقال مجاهد وابن زيد
وفسره السدي بالمسبح وتسبيح الجبال هنا حقيقة (والاشراق) ضياء الشمس
وارتفاعها وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل قال الثعلبي وليس الاشراق طلوع
الشمس وإنما هو صفاؤها وضوءها انتهى. قال ابن العربي في " أحكامه " قال [ابن
عباس]: ما كنت أعلم صلاة الضحى في القرآن حتى سمعت الله تعالى يقول: (يسبحن
بالعشي والاشراق) قال ابن العربي أما صلاة الضحى فهي في هذه الآية نافلة
مستحبة ولا ينبغي أن تصلى حتى تتبين الشمس طالعة قد أشرق نورها وفي صلاة
الضحى أحاديث أصولها ثلاثة: الأول حديث أبي ذر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يصبح
على كل سلامي من ابن آدم صدقة تسليمه على من لقي صدقة وأمره بالمعروف صدقة
ونهيه عن المنكر صدقة وإماطته الأذى عن الطريق صدقة وبضعه أهله صدقة ويجزئ
من ذلك كله ركعتان من الضحى.
59

الثاني: حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قعد
في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول الا خيرا
غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر "
الثالث: حديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ثماني ركعات انتهى.
* ت * وروى أبو عيسى الترمذي وغيره عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى
ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة " قال الترمذي حديث حسن انتهى قال
الشيخ أبو الحسن ابن بطال في شرحه للبخاري وعن زيد بن أسلم قال سمعت
عبد الله بن عمر يقول لأبي ذر أوصني يا عم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني
فقال " من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ومن صلى أربعا كتب من
60

العابدين ومن صلى ستا لم يلحقه ذلك اليوم ذنب ومن صلى ثمانيا كتب من القانتين
ومن صلى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة " انتهى.
(والطير) عطف على الجبال أي وسخرنا الطير و (محشورة) معناه مجموعة
والضمير في " له " قالت فرقة هو عائد على الله عز وجل ف‍ (كل) على هذا يراد به
داود والجبال والطير وقالت فرقة هو عائد على داود ف (كل) على هذا يراد به الجبال
والطير.
وقوله تعالى: (وشددنا ملكه) عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وجند
ونعمة (وفصل الخطاب) قال ابن عباس وغيره هو فصل القضا بين الناس بالحق
واصابته وفهمه وقال الشعبي أراد قول " أما بعد " فإنه أول من قالها قال
* ع * والذي يعطيه اللفظ أنه آتاه الله فصل الخطاب بمعنى أنه إذا خاطب في نازلة
فصل المعنى وأوضحه لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف.
61

وقوله تعالى (وهل أتاك نبأ الخصم...) الآية مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم واستفتحت
بالاستفهام تعجيبا من القصة وتفخيما لها والخصم يوصف به الواحد والاثنان والجمع
(وتسوروا) معناه: علوا سوره وهو جمع " سورة " وهي القطعة من البناء وتحتمل هذه
الآية أن يكون المستور اثنين فقط فعبر عنهما بلفظ الجمع ويحتمل أن يكون مع كل
واحد من الخصمين جماعة و (المحراب) الموضع الأرفع من القصر أو المسجد وهو
موضع التعبد وإنما فزع منهم من حيث دخلوا من غير الباب ودون استيذان ولا خلاف
بين أهل التأويل أن هذا الخصم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود فاختصموا
إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها فأفتاهم بفتيا وهي واقعة عليه في نازلته ولما شعر
وفهم المراد خر راكعا وأناب واستغفر وأما نازلته التي وقع فيها ففيها للقصاص
تطويل فلم نر سوق جميع ذلك لعدم صحته.
وروي في ذلك عن ابن عباس ما معناه أن داود كان في محرابه يتعبد إذ دخل عليه
طائر حسن الهيئة فمد يده إليه ليأخذه فزال مطمعا له من موضع إلى موضع حتى اطلع
على امرأة لها منظر وجمال فخطر في نفسه أن لو كانت من نسائه وسأل عنها فأخبر
أنها امرأة أوريا وكان في الجهاد فبلغه فبلغه أنه استشهد فخطب المرأة وتزوجها فكانت أم
سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله الخصم ليفتي قالت فرقة من العلماء وإنما
وقعت المعاتبة على همه ولم يقع منه شئ سوى الهم وكان لداود فيما روي تسع
وتسعون امرأة وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق وقد قال علي بن أبي
طالب من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود جلدته حدين لما ارتكب من حرمة
من رفع الله قدره.
وقوله (خصمان) تقديره: نحن خصما و (بغى) معناه اعتدى واستطال
(ولا تشطط) معناه: ولا تتعد في حكمك و (سواء الصراط) معناه وسطه.
62

وقوله: (إن هذا أخي) [اعراب " أخي "] عطف بيان وذلك أن ما جرى من هذه
الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف فإنه نعت محض والعامل فيه هو العامل
في الموصوف وما كان منها مما ليس يوصف به بتة فهو بدل والعامل فيه مكرر أي
تقديرا يقال جاءني أخوك زيد فالتقدير: جاءني أخوك جاءني زيد وما كان منها مما لا
يوصف به واحتيج إلى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان.
" والنعجة " في هذه الآية عبر بها عن المرأة والنعجة في كلام العرب تقع على أنثى
بقر الوحش وعلى أنثى الضأن وتعبر العرب بها عن المرأة.
وقوله (أكفلنيها) أي ردها في كفالتي وقال ابن كيسان: المعنى: اجعلها كفلي
أي نصيبي (وعزني) معناه غلبني ومنه قول العرب " من عز بز " أي: من غلب
سلب ومعنى قوله (في الخطاب) أي كان أوجه مني فإذا خاطبته كان كلامه أقوى
من كلامي وقوته أعظم من قوتي.
ويروى أنه لما قال (لقد ظلمك بسؤال نعجتك) تبسما عند ذلك وذهبا ولم
يرهما لحينه فشعر حينئذ للأمر ويروى أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه.
(والخلطاء) الشركاء في الأملاك والأمور وهذا القول من داود وعظ وبسط لقاعدة
حق ليحذر الخصم من الوقوع في خلاف الحق.
وقوله تعالى " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " قال أبو حيان
(وقليل) خبر مقدم و " ما " زائدة تفيد معنى التعظيم انتهى.
وروى ابن المبارك في " رقائقه " بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أشد الأعمال ذكر الله
على كل حال والأنصاف من نفسك ومواساة الأخ في المال " انتهى.
وقوله تعالى (وظن داود إنما فتناه) معناه شعر للأمر وعلمه و (فتناه) أي
ابتليناه وامتحناه وقال البخاري قال ابن عباس (فتناه) أي اختبرناه وأسند البخاري
63

عن مجاهد قال سألت ابن عباس عن سجدة " ص " أين تسجد فقال أو ما تقرأ (ومن
ذريته داود وسليمان) [الأنعام: 84] إلى قوله: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [الأنعام: 90]
فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها
رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى فتأمله وما فيه من الفقه وقرأ أبو عمرو في رواية على ابن
نصر " فتناه " بتخفيف التاء والنون على اسناد الفعل للخصمين أي امتحناه عن
أمرنا قال أبو سعيد الخدري " رأيتني في النوم اكتب سورة " ص " فلما بلغت قوله
(وخر راكعا وأناب) سجد القلم ورأيتني في منام آخر وشجرة تقرأ سورة " ص " فلما
بلغت هذا سجدت وقالت اللهم اكتب لي بها أجرا وحط عني بها وزرا وارزقني
بها شكرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود فقال النبي صلى الله عليه وسلم وسجدت أنت يا أبا
سعيد قلت لا قال أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة ثم تلا نبي الله الآيات حتى
بلغ (وأناب) فسجد وقال كما قالت الشجرة "
(وأناب) معناه: رجع * ت * وحديث سجود الشجرة رواه الترمذي وابن ماجة
والحاكم وابن حبان في " صحيحيهما " وقال الحاكم: وهو من شرط الصحة انتهى من
" السلاح "
والزلفى: القربة والمكانة الرفيعة والمآب المرجع في الآخرة من آب فقال يؤوب إذا
رجع.
وقوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) تقدير الكلام: وقلنا له
يا داود قال * ع * ولا يقال خليفة الله الا لرسوله وأما الخلفاء فكل واحد
64

خليفة للذي قبله وما يجئ في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز وغلو
الا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرزوا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر خليفة
رسول الله وبهذا كان يدعي مدة خلافته فلما ولي عمر قالوا: يا خليفة خليفة
رسول الله فطال الأمر ورأوا أنه في المستقبل سيطول أكثر فدعوه أمير المؤمنين
وقصر هذا الاسم على الخلفاء.
وقوله (فيضلك) قال أبو حيان منصوب في جواب النهي (ص) أبو البقاء
وقيل مجزوم عطفا على النهي وفتحت [اللام] لالتقاء الساكنين انتهى.
وقوله سبحانه (إن الذين يضلون عن سبيل الله) إلى قوله: (وليتذكر أولوا
الألباب) اعتراض فصيح بين الكلامين من أمر داود وسليمان وهو خطاب لنبينا
محمد صلى الله عليه وسلم وعظة لأمته و (نسوا) في هذه الآية معناه تركوا ثم وقف تعالى على الفرق
عنده بين المؤمنين العاملين بالصالحات وبين المفسدين الكفرة وبين المتقين والفجار وفي
هذا التوقيف حض على الايمان والتقوى وترغيب في عمل الصالحات قال ابن
العربي نفي الله تعالى المساواة بين المؤمنين والكافرين وبين المتقين والفجار فلا
مساواة بينهم في الآخرة كما قاله المفسرون ولا في الدنيا أيضا لأن المؤمنين المتقين
معصومون دما ومالا وعرضا والمفسدون في الأرض والفجار مباحو الدم والمال
والعرض فلا وجه لتخصيص المفسرين بذلك في الآخرة دون الدنيا انتهى من
" الأحكام " وهذا كما قال وقوله تعالى في الآية الأخرى: (سواء محياهم ومماتهم)
[الجاثية: 21] يشهد له وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) قال الغزالي في " الاحياء "
اعلم أن القرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه
ويعظم خوفه إن كان مؤمنا بما فيه وترى الناس يهذونه هذا ويخرجون الحروف من
مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها لا يهمهم الالتفات إلى معانيها والعمل
65

بما فيها وهل في العلم غرور يزيد على هذا انتهى من كتاب ذم الغرور.
واختلف المتأولون في قصص هذه الخيل المعروضة على سليمان عليه السلام
فقال الجمهور أن سليمان عليه السلام عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه
فأجريت بين يديه عشاء فتشاغل بجريها ومحبتها حتى فاته صلاة العشي فأسف
لذلك وقال ردوا علي الخيل فطفق يمسح سوقها وأعناقها بالسيف قال الثعلبي وغيره
وجعل ينحرها تقربا إلى الله تعالى حيث اشتغل بها عن طاعته وكان ذلك مباحا لهم كما
أبيح لنا بهيمة الأنعام قال * ع * فروي أن الله تعالى أبدله منها أسرع منها وهي الريح قال ابن العربي في " أحكامه " و (الخير) هنا هي الخيل وكذلك قرأها ابن
مسعود " إني أحببت حب الخيل " انتهى و " الصافن " الذي يرفع إحدى يديه وقد
يفعل ذلك برجله وهي علامة الفراهية وأنشد الزجاج [الكامل]
ألف الصفون فما يزال كأنه * مما يقوم على الثلاث كسيرا.
قال بعض العلماء: (الخير) هنا أراد به الخيل والعرب تسمى الخيل الخير وفي
مصحف ابن مسعود " حب الخيل " باللام.
والضمير في (توارت) للشمس وإن كان لم يتقدم لها ذكر لأن المعنى يقتضيها
وأيضا فذكر العشي يتضمنها وقال بعض المفسرين (حتى توارت بالحجاب) أي الخيل
دخلت اصطبلاتها وقال ابن عباس والزهري مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف
بل بيده تكريما لها ورجحه الطبري وفي البخاري (فطفق مسحا) يمسح أعراف
الخيل وعراقيبها انتهى وعن بعض العلماء أن هذه القصة لم يكن فيه فوت صلاة
وقالوا: عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة فأشار إليهم أي أني في صلاة
66

فأزالوها عنه حتى أدخلوها في الاصطبلات فقال لما فرغ من صلاته أني أحببت
حب الخير أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي كأنه يقول فشغلني ذلك
عن رؤيت الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها ردوها علي فطفق يمسح أعرافها وسوقها
تكرمة لها أي: لأنها معدة للجهاد وهذا هو الراجح عند الفخر قال ولو كان معنى
مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) [المائدة: 6]
قطعها * ت * وهذا لا يلزم للقرينة في الموضعين اه‍. قال أبو حيان (وحب
الخير) قال الفراء: مفعول به (وأحببت) مضمن معنى آثرت وقيل منصوب على
المصدر التشبيهي أي حبا مثل حب الخير انتهى.
وقوله (عن ذكر ربي) " عن " علي كل تأويل هنا للمجاوزة من شئ إلى شئ
وتدبره فإنه مطرد.
وقوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان...) الآية * ت * اعلم - رحمك الله - أن
الناس قد أكثروا في قصص هذه الآية بما لا يوقف على صحته وحكى الثعلبي في بعض
الروايات أن سليمان عليه السلام لما فتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه
فأعاده إلى يده فسقط وأيقن بالفتنة وأن آصف بن برخيا قال له يا نبي الله انك
مفتون ولذلك لا يتماسك الخاتم في يدك أربعة عشر يوما ففر إلى الله تعالى تائبا من
ذنبك وأنا أقوم مقامك في عالمك إن شاء الله تعالى إلى أن يتوب الله تعالى عليك ففر
سليمان هاربا إلى ربه منفردا لعبادته وأخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت وقيل
أن الجسد الذي قال الله تعالى (وألقينا على كرسيه جسدا) هو آصف كاتب سليمان
وهو الذي عنده علم من الكتاب وأقام آصف في ملك سليمان وعياله يسير بسيرته
الحسنة ويعمل بعمله أربعة عشر يوما إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله تعالى
ورد الله تعالى عليه ملكه فأقام آصف عن مجلسه وجلس سليمان على كرسيه وأعاد
الخاتم وقال سعيد بن المسيب إن سليمان بن داود عليهما السلام احتجب عن
الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه أن يا سليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم
67

تنظر في أمور عبادي ولم تنصف مظلوما من ظالم وذكر حديث الخاتم كما تقدم
انتهى وهذا الذي نقلناه أشبه ما ذكر وأقرب إلى الصواب والله أعلم وقال عياض
قوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان) معناه ابتليناه وابتلاؤه هو ما حكي في الصحيح أنه
قال " لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل:
" إن شاء الله " فلم تحمل منهن الا امرأة جاءت بشق رجل " الحديث قال أصحاب
المعاني: والشق هو الجسد الذي ألقى على كرسيه حين عرض عليه وهي كانت عقوبته
ومحنته وقيل بل مات والقي على كرسيه ميتا وأما عدم استثنائه فأحسن الأجوبة
عنه ما روي في الحديث الصحيح أنه نسي أن يقول: " إن شاء الله " ولا يصح ما نقله
الأخباريون من تشبه الشيطان به وتسلطه على ملكه وتصرفه في أمته لأن الشياطين لا
يسلطون على مثل هذا وقد عصم الأنبياء من مثله انتهى * ت * قال ابن العربي
(وألقينا على كرسيه جسدا) يعني جسده لا أجساد الشياطين كما يقوله الضعفاء انتهى
من " كتاب تفسير الأفعال " له قال ابن العربي في " أحكامه " وما ذكره بعض المفسرين
من أن الشيطان أخذ خاتمه وجلس مجلسه وحكم الخلق على لسانه - قول باطل
قطعا - لأن الشياطين لا يتصورون بصور الأنبياء ولا يمكنون من ذلك حتى يظن
الناس أنهم مع نبيهم في حق وهم مع الشياطين في باطل ولو شاء ربك لوهب من
المعرفة [والدين] لمن قال هذا القول ما يزعه عن ذكره ويمنعه من أن يسطره هذا في ديوان
من بعده انتهى.
وقوله: (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد...) الآية قال (ع) من المقطوع
به أن سليمان عليه السلام إنما قصد بذلك قصدا برا لأن للانسان أن يرغب من فضل
الله فيما لا يناله أحد لا سيما بحسب المكانة والنبوءة.
68

وقوله تعالى: (فسخرنا له الريح...) الآية كان لسليمان كرسي فيه جنوده
وتأتي عليه الريح الاعصار فتنقله من الأرض حتى يحصل في الهواء ثم تتولاه الرخاء
وهي اللينة القوية لا
تأتي فيها دفع مفرطة فتحمله غدوها شهرا ورواحها شهر و (حيث
أصاب) معناه: حيث أراد قاله وهب وغيره قال (ع) ويشبه أن (أصاب)
معدي " صاب يصوب " أي: حيث وجه جنوده وقال الزجاج معناه قصد قلت
وعليه اقتصر أبو حيان فإنه قال: أصاب أي قصد وأنشد الثعلبي: [المتقارب]
أصاب الكلام فلم يستطع * فأخطأ الجواب لدي المفصل.
انتهى
وقوله (كل بناء) بدل من (الشياطين) و (مقرنين) معناه موثقين قد قرن
بعضهم ببعض و (الأصفاد) القيود والأغلال قال الحسن والإشارة بقوله (هذا
عطاؤنا...) الآية إلى جميع ما أعطاه الله سبحانه من الملك وأمره بأن يمن على من
يشاء ويمسك عن من يشاء فكأنه وقفه على قدر النعمة ثم أباح له التصرف فيه بمشيئته
وهذا أصح الأقوال وأجمعها لتفسير الآية وتقدمت قصة أيوب في سورة الأنبياء.
69

وقوله (انى مسني الشيطان بنصب...) الآية النصب المشقة فيحتمل أن يشير
إلى مسه حين سلطه الله على إهلاك ماله وولده وجسمه حسبما روي في ذلك وقيل أشار
إلى مسه إياه في تعرضه لأهله وطلبه منها أن تشرك بالله فكان أيوب تشكي هذا الفصل
وكان عليه أشد من مرضه وهنا في الآية محذوف تقديره فاستجاب له وقال (اركض
برجلك) فروي أن أيوب ركض الأرض فنبعت له عين ماء صافية باردة فشرب منها فذهب
كل مرض في داخل جسده ثم اغتسل فذهب ما كان في ظاهر بدنه وروي أن الله تعالى
وهب له أهله وماله في الدنيا ورد من مات منهم وما هلك من ماشيته وحاله ثم بارك له
في جميع ذلك وروي أن هذا كله وعد به في الآخرة والأول أكثر في قول المفسرين.
* ت * وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما
قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي
بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك
أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن
تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي الا اذهب
الله غمه وأبدله مكان حزنه فرحا قالوا يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات
قال: أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن قال صاحب " السلاح " رواه الحاكم في
" المستدرك " وابن حبان في " صحيحه " * ت * ورويناه من طريق النووي عن ابن
السني بسنده عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه " أنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك
في قبضتك " وفيه " فقال رجل من القوم: إن المغبون لمن غبن هؤلاء الكلمات فقال:
أجل فقولهن وعلموهن من قالهن التماس ما فيهن اذهب الله تعالى حزنه وأطال
فرحه انتهى.
70

وقوله: (وذكرى) معناه موعظة وتذكرة يعتبر بها أولوا العقول ويتأسون بصبره في
الشدائد ولا ييئسون من رحمة الله على حال.
وروي أن أيوب عليه السلام كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه فيتلقاها الشيطان
في صورة طبيب ومرة في هيئة ناصح وعلى غير ذلك فيقول لها لو سجد هذا
المريض للصنم الفلاني لبرئ لو ذبح عناقا للصنم الفلاني لبرئ ويعرض عليها وجوها
من الكفر فكانت هي ربما عرضت شيئا من ذلك على أيوب فيقول لها لقيت عدو الله
في طريقك فلما أغضبته بهذا ونحوه حلف عليها لئن برئ من مرضه ليضربنها مائة
سوط فلما برئ أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثا فيه مائة قضيب " والضغث " القبضة
الكبيرة من القضبان ونحوها من الشجر الرطب قاله الضحاك وأهل اللغة فيضرب به
ضربة واحدة فتبر يمينه وهذا حكم قد ورد في شرعنا عن النبي صلى الله عليه وسلم [مثله في حد الزنا
لرجل زمن فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم] بعذق نخلة فيه شماريخ مائة أو نحوها فضرب
ضربة ذكر الحديث أبو داود وقال بهذا بعض فقهاء الأمة وليس يرى ذلك مالك بن
أنس وأصحابه وكذلك جمهور العلماء على ترك القول به وأن الحدود والبر في الأيمان
لا تقع الا بتمام عدد الضربات وقرأ الجمهور " أولي الأيدي " يعني أولى القوة في
طاعة الله قاله ابن عباس ومجاهد وقالت فرقة معناه أولي الأيدي والنعم التي
أسداها الله إليهم من النبوءة والمكانة (والأبصار) عبارة عن البصائر أي يبصرون
الحقائق وينظرون بنور الله تعالى وقرأ نافع وحده " بخالصة ذكرى الدار " على
71

الإضافة وقرأ الباقون " بخالصة " على تنوين " خالصة " ف‍ " ذكرى " على هذه القراءة بدل من
خالصة فيحتمل أن يكون معنى الآية: انا أخلصناهم بان خلص لهم التذكير بالدار الآخرة
ودعاء الناس إليها وهذا قول قتادة وقيل المعنى: انا أخلصناهم بأن خلص لهم
ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم لهم والعمل بحسب ذلك وهذا قول مجاهد وقال ابن
زيد المعنى أنا وهبناهم أفضل ما في الدار الآخرة وأخلصناهم ولا به وأعطيناهم إياه
ويحتمل أن يريد بالدار دار الدنيا على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس.
وقوله تعالى: (هذا ذكر) معنيين:
أحدهما أن يشير إلى مدح من ذكر وإبقاء الشرف له فيتأيد بهذا قول من قال أن
الدار يراد بها الدنيا.
والثاني: أن يشير بهذا إلى القرآن أي ذكر للعالم.
(وجنات) بدل من (حسن مآب) و (مفتحة) نعت ل‍ (جنات) و (الأبواب)
مفعول لم يسم فاعله وباقي الآية بين.
72

وقوله سبحانه: (هذا وان للطاغين لشر مآب...) الآية التقدير الأمر هذا
ويحتمل أن يكون التقدير هذا واقع أو نحوه و " الطغيان " هنا في الكفر.
وقوله تعالى: (هذا فليذوقوه حميم وغساق) قرأ الجمهور: " غساق " - بتخفيف
السين - وهو اسم بمعنى السائل قال قتادة الغساق ما يسيل من صديد أهل النار
قال * ص * الغساق السائل وعن أبي عبيدة أيضا البارد المنتن بلغة الترك انتهى
قال الفخر (هذا فليذوقوه حميم وغساق) فيه وجهان الأول على التقديم والتأخير
والتقدير: هذا حميم وغساق أي منه حميم وغساق انتهى * ت * والوجه الثاني: أن
الآية ليس فيها تقديم ولا تأخير وهو واضح وقرأ الجمهور (وآخر) بالافراد ولهم عذاب
آخر ومعنى (من شكله) أي: من مثله وضربه وقرأ أبو عمرو وحده " وأخر " على
الجمع و (أزواج) معناه أنواع والمعنى لهم حميم وغساق وأغذية حدثنا أخر من ضرب
ما ذكر.
وقوله تعالى: (هذا فوج) هو مما يقال لأهل النار إذا سيق عامة الكفار والاتباع
إليها لأن رؤساءهم يدخلون النار أولا والأظهر أن قائل ذلك لهم ملائكة العذاب وهو
الذي حكاه الثعلبي وغيره يحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض فيقول البعض
الآخر (لا مرحبا بهم) أي لا سعة مكان ولا خير يلقونه.
وقوله: (بل أنتم لا مرحبا بكم) حكاية لقول الاتباع لرؤسائهم اي أنتم قدمتموه
لنا بإغوائكم وأسلفتم لنا ما أوجب هذا قال العراقي [الرجز]
73

مقتحم أي داخل بشدة * ذلك مجاوز لما اقتحم بالشدة.
انتهى.
وقوله تعالى (قالوا ربنا من قدم لنا هذا...) الآية هو حكاية لقول الاتباع أيضا
دعوا على رؤسائهم بأن يكون عذابهم مضاعفا.
وقوله تعالى (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار...) الآية:
الضمير في (قالوا) لأشراف الكفار ورؤسائهم وهذا مطرد في كل أمة وروي أن قائلي
هذه المقالة أهل القليب كأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة ومن جرى مجراهم
وأن الرجال الذين يشيرون إليهم هم كعمار بن ياسر وبلال وصهيب ومن جرى
مجراهم قاله مجاهد وغيره والمعنى: كنا في الدنيا نعدهم أشرارا وقرأ حمزة
والكسائي وأبو عمرو " اتخذناهم " بصلة الألف على أن يكون ذلك في موضع الصفة
لرجال وقرأ الباقون " اتخذناهم " بهمزة الاستفهام ومعناها تقرير أنفسهم على هذا على
جهة التوبيخ لها والأسف أي اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك وقرأ نافع وحمزة
والكسائي " سخريا " بضم السين من السخرة والاستخدام وقرأ الباقون " سخريا "
بكسر السين ومعناها المشهور من السخر الذي هو بمعنى الهزء وقولهم (أم
زاغت) معادلة لما في قولهم (ما لنا لا نرى) والتقدير في هذه الآية أمفقودون هم أم
هم معنا ولكن زاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم والزيغ الميل.
ثم أخبر تعالى نبيه بقوله (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) والإشارة
74

بقوله تعالى (قل هو نبأ عظيم) إلى التوحيد والمعاد فهي إلى القرآن وجميع ما تضمن
وعظمه أن التصديق به نجاة والتكذيب به هلكة ووبخهم بقوله (أنتم عنه معرضون) ثم
أمر عليه السلام أن يقول محتجا على صحة رسالته " (ما كان لي من علم بالملإ
الأعلى) لولا أن الله أخبرني بذلك " والملأ الأعلى أراد به الملائكة واختلف في الشئ
الذي هو اختصامهم فيه فقالت فرقة اختصامهم في شأن آدم كقولهم (أتجعل فيها من
يفسد فيها) [البقرة: 30] ويدل على ذلك ما يأتي من الآيات وقالت فرقة بل اختصامهم
في الكفارات وغفر الذنوب ونحوه فان العبد إذا فعل حسنة اختلفت الملائكة في قدر
ثوابه في ذلك حتى يقضي الله بما شاء وروي في هذا حديث فسره ابن فورك يتضمن أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال له ربه عز وجل في نومه " أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا
قال: اختصموا في الكفارات والدرجات فأما الكفارات: فإسباغ الوضوء في الغدوات
الباردة ونقل الاقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة وأما الدرجات: فإفشاء
السلام واطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام " الحديث قال ابن العربي في
" أحكامه " وقد رواه الترمذي صحيحا وفيه " قال: سل قال: اللهم إني أسألك فعل
الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في
قوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب من يحبك وعملا يقرب إلى حبك " قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها حق فارسموها، كان ثم تعلموها " انتهى.
وقوله: (أن يوحى إلي إلا انما أنا نذير مبين) قال الفراء: إن شئت جعلت " انما " في
موضع رفع كأنه قال: ما يوحي إلي الا الانذار أو: ما يوحي إلي الا أني نذير مبين
انتهى وهكذا قال أبو حيان " إن " بمعنى: " ما " وباقي الآية بين مما تقدم في " البقرة "
وغيرها.
75

وقوله تعالى: (بيدي) عبارة عن القدرة والقوة.
وقوله (استكبرت) المعنى: أحدث لك الاستكبار الآن أم كنت قديما ممن لا
يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك وهو على جهة التوبيخ له.
وقوله تعالى: (قال فاخرج منها فإنك رجيم * وان عليك لعنتي إلى يوم
الدين * قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت
المعلوم) الآية " الرجيم " أي: المرجوم بالقول السئ واللعنة: الابعاد.
وقوله سبحانه: (فالحق والحق أقول) قال مجاهد المعنى فالحق أنا وقرأ
الجمهور " فالحق والحق " بنصب الاثنين فأما الثاني فمنصوب ب‍ " أقول " وأما الأول
فيحتمل أن ينتصب على الاغراء ويحتمل ان ينتصب على القسم على اسقاط حرف
القسم كأنه قال فوالحق ثم حذف الحرف كما تقول الله لأفعلن تريد والله
ويقوي ذلك قوله (لأملأن) وقد قال سيبويه قلت للخليل ما معنى " لأفعلن " إذا
جاءت مبتدأة فقال: هي بتقدير قسم منوي وقالت فرقة " الحق " الأول منصوب بفعل
مضمر وقرأ ابن عباس " فالحق والحق " برفع الاثنين وقرأ عاصم وحمزة " فالحق "
بالرفع و " الحق " بالنصب وهي قراءة مجاهد وغيره.
76

ثم أمر الله تعالى نبيه أن يخبرهم بأنه ليس بسائل منهم عليه أجرا وأنه ليس ممن يتكلف
ما لم يجعل إليه ولا يختلي أو بغير ما هو فيه قال الزبير بن العوام نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم
" اللهم اغفر للذين لا يدعون ولا يتكلفون الا اني برئ من التكلف وصالحو أمتي "
وقوله (إن هو) يريد القرآن و (ذكر) بمعنى تذكرة ثم توعدهم بقوله (ولتعلمن
نبأه بعد حين) وهذا على خلاف تقديره لتعلمن صدق نبأه بعد حين قال ابن زيد أشار
إلى يوم القيامة وقال قتادة والحسن أشار إلى الآجال التي لهم لأن كل واحد منهم
يعرف الحقائق بعد موته.
77

تفسير سورة الزمر
وهي مكية باجماع
غير ثلاث آيات نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب وهي (قل
يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم...) الآيات وقالت فرقة إلى آخر السورة هو مدني وقيل فيها
مدني سبع آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (تنزيل الكتاب...) الآية (تنزيل) رفع بالابتداء والخبر قوله:
(من الله) وقالت فرقة (تنزيل) خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا تنزيل والإشارة إلى
القرآن قاله المفسرون ويظهر لي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله فكأنه أخبر
اخبارا مجردا أن الكتب الهادية الشارعة انما تنزيلها من الله تعالى وجعل هذا الاخبار
تقدمة وتوطئة لقوله: (إنا أنزلنا إليك الكتاب).
وقوله: (بالحق) معناه متضمنا الحق أي بالحق فيه وفي أحكامه واخباره
(والدين) هنا يعم المعتقدات وأعمال الجوارح قال قتادة (والدين الخالص) " لا إله إلا الله "
78

وقوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء...) الآية أي يقولون ما نعبدهم
الا ليقربونا إلى الله زلفى وفي مصحف ابن مسعود " قالوا ما نعبدهم " وهي قراءة ابن
عباس وغيره وهذه المقالة شائعة في العرب في الجاهلية يقولون في معبوداتهم من الأصنام
وغيرها ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله قال مجاهد وقد قال ذلك قوم من اليهود في
عزير وقوم من النصارى في عيسى.
و (زلفى) بمعنى قربة وتوصلة عبد [كأنهم] قالوا ليقربونا إلى الله تقريبا وكأن هذه
الطوائف كلها حتى نفوسها أقل من أن تتصل هي بالله فكانت ترى أن تتصل
بمخلوقاته.
و (زلفى) عند سيبويه مصدر في موضع الحال كأنه تنزل منزلة " متزلفين " عليه والعامل
فيه (يقربونا) وقرأ الجحدري " كذاب كفار " بالمبالغة فيهما وهذه المبالغة إشارة إلى
التوغل في الكفر.
وقوله تعالى: (لو أراد الله أن يتخذ ولدا) معناه اتخاذ التشريف والتبني وعلى
هذا يستقيم قوله تعالى: (لاصطفى مما يخلق) وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد
فمستحيل أن يتوهم في جهة الله تعالى ولا يستقيم عليه معنى قوله: (لاصطفى مما
يخلق) وقوله تعالى (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا) [مريم: 92] لفظ يعم اتخاذ
النسل واتخاذ الاصطفاء فأما الأول فمعقول وأما الثاني فمعروف بخبر الشرع ومما يدل
على أن معنى قوله (أن يتخذ) انما المقصود به اتخاذ اصطفاء وتبن قوله (مما
يخلق) أي من موجوداته ومحدثاته ثم نزه سبحانه نفسه تنزيها مطلقا عن كل ما لا يليق
به سبحانه.
وقوله تعالى (يكور الليل على النهار...) الآية معناه يعيد من هذا على هذا
ومنه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض فكان الذي يطول من النهار أو الليل
79

يصير منه على الآخر جزء فيستره وكأن الآخر الذي يقصر يلج في الذي يطول
فيستتر فيه.
وقوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) قيل: " ثم " هنا:
لترتيب الاخبار لا لترتيب الوجود وقيل قوله: (خلقكم من نفس واحدة) هو أخذ
الذرية من ظهر آدم وذلك شئ كان قبل خلق حواء * ت * وهذا يحتاج إلى سند
قاطع.
وقوله سبحانه: (في ظلمات ثلاث) قالت فرقة الأولى هي ظهر الأب ثم رحم
الأم ثم المشيمة في البطن وقال مجاهد وغيره هي المشيمة والرحم والبطن وهذه
الآيات كلها فيها عبر وتنبيه على توحيد الخالق الذي لا يستحق العبادة غيره وتوهين لأمر
الأصنام.
وقوله سبحانه: (أن تكفروا فان الله غني عنكم...) الآية قال ابن عباس
80

هذه الآية مخاطبة للكفار قال * ع * وتحتمل أن تكون مخاطبة لجميع الناس
لأن الله سبحانه غني عن جميع الناس وهم فقراء إليه واختلف المتأولون من أهل السنة
في تأويل قوله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر) فقالت فرقة " الرضا " بمعنى الإرادة
والكلام ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن قضى الله له بالايمان وحتمه له فعباده
على هذا ملائكته ومؤمنو الإنس والجن وهذا يتركب على قول ابن عباس وقالت
فرقة الكلام عموم صحيح والكفر يقع ممن يقع بإرادة الله تعالى الا انه بعد وقوعه لا
يرضاه دينا لهم ومعنى لا يرضاه لا يشكره لهم ولا يثيبهم به خيرا فالرضا: على هذا
هو صفة فعل بمعنى القبول ونحوه وتأمل الإرادة فإنما هي حقيقة فيما لم يقع بعد
والرضا فإنما هو حقيقة فيما قد وقع واعتبر هذا في آيات القرآن تجده وإن كانت
العرب قد تستعمل في اشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا.
وقوله تعالى: (وأن تشكروا يرضه لكم) عموم والشكر الحقيق في ضمنه الايمان
قال النووي وروينا في " سنن أبي داود " عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من قال: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وجبت له الجنة " انتهى.
وقوله تعالى: (وإذا مس الانسان ضر دعا ربه...) الآية (الانسان) هنا:
الكافر وهذه الآية بين تعالى بها على الكفار انهم على كل حال يلجئون إليه في حال
الضرورات و (خوله) معناه ملكه وحكمه فيها ابتداء من الله لا مجازاة ولا يقال في
الجزاء " خول ".
81

وقوله تعالى: (نسي ما كان يدعوا إليه) قالت فرقة: " ما " مصدرية والمعنى نسي
دعاءه إليه في حال الضرورة ورجع إلى كفره وقالت فرقة " ما " بمعنى الذي والمراد بها
الله تعالى أي نسي الله وعبارة الثعلبي قوله (نسي ما كان يدعوا إليه من قبل) أي
ترك عبادة الله تعالى والتضرع إليه من قبل في حال الضر انتهى وباقي الآية بين
وقوله تعالى: " أمن هو قانت " بتخفيف الميم هي قراءة نافع وابن كثير وحمزة
والهمزة للتقرير والاستفهام وكأنه يقول أهذا القانت خير أم هذا المذكور الذي يتمتع
بكفره قليلا وهو من أصحاب النار وقرأ الباقون " أمن " بتشديد الميم والمعنى أهذا
الكافر خيرا من هو قانت؟ والقانت: المطيع وبهذا فسره ابن عباس - رضي الله
عنهما - والقنوت في الكلام يقع على القراءة وعلى طول القيام في الصلاة وبهذا
فسره ابن عمر - رضي الله عنهما - قال الفخر قيل: أن المراد بقوله (أمن هو
قانت آناء الليل) عثمان بن عفان لأنه كان يحي الليل والصحيح أنها عامة في كل من
اتصف بهذه الصفة وفي هذه الآية تنبيه على فضل قيام الليل انتهى وروي عن ابن
عباس أنه قال " من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة فليره الله في سواد الليل
ساجدا وقائما " * ت * قال الشيخ عبد الحق في " العاقبة " وعن قبيصة بن سفيان
قال رأيت سفيان الثوري في المنام بعد موته فقلت له ما فعل الله بك؟ فقال [الطويل]
نظرت إلى ربي عيانا فقال لي * هنيئا رضائي عنك يا ابن سعيد
لقد كنت قواما إذا الليل قد دجا * بعبرة محزون وقلب عميد
فدونك فاختر أي قصر تريده * وزرني فاني منك غير بعيد
وكان شعبة بن الحجاج ومسعر بن كدام رجلين فاضلين وكانا من ثقات
المحدثين وحفاظهم وكان شعبة أكبر فماتا قال أبو أحمد اليزيدي فرأيتهما في النوم
82

وكنت إلى شعبة أميل مني إلى مسعر فقلت: يا أبا بسطام ما فعل الله بك فقال وفقك
الله يا بني احفظ ما أقول:
حباني إلهي في الجنان بقبة * لها ألف باب من لجين وجوهرا.
وقال لي الجبار: يا شعبة الذي * تبحر في جمع العلوم وأكثرا.
تمتع بقربي انني عنك ذو رضا * وعن عبدي القوام في الليل مسعرا.
كفى مسعرا عزا بأن سيزورني * واكشف عن وجهي ويدنو لينظرا.
وهذا فعالي بالذين تنسكوا * ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا.
انتهى " والآناء " الساعات واحدها " اني " ك‍ " معي " ويقال " اني " بكسر الهمزة
وسكون النون و " انى " على وزن " قفا ".
وقوله سبحانه: (يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه) قال الجوزي في " المنتخب "
يقول الله تعالى: " لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين من خافني في الدنيا أمنته في
الآخرة ومن أمنني في الدنيا خوفته في الآخرة " يا أخي امتطى القوم مطايا الدجى على
مركب السهر فما حلوا ولا حلوا رحالهم حتى السحر درسوا القرآن فغرسوا بأيدي الفكر
أزكى الشجر ومالوا إلى النفوس باللوم فلا تسأل عما شجر رجعوا بنيل القبول من ذلك
السفر ووقفوا على كنز النجاة وما عندك خبر فإذا جاء النهار قدموا طعام الجوع وقالوا
للنفس: هذا الذي حضر حذوا عزمات طاحت الأرض بينها فصار سراهم في ظهور
العزائم تراهم نجوم الليل ما يبتغونه على عاتق الشعرى وهام النعائم مالت بالقوم ريح
السحر ميل الشجر بالأغصان وهز الخوف أفنان القلوب فانتشرت الأفنان فالقلب يخشع
واللسان يضرع والعين تدمع والوقت بستان خلوتهم بالحبيب تشغلهم عن نعم ونعمان
سرورهم أساورهم والخشوع تيجان خضوعهم حلاهم وماء دمعهم در ومرجان باعوا
الحرص بالقناعة فما ملك أنوشروان فإذا وردوا القيامة تلقاهم بشر: لولاكم ما طاب
الجنان يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان أين أنت منهم يا نائم كيقظان هذه كم بينك وبينهم
أين الشجاع من الجبان ما للمواعظ فيك نجح موضع القلب باللهو منك ملآن
يا أخي قف على باب النجاح ولكن وقوف لهفان واركب سفن الصلاح فهذا الموت
طوفان إخواني انما الليل والنهار مراحل ومركب العمر قد قارب الساحل فانتبه لنفسك
وازدجر يا غافل يا هذا أنت مقيم في مناخ الراحلين ويحك اغتنم أيام القدرة قبل
83

صيحة الانتزاع فما أقرب ما ينتظر وما أقل المكث فيما يزول ويتغير انتهى.
وقوله تعالى: (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم) يروي أن هذه الآية أنزلت في
جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة ووعد
سبحانه بقوله (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) فقوله (في هذه الدنيا) متعلق
ب‍ (أحسنوا) والمعنى: ان الذين يحسنون في الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة
والنعيم قاله مقاتل ويحتمل أن يريد أن الذين يحسنون لهم حسنة في الدنيا وهي العافية
والظهور وولاية الله تعالى قاله السدي والأول أرجح أن الحسنة هي في الآخرة.
وقوله سبحانه: (وأرض الله واسعة) حض على الهجرة ثم وعد تعالى على الصبر
على المكاره الخروج من الوطن ونصرة الدين وجميع الطاعات بتوفية الأجور بغير
حساب وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أن الصابر يؤتي أجره ولا يحاسب على نعيم ولا يتابع بذنوب ويكون في
جملة الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
والثاني من المعنيين: أن أجور الصابرين توفى بغير حصر ولا عد بل جزافا وهذه
استعارة للكثرة التي لا تحصى والى هذا التأويل ذهب جمهور المفسرين حتى قال قتادة:
ليس ثم والله مكيال ولا ميزان وفي الحديث أنه لما نزلت (والله يضاعف لمن
84

يشاء) [البقرة: 261] قال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم زد أمتي " فنزلت بعد ذلك (من ذا الذي
يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) [البقرة: 245] فقال: " اللهم زد أمتي "
حتى نزلت (انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) قال: " رضيت يا رب "
وقوله تعالى: (قل اني أخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم) من المعلوم أنه
عليه السلام معصوم من العصيان وانما الخطاب بالآية لأمته يعمهم حكمه ويحفهم
وعيده.
وقوله: (فاعبدوا ما شئتم من دونه) هذه صيغة أمر على جهة التهديد وهذا في
القرآن كثير و " الظلة " ما غشي وعم كالسحابة وسقف البيت ونحوه.
[وقوله سبحانه (ذلك يخوف الله به عباده) يريد جميع العالم]
وقوله تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت...) الآية قال ابن زيد أن سبب نزولها
زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والإشارة إليهم.
* ت * سلمان انما أسلم بالمدينة فيلزم على هذا التأويل أن تكون الآية مدنية
وقال ابن إسحاق: الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص
وسعيد بن زيد والزبير وذلك أنه لما أسلم أبو بكر سمعوا ذلك فجاؤوه فقالوا:
أأسلمت؟ قال نعم وذكرهم بالله سبحانه فآمنوا بأجمعهم فنزلت فيهم هذه الآية وهي
على كل حال عامة في الناس إلى يوم القيامة يتناولهم حكمها و (الطاغوت) كل ما عبد
من دون الله.
وقوله سبحانه: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) كلام عام في جميع
الأقوال والمقصد الثناء على هؤلاء في نفوذ بصائرهم وقوام نظرهم حتى أنهم إذا
سمعوا قولا ميزوه قبل واتبعوا أحسنه قال أبو حيان (الذين يستمعون) صفة ل‍ (عباد)
وقيل: الوقف على عباد (والذين) مبتدأ خبره (أولئك) وما بعده انتهى.
85

وقوله تعالى: (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ [من في النار) قالت فرقة
معنى الآية أفمن حقت عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه] لكنه زاد الهمزة الثانية توكيدا
وأظهر الضمير تشهيرا لهؤلاء القوم واظهارا لخسة منازلهم.
وقوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف...) الآية معادلة وتحضيض على
التقوى وعادلت (غرف من فوقها غرف) ما تقدم من الظلل فوقهم وتحتهم والأحاديث
الصحيحة في هذا الباب كثيرة ثم وقف تعالى نبيه عليه السلام وأمته على معتبر من
مخلوقاته فقال: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء...) الآية قال الطبري: الإشارة
إلى ماء المطر ونبع العيون منه (وسلكه) معناه أجراه وأدخله في الأرض و (يهيج)
معناه ييبس وهاج الزرع والنبات إذا يبس والحطام اليابس المتفتت ومعنى
(لذكرى) أي: للبعث من القبور وأحياء الموتى على قياس هذا المثال المذكور.
وقوله تعالى: (أفمن شرح صدره للاسلام...) الآية روي أن هذه الآية نزلت
في علي وحمزة وأبي لهب وابنه وهما اللذان كانا من القاسية قلوبهم وفي الكلام
محذوف يدل عليه الظاهر تقديره أفمن شرح الله صدره كالقاسي القلب المعرض عن أمر
الله وشرح الصدر: استعارة لتحصيله للنظر الجيد والايمان بالله والنور: هداية
الله تعالى وهي أشبه شئ بالضوء قال ابن مسعود قلنا يا رسول الله كيف انشراح
الصدر؟ قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسخ قلنا: يا رسول الله وما علامة
ذلك قال الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول
الموت والقسوة شدة القلب وهي مأخوذة من قسوة الحجر شبه قلب الكافر به في
86

صلابته وقلة انفعاله للوعظ وروى الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا
تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وان أبعد الناس من
الله القلب القاسي " قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب انتهى وقال مالك بن
دينار ما ضرب عبد [بعقوبة] أعظم من قسوة قلبه قال ابن هشام قوله تعالى (فويل
للقاسية قلوبهم من ذكر الله) " من " هنا مرادفة " عن " وقيل هي للتعليل أي من أجل
ذكر الله لأنه إذا ذكر الله قست قلوبهم عياذا بالله وقيل هي للابتداء انتهى من
" المغنى "
قال الفخر: اعلم أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان في
النفوس الطاهرة الروحانية وقد يوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة
الشيطانية فإذا عرفت هذا فنقول: إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورتبتها هو
ذكر الله فإذا اتفق لبعض النفوس ان صار ذكر الله سببا لازدياد مرضها كان مرض تلك
النفوس مرضا لا يرجى زواله ولا يتوقع علاجه وكانت في نهاية الشر والرداءة فلهذا
المعنى قال تعالى: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) وهذا كلام
كامل محقق انتهى.
وقوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث) يريد القرآن وروي عن ابن عباس أن
سبب هذه الآية أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان
وأخبرنا بأخبار الدهر فنزلت الآية.
87

وقوله: (متشابها) معناه مستويا لا تناقض فيه ولا تدافع بل يشبه بعضه بعضا في
رصف اللفظ ووثاقة البراهين وشرف المعاني إذ هي اليقين في العقائد في الله وصفاته
وأفعاله وشرعه و (مثاني) معناه: موضع تثنية للقصص والأقضية والمواعظ تثنى فيه ولا
تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد وقال ابن عباس ثنى فيه والأمر
مرارا ولا ينصرف (مثاني) لأنه جمع لا نظير له في الواحد.
وقوله تعالى: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) عبارة عن قف شعر الانسان
عندما يداخله خوف ولين قلب عند سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه وهذه علامة وقوع
المعنى المخشع في قلب السامع وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم
فرقت القلوب فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة " وقال
العباس ابن عبد المطلب قال النبي صلى الله عليه وسلم " من اقشعر جلده من خشية الله تعالى تحاتت
عنه ذنوبه كما تتحات عن الشجرة اليابسة ورقها " وقالت أسماء بنت أبي بكر " كان
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن قيل لها أن أقواما
اليوم إذا سمعوا القرآن خر أحدهم مغشيا عليه فقالت أعوذ بالله من الشيطان " وعن
ابن عمر نحوه وقال ابن سيرين بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن
يجعل أحدهم على حائط [مادا] رجليه ثم يقرأ عليه القرآن كله فان رمي بنفسه فهو
صادق.
* ت * وهذا كله تغليظ على المرائين والمتصنعين بين ولا خلاف اعلمه بين أرباب
القلوب وأئمة التصوف أن المصنع عندهم بهذه الأمور ممقوت وأما من غلبة الحال
لضعفه وقوي الوارد عليه حتى أذهبه عن حسه فهو إن شاء الله من السادة الأخيار والأولياء
الأبرار وقد وقع ذلك لكثير من الأخيار يطول تعدادهم كابن وهب وأحمد بن معتب
المالكيين ذكرهما عياض في " مداركه " وانهما ماتا من ذلك وكذلك مالك بن دينار مات
88

من ذلك ذكره عبد الحق في " العاقبة " وغيرهم ممن لا يحصى كثرة ومن كلام
عز الدين بن عبد السلام رحمه الله في قواعده الصغرى قال وقد يصبح بعضهم لغلبة
الحال عليها وإلجائها أهل إياه إلى الصياح وهو في ذلك معذور ومن صاح لغير ذلك
فمتصنع ليس من القوم في شئ وكذلك من أظهر شيئا من الأحوال رياء أو تسميعا فإنه
ملحق بالفجار دوت الأبرار انتهى.
وقوله تعالى: (ذلك هدى الله) يحتمل أن يشير إلى القرآن ويحتمل أن يشير إلى
الخشية واقشعرار الجلود أي ذلك امارة هدى الله.
قال الغزالي في الاحياء والمستحب من التالي للقرآن أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة
بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال يتصف به قلبه من الحزن والخوف
والرجاء وغير ذلك ومهما تمت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه انتهى
قال الشيخ الولي عبد الله بن أبي جمرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه يكسوه من كل آية
يقرؤها حال يناسب معنى تلك الآية وكذلك ينبغي أن تكون تلاوة القرآن وأن لا يكون تاليه
كمثل الحمار يحمل أسفارا انتهى.
وقوله تعالى: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب...) الآية تقرير بمعنى التعجيب
والمعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كالمنعمين في الجنة قال مجاهد (يتقي
بوجهه) أي يجر على وجهه في النار.
وقالت فرقة: ذلك لما روي أن الكافر يلقي في النار مكتوفا مربوطة يداه إلى رجليه
مع عنقه ويكب على وجهه فليس له شئ يتقي به الا وجهه وقال فرقة: المعنى في
ذلك صفة كثرة ما ينالهم من العذاب يتقيه بكل جارحة منه حتى بوجهه الذي هو أشرف
جوارحه وهذا المعنى أبين بلاغة ثم مثل لقريش بالأمم الذين من قبلهم وما نالهم من
89

العذاب في الدنيا المتصل بعذاب الآخرة الذي هو أكبر ونفى الله سبحانه عن القرآن
العوج لأنه لا اختلاف فيه ولا تناقض ولا مغمز بوجه.
وقوله سبحانه: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون...) الآية هذا مثل
ضربه الله سبحانه في التوحيد فمثل تعالى الكافر العابد للأوثان والشياطين بعبد لرجال
عدة في أخلاقهم شكاسة وعدم مسامحة فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بتضايقهم لأنه في
أوقاتهم ويضايقون العبد في كثرة العمل فهو ابدا في نصب منهم وعناء فكذلك عابد
الأوثان الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها وبحراسة حاله منها ومتى
توهم أنا أرضى ضما بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر فهو ابدا تعب في
ظلال وكذلك هو المصانع للناس الممتحن بخدمة الملوك ومثل تعالى المؤمن بالله
وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله فهو يعمله على تؤدة وقد ساس مولاه فالمولى
يغفر زلته ويشكره على إجادة عمله و (مثلا) مفعول ب‍ (ضرب) و (رجلا) نصب على البدل و (متشاكسون) معناه: لا سمح في أخلاقهم بل فيها لجاج وقرأ ابن كثير وأبو
عمرو " سالما " أي: سالما من الشركة ثم وقف تعالى الكفار بقوله (هل يستويان
مثلا) ونصب (مثلا) على التمييز وهذا التوقيف لا يجيب عنه أحدا الا بأنهما لا
يستويان فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد أجابوا فقال (الحمد لله) أي
على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم وباقي الآية بين.
والاختصام في الآية قيل: عام في المؤمنين والكافرين قال * ع * ومعنى الآية
عندي أن الله تعالى توعدهم بأنهم سيتخاصمون يوم القيامة في معنى ردهم في وجه
الشريعة وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الترمذي من حديث عبد الله بن الزبير قال
" لما نزلت (ثم انكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) قال الزبير يا رسول الله أتكرر
90

علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال نعم قال أن الأمر أذن لشديد "
انتهى.
وقوله تعالى: (فمن أظلم ممن كذب على الله...) الآية الإشارة بهذا الكذب إلى
قولهم " إن لله صاحبة وولدا " قولهم هذا حلال وهذا حرام افتراء على الله ونحو
ذلك وكذبوا أيضا بالصدق وذلك تكذيبهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ثم توعدهم سبحانه
توعدا فيه احتقارهم بقوله (أليس في جهنم مثوى للكافرين) وقرأ ابن مسعود " والذين
جاءوا بالصدق وصدقوا به " والصدق هنا القرآن والشرع بجملته وقالت فرقة " الذي
يراد به " الذين " وحذفت النون قال * ع * وهذا غير جيد وتركيب " جاء " عليه يرد
ذلك بل " الذي " ههنا هي للجنس والآية معادلة لقوله (فمن أظلم) قال قتادة وغيره
الذي جاء بالصدق هو محمد عليه السلام والذي صدق به هم المؤمنون وهذا
أصوب الأقوال وذهب قوم إلى أن الذي صدق به أبو بكر وقيل علي وتعميم اللفظ أصوب.
وقوله سبحانه: (أولئك هم المتقون) قال ابن عباس: اتقوا الشرك.
91

وقوله تعالى: (ليكفر) يحتمل أن يتعلق بقوله (المحسنين) اي الذين أحسنوا
لكي يكفر وقاله ابن زيد ويحتمل ان يتعلق بفعل مضمر مقطوع مما قبله تقديره
يسرهم الله لذلك ليكفر لأن التكفير لا يكون الا بعد التيسير للخير.
وقوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده) وتقوية لنفس النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ حمزة
والكسائي " عباده " يريد الأنبياء وأنت يا محمد أحدهم فيدخل في ذلك المؤمنون
المطيعون والمتوكلون على الله سبحانه.
وقوله سبحانه: (ويخوفونك بالذين من دونه) أي: بالذين يعبدون وباقي الآية
بين وقد تقدم تفسير نظيره.
وقوله تعالى: (فمن اهتدى فلنفسه) أي: فلنفسه عمل وسعى ومن ضل فعليها
جنى ثم نبه تعالى على آية من آياته الكبرى تدل الناظر على الوحدانية وأن ذلك لا
شركة فيه لصنم وهي حالة التوفي وذلك أن ما توفاه الله تعالى على الكمال فهو الذي
يموت وما توفاه توفيا غير مكمل فهو الذي يكون في النوم قال ابن زيد النوم وفاة
92

والموت وفاة وكثر الناس في هذه الآية وفي الفرق بين النفس والروح وفرق قوم بين
نفس التمييز ونفس التخيل إلى غير ذلك من الأقوال التي هي غلبة ظن وحقيقة الأمر في
هذا هي مما استأثر الله به وغيبه عن عباده في قوله: (قل الروح من أمر ربي) [الإسراء: 85]
ويكفيك أن في هذه الآية (يتوفى الأنفس) وفي الحديث الصحيح أن الله قبض
أرواحنا حين شاء وردها علينا حين شاء وفي حديث بلال في الوادي فقد نطقت
الشريعة بقبض الروح والنفس وقد قال تعالى: (قل الروح من أمر ربي) والظاهر أن
الخوض في هذا كله عناء وإن كان قد تعرض للقول في هذا ونحوه أئمة ذكر الثعلبي عن
ابن عباس أنه قال " في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي
بها العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحرك فإذا نام العبد قبض الله تعالى
نفسه ولم يقبض روحه " وجاء في آداب النوم وأذكار النائم أحاديث صحيحة ينبغي
للعبد أن لا يخلي نفسه منها وقد روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أوى
الرجل إلى فراشه ابتدره ملك وشيطان فيقول الملك اختم بخير ويقول الشيطان
اختم بشر فان ذكر الله تعالى ثم نام بات الملك يكلؤه فان استيقظ قال الملك
افتح بخير وقال الشيطان افتح بشر فان قال: الحمد لله الذي رد إلي نفسي ولم يمتها
في منامها الحمد لله الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا ان أمسكهما من
أحد من بعده انه كان حليما غفورا الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض الا
باذنه ان الله بالناس لرؤوف رحيم فان وقع من سريره فمات دخل الجنة رواه
93

النسائي واللفظ له والحاكم في " المستدرك " وابن حبان في " صحيحه " وقال الحاكم
صحيح على شرط مسلم وزاد آخره " الحمد لله الذي يحي الموتى وهو على كل شئ
قدير " انتهى من السلاح وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال حين يأوى إلى
فراشه " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير
لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
غفرت له ذنوبه أو خطاياه شك مسعر وإن كانت مثل زبد البحر " رواه ابن حبان في
" صحيحه " ورواه النسائي موقوفا انتهى وروى الترمذي عن أبي امامة قال: سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول " من أوى إلى فراشه طاهرا يذكر الله حتى يدركه النعاس لم ينقلب ساعة
من الليل يسئل الله شيئا من خير الدنيا والآخرة الا أعطاه إياه " انتهى والأجل المسمى
94

في هذه الآية: هو عمر كل انسان والضمائر في قوله تعالى (أو لو كانوا لا يملكون شيئا
ولا يعقلون) للأصنام.
وقوله تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة...)
الآية قال مجاهد وغيره في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم عند الكعبة بمحضر من
الكفار وقرأ (أفرأيتم اللات والعزى...) [النجم: 19] الآية والقي الشيطان يعني في
اسماع الكفار (تلك الغرانقة العلى) على ما مر في سورة الحج فاستبشروا واشمأزت
نفوسهم معناه: تقبضت كبرا وأنفة وكراهية ونفورا.
وقوله تعالى: (قل اللهم فاطر السماوات...) الآية أمر لنبيه عليه السلام
بالدعاء إليه ورد الحكم إلى عدله ومعنى هذا الأمر تضمن الإجابة.
وقوله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) قال الثعلبي قال السدي
ظنوا أشياء أنها حسنات فبدت سيئات قال * ع * قال سفيان الثوري ويل لأهل
الرياء من هذه الآية وقال عكرمة بن عمار جزع محمد بن المنكدر عند الموت فقيل
95

له ما هذا؟ فقال أخاف هذه الآية (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)
وقوله تعالى: (ثم إذا خولناه نعمة منا...) الآية قال الزجاج التخويل العطاء
عن غير مجازاة والنعمة هنا عامة في المال وغيره وتقوى الإشارة إلى المال بقوله (انما
أوتيته على علم) قال قتادة يريد انما أوتيته على علم مني بوجه المكاسب والتجارات
ويحتمل أن يريد على علم من الله في واستحقاق حزته عند الله ففي هذا التأويل اغترار
بالله وفي الأول اعجاب بالنفس ثم قال الله تعالى (بل هي فتنة) أي: ليس الأمر كما
قال بل هذه الفعلة به فتنة له وابتلاء ثم أخبر تعالى عمن سلف من الكفرة أنهم قد قالوا
هذه المقالة كقارون وغيره (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) من الأموال (والذين
ظلموا من هؤلاء) المعاصرين لك يا محمد (سيصيبهم سيئات ما كسبوا) قال أبو
حيان (فما أغنى) يحتمل أن تكون " ما " نافية أو استفهامية فيها معنى النفي انتهى.
وقوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
الله...) الآية هذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة فتوبة الكافر تمحو ذنبه
وتوبة العاصي تمحو ذنبه على ما تقدم تفصيله واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال
عطاء بن يسار نزلت في وحشي قاتل حمزة وقال ابن إسحاق وغيره: نزلت في قوم
بمكة آمنوا ولم يهاجروا وفتنتهم فريش فافتتنوا ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم
فنزلت الآية فيهم منهم الوليد بن الوليد وهشام بن العاصي وهذا قول عمر بن
الخطاب وأنه كتبها بيده إلى هشام بن العاصي الحديث وقالت فرقة نزلت في قوم كفار
من أهل الجاهلية قالوا وما ينفعنا الاسلام ونحن قد زنينا وقتلنا النفس واتينا كل كبيرة
96

فنزلت الآية فيهم وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر هذه أرجى آية في
القرآن وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية (قل
يا عبادي...) " (وأسرفوا) معناه أفرطوا والقنط أعظم اليأس وقرأ نافع والجمهور
" تقنطوا " بفتح النون قال أبو حاتم: فيلزمهم أن يقرءوا من بعد ما قنطوا [الشورى: 28]
بكسرها ولم يقرأ به أحد وقرأ أبو عمرو " تقنطوا " بالكسر.
وقوله (إن الله يغفر الذنوب جميعا) عموم بمعنى الخصوص لأن الشرك ليس
بداخل في الآية اجماعا وهي أيضا في المعاصي مقيدة بالمشيئة وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ:
" إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي " وقرأ ابن مسعود " إن الله يغفر الذنوب جميعا
لمن يشاء " (وأنيبوا) معناه ارجعوا.
97

وقوله سبحانه: (واتبعوا أحسن) معناه أن القرآن العزيز تضمن عقائد نيرة وأوامر
ونواهي منجية وعدات على الطاعات والبر وتضمن أيضا حدودا على المعاصي ووعيدا
على بعضها فالأحسن للمرء أن يسلك طريق الطاعة والانتهاء عن المعصية والعفو في
الأمور ونحو ذلك من أن يسلك طريق الغفلة والمعصية فيحد أو يقع تحت الوعيد فهذا
المعنى هو المقصود ب‍ (أحسن) وليس المعنى: أن بعض القرآن أحسن من بعض من
حيث هو قرآن * ت * وروى أبو بكر بن الخطيب بسنده عن أبي سعيد الخدري قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل (يا حسرتي) قال الحسرة أن يرى أهل
النار منازلهم من الجنة قال فهي الحسرة انتهى.
وقوله: (فرطت في جنب الله) أي في جهة طاعته وتضييع شريعته والايمان به
وقال مجاهد (في جنب الله) أي: في أمر الله وقول الكافر (وإن كنت لمن
الساخرين) ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى و " كرة " مصدر من كر يكر وهذا
الكون في هذه الآية داخل في التمني وباقي الآية أنواره لائحة وحججه واضحة ثم
خاطب تعالى نبيه بخبر ما يراه يوم القيامة من حالة الكفار وفي ضمن هذا الخبر وعيد بين
لمعاصريه عليه السلام فقال (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم
مسودة) (ترى) من رؤية العين وظاهر الآية أن وجوههم تسود حقيقة.
وقوله سبحانه: (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم...) الآية ذكر تعالى حالة
المتقين ونجاتهم ليعادل بذلك ما تقدم من شقاوة الكافرين وفي ذلك ترغيب في حالة
المتقين لأن الأشياء تتبين بأضدادها و " مفازتهم " مصدر من الفوز وفي الكلام حذف
مضاف تقديره وينجي الله الذين اتقوا بأسباب مفازتهم وال‍ (مقاليد): المفاتيح وقاله
98

ابن عباس، واحدها " مقلاد " ك‍ " مفتاح " وقال عثمان بن عفان سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن
(مقاليد السماوات والأرض) فقال " هي لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله
والحمد لله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم هو الأول والآخر والظاهر والباطن
يحي ويميت وهو على كل شئ قدير.
وقوله تعالى: (ولقد أوحي إليك والى الذين من قبلك) قالت فرقة المعنى ولقد
أوحي إلى كل نبي لئن أشركت ليحبطن عملك * ت * قد تقدم غير ما مرة بأن ما
ورد من مثل هذا فهو محمول على إرادة الأمة لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم وانما المراد من يمكن
أن يقع ذلك منه وخوطب هو صلى الله عليه وسلم تعظيما للأمر قال صلى الله عليه وسلم (ليحبطن) جواب
القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه انتهى.
وقوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) معناه وما عظموا الله حق عظمته ولا
وصفوه بصفاته ولا نفوا عنه ما لا يليق به قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كفار
قريش الذين كانت هذه الآيات كلها محاورة لهم وردا عليهم وقالت فرقة نزلت في
99

قوم من اليهود تكلموا في صفات الله تعالى فألحدوا وجسموا واتوا بكل تخليط.
وقوله تعالى: (والأرض جميعا قبضته) معناه: في قبضته واليمين هنا والقبضة
عبارة عن القدرة والقوة وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل و (صعق) في هذه
الآية معناه خر ميتا و (الصور) القرن ولا يتصور هنا غير هذا ومن يقول:
(الصور) جمع صورة فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث وقد تقدم بيان نظير هذه الآية
في غير هذا الموضع.
وقوله تعالى: (ثم نفخ فيه أخرى) هي نفخة البعث وفي الحديث " أن بين
النفختين أربعين " لا يدري أبو هريرة سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة * ت * ولفظ مسلم
عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون
سنة قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون يوما؟ قال أبيت
الحديث قال صاحب " التذكرة " فقيل معنى قوله " أبيت " أي امتنعت من بيان
ذلك إذ ليس هو مما تدعو إليه حاجة وعلى هذا كان عنده علم ذلك وقيل المعنى
أبيت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وعلى هذا فلا علم عنده والأول أظهر وقد جاء
أن ما بين النفختين أربعين عاما انتهى وقد تقدم أن الصحيح في المستثنى في الآية أنهم
الشهداء قال الشيخ أبو محمد بن بزيزة في " شرح الأحكام الصغرى " لعبد الحق الذي
تلقيناه من شيوخنا المحققين أن العوالم التي لا تفنى سبعة العرش والكرسي واللوح
والقلم والجنة والنار والأرواح انتهى.
(وأشرقت الأرض بنور ربها) معناه أضاءت وعظم نورها (والأرض) في هذه
الآية الأرض المبدلة من الأرض المعروفة.
وقوله (بنور ربها) إضافة مخلوق إلى خالق و (الكتاب) كتاب حساب
100

الخلائق ووحده على اسم الجنس لأن كل أحد له كتاب على حدة " وجئ بالنبيين "
أي ليشهدوا على أممهم و (الشهداء) قيل: هو جمع " شاهد " وقيل هو جمع " شهيد "
في سبيل الله والأول أبين في معنى التوعد والضمير في قوله (بينهم) عائد على العالم
بأجمعه إذ الآية تدل عليهم و (زمرا) معناه جماعات متفرقة واحدتها زمرة.
وقوله (فتحت) جواب " إذا " والكلام هنا يقتضي ان فتحها انما يكون بعد
مجيئهم وقي وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم وهكذا هي حال السجون ومواضع الثقاف
والعذاب بخلاف قوله في أهل الجنة (وفتحت) فالواو مؤذنة بأنهم يجدونها مفتوحة
كمنازل الأفراح والسرور.
وقوله تعالى (وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات
ربكم...) الآية في قوله (منكم) أعظم في الحجة أي رسل من جنسكم لا
يصعب عليكم مرامهم ولا فهم أقوالهم.
وقوله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم) لفظ يعم كل من يدخل الجنة من المؤمنين
الذين اتقوا الشرك والواو في قوله (وفتحت) مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم إليها
وقالت فرقة هي زائدة وقال قوم أشار إليهم ابن الأنباري وضعف قولهم هذه واو
الثمانية وقد تقدم الكلام عليها وجواب " إذا " فتحت وعن المبرد جواب " إذا "
محذوف تقديره بعد قوله (خالدين) سعدوا وسقطت هذه الواو في مصحف ابن
مسعود (وسلام عليكم) تحية و (طبتم) معناه: أعمالا ومعتقدا ومستقرا وجزاء
(وأورثنا الأرض) يريد أرض الجنة و (نتبوأ) معناه نتخذ أمكنة ومساكن ثم وصف
تعالى حالة الملائكة من العرش وحفوفهم به والحفوف الأحداق بالشئ وهذه اللفظة
مأخوذة من الحفاف وهو الجانب قال ابن المبارك في " رقائقه " أخبرنا معمر عن أبي
إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي أنه تلا هذه الآية (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى
الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها) قال وجدوا عند باب الجنة شجرة يخرج من ساقها عينان
فعمدوا إلى إحداهما كأنما أمروا بها فاغتسلوا بها فلم تشعث رؤوسهم بعدها ابدا ولم
تتغير جلودهم بعدها ابدا كأنما دهنوا بالدهن ثم عمدوا إلى الأخرى فشربوا منها
101

فطهرت أجوافهم منه وغسلت كل قذر فيها وتتلقاهم على كل باب من أبواب الجنة ملائكة
(سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) ثم تتلقاهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان
الدنيا بالحميم يجئ من الغيبة يقولون أبشر أعد الله لك كذا وكذا واعد الله لك
كذا ثم يذهب الغلام منهم إلى الزوجة من أزواجه فيقول قد جاء فلان باسمه الذي كان
يدعى به في الدنيا فتقول له أنت رأيته فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها ثم
ترجع فيجئ فينظر إلى تأسيس بنيانه من جندل اللؤلؤ أخضر وأصفر وأحمر من كل
لون ثم يجلس فينظر فإذا زرابي مبثوثة وأكواب موضوعة ثم يرفع رأسه فلولا أن الله
قدر ذلك لأذهب بصره انما هو مثل البرق ثم يقول الحمد لله الذي هدانا لهذا وما
كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله انتهى.
وقوله تعالى: (يسبحون بحمد ربهم) قالت فرقة معناه أن تسبيحهم يتأتى بحمد
الله وفضله وقالت فرقة تسبيحهم هو بترديد حمد الله وتكراره قال الثعلبي متلذذين
لا متعبدين مكلفين.
وقوله تعالى: (وقيل الحمد لله رب العالمين) ختم للأمر وقول جزم عند فصل
القضاء أي أن هذا الملك / الحاكم العادل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه واكمال قضائه
بين عباده ومن هذه الآية جعلت (الحمد لله رب العالمين) خاتمة المجالس والمجتمعات
في العلم قال قتادة: فتح الله أول الخلق بالحمد فقال (الحمد لله الذي خلق السماوات
والأرض) [الأنعام: 1] وختم القيامة بالحمد في هذه الآية.
قال (ع) وجعل سبحانه (الحمد لله رب العالمين) فاتحة كتابه فيه يبدأ كل
أمر وبه يختم وحمد الله تعالى وتقديسه ينبغي أن يكون من المؤمن كما قيل [الطويل]
وآخر شئ أنت في كل ضجعة * وأول شئ أنت عند هبوبي.
102

تفسير سورة غافر
وهي مكية
روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الحواميم ديباج القرآن ومعنى هذه العبارة انها
خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضا وعن ابن مسعود
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ غير الحواميم ".
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (حم) تقدم القول في الحروف المقطعة ويختص هذا الموضع بقول
آخر قاله الضحاك والكسائي أن (حم) هجاء (حم) - بضم الحاء وتشديد الميم
المفتوحة - كأنه يقول حم الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله وقال ابن عباس: الر،
وحم، ون، هي حروف الرحمن مقطعة في سور وسأل اعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن حم ما
هو؟ فقال: بدأ أسماء وفواتح سور و (ذي الطول) معناه ذي / التطول والمن بكل
نعمة فلا خير الا منه سبحانه فترتب في هذه الآية وعيد بين وعدين وهكذا رحمته
سبحانه تغلب غضبه قال * ع * سمعت هذه النزعة من أبي رحمه الله وهو نحو
من قول عمر - رضي الله عنه - " لن يغلب عسر يسرين " * ت * هو حديث
والطول الانعام وعبارة البخاري الطول التفضل وحكى الثعلبي عن أهل الإشارة انه
103

تعالى غافر الذنب فضلا وقابل التوب وعدا شديد العقاب عدلا لا اله الا هو إليه
المصير فردا وقال ابن عباس الطول السعة والغنى وتقلب الذين كفروا في البلاد
عبارة عن تمتعهم بالمساكن والمزارع والاسفار وغير ذلك (وهمت كل أمة برسولهم
ليأخذوه) أي ليهلكوه كما قال تعالى (فأخذتهم) والعرب تقول للقتيل: أخذ
وللأسير بعد كذلك قال قتادة (ليأخذوه) معناه ليقتلوه و (ليدحضوا) معناه ليزلقوا
ويذهبوا والمدحضة الذي المزلة والمزلقة.
وقوله (فكيف كان عقاب) تعجيب وتعظيم وليس باستفهام عن كيفية وقوع
الأمر
وقوله سبحانه: وكذلك حقت كلمات ربك على الذين كفروا " الآية في مصحف
ابن مسعود " وكذلك سبقت كلمة ربك " والمعنى وكما أخذت أولئك المذكورين فأهلكتهم فكذلك حقت كلماتي على جميع الكفار من تقدم منهم ومن تأخر أنهم
أصحاب النار.
وقوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون
به...) الآية أخبر الله سبحانه بخبر يتضمن تشريف المؤمنين ويعظم الرجاء لهم وهو
أن الملائكة الحاملين للعرش والذين حول العرش وهؤلاء أفضل الملائكة يستغفرون
للمؤمنين ويسئلون الله لهم الرحمة والجنة وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية
(كان على ربك وعدا مسؤولا) [الفرقان: 16] أي سألته الملائكة قال (ع) وفسر
104

في هذه الآية المجمل الذي في قوله تعالى (ويستغفرون لمن في الأرض) [الشورى: 5]
لأن الملائكة لا تستغفر لكافر وقد يجوز أن يقال أن استغفارهم لهم بمعنى طلب
هدايتهم وبلغني أن رجلا قال لبعض الصالحين ادع لي واستغفر لي فقال له تب
واتبع سبيل الله يستغفر لك من هو خير مني وتلا هذه الآية وقال مطرف بن الشخير
وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة وأغش العباد للعباد الشياطين وتلا هذه الآية
وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين
شحمة اذنه وعاقته مسيرة سبعمائة سنة قال الداودي وعن هارون بن رياب قال
حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت حسن فأربعة يقولون سبحانك وبحمدك على
حلمك بعد علمك وأربعة يقولون سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك انتهى.
وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اذن لي أن أحدث عن ملك
من ملائكة الله من حملة العرش أن ما بين شحمة اذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة
عام انتهى وقد تقدم.
وقولهم: (ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما) معناه وسعت رحمتك وعلمك كل
شئ.
وقوله: " ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " روي عن سعيد بن جبير في
ذلك أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته فيقول أين أبي أين أمي أين ابني أين
زوجي فيلحقون به لصلاحهم ولتنبيه علي عليهم وطلبه إياهم وهذه دعوة الملائكة.
وقولهم: (وقهم السيئات) معناه اجعل لهم وقاية تقيهم السيئات واللفظ يحتمل
105

أن يكون الدعاء في أن يدفع الله عنهم أنفس السيئات حتى لا ينالهم عذاب من أجلها
ويحتمل أن يكون الدعاء في دفع العذاب اللاحق من السيئات فيكون في اللفظ على هذا
حذف مضاف كأنه قال وقهم جزاء السيئات قال الفخر وقوله تعالى (ومن تق
السيئات يومئذ فقد رحمته) يعني من تق السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة
انتهى وهذا راجع إلى التأويل الأول.
وقوله تعالى: (أن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم...)
الآية روى أن هذه الحال تكون للكفار عند دخولهم النار فإنهم إذا دخلوا فيها مقتوا
أنفسهم وتناديهم ملائكة العذاب على جهة التوبيخ لمقت الله إياكم في الدنيا إذ كنتم
تدعون إلى الايمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم هذا هو معنى الآية وبه فسر
مجاهد وقتادة وابن زيد واللام في قوله (لمقت) يحتمل أن تكون لام ابتداء
ويحتمل أن تكون لام قسم وهو أصوب (وأكبر) خبر الابتداء واختلف في معنى
قولهم (أمتنا اثنتين...) الآية فقال ابن عباس وغيره أرادوا موتة كونهم في
الأصلاب ثم أحياءهم حتى في الدنيا ثم إماتتهم الموت المعروف ثم أحياءهم يوم القيامة
وهي كالتي في سورة البقرة (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا...) [البقرة: 28]
106

الآية وقال السدي أرادوا أنه أحياهم في الدنيا ثم أماتهم ثم أحياهم في القبر وقت
السؤال ثم أماتهم فيه ثم أحياهم في الحشر قال (ع) وهذا فيه الاحياء ثلاث
مرار والأول أثبت وهذه الآية متصلة المعنى بالتي قبلها وبعد قولهم (فهل إلى
خروج من سبيل) محذوف يدل عليه الظاهر تقديره لا اسعاف لطلبتكم تعالى أو نحو هذا
من الرد.
وقوله تعالى: (ذلكم) يحتمل أن يكون إشارة إلى العذاب الذي هم فيه أوالي
مقتهم أنفسهم أوالي المنع والزجر والإهانة.
وقوله تعالى: (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده) معناه بحالة توحيد ونفي لما سواه
كفرتم وأن يشرك به اللات والعزى وغيرهما صدقتم فالحكم اليوم بعذابكم وتخليدكم
في النار لله لا لتلك التي كنتم تشركونها معه في الألوهية.
وقوله سبحانه: (فادعوا الله مخلصين له الدين...) الآية مخاطبة للمؤمنين
أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وادعوا معناه اعبدوا.
وقوله تعالى: (رفيع الدرجات) يحتمل أن يريد بالدرجات صفاته العلى وعبر بما
يقرب من افهام السامعين ويحتمل ان يريد رفيع الدرجات التي يعطيها للمؤمنين
ويتفضل بها على عباده المخلصين في جنته و (العرش) هو الجسم المخلوق الأعظم
الذي السماوات السبع والكرسي والأرضون فيه كالدنانير في الفلاة من الأرض
107

وقوله تعالى: (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) قال الضحاك الروح
هنا هو الوحي القرآن وغيره مما لم يتل وقال قتادة والسدي الروح النبوءة
ومكانتها كما قال تعالى: (وروحا من أمرنا) [الشورى: 52] وسمي هذا روحا لأنه تحي به
الأمم والأزمان كما يحي الجسد بروحه ويحتمل أن يكون القاء الروح عاما لكل ما
ينعم الله له على عباده المهتدين في تفهيمه الأيمان والمعقولات الشريفة والمنذر بيوم
التلاق ففي هذا التأويل هو الله تعالى قال الزجاج الروح كل ما فيه حياة الناس وكل
مهتد حي وكل ضال كالميت.
وقوله (من أمره) أن جعلته جنسا للأمور ف‍ " من " للتبعيض أو لابتداء الغاية وان
جعلت الأمر من معنى الكلام ف‍ " من " أما لابتداء الغاية وإما بمعنى الباء ولا تكون
للتبعيض بتة وقرأ الجمهور " لتنذر " بالتاء على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ أبي بن كعب
وجماعة " لينذر " بالياء (ويوم التلاق) معناه: تلاقي جميع العالم بعضهم بعضا
وذلك أمر لم يتفق قط قبل ذلك اليوم.
وقوله (يوم هم بارزون) معناه في براز من الأرض يسمعهم الداعي وينفذهم
البصر.
وقوله تعالى: (لمن الملك اليوم) روي أن الله تعالى يقرر هذا التقرير ويسكت
العالم هيبة وجزعا فيجيب سبحانه هو نفسه بقوله (لله الواحد القهار) ثم يعلم
الله تعالى أهل الموقف بأن اليوم تجزى كل نفس بما كسبت وباقي الآية تكرر معناه
فانظره في موضعه.
ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بإنذار العالم وتحذيرهم من يوم القيامة
وأهواله و " الآزفة " القريبة من أزف الشئ إذا قرب و (الآزفة) في الآية صفة
لمحذوف قد علم واستقر في النفوس هوله والتقدير يوم الساعة والآزفة أو الطامة
الآزفة ونحو هذا.
108

وقوله سبحانه: (إذ القلوب لدى الحناجر) معناه عند الحناجر أي قد
صعدت من شدة الهول والجزع والكاظم الذي يرد غيظه وجزعه في صدره فمعنى الآية
أنهم يطمعون في رد ما يجدونه في الحناجر والحال تغالبهم و (ويطاع) في موضع الصفة
ل‍ (شفيع) لأن التقدير ولا شفيع مطاع قال أبو حيان (يطاع) في موضع صفة
ل‍ (شفيع) فيحتمل أن يكون في موضع خفض على اللفظ أو في موضع رفع على
الموضع ثم يحتمل النفي أن يكون منسحبا على الوصف فقط فيكون ثم شفيع ولكنه لا
يطاع ويحتمل أن ينسحب على الموصوف وصفته أي لا شفيع فيطاع انتهى وهذا
الاحتمال الأخير هو الصواب قال (ع) وهذه الآية كلها عندي اعتراض في الكلام
بليغ.
وقوله: (يعلم خائنة الأعين) متصل بقوله (سريع الحساب) [غافر: 17] وقالت
فرقة (يعلم) متصل بقوله (لا يخفى على الله منهم شئ) [غافر: 16] وهذا قول
حسن يقويه تناسب المعنيين ويضعفه بعد الآية من الآية وكثرة الحائل والخائنة مصدر
كالخيانة ويحتمل أن تكون (خائنة) اسم فاعل أي يعلم الأعين إذا خانت في نظرها
قال أبو حيان والظاهر أن (خائنة الأعين) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي
الأعين الخائنة كقوله: [البسيط]
...................... وان سقيت كرام الناس فاسقينا.
أي الناس الكرام وجوزوا أن يكون (خائنة) مصدرا ك‍ " العافية " أي يعلم خيانة
الأعين انتهى وهذه الآية عبارة عن علم الله تعالى بجميع الخفيات فمن ذلك كسر
109

الجفون والغمز بالعين أو النظرة التي تفهم معنى ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم [لأصحابه في شأن رجل ارتد ثم جاء ليسلم " هلا قام إليه رجل منكم حين تلكأت عنه فضرب عنقه فقالوا:
يا رسول الله الا أومأت إلينا فقال صلى الله عليه وسلم] ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين "
وفي بعض الكتب المنزلة من قول الله عز وجل أنا مرصاد الهمم انا العالم بمجال الفكر
وكسر الجفون وقال مجاهد (خائنة الأعين) مسارقة النظر إلى ما لا يجوز ثم قوى
تعالى هذا الاخبار بقوله (وما تخفي الصدور) بما لم يظهر على عين ولا غيرها وأسند
أبو بكر بن الخطيب عن مولى أم معبد الخزاعية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو " اللهم طهر
قلبي من النفاق وعملي من الرياء ولساني من الكذب وعيني من الخيانة فإنك تعلم
خائنة الأعين وما تخفي الصدور " انتهى قال القشيري في " التحبير " ومن علم اطلاع
الحق تعالى عليه يكون مراقبا لربه وعلامته أن يكون محاسبا لنفسه ومن لم تصح
محاسبته لم تصح مراقبته وسئل بعضهم عما يستعين به العبد على حفظ البصر فقال
يستعين عليه بعلمه ان نظر الله إليه سابق على نظره إلى ما ينظر إليه انتهى.
وقوله سبحانه: (والله يقضي بالحق) أي يجازي الحسنة بعشر والسيئة بمثلها
وينصف المظلوم من الظالم إلى غير ذلك من أقضية الحق والعدل والأصنام لا تقضي
بشئ ولا تنفذ أمرا و (يدعون) معناه يعبدون.
110

وقوله سبحانه: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من
قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله
من واق) الضمير في (يسيروا) لكفار قريش والآثار في الأرض هي المباني والمآثر
والصيت الدنيوي وذنوبهم كانت تكذيب الأنبياء والواقي الساتر المانع مأخوذ من
الوقاية وباقي الآية بين وخص تعالى هامان وقارون بالذكر تنبيها على مكانهما من الكفر
ولكونهما أشهر رجال فرعون وقيل أن قارون هذا ليس بقارون بني إسرائيل وقيل هو
ذلك ولكنه كان منقطعا إلى فرعون خادما له مستغنيا معه.
وقوله: (ساحر) أي: في أمر العصا و (كذاب) في قوله إني رسول الله ثم
أخبر تعالى عنهم أنهم لما جاءهم موسى بالنبوءة والحق من عند الله قال هؤلاء الثلاثة
وأجمع رأيهم على أن يقتل أبناء بني إسرائيل اتباع موسى وشبانهم وأهل القوة منهم
وأن يستحيا النساء للخدمة والاسترقاق وهذا رجوع منهم إلى نحو القتل الأول الذي كان
قبل ميلاد موسى ولكن هذا الأخير لم تتم لهم فيه عزمة ولا أعانهم الله تعالى على
شئ منه قال قتادة هذا قتل غير الأول الذي [كان] حذر المولود وسموا من ذكرنا
من بني إسرائيل أبناء كما تقول لأنجاد القبيلة أو المدينة وأهل الظهور فيها هؤلاء أبناء
فلانة.
وقوله تعالى: (وما كيد الكافرين الا في ضلال) عبارة وجيزة تعطي قوتها أن
هؤلاء الثلاثة لم يقدرهم الله تعالى على قتل أحد من بني إسرائيل ولا نجحت لهم فيهم
سعاية.
111

وقوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى...) الآية الظاهر من أمر فرعون
أنه لما بهرتهم آيات موسى عليه السلام أنهد ركنه واضطربت معتقدات أصحابه ولم
يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره وذلك بين من غير ما موضع من قصتهما وفي
هذه الآية على ذلك دليلان:
أحدهما: قوله (ذروني) فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ
أوامرهم.
والدليل الثاني: مقالة المؤمن وما صدع به وان مكاشفته لفرعون أكثر من مساترته
وحكمه بنبوءة موسى أظهر من توريته في أمره وأما فرعون فإنما نحا إلى المخرقة والتمويه
والاضطراب ومن ذلك قوله: (ذروني أقتل موسى وليدع ربه) أي أني لا أبالي برب
موسى ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والحماية لهم فقال (إني أخاف أن يبدل
دينكم) والدين: السلطان ومنه قول زهير: [البسيط]
لئن حللت بحي في بني أسد * وسلم في دين عمرو وحالت بيننا فدك.
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: " أو أن يظهر " وقرأ الباقون " وأن يظهر " فعلى
القراءة الأولى خاف فرعون أحد أمرين وعلى الثانية خاف الأمرين معا ولما سمع
موسى مقالة فرعون دعا وقال (إني عذت بربي وربكم...) الآية ثم حكى الله
سبحانه مقالة رجل مؤمن ومن آل فرعون شرفه بالذكر وخلد ثناؤه في الأمم غابر الدهر
قال (ع) سمعت أبي رحمه الله يقول سمعت أبا الفضل ابن الجوهري على
المنبر يقول وقد سئل أن يتكلم في شئ من فضائل الصحابة فأطرق قليلا ثم رفع
رأسه وأنشد [الطويل]
112

عن المرء لا تسئل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن مقتد.
ماذا تريد من قوم قرنهم الله بنبيه وخصهم بمشاهدة وحيه وقد أثنى الله تعالى
على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره فجعله تعالى في كتابه وأثبت ذكره في
المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر وأين هو من عمر بن الخطاب
رضي الله عنه إذ جرد سيفه بمكة وقال والله لا أعبد الله سرا بعد اليوم قال
مقاتل كان هذا المؤمن ابن عم فرعون قال الفخر قيل إنه كان ابن عم لفرعون
وكان جاريا مجرى ولي العهد له ومجرى صاحب السر له وقيل كان قبطيا من قوم
فرعون وقيل إنه كان من بني إسرائيل والقول الأول أقرب لأن لفظ الآل يقع على
القرابة والعشيرة انتهى.
قال الثعلبي قال ابن عباس وأكثر العلماء كان اسمه " حزقيل "، وقيل حزيقال،
وقيل غير هذا انتهى.
وقوله: (يصبكم بعض الذي يعدكم) قال أبو عبيدة وغيره (بعض) هنا بمعنى
" كل " وقال الزجاج هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر وليس فيه نفي إصابة
الكل قال (ع) ويظهر لي أن المعنى يصبكم القسم الواحد مما يعد به فيه [لأنه
عليه السلام وعدهم أن آمنوا بالنعيم وان كفروا بالعذاب الأليم فإن كان صادقا
فالعذاب بعض ما وعد به] وقول المؤمن (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في
الأرض) استنزال لهم ووعظ.
وقوله: (في الأرض) يريد أرض مصر وهذه الأقوال تقتضي زوال هيبة فرعون.
113

ولذلك استكان هو وراجع بقوله (ما أريكم الا ما أرى) واختلف الناس من المراد
بقوله تعالى: (وقال الذي آمن) فقال الجمهور هو المؤمن المذكور قص الله تعالى
أقاويله إلى آخر الآيات وقالت فرقة بل كلام ذلك المؤمن قد تم وانما أراد تعالى:
(بالذي آمن) موسى عليه السلام محتجين بقوة كلامه وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك
ولم يكن كلام الأول الا بملاينة لهم.
وقوله: (مثل يوم الأحزاب) أي مثل يوم من أيامهم لأن عذابهم لم يكن في
عصر واحد والمراد بالأحزاب المتحزبون على الأنبياء و (مثل) الثاني بدل من الأول
والدأب العادة " ويوم التنادي " معناه يوم ينادي قوم قوما ويناديهم الآخرون واختلف
في التنادي المشار إليه فقال قتادة هو نداء أهل الجنة أهل النار (فهل وجدتم ما وعد
ربكم حقا) [الأعراف: 44] وقيل هو النداء الذي يتضمنه قوله تعالى (يوم ندعوا
كل أناس بإمامهم) [الإسراء: 71] قال (ع) ويحتمل أن يكون المراد التذكير بكل
نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة وذلك كثير وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو
صالح " يوم التناد " بشد الدال وهذا معنى آخر ليس من النداء بل هو من ند البعير
إذا هرب وبهذا المعنى فسر ابن عباس والسدي هذه الآية وروت هذه الفرقة في هذا
المعنى حديثا أن الله تعالى إذا طوى السماوات نزلت ملائكة كل سماء فكانت صفا بعد
صف مستديرة بالأرض التي عليها الناس للحساب فإذا رأى الخلق هول القيامة وأخرجت
جهنم عنقا إلى أصحابها فر الكفار وندوا مدبرين إلى كل جهة فتردهم الملائكة إلى
المحشر لا عاصم لهم والعاصم المنجي.
114

وقوله (ولقد جاءكم يوسف...) الآية قالت فرقة منهم الطبري يوسف
المذكور هنا هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام وروي عن وهب بن منبه أن فرعون
موسى هو فرعون يوسف عمر إلى زمن موسى وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن
فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة وقالت فرقة بل هو فرعون آخر.
وقوله: (كبر مقتا) أي كبر مقتا جدالهم عند الله فاختصر ذكر الجدال لدلالة
تقدم ذكره عليه وقرأ أبو عمرو وحده " على كل قلب " بالتنوين وقرأ الباقون بغير
تنوين وفي مصحف ابن مسعود " على قلب [كل] متكبر جبار " ثم إن فرعون
لما أعيته الحيل في مقاومة موسى نحا إلى المخرقة ونادى هامان وزيره أن يبني له
صرحا فيروي أنه طبخ الآجر لهذا الصرح ولم يطبخ قبله وبناه ارتفاع أربعمائة ذراع
فبعث الله جبريل فمسحه بجناحه فكسره ثلاث كسر، تفرقت اثنتان، ووقعت ثالثة في
البحر (والأسباب) الطرق قاله السدي
115

وقال قتادة أراد الأبواب وقيل عنى لعله يجد مع قربه من السماء سببا يتعلق به.
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم " وصد عن السبيل " بضم الصاد وفتح الدال عطفا
على (زين) والباقون بفتح الصاد والتباب الخسران ومنه (تبت يدا أبي لهب) [المسد: 1]
وبه فسرها مجاهد وقتادة ثم وعظهم الذي آمن فدعا إلى اتباع أمر الله.
وقوله: (اتبعون أهدكم) يقوي أن المتكلم موسى وإن كان الآخر يحتمل أن يقول
ذلك أي اتبعوني في اتباع موسى ثم زهدهم في الدنيا وانها شئ يتمتع به قليلا
ورغب في الآخرة إذ هي دار الاستقرار قال الغزالي في " الاحياء " من أراد أن يدخل
الجنة بغير حساب فليستغرق أنه أوقاته في التلاوة والذكر والتفكر في حسن المآب ومن أراد أن
ترجح كفة حسناته وتثقل موازين خيراته فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته فان خلط
عملا صالحا وآخر سيئا فأمره في خطر لكن الرجاء غير منقطع والعفو من كرم الله
منتظر انتهى.
116

وقوله تعالى: (ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة...) الآية قد تقدم ذكر
الخلاف هل هذه المقالات لموسى أو لمؤمن آل فرعون والدعاء إلى النجاة هو الدعاء
إلى سببها وهو توحيد الله تعالى وطاعته وباقي الآية بين.
وقوله (أن ما تدعونني) المعنى وأن الذي تدعونني إليه من عبادة غير الله ليس له
دعوة أي قدر وحق يجب أن يدعي أحد إليه ثم توعدهم بأنهم سيذكرون قوله عند
حلول العذاب بهم والضمير في (وقاه) يحتمل أن يعود على موسى أو على مؤمن
آل فرعون على ما تقدم من الخلاف.
وقال القائلون بأنه مؤمن آل فرعون أن ذلك المؤمن نجا مع موسى عليه السلام
في البحر وفر في جملة من فر معه من المتبعين.
وقوله تعالى في آل فرعون: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا...) الآية قوله
(النار) رفع على البدل من قوله (سوء) وقيل رفع بالابتداء وخبره (يعرضون) قالت
فرقة هذا الغدو والعشي هو في الدنيا أي في كل غدو وعشي من أيام الدنيا يعرض آل
فرعون على النار قال القرطبي في التذكرة وهذا هو عذاب القبر في البرزخ انتهى
وكذا قال الامام الفخر وروي في ذلك أن أرواحهم في أجواف طير سود تروح بهم
وتغدوا إلى النار وقاله الأوزاعي عافانا الله من عذابه وخرج البخاري ومسلم عن
117

ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ان كان
من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا
مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة " انتهى.
وقوله [تعالى] (ويوم [تقوم الساعة]) أي ويوم القيامة يقال (ادخلوا آل فرعون
أشد العذاب) وآل فرعون اتباعه وأهل دينه والضمير في قوله (يتحاجون) لجميع
كفار الأمم وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون والعامل في إذ فعل مضمر
تقديره أذكر ثم قال جميع من في النار لخزنتها (ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من
العذاب) فراجعتهم الخزنة على معنى التوبيخ والتقرير (أو لم تك تأتيكم رسلكم
بالبينات) فأقر الكفار عند ذلك و (قالوا بلى) أي قد كان ذلك فقال لهم الخزنة
عند ذلك ادعوا أنتم اذن وهذا على معنى الهزء بهم.
وقوله تعالى: (وما دعاء الكافرين الا في ضلال) وقيل هو من قول الخزنة وقيل
هو من قول الله تعالى اخبارا منه لمحمد - عليه السلام - ثم أخبر تعالى أنه ينصر رسله
والمؤمنين في الدنيا والآخرة ونصر المؤمنين داخل في نصر الرسل وأيضا فقد جعل
الله للمؤمنين الفضلاء ودا ووهبهم فقال نصرا إذا ظلموا وحضت الشريعة على نصرهم ومنه
118

قوله صلى الله عليه وسلم " من رد عن أخيه في عرضه كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم "
وقوله - عليه السلام - " من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله ملكا يحميه يوم القيامة ".
وقوله تعالى (ويوم يقوم الأشهاد) يريد يوم القيامة قال الزجاج،
و (الاشهاد) جمع شاهد وقال الطبري جمع شهيد كشريف وأشراف و (يوم لا
ينفع) بدل من الأول والمعذرة مصدر كالعذر ثم أخبر تعالى بقصة موسى وما آتاه
من النبوة تأنيسا لمحمد، وضرب أسوة وتذكيرا بما كانت العرب تعرفه من أمر موسى،
فبين ذلك أن محمدا ليس ببدع من الرسل والهدى: النبوة والحكمة والتوراة تعم جميع
ذلك.
وقوله تعالى: (واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار) قال
الطبري (الإبكار) من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وقيل من طلوع الشمس
إلى ارتفاع الضحى وقال الحسن (بالعشي) يريد صلاة العصر (والابكار) يريد صلاة
الصبح.
وقوله تعالى: (إن في صدورهم الا كبر) [أي ليسوا على شئ بل في صدورهم
كبر] وأنفة عليك ثم نفي أن يكونوا يبلغون آمالهم بحسب ذلك الكبير ثم أمره تعالى
بالاستعاذة بالله في كل أمره من كل مستعاذ منه.
وقوله تعالى: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) فيه توبيخ لهؤلاء
119

الكفرة المتكبرين كأنه قال مخلوقات الله أكبر وأجل قدرا من خلق البشر فما لأحد
منهم يتكبر على خالقه ويحتمل أن يكون الكلام في معنى البعث وأن الذي خلق
السماوات والأرض قادر على خلق الناس تارة أخرى والخلق هنا مصدر مضاف إلى
المفعول (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) يعادلهم قوله (ولا المسئ) وهو اسم
جنس يعم المسيئين.
وقوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) آية تفضل ونعمة ووعد لامة
محمد صلى الله عليه وسلم بالإجابة عند الدعاء قال النووي وروينا في " كتاب الترمذي " عن عبادة بن
الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة الا أتاه
الله إياها أو صرف [عنه] من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من
القوم اذن نكثر قال الله أكثر " قال الترمذي حديث حسن صحيح ورواه الحاكم
في " المستدرك " من رواية أبي سعيد الخدري وزاد فيه " أو يدخر له من الاجر مثلها "
انتهى قال ابن عطاء الله لا يكن تأخر أمد العطاء مع الالحاح في الدعاء موجبا ليأسك
فهو ضمن لك الإجابة فيما يختار لك لا فيما تختار لنفسك وفي الوقت الذي يريد لا في
الوقت الذي تريد انتهى وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز
وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني رواه الجماعة الا أبا داود: واللفظ
لمسلم انتهى من " السلاح " وقالت فرقة معنى (ادعوني) اعبدوني و (استجب)
معناه بالنصر والثواب ويدل على هذا قوله (ان الذين يستكبرون عن عبادتي...)
120

الآية * ت * وهذا التأويل غير صحيح والأول هو الصواب - إن شاء الله - للحديث
الصحيح فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الدعاء هو
العبادة " وقرأ (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي
سيدخلون جهنم داخرين) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وابن
حيان في " صحيحيهما " وقال الترمذي - واللفظ له - حديث حسن صحيح وقال
الحاكم صحيح الاسناد انتهى من " السلاح " والداخر الصاغر الذليل.
وقوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه...) الآيات هذا تنبيه على
آيات الله وعبرة متى تأملها العاقل أدته إلى توحيد الله سبحانه والاقرار بربوبيته
و (تؤفكون) معناه تصرفون عن طريق النظر والهدى (كذلك يؤفك) أي على هذه
الهيئة وبهذه الصفة صرف الله تعالى الكفار الجاحدين بآيات الله من الأمم المتقدمة عن
طريق الهدى.
121

وقوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم
طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل) الآية تنبيه على
الوحدانية بالعبرة في ابن آدم وتدريج خلقه.
وقوله سبحانه: (ومنكم من يتوفى من قبل) عبارة / تردد في الأدراج المذكورة
فمن الناس من يموت قبل أن يخرج طفلا وآخرون قبل الأشد وآخرون قبل الشيخوخة
(ولتبلغوا أجلا مسمى) أي ليبلغ كل واحد أجلا مسمى لا يتعداه و (لعلكم تعقلون)
الحقائق إذا نظرتم في هذا وتدبرتم حكمة الله تعالى.
وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله...) الآية في الكفار
المجادلين في رسالة نبينا محمد - عليه السلام - (ويسحبون) معناه يجرون والسحب
الجر والحميم الذائب الشديد الحر من النار و (يسجرون) قال مجاهد معناه توقد
النار بهم والعرب تقول سجرت التنور إذا ملأته نارا وقال السدي يسجرون
يحرقون ثم أخبر تعالى أنهم يقال لهم أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا؟
فيقولون: ضلوا أي تلفوا لنا وغابوا ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب
فيقولون (بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا) ثم يقال لهؤلاء الكفار المعذبين (ذلكم)
العذاب الذي أنتم فيه (بما كنتم تفرحون) في الدنيا بالمعاصي والكفر (وتمرحون) قال
مجاهد معناه الأشر والبطر.
122

وقوله تعالى: (ادخلوا أبواب جهنم) معناه يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول
الأمر ادخلوا لأن هذه المخاطبة انما هي بعد دخولهم ثم أنس تعالى نبيه ووعده
بقوله (فاصبر ان وعد الله حق) أي في نصرك واظهار أمرك فان ذلك أمر اما ان ترى
بعضه في حياتك فتقر عينك به واما أن تموت قبل ذلك فإلى أمرنا وتعذيبنا يصيرون
ويرجعون.
قال أبو حيان و " ما " في " إما " زائدة لتأكيد معنى الشرط انتهى.
وقوله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم
نقصص عليك) هذه الآية رد على العرب الذين استبعدوا أن يبعث الله بشرا رسولا
وقوله تعالى: (فإذا جاء أمر الله قضي بالحق...) الآية يحتمل أن يريد بأمر الله
القيامة فتكون الآية توعدا لهم بالآخرة ويحتمل أن يريد بأمر الله إرسال رسول وبعثة نبي
قضى ذلك وأنفذه بالحق وخسر كل مبطل * ت * والأول أبين.
وقوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها...) الآية هذه آيات فيها
عبر وتعديد نعم و (الأنعام) الأزواج الثمانية و (منها) الأولى للتبعيض وقال
الطبري في هذه الآية: الانعام تعم الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وغير
ذلك مما ينتفع به من البهائم ف‍ (منها) في الموضعين على هذا للتبعيض.
123

وقوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا
أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبوا...) الآية هذا
احتجاج على قريش بما أظهر سبحانه في الأمم السالفة من نقماته في الكفار الذين كانوا أكثر
منهم وأشد قوة قال أبو حيان (فما أغنى) " ما " نافية أو استفهامية بمعنى النفي
انتهى.
وقوله سبحانه: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات) الآية الضمير في (جاءتهم) عائد
على الأمم المذكورة واختلف المفسرون في الضمير في (فرحوا) على من يعود فقال
مجاهد وغيره هو عائد على الأمم المذكورين أي فرحوا بما عندهم من العلم في
ظنهم ومعتقدهم من أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون قال ابن زيد واغتروا بعلمهم بالدنيا
والمعاش وظنوا انه لا آخرة ففرحوا وهذا كقوله تعالى (يعلمون ظاهرا من الحياة
الدنيا) [الروم: 7] وقالت فرقة الضمير في (فرحوا) عائد على الرسل وفي هذا التأويل
حذف وتقديره: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات كذبوهم ففرح الرسل بما عندهم من العلم
بالله والثقة به وبأنه سينصرهم والضمير في (بهم) عائد على الكفار بلا خلاف ثم
حكى سبحانه حالة بعضهم ممن آمن بعد تلبس العذاب بهم فلم ينفعهم ذلك وفي ذكر
هذا حض على المبادرة.
و (سنت) نصب على المصدر * ت * وقيل المعنى: احذروا سنة لله
كقوله (ناقة الله) [الشمس: 13] قال الفخر وقوله (هنالك) اسم مكان مستعار
للزمان أي وخسروا وقت رؤية البأس انتهى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم تسليما.
124

تفسير سورة فصلت
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
روى أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحتج عليه ويبين له أمر مخالفته
لقومه فلما فرغ عتبة من كلامه قال النبي صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم "
(حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته) إلى قوله (فان أعرضوا فقل
أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) [السجدة: 13] فأرعد الشيخ وقف شعره
وأمسك على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم أن يمسك وقال حين فارقه والله لقد
سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا هو بالكهانة ولا هو بالسحر ولقد ظننت أن صاعقة
العذاب على رأسي و (الرحمن الرحيم) صفتا رجاء ورحمة الله عز وجل و (فصلت)
معناه بينت (آياته) أي فسرت معانيه / ففصل بين حلاله وحرامه ووعده ووعيده
وقيل فصلت في التنزيل أي نزل نجوما ولم ينزل مرة واحدة وقيل فصلت
بالمواقف وأنواع أواخر الآي ولم يكن يرجع إلى قافية ونحوها كالسجع والشعر
وقوله تعالى (لقوم يعلمون) قالت فرقة: يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل فكان
القرآن فصلت آياته لهؤلاء إذ هم أهل الانتفاع بها فخصوا بالذكر تشريفا وقالت فرقة
125

(يعلمون) متعلق في المعنى بقوله (عربيا) أي لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنها
لم يخرج شئ منها عن كلام العرب وكان الآية على هذا التأويل رادة على من زعم أن
في كتاب الله ما ليس في كلام العرب والتأويل الأول أبين وأشرف معنى وبين أنه ليس في
القرآن الا ما هو من كلام العرب اما من أصل لغتها وأما مما عربته من لغة غيرها ثم
ذكر في القرآن وهو معرب مستعمل.
وقوله تعالى: (فهم لا يسمعون) نفي لسماعهم النافع الذي يعتد به ثم حكى عنهم
مقالتهم التي باعدوا فيها كل المباعدة وأرادوا أن يؤيسوه من قبولهم ما جاء به وهي
(قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) وأكنة: جمع كنان والوقر: الثقل في الاذن الذي يمنع
السمع.
وقوله تعالى: (وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة...) الآية قال الحسن
المراد بالزكاة: زكاة المال وقال ابن عباس والجمهور الزكاة في هذه الآية: لا إله إلا الله
التوحيد كما قال موسى لفرعون (هل لك إلى أن تزكي) [النازعات: 18]
ويرجح هذا التأويل أن الآية مكية وزكاة المال انما نزلت بالمدينة وانما هذه زكاة القلب
والبدن أي تطهيره من المعاصي وقاله مجاهد والربيع وقال الضحاك ومقاتل معنى
الزكاة هنا: النفقة في الطاعة و (غير ممنون) قال ابن عباس معناه غير منقوص
وقالت فرقة: معناه غير مقطوع يقال: مننت الحبل إذا قطعته وقال مجاهد معناه:
غير محسوب قال (ع) ويظهر في الآية أنه وصفه بعدم المن والأذى من حيث
هو من جهة الله تعالى فهو شريف لا من فيه وأعطيات البشر هي التي يدخلها المن
والأنداد الأشباه والأمثال وهي إشارة إلى كل ما عبد من دون الله.
126

وقوله تعالى: (وبارك فيها) أي جعلها منبتة للطيبات والأطعمة وجعلها طهورا
إلى غير ذلك من وجوه البركة وفي قراءة ابن مسعود " وقسم فيها أقواتها " واختلف في
معنى قوله (أقواتها) فقال السدي هي أقوات البشر وأرزاقهم وأضافها إلى الأرض
من حيث هي فيها وعنها وقال قتادة: هي أقوات الأرض من الجبال والأنهار
والأشجار والصخور والمعادن والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها وروى ابن
عباس في هذا حديثا مرفوعا فشبهها بالقوت الذي به قوام الحيوان وقال مجاهد أراد أقواتها من المطر والمياه وقال الضحاك وغيره أراد بقوله
(أقواتها) خصائصها التي
قسمها في البلاد من الملبوس والمطعوم فجعل في بلد وفي قطر ما ليس في الآخر
ليحتاج بعضهم إلى بعض ويتقوت من هذه في هذه وهذا قريب من الأول.
وقوله تعالى: (في أربعة أيام) يريد باليومين الأولين وقرأ الجمهور " سواء "
بالنصب على الحال أي سواء هي وما انقضى فيها وقرأ أبو جعفر بن القعقاع
" سواء " بالرفع أي هي سواء وقرأ الحسن " سواء " بالخفض على نعت الأيام
واختلف في معنى: " للسائلين " فقال قتادة معناه: سواء لمن سأل واستفهم عن الأمر
وحقيقة وقوعه وأراد العبرة فيه فإنه يجده كما قال تعالى وقال ابن زيد وجماعة
معناه مستو مهيأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر فعبر عنهم
ب‍ (السائلين) بمعنى " الطالبين " لأنه من شأنهم ولابد طلب ما ينتفعون به فهم في
حكم من سأل هذه أشياء إذ هم أهل حاجة إليها ولفظة " سواء " تجري مجرى عدل
وزور في أن ترد على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث.
127

وقوله سبحانه: (ثم استوى إلى السماء) معناه بقدرته واختراعه إلى خلق السماء
وايجادها.
وقوله تعالى: (وهي دخان) روي أنها كانت جسما رخوا كالدخان أو البخار
وروي أنه مما أمره الله تعالى أن يصعد من الماء وهنا محذوف تقديره فأوجدها
وأتقنها وأكمل أمرها وحينئذ قال لها وللأرض ائتيا بمعنى ائتيا أمري وإرادتي فيكما وقرأ
ابن عباس " آتيا " بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما والإشارة
بهذا كله إلى تسخيرهما وما قدره الله من أعمالهما.
وقوله (أو كرها) فيه محذوف تقديره ائتيا طوعا وإلا أتيتما كرها.
وقوله سبحانه: (قالتا) أراد الفرقتين جعل السماوات سماء والأرضين أرضا واختلف
في هذه المقالة من السماوات والأرض هل هو نطق حقيقة أو هو مجاز؟ لما ظهر عليها من
التذلل والخضوع والانقياد الذي يتنزل منزلة النطق قال (ع) والقول الأول أنه نطق
حقيقة أحسن لأنه لا شئ يدفعه وأن العبرة به أتم والقدرة فيه أظهر.
وقوله تعالى: (فقضاهن) معناه: فصنعهن وأوجدهن ومنه قول أبي ذؤيب [الكامل]
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع.
128

وقوله تعالى: (وأوحى في كل سماء أمرها) قال مجاهد وقتادة: أوحى إلى سكانها
وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها - ما شاء تعالى - من الأمور التي بها قوامها
وصلاحها.
وقوله: (ذلك) إشارة إلى جميع ما ذكر أي أوجده بقدرته وأحكمه بعلمه.
وقوله تعالى: (فإن أعرضوا) يعني: قريشا والعرب الذين دعوتهم إلى عبادة
الله تعالى عن هذه الآيات البينات (فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) وقرأ
النخعي وغيره (صعقة) فيهما وهذه قراءة بينة المعنى لأن الصعقة الهلاك الوحي
وأما الأولى فهي تشبيه بالصاعقة وهي الوقعة الشديدة من صوت الرعد فشبهت هنا وقعة
العذاب بها لأن عادا لم تعذب الا بريح وانما هذا تشبيه واستعارة وعبارة الثعلبي:
(صاعقة) أي واقعة وعقوبة مثل صاعقة عاد وثمود انتهى قال (ع) وخص
عادا وثمودا بالذكر لوقوف قريش على بلادها في اليمن وفي الحجر في طريق الشام قال
الثعلبي: و (من بين أيديهم ومن خلفهم) يعني قبلهم وبعدهم وقامت الحجة عليهم في
أن الرسالة والنذارة عمتهم خبرا ومباشرة وقال (ع) قوله (ومن خلفهم) أي
جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم وبعد تقدم وجودهم في الزمن فلذلك قال (ومن
خلفهم) ولا يتوجه أن يجعل (ومن خلفهم) عبارة عما أتى بعدهم لأن ذلك لا يلحقهم
منه تقصير.
* ت * وما تقدم للثعلبي وغيره أحسن لأن مقصد الآية اتصال النذارة بهم وبمن
قبلهم وبمن بعدهم إذ ما من أمة الا وفيها نذير وكما قال تعالى: (رسلنا تترا...)
[المؤمنون: 44] وأيضا فإنه جمع في اللفظ عادا وثمود وبالضرورة أن الرسول الذي
أرسل إلى ثمود هو بعد عاد فليس لرد (ع) وجه فتأمله.
129

وقوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحا...) الآية تقدم قصص هؤلاء وقرأ نافع
وأبو عمرو وابن كثير (نحسات) بسكون الحاء وهي جمع " نحس " وقرأ
الباقون (نحسات) - بكسر الحاء - جمع " نحس " على وزن حذر والمعنى في هذه
اللفظة مشائيم من النحس المعروف قاله مجاهد وغيره وقال ابن عباس (نحسات)
معناه متتابعات وقيل: معناه: شديدة أي شديدة البرد.
وقوله تعالى: (فهديناهم) معناه بينا لهم قاله ابن عباس وغيره وهذا كما هي
الآن شريعة الاسلام مبينة لليهود والنصارى المختلطين بنا ولكنهم يعرضون ويشتغلون
بالضد فذلك استحباب العمى على الهدى و (العذاب الهون) هو الذي معه هوان
وإذلال قال أبو حيان " الهون " مصدر بمعنى " الهوان " وصف به العذاب انتهى
و (أعداء الله) هم الكفار المخالفون لأمر الله سبحانه و (يوزعون) معناه: يكف أولهم
حبسا على آخرهم قاله قتادة والسدي وأهل اللغة وهذا وصف حال من أحوال
الكفرة في بعض أوقات القيامة وذلك عند وصولهم إلى جهنم فإنه سبحانه يستقرهم عند
ذلك على أنفسهم ويسئلون سؤال توبيخ عن كفرهم فيجحدون ويحسبون أن لا شاهد
130

عليهم ويطلبون شهيدا عليهم من أنفسهم وفي الحديث الصحيح " إن العبد - يعني
الكافر يقول يا رب أليس وعدتني أن لا تظلمني قال فان ذلك لك قال فاني لا أقبل
علي شاهدا الا من نفسي قال فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل قال فيقول
لهن بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أدافع " / الحديث قال أبو حيان (حتى إذا
ما جاؤوها) " ما " بعد " إذا " زائدة للتوكيد انتهى.
وقوله تعالى: (وما كنتم تستترون) يحتمل أن يكون من كلام الجلود ويحتمل أن
يكون من كلام الله عز وجل وجمهور الناس على أن المراد بالجلود الجلود المعروفة
وأما معنى الآية فيحتمل وجهين:
أحدهما أن يريد وما كنتم تتصاونون ذلك وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر
خوف أن يشهد أو لأجل (أن يشهد عليكم سمعكم...) الآية وهذا هو منحى
مجاهد والمعنى الثاني أن يريد: وما يمكنكم ولا يسعكم الاختفاء عن أعضائكم
والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم وهذا هو منحي السدي وعن ابن مسعود قال " إني
لمستتر بأستار الكعبة إذ دخل ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي قليل فقه
قلوبهم كثير شحم بطونهم فتحدثوا بحديث فقال أحدهم أترى الله يسمع ما قلنا؟
فقال الآخر يسمع إذا رفعنا ولا يسمع إذا أخفينا وقال الآخر إن كان يسمع منه شيئا
فإنه يسمعه كله فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فنزلت هذه الآية (وما كنتم
تستترون) وقرأ حتى بلغ (وان يستعتبوا فما هم من المعتبين).
131

قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في آخر " مختصر المدونة " له واعلم أن
[الأجساد التي أطاعت أو عصت هي التي تبعث يوم القيامة لتجازي والجلود التي كانت
في الدنيا والألسنة] والأيدي والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة على من
تشهد انتهى.
قال القرطبي في " تذكرته " واعلم أن عند أهل السنة أن تلك الأجساد الدنيوية تعاد
بأعيانها وأعراضها بلا خلاف بينهم في ذلك انتهى ومعنى (أرادكم) أهلككم
والردى الهلاك وفي صحيح " البخاري " و " مسلم " عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول
قبل وفاته ثلاث " لا يموتن أحدكم الا وهو يحسن الظن بالله عز وجل " وذكره ابن أبي
الدنيا في " كتاب حسن الظن بالله عز وجل " وزاد فيه " فان قوما قد أرداهم سوء ظنهم
بالله فقال لهم الله تبارك وتعالى (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من
الخاسرين) انتهى ونقله أيضا صاحب " التذكرة ".
وقوله تعالى: (فإن يصبروا) مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى فان يصبروا أو لا
يصبروا واقتصر لدلالة الظاهر على ما ترك.
وقوله تعالى: (وان يستعتبوا) معناه وان طلبوا العتبى وهي الرضا فما هم ممن
يعطاها ويستوجبها قال أبو حيان قراءة الجمهور: " وإن يستعتبوا " مبنيا للفاعل و:
(من المعتبين) مبنيا للمفعول أي وأن يعتذروا فما هم من المعذورين انتهى.
132

ثم وصف تعالى حالهم في الدنيا وما أصابهم به حين أعرضوا فختم عليهم فقال
(وقيضنا لهم قرناء) أي يسرنا لهم قرناء سوء من الشياطين وغواة الانس.
وقوله: (فزينوا لهم ما بين أيديهم) أي علموهم وقرروا لهم في نفوسهم
ومعتقدات سوء في الأمور التي تقدمتهم من أمر الرسل والنبوات ومدح عبادة الأصنام
واتباع فعل الآباء إلى غير ذلك مما يقال أنه بين أيديهم وذلك كل ما تقدمهم في
الزمن واتصل إليهم أثره أو خبره وكذلك أعطوهم معتقدات سوء فيما خلفهم وهو كل
ما يأتي بعدهم من القيامة والبعث ونحو ذلك (وحق عليهم القول) أي سبق عليهم
القضاء الحتم وأمر الله بتعذيبهم في جملة أمم معذبين كفار من الجن والإنس.
وقالت فرقة: " في " بمعنى " مع " أي: مع أمم قال (ع) والمعنى / يتأدى
بالحرفين ولا نحتاج أن نجعل حرفا بمعنى حرف إذ قد أبى ذلك رؤساء البصريين.
وقوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن...) الآية حكاية لما فعله
بعض كفار قريش كأبي جهل وغيره لما خافوا استمالة القلوب بالقرآن قالوا متى قرأ
محمد فالغطوا بالصفير والصياح وإنشاد الشعر حتى يخفى صوته فهذا الفعل منهم هو
اللغو وقال أبو العالية أرادوا: قعوا فيه وعيبوه وقولهم (لعلكم تغلبون) أي
تطمسون أمر محمد وتميتون عبد ذكره وتصرفون عنه القلوب فهذه الغاية التي تمنوها
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وقوله تعالى: (فلنذيق الذين كفروا عذابا شديدا...) الآية قوله (فلنذيقن):
الفاء دخلت على لام القسم وهي آية وعيد لقريش والعذاب الشديد هو عذاب الدنيا في
بدر وغيرها والجزاء بأسوأ أعمالهم هو عذاب الآخرة.
* ت * حدث أبو عمر في " كتاب التمهيد " قال حدثنا أحمد بن قاسم قال
حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا إبراهيم بن موسى بن جميل قال حدثنا
133

عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قال حدثنا العتكي قال حدثنا خالد أبو يزيد الرقي
عن يحيى المدني عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: خرجت مرة فمررت بقبر من قبور
الجاهلية فإذا رجل قد خرج من القبر يتأجج نارا في عنقه سلسلة ومعي إداوة من ماء
فلما رآني قال: يا عبد الله اسقني قال: فقلت: عرفني فدعاني باسمي أو كلمة تقولها
العرب: يا عبد الله إذ خرج على أثره رجل من القبر فقال: يا عبد الله لا تسقه فإنه
كافر ثم أخذ السلسلة فاجتذبه فادخله القبر قال: ثم أضافني الليل إلى بيت عجوز إلى
جانبها قبر فسمعت من القبر صوتا يقول: / بول وما بول شن وما شن فقلت للعجوز:
ما هذا قالت: كان زوجا لي وكان إذا بال لم يتق البول وكنت أقول له: ويحك إن
الجمل إذا بال تفاج وكان يأبى فهو ينادي من يوم مات: بول وما بول قلت: فما
الشن؟ قالت: جاء رجل عطشان فقال: اسقني فقال: دونك الشن فإذا ليس فيه شئ
فخر الرجل ميتا فهو ينادي منذ مات: شن وما شن فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخبرته فنهى: أن يسافر الرجل وحده. قال أبو عمر: هذا الحديث في اسناد مجهولون
ولم نورده للاحتجاج به ولكن للاعتبار وما لم يكن حكم فقد تسامح الناس في روايته
عن الضعفاء انتهى من ترجمة عبد الرحمن بن حرملة وكلامه على قول النبي صلى الله عليه وسلم
" الشيطان يهم بالواحد والاثنين فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم " وقد ذكرنا الحكاية الأولى
عن الوائلي في سورة (اقرأ باسم ربك) بغير هذا السند وأن الرجل الأول هو أبو جهل
انتهى ثم ذكر تعالى مقالة كفار يوم القيامة إذا دخلوا النار فإنهم يرون عظيم ما حل بهم
وسوء منقلبهم فتجول أفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم ومبادي ضلالتهم فيعظم غيظهم
وحنقهم عليه ويودون ان يحصل في أشد عذاب فحينئذ يقولون (ربنا أرنا اللذين
أضلانا) وظاهر اللفظ يقتضي أن الذي في قولهم (اللذين) انما هو للجنس أي أرنا
كل مغو من الجن والإنس وهذا قول جماعة من المفسرين.
وقيل طلبوا ولد آدم الذي سن القتل والمعصية من البشر وإبليس الأبالسة من
الجن وهذا قول لا يخفى ضعفه والأول هو / القوي وقولهم (نجعلهما تحت
أقدامنا) يريدون في أسفل طبقة في النار وهي أشد عذابا.
134

وقوله تعالى: (ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا
ولا تحزنوا) قال سفيان بن عبد الله الثقفي قلت يا رسول الله أخبرني بأمر اعتصم
به قال " قل ربي الله ثم استقم "
* ت * هذا الحديث خرجه مسلم في " صحيحه " قال صاحب " المفهم " جوابه
صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم وكأنه منتزع من قول الله تعالى (إن الذين قالوا ربنا الله ثم
استقاموا...) الآية وتلخيصه اعتدلوا على طاعته قولا وفعلا وعقدا انتهى من " شرح
الأربعين حديثا " لابن الفاكهاني قال (ع) واختلف الناس في مقتضى قوله (ثم
استقاموا) فذهب الحسن وجماعة إلى أن معناه: استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي
وتلا عمر رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال استقاموا والله بطاعته ولم
يروغوا روغان الثعالب قال (ع) فذهب - رحمه الله - إلى حمل الناس على الأتم
الأفضل وإلا فيلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب أن لا تتنزل الملائكة عند الموت على
غير مستقيم على الطاعة وذهب أبو بكر - رضي الله عنه - وجماعة معه إلى أن المعنى
ثم استقاموا على قولهم ربنا الله فلم يختل توحيدهم ولا اضطرب ايمانهم قال
(ع) وفي الحديث الصحيح " من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة "
135

وهذا هو المعتقد إن شاء الله وذلك أن العصاة من أمة محمد وغيرها فرقتان: فاما من
غفر الله له وترك تعذيبه فلا محالة أنه ممن / تتنزل عليهم الملائكة بالبشارة وهو انما
استقام على توحيده فقط وأما من قضى الله بتعذيبه مدة ثم [يأمر] بادخاله الجنة فلا
محالة أنه يلقي جميع ذلك عند موته ويعلمه وليس يصح أن تكون حالة كحالة الكافر
واليائس من رحمة الله وإذا كان هذا فقد حصلت له بشارة بألا يخاف الخلود ولا يحزن
منه ويدخل فيمن يقال لهم (أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) ومع هذا كله فلا
يختلف في أن الموحد المستقيم على الطاعة أتم حالا وأكمل بشارة وهو مقصد أمير
المؤمنين عمر رضي الله عنه وبالجملة فكلما كان المرء أشد استعدادا كان أسرع
فوزا بفضل الله تعالى قال الثعلبي: قوله تعالى (تتنزل عليهم الملائكة) أي عند
الموت (أ لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا) قال وكيع والبشرى في ثلاثة مواطن عند
الموت وفي القبر وعند البعث وفي البخاري (تتنزل عليهم الملائكة) أي عند الموت انتهى قال ابن العربي في " أحكامه ": (تتنزل عليهم الملائكة) قال
المفسرون عند الموت وأنا أقول كل يوم وأوكد الأيام: يوم الموت وحين القبر
ويوم الفزع الأكبر وفي ذلك آثار بيناها فموضعها انتهى قال (ع) وقوله
تعالى (أن لا تخافوا ولا تحزنوا) آمنة عامة في كل مستأنف وتسلية تامة عن كل
فائت ماض وقال مجاهد: المعنى لا تخافون ما تقدمون عليه ولا تحزنوا على ما
خلفتم من دنياكم.
136

* ت * وذكر أبو نعيم عن ثابت البناني أنه قرأ: حم السجدة حتى بلغ (إن الذين قالوا
ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة) فوقف وقال بلغنا أن العبد المؤمن حين
يبعث من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له لا تخف ولا تحزن
وأبشر بالجنة التي كنت توعد قال فأمن الله خوفه وأقر عينه الحديث. انتهى قال
ابن المبارك في " رقائقه " سمعت سفيان يقول في قوله تعالى (تتنزل عليهم الملائكة).
أي عند الموت (ألا تخافوا) ما أمامكم (ولا تحزنوا): على ما خلفتم من ضيعاتكم
(وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) قال يبشر بثلاث بشارات عند الموت وإذا
خرج من القبر وإذا فزع (نحن أوليائكم في الحياة الدنيا) قالوا كانوا معهم قال ابن
المبارك وأخبرنا رجل عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: (نحن أولياءكم في
الحياة الدنيا) قال قرناءهم يلقونهم يوم القيامة فيقولون لا نفارقكم حتى تدخلوا
الجنة اه‍.
وقوله تعالى: (نحن أولياءكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) المتكلم ب‍ (نحن
أولياءكم) هم الملائكة القائلون: (لا تخافوا ولا تحزنوا) أي يقولون للمؤمنين عند
الموت وعند مشاهدة الحق نحن كنا أولياءكم في الدنيا ونحن هم أولياءكم في الآخرة
قال السدي: المعنى نحن حفظتكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة والضمير في
قوله: (فيها) عائد على الآخرة و (تدعون) معناه تطلبون قال الفخر: ومعنى
كونهم أولياء للمؤمنين إشارة إلى أن للملائكة تأثيرات في الأرواح [البشرية بالالهامات
والمكاشفات اليقينية والمناجات الخفية كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح] بالقاء
الوساوس وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة حاصل من جهات
كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات فهم يقولون كما أن تلك الولايات الحاصلة
في الدنيا فهي تكون باقية في الآخرة فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير مائلة إلى
الزوال بل تصير بعد الموت أقوى وأبقى وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة
وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس والقطرة بالنسبة إلى البحر وانما التعلقات الجسدانية
137

والتدبيرات البدنية هي الحائلة بينها وبين الملائكة فإذا زالت تلك العلائق فقد زال
الغطاء واتصل الأثر بالمؤثر والقطرة بالبحر والشعلة بالشمس انتهى.
* ت * وقد نقل الثعلبي من كلام أرباب المعاني هنا كلاما كثيرا حسنا جدا
موقظا لأرباب الهمم فانظره إن شئت وروى ابن المبارك في " رقائقه " بسنده عن
النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال " إذا فنيت أيام الدنيا عن هذا لعبد المؤمن بعث الله إلى نفسه من
يتوفاها قال فقال صاحباه اللذان يحفظان عليه عمله أن هذا قد كان لنا أخا وصاحبا
وقد حان اليوم منه فراق فأذنوا لنا أو قال دعونا نثن على أخينا فيقال أثنيا عليه
فيقولان جزاك الله خيرا ورضي عنك وغفر لك وأدخلك الجنة فنعم الأخ كنت
والصاحب ما كان أيسر مؤنتك وأحسن معونتك على نفسك ما كانت خطاياك تمنعنا أن
نصعد إلى ربنا فنسبح بحمده ونقدس له ونسجد له ويقول الذي يتوفى نفسه أخرج
أيها الروح الطيب إلى خير يوم مر عليك فنعم ما قدمت لنفسك أخرج إلى الروح
والريحان وجنات النعيم ورب عليك غير غضبان وإذا فنيت أيام الدنيا عن العبد الكافر
بعث الله إلى نفسه من يتوفاها فيقول صاحباه اللذان كانا يحفظان عليه عمله أن هذا قد
كان لنا صاحبا وقدحان منه فراق فأذنوا لنا ودعونا نثن على صاحبنا فيقال أثينا
عليه فيقولان لعنة الله وغضبه عليه ولا غفر له وأدخله النار فبئس الصاحب ما كان
أشد مؤنته وما كان يعين على نفسه إن كانت خطاياه وذنوبه لتمنعنا إلى أن نصعد إلى ربنا
فنسبح له ونقدس له ونسجد له ويقول الذي يتوفى نفسه اخرج أيها الروح الخبيث إلى
شر يوم مر عليك فبئس ما قدمت لنفسك اخرج إلى الحميم وتصلية الجحيم ورب عليك
غضبان انتهى.
وقوله تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله...) الآية ابتداء توصية لنبيه
عليه السلام وهو لفظ يعم كل من دعا قديما وحديثا إلى الله عز وجل من الأنبياء
والمؤمنين والمعنى لا أحد أحسن قولا ممن هذه حاله والى العموم ذهب الحسن
138

ومقاتل وجماعة وقيل: إن الآية نزلت في المؤذنين وهذا ضعيف لأن الآية مكية
والأذان شرع بالمدينة قال أبو حيان (ولا السيئة) لا زائدة للتوكيد انتهى.
وقوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن) آية جمعت مكارم الأخلاق وأنواع الحلم
والمعنى ادفع ما يعرض لك مع الناس في مخالطتهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن
قال ابن عباس أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل
والعفو عند الإساءة فإذا فعل المؤمنون ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم
عدوهم (كأنه ولي حميم) البخاري " ولي حميم " أي قريب انتهى وفسر
مجاهد وعطاء هذه الآية بالسلام عند اللقاء قال (ع) ولا شك أن السلام هو
مبدأ الدفع بالتي هي أحسن وهو جزء منه والضمير في قوله (يلقاها) عائد على هذه
الخلق التي يقتضيها قوله (ادفع بالتي هي أحسن) وقالت فرقة المراد وما يلقي
" لا إله إلا الله " وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ.
وقوله سبحانه: (إلا الذين صبروا) مدح بليغ للصابرين وذلك بين المتأمل لأن
الصبر على الطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها والحظ العظيم يحتمل أن
يريد من العقل والفضل فتكون الآية مدحا للمتصف بذلك ويحتمل أن يريد ذو حظ
عظيم من الجنة وثواب الآخرة فتكون الآية وعدا وبالجنة فسر قتادة الحظ هنا.
139

وقوله تعالى: (وإما ينزغنك الشيطان نزغ فاستعذ بالله) " أما " شرط وجواب
الشرط قوله (فاستعذ) والنزغ فعل الشيطان في قلب أو يد من القاء غضب أو حقد
أو بطش في اليد.
فمن الغضب هذه الآية ومن الحقد قوله (نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي) [يوسف: 100]
ومن البطش قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ
الشيطان في يده فيلقيه في حفرة من حفر النار " ومن دعاء الشيخ الولي العارف بالله
سبحانه محمد بن مسرة القرطبي اللهم لا تجعل صدري للشيطان مراغا ولا تصير
قلبي له مجالا ولا تجعلني ممن استفزه بصوته واجلب عليه بخيله ورجله وكن لي من
حبائله منجيا ومن مصائده منقذا ومن غوايته مبعدا اللهم أنه وسوس في القلب وألقى
في النفس مالا يطيق اللسان ذكره ولا تستطيع النفس نشره مما نزهك عنه علو عزك
وسمو مجدك فأزل يا سيدي ما سطر وامح ما زور بوابل من سحائب عظمتك وطوفان
من بحار نصرتك واسلل عليه سيف إبعادك وارشقه لا بسهام إقصائك أن وأحرقه بنار
انتقامك واجعل خلاصي منه زائدا في حزنه ومؤكدا لأسفه على ثم قال رحمه الله: اعلم
أنه ربما كان العبد في خلوته مشتغلا بتلاوته ويجد في نفسه من الوسوسة ما يجول بينه
وبين ربه حتى لا يجد لطعم الذكر حلاوة ويجد في قلبه قساوة وربما اعتراه ذلك مع
الاجتهاد في قراءته وعلة ذلك أن الذكر ذكران ذكر خوف ورهبة وذكر أمن وغفلة فإذا
كان [الذكر بالخوف والرهبة خنس الشيطان ولم يحتمل الحملة وأذهب الوسوسة لأن
الذكر إذا كان] باجتماع القلب وصدق النية لم يكن للشيطان قوة عند ذلك وانقطعت
علاق حيله وانما قوته ووسوسته مع الغفلة وإذا كان [الذكر بالأمن والغفلة لم تفارقه
الوسوسة وان استدام العبد الذكر والقراءة لأن على قلب الغافل غشاوة ولا يجد]
صاحبها لطعم الذكر حلاوة فتحفظ على دينك من هذا العدو وليس لك أن تزيله عن
140

مرتبته ولا أن تزيحه عن وطنه وإنما أبيح لك مجاهدته فاستعن بالله يعنك وثق بالله
فإنه لا يخذلك قال تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع
المحسنين) [العنكبوت: 69] انتهى من تصنيفه رحمه الله.
وندب سبحانه في الآية المتقدمة إلى الأخذ بمكارم الأخلاق ووعد على ذلك
وعلم سبحانه أن خلقة البشر تغلب أحيانا وتثور بهم سورة الغضب ونزغ الشيطان فدلهم
في هذه الآية على ما يذهب ذلك وهي الاستعاذة به عز وجل ثم عدد سبحانه آياته
ليعتبر فيها فقال (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر) ثم قال تعالى (لا
تسجدوا للشمس ولا للقمر) وان كانت لكم فيهما منافع لأن النفع منهما انما هو بتسخير
الله إياهما فهو الذي ينبغي أن يسجد له والضمير في (خلقهن) قيل هو عائد على
الآيات المتقدم ذكرها وقيل عائد على الشمس والقمر والاثنان جمع وأيضا جمع ما لا
يعقل يؤنث فلذلك قال (خلقهن) ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما
بالأيام ساغ أن يعود الضمير مجموعا وقيل: هو عائد على الأربعة المذكورة.
* ت * ومن كتاب " المستغيثين بالله " لأبي القاسم بن بشكوال حدث بسنده إلى
أنس بن مالك قال تقرأ " حم السجدة " وتسجد عند السجدة وتدعو فإنه يستجاب
لك قال الراوي وجربته فوجدته مستجابا انتهى ثم خاطب جل وعلا نبيه عليه
السلام بما يتضمن وعيدهم وحقارة أمرهم وأنه سبحانه غني عن عبادتهم بقوله (فان
استكبروا...) الآية وقوله (فالذين) يعني بهم الملائكة هم صافون يسبحون
و (عند) هنا ليست بظرف مكان وانما هي بمعنى المنزلة والقربة [كما تقول زيد عند
الملك جليل ويروى أن تسبيح الملائكة قد صار لهم كالنفس لبني آدم (ولا يسأمون)
معناه لا] يملون ثم ذكر تعالى آية منصوبة ليعتبر بها في أمر البعث من القبور
ويستدل بما شوهد من هذه على ما لم يشاهد فقال (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة
...) الآية وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشعث بالجدب فهي عابسة
كما الخاشع عابس يكاد يبكي واهتزاز الأرض هو تخلخل أجزائها وتشققها للنبات
وربوها هو انتفاخها بالماء وعلو سطحها به وعبارة البخاري اهتزت بالنبات وربت
ارتفعت اه‍ ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أن يقاس على هذه الآية والعبرة وذلك
احياء الموتى فقال (إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير) والشئ في
اللغة الموجود.
141

وقوله تعالى: (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا...) الآية آية وعيد
والالحاد الميل وهو هنا ميل عن الحق ومنه لحد الميت لأنه في جانب يقال لحد
الرجل والحد بمعنى.
واختلف في إلحادهم هذا: ما هو فقال قتادة وغيره هو الحاد بالتكذيب وقال
مجاهد وغيره هو بالمكاء والصفير واللغو الذين ذهبوا إليه وقال ابن عباس إلحادهم:
وضعهم للكلام غير موضعه ولفظة الإلحاد تعم هذا كله وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) وعيد في صيغة الأمر باجماع من أهل العلم.
وقوله تعالى: (ان الذين كفروا بالذكر...) الآية يريد ب‍ (الذين كفروا) قريشا
و (الذكر) القرآن باجماع.
واختلف في الخبر عنهم أين هو؟ فقالت فرقة هو في قوله (أولئك ينادون من
مكان بعيد) [فصلت: 44] ورد بكثرة الحائل وأن هنالك قوما قد ذكروا يحسن رد
قوله " أولئك ينادون عليهم " وقالت فرقة الخبر مضمر تقديره: ان الذين كفروا بالذكر
لما جاءهم هلكوا أو ضلوا وقيل الخبر في قوله (وإنه لكتاب عزيز) وهذا ضعيف لا
يتجه وقال عمرو بن عبيد معناه في التفسير: ان الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا
به وانه لكتاب عزيز قال (ع) والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر ولكنه عند
قوم في غير هذا الموضع الذي قدره هؤلاء فيه وانما هو بعد (حكيم حميد) وهو أشد
142

إظهارا لمذمة الكفار به وذلك لأن قوله (وانه لكتاب) داخل في صفة الذكر المكذب
به فلم يتم ذكر المخبر عنه الا بعد استيفاء وصفه ووصف الله تعالى الكتاب بالعزة لأنه
بصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والازراء عليه وهو محفوظ من الله تعالى قال ابن عباس
معناه كريم على الله تعالى.
وقوله تعالى: (لا يأتيه / الباطل) قال قتادة والسدي يريد الشيطان وظاهر
اللفظ يعم الشيطان وأن يجئ أمر يبطل منه شيئا.
وقوله: (من بين يديه) معناه: ليس فيما تقدم من الكتب ما يبطل شيئا منه.
وقوله (ولا من خلفه) أي: ليس يأتي بعده من نظر ناظر وفكرة عاقل ما يبطل شيئا
منه والمراد باللفظة على الجملة لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات.
وقوله: (تنزيل) خبر مبتدأ أي هو تنزيل.
وقوله تعالى: (ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك) يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن مقالات قومه وما يلقاه من المكروه منهم.
والثاني: أن يكون المعنى ما يقال لك من الوحي وتخاطب به من جهة الله تعالى
الا ما قد قيل للرسل من قبلك.
وقوله تعالى: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا...) الآية الأعجمي هو الذي لا
يفصح عربيا كان أو غير عربي والعجمي الذي ليس من العرب فصيحا كان أو غير
فصيح والمعنى: ولو جعلنا هذا القرآن أعجميا لا يبين لقالوا واعترضوا لولا بينت
143

آياته وهذه الآية نزلت بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم من أجل حروف وقعت في
القرآن وهي مما عرب من كلام العجم كسجين واستبرق ونحوه وقرأ الجمهور:
(ءأعجمي وعربي) على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف وقرأ حمزة والكسائي
وحفص " أأعجمي " بهمزتين وكأنهم ينكرون ذلك ويقولون أأعجمي وعربي
مختلط هذا لا يحسن [ثم قال تعالى] (قل هو) يعني القرآن (للذين آمنوا هدى
وشفاء) واختلف الناس في قوله (وهو عليهم / عمى) فقالت فرقة يريد ب‍ " هو " القرآن
وقالت فرقة يريد ب‍ " هو " الوقر وهذه كلها استعارات والمعنى أنهم كالأعمى وصاحب
الوقر وهو الثقل في الاذن المانع من السمع وكذلك قوله تعالى: (أولئك ينادون من
مكان بعيد) يحتمل معنيين وكلاهما مقول للمفسرين:
أحدهما: أنها استعارة لقلة فهمهم شبههم بالرجل ينادي على بعد يسمع منه
الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه وهذا تأويل مجاهد.
والآخر: ان الكلام على الحقيقة وأن معناه أنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح
أعمالهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف ليفضحوا قال على رؤوس الخلائق ويكون
أعظم لتوبيخهم وهذا تأويل الضحاك.
قال أبو حيان: (عمى) - بفتح الميم - مصدر عمي انتهى.
ثم ضرب الله تعالى امر موسى مثلا للنبي - عليه السلام - ولقريش أي فعل أولئك
كأفعال هؤلاء حين جاءهم مثل ما جاء هؤلاء والكلمة السابقة هي حتم الله تعالى بتأخير
عذابهم إلى يوم القيامة والضمير في قوله (لفي شك منه) يحتمل أن يعود على موسى
أو على كتابه.
وقوله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه...) الآية نصيحة بليغة للعالم وتحذير
وترجية.
144

وقوله تعالى: (إليه يرد علم الساعة...) الآية المعنى: أن علم الساعة ووقت
مجيئها يرده كل مؤمن متكلم فيه إلى الله عز وجل.
وقوله تعالى: (ويوم يناديهم أين شركائي...) الآية التقدير واذكر يوم يناديهم
والضمير في (يناديهم) الأظهر والأسبق فيه للفهم أنه يريد الكفار عبدة الأوثان ويحتمل
أن يريد كل من عبد من دون الله من انسان وغيره وفي هذا ضعف وأما الضمير / في
قوله: (وضل عنهم) فلا احتمال لعودته الا على الكفار و (ءاذناك) قال ابن عباس
وغيره معناه أعلمناك ما منا من يشهد ولا من شهد بأن لك شريكا (وضل عنهم) أي
نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة والأصنام ويحتمل أن يريد وضل
عنهم الأصنام أي تلفت فلم يجدوا منها نصرا وتلاشى أمرها.
وقوله: (وظنوا) يحتمل أن يكون متصلا بما قبله ويكون الوقف عليه ويكون
قوله (ما لهم من محيص) استئنافا نفي أن يكون لهم ملجأ أو موضع روغان تقول
حاص الرجل إذا راغ لطلب النجاة من شئ ومنه الحديث " فحاصوا حيصة حمر
الوحش الا الأبواب " ويكون الظن على هذا التأويل على بابه أي ظنوا أن هذه
المقالة (ما منا شهيد) منجاة لهم أو أمر يموهون به ويحتمل أن يكون الوقف في
قوله (من قبل) ويكون (وظنوا) متصلا بقوله (ما لهم من محيص) أي ظنوا
ذلك ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين وقد تقدم البحث في اطلاق الظن على
اليقين.
* ت * وهذا التأويل هو الظاهر والأول بعيد جدا.
وقوله تعالى: (لا يسأم الانسان من دعاء الخير) هذه آيات نزلت في كفار قيل في
145

الوليد بن المغيرة وقيل في عتبة بن ربيعة وجل الآية يعطي أنها نزلت في كفار وإن
كان أولها يتضمن خلقا ربما شارك فيها بعض المؤمنين
(ودعاء الخير) اضافته إضافة المصدر إلى المفعول وفي مصحف ابن مسعود:
" من دعاء بالخير " والخير في هذه الآية المال والصحة وبذلك تليق الآية بالكفار
وقوله تعالى: (ليقولون هذا لي) أي بعملي وبما سعيت ولا يرى أن النعم انما
هي فضل من الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم (ليقولن) قال أبو البقاء هو جواب الشرط
والفاء محذوفة وقيل هو جواب قسم محذوف قال صلى الله عليه وسلم قلت هذا هو الحق
والأول غلط لأن القسم قد تقدم في قوله (ولئن) فالجواب له ولأن حذف الفاء في
الجواب لا يجوز انتهى وفي تغليط الصفاقسي لأبي البقاء نظر.
وقوله: (وما أظن الساعة قائمة) قول بين فيه الجحد والكفر ثم يقول هذا الكافر
(ولئن رجعت إلى ربي) كما تقولون " إن لي عنده للحسنى " أي حالا ترضيني من
مال وبنين وغير ذلك قال (ع) والأماني على الله تعالى وترك الجد في الطاعة
مذموم لكل أحد فقد قال عليه السلام " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت
والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله ".
وقوله تعالى: (وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى بجانبه...) الآية ذكر
سبحانه الخلق الذميمة من الانسان جملة وهي في الكافر بينة متمكنة وأما المؤمن ففي
الأغلب يشكر على النعمة وكثيرا ما يصير عند الشدة و (نأى) معناه بعد ولم يمل إلى
شكر ولا طاعة.
وقوله: (فذو دعاء عريض) أي: وطويل أيضا وعبارة الثعلبي (عريض) أي
146

كثير والعرب تستعمل الطول والعرض كليهما في الكثرة من الكلام انتهى.
ثم أمر تعالى نبيه أن يوقف قريشا على هذا الاحتجاج وموضع تغريرهم من بأنفسهم
فقال: (قل أرأيتم إن كان من عند الله) وخالفتموه ألستم على هلكة فمن أضل ممن
يبقي على مثل هذا الغرر مع الله وهذا هو الشقاق ثم وعد تعالى نبيه عليه السلام
بأنه سيرى الكفار آياته واختلف في معنى قوله سبحانه (في الآفاق وفي أنفسهم) فقال
المنهال والسدي وجماعة هو وعد بما يفتحه الله على رسوله من الأقطار حول مكة وفي
غير ذلك من الأرض كخيبر ونحوها (وفي أنفسهم) أراد به فتح مكة قال
(ع) وهذا تأويل حسن يتضمن الاعلام بغيب ظهر بعد ذلك وقال قتادة
والضحاك (سنريهم آياتنا في الآفاق) هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض
قديما (وفي أنفسهم) يوم بدر والتأويل الأول أرجح والله أعلم والضمير في
قوله تعالى: (أنه الحق) عائد على الشرع والقرآن فباظهار الله نبيه وفتح البلاد عليه يتبين
لهم أنه الحق.
وقوله: (بربك) قال أبو حيان الباء زائدة وهو فاعل (يكف) أي أو لم
يكفهم ربك انتهى وباقي الآية بين.
147

تفسير سورة الشورى
وهي مكية
وقال مقاتل فيها مدني [قوله تعالى: (ذلك الذي يبشر الله عباده) إلى
(الصدور)].
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (حم عسق) قال الثعلبي قال ابن عباس أن (حم عسق) هذه
الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله المنزلة على كل نبي أنزل عليه كتاب ولذلك قال
تعالى (كذلك يوحي إليك والى الذين من قبلك) وقرأ الجمهور (يوحي) باسناد
الفعل إلى الله تعالى وقرأ ابن كثير وحده " يوحي " - بفتح الحاء - على بناء الفعل
للمفعول والتقدير يوحي إليك القرآن.
وقوله تعالى: (والى الذين من قبلك) يريد من الأنبياء الذين نزل عليهم الكتاب
وقرأ نافع والكسائي " يتفطرن " وقرأ أبو عمرة وعاصم " ينفطرن " والمعنى فيهما
يتصدعن ويتشققن خضوعا وخشية من الله تعالى وتعظيما وطاعة.
148

وقوله: (من فوقهن) أي من أعلاهن وقال الأخفش علي بن سليمان الضمير
من (فوقهن) للكفار أي من فوق الجماعات الكافرة والفرق الملحدة من أجل
أقوالها يكاد السماوات يتفطرن فهذه الآية على هذا كالتي في " كهيعص " (تكاد السماوات
يتفطرن منه) [مريم: 90] الآية وقالت فرقة معناه من فوق الأرضين إذ قد جرى ذكر
الأرض.
وقوله تعالى: (ويستغفرون لمن في الأرض) قالت فرقة هذا منسوخ بقوله تعالى
(ويستغفرون للذين آمنوا) [غافر: 7] قال (ع) وهذا قول ضعيف لأن النسخ في
الاخبار لا يتصور وقال السدي ما معناه أن ظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص في
المؤمنين فكأنه قال: ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين وقالت فرقة بل هي
على عمومها لكن استغفار الملائكة ليس بطلب غفران للكفرة مع بقائهم على كفرهم وانما
استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تؤدي إلى الغفران لهم وتأويل السدي أرجح.
وقوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم
بوكيل) هذه آية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد للكافرين والمعنى: ليس عليك الا البلاغ فقط
فلا تهتم بعدم ايمان قريش وغيرهم الله هو الحفيظ عليهم كفرهم المحصي لأعمالهم
المجازي عليها وأنت لست بوكيل عليهم وما في هذه الألفاظ من موادعة فمنسوخ قال
الامام الفخر في شرحه لأسماء الله / الحسنى عند كلامه على اسمه سبحانه " الحفيظ " قال
بعضهم ما من عبد حفظ جوارحه الا حفظ الله عليه قلبه وما من عبد حفظ الله عليه قلبه
الا جعله حجة على عباده انتهى ثم قال تعالى (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا)
[المعنى وكما قضينا أمرك هكذا وأمضيناه في هذه السورة كذلك أوحينا إليك قرآنا
عربيا] مبينا لهم لا يحتاجون إلى آخر سواه إذ فهمه متأت لهم ولم نكلفك الا إنذار
من ذكر و (أم القرى) هي مكة و (يوم الجمع) هو يوم القيامة أي: تخوفهم إياه.
149

وقوله (فريق) مرتفع على خبر الابتداء المضمر كأنه قال هم فريق في الجنة
وفريق في السعير ثم قوي تعالى تسلية نبيه بأن عرفه أن الأمر موقوف على مشيئة الله من
ايمانهم أو كفرهم وأنه لو أراد كونهم أمة واحدة على دين واحد لجمعهم عليه ولكنه
سبحانه يدخل من سبقت له السعادة عنده في رحمته وييسره في الدنيا لعمل أهل
السعادة وان الظالمين بالكفر الميسرين لعمل الشقاوة ما لهم من ولي ولا نصير قال
عبد الحق رحمه الله في " العاقبة " وقد علمت (رحمك الله) أن الناس يوم القيامة
صنفان:
صنف مقرب مصان.
وآخر مبعد مهان.
صنف نصبت لهم الأسرة والحجال والأرائك والكلال وجمعت لهم الرغائب
والآمال.
وآخرون أعدت لهم الأراقم والصلال عمرو والمقامع والأغلال وضروب الأهوال
والأنكال وأنت لا تعلم من أيهما أنت ولا في أي الفريقين كنت: [الكامل]
نزلوا بمكة في قبائل نوفل * ونزلت بالبيداء أبعد منزل.
وتقلبوا فرحين تحت ظلالها * وطرحت بالصحراء غير مظلل.
وسقوا من الصافي المعتق ريهم * وسقيت دمعة واله متململ.
بكى سفيان الثوري رحمه الله ليلة إلى الصباح فقيل له بكاؤك هذا على
الذنوب فأخذ نبتة من الأرض وقال الذنوب أهون من هذا إنما أبكي خوف الخاتمة
وبكى غير سفيان وغير سفيان وأنه للأمر يبكي عليه ويصرف الاهتمام كله إليه.
وقد قيل: لا تكف دمعك حتى ترى في المعاد ربعك.
وقيل يا ابن آدم الأقلام عليك تجري وأنت في غفلة لا تدري يا ابن آدم دع
التنافس في هذه الدار حتى ترى ما فعلت في أمرك الأقدار سمع بعض الصالحين منشدا
ينشد
أيا راهبي نجران ما فعلت هند *................
فبكى ليلة إلى الصباح فسئل عن ذلك فقال قلت في نفسي ما فعلت الأقدار في
وماذا جرت به علي؟ انتهى.
150

وقوله تعالى: (أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي...) الآية قوله (أم
اتخذوا) كلام مقطوع مما قبله وليست بمعادلة ولكن الكلام كأنه اضرب عن حجة لهم
أو مقالة مقررة فقال (بل اتخذوا) هذا مشهور قول النحويين في مثل هذا وذهب
بعضهم إلى أن " أم " هذه هي بمنزلة ألف الاستفهام دون تقرير إضراب ثم أثبت الحكم بأنه
عز وجل هو الولي الذي تنفع ولايته.
وقوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله...) الآية المعنى: قل
لهم يا محمد وما اختلفتم فيه أيها الناس من تكذيب وتصديق وايمان وكفر وغير
ذلك فالحكم فيه والمجازاة عنه ليست إلي ولا بيدي وانما ذلك إلى الله تعالى الذي
صفاته ما ذكر من احياء الموتى والقدرة على كل شئ.
وقوله تعالى: (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) يريد: زوج الانسان الأنثى وبهذه
النعمة اتفق الذرء وليست الأزواج ههنا الأنواع.
وقوله: (ومن الأنعام أزواجا) الظاهر أيضا فيه والمتسق أنه يريد إناث الذكران
ويحتمل أن يريد الأنواع والأول أظهر.
وقوله (يذرؤكم) أي: يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن قاله مجاهد
والناس فلفظة " ذرأ " تزيد على لفظة " خلق " معنى آخر ليس في " خلق " وهو توالي طبقات
على مر الزمان.
وقوله: (فيه) الضمير عائد على الجعل يتضمنه قوله: (جعل لكم) وهذا كما
تقول كلمت زيدا كلاما أكرمته فيه وقال القتبي الضمير للتزويج ولفظة " في " مشتركة
على معان وان كان أصلها الوعاء واليه يردها النظر في كل وجه.
وقوله تعالى: (ليس كمثله شئ) الكاف مؤكدة للتشبيه فنفي التشبيه أوكد ما
يكون وذلك أنك تقول زيد كعمرو وزيد مثل عمرو فإذا أرادت المبالغة التامة قلت
زيد كمثل عمرو وجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب وعلى هذا المعنى
151

شواهد كثيرة وذهب الطبري وغيره إلى أن المعنى: ليس كهو شئ وقالوا: لفظة
(مثل) في الآية توكيد وواقعة موقع " هو " و " المقاليد " المفاتيح قاله ابن عباس
وغيره وقال مجاهد هذا أصلها بالفارسية وهي هاهنا استعارة لوقوع كل أمر تحت
قدرته سبحانه وقال السدي المقاليد الخزائن وفي اللفظ على هذا حذف مضاف
قال قتادة من ملك مقاليد خزائن فالخزائن في ملكه.
وقوله سبحانه: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا...) الآية المعنى شرع
لكم وبين من المعتقدات والتوحيد ما وصى به نوحا قبل.
وقوله: (والذي) عطف على (ما) وكذلك ما ذكر بعد من إقامة الدين مشروع
اتفقت النبوءات فيه وذلك في المعتقدات وأما الأحكام بانفرادها فهي في الشرائع مختلفة
وهي المراد في قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) [المائدة: 48] وإقامة
الدين هو توحيد الله ورفض سواه.
وقوله تعالى: (ولا تتفرقوا) نهي عن المهلك من تفرق الأنحاء والمذاهب والخير
كله في الألفة واجتماع الكلمة ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام (كبر على المشركين ما
تدعوهم إليه) من توحيد الله ورفض الأوثان قال قتادة كبر عليهم " لا إله إلا الله " وأبى
الله الا نصرها ثم سلاه تعالى عنهم بقوله: (الله يجتبي إليه من يشاء...) الآية
152

أي يختار ويصطفي قاله مجاهد وغيره و (ينيب) معناه يرجع عن الكفر ويحرص على الخير
ويطلبه.
(وما تفرقوا) يعني أوائل اليهود والنصارى (الا من بعد ما جاءهم العلم).
وقوله (بغيا بينهم) أي بغى بعضهم على بعض وأداهم ذلك إلى اختلاف الرأي
وافتراق الكلمة، والكلمة السابقة قال المفسرون هي حتمه تعالى القضاء بان مجازاتهم انما
تقع في الآخرة ولولا ذلك لفصل بينهم في الدنيا وغلب المحق على المبطل.
وقوله تعالى: (وان الذين أورثوا الكتاب) إشارة إلى معاصري نبينا محمد عليه
السلام من اليهود والنصارى.
وقيل هو إشارة إلى العرب والكتاب على هذا هو القرآن والضمير في قوله:
(لفي شك منه) يحتمل ان يعود على الكتاب أو على محمد أو على الاجل المسمى
أي في شك من البعث على قول من رأى أن الإشارة إلى العرب ووصف الشك
ب‍ (مريب) مبالغة فيه واللام في قوله تعالى: (فلذلك فادع) قالت فرقة هي بمنزلة
" إلى " كأنه قال فإلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد فادع وقالت فرقة بل هي بمعنى
" من أجل " كأنه قال من أجل ان الامر كذا وكذا ولكونه كذا فادع أنت إلى ربك وبلغ ما
أرسلت به وقال الفخر يعني فلأجل ذلك التفرق ولأجل ما حدث من الاختلافات
الكثيرة في الدين فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية واستقم عليها وعلى الدعوة إليها
كما أمرك الله ولا تتبع أهواءهم الباطلة انتهى وخوطب عليه السلام بالاستقامة
وهو قد كان مستقيما بمعنى دم على استقامتك وهكذا الشأن في كل مأمور بشئ هو
متلبس به انما معناه الدوام وهذه الآية ونحوها كانت نصب عيني النبي عليه السلام
وكانت شديدة الموقع من نفسه أعني قوله تعالى (واستقم كما أمرت) لأنها جملة
تحتها جميع الطاعات وتكاليف النبوءة وفي هذا المعنى قال عليه السلام " شيبتني هود
وأخواتها " فقيل له لم ذلك يا نبي الله فقال لأن فيها (فاستقم كما أمرت)
[هود: 112] وهذا الخطاب له عليه السلام بحسب قوته في أمر الله عز وجل وقال
هو لأمته بحسب ضعفهم استقيموا ولن تحصوا.
153

وقوله تعالى: (ولا تتبع أهواءهم) يعني قريشا.
* ت * وفرض الفخر هذه القضية في أهل الكتاب وذكر ما وقع من اليهود
ومحاجتهم في دفع الحق وجحد الرسالة وعلى هذا فالضمير في: (أهوائهم) عائد
عليهم والله أعلم. اه‍.
ثم امره تعالى أن يقول: (آمنت بما أنزل الله من كتاب) وهو أمر يعم سائر أمته
وقوله: (وأمرت لأعدل بينكم) قالت فرقة اللام في (لأعدل) بمعنى أن أعدل
بينكم وقالت فرقة المعنى وأمرت بما أمرت به من التبليغ والشرع لكي أعدل بينكم.
وقوله (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) إلى آخر الآية ما فيه من موادعة منسوخ بآية
السيف.
وقوله: (لا حجة بيننا وبينكم) أي لا جدال ولا مناظرة قد وضح الحق وأنتم
تعاندون وفي قوله: (الله يجمع بيننا) وعيد بين.
وقوله تعالى: (والذين يحاجون في الله...) الآية قال ابن عباس ومجاهد:
نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الاسلام واضلالهم وقيل
نزلت في قريش لأنها كانت أبدا تحاول هذا المعنى و (يحاجون في الله) معناه في
دين الله أو توحيد الله أي يحاجون فيه بالابطال والالحاد وما أشبهه والضمير في
(له) يحتمل أن يعود على الله تبارك وتعالى ويحتمل أن يعود على الدين والشرع
ويحتمل أن يعود على النبي عليه السلام و (داحضة) معناه زاهقة والدحض
الزهق وباقي الآية بين.
154

وقوله سبحان: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق) معناه مضمنا الحق أي بالحق
في أحكامه وأوامره ونواهيه وأخباره (والميزان) هنا العدل قاله ابن عباس
ومجاهد والناس وحكى الثعلبي عن مجاهد أنه قال هو هنا الميزان الذي بأيدي
الناس قال (ع) ولا شك أنه داخل في العدل وجزء منه.
وقوله تعالى: (وما يدريك لعل الساعة قريب) وعيد للمشركين وجاء لفظ
(قريب) مذكرا من حيث تأنيث الساعة غير حقيقي وإذ هي بمعنى الوقت.
* ت * ينبغي للمؤمن العاقل أن يتدبر هذه الآية ونظائرها ويقدر في نفسه أنه
المقصود بها [البسيط]
لاه بدنياه والأيام تنعاه * والقبر غايته واللحد مأواه.
يلهو فلو كان يدري ما أعد له * اذن لأحزنه لأنه ما كان الهاه.
قال الغزالي في " الاحياء " قال أبو زكريا التيمي بينما سليمان بن عبد الملك في
المسجد الحرام إذ أوتي بحجر منقوش فطلب من يقرأه فأوتي بوهب بن منبه فإذا
فيه ابن آدم انك لو رأيت قرب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك ولرغبت في
الزيادة من عملك ولقصرت من حرصك وحيلك وانما يلقاك غدا ندمك لو قد زلت
بك قدمك وأسلمك أهلك وحشمك ففارقك الولد والقريب ورفضك الوالد والنسيب
فلا أنت إلى دنياك عائد ولا في حسناتك زائد فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة
فبكى سليمان بكاء شديدا انتهى وباقي الآية بين.
ثم رجى تبارك وتعالى عباده بقوله: (الله لطيف بعباده) و (لطيف) هنا بمعنى رفيق
متحف والعباد هنا المؤمنون.
155

وقوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة) معناه إرادة مستعد عامل لا إرادة
متمن مسوف والحرث في هذه الآية عبارة عن السعي والتكسب والاعداد.
وقوله تعالى: (نزد له في حرثه) وعد متنجز قال الفخر وفي تفسير قوله
(نزد له في حرثه) قولان:
الأول: نزد له في توفيقه واعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه وقال
مقاتل نزد له في حرثه بتضعيف الثواب قال تعالى: (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من
فضله) [فاطر: 30] انتهى وقوله (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) معناه ما شئنا
منها ولمن شئنا فرب ممتحن مضيق عليه حريص على حرث الدنيا مريد له لا يحس
بغيره نعوذ بالله من ذلك وهذا الذي لا يعقل غير الدنيا هو الذي نفى أن يكون له نصيب
في الآخرة.
وقوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) " أم " هذه
منقطعة لا معادلة وهي بتقدير " بل " وألف الاستفهام والشركاء في هذه الآية يحتمل أن
يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم ويكون الضمير في (لهم) للكفار
المعاصرين لمحمد عليه السلام فالاشتراك ههنا هو في الكفر والغواية وليس بشركة
الاشراك بالله ويحتمل أن يكون المراد بالشركاء الأصنام والأوثان على معنى: أم لهم
أصنام جعلوها شركاء لله في ألوهيته ويكون الضمير في (شرعوا) لهؤلاء المعاصرين من
الكفار ولآبائهم والضمير في (لهم) للأصنام الشركاء و (شرعوا) معناه أثبتوا
ونهجوا ورسموا و (الدين) هنا العوائد والأحكام والسيرة ويدخل في ذلك أيضا
المعتقدات السوء لأنهم في جميع ذلك وضعوا أوضاعا فاسدة وكلمة الفصل هي ما سبق
من قضاء الله تعالى بأنه يؤخر عقابهم للدار الآخرة والقضاء بينهم هو عذابهم في الدنيا
ومجازاتهم.
وقوله تعالى: (ترى الظالمين) هي رؤية بصر و (مشفقين) حال وليس لهم في
هذا الاشفاق مدح لأنهم انما أشفقوا حين نزل بهم وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا
مشفقون من أمر الساعة كما تقدم وهو واقع بهم.
156

أبو حيان ضمير (هو) عائد على العذاب أو على ما كسبوا بحذف مضاف
أي وبال ما كسبوا انتهى والروضات المواضع المونقة النضرة.
وقوله تعالى: (ذلك الذي يبشر الله عباده) إشارة إلى قوله تعالى في الآية الأخرى:
(وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) [الأحزاب: 47].
وقوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى) اختلف الناس في
معناه فقال ابن عباس وغيره هي آية مكية نزلت في صدر الاسلام ومعناها استكفاف شر
الكفار ودفع أذاهم أي ما أسألكم على القرآن إلا أن تودوني لقرابة بيني وبينكم فتكفوا
عني أذاكم قال ابن عباس وابن إسحاق وقتادة ولم يكن في قريش بطن الا
وللنبي صلى الله عليه وسلم فيه نسب أو صهر فالآية على هذا فيها استعطاف ما ودفع اذى وطلب
سلامة منهم وذلك كله منسوخ بآية السيف ويحتمل هذا التأويل أن يكون معنى الكلام
استدعاء نصرهم أي لا أسألكم غرامة ولا شيئا إلا أن تودوني لقرابتي منكم وأن تكونوا
أولى بي من غيركم قال (ع) وقريش كلها عندي قربى وان كانت تتفاضل وقد
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من مات على حب آل محمد مات شهيدا ومن مات على
بغضهم لم يشم رائحة الجنة " وقال ابن عباس أيضا ما يقتضي أن الآية مدنية وأن
157

الأنصار جمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالا وساقته إليه فرده عليهم ونزلت الآية في ذلك
وقيل غير هذا وعلى كل قول فالاستثناء منقطع و (الا) بمعنى " لكن " و (يقترف)
معناه يكتسب ورجل قرفة إذا كان محتالا كسوبا و (غفور) معناه ساتر عيوب عباده
و (شكور) معناه: مجاز على الدقيقة من الخير لا يضيع عنده لعامل عمل.
وقوله تعالى: (أم يقولون افترى على الله كذبا) " أم " هذه مقطوعة مضمنة اضرابا
عن كلام متقدم وتقريرا على هذه المقالة منهم.
وقوله تعالى: (فإن يشأ الله يختم على قلبك) معناه في قول قتادة وفرقة من
المفسرين ينسيك القرآن والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان ابطالها كأنه يقول
وكيف يصح أن تكون مفتريا وأنت من الله بمرأى ومسمع وهو قادر لو شاء أن يختم على
قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراءك فمقصد اللفظ هذا المعنى وحذف من
يدل عليه الظاهر اختصارا واقتصارا وقال مجاهد المعنى فإن يشأ الله يختم على قلبك
بالصبر لأذى الكفار ويربط عليك بالجلد فهذا تأويل لا يتضمن الرد على مقالتهم قال
أبو حيان وذكر القشيري أن الخطاب للكفار أي يختم على قلبك أيها القائل فيكون
انتقالا من الغيبة للخطاب (ويمح) استئناف اخبار لا داخل في الجواب وتسقط الواو
من اللفظ لالتقاء الساكنين ومن المصحف حملا على اللفظ انتهى.
وقوله تعالى: (ويمح) فعل مستقبل خبر من الله تعالى أنه يمحو الباطل ولا بد
إما في الدنيا وإما في الآخرة وهذا بحسب نازلة نازلة وكتب (يمح) في المصحف بحاء
مرسلة كما كتبوا (ويدع الانسان) [الإسراء: 11] إلى غير ذلك مما ذهبوا فيه إلى
الحذف والاختصار.
وقوله (بكلماته) معناه بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء
فالكلمات المعاني القائمة القديمة التي لا تبديل لها ثم ذكر تعالى النعمة في تفضله بقبول
التوبة من عباده وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمانه وأعماله مقطوع به بهذه الآية
وأما ما سلف من أعماله فينقسم فأما التوبة من الكفر فماحية كل ما تقدمها من مظالم العباد
158

الفائتة وغير ذلك وأما التوبة من المعاصي فلأهل السنة فيها قولان: هل تذهب المعاصي
السالفة للعبد بينه وبين خالقه؟ فقالت فرقة هي مذهبة لها وقالت فرقة هي في مشيئة
الله تعالى وأجمعوا أنها لا تذهب مظالم العباد وحقيقة التوبة الاقلاع عن المعاصي
والاقبال والرجوع إلى الطاعات ويلزمها الندم على ما فات والعزم على ملازمة
الخيرات.
وقال سري السقطي: التوبة العزم على ترك الذنوب والاقبال بالقلب على علام
الغيوب وقال يحيى بن معاذ التائب من كسر شبابه على رأسه وكسر الدنيا على رأس
الشيطان [ولزم الفطام] حتى أتاه الحمام.
وقوله تعالى (عن عباده) بمعنى من عباده وكأنه قال: التوبة الصادرة عن عباده
وقرأ الجمهور: " يفعلون " بالياء على الغيبة وقرأ حمزة والكسائي " تفعلون " بالتاء على
المخاطبة وفي الآية توعد.
وقوله تعالى: " ويستجيب " قال الزجاج وغيره: معناه يجيب والعرب تقول أجاب
واستجاب بمعنى و (الذين) على هذا التأويل مفعول " يستجيب " وروي هذا المعنى عن
معاذ بن جبل ونحوه عن ابن عباس وقالت فرقة: المعنى ويستدعي الذين آمنوا الإجابة
من ربهم بالأعمال الصالحات ودل قوله (ويزيدهم من فضله) على أن المعنى فيجيبهم
و (الذين) على هذا القول فاعل (يستجيب) وقالت فرقة المعنى ويجيب المؤمنون
ربهم ف‍ (الذين) فاعل بمعنى يجيبون دعوة شرعه ورسالته والزيادة من فضله هي تضعيف
الحسنات وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " هي قبول الشفاعات في المذنبين والرضوان "
159

وقوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء
أنه بعباده خبير بصير) قال عمرو بن حريث وغيره أنها نزلت لأن قوما من أهل الصفة
طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق فأعلمهم
الله تعالى أنه لو جاء الرزق على اختيار البشر واقتراحهم لكان سبب بغيهم وإفسادهم
ولكنه عز وجل أعلم بالمصلحة في كل أحد (إنه بعباده خبير بصير) بمصالحهم فهو
ينزل لهم من الرزق القدر الذي به صلاحهم فرب انسان لا يصلح وتنكف عاديته الا
بالفقر.
* ت * وقد ذكرنا في هذا المختصر أحاديث كثيرة مختارة في فضل الفقراء
الصابرين ما فيه كفاية لمن وفق وقد روى ابن المبارك في " رقائقه " عن سعيد بن
المسيب قال " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم
القيامة قال هم الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيرا قال:
يا رسول الله فهم أول الناس يدخلون الجنة؟ قال لا قال فمن أول الناس يدخل
الجنة قال الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة فتخرج إليهم منها ملائكة فيقولون
ارجعوا إلى الحساب فيقولون علام نحاسب والله ما أفيضت علينا الأموال في الدنيا
فنقبض فيها ونبسط وما كنا أمراء نعدل ونجور ولكنا جاءنا أمر الله فعبدناه حتى أتانا
اليقين انتهى.
وقوله عز وجل: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا...) الآية تعديد نعم
الله تعالى الدالة على وحدانيته وانه المولى الذي يستحق أن يعبد دون ما سواه من
الأنداد وقرأ الجمهور " قنطوا " بفتح النون وقرأ الأعمش " قنطوا " بكسرها وهما
لغتان وروي أن عمر رضي الله عنه قيل له أجدبت الأرض وقنط الناس فقال
مطروا اذن بمعنى أن الفرج عند الشدة.
وقوله تعالى / (وينشر رحمته) قيل أراد بالرحمة: المطر وقيل أراد بالرحمة
هنا الشمس فذلك تعديد نعمة غير الأولى وذلك أن المطر إذا ألم بعد القنط حسن
موقعه فإذا دام سئم فتجئ الشمس بعده عظيمة الموقع.
160

وقوله تعالى: (وهو الولي الحميد) أي من هذه أفعاله هو الذي ينفع إذا والى
وتحمد أفعاله ونعمه قال القشيري: اسمه تعالى " الولي " أي هو المتولي لأحوال
عباده وقيل هو من الوالي وهو الناصر فأولياء الله أنصار دينه وأشياع طاعته
والولي: في - صفة العبد - من يواظب على طاعة ربه ومن علامات من يكون الحق
سبحانه وليه أن يصونه ويكفيه في جميع الأحوال ويؤمنه فيغار على قلبه أن يتعلق
بمخلوق في دفع شر أو جلب نفع بل يكون سبحانه هو القائم على قلبه في كل نفس
فيحقق آماله عند إشاراته ويعجل مآربه عند خطراته ومن أمارات ولايته لعبده أن يديم
توفيقه حتى لو أراد سوءا أو قصد محظورا عصمه عن ارتكابه أو لو جنح إلى تقصير
في طاعة أبى الا توفيقا وتأييدا وهذا من أمارات السعادة وعكس هذا من أمارات
الشقاوة ومن أمارات ولايته أيضا أن يرزقه مودة في قلوب أوليائه انتهى من " التحبير ".
ثم ذكر تعالى الآية الكبرى الدالة على الصانع وذلك خلق السماوات والأرض.
وقوله تعالى: (وما بث فيهما من دابة) يتخرج على وجوه: منها أن يريد
إحداهما وهو ما بث في الأرض دون السماوات ومنها أن يكون تعالى قد خلق في
السماوات وبث دواب لا نعلمها نحن ومنها أن يريد الحيوانات التي توجد في السحاب
وقد تقع أحيانا كالضفادع / ونحوها فان السحاب داخل في اسم السماء.
وقوله تعالى: (وهو على جمعهم) يريد: يوم القيامة عند الحشر من القبور.
وقوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة) قرأ جمهور القراء: " فبما " بفاء وكذلك هي
في جل المصاحف وقرأ نافع وابن عامر: " بما " دون فاء قال أبو علي الفارسي:
أصاب من قوله (وما أصابكم) يحتمل أيكون في موضع جزم وتكون " ما " شرطية
وعلى هذا لا يجوز حذف الفاء عند سيبويه وجوز حذفها أبو الحسن الأخفش وبعض
161

البغداديين على أنها مرادة في المعنى ويحتمل أن يكون " أصاب " صلة ل‍ " ما " وتكون
" ما " بمعنى " الذي " وعلى هذا يتجه حذف الفاء وثبوتها لكن معنى الكلام مع ثبوتها
التلازم أي لولا كسبكم ما أصابتكم مصيبة والمصيبة انما هي بكسب الأيدي ومعنى
الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم ويجوز أن يعرى منه قال * ع * وأما في
هذه الآية فالتلازم مطرد مع الثبوت والحذف وأما معنى الآية فاختلف الناس فيه
فقالت فرقة هو اخبار من الله تعالى بأن الرزايا والمصائب في الدنيا انما هي مجازات من
الله تعالى على ذنوب المرء وخطاياه وأن الله تعالى يعفو عن كثير فلا يعاقب عليه
بمصيبة وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق
الا بذنب وما يعفو عنه أكثر " وقال مرة الهمداني رأيت على ظهر كف شريح قرحة
فقلت ما هذا؟ فقال هذا بما كسبت يدي ويعفو [الله] عن كثير وقيل لأبي سليمان
الداراني ما بال الفضلاء لا يلومون من أساء إليهم? فقال لأنهم يعلمون أن الله تعالى
هو الذي ابتلاهم بذنوبهم وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله أكرم
من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود
فيه بعد عفوه " وقال الحسن: معنى الآية في الحدود أي ما أصابكم من حد من حدود
الله فبما كسبت أيديكم ويعفو الله عن كثير فيستره على العبد حتى لا يحد عليه ثم
أخبر تعالى عن قصور ابن آدم وضعفه وأنه في قبضة القدرة لا يعجز طلب ربه ولا يمكنه
الفرار منه و " الجواري " جمع جارية وهي السفينة و (الاعلام) الجبال وباقي الآية
بين فيه الموعظة وتشريف الصبار الشكور.
162

وقوله تعالى: (أو يوبقهن بما كسبوا) أوبقت الرجل إذا أنشبته في أمر يهلك فيه
وهو في السفن تغريقها و (بما كسبوا) أي بذنوب ركابها وقرأ نافع وابن عامر
" ويعلم " بالرفع على القطع والاستئناف وقرأ الباقون والجمهور " ويعلم " بالنصب
على تقدير " أن " و " المحيص " المنجي وموضع الروغان.
ثم وعظ سبحانه عباده وحقر عندهم أمر الدنيا وشأنها ورغبهم فيما عنده من النعيم
والمنزلة الرفيعة لديه وعظم قدر ذلك في قوله (فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا
[وزينتها] وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) وقرأ الجمهور:
(كبائر) على الجمع قال الحسن هي كل ما توعد فيه بالنار وقد تقدم ما ذكره
الناس في الكبائر في سورة النساء وغيرها (والفواحش) قال السدي الزنا وقال
مقاتل موجبات الحدود.
وقوله تعالى: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) حض على كسر الغضب والتدرب في
إطفائه إذ هو جمرة من جهنم وباب من أبوابها وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم " أوصني قال:
لا تغضب قال زدني قال لا تغضب قال زدني قال لا تغضب " ومن جاهد
163

هذا العارض من نفسه حتى غلبه فقد كفي هما عظيما في دنياه وآخرته.
* ت * وروى مالك في الموطأ إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله
علمني كلمات أعيش بهن ولا تكثر علي فأنسى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تغضب " قال
أبو عمر بن عبد البر أراد علمني ما ينفعني بكلمات قليلة لئلا أنسى إن أكثرت علي ثم
أسند أبو عمر من طرق عن الأحنف بن قيس عن عمه جارية بن قدامة أنه قال
يا رسول الله قل لي قولا ينفعني الله به وأقلل لي لعلي أعقله قال " لا تغضب فأعاد
عليه مرارا كلها يرجع إليه رسول الله لا تغضب " انتهى من " التمهيد " وأسند أبو عمر
في التمهيد أيضا عن عبد الله بن أبي الهذيل قال لما رأى يحيى أن عيسى مفارقه قال له
أوصني قال لا تغضب قال لا أستطيع قال لا تقتن مالا قال عسى انتهى. وروى
ابن المبارك في رقائقه بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كف لسانه عن اعراض المسلمين
أقاله الله عثرته يوم القيامة ومن كف غضبه عنهم وقاه الله عذابه يوم القيامة " قال ابن
المبارك وأخبرنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال إن الله تبارك وتعالى يقول " من
ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ومن ذكرني
حين يغضب ذكرته حين أغضب فلم أمحقه فيمن أمحق " انتهى.
164

وقوله تعالى (والذين استجابوا) مدح لكل من آمن بالله وقبل شرعه ومدح
الله تعالى القوم الذين أمرهم شورى بينهم لأن في ذلك اجتماع الكلمة والتحاب
واتصال الأيدي والتعاضد على الخير وفي الحديث " ما تشاور قوم قط الا هدوا
لأحسن ما بحضرتهم ".
وقوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) معناه: في سبيل الله وبرسم الشرع وقال
ابن زيد قوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم...) الآية نزلت في الأنصار والظاهر
أن الله تعالى مدح كل من اتصف بهذه الصفة كائنا من كان وهل حصل الأنصار في هذه
الصفة الا بعد سبق المهاجرين إليها رضي الله عن جميعهم بمنه وكرمه.
وقوله عز وجل: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) مدح سبحانه في هذه
الآية قوما بالانتصار ممن بغى عليهم ورجح ذلك قوم من العلماء وقالوا الانتصار
بالواجب تغيير منكر قال الثعلبي قال إبراهيم [النخعي] في هذه الآية كانوا يكرهون أن
يستذلوا فإذا قدروا عفوا انتهى.
وقوله سبحانه: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) قيل سمى الجزاء باسم الابتداء وإن لم
يكن سيئة لتشابههما في الصورة قال * ع * وإن أخذنا السيئة هنا بمعنى المصيبة
في حق البشر أي: يسوء هذا هذا ويسوءه الآخر فلسنا نحتاج إلى أن نقول سمة
العقوبة باسم الذنب بل الفعل الأول والآخر سيئة قال الفخر اعلم أنه تعالى لما قال
(والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن
يكون مقيدا بالمثل فان النقصان حيف والزيادة ظلم والمساواة هو العدل فلهذا السبب
قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) انتهى ويدل على ذلك قوله تعالى: (وإن عاقبتم
فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) ونحوه من الآي واللام في قوله (ولمن انتصر بعد ظلمه)
لام التقاء القسم.
وقوله: (من سبيل) يريد من سبيل حرج ولا سبيل حكم وهذا إبلاغ في إباحة
الانتصار والخلاف فيه هل هو بين المؤمن والمشرك أو بين المؤمنين.
165

وقوله تعالى: (انما السبيل على الذين يظلمون الناس...) الآية المعنى انما
السبيل الحكم والاثم على الذين يظلمون الناس روى الترمذي عن كعب بن عجرة قال
قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " أعيذك بالله يا كعب من أمراء يكونون فمن غشي أبوابهم فصدقهم
في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض
يا كعب الصلاة برهان والصبر جنة حصينة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء
النار يا كعب لا يربو لحم نبت من سحت الا كانت النار أولى به " قال أبو عيسى هذا
حديث حسن وخرجه أيضا في " كتاب الفتن " وصححه انتهى.
وقوله تعالى: (انما السبيل) إلى قوله (اليم) اعتراض بين الكلامين ثم عاد في
قوله (ولمن صبر) إلى الكلام الأول كأنه قال ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم
من سبيل (ولمن صبر وغفر...) الآية واللام في قوله (ولمن صبر) يصح أن تكون
لام قسم ويصح أن تكون لام الابتداء (وعزم الأمور) محكمها ومتقنها: والحميد
العاقبة منها فمن رأى أن هذه الآية هي فيما بين المؤمنين والمشركين وأن الصبر
للمشركين كان أفضل قال أن الآية نسخت بآية السيف ومن رأى أن الآية بين المؤمنين
قال هي محكمة والصبر والغفران أفضل اجماعا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم
القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم فيقوم عنق من الناس كبير فيقال ما
أجركم فيقولون نحن الذين عفونا عمن ظلمنا في الدنيا "
وقوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده) تحقير لأمر الكفرة أي
فلا يبالي بهم أحد من المؤمنين لأنهم صائرون إلى مالا فلاح لهم معه ثم وصف تعالى
166

لنبيه حالهم في القيامة عند رؤيتهم العذاب وقولهم (هل إلى مرد من سبيل) ومرادهم
الرد إلى الدنيا والرؤية هنا رؤية عين والضمير في قوله (عليها) عائد على النار وإن
لم يتقدم لها ذكر من حيث دل عليها قوله (رأوا العذاب) وقوله (من الذل) يتعلق ب‍ (خاشعين).
وقوله تعالى: (ينظرون من طرف خفي) قال قتادة والسدي المعنى: يسارقون
النظر لما كانوا فيه من الهم وسوء الحال لا يستطيعون النظر بجميع العين وانما ينظرون
ببعضها قال الثعلبي قال يونس (من) بمعنى الباء أي ينظرون بطرف خفي أي
ضعيف من أجل الذل والخوف ونحوه عن الأخفش انتهى وفي البخاري (من طرف
خفي) أي ذليل.
وقوله تعالى: (وقال الذين آمنوا أن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم
القامة...) الآية وقول (الذين آمنوا) هو في يوم القيامة عند ما عاينوا حال الكفار
وسوء منقلبهم.
وقوله تعالى: (الا ان الظالمين في عذاب مقيم) يحتمل أن يكون من قول
المؤمنين يومئذ حكاه الله عنهم ويحتمل أن يكون استئنافا من قول الله عز وجل
واخباره لنبيه محمد عليه السلام.
وقوله تعالى: (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله...) الآية إنحاء
على الأصنام والأوثان التي أظهر الكفار ولايتها واعتقدت ذلك دينا ثم أمر تعالى نبيه أن
يأمرهم بالاستجابة لدعوة الله وشريعته من قبل اتيان يوم القيامة الذي لا يرد أحد بعده إلى
عمل قال (ع) في الآية الأخرى في سورة (ألم غلبت الروم) ويحتمل أن يريد
لا يرده راد حتى لا يقع وهذا ظاهر بحسب اللفظ و " النكير " مصدر بمعنى الانكار
167

قال الثعلبي (مالكم من ملجأ) أي معقل (ومالكم من نكير) أي من انكار على ما
ينزل بكم من العذاب يغير ما بكم انتهى.
وقوله تعالى: (فإن أعرضوا...) الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والانسان هنا اسم
جنس وجمع الضمير في قوله (تصبهم) وهو عائد على لفظ الانسان من حيث هو
اسم جنس.
وقوله تعالى: (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء...) الآية هذه آية
اعتبار دال على القدرة والملك المحيط بالجميع وأن مشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه
وفي كل أمرهم وهذا لا مدخل لصنم فيه فان الذي يخلق ما يشاء هو الله تبار وتعالى
وهو الذي يقسم الخلق فيهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الأولاد الذكور (أو
يزوجهم) أي ينوعهم ذكرانا وإناثا وقال محمد بن الحنفية يريد بقوله تعالى (أو
يزوجهم) التوأم أي يجعل في بطن زوجا من الذرية ذكرا وأنثى و " العقيم " الذي لا
يولد له وهذا كله مدبر بالعلم والقدرة وبدأ في هذه الآية بذكر الإناث تأنيسا بهن ليتهم
بصونهن والاحسان إليهن وقال النبي - عليه السلام - " من ابتلى من هذه البنات بشئ
فأحسن إليهن كن له حجابا من النار " وقال واثلة بن الأسقع من يمن المرأة تبكيرها
بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بذكر الإناث حكاه عنه الثعلبي قال وقال
168

إسحاق بن بشر نزلت هذه الآية في الأنبياء ثم عمت ف‍ (يهب لمن يشاء إناثا) يعني
لوطا - عليه السلام - و (يهب لمن يشاء الذكور) يعني إبراهيم - عليه السلام - (أو
يزوجهم ذكرانا وإناثا) يعني: نبينا محمدا - عليه السلام - (ويجعل من يشاء عقيما)
يعني: يحيى بن زكريا عليهما السلام.
وقوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل
رسولا...) الآية نزلت بسبب خوض كان للكفار في معنى تكليم الله موسى ونحو
ذلك ذهب قريش واليهود في ذلك إلى تجسيم ونحوه فنزلت الآية مبينة صورة تكليم الله
عباده كيف هو فبين الله تعالى أنه لا يكون لأحد من الأنبياء ولا ينبغي له ولا يمكن
فيه أن يكلمه الله الا بأن يوحي إليه أحد وجوه الوحي من الالهام قال مجاهد أو النفث
في القلب أو وحي في منام قال النخعي وكان من الأنبياء من يخط له في الأرض
ونحو هذا أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزا كموسى عليه
السلام وهذا معنى (من وراء حجاب) أي: من خفاء عن المكلم لا يحده ولا يتسور
بذهنه عليه وليس كالحجاب في الشاهد أو بأن يرسل إليه ملكا يشافهه بوحي الله عز
وجل قال الفخر قوله: (فيوحي باذنه ما يشاء) أي فيوحي ذلك الملك بإذن الله ما
يشاء الله انتهى وقرأ جمهور القراء والناس " أو يرسل " بالنصب " فيوحي " بالنصب أيضا
وقرأ نافع وابن عامر وابن عباس وأهل المدينة " أو يرسل " بالرفع فيوحي - بسكون
الياء - وقوله (أو من وراء حجاب) " من " متعلقة بفعل يدل ظاهر الكلام عليه
تقديره: أو يكلمه من وراء حجاب وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكليم
وأن من حلف لا يكلم فلانا وهو لم ينو المشافهة ثم أرسل رسولا حنث.
وقوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا...) الآية المعنى وبهذه
الطرق ومن هذا الجنس أوحينا إليك أي بالرسول و " الروح " في هذه الآية: القرآن
169

وهدي الشريعة سماه روحا من حيث يحي به البشر والعالم كما يحي الجسد
بالروح فهذا على جهة التشبيه.
وقوله تعالى: (من أمرنا) أي واحد من أمورنا ويحتمل أن يكون الأمر بمعنى
الكلام و (من) لابتداء الغاية.
وقوله تعالى: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان) توقيف على مقدار النعمة
والضمير في (جعلناه) عائد على الكتاب و (نهدي) بمعنى نرشد وقرأ جمهور
الناس " وانك لتهدي " بفتح التاء وكسر الدال وقرأ حوشب " لتهدي " بضم التاء
وفتح الدال وقرأ عاصم " لتهدي " بضم التاء وكسر الدال.
وقوله: (صراط الله) يعني صراط شرع الله ثم استفتح سبحانه القول في الاخبار
بصيرورة الأمور إليه سبحانه مبالغة وتحقيقا وتثبيتا فقال (الا إلى الله تصير الأمور)
قال الشيخ / العارف بالله أبو الحسن الشاذلي رحمه الله إن أردت أن تغلب الشر كله
وتلحق الخير كله ولا يسبقك سابق وإن عمل ما عمل فقل: يا من له الخير كله
أسألك الخير كله وأعوذ بك من الشر كله فإنك أنت الله الغني الغفور الرحيم أسألك
بالهادي محمد صلى الله عليه وسلم إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في
الأرض الا إلى الله تصير الأمور اللهم إني أسألك مغفرة تشرح بها صدري وتضع بها
وزري وترفع بها ذكرى وتيسر بها أمري وتنزه بها فكري وتقدس بها سري وتكشف
بها ضري وترفع بها قدري انك على كل شئ قدير، اه‍.
* قلت * قوله تعالى: (ما كنت تدري ما الكتاب): هذا بين وقوله (ولا
الايمان) فيه تأويلات قيل معناه ولا شرائع الايمان ومعالمه قال أبو العالية يعني
الدعوة إلى الايمان وقال الحسين ابن الفضل: يعني أهل الايمان من يؤمن ومن لا
يؤمن وقال ابن خزيمة الايمان هنا الصلاة دليله (وما كان الله ليضيع إيمانكم) [البقرة: 143] قال ابن أبي الجعد وغيره احترق مصحف فلم يبق منه الا: (الا إلى الله
تصير الأمور) وغرق مصحف فامحى كله الا قوله: (الا إلى الله تصير الأمور) نقله
الثعلبي وغيره انتهى.
قال العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي لطف
الله به في الدارين قد يسر الله عز وجل في تحرير هذا المختصر وقد أودعته بحمد الله
170

جزيلا من الدرر قد استوعبت فيه بحمد الله مهمات ابن عطية وزدته فوائد جليلة من
غيره وليس الخبر كالعيان توخيت فيه بحمد الله الصواب وجعلته ذخيرة عند الله ليوم
المآب لا يستغني عنه المنتهي وفيه كفاية للمبتدي يستغني به عن المطولات إذ قد
حصل منها لبابها وكشف عن الحقائق حجابها.
{التعريف برحلة المؤلف}
رحلت في طلب العلم في أواخر القرن الثامن ودخلت بجاية في أوائل القرن
التاسع فلقيت بها الأئمة المقتدى بهم أصحاب سيدي عبد الرحمن الوغليسي متوافرين
فحضرت مجالسهم وكانت عمدة قراءتي بها على سيدي [علي بن] عثمان المانجلاتي
رحمه الله بمسجد عين البربر ثم ارتحلت إلى تونس فلقيت بها سيدي عيسى
الغبريني والأبي والبرزلي وغيرهم وأخذت عنهم ثم ارتحلت إلى المشرق فلقيت
بمصر الشيخ ولي الدين العراقي فأخذت عنه علوما جمة معظمها علم الحديث وفتح الله
لي فيه فتحا عظيما وكتب لي وأجازني جميع ما حضرته عليه وأطلق في غيره ثم لقيت
بمكة بعض المحدثين ثم رجعت إلى الديار المصرية والى تونس وشاركت من بها
ولقيت بها شيخنا أبا عبد الله محمد بن مرزوق قادما لإرادة الحج فأخذت عنه كثيرا
وأجازني [التدريس] في أنواع الفنون الاسلامية وحرضني على اتمام تقييد وضعته على ابن
الحاجب الفرعي.
قلت: ولما فرغت من تحرير هذا المختصر وافق قدوم شيخنا أبي عبد الله محمد بن
مرزوق علينا في سفرة سافرها من تلمسان متوجها إلى تونس ليصلح / بين سلطانها وبين
صاحب تلمسان فأوقفته على هذا الكتاب فنظر فيه وأمعن النظر فسر به سرورا كثيرا
ودعا لنا بخير والله الموفق بفضله.
171

تفسير سورة الزخرف
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
(حم * والكتاب المبين) (والكتاب) خفض بواو القسم والضمير في
(جعلناه) عائد على الكتاب (وأنه) عطف على (جعلناه) وهذا الاخبار الثاني واقع
أيضا تحت القسم و (أم الكتاب) اللوح المحفوظ وهذا فيه تشريف للقرآن وترفيع
واختلف المتأولون بعد كيف هو في أم الكتاب فقال قتادة وغيره القرآن بأجمعه فيه منسوخ
ومنه كان جبريل ينزل وهنالك هو علي حكيم وقال جمهور الناس انما في اللوح
المحفوظ ذكره ودرجته ومكانته من العلو والحكمة.
وقوله سبحانه: (أفنضرب) بمعنى أفنترك تقول العرب أضربت عن كذا
وضربت إذا أعرضت عنه وتركته و (الذكر) هو الدعاء إلى الله والتذكير بعذابه
والتخويف من عقابه وقال أبو صالح الذكر هنا أراد به العذاب نفسه وقال الضحاك
ومجاهد: الذكر القرآن.
وقوله (صفحا) يحتمل أن يكون بمعنى العفو والغفر للذنوب فكأنه يقول
أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفوا عنكم وغفرا لإجرامكم من أجل إن كنتم قوما مسرفين
أي هذا لا يصلح وهذا قول ابن عباس ومجاهد ويحتمل قوله: (صفحا) أن يكون
172

بمعنى مغفولا عنه أي نتركه يمر لا تؤخذون بقبوله ولا بتدبره فكان المعنى أفنترككم
سدى وهذا هو منحى قتادة وغيره وقرأ نافع وحمزة والكسائي " ان كنتم " بكسر
الهمزة وهو جزاء دل ما تقدمه على جوابه وقرأ الباقون بفتحها بمعنى: من أجل أن
والاسراف في الآية هو كفرهم.
" وكم أرسلنا من نبي في الأولين " أي في الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود
وغيرهم.
" وما يأتيهم من نبي الا كانوا به يستهزئون " أي كما يستهزئ قومك بك وهذه
الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد بأن يصيب قريشا ما أصاب من هو أشد بطشا منهم.
(ومضى مثل الأولين) أي سلف أمرهم وسنتهم وصاروا عبرة غابر الدهر أنشد
صاحب " عنوان الدراية " لشيخه أبي عبد الله التميمي: [البسيط]
يا ويح من غره دهر فسر به * لم يخلص الصفو الا شيب بالكدر.
هو الحمام فلا تبعد زيارته * ولا تقل ليتني منه على حذر.
انظر لمن باد تنظر آية عجبا * وعبرة لأولي الألباب والعبر.
أين الألى جنبوا خيلا مسومة * وشيدوا إرما خوفا من القدر.
لم تغنهم خيلهم يوما وإن كثرت * ولم تفد إرم للحادث النكر.
بادوا فعادوا حديثا ان ذا عجب * ما أوضح الرشد لولا سئ النظر.
تنافس الناس في الدنيا وقد علموا * أن المقام بها كاللمح بالبصر.
انتهى.
173

وقوله سبحانه: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز
العليم) الآية ابتداء احتجاج على قريش / يوجب عليهم التناقض من حيث أقروا
بالخالق وعبدوا غيره وجاءت العبارة عن الله ب‍ (العزيز العليم) ليكون ذلك توطئة لما
عدد سبحانه من أوصافه التي ابتدأ الأخبار بها وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن
قريش.
وقوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون)
الآية هذه أوصاف فعل وهي نعم من الله سبحانه على البشر تقوم بها الحجة على كل
مشرك.
وقوله: (الذي جعل لكم) ليس هو من قول المسؤولين بل هو ابتداء اخبار من
الله تعالى.
وقوله سبحانه: (والذي نزل من السماء ماء بقدر) قيل معناه بقدر في الكفاية
للصلاح لا إكثار فيفسد ولا قلة فيقصر بل غيثا مغيثا وقيل: (بقدر) أي: بقضاء
وحتم وقالت فرقة معناه بتقدير وتحرير أي قدر ماء معلوما ثم اختلف قائلو هذه
المقالة فقال بعضهم ينزل في كل عام ماء قدرا واحدا لا يفضل عام عاما لكن يكثر مرة
ههنا ومرة ههنا وقال بعضهم بل ينزل تقديرا ما في عام وينزل في آخر تقديرا ما
وينزل في آخر تقديرا آخر بحسب ما سبق به قضاؤه لا اله الا هو.
قلت: وبعض هذه الأقوال لا تقال من جهة الرأي بل لا بد لها من سند
(وأنشرنا) معناه: أحيينا يقال نشر الميت وأنشره الله والأزواج هنا الأنواع من كل
شئ و (من) في قوله (من الفلك والانعام) للتبعيض والضمير في (ظهوره) عائد
على النوع المركوب الذي وقعت عليه " ما " وقد بينت آية أخرى ما يقال عند ركوب
الفلك وهو " بسم الله مجراها ومرساها ان ربي لغفور رحيم " [هود: 41] وانما هذه
خاصة فيما يركب من الحيوان وان قدرنا أن ذكر النعمة هو بالقلب والتذكر بدأ الراكب
ب‍ (سبحان الذي سخر لنا هذا) وهو يرى نعمة الله في ذلك وفي سواه و (مقرنين) أي
مطيقين وقال أبو حيان (مقرنين) خبر كان ومعناه غالبين ضابطين انتهى وهو بمعنى
الأول (وانا إلى ربنا لمنقلبون) أمر بالإقرار بالبعث.
174

* ت * وعن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " على ظهر كل
بعير شيطان فإذا ركبتموها فسموا الله " رواه ابن حبان في " صحيحه " انتهى من
" السلاح " وينبغي لمن ملكه الله شيئا من هذا الحيوان أن يرفق به ويحسن إليه لينال بذلك
رضا الله تعالى قال القشيري في " التحبير " وينبغي للعبد أن يكون معظما لربه نفاعا
لخلقه خيرا في قومه مشفقا على عباده فان رأس المعرفة تعظيم أمر الله سبحانه
والشفقة على خلق الله انتهى وروى مالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " بينما
رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب فخرج فإذا كلب
يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي
بلغ مني فنزل البير فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقي الكلب فشكر الله له فغفر
له فقالوا يا رسول الله وان لنا في البهائم أجرا؟ فقال في كل كبد رطبة أجر "
قال أبو عمر في التمهيد وكذا في الإساءة إلى الحيوان اثم وقد روى مالك عن نافع
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلا
هي أطعمتها ولا هي أطلقتها تأكل من خشاش الأرض " ثم أسند أبو عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا من
175

حيطان الأنصار فإذا جمل قد أتى فجرجر، وذرفت عيناه فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سراته
وذفراه فسكن فقال من صاحب الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي
يا رسول الله فقال أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله أنه شكا إلي أنك
تجيعه وتدئبه " ومعنى ذرفت عيناه أي قطرت دموعهما قطرا ضعيفا والسراة الظهر
" والذفرى " ما وراء الاذنين عن يمين النقرة وشمالها انتهى.
وقوله سبحانه: (وجعلوا له من عباده جزاء) أي جعلت كفار قريش والعرب لله
جزاء أي نصيبا وحظا وهو قول العرب " الملائكة بنات الله " هذا قول كثير من
المتأولين وقال قتادة المراد بالجزء الأصنام وغيرها ف‍ (جزءا) معناه ندا.
* ت * وباقي الآية يرجح تأويل الأكثر.
وقوله: (أم اتخذ) إضراب وتقرير وتوبيخ إذ المحمود المحبوب من الأولاد قد
خوله الله بني آدم فكيف يتخذ هو لنفسه النصيب الأدنى وباقي الآية بين مما ذكر في
" سورة النحل " وغيرها.
ثم زاد سبحانه في توبيخهم وافساد رأيهم بقوله: (أو من ينشأ في الحلية)
التقدير أو من ينشأ في الحلية هو الذي خصصتم به الله عز وجل والحلية: الحلي من
الذهب / والفضة والأحجار و (ينشأ) معناه: ينبت ويكبر و (الخصام) المحاجة
ومجاذبة المحاورة وقل ما تجد امرأة الا تفسد الكلام وتخلط المعاني وفي مصحف ابن
مسعود " وهو في الكلام غير مبين " والتقدير غير مبين غرضا أو منزعا ونحو هذا
176

وقال ابن زيد المراد ب‍ (من ينشأ في الحلية) الأصنام والأوثان لأنهم كانوا يجعلون
الحلي على كثير منها ويتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة وقرأ أكثر السبعة
" وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " وقرأ الحرميان وابن عامر عند الرحمن
إناثا " وهذه القراءة أدل على رفع المنزلة.
وقوله تعالى: " أأشهدوا خلقهم " معناه أأحضروا خلقهم وفي قوله تعالى: (ستكتب
شهادتهم ويسئلون) وعيد مفصح وأسند ابن المبارك عن سليمان ابن راشد أنه بلغه أن
أمرا لا يشهد شهادة في الدنيا الا شهد بها يوم القيامة على رؤوس الاشهاد ولا يمتدح عبدا
في الدنيا الا امتدحه يوم القيامة على رؤوس الاشهاد قال القرطبي في تذكرته وهذا
صحيح يدل على صحته قوله تعالى (ستكتب شهادتهم ويسئلون) وقوله (ما يلفظ من
قول الا لديه رقيب عتيد) [ق: 18] انتهى.
وقوله سبحانه: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم...) الآية أي ما عبدنا
الأصنام.
* ت * وقال قتادة وغيره يعني ما عبدنا الملائكة وجعل الكفار إمهال الله
لهم دليلا على رضاه عنهم وان ذلك كالأمر به ثم نفى سبحانه علمهم بهذا وليس
عندهم كتاب منزل يقتضي ذلك وانما هم يظنون ويحدسون / ويخمنون وهذا هو
الخرص والتخرص والأمة هنا بمعنى الملة والديانة والآية على هذا تعيب عليهم التقليد
177

وذكر الطبري عن قوم أن الأمة الطريقة ثم ضرب الله المثل لنبيه محمد - عليه السلام -
وجعل له الأسوة فيمن مضى من النذر والرسل وذلك أن المترفين من قومهم وهم أهل
التنعم والمال قد قابلوهم بمثل هذه المقالة وفي قوله عز وجل (فانتقمنا منهم..)
الآية وعيد لقريش وضرب مثل لهم بمن سلف من الأمم المعذبة المكذبة لأنبيائها.
وقوله سبحانه: (وإذ قال إبراهيم) المعنى: واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه
(أنني براء مما تعبدون) أي فافعل أنت فعله وتجلد جلده و (براء) صفة تجري على
الواحد والاثنين والجمع كعدل وزور وقرأ ابن مسعود " برئ ".
وقوله " الا الذي فطرني " قالت فرقة الاستثناء متصل وكانوا يعرفون الله
ويعظمونه الا انهم كانوا يشركون معه أصنامهم فكان إبراهيم قال لهم انا لا أوافقكم الا
على عبادة الله الذي فطرني وقالت فرقة الاستثناء منقطع والمعنى لكن الذي فطرني
هو معبودي الهادي المنجي من العذاب وفي هذا استدعاء لهم وترغيب في طاعة الله
وتطميع في رحمته.
والضمير في قوله: (وجعلها كلمة...) الآية قالت فرقة هو عائد على كلمته
بالتوحيد في قوله (إنني براء) وقال مجاهد وغيره المراد بالكلمة لا إله إلا الله
وعاد عليها الضمير وان كان لم يجر لها ذكر لان اللفظ يتضمنها والعقب الذرية
وولد الولد ما امتد فرعهم.
178

وقوله: / (بل متعت هؤلاء) يعني قريشا (حتى جاءهم الحق ورسول) وذلك هو
شرع الاسلام والرسول [هو] محمد صلى الله عليه وسلم و (مبين) أي يبين لهم الاحكام والمعنى في
الآية بل أمهلت هؤلاء ومتعتهم بالنعمة (ولما جاءهم الحق) يعني القرآن (قالوا هذا
سحر).
(وقالوا) يعني قريشا (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) يعني:
من إحدى القريتين وهما مكة والطائف ورجل مكة هو الوليد بن المغيرة في قول ابن
عباس وغيره وقال مجاهد هو عتبة بن ربيعة وقيل غير هذا ورجل الطائف قال
قتادة: هو عروة بن مسعود وقيل غير هذا قال (ع) وانما قصدوا إلى من عظم
ذكره بالسن والا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعظم من هؤلاء إذ كان المسمى عندهم " الأمين "
ثم وبخهم سبحانه بقوله: (أهم يقسمون رحمت ربك) و " الرحمة " اسم عام يشمل النبوة
وغيرها وفي قوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم) تزهيد السعايات وعون على
التوكل على الله عز وجل ولله در القائل: [الرجز]
كم جاهل يملك دورا وقرى * [وعالم يسكن بيتا بالكرا]
لما سمعنا قوله سبحانه * نحن قسمنا بينهم زال المرا.
وروى ابن المبارك في " رقائقه " بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا أراد الله بعبد خيرا
أرضاه بما قسم له وبارك له فيه وإذا لم يرد به خيرا لم يرضه بما قسم له ولم يبارك له
فيه " انتهى و (سخريا) بمعنى التسخير ولا مدخل لمعنى الهزء في هذه الآية.
179

وقوله تعالى: (ورحمت ربك خير مما يجمعون) قال قتادة والسدي يعني
الجنة قال * ع * ولا شك أن الجنة هي الغاية ورحمة الله في الدنيا بالهداية
والايمان خير من كل مال وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا وتزهيد فيها ثم استمر القول
في تحقيرها بقوله سبحانه: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة...) الآية وذلك أن معنى
الآية أن الله سبحانه أبقى على عباده وأنعم عليهم بمراعاة بقاء الخير والايمان وشاء
حفظه على طائفة منهم بقية الدهر ولولا كراهية أن يكون الناس كفارا كلهم وأهل حب
في الدنيا وتجرد لها لوسع الله على الكفار غاية التوسعة ومكنهم من الدنيا وذلك
لحقارتها عنده سبحانه وانها لا قدر لها ولا وزن لفنائها وذهاب رسومها فقوله (أمة
واحدة) معناه في الكفر قاله ابن عباس وغيره ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم " لو كانت
الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء " وروى ابن المبارك في
" رقائقه " بسنده عن علقمة عن عبد الله قال " اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر
الحصير في جنبه فلما استيقظ جعلت امسح عنه وأقول يا رسول الله الا آذيتني قبل
أن تنام على هذا الحصير فابسط لك عليه شيئا يقيك منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالي
وللدنيا وما للدنيا وما لي ما أنا والدنيا الا كراكب استظل في فئ أو ظل شجرة ثم راح
وتركها " انتهى وقد خرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح و (سقفا) جمع
180

سقف والمعارج: الأدراج التي يطلع عليها قاله ابن عباس وغيره و (يظهرون)
معناه يعلون ومنه حديث عائشة رضي الله عنها والشمس في حجرتها لم تظهر بعد
والسرر جمع سرير والزخرف قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي هو
الذهب وقالت فرقة الزخرف التزاويق والنقش ونحوه وشاهده (حتى إذا أخذت
الأرض زخرفها) [يونس: 24] وقرأ الجمهور (وإن كل ذلك لما) بتخفيف الميم من
" لما " ف‍ " ان " المخففة من الثقيلة واللام في " لما " داخلة لتفصل بين النفي والايجاب
وقرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه - بتشديد الميم - من " لما "، ف‍ " ان " نافية بمعنى
[" ما " و " لما " بمعنى] " الا " أي وما كل ذلك الا متاع الحياة الدنيا وفي قوله
سبحانه: (والآخرة عند ربك للمتقين) أنه وعد كريم وتحريض على لزوم التقوى إذ في
181

الآخرة هو التباين الحقيقي في المنازل قال الفخر بين تعالى أن كل ذلك متاع الحياة
الدنيا وأما الآخرة فهي باقية دائمة وهي عند الله وفي حكمه للمتقين المعرضين عن حب
الدنيا المقبلين على حب المولى انتهى.
وقوله عز وجل: (ومن يعش عن ذكر الرحمن) الآية وعشا يعشو معناه: قل
الابصار منه ويقال أيضا عشي الرجل يعشى إذا فسد بصره فلم ير أو لم ير الا
قليلا فالمعنى في الآية ومن يقل بصره في شرع الله ويغمض جفونه عن النظر في ذكر
الرحمن أي فيما ذكر به عباده أي فيما أنزله من كتابه وأوحاه إلى نبيه.
وقوله: (نقيض له شيطانا) أي نيسر له ونعد وهذا هو العقاب على الكفر
بالحتم وعدم الفلاح وهذا كما يقال ان الله تعالى يعاقب على المعصية بالتزيد في
المعاصي ويجازي على الحسنة بالتزيد من الحسنات وقد روى هذا المعنى مرفوعا قال
* ص * (ومن يعش) الجمهور بضم الشين أي يتعام ويتجاهل ف‍ (من)
شرطية و (يعش) مجزوم بها و (نقيض) جواب (من) انتهى والضمير في قوله:
(وانهم) عائد على الشياطين وفيما بعده عائد على الكفار وقرأ نافع وغيره " حتى إذا
جاءنا " على التثنية يريد العاشي والقرين قاله قتادة وغيره وقرأ أبو عمرو وغيره
" جاءنا " يريد العاشي وحده وفاعل (قال) هو العاشي قال الفخر: وروى أن الكافر
182

إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ الشيطان بيده فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار
فذلك حيث يقول: (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) انتهى.
وقوله: (بعد المشرقين) يحتمل معاني:
أحدها: أن يريد بعد المشرق من المغرب فسماهما مشرقين كما يقال القمران
والعمران.
والثاني: أن يريد مشرق الشمس في أطول يوم ومشرقها في أقصر يوم.
والثالث: أن يريد بعد المشرقين من المغربين فاكتفى بذكر المشرقين.
قلت: واستبعد الفخر التأويل الثاني قال لأن المقصود من قوله " يا ليت بيني
وبينك بعد المشرقين) المبالغة في حصول البعد وهذا المبالغة انما نحصل عند ذكر بعد
لا يمكن وجود بعد أزيد منه والبعد بين مشرق الشتاء ومشرق الصيف ليس كذلك فيبعد
حمل اللفظ عليه قال: والأكثرون على التأويل الأول انتهى.
وقوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم...) الآية حكاية عن مقالة تقال لهم يوم
القيامة وهي مقالة موحشة فيها زيادة تعذيب لهم ويأس من كل خير وفاعل (ينفعكم)
الاشتراك ويجوز أن يكون فاعل (ينفعكم) التبري الذي يدل عليه قوله: (يا ليت)
وقوله سبحانه: (أفأنت تسمع الصم...) الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وباقي الآية
تكرر معناه غير ما مرة.
وقوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحى إليك) أي: بما جاءك من عند الله من
الوحي المتلو وغيره.
وقوله: (وانه لذكر لك) يحتمل أن يريد وانه لشرف في الدنيا لك ولقومك يعنى
قريشا قاله ابن عباس وغيره ويحتمل ان يريد وإنه لتذكرة وموعظة ف‍ " القوم " على
هذا أمته بأجمعها وهذا قول الحسن بن أبي الحسن.
183

وقوله: (وسوف تسئلون) قال ابن عباس وغيره معناه عن أوامر القرآن
ونواهيه وقال الحسن معناه عن شكر النعمة فيه واللفظ يحتمل هذا كله ويعمه.
وقوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا...) الآية قال ابن زيد
والزهر: أما إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الرسل ليلة الاسراء عن هذا لأنه كان أثبت يقينا من
ذلك ولم يكن في شك وقال ابن عباس وغيره أراد واسأل اتباع من أرسلنا وحملة
شرائعهم وفي قراءة ابن مسعود وأبي " واسأل الذين أرسلنا إليهم ".
* ت * قال عياض قوله تعالى " واسأل من أرسلنا من قبلك...) الآية
الخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد المشركون قاله القتبي ثم قال عياض والمراد
بهذا الاعلام بأن الله عز وجل لم يأذن في عبادة غيره لأحد ردا على مشركي العرب
وغيرهم في قولهم (ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر: 3] انتهى.
وقوله سبحانه: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا...) الآية ضرب مثل وأسوة للنبي صلى الله عليه وسلم
بموسى عليه السلام ولكفار قريش بقوم فرعون.
وقوله: (وأخذناهم بالعذاب) أي كالطوفان والجراد والقمل والضفادع وغير
ذلك (لعلهم يرجعون) أي يتوبون ويرجعون عن كفرهم وقالوا لما عاينوا العذاب
لموسى (يا ايه الساحر) أي العالم وانما قالوا هذا على جهة التعظيم والتوقير لأن
علم السحر عندهم كان علما عظيما وقيل انما قالوا ذلك على جهة الاستهزاء والأول
أرجح وقولهم (ادع لنا ربك بما عهد عندك اننا لمهتدون) أي ان نفعتنا إذا دعوتك.
184

وقوله: (أليس لي ملك مصر...) الآية مصر من بحر الإسكندرية إلى أسوان
بطول النيل والأنهار التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل.
وقوله: (أم أنا خير) قال سيبويه " أم " هذه المعادلة والمعنى: أفأنتم لا تبصرون
أم تبصرون وقالت فرقة " أم " بمعنى " بل " وقرأ بعض الناس " اما أنا خير " حكاه
الفراء وفي مصحف أبي بن كعب " أم أنا خير أم هذا " و (مهين) معناه ضعيف
(ولا يكاد يبين) إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة وكانت أحدثت في
لسانه عقدة فلما دعا في أن تحل ليفقه قوله أجيبت دعوته لكنه بقي أثر كان البيان يقع
معه فعيره فرعون به.
وقوله: (ولا يكاد يبين) يقتضي انه كان يبين.
وقوله: (فلولا ألقي عليه) يريد من السماء على معنى التكرمة وقرأ الجمهور:
" أساورة " وقرأ حفص عن عاصم " أسورة " وهو ما يجعل في الذراع من الحلي وكانت
عادة الرجال يومئذ لبس ذلك والتزين به.
* ت * وذكر بعض المفسرين عن مجاهد أنهم كانوا إذا سودوا رجال سوروه
بسوار وطوقوه بطوق من ذهب علامة لسيادته فقال فرعون هلا القي رب موسى
على موسى أساورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين متتابعين يقارن بعضهم بعضا
يمشون معه شاهدين له انتهى وقال (ع) قوله (مقترنين) أي يحمونه
ويشهدون له ويقيمون حجته.
* ت * وما تقدم لغيره أحسن ولا يشك أن فرعون شاهد من حماية الله لموسى
185

أمورا لم يبق معه شك في أن الله قد منعه منه.
وقوله سبحانه: (ءاسفونا) معناه أغضبونا بلا خلاف.
وقوله: (فجعلناهم سلفا) " السلف " الفارط المتقدم أي جعلناهم متقدمين في
الهلاك ليتعظ بهم من بعدهم إلى يوم القيامة وقال البخاري قال قتادة (مثلا
للآخرين) عظة انتهى.
وقوله سبحانه: (ولما ضرب ابن مريم مثلا...) الآية روى عن ابن عياش وغيره
في تفسيرها أنه لما نزلت (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) [آل عمران: 59] الآية
وكون عيسى من غير فحل قالت قريش ما يريد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده نحن
كما عبدت النصارى عيسى فهذا كان صدودهم.
وقوله تعالى: (وقالوا أآلهتنا خير أم...) هذا ابتداء معنى ثان وذلك أنه لما نزل
(انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) [الأنبياء: 98] الآية قال ابن الزبعري
ونظراؤه يا محمد أآلهتنا خير أم عيسى فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى إذ هو
خير منها وإذ قد عبد فهو من الحصب اذن فقال الله تعالى (ما ضربوه لك الا
جدلا) ومغالطة ونسوا أن عيسى لم يعبد برضى منه وقالت فرقة المراد ب‍ (هو)
محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول قتادة وفي مصحف أبي " خير أم هذه " فالإشارة إلى نبينا
محمد عليه السلام وقال ابن زيد وغيره المراد ب‍ (هو) عيسى وهذا هو الراجح
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم أهل خصام ولدد وأخبر عن عيسى بقوله (إن هو الا عبد
أنعمنا عليه) أي بالنبوءة والمنزلة العالية.
186

* ت * وروينا في " جامع الترمذي " عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما
ضل قوم بعد هدي كانوا عليه الا أتوا الجدل ثم تلا هذه الآية (ما ضربوه لك الا جدلا
بل هم قوم خصمون) " قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح انتهى.
وقوله: (وجعلناه مثلا) أي عبرة وآية (لبني إسرائيل) والمعنى لا تستغربوا أن
يخلق عيسى من غير فحل فان القدرة تقتضي ذلك وأكثر منه.
وقوله: (ولو نشاء لجعلنا منكم) معناه لجعلنا بدلا منكم أي لو شاء الله لجعل
بدلا من بني آدم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون بني آدم فيها وقال ابن عباس
ومجاهد يخلف بعضهم بعضا والضمير في قوله (وانه لعلم) قال ابن عباس وغيره
الإشارة به إلى عيسى وقالت فرقة إلى محمد وقال قتادة وغيره إلى القرآن.
* ت * وكذا نقل بو حيان هذه الأقوال الثلاثة ولو قيل أنه ضمير الأمر
والشأن استعظاما واستهوالا لأمر الآخرة ما بعد بل هو المتبادر إلى الذهن يدل عليه
(فلا تمترن بها) والله أعلم وقرأ ابن عباس وجماعة " لعلم " بفتح العين
187

واللام - أي امارة وقرأ عكرمة: " للعلم " بلا مين الأولى مفتوحة وقرأ أبي " لذكر
للساعة " فمن قال إن الإشارة إلى عيسى حسن مع تأويله " علم " و " علم " أي هو
اشعار بالساعة وشرط من أشراطها يعني خروجه في آخر الزمان وكذلك من قال
الإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي هو آخر الأنبياء وقد قال " بعثت أنا والساعة كهاتين " يعني
السبابة والوسطى ومن قال الإشارة إلى القرآن حسن قوله مع قراءة الجمهور أي
يعلمكم بها وبأهوالها.
وقوله: (هذا صراط مستقيم) إشارة إلى الشرع.
وقوله تعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات) يعني احياء الموتى وابراء الأكمه
والأبرص وغير ذلك وباقي الآية تكرر معناه.
وقوله: (هذا صراط مستقيم) حكاية عن عيسى عليه السلام إذ أشار إلى شرعه.
وقوله سبحانه: (هل ينظرون) يعني قريشا والمعنى ينتظرون و (بغتة) معناه
فجأة ثم وصف سبحانه بعض حال القيامة فقال (الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو)
وذلك لهول مطلعها والخوف المطيف بالناس فيها يتعادى ويتباغض كل خليل كان في
الدنيا على غير تقي لأنه يرى أن الضرر دخل عليه من قبل خليله وأما المتقون فيرون أن
النفع دخل من بعضهم على بعض هذا معنى كلام علي رضي الله عنه وخرج البزار عن
ابن عباس قال " قيل يا رسول الله اي جلسائنا خير قال من ذكركم بالله رؤيته
وزادكم في علمكم منطقه وذكركم بالله عمله " اه‍ فمن مثل هؤلاء تصلح الأخوة
188

الحقيقية والله المستعان ومن كلام الشيخ أبي مدين رضي الله عنه دليل تخليطك
صحبتك للمخلطين ودليل انقطاعك صحبتك للمنقطعين وقال ابن عطاء الله في
" التنوير " قل ما تصفو لك الطاعات أو تسلم من المخالفات مع الدخول في الأسباب
لاستلزامها لمعاشرة الأضداد ومخالطة أهل الغفلة والبعاد وأكثر ما يعينك على الطاعات
رؤية المطيعين وأكثر ما يدخلك في الذنب رؤية المذنبين كما قال عليه السلام
" المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " والنفس من شأنها التشبه والمحاكاة
بصفات من قارنها فصحبة الغافلين معينة لها على وجود الغفلة انتهى وفي " الحكم
الفارقية " من ناسب شيئا انجذب إليه وظهر وصفه عليه وفي " سماع العتبية " قال مالك
لا تصحب فاجرا ليلا تتعلم من فجوره قال ابن رشد لا ينبغي أن يصحب الا من يقتدى
به في دينه وخيره لأن قرين السوء يردى قال الحكيم [الطويل]
[إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم * ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدى.
انتهى.
(ت) وحديث " المرء على دين خليله " أخرجه أبو داود وأبو بكر بن الخطيب
وغيرهما وفي الموطأ من حديث معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
قال الله تبارك وتعالى " وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتباذلين في
والمتزاورين في " قال أبو عمر اسناده صحيح عن أبي إدريس الخولاني عن معاذ وقد
رواه جماعة عن معاذ ثم أسند أبو عمر من طريق أبي مسلم الخولاني عن معاذ قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا
ظل إلا ظله " قال أبو مسلم فخرجت فلقيت عبادة بن الصامت فذكرت له حديث
189

معاذ فقال وانا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربه قال " حقت محبتي على
المتحابين في وحقت محبتي على المتزاورين في وحقت محبتي على المتباذلين في
والمتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله " انتهى من
" التمهيد "
وقوله تعالى: (يا عبادي) المعني: يقال لهم أي للمتقين وذكر الطبري عن
المعتمر عن أبيه أنه قال سمعت ان الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إله فزع فينادي
مناد يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون فيرجوها الناس كلهم فيتبعها
(الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) قال فييأس منها جميع الكفار.
وقوله (الذين آمنوا) نعت للعباد و (تحبرون) معناه تنعمون وتسرون
" والحبرة " السرور و " الأكواب " ضرب من الأواني كالأباريق الا انها لا آذان لها ولا
مقابض.
وقوله تعالى: (ان المجرمين) يعني الكفار " والمبلس " المبعد اليائس من الخير
قاله قتادة وغيره وقولهم (ليقض علينا ربك) أي ليمتنا ربك، فنستريح، فالقضاء في
هذه الآية الموت كما في قوله تعالى (فوكزه موسى فقضى عليه) [القصص: 15]
وروي في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أن مالكا يقيم بعد سؤالهم الف سنة ثم حينئذ
190

يقول لهم (انكم ماكثون).
وقوله سبحانه: (لقد جئناكم) يحتمل أن يكون من تمام قول مالك لهم ويحتمل
أن يكون من قول الله تعالى لقريش فيكون فيه تخويف فصيح بمعنى: انظروا كيف يكون
حالكم.
وقوله تعالى: (أم أبرموا أمرا) أي: أحكموا أمرا في المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم (فانا
مبرمون) أي محكمون أمرا في نصره ومجازاتهم والمراد ب‍ " الرسل " هنا: الحفظة من
الملائكة يكتبون اعمال العباد وتعد للجزاء يوم القيامة.
" واختلف في قوله تعالى: (قل ان كان للرحمن ولد فانا أول العابدين) فقال مجاهد
المعنى ان كان لله ولد في قولكم فأنا أول من عبد الله ووحده وكذبكم وقال ابن زيد
وغيره " ان " نافية بمعنى " ما " فكأنه قال قل ما كان للرحمن ولد وهنا هو الوقف
على هذا التأويل ثم يبتدئ قوله (فأنا أول العابدين) قال أبو حاتم قالت فرقة
العابدون في الآية من عبد الرجل إذا انف وأنكر والمعنى ان كان للرحمن ولد في
قولكم فانا أول الآنفين المنكرين لذلك وقرأ أبو عبد الرحمن " فانا أول العبدين " قال أبو
حاتم العبد - بكسر الباء - الشديد الغضب وقال أبو عبيدة: معناه أول الجاحدين
والعرب تقول عبدني حقي أي: جحدني وباقي الآية تنزيه لله سبحانه ووعيد
للكافرين و (يومهم الذي يوعدون) هو يوم القيامة هذا قول الجمهور وقال عكرمة
وغيره هو يوم بدر.
191

وقوله جلت عظمته: (وهو الذي في السماء اله...) الآية آية تعظيم واخبار
بألوهيته سبحانه أي هو النافذ امره في كل شئ وقرأ عمر بن الخطاب وأبي وابن
مسعود وغيرهم " وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله " وباقي الآية بين ثم
[اعلم سبحانه] أن من عبد من دون الله لا يملك شفاعة يوم القيامة الا من شهد بالحق
وهم الملائكة وعيسى / وعزير فإنهم يملكون الشفاعة بان يملكها الله إياهم إذ هم
ممن شهد بالحق وهم يعلمونه فالاستثناء على هذا التأويل متصل وهو تأويل قتادة
وقال مجاهد وغيره الاستثناء في المشفوع فيهم فكأنه قال: لا يشفع هؤلاء الملائكة
وعيسى وعزير الا فيمن شهد بالحق أي بالتوحيد فأمن على علم وبصيرة فالاستثناء
على هذا التأويل منفصل كأنه قال لكن من شهد بالحق فيشفع فيهم هؤلاء والتأويل
الأول أصوب وقرأ الجمهور " وقيله " بالنصب وهو مصدر كالقول والضمير فيه
لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم واختلف في الناصب له فقالت فرقة هو معطوف على قوله (سرهم
ونجواهم) ولفظ البخاري (وقيله يا رب) تفسيره أيحسبون انا لا نسمع سرهم
ونجواهم ولا نسمع قيله يا رب انتهى وقيل: العامل فيه (يكتبون) ونزل قوله
تعالى (وقيله يا رب) بمنزلة شكوى محمد - عليه السلام - واستغاثته من كفرهم
وعتوهم وقرأ حمزة وعاصم " وقيله " بالخفض عطفا على الساعة.
192

وقوله سبحانه: (فاصفح عنهم) موادعة منسوخة (وقل سلام) تقديره: امرى
سلام أي مسالمة (فسوف تعلمون).
193

تفسير سورة الدخان
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
(حم * والكتاب المبين * انا أنزلناه في ليلة مباركة...) الآية قوله (والكتاب
المبين) قسم أقسم الله تعالى به وقوله (انا أنزلناه) يحتمل ان يقع القسم عليه
ويحتمل أن يكون وصفا للكتاب ويكون الذي وقع القسم عليه (انا كنا منذرين)
واختلف في تعيين الليلة المباركة فقال قتادة والحسن وابن زيد هي ليلة القدر
ومعنى هذا النزول ان ابتداء نزوله كان في ليلة القدر وهذا قول الجمهور وقال عكرمة
الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان قال القرطبي والصحيح ان الليلة التي يفرق
فيها كل امر حكيم ليلة القدر من شهر رمضان وهي الليلة المباركة انتهى من " التذكرة "
ونحوه لابن العربي.
وقوله تعالى: (فيها يفرق كل امر حكيم) معناه يفصل من غيره ويتخلص فعن
عكرمة ان الله تعالى يفصل ذلك للملائكة في ليلة النصف من شعبان وفي بعض
194

الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل
لينكح ويولد له ولقد خرج اسمه في الموتى " وقال قتادة والحسن ومجاهد يفصل
في ليلة القدر كل ما في العام المقبل من الأقدار والأرزاق والآجال وغير ذلك
و (أمرا) نصب على المصدر.
وقوله: (انا كنا مرسلين) يحتمل ان يريد الرسل والأشياء ويحتم ان يريد الرحمة
التي ذكر بعد واختلف الناس في " الدخان " الذي امر الله تعالى بارتقابه فقالت فرقة منها
علي وابن عباس وابن عمر والحسن بن أبي الحسن وأبو سعيد الخدري هو دخان
يجئ قبل يوم القيامة يصيب المؤمن منه مثل الزكام وينضح رؤوس المنافقين والكافرين
حتى تكون كأنها مصلية حينئذ وقالت فرقة منها ابن مسعود هذا الدخان قد رأته
قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف فكان الرجل يرى من الجوع دخانا
بينه وبين السماء وما يأتي من الآيات يؤيد هذا التأويل وقولهم (انا مؤمنون) كان
ذلك منهم من غير حقيقة ثم قال تعالى (انى لهم الذكرى) أي من أين لهم التذكر
والاتعاظ بعد حلول العذاب (وقد جاءهم رسول مبين) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ف‍ (تولوا
عنه) أي اعرضوا (وقالوا معلم مجنون).
وقوله: (انكم عائدون) أي إلى الكفر واختلف في يوم البطشة الكبرى فقالت
فرقة هو يوم القيامة وقال ابن مسعود وغيره هو يوم بدر.
195

وقوله: (ان أدوا) مأخوذ من الأداء كأنه يقول: إن ادفعوا إلي وأعطوني
ومكنوني من بني إسرائيل وإياهم أراد بقوله: (عباد الله) وقال ابن عباس المعنى
اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق فعباد الله على هذا منادى مضاف والمؤدى هي
الطاعة والظاهر من شرع موسى عليه السلام انه بعث إلى دعاء فرعون إلى الايمان
وان يرسل بني إسرائيل فلما أبى ان يؤمن ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل وقوله
بعد (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) كالنص في أنه أخر الامر انما يطلب إرسال بني
إسرائيل فقط.
وقوله: (وان لا تعلوا على الله...) الآية المعنى: كانت رسالته وقوله: (ان
أدوا) (وان لا تعلوا على الله) أي على شرع الله وعبر بالعلو عن الطغيان والعتو
و (ان ترجمون) معناه الرجم بالحجارة المؤدى إلى القتل قاله قتادة وغيره وقيل:
أراد الرجم بالقول والأول أظهر لأنه الذي عاذ منه ولم يعذ من الآخر.
(قلت) وعن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " من استعاذ بالله فأعيذوه ومن
سألكم بالله فاعطوه ومن استجار بالله فأجيروه ومن أتى إليكم بمعروف فكافئوه فان
لم تقدروا فادعوا له حتى تعلموا ان قد كافأتموه " رواه أبو داود والنسائي والحاكم
وابن حبان في " صحيحيهما " واللفظ للنسائي وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين
- يعنى البخاري ومسلما - أه من " السلاح ".
وقوله: (فاعتزلون) متاركة صريحة قال قتادة: أراد خلوا سبيلي.
196

وقوله: (فدعا ربه) قبله محذوف تقديره فما أجابوه لما طلب منهم.
وقوله (فأسر) قبله محذوف أي: قال الله له فأسر بعبادي قال ابن العربي في
" احكامه " السرى: سير الليل و " الإدلاج " سير السحر و " التأويب " سير النهار
ويقال سرى وأسري انتهى.
واختلف في قوله تعالى: (واترك البحر رهوا) متى قالها لموسى؟ فقالت فرقة هو
كلام متصل بما قبله وقال قتادة وغيره خوطب به بعد ما جاز البحر وذلك أنه هم
ان يضرب البحر ليلتئم خشية ان يدخل فرعون وجنوده وراءه و (رهوا) معناه ساكنا
كما جزته قاله ابن عباس وهذا القول هو الذي تؤيده اللغة ومنه قول القطامي: [البسيط]
يمشين رهوا فلا الاعجاز خاذلة * ولا الصدور على الاعجاز تتكل. ومنه: [البسيط]
وأمة خرجت رهوا إلى عيد.................
أي: خرجوا في سكون وتمهل.
فقيل لموسى عليه السلام اترك البحر ساكنا على حاله من الانفراق ليقضي الله
أمرا كان مفعولا.
197

وقوله تعالى: (كم تركوا) " كم " للتكثير أي: كم ترك هؤلاء المغترون من كثرة
الجنات والعيون فروي ان الجنات كانت متصلة / ضفتي النيل جميعا من رشيد إلى
أسوان واما العيون فيحتمل انه أراد الخلجان فشبهها بالعيون ويحتمل إنها كانت
ونضبت ذكر الطرطوشي في " سراج الملوك " له قال قال أبو عبد الله بن حمدون كنت
مع المتوكل لما خرج إلى دمشق فركب يوما إلى رصافة هشام بن عبد الملك فنظر إلى
قصورها ثم خرج فنظر إلى دير هناك قديم حسن البناء بين مزارع وأشجار فدخل
فبينما هو يطوف به إذ برقعة قد ألصقت في صدره فامر بقلعها فإذا فيها مكتوب هذه
الأبيات: [الطويل]
أيا منزلا بالدير أصبح خاليا * تلاعب فيه شمأل ودبور.
كأنك لم يسكنك بيض أو انس * ولم تتبختر في قبابك حور.
وأبناء املاك غواشم ذلك سادة * صغيرهمو عند الأنام كبير.
إذا لبسوا أدراعهم فعوابس * وان لبسوا تيجانهم فبدور.
على أنهم يوم اللقاء ضراغم * وأنهمو يوم النوال بحور.
ليالي هشام بالرصافة قاطن * وفيك ابنه يا دير وهو أمير.
إذ العيش غض والخلافة لذة * وأنت طروب والزمان غرير.
وروضك مرتاد ونورك مزهر * وعيش بني مروان فيك نضير.
بلى فسقاك الغيث صوب سحائب * عليك لها بعد الرواح بكور.
تذكرت قومي فيكما فبكيتهم * بشجو ومثلي بالبكاء جدير.
فعزيت نفسي وهي إذا جرى * لها ذكر قومي أنة وزفير.
لعل زمانا جار يوما عليهمو * لهم بالذي تهوى النفوس يدور.
فيفرح محزون وينعم بائس * ويطلق من ضيق الوثاق أسير.
رويدك ان الدهر يتبعه غد * وان صروف الدائرات تدور.
فلما قرأها المتوكل ارتاع ثم دعا صاحب الدير فسأله عمن كتبها فقال لا علم
لي به وانصرف انتهى وفي هذا وشبهه عبرة لأولى البصائر المستيقظين اللهم لا
تجعلنا ممن اغتر بزخارف هذه الدار!!. [من الطويل]
198

الا انما الدنيا كأحلام نائم * وما خير عيش لا يكون بدائم.
وقرأ جمهور الناس: " ومقام " - بفتح الميم - قال ابن عباس وغيره أراد
المنابر.
وعلى قراءة ضم الميم قال قتادة: أراد المواضع الحسان من المساكن وغيرها
والقول بالمنابر بعيد جدا و " النعمة " بفتح النون غضارة العيش ولذاذة الحياة
و " النعمة " - بكسر النون - أعم من هذا كله وقد تكون الأمراض والمصائب نعما ولا
يقال فيها " نعمة " بالفتح وقرأ الجمهور " فاكهين " ومعناه: فرحين مسرورين
(كذلك وأورثناها قوما آخرين) أي: بعد القبط وقال قتادة هم بنو إسرائيل وفيه
ضعف وقد ذكر الثعلبي عن الحسن ان بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك
فرعون واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض)
فقال ابن عباس وغيره وذلك أن الرجل المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض موضع
عباداته أربعين صباحا وبكى عليه من السماء موضع صعود عمله قالوا ولم يكن في قوم
فرعون من هذه حاله فتبكي عليهم السماء والأرض قال (ع) والمعنى الجيد
في الآية انها استعارة فصيحة تتضمن تحقير أمرهم وانه لم يتغير لأجل هلاكهم شئ
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم " لا ينتطح فيها عنزان " وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما مات
199

مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه الا بكت عليه السماء والأرض ثم قرأ هذه الآية
وقال إنهما لا يبكيان على كافر " قال الداوودي وعن مجاهد ما مات مؤمن الا بكت
عليه السماء والأرض وقال أفي هذا عجب وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها
بالركوع والسجود وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي
النحل انتهى.
وروى ابن المبارك في " رقائقه " قال أخبرنا الأوزاعي قال حدثني عطاء الخراساني
قال ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض الا شهدت له يوم القيامة
وبكت عليه يوم يموت انتهى وروى ابن المبارك أيضا عن أبي عبيد صاحب سليمان " ان
العبد المؤمن إذا مات تنادت بقاع الأرض عبد الله المؤمن مات قال: فتبكي عليه السماء
والأرض فيقول الرحمن تبارك وتعالى: ما يبكيكما على عبدي فيقولان يا ربنا لم
يمش على ناحية منا قط الا وهو يذكرك " آه.
و (منظرين) أي مؤخرين (والعذاب المهين) هو ذبح الأبناء والتسخير وغير
ذلك.
وقوله (على علم) أي على شئ قد سبق عندنا فيهم وثبت في علمنا أنه
سينفذ ويحتمل أن يكون معناه على علم لهم وفضائل فيهم على العالمين أي عالمي
زمانهم بدليل ان أمة محمد خير أمة أخرجت للناس (وآتيناهم من الآيات) لفظ جامع
لما اجرى الله من الآيات على يدي موسى ولما أنعم به على بني إسرائيل والبلاء في
هذا الموضع الاختبار والامتحان كما قال تعالى (ونبلوكم بالشر والخير فتنة)
[الأنبياء: 35] الآية (ومبين) بمعنى بين ثم ذكر تعالى قريشا على جهة الانكار لقولهم
وانكارهم للبعث فقال: (إن هؤلاء ليقولون * ان هي) أي ما هي (الا موتتنا الأولى
وما نحن بمنشرين) أي: بمبعوثين وقول قريش (فأتوا بآياتنا) مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم طلبوا
منه ان يحيي الله لهم بعض آبائهم وسموا له قصيا وغيره كي يسألوهم عما رأوا في
أخرتهم.
200

وقوله سبحانه: (أهم خير أم قوم تبع...) الآية آية تقرير ووعيد و (تبع) ملك
حميري وكان يقال لكل ملك منهم " تبع " الا ان المشار إليه في هذا الآية رجل صالح
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق سهل بن سعد " ان تبعا هذا أسلم وآمن بالله " وقد ذكره
ابن إسحاق في السيرة قال السهيلي وبعد ما غزا تبع المدينة وأراد خرابها أخبر بأنها
مهاجر نبي اسمه احمد فانصرف عنها وقال فيه شعر وأودعه عند أهلها فكانوا يتوارثونه
كابرا عن كابر إلى أن هاجر إليهم النبي - عليه السلام - فأدوه إليه ويقال ان الكتاب
والشعر [كان] عند أبي أيوب الأنصاري [ومنه] [من المقارب]
شهدت على احمد انه * رسول من الله بارى النسم.
فلو مد عمري إلى عمره * لكنت وزيرا له وابن عم.
وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا انه حفر قبر ب‍ " صنعاء " في الاسلام فوجد فيه
امرأتان صحيحتان وعند رأسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر حبي
ولميس ويروى: وتماضر ابنتي تبع ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به
شيئا وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما انتهى و (يوم الفصل) هو يوم القيامة وهذا
هو الاخبار بالبعث و " المولى " في هذه الآية يعم جميع الموالى.
وقوله سبحانه: (ان شجرت الزقوم * طعام الأثيم) روي عن ابن زيد ان الأثيم
201

المشار إليه أبو جهل ثم هي بالمعنى تتناول كل أثيم وهو كل فاجر روي أنها لما
نزلت جمع أبو جهل عجوة وزبدا وقال لأصحابه تزقموا فهذا هو الزقوم وهو
طعامي الذي حدث به محمد قال (ع) وانما قصد بذلك ضربا من المغالطة
والتلبيس على الجهلة.
وقوله سبحانه: (كالمهل) قال ابن عباس وابن عمر " المهل " دردي الزيت
وعكره وقال ابن مسعود وغيره " المهل " ما ذاب من ذهب أو فضة والمعنى ان
هذه الشجرة إذا طعمها الكافر في جهنم صارت في جوفه تفعل كما يفعل المهل المذاب
من الاحراق والافساد (والحميم) الماء الساخن الذي يتطاير من غليانه.
وقوله: (خذوه...) الآية أي: يقال يومئذ للملائكة خذوه يعني الأثيم
(فاعتلوه) و " العتل " السوق بعنف وإهانة ودفع قوي متصل كما يساق ابدا مرتكب
الجرائم و " السواء " الوسط وقيل: المعظم وذلك متلازم.
وقوله تعالى: (ذق انك أنت العزيز الكريم) مخاطبة على معنى التقريع.
وقوله سبحانه: (ان هذا ما كنتم به تمترون) عبارة عن قول يقال للكفرة ثم ذكر
تعالى حالة المتقين فقال: (إن المتقين في مقام امين) أي مأمون " والسندس " رقيق
الحرير و " الاستبرق " خشنه.
وقوله: (متقابلين) وصف لمجالس أهل الجنة لان بعضهم لا يستدبر بعضا في
المجالس وقرأ الجمهور (وزوجناهم بحور عين) وقرا ابن مسعود " بعيس عين " وهو
جمع " عيساء " وهي البيضاء وكذلك هي من النوق وروى أبو قرصافة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " اخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين " قال الثعلبي قال مجاهد يحار
202

فيهن الطرف من بياضهن وصفاء لونهن يرى مخ سوقهن من وراء ثيابهن ويرى الناظر
وجهه في كعب إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون انتهى.
وقوله سبحانه: (يدعون فيها بكل فاكهة) أي يدعون الخدمة والمتصرفين.
قال أبو حيان: (الا الموتة) استثناء منقطع أي: لكن الموتة الأولى ذاقوها
انتهى والضمير في (يسرناه) عائد على القرآن (بلسانك) أي بلغة العرب قال
الواحدي (لعلهم يتذكرون) أي يتعظون انتهى وفي قوله تعالى: (فارتقب انهم
مرتقبون) وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد للكافرين.
203

تفسير سورة الجاثية
وهي مكية
الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * ان في السماوات
والأرض لآيات للمؤمنين) قال أبو حيان: أجاز الفخر الرازي في (العزيز الحكيم) ان
يكونا صفتين ل‍ " الله " وهو الراجح أو ل‍ " الكتاب " ورد بأنه لا يجوز ان يكونا صفتين
للكتاب من وجوه انتهى.
وذكر تبارك وتعالى هنا الآيات التي في السماوات والأرض مجملة غير مفصلة فكأنها
إحالة على غوامض تثيرها الفكر ويخبر بكثير منها الشرع فلذلك جعلها للمؤمنين ثم
ذكر سبحانه خلق البشر والحيوان وكأنه اغمض فجعله / للموقنين الذين لهم نظر يؤديهم
إلى اليقين ثم ذكر اختلاف الليل والنهار والعبرة بالمطر والرياح فجعل ذلك لقوم
يعقلون إذ كل عاقل يحصل هذه ويفهم قدرها.
قال (ع) وان كان هذا النظر ليس بلازم ولا بد فان اللفظ يعطيه والرزق
المنزل من السماء هو الماء وسماه الله سبحانه رزقا بمآله الله لان جميع ما يرتزق فعن
الماء هو.
وقوله: (نتلوها عليك بالحق) أي بالصدق والاعلام بحقائق الأمور في أنفسها.
وقال جلت عظمته: (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) آية تقريع وتوبيخ وفيها
204

قوة تهديد والأفاك: الكذاب الذي يقع منه الإفك مرارا والأثيم بناء مبالغة اسم فاعل
من اثم يأثم وروي ان سبب الآية أبو جهل وقيل النضر بن الحارث والصواب انها
عامة فيهما وفي غيرهما وانها تعم كل من دخل تحت الأوصاف المذكورة إلى يوم القيامة
و (يصر) معناه يثبت على عقيدته من الكفر.
وقوله: (فبشره بعذاب اليم) أي: مؤلم.
وقوله تعالى: (وإذا علم من آياتنا شيئا) أي: أخبر بشئ من آياتنا فعلم نفس الخبر
لا المعنى الذي تضمنه الخبر ولو علم المعاني التي تضمنها اخبار الشرع وعرف حقائقها
لكان مؤمنا.
(ت) وفي هذا نظر لأنه ينحو إلى القول بان الكفر لا يتصور عنادا محضا
وقد تقدم اختياره رحمه الله لذلك في غير هذا المحل فقف عليه وخشية الإطالة
منعتني من تكراره هنا.
وقوله سبحانه: (هذا هدى) إشارة إلى القرآن.
وقوله: (لهم عذاب) بمنزلة قولك لهم حظ فمن هذه الجهة ومن جهة تغاير
اللفظين حسن قوله: (عذاب من رجز) إذ الرجز هو العذاب.
وقوله: (لتجري الفلك فيه بأمره) أقام القدرة والاذن مناب أن يأمر البحر والناس
بذلك وقرأ مسلمة بن محارب " جميعا منة " بضم التاء وقرأ أيضا " جميعا منه "
[بفتح الميم وشد النون والهاء] وقرأ ابن عباس " منة " بالنصب على المصدر.
205

وقوله تعالى: (ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) قال الغزالي في " الاحياء " الفكر
والذكر أعلى مقامات الصالحين وقال رحمه الله أعلم أن الناظرين بأنوار البصيرة
علموا أن لا نجاة الا في لقاء الله عز وجل وانه لا سبيل إلى اللقاء الا بان يموت العبد
محبا لله تعالى وعارفا به وان المحبة والانس لا يتحصلان من الا بدوام ذكر المحبوب
وان المعرفة لا تحصل الا بدوام الفكر ولن يتيسر دوام الذكر والفكر الا بوداع الدنيا
وشهواتها والاجتزاء منها بقدر البلغة والضرورة ثم قال: والقرآن جامع لفضل الذكر
والفكر والدعاء مهما كان بتدبر انتهى.
وقوله تعالى: (قل للذين أمنوا يغفروا...) الآية قال أكثر الناس هذه الآية
منسوخة بآية القتال وقال فرقة بل هي محكمة قال (ع) الآية في تضمن الغفران
عموما فينبغي ان يقال: ان الأمور العظام كالقتل والكفر مجاهرة ونحو ذلك قد نسخت
غفرانه آية السيف والجزية وما أحكمه الشرع لا محالة وان الأمور الحقيرة كالجفاء في
القول ونحو ذلك تحتمل ان تبقى محكمة وأن يكون العفو عنها أقرب إلى التقوى.
وقوله: (أيام الله) قالت فرقة: معناه أيام انعامه ونصره وتنعيمه في الجنة
وغير ذلك وقال مجاهد (أيام الله) أيام نقمه وعذابه وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (فما اختلفوا الامن بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم...) الآية قد
تقدم بيان نظيرها في سورة يونس وغيرها.
206

وقوله سبحانه: (ثم جعلناك على شريعة من الامر...) الآية " الشريعة " لغة مورد
المياه وهي في الدين من ذلك لان الناس يردون الدين ابتغاء رحمة الله والتقرب منه
و " الامر " واحد الأمور ويحتمل أن يكون واحد الأوامر و (الذين لا يعلمون) هم:
الكفار وفي قوله تعالى: (وان الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين) تحقير
للكفرة من حيث خروجهم عن ولاية الله تعالى.
(ت) وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم أحد: " أجيبوهم فقولوا الله مولانا ولا مولى
لكم " وذلك أن قريشا قالوا للصحابة لنا العزى ولا عزى لكم.
وقوله عز وجل: (هذا بصائر للناس) يريد القرآن وهو جمع " بصيرة " وهو
المعتقد الوثيق في الشئ كأنه من ابصار القلب قال أبو حيان وقرئ " هذه " أي هذه
الآيات انتهى.
وقوله سبحانه: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) قيل: إن الآية نزلت بسبب
افتخار كان للكفار على المؤمنين قالوا: لئن كانت آخرة كما تزعمون لتفضلن عليكم
فيها كما فضلنا في الدنيا.
و (اجترحوا) معناه اكتسبوا وهذه الآية متناولة بلفظها حال العصاة من حال أهل
التقوى وهي موقف للعارفين يبكون عنده وروي عن الربيع بن خيثم انه كان يرددها
ليلة حتى أصبح وكذلك عن الفضيل بن عياض وكان يقول لنفسه ليت / شعري
من أي الفريقين أنت وقال الثعلبي كانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين قال
(ع) واما لفظها فيعطى انه اجتراح الكفر بدليل معادلته بالايمان ويحتمل ان تكون
207

المعادلة بين الاجتراح وعمل الصالحات ويكون الايمان في الفريقين ولهذا بكى الخائفون
رضي الله عنهم.
(ت) وروى ابن المبارك في " رقائقه " بسنده ان تميما الداري رضي الله عنه
بات ليلة إلى الصباح يركع ويسجد ويردد هذه الآية (أم حسب الذين اجترحوا
السيئات) الآية ويبكي - رضي الله عنه - انتهى.
وقوله: (ساء ما يحكمون) " ما " مصدرية والتقدير ساء الحكم حكمهم.
وقوله سبحانه: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه...) الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي: لا
تهتم بأمر الكفرة من أجل اعراضهم عن الايمان وقوله: (إلهه هواه) إشارة إلى الأصنام
إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة وقال قتادة المعنى لا يهوى شيئا الا ركبه لا
يخاف الله فهذا كما يقال الهوى اله معبود وهذه الآية وان كانت نزلت في هوى
الكفر فهي متناولة جميع هوى النفس الامارة قال النبي صلى الله عليه وسلم " و العاجز من اتبع نفسه
هواها وتمنى على الله " وقال سهل التستري هواك داؤك فان خالفته فدواؤك
وقال وهب إذا عرض لك أمران وشككت في خيرهما فانظر أبعدهما من هواك فأته
ومن الحكمة في هذا قول القائل: [الطويل]
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى * إلى كل ما فيه عليك مقال.
قال الشيخ ابن أبي جمرة قوله صلى الله عليه وسلم " فيقال: من كان يعبد شيئا فليتبعه " " شيئا "
يعم جميع الأشياء مدركة كانت أو غير مدركة فالمدرك كالشمس والقمر وغير
المدرك مثل الملائكة والهوى لقوله عز وجل: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) وما
أشبه ذلك انتهى قال القشيري في " رسالته " وحكي عن أبي عمران الواسطي قال
انكسرت بنا السفينة فبقيت انا وامرأتي على لوح وقد ولدت في تلك الحال صبية
فصاحت بي وقالت: يقتلني العطش فقلت هو ذا يرى حالنا فرفعت رأسي فإذا رجل
في الهواء جالس في يده سلسلة من ذهب وفيها كوز من ياقوت احمر فقال هاك
208

اشربا قال: فأخذت الكوز فشربنا منه فإذا هو أطيب من المسك وأبرد من الثلج
وأحلى من العسل فقلت من أنت رحمك الله فقال عبد لمولاك فقلت له بم
وصلت إلى هذا فقال تركت هواي لمرضاته فأجلسني في الهواء ثم غاب عني ولم
أره انتهى.
وقوله تعالى: (على علم) قال ابن عباس المعنى على علم من الله تعالى
سابق وقالت فرقة أي على علم من هذا الضال بتركه للحق واعراضه عنه فتكون الآية
على هذا التأويل من آيات العناد من نحو قوله (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)
[النمل: 14].
وقوله تعالى، (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) استعارات كلها.
وقوله: (من بعد الله) فيه حذف مضاف تقديره من بعد إضلال الله إياه
واختلف في معنى قولهم (نموت ونحيا) فقالت فرقة المعنى يموت الآباء ويحيا
الأبناء وقالت فرقة المعنى نحيا ونموت فوقع في اللفظ تقديم وتأخير وقولهم
(وما يهلكنا الا الدهر) أي طول الزمان.
وقوله سبحانه: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) يعني قريشا (ما كان حجتهم الا
ان قالوا ائتوا بآبائنا) أي: يا محمد أحي لنا قصيا حتى نسأله إلى غير ذلك من هذا
النحو فنزلت الآية في ذلك ومعنى (ان كنتم صادقين) أي في قولكم انا نبعث بعد
الموت.
ثم امر الله تعالى نبيه ان يخبرهم بالحال السابقة في علم الله التي لا تبدل بأنه يحيي
الخلق ثم يميتهم... إلى آخر الآية وباقي الآية بين.
209

و (المبطلون) الداخلون في الباطل.
وقوله سبحانه: (وترى كل أمة جاثية) هذا وصف حال القيامة وهولها، والأمة:
الجماعة العظيمة من الناس وقال مجاهد الأمة الواحد من الناس قال (ع)
وهذا قلق في اللغة وان قيل في إبراهيم " أمة " وفي قس بن ساعدة فذلك تجوز على جهة
التشريف والتشبيه و (جاثية) معناه: على الركب قاله مجاهد وغيره وهي هيئة
المذنب الخائف وقال سلمان في القيامة ساعة قدر عشر سنين يخر الجميع فيها جثاة
على الركب.
وقوله: (كل أمة تدعى إلى كتابها) قالت فرقة معناه إلى كتابها المنزل عليها
فتحاكم إليه هل وافقته أو خالفته وقالت فرقة أراد إلى كتابها الذي كتبته الحفظة على
كل واحد من الأمة.
وقوله سبحانه: (هذا كتابنا) يحتمل ان تكون الإشارة إلى الكتب المنزلة أو إلى
اللوح المحفوظ أو إلى كتب الحفظة وقال ابن قتيبة إلى القرآن.
وقوله سبحانه: (انا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) قال الحسن وهو كتب الحفظة
على بني أدم وروى ابن عباس وغيره حديثا ان الله يأمر بعرض اعمال العباد
كل يوم خميس فينقل من الصحف التي كانت ترفع الحفظة كل ما هو معد أن يكون عليه
ثواب أو عقاب ويلغى الباقي فهذا هو النسخ من أصل.
وقوله عز وجل: (فاما الذين أمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته)
أي في جنته.
210

(واما الذين كفروا أفلم تكن) أي فيقال لهم (أفلم تكن آياتي تتلى عليكم) وقرأ
حمزه وحده " والساعة " بالنصب عطفا على قوله (وعد الله) وقرأ
ابن مسعود " وان الساعة لا ريب فيها " وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (وبدا لهم سيئات ما عملوا...) الآية حكاية حال يوم القيامة
(وحاق) معناه: نزل وأحاط وهي مستعملة في المكروه وفي قوله (ما كانوا) حذف
مضاف تقديره جزاء ما كانوا به يستهزءون.
وقوله عز وجل: (وقيل اليوم ننساكم) معناه نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا
و (آيات الله) هنا لفظ جامع لآيات القرآن وللأدلة التي نصبها الله تعالى للنظر (ولا
هم يستعتبون) أي: لا يطلب منهم مراجعة إلى عمل صالح.
وقوله سبحانه: (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض...) إلى آخر السورة
تحميد لله عز وجل وتحقيق لألوهيته وفي ذلك كسر لأمر الأصنام وسائر ما تعبده
الكفرة و (الكبرياء) بناء مبالغة.
211

تفسير سورة الأحقاف
وهي مكية
إلا آيتين وهما قوله تعالى: (قل أرأيتم ان كان من عند الله وكفرتم به...) الآية
وقوله سبحانه: (فاصبر كما صبر أولوا العزم) الآية.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله سبحانه: (حم * تنزيل الكتاب) يعني القرآن.
وقوله سبحانه: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق وأجل مسمى
والذين كفروا عما أنذروا معرضون) هذه الآية موعظة وزجر المعنى فانتبهوا أيها
الناس وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم " والأجل المسمى " هو يوم القيامة.
وقوله: (قل أرأيتم ما تدعون) [معناه] ما تعبدون ثم وقفهم على السماوات
هل لهم فيها شرك ثم استدعى منهم كتابا منزلا قبل القرآن يتضمن عبادة الأصنام قال ابن
العربي في " احكامه " هذه الآية من أشرف آية في القرآن فإنها استوفت الدلالة على
الشرائع عقليها وسمعيها لقوله عز وجل (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني
ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات) فهذا بيان لأدلة العقل المتعلقة
بالتوحيد وحدوث العالم وانفراد الباري تعالى بالقدرة والعلم والوجود والخلق ثم قال
(ائتوني بكتاب من قبل هذا) على ما تقولون وهذا بيان لأدلة السمع فان مدرك الحق
انما يكون بدليل العقل أو بدليل الشرع حسبما بيناه من مراتب الأدلة في كتب الأصول
212

ثم قال: (أو إثارة من علم) يعني أو علم يؤثر أي يروى وينقل وإن لم يكن مكتوبا
انتهى.
وقوله: (أو إثارة) معناه أو بقية قديمة من علم أحد العلماء تقتضي عبادة
الأصنام و " الإثارة " البقية من الشئ وقال الحسن المعنى من علم تستخرجونه
فتثيرونه ولم وقال مجاهد المعنى هل من أحد يأثر علما في ذلك وقال القرطبي هو
الاسناد ومنه قول الأعشى: من [السريع]
ان الذي فيه تماريتما * بين للسامع والآثر.
أي: وللمسند عن غيره وقال ابن عباس الإثارة الخط في التراب وذلك شئ
كانت العرب تفعله والضمير في قوله (وهم عن دعائهم غافلون) هو للأصنام في قول
جماعة ويحتمل أن يكون لعبدتها.
وقوله سبحانه: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء) وصف ما يكون يوم القيامة بين
الكفار وأصنامهم بين من التبري والمناكرة وقد بين ذلك في غير هذه الآية.
(وإذا تتلى عليهم آياتنا) أي آيات القرآن (قال الذين كفروا للحق) يعني القرآن
(هذا سحر مبين) أي يفرق بين المرء وبنيه.
وقوله سبحانه: (قل ان افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) المعنى ان افتريته
213

فالله حسبي في ذلك وهو كان يعاقبني ولا يمهلني ثم رجع القول إلى الاستسلام إلى
الله والاستنصار به عليهم وانتظار ما يقتضيه علمه بما يفيضون فيه من الباطل ومراده
الحق وذلك يقتضي معاقبتهم ففي اللفظ تهديد والضمير في (به) عائد على الله عز
وجل.
وقوله سبحانه: (وهو الغفور الرحيم) ترجية واستدعاء إلى التوبة ثم امره عز وجل
ان يحتج عليهم بأنه لم يكن بدعاء من الرسل والبدع والبديع من الأشياء ما لم ير مثله
المعنى: قد جاء قبلي غيري قاله ابن عباس وغيره.
(ت) حديث ولفظ البخاري وقال ابن عباس (بدعا من الرسل) أي: لست بأول
الرسل واختلف الناس في قوله: (وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم) فقال ابن عباس
وجماعة كان هذا في صدر الاسلام ثم بعد ذلك عرفه الله عز وجل بأنه قد غفر له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر وبان المؤمنين لهم من الله فضل كبير وهو الجنة وبأن الكافرين
في نار جهنم والحديث الصحيح الذي وقع في جنازة عثمان بن مظعون يؤيد هذا
وقالت فرقة معنى الآية وما أدري ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي وقيل غير
هذا.
وقوله: (ان اتبع الا ما يوحى إلي) معناه: الاستسلام والتبري من علم المغيبات
والوقوف مع النذارة من عذاب الله عز وجل.
214

وقوله عز وجل: (قل أرأيتم ان كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني
إسرائيل...) الآية جواب هذا التوقيف محذوف تقديره أليس قد ظلمتم ودل على
هذا المقدر قوله تعالى: (ان الله لا يهدي القوم الظالمين) قال مجاهد وغيره هذه الآية
مدنية والشاهد عبد الله بن سلام وقد قال عبد الله بن سلام في نزلت وقال
مسروق بن الأجدع والجمهور الشاهد موسى بن عمران عليه السلام والآية مكية
ورجحه الطبري.
وقوله: (على مثله) يريد بالمثل التوراة والضمير عائد في هذا التأويل على القرآن
أي جاء شاهد من بني إسرائيل بمثله انه من عند الله سبحانه.
وقوله: (فآمن) على هذا التأويل يعني به تصديق موسى وتبشيره بنبينا
محمد صلى الله عليه وسلم
وقوله سبحانه: (ومن قبله) أي: من قبل القرآن (كتاب موسى) يعني التوراة
(وهذا كتاب) يعني القرآن (مصدق) للتوراة التي تضمنت خبره وفي مصحف ابن
مسعود مصدق لما بين يديه و (الذين ظلموا) هم الكفار وعبر عن المؤمنين
بالمحسنين ليناسب لفظ " الاحسان " في مقابلة " الظلم "
ثم أخبر تعالى عن حسن [حال] المستقيمين وذهب كثير من الناس إلى أن المعنى:
ثم استقاموا بالطاعات والأعمال الصالحات وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه
المعنى: ثم استقاموا بالدوام على الايمان قال (ع) وهذا أعم رجاء وأوسع
وان كان في الجملة المؤمنة من يعذب وينفذ عليه الوعيد فهو ممن يخلد في الجنة
وينتفي عنه الخوف والحزن الحال بالكفرة.
وقوله تعالى: (جزاء بما كانوا يعملون) قد جعل الله سبحانه الأعمال امارات على
ما سيصير إليه العبد لا انها توجب على الله شيئا.
215

وقوله سبحانه: (ووصينا الانسان) يريد النوع أي هكذا مضت شرائعي وكتبي
فهي وصية من الله في عباده وبر الوالدين واجب وعقوقهما كبيرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
" كل شئ بيني وبين الله حجاب الا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين قال
(ع) ولن يدعو في الغالب الا إذا ظلمهما الولد فهذا يدخل في عموم قوله عليه
السلام " اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " ثم عدد سبحانه على
الأبناء منن الأمهات.
وقوله تعالى: (حملته أمه كرها) قال مجاهد والحسن وقتادة حملته مشقة
ووضعته مشقة قال أبو حيان (وحمله) على حذف مضاف أي مدة حمله انتهى.
وقوله: (ثلاثون شهرا) يقتضي ان مدة الحمل والرضاع هي هذه المدة وفي
البقرة (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) [البقرة: 233] فيترتب من هذا ان
أقل مدة الحمل ستة أشهر وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر واكمال الحولين هو
لمن أراد أن يتم الرضاعة وهذا في أمد الحمل هو مذهب مالك وجماعة من الصحابة
وأقوى الأقوال في بلوغ الأشد ستة وثلاثون سنة قال (ع) وانما ذكر تعالى
الأربعين لأنها حد للانسان في فلاحه ونجابته، وفي الحديث " ان الشيطان يجر يده على
وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول بابي وجه لا يفلح ".
(ت) وحدث أبو بكر بن الخطيب في " تاريخ بغداد " بسنده المتصل عن انس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا بلغ العبد أربعين سنة أمنه الله من البلايا الثلاث: الجنون
والجذام والبرص فإذا بلغ خمسين سنة خفف الله عنه الحساب فإذا بلغ ستين سنة رزقه
216

الله الإنابة لما يحب فإذا بلغ سبعين سنة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفع في أهل بيته
وناداه مناد من السماء هذا أسير الله في ارضه " انتهى وهذا والله أعلم في
العبد المقبل على آخرته المشتغل بطاعة ربه.
وقوله: (رب أوزعني) معناه: ادفع عني الموانع وأجرني من القواطع لأجل ان
اشكر نعمتك ويحتمل أن يكون (أوزعني) بمعنى: اجعل حظي ونصيبي وهذا من
التوزيع.
(ت) وقال الثعلبي وغيره (أوزعني) معناه: ألهمني وعبارة الفخر قال
ابن عباس (أوزعني) معناه ألهمني قال صاحب " الصحاح " استوزعت الله
فأوزعني أي: استلهمته فألهمني، انتهى قال ابن عباس (نعمتك) في التوحيد
217

و (صالحا ترضاه) الصلوات والاصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخير وهذه
الآية معناها ان هكذا ينبغي للانسان أن يكون فهي وصية الله تعالى للانسان في كل
الشرائع وقول من قال إنها في أبي بكر وأبويه ضعيف لأن هذه الآية نزلت بمكة بلا
خلاف وأبو قحافة أسلم عام الفتح وفي قوله تعالى " أولئك الذين يتقبل عنهم... "
الآية دليل على أن هذه الإشارة بقوله (ووصينا الانسان) انما أراد به الجنس.
وقوله: (في أصحاب الجنة) يريد الذين سبقت لهم رحمة الله قال أبو حيان
(في أصحاب الجنة) قيل (في) على بابها أي في جملتهم كما تقول أكرمني
الأمير في ناس أي في جملة من أكرم وقيل (في) بمعنى مع انتهى.
وقوله تعالى: (والذي قال لوالديه) قال الثعلبي معناه إذ دعواه إلى الايمان
(أف لكما) الآية انتهى (والذي) يعني به الجنس على حد العموم في التي قبلها
في قوله: (ووصينا الانسان) هذا قول الحسن وجماعة ويشبه ان لها سببا من رجل
قال ذلك لأبويه فلما فرغ من ذكر الموفق عقب بذكر هذا العاق وقد أنكرت عائشة ان
تكون الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر وقالت ما نزل في آل أبي بكر من القرآن
غير براءتي.
* ت * ولا يعترض عليها بقوله تعالى: (ثاني اثنين) [التوبة: 40] ولا بقوله:
(ولا يأتل أولو الفضل) [النور: 22] كما بينا ذلك في غير هذه الآية قال (ع)
218

والأصوب ان تكون الآية عامة في أهل هذه الصفات والدليل القاطع على ذلك قوله
تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم) وكان عبد الرحمن بن أبي بكر رضي
الله عنه من أفاضل الصحابة ومن ابطال المسلمين وممن له في الاسلام غناء يوم
اليمامة وغيره و (أف) بالتنوين قراءة نافع وغيره والتنوين في ذلك علامة تنكير كما
تستطعم رجلا حديثا غير معين فتقول " ايه " منونة وان كان حديثا مشارا إليه قلت " ايه "
بغير تنوين.
وقوله: (أتعدانني ان اخرج) المعنى: ان اخرج من القبر إلى الحشر وهذا منه
استفهام بمعنى الهزء والاستبعاد. (وقد خلت القرون من قبلي) معناه هلكت ومضت
ولم يخرج منهم أحد (وهما يستغيثان الله) يعني: الوالدين يقولان له: (ويلك
آمن).
وقوله: (ما هذا الا أساطير الأولين) أي ما هذا القول الذي يتضمن البعث من
القبور الا شئ سطره الأولون في كتبهم يعني الشرائع وظاهر ألفاظ هذه الآية انها
نزلت في مشار إليه قال وقيل له فنعى الله إلينا أقواله تحذيرا من الوقوع في مثلها.
وقوله: (أولئك) ظاهره انها إشارة إلى جنس و (حق عليهم القول) أي قول
الله انه يعذبهم قال أبو حيان (في أمم) أي في جملة أمم ف‍ " في " على بابها وقيل:
(في) بمعنى مع وقد تقدم ذلك انتهى.
وقوله: (قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) يقتضي ان الجن يموتون وهكذا
فهم الآية قتادة وقد جاء حديث يقتضي ذلك.
وقوله سبحانه: (ولكل درجات) يعني المحسنين والمسيئين قال ابن زيد:
ودرجات المحسنين تذهب علوا ودرجات المسيئين تذهب سفلا وباقي الآية بين في أن
كل امرئ يجتني ثمرة عمله من خير أو شر ولا يظلم في مجازاته.
219

وقوله عز وجل: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار...) الآية المعنى واذكر
يوم يعرض وهذا العرض هو بالمباشرة (أذهبتم) أي يقال لهم (أذهبتم طيباتكم في
حياتكم الدنيا) و " الطيبات " هنا الملاذ وهذه الآية وان كانت في الكفار فهي رادعة
لأولى النهي من المؤمنين عن الشهوات واستعمال الطيبات ومن ذلك قول عمر رضي
الله عنه أتظنون انا لا نعرف طيب الطعام؟ ذلك لباب البر بصغار المعزى ولكني رأيت
الله تعالى نعى على قوم انهم ذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ذكر هذا في كلامه مع
الربيع بن زياد وقال أيضا نحو هذا لخالد بن الوليد حين دخل الشام فقدم إليه طعام
طيب فقال عمر هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير؟
فقال خالد لهم الجنة فبكى عمر وقال لئن كان حظنا في الحطام وذهبوا بالجنة فقد
بانوا بونا بعيدا وقال جابر بن عبد الله اشتريت لحما بدرهم فرآني عمر فقال:
أو كلما اشتهى أحدكم شيئا اشتراه فأكله اما تخشى ان تكون من أهل هذه الآية وتلا
(أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) (ت) والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا فمنها
ما رواه أبو داود في سننه عن عبد الله بن بريدة ان رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل
إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر فقد عليه فقال اما انى لم آتك زائرا ولكن سمعت
انا وأنت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم قال ما هو قال
كذا وكذا قال فمالي أراك شعثا وأنت أمير الأرض قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
ينهى عن كثير من الإرفاه قال فمالي لا أرى عليك حذاء قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأمرنا ان نحتفي أحيانا وروى أبو داود عن أبي امامة قال: ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوما
عنده الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الا تسمعون ان البذاذة من الايمان ان البذاذة من
220

الايمان ان البذاذة من الايمان " قال أبو داود يعني التقحل وفسر أبو عمر بن عبد
البر " البذاذة " برث الهيئة ذكر ذلك في " التمهيد " وكذلك فسرها غيره انتهى وروى
ابن المبارك في " رقائقه " من طريق الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم انه خرج في أصحابه إلى بقيع
الغرقد فقال " السلام عليكم يا أهل القبور لو تعلمون ما نجاكم الله منه مما هو كائن
بعدكم! ثم اقبل على أصحابه فقال هؤلاء خير منكم قالوا يا رسول الله إخواننا
أسلمنا كما أسلموا وهاجرنا كما هاجروا وجاهدنا كما جاهدوا واتوا على آجالهم
فمضوا فيها وبقينا في آجالنا فما يجعلهم خيرا منا؟! قال هؤلاء خرجوا من الدنيا لم
يأكلوا من أجورهم شيئا وخرجوا وانا الشهيد عليهم وانكم قد أكلتم من أجوركم ولا
أدرى ما تحدثون من بعدي قال فلما سمعها القوم عقلوها وانتفعوا بها وقالوا: انا
لمحاسبون بما أصبنا من الدنيا وانه لمنتقص به من أجورنا " انتهى، ومنها حديث
ثوبان في " سنن أبي داود " قال ثوبان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر كان آخر عهده بانسان
من أهله فاطمة وأول من يدخل عليها فاطمة فقدم من غزاة وقد علقت مسحا أو سترا
على بابها وحلت الحسن والحسين قلبين من فضة فلم يدخل فظنت انما منعه ان يدخل
ما رأى فهتكت الستر وفكت القلبين عن الصبيين وقطعتهما عنهما فانطلقا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم يبكيان فأخذهما منهما وقال يا ثوبان اذهب بهما إلى آل فلان ان هؤلاء
أهلي أكره ان يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب
وسوارين من عاج " انتهى (ص) قرأ الجمهور " أذهبتم " على الخبر أي فيقال
لهم أذهبتم طيباتكم وابن كثير بهمزة بعدها مدة مطولة وابن عامر بهمزتين حققهما ابن
ذكوان ولين الثانية هشام وابن كثير في رواية والاستفهام هنا على معنى التوبيخ
والتقرير فهو خبر في المعنى ولهذا حسنت الفاء في قوله (فاليوم) ولو كان استفهاما
محضا لما دخلت الفاء انتهى و (عذاب الهون) هو الذي اقترن به هوان فالهون
والهوان بمعنى.
221

ثم امر تعالى نبيه بذكر هود وقومه عاد على جهة المثال لقريش وقد تقدم قصص
عاد مستوفى في " سورة الأعراف " فلينظر هناك والصحيح من الأقوال ان بلاد عاد كانت
باليمن ولهم كانت ارم ذات العماد و (الأحقاف): جمع " حقف " وهو الجبل المستطيل
المعوج من الرمل.
وقوله سبحانه: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه الا تعبدوا الا الله اني
أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) (خلت) معناه: مضت إلى الأرض الخلاء و (النذر)
جمع نذير وقولهم: (لتأفكنا) معناه: لتصرفنا وقولهم: (فاتنا بما تعدنا) تصميم منهم
على التكذيب وتعجيز له في زعمهم.
وقوله سبحانه: (قال انما العلم عند الله...) الآية المعنى: قال لهم هود: ان
هذا الوعيد ليس من قبلي، وإنما الامر فيه إلى الله، وعلم وقته عنده، وانما علي ان أبلغ
فقط والضمير في (رأوه) يحتمل ان يعود على العذاب ويحتمل ان يعود على الشئ
المرئي الطالع عليهم، وهو الذي فسره قوله: (عارضا) والعارض: هو ما يعرض في
الجو من السحاب الممطر قال ابن العربي في " احكامه " عند تفسيره قوله تعالى: (ولا
تجعلوا الله عرضة لايمانكم) [البقرة: 224] كل شئ عرض فقد منع ويقال لما
عرض في السماء من السحاب: " عارض " لأنه منع من رؤيتها ومن رؤية البدر والكواكب
انتهى وروي في معنى قوله: (مستقبل أوديتهم) ان هؤلاء القوم كانوا قد قحطوا مدة
فطلع هذا العارض من جهة كانوا يمطرون بها ابدا جاءهم من قبل واد لهم يسمونه
المغيث قال ابن عباس: ففرحوا به وقالوا: هذا عارض ممطرنا وقد كذب هود فيما
أوعد به فقال لهم هود عليه السلام -: ليس الأمر كما رأيتم بل هو ما استعجلتم به
في قولكم: (فأتنا بما تعدنا) [الأحقاف: 22] ثم قال: (ريح فيها عذاب اليم) وفي
قراءة ابن مسعود: " ممطرنا قال هود: بل هو ريح " بإظهار المقدر و (تدمر) معناه:
222

تهلك " والدمار " الهلاك وقوله (كل شئ) ظاهره العموم ومعناه الخصوص في
كل ما أمرت بتدميره وروي ان هذه الريح رمتهم أجمعين في البحر.
ثم خاطب جل وعلا قريشا على جهة الموعظة بقوله: (ولقد مكناهم فيما ان مكناكم
فيه) ف‍ " ما " بمعنى " الذي " و " ان " نافية وقعت مكان " ما " لمختلف اللفظ ومعنى الآية
ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسط في الأموال والأجسام ما لم نعطكم ونالهم
بسبب كفرهم هذا العذاب فأنتم أحرى بذلك إذا تماديتم في كفركم وقالت فرقة " ان "
شرطية والجواب محذوف تقديره في الذي ان مكناكم فيه طغيتم وهذا تنطع في
التأويل و " ما " نافية في قوله (فما أغنى عنهم) ويقوى ذلك دخول " من " في قوله
(من شئ) وقالت فرقة بل هي استفهام على جهة التقرير و " من شئ " على
هذا تأكيد وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول " من " في الجواب.
وقوله عز وجل: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى...) الآية مخاطبة لقريش
على جهة التمثيل (وصرفنا الآيات) يعني لهذه القرى.
وقوله سبحانه: (فلولا نصرهم...) الآية يعني فهلا نصرتهم أصنامهم " بل
ضلوا عنهم " أي انتلفوا عنهم وقت الحاجة (وذلك إفكهم) إشارة إلى قولهم في
الأصنام: انها آلهة.
وقوله: (وما كانوا يفترون) يحتمل ان تكون " ما " مصدرية فلا تحتاج إلى عائد
ويحتمل ان تكون بمعنى " الذي " فهناك عائد محذوف تقديره يفترونه.
وقوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن...) الآية ابتدا وصف قصة الجن
ووفادتهم: على النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختلفت الرواة هنا هل هذا الجن هم الوفد أو
223

المتجسسون واختلفت الروايات أيضا عن ابن مسعود وغيره في هذا الباب.
والتحرير في هذا ان النبي صلى الله عليه وسلم جاءه نفر من الجن دون ان يشعر بهم وهم
المتجسسون المتفرقون من أجل رجم الشهب الذي حل بهم وهؤلاء هم المراد
بقوله تعالى: (قل أوحي إلي...) [الجن: 1] الآية ثم بعد ذلك وفد عليه وفدهم
حسبما ورد في ذلك من الآثار.
وقوله: (نفرا) يقتضي ان المصروفين كانوا رجالا لا أنثى فيهم والنفر والرهط هم:
القوم الذين لا أنثى فيهم.
وقوله تعالى: (فلما حضروه قالوا انصتوا) فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم
(فلما قضي) أي فرغ من تلاوة القرآن واستماع الجن قال جابر بن عبد الله وغيره ان
النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ عليهم سورة " الرحمن " فكان إذا قال: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) [الرحمن: 13] قالوا: لا بشئ من آلائك نكذب ربنا لك الحمد ولما ولت هذه الجملة
تفرقت على البلاد منذرة للجن وقولهم: (انا سمعنا كتابا) يعنون القرآن.
(ت) وقولهم: (من بعد موسى) يحتمل انهم لم يعلموا بعيسى قاله ابن
عباس أو انهم على دين اليهود قاله عطاء نقل هذا الثعلبي ويحتمل ما تقدم ذكره
224

في غير هذا وانهم ذكروا المتفق عليه انتهى.
(مصدقا لما بين يديه) وهي التوراة والإنجيل وداعي الله هو محمد صلى الله عليه وسلم (وأمنوا
به) أي بالله (يغفر لكم من ذنوبكم...) الآية.
(ت) وذكر الثعلبي خلافا في مؤمني الجن هل يثابون على الطاعة ويدخلون
الجنة أو يجارون من النار فقط؟ الله أعلم بذلك قال الفخر والصحيح انهم في حكم
بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وهو قول مالك وابن أبي
ليلى قال الضحاك يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون انتهى وقد تقدم ما نقلناه عن
البخاري في سورة الأنعام انهم يثابون.
وقوله سبحانه: (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز...) الآية يحتمل أن
يكون من تمام كلام المنذرين ويحتمل أن يكون من كلام الله عز وجل و " المعجز ".
الذاهب في الأرض الذي يعجز طالبه فلا يقدر عليه.
وقوله سبحانه: (أولم يروا) الضمير لقريش وذلك انهم أنكروا البعث وعود
الأجساد وهم مع ذلك معترفون بان الله تعالى خلق السماوات والأرض فأقيمت عليهم
الحجة من أقوالهم * ص * قال أبو حيان والباء في قوله (بقادر) زائدة انتهى.
وقوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) المعنى: واذكر يوم وهذا
وعيد لكفار قريش وغيرهم / وهذا عرض مباشرة.
وقوله: (أليس هذا بالحق) أي يقال لهم أليس هذا بالحق (قالوا بلى وربنا)
فصدقوا بذلك حيث لا ينفعهم التصديق فروي عن الحسن أنه قال إنهم ليعذبون في
النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون انه العدل.
واختلف في تعيين أولى العزم من الرسل ولا محالة ان لكل نبي ورسول عزما
وصبرا.
225

وقوله: (ولا تستعجل لهم) معناه: ولا تستعجل لهم عذابا فإنهم إليه صائرون
ولا تستطل تعميرهم في هذه النعمة فإنهم يوم يرون العذاب كأنهم لم يلبثوا في الدنيا الا
ساعة لإحتقارهم ذلك لان المنقضي من الزمان يصير عدما.
(ت) وإذ علمت أيها الأخ ان الدنيا أضغاث أحلام كان من الحزم
اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد وحفظ الحواس ومراعاة الأنفاس ومراقبة مولاك
فاتخذه صاحبا وذر الناس جانبا قال أبو حامد الغزالي رحمه الله أعلم أن صاحبك
الذي لا تفارقه في حضرك وسفرك ونومك ويقظتك بل في حياتك وموتك هو ربك
ومولاك وسيدك وخالقك ومهما ذكرته فهو جليسك إذ قال تعالى " انا جليس من
ذكرني " ومهما انكسر قلبك حزنا على تقصيرك في حق دينك فهو صاحبك وملازمك إذ
قال " انا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي " فلو عرفته يا أخي حق معرفته لاتخذته
صاحبا وتركت الناس جانبا فان لم تقدر على ذلك في جميع أوقاتك فإياك ان تخلي
ليلك ونهارك عن وقت تخلو فيه بمولاك وتلذذ بمناجاته وعند ذلك فعليك بآداب
الصحبة مع الله تعالى وآدابها إطراق الطرف وجمع الهم ودوام الصمت وسكون
الجوارح ومبادرة الأمر واجتناب النهي وقلة الاعتراض على القدر ودوام الذكر
باللسان وملازمة الفكر وايثار الحق واليأس من الخلق والخضوع تحت الهيبة
والانكسار تحت الحياء والسكون عن حيل الكسب ثقة بالضمان والتوكل على فضل الله
معرفة بحسن اختياره وهذا كله ينبغي أن يكون شعارك في جميع ليلك ونهارك فإنه
آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك والخلق كلهم يفارقونك حتى في بعض أوقاتك انتهى.
من " بداية الهداية ".
وقوله (بلاغ) يحتمل معاني:
أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذا إنذار وتبليغ.
ويحتمل ان يريد كان لم يلبثوا الا ساعة كانت بلاغهم وهذا كما تقول: متاع
قليل وقيل غير هذا وقرأ أبو مجلز وغيره: (بلغ) على الامر وقرأ الحسن بن أبي
226

الحسن: (بلاغ) بالخفض نعتا ل‍ (نهار).
وقوله سبحانه: (فهل يهلك الا القوم الفاسقون) وقرئ شاذا: (فهل يهلك)
ببناء الفعل للفاعل وفي هذه الآية وعيد محض وانذار بين وذلك أن الله عز وجل جعل
الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها وغفر الصغائر باجتناب الكبائر ووعد الغفران على
التوبة فلن يهلك على الله الا هالك كما قال صلى الله عليه وسلم قال الثعلبي يقال ان قوله تعالى:
(فهل يهلك الا القوم الفاسقون) أرجئ آية في كتاب الله عز وجل للمؤمنين.
227

تفسير سورة القتال
وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) (الذين
كفروا) إشارة إلى أهل مكة الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات...) الآية إشارة إلى الأنصار الذين
أووا ونصروا وفي الطائفتين نزلت الآيتان قاله ابن عباس ومجاهد ثم هي بعد تعم
كل من دخل تحت ألفاظها.
وقوله: (أضل أعمالهم) أي: أتلفها ولم يجعل لها نفعا.
(ت) وقد ذكرنا في سورة " الصف " ان اسم محمد صلى الله عليه وسلم لم يتسم به أحد قبله الا
قوم قليلون رجاء ان تكون النبوءة في أبنائهم والله أعلم حيث يجعل رسالاته قال ابن
القطان وعن خليفة والد أبي سويد قال: سألت محمد بن عدي بن أبي ربيعة كيف
سماك أبوك محمدا قال سألت أبي عما سألتني عنه فقال لي كنت رابع أربعة من بني
غنم انا فيهم وسفيان بن مجاشع بن جرير وامامة بن هند بن خندف ويزيد بن ربيعة
فخرجنا في سفرة نريد ابن جفنة ملك غسان فلما شارفنا الشام نزلنا على غدير فيه
شجرات وقربه شخص نائم فتحدثنا فاستمع كلامنا فأشرف علينا فقال إن هذه لغة
ما هي لغة هذه البلاد فقلنا نحن قوم من مضر فقال من أي المضريين قلنا من
خندف قال إنه يبعث فيكم خاتم النبيين فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا
قلنا ما اسمه؟ قال محمد فرجعنا فولد لكل واحد منا ابن سماه محمدا وذكره
228

المدائني انتهى.
وقوله تعالى في المؤمنين: (وأصلح بالهم) قال قتادة معناه حالهم وقال ابن
عباس شأنهم.
وتحرير التفسير في اللفظة انها بمعنى الفكر والموضع الذي فيه نظر الانسان وهو
القلب فإذا صلح ذلك منه فقد صلح حاله فكان اللفظة مشيرة إلى صلاح عقيدتهم
وغير ذلك من الحال تابع فقولك خطر في بالي كذا وقولك أصلح الله بالك المراد
بهما واحد ذكره المبرد والبال مصدر كالحال والشأن ولا يستعمل منه فعل وكذلك
عرفه لا يثنى ولا يجمع وقد جاء مجموعا شاذا في قولهم " بآلات "
و (الباطل) هنا الشيطان وكل ما يأمر به قاله مجاهد و (الحق) هنا الشرع
ومحمد عليه السلام.
وقوله: (كذلك يضرب الله): الإشارة الا الاتباع المذكورين من الفريقين.
وقوله سبحانه: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب...) الآية قال أكثر
العلماء ان هذه الآية وآية السيف وهي قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم) [التوبة: 5] محكمتان فقوله هنا: (فضرب الرقاب) بمثابة قوله هنالك
(فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وصرح هنا بذكر المن والفداء ولم يصرح به
هنالك فهذه مبينة لتلك وهذا هو القول القوي وقوله: (فضرب الرقاب) مصدر بمعنى
229

الفعل أي: فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره والمراد اقتلوهم بأي وجه
أمكن وفي " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يجتمع كافر وقاتله في النار ابدا "
وفي " صحيح البخاري " عنه صلى الله عليه وسلم قال " ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار "
انتهى.
والاثخان في القوم ان يكثر فيهم القتلى والجرحى ومعنى: (فشدوا الوثاق) أي:
بمن لم يقتل ولم يترتب فيه الا الأسر ومنا وفداء مصدران منصوبان بفعلين
مضمرين.
وقوله: (حتى تضع الحرب أوزارها) معناه: حتى تذهب الحرب وتزول أثقالها
والأوزار الأثقال ومنه قول عمرو بن معد يكرب [من المتقارب]
وأعددت للحرب أوزارها * رماحا طوالا وخيلا ذكورا.
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تضع الحرب أوزارها فقال قتادة حتى
يسلم الجميع وقال حذاق أهل النظر حتى تغلبوهم وتقتلوهم فإن وقال مجاهد حتى
ينزل عيسى بن مريم قال (ع) وظاهر اللفظ انه استعارة يراد بها التزام الامر
ابدا وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها فجاء هذا كما تقول انا
افعل كذا وكذا إلى يوم القيامة وانما تريد انك تفعله دائما.
230

(ولو شاء الله لانتصر منهم) أي بعذاب من عنده ولكن أراد سبحانه اختبار
المؤمنين وان يبلو بعض الناس ببعض وقرأ الجمهور (قاتلوا) وقرأ عاصم بخلاف
عنه (قتلوا) بفتح القاف والتاء وقرأ أبو عمرو وحفص (قتلوا) بضم القاف
وكسر التاء قال قتادة نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم أحد من المؤمنين.
وقوله سبحانه: (سيهديهم) أي إلى طريق الجنة.
(ت) ذكر الشيخ أبو نعيم الحافظ ان ميسرة الخادم قال غزونا في بعض
الغزوات فإذا فتى إلى جانبي وإذا هو مقنع بالحديد فحمل على الميمنة فثناها ثم
على الميسرة حتى ثناها وحمل على القلب حتى ثناه ثم أنشأ يقول: [الرجز]
أحسن بمولاك سعيد ظنا * هذا الذي كنت له تمنى.
تنح يا حور الجنان عنا * مالك قاتلنا ولا قتلنا.
لكن إلى سيدكن اشتقنا * قد علم السر وما أعلنا.
قال: فحمل فقاتل فقتل منهم عددا ثم رجع إلى مصافه فتكالب عليه العدو
فإذا هو - رضي الله تعالى عنه - قد حمل على الناس وأنشأ يقول: [الرجز]
قد كنت أرجو ورجائي وإن لم يخب * ألا يضيع اليوم كدى والطلب.
يا من ملا تلك القصور باللعب * لولاك ما طابت ولا طاب الطرب.
ثم حمل - رضي الله عنه - فقاتل فقتل منهم عددا ثم رجع إلى مصافة فتكالب
عليه العدو فحمل رضي الله عنه في المرة الثالثة وأنشأ يقول: [الرجز]
يا لعبة الخلد قفي ثم اسمعي * ما لك قاتلنا فكفي وارجعي.
ثم ارجعي إلى الجنان وأسرعي * كما لا تطمعي لا تطمعي لا تطمعي.
فقاتل رضي الله عنه حتى قتل انتهى من ابن عباد شارح " الحكم ".
231

وقوله تعالى: (عرفها لهم) قال أبو سعيد الخدري وقتادة ومجاهد معناه
بينها لهم أي جعلهم يعرفون منازلهم منها وفي نحو هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم
" لأحدكم بمنزلة في الجنة اعرف منه بمنزله في الدنيا " قال القرطبي في " التذكرة " وعلى
هذا القول أكثر المفسرين قال: وقيل إن هذا التعريف إلى المنازل هو بالدليل هو
الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه انتهى وقالت فرقة معناه سماها لهم ورسمها
كل منزل باسم صاحبه فهذا نحو من التعريف وقالت فرقة معناه شرفها لهم ورفعها
وعلاها وهذا من الأعراف التي هي الجبال ومنه أعراف الخيل وقال مؤرج وغيره
معناه طيبها مأخوذ من العرف ومنه طعام معرف أي مطيب وعرفت القدر طيبتها
بالملح والتابل قال أبو حيان " وأصلح بالهم " البال: الفكر ولا يثنى ولا يجمع
انتهى.
وقوله سبحانه: (ان تنصروا الله) أي: دين الله (ينصركم) بخلق القوة لكم وغير
ذلك من المعاون (ويثبت اقدامكم) أي في مواطن الحرب وقيل على الصراط في
القيامة.
وقوله (فتعسا لهم) معناه عثارا وهلاكا لهم وهي لفظة تقال للعاثر إذا أريد به الشر قال ابن السكيت: التعس: ان يخر على وجهه.
وقوله تعالى: (كرهوا ما انزل الله) يريد: القرآن (فأحبط أعمالهم) قال
(ع) ولا خلاف ان الكافر له حفظة يكتبون سيئاته واختلف الناس في حسناتهم
فقالت فرقة هي ملغاة يثابون عليها بنعم الدنيا فقط وقالت فرقة هي محصاة من أجل
ثواب الدنيا ومن أجل انه قد يسلم فينضاف ذلك إلى حسناته في الاسلام وهذا أحد
التأويلين في قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام " أسلمت على ما سلف لك من خير "
232

وقوله عز وجل: (أفلم يسيروا في الأرض) توقيف لقريش وتوبيخ و (الذين من
قبلهم) يريد ثمود وقوم شعيب وغيرهم والدمار: الافساد وهدم البناء وإذهاب
العمران والضمير في قوله (أمثالها) يصح ان يعود على العاقبة ويصح ان يعود على
الفعلة التي يتضمنها قوله: (دمر الله عليهم)
وقوله تعالى: (ذلك بان الله مولى الذين أمنوا...) الآية المولى الناصر
الموالي قال قتادة نزلت هذه الآية يوم أحد ومنها انتزع النبي صلى الله عليه وسلم رده على أبي
سفيان حين قال: " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم "
وقوله سبحانه: (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام) أي اكلا مجردا
عن الفكر والنظر وهذا كما تقول: الجاهل يعيش كما تعيش البهيمة والمعنى يعيش
عديم الفهم والنظر في العواقب.
وقوله سبحانه: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك) يعني: مكة (التي
أخرجتك) معناه وقت الهجرة ويقال أن هذه الآية نزلت اثر خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة
233

وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله...) الآية
توقيف وتقرير وهي معادلة بين هذين الفريقين واللفظ عام لأهل هاتين الصفتين غابر
الدهر و (على بينة) أي: على يقين وطريق واضحة وعقيدة نيرة بينة.
وقوله سبحانه: (مثل الجنة...) الآية قال النضر بن شميل وغيره (مثل) معناه
صفة كأنه قال صفة الجنة: ما تسمعون فيها كذا وكذا.
وقوله: (فيها أنهار من ماء غير آسن) معناه غير متغير قاله ابن عباس وقتادة
وسواء أنتن أو ينتن.
وقوله في اللبن: (لم يتغير طعمه) نفي لجميع وجوه الفساد فيه.
وقوله: (لذة للشاربين) جمعت طيب الطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره
وتصفية العسل مذهبة لمومه وضرره
(ت) وروينا في " كتاب الترمذي " عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار
بعد " قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح انتهى.
وقوله: (ولهم فيها من كل الثمرات) أي من هذه الأنواع لكنها بعيدة الشبه تلك
لا عيب فيها ولا تعب.
وقوله: (ومغفرة من ربهم) معناه: وتنعيم أعطته المغفرة وسببته أو الا فالمغفرة انما
هي قبل دخول الجنة.
234

وقوله سبحانه: (كمن هو خالد في النار...) الآية قبله محذوف تقديره اسكان
هذه أو تقديره: أهؤلاء المتقون كمن هو خالد في النار.
وقوله سبحانه: (ومنهم من يستمع) يعني بذلك المنافقين (حتى إذا خرجوا من
عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا) على جهة الاستخفاف ومنهم من يقوله
جهالة ونسيانا و (آنفا) معناه مبتدئا كأنه قال ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا
عنه والمفسرون يقولون: (آنفا) معناه الساعة الماضية وهذا تفسير بالمعنى.
(ت) وقال الثعلبي (آنفا) أي الآن وأصله الابتداء قال أبو حيان
آنفا بالمد والقصر اسم فاعل والمستعمل من فعله ائتنفت ومعنى (آنفا) مبتدئا
فهو منصوب على الحال وأعربه الزمخشري ظرفا أي الساعة قال أبو حيان ولا
أعلم أحدا من النحاة عده من الظروف انتهى وقال العراقي (آنفا) أي الساعة.
وقوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى) أي زادهم الله هدى ويحتمل
زادهم استهزاء المنافقين هدى قال الثعلبي وقيل زادهم ما قال النبي صلى الله عليه وسلم هدى قال
(ع) الفاعل في (وآتاهم) يتصرف القول فيه بحسب التأويلات المذكورة وأقواها
ان الفاعل الله تعالى (وآتاهم) معناه: أعطاهم أي جعله متقين.
وقوله تعالى: (فهل ينظرون) يريد المنافقين والمعنى فهل ينتظرون و (بغتة)
معنا فجأة.
وقوله: (فقد جاء أشراطها) أي فينبغي الاستعداد والخوف منها والذي جاء من
235

اشراط الساعة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه آخر الأنبياء وقال عليه السلام: " بعثت انا والساعة
كهاتين " والأحاديث كثيرة في هذا الباب.
وقوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله...) الآية إضراب عن امر هؤلاء
المنافقين وذكر الأهم من الامر والمعنى دم على علمك وهذا هو القانون في كل من
امر بشئ هو متلبس به وكل واحد من الأمة داخل في هذا الخطاب وعن أبي هريرة
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصا الا فتحت له أبواب
الجنة حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر " رواه الترمذي والنسائي وقال
236

الترمذي واللفظ له حديث حسن غريب انتهى من " السلاح ".
وقوله تعالى: (واستغفر لذنبك) أي لتستن أمتك بسنتك.
(ت) هذا لفظ الثعلبي وهو حسن وقال عياض قال مكي مخاطبة
النبي صلى الله عليه وسلم ههنا هي مخاطبة لامته انتهى.
قال (ع) وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لم يكن عنده ما
يتصدق به فليستغفر للمؤمنين والمؤمنات " وبوب البخاري رحمه الله العلم قبل
القول والعمل لقوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله).
وقوله تعالى: (واستغفر لذنبك...) الآية وواجب على مؤمن ان يستغفر
للمؤمنين والمؤمنات فإنها صدقة وقال الطبري وغيره: (متقلبكم): متصرفكم في
يقظتكم (ومثواكم) منامكم وقال ابن عباس: (متقلبكم) تصرفكم في حياتكم الدنيا
(ومثواكم) إقامتكم في قبوركم وفي آخرتكم.
وقوله عز وجل: (ويقول الذين أمنوا لولا نزلت سورة...) الآية: هذا ابتداء
وصف حال المؤمنين على جهة المدح لهم ووصف حال المنافقين على جهة الذم
وذلك أن المؤمنين كان حرصهم على الدين يبعثهم على تمني ظهور الاسلام وتمني قتال
العدو وكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ وكان المنافقون على العكس من
ذلك.
وقوله: (محكمة) معناه: لا يقع فيها نسخ واما الاحكام الذي هو الاتقان فالقرآن
كله سواء فيه والمرض الذي في قلوب المنافقين هو فساد معتقدهم ونظر الخائف الموله
قريب من نظر المغشي عليه وخسسهم أنه هذا الوصف والتشبيه.
وقوله تعالى: (فأولى لهم * طاعة) " أولى " وزنها افعل من وليك الشئ يليك
والمشهور من استعمال أولى انك تقول: هذا أولى بك من هذا أي أحق وقد تستعمل
العرب " أولى لك " فقط على جهة الاختصار لما معها من القول على جهة الزجر والتوعد
237

فتقول: أولى لك يا فلان وهذه الآية من هذا الباب ومنه قوله تعالى: (أولى لك
فأولى) [القيامة: 34] وقالت فرقة: (أولى) رفع بالابتداء و (طاعة) خبره قال
(ع) وهذا هو المشهور من استعمال " أولى " وقيل غير هذا قال أبو حيان: قال
صاحب " الصحاح " (أولى لك): تهديد ووعيد قال أبو حيان والأكثر على أنه اسم
مشتق من الولي وهو القرب وقال الجرجاني: هو مأخوذ من الويل فقلب فوزنه
" أفلع " انتهى.
(فإذا عزم الأمر) ناقضوا وعصوا قال البخاري قال مجاهد (عزم الامر) جد
الامر. انتهى.
وقوله سبحانه: (فهل عسيتم) مخاطبة هؤلاء الذين في قلوبهم مرض والمعنى:
فهل عسى ان تفعلوا ان توليتم غير أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ومعنى (ان
توليتم) أي: ان أعرضتم عن الحق وقيل المعنى ان توليتم أمور الناس من الولاية
وعلى هذا قيل إنها نزلت في بني هاشم وبني أمية ذكره الثعلبي.
(ت) وهو عندي بعيد لقوله: (أولئك الذين لعنهم الله) فتعين التأويل
الأول والله أعلم.
وفي البخاري عن جبير بن مطعم عن البني صلى الله عليه وسلم قال " لا يدخل الجنة قاطع "
238

يعني قاطع رحم وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سره ان يبسط له في رزقه
ان ينسأ له في اثره فليصل رحمه " آه وفي " صحيح مسلم " عن عائشة قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه
الله " وفي رواية: " لا يدخل الجنة قاطع " وفي طريق: " من سره ان يبسط عليه رزقه
وينسأ له في أثره فليصل رحمه " وخرجه البخاري من طريق أبي هريرة على ما
تقدم وخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق الخلق حتى إذا
فرغ من خلقه قالت الرحم هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال نعم اما ترضين ان
أصل من وصلك واقطع من قطعك؟ قالت بلى يا رب قال فهو لك قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرءوا ان شئتم " فهل عسيتم ان توليتم ان تفسدوا في الأرض وتقطعوا
أرحامكم " وفي رواية: قال الله " من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته " انتهى.
وروى أبو داود في " سننه " عن عبد الرحمن بن عوف قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " قال الله عز وجل: انا الرحمن وهي الرحم شققت لها من اسمي من وصلها
وصلته ومن قطعها بتته " انتهى.
239

وقوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله) إشارة إلى المرضى القلوب المذكورين
وقوله: (فأصمهم وأعمى أبصارهم) استعارة لعدم فهمهم.
وقوله عز من قائل: (أفلا يتدبرون / القرآن...) الآية توقيف وتوبيخ وتدبر
القرآن زعيم بالتبيين والهدى لمتأمله.
* ت *: قال الهروي قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن) معناه أفلا يتفكرون
فيعتبرون يقال تدبرت الأمر: إذا نظرت في ادباره وعواقب انتهى.
وقوله تعالى: (أم على قلوب أقفالها) معناه بل على قلوب أقفالها وهو الرين
الذي منعهم من الايمان وروي ان وفد اليمن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب فقرأ
النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال الفتى: عليها أقفالها حتى يفتحها الله تعالى ويفرجها قال عمر:
فمعظم في عيني فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي الخلافة فاستعان
بذلك الفتى.
وقوله تعالى: (ان الذين ارتدوا على أدبارهم...) الآية قال قتادة نزلت في قوم
من اليهود وقال ابن عباس وغيره نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت
قلوبهم والآية تعم كل من دخل في ضمن لفظها غابر الدهر و (سول) معناه: رجاهم
سؤلهم وأمانيهم ونقل أبو الفتح عن بعضهم انه بمعنى دلاهم مأخوذ من السول وهو
الاسترخاء والتدلي وقال العراقي (سول) أي زين سوء الفعل.
240

وقوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا...) الآية قيل إنها نزلت في بني
إسرائيل الذين تقدم ذكرهم الآن وروي ان قوما من قريظة والنضير كانوا يعدون المنافقين
في امر رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلاف عليه بنصر ومؤازرة فذلك قولهم: (سنطيعكم في بعض
الامر) وقرا الجمهور " اسرارهم " بفتح الهمزة وقرأ حمزة والكسائي وحفص
" اسرارهم " بكسرها.
وقوله سبحانه: (فكيف إذا توفتهم الملائكة) يعنى: ملك الموت وأعوانه
والضمير في (يضربون) للملائكة وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال (وما
أسخط الله) هو الكفر والرضوان: هنا الحق والشرع المؤدى إلى الرضوان.
وقوله سبحانه: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض...) الآية توبيخ للمنافقين
وفضح لسرائرهم والضفن: الحقد وقال البخاري قال ابن عباس: (أضغانهم)
حسدهم انتهى.
وقوله سبحانه: (ولو نشاء لأريناكهم...) الآية لم يعينهم سبحانه بالأسماء
والتعريف التام ابقاء عليهم وعلى قراباتهم وان كانوا قد عرفوا بلحن القول وكانوا في
الاشتهار على مراتب كابن أبي وغيره والسيما: العلامة وقال ابن عباس والضحاك ان
الله تعالى قد عرفه بهم في سورة براءة بقوله: (ولا تصل على أحد منهم مات ابدا)
241

[التوبة: 84] وفي قوله " قل لن تخرجوا معي ابدا ولن تقاتلوا معي عدوا " [التوبة: 83]
قال (ع) وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تام ثم أخبر تعالى انه سيعرفهم في لحن
القول أي في مذهب القول ومنحاه ومقصده واحتج بهذه الآية من جعل الحد في
التعريض بالقذف.
(ص) قال أبو حيان " ولتعرفنهم " اللام جواب قسم محذوف انتهى.
وقوله سبحانه: (والله يعلم أعمالكم) مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر.
وقوله سبحانه: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين...) الآية
كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلنا فإنك ان بلوتنا
فضحتنا وهتكت أستارنا.
وقوله سبحانه: (ان الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول...) الآية
قالت فرقة نزلت في بني إسرائيل وقالت فرقة نزلت في قوم من المنافقين وهذا نحو
ما تقدم وقال ابن عباس نزلت في المطعمين في سفرة بدر وقالت فرقة بل هي
عامة في كل كافر.
وقوله: (لن يضروا الله شيئا) تحقير لهم.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم)
روي أن هذه الآية نزلت في بني أسد من العرب وذلك انهم أسلموا وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم
نحن آثرناك على كل شئ وجئناك بأنفسنا وأهلينا كأنهم يمنون بذلك فنزل فيهم
(يمنون عليك ان أسلموا...) الآية ونزلت فيهم هذه الآية وظاهر الآية العموم.
وقوله سبحانه: (ان الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار...)
242

الآية روي أنها نزلت بسبب ان عدي بن حاتم قال: يا رسول الله ان حاتما كانت له
أفعال بر فما حاله فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو في النار فبكى عدي وولى فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال
له " أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار " ونزلت هذه الآية في ذلك وظاهر
الآية العموم في كل ما تناولته الصفة.
وقوله سبحانه: (فلا تهنوا) معناه لا تضعفوا (وتدعوا إلى السلم) أي إلى
المسألة وقال قتادة معنى الآية لا تكونوا أولى الطائفتين ضرعت للأخرى قال
(ع) وهذا حسن ملتئم مع قوله تعالى: (وان جنحوا للسلم فاجنح لها) [الأنفال: 61].
(وأنتم الأعلون) في موضع الحال المعنى فلا تهنوا وأنتم في هذه الحال
ويحتمل أن يكون اخبارا بمغيب أبرزه الوجود بعد ذلك والأعلون معناه الغالبون
والظاهرون من العلو.
وقوله: (والله معكم) معناه: بنصره ومعونته ويتر معناه ينقص ويذهب
والمعنى لن يتركم ثواب أعمالكم.
وقوله سبحانه: (انما الحياة الدنيا لعب ولهو) تحقير لأمر الدنيا.
وقوله: (وان تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم) معناه هذا هو المطلوب منكم لا
غيره لا تسئلون أموالكم ثم قال سبحانه منبها على خلق ابن آدم: (ان يسألكموها
فيحفكم تبخلوا) والإحفاء هو أشد السؤال وهو الذي يستخرج ما عند المسؤول كرها.
243

(ت) وقال الثعلبي: (فيحفكم) أي يجهدكم ويلحف عليكم.
وقوله: (تبخلوا) جزما على جواب الشرط " ويخرج أضغانكم " أي يخرج الله
أضغانكم وقرأ يعقوب " ونخرج " بالنون والأضغان معتقدات السوء وهو الذي كان
يخاف ان يعتري المسلمين ثم وقف الله تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم
بقوله (ها أنتم هؤلاء) وكرر " ها " التنبيه تأكيدا.
وقوله تعالى: (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) أي بالثواب (والله الغني) أي
عن صدقاتكم (وأنتم الفقراء) إلى ثوابها.
(ت) هذا لفظ الثعلبي قال (ع) يقال بخلت عليك بكذا وبخلت عنك
بمعنى أمسكت عنك وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " السخي قريب من
الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من
الجنة بعيد من الناس قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل "
قال أبو عيسى هذا حديث غريب انتهى.
وقوله سبحانه: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) قالت فرقة هذا الخطاب لجميع
المسلمين والمشركين والعرب حينئذ والقوم الغير هم فارس وروى أبو هريرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا وكان سلمان إلى جنبه فوضع يده على فخذه وقال: " قوم هذا
244

لو كان الدين في الثريا لناله رجال من أهل فارس.
246

وقوله سبحانه: (ثم لا يكونوا أمثالكم) معناه في الخلاف والتولي والبخل بالأموال
ونحو هذا وحكى الثعلبي قولا أن القوم الغير هم الملائكة.
(ت) وليس لأحد مع الحديث إذا صح نظر ولولا الحديث لاحتمل أن يكون
الغير ما يأتي من الخلف بعد ذهاب السلف على ما ذكر في غير هذا الموضع.
247

تفسير سورة الفتح
وهي مدنية
هذه السورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم منصرفة من الحديبية وفي ذلك أحاديث كثيرة عن
أنس وابن مسعود وغيرهما وفي تلك السفرة قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " لقد أنزلت علي
الليلة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها " خرجه البخاري وغيره.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا...) الآية قال قوم يريد فتح مكة
وقال جمهور الناس وهو الصحيح الذي تعضده قصة الحديبية إن قوله (إنا فتحنا لك)
إنما معناه هو ما يسر الله عز وجل لنبيه في تلك الخرجة من الفتح البين الذي استقبله
ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين لأنهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك
المهادنة التي جعلها الله سببا للفتوحات واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة إنه هادن
عدوه ريثما يتقوى هو وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه
248

سهمه وثاب الماء حتى كفى الجيش واتفقت بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم قاله
جابر بن عبد الله والبراء بن عازب وبلغ هديه محله قاله الشعبي واستقبل فتح
خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين وظهرت في ذلك الوقت الروم على فارس فكانت من
جملة الفتح فسر بها صلى الله عليه وسلم هو والمؤمنون لظهور أهل الكتاب على المجوس وشرفه الله
بأن أخبره أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أي وإن لم يكن ذنب.
(ت) قال الثعلبي قوله (ليغفر لك الله) قال أبو حاتم هذه لام القسم لما
حذفت النون من فعله كسرت ونصب فعلها تشبيها بلام " كي " انتهى.
قال عياض ومقصد الآية إنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان انتهى.
قال أبو حيان (ليغفر) اللام للعلة وقال (ع) هي لام الصيرورة وقيل:
هي لام القسم ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها وأجيب بأن الكسر قد علل
بالحمل على " لام كي " وأما الحركة فليست نصبا بل هي الفتحة الموجودة مع النون
بقيت بعد حذفها دالة على المحذوف ورد بأنه لم يحفظ من كلامهم: والله ليقوم ولا بالله
ليخرج زيد انتهى.
وفي " صحيح البخاري " عن أنس ابن مالك " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " الحديبية
انتهى.
وقوله سبحانه: (ويتم نعمته عليك) أي بإظهارك وتغليبك على عدوك
والرضوان في الآخرة والسكينة فعيلة من السكون وهو تسكين قلوبهم لتلك الهدنة مع
قريش حتى اطمأنت وعلموا أن وعد الله حق.
249

وقوله سبحانه: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار...)
الآية روي في معنى هذه الآية لما نزلت (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) [الأحقاف: 9]
تكلم فيها أهل الكفر وقالوا كيف نتبع من لا يعرف ما يفعل به
وبالناس فبين الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك
وما تأخر) فلما سمعها المؤمنون قالوا: هنيئا لك يا رسول الله لقد بين الله لك ما يفعل
بك فما يفعل بنا فنزلت: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات) إلى قوله (مصيرا)
فعرفه الله ما يفعل به وبالمؤمنين وبالكافرين وذكر النقاش أن رجلا من " عك " قال هذا
الذي لرسول الله فما لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هي لي ولأمتي كهاتين وجمع بين أصبعيه "
وقوله: (ويكفر عنهم سيئاتهم) هو من ترتيب الجمل في السرد لا ترتيب وقوع
معانيها لأن تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة.
وقوله: (الظانين بالله ظن السوء) قيل: معناه من قولهم: (لن ينقلب
الرسول...) [الفتح: 12] الآية وقيل هو كونهم يعتقدون الله بغير صفاته العلى
وقوله: (عليهم دائرة السوء) [أي: دائرة السوء] الذي أرادوه بكم في ظنهم
السوء ويقال للأقدار والحوادث التي هي في طي الزمان دائرة لأنها تدور بدوران
الزمان.
وقوله سبحانه: (إنا أرسلناك شاهدا...) الآية من جعل الشاهد محصل الشهادة
من يوم يحصلها فقوله: (شاهدا) حال واقعة ومن جعل الشاهد مؤدي الشهادة فهي
حال مستقبلة وهي التي يسميها النحاة المقدرة والمعنى: شاهدا على الناس بأعمالهم
وأقوالهم حين بلغت (ومبشرا) أهل الطاعة برحمة الله (ونذيرا): من عذاب الله
أهل المعصية ومعنى (تعزروه) تعظموه وتكبروه قاله ابن عباس وقرأ ابن عباس
250

وغيره: (تعززوه) بزاءين من العزة قال الجمهور الضمير في (تعزروه وتوقروه)
للنبي صلى الله عليه وسلم وفي (تسبحوه) لله عز وجل والبكرة الغدو والأصيل العشي
وقوله سبحانه: (إن الذين يبايعونك): يريد في بيعة الرضوان وهي بيعة الشجرة
حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأهبة لقتال قريش لما بلغه قتل عثمان بن عفان رسوله إليهم
وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية وكان في ألف وأربعمائة وبايعهم صلى الله عليه وسلم على الصبر
المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد حتى قال سلمة ابن الأكوع وغيره: بايعنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وقال عبد الله ابن عمر وجابر بن عبد الله: بايعنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نفر والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع لأن الله تعالى
اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ومعنى (إنما يبايعون الله) أن صفقتهم إنما
يمضيها ويمنح / الثمن الله تعالى.
(ت) وهذا تفسير لا يمس الآية ولا بد وقال الثعلبي " إنما يبايعون الله "
أي: أخذك البيعة عليهم عقد الله عليهم انتهى وهذا تفسير حسن.
وقوله تعالى: (يد الله) قال جمهور المتأولين اليد بمعنى النعمة إذ نعمة الله في
نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها " فوق أيديهم " التي مدوها لبيعتك وقيل
المعنى: قوة الله فوق قواهم في نصرك.
(ت) وقال الثعلبي " يد الله فوق أيديهم " أي بالوفاء والعهد وقيل:
بالثواب وقيل " يد الله " في المنة عليهم " فوق أيديهم " في الطاعة عند المبايعة وهذا
حسن قريب من الأول.
وقوله تعالى: (فمن نكث) أي: فمن نقض هذا العهد فإنما يجني على نفسه ومن
251

أوفى بما عاهد عليه الله فسنؤتيه أجرا عظيما وهو الجنة.
وقوله سبحانه: (سيقول لك المخلفون من الأعراب) قال مجاهد وغيره: هم
جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من الأعراب وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير
إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي
ليخرجوا معه حذرا من قريش وأحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا
يريد حربا فتثاقل عنه هؤلاء المخلفين ورأوا أنه [يستقبل] عدوا عظيما من قريش
وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش ولم يكن تمكن إيمان هؤلاء
المخلفين فقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخلفوا وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من
هذه السفرة ففضحهم الله في هذه الآية وأعلم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل
أن يصل إليهم فكان كما أخبر الله سبحانه فقالوا " شغلتنا أموالنا وأهلونا عنك فاستغفر
لنا " وهذا منهم خبث وإبطال لأنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم فلذلك قال
تعالى: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) ثم قال تعالى لنبيه - عليه السلام
(قل) لهم (فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا) أي من يحمي منه
أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءا وفي مصحف ابن مسعود: إن أراد بكم سوءا
252

ثم رد عليهم بقوله: (بل كان الله بما تعملون خبيرا) ثم فسر لهم العلة التي تخلفوا من
أجلها بقوله (بل ظننتم...) الآية و (بورا) معناه هلكى فاسدين والبوار الهلاك
والبور في لغة " أزد عمان " الفاسد ثم رجى سبحانه بقوله: (ولله ملك السماوات
والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما) ثم إن الله سبحانه أمر
نبيه على ما روي [بغزو] خيبر ووعده بفتحها وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسير
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود وهم عدو مستضعف طلبوا الكون معه رغبة في عرض
الدنيا والغنيمة فكان كذلك.
وقوله تعالى: (يريدون ان يبدلوا كلام الله) معناه ان يغيروا وعده لأهل الحديبية
بغنيمة خيبر وقال ابن زيد كلام الله هو قوله تعالى: (لن تخرجوا معي أبدا ولن
تقاتلوا معي عدوا) قال (ع) وهذا ضعيف لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك في
آخر عمره صلى الله عليه وسلم وآية هذه السورة نزلت عام الحديبية وأيضا فقد غزت جهينة ومزينة بعد هذه
المدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني غزوة الفتح فتح مكة.
(ت) قال الثعلبي: وعلى التأويل الأول عامة أهل التأويل وهو أصوب من
تأويل ابن زيد.
وقوله: (كذلكم قال الله من قبل) يريد وعده قبل باختصاصهم بها وباقي الآية
بين.
وقوله سبحانه: (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال قتادة وغيره هم هوازن
ومن حارب النبي عليه السلام يوم حنين وقال الزهري وغيره هم أهل الردة وبنو
حنيفة باليمامة وحكى الثعلبي عن رافع بن خديج أنه قال والله لقد كنا نقرأ هذه الآية
فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم
المراد وقيل هم فارس والروم وقرأ الجمهور " أو يسلمون " على القطع أي: أو
253

هم يسلمون دون حرب قال ابن العربي والذين تعين قتالهم حتى يسلموا من غير قبول
جزية هم العرب في أصح الأقوال أو المرتدون فأما فارس والروم فلا يقاتلون إلى أن
يسلموا بل أن بذلوا الجزية قبلت منهم وهذه الآية أخبار بمغيب فهي من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم انتهى من " الأحكام ".
وقوله: (فان تطيعوا) اي فيما تدعون إليه وباقي الآية بين.
ثم ذكر تعالى أهل الاعذار ورفع الحرج عنهم وهو حكم ثابت لهم إلى يوم
القيامة ومع ارتفاع الحرج فجائز لهم الغزو وأجرهم فيه مضاعف وقد غزا ابن أم مكتوم
[وكان يمسك الراية في بعض حروب القادسية وقد خرج النسائي هذا المعنى وذكر ابن
أم مكتوم] رحمه الله.
وقوله عز وجل: (لقد رضي الله عن المؤمنين...) الآية تشريف لهم
رضي الله عنهم وقد تقدم القول في المبايعة ومعناها وكان سبب هذه المبايعة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث إلى مكة رجلا يبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد حربا وإنما جاء
معتمرا فبعث إليهم خداش بن أمية الخزاعي وحمله صلى الله عليه وسلم على جمل له يقال له الثعلب
فلما كلمهم عقروا الجمل وأرادوا قتل خداش فمنعته الأحابيش وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأراد
بعث عمر بن الخطاب فقال له عمر يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس
بمكة من بني عدي أحد يحميني ولكن ابعث عثمان فهو أعز بمكة مني فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم
فذهب فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي فنزل عن دابته فحمله عليها وأجاره حتى بلغ
254

الرسالة فقالوا له إن شئت يا عثمان أن تطوف بالبيت فطف به فقال ما كنت لأطوف
حتى يطوف به النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن بني سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة فأبطأ
على النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الحديبية من مكة على نحو عشرة أميال فصرخ صارخ من عسكر
رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل عثمان فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وقالوا لا نبرح إن كان
هذا حتى نناجز القوم ثم دعا الناس إلى البيعة فبايعوه صلى الله عليه وسلم ولم يتخلف عنها إلا الجد بن
قيس المنافق وجعل النبي يده على يده وقال: هذه يد لعثمان وهي خير ثم
جاء عثمان سالما والشجرة سمرة كانت هنالك ذهبت بعد سنين.
وقوله سبحانه: (فعلم ما في قلوبهم) قال الطبري ومنذر بن سعيد معناه من
الإيمان وصحته والحب في الدين والحرص فيه وقرأ الناس " وأثابهم " قال هارون
وقد قرئت " وآتاهم " بالتاء بنقطتين والفتح القريب: خيبر والمغانم الكثير: فتح
خيبر.
وقوله تعالى: (وعدكم الله...) الآية مخاطبة للمؤمنين ووعد بجميع المغانم
التي أخذها المسلمون ويأخذونها إلى يوم القيامة قاله مجاهد وغيره.
وقوله: (فعجل لكم هذه) يريد خيبر وقال زيد بن أسلم وابنه المغانم الكثيرة
خيبر وهذه إشارة إلى البيعة والتخلص من امر قريش وقاله ابن عباس.
255

وقوله سبحانه: (وكف أيدي الناس عنكم) قال قتادة: يريد كف أيديهم عن أهل
المدينة في مغيب النبي عليه السلام والمؤمنين (ولتكون آية) اي علامة على نصر المؤمنين
وحكى الثعلبي عن قتادة أن المعنى كف الله غطفان ومن معها حين جاءوا لنصر خيبر
وقيل أراد كف قريشا.
وقوله سبحانه: (وأخرى لم تقدروا عليها) قال ابن عباس الإشارة إلى بلاد فارس
والروم وقال قتادة والحسن الإشارة إلى مكة وهذا قول يتسق مع المعنى ويتأيد.
وقوله: قد أحاط الله بها معناه بالقدرة والقهر لأهلها أي قد سبق في علمه ذلك
وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها.
(ت) قوله وظهر فيها إلى آخره كلام غير محصل ولفظ الثعلبي (وأخرى
لم تقدروا عليها) أي: وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها لكم
حتى يفتحها عليكم وقال ابن عباس: علم الله أنه يفتحها لكم قال مجاهد: هو ما
فتحوه حتى اليوم ثم ذكر بقية الأقوال انتهى.
256

وقوله سبحانه: (قاتلكم الذين كفروا) يعني كفار قريش في تلك السنة.
(لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا).
وقوله: سنة الله أي: كسنة الله إشارة إلى وقعة بدر وقيل إشارة إلى عادة الله
من نصر الأنبياء ونصب " سنة على المصدر.
وقوله تعالى (وهو الذي كف أيديهم عنكم...) الآية روي في سببها أن قريشا
جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل وخرجوا يطلبون غرة في
عسكر النبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافا متفاوتا فلذلك اختصرته فلما
أحس بهم المسلمون بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم خالد بن الوليد وسماه يومئذ
سيف الله في جملة من الناس ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم
جملة فسيقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمن عليهم وأطلقهم قال الواحدي: وكان ذلك سبب
الصلح بينهم انتهى.
وقوله سبحانه: (هم الذين كفروا) يعني أهل مكة (وصدوكم عن المسجد
الحرام) أي منعوكم من العمرة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى الحديبية في
ذي القعدة سنة ست يريد العمرة وتعظيم البيت وخرج معه بمائة بدنة وقيل بسبعين فأجمعت
قريش لحربه وغوروا المياه التي تقرب من مكة فجاء صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر الحديبية وحينئذ
وضع سهمه في الماء فجرى غمرا حتى كفى الجيش ثم بعث صلى الله عليه وسلم إليهم عثمان كما تقدم
وبعثوا هم رجالا آخرهم سهيل بن عمرو وبه انعقد الصلح على أن ينصرف صلى الله عليه وسلم ويعتمر من
قابل فهذا صدهم إياه وهو مستوعب في السير و (الهدي) معطوف على الضمير في
" صدوكم " [أي] وصدوا الهدي و (معكوفا) حال ومعناه: محبوسا تقول عكفت الرجل
عن حاجته إذا حبسته وحبس الهدي من قبل المشركين هو بصدهم ومن قبل المسلمين
لرؤيتهم ونظرهم في أمرهم لأجل أن يبلغ الهدي محله وهو مكة والبيت وهذا هو
حبس المسلمين وذكر تعالى العلة في أن صرف المسلمين ولم يمكنهم من دخول مكة
في تلك الوجهة وهي أنه كان بمكة مؤمنون من رجال ونساء خفي إيمانهم فلو استباح
المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين قال قتادة: فدفع الله عن المشركين بأولئك
257

المؤمنين والوطء هنا الإهلاك بالسيف وغيره ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم اشدد وطأتك على
مضر " قال أبو حيان: (ولولا رجال) جوابها محذوف لدلالة الكلام عليه أي ما
كف أيديكم عنهم انتهى والمعرة السوء والمكروه اللاحق مأخوذ من العر والعرة وهو
الجرب الصعب اللازم واختلف في تعيين هذه المعرة فقال الطبري وحكاه الثعلبي
هي الكفارة وقال منذر المعرة أن يعيبهم الكفار ويقولوا قتلوا أهل دينهم وقال
بعض المفسرين هي الملام والقول في ذلك وتألم النفس في باقي الزمان وهذه أقوال
حسان وجواب " لولا " محذوف تقديره لولا هؤلاء لدخلتم مكة لكن شرفنا هؤلاء
المؤمنين بأن رحمناهم ودفعنا بسببهم عن مكة ليدخل الله أي ليبين للناظر أن الله
يدخل من يشاء في رحمته أو، أي: ليقع دخولهم في رحمة الله ودفعه عنهم.
(ت) وقال الثعلبي: قوله " بغير علم " يحتمل أن يريد بغير علم ممن تكلم
بهذا والمعرة المشقة " ليدخل الله في رحمته " أي: في دين الاسلام " من يشاء " من أهل
مكة قبل أن تدخلوها انتهى.
وقوله تعالى: (لو تزيلوا) أي: لو ذهبوا عن مكة تقول زلت زيدا عن موضعه
إزالة أي أذهبته وليس هذا الفعل من " زال يزول " وقد قيل هو منه وقرأ أبو حيوة
258

وقتادة " تزايلوا " بألف أي ذهب هؤلاء عن هؤلاء وقال النحاس: وقد قيل إن
قوله: (ولولا رجال مؤمنون...) الآية يريد من في أصلاب الكافرين ممن سيؤمن في
غابر الدهر وحكاه الثعلبي والنقاش عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن
النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا والحمية التي جعلوها هي حمية أهل مكة في الصد قال الزهري: وهي
حمية سهيل ومن شاهد منهم عقد الصلح وجعلها سبحانه حمية جاهلية لأنها كانت منهم
بغير حجة إذ لم يأت صلى الله عليه وسلم محاربا لهم وإنما جاء معتمرا معظما لبيت الله والسكينة هي
الطمأنينة إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثقة بوعد الله والطاعة وزوال الأنفة التي لحقت
عمر وغيره " وكلمة التقوى ": قال الجمهور هي لا إله إلا الله وروي ذلك عن
النبي صلى الله عليه وسلم وفي مصحف ابن مسعود " وكانوا أهلها [وأحق بها " والمعنى كانوا أهلها]
على الإطلاق في علم الله وسابق قضائه لهم وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا
نادى المنادي فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء فمن نزل به كرب أو شدة فليتحين
المنادي فإذا كبر كبر وإذا تشهد تشهد وإذا قال: حي على الصلاة قال حي على
الصلاة وإذا قال حي على الفلاح قال حي على الفلاح ثم يقول رب هذه الدعوة
الصادقة المستجاب لها دعوة الحق وكلمة التقوى أحينا عليها وأمتنا عليها وابعثنا
عليها واجعلنا من خيار أهلها أحياء وأمواتا ثم يسئل الله حاجته " رواه الحاكم في
" المستدرك " وقال: صحيح الإسناد انتهى من " السلاح ".
فقد بين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث معنى " كلمة التقوى " على نحو ما فسر به الجمهور
والصحيح أنه يعوض عن الحيعلة الحوقلة ففي " صحيح مسلم ": " ثم قال: حي على
الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة
إلا بالله " الحديث انتهى.
وقوله تعالى: (وكان الله بكل شئ عليما) إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن
كفار قريش بسببهم وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية فيروى أنه لما انعقد
259

الصلح أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة وامتزجوا وعلت دعوة الاسلام وانقاد
إلى الاسلام كل من له فهم وزاد عدد الاسلام في تلك المدة أضعاف ما كان قبل ذلك
قال (ع) ويقتضي ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في عام الحديبية في أربع عشرة مائة ثم
سار إلى مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس صلى الله عليه وسلم
(ت) المعروف عشرة آلاف وقوله فارس ما أظنه يصح فتأمله في كتب
السيرة.
وقوله سبحانه: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق...) الآية: " روي في
تفسيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو
وأصحابه بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون " وقال مجاهد رأى ذلك بالحديبية
فأخبر الناس بهذه الرؤيا فوثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك وقد كان سبق
في علم الله أن ذلك يكون لكن ليس في تلك الوجهة فلما صدهم أهل مكة قال
المنافقون وأين الرؤيا؟ ووقع في نفوس بعض المسلمين شئ من ذلك فأجابهم
النبي صلى الله عليه وسلم بأن قال: " وهل قلت لكم يكون ذلك في عامنا هذا " أو كما قال ونطق أبو
بكر قبل ذلك بنحوه ثم أنزل الله عز وجل: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا
بالحق...) الآية واللام في: (لتدخلن) لام القسم.
وقوله: (إن شاء الله) اختلف في هذا الاستثناء فقال بعض العلماء إنما استثنى
من حيث أن كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه / أمكن أن يتم الوعد فيه
وألا يتم إذ قد يموت الانسان أو يمرض لحينه فلذلك استثنى عز وجل في الجملة إذ
فيهم - ولا بد - من يموت أو يمرض.
(ت) وقد وقع ذلك حسبما ذكر في السير وقال آخرون: هو أخذ من
260

الله تعالى [على عباده] بأدبه في استعمال الاستثناء في كل فعل.
(ت) قال ثعلب: استثنى الله تعالى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون
وقيل غير هذا ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أن تلك الرؤيا ستخرج فيما يستأنفونه
من الزمان فكان كذلك فخرج صلى الله عليه وسلم في العام المقبل واعتمر.
وقوله سبحانه: (فعلم ما لم تعلموا) يريد ما قدره من ظهور الاسلام في تلك المدة
ودخول الناس فيه.
وقوله: (من دون ذلك) أي: من قبل ذلك وفيما يدنو إليكم واختلف في الفتح
القريب فقال كثير من العلماء هو بيعة الرضوان وصلح الحديبية وقال ابن زيد هو
فتح خيبر.
وقوله تعالى (محمد رسول الله) قال جمهور الناس هو ابتداء وخبر استوفى فيه
تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
(وقوله: (والذين معه) ابتداء وخبره: (أشداء) و (رحماء) خبر ثان وهذا هو
الراجح لأنه خبر مضاد لقول الكفار: " لا تكتب محمد رسول الله " (والذين معه) إشارة
إلى جميع الصحابة عند الجمهور وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن الإشارة إلى من شهد
الحديبية.
(ت) ووصف تعالى الصحابة بأنهم رحماء بينهم وقد جاءت أحاديث صحيحة
في تراحم المؤمنين حدثنا الشيخ ولي الدين العراقي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن
العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض
261

يرحمكم من في السماء وأخرج الترمذي من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا
تنزع الرحمة إلا من [قلب] شقي " وخرج عن جرير بن عبد الله قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله " قال أبو عيسى هذا حديث حسن
صحيح وهذا الحديث خرجه مسلم عن جرير وخرج مسلم أيضا من طريق أبي هريرة:
" من لا يرحم لا يرحم " انتهى وبالجملة فأسباب الألفة والتراحم بين المؤمنين كثيرة
ولو بأن تلقى أخاك بوجه طلق وكذلك بذل السلام وطيب الكلام فالموفق لا يحتقر من
المعروف شيئا وقد روى الترمذي الحكيم في كتاب " ختم الأولياء " له بسنده عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا التقى المسلمان كان
أحبهما إلى الله سبحانه أحسنهما بشرا بصاحبه " أو قال: " أكثرهما [بشرا] بصاحبه فإذا
262

تصافحا أنزل الله عليهما مائة رحمة تسعون منها للذي بدأ وعشرة للذي صوفح "
انتهى.
وقوله: (تراهم ركعا سجدا) أي ترى هاتين الحالتين كثيرا فيهم و (يبتغون):
معناه: يطلبون.
وقوله سبحانه: (سيماهم في وجوههم) قال مالك بن أنس: كانت جباههم متربة
من كثرة السجود في التراب وقاله عكرمة ونحوه لأبي العالية وقال ابن عباس
وخالد الحنفي وعطية هو وعد بحالهم يوم القيامة من الله تعالى يجعل لهم نورا من
أثر السجود قال (ع) كما يجعل غرة من أثر الوضوء حسبما هو في
الحديث ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله: " فضلا من الله " وقال ابن عباس
السمت الحسن هو السيما وهو خشوع يبدو على الوجه قال (ع) وهذه حالة
مكثري الصلاة لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر وقال الحسن ابن أبي الحسن
وشمر بن عطية: " السيما " بياض وصفرة وتبهيج أو يعتري الوجوه من السهر وقال
عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس " السيما " حسن يعتري وجوه المصلين قال
(ع) ومن هذا الحديث الذي في " الشهاب " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه
263

بالنهار قال (ع) وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد سمع شريك بن
عبد الله يقول حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ثم نزع شريك لما رأى ثابتا
الزاهد فقال يعنيه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار فظن ثابت أن هذا الكلام
حديث متركب على السند المذكور فحدث به عن شريك.
(ت) واعلم أن الله سبحانه جعل حسن الثناء علامة على حسن عقبى الدار
والكون في الجنة مع الأبرار جاء بذلك صحيح الآثار عن النبي المختار ففي " صحيح "
البخاري " و " مسلم " عن أنس قال " مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم
وجبت ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فقال عمر ما وجبت؟ فقال
هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار أنتم شهداء
الله في الأرض " انتهى ونقل صاحب " الكوكب الدري " من مسند البزار عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار فقالوا يا رسول الله بم قال
بالثناء الحسن والثناء السئ " انتهى ونقله صاحب كتاب " التشوف إلى رجال التصوف "
وهو الشيخ الصالح أبو يعقوب يوسف بن يحيى التاذلي) عن ابن أبي شيبة ولفظه وخرج
264

أبو بكر بن أبي شيبة أنه قال صلى الله عليه وسلم في خطبته: " توشكوا أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار
أو قال خياركم من شراركم قالوا: بم يا رسول الله؟ قال بالثناء الحسن وبالثناء
السيئ أنتم شهداء الله بعضكم على بعض " ومن كتاب " التشوف " قال وخرج البزار
عن أنس قال " قيل يا رسول الله من أهل الجنة قال من لا يموت حتى تملأ مسامعه
مما يحبه قيل فمن أهل النار قال من لا يموت حتى تملأ مسامعه مما يكره " قال:
وخرج البزار عن أبي هريرة " أن رجلا قال يا رسول الله دلني على عمل أدخل به الجنة
قال لا تغضب وأتاه آخر فقال متى أعلم أني محسن قال إذا قال جيرانك أنك
محسن فإنك محسن وإذا قالوا: إنك مسئ فإنك مسئ " انتهى ونقل القرطبي في
" تذكرته " عن عبد الله بن السائب قال مرت جنازة بابن مسعود فقال لرجل قم فانظر أمن
أهل الجنة هو أم من أهل النار فقال الرجل ما يدريني أمن أهل الجنة هو أم من أهل
النار قال انظر ما ثناء الناس عليه فأنتم شهداء الله في الأرض انتهى وبالله التوفيق
وإياه نستعين.
وقوله سبحانه: (ذلك مثلهم في التوراة...) الآية: قال مجاهد وجماعة من
المتأولين: المعنى: ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل وتم القول
و (كزرع) ابتداء تمثيل وقال الطبري وحكاه عن الضحاك المعنى: ذلك الوصف هو
مثلهم في التوراة وتم القول ثم ابتدأ (ومثلهم في الإنجيل كزرع).
(ت) وقيل غير هذا وأبينها الأول وما عداه يفتقر إلى سند يقطع الشك.
وقوله تعالى: (كزرع) على كل قول هو مثل للنبي عليه السلام وأصحابه في أن
النبي عليه السلام بعث وحده فكن كالزرع حبة واحدة ثم كثر المسلمون فهم كالشطء
وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل يقال أشطأت الشجرة إذا أخرجت غصونها
وأشطأ الزرع إذا أخرج شطأه وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال الزرع النبي صلى الله عليه وسلم
(فآزره) علي بن أبي طالب (فاستغلظ) بأبي بكر (فاستوى على سوقه) بعمر بن
الخطاب
265

(ت) وهذا لين الإسناد والمتن كما ترى والله أعلم بصحته.
وقوله تعالى (فآزره) له معنيان:
أحدهما: ساواه طولا.
والثاني: أن " آزره " و " وازره " بمعنى: أعانه وقواه مأخوذ من الأزر وفاعل " آزر "
يحتمل أن يكون الشطء ويحتمل أن يكون الزرع.
وقوله تعالى: (ليغيظ بهم الكفار) ابتداء كلام قبله محذوف تقديره: جعلهم الله
بهذه الصفة ليغيظ بهم الكفار قال / الحسن من غيظ الكفار قول عمر بمكة: لا يعبد
الله سرا بعد اليوم.
وقوله تعالى: (منهم) هي لبيان الجنس وليست للتبعيض لأنه وعد مرج للجميع.
266

تفسير سورة الحجرات
وهي مدنية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله...) الآية قال
ابن زيد معنى: (لا تقدموا) لا تمشوا وقرأ ابن عباس والضحاك ويعقوب بفتح
التاء والدال على معنى لا تتقدموا وعلى هذا يجئ تأويل ابن زيد والمعنى على
ضم التاء بين يدي قول الله ورسوله وروي أن سبب هذه الآية أن وفد بني تميم لما
قدم قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يا رسول الله لو أمرت القعقاع بن معبد؟
وقال عمر لا يا رسول الله بل أمر الأقرع ابن حابس فقال له أبو بكر ما أردت إلا
خلافي فقال عمر ما أردت خلافك وارتفعت أصواتهما فنزلت الآية وذهب بعض
قائلي هذه المقالة إلى أن قوله: (لا تقدموا) أي ولاة فهو من تقديم الأمراء وعموم
اللفظ أحسن أي اجعلوه مبدأ في الأقوال والأفعال وعبارة البخار وقال مجاهد " لا
تقدموا " لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله عز وجل على لسانه انتهى.
وقوله سبحانه: (لا ترفعوا أصواتكم) الآية هي أيضا في هذا الفن المتقدم فروي
أن سببها ما تقدم عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والصحيح أنها نزلت بسب عادة
الأعراب من الجفاء وعلو الصوت وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه ممن
267

في صوته / جهارة فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج
وهو كئيب حزين حتى عرف النبي صلى الله عليه وسلم خبره فبعث إليه فآنسه وقال له " امش في
الأرض بسطا فإنك من أهل الجنة " وقال له مرة " أما ترضى أن تعيش حميدا وتموت
شهيدا " فعاش كذلك ثم قتل شهيدا باليمامة يوم مسيلمة.
(ت) وحديث ثابت بن قيس وتبشيره بالجنة خرجه البخاري وكذلك حديث
أبي بكر وعمر وارتفاع أصواتهما خرجه البخاري أيضا انتهى.
وقوله: (كجهر بعضكم لبعض) أي: كحال أحدكم في جفائه فلا تنادوه باسمه
يا محمد يا أحمد قاله ابن عباس وغيره فأمرهم الله بتوقيره وأن يدعوه بالنبوة
والرسالة والكلام اللين وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم وبحضرة العالم وفي
المساجد وفي هذه كلها آثار قال ابن العربي في " أحكامه " وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا
كحرمته حيا وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه فإذا قرئ
كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في
مجلسه عند تلفظه به وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة
بقوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) [الأعراف: 204] وكلام النبي هو
من الوحي وله من الحرمة مثل ما للقرآن انتهى.
وقوله تعالى: (أن تحبط) مفعول من أجله أي مخافة أن تحبط ثم مدح سبحانه
الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وغض الصوت خفضه وكسره وكذلك البصر
وروي أن أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار وأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ لأنه كان لا يسمعه من إخفائه
إياه و (امتحن) معناه اختبر وطهر كما يمتحن الذهب بالنار فيسرها وهيأها للتقوى
وقال عمر بن الخطاب امتحنها للتقوى: أذهب عنها الشهوات.
268

قال (ع) من غلب شهوته وغضبه فذلك الذي امتحن الله قلبه للتقوى
وبذلك تكون الاستقامة وقال البخاري (امتحن) أخلص انتهى.
وقوله سبحانه: (الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) نزلت في
وفد بني تميم وقولهم يا محمد اخرج إلينا يا محمد اخرج إلينا وفي مصحف ابن
مسعود " أكثرهم بنو تميم لا يعقلون " وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وقرئ " فتثبتوا روي
في سبب الآية " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق
مصدقا فلما قرب منهم خرجوا إليه ففزع منهم وظن بهم شرا فرجع وقال
للنبي صلى الله عليه وسلم قد منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وهم بغزوهم
فورد وفدهم منكرين لذلك " وروي أنه لما قرب منهم بلغه عنهم أنهم قالوا لا نعطيه
الصدقة ولا نطيعه فقال ما ذكرناه فنزلت الآية و (أن تصيبوا) معناه: مخافة أن تصيبوا
قال قتادة: وقال النبي صلى الله عليه وسلم عندما نزلت هذه الآية " التثبت من الله والعجلة من
الشيطان "
269

وقوله سبحانه: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم)
توبيخ للكذبة والعنت المشقة.
وقوله تعالى: (أولئك هم الراشدون) رجوع من الخطاب إلى الغيبة كأنه قال:
ومن اتصف بما تقدم من المحاسن أولئك هم الراشدون.
وقوله سبحانه: (فضلا من الله ونعمة) أي: كان هذا فضلا من الله ونعمة وكان
قتادة - رحمه الله - يقول قد قال الله تعالى لأصحاب محمد - عليه السلام - (واعلموا
أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) وأنتم والله أسخف رأيا وأطيش
أحلاما فليتهم رجل نفسه ولينتصح كتاب الله تعالى.
وقوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) سبب الآية في
قول الجمهور هو ما وقع بين المسلمين المتحزبين في قضية عبد الله بن أبي ابن سلول
حين مر به النبي صلى الله عليه وسلم راكبا على حماره متوجها إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه حسبما
270

هو معلوم في الحديث الطويل ومدافعة الفئة الباغية متوجهة في كل حال [وأما التهيؤ]
لقتالهم فمع الولاة وقال النبي صلى الله عليه وسلم " حكم الله في الفئة الباغية ألا يجهز على جريحها
ولا يطلب هاربها ولا يقتل أسيرها ولا يقسم فيئها " و (تفئ) معناه ترجع وقرأ
الجمهور: " بين أخويكم " وذلك رعاية لحال أقل عدد يقع فيه القتال والتشاجر وقرأ ابن
عامر " بين إخوتكم " وقرأ عاصم الجحدري: " بين إخوانكم " وهي قراءة حسنة لأن
الأكثر في جمع الأخ في الدين ونحوه من غير النسب " إخوان " والأكثر في جمعه من
النسب " إخوة " و " آخاء " وقد تتداخل هذه الجموع وكلها في كتاب الله.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) الآية هذه الآية والتي
بعدها نزلت في خلق أهل الجاهلية وذلك أنهم كانوا يجرون مع شهوات نفوسهم لم
يقومهم أمر من الله ولا نهي فكان الرجل يسخر ويلمز وينبز بالألقاب ويظن الظنون
ويتكلم بها ويغتاب ويفتخر بنسبه إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطالة فنزلت هذه
الآية تأديبا لهذه الأمة وروى البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم
على المسلم حرام عرضه وماله ودمه التقوى ههنا بحسب امرئ من الشر أن يحتقر
271

أخاه المسلم انتهى ويسخر معناه يستهزئ وقد يكون ذلك المستهزأ به خيرا من
الساخر والقوم في كلام العرب واقع على الذكران وهو من أسماء الجمع ومن هذا قول
زهير: [من الوافر]
وما أدري وسوف أخال أدري * أقوم آل حصن أم نساء.
وهذه الآية أيضا تقتضي اختصاص القوم بالذكران وقد يكون مع الذكران نساء
فيقال لهم قوم على تغليب حال الذكور و (تلمزوا) معناه يطعن بعضكم على بعض
بذكر النقائص ونحوه وقد يكون اللمز بالقول وبالإشارة ونحوه مما يفهمه آخر والهمز لا
يكون إلا باللسان وحكى الثعلبي قال أن اللمز ما كان في المشهد والهمز ما كان في
المغيب وحكى الزهراوي عكس ذلك.
وقوله تعالى (أنفسكم) معناه: بعضكم بعضا كما قال تعالى: (أن اقتلوا
أنفسكم) [النساء: 66] كأن المؤمنين كنفس واحدة إذ هم أخوة من كما قال صلى الله عليه وسلم
" كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى " وهم كما قال
أيضا: " كالبنيان يشد بعضه بعضا " والتنابز التلقب والتنبز واللقب واحد واللقب يعني
المذكور في الآية هو ما يعرف به الانسان من الأسماء التي يكره سماعها وليس من هذا
قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه وليس
فيه قصد استخفاف وأذى وقال ابن زيد معنى: (ولا تنابزوا بالألقاب) أي لا يقل أحد
لأحد يا يهودي بعد إسلامه ولا: يا فاسق بعد توبته ونحو هذا.
وقوله سبحانه: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) يحتمل معنيين:
أحدهما: بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فساقا بالمعصية
بعد إيمانكم.
272

والثاني: بئس قول الرجل لأخيه يا فاسق بعد إيمانه وعن حذيفة رضي الله عنه
قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرب لساني فقال أين أنت من الاستغفار إني
لأستغفر الله كل يوم مائة مرة " رواه النسائي واللفظ له وابن ماجة والحاكم في
" المستدرك " وقال صحيح على شرط مسلم وفي رواية للنسائي " اني لأستغفر الله في
اليوم وأتوب إليه مائة مرة " والذرب بفتح الذال والراء هو الفحش انتهى من
" السلاح " ومنه عن ابن عمر " ان كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة:
رب اغفر لي وتب علي انك أنت التواب الرحيم " رواه أبو داود وهذا لفظه
والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في " صحيحه " وقال الترمذي حسن
صحيح غريب انتهى.
ثم امر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن وألا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه لما
في ذلك وفي التجسس من التقاطع والتدابر وحكم على بعضه انه اثم إذ بعضه ليس
باثم والظن المنهي عنه هو ان تظن شرا برجل ظاهره الصلاح بل الواجب ان تزيل الظن
وحكمه وتتأول الخير قال (ع) وما زال أولوا العزم يحترسون من سوء الظن
ويجتنبون ذرائعه قال النووي واعلم أن سوء الظن حرام مثل القول فكما يحرم ان
تحدث غيرك بمساوئ انسان - يحرم ان تحدث نفسك بذلك وتسئ سنة الظن به وفي
الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم " إياكم والظن فإنه أكذب الحديث " والأحاديث بمعنى ما ذكرناه
273

كثيرة والمراد بذلك عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء فاما الخواطر وحديث النفس
إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء لأنه لا اختيار له في
وقوعه ولا طريق له إلى الانفكاك عنه انتهى.
قال أبو عمر في " التمهيد " وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " حرم الله من المؤمن
دمه وماله وعرضه وان لا يظن به الا الخير " انتهى ونقفي موضع آخر بسنده ان
عمر بن عبد العزيز كان إذا ذكر عنده رجل بفضل أو صلاح قال كيف هو إذا ذكر عنده
إخوانه؟ فان قالوا انه يتنقصهم وينال منهم قال عمر ليس هو كما تقولون وان قالوا:
انه يذكر منهم جميلا وخيرا ويحسن الثناء عليهم قال هو كما تقولون إن شاء الله
انتهى من " التمهيد " وروى أبو داود في " سننه " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حسن
الظن من حسن العبادة " انتهى وقوله تعالى: (ولا تجسسوا) أي لا تبحثوا عن
مخبئات أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن واجتزئوا بالظواهر الحسنة وقرأ الحسن
وغيره " ولا تحسسوا " بالحاء المهملة قال بعض الناس: والتجسس بالجيم في الشر
وبالحاء في الخير قال (ع) وهكذا ورد القرآن ولكن قد يتداخلان في الاستعمال.
274

(ت) وقد وردت أحاديث صحيحة في هذا الباب لولا الإطالة لجلبناها.
(ولا يغتب) معناه: لا يذكر أحدكم من أخيه شيئا هو فيه ويكره سماعه وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم " إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته وإذا ذكرت ما ليس فيه فقد بهته " وفي
حديث آخر " الغيبة ان تذكر المؤمن بما يكره قيل وان كان حقا قال إذا قلت باطلا
فذلك هو البهتان " وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الغيبة أشد من
الزنا قيل وكيف قال لان الزاني يتوب فيتوب الله عليه والذي يغتاب لا يتاب عليه
حتى يستحل " قال (ع) وقد يموت من اغتيب أو يأبى وروى أبو داود في
" سننه " عن انس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار
من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء
الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في اعراضهم " انتهى.
والغيبة مشتقة من " غاب يغيب " وهي القول في الغائب واستعملت في المكروه
ولم يبح في هذا المعنى الا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح الشهود وفي التعريف بمن
استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " اما معاوية فصعلوك لا مال له " وما يقال
في الفسقة أيضا وفي ولاة الجور ويقصد به التحذير منهم ومنه قوله - عليه السلام -
" أعن الفاجر ترعون اذكروا الفاجر بما فيه متى يعرفه الناس إذا لم يذكروه ".
275

(ت): وهذا الحديث خرجه أيضا أبو بكر بن الخطيب بسنده عن بهز عن أبيه
عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أترعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه يحذره الناس "
ولم يذكر في سنده مطعنا انتهى ومنه قوله - عليه السلام - " بئس ابن العشيرة ".
ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت ووقف تعالى على جهة التوبيخ بقوله:
(أيحب أحدكم ان يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) أي فكذلك فاكرهوا الغيبة قال أبو
حيان (فكرهتموه) قيل خبر بمعنى الامر أي فاكرهوه وقيل على بابه فقال
الفراء فقد كرهتموه فلا تفعلوه انتهى.
وقد روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه
بالكفر الا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك " وفي رواية مسلم " من دعا رجلا
بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك الا حار عليه " وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم
" أي رجل قال لأخيه كافر فقد باء بها وكان أحدهما " انتهى وباقي الآية بين.
276

وقوله تعالى: (يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى) الآية المعنى يا أيها
الناس أنتم سواء من حيث أنتم مخلوقون وانما جعلتم قبائل لأن تتعارفوا روى أو لان تعرفوا
الحقائق واما الشرف والكرم فهو بتقوى الله تعالى وسلامة القلوب وقرأ ابن مسعود
" لتعارفوا بينكم وخيركم عند الله أتقاكم " وقرأ ابن عباس " لتعرفوا ان " على وزن
" تفعلوا " بكسر العين وبفتح الهمزة من " أن " وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من سره أن يكون
أكرم الناس فليتق الله " واما الشعوب فهو جمع شعب وهو أعظم ما يوجد من جماعات
الناس مرتبطا بنسب واحد كمضر وربيعة وحمير ويتلوه القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم
الفخذ ثم الفصيلة والأسرة وهما قرابة الرجل الأدنون ثم نبه سبحانه على الحذر بقوله
(ان الله عليم خبير) أي: بالمتقي الذي يستحق رتبة الكرم وخرج مسلم في صحيحه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله أوحى إلي ان تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي
أحد على أحد " وروى أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لينتهين أقوام يفتخرون
بآبائهم انما هم فحم من جهنم أو ليكونن على الله أهون من الجعل الذي يدهده الخراء
بأنفه ان الله اذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها انما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي كلكم
بنو آدم وآدم من تراب انتهى ونقله البغوي في " مصابيحه ".
277

وقوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا) قال مجاهد نزلت في بني أسد وهي قبيلة
كانت تجاور المدينة أظهروا الاسلام وفي الباطن انما يريدون المغانم وعرض الدنيا ثم
امر الله تعالى نبيه أن يقول لهؤلاء المدعين للايمان (لم تؤمنوا) أي: لم تصدقوا
بقلوبكم (ولكن قولوا أسلمنا) أي: استسلمنا والإسلام يقال بمعنيين:
أحدهما: الذي يعم الايمان والأعمال وهو الذي في قوله تعالى (ان الدين عند
الله الاسلام) [آل عمران: 19] والذي في قوله عليه السلام " بني الاسلام على
خمس.
والمعنى الثاني للفظ الاسلام هو الاستسلام والاظهار الذي يستعصم به ويحقن
الدم وهذا هو الذي في الآية ثم صرح بان الايمان لم يدخل في قلوبهم ثم فتح باب
التوبة بقوله: (وان تطيعوا الله ورسوله...) الآية وقرأ الجمهور " لا يلتكم " من " لات
يليت " إذا نقص يقال لات حقه إذا نقصه منه وقرأ أبو عمرو " لا يألتكم " من " ألت
يألت " وهي بمعنى لات.
وقوله سبحانه: (انما المؤمنون) انما هنا حاصرة.
وقوله: (ثم لم يرتابوا) أي: لم يشكوا ثم امر الله تعالى نبيه - عليه السلام -
بتوبيخهم بقوله: (أتعلمون الله بدينكم) أي بقولكم آمنا وهو يعلم منكم خلاف ذلك
278

لأنه العليم بكل شئ.
وقوله سبحانه: (يمنون عليك ان أسلموا) نزلت في بني أسد أيضا وقرأ ابن
مسعود " يمنون عليك اسلامهم " وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية " والله بصير بما
يعلمون ".
279

تفسير سورة ق
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (ق والقرآن المجيد) قال مجاهد والضحاك وابن زيد وعكرمة
ق اسم الجبل المحيط بالدنيا وهو فيما يزعمون أنه من زمردة خضراء منها خضرة
السماء وخضرة البحر وقيل في تفسيره غير هذا و (المجيد) الكريم في أوصافه
الذي جمع كل معلاة و (ق) مقسم به وبالقرآن قال الزجاج وجواب القسم محذوف
تقديره: ق والقرآن المجيد لتبعثن قال (ع) وهذا قول حسن وأحسن منه أن
يكون الجواب هو الذي يقع عنه الاضراب ببل كأنه قال والقرآن المجيد ما ردوا امرك
بحجة ونحو هذا مما لا بد لك من تقديره بعد الذي قدره الزجاج وباقي الآية بين مما
تقدم في " ص " و " يونس " وغيرهما ثم أخبر تعالى ردا على قولهم بأنه سبحانه يعلم ما
تأكل الأرض من ابن آدم وما تبقى منه وان ذلك في كتاب والحفيظ الجامع الذي لم
يفته شئ وفي الحديث الصحيح ان الأرض تأكل ابن آدم الا عجب الذنب " وهو عظم
280

كالخردلة فمنه يركب ابن آدم قال (ع) وحفظ ما تنقص الأرض انما هو ليعود
بعينه يوم القيامة وهذا هو الحق قال ابن عباس والجمهور: المعنى: ما تنقص من
لحومهم وأبشارهم بين وعظامهم وقال السدي (ما تنقص الأرض) أي ما يحصل في
بطنها من موتاهم وهذا قول حسن مضمنه الوعد والمريج: معنا المختلط قاله ابن
زيد أي بعضهم يقول ساحر وبعضهم يقول كاهن وبعضهم يقول: شاعر إلى
غير ذلك من تخليطهم قال (ع) والمريج المضطرب أيضا وهو قريب من
الأول ومنه مرجت عهودهم ومن الأول (مرج البحرين) [الفرقان: 53].
ثم دل تعالى على العبرة بقوله (أفلم ينظروا إلى السماء...) الآية (وزيناها)
أي بالنجوم والفروج: والفطور والشقوق خلالها وأثناءها قاله مجاهد وغيره.
(ت) وقال الثعلبي بأثر كلام للكسائي: يقول كيف بنيناها بلا عمد وزيناها
بالنجوم وما فيها فتوق (والأرض مددناها) أي: بسطناها على وجه الماء انتهى
والرواسي الجبال والزوج النوع والبهيج الحسن المنظر قاله ابن عباس وغيره
والمنيب الراجع إلى الحق عن فكرة ونظر قال قتادة هو المقبل إلى الله تعالى
281

وخص هذا الصنف بالذكر تشريفا لهم من حيث انتفاعهم بالتبصرة والذكرى (وحب
الحصيد) البر والشعير ونحوه مما هو نبات محبب يحصد قال أبو حيان (وحب
الحصيد) من إضافة الموصوف إلى صفته على قول الكوفيين أو على حذف الموصوف
وإقامة الصفة مقامه أي حب الزرع الحصيد على قول البصريين و (باسقات) حال
مقدرة لأنها حالة الانبات ليست طوالا انتهى و (باسقات) معناه طويلات ذاهبات في
السماء والطلع أول ظهور التمر في الكفرى قال البخاري و (نضيد) معناه: منضود
بعضه على بعض انتهى ووصف البلدة بالميت على تقدير القطر والبلد.
ثم بين سبحانه موضع الشبه فقال: (كذلك لخروج) يعني: من القبور وهذه
الآيات كلها انما هي أمثلة وأدلة على البعث (وأصحاب الرس) قوم كانت لهم بئر
عظيمة وهي الرس وكل ما لم يطو من بئر أو معدن أو نحوه فهو رس وجاءهم
نبئ يسمى حنظلة بن سفيان فيما روي فجعلوه في الرس وردموا عليه فأهلكهم
الله وقال الضحاك الرس بئر قتل فيها صاحب " يس " وقيل إنهم قوم عاد والله أعلم.
وقوله: (كل) قال سيبويه: التقدير كلهم والوعيد الذي حق هو ما سبق به
القضاء من تعذيبهم.
وقوله سبحانه: (أفعيينا) توقيف للكفار وتوبيخ والخلق الأول انشاء الانسان من
نطفة على التدريج المعلوم وقال الحسن الخلق الأول آدم واللبس الشك والريب
واختلاط النظر والخلق الجديد البعث من القبور.
وقوله سبحانه: (ولقد خلقنا الانسان...) الآية الانسان اسم جنس
و (توسوس) معناه تتحدث في فكرتها والوسوسة انما تستعمل في غير الخير.
وقوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) عبارة عن قدرة الله على العبد
282

وكون العبد في قبضة القدرة والعلم قد أحيط به فالقرب هو بالقدرة والسلطان إذ لا
ينحجب عن علم الله لا باطن ولا ظاهر والوريد عرق كبير في العنق ويقال انهما
وريدان عن يمين وشمال.
واما قوله تعالى: (إذا يتلقى المتلقيان) فقال المفسرون العامل في إذ (أقرب)
ويحتمل عندي أن يكون العامل فيه فعلا مضمرا تقديره: أذكر إذ يتلقى المتلقيان و (المتلقيان) الملكان الموكلان بكل انسان ملك اليمين الذي يكتب الحسنات وملك
الشمال الذي يكتب السيئات قال الحسن الحفظة أربعة: اثنان بالنهار واثنان بالليل
قال (ع) ويؤيد ذلك الحديث الصحيح " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة
بالنهار " الحديث بكماله ويروى ان ملك اليمين أمير على ملك الشمال وان العبد إذا
أذنب يقول ملك اليمين للآخر تثبت لعله يتوب رواه إبراهيم التيمي وسفيان الثوري
و (قعيد) معناه قاعد.
وقوله سبحانه: (ما يلفظ من قول...) الآية قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة
يكتب الملكان جميع الكلام فيثبت الله من ذلك الحسنات والسيئات ويمحو غير هذا
وهذا هو ظاهر هذه الآية قال أبو الجوزاء ومجاهد يكتبان عليه كل شئ حتى أنينه في
مرضه وقال عكرمة يكتبان الخير والشر فقط قال (ع) والأول أصوب.
(ت) وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كل شئ يتكلم به ابن ادم
فإنه مكتوب عليه إذا أخطأ خطيئة فأحب ان يتوب إلى الله فليأت فليمد يديه إلى الله
283

عز وجل ثم يقول اللهم إني أتوب إليك منها لا ارجع إليها ابدا فإنه يغفر له ما لم
يرجع في عمل ذلك " رواه الحاكم في " المستدرك " وقال صحيح على شرط الشيخين
يعني البخاري ومسلما انتهى من " السلاح " قال النووي رحمه الله تعالى: ينبغي
لكل مكلف ان يحفظ لسانه من جميع الكلام الا كلاما تظهر فيه مصلحته ومتى استوى
الكلام وتركه بالمصلحة فالسنة الامساك فإنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه
وهذا هو الغالب والسلامة لا يعدلها شئ وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم
أنه قال " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " وهو نص صريح
فيما قلناه قال وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من
حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه " قال الترمذي حديث حسن وفيه عن عقبة بن عامر
" قلت يا رسول الله ما النجاة قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على
خطيئتك " قال الترمذي حديث حسن وفيه عنه صلى الله عليه وسلم قال: " من وقاه الله شر ما بين
لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة " قال الترمذي حديث حسن انتهى والرقيب:
المراقب والعتيد الحاضر.
284

وقوله: (جاءت) عطف عندي على قوله: (إذ يتلقى) فالتقدير: وإذ تجئ
سكرة الموت.
(ت) قال شيخنا زين الدين العراقي في أرجوزته [الرجز]
وسكرة الموت اختلاط العقل......................
البيت. انتهى.
وقوله: (بالحق) معناه بلقاء الله وفقد الحياة الدنيا وفراق الحياة حق يعرفه
الانسان ويحيد منه بأمله ومعنى هذا الحيد أنه يقول أعيش كذا وكذا فمتى فكر حاد
بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمان وهذا شأن الانسان حتى يفاجئه الاجل قال عبد
الحق في " العاقبة " ولما احتضر مالك بن انس ونزل به الموت قال لمن حضره ليعاينن
الناس غدا من عفو الله وسعة رحمته ما لم يخطر على قلب بشر كشف له رضي الله
عنه عن سعة رحمة الله وكثرة عفوه وعظيم تجاوزه ما أوجب ان قال هذا وقال أبو
سليمان الداراني دخلنا على عابد نزوره وقد حضره الموت وهو يبكي فقلنا له: ما
يبكيك - رحمك الله - فأنشأ يقول: [الطويل]
وحق لمثلي البكا عند موته * ومالي لا أبكي وموتي قد اقترب.
ولي عمل في اللوح أحصاه خالقي * فان لم يجد بالعفو صرت إلى العطب.
انتهى و (يوم الوعيد) هو يوم القيامة والسائق الحاث على السير واختلف
الناس في السائق والشهيد فقال عثمان بن عفان وغيره هما ملكان موكلان بكل انسان
أحدهما يسوقه والاخر من حفظته يشهد عليه وقال أبو هريرة السائق ملك
285

والشهيد: العمل وقيل الشهيد الجوارح وقال بعض النظار سائق اسم جنس
وشهيد كذلك فالساقة للناس ملائكة موكلون بذلك والشهداء الحفظة في الدنيا وكل
من يشهد.
وقوله سبحانه: (كل نفس) يعم الصالحين وغيرهم فإنما معنى الآية شهيد بخيره
وشره ويقوى في شهيد اسم الجنس فتشهد الملائكة والبقاع والجوارح وفي الصحيح
" لا يسمع مدى صوت المؤذن انس ولا جن ولا شئ الا شهد له يوم القيامة "
وقوله سبحانه: (لقد كنت) قال ابن عباس وغيره أي يقال للكافر لقد كنت
في غفلة من هذا فلما كشف الغطاء عنك الآن احتد بصرك أي بصيرتك وهذا كما
تقول فلان حديد الذهن ونحوه وقال مجاهد هو بصر العين أي احتد التفاته إلى
ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة.
والوجه عندي في هذه الآية ما قاله الحسن وسالم بن عبد الله: انها مخاطبة
للانسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر وهكذا قال الفخر قال: والأقوى ان
يقال هو خطاب عام مع السامع كأنه يقول ذلك ما كنت منه تحيد أيها السامع انتهى
وينظر إلى معنى كشف الغطاء قول النبي صلى الله عليه وسلم " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا "
286

وقوله تعالى: (وقال قرينه هذا ما لدي عتيد) قال جماعة من المفسرين يعني قرينه
من زبانية جهنم أي قال هذا العذاب الذي لدي لهذا الكافر حاضر وقال قتادة وابن
زيد بل قرينه الموكل بسوقه قال (ع) ولفظ القرين اسم جنس فسائقه لو قرين
وصاحبه من الزبانية قرين وكاتب سيئاته في الدنيا قرين والكل تحتمله هذه الآية أي
هذا الذي أحصيته عليه عتيد لدي وهو موجب عذابه والقرين الذي في هذه الآية غير
القرين الذي في قوله (قال قرينه ربنا ما أطغيته) إذ المقارنة تكون على أنواع.
وقوله سبحانه: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد) المعنى: يقال ألقيا في جهنم
واختلف لمن يقال ذلك فقال جماعة هو قول لملكين من ملائكة العذاب.
وقال عبد الرحمن بن زيد: هو قول للسائق والشهيد.
وقال جماعة من أهل العلم باللغة: هذا جار على عادة كلام العرب الفصيح ان
يخاطب الواحد بلفظ الاثنين وذلك أن العرب كان الغالب عندها ان يترافق في الاسفار
ونحوها ثلاثة فكل واحد منهم يخاطب اثنين فكثر ذلك في اشعارها وكلامها حتى صار
عرفا في المخاطبة فاستعمل في الواحد ومن هذا قولهم في الاشعار:
[من الطويل]
خليلي.........................
287

وصاحبي........................
قفا نبك.....................
ونحوه.
وقال بعض المتأولين: المراد " القين " فعوض من النون الف وقرأ الحسن بن أبي
الحسن " ألقيا " بتنوين الياء و " عنيد " معناه: عاند عن الحق أي منحرف / عنه.
وقوله تعالى: (مناع للخير) لفظ عام للمال والكلام الحسن والمعاونة على الأشياء
و (معتد) معناه بلسانه ويده.
288

وقوله سبحانه: (الذي جعل مع الله...) الآية يحتمل أن يكون (الذي) بدلا من
(كفار) أو صفة له ويقوى عندي أن يكون (الذي) ابتدأ ويتضمن القول حينئذ بني آدم
والشياطين المغوين لهم في الدنيا ولذلك تحرك القرين الشيطان المغوي فرام ان يبرئ
نفسه ويخلصها بقوله: (ربنا ما أطغيته).
وقوله: (ربنا ما أطغيته) ليست بحجة لأنه كذب ان نفى الإطغاء سعيد عن نفسه جملة
وهو قد أطغاه بالوسوسة والتزيين وأطغاه الله بالخلق والاختراع حسب سابق قضائه الذي
هو عدل منه سبحانه لا رب غيره.
وقوله سبحانه: (لا تختصموا لدي) معناه قال الله: لا تختصموا لدي بهذا النوع
من المقاولة التي لا تفيد شيئا (وقد قدمت إليكم بالوعيد) وهو ما جاءت به الرسل
والكتب وجمع الضمير لأنه مخاطبة لجميع القرناء إذ هو امر شائع لا يقف على اثنين
فقط.
وقوله سبحانه: (ما يبدل القول لدي) أي: لا ينقص ما أبرمه كلامي من تعذيب
الكفرة ثم أزال سبحانه موضع الاعتراض بقوله: (وما انا بظلام للعبيد) أي هذا عدل
فيهم لأني أنذرت وأمهلت وأنعمت وقرأ الجمهور " يوم نقول " بالنون وقرأ نافع
وعاصم في رواية أبي بكر بالياء وهي قراءة أهل المدينة قال (ع) والذي
يترجح في قول جهنم: (هل من مزيد) انها حقيقة وانها قالت ذلك وهي غير ملأى
وهو قول انس بن مالك ويبين ذلك الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم " يقول الله
لجهنم هل امتلأت؟ وتقول هل من مزيد حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط
قط وينزوي بعضها إلى بعض " ولفظ البخاري عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم
289

تحاجب الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة ما لي
لا يدخلني الا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله للجنة: أنت رحمتي ارحم بك من أشاء
من عبادي وقال للنار: انما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة
منهما ملؤها فاما النار فلا تمتلىء حتى يضع [الجبار فيها قدمه] فتقول: قط قط فهناك
تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا واما الجنة فان
الله ينشئ لها خلقا " انتهى قال (ع) ومعنى: " قدمه " ما قدم لها من خلقه
وجعلهم في علمه ساكنيها ومنه: (ان لهم قدم صدق عند ربهم) [يونس: 2] وملاك
النظر في هذا الحديث ان الجارحة والتشبيه وما جرى مجراه منتف كل ذلك عن الله
سبحانه فلم يبق الا اخراج اللفظ على الوجوه السائغة في كلام العرب.
(وأزلفت الجنة) معناه: قربت ولما احتمل أن يكون معناه بالوعد والاخبار رفع
الاحتمال بقوله: (غير بعيد) قال أبو حيان: (غير بعيد) أي: مكانا غير بعيد فهو
منصوب على الظرف وقيل: منصوب على الحال من الجنة انتهى.
وقوله سبحانه: (هذا ما توعدون) يحتمل أن يكون معناه: يقال لهم في الآخرة عند
إزلاف الجنة: هذا الذي كنتم توعدون به في الدنيا ويحتمل أن يكون خطابا للأمة أي:
هذا ما توعدون أيها الناس (لكل أواب حفيظ): والأواب: الرجاع إلى الطاعة والى مراشد
290

نفسه وقال ابن عباس وعطاء الأواب: المسبح من قوله (يا جبال أوبي معه)
[سبأ: 10] وقال المحاسبي هو الراجع بقلبه إلى ربه وقال عبيد بن عمير كنا
نتحدث انه الذي إذا قام من مجلسه استغفر الله مما جرى في ذلك المجلس وكذلك كان
النبي صلى الله عليه وسلم يفعل والحفيظ معناه لأوامر الله فيمتثلها ولنواهيه فيتركها وقال ابن
عباس حفيظ لذنوبه حتى يرجع عنها والمنيب الراجع إلى الخير المائل إليه قال
الداودي: وعن قتادة (بقلب منيب) قال: مقبل على الله سبحانه انتهى.
وقوله سبحانه: (ادخلوها) أي: يقال لهم ادخلوها.
وقوله عز وجل: (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) خبر بأنهم يعطون آمالهم
أجمع ثم أبهم تعالى الزيادة التي عنده للمؤمنين المنعمين وكذلك هي مبهمة في
قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) [السجدة: 17] وقد فسر ذلك
الحديث الصحيح وهو قوله عليه السلام " يقول الله تعالى أعددت لعبادي
الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما اطلعتم
عليه قال (ع) وقد ذكر الطبري وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديث مطولة
وأشياء ضعيفة لان الله تعالى يقول: (فلا تعلم نفس ما أخفي) وهم يعينونها تكلفا
وتعسفا.
وقوله تعالى: (فنقبوا في البلاد) أي ولجوا البلاد من أنقابها طمعا في النجاة من
الهلاك (هل من محيص) أي: لا محيص لهم وقرأ ابن عباس وغيره " فنقبوا " على
291

الامر لهؤلاء الحاضرين.
(ت) وعبارة البخاري " فنقبوا " ضربوا وقال الداودي وعن أبي عبيدة
" فنقبوا في البلاد " طافوا وتباعدوا انتهى.
وقوله تعالى: (ان في ذلك) يعني: اهلاك من مضى (لذكرى) أي تذكرة
والقلب عبارة عن العقل إذ هو محله والمعنى لمن كان له قلب واع ينتفع به وقال
الشبلي: معناه قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين.
وقوله تعالى: (أو ألقى السمع وهو شهيد) معناه: صرف سمعه إلى هذه الانباء
الواعظة وأثبته في سماعها (وهو شهيد) قال بعض المتأولين معناه وهو مشاهد مقبل
على الأمر غير معرض ولا مفكر في غير ما يسمع.
(ت) ولفظ البخاري (أو ألقى السمع) أي لا يحدث نفسه بغيره (شهيد)
أي: شاهد بالقلب انتهى قال المحاسبي في " رعايته " وقد أحببت ان أحضك على
حسن الاستماع لتدرك به الفهم عن الله عز وجل في كل ما دعاك إليه فإنه تعالى أخبرنا
في كتابه ان من استمع كما يحب الله تعالى ويرضى كان له فيما يستمع إليه ذكرى
يعني اتعاظا وإذا سمى الله عز وجل لاحد من خلقه شيئا فهو له كما سمى وهو
واصل إليه كما أخبر قال عز وجل (ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى
السمع وهو شهيد) قال مجاهد شاهد القلب لا يحدث نفسه بشئ ليس بغائب
القلب فمن استمع إلى كتاب الله عز وجل أو إلى حكمة أو إلى علم أو إلى عظة
لا يحدث نفسه بشئ غير ما يستمع إليه قد اشهد قبله ما استمع إليه يريد الله
عز وجل به كان له فيه ذكرى لأن الله تعالى قال ذلك فهو كما قال عز وجل
انتهى كلام المحاسبي وهو در نفيس فحصله واعمل به ترشد وقد وجدناه كما
قال وبالله التوفيق.
292

وقوله سبحانه: (ولقد خلقنا السماوات والأرض...) الآية خبر مضمنه الرد على
اليهود الذين قالوا ان الله خلق الأشياء كلها ثم استراح يوم السبت فنزلت: (وما مسنا
من لغوب) واللغوب: الاعياء والنصب.
وقوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون) أي: ما يقوله الكفرة من أهل الكتاب
وغيرهم وعم بذلك جميع الأقوال الزائغة من قريش وغيرهم (وسبح) معناه: صل
باجماع من المتأولين.
(ت) وفي الاجماع نظر وقد قال الثعلبي (وسبح بحمد ربك) أي: قل
سبحان الله والحمد لله قاله عطاء الخراساني انتهى ولكن المخرج في الصحيح انما هو
امر الصلاة وقال ابن العربي في " احكامه " وقوله تعالى (ومن الليل فسبحه) فيه أربعة
أقوال:
أحدها: انه تسبيح الله في الليل ويعضد هذا القول الحديث الصحيح " من تعار من
الليل فقال لا إله إلا الله " الحديث وقد ذكرناه في سورة " المزمل "
والثاني: أنها صلاة الليل.
والثالث: انها ركعتا الفجر.
والرابع: انها صلاة العشاء الآخرة انتهى.
وقوله: (بحمد ربك) الباء للاقتران أي سبح سبحة يكون معها حمد و (قبل
293

طلوع الشمس) هي الصبح (وقبل الغروب) هي العصر قاله ابن زيد والناس
وقال ابن عباس الظهر والعصر (ومن الليل) هي صلاة العشائين وقال ابن
زيد هي العشاء فقط وقال مجاهد هي صلاة الليل.
وقوله: (وادبار السجود) قال عمر بن الخطاب وجماعة: هي الركعتان بعد
المغرب وأسنده الطبري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ع) كأنه روعي ادبار
صلاة النهار كما روعي ادبار النجوم في صلاة الليل وقال ابن عباس أيضا وابن زيد
ومجاهد هي النوافل اثر الصلوات وهذا جار مع لفظ الآية وقرأ نافع وابن كثير
وحمزة " وادبار " بكسر الهمزة وهو مصدر وقرأ الباقون بفتحها وهو جمع دبر كطنب
وأطناب أي وفي ادبار السجود أي في أعقابه.
وقوله سبحانه: (واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب) واستمع بمنزلة وانتظر
وانما الآية في معنى الوعيد للكفار وهذا كما تقول لمن تعده بورود فتح استمع
294

وكذا أي كن منتظرا له مستمعا له فعلى هذا فنصب " يوم " انما هو على المفعول
الصريح.
وقوله سبحانه: (من مكان قريب) قيل وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع
الخلق وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن ملكا ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة والعظام
البالية والرمم الذاهبة هلمي إلى الحشر والوقوف بين يدي الله عز وجل " والصيحة
هي صيحة النادي والخروج هو من القبور ويومه هو يوم القيامة ويوم الخروج في
الدنيا هو يوم العيد.
وقوله تعالى: (ذلك حشر علينا يسير) معادل لقول الكفرة: (ذلك رجع بعيد) [ق: 3]
وقوله سبحانه: (نحن اعلم بما يقولون) وعيد محض للكفرة.
وقوله سبحانه: (وما أنت عليهم بجبار) قال الطبري وغيره معناه وما أنت
عليهم بمسلط تجبرهم على الايمان.
وقال قتادة: هو نهي من الله تعالى عن التجبر والمعنى وما أنت عليهم بمتعظم
من الجبروت وروى ابن عباس ان المؤمنين قالوا: يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت
(فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي).
295

تفسير سورة والذاريات
وهي مكية باجماع المفسرين
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (والذاريات ذروا...) الآية أقسم الله عز وجل بهذه المخلوقات
تنبيها عليها وتشريفا لها ودلالة على الاعتبار فيها حتى يصير الناظر فيها إلى توحيد الله
عز وجل فقوله: (والذاريات): هي الرياح باجماع و (ذروا) نصب على المصدر
(والحاملات وقرأ) قال علي: هي السحاب وقال ابن عباس وغيره هي السفن
الموقورة بالناس وأمتعتهم وقال جماعة من العلماء هي أيضا مع هذا جميع الحيوان
الحامل وفي جميع ذلك معتبر و (الجاريات يسرا) قال علي وغيره: هي السفن في
البحر وقال آخرون هي السحاب وقال آخرون هي الكواكب قال (ع) واللفظ
يقتضي جميع هذا و (يسرا) نعت لمصدر محذوف وصفات / المصادر المحذوفة تعود
أحوالا و (يسرا) معناه بسهولة و " المقسمات أمرا " الملائكة والامر هنا: اسم جنس
فكأنه قال: والجماعات التي تقسم أمور الملكوت من الأرزاق والآجال والخلق في
الأرحام وأمر الرياح والجبال وغير ذلك لان كل هذا انما هو بملائكة تخدمه وأنت
" المقسمات " من حيث أراد الجماعات وهذا القسم واقع على قوله: (انما توعدون
296

لصادق...) الآية و (توعدون) يحتمل أيكون من الوعد ويحتمل أن يكون من
الايعاد وهو أظهر و (الدين) الجزاء مجاهد: الحساب.
ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر فقال: (والسماء ذات الحبك) والحبك الطرائق التي
هي على نظام في الأجرام ويقال لما تراه من الطرائق في الماء والرمال إذا اصابته الريح
حبك ويقال لتكسر الشعر حبك وكذلك في المنسوجات من الأكسية بعد وغيرها طرائق في
موضع تداخل الخيوط هي حبك وذلك لجودة خلقة السماء ولذلك فسرها ابن عباس
وغيره بذات الخلق الحسن وقال الحسن حبكها كواكبها.
وقوله سبحانه: (انكم لفي قول مختلف) يحتمل أن يكون خطابا لجميع الناس
أي: منكم مؤمن بمحمد ومنكم مكذب له وهو قول قتادة ويحتمل أن يكون خطابا
للكفرة فقط لقول بعضهم شاعر وبعضهم كاهن وبعضهم ساحر إلى غير ذلك
وهذا قول ابن زيد.
و (يؤفك) معناه: يصرف أي يصرف من الكفار عن كتاب الله من صرف ممن
غلبت عليه شقاوته وعرف الاستعمال في " افك " انما هو في الصرف من خير إلى شر.
وقوله تعالى: (قتل الخراصون) دعاء عليهم كما تقول قاتلك الله وقال بعض
المفسرين. معناه: لعن الخراصون وهذا تفسير لا يعطيه اللفظ.
(ت) والظاهر ما قاله هذا المفسر قال عياض في " الشفا " وقد يقع القتل بمعنى
اللعن قال الله تعالى: (قتل الخراصون) و (قاتلهم الله انى يؤفكون) [المنافقون: 4]
297

أي لعنهم الله انتهى وقد تقدم للشيخ عند قوله تعالى: (عليهم دائرة السوء) [الفتح: 6]
قال: كل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل فإنما هو بمعنى ايجاب الشئ لان
الله تعالى لا يدعو على مخلوقاته انتهى بلفظه وظاهره مخالف لما هنا وسيبينه في
" سورة البروج " والخراص: المخمن القائل بظنه والإشارة إلى مكذبي النبي صلى الله عليه وسلم
والغمرة: ما يغشى الانسان ويغطيه كغمرة الماء و (ساهون) معناه عن وجوه النظر.
وقوله تعالى: (يسئلون أيان يوم الدين) أي: يوم الجزاء وذلك منهم على جهة
الاستهزاء.
وقوله: (يوم هم على النار يفتنون) قال الزجاج التقدير هو كائن يوم هم
على النار يفتنون و (يفتنون) معناه يحرقون ويعذبون في النار قاله ابن عباس
والناس وفتنت الذهب أحرقته و (ذوقوا فتنتكم) أي حرقكم وعذابكم قاله قتادة
وغيره.
(ان المتقين في جنات وعيون...) الآية روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا
يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس " قال أبو
عيسى: هذا حديث حسن انتهى وقوله سبحانه في المتقين: (آخذين ما آتاهم ربهم)
أي محصلين ما أعطاهم ربهم سبحانه من جناته ورضوانه وأنواع كراماته (انهم كانوا
قبل ذلك) يريد في الدنيا (محسنين) بالطاعات والعمل الصالح.
298

(ت) تعالى وروى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن ما
يقل ظفر مما في الجنة بدا لتزخرف له ما بين خوافق السماوات والأرض ولو أن رجلا من
أهل الجنة اطلع فبدا أساوره لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم "
انتهى ومعنى قوله: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) ان نومهم كان قليلا لاشتغالهم
بالصلاة والعبادة والهجوع النوم وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية كابدوا قيام
الليل لا ينامون منه الا قليلا واما اعراب الآية فقال الضحاك في كتاب الطبري ما
يقتضي ان المعنى كانوا قليلا في عددهم وتم خبر " كان " ثم ابتدأ (من الليل ما
يهجعون) فما نافية و (قليلا) وقف حسن وقال جمهور النحويين: ما مصدرية و (قليلا)
خبر (كان) والمعنى: كانوا قليلا من الليل هجوعهم وعلى هذا الاعراب يجئ قول
الحسن وغيره وهو الظاهر عندي ان المراد كان هجوعهم من الليل قليلا قيل لبعض
التابعين مدح الله قوما (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) ونحن قليلا من الليل نقوم
فقال: رحم الله امرأ رقد إذا نعس وأطاع ربه إذا استيقظ.
وقوله تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون) قال الحسن معناه يدعون في طلب
المغفرة ويروى ان أبواب الجنة تفتح سحر كل ليلة قال ابن زيد السحر السدس
الاخر من الليل والباء في قوله (بالاسحار) بمعنى في قاله أبو البقاء انتهى ومن كلام
[ابن] الجوزي في " المنتخب " يا أخي علامة المحبة طلب الخلوة بالحبيب وبيداء الليل
فلوات الخلوات لما ستروا قيام الليل في ظلام الدجى غيرة ان يطلع الغير عليهم
سترهم سبحانه بستر (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) [السجدة: 17]
لما صفت خلوات الدجى ونادى أذان الوصال: أقم فلانا وأنم فلانا خرجت بالأسماء
299

الجرائد وفاز الأحباب بالفوائد وأنت غافل راقد أه لو كنت معهم أسفا لك لو رأيتهم
لأبصرت طلائع الصديقين في أول القوم وشاهدت ساقه المستغفرين في الركب وسمعت
استغاثة المحبين في وسط الليل لو رأيتهم يا غافل وقد دارت كؤوس المناجاة بين
مزاهر التلاوات فأسكرت قلب الواجد ورقمت في مصاحف الوجنات تعرفهم
بسيماهم يا طويل النوم فاتتك مدحة (تتجافى) [السجدة: 16] وحرمت منحة
(والمستغفرين) [آل عمران: 17] يا هذا ان لله تعالى ريحا تسمى الصبيحة مخزونة
تحت العرش تهب عند الأسحار فتحمل الدعاء والأنين والاستغفار إلى حضرة العزيز
الجبار انتهى.
(وفي أموالهم حق...) الآية الصحيح انها محكمة وان هذا الحق هو على وجه
الندب و (معلوم) [المعارج: 24] يراد به متعارف وكذلك قيام الليل الذي مدح به
ليس من الفرائض وأكثر ما تقع الفضيلة بفعل المندوبات والمحروم هو الذي تبعد عنه
ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله حرمان وفاقة وهو مع ذلك لا يسئل فهذا هو الذي
له حق في أموال الأغنياء كما للسائل حق وما وقع من ذكر الخلاف فيه فيرجع إلى هذا
وبعد هذا محذوف تقديره فكونوا أيها الناس مثلهم وعلى طريقهم (وفي الأرض
آيات): لمن اعتبر وأيقن.
وقوله سبحانه: (وفي أنفسكم) إحالة على النظر في شخص الانسان وما فيه من
العبر وأمر النفس وحياتها ونطقها واتصال هذا الجزء منها بالعقل قال ابن زيد انما
القلب مضغة في جوف ابن آدم جعل الله فيه العقل أفيدري أحد ما ذلك العقل وما
صفته وكيف هو.
(ت) قال ابن العربي في رحلته: اعلم أن معرفة العبد نفسه من أولى من عليه
وآكده إذا لا يعرف ربه الا من عرف نفسه قال تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)
وغير ما آية في ذلك ثم قال ولا ينكر عاقل وجود الروح من نفسه وان كان لم يدرك
حقيقته كذلك لا يقدر ان ينكر وجود الباري سبحانه الذي دلت أفعاله عليه وإن لم يدرك
حقيقته انتهى.
300

وقوله سبحانه: (وفي السماء رزقكم) قال مجاهد وغيره هو المطر وقال
واصل الأحدب أراد القضاء والقدر أي الرزق عند الله يأتي به كيف شاء سبحانه لا
رب غيره و (توعدون) يحتمل أن يكون من الوعد ويحتمل أن يكون من الوعيد قال
الضحاك المراد: من الجنة والنار وقال مجاهد المراد: الخير والشر وقال ابن
سيرين المراد الساعة ثم أقسم سبحانه بنفسه على صحة هذا القول والخبر وشبهه
في اليقين به بالنطق من الانسان وهو عنده في غاية الوضوح و " ما " زائدة تعطى تأكيدا
والنطق في هذه الآية هو الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني وروي ان بعض
الاعراب الفصحاء سمع هذه الآية فقال: من أحوج الكريم إلى أن يحلف والحكاية
بتمامها في كتاب الثعلبي وسبل الخيرات وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله قوما
أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه " وروى أبو سعيد الخدري ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو فر
أحدكم من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت " وأحاديث الرزق كثيرة ومن كتاب " القصد إلى
الله سبحانه " للمحاسبي: قال قلت لشيخنا من أين وقع الاضطراب في القلوب وقد
جاءها الضمان من الله عز وجل قال: من وجهين.
أحدهما: قلة المعرفة بحسن الظن وإلقاء التهم من الله عز وجل.
والوجه الثاني: ان يعارضها خوف الفوت فتستجيب النفس للداعي ويضعف
اليقين ويعدم الصبر فيظهر الجزع.
قلت: شئ غير هذا؟ قال نعم ان الله عز وجل وعد الأرزاق وضمن وغيب
الأوقات ليختبر أهل العقول ولولا ذلك لكان كل المؤمنين راضين صابرين متوكلين
لكن الله عز وجل أعلمهم انه رازقهم وحلف لهم على ذلك وغيب عنهم أوقات العطاء
301

فمن ها هنا عرف الخاص من العام وتفاوت العباد في الصبر والرضا واليقين
والتوكل والسكون فمنهم كما علمت ساكن ومنهم متحرك ومنهم راض ومنهم
ساخط ومنهم جزع فعلى قدر ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين وعلى قدر ما
تفاوتوا في اليقين تفاوتوا في السكون والرضا والصبر والتوكل. ا ه‍.
وقوله سبحانه: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم...) الآية قد تقدم قصصها
و " عليم " أي عالم وهو إسحاق - عليه السلام -.
(ت) كما ولنذكر هنا شيئا من الآثار في آداب الطعام قال النووي روى ابن السني
بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يقول في الطعام إذا قرب إليه: " اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا
عذاب النار باسم الله " انتهى وفي " صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا
دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم
ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا
لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء " وفي " صحيح مسلم " عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه " الحديث انتهى.
302

والصرة: الصيحة كذا فسره ابن عباس وجماعة قال الطبري عن بعضهم قالت:
" أوه " بصياح وتعجب وقال النحاس (في صرة) في جماعة نسوة.
وقوله: (فصكت وجهها) معناه ضربت وجهها استهوالا لما سمعت وقال
سفيان وغيره ضربت بكفها جبهتها وهذا مستعمل في الناس حتى الآن وقولهم
(كذلك قال ربك) أي كقولنا الذي أخبرناك.
وقوله تعالى: (حجارة من طين) بيان يخرج عن معتاد حجارة البرد التي هي من
ماء ويروى انه طين طبخ في نار جهنم حتى صار حجارة كالاجر و (مسومة) نعت
لحجارة ثم أخبر تعالى انه اخرج بأمره من كان في قرية " لوط " من المؤمنين منجيا لهم
وأعاد الضمير على القرية وإن لم يجر لها قبل ذلك ذكر لشهرة أمرها قال المفسرون
لا فرق بين تقدم ذكر المؤمنين وتأخره وانما هما وصفان ذكرهم أولا بأحدهما ثم أخرا
بالثاني قيل: فالآية دالة على أن الايمان هو الاسلام قال (ع) ويظهر لي ان في
المعنى زيادة تحسن التقديم للايمان وذلك أنه ذكره مع الاخراج من القرية كأنه يقول
نفذ أمرنا باخراج كل مؤمن ولا يشترط فيه أن يكون عاملا بالطاعات بل التصديق بالله
فقط ثم لما ذكر حال الموجودين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها وهي الكاملة التصديق
والأعمال والبيت من المسلمين هو بيت لوط - عليه السلام - وكان هو وابنتاه وفي كتاب
الثعلبي: وقيل لوط وأهل بيته ثلاثة عشر وهلكت امرأته فيمن هلك وهذه القصة ذكرت
على جهة ضرب المثل لقريش وتحذيرا ان يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء.
303

وقوله: (وتركنا فيها) أي في القرية وهي سدوم (آية) قال أبو حيان
(وفي موسى) أي: وفي قصه موسى [انتهى].
وقوله سبحانه في فرعون: (فتولى بركته) أي: أعرض عن امر الله وركنه هو
سلطانه وجنده وشدة امره وقول فرعون في موسى (ساحرا أو مجنون) هو تقسيم ظن
أن موسى لابد أن يكون أحد هذين القسمين وقال أبو عبيدة: " أو " هنا بمعنى الواو
وهذا ضعيف لا داعية إليه في هذا الموضع.
وقوله: (ما تذر من شئ أتت عليه) أي ما تدع من شئ أتت عليه مما اذن لها
في إهلاكه (الا جعلته كالرميم) وهو الفاني المتقطع يبسا أو قدما من الأشجار والورق
والعظام وروي في حديث ان تلك الريح كانت تهب على الناس فيه العادي وغيره
فتنتزع من بين الناس وتذهب به.
وقوله سبحانه: (وفي ثمود إذا قيل لهم تمتعوا) أي: إذ قيل لهم في أول بعث
صالح وهذا قول الحسن ويحتمل إذ قيل لهم بعد عقر الناقة تمتعوا في دركم ثلاثة
أيام وهو قول الفراء.
وقوله: (فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون) أي يبصرون بعيونهم وهذا قول
الطبري ويحتمل ان يريد وهم ينتظرون في تلك الأيام الثلاثة وهذا قول مجاهد.
(فما استطاعوا من قيام) أي: من مصارعهم قاله بعض المفسرين وقال قتادة
وغيره: معناه من قيام بالأمر النازل بهم ولا دفعه عنهم.
(وقوم نوح) بالنصب وهو عطف اما على الضمير في قوله: (فأخذتهم) إذ هو
بمنزلة أهلكتهم واما على الضمير في قوله: (فنبذناهم).
304

وقوله: (والسماء) نصب بإضمار فعل تقديره وبنينا السماء بنيناها والأيد القوة
قاله ابن عباس وغيره (وانا لموسعون) أي في بناء السماء أي جعلناها واسعة قاله
ابن زيد.
أبو البقاء: (فنعم الماهدون) أي: نحن فحذف المخصوص انتهى.
وقوله سبحانه: (ومن كل شئ خلقنا زوجين) قال مجاهد معناه ان هذه إشارة
إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار والشقاوة والسعادة والهدى
والضلال والسماء والأرض والسواد والبياض والصحة والمرض والايمان والكفر
ونحو هذا ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة التي توجد الضدين وقال ابن زيد
وغيره هي إشارة إلى الأنثى والذكر من كل حيوان.
(ت) والأول أحسن لشموله لما ذكره ابن زيد.
وقوله سبحانه: (ففروا إلى الله...) الآية امر بالدخول في الايمان وطاعة الرحمن
ونبه بلفظ الفرار على أن وراء الناس عقابا وعذابا يفر منه فجمعت لفظة " فروا " بين
التحذير والاستدعاء.
(ت) وأسند أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في " دلائل النبوءة " (تصنيفه) عن
كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد فسمع كلاما
من زاويته وإذا هو بقائل يقول: اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني فقال
305

رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك: الا تضم إليها أختها؟ فقال الرجل اللهم ارزقني شوق
الصادقين إلى ما شوقتهم إليه " وفيه " فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر عليه السلام "
انتهى مختصرا.
وقوله تعالى: (كذلك) أي: سيرة الأمم كذلك قال عياض فهذه الآية ونظائرها
تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عزاه الله - عز وجل - بما أخبر به عن الأمم السالفة ومقالها لأنبيائها
وانه ليس أول من إن ذلك انتهى من " الشفا ".
وقوله سبحانه: (أتواصوا به) توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة في تكذيب
الأنبياء على تفرق أزمانهم أي لم يتواصوا لكنهم فعلوا فعلا كأنه فعل من تواصي
والعلة في ذلك أن جميعهم طاغ والطاغي المستعلي في الأرض المفسد.
وقوله تعالى: (فتول عنهم) أي: عن الحرص المفرط عليهم وذهاب النفس
حسرات ولست بملوم إذ قد بلغت (وذكر فإن الذكرى) نافعة للمؤمنين ولمن قضي
له أن يكون منهم.
وقوله سبحانه: (وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون) قال ابن عباس وعلي
المعنى ما خلقت الجن والإنس الا لآمرهم بعبادتي وليقروا إلا لي بالعبودية وقال زيد بن
أسلم وسفيان هذا خاص والمراد ما خلقت الطائعين من الجن والإنس الا لعبادتي
ويؤيد هذا التأويل ان ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قرأ " وما خلقت الجن والإنس
من المؤمنين الا ليعبدون " وقال ابن عباس أيضا معنى (ليعبدون) ليتذللوا لي
ولقدرتي وإن لم يكن ذلك على قوانين شرع وعلى هذا التأويل فجميعهم من مؤمن
306

وكافر متذلل لله عز وجل الا تراهم عند القحوط والأمراض وغير ذلك كيف
يخضعون لله ويتذللون؟!.
(ت) قال الفخر: فإن قيل ما العبادة التي خلق الله الجن والإنس لها؟ قلنا:
التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فان هذين النوعين لم يخل شرع منهما وأما
خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها: بالوضع والهيئة والقلة والكثرة والزمان
والمكان والشرائط والأركان انتهى ونقل الثعلبي وغيره عن مجاهد: (الا ليعبدون)
أي ليعرفوني قال صاحب " الكلم الفارقية " المعرفة بالله تملأ القلب مهابة ومخافة
والعين عبرة وعبرة وحياء وخجلة والصدر خشوعا وحرمة والجوارح استكانة وذلة وطاعة
وخدمة واللسان ذكرا وحمدا والسمع إصغاء وتفهما والخواطر في مواقف المناجاة
خمودا والوساوس اضمحلالا انتهى.
وقوله سبحانه: (ما أريد منهم من رزق) أي: ان يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم.
وقوله: (ان يطعمون) أي ان يطعموا خلقي قاله ابن عباس ويحتمل ان يريد أن
ينفعوني و (المتين) الشديد.
(ت) وروينا في " كتاب الترمذي " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز
وجل يقول: يا بن آدم تفرغ لعبادتي املأ صدرك غنى وأسد فقرك والا تفعل ملأت
يدك شغلا ولم أسد فقرك " قال أبو عيسى هذا حديث حسن وروينا فيه عن انس قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله
واتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه
شمله ولم يأته من الدنيا الا ما قدر له " انتهى.
وقوله سبحانه: (فان للذين ظلموا): يريد أهل مكة والذنوب الحظ والنصيب
307

وأصله من الدلو وذلك أن الذنوب هو ملء الدلو من الماء وكذا قال أبو حيان:
(ذنوبا) أي نصيبا انتهى و (أصحابهم) يراد بهم من تقدم من الأمم المعذبة
وباقي الآية وعيد بين.
308

تفسير سورة والطور
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (والطور وكتاب مسطور...) الآية هذه مخلوقات أقسم الله - عز
وجل - بها تنبيها على النظر والاعتبار بها المؤدي إلى توحيد الله والمعرفة بواجب حقه
سبحانه قال بعض اللغويين: كل جبل طور فكأنه سبحانه أقسم بالجبال وقال آخرون
الطور كل جبل أجرد لا ينبت شجرا وقال نوف البكالي المراد هنا جبل طور سيناء
وهو الذي أقسم الله به لفضله على الجبال والكتاب المسطور معناه باجماع
المكتوب أسطارا واختلف الناس في هذا الكتاب المقسم به فقال بعض المفسرين هو
الكتاب المنتسخ من اللوح المحفوظ للملائكة لتعرف منه جميع ما تفعله وتصرفه في
العالم وقيل هو القرآن إذ قد علم تعالى انه يتخلد في رق منشور وقيل هو الكتب
المنزلة وقيل هو الكتاب الذي فيه اعمال الخلق وهو الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة
والرق: الورق المعدة للكتب وهي مرققة فلذلك سميت رقا وقد غلب الاستعمال على
هذا الذي هو من جلود الحيوان والمنشور خلاف المطوي (والبيت المعمور): هو
الذي ذكر في حديث الاسراء قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم هذا البيت المعمور يدخله كل يوم
سبعون الف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم وبهذا هي عمارته وهو في السماء
السابعة وقيل في السادسة وقيل إنه مقابل للكعبة لو وقع حجر منه لوقع على ظهر
309

الكعبة وقال مجاهد وقتادة وابن زيد في كل سماء بيت معمور وفي كل أرض
كذلك وهي كلها على خط من الكعبة وقال علي بن أبي طالب قال السهيلي
والبيت المعمور اسمه " عريبا " قال وهب بن منبه من قال سبحان الله وبحمده كان له
نور يملأ ما بين عريبا وحريبا وهي الأرض السابعة انتهى.
(والسقف المرفوع) هو السماء واختلف الناس في (البحر المسجور) فقال
مجاهد وغيره الموقد نارا وروي ان البحر هو جهنم وقال قتادة: (المسجور)
المملوء وهذا معروف من اللغة ورجحه / الطبري وقال ابن عباس: هو الذي
ذهب ماؤه فالمسجور الفارغ وروي ان البحار يذهب ماؤها يوم القيامة وهذا معروف
في اللغة فهو من الأضداد وقيل يوقد البحر نارا يوم القيامة فذلك سجره وقال ابن
عباس أيضا (المسجور): المحبوس ومنه ساجور الكلب وهي القلادة من عود أو
حديد تمسكه وكذلك لولا أن البحر يمسك لفاض ثنا على الأرض والجمهور على أنه بحر
الدنيا وقال منذر بن سعيد المقسم به جهنم وسماها بحرا لسعتها وتموجها كما
قال صلى الله عليه وسلم في الفرس " وان وجدناه لبحرا " والقسم واقع على قوله: (ان عذاب ربك
310

لواقع) يريد عذاب الآخرة واقع للكافرين قاله قتادة قال الشيخ عبد الحق في
" العاقبة " ويروى ان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سمع قارئا يقرأ
(والطور * وكتاب مسطور) قال هذا قسم حق فلما بلغ القارئ إلى قوله - عز
وجل - (ان عذاب ربك لواقع) ظن أن العذاب قد وقع به فغشي عليه انتهى
و (تمور) معناه تذهب وتجئ بالرياح متقطعة متفتتة وسير الجبال هو في أول الامر
ثم تتفتت حتى تصير آخرا كالعهن المنفوش و (يدعون) قال ابن عباس وغيره معناه
يدفعون في أعناقهم بشدة وإهانة وتعتعة به ومنه (يدع اليتيم) [الماعون: 2] وفي الكلام
محذوف تقديره يقال لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون توبيخا وتقريعا لهم ثم
وقفهم سبحانه بقوله: (أفسحر هذه...) الآية ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم
اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم أي عذابكم حتم فسواء جزعكم وصبركم لا بد
من جزاء أعمالكم.
وقوله سبحانه: (ان المتقين في جنات ونعيم...) الآية يحتمل أن يكون من
خطاب أهل النار فيكون اخبارهم بذلك زيادة في غمهم وسوء حالهم نعوذ بالله من
سخطه ويحتمل وهو الأظهر أن يكون اخبارا للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاصريه لما فرغ من ذكر
عذاب الكفار عقب بذكر نعيم المتقين جعلنا الله منهم بفضله ليبين الفرق ويقع
التحريض على الايمان والمتقون هنا متقو الشرك لأنهم لا بد من مصيرهم إلى
الجنات وكلما زادت الدرجة في التقوى قوي الحصول في حكم الآية حتى أن المتقين
311

على الإطلاق هم في هذه الآية قطعا على الله تعالى بحكم خبره الصادق وقرأ جمهور
الناس " فاكهين " ومعناه فرحين مسرورين وقال أبو عبيدة هو من باب " لابن "
و " تأمر " أي لهم فاكهة قال (ع) والمعنى الأول أبرع وقرأ خالد فيما روى
أبو حاتم: " فكهين " والفكه والفاكه المسرور المتنعم.
وقوله تعالى: (بما آتاهم ربهم) أي: من انعامه ورضاه عنهم.
وقوله تعالى: (ووقاهم ربهم عذاب الجحيم) هذا متمكن في متقي المعاصي الذي
لا يدخل النار (ووقاهم) مشتق من الوقاية وهي الحائل بين الشئ وبين ما يضره.
وقوله: (كلوا واشربوا) أي: يقال لهم كلوا واشربوا و (هنيئا) نصب على
المصدر.
وقوله: (بما كنتم تعملون) معناه: ان رتب الجنة ونعيمها بحسب الأعمال واما
نفس دخولها فهو برحمة الله وفضله وأعمال العباد الصالحات لا توجب على الله تعالى
التنعيم ايجابا لكنه سبحانه قد جعلها امارة على من سبق في علمه تنعيمه وعلق الثواب
والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال والحور جمع حوراء وهي البيضاء القوية بياض
بياض العين وسواد سوادها والعين جمع عيناء وهي كبيرة العينين مع جمالها
وفي قراءة ابن مسعود والنخعي " وزوجناهم بعيس عين " قال أبو الفتح العيساء
البيضاء.
312

وقوله سبحانه: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذرياتهم) اختلف
في معنى الآية فقال ابن عباس وابن جبير والجمهور أخبر الله تعالى ان المؤمنين
الذين أتبعتهم ذريتهم في الايمان يلحق الأبناء في الجنة بمراتب الآباء وإن لم يكن الأبناء
في التقوى والأعمال كالآباء كرامة للآباء وقد ورد في هذا المعنى حديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا الحديث تفسيرا للآية وكذلك وردت أحاديث تقتضي ان الله تعالى يرحم
الآباء رعيا للأبناء الصالحين وقال ابن عباس أيضا والضحاك معنى الآية: ان الله تعالى
يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين يعني في الموارثة والدفن في مقابر المسلمين
وفي احكام الآخرة في الجنة وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار
قال (ع) وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأول لأن الآيات كلها في صفة
احسان الله تعالى إلى أهل الجنة فذكر من جملة إحسانه سبحانه انه يرعى المحسن في
المسئ ولفظة (ألحقنا) تقتضي ان للملحق بعض التقصير في الأعمال.
(ت) وأظهر من هذا ما أشار إليه الثعلبي في بعض أنقاله: ان الله تعالى يجمع
لعبده المؤمن ذريته في الجنة كما كانوا في الدنيا انتهى ولم يتعرض لذكر الدرجات
في هذا التأويل وهو أحسن لأنه قد تقرر ان رفع الدرجات هي بأعمال العاملين
والآيات والأحاديث مصرحة بذلك ولما يلزم على التأويل الأول أن يكون كل من
دخل الجنة مع آدم - عليه السلام - في درجة واحدة إذ هم كلهم ذريته وقد فتحت لك
بابا للبحث في هذا المعنى منعني من اتمامه ما قصدته من الاختصار وبالله التوفيق
وقوله: (وما ألتناهم) أي: نقصناهم ومعنى الآية ان الله سبحانه يلحق الأبناء
بالآباء ولا ينقص الآباء من أجورهم شيئا وهذا تأويل الجمهور ويحتمل ان يريد من
عمل الأبناء من شئ من حسن أو قبيح وهذا تأويل ابن زيد ويؤيده قوله سبحانه
(كل امرئ بما كسب رهين) والرهين: المرتهن وفي هذه الألفاظ وعيد وأمددت
الشئ: إذا سربت إليه شيئا آخر يكثره أو يكثر لديه.
313

وقوله: (مما يشتهون) إشارة إلى ما روي من أن المنعم إذا اشتهى لحما نزل ذلك
الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها وليس يكون في الجنة لحم يحتز ولا
يتكلف فيه الذبح والسلخ والطبخ وبالجملة لا كلفة في الجنة و (يتنازعون) معناه:
يتعاطون ومنه قول الأخطل: [البسيط]
نازعته طيب الراح الشمول وقد * صاح الدجاج وحانت وقعة الساري.
قال الفخر: ويحتمل ان يقال التنازع التجاذب وحينئذ يكون تجاذبهم تجاذب
ملاعبة لا تجاذب منازعة وفيه نوع لذة وهو بيان لما عليه حال الشراب في الدنيا
فإنهم يتفاخرون بكثرة
الشرب ولا يتفاخرون بكثرة الأكل انتهى والكأس الاناء فيه
الشراب ولا يقال في فارغ كأس قاله الزجاج واللغو: السقط من القول والتأثيم:
يلحق خمر الدنيا في نفس شربها وفي الأفعال التي تكون من شاربيها وذلك كله منتف
في الآخرة.
(ت) قال الثعلبي: وقال ابن عطاء أي لغو يكون في مجلس محله جنة
عدن والساقي فيه الملائكة وشربهم على ذكر الله وريحانهم تحية من عند الله والقوم أضياف الله.
(ولا تأثيم) أي فعل يؤثمهم وهو تفعيل من الاثم أي لا يأثمون في شربها
انتهى واللؤلؤ المكنون أجمل اللؤلؤ لأن الصون والكن يحسنه قال ابن جبير أراد الذي
في الصدف لم تنله الأيدي وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم " إذا كان الغلمان كاللؤلؤ المكنون فكيف
المخدومون قال: هم كالقمر ليلة البدر ".
(ت) وهذا تقريب للأفهام والا فجمال أهل الجنة أعظم من هذا يدل على
ذلك أحاديث صحيحة ففي " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
314

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان أول زمرة يدخلون الجنة - وفي رواية " من أمتي " على صورة
القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة " وفي رواية:
" ثم هم بعد ذلك منازل " الحديث وفي صحيح مسلم أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم " ان في الجنة
لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم ويزدادون حسنا
وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون: وأنتم
والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا " انتهى وقد أشار الغزالي وغيره إلى طرف من
هذا المعنى لما تكلم على رؤية العارفين لله سبحانه في الآخرة قال بعد كلام ولا يبعد
ان تكون ألطاف الكشف والنظر في الآخرة متوالية إلى غير نهاية فلا يزال النعيم واللذة
متزايدة أبد الآباد وللشيخ أبي الحسن الشاذلي هنا كلام حسن قال لو كشف عن نور
المؤمن لعبد من دون الله ولو كشف عن نور المؤمن العاصي لطبق السماء والأرض
فكيف بنور المؤمن المطيع؟! نقل كلامه هذا ابن عطاء وابن عباد أنظره.
ثم وصف تعالى عنهم انهم في جملة تنعمهم (يتساءلون) أي عن أحوالهم وما نال
كل واحد منهم وانهم يتذكرون حال الدنيا وخشيتهم عذاب الآخرة والاشفاق أشد
الخشية ورقة القلب و (السموم) الحار و (ندعوه) يحتمل ان يريد الدعاء على
بابه ويحتمل ان يريد نعبده وقرأ نافع والكسائي " انه " - بفتح الهمزة - والباقون
بكسرها و (البر) الذي يبر ويحسن.
315

وقوله سبحانه: (فذكر) امر لنبيه عليه السلام بإدامة الدعاء إلى الله عز وجل ثم
قال مؤنسا له: (فما أنت) بانعام الله عليك ولطفه بك كاهن ولا مجنون.
وقوله سبحانه: (أم يقولون) أي: بل (يقولون شاعر...) الآية روي أن قريشا
اجتمعت في دار الندوة فكثرت آراؤهم في النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال قائل منهم تربصوا به ريب
المنون أي حوادث الدهر فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة
والأعشى وغيرهم فافترقوا على هذه المقالة فنزلت الآية في ذلك والتربص: الانتظار
والمنون من أسماء الموت وبه فسر ابن عباس وهو أيضا من أسماء الدهر وبه فسر
مجاهد والريب هنا الحوادث والمصائب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم انما فاطمة بضعة مني
يريبني ما رابها الحديث.
وقوله: (قل تربصوا) وعيد في صيغة امر.
وقوله سبحانه: (أم تأمرهم أحلامهم بهذا) الأحلام: العقول وقوله: (بهذا)
يحتمل ان يشير إلى هذه المقالة هو شاعر ويحتمل ان يشير إلى ما هم عليه من الكفر
وعبادة الأصنام و (تقوله) معناه قال عن الغير أنه قال فهي عبارة عن كذب
مخصوص ثم عجزهم سبحانه بقوله (فليأتوا بحديث مثله) والضمير في (مثله) عائد
على القرآن.
وقوله: (ان كانوا صادقين).
316

(ت) أي: في أن محمدا تقوله قاله الثعلبي.
وقوله سبحانه: (أم خلقوا من غير شئ) قال الثعلبي قال ابن عباس من غير أب
ولا أم فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجة أليسوا خلقوا من نطفة وعلقة
وقال ابن كيسان أم خلقوا عبثا وتركوا سدى من غير شئ أي لغير شئ لا يؤمرون
ولا ينهون (أم هم الخالقون) لأنفسهم فلا يأتمرون ذلك لأمر الله انتهى وعبر
(ع) عن هذا بان قال: وقال آخرون معناه أم خلقوا لغير علة ولا لغاية عقاب
وثواب فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون.
(ت) وقد يحتمل أن يكون المعنى: أم خلقوا من غير شئ خلقهم أي من
غير موجد أوجدهم ويدل عليه مقابلته بقوله (أم هم الخالقون) وهكذا قال الغزالي في
" الاحياء " قال: وقوله عز وجل: (أم خلقوا من غير شئ) أي من غير خالق انتهى
بلفظه من كتاب آداب التلاوة قال الغزالي ولا يتوهم ان الآية تدل انه لا يخلق شئ الا
من شئ انتهى وقال الفخر قوله تعالى: (من غير شئ) فيه وجوه المنقول
منها: أم خلقوا من غير خالق [وقيل أم خلقوا لا لغير شئ عبثا] وقيل: أم خلقوا
من غير أب وأم انتهى وأحسنها الأول كما قال الغزالي والله أعلم بما أراد سبحانه
وفي الصحيح عن جبير بن مطعم قال " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما
بلغ هذه الآية: (أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون) إلى قوله (المصيطرون)
كاد قلبي ان يطير " وفي رواية وذلك أول ما وقر الايمان في قلبي " انتهى وأسند
أبو بكر بن الخطيب في تاريخه عن جبير بن مطعم قال " اتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء
أهل بدر فسمعته يقرأ في المغرب بالطور فكأنما تصدع قلبي حين سمعت القرآن "
انتهى.
317

وقوله سبحانه: (أم عندهم خزائن ربك) بمنزلة قوله أم عندهم الاستغناء في جميع
الأمور والمصيطر: القاهر وبذلك فسر ابن عباس الآية والسلم السبب الذي يصعد
به كان ما كان من خشب أو بناء أو حبال أو غير ذلك والمعنى: الهم سلم إلى
السماء يستمعون فيه أي عليه أو منه وهذه حروف يسد بعضها مسد بعض والمعنى:
يستمعون الخبر بصحة ما يدعونه فليأتوا بالحجة المبينة في ذلك.
وقوله سبحانه: (أم عندهم الغيب) الآية قال ابن عباس يعني أم عندهم اللوح
المحفوظ (فهم يكتبون): ما فيه ويخبرون به ثم قال (أم يريدون كيدا): بك
وبالشرع، ثم جزم الخبر بأنهم (هم المكيدون) أي: هم المغلوبون فسمى غلبتهم كيدا
إذ كانت عقوبة الكيد ثم قال سبحانه: (أم لهم إله غير الله) يعصمهم ويمنعهم من
الهلاك قال الثعلبي: قال الخليل ما في سورة الطور كلها من ذكر " أم " كله استفهام لهم
انتهى.
ثم نزه تعالى نفسه: (عما يشركون) به.
وقوله: (وان يروا كسفا) أي: قطعة يقولون لشدة معاندتهم هذا (سحاب مركوم):
بعضه على بعض وهذا جواب لقولهم: (فأسقط علينا كسفا من السماء) [الشعراء: 187]
وقولهم: (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) [الإسراء: 92] يقول: لو فعلنا هذا
بهم لما / آمنوا ولقالوا: سحاب مركوم.
وقوله تعالى: (فذرهم) وما جرى مجراه من الموادعة منسوخ بآية السيف
318

والجمهور ان يومهم الذي فيه يصعقون هو يوم القيامة وقيل هو موتهم واحدا واحدا
ويحتمل أن يكون يوم بدر لأنهم عذبوا فيه والصعق التعذيب في الجملة وان كان
الاستعمال قد كثر فيما يصيب الانسان من الصيحة المفرطة ونحوه ثم أخبر تعالى بان لهم
دون هذا اليوم أي: قبله (عذابا) واختلف في تعيينه فقال ابن عباس وغيره هو بدر
ونحوه وقال مجاهد: هو الجوع الذي أصابهم وقال البراء بن عازب وابن عباس
أيضا: هو عذاب القبر وقال ابن زيد: هي مصائب الدنيا إذ هي لهم عذاب.
(ت) ويحتمل أن يكون المراد الجميع قال الفخر: ان قلنا إن العذاب هو
بدر فالذين ظلموا هم أهل مكة وان قلنا: العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في
كل ظالم انتهى.
ثم قال تعالى لنبيه: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) أي: بمرأى ومنظر نرى
ونسمع ما تقول وانك في حفظنا وحيطتنا كما تقول: فلان يرعاه الملك بعين وهذه
الآية ينبغي ان يقررها كل مؤمن في نفسة فإنها تفسح مضايق الدنيا.
وقوله سبحانه: (وسبح بحمد ربك) قال أبو الأحوص: هو التسبيح المعروف
يقول في كل قيام: سبحان الله وبحمده وقال عطاء: المعنى حين تقوم من كل مجلس
(ت) وفي تفسير أحمد بن نصر الداوودي قال: وعن ابن المسيب قال: حق
على كل مسلم أن يقول حين يقوم إلى الصلاة سبحان الله وبحمده لقول الله سبحانه
لنبيه (وسبح بحمد ربك حين تقوم) انتهى / وقال ابن زيد: هي صلاة النوافل وقال
319

الضحاك: هي الصلوات المفروضة ومن قال هي النوافل جعل ادبار النجوم ركعتي
الفجر وعلى هذا القول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين وقد روي مرفوعا ومن
جعله التسبيح المعروف جعل قوله: (حين تقوم) مثالا أي: حين تقوم وحين تقعد وفي
كل تصرفك وحكى منذر عن الضحاك ان المعنى: حين تقوم في الصلاة [بعد] تكبيرة
الاحرام فقل: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك " الحديث.
320

تفسير سورة " النجم "
وهي مكية باجماع
وهي أول سورة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهر بقراءتها في الحرم والمشركون
يستمعون وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والانس غير أبي لهب فإنه
رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال: يكفيني هذا.
(ت) والذي خرجه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود: " فسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه الا رجلا رأيته اخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد
ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف " انتهى وسبب نزولها ان المشركين قالوا: ان
محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله فنزلت السورة في ذلك.
قوله عز وجل: (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن
الهوى) الآية قال الحسن وغيره: النجم المقسم به هنا اسم جنس أراد به النجوم
ثم اختلفوا في معنى (هوى) فقال جمهور المفسرين: هوى للغروب وهذا هو السابق
إلى الفهم من كلام العرب وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي: هوى في الانقضاض في
اثر العفريت عند استراق السمع وقال مجاهد وسفيان: النجم في قسم الآية: الثريا
وسقوطها مع الفجر هو هويها والعرب لا تقول: النجم مطلقا الا للثريا والقسم واقع
على قوله: (ما ضل صاحبكم وما غوي).
321

(ص): (إذا هوى) أبو البقاء: العامل في الظرف فعل القسم المحذوف أي:
أقسم بالنجم وقت هويه وجواب القسم: (ما ضل) انتهى قال الفخر: أكثر
المفسرين لم يفرقوا بين الغي والضلال وبينهما فرق فالغي في مقابلة الرشد والضلال
أعم منه انتهى. (وما ينطق عن الهوى): يريد محمدا صلى الله عليه وسلم انه لا يتكلم عن هواه أي:
بهواه وشهوته وقال بعض العلماء: وما ينطق القرآن المنزل عن هوى.
(ت) وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية كما ترى.
وقوله: (ان هو الا وحي يوحى) يراد به القرآن باجماع.
(ت) كان وليس هذا الاجماع بصحيح ولفظ الثعلبي (ان هو الا وحي) أي: ما
نطقه في الدين الا بوحي انتهى وهو أحسن إن شاء الله قال الفخر: الوحي اسم
ومعناه: الكتاب أو مصدر وله معان: منها الارسال والالهام والكتابة والكلام
والإشارة فان قلنا: هو ضمير القرآن فالوحي اسم معناه الكتاب ويحتمل ان يقال:
مصدر أي ما القرآن الا إرسال أي مرسل وان قلنا: المراد من قوله: (ان هو الا
وحي) قول محمد وكلامه فالوحي حينئذ هو الالهام أي كلامه ملهم من الله أو مرسل
انتهى والضمير في (علمه) لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم والمعلم هو جبريل عليه السلام قاله ابن
عباس وغيره أي: علم محمدا القرآن و (ذو مرة) معناه: ذو قوة قاله قتادة
وغيره ومنه قوله عليه السلام " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي "
واصل المرة من مرائر الحبل وهي فتلة واحكام عمله.
322

وقوله: (فاستوى) قال الربيع والزجاج المعنى: فاستوى جبريل في الجو وهو إذ
ذاك بالأفق الأعلى إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قد سد الأفق له ستمائة جناح وحينئذ
دنا من محمد عليه السلام حتى كان قاب قوسين وكذلك رآه نزلة أخرى في صفته
العظيمة له ستمائة جناح عند السدرة.
وقوله: (ثم دنا فتدلى) قال الجمهور: المعنى دنا جبريل إلى محمد في الأرض
عند حراء وهذا هو الصحيح ان جميع في هذه الآيات من الأوصاف هو مع جبريل
و (دنا) أعم من (تدلى) فبين تعالى بقوله (فتدلى) هيئة الدنو كيف كانت و (قاب)
معناه: قدر قال قتادة وغيره معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر وقال الحسن
ومجاهد: من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض.
وقوله: (أو أدنى) معناه على مقتضى نظر البشر أي: لو رآه أحدكم لقال في
ذلك: قوسان أو أدنى من ذلك وقيل المراد بقوسين أي: قدر الذراعين وعن ابن
عباس ان القوس في الآية ذراع يقاس به وذكر الثعلبي انها لغة بعض الحجازيين
وقوله تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) قال ابن عباس: المعنى: فأوحى الله
إلى عبده محمد ما أوحى وفي قوله: (ما أوحى) ابهام على جهة التفخيم والتعظيم
قال عياض: ولما كان ما كاشفه عليه السلام من ذلك الجبروت وشاهده من عجائب
الملكوت لا تحيط به العبارات ولا تستقل بحمل سماع أدناه العقول رمز عنه تعالى
بالايماء والكناية الدالة على التعظيم فقال تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) وهذا
النوع من الكلام يسميه أهل النقد والبلاغة بالوحي والإشارة وهو عندهم أبلغ أبواب
الايجاز انتهى.
323

وقوله سبحانه: (ما كذب الفؤاد ما رأى) المعنى: لم يكذب قلب محمد الشئ
الذي رأى بل صدقه وتحققه نظرا قال أهل التأويل منهم ابن عباس وغيره: رأى
محمد الله بفؤاده وقال النبي صلى الله عليه وسلم " جعل الله نور بصري في فؤادي فنظرت إليه
بفؤادي " وقال آخرون من المتأولين: المعنى ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه بل
صدقه وتحققه وقال ابن عباس فيما روي عنه: ان محمدا رأى ربه بعيني رأسه
وأنكرت ذلك عائشة وقالت: انا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات فقال لي: " هو
جبريل فيها كلها " قال (ع) وهذا قول الجمهور وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع
بكل تأويل في اللفظ لان قول غيرها انما هو منتزع من ألفاظ القرآن.
وقوله سبحانه: (أفتمارونه على ما يرى) قرأ حمزة والكسائي " أفتمرونه " - بفتح التاء
دون الف أي: أفتجحدونه.
(ت) قال الثعلبي واختار هذه القراءة أبو عبيد: قال إنهم لا يمارونه، وانما
جحدوه واختلف في الضمير في قوله: (ولقد رآه) حسبما تقدم فقالت عائشة
والجمهور: هو عائد على جبريل و (نزلة) معناه: مرة أخرى فجمهور العلماء ان
المرئي هو جبريل عليه السلام في المرتين مرة في الأرض بحراء ومرة عند سدرة
المنتهى ليلة الاسراء رآه على صورته التي خلق عليها وسدرة المنتهى هي شجرة نبق في
السماء السابعة وقيل لها سدرة المنتهى لأنها إليها ينتهي علم كل عالم ولا يعلم ما
وراءها صعدا الا الله عز وجل وقيل سميت بذلك لأنها إليها ينتهي من مات على سنة
النبي صلى الله عليه وسلم قال (ع): وهم المؤمنون حقا من كل جيل.
324

وقوله سبحانه: (عندها جنة المأوى) قال الجمهور: أراد سبحانه ان يعظم مكان
السدرة ويشرفه بان جنة المأوى عندها قال الحسن: هي الجنة التي وعد بها
المؤمنون.
وقوله سبحانه: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) أي: غشيها من امر الله ما غشيها فما
يستطيع أحد ان يصفها وقد ذكر المفسرون في وصفها أقوالا هي تكلف في الآية لأن
الله تعالى أبهم ذلك وهم يريدون شرحه وقد قال صلى الله عليه وسلم: " فغشيها ألوان لا أدرى ما
هي "
وقوله تعالى: (ما زاغ البصر) قال ابن عباس معناه ما جال هكذا ولا هكذا.
وقوله: (وما طغى) معناه: ولا تجاوز المرئي وهذا تحقيق للامر ونفي لوجوه
الريب عنه.
وقوله: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) قال جماعة: معناه لقد رأى الكبرى من
آيات ربه أي مما يمكن ان يراها البشر وقال آخرون: المعني لقد رأى بعضا من
آيات ربه الكبرى وقال ابن عباس وابن مسعود: رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد
الأفق.
325

(ت) وزاد الثعلبي: وقيل المعراج وما رأى في تلك الليلة في مسراه في
عوده وبدئه دليله قوله تعالى: (لنريه من آياتنا...) [الإسراء: 1] الآية قال عياض
وقوله تعالى: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) انحصرت الافهام عن تفصيل ما أوحى
وتاهت الأحلام في تعيين تلك الآيات الكبرى وقد اشتملت هذه الآيات على اعلام الله
بتزكية جملته عليه السلام وعصمتها من الآفات في هذا المسرى فزكى فؤاده ولسانه
وجوارحه فقلبه بقوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى) [النجم: 11] ولسانه عليه
السلام بقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى) [النجم: 3] وبصره بقوله تعالى: (ما زاغ
البصر وما طغى) ا ه‍.
ولما فرغ من ذكر عظمة الله وقدرته قال على جهة التوقيف: (أفرأيتم اللات
والعزى...) الآية: أي: أرأيتم هذه الأوثان وحقارتها وبعدها عن هذه القدرة والصفات
العلية واللات صنم كانت العرب تعظمة والعزى صخرة بيضاء كانت العرب أيضا
تعبدها واما مناة: فكانت بالمشلل من قديد وكانت أعظم هذه الأوثان عندهم وكانت
الأوس والخزرج تهل لها ووقف تعالى الكفار على هذه الأوثان وعلى قولهم فيها: انها
بنات الله فكأنه قال أرأيتم هذه الأوثان وقولكم هي بنات الله (الكم الذكر وله الأنثى)
ثم قال تعالى على جهة الانكار: (تلك إذا قسمة ضيزى) أي عوجاء قاله مجاهد
وقيل: جائرة قال ابن عباس وقال سفيان: معناه: منقوصة وقال ابن زيد:
معناه مخالفة والعرب تقول: ضزته حقه أضيزه بمعنى: منعته وضيزى من هذا
التصريف قال أبو حيان: و (الثالثة الأخرى) صفتان لمناة للتأكيد قيل وأكدت
بهذين الوصفين لعظمها عندهم وقال الزمخشري والأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة
المقدار وتعقب بان أخرى مؤنث آخر ولم يوضعا للذم ولا للمدح.
(ت) وفي هذا التعقب تعسف والظاهر أن الوصفين معا سيقا مساق الذم لأن
هؤلاء الكفار لم يكتفوا بضلالهم في اعتقادهم ما لا يجوز في اللات والعزى إلى أن
326

أضافوا إلى ذلك مناة الثالثة الأخرى الحقيرة وكل أصنامهم حقير انتهى.
ثم قال تعالى: (ان هي الا أسماء) يعني ان هذه الأوصاف من أنها إناث وانها
آلهة تعبد ونحو هذا الا أسماء أي: تسميات اخترعتموها أنتم وآباؤكم ما انزل الله بها
برهانا ولا حجة وما هو الا اتباع الظن (وما تهوى الأنفس) وهوى الأنفس هو ارادتها
الملذة لها وانما تجد هوى النفس ابدا في ترك الأفضل لأنها مجبولة بطبعها على حب
الملذ وانما يردعها ويسوقها إلى حسن العاقبة العقل والشرع.
وقوله سبحانه: (ولقد جاءهم من ربهم الهدى) فيه توبيخ لهم إذ يفعلون هذه
القبائح والهدى حاضر وهو محمد وشرعه والانسان في قوله: (أم للانسان) اسم
جنس كأنه يقول: ليست الأشياء بالتمني والشهوات وانما الامر كله لله والأعمال جارية
على قانون امره ونهيه فليس لكم - أيها الكفرة - مرادكم في قولكم هذه آلهتنا وهي
تشفع لنا وتقربنا إلى الله زلفى ونحو هذا (فلله الآخرة والأولى) أي: له كل أمرهما:
ملكا ومقدورا وتحت سلطانه قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب " عيوب
النفس " ومن عيوب النفس كثرة التمني والتمني هو الاعتراض على الله عز وجل في
قضائه وقدره ومداواتها / ان يعلم أنه لا يدري ما يعقبه التمني أيجره إلى خير أو إلى
شر فإذا تيقن ابهام عاقبة تمنيه أسقط عن نفسه ذلك ورجع إلى الرضا والتسليم
فيستريح انتهى.
وقوله سبحانه: (وكم من ملك...) الآية: رد على قريش في قولهم: الأوثان
شفعاؤنا (وكم) للتكثير وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر (لا تغنى) والغنى
جلب النفع ودفع الضر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء.
وقوله سبحانه: (ان الذين لا يؤمنون بالآخرة) يعني: كفار العرب.
327

وقوله: (وان الظن لا يغني من الحق شيئا) أي: في المعتقدات والمواضع التي
يريد الانسان ان يحرر ما يعقل ويعتقد فإنها مواضع حقائق لا تنفع الظنون فيها واما في
الاحكام وظواهرها فيجتزى فيها بالمظنونات.
ثم سلى سبحانه نبيه وأمره بالاعراض عن هؤلاء الكفرة.
وقوله: (عن ذكرنا) قال الثعلبي: يعنى القرآن.
وقوله سبحانه: (ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) الآية متصلة في معنى
التسلية ومتضمنة وعيدا للكافرين ووعدا للمؤمنين والحسنى: الجنة ولا حسنى دونها
وقد تقدم نقل الأقوال في الكبائر في سورة النساء وغيرها وتحرير القول في الكبائر انها
كل معصية يوجد فيها حد في الدنيا أو توعد عليها بنار في الآخرة أو لعنة
ونحو هذا.
وقوله: (الا اللمم) هو استثناء يصح أن يكون متصلا وان قدرته منقطعا ساغ
ذلك وبكل قد قيل واختلف في معنى (اللمم) فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي
وغيرهم: اللمم صغار الذنوب التي لا حد فيها ولا وعيد عليها لأن الناس لا
يتخلصون من مواقعة هذه الصغائر ولهم مع ذلك الحسنى / إذا اجتنبوا الكبائر وتظاهر
العلماء في هذا القول وكثر المائل إليه وحكي عن ابن المسيب ان اللمم: ما خطر على
القلب يعني بذلك لمة الشيطان وقال ابن عباس: معناه الا ما ألموا به من
المعاصي الفلتة والسقطة دون دوام ثم يتوبون منه وعن الحسن بن أبي الحسن أنه قال:
في اللمة من الزنا والسرقة وشرب الخمر ثم لا يعود قال (ع) وهذا التأويل
يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى إذ الغالب في المؤمنين مواقعة
328

المعاصي وعلى هذا أنشدوا وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم [الرجز]
ان تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما.
وقوله سبحانه: (إذ أنشأكم من الأرض) يريد خلق أبيهم آدم ويحتمل ان يراد به
انشاء الغذاء وأجنة على جمع جنين.
وقوله سبحانه: (فلا تزكوا أنفسكم) ظاهره النهي عن تزكية الانسان نفسه ويحتمل
أن يكون نهيا عن أن يزكي بعض الناس بعضا وإذا كان هذا فإنما ينهي عن تزكية السمعة
والمدح للدنيا أو القطع بالتزكية واما تزكية الامام والقدوة أحدا ليؤتم به أو ليتمم الله الناس
بالخير فجائز وفي الباب أحاديث صحيحة وباقي الآية بين.
(ت) قال صاحب " الكلم الفارقية " اعرف الناس بنفسه أشدهم ايقاعا للتهمة بها
في كل ما يبدو ويظهر له منها وأجهلهم بمعرفتها وخفايا آفاتها وكوامن مكرها من زكاها
وأحسن ظنه بها لأنها مقبلة على عاجل حظوظها معرضة عن الاستعداد لآخرتها قال انتهى
وقال ابن عطاء الله: أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس واصل كل
طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها قال شارحة ابن عباد الرضى عن النفس
أصل جميع الصفات المذمومة وعدم الرضا عنها أصل الصفات المحمودة وقد اتفق على
هذا جميع العارفين وأرباب القلوب وذلك لأن الرضا عن النفس يوجب تغطية عيوبها
ومساويها وعدم الرضا عنها على عكس هذا كما قيل: [الطويل]
وعين الرضا عن كل عيب كليلة * ولكن عين السخط تبدي المساويا.
انتهى.
وقوله تعالى: (أفرأيت الذي تولى...) الآية قال مجاهد وابن زيد وغيرهما:
329

نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وذلك أنه سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ووعظه فقرب من
الاسلام وطمع النبي صلى الله عليه وسلم في اسلامه ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له: أتترك ملة
آبائك ارجع إلى دينك وأثبت عليه وانا أتحمل لك بكل شئ تخافه في الآخرة لكن
على أن تعطيني كذا وكذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما هم به من الاسلام
وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح فنزلت الآية فيه وقال
السدي: نزلت في العاصي بن وائل قال (ع): فقوله: (وأعطى قليلا وأكدى)
على هذا - هو في المال وقال مقاتل في كتاب الثعلبي: المعنى أعطى الوليد قليلا من
الخير بلسانه ثم (أكدى) أي: انقطع ما أعطى وهذا بين من اللفظ والآخر يحتاج إلى
رواية و (تولى) معناه: أدبر وأعرض عن امر الله و (أكدى) معناه: انقطع عطاؤه وهو
مشبه بالذي يحفر في الأرض فإنه إذا انتهى في حفر بئر ونحوه إلى كدية وهي ما صلب
من الأرض يئس من الماء وانقطع حفره وكذلك أجبل إذا انتهى في الحفر إلى جبل ثم
قيل لمن انقطع: عمله أكدى وأجبل.
(ت) قال الثعلبي: وأصله من الكدية وهو حجر في البئر يؤيس من الماء قال
الكسائي: تقول العرب: أكدى الحافر وأجبل: إذا بلغ في الحفر إلى الكدية والجبل
انتهى.
وقوله عز وجل: (أعنده علم الغيب فهو يرى) معناه: اعلم من الغيب ان من تحمل
ذنوب آخر انتفع بذلك المتحمل عنه فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيرة؟! أم
هو جاهل لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى بما أرسل به من أنه لا تزر
وازرة أي: لا تحمل حاملة حمل أخرى وفي البخاري (وإبراهيم الذي وفى): وفى ما
فرض عليه انتهى.
وقوله سبحانه: (وان ليس للانسان الا ما سعى) وما بعده كل ذلك معطوف على
قوله: (الا تزر وازرة وزر أخرى) والجمهور ان قوله: (وان ليس للانسان الا ما سعى)
330

محكم لا نسخ فيه وهو لفظ عام مخصص.
وقوله: (وان سعيه سوف يرى) أي يراه الله ومشاهد تلك الأمور وفي
عرض الأعمال على الجميع تشريف للمحسنين وتوبيخ للمسيئين ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " من
سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة ".
وفي قوله تعالى: (ثم يجزاه الجزاء الأوفى) وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين.
وقوله سبحانه: (وان إلى ربك المنتهى) أي: منتهى الخلق ومصيرهم اللهم اطلعنا
على خيرك بفضلك ولا تفضحنا بين خلقك وجد علينا بسترك في الدارين وحق لعبد
يعلم أنه إلى ربه منتهاه ان يرفض هواه ويزهد في دنياه ويقبل بقلبه على مولاه ويقتدي
بنبي فضله الله على خلقه وارتضاه ويتأمل كيف كان زهده صلى الله عليه وسلم في دنياه وإقباله على
مولاه قال عياض في " شفاه " واما زهده صلى الله عليه وسلم فقد قدمنا من الاخبار أثناء هذه السيرة ما
يكفي وحسبك من تقلله منها واعراضه عنها وعن زهرتها وقد سيقت إليه بحذافيرها
وترادفت عليه فتوحاتها انه توفي صلى الله عليه وسلم ودرعة مرهونة عند يهودي وهو يدعو ويقول:
331

" اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا "
وفي " صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها قالت ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله.
وعنها رضي الله عنها قالت " لم يمتلئ جوف نبي الله صلى الله عليه وسلم شبعا قط ولم يبث
شكوى إلى أحد وكانت الفاقة أحب إليه من الغنى وان كان ليظل جائعا يلتوي طول ليلته
من الجوع فلا يمنعه ذلك صيام يومه ولو شاء سأل ربه جميع كنوز الأرض وثمارها
ورغد عيشها ولقد كنت أبكي له رحمة مما أرى به وامسح بيدي على بطنه مما به من
الجوع وأقول نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك فيقول يا عائشة ما لي
وللدنيا إخواني من أولى العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على
حالهم فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني استحيي ان ترفهت في
معيشتي ان يقصر بي غدا دونهم وما من شئ هو أحب إلي من اللحوق بإخواني
وأخلائي وكان قالت فما أقام بعد الا أشهرا حتى توفي صلوات الله وسلامه عليه " انتهى
وباقي الآية دلالة على التوحيد واضحة و (النشأة الأخرى) هي إعادة الأجسام إلى
الحشر بعد البلى و (أقنى) معناه: أكسب ما يقتنى تقول قنيت المال أي كسبته
وقال ابن عباس (أقنى) قنع قال (ع) والقناعة خير قنية والغنى عرض
زائل فلله در ابن عباس و (الشعري) نجم في السماء قال مجاهد وابن زيد هو
مرزم الجوزاء وهما شعريان: إحداهما الغميصاء والأخرى العبور لأنها عبرت المجرة
وكانت خزاعة ممن يعبد هذه الشعرى العبور ومعنى الآية وان الله سبحانه رب هذا
المعبود الذي لكم و (عادا الأولى) اختلف في معنى وصفها بالأولى فقال الجمهور
سميت " أولى " بالإضافة إلى الأمم المتأخرة عنها وقال الطبري وغيره سميت أولى
لان ثم عادا آخرة وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال والله
332

اعلم وقرأ الجمهور " وثمودا " بالنصب عطفا على " عاد " " وقوم نوح " عطفا على
" ثمود "
وقوله: (من قبل) لأنهم كانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض و (المؤتفكة)
قرية قوم لوط (أهوى) أي: طرحها من هواء عال إلى سفل.
وقوله سبحانه: (فبأي آلاء ربك تتمارى) مخاطبة للانسان الكافر كأنه قيل له هذا
هو الله الذي له هذه الأفعال وهو خالقك المنعم عليك بكل النعم ففي أيها تشك
وتتمارى؟! معناه تتشكك وقال مالك الغفاري إن قوله: (الا تزر) إلى قوله
(تتمارى) / هو في صحف إبراهيم وموسى.
وقوله سبحانه: (هذا نذير) يحتمل أن يشير إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول قتادة
وغيره وهذا هو الأشبه ويحتمل أن يشير إلى القرآن وهو تأويل قوم و (نذير)
يحتمل أن يكون بناء اسم فاعل ويحتمل أن يكون مصدرا ونذر جمع نذير.
وقوله تعالى: (أزفت الآزفة) معناه قربت القريبة والآزفة: عبارة عن القيامة
بإجماع من المفسرين، وأزف معناه قرب جدا، قال كعب بن زهير: [البسيط]
بان الشباب وآها الشيب قد أزفا * ولا أرى لشباب ذاهب خلفا.
و (كاشفة) يحتمل أن تكون صفة لمؤنث التقدير: حال كاشفة ونحو هذا التقدير
ويحتمل أن تكون بمعنى: كاشف قال الطبري والزجاج: هو من كشف السر أي:
333

ليس من دون الله من يكشف وقتها ويعلمه وقال منذر بن سعيد هو من كشف الضر
ودفعه أي ليس من يكشف خطبها وهولها إلا الله.
وقوله سبحانه: (أفمن هذا الحديث تعجبون...) الآية: روى سعد بن أبي وقاص
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن هذا القرآن أنزل بخوف فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا
فتباكوا " ذكره الثعالبي وأخرج الترمذي والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يلج النار من
بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان
جهنم في منخر أبدا " قال النسائي ويروى " في جوف أبدا " " ولا يجتمع الشح والإيمان
في قلب أبدا " قال الترمذي وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عينان لا تمسهما النار عين بكت من
خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله " انتهى من " مصابيح / البغوي " قال أبو
عمر بن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إياكم وكثرة الضحك فإنه يميت القلب
ويذهب بنور الوجه " انتهى من " بهجة المجالس " وروى الترمذي عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن.
334

فقال أبو هريرة فقلت أنا يا رسول الله فأخذ بيدي فعد خمسا وقال اتق المحارم
تكن أعبد الناس وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس وأحسن إلى جارك تكن
مؤمنا وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك
يميت القلب " انتهى والسامد: اللاعب اللاهي وبهذا فسر ابن عباس وغيره من
المفسرين وسمد بلغة حمير: غني وهو كله معنى قريب بعضه من بعض ثم أمر
تعالى بالسجود له والعبادة تخويفا وتحذيرا وههنا سجدة في قول كثير من العلماء
ووردت بها أحاديث صحاح ولم ير مالك بالسجود هنا وقال زيد بن ثابت إنه قرأ بها
عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد. قال ابن العربي في " أحكامه " وكان مالك يسجدها في
خاصة نفسه انتهى.
335

تفسير سورة " القمر "
وهي مكية بإجماع
إلا آية واحدة قوله: (سيهزم الجمع...) الآية ففيها خلاف والجمهور أنها
أيضا مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله سبحانه: (اقتربت الساعة وانشق القمر) معناه قربت الساعة وهي القيامة
وأمرها مجهول التحديد وكل ما يروى في عمر الدنيا من التحديد فضعيف.
وقوله: (وانشق القمر) إخبار عما وقع وذلك أن قريشا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم آية
فأراهم الله انشقاق القمر فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من المسلمين والكفار فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا.
336

وقوله: (وإن يروا): جاء اللفظ مستقبلا لينتظم ما مضى وما يأتي فهو إخبار بأن
حالهم هكذا.
وقوله: (مستمر): قال الزجاج قيل معناه دائم متماد وقال قتادة وغيره
معناه مار ذاهب عن قريب يزول ثم قال سبحانه على جهة جزم الخبر: (وكل أمر
مستقر) كأنه يقول: وكل شئ إلى غاية عنده سبحانه و (مزدجر) معناه موضع زجر.
وقوله: (فما تغن النذر): يحتمل أن تكون " ما " نافية ويحتمل أن تكون
استفهامية.
ثم سلى سبحانه نبيه عليه السلام بقوله: (فتول عنهم) أي: لا تذهب نفسك
عليهم حسرات وتم القول في قوله: (عنهم) ثم ابتدأ وعيدهم بقوله: (يوم) والعامل
في [(يوم)] قوله (يخرجون) وقال الرماني المعنى فتول عنهم واذكر يوم وقال
الحسن: المعنى فتول عنهم إلى يوم.
وقرأ الجمهور: " نكر " - بضم الكاف - قال الخليل النكر نعت للأمر الشديد
والرجل الداهية وخص الإبصار بالخشوع لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح وكذلك
سائر ما في نفس الانسان من حياء أو صلف أو خوف ونحوه إنما يظهر في الإبصار
و (الأجداث): جمع جدث وهو القبر وشبههم سبحانه بالجراد المنتشر وقد شبههم
سبحانه في آية أخرى بالفراش المبثوث وفيهم من كل هذا شبه وذهب بعض المفسرين
إلى أنهم أولا كالفراش حين يموج بعضهم في بعض ثم في رتبة أخرى كالجراد إذا
توجهوا نحو المحشر والداعي، والمهطع: المسرع في مشيه نحو الشئ مع هز ورهق ومد
بصر نحو المقصد إما لخوف أو طمع ونحوه قال أبو حيان (مهطعين) أي
مسرعين وقيل فاتحين أذانهم للصوت انتهى.
و (يقول الكافرون هذا يوم عسر) لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته.
337

وقوله سبحانه: (كذبت قبلهم قوم نوح...) الآية وعيد لقريش وضرب مثل
لهم.
وقوله: وازدجر إخبار من الله عز وجل أنهم زجروا نوحا - عليه السلام -
بالسب والنجه والتخويف قاله ابن زيد.
وقوله: (فانتصر) أي فانتصر لي منهم بأن تهلكهم.
وقوله: (ففتحنا أبواب السماء) قال الجمهور هذا مجاز وتشبيه لأن المطر كأنه
من أبواب وهذا مبدأ الانتصار من الكفار والمنهمر: الشديد الوقوع الغزير وقرأ
الجمهور: (فالتقى الماء) يعني: ماء السماء وماء العيون.
وقوله سبحانه: (على أمر قد قدر) أي: قد قضي وقدر في الأزل و (ذات ألواح
ودسر) هي السفينة والدسر المسامير واحدها دسار وهذا هو قول الجمهور وقال
مجاهد الدسر أضلاع السفينة قال العراقي والدسار أيضا ما تشد به السفينة
انتهى.
وقوله تعالى: (تجري بأعيننا) معناه بحفظنا وتحت نظر منا قال البخاري قال
قتادة: أبقى الله عز وجل سفينة نوح حتى أدركها أوائل هذه الأمة انتهى وقرأ جمهور
الناس (جزاء لمن كان كفر) مبنيا للمفعول قال مكي قيل " من " يراد بها نوح
والمؤمنون لأنهم كفروا من حيث كفر بهم فجزاهم الله بالنجاة وقرئ شاذ " كفر "
338

مبنيا للفاعل والضمير في (تركناها) قال مكي: هو عائد على هذه الفعلة والقصة وقال
قتادة وغيره هو عائد على السفينة و (مدكر) أصله مذتكر أبدلوا من التاء دالا
ثم أدغموا الذال في الدال وهذه قراءة الناس قال أبو حاتم ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد
صحيح.
وقوله تعالى: (فكيف كان عذابي ونذر): توقيف لكفار قريش والنذر هنا جمع
نذير وهو المصدر والمعنى كيف كان عاقبة إنذاري لمن لم يحفل به كأنتم أيها القوم
و (يسرنا القرآن) أي: سهلناه وقربناه والذكر الحفظ عن ظهر قلب قال (ع)
يسر بما فيه من حسن النظم وشرف المعاني فله حلاوة في القلوب وامتزاج بالعقول
السليمة.
وقوله: (فهل من مدكر) استدعاء وحض على ذكره وحفظه لتكون زواجره
وعلومه حاضرة في النفس فلله در من قبل وهدي.
(ت) وقال الثعلبي (فهل من مدكر) أي من متعظ.
وقوله: (في يوم نحس مستمر) الآية ورد في بعض الأحاديث في تفسير هذه
الآية: (يوم نحس مستمر) يوم الأربعاء ومستمر معناه متتابع.
339

وقوله: (تنزع الناس) معناه تقلعهم من مواضعهم قلعا فتطرحهم وروي عن
مجاهد أن الريح كانت تلقي الرجل على رأسه فيتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من
بده قال (ع) فلذلك حسن التشبيه بأعجاز النخل وذلك أن المنقلع هو الذي
ينقلع من قعره وقال قوم: انما شبههم بأعجاز النخل لأنهم كانوا يحتفرون حفرا ليمتنعوا
فيها من الريح فكأنه شبه تلك الحفر بعد النزع بحفر أعجاز النخل والنخل تذكر
وتؤنث وفائدة تكرار قوله: (فكيف كان عذابي ونذر) التخويف وهز النفوس وهذا
موجود في تكرار الكلام كقوله صلى الله عليه وسلم " ألا هل بلغت، ألا هل بلغت ألا هل بلغت "
ونحوه و [قول] ثمود لصالح (أبشرا منا واحدا نتبعه) هو حسد منهم واستبعاد منهم
أن يكون نوع البشر يفضل هذا التفضيل ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء
ويفيض نور الهدى على من رضيه وقولهم: (إنا إذا لفي ضلال) أي في ذهاب وائتلاف
عن الصواب (وسعر) معناه في احتراق أنفس واستعارها حنقا وقيل: في جنون
يقال ناقة مسعورة إذا كانت خفيفة الرأس هائمة على وجهها والأشر: البطر وقرأ
الجمهور: (سيعلمون) بالياء وقرأ حمزة وحفص: " ستعلمون " بالتاء من فوق على
معنى: قل لهم يا صالح.
ثم أمر الله صالحا بارتقاب الفرج والصبر.
340

(ت) وقال الثعلبي (فارتقبهم) أي انتظرهم ما يصنعون (ونبئهم أن الماء
قسمة بينهم) وبين الناقة لها شرب ولهم شرب يوم معلوم و (محتضر) معناه:
محضور مشهود متواسي فيه وقال مجاهد: (كل شرب) أي من الماء يوما ومن لبن
الناقة يوما محتضر لهم فكأنه أنبأهم بنعمة الله سبحانه عليهم في ذلك و (صاحبهم)
هو قدار بن سالف و (تعاطى) مطاوع " عاطي " فكان هذه الفعلة تدافعها الناس وأعطاها
بعضهم بعضا فتعاطاها هو وتناول العقر بيده قاله ابن عباس وقد تقدم قصص القوم
و " الهشيم " ما تفتت وتهشم من الأشياء و (المحتظر) معناه: الذي يصنع حظيرة قاله
ابن زيد وغيره وهي مأخوذة من الحظر وهو المنع والعرب وأهل البوادي يصنعونها
للمواشي وللسكنى أيضا من الأغصان والشجر المورق والقصب ونحوه وهذا كله
هشيم يتفتت أما في أول الصنعة وأما عند بلى الحظيرة وتساقط أجزائها وقد تقدم
قصص قوم لوط والحاصب مأخوذ من الحصباء.
وقوله: (فتماروا) معناه تشككوا وأهدى بعضهم الشك إلى بعض بتعاطيهم مع الشبه
والضلال و (النذر) جمع نذير وهو المصدر ويحتمل أن يراد بالنذر هنا وفي قوله
(كذبت قوم لوط بالنذر) جمع نذير الذي هو اسم فاعل.
وقوله سبحانه: (فطمسنا أعينهم) قال قتادة هي حقيقة جر جبريل شيئا من
جناحه على أعينهم فاستوت مع وجوههم قال أبو عبيدة مطموسة بجلدة كالوجه وقال
ابن عباس والضحاك هذه استعارة وإنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا
فجعل ذلك كالطمس.
وقوله (بكرة) قيل: عند طلوع الفجر.
341

وقوله: (فذوقوا) يحتمل أن يكون من قول الله تعالى لهم ويحتمل أن يكون من
قول الملائكة ونذري جمع المصدر أي وعاقبة إنذاري و (مستقر) أي دائم استقر
فيهم حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة و (آل فرعون) قومه واتباعه.
وقوله: (كذبوا بآياتنا كلها) يحتمل أن يريد آل فرعون ويحتمل أن يكون قوله:
(ولقد جاء آل فرعون النذر) [القمر: 41] كلاما تاما ثم يكون قوله (كذبوا بآياتنا)
كلها يعود على جميع من ذكر من الأمم.
وقوله تعالى: (أكفاركم خير من أولئكم) خطاب لقريش على جهة التوبيخ.
وقوله: (أم لكم براءة) أي من العذاب (في الزبر) أي: في كتب الله المنزلة
قاله ابن زيد وغيره.
ثم قال تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم (أم يقولون نحن) واثقون بجماعتنا منتصرون
بقوتنا على جهة الإعجاب سيهزمون فلا ينفع جمعهم وهذه عدة من الله تعالى لرسوله
أن جمع قريش سيهزم فكان كما وعد سبحانه قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
كنت أقول في نفسي أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في
الدرع وهو يقول (سيهزم الجمع ويولون الدبر) والجمهور على أن الآية نزلت بمكة
وقول من زعم أنها نزلت يوم بدر ضعيف والصواب أن الوعد نجز يوم بدر قال أبو
حيان: (ويولون) الجمهور بياء الغيبة وعن أبي عمرو بتاء الخطاب والدبر هنا
اسم جنس وحسن إفراده كونه فاصلة وقد جاء مجموعا في آية أخرى وهو الأصل
انتهى.
342

ثم اضرب سبحانه تهميما بأمر الساعة التي هي أشد عليهم من كل هزيمة وقتل
فقال (بل الساعة موعدهم) و (أدهى) أفعل من الداهية وهي الرزية العظمى تنزل
بالمرء (وأمر) من المرارة.
(ت) وقال الثعلبي الداهية الأمر الشديد الذي لا يهتدى للخلاص منه.
انتهى.
ثم أخبر تعالى عن المجرمين أنهم في الدنيا في حيرة وائتلاف وفقد هدى وفي
الآخرة في احتراق وتسعر وقال ابن عباس المعنى في خسران وجنون والسعر
الجنون وأكثر المفسرين على أن المجرمين هنا يراد بهم الكفار والسحب الجر.
وقوله سبحانه: (إنا كل شئ خلقناه بقدر) قرأ جمهور الناس (كل) بالنصب
وقالوا: المعنى إنا خلقنا كل شئ بقدر سابق وليست خلقنا في موضع الصفة لشئ
وهذا مذهب أهل السنة وهذا المعنى يقتضي أن كل شئ مخلوق إلا ما قام عليه الدليل
أنه ليس بمخلوق كالقرآن والصفات.
(ت) قال الثعلبي: قال ابن عباس خلق الله الخلق كلهم بقدر وخلق الخير
والشر فخير الخير: السعادة وشر الشر الشقاوة.
وقوله سبحانه: (وما أمرنا إلا واحدة) قال (ع) أي إلا قوله واحدة وهي
" كن ".
(ت) قوله إلا قولة فيه قلق ما وكأنه فهم أن معنى الآية راجع إلى قوله
تعالى: (إنما أمرنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) [النحل: 4] وعبارة الثعلبي
أي: وما أمر الساعة إلا واحدة إي إلا رجفة واحدة قال أبو عبيد هي نعت للمعنى
343

دون اللفظ مجازه وما أمرنا إلا مرة واحدة كن فيكون (كلمح بالبصر) أي كخطف بالبصر فقيل له إنه يعني الساعة فقال الساعة وجميع ما يريد انتهى وكلام أبي عبيد
عندي حسن
والأشياع: الفرق المتشابهة في مذهب أو دين ونحوه الأول شيعة للآخر
والآخر شيعة للأول وكل شئ فعلته الأمم المهلكة في الزبر أي مكتوب محفوظ عليهم
إلى يوم الحساب قاله ابن عباس وغيره و (مستطر) أي مسطر وقرأ الجمهور
و (نهر) بفتح النون والهاء على أنه اسم الجنس يريد به الأنهار على أنه بمعنى
وسعة في الأرزاق والمنازل قال أبو حيان وقرأ الأعمش " ونهر " بضم النون والهاء
جمع نهر ك‍ " رهن " و " رهن " انتهى.
وقوله تعالى: (في مقعد صدق) يحتمل أن يريد به الصدق الذي هو ضد الكذب
أي المقعد الذي صدقوا في الخبر به ويحتمل أن يكون من قولك عود صدق أي
جيد ورجل صدق أي خير والمليك المقتدر الله تعالى.
(ت) وقال الثعلبي: (في مقعد صدق) أي: في مجلس حق لا لغو فيه ولا
تأثيم وهو الجنة عند مليك مقتدر و (عند) إشارة إلى القربة والرتبة انتهى.
(ص) قال أبو البقاء (في مقعد صدق) بدل من قوله (في جنات) انتهى.
قال المحاسبي وإذا أخذ أهل الجنة مجالسهم واطمأنوا في مقعد الصدق الذي وعده الله
لهم منهم في القرب من مولاهم سبحانه على قدر منازلهم عنده انتهى من كتاب " التوهم "
ثم قال المحاسبي بإثر هذا الكلام فلو رأيتهم وقد سمعوا كلام ربهم وقد داخل قلوبهم
السرور وقد بلغوا غاية الكرامة ومنتهى الرضا والغبطة فما ظنك بنظرهم إلى العزيز
العظيم الجليل الذي لا تقع عليه الأوهام ولا تحيط به الأفهام ولا تحده الفطن ولا
تكيفه الفكر الأزلي القديم الذي حارت العقول عن إدراكه وكلت الألسن عن كنه
صفاته؟! انتهى.
344

تفسير سورة الرحمن
عز وجل وهي مكية في قول الجمهور
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (الرحمن * علم القرآن) الرحمن: بناء مبالغة من الرحمة وقوله:
(علم القرآن) تعديد نعمة أي هو من به وعلمه الناس وخص حفاظه وفهمته
بالفضل قال النبي صلى الله عليه وسلم " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ومن الدليل على أن القرآن
غير مخلوق أن الله تعالى ذكر القرآن في كتابه في أربعة وخمسين موضعا ما فيها موضع
صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار إليه وذكر الانسان على الثلث من ذلك في ثمانية عشر
موضعا كلها نصت على خلقه وقد اقترن ذكرهما في هذه السورة على هذا النحو
والإنسان هنا اسم جنس قاله الزهراوي وغيره قال الفخر (الرحمن) مبتدأ خبره
الجملة الفعلية التي هي (علم القرآن) انتهى و (البيان) النطق والفهم والإبانة عن ذلك
بقول قاله الجمهور وبذلك فضل الانسان من سائر الحيوان وكل المعلومات داخلة في
345

البيان الذي علمه الانسان فمن ذلك البيان كون (الشمس والقمر بحسبان) وهذا ابتداء
تعديد نعم قال قتادة: (بحسبان) مصدر كالحساب وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى
والضحاك هو جمع حساب والمعنى أن هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما
البروج وغير ذلك حسابات شتى وهذا مذهب ابن عباس وغيره وقال قتادة
الحسبان الفلك المستدير شبهه بحسبان الرحى وهو العود المستدير الذي بإستدارته
تستدير المطحنة.
وقوله سبحانه: (والنجم والشجر يسجدان) قال ابن عباس وغيره: النجم النبات
الذي لا ساق له قال (ع) وسمي نجما لأنه نجم أي: ظهر وهو مناسب
للشجر نسبة بينة وقال مجاهد وغيره: النجم اسم الجنس من نجوم السماء قال (ع) والنسبة التي لها من السماء هي التي للشجر من الأرض لأنهما في ظاهرهما
وسمي الشجر من اشتجار غصونه وهو تداخلها قال مجاهد وسجودهما عبارة عن
التذلل والخضوع.
346

وقوله سبحانه: (ووضع الميزان) يريد به العدل قاله أكثر الناس.
وقوله: (ألا تطغوا في الميزان) وقوله: (وأقيموا الوزن بالقسط) وقوله: (ولا
تخسروا الميزان) يريد به الميزان المعروف وألا هو بتقدير لئلا أو مفعول من أجله وفي
مصحف ابن مسعود. " لا تطغوا في الميزان " وقرأ بلال بن أبي بردة " تخسروا "
- بفتح التاء وكسر السين - من خسر ويقال خسر وأخسر بمعنى نقص وأفسد كجبر
وأجبر.
والأنام: قال الحسن بن أبي الحسن: هم الثقلان الإنس والجن وقال ابن
عباس وقتادة وابن زيد والشعبي: هم الحيوان كله.
(والنخل ذات الأكمام) وذلك أن طلعها في كم وفروعها أيضا في أكمام من
ليفها والكم من النبات: كل ما التف على شئ وستره ومنه كمائم الزهر وبه شبه كم
الثوب.
(والحب ذو العصف) هو البر والشعير وما جرى مجراه قال ابن عباس.
العصف التبن واختلف في الريحان فقال ابن عباس وغيره هو الرزق وقال
الحسن: هو ريحانكم هذا وقال ابن زيد وقتادة: الريحان هو كل مشموم طيب قال
347

(ع) وفي هذا النوع نعمة عظيمة ففيه الأزهار والمندل والعقاقير وغير ذلك
وقرأ الجمهور: " والريحان " بالرفع عطفا على " فاكهة " وقرأ حمزة والكسائي
و " الريحان " بالخفض عطفا على " العصف " ف‍ " الريحان " على هذه القراءة الرزق ولا
يدخل فيه المشموم إلا بتكلف و " ريحان " أصله " روحان " فهو من ذوات الواو
و " الآلاء " النعم والضمير في قوله: (ربكما) للجن والإنس اللذين تضمنهما لفظ الأنام
وأيضا ساغ تقديم ضميرهما عليهما لذكر الانسان والجان عقب ذلك وفيه اتساع وقال
منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن وعن
جابر قال " قرأ علينا النبي صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: " ما لي أراكم
سكوتا؟! للجن كانوا أحسن ردا منكم ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: (فبأي آلاء
ربكما تكذبان) إلا قالوا: لا بشئ من نعمك ربنا نكذب ".
وقوله سبحانه: (خلق الانسان من صلصال كالفخار * وخلق الجان من مارج من
نار) الآية: اختلف في اشتقاق " الصلصال " فقيل هو من صل إذا أنتن فهي إشارة إلى
348

الحمأة وقال الجمهور هو من صل: إذا صوت وذلك في الطين لجودته فهي إشارة
إلى ما كان في تربة آدم من الطين الحر وذلك أن الله تعالى خلقه من طين مختلف فمرة
ذكر في خلقه هذا ومرة هذا وكل ما في القرآن صفات ترددت على التراب الذي خلق
منه و " الفخار " الطين الطيب إذا مسه الماء فخر أي ربا وعظم والجان: اسم جنس
كالجنة قال الفخر: وفي الجان وجه آخر أنه أبو الجن كما أن الانسان هنا أبو الإنس
خلق من صلصال ومن بعده خلق من صلبه كذلك الجان هنا أبو الجن خلق من نار
ومن بعده من ذريته انتهى و " المارج " اللهب المضطرب من النار قال ابن عباس
وهو أحسن النار المختلط من ألوان شتى قال أبو حيان المارج المختلط من أصفر
وأخضر وأحمر انتهى.
وكرر سبحانه قوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) تأكيدا وتنبيها للنفوس وتحريكا
لها وهذه طريقة من الفصاحة معروفة وهي من كتاب الله في مواضع وفي حديث
النبي صلى الله عليه وسلم وفي كلام العرب وذهب قوم إلى أن هذا التكرار إنما هو لما اختلفت النعم
المذكورة كرر التوقيف مع كل واحدة منها قال (ع) وهذا حسن وقال
الحسين بن الفضل: التكرار لطرد الغفلة وللتأكيد وخص سبحانه ذكر المشرقين
والمغربين بالتشريف في إضافة الرب إليهما لعظمهما في المخلوقات.
(ت) وتحتمل الآية أن يراد بالمشرقين والمغربين وما بينهما كما هو في " سورة
الشعراء " واختلف الناس في (البحرين) قال (ع) والظاهر عندي أن قوله
تعالى (البحرين) يريد بهما نوعي الماء العذب والأجاج أي: خلطهما في الأرض
وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض قريب بعضهما من بعض ولا بغي قال
(ع) وذكر الثعالبي في (مرج البحرين) ألغازا وأقوالا باطنة يجب أن لا يلتفت إلى
شئ منها.
349

(ت) ولا شك في اطراحها فمنها نقله عن الثوري (مرج البحرين) فاطمة
وعلي (اللؤلؤ والمرجان) الحسن والحسين ثم تمادى في نحو هذا مما كان الأولى به
تركه ومرج الشئ أي اختلط و " البرزخ " الحاجز قال البخاري (لا يبغيان) لا
يختلطان انتهى قال ابن مسعود: (والمرجان) حجر أحمر وهذا هو الصواب قال
عطاء الخراساني وهو البسذ.
وقوله سبحانه: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) قال جمهور من المتأولين: إنما
يخرج ذلك من " الأجاج " في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة فلذلك قال:
(منهما).
(ت) وهذا بناء على أن الضمير في (منهما) للعذب وللمالح وفي وأما على قول
من قال: إن البحرين بحر فارس والروم أو بحر القلزم وبحر الشام فلا إشكال إذ
كلها مالحة وقد نقل الأخفش عن قوم أنه يخرج اللؤلؤ والمرجان من المالح ومن
العذب وليس لمن رده حجة قاطعة ومن أثبت أولى ممن نفى قال أبو حيان.
والضمير في (منهما) يعود على البحرين يعني العذب والمالح والظاهر خروج اللؤلؤ
والمرجان منهما وحكاه الأخفش عن قوم انتهى والجواري جمع جارية وهي
السفن وقرأ حمزة وأبو بكر " المنشئات " بكسر الشين أي اللواتي أنشأ جريهن
أي ابتدأنه وقرأ الباقون - بفتح الشين - أي أنشأها الله أو الناس وقال مجاهد
(المنشآت) ما رفع قلعه من السفن (كالأعلام) أي الجبال.
350

(ت) ولفظ البخاري: (المنشآت) ما رفع قلعه من السفن فأما ما لا يرفع
قلعه فليس بمنشآت انتهى.
وقوله سبحانه: (كل من عليها) أي على الأرض (فان) والإشارة بالفناء إلى
جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره والوجه عبارة عن الذات لأن الجارحة
منفية في حقه سبحانه قال الداودي وعن ابن عباس (ذو الجلال) قال: ذو العظمة
والكبرياء انتهى.
وقوله سبحانه: (يسأله من في السماوات والأرض) أي: من ملك وإنس وجن
وغيرهم لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه كلهم يسأله حاجته إما بلسان مقاله وإما بلسان
حاله.
وقوله سبحانه: (كل يوم هو في شأن) أي يظهر شأنا من قدرته التي قد سبقت في
الأزل في ميقاته من الزمان من إحياء وإماتة ورفعة وخفض وغير ذلك من الأمور التي
لا يعلم نهايتها إلا هو سبحانه و " الشأن " هو اسم جنس للأمور قال الحسين بن
الفضل: معنى الآية سوق المقادير إلى المواقيت وفي الحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ
هذه الآية فقيل له ما هذا الشأن يا رسول الله قال يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع
قوما ويضع آخرين " وذكر النقاش أن سبب هذه الآية قول اليهود استراح الله يوم
السبت فلا ينفذ فيه شيئا.
وقوله تعالى: (سنفرغ لكم أيه الثقلان) عبارة عن إتيان الوقت الذي قدر فيه
وقضى أن ينظر في أمور عباده وذلك يوم القيامة وليس المعنى: أن ثم شغلا يتفرغ منه
إذ لا يشغله سبحانه شان عن شان وإنما هي إشارة وعيد وتهديد قال البخاري وهو
351

معروف في كلام العرب يقال لأفرغن لك وما به شغل انتهى و (الثقلان) الإنس والجن يقال لكل ما يعظم أمره ثقل وقال جعفر بن محمد الصادق سمي الإنس
والجن ثقلين لأنهما ثقلا بالذنوب قال (ع) وهذا بارع ينظر إلى خلقهما من
طين ونار واختلف الناس في معنى قوله تعالى: (إن استطعتم أن تنفذوا...) الآية
فقال الطبري: قال قوم المعنى يقال لهم يوم القيامة (يا معشر الجن والإنس إن
استطعتم...) الآية قال الضحاك وذلك أنه يفر الناس في أقطار الأرض والجن
كذلك لما يرون من هول يوم القيامة فيجدون سبعة صفوف من الملائكة قد أحاطت
بالأرض فيرجعون من حيث جاءوا فحينئذ يقال لهم: (يا معشر الجن والإنس)
وقال بعض المفسرين هي مخاطبة في الدنيا والمعنى إن استطعتم الفرار من الموت بأن
تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا. (ت) والصواب الأول.
وقوله: (فانفذوا) صيغة أمر ومعناه: التعجيز و " الشواظ " لهب النار قاله ابن
عباس وغيره قال أبو حيان الشواظ هو اللهب الخالص بغير دخان انتهى
و " النحاس " هو المعروف قاله ابن عباس وغيره أي يذاب ويرسل عليهما ونحوه
في البخاري قال (ص) وقال الخليل " النحاس " هنا هو: الدخان الذي لا لهب له
ونقله أيضا أبو البقاء وغيره انتهى.
352

وقوله سبحانه: (فإذا انشقت السماء) جواب " إذا " محذوف مقصود به الإبهام
كأنه يقول: فإذا انشقت السماء فما أعظم الهول قال قتادة السماء اليوم خضراء وهي
يوم القيامة حمراء فمعنى قوله: (وردة) أي محمرة كالوردة وهي النوار المعروف
وهذا قول الزجاج وغيره.
وقوله: (كالدهان) قال مجاهد وغيره: هو جمع دهن وذلك أن السماء يعتريها
يوم القيامة ذوب وتميع من شدة الهول وقال ابن جريج من حر جهنم نقله الثعلبي
وقيل غير هذا.
وقوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) قال قتادة وغيره: هي مواطن
فلا تعارض بين الآيات.
وقوله سبحانه: (فيؤخذ بالنواصي والأقدام) قال ابن عباس: يؤخذ كل كافر
بناصيته وقدميه ويطوى ويجمع كالحطب ويلقى كذلك في النار وقيل: المعنى أن
بعض الكفرة يؤخذون بالنواصي وبعضهم يسحبون ويجرون بالأقدام.
وقوله تعالى: (هذه جهنم) أي يقال لهم على جهة التوبيخ وفي مصحف ابن
مسعود " هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان لا تموتان فيها ولا تحييان "
وقوله سبحانه: (يطوفون بينها وبين حميم آن) المعنى: أنهم يترددون بين نار
جهنم وجمرها وبين حميم وهو ما غلي في جهنم من مائع عذابها وآن الشئ: حضر
وآن اللحم أو ما يطبخ أو يغلى نضج وتناهى حره وكونه من الثاني أبين.
353

وقوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه) أي: موقفه بين يدي ربه قيل في هذه
الآية إن كل خائف له جنتان:
(ت) قال الثعلبي قال محمد بن علي الترمذي: جنة لخوفه من ربه وجنة
لتركه شهوته و " الأفنان " يحتمل أن تكون جمع " فنن " وهو الغصن وهذا قول
مجاهد فكأنه مدحها بظلالها وتكاثف أغصانها ويحتمل أن تكون جمع " فن " وهو
قول ابن عباس فكأنه مدحها بكثرة فواكهها ونعيمها و (زوجان) معناه: نوعان.
* ت * ونقل الثعلبي عن ابن عباس قال: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا
وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو انتهى.
و (متكئين) حال وقرأ الجمهور: (على فرش) - بضم الراء - وروي في
الحديث " أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هذه البطائن من استبرق فكيف الظواهر؟! قال: هي من نور
يتلألأ " والاستبرق ما خشن وحسن من الديباج والسندس ما رق منه وقد تقدم القول
في لفظ الاستبرق والضمير في قوله: (فيهن) للفرش وقيل للجنات إذ الجنتان
جنات في المعنى و " الجني " ما يجنى من الثمار ووصفه بالدنو لأنه يدنو إلى مشتهيه
فيتناوله كيف شاء من قيام أو جلوس أو اضطجاع روي معناه في الحديث و (قاصرات
الطرف): هن الحور قصرن ألحاظهن على أزواجهن: (لم يطمثهن) أي: لم يفتضهن
لأن الطمث دم الفرج.
354

وقوله: (ولا جان) قال مجاهد: الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن إذا لم
يذكر الزوج اسم الله فنفى سبحانه في هذه الآية جميع المجامعات.
وقوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان) الآية الياقوت والمرجان هي من الأشياء
التي قد برع حسنها واستشعرت النفوس جلالتها فوقع التشبيه بها فيما يشبه ويحسن
بهذه المشبهات فالياقوت: في أملاسه وشفوفه ولو أدخلت فيه سلكا لرأيته من ورائه
وكذلك المرأة من نساء الجنة يرى مخ ساقها من وراء العظم والمرجان في املاسه وجمال
منظره.
وقوله سبحانه: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) آية وعد وبسط لنفوس جميع
المؤمنين لأنها عامة قال ابن المنكدر وابن زيد وجماعة من أهل العلم: هي للبر
والفاجر والمعنى أن جزاء من أحسب الطاعة أن يحسن إليه بالتنعيم وحكى النقاش أن
النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية هل جزاء التوحيد إلا الجنة.
* ت * ولو صح هذا الحديث لوجب الوقوف عنده ولكن الشأن في صحته
قال الفخر: قوله تعالى: (هل جزاء الاحسان إلا الاحسان) فيه وجوه كثيرة حتى قيل:
أن في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول إحداها: قوله تعالى: (فاذكروني
أذكركم) [البقرة: 152] وثانيتها: (وإن عدتم عدنا) [الإسراء: 8] وثالثتها: (هل جزاء
الاحسان إلا الاحسان) ولنذكر الأشهر منها والأقرب:
أما الأشهر فوجوه:
أحدها: هل جزاء التوحيد إلا الجنة أي: هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا
دخول الجنة.
355

ثانيها: هل جزاء الاحسان في الدنيا إلا الاحسان في الآخرة.
ثالثها: هل جزاء من أحسن إليكم بالنعم في الدنيا إلا أن تحسنوا له العبادة
والتقوى.
وأما الأقرب فهو التعميم أي: لأن لفظ الآية عام انتهى.
وقوله سبحانه: (ومن دونهما جنتان) قال ابن زيد وغيره معناه أن هاتين دون تينك
في المنزلة والقرب فالأوليان للمقربين وهاتان لأصحاب اليمين وعن ابن عباس:
أن المعنى: أنهما دونهما في القرب إلى المنعمين وأنهما أفضل من الأولين قال
(ع) وأكثر الناس على التأويل الأول.
(ت) واختار الترمذي الحكيم التأويل الثاني وأطنب في الاحتجاج له في
" نوادر الأصول " له وخرج البخاري هنا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " جنتان من فضة آنيتهما وما
فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما... " الحديث وفيه: " إن في الجنة خيمة من
لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم
المؤمن " انتهى و (مد هامتان) معناه قد علا لونهما دهمة وسواد في النظرة والخضرة
356

قال البخاري: (مدهامتان): سوداوان من الري انتهى والنضاخة: الفوارة التي
يهيج ماؤها وكرر النخل والرمان وهما من أفضل الفاكهة تشريفا لهما وقالت أم
سلمة " قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: (خيرات حسان) قال: خيرات الأخلاق حسان الوجوه " وقرئ شاذا: " خيرات " بشد الياء المكسورة.
(ت) وفي " صحيح البخاري " من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم لروحة في سبيل
الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم في الجنة أو موضع قيد سوطه
خير من الدنيا وما فيها ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما
بينهما ولملأته ريحا ولنصيفها على رأسها - يعني الخمار - خير من الدنيا وما فيها ".
وقوله سبحانه: (مقصورات) أي: محجوبات مصونات في الخيام وخيام الجنة بيوت
اللؤلؤ قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هي در مجوف ورواه ابن مسعود عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال الداودي: وعن ابن عباس: والخيمة لؤلؤة مجوفة فرسخ في فرسخ
357

لها أربعة آلاف مصراع انتهى.
و " الرفرف ": ما تدلى من الأسرة من عالي الثياب والبسط وقاله ابن عباس وغيره
وما يتدلى حول الخباء من الخرقة الهفافة يسمى رفرفا وكذلك يسميه الناس اليوم وقيل
غير هذا وما ذكرناه أصوب والعبقري بسط حسان فيها صور وغير ذلك تصنع
بعبقر وهو موضع يعمل فيه الوشي والديباج ونحوه قال ابن عباس العبقري:
الزرابي وقال ابن زيد: هي الطنافس قال الخليل والأصمعي: العرب إذا
استحسنت شيئا واستجادته قالت: عبقري قال (ع) ومنقوله صلى الله عليه وسلم في عمر " فلم
أر عبقريا من الناس يفري فريه ".
وقوله سبحانه: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام): هذا الموضع مما أريد فيه
358

بالاسم مسماه والدعاء بهاتين الكلمتين حسن مرجو الإجابة وقد قال صلى الله عليه وسلم: " ألظوا ب‍:
" يا ذا الجلال والإكرام ". وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
359

تفسير سورة الواقعة
وهي مكية بإجماع ممن يعتد بقوله
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من دام على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر " أو قال:
" لم تصبه فاقة أبدا " قال (ع) لأن فيها ذكر القيامة وحظوظ الناس في
الآخرة وفهم ذلك غنى لا فقر معه ومن فهمه شغل بالاستعداد.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله سبحانه: (إذا وقعت الواقعة) الآية الواقعة: اسم من أسماء القيامة قاله ابن
عباس وقال الضحاك: الواقعة: الصيحة وهي النفخة في الصور و (كاذبة):
يحتمل أن يكون مصدرا فالمعنى ليس لها تكذيب ولا رد ولا مثنوية وهذا قول مجاهد
والحسن ويحتمل أن يكون صفة لمقدر كأنه قال: ليس لوقعتها حال كاذبة.
وقوله سبحانه: (خافضة رافعة) قال قتادة وغيره: يعني القيامة تخفض أقواما إلى
النار وترفع أقواما إلى الجنة وقيل إن بإنفطار السماوات والأرض والجبال وانهدام هذه.
360

البنية ترتفع طائفة من الأجرام وتنخفض أخرى فكأنها عبارة عن شدة هول القيامة.
(ت) والأول أبين وهو تفسير البخاري ومعنى (رجت) زلزلت وحركت
بعنف قاله ابن عباس ومعنى (بست) فتت كما تبس البسيسة وهي السويق قاله
ابن عباس وغيره وقال بعض اللغويين: " بست " معناه: سيرت والهباء ما يتطاير
في الهواء من الأجزاء الدقيقة ولا يكاد يرى إلا في الشمس إذا دخلت من كوة قاله
ابن عباس وغيره والمنبث بالثاء المثلثة الشائع في جميع الهواء والخطاب في
قوله: (وكنتم) لجميع العالم والأزواج: الأنواع قال قتادة: هذه منازل الناس يوم
القيامة.
وقوله سبحانه: (فأصحاب / الميمنة): ابتداء و (ما) ابتداء ثان و (أصحاب
الميمنة) خبر (ما) والجملة خبر الابتداء الأول وفي الكلام معنى التعظيم كما
تقول: زيد ما زيد ونظير هذا في القرآن كثير والميمنة أظهر ما في اشتقاقها أنها من ناحية
اليمين وقيل من اليمن وكذلك المشأمة إما أن تكون من اليد الشؤمي وإما أن تكون
من الشؤم وقد فسرت الآية بهذين المعنيين.
وقوله تعالى: (والسابقون) ابتداء و (السابقون) الثاني: قال سيبويه: هو خبر
الأول وهذا على معنى تفخيم الأمر وتعظيمه وقال بعض النحاة: السابقون الثاني نعت
للأول ومعنى الصفة أن تقول: والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة والرحمة
أولئك ويتجه هذا المعنى على الابتداء والخبر.
وقوله: (أولئك المقربون): ابتداء وخبر وهو في موضع الخبر على قول من
361

قال: (السابقون) الثاني صفة و (المقربون) معناه: من الله سبحانه في جنة عدن
فالسابقون معناه الذين قد سبقت لهم السعادة وكانت أعمالهم في الدنيا سبقا إلى أعمال
البر وإلى ترك المعاصي فهذا عموم في جميع الناس وخصص المفسرون في هذه أشياء
تفتقر إلى سند قاطع وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السابقين؟ فقال " هم الذين إذا أعطوا
الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم " والمقربون عبارة عن
أعلى منازل البشر في الآخرة قال جماعة من أهل العلم هذه الآية متضمنة أن العالم يوم
القيامة على ثلاثة أصناف.
وقوله سبحانه: (ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين) الثلاثة الجماعة قال
الحسن بن أبي الحسن وغيره: المراد السابقون من الأمم والسابقون من هذه الأمة
وروي أن الصحابة حزنوا لقلة سابقي هذه الأمة على هذا التأويل فنزلت الآية: (ثلة من
الأولين * وثلة من الآخرين) [الواقعة: 39 - 40] فرضوا وروي عن عائشة أنها
تأولت: أن الفرقتين في أمة كل نبئ هي في الصدر ثلة وفي آخر الأمة قليل وقال النبي صلى الله عليه وسلم
فيما روي عنه: " الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة ثلة وسابق سائرها إلى يوم القيامة
قليل " قال السهيلي وأما آخر من يدخل الجنة وهو آخر أهل النار خروجا منها فرجل
اسمه جهينة فيقول أهل الجنة تعالوا نسأله فعند جهينة الخبر اليقين فيسألونه هل بقي
في النار أحد بعدك ممن يقول لا إله إلا الله وهذا حديث ذكره الدارقطني من طريق
مالك بن أنس يرفعه بإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في كتاب رواة مالك بن أنس
رحمه الله انتهى.
وقوله تعالى: (على على سرر موضونة) أي: منسوجة بتركيب بعض أجزائها على
362

بعض كحلق الدرع ومنه وضين الناقة وهو حزامها قال ابن عباس: (موضونة)
مرمولة بالذهب وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت (يطوف عليهم): للخدمة
(ولدان): وهو صغار الخدمة ووصفهم سبحانه بالخلد وإن كان جميع ما في الجنة
كذلك إشارة إلى أنهم في حال الولدان مخلدون لا تكبر لهم سن أي: لا يحولون من
حالة إلى حالة وقاله ابن كيسان وقال الفراء: (مخلدون) معناه مقرطون بالخلدات
وهي ضرب من الأقراط والأول أصوب لأن العرب تقول للذي كبر ولم يشب أنه
لمخلد والأكواب: ما كان من أواني الشرب لا أذن له ولا خرطوم قال قتادة: ليست
لها عرى والإبريق: ماله خرطوم والكأس: الآنية المعدة للشرب بشريطة أن يكون فيها
خمر ولا يقال لآنية فيها ماء أو لبن كأس.
وقوله: (من معين) قال ابن عباس: معناه من خمر سائلة جارية معينة. وقوله: (لا يصدعون عنها) ذهب أكثر المفسرين إلى أن المعنى: لا يلحق رؤوسهم
الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا وقال قوم: معناه لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطع
عنهم لذتهم بسبب من الأسباب كما يفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق (ولا
ينزفون) معناه: لا تذهب عقولهم سكرا قاله مجاهد وغيره والنزيف: السكران
وباقي الآية بين وخص المكنون باللؤلؤ لأنه أصفى لونا وأبعد عن الغير وسألت أم
سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه فقال: " صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا
تمسه الأيدي " و (جزاء بما كانوا يعملون) أي أن هذه الرتب والنعيم هي لهم بحسب
أعمالهم لأنه روي أن المنازل والقسم في الجنة هي مقتسمة على قدر الأعمال ونفس
363

دخول الجنة هو برحمة الله وفضله لا بعمل عامل كما جاء في الصحيح.
وقوله تعالى: (إلا قيلا سلاما سلاما) قال أبو حيان: " إلا قيلا سلاما سلاما "
الظاهر أن الاستثناء منقطع لأنه لا يندرج في اللغو والتأثيم وقيل متصل وهو بعيد
انتهى قال الزجاج و (سلاما) مصدر كأنه يذكر أنه يقول بعضهم لبعض: سلاما
سلاما.
(ت) قال الثعلبي: والسدر شجر النبق و (مخضود) أي: مقطوع الشوك
قال (ع) ولأهل تحرير النظر هنا إشارة في أن هذا الخضد علي بإزاء أعمالهم التي سلموا
منها إذ أهل اليمين توابون لهم سلام وليسوا بسابقين قال الفخر: وقد بان لي بالدليل
أن المراد بأصحاب اليمين: الناجون الذين أذنبوا وأسرفوا وعفا الله تعالى عنهم بسبب
أدنى حسنة لا الذين غلبت حسناتهم وكثرت انتهى.
والطلح (من العضاة) شجر عظيم كثير الشوك وصفه في الجنة على صفة مباينة
لحال الدنيا و (منضود) معناه مركب ثمره بعضه على بعض من أرضه إلى أعلاه وقرأ
علي رضي الله عنه وغيره " وطلع " فقيل لعلي إنما هو " وطلح " فقال ما للطلح
والجنة قيل له أنصلحها فإن في المصحف فقال أن المصحف اليوم لا يهاج ولا يغير.
364

وقال علي أيضا وابن عباس: الطلح الموز والظل الممدود معناه: الذي لا تنسخه
شمس وتفسير ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في
ظلها مائة سنة لا يقطعها) واقرأوا إن شئتم: (وظل ممدود) إلى غير هذا من
الأحاديث في هذا المعنى.
(ت) وفي " صحيحي البخاري ومسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة شجرة
يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت
عليه الشمس أو تغرب " انتهى.
(وماء مسكوب) أي جار في غير أخدود.
(لا مقطوعة ولا ممنوعة) أي: لا مقطوعة بالأزمان كحال فاكهة الدنيا ولا ممنوعة
بوجه من الوجوه التي تمتنع بها فاكهة الدنيا والفرش الأسرة وعن أبي سعيد
الخدري إن في ارتفاع السرير منها مسيرة خمس مائة سنة.
(ت) وهذا إن ثبت فلا بعد فيه إذ أحوال الآخرة كلها خرق وعادة وقال
أبو عبيدة وغيره أراد بالفرش النساء و (مرفوعة) معناه: في الأقدار والمنازل
و (أنشأناهن) معناه: خلقناهن شيئا بعد شئ وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: " هن
365

عجائزكن في الدنيا عمشا رمصا جعلهن الله بعد الكبر أترابا " وقال للعجوز: إن الجنة
لا يدخلها العجوز، فحزنت، فقال: إنك إذا [دخلت الجنة أنشئت خلقا آخر ".
وقوله سبحانه: (فجعلناهن أبكارا) قيل: معناه: دائمة البكارة، متى عاود الوطء]
وجدها بكرا، والعرب جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها بإظهار محبته قاله ابن
عباس وعبر عنهن ابن عباس أيضا بالعواشق وقال زيد: العروب: الحسنة
الكلام.
(ت): قال البخاري: والعروب يسميها أهل مكة العربة وأهل المدينة: الغنجة
وأهل العراق: الشكلة انتهى.
وقوله: (أترابا) معناه: في الشكل والقد قال قتادة: (أترابا) يعني: سنا
واحدة ويروى أن أهل الجنة هم على قد ابن أربعة عشر عاما في الشباب والنضرة
وقيل: على مثل أبناء ثلاث وثلاثين سنة، مردا بيضا مكحلين زاد الثعلبي: على خلق
آدم، طوله ستون ذراعا في سبعة أذرع.
366

وقوله سبحانه: (ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين) قال الحسن بن أبي الحسن
وغيره الأولون سالف الأمم منهم جماعة عظيمة أصحاب يمين والأخرون: هذه الأمة
منهم جماعة عظيمة أهل يمين قال (ع) بل جميعهم إلا من كان من السابقين
وقال قوم من المتأولين: هاتان الفرقتان في أمة محمد وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " الثلتان من أمتي " وروى ابن المبارك في " رقائقه " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن
أمتي ثلثا أهل الجنة والناس يومئذ عشرون ومائة صف وإن أمتي من ذلك ثمانون
صفا انتهى.
وقوله سبحانه: (وأصحاب الشمال...) الآية: في الكلام بمعنى الأنحاء عليهم
وتعظيم مصائبهم والسموم أشد ما يكون من الحر اليابس الذي لا بلل معه
والحميم: السخن جدا من الماء الذي في جهنم واليحموم: هو الدخان الأسود يظل
أهل النار قاله ابن عباس والجمهور وقيل: هو سرادق النار المحيط باهلها فإنه
يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم وقيل: هو جبل في النار أسود.
وقوله: (ولا كريم) معناه: ليس له صفة مدح قال الثعلبي: وعن ابن المسيب
(ولا كريم) أي: ولا حسن نظيره من كل زوج كريم وقال قتادة: (لا بارد): النزل
(ولا كريم) المنظر وهو الظل الذي لا يغني من اللهب انتهى والمترف: المنعم
367

في سرف وتخوض و (يصرون) معناه: يعتقدون اعتقادا لا ينزعون عنه و (الحنث):
الآثم وقال الثعلبي: (وكانوا يصرون) يقيمون (على الحنث العظيم) أي: الذنب
انتهى ونحوه للبخاري وهو حسن نحو ما في الرسالة قال قتادة وغيره والمراد بهذا الإثم العظيم: الشرك وباقي الآية في استبعادهم للبعث وقد تقدم بيانه.
وقوله سبحانه: (ثم إنكم أيها الضالون): مخاطبة لكفار قريش ومن كان في
حالهم و (من) في قوله: (من زقوم) لبيان الجنس والضمير في (منها) عائد على
الشجر والضمير في (عليه) عائد على المأكول و (الهيم) قال ابن عباس وغيره:
جمع " أهيم " وهو الجمل الذي أصابه الهيام - بضم الهاء - وهو داء معطش يشرب الجمل
حتى يموت أو يسقم سقما شديدا وقال قوم هو: جمع " هائم " وهو أيضا من هذا المعنى
لأن الجمل إذا أصابه ذلك الداء هام على وجهه وذهب وقال ابن عباس أيضا وسفيان
الثوري: (الهيم) الرمال التي لا تروى من الماء والنزل أول ما يأكل الضيف
و (الدين) الجزاء.
وقوله سبحانه: (أفرأيتم ما تمنون) الآية وليس يوجد مفطور يخفى عليه أن المني
الذي يخرج منه ليس له فيه عمل ولا إرادة ولا قدرة وقرأ الجمهور: " قدرنا " وقرأ ابن كثير
وحده: " قدرنا " بتخفيف الدال فيحتمل أن يكون المعنى فيهما: قضينا وأثبتنا ويحتمل
368

أن يكون بمعنى: سوينا قال الثعلبي عن الضحاك أي سوينا بين أهل السماء وأهل
الأرض.
وقوله: (وما نحن بمسبوقين) أي: على تبديلكم وإن أردناه وإن ننشئكم بأوصاف
لا يصلها علمكم ولا يحيط بها فكركم قال الحسن: من كونهم قردة وخنازير لأن
الآية تنحو إلى الوعيد و (النشأة الأولى) قال أكثر المفسرين إشارة إلى خلق آدم
وقيل المراد نشأة الانسان في طفولته وهذه الآية نص في استعمال القياس والحض
عليه وعبارة الثعلبي: ويقال: (النشأ الأولى) نطفة ثم علقة ثم مضغة ولم يكونوا
شيئا (فلولا) أي فهلا تذكرون أني قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم وفيه
دليل على صحة القياس لأنه علمهم سبحانه الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة
الأخرى انتهى.
وقوله سبحانه: (أأنتم تزرعونه) أي: زرعا يتم (أم نحن): وروي أبو هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقل زرعت ولكن قلت حرثت ثم تلا أبو هريرة هذه
الآية " والحطام: اليابس المتفتت من النبات الصائر إلى ذهاب وبه شبه حطام الدنيا
و (تفكهون) قال ابن عباس وغيره: معناه تعجبون أي: مما نزل بكم وقال ابن
369

زيد: معناه تتفجعون قال (ع) وهذا كله تفسير لا يخص اللفظة والذي
يخص اللفظة هو تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وقولهم: (إنا لمغرمون) قبله محذوف
تقديره: يقولون وقرأ عاصم الجحدري: " أإنا لمغرمون " بهمزتين على الاستفهام
والمعنى يحتمل أن يكون: انا لمغرمون من الغرام وهو أشد العذاب ويحتمل: إنا
لمحملون الغرم أي: غرمنا في النفقة وذهب زرعنا وقد تقدم تفسير المحروم وأنه
الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه وقال الثعلبي: المحروم ضد المرزوق
انتهى و (المزن) هو السحاب والأجاج: أشد المياه ملوحة و (تورون) معناه:
تقتدحون من الأزند عنه تقول: أوريت النار من الزناد والزناد قد يكون من حجر
وحديدة ومن شجر لا سيما في بلاد العرب ولا سيما في الشجر الرخو كالمرخ
والعفار والكلخ وما أشبهه ولعادة العرب في أزنادهم من شجر قال تعالى: (أأنتم
أنشأتم شجرتها) أي: التي تقدح منها (أم نحن المنشؤون * نحن جعلناها يعني نار
الدنيا (تذكرة) للنار الكبرى نار جهنم قاله مجاهد وغيره والمتاع ما ينتفع به
والمقوين: في هذه الآية الكائنين في الأرض القواء وهي الفيافي ومن قال معناه
للمسافرين فهو نحو ما قلناه وهي عبارة ابن عباس - رضي الله عنه - تقول: أقوى
الرجل إذا دخل في الأرض القواء.
وقوله سبحانه: (فلا أقسم بمواقع النجوم) الآية: قال بعض النحاة: " لا " زائدة
370

والمعنى: فاقسم وزيادتها في بعض المواضع معروفة وقرأ الحسن وغيره: " فلأقسم "
من غير ألف وقال بعضهم " لا " نافية كأنه قال: فلا صحة لما يقوله الكفار ثم ابتدأ
أقسم بمواقع النجوم والنجوم: هنا قال ابن عباس وغيره: هي نجوم القرآن وذلك
أنه روي أن القرآن نزل في ليلة القدر إلى سماء الدنيا وقيل إلى البيت المعمور جملة
واحدة ثم نزل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم نجوما مقطعة مدة من عشرين سنة قال
(ع) ويؤيده عود الضمير على القرآن في قوله: (إنه لقرآن كريم) وقال كثير من
المفسرين: بل النجوم هنا هي الكواكب المعروفة ثم اختلف هؤلاء في مواقعها فقيل
غروبها وطلوعها وقيل: مواقعها عند انقضاضها أثر العفاريت.
[وقوله] (وإنه لقسم): تأكيد.
وقوله: (لو تعلمون): اعتراض.
وقوله: (إنه لقرآن كريم): هو الذي وقع القسم عليه.
وقوله: (في كتاب مكنون) الآية: المكنون المصون قال ابن عباس وغيره:
أراد الكتاب الذي في السماء قال الثعلبي: ويقال هو اللوح المحفوظ.
وقوله: (يمسه إلا المطهرون) يعني: الملائكة وليس في الآية على هذا التأويل
تعرض لحكم مس المصحف لسائر بني آدم وقال بعض المتأولين أراد بالكتاب مصاحف
المسلمين ولم تكن يومئذ فهو إخبار بغيب مضمنه النهي فلا يمس المصحف من بني
آدم الا الطاهر من الكفر والحدث وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: " لا يمس
القرآن إلا طاهر " وبه أخذ مالك وقرأ سليمان " إلا المطهرون " بكسر الهاء.
371

وقوله تعالى: (أفبهذا الحديث) يعني القرآن المتضمن البعث و (مدهنون)
معناه: يلاين بعضكم بعضا ويتبعه في الكفر مأخوذ من الدهن للينه وإملاسه وقال ابن
عباس المداهنة هي المهاودة فيما لا يحل والمداراة هي المهاودة فيما يحل ونقل
الثعلبي أن ادهن وداهن بمعنى واحد وأصله من الدهن انتهى.
وقوله سبحانه: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) أجمع المفسرون على أن الآية
توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله الله تعالى رزقا للعباد: هذا بنوء كذا والمعنى
وتجعلون شكر رزقكم وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان بمعنى
ما شكر وكان علي يقرأ: " وتجلون شكركم أنكم تكذبون " وكذلك قرأ ابن عباس
ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخبر الله سبحانه فقال: (ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به
جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد) [ق: 9، 10، 11]
فهذا معنى قوله (أنكم تكذبون) أي: بهذا الخبر قال (ع) والمنهي عنه هو أن
يعتقد أن للنجوم تأثيرا في المطر.
وقوله سبحانه: (فلولا إذا بلغت الحلقوم) يعنى: بلغت نفس الانسان والحلقوم
مجرى الطعام وهذه الحال هي نزع المرء للموت.
وقوله: (وأنتم) إشارة إلى جميع البشر حينئذ أي: وقت النزع (تنظرون) إليه
وقال الثعلبي: (وأنتم حينئذ تنظرون) إلى أمري وسلطاني يعني: تصريفه سبحانه في
الميت انتهى والأول عندي أحسن وعزاه الثعلبي لابن عباس.
372

(ونحن أقرب إليه منكم) أي: بالقدرة والعلم ولا قدرة لكم على دفع شئ عنه
وقيل: المعنى وملائكتنا أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرونهم و على التأويل الأول من
البصر بالقلب.
(فلولا إن كنتم غير مدينين) أي: مملوكين أذلاء والمدين: المملوك هذا أصح ما
يقال في هذه اللفظة هنا ومن عبر عنها بمجازي أو بمحاسب فذلك هنا قلق والمملوك
مقلب كيف شاء المالك ومن هذا الملك قول الأخطل: [الطويل]
رتب وربا في حجرها ابن مدينة * تراه على مسحاته يتركل.
أراد ابن أمة مملوكة وهو عبد يخدم الكرم وقد قيل في معنى البيت [إنه] أراد
أكارا حضريا فنسبه إلى المدينة فمعنى الآية فهل لا ترجعون النفس البالغة الحلقوم إن
كنتم غير مملوكين مقهورين.؟
وقوله: (ترجعونها) سد مسد الأجوبة والبيانات التي تقتضيها التحضيضات.
وقوله تعالى: (فأما إن كان من المقربين) الآية ذكر سبحانه في هذه الآية حال
الأزواج الثلاثة المذكورين في أول السورة وحال كل امرئ منهم فأما المرء من السابقين
المقربين فيلقى عند موته روحا وريحانا والروح: الرحمة والسعة والفرح ومنه: ([ولا
تيأسوا من] روح الله) [يوسف: 87] والريحان الطيب وهو دليل النعيم وقال
مجاهد: الريحان: الرزق وقال الضحاك: الريحان الاستراحة قال (ع)
الريحان ما تنبسط إليه النفوس ونقل الثعلبي عن أبي العالية قال: لا يفارق أحد من
373

من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم يقبض روحه فيه ونحوه عن
الحسن انتهى.
فإن أردت يا أخي اللحوق بالمقربين والكون في زمرة السابقين فاطرح عنك
دنياك واقبل على ذكر مولاك واجعل الآن الموت نصب عينيك قال الغزالي وإنما
علامة التوفيق أن يكون الموت نصب عينيك لا تغفل عنه ساعة فليكن الموت على بالك
يا مسكين فإن السير حاث بك وأنت غافل عن نفسك ولعلك قاربت المنزل
وقطعت المسافة فلا يكن اهتمامك إلا بمبادرة العمل اغتناما لكل نفس أمهلت فيه انتهى
من " الأحياء " قال ابن المبارك في " رقائقه " أخبرنا سفيان عن ليث عن مجاهد قال ما
من ميت يموت إلا عرض عليه أهل مجلسه: إن كان من أهل الذكر فمن أهل الذكر وإن
كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو انتهى.
وقوله تعالى: (فسلام لك من أصحاب اليمين): عبارة تقتضي جملة مدح وصفة
تخلص وحصول عال من المراتب والمعنى ليس في أمرهم إلا السلام والنجاة من
العذاب وهذا كما تقول في مدح رجل: أما فلان فناهيك به فهذا يقتضي جملة غير
مفصلة من مدحه وقد اضطربت عبارات المتأولين في قوله تعالى: (فسلام لك) فقال
قوم: المعنى فيقال له سلام لك إنك من أصحاب اليمين وقال الطبري: (فسلام
لك): أنت من أصحاب اليمين وقيل: المعنى فسلام لك يا محمد أي لا ترى فيهم
إلا السلامة من العذاب.
(ت) ومن حصلت له السلامة من العذاب فقد فاز دليله (فمن زحزح عن النار
وأدخل الجنة فقد فاز) [آل عمران: 185] قال (ع) فهذه الكاف في (لك) إما أن
تكون للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الأظهر ثم لكل معتبر فيها من أمته وأما أن تكون لمن يخاطب من
374

أصحاب اليمين وغير هذا مما قيل تكلف ونقل الثعلبي عن الزجاج: (فسلام لك)
أي أنك ترى فيهم ما تحب من السلامة وقد علمت ما أعد الله لهم من الجزاء بقوله:
(في سدر مخضود) الآيات
والمكذبون الضالون هم الكفار أصحاب الشمال والمشأمة والنزول أول شئ
يقدم للضيف والتصلية: أن يباشر بهم النار والجحيم معظم النار وحيث تراكمها.
(إن هذا لهو حق اليقين) المعنى: أن هذا الخبر هو نفس اليقين وحقيقته.
وقوله تعالى: (فسبح باسم ربك العظيم) عبارة تقتضي الأمر بالأعراض عن أقوال
الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة الله تعالى
والدعاء إليه.
(ت) وعن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله
[العظيم] وبحمده غرست له نخلة في الجنة). رواه الترمذي والنسائي والحاكم
وابن حبان في " صحيحيهما " وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وعند النسائي
" شجرة " بدل " نخلة " وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن مما تذكرون
من جلال الله التسبيح والتهليل والتحميد ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي
النحل تذكر بصاحبها أما يحب أحدكم أن يكون أو لا يزال له من يذكر به " ورواه
375

أيضا ابن المبارك في " رقائقه " عن كعب وفيه أيضا عن كعب أنه قال: " إن للكلام الطيب
حول العرش دويا كدوي النحل يذكرن بصاحبهن " انتهى وعن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر
به وهو يغرس غرسا فقال يا أبا هريرة ما الذي تغرس؟ قلت غراسا قال ألا أدلك
على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس
لك بكل واحدة شجرة في الجنة " روى هذين الحديثين ابن ماجة واللفظ له والحاكم في
" المستدرك " وقال في الأول: صحيح على شرط مسلم انتهى من " السلاح " وروى
عقبة بن عامر قال: " لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) قال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في
ركوعكم فلما نزلت: (سبح اسم ربك الأعلى) قال: اجعلوها في سجودكم "
فيحتمل أن يكون المعنى: سبح الله بذكر أسمائه العلا والاسم هنا بمعنى الجنس أي
بأسماء ربك والعظيم صفة للرب سبحانه وقد يحتمل أن يكون الاسم هنا واحدا
مقصودا ويكون " العظيم " صفة له فكأنه أمر أن يسبحه باسمه الأعظم وإن كان لم ينص
عليه ويؤيد هذا ويشير إليه اتصال سورة الحديد وأولها فيها التسبيح وجملة من أسماء
الله تعالى وقد قال ابن عباس اسم الله الأعظم موجود في ست آيات من أول سورة
الحديد فتأمل هذا فإنه من دقيق النظر ولله تعالى في كتابه العزيز غوامض لا تكاد
الأذهان تدركها.
376

تفسير سورة الحديد.
وهي مدنية ويشبه صدرها أن يكون مكيا.
روي عن ابن عباس أن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة
الحديد وروي أن الدعاء بعد قراءتها مستجاب.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم): قال أكثر
المفسرين: التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم: سبحان الله وهذا عندهم إخبار
بصيغة الماضي مضمنه الدوام والاستمرار ثم اختلفوا هل هذا التسبيح حقيقة أو مجاز
على معنى أن أثر الصنعة فيها تنبه الرائي على التسبيح؟ قال الزجاج وغيره: والقول
بالحقيقة أحسن وهذا كله في الجمادات وأما ما يمكن التسبيح منه فقول واحد: أن
تسبيحهم حقيقة.
وقوله تعالى: (هو الأول) [أي]: [الذي] ليس لوجوده بداية مفتتحة (والآخر):
الدائم الذي ليس له نهاية منقضية قال أبو بكر الوراق: (هو الأول): بالأزلية
(والآخر) بالأبدية.
(والظاهر): معناه بالأدلة ونظر العقول في صنعته.
377

(والباطن) بلطفه وغوامض حكمته وباهر صفاته التي لا تصل إلى معرفتها على
- ما هي عليه - الأوهام وباقي الآية تقدم تفسير نظيره.
وقوله تعالى: (وهو معكم أين ما كنتم) معناه: بقدرته وعلمه وإحاطته وهذه آية
جمعت الأمة على هذا التأويل فيها وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (آمنوا بالله ورسوله...) الآية أمر للمؤمنين بالثبوت على
الإيمان ويروى أن هذه الآية نزلت في غزوة العسرة قاله الضحاك وقال الإشارة
بقوله: (فالذين آمنوا منكم وأنفقوا) إلى عثمان بن عفان يريد: ومن في معنا
كعبد الرحمن بن عوف وغيره.
وقوله: (مما جعلكم مستخلفين فيه) تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير إلى
الانسان من غيره ويتركها لغيره وليس له من ذلك الا ما أكل فأفنى أو تصدق فأمضى
ويروى أن رجلا مر بأعرابي له إبل فقال له يا أعرابي لمن هذه الإبل؟ قال هي لله
عندي فهذا موفق مصيب أن صحب قوله عمله.
وقوله سبحانه: (ومالكم لا تؤمنون بالله...) الآية توطئة لدعائهم (رضي الله
عنهم) لأنهم أهل هذه الرتب الرفيعة وإذا تقرر ان الرسول يدعوهم وأنهم ممن أخذ الله
ميثاقهم فيكف يمتنعون من الإيمان؟.
وقوله: (إن كنتم مؤمنين) أي: إن دمتم على إيمانكم و (الظلمات) الكفر
(والنور) الإيمان وباقي الآية وعد وتأنيس.
وقوله تعالى: (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض)
378

[المعنى: وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله وأنتم تموتون وتتركون أموالكم فناب مناب
هذا القول قوله: (ولله ميراث السماوات والأرض)] وفيه زيادة تذكير بالله وعبرة وعنه
يلزم القول الذي قدرناه.
وقوله تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح...) الآية الأشهر في هذه
الآية أنها نزلت بعد الفتح واختلف في الفتح المشار إليه فقال أبو سعيد الخدري
والشعبي هو فتح الحديبية وقال قتادة ومجاهد وزيد بن أسلم هو فتح مكة
الذي أزال الهجرة قال (ع) وهذا هو المشهور الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " لا هجرة
بعد الفتح ولكن جهاد ونية " وحكم الآية باق غابر الدهر من أنفق في وقت حاجة
379

السبيل أعظم أجرا ممن أنفق مع استغناء السبيل و (الحسنى) الجنة قاله مجاهد
380

وقتادة والقرض: السلف والتضعيف من الله تعالى هو في الحسنات وقد مر ذكر
ذلك والأجر الكريم الذين يقترن به رضى وإقبال هذا معني الدعاء ب‍ " يا كريم " العفو
أي: إن مع عفوه رضى وتنعيما.
وقوله سبحانه: (يوم ترى المؤمنين المؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم...) الآية
العامل في (يوم) قوله (وله أجر كريم) والرؤية هنا رؤية عين والجمهور أن النور هنا
هو نور حقيقة وقد روي في هذا عن ابن عباس وغيره آثار مضمونها: أن كل مؤمن
ومظهر للإيمان يعطي / يوم القيامة نورا فيطفأ نور كل منافق ويبقى نور المؤمنون حتى
إن منهم من نوره يضئ كما بين مكة وصنعاء رفعه قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من
نوره كالنخلة السحوق ومنهم من نوره يضئ ما قرب من قدميه قاله ابن مسعود
ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية قال
381

الفخر قال قتادة ما من عبد إلا وينادي يوم القيامة يا فلان هذا نورك يا فلان
لا نور لك نعوذ بالله من ذلك واعلم أن العلم الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نورا من
نور البصر وإذا كان كذلك ظهر أن معرفة الله تعالى هي النور في القيامة فمقادير الأنوار
يوم القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا انتهى ونحوه للغزالي وخص تعالى
بين الأيدي بالذكر لأنه موضع حاجة الانسان إلى النور واختلف في قوله تعالى:
(وبأيمانهم) فقال بعض المتأولين المعنى وعن إيمانهم فكأنه خص ذكر جهة اليمين
تشريفا وناب ذلك مناب أن يقول: وفي جميع جهاتهم وقال جمهور المفسرين:
المعنى: يسعى نورهم بين أيديهم يريد الضوء المنبسط من أصل النور (وبإيمانهم):
أصله والشئ الذي هو متقد فيه فتضمن هذا القول أنهم يحملون الأنوار وكونهم غير
حاملين أكرم ألا ترى أن فضيلة عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنما كانت بنور لا
يحملانه هذا في الدنيا فكيف بالآخرة؟! (ت) وفيما قاله (ع) عندي نظر
وأيضا فأحوال الآخرة لا تقاس على أحوال الدنيا!.
وقوله تعالى: (بشراكم) أي: يقال لهم بشراكم (جنات) أي دخول جنات.
(ت): وقد جاءت - بحمد الله - اثار بتبشير هذه الأمة المحمدية وخرج ابن
ماجة قال: أخبرنا جبارة بن المغلس قال حدثنا عبد الأعلى عن أبي بردة عن أبيه
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا جمع [الله] الخلائق يوم القيامة أذن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في
السجود فسجدوا طويلا ثم يقال: ارفعوا رءوسكم فقد جعلنا عدتكم فداءكم من
النار " قال ابن ماجة وحدثنا جبارة بن المغلس حدثنا كثير بن سليمان عن أنس بن
مالك قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذه الأمة أمة مرحومة عذابها بأيديها فإذا كان يوم
القيامة دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال: هذا فداؤك من
382

النار " وفي " صحيح مسلم " " دفع الله لكل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فداؤك
من النار " انتهى من " التذكرة ".
وقوله تعالى: (يوم يقول المنافقون) قيل: (يوم) هو بدل من الأول وقيل:
العامل فيه " أذكر " قال (ع) ويظهر لي أن العامل فيه قوله تعالى: (ذلك هو الفوز
العظيم) ويجئ معنى الفوز أفخم كأنه يقول إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري
المنافقين كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم وقول
المنافقين هذه المقالة المحكية هو عند انطفاء أنوارهم كما ذكرنا قبل وقولهم:
" انظرونا " معناه: انتظرونا وقرأ حمزة وحده: " انظرونا " بقطع الألف وكسر الظاء
ومعناه أخرونا ومنه: (فنظرة إلى ميسرة) ومعنى قولهم أخرونا أي أخروا مشيكم لنا
حتى نلتحق فنقتبس من نوركم واقتبس الرجل: أخذ من نور غيره قبسا قال الفخر:
القبس: الشعلة من النار والسراج والمنافقون طمعوا في شئ من أنوار المؤمنين وهذا
منهم جهل لأن تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا وهم لم يقدموها قال
الحسن: يعطى يوم القيامة كل أحد نورا على قدر عمله ثم يؤخذ من حجر جهنم ومما
فيها من الكلاليب والحسك ويلقى على الطريق ثم تمضي زمرة من المؤمنين وجوههم
كالقمر ليلة البدر ثم تمضي زمرة أخرى كأضوأ كوكب في السماء ثم على ذلك ثم
تغشاهم ظلمة تطفئ نور المنافقين فهنالك يقول المنافقون للذين آمنوا: (انظرونا نقتبس
من نوركم) انتهى.
وقوله تعالى: (قيل ارجعوا وراءكم) يحتمل أن يكون من قول المؤمنين [لهم]
[ويحتمل أن يكون من قول] الملائكة والقول لهم: (فالتمسوا نورا) هو على معنى
383

التوبيخ لهم أي: أنكم لا تجدونه ثم أعلم تعالى أنه يضرب بينهم في هذه الحال بسور
حاجز فيبقى المنافقون في ظلمة وعذاب.
وقوله تعالى: (باطنه فيه الرحمة) أي: جهة المؤمنين (وظاهره): جهة المنافقين
والظاهر هنا: البادي ومنه قول الكتاب: من ظاهر مدينة كذا وعبارة الثعلبي: (فضرب
بينهم بسور): وهو حاجز بين الجنة والنار قال أبو أمامة الباهلي: فيرجعون إلى المكان
الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم / بسور قال
قتادة: حائط بين الجنة والنار له باب (باطنه فيه الرحمة) يعني الجنة (وظاهره
من قبله العذاب) يعني النار انتهى قال (ص) قال أبو البقاء الباء في (بسور)
زائدة وقيل: ليست بزائدة قال أبو حيان: والضمير في (باطنه) عائد على الباب
وهو الأظهر لأنه الأقرب وقيل: على سور أبو البقاء: والجملة صفة ل‍ " باب " أو
ل‍ " سور " انتهى.
وقوله تعالى: (ينادونهم) معناه: ينادي المنافقون المؤمنين: (ألم نكن معكم): في
الدنيا فيرد المؤمنون عليهم: (بلى): كنتم معنا ولكن عرضتم أنفسكم للفتنة وهي
حب العاجل والقتال عليه قال مجاهد: فتنتم أنفسكم بالنفاق و (تربصتم) معناه هنا
بأيمانكم فأبطأتم به حتى متم وقال قتادة معناه تربصتم بنا وبمحمد صلى الله عليه وسلم الدوائر
وشككتم والارتياب: التشكك والأماني التي غرتهم هي قولهم: سيهلك محمد هذا
العام ستهزمه قريش ستأخذه الأحزاب... إلى غير ذلك من أمانيهم وطول الأمل:
384

غرار لكل أحد وأمر الله الذي جاء هو: الفتح وظهور الاسلام وقيل: هو موتهم على
النفاق الموجب للعذاب و (الغرور) الشيطان بإجماع المتأولين وينبغي لكل مؤمن أن
يعتبر هذه الآية في نفسه وتسويفه في توبته واعلم أيها الأخ أن الدنيا غرارة للمقبلين
عليها فإن أردت الخلاص والفوز بالنجاة فازهد فيها وأقبل على ما يعنيك من إصلاح
دينك والتزود لآخرتك وقد روى ابن المبارك في " رقائقه " عن أبي الدرداء أنه قال - يعني
لأصحابه - لئن حلفتم لي على رجل منكم / أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم
وروى ابن المبارك بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يبعث الله تبارك وتعالى يوم القيامة عبدين
من عباده كانا على سيرة واحدة أحدهما مقتور عليه والآخر موسع عليه [فيقبل المقتور
عليه] إلى الجنة ولا ينثني عنها حتى ينتهى إلى أبوابها فيقول حجبتها إليك إليك
فيقول: إذن لا أرجع قال وسيفه في عنقه فيقول أعطيت هذا السيف في الدنيا أجاهد
به فلم أزل مجاهدا به حتى قبضت وأنا على ذلك فيرمي بسيفه إلى الخزنة وينطلق لا
يثنونه ولا يحبسونه عن الجنة فيدخلها فيمكث فيها دهرا ثم يمر به أخوه الموسع عليه
فيقول له يا فلان ما حبسك؟! فيقول: ما خلي سبيلي إلا الآن ولقد حبست ما لو أن
ثلاثمائة بعير أكلت خمطا لا يردن إلا خمسا وردن على عرقي لصدرن منه ريا " انتهى.
وقوله تعالى: (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية...) الآية: استمرار في مخاطبة
المنافقين قال قتادة وغيره.
وقوله تعالى: (هي مولاكم) قال المفسرون: معناه هي أولى بكم وهذا تفسير
بالمعنى وإنما هي استعارة لأنها من حيث تضمهم وتباشرهم هي تواليهم وتكون لهم
مكان المولى وهذا نحو قول الشاعر: [الوافر]
.................... تحية بينهم ضرب وجيع.
385

وقوله تعالى: (ألم يأن) ابتداء معنى مستأنف ومعنى (ألم يأن) ألم يحن
يقال أنى الشئ يأني إذا حان وفي الآية معنى الحض والتقريع قال ابن عباس: عوتب
المؤمنون بهذه الآية وهذه الآية كانت سبب توبة الفضيل وابن المبارك والخشوع
الإخبات والتضامن / وهي هيئة تظهر في الجوارح متى كانت في القلب ولذلك خص
تعالى القلب بالذكر وروى شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول ما يرفع من الناس
الخشوع.
وقوله تعالى: (لذكر الله) أي: لأجل ذكر الله تعالى ووحيه أو لأجل تذكير الله
إياهم وأوامره فيهم والإشارة في قوله: (أوتوا الكتاب) إلى بني إسرائيل المعاصرين
لموسى - عليه السلام - ولذلك قال: (من قبل) وإنما شبه أهل عصر نبي [بأهل عصر
نبي].
وقوله: (فطال عليهم الأمد) قيل: معناه أمد الحياة وقيل: أمد انتظار القيامة
قال الفخر: قال مقاتل ابن حيان: الأمد هنا الأمل أي لما طالت آمالهم لا جرم
قست قلوبهم انتهى وباقي الآية بين.
386

وقوله تعالى: (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها...) الآية مخاطبة لهؤلاء
المؤمنين الذين ندبوا إلى الخشوع وهذا ضرب مثل واستدعاء إلى الخير برفق وتقريب
بليغ أي لا يبعد عندكم أيها التاركون للخشوع رجوعكم إليه وتلبسكم ذلك به فإن الله يحيي
الأرض بعد موتها فكذلك يفعل بالقلوب يردها إلى الخشوع بعد بعدها عنه وترجع هي
إليه إذا وقعت الإنابة والتكسب من العبد بعد نفورها منها كما يحيي الأرض بعد أن كانت
ميتة وباقي الآية بين و (المصدقين): يعنى به المتصدقين وباقي الآية بين.
(ت) وقد جاءت آثار صحيحة في الحض على الصدقة قد ذكرنا منها جملة في
هذا المختصر وأسند مالك في " الموطأ " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يا نساء المؤمنات لا
تحقرن إحداكن لجارتها ولو كراع شاة محرقا " وفي " الموطأ " عنه صلى الله عليه وسلم " ردوا السائل
ولو بظلف محرق " قال ابن عبد البر في " التمهيد " ففي هذا الحديث الحض على
الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها وفي قول الله عز وجل: (فمن يعمل
مثقال ذرة خيرا يره) [الزلزلة: 7] أوضح الدلائل في هذا الباب وتصدقت عائشة - رضي
الله عنها - بحبتين من عنب فنظر إليها بعض أهل بيتها فقالت لا تعجبن فكم فيها من
مثقال ذرة ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة " وإذا
كان الله عز وجل يربي الصدقات ويأخذ الصدقة بيمينه فيربيها كما يربي أحدنا فلوه أو
فصيله فما بال من عرف هذا يغفل عنه وما التوفيق إلا بالله انتهى من " التمهيد " وروى
ابن المبارك في " رقائقه " قال أخبرنا حرملة بن عمران أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يحدث
387

أن أبا الخير حدثه: أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل
امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس " قال يزيد: فكان أبو الخير لا يخطئه يوم
إلا تصدق فيه بشئ ولو كعكة أو بصلة أو كذا انتهى و (الصديقون): بناء مبالغة من
الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزجاج.
وقوله تعالى: (والشهداء عند ربهم) اختلف في تأويله فقال ابن مسعود وجماعة:
(والشهداء) معطوف على: (الصديقين) والكلام متصل ثم اختلفت هذه الفرقة في
معنى هذا الاتصال فقال بعضهما وصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء فكل مؤمن
شهيد / قاله مجاهد وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مؤمنوا أمتي شهداء
وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وإنما خص صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفا لهم لأنهم
في أعلى رتب الشهادة ألا ترى أن المقتول في سبيل الله مخصوص أيضا من السبعة
بتشريف ينفرد به وقال بعضها: (الشهداء) هنا: من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد
فكأنه قال: هم أهل الصدق والشهداء على الأمم وقال ابن عباس ومسروق
والضحاك: الكلام تام في قوله: (الصديقون) وقوله: (والشهداء): ابتداء مستأنف
388

ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف فقال بعضها معنى الآية: والشهداء بأنهم
صديقون حاضرون عند ربهم وعنى بالشهداء الأنبياء - عليهم السلام -.
(ت) وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية وقال بعضها: قوله: (والشهداء) ابتداء
يريد به الشهداء في سبيل الله واستأنف الخبر عنهم بأنهم: (عند ربهم لهم أجرهم
ونورهم) فكأنه جعلهم صنفا مذكورا وحده.
(ت) وأبين هذه الأقوال الأول وهذا الأخير وإن صح حديث البراء لم يعدل
عنه قال أبو حيان: والظاهر أن (الشهداء) مبتدأ خبره ما بعده انتهى.
وقوله تعالى: (ونورهم) قال الجمهور: هو حقيقة حسبما تقدم.
وقوله سبحانه: (اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) هذه الآية وعظ وتبيين لأمر
الدنيا وضعة منزلتها والحياة الدنيا في هذه الآية عبارة عن الأشغال والتصرفات والفكر
التي هي مختصة بالحياة الدنيا وأما ما كان من ذلك في طاعة الله وما كان في
الضرورات التي تقيم الأود وتعين على الطاعات فلا مدخل له في هذه الآية وتأمل
حال الملوك بعد فقرهم يبن لك أن جميع ترفههم لعب ولهو والزينة التحسين الذي
هو خارج عن ذات الشئ والتفاخر بالأموال والأنساب وغير ذلك على عادة الجاهلية
ثم ضرب الله عز وجل مثل الدنيا فقال: (كمثل غيث...) الآية وصورة هذا المثال
أن الانسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك فيشب في النعمة ويقوى ويكسب
المال والولد ويغشاه الناس ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط ويشيب ويضعف
ويسقم وتصيبه النوائب في ماله وذريته ويموت ويضمحل أمره وتصير أمواله لغيره
وتتغير رسومه فأمره مثل مطر أصاب أرضا فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق
ثم هاج أي: يبس واصفر ثم تحطم ثم تفرق بالرياح واضمحل.
وقوله: (أعجب الكفار) أي: الزراع فهو من كفر الحب أي: ستره وقيل:
يحتمل أن يعني الكفار بالله لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا ثم قال تعالى: (وفي الآخرة
389

عذاب شديد ومغفرة...) الآية كأنه قال والحقيقة ها هنا وذكر العذاب أولا تهمما به
من حيث الحذر في الانسان ينبغي أن يكون أولا فإذا تحرز من المخاوف مد حينئذ
أمله فذكر تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه وهو المغفرة والرضوان وعبارة الثعلبي
(ثم يهيج) أي: يجف (وفي الآخرة عذاب شديد) لأعداء الله (ومغفرة): لأوليائه
وقال الفراء (وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة) أي إما عذاب شديد وإما مغفرة (وما
الحياة الدنيا إلا متاع الغرور): هذا تزهيد في العمل للدنيا وترغيب في العمل للآخرة
انتهى وهو حسن وعن طارق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعمت الدار الدنيا لمن تزود
منها لآخرته وبئست الدار لمن صدته عن آخرته وقصرت به عن رضا ربه فإذا قال
العبد قبح الله الدنيا قالت الدنيا قبح الله أعصانا لربه ". رواية الحاكم في " المستدرك "
انتهى من " السلاح " ولا يشك عاقل أن حطام الدنيا مشغل عن التأهب للآخرة قال أبو
عمر بن عبد البر في كتاب " فضل العلم " وقد روي مرفوعا: " لكل أمة فتنة وفتنة أمتي
المال " قال أبو عمر: ثم نقول: إن الزهد في الحلال وترك الدنيا مع القدرة
عليها أفضل من الرغبة فيها في حلالها وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين قديما
وحديثا والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين في فضل
الصبر والزهد فيها وفضل القناعة والرضا بالكفاف والاقتصار على ما يكفي دون التكاثر
الذي يلهي ويطغى أكثر من أن يحيط بها كتاب أو يشمل عليها باب والذين زوى الله
عنهم الدنيا من الصحابة أكثر من الذين فتحها عليهم أضعافا مضاعفة وقد روينا عن
عبد الرحمن بن عوف أنه لما حضرته الوفاة بكى بكاء شديدا وقال: كان مصعب بن عمير
خيرا مني توفي ولم يترك ما يكفن فيه وبقيت بعده حتى أصبت من الدنيا وأصابت
مني ولا أحسبني إلا سأحبس عن أصحابي بما فتح الله علي من ذلك وجعل يبكي حتى
390

فاضت نفسه وفارق الدنيا رحمة الله عليه فإن ظن ظان جاهل أن الاستكثار من الدنيا
ليس به بأس أو غلب عليه الجهل فظن أن ذلك أفضل من طلب الكفاف منها وشبه
عليه بقول الله تعالى: (ووجدك عائلا فأغنى) [الضحى: 8] فيما عدده سبحانه على
نبيه صلى الله عليه وسلم من نعمه عنده فإن ذلك ليس كما ظن بل ذلك غنى القلب دلت على ذلك
الآثار الكثيرة كقوله عليه السلام " ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى
النفس " انتهى.
وقوله سبحانه: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم...) الآية لما ذكر تعالى المغفرة
التي في الآخرة ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة وهذه الآية حجة عند
جميع العلماء في الندب إلى الطاعات وقد استدل بها بعضهم على أن أول أوقات
الصلوات أفضل لأنه يقتضي المسارعة والمسابقة وذكر سبحانه العرض من الجنة إذ
المعهود أنه أقل من الطول وقد ورد في الحديث: " أن سقف الجنة العرش " وورد في
الحديث: " أن السماوات السبع في الكرسي كالدرهم في الفلاة وأن الكرسي في العرش
كالدرهم في الفلاة ".
(ت): أيها الأخ أمرك المولى سبحانه بالمسابقة والمسارعة رحمة منه وفضلا
فلا تغفل عن امتثال أمره وإجابة دعوته: [الخفيف]
السباق السباق قولا وفعلا * حذر النفس حسرة المسبوق.
ذكر صاحب " معالم الإيمان وروضات الرضوان " في مناقب صلحاء القيروان قال:
ومنهم أبو خالد عبد الخالق المتعبد كان كثير الخوف والحزن وبالخوف مات رأى يوما
خيلا يسابق بها فتقدمها فرسان ثم تقدم أحدهما على الآخر ثم جد التالي حتى سبق
الأول فتخلل عبد الخالق الناس حتى وصل إلى الفرس السابق فجعل يقبله ويقول: بارك
الله فيك صبرت فظفرت ثم سقط مغشيا عليه انتهى.
391

وقوله سبحانه: (ما أصاب من مصيبة في الأرض...) الآية قال ابن زيد
وغيره: المعنى: ما حدث من حادث خير وشر فهذا على معنى لفظ أصاب لا على
عرف المصيبة فإن عرفها في الشر وقال ابن عباس ما معناه: أنه أراد عرف المصيبة
فقوله: (في الأرض) يعني بالقحوط والزلازل وغير ذلك و (في أنفسكم): بالموت
والأمراض وغير ذلك.
وقوله: (إلا في كتاب) معناه إلا والمصيبة في كتاب و (نبرأها) معناه: نخلقها
يقال برأ الله الخلق أي: خلقهم والضمير عائد على المصيبة وقيل: على الأرض
وقيل: على الأنفس قاله ابن عباس وجماعة وذكر المهدوي جواز عود الضمير على
جميع ما ذكر وهي كلها معان صحاح.
(أن ذلك على الله يسير) يريد تحصيل الأشياء كلها في كتاب وقال الثعلبي:
وقيل المعنى: إن خلق ذلك وحفظ جميعه على الله يسير انتهى.
وقوله: (لكيلا تأسوا) معناه فعل الله هذا كله وأعلمكم به ليكون سبب
تسليتكم وقلة اكتراثكم بأمور الدنيا فلا تحزنوا على فائت ولا تفرحوا الفرح المبطر بما
آتاكم منها قال ابن عباس ليس أحد إلا يحزن أو يفرح ولكن من أصابته مصيبة
فليجعلها صبرا ومن أصابه خير فليجعله شكرا وفي " صحيح مسلم " عن أبي سعيد وأبي
هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا
سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته " وفي " صحيح مسلم " عن
392

عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا
كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة " وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة قال:
لما نزلت: (من يعمل سوءا يجز به) [النساء: 123] بلغت من المسلمين مبلغا شديدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سددوا وقاربوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة
ينكبها والشوكة يشاكها " انتهى وقد تقدم كثير في هذا المختصر من هذا المعنى فالله
المسؤول أن ينفع به كل من حصله أو نظر فيه.
وقوله تعالى: (والله لا يحب كل مختال فخور) يدل على أن الفرح المنهي عنه
إنما هو ما أدى إلى الاختيال والفخر وأما الفرح بنعم الله المقترن بالشكر والتواضع فإنه
لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه ولا حرج فيه والله أعلم.
وقوله: (الذين يبخلون) قال بعضهم هو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين
يبخلون وقال بعضهم: هو في موضع نصب صفة ل‍ (كل) وإن كان نكرة فهو يخصص
نوعا ما فيسوغ لذلك وصفه بالمعرفة وهذا مذهب الأخفش و (الكتاب) هنا: اسم
جنس لجميع الكتب المنزلة (والميزان): العدل / في تأويل الأكثرين.
393

وقوله تعالى: (وأنزلنا الحديد) عبر سبحانه عن خلقه الحديد بالإنزال كما قال:
(وأنزل لكم من الأنعام) [الزمر: 6] الآية قال جمهور من المفسرين الحديد هنا أراد به
جنسه من المعادن وغيرها وقال حذاق من المفسرين: أراد به السلاح ويترتب معنى الآية
بأن الله أخبر أنه أرسل رسلا وأنزل كتبا وعدلا مشروعا وسلاحا يحارب به من عاند
ولم يقبل هدى الله إذ لم يقبل له عذر وفي الآية على هذا التأويل حض على القتال
في سبيل الله وترغيب فيه.
وقوله: (وليعلم الله من ينصره) يقوي هذا التأويل.
وقوله: (بالغيب) معناه: بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه فآمن بها وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: و (قفينا) معناه: جئنا بهم بعد الأولين وهو مأخوذ من القفا أي
جئ بالثاني في قفا الأول فيجئ الأول بين يدي الثاني وقد تقدم بيانه.
وقوله سبحانه: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية) الجعل في
هذه الآية بمعنى الخلق.
وقوله: (ابتدعوها) صفة لرهبانية وخصها بأنا ابتدعت لأن الرأفة والرحمة في
القلب لا تكسب للإنسان فيها وأما الرهبانية فهي أفعال بدن مع شئ في القلب ففيها
موضع للتكسب ونحو هذا عن قتادة والمراد بالرأفة والرحمة حب بعضهم في بعض
وتوادهم والمراد بالرهبانية رفض النساء واتخاذ الصوامع والديارات والتفرد للعبادات
وهذا هو ابتداعهم ولم يفرض الله ذلك عليهم لكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله
هذا تأويل جماعة وقرأ ابن مسعود " ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها " وقال
مجاهد المعنى كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله فالاستثناء على هذا متصل واختلف
في الضمير الذي في قوله: (فما رعوها) من المراد به فقال ابن زيد وغيره هو عائد
على الذين ابتدعوا الرهبانية وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل وأنه
394

يلزمه أن يرعاه حق رعيه وقال الضحاك وغيره: الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد
المبتدعين لها وروينا في كتاب الترمذي عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن
جده " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث اعلم قال ما أعلم يا رسول الله؟ قال
اعلم يا بلال قال ما أعلم يا رسول الله قال أنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت
بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن
ابتدع ضلالة لا يرضى الله ورسوله بها كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص
ذلك من أوزار الناس شيئا " قال أبو عيسى هذا حديث حسن انتهى.
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله) قالت فرقة: الخطاب بهذه
الآية لأهل الكتاب ويؤيده الحديث الصحيح " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل
الكتاب آمن بنبيه وآمن بي " الحديث وقال آخرون الخطاب للمؤمنين من هذه الأمة
ومعنى (آمنوا برسوله) أي: أثبتوا على ذلك ودوموا عليه (يؤتكم كفلين) أي: نصيبين
بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه قال أبو موسى: (كفلين) ضعفين بلسان
الحبشة والنور هنا: إما أن يكون وعدا بالنور الذي يسعى بين الأيدي يوم القيامة وإما
أن يكون استعارة للهدى الذي يمشي به في طاعة الله.
وقوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب الا يقدرون على شئ من فضل الله...)
الآية روي أنه لما نزل هذا الوعد المتقدم للمؤمنين حسدهم أهل الكتاب على ذلك
وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها وتزعم أنهم أحباء الله وأهل رضوان فنزلت هذه الآية
معلمة أن الله فعل ذلك وأعلم به ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون و " لا " في
قوله: (لئلا) زائدة وقرأ ابن عباس والجحدري: " ليعلم أهل الكتاب " وروى إبراهيم
395

التيمي عن ابن عباس: " كي يعلم " وروي عن حطان الرقاشي أنه قرأ: " لان يعلم ".
وقوله تعالى: (ألا يقدرون) معناه: أنهم لا يملكون فضل الله ولا يدخل تحت
قدرهم وباقي الآية بين.
396

تفسير سورة المجادلة
وهي مدنية إلا أن النقاش حكى أن قوله تعالى:
(ما يكون من نجوى ثلاثة...) الآية مكي
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها...) الآية اختلف
الناس في اسم هذه المرأة على أقوال واختصار ما رواه ابن عباس والجمهور " أن أوس بن
الصامت الأنصاري أخا عبادة بن الصامت ظاهر من امرأته خولة بنت خويلد وكان
الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة فلما فعل ذلك أوس جاءت زوجته
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أوسا أكل شبابي ونثرت له بطني فلما كبرت
ومات أهلي ظاهر مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا حرمت عليه فقالت يا
رسول الله لا تفعل فإني وحيدة ليس لي أهل سواه فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل
مقالته فراجعته فهذا هو جدالها وكانت في خلال جدالها تقول: اللهم إليك أشكو حالي
وانفرادي وفقري إليه " وروي أنها كانت تقول: " اللهم إن لي منه صبية صغارا إن
ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا فهذا هو اشتكاؤها إلى الله فنزلت الآية
397

فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في أوس وأمره بالتكفير فكفر بالإطعام وأمسك أهله " قال ابن العربي
في " أحكامه " والأشبه في اسم هذه المرأة أنها خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن
الصامت وعلى هذا اعتمد الفخر قال الفخر: هذه الواقعة تدل على أن من انقطع
رجاؤه من الخلق ولم يبق له في مهمه أحد إلا الخالق كفاه الله ذلك المهم انتهى
والمحاورة: مراجعة القول ومعاطاته وفي مصحف ابن مسعود: " تحاورك في زوجها "
والظهار: قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي يريد في التحريم كأنها إشارة إلى
الركوب إذ عرفه في ظهور الحيوان وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك فرد الله بهذه الآية
على فعلهم وأخبر بالحقيقة من أن الأم هي الوالدة وأما الزوجة فلا يكون حكمها حكم
الأم وجعل الله سبحانه القول بالظهار منكرا وزورا فهو محرم لكنه إذا وقع لزم هكذا
قال فيه أهل العلم لكن تحريمه تحريم المكروهات جدا وقد رجى الله تعالى بعده بأنه
عفو غفور مع الكفارة.
وقوله سبحانه: (ثم يعودون...) الآية.
(ت) اختلف في معنى العود والعود في " الموطأ " العزم على الوطء
والإمساك معا وفي " المدونة " العزم على الوطء خاصة.
وقوله تعالى: (من قبل أن يتماسا) قال الجمهور: وهذا عام في نوع المسيس
الوطء والمباشرة فلا يجوز لمظاهر أن يطأ ولا أن يقبل أو يلمس بيده أو يفعل شيئا من
هذا النوع إلا بعد الكفارة وهذا قول مالك رحمه الله.
وقوله تعالى: (ذلكم توعظون به): إشارة إلى التحذير أي: فعل ذلك عظة لكم
لتنتهوا عن الظهار.
وقوله سبحانه: (فمن لم يستطع) قال الفخر: الاستطاعة فوق الوسع، والوسع
فوق الطاعة فالاستطاعة هي أن يتمكن الانسان من الفعل على سبيل السهولة انتهى
398

وفروع الظهار مستوفاة في كتب الفقه فلا نطيل بذكرها.
وقوله سبحانه: (ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله...) الآية إشارة إلى الرخصة
والتسهيل في النقل من التحريم إلى الصوم والإطعام ثم شدد سبحانه بقوله: (وتلك حدود
الله) أي: فالتزموها ثم توعد الكافرين بقوله: (وللكافرين عذاب أليم).
وقوله سبحانه: (إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا...) الآية نزلت في قوم من
المنافقين واليهود كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين الدوائر ويتمنون فيهم
المكروه ويتناجون بذلك وكبت الرجل: إذا بقي خزيان يبصر ما يكره ولا يقدر على
دفعه وقال قوم منهم أبو عبيدة: أصله كبدوا، أي أصابهم داء في أكبادهم فأبدلت الدال
تاء وهذا غير قوي و (الذين من قبلهم): منافقوا الأمم الماضية ولفظ البخاري:
(كبتوا): أحزنوا.
وقوله تعالى: (وللكافرين عذاب مهين * يوم يبعثهم الله) العامل في (يوم)
قوله: (مهين) ويحتمل أن يكون فعلا مضمرا تقديره: أذكره.
وقوله تعالى: (إلا هو رابعهم) أي بعلمه وإحاطته وقدرته وعبارة الثعلبي (إلا
هو رابعهم): يعلم ويسمع نجواهم يدل على ذلك افتتاح الآية وخاتمتها انتهى.
وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون...) الآية قال ابن
399

عباس نزلت في اليهود والمنافقين (وإذا جاؤوك حيوك): هو قولهم السام عليكم
يريدون الموت ثم كشف الله تعالى خبث طويتهم والحجة التي إليها يستروحون وذلك
أنهم كانوا يقولون: لو كان محمد نبيئا لعذبنا بهذه الأقوال التي تسيئه وجهلوا أن أمرهم
مؤخر إلى عذاب جهنم.
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم...) الآية وصية منه سبحانه للمؤمنين أن
الا يتناجوا بمكروه وذلك عام في جميع الناس إلى يوم القيامة.
وقوله: (إنما النجوى) أي: بالإثم (من الشيطان) وقرأ نافع وأهل المدينة:
" ليحزن " بضم الياء وكسر الزاي والفعل مسند إلى الشيطان وقرأ أبو عمرو وغيره
" ليحزن " بفتح الياء وضم الزاي ثم أخبر تعالى أن الشيطان أو التناجي الذي هو منه
ليس بضار أحدا إلا أن يكون ضر بإذن الله أي: بأمره وقدره ثم أمر بتوكيل المؤمنين عليه
تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس...) الآية وقرأ
عاصم: " في المجالس " قال زيد بن أسلم وقتادة هذه الآية نزلت بسبب تضايق الناس
400

في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع كلامه والنظر
إليه فيأتي الرجل الذي له الحق والسن والقدم في الاسلام فلا يجد مكانا فنزلت بسبب
ذلك وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس فيه الرجل
ولكن تفسحوا يفسح الله لكم " قال جمهور العلماء سبب نزول الآية مجلس النبي صلى الله عليه وسلم
ثم الحكم مطرد في سائر المجالس التي هي للطاعات ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " أحبكم إلى الله
ألينكم مناكب في الصلاة وركبا في المجالس " وهذا قول مالك رحمه الله وقال ما
أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر قال (ع) فالسنة
المندوب إليها هي التفسح والقيام منهي منه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث نهى أن يقوم
الرجل فيجلسه الآخر مكانه.
(ت) وقد روى أبو داود في " سننه " عن سعيد بن أبي الحسن قال: " جاءنا أبو
بكرة في شهادة فقام له رجل من مجلسه فأبى أن يجلس فيه وقال إن رسول الله
نهى عن ذلك ونهى أن يمسح الرجل يده بثوب من لم يكسه " وروى أبو داود عن ابن
عمر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقام له رجل من مجلسه فذهب ليجلس فيه فنهاه
رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى قال (ع) فأما القيام إجلالا فجائز بالحديث وهو قوله
عليه السلام حين أقبل سعد بن معاذ: " قوموا إلى سيدكم ". وواجب على المعظم ألا
يجب ذلك ويأخذ الناس به لقوله عليه السلام من " أحب أن يتمثل له الناس قياما
فليتبوأ مقعده من النار.
(ت) وفي الاحتجاج بقضية / سعد نظر لأنها احتفت بها قرائن سوغت ذلك
401

انظر السير، وقد أطنب صاحب المدخل في الإنحاء والرد على المجيزين للقيام، والسلامة
عندي ترك القيام.
وقوله تعالى: (يفسح الله لكم) معناه: في رحمته وجنته.
(ص): (يفسح) مجزوم في جواب الأمر انتهى، (وإذا قيل انشزوا) معناه:
ارتفعوا، وقوموا فافعلوا ذلك ومن " رياض الصالحين " للنووي: وعن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين إلا
بإذنهما " رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وفي رواية لأبي داود: " لا
يجلس بين رجلين إلا بإذنهما " وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن من
جلس وسط الحلقة " رواه أبو داود بإسناد حسن وروى الترمذي عن أبي مجلز أن
رجلا قعد وسط الحلقة فقال حذيفة: " ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم أو لعن الله على
لسان محمد صلى الله عليه وسلم من جلس وسط الحلقة " قال الترمذي: حديث حسن صحيح انتهى.
وقوله سبحانه: (يرفع الله الذين آمنوا منكم...) الآية قال جماعة: المعنى: يرفع
الله المؤمنين العلماء درجات فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم وقال آخرون المعنى: يرفع
الله المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا درجات لكنا نعلم تفاضلهم في الدرجات من
مواضع أخر فلذلك جاء الأمر بالتفسح عاما للعلماء وغيرهم وقال ابن مسعود وغيره
يرفع الله الذين آمنوا منكم " وهنا تم الكلام ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات
ونصبهم بإضمار فعل فللمؤمنين رفع على هذا التأويل وللعلماء درجات وعلى هذا
التأويل قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة
وخير دينكم الورع وروى البخاري وغيره عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل ما
402

بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت
الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها
الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء
ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله به فعلم
وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله عز وجل الذي أرسلت به "
انتهى.
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة
ذلك خير لكم وأطهر) روي عن ابن عباس وقتادة في سببها أن قوما من شباب المؤمنين
وإغفالهم كثرت مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في غير حاجة وكان صلى الله عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت
هذه الآية مشددة عليهم وقال مقاتل نزلت في الأغنياء لأنهم غلبوا الفقراء على
مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسته قال جماعة من الرواة: نسخت هذه الآية قبل العمل بها
لكن استقر حكمها بالعزم عليه وصح عن علي أنه قال: ما عمل بها أحد غيري وأنا كنت
سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين قال ثم فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه العبادة قد
شقت على الناس فقال لي يا علي كم ترى أن يكون حد هذه الصدقة أتراه دينارا
قلت: لا قال فنصف دينار؟ قلت: لا قال فكم؟ قلت: حبة من شعير قال إنك
لزهيد فأنزل الله الرخصة يريد للواجدين وأما من لم يجد فالرخصة له ثابتة بقوله
" فإن لم تجدوا " قال الفخر قوله عليه السلام لعلي " إنك لزهيد " معناه إنك قليل
المال فقدرت على حسب حالك انتهى.
403

وقوله سبحانه: (أأشفقتم...) الآية: الإشفاق هنا الفزع من العجر عن الشئ
المتصدق به أو من ذهاب المال في الصدقة.
وقوله: (فأقيموا الصلاة...) الآية المعنى دوموا على هذه الأعمال التي هي
قواعد شرعكم ومن قال إن هذه الصدقة منسوخة بآية الزكاة فقوله ضعيف.
وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا) نزلت في قوم من المنافقين تولوا قوما من
اليهود وهم المغضوب عليهم قال الطبري: (ما هم منكم) يريد به المنافقين (ولا
منهم) أي ولا من اليهود وهذا التأويل يجري مع قوله تعالى: (مذبذبين بين ذلك لا
إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) [النساء: 143] كالشاة العائرة بين الغنمين وتحتمل الآية تأويلا
آخر وهو أن يكون قوله: (ما هم) يريد به اليهود (ولا منهم) يريد به المنافقين
(ويحلفون) يعني المنافقين وقرأ الحسن: (اتخذوا إيمانهم) - بكسر الهمزة -
والجنة: ما يتستر به ثم أخبر تعالى عن المنافقين في هذه الآية أنه ستكون لهم إيمان يوم
القيامة بين يدي الله تعالى يخيل إليهم بجهلهم أنها تنفعهم وتقبل منهم وهذا هو
حسابهم (أنهم على شئ) أي على شئ نافع لهم.
404

وقوله تعالى: (استحوذ عليهم الشيطان) معناه: تملكهم من كل جهة وغلب على
نفوسهم وحكي أن عمر قرأ " استحاذ " ثم قضى تعالى على محاده بالذل، وباقي الآية
بين.
وقوله سبحانه: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله
ورسوله...) الآية نفت هذه الآية أن يوجد من يؤمن بالله حق الإيمان ويلتزم شعبه
على الكمال - يواد كافرا ومنافقا و (كتب في قلوبهم الإيمان): معناه أثبته وخلقه
بالإيجاد.
وقوله: (أولئك) إشارة إلى المؤمنين الذين يقتضيهم الله معنى الآية لأن المعنى
لكنك تجدهم لا يوادون من حاد الله.
وقوله تعالى: (بروح منه) معناه: بهدى منه ونور وتوفيق إلا هي ينقدح لهم من القرآن
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم و " الحزب " الفريق وباقي الآية بين.
405

تفسير سورة الحشر
وهي مدنية باتفاق
وهي سورة بني النضير وذلك أنهم كانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم يرون أنه لا ترد له
راية فلما كان شأن أحد وما أكرم الله به المسلمين ارتابوا وداخلوا قريشا وغدروا
فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد حاصرهم حتى أجلاهم عن أرضهم فارتحلوا إلى بلاد
مختلفة خيبر والشام وغير ذلك ثم كان أمر بني قريظة مرجعه من الأحزاب.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) الآية
تقدم الكلام في تسبيح الجمادات و (الذين كفروا من أهل الكتاب): هم بنو النضير.
و [قوله]: (لأول الحشر): قال الحسن بن أبي الحسن وغيره: يريد حشر القيامة
أي هذا أوله والقيام من القبور آخره وقال عكرمة وغيره: المعنى: لأول موضع
406

الحشر وهو الشام وذلك أن أكثرهم جاء إلى الشام وقد روي أن حشر القيامة هو إلى
بلاد الشام.
وقوله سبحانه: (ما ظننتم أن يخرجوا): يريد لمنعتهم وكثرة عددهم.
وقوله تعالى: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) أي: كلما هدم المسلمون
من تحصينهم في القتال هدموا هم من البيوت ليجبروا الحصن.
(ت) والحاصل أنهم يخربون بيوتهم حسا ومعنى اما حسا فواضح واما معنى
فبسوء رأيهم وعاقبة ما أضمروا من خيانتهم وغدرهم (ولولا أن كتب الله عليهم
الجلاء): من الوطن (لعذبهم في الدنيا): بالسبي والقتل قال البخاري: والجلاء:
الإخراج من أرض إلى أرض انتهى.
وقوله تعالى: (ما قطعتم من لينة...) الآية سببها قول اليهود: ما هذا الإفساد
يا محمد وأنت تنهى عن الفساد فرد الله عليهم بهذه الآية قال ابن عباس وجماعة من
اللغويين: اللينة من النخيل ما لم يكن عجوة وقيل غير هذا.
(ص) أصل " لينة " لونة فقلبوا الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها وجمعه
لين كتمرة وتمر قال الأخفش: واللينة كأنها لون من النخل أي: ضرب منه انتهى.
وقوله عز وجل: (وما أفاء الله على رسوله منهم...) الآية إعلام بأن ما أخذ
لبني النضير ومن فدك هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها
ويقاتل فيها بل على حكم خمس الغنائم وذلك أن بني النضير لم يوجف عليها ولا
قوتلت كبير قتال فأخذ منها صلى الله عليه وسلم قوت عياله وقسم سائرها في المهاجرين وأدخل معهم
أبا دجانة وسهل بن حنيف من الأنصار لأنهما شكيا فقرا والإيجاف سرعة السير
والوجيف دون التقريب يقال: وجف الفرس وأوجفه الراكب.
407

وقوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى...) الآية أهل القرى في
هذه الآية: هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب وذلك أنها
فتحت في ذلك الوقت من غير إيجاف وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك للمهاجرين
ولم يحبس منها لنفسه شيئا ولم يعط الأنصار شيئا لغناهم والقربى في الآية قرابته صلى الله عليه وسلم
منعوا الصدقة فعوضوا من الفئ.
وقوله سبحانه: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم): مخاطبة للأنصار لأنه لم
يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غني والمعنى كي لا يتداول ذلك المال الأغنياء
بتصرفاتهم ويبقى المساكين بلا شئ وقد مضى القول في الغنائم في سورة الأنفال
وروي أن قوما من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا لنا منها سهمنا فنزل
قوله تعالى: (وما أتاكم الرسول فخذوه...) الآية فرفضوا بذلك ثم اطرد بعد معنى
الآية في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه حتى قال قوم أن الخمر محرمة في كتاب الله بهذه
الآية وانتزع منها ابن مسعود لعنة الواشمة الحديث.
(ت) وبهذا المعنى يحصل التعميم للأشياء في قوله تعالى: (ما فرطنا في
الكتاب من شئ) [الأنعام: 38].
وقوله تعالى: (للفقراء المهاجرين): بيان لقوله: (والمساكين وابن السبيل) وكرر
لام الجر لما كانت الجملة الأولى مجرورة باللام ليبين أن البدل إنما هو منها ثم
وصفهم تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم وتوجب الشفقة عليهم وهي إخراجهم من
ديارهم وأموالهم (يبتغون فضلا من الله ورضوانا): يريد به الآخرة والجنة: (أولئك هم
الصادقون) أي: في الأقوال والأفعال والنيات (والذين تبوءوا الدار): هم الأنصار - رضي
الله عن جميعهم والضمير في (من قبلهم) للمهاجرين والدار هي المدينة والمعنى:
تبوءوا الدار مع الإيمان وبهذا الاقتران يتضح معنى قوله تعالى: (من قبلهم) فتأمله قال
(ص): (والإيمان) منصوب بفعل مقدر أي: واعتقدوا الإيمان فهو من عطف
408

الجمل كقوله: [من الرجز]
علفتها تبنا وماء باردا......................
انتهى وقيل غير هذا وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم يحبون
المهاجرين وبأنهم يؤثرون على أنفسهم وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم.
(ت) وروى الترمذي عن أنس قال: " لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه
المهاجرون فقالوا يا رسول الله ما رأينا قوما أبذل لكثير ولا أحسن مواساة في قليل من
قوم نزلنا بين أظهرهم لقد كفونا المؤونة وأشركونا المهنة حتى لقد خفنا أن يذهبوا
بالأجر كله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم " قال أبو عيسى: هذا
حديث حسن صحيح انتهى والحاجة: الحسد في هذا الموضع قاله الحسن ثم يعم
بعد وجوها وقال الثعلبي: (حاجة) أي: حزازة وقيل: حسدا (مما أوتوا) أي مما
أعطى المهاجرون من أموال بني النضير والقرى انتهى.
وقوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم): صفة للأنصار وجاء الحديث الصحيح من
غير ما طريق أنها نزلت بسبب رجل من الأنصار وصنيعه مع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ
نوم صبيانه وقدم للضيف طعامه وأطفأت أهل السراج وأوهما قال الضيف أنهما يأكلان
معه وباتا طاويين فلما غدا الأنصاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " لقد عجب الله من
فعلكما البارحة " ونزلت الآية في ذلك قال صاحب " سلاح المؤمن " الرجل الأنصاري
409

الذي أضاف هو أبو طلحة انتهى قال الترمذي الحكيم في كتاب " ختم الأولياء " له:
حدثنا أبي قال حدثنا عبد الله بن عاصم حدثنا الجماني حدثنا صالح المري عن أبي
سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بكثرة صوم ولا
صلاة إنما دخلوها بسلامة الصدور وسخاوة الأنفس وحسن الخلق والرحمة بجميع
المسلمين " انتهى والإيثار على النفس أكرم خلق قال أبو يزيد البسطامي قدم علينا
شاب من بلخ حاجا فقال لي ما حد الزهد عندكم فقلت إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا
صبرنا فقال: هكذا عندنا كلاب بلخ فقلت له: فما هو عندكم فقال إذا فقدنا
صبرنا وإذا وجدنا آثرنا وروي أن سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح هذه القرى قال
للأنصار: " ان شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه
الغنيمة وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه الغنيمة فقالوا بل نقسم لهم من
أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة فنزلت الآية والخصاصة الفاقة والحاجة وشح
النفس هو كثرة طمعها وضبطها على المال والرغبة فيه وامتداد الأمل هذا جماع
شح النفس وهو داعية كل خلق سوء وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدى الزكاة
المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برئ من الشح " وإلى هذا الذي قلناه
ذهب الجمهور والعارفون بالكلام وقيل في الشح غير هذا قال (ع) وشح النفس
فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده وينصب به و (يوق) من وقى يقي وقال الفخر:
اعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع والشح هو الحالة النفسانية التي
تقتضي ذلك المنع ولما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال الله تعالى: (ومن
يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) أي الظافرون بما أرادوا قال ابن زيد: من لم
يأخذ شيئا نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئا أمره الله تعالى بإعطائه فقد وقى شح
نفسه انتهى.
410

وقوله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم...) الآية قال جمهور العلماء أراد من
يجئ من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة وقال الفراء أراد الفرقة الثالثة من الصحابة
وهي من آمن في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (يقولون): حال فيها الفائدة والمعنى: والذين جاءوا قائلين كذا وروت
أم الدرداء وأبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب
مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك
مثله " رواه مسلم انتهى قال (ع): ولهذه الآية قال مالك وغيره أنه من كان له
في أحد من الصحابة رأي سوء أو بغض فلا حظ له في فيئي المسلمين وقال
عبد الله بن يزيد: قال الحسن: أدركت ثلاثمائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم سبعون بدريا
كلهم يحدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من
عنقه " فالجماعة ألا تسبوا الصحابة ولا تماروا في دين الله ولا تكفروا أحدا من أهل
التوحيد بذنب قال عبد الله فلقيت أبا أمامة وأبا الدرداء ووائلة وأنسا فكلهم يحدثني
عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الحسن والغل: الحقد والاعتقاد الردي.
وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم...) الآية نزلت في
عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت وقوم من منافقي الأنصار كانوا بعثوا إلى
بني النضير وقالوا لهم أثبتوا في معاقلكم فأنا معكم كيفما تقلبت حالكم وكانوا في
ذلك كاذبين وإنما أرادوا بذلك أن تقوى نفوسهم عسى أن يثبتوا حتى لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم
عليهم فيتم مرادهم وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله: (لا يخرجون) (ولا
ينصرونهم) لأنها راجعة إلى حكم القسم لا إلى حكم الشرط والضمير في
411

(صدورهم) يعود على اليهود والمنافقين والضمير في قوله: (لا يقاتلونكم جميعا) لبني
النضير وجميع اليهود هذا قول جماعة المفسرين ومعنى الآية لا يبرزون لحربكم
وإنما يقاتلون متحصنين بالقرى والجدران للرعب والرهب الكائن في قلوبهم.
وقوله تعالى: (بأسهم بينهم شديد) أي في غائلتهم وإحنهم (تحسبهم جميعا)
أي مجتمعين (وقلوبهم شتى) أي: متفرقة قال (ع) وهذه حال الجماعة
المتخاذلة وهي المغلوبة أبدا في كل ما تحاول واللفظة مأخوذة من الشتات وهو التفرق
ونحوه.
وقوله تعالى: (كمثل الذين من قبلهم) قال ابن عباس: هم بنو قينقاع لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير والوبال: الشدة والمكروه وعاقبة السوء
والعذاب الأليم هو في الآخرة.
وقوله سبحانه: (كمثل الشيطان) معناه: أن هاتين الفرقتين من المنافقين وبني
النضير كمثل الشيطان مع الانسان فالمنافقون مثلهم الشيطان وبنو النضير مثلهم
الانسان وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن الشيطان والإنسان في هذه الآية
اسما جنس فكما أن الشيطان يغوي الانسان ثم يفر عنه بعد أن يورطه كذلك أغوى
المنافقون بني النضير وحرضوهم على الثبوت ووعدوهم النصر فلما نشب بنو النضير
وكشفوا عن وجوههم تركهم المنافقون في أسوأ حال وذهب قوم من رواة القصص إلى
أن هذا في شيطان مخصوص مع عابد مخصوص اسمه " برصيصا " استودع امرأة جميلة
وقيل سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون فسول له الشيطان الوقوع عليها فحملت
منه فخشي الفضيحة فسول له فقتلها ودفنها ففعل ثم شهره فلما استخرجت المرأة
412

وحمل العابد شر حمل وصلب جاءه الشيطان فقال له اسجد لي سجدة وأنا
أخلصك فسجد له فقال له الشيطان: هذا الذي أردت منك إن كفرت بربك إني برئ
منك فضرب الله تعالى هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين وهذا يحتاج إلى صحة
سند والتأويل الأول هو وجه الكلام.
(ت) قال السهيلي وقد ذكر هذه القصة هكذا القاضي إسماعيل وغيره من
طريق سفيان بن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر بن عبيد بن رفاعة الزرقي عن
النبي صلى الله عليه وسلم: " أن راهبا كان في بني إسرائيل " فذكر القصة بكمالها ويقال أن اسم هذا
الراهب " برصيصا " ولم يذكر اسمه القاضي إسماعيل انتهى قال (ع) وقول
الشيطان (إني أخاف الله) رياء من قوله وليست على ذلك عقيدته ولا يعرف الله حق
معرفته ولا يحجزه خوفه عن سوء يوقع فيه ابن آدم من أول إلى آخر (فكان عاقبتهما)
يعني: الشيطان والإنسان على ما تقدم من حملهما على الجنس والخصوص.
وقوله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد...) الآية
هذه آية وعظ وتذكير وتقريب للآخرة وتحذير ممن لا تخفي عليه خافية وقوله تعالى:
(لغد) يريد يوم القيامة والذين نسوا الله هم الكفار والمعنى: تركوا الله وغفلوا
عنه حتى كانوا كالناسين فعاقبهم بأن [جعلهم] ينسون أنفسهم وهذا هو الجزاء على
الذنب بالذنب قال سفيان: المعنى حظ أنفسهم ويعطي لفظ الآية أن من عرف نفسه
ولم ينسها عرف ربه تعالى وقد قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أعرف
نفسك تعرف ربك وروي عنه أيضا أنه قال من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه.
413

وقوله سبحانه: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل...) الآية موعظة للإنسان وذم
لأخلاقه وإعراضه وغفلته عن تدبر كلام خالقه وإذا كان الجبل على عظمه وقوته لو
أنزل عليه القرآن وفهم منه ما فهمه الانسان لخشع واستكان وتصدع خشية لله تعالى
فالإنسان على حقارته وضعفه أولى بذلك وضرب الله سبحانه هذا المثل ليتفكر فيه
العاقل ويخشع ويلين قلبه.
وقوله سبحانه: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن
الرحيم) الآية لما قال تعالى (من خشية الله) جاء بالأوصاف العلية التي توجب
لمخلوقاته هذه الخشية وقرأ الجمهور: " القدوس " - بضم القاف - من تقدس إذا تطهر
وتنزه.
وقوله: (السلام) أي: ذو السلام لأن الإيمان به وتوحيده وأفعاله هي لمن آمن
سلام كلهم و (المؤمن): اسم فاعل من آمن بمعنى آمن من الأمن وقيل: معناه:
المصدق عباده المؤمنين و (المهيمن) معناه الحفيظ والأمين قاله ابن عباس
و (الجبار) هو الذي لا يدانيه شئ ولا تلحق رتبته قال الفخر وفي اسمه تعالى:
(الجبار) وجوه.
أحدها: أنه فعال من جبر إذا أغنى الفقير وجبر الكسير.
والثاني: أن يكون الجبار من جبره إذا أكرهه قال الأزهري وهي لغة تميم وكثير
من الحجازيين يقولونها بغير ألف في الإكراه وكان الشافعي رحمه الله يقول جبره
السلطان على كذا بغير ألف وجعل الفراء (الجبار) بهذا المعنى من أجبر بالأقل وهي
414

اللغة المعروفة في الإكراه انتهى و (المتكبر) معناه الذي له التكبر حقا (والبارئ)
بمعنى: الخالق و (المصور) هو الذي يوجد الصور وباقي الآية بين وروى معقل بن
يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم
من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حين يمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين
يمسي كان بتلك المنزلة " رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب انتهى.
415

تفسير سورة الممتحنة
وهي مدنية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء...) الآية
المراد بالعدو ههنا كفار قريش وسبب نزول هذه الآية حاطب بن أبي بلتعة وذلك أن
النبي صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية.
(ت): بل عام فتح مكة فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك منه ارتدادا فنزل الوحي مخبرا بما صنع حاطب فبعث
النبي صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وثالثا - قيل هو المقداد - وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن
بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها فانطلقوا حتى
وجدوا المرأة فقالوا لها أخرجي الكتاب فقالت ما معي كتاب ففتشوا رحلها فما
وجدوا شيئا فقال علي ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذب والله لتخرجن الكتاب أو
لتلقين الثياب فقالت أعرضوا عني فحلته من قرون رأسها فجاؤوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال
لحاطب من كتب هذا فقال أنا يا رسول الله فقال ما حملك على ما صنعت فقال:
يا رسول الله لا تعجل علي فوالله ما كفرت منذ أسلمت وما فعلت ذلك ارتدادا عن
ديني ولا رغبة عنه ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته
وكنت امرءا ملصقا فيهم وأهلي بين ظهرانيهم فخشيت عليهم فأردت أن أتخذ عندهم
416

يدا فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم وقال لا تقولوا لحاطب إلا خيرا " وروي أن حاطبا كتب: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل والسيل وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر
عليكم فكيف وهو في جمع كثير (ص) و (تلقون) مفعوله محذوف أي: تلقون
إليهم أخبار الرسول وأسراره و (بالمودة): الباء للسبب انتهى.
وقوله تعالى: (إن تؤمنوا): مفعول من أجله أي: أخرجوكم من أجل أن آمنتم
بربكم.
وقوله تعالى: (إن كنتم): شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله وجاز ذلك لما لم
يظهر عمل الشرط والتقدير: إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا
تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء و (جهادا) منصوب على المصدر وكذلك (ابتغاء)
ويجور أن يكون ذلك مفعولا من أجله والمرضاة: مصدر كالرضى و (تسرون) حال من
(تلقون) ويجوز أن يكون في موضع خبر ابتداء كأنه قال: أنتم تسرون ويصح أن
يكون فعلا ابتدئ به القول.
وقوله تعالى: (أعلم) يحتمل أن يكون افعل ويحتمل أن يكون فعلا لأنك تقول:
علمت بكذا فتدخل الباء.
(ص) والظاهر أنه افعل تفضيل ولذلك عدي بالباء انتهى و (سواء) يجوز
أن يكون مفعولا ب‍ (ضل) على تعدي " ضل " ويجوز أن يكون ظرفا على غير التعدي
لأنه يجئ بالوجهين والأول أحسن في المعنى والسواء: الوسط و (السبيل): هنا شرع
الله وطريق دينه.
وقوله سبحانه: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء...) الآية أخبر تعالى أن مداراة
هؤلاء الكفرة غير نافعة في الدنيا وأنها ضارة في الآخرة ليبين فساد رأي مصانعهم
417

فقال: (إن يثقفوكم) أي إن يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم ظهرت عداوتهم
وانبسطت إليكم أيديهم بضرركم وقتلكم وانبسطت ألسنتهم بسبكم وأشد من هذا كله
إنما يقنعهم أن تكفروا وهذا هو ودهم ثم أخبر تعالى أن هذه الأرحام التي رغبتم في
وصلها ليست بنافعة يوم القيامة فالعامل في (يوم) قوله (تنفعكم) وقيل: العامل فيه
(يفصل) وهو مما بعده لا مما قبله وعبارة الثعلبي (لن تنفعكم أرحامكم) أي قرابتكم
منهم (ولا أولادكم) الذين عندهم بمكة (يوم القيامة): إذا عصيتم الله من أجلهم
(يفصل بينكم) فيدخل المؤمنون الجنة والكافرون النار انتهى.
(ت) وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم
عندنا زلفى...) [سبأ: 37] الآية واعلم أن المال والسبب النافع يوم القيامة ما كان لله
وقصد به العون على طاعة الله وإلا فهو على صاحبه وبال وطول حساب قال ابن
المبارك في رقائقه أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة قال سمعت عبد الله بن الحارث
يحدث عن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه سمعه يقول: ويجمعون
يعني ليوم القيامة فيقال: أين فقراء هذه الأمة ومساكينها؟ فيبرزون فيقال ما عندكم
فيقولون يا ربنا ابتلينا فصبرنا وأنت أعلم أحسبه قال ووليت الأموال والسلطان
غيرنا فيقال صدقتم فيدخلون الجنة قبل سائر الناس بزمان وتبقى شدة الحساب على
ذوي السلطان والأموال قال: قلت فأين المؤمنون يومئذ قال: توضع لهم كراسي من
نور ويظلل عليهم الغمام ويكون ذلك اليوم أقصر عليهم من ساعة من نهار انتهى وفي
قوله تعالى: (والله بما تعملون بصير): وعيد وتحذير.
وقوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة) أي: قدوة (في إبراهيم) الخليل (والذين
معه): قيل من آمن به من الناس وقال الطبري وغيره (الذين معه): هم الأنبياء
المعاصرون له أو قريبا من عصره قال (ع) وهذا أرجح لأنه لم يرو أن لإبراهيم
418

أتباعا مؤمنين في وقت مكافحته نمرودا وفي البخاري أنه قال لسارة حين رحل بها إلى
الشام مهاجرا من بلد النمرود: ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك وهذه الأسوة
مقيدة في التبري من المشركين وإشراكهم وهو مطرد في كل ملة وفي نبينا محمد - عليه
السلام أسوة حسنة على الإطلاق في العقائد وفي أحكام الشرع كلها.
وقوله: (كفرنا بكم) أي كذبناكم في عبادتكم الأصنام.
وقوله: (إلا قول إبراهيم لأبيه) يعني تأسوا بإبراهيم إلا في استغفاره لأبيه فلا
تتأسوا به فتستغفروا للمشركين لأن استغفاره إنما كان عن موعدة وعدها إياه وهذا
تأويل قتادة ومجاهد وعطاء الخراساني وغيرهم.
وقوله: (ربنا عليك توكلنا) إلى قوله: (إنك أنت العزيز الحكيم) هو حكاية عن
قول إبراهيم والذين معه وهذه الألفاظ بينة مما تقدم في آي القرآن.
وقوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة) قيل: المعنى لا تغلبهم علينا فنكون لهم فتنة وسبب
ضلالة نحا هذا المنحى قتادة وأبو مجلز وقد تقدم مستوفى في سورة يونس وقال ابن
عباس: المعنى لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن أدياننا فكأنه قال لا تجعلنا مفتونين
فعبر عن ذلك بالمصدر وهذا أرجح الأقوال لأنهم إنما دعوا لأنفسهم وعلى منحى
قتادة إنما دعوا للكفار أما إن مقصدهم إنما هو أن يندفع عنهم ظهور الكفار الذي بسببه
فتن الكفار فجاء في المعنى تحليق بليغ.
وقوله تعالى: (لقد كان لكم [فيهم]) أي: في إبراهيم والذين معه وباقي الآية
419

بين وروي أن هذه الآيات لما نزلت وعزم المؤمنون على امتثالها وصرم حبال
الكفرة لحقهم تأسف وهم من أجل قراباتهم إذ لم يؤمنوا ولم يهتدوا حتى يكون
بينهم التوادد والتواصل فنزلت: (عسى الله...) الآية: مؤنسة في ذلك ومرجية أن
يقع فوقع ذلك بإسلامهم في الفتح وصار الجميع إخوانا وعسى من الله واجبة الوقوع
(ت) قد تقدم تحقيق القول في (عسى) في سورة القصص فأغنى عن
إعادته.
وقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم...) الآية اختلف في هؤلاء
الذين لم ينه عنهم أن يبروا فقيل أراد المؤمنين التاركين للهجرة وقيل خزاعة وقبائل
من العرب كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبين لظهوره وقيل أراد النساء والصبيان من
الكفرة وقيل أراد من كفار قريش من لم يقاتل ولا أخرج ولم يظهر سوءا وعلى أنها
في الكفار فالآية منسوخة بالقتال والذين قاتلوا في الدين وأخرجوهم هم مردة قريش.
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) الآية نزلت إثر
صلح الحديبية وذلك أن ذلك الصلح تضمن أن من أتى مسلما من أهل مكة رد إليهم
سواء كان رجلا أو امرأة فنقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية وحكم بأن
المهاجرة المؤمنة لا ترد إلى دار الكفر و (امتحنوهن): معناه: جربوهن واستخبروا حقيقة
ما عندهن.
وقوله تعالى: (الله أعلم بإيمانهن) إشارة إلى الاسترابة ببعضهن.
(ت) وقوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات...) الآية: العلم هنا بمعنى
الظن وذكر الله تعالى العلة في أن لا يرد النساء إلى الكفار وهو امتناع الوطء وحرمته.
420

وقوله تعالى: (وآتوهم ما أنفقوا...) الآية أمر بأن يؤتى الكفار مهور نسائهم التي
هاجرن مؤمنات ورفع سبحانه الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن وأمر
المسلمين بفراق الكافرات وأن لا يتمسكوا بعصمهن فقيل: الآية في عابدات الأوثان ومن لا
يجوز نكاحها ابتداء وقيل: هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب والعصم: جمع
عصمة وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية وأمر تعالى أن يسئل أيضا المؤمنون ما
أنفقوا فروي عن ابن شهاب أن قريشا لما بلغهم هذا الحكم قالوا نحن لا نرضى بهذا
الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقا فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى: (وإن
فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار...) الآية فأمر الله تعالى المؤمنين أن يدفعوا إلى
من فرت زوجته ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي أنفق واختلف: من أي مال يدفع
إليه الصداق فقال ابن شهاب يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار
بسبب من هاجر من أزواجهم وأزال الله دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه قال
(ع) وهذا قول صحيح يقتضيه قوله: (فعاقبتم) وقال قتادة وغيره يدفع إليه من
مغانم المغازي وقال هؤلاء: التعقيب هو الغزو والمغنم وقال ابن شهاب أيضا يدفع
إليه من أي وجوه الفئ أمكن والمعاقبة في هذه الآية ليست بمعنى مجازاة السوء بسوء
قال الثعلبي وقرأ مجاهد " فأعقبتم " وقال: المعنى صنعتم بهم كما صنعوا بكم
انتهى قال (ع) أي وذلك بأن يفوت إليكم شئ من أزواجهم وهكذا هو
التعاقب على الجمل والدواب أن يركب هذا عقبة وهذا عقبة ويقال: عاقب الرجل صاحبه
في كذا أي: جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر وهذه الآية كلها قد ارتفع
حكمها.
421

وقوله عز وجل: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك...) الآية: هذه بيعة
النساء في ثاني يوم الفتح على الصفا وهي كانت في المعنى بيعة الرجال قبل فرض القتال.
(ت) وخرج البخاري بسنده عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه
من المؤمنات بهذه الآية: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) الآية
وكذا روى البخاري من طريق ابن عباس أنه - عليه السلام - تلا عليهن الآية يوم
الفطر عقب الصلاة ونحوه عن أم عطية في البخاري " وقرأ عليهن الآية أيضا في ثاني
يوم فتح مكة " وكلام (ع) يوهم أن الآية نزلت في بيعة النساء يوم الفتح وليس
كذلك وإنما يريد أنه أعاد الآية على من لم يبايعه من أهل مكة لقرب عهدهم بالإسلام
والله أعلم والإتيان بالبهتان: قال أكثر المفسرين معناه أن تنسب إلى زوجها ولدا ليس
منه قال (ع) واللفظ أعم من هذا التخصيص.
وقوله تعالى: (ولا يعصينك في معروف) يعمم جميع أوامر الشريعة فرضها
وندبها وفي الحديث " أن جماعة نسوة قلن يا رسول الله نبايعك على كذا وكذا الآية
فلما فرغن قال صلى الله عليه وسلم فيما استطعتن وأطقتن فقلن: الله ورسوله أرحم بنا منا لأنفسنا ".
وقوله تعالى: (فبايعهن) أي امض لهن صفقة الإيمان بأن يعطين ذلك من أنفسهن
ويعطين عليه الجنة واختلف في هيئة مبايعته صلى الله عليه وسلم النساء بعد الاجماع على أنه لم تمس يده
يد امرأة أجنبية قط والمروي عن عائشة وغيرها: " أنه بايع باللسان قولا وقال إنما قولي
422

لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة ".
و (قوما غضب الله عليهم) هم اليهود في قول ابن زيد وغيره ويأسهم بين من
الآخرة: هو يأسهم من نعيمها مع التصديق بها وقال ابن عباس: (قوما غضب الله
عليهم) في هذه الآية كفار قريش.
وقوله: (كما يئس الكفار من أصحاب القبور): على هذا التأويل هو على ظاهره في اعتقاد الكفرة إذا مات لهم حميم قالوا: هذا آخر العهد به لا يبعث أبدا.
423

تفسير سورة الصف
وهي مدنية في قول الجمهور وقيل مكية
والأول أصح لأن معاني السورة تعضده ويشبه أن يكون فيها المكي والمدني.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) قد
تقدم تفسيره واختلف في السبب الذي نزلت فيه: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا
تفعلون) فقال ابن عباس وغيره نزلت بسبب قوم قالوا لو علمنا أحب العمل إلى
الله تعالى لسارعنا إليه ففرض الله الجهاد وأعلمهم بفضله وأنه يحب المقاتلين في سبيله
كالبنيان المرصوص فكرهه قوم منهم وفروا يوم الغزو فعاتبهم الله تعالى بهذه الآية
وقال قتادة والضحاك نزلت بسبب جماعة من شباب المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم
في الغزو بما لم يفعلوا (ع) وحكم هذه الآية باق غابر الدهر وكل من
يقول ما لا يفعل فهو ممقوت الكلام والقول الأول يترجح بما يأتي [من أمر] الجهاد
والقتال والمقت البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت وقول المرء
424

ما لا يفعل موجب مقت الله تعالى ولذلك فر كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير وآثروا
السكوت (قلت) وهذا بحسب فقه الحال إن وجد الانسان من يكفيه هذه المؤونة
في وقته فقد يسعه السكون وإلا فلا يسعه قال الباجي في " سنن الصالحين " له قال
الأصمعي بلغني أن بعض الحكماء كان يقول أني لأعظكم وإني لكثير الذنوب ولو أن
أحدا لا يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه لترك الأمر بالخير واقتصر على الشر ولكن
محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس وتذكير من النسيان وقال أبو حازم اني
لأعظ الناس وما أنا بموضع للوعظ ولكن أريد به نفسي وقال الحسن لمطرف: عظ
أصحابك فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل فقال رحمك الله وأينا يفعل ما يقول
ود الشيطان أنه لو ظفر منكم بهذه فلم يأمر أحد منكم بمعروف ولم ينه عن منكر انتهى.
وقوله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله...) الآية قال معاذ بن
جبل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له
الجنة ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد "
425

مختصر رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة واللفظ لأبي داود وقال الترمذي:
هذا حديث صحيح انتهى من " السلاح " ثم ذكر تعالى مقالة موسى وذلك ضرب مثل
للمؤمنين ليحذروا ما وقع فيه هؤلاء من العصيان وقول الباطل.
وقوله: (لم تؤذونني) أي بتعنيتكم وعصيانكم واقتراحاتكم حديث وأسند الزيغ إليهم
لكونه فعل حطيطة وهذا بخلاف قوله تعالى: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) [التوبة: 118]
فأسند التوبة إليه سبحانه لكونها فعل رفعة و " زاغ " معناه مال وصار عرفها في الميل عن
الحق و (أزاغ الله قلوبهم) معناه طبع عليها وكثر ميلها عن الحق وهذه هي العقوبة على
الذنب بالذنب.
وقوله: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) قال عياض في " الشفا " سمى
الله تعالى نبيه في كتابه محمدا وأحمد فأما اسمه أحمد ف‍ " افعل " مبالغة من صفة الحمد
ومحمد " مفعل " من كثرة الحمد وسمى أمته في كتب أنبيائه بالحمادين ثم في هذين
الاسمين من عجائب خصائصه سبحانه وبدائع آياته أنه سبحانه حمى أن يتسمى بهما أحد
قبل زمانه أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء فمنع سبحانه أن يتسمى به
أحد غيره حتى لا يدخل بذلك لبس على ضعيف القلب وكذلك محمد أيضا لم يتسم به
أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده صلى الله عليه وسلم وميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد
فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو وهم محمد بن
أحيحة الأوسي ومحمد بن مسلمة الأنصاري ومحمد بن براء البكري ومحمد بن
سفيان باليمن ويقولون: بل محمد بن اليحمد من الأزد ومحمد بن سوادة منهم لا
سابع لهم ولم يدع أحد من هؤلاء النبوءة أو يظهر عليه سبب يشكك الناس انتهى وروى
أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تسموا أولادكم محمدا ثم تلعنونهم " رواه
الحاكم في " المستدرك " انتهى من " السلاح ".
وقوله سبحانه: (فلما جاءهم بالبينات...) الآية يحتمل أن يريد عيسى ويحتمل
426

أن يريد محمد صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم ذكره (ت) والأول أظهر.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم...) الآية ندب
وحض على الجهاد بهذه التجارة التي بينها سبحانه وهي أن يبذل المرء نفسه وماله ويأخذ
ثمنا جنة الخلد وقرأ ابن عامر وحده: " تنجيكم " بفتح النون وشد الجيم.
وقوله: (تؤمنون) معناه: الأمر أي آمنوا قال الأخفش: ولذلك جاء " يغفر "
مجزوما وفي مصحف ابن مسعود: " آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا ". وقوله: (ذلكم)
إشارة إلى الجهاد والإيمان و (خير) هنا يحتمل أن يكون للتفضيل فالمعنى: من كل
عمل ويحتمل أن يكون إخبارا أن هذا خير في ذاته و (مساكن) عطف على (جنات)
وطيب المساكن: سعتها وجمالها وقيل: طيبها المعرفة بدوام أمرها.
وقوله سبحانه: (وأخرى تحبونها...) الآية قال الأخفش (وأخرى) هي في
موضع خفض عطفا على (تجارة) وهذا قلق وقد رده الناس لأن هذه الأخرى ليست
مما دل عليه سبحانه إنما هي مما أعطى ثمنا وجزاء على الإيمان والجهاد بالنفس والمال
وقال الفراء: (وأخرى) في موضع رفع وقيل في موضع نصب بإضمار فعل تقديره:
ويدخلكم جنات ويمنحكم أخرى وهي النصر والفتح القريب وقصة عيسى مع بني
إسرائيل قد تقدمت.
وقوله تعالى: (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم) قيل ذلك قبل محمد عليه
السلام وبعد فترة من رفع عيسى رد الله الكرة لمن آمن به فغلبوا الكافرين الذين قتلوا
صاحبه الذي ألقى عليه الشبه وقيل: المعنى فأصبحوا ظاهرين بالحجة.
427

تفسير سورة الجمعة
وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) تقدم القول في مثل ألفاظ
الآية والمراد بالأميين جميع العرب واختلف في المعينين بقول تعالى: (وآخرين منهم)
فقال أبو هريرة وغيره أراد فارس " وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآخرون؟ فأخذ بيد
سليمان وقال لو كان الدين في الثريا لناله رجال من هؤلاء " خرجه مسلم والبخاري
وقال ابن زيد ومجاهد والضحاك وغيرهم: أراد جميع طوائف الناس فقوله: (منهم)
على هذين القولين إنما يريد في البشرية والإيمان وقال مجاهد أيضا وغيره: أراد التابعين
من أبناء العرب فقوله: (منهم) يريد في النسب والإيمان.
وقوله: (لما يلحقوا) نفي لما قرب من الحال والمعنى أنهم مزمعون أن يلحقوا
فهي " لم " زيدت عليها " ما " تأكيدا.
و (الذين حملوا التوراة) هم بنو إسرائيل الأحبار المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم و (حملوا)
معناه كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها فهذا كما حمل الانسان الأمانة وذكر تعالى أنهم لم
يحملوها أي لم يطيعوا أمرها ويقفوا عند حدودها حين كذبوا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والتوراة
428

تنطق بنبوته فكان كل حبر لم ينتفع بما حمل كمثل حمار عليه أسفار وفي مصحف ابن
مسعود / " كمثل حمار " بغير تعريف والسفر الكتاب المجمع الأوراق منضدة.
وقول: (بئس مثل القوم) التقدير بئس المثل مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله
(ص) ورد بأن فيه حذف الفاعل ولا يجوز والظاهر أن (مثل القوم) فاعل
(بئس) و (الذين كذبوا) هو المخصوص بالذم على حذف مضاف أي: مثل الذين
كذبوا انتهى.
وقوله سبحانه: (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم...) الآية روي أنها نزلت بسبب
أن يهود المدينة لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبوا يهود خيبر في أمره وذكروا لهم نبوته
وقالوا إن رأيتم أتباعه أطعناكم وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم فجاءهم جواب أهل خيبر
يقولون نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن وأبناء عزير بن الله ومنا الأنبياء ومتى كانت
النبوة في العرب؟ نحن أحق بالنبوة من محمد ولا سبيل إلى اتباعه فنزلت الآية بمعنى
أنكم إذا كنتم من الله بهذا المنزلة فقربه وفراق هذه الحياة الخسيسة أحب إليكم فتمنوا
الموت إن كنتم تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة ثم أخبر تعالى أنهم لا يتمنونه أبدا
لعلمهم بسوء حالهم وروى كثير من المفسرين أن الله جلت قدرته جعل هذه الآية
معجزة لمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم فهي آية باهرة وأعلمه أنه إن تمنى أحد منهم الموت في أيام
معدودات مات وفارق الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنوا الموت على جهة التعجيز وإظهار
الآية فما تمناه أحد منهم خوفا من الموت وثقة بصدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة) الآية النداء هو الأذان وكان
على الجدار في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي " مصنف أبي داود ": كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم
429

وهو على المنبر أذان ثم زاد عثمان النداء على الزوراء ليسمع الناس.
(ت) وفي البخاري والترمذي وصححه عن السائب بن يزيد قال: كان النداء
يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما
تولى عثمان وكثر الناس زاد الأذان الثالث فأذن به على الزوراء فثبت الأمر على
ذلك قيل فقوله " الثالث " يقتضي أنهم كانوا ثلاثة وفي طريق آخر " الثاني " بدل
" الثالث " وهو يقتضي أنهما اثنان انتهى وخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له ثم أنصت للإمام حتى يفرغ من
خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام " انتهى
وخرجه البخاري من طريق سليمان.
وقوله: (من يوم الجمعة) قال ابن هشام: " من " مرادفة " في " انتهى.
وقوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله...) الآية السعي في الآية لا يراد به الإسراع
في المشي وإنما هو بمعنى قوله: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) [النجم: 39] فالسعي
هو بالنية والإرادة والعمل من وضوء وغسل ومشي ولبس ثوب كل ذلك سعي وقد
قال مالك وغيره إنما تؤتى الصلاة بالسكينة (ت) وهو نص الحديث الصحيح وهو
قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة / " فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها [و] عليكم السكينة " (ت):
والظاهر أن المراد بالسعي هنا المضي إلى الجمعة كما فسره الثعلبي ويدل على ذلك
إطلاق العلماء لفظ الوجوب عليه فيقولون السعي إلى الجمعة واجب ويدل على ذلك
قراءة عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجماعة من التابعين
430

" فامضوا إلى ذكر الله " وقال ابن مسعود لو قرأت: (فاسعوا إلى ذكر الله) لأسرعت حتى
يقع ردائي وقال العراقي: (فاسعوا) معناه بادروا انتهى وقوله: (إلى ذكر الله)
هو وعظ الخطبة قاله ابن المسيب ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " إذا كان يوم
الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا جلس
الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر " الحديث خرجه البخاري ومسلم واللفظ
لمسلم والخطبة عند الجمهور شرط في انعقاد الجمعة وعن أبي موسى الأشعري أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها ويبعث
الجمعة زهراء منيرة أهلها محفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضئ لهم يمشون
في ضوئها ألوانهم كالثلج بياضا وريحهم يسطع كالمسك يخوضون في جبال الكافور
ينظر إليهم الثقلان ما يطرفون تعجبا يدخلون الجنة لا يخالطهم إلا المؤذنون المحتسبون "
خرجه القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي قال صاحب
" التذكرة " وإسناده صحيح انتهى.
وقوله سبحانه: (ذلكم) إشارة إلى السعي وترك / البيع.
وقوله: (فانتشروا) أجمع الناس على أن مقتضى هذا الأمر الإباحة وكذلك قوله:
" وابتغوا من فضل الله " أنه الإباحة في طلب المعاش مثل قوله تعالى: (وإذا حللتم
فاصطادوا) [المائدة: 2] إلا ما روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ذلك الفضل المبتغى
هو عيادة مريض أو صلة صديق أو اتباع جنازة قال (ع) وفي هذا ينبغي أن
يكون المرء بقية يوم الجمعة ونحوه عن جعفر بن محمد وقال مكحول: الفضل
المبتغى العلم فينبغي أن يطلب أثر الجمعة.
431

وقوله تعالى: (واذكروا الله كثيرا...) الآية قال معاذ بن جبل: ما شئ أنجى من
عذاب الله من ذكر الله: رواه الترمذي واللفظ له وابن ماجة والحاكم في
" المستدرك " وقال صحيح الإسناد انتهى من " السلاح ".
وقوله سبحانه: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا...) الآية نزلت بسبب أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما على المنبر يخطب يوم الجمعة فأقبلت عير من الشام تحمل
ميرة وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي قال مجاهد: وكان من عرفهم أن تدخل عير
المدينة بالطبل والمعازف والصياح سرورا بها فدخلت العير بمثل ذلك فانفض أهل
المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر ولم يبق معه
غير اثني عشر رجلا قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم قال (ع) ولم تمر بي
تسميتهم في ديوان فيما أذكر الآن إلا أني سمعت أبي - رحمه الله - يقول هم العشرة
المشهود لهم بالجنة واختلف في الحادي عشر فقيل عمار بن ياسر وقيل: ابن
مسعود (ت): وفي تقييد أبي الحسن الصغير: والاثنا عشر الباقون هم الصحابة
العشرة والحادي عشر بلال واختلف في الثاني عشر فقيل عمار بن ياسر وقيل:
ابن مسعود انتهى قال السهيلي: وجاءت تسمية الاثني عشر في حديث مرسل رواه
أسد بن عمرو والد موسى بن أسد وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر
وعثمان حتى العشرة وقال: وبلال وابن مسعود وفي رواية: عمار بدل ابن مسعود
وفي " مراسيل أبي داود " ذكر السبب الذي من أجله ترخصوا فقال إن الخطبة يوم الجمعة
كانت بعد الصلاة فتأولوا رضي الله عنهم أنهم قد قضوا ما عليهم فحولت الخطبة بعد
432

ذلك قبل الصلاة فهذا الحديث وإن كان مرسلا فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب
أن يكون صحيحا والله أعلم انتهى وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لولا هؤلاء لقد كانت
الحجارة سومت على المنفضين من السماء " وفي حديث آخر: " والذي نفس محمد بيده
لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد لسال بكم الوادي نارا قال البخاري: (انفضوا) معناه
تفرقوا انتهى وقرأ ابن مسعود: " ومن التجارة للذين اتقوا والله خير الرازقين " وإنما
أعاد الضمير في قوله: (إليها) على التجارة وحدها لأنها أهم وهي كانت سبب اللهو
(ص) وقرئ " إليهما " بالتثنية.
433

[تفسير] سورة " المنافقون "
وهي مدنية بإجماع
ونزلت في غزوة بني المصطلق بسبب أن ابن أبي ابن سلول كانت له في تلك
الغزوة أقوال منكرة وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله...) الآية فضح
الله سرائر المنافقين بهذه الآية وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم نشهد أنك
لرسول الله وهم في إخبارهم هذا كاذبون لأن حقيقة الكذب أن يخبر الانسان بضد ما
في قلبه وهذه كانت حالهم وقرأ الناس: " أيمانهم " جمع يمين وقرأ الحسن:
" إيمانهم " - بكسر الهمزة - والجنة ما يتستر به في الإجرام والمعاني.
وقوله: (ذلك) إشارة إلى فعل الله بهم في فضحهم وتوبيخهم ويحتمل أن تكون
الإشارة إلى سوء ما عملوا فالمعنى ساء عملهم بأن كفروا بعد إيمان.
434

وقوله تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) هذا توبيخ
لهم إذ كان منظرهم يروق جمالا وقولهم يخلب بيانا لكنهم كالخشب المسندة إذ لا
أفهام لهم نافعة وكان عبد الله بن أبي ابن سلول من أبهى المنافقين وأطولهم ويدل
على ذلك أنه لم يوجد قميص يكسو العباس غير قميصه قال الثعلبي: (تعجبك
أجسامهم) لاستواء خلقها وطول قامتها وحسن صورتها قال ابن عباس: وكان
عبد الله بن أبي جسيما صبيحا فصيحا ذلق اللسان فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله
ووصفهم الله تعالى بتمام الصورة وحسن الإبانة ثم شبههم بالخشب المسندة إلى الحائط
لا يسمعون ولا يعقلون أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام انتهى.
وقوله تعالى: (يحسبون كل صيحة عليهم) هذا أيضا فضح لما كانوا يسرونه من
الخوف / وذلك أنهم كانوا يتوقعون أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بقتلهم قال مقاتل فكانوا
متى سمعوا نشدان ضالة أو صياحا بأي وجه أو أخبروا بنزول وحي طارت عقولهم حتى
يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم ثم أخبر تعالى بأنهم هم العدو وحذر منهم.
وقوله تعالى: (قاتلهم الله) دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة لهم و (أنى يؤفكون)
معناه كيف يصرفون.
وقوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله...) الآية سبب
نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق فازدحم أجير لعمر بن الخطاب يقال له " جهجاه "
مع سنان بن وبرة الجهني حليف للأنصار على الماء فكسع جهجاه سنانا فتثاورا ودعا
جهجاه يا للمهاجرين ودعا سنان: يا للأنصار فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال
دعوى الجاهلية فلما أخبر بالقصة قال: دعوها فإنها منتنة فقال عبد الله بن أبي أوقد
فعلوها والله ما مثلنا ومثل جلابيب قريش إلا كما قال الأول سمن كلبك يأكلك
وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم قال لمن معه من المنافقين:
إنما يقيم هؤلاء المهاجرون مع محمد بسبب معونتكم لهم ولو قطعتم ذلك عنهم لفروا
فسمعها منه زيد بن أرقم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي
عند رجال من الأنصار فبلغه ذلك فجاء وحلف ما قال ذلك وحلف معه قوم من
المنافقين وكذبوا زيدا فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم فبقي زيد في منزله لا ينصرف حيا من الناس
فنزلت هذه السورة عند ذلك فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد وقال له: لقد صدقك الله يا زيد
435

فخري عند ذلك عبد الله بن أبي ومقته الناس ولامه المؤمنون من قومه وقال له بعضم:
امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي وقال
لهم لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ولم يبق
لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد فهذا قصص هذه السورة موجزا وقرأ نافع والمفضل
عن عاصم: " لووا " - بتخفيف الواو - وقرأ الباقون بتشديدها.
وقوله تعالى: (سواء عليهم استغفرت لهم...) الآية روي أنه لما نزلت (أن
تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) [التوبة: 80] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزيدن على
السبعين وفي حديث آخر لو علمت أني لو زدت على السبعين لغفر لهم لزدت وفي
هذا الحديث دليل على رفض دليل الخطاب فلما فعل ابن أبي وأصحابه ما فعلوا شدد الله
عليهم في هذه الآية واعلم أنه لن يغفر لهم دون حد في الاستغفار.
وقوله تعالى: (هم الذين) إشارة إلى ابن أبي ومن قال بقوله ثم سفه تعالى
أحلامهم في أن ظنوا أن إنفاقهم هو سبب رزق المهاجرين ونسوا أن جريان الرزق
بيد الله تعالى إذا انسد باب انفتح غيره ثم اعلم تعالى أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين
وفي ذلك وعيد وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي كان رجلا صالحا لما سمع
الآية جاء إلى أبيه فقال له أنت والله يا أبت الذليل ورسول الله العزيز ووقف على
باب السكة التي يسلكها أبوه وجرد السيف ومنعه الدخول وقال والله لا دخلت إلى
منزلك إلا أن يأذن في ذلك رسول الله وعبد الله بن أبي في أذل حال وبلغ ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه أن خله يمضي إلى منزله فقال: أما الآن فنعم.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله...)
الآية الإلهاء الاشتغال بملذ وشهوة وذكر الله هنا عام في الصلوات والتوحيد
436

والدعاء وغير ذلك من مفروض ومندوب وكذلك قوله تعالى: (وأنفقوا من ما
رزقناكم) عام من المفروض والمندوب قاله جماعة من المفسرين قال الشيخ أبو
عبد الرحمن السلمي في كتاب " عيوب النفس " ومن عيوبها تضييع أوقاتها بالاشتغال بما لا
يعني من أمور الدنيا والخوض فيها مع أهلها ومداواتها أن يعلم أن وقته أعز الأشياء
فيشغله بأعز الأشياء وهو ذكر الله والمداومة على الطاعة ومطالبة الإخلاص من نفسه
فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه " وقال
الحسن بن منصور عليك بنفسك فإن لم تشغلها شغلتك انتهى.
وقوله: (لولا أخرتني إلى أجل قريب) طلب للكرة والإمهال وسماه قريبا أنه
آت وأيضا فإنما يتمنى ذلك ليقضي فيه العمل الصالح فقط / وليس يتسع الأمل حينئذ
لطلب العيش ونضرته وقوله: (وأكن من الصالحين) ظاهره العموم وقال ابن عباس هو
الحج وروى الترمذي عنه أنه قال ما من رجل لا يؤدي الزكاة ولا يحج إلا طلب الكرة
عند موته قال الثعلبي: قال ابن عباس (إلى أجل قريب) يريد مثل آجالنا في
الدنيا انتهى وقرأ أبو عمرو: " وأكون " وفي قوله تعالى: (ولن يؤخر الله نفسا إذا
جاء أجلها) حض على المبادرة ومسابقة الأجل بالعمل الصالح.
437

[تفسير] سورة " التغابن "
وهي مدنية وقال آخرون: مكية.
إلا من قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم) إلى آخر السورة
فإنه مدني.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) أي: في أصل الخلقة
وهذا يجري مع قول الملك يا رب أشقى أم سعيد الحديث وذلك في بطن أمه
وقيل الآية تعديد نعم فقوله: (هو الذي خلقكم) هذه نعمة الايجاد ثم قال: (فمنكم
كافر) أي: بهذه النعمة لجهله بالله (ومنكم مؤمن) بالله والإيمان به شكر لنعمته
فالإشارة على هذا التأويل في الإيمان والكفر هي إلى اكتساب العبد وهذا قول جماعة
وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق) أي: لم يخلقها عبثا ولا لغير
معنى.
وقوله تعالى: (فأحسن صوركم) هو تعديد نعم والمراد الصورة الظاهرة وقيل:
المراد صورة الانسان المعنوية من حيث هو انسان مدرك عاقل والأول أجرى على لغة العرب.
438

وقوله تعالى: (ألم يأتكم) جزم أصله " يأتيكم " والخطاب في هذه الآية لقريش
ذكروا بما حل بعاد وثمود وغيرهم ممن سمعت قريش بأخبارهم ووبال الأمر مكروهه
وما يسوء منه.
وقوله تعالى: (ذلك بأنه) إشارة إلى ذوق الوبال وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) يريد قريشا ثم هي بعد تعم كل
كافر بالبعث ولا توجد زعم مستعملة في فصيح الكلام إلا عبارة عن الكذب أو قول
انفرد به قائله.
وقوله سبحانه: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) هذه الآية دعاء من الله
وتبليغ وتحذير من يوم القيامة والنور القرآن ومعانيه ويوم الجمع هو يوم القيامة وهو
يوم التغابن يغبن فيه المؤمنون الكافرين نحا هذا المنحى مجاهد وغيره.
وقوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة) يحتمل أن يريد المصائب التي هي رزايا
ويحتمل أن يريد جميع الحوادث من خير وشر والكل بإذن الله والإذن هنا عبارة عن
العلم والإرادة وتمكين الوقوع.
439

وقوله سبحانه: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) قال فيه المفسرون المعنى ومن آمن
وعرف أن كل شئ بقضاء الله وقدره وعلمه هانت عليه مصيبته وسلم لأمر
الله تعالى.
وقوله تعالى: (فإن توليتم) إلى آخر الآية وعيد وتبرئة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم) إلى آخر السورة قرءان مدني واختلف في
سببه فقال عطاء بن أبي رباح أنه نزل في عوف بن مالك الأشجعي وذلك أنه أراد غزوا
مع النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمع أهله وأولاده وتشكوا إليه فراقه فرق لهم فثبطوه ولم / يغز ثم
إنه ندم وهم بمعاقبتهم فنزلت الآية بسببه محذرة من الأزواج والأولاد وفتنتهم ثم
صرف تعالى عن معاقبتهم بقوله: (وإن تعفوا وتصفحوا) وقال بعض المفسرين: سبب
الآية إن قوما آمنوا وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة فلم يهاجروا إلا بعد مدة
فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين فندموا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم ثم أخبر
تعالى أن الأموال والأولاد فتنة تشغل المرء عن مراشده وتحمله من الرغبة في الدنيا على
ما لا يحمده في آخرته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " الولد مبخلة مجبنة " وخرج أبو داود حديثا في
مصنفه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة على المنبر حتى جاء الحسن والحسين
عليهما قميصان أحمران يجرانهما يعثران ويقومان فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر حتى
أخذهما وصعد بهما ثم قرأ: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة...) الآية وقال أني
440

رأيت هذين فلم أصبر ثم أخذ في خطبته " قال (ع) وهذه ونحوها هي فتنة
الفضلاء فأما فتنة الجهال الفسقة فمؤدية إلى كل فعل مهلك وفي " صحيحي البخاري
ومسلم " عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " هم الأخسرون ورب الكعبة
هم الأخسرون ورب الكعبة قلت: ما شأني أيرى في شيئا فجلست وهو يقول فما
استطعت أن أسكت وتغشاني ما شاء الله فقلت من هم بأبي أنت وأمي يا رسول الله
قال هم الأكثرون مالا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا " / وفي رواية: " أن الأكثرين هم
الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وأشار ابن شهاب بين يديه وعن
يمينه وعن شماله وقليل ما هم " انتهى واللفظ للبخاري.
وقوله سبحانه: (فاتقوا الله ما استطعتم) تقدم الخلاف هل هذه الآية ناسخة لقوله
تعالى: (اتقوا الله حق تقاته) [آل عمران: 102] أو ليست بناسخة بل هي مبينة لها
441

وإن المعنى اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم وهذا هو الصحيح قال الثعلبي: قال
الربيع بن أنس: (ما استطعتم) أي جهدكم وقيل معناه إذا أمكنكم الجهاد والهجرة
فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد واسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون
به انتهى.
وقوله سبحانه: (ومن يوق شح نفسه) تقدم الكلام عليه وأسند أبو بكر بن
الخطيب من طريق أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " السخاء شجرة في
الجنة وأغصانها في الدنيا فمن كان سخيا أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتى يدخله
الجنة والشح شجرة في النار وأغصانها في الأرض فمن كان شحيحا أخذ بغصن من
أغصانها فلم يتركه الغصن حتى يدخله النار " انتهى وباقي الآية بين.
442

[تفسير] سورة الطلاق
وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) أي: إذا أردتم طلاقهن قاله الثعلبي
وغيره: (فطلقوهن لعدتهن) وطلاق النساء حل عصمتهن وصورة ذلك وتنويعه مما لا
يختص بالتفسير ومعنى (فطلقوهن لعدتهن) أي: لاستقبال عدتهن وعبارة الثعلبي: أي
لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن وهو طهر لم يجامعها فيه انتهى قال (ع)
ومعنى الآية أن لا يطلق أحد امرأته إلا في طهر لم يمسها فيه هذا على مذهب مالك ومن
قال بقوله القائلين بأن الإقراء عندهم هي الإطهار فيطلق عندهم المطلق في طهر لم يمس
فيه وتعتد به المرأة ثم تحيض حيضتين تعتد بالطهر الذي بينهما ثم تقيم في الطهر الثالث
معتدة به فإذا رأت أول الحيضة الثالثة حلت ومن قال بأن الإقراء الحيض وهم
العراقيون قال: (لعدتهن) معناه أن تطلق طاهرا فتستقبل منه بثلاث حيض كوامل فإذا رأت
الطهر بعد الثالثة حلت والأصل في منع طلاق الحائض حديث ابن عمر ثم أمر تعالى
بإحصاء العدة لما يلحق ذلك من أحكام الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك وعبارة
الثعلبي: (وأحصوا العدة) أي: احفظوا عدد قروئها الثلاثة ونحوه تفسير ابن العربي قال:
443

قوله تعالى: (وأحصوا العدة) معناه احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق لما يترتب على
ذلك من الأحكام انتهى من " أحكامه " ثم أخبر تعالى بأنهن أحق بسكنى بيوتهن التي
طلقن فيها فنهى سبحانه عن إخراجهن وعن خروجهن وسنة ذلك ألا تبيت عن بيتها ولا
تغيب عنه نهارا إلا في ضرورة وما لا خطب له من جائز التصرف وذلك لحفظ النسب
والتحرز بالنساء واختلفت في معنى قوله تعالى: (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) فقال الحسن
وغيره: ذلك الزنا فيخرجن للحد وقال ابن عباس ذلك البذاء على الإحماء فتخرج
ويسقط حقها من المسكن وتلزم الإقامة في مسكن تتخذه حفظا للنسب وفي
مصحف أبي " إلا أن يفحشن عليكم " وعبارة الثعلبي عن ابن عباس " إلا أن تبذو على
أهلها فيحل لهم اخراجها " انتهى وهو معنى ما تقدم وقرأ الجمهور: " مبينة " بكسر
الياء تقول بأن الشئ وبين بمعنى واحد إلا أن التضعيف للمبالغة وقرأ عاصم.
" مبينة " بفتح الياء.
وقوله سبحانه: (وتلك حدود الله) إشارة إلى جميع أوامره في هذه الآية.
وقوله تعالى: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) قال قتادة وغيره يريد به
الرجعة أي: أحصوا العدة وامتثلوا ما أمرتم به تجدوا المخلص إن ندمتم فإنكم لا تدرون
لعل الرجعة تكون بعد.
وقوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن) يريد به آخر القروء (فأمسكوهن بمعروف) وهو
حسن العشرة (أو فارقوهن بمعروف) [وهو] أداء جميع الحقوق والوفاء بالشروط
حسب نازلة نازلة وعبارة الثعلبي: (فإذا بلغن أجلهن) أي: أشرفن على انقضاء عدتهن
انتهى وهو حسن.
444

وقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) يريد: على الرجعة وذلك شرط في
صحة الرجعة وتمنع المرأة الزوج من نفسها حتى يشهد وقال ابن عباس: على الرجعة
والطلاق معا قال النخعي: العدل من لم تظهر منه ريبة والعدل حقيقة / الذي لا
يخاف إلا الله.
وقوله سبحانه: (وأقيموا الشهادة لله) أمر للشهود.
وقوله: (ذلكم يوعظ به) إشارة إلى إقامة الشهادة وذلك أن فصول الأحكام تدور
على إقامة الشهادة.
وقوله سبحانه: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب)
قال بعض رواة الآثار نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي أسر ولده وقدر عليه
رزقه فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالتقوى فلم يلبث أن تفلت ولده وأخذ قطيع غنم
للقوم الذين أسروه فسأل عفو النبي صلى الله عليه وسلم أتطيب له تلك الغنم فقال نعم فقال أبو
عمر ابن عبد البر قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أبى الله عز وجل أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين
إلا من حيث لا يحتسبون " وقال - عليه السلام - لابن مسعود: " لا يكثر همك يا عبد
445

الله ما يقدر يكن وما ترزق يأتك وعنه صلى الله عليه وسلم " استنزلوا الرزق بالصدقة " انتهى من
كتابه المسمى ب‍ " بهجة المجالس وأنس المجالس "
وقوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) هذه الآيات كلها عظة لجميع
الناس ومعنى حسبه كافيه وقال ابن مسعود أكثر هذه الآيات حضا على
التفويض لله.
وقوله تعالى: (إن الله بالغ أمره) بيان وحض على التوكل أي: لا بد من نفوذ
أمر الله توكلت أيها المرء أو لم تتوكل قاله مسروق فإن توكلت على الله كفاك
وتعجلت الراحة والبركة وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك وأمره سبحانه في
الوجهين نافذ.
وقوله سبحانه: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم...) الآية " اللائي "
جميع " التي " واليائسات من المحيض على مراتب محل بسطها كتب الفقه وروى
إسماعيل بن خالد أن قوما منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان لما سمعوا قوله
تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [البقرة: 228] قالوا يا رسول الله
446

فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر فنزلت هذه الآية فقال قائل منهم: فما عدة
الحامل فنزلت: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وهو لفظ يعم الحوامل
المطلقات والمعتدات من الوفاة والارتياب المذكور قيل: هو بأمر الحمل.
وقوله سبحانه: (أسكنوهن من حيث سكنتم...) الآية أمر بإسكان المطلقات ولا
خلاف في ذلك في التي لم تبت وأما المبتوتة فمالك يرى لها السكنى لمكان حفظ
النسب ولا يرى لها نفقة لأن النفقة بإزاء الاستمتاع وقال الثعلبي: (من حيث سكنتم).
أي في مساكنكم التي طلقتموهن فيها انتهى والوجد السعة في المال وأما الحامل فلا
خلاف في وجوب سكناها ونفقتها بتت أو لم تبت لأنها مبينة في الآية وإنا اختلفوا في
نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها هل ينفق عليها من التركة أم لا وكذلك النفقة على
المرضع المطلقة واجبة وبسط ذلك في كتب الفقه.
وقوله سبحانه: (وأتمروا بينكم بمعروف) أي ليأمر كل واحد صاحبه بخير وليقبل
كل أحد ما أمر به من المعروف.
وقوله سبحانه: (وإن تعاسرتم) أي تشططت المرأة في الحد الذي يكون أجره
على الرضاع فللزوج أن يسترضع بما فيه رفقة إلا أن لا يقبل المولود غير أمه فتجبر هي
حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج في حالهما وغناهما.
(ت) وهذا كله في المطلقة البائن قال ابن عبد السلام من أصحابنا الضمير
في قوله تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) عائد على المطلقات وكذلك
قوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن) [البقرة: 233] وأما ذات الزوج أو الرجعية
فيجب عليها أن ترضع من غير أجر إلا أن تكون شريفة فلا يلزمها ذلك انتهى.
447

وقوله سبحانه: (لينفق ذو سعة من سعته...) الآية عدل بين الأزواج لئلا تضيع
هي ولا يكلف هو ما لا يطيق ثم رجى تعالى باليسر تسهيلا على النفوس وتطييبا لها.
وقوله سبحانه: (وكأين) الثعلبي: وكأين: أي وكم من قرية (عتت) أي
عصت.
وقوله: (فحاسبناه) قال (ع) قال بعض المتأولين الآية في أحوال
الآخرة أي ثم هو الحساب والتعذيب والذوق وخسارة العاقبة وقال آخرون ذلك في
الدنيا ومعنى (حاسبناها حسابا شديدا) أي لم تغتفر لهم زلة بل أخذت بالدقائق من
الذنوب ثم ندب تعالى أولي الألباب إلى التقوى تحذيرا.
وقوله تعالى: (قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا) اختلف في تقديره وأبين
الأقوال فيه معنى أن يكون الذكر القرآن والرسول محمدا صلى الله عليه وسلم والمعنى وأرسل رسولا
لكن الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول ونحا هذا المنحى السدي وسائر
الآية بين.
وقوله سبحانه: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) لا خلاف بين
العلماء أن السماوات سبع وأما الأرض فالجمهور على أنها سبع أرضين وهو ظاهر هذه
الآية وإنما المماثلة في العدد ويبينه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " من غصب شبرا من
أرض طوقه الله من سبع أرضين " إلى غير هذا مما وردت به الروايات وروي عن قوم من
العلماء أنهم قالوا الأرض واحدة وهي مماثلة لكل سماء بانفرادها في ارتفاع جرمها وفي
أن فيها عالما يعبد الله كما في كل سماء عالم يعبد الله. وقوله سبحانه: (يتنزل الأمر بينهن) الأمر هنا يعمم الوحي وجميع ما يأمر به سبحانه
448

من تصريف الرياح والسحاب وغير ذلك من عجائب صنعه لا إله غيره وباقي السورة
وعظ وحض على توحيد الله - عز وجل -
وقوله: (على كل شئ قدير) عموم معناه الخصوص في المقدورات.
وقوله: (بكل شئ علما) عموم على إطلاقه.
449

تفسير سورة التحريم
وهي مدنية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك...) الآية وفي الحديث من
طرق ما معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت حفصة فوجدها قد مرت لزيارة أبيها فدعا صلى الله عليه وسلم
جاريته مارية فقال معها فجاءت حفصة وقالت يا نبي الله أفي بيتي وعلى فراشي؟
فقال لها صلى الله عليه وسلم مترضيا لها " أيرضيك أن أحرمها؟ قالت نعم فقال: إني قد حرمتها "
قال ابن عباس: وقال مع ذلك والله لا أطأها أبدا ثم قال لها لا تخبري بهذا
أحدا ثم إن حفصة قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة وأخبرتها لتسرها بالأمر ولم
تر في إفشائه إليها حرجا واستكتمتها يقول فأوحى الله بذلك إلى نبيه ونزلت الآية وفي
حديث آخر عن عائشة أن هذا التحريم المذكور في الآية إنما هو بسبب العسل الذي
شربه صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش فتمالأت عائشة وحفصة وسودة على أن تقول له من دنا
منها إنا نجد منك ريح مغافير، أأكلت مغافير يا رسول الله؟ والمغافير صمغ العرفط
وهو حلو كريه الرائحة ففعلن ذلك فقال رسول الله ما أكلت مغافير ولكني شربت
عسلا فقلن له جرست نحله العرفط فقال صلى الله عليه وسلم لا أشربه أبدا وكان يكره أن توجد
منه رائحة كريهة فدخل بعد ذلك على زينب فقالت ألا أسقيك من ذلك العسل فقال
450

لا حاجة لي به قالت عائشة تقول سودة حين بلغنا امتناعه والله لقد حرمناه فقلت
لها اسكتي قال (ع) والقول الأول أن الآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح
وعليه تفقه الناس في الآية ومتى حرم الرجل مالا أو جارية فليس تحريمه بشئ
(ت) والحديث الثاني هو الصحيح خرجه البخاري ومسلم وغيرهما ودعا الله تعالى
نبيه باسم النبوءة الذي هو دال على شرف منزلته وفضيلته التي خصه بها وقرره تعالى
كالمعاتب له على تحريمه على نفسه ما أحل الله له ثم غفر له تعالى ما عاتبه فيه ورحمه.
وقوله تعالى (قد فرض الله) أي بين وأثبت فقال قوم من أهل العلم: هذه
إشارة إلى تكفير التحريم وقال آخرون هي إشارة إلى تكفير اليمين المقترنة بالتحريم
والتحلة مصدر وزنها " تفعلة " وأدغم لاجتماع المثلين وأحال في هذه الآية على الآية التي
فسر فيها الإطعام في كفارة اليمين بالله تعالى والمولى الموالي الناصر.
(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه) يعني حفصة (حديثا) قال الجمهور الحديث هو
قوله في أمر مارية وقال آخرون بل هو قوله: إنما شربت عسلا.
وقوله تعالى (عرف بعضه) المعنى مع شد الراء: أعلم به وأنب عليه وأعرض عن
بعض أي تكرما وحياء وحسن عشرة قال الحسن: ما استقصى كريم قط والمخاطبة
بقوله (إن تتوبا إلى الله) هي لحفصة وعائشة وفي حديث البخاري وغيره عن ابن
عباس قال قلت لعمر: من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حفصة وعائشة.
وقوله: (صغت قلوبكما) معناه مالت والصغي لأن الميل ومنه أصغى إليه بأذنه
وأصغى الإناء وفي قراءة ابن مسعود " فقد زاغت قلوبكما " والزيغ الميل وعرفه في
خلاف الحق وجمع القلوب من حيث الاثنان جمع (ص) (قلوبكما) القياس فيه
قلبا كما مثنى والجمع أكثر استعمالا وحسنه إضافته إلى مثنى وهو ضميرهما لأنهم
كرهوا اجتماع تثنيتين انتهى ومعنى الآية إن تبتما فقد كان منكما ما ينبغي أن يتاب منه
وهذا الجواب الذي للشرط هو متقدم في المعنى وإنما ترتب جوابا في اللفظ (وإن
تظاهرا) معناه تتعاونا وأصل (تظاهرا) تتظاهرا (ومولاه) أي ناصره (وجبريل)
451

وما بعده يحتمل أن يكون عطفا على اسم الله ويحتمل أن يكون جبريل رفعا بالابتداء
وما
بعده عطف عليه (وظهير) هو الخبر وخرج البخاري بسنده عن أنس قال: قال عمر
اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا
منكن فنزلت هذه الآية انتهى (وقانتات) معناه مطيعات والسائحات قيل معناه
صائمات وقيل معناه مهاجرات وقيل معناه ذاهبات في طاعة الله وشبه الصائم
بالسائح من حيث ينهمل السائح ولا ينظر في زاد ولا مطعم وكذلك الصائم يمسك عن
ذلك فيستوي هو والسائح في الامتناع وشظف العيش لفقد الطعام.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا...) الآية (قوا)
معناه اجعلوا وقاية بينكم وبين النار وقوله (وأهليكم) معناه بالوصية لهم والتقويم
والحمل على طاعة الله وفي الحديث " رحم الله رجلا قال: يا أهلاه صلاتكم
صيامكم [زكاتكم] مسكينكم يتيمكم " (ت) وفي " العتبية " عن مالك أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله أذن لي أن أتحدث عن ملك من الملائكة إن ما بين شحمة أذنه
وعاتقه لمخفق الطير سبعين عاما " انتهى وباقي الآية في غاية الوضوح نجانا الله من
عذابه بفضله والتوبة فرض على كل مسلم وهي الندم على فارط المعصية والعزم على
ترك مثلها في المستقبل هذا من المتمكن وأما غير المتمكن كالمجبوب في الزنا فالندم
وحده يكفيه والتوبة عبادة كالصلاة وغيرها فإذا تاب العبد وحصلت توبته بشروطها
وقبلت ثم عاود الذنب فتوبته الأولى لا تفسدها عودة بل هي كسائر ما تحصل من
452

العبادات والنصوح بناء مبالغة من النصح أي: توبة نصحت صاحبها وأرشدته وعن
عمر: التوبة النصوح هي أن يتوب ثم لا يعود ولا يريد أن يعود وقال أبو بكر الوراق
هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت كتوبة الذين خلفوا وروي في ذلك معنى قوله تعالى
" يوم لا يخزي الله النبي " أن النبي صلى الله عليه وسلم تضرع مرة إلى الله عز وجل في أمر أمته
فأوحى الله إليه إن شئت جعلت حسابهم إليك فقال يا رب أنت أرحم بهم فقال
الله تعالى إذن لا أخزيك فيهم.
وقوله تعالى: (والذين آمنوا معه) يحتمل أن يكون معطوفا على النبي فيخرج
المؤمنون من الخزي ويحتمل أن يكون مبتدأ و (نورهم يسعى) جملة هي خبره
وقولهم (أتمم لنا نورنا) قال الحسن بن أبي الحسن هو عندما يرون من انطفاء نور
المنافقين حسبما تقدم تفسيره وقيل يقوله: من أعطي من النور بقدر ما يرى موضع
قدميه فقط وباقي الآية بين مما تقدم في غير هذا الموضع.
وقوله سبحانه: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح...) الآية هذان المثلان
اللذان للكفار والمؤمنين معناهما أن من كفر لا يغني عنه من الله شئ وينفعه سبب
وإن من آمن لا يدفعه عن رضوان الله دافع ولو كان في أسوأ منشأ وأخس حال وقول من
قال: إن في المثلين عبرة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعيد. قال ابن عباس وغيره: " خانتاهما " أي
في الكفر وفي أن امرأة نوح كانت تقول للناس إنه مجنون وأن امرأة لوط كانت تنم
453

إلى قومها خبر أضيافه، قال ابن عباس: وما بغت زوجة نبي قط، وامرأة فرعون اسمها
آسية، وقولها: (وعمله) تعني كفره وما هو عليه من الضلالة.
وقوله: (التي أحصنت فرجها) الجمهور أنه فرج الدرع، وقال قوم: هو الفرج
الجارحة وإحصانه صونه.
وقوله سبحانه: (فنفخنا فيه) عبارة عن فعل جبريل (ت): وقد عكس
رحمه الله نقل ما نسبه للجمهور في سورة الأنبياء فقال: المعنى واذكر التي أحصنت
فرجها وهو الجارحة المعروفة، هذا قول الجمهور، انظر بقية الكلام هناك.
وقوله سبحانه: (من روحنا) إضافة مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك، كما
تقول بيت الله وناقة الله وكذلك الروح الجنس كله هو روح الله وقرأ الجمهور:
(وصدقت بكلمات ربها) بالجمع فيقوى أن يريد التوراة ويحتمل أن يريد أمر عيسى
وقرأ الجحدري: " بكلمة " فيقوى أن يريد أمر عيسى ويحتمل أن يريد التوراة فتكون
الكلمة اسم جنس، وقرأ نافع وغيره: " وكتابه " وقرأ أبو عمرو وغيره: " وكتبه " - بضم
التاء - والجمع وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل قال الثعلبي: واختار أبو حاتم قراءة
أبي عمرو بالجمع لعمومها، واختار أبو عبيدة قراءة الإفراد لأن الكتاب يراد به الجنس،
انتهى وهو حسن، (وكانت من القانتين) أي: من القوم القانتين وهم المطيعون
العابدون وقد تقدم بيانه.
454

تفسير سورة الملك
وهي مكية بإجماع
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها عند أخذ مضجعه رواه جماعة مرفوعا وروي أنها تنجي
من عذاب القبر تجادل عن صاحبها حتى لا يعذب وروى ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " وددت أن سورة " تبارك الذي بيده الملك " في قلب كل مؤمن "
(ت) وقد خرج مالك في " الموطأ " أنها تجادل عن صاحبها وخرج أبو داود
والترمذي والنسائي وأبو الحسن بن صخر وأبو ذر الهروي وغيرهم أحاديث في فضل
هذه السورة نحو ما تقدم ولولا ما قصدته من الاختصار لنقلتها هنا ولكن خشية الإطالة
منعتني من جلب كثير من الآثار الصحيحة في هذا المختصر وانظر الغافقي فقد استوفى
455

نقل الآثار في فضل هذه السورة.
قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك) (تبارك) من البركة وهي التزايد في
الخيرات قال الثعلبي: (تبارك الذي بيده الملك) أي تعالى وتعاظم وقال الحسن
تقدس الذي بيده الملك في الدنيا والآخرة وقال ابن عباس (بيده الملك) يعز من
يشاء ويذل من يشاء انتهى.
وقوله سبحانه: (الذي خلق الموت والحياة...) الآية الموت والحياة معنيان
يتعاقبان جسم الحيوان يرتفع أحدهما بحلول الآخر وما جاء في الحديث الصحيح من
قوله - عليه الصلاة السلام - " يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح
على الصراط " الحديث فقال أهل العلم إنما ذلك تمثال كبش يوقع الله العلم
الضروري لأهل الدارين أنه الموت الذي ذاقوه في الدنيا ويكون ذلك التمثال حاملا
للموت لا على أنه يحل الموت فيه فتذهب عنه حياة ثم يقرن الله تعالى في ذلك
التمثال إعدام الموت.
وقوله سبحانه: (ليبلوكم) أي: جعل لكم هاتين الحالتين ليبلوكم أي ليختبركم
في حال الحياة ويجازيكم بعد الممات وقال أبو قتادة ونحوه عن ابن عمر قلت
يا رسول الله ما معنى قوله تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) فقال: يقول أيكم
أحسن عقلا وأشدكم لله خوفا وأحسنكم في أمره ونهيه نظرا وإن كانوا أقلكم
تطوعا وقال ابن عباس وسفيان الثوري والحسن (أيكم أحسن عملا) أزهدكم في
456

الدنيا قال القرطبي: وقال السدي (أحسنكم عملا) أي أكثركم للموت ذكرا وله
أحسن استعدادا ومنه أشد خوفا وحذرا انتهى من " التذكرة " ولله در القائل [الطويل]
وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى * عن الشغل باللذات للمرء زاجر.
أبعد اقتراب الأربعين تربص * وشيب فذاك منذر لك ذاعر.
فكم في بطون الأرض بعد ظهورها * محاسنهم فيها بوال دوائر.
وأنت على الدنيا مكب منافس * لخطابها فيها حريص مكاثر.
على خطر تمسي وتصبح لاهيا * أتدري بما ذا لو عقلت تخاطر.
وإن امرأ يسعى لدنياه جاهدا * ويذهل عن أخراه لا شك خاسر.
كأنك مغتر بما أنت صائر * لنفسك عمدا أو عن الرشد جائر.
فجد ولا تغفل فعيشك زائل * وأنت إلى دار المنية صائر.
ولا تطلب الدنيا فإن طلابها * وإن نلت منها ثروة لك ضائر.
وكيف يلذ العيش من هو موقن * بموقف عدل يوم تبلى السرائر.
لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت * لعزة ذي العرش الملوك الجبابر.
انتهى و (طباقا) قال الزجاج: هو مصدر وقيل جمعه طبقة أو جمع طبق
والمعنى: بعضها فوق بعض وقال أبان بن ثعلب سمعت أعرابيا يذم رجلا فقال شره
طباق وخيره غير باق وما ذكره بعض المفسرين في السماوات من أن بعضها من ذهب
وفضة وياقوت ونحو هذا ضعيف لم يثبت بذلك حديث.
وقوله سبحانه: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) معناه من قلة تناسب ومن
خروج عن إتقان قال بعض العلماء خلق الرحمن معني به السماوات وإياها أراد بقوله
(هل ترى من فطور) وبقوله (ينقلب إليك البصر...) الآية وقال آخرون بل يعني به
جميع ما خلق سبحانه من الأشياء فإنها لا تفاوت فيها ولا فطور جارية على غير إتقان
قال منذر بن سعيد أمر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها ثم أمر بتكرير النظر
وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر ليرى فيها خللا أو نقصا فإن بصره ينقلب خاسئا
457

حسيرا ورجع البصر: ترديده في الشئ المبصر و (كرتين) معناه مرتين والخاسئ تعالى
المبعد عن شئ أراده وحرص عليه ومنه قوله تعالى: (إخسئوا فيها) [المؤمنون:
108] وكذلك البصر يحرص على رؤية فطور أو تفاوت فلا يجد ذلك فينقلب خاسئا
والحسير العيي الكال.
وقوله تعالى: (بمصابيح) يعني النجوم قال الفخر ومعنى (السماء الدنيا)
أي القريبة من الناس وليس في هذه الآية ما يدل على أن الكواكب مركوزة في السماء
الدنيا وذلك لأن السماوات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو
كانت في سماوات أخرى فوقها فهي لا بد أن تظهر في السماء وتلوح فيها فعلى
كلا التقديرين فالسماء الدنيا مزينة بها انتهى.
وقوله (وجعلناها) معناه وجعلنا منها ويوجب / هذا التأويل في الآية أن الكواكب
الثابتة والبروج وكل ما يهتدى به في البر والبحر ليست براجمة وهذا نص في حديث
السير قال الثعلبي (رجوما للشياطين) يرجمون بها إذا استرقوا السمع فلا تخطئهم فمنهم
من يقتل ومنهم من يبخل انتهى.
وقوله تعالى (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم) قال (ع) تضمنت الآية أن
عذاب جهنم للكفار المخلدين وقد جاء في الأثر أنه يمر على جهنم زمان تخفق أبوابها
قد أخلتها الشفاعة والذي يقال في هذا أن جهنم اسم تختص به الطبقة العليا من النار ثم
قد تسمى الطبقات كلها باسم بعضها فالتي في الأثر هي الطبقة العليا لأنها مقر العصاة من
المؤمنين والتي في هذه الآية هي جهنم بأسرها أي جميع الطبقات والشهيق أقبح ما
يكون من صوت الحمار فإشتعال النار وغليانها يصوت مثل ذلك.
وقوله: (تكاد تميز) أي يزايل بعضها بعضا لشدة الاضطراب و (من الغيظ)
458

معناه على الكفرة بالله والفوج الفريق من الناس وظاهر الآية أنه لا يلقى في جهنم
أحد إلا سئل على جهة التوبيخ.
وقوله سبحانه: (إن أنتم إلا في ضلال كبير) يحتمل أن يكون من قول الملائكة
ويحتمل أن يكون من تمام كلام الكفار للنذر قال الفخر وقوله - تعالى - عنهم (لو
كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) قيل إنما جمعوا بين السمع والعقل [لأن
مدار التكليف على أدلة السمع والعقل] انتهى.
وقوله سبحانه (الذين يخشون ربهم بالغيب) يحتمل معنيين: أحدهما بالغيب
الذي أخبروا به من النشر والحشر والجنة والنار فآمنوا بذلك وخشوا ربهم فيه ونحا إلى
هذا قتادة والمعنى الثاني: أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس أي في
خلواتهم في صلاتهم وعباداتهم.
وقوله تعالى: (وأسروا قولكم...) الآية خطاب لجميع الخلق و (ذلولا) بمعنى
مذلولة و (مناكبها) قال مجاهد هي الطرق والفجاج وقال البخاري (مناكبها)
جوانبها قال الغزالي رحمه الله جعل الله سبحانه الأرض ذلولا لعباده لا ليستقروا في
مناكبها بل ليتخذوها منزلا فيتزودون منها محترزين من مصائدها ومعاطبها ويتحققون أن
العمر يسير بهم سير السفينة براكبها فالناس في هذا العالم سفر وأول منازلهم المهد
وآخرها اللحد والوطن هو الجنة أو النار والعمر مسافة السفر فسنوه وسلم مراحله وشهوره
459

فراسخه وأيامه أمياله وأنفاسه خطواته وطاعته بضاعته وأوقاته رؤوس أمواله وشهواته
وأغراضه قطاع طريقه وربحه الفوز بلقاء الله عز وجل في دار السلام مع الملك الكبير
والنعيم المقيم وخسرانه البعد من الله - عز وجل - مع الأنكال والأغلال والعذاب الأليم
في دركات الجحيم فالغافل عن نفس واحد من أنفاسه حتى ينقضي في غير طاعة تقربه
إلى الله تعالى زلفى متعرض في يوم التغابن لغبينة عنه وحسرة مالها منتهى ولهذا الخطر
العظيم والخطب الهائل شمر الموفقون عن ساق الجد وودعوا بالكلية ملاذ النفس
واغتنموا بقايا العمر فعمروها بالطاعات بحسب تكرر الأوقات انتهى قال الشيخ أبو
مدين رحمه الله عمرك نفس واحد فاحرص [أن يكون] لك لا عليك انتهى والله
الموفق بفضله و (النشور) الحياة بعد الموت و (تمور) معناه تذهب وتجئ كما
يذهب التراب الموار في الريح والحاصب البرد وما جرى مجراه والنكير مصدر بمعنى
الانكار والنذير كذلك ومنه قول حسان بن ثابت: [الوافر]
فأنذر مثلها نصحا قريشا * من الرحمن إن قبلت نذيري.
ثم أحال سبحانه على العبرة في أمر الطير وما أحكم من خلقتها وذلك بين عجز
الأصنام والأوثان عنه و (صافات) جمع صافة وهي التي تبسط جناحها وتصفه وقبض
الجناح ضمه إلى الجنب وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى.
وقوله سبحانه: (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) هذا أيضا توقيف على أمر
لا مدخل للأصنام فيه.
وقوله سبحانه: (أفمن يمشي مكبا على وجهه) قال ابن عباس والضحاك ومجاهد
نزلت مثلا للمؤمنين والكافرين على العموم وقال قتادة نزلت مخبرة عن حال
القيامة وأن الكفار يمشون على وجوههم والمؤمنين يمشون على استقامة كما جاء
460

في الحديث ويقال أكب الرجل إذا در وجهه إلى الأرض وكبه غيره قال - عليه الصلاة السلام - " وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم " فهذا
الفعل على خلاف القاعدة المعلومة لأن " أفعل " هنا لا يتعدى وفعل يتعدى ونظيره
قشعت الريح السحاب فانقشع وقال (ص) (مكبا) حال وهو من أكب غير متعد
وكب متعد قال تعالى (فكبت وجوههم في النار) [النمل: 90] والهمزة فيه للدخول
في الشئ أو للصيرورة ومطاوع / كب انكب تقول كببته فانكب قال بعض الناس
ولا شئ من بناء " أفعل " مطاوعا انتهى و (أهدى) في هذه الآية أفعل تفضيل من
الهدى.
وقوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد) يريدون أمر القيامة والعذاب المتوعد به
ثم أمر سبحانه نبيه - عليه السلام - أن يخبرهم بأن علم القيامة والوعد الصدق مما تفرد
الله - سبحانه - بعلمه.
وقوله سبحانه: (فلما رأوه) الضمير للعذاب الذي تضمنه الوعد وهذه حكاية حال
تأتي والمعنى: فإذا رأوه.
و (زلفة) معناه قريبا قال الحسن عيانا.
(وسيئت وجوه الذين كفروا) معناه ظهر فيها السوء.
و (تدعون) معناه تتداعون أمره بينكم وقال الحسن: تدعون أنه لا جنة ولا
نار وروي في تأويل قوله تعالى (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي...) الآية
أنهم كانوا يدعون على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهلاك فقال الله تعالى لنبيه قل لهم أرأيتم
461

إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجيركم من العذاب الذي يوجبه كفركم ثم
وقفهم سبحانه على مياههم التي يعيشون منها إن غارت أي ذهبت في الأرض من
يجيئهم بماء كثير كاف (ص) والغور: مصدر بمعنى الغائر انتهى والمعين فعيل
من معن الماء إذا كثر وقال ابن عباس معين عذب.
462

تفسير سورة القلم
وهي مكية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (ن والقلم وما يسطرون) (ن) حرف مقطع فقول الجمهور
فيدخله من الاختلاف ما يدخل أوائل السور ويختص هذا الموضع من الأقوال بأن قال
مجاهد وابن عباس (ن) اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع فيما يروي
وقال ابن عباس أيضا وغيره (ن) اسم الدواة فمن قال بأنه اسم الحوت جعل [القلم]
القلم الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات وجعل الضمير في (يسطرون) للملائكة
ومن قال بأن (ن) اسم للدواة جعل القلم هذا القلم المتعارف بأيدي الناس نص على
ذلك ابن عباس وجعل الضمير في (يسطرون) للناس فجاء القسم على هذا بمجموع أمر
الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة فإن القلم أخو اللسان
وعضد الانسان ومطية الفطنة ونعمة من الله عامة وروى معاوية بن قرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " (ن) لوح من نور "
463

وقال ابن عباس أيضا وغيره (ن) هو حرف من حروف الرحمن وقالوا إنه
تقطع في القرآن (الر) و (حم) و (ن) و (يسطرون) معناه يكتبون سطورا فإن أراد
الملائكة فهو كتب الأعمال وما يؤمرون به وإن أراد بني آدم فهي الكتب المنزلة والعلوم
وما جرى مجراها قال ابن العربي في " أحكامه " روى الوليد بن مسلم عن مالك عن
سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قوله (ن والقلم) ثم قال
له اكتب قال وما أكتب قال ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة قال ثم ختم
العمل فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ثم خلق العقل فقال الجبار ما خلقت خلقا
أعجب إلي منك وعزتي لأكلمنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت / قال ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته " انتهى
(ت) وهذا الحديث هو الذي يعول عليه في تفسير الآية لصحته والله سبحانه
أعلم.
وقوله تعالى: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) وهو جواب القسم و (ما) هنا عاملة
لها اسم وخبر كذلك هي متى دخلت الباء في الخبر وقوله (بنعمة ربك) اعتراض
كما تقول لإنسان أنت بحمد لله فاضل وسبب الآية هو ما كان من قريش في رميهم
النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون فنفى الله تعالى ذلك عنه وأخبره بأن له الأجر وأنه على الخلق
العظيم تشريفا له ومدحا واختلف في معنى (ممنون) فقال أكثر المفسرين هو الواهن
المنقطع يقال حبل منين أي ضعيف وقال آخرون معناه غير ممنون عليك أي لا
يكدره من به وفي الصحيح سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالت " كان خلقه القرآن " وقال الجنيد سمي خلقه عظيما إذ لم تكن له همة سوى
الله تعالى عاشر الخلق بخلقه وزايلهم بقلبه فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق
وفي وصية بعض الحكماء عليك بالخلق مع الخلق وبالصدق مع الحق وحسن الخلق
464

خير كله وقال - عليه السلام - " إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم
النهار " وجاء في حسن الخلق آثار كثير منعنا من جلبها خشية الإطالة وقد روى الترمذي
عن أبي هريرة قال " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدخل الناس الجنة فقال تقوى الله وحسن
الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال الفم والفرج " قال أبو عيسى
هذا حديث صحيح غريب انتهى وروى الترمذي عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما
من شئ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله ليبغض الفاحش
البذي " قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح انتهى قال أبو عمر في " التمهيد "
قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم (وإنك لعلى خلق عظيم) قال المفسرون كان خلقه ما
قال الله سبحانه: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) [الأعراف: 199]
انتهى.
وقوله تعالى: (فستبصر) أي: أنت وأمتك (ويبصرون) أي: هم (بأيكم
المفتون) قال الأخفش والعامل في الجملة المستفهم عنها الأبصار وأما الباء فقال أبو
عبيدة معمر وقتادة هي زائدة والمعنى أيكم المفتون قال الثعلبي المفتون المجنون
الذي فتنه الشيطان انتهى.
وقوله تعالى: (فلا تطع المكذبين) يعني قريشا وذلك أنهم قالوا في بعض
الأوقات للنبي صلى الله عليه وسلم لو عبدت آلهتنا وعظمتها لعبدنا إلهك وعظمناه وودوا أن يداهنهم
النبي صلى الله عليه وسلم ويميل إلى ما قالوا فيميلوا هم أيضا إلى قوله ودينه والإدهان الملاينة فيما لا
465

يحل والمداراة الملاينة فيما يحل.
وقوله: (فيدهنون) معطوف وليس بجواب لأنه لو كان لنصب والحلاف المردد
لحلفه الذي قد كثر منه والمهين الضعيف الرأي والعقل قاله مجاهد وقال ابن
عباس المهين الكذاب والهماز الذي يقع في الناس بلسانه قال منذر بن سعيد
وبعينه وإشارته / والنميم مصدر كالنميمة وهو نقل ما يسمع مما يسوء ويحرش النفوس
قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه المسمى ب‍ " بهجة المجالس " قال النبي صلى الله عليه وسلم " من كف عن
أعراض المسلمين لسانه أقاله الله يوم القيامة عثرته " وقال - عليه الصلاة السلام -
" شراركم أيها الناس المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون لأهل البر
العثرات " انتهى وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يدخل الجنة قتات " وهو
النمام وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الأوصاف هي أجناس لم يرد بها رجل بعينه
وقالت طائفة بل نزلت في معين واختلفوا فيه فقال بعضهم هو الوليد بن المغيرة
466

وقيل هو الأخنس بن شريق ويؤيد ذلك أنه كانت له زنمة في حلقه كزنمة الشاة
وأيضا فكان من ثقيف ملصقا في قريش وقيل هو أبو جهل وقيل هو الأسود بن عبد
يغوث قال (ع) وظاهر اللفظ عموم من اتصف بهذه الصفات والمخاطبة بهذا
المعنى مستمرة باقي الزمان لا سيما لولاة الأمور.
وقوله تعالى: (مناع للخير) قال كثير من المفسرين الخير هنا المال فوصفه بالشح
وقال آخرون بل هو على عمومه في الأموال والأعمال الصالحات والمعتدى المتجاوز
لحدود الأشياء والأثيم فعيل من الإثم والعتل: القوي البنية الغليظ الأعضاء القاسي
القلب البعيد الفهم الأكول الشروب الذي هو بالليل جيفة وبالنهار حمار وكل ما عبر
به المفسرون عنه من خلال النقص فعن هذه التي ذكرت / تصدر وقد ذكر النقاش أن
النبي صلى الله عليه وسلم فسر العتل بنحو هذا وهذه الصفات كثيرة التلازم و الزنيم في كلام العرب
الملصق في القوم وليس منهم ومنه قول حسان [الطويل]
وأنت زنيم نيط في آل هاشم * كما نيط خلف الراكب القدح الفرد.
فقال كثير من المفسرين هو الأخنس بن شريق وقال ابن عباس أراد بالزنيم أن
له زنمة في عنقه وكان الأخنس بهذه الصفة وقيل الزنيم المريب القبيح الأفعال.
وقوله: (سنسمه على الخرطوم) معناه: على الأنف قال ابن عبا س هو الضرب
467

بالسيف في وجهه على أنفه وقد حل ذلك به يوم بدر وقيل ذلك الوسم هو في
الآخرة وقال قتادة وغيره: معناه سنفعل به في الدنيا من الذم له والمقت والاشتهار بالشر
ما يبقى فيه ولا يخفى به فيكون ذلك كالوسم على الأنف.
وقوله سبحانه: (إنا بلوناهم) يريد: قريشا أي امتحناهم (وأصحاب الجنة)
فيما ذكر كانوا إخوة وكان لأبيهم جنة وحرث يغتله وقال فكان يمسك منه قوته ويتصدق على
المساكين بباقية وقيل بل كان يحمل المساكين معه في وقت حصاده وجذه فيجديهم منه
فمات الشيخ فقال ولده نحن جماعة وفعل أبينا كان خطأ فلنذهب إلى جنتنا ولا
يدخلنها علينا مسكين ولا نعطى منها شيئا قال فبيتوا أمرهم وعزمهم فبعث الله عليها
طائفا من نار أو غير ذلك فاحترقت فقيل فأصبحت سوداء وقيل بيضاء كالزرع
اليابس المحصود فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها فحسبوا أنهم قد أخطئوا الطريق ثم
تبينوها فعلموا أن الله أصابهم فيها فتابوا حينئذ وكانوا مؤمنين أهل كتاب فشبه الله
قريشا بهم في أنه امتحنهم بالمصائب في دنياهم لعدم اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم ثم التوبة معرضة
لمن بقي منهم.
وقوله تعالى (ليصرمنها) أي ليجذنها و (مصبحين) معناه: داخلين في الصباح
وقوله تعالى (ولا يستثنون) [أي: لا ينثنون] عن رأي منع المساكين وقال
مجاهد معناه ولا يقولون إن شاء الله والصريم قال جماعة أراد به الليل من حيث
اسودت جنتهم وقال ابن عباس الصريم: الرماد الأسود بلغة خزيمة وقولهم (إن كنتم
صارمين) يحتمل أن يكون من صرام النخل ويحتمل أن يريد إن كنتم أهل عزم وإقدام
على رأيكم من قولك سيف صارم و (يتخافتون): معناه يتكلمون كلاما خفيا وكان
هذا التخافت خوفا من أن يشعر بهم المساكين وكان لفظهم الذي يتخافتون به (أن لا
يدخلنها اليوم عليكم مسكين).
468

وقوله: (على حرد) يحتمل أن يريد على منع من قولهم حاردت الإبل إذا قلت
ألبانها فمنعتها وحاردت السنة إذ كانت شهباء لا غلة لها ويحتمل أن يريد بالحرد
الغضب يقال حرد الرجل حردا إذا غضب قال البخاري قال قتادة (على حرد) [أي
على جد] في أنفسهم انتهى.
وقوله تعالى: (قادرين) يحتمل أن يكون من القدرة أي قادرون في زعمهم
ويحتمل أن يكون من التقدير الذي هو تضييق كأنهم قد قدروا على المساكين أي ضيقوا
عليهم (فلما رأوها) أي محترقة (قالوا إنا لضالون) طريق جنتنا فلما تحققوها علموا
أنها قد أصيبت فقالوا (بل نحن محرومون) أي: قد حرمنا غلتها وبركتها فقال لهم
أعدلهم قولا وعقلا وخلقا وهو الأوسط (ألم أقل لكم لولا تسبحون) قيل هي عبارة عن
تعظيم الله والعمل بطاعته سبحانه فبادر القوم عند ذلك وتابوا وسبحوا واعترفوا بظلمهم
في اعتقادهم منع الفقراء ولام بعضهم بعضا واعترفوا بأنهم طغوا أي تعدوا ما يلزم من
مواساة المساكين ثم انصرفوا إلى رجاء الله سبحانه وانتظار الفضل من لدنه في أن يبدلهم
بسبب توبتهم وإنابتهم خيرا من تلك الجنة قال الثعلبي قال ابن مسعود بلغني أن القوم
لما أخلصوا وعلم الله صدقهم أبدلهم الله عز وجل بها جنة يقال لها الحيوان فيها
عنب يحمل البغل العنقود منها وعن أبي خالد اليماني أنه رأى تلك الجنة ورأى كل
عنقود منها كالرجل الأسود القائم انتهى وقدرة الله أعظم فلا يستغرب هذا إن صح سنده.
وقوله سبحانه: (كذلك العذاب) أي كفعلنا بأهل الجنة نفعل بمن تعدى حدودنا
(ولعذاب الآخرة أكبر) أي أعظم مما أصابهم إن لم يتوبوا في الدنيا.
469

ثم أخبر تعالى ب‍ (أن للمتقين عند ربهم جنات النعيم) فروي أنه لما نزلت هذه الآية
قالت قريش إن كان ثم جنات نعيم فلنا فيها أكبر الحظ فنزلت (أفنجعل المسلمين
كالمجرمين) الآية توبيخا لهم.
(أم لكم كتاب) منزل من عند الله تدرسون فيه أن لكم ما تختارون من النعيم
ف‍ (إن) معمولة ل‍ (تدرسون) وكسرت الهمزة من (إن) لدخول اللام في الخبر وهي في
معنى (أن) بفتح الألف وقرئ شاذا (أن لكم) بالفتح وقرأ الأعرج " أن لكم
فيه " على الاستفهام ثم خاطب تعالى الكفار بقوله (أم لكم أيمان علينا بالغة) كأنه يقول
هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده وقرأ
الأعرج " ان لكم لما تحكمون " على الاستفهام أيضا.
(سلهم أيهم بذلك زعيم) أي: ضامن (ت) قال الهروي وقوله (أيمان
علينا بالغة) أي مؤكدة انتهى.
وقوله تعالى: (فليأتوا بشركائهم) قيل: هو استدعاء وتوقيف في الدنيا أي
ليحضروهم حتى يرى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا؟ وقيل هو استدعاء وتوقيف على
أن يأتوا بهم يوم القيامة (يوم يكشف عن ساق) وقرأ ابن عباس " تكشف " بضم
التاء على معنى تكشف القيامة والشدة الحال الحاضرة وقرأ ابن عباس أيضا
" تكشف " بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة وهذه القراءة مفسرة لقراءة الجماعة
فما ورد في الحديث والآية من كشف الساق فهو عبارة عن شدة الهول.
وقوله - جلت عظمته - (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) وفي الحديث
الصحيح " فيخرون لله سجدا أجمعون ولا يبقى أحد كان يسجد في الدنيا رياء ولا سمعة
ولا نفاقا إلا صار ظهره طبقا واحدا كلما أراد أن يسجد خر على قفاه " الحديث وفي
470

الحديث " فيسجد كل مؤمن وترجع أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما
واحدا فلا يستطيعون سجود " الحديث.
وقوله تعالى: (وقد كانوا يدعون إلى السجود) يريد في دار الدنيا (وهم سالمون)
مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو.
وقوله سبحانه: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث) الآية وعيد وتهديد والحديث
المشار إليه / هو القرآن وباقي الآية بين مما ذكر في غير هذا الموضع ثم أمر
الله تعالى نبيه بالصبر لحكمه وأن يمضي لما أمر به من التبليغ واحتمال الأذى
والمشقة ونهى عن الضجر والعجلة التي وقع فيها يونس صلى الله عليه وسلم ثم اقتضب القصة وذكر ما
وقع في آخرها من ندائه من بطن الحوت (وهو مكظوم) أي وهو كاظم لحزنه وندمه
وقال الثعلبي ونحوه في البخاري (وهو مكظوم) أي مملوء أي مملوء غما وكربا انتهى وهو
أقرب إلى المعنى وقال النقاش: المكظوم الذي أخذ بكظمه وهي مجاري القلب وقرأ
ابن مسعود وغيره " لولا أن تداركته نعمة " والنعمة التي تداركته هي الصفح والاجتباء
الذي سبق له عند الله - عز وجل - (لنبذ بالعراء) أي لطرح بالعراء وهو الفضاء الذي لا
يوارى فيه جبل ولا شجر وقد نبذ يونس عليه السلام بالعراء ولكن غير مذموم وجاء
في الحديث عن أسماء بنت عميس قالت " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن عند
471

الكرب أو في الكرب الله الله ربي لا أشرك به شيئا " رواه أبو داود والنسائي وابن
ماجة وأخرجه الطبراني في كتاب الدعاء انتهى من " السلاح " ثم قال تعالى لنبيه:
(وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم) المعنى يكادون من الغيظ والعداوة يزلقونه
فيذهبون قدمه من مكانها ويسقطونه قال عياض وقد روي عن ابن عباس أنه قال كل
ما في القرآن " كاد " فهو ما لا يكون قال تعالى (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار)
[النور: 43] ولم يذهبها و (أكاد أخفيها) [طه: 15] ولم يفعل انتهى ذكره إثر
قوله تعالى: (وإن كادوا ليفتنونك) [الإسراء: 73] وقرأ الجمهور " ليزلقونك " بضم
الياء من أزلق ونافع بفتحها من زلقت الرجل وفي هذا المعنى قول الشاعر [الكامل]
يتقارضون إذا التقوا في مجلس * نظرا يزل مواطئ الأقدام.
وذهب قوم من المفسرين على أن المعنى يأخذونك بالعين وقال الحسن دواء من
أصابته العين إن يقرأ هذه الآية والذكر في الآية القرآن.
472

تفسير سورة الحاقة
وهي مكية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (الحاقة * ما الحاقة) المراد بالحاقة القيامة وهي اسم فاعل من
حق الشئ يحق لأنها حقت لكل عامل عمله قال ابن عباس وغيره سميت القيامة حاقة
لأنها تبدي حقائق الأشياء و (الحاقة) مبتدأ و (ما) مبتدأ ثان والحاقة الثانية خبر
(ما) والجملة خبر الأولى وهذا كما تقول: زيد ما زيد على معنى التعظيم له وإبهام
التعظيم أيضا ليتخيل السامع أقصى جهده.
وقوله: (وما أدراك ما الحاقة) مبالغة في هذا المعنى أي إن فيها ما لم تدره من
أهوالها وتفاصيل صفاتها ثم ذكر تعالى تكذيب ثمود وعاد بهذا الأمر الذي هو حق مشيرا
إلى أن من كذب بذلك ينزل به ما نزل بأولئك و (القارعة) من أسماء القيامة أيضا لأنها
تقرع القلوب بصدمتها.
وقوله سبحانه: (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية) قال قتادة معناه بالصيحة التي
خرجت عن حد كل صيحة وقيل: المعنى بسبب الفيئة الطاغية وقيل بسبب الفعلة
الطاغية وقال ابن زيد ما معناه الطاغية مصدر كالعاقبة فكأنه قال بطغيانهم وقال أبو
473

عبيدة ويقوي هذا قوله تعالى: (كذبت ثمود بطغواها) [الشمس: 11] وأولى الأقوال
وأصوبها الأول وباقي الآية تقدم تفسير نظيره وما في ذلك من القصص والعاتية
معناه الشديدة المخالفة فكانت الريح قد عتت على خزانها بخلافها وعلى قوم عاد
بشدتها وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا لم ينزل من السماء قطرة ماء قط إلا
بمكيال على يد ملك ولا هبت ريح إلا كذلك إلا ما كان من طوفان نوح وريح عاد
فإن الله أذن لهما في الخروج دون إذن الخزان و (حسوما) قال ابن عباس وغيره
معناه كاملة تباعا لم يتخللها غير ذلك وقال ابن زيد (حسوما) جمع حاسم ومعناه
أن تلك الأيام قطعتهم بالإهلاك ومنه حسم العلل ومنه الحسام والضمير في قوله
(فيها صرعى) يحتمل عوده على الليالي والأيام ويحتمل عوده على ديارهم وقيل على
الريح (ص) " ومن قبله " النحويان وعاصم في رواية - بكسر القاف وفتح الباء - أي
أجناده وأهل طاعته وقرأ الباقون " قبله " ظرف زمان انتهى.
وقوله: (بالخاطئة) صفة لمحذوف أي: بالفعلة الخاطئة وال " رابية " النامية التي قد
عظمت جدا ومنه ربا المال ومنه (اهتزت وربت) [الحج: 5] ثم عدد تعالى على
الناس نعمة في قوله (إنا لما طغا الماء) يعني في وقت الطوفان الذي كان على قوم نوح
و (الجارية) سفينة نوح قاله منذر بن سعيد والضمير في (لنجعلها) عائد على
الجارية أو على الفعلة.
وقوله تعالى: (وتعيها أذن واعية) عبارة عن الرجل الفهم المنور القلب الذي يسمع
القرآن فيتلقاه بفهم وتدبر قال أبو عمران الجوني (واعية) عقلت عن الله تعالى وقال
الثعلبي: المعنى لتحفظها كل أذن فتكون عظة لمن يأتي بعد تقول وعيت العلم إذا
474

حفظته انتهى ثم ذكر تعالى بأمر القيامة وقرأ الجمهور " وحملت " بتخفيف الميم
بمعنى حملتها الريح أو القدرة و (دكتا) معناه سوي جميعها وانشقاق السماء هو
تفطرها وتميز بعضها من بعض وذلك هو الوهي الذي ينالها كما يقال في الجدرات البالية
المتشققة واهية والملك اسم الجنس يريد به الملائكة وقال جمهور من المفسرين
الضمير في (أرجائها) عائد على السماء أي الملائكة على نواحيها والرجا الجانب من
البير أو الحائط ونحوه وقال الضحاك وابن جبير وغيرهما الضمير في (أرجائها) عائد
على الأرض وإن كان لم يتقدم لها ذكر قريب لأن القصة واللفظ يقتضي إفهام ذلك
وفسروا هذه الآية بما روي من أن الله تعالى يأمر ملائكة سماء الدنيا فيقفون صفا على
حافات الأرض ثم يأمر ملائكة السماء الثانية فيصفون خلفهم ثم كذلك ملائكة كل
سماء فكلما ند أحد من الجن أو الإنس وجد الأرض قد أحيط بها قالوا فهذا تفسير
هذه الآية وهو أيضا معنى قوله (وجاء ربك والملك صفا صفا) [الفجر: 22] وهو
تفسير " يوم التناد * يوم تولون مدبرين " [غافر: 32 - 33] على قراءة من شدد الدال
وهو تفسير قوله (يا معشر الجن والإنس...) [الرحمن: 33] الآية واختلف الناس في
الثمانية الحاملين للعرش فقال ابن عباس هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحد
عدتهم وقال ابن زيد هم ثمانية أملاك على هيئة الوعول وقال جماعة من
المفسرين هم على هيئة الناس أرجلهم تحت الأرض السابعة ورؤوسهم وكواهلهم فوق
السماء السابعة قال الغزالي في " الدرة الفاخرة " هم ثمانية أملاك قدم الملك منهم مسيرة
عشرين ألف سنة انتهى والضمير في قوله (فوقهم) قيل: هو للملائكة الحملة
وقيل للعالم كله.
475

وقوله تعالى: (يومئذ تعرضون) خطاب لجميع العالم وفي الحديث الصحيح
" يعرض الناس ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعندها
تتطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله " قال الغزالي يجب على
مسلم البدار إلى محاسبة نفسه كما قال عمر رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن
تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وانما حسابه لنفسه ان يتوب من كل معصية قبل
الموت توبة نصوحا ويتدارك ما فرط فيه من تقصير في فرائض الله عز وجل ويرد
المظالم حبة حبة ويستحل كل من تعرض له بلسانه ويده وسوء ظنه بقلبه ويطيب
قلوبهم حتى يموت ولم يبق عليه فريضة ولا مظلمة فهذا يدخل الجنة بغير حساب إن شاء الله
تعالى انتهى من آخر " الاحياء " ونقل القرطبي في " تذكرته " هذه الألفاظ
بعينها.
وقوله قوله: (هاؤم اقرأوا كتابيه) معناه تعالوا وقوله: (اقرأوا كتابيه) هو استبشار
وسرور * ص * (هاؤم) " ها " بمعنى خذ قال الكسائي والعرب تقول هاء يا رجل
وللاثنين رجلين أو امرأتين هاؤما وللرجال هاؤم وللمرأة هاء بهمزة مكسورة من
غير ياء وللنساء هاؤن وزعم القتبي ان الهمزة بدل من الكاف وهو ضعيف الا ان
يعنى انها تحل محلها في لغة من قال هاك وهاك وهاكما وهاكم وهاكن فذلك ممكن
لا انه بدل صناعي لان الكاف / لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها انتهى.
وقوله: (انى ظننت انى ملاق حسابيه) عبارة عن ايمانه بالبعث وغيره و (ظننت)
هنا واقعة موقع تيقنت وهي في متيقن لم يقع بعد ولا خرج إلى الحس وهذا هو باب
الظن الذي يوقع موقع اليقين و (راضية) بمعنى مرضية والقطوف جمع قطف وهو ما
يجتنى من الثمار ويقطف ودنوها هو أنها تأتي طوع التمني فيأكلها القائم والقاعد
476

والمضطجع بفيه من شجرتها و (بما أسلفتم) معناه بما قدمتم من الأعمال الصالحة
و (الأيام الخالية) هي أيام الدنيا لأنها في الآخرة قد خلت وذهبت وقال وكيع وغيره
المراد ب‍ (ما أسلفتم) من الصوم وعموم الآية في كل الأعمال أولى وأحسن * ت *
ويدل على ذلك الآية الأخرى (كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون) [المرسلات: 43]
قال ابن المبارك في " رقائقه " أخبرنا مالك بن مغول انه بلغه ان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه قال حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنه أهون أو أيسر لحسابكم
وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتجهزوا للعرض الأكبر (يومئذ تعرضون لا تخفي منكم
خافية) قال ابن المبارك أخبرنا معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن قال إن المؤمن
قوام على نفسه يحاسب نفسه لله وانما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا
أنفسهم في الدنيا وانما شق الحساب يوم القيامة على قوم اخذوا هذا الامر عن غير
محاسبة انتهى والذين يؤتون كتبهم بشمائلهم هم المخلدون / في النار أهل الكفر
فيتمنون ان لو كانوا معدومين.
وقوله (يا ليتها كانت القاضية) إشارة إلى موتة الدنيا أي ليتها لم يكن بعدها
رجوع * ص * (ما أغنى) " ما " نافية أو استفهامية انتهى والسلطان في الآية الحجة
وقيل إنه ينطق بذلك ملوك الدنيا والظاهر أن سلطان كل أحد حاله في الدنيا من عدد
وعدد ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته الا
باذنه "
وقوله سبحانه: (خذوه فغلوه) الآية المعنى يقول الله تعالى أو الملك بأمره
477

للزبانية: خذوه واجعلوا في عنقه غلا قال ابن جريح نزلت في أبي جهل.
وقوله تعالى: (فاسلكوه) معناه: ادخلوه وروي ان هذه السلسلة تدخل في فم
الكافر وتخرج من دبره فهي في الحقيقة التي تسلك فيه لكن الكلام جرى مجرى
أدخلت القلنسوة في رأسي وروي ان هذه السلسلة تلوى حول الكافر حتى تعمه وتضغطه
فالكلام على هذا على وجهه وهو المسلوك.
وقوله تعالى: (ولا يحض على طعام المسكين) خصت هذه الخلة بالذكر لأنها من
أضر الخلال بالبشر إذا كثرت في قوم هلك مساكينهم * ت * ونقل الفخر عن
بعض الناس أنه قال في قوله تعالى: (ولا يحض على طعام المسكين) دليلان قويان
على عظم الجرم في حرمان المساكين أحدهما: عطفه على الكفر وجعله قرينا له
والثاني: ذكر الحض دون الفعل ليعلم انه إذا كان تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بمن
ترك الفعل قال الفخر ودلت الآية على أن الكفار يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة
وهو المراد من قولنا انهم مخاطبون بفروع الشريعة وعن أبي الدرداء انه كان يحض
امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالايمان أفلا
نخلع النصف الثاني انتهى.
وقوله: (فليس له اليوم ها هنا حميم) أي صديق لطيف المودة قاله الجمهور
وقيل الحميم الماء السخن فكأنه تعالى أخبر ان الكافر ليس له ماء ولا شئ مائع ولا
طعام الا من غسلين وهو ما يجري من الجراح إذا غسلت وقال ابن عباس الغسلين
هو صديد أهل النار وقال قوم: الغسلين شئ يجري من ضريع النار * ص *
(الا من غسلين) أبو البقاء النون في (غسلين) زائدة لأنه غسالة أهل النار انتهى.
478

والخاطئ الذي يفعل ضد الصواب.
وقوله تعالى: (فلا أقسم) قيل " لا " زائدة وقيل " لا " رد لما تقدم من أقوال
الكفار والبدأة أقسم.
وقوله: (بما تبصرون * وما لا تبصرون) قال قتادة أراد الله تعالى ان يعم بهذا
القسم جميع مخلوقاته والرسول الكريم قيل: هو جبريل وقيل هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (وما هو بقول شاعر) نفي سبحانه أن يكون القرآن من قول شاعر
كما زعمت قريش و (قليلا) نصب بفعل مضمر يدل عليه (تؤمنون) و " ما " يحتمل ان
تكون نافية فينتفي ايمانهم البتة ويحتمل ان تكون مصدرية فيتصف ايمانهم بالقلة ويكون
ايمانا لغويا لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغنى عنهم شيئا ثم أخبر سبحانه ان
محمد عليه السلام لو تقول عليه لعاقبه بما ذكر * ص * الأقاويل جمع أقوال
وأقوال جمع قول فهو جمع الجمع انتهى.
وقوله سبحانه: (لأخذنا منه باليمين) قال ابن عباس المعنى لاخذنا منه بالقوة اي
لنلنا منه عقابه بقوة منا وقيل معناه لاخذنا بيده اليمنى على جهة الهوان كما يقال
لمن يسجن أو يقام لعقوبة خذوا بيده أو بيمينه والوتين نياط القلب قاله ابن عباس
وهو عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر فمعنى الآية لأذهبنا حياته معجلا والحاجز
المانع والضمير في قوله (وانه لتذكرة) عائد على القرآن وقيل على النبي صلى الله عليه وسلم
479

* ص * (وانه لحسرة) ضمير انه يعود على التكذيب المفهوم من (مكذبين)
انتهى وقال الفخر الضمير في قوله (وانه لحسرة) فيه وجهان: أحدهما انه يعود
على القرآن اي هو على الكافرين حسرة اما يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به أو
في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين والثاني: قال مقاتل وان تكذيبهم بالقرءان لحسرة عليهم
يدل عليه قوله (ان منكم مكذبين) انتهى ثم امر تعالى نبيه بالتسبيح باسمه العظيم
ولما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم.
480

تفسير سورة " المعارج "
وهي مكية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (سال سائل بعذاب) قرأ جمهور السبعة: (سأل) بهمزة محققة
قالوا والمعنى دعا داع والإشارة إلى من قال من قريش (اللهم ان كان هذا هو الحق
من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء...) [الأنفال: 32] الآية وقولهم (عجل لنا
قطنا) [ص: 16] ونحو ذلك وقال بعضهم المعنى بحث باحث واستفهم مستفهم
قالوا والإشارة إلى قول قريش (متى هذا الوعد) [الملك: 25] وما جرى مجراه قاله
الحسن وقتادة والباء على هذا التأويل في قوله (بعذاب) بمعنى " عن " وقرأ نافع وابن
عامر " سال سائل " ساكنة الألف واختلف القراء بها / فقال بعضهم هي " سأل "
المهموزة الا ان الهمزة سهلت وقال بعضهم هي لغة من يقول سلت أسال ويتساولان،
وهي لغة مشهورة وقال بعضهم في الآية هي من سال يسيل إذا جرى وليست من معنى
السؤال قال زيد بن ثابت وغيره في جهنم واد يسمى سائلا والاخبار هنا عنه وقرأ
ابن عباس " سال سيل " - بسكون الياء - وسؤال الكفار عن العذاب - حسب قراءة
الجماعة - انما كان على أنه كذب فوصفه الله تعالى بأنه واقع وعيدا لهم.
وقوله: (للكافرين) قال بعض النحاة: اللام بمعنى " على " وري انه كذلك في
481

مصحف أبي: " على الكافرين " والمعارج في اللغة الدرج في الأجرام وهي هنا مستعارة
في الرتب والفضائل والصفات الحميدة، قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن: هي
المراقي في السماء قال عياض، في " مشارق الأنوار: " قوله صلى الله عليه وسلم " فعرج بي إلى
السماء " اي: ارتقي بي، والمعراج الدرج وقيل: سلم تعرج فيه الأرواح وقيل: هو
أحسن شي لا تتمالك النفس إذا رأته ان تخرج واليه يشخص بصر الميت من حسنه
وقيل: هو الذي تصعد فيه الأعمال وقيل قوله: (ذي المعارج) معارج الملائكة
وقيل ذي الفواضل انتهى.
وقوله تعالى: (تعرج الملائكة) معناه تصعد والروح عند الجمهور هو جبريل
عليه السلام وقال مجاهد: الروح ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم
الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة وقال بعض المفسرين: هو اسم جنس لأرواح
الحيوان.
وقوله سبحانه: (في يوم كان مقداره خمسين الف سنة) قال ابن عباس وغيره هو
يوم القيامة ثم اختلفوا فقال بعضهم قدره في الطول قدر خمسين الف سنة وقال
بعضهم بل قدره في الشدة والأول هو الظاهر وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم " ما من رجل لا
يؤدي زكاة ماله الا جعل له صفائح من نار يوم القيامة تكوى بها جبهته وظهره وجنباه في
يوم كان مقداره خمسين الف سنة " قال أبو سعيد الخدري " قيل يا رسول الله ما
أطول يوما مقداره خمسون الف سنة فقال والذي نفسي بيده انه ليخف على المؤمن
حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة " قال ابن المبارك أخبرنا معمر عن قتادة عن
482

زرارة بن أوفي عن أبي هريرة قال يقصر يومئذ على المؤمن حتى يكون كوقت الصلاة
انتهى قال * ع * وقد ورد في يوم القيامة انه كألف سنة وهذا يشبه أن يكون في
طوائف دون طوائف * ت * قال عبد الحق في " العاقبة " له اعلم رحمك الله ان يوم
القيامة ليس طوله كما عهدت من طول الأيام بل هو آلاف من الأعوام يتصرف فيه هذا
الأنام على الوجوه والأقدام حتى ينفذ فيهم ما كتب لهم وعليهم من الاحكام وليس
يكون خلاصه دفعة واحدة ولا فراغهم في مرة واحدة بل يتخلصون ويفرغون شيئا بعد
شئ لكن طول ذلك اليوم خمسون الف سنة فيفرغون بفراغ اليوم ويفرغ اليوم
بفراغهم فمن الناس من يطول مقامه وحبسه إلى آخر اليوم ومنهم من يكون انفصاله في
ذلك اليوم في مقدار يوم من أيام الدنيا أو في ساعة من ساعاته أو في أقل من ذلك
ويكون رايحا أبي في ظل كسبه وعرش ربه ومنهم من يؤمر به إلى الجنة بغير حساب ولا
عذاب كما أن منهم من يؤمر به إلى النار في أول الامر من غير وقوف ولا انتظار أو
بعد يسير من ذلك انتهى.
وقوله سبحانه: (فاصبر صبرا جميلا) امر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه والصبر
الجميل الذي لا يلحقه عيب ولا شك ولا قلة رضي ولا غير ذلك والامر بالصبر الجميل
محكم في كل حالة أعني لا نسخ فيه وقيل إن الآية نزلت قبل الامر بالقتال فهي
منسوخة * ت * ولو قيل هذا خطاب لجنس الانسان في شأن هول ذلك اليوم ما
بعد.
وقوله تعالى: (انهم يرونه بعيدا) يعنى يوم القيامة والمهل عكر الزيت قاله ابن
483

عباس وغيره فهي لسوادها وانكدار أنوارها تشبه ذلك والمهل أيضا ما أذيب من
فضة ونحوها قاله ابن مسعود وغيره والعهن الصوف وقيل هو الصوف المصبوغ
اي لون كان والحميم في هذا الموضع القريب والولي والمعنى ولا يسأله نصرة ولا
منفعة ولا يجدها عنده وقال قتادة: المعنى ولا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة قد بصر
كل أحد حالة الجميع وشغل بنفسه قال الفخر قوله تعالى: (يبصرونهم) تقول
بصرني زيد كذا وبصرني بكذا فإذا بنيت الفعل للمفعول وحذفت الجار قلت بصرت
زيدا وهكذا معنى (يبصرونهم) وكأنه لما قال (ولا يسئل حميم حميما) قيل لعله
لا يبصره فقال (يبصرونهم) ولكن لاشتغالهم بأنفسهم لا يتمكنون من تساؤلهم انتهى
وقرأ ابن كثير بخلاف عنه " ولا يسئل على بناء الفعل للمفعول فالمعنى ولا يسئل
احضاره لأن كل مجرم له سيما يعرف بها كما أن كل مؤمن له سيما خير والصاحبة
هنا: الزوجة والفصيلة هنا قرابة الرجل.
وقوله تعالى: (كلا انها لظى) رد لما ودوه اي ليس الامر كذلك و " لظى " طبقة
من طبقات جهنم والشوي / جلد الانسان وقيل جلد الرأس.
(تدعوا من أدبر وتولى) يريد الكفار قال ابن عباس وغيره تدعوهم بأسمائهم
وأسماء آبائهم (وجمع) اي جمع المال و (أوعى) جعله في الأوعية اي جمعوه
من غير حل ومنعوه من حقوق الله وكان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول:
سمعت الله تعالى يقول: (وجمع فأوعى).
وقوله تعالى: (إن الانسان) عموم لاسم الجنس لكن الإشارة هنا إلى الكفار
484

والهلع فزع واضطراب يعتري الانسان عند المخاوف وعند المطامع.
وقوله تعالى: (إذا مسه...) الآية مفسر للهلع)
وقوله تعالى: (إلا المصلين) اي: الا المؤمنين الذين امر الآخرة عليهم أوكد من
امر الدنيا والمعنى ان هذا المعنى فيهم يقل لأنهم يجاهدونه بالتقوى.
وقوله: (الذين هم على صلاتهم دائمون) اي مواظبون وقد قال - عليه السلام -
" أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه " * ت * وقد تقدم في سورة " قد أفلح " ما
جاء في الخشوع قال الغزالي فينبغي لك ان تفهم ما تقرأه في صلاتك ولا تغفل في
قراءتك عن امره سبحانه ونهيه ووعده ووعيده ومواعظه واخبار أنبيائه وذكر منته
واحسانه فلكل واحد حق فالرجاء حق الوعد والخوف حق الوعيد والعزم حق الأمر
والنهي والاتعاظ حق الموعظة والشكر حق ذكر المنة والاعتبار حق ذكر اخبار
الأنبياء قال الغزالي وتكون هذه المعاني بحسب درجات الفهم ويكون الفهم بحسب
وفور العلم وصفاء القلب ودرجات ذلك لا تنحصر فهذا حق القراءة وهو حق الأذكار
والتسبيحات أيضا ثم يراعى الهيئة في القراءة فيرتل ولا يسرد فان ذلك أيسر للتأمل
ويفرق بين نغماته قال فئ آيات الرحمة وآيات العذاب والوعد والوعيد والتحميد والتعظيم
انتهى من " الاحياء " وروى ابن المبارك في " رقائقه " قال أخبرنا ابن لهيعة عن يزيد بن
أبي حبيب ان أبا الخير حدثه قال سألنا عقبة بن عامر الجهني عن قوله عز وجل
(الذين هم على صلاتهم دائمون) أهم الذين يصلون ابدا قال لا ولكنه الذي إذا صلى
لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه انتهى.
وقوله سبحانه: (والذين في أموالهم حق معلوم) قال ابن عباس وغيره هذه الآية
485

في الحقوق التي في المال سوى الزكاة وهي ما ندبت إليه الشريعة من المواساة وهذا
هو الأصح في هذه الآية لان السورة مكية وفرض الزكاة وبيانها انما كان بالمدينة وباقي
الآية تقدم تفسير نظيره.
وقوله سبحانه: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) جمع الأمانة من حيث إنها
متنوعة في الأموال والاسرار وفيما بين العبد وربه فيما امره به ونهاه عنه والعهد كل ما
تقلده الانسان من قول أو فعل أو مودة إذا كانت هذه الأشياء على منهاج الشريعة فهو
عهد ينبغي رعيه وحفظه.
وقوله سبحانه (والذين هم بشهادتهم قائمون) معناه في قول جماعة من
المفسرين انهم يحفظون ما يشهدون فيه ويتقنونه ويقومون بمعانيه حتى لا يكون لهم
فيه تقصير وهذا هو وصف من يمتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " على مثل الشمس فاشهد " وقال
آخرون معناه الذين إذا كانت عندهم شهادة ورأوا حقا يدرس أو حرمة لله تنتهك قاموا
لله بشهادتهم.
وقوله تعالى: (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) الآية نزلت بسبب ان النبي صلى الله عليه وسلم
كان يصلى عند الكعبة أحيانا ويقرأ القرآن فكان كثير من الكفار يقومون من مجالسهم
مسرعين إليه يستمعون قراءته ويقول بعضهم لبعض شاعر وكاهن ومفتر وغير ذلك
و (قبلك) معناه فيما يليك والمهطع الذي يمشي مسرعا إلى شئ قد اقبل ببصره عليه
و (عزين) جمع عزة والعزة الجمع اليسير كأنهم كانوا ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة وفي
حديث أبي هريرة قال " خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم حلق متفرقون فقال ما لي
أراكم عزين ".
486

وقوله تعالى: (أيطمع كل امرئ منهم ان يدخل جنة نعيم) نزلت لان بعض الكفار
قال إن كانت ثم آخرة وجنة فنحن أهلها لان الله تعالى لم ينعم علينا في الدنيا بالمال
والبنين وغير ذلك الا لرضاه عنا.
وقوله تعالى: (كلا) رد لقولهم وطمعهم اي: ليس الامر كذلك ثم أخبر تعالى
عن خلقهم من نطفة قذرة وأحال في العبارة على علم الناس أي فمن خلق من ذلك
فليس بنفس خلقه يعطي الجنة بل بالايمان والأعمال الصالحة وروى ابن المبارك في
" رقائقه " قال أخبرنا مالك بن مغول قال سمعت أبا ربيعة يحدث عن الحسن قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلكم يحب ان يدخل الجنة؟ قالوا نعم جعلنا الله فداءك قال
فأقصروا من الامل وثبتوا آجالكم بين أبصاركم واستحيوا من الله حق الحياء قالوا
يا رسول الله كلنا نستحي من الله قال ليس كذلك الحياء ولكن الحياء من الله ألا
تنسوا المقابر والبلى ولا تنسوا الجوف وما وعى ولا تنسوا الرأس وما حوى ومن
يشتهى كرامة الآخرة يدع زينة الدنيا هنالك استحيا العبد من الله هنالك أصاب ولاية
الله " انتهى وقد روينا أكثر هذا الحديث من طريق أبي عيسى الترمذي وباقي الآية
تقدم تفسير نظيره والأجداث القبور والنصب ما نصب للانسان فهو يقصده مسرعا إليه
من علم أو بناء وقال أبو العالية (إلى نصب يوفضون) معناه إلى غايات يستبقون
و (يوفضون) معناه يسرعون و (خاشعة) اي ذليلة منكسرة.
487

تفسير سورة نوح
عليه السلام وهي مكية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله سبحانه: (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ان انذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب
اليم) هذا العذاب الذي توعدوا به الأظهر انه عذاب الدنيا ويحتمل أن يكون عذاب
الآخرة.
وقوله: (من ذنوبكم) قال قوم: " من " زائدة وهذا نحو كوفي واما الخليل
وسيبويه فلا يجوز عندهم زيادة " من " في الموجب وقال قوم: هي للتبعيض قال
* ع * وهذا القول عندي أبين الأقوال هنا وذلك أنه لو قال يغفر لكم ذنوبكم لعم
هذا اللفظ ما تقدم من الذنوب وما تأخر عن ايمانهم والإسلام انما يجب ما قبله.
وقوله سبحانه: (ويؤخركم إلى أجل مسمى) كان نوحا عليه السلام قال لهم:
وآمنوا يبين لنا انكم ممن قضي له بالايمان والتأخير وان بقيتم على كفركم فسيبين انكم
ممن قضي عليه بالكفر والمعاجلة ثم تبين هذا المعنى ولاح بقوله تعالى (إن أجل الله إذا
إذا جاء لا يؤخر) وجواب لو مقدر يقتضيه المعنى كأنه قال فما كان أحزمكم أو
أسرعكم إلى التوبة لو كنتم تعلمون.
488

وقوله تعالى: (قال رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا) الآية هذه المقالة قالها نوح
عليه السلام بعد طول عمره ويأسه من قومه.
(واستغشوا ثيابهم) معناه: جعلوها أغشية على رؤوسهم.
وقوله: (يرسل السماء) الآية روي أن قوم نوح كانوا قد أصابتهم قحوط وأزمة
فلذلك بدأهم في وعده بأمر المطر و (مدرارا) من الدر وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه
من حيث لا يحتسب " رواه أبو داود واللفظ له والنسائي وابن ماجة ولفظ
النسائي " من أكثر من الاستغفار " انتهى من " السلاح ".
وقوله: (ما لكم ترجون لله وقارا) قال أبو عبيدة وغيره (ترجون) معناه
تخافون قالوا والوقار بمعنى العظمة فكأن الكلام على هذا التأويل وعيد وتخويف
وقال بعض العلماء: ترجون على بابها وكأنه قال ما لكم لا تجعلون رجاءكم لله
و (وقارا) يكون على هذا التأويل منهم كأنه يقول تؤدة منكم وتمكنا في النظر.
وقوله: (وقد خلقكم أطوارا) قال ابن عباس وغيره هي إشارة إلى التدريج الذي
للانسان في بطن أمه وقال جماعة هي إشارة إلى العبرة في اختلاف خلق ألوان الناس
489

وخلقهم ومللهم والأطوار الأحوال المختلفة.
وقوله سبحانه: (وجعل القمر فيهن نورا...) الآية قال عبد الله بن عمرو بن
العاصي وابن عباس ان الشمس والقمر أقفاؤهما إلى الأرض واقبال نورهما وارتفاعه في
السماء وهذا الذي يقتضيه لفظ السراج.
و (أنبتكم من الأرض) استعارة من حيث خلق آدم عليه السلام من الأرض.
و (نباتا) مصدر جاء على غير المصدر التقدير فنبتم نباتا والإعادة فيها بالدفن
والاخراج هو بالبعث وظاهر الآية ان الأرض بسيطة غير كرية واعتقاد أحد الامرين غير
قادح في الشرع بنفسه اللهم الا ان يترتب على القول بالكرية نظر فاسد واما اعتقاد
كونها بسيطة فهو ظاهر كتاب الله تعالى وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتة واستدل ابن
مجاهد على صحة ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور فقال لو كانت الأرض كرية لما
استقر الماء عليها والسبل الطرق والفجاج الواسعة وقول نوح (واتبعوا من لم يزده
ماله...) الآية المعنى اتبعوا أشرافهم وغواتهم و (خسارا) معناه خسرانا
و (كبارا) بناء مبالغة نحو حسان وقرئ شاذا " كبارا " - بكسر الكاف - قال ابن
الأنباري جمع كبير.
490

و (ودا) وما عطف عليه أسماء أصنام وروى البخاري وغيره عن ابن عباس انها
كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم ان
انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد
حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت قال ابن عباس ثم صارت هذه الأوثان التي
في قوم نوح في العرب بعد انتهى.
وقوله: (وقد أضلوا كثيرا) هو اخبار نوح عن الاشراف ثم دعا الله عليهم أن لا
يزيدهم الا ضلالا وقال الحسن: أراد بقوله: (وقد / أضلوا) الأصنام المذكورة.
وقوله تعالى: (مما خطيئاتهم أغرقوا) ابتداء اخبار من الله تعالى لمحمد عليه
السلام و " ما " في قوله: (مما) زائدة فكأنه قال من خطيئاتهم وهي لابتداء الغاية
* ص * (مما خطيئاتهم) من للسبب * ع * لابتداء الغاية و " ما " زائدة للتوكيد
انتهى (فادخلوا نارا) يعنى جهنم وقول نوح: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين
ديارا) قال قتادة وغيره لم يدع نوح بهذه الدعوة الا من بعد أن أوحي إليه (انه لن يؤمن
من قومك الا من قد آمن) [هود: 36] و (ديارا) أصله: ديوار من الدوران اي من
يجئ ويذهب.
وقوله: (رب اغفر لي ولوالدي) قال ابن عباس لم يكفر لنوح أب ما بينه وبين
آدم عليه السلام وقرأ أبي بن كعب " ولأبوي " وبيته المسجد فيما قاله ابن
491

عباس وجمهور المفسرين وقال ابن عباس أيضا بيته شريعته ودينه استعار لها بيتا
كما يقال قبة الاسلام وفسطاط الدين وقيل: أراد سفينة.
وقوله: (وللمؤمنين والمؤمنات) تعميم بالدعاء لمؤمني كل أمة وقال بعض
العلماء ان الذي استجاب لنوح - عليه السلام - فأغرق بدعوته أهل الأرض الكفار لجدير
ان يستجيب له فيرحم بدعوته المؤمنين والتبار: الهلاك.
492

تفسير سورة الجن
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (قل أوحي إلي انه استمع نفر من الجن) هؤلاء النفر من الجن هم
الذين صادفوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح وقد تقدم قصصهم في سورة
الأحقاف وقول الجن: (انا سمعنا...) الآيات هو خطاب منهم لقومهم.
و (قرآنا عجبا): معناه: ذا عجب لان العجب مصدر يقع من سامع القرآن لبراعته
وفصاحته ومضمناته.
وقوله: (وأنه جد ربنا) قال الجمهور: معناه عظمة ربنا وروي عن انس أنه قال:
كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا اي: عظم وعن الحسن:
(جد ربنا) غناه وقال مجاهد ذكره وقال بعضهم جلاله ومن فتح الألف من
قوله: (وانه تعالى) اختلفوا في تأويل ذلك فقال بعضهم هو عطف على (أنه استمع)
فيجئ على هذا قوله تعالى: (وانه تعالى) مما امر أن يقول النبي انه أوحي إليه وليس
هو من كلام الجن وفي هذا قلق وقال بعضهم: بل هو عطف على الضمير في (به)
كأنه يقول: فآمنا به وبأنه تعالى وهذا القول أبين في المعنى لكن فيه من جهة النحو
493

العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض وذلك لا يحسن * ت * بل هو
حسن إذ قد أتى في النظر والنثر الصحيح مثبتا وقرأ عكرمة: " تعالى جد ربنا "
- بفتح الجيم وضم الدال وتنوينه ورفع الرب - كأنه يقول تعالى عظيم هو ربنا ف‍ " ربنا "
بدل والجد: العظيم في اللغة وقرأ أبو الدرداء " تعالى ذكر ربنا " وروي عنه " تعالى
جلال ربنا ".
وقوله تعالى: (وأنه كان يقول سفيهنا) لا خلاف ان هذا من قول الجن والسفيه:
المذكور قال جمهور من المفسرين: هو إبليس - لعنه الله - وقال آخرون هو اسم جنس
لكل سفيه منهم ولا محالة ان إبليس صدر في السفاهة وهذا القول أحسن والشطط
التعدي وتجاوز الحد بقول أو فعل * ص * (شططا) أبو البقاء: نعت لمصدر
محذوف اي قولا شططا انتهى ثم قال أولئك النفر: (وانا ظننا) قبل إيماننا (ان لن
تقول الإنس والجن على الله كذبا) في جهة الألوهية وما يتعلق بذلك.
494

وقوله تعالى: (وإنه كان رجال من الانس يعوذون / برجال من الجن...) الآية
من القراء من كسر الهمزة من " انه " ومنهم من فتحها والكسر أوجه والمعنى في
الآية ما كانت العرب تفعله في أسفارها من أن الرجل إذا أراد المبيت بواد صاح بأعلى
صوته يا عزيز هذا الوادي اني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك ويعتقد بذلك ان
الجني يحميه ويمنعه قال قتادة فكانت الجن تحتقر بني آدم وتزدريهم لو لما ترى من
جهلهم فكانوا يزيدونهم مخافة ويتعرضون للتخيل لهم ويغوونهم في ارادتهم فهذا
هو الرهق الذي زادته الجن بني آدم وقال مجاهد وغيره: بنو آدم هم الذين زادوا الجن
رهقا وهي الجرأة والطغيان وقد فسر قوم الرهق بالإثم.
وقوله: (وانهم ظنوا) يريد به بني آدم.
وقوله: (كما ظننتم) مخاطبة لقومهم من الجن وقولهم: (أن لن يبعث الله أحدا)
يحتمل معنيين: أحدهما بعث الحشر من القبور والآخر بعث آدمي رسولا وذكر
المهدوي تأويلا ثالثا ان المعنى: وان الجن ظنوا كما ظننتم أيها الانس فهي مخاطبة من
الله تعالى قال الثعلبي: وقيل إن قوله: (وأنه كان رجال من الانس...) الآية ابتداء
اخبار من الله تعالى ليس هو من كلام الجن انتهى فهو وفاق لما ذكره المهدوي
وقولهم: (وأنا لمسنا السماء) قال جمهور المتأولين معناه التمسنا والشهب كواكب
الرجم والحرس يحتمل ان يريد الرمي بالشهب وكرر المعنى بلفظ مختلف ويحتمل ان
يريد الملائكة و (مقاعد): جمع مقعد وقد تقدم بيان ذلك في سورة الحجر وقولهم:
(فمن يستمع الآن...) الآية قطع على أن كل من استمع الآن أحرقه شهاب [فليس هنا
495

بعد سمع انما الاحراق عند الاستماع] وهذا يقتضي ان الرجم كان في الجاهلية ولكنه
لم يكن بمستأصل فلما جاء الاسلام اشتد الامر حتى لم يكن فيه ولا يسير سماحة
و (رصدا) نعت ل‍ " شهاب " ووصفه بالمصدر وقولهم: (لا ندري أشر أريد بمن في
الأرض... (الآية معناه لا ندري أيؤمن الناس بهذا النبي فيرشدوا أم يكفرون به فينزل
بهم الشر وعبارة الثعلبي: " وانا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض " حين حرست السماء
ومنعنا السمع (أم أراد بهم ربهم رشدا) انتهى.
وقولهم: (وأنا منا الصالحون) إلى آخر قولهم: (ومنا القاسطون) هو من قول
الجن وقولهم: (ومنا دون ذلك) اي: غير صالحين * ص * (دون ذلك) قيل:
بمعنى غير ذلك وقيل: دون ذلك في الصلاح ف‍ " دون " في موضع الصفة لمحذوف
أي: ومنا قوم دون ذلك انتهى والطرائق: السير المختلفة والقدد كذلك هي الأشياء
المختلفة كأنه قد قد بعضها من بعض وفصل قال ابن عباس وغيره: (طرائق قددا)
أهواء مختلفة وقولهم: (وإنا ظننا) أي: تيقنا فالظن هنا بمعنى العلم (ان لن
نعجز الله في الأرض...) الآية وهذا اخبار منهم عن حالهم بعد ايمانهم بما سمعوا
من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم و (الهدى) يريدون به القرآن والبخس النقص والرهق تحميل ما
لا يطاق وما يثقل قال ابن عباس: البخس نقص الحسنات والرهق الزيادة في
السيئات.
وقوله تعالى: (فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا) الوجه فيه أن يكون مخاطبة من
الله تعالى لنبيه محمد - عليه السلام - ويؤيده ما بعده من الآيات و (تحروا) معناه: طلبوا
باجتهادهم.
496

وقوله سبحانه: (وألو استقاموا على الطريقة...) الآية قال ابن عباس وقتادة
ومجاهد وابن جبير: الضمير في قوله: (استقاموا) عائد على القاسطين والمعنى لو
استقاموا على طريقة الاسلام والحق لأنعمنا عليهم وهذا المعنى نحو قوله تعالى:
(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا...) [المائدة: 65] الآية إلى قوله (لأكلوا
فوقهم ومن تحت أرجلهم) والقاسط الظالم والماء الغدق هو الماء الكثير
و (لنفتنهم) معناه لنختبرهم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يكون
الماء فثم المال وحيث المال فثم الفتنة ونزع بهذه الآية وقال الحسن وجماعة من
التابعين: كانت الصحابة رضي الله عنهم سامعين مطيعين فلما فتحت كنوز كسرى
وقيصر على الناس ثارت الفتن و " نسلكه " ندخله و (صعدا) معناه: شاقا وقال
ابن عباس وأبو سعيد الخدري: (صعدا) جبل في النار و (ان المساجد لله) قيل:
أراد البيوت التي للعبادة والصلاة في كل ملة وقال الحسن أراد بها كل موضع يسجد
فيه إذ الأرض كلها جعلت مسجدا لهذه الأمة وروي: ان هذه الآية نزلت بسبب
تغلب قريش على الكعبة حينئذ فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم المواضع كلها لله فأعبده حيث كنت
قال * ع * والمساجد المخصوصة بينة التمكن في كونها لله تعالى فيصلح ان تفرد
للعبادة وكل ما هو خالص لله تعالى وان لا يتحدث بها في أمور الدنيا ولا يجعل فيها
لغير الله نصيب.
497

وقوله تعالى: (وأنه لما قام عبد الله) يحتمل: أن يكون خطابا من الله تعالى
ويحتمل أن يكون اخبارا عن الجن وعبد الله هو محمد صلى الله عليه وسلم والضمير في (كادوا)
يحتمل أن يكون لكفار قريش وغيرهم في اجتماعهم على رد امره صلى الله عليه وسلم وقيل: الضمير
للجن والمعنى انهم كادوا يتقصفون عليه لاستماع القرآن وقال ابن جبير معنى الآية
انها قول الجن لقومهم يحكون لهم والعبد محمد - عليه السلام - والضمير في
(كادوا) لأصحابه الذين يطيعون له ويقتدون به في الصلاة فهم عليه لبد واللبد:
الجماعات شبهت بالشئ المتلبد وقال البخاري: قال ابن عباس: (لبدا) أعوانا
انتهى و (يدعوه) معناه: يعبد وقيل عبد الله في الآية المراد به نوح وقرأ جمهور
السبعة: " قال انما ادعوا ربي " وقرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو بخلاف عنه " قل " ثم امر
الله تعالى محمدا عليه السلام بالتبري من القدرة وانه لا يملك لاحد ضرا ولا نفعا
والملتحد: الملجأ الذي يمال إليه ومنه الإلحاد وهو الميل.
وقوله: (الا بلاغا) قال قتادة التقدير لا أملك الا بلاغا إليكم فاما الايمان
والكفر فلا أملكه وقال الحسن ما معناه انه استثناء منقطع والمعنى لن يجيرني من
498

الله أحد الا بلاغا فإني ان بلغت رحمني بذلك اي بسبب ذلك.
وقوله تعالى: (ومن يعص الله) يريد: بالكفر بدليل تأبيد الخلود.
وقوله تعالى: (قل ان أدرى أقريب ما توعدون) يعنى عذابهم الذي وعدوا به
الأمد المدة والغاية.
وقوله تعالى: (الا من ارتضى من رسول) معناه فإنه يظهره على ما شاء مما هو قليل
من كثير [ثم] يبث تعالى حول ذلك الملك الرسول حفظة رصدا لإبليس وحزبه من الجن
والإنس.
وقوله تعالى: (ليعلم ان قد أبلغوا...) الآية قال ابن جبير: ليعلم محمد ان
الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم وقال
مجاهد معناه ليعلم من كذب أو أشرك ان الرسل قد بلغت وقيل المعنى ليعلم الله
تعالى رسله مبلغة خارجة إلى الوجود لان علمه بكل شئ قد تقدم والضمير في
(أحاط) و (أحصى) لله سبحانه لا غير.
499

تفسير سورة المزمل
وهي مكية في قول الجمهور
الا قوله: (إن ربك يعلم) إلى آخر السورة فمدني وقال جماعة: هي مكية كلها.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (يا أيها المزمل) نداء للنبي صلى الله عليه وسلم قال السهيلي: المزمل اسم مشتق
من حالته التي كان عليها عليه السلام حين الخطاب وكذلك المدثر وفي خطابه بهذا
الاسم فائدتان: إحداهما: الملاطفة فان العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك معاتبته
سموه باسم مشتق من حالته كقوله - عليه السلام - لعلي حين غاضب فاطمة: قم أبا
تراب اشعارا له انه غير عاتب عليه وملاطفة له والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد
ليله لينتبه إلى قيام الليل وذكر الله فيه لان الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع
المخاطب كل من عمل بذلك العمل واتصف بتلك الصفة انتهى والتزمل الالتفاف في
الثياب قال جمهور المفسرين وهو في البخاري وغيره ان النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الملك في
غار حراء وحاوره بما حاوره به رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فقال: زملوني زملوني
فنزلت " يا أيها المدثر " [وعلى هذا نزلت " يا أيها المزمل "].
وقوله تعالى: (قم الليل الا قليلا) قال جمهور العلماء: هو امر ندب وقيل كان
فرضا وقت نزول الآية وقال بعضهم كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وبقي كذلك حتى
توفي وقيل غير هذا.
500

وقوله تعالى: (نصفه) يحتمل: أن يكون بدلا من قوله قليلا * ص *: (الا
قليلا) استثناء من الليل و (نصفه) قيل بدل من الليل وعلى هذا يكون استثناء (إلا
قليلا) منه اي: قم نصف الليل الا قليلا منه والضمير في قوله: (أو انقص منه)
(أو زد عليه) عائد على النصف وقيل: (نصفه) بدل من قوله: (الا قليلا) قال أبو
البقاء وهو أشبه بظاهر الآية انتهى قال * ع * وكيف ما تقلب المعنى فإنه امر
بقيام نصف الليل أو أكثر شيئا أو أقل شيئا فالأكثر عند العلماء لا يزيد على الثلثين
والأقل لا ينحط عن الثلث ويقوى هذا حديث ابن عباس في مبيته في بيت ميمونة قال
فلما انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال * ع *
ويلزم على هذا البدل الذي ذكرناه أن يكون نصف الليل قد وقع عليه الوصف بقليل وقد
يحتمل عندي قوله: (الا قليلا) أن يكون استثناء من القيام فنجعل الليل اسم جنس ثم
قال: (الا قليلا) اي الا الليالي التي تخل بقيامها لعذر وهذا النظر يحسن مع القول
بالندب جدا قال * ص * [وهذا النظر خلاف ظاهر الآية انتهى والضمير في (منه)
و (عليه) عائدان على] النصف.
وقوله سبحانه: (ورتل): معناه في اللغة تمهل وفرق بين الحروف لتبين
والمقصد أن يجد الفكر فسحة للنظر وفهم المعاني وبذلك يرق القلب ويفيض عليه النور
والرحمة قال ابن كيسان المراد تفهمه تاليا له وروي في صحيح الحديث ان قراءة
رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بينة مترسلة لو شاء أحد ان يعد الحروف لعدها قال الغزالي في
" الاحياء " واعلم أن الترتيل والتؤدة أقرب إلى التوفير والاحترام وأشد تأثيرا في القلب من
الهدرمة والاستعجال والمقصود من القراءة التفكر والترتيل معين عليه وللناس عادات
مختلفة في الختم وأولى ما يرجع إليه في التقديرات قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه
الصلاة السلام: " من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقهه " وذلك لان الزيادة عليها
تمنع الترتيل المطلوب وقد كره جماعة الختم في يوم وليلة والتفصيل في مقدار القراءة
انه ان كان التالي من العباد السالكين طريق العمل فلا ينبغي له ان ينقص من ختمتين في
الأسبوع وان كان من السالكين بأعمال القلب وضروب الفكر أو من المشغولين بنشر
العلم فلا بأس ان يقتصر في الأسبوع على ختمة وان كان نافذ الفكر في معاني القرآن فقد
501

يكتفي في الشهر بمرة لحاجته إلى كثرة الترديد والتأمل انتهى وروى ابن المبارك في
" رقائقه " قال حدثنا إسماعيل عن أبي المتوكل الناجي " ان النبي صلى الله عليه وسلم قام ذات ليلة بآية
من القرآن يكررها على نفسه " انتهى.
وقوله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) يعنى القرآن واختلف لم سماه ثقيلا
فقال جماعة من المفسرين لما كان يحل برسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقل الجسم حتى أنه كان
إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به وحتى كادت فخذه ان ترض فخذ زيد ابن ثابت
- رضي الله عنه - وقيل لثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعده ووعيده ونحو
ذلك وقال حذاق العلماء معناه ثقيل المعاني من الامر بالطاعات والتكاليف الشرعية
من الجهاد ومزاولة الأعمال الصالحات دائما قال الحسن ان الهذ خفيف ولكن العمل
ثقيل * ت * والصواب عندي ان يقال اما ثقله باعتبار النبي صلى الله عليه وسلم فهو ما كان يجده
عليه السلام من الثقل المحسوس وأما ثقله باعتبار سائر الأمة فهو ما ذكر من ثقل
المعاني وقد زجر مالك سائلا سأله عن مسألة وقال يا أبا عبد الله انها مسألة خفيفة
فغضب مالك وقال ليس في العلم خفيف اما سمعت قول الله تعالى: (إنا سنلقي عليك
قولا ثقيلا) فالعلم كله ثقيل انتهى من " المدارك " لعياض.
وقوله سبحانه: (إن ناشئة الليل) قال ابن جبير وغيره هي لفظة حبشية نشأ الرجل
إذا قام من الليل ف‍ (ناشئة) على هذا جمع ناشئ اي: قائم و (أشد / وطأ) معناه:
ثبوتا واستقلالا بالقيام وقرأ أبو عمرو وابن عامر وجماعة كابن عباس وابن الزبير
502

وغيرهم: " وطاء " بكسر الواو ممدودا على وزن " فعال " على معنى المواطأة
والموافقة وهو ان يواطئ قلبه لسانه والمواطأة هي الموافقة فهذه مواطأة صحيحة
لخلو البال من اشغال النهار وبهذا المعنى فسر اللفظ مجاهد وغيره قال الثعلبي:
واختار هذه القراءة أبو عبيد وقال جماعة: (ناشئة الليل) ساعاته كلها لأنها تنشأ شيئا بعد
شئ وقيل في تفسير (ناشئة الليل) غير هذا وقرأ أنس بن مالك " وأصوب قيلا " فقيل
له: انما هو (أقوم) فقال: أقوم وأصوب واحد.
وقوله تعالى: (ان لك في النهار سبحا طويلا) اي: تصرفا وترددا في أمورك ومنه
السباحة في الماء (وتبتل) معناه انقطع إليه انقطاعا هذا لفظ ابن عطاء على ما نقله
الثعلبي انتهى واما * ع * فقال: معناه انقطع من كل شئ إلا منه وأفزع إليه قال
زيد بن أسلم: التبتل رفض الدنيا ومنه بتل الحبل و (تبتيلا) مصدر على غير
الصدر قال أبو حيان: وحسنه كونه فاصلة انتهى قال ابن العربي في " احكامه ":
فالتبتل المأمور به في الآية الانقطاع إلى الله تعالى باخلاص العبادة وهو اختيار البخاري
والتبتل المنهي عنه في الحديث هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في
الصوامع انتهى والوكيل القائم بالأمر الذي توكل إليه الأشياء.
وقوله: (واهجرهم هجرا جميلا) منسوخ بأية السيف.
وقوله سبحانه: (وذرني والمكذبين أولى النعمة) الآية وعيد بين والمعنى لا
تشغل بهم فكرك وكلهم إلي والنعمة غضارة العيش وكثرة المال والمشار إليهم كفار
قريش أصحاب القليب ببدر و (لدينا) بمنزلة " عندنا " والانكال جمع نكال وهو القيد
503

من الحديد ويروى انها قيود سود من النار والطعام ذو الغصة شجرة الزقوم قاله مجاهد
وغيره وقال ابن عباس شوك من نار يعترض في حلوقهم وكل مطعوم هنالك فهو
ذو غصة وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق والرجفان الاهتزاز والاضطراب من
فزع وهول و " المهيل " اللين الرخو الذي يذهب بالريح وقال البخاري: (كثيبا مهيلا)
رملا سائلا انتهى.
وقوله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم...) الآية خطاب للعالم لكن المواجهون قريش
و (شاهدا عليكم) نحو قوله: (وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) [النساء: 41] والوبيل
الشديد الردى.
وقوله تعالى: (فكيف تتقون) معناه كيف تجعلون وقاية لأنفسكم و (يوما)
مفعول ب (تتقون) وقيل: هو مفعول ب‍ (كفرتم) ويكون (كفرتم) بمعنى: جحدتم ف‍
(تتقون) على هذا من التقوى اي: تتقون عذاب الله ويجوز أن يكون (يوما) ظرفا
والمعنى: تتقون عقاب الله يوما وعبارة الثعلبي: (فكيف تتقون ان كفرتم) اي كيف
تتحصنون من عذاب يوم يشيب فيه الطفل لهوله ان كفرتم ثم ذكر نحو ما تقدم انتهى
وحكى * ص * عن بعض الناس جواز أن يكون (يوما) ظرفا اي: فكيف لكم
بالتقوى في يوم القيامة ان كفرتم في الدنيا * ت * وهذا هو مراد * ع * قال أبو
حيان: و (شيبا) مفعول ثان ل‍ (يجعل) وهو جمع أشيب انتهى.
504

وقوله تعالى: (السماء منفطر به) اي ذات انفطار والانفطار التصدع والانشقاق
والضمير في (به) قال منذر وغيره عائد على اليوم وكذا قال * ص * ان ضمير
(به) يعود على اليوم والباء سببية أو ظرفية انتهى وفي " صحيح مسلم " من رواية
عبد الله بن عمرو وذكر صلى الله عليه وسلم بعث النار من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار
وواحد إلى الجنة قال فذلك يوم يجعل الولدان شيبا وذلك يوم (يكشف عن ساق)
[القلم: 42] الحديث انتهى وقيل عائد على الله اي منفطر بأمره وقدرته والضمير
في قوله: (وعده) الظاهر أنه يعود على الله تعالى.
وقوله تعالى: (إن هذه تذكرة...) الآية الإشارة ب‍ " هذه " تحتمل إلى ما ذكر من
الانكال والجحيم والأخذ الوبيل وتحتمل ان تكون إلى السورة بجملتها وتحتمل ان
تكون إلى آيات القرآن بجملتها.
وقوله سبحانه: (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) ليس معناه إباحة الامر وضده بل
الكلام يتضمن الوعد والوعيد والسبيل هنا سبيل الخير والطاعة.
وقوله سبحانه: (إن ربك يعلم انك تقوم...) الآية المعنى ان الله تعالى يعلم
انك تقوم أنت وغيرك من أمتك قياما مختلفا مرة يكثر ومرة يقل ومرة أدنى من الثلثين
505

ومرة أدنى من النصف ومرة أدنى من الثلث وذلك لعدم تحصيل البشر لمقادير الزمان
مع عذر النوم وتقدير الزمان حقيقة انما هو لله تعالى واما البشر فلا يحصى ذلك فتاب
الله عليهم اي: رجع بهم من الثقل إلى الخفة وأمرهم بقراءة ما تيسر ونحو هذا تعطى
عبارة الفراء ومنذر فإنهما قالا تحصوه تحفظوه وهذا التأويل هو على قراءة الخفض
عطفا على الثلثين وهي قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر واما من قرأ " ونصفه وثلثه "
بالنصب عطفا على أدنى وهي قراءة باقي السبعة فالمعنى عندهم ان الله تعالى قد علم
أنهم يقدرون الزمان على نحو ما امر به تعالى في قوله: (نصفه أو انقص منه قليلا * أو
زد عليه) [المزمل: 3 - 4] فلم يبق الا قوله: (ان لن تحصوه) فمعناه لن يطيقوا قيامه
لكثرته وشدته فخفف الله عنهم فضلا منه لا لعلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقات
ونحو هذا تعطى عبارة الحسن وابن جبير فإنهما قالا: تحصوه تطيقوه وعبارة
الثعلبي: ومن قرأ بالنصب فالمعنى وتقوم نصفه وثلثه قال الفراء وهو الأشبه
بالصواب لأنه قال أقل من الثلثين ثم ذكر تفسير القلة لا تفسير أقل من القلة انتهى
ولو عبر الفراء بالأرجح لكان أحسن أدبا وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو
على كل شئ قدير الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة
الا بالله " ثم قال: " اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له فان توضأ ثم صلى قبلت
صلاته " رواه الجماعة الا مسلما وتعار - بتشديد الراء - معناه: استيقظ انتهى من
" السلاح "
وقوله تعالى: (فاقرؤا ما تيسر من القرآن) قال الثعلبي اي ما خف وسهل بغير
مقدار من القراءة والمدة وقيل المعنى فصلوا ما تيسر فعبر بالقراءة عنها * ت *
وهذا هو الأصح عند ابن العربي انتهى قال * ع * قوله (فاقرءوا ما تيسر من
506

القرآن) هو امر ندب في قول الجمهور وقال جماعة: هو فرض لا بد منه ولو خمسين
آية وقال الحسن وابن سيرين: قيام الليل فرض ولو قدر حلب شاة الا ان الحسن
قال من قرأ مائة آية لم يحاجه القرآن واستحسن هذا جماعة من العلماء قال بعضهم
والركعتان بعد العشاء مع الوتر داخلتان في امتثال هذا الامر ومن زاد زاده الله ثوابا
* ت * ينبغي للعاقل المبادرة إلى تحصيل الخيرات قبل هجوم صولة الممات قال
الباجي في " سنن الصالحين " له قالت بنت الربيع بن خثيم لأبيها يا أبت ما لي أرى
الناس ينامون وأنت لا تنام قال: إن أباك يخاف البيات قال الباجي رحمه الله تعالى
ولي في هذا المعنى: [من الرجز]
قد أفلح القانت في جنح الدجى * يتلوا الكتاب العربي النيرا.
[فقائما وراكعا وساجدا * مبتهلا مستعبرا مستغفرا].
له حنين وشهيق وبكا * يبل من أدمعه وقد ترب الثرى.
انا لسفر نبتغي نيل الهدى * ففي السرى بغيتنا لا في الكرا.
من ينصب الليل ينل راحته * عند الصباح يحمد القوم السرى.
انتهى والضرب في الأرض هو السفر للتجارة ابتغاء فضل الله سبحانه فذكر الله
سبحانه اعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام الليل ثم كرر سبحانه الامر بقراءة ما
تيسر منه تأكيدا والصلاة والزكاة هنا هما المفروضتان فمن قال: إن القيام من الليل غير
واجب قال معنى الآية خذوا من هذا النفل بما تيسر وحافظوا على فرائضكم ومن قال
إن شيئا من القيام واجب قال قد قرنه الله بالفرائض لأنه فرض واقراض الله تعالى هو
اسلاف العمل الصالح عنده وقرأ جمهور الناس " هو خيرا " على أن يكون " هو " فصلا
قال بعض العلماء: الاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية ومن قوله تعالى:
(كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون) [الذاريات: 17 - 18] قال
507

* ع * وعهدت أبي رحمه الله يستغفر الله اثر كل مكتوبة ثلاثا بعقب السلام
ويأثر حتى في ذلك حديثا فكان هذا الاستغفار من التقصير وتقلب الفكر اثنا الصلاة وكان
السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر ثم يجلسون للاستغفار * ت * وما ذكره
* ع * رحمه الله عن أبيه رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن
ثوبان قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت
السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والاكرام " قال الوليد فقلت للأوزاعي كيف
الاستغفار؟ قال تقول استغفر الله استغفر الله استغفر الله وفي رواية لمسلم من
حديث عائشة " يا ذا الجلال والاكرام " انتهى من " سلاح المؤمن ".
508

سورة المدثر
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (يا أيها المدثر * قم فأنذر) الآية اختلف في أول ما نزل من
القرآن فقال الجمهور هو: (باسم ربك) وهذا هو الأصح وقال جابر وجماعة هو:
(يا أيها المدثر) * ص * والتدثر لبس الدثار وهو الثوب الذي فوق الشعار
والشعار الثوب الذي يلي الجسد ومنه قوله - عليه السلام - " الأنصار شعار والناس
دثار " انتهى.
وقوله تعالى: (قم فأنذر) بعثة عامة إلى جميع الخلق.
(وربك فكبر) أي: فعظم.
(وثيابك فطهر) قال ابن زيد وجماعة: هو امر بتطهير الثياب حقيقة وذهب
الشافعي وغيره من هذه الآية إلى وجوب غسل النجاسات من الثياب وقال الجمهور
هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس والعرض وهذا كما تقول فلان طاهر
الثوب ويقال للفاجر دنس الثوب قال ابن العربي في " احكامه " والذي يقول إنها
الثياب المجازية أكثر كثيرا ما تستعمله العرب قال أبو كبشة [الطويل]
509

ثياب بنى عوف طهارى نقية * وأوجههم عند المشاهد غران.
يعنى: بطهارة ثيابهم وسلامتهم من الدناءات وقال غيلان بن سلمة الثقفي: [الطويل]
فاني بحمد الله لا ثوب فاجر * لبست كما ولا من غدرة أتقنع.
وليس يمتنع ان تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة / والمجاز على ما
بيناه في أصول الفقه وإذا حملناها على الثياب المعلومة فهي تتناول معنيين: أحدهما:
تقصير الأذيال فإنها إذا أرسلت تدنست وتقصير الذيل أنقى لثوبه وأتقى لربه، المعنى
الثاني: غسلها من النجاسة فهو ظاهر منها صحيح فيها انتهى قال الشيخ أبو الحسن
الشاذلي رضي الله عنه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال يا علي طهر ثيابك من
الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس فقلت وما ثيابي يا رسول الله فقال إن الله
كساك [حلة المعرفة ثم] حلة المحبة ثم حلة التوحيد ثم حلة الايمان ثم حلة
510

الاسلام فمن عرف الله صغر لديه كل شئ ومن أحب الله هان عليه كل شئ ومن
وحد الله لم يشرك به شيئا ومن آمن بالله أمن من كل شئ ومن أسلم لله قل ما يعصيه
وان عصاه اعتذر إليه وإذا اعتذر إليه قبل عذره قال ففهمت حينئذ معنى قوله عز
وجل: (وثيابك فطهر) انتهى من " التنوير " لابن عطاء الله.
(والرجز) يعني الأصنام والأوثان وقال ابن عباس: الرجز السخط يعنى: اهجر
ما يؤدي إليه ويوجبه واختلف في معنى قوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر) فقال ابن عباس
وجماعة: معناه لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه فكأنه من قولهم: من إذا أعطى قال
الضحاك: وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ومباح لامته لكن لا اجر لهم فيه وقال الحسن بن
أبي الحسن معناه ولا تمنن على الله بجدك تستكثر أعمالك ويقع لك بها اعجاب
قال * ع * وهذا من المن الذي هو تعديد اليد وذكرها وقال مجاهد معناه ولا
تضعف تستكثر ما حملناك من أعباء الرسالة وتستكثر من الخير وهذا من قولهم حبل
منين اي: ضعيف.
(ولربك فاصبر) اي لوجه ربك وطلب رضاه فاصبر على اذى الكفار وعلى العبادة
وعن الشهوات وعلى تكاليف النبوة قال ابن زيد وعلى حرب الأحمر والأسود
ولقد حمل أمرا عظيما صلى الله عليه وسلم والناقور: الذي ينفخ فيه وهو الصور قاله ابن عباس
511

وعكرمة وهو فاعول من النقر قال أبو حباب القصاب أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ
(فإذا نقر في الناقور) خر ميتا قال الفجر: قوله تعالى: (فذلك يومئذ يوم عسير)
اي على الكافرين لأنهم يناقشون (غير يسير) اي بل كثير شديد فاما المؤمنون فإنه
عليهم يسير لأنهم لا يناقشون قال ابن عباس ولما قال تعالى: (على الكافرين غير
يسير) دل على أنه يسير على المؤمنين وهذا هو دليل الخطاب ويحتمل أن يكون انما
وصفه تعالى بالعسر لأنه في نفسه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين إلا أنه يكون هول
الكفار فيه أكثر وأشد وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله: (يوم عسير) انتهى
وقوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيدا) الآية لا خلاف بين المفسرين ان هذه
الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي فروي انه كان يلقب الوحيد اي لأنه لا نظيرا
له في ماله وشرفه في بيته فذكر الوحيد في جملة النعم التي أعطي وإن لم يثبت هذا
فقوله تعالى: (خلقت وحيدا) معناه منفردا قليلا ذليلا والمال الممدود قال مجاهد وابن
جبير: هو ألف دينار وقال سفيان بلغني انه أربعة آلاف وقاله قتادة وقيل عشرة
آلاف دينار قال * ع * وهذا مد في العدد وقال عمر بن الخطاب المال الممدود:
الريع المستغل مشاهرة.
(وبنين شهودا) اي حضورا قيل عشرة وقيل ثلاثة عشر قال الثعلبي / أسلم منهم
ثلاثة خالد بن الوليد وهشام وعمارة قالوا فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في
نقصان من ماله وولده حتى هلك انتهى.
512

(ومهدت له تمهيدا) قال سفيان: المعنى بسطت له العيش بسطا.
وقوله تعالى: (كلا) ردع وزجر له على أمنيته و (أرهقه) معناه أكلفه بمشقة
وعسر وصعود عقبة في نار جهنم روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم كلما
وضع عليها شئ من الانسان ذاب ثم يعود والصعود في اللغة: العقبة الشاقة.
وقوله تعالى: مخبرا عن الوليد (إنه فكر وقدر) الآية روى جمهور من المفسرين
ان الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ثم سمع كذلك مرارا حتى كاد ان يقارب
الاسلام وقال والله لقد سمعت من محمد كلاما ما هو من كلام الانس ولا هو من
كلام الجن ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة وان أعلاه لمثمر وان أسفله لمغدق وانه
يعلو وما يعلى فقالت قريش صبأ الوليد والله لتصبأن قريش فقال أبو جهل انا
أكفيكموه فحاجه أبو جهل وجماعة حتى غضب الوليد وقال: تزعمون أن محمدا مجنون
فهل رأيتموه يخنق قط قالوا لا قال تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟
قالوا: لا قال تزعمون أنه كاهن فعل رأيتموه يتكهن قط قالوا لا قال تزعمون أنه
كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب قط قالوا لا وكانوا يسمونه قبل النبوة الأمين
لصدقه فقالت قريش ما عندك فيه فتفكر في نفسه فقال ما أرى فيه شيئا مما ذكرتموه
فقالوا: هو ساحر فقال اما هذا فيشبه / وألفاظ الرواة هنا متقاربة المعاني من رواية
الزهري وغيره.
وقوله تعالى: (فقتل كيف قدر) قال الثعلبي وغيره (قتل) معناه: لعن انتهى.
(وبسر) اي قطب ما بين عينيه واربد وجهه ثم أدبر عن الهدى بعد أن أقبل إليه
وقال: (إن هذا الا سحر يؤثر) أي: يروى أي يرويه محمد عن غيره.
و (سقر) هي الدرك السادس من النار (لا تبقى) على من القي فيها (ولا تذر)
غاية من العذاب الا وصلته إليه.
513

وقوله تعالى: (لواحة للبشر) قال ابن عباس وجمهور الناس معناه مغيرة للبشرات
ومحرقة للجلود مسودة لها فالبشر جمع بشرة وقال الحسن وابن كيسان: (لواحة)
بناء مبالغة من لاح يلوح إذا ظهر فالمعنى انها تظهر للناس وهم البشر من مسيرة خمسمائة
عام وذلك لعظمها وهولها وزفيرها.
وقوله تعالى: (عليها تسعة عشر) لا خلاف بين العلماء انهم خزنة جهنم المحيطون
بأمرها الذين إليهم جماع امر زبانيتها وروي ان قريشا لما سمعت هذا كثر لغطهم فيه
وقالوا ولو كان هذا حقا فان هذا العدد قليل وقال أبو جهل هؤلاء تسعة عشرة وأنتم
الدهم اي: الشجعان أفيعجز عشرة منا عن رجل منهم إلى غير هذا من أقوالهم السخيفة.
وقوله تعالى: (وما جعلنا أصحاب النار الا ملائكة) تبيين لفساد أقوال قريش اي
انا جعلناهم خلقا لا قبل لاحد من الناس بهم وجعلنا عدتهم هذا القدر فتنة للكفار ليقع
منهم من التعاطي والطمع في المبالغة ما وقع وليستيقن أهل الكتاب - التوراة والإنجيل -
ان هذا القرآن من عند الله إذ هم يجدون هذه العدة في كتبهم المنزلة قال هذا المعنى
ابن عباس وغيره وبورود الحقائق من عند الله عز وجل يزداد كل ذي ايمان ايمانا
ويزول الريب عن المصدقين من أهل الكتاب ومن المؤمنين.
وقوله سبحانه: (وليقول الذين في قلوبهم مرض...) الآية نوع من الفتنة لهذا
الصنف المنافق أو الكافر اي حاروا ولم يهتدوا لمقصد الحق فجعل بعضهم يستفهم
بعضا عن مراد الله بهذا المثل استبعادا أن يكون هذا من عند الله قال الحسين بن
الفضل السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق وانما المرض في هذه الآية الاضطراب وضعف
الايمان ثم قال تعالى: (وما يعلم جنود ربك الا هو) إعلاما بان الامر فوق ما يتوهم
514

وان الخبر انما هو عن بعض القدرة لا عن كلها * ت * صوابه أن يقول عن بعض
المقدورات لا عن كلها وهذا هو مراده الا تراه قال في قوله تعالى: (ولا يحيطون بشئ
من علمه) [البقرة: 255] قال يعنى بشئ من معلوماته لان علمه تعالى لا يتجزأ فافهم
راشدا والسماوات كلها عامرة بأنواع من الملائكة كلهم في عبادة متصلة وخشوع دائم لا
فترة في شئ من ذلك ولا دقيقة واحدة قال مجاهد والضمير في قوله: (وما هي)
للنار المذكورة اي يذكر بها البشر فيخافونها أنه فيطيعون الله وقال بعضهم قوله
(وما هي) يراد بها الحال والمخاطبة والنذارة وأقسم تعالى بالقمر وما بعده تنبيها على
النظر في ذلك والفكر المؤدي إلى تعظيمه تعالى وتحصيل معرفته تعالى مالك الكل وقوام
الوجود ونور السماوات والأرض لا اله الا هو العزيز القهار وأدبر الليل معناه ولى
واسفر الصبح أضاء وانتشر ضوءه قال ابن زيد وغيره: الضمير في قوله: (إنها لإحدى
الكبر) لجهنم ويحتمل أن يكون الضمير للنذارة وأمر الآخرة فهو للحال والقصة
* ص * والكبر جمع كبرى وفي * ع * جمع كبيرة ولعله وهم من الناسخ
انتهى.
وقوله سبحانه: (نذيرا للبشر) قال الحسن: لا نذير أدهى من النار وقال ابن
زيد: (نذيرا للبشر) هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: (لمن شاء منكم ان يتقدم أو يتأخر) قال الحسن هو وعيد نحو
قوله: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) [الكهف: 29] ثم قوى سبحانه هذا
المعنى بقوله: (كل نفس بما كسبت رهينة) إذ لزم بهذا القول ان المقصر مرتهن بسوء
عمله وقال الضحاك المعنى: كل نفس حقت عليها كلمة العذاب ولا يرتهن تعالى أحدا
515

من أهل الجنة إن شاء الله.
وقوله تعالى: (إلا أصحاب اليمين) استثناء ظاهره الانفصال تقديره لكن أصحاب
اليمين في جنات.
* ص * (في جنات) اي: هم في جنات فيكون خبر مبتدأ محذوف.
* م * وأعربه أبو البقاء حالا من الضمير في (يتساءلون) انتهى.
قال ابن عباس (أصحاب اليمين) هنا الملائكة وقال الضحاك هم الذين
سبقت لهم من الله الحسنى وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا
بمرتهنين.
* ت * وأسند أبو عمر بن عبد البر عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: (كل
نفس بما كسبت رهينة * الا أصحاب اليمين) قال: أصحاب اليمين أطفال المسلمين
انتهى من " التمهيد ".
وقولهم: (ما سلككم) اي: ما أدخلكم فيحتمل أن يكون من قول أصحاب اليمين
الآدميين أو من قول الملائكة.
وقوله تعالى: (قالوا) يعنى الكفار (لم نك من المصلين...) الآية وفي نفي
الصلاة يدخل الايمان بالله والمعرفة به والخشوع له (ولم نك نطعم المسكين) يشمل
الصدقة فرضا كانت أو نفلا والخوض مع الخائضين عرفه في الباطل والتكذيب بيوم
الدين كفر صراح (حتى أتانا اليقين) يعنى الموت قاله المفسرون.
516

قال * ع * وعندي: ان اليقين صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله
والدار الآخرة وقد تقدم ذكر أحاديث الشفاعة قال الفخر: واحتج أصحابنا بهذه الآية
على أن الكفار يعذبون بترك فروع الشريعة والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول
انتهى.
وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين: (كأنهم حمر مستنفرة) اثبات لجهلهم
لان الحمر من جاهل الحيوان جدا وفي حرف ابن مسعود: " حمر نافرة " قال ابن عباس
وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: القسورة الأسد وقيل غير هذا (بل يريد كل
امرئ منهم) اي: من هؤلاء (ان يؤتى صحفا منشرة) اي يريد كل انسان منهم ان ينزل
عليه كتاب من الله ومنشرة أي منشورة غير مطوية.
وقوله: (كلا) رد على ارادتهم اي: ليس الامر كذلك ثم قال: (بل لا يخافون
الآخرة) المعنى: هذه هي العلة والسبب في اعراضهم فكان جهلهم بالآخرة سبب
امتناعهم من الهدى حتى هلكوا ثم أعاد تعالى الرد والزجر بقوله: (كلا) وأخبر ان هذا
القول والبيان وهذه المحاورة بجملتها (تذكرة) (فمن شاء): ووفقه الله لذلك ذكر
معاده فعمل له ثم أخبر سبحانه ان ذكر الانسان معاده وجريه إلى فلاحه انما هو كله
بمشيئة الله تعالى وليس يكون شئ الا بها وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير " يذكرون "
بالياء من تحت.
وقوله سبحانه: (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) خبر جزم معناه: أن الله عز وجل
517

أهل بصفاته العلى ونعمه التي لا تحصى لان يتقي ويطاع امره ويحذر عصيانه وانه بفضله
وكرمه أهل ان يغفر لعباده إذا اتقوه روى ابن ماجة عن انس " ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه
الآية: (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) فقال قال الله تعالى انا أهل ان اتقى فلا
يجعل معي اله آخر فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن اغفر له " وأخرجه
أبو عيسى الترمذي بمعناه وقال حديث حسن انتهى.
518

تفسير سورة القيامة
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة) هذه قراءة
الجمهور وقرأ ابن كثير: " لا قسم بيوم القيامة ولا قسم " فقيل على قراء الجمهور " لا "
زائدة وقال الفراء " لا " نفى لكلام الكفار وزجر لهم ورد عليهم وجمهور المتأولين
على أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة أقسم سبحانه بيوم القيامة تنبيها منه
على عظمه وهوله قال الحسن: النفس اللوامة هي اللوامة لصاحبها في ترك الطاعة ونحو
ذلك فهي على هذا ممدوحة ولذلك أقسم الله بها وقال ابن عباس وقتادة اللوامة:
هي الفاجرة اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا واعراضها وعلى هذا التأويل
يحسن نفي القسم بها والنفس في الآية اسم جنس.
قال * ع * وكل نفس متوسطة ليست بالمطمئنة ولا بالامارة بالسوء فإنها لوامة
في الطرفين مرة تلوم على ترك الطاعة ومرة تلوم على فوت ما تشتهى فإذا اطمأنت
خلصت وصفت قال الثعلبي وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن دل عليه قوله:
(أيحسب الانسان ألن نجمع عظامه) اي للاحياء والبعث والانسان هنا الكافر المكذب
519

بالبعث انتهى والبنان الأصابع و (نسوي بنانه) معناه نتقنها سوية قاله القتبي
وهذا كله عند البعث وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: المعنى بل نحن قادرون ان
نسوي بنانه اي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير أو كحافر لحمار
لا يمكنه ان يعمل بها شيئا ففي هذا توعد ما والقول الأول اجرى مع رصف
الكلام.
(بل يريد الانسان ليفجر امامه) معناه ان الانسان انما يريد شهواته ومعاصيه
ليمضي فيها ابدا راكبا رأسه ومطيعا أمله ومسوفا توبته قال البخاري: (ليفجر امامه)
يقول: سوف أتوب سوف اعمل انتهى.
قال الفخر: قوله: (ليفجر امامه) فيه قولان:
الأول: ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه فعن ابن جبير:
يقدم الذنب ويؤخر التوبة يقول: سوف أتوب سوف أتوب حتى يأتيه الموت على
شر أحواله وأسوأ أعماله.
القول الثاني: (يفجر امامه) اي: يكذب بما امامه من البعث والحساب لان من
كذب حقا كان مفاجرا والدليل على هذا القول قوله تعالى: (يسأل أيان يوم القيامة) اي
متى يكون ذلك تكذيبا له انتهى.
وسؤال الكفار: (أيان) هو على معنى التكذيب والهزء و (أيان) بمعنى: متى وقرأ
نافع وعاصم بخلاف: " برق البصر " بفتح الراء بمعنى لمع وصار له بريق وحار
عند الموت وقرأ أبو عمرو وغيره بكسرها بمعنى: شخص والمعنى متقارب قال
520

مجاهد: هذا عند الموت وقال الحسن: هذا في يوم القيامة قال أبو عبيدة وجماعة
من اللغويين الخسوف والكسوف بمعنى واحد وقال ابن أبي أويس: الكسوف ذهاب
بعض الضوء والخسوف ذهاب جميعه وروى عروة وسفيان ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا
تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا خسفت " وقرأ ابن مسعود " وجمع بين الشمس
والقمر " واختلف في معنى الجمع بينهما فقال عطاء يجمعان فيقذفان في النار وقيل
في البحر فيصيرا نار الله العظمى وقيل يجمع الضوءان فيذهب بهما قال الثعلبي وقال
علي وابن عباس يجعلان في نور الحجب انتهى.
(يقول الانسان يومئذ أين المفر) اي: أين الفرار (كلا لا وزر) اي: لا ملجأ
و (المستقر) موضع الاستقرار.
وقوله تعالى: (ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وأخر) [اي]: يعلم بكل ما فعل
ويجده محصلا وقال ابن عباس وابن مسعود بما قدم في حياته وما اخر من سنة بعد
مماته.
521

وقوله تعالى: (بل الانسان على نفسه بصيرة) قال ابن عباس وغيره اي للانسان
على نفسه من نفسه بصيرة رقباء يشهدون عليه وهم جوارحه وحفظته ويحتمل أن
يكون المعنى بل الانسان على نفسه شاهد ودليله قوله تعالى: (كفى بنفسك اليوم عليك
حسيبا) [الإسراء: 14] قال الثعلبي قال أبان بن تغلب: البصيرة والبينة والشاهد بمعنى
واحد انتهى ونحوه للهروي قال * ع * والمعنى على هذا التأويل الثاني: ان في
الانسان وفي عقله وفطرته حجة وشاهدا مبصرا على نفسه.
(ولو القي معاذيره) اي: ولو اعتذر عن قبيح أفعاله فهو يعلمها قال الجمهور:
المعاذير هنا جمع معذرة وقال الضحاك والسدي: هي الستور بلغة اليمن يقولون
للستر: المعذار.
وقوله تعالى: (لا تحرك به لسانك) الآية قال كثير من المفسرين وهو في
" صحيح البخاري " عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما
يحرك شفتيه مخافة ان يذهب عنه ما يوحي إليه فنزلت الآية بسبب ذلك واعلمه تعالى
انه يجمعه له في صدره.
وقوله: (وقرآنه) يحتمل ان يريد وقراءته اي: تقرأه أنت يا محمد. وقوله: (فإذا قراناه) أي: قرأه الملك الرسول عنا (فاتبع قرآنه) قال البخاري:
قال ابن عباس (فاتبع) اي: اعمل به وقال البخاري أيضا قوله: (انا علينا جمعه
وقرآنه) اي تأليف بعضه إلى بعض (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) اي: ما جمع فيه فاعمل بما
امرك وانته عما نهاك انتهى.
وقوله تعالى: (ثم إن علينا بيانه) قال قتادة وجماعة: معناه ان نبينه لك وقال
البخاري ان نبينه على لسانك.
522

وقوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة) اي: الدنيا وشهواتها قال الغزالي في
" الاحياء " اعلم أن رأس الخطايا المهلكة هو حب الدنيا ورأس أسباب النجاة هو التجافي
بالقلب عن دار الغرور وقال رحمه الله: اعلم أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله سبحانه
في الآخرة الا بتحصيل محبته والانس به في الدنيا ولا تحصل المحبة الا بالمعرفة ولا
تحصل المعرفة الا بدوام الفكر ولا يحصل الانس الا بالمحبة ودوام الذكر ولا تتيسر
المواظبة على الذكر والفكر الا بانقلاع حب الدنيا من القلب ولا ينقلع ذلك الا بترك لذات
الدنيا وشهواتها ولا يمكن ترك المشتهيات الا بقمع الشهوات ولا تنقمع الشهوات بشئ
كما تنقمع بنار الخوف المحرقة للشهوات انتهى.
وقرأ ابن كثير وغيره " يحبون " و " يذرون " بالياء على ذكر الغائب ولما ذكر
سبحانه الآخرة أخبر بشئ من حال أهلها فقال: (وجوه يومئذ ناضرة) اي: ناعمة
والنضرة: النعمة وجمال البشرة قال الحسن: وحق لها ان تنضر وهي تنظر إلى
خالقها.
وقوله تعالى: (إلى ربها ناظرة) حمل جميع أهل السنة هذه الآية على انها متضمنة
رؤية المؤمنين لله عز وجل بلا تكييف ولا تحديد كما هو معلوم موجود لا يشبه
الموجودات كذلك هو سبحانه مرئي لا يشبه المرئيات في شئ فإنه ليس كمثله شئ لا
اله الا هو وقد تقدم استيعاب الكلام على هذه المسألة وما في ذلك من صحيح
الأحاديث والباسرة: العابسة المغمومة النفوس والبسور: أشد العبوس وانما ذكر تعالى
الوجوه لأنه فيها يظهر ما في النفس من سرور أو غم والمراد أصحاب الوجوه
والفاقرة المصيبة التي تكسر فقار الظهر وقال أبو عبيدة هي من فقرت [البعير] إذا
وسمت أنفه بالنار.
523

وقوله تعالى: (كلا إذا بلغت...) زجر وتذكير أيضا بموطن من مواطن الهول
وهي حالة الموت الذي لا محيد عنه و (بلغت) يريد النفس و (التراقي) جمع ترقوة
وهي عظام أعلى الصدر ولكل أحد ترقوتان لكن جمع من حيث إن النفس المرادة اسم
جنس والتراقي هي موارية له للحلاقيم فالامر كله كناية عن حال الحشرجة ونزع الموت
يسره الله علينا بمنه وجعله لنا راحة من كل شر واختلف في معنى قوله تعالى: (وقيل
من راق) فقال ابن عباس وجماعة: معناه من يرقي ويطب ذلك ويشفي ونحو هذا مما
يتمناه أهل المريض وقال ابن عباس أيضا وسليمان التيمي ومقاتل هذا القول
للملائكة والمعنى: من يرقي بروحه اي يصعد بها إلى السماء أملائكة الرحمة أم
ملائكة العذاب.
(وظن أنه الفراق) اي أيقن وهذا يقين فيما لم يقع بعد ولذلك استعملت فيه
لفظة الظن.
وقوله تعالى: (والتفت الساق بالساق) قال ابن المسيب والحسن: هي حقيقة
والمراد ساقا الميت عند تكفينه اي: لفهما الكفن وقيل: هو التفافهما من شدة
المرض وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: (فلا صدق ولا صلى) الآية: قال جمهور المتأولين هذه الآية كلها
انما نزلت في أبي جهل قال * ع * ثم كادت هذه الآية ان تصرح به في قوله:
524

(يتمطى) فإنها كانت مشيته وقوله: (فلا صدق ولا صلى) تقديره: فلم يصدق ولم
يصل ف‍ " لا " في الآية: نفي لا عاطفة.
* ص * (فلا صدق) فيه دليل على أن " لا " تدخل على الماضي فتنفيه كقول
الراجز: [من الرجز]
ان تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما.
انتهى.
و (صدق) معناه: برسالة الله ودينه وذهب قوم إلى أنه من الصدقة والأول أصوب
و (يتمطى) معناه يمشي المطيطاء وهي مشية بتبختر وهي مأخوذة من المطا وهو
الظهر لأنه يتثنى فيها زاد * ص * وقيل: أصله يتمطط اي: يتمدد في مشيه ومد
منكبيه انتهى.
وقوله: (أولى لك): وعيد.
(فأولى) وعيد ثان وكرر ذلك تأكيدا ومعنى (أولى لك) الازدجار والانتهار
والعرب تستعمل هذه الكلمة زجرا ومنه فأولى لهم طاعة ويروى ان النبي صلى الله عليه وسلم لبب أبا
جهل يوما في البطحاء وقال له " ان الله يقول لك (أولى لك فأولى) فنزل القرآن على
نحوها وفي شعر الخنساء: [المتقارب].
525

هممت بنفسي كل الهموم * فأولى لنفسي أولى لها.
وقوله تعالى: (أيحسب) توبيخ و (سدى) معناه: مهملا لا يؤمر ولا ينهى ثم
قرر تعالى أحوال ابن آدم في بدايته التي إذا تأملت أم ينكر معها جواز البعث من القبور
عاقل والعلقة القطعة من الدم.
(فخلق فسوى) اي: فخلق الله منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة فسواه شخصا
مستقلا و (الزوجين) النوعين ثم وقف تعالى توقيف توبيخ بقوله: (أليس ذلك بقادر
على أن يحيى الموتى) روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: بلى وروي انه
كان يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك بلى " انظر " سنن أبي داود "
526

[تفسير] سورة " الانسان "
قيل مكية وقيل: مدنية
وقال الحسن وعكرمة: منها آية مكية وهي قوله تعالى: (ولا تطع منهم آثما أو
كفورا) والباقي مدني.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (هل أتى على الانسان...) الآية (هل) في كلام العرب قد
تجئ بمعنى قد حكاه سيبويه لكنها لا تخلو من تقرير وبابها المشهور الاستفهام
المحض والتقرير أحيانا قال ابن عباس " هل " بمعنى " قد " والانسان يراد به آدم
وقال أكثر المتأولين: " هل " تقرير الانسان: اسم جنس اي إذا تأمل كل انسان نفسه
علم بأنه قد مر حين من الدهر عظيم لم يكن فيه شيئا مذكورا وهذا هو القوي ان الانسان
اسم جنس وان الآية جعلت عبرة لكل أحد من الناس ليعلم ان الخالق له قادر على
اعادته.
* ص *: (لم يكن شيئا مذكورا) في موضع حال من (الانسان) أو في موضع
صفة ل‍ (حين) والعائد عليه محذوف اي: لم يكن فيه انتهى.
وقوله تعالى: (انا خلقنا الانسان...) الآية الانسان هنا: اسم جنس بلا خلاف
وأمشاج معناه: أخلاط قيل: هو (أمشاج) ماء الرجل بماء المرأة ونقل الفخر ان
527

الأمشاج عليه لفظ مفرد وليس يجمع بدليل انه وقع صفة للمفرد وهو قوله: (نطفة)
انتهى.
(نبتليه) اي: نختبره بالايجاد والكون في الدنيا وهو حال من الضمير في (خلقنا)
كأنه قال: مختبرين له بذلك.
وقوله تعالى: (فجعلناه سميعا بصيرا) عطف جملة نعم على جملة نعم وقيل:
المعنى فلنبتليه جعلناه سميعا بصيرا و (هديناه) يحتمل أن يكون بمعنى أرشدناه
ويحتمل أن يكون بمعنى أريناه وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والايمان
وعبارة الثعلبي (هديناه السبيل) بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر
كقوله: (وهديناه النجدين) [البلد: 10] انتهى.
وقوله تعالى: (إما شاكرا واما كفورا) حالان وقسمتهما (اما) و (الأبرار):
جمع بار قال الحسن هم الذين لا يؤذون الذر ولا يرضون الشر قال قتادة: نعم
قوم يمزج لهم بالكافور ويختم له بالمسك قال الفراء يقال ان في الجنة عينا تسمى
كافورا.
وقوله تعالى: (عينا) قيل: هو بدل من قوله (كافورا) وقيل هو مفعول بقوله:
(يشربون) اي ماء هذه العين من كأس عطرة كالكافور وقيل: نصب (عينا) على
المدح أو بإضمار " أعني ".
قوله تعالى: (يشرب بها) بمنزلة [يشربها] فالباء زائدة قال الثعلبي: قال
الواسطي لما اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة انتهى.
قال * ص * وقيل الباء في (بها) للالصاق والاختلاط اي يشرب بها
عباد الله الخمر كما تقول: شربت الماء بالعسل انتهى.
وقوله تعالى: (يفجرونها) معناه يفتقونها ويقودونها على حيث شاءوا من منازلهم
528

وقصورهم فهي تجري عند كل أحد منهم ورد بهذا الأثر وقيل: عين في دار النبي صلى الله عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين قال * ع * وهذا قول حسن ثم وصف تعالى حال
الأبرار فقال: (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) اي: ممتدا متصلا شائعا.
وقوله تعالى: (على حبه) يحتمل ان يعود الضمير على الطعام وهو قول ابن
عباس ويحتمل ان يعود على الله تعالى قاله أبو سليمان الداراني.
وقوله: (وأسيرا) قال الحسن: ما كان أسراهم الا مشركين لان في كل ذي كبد
رطبة اجرا.
* ت * وفي " العتبية " سئل مالك عن الأسير في هذه الآية أمسلم هو أم مشرك
فقال: بل مشرك وكان ببدر أسارى فأنزلت فيهم هذه الآية قال ابن رشد والأظهر
حمل الآية في كل أسير مسلما كان أو كافرا انتهى يعنى: وان كان سبب نزولها ما ذكر
فهي عامة في كل أسير إلى يوم القيامة وقال أبو سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم
(مسكينا) قال فقيرا (ويتيما) وقال: لا أب له (وأسيرا) قال: المملوك
والمسجون وأسند القشيري في رسالته عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكل شئ مفتاح ومفتاح
الجنة حب المساكين والفقراء الصبر هم جلساء الله يوم القيامة " انتهى.
وروى الترمذي عن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا
واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة فقالت عائشة لم يا رسول الله؟! قال إنهم
يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا يا عائشة لا تردى المسكين ولو بشق
تمرة يا عائشة أحيي المساكين وقربيهم فان الله يقربك يوم القيامة " قال أبو عيسى
هذا حديث غريب انتهى.
529

وقوله: (انما نطعمكم...) الآية قال مجاهد وابن جبير: ما تكلموا به ولكنه
علمه الله من قلوبهم فاثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب ووصف اليوم بعبوس
تجوز والقمطرير هو في معنى العبوس والاربداد تقول اقمطر الرجل إذا جمع ما بين
عينيه غضبا وقال ابن عباس يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل ما بين عينيه كالقطران
وعبر ابن عباس عن القمطرير بالطويل وعبر عنه غيره بالشديد وذلك كله قريب في
المعنى والنضرة: جمال البشرة وذلك لا يكون الا مع فرح النفس وقرة العين.
وقوله: (بما صبروا) عام في الصبر عن الشهوات وعلى الطاعات والشدائد وفي
هذا يدخل كل ما خصص المفسرون من صوم وفقر ونحوه.
وقوله سبحانه: (لا يرون فيها شمسا...) الآية عبارة عن اعتدال هوائها وذهاب
ضرري الحر والقر والزمهرير: أشد البرد والقطوف جمع قطف وهو العنقود من النخل
والعنب ونحوه والقوارير: الزجاج.
وقوله تعالى: (من فضة) يقتضي انها من زجاج ومن فضة وذلك متمكن لكونه
من زجاج في شفوفه ومن فضة في جوهره وكذلك فضة الجنة شفافة [قال القرطبي في
" تذكرته ": وذلك أن لكل قوم من تراب أرضهم قواريرا وان تراب الجنة فضة فهي قوارير
من فضة قاله ابن عباس انتهى].
وقوله تعالى: (قدروها تقديرا) اي: على قدر ريهم قاله مجاهد أو على قدر
الأكف قاله الربيع وضمير (قدروها) يعود اما على الملائكة أو على الطائفين أو
على المنعمين.
531

وقوله سبحانه: (عينا فيها تسمى سلسبيلا) " عينا " بدل من " كأس " أو من " عين " على
القول الثاني و (سلسبيلا) قيل: هو اسم بمعنى / السلس المنقاد الجرية وقال مجاهد:
حديدة الجرية وقال آخرون: (سلسبيلا) صفة لقوله: (عينا) و (تسمى) بمعنى
توصف وتشهر وكونه مصروفا مما يؤكد كونه صفة للعين لا اسما.
وقوله تعالى: (حسبتهم لؤلؤا منثورا) قال الامام الفخر: وفي كيفية التشبيه
وجوه.
أحدها: انهم شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم
في أنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور ولو كانوا صفا لشبهوا باللؤلؤ المنظوم الا ترى أنه
تعالى قال: (ويطوف عليهم ولدان) فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين.
الثاني: ان هذا من التشبيه العجيب لان اللؤلؤ إذا كان متفرقا يكون أحسن في
المنظر لوقوع شعاع بعضه على بعض.
الثالث: انهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأجمل انتهى.
وقوله تعالى: (وإذا رأيت ثم) قال الفراء التقدير وإذا رأيت ما ثم رأيت نعيما
فحذفت " ما " وكررت الرؤية مبالغة (وملكا كبيرا): وهو ان أدناهم منزلة ينظر في ملكه
مسيرة الف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه وخرجه الترمذي وفي الترمذي أيضا من
رواية أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون الف
خادم واثنتان وسبعون زوجة وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى
صنعاء " انتهى وقال سفيان: الملك الكبير هو استيذان الملائكة وتسليمهم عليهم
532

وتعظيمهم لهم قال الثعلبي: قال محمد بن علي الترمذي: يعنى ملك التكوين إذا أرادوا
شيئا كان انتهى.
* ت * وجميع ما ذكر داخل في الملك / الكبير وقرأ نافع وحمزة: " عاليهم "
وقرأ الباقون " عاليهم " بالنصب والمعنى: فوقهم قال الثعلبي وتفسير ابن عباس
قال اما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها انتهى وقرأ حمزة والكسائي:
" خضر واستبرق " بالخفض فيهما وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (انا نحن نزلنا عليك القرآن...) الآية تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية
لنفسه على اذى قريش والآثم هنا هو الكفور واللفظ أيضا يقتضي نهي الامام عن طاعة
آثم من العصاة أو كفور بالله ثم امره تعالى بذكر ربه دأبا (بكرة وأصيلا) (ومن الليل):
بالسجود والتسبيح الذي هو الصلاة ويحتمل ان يريد قول: سبحان الله قال ابن زيد
وغيره: كان هذا فرضا ثم نسخ وقال آخرون: هو محكم على وجه الندب وقال ابن
العربي في " احكامه " اما قوله تعالى: (وسبحه ليلا طويلا) فإنه عبارة عن قيام الليل وقد
كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله كما تقدم وقد يحتمل أن يكون هذا خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد
الجميع ثم نسخ عنا وبقي عليه صلى الله عليه وسلم والأول أظهر انتهى.
533

وقوله: (ان هؤلاء) يعني كفار قريش (يحبون العاجلة) يعنى: الدنيا واعلم أن
حب الدنيا رأس كل خطيئة وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " أزهد في الدنيا يحبك الله
وازهد فيما عند الناس يحبك الناس " رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنة قال ابن
الفاكهاني: قال القاضي أبو الوليد ابن رشد واما الباعث على الزهد فخمسة أشياء
أحدها: انها فانية شاغلة للقلوب عن التفكر في امر الله تعالى.
والثاني: انها تنقص عند الله درجات من ركن إليها.
والثالث: ان تركها قربة من الله تعالى وعلو مرتبة عنده في درجات الآخرة.
والرابع: طول الحبس والوقوف في القيامة للحساب والسؤال عن شكر النعيم.
والخامس: رضوان الله تعالى والأمن سخطه وهو أكبرها قال الله عز وجل:
(ورضوان من الله أكبر) [التوبة: 72] قال ابن الفاكهاني ولو لم يكن في الزهد في الدنيا
الا هذه الخصلة التي هي رضوان الله تعالى لكان ذلك كافيا فنعوذ بالله من إيثار الدنيا
على ذلك وقد قيل من سمي باسم الزهد فقد سمي بألف اسم ممدوح هذا مع ما
للزاهدين من راحة القلب والبدن في الدنيا والآخرة فالزهاد هم الملوك في الحقيقة وهم
العقلاء لإيثارهم الباقي على الفاني وقد قال الشافعية لو أوصي لأعقل الناس صرف إلى
الزهاد انتهى من " شرح الأربعين حديثا " ولفظ أبي الحسن الماوردي وقد قيل: العاقل
من عقل من الله امره ونهيه حتى قال أصحاب الشافعي فيمن أوصى بثلث ماله: لأعقل
الناس أنه يكون مصروفا للزهاد لأنهم انقادوا للعقل ولم يغتروا بالأمل انتهى والأسر
الخلقة واتساق الأعضاء والمفاصل وعبارة البخاري: (أسرهم) شدة الخلق وكل شئ
شددته من قتب أو غبيط فهو مأسور والغبيط شئ يركبه النساء شبه المحفة انتهى قال
* ع * ومن اللفظة: الأسار وهو القيد الذي يشد به الأسير ثم توعدهم سبحانه
بالتبديل وفى الوعيد بالتبديل احتجاج على منكري البعث اي من هذه قدرته في الايجاد
والتبديل فكيف تتعذر عليه الإعادة؟!.
وقال الثعلبي: (بدلنا أمثالهم تبديلا) قال ابن عباس: يقول أهلكناهم وجئنا
بأطوع في الله منهم انتهى.
534

وقوله تعالى: (ان هذه تذكرة) القول فيها كالتي في سورة المزمل.
وقوله سبحانه: (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) كلام واضح لا يفتقر إلى تفسير
جعلنا الله ممن اهتدى بأنواره وعمت عليه بركته في أفعاله وأقواله قال الباجي قال
بعض أهل داود الطائي: قلت له يوما: انك قد عرفت فأوصني قال فدمعت عيناه ثم
قال: يا أخي انما الليل والنهار مراحل يرحلها الناس مرحلة مرحلة حتى تنتهي بهم إلى
اخر سفرهم فان استطعت ان تقدم من أول مرحلة زادا لما بين يديك فافعل فان انقطاع
السفر قريب والامر أعجل من ذلك فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من امرك فكان
بالأمر قد بغتك ثم قام وتركني انتهى من " سنن الصالحين ".
وقوله تعالى: (وما تشاءون الا ان يشاء الله): نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد
المعاني في نفوسهم ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب وقرأ عبد الله: " وما
تشاءون الا ما شاء الله ".
وقوله تعالى: (عليما حكيما) معناه: يعلم ما ينبغي ان ييسر عبده إليه وفي ذلك
حكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه.
535

تفسير سورة " المرسلات "
وهي مكية في قول الجمهور
وقيل: فيها من المدني قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) قال ابن
مسعود: نزلت هذه السورة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بحراء.. الحديث.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (والمرسلات عرفا) يعنى: الرياح يتبع بعضها بعضا قاله ابن عباس
وابن مسعود ومجاهد وقتادة وقيل: المرسلات الملائكة وقيل: جماعات
الأنبياء و (عرفا) معناه إفضالا سنة من الله تعالى ويحتمل ان يريد بقوله: (عرفا) اي
متتابعة ويحتمل ان يريد / بالأمر المعروف ويحتمل أن يكون (عرفا) بمعنى
والمرسلات: الرياح التي يعرفها الناس ويعهدونها، ثم عقب بذكر الصنف الضار منها
وهي العاصفات الشديدة القاصفة للشجر وغيره واختلف في قوله: (والناشرات) فقال
ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة هي الرياح تنشر رحمة الله ومطره وقيل:
الملائكة وقيل غير هذا والفارقات قال ابن عباس وغيره: هي الملائكة تفرق بين الحق
536

والباطل والحلال والحرام وقيل: هي آيات القرآن واما الملقيات ذكرا فهي في قول
الجمهور الملائكة وقال آخرون: هي الرسل والذكر الكتب المنزلة والشرائع
ومضمناتها والمعنى: ان الذكر يلقى باعذار وانذار.
وقوله تعالى: (انما توعدون لواقع) هو الجواب الذي وقع عليه القسم والإشارة
إلى البعث وأحوال القيامة والطمس محو الأثر فطمس النجوم: ذهاب ضوءها وفرج
السماء هو بانفطارها وانشقاقها.
(وإذا الرسل اقتت) اي: جمعت لميقات يوم معلوم وقرأ أبو عمرو وحده:
" وقتت " والواو هي الأصل لأنها من الوقت والهمزة بدل قال الفراء كل واو انضمت
وكانت ضمتها لازمة جاز ان تبدل منها همزة انتهى.
وقوله تعالى: (لأي يوم أجلت) تعجيب وتوقيف على عظم ذلك اليوم وهوله ثم
فسر ذلك بقوله: (ليوم الفصل) يعنى بين الخلق في منازعتهم وحسابهم ومنازلهم من
جنة أو نار ومن هذه الآية انتزع القضاة الآجال في الحكومات ليقع فصل القضاء عند
تمامها ثم عظم تعالى يوم الفصل بقوله: (وما ادراك ما يوم الفصل) على نحو قوله
(وما ادراك ما الحاقة) [الحاقة: 3] وغير ذلك ثم أثبت الويل للمكذبين والويل: هو
الحرب والحزن على نوائب تحدث بالمرء ويروى انه واد في جهنم.
537

وقوله عز وجل: (ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين...) الآية قرأ
الجمهور: " نتبعهم " بضم العين على استيناف الخبر وروي عن أبي عمرو " نتبعهم "
بجزم العين عطفا على " نهلك " وهي قراءة الأعرج فمن قرأ الأولى جعل الأولين الأمم
التي تقدمت قريشا بأجمعها ثم أخبر انه يتبع الآخرين من قريش وغيرهم سنن أولئك إذا
كفروا وسلكوا سبيلهم ومن قرأ الثانية جعل الأولين قوم نوح وإبراهيم ومن كان معهم
والآخرين قوم فرعون وكل من تأخر وقرب من مدة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: (كذلك نفعل
بالمجرمين) اي: في المستقبل فيدخل هنا قريش وغيرها واما تكرار قوله تعالى: (ويل
يومئذ للمكذبين) في هذه السورة فقيل: ذلك لمعنى التأكيد فقط وقيل بل في كل آية
منها ما يقتضى التصديق فجاء الوعيد على التكذيب بذلك الذي في الآية والماء المهين:
معناه الضعيف والقرار المكين: الرحم وبطن المرأة والقدر المعلوم: هو وقت الولادة
[ومعناه] معلوم عند الله وقرأ نافع والكسائي: " فقدرنا " بتشديد الدال والباقون
بتخفيفها وهما بمعنى من القدرة والقدر ومن التقدير والتوقيت.
* ت * وفي كلام * ع * تلفيف وقال غيره: فقدرنا بالتشديد من التقدير
وبالتخفيف من القدرة وهو حسن.
وقوله: (القادرون) يرجح قراءة الجماعة الا ان ابن مسعود روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه
فسر " القادرون " بالمقدرين والكفات: الستر والوعاء الجامع للشئ باجماع تقول: كفت
الرجل شعره إذا جمعه بخرقة والأرض تكفت الاحياء على ظهرها وتكفت الأموات في
بطنها وخرج الشعبي إلى جنازة فنظر إلى الجبانة فقال: هذه كفات الموتى ثم نظر إلى
البيوت فقال وهذه كفات الاحياء.
قال * ع * ولما كان القبر كفاتا كالبيت قطع من سرق منه والرواسي:
الجبال والشوامخ ولم المرتفعة والفرات الصافي العذب والضمير في قوله: (انطلقوا)
538

هو للمكذبين الذين لهم الويل ثم بين المنطلق إليه قال عطاء: الظل الذي له ثلاث شعب
وهو دخان جهنم وقال ابن عباس: هذه المخاطبة تقال يومئذ لعبدة الصليب إذا تبع
كل أحد ما كان يعبد فيكون المؤمنون في ظل الله ولا ظل الا ظله ويقال لعبدة
الصليب انطلقوا إلى ظل معبودكم وهو الصليب له ثلاث شعب ثم نفى تعالى عنه
محاسن الظل والضمير في (إنها) لجهنم (ترمى بشرر كالقصر) اي مثل القصور من
البنيان قاله ابن عباس وجماعة من المفسرين وقال ابن عباس أيضا: القصر خشب كنا
في الجاهلية ندخره للشتاء وقرأ ابن عباس: " كالقصر " بفتح الصاد جمع قصرة
وهي أعناق النخل والإبل وقال ابن عباس جذور النخل واختلف في الجمالات:
فقال جمهور من المفسرين: هي جمع جمال كرجال ورجالات وقال آخرون: أراد
بالصفر السود وقال جمهور الناس بل الصفر الفاقعة لأنها أشبه بلون الشرر وقال ابن
عباس: الجمالات: حبال السفن وهي الحبال العظام إذا جمعت مستديرة بعضها إلى
بعض وقرأ ابن عباس: " جمالة " بضم الجيم من الجملة لا من الجمل ثم
539

م خاطب تعالى نبيه - عليه السلام - بقوله) (هذا يوم لا ينطقون...) الآية وهذا في
موطن خاص إذ يوم القيامة هو مواطن.
وقوله تعالى: (هذا يوم الفصل جمعناكم...) مخاطبة للكفار يومئذ ثم وقفهم
بقوله: (فإن كان لكم كيد فكيدون) اي ان كان لكم حيلة أو مكيدة تنجيكم فافعلوها
ثم ذكر سبحانه حالة المتقين وما أعد لهم والظلال في الجنة: عبارة عن تكاثف الأشجار
وجودة المباني وإلا فلا شمس تؤذي هناك حتى يكون ظل يجير من حرها.
وقوله تعالى: (كلوا وتمتعوا) استيناف خطاب لقريش على معنى: قل لهم
يا محمد وهذه صيغة امر معناها التهديد والوعيد ومن جعل هذه الآية مدنية قال هي في
المنافقين.
وقوله تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) قال قتادة والجمهور هذه حال
كفار قريش في الدنيا يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجيبون وذكر الركوع عبارة عن جميع
الصلاة وقيل: هي حكاية حال المنافقين في الآخرة يوم يدعون إلى السجود فلا
يستطيعون على ما تقدم قاله ابن عباس وغيره.
وقوله تعالى: (فبأي حديث بعده يؤمنون) يؤيد ان الآية كلها في قريش والمراد
بالحديث هنا القرآن وروي عن يعقوب انه قرأ: " تؤمنون " بالتاء من فوق على
المواجهة ورويت عن ابن عامر.
540

تفسير سورة النبأ
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (عم يتساءلون) أصل " عم ": " عن ما " ثم أدغمت النون بعد قلبها
[في الميم لاشتراكها في الغنة] فبقي " عما " في الخبر وفي الاستفهام ثم حذفوا الألف في
الاستفهام فرقا بينه وبين الخبر ثم من العرب من يخفف الميم فيقول: " عم " وهذا
الاستفهام ب‍ " عم " استفهام توقيف وتعجيب و (النبأ العظيم) قال ابن عباس وقتادة: هو
الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: هو القرآن خاصة وقال قتادة أيضا:
هو البعث من القبور والضمير في: (يتساءلون) لكفار قريش ومن نحا نحوهم وأكثر
النحاة ان قوله: (عن النبأ العظيم) متعلق ب‍ (يتساءلون) وقال الزجاج الكلام تام في
قوله: (عم يتساءلون) ثم كان مقتضى القول / ان يجيب مجيب فيقول: يتساءلون عن النبأ
العظيم وله أمثلة في القرآن اقتضاها إيجاز القرآن وبلاغته واختلافهم هو شك بعض
وتكذيب بعض وقولهم: سحر وكهانة إلى غير ذلك من باطلهم.
وقوله تعالى: (كلا سيعلمون رد على الكفار في تكذيبهم ووعيد لهم في
المستقبل وكرر عليهم الزجر والوعيد تأكيدا والمعنى: سيعلمون عاقبة تكذيبهم ثم
وقفهم تعالى ودلهم على آياته وغرائب مخلوقاته وقدرته التي توجب للناظر فيها الاقرار
بالبعث والايمان بالله تعالى * ت * وفي ضمن ذلك تعديد نعمه سبحانه التي يجب
541

شكرها والمهاد: الفراش الممهد وشبه الجبال بالأوتاد لأنها تمنع الأرض ان تميد بهم.
(وخلقناكم أزواجا) اي: أنواعا والسبات السكون وسبت الرجل: معناه
استراح وروينا في " سنن أبي داود " عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مسلم
يبيت على ذكر [الله] طاهرا فيتعار من الليل فيسأل الله تعالى خيرا من أمور الدنيا والآخرة
الا أعطاه الله إياه " وروى أبو داود عن بعض آل أم سلمة قال كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم نحوا
مما يوضع الانسان في قبره وكان المسجد عند رأسه انتهى و (لباسا) مصدر وكان
الليل كذلك من حيث يغشى الاشخاص فهي تلبسه وتتدرعه و (النهار معاشا) على
حذف مضاف أو على النسب والسبع الشداد السماوات والسراج: الشمس والوهاج:
الحار المضطرم عند الاتقاد المتعالى اللهب قال ابن عباس وغيره: (المعصرات) السحائب
القاطرة لأنه وهو مأخوذ من العصر لان السحاب ينعصر فيخرج منه الماء وهذا قول
الجمهور والثجاج: السريع الاندفاع كما يندفع الدم من عروق الذبيحة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم
وقد قيل له ما أفضل الحج؟ فقال " العج والثج " أراد التضرع إلى الله تعالى بالدعاء
542

الجهير وذبح الهدي و (ألفافا) اي: ملتفة الأغصان والأوراق و (يوم الفصل) هو يوم
القيامة والأفواج الجماعات يتلو بعضها بعضا و " فتحت السماء " بتشديد التاء قراءة نافع
وأبي عمرو وابن كثير وابن عامر والباقون دون تشديد.
وقوله تعالى: (فكانت أبوابا) قيل معناه تتشقق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في
الجدران وقيل إنها تتقطع السماء قطعا صغارا حتى تكون كألواح الأبواب والقول
الأول أحسن وقد قال بعض أهل العلم تنفتح في السماء أبواب للملائكة من حيث
ينزلون ويصعدون.
وقوله تعالى: (فكانت سرابا) عبارة عن تلاشيها بعد كونها هباء منبثا
و (مرصادا): موضع الرصد وقيل: (مرصادا) بمعنى راصد والأحقاب جمع حقب
وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة وقال ابن عباس وابن عمر الحقب ثمانون
سنة وقال أبو امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه ثلاثون الف سنة وقد أكثر الناس في هذا
واللازم ان الله تعالى أخبر عن الكفار انهم يلبثون أحقابا كلما مر حقب جاء غيره إلى غير
نهاية نجانا الله من سخطه قال الحسن: ليس للأحقاب يكون عدة الا الخلود في النار.
وقوله سبحانه: (لا يذوقون فيها بردا...) الآية قال الجمهور البرد في الآية مس
الهواء البارد اي: لا يمسهم منه ما يستلذ وقال أبو عبيدة وغيره البرد في الآية النوم
543

والعرب تسميه / بذلك لأنه يبرد سورة العطش وقال ابن عباس البرد الشراب البارد
المستلذ وقال قتادة وجماعة الغساق: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد
ونحوه.
وقوله تعالى: (وفاقا) معناه لأعمالهم وكفرهم و (لا يرجون) قال أبو عبيدة وغيره
معناه: لا يخافون وقال غيره الرجاء هنا على بابه و (كذابا) مصدر لغة فصيحة
يمانية وعن ابن عمر قال: ما نزلت في أهل النار آية أشد من قوله تعالى: (فذوقوا فلن
نزيدكم الا عذابا) ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والحدائق هي البساتين عليها حلق
وحظائر وجدرات في البخاري (وكواعب) اي: نواهد انتهى والدهاق: المترعة
فيما قال الجمهور وقيل: الصافية وقال مجاهد متتابعة وعبارة البخاري وقال ابن
عباس: (دهاقا) ممتلئة انتهى و (كذابا) مصدر وهو الكذب.
وقوله: (عطاء حسابا) اي: كافيا قاله الجمهور من قولهم أحسبني هذا الامر
اي: كفاني ومنه حسبي الله وقال مجاهد: (حسابا) معناه: بتقسيط فالحساب على
هذا بموازنة اعمال القوم إذ منهم المكثر من الأعمال والمقل ولكل بحسب عمله.
وقوله تعالى: (لا يملكون) الضمير للكفار اي لا يملكون من أفضاله وإجماله
سبحانه ان يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها وهذا أيضا في موطن خاص.
544

وقوله تعالى: (يوم يقوم الروح) اختلف في الروح المذكور هنا فقال الشعبي
والضحاك هو جبريل عليه السلام وقال ابن مسعود هو ملك عظيم أكبر الملائكة
خلقة يسمى الروح وقال ابن زيد هو القرآن وقال مجاهد: الروح خلق على صورة
بني آدم يأكلون ويشربون وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " الروح خلق غير الملائكة
هم حفظة للملائكة كما الملائكة حفظة لنا " وقيل الروح اسم جنس لأرواح بني آدم
والمعنى: يوم تقوم الأرواح في أجسادها اثر البعث ويكون الجميع من الانس والملائكة
صفا ولا يتكلم أحد منهم هيبة وفزعا الا من اذن له الرحمن من ملك أو نبي وكان اهلا أن
يقول صوابا في ذلك الموطن وقال البخاري: (صوابا): حقا في الدنيا وعمل به
انتهى وفي قوله: (فمن شاء اتخذ إلى ربه مأبا) وعد ووعيد وتحريض والعذاب
القريب هو عذاب الآخرة إذ كل آت قريب وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر ان
الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول لها بعد ذلك
كوني ترابا فيعود جميعها ترابا فعند ذلك يقول الكافر: (يا ليتني كنت ترابا)
545

* قلت *: واعلم رحمك الله انى لم أقف على حديث صحيح في عودها ترابا وقد نقل
الشيخ [أبو العباس القسطلاني عن] الشيخ أبى الحكم بن أبي الرجال انكار هذا القول
وقال ما نفث روح الحياة في شئ ففني بعد وجوده قد نقل الفخر هنا عن قوم بقاءها
وان هذه الحيوانات إذا انتهت مدة اعراضها جعل الله كل ما كان منها حسن الصورة ثوابا
لأهل الجنة وما كان قبيح الصورة عقابا لأهل النار انتهى والمعول عليه في هذا: النقل
فان صح فيه شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب اعتقاده وصير إليه وإلا فلا مدخل للعقل هنا
والله أعلم.
546

تفسير سورة " النازعات "
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: (والنازعات غرقا) قال ابن عباس وابن مسعود: (النازعات):
الملائكة تنزع نفوس بني آدم و (غرقا) على هذا لقول اما أن يكون مصدرا بمعنى
الإغراق والمبالغة في الفعل واما أن يكون كما قال علي وابن عباس تغرق نفوس الكفرة
في نار جهنم وقيل غير هذا واختلف في (الناشطات) فقال ابن عباس ومجاهد: هي
الملائكة تنشط النفوس عند الموت اي: تحلها كحل العقال وتنشط بأمر الله إلى حيث
شاء وقال ابن عباس أيضا الناشطات النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج
* ت * زاد الثعلبي عنه وذلك أنه ليس مؤمن يحضره الموت الا عرضت عليه الجنة
قبل أن يموت فيرى فيها أشباها من أهله وأزواجه من الحور العين فهم يدعونه إليها فنفسه
إليهم نشيطة ان تخرج فتأتيهم انتهى وقيل غير هذا واختلف في (السابحات) هنا فقيل
هي النجوم وقيل: هي الملائكة لأنها تتصرف في الآفاق بأمر الله وقيل هي الخيل
وقيل: هي السفن وقيل: هي الحيتان ودواب البحر والله أعلم واختلف في
547

(السابقات) فقيل هي الملائكة وقيل: الرياح وقيل: الخيل وقيل: النجوم
وقيل المنايا تسبق الآمال واما (المدبرات) فهي الملائكة قولا واحدا فيما علمت تدبر
الأمور التي سخرها الله لها وصرفها فيها كالرياح والسحاب وغير ذلك و (الراجفة)
النفخة الأولى و (الرادفة) النفخة الأخيرة وقال ابن زيد: (الراجفة): الموت
و (الرادفة): الساعة وفي " جامع الترمذي " عن أبي بن كعب قال: " كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله، اذكروا الله
جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه [جاء الموت بما فيه] الحديث
قال أبو عيسى هذا حديث حسن انتهى وقد أتى به * ع * هنا وقال: إذا ذهب ربع
الليل والصواب ما تقدم ثم أخبر تعالى عن قلوب تجف [في] ذلك اليوم اي ترتعد
خوفا وفرقا من العذاب واختلف في جواب القسم: أين هو فقال الزجاج والفراء هو
محذوف دل عليه الظاهر تقديره لتبعثن ونحوه وقال آخرون هو موجود في جملة قوله
تعالى: (يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة) كأنه قال لترجفن قلوب
قوم يوم كذا.
وقوله تعالى: (يقولون أئنا لمردودون في الحافرة) حكاية حالهم في الدنيا
والمعنى: هم الذين يقولون و (الحافرة): قال مجاهد والخليل: هي الأرض حافرة
بمعنى محفورة والمراد: القبور والمعنى أئنا لمردودون احياء في قبورنا وقيل غير
548

هذا و (نخرة) معناه بالية وقرأ حمزة " ناخرة " بألف والناخرة المصوتة بالريح
المجوفة وحكي عن أبي عبيدة وغيره: أن الناخرة والنخرة بمعنى واحد وقولهم:
(تلك إذا كرة خاسرة) اي: إذ هي إلى النار لتكذيبهم بالبعث وقال الحسن: (خاسرة)
معناه عندهم كاذبة اي: ليست بكائنة ثم أخبر تعالى عن حال القيامة فقال: " انما هي
زجرة واحدة " اي: نفخة في الصور (فإذا هم بالساهرة) وهي ارض المحشر.
وقوله: (هل لك إلى أن تزكى) استدعاء حسن والتزكي: التطهر من النقائص
والتلبس بالفضائل ثم فسر له موسى التزكي الذي دعاه إليه بقوله: (وأهديك إلى ربك
فتخشى) والعلم تابع للهدى والخشية تابعة للعلم (انما يخشى الله من عباده العلماء)
[فاطر: 28] (والآية الكبرى) العصا واليد قاله مجاهد وغيره: و (أدبر) كناية عن
اعراضه وقيل: حقيقة قام موليا عن مجالسة موسى (فحشر) اي: جمع أهل مملكته
وقول فرعون: (انا ربكم الأعلى) نهاية في السخافة والمخرقة قال ابن زيد (نكال
الآخرة) اي الدار الآخرة (والأولى) يعني الدنيا اخذه الله بعذاب جهنم وبالغرق
وقيل غير هذا ثم وقفهم سبحانه مخاطبة منه تعالى للعالم والمقصد الكفار فقال
(أأنتم أشد خلقا...) الآية والسمك الارتفاع الثعلبي والمعنى أأنتم أيها المنكرون
للبعث أشد خلقا أم السماء أشد خلقا ثم بين كيف خلقها اي فالذي قدر على خلقها
قادر على إحيائكم بعد الموت نظيره: (أو ليس الذي خلق السماوات والأرض) [يس: 81] الآية
انتهى و (أغطش) معناه أظلم.
549

وقوله تعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها) متوجه على أن الله خلق الأرض ولم
يدحها ثم استوى إلى السماء وهي دخان فخلقها وبناها ثم دحا الأرض بعد ذلك
ودحوها بسطها وباقي الآية بين و (الطامة الكبرى) هي يوم القيامة قاله ابن عباس
وغيره.
(فأما من طغى) اي تجاوز الحد (وآثر الحياة الدنيا) على الآخرة لتكذيبه
[بالآخرة] و (مقام ربه) هو يوم القيامة وانما المراد مقامه بين يديه و (الهوى) هو
شهوات النفس وما جرى مجراها المذمومة.
وقوله تعالى: (يسألونك عن الساعة) يعنى: قريشا قال البخاري عن غيره: (أيان
مرساها) متى منتهاها ومرسي السفينة حيث تنتهي انتهى ثم قال تعالى لنبيه على
جهة التوقيف (فيم أنت من ذكراها) اي من ذكر تحديدها ووقتها اي لست من ذلك
في شئ انما أنت منذر وباقي الآية بين قال الفخر قوله تعالى: (كأنهم يوم يرونها
لم يلبثوا الا عشية أو ضحاها) تفسير هذه الآية هو كما ذكر في قوله: (كأنهم يوم يرون
ما يوعدون لم يلبثوا الا ساعة من نهار) [الأحقاف: 35] والمعنى ان ما أنكروه سيرونه
حتى كأنهم كانوا ابدا فيه وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا الا ساعة من نهار يريد لم يلبثوا الا
عيشة أو ضحى يومها انتهى.
550

تفسير سورة " عبس "
وهي مكية باجماع
الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (عبس وتولى * ان جاءه الأعمى) سببها: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو
بعض صناديد قريش ويقرأ عليه القرآن ويقول له هل ترى بما أقول بأسا فكان ذلك
الرجل يقول لا والدمى يعنى الأصنام إذ جاء ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله
استدنني وعلمني مما علمك الله فكان [في] ذلك كله قطع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل
فلما شغب عليه ابن أم مكتوم عبس صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه فنزلت الآية قال سفيان الثوري:
فكان بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم قال مرحبا بمن عاتبني فيه ربي عز وجل وبسط
له رداءه واستخلفه على المدنية مرتين * ت * والكافر المشار إليه في الآية هو:
الوليد بن المغيرة قاله ابن إسحاق انتهى ثم اكد تعالى عتب نبيه بقوله (اما من
استغنى) اي بماله (فأنت له تصدى) اي تتعرض.
وقوله: (وهو يخشى) اي: يخشى الله (فأنت عنه تلهى) اي تشتغل تقول
لهيت عن الشئ ألهى إذا اشتغلت عنه وليس من اللهو وهذه الآية السبب فيها هذا ثم
هي بعد تتناول من شاركهم في هذه الأوصاف فحملة الشرع والعلم مخاطبون بتقريب
الضعيف من أهل الخير وتقديمه على الشريف العاري من الخير مثل ما خوطب به
النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة قال عياض وليس في قوله تعالى (عبس و تولى) الآية ما
يقتضي اثبات ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم أو انه خالف امر ربه سبحانه وانما في الآية الاعلام بحال
551

الرجلين وتوهين امر الكافر والإشارة إلى الاعراض عنه انتهى قال السهيلي وانظر
كيف نزلت الآية بلفظ الاخبار عن الغائب فقال: (عبس وتولى) ولم يقل عبست
وتوليت وهذا يشبه حال العاتب المعرض ثم اقبل عليه بمواجهة الخطاب فقال: (وما
يدريك لعله يزكى) الآية علما منه سبحانه انه لم يقصد بالاعراض عن ابن أم مكتوم الا
الرغبة في الخير ودخول ذلك المشرك في الاسلام إذ كان مثله يسلم باسلامه بشر كثير
فكلم نبيه حين ابتدأ الكلام بما يشبه كلام المعرض عنه العاتب له ثم واجهه بالخطاب
تأنيسا له - عليه السلام - انتهى ثم قال تعالى (كلا) يا محمد ليس الامر كما فعلت
ان هذه السورة أو القراءة أو المعاتبة تذكرة وعبارة الثعلبي: ان هذه السورة وقيل هذه
الموعظة وقال مقاتل: آيات القرآن تذكرة اي موعظة وتبصرة للخلق (فمن شاء
ذكره) اي اتعظ بآي القرآن وبما وعظتك وأدبتك في هذه السورة انتهى * ص *
(ذكره) ذكر الضمير لان التذكرة هي الذكر انتهى.
وقوله تعالى: (في صحف) متعلق بقوله: (انها تذكرة) وهذا يؤيد ان التذكرة يراد
بها جميع القرآن والصحف هنا قيل إنه اللوح المحفوظ: وقيل صحف الأنبياء المنزلة
قال ابن عباس: السفرة هم الملائكة لأنهم كتبة يقال: سفرت اي كتبت ومنه السفر
وقال ابن عباس أيضا الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله وبين أنبيائه وفي
البخاري: سفرة الملائكة [واحدهم سافر] سفرت أصلحت بينهم وجعلت الملائكة إذا
نزلت بوحي الله عز وجل وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم انتهى قال
* ع * ومن اللفظة قول الشاعر: [الوافر]
وما ادع السفارة بين قومي * وما أسعى بغش ان مشيت.
والصحف على هذا: صحف عند الملائكة أو اللوح.
552

وقوله تعالى: (قتل الانسان ما أكفره) دعاء على اسم الجنس وهو عموم يراد به
الانسان الكافر ومعنى (قتل): اي هو أهل ان يدعى عليه بهذا وقال مجاهد: (قتل)
معناه: لعن وهذا تحكم * ت * ليس بتحكم وقد تقدم نحوه عن غير واحد.
وقوله تعالى: (ما أكفره) يحتمل معنى التعجب ويحتمل الاستفهام توبيخا وقيل
الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب وذلك أنه غاضب أباه فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم أباه
استصلحه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام فبعث عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال انى كافر برب
النجم إذا هوى فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " اللهم ابعث عليه كلبك حتى يأكله " ثم إن عتبة
خرج في سفرة فجاء الأسد فأكله من بين الرفقة.
وقوله تعالى: (من اي شئ خلقه) استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشئ
الذي خلق الانسان منه (فقدره) اي جعله بقدر وحد معلوم (ثم السبيل يسره) قال ابن
عباس وغيره: هي سبيل الخروج من بطن أمه وقال الحسن ما معناه ان السبيل هي
سبيل النظر المؤدى إلى الايمان.
وقوله (فأقبره) معناه: امر ان يجعل له قبر وفي ذلك تكريم له ليلا يطرح كسائر
الحيوان.
وقوله تعالى: (ثم إذا شاء) يريد إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه وهو يوم القيامة
و (أنشره) معناه: أحياه.
وقوله تعالى: (كلا لما يقض) اي لم يقض ما امره ثم امر الله تعالى الانسان
553

بالعبرة والنظر إلى طعامه والدليل فيه وكيف يسره له بهذه الوسائط والحب جمع حبة
بفتح الحاء وهو كل ما يتخذه الناس ويربونه غير والحبة: بكسر الحاء كل ما ينبت من
البزور لا يحفل به ولا هو بمتخذ والقضب قيل هي الفصفصة وهذا عندي ضعيف لان
الفصفصة للبهائم وهي داخلة في الأب والذي أقول به ان القضب هنا هو كل ما يقضب
ليأكله ابن آدم غضا من النبات كالبقول والهليون ونحوه فإنه من المطعوم جزء عظيم ولا
ذكر له في الآية الا في هذه اللفظة والحديقة: الشجر الذي قد أحدق بجدار ونحوه
والغلب الغلاظ الناعمة والأب المرعى والكلأ قاله ابن عباس وغيره وقد توقف في
تفسيره أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - و (متاعا) نصب على المصدر والمعنى:
تتمتعون به أنتم وأنعامكم يقول فابن آدم في السبعة المذكورة والانعام في الأب
و (الصاخة) اسم من أسماء يوم القيامة * ص * قال الخليل الصاخة صيحة تصخ
الآذان صخا اي تصمها لشدة وقعتها انتهى.
وقوله تعالى: (يوم يفر المرء من أخيه) الآية قال جمهور الناس انما ذلك لشدة
الهول كل يقول نفسي نفسي وقيل فرارهم خوفا من المطالبات (لكل امرئ منهم
يومئذ شأن يغنيه) عن اللقاء مع غيره ثم ذكر تعالى اختلاف الوجوه من المؤمنين الواثقين
برحمة الله حين بدت لهم تباشيرها الذي ومن الكفار حين علاها قترها و (مسفرة) معناه:
نيرة باد ضوءها وسرورها والغبرة التي على الكفرة هي من العبوس كما يرى على وجه
المهموم والميت والمريض شبه الغبار * ص * والقتر سواد كالدخان قال أبو عبيدة
هو الغبار انتهى ثم فسر سبحانه أصحاب هذه الوجوه المغبرة بأنهم (الكفرة الفجرة).
554

تفسير سورة التكوير
وهي مكية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله سبحانه: (إذا الشمس كورت) هذه كلها أوصاف يوم القيامة وتكوير الشمس
هو أن تدار كما يدار كور العمامة ويذهب بها إلى حيث شاء الله تعالى وعبر
المفسرون عن ذلك بعبارات فمنهم من قال: ذهب نورها قاله قتادة ومنهم من قال
رمي بها قاله الربيع بن خثيم وغير ذلك مما هو أسماء توابع لتكويرها وانكدار
النجوم هو انقضاضها وهبوطها من مواضعها وقال ابن عباس انكدرت تغيرت من قولهم
ماء كدر و (العشار) جمع عشراء وهي الناقة التي قد مر لحملها عشرة أشهر وهي
أنفس ما عند العرب وانما تعطل عند أشد الأهوال.
(وإذا البحار سجرت) قال أبي بن كعب وابن عباس وغيرهما: معناه أضرمت
نارا كما يسجر التنور ويحتمل أن يكون المعنى ملكت وقيدت فتكون اللفظة مأخوذة
555

من ساجور الكلب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (وسجرت) بتخفيف الجيم والباقون
بتشديدها وتزويج النفوس هو تنويعها لان الأزواج هي الأنواع والمعنى جعل الكافر
مع الكافر والمؤمن مع المؤمن وكل شكل مع شكله رواه النعمان بن بشير عن
النبي صلى الله عليه وسلم وقاله عمر بن الخطاب وابن عباس وقال هذا نظير قوله تعالى: (وكنتم
أزواجا ثلاثة) [الواقعة: 7] وفي الآية على هذا حض على خليل الخير فقد قال عليه
السلام -: " المرء مع من أحب " وقال " فلينظر أحدكم من يخالل " وعبارة الثعلبي قال
النعمان بن بشير قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا النفوس زوجت) قال الضرباء: كل رجل مع كل
قوم كانوا يعملون عمله انتهى وقال مقاتل بن سليمان معناه زوجت نفوس المؤمنين
بزوجاتهن من الحور وغيرهن.
وقوله تعالى: (وإذا الموؤودة سئلت) الموؤودة اسم معناه المثقل عليها بالتراب
وغيره حتى تموت وكان هذا صنيع بعض العرب ببناتهم يدفنونهن احياء وقرأ
الجمهور: " سئلت " وهذا على جهة التوبيخ للعرب الفاعلين ذلك واستدل ابن عباس
بهذه الآية على أن أولاد المشركين في الجنة لان الله قد انتصر لهم ممن
ظلمهم.
556

(وإذا الصحف نشرت) قيل: هي صحف الأعمال وقيل: هي الصحف التي تتطاير
بالايمان والشمائل والكشط: التقشير وذلك كما يكشط جلد الشاة حين تسلخ وكشط
السماء هو طيها / كطي السجل و (سعرت) معناه أضرمت نارها وأزلفت الجنة
معناه قربت ليدخلها المؤمنون قال الثعلبي قربت لأهلها حتى يرونها نظيره (وأزلفت
الجنة للمتقين غير بعيد) [ق: 31]. (علمت نفس) عند ذلك (ما أحضرت) من خير أو
شر وهو جواب لقوله (إذا الشمس) وما بعدها انتهى.
وقوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس) لا اما زائدة واما ان تكون ردا لقول قريش في
تكذيبهم نبوة نبينا محمد عليه السلام ثم أقسم تعالى بالخنس الجوار الكنس وهي في
قول الجمهور: الدراري السبعة: الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة
والمشترى وقال علي: المراد الخمسة دون الشمس والقمر وذلك أن هذه الكواكب
تخنس في جريها اي: تتقهقر فيما ترى العين وهي جوار في السماء وهي تكنس في
أبراجها اي تستتر الثعلبي: وقال ابن زيد تخنس اي: تتأخر عن مطالعها كل سنة
وتكنس بالنهار اي: تستتر فلا ترى انتهى وعسعس الليل في اللغة إذا كان غير
مستحكم الإظلام قال الخليل عسعس الليل: إذا أقبل وأدبر وقال الحسن وقع القسم
بإقباله وقال وابن عباس وغيره بل وقع بإدباره تعالى وقال المبرد أقسم بإقباله وادباره
557

معا وعبارة الثعلبي: قال الحسن عسعس الليل اقبل بظلامه وقال آخرون: أدبر بظلامه
ثم قال والمعنيان يرجعان إلى معنى واحد وهو ابتداء الظلام في أوله وادباره في اخره
انتهى وتنفس الصبح اتسع ضوءه والضمير في " أنه " للقرآن والرسول الكريم في قول
الجمهور هو جبريل عليه السلام وقال آخرون هو النبي صلى الله عليه وسلم في الآية كلها والقول
الأول أصح و (كريم) صفة تقتضي رفع المذام و (مكين) معناه له مكانة ورفعة وقال
عياض في " الشفا " في قوله تعالى: (مطاع ثم امين) أكثر المفسرين على أنه نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم انتهى قال * ع * واجمع المفسرون على أن قوله تعالى (وما
صاحبكم) يراد به النبي صلى الله عليه وسلم (والضمير) في رآه لجبريل عليه السلام وهذه الرؤية
التي كانت بعد امر غار حراء وقيل هي الرؤية التي رآه عند سدرة المنتهى.
وقوله تعالى: (وما هو على الغيب بضنين) بالضاد بمعنى ببخيل تبليغ ما قيل له
كما يفعل الكاهن حين يعطى حلوانه وقرأ بن كثير وأبو عمرو والكسائي: " بظنين "
بالظاء اي بمتهم ثم نفي سبحانه عن القرآن أن يكون كلام شيطان على ما قالت
قريش و (رجيم) اي مرجوم.
وقوله تعالى: (فأين تذهبون) توقيف وتقرير والمعنى أين المذهب لأحد عن هذه
الحقائق والبيان الذي فيه شفاء (ان هو الا ذكر) اي: تذكرة * ت * روى الترمذي
عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " من سره ان ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ
(إذا الشمس كورت) و (إذا السماء انفطرت) و (إذا السماء انشقت) قال أبو عيسى
هذا حديث حسن انتهى.
558

تفسير سورة الانفطار
وهي مكية باجتماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (إذا السماء انفطرت) اي: انشقت (وإذا الكواكب انتثرت) اي:
تساقطت (وإذا البحار فجرت) قيل: فجر بعضها إلى بعض ويحتمل أن يكون تفجرت
من أعاليها ويحتمل أن يكون تفجير تفريغ من قيعانها فيذهب الله ماءها حيث شاء
وبكل قيل وبعثرة القبور نبشها عن الموتى.
وقوله سبحانه: (علمت نفس) هو جواب (إذا) و (نفس) هنا اسم جنس وقال
كثير من المفسرين في معنى قوله: (ما قدمت وأخرت) انها عبارة عن جميع الأعمال من
طاعة أو معصية.
(يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم) روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها فقال: " غره
جهله " فسبحان الله ما ارحمه بعباده قال الثعلبي: قال أهل الإشارة انما قال:
559

(بربك الكريم) دون سائر أسمائه تعالى وصفاته كأنه لقنه جوابه حتى يقول: غرني
كرمك انتهى وقرأ الجمهور " فعدلك " وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى الهلال قال: " آمنت
بالذي خلقك فسواك فعدلك " وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بتخفيف الدال والمعنى
عدل أعضاءك بعضها ببعض اي: وازن بينها.
وقوله تعالى: (في اي صورة ما شاء ركبك) ذهب الجمهور إلى أن " في " متعلقة
ب‍ " ركبك " اي: في صورة حسنة أو قبيحة أو سليمة أو مشوهة ونحو هذا و " ما " في
قوله: (ما شاء ركبك) زائدة فيها معنى التأكيد قال أبو حيان: (كلا) ردع وزجر
انتهى والدين هنا يحتمل ان يريد الشرع ويحتمل ان يريد الجزاء والحساب وباقي الآية
واضح لمتأمله.
وقوله تعالى: (يصلونها يوم الدين) اي: يوم الجزاء.
وقوله تعالى: (وما هم عنها بغائبين) [قال جماعة: معناه ما هم عنها بغائبين]
560

في البرزخ وذلك انهم يرون مقاعدهم من النار غدوة وعشية فهم لم يزالوا مشاهدين لها
نسأل الله العافية في الدارين بجوده وكرمه ثم عظم تعالى قدر هول ذلك اليوم بقوله:
(وما ادراك ما يوم الدين * ثم ما ادراك ما يوم الدين) الآية.
561

تفسير سورة المطففين
وهي مكية في قول جماعة
وقال ابن عباس وغيره: هي مدنية وعنه نزل بعضها بمكة ونزل امر التطفيف
بالمدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (ويل للمطففين) الآية المطفف الذي ينقص الناس حقوقهم
والتطفيف: النقصان أصله من الشئ الطفيف وهو النزر والمطفف انما يأخذ بالميزان
أو بالمكيال شيئا خفيفا و (اكتالوا على الناس) معناه قبضوا منهم و (كالوهم) معناه:
قبضوهم و (يخسرون) معناه: ينقصون.
وقوله سبحانه: (الا يظن) بمعنى: يعلم ويتحقق وقال * ص *: (الا يظن)
ذكر أبو البقاء أن " لا " هنا هي النافية دخلت عليها همزة الاستفهام وليست " ألا " التي للتنبيه
والاستفتاح لان ما بعد " الا " التنبيهية مثبت وهو هنا منفي انتهى وقيام الناس لرب
العالمين يومئذ يختلف الناس فيه بحسب منازلهم وروي انه يخفف عن المؤمن حتى
يكون على قدر الصلاة المكتوبة وفي هذا القيام هو الجام العرق للناس كما صرح به
النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح والناس أيضا فيه مختلفون بالتخفيف والتشديد قال ابن
المبارك في " رقائقه " أخبرنا سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال تدنى
الشمس من الناس يوم القيامة حتى تكون من رؤوسهم قاب قوس أو قاب قوسين فتعطى حر
عشر سنين وليس على أحد يومئذ طحربة ولا ترى فيه عورة مؤمن ولا مؤمنة ولا يضر
حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة واما الآخرون أو قال الكفار فتطبخهم فإنما تقول أجوافهم
غق غق قال نعيم الطحربة الخرقة انتهى ونحو هذا للمحاسبي قال في " كتاب
562

التوهم " فإذا وافي الموقف أهل السماوات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر
عشر سنين ثم أدنيت من الخلائق قاب قوس أو قاب قوسين فلا ظل في ذلك اليوم الا
ظل عرش رب العالمين فكم بين مستظل بظل العرش وبين واقف لحر الشمس قد
أصهرته واشتد فيها كربه وقلقه فتوهم نفسك في ذلك الموقف فإنك لا محالة واحد
منهم انتهى اللهم عاملنا برحمتك وفضلك في الدارين فإنه لا حول لنا ولا قوة الا
بك.
وقوله تعالى: (كلا ان كتاب الفجار...) يعنى: الكفار وكتابهم يراد به الذي فيه
تحصيل أمرهم وأفعالهم ويحتمل عندي أن يكون المعنى وعدادهم وكتاب كونهم هو في
سجين اي: هنالك كتبوا في الأزل واختلف في (سجين) ما هو؟ والجمهور ان سجينا
بناء مبالغة من السجن قال مجاهد: وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة.
وقوله تعالى: (وما ادراك ما سجين) تعظيم لأمر هذا السجين وتعجيب منه
ويحتمل أن يكون تقرير استفهام اي: هذا مما لم تكن تعلمه قبل الوحي و (كتاب
مرقوم) على القول الأول مرتفع على خبر " ان " وعلى القول الثاني مرتفع على أنه خبر
مبتدأ محذوف تقديره: هو كتاب مرقوم ويكون هذا الكلام مفسرا ل‍ (سجين) ما هو؟
و (مرقوم) معناه مكتوب لهم بشر وباقي الآية بين ثم أوجب ان ما كسبوا من الكفر
والعتو قد (ران على قلوبهم) اي: غطى عليها فهم مع ذلك لا يبصرون رشدا يقال:
563

رانت الخمر على قلب شاربها وران الغشي على قلب المريض وكذلك الموت قال
الحسن وقتادة: الرين الذنب على الذنب حتى يموت القلب وروى أبو هريرة ان
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرجل إذا أذنب نكتت نكتة سوداء في قلبه ثم كذلك حتى يتغطى
فذلك الران الذي قال الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) قال
الفخر قال أبو معاذ النحوي الرين سواد القلب من الذنوب والطبع ان يطبع على
القلب وهو أشد من الرين والإقفال أشد من الطبع وهو ان يقفل على القلب انتهى
والضمير في قوله تعالى: (انهم عن ربهم) للكفار اي هم محجوبون لا يرون ربهم قال
الشافعي لما حجب الله قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضى قال المحاسبي
رحمه الله في كتاب " توبيخ النفس " وينبغي للعبد المؤمن إذا رأي القسوة من قلبه ان
يعلم أنها من الرين في قلبه فيخاف أن يكون الله تعالى لما حجب قلبه عنه بالرين والقسوة
ان يحجبه غدا عن النظر إليه قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا
يكسبون * كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) إحداهما تتلو الأخرى ليس بينهما معنى
ثالث فان اعترض للمريد خاطر من الشيطان ليقتطعه عن الخوف من الله تعالى حتى
تحل به هاتان العقوبتان فقال انما نزلتا في الكافرين فليقل فان الله لم يؤمن منهما كثيرا من
المؤمنين وقد حذر سبحانه المؤمنين ان يعاقبهم بما يعاقب به الكافرين فقال تعالى:
(واتقوا النار التي أعدت للكافرين) [آل عمران: 131] إلى غير ذلك من الآيات انتهى
ولما ذكر الله تعالى امر كتاب الفجار عقب ذلك بذكر كتاب ضدهم ليبين الفرق بين
الصنفين واختلف في الموضع المعروف ب‍ (عليين) ما هو؟ فقال ابن عباس: السماء
السابعة تحت العرش وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال الضحاك: هو سدرة
المنتهى وقال ابن عباس أيضا: عليون الجنة.
564

وقوله تعالى: (يشهده المقربون) يعنى الملائكة قاله ابن عباس وغيره
و (ينظرون) معناه إلى ما عندهم من النعيم والنضرة النعمة والرونق والرحيق الخمر
الصافية و (مختوم) يحتمل أنه يختم على كؤوسه التي يشرب بها تهمما وتنظفا والظاهر أنه
مختوم شربه بالرائحة المسكية حسبما فسره قوله: (ختامه مسك) قال ابن عباس
وغيره: خاتمة شربه مسك [وقرأ الكسائي: خاتمه مسك] ثم حرض تعالى على
الجنة بقوله: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
وقوله تعالى: (ومزاجه من تسنيم) المزاج: الخلط قال ابن عباس وغيره
(تسنيم): أشرف شراب في الجنة وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة وهي عين يشرب
بها المقربون صرفا ويمزج رحيق الأبرار بها وهذا المعنى في " صحيح البخاري " وقال
مجاهد ما معناه: ان تسنيما مصدر من سنمت: إذا علوت ومنه السنام فكأنه عين قد
عليت على أهل الجنة فهي تنحدر وقاله مقاتل وجمهور المتأولين ان منزلة الأبرار دون
منزلة المقربين وان الأبرار هم أصحاب اليمين وان المقربين هم السابقون.
وقوله: (يشرب بها) بمعنى يشربها.
565

وقوله سبحانه: (ان الذين أجرموا كانوا) يعنى في الدنيا (يضحكون) من
المؤمنين روي أن هذه الآية نزلت في صناديد قريش وضعفة المؤمنين والضمير في
(مروا) للمؤمنين ويحتمل أن يكون للكفار واما ضمير (يتغامزون) فهو للكفار لا
يحتمل غير ذلك و (فاكهين) اي: أصحاب فكاهة ونشاط وسرور باستخفافهم
بالمؤمنين واما الضمير في (رأوهم) وفي (قالوا) فقال الطبري وغيره: هو للكفار
وقال بعضهم: بل المعنى بالعكس وانما المعنى وإذا رأى المؤمنون الكفار قالوا: (ان
هؤلاء لضالون) وما أرسل المؤمنون حافظين على الكفار وهذا كله منسوخ على هذا
التأويل * ت * والأول أظهر.
وقوله تعالى: (على الأرائك ينظرون) اي: إلى أعدائهم في النار قال كعب لأهل
الجنة كوى ينظرون منها وقال غيره بينهم جسم عظيم شفاف يرون معه حالهم
* ت * قال الهروي: قوله تعالى: (على الأرائك ينظرون) قال أحمد بن يحيى:
الأريكة: السرير في الحجلة ولا يسمى منفردا أريكة وسمعت الأزهري يقول: كل ما
اتكأ عليه فهو أريكة انتهى (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) اي جزاء ما كانوا
يفعلون و (هل ثوب) تقرير وتوقيف للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته.
566

تفسير سورة الانشقاق
وهي مكية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (إذا السماء انشقت) الآية هذه أوصاف يوم القيامة و (أذنت) معناه
استمعت وسمعت امر ربها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " ما اذن الله لشئ اذنه لنبي يتغنى بالقرآن "
و (حقت) قال ابن عباس: معناه وحق لها ان تسمع وتطيع ويحتمل ان يريد: وحق
لها ان تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى ومد الأرض هي إزالة جبالها حتى لا يبقي فيها
عوج ولا أمت وفي الحديث " تمد مد الأديم " و (ألقت ما فيها) يعنى: من / الموتى
قاله الجمهور وخرج الختلي أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم في كتاب " الديباج " له بسنده عن
نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه السلام في قوله عز وجل (إذا السماء انشقت * وأذنت لربها
وحقت) قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انا أول من تنشق عنه الأرض فاجلس جالسا في
قبري فيفتح لي باب إلى السماء بحيال رأسي حتى انظر إلى العرش ثم يفتح لي باب من
تحتي حتى انظر إلى الأرض السابعة حتى انظر إلى الثرى ثم يفتح لي باب عن يميني
حتى انظر إلى الجنة ومنازل أصحابي وان الأرض تحركت تحتي فقلت ما لك أيتها
الأرض قالت إن ربى امرني ان القي ما في جوفي وان أتخلى عنه فأكون كما كنت إذ لا
شئ في فذلك قوله الله عز وجل: (وألقت ما فيها وتخلت) (وأذنت لربها
وحقت) اي: سمعت وأطاعت وحق لها ان تسمع وتطيع " الحديث انتهى من
" التذكرة " و (تخلت) معناه خلت عما كان فيها لم تتمسك منهم بشئ.
567

(يا أيها الانسان انك كادح...) الآية الكادح العامل بشدة واجتهاد والمعنى:
انك عامل خيرا أو شرا وأنت لا محالة ملاقيه اي: فكن على حذر من هذه الحال
واعمل صالحا تجده واما الضمير في (ملاقيه) فقال الجمهور هو عائد على
الرب تعالى وقال بعضهم هو عائد على الكدح * ت * وهو ظاهر الآية والمعنى
ملاق جزاءه والحساب اليسير هو العرض ومن نوقش الحساب هلك كذا في الحديث
الصحيح وعن عائشة: هو ان يعرف ذنوبه ثم يتجاوز عنه ونحوه في الصحيح عن ابن
عمر انتهى وفي الحديث عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض
صلاته " اللهم حاسبني حسابا يسيرا فلما انصرف قلت: يا رسول الله ما الحساب
اليسير قال إن ينظر في كتابه ويتجاوز عنه انه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ
هلك وكل ما يصيب المؤمن يكفر الله عنه حتى الشوكة تشوكه " قال صاحب
" السلاح " رواه الحاكم في " المستدرك " وقال: صحيح على شرط مسلم انتهى وروى
ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حاسب نفسه في الدنيا هون الله عليه حسابه يوم
القيامة " قال عز الدين بن عبد السلام في اختصاره ل‍ " رعاية المحاسبي " أجمع العلماء
على وجوب محاسبة النفس فيما سلف من الأعمال وفيما يستقبل منها " فالكيس من دان
نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله " انتهى.
(وينقلب إلى أهله) اي: الذين أعدهم الله له في الجنة واما الكافر فروي ان يده
تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها.
و (يدعوا ثبورا) معناه: يصيح منتحبا: وا ثبوراه وا حزناه، ونحو هذا والثبور
اسم جامع للمكاره كالويل.
568

وقوله تعالى: (انه كان في أهله) يريد في الدنيا (مسرور) اي: تملكه ذلك لا
يدرى الا السرور باهله دون معرفة ربه.
وقوله تعالى: (انه ظن أن لن يحور) معناه: ان لن يرجع إلى الله مبعوثا محشورا
قال ابن عباس: لم اعلم ما معنى (يحور) حتى سمعت امرأة أعرابية تقول لبنية لها
حوري، أي ارجعي * ص * (بلى) ايجاب بعد النفي أي: بلى، ليحورن أي:
ليرجعن انتهى.
وقوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق) " لا " زائدة وقيل " لا " رد على أقوال الكفار
و (الشفق) الحمرة التي تعقب غيبوبة الشمس مع البياض التابع لها في الأغلب و (وسق)
معناه: جمع وضم ومنه الوسق اي الأصوع إن المجموعة والليل يسق الحيوان جملة اي
يجمعها ويضمها وكذلك جميع المخلوقات التي في الأرض والهواء من البخار والجبال
والرياح وغير ذلك واتساق القمر كماله وتمامه بدرا والمعنى امتلأ من النور وقرأ نافع
وأبو عمرو وابن عامر: " لتركبن " - بضم الباء - والمعنى: لتركبن الشدائد الموت
والبعث والحساب حالا بعد حال و " عن " تجئ بمعنى " بعد " كما يقال ورث المجد كابرا
عن كابر وقيل: غير هذا وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير " لتركبن " بفتح الباء على
معنى أنت يا محمد فقيل المعنى حالا بعد حال من معالجة الكفار وقال ابن عباس:
569

سماء بعد سماء في الاسراء وقيل: هي عدة بالنصر اي لتركبن امر العرب قبيلا بعد
قبيل كما كان وفي البخاري عن ابن عباس: (لتركبن طبقا عن طبق) حالا بعد حال
هكذا قال نبيكم صلى الله عليه وسلم انتهى ثم قال تعالى: (فما لهم لا يؤمنون) اي ما حجتهم مع
هذه البراهين الساطعة و (يوعون) معناه: يجمعون من الأعمال والتكذيب كأنهم يجعلونها
أوعية تقول وعيت العلم وأوعيت فيه المتاع و (ممنون) معناه: مقطوع.
570

تفسير سورة " البروج "
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
الجمهور: ان " البروج " هي المنازل التي عرفتها العرب وقد تقدم الكلام عليها
(واليوم الموعود): هو يوم القيامة باتفاق كما جاء في الحديث وانما اختلف الناس في
الشاهد والمشهود اختلافا كثيرا فقال ابن عباس: الشاهد الله والمشهود يوم
القيامة وقال الترمذي: الشاهد: الملائكة الحفظة والمشهود [اي] عليه الناس وقال
أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة * ت * ولو صح
لوجب الوقوف عنده.
وقوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود) معناه فعل الله بهم ذلك لأنهم أهل له
فهو على جهة الدعاء بحسب البشر لا ان الله يدعو على أحد وقيل عن ابن عباس معناه
لعن وهذا تفسير بالمعنى وقال الثعلبي: قال ابن عباس كل شئ في القرآن (قتل) فهو
لعن انتهى وقيل: هو اخبار بأن النار قتلتهم قاله الربيع بن انس * ص *
وجواب القسم محذوف اي: والسماء ذات البروج لتبعثن وقال المبرد الجواب (ان
بطش ربك لشديد) وقيل الجواب (قتل) واللام محذوفة اي: لقتل وإذا كان (قتل)
571

هو الجواب فهو خبر انتهى وصاحب الأخدود: مذكور في السير وغيرها وحديثه في مسلم
مطول وهو مالك دعا المؤمنين بالله إلى الرجوع عن دينهم إلى دينه وخد لهم في الأرض
أخاديد طويلة وأضرم لهم نارا وجعل يطرح فيها من لم يرجع عن دينه حتى جاءت امرأة
معها صبي فتقاعست فقال لها الطفل يا أمه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت النار.
وقوله: (النار) بدل من الأخدود وهو بدل اشتمال قال * ع * وقال
الربيع بن انس وأبو إسحاق وأبو العالية بعث الله على أولئك المؤمنين ريحا فقبضت
أرواحهم أو نحو هذا وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود
وعلى هذا يجئ (قتل) خبرا لا دعاء.
وقوله تعالى: (ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات...) الآية فتنوهم اي:
أحرقوهم * ت * قال الهروي قوله تعالى: (فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب
الحريق) اي: لهم عذاب لكفرهم وعذاب بإحراقهم المؤمنين انتهى قال * ع *
ومن قال إن هذه الآيات الأواخر في قريش جعل الفتنة الامتحان والتعذيب ويقوى هذا
التأويل بعض التقوية قوله تعالى (ثم لم يتوبوا) لان هذا اللفظ في قريش أشبه منه في
أولئك والبطش: الاخذ بقوة.
وقوله: (انه هو يبدئ ويعيد) قال الضحاك وابن زيد: معناه: يبدئ الخلق
بالانشاء ويعيدهم بالحشر وقال ابن عباس ما معناه ان ذلك عام في جميع الأشياء
572

فهي عبارة على أنه يفعل كل شئ اي: يبدئ كل ما يبدأ ويعيد كل ما يعاد وهذان
قسمان يستوفيان جميع الأشياء و (الجنود) الجموع و (فرعون وثمود) في موضع
خفض على البدل من الجنود ثم ترك القول بحاله واضرب عنه إلى الاخبار بأن هؤلاء
الكفار بمحمد وشرعه لا حجة لهم ولا برهان بل هو تكذيب مجرد سببه الحسد ثم
توعدهم سبحانه بقوله: (والله من روائهم محيط) اي عذاب الله ونقمته من ورائهم
اي: يأتي بعد كفرهم وعصيانهم وقرأ الجمهور: " في لوح محفوظ " بالخفض صفة
ل‍ " لوح " وقرأ نافع " محفوظ " بالرفع اي: محفوظ في القلوب لا يدركه الخطأ
والتبديل.
573

تفسير سورة " والطارق "
وهي مكية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
أقسم الله تعالى بالسماء المعروفة في قول الجمهور وقيل: السماء هنا هو المطر
(والطارق) الذي يأتي ليلا ثم فسر تعالى هذا الطارق بأنه (النجم الثاقب) واختلف
في (النجم الثاقب) فقال الحسن بن أبي الحسن ما معناه انه اسم جنس لأنها كلها
ثاقبة اي: ظاهرة الضوء يقال: ثقب النجم إذا أضاء وقال ابن زيد: أراد نجما
مخصوصا وهو زحل وقال ابن عباس: أراد الجدي وقال ابن زيد أيضا: هو
الثريا وجواب القسم في قوله: (ان كل نفس...) الآية " وان " هي المخففة من
الثقيلة واللام في " لما " لام التأكيد الداخلة على الخبر هذا مذهب حذاق البصريين وقال
الكوفيون " ان " بمعنى " ما " النافية واللام بمعنى " الا " فالتقدير: ما كل نفس الا عليها
حافظ ومعنى الآية فيما قال قتادة وغيره: ان على كل نفس مكلفة حافظا يحصى أعمالها
ويعدها للجزاء عليها وقال أبو امامة قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: " ان لكل نفس
حفظة من الله يذبون عنها كما يذب عن قصعة العسل الذباب ولو وكل المرء إلى نفسه
طرفة عين لاختطفته الشياطين ".
574

وقوله تعالى: (فلينظر الانسان مم خلق) توقيف لمنكري البعث على أصل الخلقة
الدال على أن البعث جائز ممكن ثم بارد اللفظ إلى الجواب اقتضابا وإسراعا إلى إقامة
الحجة فقال: (خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب) قال الحسن
وغيره: معناه: من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبه وقال جماعة من
بين صلب الرجل وترائب المرأة: والتريبة من الانسان ما بين الترقوة إلى الثدي قال أبو
عبيدة معلق الحلي إلى الصدر وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: (انه على رجعه لقادر) قال ابن عباس وقتادة: المعنى ان الله على
رد الانسان حيا بعد موته لقادر وهذا أظهر الأقوال هنا وأبينها و (دافق) قال كثير من
المفسرين: هو بمعنى مدفوق والعامل في (يوم) الرجع من قوله: (على رجعه).
و (تبلى السرائر) معناه تختبر وتكشف بواطنها وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ان
السرائر التي يبتليها الله من العباد: التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة قال
* ع * وهذه معظم الامر وقال قتادة: الوجه في الآية العموم في جميع السرائر
ونقل ابن العربي في " احكامه " عن ابن مسعود ان هذه المذكورات من الصلاة والزكاة
والوضوء والوديعة كلها أمانة قال وأشد ذلك الوديعة تمثل له اي لمن خانها على
هيئتها يوم اخذها فترمى في قعر جهنم فيقال له أخرجها فيتبعها فيجعلها في عنقه فإذا
أراد أن يخرج بها زلت منه فيتبعها فهو كذلك دهر الداهرين انتهى * ت * قال أبو
عبيد الهروي: قوله تعالى: (يوم تبلى السرائر) الواحدة سريرة وهي الأعمال التي أسرها
575

العباد انتهى و (الرجع) المطر وماؤه وقال ابن عباس: الرجع: السحاب فيه المطر
قال الحسن: لأنه يرجع بالرزق كل عام وقال غيره لأنه يرجع إلى الأرض
و (الصدع) النبات لان الأرض تتصدع عنه والضمير في (أنه) للقرآن و (فصل)
معناه: جزم فصل الحقائق من الأباطيل و (الهزل) اللعب الباطل ثم أخبر تعالى عن
قريش انهم يكيدون في أفعالهم وأقوالهم بالنبي عليه السلام و (أكيد كيدا) وهذا على
ما مر من تسمية العقوبة باسم الذنب و (رويدا) معناه قليلا قاله قتادة وهذه حال
هذه اللفظة إذا تقدمها شئ تصفه كقولك: سيرا رويدا أو تقدمها فعل يعمل فيها كهذه
وأما إذا ابتدأت بها فقلت رويدا يا فلان فهي بمعنى الامر بالتماهل * ص *
(رويدا) قال أبو البقاء: نعت لمصدر محذوف اي إمهالا رويدا و " رويدا " تصغير
" رود " وأنشد أبو عبيدة: [البسيط]
يمشي ولا تكلم البطحاء مشيته * كأنه ثمل يمشي على رود.
اي على مهل ورفق انتهى.
576

[تفسير] سورة " الأعلى "
وهي مكية في قول الجمهور
بسم الله الرحمن الرحيم
(سبح) في هذه الآية بمعنى: نزه وقدس وقل: جل سبحانه عن النقائص والغير
جميعا وروي ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: " سبحان ربي
الأعلى " وكان ابن مسعود وابن عمر وابن الزبير يفعلون ذلك ولما نزلت قال
النبي صلى الله عليه وسلم " اجعلوها في سجودكم " وعن سلمة بن الأكوع قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يستفتح دعاء الا استفتحه ب‍ " سبحان ربي الأعلى الوهاب " رواه الحاكم في " المستدرك "
وقال: صحيح الاسناد انتهى من " سلاح المؤمن ".
و " سوى " معناه: عدل وأتقن.
وقوله: (فهدى) عام لوجوه الهدايات في الانسان والحيوان وقال الفراء: معناه
هدى وأضل والعموم في الآية أصوب و (المرعى): النبات و (الغثاء) ما يبس
وجف وتحطم من النبات وهو الذي يحمله السيل و " الأحوى " أي قيل هو الأخضر الذي
عليه سواد من شدة الخضرة والغضارة فتقدير الآية: الذي اخرج المرعى أحوى اي
اسود من خضرته وغضارته فجعله غثاء عند يبسه ف‍ (أحوى): حال وقال ابن عباس
المعنى فجعله غثاء أحوى اي اسود لان الغثاء إذا قدم واصابته الأمطار اسود وتعفن
577

فصار أحوى فهذا صفة.
وقوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى) قال الحسن وقتادة ومالك بن انس: هذه الآية
في معنى قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك...) [القيامة: 16] الآية وعده الله ان يقرئه
وأخبره انه لا ينسى نسيانا لا يكون بعده ذكر وقيل بل المعنى انه امره تعالى بان لا
ينسى على معنى التثبيت والتأكيد وقال الجنيد معنى (لا تنسى) ثنا لا تترك العمل بما
تضمن من امر ونهي.
وقوله تعالى: (الا ما شاء الله) قال الحسن وغيره معناه: مما قضى الله بنسخه
ورفع تلاوته وحكمه وقال ابن عباس: (الا ما شاء الله) ان ينسيكه، ليسن به،
على نحو قوله عليه الصلاة والسلام: " انى لأنسي أو أنسي لأسن " قال * ع *
ونسيان النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع فيما امر بتبليغه إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعي عنه فالنسيان جائز
على أن يتذكر بعد ذلك أو على أن يسن أو على النسخ.
وقوله تعالى: (ونيسرك لليسرى) معناه: نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في
دنياك وأخراك من النصر والظفر ورفعة الرسالة وعلو المنزلة يوم القيامة والرفعة في
الجنة ثم امره تعالى بالتذكير قال بعض الحذاق قوله تعالى: (ان نفعت الذكرى)
اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش ثم أخبر تعالى انه سيذكر من يخشى الله
والدار الآخرة وهم العلماء والمؤمنون كل بقدر ما وفق له ويتجنب الذكرى ونفعها من
سبقت له الشقاوة.
578

(وتزكى) معناه: طهر نفسه ونماها بالخير ومن " الأربعين حديثا " المسندة لأبي بكر
محمد بن الحسين الآجري الامام المحدث قال في آخرها: وحديث تمام الأربعين حديثا
وهو حديث كبير جامع لكل خير حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي إملاء في شهر
رجب سنة سبع وتسعين ومائتين قال: حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال
حدثني أبي عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال: " دخلت المسجد فإذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فجلست إليه فقال: يا أبا ذر للمسجد تحية وتحيته ركعتان قم
فاركعهما قال: فلما ركعتهما جلست إليه فقلت يا رسول الله انك أمرتني بالصلاة
فما الصلاة؟ قال خير موضوع فاستكثر أو استقلل " الحديث وفيه: " قلت
يا رسول الله كم كتابا انزل الله عز وجل؟ قال مائة كتاب وأربعة كتب انزل الله
على شيت خمسين صحيفة وعلى خانوخ ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف
وانزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف وانزل التوراة والإنجيل والزبور
والفرقان قال قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال كانت أمثالا كلها
أيها الملك المسلط المبتلى المغرور انى لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضا على بعض ولكني
بعثتك لترد عنى دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو من كافر وكان فيها أمثال وعلى
العاقل ان تكون له ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يفكر في صنع
الله عز وجل إليه وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب وعلى العاقل أن لا
يكون ظاعنا الا لثلاث: تزود لمعاد أو مؤنة لمعاش أو لذة في غير محرم وعلى
العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شانه حافظا للسانه ومن حسب كلامه من
عمله قل كلامه الا فيما يعينه قال قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟
قال: كانت عبرا كلها عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن أيقن بالقدر
ثم هو ينصب وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها وعجبت لمن أيقن
بالحساب غدا ثم لا يعمل قال: قلت يا رسول الله فهل في أيدينا شئ مما كان في
أيدي إبراهيم وموسى مما أنزل الله عز وجل عليك قال نعم اقرأ يا أبا ذر (قد أفلح
من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا) إلى آخر هذه / [السورة
يعنى: ان ذكر هذه الآيات لفي صحف إبراهيم وموسى قال: قلت يا رسول الله
فأوصني قال: أوصيك بتقوى الله عز وجل فإنه رأس امرك قال: قلت يا رسول
الله زدني قال: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل فإنه ذكر لك في السماء
579

ونور لك في الأرض قال قلت يا رسول الله زدني قال وإياك وكثرة الضحك فإنه
يميت القلب ويذهب بنور الوجه قال: قلت يا رسول الله زدني قال: عليك
بالجهاد فإنه رهبانية أمتي قال: قلت يا رسول زدني قال: عليك بالصمت الا
من خير فإنه مطردة للشيطان وعون لك على امر دينك " انتهى.
وقوله تعالى: (وذكر اسم ربه) اي: وحده وصلى له الصلوات المفروضة وغيرها
وقال أبو سعيد الخدري وغيره: هذه الآية نزلت في صبيحة يوم الفطر ف‍ (تزكي) أدى
زكاة الفطر (وذكر اسم ربه) في طريق المصلى وصلى صلاة العيد ثم أخبر تعالى
الناس انهم يؤثرون الحياة الدنيا وسبب الايثار حب العاجل والجهل ببقاء الآخرة وفضلها
وروينا في كتاب الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " استحيوا من الله حق
الحياء قال: فقلنا يا رسول الله انا نستحي والحمد لله قال: ليس ذلك ولكن
الاستحياء من الله حق الحياء: ان تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى
ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله
حق الحياء " انتهى قال الغزالي وايثار الحياة الدنيا طبع غالب على الانسان ولذلك
قال تعالى: (بل تؤثرون الحياة الدنيا) ثم بين سبحانه ان الشر قديم في الطباع وان ذلك
مذكور في الكتب السالفة فقال: (إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم
وموسى) انتهى من " الاحياء ".
580

وقوله تعالى: (ان هذا) قال ابن زيد: الإشارة ب‍ " هذا " إلى هذين الخبرين: أفلح
من تزكى وايثار الناس للدنيا مع فضل الآخرة عليها وهذا هو الأرجح لقرب المشار
إليه وعن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر ب‍ " سبح اسم ربك
الأعلى " و " قل يا أيها الكافرون " و " قل هو الله أحد " فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس
ثلاث مرات يمد صوته في الثالثة ويرفع رواه أبو داود والنسائي وهذا لفظه ورواه
الدارقطني في سننه ولفظه: " فإذا سلم قال سبحان الملك القدوس ثلاث مرات يمد بها
صوته في الأخيرة ويقول: رب الملائكة والروح " انتهى من " السلاح " قال النووي
وروينا في " سنن أبي داود " و " الترمذي " و " النسائي " عن علي رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم
كان يقول فئ اخر وتره: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من
عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " قال
الترمذي: حديث حسن انتهى.
581

تفسير سورة " الغاشية "
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قال بعض المفسرين: (هل) بمعنى " قد " وقال الحذاق: هي على بابها توقيف فائدته
تحريك نفس السامع إلى تلقى الخبر و (الغاشية) القيامة لأنها تغشى العالم كله بهولها
والوجوه الخاشعة هي وجوه الكفار وخشوعها ذلها وتغييرها بالعذاب.
وقوله سبحانه: (عاملة ناصبة) قال الحسن وغيره لم تعمل لله في الدنيا فأعملها
وأنصبها في النار والنصب التعب وقال ابن عباس وغيره: المعنى عاملة في الدنيا
ناصبة فيها على غير هدى فلا ثمره لعملها الا النصب وخاتمته النار قالوا والآية في
القسيسين وكل مجتهد في كفر وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو " تصلى " بضم التاء
والباقون بفتحها والآنية: التي قد انتهى حرها كما قال تعالى (وبين حميم آن)
[الرحمن: 44] وقال ابن زيد آنية: حاضرة والضريع: قال الحسن وجماعة: هو
الزقوم وقال ابن عباس وغيره: الضريع شبرق النار وقال النبي صلى الله عليه وسلم الضريع شوك
582

في النار * ت * وهذا ان صح فلا [يعدل] عنه وقيل غير هذا ولما ذكر تعالى وجوه
أهل النار عقب ذلك بذكر وجوه أهل الجنة ليبين الفرق وقوله تعالى: (لسعيها) يريد
لعملها في الدنيا وطاعتها والمعنى لثواب سعيها والتنعيم عليه ووصف سبحانه الجنة
بالعلو وذلك يصح من جهة المسافة والمكان ومن جهة المكانة والمنزلة أيضا.
(لا تسمع فيها لاغية) قيل: المعنى كلمة لاغية وقيل جماعة لاغية أو فئة لاغية
واللغو سقط القول قال الفخر: قوله تعالى (فيها سرر مرفوعة) اي عالية في الهواء
وذلك لأجل ان يرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه الله تعالى في الجنة من النعيم
والملك قال خارجة بن مصعب بلغنا ان بعضها فوق بعض فترتفع ما شاء الله فإذا جاء
ولي الله ليجلس عليها تطامنت له فإذا استوى عليها ارتفعت إلى حيث شاء الله سبحانه انتهى.
(وأكواب موضوعة) اي: بأشربتها معدة والنمرقة الوسادة والزرابي: واحدها
زربية وهي كالطنافس له لها خمل قاله الفراء وهي ملونات و (مبثوثة) معناه كثيرة
متفرقة ثم وقفهم سبحانه على مواضع العبرة في مخلوقاته و (الإبل) في هذه الآية هي
الجمال المعروفة هذا قول الجمهور وفي الجمل آيات وعبر لمن تأمل وكان شريح
القاضي يقول لأصحابه: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت
وقال المبرد: الإبل هنا السحاب لان العرب قد تسميها بذلك إذ تأتي أرسالا كالإبل
و (نصبت): معناه أثبتت قائمة في الهواء وظاهر الآية ان الأرض سطح لا كرة وهو
الذي عليه أهل العلم وقد تقدم الكلام على هذا المعنى ثم نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
مصيطرا على الناس أي: قاهرا جابرا لهم مع تكبر متسلطا عليهم.
583

وقوله تعالى: (الا من تولى وكفر) قال بعض المتأولين: الاستثناء متصل
والمعنى: الا من تولى فإنك مصيطر عليه فالآية على هذا لا نسخ فيها وقال آخرون:
الاستثناء منفصل والمعنى: لست عليهم بمصيطر لكن من تولى وكفر فيعذبه الله وهي آية
موادعة منسوخة بالسيف وهذا هو القول الصحيح لان السورة مكية والقتال انما نزل
بالمدنية * ص * وقرأ زيد بن أسلم: " ألا من تولى " حرف تنبيه واستفتاح انتهى
وقال ابن العربي في " احكامه " روى الترمذي وغيره ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت ان أقاتل
الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا في دماءهم وأموالهم الا بحقها
وحسابهم على الله " ثم قرأ: (فذكر انما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر) مفسرا
معنى الآية وكاشفا خفاء الخفاء عنها المعنى: إذا قال الناس: لا إله إلا الله فلست بمسلط
على سرائرهم وانما عليك الظاهر وكل سرائرهم إلى الله تعالى وهذا الحديث صحيح
المعنى والله أعلم انتهى (وإيابهم): مصدر من آب يؤوب إذا رجع.
584

[تفسير] سورة " الفجر "
وهي مكية عند الجمهور وقيل: مدنية والأول أصح وأشهر
بسم الله الرحمن الرحيم
الفجر هنا عند الجمهور: هو المشهور المعروف الطالع كل يوم وقال ابن عباس
وغيره: الفجر الذي أقسم الله به صلاة الصبح وقيل غير هذا [واختلف في الليالي العشر
فقيل: العشر الأول من رمضان وقيل: العشر الأواخر منه وقيل: عشر ذي الحجة
وقيل غير هذا] والله أعلم بما أراد فان صح عن النبي صلى الله عليه وسلم شئ في هذا صير إليه
واختلف في " الشفع والوتر " ما هما؟ على أقوال كثيرة وروى عمران بن حصين عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هي الصلوات منها الشفع ومنها الوتر " وسرى الليل هو ذهابه
وانقراضه هذا قول الجمهور وقيل: المعنى: إذا يسرى فيه.
(هل في ذلك قسم لذي حجر) اي: هل في هذه الأقسام مقنع لذي عقل؟ ثم وقف
تعالى على مصارع الأمم الخالية " وعاد ": قبيلة بلا خلاف واختلف في " ارم " فقال
585

مجاهد: هي القبيلة بعينها وقال ابن إسحاق: ارم هو أبو عاد كلها وقال
الجمهور: ارم مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن واختلف في قوله تعالى:
(ذات العماد) فمن قال: ارم المدينة قال العماد أعمدة الحجارة التي بنيت بها وقيل
القصور العالية والأبراج يقال لها عماد ومن قال ارم قبيلة قال العماد اما أعمدة بنيانهم
واما أعمدة بيوتهم التي يرحلون بها قاله جماعة والضمير في (مثلها) يعود اما على
المدينة واما على القبيلة.
و (جابوا الصخر) معناه: خرقوه ونحتوه وكانوا في واديهم قد نحتوا بيوتهم في
حجارة و (فرعون) هو فرعون موسى واختلف في أوتاده فقيل: أبنيته العالية وقيل
جنوده الذين بهم يثبت ملكه وقيل المراد أوتاد أخبية عساكره وذكرت لكثرتها قاله ابن
عباس وقال مجاهد كان يوتد الناس بأوتاد حديد يقتلهم بذلك يضربها في أبدانهم
حتى تنفذ إلى الأرض وقيل غير هذا والصب مستعمل في السوط وانما خص السوط
بان يستعار للعذاب لأنه يقتضى من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره وقال
بعض اللغويين: السوط هنا مصدر من ساط يسوط إذا خلط فكأنه قال خلط عذاب.
* ص * قال ابن الأنباري: (ان ربك لبالمرصاد) هو جواب القسم وقيل:
محذوف وقيل: الجواب: (هل في ذلك) و (هل) بمعنى " ان " وليس بشئ انتهى
و (المرصاد) والمرصد: موضع الرصد قاله بعض اللغويين اي انه تعالى عند لسان كل
قائل ومرصد لكل فاعل وإذا علم العبد ان مولاه له بالمرصاد ودامت مراقبته في الفؤاد
حضره الخوف والحذر لا محالة (واعلموا ان الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) [البقرة: 235]
قال أبو حامد في " الاحياء " وبحسب معرفة العبد بعيوب نفسه ومعرفته بجلال ربه
وتعاليه واستغنائه وانه لا يسئل عما يفعل تكون قوة خوفه فأخوف الناس لربه أعرفهم
بنفسه وبربه ولذا قال صلى الله عليه وسلم " انا أخوفكم لله " ولذلك قال تعالى: (انما يخشى الله من
عباده العلماء) [فاطر: 28] ثم إذا كملت المعرفة أورثت الخوف واحتراق القلب ثم
586

يفيض اثر الحرقة من القلب على البدن فتنقمع الشهوات وتحترق بالخوف ويحصل في
القلب الذبول والخشوع والذلة والاستكانة ويصير العبد مستوعب الهم بخوفه والنظر في
خطر عاقبته فلا يتفرغ لغيره ولا يكون له شغل الا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة
والضنة بالأنفاس واللحظات ومؤاخذة النفس في الخطرات والخطوات والكلمات ثم
قال: واعلم أنه لا تنقمع الشهوات بشئ كما تنقمع بنار الخوف انتهى.
وقوله سبحانه: (فاما الانسان إذا ما ابتلاه ربه...) الآية ذكر تعالى في هذه الآية
ما كانت قريش تقوله وتستدل به على اكرام الله واهانته لعبده وجاء هذا التوبيخ في الآية
لجنس الانسان إذ قد يقع بعض المؤمنين في شئ من هذا المنزع و (ابتلاه) معناه:
اختبره و (نعمه) اي جعله ذا نعمة.
و " قدر " بتخفيف الدال بمعنى: ضيق ثم قال تعالى: (كلا) ردا على قولهم
ومعتقدهم اي ليس اكرام الله تعالى واهانته كذلك وانما ذلك ابتلاء فحق من ابتلي
بالغنى ان يشكر ويطيع ومن ابتلي بالفقر ان يشكر ويصبر واما اكرام الله فهو بالتقوى
واهانته فبالمعصية و (طعام) في هذه الآية بمعنى: اطعام ثم عدد عليهم جدهم في أكل
لتراث لأنهم كانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد وانما كان يأخذ المال من يقاتل
ويحمى الحوزة و " اللم " الجمع واللف قال الحسن هو ان يأخذ في الميراث حظه وحظ
غيره والجم الكثير الشديد ومنه قول الشاعر: [الرجز]
ان تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما.
ومنه الجم من الناس ودك الأرض تسويتها.
587

وقوله تعالى: (وجاء ربك) معناه جاء امره وقضاؤه وقال منذر بن سعيد: معناه
ظهوره للخلق هنالك ليس مجئ نقلة وكذلك مجئ الصاخة ومجئ الطامة
والملك اسم جنس يريد به جميع الملائكة و (صفا) اي صفوفا حول الأرض يوم القيامة
على ما تقدم في غير هذا الموضع و (جئ يومئذ بجهنم) روي في قوله تعالى: (وجئ
يومئذ بجهنم) بأنها تساق إلى المحشر بسبعين الف زمام يمسك كل زمام سبعون الف
ملك فيخرج منها عنق فينتقي الجبابرة من الكفار في حديث طويل باختلاف ألفاظ.
وقوله تعالى: (يومئذ يتذكر الانسان) معناه: يتذكر عصيانه وما فاته من العمل
الصالح وقال الثعلبي: " يومئذ يتذكر الانسان " اي يتعظ ويتوب " وانى له الذكرى "
انتهى.
وقوله: (يا ليتني قدمت لحياتي) قال الجمهور: معناه لحياتي الباقية يريد في
الآخرة.
(فيومئذ لا يعذب عذابه أحد) اي لا يعذب كعذاب الله أحد في الدنيا ولا يوثق
كوثاقه أحد ويحتمل المعنى ان الله تعالى لا يكل عذاب الكافر يومئذ إلى أحد وقرأ
الكسائي - بفتح الذال والثاء - اي لا يعذب كعذاب الكافر أحد من الناس ثم عقب
تعالى بذكر نفوس المؤمنين وحالهم فقال: (يا أيتها النفس المطمئنة) الآية والمطمئنة
معناه: الموقنة غاية اليقين ألا ترى قول إبراهيم عليه السلام (ولكن ليطمئن قلبي)
[البقرة: 260] فهي درجة زائدة على الايمان واختلف في هذا النداء متى يقع فقال
جماعة: عند خروج روح المؤمن وروي في ذلك حديث و (في عبادي) اي: في عداد
عبادي الصالحين وقال قوم: النداء عند قيام الأجساد من القبور فقوله: (ارجعي إلى
ربك) معناه بالبعث و " ادخلي في عبادي " اي في الأجساد وقيل: النداء هو الآن
588

للمؤمنين وقال آخرون هذا النداء انما هو في الموقف عند ما ينطلق بأهل النار إلى النار.
* ت * ولا مانع أن يكون النداء في جميع هذه المواطن ولما تكلم ابن عطاء الله في
مراعاة أحوال النفس قال رب صاحب ورد عطله عن ورده والحضور فيه مع ربه هم التدبير
في المعيشة وغيرها من مصالح النفس وأنواع وساوس الشيطان في التدبير لا تنحصر
ومتى أعطاك الله سبحانه الفهم عنه عرفك كيف تصنع فأي عبد توفر عقله واتسع نوره
نزلت عليه السكينة من ربه فسكنت نفسه عن الاضطراب ووثقت بولي الأسباب فكانت
مطمئنة اي: خامدة ساكنة مستسلمة لاحكام الله ثابتة لأقداره وممدودة بتأييده وأنواره
فاطمأنت لمولاها لعلمها بأنه يراها: (أو لم يكف بربك انه على كل شئ شهيد)
[فصلت: 53] فاستحقت ان يقال لها: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية
مرضية) وفي الآية خصائص عظيمة لها منها ترفيع شأنها بتكنيتها ومدحها بالطمأنينة ثناء منه
سبحانه عليها بالاستسلام إليه والتوكل عليه والمطمئن المنخفض من الأرض فلما
انخفضت بتواضعها وانكسارها اثنى عليها مولاها ومنها قوله: (راضية) اي: عن الله
في الدنيا بأحكامه و (مرضية) في الآخرة يجوده وانعامه وفي ذلك إشارة للعبد انه لا
يحصل له أن يكون مرضيا عند الله في الآخرة حتى يكون راضيا عن الله في الدنيا انتهى
من " التنوير ".
589

[تفسير] سورة " البلد "
وهي مكية في قول الجمهور وقيل مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد) الكلام في لا تقدم في / (لا أقسم) [القيامة: 1]
والبلد هو: " مكة ".
وقوله تعالى: (وأنت حل) قال ابن عباس وجماعة: معناه وأنت حلال بهذا البلد
يحل لك فيه قتل من شئت وكان هذا يوم فتح مكة وعلى هذا يتركب قول من قال:
السورة مدنية نزلت عام الفتح وقال آخرون: المعنى وأنت حال ساكن بهذا البلد.
وقوله تعالى: (ووالد وما ولد) قال مجاهد: هو آدم وجميع ولده وقال ابن
عباس: ما معناه ان الوالد والولد هنا على العموم فهي أسماء جنس يدخل فيها جميع
الحيوان والقسم واقع على قوله: (لقد خلقنا الانسان في كبد) قال الجمهور الانسان
اسم جنس والكبد المشقة والمكابدة اي يكابد امر الدنيا والآخرة وروي ان سبب
نزول هذه الآية رجل من قريش يقال له أبو الأشد وقيل نزلت في عمرو بن عبد ود
590

وقال: مقاتل نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره
بالكفارة فقال: لقد أهلكت مالا في الكفارة والنفقات مذ تبعت محمدا وكان كل
واحد منهم قد ادعى انه أنفق مالا كثيرا على افساد امر النبي صلى الله عليه وسلم أو في الكفارات على ما
تقدم.
وقوله: (أهلكت مالا لبدا) اي: أنفقت مالا كثيرا ومن قال: إن المراد اسم
الجنس غير معين جعل قوله: (أيحسب إن لم يره أحد) بمعنى: أيظن الانسان ان ليس
عليه حفظة يرون أعماله ويحصونها إلى يوم الجزاء قال السهيلي: وهذه الآية وإن نزلت
في أبي الأشد فان الألف واللام في الانسان للجنس فيشترك معه في الخطاب كل من ظن
ظنه وفعل مثل فعله وعلى هذا أكثر القرآن ينزل في السبب الخاص بلفظ عام يتناول
المعنى العام انتهى وخرج مسلم عن أبي برزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزول قدما
العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن
علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه " وخرجه أيضا الترمذي وقال
فيه: حديث حسن صحيح انتهى وقرأ الجمهور: (لبدا) اي: كثيرا متلبدا بعضه
فوق بعض ثم عدد تعالى على الانسان نعمه في جوارحه و (النجدين): قال ابن عباس
والناس: هما طريقا الخير والشر اي عرضنا عليه طريقهما وليست الهداية هنا بمعنى
الارشاد وقال الضحاك: النجدان ثديا الأم وهذا مثال والنجد: الطريق المرتفع.
591

وقوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة) الآية قوله " فلا " هو عند الجمهور تحضيض
بمعنى: ألا اقتحم والعقبة في هذه الآية على عرف الكلام العرب استعارة لهذا العمل الشاق
على النفس من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل و (اقتحم): معناه دخلها
وجاوزها بسرعة وضغط وشدة ثم عظم تعالى امر العقبة في النفوس بقوله (وما ادراك ما
العقبة) ثم فسر اقتحام العقبة بقوله: (فك رقبة) الآية وهذا على قراءة من قرأ: (فك
رقبة) بالرفع على المصدر واما من قرأ: " فك رقبة أو أطعم " على الفعل ونصب الرقبة
وهي قراءة أبي عمرو فليس يحتاج ان يقدر وما ادراك ما اقتحام بل يكون التعظيم
للعقبة نفسها ويجئ (فك) بدلا من (اقتحم) ومبينا له وفك الرقبة هو عتقها من ربقة
الأسر أو الرق وفي الحديث / عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أعتق نسمة مؤمنة أعتق الله بكل عضو
منها عضوا منه من النار " والمسبغة: المجاعة والساغب الجائع و (ذا مقربة):
معناه ذا قرابة لتجتمع الصدقة والصلة و (ذا متربة): معناه مدقعا قد لصق بالتراب
وهذا ينحو إلى أن المسكين أشد فاقة من الفقير قال سفيان: هم المطروحون على ظهر
الطريق قعودا على التراب لا بيوت لهم وقال ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم
يقلب وجهه إلى بيته مستيقنا انه ليس فيه الا التراب.
وقوله تعالى: (ثم كان) معطوف على قوله: (اقتحم) والمعنى: ثم كان وقت
اقتحامه العقبة من الذين آمنوا.
592

وقوله تعالى: (وتواصوا بالصبر) معناه: على طاعة الله وبلائه وقضائه وعن
الشهوات والمعاصي و (المرحمة) قال ابن عباس: كل ما يؤدي إلى رحمة الله تعالى
وقال آخرون: هو التراحم والتعاطف بين الناس وفي ذلك قوام الناس ولو لم يتراحموا
جملة لهلكوا و (الميمنة) فيما روي عن يمين العرش وهو موضع الجنة ومكان
المرحومين من الناس و (المشأمة) الجانب الأشأم وهو الأيسر وفيه جهنم وهو طريق
المعذبين و (مؤصدة) معناه: مطبقة مغلقة.
593

[تفسير] سورة " الشمس "
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
أقسم الله تعالى بالشمس اما على التنبيه منها على الاعتبار المؤدي إلى معرفة
الله تعالى واما على تقدير ورب الشمس والضحى - بالضم والقصر - ارتفاع ضوء
الشمس واشراقه قاله مجاهد وقال مقاتل: (ضحاها) حرها كقوله في طه: (ولا
تضحى) [طه: 119] والضحاء بفتح / الضاد والمد ما فوق ذلك إلى الزوال والقمر
يتلو الشمس من أول الشهر إلى نصفه في الغروب تغرب هي ثم يغرب هو ويتلوها في
النصف الآخر بنحو آخر وهو ان تعرب هي فيطلع هو وقال الحسن: (تلاها) معناه
تبعها دأبا في كل وقت لأنه يستضئ منها فهو يتلوها لذلك وقال الزجاج وغيره: تلاها
في المنزلة من الضياء والقدر: لأنه ليس في الكواكب شئ يتلو الشمس في هذا المعنى غير
القمر.
وقوله: (والنهار) ظاهر هذه السورة والتي بعدها ان النهار من طلوع الشمس
وكذلك قال الزجاج في كتاب " الأنواء " وغيره واليوم من طلوع الفجر ولا يختلف ان
نهايتهما مغيب الشمس والضمير في (جلاها) يحتمل ان يعود على الشمس ويحتمل ان
594

يعود على الأرض أو على الظلمة وان كان لم يجر لذلك ذكر فالمعنى يقتضيه قاله
الزجاج و " جلى " معناه كشف وضوى والفاعل ب‍ " جلى " على هذه التأويلات النهار
ويحتمل أن يكون الفاعل الله تعالى كأنه قال: والنهار إذ جلى الله الشمس فاقسم
بالنهار في أكمل حالاته و " يغشي " معناه: يغطى والضمير للشمس على تجوز في المعنى
أو للأرض.
وقوله تعالى: (وما بناها) وكل ما بعده من نظائره في السورة يحتمل ان تكون
ما فيه بمعنى الذي قاله أبو عبيدة اي ومن بناها وهو قول الحسن ومجاهد فيجئ
القسم بالله تعالى ويحتمل ان تكون ما في جميع ذلك مصدرية قاله قتادة والمبرد
والزجاج كأنه قال: والسماء وبنائها و " طحا " بمعنى دحا * ت *: قال الهروي
قوله تعالى: (والأرض وما طحاها) اي بسطها فأوسعها ويقال طحا به الامر اي اتسع به
في المذهب انتهى والنفس التي أقسم بها سبحانه اسم جنس وتسويتها اكمال عقلها
ونظرها.
الثعلبي: (فسواها) اي: عدل خلقها انتهى.
وقوله سبحانه: (فألهمها فجورها وتقواها) اي: عرفها طرق ذلك وجعل لها
قوة يصح معها اكتساب الفجور أو اكتساب التقوى وجواب القسم في قوله: (قد أفلح)
والتقدير: لقد أفلح زاد * ص * وحذفت اللام للطول انتهى والفاعل ب‍ " زكي "
يحتمل أن يكون الله تعالى قاله ابن عباس وغيره ويحتمل أن يكون الانسان قاله
595

الحسن وغيره و (زكاها) اي طهرها ونماها بالخيرات و (دساها) معناه: أخفاها
وحقرها وصغر قدرها بالمعاصي والبخل بما يجب واصل " دسى ": دسس ومنه قول
الشاعر: [الطويل]
ودسست عمرا في التراب فأصبحت * حلائله منه أرامل ضيعا.
* ت * قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: ومن عيوب النفس الشفقة عليها
والقيام بتعهدها وتحصيل مآربها ومداواتها الاعراض عنها وقلة الاشتغال بها كذلك
سمعت جدي يقول: من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه انتهى من تأليفه في عيوب
النفس وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: " اللهم آت نفسي تقواها وزكها
أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها " قال " صاحب الكلم الفارقية والحكم
الحقيقية " النفس الزكية زينتها نزاهتها وعافيتها عفتها وطهارتها ورعها وغناها ثقتها
بمولاها وعلمها بأنه لا ينساها انتهى ولما ذكر تعالى خيبة من دسى نفسه ذكر فرقة
فعلت ذلك ليعتبر بهم وينتهى / عن مثل فعلهم والطغوى: مصدر وقال ابن عباس:
الطغوى هنا العذاب كذبوا به حتى نزل بهم ويؤيده قوله تعالى: (فاما ثمود فأهلكوا
بالطاغية) [الحاقة: 5] وقال جمهور من المتأولين: الباء سببية والمعنى كذبت ثمود
نبيها بسبب طغيانها و (أشقاها) هو قدار ابن سالف وقد تقدم قصصهم * ت *
(وناقة الله وسقياها) قيل: نصب بفعل مضمر تقديره احفظوا أو ذروا وقال * ص *
(ناقة الله) الجمهور بنصب (ناقة) على التحذير اي احذروا ناقة الله وهو مما يجب
إضمار عامله انتهى و (دمدم) معناه انزل العذاب مقلقلا لهم مكررا ذلك وهي
الدمدمة الثعلبي قال مؤرج: الدمدمة اهلاك باستئصال انتهى وكذلك قال أبو حيان
وقال الهروي: قال الأزهري: (فدمدم عليهم ربهم) اي أطبق عليهم العذاب وقيل
596

(فدمدم عليهم) اي: غضب عليهم انتهى.
وقوله تعالى: (فسواها) اي فسوى القبيلة في الهلاك لم ينج منهم أحد وقرأ نافع
وابن عامر: " فلا يخاف عقباها " والمعنى: فلا درك على الله تعالى في فعله بهم وهذا
قول ابن عباس والحسن ويحتمل أن يكون الفاعل ب‍ (يخاف) صالحا - عليه السلام -
اي: لا يخاف عقبى هذه الفعلة بهم إذ كان قد أنذرهم وقرأ الباقون: " ولا يخاف " بالواو
فتحتمل الوجهين وتحتمل هذه القراءة وجها ثالثا أن يكون الفاعل ب‍ (يخاف) المنبعث
قاله الزجاج والضحاك والسدي وغيرهم وتكون الواو واو الحال كأنه قال: انبعث
لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله.
597

[تفسير] سورة " الليل "
وهي مكية في قول المجهور
بسم الله الرحمن الرحيم
أقسم تعالى بالليل إذا غشي الأرض وجميع ما فيها وبالنهار إذا تجلى اي: ظهر
وضوى الآفاق وقال * ص * (يغشي) مفعوله محذوف فيحتمل أن يكون النهار
كقوله: (يغشى الليل النهار) [الأعراف: 54] أو الشمس كقوله تعالى: (والليل إذا
يغشاها) [الشمس: 4] وقيل الأرض وما فيها انتهى.
وقوله تعالى: (وما خلق الذكر والأنثى) يحتمل ان تكون " ما " بمعنى: " الذي "
ويحتمل ان تكون مصدرية والذكر والأنثى هنا عام وقال الحسن المراد آدم وحواء
والسعي العمل فأخبر تعالى مقسما ان اعمال العباد شتى اي مفترقة جدا بعضها في
رضى الله وبعضها في سخطه ثم قسم تعالى الساعين فقال: (فاما من أعطى واتقى)
الآية ويروي ان هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -.
وقوله تعالى: (وصدق بالحسنى) قيل: هي لا إله إلا الله وقيل هي الخلف الذي
وعد الله به وقيل هي الجنة وقال كثير من المتأولين الحسنى الأجر والثواب
مجملا والعسرى: الحال السيئة في الدنيا والآخرة ومن جعل (بخل) في المال خاصة
جعل (استغنى) في المال أيضا لتعظم المذمة ومن جعل (بخل) عاما في جميع ما
ينبغي ان يبذل من قول أو فعل قال (استغنى) عن الله ورحمته بزعمه وظاهر قوله
598

(وما يغنى عنه ماله) ان الاعطاء والبخل المذكورين انما هما في المال.
وقوله تعالى: (إذا تردى) قال قتادة وغيره معناه تردى في جهنم وقال
مجاهد (تردى) معناه هلك من الردى وخرج البخاري وغيره عن علي
رضي الله عنه قال " كنا مع النبي صلى لله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال ما منكم من
أحد أو ما من نفس منفوسة الا وقد كتب مكانها من الجنة والنار والا قد كتبت شقية أو
سعيدة فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان منا من أهل
السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل
الشقاء قال اما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة واما أهل الشقاوة فييسرون
لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ (فاما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى) إلى قوله
(للعسرى) وفي رواية لما قيل له أفلا نتكل على كتابنا قال لا بل اعملوا فكل
ميسر لما خلق له الحديث وخرجه الترمذي أيضا انتهى قال ابن العربي في " احكامه "
" وسأل شابان رسول الله صلى لله عليه وسلم فقالا العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم في
شئ مستأنف فقال بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير قالا ففيم العمل
اذن قال اعملوا فكل ميسر لعمله الذي خلق له " قالا فالآن نجد ونعمل " انتهى
وقال قوم معنى تردى اي بأكفانه من الرداء ومنه قول الشاعر [الطويل]
599

نصيبك مما تجمع الدهر كله * رداء قبل أن تلوى فيهما وحنوط
ثم أخبر تعالى ان عليه هدى الناس جميعا اي تعريفهم بالسبل كلها وليست هذه
الهداية بالارشاد إلى الايمان ولو كان ذلك لم يوجد كافر قال البخاري " تلظى " توهج
وقال الثعلبي تتوقد وتتوهج انتهى.
وقوله سبحانه: (لا يصلاها الا الأشقى) المعنى: لا يصلاها صلي خلود ومن هنا
ضلت المرجئة لأنها اخذت نفي الصلي مطلقا ولم يختلف أهل التأويل ان المراد بالأتقى
إلى اخر السورة / أبو بكر الصديق ثم هي تتناول كل من دخل في هذه الصفات وباقي
الآية بين ثم وعده تعالى بالرضى في الآخرة وهذه عدة لأبي بكر رضي الله عنه.
600

تفسير سورة " الضحى "
وهي مكية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
تقدم تفسير (الضحى) بأنه سطوع الضوء وعظمه وقال قتادة (الضحى) هنا
النهار كله و (سجى) معناه سكن واستقر ليلا تاما وقيل: معناه اقبل وقيل معناه
أدبر والأول أصح وعليه شواهد وقال البخاري: قال مجاهد (إذا سجى) استوى
وقال غيره أظلم وسكن انتهى وقرأ الجمهور: (ما ودعك) - بشد الدال - من التوديع
وقرئ بالتخفيف بمعنى ما تركك وقال البخاري (ما ودعك ربك) بالتشديد
والتخفيف ما تركك انتهى.
و (قلى) أبغض نزلت بسبب إبطاء الوحي مدة (وللآخرة) يعنى الدار الآخرة خير
لك من الدنيا (ولسوف يعطيك ربك فترضى) قيل هي أرجئ اية في القرآن لأنه صلى الله عليه وسلم لا
يرضى وواحد من أمته في النار وروي انه - عليه الصلاة والسلام - قال لما نزلت " اذن
لا أرضى واحد من أمتي في النار " قال عياض وهذه آية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع
601

السعادة في الدارين انتهى [* ت *: وفي " صحيح مسلم " من رواية عبد الله بن
عمرو بن العاصي ان النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام (رب
انهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) [إبراهيم: 36]
وقول عيسى عليه السلام (ان تعذبهم فإنهم عبادك وان تغفر لهم فإنك أنت العزيز
الحكيم) [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله جل
ثناؤه يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له انا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك انتهى
مختصرا] ثم وقف تعالى نبيه على المراتب التي درجه عنها بانعامه فقال (ألم يجدك
يتيما فآوى).
وقوله تعالى: (ووجدك ضالا فهدى) اختلف الناس في تأويله والضلال يختلف
فمنه البعيد ومنه القريب فالبعيد ضلال الكفار وهذا قد عصم الله منه نبيه فلم يعبد صلى الله عليه وسلم
صنما قط ولا تابع الكفار على شئ مما هم عليه من الباطل وانما ضلاله صلى الله عليه وسلم هو كونه
واقفا لا يميز المهيع بل يدبر وينظر وقال الترمذي وعبد العزيز بن يحيى: (ضالا)
معناه: خامل الذكر لا يعرفك الناس فهداهم إليك ربك والصواب انه ضلال من توقف
لا يدرى كما قال عز وجل: (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان) [الشورى: 52]
وقال الثعلبي قال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة مفردة في فلاة سموها ضالة
فيهتدى بها إلى الطريق اي فوجدتك وحيدا ليس معك نبي غيرك فهديت بك الخلق
إلي انتهى قال عياض قال الجنيد المعنى ووجدك متحيرا في بيان ما انزل إليك
فهداك لبيانه لقوله (وأنزلنا إليك الذكر...) [النحل: 44] الآية قال عياض ولا
أعلم أحدا من المفسرين قال فيها ضالا عن الايمان وكذلك في قصة موسى عليه
السلام قوله (فعلتها إذا وانا من الضالين) [الشعراء: 20] اي المخطئين وقال ابن
عطاء (ووجدك ضالا) اي محبا لمعرفتي والضال: المحب كما قال تعالى (انك
لفي ضلالك القديم) [يوسف: 95] اي: محبتك القديمة انتهى والعائل الفقير
(فأغنى) اي بالقناعة والصبر ثم وصاه تعالى بثلاث وصايا بإزاء هذه النعم الثلاث
و (السائل) هنا قال أبو الدرداء هو السائل عن العلم وقيل هو سائل المال وقال
602

إبراهيم بن أدهم نعم القوم السؤال يحملنا زادنا إلى الآخرة.
وقوله تعالى: (واما بنعمة ربك فحدث) قال مجاهد وغيره معناه بث القرآن وبلغ
ما أرسلت به قال عياض وهذا الامر يعم الأمة انتهى وقال آخرون بل هو عموم
في جميع النعم وفي " سنن أبي داود " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أعطوا الأجير حقه قبل أن
يجف عرقه وأعطوا السائل وان جاء على فرس " قال البغوي في " المصابيح " هذا حديث مرسل انتهى.
603

تفسير سورة " الشرح "
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
عدد الله تعالى على نبيه نعمه عليه في أن شرح صدره للنبوة وهيأه لها وذهب
الجمهور إلى أن شرح الصدر المذكور انما هو تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقى ما يوحى
إليه وقال ابن عباس وجماعة هذه إشارة إلى شرحه بشق جبريل عنه في وقت صغره
وفي وقت الاسراء إذ التشريح شق اللحم والوزر الذي وضعه الله عنه هو عند بعض
المتأولين الثقل الذي كان يجده صلى الله عليه وسلم في نفسه من أجل ما كانت قريش فيه من عبادة
الأصنام فرفع الله عنه ذلك الثقل بنبوته وإرساله وقال أبو عبيدة وغيره المعنى خففنا
عنك أثقال النبوة وأعناك على الناس وقيل الوزر هنا الذنوب نظير قوله تعالى
(ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك) [الفتح: 2] وقد تقدم بيانه الثعلبي: وقيل معناه
عصمناك من احتمال الوزر انتهى (وانقض) معناه جعله نقضا اي هزيلا من
الثقل قال عياض ومعنى انقض اي كاد ينقضه انتهى (ورفعنا لك ذكرك) اي نوهنا
باسمك قال (ع) ورفع الذكر نعمة على الرسول وكذلك هو جميل حسن للقائمين
بأمور الناس وخمول الاسم والذكر حسن للمنفردين للعبادة والمعنى في هذا التعديد
انا قد فعلنا جميع هذا بك فلا تكترث بأذى قريش فان الذي فعل بك هذه النعم سيظفرك
بهم قال عياض: وروى أبو سعيد الخدري ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " اتاني جبريل فقال إن
ربي وربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت الله تعالى اعلم قال إذا ذكرت
ذكرت معي " انتهى ثم قوى سبحانه رجاءه بقوله (فان مع العسر يسرا) وكرر تعالى
604

ذلك مبالغة وذهب كثير من العلماء إلى أن مع كل عسر يسرين بهذه الآية من حيث إن
العسر معرف للعهد واليسر منكر فالأول غير الثاني وقد جاء في هذا التأويل حديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لن يغلب عسر يسرين " ثم امر تعالى نبيه إذا فرغ من شغل من
اشغال النبوة والعبادة ان ينصب في آخره والنصب التعب والمعنى ان يدأب على ما
امر به ولا يفتر وقال ابن عباس إذا فرغت من فرضك فانصب في التنفل عبادة لربك
ونحوه عن ابن مسعود وعن مجاهد فإذا فرغت من العبادة فانصب في الدعاء.
وقوله تعالى (والى ربك فارغب) امر بالتوكل على الله عز وجل وصرف
وجوه الرغبات إليه لا إلى سواه.
605

تفسير سورة " التين "
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن عباس وغيره: " التين والزيتون " المقسم بهما هما المعروفان وقال السهيلي
أقسم تعالى بطور تينا وطور زيتا وهما جبلان عند بيت المقدس وكذلك طور سيناء
ويقال: ان سيناء هي الحجارة والطور عند أكثر الناس هو الجبل وقال الماوردي: / ليس
كل جبل يقال له طور الا ان تكون فيه الأشجار والثمار والا فهو جبل فقط انتهى
(وطور سينين) جبل بالشام (والبلد الأمين) مكة والقسم واقع على قوله تعالى (لقد
خلقنا الانسان في أحسن تقويم) [اي في أحسن تقويم] ينبغي له وقال بعض العلماء
بالعموم اي الانسان أحسن المخلوقات تقويما ولم ير قوم الحنث على من حلف
بالطلاق ان زوجته أحسن من الشمس محتجين بهذه الآية وحسن التقويم يشمل جميع
محاسن الانسان الظاهرة والباطنة من حسن صورته وانتصاب قامته وكمال عقله
وحسن تمييزه والانسان هنا اسم جنس وتقدير الكلام في تقويم أحسن تقويم لان
(أحسن) صفة لا بد ان تجري على موصوف.
(ثم رددناه أسفل سافلين) قال قتادة وغيره معناه بالهرم وذهول العقل وهذه عبرة
منصوبة وعبارة الثعلبي: (في أحسن تقويم) قيل اعتداله واستواء شبابه وهو أحسن
ما يكون (ثم رددناه أسفل سافلين) بالهرم كما قال (إلى أرذل العمر) [الحج: 5]
والسافلون الهرمى والزمني والذين حبسهم عذرهم عن الجهاد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فانزل
606

الله عذرهم وأخبرهم ان لهم اجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم انتهى وفي
البخاري عنه صلى الله عليه وسلم " إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا "
وهكذا قال في الذين حبسهم العذر انتهى قال * ص * (إلا الذين) قيل منقطع بناء
على أن معنى (أسفل سافلين) بالهرم وذهول العقل وقيل متصل بناء على أن معناه في
النار على كفره انتهى قال (ع) وفي حديث عن انس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفف الله حسابه فإذا بلغ ستين رزقه
الإنابة إليه فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء فإذا بلغ ثمانين كتبت حسناته وتجاوز الله عن
سيئاته فإذا بلغ تسعين غفرت ذنوبه وشفع في أهل بيته وكان أسير الله في ارضه فإذا بلغ
مائة ولم يعمل شيئا كتب له مثل ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة " وفي
حديث " ان المؤمن إذا رد إلى أرذل العمر كتب له خيرا ما كان يعمل في قوته " وذلك
اجر غير ممنون ثم قال سبحانه إلزاما للحجة وتوبيخا للكافر (فما يكذبك) أيها
الانسان اي فما يجعلك ان تكذب بعد هذه الحجة بالدين وقال قتادة المعنى فمن
يكذبك يا محمد فيما تخبر به من الجزاء والحساب وهو الدين بعد هذه العبر
ويحتمل ان يريد ب‍ (الدين) جميع دينه وشرعه وروي عن قتادة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ
(أليس الله بأحكم الحاكمين) قال بلى وانا على ذلك من الشاهدين قال ابن العربي
في " احكامه " روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قرأ أحدكم
(أليس الله بأحكم الحاكمين) فليقل بلى وانا على ذلك من الشاهدين " ومن رواية
عبد الله " إذا قرأ أحدكم أو سمع: (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) [القيامة: 40]
فليقل بلى انتهى * ت * وهذان الحديثان وان كان قد ضعفهما ابن العربي
فهما مما ينبغي ذكرهما في فضائل الأعمال والله الموفق بفضله.
607

تفسير سورة " العلق "
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك) هو أول ما نزل من كتاب الله تعالى نزل صدر
هذه الآية إلى قوله (ما لم يعلم) في غار حراء حسب ما ثبت في صحيح البخاري
وغيره ومعنى قوله (اقرأ باسم ربك) اي اقرأ هذا القرآن باسم ربك اي مبتدئا باسم
ربك ويحتمل أن يكون المقروء الذي امر بقراءته هو (باسم ربك الذي خلق) كأنه قيل
له اقرأ هذا اللفظ والعلق جمع علقة وهي القطعة اليسيرة من الدم والانسان هنا اسم
جنس ثم قال تعالى (اقرأ وربك الأكرم) على جهة التأنيس كأنه يقول امض لما أمرت
به وربك ليس كهذه الأرباب بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص ثم عدد تعالى نعمة
الكتابة بالقلم على الناس وهي من أعظم النعم.
و (علم الانسان ما لم يعلم) قيل: هو آدم وقيل [هو] اسم جنس وهو الأظهر.
وقوله تعالى (كلا ان الانسان ليطغى) إلى اخر السورة نزلت في أبي جهل وذلك
أنه طغى لغناه وكثرة من يغشى ناديه فناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهاه عن الصلاة في
المسجد وقال لئن رأيت محمدا يسجد عند الكعبة لأطأن عنقه فيروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رد
عليه القول وانتهره وعبارة الداودي فتهدده النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل أتهددني؟ اما
والله اني لأكثر أهل الوادي ناديا فنزلت الآية انتهى.
و (كلا) رد على أبي جهل ويتجه ان تكون بمعنى حقا والضمير في (رآه)
للانسان المذكور كأنه قال إن رأي نفسه غنيا وهي رؤية قلبية ولذلك جاز ان يعمل فعل
608

الفاعل في نفسه كما تقول وجدتني / وظننتني ثم حقر تعالى غنى هذا الانسان وحاله
بقوله (ان إلى ربك الرجعي) أي بالحشر والبعث يوم القيامة وفي هذا الخبر وعيد
للطاغين من الناس ثم صرح بذكر الناهي لمحمد عليه السلام ولا خلاف ان الناهي
أبو جهل وان العبد المصلي هو محمد عليه السلام.
وقوله تعالى: (ألم يعلم بان الله يرى) اكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوقيفات
الثلاث يصلح مع كل واحد منها * ت * وفي قوله تعالى (ألم يعلم بان الله يرى)
ما يثير الهمم الراكدة ويسيل العيون الجامدة ويبعث على الحياء والمراقبة قال الغزالي
اعلم أن الله مطلع على ضميرك ومشرف على ظاهرك وباطنك فتأدب أيها المسكين
ظاهرا وباطنا بين يديه سبحانه واجتهد أن لا يراك حيث نهاك ولا يفقدك حيث امرك ولا
تدع عنك التفكر في قرب الاجل وحلول الموت القاطع للأمل وخروج الامر من
الاختيار وحصول الحسرة والندامة بطول الاغترار انتهى ثم توعده تعالى لئن لم ينته
ليؤخذن بناصيته فيجر إلى جهنم ذليلا تقول العرب: سفعت بيدي ناصية الفرس
والرجل إذا جذبتها مذللة وقال بعض العلماء بالتفسير: معناه لتحقرن عند من قولهم سفعته
النار واكتفى بذكر الناصية لدلالتها على الوجه والرأس والناصية مقدم شعر الرأس ثم
أبدل النكرة من المعرفة في قوله (ناصية كاذبة) ووصفها بالكذب والخطأ من حيث هي
صفات لصاحبها.
قوله: (فليدع ناديه) اي أهل مجلسه والنادي والندي المجلس ومنه دار الندوة
وقال البخاري قال مجاهد ناديه: عشيرته.
وقوله: (سندع الزبانية) اي: ملائكة العذاب ثم قال تعالى لنبيه عليه
السلام (كلا لا تطعه) اي: لا تلتفت إلى نهيه وكلامه (واسجد) لربك (واقترب)
إليه بسجودك وفي الحديث " أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد فأكثروا من الدعاء
في السجود فقمن ان يستجاب لكم " وروى ابن وهب عن جماعة من أهل العلم ان
قوله (واسجد) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وان قوله (واقترب) خطاب لأبي جهل اي: ان
609

تجترئ حتى ترى كيف تهلك * ت * والتأويل الأول أظهر يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم
" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " وعن ربيعة بن كعب الأسلمي قال كنت أبيت
مع النبي صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته فقال لي سل فقلت أسألك مرافقتك في الجنة
قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعني على نفسك بكثرة السجود رواه الجماعة
الا البخاري ولفظ الترمذي كنت أبيت عند باب النبي صلى الله عليه وسلم فاعطيه وضوءه فأسمعه
الهوي من الليل يقول سمع الله لمن حمده وأسمعه الهوي من الليل يقول الحمد لله
رب العالمين قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وليس لربيعة في الكتب الستة
سوى هذا الحديث انتهى من " السلاح " وروي ان أبا جهل جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلى فهم
بان يصل إليه ويمنعه من الصلاة ثم كع وولى ناكصا على عقبيه متقيا بيديه فقيل له ما
هذا فقال لقد عرض بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة أخبرنا فيروي ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال " لو دنا منى لأخذته الملائكة عيانا " * ت * ولما لم ينته عدو الله اخذه الله
يوم بدر وأمكن منه وذكر الوائلي الحافظ في كتاب " الإبانة " له من حديث مالك ابن
مغول عن نافع عن ابن عمر قال: " بينا انا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض في
عنقه سلسلة يمسك طرفها اسود فقال: يا عبد الله اسقني فقال ابن عمر لا أدرى
اعرف اسمى أو كما يقول الرجل يا عبد الله فقال لي الأسود لا تسقه فإنه كافر ثم
اجتذبه فدخل الأرض قال ابن عمر فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال " أو قد رأيته
ذلك عدو الله أبو جهل بن هشام وهو عذابه إلى يوم القيامة " انتهى يا من " التذكرة "
للقرطبي وقد ذكرت هذه الحكاية عن أبي عمر بن عبد البر بأتم من هذا عند قوله تعالى
(فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا...) [فصلت: 27] الآية.
610

تفسير سورة " القدر "
قال ابن عباس هي مدنية وقال قتادة هي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (انا أنزلناه) الضمير في (أنزلناه) للقرآن قال الشعبي وغيره: المعنى
انا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر وقد روي: ان نزول الملك في حراء كان
في العشر الأواخر من رمضان فيستقيم هذا التأويل وقال ابن عباس وغيره أنزله
الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة ثم نجمه على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة وليلة
القدر خصها الله تعالى بفضل عظيم وجعلها أفضل من الف شهر لا ليلة قدر فيها قاله
مجاهد وغيره وخصت هذه الأمة بهذه الفضيلة لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعمار أمته
وتقاصرها / وخشي أن لا يبلغوا من الأعمال مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله
عز وجل ليلة القدر خير من الف شهر قال ابن العربي في " حكامه " وقد روى مالك هذا
الحديث في " الموطأ " ثبت ذلك من رواية ابن القاسم وغيره انتهى ثم فخمها سبحانه
بقوله (وما ادراك ما ليلة القدر) قال ابن عيينة في " صحيح البخاري " ما كان في القرآن
(وما ادراك) فقد اعلمه وما قال (وما يدريك) فإنه لم يعلمه وذكر ابن عباس وغيره
انها سميت ليلة القدر لان الله تعالى يقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العام كلها
611

ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله يكون قال * ع * وليلة القدر مستديرة في أوتار العشر
الأواخر من رمضان هذا هو الصحيح المعول عليه وهي في الأوتار بحسب الكمال
والنقصان في الشهر فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى اخر
الشهر وصح عن [أبي بن] كعب وغيره انها ليلة سبع وعشرين ثم أخبر تعالى ان ليلة
القدر خير من الف شهر وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام وثلث عام وفي الصحيح عن
النبي صلى الله عليه وسلم " من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " (والروح) هو
جبريل عليه السلام وقيل هو صنف حفظة للملائكة قال الفخر: وذكروا في الروح
أقوالا أحدها انه ملك عظيم لو التقم السماوات والأرض كان ذلك له لقمة واحدة
وقيل الروح طائفة من الملائكة لا يراهم الملائكة الا ليلة القدر كالزهاد الذين لا نراهم
الا يوم العيد وقيل: خلق من خلق الله يأكلون [ويشربون] ويلبسون ليسوا من الملائكة
ولا من الانس ولعلهم خدم أهل الجنة وقيل: الروح أشرف الملائكة وقال ابن أبي
نجيح الروح هم الحفظة الكرام الكاتبون والأصح ان الروح ها هنا هو جبريل وتخصيصه
بالذكر لزيادة شرفه انتهى.
وقوله تعالى: (بإذن ربهم من كل امر) الثعلبي: أي بكل امر قدره الله وقضاه في
تلك السنة إلى قابل قاله ابن عباس ثم تبتدئ فتقول (سلام هي) ويحتمل ان يريد من
كل فتنة سلامة انتهى قال * ع * وعلى التأويل الأول يجئ (سلام) خبر ابتداء
مستأنفا اي: سلام هي هذه الليلة إلى أول يومها ثم ذكر ما تقدم وقال الشعبي
ومنصور: (سلام) بمعنى: التحية اي تسلم الملائكة على المؤمنين.
612

تفسير سورة " البينة "
وهي مكية في قول الجمهور وقيل مدنية والأول أشهر
بسم الله الرحمن الرحيم
[قوله تعالى (لم يكن الذين كفروا)] وفي حرف ابن مسعود " لم يكن
المشركون وأهل الكتاب منفكين "
وقوله تعالى (منفكين) معناه منفصلين متفرقين تقول انفك الشئ عن الشئ
إذا انفصل عنه واما انفك التي هي من أخوات " كان " فلا مدخل لها هنا قال مجاهد
وغيره لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة وأوقع المستقبل
موقع الماضي في تأتيهم والبينات محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه قال الثعلبي (والمشركين)
يعنى من العرب وهم عبدة الأوثان انتهى وقال لا الفراء وغيره لم يكونوا منفكين عن
معرفة صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتوكف وفي لامره حتى جاءتهم البينة فتفرقوا عند ذلك ويتجه
في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم
613

منفكين من امر الله ونظره لهم حتى يبعث إليهم رسولا تقوم عليهم به الحجة وتتم على
من آمن به النعمة فكأنه قال ما كانوا ليتركوا سدى والصحف المطهرة القرآن في
صحفه قاله قتادة والضحاك وقال الحسن الصحف المطهرة في السماء (فيها
كتب) اي احكام كتب و (قيمة) معناه قائمة معتدلة آخذه للناس بالعدل ثم ذم تعالى
أهل الكتاب في أنهم لم يتفرقوا في امر محمد صلى الله عليه وسلم الا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة
وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته و (حنفاء) جمع حنيف وهو المستقيم وذكر
الزكاة مع ذكر بني إسرائيل يقوى قول من قال السورة مدنية لان الزكاة انما فرضت
بالمدينة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم انما دفع إلى مناقضة أهل الكتاب بالمدينة وقرأ الجمهور
" وذلك دين القيمة " على معنى الجماعة والفرقة القيمة وقال * ص * قراءة الجمهور
" وذلك دين القيمة " على تقدير الأمة القيمة اي المستقيمة أو الكتب القيمة وقرأ
عبد الله " وذلك الدين القيمة " بتعريف الدين ورفع القيمة صفة والهاء فيه للمبالغة أو
على تأويل ان الدين بمعنى الملة انتهى و (البريئة) جميع الخلق لان الله تعالى برأهم
اي أوجدهم بعد العدم
وقوله تعالى (رضي الله عنهم) قيل ذلك في الدنيا فرضاه عنهم هو ما أظهره
عليهم من امارات رحمته ورضاهم عنه هو رضاهم بجميع ما قسم لهم من جميع
الأرزاق والاقدار قال بعض الصالحين رضي العباد عن الله رضاهم بما يرد من
احكامه ورضاه عنهم ان يوفقهم للرضي عنه وقال سري السقطي إذا كنت لا ترضى عن
الله فكيف تطلب منه ان يرضى عنك وقيل ذلك في الآخرة وخص تعالى بالذكر أهل
الخشية لأنها رأس كل بركة وهي الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر
614

تفسير سورة " الزلزلة "
وهي مكية قاله ابن عباس وغيره وقال قتادة ومقاتل هي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض) قد تقدم معنى الزلزلة والأثقال: الموتى قاله
ابن عباس وقيل أخرجت موتاها وكنوزها وقول الانسان (ما لها) هو على معنى
التعجب من هول ما يرى قال الجمهور الانسان هنا الكافر وقيل عام في المؤمن
والكافر واخبار الأرض قال ابن مسعود وغيره هي شهادتها بما عمل عليها من عمل
صالح وفاسد ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم " فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن انس ولا
جن ولا شئ الا شهد له يوم القيامة "
* ت * وخرج الترمذي في " جامعه " عن أبي هريرة قال " قرأ رسول الله صلى لله عليه وسلم هذه
الآية (يومئذ تحدث اخبارها) قال أتدرون ما اخبارها؟ قالوا الله ورسوله اعلم قال
فان اخبارها ان تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل علي يوم
كذا - كذا فهذه اخبارها " قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح انتهى وكذا رواه
أبو بكر بن الخطيب وفيه عمل علي في يوم كذا وكذا وفي يوم كذا وكذا
615

وقوله تعالى: (بان ربك أوحى لها) الباء باء السبب وقال ابن عباس وغيره المعنى
أوحى إليها قال * ص * المشهور ان (أوحى) يتعدى ب‍ " إلى " وعدي هنا باللام
مراعاة للفواصل وقال أبو البقاء: (لها) بمعنى إليها انتهى.
وقوله سبحانه (يومئذ يصدر الناس اشتاتا) بمعنى ينصرفون من موضع ورودهم
مختلفي الأحوال قال الجمهور ورودهم بالموت وصدورهم هو القيام إلى البعث والكل
سائر إلى العرض ليرى عمله ويقف عليه وقيل: الورود هو ورود المحشر والصدر اشتاتا
هو صدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار ليروا جزاء أعمالهم.
وقوله - جلت عظمته - (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) الآية كان النبي صلى لله عليه وسلم
يسمى هذه الآية الجامعة الفاذة ويروى انه " لما نزلت هذه السورة بكى أبو بكر وقال
يا رسول الله أو اسأل عن مثاقيل الذر فقال له النبي صلى لله عليه وسلم يا أبا بكر ما رأيته في
الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر لك الله مثاقيل ذر الخير إلى الآخرة " قال
الداودي بينما عمر بن الخطاب بطريق مكة ليلا إذا ركب مقبلين من جهة فقال لبعض
من معه سلهم من أين أقبلوا فقال له أحدهم: من الفج العميق يريد البلد العتيق فأخبر
عمر بذلك فقال أوقعوا في هذا قل لهم فما أعظم آية في كتاب الله واحكم آية في
كتاب الله وأعدل آية في كتاب الله وأرجى آية في كتاب الله وأخوف آية في
كتاب الله فقال له قائلهم أعظم آية في كتاب الله آية الكرسي [البقرة: 255] واحكم آية في كتاب
الله (ان الله يأمر بالعدل والاحسان) [النحل: 90] وأعدل آية في كتاب الله
(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وأرجى آية في كتاب
الله (ان الله لا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه اجرا عظيما) [النساء: 40]
وأخوف آية في كتاب الله (من يعمل سواء يجز به) [النساء: 123] فأخبر
عمر بذلك فقال لهم عمر أفيكم ابن أم عبد؟ فقالوا نعم وهو الذي [كلمك] قال
616

عمر كنيف ملئي كل علما آثرنا به أهل القادسية على أنفسنا قال الداوودي ومعنى أعظم آية
يريد في الثواب انتهى.
617

تفسير سورة " العاديات "
وهي مكية في قول جماعة وقيل مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن عباس وغيره المراد ب‍ (العاديات) الخيل لأنها تعدو بالفرسان وتضج
بأصواتها وعن ابن مسعود وعلي ان (العاديات) هنا: الإبل لأنها تضبح في عدوها
قال علي رضي الله عنه والقسم بالإبل العاديات من عرفة ومن المزدلفة، إذا دفع
الحاج، وبإبل غزوة بدر، والضبح تصويت جهير عند العدو، قال الداودي وهو
الصوت الذي يسمع مع أجوافها وقت الركض انتهى.
وقوله تعالى: (فالموريات قدحا) قال علي وابن مسعود هي الإبل وذلك بأنها
في عدوها ترجم الحصباء بالحصباء فتتطاير منها النار فذلك القدح وقال ابن عباس
هي الخيل وذلك بحوافرها في الحجارة وقال ابن عباس أيضا وجماعة الكلام عام
يدخل في القسم كل من يظهر بقدحه نارا * ص * قدحا أبو البقاء مصدر مؤكد
618

لان الموري هو القادح انتهى (فالمغيرات صبحا) قال علي وابن مسعود هي الإبل من
مزدلفة إلى منى وفي بدر وقال ابن عباس وجماعة كثيرة: هي الخيل واللفظة من الغارة
في سبيل الله وغير ذلك من سير الأمم وعرف الغارات انها مع الصباح والنقع الغبار
الساطع المثار والضمير في (به) ظاهره انه للصبح المذكور ويحتمل أن يكون للمكان
والموضع الذي يقتضيه المعنى ومشهور إثارة النقع هو للخيل وقال علي هو هنا للإبل
(فوسطن به جمعا) قال علي وابن مسعود هي الإبل و (جمعا) هي المزدلفة
وقال ابن عباس وجماعة هي الخيل والمراد جمع من الناس هم المغزوون منه والقسم واقع
على قوله (ان الانسان لربه لكنود) وروي عن النبي صلى لله عليه وسلم أنه قال " أتدرون ما الكنود؟
قالوا لا يا رسول الله قال: هو الكفور الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب
عبده " وقد يكون في المؤمنين الكفور بالنعمة فتقدير الآية: ان الانسان لنعمة ربه لكنود
وارض كنود لا تنبت شيئا والكنود العاصي بلغة كندة ويقال للبخيل: كنود وفى
البخاري عن مجاهد الكنود الكفور انتهى.
وقوله تعالى (وانه على ذلك لشهيد) يحتمل الضمير ان يعود على الله تعالى
وقاله قتادة ويحتمل ان يعود على الانسان انه شاهد على نفسه بذلك وهذا قول
مجاهد وغيره.
(وانه لحب الخير) اي وان الانسان لحب الخير والمعنى من أجل حب الخير
(لشديد) اي: بخيل بالمال ضابط له والخير هنا المال ويحتمل ان يراد هنا الخير
الدنيوي من مال وصحة وجاه عند الملوك ونحوه لان الكفار والجهال لا يعرفون غير
ذلك واما [الحب في خير الآخرة فممدوح مرجو له الفوز وقال الفراء معنى الآية ان
619

الانسان لشديد الحب للخير ولما تقدم] الخير قبل " شديد " حذف من آخره لأنه قد جرى
ذكره ولرؤوس: الآي انتهى.
وقوله تعالى: (أفلا يعلم) توقيف اي أفلا يعلم مآله ومصيره فيستعد له.
(وحصل ما في الصدور) اي ميز وابرز ما فيها ليقع الجزاء عليه ويفسر هذا
قوله صلى لله عليه وسلم " يبعثون على نياتهم " وفي قوله تعالى (ان ربهم بهم يومئذ لخبير) وعيد
* ص * والعامل في (يومئذ لخبير) على تضمينه معنى: لمجاز لأنه تعالى خبير
دائما انتهى.
620

تفسير سورة القارعة
وهي مكية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الجمهور (القارعة) القيامة نفسها والفراش الطير الذي يتساقط في النار
ولا يزال يتقحم على المصباح وقال الفراء هو صغير الجراد الذي ينتشر في الأرض
والهواء وفي البخاري: (كالفراش المبثوث) كغوغا الجراد يركب بعضه بعضا كذلك
الناس يومئذ يجول بعضهم في بعض انتهى و (المبثوث) هنا معناه المتفرق جمعه
وجملته موجودة متصلة والعهن هو الصوف والنقش خلخلة يقول الاجزاء وتفريقها عن
تراصيها.
وقوله تعالى (فأمه هاوية) قال كثير من المفسرين المراد بالأم نفس الهاوية وهذا
كما يقال للأرض أم الناس لأنها تؤويهم وقال أبو صالح وغيره المراد أم رأسه لأنهم
يهوون على رؤوسهم وروى المبرد " ان النبي صلى لله عليه وسلم: قال لرجل لا أم لك فقال
يا رسول الله تدعوني إلى الهدى وتقول: لا أم لك فقال عليه السلام انما أردت لا
نار لك قال الله تعالى (فأمه هاوية).
621

تفسير سورة التكاثر
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: (ألهاكم التكاثر) اي شغلكم المباهاة والمفاخرة بكثرة المال والأولاد
والعدد وهذا هجيرى أبناء الدنيا العرب وغيرهم لا يتخلص منه الا العلماء المتقون قال
الفخر فالألف واللام في (التكاثر) ليس للاستغراق بل للمعهود السابق في الذهن وهو
التكاثر في الدنيا ولذاتها وعلائقها فإنه هو الذي يمنع عن طاعة الله وعبوديته ولما كان
ذلك مقررا في العقول ومتفقا عليه في الأديان لا جرم حسن دخول حرف التعريف عليه
فالآية دالة على أن التكاثر والتفاخر بما ذكر مذموم انتهى.
وقوله تعالى (حتى زرتم المقابر) اي حتى متم فدفنتم في المقابر وهذا خبر فيه
تقريع وتوبيخ وتحسر وفي الحديث الصحيح عنه صلى لله عليه وسلم " يقول ابن آدم مالي مالي وهل
لك يا بن آدم من مالك الا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت " قال
* ص * قرأ الجمهور " ألهاكم " على الخبر وابن عباس بالمد والكسائي في رواية
622

بهمزتين ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقرير انتهى قال الفخر: اعلم أن أهم الأمور
وأولاها بالرعاية ترقيق القلب وإزالة حب الدنيا منه ومشاهدة القبور تورث ذلك كما
ورد به الخبر انتهى.
وقوله تعالى: (كلا سوف تعلمون) زجر ووعيد ثم كرر تأكيدا ويأخذ كل انسان
من هذا الزجر والوعيد المكرر على قدر حظه من التوغل فيما يكره هذا تأويل الجمهور
وقال علي (كلا سوف تعملون) في القبر (ثم كلا سوف تعلمون) في البعث قال
الفخر وفي الآية تهديد عظيم للعلماء فإنها دالة على أنه لو حصل اليقين لتركوا التكاثر
والتفاخر فهذا يقتضي ان من لا يترك التكاثر والتفاخر أن لا يكون اليقين حاصلا له
فالويل للعالم الذي لا يكون عاقلا ثم الويل له انتهى.
وقوله تعالى (كلا لو تعلمون علم اليقين) جواب " لو " محذوف تقديره لازدجرتم
[وبادرتم] انقاذ أنفسكم من الهلكة واليقين أعلى مراتب العلم ثم أخبر تعالى الناس انهم
يرون الجحيم وقال ابن عباس هذا خطاب للمشركين والمعنى على هذا التأويل انها
رؤية دخول وصلي وهو عين اليقين لهم وقال آخرون الخطاب للناس كلهم فهي
كقوله تعالى: (وان منكم الا واردها) [مريم: 71] فالمعنى ان الجميع يراها ويجوز
الناجي ويتكردس علي فيها الكافر * ص * (لترون) ابن عامر والكسائي بضم التاء
والباقون بفتحها انتهى.
وقوله تعالى: (ثم لترونها عين اليقين) تأكيد في الخبر وعين اليقين حقيقته
وغايته ثم أخبر تعالى ان الناس مسؤلون يومئذ عن نعيمهم في الدنيا كيف نالوه ولم
آثروه وتتوجه في هذا أسئلة كثيرة بحسب شخص شخص وهي منقادة لمن أعطي فهما
في كتاب الله - عز وجل - وقد قال صلى لله عليه وسلم لأصحابه " والذي نفسي بيده لتسئلن عن
623

نعيم هذا اليوم " الحديث في الصحيح إذ ذبح لهم أبو الهيثم ابن التيهان شاة وأطعمهم
خبزا ورطبا واستعذب لهم ماء وعن أبي هريرة في حديثه في مسير النبي صلى لله عليه وسلم وأبي بكر
وعمر إلى بيت أبي الهيثم وأكلهم الرطب واللحم وشربهم الماء وقوله صلى لله عليه وسلم هذا هو النعيم
الذي تسئلون عنه يوم القيامة وان ذلك كبر على أصحابه وان رسول الله صلى لله عليه وسلم قال " إذا
أصبتم مثل هذا وضربتم بأيديكم فقولوا بسم الله وعلى بركة الله وإذا شبعتم
فقولوا الحمد لله الذي أشبعنا وأروانا وانعم علينا وأفضل فان هذا كفاف بذاك هذا
مختصر رواه الحاكم في المستدرك انتهى من " سلاح المؤمن " قال الداودي وعن
الحسن وقتادة ثلاث لا يسئل الله عنهن ابن آدم وما عداهن فيه الحساب والسؤال الا ما
شاء الله كسوة يوارى بها سوءته وكسرة يشد بها صلبه وبيت يكنه من الحر والبرد
انتهى.
624

تفسير سورة العصر
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن عباس (العصر) الدهر وقال مقاتل العصر هي صلاة العصر وهي
الوسطى أقسم الله بها وقال أبي بن كعب سألت النبي صلى لله عليه وسلم عن (والعصر) فقال
أقسم ربكم باخر النهار و (الانسان) هنا اسم جنس والخسر النقصان وسوء الحال
ومن كان من المؤمنين في مدة عمره في التواصي بالحق والصبر والعمل بحسب الوصاة
فلا خسر معه وقد جمع الخير كله.
625

تفسير سورة الهمزة
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
تقدم تفسير (ويل) وال‍ (همزة) الذي يهمز الناس بلسانه اي يعيبهم ويغتابهم
وال‍ (لمزة) قريب في المعنى من هذا وقد تقدم بيانه في قوله تعالى: (ولا تلمزوا
أنفسكم) [الحجرات: 11] وفي قوله (والذين يلمزون المطوعين) [التوبة: 79] وغيره
قيل نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق وقيل في جميل بن عامر ثم هي تتناول كل
من اتصف بهذه الصفات.
(وعدده) معناه: أحصاه وحافظ على عدده أن لا ينتقص وقال الداودي
(وعدده) اي استعده انتهى (لينبذن) ليطرحن * ص * (نار الله) خبر مبتدإ
محذوف اي: هي نار الله انتهى.
و (التي تطلع على الأفئدة) اي التي يبلغ إحراقها وألمها القلوب.
و " مؤصدة " اي مطبقة مغلقة.
(في عمد) جمع عمود وقرأ ابن مسعود " موصدة بعمد ممددة " وقال ابن زيد
المعنى: في عمد حديد مغلولين بها والكل من نار عافانا الله من ذلك.
626

تفسير سورة الفيل
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه السورة تنبيه على العبرة في اخذ الله تعالى لأبرهة أمير الحبشة حين قصد
الكعبة ليهدمها وكان صاحب فيل يركب وقصته شهيرة في السير فيها تطويل
واختصارها ان أبرهة بني في اليمن بيتا وأراد أن يرد إليه حج العرب فذهب اعرابي
واحدث في ذلك البيت فغضب أبرهة واحتفل في جموعه وركب الفيل وقصد مكة فلما
قرب منها فرت قريش إلى الجبال والشعاب من معرة الجيش ثم تهيأ أبرهة لدخول مكة
وهيأ الفيل فاخذ نفيل بن حبيب بأذن الفيل وكان اسمه محمودا فقال له أبرك
محمود فإنك في حرم الله وارجع من حيث جئت راشدا فبرك الفيل بذي الغميس
فبعثوه فأبى فضربوا رأسه بالمعول وراموه بمحاجنهم فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن
فقام يهرول فبعث الله عليهم طيرا جماعات جماعات سودا من البحر عند كل طائر ثلاثة
أحجار في منقاره ورجليه كل حجر فوق العدسة ودون الحمصة ترميهم بها فماتوا
في طريقهم متفرقين وتقطع أبرهة أنملة أنملة حتى مات وحمى الله بيته والأبابيل:
الجماعات تجئ شيئا بعد شئ قال أبو عبيدة: لا واحد له من لفظه قال الفخر
و (في تضليل) معناه في تضييع وابطال يقال ضلل كيده إذا جعله ضالا ضائعا
ونظيره قوله تعالى: (وما كيد الكافرين الا في ضلال) [غافر: 25] انتهى والعصف
ورق الحنطة وتبنه والمعنى صاروا طحينا ذاهبا كورق حنطة أكلته الدواب وراثته فجمع
627

لهم المهانة والخسة والتلف قال الفخر: وقيل المعنى كعصف صالح للأكل والمعنى
جعلهم كتبن تأكله الدواب وهو قول عكرمة والضحاك انتهى ومن كتاب " وسائل
الحاجات وآداب المناجاة " للامام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى قال وقد بلغنا
عن غير واحد من الصالحين وأرباب القلوب انه من قرأ في ركعتي الفجر في الأولى
الفاتحة " والم نشرح " وفي الثانية الفاتحة " والم تر كيف " قصرت يد كل عدو عنه ولم
يجعل لهم إليه سبيل قال الإمام أبو حامد وهذا صحيح لا شك فيه انتهى.
628

تفسير سورة " قريش "
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قريش ولد النضر بن كنانة والتقرش التكسب والمعنى ان الله تعالى جعل
قريشا يألفون رحلتين في العام واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف قال ابن عباس
كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل ويرحلون في الشتاء إلى مكة
قال الخليل معنى الآية لان فعل الله بقريش هذا ومكنهم من الفهم هذه النعمة فليعبدوا
رب هذا البيت.
وقوله تعالى (من جوع) معناه ان أهل مكة قاطنون بواد غير ذي زرع عرضة للجوع
والجدب لولا فضل الله عليهم.
629

تفسير سورة " الماعون "
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله سبحانه (أرأيت الذي يكذب بالدين) الآية توقيف وتنبيه لتتذكر نفس السامع
كل من تعرفه بهذه الصفة والدين: الجزاء.
ودع اليتيم: دفعه بعنف اما عن اطعامه والاحسان إليه واما عن حقه وماله وهو
أشد ويروى ان هذه الآية نزلت في بعض المضطربين في الاسلام بمكة لم يحققوا فيه
وفتنوا فافتتنوا وربما كان يصلى بعضهم أحيانا مع المسلمين مدافعة وحيرة فقال تعالى
فيهم (فويل للمصلين) الآية ونقل الثعلبي عن ابن عباس وغيره ان الآية نزلت في
العاص بن وائل انتهى وقال السهيلي قال أهل التفسير: نزل أول السورة بمكة في
أبي جهل وهو الذي يكذب بالدين ونزل آخرها بالمدينة في عبد الله بن أبي ابن سلول
وأصحابه وهم الذين يراءون ويمنعون الماعون انتهى قال سعد بن أبي وقاص سألت
النبي صلى لله عليه وسلم عن (الذين هم عن صلاتهم ساهون) فقال: " هم الذين يؤخرونها عن
وقتها " - يريد والله - اعلم تأخير ترك وإهمال والى هذا نحا مجاهد وقال
630

عطاء بن يسار الحمد لله الذي قال: (عن صلاتهم) ولم يقل في صلاتهم
وقوله تعالى (الذين هم يراءون) بيان ان صلاة هؤلاء ليست لله تعالى بايمان
وانما هي رياء للبشر فلا قبول لها.
وقوله تعالى (ويمنعون الماعون) وصف لهم بقلة النفع لعباد الله وتلك شر
خصلة وقال على وابن عمر: (الماعون) الزكاة وقال ابن مسعود وابن عباس
وجماعة هو ما يتعاطاه الناس كالفأس والدلو والآنية والمقص ونحوه وسئل
النبي صلى الله عليه وسلم ما الشئ الذي لا يحل منعه فقال: الماء والنار والملح وروته
عائشة رضي الله عنها وفي بعض الطرق زيادة الإبرة والخمير قال البخاري
الماعون: المعروف كله وقال بعض العرب الماعون الماء وقال عكرمة: أعلاه الزكاة
المفروضة وأدناه عارية المتاع انتهى.
631

تفسير سورة " الكوثر "
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال جماعة من الصحابة والتابعين (الكوثر) نهر في الجنة حافتاه قباب من لؤلؤ
مجوف وطينه مسك وحصباؤه ياقوت ونحو هذا من صفاته وان اختلفت ألفاظ رواته
وقال ابن عباس الكوثر: الخير الكثير قال ابن جبير النهر الذي في الجنة هو من الخير
الذي أعطاه الله إياه * ت * وخرج مسلم عن انس قال " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات
يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقال نزلت على آنفا سورة
فقرأ (انا أعطيناك الكوثر) إلى اخرها ثم قال أتدرون ما الكوثر؟ قلنا الله ورسوله
اعلم قال فإنه نهر وعدنيه ربى عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة "
الحديث انتهى وخرج ابن ماجة من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أول من يرد علي
الحوض فقراء المهاجرين الدنس ثيابا الشعث رؤوسا الذين لا ينكحون المتنعمات ولا
تفتح لهم أبواب السدد " قال الراوي فبكى عمر بن عبد العزيز حتى اخضل لحيته
حين بلغه الحديث وقال لا جرم انى لا اغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ ولا
ادهن رأسي حتى يشعث وخرجه أبو عيسى الترمذي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه
ونقل صاحب " التذكرة " عن انس بن مالك قال أول من يرد الحوض على النبي صلى الله عليه وسلم
632

الذابلون عنه الناحلون السائحون الذين إذا أجنهم الليل استقبلوه بالحزن انتهى من " التذكرة "
وروى أبو داود في سننه عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فنزلنا منزلا فقال: ما أنتم جزء من مائة الف جزء ممن يرد علي الحوض قال قلت
كم كنتم يومئذ؟ قال: سبعمائة أو ثمانمائة انتهى.
وقوله تعالى: (فصل لربك وانحر) امر بالصلاة على العموم والنحر نحر الهدي
والنسك والضحايا على قول الجمهور.
وقوله تعالى: (ان شانئك هو الأبتر) رد على مقالة بعض سفهاء قريش كأبي جهل
وغيره قال عكرمة وغيره مات ولد النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل بتر محمد فنزلت
السورة وقال تعالى: (ان شانئك هو الأبتر) اي المقطوع المبتور من رحمة الله
والشانئ المبغض قال الداوودي كل شانئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أبتر ليس له يوم
القيامة شفيع ولا حميم يطاع انتهى.
633

تفسير سورة " الكافرون "
وهي مكية اجماعا
بسم الله الرحمن الرحيم
روي في سبب نزول هذه السورة عن ابن عباس وغيره ان جماعة من صناديد
قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم دع ما أنت فيه ونحن نمولك ونملكك علينا وإن لم تفعل هذا
فلتعبد آلهتنا ونعبد إلهك حتى نشترك فحيث كان الخير نلناه جميعا وروي ان هذه
الجماعة المذكورة هم الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وأمية بن خلف وأبي بن
خلف وأبو جهل وأبناء الحجاج ونظراؤهم ممن لم يكتب له الاسلام وحتم بشقاوته
فأخبرهم صلى الله عليه وسلم عن امر الله عز وجل انه لا يعبد ما يعبدون وانهم غير عابدي ما يعبد
ولما كان قوله (لا اعبد) محتملا ان يراد به الآن ويبقى المستأنف منتظرا ما يكون فيه
من عبادته جاء البيان بقوله (ولا انا عابد ما عبدتم) اي ابدا ثم جاء قوله (ولا أنتم
عابدون ما اعبد) الثاني حتما عليهم انهم لا يؤمنون به ابدا كالذي كشف الغيب ثم زاد
الامر بيانا وتبريا منهم قوله: (لكم دينكم ولي دين) وقال بعض العلماء في هذه الألفاظ
مهادنة ما وهي منسوخة.
634

تفسير سورة النصر
وهي مدنية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
روت عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأسلمت العرب جعل يكثر أن يقول
" سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك " يتأول القرآن في هذه السورة وقال لها
مرة ما أراه الا حضور أجلى وتأويله عمر والعباس بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فصدقهما ونزع هذا
المنزع ابن عباس وغيره (والفتح) هو فتح مكة كذا فسره صلى الله عليه وسلم في " صحيح مسلم "
والأفواج الجماعة اثر الجماعة * ص * (بحمد ربك) اي متلبسا فالباء للحال
انتهى.
وقوله تعالى: (انه كان توابا) بعقب (واستغفره) ترجية عظيمة للمستغفرين قال
ابن عمر نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم بمنى في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع
وعاش بعدها ثمانين يوما أو نحوها.
635

تفسير سورة " المسد "
وهي مكية باجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
في " صحيح البخاري " وغيره عن ابن عباس لما نزلت (وأنذر عشيرتك
الأقربين) [الشعراء: 214] ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد
الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا من هذا فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم ان أخبرتكم ان
خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي قالوا نعم ما جربنا عليك كذبا
قال فانى نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك ما جمعتنا الا لهذا
ثم قام فنزلت (تبت يدا أبي لهب) إلى اخرها و (تبت) معناه خسرت والتباب
الخسران والدمار وأسند ذلك إلى اليدين من حيث إن اليد موضع الكسب والربح
وضم ما يملك ثم أوجب عليه انه قد تب اي حتم ذلك عليه وفي قراءة ابن
مسعود (وقد تب) وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم
ولكن سبقت له الشقاوة قال السهيلي كناه الله بأبي لهب لما خلقه سبحانه للهب واليه
مصيره الا تراه تعالى قال (سيصلى نارا ذات لهب) فكانت كنيته بأبي لهب تقدمت لما
يصير إليه من اللهب انتهى.
وقوله سبحانه (ما أغنى عنه ماله) يحتمل ان تكون " ما " نافية على معنى الخبر
ويحتمل ان تكون " ما " استفهامية على وجه التقرير اي أين الغناء الذي لماله وكسبه (وما
636

كسب) يراد به عرض الدنيا من عقار ونحوه وقيل كسبه بنوه
وقوله سبحانه (سيصلى نارا ذات لهب) حتم عليه بالنار وإعلام بأنه يتوفى على
كفره نعوذ بالله من سوء القضاء ودرك الشقاء.
وقوله تعالى (وامرأته حمالة الحطب) هي أم جمل لأخت أبي سفيان بن حرب
وكانت مؤذية للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بلسانها وغاية قدرتها وكانت تطرح الشوك في طريق
النبي صلى الله عليه وسلم وطريق أصحابه ليعقرهم وقال فلذلك سميت حمالة الحطب قاله ابن عباس
وقيل هو استعارة لذنوبها قال عياض وذكر عبد بن حميد قال كانت حمالة الحطب
تضع العضاه وهي جمر على طريق النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما يطأها كثيبا أهيل انتهى
* ص * وقرئ شاذا: " ومريئته " بالتصغير والجيد هو العنق انتهى.
وقوله تعالى: (في جيدها حبل من مسد) قال ابن عباس وجماعة الإشارة إلى
الحبل حقيقة الذي ربطت به الشوك والمسد: الليف وقيل ليف المقل وفي
صحيح البخاري يقال من مسد ليف المقل وهي السلسلة التي في النار انتهى وروى
في الحديث ان هذه السورة لما نزلت وقرئت بلغت أم جميل فجاءت أبا بكر وهو جالس
مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر حجر فاخذ الله ببصرها وقالت: يا أبا بكر بلغني
ان صاحبك هجاني ولو وجدته لضربته بهذا الفهر وانى لشاعرة وقد قلت فيه: [منهوك الرجز]
مذمما قلينا * ودينه وهو أبينا
فسكت أبو بكر ومضت هي فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني
وكفاني الله شرها.
637

تفسير سورة الاخلاص
قيل مكية وقال ابن عباس مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
روي أن اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له يا محمد صف لنا ربك وانسبه
فإنه وصف نفسه في التوراة ونسبها فارتعد النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم حتى خر مغشيا عليه
ونزل جبريل بهذه السورة.
و (أحد) معناه: واحد فرد من جميع جهات الوحدانية ليس كمثله شئ و (هو)
ابتداء و (الله) إبتداء ثان و (أحد) خبره والجملة خبر الأول وقيل هو ابتداء و (الله)
خبره و (أحد) بدل منه وقرأ عمر بن الخطاب وغيره " قل هو الله الواحد الصمد "
و (الصمد) في كلام العرب السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويستقل بها وأنشدوا:
[الطويل]
لقد بكر الناعي بخير بنى أسد * بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد.
وبهذا تتفسر هذه الآية لان الله تعالى - جلت قدرته - هو موجد الموجودات واليه
تصمد وبه قوامها سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (لم يلد ولم يولد) رد على إشارة الكفار في النسب الذي سألوه
وقال ابن عباس تفكروا في كل شئ ولا تتفكروا في ذات الله قال ع لان
الافهام تقف دون ذلك حسيرة.
638

وقوله سبحانه (ولم يكن له كفؤا أحد) معناه ليس له ضد ولا ند ولا شبيه
(ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) [الشورى: 11] والكفؤ النظير و " كفؤا " خبر كان
واسمها (أحد) قال * ص * وحسن تأخير اسمها لوقوعه فاصلة وله متعلق
ب‍ (كفؤا) اي: لم يكن أحد كفؤا له وقدم اهتماما به لاشتماله على ضمير الباري
سبحانه انتهى وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم ان (قل هو الله أحد) تعدل ثلث
القرآن قال * ع * لما فيها من التوحيد وروى أبو محمد الدارمي في مسنده قال
حدثنا عبد الله بن مزيد حدثنا حياة قال أخبرنا أبو عقيل انه سمع سعيد بن المسيب
يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قرأ (قل هو الله) إحدى عشرة مرة بني له قصر في
الجنة ومن قرأها عشرين مرة بني له قصران في الجنة ومن قرأها ثلاثين مرة بنى له
ثلاثة قصور في الجنة فقال عمر بن الخطاب اذن تكثر قصورنا يا رسول الله فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أوسع من ذلك [اي فضل الله أوسع من ذلك] قال الدارمي
أبو عقيل هو زهرة بن معبد وزعموا أنه من الابدال انتهى من التذكرة.
639

تفسير سورة " الفلق "
قال ابن عباس مدنية وقال قتادة مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل (قل أعوذ برب الفلق) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وآحاد أمته
قال ابن عباس وغيره الفلق الصبح وقال ابن عباس أيضا وجماعة من الصحابة الفلق
جب في جهنم ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقوله تعالى: (من شر ما خلق) يعم كل موجود له شر واختلف في " الغاسق "
فقال ابن عباس وغيره الغاسق الليل ووقب أظلم ودخل على الناس وفي الحديث
الصحيح عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى القمر وقال يا عائشة تعوذي بالله من شر هذا
الغاسق إذا وقب قال السهيلي وهذا أصح ما قيل لهذا الحديث الصحيح انتهى ولفظ
صاحب " سلاح المؤمن " عن عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر
فقال يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فان الغاسق إذ وقب رواه الترمذي
640

والنسائي والحاكم في المستدرك واللفظ للترمذي وقال حسن صحيح وقال
الحاكم صحيح الاسناد ووقب القمر وقوبا دخل في الظل الذي يكسفه قاله ابن
سيده انتهى من " السلاح "
(والنفاثات في العقد) السواحر ويقال ان الإشارة أولا إلى بنات لبيد ابن الأعصم
اليهودي كن ساحرات وهن اللواتي سحرن مع أبيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم والنفث شبه النفخ
دون تفل ريق وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور
فيؤذي بذلك.
قال * ع * وهذا الشأن في زماننا موجود شائع في صحراء المغرب وحدثني ثقة
انه رأى عند بعضهم خيطا احمر قد عقدت فيه عقد على فصلان فمنعت بذلك رضاع
أمهاتها فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع أعاذنا الله من
شر السحر والسحرة.
وقوله تعالى (ومن شر حاسد إذا حسد) قال قتادة من شر عينه ونفسه يريد
ب‍ " النفس " السعي الخبيث وقال الحسين بن الفضل ذكر الله تعالى الشرور في هذه
السورة ثم ختمها بالحسد ليعلم انه أخس الطبائع.
641

تفسير سورة الناس
قال ابن عباس وغيره هي مدنية وقال قتادة مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل (قل أعوذ برب الناس ملك الناس اله الناس من شر الوسواس الخناس):
(الوسواس) اسم من أسماء الشيطان وقوله (الخناس) معناه
الراجع على عقبه المستتر أحيانا فإذا ذكر العبد الله تعالى وتعوذ تذكر فأبصر كما قال
تعالى (ان الذين اتقوا إذا مسهم طائف) [الأعراف: 201] الآية قال النووي
قال بعض العلماء يستحب قول: لا إله إلا الله لمن ابتلي بالوسوسة في الوضوء والصلاة
وشبههما فان الشيطان إذا سمع الذكر خنس اي تأخر وبعد و (لا إله إلا الله) رأس
الذكر ولذلك اختار السادة الجلة من صفوة هذه الأمة أهل تربية السالكين وتأديب المريدين
قول " لا إله إلا الله " لأهل الخلوة وأمروهم بالمداومة عليها وقالوا أنفع علاج في
دفع الوسوسة الاقبال على ذكر الله تعالى والاكثار منه وقال السيد الجليل أحمد بن أبي
الحواري شكوت إلى أبي سليمان الدراني الوسواس فقال إذا أردت أن ينقطع عنك
فأي وقت أحسست به فافرح فإنك إذا فرحت به انقطع عنك لأنه ليس شئ أبغض
إلى الشيطان من سرور المؤمن وان اغتممت به زادك * ت * وهذا مما يؤيد ما قاله
بعض الأئمة ان الوسواس انما يبتلى به من كمل ايمانه فان اللص لا يقصد بيت خربا
انتهى * ت * ورأيت في " مختصر الطبري " نحو هذا.
وقوله تعالى (من الجنة) يعنى الشياطين ويظهر أن يكون قوله (والناس) يراد
به من يوسوس بخدعة من الشر ويدعو إلى الباطل فهو في ذلك كالشيطان قال
أحمد بن نصر الداودي وعن ابن جريح (من الجنة والناس) قال " إنهما وسواسان
فوسواس من الجنة ووسواس من نفس الانسان " انتهى وفي الحديث الصحيح ان
642

النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ " قل هو الله
أحد " و " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " ثم مسح بهما ما استطاع من
جسده يبدأ بهما من رأسه ووجهه وما اقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات - صلى الله
عليه وعلى اله وصحبه وسلم تسليما -.
يقول العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي لطف
الله به في الدارين قد يسر الله عز وجل في اتمام تلخيص هذا المختصر وقد أودعته
بحول الله جزيلا من الدرر قد استوعبت فيه بحمد الله مهمات ابن عطية وأسقطت
كثيرا من التكرار وما كان من الشواذ في غاية الوهي وزدت من غيره جواهر ونفائس لا
يستغنى عنها مميزة معزوة لمحالها منقولة بألفاظها وتوخيت في جميع ذلك الصدق
والصواب والى الله ارغب في جزيل الثواب وقد نبهت بعض تنبيه وعرفت بأيام رحلتي
في طلب العلم بعض تعريف عند ختمي به لتفسير سورة الشورى فلينظر هناك والله
المسؤول ان يجعل هذا السعي منا خالصا لوجهه وعملا صالحا يقربنا إلى مرضاته ومن
وجد في هذا الكتاب تصحيفا أو خللا فارغب إليه ان يصلحه من الأمهات المنقول منها
متثبتا في ذلك لا برأيه وبديهة عقله [من الوافر]
فكم من عائب قولا صحيحا * وآفته هذا من الفهم السقيم
وكان الفراغ من تأليفه في الخامس عشر من ربيع الأول من عام ثلاثة وثلاثين
وثمانمائة وانا ارغب إلى كل أخ نظر فيه أن يخلص لي وله بدعوة صالحة وهذا الكتاب لا
ينبغي ان يخلو عنه متدين ومحب لكلام ربه فإنه يطلع فيه على فهم القرآن أجمع في
أقرب مدة وليس الخبر كالعيان هذا مع ما خص به من تحقيق كلام الأئمة المحققين
رضي الله عنهم نقلته عنهم بألفاظهم متحريا للصواب ومن الله ارتجى حسن المئاب
وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا ان
الحمد لله رب العالمين.
643